الكتاب: نهاية الأرب في فنون الأدب المؤلف: أحمد بن عبد الوهاب بن محمد بن عبد الدائم القرشي التيمي البكري، شهاب الدين النويري (المتوفى: 733هـ) الناشر: دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة الطبعة: الأولى، 1423 هـ عدد الأجزاء: 33   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- نهاية الأرب في فنون الأدب النويري الكتاب: نهاية الأرب في فنون الأدب المؤلف: أحمد بن عبد الوهاب بن محمد بن عبد الدائم القرشي التيمي البكري، شهاب الدين النويري (المتوفى: 733هـ) الناشر: دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة الطبعة: الأولى، 1423 هـ عدد الأجزاء: 33   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] الجزء الأول [ مقدمة الكتاب ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رافع السماء وفاتق رتقها، ومنشئ السّحاب وموكف ودقها؛ ومجرى الأفلاك ومدبّرها، ومطلع النّيّرات ومكوّرها، ومرسل الرياح ومسخّرها؛ ومزيّن سماء الدنيا بزينة الكواكب، وحافظها عند استراق السمع بإرسال الشّهب الثواقب، وهادى السارى بمطالع نجومها فى ظلم الغياهب؛ وجاعل الليل سكنا ولباسا، ومبدّل وحشة ظلمائه يفلق الإصباح إيناسا؛ وماحى آيته بآية النهار المبصرة، ومذهب دجنّته بإشراق شمسه النّيره؛ وباسط الأرض فراشا ومهادا، ومرسى الجبال وجاعلها أوتادا؛ ومفجّر العيون من جوانبها وخلالها، ومضحك ثغور الأزهار ببكاء عيون الأمطار وانهمالها؛ ومكرّم بنى آدم بتفضيلهم على كثير من خلقه، ومذلّل الأرض لهم ليمشوا فى مناكبها وليأكلوا من رزقه؛ وحاملهم على ظهر اليمّ فى بطون الجوارى المنشآت، ومعوّضهم عن أعواد السّفن غوارب اليعملات [1] . خلق كلّ دابّة من ماء وأودعها من خفىّ حكمه ما أودع، وباين بين أشكالهم (فمنهم من يمشى على بطنه ومنهم من يمشى على رجلين ومنهم من يمشى على أربع) . وهدى الطير إلى ما اتخذته من الأوكار واتّخذ لها من المبانى، وجعلها من رسائل المنايا ووسائل الأمانى. أحمده على نعمه التى كم أولت من منّه؛ ومننه التى كم والت من نعمه، وأشكره على ألطافه التى كم كشفت من غمّه، وأزالت من نقمه.   [1] اليعملة (بفتح الياء والميم) الناقة النجيبة المعتملة المطبوعة والجمع يعمل. وهو اسم لا وصف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة عبد نطق بها لسانه وقلبه، وأنس بها ضميره ولبّه. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الذى جعلت له الأرض مسجدا وترابها طهورا، وأنزل عليه: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً . صلّى الله وسلّم عليه وعلى آله الذين رقوا بنسبهم إليه أعلى المراتب، وتسنّموا من ذروة الشرف والثناء كاهل الكواكب، وعلى أصحابه الذين اتّطدت بهم قواعد الشريعة وعلا منارها، وهدمت معاقل الكفر وعفت آثارها؛ وأنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، وجالدوا فى دين الله وجادلوا: صلاة ترفع منار قائلها، وترسل عليه سحائب المغفرة بوابلها! وبعد، فمن أولى ما تدبّجت به الطروس والدفاتر، ونطقت به ألسنة الأقلام عن أفواه المحابر؛ وأصدرته ذوو الأذهان السليمه، وانتسبت إليه ذوو الأنساب الكريمة؛ وجعله الكاتب ذريعة يتوصّل بها إلى بلوغ مقاصده، ومحجّة لا يضلّ سالكها فى مصادره وموارده: فنّ الأدب الذى ما حلّ الكاتب بواديه، إلّا وعمرت بواديه؛ ولا ورد مشارعه، إلّا واستعذب شرائعه؛ ولا نزل بساحته إلّا واتّسعت له رحابها، ولا تأمّل مشكلاته إلّا وتبيّنت له أسبابها. وكنت ممن عدل فى مباديه، عن الإلمام بناديه؛ وجعل صناعة الكتابة فننه الذى يستظلّ بوارفه، وفنّه الذى جمع له فيه بين تليده وطارفه. فعرفت جليّها، وكشفت خفيّها؛ وبسطت الخرائد [1] ونظمت منها الارتفاع، وكنت فيها كموقد نار على   [1] لعلها: الجرائد. أى جرائد الحسبانات التى يستخرج منها الارتفاع أى مقدار الإيراد. وبقية الكلام تدل على ذلك لأنه استعار اصطلاحات أهل الحساب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 يفاع. واسترفعت القوانين، ووضعت الموازين؛ وعانيت المقترحات، واعتمدت على المقايسات؛ وفذلكت على الأصل وما أضيف إليه، وحررت ما بعد الفذلكة فكان العمل على ما استقرّت الجملة عليه؛ واستخرجت وحصّلت، وجمّلت من عرضه وخصّلت؛ وسقت الحواصل، وأوردت المحاسيب وفذلكت على الواصل؛ وطردت ما انساق إلى الباقى والموقوف، ونضّدت شواهد المصروف؛ وشطبت شواهد الارتفاع، وقرنت أعمال المبيع بالمبتاع؛ واستوفيت أعمال الاعتصار وتوالى الغلّات، وتأمّلت سياق الأصناف والآلات؛ ونظرت فى سياقات العلوفات والعوامل، وأجبت عن المخرج والمردود فأعجزت المناظر والمناضل؛ وأتقنت موادّ هذه الصناعة، وتاجرت فيها بأنفس بضاعه. ثمّ نبذتها وراء ظهرى، وعزمت على تركها فى سرّى دون جهرى؛ وسألت الله تعالى الغنية عنها، وتضرّعت إليه فيما هو خير منها. ورغبت فى صناعة الآداب وتعلّقت بأهدابها، وانتظمت فى سلك أربابها، فرأيت غرضى لا يتمّ بتلقّيها من أفواه الفضلاء شفاها، وموردى منها لا يصفو ما لم أجرّد العزم سفاها. فامتطيت جواد المطالعه، وركضت فى ميدان المراجعه. وحيث ذلّ لى مركبها، وصفا لى مشربها، آثرت أن أجرّد منها كتابا أستأنس به وأرجع إليه، وأعوّل فيما يعرض لى من المهمّات عليه. فاستخرت الله سبحانه وتعالى وأثبتّ منها خمسة فنون حسنة الترتيب، بيّنة التقسيم والتبويب: كلّ فنّ منها يحتوى على خمسة أقسام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 الفن الأوّل فى السماء والآثار العلويّة، والأرض والمعالم السّفليّة ويشتمل على خمسة أقسام: القسم الأوّل- فى السماء وما فيها. وفيه خمسة أبواب: الباب الأوّل- فى مبدإ خلق السماء. الباب الثانى- فى هيئتها. الباب الثالث- فى الملائكة. الباب الرابع- فى الكواكب السبعة. الباب الخامس- فى الكواكب الثابتة. القسم الثانى- فى الآثار العلويّة. وفيه أربعة أبواب: الباب الأوّل- فى السّحاب، وسبب حدوثه، وفى الثلج، والبرد. الباب الثانى- فى الصواعق، والنّيازك، والرعد، والبرق. الباب الثالث- فى أسطقسّ الهواء. الباب الرابع- فى أسطقسّ النار، وأسمائها. القسم الثالث- فى الليالى، والأيام، والشهور، والأعوام، والفصول، والمواسم، والأعياد. وفيه أربعة أبواب: الباب الأوّل- فى الليالى، والأيّام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 الباب الثانى- فى الشهور، والأعوام. الباب الثالث- فى الفصول. الباب الرابع- فى المواسم، والأعياد. القسم الرابع- فى الأرض، والجبال، والبحار، والجزائر، والأنهار، والعيون. وفيه سبعة أبواب: الباب الأوّل- فى مبدإ خلق الأرض. الباب الثانى- فى تفصيل أسماء الأرض. الباب الثالث- فى طول الأرض، ومساحتها. الباب الرابع- فى الأقاليم السبعة. الباب الخامس- فى الجبال. الباب السادس- فى البحار، والجزائر. الباب السابع- فى الأنهار، والغدران، والعيون. القسم الخامس- فى طبائع البلاد، وأخلاق سكّانها، وخصائصها، والمبانى القديمة، والمعاقل، والقصور، والمنازل. وفيه خمسة أبواب: الباب الأوّل- فى طبائع البلاد، وأخلاق سكّانها. الباب الثانى- فى خصائص البلاد. الباب الثالث- فى المبانى القديمة. الباب الرابع- فيما وصفت به المعاقل. الباب الخامس- فيما وصفت به القصور، والمنازل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 الفن الثانى فى الإنسان وما يتعلّق به ويشتمل على خمسة أقسام: القسم الأوّل- فى اشتقاقه، وتسميته، وتنقّلاته، وطبائعه؛ ووصف أعضائه، وتشبيهها، والغزل، والنّسيب، والمحبة، والعشق، والهوى، والأنساب. وفيه أربعة أبواب: الباب الأوّل- فى اشتقاقه، وتسميته، وتنقّلاته، وطبائعه. الباب الثانى- فى وصف أعضائه، وتشبيهها. وما وصف به طيب الرّيق، والنّكهة، وحسن الحديث والنّغمة، واعتدال القدود. ووصف مشى النساء. الباب الثالث- فى الغزل، والنسيب، والهوى، والمحبّة، والعشق. الباب الرابع- فى الأنساب. القسم الثانى- فى الأمثال المشهورة عن النبىّ (صلى الله عليه وسلم) . وعن جماعة من الصحابة (رضى الله عنهم) ، والمشهور من أمثال العرب، وأوابد العرب، وأخبار الكهنة، والزجر، والفأل، والطّيرة، والفراسة، والذّكاء، والكنايات، والتعريض، والأحاجىّ، والألغاز. وفيه خمسة أبواب: الباب الأوّل- فى الأمثال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 الباب الثانى- فى أوابد العرب. الباب الثالث- فى أخبار الكهنة، والزجر، والفأل، والطّيرة، والفراسة، والذّكاء. الباب الرابع- فى الكنايات، والتعريض. الباب الخامس- فى الأحاجىّ، والألغاز. القسم الثالث- فى المدح، والهجو، والمجون، والفكاهات، والملح، والخمر، والمعاقرة، والنّدمان، والقيان، ووصف آلات الطرب. وفيه سبعة أبواب: الباب الأوّل- فى المدح. وفيه ثلاثة عشر فصلا. وهى: حقيقة المدح، وما قيل فيه. ما قيل فى الجود، والكرم، وأخبار الكرام. ما قيل فى الإعطاء قبل السؤال. ما قيل فى الشجاعة، والصبر، والإقدام. ما قيل فى وفور العقل. ما قيل فى الصدق. ما قيل فى الوفاء، والمحافظة. ما قيل فى التواضع. ما قيل فى القناعة، والنزاهة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 ما قيل فى الشكر، والثناء. ما قيل فى الوعد، والإنجاز. ما قيل فى الشفاعة. ما قيل فى الاعتذار، والاستعطاف. الباب الثانى- فى الهجاء. وفيه أربعة عشر فصلا: ما قيل فى الهجاء، ومن يستحقّه. ما قيل فى الحسد. ما قيل فى السّعاية والبغى. ما قيل فى الغيبة والنميمة. ما قيل فى البخل واللّؤم، وأخبار البخلاء، واحتجاجهم. ما قيل فى التطفّل. ويتصل به أخبار الأكلة والمؤاكلة. ما قيل فى الجبن، والفرار. ما قيل فى الحمق، والجهل. ما قيل فى الكذب. ما قيل فى الغدر، والخيانة. ما قيل فى الكبر، والعجب. ما قيل فى الحرص، والطمع. ما قيل فى الوعد، والمطل. ما قيل فى العىّ، والحصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 الباب الثالث- فى المجون، والنوادر، والفكاهات، والملح. الباب الرابع- فى الخمر، وتحريمها، وآفاتها، وجناياتها، وأسمائها. وأخبار من تنزّه عنها فى الجاهليّة، ومن حدّ فيها من الأشراف، ومن اشتهر بها، ولبس ثوب الخلاعة بسببها. وما قيل فيها من جيّد الشعر، وما قيل فى وصف آلاتها، وآنيتها، وما قيل فى مبادرة اللذّات، وما وصفت به المجالس، وما يجرى هذا المجرى. الباب الخامس- فى النّدمان، والسّقاة. الباب السادس- فى الغناء، والسّماع، وما ورد فى ذلك من الحظر والإباحة، ومن سمع الغناء من الصحابة (رضوان الله عليهم) والتابعين، والأئمة، والعبّاد، والزّهّاد، ومن غنّى من الخلفاء، وأبنائهم، والأشراف، والقوّاد، والأكابر، وأخبار المغنّين ممن نقل الغناء من الفارسيّة إلى العربيّة. الباب السابع- فيما يحتاج إليه المغنّى، ويضطرّ إلى معرفته، وما قيل فى الغناء، وما وصفت به القيان، وما وصفت به آلات الطرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 القسم الخامس- فى الملك، وما يشترط فيه، وما يحتاج إليه؛ وما يجب له على الرعيّة، وما يجب للرعيّة عليه. ويتّصل به ذكر الوزراء، وقادة الجيوش، وأوصاف السلاح، وولاة المناصب الدينيّة، والكتّاب، والبلغاء. وفيه أربعة عشر بابا: الباب الأوّل- فى شروط الإمامة: الشرعيّة، والعرفيّة. الباب الثانى- فى صفات الملك وأخلاقه، وما يفضل به على غيره. وذكر ما نقل من أقوال الخلفاء والملوك الدّالة على علوّ همّتهم، وكرم شيمتهم. الباب الثالث- فيما يجب للملك على الرعايا من الطاعة، والنصيحة، والتعظيم، والتوقير. الباب الرابع- فى وصايا الملوك. الباب الخامس- فيما يجب على الملك للرعايا. الباب السادس- فى حسن السياسة، وإقامة المملكة. ويتّصل به الحزم، والعزم، وانتهاز الفرصة، والحلم، والعفو، والعقوبة، والانتقام. الباب السابع- فى المشورة، وإعمال الرأى، والاستبداد، ومن يعتمد على رأيه، ومن كره أن يستشير. الباب الثامن- فى حفظ الأسرار، والإذن. والحجاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 الباب التاسع- فى الوزراء، وأصحاب الملك، الباب العاشر- فى قادة الجيوش، والجهاد، ومكايد الحروب؛ ووصف الوقائع، والرباط، وما قيل فى أوصاف السلاح. الباب الحادى عشر- فى القضاة، والحكام. الباب الثانى عشر- فى ولاية المظالم، وهى نيابة دار العدل. الباب الثالث عشر- فى نظر الحسبة، وأحكامها. الباب الرابع عشر- فى ذكر الكتّاب، والبلغاء؛ والكتابة، وما تفرّع عنها من الوظائف والكتابات، وهى: كتابة الإنشاء، وكتابة الديوان، والتصرّف، وكتابة الحكم، والشروط، وكتابة النسخ، وكتابة التعليم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 الفن الثالث فى الحيوان الصامت ويشتمل على خمسة أقسام: القسم الأوّل- فى السباع، وما يتصل بها من جنسها. وفيه ثلاثة أبواب: الباب الأوّل- فى الأسد، والببر، والنّمر. الباب الثانى- فى الفهد، والكلب، والذئب، والضّبع، والنّمس. الباب الثالث- فى السّنجاب، والثّعلب، والدّبّ، والهرّ، والخنزير. القسم الثانى- فى الوحوش، والظباء، وما يتّصل بها من جنسها. وفيه ثلاثة أبواب: الباب الأوّل- فيما قيل فى الفيل، والكركدّن، والزّرافة، والمهاة، والإيّل [1] . الباب الثانى- فى الحمر الوحشيّة، والوعل، واللّمط. الباب الثالث- فيما قيل فى الظّبى، والأرنب، والقرد، والنّعام.   [1] ويقال أيضا: الأيّل والأيّل (قاموس) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 القسم الثالث- وفيه ثلاثة أبواب: الباب الأوّل- فى الخيل. الباب الثانى- فى البغال، والحمير. الباب الثالث- فى الإبل، والبقر، والغنم. القسم الرابع- وفيه بابان: الباب الأوّل- فى ذوات السموم القواتل. الباب الثانى- فيما هو ليس بقاتل بفعله، من ذوات السموم. القسم الخامس- وفيه سبعة أبواب: ستّة منها فى الطير، وباب فى السمك. (وذيّلت عليه بباب ثامن، أوردت فيه ما قيل فى آلات صيد البرّ، والبحر) . الباب الأوّل- فى سباع الطير، وهى: العقبان، والبوازى، والصقور، والشواهين. الباب الثانى- فى كلاب الطير، وهى: النّسر، والرّخم، والحدأة، والغراب. الباب الثالث- فى بهائم الطير، وهى: الدّرّاج، والحبارى، والطاووس، والدّيك، والدّجاج، والإوزّ، والبطّ، والنّحام، والأنيس، والقاوند، والخطّاف، والقيق، والزّرزور، والسّمانى [1] ، والهدهد، والعقعق، والعصافير.   [1] فى الأصل السّمّان. وقال فى الصحاح والسّمانى ولا شدّد الميم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 الباب الرابع- فى بغاث الطير، وهو: القمرى، والدّبسىّ، والورشان، والفواخت، والشّفنين، والعبطبط، والنّواح، والقطاة، واليمام، وأصنافه، والببّغاء. الباب الخامس- فى الطير الليلىّ، وهو: الخفّاش، والكروان، والبوم، والصّدى. الباب السادس- فى الهمج، وهو: النمل، والزّنبور، والعنكبوت، والجراد، ودود القزّ، والذّباب، والبعوض، والبراغيث، والحرقوص. الباب السابع- فى أنواع الأسماك. الباب الثامن- يشتمل على ذكر شىء مما وصفت به آلات الصيد فى البرّ، والبحر، ووصف زماة البندق، وما يجرى هذا المجرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 الفن الرابع فى النبات ويشتمل على خمسة أقسام: (وذيّلت على هذا الفن، فى القسم الخامس، بشىء من أنواع الطّيب، والبخورات، والغوالى، والنّدود، والمستقطرات، وغير ذلك) . القسم الأوّل- فى أصل النبات، وما تختصّ به أرض دون أرض. (ويتّصل به ذكر الأقوات، والخضراوات، والبقولات) . وفيه ثلاثة أبواب: الباب الأوّل- فى أصل النبات، وترتيبه. الباب الثانى- فيما تختصّ به أرض دون أرض، وما يستأصل شأفة النبات الشاغل للأرض عن الزراعة. الباب الثالث- فى الأقوات، والخضراوات، والبقولات. القسم الثانى- فى الأشجار. وفيه ثلاثة أبواب: الباب الأوّل- فيما لثمره قشر لا يؤكل. الباب الثانى- فيما لثمره نوى لا يؤكل. الباب الثالث- فيما ليس لثمره قشر ولا نوى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 القسم الثالث- فى الفواكه المشمومة. وفيه بابان: الباب الأوّل- فيما يشمّ رطبا، ويستقطر. ويشتمل على أربعة أنواع: وهى «الورد، والنّسرين، والخلاف، والنّيلوفر» . الباب الثانى- فيما يشمّ رطبا، ولا يستقطر. ويشتمل على ما قيل فى البنفسج، والنرجس، والياسمين، والآس، والزعفران، والحبق. القسم الرابع- فى الرياض، والأزهار. (ويتصل به الصّموغ، والأمنان، والعصائر) . وفيه أربعة أبواب: الباب الأوّل- فى الرياض، وما وصفت به نظما، ونثرا. الباب الثانى- فى الأزهار، وما وصفت به. الباب الثالث- فى الصموغ. وفيه ثمانية وعشرون صنفا. الباب الرابع- فى الأمنان. القسم الخامس- فى أصناف الطيب، والبخورات، والغوالى، والنّدود، والمستقطرات، والأدهان، والنّضوحات، وأدوية الباه، والخواصّ. وفيه أحد عشر بابا: الباب الأوّل- فى المسك، وأنواعه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 الباب الثانى- فى العنبر، وأنواعه، ومعادنه. الباب الثالث- فى العود، وأصنافه، وأنواعه، ومعادنه. الباب الرابع- فى الصّندل، وأصنافه، ومعادنه. الباب الخامس- فى السّنبل الهندىّ، وأصنافه؛ والقرنفل، وجوهره. الباب السادس- فى القسط، وأصنافه. الباب السابع- فى عمل الغوالى، والنّدود. الباب الثامن- فى عمل الرامك، والسّكّ من الرامك والأدهان. الباب التاسع- فى عمل النّضوحات، والمياه المستقطرة، وغير المستقطرة. الباب العاشر- فى الأدوية التى تزيد فى الباه، وتلذّذ الجماع، وما يتصل بذلك. الباب الحادى عشر- فما يفعل بالخاصّيّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 الفن الخامس فى التاريخ ويشتمل على خمسة أقسام: القسم الأوّل- فى مبدإ خلق آدم (عليه السلام) وحوّاء، وأخبارهما، ومن كان بعد آدم إلى نهاية خبر أصحاب الرّس. وفيه ثمانية أبواب: الباب الأوّل- فى مبدإ خلق آدم (عليه السلام) ، وموسى (عليه السلام) ، وما كان من أخبارهما إلى حين وفاتهما. الباب الثانى- فى خبر شيث بن آدم (عليهما السلام) ، وأولاده. الباب الثالث- فى أخبار إدريس: النبىّ (عليه السلام) . الباب الرابع- فى قصّة نوح (عليه السلام) ، وخبر الطّوفان. الباب الخامس- فى قصّة هود (عليه السلام) مع عاد، وهلاكهم بالريح العقيم. الباب السادس- فى قصة صالح (عليه السلام) مع ثمود، وعقرهم الناقة، وهلاكهم. الباب السابع- فى أخبار أصحاب البئر المعطّلة، والقصر المشيد، وهلاكهم. الباب الثامن- فى أخبار أصحاب الرّسّ، وما كان من أمرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 القسم الثانى- فى قصّة إبراهيم، الخليل (عليه السلام) ، وخبره مع نمرود؛ وقصّة لوط؛ وخبر إسحاق، ويعقوب؛ وقصّة يوسف؛ وأيّوب؛ وذى الكفل؛ وشعيب (عليهم السلام) . وفيه سبعة أبواب: الباب الأوّل- فى قصّة إبراهيم، الخليل (عليه الصلاة والسلام) ، وأخبار نمرود بن كنعان. الباب الثانى- فى خبر لوط (عليه السلام) مع قومه، وقلب المدائن. الباب الثالث- فى خبر إسحاق، ويعقوب (عليهما السلام) . الباب الرابع- فى قصّة يوسف بن يعقوب (عليهما السلام) . الباب الخامس- فى قصّة أيوب (عليه السلام) ، وابتلائه، وعافيته. الباب السادس- فى خبر ذى الكفل بن أيوب (عليهما السلام) . الباب السابع- فى خبر شعيب (عليه السلام) ، وقصته مع مدين. القسم الثالث- يشتمل على قصّة موسى بن عمران (عليه السلام) ، وخبره مع فرعون؛ وخبر يوشع، ومن بعده؛ وحزقيل، وإلياس، واليسع، وعيلا، وأشمويل، وطالوت، وجالوت، وداود، وسليمان بن داود، وشعيا، وأرميا، وخبر بخت نصّر، وخراب بيت المقدس، وعمارته؛ وما يتصل بذلك من خبر عزيز؛ وقصّة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 يونس بن متّى، وخبر بلوقيا؛ وزكريا، ويحيى، وعمران، ومريم، وعيسى (عليهم السلام) ، وقصص الحواريّين، وما كان من أمرهم فيمن أرسلوا إليه، وخبر جرجيس. وفيه ستة أبواب: (وذيّلت على هذا القسم ذيلا يشتمل على أربعة أبواب، ذكرت فيها ما قيل فى الحوادث التى تظهر قبل نزول عيسى- عليه السلام- إلى الأرض ومدّة إقامته بها، ووفاته، وما يكون بعده، وشيئا من أخبار الحشر والمعاد) . الباب الأوّل- فى قصّة موسى بن عمران، وهرون؛ وغرق فرعون؛ وأخبار بنى إسرائيل؛ وأخبار قارون؛ وخبر بلعم بن باعوراء، والجبّارين، وغير ذلك. الباب الثانى- فيما كان بعد موسى بن عمران (عليه السلام) من أخبار يوشع بن النون، ومن بعده؛ وخبر حزقيل، وإلياس، واليسع، وعيلا، وأشمويل، وطالوت، وجالوت، وداود، وسليمان. الباب الثالث- فى أخبار شعيا، وأرميا، وخبر بخت نصّر، وخراب بيت المقدس، وعمارته؛ وما يتّصل بذلك من خبر عزيز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 الباب الرابع- فى قصّة ذى النون يونس بن متّى (عليه السلام) ، وخبر بلوقيا. الباب الخامس- فى خبر زكريّا، ويحيى، وعمران، ومريم ابنته؛ وعيسى بن مريم (عليهما السلام) . الباب السادس- فى أخبار الحواريّين الذين أرسلهم عيسى (عليه السلام) ، وما كان من أمرهم بعد رفعه؛ وخبر جرجيس. التذييل على هذا القسم- ويشتمل على أربعة أبواب: الباب الأوّل- فى ذكر الحوادث التى تظهر قبل نزول عيسى بن مريم. الباب الثانى- فى خبر نزول عيسى إلى الأرض؛ وقتل الدجّال؛ وخروج يأجوج، ومأجوج، وهلاكهم؛ ووفاة عيسى (عليه السلام) . الباب الثالث- فى ذكر ما يكون بعد وفاة عيسى ابن مريم إلى النفخة الأولى. الباب الرابع- فى أخبار يوم القيامة والحشر، والمعاد؛ والنفخة الثانية فى الصّور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 القسم الرابع- فى أخبار ملوك الأصقاع، وملوك الأمم، والطوائف؛ وخبر سيل العرم، ووقائع العرب فى الجاهليّة. وفيه خمسة أبواب: الباب الأوّل- فى أخبار ذى القرنين، المذكور فى سورة الكهف. الباب الثانى- فى أخبار ملوك الأصقاع، وهم: ملوك مصر، والهند، والصين، وجبل الفتح. الباب الثالث- فى أخبار ملوك الأمم من الأعاجم، وهم: ملوك الفرس الأول، وملوك الطوائف منهم؛ والملوك الساسانيّة؛ وملوك اليونان والسريان؛ والكلدانيين؛ والصقالبة؛ والبوكبرد؛ والإفرنجة؛ والجلالقة؛ وطوائف السودان. الباب الرابع- فى أخبار ملوك العرب. (ويتّصل به خبر سيل العرم) . الباب الخامس- فى أيّام العرب، ووقائعها فى الجاهليّة. القسم الخامس- فى أخبار الملة الإسلاميّة؛ وذكر شىء من سيرة نبيّنا محمد (صلى الله عليه وسلم) ، وأخبار الخلفاء من بعده (رضى الله عنهم) ؛ وأخبار الدولة الأمويّة؛ والعباسيّة؛ والعلويّة؛ ودول ملوك الإسلام، وأخبارهم، وما فتح الله (سبحانه وتعالى) عليهم- على ما سنبيّن ذلك- إن شاء الله (تعالى) . وفيه اثنا عشر بابا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 الباب الأوّل- فى سيرة سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الباب الثانى- فى أخبار الخلفاء من بعده: أبى بكر، وعمر، وعثمان، وعلىّ، وابنه: الحسن (رضى الله عنهم أجمعين) . الباب الثالث- فى أخبار الدولة الأمويّة بالشام وغيره. الباب الرابع- فى أخبار الدولة العباسيّة بالعراق، ومصر. الباب الخامس- فى أخبار الدولة الأمويّة بالأندلس، وأخبار الأندلس بعد انقراض الدولة الأموية. الباب السادس- فى أخبار إفريقيّة، وبلاد المغرب، ومن وليها من العمّال، ومن استقلّ منهم بالملك. الباب السابع- فى أخبار من نهض فى طلب الخلافة من الطالبيّين، فى مدّة الدولتين: الأمويّة، والعباسية، فقتل دونها، بعد مقتل الحسين ابن علىّ (رضى الله عنهما) . الباب الثامن- فى أخبار صاحب الزنج، والقرامطة، والخوارج بالموصل. الباب التاسع- فى أخبار من استقلّ بالملك، والممالك، بالبلاد الشرقيّة والشماليّة، فى خلال الدولة العباسيّة، وهم: ملوك خراسان، وما وراء النهر، والجبال، وطبرستان، وغزنة، والغور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وبلاد السند، والهند: كالدولة السامانيّة. والصّفّاريّة، والغزنويّة، والغوريّة، والدّيلميّة الختليّة. الباب العاشر- فى أخبار ملوك العراق. وما والاه؛ وملوك الموصل، والديار الجزيرية، والبكريّة، والبلاد الشاميّة، والحلبيّة: كالدولة الحمدانيّة. والدّيلميّة البهويهيّة، والسّلجقيّة، والأتابكيّة. الباب الحادى عشر- فى أخبار الدولة الخوارزميّة. والجنكزخانيّة، وهى دولة التتار، وما تفرّع منها. الباب الثانى عشر- فى أخبار ملوك الديار المصريّة الذين ملكوا فى خلال الدولة العباسيّة، نيابة عن خلفائها، وهم: الملوك العبيديّون الذين انتسبوا إلى علىّ بن أبى طالب (رضى الله عنه) ، وما كان من أمرهم، وما ملكوه من بلاد المغرب، وكيف استولوا على الديار المصريّة، والبلاد الشاميّة، والخلبيّة، والثغور، والسواحل، وغير ذلك إنى أن انقرضت دولتهم؛ وقيام الدولة الأيّوبيّة، وأخبار ملوكها بمصر، والشام إلى حين انقراضها؛ وقيام دولة الترك، ومن ملك منهم من أبنائهم، وما حازوه من الأقاليم، وما فتحوه من الممالك، وغير ذلك من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 أخبارهم، وما استقرّ فى ملك ملوك هذه الدولة إلى حين وضعنا لهذا التأليف فى سنة ...... وسبعمائة (فى أيّام مولانا السلطان السيد الأجل المالك الملك الناصر، ناصر الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، أبى الفتح محمد، بن السلطان الشهيد، الملك المنصور، سيف الدنيا والدين، أبى المظفر قلاون، الصالحىّ. خلد الله ملكه على ممرّ الزمان، وسقى عهد والده صوب الرّحمة والرّضوان، ببركة سيد ولد عدنان!) هذا مجموع ما يشتمل عليه هذا الكتاب، من فنون وأقسام وذيول وأبواب. ثم ينطوى كل باب منها على فصول وأخبار، ويحتوى على وقائع وآثار. ولما انتهت أبوابه وفصوله، وانحصرت جملته وتفصيله، ترجمته: بنهاية الأرب فى فنون الأدب وأتيت فيه بالمقصود والغرض، وأثبتّ الجوهر ونفيت العرض، وطوّقته بقلائد من مقولى، ورصّعته بفرائد من منقولى. فكلامى فيه كالسارية تلتها السحائب، أو السريّة ردفتها الكتائب. فما هو إلّا مترجم عن فنونه، وحاجب لعيونه. وما أوردت فيه إلّا ما غلب على ظنّى أنّ النفوس تميل إليه، وأن الخواطر تشتمل عليه. ولو علمت أنّ فيه خطأ لقبضت بنانى، وغضضت طرفى، ولو خبرت طريق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 المعترض لعطفت عنانى، وثنيت عطفى. لكنّى تبعت فيه آثار الفضلاء قبلى، وسلكت منهجهم فوصلت بحبالهم حبلى. فإن يكن اعتراض، فعلى علاهم لا علىّ العار. وقد علمت أنه من صنف كتابا فقد استهدف، وأصمّ الأسماع وإن كان لبعضها قد شنّف. وخليق للواقف عليه أن يسدّ ما يجد به من خلل، وأن يغفر ما يلمح فيه من زلل. فأسبل عليها ستر معروفك الذى سترت به قدما على عوارى. والذى أدّى إليه اجتهادى من تأليفه فقد أصدره، والذى وقفت عنده غايتى فقد أوردته. قد تبلّغت فيه وسعى، لكن ليس من عثرة الكتاب أمان. وبالله سبحانه المستعان! وعليه أتوكّل، وإليه أتضرّع فى التيسير وأتوسل؛ ومن فضله أستمدّ الصواب، وباسمه أستفتح الكتاب [1] !   [1] ورد فى النسخة الفوتغرافية التى اعتمدنا الطبع عليها (وهى المحفوظة بكتبخانة الكوپريلى بالقسطنطينية) ما نصه فى هذا الموضع: «هذا آخر الفهرست لهذا الكتاب. ولنبتدئ إن شاء الله تبارك وتعالى بما بدأ به مؤلفه عفا الله تعالى عنه وهو الفن الأوّل. ونرجو بعون الله وحوله وقوّته الإتمام بسلام. وصلى الله وسلم على أشرف الأنام، سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم السلام» - وهى من زيادات الناسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 الفن الأوّل فى السماء والآثار العلويّة، والأرض والمعالم السّفليّة وقد أوردت فى هذا الفن نبذة من وصف السماء، التى هى قبلة الدعاء، وباب الرجاء؛ والكواكب السيّارات ذوات السنا والسناء؛ والملائكة الذين هم أولو أجنحة، مثنى، وثلاث، ورباع؛ والسحائب التى تجود بوبلها فتعدل فى قسمها بين السهل واليفاع؛ والرعد الذى إن ونت يحثّها؛ والريح الذى إن اجتمعت يبثّها؛ والبرق الذى شبّه ببنان الحاسب والكفّ الخضيب؛ والثلج الذى خلع على الأرض رداء المشيب؛ وقوس السّحاب الذى تنكّبه الجوّ فأفرغ عليه مصبّغات الحلل، ورمى الجدب ببنادق البرد فتباشرت بالخصب أهل الحلل؛ والنّيران وعبّادها وعددها، والمياه وأمدادها ومددها؛ والليالى والأيام، والشهور والأعوام؛ والسّنة وفصولها ومباديها، والأعياد والمواسم ومتّخذيها؛ والأرض والجبال، والبرارى والرمال؛ والجزائر والبحار، والعيون والأنهار؛ وطبائع البلاد، وأخلاق من سكنها من العباد؛ والمبانى والمعاقل، والقصور والمنازل. وجعلته خمسة أقسام يستدلّ بها عليه، ويتوصّل من أبوابها إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 القسم الأوّل فى السماء وما فيها وفيه خمسة أبواب: الباب الأوّل من القسم الأوّل من الفن الأوّل 1- فى مبدإ خلق السماء قال الله تعالى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها. والسماء تذكّر وتؤنّث. فشاهد التذكير قول الله (عزّ وجلّ) : (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) ؛ وقول الشاعر: فلو رفع السماء إليه قوما، ... لحقنا بالسماء مع السّحاب! وشاهد التأنيث، قوله (تبارك وتعالى) : (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) ؛ وقول الشاعر: يا ربّ، ربّ الناس فى سماته! [1]   [1] هكذا فى الأصول، أى بالتاء المثناة. ولو همزت، لفات الشاهد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 2- ذكر ما قيل فى أسماء السماء وخلقها قد نطقت العرب للسماء بأسماء. منها: الجرباء. وسمّيت بذلك لكثرة النّجوم بها. ومنها: الخلقاء. لملاستها. وبرقع [1] . والرّقيع. ومنه قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لسعد بن معاذ: «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع أرقعة» . أى من فوق سبع سماوات. ومنها: الطرائق. قال الله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ) . والسماء مخلوقة من دخان. 3- حكى فى سبب حدوثه أنّ الله تعالى خلق جوهرة، وصف من طولها وعرضها عظما. ثم نظر إليها نظر هيبة، فانماعت، وعلاها من شدّة الخوف زبد ودخان. فخلق الله من الزبد الأرض، وفتقها سبعا؛ ومن الدخان السماء، وفتقها سبعا. ودليله قوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ . قال: ولما فتق الله تعالى السماوات، أوحى فى كل سماء أمرها. واختلف المفسّرون فى الأمر، ما هو؟ فقال قوم: خلق فيها جبالا من برد وبحارا؛ وقال قوم: جعل فى كل سماء كوكبا، قدّر عليه الطلوع والأفول، والسير والرجوع. وقال قوم: أسكنها ملائكة سخّرهم للعالم السّفلىّ، فوكّل طائفة بالسحاب وطائفة بالريح، وجعل منهم حفظة لبنى آدم وكاتبين لأعمالهم ومستغفرين لذنوبهم.   [1] كز برج وقنفذ كما فى القاموس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 الباب الثانى 1- فى هيئتها ذهب المفسّرون لكتاب الله عزّ وجلّ أنّ السماء مسطوحة، بدليل قوله تعالى: (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) . وقال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) . ويطلق على مجموعها فلك، لقوله تعالى: (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) . وذهب الحسن إلى أنّ الفلك غير السماوات، وأنّه الحامل بأمر الله تعالى للشمس والقمر والنجوم. قالوا: ولمّا فتق الله تعالى رتق السماوات، جعل بين كلّ سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام. وروى عن أبى هريرة (رضى الله عنه) ، قال: «بينما رسول الله (صلى الله عليه وسلم) جالس هو وأصحابه، إذ أتى عليهم سحاب. فقال النبىّ (صلى الله عليه وسلم) هل تدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: هذا العنان [1] ، هذه روايا الأرض، يسوقها الله تعالى إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه. ثم قال: أتدرون ما فوقكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: هذا الرقيع: سقف محفوظ، وموج مكفوف. ثم قال: هل تدرون ما بينكم وبينها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: بينكم وبينها خمسمائة سنة. ثم قال: هل تدرون ما فوق ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: سماء فى بعد ما بينهما   [1] العنان السحاب. واحدته بهاء. (قاموس) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 خمسمائة سنة. قال ذلك حتّى بلغ سبع سماوات، ما بين كل سماءين، ما بين السماء والأرض. ثم قال: هل تدرون ما فوق ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: إنّ فوق ذلك العرش. وبينه وبين السماء بعد ما بين السماءين. ثم قال: هل تدرون ما تحتكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: إنّها الأرض. ثم قال: أتدرون ما تحت ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: إنّ تحتها أرضا أخرى، بينهما مسيرة خمسمائة سنة. حتّى عدّ سبع أرضين، بين كل أرض وأرض خمسمائة سنة» . أخرجه أبو عيسى الترمذىّ، في «جامعه» . ويروى عن ابن عبّاس (رضى الله عنهما) أنّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان جالسا بالبطحاء، بين أصحابه، إذ مرّت عليهم سحابة. فنظروا إليها. فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هل تدرون ما اسم هذه؟ قالوا: نعم. هذا السحاب. فقال (صلى الله عليه وسلم) : والمزن. قالوا: والمزن. قال: والعنان. قالوا: والعنان. فقال: هل تدرون ما بين السماء والأرض؟ قالوا: لا ندرى. قال: خمسمائة عام. وبينها وبين السماء التى فوقها كذلك. (حتّى عدّ سبع سماوات) . ثمّ قال: وفوق السماء السابعة بحر، بين أعلاه وأسفله كما بين سماء إلى سماء (وفى لفظ: كما بين السماء والأرض) . وفوق ذلك ثمانية أوعال، بين أظلافهم وركبهم [1] مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ظهورهم [2] العرش، بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض. وجاء فى رواية أخرى ذكر الكرسىّ، وقال: «ثم ما بين السماء السابعة والكرسىّ مسيرة خمسمائة عام. ثم ما بين الكرسىّ إلى الماء مسيرة خمسمائة عام. والعرش فوق الماء.» ولم يذكر الأوعال.   [1] فى الترمذىّ: أظلافهنّ وركبهنّ ......... ظهورهنّ. [2] فى الترمذىّ: أظلافهنّ وركبهنّ ......... ظهورهنّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 وجاء فى رواية أخرى ذكر الكرسىّ، وأنّ السماوات فى ضمنه. وهى بالنسبة إليه كحلقة ملقاة فى أرض فلاة، والكرسىّ بالنسبة إلى العرش كذرّة ملقاة فى أرض فلاة فيحاء. (وفى رواية كحلقة) . وروى أن أبا ذرّ (رضى الله عنه) قال: «يا رسول الله: أىّ آية أنزلت عليك أعظم؟ قال: آية الكرسىّ. ثم قال: يا أبا ذرّ! أتدرى ما الكرسىّ؟ قلت: لا؛ فعلّمنى يا رسول الله، مما علّمك الله. فقال: ما السماوات والأرض وما فيهنّ فى الكرسىّ، إلا كحلقة ألقاها ملق فى فلاة. وما الكرسىّ فى العرش، إلا كحلقة ألقاها ملق فى فلاة. وما العرش فى الماء، إلا كحلقة ألقاها ملق فى فلاة. وما الماء فى الريح، إلا كحلقة ألقاها ملق فى فلاة. وجميع ذلك فى قبضة الله كالحبّة، وأصغر من الحبّة، فى كفّ أحدكم. تعالى الله سبحانه» . رواه أبو حاتم فى كتاب العظمة. والقول فى هيئة السماء، على مذاهب أصحاب علم الهيئة، كثير. أغضينا عنه، لأنه لا يقوم عليه دليل واضح. فلذلك اقتصرنا على ذكر المنقول دون المعقول. فلنذكر ما جاء فى الأمثال التى فيها ذكر السماء، وما وصفها الشعراء به وشبّهوها. 2- أما الأمثال فقولهم: أرفع من السماء، للبالغة. وقول الشاعر: من ذا رأى أرضا بغير سماء؟ إنّ السماء ترجّى حين تحتجب. إنّ السماء، إذا لم تبك مقلتها، ... لم تضحك الأرض عن شىء من الزّهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 3- وأما الوصف والتشبيه فمنه قول عبد الله بن المعتزّ: كأنّ سماءنا، لمّا تجلّت ... خلال نجومها عند الصّباح، رياض بنفسج خضل، نداه ... تفتّح بينه نور الأقاح. وقال آخر: كأنّ سماءنا، والشّهب فيها، ... وأصغرها لأكبرها مزاحم، بساط زمرّد نثرت عليه ... دنانير تخالطها دراهم. ونحوه قول الآخر: كأنّ سماء الأرض نطع زمرّد، ... وقد فرشت فيه الدّنانير للصّرف. وقال آخر: ورأيت السّماء كالبحر إلّا ... أنّ مرسوبه من الدّرّطافى. فيه ما يملأ العيون كبير ... وصغير ما بين ذلك خافى. وقال التّنوخىّ يصف ليلة: كأنما نجومها، ... نصب عيون الرّمّق، دراهم قد نثرت ... على بساط أزرق. وقال أبو طالب الرّقّىّ: وكأنّ أجرام السماء، لوامعا، ... درر نثرن على بساط أزرق. وقال ظافر الحدّاد: كأنّ نجوم الليل، لما تبلجت، ... توقّد جمر فى خلال رماد. حكى، فوق ممتدّ المجرّة شكلها، ... فواقع تطفو فوق لجّة وادى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 وقال آخر: كأنّ النّجوم، نجوم السما، ... وقد لحن للعين من فرط بعد، مسامير من فضّة سمّرت ... على وجه لوح من اللّازورد. وقال محمد بن عاصم: ترى صفحة الخضراء، والنّجم فوقها، ... ككفّ سدوسىّ بدا فيه درهم. ترى، وعلى الآفاق أثواب ظلمة، ... وأزرارها منها شمال ومرزم [1] . 4- ومما قيل فى الفلك قال أبو العلاء المعرّىّ: يا ليت شعرى! وهل ليت بنافعة؟ ... ماذا وراءك أو ما أنت يا فلك؟ كم خاض فى إثرك الأقوام واختلفوا ... قدما! فما أوضحوا حقّا ولا تركوا. شمس تغيب ويقفو إثرها قمر، ... ونور صبح يوافى بعده حلك. طحنت طحن الرّحى من قبلنا أمما ... شتّى، ولم يدر خلق أيّة سلكوا. وقال، إنّك طبع خامس، نفر. ... عمرى! لقد زعموا بطلا وقد أفكوا! راموا سرائر للرحمن حجّبها، ... ما نالهنّ نبىّ، لا ولا ملك. وقال الرئيس أبو علىّ بن سينا [2] : بربّك! أيّها الفلك المدار، ... أقصد ذا المسير أم اضطرار؟ مدارك، قل لنا، فى أىّ شيء؟ ... ففى أفهامنا منك ابتهار!   [1] المرزم: الثبت القائم على الأرض. [2] . قال صاحب عيون الأنباء (ج 1 ص 248- 249) إن بعض الناس ينسب هذه القصيدة لابن سينا وليست له، ونص على أنها لابن الشل البغدادى وقد أوردها فى خمسين بيتا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 وعندك ترفع الأرواح؟ أم هل ... مع الأجساد يدركها البوار؟ وفيك الشّمس رافعة شعاعا، ... بأجنحة قوادمها قصار؟ قطوف، ذى النّجوم أم الّلآلى؟ ... هلال أم يد فيها سوار؟ وشهب، ذى المجرّة أم ذبال [1] ... عليها المرخ [2] يقدح والعفار [3] ؟ وترصيع، نجومك أم حباب ... تؤلّف بينها اللّجج الغزار؟ تمدّ رقومها ليلا وتطوى ... نهارا، مثل ما طوى الإزار! فكم بصقالها صدئ البرايا! ... وما يصدا لها أبدا غرار. وتبدو ثمّ تخنس راجعات ... وتكنس مثل ما كنس الصوار [4] . فبينا الشّرق يقدمها صعودا ... تلقّاها من الغرب انحدار. هى العشواء، ما خبطت هشيم ... هى العجماء، ما جرحت جبار [5] . وقال أبو عبادة البحترىّ: أناة! أيّها الفلك المدار! ... أنهب ما تصرّف أم خيار؟ ستبلى مثل ما نبلى، وتفنى ... كما نفنى، ويؤخذ منك ثار.   [1] الذبال: الفتائل. [2] المرخ: شجر سريع الورى كثيره. وقد وصفه المؤلف فيما بعد (ص 39) بأنه شجر تحتك بعض أغصانه ببعض فتورى نارا. [3] العقار: شجر يتخذ منه الزناد وهو من شجر النار. [4] الصوار كالصيار بكسر الصاد وضمها: القطيع من البقر. [5] الجبار (بضم الجيم) الهدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 الباب الثالث من القسم الأوّل من الفن الأوّل 1- فى ذكر الملائكة قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : «أطّت [1] السماء، وحقّ لها أن تئطّ. ما فيها موضع أربع أصابع، إلّا وعليه ملك قائم أو راكع أو ساجد» . والملائكة أولو أجنحة: مثنى، وثلاث، ورباع، وأكثر من ذلك. فإنه قد ورد أن جبريل (عليه السلام) له ستمائة جناح. وهى الصورة التي رآه النبىّ (صلى الله عليه وسلم) فيها مرّتين: إحداهما فى الأرض، وقد سدّ ما بين الخافقين. ووصفه الله تعالى بالقوّة، فقال تعالى: (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) . ومن قوّته، أنه اقتلع مدائن قوم لوط، وكانت خمس مدائن، من الماء الأسود، وحملها على جناحه، ورفعها إلى السماء، حتّى إنّ أهل السماء يسمعون نبّاح كلابهم، وأصوات دجاجهم؛ ثمّ قلبها. والمرّة الثانية، رآه (صلى الله عليه وسلم) عند سدرة المنتهى. قال الله تعالى: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) . وكان هبوط جبريل (عليه السلام) على الأنبياء (صلوات الله عليهم) ورجوعه فى أوحى [2] من رجع الطّرف.   [1] أطّ: صوّت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وعظماء الملائكة أربعة، وهم: إسرافيل، وميكائيل، وجبرائيل، وعزرائيل. وأقربهم من الله تعالى منزلة، إسرافيل. فإذا أراد الله تعالى بوحى، جاء اللوح المحفوظ حتّى يقرع جبهة إسرافيل، فيرفع رأسه، فينظر فيه. فإن كان إلى السماء، دفعه إلى ميكائيل؛ وإن كان إلى الأرض، دفعه إلى جبرائيل؛ وإن كان بموت أحد، أمر به عزرائيل. صلوات الله عليهم! وقد روى فى قوله تعالى: (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) ، هم أربعة من الملائكة: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وعزرائيل. فجبريل على الجنود والرياح، وميكائيل على القطر والنبات، وعزرئيل على قبض الأرواح، وإسرافيل يبلّغهم ما يؤمرون به. وجعل الله تعالى لهم أن يتمثلوا للبشر على ما شاءوا من الصور، كما كان جبريل يتمثل سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على صورة دحية الكلبىّ مرارا، وفى صورة غيره من لرجال؛ وكما تمثّل لمريم عليها السلام بشرا سويا. ونزلت الملائكة فى غزوة بدر على الخيول المسوّمة، وقد سدلوا ذوائب عمائمهم على مناكبهم. وهم مخلوقون من نور. صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 الباب الرابع من القسم الأوّل من الفن الأوّل 1- فى الكواكب السبعة المتحيرة قال الله تعالى: (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ) . ذهب المفسرون إلى أنها هى الكواكب السبعة: زحل، والمشترى، والمرّيخ، والشمس، والزّهرة، وعطارد، والقمر. وقالوا: إن هذه الكواكب هى المعنيّة بقوله تعالى: (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) . وسميت كنّسا لأنها تجرى فى البروج ثم تكنس أى تستتر كما تكنس الظباء؛ وخنسا لاستقامتها ورجوعها. وقيل الخنّس والكنّس منها خمسة، دون الشمس والقمر. وسميت خنّسا لأن الخنوس فى كلام العرب الانقباض. وفى الحديث الشريف «الشيطان بوسوس للعبد، فإذا ذكر الله تعالى خنس» أى انقبض ورجع. فيكون فى الكوكب بمعنى الرجوع. وكنّسا من قول العرب كنس الظبى اذا دخل الكناس، وهو مقرّه؛ ويكون فى الكوكب اختفاءه تحت ضوء الشمس. وأسماء هذه الكواكب عند العرب مشتقة من صفاتها. فقالوا فى زحل: زحل فلان إذا أبطأ، وبذلك سمّى هذا الكوكب لبطئه فى السماء. وقيل الزّحل والزّحيل [1] الحقد وهو فى طبعه. وهذا الكوكب عند المفسرين هو المعنى بقول الله عز وجل وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ) .   [1] الذحل الذى بمعنى الحقد بالذال المعجمة ولم يذكره أحد من أئمة اللغة فى الزاى. فهو أشتباه على الناقل. والذى «فى اللسان» أنه سمى بذلك لبعده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 وقالوا فى المشترى: إنه إنما سمّى بذلك لحسنه، كأنه اشترى الحسن لنفسه. وقيل لأنه نجم الشراء والبيع، ودليل الأموال، والأرباح. وقالوا فى المرّيخ: إنه مأخوذ من المرخ (وهو شجر تحتك بعض أغصانه ببعض فتورى نارا) فسمّى بذلك لأحمراره. وقال آخرون المرّيخ سهم لا ريش له إذا رمى به لا يستمرّ فى ممرّه. وكذلك المرّيخ، فيه التواء كثير فى سيره وحكمه، فشبه بذلك. وقالوا فى الشمس: إنها لما أن كانت واسطة بين ثلاثة كواكب علوية وثلاثة سفلية، سميت بذلك لأن الواسطة التى فى المخنقة تسمّى «شمسة» . وقالوا فى الزّهرة: إنها مشتقة من الزاهر، وهو الأبيض النّيّر من كل شىء. وقالوا فى عطارد: إنه النافذ فى الأمور، ولهذا سمّى بالكاتب. وهكذا هذا الكوكب كثير التصرف مع ما يلابسه ويقارنه. وقالوا فى القمر: إنه مأخوذ من القمرة، وهى البياض؛ والأقمر الأبيض. والفرس تسمّى هذه الكواكب بلغتها «كيوان» ويعنون به زحل؛ و «تير» ، ويعنون به المشترى (وبعضهم يسميه «البرجيس» ) ؛ و «بهرام» ويعنون به المرّيخ؛ و «مهر» ويعنون به الشمس؛ و «أناهيد» ويعنون به الزّهرة (وبعضهم يسميها «بيدخت» ) ، و «هرمس» (ويعنون به عطارد) ، و «ماه» (ويعنون به القمر) . وقد جمع بعض الشعراء أسماء هذه الكواكب فى بيت واحد من بيتين يمدح بهما بعض الرؤساء فقال: لا زلت تبقى وترقى للعلا أبدا ... مادام للسّبعة الأفلاك أحكام! مهر، وماه، وكيوان، وتير معا ... وهرمس، وأناهيد، وبهرام! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 وقال أبو إسحاق الصابى: نل المنى فى يومك الأجود، ... مستنجحا بالطالع الأسعد! وارق كمرقى زحل صاعدا ... إلى المعالى أشرف المقصد! وفض كفيض المشترى بالنّدى ... إذا اعتلى فى أفقه الأبعد! وزد على المرّيخ سطوا بمن ... عاداك من ذى نخوة أصيد! واطلع كما تطلع شمس الضّحى ... كاسفة للحندس الأسود! وخذ من الزّهرة أفعالها ... فى عيشك المستقبل الأرغد! وضاه بالأقلام فى جريها ... عطارد الكاتب ذا السّودد! وباه بالمنظر بدر الدّجى ... وافضله فى بهجته وازدد! وقد اختص كلّ كوكب من هذه الكواكب بقول. سنذكر من ذلك ما تقوم به الحجة، وينهض به الدليل من الكتاب والسنة، وما يتمثّل به مما فيه ذكرها، وما ورد فى ذلك من الأوصاف والتشبيهات: نظما ونثرا مما وقفت عليه فى أثناء مطالعتى لكتب الفضلاء وتصانيفهم ودواوينهم. وعدلت عن أقوال المنجمين لما فيها من سوء الطويّة وقبح الأعتقاد: لأن منهم من يرى أن للنجوم فى الوجود تأثيرات وأفعالا. أعاذنا الله تعالى من ذلك! 2- ذكر ما قيل فى الشمس (والشمس هى النيّر الأعظم) وقد ذهب بعض المفسرين لكتاب الله تعالى إلى أن نور الشمس والقمر فى سائر السماوات بدليل قول الله عز وجل (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 وجاء فى الحديث عن النبىّ (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: «الشمس والقمر وجوههما إلى السماء وأقفاؤهما إلى الأرض» وفى حديث آخر «وجوههما إلى العرش وأقفاؤهما إلى الأرض» . وفى حديث آخر «ان الشمس تكون فى الصيف فى السماء الخامسة، وفى الشتاء فى السماء السابعة تحت عرش الرحمن» . وزعموا أن حركتهما وحركة سائر الكواكب مستقيمة غير مستديرة، وأن الشمس تقطع سماء الدنيا فى يومها، وتغيب فى الأرض فى عين حمئة. ومعنى حمئة ذات حمأة. وقد جاء فى تفسير قوله تعالى (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) أى إلى موضع قرارها، لأنها تجرى إلى أبعد منازلها فى الغروب، ثم ترجع؛ ومن قرأ «لا مستقرّ» لها أى هى دائبة السير ليلا ونهارا. وهى قراءة شاذة [1] . وقد قال الله تعالى (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ) وروى عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: إنها تجرى لمستقر لها تحت العرش، فتخرّ ساجدة؛ فلا تزال كذلك حتّى يؤذن لها فى الطلوع. ويوشك أن يقال لها: ارجعى من حيث جئت؛ وذلك طلوعها من مغربها. وذهب وهب بن منبّه إلى أن الشمس على عجلة لها ثلاثمائة وستون عروة، وقد تعلق بكل عروة ملك؛ يجرّونها فى السماء ودونها البحر المسجور فى موج مكفوف كأنه جبل ممدود فى الهواء، ولو بدت الشمس من ذلك البحر لأحرقت ما على وجه الأرض من شىء حتّى الجبال والصخور. وروى عن كعب أنه قال: «خلق الله القمر من نور وخلق الشمس من نار» .   [1] هذا الرأى هو الذى استقر عليه علماء الفلك أخيرا، بعد التحقيق والتدقيق. فلله در صاحبه! فإنه، وإن كان قد خالفه فيه الدهماء، لكنه قد أقرّه الراسخون فى العلم الآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 وقال تعالى: (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) ، والسراج لا يكون إلا من نار؛ وهما مضيآن لأهل السماوات؛ كما يضيآن لأهل الأرض. وقد تقدّم الدليل على ذلك. 3- ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر الشمس يقال: أشهر من الشمس، أحسن من الشمس. أدلّ على الصبح من الشمس. ومن أنصاف الأبيات: وهل شمس تكون بلا شعاع فى طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل ولو لم تغب شمس النهار، لملّت الشمس نمّامة واللّيل قوّاد الشمس طالعة إن غيّب القمر وربّما تنكسف الشمس والشمس تنحطّ فى المجرى وترتفع إذا الشمس لم تغرب، فلا طلع البدر ومن الابيات قول الطائى: فإنّى رأيت الشّمس زيدت محبّة ... إلى الناس إذ ليست عليهم بسرمد. وقال علىّ بن الجهم. والشّمس لولا أنها محجوبة ... عن ناظريك لما أضاء الفرقد. وقال أبو تمّام: وإنّ ضريح الرأى والحزم لأمرئ ... إذا بلغته الشمس، أن يتحوّلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 وقوله: وكلّ كسوف فى الدّرارى شنيعة، ... ولكنّه فى الشمس والبدر أشنع. وقوله أيضا: أعندك الشمس تجرى فى منازلها، ... وأنت مشتغل الالحاظ بالقمر؟ وقال البحترىّ: كذاك الشّمس تبعد أن تسامى، ... ويدنو الضّوء منها والشّعاع. وقال ابن الرومى: ورأيته كالشّمس: إن هى لم تنل ... فالدّفء منها والضّياء ينال. وقال أيضا: كالشّمس لا تبدو فضيلتها ... حتّى تغشّى الأرض بالظّلم. وقال أيضا: كالشمس فى كبد السماء محلّها، ... وشعاعها فى سائر الآفاق. وقال العبّاس بن الأحنف: هى الشمس مسكنها فى السماء. ... فعزّ الفؤاد عزاء جميلا! وقال أبو عبيد البكرىّ: والشمس يستغنى، إذا طلعت، ... أن يستضاء بغرّة البدر. وقال أبو الطيب المتنبى: كالشمس لا تبتغى بما صنعت ... منفعة عندهم ولا جاها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 وقال ابن لنكك البصرىّ: وهبك كالشّمس فى حسن؛ ألم ترها ... يفرّ منها إذا مالت إلى الضّرر؟ وقال ابن عبّاد: فقلت: وشمس الضّحى تحتمى ... إذا بسطت فى المصيف الأذى. وقال ابن مسعويه الخالدىّ: لا يعجبنّك حسن القصر تنزله ... فضيلة الشمس ليست فى منازلها. وقال أبو الفتح البستىّ: فالحرّ حرّ عزيز النّفس حيث ثوى، ... والشّمس فى كلّ برج ذات أنوار. 4- ذكر ما جاء فى وصف الشمس وتشبيهها من ذلك قول الوزير المهلّبىّ: الشّمس فى مشرقها قد بدت ... منيرة ليس لها حاجب. كأنّها بودقة أحميت، ... يجول فيها ذهب ذائب. وقال ظافر الحدّاد: أنظر لقرن الشّمس بازغة ... فى الشّرق تبدو ثم ترتفع! كسبيكة الزّجّاج ذائبة ... حمراء ينفخها فتتّسع. وقال أبو هلال العسكرىّ: والشمس واضحة الجبين كأنّها ... وجه المليحة فى الخمار الأزرق! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 وكأنّها عند انبساط شعاعها ... تبر يذوب على فروع المشرق! وقال أحمد بن عبد العزيز القرطبىّ: أو ما ترى شمس الأصيل عليلة ... تزداد من بين المغارب مغربا؟ مالت لتحجب شخصها فكأنها ... مدّت على الدّنيا ملاء مذهبا! ومما وصفت به- وقد قابلت القمر- قول الشاعر: أما ترى الشمس، وهى طالعة، ... تمنع عنّا إدامة النّظر؟ حمراء صفراء فى تلوّنها ... كأنّها تشتكى من السّهر. مثل عروس غداة ليلتها ... تمسك مرآتها من القمر. وقال مؤيد الدين الطغرائى، عفا الله عنه ورحمه: وكأنّما الشمس المنيرة إذ بدت، ... والبدر يجنح للمغيب وما غرب، متحاربان: لذا مجنّ صاغه ... من فضّة، ولذا مجنّ من ذهب. ومن أحسن ما وصفت به فى الطلوع والزوال والغروب قول أعرابىّ. مخبّأة: أمّا إذا اللّيل جنّها ... فتخفى وأما فى النّهار فتظهر. إذا انشقّ عنها ساطع الفجر وانجلى ... دجى الليل وانجاب الحجاب المسترّ وألبس عرض الأفق لونا كأنّه ... على الأفق الغربىّ ثوب معصفر عليها دروع الزّعفران، يشوبه ... شعاع تلالا فهو أبيض أصفر: ترى الظّلّ يطوى حين تبدو وتارة ... تراه إذا زالت عن الأرض ينشر. فأفنت قرونا، وهى فى ذاك لم تزل ... تموت وتحيا كلّ يوم وتنشر! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 وقال آخر: وبدالنا ترس من الذّهب الذى ... لم ينتزع من معدن بتعمّل. مرآة نور لم تشن بصياغة ... كلّا ولا جليت بكفّ الصّيقل. تسمو إلى كبد السماء كأنّها ... تبغى هناك دفاع أمر معضل. حتّى إذا بلغت إلى حيث انتهت ... وقفت كوقفة سائل عن منزل. ثم انثنت تبغى الحدور كأنها ... طير أسفّ مخافة من أجدل. ومما وصفت به، وقد قابلت الغيم، قول ابن المعتز: تظلّ الشمس ترمقنا بطرف ... خفىّ لحظه من خلف ستر. تحاول فتق غيم وهو يأبى ... كعنّين يحاول نيل بكر. وقال آخر: وعين الشمس ترنو من بعيد ... رنوّ البكر من خلف السّتور. وقال محمد بن رشيق: فكأنّ الشّمس بكر حجّبت ... وكأنّ الغيم ستر قد ستر [1] . 5- ذكر شىء مما وصفت به على طريق الذمّ فمن ذلك ما قاله عبد الملك بن عمير، وقد سئل عنها فقال: مظهرة للدّاء، مثقّلة للهواء، مبلاة للثوب، جالبة للهب. وقال آخر: الشمس تشحب اللون، وتغيّر العرق، وترخى البدن، وتثير المرّة. إذا احتجمت فيها، أمرضتك؛ وإن أطلت النوم فيها، أفلجتك؛ وإن قربت منها، صرت زنجيّا، وإن بعدت عنها، صرت صقلّيّا.   [1] كذا بالأصل ولعل يد الناسخ حرفته عن «سدل» كما هو ظاهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 وقال ابن سنا الملك: لا كانت الشمس! فكم أصدأت ... ضفحة خدّ كالحسام الصّقيل! وكم وكم صدّت بوادى الكرى ... طيف خيال جاءنى عن خليل! وأعدمتنى من نجوم الدّجى ... ومنه روضا بين ظلّ ظليل! تكذب فى الوعد؛ وبرهانه ... أنّ سراب القفر منها سليل. وهى إذا أبصرها مبصر ... حديد طرف، راح عنها كليل. يا علّة المهموم، يا جلدة ال ... محموم، يا زفرة صبّ نحيل! يا قرحة المشرق عند الضّحى، ... وسلحة المغرب عند الأصيل! أنت عجوز، لم تبرّجت لى، ... وقد بدا منك لعاب يسيل؟ وقال التيفاشىّ، عفا الله تعالى عنه ورحمه: فى خلقة الشمس وأخلاقها ... شتّى عيوب ستة تذكر. رمداء، عمشاء، إذا أصبحت؛ ... عمياء عند اللّيل، لا تبصر. ويغتدى البدر لها كاسفا ... وجرمها من جرمه أكبر. حرورها فى القيظ لا تتّقى ... ودفؤها فى القرّ مستحقر. وخلقها خلق المليك الذى ... ينكث فى العهد ولا يصبر. ليست بحسناء. وما حسن من ... يحسر عنه اللحظ لا يبصر؟ وقال أبو الطيب المتنبى: تسوّد الشّمس منّا بيض أوجهنا ... ولا تسوّد بيض العذر واللّمم. وكان حالهما فى الحكم واحدة ... لو اختصمنا من الدّنيا إلى حكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 6- ذكر ما قيل فى الكسوف روى أن الشمس كسفت فى عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ووافق ذلك موت إبراهيم بن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال الناس: إنما كسفت الشمس لأجله فقال النبىّ (صلى الله عليه وسلم) «إنّ الشمس والقمر آيتان من آيات الله تعالى يخوّف بهما عباده، وإنهما لا يكسفان لموت أحد ولا لحياته. فإذا رأيتم ذلك، فادعوا الله وكبّروا وصلّوا حتّى يكشف ما بكم» . وقال محمد بن هانئ فى الكسوف. هى الحوادث لا تبقى ولا تذر! ... ما للبريّة من محتومها وزر! لو كان ينجى علوّ من بوائقها، ... لم تكسف الشمس بل لم يخسف القمر! 7- ذكر أسماء الشمس اللغوية وللشمس أسماء نطقت بها العرب. فمنها: ذكاء، والجارية، والجونة، والغزالة، واللاهة [1] ، والضّحى، والضّحّ، ويوح (بالياء المثناة والباء الموحدة) ، والشّرق، وحناذ، والعين، والمؤوّبة، والسّراج.   [1] الذى فى كتب اللغة أن اللاهة اسم محيّة. وأما الشمس فاسمها إلاهة مثلثة، وأليهة. فلعل ما هنا تصحيف من الناسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 8- ذكر عبّاد الشمس قال الشهرستانىّ فى كتابه المترجم «بالملل والنحل» : إن عبدة الشمس طائفة من الهنود يسمّون الديبكينية [1] أى عباد الشمس؛ ومذهبهم مذهب الصابئة. وتوجههم إلى الهياكل السماوية دون قصر الإلهية والربوبيّة عليها. ويزعمون أن الشمس ملك من الملائكة، وأن لها نفسا وعقلا، ومنها نور الكواكب، وضياء العالم، وتكوّن الموجودات السفلية. وهى ملك يستحق التعظيم، والسجود، والتبخير، والدعاء. ومن سنتهم أنهم اتخذوا لها صنما بيده جوهرة على لون النار. وللصنم بيت خاصّ بنوه باسمه ووقفوا عليه ضياعا، وله سدنة وقوّام. فتأتى هذه الطائفة إلى البيت، ويصلّون فيه ثلاث كرّات. ويأتى أصحاب العلل والأمراض فيصومون له، ويصلّون، ويدعون، ويستشفون به. 9- ذكر ما قيل فى القمر (وهو النير الثانى) ذهب وهب بن منبّه أن القمر موضوع على عجلة فى فلك، والفلك يدور بأمر الله تعالى إلى ناحية المغرب، والعجلة يجرّها ثلاثمائة وستون ملكا إلى ناحية المشرق؛ وتدوير العجلة من تدوير الفلك الأعظم؛ وتدوير فلك القمر من تدوير العجلة. ويقال: إن القمر كان كالشمس فى الضياء. فلم يكن يعرف الليل من النهار، فأمر الله تعالى جبريل أن يمرّ عليه بجناحه، فمرّ عليه، فمحاه. فهو ما ترى فيه من السواد.   [1] الذى فى الشهرستانى طبع لويدرة: «الدينكيتيّة» . وهو الأقرب للصواب ويقول مترجمه الألمانى العلامة هاربرد كرانه ولعله من «ديكرت» ومعناه «صانع النهار» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 وبهذا القول فسر قوله تعالى (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) . قالوا: ولا يسمّى قمرا إلا بعد مضىّ ثلاث ليال من استهلاله. والأقمر هو الأبيض. 10- ذكر ما قيل فى القمر (من استهلاله إلى انقضاء الشهر وأسماء لياليه) قالوا: وللقمر من أوّل الشهر إلى آخره خمس حالات؛ وللياليه عشرة أسماء أما حالاته الخمس: فالأولى: الهلالية، وهى خروجه من تحت شعاع الشمس وظهوره فى الغرب فى أوّل الشهر. الثانية: أن يفضل فيه النور على الظلمة، وذلك فى الليلة السابعة من الشهر. الثالثة: الاستقبال، وهو كونه فى البرج السابع من بروج الشمس، ويسمّى الامتلاء لامتلاء القمر فيه نورا، وذلك فى الليلة الرابعة عشرة من الشهر، ويسمّى القمر فيها بدرا لكماله، ويسمّى بذلك لامتلائه، وقيل لمبادرته الشمس بالطلوع، وتسمّى الليلة التى قبلها (وهى الثالثة عشرة) ليلة السّواء لاستواء القمر فيها، وقيل: لاستواء ليلها ونهارها فى الضياء، وهى ليلة التّمام. الرابعة: أن تفضل الظلمة فيه على النور، وذلك فى الليلة الثانية والعشرين من الشهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 الخامسة: المحاقيّة، وهى مدّة استتاره بشعاع الشمس؛ ويسمّى ذلك أيضا سرارا، وذلك فى الليلة التاسعة والعشرين، ويمكن أن يغيب ثلاث ليال لا يرى ويهلّ فى اليوم الرابع، ويسمّى حينئذ قمرا لا هلالا؛ والشمس تعطيه من نورها كلّ ليلة ما يستضىء به نصف سبع قرصه حتّى يكمل، ثم يسلبه من الليلة الخامسة عشرة، فى كل ليلة نصف سبع قرصه حتّى لا يبقى فيه نور فيستتر. وأما أسماء لياليه، فإنه يقال لأوّل ثلاثة منها غرر، والثانية شهب، والثالثة زهر، والرابعة بهر، والخامسة بيض، والسادسة درع، والسابعة [1] حنادس، والثامنة ظلم، والتاسعة داد، والعاشرة ليلتان منها محاق وليلة سرار؛ ويسمّون الليلة الثامنة والعشرين الدّعجاء، والليلة التاسعة والعشرين الدّهماء، والليلة الموفية ثلاثين اللّيلاء، ويسمّونها ليلة البراء لتبرّى القمر من الشمس. 11- ذكر أسماء القمر اللّغوية وللقمر أسماء نطقت بها العرب. فمنها: القمر، والباهر، والبدر، والطّوس، والجلم، والغاسق، والوبّاص، والزّبرقان، والمنشقّ، والواضح [2] ، والباحور، والأبرص، والزّمهرير. ومنه قول الله سبحانه وتعالى: (لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) وقول بعض العرب. وليلة ظلامها قد اعتكر ... قطعتها والزّمهرير ما ظهر.   [1] الذى فى اللسان والقاموس: ان الظّلم، ثلاث ليال يلين الدّرع. والحنادس، ثلاث ليال بعد الظلم. ويؤيده ما فى الصحاح: ان الحندس الليل الشديد الظلمة. وقد ذكر ابن سيدة هذه الأسماء فى المخصص (ج 9 ص 30- 31) وأوردها على هذا الترتيب. وعليه فصواب العبارة هكذا: (والسادسة درع، والسابعة ظلم، والثامنة حنادس اخ) اهـ. [2] الذى فى كتب اللغة: ان الوضح القمر، فلعله تحريف من الناسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 ومن أسمائه: السّنمّار، والسّاهور. والفخت ضوءه، والأخذ [1] منزلته. وكذلك الوكس، وهى المنزلة التى يكسف فيها: والهالة دارته. 12- ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر القمر يقال فى أمثالهم: أضيع من قمر الشتاء! قيل لأنه لا يجلس فيه. إن يبغ عليك قومك، لا يبغ عليك القمر. ويقال: أضوأ من القمر؛ وأتمّ من البدر. ومن أنصاف الأبيات: أريها السّها وترينى القمر لا تخرج الأقمار من هالاتها هكذا البدر فى الظّلام يوافى كذاك كسوف البدر عند تمامه ومن الأبيات قول الطائى: إنّ الهلال إذا رأيت نموّه ... أيقنت أن سيكون بدرا كاملا. وقال ابن أبى البغل، والبيت الثانى لابن بحر: المرء مثل هلال حين تبصره ... يبدو ضعيفا ضئيلا ثم يتّسق. «يزداد حتّى إذا ما تمّ أعقبه ... كرّ الجديدين نقصا ثم ينمحق» . وقال أبو الفرج الببغا: ستخلص من هذا السّرار وأيّما ... هلال توارى فى السّرار فما خلص!   [1] عبارة اللسان فى مادة (اخ ذ) : ونجوم الأخذ منازل القمر لأن القمر يأخذ كل ليلة فى منزل منها اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 13- ذكر ما قيل فى وصفه وتشبيهه من ذلك قول عبد الله بن المعتتر فى الهلال: وانظر إليه كزورق من فضّة ... قد أثقلته حموله من عنبر! وقول عبد الجبار بن حمديس الصقلىّ: وربّ صبح رقبناه، وقد طلعت ... بقيّة البدر فى أولى بشائره! كأنّما أدهم الإظلام حين نجا ... من أشهب الصّبح، ألقى نعل حافره! وقال آخر: قد انقضت دولة الصّيام وقد ... بشّر سقم الهلال بالعيد! يتهلو الثّريّا كفاغر شره ... يفتح فاه لأكل عنقود! وقال أبو هلال العسكرىّ: فى هلال كأنّه حيّة الرّم ... ل أصابت على اليفاع مقيلا . بات فى معصم الظّلام سوارا ... وعلى مفرق الدّجى إكليلا. وقال آخر: والجوّ صاف والهلال مشنّف ... بالزّهرة الزّهراء نحو المغرب. كصحيفة زرقاء فيها نقطة ... من فضة من تحت نون مذهب. وقال آخر: قلت لمّا دنت لمغربها الشّم ... س ولاح الهلال للنّظّار: أقرض الشّرق صنوه الغرب دينا ... را فأعطاه الرّهن نصف سوار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 وقال أبو العلاء المعرّى: ولاح هلال مثل نون أجادها ... بذوب النّضار الكاتب ابن هلال. وقال آخر: وكأنّ الهلال نون لجين ... غرقت فى صحيفة زرقاء. وقال أبو عاصم البصرىّ من شعراء اليتيمة: رأيت الهلال، وقد أحدقت ... نجوم الثّريّا لكى تسبقه. فشبّهته وهو فى إثرها ... وبينهما الزّهرة المشرقه، بقوس لرام رمى طائرا ... فأتبع فى إثره بندقه. وقال آخر: ولاح لنا الهلال كشطر طوق ... على لبّات زرقاء اللّباس. وقال الواوا الدمشقىّ رحمه الله: وكأنّ الهلال تحت الثّريّا ... ملك فوق رأسه إكليل! وقال إبراهيم بن محمد المرادىّ، من شعراء الأنموذج، ملغزا فيه: دع ذا! وقل للنّاس: ما طارق، ... يطرقكم جهرا ولا يتّقى؟ ليس له روح على أنّه ... يركب ظهر الأدهم الأبلق. شيخ رأى آدم فى عصره ... وهو إلى الآن بخدّ نقى. ومدّ وسط السّجن مع قومه ... لا ينبرى من نهجه الضّيّق. هذا ويمشى الأرض فى ليلة ... أعجب به من موثق مطلق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 فتارة ينزل تحت الثّرى ... وتارة وسط السّما يرتقى. وتارة يوجد فى مغرب ... وتارة يوجد فى المشرق. وتارة تحسبه سابحا ... يسرى بشاطى البحر كالزّورق. وتارة تحسبه وهو فى ... أستاره والبعض منه بقى، ذبابة من صارم مرهف ... بارزة من جفنه المطبق. يدنو إلى عرس له حسنها ... يختطف الأبصار بالرّونق. حتّى اذا جامعها يرتدى ... بحلّة سوداء كالمحرق. وهو على عادته دائما ... يجامع الأنثى ولا يتّقى. ثم يجوب القفر من أجلها ... مشتملا فى مطرف أزرق. حتّى اذا قابلها ثانيا ... تشكّه بالرّمح فى المفرق. وبعد ذا تلبسه حلّة ... يا حسنها فى لونها المونق! فجسمه من ذهب جامد ... وجلده صيغ من الزّئبق. وهو إذا أبصرته هكذا ... أملح من صاحبة القرطق. وقال ابن المعتز: نظرت فى يوم لذّة عجبا ... وافى به للسّعود مقدار. يقابل الشمس فيه بدردجى ... يأخذ من نورها ويمتار. كصيرفىّ يروح منتقدا ... فى كفّه درهم ودينار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 وقال عبد الله بن علىّ الكاتب: كشف البدر وجهه لتمام، ... فوجوه النّجوم مستترات . وكأنّ البدر التّمام عروس، ... وكأنّ النّجوم مستنقبات. 14- ذكر شىء مما قيل فيه على طريق الذم حكى أن أعرابيا رأى رجلا يرقب الهلال. فقال له: ما ترقب فيه، وفيه عيوب لو كانت فى الحمار لردّ بها؟ قال: وما هى؟ فقال: إنه يهدم العمر، ويقترب الأجل، ويحلّ الدّين، ويقرض الكتّان، ويشجب اللون، ويفسد اللحم، ويفضح الطارق، ويدلّ السارق. ومن عيوبه أن الإنسان إذا نام فى ضوئه حدث فى بدنه نوع من الاسترخاء والكسل، ويهيج عليه الزكام والصّداع؛ وإذا وضعت لحوم الحيوانات مكشوفة فى ضوئه، تغيرت طعومها وروائحها. وقال ابن الرومىّ: ربّ عرض منزّه عن قبيح ... دنّسته معرّضات الهجاء. لو أراد الأديب أن يهجو البد ... ر، رماه بالخطّة الشّنعاء. قال: يا بدر أنت تغدر بالسّا ... رى وتزرى بزورة الحسناء. كلف فى شحوب وجهك يحكى ... نكتّا فوق وجنة برصاء. يعتريك المحاق ثمّ يحليّ ... ك شبيه القلامة الحجناء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 ويليك النّقصان فى آخر الشّهر ... فيمحوك من أديم السّماء. فإذا البدر نيل بالهجو، هل يأ ... من ذو الفضل ألسن الشّعراء؟ لا لأجل المديح، بل خيفة الهج ... وأخذنا جوائز الخلفاء! هذا ما أمكن إيراده فى القمر، فلنذكر خبر عبّاد القمر. 15- ذكر عبّاد القمر قال الشهرستانىّ: عبّاد القمر طائفة من الهنود يسمّون الحندر بكتية [1] ، أى عبّاد القمر. يزعمون أن القمر ملك من الملائكة يستحق التعظيم والعبادة، وإليه تدبير هذا العالم السفلىّ، ومنه نضج الأشياء المتكوّنة واتصالها إلى كمالها؛ وبزيادته ونقصانه تعرف الأزمان والساعات؛ وهو تلو الشمس وقرينها، ومنها نوره، وبالنظر إليها زيادته ونقصانه؛ ومن سنّتهم أنهم اتخذوا صنما على عجلة تجرّه أربعة، [2] وبيده جوهرة؛ ومن دينهم أن يسجدوا له ويعبدوه، وأن يصوموا النصف من كل شهر، ولا يفطروا حتّى يطلع القمر، ثم يأتون الصنم بالطعام والشراب واللبن، ثم يرغبون إليه وينظرون إلى القمر، ويسألونه حوائجهم؛ فإذا استهل الشهر علوا السّطوح، وأوقدوا الدّخن، ودعوا عند رؤيته، ورغبوا إليه، ثم نزلوا عن السطوح إلى الطعام والشراب والفرح والسرور، ولم ينظروا إليه إلا على وجوه حسنة. وفى نصف الشهر إذا فرغوا من الإفطار، أخذوا فى الرقص واللعب بالمعازف بين يدى الصنم والقمر.   [1] فى الشهرستانى طبع لوندرة: «الجندريكنية» . وأفادنا مترجمه إلى الألمانية أن «چندراكا» معناه القمر فى لغتهم. [2] الذى فى الشهرستانى: صنما على صورة عجل وبيد الصم الخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 16- ذكر ما قيل فى الكواكب المتحيرة والكواكب الخمسة الباقية من الكواكب السبعة تسمّى المتحيرة. ثلاثة منها علوية تعلو أفلاكها فلك الشمس، وهى: زحل، والمشترى، والمرّيخ؛ واثنان سفلية فلكهما تحت فلك الشمس، وهى: الزّهرة، وعطارد. وسمّيت هذه الكواكب المتحيرة لأنها ترجع أحيانا عن سمت مسيرها بالحركة الشرقية، وتتبع الغربية. فهذا الأرتداد فيها شبه التحير. 17- ذكر عباد الروحانيات (وما احتجوا به فى سبب عبادتهم لها [1] ) وعباد الروحانيات هم الصابئة. يقال: صبأ الرجل إذا مال وزاغ. ومذهب هؤلاء أن للعالم صانعا فاطرا حكيما مقدّسا عن سمات الحدثان. وكانت الصابئة تقول: إنا نحتاج فى معرفة الله تعالى ومعرفة طاعته وأوامره وأحكامه، إلى متوسط؛ ولكن ذلك المتوسط يجب أن يكون روحانيا لا جسمانيا. وذلك لزكاء الروحانيات وطهارتها وقربها من رب الأرباب؛ والجسمانىّ بشر مثلنا يأكل مما نأكل، ويشرب مما نشرب، يماثلنا فى الصورة والمادّة. قالوا: (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) . وقالوا: الواجب علينا معرفة العجز عن الوصول إلى جلاله، وإنما يتقرّب إليه بالمتوسطات المقرّبين لديه، وهم الروحانيون المقدّسون المطهرون، جوهرا وفعلا وحالة.   [1] نقل المؤلف هنا بعض عبارات الشهرستانى في الملل والنحل مع تقديم وتأخير (أنظر ص 203 من طبعة الأب كرتون الانكليزى فى لندرة سنة 1842- 1846) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 أما الجوهر فهم المقدّسون عن الموادّ الجسمانية، المبرؤون عن القوى الجسدانية، أى منزّهون عن الحركات المكانية، والتغييرات الزمانية؛ قد جبلوا على الطهارة، وفطروا على التقديس والتسبيح (لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) . وإنما أرشدنا إلى هذا معلمنا الأوّل، عاذيمون، وهرمس. فنحن نتقرّب إليهم، ونتوكل عليهم، وهم أربابنا، وآلهتنا، ووسائلنا، وشفعاؤنا عند رب الأرباب، وإله الآلهة. فالواجب علينا أن نطهّر نفوسنا من دنس الشهوات الطبيعية، ونهذّب أخلاقنا عن علائق القوى الشهوانية والغضبية، حتّى يحصل لنا مناسبة ما بيننا وبين الروحانيات. فحينئذ نسأل حاجاتنا منهم، ونعرض أحوالنا عليهم، ونصبأ فى جميع أمورنا إليهم. فيشفعون لنا إلى خالقنا وخالقهم، ورازقنا ورازقهم. وهذا التطهير والتهذيب ليس إلا باكتسابنا، ورياضتنا، وفطامنا لأنفسنا عن دنيّات الشهوات، باستمداد من جهة الرّوحانيات؛ والاستمداد هو التضرّع والابتهال. بالدعوات، وإقامة الصلوات، وبذل الزكوات، والصيام عن المطعومات والمشروبات، وتقريب القرابين والذبائح، وتبخير البخورات، وتعزيم العزائم. فيحصل لنفوسنا استعداد أو استمداد من غير واسطة، بل يكون حكمنا وحكم من يدعى الوحى واحدا. قالوا: والأنبياء أمثالنا فى النوع، وأشكالنا فى الصورة، ومشاركونا فى المادّة. يأكلون مما نأكل، ويشربون مما نشرب، ويساهموننا فى الصورة. أناس بشر مثلنا، فمن أين لنا طاعتهم، وبأيّة مزية لهم لزم مشايعتهم؟ (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) . قال: وأما الفعل، فالروحانيات هم الأسباب المتوسطون فى الاختراع، والإيجاد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 وتصريف الأمور من حال إلى حال، وتوجيه المخلوقات من مبدإ إلى كمال، يستمدّون القوّة من الحضرة القدسية، ويفيضون الفيض على الموجودات السفليه. فمنها- مدبرات الكواكب السبعة السيّارة فى أفلاكها، وهى هياكلها. فلكل روحانى هيكل، ولكل هيكل فلك. ونسبة الروحانىّ إلى ذلك الهيكل الذى اختص به نسبة الروح إلى الجسد. فهو ربه ومديره ومدبره. وكانوا يسمون الهياكل أربابا (وربما يسمونها أباء) ، والعناصر أمهات. ففعل الروحانيات تحريكها على قدر مخصوص ليحصل من حركاتها انفعالات فى الطبائع والعناصر، فيحصل من ذلك تركيبات وامثراجات فى المركبات فتتبعها قوّى جسمانية، وتركب عليها نفوس روحانية، مثل أنواع النبات والحيوان. ثم قد تكون التأثيرات كلية صادرة عن روحانىّ كلىّ، وقد تكون جزئية صادرة عن روحانىّ جزئىّ. فمع جنس المطر ملك، ومع كل قطرة ملك. ومنها- مدبرات الآثار العلوية الظاهرة فى الجوّ مما يصعد من الأرض فينزل مثل الأمطار والثلوج والبرد والرياج؛ وما ينزل من السماء مثل الصواعق والشهب؛ وما يحدث فى الجوّ من الرعد والبرق والسحاب وقوس قزح وذوات الأذناب والهالة والمجرّة؛ وما يحدث فى الأرض من الزلازل والمياه والأبخرة إلى غير ذلك. ومنها- متوسطات القوى السارية فى جميع الموجودات، ومدبرات الهداية الشائعة فى جميع الكائنات، حتى لا ترى موجودا ما خاليا عن قوّة وهداية، إذا كان قابلا لهما. قالوا: وأما الحالة، فأحوال الروحانيات من الرّوح، والرّيحان، والنعمة، واللذة، والراحة، والبهجة، والسرور فى جوار رب العالمين، كيف تخفى؟ ثم طعامهم وشرابهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 التسبيح والتقديس والتهليل والتمجيد؛ وأنسهم بذكر الله وطاعته، فمن قائم وراكع وساجد، ومن قاعد لا يريد تبدل حالته لما هو فيه من النعمة واللذة، ومن خاشع بصره لا يرفع، ومن ناظر لا يغمض، ومن ساكن لا يتحرّك، ومتحرّك لا يسكن، وكروبىّ [1] فى عالم القبض، وروحانىّ فى عالم البسط (لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ) . وقد جرت مناظرات ومحاورات بين الصابئة والحنفاء فى المفاضلة بين الروحانىّ المحض والبشرية النبوية، ليس هذا موضع إيرادها. فلنذكر إن شاء الله تعالى بيوت الهياكل، تلو ما ذكرناه من عباد الروحانيات ومحتجّاتهم! 18- ذكر بيوت الهياكل (وأماكنها ونسبتها إلى الكواكب) قالوا: ثم لم تقتصر الصابئة على التقرّب إلى الروحانيات بأعيانها، والتلقى بذواتها حتّى اتخذوا أصناما على هيئة الكواكب السبعة، وجعلوا لها بيوتا، وسمّوا البيوت بالهياكل، وجعلوا الهياكل الأفلاك للكواكب. وعظموا هذه الأصنام التى صنعوها، وزعموا أنهم إذا عظموها تحرّكت لهم الكواكب السبعة العلوية بكل ما يريدون. وحكى المسعودىّ فى كتابه المترجم «بمروج الذهب ومعادن الجوهر» أن هذه الطائفة تزعم أن البيت الحرام هيكل زحل، وإنما طال بقاء هذا البيت على مرور الدهور، معظما فى سائر العصور، لأن زحل تولّاه: إذ من شأنه الثبوت [2] .   [1] الكروبيون سادة الملائكة المقرّبون. [2] راجع الشهرستانى طبعة كرتن (ص 430- 431) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 ومن البيوت المشهورة [1] : بيت على رأس جبل أصفهان، يسمّى مارس [2] ، ثم اتخذه بعض ملوك المجوس بيت نار؛ وبيت ببلاد الهند، وبيت ببلخ، بناه منوشهر على اسم القمر، وكان الموكل بسدانته يسمونه برمك، وإليه تنسب البرامكة؛ وبيت غمدان باليمن، بناه الضحاك على اسم الزّهرة؛ وبيت بفرغانة [3] ، على اسم الشمس، يعرف بكاوسان، بناه كاوس [4] أحد ملوك الفرس، وخربه المعتضد [5] بالله؛ وبيت ببلاد الصين، بناه ولد عامور بن شوبل [6] بن يافث، وقيل بناه بعض ملوك الترك [7] . وحكى غير المسعودى أن البيت الأوّل الكعبة. ويذكرون أن إدريس (عليه السلام) أوصى به، وأوصى أن يكون الحج إليه وهو عندهم بيت زحل؛ والبيت   [1] وراجع الشهرستانى (ص 431، 432) . [2] فى الشهرستانى: فارس. [3] من مدن خراسان. [4] فى الأصل: مكاوس [وهو خطأ من الناسخ. والتصويب عن المسعودى وعن الشهرستانى] . [5] فى الشهرستانى أنه المعتصم. [6] فى بعض نسخ المسعودى: سوبل (بالسين المهملة) . [7] انظر الباب الرابع والستين من مروج الذهب، ففيه تفصيل لما أورده النويرى هنا بغاية التلخيص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 الثانى وهو بيت المرّيخ، يزعمون انه كان بصور من الساحل الشامىّ؛ والبيت الثالث وهو بيت المشترى، كان بدمشق بناه جيرون بن سعد بن عاد، وموضعه الآن الجامع الأموىّ؛ والبيت الرابع وهو بيت الشمس بمصر، ويسمى عين شمس، وآثاره باقية الى وقتنا هذا [1] ؛ والبيت الخامس وهو بيت الزهرة، كان بمنبج وخرب؛ والبيت السادس بيت عطارد، وكان بصيدا من الساحل الشامىّ وخرب؛ والبيت السابع وهو بيت القمر، كان بحرّان؛ وهو بيت الصابئة الأعظم. الباب الخامس من القسم الأوّل من الفن الأوّل 1- فى الكواكب الثابتة ذهب بعض من تكلم فى ذلك أن هذه الكواكب معلقة فى سماء الدنيا كالقناديل، وأنها مخلوقة من نور. وقال آخرون: إنها معلقة بأيدى ملائكة. وفسر بهذا القول قوله تعالى (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) . يقال انتثارها يكون بموت من كان يحملها من الملائكة. وهذه الكواكب فى سماء الدنيا بنص الكتاب العزيز، لقول الله عز وجل: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) .   [1] زالت هذه الآثار الآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 وقال قتادة: خلق الله تعالى هذه النجوم لثلاثة: جعلها زينة للسماء، ورجوما للشياطين، وعلامات يهتدى بها فى البر والبحر. فمن تأوّل غير هذا فقد أخطأ. قالوا: وإنما سميت بالثوابت، وإن كانت متحرّكة لأنها ثابتة الابعاد على الأبد، لا يقرب أحدها من الآخر، ولا يبعد عنه، ولا يزيد، ولا ينقص، ولا تتغيّر عن جهاتها. لأنها تتحرّك بحركتها الطبيعية حول قطبى العالم. ولهذا سميت ثابتة. وهى فى فلك ثامن غير أفلاك الكواكب السبعة السيارة. ودليل ذلك أن للكواكب السبعة حركات أسرع من حركات هذه. 2- ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر الكواكب يقال: أناى من كوكب؛ أبعد من مناط النجم؛ أهدى من النجم. ومن أنصاف الأبيات: وأين نزيل الأرض عند الكواكب؟ ... وأين الثّريّا من يد لمتناول؟ والكوكب النّحس يسقى الأرض أحيانا ومن الأبيات قول أبى تمّام عفا الله عنه: كالنّجم إن سافرت كان مواكبا ... وإذا حططت الرحل كان جليسا. وقال أبو نواس: أين النّجوم الثّابتا ... ت من الأهلّة والبدور؟ وقال آخر: وكنّا فى اجتماع كالثّريّا، ... فصرنا فرقة كبنات نعش! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 وقال آخر: كالفرقدين إذا تأمّل ناظر، ... لم يعل موضع فرقد من فرقد. وقال الوزير أبو الفتح البستىّ: وللنّجم من بعد الرّجوع استقامة ... وللشّمس من بعد الغروب طلوع. وقال جحظة: مثل الّذى يرجو البلو ... غ إلى الكواكب وهو مقعد. وقال عمر بن أبى ربيعة: أيّها المنكح الثّريّا سهيلا، ... عمرك الله! كيف يلتقيان؟ هى شاميّة إذا ما استهلّت، ... وسهيل إذا استهلّ يمانى. وقال آخر: وكلّ أخ مفارقه أخوه، ... لعمر أبيك، إلا الفرقدان! 3- ذكر ما قيل فى وصف الكواكب وتشبيهها من ذلك ما قاله ابن حجّاج فى المجرّة: يا صاحبىّ استيقظا من رقدة ... تزرى على عقل اللّبيب الأكيس! هذى المجرّة والنّجوم كأنّها ... نهر تدفّق فى حديقة نرجس! وقال آخر: وكأنّ المجرّ جدول ماء ... نوّر الأقحوان فى جانبيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 وقال المهذب بن الزبير فيها: وترى المجرّة والنّجوم كأنّها ... تسقى الرياض بجدول ملآن. لو لم يكن نهرا، لما عامت به ... أبدا نجوم الحوت والسّرطان. وقال أبو هلال العسكرىّ: تبدو المجرّة منجرّا ذوائبها ... كالماء ينساح أو كالأيم [1] ينساب. وقال هشام بن إلياس فى الجوزاء: فكأنّما جوزاؤه فى غربها ... بيضاء سابحة ببركة زئبق. وكأنّما أومت ثلاث أنامل ... منها تقول: إلى ثلاث نلتقى! وقال آخر: وكأنّ الجوزاء لمّا استقلّت ... وتدلّت، سرادق ممدود. وقال العلوىّ فيها أيضا: ها إنّها الجوزاء فى أفقها ... واهية ناعسة تسحب. نطاقها واه لدى أفقها ... ينسلّ منها كوكب كوكب. وقال ابن وكيع فيها: قم فاسقنى صافية ... تهتك جنح الغسق! أما ترى الصّبح بدا ... فى ثوب ليل خلق؟   [1] الأيم، والأين: ضرب من الحيات. (عن النوادر فى اللغة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 أما ترى جوزاءه ... كأنّها فى الأفق، منطقة من ذهب ... فوق قباء أزرق؟ وقال كعب الغنوىّ: وقد مالت الجوزاء حتّى كانّها ... فساطيط ركب بالفلاة نزول. وقال امرؤ القيس فى الثّريّا: إذا ما الثّريّا فى السّماء تعرّضت ... تعرّض أثناء الوشاح المفصّل. وقال ابن الطّثريّة: إذا ما الثّريّا فى السّماء كأنّها ... جمان وهى من سلكه، فتبدّدا. وقال المبرّد: إذا ما الثّريّا فى السّماء تعترضت، ... يراها حديد العين ستّة أنجم. على كبد الجرباء وهى كأنّها ... جبيرة درّ ركّبت فوق معصم. وقال عبد الله بن المعتز: فناولنيها، والثّريّا كأنّها ... جنى نرجس حيّا النّدامى بها الساقى. وقال أيضا: كأنّ الثّريّا فى أواخر ليلها ... تفتّح نور أو لجام مفضّض. وقال السلامىّ، شاعر اليتيمة فيها: فسمونا، والفجر يضحك فى الشّر ... ق إلينا مبشّرا بالصّباح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 والثّريّا كراية أو لجام ... أو بنان أو طائر أو وشاح، وكأنّ النّجوم فى يد ساق ... يتهادى تهادى الأقداح. وقال ابن المعتز: ولاحت لساريها الثّريّا كأنّها ... على الأفق الغربىّ قرط مسلسل. وقال أبو نضلة: وتأمّلت الثّريّا ... فى طلوع ومغيب. فتخيّرت لها التش ... بيه فى المعنى المصيب. وهى كأس فى شروق ... وهى قرط فى غروب. وقال آخر: كأنّ الثّريّا هودج فوق ناقة ... يسير بها حاد مع الليل مزعج، وقد لمعت بين النّجوم كأنّها ... قوارير فيها زئبق يترجرج. وقال ابن سكرة الهاشمىّ: ترى الثّريّا، والغرب يجذبها ... والبدر يهوى والفجر ينفجر. كفّ عروس لاحت خواتمها ... أو عقد درّ فى البحر ينتثر. وقال محمد بن الحسن الحاتمىّ: وخلت الثّريّا كفّ عذراء طفلة ... مختّمة بالدّرّ منها الأنامل. تخيّلتها فى الجوّ طرّة جعبة ... ملوكيّة لم تعتلقها حمائل. كأنّ نبالا ستّة من لآلئ ... يوافى بها فى قبّة الأفق نابل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 وقال أحمد بن إبراهيم الضبىّ، شاعر اليتيمة: خلت الثريا إذ بدت ... طالعة فى الحندس: مرسلة من لؤلؤ ... أو باقة من نرجس وقال أبو العلاء المعترىّ فى سهيل. وسهيل كوجنة الحبّ فى اللّو ... ن وقلب المحبّ فى الخفقان. مستبدّا كأنّه الفارس المع ... لّم يبدو معارض الفرسان. وقال عبد الله بن المعتز: وقد لاح للسّارى سهيل كأنّه ... على كلّ نجم فى السّماء رقيب! وقال الشريف بن طباطبا: وسهيل كأنّه قلب صبّ ... فاجأته بالخوف عين الرقيب. وقال أبو عبادة البحترىّ: كأنّ سهيلا شخص ظمآن جانح ... من اللّيل فى نهر من الماء يكرع. وقال ابن طباطبا: كأنّ سهيلا، والنّجوم أمامه ... يعارضها، راع أمام قطيع. وقال الشريف الرضىّ فى الفرقدين: وهبّت لضوء الفرقدين نواظرى ... إلى أن بدا ضوء من الفجر ساطع. كأنّهما إلفان قال كلاهما ... لشخص أخيه: قل فإنّى سامع! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 وقال آخر: قلت للفرقدين واللّيل مرخ ... ستر ظلمائه على الآفاق: ابقيا ما بقيتما سوف يرمى ... بين شخصيكما بسهم الفراق! وقال القاضى التنوخىّ: وأشقر الجوّ قد لاجت كواكبه ... فيه كدرّ على الياقوت منثور. وقال القاضى الفاضل، عبد الرحيم من رسالة: «سرنا، وروضة السماء فيها من الزهر زهر، ومن المجرّة نهر؛ والليل كالبنفسج تخلله من النجوم أقاح، أو كالزّنج شعله من الرمح جراح، والكواكب سائرات المواكب لا معرّس لها دون الصّباح؛ وسهيل كالظمآن تدلّى إلى الأرض ليشرب، أو الكريم أنف من المقام بدار الذّل فتغرّب. فكأنه قبس تتلاعب به الرياح، أو زينة قدمها بين يدى الصباح؛ أو ناظر يغضّه الغيظ ويفتحه، او معنى يغمضه الحسن ثم يشرحه؛ أو صديق لجماعة الكواكب مغاضب، أو رقيب على المواكب مواكب؛ أو فارس يحمى الأعقاب، أو داع به إليها وقد شردت عن الأصحاب. والجوزاء كالسرادق المضروب، أو الهودج المنصوب؛ أو الشجرة المنوّرة، أو الحبر المصوّرة. والثريا قد همّ عنقودها أن يتدلّى، وجيش الليل قد همّ أن يتولّى» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 القسم الثانى من الفن الأوّل فى الآثار العلوية وفيه أربعة أبواب الباب الأوّل من القسم الثانى من الفن الأوّل 1- فى السحاب، وسبب حدوثه، وفى الثّلج والبرد والسحاب من الآثار العلوية. روى أبو الفرج بن الجوزىّ بإسناد يرفعه إلى عبيد ابن عمير أنه قال: يبعث الله ريحا فتقمّ الأرض، ثم يبعث المثيرة فتثير السحاب، وذلك أنها تحمل الماء فتمجّه. فى السحاب، ثم يمريه فيدرّكما تدرّ اللّقحة. وقد روى فى الأثر أن الرياح أربع: ريح تقم؛ وريح تثير، فتجعله كسفا؛ وريح تؤلّف، فتجعله ركاما؛ وريح تمطر. وروى عن عبد الله بن عباس (رضى الله عنهما) أنه قال: إن الله تعالى يرسل الرياح فتثير سحابا، وينزل عليه المطر فتتمخض به الريح كما تمخض النّتوج بولدها. وروى عن عكرمة (رضى الله عنه) أنه قال: ينزل الله الماء من السماء السابعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 فتقع القطرة على السحاب مثل البعير، والسحاب للمطر كالغربال ينزل منه بقدر. ولولا ذلك لأفسد ما على الأرض. وقال الزمخشرى فى تفسيره: السحاب من السماء ينحدر، ومنها يأخذ ماءه لا كزعم من يزعم أنه يأخذ من البحر. ويؤيد ذلك قوله عز وجل (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) . 2- ذكر ما قيل فى ترتيب السحاب (وأسمائه اللغوية وأصنافه) قال أبو منصور، عبد الملك بن محمد الثعالبىّ فى فقه اللغة، ينقله عن أئمتها: أوّل ما ينشأ السحاب، فهو نشء. فإذا انسحب فى الهواء، فهو السحاب. فإذا تغيرت وتغممت له السماء، فهو الغمام. فإذا كان غيم ينشأ فى عرض السماء فلا تبصره، وإنما تسمع رعده، فهو العقر. فإذا أطلّ وأظلّ السماء، فهو العارض. فإذا كان ذا رعد وبرق، فهو العرّاص. فإذا كانت السحابة قطعا صغارا متدانيا بعضها من بعض، فهى النّمرة. فإذا كانت متفرّقة، فهى القزع. فإذا كانت قطعا متراكمة، فهى الكرفئ (واحدتها كرفئة) . فإذا كانت قطعا كأنها قطع الجبال، فهى قلع، وكنهور (واحدتها كنهورة) . فإذا كانت قطعا رقاقا، فهى الطّخارير (واحدتها طخرور) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 فإذا كانت حولها قطع من السحاب، فهى مكلّلة. فإذا كانت سوداء، فهى طخياء، ومتطخطخة. فإذا رأيتها وخسبتها ما طرة، فهى مخيّلة. فإذا غلظ السحاب وركب بعضه بعضا، فهو المكفهّر. فإذا ارتفع ولم ينبسط، فهو النّشاص. فإذا تقطع فى أقطار السماء وتلبّد بعضه فوق بعض، فهو القرد. فإذا ارتفع وحمل الماء وكثف وأطبق، فهو العماء، والعماية، والطّخاء، والطّخاف، والطّهاء. فإذا اعترض اعتراض الجبل قبل أن يطبق السماء، فهو الحبىّ. فإذا عنّ، فهو العنان. فإذا أظل الأرض، فهو الدّجن. فإذا اسودّ وتراكب، فهو المحمومى. فإذا تعلق سحاب دون السحاب، فهو الرّباب. فإذا كان سحاب فوق سحاب، فهو الغفارة. فإذا تدلّى ودنا من الأرض مثل هدب القطيفة، فهو الهيدب. فإذا كان ذا ماء كثير، فهو القنيف. فإذا كان أبيض، فهو المزن، والصّبير. فإذا كان لرعده صوت، فهو الهزيم.   [1] اسم فاعل من احمومى الشيء اذا اسودّ. يوصف به نحو السحاب والليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 فإذا اشتدّ صوت رعده، فهو الأجشّ. فإذا كان باردا وليس فيه ماء، فهو الصّرّاد [1] . فإذا كان ذا صوت شديد، فهو الصّيّب. فإذا أهرق ماءه، فهو الجهام (وقيل بل الجهام الذى لا ماء فيه) . 3- ذكر ما قيل فى ترتيب المطر قال الثعالبىّ رحمه الله: أخفّ المطر وأضعفه الطّلّ، ثم الرّذاذ، ثم البغش والدّثّ ومثله الرّكّ، ثم الرّهمة. ويقال أيضا: أوّله رشّ وطشّ، ثم طلّ وزذاذ، ثم نضح ونضخ، وهو قطر بين قطرين، ثم هطل وتهتان، ثم وابل وجود. 4- ذكر ما قيل فى فعل السحاب والمطر يقال إذا أتت السماء بالمطر اليسير [2] الخفيف: حفشت، وحشكت. فإذا استمرّ قطرها، قيل: هطلت، وهتنت. فإذا صبّت الماء، قيل: همعت، وهضبت. فإذا ارتفع صوت وقعها، قيل: انهلّت، واستهلّت.   [1] فى فقه اللغة بعده: فإذا كان خفيف تسفره الريح فهو الزّبرج، وبعده فإذا كان ذا صوت الخ. [2] كذا فى فقه الثعالبى وعبارة اللسان: حفشت السماء تحفش حفشا: جاءت بمطر شديد ساعة ثم أقلعت؛ ومثله حشكمت وأغبت فالحفشة والحشكة والغبيه بمعنى واحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 فإذا سال المطر بكثرة، قيل: انسكب، وانبعق. فإذا سال يركب بعضه بعضا، قيل: اثعنجر، واثعنجج. فإذا دام أياما لا يقلع، قيل: أثجم، وأغبط، وأدجن. فإذا أقلع، قيل: أنجم، وأفصم، وأفصى. 5- ذكر أسماء أمطار الأزمنة قالت العرب: أوّل ما يبدأ المطر فى إقبال الشتاء، فاسمه الخريف، ثم يليه الوسمىّ، ثم الرّبيع، ثم الصّيّف، ثم الحميم. وقيل المطر الأوّل هو الوسمىّ، ثم يليه الولى، ثم الربيع، ثم الصّيّف، ثم الحميم. 6- ذكر أسماء المطر اللغوية قال الثعالبىّ: إذا أحيا الأرض بعد موتها، فهو الحيا. فإذا جاء عقيب المحل أو عند الحاجة إليه، فهو الغيث. فإذا دام مع سكون، فهو الدّيمة. والضّرب فوق ذلك قليلا، والهطل فوقه. فإذا زاد، فهو الهتلان، والهتّان، والتّهتان. فإذا كان القطر صغارا كانه شذر، فهو القطقط. فإذا كانت مطرة ضعيفة، فهى الرّهمة. فإذا كانت ليست بالكثيرة، فهى الغبية، والحفشة، والحشكة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 فإذا كانت ضعيفة يسيرة، فهى الذّهاب، والهميمة. [1] فإذا كان المطر مستمرّا، فهو الودق. فإذا كان ضخم القطر شديد الوقع، فهو الوابل. فإذا انبعق بالماء، فهو البعاق. فإذا كان يروى كل شىء، فهو الجود. فإذا كان عامّا، فهو الجدا. فإذا دام أيّاما لا يقلع، فهو العين. فإذا كان مسترسلا سائلا، فهو المرثعنّ. فإذا كان كثير القطر، فهو الغدق. فإذا كان شديد الوقع كثير الصّوب، فهو السّحيفة. [2] فإذا كان شديدا كثيرا، فهو العزّ، والعباب. فإذا جرف ما مرّ به، فهو السّحيقة. [3] فاذا قشرت وجه الأرض، فهى السّاحية. فإذا أثرت فى الأرض من شدّة وقعها، فهى الحريصة. فإذا أصابت القطعة من الأرض وأخطأت الأخرى، فهى النّفضة. فإذا جاءت المطرة لما يأتى بعدها، فهى الرّصدة، والعهاد نحو منها.   [1] فى فقه الثعالبى: الهيمة. بإسقاط الميم الأولى وهو تحريف كما يعلم من مراجعة القاموس. [2] نقل صاحب اللسان فى مادة (س ح ف) عن الأصمعى: (ان السحيفة بالفاء، المطرة الحديدة التى تجرف كل شىء. والسحيقة بالقاف، المطرة العظيمة القطر الشديدة الوقع القليلة العرض) وهو عكس ما نقله النويرى عن الثعالبى. [3] نقل صاحب اللسان فى مادة (س ح ف) عن الأصمعى: (ان السحيفة بالفاء، المطرة الحديدة التى تجرف كل شىء. والسحيقة بالقاف، المطرة العظيمة القطر الشديدة الوقع القليلة العرض) وهو عكس ما نقله النويرى عن الثعالبى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 فإذا أتى المطر بعد المطر، فهو الولى. فإذا رجع وتكرر، فهو الرّجع. فإذا تتابع، فهو اليعلول. فإذا جاءت المطرة دفعات، فهى الشّآبيب. 7- ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر المطر يقال: أبرد من غبّ المطر. أرقّ من دمع الغمام. أسرع من السيل إلى الحدور. أطغى من السيل. أغشم من السيل. أمضى من السيل. يذهب يوم الغيم ولا يشعر به. قد بلغ السيل الزّبى. اضطره السيل إلى معطشه. أرنيها نمره، أريكها مطره. سبق سيله مطره. قبل السحاب أصابنى الوكف. ومن أنصاف الأبيات: هل يرتجى مطر بغير سحاب وأوّل الغيث طلّ ثم ينسكب سحابة صيف عن قريب تقشّع فدرّكما درّ السّحاب على الرّعد أسرع السّحب فى المسير الجهام ومن يسدّ طريق العارض الهطل؟ سحاب عدانى فيضه وهو صيّب يحسب الممطور أن كلّ مطر سال به السّيل وما يدرى به ومن الأبيات قول الطائى: وكذا السّحائب، قلّما تدعو إلى ... معروفها الرّوّاد ما لم تبرق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 وقال البحترىّ عفى عنه: واعلم بأنّ الغيث ليس بنافع ... ما لم يكن للنّاس فى إبّانه. وقال أبو الطّيّب: ليت الغمام الّذى عندى صواعقه ... يزيلهنّ إلى من عنده الدّيم! وقال كثيّر: كما أبرقت يوما عطاشا غمامة. ... فلمّا رجوها، أقشعت وتجلّت. وقال آخر: أنا فى ذمّة السّحاب وأظما! ... إنّ هذا لوصمة فى السّحاب! وقال آخر: والله ينشى سحابا تطمئنّ به النّ ... فوس من قبل بلّ الأرض بالمطر. 8- ذكر شىء مما قيل في وصف السحاب والمطر قال أبو تمّام الطائى: سحابة صادقة الأنواء ... تجرّ أهدابا على البطحاء. تجمع بين الضّحك والبكاء: ... بدت بنار وثنت بماء. وقال أبو عبادة البحترىّ عفا الله تعالى عنه: ذات ارتجاس بحنين الرّعد ... مجرورة الذّيل صدوق الوعد، مسفوحة الدّمع بغير وجد ... لها نسيم كنسيم الورد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 ورنّة مثل زئير الأسد ... ولمع برق كسيوف الهند. جاءت بها ريح الصّبا من نجد ... فانتثرت مثل انتثار العقد. وراحت الأرض بعيش رغد ... من وشى أنوار الثّرى فى برد. كأنما غدرانها فى الوهد ... يلعبن ترحابا بها بالرّند. وقال أبو الحسن علىّ بن القاسم القاشانى من شعراء اليتيمة عفى عنه: إذا الغيوم ارجحنّ باسقها ... وحفّ أرجاءها بوارقها، وعبّيت للثّرى كتائبها ... وانتصبت وسطها عقائقها، وجلجل الرعد بينها فحكى ... خفق طبول ألحّ خافقها، وابتسمت فرحة لوامعها ... واختلفت عبرة حمالقها، وقيل: طوبى لبلدة نتجت ... بجوّ أكنافها بوارقها. أيّة نعماء لا تحلّ بها؟ ... وأىّ بأساء لا تفارقها؟ وقال القاضى التّنوخىّ: سحاب أتى كالأمن بعد تخوّف ... له فى الثّرى فعل الشّفاء بمدنف. أكبّ على الآفاق إكباب مطرق ... يفكّر أو كالنّادم المتلهف. ومدّ جناحيه على الأرض جانحا ... فراح عليها كالغراب المرفرف. غدا البرّ بحرا زاخرا وانثنى الضّحى ... بظلمته فى ثوب ليل مسجّف. فعبّس عن برق به متبسّم ... عبوس بخيل فى تبسّم معتف. تحاول منه الشمس فى الجوّ مخرجا ... كما حاول المغلوب تجريد مرهف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 وقال ابن الرومىّ: سحائب قيست بالبلاد فألفيت ... غطاء على أغوارها ونجودها. حدتها النّعامى مقبلات فأقبلت ... تهادى رويدا سيلها كركودها. وقال أبو هلال العسكرىّ: وبرق سرى، واللّيل يمحى سواده ... فقلت: سوار فى معاصم أسمرا! وقد سدّ عرض الأفق غيم تخاله ... يزرّ على الدّنيا قميصا معنبرا. تهادى على أيدى الحبائب والصّبا ... كخرق من الفتيان نازع مسكرا. تخال به مسكا وبالقطر لؤلؤا ... وبالرّوض ياقوتا وبالوحل عنبرا. سواد غمام يبعث الماء أبيضا ... وغرّة أرض تنبت الزّهر أصفرا. أتتك به أنفاس ريح مريضة ... كمفظعة رعناء تستاق عسكرا. فألقى على الغدران درعا مسرّدا ... وأهدى إلى القيعان بردا محبّرا. تخال الحيا فى الجوّ درّا منظّما ... وفى وجنات الرّوض درّا منثّرا. وأقبل نشر الأرض فى نفس الصّبا ... فبات به ثوب الهواء معطّرا. إذا ما دعت فيه الرّعود فأسمعت ... أجاب حداة واستهلّ فأغزرا. ويبكى إذا ما أضحك البرق سنّه ... فيجعل نار البرق ماء مفجّرا. كأنّ به رؤد الشّباب خريدة ... قد اتّخذت ثنى السّحابة معجرا. فثغر يرينا من بعيد تبلّجا ... ودمع يرينا من بعيد تحدّرا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 وقال مؤيد الدين الطّغرائى: سارية ذات عبوس برقها ... يضحك والأجفان منها تهمل. كحلّة دكناء فى حاشية ... فيها طراز مذهب مسلسل. إذا دنت عشارها، صاح بها ... قاصف رعد وحدتها الشمأل. وقال عبد الله بن المعتزّ: ومزنة جاد من أجفانها المطر: ... فالرّوض منتظم والقطر منتثر. ترى مواقعه فى الأرض لائحة ... مثل الدراهم تبدو ثم تستتر. وقال أيضا: ما ترى نعمة السّماء على الأر ... ض وشكر الرّياض للأمطار؟ وكأنّ الرّبيع يجلو عروسا ... وكأنّا من قطره فى نثار! وقال ابن عوف الكاتب فى إطباق الغيم وقربه: فى مزنة أطبقت فكادت ... تصافح التّرب بالغمام. وقال آخر: تبسّمت الرّيح، ريح الجنو ... ب فيها هوى غالبا وادّكارا. وساقت سحابا كمثل الجبال ... إذا البرق أومض فيه، أنارا. إذا الرّعد جلجل فى جانبي ... هـ، روّى النّبات وأروى الصّحارى. تطالعنا الشّمس من دونه ... طلاع فتاة تخاف اشتهارا، تخاف الرّقيب على نفسها ... وتحذر من زوجها أن يغارا. فتستر غرّتها بالخما ... ر طورا، وطورا تزيل الخمارا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 فلمّا رآه هبوب الجنو ... ب وانهمز الماء فيه انهمارا، تبسّمت الأرض لمّا بكت ... عليها السّماء دموعا غزارا! وقال الأسعد بن بليطة من شعراء الذخيرة: لو كنت شاهدنا عشيّة أمسنا ... والمزن تبكينا بعينى مذنب، والشمس قد مدّت أديم شعاعها ... فى الأرض تجنح غير أن لم تذهب خلت الرّذاذ برادة من فضّة ... قد غربلت من فوق نطع مذهب! وقال أبو عبد الله محمد بن الخياط من شعرائها: راحت تذكّر بالنّسيم الرّاحا ... وطفاء تكسر للجنوح جناحا. أخفى مسالكها الظلام فأوقدت ... من برقها كى تهتدى، مصباحا. ... وكأنّ صوت الرّعد خلف سحابها حاد إذا ونت السحائب، صاحا. ... جادت على التّلعات فاكتست الرّبا حللا أقام لها الرّبيع وشاحا. وقال ابن برد الأصغر الأندلسىّ من شعرائها: وما زلت أحسب فيه السّحاب، ... ونار بوارقها تلتهب: نجاتىّ توضع فى سيرها ... وقد قرعت بسياط الذّهب. ومما ورد فى وصفها نثرا قال بعض الأندلسيّين من رسالة: ثم أرسل الله الرياح من كنائنها، وأخرجها من خزائنها؛ قجرّت ذيولها، وأجرت خيولها؛ خافقة بنودها، متلاحقة جنودها؛ فأثارت الغمام، وقادته بغير زمام؛ وأنشأت بحريّة من السحاب، ذات أتراب وأصحاب؛ كثيرا عددها، غزيرا مددها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 فبشّرت بالقطر كلّ شائم، وأنذرت بالورد كلّ حائم، والريح تنثّها، والبرق يحثّها، كأنه قضيب من ذهب، أو لسان من لهب؛ وللسحاب من ضوء البرق هاد، ومن صوت الرعد حاد؛ والريح توسع بلحمتها سداها، وتسرع فى حياكتها يداها. فلما التحم فتقها، والتأم رتقها؛ وامتدّت أشطانها، واتسعت أعطانها؛ وانفسحت أجنابها، وانسدلت أطنابها؛ وتهدّل خملها، وتمخض حملها؛ ومدّت على آفاق السماء نطاقها، وزرّت على أعناق الجبال أطوافها، كأنها بناء على الجوّ مقبوب، أو طبق على الأرض مكبوب؛ تمشى من الثقل هونا، وتستدعى من الريح عونا؛ ومخايلها تقوى، وعارضها أحوى. فلما أذن الله لها بالأنحدار، وأنزل منه الودق بمقدار، أرسلت الريح خيوط القطر من رود السحائب، وأسبلتها إسبال الذوائب. فدرّت من خلف مصرور، ونثرت طلّها نثر الدرور. ثم انخرق جيبها، وانبثق سيبها؛ وصار الخيط حبلا، والطلّ وبلا. فالسحاب يتعلّق، والبرق يتألّق؛ والرعد يرتجس، والقطر ينبجس؛ والنّقط تترامى طباقا، وتتبارى اتساقا؛ فيردف السابق المصلّى، ويتصل التابع بالمولّى؛ كما يقع من المنخل البر، وينتثر من النظام الدّرّ؛ فجيوب السماء تسقطه، وأكفّ الغدران تلقّطه؛ والأرض قد فتحت أفواها، وجرعت أمواها. حتّى أخذت ريّها من المطر، وبلغت منه غاية الوطر، خفى من الرعد تسبيحه، وطفئت من البرق مصابيحه، وحسرت السماء نقابها، وولّت المطر أعقابها؛ وحكت فى ردّها طلق السابق، وهرب الآبق. ومن رسالة لمحمد بن شرف القيروانى: برئ عليل البرى، وأثرى فقير الثرى، وتاريخ ذلك انصرام ناجر [1] ، وقد بلغت القلوب   [1] رجب أو صفر. وكل شهر من شهور الصيف (قاموس) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 الحناجر، محمارّة احمرت لها خضرة السماء، واغبرّت مرآة الماء، حتّى انهلّ طالع وسمىّ، وتلاه تابع ولىّ، دنا فأسفّ، ووكف فما كفّ. فما فتئ مسكوبا قطره، محجوبا شمسه وبدره، وجليت عروس الشمس، معتذرة عن مغيبها بالأمس. فعندها مزّق عن الدقعاء صحيح إهابها، واختزن درّ البر فى أصداف ترابها. فما مرّت أيام إلا والقيعان مسندسه، والآكام مطوّسه. ومن رسالة لأبى القاسم، محمد بن عبد الله بن أبى الجد فى وصف مطر بعد قحط: قال: لله تعالى فى عباده أسرار، لا تدركها الأفكار، وأحكام، لا تنالها الأوهام. تختلف والعدل متّفق، وتفترق والفضل مجتمع متّسق. ففى منحها نفائس المأمول، وفى محنها مداوس [1] العقول. وفى أثناء فوائدها حدائق الإنعام رائقه، وبين أرجاء سرائرها بوارق الإعذار والإنذار خافقه. وربما تفتحت كمائم النوائب، عن زهرات المواهب. وانسكبت غمائم الرزايا، بنفحات العطايا. وصدع ليل اليأس صبح الرجاء، وخلع عامل البأس والى الرخاء. ذلك تقدير اللطيف الخبير، وتدبير العزيز القدير! ولما ساءت بتثبط الغيث الظّنون، وانقبض من تبسط الشك اليقين، واسترابت حياض الوهاد، بعهود العهاد، وتأهبت رياض النّجاد، لبرود الحداد، واكتحلت أجفان الأزهار، بإثمد النقع المثار، وتعطلت أجياد الأنوار، من حلى الديمة المدرار، أرسل الله بين يدى رحمته ريحا بليلة الجناح، مخيلة النّجاح، سريعة الإلقاح. فنظمت عقود السحاب، نظم السّخاب، وأحكمت برود الغمام، رائقة الأعلام. وحين ضربت تلك المخيلة فى الأفق قبابها، ومدّت على الأرض أطنابها، لم تلبث أن انهتك رواقها،   [1] جمع مدوس [أى مصاقل العقول] : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 وانبتك وشيكا نطاقها، وانبرت مدامعها تبكى بأجفان المشتاق، غداة الفراق، وتحكى بنان الكرام، عند أريحيّة المدام، فاستغربت الرياض ضحكا ببكائها، واهتزّ رفات النبات طربا لتغريد مكّائها، واكتست ظهور الأرض من بيض إنائها، خضر ملائها. فكأنّ صنعاء قد نشرت على بسيطها بساطا مفوّفا، وأهدت إليها من زخارف بزّها ومطارف وشيها ألطافا وتحفا. وخيّل للعيون أن زواهر النجوم، قد طلعت من مواقع التّخوم، ومباسم الحسان، قد وصلت بافترار الغيطان. فيا برد موقعها على القلوب والأكباد! ويا خلوص ريها إلى غلل النفوس الصّواد! كأنما استعارت أنفاس الأحباب، أو ترشّفت شنب الثنايا العذاب، أو تحملت ماء الوصال، إلى نار البلبال. أو سرت على أنداء الأسحار وريحان الآصال. لقد تبين للصنع الجليل، من خلال ديمها تنفس ونصول، وتمكن للشكر الجميل، من ظلال نعمها معرّس ومقيل. فالحمد لله على ذلك ما انسكب قطر، وانصدع فجر؛ وتوقّد قبس، وتردّد نفس؛ وهو الكفيل تعالى بإتمام النعمى، وصلة أسباب الحياة والحيا بعزته! وقال الوزير أبو عمرو الباجىّ فى مثل ذلك: إن لله تعالى قضايا واقعة بالعدل، وعطايا جامعة للفضل؛ ونعما يبسطها إذا شاء إنعاما وترفيها، ويقبضها متى أراد إلهاما وتنبيها؛ ويجعلها لقوم صلاحا وخيرا، ولآخرين فسادا وضيرا. (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) . وإنه كان من امتساك السّقيا، وتوقّف الحيا؛ ما ريع به الآمن، واستطير له الساكن؛ ورجفت الأكباد فزعا، وذهلت الألباب جزعا؛ وأذكت ذكاء حرّها، ومنعت السماء درّها؛ واكتست الأرض غبرة بعد خضرة، ولبست شحوبا بعد نضرة؛ وكادت برود الرياض تطوى، ومدود نعم الله تزوى؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 ثم نشر الله تعالى رحمته، وبسط نعمته، وأتاح منّته، وأزاح محنته. فبعث الرياح لواقح، وأرسل الغمام سوافح؛ بماء يتدفّق، ورواء غدق، من سماء طبق. استهلّ جفنها فدمع، وسمح دمعها فهمع، وصاب وبلها فنقع. فاستوفت الأرض ريّا، واستكملت من نباتها أثاثا وريّا؛ فزينة الأرض مشهوره، وحلّة الزهر منشوره، ومنّة الرب موفوره؛ والقلوب ناعمة بعد بوسها، والوجوه ضاحكة إثر عبوسها؛ وآثار الجزع ممحوّه، وسور الشكر متلوّه؛ ونحن نستزيد الواهب نعمة التوفيق، ونستهديه فى قضاء الحقوق إلى سواء الطريق؛ ونستعيذ به من المنّة أن تعود فتنه. والمنحة أن تصير محنه! والحمد لله رب العالمين! 9- ذكر شىء مما وصف به الثلج والبرد قال أبو الفتح كشاجم: الثّلج يسقط أم لجين يسبك، ... أم ذا حصى الكافور ظلّ يفرّك؟ راحت به الأرض الفضاء كأنّها ... فى كلّ ناحية بثغر تضحك! شابت ذوائبها فبيّن ضحكها ... طربا وعهدى بالمشيب ينسّك! وتردّت الأشجار منه ملاءة ... عمّا قليل بالرّياح تهتّك! وقال أيضا: ثلج وشمس وصوب غادية ... فالأرض من كلّ جانب غرّه! باتت. وقيعانها زبرجدة. ... فأصبحت قد تحوّلت درّه! كأنها والثّلوج تضحكّها ... تعار ممن أحبّه ثغره! شانت فسرّت بذاك وابتهجت ... وكان عهدى بالشّيب يستكره! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 وقال الصاحب بن عبّاد: أقبل الثّلج فى غلائل نور ... تتهادى بلؤلؤ منثور! فكأنّ السماء صاهرت الأر ... ض فصار النّثار من كافور! وقال النميرىّ: أهدى لنا بردا يلوح كأنه ... فى الجو حبّ لآلئ لم يثقب، أو ثغر حواء اللّثات تبسّمت ... عن واضح مثل الأقاحى أشنب! الباب الثانى من القسم الثانى من الفن الأوّل فى النيازك، والصواعق، والرعد، والبرق، وقوس قزح (أ) فأما النيازك، فهو ما يرى من الذوائب المتصلة بالشّهب والكواكب. روى عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه قال لجماعة من الأنصار: «ما كنتم تقولون فى هذا النجم الذى يرمى به؟ قالوا: يا رسول الله، كنا نقول إذا رأيناها يرمى بها: مات ملك، ولد مولود. فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : ليس ذلك كذلك، ولكن الله تعالى كان إذا قضى فى خلقه أمرا سمعه الملائكة فيسبحون، فيسبّح من تحتهم لتسبيحهم، فيسبّح من تحت أولئك حتّى ينتهى إلى السماء الدنيا فيسبحون، ثم يقولون ألا تسألون من فوقكم ممّ يسبحون؛ فيقولون قضى الله فى خلقه كذا وكذا، للأمر الذى كان. فيهبط به الخبر من سماء إلى سماء حتّى ينتهى إلى السماء الدنيا فيتحدّثون به، فتسترقه الشياطين بالسمع على توهم واختلاف. ثم يأتون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 به الكهّان، فيصيبون بعضا، ويخطئون بعضا. ثم إن الله تعالى حجب الشياطين بهذه النجوم التى يقذفون بها، فانقطعت الكهانة، فلا كهانة اليوم» . والشهب التى يقذف بها الشياطين غير النجوم الثوابت التى منها البروج والمنازل لقول الله تعالى (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) . وقال بعض الشعراء: وكوكب نظر العفريت مسترقا ... للسّمع فانقضّ يذكى إثره لهبه كفارس حلّ من تيه عمامته ... وجرّها كلّها من خلفه عذبه وكتب ابن الحرون إلى صديق له، وقد كثر انقضاض الكواكب، وذلك فى أيام المتوكل على الله: أما بعد. فإن الفلك قد تفرّى عن شهب ثواقب، كنيران الحباحب، متّقدة كشرر الزنود، وشعل زبر الحديد؛ مازجها عرض حمرة البهرمان، وصفرة العقيان [1] . فهى كأرسال جراد منتشر، وهشيم ذرته ريح صرصر، فى سرعة الكفّ، ووحى لحظ الطّرف. (ب) وأما الصواعق، فهى ما قاله الزمخشرىّ فى تفسيره: الصاعقة قصفة من رعد ينقضّ معها شقّة من نار. وقالوا: إنها تنقدح من السحاب إذا اصطكّت أجرامه. وهى نار لطيفة حديدة لا تمرّ بشىء إلا أتت عليه، إلا أنها مع حدّتها سريعة الخمود. على أنها متى سقطت على نخلة أحرقت عاليها.   [1] العقبان الذهب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 وقال صاحب كتاب «مناهج الفكر ومباهج العبر» فى كتابه: ومن عجيب شأنها أنها تحرق ما فى الكيس، ولا تحرق الكيس؛ وإن احترق فإنما يحترق باحتراق ما ذاب فيه وسال. قال: وهى إذا سقطت على جبل أو حجر كلسته ونفذته، وإذا سقطت فى بحر غاصت فيه وأحرقت ما لاقت من جوانبه. وربما عرض لها عند انطفائها فى الأرض برد ويبس، فتكوّن منها أجرام حجرية، أو حديدية، أو نحاسية. وربما طبعت الحديد سيوفا لا يقوم لها شىء. (ج) وأما الرعد وما قيل فيه. قال الله تبارك وتعالى: (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ) . قال المفسرون: الرعد ملك موكل بالسحاب، معه كرّ من حديد، يسوقه من بلد إلى بلد كما يسوق الراعى إبله. فكلما خالف سحاب، صاح به فزجره. فالذى يسمع هو صوت الملك. وقال الزمخشرىّ من تفسيره: الرعد الذى يسمع من السحاب، كأن أجرام السحاب تضطرب وتنتفض إذا حدتها الريح فتصوّت عند ذلك. وأما صوت الرعد، تقول العرب: رعدت السماء. فإذا ازداد صوتها، قيل: ارتجست. فإذا زاد، قيل: أرزمت، وقعقعت [1] . فإذا بلغت النهاية، قيل: جلجلت، وهدهدت.   [1] عبارة فقه اللغة: (فإذا زاد، قيل: أرزمت، ودرّت. فإذا زاد واشتدّ، قيل: قصفت، وقعقعت. فإذا بلغ النهاية الخ) اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 المثل ربّ صلف تحت الراعدة. (للبخيل المتكبر) . (د) وأما البرق وما قيل فيه، فقد ذهب المفسرون لقول الله تعالى إلى أنه ضرب الملك الذى هو الرعد للسحاب بمخراق من حديد. وروى عن مجاهد: ان الله عز وجل وكّل بالسحاب ملكا. فالرعد قعقعة [1] صوته، والبرق سوطه [2] . وأما ترتيبه فى لمعانه تقول العرب إذا برق كأنه يتبسم، وذلك بقدر ما يريك سواد الغيم من بياضه: أنكلّ انكلالا. فإذا بدا من السماء برق يسير، قيل: أوشمت السماء. ومنه قيل: أوشم النبت إذا أبصرت أوّله. فإذا برق برقا ضعيفا، قيل: خفا. فإذا لمع لمعا خفيفا، قيل: لمح، وأومض. فإذا تشقق، قيل: انعقّ انعقاقا. فإذا ملأ السماء وتكشف واضطرب، قيل: تبوّج. فإذا كثر وتتابع، قيل: ارتعج. فإذا لمع وأطمع ثم عدل، قيل له: خلّب.   [1] فى الأصل نغنغة: وهو محرّف عن قعقعة بالقاف كما يقتضيه السياق. [2] فى الأصل صوته. وهو محرّف عن سوطه وهو مخراق الحديد الذى ذكر فى السطر الذى قبله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 المثل: «ليس فى البرق اللّامع مستمتع» . ذكر ما قيل فى وصف الرعد والبرق قال أبو هلال العسكرىّ، عفا الله عنه: والرعد فى أرجائه مترنّم ... والبرق فى حافاته متلهّب. كالبلق ترمح، والصّوارم تنتضى ... والجوّ يبسم، والأنامل تحسب. وقال آخر: إذا ونت السّحب الثّقال وحثّها ... من الرعد حاد ليس يبصر أكمه، أحاديثه مستهولات وصوته ... إذا انخفضت أصواتهنّ مقهقه، إذا صاح فى آثارهنّ حسبته ... يجاوبه من خلفه صاحب له. وقال ابن الدقّاق الأندلسىّ: أرى بارقا بالأبلق الفرد يومض ... يذهّب أكناف الدّجى ويفضّض. كأنّ سليمى من أعاليه أشرفت ... تمدّ لنا كفّا خضيبا وتقبض. وقال إبراهيم بن خفاجة الأندلسىّ: ويوم جرى برقه أشقرا ... يطارد من مزنه أشهبا: ترى الأرض فيه وقد فضّضت ... ووجه السّماء وقد ذهّبا! وقال أحمد بن عبد العزيز القرطبىّ، شاعر الذخيرة: ولما تجلّى اللّيل والبرق لامع ... كما سلّ زنجى حساما من التّبر، وبتّ سمير النجم وهو كأنه ... على معصم الدّنيا جبائر من درّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 وقال محمد بن عاصم، شاعر الخريدة عفا الله عنه: أضاء بوادى الأثل واللّيل مظلم ... بريق كحدّ السّيف ضرّجه الدّم. إذا البرق أجرى طرفه فصهيله ... إذا ما تفرّى رعده المترنّم. فشبّهته إذ لاح فى غسق الدّجى ... بأسنان زنجىّ بدت تتبسّم. وقال أيضا: والبرق يضحك كالحبيب وعنده ... رعد يخشّن كالرّقيب مقاله! وقال آخر: أرقت لبرق غدا موهنا ... خفىّ كغمزك بالحاجب. كأنّ تألّقه فى السما ... يدا كاتب أويدا حاسب. وقال عبد الله بن المعتزّ، يشير إلى سحابة: رأيت فيها برقها منذ بدت ... كمثل طرف العين أو قلب يحب. ثم حدت بها الصّبا حتّى بدا ... فيها إلى البرق كأمثال الشّهب. تحسبه فيها إذا ما انصدعت ... أحشاؤها عنه شجاعا يضطرب. وتارة تبصره كأنّه ... أبلق مال جلّه حين وثب. حتّى إذا ما رفع اليوم الضّحى ... حسبته سلاسلا من الذّهب. قوله شجاعا يضطرب مأخوذ من قول دعبل: أرقت لبرق آخر الليل منصب ... خفىّ كبطن الحيّة المتقلّب. وقال ايضا: ما زلت أكلأ برقا فى جوانبه ... كطرفة العين تخبو ثم تختطف. برق تجاسر من حفّان لامعه ... يقضى اللّبانة من قلبى وينصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 (هـ) وأما قوس قزح وما قيل فيه. قالوا: وإنما سمى بذلك لتلوّنه. وكان ابن عبّاس (رضى الله عنهما) يكره أن يسميه قوس قزح، ويسميه قوس الله، ويقول: قزح اسم الشيطان. وزعم القدماء فى علة تلوّنه وتكوّنه، أنه إذا تكاثف جزء من الهواء بالبرد ثم أشرق عليه نور بعض الكواكب انصبغ ذلك الجزء، وانعطف منه الضوء إلى مايليه من الهواء، كالحمرة الصافية إذا طلعت عليها الشمس سطع نورها، وانعطف منه ألوان مختلفة إلى ما يقرب منها. وحمرته وصفرته من قبل الرّطوبة واليبس. قالوا: وقياس ذلك النار، فإنها إذا كانت من حطب رطب، كان لونها أحمر كدرا، فإن كانت من حطب يابس، كان لونها أصفر صافيا. وقال آخرون: القوس يحدث عن رطوبة الهواء وصقالته، حتّى يمكن أن ترسم فيه دائرة الشمس كما ترسم الأشباح فى المرايا، وتشتبك الأشعة بما يكون فيه البخار الرطب فيتولد، فيكون منها تلك الألوان. وإنما توجد دائرة على الناظر، لأن الشمس أبدا تكون فى قفاها، ولذلك ترى فى مقابلة الجهة التى تكون فيها الشمس، فترى فى المغرب إذا كانت الشمس فى المشرق، وترى فى المشرق إذا كانت فى المغرب. وزعم بعض القدماء أن أثر القوس غير حقيقىّ، وإنما هو تخييل لا وجود له فى نفسه. وقال إن إدراكه على نحو إدراك صورة الإنسان فى المرآة من غير أن تكون منطبعة على الحقيقة فيها ولا قائمة بها. وذلك بحسب غلظ الحس الباصر، وهو لا يرى إلا أن يكون وراء السحاب الصقيل، إذ ذاك يكون كالمرآة مؤديا للبصر على نحو تأدية البلّور، إذا جعل وراءه شىء غير مشفّ، ولا يكون ذلك عن السحاب الصقيل وحده، كما لا يكون عن البلّور وحده، ولا عن غير المشفّ وحده. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 ذكر ما قيل فى وصفه وتشبيهه قال أبو الفرج الوأواء، عفا الله تعالى عنه: سقيا ليوم بدا قوس الغمام به ... والشّمس طالعة والبرق خلّاس! كأنه قوس رام والبروق له ... رشق السّهام وعين الشمس برجاس. وقال سعيد بن حميد القيروانى، رحمة الله عليه: أما ترى القوس فى الغمام وقد ... نمّق فيه الهواء نوّارا؟ حكى الطّواويس وهى جاعلة ... أذنابها للمياه أستارا. أخضر فى أحمر على يقق ... على وشاح السّحاب قد دارا. كأنما المزن وهى راهبة ... شدّت على الأفق منه زنّارا. وقال ظاهر الدين الحريرى. شاعر الخريدة عفا الله عنه: ألست ترى الجوّ مستعبرا ... يضاحكه برقه الخلّب؟ وفد بات من قزح قوسه ... بعيدا وتحسبه يقرب؟ كطاقى عقيق وفيروزج ... وبينهما آخر مذهب. وقال سيف الدولة بن حمدان، من أبيات: وفد نشرت أيدى الجنوب مطارفا ... على الجوّ دكنّا والحواشى على الأرض. يطرّزها قوس السّحاب بأصفر ... على أحمر فى أخضر وسط مبيضّ. كأذيال خود أقبلت فى غلائل ... مصبّغة، والبعض أقصر من بعض. وقال عبد المحسن الصّورىّ، عفا الله تعالى عنه: تأمّل الجوّ ترى واليا ... قد ولى العهد على السّحب! سار، وقوس الله تاج له، ... ركضا من الشّرق إلى الغرب! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 الباب الثالث من القسم الثانى من الفن الأوّل 1- فى أسطقسّ [1] الهواء روى عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: «الريح من روح الله تعالى، تأتى بالرحمة، وتأتى بالعذاب. فلا تسبّوها، واسألوا الله خيرها؛ واستعيذوا بالله من شرّها» . أخرجه البيهقىّ فى سننه. وروى أبو الفرج بن الجوزىّ بإسناده أن الريح تنقسم إلى قسمين: رحمة وعذاب؛ وينقسم كل قسم إلى أربعة أقسام. ولكل قسم اسم. فأسماء أقسام قسم الرحمة: المبشّرات، والنّشر، والمرسلات، والرّخاء. وأسماء أقسام قسم العذاب: العاصف، والقاصف (وهما فى البحر) ، والعقيم، والصرصر (وهما فى البر) . وقد جاء القرءان بكل هذه الأسماء. 2- ذكر ما قيل فى حدّ الهواء قال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا فى حدّه: الهواء حرم بسيط، طباعه أن يكون حارّا رطبا مشفا متحرّكا إلى المكان الذى تحت كرة النار التى فوق كرة الأرض والماء.   [1] كلمة معربة عن اليونانية معناها: العنصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 وقال إبّقراط: إنّ تغير حالات الهواء هو الذى يغير حالات الناس مرة إلى الغضب، ومرة إلى السكون، وإلى الهمّ والسرور، وغير ذلك. وإذا استوت حالات الهواء، استوت حالات الناس وأخلاقهم. وقال: إن قوى النفوس تابعة لأمزجة الأبدان، وأمزجة الأبدان تابعة لتصرف الهواء، إذا برد مرة، وسخن مرة، خرج مرة الزرع نضيجا، ومرة غير نضيج، ومرة قليلا، ومرة كثيرا، ومرة حارّا، ومرة باردا، فتتغير لذلك صورهم ومزاجاتهم. وإذا استوى واعتدل الهواء، خرج الزرع معتدلا، فاعتدلت بذلك الصور والمزاجات. قال: والعلة فى تشابه التّرك، هو أنه لما استوى هواء بلادهم فى البرد استوت صورهم وتشابهوا. وقال: إنّ الرياح تقلب الحيوان حالا إلى حال، وتصرفه من حرّ إلى برد، ومن يبس إلى رطوبة، ومن سرور إلى حزن؛ وإنها تغير ما فى البيوت من أصناف المآكل كالتمر، والعسل، والسمن، والشراب، فتسخنها مرة، وتبردها أخرى، وتصلّبها مرة، وتيبّسها مرة. وعلة ذلك أنّ الشمس والكواكب تغير الهواء بحركاتها؛ وإذا تغير الهواء، تغير بتغيره كل شىء. وقال: إنّ الجنوب إذا هبت، أذابت الهواء وبرّدته، وسخنت البحار والأنهار. فكل شىء فى رطوبة تغير لونه وحالاته. وهى ترخى الأبدان والعصب، وتورث الكسل، وتحدث ثقلا فى الأسماع، وغشاوة فى الأبصار. وأما الشّمال فإنها تصلب الأبدان، وتصحح الأدمغة، وتحسن اللون، وتصفى الحواس، وتقوّى الشهوة والحركة، غير أنها تهيج السعال، ووجع الصدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 وزعم بعض من تأخر فى الإسلام من الحكماء: أن الجنوب إذا هبت بأرض العراق، تغير الورد، وتناثر الورق، وتشقق القنّبيط، وسخن الماء، واسترخت الأبدان، وتكدّر الهواء. وزعم آخرون من القدماء: ان الهواء جسم رقيق متى تموّج من المشرق إلى المغرب سمى ريح الصّبا. قيل: سميت ريح الصّبا، لأن النفوس تصبو إليها لطيب نسيمها وروحها. والصّبوة الميل. وجاء فى بعض الآثار: ما بعث نبىّ إلا والصّبا معه، وهى الريح التى سخّرت لسليمان (عليه السلام) غدوّها شهر، أى من أوّل النهار إلى الزوال، ورواحها شهر، أى من الزوال إلى المغرب. كان يغدو من تدمر من بلاد الشام فيقيل فى إصطخر من بلاد فارس، ويبيت بكابل من بلاد الهند. وعن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه قال «نصرت بالصّبا، وأهلكت عاد بالدّبور» . وإذا تموّج من الجنوب إلى الشّمال، سمى ريح الجنوب، وهى الريح التى أهلك الله عز وجل بها عادا. وسيأتى ذكر ذلك إن شاء الله تعالى فى الفن الخامس من كتابنا هذا. وإذا تموّج من الشّمال إلى الجنوب، سمى ريح الشّمال. وهم يزعمون أن مبادئ الرياح شمالية أخذت إلى الجنوب، وغربية أخذت إلى المشرق للطف الهواء فى هاتين الجهتين،. والعرب تحبّ الصّبا لرقتها، ولأنها تجىء بالسحاب. والمطر فيها والخصت. وهى عندهم اليمانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 3- ذكر أسماء الرياح اللغوية قال الثعالبىّ فى فقه اللغة: إذا وقعت الريح بين ريحين، فهى النّكباء. فإذا وقعت بين الجنوب والصّبا، فهى الجربياء. فإذا هبّت من جهات مختلفة، فهى المتناوحة. فإذا كانت ليّنة، فهى الرّيدانة. فإذا جاءت بنفس ضعيف وروح، فهى النّسيم. فإذا كان لها حنين كحنين الإبل، فهى الحنون. فإذا ابتدأت بشدّة [1] ، فهى العاصف، والسّيهوج. فإذا كانت شديدة ولها زفزفة وهى الصوت، فهى الزّفزافة. فإذا اشتدّت حتّى تقلع الخيام، فهى الهجوم. فإذا حرّكت الأغصان تحريكا شديدا أو قلعت الأشجار، فهى الزّعزاع، والزّعزعان، والزّعزع. فإذا جاءت بالحصباء، فهى الحاصبة. فإذا درجت حتّى ترى لها ذيلا كالرّسن فى الرمل، فهى الدّروج. فإذا كانت شديدة المرور، فهى النّؤوج. فإذا كانت سريعة، فهى المجفل، والجافلة. فإذا هبّبت من الأرض كالعمود نحو السماء، فهى الإعصار. فإذا هبّت بالغبرة، فهى الهبوة.   [1] عبارة الثعالبى. فإذا ابتدأت بشدة، فهى النافجة. فإذا كانت شديدة، فهى العاصف الخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 فإذا حملت المور وجرّت الذيل، فهى الهوجاء. فإذا كانت باردة، فهى الحرجف، والصّرصر، والعريّة. فإذا كان مع بردها ندى، فهى البليل. فإذا كانت حارّة، فهى الحرور، والسّموم. فإذا كانت حارّة وأتت من قبل اليمن، فهى الهيف. فإذا كانت باردة شديدة تخرق البيوت، فهى الخريق [1] . فإذا ضعفت وجرت فويق الأرض، فهى المسفسفة. فإذا لم تلقح شجرا ولم تحمل مطرا، فهى العقيم. (وقد نطق بها القرآن) . 4- فصل فيما يذكر منها بلفظ الجمع يقال: الرياح الحواشك: المختلفة الشديدة. البوارح: الشّمال الحارّة فى الصيف. الأعاصير: التى تهيج بالغبار. المعصرات: التى تأتى بالأمطار. المبشّرات: التى تهبّ بالسحاب والغيث. السّوافى: التى تسفى التراب. 5- ذكر ما يتمثّل به مما فيه ذكر الهواء يقال: أخفّ من النسيم. أسرع من الرّيح. ريحهما جنوب (يضرب للمتصافيين) . هو ساكن الريح (اذا كان حليما) . قد هبّت ريحه (إذا قامت دولته) . ومن أنصاف الأبيات. إن كنت ريحا فقد لاقيت إعصارا وبعض القول يذهب بالرياح تجرى الرياح بما لا تشتهى السّفن لو كنت ريحا كانت الدّبورا   [1] فى اللسان أنها الريح الباردة الشديدة الهبوب كأنها خرقت، أماتوا الفاعل بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 ومن الأبيات: إذا هبّت رياحك، فاغتنمها. ... فإن لكلّ خافقة سكون! وقال آخر: وكلّ ريح لها هبوب ... يوما فلا بدّ من ركود. وقال آخر: والريح ترجع عاصفا ... من بعد ما ابتدأت نسيما. وقال أبو تمّام، عفا الله عنه: إنّ الرياح إذا ما أعصفت، قصفت ... عيدان نجد ولم يعبأن بالرّتم. وقال ابن الرومىّ، رحمة الله عليه: لا تطفئنّ جوى بلوم إنه ... كالريح تغرى النّار بالإحراق. 6- ذكر ما جاء فى وصف الهواء وتشبيهه قال عبد الله بن المعتزّ، رحمة الله عليه: ونسيم يبشّر الأرض بالقط ... ر كذيل الغلالة المبلول. ووجوه البلاد تنتظر الغي ... ث انتظار المحبّ ردّ الرسول. وقال ابن الرومىّ: حيّتك عنّا شمال طاف طائفها ... تحيّة، فجرت روحا وريحانا. هبّت سخيرا فناجى الغصن صاحبه ... سرّا بها، وتنادى الطير إعلانا . ورقّ تغنّى على خضر مهدّلة ... تسمو بها وتشمّ الأرض أحيانا. يخال طائرها تشوان من طرب ... والغصن من هزّه عطفيه نشوانا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 وقال أيضا: كأنّ نسيمها أرج الخزامى ... ولاها بعد وسمىّ ولىّ. هديّة شمال هبّت بليل ... لأفنان الغصون بها نجىّ. إذا أنفاسها نسمت سحيرا ... تنفّس كالشّجىّ لها الخلىّ. وقال آخر: وأنفاس كأنفاس الخزامى ... قبيل الصّبح بلّتها السماء. تنفّس نشرها سحرا فجاءت ... به سحريّة المسرى رخاء. وقال إسحاق الموصلىّ: يا حبّذا ريح الجنوب إذا جرت ... فى الصّبح وهى ضعيفة الأنفاس! قد حمّلت برد النّدى وتحمّلت ... عبقا من الجثجاث [1] والبسباس [2] !   [1] فى الأصل بالإهمال وهو من إهمال الناسخ. فقد ورد فى مادة (ج ث ث) من لسان العرب: «الجثجاث شجر أصفر مرّ طيب الريح تستطيبه العرب وتكثر ذكره فى أشعارها» . وقال أبو حنيفة الدينورى إنه من أحرار الشجر وهو أخضر ينبت بالقيظ له زهرة صفرا، كأنها زهرة العرفجة طيبة الريح. وقال ابن البيطار: أول ما رأيته بساحل نيل مصر فى أعلاه فى صحاريه بمقربة من ضيعة هناك، تسمى شاهور، وهى على طريق الطرانة. وقال داود فى تذكرته إنه يسمى باليونانية ترديسيون. [2] فى اللسان: «البسباس نبات طيب الريح» . وهو المعروف عند علماء العرب بالاسم الفارسى «الرازيانج» وبهذا الاسم كان يعرف فى الأندلس والمغرب ولا يزال معروفا به إلى اليوم فى قطر الجزائر واسمه السريانى «برهليا» ويعرف فى مصر والشام باسم «الشمار» ومنه نوع برى ينبت بالقيروان ويسميه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 وقال آخر: إذا خلا الجوّ من هواء، ... فعيشهم غمّة وبوس. فهو حياة لكلّ حىّ، ... كأنّ أنفاسه نفوس. وقال ابن سعيد الأندلسىّ: الرّيح أقود ما يكون لأنّها ... تبدى خفايا الرّدف والأعكان [1] . وتميّل الأغصان بعد علوّها ... حتّى تقبّل أوجه الغدران. وكذلك العشّاق يتّخذونها ... رسلا إلى الأحباب والأوطان. وقال آخر: أيا جبلى نعمان بالله خلّيا ... سبيل الصّبا يخلص إلىّ نسيمها. أجد بردها أو تشف منّى خرارة ... على كبد لم يبق إلا صميمها. فإنّ الصّبا ريح إذا ما تنفّست ... على كبد حرّاء، قلّت همومها. وقال ابن هتيمل اليمنىّ: هبّت لنا سحرا، والصبح ملتثم، ... واللّيل قد غاب فيه الشّيب والهرم. سقيمة من بنات الشّرق أضعفها ... عن قوّة السّير، لمّا هبّت، السّقم. فبلّغت بلسان الحال قائلة ... ما لم يبلّغه يوما إلىّ فم، سرّا لغانية تسرى إلىّ به ... من النّسيم رسول ليس يتّهم. أصافح الرّيح إجلالا لما حملت ... إلىّ من ريح برديها وأستلم.   [1] واحده عكنة بالضم، وهى ما تثنّى من لحم البطن سمنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 الباب الرابع من القسم الثانى من الفن الأوّل 1- فى أسطقس النار [1] وأسمائها، وعبادها، وبيوت النيران حكى أصحاب التواريخ فى حدوث النار أن آدم عليه السلام لما هبط إلى الارض وحجّ، نزل جبل أبى قبيس. فأنزل الله إليه مرختين من السماء، فحكّ إحداهما بالأخرى فأوريا نارا. فلهذا سمى الجبل بأبى قبيس. ويدل على أن النار من الشجر، قوله عز وجل: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) . والعرب تقول: «فى كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار» . لأنهما أسرع اقتداحا. قال الله عز وجل: (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ) . وقال أصحاب الكلام فى الطبائع: إن الله عز وجل جمع فى النار الحركة، والحرارة، واليبوسة، واللّطافة، والنور. وهى تفعل بكل صورة من هذه الصور خلاف ما تفعل بالأخرى. فبالحركة تعلى الأجسام؛ وبالحرارة تسخن؛ وباليبوسة تجفف؛ وباللطافة تنفذ؛ وبالنور تضىء ما حولها.   [1] أنظر فى كتاب الحيوان للجاحظ تفصيلات ومعلومات عن النار. وهى مما يجب الوقوف عليه والاحاطة به من الوجهة العلمية والفلسفية. أما من حيث اللغة والأدب فيراجع ما ورد فى كتاب «سرور النفس بمدارك الحواس الخمس» للتيفاشى باختصار صاحب لسان العرب، وهو موجود بالفتو غرافية فى «دار الكتب المصرية» ومحل الشاهد هو الباب الثامن من ص 391 الى ص 423 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 ومنفعة النار تختص بالإنسان دون سائر الحيوان. فلا يحتاج إليها شىء سواه، وليس به عنها غنى فى حال من الأحوال. ولهذا عظمتها المجوس، [1] وقالوا: إذ أفردتنا بنفعها، فنفردها بتعظيمها. على أنهم يعظمون جميع ما فيه منفعة على العباد، فلا يدفنون موتاهم فى الأرض، ولا يستنجون فى الأنهار. 2- ذكر أسماء النار (وأحوالها فى معالجتها وترتيبها) أما أسماؤها، فمنها: النار، والصّلاء، والسّكن، والضّرمة، والحرق، والحمدة (وهو صوت التهابها) ، والحدمة، والجحيم، والسّعير، والوحى. وأما تفصيل أحوالها ومعالجتها وترتيبها، فقد قال الثعالبىّ فى فقه اللغة: إذا لم يخرج الزّند النار عند القدح، قيل: كبايكبو. فإذا صوّت ولم يخرج، قيل: صلد يصلد. فإذا أخرج النار، قيل: ورى يرى. فإذا ألقى الإنسان عليها ما يحفظها ويذكيها، تقول: شيعتها وأثقبتها. فإذا عالجها لتلتهب، قال: حضأتها وأرّثتها [2] . فإذا جعل لها مذهبا تحت القدر، قال: سخوتها.   [1] guebres.mages. عند الفرنسيين. والمجوس لفظ مشتق من «موغ» و «مغ» ومعناه النور فى اللغة الطورانية. [2] فى فقه الثعالبى: وأرشيها بالشين وعبارة القاموس فى مادة (ارش) وتأريش النار تأريثها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 فإذا زاد فى إيقادها وإشعالها، قال: أحجبتها. فإذا اشتدّ تأجّجها، فهى جاحمة [1] . فإذا طفئت البتة، فهى هامدة. فإذا صارت رمادا، فهى هابية. والله تعالى أعلم. 3- ذكر عبّاد النار (وسبب عبادتها وبيوت النيران) أوّل من عبد النار قابيل بن آدم. وذلك أنه لما قتل أخاه هابيل هرب من أبيه إلى اليمن، فجاءه إبليس لعنه الله، وقال له: إنما قبل قربان هابيل وأكلته النار لأنه كان يخدمها ويعبدها. فانصب أنت أيضا نارا تكون لك ولعقبك، فبنى بيت نار. فهو أوّل من نصب النار وعبدها. وأوّل من عظمها من ملوك الفرس، جم. وهو أحد ملوك الفرس الأوّل، عظمها ودعا الناس إلى تعظيمها، وقال: إنها تشبه ضوء الشمس والكواكب، لأن النور عنده أفضل من الظلمة. ثم عبدت النار بالعراق، وأرض فارس، وكرمان، وسجستان، وخراسان، وطبرستان، والجبال، وأذربيجان، وأرّان، وفى بلاد الهند، والسند، والصين.   [1] عبارة فقه اللغة بعده: (فاذا سكن لهبها ولم يطفأ حرها فهى خامدة) وبعده فاذا طفئت البتة الخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 وبنى فى جميع هذه الأماكن بيوت للنّيران، نذكرها بعد إن شاء الله تعالى. ثم انقطعت عبادة النيران من أكثر هذه الأماكن إلا الهند. فإنهم يعبدونها إلى يومنا هذا. وهم طائفة تدعى الإكنواطرية. [1] زعموا أن النار أعظم العناصر جرما، وأوسعها حيزا، وأعلاها مكانا، وأشرفها جوهرا، وأنورها ضياء وإشراقا، وألطفها جسما وكيانا؛ وأن الأحتياج إليها أكثر من الاحتياج إلى سائر الطبائع؛ ولا نور فى العالم إلا بها؛ ولا نموّ ولا انعقاد إلا بممازجتها. وعبادتهم لها أن يحفروا أخدودا مربعا فى الأرض ويحشوا النار فيه، ثم لا يدعون طعاما لذيذا، ولا شرابا لطيفا، ولا ثوبا فاخرا، ولا عطرا فائحا، ولا جوهرا نفيسا، إلا طرحوه فيها: تقرّبا إليها، وتبرّكا بها. وحرّموا إلقاء النفوس فيها، وإحراق الأبدان بها، خلافا لجماعة أخرى من زهّاد الهند. وعلى هذا المذهب أكثر ملوك الهند وعظمائها. يعظمون النار لجوهرها تعظيما بالغا، ويقدّمونها على الموجودات كلها. ومنهم زهّاد وعبّاد يجلسون حول النار صاغين، يسدّون منافسهم حتّى لا يصل إليها من أنفاسهم نفس صدر عن صدر مجرم. وسنّتهم الحثّ على الأخلاق الحسنة، والمنع من أضدادها، وهى: الكذب، والحسد، والحقد، والكفاح، والحرص، والبغى، والبطر. فإذا تجرّد الإنسان عنها، تقرّب من النار.   [1] أفادنا المترجم الألمانى لكتاب الملل والنحل أن هذه الكلمة مأخوذة من «أجنيهترا» وهى لنار المقدّسة (أى التى تتأجج إكراما للإله أجنى.) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 4- وأما بيوت النيران (ومن رسمها من ملوك الفرس) قال المسعودىّ: أوّل من حكى ذلك عنه أفريدون الملك. وذلك أنه وجد نارا يعظمها أهلها، [وهم] [1] معتكفون على عبادتها. [فسألهم عن خبرها ووجه الحكمة منهم فى عبادتها. فأخبروه بأشياء اجتذبت نفسه إلى عبادتها] [2] وأنها واسطة بين الله تعالى وبين خلقه، وأنها من جنس الآلهة النورية، وأشياء ذكروها له. وجعلوا للنور مراتب وقوانين [وفرقوا بين طبع النار والنور] [3] وزعموا أن الحيوان يجتذبه النور، فيحرق نفسه: كالفراش الطائر بالليل فما لطف جسمه، يطرح نفسه فى السراج فيحرقها. وغير ذلك مما يقع فى صيد الليل من الغزلان، والوحش، والطير؛ وكظهور الحيتان من الماء إذا قربت من السراج فى الزوارق كما يصاد السمك ببلاد البصرة فى الليل، فإنهم يجعلون السّرج حوالى المركب، فيثب السمك من الماء إليها؛ وأن بالنور صلاح هذا العالم، وشرف النار على الظلمة إلى غير ذلك. فلما أخبروا الملك أفريدون بذلك أمر أن تحمل جمرة منها إلى خراسان، فحملت. فاتخذ لها بيتا بطوس. [واتخذ بيتا آخر بمدينة بخارا يقال له برد سورة] [4] . وبيتا آخر بسجستان كواكر [5] ، كان اتخذه بهمن بن إسفنديار بن يستاسف بن يهراسف.   [1] الزيادة عن المسعودىّ. [2] الزيادة عن المسعودىّ. [3] الزيادة عن المسعودىّ. [4] سماه الشهرستانى: «قباذان» (ص 197) . [5] سماه الشهرستانى: «كركرا» (ص 197) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 وبيت آخر ببلاد الشير والرّان، كانت فيه أصنام أخرجها منه أنوشروان، وقيل إنه صادف هذا البيت، وفيه نار معظمة فنقلها إلى الموضع المعروف بالبركة. وبيت آخر للنار يقال له كوسجة [1] : بناه كيخسرو الملك. وقد كان بقومس بيت نار معظم لا يدرى من بناه، يقال له حريش. [2] ويقال إن الإسكندر لما غلب عليها، تركها ولم يطفئها. وبيت نار آخر يسمّى كنكدز، بناه سياوش بن كاوس الجبار، وذلك فى زمن لبثه بشرق الصين مما يلى البركة. وبيت نار بمدينة أرّجان من أرض فارس؛ بناه قمار. وبيت بأرض فارس اتّخذ فى أيام يهراسف. [3] فهذه البيوت كانت قبل ظهور زرادشت. ثم اتخذ زرادشت بعد ذلك بيوتا للنيران. فكان مما اتخذ بيت بمدينة نيسابور من بلاد خراسان، وبيت بمدينة نسا والبيضاء من أرض فارس. وقد كان زرادشت أمر يستاسف [4] الملك بطلب نار كان يعظمها جم [5] فطلبت، فوجدت بمدينة خوارزم. فنقلها يستاسف إلى مدينة دارا بجرد من أرض فارس ............ والمجوس تعظم هذه النار ما لا تعظم غيرها من النيران والبيوت ............ وللفرس بيت نار   [1] سماه الشهرستانى: «كويسة» (ص 197) . [2] سماه الشهرستانى: «جرير» (ص 197) . [3] هو لهراسب. [4] فى الشهرستانى: كشتاسف. [5] هو الملك جمشيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 بإصطخر فارس، يعظمه المجوس. كان فى قديم الزمان للأصنام، فأخرجتها جمان بنت بهمن بن اسپنديار وجعلته بيت نار. ثم نقلت عنه النار فخرب ...... وفى مدينة سابور من أرض فارس بيت معظم عندهم اتخذه دارا بن دارا. وفى مدينة جور من أرض فارس ...... بيت بناه أردشير بن بابك ......... وقد كان أردشير بنى بيت نار يقال له بارنوا فى اليوم الثانى من غلبته على فارس. وبيت نار على خليج القسطنطينية من بلاد الروم بناه سابور الجنود ابن أردشير بن بابك حين نزل على هذا الخليج وحاصر القسطنطينية. ولم يزل هذا البيت إلى خلافة المهدىّ. وكان سابور اشترط على الروم بقاء هذا البيت ......... وبأرض العراق بيت نار بالقرب من مدينة السلام. بنته بوران [1] بنت كسرى أبرويز، الملكة، بالموضع المعروف بأسنيبا [2] . وبيوت النيران كثيرة تعظمها المجوس. والذى ذكرناه هو المشهور منها [3] . 5- ذكر نيران العرب ونيران العرب أربعة عشر نارا. 1- نار المزدلفة. توقد حتّى يراها من دفع من عرفة. وأوّل من أوقدها قصىّ بن كلاب. 2- نار الاستسقاء. كانت الجاهلية الأولى، إذا تتابعت عليهم الأزمات، واشتدّ الجدب، واحتاجوا إلى الأمطار. يجمعون لها بقرا، معلقة فى أذنابها وعراقيبها   [1] فى الشهرستانى: توران. [2] فى المسعودى: استينيا. وفى الشهرستانى: إسفينيّا. [3] هذا الباب كله منقول عن مروج الذهب (أنظر طبعة باريس ج 4 ص 72- 86) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 السّلع [1] والعشر [2] ، ويصعدون بها إلى جبل وعر، ويشعلون فيها النار، ويضجّون بالدعاء والتضرّع. وكانوا يرون ذلك من الأسباب المتوصّل بها إلى نزول الغيث [3] . وفى ذاك يقول الوديك الطائى: لا درّ درّ رجال خاب سعيهم، ... يستمطرون لدى الأزمات بالعشر! أجاعل أنت بيقورا مسلّعة ... ذريعة لك بين الله والمطر؟ وقال أمية بن أبى الصّلت: ويسوقون باقر السّهل للطّو ... د مهازيل خشية أن تبورا. عاقدين النّيران فى بكر الأذ ... ناب منها، لكى تهيج النّحورا. سلع ما ومثله عشر ما ... عائل ما وعالت الببقورا. 3- نار الزائر والمسافر. ويسمونها نار الطّرد. وذلك أنهم كانوا إذا لم يحبوا رجوع شخص، أوقدوا خلفه نارا ودعوا عليه. ويقولون فى الدعاء: أبعده الله وأسحقه! وأوقدوا نارا إثره. قال الشاعر: وجمّة قوم قد أتوك ولم تكن ... لتوقد نارا خلفها للتندّم.   [1] قال العلامة الدكتور أوغمت هفتر الألمانى والأب المحقق الفاضل لويس شيخو اليسوعى فى حاشية صفحة 36 متن كتاب النبات والشجر الأصمعى الذى عنيا بتحقيقه وطبعه فى بيروت سنة 1908، ما نصه: السلع نبات. وقيل شجر مر، وقيل أنه سمّ. له ورقة صغيرة شاكة كأن شوكها زغب. وهو بقلة تنفرش كأنها راحة الكلب. [2] قال الفاضلان المذكوران فى ذلك الموضع أيضا مانصه: «قيل إن العشر من كبار شجر العضاه وهو ذو صمغ حلو وحرّاق مثل القطن. يقتدح به. وهو عريض الورق. يخرج من شعبه ومواضع زهره سكر فيه شىء من المرارة يقال له سكر العشر. ويخرج له نفاخ كشقاشق الجمال. وله نور كالدفلى، مشرق حسن النظر. وله ثمر: l AselePiasgigaN tea.Le AselePiade:FoRsk GalotRoP isPRoeRa: [3] أما الافرنج والأمريكان فى هذا العصر فانهم يستنزلون الغيث باطلاق المدافع لاحداث الدوىّ والضجيج والالتهاب فى الجو.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 والجمّة: الجماعة يمشون فى الدّم، وفى الصلح. ومعنى هذا البيت: لم تندم على ما أعطيت فى الحمالة عند كلام الجماعة، فتوقد خلفهم ناراكى لا يعودوا. 4- نار التحاليف. كانوا لا يعقدون حلفهم إلا عليها، فيذكرون منافعها، ويدعون الله بالحرمان والمنع من منافعها على الذى ينقض العهد، ويطرحون فيها الكبريت والملح. فإذا فرقعت هوّل على الحالف. قال الكميت: همو خوّفونى بالعمى هوّة الرّدى ... كما شبّ نار الحالفين المهوّل. وقال أوس بن حجر: إذا استقبلته الشّمس، صدّ بوجهه ... كما صدّ عن نار المهوّل حالف. 5- نار الغدر. كانت العرب إذا غدر الرجل بجاره، أوقدوا له نارا بمنى، أيام الحج على الأخشب (وهو الجبل المطلّ على منّى) . ثم صاحوا: هذه غدرة فلان. قالت امرأة من هاشم: فإن نهلك فلم نعرف عقوقا ... ولم توقد لنا بالغدر نار. 6- نار السّلامة. وهى نار توقد للقادم من سفره، إذا قدم بالسلامة والغنيمة. قال الشاعر: يا سليمى أوقدى النارا ... إنّ من تهوين قد زارا. 7- نار الحرب. وتسمّى نار الأهبة والإنذار. توقد على يفاع، فتكون إعلاما لمن بعد. قال ابن الرومى: له ناران: نار قرى وحرب. ... ترى كلتيهما ذات التهاب. 8- نار الصّيد. يوقدونها لصيد الظباء، لتعشى أبصارها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 9- نار الأسد. كانت العرب توقدها إذا خافوه؛ فإن الأسد إذا عاين النار حدّق إليها وتأمّلها. 10- نار السّليم. توقد للملدوغ، والمجروح، ومن عضّه الكلب الكلب حتّى لا يناموا فيشتدّ بهم الألم. قال النابغة: يسهّد من ليل التّمام سليمها ... لحلى النّساء فى يديه قعاقع. وذلك لأنهم كانوا يعلقون عليه حلى النساء ويتركونه سبعة أيام. 11- نار الفداء. وذلك أن ملوكهم كانوا إذا سبوا قبيلة وخرجت إليهم السادات فى الفداء وفى الاستيهاب، كرهوا أن يعرضوا النساء نهارا فيفتضحن. وأما فى الظلمة فيخفى قدر ما يحبسون من الصيفىّ لأنفسهم، وقدر ما يجودون به، وما يأخذون عليه الفداء. فيوقدون لذلك النار. قال الشاعر: نساء بنى شيبان يوم أوارة ... على النّار إذ تجلى له فتياتها. 12- نار الوسم. كانوا يقولون للرجل: ما نارك؟ (فى الاستخبار عن الإبل) أو ما سمتك؟ [فيقول] : حياط، أو علاط، أو حلقة، أو كذا، أو كذا. حكى أن بعض اللصوص قرّب إبلا كان قد أغار عليها وسلبها من قبائل شتّى إلى بعض الأسواق، فقال له بعض التجّار: ما نارك؟ وإنما سأله عن ذلك، لأنهم كانوا يعرفون ميسم كل قوم وكرم إبلهم من لؤمها، فقال: تسألنى الباعة: ما نجارها، ... إذ زعزعوها فسمت أبصارها؟ وكلّ دار لأناس دارها! ... وكلّ نار العالمين نارها [1] !   [1] يقول العرب فى أمثالهم: «كل نجار إبل نجارها» وشطره الثانى «ونار إبل العالمين نارها» يضربون المثل للمخلط الذى فيه كل لون من الأخلاق وليس له رأى يثبت عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 13- نار القرى. وهى من أعظم مفاخر العرب. كانوا يوقدونها فى ليالى الشتاء، ويرفعونها لمن يلتمس القرى. فكلما كانت أضخم وموضعها أرفع، كان أفخر. وهم يتمادحون بها، قال الشاعر: له نار تشبّ بكلّ واد ... إذا النّيران ألبست القناعا. وقال إبراهيم بن هرمة: إذا ضلّ عنهم ضيفهم، رفعوا له ... من النار فى الظّلماء ألوية حمرا. 14- وكانت للعرب نار عظمى تسمّى نار الحرّتين. وهى التى أطفأها الله تعالى بخالد بن سنان العبسىّ. وكانت حرّة ببلاد عبس، تسمّى حرّة الحدثان. روى عن ابن الكلبىّ أنه قال: كان يخرج منها عنق فيسيح مسافة ثلاثة أو أربعة أميال، لا تمرّ بشىء إلا أحرقته. وأن خالد بن سنان أخذ من كل بطن من بنى عبس رجلا فخرج بهم نحوها، ومعه درّة حتّى انتهى إلى طرفها، وقد خرج منها عنق كأنه عنق بعير فأحاط بهم، فقالوا: هلكت والله أشياخ بنى عبس آخر الدهر! فقال خالد كلّا! وجعل يضرب ذلك العنق بالدّرّة ويقول: «بدّا بدّا، كلّ هدى الله يؤدّى! أنا عبد الله خالد بن سنان!» فما زال يضربه حتّى رجع، وهو يتبعه والقوم معه كأنه ثعبان يتملك حجارة الحرّة حتّى انتهى إلى قليب، فانساب فيه وتقدّم عليه، فمكث طويلا. فقال ابن عم لخالد، يقال له عروة بن شب: لا أرى خالدا يخرج إليكم أبدا! فخرج ينطف عرقا، وهو يقول: زعم ابن راعية المعزى أنى لا أخرج. فقيل لهم بنو راعية المعزى إلى الآن. وفى هذه النار يقول الشاعر: كنار الحرّتين لها زفير ... تصمّ مسامع الرجل السّميع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 6- ذكر النيران المجازية ومن النيران، نيران مجازية لا حقيقية. فمنها: نار البرق. وقد وصفها بعض الأعراب فقال: نار تجدّد للعيدان نضرتها ... والنار تشعل عيدانا فتحترق إشارة إلى أن النار تحرق العيدان، إلا نار البرق فإنها تجىء بالغيث. نار المعدة. وهى التى تهضم الطعام. وهى كنار الحياة، ونار الغريزة. وقوّتها مادّة للصحة، كما أن ضعفها سبب للعلة. نار الحمّى. وقد قيل: النيران ثلاثة: نار لا تأكل ولا تشرب، وهى نار الآخرة؛ ونار تأكل وتشرب، وهى نار الحمّى، تأكل اللحم وتشرب الدّم؛ ونار تأكل ولا تشرب، وهى نار الدّنيا. ومن النيران المجازية: نار الشوق، نار الشّره، نار الشباب، نار الشراب. قال شاعر يمدح بعض الملوك: وقيت نار الجحيم يا ملك، ... أربع نيرانه له نسق! نار شباب تروق نضرتها، ... ونار راح كأنّه شفق، ونار سلطانه، تقارنها ... نار قرى لا تزال تأتلق، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 7- ذكر النيران التى يضرب المثل بها يضرب المثل: بنار الحباحب. وهى نار لبخيل كان يوقدها. فإذا استضاء بها إنسان، أطفأها. وقيل: إنها النار التى توريها الخيل بسنابكها من الحجارة. قال الله تعالى: (فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) . وقال النابغة: ويوقدن بالصّفّاح نار الحباحب وهذا المثل يضرب لما لا منفعة فيه ولا حاصل له. نار الغضى، يضرب بها المثل فى الحرارة. وهى جمر أبيض لا يصلح إلا للوقود. نار العرفج. هى نار تتقد سريعا. قال قتيبة بن مسلم لعمرو بن عباد بن الحصين: «للسّؤدد أسرع إليك من النار فى يبس العرفج» . إذا التهبت فيه النار انتشرت وتسمى نار الزّحفتين، لأن العرفج إذا انتشرت فيه النار عظمت واستفاضت. فمن كان بالقرب منها زحف عنها، ثم لا تلبث أن تنطفئ من ساعتها. فيحتاج الذى زحف عنها أن يزحف إليها. فلا يزال المصطلى بها كذلك، فلذلك سميت نار الزحفتين. نار الحلفاء. يضرب بها المثل فى سرعة الاتقاد، كما قيل: فما ظنّك بالحلفا ... ءأدنيت له نارا. وفى سرعة الانطفاء، كما قيل: نار الحلفاء، سريعة الانطفاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 8- ذكر ما جاء منها على لفظ أفعل يقال: آكل من النار؛ أحرّ من النار؛ أحرّ من الجمر؛ أحسن من النار؛ أسرع من شرارة فى قصباء. ويقال: فلان وارى الزناد؛ وريت بك زنادى؛ فلان ثاقب الزّند؛ فلان كابى الزّناد؛ صلدت زناده؛ فلان ما يصطلى بناره؛ هو القابس العجلان؛ هما زندان فى وعاء. ومن أنصاف الأبيات: والنار قد يخمدها النّافخ كملتمس إطفاء نار بنافخ والجمر يوضع فى الرّماد فيخمد كذا كلّ نار روّحت تتوهّج هيهات تكتم فى الظّلام مشاعل ومن الأبيات قول علىّ بن الجهم: والنّار فى أحجارها مكنونة ... لا تصطلى إن لم تثرها الأزند وقال آخر: والنار بالماء الذى هو ضدّها ... تعطى النّضاج، وطبعها الإحراق. وقال آخر: والكاتم الأمر ليس يخفى ... كالموقد النار باليفاع. وقال آخر: لا تتّبع كلّ دخان ترى، ... فالنّار قد توقد للكىّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 وقال أبو تمام: لولا اشتعال النّار فيما جاورت، ... ما كان يعرف طيب عرف العود. وقال آخر: وفتيلة المصباح تحرق نفسها ... وتضىء للسّارى، وأنت كذاكا. 9- ذكر ما قيل فى وصف النار وتشبيهها قال عبد الله بن المعتزّ، غفر الله له: كأنّ الشّرار على نارها ... وقد راق منظرها كلّ عين. سحالة تبر إذا ما علا، ... فإمّا هوى ففتات اللّجين. أخذه العسكرىّ فقال: أوقدت بعد الهدوّ نارا ... لها على الطارقين عين . شرارها إن علا نضار، ... لكنّه إن هوى لجين. وقال السّرىّ الرّفّاء: والتهبت نارنا، فمنظرها ... يغنيك عن كلّ منظر عجب . إذا رمت بالشّرار فاطّردت ... على ذراها مطارد اللهب، رأيت ياقوتة مشبّكة ... تطير عنها قراضة الذّهب. وقال إبراهيم بن خفاجة الأندلسىّ: حمراء نازعت الرّياح رداءها ... وهنا وزاحمت السّماء بمنكب. ضربت سماء من دخان فوقها، ... لم تدر منها شعلة من كوكب. وتنفّحت عن كلّ نفحة جمرة ... باتت لها ريح الشّمال بمرقب. قد ألهبت فتذهّبت فكأنها ... شقراء تمرح فى عجاج أكهب [1] .   [1] الكهبة لون ليس بخالص فى الحمرة. وهو فى الحمرة خاصة (صحاح الجوهرى) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 وقال أبو الفتح كشاجم: كأنما النار والرّماد وقد ... كاد يوارى من نورها النّورا: ورد جنىّ القطاف أحمر قد ... ذرّت عليه الأكفّ كافورا. وقال تاج الملوك بن أيوب: أما ترى النار وهى تضرم فى ... أحشاء كانونها وتلتهب؟ كأنّما الفحم فوقها قضب ... من عنبر وهى تحته ذهب. وقال أبو مروان بن أبى الخصال: لابنة الزّند فى الكوانين جمر ... كالدّرارىّ فى دجى الظّلماء. خبّرونى عنها ولا تكتمونى، ... ألديها صناعة الكيمياء؟ سبكت فحمها صفائح تبر ... رصّعتها بالفضّة البيضاء. كلّما رفرف النّسيم عليها ... رقصت فى غلالة حمراء. هذا البيت مأخوذ من قول الخفاجىّ: وكأنّها والريح عابثة بها ... تزهى فترقص فى قميص أحمر. وقال أبو هلال العسكرىّ: نار تلعّب بالسّقوف كأنها ... حلل مشقّقة على حبشان. ردّت عليها الريح فضل دخانها ... فأتت به سبجا على عقيان. فالجوّ يضحك فى ابيضاض شرائر ... منها ويعبس فى اسوداد دخان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 وقال ابن أبى الخصال: وعوجوا على ياقوته ذهبيّة، ... يهيم بها المقرور بالسّبرات [1] . إذا ما ارتمت من فحمها بشرارها، ... رأيت نجوم اللّيل منكدرات. وقال سيف الدّولة بن حمدان: كأنما النار والرّماد معا ... وضوءها فى ظلامه يحجب: وجنة عذراء مسّها خجل ... فاستترت تحت عنبر أشهب. وقال آخر: فحم كيوم الفراق تشعله ... نار كنار الفراق فى الكبد. أسود قد صار تحت حمرتها ... مثل العيون اكتحلن بالرّمد. وقال أبو طالب المأمونىّ: ما نرى النار كيف أسقمها القرّ ... فأضحت تخبو وطورا تسعّر؟ وغدا الجمر والرّماد عليه ... فى قميص مذهّب ومعنبر؟ وقال أبو فراس الحمدانىّ: لله برد ما أش ... دّ ومنظر ما كان أعجب! جاء الغلام بناره ... هو جاء فى فحم تلهّب. فكأنما جمع الحلىّ ... فمحرق منه ومذهب. ثم انطفت فكأنها ... ما بيننا ندّ معشّب.   [1] السّبرة: الغداة الباردة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 10- ذكر شىء مما قيل فى الشّمعة والشّمعدان (والسراج [1] والقنديل [2] ) 1- أما الشمعة، فمن جيّد ما قيل فيها قول الأرّجانىّ: نمّت بأسرار ليل كان يخفيها ... وأطلعت قلبها للنّاس من فيها. قلب لها لم يرعنا وهو مكتمن ... إلا برقية نار من تراقيها. سقيمة لم يزل طول اللسان لها ... فى الحىّ يجنى عليها ضرب هاديها. غريقة فى دموع، وهى تحرقها ... أنفاسها بدوام من تلظّيها. تنفّست نفس المهجور إذ ذكرت ... عهد الخليط فبات الوجد يبكيها. يخشى عليها الرّدى مهما ألمّ بها ... نسيم ريح إذا وافى يحيّيها. بدت كنجم هوى فى إثر عفرية ... فى الأرض فاشتعلت منه نواصيها. نجم رأى الأرض أولى أن يبوّأها ... من السماء، فأمسى طوع أهليها. كأنها غرّة قد سال شادخها ... فى وجه دهماء يزهيها تجلّيها. أو ضرّة خلقت للشّمس حاسدة؛ ... فكلّما حجبت، قامت تحاكيها. وحيدة كشباة الرّمح هازمة ... عساكر الليل إن حلّت بواديها. ما طنّبت قطّ فى أرض مخيّمة ... إلا وأقمر للأبصار داجيها.   [1] مما يجب التنبية اليه ان «سورج» و «سرج» معناهما الشمس فى اللغة الهندية عن السنسكريتيه (أنظر القاموس الهندى الانكليزى تأليف فوربس) . [2] فى اللغة اللاتينية CaNdella وفى الفرنسية ChaNdelle بمعنى الشمعة وعنها.CaNdelaBRe ويقول علماء الافرنج ان اختراع الشمع للاستضاءة مما توصل اليه الغاليون وعلى ذلك يكون الأصل افرنكيا ثم نقله العرب لمعنى المصباح المعرف بالقنديل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 لها غرائب تبدو من محاسنها، ... إذا تفكّرت يوما فى معانيها. كصعدة فى حشا الظّلماء طاعنة ... تسقى أسافلها ريّا أعاليها . فالوجنة الورد إلا فى تناولها ... والقامة الغصن إلا فى تثنّيها . صفراء هنديّة فى اللّون إن نعتت، ... والقدّ واللّين إن أتممت تشبيها . فالهند تقتل بالنّيران أنفسها ... وعندها أنّ ذاك القتل يحييها . قد أثمرت وردة حمراء طالعة ... تجنى على الكفّ إن أهويت تجنيها . ورد تشاك به الأيدى إذا قطفت، ... وما على غصنها شوك يوقّيها . ما إن تزال تبيت اللّيل ساهرة ... وما بها غلّة فى الصّدر تطفيها . صفر غلائلها، حمر عمائمها، ... سود ذوائبها، بيض لياليها . تحيى الليالى نورا، وهى تقتلها. ... بئس الجزاء لعمر الله تجزيها! قدّت على قدّ ثوب قد تبطّنها ... ولم يقدّر عليها الثوب كاسيها. غرّاء فرعاء ما تنفكّ قالية ... تقصّ لمتّها طورا وتفليها. شبّاء شعثاء لا تكسى غدائرها ... لون الشّبيبة إلا حين تبليها. قناة ظلماء لا تنفك يأكلها ... سنانها طول طعن أو يشظّيها. مفتوحة العين تفنى ليلها سهرا؛ ... نعم، وإفناؤها إيّاه يفنيها. وربّما نال من أطرافها مرض ... لم يشف منه بغير القطع مشفيها. وقال آخر: بيضاء أضحكت الظلام فراعها ... فبكت وأسبلت الدّموع بوادرا. جفّت دموع جفونها فكأنّما ... كسيت من الطّلع النّضيد ضفائرا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 وقال أبو القاسم المطرّز من أبيات: وللشّموع عيون كلّما نظرت ... تظلّمت من يديها أنجم الغسق. من كلّ مرهفة الأعطاف كالغصن ال ... ميّاد لكنّه عار من الورق. إنى لأعجب منها وهى وادعة ... تبلى، وعيشتها من ضربة العنق! وقال آخر: جاءت بجسم كأنّه ذهب ... تبكى وتشكى الهوى وتلتهب. كأنها فى أكفّ حاملها ... رمح لجين سنانه ذهب. وقال محمد بن أبى الثبات، شاعر اليتيمة: ومجدولة مثل صدر القناة ... تعرّت، وباطنها مكتسى. لها مقلة هى روح لها، ... وتاج على الرأس كالبرنس. إذا غازلتها الصّبا حرّكت ... لسانا من الذّهب الأملس. وتنتج من حيث ما ألقحت ... ضياء يجلّى دجى الحندس. فنحن من النّور فى أسعد، ... وتلك من النار فى أنحس! وقال آخر: ورشيقة بيضاء تطلع فى الدّجى ... صبحا وتشفى الناظرين بدائها. شابت ذوائبها أوان شبابها، ... واسودّ مفرقها أوان فنائها. كالعين: فى طبقاتها ودموعها ... وبياضها وسوادها وضيائها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 وقال الصاحب بن عبّاد: وشمعة قدّمت إلينا ... تجمع أوصاف كلّ صبّ: صفرة لون، وذوب جسم، ... وفيض دمع، وحرّ قلب. وقال السرىّ الرفّاء: مفتولة مجدولة ... تحكى لنا قدّ الأسل. كأنّها عمر الفتى ... والنار فيها كالأجل. ومما ورد فى وصفها نثرا. من رسالة لابن الأثير الجزرىّ جاء منها: وكان بين يدىّ شمعة تعمّ مجلسى بالإيناس، وتغنى بوجودها عن كثرة الجلّاس؛ وكانت الريح تتلعّب بشعبها، وتدور على قطب لهبها؛ فطورا تقيمه فيصير أنمله، وطورا تميله فيصير سلسله؛ وتارة تجوّفه فيصير مدهنه، وتارة تجعله ذا ورقات فيمثل سوسنه؛ وآونة تنشره فيبسط منديلا، وآونة تلفّه على رأسها فيستدير إكليلا. ومن رسالة أخرى له: وكانت الريح تتلعّب بلهبها لدى الخادم فتشكله أشكالا، فتارة تبرزه نجما، وتارة تبرزه هلالا؛ ولربما سطع طورا كالجلّنارة فى تضاعيف أوراقها، وطورا كالأصابع فى انضمامها وافتراقها. وقال سيف الدّين المشدّ فى الفانوس: وكانّما الفانوس فى غسق الدّجى ... دنف براه سقمه وسهاده. حنيت أضالعه ورقّ أديمه ... وجرت مدامعه وذاب فؤاده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 2- ومما قيل فى السراج. من رسالة لأبى عبد الله محمد بن أبى الخصال، جاء منها: عذرا إليك أيّدك الله! فإنى خططت والنوم مغازل، والقرّ نازل؛ والريح تلعب بالسراج، وتصول عليه صولة الحجّاج؛ فطورا تبرزه سنانا، وتحرّكه لسانا؛ وآونة تطويه جنّابه، وأخرى تنشره ذؤابه؛ وتارة تقيمه إبرة لهب، وتعطفه برة ذهب؛ وحينا تقوّسه حاجب فتات، ذات غمزات؛ وتسلطه على سليطه، وتديله على خليطه؛ وربما نصبته أذن جواد، ومسخته حدق جراد؛ ومشقته حروف برق، بكفّ ودق؛ ولثمت بسناه قنديله، وألقت على أعطافه منديله؛ فلا حظّ منه للعين، ولا هداية فى الطّرس ميدين. 3- رسالة القنديل والشمعدان. من إنشاء المولى الفاضل البارع البليغ تاج الدين عبد الباقى بن عبد المجيد اليمانى، سمعتها من لفظه، وقرأتها عليه، وأجاز لى روايتها عنه. وهى الموسومة «بزهر الجنان، فى المفاخرة بين القنديل والشمعدان» . ابتدأها بأن قال: الحمد لله الذى أنار حالك الظّلماء، بأنوار بدر السماء؛ وحلّى جيدها، بعقود النجوم، وحرس مشيدها، بسهام الرجوم؛ وجعلها عبرة للاستبصار، ونزهة للأبصار؛ غشاؤها لا زورد مكلل بنضار، أو أقاحىّ خميلة تفتحت فيها أزرار الأزهار؛ تهدى السارى بسواريها، وتزرى بالدرر أنوار دراريها؛ كرع فى نهر مجرّتها النّسران، ورتع فى مراعى رياضها الفرقدان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 أحمده على نعمه التى لا يقوم بشكرها لسان، ولا يؤدّى واجب حقها إنسان؛ حمدا يجلب إلى الحامد أنواع الإحسان، ويسوق إلى الشاكر ركائب الخيرات الحسان. وأصلى وأسلم على سيدنا محمد الذى أنار الله بوجوده ظلمة الوجود، وأظهر بظهوره أفعال الركوع والسجود؛ صلّى الله وسلم عليه وعلى آله الوافين بالعهود، وعلى أصحابه أهل الإفضال والجود، صلاة وسلاما دائمين إلى اليوم الموعود! وبعد فإن فنون الاداب كثيرة الشعوب، متباينة الأسلوب؛ طالما تلاعب الأديب بفنونها بين جدّ ومجون، وكيف لا والحديث ذو شجون. وكنت بحمد الله ممن هو قادر على إبراز ملح الأدب، وعلى إظهار لطائف لغة العرب؛ فتمثّل فى خاطرى المفاخرة بين الشمعدان والقنديل، ولا بدّ من إبراز المفاخرة بينهما فى أحسن تمثيل؛ لأنهما آلتا نور، ونديما سرور؛ طالما مزّقا جلباب الدّجى بأضوائهما، وحسما مادّة الظلمة بأنوارهما؛ وطلعا فى سماء المجالس بدورا، وأخجلا نور الرياض لما أصدرا من جوهرهما نورا. سماكل واحد منهما إلى أنه الأصل، وأن بمدحه يحسن الفصل والوصل؛ وأنه الجوهرة اليتيمه، والبدرة التى ليست لها قيمه؛ سارت بمحاسنه ركائب الركبان، ونظمت فى جيد مجده قلائد العقيان. فأحببت أن أنظمهما فى ميدان المناظرة ليبرز كل واحد منهما خصائصه الواضحه، ويظهر نقائص صاحبه الفاضحه؛ وليتسنم غارب الاستحقاق بالفضيله، ويؤكد فى تقرير فضائله الراجحة دليله؛ مع أنه لا تقبل الدّعاوى إلا بالبرهان، ولعمرى لقد قيل قدما: من تحلّى بغير ما هو فيه ... فضحته شواهد الإمتحان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 فأتلع الشمعدان جيده للمطاوله، وعرض سمهريّه اللجينىّ للمناضله. وقال: استنّت الفصال حتّى القرعى لست بنديم الملوك فى المجالس، كلّا ولا الروضة الغنّاء للمجالس! طالما أحدقت بى عساكر النظار، ووقفت فى استحسان هياكلى رؤية الأبصار؛ وحملت على الرؤوس إذا علّقت بآذانك، وجليت كجلاء المرهفات إذا اسودّ وجهك من دخانك. فنضنض لسان القنديل نضنضة الصّلّ، وارتفع ارتفاع البازى المطلّ. وقال: إن كان فخرك بمجالسة السلاطين، فافتخارى بمجالسة أهل الدين!، طالما طلعت فى أفق المحراب نجما ازداد علا، وازدانت الأماكن المقدّسة بشموس أنوارى حلا؛ جمع شكلى مجموع العناصر، فعلى مثلى تعقد الخناصر؛ يحسبنى الرائى جوهرة العقد الثمين، إذا رأى اصفرار لونك كصفرة الحزين؛ ولقد علوتك فى المجالس زمانا، ومن صبر على حرّ المشقة ارتفع مكانا. فنظر إليه الشمعدان مغضبا، وهمّ بأن يكون عن جوابه منكّبا. وقال: أين ثمنك من ثمنى، ومسكنك من مسكنى؟ صفائحى صفحات الإبريز، فلذا سموت عليك بالتّبريز؛ تنزّه العيون فى حمائلى الذهبيه، وتسر النفوس ببزوغ أنوارى الشمسيه؛ ولا يملكنى إلا من أوطنته السعادة مهادها، وقرّبت له الرياسة جيادها؛ ولقد نفعت فى الصحة والسّقم، وازدادت قيمتى إذا نقصت فى القيم؛ إن انفصمت عراك فلا تشعب، ولا تعاد إلى سبك نار فتصبّ وتقلب؛ لست من فرسان مناظرتى، ولا من قرناء مفاخرتى. فالتفت القنديل التفات الضّرغام، وفوّق إلى قرينه سهام الملام. وقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 أنت عندى كثعاله، لا محاله؛ طالك العنقود، فأبرزت أنواع الحقود؛ وأين الثريّا من يد المتناول؟ أم أين السها من كف المتطاول؟ تالله إنك فى صرفك بصفرك مغلوط! لقد خصصت بالعلوّ وخصصت بالهبوط. ترى باطنى من ظاهرى مشرقا، وتخالنى لخزائن الأنوار مطلقا؛ فحديث سيادتى مسلسل، وتاج فضائلى بجواهر العلوّ مكلّل. فلحظه الشّمعدان بطرف طرفه، وأرسل فى ميدان المناظرة عنان طرفه. وقال: إنّ افتخارك بالعلوّ غير مفيد، ومزية اختصاصك به ليس له أبّهة مزيد؛ طالما علا القتام وانحطت الفرسان، ومكث الجمر وسما الدّخان؛ ولقد صيّرتك كنظر المشنوق حاله، وكضوء السّها ذباله؛ وأنت الخليق بما قيل: وقلب بلا لبّ، وأذن بلا سمع وسلاسلك تشعر بعقلك، وعتوك ينبئ عن غلوّ إسقاط كمثلك؛ عادلت التبر كفّة بكفّه، ووزنته إذ كان فيه خفه؛ فأصخ لمفاخرى الجليله، واستمع مناقبى الجميله. أطارد جيوش الظّلماء برمحى، وأمزق أثوب الديجور بصبحى؛ جمع عاملى بين طلع النخل. وحلاوة النحل؛ يتلو سورة النور لسانى، ويقوى فى مصادمة عساكر الليل البهيم جنانى؛ أسامر المليك خلوه، ويستجلى من محاسنى أحسن جلوه. ولله درّ القائل: انظر إلى شمعدان شكله عجب ... كروضة روّضت أزهارها السّحب. يطارد الليل رمح فيه من ورق ... سنانه لهب من دونه الذّهب. فمثل هذه المناقب تتلى، ومثل هذه المحاسن تظهر وتجلى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 فأضرم نار تبيينه، فى أحشاء قرينه. فعندها قال القنديل: لقد أطلت الأفتخار بمحاسن غيرك، لّما وقفت فى المناظرة ركائب سيرك؛ فاشكر اليد البيضاء من شمعك، واحرص على معرفة قيمتك ووضعك؛ وأما افتخارك بتلاوة سورة النور، فأنا أحق بها منك إذ محلى الجوامع، والفرقان فارق بينى وبينك مع أنه ليس بيننا جامع؛ ففضيلتى فيه بيّنه، وآية نورى فى سورة النور مبيّنه؛ فاقطع موادّ اللجاجة، واقرأ الآية المشتملة على الزجاجة؛ يظهر لك من هو الأعلى، ومن بالافتخار الأولى؛ تخالنى درّة علّقت فى الهواء، أو كوكبا من بعض كواكب الجوزاء. ولله درّ القائل: قنديلنا فاق بأنواره ... نور رياض لم تزل مزهره. ذبالة فيه إذا أوقدت ... حكت بحسن الوضع نيلوفره. لا يحمل الأقذاء خاطرى، ولا يغتمّ مشاهدى وناظرى؛ فأنا خلاصة السبك، والتبر الذى لا يفتقر إلى الحكّ؛ اشتقاق اسمك من النحوس، ومن جرمك تقام هياكل الفلوس؛ لقد عرّضت نفسك للمنيه، وانعكست عليك موادّ الأمنيه؛ مع أن الحق أوضح من لبّة الصباح، وأسطع من ضوء المصباح؛ والآن غضصت بريقك، وخفيت لوامع بروقك؛ فهذه الشهباء والحلبه، وهذه ميادين المناضلة رحبه. فحار الشمعدان فى الجواب، وجعل ما أبداه أوّلا فصل الخطاب فقال القنديل: لا بدّ من الإقرار بأن قدحى المعلّى، وأنى عليك بالتقديم الأولى؛ وأن مقامى العالى، ونورى المتوالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 فقال الشمعدان: لا منازعة فيما جاء به الكتاب من تفضيلك، وكونك الكوكب الدّرّىّ الذى قصر عن بلوغك باع مثيلك. فجنح الشمعدان للسلّم، وترفع عن استيطان مواطن الإثم؛ وشرع يبدى شعائر الخضوع، وينشر أعلام الأوبة عما قال والرجوع؛ وقال: لولا حميّة النفوس، ما تجمّلت بمفاخرنا صفحات الطروس؛ ولولا القال والقيل، ما ضمّنا معرض التمثيل؛ ولكن أين صفاؤك من كدرى، وأين نظرك من نظرى؛ خصك الله بنوره، وذكرك فى فرقانه وزبوره. فعندها تهلك أسارير القنديل، وتبسم فرحا بالتعظيم والتبجيل. وقال: حيث رجعنا إلى شرع الإنصاف، وإظهار محاسن الأوصاف؛ ففضلك لا يبارى، ووصفك لا يجارى؛ يحسبك الرائى خميلة نور تفتّحت أزهارها، وحديقة نرجس اطّردت أنهارها؛ تسرّ بك النفوس، وتدار على نضارتك الكؤوس؛ وإن اللائق بحالنا طىّ بساط المنافسه، وإخماد شرر المقابسه؛ والاستغفار فيما فرط من كلامنا، والرجوع إلى الله فى إصلاح أقوالنا وأفعالنا. ونقول: الأصل فيما نقلناه عدمه، فقد حفى كل واحد منا فى إبراز معايبه قلمه. ونسأل الله أن تدوم لنا نعمه، ويتعاهدنا فى المساء والصباح كرمه! بمنه وجوده وكرمه! آمين! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 القسم الثالث من الفن الأوّل فى الليالى والأيام، والشهور والأعوام، والفصول والمواسم والأعياد وفيه أربعة أبواب الباب الأوّل من هذا القسم 1- فى الليالى والأيام روى عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: خلق الله الخلق فى ظلمة. (وروى: فى عماء) ثم رش عليهم من نوره. وهذا يدل على أن الظلمة خلقت قبل النور. وروى أن عبد الله بن عباس (رضى الله عنهما) سئل عن الليل، أكان قبل أو النهار؟ قال: أرأيتم حيث كانت السماوات والأرض رتقا، هل كان بينهما إلا ظلمة؟ ذلك لتعلموا أن الليل كان قبل النهار. والذى ورد فى القرآن من ذكر الليل والنهار، والظلمات والنور بدأ الله (عز وجل) بذكر الليل قبل النهار، وبالظلمات قبل النور. ويروى أن الله (عز وجل) لما خلق السماء والأرض، وقع ظل السماء على الأرض فأظلمت، فجعل الشمس ضياء والقمر نورا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 ثم خلق الزمان وقسمه قسمين: ليلا، ونهارا. فجعل حصة الليل للقمر، وحصة النهار للشمس. فكانا يتعاقبان بالطلوع فيهما، فلم يكن بين الليل والنهار فرق فى الإضاءة. فلما أراد الله عز وجل خلق النوع الإنسانىّ- وعلم أنه لا غنى له عن حركته للمعاش نهارا وسكونه للراحة ليلا- أمر جبريل فأمرّ جناحه على القمر فمحا نوره. فالسواد الذى يرى فى القمر هو أثر المحو، وصار الليل مظلما، والنهار مبصرا. وروى أيضا أن الله (عز وجل) خلق حجابا من ظلمة مما يلى المشرق، ووكّل به ملكا يقال له سراهيل. فإذا انقضت مدّة النهار، قبض الملك قبضة من تلك الظلمة واستقبل بها المغرب، فلا تزال الظلمة تخرج من خلل أصابعه وهو يراعى الشفق. فإذا غاب الشفق، بسط كفه فطبق الدّنيا ظلمة. فإذا انقضت مدّة الليل، قبض كفه على الظلمة، إصبعا بعد إصبع إلى أن يذهب الظلام، حتّى تنتقل الشمس من الشرق إلى الغرب. وذلك من أشراط الساعة. والله أعلم! 2- ذكر ما قيل فى الليل وأقسامه الليل طبيعىّ، وشرعىّ. أما الطبيعىّ، فهو من حين غروب الشمس واستتارها إلى طلوعها وظهورها. وأمّا الشرعىّ، فهو من حين غروبها إلى طلوع الفجر الثانى، وهو المراد بقوله تعالى: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) . والليل ينقسم إلى اثنتى عشرة ساعة، لها أسماء وضعتها العرب، وهى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 الشاهد، ثم الغسق، ثم العتمة، ثم الفحمة، ثم الموهن، ثم القطع، ثم الجوشن ثم العبكة [1] ، ثم التّباشير، ثم الفجر الأوّل، ثم الفجر الثانى، ثم المعترض. هذا ما ذكره ابن النحاس فى وصف صناعة الكتاب. وحكى الثعالبىّ فى فقه اللغة- عن حمزة الأصفهانىّ، قال: وعليه عهدته- أسماء غير هذه، وهى: الجهمة، والشّفق، والغسق، والعتمة، والسّدفة، والزّلّة [2] ، والزّلفة، والبهرة، والسّحر، والفجر، والصّبح، والصّباح. فصل وقد عبّر بالليالى عن الأيام، كقول الله عزّ وجلّ: (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً) ؛ وقوله تعالى: (وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ) . فعبر عن الأيام بالليالى، لأن كل ليلة تتضمن يوما. 3- ذكر الليالى المشهورة من الليالى المشهورة: ليلة البراءة. وهى ليلة النصف من شعبان، قيل سميت بذلك لأنها براءة لمن يحييها؛ وليلة القدر. والصحيح أنها فى مفردات العشر الأخير من شهر رمضان؛ وليلة الغدير. وهى ليلة الثامن عشر من ذى الحجة؛   [1] كذا بالأصل والذى فى كتب اللغة بهذا المعنى «الهتكة» فلعل ما هنا تحريف من الناسخ. [2] لا توجد هذه الكلمة بهذا المعنى لا فى اللسان ولا فى القاموس ولا فى مستدرك شارحه. وهذا هو الذى دعا الثعالبى لجعل العهدة على حمزة الاصفهانى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 وليلة الهرير. وهى ليلة من ليالى صفّين، قتل فيها خلق كثير من أصحاب معاوية (رضى الله عنه) ؛ وليلة الخلعاء. وهى ليلة باتها أبو الطّمحان القينىّ عند ديرانية، فأكل طفيشلها [1] بلحم الخنزير، وشرب خمرها، وزنى بها، وسرق كساءها؛ وليلة النابغة. يضرب بها المثل فى الخوف؛ وليلة المتوكل. تضرب مثلا فى موت نتج من سرور، لأنه قتل فى مجلس أنسه، على ما نذكره فى أخباره إن شاء الله تعالى. 4- ذكر ما يتمثّل به مما فيه ذكر الليل يقال: أطغى من الليل. أطفل من ليل على نهار. أحير من الليل. أستر من الليل. أظلم من الليل. أندى من ليلة ماطرة. ويقال: الليل أخفى للويل. الليل نهار الأريب. الليل طويل وأنت مقمر. الليل وأهضام الوادى. الليل أغور (لأنه لا يبصر فيه) . ويقال: اتخذ الليل جملا. شمّر ذيلا، وادّرع ليلا. أمر نهار قضى بليل.   [1] نوع من المرق (قاموس) . وقال ابن الخشّاب فى تفسير ألفاظ الكتاب المنصورى للرازى ما نصه: طفشيل (بهذا الضبط) طعام يتخذ من الحبوب كالباقلىّ والحمّص ونحوهما (عن تكملة المعجمات العربية لدوزى) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 ومن أنصاف الأبيات: الليل حبلى ليس تدرى ما تلد ما أقصر الليل على الراقد! ما أشبه الليلة بالبارحه! وليل المحبّ بلا آخر إحدى لياليك فهيسى هيسى! فإنّك كالليل الذى هو مدركى ومن الأبيات: إن اللّيالى لم تحسن إلى أحد ... إلا أساءت إليه بعد إحسان. واللّيالى كما عهدت حبالى ... مقربات يلدن كلّ عجيب. أما ترى اللّيل والنهارا ... جارين لا يبقيان جارا؟ وقال حميد بن ثور: ولن يلبث العصران يوم وليلة ... إذا طلبا أن يدركا ما تمنّيا! وقال أبو حية النّميرىّ: إذا ما تقاضى المرء يوم وليلة، ... تقاضاه شىء لا يملّ التّقاضيا. 5- ذكر ما قيل فى وصف الليل وتشبيهه قد أكثر الشعراء فى وصف الليل بالطّول والقصر. وذكروا سبب الطول الهموم وسبب القصر السرور. ولهذا أشار بعض الشعراء فى قوله: إنّ الليالى للأنام مناهل ... تطوى وتنشر بينها الاعمار. فقصارهنّ مع الهموم طويلة، ... وطوالهنّ مع السرور قصار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 وقال آخر: إنّ التّواصل فى أيامه قصر، ... كما التهاجر فى أيّامه طول. فليس يعرف تسهيدا ولا رمدا ... جفن برؤية من يهواه مشغول. وقال ابن بسّام: لا أظلم الليل ولا أدّعى ... أنّ نجوم الليل ليست تغور. ليل كما شاءت فإن لم تزر، ... طال؛ وإن زارت، فليل قصير. أصله من قول علىّ بن الخليل: لا أظلم الليل ولا أدّعى ... أنّ نجوم الليل ليست تعول. ليل كما شاءت قصير إذا ... جادت، وإن صدّت، فليل طويل. وقال آخر: أخو الهوى يستطيل الليل من سهر، ... والليل فى طوله جار على قدره. ليل الهوى سنة فى الهجر مدّته؛ ... لكنّه سنة فى الوصل من قصره. وقال الوليد بن يزيد بن عبد الملك: لا أسأل الله تغييرا لما صنعت: ... نامت وقد أسهرت عينىّ عيناها. فالليل أطول شىء حين أفقدها ... والليل أقصر شىء حين ألقاها. 6- وأما ما وصف به من الطول قال الخبّاز: وليل كواكبه لا تسير ... ولا هو منها يطيق البراحا. كيوم القيامة فى طوله ... على من يراقب فيه الصّباحا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 وقال ابن المعتزّ: مالى أرى الليل مسبلا شعرا ... عن غرّة الصّبح غير مفروق. وقال بشار: خليلىّ! ما بال الدّجى لا يزحزح، ... وما بال ضوء الصّبح لا يتوضّح؟ أضلّ النّهار المستنير طريقه؟ ... أم الدّهر ليل كلّه ليس يبرح؟ وقال الرّفاء: ألا ربّ ليل بتّ أرعى نجومه ... فلم أغتمض فيه ولا اللّيل أغمضا. كأنّ الثّريّا راحة تشبر الدّجى ... لتعلم طال اللّيل لى أم تعرّضا. عجبت لليل بين شرق ومغرب ... يقاس بشبر كيف يرجى له انقضا؟ وقال محمد بن عاصم: أقول، واللّيل دجى مسبل ... والأنجم الزّهر به مثّل: يا طول ليل ما له آخر ... منك، وصبح ماله أوّل! وقال التنوخىّ: وليلة كأنّها قرب أمل ... ظلامها كالدّهر ما فيه خلل. كأنّما الإصباح فيها باطل ... أزهقه الله بحقّ، فبطل. ساعاتها أطول من يوم النّوى ... وليلة الهجر وساعات العذل. مؤصدة على الورى أبوابها ... كالنار لا يخرج منها من دخل. وقال أبو محمد، عبد الله بن السيّد البطليوسىّ: ترى ليلنا شابت نواصيه كبرة ... كما شبّ، أوفى الجوّ روض نهار؟ كأنّ الليالى السّبع فى الأفق جمّعت ... ولا فصل فيما بينها بنهار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 وقال الشريف البياضىّ: أقول لصحبى والنجوم كأنّها، ... وقد ركدت فى بحر حندسها غرقى: أرى ثوب هذا اللّيل لا يعرف البلى! ... فهل أرين للصّبح فى ذيله فتقا؟ وقال أيضا: أقول وللدّجى عمر مديد ... وآخره يردّ إلى معاد. وقد ضلّت كواكبه، فظلّت ... حيارى ما لها فى الأفق هادى: لعلّ الليل مات الصّبح فيه، ... فلازم بعده لبس الحداد. وقال آخر: أما لظلام ليلى من صباح؟ ... أما للنّجم فيه من براح؟ كأنّ الأفق سدّ، فليس يرجى ... به نهج إلى كلّ النواحى. كأنّ الشّمس قد مسخت نجوما ... تسير مسير روّاد طلاح. كأنّ الصّبح مهجور طريد، ... كأنّ الليل مات صريع راح. كأنّ بنات نعش متن حزنا، ... كأنّ النّسر مكسور الجناح. وقال آخر: يا ليلة طالت على عاشق، ... منتظر للصّبح ميعادا! كادت تكون الحول فى طولها؛ ... إذا مضى أوّلها، عادا. وقال ابن الرومىّ: ربّ ليل كأنّه الدّهر طولا ... قد تناهى فليس فيه مزيد. ذى نجوم كأنّهنّ نجوم الشّ ... يب ليست تزول، لكن تزيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 وقال أبو الأحنف: حدّثونى عن النّهار حديثا ... أو صفوه، فقد نسيت النّهارا. وقال بشّار: طال هذا اللّيل بل طال السّهر! ... ولقد أعرف ليلى بالقصر. لم يطل حتّى دهانى فى الهوى ... ناعم الأطراف فتّان النّظر. فكأنّ الهجر شخص ماثل ... كلّما أبصره النّوم نفر. وقال إبراهيم بن خفاجة الأندلسىّ: يا ليل وجد ينجد ... أما لطيفك مسرى؟ وما لدمعى طليق ... وأنجم الجوّ أسرى؟ وقد طما بحر ليل ... لم يعقب المدّ جزرا. لا يعبر الطّرف فيه ... غير المجرّة جسرا. وقال أبو مروان بن أبى الخصال: وليل كأنّ الدّهر أفضى بعمره ... جميعا إليه، فانتهى فى ابتدائه. يحدّث بعض القوم بعضا بطوله، ... ولم يمض منه غير وقت عشائه. وقال إبراهيم ولد ابن لنكك البصرىّ، شاعر اليتيمة: وليلة أرّقنى طولها ... فبتّها فى حيرة الذّاهل. كأنّما اشتقّت لإفراطها ... فى طولها من أمل الجاهل. وقال امرؤ القيس: وليل كموج البحر مرخ سدوله ... علىّ بأنواع الهموم ليبتلى. فقلت له لما تمطّى بصلبه ... وأردف أعجازا وناء بكلكل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 ألا أيّها الليل الطويل، ألا انجلى ... بصبح! وما الإصباح منك بأمثل! فيا لك من ليل كأنّ نجومه ... بأمراس كتّان إلى صمّ جندل. وقال آخر: أراقب فى السّماء بنات نعش؛ ... ولو أسطيع، كنت لهنّ حادى. كأنّ اللّيل أوثق جانباه ... وأوسطه بأمراس شداد. وقال أخرم بن حميد: وليل طويل الجانبين قطعته ... على كمد، والدّمع تجرى سواكبه. كواكبه حسرى عليه كأنها ... مقيّدة دون المسير كواكبه. وقال ابن الرقاع: وكأنّ ليلى حين تغرب شمسه ... بسواد آخر مثله موصول. أرعى النجوم. إذا تغيب كوكب، ... أبصرت آخر كالسّراج يجول. وقال آخر: ما لنجوم اللّيل لا تغرب؟ ... كأنّها من خلفها تجذب! رواكد ما غار فى غربها ... ولا بدا من شرقها كوكب. وقال سعيد بن حميد: يا ليل، بل يا أبد! ... أنائم عنك غد؟ يا ليل لو تلقى الّذى ... ألقى بها أو تجد، قصّر من طولك أو ... ضعّف منك الجلد! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 وقال سيف الدّين المشدّ: مات الصّباح بليل ... أحييته حين عسعس. لو كان فى الدّهر صبح ... يعيش، كان تنفّس. 7- أما ما وصف به من القصر فمن ذلك قول إبراهيم بن العباس: وليلة إحدى الليالى الزّهر، ... قابلت فيها بدرها ببدرى. لم تك غير شفق وفجر، ... حتّى تولّت وهى بكر الدّهر. وقال الشريف الرضىّ: يا ليلة كاد من تقاصرها ... يعثر فيها العشاء بالسّحر. وقال آخر: يا ليلة جمعتنا بعد فرقتنا ... فبتّ من صبحها لمّا بدا، فرقا. لما خلوت بآمالى بها، قصرت ... وكاد يسبق فيها فجرها الغسقا. وقال آخر: يا ربّ ليل سرور خلته قصرا ... يعارض البرق فى أفق الدّجى برقا. قد كاد يعثر أولاه بآخره ... وكاد يسبق منه فجره الشّفقا. وقال القاضى السعيد بن سناء الملك: يا ليلة الوصل، بل يا ليلة العمر! ... أحسنت، إلا إلى المشتاق، فى القصر. يا ليت زيد بحكم الوصل فيك لنا ... ما طوّل الهجر من أيامك الأخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 أو ليت نجمك لم تقفل ركائبه، ... أو ليت صبحك لم يقدم من السّفر. أو ليت لم يصف فيك الشرق من غبش، ... فذلك الصّفو عندى غاية الكدر. أو ليت كلّا من الشرقين ما ابتسما، ... أو ليت كلّا من النّسرين لم يطر. أو ليت كنت كما قد قال بعضهم: ... «ليل الضّرير فصبحى غير منتظر» . أو ليت فجرك لم ينفر به رشئى، ... أو ليت شمسك ما جارت على قمرى. أو ليت قلبى وطرفى تحت ملك يدى ... فزدت فيه سواد القلب والبصر. أو ليت ألقى حبيبى سحر مقلته ... على العشاء فأبقاها بلا سحر. أوليت كنت سألتيه مساعدة ... فكان يحبوك بالتكحيل والشّعر. كأنّها حين ولّت قمت أجذبها ... فانقد فى الشّرق منها الثّوب من دبر. لا مرحبا بصباح جاءنى بدلا ... من غرّة النّجم أو من طلعة القمر! وقال عبد الله بن المعتز: يا ليلة ما كان أط ... يبها سوى قصر البقاء! أحييتها فأمتّها ... وطويتها طىّ الرداء. حتّى رأيت الشمس تت ... لو البدر فى أفق السماء. فكأنه وكأنّها ... قدحان من خمر وماء. وقال المهلبى: قد قصر الليل عند ألفتنا ... كأن حادى الصّباح صاح به. وقال آخر: كأنّما الليل راكب فرسا ... منهزما والصّباح فى طلبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 8- أما ما وصف به من الإشراق فمن ذلك قول شاعر أندلسىّ: ربّ ليل عمرته ... فيك خال من الفكر. كثرت حوله الحجو ... ل وسارت به الغرر. وقال أبو بكر الصنوبرى: يا ليلة طلعت بأسعد طالع ... تاهت على ضوء النهار السّاطع. بمحاسن مقرونة بمحاسن ... وبدائع موصولة ببدائع. ضوء الشّموع وضوء وجهك مازجا ... ضوء العقار وضوء برق لامع. فكأنّما ألقى الدّجى جلبابه ... وأراك جلباب النّهار الساطع. 9- أما ما وصف به من الظلمة قال الله عز وجل: (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ) . فهذه أتمّ أوصاف الظلمة. وقال مضرّس بن ربعىّ: وليل يقول الناس فى ظلماته: ... سواء صحيحات العيون وعورها كأنّ لنا منه بيوتا حصينة ... مسوح [1] أعاليها وساج كسورها وقال أبو تمام: إليك هتكنا جنح ليل كأنّما ... قد اكتحلت منه البلاد بإثمد   [1] جمع مسح بكسر فسكون وهو الكساء يتخذ من الشعر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 وقال أبو نواس: أبن لى: كيف صرت إلى حريمى، ... وجفن الليل مكتحل بقار وقال العلوىّ الأصفهانىّ: وربّ ليل باتت عساكره ... تحمل فى الجوّ سود رايات لامعة فوقها أسنّتها ... مثل الأزاهير وسط روضات ومن رسالة لابى عبد الله بن أبى الخصال. جاء منها: والليل زنجىّ الأديم، تبرىّ النجوم؛ قد جلّلنا ساجه، وأغرقتنا أمواجه؛ فلا مجال للّحظ، ولا تعارف إلا باللفظ؛ ولو نظرت فيه الزرقاء لاكتحلت، ولو خضبت به الشّيبة ما نصلت. 10- ومما قيل فى تباشير الصباح قال أبو محمد العلوىّ: كأنّ اخضرار الجوّ صرح ممرّد ... وفيه لآل لم تشن بثقوب. كأنّ سواد اللّيل فى ضوء صبحه ... سواد شباب فى بياض مشيب. وقال أبو علىّ بن لؤلؤ، الكاتب: ربّ فجر كطلعة البدر جلّى ... جنح ليل كطلعة الهجران، زار فى حلّة النراة فولّى الل ... يل عنه فى حلّة الغربان. وقال الخالديّان: وكأنّما الصّبح المنير وقد بدا ... باز [1] أطار من الظّلام غرابا.   [1] البازلغة فى البازى. (عن الجوهرى) ، واخترنا ذلك لأنه منقول عن كلمة فارسية هى «باز» . وتركية «طوغان» وهو نوع من الصقور وأشد الجوارح تكبرا وأضيقها خلقا. يوجد بأرض الترك ويؤخذ للصيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 وقال النظام البلخىّ، من شعراء الخريدة: فلاح الصبح مبتسم الثّنايا ... وطار اللّيل مقصوص الجناح. يطير غراب أو كار الدّياجى ... إذا ما حلّ بازىّ الصّباح. وقال تميم بن المعزّ: وكأنّ الصّباح فى الأفق باز ... والدّجى بين مخلبيه غراب. وقال ابن وكيع: غرّد الطير فنبّه من نعس. ... وأدر كأسك فالعيش خلس! سلّ سيف الفجر من غمد الدّجى ... وتعرّى الصبح من ثوب الغلس. وانجلى فى حلة فضّيّة ... ما بها من ظلمة اللّيل دنس. وقال أبو مروان بن أبى الخصال: ولمّا رأيت الغرب قد غصّ بالدّجى ... وفى الشّرق من ثوب الصّباح دلائل، توهّمت أن الغرب بحر أخوضه ... وأن الذى يبدو من الشّرق ساحل. وقال أسعد بن بليطة الأندلسىّ: جرت بمسك الدّجى كافورة السّحر ... فغاب، إلا بقايا منه فى الطّرر، صبح يفيض وجنح الليل منغمس ... فيه كما غرق الزنجىّ فى نهر. قد حار بينهما فى برزخ قمر ... يلوح كالشّنف بين الخدّ والشّعر. وقال أحمد بن عبد العزيز القرطبىّ: بتنا كأنّ حداد الليل شملتنا ... حتّى بدا الصبح فى ثوب سحولىّ. كأنّ ليلتنا، والصبح يتبعها، ... زنجيّة هربت قدّام رومىّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 وقال أبو نواس: فقمت والليل يجلوه الصّباح، كما ... جلا التّبسم عن غرّ الثّنيّات. وقال عبد الله بن المعتزّ: قد أغتدى واللّيل فى جلبابه ... كالحبشىّ فرّ من أصحابه. والصّبح قد كشّر عن أنيابه ... كأنّما يضحك من ذهابه. وقال السرىّ: وشرّد الصبح عنّا الليل فاتّضحت ... سطوره البيض فى آياته السّود. وقال أبو فراس: مددنا علينا الليل، والليل راضع ... إلى أن تردّى رأسه بمشيب. بحال تردّ الحاسدين بغيظهم ... وتطرف عنّا عين كلّ رقيب. إلى أن بدا ضوء الصّباح كأنه ... مبادى نصول فى عذار خضيب. وقال عبد الصمد بن بابك، شاعر اليتيمة: واستهلّت لمصرع الليل ورق ... ثاكلات، حدادها التّطويق. فتضاحكت شامتا وكأنّ الص ... بح جيب على الدّجى مشقوق. وقال أبو بكر الصنوبرىّ: وليلة كالرّفرف المعلم ... محفوفة الظّلماء بالأنجم. تعلّق الفجر بأرجائها، ... تعلّق الأشقر بالادهم. وقال السلامىّ، شاعر اليتيمة: وقد خالط الفجر الظّلام كما التقى ... على روضة خضراء ورد وأدهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 وعهدى بها، والليل ساق ووصلنا ... عقار، وفوها الكأس أو كأسها الفم. إلى أن بدرنا بالنجوم، وغربها ... يفضّ عقود الدّرّ والشّرق ينظم. ونبّهت فتيان الصّبوح للذّة ... تلوح كدينار يغطّيه درهم. ومن رسالة للقاضى الفاضل عبد الرحيم البيسانى، عفا الله عنه. جاء منها: «فلما قضى الليل نحبه، وأرسل الصباح على دهمه شهبه؛ شمّر الليل إزاره، ووضع النجم أوزاره؛ ونزح بالطّيف طاردا، وظلّ وراء الصبح ناشدا؛ وفجر الفجر نهر النهار، واستردّ البنفسج وأهدى البهار؛ فمواكب الكواكب منهزمه، وغرّة الفجر كغرّة مولاى مبتسمه» . ومما يدخل فى هذا الباب، ما حكى أن بعض الأعراب تزوّج بأربع نسوة، فأراد أن يختبر عقولهنّ. فقال لإحداهنّ: إذا دنا الصبح فأيقظينى. فلما دنا الصبح، قالت له: قم، فقد دنا الصبح! فقال: وما يدريك؟ قالت: غارت صغار النجوم وبقى احسنها وأضوؤها وأكبرها، وبرد الحلىّ على جسدى، واستلذذت باستنشاق النسيم. فقال لها: إن فى ذلك دليلا. ثم بات عند الثانية، فقال لها مثل مقالته للأولى. فلما دنا الصبح، أيقظته. فقال لها: وما يدريك؟ قالت: ضحكت السماء من جوانبها، ولم تبق نابتة إلا فاحت روائحها، وعينى تطالبنى بإغفاءة الصباح. فقال لها: إن فى ذلك دليلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 ثم بات عند الثالثة، فقال لها مثل ذلك. فلما دنا الصبح، أيقظته. فقال لها: وما يدريك؟ فقالت: لم يبق طائر إلا غرد، ولا ملبوس إلا برد، وقد صار للطّرف: فى الليل مجال، وليس ذلك إلا من دنوّ الصباح. فقال لها: إن فى ذلك لدليلا. ثم بات عند الرابعة، فقال لها مثل ذلك. فلما دنا الصبح، قالت له: قم، فقد دنا الصبح! فقال لها: وما يدريك؟ قالت: أبت نفسى النوم، وطلبنى فمى بالسواك واحتجت إلى الوضوء. فقال لها: أنت طالق، فإنك أقبحهنّ وصفا. 11- ذكر ما قيل فى النهار والنهار طبيعىّ، وشرعىّ. فالطبيعىّ زمان بين طلوع نصف قرص الشمس من المشرق، وإلى غيابه فى المغرب. والشرعىّ ما بين انفجار الفجر الثانى إلى غروب الشمس. والفجر فجران: الفجر الكاذب، وهو بياض مستطيل؛ والفجر الصادق بياض مستطير. وقد وضعت العرب لساعات النهار أسماء، كما وضعت لساعات الليل، وهى: الذّرور، ثم البزوغ، ثم الضّحى، ثم الغزالة، ثم الهاجرة، ثم الزّوال، ثم الدّلوك، ثم العصر، ثم الأصيل، ثم الصّبوب، ثم الحدور، ثم الغروب. ويقال أيضا: البكور، ثم الشّروق، ثم الإشراق، ثم الرّاد، ثم الضّحى، ثم المتوع، ثم الهاجرة، ثم الأصيل، ثم العصر، ثم الطّفل، ثم العشىّ، ثم الغروب. ذكر ذلك معا أبو جعفر النحاس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 وحكى الثعالبىّ فى كتاب فقه اللغة- عن حمزة بن الحسن- قال: وعليه عهدتها: الشّروق، ثم البكور، ثم الغدوة، ثم الضّحى، ثم الهاجرة، ثم الظّهيرة، ثم الرّواح، ثم العصر، ثم القصر، ثم الأصيل، ثم العشىّ، ثم الغروب. وكانت العرب العاربة تسمّى أيام الأسبوع بأسماء غير هذه التى تتداولها الناس فى وقتنا هذا، وهى: «أوّل» وهو الأحد «أهون» وهو الاثنان «جبار» وهو الثلاثاء «دبار» وهو الأربعاء «مؤنس» وهو الخميس «عروبة» وهو الجمعة «شيار» وهو السبت. نظم ذلك شاعر فقال: أؤمّل أن أعيش وأنّ يومى ... لأوّل أو لأهون أو جبار، أو التالى دبار وإن أفته ... فمؤنس أو عروبة أو شيار. 12- ذكر الأيام التى خصّت بالذكر منها: الأيام المعلومات. وهى عشر ذى الحجة، وفيها يوم التّروية. وهو اليوم الثامن سمى بذلك لأنهم يرتوون من الماء لما بعده، لأن منى لا ماء بها. الأيام المعدودات. هى أيام التشريق. وعدّتها ثلاثة بعد يوم النحر. سميت بذلك لأنهم كانوا يشرّقون فيها لحوم الأضاحى فى الشمس والهواء، لئلا تفسد. أيام العجوز. ويقال فيها الأيام الأعجاز، وهى سبعة: أوّلها السادس والعشرون من شباط من شهور الروم؛ والخامس من برمهات من شهور القبط. وهى لا تخلو من رياح وبرد. وسميت بالعجوز: لأنها فى عجز الشتاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 يوم عبيد، مثل لليوم المنحوس. كان عبيد بن الأبرص قد تصدّى للنعمان فى يوم بؤسه الذى لا يفلح من لقيه فيه، كما لا يخيب من لقيه فى يوم نعيمه، قال أبو تمّام: من بعد ما ظنّ الأعاذى أنّه ... سيكون لى يوم كيوم عبيد. يوم المطر. يضرب مثلا فى كفر النعمة. وذلك أنه حكى عن المعتمد على الله ابن عباد صاحب إشبيلية أنه خلا بزوجته الرميكية فى مجلس أنس، والزمان فيه قيظ. فتمنّت عليه غيما ومطرا. فأمر بمجامر العنبر والعود والنّدّ، حتّى انعقد الدّخان كالضّباب، ثم أمر برشّ صحن المجلس بماء الورد من أعلاه. وحصل بينهما بعد ذلك نبوة، فقالت له: ما رأيت معك يوم سرور قطّ! فقال لها: ولا يوم المصر؟ [1] ؟ صدق رسول الله (صلى الله عليه وسلم فى قوله: إنّهنّ يكفرن العشير. يوم عاشوراء. وهو اليوم العاشر من المحرّم. ورد فى فضله أحاديث كثيرة. ويقال إن نوحا (عليه السلام) ركب السفينة فيه فصامه وأمر من معه بصومه. وصحّ أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لما هاجر، رأى اليهود فى المدينة صياما فى هذا اليوم. فسألهم عنه، فقالوا: هذا اليوم الذى نجىّ الله تعالى فيه موسى وبنى إسرائيل، وأغرق فرعون وقومه. فنحن نصومه شكرا لله تعالى. فقال (عليه الصلاة والسلام) : أنا أحقّ بأخى موسى. ثم أمر مناديا فنادى: من أكل فليمسك، ومن لم يأكل فليصم! وفيه قتل الحسين بن علىّ (رضى الله عنهما) .   [1] راجع رواية أوفى فى نفح الطيب.. سماه «يوم الطين» . (ص 287 ج 1 طبعة ليدن) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 13- ذكر أيام أصحاب الملل الثلاث يوم الجمعة، للمسلمين. وسبب اتخاذهم له أنه اليوم الذى أتمّ الله فيه خلق العالم، وأوجد فيه أبا البشر آدم (عليه السلام) وفيه قبض، وفيه يكون النفخ فى الصّور، وفيه الصّعق، وفيه الساعة التى لا يصادفها عبد مسلم يسأل الله فيها حاجة إلا قضاها له. يوم السبت، لليهود. وحجّتهم على اتخاذهم له أن الله تعالى ابتدأ خلق العالم يوم الأحد، وفرغ منه يوم الجمعة، وأن يوم السبت يوم فراغ ودعة. ولهم فى ذلك أقوال كثيرة. يوم الأحد، للنصارى. ذكر فى سبب اتخاذهم له أن الله (سبحانه وتعالى) ابتدأ فيه بخلق الأشياء. 14- ذكر ما يتمثّل به مما فيه ذكر النهار يقال: أطول من يوم الفراق. أضوأ من نهار. أنور من وضح النهار. ويقال: يذهب يوم الهمّ ولا يشعر به. ما يوم حليمة بسرّ. من ير يوما ير به. يوم السّرور قصير. اليوم خمر وغدا أمر. اليوم عيش وغدا خيش. اليوم فعل وغدا ثواب. يوم لنا ويوم علينا. لكلّ قوم يوم. ومن أنصاف الأبيات: وهل يخفى على الناس النهار وفى اللّيالى والأيام معتبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 ومن الأبيات: واله ما أمكن يوم صالح ... إنّ يوم الشّر لا كان عتيدا! وقال آخر: أمام! لا أدرى، وإن سألت: ... ما نسك يوم جمعة من سبت. وقال آخر: وأيام! الشّرور مقصّصات ... وأيّام السّرور تطير طيرا. وقال آخر: لا تحملنّ هموم أيّام على ... يوم، لعلّك أن تقصّر عن غده. 15- ذكر شىء مما قيل فى وصف النهار وتشبيهه فمن ذلك قول شاعر، يصفه بالقصر: ويوم سرور قد تكامل وصفه ... سوى قصر، لا عيب فيه سواه! وعهدى به كالرّمح طولا، فعندما ... هززناه للهو التقى طرفاه. وقال آخر: بأبى من نعمت منه بيوم، ... لم يزل للسّرور فيه نموّ! يوم لهو، قد التقى طرفاه ... فكأنّ العشىّ فيه غدوّ. وقال آخر: لم ينتشر فلق الإصباح من؟؟؟ صر ... فيه إلى أن طواه فيلق الغسق. ولم يكن ما تقى جفنى أخى رمد ... كملتقى طرفيه: الصّبح والشّفق. وما تناولت فيه الرّطل مصطبحا ... إلا أعادته منّى كفّ مغتبق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 وقال آخر: لله يوم مسرّة ... أضوا وأقصر من ذباله! لما نصبنا للمنى ... فيه بأشراك حباله، طار النّهار مروّعا ... فيه وأجفلت الغزاله! وقال آخر: حثّ الكؤوس! فذا يوم به قصر، ... وما به من تمام الحسن تقصير. صحو وغيم، يروق الطّرف حسنهما: ... فالصّبحو فيروزج، والغيم بلّور. وقال آخر: ويوم كحلى الغانيات سلبته ... حلىّ الرّبا حتّى انثنى وهو عاطل. سبقت إليه الشمس، والشمس غضّة ... وصبغ الدّجى من مفرق الفجر ناصل. ومن كلام ابن برد الأصغر الأندلسىّ: اليوم يوم بكت أمطاره، وضحكت أزهاره؛ وتقنعت شمسه، وتعطّر نسيمه؛ وعندنا بلبل هزج، وساق غنج؛ وسلافتان: سلافة إخوان، وسلافة دنان؛ قد تشاكلتا فى الطباع، وازدوجنا فى إثارة السرور. فاخرق إلينا سرادق الدّجن تجد مرأى لم يحسن إلا لك، ولا يتم إلا بك. ومن كلامه أيضا: لم نلتق منذ عرّينا مركب اللهو، وأخلينا ربع الأنس، وقصصنا جناح الطّرب، وعبسنا فى وجوه اللذات. فإن رأيت أن تخفّ إلى مجلس قد نسخت فيه الرياحين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 بالدواوين، والمجامر بالمحابر، والأطباق، بالأوراق، وتنازع المدام، بتنازع الكلام؛ واستماع الأوتار، باستماع الأخبار؛ وسجع البلابل، بسجع الرسائل؛ كان أشحذ لذهنك، وأرشد لرأيك. 16- ذكر شىء مما وصفت به الآلات الموضوعة لمعرفة الأوقات قد وضع أهل هذا الفنّ لمعرفة درجات الليل وساعات النهار آلات، يستدلّون بها على معرفة ما مضى من ذلك وما بقى، ولتحرير المواقيت: كالاصطرلاب، والطّرجهارة والبنكام. ووصف الشعراء والفضلاء ذلك بأوصاف، نذكر منها إن شاء الله تعالى ما نقف عليه. 1- فأما الاصطرلاب وما قيل فيه. فقال أبو طالب، عبد السلام المأمونى: وشبيه بالشّمس يسترق الأن ... وار من نور جرمها فى خفاء. فتراه أدرى وأعلم منها، ... وهو فى الأرض، بالذى فى السّماء. وقال أيضا: وعالم بالغيب من غير ما ... سمع، ولا قلب، ولا ناظر! يقابل الشمس فيأتى بما ضمّنها من خبر حاضر. ... كأنها ناجته لمّا بدا لعينها بالفكر والخاطر. ... وألهمته علم ما يحتوى عليه صدر الفلك الدّائر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 وقال أبو إسحاق الصابى، وقد أهداه فى مهرجان إلى مخدومه: أهدى إليك بنو الآمال واجتهدوا ... فى مهرجان جديد أنت تبليه. لكنّ عبدك إبراهيم، حين رأى ... سمّو قدرك عن شىء يساميه. لم يرض بالأرض يهديها إليك فقد ... أهدى لك الفلك الأعلى بما فيه! وقال أبو الصلت أميّة بن عبد العزيز: أفضل ما استصحب النبيل فلا ... يعدل به فى المقام والسّفر، جرم إذا ما التمست قيمته ... جلّ عن التّبر وهو من صفر. مختصر وهو إذ تفتّشه ... عن ملح العلم غير مختصر. ذو مقلة تستنير ما رمقت ... عن صائب اللحظ صادق النّظر. تحمله وهو حامل فلكا ... لو لم يدر بالبنان لم يدر. مسكنه الأرض وهو ينبئنا ... عن جلّ ما فى السماء من خبر. أبدعه ربّ فكرة بعدت ... فى اللّطف عن أن تقاس بالفكر. فاستوجب الشّكر والثناء به ... من كلّ ذى فطنة من البشر. فهو لذى اللّبّ شاهد عجب ... على اختلاف العقول والفطر. وكتب أبو الفرج الببغاء يصف اصطرلابا أهداه فقال: آثرتك- أيدك الله- ببرهان الحكمة ونسبها، ومدار الفلسفة وقطبها؛ ومرشد الفكر ومناره، وميزان الحسن ومعياره؛ ونافى الشك ومزيله، وشاهد الأثير ودليله؛ مصوّر الحكمة وممثّلها، ومقسم البروج ومعدّلها؛ وموقف النجوم ومسيّرها، وجامع الأقاليم ومدبّرها؛ مرآة الحبك، وصورة الفلك؛ وأمين الكواكب، وحدّ المشارق والمغارب؛ مما اخترعت العقول تسطيحه، وأتقن الحسّاب تصحيحه؛ وتمارت الفطن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 فى ترتيبه، واصطلحت الحكماء على تركيبه؛ فأوضحت بالنقش تقسيمه، وأبانت بالكتابة رسومه؛ إلى أن شافهنا بالارتفاع على بعد مسافته، وحصر متفرّق الأمور فى خرقى عضادته؛ واحتوى على قطرى الشّمال والحنوب، واطلع باللطف على خفيّات الغيوب؛ الملقب بالاصطرلاب، الفاصل بين الخطإ والصواب. وقال أبو نصر الكاتب فيه: قطب الزمن ومداره، وميزان الفلك ومعياره؛ وأساس الحكمة وموضوعها، وتفصيل الفطنة ومجموعها؛ الناطق فى صمته، الموفى على نعته؛ مظهر السّر المكنون، المخبر بما كان وما يكون؛ ذو شكل مقمر مستدير، ولون مشمس مستنير؛ ومنطقة محيطة بأجزائه، وخطوط معدّلة على اعضائه؛ وكتابة مطبقة بتدويره، ورموز بائحة بضميره؛ متقابل الأهداف، متكامل الأوصاف؛ بحجرة مسكونه، وصفائح مصونه؛ وقدّ موموق، وباب مطروق؛ للعلم فتحه ورتاجه، وعليه طريقه ومنهاجه؛ إذا انتصب قال فحمد، وإذا اضطجع عيى فلم يفسد؛ صفرىّ الانتساب، ذهىّ الإهاب؛ يخترق الأنوار من نقابه، ويستخدم الشّمس فى حسابه؛ يجمع الشرق والغرب فى صفحته، ويستره الحامل فى راحته؛ رافعه ينظر من تحته، وأخباره تسند عن خرته. 2- ومما قيل فى طرجهارة. قال أبو الفتح كشاجم يصفها [1] : روح من الماء فى جسم من الصّفر ... مؤلّف بلطيف الحسّ والفكر.   [1] هى من الآلات التى تعرف بها الساعات. ولهم آلات أخرى فى هذا المعنى مثل صندوق الساعات، دبّة الساعات، الرخامة، المكحلة، اللوح (أنظر مفاتيح العلوم للخوارزمى طبع ليدن ص 235) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 له على الظّهر أجفان محجّرة ... ومقلة دمعها جار على قدر. تنشاله حركات فى أسافله ... كأنها حركات الماء فى الشّجر. وفى أعاليه حسّاب مفصّلة ... للناظرين بلا ذهن ولا نظر. إذا بكى، دار فى أحشائه فلك ... خافى المسير؛ وإن، لم يبك لم يدر. ومخرج لك بالأجزاء ألطفها ... من النهار، وقوس اللّيل فى السّحر. مترجم عن مواقيت يخبّرنا ... عنها فيوجد فيها صادق الخبر. تقضى به الخمس فى وقت الوجوب وإن ... غطّى على الشمس أو غطّى على القمر. وإن سهرت لأسباب تؤرّقنى ... عرفت مقدار ما ألقى من السّهر. محدّد كلّ ميقات، تخيّره ... ذوو التّخيّر للأسباب والسّفر. الباب الثانى من القسم الثالث من الفن الأوّل فى الشهور والأعوام نذكر فى هذا الباب الشهور العربية، واشتقاقها، والشهور العجمية، ودخول بعضها فى بعض، والسنين القمرية، والشمسية، والنسىء ومعناه، وما يجرى هذا المجرى، مما لمحناه أثناء المطالعة بعون الله تعالى وقدرته. وإياه أسأل التوفيق بكرمه ومنته!. 1- ذكر الشهور وما قيل فيها الشهر إما طبيعىّ، وإما اصطلاحىّ. فالطبيعىّ هو مدّة مسير القمر من حين يفارق الشمس إلى حين يفارقها مرة أخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 وقال آخرون: هو عود شكل القمر فى جهة بعينها إلى شكله الأوّل. وأما الاصطلاحىّ، فهو مدّة قطع الشمس مقدار برج من بروج الفلك. وذلك ثلاثون يوما، وثلث عشر يوم بالتقريب. وهذا مذهب الروم، والسريان، والفرس والقبط. والله (سبحانه وتعالى) أعلم! 2- ذكر الأشهر العربية (وما يختص بها من القول) والأشهر العربية قسمان: قسم غير مستعمل، وهو الذى وضعته العرب العاربة؛ وقسم مستعمل، وهو الذى وضعته العرب المستعربة. وكلا القسمين موضوع على الأشهر القمرية. فأما القسم غير المستعمل، فهو أسماء كانت العرب العاربة اصطلحوا عليها، وهى: مؤتمر، ناجر، خوّان، صوان (ويقال فيه: بصان) ، رنّى، أيّدة، الأصمّ، عادل، ناطل، واغل، ورنة، برك. وفى هذه الأسماء خلاف عند أهل اللغة. والذى ذكرناه منها هو المشهور، ويدل عليه قول الشاعر: بمؤتمر وناجر ابتدأنا ... وبالخوّان يتبعه البصان ورنّى ثم أيّدة تليه ... تعود أصمّ صمّ به السّنان وعادله وناطله جميعا ... وواغله فهم غرر حسان وورنة بعدها برك فتمت ... شهور الحول يعقدها البنان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 وأما القسم المستعمل، فهو هذه الأسماء المشهورة: المحرّم، صفر، الربيعان، الجماديان، رجب، شعبان، رمضان، شوّال، ذو القعدة،. ذو الحجّة. قيل: وإنما وضعوا هذه الأسماء على هذه الشهور لاتفاق حالات وقعت فى كل شهر، فسمى الشهر بها عند ابتداء الوضع. فسموا المحرّم محرّما: لأنهم أغاروا فيه فلم ينجحوا، فحرّموا القتال فيه، فسمّوه محرّما. وسموا صفرا: لصفر بيوتهم فيه منهم عند خروجهم إلى الغارات. وقيل: لأنهم كانوا يغيرون على الصّفريّة، وهى بلاد. وشهرا ربيع: لأنهم كانوا يخصبون فيهما بما أصابوا فى صفر، والربيع الخصب. والجماديان: من جمد الماء، لأن الوقت الذى سميا فيه بهذه التسمية كان الماء جامدا فيه لبرده. ورجب: لتعظيمهم له. والترجيب التعظيم. وقيل: لأنه وسط السنة فهو مشتق من الرواجب، وهى أنامل الأصبع الوسطى. وقيل: إن العود رجب النبات فيه أى أخرجه، فسمى بذلك. وكذلك تشعّب العود فى الشهر الذى يليه، فسمى شعبان. وقيل: سمى بذلك لتشعبهم فيه للغارات. وسمى رمضان، أى شهر الحر. مشتق من الرمضاء. وشوّال، من شالت الإبل أذنابها إذا حالت، أو من شال يشول إذا ارتفع. وذو القعدة: لقعودهم فيه عن القتال إذ هو من الأشهر الحرم. وذو الحجة، لأن الحج اتفق فيه، فسمى به. ويقال إن أوّل من سماها بهذه الأسماء، كلاب بن مرّة. ومن مجموع هذه الأشهر أربعة حرم، ثلاثة سرد، وهى: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم؛ وواحد فرد، وهو رجب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 هذا ما رواه الأصمعىّ عن العرب فى ترتيب الأشهر الحرم. واختار غيره أن الواحد الفرد هو المحرّم؛ والسرد رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، لتكون الأربعة أشهر فى سنة واحدة. وهذا مروى عن ابن عباس رضى الله عنهما. ومنها أربعة أشهر لا تكاد العرب تنطق بها إلا مضافة، وهى: شهرا ربيع، وشهر رجب، وشهر رمضان [1] . فهذه الشهور العربية وما قيل فيها. 3- وأما شهور اليهود فأسماؤها: تشرى، مرحشوان، كسلاو، طابات، شباط، آذار، نيسان، أيّار، سيوان، تموز، آب، أيلول. 4- وأما الشهور العجمية فإنها شمسية. وهى أقسام، بحسب الأمم التى تنسب إليهم. فمنها الشهور القبطية، وتنسب لدقلطيانوس. وكل شهر منها ثلاثون يوما. وما فضل من عدد أيام السنة الشمسية جعلوه كبيسا فى آخر شهر منها، وهى: توت، بابه، هاتور، كيهك، طوبه، أمشير، برمهات، برموده، بشنس، بؤونه، أبيب، مسرى. وأوّل توت يكون النوروز. وفى أوّل يوم من كيهك تدخل الأربعينيات، وهى أربعون يوما باردة تؤذن بالشتاء. وفى الرابع من برمودة تدخل الخمسينيات، وهى أيام حارّة تؤذن بالصيف.   [1] أى لا يقال: ربيع الأوّل، ربيع الثانى، رجب، رمضان. بل يضيفون الى كل منها لفظة «شهر» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 ومنها شهور السريان والروم. وهما متفقان فى العدد والدّخول. والسريانيون ينسبون شهورهم لأغسطش [1] ، وهو قيصر. وهذه الشهور منها ما ينقص عن الثلاثين، ومنها ما يوفيها، ومنها ما يزيد عليها. وفيها يقول الكيزانىّ: شهور الروم ألوان: ... زيادات ونقصان. فتشرينهم الثانى، ... وأيلول ونيسان. ثلاثون، ثلاثون، ... سواء، وحزيران. وأشباط ثمان بع ... د عشرين له شان. والسبعة التى تركها، كل شهر منها يزيد يوما. ووضع لها بعض المغاربة ضابطا، وهو حروف معجمة ومهملة يجمعها فى أربع كلمات، وهى: «فاز رجل ختم بحجّ» . وجمعها آخر فى مثل ذلك فقال: «غاب عنك زيد فحجّ» . فما كان معجما فهو أحد وثلاثون يوما، وما كان مهملا فهو ثلاثون، والشهر الموافق للألف ثمانية وعشرون. وأوّل سنة السريان تشرين الأوّل. ودخوله رابع بابه، ويوافق أكتوبر من شهور الروم، وهو أحد وثلاثون يوما؛ ثم تشرين الثانى، ودخوله فى الخامس من هتور، ويوافقه نومبر [2] من شهور الروم، وهو ثلاثون يوما؛ ثم كانون الأوّل، ودخوله فى الخامس من كيهك، ويوافقه دچنبر [3] من شهور الروم، وهو أحد وثلاثون يوما؛   [1] هو القيصر الرومانى المشهور، نقلا عن اللاتينية.Augustus ولكن العرب حينما عربوا الشهر المعروف باسمه اكتفوا بقولهم أغشت) August (للتمييز بين اللفظين. وأما نحن فى هذه الأيام فقد تركنا هذا الفارق ونقول فى تسمية هذا الشهر «أغسطس» أيضا. [2] NovemBRe ونقول فى مصر الآن نومبر. [3] DeeemBRe ونقول فى مصر الآن ديسمبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 ثم كانون الثانى، ودخوله فى السادس من طوبه، ويوافقه ينير [1] من شهور الروم، وهو أوّل سنتهم، وعدد أيامه أحد وثلاثون يوما؛ ثم شباط، ودخوله فى السابع من أمشير ويوافقه فبرير [2] من شهور الروم، وهو ثمانية وعشرون يوما وربع يوم؛ ثم آذار، ودخوله فى الخامس من برمهات، ويوافقه مارس من شهور الروم، وهو أحد وثلاثون يوما؛ ثم نيسان، ودخوله فى السادس من برمودة، ويوافقه أبريل من شهور الروم، وهو ثلاثون يوما؛ ثم أيّار، ودخوله فى السادس من بشنس، ويوافقه مايه من شهور الروم، وهو أحد وثلاثون يوما؛ ثم حزيران، ودخوله فى السابع من بؤونة، ويوافقه يونيه من شهور الروم، وهو ثلاثون يوما؛ ثم تموز، ودخوله فى السابع من أبيب، ويوافقه يوليه من شهور الروم، وهو أحد وثلاثون يوما؛ ثم آب، ودخوله فى الثامن من مسرى، ويوافقه أغشت [3] من شهور الروم، وهو أحد وثلاثون يوما؛ ثم أيلول، ودخوله فى الرابع من توت، ويوافقه ستنبر [4] من شهور الروم، وهو ثلاثون يوما. ونظم بعض الشعراء أرجوزة فى مداخلة الشهور، فقال: وإن حفظت أشهر السّريان ... وكنت من ذاك على بيان. ورمت منها عمل المنازل ... فإنها معلومة التداخل.   [1] JaNvieR ونقول في مصر الآن يناير. (وقد كان عربه المرحوم رفاعه بك بقوله: «ينويه» ) غير ان هذا الاصطلاح لم يعمل به. [2] FevRieR ونقول فى مصر الآن فبراير (مع الإشباع) . [3] أنظر حاشية رقم (1) من صفحة 160 [4] نقول الآن فى مصر «سبتمبر» مجاراة للنطق الفرنسى الحديث SePtemBRe.على انهم يقولون «ست» عند ما يريدون السبعة SePt بإهمال حرف الباء، فاذا أرادوا السبعين لفظوا بالباء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 أيلول يبدو رابعا من توت ... هذا بحكم النظر المثبوت. وهكذا تشرين وهو الأوّل ... من بابة أربعة تكمل. أوّل تشرين الأخير يدخل ... ومن هتور خمسة يا رجل. أوّل كانون وأعنى الأوّلا ... وخامس من كيهك تعدّلا. أوّل كانون الأخير سادس ... من طوبة فيها يقيس القائس. ومن شباط أوّل يوافى ... سابع أمشير بلا خلاف. أوّل آذار حساب صادق ... من برمهات خامسا يوافق. برمودة سادسه وأوّل ... نيسان وفق ليس عنه معدل. أوّل أيّار بغير لبس ... يوافق السادس من بشنس. بؤونة وافق منه سابعه ... أوّل حزيران لما يتابعه. أوّل تموز على الترتيب ... يدخل فى السامع من أبيب. أوّل آب ثامن من مسرى، ... العلم بالمرء اللبيب أحرى. وقال بعض الشعراء فى مثل ذلك: متى تشأ معرفة التداخل ... من أوّل الشهور فى المنازل. فعدّ من توت بلا تطويل ... أربعة فهى ابتدا أيلول. وبابة كذاك من تشرين ... الأوّل السابق فى السّنين. والخامس المعدود من هاتور ... أوّل تشرينهم الأخير. أوّل كانون بغير دلسه ... إذا نقصت من كيهك خمسه. وطوبة إن مرّ منه ستّة ... أتاك كانون الأخير بغته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 ومن شباط أوّل يوافق ... سابع أمشير، حساب صادق. أوّل آذار إذا جعلته ... لبرمهات خامسا وجدته. أوّل نيسان لدى التجريد ... السادس المعدود من برمود. ومثله أيّار مع بشنس ... واحدة مقرونة بخمس. أما حزيران فيحسبونه ... من أوّل السابع من بؤونه. كذلك السابع من أبيب ... أوّل تموز بلا تكذيب. أوّل آب عند من يحصّل ... ثامن مسرى ذاك ما لا يجهل. وأما شهور الفرس، فهى موافقة لشهور القبط فى العدد. لأن كل شهر منها ثلاثون يوما، إلا أبان ماه، وهو الشهر الثامن، فإنهم يصيفون إليه خمسة أيام لأجل النسىء، ويسمونها الاندركاه. ولكل يوم من أيام الشهر اسم خاص، يزعمون أنه اسم ملك من الملائكة موكل به. فأسماء المشهور منها: افريدون ماه (وهو رأس سنتهم) ، أرديهشت ماه، حرداد ماه، تير ماه، ترد ماه، برماه، مهر ماه، أبان ماه، ادر ماه، دى ماه، بهمن ماه، اسفندار ماه. ويعنون بقولهم «ماه» القمر. المثل- قول بعض الشعراء: شهور ينقضين وما شعرنا ... بأنصاف لهنّ ولا سرار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 5- ذكر ما يختص بالسنة من القول وما جاء من اختلاف الأمم فى ابتدائها وانتهائها، والفرق بين السنة والعام أما الفرق بين السنة والعام، فإنهم يقولون «سنة جدب» و «عام خصب» . قال الله تعالى: (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ) . وقال تعالى: (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) . والصحيح أنهما اسمان موضوعان على مسمّى واحد. قال الله تعالى: (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) . والسنة طبيعية، واصطلاحية. فالطبيعية قمرية؛ وأوّلها استهلال القمر فى غرّة المحرّم، وانسلاخها بسراره فى ذى الحجة. وهى اثنا عشر شهرا، وعدد أيامها ثلاثمائة يوم وأربعة وخمسون يوما وخمس وسدس يوما تقريبا؛ ويتم من هذا الخمس والسدس فى ثلاث سنين يوم، فتصير السنة فى الثالثة ثلاثمائة وخمسة وخمسين يوما. ويبقى شىء يتم منه ومن خمس اليوم وسدسه المستأنف فى السنة يوم واحد إلى أن يبقى الكسر أصلا بأحد عشر يوما عند تمام ثلاثين سنة. وتسمّى تلك السنين كبائس العرب. وأما السّنة الاصطلاحية فإنها شمسيّة، وعدد أيامها عند سائر الأمم ثلاثمائة يوم وخمسة وستون يوما وربع يوم. فتكون زيادتها على السنة العربية عشرة أيام ونصف يوم وربع يوم وثمن يوم وخمسا من خمس يوم. ويقال: إنهم كانوا فى صدر الإسلام يسقطون عند رأس كل اثنتين وثلاثين سنة عربية سنة، ويسمونها الازدلاف. لأن كل ثلاث وثلاثين سنة قمرية اثنتان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 وثلاثون سنة شمسية تقريبا. وذلك لتحرزهم من الوقوع فى النسىء الذى أخبر الله عز وجل أنه زيادة فى الكفر. وهذا الازدلاف هو الذى نسميه فى عصرنا هذا بين كتاب التصرف «التحويل» . لأنا نحوّل السنة الخراجية إلى الهلالية، ولا يكون ذلك إلا بأمر السلطان. وسنة العالم- على ما اتفق عليه المنجمون- هى من حين حلول الشمس رأس الحمل، وهو الاعتدال الربيعىّ. ومنهم من يجعل أوّلها من حين حلول الشمس رأس الميزان، وهو الاعتدال الخريفىّ. وابتداء سنة القبط قطع الشمس اثنتى عشرة درجة من السنبلة، وابتدؤا بفعل ذلك فى زمن أغسطش، وهو قيصر الأوّل على ما ذكره أصحاب الزيجات. وأما الفرس، فأوّل سنتهم عند حلول الشمس أوّل نقطة من الحمل [1] . وأما السّريانيون، فأوّل سنتهم عند قطع الشمس من الميزان ستّ عشرة درجة. 6- ذكر النسىء ومذهب العرب فيه يقال إن عمرو بن لحىّ، وهو خزاعة- ويقال اسمه عمرو بن عامر الخزاعىّ- هو أوّل من نسأ الشهور، وبحر البحيرة، وسيّب السائبة، وجعل الوصيلة، والحامى. وهو أوّل من دعا الناس إلى عبادة هبل، قدم به معه من هيت. ومعنى النسىء أنهم ينسئون المحرم إلى صفر، ورجب إلى شعبان.   [1] وهذا اليوم هو عيد نيروزهم إلى الآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 وكان جملة ما يعتقدونه من الدّين تعظيم الأشهر الحرم الأربعة، وكانوا يتحرّجون فيها من القتال. وكانت قبائل منهم يستبيحونها فإذا قاتلوا فى شهر حرام، حرموا مكانه شهرا من أشهر الحلّ، ويقولون نسئ الشهر. وحكى ابن إسحاق صاحب السيرة النبوية (على صاحبها أفضل الصلاة والسلام) أن أوّل من نسأ الشهور على العرب، وأحلّ منها ما أحلّ، وحرّم ما حرّم، القلمّس. وهو حذيفة بن فقيم بن عامر بن الحرث بن مالك بن كنانة بن خزيمة. ثم قام بعده ولده عباد، ثم قام بعد عباد ابنه قلع، ثم قام بعد قلع ابنه أمية، ثم قام بعد أمية ابنه عوف، ثم قام بعد عوف ابنه أبو ثمامة جنادة، وعليه ظهر الإسلام. فكانت العرب إذا فرغت من حجها، اجتمعت عليه بمنى، فقام فيها على جمل، وقال بأعلى صوته: «اللهم إنى لا أخاف ولا [1] أعاف، ولا مردّ لما قضيت! اللهم إنى أحللت شهر كذا (ويذكر شهرا من الأشهر الحرم، وقع اتفاقهم على شنّ الغارات فيه) وأنسأته إلى العام القابل (أى أخرت تحريمه) وحرمت مكانه شهر كذا من الأشهر البواقى!» وكانوا يحلون ما أحلّ، ويحرّمون ما حرّم. وفى ذلك يقول عمرو بن قيس بن جذل الطّعان، من أبيات يفتخر: ألسنا الناسئين على معدّ ... شهور الحلّ، نجعلها حراما؟ وحكى السهيلىّ فى كتابه المترجم «بالروض الأنف» أن نسىء العرب كان على ضربين: أحدهما تأخير المحرّم إلى صفر لحاجاتهم إلى شنّ الغارات وطلب الثأر، والثانى تأخير الحج عن وقته تحرّيا منهم للسنة الشمسية. فكانوا يؤخرونه فى كل عام   [1] فى اللسان: «أنا الذى لا أعاب ولا أجاب ولا يرد لى قضاء» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 أحد عشر يوما حتّى يدور الدّور فى ثلاث وثلاثين سنة فيعود إلى وقته. فلما كانت السنة التاسعة من الهجرة، حج بالناس أبو بكر الصدّيق (رضى الله عنه) فوافق حجه فى ذى القعدة، ثم حج رسول الله (صلى الله عليه وسلم فى العام القابل فوافق عود الحج إلى وقته فى ذى الحجة كما وضع أوّلا. فلما قضى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حجه، خطب فكان مما قال فى خطبته (صلى الله عليه وسلم) : «إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض» . يعنى أن الحج قد عاد فى ذى الحجة. 7- ذكر السنين التى يضرب بها المثل يضرب المثل: بعام الجراد. كان سنة ثمان من الهجرة. عام الحزن. وهى السنة التى مات فيها أبو طالب عم النبىّ (صلى الله عليه وسلم) وخديجة (رضى الله عنها) وهى سنة عشر من الهجرة، وكان موتها بعده بثلاثة أيام وقيل بسبعة. عام الرّمادة. كان سنة ثمانى عشرة من الهجرة، فى خلافة عمر بن الخطاب (رضى الله عنه) . أصاب الناس فيه قحطّ حتّى صارت وجوههم فى لون الرماد من الجوع. وقيل: كانت الريح تسفى ترابا كالرّماد لشدّة يبس الأرض، على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى فى «التاريخ» . عام الرّعاف. كان سنة أربع وعشرين من الهجرة، سمى بذلك لكثرة ما أصاب الناس فيه من الرّعاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 عام الجماعة. كان سنة أربعين من الهجرة. فيه سلّم الحسن بن علىّ (رضى الله عنهما) الخلافة لمعاوية، فاجتمعت الكلمة فيه. عام الجحاف. كان سنة ثمانين من الهجرة، وقع بمكة سيل عظيم ذهب بالإبل وعليها الحمول. عام الفقهاء. وهو سنة أربع وتسعين من الهجرة. فيها مات علىّ بن الحسين زين العابدين، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن أبى بكر الصدّيق (رضى الله عنهم) وسعيد بن المسيّب، وعروة بن الزبير، وعطاء بن يسار، وسعيد بن زيد بن ثابت. وفيه قتل الحجاج بن يوسف الثقفىّ سعيد بن جبير. سنيّات خالد. يضرب بها المثل فى الجدب. وهو خالد بن عبد الملك بن الحارث المعروف بأبى مطير. كان قد تولّى لهشام بن عبد الملك المدينة سبع سنين توالى القحط فيها حتّى أجلى أهل البوادى. سنة عشر ومائة. مات فيها قرينان فى الزهد: الحسن البصرى ومحمد بن سيرين، وقرينان فى الشعر: جرير والفرزدق. سنة ست وخمسين وثلاثمائة. مات فيها جماعة من الملوك، وهم: شمكير بن زياد صاحب طبرستان وجرجان، ومعز الدّولة بن بويه، وكافور الأخشيدىّ صاحب مصر، ويقفور ملك الروم، وأبو علىّ محمد بن إلياس صاحب كرمان، وسيف الدّولة ابن حمدان ممدوح المتنبى، والحسن بن فيرزان صاحب أذربيجان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 الباب الثالث من القسم الثالث من الفن الأوّل 1- فى الفصول وأزمنتها وفصول السنة أربعة: الربيع، والصيف، والخريف، والشتاء. ولكل فصل منها ثلاثة بروج، وثلاثة أشهر، وسبع منازل، وموافقة من الطبائع الأربع. 1- فأما فصل الربيع، وهو عند العرب الصيف، فطبعه حارّ رطب. ودخوله عند حلول الشمس برج الحمل، والثور، والجوزاء. وهذه البروج عندهم تدل على الحركة. وله من السن الطفوليّة والحداثة، ومن الرياح الجنوب، ومن الساعات الأولى والثانية والثالثة، ومن القوى القوّة الجاذبة، ومن الأخلاط الدّم، ومن الكواكب القمر والزّهرة، ومن المنازل بعض الفرغ المقدّم والفرغ المؤخر، والرشاء، والسّرطان، والبطين، والثّريّا، والدّبران، وبعض الهقعة. وعدد أيامه أربعة وتسعون يوما. وحلول الشمس [1] فى الثانى عشر من آذار، ويوافقه مارس من شهور الروم، وفى السادس عشر من برمهات من شهور القبط، وفى العشرين من اسفندار ماه من شهور الفرس. وإذا حلت الشمس برج الحمل، اعتدل الليل والنهار، وصار كل واحد منهما اثنتى عشرة ساعة. ثم يأخذ النهار فى الزيادة، والليل فى النقصان. وفى هذا الفصل تتحرّك الطبائع، وتظهر الموادّ المتولدة فى الشتاء. فيطلع النبات وتزهر الأشجار وتورق، ويهيج الحيوان للسّفاد، وتذوب الثلوج، وتنبع العيون، وتسيل الأودية.   [1] أى برج الحمل الذى هو أول فصل الربيع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 ذكر ما قيل فى وصف فصل الربيع وتشبيهه نظما ونثرا. فمن ذلك ما قاله الصنوبرىّ: ما الدّهر إلّا الرّبيع المستنير إذا ... جاء الرّبيع، أتاك النّور والنّور. فالأرض ياقوتة، والجوّ لؤلؤة، ... والنّبت فيروزج، والماء بلّور. وقال آخر: اشرب هنيئا قد أتاك زمان ... متعطّر، متهلّل، نشوان! فالأرض وشى، والنّسيم معنبر، ... والماء راح، والطّيور قيان. وقال الثعالبىّ: أظنّ الرّبيع العام قد جاء زائرا ... ففى الشّمس بزّازا، وفى الرّيح عطّارا. وما العيش إلا أن تواجه وجهه ... وتقضى بين الوشى والمسك أوطارا. وقال آخر: وفصّل فصل الربيع الرياض ... عقودا ورصّع منها حليّا. وفاخر بالأرض أفق السّماء ... فحلّى الثّرى بنجوم الثّريّا. وقال الحسن بن وهب: طلعت أوائل للرّبيع فبشّرت ... نور الرّياض بجدّة وشباب! وغدا السحاب يكاد يسحب فى الثّرى ... أذيال أسحم حالك الجلباب. فترى السّماء إذا أجدّ ربابها ... فكأنّما التحفت جناح غراب. وترى الغصون إذا الرّياح تناوحت ... ملتفّة كتعانق الأحباب. وقال بعض فضلاء أصفهان فى وصف فصل الربيع من رسالة ذكرها العماد الأصفهانىّ فى الخريدة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 أما بعد. فإن الزمان جسد وفصل الربيع روحه، وسرّ حكمة إلهية وبه كشفه ووضوحه؛ وعمر مقدور وهو الشبيبة فيه، ومنهل جمّ وهو نميره وصافيه؛ ودوحة خضرة وهو ينعها وجناها، وألفاظ مجموعة وهو نتيجتها ومعناها؛ فمن لم يستهو طباعه نسيم هوائه، ولم يدرك شفاء دائه فى صفاء دوائه؛ لم يذق لطعم حياته نفعا، ولم يجد لخفض حظه من أيامه رفعا. 2- وأما فصل الصيف، فإن طبيعته الحرارة واليبس، ودخوله عند حلول الشمس برج السرطان، والأسد، والسنبلة. وهذه البروج تدل على السكون. وله من السنّ الشباب؛ ومن الرياح الصبا؛ ومن الساعات الرابعة والخامسة والسادسة؛ ومن القوى القوّة الماسكة؛ ومن الأخلاط المرّة الصفراء؛ ومن الكواكب المرّيخ، والشمس؛ ومن المنازل بعض الهقعة، والهنعة، والذراع، والنّثرة والطّرف والجبهة (وهى أربعة عشر يوما) والخراتان وبعض الصّرفة. وتنزل الشمس فى برج السرطان فى الرابع عشر من حزيران. وعدد أيامه ثلاثة وتسعون يوما، ويوافقه ينير من شهور الروم؛ وفى العشرين من بؤونه، وإذا حلت الشمس برج السرطان، أخذ الليل فى الزيادة، والنهار فى النقصان. والله أعلم. ذكر ما قيل فى وصف فصل الصيف وتشبيهه نظما ونثرا فمن ذلك ما قاله ذو الرمّة: وهاجرة حرّها واقد ... نصبت لحاجبها حاجبى. تلوذ من الشمس أطلاؤها ... لياذ الغريم من الطّالب. وتسجد للشمس حرباؤها ... كما يسجد القسّ للرّاهب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 وقال مسكين الدّارمىّ. وهاجرة ظلّت كأنّ ظباءها ... إذا ما اتّقتها بالقرون سجود. تلوذ بسؤبوب من الشمس فوقها ... كما لاذ من حرّ السّنان طريد. وقال ابن الفقيسىّ: فى زمان يشوى الوجوه بحرّ، ... ويذيب الجسوم لو كنّ صخرا. لا تطير النّسور فيه إذا ما ... وقفت شمسه وقارب ظهرا. ويودّ الغصن النّضير به لو ... أنّه من لحائه يتعرّى. وقال أيضا: يا ليلة بتّ بها ساهدا ... من شدّة الحرّ وفرط الأوار. كأننى فى جنحها محرم ... لو أنّ للعورة منّى استتار. وكيف لا أحرم فى ليلة ... سماؤها بالشّهب ترمى الجمار؟ وقال آخر: ويوم سموم خلت أنّ نسيمه ... ذوات سموم للقلوب لوادغ، ظللت به أشكو مكابدة الهوى ... فكوزى ملآن ومائى فارغ. وقال محمد بن أبى الثياب، شاعر اليتيمة: وهاجرة تشوى الوجوه كأنّها ... إذا لفحت خدّىّ نار توهجّ. وماء كلون الزيت ملح كأنّه ... بوجدى يغلى أو بهجرك يمزج. وقال الثعالبىّ: ربّ يوم هواؤه يتلظّى ... فيحاكى فؤاد صبّ متيّم. قلت إذ صكّ حرّه حرّ وجهى: ... «ربّنا اصرف عنّا عذاب جهنّم» ! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 ومما وصف به من النثر قول بعضهم: أوقدت الظّهيرة نارها، وأذكت أوارها؛ فأذابت دماغ الضب، وألهبت قلب الصب؛ هاجرة كأنها من قلوب العشّاق، إذا اشتعلت بنيران الفراق؛ حرّ تهرب له الحرباء من الشمس، وتستجير بمتراكب الرمس؛ لا يطيب معه عيش، ولا ينفع معه سرج [1] ولا خيش؛ فهو كقلب المهجور، أو كالتنور المسجور. 3- وأما فصل الخريف- فإن طبعه بارد يابس؛ ودخوله عند حلول الشمس برأس الميزان والعقرب والقوس. وهذه البروج تدل على الحركة؛ وله من السن الكهولة؛ ومن الرياح الشّمال؛ ومن الساعات السابعة والثامنة والتاسعة؛ ومن القوى القوّة الهاضمة؛ ومن الأخلاط المرّة السوداء؛ ومن الكواكب زحل؛ ومن المنازل بعض الصّرفة والعوّاء والسّماك والغفر والزّبانيان والقلب وبعض الشولة؛ وعدد أيامه تسعة وثمانون يوما؛ ويكون حلول الشمس الميزان فى الخامس عشر من أيلول، ويوافقه ستمبر من شهور الروم، وفى الثامن عشر من توت. وفى هذا الفصل يبرد الهواء، ويتغير الزمان، وتصرم الثمار، ويغيّر وجه الأرض، ويصفرّ ورق الشجر، وتهزل البهائم، وتموت الهوامّ، وتنجحر الحشرات، وتطلب الطير المواضع الدّفئة، وتصير الدّنيا كأنها كهلة مدبرة. ويقال: فصل الخريف ربيع النفس كما أن فصل الربيع ربيع العين. والله أعلم.   [1] هكذا بالأصل وفى صبح الأعشى ثلج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 ذكر ما قيل فى وصف فصل الخريف وتشبيهه نظما ونثرا. فمن ذلك ما قاله الصنوبرىّ، عفا الله عنه: ما قضى فى الربيع حقّ المسرّا ... ت مضيع زمانه فى الخريف. نحن منه على تلقّى شتاء ... يوجب القصف أو وداع مضيف. فى قميص من الزمان رقيق ... ورداء من الهواء خفيف. يرعد الماء منه خوفا إذا ما ... لمسته يد النّسيم الضّعيف. وقال عبد الله بن المعتز: طاب شرب الصّبوح فى أيلول! ... برد الظلّ فى الضّحى والأصيل! وخبت جمرة الهواجر عنّا، ... واسترحنا من النهار الطّويل. وخرجنا من السّموم إلى بر ... د نسيم، وطيب ظلّ ظليل، وشمال تبشّر الأرض بالقط ... ر كذيل الغلالة المبلول. فكأنّا نزداد قربا الى الجن ... ة فى كلّ شارق وأصيل. ووجوه البقاع تنتظر الغي ... ث انتظار المحبّ ردّ الرّسول. تبتغى غلّة لتعمل روضا ... بكثير من الحبا أو قليل. وقال آخر: اشرب على طيب الزمان فقد حدا ... بالصّيف من أيلول أسرع حاد. وأشمّنا باللّيل برد نسيمه ... فارتاحت الأرواح فى الأجساد. وأفاك بالأنداء قدّام الحيا ... فالأرض للأمطار فى استعداد. كم فى ضمائر تربها من روضة ... بمسيل ماء أو قرارة واد. تبدو إذا جاد السّحاب بقطره ... فكأنما كانا على ميعاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 وقال آخر: لا تصغ للّوم إنّ اللّوم تضليل ... واشرب ففى الشّرب للأحزان تحليل. فقد مضى القيظ واجتثّت رواحله، ... وطابت الرّاح لما آل أيلول. وليس فى الأرض نبت يشتكى رمدا ... إلا وناظره بالطّلّ مكحول. وقال آخر يذمّه: خذ بالتّدثّر فى الخريف فإنّه ... مستوبل، ونسيمه خطّاف. يجرى مع الأيّام جرى نفاقها ... لصديقها «ومن الصّديق يخاف» ! ومما وصف به من النثر: قال أبو إسحاق الصابى يصفه: الخريف أصح فصول السنة زمانا، وأسهلها أوانا؛ وهو أحد الاعتدالين، المتوسطين بين الانقلابين، حين أبدت الأرض عن ثمرتها، وصرّحت عن زينتها؛ وأطلقت السماء حوافل أنوائها، وتأذّنت بانسكاب مائها؛ وصارت الموارد، كمتون المبارد؛ صفاء من كدرها، وتهذّبا من عكرها؛ واطّرادا مع نفحات الهواء، وحركات الريح الشّجواء؛ واكتست الماشية وبرها القشيب، والطائر ريشه العجيب. وقال ابن شبل: كلّ ما يظهر فى الربيع نوّاره، ففى الخريف تجتنى ثماره؛ فهو الحاجب أمامه، والمطرق قدّامه. وقال ضياء الدّين ابن الأثير الجزرىّ عن الخريف يفتخر على فصل الربيع: أنا الذى آتى بذهاب السّموم، وإياب الغيوم، واعتصار بنات الكروم، وتكاثر ألوان المشروب والمطعوم؛ وفىّ يترقرق صفاء الأنهار، فتشتبه القوابل بالأسحار، وأيامى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 هى الذهبيات وتلك نسبة كريمة النّجار؛ ومن ثمراتى ما لا تزال أمّهاته حوامل، وأوراقه نواضر وغيرها ذوابل، وقد شبه بالمصابيح وشبهت أغصانه بالسلاسل. ولقد أنصف من قال: محاسن للخريف بهنّ فخر ... على زمن الربيع، وأىّ فخر! به صار الزّمان أمام برد ... يراقب نزحه وعقيب حرّ. 4- وأما فصل الشتاء، فإن طبعه بارد رطب، ودخوله عند حلول الشمس رأس الجدى والدّلو والحوت. وهذه البروج تدل على السكون. وله من السنّ الشيخوخة؛ ومن الرياح الدّبور؛ ومن الساعات العاشرة والحادية عشرة والثانية عشرة؛ ومن القوى القوّة الدّافعة؛ ومن الاخلاط البلغم؛ ومن الكواكب المشترى وعطارد؛ ومن المنازل بعض الشولة والنعائم والبلدة وسعد الذابح وسعد بلع وسعد السعود وسعد الأخبية وبعض الفرغ المقدّم؛ وعدد أيامه تسعة وثمانون يوما. ويكون حلول الشمس برأس الجدى فى الثالث عشر من كانون الأوّل، ويوافقه دچنبر من شهور الروم؛ وفى السابع عشر من كيهك من شهور القبط. وإذا حلت الشمس ببرج الجدى يشتدّ البرد، ويخشن الهواء، ويتساقط ورق الشجر، وتنجحر الحيوانات، وتضعف قوى الأبدان، وتكثر الأنواء، ويظلم الجوّ، وتصير الدّنيا كأنها عجوز هرمة قد دنا منها الموت. وروى عن علىّ (رضى الله عنه) أنه قال: «توقّوا البرد فى أوّله، وتلقّوه فى آخره، فإنه يفعل فى الأبدان كفعله فى الأشجار: أوّله يحرق، وآخره يورق» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 ذكر ما قيل فى وصف فصل الشتاء وتشبيهه. فمن ذلك ما قاله جرير شاعر الحماسة: فى ليلة من جمادى ذات أندية ... لا يبصر الكلب فى ظلمائها الطّنبا. لا ينبح الكلب فيها غير واحدة ... حتّى يلفّ على خيشومه الذّنبا. وقال ابن حكينا البغدادىّ: البس إذا قدم الشّتاء برودا ... وافرش على رغم الحصير لبودا. الرّيق فى اللهوات أصبح جامدا ... والدّمع فى الآماق صار برودا. وإذا رميت بفضل كأسك فى الهوا ... عادت عليك من العقيق عقودا. وترى على برد المياه طيورها ... تختار حرّ النّار والسّفّودا. يا صاحب العودين لا تهملهما ... أوقد لنا عودا، وحرّك عودا! وقال آخر: ويومنا أرواحه قرّة ... تخمّش الأبدان من قرصها. يوم تودّ الشمس من برده ... لو جرّت النّار إلى قرصها! وقال عبد الله بن المعتزّ: قد منع الماء من اللّمس ... وأمكن الجمر من المسّ. فليس نلقى غير ذى رعدة، ... ومسلم يسجد للشّمس! وقال آخر: ليس عندى من آلة البرد إلّا ... حسن صبرى، ورعدتى، وقنوعى. فكأنّى لشدّة البرد هرّ ... يرقب الشّمس فى أوان الطّلوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 وقال ابن سكّرة الهاشمىّ، عفا الله تعالى عنه ورحمه: قيل: ما أعددت للبر ... د وقد جاء بشدّه؟ قلت: درّاعة برد ... تحتها جبّة رعده. وقال أبو سعيد المخزومىّ: إذا كنت فى بلدة نازلا ... وحلّ الشّتاء حلول المقيم، فلا تبرزنّ إلى أن ترى ... من الصّحو يوما صحيح الأديم. فكم زلقة فى حواشى الطريق ... تردّ الثياب بخزى عظيم! وكم من لئيم غدا راكبا ... يحبّ البلاء لماش كريم! وقال الصاحب بن عبّاد: أنّى ركبت فكفّ الأرض كاتبة ... على ثيابى سطورا ليس تنكتم. فالأرض محبرة، والحبر من لثق ... والطّرس ثوبى، ويمنى الأشهب القلم. قال أبو علىّ كاتب بكر شاعر اليتيمة: يا بلدة أسلمنى بردها ... وبرد من يسكنها للقلق. لا يسلم الشّاتى بها من أذى ... من لثق، أو دمق، أو زلق. ومما وصف به نثرا قول بعضهم: إذا حلّت الشمس برج الجدى مدّ الشتاء رواقه، وحلّ نطاقه؛ ودبّت عقارب البرد لاسبه، ونفع مدخور الكسب كاسبه. ومن رسالة لابن أبى الخصال، جاء منها: الكلب قد صافح خيشومه ذنبه، وأنكر البيت وطنبه؛ والتوى التواء الحباب، واستدار استدارة الغراب؛ وجلده الجليد، وضربه الضّريب وصعّد أنفاسه الصعيد؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 فحماه مباح، ولا هرير له ولا نباح؛ والنار كالصّديق، أو كالرّحيق؛ كلاهما عنقاء مغرب، أو نجم مغرّب. وقال بعضهم: برد بغير الألوان، وينشّف الأبدان؛ ويجمّد الريق فى الأشداق، والدّمع فى الآماق؛ برد حال بين الكلب وهريره، والأسد وزئيره، والطير وصفيره، والماء وخريره. وقيل لبعضهم: أىّ البرد أشدّ؟ فقال: إذا دمعت العينان، وقطر المنخران، وتلجلج اللسان، واصطكّت الأسنان. ووصف ابن وكيع الفصول الأربعة فى أرجوزة فقال: عندى فى وصف الفصول الأربعه ... مقالة تغنى اللّبيب مقنعه. ذكر ما قيل فى فصل الصيف أمّا المصيف، فاستمع ما فيه ... من فطن يفهم سامعيه. فصل من الدّهر إذا قيل حضر، ... أذكرنا بحرّه نار سقر. يظلّ فيه القلب مقشعرّا، ... والأرض تشكو حرّه المضرّا. أوّله فيه ندى منغّص ... كأنه على القلوب يقنص. يلصق منه الجلد بالثّياب ... ويعلق التّراب بالأثواب. حتّى إذا ما طردته الشمس ... وفرحت بأن يزول النّفس. فتّحت النّار لنا أبوابها ... وشبّ فيها مالك شهابها. حرّ يحيل الأوجه الغرّانا ... حتّى ترى الروم به حبشانا. يعلو به الكرب ويشتدّ القلق ... وتنضح الأبدان فيه بالعرق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 تبصره فوق القميص قد علا ... حتّى ترى مبيضّه مصندلا. إن كان رثّا، زاد فى تمزيقه؛ ... أو مستجدّا، جدّ جبل زيقه. ثم يعيد الماء نارا حاميه ... يزيد فى كرب القلوب الصّاديه. شاربه يكرع فى حميم ... كأنّه من ساكنى الجحيم. ينسيه ما يلقى من التهابه ... أن يحمد الله على شرابه. حتّى إذا أعيا، انقضى نهاره ... وأرخيت من ليله أستاره، تحرّكت فى جنحه دواهى ... سارية، وأنت عنها لاهى. من عقرب يسعى كسعى اللّصّ ... سلاحها فى إثره كالشّصّ. وحيّة تنفث سمّا قاتلا ... تزوّد الملسوع حتفا عاجلا. تبصر ما بجلدها من الرّقش ... كوجنة مصفرة فيها نمش. لو نهشت بالنّاب منها الخضرا، ... لنثرت منه الحياة نثرا. فلا تقل إن جاء يوما أهلا ... فلعنة الله عليه فصلا. ذكر ما قيل فى فصل الخريف حتّى إذا زال، أتى الخريف: ... فصل بكلّ سوأة معروف. أهونه يسرع فى حلّ الجسد ... وهو كطبع الموت يبس وبرد. يجنى على الأجسام من آفاته، ... وأرضه قرعاء من نباته. لا يمكن النّاس اتّقاء شرّه ... ولا خلاف برده وحرّه. تبصره مثل الصّبىّ الأرعن ... من كثرة العشّاق والتلوّن. فأنت منه خائف على حذر ... لأنه يمزج بالصّفو الكدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 أحسن ما يهدى لك النّسيما ... يقلبه فى ساعة سموما. وهو على المعدود من ذنوبه ... خير من الصّيف على عيوبه. ذكر ما قيل فى فصل الشتاء حتّى إذا ما أقبل الشّتاء، ... جاءتك منه غمّة عمياء. لو أنّه روح، لكان فدما ... أو أنه شخص، لكان جهما. يلقاك منه أسد يزير ... له وعيد وله تحذير. تأتيك فى أيّامه رياح ... ليس على لاعنها جناح. حراكها ليس إلى سكون ... تضرّ بالأسماع والعيون. يحدث من أفعالها الزّكام ... هذا إذا ما فاتك الصّدام. ثم يليها مطر مداوم ... كأنه خصم لنا ملازم. يقطعنا بعضا عن الطريق ... وعن قضاء الحقّ للصّديق. وربما خرّ عليك السّقف، ... فإن عفا عنك أتاك الوكف. وإن أردت فى النّهار الشّربا ... فيه، فقد قاسيت خطبا صعبا. واحتجت أن توقد فيه نارا ... تطير نحو الحدق الشّرارا. يترك مبيضّ الثّياب أرقطا ... يحكى السّعيدىّ لك المنقّطا. وبعد ذا تسدّد النقابا ... من خوفه وتغلق الأبوابا. نعم، وترخى دونه السّتورا ... حتّى ترى صباحه ديجورا. وإن أردت الشّرب فى الظّلام ... عاقك عن تناول المدام. حسبك أن تندسّ فى اللّحاف ... من خشية البرد على الأطراف! ورعده يشغل عن كلّ عمل ... ويؤثر النّوم ويستحلى الكسل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 حتّى إذا جئت إلى الرّقاد، ... نمت على فرش من القتاد. إنّ البراغيث عذاب مزعج ... لكلّ قلب ولجلد ينضج. لا يستلذّ جلدك المضاجعا ... كأنما أفرشه مباضعا. تنحّ فصلا فوق ما ذممته ... لو أنه يظهر لى، قتلته. حتّى إذا ما هو عنّا بانا ... وزال عنّا بعضه، لا كانا! ذكر ما قيل فى فصل الربيع جاء إلينا زمن الرّبيع ... فجاء فصل حسن الجميع. لبرده وحرّه مقدار ... لم يكتنف حدّهما إكثار. عدّل فى أوزانه حتّى اعتدل ... وحمد التّفصيل منه والجمل. نهاره فى أحسن النّهار ... فى غاية الإشراق والإسفار. تضحك فيه الشّمس من غير عجب ... كأنّها فى الأفق جام من ذهب. وليله مستلطف النّسيم ... مقوّم فى أحسن التّقويم. لبدره فضل على البدور ... فى حسن إشراق وفرط نور. كجامة البلّور فى صفائها ... أذابت الجراد فى نقابها. كأنّها إذا دنت من بدره ... جوزاؤه قبل طلوع فجره. روميّة حلّتها زرقاء ... فى الجيد منها درّة بيضاء. هذا وكم تجمع من أمور ... إطراء مطربها من التّقصير. فيه تظلّ الطّير فى ترنّم ... حاذقة باللّحن لم تعلّم. غناؤها ذو عجمة لا يفهمه ... سامعه وهو على ذا يغرمه. من كلّ دبسىّ له رنين ... وكلّ قمرى له حنين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 فى قرطق أعجل أن يورّدا ... خاط له الخيّاط طوقا أسودا. تبصره منه على الحيزوم ... كمثل عقد سبج منظوم. هذا وفيه للرّياض منظر ... يفشى الثّرى من سرّه ما يضمر. سرّ نبات حسنه إعلانه ... إذا سواه زانه كتمانه. فيه ضروب لنبات [1] الغضّ ... يحكى لباس الجند يوم العرض. من نرجس أبيض كالثّغور ... كأنّه مخانق الكافور. وروضة تزهر من بنفسج ... كأنّها أرض من الفيروزج. قد لبست غلالة زرقاء ... وكايدت بلونها السّماء. يضحك منها زهر الشّقيق ... كأنّه مداهن العقيق. مضمّنات قطعا من السّبج ... قد أشرقت من احمرار ودعج. كأنّما المحمرّ فى المسودّ ... منه إذا لاح عيون الرّمد. وارم بعينيك إلى البهار ... فإنّه من أحسن الأزهار. كأنّه مداهن من عسجد ... قد سمّرت فى قضب الزّبرجد. فانهض إلى اللهو ولا تخلّف ... فلست فى ذلك بالمعنّف. واشرب عقارا طال فينا كونها ... يصفرّ من خوف المزاج لونها. دونك هذى صفة الزّمان ... مشروحة فى أحسن التّبيان! وارض بتقليدى فيما قلته ... فإنّنى أدرى بما وصفته.   [1] لعله للنبات بالتعريف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 الباب الرابع من القسم الثالث من الفن الأوّل فى ذكر مواسم الأمم وأعيادها، وأسباب اتخاذهم لها، وما قيل فى ذلك والذى أورده فى هذا الباب، هو مما وقفت عليه أثناء مطالعتى للكتب الموضوعة فيه، ونقلته منها لمّا تعذر علىّ من أتلقاه من فيه. وضمنته أعياد المسلمين، والفرس والنصارى، واليهود. 1- ذكر الأعياد الإسلامية والأعياد الإسلامية التى وردت بها الشريعة اثنان: عيد الفطر، وعيد الأضحى. والسبب فى اتخاذهما، ما روى عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) «أنه قدم لمدينة، ولأهلها يومان يلعبون فيهما، فقال: ما هذان اليومان؟ فقالوا: كنا نلعب فيهما فى الجاهلية. فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : إن الله (عز وجل) قد بدّلكم خيرا منهما، يوم الفطر، ويوم الأضحى» . فأوّل ما بدئ به من العيدين عيد الفطر، وذلك فى سنة اثنتين من الهجرة. وفيها كان عيد الأضحى. وعيد ابتدعته الشّيعة، وسموه عيد الغدير. وسبب اتخاذهم له مؤاخاة النبىّ (صلى الله عليه وسلم) علىّ بن أبى طالب (رضى الله عنه) يوم غدير خمّ. والغدير على ثلاثة أيام [1] من الجحفة بسرّة الطّريق. قالوا: وهذا الغدير تصبّ فيه عين، وحوله شجر كثير ملتفّ بعضها ببعض. وبين الغدير والعين مسجد لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) . واليوم الذى ابتدعوا فيه هذا العيد هو الثامن عشر من ذى الحجة، لأن المؤاخاة كانت   [1] فى صبح الأعشى (ج 2 ص 407) ثلاثة أميال، وفى المعجم [بينه وبين الجحفة ميلان] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 فيه فى سنة عشرة من الهجرة، وهى حجة الوداع. وهم يحيون ليلتها بالصلاة، ويصلون فى صبيحتها ركعتين قبل الزوال. وشعارهم فيه لبس الجديد، وعتق الرّقاب، وبرّ الأجانب، والذبائح. وأوّل من أحدثه معز الدّولة أبو الحسن علىّ بن بويه، على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخباره فى سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة. ولما ابتدع الشيعة هذا اتخذوه من سننهم، عمل عوامّ السّنّة يوم سرور نظير عيد الشيعة فى سنة تسع وثمانين وثلاثمائة. وجعلوه بعد عيد الشيعة بثمانية أيام، وقالوا: هذا يوم دخول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الغار هو وأبو بكر الصدّيق (رضى الله عنه) . وأظهروا فى هذا اليوم الزينة، ونصب القباب، وإيقاد النيران. 2- ذكر أعياد الفرس وأعياد الفرس كثيرة جدّا. وقد صنف علىّ بن حمزة الأصفهانىّ فيها كتابا مستقلّا ذكر فيه أعيادهم، وسبب اتخاذهم لها، وسنن ملوكهم فيها. وقد رأيت أن أقتصر على المشهور منها، وهى ثلاثة أعياد: النّيروز، والمهرجان، والسّدق. 1- فأما النّيروز، فهو أعظم أعيادهم وأجلّها. يقال إن أوّل من اتخذه جمشيد أحد ملوك الفرس الأول. ويقال فيه جمشاد، ومعنى جم القمر، وشاد الشعاع والضياء؛ وسبب اتخاذهم لهذا العيد أن طهومرت لما هلك، ملك بعده جمشاد. فسمى اليوم الذى ملك فيه نوروز، أى اليوم الجديد. ومن الفرس من يزعم أن النّيروز اليوم الذى خلق الله (عز وجل) فيه النور، وأنه كان معظّم القدر عند جمشاد. وبعضهم يزعم أنه أوّل الزمان الذى ابتدأ فيه الفلك بالدوران. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 ومدّته عندهم ستة أيام، أوّلها اليوم الأوّل من شهر أفريدون ماه، الذى هو أوّل شهور سنتهم. ويسمون اليوم السادس النّوروز الكبير، لأن الأكاسرة كانوا يقضون فى الأيام الخمسة حوائج الناس ثم ينتقلون إلى مجالس أنسهم مع خواصّهم. وحكى ابن المقفّع أنه كان من عادتهم فيه أن يأتى الملك من الليل رجل جميل الوجه، قد أرصد لما يفعله. فيقف على الباب حتّى يصبح. فإذا أصبح دخل على الملك من غير استئذان. فإذا رآه الملك، يقول له: من أنت؟ ومن أين أقبلت؟ وأين تريد؟ وما اسمك؟ ولأىّ شىء وردت؟ وما معك؟ فيقول: أنا المنصور، واسمى المبارك، ومن قبل الله أقبلت، والملك السعيد أردت، وبالهناء [1] والسلامة وردت، ومعى السنة الجديدة. ثم يجلس، ويدخل بعده رجل معه طبق من فضة، وفيه حنطة، وشعير، وجلبان، وحمّص، وسمسم، وأرز (من كل واحد سبع سنابل وتسع حبات) وقطعة سكر، ودينار ودرهم جديدان. فيضع الطبق بين يدى الملك. ثم تدخل عليه الهدايا. ويكون أوّل من يدخل عليه وزيره، ثم صاحب الخراج، ثم صاحب المعونة، ثم الناس على طبقاتهم ومراتبهم. ثم يقدّم للملك رغيف كبير مصنوع من تلك الحبوب، موضوع فى سلّة. فيأكل منه ويطعم من حضره. ثم يقول: هذا يوم جديد، من شهر جديد، من عام جديد، من زمان جديد، يحتاج أن نجدّد فيه ما أخلق من الزمان، وأحقّ الناس بالفضل والإحسان الرأس لفضله على سائر الأعضاء. ثم يخلع على وجوه دولته ويصلهم ويفرّق فيهم ما حمل إليه من الهدايا. وكانت عادة عوامّ الفرس فيه رفع النار فى ليلته، ورشّ الماء فى صبيحته. وفى ذلك يقول المعوج:   [1] ؟؟؟؟؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 كيف ابتهاجك بالنّيروز يا سكنى؟ ... وكلّ ما فيه يحكينى وأحكيه! فناره كلهيب النار فى كبدى! ... وماؤه كتوالى عبرتى فيه! وقال آخر: نورز النّاس ونورز ... ت، ولكن بدموعى! وذكت نارهم، والنّ ... ار ما بين ضلوعى! 2- وأما المهرجان، فوقوعه فى السادس والعشرين من تشرين الأوّل من شهور السّريان، وفى السادس عشر من مهرماه من شهور الفرس. وهذا الأوان وسط زمان الخريف، وفيه يقول بعض الشعراء: أحبّ المهرجان لأنّ فيه ... سرورا للملوك ذوى السّناء، وبابا للمصير إلى أوان ... تفتّح فيه أبواب السّماء. وهو ستة أيام. ويسمّى اليوم السادس المهرجان الأكبر. قال المسعودىّ: وسبب تسميتهم لهذا اليوم بهذا الاسم، أنهم كانوا يسمون شهورهم بأسماء ملوكهم. وكان لهم ملك يسمّى مهر، يسير فيهم بالعنف والعسف. فمات فى نصف الشهر الذى يسمونه مهرماه، فسمى ذلك اليوم مهرجان. وتفسيره «نفس مهر ذهبت» وهذه لغة الفرس الأوّل. وزعم آخرون أن «مهر» بالفارسية حفاظ و «جان» الروح. وقد نظم عبيد الله بن عبد الله بن ظاهر ذلك، فقال: إذا ما تحقّق بالمهرجا ... ن من ليس يعرف معناه، غاظا. ومعناه أن غلب الفرس فيه ... فسمّوه للرّوح حقّا حفاظا. ويقال إنه إنما عمل فى عهد أفريدون الملك، وأن معنى هذا الاسم «إدراك الثأر» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 وسبب اتخاذهم له، أن بيوراسف (وهو الضحاك) ، ويقال له أزدهاق ذو الحيّتين والأفواه الثلاثة، والأعين الستة، الدّاهى الخبيث المتمرّد، لما قتل جمشاد، وملك بعده، غيّر دين المجوسية. وجاء إبليس فى صورة خادم، فقبّل منكبيه، فنبت فيهما حيتان، فكان يطعمهما أدمغة الناس. فأجحف ذلك بالرعية، فخرج رجل بأصبهان، يقال له كابى، ويقال فيه كابيان. ودعا الناس إلى قتاله، فاجتمع له خلق كثير. فشخص الضحاك لقتاله، فهاب كثرة جمعه وفرّ منهم. فاجتمع الناس على كابى ليملكوه عليهم، فأبى ذلك وقال: ما أنا من أهل الملك، وأخرج صبيا من ولد جمشاد، يسمّى أفريدون وملّكه، فأطاعه الناس فيه وملّكوه عليهم. وخرج أفريدون فى طلب الضحاك ليأخذ ثأر جدّه فظفر به، وجعل ذلك اليوم عيدا، وسماه المهرجان. ويقال إن المهرجان هو اليوم الذى عقد فيه التاج على رأس- أردشير بن بابك، أوّل ملوك الفرس الساسانية. وقال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر يفضل المهرجان على النيروز: أخا الفرس إنّ الفرس تعلم إنّه ... لأطيب من نيروزها مهرجانها: لإدبار أيّام يغمّ هواؤها ... وإقبال أيّام يسرّ زمانها. وكان مذهب الفرس فيه أن يدّهن ملوكهم بدهن البان تبرّكا، وكذلك عوامهم، وأن يلبس القصب والوشى، ويتوّج بتاج عليه صورة الشمس وحجلتها الدّائرة عليها، ويكون أوّل من يدخل عليه الموبذان بطبق فيه أترجّة، وقطعة سكّر، ونبق، وسفر جل، وعنّاب، وتفّاح، وعنقود عنب أبيض، وسبع طاقات آس قد زمزم علمها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 ثم يدخل الناس على طبقاتهم بمثل ذلك. وكان أردشير، وأنو شروان يأمران بإخراج ما فى خزائنهم فى المهرجان والنيروز من أنواع الملابس والفرش، فتفرّق كلّها فى الناس على مراتبهم، ويقولان: إن الملوك تستغنى عن كسوة الصيف فى الشتاء، وعن كسوة الشتاء فى الصيف، وليس من أخلاقهم أن يخبؤوا كسوتهم فى خزائنهم ويساووا العامّة فى فعلها. وزعم بعض أصحاب التاريخ أن النيروز عملته الفرس قبل المهرجان بألفى سنة وخمسمائة سنة. 3- وأما السّدق، فإنه يعمل فى ليلة الحادى عشر من شهر بهمن ماه. ويسمّى هذا اليوم عندهم أبان روز، لأن لكل يوم من أيام الشهر عندهم اسما. ويقال فى سبب اتخاذهم له: إن فراسياب لما ملك، سار إلى بلاد بابل وأكثر فيها الفساد، وخرّب العمران. فخرج عليه دق بن طهماسب، وطرده عن مملكته إلى بلاد التّرك. وكان ذلك فى يوم أبان روز. فاتخذ الفرس هذا اليوم عيدا، وجعلوه ثالثا ليوم النيروز، والمهرجان. ويقال أيضا فى سبب اتخاذهم له: إن الأب الأوّل، وهو عندهم كيومرث، لما كمل له مائة ولد، زوج الذكور بالإناث، وصنع لهم عرسا أكثر فيه من إشعال النيران، فوافق ذلك الليلة المذكورة، واستسنه الفرس بعده. وهم يوقدون النيران بسائر الأدهان، ويزيدون فى الولوع بها، حتّى إنهم يلقون فيها سائر الحيوانات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 وفى ذلك يقول ابن حجاج من أبيات يمدح بها عضد الدّولة بن بويه: مولاى يا من نداه يعدو ... ففات سبتا وليس يلحق. ليلتنا حسنها عجيب ... بالقصف والعزف قد تحقّق. لنارها فى السّما لسان ... عن نور ضوء الصّباح ينطق. والجوّ [1] منها قد صار جمرا ... والنجم منها قد كاد يحرق. ودجلة أضرمت حريقا ... بألف نار وألف زورق. فماؤها كلّها حميم ... قد فار مما غلى [2] وبقبق. وقال أبو القاسم المطرّز، فى سدق عمله السلطان ملك شاه، أشعل فيه الشموع والنيران فى السّميريّات بدجلة، وذلك فى سنة أربع وثمانين وأربعمائة: وكلّ نار على العشّاق مضرمة ... من نار قلبى أو من ليلة السّدق. نار تجلّت بها الظّلماء فاشتبهت ... بسدفة الليل فيها غرّة الفلق! وزارت الشمس فيها الليل واصطلحا ... على الكواكب بعد الغيظ والحنق. مدّت على الأرض بسطا من جواهرها ... ما بين مجتمع وار ومفترق. مثل المصابيح إلا أنها نزلت ... من السماء بلا رجم ولا حرق. أعجب بنار ورضوان يسعّرها ... ومالك قائم منها على فرق! فى مجلس ضحكت روض الجنان له ... لما جلا ثغره عن واضح يقق.   [1] كذا فى الأصل ولعله « والجو منها يصير جمرا ... والنجم منها يكاد يحرق » ليستقيم الوزن. [2] فى الأصول يغلى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 3- ذكر أعياد النصارى القبط وأعياد النصارى أربعة عشر عيدا: سبعة يسمونها كبارا، وسبعة يسمونها صغارا. فأما الكبار: 1- فمنها عيد البشارة. ويعنون بها بشارة غبريال، وهو عندهم جبريل عليه السلام على ما يزعمون أنه بشر مريم ابنة عمران بميلاد عيسى (عليهما السلام) . وهم يعملونه فى التاسع والعشرين من برمهات من شهورهم. 2- ومنها عيد الزيتونة. وهو عيد الشّعانين، وتفسيره التسبيح. يعملونه فى سابع أحد من صومهم. وسنّتهم فيه أن يخرجوا بسعف النخل من الكنيسة. ويزعمون أنه يوم ركوب المسيح اليعفور فى القدس، وهو الحمار، ودخوله صهيون وهو راكب، والناس يسبحون بين يديه، وهو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. 3- ومنها الفصح. وهو العيد الكبير عندهم يقولون إن المسيح قام فيه بعد الصّلبوت بثلاثة أيام. 4- ومنها خميس الأربعين. ويسميه الشاميون السّلّاق [1] . وهو الثانى والأربعون من الفطر. يزعمون أن المسيح عليه السلام تسلّق فيه من بين تلاميذه إلى السماء من بعد القيام، ووعدهم إرسال الفار قليط وهو روح القدس. 5- ومنها عيد الخميس. وهو العنصرة يعمل بعد خمسين يوما من يوم القيام يقولون إن روح القدس حلّت بالتلاميذ، وتفرّقت عليهم ألسنة الناس، فتكلموا بجميع الألسنة، وتوجه كل واحد منهم إلى بلاد لسانه الذى تكلم به يدعوهم إلى دين المسيح.   [1] فى الأصل السلاقى. وفى القاموس [وكرمّان عيد للنصارى] وفى صبح الأعشى بغير ياء على الصواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 6- ومنها الميلاد. وهو اليوم الذى ولد فيه المسيح. يقولون إنه ولد فى يوم الاثنين فيجعلون عشية الأحد ليلة الميلاد. وهم يوقدون فيه المصابيح بالكنائس ويزينونها. ويعمل فى التاسع والعشرين من كيهك من شهورهم. 7- ومنها الغطاس. ويعمل فى الحادى عشر من طوبة من شهورهم. ويقولون إن يحيى بن زكريا، وينعتونه بالمعمدان، غسل عيسى عليه السلام فى بحيرة الأردنّ، ويزعمون أن عيسى (عليه السلام) لما خرج من الماء اتصل به روح القدس على هيئة حمامة. والنصارى يغمسون أولادهم فى الماء فيه، ووقته شديد البرد. وأما الأعياد الصغار: 1- فمنها الختان. ويعمل فى سادس بئونة، يقولون إن المسيح ختن فى هذا اليوم، وهو الثامن من الميلاد. 2- ومنها الأربعون. وهو عند دخول الهيكل يقولون إن سمعان الكاهن دخل بعيسى (عليه السلام) مع أمّه [الهيكل] [1] وبارك عليه. ويعمل فى ثامن أمشير من شهورهم. 3- ومنها خميس العهد. ويعمل قبل الفصح بثلاثة أيام. وسنّتهم فيه أن يأخذوا إناء ويملؤوه ماء ويزمزموا عليه، ثم يغسل البطريك به أرجل سائر الناس. ويزعمون أن المسيح عيسى (عليه السلام) فعل مثل هذا بتلاميذه فى مثل هذا اليوم، يعلمهم التواضع، وأخذ عليهم العهد أن لا يتفرّقوا، وأن يتواضع بعضهم لبعض. وعوامّ النصارى يسمون هذا الخميس خميس العدس، وهم يطبخون فيه العدس المقشور   [1] الزيادة من صبح الأعشى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 على ألوان، ويسميه أهل الشام خميس الأرز. ومنها خميس البيض أيضا. ويسميه أهل الأندلس خميس أبريل، وأبريل شهر من شهور الروم. 4- ومنها سبت النّور. وهو قبل الفصح بيوم. يقولون إن النور يظهر على مقبرة المسيح فى هذا اليوم، فتشتعل منه مصابيح كنيسة القيامة التى بالقدس. وليس كذلك، بل هو من تخييلات فعلها أكابرهم ليستميلوا بها عقول أصاغرهم. وقيل إنهم يعلقون القناديل فى بيت المذبح، ويتحيلون فى إيصال النار إليها بأن يمدّوا على سائرها شريطا من حديد فى غاية الدقة، يدهنونه بدهن البلسان ودهن الزّنبق. فإذا صلّوا، وحان وقت الزوال، فتحوا المذبح، فدخل الناس إليه، وقد أشعلت فيه الشموع. ويتوصل بعض القوم إلى أن يعلق بطرف الشريط الحديد النار فتسرى عليه، فتقد القناديل واحدا بعد واحد بسبب الدّهن. 5- ومنها حدّ الحدود. وهو بعد الفصح بثمانية أيام. يعمل أوّل أحد بعد الفطر، لأن الآحاد قبله مشغولة بالصوم. وفيه يجدّدون الآلات، والأثاث، واللباس، ويأخذون فى المعاملات، والأمور الدّنيوية. 6- ومنها التجلى. يقولون: إن المسيح (عليه السلام) ، تجلّى لتلاميذه بعد أن رفع، وتمنّوا عليه أن يحضر لهم إيليا، وموسى، فأحضرهما لهم فى مصلّى بيت المقدس، ثم صعد. ويعمل فى ثالث عشر مسرى من شهورهم. 7- وعيد الصليب. وتزعم النصارى أن قسطنطين بن هيلانى انتقل عن اعتقاد اليونان إلى اعتقاد النصرانية، وبنى كنيسة قسطنطينية العظمى، وسائر كنائس الشام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 وسبب ذلك- على ما نقله المؤرّخون- أنه كان مجاورا للبرجان، فضاق بهم ذرعا من كثرة غاراتهم على بلاده. فهمّ أن يصانعهم ويقرّر لهم عليه إتاوة فى كل عام ليكفّوا عنه. فرأى ليلة فى المنام أن ملائكة نزلت من السماء ومعها أعلام عليها صلبان، فحاربت البرجان فهزموهم. فلما أصبح، عمل أعلاما وصوّر فيها صلبانا، ثم قاتل بها البرجان فهزمهم. وقيل إنه رأى فى المنام صلبانا من نور فى السماء، وقائلا يقول له: اعمل مثل هذا على رؤوس أعلامك وقاتل بها فنصر. فأمر أهل مملكته بالرجوع عن دينهم والدّخول فى دين النصرانية، وأن يقصوا شعورهم، ويخلقوا لحاهم. وإنما فعل ذلك بهم لأن رسل عيسى عليه السلام كانوا قد وردوا على اليونان من قبل يأمرونهم بالتعبد بدين النصرانية، فأعرضوا عنهم، ومثّلوا بهم هذه المثلة نكالا بهم. ففعلوا ذلك تأسّيا بهم. ولما تنصر قسطنطين، خرجت أمه هيلانى إلى الشام، فبنت الكنائس، وسارت إلى بيت المقدس، فطلبت الخشبة التى صلب عليها المسيح، على ما يزعمون. وكانت مدفونة فى مزبلة. فأخرجت منها، وفيها مواضع سبعة مسامير فلما حملت إليها، غلفتها بالذهب وحملتها إلى ابنها. واتخذت يوم رؤيتها لها عيدا. قال المسعودىّ: وذلك لأربع عشرة ليلة خلت من أيلول، ووافق ذلك سبع عشرة ليلة خلت من توت من شهور القبط. وكان من مولد عيسى إلى اليوم الذى وجدت فيه الخشبة ثلاثمائة وثمان وعشرون سنة. وسيأتى ذكر ذلك إن شاء الله تعالى فى أخبار الروم فى فنّ التاريخ، وهو فى الجزء الثالث عشر من هذا الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 4- ذكر أعياد اليهود وأعياد اليهود التى نطقت بها توراتهم خمسة: 1- منها عيد رأس السنة. ويسمونه رأس هيشا، أى عيد رأس الشهر. وهو أوّل يوم من تشرين. ينزل عندهم منزلة عيد الأضحية عندنا. ويقولون إن الله عز وجل أمر إبراهيم بذبح إسحاق ابنه عليهما السلام فيه، وفداه بذبح عظيم. 2- ومنها عيد صوماريا. ويسمّى الكبور. وهو عندهم الصوم العظيم الذى فرض عليهم، ويقتل من لم يصمه. ومدّة الصوم خمس وعشرون ساعة، يبدأ فيها قبل غروب الشمس فى اليوم التاسع من شهر تشرين، ويختم بمضىّ ساعة بعد غروبها من اليوم العاشر. ويشترطون رؤية ثلاثة كواكب عند الإفطار. وهى عندهم تمام الأربعين الثالثة التى صام فيها موسى عليه السلام. ولا يجوز أن يقع عندهم فى يوم الأحد، ولا يوم الثلاثاء، ولا فى يوم الجمعة. ويزعمون أن الله تعالى يغفر لهم فيه جميع ذنوبهم إلا الزنا بالمحصنات، وظلم الرجل أخاه، وجحد ربوبية الله تعالى. 3- ومنها عيد المظلّة. وهو ثمانية [1] أيام، أوّلها الخامس عشر من تشرين. وكلها أعياد، واليوم الأخير منها يسمّى عرابا [2] ، وتفسيره شجر الخلاف. وهو أيضا حج لهم. وهم يجلسون فى هذه الأيام تحت ظلال سعف النخل الأخضر، وأغصان الزيتون. والخلاف، وسائر الشجر الذى لا ينشر ورقه على الأرض. ويزعمون أن ذلك تذكار منهم لإظلال الله تعالى إياهم فى التّيه بالغمام.   [1] فى صبح الأغشى [سبعة أيام] . [2] فى صبح الأعشى [عرايا] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 4- ومنها عيد الفطير. ويسمونه الفصح. ويكون فى الخامس عشر من نيسان. وهو سبعة أيام يأكلون فيها الفطير، وينظّفون بيوتهم فيها من خبز الخمير. لأنها عندهم الأيام التى خلص الله تعالى فيها بنى إسرائيل من فرعون وأغرقه، فخرجوا إلى التيه، وجعلوا يأكلون اللحم، والخبز الفطير، وهم بذلك فرحون. وفى آخر هذه الأيام غرق فرعون. 5- ومنها عيد الأسابيع، وهى الأسابيع التى فرضت عليهم فيها الفرائض، وكمّل فيها الدّين. ويسمّى عيد العنصرة، وعيد الخطاب. ويكون بعد عيد الفطير بسبعة أسابيع. يقولون إنه اليوم الذى خاطب الله تعالى فيه بنى إسرائيل من طور سيناء وإن من جملة ما خوطبو به العشر كلمات، وهى وصايا تتضمن أمرا ونهيا. وهو: من حجوجهم. وحجوجهم ثلاثة: الأسابيع، والفطير، والمظلّة. وهم يعظمونه ويأكلون فيه القطائف ويجعلونها بدلا عن المنّ الذى أنزل عليهم فى هذا اليوم، على ما يزعمون. واتخاذهم لهذا العيد فى اليوم السادس من سيوان. 6- وعيد الفوز. وهو عيد أحدثوه، ويسمونه الفوريم. وذكروا فى سبب اتخاذهم له أن بختنصر لما أجلى من كان ببيت المقدس من اليهود إلى عراق العجم، أسكنهم مدينة جىّ، وهى إحدى مدينتى أصفهان. فلما ملك أردشير بن بابك، سماه اليهود بالعبرانية أجشادوس. وكان له وزير يسمونه بلغتهم هيمون. ولليهود يومئذ حبر يسمّى بلغتهم مردوخاى. فبلغ أردشير أن له ابنة عمّ جميلة الصورة من أحسن أهل زمانها. فطلب تزويجها منه، فأجابه إلى ذلك. فتزوّجها، وحظيت عنده، وصار مردوخاى قريبا منه. فأراد هيمون الوزير إصغاره حسدا له، وعزم على إهلاك طائفة اليهود التى فى جميع مملكة أردشير. فرتب مع نوّاب الملك فى سائر الأعمال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 أن يقتل كلّ واحد منهم من يعلمه من اليهود. وعيّن لهم يوما وهو النصف من آذار. وإنما خص هذا اليوم دون غيره، لأن اليهود يزعمون أن موسى عليه السلام ولد فيه، وتوفى فيه. وأراد بذلك المبالغة فى نكايتهم ليضاعف الحزن عليهم بهلاكهم، وبموت موسى (عليه السلام) . فبلغ مردوخاى ذلك، فأرسل إلى ابنة عمه يعلمها بما بلغه، ويحضها على إعمال الحيلة فى خلاصهم، فأعلمت الملك بالحال، وذكرت له أن الوزير إنما حمله على ذلك الحسد، لقرب مردوخاى منه. فأمر بقتل هيمون الوزير، وأن يكتب أمان لليهود. فاتخذوه عيدا. واليهود يصومون قبله ثلاثة أيام. وهذا العيد عندهم عيد سرور، ولهو، وخلاعة، وهدايا يهديها بعضهم لبعض، ويصوّرون فيه من الورق صورة هيمون، ويملئون بطن الصورة نخالة ويلقونها فى النار حتّى تحترق. 7- وعيد الحنكة. وهو أيضا مما أحدثوه. وهو ثمانية أيام، أوّلها ليلة الخامس والعشرين من كسلا. وهم يوقدون فى الليلة الأولى من لياليه على كل باب من أبوابهم سراجا؛ وفى الثانية سراجين؛ ويضعف ذلك فى كل ليلة إلى ثمان ليال. فيكون فى الثامنة ثمانية سرج. وسبب اتخاذهم لهذا العيد، أن بعض الجبابرة تغلّب على البيت المقدّس وقتل من كان فيه من بنى إسرائيل، وافتض أبكارهم. فوثب عليه أولاد كاهنهم، وكانوا ثمانية، فقتله أصغرهم. فطلب اليهود زيتا لوقود الهيكل فلم يجدوا إلا يسيرا، وزعوه على عدد ما يوقدونه من السرج على أبوابهم فى كل ليلة إلى ثمان ليال. فاتخذوا هذه الأيام عيدا وسموه الحنكة، وهو مشتق من التنظيف، لأنهم نظفوا فيها الهيكل من أقذار شيعة الجبار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 القسم الرابع من الفن الأوّل فى الأرض، والجبال، والبحار، والجزائر، والأنهار، والعيون، والغدران وفيه سبعة أبواب الباب الأوّل من هذا القسم 1- فى مبدإ خلق الأرض قال الله تعالى: (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً) . والأرض سبع، كما أن السماوات سبع. والدّليل على ذلك قوله عز وجل: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) واختلف فيها هل هى سبع متطابقات بعضها فوق بعض، أو سبع متجاورات؟ فذهب قوم إلى أنّ الله تعالى خلق سبع سماوات متطابقات متعاليات، وسبع أرضين متطابقات متسافلات؛ وبين كل أرض وأرض، كما بين كل سماء وسماء، خمسمائة عام. وفسر بهذا قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) . أى كانت سماء واحدة [1] ففتقناهما سبعا. قيل: ولكل أرض أهل وسكّان مختلفو الصور والهيئات؛ ولكل أرض اسم خاص.   [1] أى وأرضا واحدة [ولعله سقط من قلم الناسخ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 وذهب قوم إلى أنها سبع متجاورات متفرّقات لا متطابقات. فجعلوا الصين أرضا، وخراسان أرضا، والسند والهند أرضا، وفارس والجبال والعراق وجزيرة العرب أرضا، والجزيرة والشام وبلاد إرمينية أرضا، ومصر وإفريقيّة أرضا، وجزيرة الأندلس وما جاورها من بلاد الجلالقة والأنكبردة وسائر طوائف الروم أرضا. ويقال: إنها كانت على ماء، والماء على صخرة، والصخرة على سنام ثور، والثور على كمكم [1] ، والكمكم على ظهر حوت، والحوت على الماء، والماء على الريح، والريح على حجاب ظلمة، والظلمة على الثرى. وإلى الثرى انقطع علم المخلوقين. قال الله تعالى: (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى) . وزعم آخرون أن تحت الأرض السابعة صخرة. وتحت الصخرة الحوت، وتحت الحوت الماء، وتحت الماء الظلمة، وتحت الظلمة الهواء، وتحت الهواء الثرى. وقد تقدّم فى الباب الأوّل من هذا الكتاب أن الأرض مخلوقة من الزّبد. فلا فائدة فى تكراره. الباب الثانى من القسم الرابع من الفن الأوّل 1- فى تفصيل أسماء الأرضين وصفاتها ، فى الاتساع، والاستواء، والبعد، والغلظ، والصلابة، والسهولة، والحزونة، والارتفاع، والانخفاض، وغير ذلك قال الثعالبىّ: فى كتابه المترجم «بفقه اللغة» وأسنده إلى أئمة اللغة:   [1] كذا بالأصل؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 إذا اتّسعت الأرض ولم يتخللها شجر أو خمر، فهى الفضاء والبراز والبراح؛ ثم الصّحراء والعراء؛ ثم الرّهاء والجهراء. فإذا كانت مستوية مع الاتّساع، فهى الخبت والجدد؛ ثم الصّحصح والصّردح؛ ثم القاع والقرقر؛ ثم القرق والصّفصف. فإذا كانت مع الاستواء والاتساع بعيدة الأكناف والأطراف، فهى السّهب والخرق؛ ثم السّبسب والسّملق والملق. فإذا كانت مع الاتّساع والاستواء والبعد لا ماء فيها، فهى الفلاة والمهمة؛ ثم التّنوفة والفيفاء؛ ثم النّفنف والصّرماء. فإذا كانت مع هذه الصفات لا يهتدى فيها لطريق، فهى اليهماء والغطشاء. فإذا كانت تضلّ سالكها، فهى المضلّة والمتيهة. فإذا لم يكن بها أعلام ولا معالم، فهى المجهل والهوجل. فإذا لم يكن بها أثر، فهى الغفل. فإذا كانت قفراء، فهى القىّ. فإذا كانت تبيد سالكها، فهى البيداء. والمفازة كناية عنها. فإذا لم يكن فيها شىء من النّبت، فهى المرت والمليع. فإذا لم يكن فيها شىء، فهى المروراة والسّبروت والبلقع. فإذا كانت الأرض غليظة صلبة، فهى الجبوب، ثم الجلد، ثم العزاز، ثم الصّيداء، ثم الجدجد. فإذا كانت صلبة يابسة من غير حصى، فهى الكلد، ثم الجعجاع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 فإذا كانت غليظة ذات حجارة ورمل، فهى البرقة والأبرق. فإذا كانت ذات حصّى، فهى المحصاة والمحصبة. فإذا كانت كثيرة الحصى، فهى الأمعز والمعزاء. فإذا اشتملت عليها كلّها حجارة سود، فهى الحرّة واللّابة. فإذا كانت ذات حجارة كأنها السكاكين، فهى الحزيز. فإذا كانت الأرض مطمئنة، فهى الجوف والغائط؛ ثم الهجل والهضم. فإذا كانت مرتفعة، فهى النّجد والنّشز. فإذا جمعت الأرض الارتفاع والصّلابة والغلظ، فهى المتن والصّمد، ثم القفّ والفدفد والقردد. فإذا كان ارتفاعها مع اتّساع، فهى اليفاع. فإذا كان طولها فى السماء مثل البيت، وعرض ظهرها نحو عشرة أذرع، فهى التّلّ؛ وأطول وأعرض منها الرّبوة والرّابية؛ ثم الأكمة؛ ثم الزّبية، وهى التى لا يعلوها الماء. وبها ضرب المثل فى قولهم: «بلغ السيل الزّبى» ؛ ثم النّجوة، وهى المكان الذى تظن أنه نجاؤك؛ ثم الصّمّان، وهى الأرض الغليظة دون الجبل. فإذا ارتفعت عن موضع السيل وانحدرت عن غلظ الجبل، فهى الخيف. فإذا كانت الأرض لينة سهلة من غير رمل، فهى الرّقاق والبرث؛ ثم الميثاء والدّمثة. فإذا كانت طيبة التربة كريمة المنبت بعيدة عن الأحساء والنّزوز، فهى العذاة. فإذا كانت مخيلة للنبت والخير، فهى الأريضة. فإذا كانت ظاهرة لا شجر فيها ولا شىء يختلط بها، فهى القراح والقرواح. فإذا كانت مهيأة للزراعة، فهى الحقل والمشارة والدّبرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 [فإذا لم تهيأ للزراعة، فهى بور] [1] . فإذا لم يصبها المطر، فهى الفلّ والجرز فإذا كانت غير ممطورة وهى بين أرضين ممطورتين، فهى الخطيطة. فإذا كانت ذات ندى ووخامة، فهى الغمقة. فإذا كانت ذات سباخ، فهى السّبخة. فإذا كانت ذات وباء، فهى الوبئة والوبيئة. فإذا كانت كثيرة الشجر، فهى الشّجراء والشّجرة. فإذا كانت ذات حيّات، فهى المحوّاة [2] . فإذا كانت ذات سباع أو ذئاب، فهى المسبعة والمذأبة. 2- ذكر تفصيل أسماء التراب وصفاته قال الثعالبىّ رحمه الله تعالى: الصّعيد، تراب وجه الأرض. والبوغاء، والدّقعاء، التراب الرّخو الرقيق الذى كأنه ذريرة. والثّرى، التراب النّدىّ: وهو كل تراب لا يصير طينا لازبا إذا بلّ. المور، التراب الذى تمور به الريح. الهباء، التراب الذى تطيّره الريح فتراه على وجوه الناس وجلودهم وثيابهم [يلتزق لزوقا] [3] .   [1] الزيادة من فقه الثعالبى. [2] كذا ضبط فى فقه اللغة، وفى اللسان: (وأرض محياة ومحواة كثيرة الجيات) وهو الأولى لاطراد هذا الوزن فى مثل ذلك. [3] الزيادة من فقه الثعالبى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 [والهابى، الذى دقّ وارتفع] [1] . السّافياء، التراب الذى يذهب فى الأرض مع الريح. النّبيئة، التراب الذى يخرج من البئر عند حفرها. الرّاهطاء والدّامّاء، التراب الذى يخرجه اليربوع من جحره ويجمعه.. الجرثومة، التراب الذى يجمعه النمل عند قريته. العفاء، التراب الذى يعفّى الآثار. وكذلك العفو. الرّغام، التراب المختلط بالرمل. السّماد، التراب الذى يسمّد به النبات. فإذا كان مع السّرقين، فهو الدّمال.. 3- ذكر تفصيل أسماء الغبار وأوصافه النّقع والعكوب، الغبار الذى يثور من حوافر الخيل وأخفاف الإبل. العجاج، الغبار الذى تثيره الريح. الرّهج والقسطل، غبار الحرب. الخيضعة، غبار المعركة. العثير، غبار الأقدام. المنين ما تقطّع منه. 4- ذكر تفصيل أسماء الطين وأوصافه قال: إذا كان الطين حرّا يابسا، فهو الصّلصال. فإذا كان مطبوخا، فهو الفخّار.   [1] الزيادة من فقه الثعالبى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 فإذا كان علكا لاصقا، فهو اللّازب. فإذا غيّره الماء وأفسده، فهو الحمأ. (وقد نطق القرآن بهذه الأسماء الأربعة) . فإذا كان رطبا، فهو الثّأطة والثّرمطة والطّثرة. فإذا كان رقيقا، فهو الرّداغ. فإذا كان ترتطم فيه الدوابّ، فهو الوحل. وأشدّ منه الرّدغة والرّزغة. وأشدّ منها الورطة تقع فيها الغنم فلا تقدر على التخلّص منها؛ ثم صارت مثلا لكل شدّة يقع فيها الإنسان. فإذا كان حرّا طيبا علكا وفيه خضرة، فهو الغضراء. فإذا كان مخلوطا بالتبن، فهو السّياع. فإذا جعل بين اللّبن، فهو الملاط. 5- ذكر تفصيل أسماء الرّمال قال: العداب، ما استرقّ [1] من الرمل. الحبل، ما استطال منه. اللّبب، ما انحدر منه. الحقف، ما اعوجّ منه. الدّعص، ما استدار منه.   [1] فى الأصل: ما اشتدّ. ولكن الذى فى لقاموس وفقه اللغة: ما استرق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 العقدة، ما تعقّد منه. العقنقل، ما تراكم منه. السّقط، ما جعل يتقطّع ويتصل منه. النّهبورة، ما أشرف منه. التّيهور، ما اطمأنّ منه. الشّقيقة، ما انقطع وغلظ منه. الكثيب والنّقا، ما احدودب وانهال منه. العاقر، ما لا ينبت شيئا منه. الهدملة، ما كثر شجره منه. الأوعس، ما سهل ولان منه. الرّغام، ما لان منه. وليس هو الذى يسيل من اليد. الهيام، ما لا يتمالك أن يمسك باليد منه للينه. الدّكداك، ما التبد بالأرض منه. العانك، ما تعقّد منه حتّى لا يقدر البعير على المسير فيه. 6- ذكر ترتيب كمية الرمل قال الثعالبىّ: الكثير يقال له العقنقل. فإذا نقص، فهو كثيب. فإذا نقص، فهو عوكل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 فإذا نقص عنه، فهو سقط. فإذا نقص عنه، فهو عداب. فإذا نقص، فهو لبب. وقال فى كتابه «الغريب [1] » : إذا كانت الرملة مجتمعة، فهى العوكلة. فإذا انبسطت وطالت، فهى الكثيب. فإذا انتقل الكثيب من موضع إلى آخر بالرياح وبقى منه شىء رقيق، فهو اللّبب. فإذا نقص، فهو العداب. 7- ذكر تفصيل أسماء الطرق وأوصافها قال الثعالبىّ: المرصاد والنّجد، الطريق الواضح؛ وكذلك الصّراط والجادّة والمنهج واللّقم والمحجّة، وسط الطريق ومعظمه. واللّاحب، الطريق الموطّأ. المهيع، الطريق الواسع. الوهم، الطريق الذى يرد فيه الموارد. الشّارع، الطريق الأعظم. النّقب والشّعب، الطريق فى الجبل. الخلّ، الطريق فى الرمل.   [1] ليس هذا الكتاب الثعالبى؛ وانما هو كتاب «الغريب المصنف» لأبى عمرو الشيبانى؛ الموجود منه نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 المخرف، الطريق فى الأشجار. ومنه الحديث: «عائد المريض فى مخارف الجنة» . النّيسب، الطريق المستقيم؛ وقيل إنه الطريق المستدق الواضح، كطريق النمل والحية وحمر الوحش. والله أعلم. الباب الثالث من القسم الرابع من الفن الأوّل فى طول الأرض ومسافتها ذهب المتكلمون فى ذلك أن مسافة الأرض خمسمائة عام: ثلث عمران، وثلث خراب، وثلث بحار؛ وأن مقدار المعمور من الأرض مائة وعشرون سنة: تسعون منها ليأجوج ومأجوج، واثنا عشر للسودان، وثمانية للروم، وثلاثة للعرب، وسبعة لسائر الأمم. وقيل إن الدّنيا سبعة أجزاء: ستة منها ليأجوج ومأجوج، وواخذ لسائر الناس. وقيل إن الأرض خمسمائة عام: البحار منها ثلاثمائة، ومائة خراب، ومائة عمران. وقيل إن الأرض أربعة وعشرون ألف فرسخ: للسودان منها اثنا عشر ألفا، وللروم ثمانية آلاف فرسخ، ولفارس ثلاثة آلاف، وللعرب ألف. وقال وهب بن منبه: ما العمارة من الدّنيا فى الخرب إلا كفسطاط فى الصحراء. وقال أردشير بن بابك: إن الأرض أربعة أجزاء: جزء منها للترك، وجزء للعرب، وجزء للفرس، وجزء للسّودان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 وقيل: إن الأقاليم سبعة، والأطراف أربعة، والنواحى خمسة وأربعون، والمدائن عشرة آلاف، والرساتيق مائتا ألف وستة وخمسون ألفا. وقال الخوارزمىّ صاحب الزيج: دور المعمور سبعة آلاف فرسخ، وهو نصف سدس الأرض، والجبال، والمفاوز، والبحار. والباقى خراب يباب لا نبات فيه ولا حيوان. ومثّل المعمور بصورة طائر، رأسه الصين، والجناح الأيمن الهند والسند، والجناح الأيسر الخزر، وصدره مكة والعراق والشام ومصر، وذنبه الغرب. وزعم أصحاب الهيئة أن قطر الأرض سبعة آلاف وأربعمائة وأربعة عشر ميلا، وأن دورها عشرون ألف ميل وأربعمائة ميل. وذلك جميع ما أحاطت به من برّ وبحر. وإنما علم ذلك وحرر من عبد الله المأمون، وذلك أنه لما أشكل عليه ما ذكره المتقدّمون من مقدار الأرض بعث جماعة من أهل الخبرة بالحساب والنجوم- منهم علىّ بن عيسى- إلى برّية سنجار. وتفرّقوا من هناك. فذهب بعضهم إلى جهة القطب الشمالىّ، وذهب آخرون إلى جهة القطب الجنوبىّ، وسار كل منهم فى جهته إلى أن وصل غاية ارتفاع الشمس نصف النهار، وقد زال وتغير عن الموضع الذى اجتمعوا فيه وتفرّقوا منه، مقدار درجة واحدة. وكانوا قد ذرعوا الطريق فى ذهابهم، فنصبوا السهام، ووتدوا الأوتاد، وشدّوا الحبال. ثم رجعوا وامتحنوا الذرع ثانية، فوجدوا مقدار درجة واحدة من السماء سامتت وجه بسيط الأرض ستة وخمسين ميلا وثلثى ميل. (والميل أربعة آلاف ذراع؛ والذراع ست قبضات؛ والقبضة أربع أصابع؛ والإصبع ست شعيرات، بطون بعضها إلى بعض؛ والشعيرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 ست شعرات من شعر الخيل) . فضربت هذه الأميال فى جميع درجات الفلك، وهى ثلاثمائة وستون درجة، فخرج من الضرب عشرون ألف ميل وأربعمائة ميل. فحكم بأن ذلك دور الأرض. وقال أبو زيد أحمد بن سهل البلخىّ: مسافة طول الأرض من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب نحو من أربعمائة مرحلة، ومسافة عرضها من حيث العمران الذى من جهة الشمال (وهو مساكن يأجوج ومأجوج) إلى حيث العمران الذى من جهة الجنوب (وهو مساكن السودان مائتان وعشرون مرحلة؛ وما بين برارى يأجوج ومأجوج والبحر المحيط فى الجنوب خراب ليس فيه عمارة. ويقال إن مسافة ذلك خمسة آلاف فرسخ. حكى هذه الأقوال صاحب كتاب «مباهج الفكر ومناهج العبر» رحمه الله. الباب الرابع من القسم الرابع من الفن الأوّل 1- فى الأقاليم السبعة ذهب أصحاب الزيجات إلى أن كل إقليم منها كأنّه بساط ممدود، طوله من المغرب إلى المشرق، وعرضه من الجنوب إلى الشمال. 1- فأما الإقليم الأوّل. فمبدؤه من مشرق أرض الصين إلى مدائن أبوابها. وهى الأنهار التى تدخل السفن فيها من البحر إلى المدائن الجليلة، مثل خانقو وخانفور. [1]   [1] كذا بالأصل والصواب، خانجو عن كتاب «تقويم البلدان» لأبى الفدا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 وفيه جزيرة سرنديب. ومن أرض اليمن ما كان جنوبيا من صنعاء، مثل ظفار وحضرموت وعدن. وفيه من بلد النوبة دنقلة؛ ومن بلد السودان غانة. ثم ينتهى إلى البحر المحيط. وعرضه من خط الاستواء إلى مقدار ما يبعد عنه عشرون درجة وثلاث عشرة دقيقة. وذهب بعض الناس إلى أن أوّل المعمور من حيث يكون العرض وخط الاستواء اثنتى عشرة درجة ونصف وربع درجة، وفيما بين هذا العرض وخط الاستواء مسكون بطوائف من السودان فى عداد الوحوش والبهائم. وعدّ فيه بطليموس من البلاد ذوات العروض ستين مدينة. وأهل هذا الإقليم سود، وهو قليل الساكن لإفراط حرّه. 2- وأما الإقليم الثانى. فيبتدئ من بلاد الصين، ويمرّ على بعض بلاد الهند الساحلية، مثل تانة [1] ، وصيمور، وسندان؛ ومن بلاد السند على المنصورة وديبل، ثم يبلغ عمان. ويكون فيه من أرض العرب: نجران، وهجر، وجنّابة [2] ، ومهرة، وسبأ، وتبالة، والطائف، وجدّة، ومكّة، والمدينة، ومملكة الحبشة، وأرض البجة، وأسوان، وقوص، والصعيد الأعلى، وجنوب بلاد المغرب حتّى ينتهى إلى البحر المحيط؛ وعرضه من غاية الإقليم الأوّل إلى سبع وعشرين درجة واثنتى عشرة دقيقة. وزعم بطليموس أن فيه أربعمائة وخمسين مدينة. وأهله بين السمرة والسواد، وهو كثير الذهب.   [1] اسم لمدينة ببلاد الهند. قال البيرونى: هى على الساحل. والنسبة اليها «تانشى» ومنها الثياب التانشية (انظر تقويم البلدان) . [2] فى معجم ياقوت: جنابة بلدة صغيرة من سواحل فارس، وهى فى الاقليم الثالث. وفى «تقويم البلدان» (جنابة بلدة قد خرب غالبها، وهى فرضة لفارس، وضبطها ابن خلكان بفتح الجيم والمشهور الضم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 3- وأما الإقليم الثالث. فمبدؤه من شرق أرض الصين، وفيه مدينة مملكتها، حمدان [1] ؛ وفيه من بلاد الهند تانش والقندهار، ومن بلاد السند المولتان وقزدار [2] . ثم يمرّ ببلاد سجستان، وكرمان، وفارس، وأصبهان، والأهواز، والبصرة، والكوفة، وأرض بابل، وبلاد الجزيرة، والشام، وفلسطين، وبيت المقدس، والقلزم، والتّيه، وأرض مصر، والإسكندرية، وبلاد برقة، وإفريقيّة، وتاهرت، وبلاد طنجة، والسّوس، وينتهى إلى البحر المحيط. وعرضه من غاية الإقليم الثانى فى العرض إلى تمام ثلاث وثلاثين درجة وتسع وأربعين دقيقة. وزعم بطليموس أن فيه تسعا وخمسين مدينة. وأهله سمر. 4- وأما الإقليم الرابع. فمبدؤه من أرض الصين، ويمرّ على التّبّت والحنق [3] ، ثم على جبال قشمير، ووخان [4] ، وتل حسان، وكابل، والغور، وهراة، وبلخ، وطخارستان؛ ويمتدّ إلى الرىّ، وقمّ، وهمذان، وحلوان [5] ، وبغداد، والموصل، وأذربيجان، ويمتدّ على منبج، وطرسوس، والثغور، وأنطاكية، وجزيرة قبرس، وصقلّيّة، ثم على الزّقاق إلى البحر المحيط؛ وعرضه من غاية الإقليم الثالث فى العرض إلى تتمة تسع وثلاثين درجة وعشرين دقيقة.   [1] هكذا بالأصل. ولعل المراد مدينة واقعة على النهر المشهور باسم خمدان ببلاد الصين. [2] فى الأصول: «كرورا» وليس بالسند بلد بهذا الاسم. ويترجح أن النساخين حرفوه عن «كردار» ، ويقال فيه «قصدار» (انظر معجم ياقوت) . [3] فى ياقوت: والختن .... وبرجان، وبذخشان. وهو الصواب. [4] لم نعثر على بلدة بهذا الاسم ولعلها محرفة عن «وخش» وهى كما فى معجم ياقوت: بلدة من نواحى بلخ. وفى «تقويم البلدان» : انها بلدة بما وراء النهر فى الاقليم الرابع. [5] أى حلوان العراق، لا حلوان مصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 وزعم بطليموس أن فيه مائة وثلاثين مدينة. وأهله بين السمرة والبياض. 5- وأما الإقليم الخامس. فمبدؤه من أرض الترك المشرفين على يأجوج ومأجوج إلى كاشغر، وبلاساغون، وفرغانة، وإسبيجاب، [1] والشّاش، وأشروسنة، وسمرقند، وبخارى، وخوارزم، وبحر الخزر إلى باب الأبواب، وبرذعة، وميّافارقين، ودروب الروم، وبلادهم. ثم يمرّ على رومية الكبرى، وأرض الجلالقة [2] ، وبلاد الأندلس؛ وينتهى إلى البحر المحيط. وعرضه من غاية الإقليم الرابع إلى تمام ثلاث وأربعين درجة وثمانى عشرة دقيقة. وذكر بطليموس أن فيه سبعا وتسعين مدينة. وأكثر أهله بيض. 6- وأما الإقليم السادس. فمبدؤه من مساكن ترك المشرق، وهم الخرخيز، والكيماك، والتّغزغر، ثم على بلاد الخوز من شمال تخومها، واللّان، والسّرير، وأرض برجان، ثم على قسطنطينيّة، وأفرنجة [3] ، وشمال الأندلس؛ وينتهى إلى البحر المحيط؛ وعرضه من غاية الإقليم الخامس إلى تمام سبع وأربعين درجة وخمس عشرة دقيقة. وزعم بطلميوس أن فيه ثلاثا وثلاثين مدينة، وهو كثير الإمداد والثلوج. وأهله بيض الأبدان، شقر الشعور. 7- وأما الإقليم السابع. فليس فيه كبير عمارة، وإنما هو فى المشرق غياض وجبال يأوى إليها طوائف من الترك كالمتوحشين. ويمرّ على بلاد البجناك، ثم على بلاد البلغار، ثم على الروس والصقالبة، وينتهى إلى البحر المحيط. وعرضه من غاية   [1] هى المشهورة أيضا باسم: إسفيجاب. [2] أهل جلّيقيّة بشمال الأندلس. [3] أى فرنسا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 الإقليم السادس إلى تتمة خمسين درجة ونصف. وفيه الأرض المحفورة، وهى وهدة لا يقدر أحد أن ينزل إليها، ولا أن يصعد منها من هو فيها لبعد قعرها. يسكنها أمّة من الناس لا يدرى من هم. وإنما علم أنها معمورة برؤية الدّخان فيها نهارا، والنار ليلا. يشقها نهر يجرى، والعمارة محيطة به. وزعم بطليموس أن فيها ثلاثا وعشرين مدينة. وأهل هذا الإقليم بيض صهب الشعور. وما بقى من المعمور إلى نهايته إلى ثلاث وستين درجة مضاف إلى هذا الإقليم ومحسوب فيه. يسكنه طوائف من الناس، هم بالبهائم فى الخلق والخلق أشبه منهم ببنى آدم. 2- ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر الأرض يقال: أحمل من الأرض. أكتم من الأرض. أصبر من الأرض. آمن من الأرض. أوثق من الأرض. أوطأ من الأرض. أحفظ من الأرض. أكثر من الرمل. أظلم من الرمل. أعطش من الرمل. أوجد من التراب. ويقال: قتل أرضا عالمها، وقتلت أرض جاهلها. رماه بين سمع الأرض وبصرها. أخذت الأرض زخارفها. أفق قبل أن يحفر ثراك. ابتغوا الرزق فى خبايا الأرض. ومن أنصاف الأبيات: الأرض من تربة والناس من رجل أنّى تمطر الأرض السماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 ومن الأبيات: والأرض لا تطعم من فوقها ... إلا لكى تطعم من تطعمه وقال آخر: إذا الأرض أدّت ريع ما أنت زارع ... من البذر، فهى الأرض. ناهيك من أرض! وقال آخر: ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعا، ... فكم تحتها قوم همو منك أرفع! وقال آخر: يا أرض كم وافد أتاك فلم ... يرجع إلى أهله ولم يؤب! 3- ذكر شىء مما قيل فى وصف الأرض وتشبيهها قال الأخطل: وتيهاء ممحال كان نعامها ... بأرجائها القصوى أباعر همّل. ترى لامعات الآل فيها كأنّها ... رجال تعرّى تارة وتسربل. وجوز فلاة لا يغمّض ركبها ... ولاعين هاديها من الخوف تغفل. وكلّ بعيد الغور لا يهتدى له ... بعرفان أعلام ولا فيه منهل. ملاعب جنّان كأنّ ترابها ... إذا اطّردت فيها الرّياح تغربل. ترى الثعلب الحولىّ فيها كأنّه ... إذا ما علا نشزا حصان محجّل. وقال ذو الرمّة: ودوّيّة جرداء جدّاء خيّمت ... بها هبوات الصّف من كلّ جانب. سباريت يخلو سمع مجتازها بها ... من الصّوت، إلا من صياح الثّعالب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 وقال ذو الرمّة: وهاجرة السّراب من الموامى ... ترقّص فى عساقلها الأروم. تموت قطا الفلاة بها أواما ... ويهلك فى جوانبها النّسيم. مللت بها المقام فأرقتنى ... هموم لا تنام ولا تنيم. وقال ضابئ البرجمىّ: وداويّة تيه يحاربها القطا ... على من علاها من ضلول ومهتدى. مسافهة للعيس ناء نياطها؛ ... إذا سار فيها راكب، لم يغرّد. وقال مسلم بن الوليد: وقاطعة رجل السّبيل مخوفة ... كأنّ على أرجائها حدّ مبرد. مؤزّرة بالآل فيها كأنّها ... رجال قعود فى ملاء معمّد. وقال الصاحب بن عباد: وتيهاء لم تطمث بخفّ وحافر ... ولم يدر فيها النّجم كيف يغور. معالمها أن لا معالم بينها، ... وآياتها أنّ المسير غرور. ولو قيل للغيث، اسقها: ما اهتدى لها ... ولو ظلّ ملء الأرض وهو جزور. تجشّمتها، واللّيل وحف جناحه ... كأنّى سرّ والظّلام ضمير. وقال الشريف الرضى: وتنوفة حصباؤها ... خلقت لنار القيظ جمرا. تبدى جنادبها الأن ... ين أسى على المجتاز ظهرا. وترى بها العصفور متّ ... خذا وجار الضّبّ وكرا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 وقال المتنبى: مهالك لم يصحب بها الذّئب نفسه ... ولا حملت فيها الغراب قوادمه. وقال ابراهيم بن خفاجة الاندلسى: ومفازة لا نجم فى ظلمائها ... يسرى ولا فلك بها دوّار. تتلهّب الشّعرى بها فكأنّها ... فى كفّ زنجىّ الدّجى دينار. ترمى بها الغيطان فيها والرّبى ... آل كما يتموّج التّيّار. والقطب ملتزم لمركزه بها ... فكأنّه فى ساجه مسمار. قد لفّنى فيها الظّلام وطاف بى ... ذئب يلمّ مع الدّجى زوّار. طرّاق ساحات الدّيار مغاور ... خبث لأبناء السّرى غدّار. يسرى، وقد فضح الدّجى وجه الضّيا، ... فى فروة قد مسّها اقشعرار. فعشوت فى ظلماء لم يقدح بها ... إلا لمقلته، وبأسى نار. ورفلت فى خلع علىّ من الدّجى ... عقدت بها من أنجم أزرار. واللّيل يقصر خطوه، ولربّما ... طالت ليالى الرّكب وهى قصار. وقال آخر: ومجهولة الأعلام طامسة الصّوى ... إذا عسفتها العيس بالرّكب، ضلّت. إذا ما تهادى الرّكب فى فلواتها، ... أجابت نداء الرّكب فيها فأصدت. وقال مسعود، أخوذى الرمّة يصف بعد فلاة: ومهمهه فيها السّراب يلمح ... يدأب فيها القوم حتّى يطلحوا. ثمّ يظلّون كأن لم يبرحوا ... كأنّما أمسوا بحيث أصبحوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 وقال مسلم: تجرى الرّياح بها مرضى مولّهة ... حسرى تلوذ بأطراف الجلاميد. وقال آخر: ودوّيّة مثل السّماء قطعتها ... مطوّقة آفاقها بسمائها. وقال بعض الاعراب [1] فى الآل: كفى حزنا أنّى تطاللت كى أرى ... ذرى علمى دمخ فما يريان! كأنّهما، والآل ينجاب عنهما، ... من البعد عينا برقع خلقان. قال أبو هلال: وهذا من أغرب ما روى من تشبيهات القدماء. وقال آخر: والآل تنزو بالصّوى أمواجه ... نزوالقطا الكدرىّ فى الأشراك. والظّلّ مقرون بكلّ مطيّة ... مشى المهار الدّهم بين رماك. وقال ابن المعتز: وما راعنى بالبين إلا ظعائن ... دعون بكائى، فاستجاب سواكبه. بدت فى بياض الآل والبعد دونه ... كأسطر رقّ أمرض الخطّ كاتبه.   [1] هو طهمان بن عمرو الدارمى، كما فى ياقوت. وأورد القصيدة بتمامها، وهى 15 بيتا. (معجم البلدان، مادة دمخ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 الباب الخامس من القسم الرابع من الفن الأوّل 1- فى الجبال قال الله تعالى: « «وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ» *. قال المفسرون: خلق الله عز وجل الأرض على الماء فمادت وتكفّأت، كما تتكفّأ السفينة، فأثبتها بالجبال. ولولا ذلك ما أقرّت عليها خلقا. وروى أبو حاتم فى كتاب العظمة، أن النبىّ (صلى الله عليه وسلم) قال: «إن الله تعالى لما خلق الأرض، جعلت تميد. فخلق الجبال فألقاها عليها فاستقرّت. فعجبت الملائكة من خلق الجبال، وقالت: يا رب هل خلقت خلقا أشدّ من الجبال؟ قال: الحديد، قالت: فهل من خلق أشدّ من الحديد؟ قال: النار، قالت: فهل من خلق أشدّ من النار؟ قال: الماء، قالت: فهل من خلق أشدّ من الماء؟ قال: الريح، قالت: فهل من خلق أشدّ من الريح؟ قال: ابن آدم، يتصدّق بيمينه فيخفيها عن شماله» . وعن ابن عباس (رضى الله عنهما) أنه قال: «كان العرش على الماء قبل أن يخلق الله السماوات والأرض. فبعث الله ريحا فعصفت الماء فأبرز عن حشفة فى موضع البيت. فدحا الأرض من تحتها فمادت فأوتدها بالجبال» . فكان أوّل جبل وضع، جبل أبى قبيس. وهو الجبل المطلّ على الكعبة. وفى كنيته بأبى قبيس قولان: أحدهما- أن آدم كناه بذلك حين اقتبس منه النار التى بين أيدى الناس (وقد تقدّم بيان ذلك فى الباب الرابع من القسم الثانى من هذا الفنّ فى ذكر النّيران) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 الثانى- أنه أضيف إلى رجل من جرهم كان يتعبد فيه، اسمه أبو قبيس. ويقال فيه أبو قابوس، وشيخ الجبال. وكان من قبل يسمّى بالأمين. وقال محمد بن السائب الكلبىّ: «إن الله عز وجل لما خلق الأرض، مادت بأهلها. فضربها بجبل السّراة فاطمأنت» . وهو أعظم جبال العرب وأكثرها خيرا، ويسمّى الحجاز. وهو الذى حجز بين تهامة ونجد. فتهامة من جهته الغربية مما يلى البحر، ونجد من جهته الشرقية. وهو آخذ من قعر عدن إلى أطرار [1] الشأم» . ويسمّى هناك جبل لبنان. فإذا تجاوز اللاذقية ومرّ بالثغور، سمّى جبل اللّكّام. ثم يمتدّ فى بلاد الروم إلى بلاد أرمينية، فيسمّى هناك حارثا وحويرثا. ثم يمتدّ إلى بحر الخزر، وفيه «الباب والأبواب» . وقال بعض المفسرين فى قوله تعالى: «ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ» إنه جبل محيط بالعالم من زمرّدة خضراء، وإن جبال الدّنيا متفرّعة عنه. وقال قوم: إن السماء مطبقة عليه والشمس تغرب فيه، وهو الحجاب الساتر لها عن أعين الناس، فى أحد الوجوه المفسّر بها قوله تعالى: «حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ» . وقال قوم: إن منه إلى السماء مقدار ميل، وإن الذى يرى من خضرة السماء مكتسب من لونه. وقال ابن حوقل: جميع الجبال الموجودة فى الدّنيا متفرّعه عن الجبل الخارج من بلاد الصين، مشرقا ذاهبا على خط مستقيم إلى بلاد السودان مغرّبا.   [1] فى الأصل أطبران، وهو تحريف. والتصحيح عن البكرى: أطرار الشام وفيه فى موضع آخر «أطراف بوادى الشام» ومثل هذا فى ياقوت. وأطرار الوادى نواحيه وكذلك أطرار البلاد والطريق واحدها طر. وأطرار البلاد أطرافها. (عن تاج العروس) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 وقال أبو الفرج قدامة بن جعفر فى «كتاب الخراج» : وجدت خلف خط الاستواء فى الجنوب وقبل الإقليم الأوّل جبالا تسعة: خمسة منها متقاربة المقادير، أطوالها ما بين أربعمائة ميل إلى خمسمائة ميل؛ وجبلا طوله سبعمائة ميل؛ وجبل القمر، وطوله ألف ميل؛ وجبلا بعضه وراء خط الاستواء، وبعضه فى الإقليم الأوّل؛ وجبلا بعضه وراء خط الاستواء، وبعضه فى الإقليم الثانى. قال: ومجموع ما عرف فى الأقاليم السبعة من الجبال مائة وثمانية وتسعون جبلا. منها فى الإقليم الأوّل سبعة عشر جبلا، وفى الإقليم الثانى تسعة وعشرون جبلا، وفى الإقليم الثالث أحد وثلاثون جبلا، وفى الإقليم الرابع أربعة وعشرون جبلا، وفى الإقليم الخامس تسعة وعشرون جبلا، وفى الإقليم السادس أربعة وعشرون جبلا، وفى الإقليم السابع أربعة وأربعون جبلا. 2- ذكر أسماء ما ارتفع من الأرض إلى أن يبلغ الجبيل ثم ما ارتفع عن ذلك إلى أن يبلغ الجبل العظيم، وترتيب ذلك قال الثعالبىّ فى كتابه المترجم «بفقه اللغة» وأسنده إلى أئمتها: أصغر ما ارتفع من الأرض النّبكة؛ ثم الرابية أعلى منها؛ ثم الأكمة؛ ثم الزّبية؛ ثم النّجوة؛ ثم الرّيع؛ ثم القفّ؛ ثم الهضبة (وهى الجبل المنبسط على الأرض) ؛ ثم القرن (وهو الجبل الصغير) ؛ ثم الدّكّ (وهو الجبل الذليل [1] ) ؛ ثم الضّلع (وهو الجبل الذى ليس بالطويل) ؛ ثم النّيق (وهو الجبل الطويل) ؛ ثم الطّود؛ ثم الباذخ والشّامخ؛ ثم الشّاهق؛ ثم المشمخرّ؛ ثم الأقود والأخشب؛ ثم الأيهم؛ ثم القهب (وهو العظيم) ؛ ثم الخشام.   [1] فى الأصل: الجبل الدكيك. وقد اعتمدنا ما فى القاموس وفقه اللغة أيضا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 3- ذكر ترتيب أبعاض الجبل قال الثعالبىّ: أوّل الجبل الحضيض، وهو القرار من الأرض عند أصل الجبل. ثم السّفح، وهو ذيله. ثم السّند، وهو المرتفع فى أصله. ثم الكيح، وهو عرضه. ثم الحضن، وهو ما أطاف به. ثم الرّيد، وهو ناحيته المشرفة على الهواء. ثم العرعرة، وهى غلظه ومعظمه. ثم الحيد، وهو جناحه. ثم الرّعن، وهو أنفه. ثم الشّعفة، وهى رأسه. وقال صاحب كتاب «الفاخر» : يقال من أسماء الجبال: العظيم منها الطّور، والطّود، والكفر، والقهب، والعمود، والعلم، والأرعن، [1] والمشمخرّ. والأيهم الطويل، وهو الشامخ، والشاهق، والباذخ، والباسق، والأقود. والأخشب، الخشن. والعقاب، الصّعاب. والثّنايا، التى ليست بصعبة.   [1] كذا بالأصل: والذى فى القاموس واللسان والمخصص (الرّعن أنف الجبل المتقدّم أو الجبل. الطويل) فما هنا من تحريف النساخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 والهرشمّ، النّخر. والخشام، جبل طويل ذو أنف. والوزر، والملجأ، والقلعة، ما يحصّن فيه. والقرن، جبل صغير. والضّلع والدّكّ، فيه دقّة وانحناء. والنّيق، الذى لا يستطاع أن يرتقى إليه. وأعلى الجبل قلّته وقنّته وذؤابته. وعرعرته، غلظه. والفند، القطعة منه. وشعفه ومصاده، أعلاه. والكيح والكاح، عرضه. والرّكح [1] ، ناحيته المشرفة على الهواء. والحضيض، أسفله. قال: وصغار الجبال، اليفع، والضّرس، والضّرب والعنتيبة [2] ، والعنتوت، والأكمة، والهضبة. والذّريحة، ما انبسط على وجه الأرض. واللّوذ، حضن الجبل وما يطيف به.   [1] فى الأصل: الوكح بالواو. وهو تصحيف من الناسخ. وقد صححناه اعتمادا على ما فى القاموس والمخصص. [2] كذا بالأصل ولم نعثر عليها فى القاموس واللسان والمخصص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 والرّيد والرّيود، نواحيه المحدّدة. والحيد، شاخص يتقدّم كالجناح. ومثله الشّنعوف. والصّدع والشّقب، شقّ فيه. والغار والكهف، مثل البيوت فيه. والقردوعة، الزاوية فيه. واللهب والنّفنف والغار، مهواة بين جبلين. والشّؤون، خطوط فيه. والمخرم، منقطع أنفه. والقرناس، شبه الأنف. والإرم، العلم فيه. 4- ذكر ترتيب مقادير الحجارة قال الثعالبى: إذا كانت صغيرة، فهى حصاة. فإذا كانت مثل الجوزة وصلحت للاستنجاء بها، فهى نبلة. وفى الحديث: «اتّقوا الملاعن وأعدّوا النّبل» . يعنى عند إتيان الغائط. فإذا كانت أعظم من الجوزة، فهى قنزعة. فإذا كانت أعظم منها وصلحت للقذف، فهى مقذاف ورجمة ومرداة. ويقال: إن المرداة، حجر الضبّ الذى ينصبه علامة لحجره. فإذا كانت ملء الكفّ، فهى يهيرّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 فإذا كانت أعظم منها، فهى: فهر، ثم جندل، ثم جلمد، ثم صخرة، ثم قلعة. وهى التى تنقلع من عرض الجبل. وبها سميت القلعة التى هى الحصن. وقال صاحب كتاب «الفاخر» : من أسمائها، الحجارة؛ والجلمود والجلمد الحجر الصّلب. والبرطيل، الصّخرة العظيمة. والصّفوان، الأملس. والرّضمة، الحجر العظيم. والأتان، صخرة فى مسيل ماء أو حافة نهر. والإزاء، التى عند مهراق الدلو. والرّجمة، ما تطوى به البئر. والكذّان، الرخو. واليرمع، الأبيض الرّخو. والمدقّ والمداك والصّلاية، حجر العطار الذى يسحق عليه العطر. والفهر، ما يملأ الكفّ ويسحق به العطر. والمرداة، ما يكسر به الحجر. والمرداس، ما يرمى به فى البئر لينظر أفيها ماء أم لا. قال الشاعر: من جعل العدّ القديم الّذى ... أنت له عدّة أحراس، إلى ظنون أنت من مائه ... منتظر رجعة مرداس. والنّشف، حجر تدلك به الرّجل فى الحمّام. والنّقل، ما كان في طرق الجبال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 والأثفيّة، ما ينصب عليه القدر. والقلاعة، ما يرمى به فى المقلاع. والظّرّان، حجارة محدّدة يذبح بها. والصّفيح، ما رقّ منه وعرض. واللّخاف، حجارة عراض. والفلك، قطعة مستديرة وترتفع عما حولها. والمدملك، المدوّر. والكليت، حجر مستدير يسدّ به وجار الضّبع. والبلّيت، [1] التام. وقال ابن الأعرابىّ: القبيلة، صخرة على رأس البئر؛ والعقابان من جنبتيها يعضدانها. ومنها المرو، وهى البيض كالحصى. والحصباء، الصغار. والرّضراض، نحوها. والقضيض، أصغر منها. والزّنانير، واحدها زنّير، أصغر ما يكون.   [1] كذا بالأصل وعبارة القاموس (والبليت كسكّيت لفظا ومعنى) واللسان (ولبلّيت الرجل الرّمّيت) وهو الحليم الساكن القليل الكلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 5- ذكر ما يتمثّل به مما فيه ذكر الجبال والحجارة ما جاء من ذلك على لفظ أفعل. يقال: أثقل من ثهلان. أثقل من نضاد. أثقل من أحد. أصلب من الحجر. أصلب من الجندل. أقسى من الحجر. أصبر من حجر. أيبس من صخر. أبقى من النّقش فى الحجر. ويقال: رمى فلان بحجره. ردّ الحجر من حيث جاءك. وجّه الحجر وجهة ما، أى دبّر الأمر على وجهه. ألقمه الحجر، أى جاوبه بجواب مسكت. رماه بثالثة الأثافى. أنجد من رأى حضنا (وحضن جبل بنجد) أى من رآه لم يحتج أن يسأل هل بلغ نجدا أم لا. الليل يوارى حضنا، أى يخفى كل شىء حتّى الجبل. ومن أنصاف الأبيات: كأنّه علم فى رأسه نار إذا قطعنا علما بدا علم قوموا انظروا كيف تزول الجبال (يضرب لموت الرؤساء) . جندلتان اصطكّتا اصطكاكا (يضرب لقرنين يتصاولان) . ومن الأبيات: ولو بغى جبل يوما على جبل، ... لانهدّ منه أعاليه وأسفله! تتناثر الأطواد وهى شوامخ ... حتّى تصير مداوس الأقدام. جد فقد تنفجر للصّخ ... رة بالماء الزّلال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 6- ذكر شىء مما قيل فى وصف الجبال وتشبيهها قال السموءل بن عاديا: لنا جبل يحتلّه من نجيره ... منيع يردّ الطّرف وهو كليل! رسا أصله تحت الثّرى وسمابه ... إلى النّجم فرع لا يرام طويل! وقال إبراهيم بن خفاجة الأندلسىّ: وأرعن طمّاح الذّؤابة باذخ ... يطاول أعنان السّماء بغارب. يصدّ مهبّ الرّيح من كلّ وجهة ... ويزحم ليلا شهبه بالمناكب. وقور على ظهر الفلاة كأنّه ... طوال اللّيالى ناظر فى العواقب. يلوث عليه الغيم سود عمائم ... لها من وميض البرق حمر ذوائب. أصخت إليه وهو أخرس صامت ... فحدّثنى ليل السّرى بالعجائب. وقال: ألاكم كنت ملجأ فاتك ... وموطن أوّاه وموئل تائب! وكم مرّ بى من مدلج ومؤوّب ... وقال بسفحى من مطىّ وراكب! ولاطم من نكب الرّياح معاطفى ... وزاحم من خضر البحار جوانبى! فما كان إلّا أن طوتهم يد الرّدى ... فطارت بهم ريح النّوى والنّوائب. وما غيّض السّلوان دمعى وإنّما ... نزفت دموعى من فراق الأصاحب. وأسمعنى من وعظه كلّ عبرة ... يترجمها عنه لسان التّجارب. فسلّى بما أبكى، وسرّ بما شجى، ... وكان على ليل السّرى خير صاحب. وقلت وقد نكّبت عنه مطيّتى: ... سلام فإنّا من مقيم وذاهب! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 وقال أيضا عفا الله عنه: وأشرف طمّاح الذّؤابة شامخ ... تمنطق بالجوزاء ليلا، له خصر. وقور على مرّ اللّيالى كأنّما ... يصيخ إلى نجوى وفى أذنه وقر. تمهّد منه كلّ ركن زكابه ... فقطّب إطراقا وقد ضحك البدر. ولاذ به نسر السّماء كأنّما ... يجرّ إلى وكر به ذلك النّسر. فلم أدر من صمت له وسكينة ... أكبرة سنّ وقّرت منه أم كبر. وقال أيضا يصفه نثرا من رسالة كتبها إلى بعض الرؤساء: وكيف لى بقربك ودونك كل علم باذخ، مجّ الليل عليه رضابه، وصافحت النجوم هضابه؛ قد ناء بطرفه، وشمخ بأنفه، وسال الوقار على عطفه؛ قد لاث من غمامه عمامه، وأرسل من ربابه ذؤابه؛ تطرّزها البروق الخواطف، وتهفو بها الرياح العواصف؛ بحيث مدّه البسيط بساطا، وضربت السماء فسطاطا. الباب السادس من القسم الرابع من الفن الأوّل 1- فى ذكر البحار والجزائر روى عن ابن عباس (رضى الله عنهما) أنه قال: «لما أراد الله عز وجل أن يخلق الماء خلق ياقوتة خضراء ووصف من طولها وعرضها وسمكها، ثم نظر إليها بعين الهيبة فصارت ماء يترقرق لا يثبت فى ضحضاح. فما يرى من التموّج والاضطراب إنما هو ارتعاده من خشية الله تعالى؛ ثم خلق الريح فوضع الماء على متنه؛ ثم خلق العرش ووضعه على متن الماء» . وفسر بهذا قوله عز وجل: «وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 2- ذكر بحار المعمور من الأرض وبحار المعمور ثلاثة: أعظمها البحر المحيط، ثم بحر ما نيطش [1] ، ثم بحر الخزر. فأما البحر المحيط وجزائره، ويسمّى باليونانية أوقيانوس، ويسمّى بحر الظلمات، سمّى بذلك لأن ما يتصاعد من البخار عنه لا تحلله الشمس لأنها لا تطلع عليه. فيغلظ ويتكاثف فلا يدرك البصر هيئته. ولعظم أمواجه، وتكاثف ظلمته، وغلظ مائه، وكثرة أهوائه، لم يعلم العالم من حاله إلا بعض سواحله وجزائره القريبة من المعمور. والذى علم به من الجزائر ستة من جهة المغرب، تسمّى جزائر السعادات، والجزائر الخالدات. قال أبو عبيد البكرىّ فى كتابه المترجم «بالمسالك والممالك» : وبإزاء طنجة الجزائر المسماة باليونانية، فرطناتس أى السعيدة. وسميت بذلك لأن فى شعرائها [2] وغياضها كلّها أصناف الفواكه الطيبة من غير غراسة ولا فلاحة، وأن أرضها تحمل الزرع مكان العشب، وأصناف الرياض بدل الشوك. وهى متفرّقة متقاربة. ويقال إن بعض المراكب عصفت عليها الريح فألقتها إلى جزيرة من هذه الجزائر، فنزل من فيها من الركاب إليها، فوجدوا فيها من أنواع أشجار الفواكه وأشجار الأفاويه وأنواع اليواقيت كل مستحسن. فحملوا منه ما أطاقوا ودخلوا به بلاد الأندلس. فسألهم ملكها من أين لهم هذا. فأخبروه بأمرهم، فجهز مراكب وسيرها، فلم يقفوا على حزيرة منها. وعدمت المراكب لعظم البحر وشدّة عصف الريح فلم يرجع منها شىء.   [1] كذا فى الأصل، وفى كثير من كتب الجغرافية العربية: وهو المعروف فى كتب الجغرافية العربية مثل أبى الفدا ببحر أزق، وعند الأتراك ببحر آزوف. [2] الشعراء: الأرض ذات الشجر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 ويقال إن هذه الجزائر مسكونة بقوم هم بالوحوش أشبه منهم بالناس. وبينها وبين ساحل البحر عشرة أجزاء. ويقال إن فى جهة المشرق مما يلى بلاد الصين ستة جزائر أخرى، تسمّى جزائر السيلى. يقال إن ساكنيها قوم من العلويين، وقعوا إليها لما هربوا من بنى أمية. ويقال إن جزائر السيلى لم يدخلها أحد من الغرباء وطاوعته نفسه على الخروج منها لصحة هوائها ورقة مائها، وإن كان منها فى عيش قشيف. وفى هذا البحر من الجزائر العامرة جزيرة برطانية، وهى تحاذى جزيرة الأندلس، وأهلها صهب الشعور، زرق العيون. ومما يلى بلاد إفرانسية جزائر يغمرها خلق من الفرنج، لا ينقادون لبلد، ولا يدينون بدين. وفيما يلى الأرض الكبيرة جزيرة ذات أبرجة، يحيط بها سبعمائة ميل وخمسون ميلا، وفيها أربع مدائن، فى كل مدينة ملك. وجزيرة برفاغة. يحيط بها أربعة آلاف ميل، وفيها ثلاث مدائن عامرة. والدّاخل إليها قليل. وهى كثيرة الأنواء والأمطار. وأهلها يحصدون زرعها قبل جفافه لقلة طلوع الشمس عندهم، ويجعلونه فى بيت ويوقدون النار حوله حتّى يجف. وجزيرة أنقلطرة. فيها مدائن عامرة، وجبال شاهقة، وأودية، وأرض سهلة. والشتاء بها دائم. وبين هذه الجزيرة والبر مجاز سعته اثنا عشر ميلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 وفيه مما يلى الصقالبة جزيرتان: إحداهما جزيرة أمرنانيوس النساء، لا يسكنها غير النساء فقط. وتسمّى الأخرى أمرنانيوس الرجال، لا يسكنها غير الرجال. وهم فى كل عام يجتمعون زمان الربيع، ويتناكحون نحوا من شهر ثم يفترقون. ويقال إن هاتين الجزيرتين لا يكاد يقع طرف أحد عليهما لكثرة الغمام، وظلمة البحر، وعظم الأمواج. 3- ذكر ما يتفرّع من البحر المحيط يتفرّع من البحر المحيط خليجان: أحدهما من جهة المغرب، ويسمى البحر الرومىّ. والآخر من جهة المشرق، ويسمّى البحر الصينىّ، والهندىّ، والفارسىّ، واليمنىّ، والحبشىّ، بحسب ما يمرّ عليه من البلاد. وهما المرادان بقوله تعالى: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) . أى لا يبغى هذا على هذا. والبرزخ أرض بين الفرما التى هى على بحر الروم، وبين مدينة القلزم التى هى على بحر الحبش [1] ، مسافتها ثلاثة أيام. وقيل: البرزخ إرسال ماء البحر الحلو على ماء البحر الملح، لأنه مغيض له. فلا سبيل لأحدهما على الآخر، بل جعل الله بينهما حاجزا وهو البرزخ. فأما البحر الرومىّ وجزائره، فإن المؤرّخين قالوا إن الإسكندر حفره وأجراه من البحر المحيط. ويقولون إن جزيرة الاندلس وبلاد البربر كانت أرضا واحدة يسكنها الإشبان والبربر. وكان بعضهم يغير على بعض، والحرب بينهم سجال. فلما   [1] فى الأصل بحر فارس. وكان الأصوب أن يعبر باللفظ الذى اختاره لهذا المقام، وهو البحر الحبشى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 ملك الإسكندر، رغب إليه الإشبان فيما يحول بينهم وبين البربر. فرأى ان يجعل بينهما خليجا من البحر يمكن به احتراس كل طائفة من الأخرى. فحفر زقاقا طوله ثمانية عشر ميلا، وعرضه اثنا عشر ميلا. وبنى بجانبيه سكرين [1] ، وعقد بينهما قنطرة يجاز عليها، وجعل عليها حرّاسا يمنعون الجواز عليها من جهة البربر إلا بإذن من جعله نائبا عنه فى بلاد الإشبان. وكان قاموس البحر أعلى من أرض الزقاق، فطما وغطّى السّكرين والقنطرة، وساق بين يديه بلادا وطغا على أخرى. حتّى إن المسافرين فيه يخبرون أن المراكب فى بعض الأوقات يتوقف سيرها فيه مع وجود الريح. فيسبرون أمرها، فيجدون المانع لها سلوكها بين شرفات السور أو بين حائطين. فعظم طولا وعرضا، وصار بحرا [2] . قال صاحب كتاب «مباهج الفكر ومناهج العبر» : وقد زاد عرضه ستة أميال عما كان عليه فى زمن الإسكندر. فصار ثمانية عشر ميلا. قال: وزعم السالكون فيه أنّ البحر ربما جزر فى بعض الأوقات، فترى القنطرة. قالوا: وهذا الزقاق صعب شديد متلاطم الأمواج مهول، شبيه بما جاوره من البحر المحيط. وأهل الأندلس يقولون إن بين هذا البحر وبين البحر المحيط بحرا يسمونه بحر الأيلاية بتفخيم اللام [3] . وهو بحر عظيم الموج صعب السلوك.   [1] السكر (بكسر السين) هو ما سدّ به النهر. [2] هو المسمى بحر الزقاق واسمه الآن مجاز جبل طارق. [3] لعل المؤلف يشير إلى خليج ليون فهو مشهور بشدّة التيار وبصعوبة السلوك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 ومبدأ جريه من البحر الرومىّ من الإقليم الرابع. فإذا خرج من الزقاق يمرّ مشرّقا فى جهة بلاد البربر وشمال المغرب الأقصى إلى أن يمرّ بالمغرب الأوسط، إلى إفريقية، إلى برقة، إلى الإسكندرية، إلى شمال أرض التيه وأرض فلسطين. فيمرّ بسواحل الشام إلى أن يصل إلى السويدية التى هى فرضة أنطاكية، وعندها حجز البحر. ومنها يعطف فيمرّ على العلايا وأنطالية (وهما فرضتان لبلاد الروم) ، ثم على ظهر بلاد قسطنطينية إلى أن ينتهى إلى المكان الذى منه خرج. وطوله خمسة آلاف ميل، وقيل ستة آلاف. وعرضه مختلف: ففى موضع ثلاثمائة ميل، وفى موضع ستمائة ميل، وفى موضع سبعمائة. ويقال إن فيه ما يزيد على مائة وسبعين جزيرة. كانت عامرة بطوائف من الفرنج، أخرب المسلمون أكثرها بالمغازى فى صدر الإسلام. وأجلّ ما ملك المسلمون منها، ثم انتزع أكثره من أيديهم: 1- جزيرة الأندلس. 2- وجزيرة يابسة. وهى حيال جزيرة الأندلس، ومسافتها يومان فى يوم. وفيها مدينة صغيرة مسوّرة. 3- وجزيرة منرقة، ومسافتها يومان فى نصف يوم. وفيها مدينة عامرة. 4- وجزيرة ميورقة. ويقال فيها ما يورقة. ومسافتها يومان فى يومين، وبها مدينة. 5- وجزيرة رودس [1] . وهى حيال بلاد أفرنجة [1] . ويحيط بها ثلاثمائة ميل. وفيها حصنان.   [1] هذا الوصف لا ينطبق على جزيرة رودس، بل على جزيرة قورسقة التى هى حيال بلاد أفرنجة أي فرنسا، وهى تابعة لها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 6- وجزيرة سردانية. وطولها مائتان وثمانون ميلا، وعرضها مائة وثمانون ميلا. وفيها ثلاث مدائن كبار. وسكانها قوم من الفرنج متوحشون. وبها معدن فضة. 7- وجزيرة صقلية. وهى حيال إفريقية مضاهية لجزيرة الأندلس. وشكلها مثلث. يحيط بها خمسمائة ميل. كثيرة الجبال، والحصون، والأمصار، والأنهار، والأشجار. ومما فيها من المدن المشهورة على ساحل البحر: بلرمو. وبها يكون الملك؛ وكانت قصبة الجزيرة بعد أن فتحها المسلمون ثم انتقل الناس منها إلى الخالصة. وهى محدثة. بنيت فى أيام القائم ابن المهدىّ العبيدىّ فى سنة خمس وعشرين وثلاثمائة. ثم صارت بلرمو وبقيت الخالصة ربضا لها؛ وقطانية. وكانت عظيمة فأحرقها البركان الذى فى الجزيرة. فبنى الأمبرطور مدينة عوضها، وسماها غشطارة. ومسينى. وهى على أحد أركان الجزيرة. وسرقوسة. وهى على الركن الآخر، والبحر محيط بها من ثلاث جهاتها. وطرابنش. وهى على الركن الثالث، والبحر محيط بها. ولها مجاز. ومن بلاد هذه الجزيرة البرية: والشاقة، ومازر، وكركنت، ونوطس، وطبرمين، وقصريانة، والنور، ورغوص، وغيطة، وغير ذلك. وبهذه الجزيرة. (ويقال بجزيرة ملاصقة لها) بركان، وهو أطمة يخرج منها أجسام كأجسام الناس بغير رؤوس من النار، فتعلو فى الهواء ليلا ثم تسقط فى البحر، فتطفو على وجه الماء. ومنها يكون حجر المرو الذى تحكّ به الأرجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 7- وجزيرة بلونس. ودورها ألف ميل. ولها مجاز إلى البر الطويل، عرضه ستة أميال. فيها ما يزيد على خمسين مدينة؛ القواعد منها خمس عشرة مدينة، وهى مشهورة عند الفرنج. 8- وجزيرة مالطة. وطولها أربعة وعشرون ميلا، وعرضها اثنا عشر، وفى وسطها مدينة واحدة. 9- وجزيرة قوسرة. وفيها مواضع متوحشة. 10- وجزيرة أقريطش. وهى حيال برقة. طولها ثلاثمائة ميل، وعرضها مائة وثلاثون ميلا. وبها مدينتان: إحداهما تسمّى الخندق، والأخرى تسمّى ربض الجبن. وفيها معدن ذهب. 11- وجزيرة قبرس. وهو اسم النحاس، لأن بها معدن نحاس. يحيط بها ألف ميل وخمسمائة ميل. وفيها من المدن الجليلة، ليمسون، والباف بباء مفخمة، والماغوصة. وكلها فى البحر. وفى وسط الجزيرة مدينة الأفقسية، وهى القصبة. وبها يكون متولى الجزيرة. 4- ويخرج من هذا البحر خليجان أحدهما يسمى جون البنادقة، والآخر يسمى خليج القسطنطينية. 1- فأما خليج البنادقة. فإنه خليج كبير متسع ليس له فوّهة. وإنما هو جون له ركنان، سعة ما بينهما سبعون ميلا. يحيط بهذا الجون مدن جليلة لطائفة من الفرنج تسمى البنادقة. وهى ذوات حصون وقلاع ممتنعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 ومبدؤه من شرقىّ بلاد قلورية عند مدينة تسمى أذرنت [1] ، ومنتهاه بلاد إيكلاية [2] . ومن هناك يعطف، وطوله ألف ميل ومائة ميل. وفيه ست جزائر، ثلاثة منها فى ضفة، وثلاثة فى أخرى، بها مدن عامرة. وثلاثة معترضة بين ركنيه مهملة لا ساكن بها. 2- وأما خليج القسطنطينية. ويسمى بحر نيطش فإن فوهته مقابلة لجزيرة رودس، وسعتها غلوة سهم. ويقال إنه كان بين الشطين سلسلة طرفاها فى برجين تمنع المراكب من العبور إلا بإذن الموكل بها. ويمرّ هذا الخليج نحو مائتى ميل وخمسين ميلا إلى أن ينتهى إلى القسطنطينية فتكون فى غربيه، يحيط بجهتين منها. وهى مدينة عظيمة مشهورة. وعرض البحر عندها أربعة أميال. ثم يمرّ ستين ميلا حتّى ينصب فى بحر ما نيطش. وهو بحر سوداق. وعرض فوهته هناك عشرة أميال. وفى موضع أقلّ، وفى موضع أكثر. فهذا البحر الرومى وجزائره وما تفرّع منه. والله أعلم.   [1] فى الأصل أكدنت وهو تحريف لمدينة أذرنت قال فى نزهة المشتاق: خليج البنادقيين ومبدؤه من شرقى بلاد قلوريه ... من عند أذرنت ... وينتهى طرفه إلى بلاد إيكلاية. [2] فى الأصل انكلاية، وهو تحريف ظاهر عن إيكلاية التى ذكرها الإدريسى فى هذا الموضع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 5- وأما بحر الهند وجزائره فمبدؤه من مشرق الصين فوق خط الاستواء. ويجرى إلى جهة الغرب، فيجتاز ببلاد الواق [1] ، وبلاد سفالة الزنج؛ ثم ببلاد الزنج حتّى يصل إلى بلاد بربرا، وهناك حجزه. وأما الشرقىّ: فمبدؤه من لوقين، وهى أوّل مرافىء الصين ثم بخانقو فرضة الصين العظمى؛ ثم إلى سمندور من بلاد الهند؛ ثم إلى حارتين، إلى قندرينه [2] ، إلى تانة، إلى سندابور، إلى بروص (ويقال بروج، وإليها ينسب القماش البروجى) ، إلى صيمور [3] ، إلى سندان، إلى سوتارة، إلى كنباية. (وإليها ينسب القماش الكنبايتى) ، إلى ديبل (وهى أوّل مرافئ السند) ؛ ثم إلى سرون، ثم إلى التّيز [4] من بلاد مكران، وهى أحد ركنى الخليج الفارسىّ. والركن الآخر يسمى رأس الجمحة: وهو جبل خارج فى البحر، ومن هناك يسمى بحر اليمن، ثم يمتدّ على ظفار؛ ثم على الشّحر ساحل بلاد مهرة؛ ثم على شرمة ولسعا (ساحلى بلاد حضرموت) ، ثم على أبين، ثم على عدن، ثم المخنق، ثم العارة، ثم يمتدّ إلى باب المندب.   [1] قال البيرونى مانصه: (فى كتاب تحقيق ما للهند ص 103 سطر 7) جزيرة الوقوان من جملة قمير. وهو اسم لا كما تظنه العوام من أنه شجرة حملها كرءوس الناس تصيح ولكن قمير قوم ألوانهم الى البياض قصار القدود على صور الأتراك ودين الهنود مخرمى الآذان وأهل جزيرة الوقواق منهم سود الألوان والناس فيهم أرغب ويجلب منهم الآبنوس الأسود وهو لب شجرة تلقى حواشيها فأما الملمع والشوحط والصندل الأصفر فمن الزنج. اهـ [2] لعل المقصود: قندابيل (وقد ذكرها ياقوت) . [3] ويقال صيمون (انظر ياقوت) . [4] هى قصبة بلاد مكران بالسند. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 ومن هناك يخرج خليج القلزم، وطوله ثمانية آلاف ميل، وعرضه يختلف. فى موضع ألف ميل وسبعمائة ميل، وفى موضع ألفان، وفى موضع دون ذلك. ويقال: إن بينه وبين البحر المحيط بحرا آخر يسمى البحر الزفتى، سمى بذلك لظلمته وسواده، وطوله ألف ميل وخمسمائة ميل. وهذا البحر- أعنى الهندىّ- بجملته قسمه السالكون له ستّ قطع، وضعوا لها أسماء مختلفة. 1- فالذى يمرّ بأرض الصين يسمى بحر صنجى [1] ، ينسب لمدينة فى جزيرة من جزائره. وهو بحر كثير الأمواج مهول. فإذا كان فى أوّل هياجه ظهر فيه بالليل أشخاص سود، طول الواحد منهم خمسة أشبار وأقلّ من ذلك. يصعدون إلى المراكب ولا يضرون أحدا. فإذا عاينهم السّفّار، أيقنوا بالدّمار. وإذا قدّر الله تعالى نجاتهم من هذه الشدّة، أراهم على رأس الدّقل طائرا أبيض كأنما خلق من النور، فيتباشرون به. فإذا ذهب عنهم الروع، فقدوه. وفيه من الجزائر المعمورة: جزيرة شريرة [2] . يحيط بها ألف ميل ومائتا ميل. فيها مدائن كثيرة، أجلها المدينة التى تنسب إليها، ومنها يجلب الكافور. وجزيرة صنجى. وإليها تنسب هذه القطعة. وطولها مائتا ميل؛ وعرضها أقلّ من ذلك. وفيها جواميس وبقر بغير أذناب.   [1] لعل هذا الاسم هو و «شنجو» لمسمى واحد. وهى المعروفة عند العرب باسم مدينة «زيتون» وهى فرضة الصين (راجع أبا الفدا) . [2] سماها أبو الفدا: سريرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 وجزيرة أنفوجة. يحيط بها أربعمائة ميل. عمارتها متصلة. 2- ويلى هذه القطعة قطعة تسمّى بحر الصّنف. فى جزيرة من جزائره مدينة. وهو بحر خبيث كثير الأمطار والرياح الشديدة. وفى جباله معادن الذهب والرصاص، وفيه مغاص اللؤلؤ، وفى غياضه الخيزران. وفيه مملكة المهراج. ويشتمل على جزائر لا تحصى، ولا يمكن المراكب أن تطوف بها فى سنة. وفيها أنواع الطيب من الكافور، والقرنفل، والعود، والصّندل، والجوزبوّى، والبسباسة، والكبابة. ومن جزائره المشهورة: جزيرة الزانج. وتكسيرها سبعمائة فرسخ، وبها يكون المهراج، وهو اسم يطلق على كل من ملكها. وجزيرة البركان. وهى جزيرة فيها جبل يرمى بالشرر ليلا، وبالرعود القواصف نهارا، وهى أحد آطام الدّنيا المشهورة. وجزيرة قمار. وإليها ينسب العود القمارىّ. وبها شجر الصندل. دورها أربعة أشهر. وهى مأوى عبّاد الهند وعلمائهم. يسمّى ملكها قامرون. وجزائر الرامى [1] . وهى نحو ألف جزيرة معمورة. بها الملوك. وفيها معادن الذهب، وشجر الكافور. وجزائر لنجيالوس. ويقال لنكيالوس. وهى كثيرة، وأهلها سود، مشوّهو الصور لقربها من خط الاستواء. وبها معادن الحديد. 3- ويلى هذه القطعة قطعة تسمّى بحر لاروى، وبحر كله، وبحر الجاوه، وبحر فنصور. وإنما ترادفت عليه هذه الأسماء بحسب ما يمرّ عليه من البلاد والجزائر.   [1] فى الأصل الراقى وفى نزهة المشتاق «الرامى» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 وهو بحر لا يدرك قعره. وفيه نحو ألف جزيرة تسمّى جزائر النارجيل، لكثرته بها. وكلها عامرة بالناس. وبين الجزيرة والجزيرة الفرسخ والفرسخان. وليس يوجد فى سائر جزائر البحر ألطف صنعة من أهل جزائره فى سائر المهن. وبيوت أمواله الودع. ومن جزائره المشهورة مما يلى أوائل بلاد الهند: جزيرة الماند. وهى جزيرة يحيط بها ألف ميل. وفيها ثلاث مدن كبار. وجزيرة كرموه. يحيط بها ثلاثمائة ميل. وجزيرة بلى. منسوبة لمدينة من الهند على ساحله. يأتيها التجار لاجل الفلفل. وجزائر الذئاب. وهى كثيرة. وأكبرها جزيرة ديبى. وسكانها قبائل من العرب. يحيط بها أربعمائة ميل. وفيها الموز، وقصب السكر. وجزيرة السيلان. وطولها ستمائة ميل، وعرضها قريب من ذلك. وفيها مدن كثيرة. وإليها ينسب العود السيلى. وجزيرة كله. وإليها ينسب البحر. وهى جزيرة خطيرة، طولها ثمانمائة ميل، وعرضها ثلاثمائة ميل وخمسون ميلا. وبها من المدن فنصور. فيها شجر الكافور (وفيها العود الفاخر) وملاير، ولا روى، وكله (وإليها ينسب الدّهن) . ولكل مدينة من هذه المدن خور تعبره المراكب من البحر. وجزيرة صندابولات. وطولها نحو من مائتى ميل، وعرضها نحو مائة ميل. تنسب إلى مدينة هى فيها. وجزائر بداميان. فيها أمم سود، قباح الوجوه. قامة الرجل منهم أقلّ من ذراع. ليس لهم مراكب. فإذا وقع اليهم غريق أو من يتيه من التجّار، أكلوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 4- ويلى هذه القطعة قطعة تسمى بحر هركند، وفيه جزائر كثيرة. ويقال إن عدّتها ألف جزيرة وتسعمائة جزيرة. ويقع فيها العنبر الذى تكون القطعة منه مثل البيت. وسكانها أحذق الناس فى الحياكة، ينسجون القميص بكميّه ودخاريزه قطعة واحدة. وفيه من الجزائر المشهورة: جزيرة سرنديب [1] . وهى مدوّرة الشكل، يحيط بها ألف فرسخ. يشقّها جبل الراهون، وهو الجبل الذى هبط عليه آدم (عليه السلام) من الجنة. وفى أوديتها الياقوت والماس والسّنباذج. وطولها مائتان وستون ميلا. ومدينة هذه الجزائر العظمى تسمى أغنا، يسكنها مسلمون، ونصارى، ويهود، ومجوس. ولكل أهل ملة من هذه الملل حاكم. لا يبغى بعضهم على بعض. وكلهم يرجع إلى ملك يسوسهم ويجمع كلمتهم. ولهذا البحر أربعة أودية تصب فى البحر تسمى الأغباب [2] . 5- ويلى هذه القطعة قطعة تسمى بحر اليمن. وأوّله بحر الجمحة، وهو بلاد مهرة. معترض فى البحر فيمرّ بحاسك (وهو أوّل مرافئ اليمن) ؛ ثم يمرّ بمرباط [3] (ساحل بلاد ظفار) ؛ ثم يمرّ بالشّحر (ساحل بلاد مهرة) ؛ ثم بشرمة ولسعا (ساحلى بلاد حضرموت) ؛ ثم بأبين؛ ثم بعدن؛ ثم بالمخنق؛ ثم بالعارة؛ ثم الباب بالمندب.   [1] قال البيرونى فى كتابه على الهند: سنكلديب وهى جزيرة سرنديب (ص 102) وفى أبى الفدا سنكاديب. [2] الأغباب واحدها غبّ. وهو- على ما قال البيرونى- كالزاوية والعطفة يدخل من البحر إلى البر ويكون للسفن فيه مخاوف وخاصة من جهة المد والجزر. والخور هو شبه الغبّ ولكنه ليس من جهة دخول البحر وإنما هو من مجىء المياه الجارية واتصاله بالبحر ساكنا ومخاوف السفن فيه من جهة العذوبة التى لا تستقلّ بالأثقال استقلال الملوحة بها (تحقيق ما للهند ص 102) . [3] مدينة بين حضرموت وعمان وهى الفرضة لمدينة ظفار الواقعة على خمسة فراسخ منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 وفيه من الجزائر المشهورة: جزيرة سقوطرة. وطولها نحو من مائة وثمانين ميلا، وعرضها فى الوسط نحو خمسة عشر ميلا. وبها الصبر. يسكنها قوم من اليونان، تغلبوا على من كان فيها من الهند فى زمن الإسكندر. وبها عيون يقال إن الشرب منها يزيد فى العقل. ولهذا سميت فى الكتب القديمة جزيرة العقل. ويلى هذه القطعة قطعة تسمى بحر الزنج، وبحر بربرا؛ ويسمى ساحله الزنجبار. وفيه مما يلى بلاد اليمن جزائر ومنها: جزيرة دعون [1] ، وهى مدوّرة. وجزيرة السود. وجزيرة حورتان. وجزيرة مروان. وفيها مدن يسكنها السّرّاق، وهى مقابلة لبلاد مهرة. وجزائر الديبجات. وهى كثيرة. وأهلها مفرطون فى السواد. وجميع ما عندهم أسود، حتّى قصب السكر والكافور. وجزيرة القمر. وتسمى جزيرة ملاى. وطولها أربعة أشهر، وعرض الواسع منها يزيد على عشرين يوما. وهى تحاذى جزيرة سرنديب. وفيها بلاد كثيرة أجلها كيدانة، وملاى (وإليها تنسب الجزيرة) ودهمى، وبليق، وخافورا، ودعلى، وقمرية (وإليها ينسب القمر) . ويقال: إن بهذه الجزيرة خشبا، ينحت من الخشبة   [1] من المعلوم أن العرب يسمون شبه الجزيرة بالجزيرة. ولم أجد لهذا الاسم أثرا فيما بين يدىّ من كتب المراجعة فلعلها هى التى ذكرها ياقوت باسم «دغوث» وقال إنها بلد بنواحى الشحر من أرض عمان أو لعلها «دغوطة» التى قال أبو الفدا انها آخر مدن سفالة وآخر العمارة فى البر المتصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 منه شان [1] يكون طوله ستين ذراعا، يجذف على ظهره مائة وستون رجلا. ولما ضاقت هذه الجزيرة بأهلها بنوا على الساحل محلات يسكنونها فى سفح جبل يعرف بهم. ومنها يخرج نهر النيل [2] . 6- ويخرج من هذا البحر الذى يجمع هذه القطع خليجان أحدهما بحر القلزم، والآخر بحر فارس. 1- فأما خليج القلزم. فخروجه من باب المندب. وهو جبل طوله اثنا عشر ميلا، وسعة فوهته بمقدار أن الرجل يرى صاحبه من البرّ الآخر. فاذا قارب المندب يمرّ فى جهة الشمال، بغلافقة، والأهواب (وهما ساحلا زبيد) ثم الجردة، ثم الشّرجة، ثم عثّر (وكانت مقرّ ملك قديم) ثم بالسّرّين، وحلى، وعسفان، والجار (وهى فرضة المدينة) والجحفة، والصّفراء، والحوراء، ومدين، وأيلة، والطّور، وفاران، ثم القلزم (وكانت مدينة مسكونة، وكذلك أيلة) . ومن القلزم ينعطف من جهة الجنوب فيمرّ بالقصير (وهى فرضة لقوص) ثم إلى عيذاب (وهى فرضة لبلاد البجّة) ، ثم يمتدّ إلى زيلع (وهى ساحل بلاد الحبشة) ويتصل ببربرا. وطوله ألف ميل وخمسمائة ميل. وعرضه فى مواضع أربعمائة ميل، ودون ذلك إلى مائتى ميل إلى ما دون ذلك. وهو بحر كريه المنظر والرائحة.   [1] أى من السفن المعروفة باسم الشوانى. [2] يخلط الجغرافيون العرب كثيرا بين هذه الجزائر المعروفة بالقمر (بضم فسكون) وبين الجبل المعروف بالقمر (بفتح فسكون) فيجعلونهما شيئا واحدا ويقولون بخروج منابع النيل من تلك الجزائر. وهذا أمر غير معقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 وفيه فيما بين القلزم وأيلة المكان المعروف بتاران، وهو مكان يشبه دردور عمان. لأنه فى سفح جبل إذا وقفت الريح على دردورته انقطعت بنصفين على شعبتين متقابلتين؛ ثم يخرج من كمّى هاتين الشعبتين، فيثير البحر فتتبلّد السفن باختلاف الريح فلا تكاد تسلم. وهاتان الشعبتان تسميان الجبيلين، ومقدار هذا الموضع ستة أميال، ويسمى بركة الغرندن [1] . ويقال: إنها التى أغرق الله فرعون وقومه فيها. فإذا كان للجنوب أدنى مهب، فلا يمكن سلوكه. وفيه من الجزائر خمس عشرة جزيرة، العامر منها أربعة، وهى: جزيرة دهلك. يحيط بها نحو مائتى ميل؛ يسكنها قوم من الحبوش. مسلمون. وجزيرة سواكن. وهى أقل من ميل فى ميل. وبينها وبين البحر الحبشى بحر قصير يخاض. وأهلها طائفة من البجّة تسمى الحاسد وهم مسلمون، ولهم بها ملك. وجزيرة النعمان. وبها نويس [2] تعيش من لحوم السلاحف. وجزيرة السامرىّ. يسكنها قوم من اليهود، سامرة، فى عيش قشيف. 2- وأما خليج فارس. فإنه مثلث الشكل على هيئة القلع. أحد أضلاعه من تيز مكران. فيمرّ فى بلاد كرمان على هرمز، ومن بلاد فارس على سيراف، وتوح [3] ، ونجيرم، وجنّابة، ودارين، وسينيز، ومهروبان؛ ومنها يفضى   [1] الذى فى تقويم أبى الفداء: الغرندل باللام. [2] تصغير ناس. [3] هكذا فى الأصل وفى أبى الفدا. وأما ياقوت فقال إنها توّج. (وضبطها أبو الفدا بضم الثاء وسكون الواو) واتفق أبو الفداء وياقوت على أنها هى التى تسمى أيضا توز (ولكن ياقوت يضبطها بفتح فتشديد) . والذى فى ياقوت هو الصواب كما يؤخذ من «لب اللباب» للسيوطى، ومن «لطائف المعارف» للثعالبى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 البحر إلى عبّادان، ومن عبادان ينعطف الضلع الآخر فيمرّ بالخط، وهو ساحل بلاد عمان إلى صور، وهى ساحل بلاد عمان مما يلى بلاد اليمن؛ ثم يمتدّ إلى رأس الجمحة من بلاد مهرة. والضلع الآخر يمتدّ على سطح البحر من تيز مكران إلى رأس الجمحة. وهذه الأضلاع غير متفاوتة فى الطول؛ فإن الضلع الذى يمتدّ على سطح البحر طوله خمسمائة ميل، وطول الضلع الآخر من حيث يبتدئ من تيز مكران إلى أن ينتهى إلى عبّادان ثم ينعطف إلى أن يصل إلى رأس الجمحة، تسعمائة ميل. وفيه مما يلى عبّادان مكان يعرف بالدّردور. وهو بين جبلين، أحدهما يسمى كسير، والآخر عوير. ويضاف إليهما جبل آخر بالقرب منهما يقال فيه «وآخر ما فيه خير» لشدّة ما يرى بها من الأهوال. وهى جبال سود ذاهبة فى الهواء. يتكسر الماء على شعبها. ولا بدّ للمراكب أن تمرّ بينها، وقلّما تسلم. وفى هذا البحر من الجزائر المشهورة على ألسنة التجار تسع، منها أربعة عامرة، وهى: جزيرة خارك. يحيط بها اثنا عشر ميلا. وهى عامرة آهلة كثيرة البساتين. وبها مغاص اللؤلؤ. وجزيرة كيش. وبها مغاص اللؤلؤ أيضا. وهى آهلة. وتسمى هذه الجزيرة فى عصرنا هذا «قيس» . وجزيرة أوال. وهى تجاه ساحل البحرين، وبينهما يوم. وبها مدينة. وأوال مدينة من مدائن البحرين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 وجزيرة لافت. وتعرف بجزيرة بنى كاوان [1] . وطولها اثنان وخمسون ميلا، وعرضها تسعة أميال. وهى آهلة. وهاتان الجزيرتان معدودتان فى بلاد جور من أعمال فارس. ويقال أيضا إنه يخرج من البحر المحيط خليج ثالث فى شمال الصقالبة، ويمتدّ قرب بلد بلغار المسلمين، ويسمى بحر أدريك، منسوب إلى أمّة على ساحله فى جهة الشمال، ثم ينحرف نحو المشرق؛ وبين ساحله وبين أقصى بلاد الترك أرضون وجبال مجهولة خربة. فهذا البحر المحيط وما يتفرّع منه. 7- وأما بحر ما نيطش [2] ويسمى البحر الأسود وبحر سوداق. وهى مدينة على ساحله. هى فرضة لبلاد القفجاق مما يلى القسطنطينية. وعليه أيضا للقفجاق مدينة عظيمة تسمى قرم [3] ،   [1] ويسميها الإدريسى: ابن كاوان، وغيره يسميها: بركاوان. [2] جرى المؤلف على تعريف هذا البحر بأنه المعروف بالبحر الاسود. والحقيقة أن بحر نيطش هو المعروف الآن بالبحر الأسود ، وأما بحر ما نيطش فهو المعروف ببحر آزاق وبحر آزوف. ومما يجب التنبيه عليه أن كثيرا من كتاب العرب يخلطون بين هذين البحرين. ولذلك قال المسعودىّ: «فبحر نيطش وبحر ما نطش يجب أن يكونا بحرا واحدا، وإن تضايق البحر فى بعض المواضع بينهما أو صار بين الماءين كالخليج. وليست تسمية ما اتسع منه وكثير ماؤه بما نطش. وما ضاق منه وقل ماؤه بنيطش ينبغى أن تجمعهما فى اسم ما نطش أو نيطش. فإذا عبّرنا فى بعض المواضع فى مبسوط هذا الكتاب فقلنا «ما نطش» أو «نيطش» فإنما نريد به هذا المعنى فيما اتسع من البحر وضاق» . (من مروج الذهب، ص 58) . [3] وبها سميت شبه الجزيرة الموجودة فى البحر الأسود وهى شبه جزيرة القرم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 مقصودة من كل الجهات. وبها علماء، وفقهاء، ورؤساء. وهى محدثة. مصّرت فيما بين الثلاثين والأربعين وستمائة للهجرة النبوية. ويسمى هذا البحر أيضا بحر الروس، لجزائر فيه يسكنها أمة تسمى الروس، نصارى. وهو بحر ضخم كثير الأخوار والتّروش [1] والجبال الجرش. وطوله من الشمال إلى الجنوب ألف ميل وثلاثمائة، وعرضه مختلف. ففى موضع ستمائة ميل، وفى موضع ثلاثمائة ميل. والناس مختلفون فيه. فمنهم من يقول إنه بحر مستقل بنفسه، يخرج منه خليج القسطنطينية ويصب فى بحر الروم أو هو مغيض لخليج القسطنطينية. وأكثرهم على أنه بحر مستقل بنفسه لطوله وعرضه وكثرة جزائره. وبعضهم يقول إنه خليج يخرج من البحر المحيط على ظهر بلاد الصقالبة، ويحيط به بلاد البطلمية، وبلاد الغامانية، وبلاد الأزكشية، وبلاد الشركسية، وبلاد العلان [2] والعنكر والناشقرد. وفيه ست جزائر عامرة، وهى كثيرة المدن والقرى، يسكنها الروس. 8- وأما بحر الخزر وهو بحر جرجان وطبرستان والديلم. وذلك بحسب ما يمرّ عليه من البلاد. وهو- على ما حكاه ابن حوقل- مدوّر الشكل، ليس له اتصال ببحر آخر.   [1] فى الأصل التروس. ولكن الإدريسى يستعمل لفظة «التروش» بالشين المعجمة. ومعناها الشّعب أى لصخور التى تكون تحت سطح الماء قليلا فتنكسر السفن وتتحطم إذا اصطدمت بها. [2] العلان ترك تنصروا وهم خلق كثير وقلعتهم إحدى قلاع العالم تتعمم بالسحاب (عن أبى الفدا) وبلادهم فى أرض قفجاق أو قفقاسية وهم المشهورون فى كتب العرب أيضا باسم اللان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 قال: ولو أن إنسانا طاف به، لانتهى إلى الموضع الذى ابتدأ منه، لا يقطعه عن ذلك إلّا نهر يصب فيه [1] . وفى شرقىّ هذا البحر بعض بلاد الديلم، وبلاد طبرستان، وجرجان، وبعض المسافة التى بين جرجان وخوارزم؛ وغربيه بلاد أرّان، وبلاد الخزر، وبعص مفازة الغزية [2] ؛ وشماليه مفازة الطّغزغزية؛ وجنوبيه الجيل [3] ، والديلم. وطوله ثمانمائة ميل، وعرضه ستمائة ميل. وقال صاحب كتاب «نزهة المشتاق إلى اختراق الآفاق» : طوله من جهة الخزر إلى عين الهم ألف ميل [4] ، وعرضه من ناحية جرجان إلى مصب نهر إتل ستمائة ميل [5] ، وخمسون ميلا وهو يقطع عرضا من طبرستان إلى مدينة باب الأبواب فى أسبوع بالريح الطيبة، وفيه أربع جزائر، وهى: جزيرة سياكوه [6] . وهى تجاه آبسكون، فرضة جرجان. يسكنها طائفة من الترك. يصاد بها البزاة البيض. وجزيرة سهلان. وطولها نحو مائة ميل، وعرضها نحو خمسين ميلا.   [1] هذا ملخص العبارة التى أوردها ابن حوقل (وانظر كتابه ص 13) . [2] فى الأصل: الغرنة. والتصحيح عن أبى الفدا. [3] فى الأصل: الختل (وهو تحريف ظاهر من النساخ) . [4] هكذا فى مقدمة الإدريسى (فى جميع النسخ) ولكنه عند كلامه على الجزء السابع من الإقليم الخامس نص على أن طول هذا البحر 800 ميل وأن عرضه 600 ميل (وهذا هو الذى نقله عنه أبو الفدا) ، ثم عاد الادريسى فقال ان طوله 900 ميل. [5] فى الأصل مائه ميل [والتصحيح عن الإدريسى] . [6] فى الاصل: بساه كوه. (والتصحيح عن أبى الفدا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 وجزيرة البركان [1] . وهى أطمة عظيمة تظهر منها نار فى الهواء، كأشمخ ما يكون من الجبال. ترى من نحو مائه فرسخ من البر. وجزيرة تجاه باب الأبواب. كثيرة المروج والأنهار. وهذا البحر يقال إنه كثير التنانين. وقد اختلف فيها. فمن الناس من يقول إنها دواب تعظم فى قعر البحر فتؤذى ما به من دواب، فيبعث الله عز وجل عليها السحاب والملائكة فتخرجها من البحر وتقلبها فى أرض يأجوج ومأجوج، فتكون طعاما لهم. وهذا مما يحكى عن ابن عباس رضى الله عنهما. ومنهم من رأى أنها ريح سوداء تكون فى قعر البحر فتظهر إلى النسيم وتلحق بالسحاب، كالزّوبعة التى تثور من الأرض وتستدير ثم تطول فى الهواء. فيتوهم الناس أنها حيّات سود. وسائر البحار تمدّ وتجزر، خلا هذا البحر. ويقال إن علة المدّ والجزر تكون عن وضع الملك الموكل بقاموس البحر عقبه فى أقصى بحر الصين، فيفور فيكون منه المدّ؛ ثم يرفعه فيكون من رفعه الجزر. (ومنهم من روى مكان العقب الإبهام) . ومنهم من قال إن العلة فيه غير هذا كله. والله أعلم!   [1] هى شبه الجزيرة المعروفة الآن باسم يشرون. وفيها مدينة. كو المشهورة وهذه المدينة سماها أبو الفدا «باكوى» وسماها المسعودى «باكه» وقال ان بها معدن النفط الأبيض (أى البترول) ثم قال وفى هذه النفاطة أطمة، وهى عين من عيون النار لا تهدأ على سائر الأوقات تتضرم الصعداء. فهذا هو الذى عناه النويرى باسم «البركان» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 ذكر ما فى المعمور من البحيرات المالحة المشهورة وما بها من العجائب وفى المعمور بحيرات مالحة: فالذى اشتهر منها: بحيرة خوارزم. وشكلها مثلث كالقلع، وليس فى المعمور بحيرة أعظم منها. يحيط بها أربعمائة فرسخ. يصبّ فيها نهرا سيحون وجيحون، اللذان فى أرض الهياطلة، وغيرهما من الأنهار العظيمة الجارية فى بلاد الترك. وهى مع ذلك لا تزيد ولا تعذب. وزعم صاحب كتاب «نزهة المشتاق إلى اختراق الآفاق» أن فى هذه البحيرة حيوانا يظهر على سطحها فى صورة الإنسان يتكلم ثلاث كلمات أو أربعا، بلغة لا تفهم ثم يغوص. وظهوره عندهم يدل على موت ملك من ملوك ذلك الحين. ومنها بحيرة الطّرّيخ [1] : لسمك صغير يصاد منها ويحمل إلى سائر بلاد أرمينية وأذربيجان. وطولها أربع مراحل، وعرضها مرحلة. يجمع من أطرافها البورق. والسمك يوجد بها فى زمان مخصوص، يأتيها فى نهر يصب إليها، ويكثر حتّى يصاد بالأيدى. فإذا انقضى ذلك الزمان، لا يوجد منه شىء البتة.   [1] واسمها فى كتب الجغرافية العربية بحيرة أرجيش، وهذا السمك الذى سميت به، كما فى «القاموس» سمك صغار تعالج بالملح وتؤكل. وقد عرّفنا ابن حوقل أنه صغير مقدار الشبر يملح ويحمل الى الجزيرة والموصل والرقة وحران وحلب وسائر الثغور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 وفى بلاد أذربيجان بحيرة كبوذان [1] . وكبوذان قرية فى جزيرة، يسكنها ملّاحو المراكب التى يركب فيها من هذه البحيرة. وطول هذه البحيرة نحو ثلاثة أيام، وعرضها كذلك. وفيها جزائر: منها جزيرة فيها قلعة حصينة تسمّى تلا. ولا يكون بهذه البحيرة حيوان البتة، لأن ماءها منتن ردىء. وفى بلاد البحرين بحيرة. وبها وبالبحر الكبير سميت أرض هجر: «البحرين» . وفى الشام بأرض الغور بحيرة زغر، وتسمّى المنتنة والميتة. لأنها لا يعيش بها حيوان ولا يتكوّن فيها شىء مما يتكوّن فى المياه الجارية والراكدة من الحيوانات. وطولها ستون ميلا، وعرضها اثنا عشر ميلا. ويقال إنها ديار قوم لوط التى خسفهم الله بها. ويقال إنها كانت خمس مدن، أسماؤها: «ضيعه» ، و «ضعوه» ، و «عمره» ، و «دوما» ، و «سذوم» . وكانت سذوم أكبرها وأعظمها. ويصبّ فى هذه البحيرة نهر الأردنّ وغيره من الأنهار الصغار والسيول من بلاد الكرك وغيرها، فلا تزيد. ويقال إن لها منفذا إلى بحر القلزم. وبساحلها الشرقىّ إلى حدّ أريحا معدن الكبريت الأبيض، يحفر عليه ويخرج. ويتكوّن فى هذه البحيرة شىء على شكل البقر، ويطفو على وجهها ويتفقع، فيجمع منه شىء أسود يسمونه «الحمر» وينقل إلى قلعة الكرك يدّخر بها، يدخل فى النّفط.   [1] هى التى ذكرها أبو الفدا باسم «بحيرة تلا» وياقوت باسم «بحيرة أرمية» . وقد ذكر أن فى وسطها جبلا يقال له «كبوذان» وجزيرة فيها أربع قرى أو نحو ذلك يسكنها ملّاحو سفن هذا البحر (معجم البلدان ج 2 ص 78) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 وفى أعمال مصر بحيرة تنّيس، مقدارها إقلاع يوم فى [عرض] [1] نصف يوم. يكون ماؤها فى أكثر السنة ملحا من دخول ماء البحر الرومىّ إليها، فإذا مدّ النيل صبّ فيها فتحلو فإذا جزر ملحت. ويقال: إنه كان فى مكانها برّ مسلوك تغلّب عليه البحر فى ليلة واحدة، فما كانت أرضه مستفلة غرق، وما كانت أرضه عالية مثل تنّيس وتونة بقى. وفى وسط هذه البحيرة جزيرة صغيرة تسمى سنجار، يسكنها قوم صيادون. وقال إبراهيم بن وصيف شاه فى «كتاب العجائب الكبير» : إن بحيرة تنّيس كانت أجنّة وكروما ومنازل ومنتزهات، وكانت مقسومة بين ملكين من ولد أتريب بن مصر، وكان أحدهما مؤمنا والآخر كافرا، فأنفق المؤمن ماله فى وجوه البرّ حتّى باع حصته من أخيه وفرّق مالها أيضا، فأصلحها أخوه وزاد فيها غروسا وفجّر فيها أنهارا وبنى فيها بنيانا، واحتاج أخوه إلى ما فى يده فكان يمنعه ويفتخر عليه بما فى يده من المال والأجنّة، فخاطبه أخوه فى بعض الأيام فسطا عليه، وقال: أنا أكثر منك مالا وولدا وخيرا، فقال له أخوه: فما أراك شاكرا لله تعالى على ما رزقك، ويوشك أن ينزع ذلك منك. ويقال: إنه دعا عليه فغرّق ماء البحر ما كان له فى ليلة واحدة. وقيل: إن هذين اللذان ذكرهما الله تعالى فى كتابه العزيز، فقال: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ) الآيات؛ والله تعالى أعلم. وبالقرب من الإسكندرية بحيرة، طولها إقلاع يوم وعرضها كذلك، يدخل إليها الماء من بحر الروم من مكان الأشتوم، ويخرج منها إلى بحيرة أخرى دونها   [1] الزيادة من «معجم ياقوت» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 فى خليج عليه مدينتان، إحداهما تسمّى الجدية، والأخرى تسمّى أتلو [1] كثيرة المقات والنخل، وكلها فى الرمل. ويصب فى البحيرة خليج من النيل يسمّى «الحافر» طوله نصف يوم إقلاعا، وهو كثير الطير والسمك والعشب. وفى بلاد إفريقية بحيرة بنزرت ماؤها ملح، وطولها ستة عشر ميلا، وعرضها ثمانية أميال. وعلى عشرة أميال منها بحيرة ماؤها عذب تسمّى بحيرة متّيجة [1] . فإذا جاء الشتاء وكثرت السيولى، غاضت بحيرة بنزرت، وفاضت بحيرة متّيجة حتّى تمدّها ستة شهور فلا يحلو ماؤها؛ فإذا انقضى زمن الشتاء وجاء الصيف، غاضت بحيرة متّيجة، وفاضت بحيرة بنزرت فلا يملح ماؤها. ويصاد فى هذه البحيرة فى كل شهرين من شهور السنة نوع من السمك لا يخالطه غيره؛ وأهل الناحية يعرفون دخول الشهور بتغيّر السمك فيها. وحكى صاحب كتاب «مباهج الفكر ومناهج العبر» : أن بتخوم بلاد أرمينية بحيرة يكون فيها الماء والسمك والطير ستة أشهر كوامل، ثم تجف فلا يرى فها ماء ولا سمك ولا طير سبع سنين، فإذا كانت السنة الثامنة ظهر ذلك فيها ستة أشهر ثم ينقطع. وهذا دأبها مدى الزمان. وبخلاط بحيرة لا يرى فيها سمك ولا ضفدع ولا سرطان عشرة أشهر من السنة، ثم يظهر ذلك كله فى الشهرين الباقيين.   [1] كذا بالأصل وفى معجم ياقوت «أتكو» بليدة قرية من نواحى مصر قرب رشيد. [2] وزنها فى القاموس بسكّينة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 وبقرية من ناحية پنجهير [1] من بلاد خراسان بحيرة، ما غمس فيها شىء إلا ذاب: حديدا كان أو خشبا. وكذلك بركة النّظرون التى بأرض مصر ما وقع فيها شىء إلا صار نطرونا حتّى العظم والحجارة. ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر البحر (ما جاء من ذلك على لفظ أفعل) يقال: أعمق من البحر. أندى من البحر. ويقال: حدّث عن البحر ولا حرج. ويقال: جاء بالطّمّ والرّمّ. والطّم البحر؛ والرّم البر. ومن أنصاف الأبيات: وهل يملك البحر أن لا يفيضا؟ ومن ورد البحر استقلّ السّواقيا! أنا الغريق، فما خوفى من البلل؟ ومن الأبيات: هو البحر إلا أنّه عذب مورد، ... وذا عجب أنّ العذوبة فى البحر! وقال ابن الرومىّ: كالبحر يرسب فيه لؤلؤه ... سفلا، وتعلو فوقه جيفه.   [1] فى الأصل «پنجهير» وهى على ما قال ياقوت مدينة بنواحى بلخ. فلذلك أظن أن ذلك الاسم محرف عن «پنجديه» التى قال ياقوت إنها من نواحى خراسان وهو الصقع الذى أشار إليه المؤلف. نعم إن ياقوت لم يذكر هذه البحيرة عند كلامه على كل من المدينتين ولكن المسعودىّ نص على أن ينجهير من أرض خراسان (ج 2 ص 15 طبع أوروبا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 ومثله قول الآخر: كمثل البحر يغرق فيه حىّ، ... ولا ينفكّ تطفو فيه جيفه. وقال ابن الرومىّ: ألا فارجه واخشه إنه ... هو البحر: فيه الغنى والغرق! وقال أبو نواس: من قاس غيركم بكم، ... قاس الثّماد إلى البحور! وقال آخر: إذا كنت قرب البحر مالى مخلص ... إليه، فما يغنى اقترابى من البحر! وقال آخر: كالبحر يقذف للقريب جواهرا ... منه، ويرسل للبعيد سحائبا. ذكر شىء مما قيل فى وصف البحر وتشبيهه قال ابن رشيق عفا الله عنه: البحر مرّ المذاق صعب ... لا جعلت حاجتى إليه. أليس ماء ونحن طين؟ ... فما عسى صبرنا عليه؟ وقال ابن حمديس: لا أركب البحر، أخشى ... علىّ منه المعاطب! طين أنا وهو ماء، ... والطّين فى الماء ذائب. وقال آخر: وزاخر ليس له صولة ... إلّا إذا ما هبّت الرّيح. فهو إذا ما سكنت ساكن كأنما الرّيح له روح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 وقال أمية بن عبد العزيز بن أبى الصلت: تناهى البحر فى عرض وطول، ... وليس له على التحقيق كنه. وأعجب كلّما شاهدت فيه ... سلامتنا على الأهوال منه. فحسبى أن أراه من بعيد ... وأهرب فوق ظهر الأرض عنه. ومما وصف به البحر والسفن قول بشر بن أبى خازم: أطاعن صفّهم ولقد أرانى ... على زوراء تسجد للرّياح. إذا اعترضت براكبها خليجا، ... تذكّر ما عليه من جناح. ونحن على جوانبها قعود، ... نغضّ الطّرف كالإبل القماح. وقال ابن تولو من أبيات: تحثّ بنا فيه قلاص كأنها ... وعال، تبدّت من جبال شواهق. لها كافلا ماء وريح كلاهما ... يعلّمها فى الجرى سبق السّوابق . إذا انحدرت؛ فالماء ألطف قائد، ... وإن صعدت، فالريح أعسف سائق. وقال السلامىّ: وميدان تجول به خيول ... تقود الدّارعين ولا تقاد. ركبت به إلى اللّذّات طرفا ... له جسم، وليس له فؤاد! جرى فظننت أنّ الأرض وجه، ... ودجلة ناظر، وهو السّواد. وقال محمد بن هانئ: معطّفة الأعناق نحو متونها ... كما نبّهت أيدى الحواة الأفاعيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 إذا اعملوا فيها المجاذيف سرعة، ... ترى عقربا منها على الماء ماشيا. إذا ما وردن الماء شوقا لبرده، ... صدرن- ولم يشربن- غرثى صواديا. وقال الرستمىّ: لم نزل مشفقين مذقيل: سارت ... بك دهم قليلة الأوضاح. أصلها البرّ وهى ساكنة فى ا ... لبحر سكنى إقامة لا براح. هى فى الماء وهى صفر من الما ... ء سوى نضح موجها النّضّاح. فإذا أوقرت، فذات وقار؛ ... وإذا أخليت، فذات جماح. وتراها فى اللّجّ ذات جناحي ... ن وإن لم تكن بذات جناح. من مطايا لا يغتذين ولا يس ... أمن سير البكور بعد الرّواح. منشآت من الجوارى اللّواتى ... لسن من صنعة الجوارى الملاح. والدات مولّدات بلا ح ... ل نكاح ولا حرام سفاح. لا من البيض بل من السّود ألوا ... نا وذات الألواح والأرواح. طائرات مع الرّياح، وطورا ... كاسرات بالجرى حدّ الرّياح. سائرات لا يشتكين سرى اللي ... ل ولا يرتقبن ضوء الصّباح. ساكنات بلا خضوع سكون، ... جامحات بلا غرام جماح. لا يخفن الغمار يقذفن فيها، ... ويخفن المرور بالضّحضاح. إن صدمن الحصى عطبن ولا يع ... طبن إمّا صدمن حدّ الرّماح. ما رأى الناس من قصور على الما ... ء سواها يسير سير القداح. يتسبسبن كالأساود فى الخف ... ة لا فى معادة الأشباح. فإذا ما تقابلت، قلت: ذود ... من كباش تقابلت للنّطاح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 شرعها البيض كالغمامات فى الصّي ... ف صحاحا منها وغير صحاح. كم مدلّ بالجاه والمال فيها، ... وبه حاجة إلى الملّاح! قائد جنده لهم أدوات ... نفعها ثمّ فوق نفع السّلاح. فإذا البحر صال، صالوا عليها ... بمواض تمضى بغير جراح. يكثرون الصّياح حتّى كأنّ الس ... فن تجرى من خوف ذاك الصّياح. ومما وصفت به البحار والسفن نثرا قال أبو عمرو صاحب الصلاة القرطبىّ يصف شانيا [1] سافر فيه: «فارقت مولاى حين أخذت للسّفر عدّة الحزم، وشددت عقدة العزم؛ وانتظمت مع السّفر فى سلك، وركبنا على اسم الله ظهر الفلك؛ فى شان عظيم الشان، أحدقت به النّطق إحداق الحيازم، وأمسكته إمساك الأبازم؛ ثم تتبّع خلله فسدّ، ورخوه فشدّ؛ حذرا على ألواحه من الإنخاع، واتصلت بعرانيسه اتصال الجلود بالأضلاع؛ ثم جلببت جلبابا من القار، وضمّخ فى المتنين والفقار؛ فامتاز بأغرب ميسم، وعاد كالغراب الأعصم؛ [2] قد حسن منه المخبر، وكأنّ الكافور قد قرن فيه بالعنبر. له من التماسيح أجنابها، ومن الخطاطيف أذنابها؛ واستقلّت رجله بفراشها، استقلال السّهام برياشها؛ وقد مدّ قلعيه ذراعيه متلقيا من وفد الرياح مصافحه، ومستهديا منها منافحة. تقلّد الحكم عليها إشتيام [3] ذو تيقظ واستبصار، واستدلال على الأعماق   [1] الشانى اسم لنوع من السفن التجارية والحربية عند المسلمين وجمعه شوانى. [2] أى الأبيض الجناحين (عن تاج العروس) . [3] الإشتيام هو رئيس الملّاحين، لفظ أعجمىّ أخذه العرب (راجع الجواليقىّ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 والأقصار؛ يستدلّ باختلاف المياه إذا جرى، ويهتدى بالنجوم إذا سرى؛ قد جعل السماء مرآة ينظر فيها، ويحذر من دجن يوافيها؛ فإذا أصدأها الظلام بحنادسه، وصقلها الضياء بمداوسه؛ يسبّح الله فى مصبحه وممساه، ويبسمل فى مجراه ومرساه، ويذكر ربّا يحفظه ولا ينساه. قد اتخذ فيه مواتيه، من أنجد النّواتيه؛ مشمّرين الأثواب، مدبّرين بالصواب؛ يفهمون عنه بالإيماء، ويتصرّفون له تصرّف الأفعال للأسماء؛ ويترنّمون عند الجذب والدّفع، والحطّ والرفع: بهينمة تبعثهم على النّشاط. والجمام [1] ، وتؤدّيهم فى عملهم بالتمام. فخرجنا ونفح الريح نسيم، ووجه البحر وسيم؛ وراحة الرّيح تصافح عبابه مصافحة الخلّ، وتطوى جناحه طىّ السّجل؛ وتجول من لججه أبرادا، وتصوغ من حبكه أزرادا: كأنما ترسم فى أديم رقشا، أو تفتح فى فصوص نقشا. فلما توسطنا ثبج البحر، وصرنا منه بين السّحر والنّحر؛ صحت الريح من سكرها، وطارت من وكرها؛ فسمعنا من دوىّ البحر زئيرا، ومن حبال الثانى صفيرا؛ ورأيناه يزبد ويضطرب، كأنّه بكأس الجنوب قد شرب؛ واستقبلنا منه وجه باسر، وطارت من أمواجه عقبان كواسر؛ يضطرب ويصطفق، ويختلف ولا يتّفق؛ كأن الجوّ يأخذ بنواصيها، ويجذبها من أقاصيها؛ والشانى تلعب به أكفّ الموج، ويفحص منها بكلكله فوجا بعد فوج؛ ويجوب منها ما بين أنجاد وأغوار، وخنادق وأسوار؛ والبحر تحتنا كأرض تميد بأهلها، وتتزلزل بوعرها وسهلها؛ ونحن قعود، دود على عود؛ قد نبت بنا من القلق أمكنتنا، وخرست من الفرق ألسنتنا؛ والرّشّ يكتنفنا من كل جانب، ويسيل من أثوابنا سيل المذانب. فشممنا ريح الموت، وظننّا التلف والفوت؛ وبقينا فى همّ ناصب، وعذاب واصب؛ حتّى انتهينا   [1] ذهاب الإعياء والتعب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 إلى كنف الجون، وصرنا منه فى كنّ وصون؛ وهدأ من البحر ما استشرى، وتنادينا بالبشرى؛ ووطئنا من الأرض جددا، ولبسنا أثواب الحياة جددا! ...... » ومن رسالة لأبى عامر بن عقال الأندلسىّ عفا الله عنه جاء منها: « ... وكان جوازه، أيده الله على بحر ساكن، قد ذل بعد استصعابه، وسهل بعد أن رأى الشامخ من هضابه؛ وصارحيّه ميتا، وهديره صمتا؛ وجباله لا ترى بها عوجا ولا أمتا؛ وضعف بعد تعاطيه، وعقد السلّم بين موجه وشاطيه. فعبر آمنا من لهواته، متملّكا لصهواته؛ على جواد يقطع البحر سبحا، ويكاد يسبق الريح لمحا؛ لا يحمل لجاما ولا سرجا، ولا يعرف غير اللّجّة سرجا؛ فلله هو من جواد، له جسم وليس له فؤاد؛ يخترق الهواء ولا يرهبه، ويركض فى الماء ولا يشربه! ...... » ومن رسالة للأستاذ ابن العميد فى مثل ذلك جاء منها: « ... وكأن العشاريات وقد ردّيت بالقار، وحلّيت باللّجين والنّضار؛ عرائس منشورة الذوائب، مخضوبة الحواجب؛ موشحة المناكب، مقلّدة الترائب؛ متوّجة المفارق، مكلّلة العواتق، فضّية الحلل والقراطق؛ أو طواويس أبرزت رقابها، ونشرت أجنحتها وأذنابها؛ وكأنها إذا جدّت فى اللّحاق، وتنافست فى السّباق؛ نوافر نعام، أو حوافل أنعام؛ أو عقارب شالت بالإبر، أودهم الخيل واضحة الحجول والغرر؛ وكأن المجاديف طير تنفض خوافيها، أو حبائب تعانق حبائب بأيديها ...... » الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 الباب السابع من القسم الرابع من الفن الأوّل فى العيون والأنهار والغدران وما وصفت به البرك والدواليب والنّواعير والجداول قال الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ) . قال المفسرون: هو المطر. ومعنى سلكه أدخله فى الأرض، وجعله عيونا ومسالك ومجارى كالعروق فى الجسد. قال أبو الفرج، قدامة بن جعفر: مجموع ما فى المعمور من الأنهار فى الأقاليم السبعة مائة نهر وأربعة وثمانون نهرا، منها: فى الإقليم الأول ثلاثة وعشرون نهرا؛ وفى الإقليم الثانى تسعة وعشرون نهرا؛ وفى الإقليم الثالث ستة وعشرون نهرا؛ وفى الاقليم الرابع أربعة وعشرون نهرا؛ وفى الإقليم الخامس ثمانية وعشرون نهرا؛ وفى الإقليم السادس ستة وعشرون نهرا؛ وفى الإقليم السابع ثمانية وعشرون نهرا. ثم قال: وفى هذه الأنهار ما جريانه من المشرق إلى المغرب، كنهر نهاوند ونهر سجستان؛ وما جريانه من الشمال إلى الجنوب كدجلة؛ وما جريانه من الجنوب إلى الشمال، كنهر النّيل ونهر مهران؛ وما جريانه مركّب من هذه الجهات، كنهر الفرات وجيحون ونهر الكرّ. وسنذكر المشهور منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 فأما نهر النيل فزعم قدامة بن جعفر أن انبعاثه من جبل القمر وراء خطّ الاستواء، من عين تجرى منها عشرة أنهار، كلّ خمسة منها تنصب إلى بطيحة. ثم يخرج من كل بطيحة نهران، وتجرى الأنهار الأربعة إلى بطيحة كبيرة فى الإقليم الأوّل. ومن هذه البطيحة يخرج نهر النيل. وقال صاحب كتاب «نزهة المشتاق إلى اختراق الآفاق» : «إن هذه البحيرة تسمّى بحيرة كورى منسوبة لطائفة من السودان يسكنون حولها، متوحّشون: يأكلون من وقع إليهم من الناس. ومن هذه البحيرة يخرج نهر غانة، ونهر الحبشة؛ فإذا خرج النّيل منها يشق بلاد كورى ثم بلاد ننه (طائفة من السودان أيضا، وهم بين كانم والنّوبة) ، فإذا بلغ دنقلة (مدينة النوبة) عطف من غربيها إلى المغرب، وانحدر الى الإقليم الثانى، فيكون على شطّيه عمارة النّوبة. وفيه هناك جزائر متسعة عامرة بالمدن والقرى. ثم يشرّق إلى الجنادل، وإليها تنتهى مراكب النوبة انحدارا، ومراكب الصعيد إقلاعا. وهناك أحجار مضرسة لا مرور للمراكب عليها إلا فى إبّان زيادة النيل. ثم يأخذ على الشّمال فيكون على شرقيّة مدينة أسوان من بلاد الصعيد الأعلى؛ ثم يمرّ بين جبلين هما يكتنفان لأعمال مصر، أحدهما شرقىّ والآخر غربىّ حتّى يأتى مدينة مصر [1] فتكون فى شرقيه. فإذا تجاوزها بمسافة يوم، انقسم قسمين: أحدهما يمرّ حتّى يصب فى بحر الروم عند مدينة دمياط، ويسمّى بحر الشرق؛ والآخر- وهو عمود النيل ومعظمه- يمرّ إلى أن يصب فى بحر الروم أيضا عند مدينة رشيد، ويسمّى بحر الغرب.   [1] يشير إلى الفسطاط، أى مصر العتيقة فى عرفنا الآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 قالوا: وتكون مسافة النيل من منبعه إلى أن يصب فى رشيد سبعمائة فرسخ وثمانية وأربعين فرسخا. وقيل إنه يجرى فى الخراب أربعة أشهر، وفى بلاد السودان شهرين، وفى بلاد الإسلام شهرا.» وروى البخارى فى «صحيحه» عن أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة، عن النبىّ (صلى الله عليه وسلم فى حديث المعراج، قال: «ثم رفعت إلى سدرة المنتهى، فإذا نبقها مثل قلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة. (قال: هذه سدرة المنتهى) وإذا أربعة أنهار نهران باطنان، ونهران ظاهران، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: أمّا الباطنان، فنهران فى الجنة؛ وأمّا الظاهران، فالنيل والفرات» . وليس فى الأرض نهر يزيد حين تنقص الأنهار وتغيض، غيره. وذلك أن زيادته تكون فى الفيظ الشديد فى شمس السّرطان والأسد والسنبلة. وقد حكى فى فضائل مصر أن الأنهار تمدّه بمائها، وذلك عن أمر الله تعالى. وقال قوم: إن زيادته من ثلوج يذيبها الصيف على حسب مددها، كثيرة كانت أو قليلة؛ وفى مدده اختلاف كثير. وكان منتهى زيادته قديما ستة عشر ذراعا، والذراع أربعة وعشرون إصبعا، بمقياس مصر. فان زاد عن ذلك ذراعا واحدا، زاد فى الخراج مائة ألف دينار: لما يروى من الأراضى العالية. والغاية القصوى فى الزيادة ثمانية عشر ذراعا فى مقياس مصر. [1] فإذا انتهى إلى هذا الحدّ، كان فى الصعيد الأعلى اثنين وعشرين ذراعا: لارتفاع البقاع التى يمرّ عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 فإذا انتهت زيادته، فتحت خلجانات وترع تتخرّق المياه فيها يمينا وشمالا إلى البلاد البعيدة عن مجرى النيل. وللنيل ثمان خلجانات، وهى: خليج الإسكندرية؛ وخليج دمياط؛ وخليج منف؛ وخليج المنهى (حفره يوسف الصدّيق عليه السلام) ؛ وخليج أشموم طنّاح؛ وخليج سردوس (حفره هامان لفرعون) ؛ وخليج سخا؛ وخليج حفره عمرو بن العاص، يجرى إلى أن يصبّ فى السّباخ. ويحصل لأهل مصر إذا وفى النيل ستة عشر ذراعا- وهى قانون الرىّ- فرح عظيم: بحيث إن السلطان يركب فى خواصّ دولته وأكابر الأمراء فى الحراريق إلى المقياس، ويمدّ فيه سماطا يأكل منه الخواصّ والعوامّ، ويخلع على القيّاس، ويصله بصلة مقرّرة له فى كلّ سنة. وقد ذكر بعض المفسرين «للكتاب العزيز» أن يوم «وفاء النيل» هو اليوم الذى وعد فيه فرعون موسى بالاجتماع، وهو قوله تعالى إخبارا عن فرعون (قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) . والعادة جارية أن اجتماع الناس للتخليق فى هذا الوقت. ومتى قصّر النيل عن هذا المقدار، غلت الأسعار. وهو إذا ابتدأ فى زيادته يكون مخضرّا، ثم محمّرا، ثم كدرا. وإذا انتهى فى الزيادة غشّى الأرض، وتصير القرى فوق الرّوابى فلا يتوصّل إليها إلا فى المراكب أو على الجسور الممتدّة التى تنفق عليها الأموال الكثيرة وتتخذ لحفظ الماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 فإذا انتهى رىّ مكان وأخذ حدّه، قطع جسر ذلك المكان من مكان معروف (يعرفه خولة البلاد ومشايخها) تروى منه الجهة التى تليها مع ما تجمع فيها من الماء المختص بها. ولولا إتقان هذه الجسور وحفر الترع لقلّ الانتفاع بالنيل. وقد حكى أنه كان يرصد لعمارة الجسور فى كل سنة ثلث الخراج لعنايتهم بها: لما يترتب عليها من المصالح، ويحصل بها من النفع فى رىّ البلاد. وقد وصف بعض الشعراء، النيل فى طلوعه وهبوطه، فقال: واها لهذا النّيل، أىّ عجيبة ... بكر بمثل حديثها لا يسمع! يلقى الثرى فى العام وهو مسلّم ... حتى إذا ما ملّ عاد يودّع. مستقبل مثل الهلال، فدهره ... أبدا يزيد كما يزيد ويرجع. وللشعراء فيه أوصاف وتشبيهات، نذكرها بعد إن شاء الله تعالى في موضعها. وهذا النهر مخالف فى جريه لسائر الأنهار، لأنه يجرى مما يلى الجنوب مستقبل الشمال. وكذلك نهر مهران بالسّند، ونهر الأرنط، وهو نهر حمص وحماة، ويسمّى العاصى لمخالفته للأنهار فى جريها. وما عداها من الأنهار جريها من الشمال إلى الجنوب: لارتفاع الشمال عن الجنوب وكثرة مياهه. وهو أخفّ المياه وأحلاها وأعمّها نفعا وأكثرها خراجا. وقد حكى أنه جبى فى أيام كيقاوش (أحد ملوك القبط الأوّل مائة ألف ألف وثلاثين ألف دينار؛ وجباه عزيز مصر مائة ألف ألف دينار؛ وجباه عمرو بن العاص اثنى عشر ألف ألف دينار؛ ثم رذل إلى أن جبى أيام القائد جوهر (مولى المعزّ العبيدىّ) ثلاثة آلاف ألف ومائتى ألف دينار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 وسبب تقهقره أن الملوك لم تسمح نفوسهم بما كان ينفق فى حفر ترعه وإتقان جسوره وإزالة ما هو شاغل للأرض عن الزراعة كالقصب والحلفاء. وحكى ابن لهيعة أن المرتّبين لذلك كانوا مائة ألف وعشرين ألف رجل: سبعون ألفا للصعيد، وخمسون ألفا للوجه البحرىّ. وحكى ابن زولاق أن أحمد بن المدبر لما ولى الخراج بمصر، كشف أرضها فوجد غامرها أكثر من عامرها، فقال: والله لو عمرها السلطان، لوفت له بخراج الدنيا. وقيل إنها مسحت أيام هشام بن عبد الملك، فكان ما يركبه الماء العامر والغامر مائة ألف ألف فدان. والفدان أربعمائة قصبة، والقصبة عشرة أذرع. واعتبر أحمد بن المدبر ما يصلح للزراعة بمصر فى وقت ولايته، فوجده أربعة وعشرين ألف ألف فدان. والباقى استبحر وتلف. واعتبر مدّة الحرث فوجدها ستين يوما. والحراث يحرث خمسين فدانا، فكانت محتاجة إلى أربعمائة ألف وثمانين ألف حرّاث. وأما الفرات فهو أحد الرّافدين، ويقال الوافدين، والآخر دجلة، سميا بذلك لأنهما يجريان فى جانبى بغداد: دجلة من شرقيها، والفرات من غربيها: يأتى إليها من دجلة من واسط، والبصرة، والأبلة، والأهواز، وفارس، وعمان، واليمامة، والبحرين، وسائر بلاد الهند، والسند، والصين؛ ويأتى إليها من الفرات من الموصل، وأذربيجان، وأرمينية، والجزيرة، والثغور، والشام، ومصر، والمغرب؛ وقد تقدّم ذكرنا لحديث البخارى أنه يجرى من تحت سدرة المنتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 وأما مبتدأ جريه الذى يعرفه الناس، فمن مدينة قاليقلا من نهر يسمّى أودخش، ويجرى مقدار أربعمائة وخمسين ميلا مغرّبا، ثم يخرج من جهة الجنوب حتّى يمرّ بين ثغرى ملطية، وسميساط؛ ثم إلى جسر منبج؛ ثم يعطف ويأخذ جهة الجنوب حتّى يصل إلى بالمن ويمر بنصيبين، والرّقة، وقرقيسيا، والرّحبة؛ فيلتحف على عانات؛ ثم يمتدّ حتّى يمر بهيت والأنبار. فإذا جاوزها انقسم قسمين: قسم يأخذ نحو الجنوب قليلا وهو المسمّى بالعلقم، ينتهى إلى بلاد سورا وقصر ابن هبيرة والكوفة والحلّة، إلى البطيحة التى بين البصرة وواسط؛ والقسم الآخر يسمّى نهر عيسى، منسوب لعيسى بن علىّ بن عبد الله بن عباس، وهو ينتهى إلى بغداد، ويمرّ حتّى يصبّ فى دجلة. قال المسعودىّ: وقد كان الأكثر من ماء الفرات ينتهى إلى بلاد الحيرة؛ ثم يتجاوزها ويصب فى البحر الفارسىّ، وكان البحر يوم ذاك فى الموضع المعروف بالنّجف فى هذا الوقت، وكانت مراكب الهند والصين ترد على ملوك الحيرة فيه. قال: والموضع الذى كان يجرى فيه بيّن إلى زمن وضعى هذا الكتاب، يعنى «كتاب مروج الذهب» وهو فى سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، ويعرف بالعتيق، وعليه كانت وقعة القادسية. وطول الفرات من حيث يخرج عند ملطية إلى أن يأتى ما يأتى منه إلى بغداد ستمّائة فرسخ وثلاثة وعشرون فرسخا، وفى شطّه مدن فى جزائر تعدّ من أعمال الفرات، وهى الريسة، والناووسة، والقصر، والحديثة، وعانات، والدّالية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 وأما نهر دجلة ويسمى السلامة، وبه سميت بغداد دار السلام على أحد القولين، والثانى السلام على الخلفاء فيها. وهذا النهر فارزبين العراق والجزيرة، وانبعاثه من أعين بجبال آمد، ويصب إليه نهران يخرجان من أرزن الروم وميّا فارقين وعيون أخرى من جبال السلسلة، فيمرّ ببلد، ثم بالموصل فيصب فيه نهر الخابور الخارج من بلاد أرمينية بين بلاد سورا وقبر سابور؛ ويصب فيه الزاب الأكبر الخارج من بلاد أذربيجان على فرسخ من الحديثة. ويسمى المجنون لحدّته وشدّة جريه، ثم تمرّ دجلة فيصب فيها الزاب الأوسط، ومخرجه من الفرات ويجرى بين إربل ودقوقاء، ويصب فى دجلة أيضا الزاب الأصغر، ومخرجه أيضا من الفرات. وهذه الزوابى الثلاثة أنبطها زاب بن طهماسب: أحد ملوك الفرس الأول، ثمّ تمرّ دجلة بتكريت إلى أن تتجاوز سامرّا قليلا فيقع فيها نهر عيسى ويمرّ حتّى يشقّ بغداد. فاذا تجاوزها صب فيه نهر يخرج من بلاد أرمينية يسمّى تامرّا بعد أن يمرّ بناصلو ثم بباجسرا فيسمّى النهروان، ويشق مدينة تعرف به، ثم تمرّ دجلة بجر جرايا والنّعمانية ثم بواسط، ثم إلى البطائح، ثم تخرج منها فتمرّ بالبصرة وتجرى حتّى تنتهى إلى عبّادان، وعندها تصبّ فى البحر الفارسىّ. وما يمرّ من دجلة بالبصرة يملح إذا مدّ البحر فلا يشرب منه البتة؛ ويحلو إذا جزر. فأهل البصرة ينتظرون بالاستقاء منه الجزر، وهو يمدّ بكرة ويجزر عشاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 وكانت المراكب التى ترد من الهند والصين تدخل فى دجلة من بحر فارس إلى مدينة المداين، فاتفق أن انبثق فى أسافل كسكر بثق عظيم على عهد قباذ بن فيروز فأهمل حتّى طغى ماؤه وغرّق غمارات وضياعا فصارت بطائح. ويسمّى هذا البثق دجلة العوراء لتحوّل الماء عنه. وصار بين دجلة الآن ودجلة العوراء مسافة بعيدة تسمّى بطن جوخى، وهو من حدّ فارس من أعمال واسط إلى نحو السّوس من أعمال خوزستان. ويقال إن كسرى أنفق أموالا عظيمة على أن يحوّل الماء إليها فأعياه ذلك. ورامه خالد بن عبد الله القسرى فعجز عنه. ومقدار مسافة جرى نهر دجلة إلى أن يصب فى البحر الفارسى ثلاثمائة فرسخ؛ ومقدار البطائح ثلاثون فرسخا طولا وعرضا. وهى تفيض فى كثير من الأوقات حتى يخشى على بغداد الغرق. وأما نهر سجستان ويسمّى الهندمند [1] ، فيقال إن منوچهر بن أيراج [2] بن أفريدون أنبطه. وهو يجرى من عيون فى بلاد الهند ويمرّ ببلد الغور؛ فإذا تجاوزها، مرّ من أعالى سجستان على بررخّج، ثم على بسط [3] ، ثم على دونج [4] فتفرّع منه أنهار تجرى فى شوارعها. ثم يمرّ عمود النهر حتّى يصب فى بحيرة زرة.   [1] وسماه المسعودى «الهرمند» فى كتاب «التنبيه والإشراف» . [2] فى المسعودى «أيران» وقال: إن أيران تسميه الفرس أيراج. [3] هى المشهورة باسم «بست» . ومنها أبو الفتح البستىّ الشاعر المعروف. [4] لم أعثر على هذا الاسم فيما بيدى من كتب الجغرافية العربية، ولعلها هى نفس المدينة التى ذكرها ياقوت وغيره باسم «زربح» وقال إنها قصبة سجستان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 وطول هذا النهر من حيث يبتدئ إلى نهايته مائة فرسخ. وزعم قوم أنه يخرج من نهر الكنك. وأما نهر مهران وهو نهر السند [1] ، فهو يشبه نيل مصر فى زيادته ونقصه واصناف حيوانه وما يتفرّع منه من الخلجان. وهو يستمدّ من أربعة أنهر: نهران يجريان من السند، ونهر من ناحية كابل، ونهر من بلاد قشمير. وتجتمع فتكون نهرا واحدا، ويجرى حتّى ينتهى إلى الدور فيمرّ بها، ومن ثم يسمّى نهر مهران، ثم يمرّ بالمولتان، ثم بالمنصورة، ثم يجرى إلى ديبل. فإذا تجاوزها صب فى بحر الهند على ستة أميال منها. وطوله ألف فرسخ. وأما نهر جيحون [2] ويسمّى بالفارسية «به روذ» وهو «نهر بلخ [3] » . وانبعاثه من بحيرة فى بلاد التّبّت، مقدارها طولا وعرضا أربعون ميلا، تجتمع من أنهار الختّل.   [1] لا يزال اسم «مهران» علما يطلقه بعض الهنود إلى الآن على القسم الأسفل من نهر السند. [2] فى الأصل «جيحان» . وهو خطأ لأن جيحان نهر آخر فى آسيا الصغرى ويعرف بنهر المصيصة ويصب فى بحر الشام. أنظر ياقوت وابن رسته فى «التنبيه والإشراف» . [3] ويسمى أيضا نهر كالف على ما رواه المسعودى باسم قلعة حصينة، قال ياقوت إنها قائمة على طرفه شبيهة بالمدينة بينها وبين بلخ ثمانية عشر فرسخا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 فإذا خرج منها مربوخّان فيسمّى نهر جرياب [1] ، ويجرى من المشرق إلى المغرب إلى أعلى حدود بلخ. ثم يعطف إلى ناحية الشمال إلى أن يصير إلى التّرمذ، ثم منها إلى زمّ وآمل من بلاد خراسان. ثم يجرى إلى أن يمرّ ببلاد خوارزم فيشق قصبتها. فإذا تجاوزها تشعّب منه أنهار وخلجان يمينا وشمالا، تصب إلى مستنقعات وبطائح يصاد فيها السمك. ثم تخرج منها مياه تجتمع وتصير عمودا واحدا، تجرى مقدار أربعة وعشرين فرسخا، ثم تصب فى بحيرة خوارزم. ويكون مقدار جريه من مبدئه إلى نهايته ثلاثمائة وخمسين فرسخا. وقيل: أربعمائة. وساحله يسمّى الرّوذبار [2] . ويقال إنه يخرج منه خليج يأخذ سمت المغرب حتّى يقرب من كرمان، ثم يمضى حتّى يصبّ فى بحر فارس. ونهر جيحون ربما جمد فى الشتاء حتّى تعبر عليه القفول. قالوا: ويبتدئ جموده من ناحية خوارزم. وأما نهر سيحون ويسمّى نهر الشّاش، وهو فارز بين بلاد الهياطلة وبلاد تركستان. قال ابن حوقل: مبتدؤه من أنهار تجتمع فى حدود بلاد التّرك [والإسلام] ، فتصير عمودا واحدا وتجرى حتّى تظهر فى حدود أوزكند من بلاد فرغانة فتصب فيه   [1] فى الأصول «جواب» والتصحيح عن الاصطخرى وابن حوقل. [2] قال ياقوت: كأن معناه بالفارسية «موضع النهر» . ثم نقل عن السمعانىّ أن الروذبار لفظة لمواضع عند الأنهار الكبيرة فى بلاد متفرّقة. ثم ذكر روذبار بلخ ثم قال وبالشاش أيضا قرية يقال لها روذبار من وراء جيحون. [ولعل المراد هنا بلاد النهر أى نهر جيحون كما قالوا زنجبار أى بلاد الزنج] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 فيعظم ويكثر ماؤه، ثم يمتدّ إلى فاراب. فإذا تجاوزها يجرى فى برّية فيكون على جانبيه الأتراك الغزّيّة، ويمرّ إلى أن يصب فى نهر جيحون [1] . وبين موقعه فى النهر وبين بحيرة خوارزم عشرة أيام. وأما نهر الكنك [2] وهو نهر تعظّمه الهند، فينبعث من بلاد قشمير ويجرى فى أعالى بلاد الهند. وهم يزعمون أنه من الجنة فيعظّمونه غاية التعظيم. ومن عجائبه أنه إذا ألقى فيه شىء من القاذورات، أظلم جوّه ورجفت أرجاؤه وكثرت الأمطار والرياح والصواعق. وقد وصفه العتبىّ فى «التاريخ اليمينىّ» فقال: «وهذا النهر الذى يتواصف الهنود قدره وشرفه، فيرون من عين الخلد التى فى السماء مغترفه؛ إذا أحرق منهم ميت ذرّوه فيه بعظامه، فيظنون أنّ ذلك طهر لآثامه؛ وربما أتاه الناسك من المكان البعيد فيغرق نفسه فيه، يرى أنّ هذا الفعل ينجيه. والهنود يفرطون فى تعظيمه حتّى إن الرجل منهم إذا أراد الفوز، أحرق نفسه وألقى رماده فيه، أو يأتى إلى النهر (وهناك شجر القنا فى غاية الارتفاع، وقوم هناك بأيديهم سيوف مسلولة وخناجر) فيربط نفسه فى طرف قناة، ثم يحزّ رأسه بيده   [1] اختصر المؤلف كلام ابن حوقل اختصارا خفيفا (وانظر كلام ابن حوقل فى كتابه «المسالك والممالك» ص 392- 393) . [2] قال أبو الفدا إن اسمه الهندى: كانكو وسماه المسعودى «جنجس» فى كتاب «التنبيه والإشراف» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 فيبقى الرأس معلقا فى طرف القناة وتسقط الجثة، أو يلقى نفسه من شاهق على تلك السيوف والخناجر فيتقطع، ومنهم من يلقى نفسه فى النهر فيغرق» . وأما نهر الكر فهو نهر بأرض أرمينية. وانبعاثه من بلاد اللّان، فيمرّ ببلاد الأنجاز [1] حتّى يأتى ثغر تفليس فيشقّه ويجرى فى بلاد الساوردية. [2] ثم يخرج بأرض برذعة، ويحرى إلى برزنج فيصب فيه نهر الرّسّ. وهذا النهر هو المذكور فى القرآن العزيز فى قوله تعالى (وَأَصْحابَ الرَّسِّ) * [3] على ما ذهب إليه بعض المفسرين. فإذا صب فيه هذا النهر، صارا نهرا واحدا يصب فى بحر الخزر. ونهر الرّسّ يخرج من أقاصى بلاد الروم، على ما زعم المسعودى. وأما نهر إتل وهو نهر عظيم، فهو نهر الخزر. ويمرّ جانبه الشرقىّ على ناحية خرخيز، ويجرى ما بين الكيماكية والغزّية. ثم يمتدّ غربا على ظهر بلغار [4] وبرطاس والخزر. ثم ينقسم قسمين: أحدهما إلى مدينة إتل   [1] فى الأصل «الأبحار» . والأصوب «الابخاز» وهو اسم لجهة من بلاد أرمينيه (وقد ذكر الابخاز كل من الإصطخرى وابن حوقل والمقدسى وابن خرداذبة والمسعودى) . [2] جيل من الأرمن يسميهم العرب أيضا «السياوردية» ويصفونهم بأنهم «أهل العبث والفساد والتلصص (عن حاشية فى ص 192 من «مسالك الممالك» للإصطخرى) . [3] فى الاصل «كذب أصحاب الرس المرسلين» وهو غير نظم القرآن، فتنبه. [4] مدينة كانت على نهر؟؟؟ لاد الروسيا. ومنها خرج البلغار الى البلاد المعروفة الآن فأسمهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 يشقّها بنصفين ويجرى إلى أن يصب فى بحر الخزر، ويجرى الآخر فيمرّ ببلد الرّوس حتّى يصب فى بحرهم وهو بحر سوداق. ويقال إنه يتشعب منه نيّف وتسعون نهرا، وإذا وقع فى البحر، يجرى فيه مسيرة يومين ثم يغلب عليه. وقيل إنه يجمد فى الشتاء، ويتبين لونه فى لون البحر. والله سبحانه وتعالى أعلم. ذكر ما فى المعمور من الأنهار والعيون التى يتعجّب منها قال صاحب «مباهج الفكر ومناهج العبر» فى كتابه: «وذكر المعتنون بتدوين العجائب فى كتبهم التى وضعوها لذلك أن فى المعمور أنهارا وعيونا يتعجّب منها إذا أخبر عنها. فذكروا منها نهر الكنك (وقد تقدّم ذكره) وأن بأرض الهند مكانا يعرف بعقبة عورك فيه عين ماء لا تقبل نجسا ولا قذرا، وإن ألقى فيها شىء من ذلك، اكفهرّت السماء وهبّت الريح وكثر الرعد والبرق والمطر. فلا تزال كذلك إلى أن يخرج منها ما طرح فيها. «وذكروا أن فى ناحية الباميان عينا تسمّى ديواش تفور من الأرض كغليان القدر؛ متى بصق فيها إنسان أورمى فيها شيئا من القاذورات، ازداد غليانها وفورانها وفاضت. فربما أدركت من جعل ذلك فيها فغرّقته. «وبناحية الباميان أيضا عين تجرى من جبل فى بعض الأحيان. فإذا خرج ماؤها، صار حجرا أبيض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 «وبقرية من أعمال فارس كهف بين جبال شاهقة فيه حفرة بقدر الصّحفة، يقطر فيها من أعلى الكهف ماء: إن شرب منه واحد لا يفضل عنه منه شىء، وإن شرب منه ألف عمّهم وأرواهم. «وبناحية أردشير [1] جرد عين يجرى منها ماء حلو يشرب لشفية الجوف. فمن شرب منه قدحا أقامه مرة، وإن زاد فعلى قدر الزيادة. «وبدارين من أعمال فارس نهر ماؤه شروب. إذا غطّت فيه الثياب خضّرها. «وفى بعض رساتيق همذان عيون متى خرج منها الماء تحجّر. «وبنواحيها أيضا ماء يخرج من تحت قلعة ويجرى فى جداول إلى بعض الرساتيق. فما تشبّث منه فى صدع أو شقّ صار حجرا صلدا، وإذا صبّ فى خزفة وأقام فيها ثلاثة أيام ثم كسرت، وجد فى جوفها أخرى قد تحجرت من الماء. «وبناحية تفليس عين تنبع، فإذا خرج منها الماء صار حيّات. «وبأرض القدموس من حصون الدّعوة بربضها حمّام يجرى إليها الماء من عين هناك. فإذا كان فى أوّل شهر تمّوز ينبع فى الحمّام حيّات فى طول شبرين أوّلا، ثم فى طول شبر، وتكثر. ولا توجد فى غير الحمام. فإذا انقضى شهر تمّوز، عدمت تلك الحيّات، فلا توجد إلى العام القابل. «وبأرض أرمينية واد لا يقدر أحد ينظر إليه ولا يقف عليه ولا يدرى ما هو. إذا وضعت القدر على ضفّته غلت ونضج ما فيها. وفيها واد عليه الأرحاء والبساتين. ماؤه حامض؛ فإذا نزل فى الإناء، عذب وحلا.   [1] فى معجم ياقوت «أردشير خرّه» مضبوطا بالعبارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 «وبالمراغة عيون اذا خرج ماؤها لم يلبث إلا قليلا حتى يتحجّر. فمنه تفرش دورهم. «وبنواحى أرزن الروم ماء يستقى فيستحجر ويصير ملحا. «وأكثر مياه بلاد اليمن تستحيل شبّا. «وبنواحى واحات من أعمال مصر عيون مياهها ألوان مختلفة: من الحمرة والصّفرة والخضرة. تسيل إلى مستنقعات، فتكون ملحا بحسب ألوانها. «وفى هذه الناحية عيون يطبخ بمائها بدلا عن الخلّ. «وبنواحى أسوان من الصعيد الأعلى مستنقعات منها النّفط. «وكذلك بتكريت من أرض العراق. «وبأرض كتامة [1] من بلد إفريقيّة عين تسمّى عين الأوقات. تجرى فى أوقات الصلوات الخمس. فإذا حضر جنب أو امرأة حائض، لا تبضّ بشىء من الماء. وإذا اتّهم رجلان، أتت بالماء للصادق وشحّت على الكاذب. «وببلد إفريقية أيضا عين تنبع بالمداد، يكتب به أهل تلك الناحية. «وبطرطوشة من بلاد الأندلس واد يجرى رملا. قال: وذكر بعض أصحاب المجاميع أنه كان بمدينة طحا من كورة الأشمونين من صعيد مصر بئر فيها ماء معين يشرب منها طول أيام السنة فيكون الماء كسائر المياه، حتّى إذا كان أوّل يوم من برمودة من شهور القبط فمن شرب من ذلك الماء   [1] فى الأصل: «كامة» وهو غلط من الناسخ، لأن «كتامة» قبيلة من البربر منتشرة فيما بين برقة الى أرض الجزائر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 يومئذ خدمته الطبيعة مقدار ما شرب. فاذا كان وقت الزوال عاد الماء إلى حالته الاولى، ثم لا يفعل كذلك إلا فى مثل ذلك اليوم من العام القابل. وقال: إنه كان بمدينة الأشمونين كنيسة تعرف ببوجرج إلى جانبها بئر لا نداوة فيها ولا بلل فى سائر أيام السنة، فاذا كان اليوم العاشر من طوبة من شهور القبط تمتلئ تلك البئر ماء شروبا. فلا يبقى أحد من نصارى ذلك البلد إلا ويأخذ من ذلك الماء للتبرّك به. حتّى إذا كان عند الزوال، غاض الماء فلا يبقى فى البئر منه شىء ويجفّ لوقته. «وبأرض مرمنيثا من عمل حصن الأكراد عين تسمّى الفوّارة. تكون فى غالب الأوقات بينها وبين وجه الأرض تقدير ثلاثة أذرع. وتفور فى بعض الأيام ويخرج منها ماء يدير أرحية الطواحين ويسقى البساتين فيستمرّ كذلك بعض يوم ثم يغور. ويتكرر ذلك فى الأسبوع مرتين وثلاثة. «وبقلعة بعلبك من الشام بئر تعرف ببئر الرحمة لا يرى فيها الماء إلا إذا حوصرت. فإنها عند ذلك تمتلئ حتّى تفيض. فإذا زال الحصار جفّت» . ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر الماء (ما جاء من ذلك على لفظ افعل) الأمثال: يقال: أسرع من الماء إلى قراره. أرقّ من الماء. أحمق من لاعق الماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 أحمق من القابض على الماء. أصفى من ماء المفاصل. أعذب من ماء المفاصل. أجرى من الماء. أعذب من ماء الحشرج. أعذب من ماء البارق. ألطف من الماء. أوجد من الماء. ويقال: أن ترد الماء بماء أكيس. ماء ولا كصدّاء. قد بلغ الماء الزّبى. ويقال: فلان يرقم على الماء. (إذا كان حاذقا) . ثأطة مدّت بماء. (للامر يزداد فسادا) . ليس الرّىّ فى التّشافّ. (فى ذم الاستقصاء) . الماء إذا طال مكثه، ظهر خبثه؛ وإذا سكن متنه، تحرّك نتنه. الكدر من رأس العين. إذا عذبت العيون، طابت الأنهار. هذا غيض من فيض، وبرض من عدّ. (أى قليل من كثير) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 ومن أنصاف الابيات: والمرء يشرق بالزّلال البارد! كذلك غمر الماء يروى ويغرق! والمشرب العذب كثير الزّحام! مواقع الماء من ذى الغلّة الصادى! وكيف يعاف الرّنق من كان صاديا؟ ومن الابيات: يا سرحة الماء قد سدّت موارده ... أما إليك سبيل غير مسدود؟ لحائم حام حتّى لا حيام به ... محلّا عن طريق الماء مصدود! وقال آخر: أيجوز أخذ الماء من ... متلهّب الأحشاء صادى؟ وقال آخر: أرى ماء وبى عطش شديد، ... ولكن لا سبيل إلى الورود! وقال آخر: من غصّ داوى بشرب الماء غصّته، ... فكيف يصنع من قد غصّ بالماء؟ وقال آخر: وما كنت إلّا الماء جئنا لشربه، ... فلمّا وردناه إذا الماء جامد! وقال آخر: وفى نظرة الصادى إلى الماء حسرة، ... إذا كان ممنوعا سبيل الموارد! وقال آخر: وإنّى للماء المخالط للقذى ... إذا كثرت ورّاده، لعيوف! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 وقال آخر: سأقنع بالثّماد، لعلّ دهرا ... يسوق الماء من حرّ كريم! وقال آخر: ومن يأمن الدنيا يكن مثل قابض ... على الماء، خانته فروج الأصابع. وقال آخر: وإنّى وإشرافى عليك بهمّتى ... لكالمبتغى زبدا من الماء بالمخض. وقال آخر: فقل فى مكرع عذب، ... وقد وافاه عطشان! وقال آخر: وكيف الصّبر عنك، وأىّ صبر ... لظمآن عن الماء الزّلال؟ وقال آخر: وإنّ الماء فى العيدان يجرى، ... وربّتما تغيّر فى الحلوق! وقال آخر: إذا أنا عاتبت الملول فإنّما ... أخطّ بأقلام على الماء أحرفا! وقال آخر: والماء لس عجيبا أنّ أعذبه ... يفنى، ويمتدّ عمر الآجن الأسن. وقال آخر: المال يكسب أهله، ما لم يفض ... فى الراغبين إليه، سوء ثناء. كالماء تأسن بئره إلا إذا ... خبط السّقاة جمامه بدلاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 ذكر شىء مما قيل فى وصف الماء وتشبيهه فأما ما اختص به نهر النيل من الوصف. فمن ذلك قول ابن النّقيب: كأنّ النّيل ذو فهم ولبّ ... لما يبدو لعين الناس منه. فيأتى حين حاجتهم إليه، ... ويمضى حين يستغنون عنه! وقال تميم بن المعزّ العبيدىّ: يوم لنا بالنّيل مختصر ... ولكلّ يوم مسرّة قصر. والسّفن تجرى كالخيول بنا ... صعدا، وجيش الماء منحدر. فكأنّما أمواجه عكن ... وكأنما داراته سرر. ومن رسالة للقاضى الفاضل عبد الرحيم البيسانى قال: وأما النيل فقد ملأ البقاع، وانتقل من الإصبع إلى الذّراع. فكأنما غار على الأرض فغطّاها، وعار عليها فاستقعدها وما تخطّاها. فما يوجد بمصر قاطع طريق سواه، ولا مرغوب مرهوب إلا إيّاه. وأما ما اختصت به دجلة من الوصف. قال التنوخىّ: وكأنّ دجلة إذ تغمّض موجها ... ملك يعظّم، خيفة ويبجّل. عذبت، فما أدرى أماء ماؤها ... عند المذاقة أم رحيق سلسل؟ وكأنّها ياقوتة أو أعين ... زرق يلاءم بينها ويوصّل. ولها بمدّ بعد جزر ذاهب ... جيشان: يدبرذا، وهذا يقبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 وقال محمد بن عبد الله السلامىّ، شاعر «اليتيمة» : وميدان تجول به خيول ... تقود الدّارعين [1] ولا تقاد. ركبت به إلى اللّذّات طرفا ... له جسم وليس له فؤاد. جرى فظننت أن الأرض وجه ... ودجلة ناظر وهو السّواد. وقال الصنوبرىّ: فلمّا تعالى البدر واشتدّ ضوءه ... بدجلة فى تشرين بالطّول والعرض وقد قابل الماء المفضّض نوره ... وبعض نجوم الليل يطفى سنا بعض، توهّم ذو العين البصيرة أنه ... يرى ظاهر الأفلاك فى باطن الأرض. ومما وصفت به الأنهار قال الصنوبرى: والعوجان الذى كلفت به ... قد سوّى الحسن فيه مذعوّج. ما أخطأ الأيم فى تعوّجه ... شيئا إذا ما استقام أو عرّج. تدرّج الريح متنه فترى ... جوشن ماء عليه قد درّج. إن أعنقت بالجنوب أعنق فى ... لطف، وإن هملجت به هملج. من أين طافت شمس النهار به ... حسبت شمسا من جوفه تخرج. وقال أبو فراس: والماء يفصل بين زه ... ر الرّوض فى الشّطّين فصلا. كبساط وشى جرّدت ... أيدى القيان عليه نصلا.   [1] أنظر قبل هذا ص 256 فى وصف البحر والسفن. وكتب فى بعض الأصول عند هذا الموضع لفظة «مكرر» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 وقال الناجم: انظر إلى الرّوض الذّك ... ى فحسنه للعين قرّه! فكأنّ خضرته السما ... ء، ونهره فيه المجرّه. وقال عبد الله بن المعتزّ: وترى الرّياح إذا مسحن غديره ... وصفينه ونقين كلّ قذاة، ما إن يزال عليه ظبى كارع ... كتطلّع الحسناء فى المرآة. ومثله قول الآخر: وغدير رقّت حواشيه حتى ... بان فى قعره الذى كان ساخا. وكأنّ الطّيور إذ وردته ... من صفاء به، تزقّ فراخا. وقال آخر: والنّهر مكسوّ غلالة فضّة؛ ... فإذا جرى سيل، فثوب نضار. وإذا استقام، رأيت صفحة منصل [1] ؛ ... وإذا استدار، رأيت عطف سوار. وقال أبو مروان بن أبى الخصال: النّهر قد رقّت غلالة خصره ... وعليه من صبغ الأصيل طراز. تترقرق الأمواج فيه كأنّها ... عكن الخصور تهزّها الأعجاز. وقال إبراهيم بن خفاجة الأندلسى: لله نهر سال فى بطحاء ... أشهى ورودا من لمى الحسناء! وغدت تحفّ به الغصون كأنّها ... هدب تحفّ بمقلة زرقاء. والرّيح تعبث بالغصون وقد جرى ... ذهب الأصيل على لجين الماء!   [1] المنصل (بضم فسكون فضم) هو السيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 وقال أبو القاسم بن العطار: مررنا بشاطى النهر بين حدائق ... بها حدق الأزهار تستوقف الحدق. وقد نسجت كفّ النّسيم مفاضة ... عليه، وما غير الحباب لها حلق! وقال محمد بن سهل البلخى، شاعر «الذخيرة» : راقنا النهر صفاء ... بعد تكدير صفائه. كان مثل السيف مدمى ... فجلوه من دمائه. أو كمثل الورد غضّا ... فهو اليوم كمائه. وقال القاضى التنوخى، شاعر «اليتيمة» : أحبب إلىّ بنهر معقل الذى ... فيه لقلبى من همومى معقل! عذب إذا ما عبّ فيه ناهل ... فكأنّه من ريق حبّ ينهل. متسلسل فكأنّه لصفائه ... دمع بخدّى كاعب يتسلسل. فإذا الرّياح جرين فوق متونه ... فكأنّها درع جلاه الصّيقل! وقال مؤيد الدين الطّغرائىّ فى الغدير: عجنا إلى الجزع الذى مدّ فى ... أرجائه الغيم بساط الزّهر. حول غدير ماؤه المنتمى ... إلى بنات المزن يشكو الخصر. لولاذه [1] الرّيح سموما به ... لانقلبت وهى نسيم السّحر. حصباؤه درّ ورضراضه ... سحالة العسجد حول الدّرر. وقد كسته الرّيح من نسجها ... درعا به يلقى نبال المطر.   [1] كذا بالأصل. وفى ديوانه: «لو لاذت الريح الخ» وهو الصواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 وألبسته الشّمس من صبغها ... نورا به يخطف نور البصر. كأنّها المرآة مجلوّة ... على بساط أخضر قد نشر. وقال أيضا: ملنا إلى النّشر الذى ترتقى ... إليه أنفاس الصبا عاطره. حول غدير ماؤه دارع ... والأرض من رقّته حاسره. والشمس إن حاذته رأد الضّحى ... حسناء فى مرآتها ناظره. والشّهب إن حاذته جنح الدّجى ... تسبح فى لجّته الزاخره. قد ركّب الخضراء فيه، فمن ... حصبائه أنجمها زاهره. يخضرّ [1] إن مرت بأرجائه ... لفح سموم فى لظى هاجره. أنموذج الماء الذى جاءنا ال ... وعد بأن نسقاه فى الآخره! ومما وصفت به البرك قال البحترىّ عفا الله عنه: يا من رأى البركة الحسناء رؤيتها ... والآنسات التى لاحت مغانيها! ما بال دجلة كالغيرى تنافسها ... فى الحسن طورا، وأطوارا تباهيها؟ كأنّ جنّ سليمان الذين ولوا ... إبداعها فأدقّوا فى معانيها. فلو تمرّ بها بلقيس عن عرض، ... قالت: هى الصّرح تمثيلا وتشبيها. تنصبّ فيها وفود الماء معجلة ... كالخيل خارجة من حبل مجريها. كأنّما الفضّة البيضاء سائلة ... من السبائك تجرى في مجاريها.   [1] فى الأصل «يخضرّ» وفى ديوانه (الموجود منه نسخة مخطوطة «بدار الكتب المصرية» ) «يحضر» ولا معنى لهما. ولعل الصواب «يخصر» من الخصر، وهو شدّة البرد كما يرتضيه السياق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 إذا علتها الصّبا أبدت لها حبكا ... مثل الجواشن مصقولا حواشيها. إذا النّجوم تراءت فى جوانبها ... ليلا، حسبت سماء ركّبت فيها. لا يبلغ السّمك المحصور غايتها ... لبعد ما بين قاصيها ودانيها. يعمن فيها بأوساط مجنحّة ... كالطير تنقضّ فى جوّ خوافيها. كأنها حين لجّت فى تدفّقها ... يد الخليفة لمّا سال واديها! وقال ابن طباطبا: كم ليلة ساهرت أنجمها لدى ... عرصات أرض ماؤها كسمائها. قد سيّرت فيها النجوم كأنّما ... فلك السماء يدور فى أرجائها. أحسن بها بحرا إذا التبس الدّجى، ... كانت نجوم الليل من حصبائها! ترنو إلى الجوزاء وهى غريقة ... تبغى النّجاء، ولات حين نجائها! تطفو وترسب فى اصطفاق مياهها ... لا مستعان لها سوى أسمائها. والبدر يخفق وسطها فكأنّه ... قلب لها قد ريع فى أحشائها. وقال عبد الجبار بن حمديس، يصف بركة يجرى إليها الماء من شاذروان من أفواه طيور وزرافات وأسود، من أبيات: والماء منه سبائك من فضّة ... ذابت على دولاب شاذروان! فكأنّما سيف هناك مشطّب ... ألقته يوم الرّوع كفّ جبان! كم شاخص فيه يطيل تعجّبا ... من دوحة نبتت من العقيان! عجبا لها تسقى هناك ينائعا ... ينعت من الثّمرات والأغصان! خصّت بطائرة على فنن لها ... حسنت، فأفرد حسنها من ثانى! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 قسّ الطيور الساجعات بلاغة ... وفصاحة من منطق وبيان. فإذا أتيح لها الكلام تكلّمت ... بخرير ماء دائم الهملان. وكأنّ صانعها استبدّ بصنعة ... فخر الجماد بها على الحيوان! أوفت على حوض لها فكأنّها ... منها إلى العجب العجاب روان. وكأنّها ظنّت حلاوة مائها ... شهدا، فذاقته بكلّ لسان. وزرافة فى الجوّ من أنبوبها ... ماء يريك الجرى فى الطّيران. مركوزة كالرّمح حيث ترى له ... من طعنه الحلق انعطاف سنان. وكأنّما ترمى السماء ببندق ... مستنبط من لؤلؤ وجمان! لو عاد ذاك الماء نفطا، أحرقت ... فى الجوّ منه قميص كلّ عنان. فى بركة قامت على حافاتها ... أسد تذلّ لعزّة السّلطان! نزعت إلى ظلم النفوس نفوسها، ... فلذلك انتزعت من الأبدان. وكأنّما الحيّات من أفواهها ... يطرحن أنفسهنّ فى غدران. وكأنّما الحيتان إذ لم تخشها، ... أخذت من المنصور عهد أمان! وقال آخر: ولقد رأيت، وما رأيت كبركة ... فى الحسن ذات تدفّق وخرير! عقدت لها أيدى المياه قناطرا ... من جوهر فى لجّة من نور! وقال علىّ بن الجهم، يصف فوّارة: وفوّارة ثارها فى السّماء، ... فليست تقصّر عن ثارها! تراها اذا صعدت فى السّماء ... تعود الينا بأخبارها. تردّ على المزن ما أنزلت ... على الأرض من صوب مدرارها! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 وقال ابن حجاج فيها: علمت فى دارك فوّارة، ... غرّقت الأفق بها الأنجما! فاض على نجم السما ماؤها، ... فأصبحت أرضك تسقى السما! وقال تميم بن المعزّ العبيدىّ: وقاذفة بالماء فى وسط بركة ... قد التحفت ظلّا من الأيك سجسجا. إذا أينعت بالماء سلّته منصلا ... وعاد عليها ذلك النّصل هودجا. تحاول إدراك النجوم بقذفها، ... كأنّ لها قلبا على الجوّ محرجا! ومما وصفت به الدواليب والنواعير قال أبو حفص بن وضّاح: لله دولاب يطوف بسلسل ... فى روضة قد أينعت أفنانا! قد طارحت فيه الحمائم شجوها ... بنحيبها، وترجّع الألحانا. فكانّه دنف يطوف بمعهد، ... يبكى ويسأل فيه عمّن بانا. ضاقت مجارى طرفه عن دمعه، ... فتفتّحت أضلاعه أجفانا! وقال الموفقىّ، رحمه الله: ناعورة تحسب من صوتها ... متيّما يشكو إلى زائر. كأنّما كيزانها عصبة ... رموا بصرف الزّمن الواتر. قد منعوا أن يلتقوا فاغتدوا ... أوّلهم يبكى على الآخر! وقال آخر: وناعورة قد ضاعفت بنواحها ... نواحى، وأحرت مقلتىّ دموعها! وقد ضعفت مما تئنّ، وقد غدت ... من الصّعف والشّكوى بعدّ صلوعها! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 وقال ابن منير الطرابلسى: لنواعيرها على الماء ألحا ... ن تهيج الشّجا لقلب المشوق. فهى مثل الأفلاك شكلا وفعلا، ... قسمت قسم جاهل بالحقوق: بين عال، سام، ينكّسه الح ... ظ ويعلو بسافل مرزوق. وقال أبو الفرج الوأواء: وكريمة سقت الرياض بدرّها، ... فغدت تنوب عن السّحاب الهامع. بلباس محزون، ودمعة عاشق، ... وحنين مشتاق، وأنّه جازع. فكأنّها فلك يدور، وعلوه ... يرمى القرار بكلّ نجم طالع. وقال الصنوبرىّ: فلك من الدّولاب فيه كواكب ... من مائه تنقضّ ساعة تطلع. متلوّن الأصوات: يخفض صوته ... بغنائه، طورا وطورا يرفع. ومما وصفت به نثرا من رسالة للشيخ ضياء الدين القرطبى إلى بعض إخوانه يستدعى منه ثلاثة أسهم ومليّات. جاء منها: « ... والحاجة داعية إلى ثلاثة أسهم، كأنها هقعة الأنجم؛ ممتدّة امتداد الرّمح، مقوّمة تقويم القدح؛ غير مشعّثة الأطراف، ولا معقّدة الأعطاف؛ ولا مسوسة الأجواف؛ تحاسن الغصون بقوامها، والقدود بتمامها؛ وتخالف هيفها متلاء خصورها، وتساوى [بين] هواديها وصدورها؛ معتدله القدود، ناعمة الحدود؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 مع مليّات أخذت النار منها مأخذها فاسودّت، وتطاولت عليها مدّة الجفاف فاشتدّت؛ وترامت بها مدّة القدم، كأنها فى حيّز العدم؛ صلاب المكاسر، غلاظ المآزر؛ تشبه أخلاقه [1] فى هيجاء السلّم، وتحكى صلابة آرائه فى نفاذ الرأى ومضاء العزم؛ تكظم على الماء بغيظها، فتجود على الأرض بفيضها؛ تمدّ يد أيدها فى اقتضاء إرادتها، وتطلع طلوع الأنجم فى فلك إدارتها؛ وتعانق أخواتها معانقة التشييع، فآخر التسليم أوّل التوديع؛ على أنها تؤذن بحقائق الاعتبار، وتجرى جرى الفلك المدار فى قناة الأعمار: تمرّ كأنفاس الفتى فى حياته ... وتسعى كسعى المرء أثناء عمره. يفارق خلّ خلّه، وهو سائر ... على مثل حال الخلّ فى إثر سيره. ويعلمه التّدوار، لو يعقل الفتى ... بأن مرور العمر فيه كمرّه. فمن أدركت أفكاره سرّ أمرها، ... فقد أدركت أفكاره سرّ أمره. ومن فاته، الإدراك أدركه الرّدى: ... إذا جرّعت أنفاسه كأس مرّه.» ومما وصفت به الجداول قال ابن المعتزّه عفا الله عنه: على جدول ريّان، لا يقبل القذى: ... كأنّ سواقيه متون المبارد. وقال الناجم: أحاطت أزاهير الرّبيع سويّة ... سماطين مصطفّين، تستنبت المرعى. على جدول ريّان كالسّهم مرسلا، ... أو الصارم المسلول، أو حيّة تسعى.   [1] أى أخلاق المرسل إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 وقال المفجّع: على جدول ريّان ينساب متنه ... صقيلا، كمتن السيف وافى مجرّدا. إذا الرّيح ناغته، تحلّق وجهه ... دروعا وضاء، أو تحزّز مبردا. وقال ابن الرومىّ: على حفافى جدول مسجور ... أبيض مثل المهرق المنشور. أو مثل متن المنصل المشهور ... ينساب مثل الحيّة المذعور. وقال ذو الرمّة: فما انشقّ ضوء الصّبح حتّى تبيّنت ... جداول: أمثال السّيوف القواطع. وحيث انتهينا من ذكر المياه إلى هذه الغاية فلنذكر عباد الماء. ذكر عبّاد الماء [1] وعبّاد الماء طائفة من الهند يسمّون الجلهكيّة [2] ، يزعمون أن الماء ملك، ومعه ملائكة، وأنه أصل كل شىء، وبه كلّ ولادة ونموّ ونشوء وبقاء وطهارة وعمارة، وما من عمل فى الدنيا إلا ويحتاج إلى الماء. فإذا أراد الرجل منهم عبادته، تجرّد وستر عورته. ثم دخل الماء حتى يصل إلى وسطه، فيقيم ساعتين وأكثر. ويأخذ ما أمكنه من الرّياحين فيقطّعها صغارا ويلقى فى الماء بعضها بعد بعض، وهو يسبّح ويقرأ. وإذا أراد الانصراف، حرّك الماء بيده. ثم أخذ منه فنقّط على رأسه ووجهه وسائر جسده. ثم يسجد وينصرف.   [1]- هذه العبارة كلها منقولة عن كتاب «الملل والنحل» للشهرستانى. [2] فى الأصل: المهكنية. [وهو تصحيف وصوابه من الشهرستانى] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 القسم الخامس من الفن الأوّل فى طبائع البلاد، وأخلاق سكانها، وخصائصها، والمبانى القديمة، والمعاقل، وما وصفت به القصور والمنازل وفيه خمسة أبواب الباب الأوّل من هذا القسم (فى طبائع البلاد، وأخلاق سكّانها) روى أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه سأل كعب الأحبار عن طبائع البلاد وأخلاق سكّانها، فقال: إن الله تعالى لما خلق الأشياء، جعل كل شىء لشىء. فقال العقل: أنا لاحق بالشأم، فقالت الفتنة: وأنا معك. وقال الخصب: أنا لاحق بمصر، فقال الذّلّ: وأنا معك. وقال الشقاء: أنا لاحق بالبادية، فقالت الصّحّة: وأنا معك. وقال محمد بن حبيب: لمّا خلق الله تعالى الخلق، خلق معهم عشرة أخلاق: الايمان، والحياء، والنجدة، والفتنة، والكبر، والنفاق، والغنى، والفقر، والذل، والشقاء. فقال الإيمان: أنا لاحق باليمن، فقال الحياء: وأنا معك. وقالت النجدة: أنا لاحقة بالشأم، فقالت الفتنة: وأنا معك. وقال الكبر: أنا لاحق بالعراق، فقال النّفاق: وأنا معك. وقال الغنى: أنا لاحق بمصر، فقال الذّلّ: وأنا معك. وقال الفقر: أنا لاحق بالبادية، فقال الشقاء: وأنا معك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 وحكى عن الحجاج انه قال: لما تبوّأت الأشياء منازلها، قال الطاعون: أنا نازل بالشأم، فقالت الطاعة: وأنا معك. وقال النّفاق: أنا نازل بالعراق، فقالت النعمة: وأنا معك. وقال الشقاء: أنا نازل بالبادية، فقال الصبر: وأنا معك. نوع آخر منه روى عن عبد الله بن عباس (رضى الله تعالى عنهما) أنه قال: إن الله تعالى خلق البركة عشرة أجزاء: فتسعة منها فى قريش، وواحد فى سائر الناس. وجعل الكرم عشرة أجزاء: فتسعة منها فى العرب، وواحد فى سائر الناس. وجعل الغيرة عشرة أجزاء: فتسعة منها فى الأكراد، وواحد فى سائر الناس. وجعل المكر عشرة أجزاء: فتسعة منها فى القبط، وواحد فى سائر الناس. وجعل الجفاء عشرة أجزاء: فتسعة منها فى البربر، وواحد فى سائر الناس. وجعل النّجابة عشرة أجزاء: فتسعة منها فى الرّوم، وواحد فى سائر الناس. وجعل الصناعة عشرة أجزاء: فتسعة منها فى الصين، وواحد فى سائر الناس. وجعل الشهوة عشرة أجزاء: فتسعة منها فى النّساء، وواحد فى سائر الناس. وجعل العمل عشرة أجزاء: فتسعة منها فى الأنبياء، وواحد فى سائر الناس. وجعل الحسد عشرة أجزاء: فتسعة منها فى اليهود، وواحد فى سائر الناس. ويقال: قسم الحقد عشرة أجزاء: فتسعة منها فى العرب، وواحد فى سائر الناس. وقسم البخل عشرة أجزاء: فتسعة منها فى الفرس، وواحد في سائر الناس. وقسم الكبر عشرة أجزاء: فتسعة منها فى الروم، وواحد فى سائر الناس. وقسم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 الطّرب عشرة أجزاء: فتسعة منها فى السّودان، وواحد فى سائر الناس. وقسم الشّبق عشرة أجزاء: فتسعة منها فى اليهود، وواحد فى سائر الناس. ويقال: أربعة لا تعرف فى أربعة: السّخاء فى الروم، والوفاء فى التّرك، والشجاعة فى القبط، والغمّ فى الزّنج. نوع آخر منه حكى عن الحجاج أنه سأل أيوب بن القرّيّة عن طبائع أهل البلاد، فقال: أهل الحجاز أسرع الناس إلى فتنة وأعجزهم عنها؛ رجالها جفاة، ونساؤها كساة عراة. وأهل اليمن أهل سمع وطاعه، ولزوم الجماعه. وأهل عمان عرب استنبطوا، وأهل البحرين نبط استعربوا. وأهل اليمامة أهل جفاء، واختلاف آراء. وأهل فارس أهل بأس شديد، وعزّ عتيد. وأهل العراق أبحث الناس عن صغيره، وأضيعهم لكبيره. وأهل الجزيرة أشجع فرسان، وأقتل للأقران. وأهل الشام أطوعهم لمخلوق وأعصاهم لخالق. وأهل مصر عبيد لمن غلب؛ أكيس الناس صغارا، وأجهلهم كبارا. وحكى عن أبي عثمان «عمرو بن بحر الجاحظ» أنه قال: كنا نعلّم فى المكتب كما نعلّم القرآن: احذروا حماقة أهل بخارى، وغلّ أهل مرو، وشغب أهل نيسابور، وحسد أهل هراة، وحقد أهل سجستان. وقال أبو حامد القاضى: أعيانى أن أرى خراسانيّا ذكيّا، وطبريا رزينا، وهمدانيا لبيبا، وبصريّا ركيكا، وكوفيّا رئيسا، وبغداديّا سخيّا، وموصليّا لطيفا، وشاميّا خفيفا، وحجازيا منافقا، وبدويّا ظريفا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 وقال بختيشوع: تسعة لا تخلو من تسعة: قمّىّ من رعونة، ويمانى من جنون، وواسطىّ من غفلة، وبصرىّ من جدل، وكوفىّ من كذب، وسوادىّ من جهل، وبغدادىّ من مخرقة، وخوزىّ من لؤم، وطبرىّ [1] من زرق. وقيل: جاور أهل الشام الروم، فأخذوا عنهم اللؤم وقلة الغيرة. وجاور أهل الكوفة أهل السواد، فأخذوا عنهم السّخاء والغيرة. وجاور أهل البصرة الخوز، فأخذوا عنهم الزنا وقلة الوفاء. ويقال: إن القدماء اعتبروا البلاد وما امتاز به بعضها عن بعض من الطبائع، فوجدوا أخصب بقاع الدنيا ثمانية مواضع: أرمينية، وأذربيجان، وماه دينور، وماه نهاوند، وكرمان، وأصبهان، وقومس، وطبرستان. ووجدوا أخف بقاع الدنيا ماء، ماء ثمانية مواضع: دجلة، والفرات، وزندرود أصبهان، وماء سوران، وماء هفيجان، وماء جنديسابور، وماء بلخ، وماء سمرقند. (وغفلوا عن نيل مصر، ولعله أحقّها بهذه الخصوصية من سائر المياه) . ووجدوا أو بأبقاع الدنيا ستة مواضع: النّوبندجان، وسابورخواست، وجرجان، وحلوان [2] ، وبرذعه، وزنجان. (وغفلوا عن شيزر) . ووجدوا أعقل أهل البلاد تسعة: أهل أصبهان، والحيرة، والمداين، وماه دينور، وإصطخر، ونيسابور، والرّىّ، وطبرستان، ونشوى (وهى نقجوان) . ووجدوا أسرى أهل بقاع الدنيا أهل سبعة مواضع: طوسفون (وهى المداين) ، وبلاشون (وهى حلوان [2] ) ، وماسبذان، ونهاوند، والرّىّ، وأصبهان، ونيسابور.   [1] من أهل طبرستان. وأما النسبة إلى طبرية الشام فطبرانىّ. [2] أى حلوان العراق، لا حلوان مصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 ووجدوا أهل [1] بقاع الدنيا أهل عشرة مواضع: ماسبذان، ومهر جانقذق [2] ، وسورستان، والرّىّ، والرّويان، وأذربيجان، والموصل، وأرمينية، وشهرزور، والصّامغان. ووجدوا البخل فى أهل ثمان بقاع: مرو، وإصطخر، ودارايجرد، وخوزستان، وماسبذان، وديبل، وماه دينور، وحلوان. ووجدوا أسفل أهل بقاع الأرض أربعة: أهل السّدجان [3] ، وبادرايا، وماكسايا، وخوزستان. ووجدوا أقل أهل الأرض نظرا فى العواقب أهل سبعة مواضع: طبرستان، وأرمينية، وقومس، وكرمان، وكوسان، ومكران، وشهرزور. ويقال: إنه وفد رجل من عجم خراسان على كسرى، فقال له: أخبرنى من أحسن أهل خراسان لقاء؟ قال: أهل بخارى. قال: فمن أوسعهم بذلا للخبز والملح؟ قال: أهل جوزجان. قال: فمن أحسنهم ضيافة؟ قال: أهل سمرقند. قال: فمن أدقّهم نظرا وتقديرا؟ قال: أهل مرو. قال: فمن أسوأهم طاعة؟ قال:   [1] فى بعض النسخ «آهل» بالمدّ. [2] هذا الاسم يتركب من ثلاث كلمات: مهر (أى الشمس، المحبة، الشفقة) ؛ جان (أى النفس، الروح) ؛ قذق (وقد يضم أوله ولعله اسم رجل) . فيكون معناه: محبة أو شمس نفس قذق. وهى كورة حسنة من نواحى بلاد الجبل (عن ياقوت) . [3] كذا فى الأصل ولم يذكرها ياقوت. وإنما ذكر «السيرجان» ، مدينة بين كرمان وفارس. فلعلها مصحفة عنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 أهل خوارزم. قال: فمن أخبثهم طويّة؟ قال: أهل مرو الروذ، إن رضى بذلك أهل أبيورد. قال: فمن أسقطهم عقلا؟ قال: أهل طوس، إن رضى بذلك أهل نسا. قال: فمن أكثرهم شغبا وجدلا؟ قال: أهل سرخس، إن رضى بذلك أهل قوهستان. قال: فمن أضعفهم وأخبثهم؟ قال: أهل نيسابور. قال: فمن أقلّهم غيرة على النساء؟ قال: أهل هراة. الباب الثانى من القسم الخامس من الفن الأوّل فى خصائص البلاد ولنبدأ من ذلك بمكة ويثرب، وأعرب عما أنقله من فضلهما ولا أغرب؛ وأصله بذكر البيت المقدّس والمسجد الأقصى، ولا أشترط الاستيعاب لأن فضائلها لا تحصى. فأما مكة (شرّفها الله تعالى وعظمها) ففضائلها مشهورة بيّنة. قال الله تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) . وقال الله تعالى: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً) . قال بعض المفسرين: «أمنا» من النار. وقيل: كان يأمن من الطلب من أحدث حدثا ولجأ إليه فى الجاهلية. وحكى القاضى عياض فى «كتاب الشفا» أنه حدّث أن قوما أتوا سعدون الخولانى بالمنستير، وأعلموه أن كتامة قتلوا رجلا وأضرموا عليه النار طول الليل، فلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 تعمل فيه وبقى أبيض البدن، فقال: لعله حجّ ثلاث حجج؟ قالوا: نعم. قال: حدّثت أن «من حجّ حجّة أدّى فرضه، ومن حجّ ثانية داين ربّه، ومن حجّ ثلاث حجج حرّم الله شعره وبشره على النار» . ولما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة قال: «مرحبا بك من بيت، ما أعظمك وأعظم حرمتك!» . وجاء فى الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «ما من أحد يدعو الله عند الرّكن الأسود إلا استجاب له» . وكذلك عند الركن [1] . وعنه صلى الله عليه وسلم: «من صلّى خلف المقام ركعتين، غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر وحشر يوم القيامة مع الآمنين» . ذكر ما كانت الكعبة عليه فوق الماء قبل أن يخلق الله السماوات والأرض قال أبو الوليد الأزرقىّ بسند يرفعه إلى كعب الأحبار أنه قال: كانت الكعبة غثاء على الماء قبل أن يخلق الله عز وجل السماوات والأرضين بأربعين سنة. ومنها دحيت الأرض. وقال يرفعه إلى مجاهد: خلق الله تعالى هذا البيت قبل أن يخلق شيئا من الأرضين. وعنه يرفعه إلى ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: لما كان العرش على الماء قبل أن يخلق الله السماوات والأرض بعث الله ريحا فصفّقت الماء فأبرزت عن حشفة فى موضع البيت كأنها قبّة. فدحا الله عز وجل الأرض من تحتها فمادت ثم مادت. فأوتدها الله تعالى بالجبال، فكان أوّل جبل وضع فيها أبو قبيس، فلذلك سميت مكة أمّ القرى   [1] كذا فى جميع النسخ ولعله «الركن اليمانى» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 وعنه يرفعه إلى مجاهد أنه قال: لقد خلق الله عز وجل موضع هذا البيت قبل أن يخلق شيئا من الأرض بألفى سنة، وإن قواعده لفى الأرض السابعة السّفلى. ذكر بناء الملائكة الكعبة قبل خلق آدم عليه السلام، ومبدإ الطواف قال أبو الوليد الأزرقىّ، يرفعه إلى علىّ بن الحسين رضى الله عنهما إنه أتاه سائل يسأله، فقال له: عمّ تسأل؟ فقال: أسألك عن بدء الطواف بهذا البيت لم كان؟ وأنّى كان؟ وحيث كان؟ وكيف كان بالحجر؟ فقال له: نعم، من أين أنت؟ فقال: من أهل الشام. فقال: أين مسكنك؟ قال: فى بيت المقدس. قال: فهل قرأت الكتابين؟ (يعنى التوراة والإنجيل) . قال له الرجل: نعم. فقال له: يا أخا أهل الشام احفظ، ولا تروينّ عنّى إلا حقا: أمّا بدء هذا الطواف بهذا البيت، فإنّ الله تعالى قال للملائكة: (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) ، قالت الملائكة: أى ربّ، أخليفة من غيرنا: ممن يفسد فيها ويسفك الدماء، ويتحاسدون، ويتباغضون، ويتنازعون؟ أى ربّ، اجعل ذلك الخليفة منا، فنحن لا نفسد فيها، ولا نسفك الدماء، ولا نتباغض، ولا نتحاسد، ولا نتباغى؛ ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك، ونطيعك ولا نعصيك. قال الله تبارك وتعالى: (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) . قال: فظنّت الملائكة أن ما قالوه ردّ على ربهم عز وجل وأنه قد غضب من قولهم، فلاذوا بالعرش، ورفعوا رءوسهم، وأشاروا بالأصابع يتضرّعون ويبكون إشفاقا لغضبه. فطافوا بالعرش ثلاث ساعات. فنظر الله عز وجل إليهم، فنزلت الرحمة عليهم، فوضع الله سبحانه تحت العرش بيتا على أربع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 أساطين من زبرجد، وغشاه بياقوتة حمراء وسمّى البيت الضراح. ثم قال للملائكة: طوفوا بهذا البيت، ودعوا العرش، فطافت الملائكة بالبيت وتركوا العرش، وصار أهون عليهم، وهو البيت المعمور الذى ذكره الله عز وجل: يدخله كلّ يوم وليلة سبعون ألف ملك لا يعودون فيه أبدا. ثم إن الله سبحانه بعث ملائكة فقال: ابنوا لى بيتا فى الأرض بمثاله وقدره. فأمر الله سبحانه من فى الأرض من خلقه أن يطوفوا بهذا البيت، كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور. فقال الرجل: صدقت يا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، هكذا كان، ذكر زيارة الملائكة البيت الحرام قال الأزرقىّ، يرفعه إلى ابن عباس رضى الله عنهما: إن جبريل عليه السلام وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه عصابة حمراء قد علاها الغبار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا الغبار الذى أرى على عصابتك، أيّها الرّوح الأمين؟ قال: إنى زرت البيت فازدحمت الملائكة على الركن، وهذا الغبار الذى ترى مما تثير بأجنحتها. وقال، رفعه إلى ليث بن معاذ رضى الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هذا البيت خامس خمسة عشر بيتا، سبعة منها فى السماء إلى العرش، وسبعة منها إلى تخوم الأرض السّفلى، وأعلاها الذى يلى العرش: البيت المعمور. لكل بيت منها حرم كحرم هذا البيت. لو سقط منها بيت، لسقط بعضها على بعض إلى تخوم الأرض السّفلى، ولكل بيت من أهل السماء ومن أهل الأرض من يعمره، كما يعمر هذا البيت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 ذكر هبوط آدم عليه السلام إلى الأرض، وبنيانه الكعبة المشرفة وحجه وطوافه بالبيت قال الأزرقىّ، يرفعه إلى ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: لما أهبط الله عز وجل آدم عليه السلام إلى الأرض من الجنة، كان رأسه فى السماء ورجلاه فى الأرض. وهو مثل الفلك من رعدته. قال: فطأطأ الله عز وجل منه إلى الأرض ستين ذراعا، فقال: يا رب مالى لا أسمع أصوات الملائكة ولا حسّهم؟ قال: خطيئتك يا آدم، ولكن اذهب فابن لى بيتا تطف به واذكرنى حوله كنحو ما رأيت الملائكة تصنع حول عرشى، قال: فأقبل آدم عليه السلام يتخطّى، فطويت له الأرض وقبضت له المفاوز، فصارت كل مفازة يمرّ بها خطوة، وقبض له ما كان فيها من مخاض أو بحر فجعله خطوة، ولم يقع قدمه فى شىء من الأرض إلا صار عمرانا وبركة حتّى انتهى إلى مكة. فبنى البيت الحرام. وإن جبريل عليه السلام ضرب بجناحه الأرض فأبرز عن أسّ ثابت فى الأرض السّفلى فقذفت الملائكة فيه الصخر، ما يطيق الصخرة منها ثلاثون رجلا. وإنه بناه من خمسة أجبل: من لبنان، وطورزيتا، وطور سينا، والجودى، وحراء [1] ، حتّى استوى على وجه الأرض. قال ابن عباس رضى الله عنهما: فكان أوّل من أسس البيت وصلّى فيه وطاف به، آدم عليه السلام. حتّى بعث الله سبحانه الطّوفان، فدرس موضع البيت فى الطّوفان. حتّى بعث الله تبارك وتعالى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، فرفعا قواعده وأعلامه. ثم بنته قريش بعد ذلك. وهو بحذاء البيت المعمور، لو سقط، ما سقط إلا عليه.   [1] فى النسخ «حبرى» . والتصحيح من حاشية الجمل على الجلالين، فقد نقل أثر ابن عباس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 وقال أبو الوليد أيضا، ورفعه إلى وهب بن منبّه: إن الله تبارك وتعالى لما تاب على آدم عليه السلام، أمره أن يسير إلى مكة. فطوى له الأرض وقبض له المفاوز، فصارت كلّ مفازة يمرّ بها خطوة، وقبض له ما كان فيها من مخاض ماء أو بحر فجعله له خطوة. فلم يضع قدمه فى شىء من الأرض إلا صار عمرانا وبركة حتّى انتهى إلى مكة. وكان قبل ذلك قد اشتدّ بكاؤه وحزنه لما كان فيه من عظم المصيبة، حتّى إن كانت الملائكة لتحزن لحزنه ولتبكى لبكائه. فعزّاه الله عز وجل بخيمة من خيام الجنة، ووضعها له بمكة فى موضع الكعبة قبل أن تكون الكعبة. وتلك الخيمة ياقوتة حمراء من ياقوت الجنة: فيها ثلاثة قناديل من ذهب من تبر الجنة، فيها نور يتلهّب من نور الجنة. ونزّل معها الركن، وهو يومئذ ياقوتة بيضاء من ربض الجنة. وكان كرسيّا لآدم عليه السلام، يجلس عليه. فلما صار آدم بمكة، حرسها الله تعالى، حرسه الله تعالى وحرس تلك الخيمة بالملائكة. كانوا يحرسونها ويذودون عنها ساكن الأرض، وساكنوها يومئذ الجنّ والشياطين، فلا ينبغى لهم أن ينظروا إلى شىء من الجنة، لأنه من نظر إلى شىء من الجنة وجبت له. والأرض يومئذ طاهرة نقيّة لم تنجس ولم يسفك فيها الدم، ولم تعمل فيها الخطايا. فلذلك جعلها الله عز وجل مسكن الملائكة، وجعلهم فيها كما كانوا فى السماء يسبّحون اللّيل والنّهار، لا يفترون. وكان وقوفهم على أعلام الحرم صفّا واحدا مستديرين بالحرم كلّه: الحلّ من خلفهم، والحرم كله من أمامهم. ولا يجوزهم جنىّ ولا شيطان. ومن أجل مقام الملائكة، حرّم الحرم حتّى اليوم. ووضعت أعلام حيث كان مقام الملائكة. وحرم الله على حوّاء دخول الحرم والنظر إلى خيمة آدم من أجل خطيئتها التى أخطأت فى الجنة. فلم تنظر إلى شىء من ذلك حتّى قبضت. وإن آدم عليه السلام كان إذا أراد لقاءها ليلمّ بها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 للولد، خرج من الحرم كله حتّى يلقاها. فلم تزل خيمة آدم مكانها حتّى قبض الله آدم عليه السلام ورفعها الله. وبنى بنو آدم بها من بعدها مكانا: بيتا بالطّين والحجارة. فلم يزل معمورا، يعمرونه ومن بعدهم حتّى كان زمن نوح عليه السلام. فنسفه الغرق وخفى مكانه. فلما بعث الله تعالى إبراهيم عليه السلام طلب الأساس، فلما وصل إليه ظلّل الله مكان البيت بغمامة. فكانت حفاف البيت الأوّل، ثم لم تزل راكزة على حفافه تظل إبراهيم عليه السلام وتهديه مكان القواعد حتّى رفع الله القواعد قامة. ثم انكشفت الغمامة، فذلك قوله تعالى: (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) أى الغمامة التى ركزت على الحفاف لتهديه مكان القواعد. وعن وهب بن منبه أنه قال: قرأت فى كتاب من الكتب الأول، ذكر فيه أمر الكعبة، فوجدت فيه أن ليس من ملك من الملائكة بعثه الله تعالى إلى الأرض إلا أمره بزيارة البيت. فينقضّ من عند العرش محرما ملبّيا، حتّى يستلم الحجر. ثم يطوف بالبيت سبعا ويركع فى جوفه ركعتين، ثم يصعد. وقال الأزرقىّ، يرفعه إلى ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: لما أهبط الله آدم إلى الأرض، أهبطه إلى موضع البيت الحرام. وهو مثل الفلك من رعدته. ثم أنزل عليه الحجر الأسود يعنى الركن، وهو يتلألأ من شدّة بياضه. فأخذه آدم صلى الله عليه وسلم فضمّه إليه أنسابه. ثم أنزلت عليه العصى فقيل له: تخطّ يا آدم، فتخطّى، فإذا هو بأرض الهند والسند. فمكث هنالك ما شاء الله، ثم استوحش إلى الركن فقيل له: احجج، قال فحج فلقيته الملائكة فقالوا: برّ حجّك يا آدم، لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفى عام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 قال: وسأل عمر بن الخطاب رضى الله عنه كعب الأحبار فقال: اخبرّنى عن البيت الحرام. فقال كعب: أنزله الله من السماء ياقوتة مجوّفة مع آدم، فقال له: يا آدم إن هذا بيتى أنزلته معك، يطاف حوله كما يطاف حول عرشى، ويصلّى حوله كما يصلّى حول عرشى. ونزلت معه الملائكة فرفعوا قواعده من حجارة ثم وضع البيت عليه. فكان آدم يطوف حوله كما يطاف حول العرش، ويصلّى عنده كما يصلّى عند العرش. فلما أغرق الله تعالى قوم نوح، رفعه إلى السماء وبقيت قواعده. وقال وهب بن منبه: كان البيت الذى بوّأه الله تعالى لآدم عليه السلام يومئذ من ياقوت الجنة. وكان من ياقوتة حمراء تلتهب، لها بابان: أحدهما شرقىّ والآخر غربىّ. وكان فيه قناديل من نور آنيتها ذهب من تبر الجنة. وهو منظوم بنجوم من ياقوت أبيض. والركن يومئذ نجم من نجومه وهو يومئذ ياقوتة بيضاء. والله أعلم. ذكر فضل البيت الحرام، والحرم قال أبو الوليد، يرفعه عن وهب بن منبه أنه قال: إن آدم لما أهبط إلى الأرض استوحش فيها ما رأى من سعتها ولم يرفيها أحدا غيره، فقال: يا رب، أما لأرضك هذه من عامر يسبّحك فيها ويقدّس لك غيرى؟ قال: إنى سأجعل فيها من ذرّيتك من يسبّح بحمدى ويقدّس لى، وسأجعل فيها بيوتا ترفع لذكرى ويسبّحنى فيها خلقى، وسأبوّئك فيها بيتا أختاره لنفسى، وأخصّه بكرامتى، وأوثره على بيوت الأرض كلها باسمى، فأسمّيه بيتى، وأنطعه [1] بعظمتى، وأحوزه بحرماتى، وأجعله أحق بيوت الأرض   [1] أنطعه: بسط له النطع بالكسر، بساط من أديم (تفسير بهامش الأصل) . وفى بعض النسخ «وأنطفه» بالفاء» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 كلها وأولاها بذكرى، وأضعه فى البقعة التى اخترت لنفسى، فإني اخترت مكانه يوم خلقت السماوات والأرض؛ وقبل ذلك قد كان بعينى: فهو صفوتى من البيوت، ولست أسكنه، ولبس ينبغى لى أن أسكن البيوت؛ ولا ينبغى لها أن تسعنى، ولكن على كرسىّ الكبرياء ولجبروت؛ وهو الذى استقلّ بعزتى، وعليه وضعت عظمتى وجلالى، وهنالك استقرّ قرارى؛ ثم هو بعد ضعيف عنّى لولا قوّتى؛ ثم أنا بعد ذلك ملء كل شىء، وفوق كلّ شىء، ومحيط بكلّ شىء، وأمام كلّ شىء، وخلف كلّ شىء، وليس ينبغى لشىء أن يعلم علمى ولا يقدر قدرتى، ولا يبلغ كنه شانى. أجعل ذلك البيت لك ولمن بعدك حرما وأمنا، أحرّم بحرماته ما فوقه وما تحته وما حوله. فمن حرّمه بحرمتى فقد عظّم حرماتى، ومن أحلّه فقد أباح جرماتى، ومن أمّن أهله فقد استوجب بذلك أمانى، ومن أخافهم أخفرنى فى ذمتى، ومن عظّم شأنه عظم فى عينى، ومن تهاون به صغر فى عينى؛ ولكل ملك حيازة ما حواليه مما حواليه، وبطن مكة خيرتى وحيرتى؛ وجيران بيتى وعمّارها وزوّارها، وفدى وأضيافى فى كنفى وأفنيتى، ضامنون على ذمتى وجوارى؛ فأجعله أوّل بيت وضع للناس، وأعمره بأهل السماء وأهل الأرض:؟؟؟ نه أفواجا شعثا غبر على كل ضامر يأتين من كلّ فجّ عميق، يعجّون بالتكبير عجيجا، ويرجّون بالتلبية رجيجا، وينتحبون بالبكاء نحيبا. فمن اعتمره لا يريد غيره، فقد زرنى ووفد إلىّ ونزل بى؛ ومن نزل بى، فحقيق علىّ أن أتحفه بكرامتى؛ وحقّ على الكريم أن يكرم وفده وأضيافه، وأن يسعف كل واحد منهم بحاجته. تعمره آدم من كنت حيا، ثم تعمره من بعدك الأمم والقرون والأنبياء: أمة بعد أمة، وقرن بعد قرن، ونبىّ بعد نبىّ، حتّى ينتهى ذلك إلى نبىّ من ولدك وهو خاتم النبيين، فأجعله من عمّاره وسكّانه وحماته، وولاته وسقاته، يكون أمينى عليه من كان حيا. فإذا انقلب إلىّ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 وجدنى قد ذخرت له من أجره وفضيلته ما يتمكن به القربة منى والوسيلة إلىّ، وأفضل المنازل فى دار المقام. وأجعل اسم ذلك البيت ودكره وشرفه ومجده وثناءه ومكرمته لنبىّ من ولدك يكون قبل هذا النبى وهو أبوه يقال له إبراهيم، أرفع له قواعده، وأقضى على يديه عمارته، وأنبط له سقايته، وأريه حلّه وحرمه ومواقفه، وأعلمه مشاعره ومناسكه، وأجعله أمة واحدة قانتا لى، قائما بأمرى، داعيا إلى سبيلى؛ أجتبيه وأهديه إلى صراط مستقيم؛ أبتليه فيصبر، وأعافيه فيشكر؛ وينذر لى فيفى؛ ويعد لى فينجز؛ أستجيب له فى ولده وذرّيته من بعده وأشفّعه فيهم، وأجعلهم أهل ذلك البيت وولاته وحماته وسقاته وخدّامه وخزّانه وحجّابه حتّى يبتدعوا ويغيروا؛ فإذا فعلوا ذلك فأنا الله أقدر القادرين على أن أستبدل من أشاء بمن أشاء. أجعل إبراهيم إمام أهل ذلك البيت وأهل تلك الشريعة، يأتمّ به من حضر تلك المواطن من جميع الإنس والجن؛ يطئون فيها آثاره، ويتبعون فيها سنّته، ويقتدون فيها بهديه. فمن فعل ذلك منهم أوفى نذره، واستكمل نسكه؛ ومن لم يفعل ذلك منهم ضيّع نسكه، وأخطأ بغيته. فمن سأل عنى يومئذ فى تلك المواطن: أين أنا؟ فأنا مع الشّعث الغبر الموفين بنذورهم، المستكملين مناسكهم، المبتهلين إلى ربهم الذى يعلم ما يبدون وما يكتمون. وليس هذا الخلق ولا هذا الأمر الذى قصصت عليك شأنه؛ يا آدم، بزائدى فى ملكى ولا عظمتى ولا سلطانى ولا شىء مما عندى إلا كما زادت قطرة من رشاش وقعت فى سبعة أبحر تمدّها من بعدها سبعة أبحر لا تحصى، بل القطرة أزيد فى البحر من هذا الأمر فى شىء مما عندى. ولو لم أخلقه لم ينتقص شىء من ملكى ولا عظمتى ولا مما عندى من الغناء والسّعة، إلا كما نقصت الأرض ذرّة وقعت من جميع ترابها وجبالها وحصاها ورمالها وأشجارها، بل الذرّة أنقص للأرض من هذا الأمر لو لم أخلقه. ليس مما عندى ويعدّ هذا مثلا للعزيز الحكيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 ذكر ما جاء فى طواف سفينة نوح عليه السلام بالبيت قال أبو الوليد الأزرقىّ، ورفعه إلى ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: كان مع نوح عليه السلام فى السفينة ثمانون رجلا معهم أهلوهم، وإنهم كانوا فى السفينة ماله وخمسين يوما، وإن الله جل ثناؤه وجّه السفينة إلى مكة فدارت بالبيت أربعين يوما، ثم وجهها إلى الجودىّ فاستقرّت عليه. وقال عن مجاهد: كان موضع الكعبة قد خفى ودرس زمن الغرق فيما بين نوح وإبراهيم عليهما السلام. فكان موضعه أكمة حمراء مدوّرة، لا تعلوها السيول. غير أن الناس يعلمون أن موضع البيت فيما هنالك ولا يثبت موضعه. وكان يأتيه المظلوم والمبعود من أقطار الأرض، ويدعو عنده المكروب. فقلّ من دعا هنالك، إلا استجيب له. وكان الناس يحجّون إلى مكة، إلى موضع البيت، حتّى بوّأ الله تعالى مكانه لإبراهيم عليه السلام. فلم يزل منذ أهبط الله تعالى آدم إلى الأرض معظما محرّما تتناسخه الأمم والملل أمّة بعد أمّة، وملّة بعد ملة. قال: وكانت الملائكة تحجّه قبل آدم عليه السلام. ذكر ما جاء من تخير إبراهيم عليه السلام موضع البيت قال عثمان بن ساج: بلغنا (والله أعلم) أن إبراهيم خليل الله عليه السلام عرج به إلى السماء فنظر إلى الأرض، مشارقها ومغاربها، فاختار موضع الكعبة. فقالت له الملائكة: يا خليل الرحمن اخترت حرم الله فى الأرض، قال: فبناه من حجارة سبعة أجبل (ويقولون خمسة) . وكانت الملائكة تأتى بالحجارة إلى إبراهيم عليه السلام من تلك الجبال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 ذكر حج إبراهيم عليه السلام وإذنه بالحج وحج الأنبياء بعده وطوافهم قال أبو الوليد عن محمد بن إسحاق: لما فرغ إبراهيم خليل الرحمن من بناء البيت الحرام، جاءه جبريل عليه السلام فقال: طف به سبعا، فطاف به سبعا، هو وإسماعيل. يستلمان الأركان كلّها فى كل طواف، فلما أكملا سبعا، صلّيا خلف المقام ركعتين. قال: فقام معه جبريل فأراه المناسك كلها: الصّفا والمروة ومنى ومزدلفة وعرفة. فلما دخل منى وهبط من العقبة، مثّل له إبليس عند جمرة العقبة، فقال له جبريل: ارمه، فرماه بسبع حصيات، فغاب عنه؛ ثم برزله عند الجمرة الوسطى، فقال له جبريل: ارمه، فرماه إبراهيم بسبع حصيات، فغاب عنه؛ ثم برز له عند الجمرة السفلى، فقال له جبريل: ارمه، فرماه بسبع حصيات مثل حصى الحذف، فغاب عنه إبليس؛ ثم مضى إبراهيم فى حجه وجبريل يوقفه على المواقف ويعلمه المناسك حتّى انتهى إلى عرفة. فلما انتهى إليها، قال له جبريل: أعرفت مناسكك؟ قال: نعم، قال: فسميت عرفات بذلك. قال: ثم أمر إبراهيم عليه السلام أن يؤذّن فى الناس بالحج، فقال إبراهيم: يا ربّ وما يبلغ صوتى؟ قال الله جل ثناؤه: أذّن، وعلىّ البلاغ، قال: فعلا إبراهيم على المقام فأشرف به حتّى صار أرفع الجبال وأطولها فجمعت له الأرض يومئذ: سهلها، وجبلها، وبرّها، وبحرها، وإنسها، وجنّها حتّى أسمعهم جميعا، فأدخل إصبعيه فى أذنيه وأقبل بوجهه يمينا وشمالا وشرقا وغربا وبدأ بشق اليمين فقال: «أيها الناس كتب عليكم الحجّ إلى البيت العتيق، فأجيبوا ربكم» فأجابوه من تحت التخوم السبعة، ومن بين المشرق والمغرب إلى منقطع التراب من أقطار الأرض كلها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 (لبّيك، اللهمّ لبّيك) . قال: وكانت الحجارة على ما هى اليوم، إلا أن الله عز وجل أراد أن يجعل المقام آية. فكان أثر قدميه فى المقام آية إلى اليوم. قال: أفلا تراهم اليوم يقولون: (لبيك، اللهم لبيك) . فكل من حج إلى اليوم فهو ممن أجاب إبراهيم. وأثر قدمى إبراهيم فى المقام آية. وذلك قوله تعالى: (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) . قال ابن إسحاق: وبلغنى أن آدم عليه السلام كان استلم الأركان كلها قبل إبراهيم، وحجّه إسحاق وسارة من الشام. قال: وكان إبراهيم يحجّه كل سنة على البراق. قال: وحجّت بعد ذلك الأنبياء والأمم. وعن مجاهد، قال: حج إبراهيم وإسماعيل، ماشيين. وعن عبد الله بن ضمرة السلولى: ما بين الركن إلى المقام إلى زمزم قبر تسعة وتسعين نبيا، جاءوا حجّاجا فقبروا هنالك. وفى الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان النبىّ من الأنبياء إذا هلكت أمّته لحق بمكة فتعبّد بها النبىّ ومن معه حتّى يموت. فمات بها: نوح، وهود، وصالح، وشعيب. وقبورهم بين زمزم والحجر. وعن مجاهد: حج موسى النبىّ عليه السلام على جمل أحمر. فمرّ بالرّوحاء عليه عباءتان قطوانيّتان متّزر بإحداهما، مرتد بالأخرى. فطاف بالبيت ثم سعى بين الصفا والمروة. فبينما هو يلبىّ بين الصفا والمروة، إذ سمع صوتا من السماء يقول: (لبّيك عبدى، أنا معك) قال: فخرّ موسى ساجدا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 وعن عروة بن الزبير رضى الله عنهما قال: بلغنى أن البيت وضع لآدم يطوف به ويعبد الله عنده؛ وأنّ نوحا قد حجّه وجاءه وعظمه قبل الغرق. فلما أصاب البيت ما أصاب الأرض من الغرق فكان ربوة حمراء معروفا مكانه؛ فبعث الله هودا إلى عاد، فتشاغل بأمر قومه حتّى هلك، ولم يحجّه. ثم بعث الله تعالى صالحا إلى ثمود، فتشاغل بهم حتّى هلك، ولم يحجّه. ثم بوّأه الله تعالى لإبراهيم عليه السلام فحجّه وأعلم مناسكه ودعا إلى زيارته. ثم لم يبعث الله نبيا بعد إبراهيم، إلا حجه. وعن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما أنه قال: لقد سلك فجّ الرّوحاء سبعون نبيا، حجّاجا: عليهم لباس الصّوف. مخطّمى إبلهم بحبال اللّيف. ولقد صلّى فى مسجد الخيف سبعون نبيّا. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لقد مرّ بفجّ الرّوحاء (أو لقد مرّ بهذا الفجّ) سبعون نبيا على نوق حمر خطمها الليف، لبوسهم العباء وتلبيتهم شتّى. فمنهم يونس بن متّى. فكان يونس يقول: (لبّيك فرّاج الكرب، لبّيك) ؛ وكان موسى يقول: (لبّيك، أنا عبدك لديك، لبّيك) قال: وتلبية عيسى: (لبّيك، أنا عبدك ابن أمتك بنت عبديك، لبّيك) » . وعن عطاء بن السائب أن إبراهيم رأى رجلا يطوف بالبيت فأنكره، فسأله: ممن أنت؟ فقال: من أصحاب ذى القرنين، قال: وأين هو؟ قال: هو بالأبطح. فتلقّاه إبراهيم عليه السلام فاعتنقه، فقال لذى القرنين: ألا تركب؟ قال: ما كنت لأركب، وهذا يمشى، فحجّ ماشيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 ذكر ما جاء من مسئلة إبراهيم عليه السلام الأمن والرزق لأهل مكة والكتب التى وجد فيها تعظيم الحرم قال أبو الوليد الأزرقىّ، يرفعه إلى محمد بن كعب القرظى أنه قال: دعا إبراهيم عليه السلام للمؤمنين، وترك الكفّار لم يدع لهم بشىء، فقال الله تعالى: (وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) . وقال عثمان بن ساج: وأخبرنى محمد بن السائب الكلبىّ قال: قال إبراهيم عليه السلام (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) . فاستجاب الله عز وجل له فجعله بلدا آمنا وآمن فيه الخائف ورزق أهله من الثمرات، تحمل إليهم من الآفاق. وقال مجاهد: جعل الله هذا البلد آمنا، لا يخاف فيه من دخله. وقال سعيد بن السائب بن يسار: لما دعا إبراهيم عليه السلام لمكة أن يرزق أهلها من الثمرات، نقل الله أرض الطائف من الشام فوضعها هنالك: رزقا للحرم. وروى عن محمد بن المنكدر، عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: لما وضع الله الحرم نقل له الطائف من الشام. وعن الزّهرىّ أنّ الله نقل قرية من قرى الشام فوضعها بالطائف، لدعوة إبراهيم خليل الله: (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ) . وعن ابن عباس رضى الله عنهما، قال: جاء إبراهيم يطالع إسماعيل عليهما السلام فوحده غائبا، ووجد امرأته الآخرة، وهى السيدة بنت مضاض بن عمرو الجرهمى. فوقف وسلم فردّت عليه السلام واستنزلته وعرضت عليه الطعام والشراب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 فقال: ما طعامكم وشرابكم؟ قالت: اللحم والماء، قال: هل من حبّ أو غيره من الطعام؟ قالت: لا، قال: بارك الله لكم فى اللحم والماء. قال ابن عباس رضى الله عنهما: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو وجد عندها يومئذ حبّا لدعا لهم بالبركة فيه، فكانت تكون أرضا ذات زرع» . وعن سعيد بن جبير مثله، وزاد فيه: «ولا يخلو أحد على اللحم والماء فى غير مكة إلا وجع بطنه؛ وإن خلا عليهما بمكة لم يجد لذلك أذى» . وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: «وجد فى المقام كتاب فيه» هذا بيت الله الحرام بمكة، توكّل الله برزق أهله من ثلاث سبل، مبارك لأهله فى اللحم واللّبن» ووجد فى حجر فى الحجر كتاب من خلقة الحجر «أنا الله ذو بكّة الحرام صغتها يوم صغت الشمس والقمر وحففتها بسبعة أملاك حنفاء لا تزول حتّى يزول أخشباها مبارك لأهلها فى اللحم والماء» . وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: لما هدموا البيت وبلغوا أساس إبراهيم عليه السلام وجدوا فى حجر من الأساس كتابا، فدعوا له رجلا من أهل اليمن، وآخر من الرّهبان، فإذا فيه: «أنا الله ذو بكة حرّمتها يوم خلقت السموات والأرض والشمس والقمر ويوم صغت هذين الجبلين وحففتها بسبعة أملاك حنفاء لا تزول حتى يزول أخشباها مبارك لأهلها فى الماء واللبن» . وعن مجاهد رضى الله عنه قال: وجد فى بعض الزبور «أنا الله ذو بكّة جعلتها بين هذين الجبلين وصغتها يوم صغت الشمس والقمر وحففتها بسبعة أملاك حنفاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 وجعلت رزق أهلها من ثلاث سبل فليس يوتا [1] أهل مكة إلا من ثلاثة طرق أعلى الوادى وأسفله وكدى وباركت لأهلها فى اللحم والماء» . ذكر أسماء الكعبة ومكة عن ابن أبى نجيح قال: إنما سمّيت «الكعبة» لأنها مكعّبة على خلقة الكعب. قال: وكان الناس يبنون بيوتهم مدوّرة تعظيما للكعبة. فأوّل من بنى بيتا مربّعا حميد بن زهير، فقالت قريش: «ربّع حميد بن زهير بيتا، إمّا حياة وإمّا موتا» . وعن ابن عباس رضى الله عنهما، قال: إنما سمّيت «بكة» لأنه يجتمع فيها الرجال والنساء جميعا. وقالوا: «بكّة» موضع البيت، ومكّة القرية. وقال ابن أبى أنيسة: «بكّة» موضع البيت، ومكة هو الحرم كلّه. وكان ابن جريح يقول: إنما سميت «بكة» لتباكّ الناس بأقدامهم قدّام الكعبة. ويقال: إنما سميت «بكة» لأنها تبكّ أعناق الجبابرة. وعن الزهرى: أنه بلغه إنما سمّى «البيت العتيق» من أن الله تعالى أعتقه من الجبابرة. وعن مجاهد والسدّى: إنما سمى «البيت العتيق» الكعبة، أعتقها الله من الجبابرة؛ فلا يتجبّرون فيه إذا طافوا. وكان البيت يدعى «قادسا» ويدعى «بادرا» ويدعى «القرية القديمة» ويدعى «البيت العتيق» . وعن مجاهد قال: من أسمائها «مكّة» و «بكّة» و «أمّ رحم» و «أمّ القرى» و «صلاح» و «كوثى» و «الباسّة» .   [1] فى الأصل «بيوت» . وفى بعض النسخ كما فى الصلب بدون نقط. ولعل الصواب يؤتى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 وعن ابن أبى نجيح قال: بلغنى أن أسماء مكة «مكة» ؛ و «بكة» ؛ و «أم رحم» ؛ و «أم القرى» : و «الباسّة» ؛ و «البيت العتيق» ؛ و «الحاطمة» : (تحطم من يستخفّ بها) ؛ و «الناسّة» (تنسّهم، أى تخرجهم إخراجا إذا غشموا وظلموا) . ذكر ما جاء فى فضل الركن الأسود عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: ليس فى الأرض من الجنة إلا الرّكن الأسود والمقام، فإنهما جوهرتان من جواهر الجنة؛ ولولا ما مسّهما من أهل الشّرك ما مسّهما ذو عاهة إلا شفاه الله عز وجل. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما أنه قال فى الرّكن الأسود: لولا ما مسّه من أنجاس الجاهلية وأرجاسهم. ما مسّه ذو عاهة إلا برأ. وقال: نزل الركن، وإنه لأشدّ بياضا من الفضّة. وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضى الله عنها، وهى تطوف معه بالكعبة حين استلم الركن: «لولا ما طبع على هذا الحجر، يا عائشة، من أرجاس الجاهلية وأنجاسها، إذن لاستشفى به من كل عاهة، وإذن لألفى كهيئته يوم أنزله الله، وليعيدنه الله إلى ما خلقه أوّل مرة، وإنه لياقوتة بيضاء من يواقيت الجنة، ولكنّ الله غيره بمعصية العاصين، وستر زينته عن الظّلمة والأثمة لأنهم لا ينبغى لهم أن ينظروا إلى شىء كان بدؤه من الجنة» . وعنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله يبعث الركن الأسود، وله عينان يبصر بهما، ولسان ينطق به: يشهد لمن استلمه بحق» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 وعنه رضى الله عنه: الركن يمين الله فى الأرض: يصافح بها عباده كما يصافح أحدكم أخاه. وعن أبى سعيد الخدرىّ رضى الله عنه قال: خرجنا مع عمر بن الخطاب رضى الله عنه إلى مكة. فلما دخلنا الطواف، قام عند الحجر وقال: والله إنى لأعلم أنك حجر لا تضرّ ولا تنفع، ولولا أنى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبّلك، ما قبّلتك. ثم قبّله ومضى فى الطواف فقال له علىّ رضى الله عنه: بل يا أمير المؤمنين هو يضرّ وينفع، قال: وبم قلت ذلك؟ قال: بكتاب الله، قال: وأين ذلك من كتاب الله؟ قال: قال الله عز وجل: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا) . فلما خلق الله تعالى آدم مسح ظهره وأخرج ذرّيته من صلبه فقرّرهم أنه الربّ وهم العبيد، ثم كتب ميثاقهم فى رقّ، وكان هذا الحجر له عينان ولسان، فقال له: افتح فاك، فألقمه ذلك الرّقّ وجعله فى هذا الموضع، وقال: تشهد لمن وافاك بالموافاة يوم القيامة، فقال عمر: أعوذ بالله أن أعيش فى قوم لست فيهم، يا أبا الحسن. وعن عكرمة: أنّ الحجر الأسود يمين الله فى الأرض، فمن لم يدرك بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح الركن فقد بايع الله ورسوله. وعن مجاهد: يأتى الركن والمقام يوم القيامة، كلّ واحد منهما مثل أبى قبيس: يشهدان لمن وافاهما بالموافاة. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 ذكر ما جاء فى فضل استلام الركن الأسود، واليمانى عن عطاء بن السائب أن عبيد بن عمير قال لابن عمر رضى الله عنهما: إنى أراك تزاحم على هذين الركنين، فقال: إنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ استلامهما يحطّ الخطايا حطّا» . وسئل رضى الله عنه، فقيل له: إنا نراك تفعل خصالا أربعا لا يفعلها الناس: نراك لا تستلم من الأركان إلا الحجر والركن اليمانى، ونراك لا تلبس من النّعال إلا السّبتية، ونراك تضفّر شعرك وقد يصبغ الناس بالحنّاء، ونراك لا تحرم حتّى تستوى بك راحلتك وتوجّه. فقال عبد الله: إنى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك. وعن ابن عمر رضى الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يدع الركن الأسود والركن اليمانى أن يستلمهما فى كل طواف أتى عليهما. قال: كان لا يدعهما فى كل طواف طاف بهما حتّى يستلمهما، لقد زاحم على الركن مرة فى شدّة الزحام حتّى رعف، فخرج فغسل عنه ثم رجع. فعاد يزاحم فلم يصل إليه حتّى رعف الثانية، فخرج فغسل عنه ثم رجع. فما تركه حتّى استلم. وعن نافع قال: لقد رأيت ابن عمر رضى الله عنهما، زاحم مرة على الركن اليمانى حتّى انبهر فتنحّى فجلس فى ناحية الطواف حتّى استراح، ثم عاد فلم يدعه حتّى استلمه. قالوا: وليس هذا واجبا على الناس، ولكنه كان يحب أن يصنع كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 ذكر ما جاء فى فضل الطواف بالكعبة عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من طاف بالبيت، كتب الله له بكلّ خطوة حسنة ومحا عنه سيّئة» . وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه رضى الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا خرج المرء يريد الطّواف بالبيت، أقبل يريد الرحمة. فإذا دخله غمرته. ثم لا يرفع فدما ولا يضع قدما إلا كتب الله له بكلّ قدم خمسمائة حسنة، وحطّ عنه خمسمائة سيئة (أو قال خطيئة) ، ورفعت له خمسمائة درجة. فإذا فرغ من طوافه فصلّى ركعتين دبر المقام، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه، وكتب له أجر عتق عشر رقاب من ولد إسماعيل، واستقبله ملك على الركن فقال له: استأنف العمل فيما بقى فقد كفيت ما مضى، وشفّع فى سبعين من أهل بيته» . وعن حسّان بن عطية: أن الله خلق لهذا البيت عشرين ومائة رحمة ينزلها فى كل يوم، فستّون منها للطائفين، وأربعون للمصلّين، وعشرون للناظرين. قال حسان: فنظرنا فإذا هى كلها للطائفين هو يطوف ويصلى وينظر. ذكر ما جاء فى فضل زمزم عن وهب بن منبة أنه قال فى زمزم: والذى نفسى بيده، إنها لفى كتاب الله مضنونة، وإنها لفى كتاب الله برّة، وإنها لفى كتاب الله شراب الأبرار، وإنها لفى كتاب الله طعام طعم وشفاء سقم. وعن ابن خثيم قال: قدم علينا وهب بن منبه مكة فاشتكى، فجئناه نعوده، فإذا عنده من ماء زمزم. قال: فقلنا له: لو استعذبت، فإن هذا ماء فيه غلظ؟ قال: ما أريد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 أن أشرب حتّى أخرج منها غيره، والذى نفس وهب بيده، إنها لفى كتاب الله زمزم لا تنزف ولا تذم، وإنها لفى كتاب الله برّة شراب الأبرار، وإنها لفى كتاب الله مضنونة، وإنها لفى كتاب الله طعام من طعم وشفاء من سقم، والذى نفس وهب بيده لا يعمد أحد إليها فيشرب منها حتّى يتضلع إلا نزعت منه داء أو أحدثت له شفاء. وعن كعب أنه قال لزمزم: إنا نجدها مضنونة ضنّ بها لكم، وإن أوّل من سقى ماءها إسماعيل عليه السلام، طعام من طعم، وشفاء من سقم. وعن مجاهد قال: ماء زمزم لما شرب له، إن شربته تريد به شفاء شفاك الله. وإن شربته لظمإ أرواك الله، وإن شربته لجوع أشبعك الله، وهى هزمة جبريل عليه السلام بعقبه. وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «التضلّع من ماء زمزم براءة من النّفاق» . وعن الضحاك بن مزاحم أنه قال: بلغنى أنّ التضلع من ماء زمزم براءة من النفاق، وأن ماءها يذهب بالصّداع، وأن التطلّع فيها يجلو لبصر، وأنه سيأتى عليها زمان تكون أعذب من النيل والفرات. قال: قال لنا الخزاعىّ: وقد رأينا ذلك فى سنة إحدى أو اثنتين وثمانين ومائتين، وذلك أنه أصاب مكة أمطار كثيرة وسال واديها فى سنة تسع وسبعين، وسنة ثمانين ومائتين، فكثر ماء زمزم وارتفع حتّى قارب رأسها، فلم يكن بينه وبين شفتها العليا إلا سبع أذرع أو نحوها، وعذبت حتّى كان ماؤها أعذب مياه مكة التى يشربها أهلها. وإنا رأيناها أعذب من مياه العيون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 وعن الضحاك بن مزاحم أيضا أن الله عز وجل يرفع المياه العذاب قبل يوم القيامة غير زمزم، وتغور المياه العذبة غير زمزم. ذكر ما جاء من اتساع منى أيام الحج ولم سميت منى عن أبى الطّفيل، قال: سمعت ابن عباس رضى الله عنهما يسأل عن منى، ويقال له: عجبا لضيقه فى غير أيام الحج! فقال ابن عباس: إن منى يتسع بأهله كما يتسع الرحم للولد. وعن ابن عباس، قال: إنما سميت منى منى لأن جبريل حين أراد أن يفارق آدم، قال له. تمنّ، قال: أتمنّى الجنة، فسميت منى لتمنى آدم. وقيل: إنما سميت منى لمنى [1] الدماء بها. ذكر ما جاء فى فضائل مقبرة مكة عن ابن عباس رضى الله عنهما عن النبىّ صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «نعم المقبرة هذه!» (لمقبرة أهل مكة) . وعن محمد بن عبد الله بن صيفىّ أنه قال: من قبر فى هذه المقبرة، بعث آمنا يوم القيامة (يعنى مقبرة مكة) . ذكر شىء من خصائص مكة من خصائصها أن الذئب فيها يروّع الظبى ويعارضه ويصيده. فإذا دخل الحرم، كفّ عنه.   [1] المنى هو إراقة الدماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 ومنها أنه لا يسقط على الكعبة حمام إلا إن كان عليلا؛ وأن عادة الطير إذا حاذت الكعبة أن تفترق فرقتين ولا تعلوها. والله أعلم. وأما المدينة المشرفة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام ففضائلها أوسع من أن أحصرها، وأعظم من أن أسبرها. ناهيك بها من بلد اختاره الله تعالى لرسوله، ونص على فضله في محكم تنزيله، قال الله عز وجل: (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) . وروى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه سئل: أىّ مسجد هو؟ فقال: مسجدى هذا، وهو قول ابن المسيّب وزيد بن ثابت وابن عمر رضى الله تعالى عنهم، وبه أخذ مالك رحمه الله. وقال ابن عباس: هو مسجد قباء. وروى عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «صلاة فى مسجدى هذا خير من ألف صلاة فيما سواه، إلا لمسجد الحرام» . قال القاضى عياض رحمه الله: إختلف الناس فى معنى هذا الاستثناء على اختلافهم فى المفاضلة بين مكة والمدينة. فذهب مالك أن الصلاة فى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم أفضل من الصلاة فى سائر المساجد بألف صلاة إلا المسجد الحرام، فان الصلاة فى مسجد النبىّ صلى الله عليه وسلم أفضل من الصلاة فيه بدون الألف. واحتج مالك وأشهب وابن نافع وجماعة أصحابه بما روى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه «صلاة فى المسجد الحرام خير من مائة صلاة فيما سواه» فتأتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 فضيلة مسجد الرسول عليه بتسعمائة وعلى غيره بألف. وهذا مبنىّ على تفضيل المدينة على مكة، وهو قول عمر بن الخطاب ومالك وأكثر المدنيين. وذهب أهل مكة والكوفة إلى تفضيل مكة. وهو قول عطاء وابن وهب وابن حبيب، من أصحاب مالك. وحكاه الباجى عن الشافعى. قال القاضى أبو الوليد الباجى: الذى يقتضيه الحديث مخالفة حكم مكة لسائر المساجد، ولا يعلم منه حكمها مع المدينة. قال القاضى عياض: ولا خلاف أن موضع قبر النبى صلى الله عليه وسلم أفضل بقاع الأرض. قال النبىّ صلى الله عليه وسلم: «ما بين بيتى ومنبرى روضة من رياض الجنة» . قالوا: هذا يحتمل معنيين، (أحدهما) . أنه موجب لذلك وأن الدعاء والصلاة فيه تستحق ذلك من الثواب كما قيل: «الجنة تحت ظلال السّيوف» . (والثانى) أن تلك البقعة قد ينقلها الله فتكون فى الجنة بعينها. قاله الداودىّ. وروى ابن عمر وجماعة من الصحابة رضى الله عنهم أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال فى المدينة: «لا يصبر على لأوائها وشدّتها أحد، إلا كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة» . وقال صلى الله عليه وسلم فيمن تحمّل عن المدينة: «والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون» . وقال: «إنما المدينة كالكير: تنفى خبثها وتنصع طيبها» . وقال: «لا يخرج أحد من المدينة رغبة عنها إلا أبدلها الله خيرا منه» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 وعنه صلّى الله عليه وسلم: «من مات فى أحد الحرمين حاجّا أو معتمرا، بعثه الله يوم القيامة لا حساب عليه ولا عذاب» . وفى طريق آخر: «بعث من الآمنين يوم القيامة» . وعن ابن عمر رضى الله عنهما: «من استطاع أن يموت بالمدينة، فليمت بها فإنّى أشفع لمن يموت بها» . وعن أنس بن مالك رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلع له أحد فقال: «هذا جبل يحبّنا ونحبّه. اللهم إنّ إبراهيم حرّم مكة، وأنا أحرّم ما بين لا بتيها» . وعن عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم حبّب إلينا المدينة كما حبّبت إلينا مكة أو أشدّ، وانقل حمّاها إلى الجحفة، اللهم بارك لنا فى صاعنا ومدّنا» . ودعا النبىّ صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة فقال: «اللهم بارك لهم فى مكيالهم، وبارك لهم فى صاعهم ومدّهم» . وقال صلى الله عليه وسلم: «من زار قبرى، وجبت له شفاعتى» . وعن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من زارنى فى المدينة محتسبا، كان فى جوارى وكنت له شفيعا يوم القيامة» . وكان مالك رحمه الله لا يركب فى المدينة دابّة، ويقول: أستحيى من الله أن أطأ تربة فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بحافر دابّة. وروى أنه وهب للشافعىّ كراعا كثيرا، فقال له الشافعىّ: أمسك منها دابّة. فأجابه بمثل هذا الجواب. وحكى القاضى عياض فى «كتاب الشفاء» قال: حدّث أن أبا الفضل الجوهرىّ لما ورد المدينة زائرا وقرب منها، ترجّل ومشى باكيا منشدا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 ولمّا رأينا رسم من لم يدع لنا ... فؤادا لعرفان الرّسوم ولا لبّا، نزلنا عن الأكوار نمشى، كرامة ... لمن بان عنه أن نلّم به ركبا. قال: وحكى بعض المريدين أنه لما أشرف على مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنشأ يقول متمثلا: رفع الحجاب لنا فلاح لناظر ... قمر تقطّع دونه الأوهام. وإذا المطىّ بنا بلغن محمدا، ... فظهورهنّ على الرّجال حرام. قرّبنتا من خير من وطئ الثّرى، ... فلها علينا حرمة وذمام. وأفتى مالك رحمه الله فيمن قال «تربة المدينة رديّة» بضرب ثلاثين درّة، وأمر بحبسه؛ وكان له قدر. وقال: «ما أحوجه إلى ضرب عنقه، تربة دفن فيها النبىّ صلى الله عليه وسلم، يزعم أنها غير طيّبة!» . وفى الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فى المدينة: «من أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبّل الله منه صرفا ولا عدلا» . ذكر شىء من خصائص المدينة المشرفة وأسمائها على صاحبها أفضل الصلاة والسلام من خصائصها، أن العطر والبخور يوجد لهما فيها من الضّوع والرائحة الطيّبة أضعاف ما يوجد فى سائر البلاد؛ ولها فى قصبتها فغمة طيّبة ورائحة عطرة، وإن لم يكن فيها شىء من الطيب البتة. ولهذا سميت «طيبة» و «طابة» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 قال الشاعر: ماذا على من شمّ تربة أحمد ... أن لا يشمّ مدى الزمان غواليا؟ وهذا البيت ينسب لفاطمة الزهراء رضى الله عنها. ومن أسمائها «طيبة» و «طابة» و «يثرب» و «المدينة» و «الدار» . قال القاضى عياض رحمه الله: وجدير بمواطن عمرت بالوحى والتنزيل، وتردّد بها جبريل وميكائيل، وعرجت منها الملائكة والرّوح، وضجّت عرصاتها بالتقديس والتسبيح؛ واشملت تربتها على جسد سيد البشر، وانتشر عنها من دين الله وسنة رسوله ما انتشر؛ مدارس آيات، ومساجد جماعات وصلوات، ومشاهد الفضل والخيرات، ومعاهد البراهين والمعجزات، ومناسك الدين، ومشاعر المسلمين؛ ومواقف سيد المرسلين، ومتبوّأ خاتم النبيين؛ حيث انفجرت النبوّة، وأين فاض عبابها، ومواطن مهبط الرسالة، وأوّل أرض مسّ جلد المصطفى ترابها: أن تعظّم عرصاتها، وتتنسّم نفحاتها، وتقبّل ربوعها وجدراتها. وقال: يا دار خير المرسلين ومن به ... هدى الأنام وخصّ بالآيات. عندى لاجلك لوعة وصبابة ... وتشوّق متوقّد الجمرات. وعلىّ عهد إن ملأت محاجرى ... من تلكم الجدرات والعرصات، لأعفّرنّ مصون شيى بينها ... من كثرة التقبيل والرّشفات. لولا العوادى والأعادى، زرتها ... أبدا ولو سحبا على الوجنات. لكن سأهدى من حفيل تحيّتى ... لقطين تلك الدار والحجرات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 أذكى من المسك المفتّق نفحة ... تغشاه بالاصال والبكرات. وتخصّه بزواكى الصّلوات ... ونوامى التسليم والبركات. وأما البيت المقدّس، والمسجد الأقصى فالبيت المقدّس أحد القبلتين، والمسجد الأقصى ثالث الحرمين. إليه تشدّ الرّحال، ويكثر النزول والارتحال؛ وفى الأرض المقدّسة تحشر الخلائق ليوم العرض، ويبسط الله تعالى الصخرة الشريفة حتّى تكون كعرض السماء والأرض؛ وتجتمع الناس هناك لفصل الحساب، ويضرب بينهم بسور له باب، باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب. ولنبدأ بذكر الأرض المقدّسة قال الله عز وجل إخبارا عن موسى عليه السلام: (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) . قال الزجاج: والمقدّسة المطهّرة. وقيل للسّطل «القدس» لأنه يتطهّر منه. وسمى بيت المقدس لأنه يتطهّر فيه من الذنوب. وقيل: سماها مقدّسة لأنها طهّرت من الشرك وجعلت مسكنا للأنبياء والمؤمنين. وقد اختلف فى الأرض المقدّسة ما هى؟ فذهب ابن عباس رضى الله عنهما إلى أنها أريحا. وقال السّدّى: أريحا هى أرض بيت المقدس. وقال مجاهد: هى الطّور وما حوله. وقال الضحاك: هى إيلياء وبيت المقدس. وقال الكلبى: دمشق وفلسطين وبعض الأردنّ. وقال قتادة: هى الشام كلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 وقال عبد الله بن عمر: والحرم محرّم مقداره من السماوات والأرض، وبيت المقدس مقدّس مقداره من السماوات والأرض. وقال ابن قتيبة. وقرأت فى مناجاة موسى عليه السلام أنه قال: اللهمّ إنك اخترت من الأنعام الضائنة، ومن الطير الحمامة، ومن البيوت مكة وإيلياء، ومن إيلياء بيت المقدس. وقال الله تعالى: (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) . والمسجد الأقصى بيت المقدس: سمّى أقصى لأنه أبعد المساجد التى تزار. وقيل: لبعد المسافة بين المسجدين. وقوله عز وجل «الذى باركنا حوله» قيل: بالماء والأنهار والأشجار والثمار. وقال مجاهد: سماه مباركا لأنه مقرّ الأنبياء، وفيه مهبط الملائكة والوحى، وهو الصخرة، ومنه يحشر الناس يوم القيامة. وقال تعالى: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) . قال الثعلبىّ فى تفسيره: قال كعب الأحبار وقتادة وابن زيد وعبد الرحمن بن غنم: «التّين مسجد دمشق، والزيتون بيت المقدس» . وقال الضحاك: «هما مسجدان بالشام» . وقال محمد بن كعب: «التين مسجد أصحاب الكهف، والزيتون مسجد إيلياء» . ومجازه على هذا التأويل: منابت التين والزيتون. وروى عطية عن ابن عباس: «التين مسجد نوح عليه السلام الذى بنى على الجودى، والزيتون بيت المقدس» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 وروى نهشل عن الضحاك: «التين المسجد الحرام، والزيتون المسجد الأقصى» قال: «وطور سينين، يعنى جبل موسى عليه السلام» . قال عكرمة: «السّينين الحسن بلغة الحبشة» . وعنه: كل جبل ينبت فهو سينين. وقال مجاهد: «الطّور الجبل، وسينين المبارك» . وقال قتادة: «المبارك الحسن» . وقال مقاتل: «كل جبل فيه شجر فهو سينين، وسيناء وهو بلغة النّبط» . وقال الكلبىّ: «يعنى الجبل المشجر» . وقال عبد الله بن عمر رضى الله عنهما: «أربعة أجبال مقدّسة بين يدى الله تعالى: طور تينا، وطور زيتا، وطور سينا، وطور تيمانا. فاما طور تينا: فدمشق. وأما طور زيتا: فبيت المقدس. وأما طور سينا: فهو الذى كان عليه موسى عليه السلام. وأما طور تيمانا: فمكّة. والبلد الأمين مكة بلا خلاف» . ومسجد بيت المقدس أحد المساجد الثلاثة التى لا تشدّ الرحال إلا إليها، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما ورد فى الصحيح: «لا تشدّ الرّحال إلّا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدى هذا، والمسجد الأقصى» . وفى الصحيح أيضا «أن موسى عليه السلام، لما حضرته الوفاة سأل الله تعالى أن يدنيه من الأرض المقدّسة رمية بحجر» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 وكانت عمارة مسجد البيت المقدّس بأمر الله عز وجل لنبيه داود عليه السلام أن يعمره ثم لم يقدّر له عمارته وقدّر الله تعالى ذلك على يدى سليمان بن داود عليهما السلام، فهو الذى عمره. وسيأتى ذكر ذلك إن شاء الله تعالى مبينا فى الفن الخامس فى التاريخ. وقد وردت آثار وأحاديث فى فضل بيت المقدس، وفضل زيارته، وثواب الصلاة فيه، ومضاعفة الحسنات والسيئات فيه، وفضل السكنى فيه، والإقامة به، والوفاة فيه، وما به من قبور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ومحراب داود، وعين سلوان، وما ورد فى أن الحشر منه، وما ورد فى فضل الصخرة والصلاة إلى جانبها، وما ورد من أن الله عز وجل عرج بنبيه من بيت المقدس إلى السماء، وثواب الإهلال من بيت المقدس، وما ورد من أن الكعبة تزور الصخرة يوم القيامة. وسنذكر من ذلك طرفا تقف عليه إن شاء الله تعالى ونحذف أسانيد الأحاديث الواردة فيه رغبة فى الاختصار فنقول. وبالله التوفيق: أما فضل بيت المقدس فقد ورد عن الزهرىّ أنه قال: لم يبعث الله عز وجل نبيا، إلا جعل قبلته صخرة بيت المقدس. وقد صلّى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هجرته سبعة عشر شهرا، كما روى فى الصحيحين، حتّى أنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم: (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 وتحويل القبلة أوّل ما نسخ من أمور الشرع. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يصلّون بمكة إلى الكعبة. فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، أمره الله تعالى أن يصلّى نحو صخرة بيت المقدس ليكون أقرب إلى تصديق اليهود إيّاه إذا صلّى إلى قبلتهم مع ما يجدون من تعيينه فى التوراة. هذا قول عامّة المفسرين، على ما حكاه الثعلبىّ عنهم. وقال عبد الرحمن بن زيد: قال الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلم: (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هؤلاء يهود يستقبلون بيتا من بيوت الله» . فاستقبله النبىّ صلى الله عليه وسلم. قالوا جميعا: فصلى النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه نحو بيت المقدس سبعة عشر شهرا، وكانت الأنصار قد صلّت قبل بيت المقدس ستين يوما، قبل قدوم النبىّ صلى الله عليه وسلم. وكانت الكعبة أحب القبلتين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. واختلفوا فى السبب الذى كان عليه الصلاة والسلام من أجله يكره قبلة بيت المقدس ويهوى قبلة الكعبة. فقال ابن عباس رضى الله عنهما: لأنها كانت قبلة أبيه إبراهيم عليهما السلام. وقال مجاهد: من أجل أن اليهود قالوا: يخالفنا محمد فى ديننا، ويتّبع قبلتنا! وقال مقاتل بن حيّان: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلى نحو بيت المقدس، قالت اليهود: يزعم محمد أنه نبى، وما نراه أحدث فى نبوّته شيئا! أليس يصلى إلى قبلتنا ويستسنّ بسنتنا؟ فإن كانت هذه نبوّة. فنحن أقدم وأوفر نصيبا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشق عليه وزاده شوقا إلى الكعبة. وقال ابن زيد: لما استقبل النبىّ صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس، بلغه أن اليهود تقول: والله ما درى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتّى هديناهم، قالوا جميعا: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: وددت أن الله صرفنى عن قبلة اليهود إلى غيرها، فإنى أبغضهم وأبغض موافقتهم، فقال جبريل: إنما أنا عبد مثلك، ليس لى من الأمر شىء؛ فسل ربّك، فعرج جبريل. وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يديم النظر إلى السماء رجاء أن ينزل جبريل بما يحبّ من أمر القبلة. فأنزل الله عز وجل: (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ) الآية . فلما صرفت القبلة إلى الكعبة قال مشركو مكة: قد تردّد على محمد أمره، واشتاق إلى مولده ومولد آبائه، وقد توجه نحو قبلتهم وهو راجع إلى دينكم عاجلا، وتكلم اليهود والمنافقون فى تحويلها. فأنزل الله تعالى: (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) . وروى عن كعب أنه قال: إن الله عز وجل ينظر إلى بيت المقدس كل يوم مرتين. وأما فضل زيارته، وفضل الصلاة فيه فقد روى عن مكحول أنه قال: من زار بيت المقدس شوقا إليه، دخل الجنة وزاره جميع الأنبياء فى الجنة وغبطوه بمنزلته من الله تعالى؛ وأيّما رفقة خرجوا يريدون بيت المقدس، شيّعهم عشرة آلاف من الملائكة: يستغفرون لهم ويصلّون عليهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 ولهم مثل أعمالهم اذا انتهوا إلى بيت المقدس، ولهم بكل يوم يقيمون فيه صلاة سبعين ملكا؛ ومن دخل بيت المقدس طاهرا من الكبائر، تلقاه الله بمائة رحمة، ما منها رحمة إلا ولو قسمت على جميع الخلائق لوسعتهم؛ ومن صلّى فى بيت المقدس ركعتين يقرأ فيهما ب «فاتحة الكتاب» و «قل هو الله أحد» خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه، وكان له بكل شعرة على جسده حسنة؛ ومن صلى فى بيت المقدس أربع ركعات، مرّ على الصراط كالبرق وأعطى أمانا من الفزع الأكبر يوم القيامة؛ ومن صلى فى بيت المقدس ستّ ركعات، أعطى مائة دعوة مستجابة، أدناها براءة من النار، ووجبت له الجنة؛ ومن صلّى فى بيت المقدس ثمان ركعات، كان رفيق إبراهيم خليل الرحمن؛ ومن صلّى فى بيت المقدس عشر ركعات، كان رفيق داود وسليمان فى الجنة؛ ومن استغفر للمؤمنين والمؤمنات فى بيت المقدس ثلاث مرات، كان له مثل حسناتهم، ودخل على كل مؤمن ومؤمنة من دعائه سبعون مغفرة، وغفر له ذنوبه كلّها. وروى عن أنس رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلّى ببيت المقدس خمس صلوات نافلة، كلّ صلاة أربع ركعات يقرأ فى الخمس صلوات عشرة آلاف مرة (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ، فقد اشترى نفسه من الله عز وجلّ؛ ليس للنار عليه سلطان» . وعنه أيضا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلاة الرجل فى بيته بصلاة واحدة، وصلاته فى مسجد القبائل بستّ وعشرين، وصلاته فى المسجد الذى يجمع فيه بخمسمائة صلاة، وصلاته فى المسجد الأقصى بخمسين ألف صلاة، وصلاته فى المسجد الحرام بمائة ألف صلاة» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 وعن مكحول أن ميمونة رضى الله عنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيت المقدس قال: «نعم المسكن بيت المقدس! ومن صلى فيه صلاة بألف صلاة فيما سواه. قالت: فمن لم يطق ذلك؟ قال: يهدى له زيتا [1] » وعن مكحول عن النبىّ صلى الله عليه وسلم، قال: لا يسمع أهل السماء من كلام بنى آدم شيئا غير أذان مؤذّن بيت المقدس. وأما ما ورد فى بيت المقدس من مضاعفة الحسنات والسيئات فيه فقد روى عن نافع، قال: قال ابن عمر رضى الله عنهما، ونحن فى بيت المقدس: يا نافع، اخرج بنا من هذا البيت، فإن السيئات تضاعف فيه كما تضاعف الحسنات. وقال جرير بن عثمان وصفوان بن عمرو: الحسنة فى بيت المقدس بألف، والسيئة بألف. وأما فضل السكنى فيه والإقامة والوفاة به فقد روى عن ذى الأصابع أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت يا رسول الله إن ابتلينا بالبقاء بعدك، فأين تأمرنا؟ قال: «عليك ببيت المقدس، لعلّ الله يرزقك ذرّية تغدو إليه وتروح» .   [1] يظهر أن بعض الكلمات قد سقطت فى هذا الموضع. ولذلك رأيت إيراد الحديث بلفظ آخر عن ابن الفقيه الهمذانى فى كتابه «مختصر كتاب البلدان» المطبوع فى ليدن سنة 1302 هـ (سنة 1885 م) وهذا نصه: «قالت ميمونة مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أفتنا عن بيت المقدس، قال: نعم المصلى هو أرض المحشر وأرض المنشر، إيتوه فصلوا فيه فإن الصلاة فيه كألف صلاة. قلت بأبى وأمى أنت من لم يطق أن يأتيه. قال فليهد إليه زيتا يسرج فيه، فإنه من أهدى إليه، كان كمن صلى فيه» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 وعن أبى أمامة الباهلىّ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحقّ، لعدوّهم قاهرين، لا يضرّهم من خالفهم، حتّى يأتيهم أمر الله عز وجل وهم كذلك. قالوا: يا رسول الله، وأين هم؟ قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس» . وعن عطاء، قال: لا تقوم الساعة حتّى يسوق الله عز وجل خيار عباده إلى بيت المقدس وإلى الأرض المقدّسة، فيسكنهم إيّاها. وعن كعب، قال: قال الله عز وجل لبيت المقدس: أنت جنتى وقدسى وصفوتى من بلادى، من سكنك فبرحمة منى، ومن خرج منك فبسخط منى عليه. وعن وهب بن منبه، قال: أهل بيت المقدس جيران الله، وحقّ على الله عز وجل أن لا يعذّب جيرانه؛ ومن دفن فى بيت المقدس نجا من فتنة القبر وضيقه. وعن كعب، قال: اليوم فى بيت المقدس كألف يوم، والشهر فيه كالف شهر، والسنة فيه كألف سنة؛ ومن مات فيه فكأنما مات فى السماء، ومن مات حوله فكأنما مات فيه. وعن خالد بن معدان قال: سمعت كعبا يقول: مقبور بيت المقدس لا يعذّب. وأما ما به من قبور الأنبياء ومحراب داود وعين سلوان ففى الأرض المقدّسة قبر إبراهيم الخليل، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف عليهم السلام. وفى الصحيح أن موسى عليه السلام لما حضرته الوفاة سأل الله عز وجل أن يدنيه من الأرض المقدّسة، رمية حجر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 وروى الحافظ أبو بكر الخطيب بسنده عن بشر بن بكر عن أمّ عبد الله عن ابنها أنه قال: من أتى بيت المقدس، فليأت محراب داود، فليصلّ فيه، ويسبح فى عين سلوان فإنها من الجنة. وبسنده إلى سعيد بن عبد العزيز، قال: كان فى زمان بنى إسرائيل فى بيت المقدس عند عين سلوان عين. وكانت المرأة إذا قذفت، أتوا بها فشربت منها فإن كانت بريئة لم تضرّها، وإن كانت نطفة ماتت. فلما حملت مريم حملوها، فشربت منها فلم تزدد إلا خيرا. فدعت الله أن لا يفضح بها امرأة مؤمنة. فغارت العين. وأما ما ورد فى أن الحشر من البيت المقدس فقد روى عن أبى ذرّ رضى الله عنه أنه قال: قلت يا رسول الله «أخبرنا عن بيت المقدس. قال: أرض المحشر والمنشر. ايتوه فصلّوا فيه وليأتينّ على بيت المقدس [1] ! ولبسطة قوس أو مسحة قوس فى بيت المقدس أو من حيث يرى بيت المقدس خير من كذا وكذا» . وعن كعب قال: العرض والحساب من بيت المقدس.   [1] بياض فى الأصل بمقدار كلمة. وقد روى ابن فضل الله العمرى فى «مسالك الأبصار» المطبوع بدار الكتب المصرية (ج 1 ص 136) حديثا تقرب ألفاظه جدا من هذا الحديث ان لم يكونا حديثا واحدا. فلأجل تكملة النقص الموجود فى نسخ النويرى فى هذا الموضع نورد ما رواه أبن فضل الله وهو: وعن أبى ذر قال: قيل يا رسول الله صلاة فى البيت المقدس أفضل، أم صلاة فى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: صلاة فى مسجدى هذا أفضل من أربع صلوات فيه. ولنعم المصلى هو أرض المحشر والمنشر! وليأتين على الناس زمان، ولبسطة قوس من حيث يرى بيت المقدس، أفضل وخير من الدنيا جميعا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 وعن قتادة فى قوله تعالى (يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) قال: من صخرة بيت المقدس. وعن يزيد بن جابر «يوم ينادى المناد من مكان قريب» قال: يقف إسرافيل على صخرة بيت المقدس فينفخ فى الصّور فيقول: أيّتها العظام النّخرة، والجلود المتمزّقة، والأشعار المتقطّعة؛ إن الله تعالى أمرك أن تجتمعى للحساب. وقال المفسرون فى قوله تعالى (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) هو أن إسرافيل يقف على صخرة بيت المقدس فينادى: «يأيها الناس، هلمّوا إلى الحساب، إن الله يأمركم أن تجتمعوا لفصل القضاء، وهذه هى النفخة الأخيرة.» والمكان القريب صخرة بيت المقدس. قال كعب ومقاتل: هى أقرب إلى السماء بثمانية عشر ميلا. وقال ابن السائب: باثنى عشر ميلا. وعن ابن عمر رضى الله عنهما فى قوله تعالى (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) قال: هو حائط بيت المقدس الشرقىّ الذى من ورائه واد يقال له وادى جهنم، ومن دونه باب يقال له باب الرحمة. وأما ما ورد فى فضل الصخرة، والصلاة إلى جانبها فقد روى عن أنس بن مالك، قال: إن الجنة لتحنّ شوقا إلى بيت المقدس، وإن بيت المقدس من جنة الفردوس، وهى [1] سرّة الأرض.   [1] أى الصخرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 وعن أبى إدريس الخولانىّ: قال: يحوّل الله صخرة بيت المقدس مرجانة بيضاء كعرض السماء والأرض، ثم ينصب عليها عرشه، ثم يقضى بين عباده: يصيرون منها إلى الجنة وإلى النار. وعن أبى العالية فى قوله تعالى (إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) * قال: من بركتها أن كلّ ماء عذب يخرج من أصل صخرة بيت المقدس. وعن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم، قال: «الأنهار كلّها والسّحاب والبحار والرياح من تحت صخرة بيت المقدس» . وقال ابن عباس رضى الله عنهما: صخرة بيت المقدس من صخور الجنة. قال الزجاج: يقال إنها فى وسط الأرض. وعن كعب قال: من أتى بيت المقدس فصلّى عن يمين الصخرة وشمالها، ودعا عند موضع السّلسلة، وتصدّق بما قلّ أو كثر، استجيب دعاؤه، وكشف الله حزنه، وخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه؛ وإن سأل الله الزيادة أعطاه إياها. وأما ما ورد فى أن الله عز وجل عرج من بيت المقدس إلى السماء فقد روى الشيخ الإمام الحافظ أبو بكر محمد بن أحمد الواسطى الخطيب رحمه الله بسنده إلى سوادة بن عطاء الحضرمىّ، قال: نجد فى الكتاب مكتوبا أن الله عز وجل لمّا أن خلق الأرض وشاء أن يعرج إلى السماء وهى دخان، استشرف لذلك الجبال أيّها يكون ذلك عليه؟ وخشعت صخرة بيت المقدس تواضعا لله عز وجل، فشكر الله لها ذلك وجعل المعراج عنها. وكان عليها ما شاء الله أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 يكون. قال: فمدّ الجبار يديه حتّى كانتا حيث يشاء أن تكونا، ثم قال: «هذه جنتى غربا، وهذه نارى شرقا، وهذا موضع ميزانى طرف الجبل، وأنا الله ديّان يوم الدّين» وكان معراجه إلى السماء عن الصخرة. وروى أيضا بسنده إلى هانئ بن عبد الرحمن، ورديح بن عطية عن إبراهيم ابن أبى عبلة أحسبه كذا قال: وسئل عبادة بن الصامت ورافع بن خديج وكانا عقيييّن بدريّين، فقيل لهما: أرأيتما ما يقول الناس فى هذه الصخرة أحقّا هو فنأخذ به، أم هو شىء أصله من أهل الكتاب فندعه؟ فقال كلاهما: سبحان الله! ومن يشكّ فى أمرها، إن الله عز وجل لما استوى إلى السماء، قال لصخرة بيت المقدس: «هذا مقامى وموضع عرشى يوم القيامة، ومحشر عبادى، وهذا موضع نارى عن يسارها وفيه أنصب ميزانى أمامها، وأنا الله ديّان يوم الدّين» ثم أستوى إلى علّيّين. وروى أيضا بسنده عن كعب، قال: إن فى التوراة أنه يقول لصخرة بيت المقدس «أنت عرشى الأدنى ومنك ارتفعت إلى السماء، ومن تحتك بسطت الأرض وكلّ ما يسيل من ذروة الجبال من تحتك؛ من مات فيك فكأنما مات فى السماء، ومن مات حولك فكأنما مات فيك، لا تنقضى الأيام والليالى حتّى أرسل عليك نارا من السماء فتأكل آثار أكفّ بنى آدم وأقدامهم منك، وأرسل عليك ماء من تحت العرش فأغسلك حتّى أتركك كالمرآة، وأضرب عليك سورا من غمام غلظه اثنا عشر ميلا، وسياجا من نار؛ وأجعل عليك قبة جبلتها بيدى، وأنزل فيك روحى وملائكتى يسبّحون لى فيك؛ لا يدخلك أحد من ولد آدم إلى يوم القيامة؛ فمن برضوء تلك القبة من بعيد، يقول: طوبى لوجه يخرّ فيك لله ساجدا، وأضرب عليك حائطا من نار، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 وسياجا من الغمام، وخمسة حيطان من ياقوت ودرّ وزبرجد؛ أنت البيدر، وإليك المحشر، ومنك المنشر» . وروى أبو الفرج عبد الرحمن بن علىّ بن محمد بن الجوزىّ رحمه الله فى ذلك حديثين، ثم تكلم عليهما وضعّف رواتهما. أما أحدهما، فقال: أخبرنا المبارك بن أحمد، قال: أخبرنا أبو الحسين محمد بن محمد، قال: أنبأنا أبو محمد عبد العزيز بن أحمد بن عمر النّصيبى، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن صالح بن عمر المقرى، قال: حدثنا عيسى بن عبيد الله، قال: حدّثنا على ابن جعفر الرازى، قال: حدّثنا العباس بن أحمد بن عبد الله، قال: حدّثنا عبد الله ابن عمر المقدسى، قال: حدّثنا بكر بن زياد الباهلىّ، عن عبد الله بن المبارك، عن سعيد بن أبى عروبة، عن قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما أسرى بى إلى بيت المقدس مرّ بى جبريل عليه السلام إلى قبر إبراهيم، فقال: انزل، فصلّ ها هنا ركعتين، ها هنا قبر أبيك إبراهيم. ثم مرّ بى ببيت لحم، فقال: انزل، صلّ ها هنا ركعتين، فإن ها هنا ولد أخوك عيسى. ثم أتى بى إلى الصخرة فقال: من ها هنا عرج ربك إلى السماء» . قال الحافظ أبو حاتم بن حيّان: هذا حديث لا يشك عوامّ أصحاب الحديث أنه موضوع. وكان بكر بن زياد يضع الحديث على الثقات. وأما الحديث الثانى، فرواه بسند إلى إبراهيم بن أعين عن رديح بن عطية بن النعمان، عن عبد الله بن بسر الحمصىّ، عن كعب الأحبار، قال: يقول الله عز وجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 لبيت المقدس: أنت عرشى الذى منك ارتفعت إلى السماء، ومنك بسطت الأرض، ومن تحتك جعلت كل ماء عذب يطلع فى رءوس الجبال. قال أبو حاتم الرازىّ: إبراهيم بن أعين منكر الحديث. هذا ما ورد فى هذا الفصل وقد نبهنا على ما فيه من المآخذ والله أعلم. وأما ثواب الإهلال من بيت المقدس فقد روى عن أم سلمة زوج النبىّ صلى الله عليه وسلم ورضى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أهلّ من بيت المقدس، غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر» . قال سالم: وأهلّ ابن عمر رضى الله عنهما من بيت المقدس بعمرة. وروى عن ابن عمر رضى الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أحرم من بيت المقدس، قدم مكة مغفورا له» . وأما ما ورد من أن الكعبة تزور الصخرة يوم القيامة فقد روى عن كعب الأحبار قال: لا تقوم الساعة حتّى يزور البيت الحرام بيت المقدس، فينقادان جميعا إلى الجنة وفيهما أهلوهما. وروى عن خالد بن معدان قال: يحشر الله الكعبة إلى الصخرة زفّا إليها زفّا، متعلقين بجميع من حج إليهما، تقول الصخرة مرحبا: بالزائرة والمزور إليها. هذا ما اتفق إيراده فى فضائل البيت المقدّس، وسنذكر إن شاء الله تعالى من أخباره طرفا آخر وهو فى الباب الثانى، من القسم الثالث، من الفن الخامس فى التاريخ عند ذكرنا لأخبار سليمان بن داود عليهما السلام. فلنذكر خلاف ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 وأما اليمن وما يختص به فقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الإيمان يمان، والحكمة يمانية» . وقال الجاحظ: من خصائص اليمن السيوف، والبرود، والقرود. ويقال: ان السيف متى قلع بالهند وطبع باليمن، فناهيك به! وقال الأصمعىّ: أربعة ملأت الدنيا ولا تكون إلا باليمن، وهى الورس، والكندر، والخضض، والعقيق. وأما الشام وما يختص به فمن ذلك أن الشام موطن الأنبياء عليهم السلام، ومعدن الزّهّاد والعبّاد. وحكى أن الابدال السبعين بأرض الشام، بجبل لكام وجبل لبنان. ومن خصائص الشام: مسجد دمشق الذى ما عمر على وجه الأرض مثله وكانت عمارته فى سنة ست وثمانين، عمّره الوليد بن عبد الملك. ووقع الحريق فيه فى سنة إحدى وستين وأربعمائة، فدثرت محاسنه وزال ما كان فيه من الأعمال النفيسة. وعن قتادة، قال: أقسم الله تعالى بمساجد أربعة، قال: «والتّين» وهو مسجد دمشق، «والزّيتون» وهو بيت المقدس، «وطور سينين» وهو حيث كلم الله موسى، «وهذا البلد الأمين» وهو مكة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 وقال محمد بن شعيب: سمعت غير واحد من قدمائنا يذكرون أن التين مسجد دمشق، وأنهم قد أدركوا فيه شجرا من تين قبل أن يبنيه الوليد. وعن هشام بن عبد الملك قال: لما أمر الوليد ببناء مسجد دمشق، وجدوا فى الحائط القبلىّ من المسجد لوحا فيه نقش فأتوا به الوليد، فبعث إلى الروم والعبرانيين وغيرهم، فلم يستخرجوه. فدلّ على وهب بن منبّه فبعث إليه، فلما قدم أخبره بموضع ذلك اللوح فإذا الحائط الذى وجد فيه بناء هود عليه السلام. وعن زيد بن واقد قال: وكّلنى الوليد على العمال فى بناء جامع دمشق، فوجدنا فيه مغارة فعرّفنا الوليد ذلك. فلما كان الليل وافى، وبين يديه الشّمع، فنزل فإذا هى كنيسة لطيفة: ثلاثة أذرع فى ثلاثة أذرع، وإذا فيها صندوق، ففتح فإذا فيه سفط، وفى السّفط رأس يحيى بن زكريا عليهما السلام، مكتوب عليه: «هذا رأس يحيى بن زكريا» . فأمر الوليد، فردّ إلى مكانه، وقال: اجعلوا العمود الذى فوقه مغيّرا من الاعمدة، فجعلوا عليه عمودا مسفّط الرأس. وكانت البشرة والشعر على رأسه لم يتغير. وقال أبو زرعة: مسجد دمشق خطّه أبو عبيدة بن الجرّاح، وكذلك مسجد حمص. وقيل: لما قدم المهدىّ يريد بيت المقدس، دخل مسجد دمشق ومعه أبو عبد الله الأشعرىّ كاتبه، فقال: يا أبا عبد الله سبقنا بنو أمية بثلاث، قال: وما هنّ يا أمير المؤمنين؟ قال: بهذا البيت (يعنى المسجد) لا أعلم على وجه الأرض مثله، وبنبل الموالى فإن لهم موالى ليس لنا مثلهم، وبعمر بن عبد العزيز، لا يكون والله فينا مثله أبدا! ثم أتى بيت المقدس فدخل الصخرة، فقال: يا أبا عبد الله وهذه رابعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 وحكى عمرو بن مهاجر الأنصارىّ قال: حسبوا ما أنفق على الكرمة التى فى قبلة مسجد دمشق، فإذا هو سبعون ألف دينار. وقال أبو قصىّ: أنفق فى عمارة مسجد دمشق أربعمائة صندوق، كل صندوق أربعة عشر ألف دينار. وقال بعض شعراء المحدثين فى وصفه: دمشق قد شاع ذكر جامعها ... وما حوته ربى مرابعها. بديعة المدن فى الكمال لما ... يدركه الطّرف من بدائعها. طيّبة أرضها مباركة ... باليمن والسّعد أخذ طالعها. جامعها جامع المحاسن قد ... فاقت به المدن فى جوامعها. تذكر فى فضله ورفعته ... أخبار صدق راقت لسامعها. قد كان قبل الحريق مدهشة ... فغيّرته نار بلاقعها. فأذهبت بالحريق بهجته ... فليس يرجى إياب راجعها. إذا تفكّرت فى الفصوص وما ... فيها، تيقّنت حذق واضعها. أشجارها لا تزال مثمرة ... لا ترهب الريح فى مدافعها. كأنّها من زمرّد غرست ... فى أرض تبر يغشى بفاقعها. فيها ثمار تخالها ينعت ... وليس يخشى فساد يانعها. تقطف باللحظ لا بجارحة ال ... ايدى ولا تجتنى لبائعها. وتحتها من رخامه قطع، ... لا قطع الله كفّ قاطعها. أحكم ترخيمها المرخّم قد ... بان عليها إحكام صانعها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 وإن تفكّرت فى قناطره ... وسقفه، بان حذق رافعها. وان تبيّنت حسن قبّته ... تحيّر اللّبّ فى أضالعها. تخترق الريح فى مخارمها ... عصفا فتقوى على زعازعها. وأرضه بالرّخام قد فرشت ... ينفسح الطّرف فى مواضعها. مجالس العلم فيه مونقة ... ينشرح الصدر فى مجامعها. وكلّ باب عليه مطهرة ... قد أمن الناس دفع مانعها. يرتفق الخلق من مرافقها ... ولا يصدّون عن منافعها. ولا تزال المياه جارية ... فيها لما شقّ من مشارعها. وسوقها لا تزال آهلة ... يزدحم الناس فى شوارعها. لما يشاءون من فواكهها ... وما يريدون من بضائعها. كأنّها جنّة معجّلة ... فى الأرض، لولا سرى فجائعها. دامت برغم العدا مسلّمة ... وحاطها الله من قوارعها. وقال عبد الله بن سلام: بالشام من قبور الأنبياء ألفا قبر وسبعمائة قبر؛ وقبر موسى بدمشق؛ ودمشق معقل الناس فى آخر الزمان. وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: من أراد أن ينظر إلى الموضع الذى قال الله عز وجل فيه (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ) فليأت النّيرب الأعلى بدمشق بين النهرين، وليصعد الغار فى جبل قاسيون، فليصلّ فيه فإنه بيت عيسى وأمّه. ومن أراد أن ينظر إلى إرم، فليأت نهرا فى دمشق يقال له بردى. ومن أراد أن ينظر إلى المقبرة التى فيها مريم بنت عمران والحواريّون. فليأت مقبرة الفراديس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 ومن خصائصها التّفّاح الذى يضرب به المثل فى الحسن والطّيب. وكان يحمل منه إلى الخلفاء فى كل سنة ثلاثون ألف تفاحة. وبها الغوطة، وهى أحد متنزّهات الدنيا الأربعة. وهى أجلّها. وسنذكر وصفها فى باب الرياض إن شاء الله تعالى. وأما مصر وما يختصّ بها من الفضائل فمن فضلها أن الله عز وجل ذكرها فى كتابه العزيز فى أربعة وعشرين موضعا. منها ما هو بصريح اللفظ، ومنها ما دلّت عليه القرائن والتفاسير. فأما صريح اللفظ، فقوله تعالى: (اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) . وقوله تعالى مخبرا عن فرعون: (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) . وقوله عز وجل مخبرا عن يوسف عليه السلام: (ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) . وقوله تعالى: (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) . وأما ما دلت عليه القرائن، فمنه قوله تعالى: (وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ) . وقوله عز وجل: (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ) . قال ابن عباس، وسعيد بن المسيب، ووهب بن منبه وغيرهم: هى مصر. وقوله تعالى: (فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 وقوله تعالى: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها) . يعنى مصر. وقوله تعالى: (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ) . يعنى قوم فرعون، وأن بنى إسرائيل ورثوا أرض مصر. وقوله عز وجل: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) . وقوله تعالى مخبرا عن نبيه موسى عليه السلام: (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) . وقوله عز وجل مخبرا عن فرعون: (يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ) . وقوله تعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) . وقوله تعالى مخبرا عن قوم فرعون: (أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) . يعنى أرض مصر. وقوله عز وجل مخبرا عن نبيه يوسف عليه السلام: (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) . وقوله تعالى: (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 وقوله عز وجل مخبرا عن بنى إسرائيل: (رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) . وقوله تعالى مخبرا عن نبيه موسى عليه السلام: (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ) . وقوله تعالى: (أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) . يعنى أرض مصر. وقوله تعالى: (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى) . وقوله عز وجل: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً) . وقوله تعالى مخبرا عن ابن يعقوب: (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ) . يعنى أرض مصر. وقوله تعالى: (إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ) . وذكر ابن عباس مصر، فقال: سميت مصر بالأرض كلها فى عشرة مواضع من القرآن. والله تعالى أعلم. وأما ما ورد فيها من الحديث النبوى صلوات الله وسلامه على قائله فقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ستفتح عليكم بعدى مصر، فاستوصوا بقبطها خيرا فإنّ لهم ذمّة ورحما» وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا فتح الله عليكم مصر فاتّخذوا بها جندا كثيفا، فذلك الجند خير أجناد الأرض» فقال أبو بكر رضى الله عنه: ولم يا رسول الله؟ فقال: «لأنهم وأزواجهم فى رباط إلى يوم القيامة» . وعنه صلى الله عليه وسلم، وذكر مصر: «ما كادهم أحد إلا كفاهم الله مؤونته» . وتكررت الأحاديث فى فضلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 وقال عبد الله بن عمرو: وأهل مصر أكرم الأعاجم كلّها، وأسمحهم يدا، وأفضلهم عنصرا، وأقربهم رحما بالعرب عامة وبقريش خاصّة. وقال أيضا: لما خلق الله عز وجل آدم، مثّل له الدنيا: شرقها، وغربها، وسهلها، وجبلها، وأنهارها، وبحارها، وبناءها، وخرابها، ومن يسكنها من الأمم، ومن يملكها من الملوك. فلما رأى مصر، رآها أرضا سهلة ذات نهر جار، مادّته من الجنة، تنحدر فيه البركة، ورأى جبلا من جبالها مكسوّا نورا لا يخلو من نظر الربّ عز وجل إليه بالرحمة. فى سفحه أشجار مثمرة، فروعها فى الجنة تسقى بماء الرحمة. فدعا آدم فى النيل بالبركة، ودعا فى أرض مصر بالرحمة والبر والتقوى، وبارك على نيلها وجبلها سبع مرات. وقال: «يا أيها الجبل المرحوم، سفحك جنة وتربتك مسكة تدفن فيها عرائس الجنة، أرض حافظة مطبقة رحيمة. لا خلتك يا مصر بركة، ولا زال بك حفظ، ولا زال منك ملك وعزّ، يا أرض مصر فيك الخباء والكنوز، ولك البر والثّروة، سال نهرك عسلا. كثّر الله زرعك، ودرّ ضرعك، وزكا نباتك، وعظمت بركتك وخصبت، ولا زال فيك يا مصر خير ما لم تتجبّرى وتتكبّرى أو تخونى، فاذ فعلت ذلك، عراك شرّ، ثم تغوّر خيرك» . فكان آدم أوّل من دعا لها بالخصب والرحمة والرأفة والبركة. وقال عبد الله بن عباس رضى الله عنهما: دعا نوح عليه السلام لابن ابنه بيصر ابن حام وهو أبو مصر، فقال: اللهم إنه قد أجاب دعوتى، فبارك فيه وفى ذرّيته وأسكنه الأرض الطيبة لمباركة التى هى أمّ البلاد. قال عبد الله بن عمرو: لما قّسم نوح عليه السلام الأرض بين ولده، جعل لحام مصر وسواحلها والمغرب وشاطئ النيل. فلما دخل بيصر بن حام وبلغ العريش، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 قال: «اللهم إن كانت هذه الارض التى وعدتنا على لسان نبيك نوح عليه السلام وجعلتها لنا منزلا فاصرف عنا وباها، وطيّب لنا ثراها، واجمع ماها، وأنبت كلاها، وبارك لنا فيها، وتمم لنا وعدك، إنك على كل شىء قدير، وإنك لا تخلف الميعاد» وجعلها بيصر لابنه مصر وسماها به. والقبط ولد مصر بن بيصر بن حام ابن نوح. وسنذكر إن شاء الله تعالى أخبار مصر وبنيه عند ذكرنا لملوك مصر، وهو فى الفن الخامس فى التاريخ. وعن كعب الأحبار: لولا رغبتى فى بيت المقدس لما سكنت إلا مصر. فقيل له: ولم؟ فقال: لأنها معافاة من الفتن ومن أرادها بسوء كبّه الله على وجهه، وهو بلد مبارك لأهله فيه. وقال أبو بصرة الغفارى: سلطان مصر سلطان الأرض كلّها. قال: وفى التوراة مكتوب: مصر خزائن الأرض كلّها، فمن أرادها بسوء قصمه الله تعالى. وقال عمرو بن العاص: ولاية مصر جامعة، تعدل الخلافة. وقال أبو حازم عبد الحميد بن عبد العزيز، قاضى العراق: سألت أحمد بن المدبّر عن مصر فقال: كشفتها فوجدت غامرها أضعاف عامرها. ولو عمرها السلطان، لوفت له بخراج الدنيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 ذكر من ولد بمصر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومن كان بها منهم ولد بمصر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام جماعة، منهم: موسى، وهرون، ويوشع بن نون، ودانيال، وأرميا، ولقمان، وعيسى بن مريم. ولدته أمّه بأهناس، وبها النخلة التى ذكرها الله تعالى لمريم على أحد الأقوال. ولما سار عيسى إلى الشأم أخذ على سفح المقطم ماشيا، عليه جبة صوف مربوط الوسط بشريط، وأمّه تمشى خلفه، فالتفت إليها وقال: يا أمّاه، هذه مقبرة أمّة محمد صلى الله عليه وسلم. وأما من كان بها منهم، فكان: إبراهيم الخليل، وإسماعيل، ويعقوب، ويوسف عليهم السلام، واثنا عشر سبطا. ذكر من كان بها من الصدّيقين والصدّيقات رضى الله عنهم كان بها من الصدّيقين مؤمن آل فرعون الذى ذكره الله عز وجل فى القرآن. وقيل: إنه ابن لفرعون لصلبه. آمن بموسى ولحق به وجعله الله نبيا وآية. وكان بها وزراء فرعون الذين وصفهم الله تعالى وفضّلهم على قوم نمرود حين قالوا: «أرجئه وأخاه» وقال وزراء النمرود: «اقتلوه أو حرّقوه» . وأخرجت مصر السحرة الذين أحضرهم فرعون لموسى. وكانت عدّتهم مائتى ألف واثنين وثلاثين ألفا وقيل أكثر من ذلك، آمنوا كلّهم فى ساعة واحدة. ولم نعلم ممن آمن فى ساعة واحدة مثل هذا العدد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 ومن فضائل مصر ونبل أهلها أنهم لم يفتنوا بعبادة العجل. وكان بها من الصدّيقات آسية بنت مزاحم امرأة فرعون، وأم إسحاق، ومريم ابنة عمران، وماشطة بنت فرعون، التى مشطها فرعون بأمشاط الكتّان لما آمنت بموسى. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «شممت ليلة أسرى بى فى الجنة رائحة ما شممت أطيب منها، فقلت: يا جبريل ما هذا؟ فقال: هذا رائحة ماشطة بنت فرعون» . ذكر من صاهر أهل مصر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام منهم: إبراهيم الخليل عليه السلام، تزوّج بهاجر أمّ إسماعيل. ويوسف الصدّيق، تزوّج بنت صاحب عين شمس، وتزوّج زليخا بعد أن عجزت وعميت. دعا الله لها فردّها الله إلى حالتها الأولى، ورزق منها الولد. وتسرّى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمارية القبطية التى أهداها له المقوقس، على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى فى السيرة النبوية. ذكر من أظهرته مصر من الحكماء (الذين عمروا الدنيا بكلامهم وحكمهم وتدبيرهم، وأظهروا ما خفى من العلوم [1] ) قال الحسن بن إبراهيم، صاحب تاريخ مصر:   [1] بعض الحكماء المذكورين فى هذا الفصل ليسوا من أهل مصر بل وفدوا عليها وأقاموا بها مدّة قليلة أو كثيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 منهم: ذو القرنين، وهو الإسكندر [1] من قرية يقال لها لوبية [2] . وهو الذى قتل دارا بن دارا. وسيأتى خبره إن شاء الله تعالى فى التاريخ فى ذكر ملوك اليونان. ومنهم: هرمس، وهو المثلث بالنعمة: نبىّ، وحكيم، وملك: وهو الذى صير الرّصاص ذهبا، وبنى الهرمين الكبيرين على أحد الأقوال. وقيل: هو إدريس عليه السلام. ومنهم تلميذاه: أغاثاذيمون وفيثاغورس، ولهما من العلوم الموروثة صناعة الكيمياء، والنّجوم، والسّحر، وعلم النارنجيات، والطلسمات، والبرابى، وأسرار الطبيعة. ومنهم أوسلا وسيزوارس وبندقليس، أصحاب الكهانة والزّجر. ومنهم سقراط، صاحب الحكمة، والكلام على البارئ جل ذكره، وهو صاحب البلاغة. ومنهم أفلاطون، صاحب السّياسة، والنواميس، والكلام على المدن والملوك. ومنهم بطليموس، صاحب الرّصد، والمساحة، والحساب؛ وهو صاحب كتاب المجسطى من كتب الأفلاك، وحركة الشمس، والقمر، والكواكب المتحيرة والثابتة، وصورة فلك البروج. وله صفة الأمم الذين يعمرون الأرض، وكتاب الثمرة فى علم النجوم وتسطيح الكرة.   [1] هو الاسكندر الأكبر، ابن فيلّبوس وهو ليس من مصر وإنما غزاها بجيوشه وأسس فيها مدينة الاسكندرية التى صارت بعده مدينة العلم والحكمة. [2] هذا اللفظ محرف عن «پيلا» وهى احدى مدائن افريقية، وفيها كانت ولادة الاسكندر الاكبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 ومنهم أرسطاطاليس، صاحب المنطق، والآثار العلوية، والحس والمحسوس، والكون والفساد، والسماء والعالم، وسمع الكيان والسمع الطبيعى، ورسالة نبت الذهب، قالوا: وليعقوب بن إسحاق الكندىّ نحو ألف كتاب مستخرجة من كتب أرسطاطاليس. ومنهم أراطس، صاحب البيضة ذات الثمانية والأربعين صورة فى تشكيل صورة الفلك، والألف كوكب، واثنان وعشرون كوكبا من الكواكب الثابتة، والزيج. ومنهم أنطوليوس [1] ، صاحب الفلاحة. ومنهم إبّرخس، صاحب الرصد والآلة المعروفة بذات الحلق. ومنهم ثاون، صاحب الزيج المنسوب إليه. ومنهم أسطنس، ودروثيوس، ووالنس، أصحاب كتب أحكام النجوم، وعنهم انتشر ذلك. ومنهم إيرن، صاحب الهندسة والمقادير، وكتاب جر الأثقال، والحيل الروحانية، وعمل البناكيم والآلات لقياس الساعات. ومنهم فيلون البزنطى، وله عمل الدواليب والأرحية والحركات بالحيل اللطيفة. ومنهم أرشميدس، صاحب الحيل والهندسة والمرايا المحرقة وعمل المجانيق ورمى الحصون، والحيل على الجيوش والعساكر برّا وبحرا.   [1] ورد هذا الاسم فى الاصل هكذا: «أفلطيونس» وليس هناك رجل بهذا الاسم. وإنما المشهور بكتابه فى الفلاحة هو «انطوليوس الأفريقى» . وقد ذكره ابن العوام فى كتاب الفلاحة الأندلسية، ويقل عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 ومنهم ماريه وقلبطره، أصحاب الطّلّسمات، والخواص للطبائع. ومنهم أبلونيوس، وله كتاب المخروطات وقطع الخطوط. ومنهم ثيودوسيس، وهو صاحب كتاب الأكر. ومنهم ذيوفنطس، وله كتاب الحساب. ومنهم أوطوقيس، وله كتاب الكرة والأسطوانة. ومنهم المشاءون [1] ، أصحاب الرواق. وبمصر من العلوم التى عمرت بها الدنيا علم الطب اليونانى، وعلم النجوم، وعلم المساحة، وعلم الهندسة، وعلم الكيمياء، وغير ذلك وبها الطلسمات العشرة. وبادى [2] الاسكندرانى صاحب الزيج. والذين نشروا الطب وشرحوه جالينوس، صاحب الطب، تعلمه بمصر، ومن كتبها أخذ. ومنهم ديسقريد: صاحب الحشائش، وديوچانس، واركاغانس، وارباسيوس، وفريقونوس، وروفس، هؤلاء أصحاب الطب اليونانى. فهؤلاء حكماء الأرض وعلماؤهم الذين ورثوا الحكمة، من مصر خرجوا، وبها ولدوا؛ ومنها انتشرت علومهم فى الأرض. قال الحسن بن إبراهيم: وكانت مصر يسير إليها فى الزمن الأوّل طلبة العلم وأصحاب العلم الدقيق لتكون أذهانهم على الزيادة وقوّة الذكاء ودقة الفطنة. والله تعالى أعلم.   [1] فى الأصل: «المساتير» . ولعله يشير إلى أتباع ارسطو الذين يسميهم العرب «المشائين» . [2] لعل هذا الاسم محرف عن «ثاون» ؟؟؟ دى سبقت الاشارة اليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 ومن فضائل مصر أنها تمير الحرمين الشريفين، ولولا مصر لما أمكن أهل الحرمين وأعمالهما المقام بهما، ولما توصل إليهما من يرد من أقطار الأرض. ومنها أنها فرضة الدنيا، يحمل من خيرها إلى سواحلها، وذلك أن من ساحلها بالقلزم ينقل إلى الحرمين، وإلى جدّة، وإلى عمان، وإلى الهند، وإلى الصين، وصنعاء، وعدن، والشّحر، والسّند، وجزائر البحر. ومن جهة تنّيس، ودمياط، والفرما فرضة بلد الروم، وأقاصى الأفرنجه، وقبرس. وسائر سواحل الشام، والثغور إلى حدود العراق. ومن جهة الإسكندرية فرضة أقريطش، وصقلّيّة، وبلد الروم، والمغرب كلّه إلى طنجة، ومغرب الشمس. ومن جهة الصعيد فرضة بلد النّوبة، والبجة، والحبشة، والحجاز، واليمن. وفيها من ثغور الرّباط: البرلّس، ورشيد، والإسكندرية، ورباط ذات الحمام، ورباط البحيرة، ورباط إخنا، ورباط دمياط، وشطا، وتنّيس، والأشتوم، والفرما، والورّاده، والعريش، والشّجرتين، ورباط الحرس. وجهة الحبشة، والبجة. ورباط أسوان على النّوبة. ورباط الواحات على البربر والسّودان. ورباط قوص. وبها من المساجد والمشاهد والآثار الصالحة، ما لم يكن فى غيرها. ولو استقصينا ذلك، لطال به الشرح وانبسط القول. وقال سعيد بن عقبة: كنت بحضرة المأمون حتّى قال، وهو فى قبة الهواء: لعن الله فرعون حين يقول (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ) فلو رأى العراق!. فقلت: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 يا أمير المؤمنين لا تقل هذا فإن الله عز وجل قال (وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) . فما ظنّك يا أمير المؤمنين بشىء دمره الله، هذا بقيّته؟. قال: ثم قلت: لقد بلغنى أن أرضا لم تكن أعظم من مصر، وجميع أهل الأرض يحتاجون إليها. وكانت الأنهار بقناطر وجسور وتقدير حتّى إن الماء يجرى تحت منازلهم وأفنيتهم: يحبسونه متى شاءوا، ويرسلونه متى شاءوا. وكانت البساتين بحافتى النيل من أوّله إلى آخره، ما بين أسوان إلى رسيد إلى الشام متصلة لا تنقطع. ولقد كانت الأمة تضع المكتل على رأسها فيمتلئ مما يسقط من الشجر. وكانت المرأة تخرج حاسرة لا تحتاج إلى خمار لكثرة الشجر. ومن فضائلها النيل، وقد تقدّم ذكره فى باب الأنهار. ومن عجائبها الهرمان وسيأتى ذكرهما فى باب المبانى القديمة إن شاء الله تعالى. ومن عجائبها أن أهلها مستغنون عن كل بلد، حتى لو ضرب بينها وبين بلاد الدنيا بسور، استغنى أهلها بما فيها عن سائر بلاد الدنيا. وفيها ما ليس فى غيرها، وهو حيوان السّقنقور، والنّمس. ولو لاه لأكلت الثعابين أهلها؛ وهو لها كقنافدّ سجستان لأهلها. وفيها سمك يسمّى الرّعّاد. وهو سمك إذا أمسكه إنسان أو أمسك ما يتصل به من خيط الصّنارة أو الشبكة التى يقع فيها، ارتعدت يده. والحطب السّنط الذى لو وقد منه يوما وجمع ما وجد من رماده كان ملء كفّ. وهو صلب العود، سريع الوقود، بطىء الخمود. ويقال: إنه الآبنوس، وإنما البقعة قصّرت عن الكيان فجاء أحمر شديد الحمرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 ودهن البلسان. والأفيون، وهو عصارة الخشخاش. وكان بها اللّبخ، وهو ثمر فى قدر اللوز الأخضر إلا أن المأكول منه الظاهر. ورأيته أنا بها وأكلت منه سنة ثلاث وتسعين وستمائة. وبها الأترجّ الأبلق. وبها من المعادن: معدن الزّمرّد، ومعدن النّفط، والشّبّ، والبرام، والرّخام. وقيل: إن بها سائر المعادن كلّها. وأهلها يأكلون صيد بحر الرّوم وبحر فارس [1] طريّا. وفى كل شهر من شهور القبط صنف من المأكول والمشروب والمشموم، يوجد فيه دون غيره. فيقال: رطب توت، ورمّان بابه، وموز هاتور، وسمك كيهك، وماء طوبة، وخروف أمشير، ولبن برمهات، وورد برموده، ونبق بشنس، وتين بئونة، وعسل أبيب، وعنب مسرى. ومنها أن صيفها خريف، وشتاءها ربيع؛ وما يقطعه الحرّ والبرد فى سائر البلاد من الفواكه يوجد فيها فى الحرّ والبرد: لأنها فى الإقليم الثالث والرابع، فسلمت من حرّ الأوّل والثانى، وبرد السادس والسابع [2] . ويقال: لو لم يكن من فضل مصر إلا أنها تغنى فى الصيف عن الخيش والثلج وبطون الأرض، وفى الشتاء عن الوقود والفراء.   [1] يشير إلى البحر الأحمر المتصل بالخليج الفارسى بواسطة بحر الهند. [2] قارن ذلك بما ورد فى المقريزىّ (طبع بولاق ج 1 ص 28) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 ومما وصفت به أن صعيدها حجازىّ. حجره كحجر الحجاز ينبت النخل والدّوم (وهو شجر المقل) ، والعشر، والقرظ، والإهليلج، والفلفل، والخيار شنبر. وأسفل أرضها شامىّ: يمطر كمطر الشام، وتقع فيه الثلوج، وينبت التين والزيتون والعنب والجوز واللّوز والفستق وسائر الفواكه، والبقول والرياحين. وهى ما بين أربع صفات: فضة بيضاء، أو مسكة سوداء، أو زبرجدة خضراء، أو ذهبة صفراء. وذلك أن النيل يعمّ أرضها فتصير كالفضة البيضاء، ثم ينصبّ عنها فتصير مسكة سوداء، ثم تزرع فتصير زبرجدة خضراء، ثم تستحصد فتصير ذهبة صفراء [1] . وحكى ابن زولاق فى «فضائل مصر» أن أميرها موسى بن عيسى [الهاشمى] [2] وقف بالميدان عند بركة الحبش، فالتفت يمينا وشمالا، وقال لمن كان معه: أترون ما أرى؟ قالوا: وما يرى الأمير؟ قال: أرى عجبا ما فى الدنيا مثله! فقالوا: يقول الأمير! فقال: أرى ميدان رهان، وحيطان نخل، وبستان شجر، ومنازل سكنى، وذروة جبل، وجبّانة أموات، ونهرا عجّاجا، وأرض زرع، ومراعى ماشية، ومراتع خيل، وساحل بحر. [وصائد نهر] وقانص وحش، وصائد سمك، وملّاح سفينة، وحادى إبل، ومفازة رمل، وسهلا، وجبلا! فهذه ثمانية عشر متنزّها فى أقل من ميل فى ميل.   [1] قارن ذلك بما ورد فى المقريزى (طبع بولاق ج 1 ص 26) . [2] هو والى مصر فى أيام الرشيد سنة 175 هجرية. والزيادة عن المقريزى (طبع بولاق ج 2 ص 153) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 وأين هذه الأوصاف من وصف الواصف لقصر أنس بالبصرة حيث يقول: زر وادى القصر نعم القصر والوادى! ... لا بدّ من زورة من غير ميعاد. زره فليس له شىء يشاكله ... من منزل حاضر إن شئت أو بادى. ترى به السّفن والظّلمان حاضرة ... والضبّ والنون والملّاح والحادى. وقال أبو الصلت أمية بن عبد العزيز الأندلسىّ، يصف جبل الرّصد مثل ما وصف به قصر أنس: يا نزهة الرّصد المصرىّ قد جمعت ... من [1] كلّ شىء حلا فى جانب الوادى. فذا غدير، وذا روض، وذا جبل: ... فالضّبّ والنّون والملّاح والحادى. فهذه نبذة من فضائل مصر. ولولا الرغبة فى الاختصار، لكانت فضائلها تكون كتابا مفردا. وأما جزيرة الأندلس فقد اقتصرت فى وصفها على رسالة وصفها ابن حزم فيها، فقال: « ... أرضها شاميّة فى طيبها، تهاميّة فى اعتدالها واستوائها، أهوازية فى عظم خراجها وجبايتها، عدنيّة فى منافع سواحلها، صينيّة فى معادنها، هندية فى عطرها وطيبها وذكائها. وأهلها عرب فى الأنساب والعزّة والأنفة، وفصاحة الألسن، وطيب النّفوس، وإباء الضيم، وقلّة احتمال الذل والإهانة، والنّزاهة عن الخضوع؛ هنديّون فى فرط عنايتهم بالعلوم وحبّهم لها؛ بغداديّون فى ظرفهم ونظافتهم، ورقّة أخلاقهم   [1]- هذه رواية المقريزىّ. أما الاصل فقد ورد فيه الشطر الأول غير موافق فى الوزن للبقية هكذا: يا نزهة الرصد التى قد نزهت ... عن كل شىء الخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 ونباهتهم، ولطافة أذهانهم، وحدّة أفكارهم؛ نبطيّون فى استنباط المياه، ومعاناتهم للغراسة، وتركيب الشجر والفلاحة؛ صينيّون فى إتقان الصنائع العلمية، وإحكام المهن الصورية؛ تركيّون فى معاناة الحروب ومعالجة آلاتها، والنظر فى مهمّاتها» . قال إبراهيم بن خفاجة، يصفها: إنّ للجنّة بالأندلس ... مجتلى عين وريّا نفس! فسنا صبحتها من شنب ... ودجى ليلتها من لعس. وقد أظهرت الأندلس جماعة من الفضلاء والأعيان والأكابر، ذكرهم ابن بسّام فى كتابه المترجم «بالذخيرة، فى محاسن أهل الجزيرة» . وذكرهم الفتح بن خاقان فى كتابه «المطمح» و «قلائد العقيان» وغيرهما. وسنذكر إن شاء الله تعالى حال الأندلس وابتداء عمارتها وملوكها عند ذكرنا فتحها، وهو فى الباب الخامس من القسم الأوّل من الفن الخامس فى التاريخ من اخبار الدولة الأموية فى خلافة الوليد بن عبد الملك بن مروان فى سنة 92 من الهجرة. وأما البصرة وما اختصت به فمن خصائصها أن للغربان بها ضربا من العجب. وذلك أنها تقع إليها بالخريف حتّى تكون الأرض بها سوداء، وتقع على كل نخلة أصرم ثمرها، ولا تقع على ما لم تصرم، ولو بقى عليها عذق واحد. ومن عجائبها أيضا، أن التمر يكون مصبوبا فى بيادره، فلا يقع عليه شىء من الذّباب لا فى الليل ولا فى النهار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 وأهل البصرة يتخذون المظلّات على التمر والعجوة خوفا عليها من الخفّاش. ومن عادة الذباب الفرار من الشمس إلى الظلّ، فلا يوجد فى تلك الظلال شىء منه البتة. فيتوهم المتوهّم أن هاتين الحالتين من طلّسم، له من الخاصية ما يمنع الغربان والذباب. وليس كذلك، وإنما هو من حماية الله ووقايته. ووصف خالد بن صفوان البصرة، فقال: منابتها قصب، وأنهارها عجب، وسماؤها رطب، وأرضها ذهب. وفي الكوفة عدم الوفاء. وأما بغداد وما اختصت به فإنه يقال: إنها جنة الأرض، ومجتمع الوافدين: دجلة والفرات، وواسطة الدنيا، ومدينة السلام، وقبة الإسلام، لأنها غرّة البلاد، ودار السلام والخلافة، ومجمع الطّرائف والطيبات، ومعدن المحاسن واللطائف، وبها أرباب النّهايات فى كل فن، وآحاد الدهر فى كل نوع. وكان أبو إسحاق الزجّاج يقول: بغداد حاضرة الدنيا، وما عداها بادية. وكان أبو الفضل بن العميد اذا طرأ عليه أحد وأراد امتحان عقله سأله عن بغداد. فان فطن لفضائلها وخواصّها، جعل ذلك مقدّمة فضله وعنوان عقله. وقال ابن زريق الكوفىّ، الكاتب: سافرت أبغى لبغداد وساكنها ... مثلا، فحاولت شيئا دونه الياس. هيهات! بغداد الدنيا بأجمعها ... عندى، وسكّان بغداد هم الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 وقال آخر: سقى الله بغداد من جنة ... غدت للورى نزهة الأنفس. على أنّها منية الموسرين، ... ولكنّها حسرة المفلس. وأما الأهواز وما اختصت به فقال أبو عثمان «عمرو بن بحر الجاحظ» : إن قصبة الأهواز مخصوصة بالحمّى الدائمة اللازمة، حتّى إنها ليست إلى الغريب بأسرع منها إلى القريب. وقال إبراهيم بن العباس عن مشيخة من أهلها عن القوابل بها: إنهن ربما قبلن الطّفل المولود بها فيجدنه محموما؛ ولا تكاد توجد بها وجنة حمراء لصبىّ ولا صبية، ولا دم ظاهر. ومن عجائب خصائصها: أن جميع أصناف الطّيب تستحيل رائحته فيها جدّا، حتّى لا تكاد توجد له رائحة. وذلك من كثرة الرّطوبات، وغلظ الهواء، والأبخرة الفاسدة. (وهذا موجود بأنطاكية والقسطنطينيّة) . ويقال: إن الخيل لا تنزو بها ولا تصهل، وإنها تعتلف الحشيش دون التبن؛ لما يلحقها من الرّبو، لنداوة البلد وعفونته. وأما فارس وما اختصت به فمن خصائصها: ماء الورد الذى لا يوجد مثله فى سائر البلاد طيبا، والجورى الموصوف من أحد بلادها يجلب إلى أقاصى البلاد، ويضرب به المثل. ولشيراز من بلاد فارس فغمة طيبة ليست فيما عداها من بلاد فارس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 وأما أصفهان وما اختصت به فهى موصوفة بصحة الهواء، وجودة التّربة، وعذوبة الماء. وحكى أن الحجاج ولّى بعض خواصّه أصفهان، فقال له: قد ولّيتك بلدة حجرها الكحل، وذبابها النّحل، وحشيشها الزّعفران. ومن خصائص الرّىّ: برودها موصوفة كبرود اليمن، وتسمّى العدنيّات تشبيها لها ببرود عدن. وفيها الثياب المنيّرة. قالوا: واللص الحاذق ينسب إلى الرّىّ. وأما جرجان وما اختصت به فهى سهليّة جبلية، برّية بحريّة. وأهلها يعدّون زيادة على مائة نوع من أنواع الرياحين، والبقول، والحشائش الصّحراوية، والثمار والحبوب السّهلية التى هى مبذولة بها للفقراء والغرباء. ومن خصائصها: العنّاب الذى لا يكون فى سائر البلاد مثله، ويقال: هى بغداد الصّغرى، إلا أنها وبيّة، مختلفة الهواء فى اليوم الواحد، قتّالة للغرباء، كثيرة الأنداء. ويقال: جرجان مقبرة أهل خراسان. وفى بعض الكتب القديمة أن بخراسان بلدة يقال لها جرجان، يساق إليها قصار الأعمار من الناس. وكان أبو تراب النيسابورىّ يقول: لما قسمت البلاد بين الملائكة، وقعت جرجان فى قسم أبى يحيى (يعنى ملك الموت) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 وأما نيسابور وما اختصت به فحكى عن عمرو بن الليث الصّفّار أنه كان يقول: كيف لا أقاتل عن بلدة حشيشها الرّيباس، وترابها النّقل، وحجرها الفيروزج. أراد بقوله: «ترابها النّقل» طين الأكل الذى لا يوجد مثله فى الأرض، ويحمل منها إلى أقاصى البلاد وأدانيها، ويتحف به الملوك. قالوا: وربما بيع الرّطل منه بدينار. قال المأمون يصفه: جد لى من النّقل، فذاك الذى ... منه خلقنا وإليه نصير. ذاك الذى يحسب فى مثله ... أحجار كافور عليها عبير. قالوا: والفيروزج لا يكون إلا فى نيسابور، وربما بلغت قيمة الفصّ منه- الذى إذا أربى وزنه على مثقال، وجمع الخضرة والاستدارة، وصبر على النار، وامتنع على المبرد، ولم يتغير بالماء الحارّ- مائتى دينار. ويقال إن له خاصية فى تقوية القلب بالنظر إليه، كما أنّ للياقوت خاصّيّة فى مسرّة النفس. ولما دخلها إسماعيل بن أحمد السامانىّ، ملك ما وراء النهر وخراسان. استحسنها واستطابها، وقال: يا لها من بلدة جليلة، لو لم يكن لها عيبان! كان ينبغى أن تكون مياهها التى فى باطن الأرض على ظاهرها، وأن تكون مسالحها [1] التى على ظهرها فى بطنها. ومن خصائصها الثياب النيسابورية الرّقاق. وأهلها لا يكرمون الغريب. قال المرادىّ: لا تنزلنّ بنيسابور مغتربا ... إلّا وحبلك موصول بسلطان. أولا، فلا أدب يغنى ولا حسب ... يجدى ولا حرمة ترعى لإنسان.   [1] فى الاصل «مشايخها» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 وقال أيضا فيها: قال المرادىّ قولا غير متّهم، ... والنّصح ما كان من ذى اللّبّ مقبول: لا تنزلنّ بنيسابور مغتربا، ... إن الغريب بنيسابور مخذول. وأما طوس وما اختصت به فمن خصائصها السّبج الذى لا يكون إلا بها، ومنها ينقل إلى الآفاق، والحجر الأبيض الذى تتخذ منه القدور. ويقال: إن الله عز وجل ألان لأهلها الحجارة كما ألان لداود الحديد، حتّى إنهم يتخذون منها ما يتخذ غيرهم من الزّجاج من سائر الأوانى. وأما بلخ وما اختصت به فيقال: هى من أقدم البلاد وأخصّها بالملوك، وهى شبيهة بالعراق، وخراسان، والهند. وإليها ينسب جيحون، فيقال: نهر بلخ. وكان سعيد بن الحسن يقول: العيش فى الصيف ببلخ كتصحيفها [1] . ومن خصائصها البخاتى [2] والنّيلوفر.   [1] أى مثل ثلج. [2] فى الأصل: النجادى. [وهو تحريف لا شك فيه] . «والبخاتى» هى نوع من النياق اشتهرت بها هذه المدينة. قال ابن حوقل الرحالة البغدادىّ الشهير فى كتابه «المسالك والممالك» (ص 328، 329) ما نصه: «ويرتفع من بلخ وأعمالها فى نفسها النوق المتقدمة على ما فى جنسها وتعرف بالبخاتى ولا نظير لها من جنسها فى جميع الأرض. وبها الأترج والنيلوفر وقصب السكر وما لا يكون الا بالبلدان الحارة الا أنه لا نخيل بها» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 وأما بست وما اختصت به فيقال: إن هواءها كهواء العراق، وماءها كماء الفرات؛ ومن خصائصها الإجّاص الذى لا يوجد مثله فى غيرها. ويقال: إن من مات ببست مغفورا له فقد انتقل من جنّة إلى جنّة. وأما غزنة وما اختصت به فهى موصوفة بصحة الهواء، وجودة التّربة، وعذوبة الماء، وهى جبلية شمالية؛ ومن خصائصها أن الأعمار بها طويلة، والأمراض قليلة. قالوا: وهى أرض تنبت الذهب، ولا تولد الحيات والعقارب والحشرات المؤذية. ومنها خرج الأجلّاء الأنجاد من الرجال. وقال أبو سعيد منصور زعيم جرجان: لم أر بلدة في الصيف أطيب، وفى الربيع أشبه، ومن الحشرات أنظف من غزنة. ثم قال: إن قلّة ثمارها من منافعها، لأن كثرة الثمار مقترنة بكثرة الأمراض. وقد وصفها صاحب كتاب «لطائف المعارف» فقال: واها لغزنة إذ غدت ... للملك والإسلام دارا. من كعبة قد أصبحت ... للمجد والعليا مدارا. فى صدرها الملك الّذى ... قطب السّعود عليه دارا. وقال أيضا فيها: يا دار ملك نرى كلّ الجمال بها ... وأسعد الدهر تبدو من جوانبها. كأنما جنّة الفردوس قد نزلت ... بأرض غزنة تعجيلا لصاحبها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 وأما سجستان وما اختصت به فيقال فيها: ماؤها وشل، وثمرها دقل، ولصّها بطل. ومما تختص به الطاسات وجلاجل البزاة، والطبول الموكبية، والفرش الدّيباج. وأما الهند وما اختصت به فيقال: الهند بحرها درّ، وجبلها ياقوت، وشجرها عود، وورقها عطر. وعود الهند يذكر مع أمّهات الطيب. وفى الهند الفيل، والكركدّن، والببر، والطاووس، والببغاء. وفيه الياقوت الأحمر، والصّندل الأبيض، والعاج، وأصناف العطر، والثياب المخملة وغيرها، والّلانس [1] ، والأقمشة. وأما الصين وما اختصّ به فإن العرب تقول لكل طرفة من الأونى: صينيّة كائنة ما كانت: لاختصاص الصين بالطّرائف. وأهل الصين خصّوا بصناعة الطّرف، والملح، وخرط التماثيل، والإبداع فى عمل النّقوش والتصاوير، حتّى إن مصوّرهم يصوّر الإنسان فلا يغادر شيئا إلا الرّوح، ثم لا يرضى بذلك حتّى يفصل بين ضحك الشامت وضحك الخجل، وبين المتبسّم والمستغرب، وبين ضحك المسرور والهازئ؛ ويركّب صورة فى صورة. وفيه مناديل الغمر التى إذا اتّسخت وألقيت فى النار، نقّيت ولم تحترق.   [1] كذا بالأصل ولعلها محرفة عن القلانس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 وفيه الحديد. وربما اشترى بأضعاف وزنه فضة. وفيه السّنجاب الفارحانىّ الذى هو من أنفس الأوبار. وفيه اللّبود الجياد. قال الجاحظ فى كتاب «النظر فى التجارة» : إن خير اللّبود الصينية، ثم المغربية الحمر، ثم الطالقانيّة البيض. وأما سمرقند وما اختصت به قال قتيبة بن مسلم، لما أشرف على سمرقند لأصحابه: شبّهوها، فلم يأتوا فيها بشىء، فقال: كأنها السماء فى الخضرة، وكأن قصورها النجوم الزاهرة، وكأن أنهارها المجرّة. فاستحسنوا هذا التشبيه. ومن خصائصها: الكواغد التى عطّلت قراطيس مصر، والجلود التى كان الأوائل يكتبون عليها، لأنها أحسن وأنعم وأرفق وأرقّ. ولا تكون إلا بها وبالصين. ومن خصائصها: الثياب الوذارية، والنشادر، والزّئبق، والبندق. وأما بلاد التّرك وما اختصت به فيه يقال. إنها توازن بلاد الهند في كثرة الخصائص. وفيها المسك والسّنجاب والسّمور والقاقم والفنك والثّعالب السّود والأرانب البيض وغير ذلك. وفيها البزاة البيض والخيل. وتثبّتّ من بلاد الترك خاصية: أنه من أقام بها اعتراه سرور لا يدرى ما سببه، ولا يزال متبسما ضاحكا؛ وأن الميت إذا مات فيها لا يدخل على أهله كبير حزن كما يلحق غيرهم عند موت محبوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 وأما خوارزم وما اختصّت به فانها تقارب بلاد الترك، بل تنافسها في الخصائص والمتاجر. ومن خصائصها البطيخ الذى يقال له «النارنج» يقال إنه أحلى البطاطيخ وأطيبها. وكان يحمل منها إلى المأمون وإلى الواثق في قوالب الرصاص، معبّاة في الثلج. فكانت تقوّم الواحدة منه- إذا سلمت ووصلت- بسبعمائة درهم. والله أعلم. ذكر الخصائص التى تجرى مجرى الطّلّسمات منها: مدينة «خبيص» من مدن كرمان. لا يمطر المطر فيها داخل السور أبدا حتّى إن الرجل يخرج يده من سورها إلى خارجها، فتبتلّ يده ولا يبتلّ ساعده. وبقرية من قرى كرمان أيضا «حصن عادى» ليس فيه فأر. وإذا دخل إليه فأر، مات. ومدينة «حمص» لا يوجد فيها عقرب. وإذا تثر ترابها على ظهر عقرب، ماتت. وكذلك قلعة أعزاز [1] من أعمال حلب. ويقال إنه لا يدخل مدينتها حيّة. ومتى نثر عليها من ترابها، ماتت لوقتها. ولا يوجد فيها بعوض البتة. وإن الرجل متى أخرج يده من السور، وقع عليها؛ فإذا أدخل يده، طار عنها. و «بمصر [2] » أن التماسيح إذا ساقها الماء إليها وحاذتها، انقلبت على طهرها. فإذا بعدت عنها، لا تضر أحدا. بخلاف ما هى في بلاد الصعيد، فإنها تفترس جميع ما تظفر به من الحيوان حتّى الخيل. ولا يقوى على قتالها إلا الجاموس. ومدينة «سجلماسة» لا يوجد فيها ذباب البتة.   [1] كذا ذكرها أيضا في التقويم بالهمزة. وفي المعجم «عزاز» بدونها. [2] يعنى مصر العتيقة أى الفسطاط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 ذكر خصائص البلاد في أشياء مختلفة (وهى العلم، والعمل، والجواهر، والملابس، والأوبار، والفرش، والمراكب، والحيوانات ذوات السموم، والحلوى، والثمار، والرياحين، والخلق، والأخلاق، والأمراض، والآثار العلوية) أما خصائصها العلمية والعملية، فيقال: حكماء اليونان، وأطباء جنديسابور، وصاغة حرّان، وحاكة اليمن، وكتّاب السّواد. ومن خصائصها في الجواهر، يقال: فيروزج نيسابور، وياقوت سرنديب، ولؤلؤ عمان، وزبرجد مصر، وعقيق اليمن، وجزع ظفار، وبجادىّ بلخ، ومرجان إفريقيّة. ومن خصائصها في الملابس، يقال: برود اليمن، ووشى صنعاء، وريط الشام، وقصب مصر، وديباج الرّوم، وقزّ السّوس، وحرير الصين، وأكسية فارس، وحلل أصبهان، وسقلاطون بغداد، وعمائم الأبلّة، ومنيّر الرىّ، وملحم مرو، وتكك أرمينية، ومناديل الدّامغان، وجوارب قزوين. ومن خصائصها في الأوبار، يقال: سنجاب خرخيز، وسمّور بلغار، وثعالب الخزر، وفنك كاشغر، وحواصل [1] هراة، وقاقم تغزغز.   [1] ورد هذا اللفظ في كثير من كتب العرب بمعنى الجلود السنية التى يتدفأ بها أهل الترف والنعيم فقد ذكر الهمذانى (ص 235) الفنك والسمور والقاقم والحواصل والوشق والدّلق الخ. وذكره ابن البيطار فقال: «أنه طائر يكون بمصر كثيرا يعرف بالكى (بضم الكاف وإسكان الياء المنقوطة باثنتين من أسفل) ...... ولباسه يصلح للشباب وذوى الأمزاج الحارة ومن يغلب عليه الصفراء.» . وذكر السيوطى في الجزء الثانى من «حسن المحاضرة» لطائف مصر وأورد من جملتها الحوصل (بغير ألف في النسخة المطبوعة طبع حجر بمصر، ص 176) حيث قال ما نصه: «وطير الحوصل يعمل من جلده الخفاف الناعمة والفرا الأبيض الذى يقوم مقام الفنك في لينه ورقته» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 ومن خصائصها في الفرش، يقال: بسط أرمينية، وزلالىّ قاليقلا، ومطارح ميسان، وحصر بغداد [1] . ومن خصائصها في المراكب، يقال: عتاق البادية، ونجائب الحجاز، وبراذين طخارستان، وحمير مصر، وبغال برذعة. ومن خصائصها في الحيوانات ذوات السموم، يقال: أفاعى سجستان، وحيّات اصفهان، وثعابين مصر، وعقارب شهرزور، وجرّارات الأهواز، وبراغيث أرمينية، وفأر أرزن، ونمل ميّا فارقين، وذباب تل فافان، واقداح [2] نلد. [3] ومن خصائصها في الحلواء، يقال: سكّر الأهواز، وعسل أصفهان، وفانيذ ماكسان [4] ودبس أرّجان.   [1] لعله مصحف عن «حصر عبادان» لأن المقريزى طالما يتكلم عن الحصر العبدانية في مواضع كثيرة جدّا من خططه. وكذلك السيوطى قال في لطائف مصر: «وبها من الحصر العبدانى ومن سائر أصناف الحصر ما لا يوجد في غيرها» . وقال المقدسى ص 118 «ان أكثر أهل عبادان صناع الحصر من الحلفاء» وكانت هذه الحصر في غاية من الجمال حتى كان أهل مصر يقلدونها كما رأينا من عبارة السيوطى. [2] مفرده «قدح» وقال في القاموس: «والقدح والقادح أكال يقع في الشجر والاسنان ... والقادحة الدودة» . وقال ابن البيطار في كلامه على «التربد» نوع من النبات مانصه: «والتربد إذا طال به الزمان عمل فيه القادح كما يعمل في الخشب ...... تراه مثقّبا كأنه ثقب برأس ابرة» . ثم قال فى بقية الكلام ما نصه: «لا يجب أن يستعمل منه (أى التربد) إلا ...... السليم من السوس» . [3] هكذا في الأصل. وربما كان محرفا عن «بلد» المدينة المشهورة في العراق. [4] كذا بالاصل وصوابه «ماسكان» وقد أوردها ياقوت فقال «انها بلد مشهور بالنواحى المجاورة لمكران وراء سجستان» ثم قال «ولا يوجد الفانيذ بغير مكان إلا بهذا الموضع ... واليه ينسب القانيذ الماسكانى» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 ومن خصائصها في الثمار، يقال: رطب العراق، وتمر كرمان، وعنّاب جرجان، وإجّاص بست، وسفرجل نيسابور، وتفّاح الشام، ومشمش طوس، وكمّثرى نهاوند، وأترجّ طبرستان، ونارنج البصرة، وتين حلوان، وعنب بغداد، وقشمش هراة، وموز اليمن، وجوز الهند، وبطّيخ خوارزم، وباقلاء الكوفة. ومن خصائصها في الرياحين، يقال: نرجس جرجان، وورد جور، ونيلوفر السّيروان، ومنثور بغداد، وزعفران قمّ، وشاهسفرم سمرقند. ومن خصائصها في الخلق والأخلاق، يقال: شقرة الروم، وسواد الزّنج، وغلظ الترك، وجفاء الجيل، ودمامة الصّين، وقصر يأجوج. ومن خصائصها في الأمراض، يقال: طواعين الشام، وطحال البحرين، ودماميل الجزيرة، وحمّى خيبر. وجنون حمص، وعرق اليمن، ووباء مصر، وبرسام العراق، والنار الفارسية، وقروح بلخ. ومن خصائصها في الآثار العلوية، يقال: شتاء أرمينية، ومصيف عمان، وصواعق تهامه، وزلازل دبيل. وقال الجاحظ في «كتاب الأمصار» : الصناعة بالبصرة، والفصاحة بالكوفة، والتّخنيث ببغداد، والطّرمذة بسمرقند، والغىّ بالرّىّ، والجفاء بنيسابور، والحسن بهراة، والمروءة ببلخ، والبخل بمرو، والعجائب بمصر. وحكى عن عمرو بن عامر مزيقيا، أنه قال لقومه لما تحقق كون سيل العرم: من كان ذا شاء وبعير وجمل غير شرود، فليلحق بالشّعب من كوفان، فلحقت به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 همدان؛ ومن كان ذا سياسة وصبر على أزمات الدهر فليلحق ببطن مرّ، فلحقت به خزاعة. ومن كان يريد الراسخات في الوحل، المطعمات في المحل، فليلحق بيثرب ذات النخل، فلحقت بها بنو قيلة، وهم الأوس والخزرج؛ ومن كان يريد الخمر والخمير والأمر والتأمير فليلحق ببصرى وسدير (وهى من أرض الشام) ، فلحقت به غسّان؛ ومن كان يريد الثياب الرّقاق، والخيول العتاق، والذّهب والأوراق، فليلحق بالعراق، فلحقت به لخم. والله سبحانه وتعالى أعلم. الباب الثالث من القسم الخامس من الفن الأوّل (فى المبانى القديمة) والمبانى القديمة كثيرة، فلنذكر منها ما عظم خطره، وشاع في الآفاق ذكره. ذكر أوّل بناء وضع على وجه الأرض قيل: أوّل ما بنى على وجه الأرض «الصّرح» ويسمّى «المجدل» بناه النّمرود الأكبر ابن كوش بن حام بن نوح، بكوثى ربّى من أرض بابل. قيل: وبها إلى هذا العصر من أثره كالجبال. وكان طوله في الهواء خمسة آلاف ذراع، وعرضه ثلاثة آلاف ذراع. وكان مبنيا بالحجارة والرّصاص والكلس والشّمع واللّبان. يناه ليمنعه وقومه من بأس الله عز وجل. وكان قد كفر وطغى وادّعى الألوهية، فأرسل الله تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 إليه جبريل، فضربه بخافقة جناحه فهدمه، وهام من كان حوله على وجهه، وقد تبلبلت ألسنتهم من الدّهش والذّعر، فكانت عنه هذه اللغات التى يتكلم بها سائر الأمم، وهى اثنتان وسبعون لغة، وسميت تلك الأرض التى كان بها بابل. ذكر خبر إرم ذات العماد وهى التى ذكرها الله عز وجل في كتابه العزيز، فقال تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ) . وكان سبب عمارتها أن شدّاد بن عاد بن إرم لما سمع وصف الجنة سوّلت له نفسه أن يبنى مثلها. فبنى مدينة بين حضرموت وصنعاء، طولها اثنا عشر فرسخا، وعرضها مثل ذلك. وأحاط بها سورا ارتفاعه خمسمائة ذراع، غشّاه بصفائح الفضة المموّهة بالذهب، فلا يدركه البصر إذا أشرقت عليه الشمس. وبنى داخلها مائة ألف قصر (بعدد رؤساء أهل مملكته) من الذهب والفضّة، وكذلك جذوع سقوفها وأعمدتها. وأجرى في وسطها نهرا صفّح أرضه بالذهب، وجعل على حافتيه أنواع الجواهر واليواقيت بدلا من الحصباء وألقى فيه المسك والعنبر بدلا من الحمأة. وفرّع منه جداول إلى تلك القصور والمنازل، وغرس على شطوطها من الأشجار ما كان لزهره عرف طيّب ورائحة ذكيّة. زعموا أنه أقام في بنائها ثلاثمائة سنة، فلما تمّ بناؤها، زاد في طغيانه وخرج من حضرموت إليها ليسكنها. فلما أشرف عليها جاءته صيحة من السماء فأهلكته هو وجنوده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 ويروى أن عبد الله بن قلابة خرج في طلب إبل له ندّت فوقع عليها، فحمل ما قدر عليه، فبلغ معاوية خبره، فاستحضره وسأله فقصّ عليه قصته. فبعث معاوية إلى كعب الأحبار، فقال: هى إرم ذات العماد، وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك: أحمر قصير، على حاجبه خال، وعلى عقبه خال، يخرج في طلب إبل له ندّت. ثم التفت فرأى ابن قلابة فقال: هذا والله ذاك الرجل. وزعم الأخباريون أنه كان بها أربعمائة ألف وأربعون ألف عمود، ولهذا سميت ذات العماد. وقد ذهب قوم إلى أنها دمشق. وسنذكر إن شاء الله تعالى خبر إرم ذات العماد بما هو أبسط من هذا عند ذكرنا لخبر شديد وشدّاد، ابنى عاد؛ وهو في الباب الخامس من القسم الأوّل، من الفن الخامس في التاريخ، وذلك في السّفر الحادى عشر من هذه النسخة من كتابنا هذا فتأمله هناك. والله تعالى أعلم. ذكر خبر سدّ يأجوج ومأجوج هو في الإقليم السادس في آخر الجزء التاسع من تجزئة عشرة أجزاء. قال [1] صاحب كتاب «نزهة المشتاق إلى اختراق الآفاق» إن الواثق بالله لما رأى فى المنام كأنّ السّدّ الذى بناه ذو القرنين مفتوح، أحضر سلّاما الترجمان وقال له:   [1] ان ابن خرداذبة هو أوّل من روى خبر هذه البعثة العلمية عن نفس رئيسها ثم استملاه منه من الكتاب الذى كان كتبه في هذا المعنى الخليفة الواثق بالله (انظر المسالك والممالك طبع ليدن سنة 1306 هـ- سنة 1889 م من صفحة 162- 170) . وعن ابن خرداذبة نقل جميع المؤلفين الذين جاءوا بعده مثل الإدريسى وابن رسته وابن الفقيه الهمذانى والمقدسى. وقد نقل النويرى عن الإدريسى. وكلهم قد يزيد وينقص بعض الكلمات أو يبدلها بغيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 اذهب فانظر إلى هذا السدّ وجئنى بخبره وحاله وما هو عليه، ثم أمر له بأصحاب يسيرون معه، عددهم خمسون رجلا، ووصله بخمسة آلاف دينار، وأعطاه ديته عشرة آلاف درهم، وأمر أن يعطى كل واحد من أصحابه الخمسين ألف درهم ورزق سنة، وأمر لهم بمائة بغل تحمل الماء والزاد. قال سلام الترجمان: فشخصنا من سامرّا بكتاب الواثق إلى إسحاق بن إسماعيل صاحب أرمينية بالنظر إلى تنفيذنا من هناك؛ فكتب لنا كتابا إلى ملك السّرير وأنفذنا إليه، فلما وردنا عليه، أشخصنا إلى ملك اللّان. فلما وصلنا إليه، أشخصنا إلى صاحب فيلان [1] شاه. فلما وردنا عليه [أرسلنا إلى ملك الخزر وهو] اختار لنا خمسة أدلّاء يدلّون على الطريق. فسرنا من عنده سبعة وعشرين يوما في تخوم بلاد بسجرت إلى أن وصلنا إلى أرض سوداء طويلة ممتدّة كريهة الرائحة، فشققناها في عشرة أيام. وكنا قد تزوّدنا لقطعها أشياء نشمها خوفا من أذى روائحها الكريهة. ثم انفصلنا عنها. فسرنا مدّة شهر في بلاد خراب قد درست ابنيتها ولم يبق منها إلا رسوم يستدل بها عليها. فسألنا من معنا عن تلك المدن، فأخبرونا أنها لمدن التى كان يأجوج ومأجوج يغزونها ويخرّبونها. ثم سرنا إلى حصون بالقرب من الجبل الذى في شعبة السدّ وذلك في ستة أيام. وفي تلك الحصون قوم يتكلمون بالعربية والفارسية. وهناك مدينة يدعى ملكها خاقان بن أدكش، وأهلها مسلمون لهم مساجد ومكاتب. فسألونا من أين أقبلنا، فأخبرناهم أنّا رسل أمير المؤمنين الواثق بالله، فعجبوا منا ومن قولنا «أمير المؤمنين» ثم سألونا عن أمير المؤمنين: أشيخ هو أم شابّ؟ فقلنا: شابّ، فعجبوا أيضا. ثم قالوا: وأين يكون؟ قلنا: هو بالعراق بمدينة سرّ من رأى. فعجبوا أيضا   [1] فى الأصل: «قبلاه شاه» . والتصويب عن ابن خرداذبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 من ذلك، وقالوا: ما سمعنا هذا قطّ. فسألناهم عن إسلامهم من أين وصلهم ومن علّمه لهم؟ فقالوا: وصل إلينا منذ أعوام كثيرة رجل راكب على دابة طويلة العنق طويلة اليدين والرجلين، لها في موضع صلبها حدبة، (فعلمنا أنهم يصفون الجمل) قالوا: فنزل بنا وكلمنا بكلام فهمناه، ثم علّمنا شرائع الإسلام فقبلناها، وعلمنا أيضا القرآن ومعانيه فتعلمناه وحفظناه. قال سلام: ثم خرجنا بعد هذا إلى السدّ لنبصره، فسرنا عن المدينة نحوا من فرسخين، فوصلنا السدّ. فإذا جبل مقطوع بواد عرضه مائة وخمسون ذراعا، وله في وسط هذا الفناء باب من حديد طوله خمسون ذراعا قد اكتنفه عضادتان، عرض كل عضادة منهما خمسة وعشرون ذراعا. والظاهر من تحتها عشرة أذرع خارج الباب. وكله مبنىّ بلبن الحديد مغيب بالنّحاس. وارتفاع العضادتين خمسون ذراعا، وعلى أعلى العضادتين دروند حديد، طوله مائة وعشرون ذراعا. والدّروند للعتبة العليا، وقد ركب منها على كل واحدة من العضادتين مقدار عشرة أذرع. ومن فوق الدّروند بنيان متصل بلبن الحديد المغيب بالنحاس إلى رأس الجبل، وارتفاعه مدّ البصر. وفوقه شرّافات حديد، فى طرف كل شرّافة قرنتان تنثنى أطراف كل واحدة منهما على الأخرى [1] ، وللباب مصراعان مغلقان، عرض كل مصراع خمسون ذراعا في ثخن خمسة أذرع؛ وقائمتاهما في دوّارة على قدر الدروند. وعلى الباب قفل طوله سبعة أذرع في غلظ ذراع في الاستدارة؛ وارتفاع القفل من الأرض خمسة وعشرون ذراعا. وفوق القفل بخمسة أذرع غلق طوله أكثر من طول القفل،   [1]- هذه رواية ابن حرداذبة. وفي الأصل «قرنان مشى الأطراف بعضها الى بعض» . ورواية المقدسى: «قرنان ينثنى كل واحد في صحبه» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 وعلى الغلق مفتاح طوله ذراع ونصف، وله اثنتا عشرة دنداجة [1] ، كل دنداجة منها كأغلظ ما يكون من دساتج [2] الهواوين، معلق كل واحد منها بسلسلة على قدر حلقة المنجنيق [3] . وعتبة الباب السفلى عشرة أذرع بسط مائة ذرع سوى ما تحت العضادتين، الظاهر منها خمسة أذرع. وكلها مكتالة بالذراع السوادىّ. ورئيس ذلك الحصن يركب فى كل جمعة مع عشرة فوارس، مع كل فارس إرزبّة حديد، كل إرزبّة خمسة أمنان. فيضرب القفل بتلك الإرزبّات في كل يوم ثلاث مرات ليسمع من خلف الباب. فيعلم أنّ هناك حفظة، وليعلم هؤلاء أن يأجوج ومأجوج لم يحدثوا في الباب حدثا. وإذا ضرب أصحاب الإرزبّات القفل، وضعوا آذانهم ليسمعوا ما وراء الباب، فيسمعون من ورائه دويّا يدلّ على أن خلفه بشرا. وبالقرب من هذا الموضع حصن يكون عشرة [فراسخ] فى عشرة [فراسخ] . ومع الباب حصنان يكون كل واحد منهما مائتى ذراع في مائتى ذراع؛ وبين هذين الحصنين عين ماء عذبة، فى أحد الحصنين آلة البناء التى بنى بها السدّ من قدور الحديد ومغارف الحديد؛ والقدور فوق ديكدانات [4] على كل ديكدان أربع قدور مثل قدور الصابون؛ وهناك أيضا بقايا من لبن الحديد   [1]- هذه رواية الإدريسى. والذى في ابن خرداذبة «دندانكة» وهى كلمة فارسية معناها «سن» والمراد أسنان المفتاح. [2] الدستج كلمة فارسية معناها «يدالهاون» أى المدقّ الذى تدق به الأشياء في الهاون. [3] فى ابن خرداذبة ما يفيد أن المفتاح وحده هو المعلق في السلسلة وهذا نص روايته: «معلق فى سلسلة ملحومة بالباب طولها ثمانى أذرع في استدارة أربعة أشبار والحلقة التى فيها السلسلة مثل حلقة المنجنيق» وهى رواية معقولة أكثر مما ورد في المتن لان المفتاح فقط هو الذى يصح تعليقه دون القفل والغلق. [4] كلمة فارسية يقابلها عند العرب «الأثافى» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 التى بنى بها السدّ وقد التصق بعضها ببعض من الصدإ، وطول اللّبنة ذراع ونصف فى ارتفاع شبر. قال سلام الترجمان: وقد سألنا من خاطبناه من أهل تلك الجهات هل رأوا أحدا من يأجوج ومأجوج قطّ، فأخبرونا أنهم رأوا منهم [مرّة] عددا فوق شرفات الردم، فهبّت عليهم ريح عاصفة، فرمت منهم ثلاثة إلى ناحيتنا. [1] وكان مقدار الرجل منهم شبرين ونصفا. قال سلام: فكتبت هذه الصفات كلّها، ثم انصرفنا مع الأدلّاء من تلك الحصون، فأخذوا بنا على ناحية خراسان. فسرنا إلى مدينة بختان، إلى غربان، إلى مدينة برساخان، إلى انطرار، إلى سمرقند، فوصلنا إلى عبد الله بن طاهر، ثم وصلنا إلى الرىّ، ثم رجعنا إلى سرّ من رأى بعد خروجنا عنها. فكان مغيبنا في سفرنا ثمانية وعشرين شهرا. قال: فهذا جميع ما حدّث به سلام. وقال الشيخ أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبىّ في تفسيره: إن ارتفاع السدّ مائتا ذراع وخمسون ذراعا. قال: وروى في طوله ما بين طرفى الجبلين مائة فرسخ، وفي عرضه خمسون ذراعا. نقله عن وهب بن منبه. وسنذكر إن شاء الله تعالى من أخبار السدّ وكيفية بنائه وطوله وعرضه، وغير ذلك مما هو متعلق به عند ذكرنا لأخبار ذى القرنين. فتأمّله هناك، وهو في الباب   [1] فى ابن خرداذبه: «فهبت ريح سوداء فألقتهم الى جانبهم» أى الى الجهة التى ظهر منها أولئك الناس، وهو المعقول، لانه عقب بأن طول الرجل كان شبرين ونصفا، ومعنى ذلك في رأى العين من هذا العدو فتنيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 الأوّل من القسم الرابع من الفن الخامس في التاريخ، وهو في السفر الثانى عشر من هذه النسخة من كتابنا هذا. ذكر مبانى الفرس المشهورة ومبانى الفرس كثيرة: قديمة وحديثة. فمن قديمها «سدّ اللّبن» . بناه قباذ بن فيروز، وقيل إن الذى بناه ابنه كسرى ابن قباذ بن فيروز. كذا ورد في التاريخ. وهذا السدّ من أرض شروان إلى بلاد اللّان، وبينهما مائة فرسخ، بين شعاب جبل القبق. وهو جبل عظيم قد اشتمل على اثنتين وسبعين أمّة، لكل أمّة لسان وملك، لا يعرف بعضهم بعضا لكثرة غياضه وأشجاره؛ وفيه عيون وأنهار؛ وتقدير مسافته طولا وعرضا نحو شهرين. ومبدأ السّور من جوف بحر الخزر على مقدار مسافة ميل مارّا إلى البرّ، ثم يمرّ إلى أن يتصل بقلعة طبر شروان. وهو مبنىّ بالصخر والحديد والرّصاص. بناه على زقاق البقر المنفوخة، فكان كلما ارتفع البناء نزلت تلك الزّقاق إلى أن استقرّت في قعر البحر، فغاصت الرجال بالخناجر فشقّوها فتمكن البناء. وجعل بين كل ثلاثة أميال من السور وأقل وأكثر بابا من الحديد على حسب الطريق التى تجعل من أجله، وبنى عليه حصنا وأسكن فيه من يحفظ ذلك الباب ويحرسه. وزعم المؤرّخون أن سبب بنائه لهذا السور أن الخزر كانت تغير على بلد فارس إلى أن تبلغ همذان والموصل، فحجزهم بهذا السور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 ومن مبانى الفرس إيوان كسرى زعم المسعودىّ أن سابور ذا الأكتاف بناه في نيف وعشرين سنة، وطوله مائة ذراع في عرض خمسين ذراعا في ارتفاع مائة ذراع، وطول كل شرفة منه خمسة عشر ذراعا. ولما ملك المسلمون المداين، أحرق ستر هذا الإيوان فأخرجوا منه مائة ألف دينار ذهبا. ولما بنى المنصور بغداد، أحب أن ينقضه ويبتيها به، فاستشار خالد بن برمك فى ذلك فنهاه، وقال: «هو آية للإسلام، ومن رآه علم أن الذى بناه لا يزيل ملكه إلا نبىّ والمؤونة على نقضه أكثر من الارتفاق به» . فقال له: «أبيت إلا ميلا إلى العجم» فهدمت منه ثلمة. فبلغت النفقة عليها مالا كثيرا، فأمسك المنصور عن هدمه، فقال له خالد: «أنا الآن، يا أمير المؤمنين، أشير بهدمه لئلا يتحدّث الناس بعجزك عن هدم ما بناه غيرك» فلم يفعل. وحكى مثل هذه القصة أنها وقعت ليحيى بن خالد مع الرشيد، وهو إذ ذاك فى اعتقاله. وكان الرشيد بلغه أن تحته كنزا فأراد هدمه واستشار يحيى فأشار عليه بمثل هذا. ومن عجيب ما يحكى من تقلب الأحوال أن بعض شرفاته هدمت وجعلت فى أساس سور بغداد. وقال ابن الأثير في تاريخه إن الإيوان باق إلى الآن. (وكان يوم ذاك في سنة خمس وعشرين وستمائة) ، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 ومن المبانى القديمة الحضر وكان حصنا حصينا مبنيّا بالرّخام، يسكنه ملوك الضّيازن. وهو بين دجلة والفرات، بحيال تكريت. ويقال إن بانيه الساطرون. وذكر أن قصر ملكه قائم إلى وقتنا هذا فى وسط المدينة، وفى وسطه هيكل مربّع مبنىّ بالصخر، وفيه صور دقيقة المعانى. حكى أن سابور الجنود حاصره أربع سنين فلم يقدر عليه. واتفق أن بنت ملكه وهى النضرة [1] بنت الضّيزن حاضت، فأخرجت من القصر إلى ربضه لأجل ذلك. فرأت سابور، وكان جميل الصورة، فعشقته. فأرسلت إليه تقول: إن ملّكتك الحصن فما تجعل لى؟ قال: حكّمتك. قالت: تتزوّج بى. فأجابها إلى ذلك، فقالت له: خذ حمامة ورقاء مطوّقة، فاخضب رجليها بدم حيض جارية بكر زرقاء، وأرسلها. فإنها تقع على سور البلد فيقع لوقته. وكان ذلك حلّ طلّسم له. ففعل ذلك، فوقع السّور ودخل سابور الحصن وقتل ملكه وأصحابه واصطفى ابنته لنفسه. فلما كانت ليلة دخولها عليه، لم تزل متململة قلقلة طول ليلتها، فالتمس سابور ما الذى قلقت من أجله، فاذا ورقة آس قد لصقت بعكنة من عكنها، فقال لها: ما كان أبوك يغذوك؟ فقالت: الزّبد والمخّ وشهد أبكار النحل والخمر، فقال لها: أنا أحقّ منك بثار أبيك، ثم أمر رجلا أن يركب فرسا جموحا وأن يربط غدائرها في ذنبه ويركض به. ففعل ذلك، فتقطّعت.   [1] فى ياقوت: «النضيرة» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 وهذا الحصن قد اختلف في موضعه. فقيل: بحيال تكريت بين دجلة والفرات. وقيل: بالجزيرة. ويقال إنه كان حاجزا بين الرّوم والفرس، وملكته الزّبّاء بنت مليح [1] واسمها فارعة. وفيه يقول عدىّ بن زيد العبادىّ من قصيدة: وأخو الحضر إذ بناه وإذ دج ... لة تجبى إليه والخابور. شاده مرمرا وكلّله كل ... سا فللطّير في ذراه وكور. لم يهبه ريب المنون فباد ال ... ملك عنه فبابه مهجور. ومن المبانى القديمة القليس وهى كنيسة كانت باليمن بناها أبرهة بن الصباح، ملك اليمن بصنعاء. ونقل إليها الرخام المجزّع والملّون، والحجارة المنقوشة بالذهب من قصر بلقيس. وكان أراد أن يرفع بناءها حتّى يشرف منها على بحر عدن. فلما أهلكه الله تعالى وفرّق ملكه، أقفر ما حول هذه الكنيسة، وكثرت حولها السّباع والحشرات. وبقيت إلى زمن السّفّاح فذكر له أمرها، فبعث إليها من خرّبها وأخذ ما كان فيها. حكى ذلك السهيلى في «الروض الأنف» . وحكى أن كيفية بناء هذه الكنيسة أنه كان لها باب من نحاس طوله عشرة أذرع وعرضه أربعة أذرع، يدخل منه إلى بيت طوله ثمانون ذراعا وعرضه أربعون ذراعا، مسقّف بالساج المنقوش، مسمّر بمسامير الذهب والفضّة. ثم يدخل من البيت إلى إيوان معقود طوله أربعون ذراعا، عن يمينه ويساره عقود مزخرفة.   [1] كذا في الأصل «بنت فريح» . وذكر في تاج العروس في مادة زب ب أنها بنت عمرو بن الظرب وأن أسمها بارعة أو ميسون أو نابلة. فتنبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 ثم يدخل من الإيوان إلى قبّة، ثلاثون ذراعا في ثلاثين ذراعا، جدرها مموّهة بالذهب والفضة. وفي صدر القبّة منبر من الآبنوس المرصّع بالعاج، المصفّح بالذهب والفضة. ولما تم بناؤها، خرج رجل من بنى كنانة فقعد فيها ليلا (أى أحدث) . فأغضب أبرهة ذلك، فحلف ليهدمنّ الكعبة، فخرج بجيش كثيف من الحبشة، فكان من أمره ما قصه الله تعالى في كتابه العزيز في سورة النمل: (وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) . وذكر لى أن الذى خرّبها العباس بن الربيع بن عبد الله العامرىّ، عامل المنصور على اليمن. ومن المبانى المشهورة قنطرة صنجة وهى من مبانى الروم على نهر عظيم يسمّى بهذا الاسم، يصبّ في الفرات، لا يمكن خوضه: لأن قراره رمل سائل متى وطئه الإنسان برجله سال. وهو ما بين حصن منصور وكيسوم من ديار بكر. وهذه القنطرة طاق واحد، ما بين جدرانها مائة خطوة. وهى مبنية بحجارة مهندمة، طول الحجر منها عشرة أذرع في ارتفاع خمسة أذرع. ومن المبانى القديمة ملعبا بعلبك وهما كبير وصغير. فالكبير، يحكى أنه من بناء سليمان بن داود عليهما السلام. وهو مبنىّ على عمد شاهقة. وحجارته منها ما هو عشرة أذرع وأكثر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 والملعب الصغير تهدّم أكثره، وبقى منه حائط طوله عشرون ذراعا وارتفاعه كذلك. ليس فيه إلا سبعة أحجار: واحد من أسفله، وحجران فوقه، وأربعة أحجار فوقهما. ويقال إنه البيت الذى كان فيه الصنم الذى كان يدعى «بعلا» . ذكر مبانى العرب المشهورة وهى غمدان، وحصن تيما، والخورنق، والسّدير، والغريّان. قال الجاحظ: أحبّت العرب أن تشارك الفرس في البناء وتنفرد بالشعر، فبنوا: غمدان، وكعبة نجران، وحصن مارد، والأبلق الفرد. فأما غمدان فكان بصنعاء. زعم بعض المؤرّخين أن بانيه حام بن نوح. وزعم آخرون أن بيوراسب بناه على اسم الزّهرة. وقال ابن هشام إن الذى أسسه يعرب بن قحطان، وأكمله بعده وائل بن حمير ابن سبإ بن يعرب. وخرّبه عثمان بن عفّان، رضى الله عنه. وقيل في صفته إنه كان مربّعا، أحد أركانه مبنىّ بالرخام الأبيض، والثانى بالرّخام الأصفر، والثالث بالرخام الأخضر، والرابع بالرّخام الأحمر. وفيه سبعة سقوف طباقا، ما بين السّقف والآخر خمسون ذراعا. وعلى كل ركن تمثال أسد من نحاس، إذا هبّت الريح دخلت من دبره وخرجت من فيه، فيسمع لها صوت كزئير الأسد. وقال ابن الكلبىّ: كان على كل ركن من أركان غمدان مكتوب «اسلم غمدان، معاديك مقتول بسيف العدوان» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 ويقال: إن سليمان بن داود عليهما السلام أمر الشياطين أن يبنوا لبلقيس أربعة قصور: غمدان، وصرواح، وبينين، وسلحين. وكلّها باليمن. ويروى أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه، قال: لا يستقيم أمر العرب ما دام فيها غمدانها. وهذا القول هو الذى حضّ عثمان على هدمه. ويقال إن آثاره باقية إلى عصرنا هذا، وإنه تلّ عال مطلّ على صنعاء. وأما حصن تيماء فهو الأبلق الفرد. سمّى بالأبلق الفرد لأنه كان مبنيا بحجارة مختلفة الألوان وهو بأرض تيماء. بناه السموءل بن عاديا اليهودىّ. ويقال إنه من بناء سليمان بن داود عليه السلام. وبه تضرب العرب المثل في المنعة والحصانة. وفيه يقول الشاعر: طلب الأبلق العقوق فلمّا ... لم ينله فرام بيض الأنوق. وقصدت الزّبّاء هذا الحصن وحصن مارد فلم تقدر عليهما، فقالت: «تمرّد مارد وعزّ الأبلق» . ومارد حصن كان بدومة الجندل. مبنىّ بحجارة سود. ويقال إنه أيضا من بناء السموءل بن عاديا، اليهودىّ. وأما الخورنق والسّدير فكان الخورنق على ثلاثة أميال من الحيرة، والسّدير في برّية بالقرب منها. بناهما النعمان بن امرئ القيس، وهو النعمان الأكبر. ويقال في سبب بنائه لهما: ن يزدجرد بن سابور كان لا يعيش له ولد، فسأل عن مكان صحيح الهواء، فذكر له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 ظهر الحيرة. فدفع ابنه بهرام جور إلى النعمان وأمره ببناء الخورنق. فبناه على نهر سنداد في عشرين سنة. بناه له رجل يسمّى سنمار. فلما فرغ من بنائه، عجب النّعمان من حسن بنائه وإتقانه، فأمر أن يلقى سنمّار من أعلاه حتّى لا يبنى مثله لأحد. ويقال إنه إنما فعل ذلك به لأنه لما أعجبه، شكره على عمله ووصله، فقال: لو علمت أن الملك يحسن إلىّ هذا الإحسان، لبنيت له بناء يدور مع الشمس كيفما دارت؛ فقال له النعمان: وإنك لتقدر على أن تبنى أفضل منه، ولم تبنه؟ فأمر به؛ فطرح من أعلاه. وقيل: بل قال: أنا أعرف فيه حجرا متى أخذ من موضعه، تداعى البناء. فخاف النعمان إن هو لم ينصفه في أجرته فعل ذلك، فقتله. والعرب تضرب المثل بفعل النّعمان مع سنمّار في المكافأة على الفعل الحسن بالقبيح، فيقال: جازاه مجازاة سنمّار. وفيه يقول بعض الشعراء: جزانى جزاه الله شرّ جزائه ... جزاء سنمّار، وما كان ذا ذنب. سوى رفعه البنيان عشرين حجّة ... يعلّى عليه بالقراميد والسّكب. والخورنق تعريب خورنقاه [1] ، وهو الموضع الذى يؤكل فيه ويشرب. والسّدير تعريب سادل أى قبّة في ثلاث قباب متداخلة. وفي هذه الأبنية يقول الأسود ابن يعفر: ماذا أؤمّل بعد آل محرّق ... تركوا منازلهم، وبعد إياد؟ أهل الخورنق والسّدير وبارق ... والقصر ذى الشّرفات من سنداد.   [1] والأصح خانقاه. (من هامش الأصل) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 وقال عدىّ بن زيد العبادىّ: وتفكّر ربّ الخورنق إذ أش ... رف يوما، وللهدى تفكير. سرّه ملكه وكثرة ما يح ... ويه والبحر معرضا والسّدير. فارعوى قلبه، فقال: فما غب ... طة حىّ إلى الممات يصير؟ وأما الغريّان فهما أسطوانتان كانتا بظاهر الكوفة. بناهما النعمان بن المنذر بن ماء السماء، على جاريتين كانتا قينتين تغنّيان بين يديه. فمائتا، فأمر بدفنهما وبنى عليهما الغريّين. ويقال إن المنذر غزا الحارث بن أبى شمر الغسّانىّ، وكان بينهما وقعة على عين أباغ، وهى من أيام العرب المشهورة. فقتل للحارث ولدان، وقتل المنذر وانهزمت جيوشه. فأخذ الحارث ولديه وجعلهما عدلين على بعير، وجعل المنذر فوقهما، وقال: «ما العلاوة بدون العدلين» فذهبت مثلا. ثم رحل إلى الحيرة فانتهبها وحرّقها ودفن ابنيه بها، وبنى الغريّين عليهما. حكاه ابن الأثير فى تاريخه «الكامل» . وأمر المنصور بهدم أحدهما، لكنز توهّم أنه تحتهما. فلم يجد شيئا. وقيل في سبب بنائهما غير ذلك. والله أعلم. ذكر الأبنية القديمة التى بالديار المصرية وهى الأهرام، وحائط العجوز، وملعب أنصنا، ومدينة عين شمس، والبرابى، وحنيّة اللازورد، ومنارة الإسكندرية، ورواق الإسكندرانيّين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 فأما الأهرام التى بأرض مصر فهى كثيرة. وأعظمها الهرمان اللذان بالجيزة غربىّ مصر. وقد اختلف في بانيهما. فقال قوم: بانيهما سوريد بن سهلوق بن سرناق. بناهما قبل الطوفان لرؤيا رآها، فقصّها على الكهنة، فنظروا فيما تدل عليه الكواكب النيرة من أحداث تحدث فى العالم، فأقاموا مراكزها في وقت المسألة. فدلت على أنها نازلة من السماء تحيط بوجه الأرض. فأمر حينئذ ببناء البرابى والأهرام، وصوّر فيها صور الكواكب ودرجها وما لها من الأعمال وأسرار الطبائع والنواميس وعمل الصنعة. ويقال إن هرمس المثلث بالحكمة (وهو الذى يسميه العبرانيون أخنخ، وهو إدريس عليه السلام) استدلّ من أحوال الكواكب على كون الطوفان. فأمر ببناء الأهرام وإيداعها الأموال وصحائف العلوم وما يخاف عليه الذهاب والدّثور. وكل هرم منها مربع القاعدة، مخروط الشكل، ارتفاع عموده ثلاثمائة ذراع وسبعة عشر دراعا، يحيط به أربعة سطوح متساويات الأضلاع، كل ضلع منها أربعمائة ذراع وستون ذراعا، ويرتفع إلى أن يكون سطحه مقدار ستة أذرع فى مثلها. ويقال إنه كان عليه حجر شبه المكبّة فرمته الرياح العواصف. وهو مع هذا العظم من إحكام الصنعة وإتقان الهندسة وحسن التقدير بحيث إنه لم يتأثر إلى يومنا هذا بعصف الرياح وهطل الأمطار وزعزعة الزلازل؛ وطول الحجر منه خمسة أذرع في سمك ذراعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 ويقال إن بانيهما جعل لهما أبوابا على آزاج مبنية بالحجارة في الأرض، طول كل أزج منها عشرون ذراعا. وكل باب من حجر واحد يدور بلولب، إذا أطبق لم يعلم أحد أنه باب. فأزج الشرقىّ منها في ناحية الجنوب، وأزج الغربىّ في ناحية الغرب. يدخل من كل باب منها إلى سبعة بيوت، كل بيت منها على اسم كوكب من الكواكب السبعة؛ وكلها مقفلة بأقفال. وحذاء كل بيت منها صنم من ذهب مجوّف، إحدى يديه على فيه، وفي جبهته كتابة بالمسند إذا قرئت انفتح فوه فتوجد فيه مفاتيح ذلك القفل فيفتح بها. والقبط يزعمون أنها والهرم الصغير الملوّن قبور: فالهرم الشرقىّ فيه سوريد الملك، وفي الهرم الغربىّ أخوه هو حيت [1] . والصابئة تزعم أن أحدها قبر أغاثديمون، والآخر قبر هرمس، والملوّن قبر صاب ابن هرمس؛ وإليه تنسب الصابئة على قول من زعم ذلك منهم؛ وهم يحجّون إليها ويذبحون عندها الدّيكة والعجول السّود، ويبخرون بدخن؛ ويزعمون أنهم يعرفون عند اضطراب ما يذبحون حالة الذبح ما يريدن عمله من الأمور الطبيعية. وقصرت همم الملوك والخلفاء عن معرفة ما في هذين الهرمين، إلى أن ولى عبد الله المأمون الخلافة وورد مصر، أمر بفتح واحد منها. ففتح بعد عناء طويل، واتفق لسعادته أنه وقع النّقب على مكان يسلك منه إلى الغرض المطلوب، وهو زلّاقة ضيقة من الحجر الصوّان الماتع الذى لا يعمل فيه الحديد، بين حاجزين ملتصقين بالحائط قد نقر في الزّلّاقة حفر، يتمسك السالك بتلك الحفر، ويستعين بها   [1] كذا بالأصل وكذلك في خطط المقريزى. وفي ياقوت «هو جيب» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 على المشى في الزّلّاقة لئلا يزلق، وأسفل الزلاقة بئر عظيمة بعيدة القعر. ويقال إن أسفل البئر أبواب يدخل منها إلى مواضع كثيرة وبيوت ومخادع وعجائب. وانتهت بهم الزّلّاقة إلى موضع مربّع في وسطه حوض من حجر صلد مغطّى. فلما كشف عنه غطاؤه، لم يوجد فيه إلا رمّة بالية. فأمر المأمون بالكف عما سواه. وهذا الموضع يدخله الناس إلى وقتنا هذا. وسنذكر إن شاء الله تعالى خبر الأهرام عند ذكرنا لأخبار ملوك مصر الذين كانوا قبل الطوفان وبعده، وذلك في الباب الثانى من القسم الرابع من الفن الخامس، وهو في السفر الثانى عشر من هذه النسخة من كتابنا هذا فتأمله هناك. وقال بعض أهل النظر، وقد عاين الأهرام: «كلّ بناء يخاف عليه من الدّهر، إلا هذا البناء فإنى أخاف على الدّهر منه» . ونظم عمارة اليمنىّ هذا القول، فقال: خليلىّ، ما تحت السماء بنيّة ... تماثل في إتقانها هرمى مصر! بناء يخاف الدّهر منه، وكلّ ما ... على ظاهر الدنيا يخاف من الدّهر! تنزّه طرفى في بديع بنائها، ... ولم يتنزّه في المراد بها فكرى. وقال بعض الشعراء: حسرت عقول ذوى النّهى الأهرام، ... واستصغرت لعظيمها الأعلام. ملس منيّفة البناء شواهق، ... قصرت لعال دونهنّ سهام! لم أدر حين كبا التفكّر دونها ... واستبهمت لعجيبها الأوهام، أقبور أملاك الأعاجم هنّ، أم ... طلّسم رمل هنّ، أم أعلام؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 وقال أبو الطيّب المتنبى: أين الذى الهرمان من بنيانه؟ ... ما قومه؟ ما يومه؟ ما المصرع؟ تتخلّف الآثار عن أصحابها ... حينا، ويدركها الفناء فتتبع. وقال أميّة بن عبد العزيز الأندلسىّ: بعيشك هل أبصرت أحسن منظرا ... على طول ما عاينت من هرمى مصر؟ أنافا بأعنان السّماء وأشرفا ... على الجوّ إشراف السّماك أو النّسر . وقد وافيا نشزا من الأرض عاليا ... كأنّهما ثديان قاما على صدر. وقال آخر: انظر إلى الهرمين إذ برزا ... للعين في علو وفى صعد! وكأنما الأرض العريضة إذ ... ظمئت لفرط الحرّ والومد. حسرت عن الثّديين بارزة ... تدعو الإله لفرقة الولد. فأجابها: لبّيك! يوسعها ... ريّا ويشفيها من الكمد. وقال ابن الساعاتىّ: ومن العجائب، والعجائب جمّة ... دقّت عن الإكثار والإسهاب. هرمان قد هرم الزمان وأدبرت ... أيّامه، وتزيد حسن شباب. لله! أىّ بنيّة أزليّة ... تبغى السّماء بأطول الأسباب؟ ولربّما وقفت وقوف تبلّد ... أسفا على الأيّام والأحقاب. كتمت عن الأسماع فصل خطابها ... وغدت تشير به إلى الألباب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 وقال سيف الدين بن جبارة: لله! أىّ غريبة وعجيبة ... فى صنعة الأهرام للألباب؟ أخفت عن الأسماع قصّة أهلها، ... ونضت عن الإبداع كلّ نقاب. فكأنّما هى كالخيام مقامة ... من غير ما عمد ولا أطناب. ومن رسالة لضياء الدين بن الأثير الجزرىّ في ذكر مصر ووصف الأهرام، جاء منها: بلد أشهد بفضله على البلاد، ووجدته هو المصر وما عداه فهو السّواد. فما رآه راء إلا ملأ عينه وصدره، ولا وصفه واصف إلا علم أنه لم يقدره قدره. وبه عجائب من الآثار، لا يضبطها العيان ولا الإخبار. فمن ذلك الهرمان، اللذان هرم الدهر وهما لا يهرمان؛ قد اختص كل منهما بعظم البناء، وسعة الفناء؛ وبلغ من الارتفاع غاية لا يبلغها الطير على بعد تحليقه، ولا يدركها الطّرف على مدّة تحديقه؛ فإذا أضرم برأسه قبس ظنه المتأمل نجما، وإذا استدارت عليه قوس السماء كان لها سهما» . وبالقرب من الأهرام صنم على صورة إنسان، تسميه العامّة «أبو الهول» لعظمه. والقبط يزعمون أنه طلّسم للرمل الذى هناك، لئلا يغلب على أرض الحيزة. وأما حائط العجوز والعجوز هى دلوكا ملكة مصر. وهذا الحائط من العريش (وهو حدّ مصر من جهة الشام) إلى أسوان (وهى حدّ مصر من جهة النوبة) ، شاملا للديار المصرية من الجانب الشرقىّ. وزعمت القبط أنّ سبب بنائها أن الله عز وجل لما أغرق فرعون وقومه، خافت دلوكا على مصر أن يطمع الملوك فيها. فبنته، وزوّجت النساء بالعبيد حتّى يكثر النّسل والذرّية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 وقيل في سبب بنائه: إن دلوكا ولدت ولدا فأخذت لمولده رصدا، فرأت أن التمساح يقتله، فبنت هذا الحائط وقاية له من التّمساح. فلما شبّ الغلام رأى فى مولده ذلك، فأحب أن يراه. فصوّر له من خشب. فلما رآه، هاله منظره واستولى على نفسه الوهم والفزع، فمات [1] . وأما ملعب أنصنا فإنه كان مقياسا للنيل. ويقال: إنه من بناء دلوكا. وكان بناؤه كالطّيلسان، وعليه أعمدة بعدد أيام السنة من الصوّان الأحمر الماتع، بين العمود والعمود خطوة. وكان النيل يدخل إليه من فوهة فيه عند زيادة النيل. فاذا بلغ الحدّ الذى يحصل به الرّىّ، جلس الملك فى مشترف له، ويصيعد قوم إلى رءوس الأعمدة فيتعادون عليها ما بين ذاهب وآت. فمن زلّت به قدمه منهم، سقط إلى البركة. وأما مدينة عين شمس فهى من المبانى التى درست. وكانت مصر فرعون موسى، ومنها خرج بجنوده فى طلب موسى وبنى إسرائيل؛ وكانت عدّتهم ستمائة ألف، ليس فيهم ابن عشرين سنة ولا ابن ستين سنة. واستقلّ فرعون هذا العدد وقال كما أخبر الله تعالى عنه: (إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) . وكان بها هيكل الشمس فخرب.   [1] لم يرض ابن فضل الله بذكر هذه الخرافة في كتابه. وقد وصف لنا جزءا من هذا السور (انظر مسالك الأنصار المطبوع، ج 1 ص 239) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 والفرس تزعم أن هرسيك بناها. ويقال: إنه كان قد بقى منها عمودان من حجر صلد، فلكات طول كل عمود منهما أربعة وثمانون ذراعا، على رأس كل عمود صورة إنسان على دابة، وعلى رأسيهما شبه الصومعتين من نحاس. فإذا كان (اللّيل) ، قطر من رأس كل واحد منهما ماء. لا يتجاوز نصف العمود الذى هو مركب عليه. والموضع الذى يصل إليه الماء لا يزال أخضر رطبا. وقد وقع العمودان بعد الخمسين وستمائة. وأما البرابى وهى بيوت حكمة القبط. ويقال: إنه كان لكل كورة من كور مصر برباة، يجلس فيها كاهن على كرسىّ من ذهب. ومن أعجب البرابى وأعظمها (برباة إخميم) . وهى مبنية بحجر المرمر، طول كل حجر خمسة أذرع في سمك ذراعين. وهى سبعة دهاليز، سقوفها حجارة، طول كل حجر منها ثمانية عشر ذراعا في عرض خمسة أذرع، مدهونة بالّلازورد وسائر الاصباغ، يخالها الناظر إليها كأنما فرغ الدّهّان منها. يقال إن كل دهليز منها على اسم كوكب من الكواكب السبعة. وجدران هذه الدهاليز منقوشة بصور مختلفة الهيئات والمقادير، يقال إنها رموز على علوم القبط، وهى: الكيمياء، والسّيمياء، والطّلّسمات، والطب. أودعوها هذه الصور. ويقال إن ذا النون المصرىّ العابد فكّ منها علم الكيمياء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 وأما حنيّة اللازورد وهى بأرض منف. ومنف هذه هى التى تسمّى مصر القديمة. يقال إن عقد الحنيّة أحسن من عقد قنطرة صنجة التى تقدّم ذكرها. والحنيّة معقودة من حجارة مهندمة، طول كل حجر منها أكثر من خمسة عشر ذراعا. وفيها نقوش وكتابة وطلّسمات مموّهة باللّازورد. وهى من الشرق إلى الغرب، وفي صدرها فضاء فيه بناء مرتفع، عليه بلاطة من الصوّان الأسود، مكتوب فيها بالقلم البرباوى ثلاثون سطرا. يقال إنه قبر الذى بنى الحنيّة، وأنه ديساره: ملك كان بمصر، حكيم. وللقبط عيد يسمّى ديساره: وهو عيد هذا الملك، ويسمّى عيد العنب. وأما منارة الإسكندرية فهى مبنية بحجارة مهندمة مضبّبة بالرصاص، على قناطر من زجاج، والقناطر على ظهر سرطان من نحاس. وفيها نحو ثلاثمائة بيت بعضها فوق بعض، تصعد الدابة بحملها إلى سائر البيوت من داخلها. وللبيوت طاقات ينظر منها إلى البحر. وبين أهل التاريخ خلاف فيمن بناها. فزعم بعضهم أنها من بناء الإسكندر بن فيلبّس المقدونىّ. وزعم آخرون أنها من بناء دلوكا، ملكة مصر. ويقال إن على جانبها الشرقىّ كتابة، وإنها نقلت إلى اللسان العربىّ فوجدت «بنت هذه القنطرة فرتنا بنت مرتيوس اليونانية لرصد الكواكب» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 ويقال: إن طولها كان ألف ذراع. وكان في أعلاها تماثيل من نحاس. منها تمثال قد أشار بسبابته اليمنى نحو الشمس: أينما كانت من الفلك، يدور معها حيثما دارت. ومنها تمثال وجهه في البحر متى صار العدوّ منهم على نحو من ليلة، سمع له صوت هائل يعلم به أهل المدينة طروق العدوّ. ومنها تمثال كلما مضى من الليل ساعة، صوّت صوتا مطربا. ويقال: إنه كان بأعلاها مرآة ترى منها قسطنطينيّة، وبينهما عرض البحر. وكلما جهز الروم جيشا رؤى في المرآة. وحكى المسعودىّ في «مروج الذهب» أن هذه المنارة كانت في وسط الإسكندرية، وأنها تعدّ من بناء العالم العجيب، بناها بعض البطالسة من ملوك اليونان يقال له الإسكندر، لما كان بينهم وبين الروم من الحروب في البرّ والبحر. فجعلوا هذه المنارة مرقبا، وجعلوا في أعلاها مرآة من الأحجار المشفّة، تشاهد فيها مراكب البحر إذا أقبلت من رومية على مسافة تعجز الأبصار عن إدراكها. ولم تزل كذلك إلى أن ملكها المسلمون، فاحتال ملك الروم على الوليد بن عبد الملك بأن أنفذ أحد خواصّه ومعه جماعة إلى بعض ثغور الشام على أنه راغب فى الإسلام. فوصل إلى الوليد وأظهر الإسلام، وأخرج كنوزا ودفائن كانت في الشام حملت الوليد على تصديقه فيما يدّعيه. ثم قال له: إن تحت المنارة أموالا ودفائن وأسلحة، دفنها الإسكندر. فصدّقه وجهّزه مع جماعة من ثقاته إلى الإسكندرية، فهدم ثلث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 المنارة وأزال المرآة، ثم فطن الناس أنها مكيدة، فاستشعر ذلك فهرب فى مركب كانت معدّة له. ثم بنى ما هدم بالجص والآجرّ. ثم قال المسعودىّ: وطول المنارة فى هذا الوقت (يعنى الوقت الذى وضع فيه كتابه، وهو سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة مائتان وثلاثون ذراعا. وكان طولها قديما نحوا من أربعمائة ذراع. وهى فى عصرنا هذا ثلاثة أشكال: فمنها تقدير الثلث مربع مبنىّ بالحجارة، ثم بعد ذلك بناء مثمّن الشكل بالآجرّ والجص نحو ستين ذراعا، وأعلاها مدوّر الشكل. ويقال إن أحمد بن طولون بنى فى أعلاها قبة من الخشب فهدمتها الرياح. فبنى فى مكانها مسجدا فى الدولة الظاهرية الركنية بيبرس صاحب مصر رحمه الله تعالى. ثم هدم فى ذى الحجة سنة اثنتين وسبعمائة بسبب الزّلزلة الحادثة. ثم بنى فى شهور سنة ثلاث وسبعمائة فى دولة السلطان الملك الناصر ولد السلطان الملك المنصور، ثبت الله دولته، وكان المندوب لذلك الأمير ركن الدين بيبرس الدّوادار المنصورىّ، نائب السلطنة الشريفة فى الغيبة. وقد وصف الشعراء منارة الإسكندرية. فمن ذلك ما قاله الوجيه الدروىّ: وسامية الأرجاء تهدى أخا السّرى ... ضياء، إذا ما حندس الليل أظلما. لبست لها بردا من الأنس ضافيا ... فكان بتذكار الأحبّة معلما. وقد ظلّلتنى من ذراها بقبّة ... ألاحظ فيها من صحابى أنجما. فخيّلت أنّ البحر تحتى غمامة ... وأنّى قد خيّمت فى كبد السّما! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 وقال أبو الفتح الأغر بن قلاقس: ومنزل جاوز الجوزاء مرتقيا ... كأنّما فيه النّسرين أوكار. راسى القرارة سامى الفرع فى يده ... للنّور والنّون أخبار وأخيار [1] . أطلقت فيه عنان القول فاطّردت ... خيل لها فى بديع الشّعر مضمار. وأما رواق الإسكندرانيين فهو ملعب كان بالإسكندرية. كانوا حكماء يجتمعون فيه فلا يرى أحد منهم شيئا دون الآخر، ووجه كل واحد منهم- وإن اختلفت جهاتهم- تلقاء وجه الآخر. وإن عمل أحد منهم شيئا أو تكلم، سمعه الآخر. ونظر القريب والبعيد فيه سواء. وقد بقيت منه بقايا عمد تكسرت، غير عمود منها يسمّى عمود السّوارى فى غاية الطول والغلظ من الحجر الصوّان الأحمر. ذكر شىء من عجائب المبانى قال صاحب كتاب «مباهج الفكر ومناهج العبر» : ذكر بعض المصنفين لكتب العجائب، أن الفرس تزعم أن أوشهنج بنى بأرض بابل سبع مدائن، جعل فى كل مدينة منها أعجوبة ليست فى الأخرى.   [1] هكذا فى الأصل. وفى بدائع البدائه «أخبار وآثار» وفى مسالك الأبصار «إخيار وأخيار» وهذا الوجه الأخير أولى ويكون المعنى أن هذه المنارة تخير عن المراكب المضيئة القادمة الى الإسكندرية وأن فيها أخبارا عن السمك السايح فى البحر حولها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 فكان فى الأولى- التى يكون فيها الملك- مثال أنهار الدنيا كلّها. فإذا التوى عليه أحد من أهل مملكته بخراجهم، خرّج نهرا من تلك الأنهار الشبيهة بنهر تلك الناحية فغرقوا. فإذا أدّوا الخراج، سدّ عليهم من عنده فانسدّ عنهم. وفى الثانية حوض. فإذا أراد الملك أن يجمع الناس لشراب، أتى من أحبّ منهم بشراب له خاص فيصبه فى الحوض. يفعل ذلك كل إنسان منهم، فيختلط الجميع. ثم تقوم السّقاة فتأخذ الأوانى ويسقى كلّ واحد من شرابه الذى جاء به. وفى الثالثة طبل. فإذا غاب من البلد أحد وأراد أهله أن يعلموا خبره، أحىّ هو أو ميت، ضربوا الطبل: فإن كان حيا صوّت، وإن كان ميتا لم يصوّت. وفى الرابعة المرآة. فإذا غاب الرجل عن أهله وأرادوا أن يعلموا حاله، نظروا فى المرآة فرأوه فى الحالة التى هو عليها. وفى الخامسة إوزّة نحاس. فإذا دخل المدينة غريب، صفّرت. فيعلمون أن غريبا دخلها. وفى السادسة قاضيان جالسان على الماء. فيجىء المحقّ والمبطل ليجلسا معهما. فيجلس المحق، ويرسب المبطل. وفى السابعة شجرة. لا تظل إلا ساقها. فإذا جلس تحتها واحد أظلته إلى ألف. فإن زاد على الألف واحد، قعدوا كلهم فى الشمس. وكنت قد أنكرت هذه الحكاية وقصدت حذفها وإلغاءها والإضراب عنها. فرأيت ابن الجوزىّ وضعها فى كتابه الذى سماه «سلوة الأحزان» فأوردتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 وحكى أنه كان بمدينة قيساريّة- لما كانت فى أيدى الروم- كنيسة بها مرآة. إذا اتهم الرجل امرأته بزنا، نظر فى تلك المرآة، فيرى وجه المتّهم فيها. وأن بعض الناس اتّهم فرأوه فيها فقتله الملك، فجاء أهله إلى المرآة حميّة فكسروها. وحكى الواقدىّ فى فتوح السند: أن عبد الله العبدىّ عامل معاوية على السند غزا بلد القيقان، فأصاب منهم غنائم كثيرة، وأن ملك القيقان بعث إليه يطلب منه الفداء وحمل إليه هدايا كان فيها قطعة من مرآة، يذكر أهل العلم أن الله تعالى أنزلها على آدم عليه السلام، لما كثر ولده وانتشروا فى الأرض، فكان ينظر فيها فيرى من بعد منهم على الحالة التى هو عليها من خير أو شر، فحملها عبد الله إلى معاوية، فبقيت فى ذخائر بنى أمية إلى أن انتقل الملك عنهم إلى بنى العباس، فضاعت فيما فقد من الذخائر [1] . وقيل: إن بنهاوند حجرا يسمّى الكيلان، بالقرب منه صخرة، من أراد أن يتعرّف حال غائب أو آبق أو سارق، أتى إلى تلك الصخرة فنام تحتها، فيرى فى النوم حال ما تعرف به على ما هو عليه. وعجائب المبانى كثيرة، سنذكر إن شاء الله تعالى منها جملة فى أخبار ملوك مصر الذين كانوا قبل الطوفان وبعده، فتأمّله هناك تجده.   [1] بهامش الأصل ما نصه: «قد ذكر أبو جعفر الطبرى فى تاريخه أن هذه المرآة كانت عند أبى جعفر المنصور فالله أعلم أين صارت بعده» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 الباب الرابع من القسم الخامس من الفن الأوّل (فيما وصفت به المعاقل والحصون) وهذا الباب قد ترجمت عليه فى الفن الثانى الذى يلى هذا الفن فيما يحتاج إليه الملك. وإنما ضممته إلى هذا الفن لمناسبته له وشبهه به، واستثنيته من الفن الثانى واقتصرت فيه على مجرّد الترجمة. وبالله التوفيق. وقد أوسع الفضلاء والأدباء والكتاب والبلغاء القول فى هذا المعنى وتواردوا فيه، فاقتصرنا على ما نورده من ذلك، وهو قليل من كثير. فمن ذلك ما قاله بعض الأندلسيين يصف قلعة فتحت من غير حصار: « ... وهذه القلعة التى انتهينا إلى قرارها، واستولينا على أقطارها؛ أرحب المدن أمدا للعيون، وأخصبها بلدا إذا أمحلت السّنون؛ فروعها فوق الثّريّا شامخه، وعروقها تحت الثّرى راسخه؛ تباهى بأزهارها نجوم السماء، وتناجى بأسرارها أذن الجوزاء؛ وكانت فى الزمن الغابر، عتت على عظيم القياصر؛ فنازلها بأكثر من النجوم عددا، وطاولها بأوفى من البحر مددا؛ فأبت على طاعته كلّ الإباء، واستعصت على مقارعته أشدّ استعصاء، ومردت مرود مارد على الزّباء؛ فأمكننا الله من ذروتها، وأنزل ركّابها لنا عن صهوتها» . وقال القاضى الفاضل عبد الرحيم البيسانى رحمه الله، يصف آمد من رسالة جاء منها: « ... وآمد ذكرها بين العالم متعالم، وطالما صادم جانبها من تقادم، فرجع عنها مقدوعا أنفه وإن كان فحلا، وفرّ عنها فريدا بهمّه وإن استصحب خيلا ورجلا؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 ورأى حجرها فقدّر أنه لا يفكّ له حجر، وسوادها فظنّ أنه لا ينسخه فجر، وحميّة أنف أنفتها فاعتقد أنه لا يستجيب لزجر؛ من ملوك كلهم قد طوى صدره على الغليل إلى موردها، ووقف وقفة المحب السائل فلم يفز بما أمّل من سؤال معهدها» . وقال من أخرى يصفها: « ... وهى العقيلة التى صدر الصّدور الأول محلّا عن وردها، والطريدة التى حصل منها على راحة يأسه وتعب طردها؛ والمحجّبة التى كشفت ستورها، ودار لعصمتها كسوار معصمها سورها، وغلت على أنها السوداء على خطّابها لأن المهج مهورها؛ ولربما نآى بجانبها الإعراض، ونبا جوهرها عن الأعراض، وطاشت دون أوصافها بسهام الأغراض؛ ودرجت الملوك على حسرتها فلم تحسر لها لثاما، وما استطاعت لثغرها ثلما ولا له التثاما» . وقال من أخرى يصف قلعة نجم، وهى من عيون الرسائل، جاء منها: « ... هى نجم فى سحاب، وعقاب فى عقاب؛ وهامة لها الغمامة عمامه، وأنملة إذا خضبها الأصيل كان الهلال لها قلامه؛ عافدة حبوة صالحها الدهر أن لا يحلّها بقرعه، بادية عصمة صافحها الزمن على أن لا يروّعها بخلعه؛ فاكتنفت بها عقارب منجنيقات لم تطبع طبع حمص فى العقارب، وضربتها بحجارة أظهرت فيها العداوة المعلومة فى الأقارب؛ فلم يكن غير ثلاثة إلا وقد أثّرت فيها الحجارة جدريّا بضربها، ولم يصل إلى السابعة إلا والبحر مؤذن بنقبها؛ فاتسع الخرق على الراقع، وسقط سعده عن الطالع، إلى مولد من هو إليها طالع؛ وفتحت الأبراج فكانت أبوابا، وسيّرت الجبال فكانت سرابا» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 وقال من أخرى فى فتح بيت المقدس، جاء منها: « ... زاول المدينة من جانب، فاذا هو أودية عميقة: ولجج وعر غريقة؛ وسور قد انعطف عطف السّوار، وأبرجة قد نزلت مكان الواسطة من عقر الدار؛ وقدّم المنجنيقات التى تتولّى عقاب الحصون عصيّها وحبالها، وأوتر لهم قسيّها التى تضرب ولا تفارق سهامها ولا سهامها نصالها؛ فصافحت السّور فإذا سهامها فى ثنايا شرفاتها سواك، وقدّم النصر بشرى من المنجنيق تخلد إخلاده إلى الأرض وتعلو علوّه إلى السّماك؛ فشجّ مرابع أبراجها، وأسمع صوت عجيجها، ورفع مثار عجاجها؛ وأسفر النّقّاب عن الخراب النّقاب، وأعاد الحجر إلى خلقته الأولى من التّراب؛ ومضغ سرد حجارته بأنياب مغوله، وأظهر من صناعته الكثيفة ما يدلّ على لطافة أنمله، وأسمع الصخرة الشريفة أنينه إلى أن كادت ترقّ لمقتله» . وقال أيضا من أخرى: « ... فنصبنا عليها المنجنيقات تمطر سماؤها نبل الوبال، وتملأ ارضها بالنّكاية والنّكال، وتهدّ بساريات حجارتها راسيات الجبال؛ وتنزل نوازل الأسواء بالأسوار، وتوسع مجال الدّوائر فى الدّيار، وتخطف بخطّافاتها أعمار الأعمار؛ وتطير حمامها بكتب الحمام، وتديم إغراء سهامها فى أهلها بتوفير سهام الإرغام؛ وكشف النقّابون نقاب السّور المحجوج المحجوب، فتهدّم بنيانه، وتداعت أركانه، بتظاهر المنجنيقات عليها والنّقوب» . ووصف القاضى الفاضل المنجنيق من رسالة فقال: «فسلّمت كأنّها بنان، ونضنضت كأنها لسان، وأطّت كأنها مرنان، واهتزّت كأنها جانّ، وتقوّمت كأنها سنان، وانعطفت كأنها عنان، وأقدمت كأنها شجاع وأحجمت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 كأنها جبان. ورمت رءوسهم الموقّرة من أحجارها بأمثال الرءوس المحلّقه، فأعادتهم إلى الخلقة الأولى مخلّقة وغير مخلّقه» . ووصف النامى المنجنيق فقال: وحصن زياد غدوة السّبت نافثا ... سماما، أراك ابن الأراقم أرقما. نصبت له فى الأرض بيت حديقة ... تمدّ لها فى الجوّ كفّا ومعصما. لها أخوات للمنايا كوامن ... وإن لم يكن ما أضمرته مكنّما. عذارى، ولكن قد وجدن حواملا ... بعرس تراه للجنادل مأتما. ترى الصّخر فيه الصّخر وهو نسيبه ... عدوّا بيوم أرضه تمطر السّما. إذا أقعدت جدرا قياما، رأيتها ... تنبّه قيعانا من التّرب نوّما! ومما وصفت به المعاقل والحصون نظما. فمن ذلك قول كعب الأشقرى، يصف قلعة: محلّقة دون السّماء كأنّها ... غمامة صيف زال عنها سحابها. ولا يبلغ الأروى شماريخها العلى، ... ولا الطّير إلا نسرها وعقابها. ولا خوّفت بالذّئب ولدان أهلها، ... ولا نبحت إلا النّجوم كلابها. وقال أبو تمام، يصف عمّورية: وبرزة الوجه قد أعيت رياضتها ... كسرى وصدّت صدودا عن أبى كرب. بكر، فما افترعتها كفّ حادثة ... ولا ترقّت إليها همّة النّوب. من عهد إسكندر أو قبل ذاك، فقد ... شابت نواصى اللّيالى وهى لم تشب! وقال الخالديان: وخلقاء قد تاهت على من يرومها ... بمرقبها العالى وجانبها الصّعب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 يزرّ عليها الجوّ جيب غمامه ... ويلبسها عقدا بأنجمه الشّهب. إذا ما سرى برق، بدت من خلاله ... كما لاحت العذراء من خلل الحجب. سموت لها بالرأى: يشرق فى الدّجى ... ويقطع فى الجلّى، ويصدع فى الهضب. فأبرزتها مهتوكة الجيب بالقنا ... وغادرتها ملصوقة الخدّ بالتّرب! وقالا أيضا فى قلعة: وقلعة عانق العيّوق سافلها، ... وجار منطقة الجوزا أعاليها. لا تعرف القطر، إذ كان الغمام لها ... أرضا توطّأ قطريه مواشيها. إذا الغمامة لاحت، خاض ساكنها ... حياضها قبل أن تهمى عزاليها. يعدّ من أنجم الأفلاك مرقبها، ... لو أنّه كان يجرى فى مجاريها. على ذرى شامخ وعر: قد امتلأت ... كبرا به، وهو مملوء بها تيها. له عقاب: عقاب الجوّ حائمة ... من دونها، فهى تخفى فى خوافيها. وقال أبو بكر الخوارزمىّ: وبكر تحامتها البعول مخافة، ... فقد تركت من كثرة المهر أيّما. ممنّعة لم يغلط الدّهر باسمها، ... ولم يرها فى النّوم إلا توهّما. تزلّ عقاب الجوّ عن شرفاتها، ... وتبغى إليها الرّيح مرقى وسلّما! ويسمع فى الأفلاك صيحة ديكها، ... فتحسب ديك العرش صاح ترنّما. عجوز، ترى فى صحّة الجسم كاعبا؛ ... ولو أرّخت، كانت من الدّهر أقدما! توارى أساسا بالتّخوم مؤزّرا، ... وتبرز رأسا بالنّجوم معمّما. تنازعها الأرض السّماء وتدّعى ... لديها بها حقّا لها متهضّما. وتحسبها زهر الكواكب كوكبا ... هوى خلف شيطان رجيم، فخيّما! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 الباب الخامس من القسم الخامس من الفن الأوّل (فيما وصفت به القصور والمنازل) ولنبدأ بذكر ما بناه المتوكل من القصور وما أنفق عليها، ثم نذكر ما قيل فى وصفها، وما وصفت به المنازل الخالية، وما قيل فى حبّ الوطن. فأما قصور المتوكل، فهى: الكامل، والجعفرىّ، وبركوانا [1] ، والعروس، والبركة، والجوسق، والمختار، والغريب، والبديع، والصّبيح، والمليح، والقصر، والبرج، والمتوكّليّة، والقلّاية. حكى المؤرّخون أنه أنفق فى بنائها مائة ألف دينار وخمسون ألف دينار عينا، ومائتا ألف ألف وثمانية وخمسون ألف ألف وخمسمائة ألف درهم. قالوا: وكان «البرج» من أحسنها. كان فيه صور عظيمة من الذهب والفضة، وبركة عظيمة غشّى ظاهرها وباطنها بصفائح الفضة، وجعل عليها شجرة من الذهب فيها طيور تصوت وتصفّر سماها «طوبى» بلغت النفقة على هذا القصر ألف ألف دينار وسبعمائة ألف دينار. وقد وصفه الشعراء، فمن ذلك قول السرىّ: مجلس فى فناء دجلة، يرتا ... ح إليه الخليع والمستور. طائر فى الهواء، فالبرق يسرى ... دون أعلاه والحمام يطير. فإذا الغيم سار، أسبل منه ... حلل دون جدره وستور. وإذا غارت الكواكب صبحا، ... فهو الكوكب الذى لا يغور!   [1] كذا بالأصل. وفى معجم ياقوت «يزكوار» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 وقال أيضا: منزل كالرّبيع حلّت عليه ... حاليات السّحاب عقد النّطاق. يمتع العين في طرائف حسن ... تتحامى بها عن الإطراق. بين ساج كأنّه ذائب التّب ... ر على مثل ذائب الأوراق. وقال أيضا: والقصر يبسم عن وجه الضّحى، فترى ... وجه الضّحى- عند ما أبدى له- شحبا. يبيت أعلاه بالجوزاء منتطقا، ... ويغتدى برداء الغيم محتجبا! وقال أبو سعيد الرستمىّ، يصف دارا بناها الصاحب بن عبّاد: وسامية الأعلام تلحظ دونها ... سنا النّجم في آفاقها متضائلا. نسخت بها إيوان كسرى بن هرمز، ... فأصبح في أرض المداين عاطلا. فلو أبصرت ذات العماد عمادها، ... لأمست أعاليها حيا، أسافلا. ولو لحظت جنّات تدمر حسنها، ... درت كيف تبنى بعدهنّ المجادلا. متى ترها خلت السماء سرادقا ... عليها وأعلام النجوم تماثلا. وقال علىّ بن يوسف الإيادىّ، يذكر دارا بناها المعز العبيدىّ بمصر وسماها «العروسين» : بنى منظرا يسمى «العروسين» رفعة، ... كأنّ الثّريّا عرّست في قبابه. إذا الليل أخفاه بحلكة لونه، ... بدا ضوءه كالبدر تحت سحابه. تمكّن من سعد السّعود محلّه، ... فأضحى ومفتاح الغنى فتح بابه. ولو شاده عزم المعزّ ورأيه ... على قدره في ملكه ونصابه. لكان حصى الياقوت والتّبر مفرغا ... على المسك من أجّره وترابه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 وقال عبد الجبار بن حمديس الصقلىّ، يصف دارا بناها المعتمد بن عبّاد من أبيات: ويا حبّذا دار قضى الله أنّها ... يجدّد فيها كلّ عزّ ولا يبلى! وما هى إلا خطّة الملك الّتى ... يحطّ إليها كلّ ذى أمل رحلا. إذا فتحت أبوابها، خلت أنّها ... تقول بترحيب لداخلها: أهلا. وقد نقلت صنّاعها من صفاته ... إليها أفانينا، فأحسنت النّقلا. فمن صدره رحبا، ومن نوره سنا، ... ومن صيته فرعا، ومن حلمه أصلا! فأعلت به في رتبة الملك ناديا، ... وقلّ له فوق السّماكين أن يعلى. نسيت به إيوان كسرى، لأنّنى ... أراه له مولى من الحسن لا مثلا. ترى الشّمس فيه ليقة تستمدّها ... أكفّ، أقامت من تصاويرها شكلا. لها حركات أودعت في سكونها، ... فما تبعت من نقلهنّ يد رجلا. ولما عشينا من توقّد نورها، ... تخذنا سناه في نواظرنا كحلا. وقال أيضا من قصيدة يصف فيها دارا بناها المنصور ببجاية، جاء منها: واعمر بقصر الملك ناديك الّذى ... أضحى بمجدك بيته معمورا! قصر لو انّك قد كحلت بنوره ... أعمى، لعاد على المقام بصيرا. واشتقّ من معنى الحياة نسيمه، ... فيكاد يحدث للعظام نشورا. فلو أنّ بالإيوان قوبل حسنه، ... ما كان شيئا عنده مذكورا. نسى «الصّبيح» مع «المليح» بذكره، ... وسما ففاق «خورنقا» و «سديرا» . أعيت مطالعه على الفرس الألى ... رفعوا البناء وأحكموا التدبيرا. ومضت على القوم الدّهور وما بنوا ... لملوكهم شبها له ونظيرا. أذكرتنا الفردوس حين أريتنا ... غرفا رفعت بناءها، وقصورا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 فلك من الأفلاك، إلّا أنه ... حقر البدور فأطلع «المنصورا» . أبصرته فرأيت أبدع منظرا ... ثم انثنيت بناظرى محسورا. وظننت أنّى حالم في جنّة ... لمّا رأيت الملك فيه كبيرا. وإذا الولائد فتّحت أبوابها، ... جعلت ترحّب بالعفاة صريرا. عضّت على حلقاتهنّ ضراغم ... فغرت بها أفواهها تكشيرا. فكأنّها لبدت لتهصر عندها ... من لم يكن بدخوله مأمورا. تجرى الخواطر مطلقات أعنّة ... فيه، فتكبو عن مداه قصورا. بمرخّم الساحات تحسب أنّه ... فرش البها وتوشّح الكافورا. ومحصّب بالدّرّ تحسب تربه ... مسكا تضوّع نشره وعبيرا. يستخلف الإصباح منه إذا انقضى ... صبحا على غسق الظّلام منيرا. ضحكت محاسنه إليك كأنّما ... جعلت له زهر النّجوم ثغورا. ومصفّح الأبواب تبرا نظّروا ... بالنّقش بين شكوله تنظيرا. تبدو مسامير النّضار كما علت ... فلك النّهود من الحسان صدورا. خلعت عليه غلائلا ورسيّة ... شمس تردّ الطّرف عنه حسيرا. فإذا نظرت إلى غرائب حسنه، ... أبصرت روضا في السّماء نضيرا. وعجبت من خطّاف عسجده الّتى ... حامت لتبنى في ذراه وكورا. وضعت به صنّاعه أقلامها، ... فأرتك كلّ طريدة تصويرا. فكأنّما للشّمس فيه ليقة ... مشقوا بها التّزويق والتّشجيرا. وكأنّما فرشوا عليه ملاءة ... تركوا مكان وشاحها مقصورا. يا مالك الملك الذى أضحى له ... ملك السّماء على العداة نصيرا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 كم من قصور للملوك تقدّمت ... فاستوجبت بقصورك التأخيرا. فعمرتها وملكت كلّ رياسة ... منها، ودمّرت العدا تدميرا. وقال عمارة اليمنىّ، يصف دارا بناها فارس الإسلام من أبيات: فتملّ دارا شيّدتها همّة، ... يغدو العسير بأمرها متيسّرا. فاقت على الإطلاق كلّ بنيّة، ... وسمت بسعدك عزّة وتكبّرا. أنشأت فيها للعيون بدائعا ... دقّت، فأذهل حسنها من أبصرا. فمن الرّخام: مسيّرا، ومسهّما، ... ومنمنمّا، ومدرهما، ومدنّرا. وسقيت من ذوب النّضار سقوفها ... حتّى يكاد نضارها أن يقطر. لم يبق نوع صامت أو ناطق ... إلا غدا فيها الجميع مصوّر. فيها حدائق لم تجدها ديمة، ... كلّا ولا نبتت على وجه الثّرى. لم يبد فيها الروض إلا مزهرا، ... والنخل والرّمان إلا مثمرا. والطّير مذ وقعت على أغصانها ... وثمارها، لم تستطع أن تنفرا. وبها من الحيوان كلّ مشبّه [1] ... لبس الحرير العبقرىّ مصوّرا. لا تعدم الأبصار بين مروجها ... ليثا ولا ظبيا بوجرة أعفرا. أنست نوافر وحشها لسباعها: ... فظباؤها لا تتّقى أسد الشّرى. وكأنّ صولتك المخيفة أمّنت ... أسرابها أن لا تخاف فتذعرا. وبها زرافات كأنّ رقابها ... فى الطّول ألوية تؤمّ العسكرا. نوبيّة المنشا تريك من المها ... روقا، ومن بزل المهارى مشفرا. جبلت على الإقعاء من أعجازها، ... فتخالها في التّيه تمشى القهقرى!   [1] فى الأصول «مسبهن» . ولعلها تصحيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 وقال أبو الصلت أميّة بن عبد العزيز، يصف قصرا بناه علىّ بن تميم بن المعزّ بمصر: لله، مجلسك المنيف! فبابه ... بموطّد فوق السّماك مؤسّس. موف على حبك المجرّة تلتقى ... فيه الجوارى بالجوار الكنّس. تتقابل الأنوار في جنباته ... فاللّيل فيه كالنّهار المشمس. عطفت حناياه دوين سمائه ... عطف الأهلّة والحواجب والقسى. واستشرفت عمد الرّخام وظوهرت ... بأجلّ من زهر الرّبيع وأنفس. فهواؤه من كلّ قدّ أهيف، ... وقراره من كلّ خدّ أملس. فلك تحيّر فيه كلّ منجّم، ... وأقرّ بالتقصير كلّ مهندس. فبدا للحظ العين أحسن منظرا، ... وغدا لطيب العيش خير معرّس. فاطلع به قمرا، إذا ما أطلعت ... شمس الخدور عليك شمس الأكؤس. فالناس أجمع دون قدرك رتبة، ... والأرض أجمع دون هذا المجلس! وقال الوزير أبو سليمان بن أبى أميّة: يا دار، آمنك الزّما ... ن خطوبة ونوائبه. وجرت سعودك بالّذى ... يهوى نزيلك دائبه. فلنعم مأوى الضّيف أن ... ت، إذا تحاموا جانبه. خطر شأوت به الدّيا ... ر، فأذعنت لك قاطبه. وقال أبو صخر القرطبىّ: ديار عليها من بشاشة أهلها ... بقايا، تسرّ النّفس أنسا ومنظرا. ربوع كساها المزن من خلع الحيا ... برودا، وحلّاها من النّور جوهرا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 وقال الشريف الرضىّ: ما زلت أطّرق المنازل باللّوى ... حتّى نزلت منازل النّعمان. بالحيرة البيضاء حيث تقابلت ... شمّ العماد، عريضة الأعطان. شهدت بفضل الرّافعين قبابها. ... ويبين بالبنيان فضل البانى! ما ينفع الماضين أن بقيت لهم ... خطط معمّرة بعمر فانى! وأما ما وصفت به المنازل الخالية فمن ذلك ما قاله البحترىّ يشير إلى «الكرمان» الذى بناه كسرى أنوشروان من أبيات: فكأنّ الكرمان من عدم الأن ... س وإخلائه بنيّة رمس. لو تراه، علمت أنّ اللّيالى ... خلعت فيه مأتما بعد عرس. وهو ينبيك عن عجائب قوم، ... لا يشاب البيان فيها بلبس. وإذا ما رأيت صورة أنط ... اكية، ارتعت بين روم وفرس. والمنايا مواثل وأنوشر ... وان يزجى الصّفوف تحت الدّرفس! وقال أيضا من قصيدة يرثى فيها المتوكل، ويذكر قصره «الجعفرىّ» : محلّ على القاطول [1] أخلق داره، ... وعادت صروف الدّهر جيشا تعاوره. كأنّ الصّبا توفى نذورا، إذا انبرت ... تجرّ به أذيالها وتباكره. وربّ زمان ناعم تمّ عهده، ... ترقّ حواشيه ويونق ناظره. تغيّر حسن «الجعفرىّ» وأنسه، ... وقوّض بادى «الجعفرىّ» وحاضره. تحمّل عنه ساكنوه فجاءة، ... فعادت سواء دوره ومقابره. إذا نحن زرناه، أجدّ لنا الأسى؛ ... وقد كان قبل اليوم يبهج زائره.   [1] نهر مشهور معروف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 ولم أنس وحش القصر إذريع سربه، ... وإذ ذعرت أطلاؤه وجاذره. وإذ صيح فيه بالرّحيل فهتّكت ... على عجل أستاره وسرائره. وأوحشه حتّى كأن لم يكن به ... أنيس، ولم تحسن لعين مناظره. كأن لم تبت فيه الخلافة طلقة ... بشاشتها، والملك يشرق زاهره. ولم تجمع الدّنيا إليه بهاءها ... وبهجتها، والعيش غضّ مكاسره. فأين الحجاب الصّعب حيث تمنّعت ... بهيبتها أبوابه وستائره؟ وأين عمود الملك في كلّ نوبة ... تنوب، وناهى الدّهر فيه وآمره؟ وقال عمر بن أبى ربيعة: يا دار، أمسى دارسا رسمها ... وحشا قفارا ما بها آهل. قد جرّت الرّيح بها ذيلها، ... واستنّ في أطلالها الوابل. وقال شاعر أندلسىّ: قلت يوما لدار قوم تفانوا: ... أين سكّانك الكرام لدينا؟ فأجابت: هنا أقاموا قليلا ... ثم ساروا، ولست أعلم أينا! وقال عبد الله بن الخياط الأندلسىّ: يا دار علوة، قد هيّجت لى شجنا ... وزدتنى حزنا! حيّيت من دار! كم بتّ فيك على اللّذّات معتكفا، ... والليل مدّرع ثوبا من القار! كانّه راهب في المسح ملتحف، ... شدّ المجرّ له وسطا بزنّار! وقال أبو حامد أحمد الأنطاكىّ: إنّ ربعا عرفته مألوفا ... كان للبيض مربعا ومصيفا. غيّرت آية صروف اللّيالى، ... وغدا عنه حسنه مصروفا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 ما مررنا عليه، إلّا وقفنا ... وأطلنا شوقا إليه الوقوفا. آلفا للبكاء فيه، كأنّى ... لم أكن فيه للغوانى أليفا. حاسدا للجفون لمّا أذالت ... فى مغانيه دمعها المذروفا! وقال الشريف الرضىّ من أبيات: ولقد رأيت بدير هند منزلا ... ألما من الضّرّاء والحدثان! بالى المعالم، أطرقت شرفاته ... إطراق منجذب القرينة عانى. أمقاصر الغزلان، غيّرك البلى ... حتّى غدوت مراتع الغزلان! وملاعب الأنس الجميع طوى الرّدى ... منهم، فصرت ملاعب الجنّان! وقال أبو الحسن علىّ القابوسىّ نثرا: «قد كان منزله مألف الأضياف، ومأنس الأشراف؛ ومنتجع الرّكب، ومقصد الوفد؛ فاستبدل بالأنس وحشه، وبالنّضارة غبره، وبالضّياء ظلمه؛ واعتاض من تزاحم المواكب، بالأدم النّوادب؛ ومن ضجيج النّداء والصّهيل، عجيج البكاء والعويل» . ومن رسالة لضياء الدين بن الأثير الجزرىّ، جاء منها: « ... دار لعبت بها أيدى الزمن، وفرّقت بين الساكن والسّكن. كانت مقاصير جنّة، فأضحت وهى ملاعب جنّه. ولقد عميت أخبار قطّانها، وعفّت آثارها آثار وطّانها، حتى شابهت إحداهما في الجفا، الأخرى في العفا. وكنت أظن أنها لا تسقى بعدهم بغمام، ولا يرفع عنها جلباب ظلام؛ غير أن السحاب بكاهم وأجرى بها سوافح دموعه، والليل شقّ عليهم جيوبه فظهر الصّباح من خلال صدوعه» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 ومما قيل في حب الأوطان قال ابن الرومىّ (وهو أوّل من بيّن السبب في حب الوطن) : ولى منزل، آليت أن لا أبيعه ... وأن لا أرى غيرى له الدّهر مالكا! عهدت به شرخ الشّباب ونعمة ... كنعمة قوم أصبحوا في ظلالكا. فقد ألفته النفس حتّى كأنّه ... لها جسد، إن غاب غودرت هالكا. وحبّب أوطان الرّجال إليهم ... مآرب قضّاها الشّباب هنالكا. إذا ذكروا أوطانهم، ذكّرتهم ... عهود الصّبا فيها فحنّوا لذلكا! ذكر شىء مما قيل في الحمّام قال إبراهيم بن خفاجة الأندلسىّ: أهلا ببيت النار من منزل ... شيد لأبرار وفجّار! يدخله ملتمس لذّة ... فيدخل الجنة في النار! وقال أبو عامر بن شهيد الأندلسىّ: نعم، أبا عامر بلذّته ... واعجب لأمرين فيه قد جمعا! ببرانه من زنادكم قدحت، ... وماؤه من بنانكم نبعا! وقال علىّ بن عطية البلنسىّ: ربّ حمّام تلظّى ... كتلظّى كلّ وامق. ثم أذرت عبرات ... صوبها بالوجد ناطق. فغدا منّى ومنه ... عاشق في جوف عاشق! وقال أبو طالب المأمونىّ، شاعر اليتيمة: وبيت كأحشاء المحبّ دخلته ... ومالى ثياب فيه غير إهابى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 أرى محرما فيه وليس بكعبة، ... فما ساغ إلا فيه خلع ثيابى. بماء كدمع الصّبّ في حرّ قلبه ... إذا آذنت أحشاؤه بذهاب. توهّمت فيه قطعة من جهنّم ... ولكنّها من غير مسّ عقاب. يثير ضبابا بالبخار مجدّلا ... بدور زجاج في سماء قباب! وقال آخر: إنّ حمّامك هذا ... غير مذموم الجوار. ما رأينا قبل هذا ... جنّة في وسط نار! وأنشدنى جمال الدّين محمد بن الحكم لنفسه: قالوا: نراك دخلت حمّاما، وما ... حلف الهوى يلتذ بالأهواء. فأجبتهم: لم تكف أدمع مقلتى ... حتّى بكيت بجملة الأعضاء. تم السفر الأوّل (نسخة ما هو مكتوب في آخر الأصل بخط المؤلف) نجز السّفر الأوّل من «كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب» على يد مؤلفه فقير رحمة ربه أحمد بن عبد الوهاب بن محمد بن عبد الدائم البكرى التيمى القرشى، عرف بالنويرى عفا الله عنه؛ ووافق الفراغ من كتابته في يوم السبت المبارك لعشر بقين من ذى القعدة عام إحدى وعشرين وسبعمائة أحسن الله تقضيه، وذلك بالقاهرة المعزية عمرها الله تعالى يتلوه إن شاء الله تعالى في أوّل السّفر الثانى «الفنّ الثانى في الإنسان وما يتعلق به» والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد نبيه، وآله وصحته وسلم آمين، وحسبنا الله ونعم الوكيل! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 فهرس الجزء الأوّل من كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب للنويرى .... صحيفة مقدّمة الكتاب 1 الفن الأوّل فى السماء والآثار العلوية، والأرض، والمعالم السفلية 27 القسم الأوّل فى السماء وما فيها، وفيه خمسة أبواب الباب الأوّل: مبدأ خلق السماء 28 ذكر ما قيل في أسماء السماء وخلقها 29 ذكر ما حكى في سبب حدوثها 29 الباب الثانى: فى هيئة السماء 30 فى الأمثال التى ورد فيها ذكر السماء 32 فى وصف السماء وتشبيهها 33 ما قيل في الفلك 34 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 ... صحيفة الباب الثالث: فى ذكر الملائكة 36 الباب الرابع: فى الكواكب السبعة المتحيرة 38 ذكر ما قيل في الشمس 40 ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر الشمس 42 ذكر ما جاء في وصف الشمس وتشبيهها 44 ذكر شىء مما وصفت به على طريق الذم 46 ذكر ما قيل في الكسوف 48 ذكر أسماء الشمس اللغوية 48 ذكر عبّاد الشمس 49 ذكر ما قيل في القمر 49 ذكر ما قيل في القمر (من استهلاله الى انقضاء الشهر وأسماء لياليه) 50 ذكر أسماء القمر اللغوية 51 ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر القمر 52 ذكر ما قيل في وصف القمر وتشبيهه 53 ذكر شىء مما قيل فيه على طريق الذم 56 ذكر عبّاد القمر 57 ذكر ما قيل في الكواكب المتحيرة 58 ذكر عبّاد الروحانيات 58 ذكر بيوت الهياكل وأماكنها ونسبتها الى الكواكب 61 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 ... صحيفة الباب الخامس: فى الكواكب الثابتة 63 ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر الكواكب 64 ذكر ما قيل في وصف الكواكب وتشبيهها 65 القسم الثانى فى الآثار العلوية، وفيه أربعة أبواب الباب الأوّل: فى السحاب، وسبب حدوثه، وفي الثلج والبرد 71 ذكر ما قيل في ترتيب السحاب، وأسمائه اللغوية وأصنافه 72 ذكر ما قيل فى ترتيب المطر 74 ذكر ما قيل فى فعل السحاب والمطر 74 ذكر أسماء أمطار الأزمنة 75 ذكر أسماء المطر اللغوية 75 ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر المطر 77 ذكر شىء مما قيل في وصف السحاب والمطر 78 ذكر ما ورد في وصفها نثرا 82 ذكر شىء مما وصف به الثلج والبرد 86 الباب الثانى: فى النيازك، والصواعق، والرعد، والبرق، وقوس قزح 87 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 ... صحيفة الباب الثالث: في أسطقسّ الهواء 95 ذكر ما قيل في حد الهواء 95 ذكر أسماء الرياح اللغوية 98 فصل فيما يذكر منها بلفظ الجمع 99 ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر الهواء 99 ذكر ما جاء في وصف الهواء وتشبيهه 100 الباب الرابع: فى أسطقسّ النار، وأسمائها، وعبّادها، وبيوت النيران 103 ذكر أسماء النار 104 ذكر عبّاد النار 105 بيوت النيران ومن رسمها من ملوك الفرس 107 ذكر نيران العرب 109 ذكر النيران المجازية 114 ذكر النيران التى يضرب بها المثل 115 ذكر ما جاء منها على لفظ أفعل 116 ذكر ما قيل في وصف النار وتشبيهها 117 ذكر شىء مما قيل في الشمعة والشمعدان، والسراج، والقنديل 120 ما ورد في وصفها نثرا 123 ما قيل في السراج 124 رسالة القنديل والشمعدان 124 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 ... صحيفة القسم الثالث من الفن الأوّل فى الليالى والأيام، والشهور والأعوام، والفصول والمواسم والأعياد، وفيه أربعة أبواب الباب الأوّل: فى الليالى والأيام 130 ذكر ما قيل في الليل وأقسامه 131 فصل وقد عبر بالليالى عن الأيام 132 ذكر الليالى المشهورة 132 ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر الليل 133 ذكر ما قيل في وصف الليل وتشبيهه 134 ذكر ما وصف به الليل من الطول 135 ذكر ما وصف به الليل من القصر 140 ذكر ما وصف به الليل من الإشراق 142 ذكر ما وصف به الليل من الظلمة 142 ذكر شىء مما قيل في تباشير الصباح 143 ذكر ما قيل في النهار 147 ذكر الايام التى خصت بالذكر 148 ذكر أيام أصحاب الملل الثلاث 150 ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر النهار 150 ذكر شىء مما قيل في وصف النهار وتشبيهه 151 ذكر شىء مما وصفت به الآلات الموضوعة لمعرفة الأوقات 153 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 ... صحيفة الباب الثانى: فى الشهور والأعوام 156 ذكر الشهور وما قيل فيها 156 ذكر الأشهر العربية وما يختص بها من القول 157 شهور اليهود 159 الشهور العجمية 159 ذكر ما يختص بالسنة من القول 164 ذكر النسىء ومذهب العرب فيه 165 ذكر السنين التى يضرب بها المثل 167 الباب الثالث: فى الفصول وأزمنّها 169 ذكر ما قيل في وصف فصل الصيف وتشبيهه نظما ونثرا 171 الباب الرابع: فى ذكر مواسم الأمم وأعيادها، وأسباب اتخاذهم لها، وما قيل في ذلك 184 ذكر الأعياد الإسلامية 184 ذكر أعياد الفرس 185 ذكر أعياد النصارى القبط 191 ذكر أعياد اليهود 195 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 ... صحيفة القسم الرابع من الفن الأوّل فى الأرض، والجبال، والبحار، والجزائر، والأنهار، والعيون، والغدران، وفيه سبعة أبواب الباب الأوّل: فى مبدأ خلق الأرض 198 الباب الثانى: فى تفصيل أسماء الأرضين وصفاتها، فى الاتساع، والاستواء، والبعد، والغلظ، والصلابة، والسهولة، والحزونة، والارتفاع، والانخفاض، وغير ذلك 199 ذكر تفصيل أسماء التراب وصفاته 202 ذكر تفصيل أسماء الغبار وأوصافه 203 ذكر تفصيل أسماء الطين وأوصافه 203 ذكر تفصيل أسماء الرّمال 204 ذكر ترتيب كمية الرمل 205 ذكر تفصيل أسماء الطرق وأوصافها 206 الباب الثالث: فى طول الأرض ومسافتها 207 الباب الرابع: فى الأقاليم السبعة 209 ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر الأرض 213 شىء مما قيل في وصف الأرض وتشبيهها 214 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 ... صحيفة الباب الخامس: فى الجبال 218 ذكر أسماء ما ارتفع من الأرض الى أن يبلغ الجبيل 220 ذكر ترتيب أبعاض الجبل 221 ذكر ترتيب مقادير الحجارة 223 ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر الجبال والحجارة 226 ذكر شىء مما قيل في وصف الجبال وتشبيهها 227 الباب السادس: فى ذكر البحار والجزائر 228 ذكر بحار المعمور من الأرض 229 ذكر ما يتفرع من البحر المحيط 231 ذكر الخلجان التى تخرج من البحر الرومى 235 بحر الهند وجزائره 237 ذكر خلجان البحر الهندى 243 بحر ما نيطش 246 بحر الخزر وجزائره 247 ذكر ما في المعمور من المبحيرات المالحة المشهورة وما بها من العجائب 250 ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر البحر 254 ذكر شىء مما قيل في وصف البحر وتشبيهه 255 ذكر ىء مما وصف به البحر والسفن 256 ذكر ما وصفت به البحار والسفن نثرا 258 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 ... صحيفة الباب السابع: فى العيون والأنهار والغدران وما وصفت به البرك، والدواليب، والنواعير، والجداول 261 نهر النيل 262 نهر الفرات 266 نهر دجلة 268 نهر سجستان 269 نهر مهران 270 نهر جيحون 270 نهر سيحون 271 نهر الكنك 272 نهر الكر 273 نهر إتل 273 ذكر ما في المعمور من الأنهار والعيون التى يتعجب منها 274 ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر الماء 277 ذكر شىء مما قيل في وصف الماء وتشبيهه 281 ذكر شىء مما وصفت به الأنهار 282 ذكر شىء مما وصفت به البرك 285 ذكر شىء مما وصفت به الدواليب والنواعير 288 ذكر شىء مما وصفت به الدواليب والنواعير نثرا 289 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 ... صحيفة ذكر شىء مما وصفت به الجداول 290 ذكر عبّاد الماء 291 القسم الخامس من الفن الأوّل فى طبائع البلاد، وأخلاق سكانها، وخصائصها، والمبانى القديمة، والمعاقل، وما وصفت به القصور والمنازل، وفيه خمسة أبواب الباب الأوّل: فى طبائع البلاد، وأخلاق سكانها 292 الباب الثانى: فى خصائص البلاد 297 مكة المشرفة 297 ذكر ما كانت الكعبة عليه فوق الماء قبل أن يخلق الله السماوات والأرض 298 ذكر بناء الملائكة الكعبة قبل خلق آدم عليه السلام ومبدأ الطواف 299 ذكر زيارة الملائكة البيت الحرام 300 ذكر هبوط آدم عليه السلام الى الأرض، وبنيانه الكعبة المشرفة وحجه وطوافه بالبيت 301 ذكر فضل البيت الحرام، والحرم 304 ذكر ما جاء في طواف سفينة نوح عليه السلام بالبيت 307 ذكر ما جاء من تخير إبراهيم عليه السلام موضع البيت 307 ذكر حج إبراهيم عليه السلام وإذنه بالحج وحج الأنبياء بعده وطوافهم 308 ذكر ما جاء من مسألة إبراهيم عليه السلام الأمن والرزق لأهل مكة والكتب التى وجد فيها تعظيم الحرم 311 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 ... صحيفة ذكر أسماء الكعبة ومكة 313 ذكر ما جاء في فضل الركن الأسود 314 ذكر ما جاء في فضل استلام الركن الأسود، واليمانى 316 ذكر ما جاء في فضل الطواف بالكعبة 317 ذكر ما جاء في فضل زمزم 317 ذكر ما جاء من اتساع منّى أيام الحج، ولم سميت منّى 319 ذكر ما جاء فى فضائل مقبرة مكة 319 ذكر شىء من خصائص مكة 319 المدينة المشرّفة (على ساكنها أفضل الصلاة والسلام) 320 ذكر شىء من خصائص المدينة المشرفة وأسمائها 323 البيت المقدّس، والمسجد الأقصى 325 البدء بذكر الأرض المقدسة 325 فضل بيت المقدس 328 فضل زيارة بيت المقدس، وفضل الصلاة فيه 330 ما ورد في بيت المقدس من مضاعفة الحسنات والسيئات فيه 332 فضل السكنى فيه والإقامة والوفاة به 332 ما ببيت المقدس من قبور الأنبياء، ومحراب داود وعين سلوان 333 ما ورد في أن الحشر من بيت المقدس 334 ما ورد فى فضل الصخرة والصلاة الى جانبها 335 ما ورد فى أن الله عز وجل عرج من بيت المقدس الى السماء 336 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 ... صحيفة ثواب الإهلال من بيت المقدس 339 ما ورد من أن الكعبة تزور الصخرة يوم القيامة 339 اليمن وما يختص به 340 الشام وما يختص به 340 مسجد دمشق وما قيل فيه 340 مصر وما يختص بها من الفضائل 344 ذكر من ولد بمصر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومن كان بها منهم 349 ذكر من كان بها من الصدّيقين والصدّيقات، رضى الله عنهم 349 ذكر من صاهر أهل مصر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام 350 ذكر من أظهرته مصر من الحكماء 350 ومن فضائل مصر 354 ما وصفت به مصر 357 جزيرة الأندلس 358 البصرة وما اختصت به 359 بغداد وما اختصت به 360 الأهواز وما اختصت به 361 فارس وما اختصت به 361 أصفهان وما اختصت به 362 جرجان وما اختصت به 362 نيسابور وما اختصت به 363 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 ... صحيفة طوس وما اختصت به 364 بلخ وما اختصت به 364 بست وما اختصت به 365 غزنة وما اختصت به 365 سجستان وما اختصت به 366 الهند وما اختصت به 366 الصين وما اختصت به 366 سمرقند وما اختصت به 367 بلاد الترك وما اختصت به 367 خوارزم وما اختصت به 368 ذكر الخصائص التى تجرى مجرى الطّلّسمات 368 ذكر خصائص البلاد في أشياء مختلفة (وهى العلم، والعمل، والجواهر، والملابس، والأوبار، والفرش، والمراكب، والحيوانات ذوات السموم، والحلوى، والثمار، والرياحين، والخلق، والأخلاق، والأمراض والآثار العلوية) 369 الباب الثالث: فى المبانى القديمة 372 ذكر أوّل بناء وضع على وجه الأرض 372 ذكر خبر إرم ذات العماد 373 ذكر خبر سدّ يأجوج ومأجوج 374 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 ... صحيفة ذكر مبانى الفرس المشهورة 379 من مبانى الفرس إيوان كسرى 380 من المبانى القديمة الحضر 381 من المبانى القديمة القليس 382 من المبانى المشهورة قنطرة صنجة 383 من المبانى القديمة ملعبا بعلبك 383 ذكر مبانى العرب المشهورة 384 غمدان 384 حصن تيماء 385 الخورنق والسدير 385 الغريان 387 ذكر الأبنية القديمة التى بالديار المصرية 387 الأهرام 388 حائط العجوز 392 ملعب أنصنا 393 مدينة عين شمس 393 البرابى 394 حنية اللازورد 395 منارة الاسكندرية 395 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 ... صحيفة رواق الإسكندرانيين 398 ذكر شىء من عجائب المبانى 398 الباب الرابع: فيما وصفت به المعاقل والحصون 401 الباب الخامس: فيما وصفت به القصور والمنازل 406 ما وصفت به المنازل الخالية 412 ذكر شىء مما قيل في حب الأوطان 415 ذكر شىء مما قيل فى الحمّام 415 نسخة ما هو مكتوب في آخر الأصل بخط المؤلف 416 تمّ فهرس السفر الأوّل من كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب للنويرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 فهرس الجزء الثانى من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويرىّ الفن الثانى .... صحيفة فى الإنسان وما يتعلق به 1 القسم الأوّل فى اشتقاقه، وتسميته، وتنقلاته، وطبائعه، ووصفه، وتشبيهه، والغزل، والنسيب، والهوى، والمحبة، والعشق، والأسباب؛ وفيه أربعة أبواب الباب الأوّل: فى اشتقاقه وتسميته وتنقلاته وطبائعه، وما يتصل بذلك 5 فصل قال أحمد بن محمد بن عبد ربه 7 فصل وأما ترتيب أحواله 10 فصل فى ظهور الشيب وعمومه 12 النفس الغضبية 13 النفس البهيمية 13 الجزء: مقدمةج 2 ¦ الصفحة: 1 ... صحيفة الباب الثانى: فى وصف أعضاء الإنسان وتشبيهها 16 الشعر وما قيل فيه 16 فصل فى تفصيل أوصافه 17 ومما وصف به الشعر 18 ومما وصفت به شعور النساء 19 ذكر ما قيل فى الشيب والخضاب من المدح والذمّ 21 فأما مدح الشيب 21 وأما ما ورد فى ذم الشيب 24 ومما قيل فى الخضاب من المدح 29 ومما قيل فى ذم الخضاب 30 وأما ما وصف به الوجه 31 ومن ذلك ما قيل فى المؤنث 34 ومما وصف به صفاء الوجه ورقة البشرة 35 ومن ذلك ما قيل فى المؤنث 36 ومما قيل فى صفرة الوجه 37 ومن ذلك ما قيل فى المؤنث 37 ومما قيل فى السمرة 38 ومما قيل فى السواد 38 ومما وصف به أثر الجدرىّ فى الوجه 40 الجزء: مقدمةج 2 ¦ الصفحة: 2 ... صحيفة ومما قيل فى الحواجب 41 ومما وصفت به الحواجب 41 ومما قيل فى العيون ووصفها 42 فصل فى عوارض العين 44 فصل فى كيفية النظر وهيئته 44 ومما وصفت به العيون على لفظ التأنيث 50 ومما قيل فى أدواء العين 52 ومما قيل فى أرمد 53 ومما قيل فى أرمد غطى عينيه بشعريّة 55 فصل فى ترتيب البكاء 56 فصل فيما قيل فى الأنف 57 ومما قيل فى الشفاه والفم 57 فصل فى تقسيم ماء الفم 58 فصل فى ترتيب الضحك 58 ومما قيل فى طيب الريق والنكهة على لفظ التذكير 59 ومما وصف به على لفظ التأنيث 61 ومما قيل فى طيب عرف النساء 62 ومما قيل فى الأسنان 64 فصل فى مقابحها 65 فصل فى ترتيب الأسنان 66 ومما قيل فى السواك 67 الجزء: مقدمةج 2 ¦ الصفحة: 3 ... صحيفة ومما قيل فى اللسان 68 فصل فى عيوبه 68 فصل فى ترتيب العىّ 69 ومما وصف به حسن الحديث والنغمة 70 ومما قيل فى الأذن 72 فصل فى ترتيب الصمم 72 ومما وصف به الصدغ 73 ومما وصفت به الخدود والوجنات 74 ومما وصفت به على لفظ التأنيث 77 ومما وصفت به الخيلان 78 ومما وصفت به على لفظ التأنيث 81 ومما قيل فى العذار 81 ومما وصف به العذار على طريق الذم 87 ومما قيل فى العنق 92 ومما قيل فى اليد إذا باشرت ما يعلق بها 93 ومما مدحت به اليد 94 ومما قيل فى النهود 95 ومما قيل فى البطن 97 ومما قيل فى الأرداف والخصور 97 ومما وصفت به على لفظ التأنيث 99 ومما قيل فى السّوق 100 الجزء: مقدمةج 2 ¦ الصفحة: 4 ... صحيفة ومما وصفت به القدود 101 ومما قيل فى العناق 103 ومما ورد على لفظ التأنيث 105 ومما قيل فى وصف مشى النساء 106 ما جاء من الأمثال فى الإنسان 108 ومما يتمثل به فى ذكر النفس 109 ومما يتمثل به من أعضاء الإنسان الظاهرة والباطنة 110 ما قيل فى الرأس والشعر 110 ما يتمثل به من ذكر الوجه 110 ما يتمثل به من ذكر العين 111 ما يتمثل به من ذكر الأنف 112 ما يتمثل به من ذكر الفم واللسان والأسنان 112 ما يتمثل به من ذكر الأذن 113 ما يتمثل به من ذكر العنق 113 ما يتمثل به من ذكر اليد 113 ما يتمثل به من ذكر الصدر والقلب 115 ما يتمثل به من ذكر الظهر والبطن والجنب 116 ما يتمثل به من ذكر الكبد والدم والعروق 116 ما يتمثل به من ذكر الساق والقدم 117 من ضرب به المثل من الرجال على لفظ أفعل للتفضيل 117 وأما من ضرب بها المثل من النساء 123 الجزء: مقدمةج 2 ¦ الصفحة: 5 ... صحيفة الباب الثالث: فى الغزل والنسيب والهوى والمحبة والعشق 125 ذكر شىء مما قيل فى الهوى والمحبة والعشق 125 فأما كلام الحكماء والفلاسفة 126 وأما كلام الإسلاميّين وما قالوه فيه 126 ذكر مراتب العشق وضروبه 128 ذكر ما قيل فى الفرق بين المحبة والعشق 130 وأما سبب العشق وما قيل فيه 131 فصل ومن أسباب العشق 135 فصل وذكر بعض الحكماء 135 فصل ويتأكد العشق بإدمان النظر 137 وأما ما قيل فى مدحه وذمه والممدوح منه والمذموم 138 فأما الممدوح منه 138 وأما القسم المذموم منه 145 ذكر شىء من الشعر المقول فى ذم العشق والحب 150 وأما من خاطر بنفسه وألقاها إلى الهلاك لأجل محبوبه 160 وممن خاطر بنفسه فى هواه وعرّضها للتلف فنجا ونال خيرا 165 وأما من كفر بسبب العشق 173 وأما من قتل بسبب العشق 175 وأما من قتل بسبب العشق 176 وأما من قتله العشق 184 الجزء: مقدمةج 2 ¦ الصفحة: 6 ... صحيفة وأما من قتل نفسه بسبب العشق 195 ذكر شىء مما ورد فى التحذير من فتنة النساء وذمّ الزنا والنظر الى المردان والتحذير من اللواط وعقوبة اللائط 198 أما ما ورد من التحذير من فتنة النساء 198 وأما ما جاء فى ذمّ الزنا 201 وأما ما جاء في النهى عن النظر الى المردان ومجالستهم 202 وأما ما جاء في التحذير من اللواط وما ورد في سحاق النساء 204 وأما ما ورد في عقوبة اللائط والملوط به في الدنيا والآخرة 205 أما عقوبة الدنيا 205 وأما عقوبته في الآخرة 208 ذكر نبذة مما قيل في الغزل والنسيب 210 فمما قيل في المذكر 213 ومما قيل في المؤنث 226 ومما قيل في المطلق والمشترك 231 ومما قيل في طيف الخيال 237 ومما قيل في الرد على العذول 241 ومما قيل في رجوع العذول 242 ومما قيل في الوصال 242 ومما قيل في الفراق والبين 243 ومما قيل في مفارقة الأصحاب 246 الجزء: مقدمةج 2 ¦ الصفحة: 7 ... صحيفة ومما قيل في التوديع 246 ومما قيل في الصدّ والهجران 250 ومما قيل في الزيارة 251 ومما قيل في تخفيف الزيارة وموانعها 253 ومنها التأخر عن عيادة المرضى 254 ومما قيل في المدامع 255 ومما قيل في الرضا من المحبوب باليسير 258 ومما قيل في النحول 259 ومما قيل في المحبوب اذا اعتلّ 261 ومما يناسب هذا الفصل ما قيل في شرب الدواء 262 ومما قيل على لسان الورقاء 263 ومما قيل في المراجعات 265 ومما قيل في المردوف 267 ومما قيل في الجناس 268 ومما قيل في الموشّحات 272 الباب الرابع: فى الأنساب 276 الطبقة الاولى الجذم 277 وأما عزوة العرب الى يمن 283 والطبقة الثانية الجماهير 284 الجزء: مقدمةج 2 ¦ الصفحة: 8 ... صحيفة والطبقة الثالثة الشعوب 284 والطبقة الرابعة القبيلة 284 والطبقة الخامسة العمائر 284 والطبقة السادسة البطون 284 والطبقة السابعة الأفخاذ 285 والطبقة الثامنة العشائر 285 والطبقة التاسعة الفصائل 285 والطبقة العاشرة الرهط 285 أصل النسب أبو البشر آدم عليه السلام 286 إبراهيم خليل الله عليه الصلاة والسلام 322 ذكر نسب قيس وبطونها 334 الياس بن مضر بن نزار 343 مدركة بن الياس بن مضر 348 مالك بن النضر 352 فهر بن مالك 352 كعب بن لؤى بن غالب 355 مرة بن كعب 356 كلاب بن مرة بن كعب 357 عبد مناف بن قصىّ 359 عبد المطّلب بن هاشم 360 الجزء: مقدمةج 2 ¦ الصفحة: 9 الجزء الثاني بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الفن الثانى فى الإنسان وما يتعلق به وهذا الفن قد اشتمل على معان مؤنسة للسامع، مشنّفة للمسامع؛ مرصّعة لصدور الطروس والدفاتر، جاذبة لنوافر القلوب والخواطر؛ واضحة البيان، معربة عن وصف الإنسان. فمن تشبيهات فائقه، وغزليّات رائقه؛ وأنساب طاهره، ووقائع ظاهره؛ وأمثال امتدّت أطنابها، وتبينت أسبابها؛ وأوابد جعلتها العرب لها عادة ودليلا، واتخذتها ضلالة وتبديلا؛ ونصبتها أحكاما ونسكا، وصيرتها عبادة ومداواة فتبوّأت بها من النار دركا؛ وشى من أخبار الكهّان، وزجر عبدة الأوثان؛ وكنايات نقلت الألفاظ إلى معان أبهى من معانيها، وبلغت النفوس بعذوبتها غاية أمانيها؛ وألغاز غوّرت بالمعانى وأنجدت، وأشارت إليها بالتأويل حتّى إذا قرّبتها من الأفهام أبعدت؛ ومدائح رفعت للممدوح من الفضل منارا، وأهاجى صيّرت المهجوّ من القوم يتوارى؛ ومجون ترتاح إليها عند خلوتها النفوس، ويبتسم عند سماعها ذو الوجه العبوس؛ وشىء مما قيل في الخمر والمعاقره، وأرباب الطّرب وذوى المسامره؛ وتهان نشرت من البشائر ملاء، ورفعت من المخامد لواء؛ وتعاز حسرت نقاب الحسرات، وأبرزت مصون العبرات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1 وأوردت فيه نبذة من الزهد والإنابه، وجملة من الدعوات المستجابه. وطرّزته بذكر ملك، مدّ رواق العدل، ونشر لواء الفضل؛ وقام بفروض الجهاد وسننه، وأراع العدوّ في حالتى يقظته ووسنه؛ وعمّ الأولياء بمواصلة برّه وموالاة نواله، وقهر الأعداء بمراسلة سهامه ومناضلة نصاله؛ وشمل رعاياه بعدله وجوده، واردف سراياه بجيوشه وجنوده، فهو الملك الذى جمع بين شدّة البأس، ولين النّدى، وأزال مرارة الإياس، بحلاوة العطا. وما يحتاج إليه لإقامة المملكة: من نائب ناهيك به من نائب!، يكفّ بعزمه كفّ الحوادث ويفلّ بحزمه ناب النوائب؛ وينصف الضعيف من القوىّ، ويفرّق ببديهته بين المريب والبرىّ؛ ويتفقد أحوال الجيوش ويصرف همته إليهم، ويجعل اهتمامه بهم وفكرته فيهم وتعويله عليهم؛ إلى غير ذلك من استكمال عددها، والمطالبة بعرض خيولها وإصلاح عددها؛ وسدّ ثغور الممالك، وضبط الطرق وتسهيل المسالك؛ وقمع المفسدين، وإرغام الملحدين؛ وبث السّرايا، وتيسير الأرزاق والعطايا. ووزير يشيّد قواعد ملكه بحسن تدبيره وجميل سداده، ويعمل فكره فيما يستقرّ بسببه نظام الملك على مهاده؛ ويأمر بتحصيل الأموال من جهات حلّها، ويقرّ مناصب الدّولة الشريفة في الكفاة من أهلها؛ ويتصفّح الأقاليم والمعاملات والأعمال، ويستكفى لمباشرتها أمناء النظّار ومحقّقى المستوفين وكفاة العمال. وقائد جيوش إن انتدبه للقاء عدوّ بدر الكتائب، وأنهل من دمائهم السّمر العوالى وعلا هامهم بالبيض القواضب؛ تتبعه عساكر تنفر قلوبهم عن الفرار، ويحلّوا من قاتلهم من أعداء الله دار البوار؛ يدّرعون السابريّة [1] الذوائل، ويعتقلون السّمهرية الذّوابل؛   [1] هى دروع دقيقة النسج في إحكام، والذوائل جمع ذائلة وهى الطويلة «قاموس» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 2 ويتقلدون المشرفية البواتر؛ ويتنكّبون القسىّ النواتر [1] ، ويمتطون من كل جواد صفا منه أديمه وعيناه وحوافره، واتسع منه جوفه وجبهته ومناخره؛ وطال منه أنفه وعنقه وذراعه، وقصر منه ظهره وساقه وعسيبه وامتدّ عند الحضر باعه: فهو من أكرم الأصائل، والمعنىّ بقول القائل: وقد أغتدى قبل ضوء الصّباح ... وورد القطا في الغطاط الحثاث. بصافى الثّلاث عريض الثلاث ... قصير الثلاث طويل الثّلاث. وذكرت ما ورد في فضل الرباط والجهاد، وما أعدّ الله تعالى من الثواب لمن أنفق فيه الطّوارف والتّلاد؛ وبذل الكريمين: (النفس والمال) لحسن المآل؛ وهجر الحبيبين: (الوطن والعيال) لبلوغ الآمال. ومن قاض يحكم بين الناس بالعدل، ويقدّم ذوى النباهة والفضل. ومتولّى مظالم يردّها على أهلها بقهره وسلطانه، وسطوته وأعوانه. وناظر حسبة يجرى الأمور على قواعدها الشرعية، وأوضاعها العرفية وقوانيها المرضية. إلى غير ذلك: من كاتب، ذى رأى صائب، وفهم ثاقب؛ انقادت له المعانى بأسهل زمام، وأغنت صحائفه عن صفحات الحسام: لولا حظت عين ابن أوس كتبه ... ما قال: «إن السيف منها أصدق» .   [1] فى القاموس «قوس ناترة تقطع وترها لصلابتها» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 وكاتب خراج ضبط بقلمه الأموال، وحرّر بنباهته الغلال؛ وبسط الموازين، ووضع القوانين؛ وفصل بين الخراجىّ والهلالى، وميز ما بين الأعمال والتوالى. وما لا بدّ للملك منه من خواصّ جبلت على محبته قلوبهم، وتجافت عن المضاجع فى خدمته جنوبهم. ومن معقل شمخ على الجوزاء بأنفه، واتخذ الثريّا وشاحا لعطفه؛ توارى في قرار التخوم أساسه، ولاح للسارى ككوكب الظلماء مقياسه. فالأرض تدّعيه: لأنه ثبت على مناكبها، والسماء تنازعها فيه: لأنه تمنطق بكواكبها؛ والجبال تقول منى اتّخذت أحجاره، والمياه تقول علىّ استقرّ قراره؛ وجفن السحاب يهمع لانحطاطه عن هذه الرتبة، والطير تقول إن لم أبلغه فقد اتّحد به من بينى وبينه نسبه. وضمّنت هذا الفن من المنقول ما يسهل تعاطيه على الأفهام، ووضعته على خمسة أقسام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 القسم الأوّل فى اشتقاقه، وتسميته، وتنقلاته، وطبائعه، ووصفه، وتشبيهه. والغزل، والنّسيب، والهوى، والمحبة، والعشق، والأسباب وفيه أربعة أبواب الباب الأوّل من القسم الأوّل من الفن الثانى (فى اشتقاقه، وتسميته، وتنقلاته، وطبائعه، وما يتصل بذلك) فأما اشتقاقه وتسميته، فقد اختلف الناس في ذلك: هل هو من الأنس الذى هو نقيض الوحشة، أو النّوس الذى هو نقيض السكون، أو الإيناس الذى هو بمعنى الإبصار، أو النّسيان الذى هو نقيض الذّكر. قال الشريف السيد ضياء الدّين أبو السعادات هبة الله المعروف بابن الشجرى فى «أماليه» (فى المجلس التاسع عشر وهو يوم السبت سابع عشر رجب سنة أربع وعشرين وخمسمائةفى شرح قول أعشى تغلب: وكانوا أناسا ينفحون فأصبحوا، ... وأكثر ما يعطونك النظر الشّزر. قوله: «وكانوا أناسا ينفحون» وزن أناس فعال، وناس منقوص منه عند أكثر النحويين: فوزنه عال. والنقص والإتمام فيه متساويان في كثرة الاستعمال ما دام منكورا. فإذا دخلت عليه الألف واللام، التزموا فيه الحذف، فقالوا «الناس» ولا يكادون يقولون «الأناس» إلا في الشعر. كقوله: إنّ المنايا يطّلع ... ن على الأناس الآمنينا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 وحجة هذا المذهب وقوع الأنس على الناس. فاشتقاقه من الأنس نقيض الوحشة: لأن بعضهم يأنس إلى بعض. وبه [1] أخذ بعض الشعراء في قوله: وما سمّى الإنسان إلا لأنسه ... ولا القلب إلا أنه يتقلّب. قال: وذهب الكسائىّ إلى أن «الناس» لغة مفردة، وهو اسم تامّ وألفه منقلبة عن واو، واستدلّ بقول العرب فى تحقيره نويس. قال: ولو كان منقوصا من أناس لردّه التحقير إلى أصله، فقيل «أنيس» . وقال بعض من وافق الكسائىّ في هذا القول: إنه مأخوذ من النّوس، مصدر ناس ينوس إذا تحرّك. ومنه قيل لملك من ملوك حمير ذو نواس: لضفيرتين كانتا تنوسان على عاتقه. قال الفرّاء: والمذهب الأوّل أشبه، وهو مذهب المشيخة. وقال أبو علىّ الفارسىّ: أصل الناس الأناس. فحذفت الهمزة التى هى فاء ويدلك على ذلك الإنس والأناسىّ. فأما قولهم في تحقيره نويس فإن الألف لما صارت ثانية وهى زائدة أشبهت ألف فاعل. يعنى أنها أشبهت بكونها ثانية وهى زائدة ألف «ضارب» فقيل نويس، كما قيل ضويرب. وقال سلمة بن عاصم، وكان من أصحاب الفراء: الأشبه في القياس أن يكون كلّ واحد منهما أصلا بنفسه فأناس من الأنس، وناس من النوس لقولهم في تحقيره نويس كبويب في تحقير باب. هذا ما قاله ابن الشجرىّ في أماليه.   [1] لم نجد هذه الزيادة في أمالى ابن الشجرى الموجود منها نسخة مخطوطة «بدار الكتب المصرية» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 وذهب أبو عمرو الشّيبانىّ: أنه مشتق من الإيناس، الذى هو بمعنى الإبصار؛ وحجته قوله تعالى: «إنّى آنست نارا» أى أبصرت نارا. وذهب الكوفيون إلى أنه مشتق من النّسيان، وحجتهم أن أصله إنسيان. فحذفت الياء تخفيفا وفتحت السين لأن الألف تطلب فتح ما قبلها. ولأن العرب حين صغرته قالت فيه أنيسيان، فزادت الياء. والتصغير يردّ الأشياء إلى أصولها، ولو لم تكن فى المكبر لما ردّت في المصغّر. وبه أخذ أبو تمام في قوله: لا تنسين تلك العهود فإنما ... سمّيت إنسانا لأنك ناسى. وأنكر البصريون ذلك، وقالوا: لا حجة فيه، لأن العرب قد صغرت أشياء على غير قياس كما قالوا في تصغير رجل بمعنى راجل رويجل، وفي تصغير ليلة لييلة، وفي تصغير عشيّة عشيشة. وقال ابن عباس: إنما سمى الإنسان إنسانا لأنه عهد إليه فنسى. وهذا هو الأرجح والله تعالى أعلم. فصل قال أحمد بن محمد بن عبد ربه صاحب العقد في كتابه يرفعه إلى وهب بن منبّه إنه قال: قرأت في «التوراة» أن الله عز وجل حين خلق آدم ركّب جسده من أربعة أشياء؛ ثم جعلها وراثة في ولده، تنمى في أجسادهم وينمون عليها إلى يوم القيامة. رطب، ويابس، وسخن، وبارد. قال: وذلك أن الله سبحانه وتعالى خلقه من تراب وماء، وجعل فيه يبسا ورطوبة، فيبوسة كل جسد من قبل التراب، ورطوبته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 من قبل الماء، وحرارته من قبل النفس، وبرودته من قبل الروح. ثم خلق للجسد بعد هذا الخلق الأوّل أربعة أنواع أخر وهى ملاك الجسد وقوامه، لا يقوم الجسد إلا بهنّ، ولا تقوم واحدة منهنّ إلا بالأخرى: المرّة السوداء، والمرّة الصفراء، والدم الرطب الحارّ، والبلغم البارد. ثم أسكن بعض هذا الخلق في بعض، فجعل مسكن اليبوسة في المرّة السوداء، ومسكن الرطوبة في الدّم، ومسكن البرودة في البلغم، ومسكن الحرارة في المرّة الصفراء. فأيما جسد اعتدلت فيه هذه الفطر الأربع وكانت كلّ واحدة فيه وفقا لا تزيد ولا تنقص، كملت صحته واعتدل بناؤه. فإن زادت واحدة منهنّ عليهنّ وقهرتهنّ ومالت بهنّ، دخل على أخواتها السّقم من ناحيتها بقدر ما زادت؛ وإن كانت ناقصة عنهنّ، ملن بها وعلونها وأدخلن عليها السّقم من نواحيهنّ، لغلبتهنّ عليها حتّى تضعف عن طاقتهنّ وتعجز عن مقاومتهنّ. قال وهب: وجعل عقله في دماغه، وشرهه في كليتيه، وغضبه في كبده، وصرامته فى قلبه، ورغبته في رئته، وضحكه في طحاله، وحزنه وفرحه في وجهه. وجعل فيه ثلاثمائة وستين مفصلا. ويقال: إنما لقّب الإنسان بالعالم الصغير، لأنهم مثّلوا رأسه بالفلك، ووجهه بالشمس إذ لا قوام للعالم إلا بها كما لا قوام للجسد إلا بالرّوح، وعقله بالقمر لأنه يزيد وينقص ويذهب ويعود؛ ومثلوا حواسّه الخمس ببقية الكواكب السيّارة، وآراءه بالنجوم الثابتة، ودمعه بالمطر، وصوته بالرعد، وضحكه بالبرق، وظهره بالبرّ، وبطنه بالبحر، ولحمه بالأرض، وعظامه بالجبال، وشعره بالنبات، وأعضاءه بالأقاليم، وعروقه بالأنهار، ومغار عروقه بالعيون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 ومنها: أن فيه ما يشاكل الجمعة، والشهر، والأيام، والسنة. أما أيام الجمعة، فإن بدنه سبعة أجزاء، وهى اللحم، والعظام، والعروق، والأعصاب، والدّم، والجلد، والشعر. وأما الشهور، فإن لبدنه اثنى عشر جزءا مدبرة: ستة منها باطنة؛ وهى الدماغ، والقلب، والكبد، والطّحال، والمعدة، والكليتان؛ وستة ظاهرة، وهى العقل، والحواسّ الخمس؛ فهذه الاثنا عشر مقابلة لشهور السنة. وأما الأيام، فإن فيه ثلاثمائة وستين عظما؛ منها ما هو لبنية الجسد مائتان وثمانية وأربعون عظما. والإنسان ينقسم إلى أربعة أنواع: الرأس، واليدان، والبدن، والرجلان؛ ففى الرأس اثنان وأربعون عظما؛ وفي اليدين اثنان وثمانون عظما؛ وفى البدن أربعون عظما؛ وفي الرجلين أربعة وثمانون عظما؛ والباقى سمسمانية لسدّ الفروج التى تكون بين العظام. وفيه ثلاثمائة وستون عرقا. وأما فصول السنة: فإن فيه أربعة أخلاط طبعها طبع الفصول الأربعة، فالدّم كالربيع في حرارته ورطوبته، والمرّة الصفراء كالصيف في حرّه ويبسه، والمرّة السوداء كالخريف في برده ويبنسه، والبلغم كالشتاء في برده ورطوبته. وهذه الأخلاط من أوّل مزاج الأركان التى هى العناصر الأربعة، وهى: النار، والهواء، والماء، والأرض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 فصل وأما ترتيب أحواله وتنقل السنّ به إلى أن يتناهى: [قال [1] الله تبارك وتعالى: (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) . وقال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) . وقال عز وجل: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) . وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّ أحدكم يجمع في بطن أمّه أربعين يوما، ثمّ يكون علقة مثل ذلك، ثمّ يكون مضغة مثل ذلك، ثمّ يبعث الله تعالى ملكا فيؤمر بأربع: برزقه وأجله وشقىّ أو سعيد» ، الحديث. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «وكّل الله بالرحم ملكا: فيقول أى رب نطفة! أى ربّ علقة! أى ربّ مضغة! فإذا أراد الله أن يقضى خلقها قال: أى ربّ ذكر   [1]- هذه الزيادة المحصورة بين قوسين مربعين منقولة كما هى عن إحدى النسخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 أم أنثى؟ أشقىّ أم سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيكتب كذلك في بطن أمّه» . خرّج ذلك البخارىّ في «صحيحه» فى باب القدر. وقال الثعلبىّ في تفسير قوله تعالى (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) : «قالت الحكماء: يشتمل الإنسان من كونه نطفة إلى أن يهرم ويموت على سبعة وثلاثين [1] حالا، وسبعة وثلاثين اسما [2] : نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظما، ثم خلقا آخر، ثم جنينا، ثم وليدا، ثم رضيعا، ثم فطيما، ثم يافعا، ثم ناشئا، ثم مترعرعا، ثم حزوّرا، ثم مراهقا، ثم محتلما، ثم بالغا، ثم أمرد، ثم طارّا، ثم باقلا، ثم مسيطرا، ثم مصرخا، ثم مختطّا، ثم صملّا، ثم ملحيا، ثم مستريما، ثم مصعدا، ثم مجتمعا. وقال غيره: ما دام الولد في الرّحم، فهو جنين؛ فإذا ولد، فهو وليد، وما دام لم يستتمّ سبعة أيام، فهو صديغ: لأنه لم يشتدّ صدغه إلى تمام السبعة؛ ثم مادام يرضع، فهو رضيع؛ فإذا قطع عنه اللبن، فهو فطيم، ثم إذا غلظ وذهبت عنه ترارة الرّضاعة، فهو جحوش. قال الهذلىّ: قتلنا مخلدا وابنى خراق ... وآخر جحوشا فوق الفطيم. ثم إذا دبّ ونما، فهو دارج. فإذا بلغ طوله خمسة أشبار، فهو خماسىّ. فإذا سقطت رواضعه، فهو مثغور. فإذا نبتت أسنانه بعد السّقوط، فهو مثّغر ومتّغر معا.   [1] البيانات التالية بعده سبعة وعشرون فلعلها محرفة عنها. [2] البيانات التالية بعده سبعة وعشرون فلعلها محرفة عنها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 فإذا تجاوز [1] عشر سنين أو جاوزها، فهو مترعرع وناشئ. فإذا كاد أن يبلغ الحلم أو بلغه، فهو يافع ومراهق. فإذا احتلم واجتمعت قوّته، فهو حزوّر؛ واسمه في جميع هذه الأحوال التى تقدّم ذكرها غلام. فإذا احضرّ شاربه وأخذ عذاره يسيل، قيل فيه قد بقل وجهه. فإذا صار ذا فتاء؛ فهو فتى وشارخ. فإذا اجتمعت لحيته وبلغ غاية شبابه، فهو مجتمع. ثم مادام بين الثلاثين والأربعين، فهو شابّ، ثم هو كهل إلى أن يستوفى الستين. فصل فى ظهور الشيب وعمومه يقال للرجل أوّل ما يظهر به الشيب، قد وخطه الشيب. فإذا زاد، قيل خصّفه وخوّصه. فإذا ابيضّ بعض رأسه، قيل قد أخلس رأسه، فهو مخلس. فإذا غلب بياضه سواده، فهو أغثم. فإذا شمطت مواضع من لحيته، قيل وخزه القتير ولهزه. فإذا كثر فيه الشيب وانتشر، قيل فيه قد تقشّع [2] فيه الشيب.   [1] وردت هذه الجملة هكذا بالأصل. وفي فقه الثعالبى (فاذا كاد يجاوز العشر السنين، أو جاوزها فهو مترعرع وناشئ) وهو الصواب. [2] كذا بالأصل وفقه اللغة وهو محرف عن «تفشّغ» قال في القاموس (وتفشّغ فيه الشيب أو الدم: انتشر وكثر) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 ويقال أيضا: شاب الرجل، ثم شمط، ثم شاخ، ثم كبر، ثم توجّه، ثم دلف، ثم دبّ، ثم مجّ، ثم هدج، ثم ثلّب، ثم الموت. وقيل: ما السرور؟ قال: إدراك الحقيقه، واستنباط الدّقيقه. وأما النفس الغضبية، فهمّ صاحبها منافسة الأكفاء ومغالبة الأقران ومكاثرة العشيرة. ومن ذلك ما أجاب به حصين بن المنذر، وقد قيل له: ما السّرور؟ قال: لواء منشور، والجلوس على السرير، والسلام عليك أيها الأمير. وقيل للحسن بن سهل: ما السرور؟ قال: توقيع جائز، وأمر نافذ. وقيل لعبد الله بن الأقسم: ما السرو؟ قال: رفع الأولياء، ووضع الأعداء، وطول البقاء، مع الصحّة والنماء. وقيل لزياد: ما السرور؟ قال: من طال عمره، ورأى فى عدوّه ما يسرّه. وقيل لأبى مسلم، صاحب الدعوة: ما السّرور؟ قال: ركوب الهمالجة، وقتل الجبابرة. وقيل له: ما اللذة؟ قال: إقبال الزمان، وعزّ السلطان. وأما النفس البهيمية، فهمّ صاحبها طلب الراحة. وانهماك النفس على الشهوة من الطعام والشراب والنكاح. وعلى هذه الطبيعة البهيمية قسمت الفرس دهرها كلّه، فقالوا: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 يوم المطر للشرب؛ ويوم الريح للنوم؛ ويوم الدّجن للصيد؛ ويوم الصّحو للجلوس. قيل: ولما بلغ ابن خالويه ما قسمته الفرس من أيامها قال: ما كان أعرفهم بسياسة دنياهم! (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) . ولكنّ نبينا صلى الله عليه وسلم جزّأ نهاره ثلاثة أجزاء: جزءا لله، وجزءا لأهله، وجزءا لنفسه؛ ثم جزّأ جزأه بينه وبين الناس، فكان يستعين بالخاصة على العامة، ويقول: «أبلغوا حاجة من لا يستطيع إبلاغى. فإنه من أبلغ حاجة من لا يستطيع، آمنه الله يوم الفزع الأكبر» . قالوا: والطبيعة البهيمية هى أغلب الطبائع على الإنسان: لأخذها بمجامع هواه، وإيثار الراحة وقلة العمل. ومن ذلك قولهم: الرأى نائم، والهوى يقظان؛ وقولهم: الهوى إله معبود. ومن ذلك ما أجاب به امرؤ القيس، وقد قيل له: ما السرور؟ فقال: بيضاء رعبوبه، بالطيب مشبوبه، باللحم مكروبه. «وكان مفتونا بالنساء» . وقيل لأعشى بكر: ما السرور؟ قال: صهباء صافيه، تمزجها ساقيه، من صوب غاديه. «وكان مغرما بالشراب» . وقيل لطرفة بن العبد: ما السرور؟ قال مطعم هنىّ، ومشرب روىّ، وملبس دفىّ، ومركب وطىّ. «وكان يؤثر الخفض والدّعة» . وهو القائل: فلولا ثلاث هنّ من عيشة الفتى، ... وعيشك! لم أحفل متى قام عوّدى. فمنهنّ سبقى العاذلات بشربة ... كميت متى ما تعل بالماء تزبد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 وكرّى إذا نادى المضاف محنّبا ... كسيد الغضا نبّهته المتورّد. وتقصير يوم الدّجن، والدّجن معجب، ... ببهكنة تحت الخباء المعمّد. وسمع هذه الأبيات عمر بن عبد العزيز فقال: وأنا لولا ثلاث لم أحفل متى قام عوّدى: لولا أن أعدل في الرعيه، وأقسم بالسويّه، وأنفر في السّريّه. وقال عبد الله بن نهيك، عفا الله تعالى عنه: فلولا ثلاث هنّ من عيشة الفتى، ... وعيشك، لم أحفل متى قام رامس. فمنهن سبق العاذلات بشربة ... كأنّ أخاها مطلع الشمس ناعس. ومنهنّ تجريد الكواعب كالدّمى ... إذا ابتزّ عن أكفالهنّ الملابس. ومنهن تقريط الجواد عنانه ... إذا ابتدر الشخص الخفىّ الفوارس. وقيل ليزيد بن مزيد: ما السرور؟ فقال: قبلة على غفلة: وقيل لحرقة بنت النعمان: ما كانت لذة أبيك؟ قالت: شرب الجريال، ومحادثة الرجال. وقيل للحسن بن هانئ: ما السرور؟ فقال: مجالسة الفتيان، فى بيوت القيان، ومنادمة الإخوان، على قضب الرّيحان؛ ثم أنشد: قلت بالقفص لموسى، ... ونداماى نيام: يا رضيعى ثدى أمّ ... ليس لى عنه فطام! إنما العيش سماع ... ومدام وندام. فإذا فاتك هذا، ... فعلى الدّنيا السلام! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 الباب الثانى من القسم الأوّل من الفن الثانى (فى وصف أعضاء الإنسان وتشبيهها) وما وصف به طيب الريق والنّكهة، وحسن الحديث، والنّغمة، واعتدال القدود، ووصف مشى النساء. وهو مرتب على ترتيب بنية الإنسان في المذكر والمؤنث. فأما الشّعر وما قيل فيه، قال الثعالبىّ عن أئمة اللغة: العقيقة، الشعر الذى يولد به الإنسان. الفروة، شعر معظم الرأس. الناصية، شعر مقدّم الرأس. الذّؤابة، شعر مؤخّر الرأس. الفرع، شعر رأس المرأة. الغديرة، شعر ذؤابتها. الغفر، شعر ساقها. الدّبب، شعر وجهها. الوفرة، ما بلغ شحمة الأذن من الشعر. الّلمّة، ما ألمّ بالمنكب منه. الطّرّة، ما غشّى الجبهة منه. الجمّة والغفرة، ما غطّى الرأس منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 الهدب، شعر أشفار العين. الشارب، شعر الشّفة العليا. العنفقة، شعر الشفة السّفلى. المسربة، شعر الصدر. وفي الحديث أنه كان عليه الصلاة والسلام دقيق المسربة. الشّعرة، العانة. الإسب، شعر الأست. الزّبب، شعر بدن الرجل. ويقال بل هو كثرة الشعر في الاذنين. فصل فى تفصيل أوصافه يقال: شعر جفال، إذا كان كثيرا. ووحف، إذا كان متصلا. وكثّ، إذا كان كثيرا كثيفا مجتمعا. ومعلنكس، ومعلنكك، إذا زادت كثافته. ومنسدر، إذا كان منبسطا. وسبط، إذا كان مسترسلا. ورجل، إذا كان غير جعد ولا سبط. وقطط، إذا كان شديد الجعودة. ومقلعطّ، إذا زاد على القطط. ومفلفل، إذا كان نهاية في الجعودة كشعر الزّنج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 وسخام، إذا كان حسنا ليّنا. ومغدودن، إذا كان طويلا ناعما. وقال الأصمعىّ: من لم يخفّ شعره قبل الثلاثين لم يصلع أبدا؛ ومن لم يحمل اللحم قبل الثلاثين لم يحمله أبدا. ومما وصف به الشعر، قال نصر بن أحمد، عفا الله تعالى عنه: سلسل الشّعر فوق وجه، فحاكى ... ظلمة الليل فوق ضوء الصّباح. وقال ابن الرومىّ: وفاحم وارد يقبّل مم ... شاه إذا اختال مرسلا غدره. قبل كاللّيل من مفارقه ... منحدرا لا يذمّ منحدره. حتّى تناهى إلى مواطنه ... يلثم من كلّ موطئ عفره. كأنّه عاشق دنا شغفا ... حتّى قضى من حبيبه وطره. وقال فتح الدّين بن عبد الظاهر: حلّ ثلاثا يوم حمّامه ... ذوائبا يعبق منها الغوال. فقلت، والقصد ذؤاباته: ... يا سهرى في ذى اللّيال الطّوال! وقال آخر: قد علّق القلب بدبّوقة ... وجنّ منها فهو مفتون؟ واعجيا للعشق في حكمه ... بشعره قبّد مجنون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 وقال آخر: رأيت على قدّ الحبيب ذؤابة ... فعينى على تلك الذّؤابة تهمع. يقول لى الواشون: مالك باكيا؟ ... فقلت: بعينى شعرة فهى تدمع. وقال آخر: وشعرة عاينها ناظرى ... على قوام مائس الخطره. فسال دمعا وهمى جفنه، ... والدّمع لا شكّ من الشّعره. وقال آخر: ولربّ ممشوق القوام تضمّه ... ممشوقة، فتعانقا غصنين. أرخت ذوائبها وأسبل شعره، ... فتقابلا قمرين في ليلين! ومما وصفت به شعور النساء؛ قال بكر بن النطّاح: بيضاء تسحب من قيام فرغها ... وتغيب فيه فهو جثل أسحم. فكأنّها فيه نهار ساطع، ... وكأنّه ليل عليها مظلم. وقال آخر: نشرت علىّ ذوائبا من شعرها، ... حذر الكواشح والعدوّ المحنق. فكأنّنى وكأنها وكأنّه ... صبحان باتا تحت ليل مطبق. وقال عمر بن أبى ربيعة: سبته بوحف في العقاص كأنّه ... عناقيد، دلّاها من الكرم قاطف. أسيلات أبدان، دقّاق حضورها، ... وثيرات ما التفّت عليه الملاحف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 وقال المتنبى: ومن كلّما جرّدتها من ثيابها، ... كساها ثيابا غيرها الشّعر الوحف. وقال أيضا: دعت خلاخيلها ذوائبها، ... فجئن من فرقها إلى القدم. وقال في أخرى: نشرت ثلاث ذوائب من شعرها ... فى ليلة، فأرت ليالى أربعا. واستقبلت قمر السماء بوجهها، ... فأرتنى القمرين في وقت معا. وقد ألمّ في ذلك بقول ابن المعتزّ: سقتنى في ليل شبيه بشعرها ... شبيهة خدّيها بغير رقيب. فأمسيت في ليلين بالشّعر والدّجى، ... وشمسين من خمر وخدّ حبيب. وقال ابن المعتزّ: فلمّا أن قضت وطرا وهمّت ... على عجل بأخذ للرّداء، رأت شخص الرّقيب على تدان ... فأسبلت الظّلام على الضّياء. وغاب الصبح منها تحت ليل، ... وظلّ الماء يقطر فوق ماء. وقال ابن لنكك: هل طالب ثأر من قد أهدرت دمه ... بيض، عليهنّ نذر قتل من عشقا؟ من العقائل ما يخطرن عن عرض ... إلّا أرينك في قدّ قنا ونقا. رواعف بخدود زانها سبج ... قد زرفن [1] الحسن في أصداغها حلقا.   [1] زرفن صدغيه جعلهما كالزّرفين وهو حلقة الباب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 نواشر في الضّحى من فرعها غسقا، ... وفي ظلام الدّجى من وجهها فلقا. أعرن غيد ظباء روّعت غيدا، ... والورد توريد خدّ، والمها حدقا. وقال ابن دريد الأزدىّ: غرّاء لو جلت الخدود شعاعها ... للشّمس عند طلوعها، لم تشرق. غصن على دعص تألّق فوقه ... قمر تألّق تحت ليل مطبق. لو قيل للحسن: احتكم لم يعدها. ... أو قيل: خاطب غيرها! لم ينطق. فكأنّنا من فرعها في مغرب، ... وكأنّنا من وجهها في مشرق. وقال آخر: جعودة شعرها تحكى غديرا ... يصفّقه الجنوب مع الشّمال. ذكر ما قيل في الشيب والخضاب من المدح والذم فأما مدح الشيب، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من شاب شيبة في الإسلام كانت له نورا يوم القيامة» . وقال ابن أبى شيبة: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نتف الشيب وقال: هو نور المؤمن» . وفي الحديث عن النبىّ صلى الله عليه وسلم: «ان أوّل من رأى الشيب إبراهيم الخليل عليه السلام، فقال: يا ربّ ما هذا؟ فقال له: الوقار، فقال: رب زدنى وقارا» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 وتأمل حكيم شيبه فقال: مرحبا بزهرة الحنكة ويمن الهدى ومقدّمة العفّة ولباس التقوى. وقيل: دخل أبو دلف على المأمون وعنده جارية له، وكان أبو دلف قد ترك الخضاب، فأشار المأمون إلى الجارية فقالت له: شبت يا أبا دلف، إنا لله وإنا اليه راجعون. فسكت عنها أبو دلف، فقال له المأمون: أجبها، فقال: تهزّأت إذ رأت شيبى فقلت لها: ... لا تهزئى من يطل عمر به يشب! شيب الرجال لهم زين ومكرمة، ... وشيبكن لكنّ الويل فاكتئبى! فينا لكنّ- وإن شيب بدا- أرب، ... وليس فيكنّ بعد الشّيب من أرب! وقال آخر: أهلا وسهلا بالمشيب ومرحبا، ... أهلا به من وافد ونزيل! أهدى الوقار وذاد كلّ جهالة ... كانت، وساق إلى كلّ جميل. فصحبت في أهل التقى أهل النهى ... ولقيت بالتعظيم والتبجيل. ورأى لى الشّبّان فضل جلالة ... لما اكتهلت، وكنت غير جليل. فإذا رأونى مقبلا، نهضوا معا: ... فعل المقرّ لهيبة التفضيل. إن قلت، كنت مصدّقا في منطقى، ... ماضى المقالة حاضر التعديل. وقال مسلم بن الوليد: الشّيب كره، وكره أن يفارقنى ... اعجب لشىء على البغضاء مودود. وقال علىّ بن محمد الكوفىّ: بكى للشّيب، ثم بكى عليه ... وكان أعزّ من فقد الشّباب. فقل للشّيب: لا تبرح حميدا ... إذا نادى شبابك بالذّهاب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 وقال العسكرىّ: يودّ أنّ شيبه ... إذ جاء لا ينصرف. يخلف ريعان الصّبا ... والموت منه خلف. وقال ابن المعتزّ: قد يشيب الفتى، وليس عجيبا ... أن يرى النّور في القضيب الرّطيب. وقال أبو تمام: ولا يؤرّقك إيماض القتير به ... فإنّ ذاك ابتسام الرأى والأدب. وقال أبو الفتح البستى: يا شيبتى دومى ولا تترحّلى ... وتيقّنى أنّى بوصلك مولع! قد كنت أجزع من حلولك مرة، ... فالآن من خوف ارتحالك أجزع! وقال آخر: فأمّا المشيب فصبح بدا ... وأما الشّباب فليل أفل. سقى الله هذا وهذا معا ... فنعم المولّى ونعم البدل!. وقال أبو الفتح كشاجم: تفكّرت في شيب الفتى وشبابه ... فأيقنت أن الحقّ للشّيب واجب. يصاحبنى شرخ الشباب فينقضى، ... وشيبى لى حتّى الممات مصاحب. وقال أبو العلاء السروىّ، شاعر اليتيمة: حىّ شيبا أتى لغير رحيل، ... وشبابا مضى لغير إياب! أىّ شىء يكون أحسن من عا ... ج مشيب في آبنوس شباب؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 وقال أبو عوانة الكاتب: هزئت إذرأت مشيبى، وهل غي ... ر المصابيح زينة للسماء؟ وتولّت فقلت قولا بإفصا ... ح لها، لا بالرّمز والإيماء: إنما الشيب في المفارق كالنّو ... ر بدا والسّواد كالظلماء. لا محيص عن المشيب أو المو ... ت، فكن للحوباء أو للنّماء! إن عمرا عوّضت فيه عن المو ... ت بشيب من أعظم النّعماء! وقال ابن عبد ربه: كأنّ سواد لمته ظلام ... يطلّ من المشيب عليه نور. وقال أبو عبد الله الاسباطى: لا يرعك المشيب، يا ابنة عبد ال ... لّه، فالشيب زينة ووقار! إنما تحسن الرّياض إذا ما ... ضحكت في ظلالها الأنوار. وأما ما ورد في ذم الشيب، قال قيس بن عاصم رحمة الله عليه: الشيب خطام المنيّة. وقال غيره: الشيب نذير الموت. وقد ورد في بعض التفاسير في قوله تبارك وتعالى (وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) . قيل: هو الشيب. وقال أعرابىّ: كنت أنكر البيضاء، فصرت أنكر السوداء؛ فيا خير مبدول ويا شرّ بدل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 وقيل للنبىّ صلى الله عليه وسلم: عجّل عليك الشيب يا رسول الله، قال: «شيّبتني هود وأخواتها» . قيل: هى عبس، والمرسلات، والنازعات. وقيل لعبد الملك بن مروان: عجّل عليك الشيب يا أمير المؤمنين، قال: شيبنى ارتقاء المنابر وتوقّع اللحن. وقال بعضهم: خرجت إلى ناحية الطّفاوة، فإذا أنا بامرأة لم أر أجمل منها، فقلت: أيتها المرأة، إن كان لك زوج فبارك الله له فيك، وإلا فأعلمينى. قال فقالت: وما تصنع بى؟ وفيّ شىء لا أراك ترتضيه. قلت: وما هو؟ قالت: شيب في رأسى. قال: فثنيت عنان دابتى راجعا، فصاحت بى: على رسلك، أخبرك بشىء، فوقفت وقلت: وما هو، يرحمك الله؟ قالت: والله ما بلغت العشرين بعد، وهذا رأسى فكشفت عن عناقيد كالحمم، وقالت: والله ما رأيت برأسى بياضا قطّ، ولكن أحببت أن تعلم أنّا نكره منك ما تكره منا، وأنشدت: أرى شيب الرّجال من الغوانى ... بموضع شيبهنّ من الرجال! قال: فرجعت خجلا، كاسف البال. قال أبو تمام: غدا الشيب مختطا بفودىّ خطّة ... سبيل الرّدى منها إلى النفس مهيع. هو الزّور يجفى، والمعاشر يجتوى، ... وذو الإلف يقلى، والجديد يرقّع. له منظر في العين أبيض ناصع، ... ولكنه في القلب أسود أسفع. وقال آخر: تقول لمّا رأت مشيبى ... بدا، وعندى له انقباض: لا ترج عطفا عليك منّى، ... سوّد ما بيننا البياض! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 وقال آخر: وقالوا: مشيب المرء فيه وقاره، ... وما علموا أن المشيب هو العيب. وأىّ وقار لامرئ عرّى الصّبا، ... ومن خلفه شيب وقدّامه شيب؟ وقال آخر: من شاب، قد مات وهو حىّ، ... يمشى على الأرض مشى هالك! لو كان عمر الفتى حسابا ... كان له شيبه فذلك [1] . وقال محمود الورّاق: بكيت لقرب الأجل، ... وبعد فوات الأمل! ووافق شيب طرا ... بعقب شباب رحل. شباب كأن لم يكن ... وشيب كأن لم يزل. طوى صاحب صاحبا ... كذاك اختلاف الدّول! وقال عبيد بن الأبرص: والشيب شين لمن أمسى بساحته! ... لله درّ شباب اللّمة الخالى. وقال البحترىّ: وددت بياض السيف يوم لقيننى ... مكان بياض الشيب حلّ بمفرقى. وقال أبو العتاهية: عريت عن الشباب، وكان غضّا، ... كما يعرى من الورق القضيب. ألا ليت الشباب يعود يوما ... فأخبره بما فعل المشيب!   [1] الفذالك جمع الفذلكة أى نتائج الحساب التى يقال عندها: فذلك يكون كذا. (أنظر: شفاء الغليل للخفاجى) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 وقال آخر: يا حسرتا أين الشباب الذى ... على تعدّيه المشيب اعتدى؟ شبت، فما أنفكّ من حسرة ... والشيب في الرأس رسول الرّدى! إنّ مدى العمر قريب فما ... بقاء نفسى بعد قرب المدى؟ وقال آخر: هذا عذارك بالمشيب مطرّز ... فقبول عذرك في التصابى معوز! ولقد علمت- وما علمت توهّما- ... أن المشيب لهدم عمرك يرمز. وقال أيضا: ألست ترى نجوم الشّيب لاحت ... وشيب المرء عنوان الفساد! وقال أيضا: أبلى جديدى هذان الجديدان ... والشأن في أن هذا الشّيب ينعانى! كأنما اعتمّ رأسى منه بالجبل الر ... اسى، فأوهنى ثقلا وأوهانى. وقال آخر: لما رأت وضح المشيب بعارضى ... صدّت صدود مجانب متحمّل. فجعلت أطلب وصلها بتلطّف، ... والشيب يغمزها بأن لا تفعلى! وقال كشاجم: ضحكت! من شيبة ضحكت ... لسواد اللّمّة الرجله ثم قالت وهى هازئة: ... جاء هذا الشيب بالعجله! قلت: من حبّيك، لا كبر، ... شاب رأسى فانثنت خجله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 وثنت جفنا على كحل ... هى منه الدّهر مكتحله. أكثرت منه تعجّبها! ... فهى تجنيه وتعجب له. وقال أبو تمام: دقة في الحياة تدعى جلالا، ... مثل ما سمّى اللّديغ سليما. غرّة مرّة ألا إنّما كن ... ت أغرّا أيام كنت بهيما. وقال ابن المعتز: لقد أبغضت نفسى في مشيبى ... فكيف تحبّنى الخود الكعاب؟ وقال أبو هلال العسكرىّ: فلا تعجبا أن يعبن المشيبا ... فما عبن من ذاك إلا معيبا! إذا كان شيبى بغيضا إلىّ ... فكيف يكون إليها حبيبا؟ وقال محمد بن أميّة: رأين الغوانى الشيب لاح بعارضى، ... فأعرضن عنّى بالخدود النّواضر. وكنّ إذا أبصرننى أو سمعن بى، ... دنون فرقّعن اللّوى بالمحاجر. وقال آخر: قالت، وقد راعها مشيبى: ... كنت ابن عمّ فصرت عمّا. واستهزأت بى، فقلت أيضا: ... قد كنت بنتا فصرت أمّا. وقال آخر: تضاحكت لمّا رأت ... شيبا تلالا غرره. قلت لها: لا تعجبى ... أنبيك، عندى خبره. هذا غمام للردّى، ... ودمع عينى مطره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 ومما قيل في الخضاب من المدح، ما روى عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: «غيّروا هذا الشيب، وجنّبوه السواد» . وكان أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه يخضب بالحناء وبالكتم. وقد مدح الشعراء الخضاب. فمن ذلك قول عبد الله بن المعتزّ: وقالوا: النّصول مشيب جديد! ... فقلت: الخضاب شباب جديد! إساءة هذا بإحسان ذا ... فإن عاد هذا فهذا يعود. وقال أبو الطيب المتنبى: وما خضب الناس البياض لأنّه ... قبيح، ولكن أحسن الشّعر فاحمه. وقال محمود الورّاق: للضّيف أن يقرى ويعرف حقّه! ... والشيب ضيفك، فاقره بخضاب. وقال عبدان الأصبهانىّ: فى مشيبى شماتة لعداتى، ... وهو ناع منغّض لحياتى. ويعيب الخضاب قوم، وفيه ... أىّ أنس إلى حضور وفاتى. لا ومن يعلم السرائر منّى ... ما به رمت خلّة الغانيات. إنما رمت أن يغيّب عنى ... ما ترينيه كلّ يوم مراتى. وهو ناع إلىّ نفسى، ومن ذا ... سرّه أن يرى وجوه النّعات؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 وقال ابن الرومىّ: يا بياض المشيب سوّدت وجهى، ... عند بيض الوجوه سود القرون! فلعمرى، لأخفينّك جهدى ... عن عيانى وعن عيان العيون! ولعمرى، لأمنعنّك أن تض ... حك في رأس آسف محزون! بخضاب فيه ابيضاض لوجهى ... وسواد لوجهك الملعون! وقال آخر: نهى الشيب الغوانى عن وصالى ... وأوقع بين أحبابى وبينى. فلست بتارك تدبير ذقنى ... إلى أن ينقضى أمدى لحينى. أدبّر لحيتى ما دمت حيّا ... وأعتقها ولكن بعد عينى. وقال آخر: قالوا: فلان لم يشب، ... وأرى المشيب عليه أبطا. فأجبتهم: لولا حدي ... ث الصّبغ لانكشف المغطّى. ومما قيل في ذم الخضاب: قال محمود الورّاق، رحمه الله: يا خاضب الشيب الّذى ... فى كلّ ثالثة يعود. إن النّصول إذا بدا ... فكأنه شيب جديد. وله بديهة روعة ... مكروهها أبدا عتيد. فدع المشيب لما أرا ... د فلن يعود لما تريد. وقال آخر: تستّر بالخضاب، وأىّ شىء. ... أدلّ على المشيب من الخضاب؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 وقال ابن الرومىّ: قل للمسوّد حين سوّد: هكذا ... غشّ الغوانى في الهوى إياكا! كذب الغوانى في سواد عذاره، ... فكذبنه في ودّهنّ كذاكا! وقال المتنبى: ومن هوى كلّ من ليست مموّهة ... تركت لون مشيبى غير مخضوب. ومن هوى الصدق في قولى وعادته ... رغبت عن شعر في الوجه مكذوب. وقال الأمير شهاب الدين بن يغمور عفا الله عنه: يا صابغ الشّيب، والأيام تظهره: ... هذا الشباب، وحقّ الله مصنوع! إن الجديد إذا ما كان في خلق ... يبين للناس أن الثوب مرقوع. وأما ما وصف به الوجه، فمن ذلك ما قيل في المذكر قال الوجيهىّ: مستقبل بالذى يهوى، وإن كثرت ... منه الإساءة، معذور بما صنعا. فى وجهه شافع يمحو إساءته ... من القلوب، وجيها حيثما شفعا. وقال الآخر: رأيت الهلال على وجهه ... فلم أدر أيّهما أنور؟ سوى أنّ ذاك قريب المزار ... وهذا بعيد لمن ينظر. وذاك يغيب وذا حاضر ... فما من يغيب كمن يحضر. ونفع الهلال كثير لنا ... ونفع الحبيب لنا أكثر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 وقال ابن لنكك: البدر والشمس المني ... رة والدّمى والكوكب: أضحت ضرائر وجهه ... من حيث يطلع تغرب. وكأنّ جمر جوانحى ... فى خدّه يتلّهب. وكأنّ غصن قوامه ... من ماء دمعى يشرب. وصوالج في صدغه ... بسواد قلبى تلعب. وقال ابن المعدّل: نظرت إلى من زيّن الله وجهه، ... فيا نظرة كادت على عاشق تقضى! وكبّرت عشرا، ثم قلت لصاحبى: ... متى نزل البدر المنير إلى الأرض؟ وقال الخبز أرزّى: رأيت الهلال ووجه الحبيب ... فكانا هلالين عند النّظر فلم أدر من حيرتى فيهما ... هلال الدّجى من هلال البشر! فلولا التورّد في الوجنتين ... وما راعنى من سواد الشّعر، لكنت أظنّ الهلال الحبيب ... وكنت أظنّ الحبيب القمر! وقال أبو الشيص: تخشع شمس النهار طالعة ... حين تراه، ويخشع القمر. تعرفه أنه يفوقهما ... بالحسن، فى عين من له بصر. وقال أبو هلال العسكرىّ: ووجه نشرّب ماء النعيم، ... فلو عصر الحسن منه العصر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 وقال آخر: ليس فيها أن يقال لها: ... كملت، لو أن ذا كملا. كلّ جزء من محاسنها ... صائر من حسنها مثلا. وقال عمر بن أبى ربيعة: وفتاة إن يغب بدر الدّجى، ... فلنا في وجهها عنه خلف. أجمع الناس على تفضيلها، ... وهواهم في سواها مختلف. وقال الجمانىّ من أبيات: نرى الشمس والبدر معناهما ... بها واحدا، وهما معنيان. إذا طلعت وجهها، أشرقا ... بطلعتها، وهما آفلان. ومما وصف به صفاء الوجه ورقّة البشرة، فمن ذلك ما قيل مذكرا. قال أبو نواس: نظرت إلى وجهه نظرة ... فأبصرت وجهى في وجهه. وقال آخر. أعد نظرا! فما في الخدّ نبت، ... حماه الله من ريب المنون! ولكن رقّ ماء الوجه حتّى ... أراك مثال أهداب الجفون! ومثله قول الآخر: ولما استدارت أعين الناس حوله ... تلاحظه كيف استقلّ وسارا، تمثّلت الأهداب في ماء وجهه، ... فظنّوا خيال الشّعر فيه عذارا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 وقال الأرّجانىّ ما أنس، لا أنسى له موقفا، ... والعيس قد ثوّرهنّ الحداه. لمّا تجلّى وجهه طالعا، ... وقد ترامت نظرات الوشاه. قابلنى حين بدت أدمعى ... فى خدّه المصقول مثل المراه. يوهم صحبى أنه مسعدى ... بأدمع لم تذرها مقلتاه. وإنما قلّدنى منّة ... بدمع عين من جفونى امتراه. ولم تقع في خدّه قطرة ... إلا خيالات دموع البكاه. وقال أيضا: وأغيد رقّ ماء الوجه منه، ... فلو أرخى لثاما عنه، سالا. تبين سوادها الأبصار فيه، ... فحيث لحظت منه، حسبت خالا. ومن ذلك ما قيل في المؤنث، قال بشار وما ظفرت عينى غداة لقيتها ... شىء، سوى أطرافها والمحاجر. بحوراء من حور الجنان عزيزة، ... يرى وجهه في وجهها كلّ ناظر. وقال السرىّ الرفاء بيضاء تنظر من طرف تقلّبه ... مفرّق بين أجساد وأرواح. ماء النعيم على ديباج وحنبها ... يجول بين حتى ورد وتفّاح. رقّت فلو مرج الماء القراح بها ... والراح، لامترجت بالماء والراح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 وقال آخر: ليس فيها أن يقال لها: ... كملت، لو أن ذا كملا. كلّ جزء من محاسنها ... صائر من حسنها مثلا. وقال عمر بن أبى ربيعة: وفتاة إن يغب بدر الدّجى، ... فلنا في وجهها عنه خلف. أجمع الناس على تفضيلها، ... وهواهم في سواها مختلف. وقال الجمانىّ من أبيات: نرى الشمس والبدر معناهما ... بها واحدا، وهما معنيان. إذا طلعت وجهها، أشرقا ... بطلعتها، وهما آفلان. ومما وصف به صفاء الوجه ورقّة البشرة، فمن ذلك ما قيل مذكرا. قال أبو نواس: نظرت إلى وجهه نظرة ... فأبصرت وجهى في وجهه. وقال آخر. أعد نظرا! فما في الخدّ نبت، ... حماه الله من ريب المنون! ولكن رقّ ماء الوجه حتّى ... أراك مثال أهداب الجفون! ومثله قول الآخر: ولما استدارت أعين الناس حوله ... تلاحظه كيف استقلّ وسارا، تمثّلت الأهداب في ماء وجهه، ... فظنّوا خيال الشّعر فيه عذارا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 وقال الأرّجانىّ ما أنس، لا أنسى له موقفا، ... والعيس قد ثوّرهنّ الحداه. لمّا تجلّى وجهه طالعا، ... وقد ترامت نظرات الوشاه. قابلنى حين بدت أدمعى ... فى خدّه المصقول مثل المراه. يوهم صحبى أنه مسعدى ... بأدمع لم تذرها مقلتاه. وإنما قلّدنى منّة ... بدمع عين من جفونى امتراه. ولم تقع في خدّه قطرة ... إلا خيالات دموع البكاه. وقال أيضا: وأغيد رقّ ماء الوجه منه، ... فلو أرخى لثاما عنه، سالا. تبين سوادها الأبصار فيه، ... فحيث لحظت منه، حسبت خالا. ومن ذلك ما قيل في المؤنث، قال بشار وما ظفرت عينى غداة لقيتها ... شىء، سوى أطرافها والمحاجر. بحوراء من حور الجنان عزيزة ... يرى وجهه في وجهها كلّ ناظر. وقال السرىّ الرفاء بيضاء تنظر من طرف تقلّبه ... مفرّق بين أجساد وأرواح. ماء النعيم على ديباج وجنبها ... يجول بين حتى ورد وتفّاح. رقّت فلو مرج الماء القراح بها ... والراح، لامترجت بالماء والراح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 وقال الأرّجانىّ من أبيات: ولمّا تلاقينا، وللعين عادة ... تثير وشاة عند كلّ لقاء، بدت أدمعى في خدّها من صقاله، ... فغاروا وظنوا أن بكت لبكائى! ومما قيل في صفرة الوجه، فمن ذلك ما قيل مذكرا. قال أبو عبادة البحترىّ: بدت صفرة في وجهه، إنّ حمدهم ... من الدّرّ ما اصفرّت نواحيه في العقد. وقال آخر: لم تشن وجهه المليح، ولكن ... جعلت ورد وجنتيه بهارا. وقال الأرّجانىّ وأجاد: راق ماء الحياة من وجنتيه، ... فهو مرآة أوجه العشّاق! ومن ذلك ما قيل في المؤنث، قال سلم الخاسر: تبدّت فقلت: الشمس عند طلوعها ... بوجه غنىّ اللون عن أثر الورس! فقلت لأصحابى، وبى مثل ما بهم، ... على مرية: ما هاهنا مطلع الشمس! وقال أبو تمام: صفراء- صفرة صحة- قد ركّبت ... جثمانها في ثوب سقم أصفر. وقال مسعود الأصبهانىّ، شاعر الخريدة: وقينة قال لها ناقص: ... كملت، لولا صفرة اللون. قلت: اتّئد! فالشمس مصفرّة، ... وهى صلاح الأرض في الكون! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 ومما قيل في السّمرة، قال شاعر: كيف لا أعشق ظبيا ... سارحا في ظلّ ملك. إنما السّمرة فيه ... مزج كافور بمسك. وقال آخر: يا ذا الذى يذهب أمواله ... فى حبّ هذا الأسمر الفائق! ما الذهب الصامت مستكثرا ... إذهابه في الذهب الناطق! وقال آخر: ذهبىّ اللون! تحسب من ... وجنتيه النار تقتدح. خوّفونى من فضيحته! ... ليته وافى، وأفتضح! ومما قيل في السّواد (وهو يختص بالمؤنث) : قال الزركشىّ في «دنانير» البرمكية: أشبهك المسك، وأشبهته: ... قائمة في لونه قاعده. لا شكّ، إذ لونكما واحد، ... أنكما من طينة واحده. وقال ابن الرومىّ: أكسبها الحبّ أنها صبغت ... صبغة حبّ القلوب والحدق. فأقبلت نحوها الضمائر وال ... أبصار، يعبقن أيّما عبق! يفترّ ذاك السواد عن يقق ... فى ثغرها كاللّآلئ النّسق. كأنّها، والمزاح يضحكها، ... ليل تفرّى دجاه عن غسق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 وقال الصنوبرىّ يا غصنا من سبج رطب، ... أضبح منك الدرّ في كرب! حبّك من قلبى مكان الذى ... أشبهته من حبّة القلب. وقال محمد بن عبد الله السلامىّ، شاعر اليتيمة عفا الله عنه: يا ربّ غانية بيضاء تصبحنى ... من العتاب كؤوسا ليس تنساغ. أشتاق طرّتها أو صدغها ومعى ... من كلّها طرر سود وأصداغ! كأننا، لا أتاح الله فرقتنا! ... يا كعبة المسك، يا زنجيّة، زاغ. وقال آخر: أحبّ النساء السّود من أجل تكتم، ... ومن أجلها أحببت من كان أسودا! فجئنى بمثل المسك أطيب نفحة! ... وجئنى بمثل الليل أطيب مرقدا! وقال العسكرىّ: صرفت ودّى إلى السّودان من هجر، ... ولا التفتّ إلى روم ولا خزر! أصبحت أعشق من وجه ومن بدن ... ما يعشق الناس من عين ومن شعر. فإن حسبت سواد الخدّ منقصة، ... فانظر إلى سفعة في وجنة القمر! وقال بشار وأجاد: يكون الخال في خدّ نقىّ ... فيكسبه الملاحة والجمالا، ويونقه لأعين مبصريه، ... فكيف إذا رأيت اللون خالا؟ وقال أبو علىّ بن رشيق: دعائك الحسن فاستجيبى ... باسمك في صبغة وطيب. نيهى على البيص واستطيلى، ... تبه شباب على مشيب! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 ولا يرعك اسودادلون ... كمقلة الشادن الرّبيب. فإنما النّور عن سواد ... فى أعين الناس والقلوب! وقال آخر: إن أزهرت ليلا نجوم السما ... بيضا على أسود مرخى الإزار. وأوجب العكس مثالا لها، ... فالسّود في الأرض نجوم النهار. ومما وصف به أثر الجدرىّ في الوجه، فمن ذلك قول الناجم: يا قمرا جدّر لما استوى ... واكتسب الملح بتلك الكلوم! أظنّه غنّى لشمس الضّحى ... فنقّطته فرحا بالنّجوم. وقال آخر: وقالوا: شابه الجدرىّ، فانظر ... إلى وجه به أثر الكلوم! فقلت: ملاحة نثرت عليه! ... وما حسن السماء بلا نجوم؟ ومثله قول الآخر: أيّها العائبون وجها مليحا ... نثر الحسن فيه نبذ خدوش! أىّ أفق بها بغير نجوم؟ ... أىّ ثوب زها بغير نقوش؟ وقال أبو زيد القاضى: غاية الحاسد الذى لام فيه ... أن رأى فوق خدّه جدريّا. إنما وجهه هلال تمام، ... جعلوا برقعا عليه الثريّا! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 وقال أبو تمام بن رباح خدّك مرآة كلّ حسن، ... تحسن من حسنها الصّفات! مالى أرى فوقه نجوما، ... قد كسفت وهى نيّرات! ومما قيل في الحواجب، فمن محاسنها: الزّجج، والبلج. فأما الزّجج، فدقة الحاجبين وامتدادهما. وأما البلج، فهو أن يكون بينهما فرجة. والعرب تستحب ذلك. ومن معايبها: القرن، والزّبب، والمعط. فالقرن، اتصال الحاجبين. والعرب تكرهه. والزّبب، كثرة شعرهما. والمعط، تساقط الشعر عن بعض أجزائهما. ومما وصفت به الحواجب، قال الزاهى: وأغيد مجدول القوام جبينه ... سنا القمر البدرىّ في الغصن الرّطب. تنكّب قوس الحاجبين فسهمه ... لواحظه المرضى، وبرجاسه قلبى! وقال عبد الله بن أبى الشيص: حذرت الهوى حتّى رميت من الهوى ... بأصرد سهم من قسى الحواجب. وقال محمد بن عبد الرحمن الكوفىّ: ومستلب عين الغزال وقد ترى ... بجبهته عين الغزالة ماثلا. تناول قوس الحاجبين مفوّقا ... بأسهم ألحاظ تشكّ المقاتلا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 وقال آخر: غزانى الهوى في جيشه وجنوده ... وعبّى علىّ الخيل من كلّ جانب. بميمنة أعلامها أعين المها ... وميسرة تقضى بزجّ الحواجب. وقال آخر: لها حاجبان، الحسن والغنج منهما ... كأنهما نونان من خطّ ماشق. ومما قيل في العيون ووصفها، فمن محاسنها: الدّعج، وهو شدّة السّواد مع سعة المقلة. البرج، وهو شدّة سوادها وشدّة بياضها. النّجل، سعتها. الكحل، سواد جفونها من غير كحل. الحور، اتساع سوادها كأعين الظباء. وقيل: هو سواد العين وشدّة بياضها. الوطف، طول أشفارها؛ وفي الحديث أنه كان عليه الصلاة والسلام في أشفاره وطف. الشّهلة، حمرة في سوادها. ومن معايبها: الحوص، ضيق العين. الخوص، غؤورها مع الضيق. الشّتر، انقلاب الجفن. العمش، هو أن العين لا تزال سائلة رامصة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 الكمش، أن لا تكاد تبصر. الغطش، شبه العمش. الجهر، أن لا تبصر نهارا. العشا، أن لا تبصر ليلا. الخزر، أن ينظر بمؤخر عينه. الغضن، أن يكسر عينه حتّى تتغضّن جفونه. القبل، أن يكون كأنه ينظر إلى أنفه. وهو أهون من الحول. الشّطور، أن تراه ينظر إليك وهو ينظر إلى غيرك. وهو قريب من صفة الأحول. وفيه يقول الشاعر: حمدت إلهى إذ بلانى بحبّه ... وبى حول أغنى عن النظر الشّزر. نظرت إليه- والرقيب يظنّنى ... نظرت إليه- فاسترحت من العذر. الشّوص، أن ينظر بإحدى عينيه ويميل وجهه في شق العين التى ينظر بها. الخفش، صغر العين وضعف البصر. ويقال إنه فساد في العين يضيق له الجفن من غير وجع. الدّوش، ضيق العين وفساد البصر. الإطراق، استرخاء الجفن. الجحوظ، خروج المقلة وظهورها من الحجاج. البخق، أن يذهب البصر؛ والعين منفتحة. الكمه، أن يولد الإنسان وهو أعمى. البخص، أن يكون فوق العين أو تحتها لحم ناتئ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 فصل فى عوارض العين يقال: حسرت عينه، إذا اعتراها كلال من طول النظر. زرّت عينه، إذا توقّدت من خوف. سدرت عينه، إذا لم تكد تبصر. اسمدرّت عينه، إذا لاحت لها سمادير؛ وهى ما يتراءى لها من أشباه الذّباب وغيره. قدعت عينه، إذا ضعفت من الإكباب على النظر. حرجت عينه، إذا حارت. قال ذو الرمّة: وتحرج العين فيها حين تنتقب هجمت، إذا غارت. ونقنقت، إذا زاد غؤورها؛ وكذلك حجلت وهجّجت. ذهبت، إذا رأت ذهبا كثيرا فحارت فيه. شخصت، إذا لم تكد تطرف من الحيرة. فصل فى كيفية النظر وهيئته إذا نظر الإنسان إلى الشىء بمجامع عينيه، قيل: قد رمقه. فإذا نظر من جانب أذنه، قيل: لحظه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 فإذا نظر إليه بعجلة، قيل: لمحه. فإذا رماه ببصره مع حدّة، قيل: حدجه بطرفه. (وفي حديث ابن مسعود «حدّث القوم ما حدجوك بأبصارهم» ) . فإن نظر إليه بشدّة وحدّة، قيل: أرشقه وأسفّ النظر إليه. (وفي حديث الشعبىّ أنه كره أن يسفّ الرجل إلى أمّه وأخته وابنته) . فإن نظر إليه نظر المتعجّب أو الكاره المبغض، قيل: شفنه وشفن إليه شفونا وشفنا. فإن أعاره لحظ العداوة، قيل: نظر إليه شزرا. فإن نظر إليه بعين المحبة، قيل: نظر إليه نظرة ذى علق. فإن نظر إليه نظرة المستثبت، قيل: توضّحه. فإن نظر إليه واضعا يده على حاجبه مستظلّا بها من الشمس ليستبين المنظور إليه. قيل استكفّه واستوضحه واستشرفه. فإن شر الثوب ورفعه لينظر إلى صفاقته: قيل استشفّه. فإن نظر إلى الشىء كاللّمحة ثم خفى عنه، قيل: لاحه لوحة. قال الشاعر: وهل تنفعنّى لوحة لو ألواحها فإن نظر إلى جميع ما في المكان حتّى يعرفه، قيل: نفضه نفضا. فإن نظر في كتاب أو حساب، قيل: تصفّحه. فإن فتح عينيه لشدّة النظر، قيل: حدّق. فإن لألأهما، قيل برّق. فإن انقلب حملاق عينيه، قيل: حملق. فإن عاب سواد عينيه من الفزع، قيل برق بصره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 فإن فتح عين مفزّع أو مهدّد، قيل: حمّج. فإن بالغ في فتحها وأحدّ النظر عند الخوف، قيل: حدّج. فإن كسر عينه عند النظر، قيل: دنقش وطرفش. فإن فتح عينه وجعل لا يطرف، قيل: شخص. وفي القرآن العزيز: (شاخصة أبصارهم) . فإن أدام النظر مع سكون، قيل: أسجد. فإن نظر إلى أفق الهلال ليراه، قيل: تبصّره. فإن أتبع الشىء بصره، قيل: أتأره بصره. وقد أوسع الشعراء في وصف العيون ووصفوها بالمرض والسّقم، وإن كانت صحيحة. فمن ذلك قول الشاعر: برّح السّقم بى وليس صحيحا ... من رأت عينه عيونا مراضا. إنّ للأعين المراض سهاما ... صيّرت أنفس الورى أغراضا. جوهر الحسن منذ أعرض للقل ... ب ثنى الجسم كلّه أعراضا. وقال جرير: إنّ العيون التى في طرفها مرض ... قتلننا ثمّ لم يحيين قتلانا. يصرعن ذا الّلبّ حتّى لا حراك به ... وهنّ أضعف خلق الله أركانا. وقال ذو الرمّة: وعينان قال الله كونا فكانتا ... فعولين [1] بالألباب ما تفعل الخمر.   [1] المشهور فعولان. بالرفع وصف للعينين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 فإذا نظر إليه بعجلة، قيل: لمحه. فإذا رماه ببصره مع حدّة، قيل: حدجه بطرفه. (وفي حديث ابن مسعود «حدّث القوم ما حدجوك بأبصارهم» ) . فإن نظر إليه بشدّة وحدّة، قيل: أرشقه وأسفّ النظر إليه. (وفي حديث الشعبىّ أنه كره أن يسفّ الرجل إلى أمّه وأخته وابنته) . فإن نظر إليه نظر المتعجّب أو الكاره المبغض، قيل: شفنه وشفن إليه شفونا وشفنا. فإن أعاره لحظ العداوة، قيل: نظر إليه شزرا. فإن نظر إليه بعين المحبة، قيل: نظر إليه نظرة ذى علق. فإن نظر إليه نظرة المستثبت، قيل: توضّحه. فإن نظر إليه واضعا يده على حاجبه مستظلّا بها من الشمس ليستبين المنظور إليه. قيل استكفّه واستوضحه واستشرفه. فإن نشر الثوب ورفعه لينظر إلى صفاقته: قيل استشفّه. فإن نظر إلى الشىء كاللّمحة ثم خفى عنه، قيل: لاحه لوحة. قال الشاعر: وهل تنفعنّى لوحة لو ألواحها فإن نظر إلى جميع ما في المكان حتّى يعرفه، قيل: نفضه نفضا. فإن نظر في كتاب أو حساب، قيل: تصفّحه. فإن فتح عينيه لشدّة النظر، قيل: حدّق. فإن لألأهما، قيل برّق. فإن انقلب حملاق عينيه، قيل: حملق. فإن عاب سواد عينيه من الفزع، قيل برق بصره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 فإن فتح عين مفزّع أو مهدّد، قيل: حمّج. فإن بالغ في فتحها وأحدّ النظر عند الخوف، قيل: حدّج. فإن كسر عينه عند النظر، قيل: دنقش وطرفش. فإن فتح عينه وجعل لا يطرف، قيل: شخص. وفي القرآن العزيز: (شاخصة أبصارهم) . فإن أدام النظر مع سكون، قيل: أسجد. فإن نظر إلى أفق الهلال ليراه، قيل: تبصّره. فإن أتبع الشىء بصره، قيل: أتأره بصره. وقد أوسع الشعراء في وصف العيون ووصفوها بالمرض والسّقم، وإن كانت صحيحة. فمن ذلك قول الشاعر: برّح السّقم بى وليس صحيحا ... من رأت عينه عيونا مراضا. إنّ للأعين المراض سهاما ... صيّرت أنفس الورى أغراضا. جوهر الحسن منذ أعرض للقل ... ب ثنى الجسم كلّه أعراضا. وقال جرير: إنّ العيون التى في طرفها مرض ... قتلننا ثمّ لم يحيين قتلانا. يصرعن ذا الّلبّ حتّى لا حراك به ... وهنّ أضعف خلق الله أركانا. وقال ذو الرمّة: وعينان قال الله كونا فكانتا ... فعولين [1] بالألباب ما تفعل الخمر.   [1] المشهور فعولان. بالرفع وصف للعينين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 وقال أبو تمام: متطلّب بصدوده قتلى ... فرد المحاسن وجهه شغلى. ألحاظه في الخلق مسرعة ... فيما تريد كسرعة النّبل. وقال آخر: ألحاظكم تجرحنا في ألحشاء ... ولحظنا يجرحكم في الخدود. جرح بجرح، فاجعلوا ذا بذا! ... فما الّذى أوجب هذا الصّدود؟ وقال آخر: ومقلة شادن أودت بقلبى، ... كأنّ السّقم لى ولها لباس. يسلّ اللحظ منها مشرفيّا ... لقتلى، ثم يغمده النّعاس. وقال ابن الرومىّ: يا عليلا، جعل العلّ ... ة مفتاحا لظلمى! ليس في الأرض عليل ... غير جفنيك وجسمى. بك سقم في جفون، ... سقمها أكّد سقمى. وقال تاج الدين بن أيوب: أسقمنى طرفك السّقيم، وقد ... حكاه منّى في سقمه الجسد! هبّ نسيم من نحو أرضك لى ... فزادنى في هواك ما أجد. وهاج شوقى، والنار ما برحت ... عند هبوب الرّياح تتّقد. وقال ابن المعتز: ضعيفة أجفانه، ... والقلب منه حجر! كأنما ألحاظه ... من فعله تعتذر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 ومما وصفت به العيون على لفظ التأنيث، فمن ذلك ما قاله عدىّ بن الرقاع: وكأنّها بين النّساء أعارها ... عينيه أحور من جآذر جاسم. وسنان أقصده النّعاس فرنّقت ... فى عينه سنة وليس بنائم. وقال الناجم: كاد الغزال يكونها، ... لكنّما هو دونها. والنّرجس الغضّ الجن ... ىّ أغضّ منه جفونها. من كان يعرف فضلها ... فعن القياس يصونها. وقال أبو دلف: نقتنص الآساد من غيلها، ... وأعين العين لنا صائده! ينبو الحسام العضب عنا وقد ... تكلم فينا النظرة القاصدة! تهابنا الأسد، ونخشى المها: ... آبدة ما مثلها آبذه! وقال آخر: لله ما صنعت بنا ... تلك المحاجر في المعاجر! أمضى وأنفذ في القلو ... ب من الخناجر في الحناجر! وقال آخر: ينظرن من خلل السّجوف كأنّما ... يمطرن أحشاء الكريم نبالا! وقال أبو فراس الحمدانىّ عفا الله تعالى عنه ورحمه: وبيض بألحاظ العيون كأنّما ... هززن سيوفا أو سللن خناجرا. تصدّين لى يوما بمنعرج اللّوى ... فغادرن قلبى بالتصبّر غادرا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 سفرن بدورا، وانتقبن أهلّة، ... ومسن غصونا، والتفتن جآذرا. وأطلعن في الأجياد للدّرّ أنجما ... جعلن لحبّات القلوب ضرائرا. وقال ابن الرومىّ: نظرت، فأقصدت الفؤاد بطرفها، ... ثم انثنت عنّى، فكدت أهيم! ويلاى! إن نظرت وإن هى أعرضت: ... وقع السّهام ونزعهنّ أليم! وقال أيضا: لطرفها وهو مصروف كموقعه ... فى القلب حين يروع القلب موقعه. تصدّ بالطّرف لا كالسّهم تصرفه ... عنّى، ولكنّه كالسّهم تنزعه. وقال الأرّجانى: نقبوهنّ خشية العشّاق! ... أو لم تكف فتنة الأحداق؟ إنّ في الأعين المراض لشغلا ... للمعنّى عن الخدود الرّقاق! كلّ ما فات في الليالى المواضى ... فهو في ذمّة اللّيالى البواقى. وقال أيضا: سترن المحاسن إلا العيونا ... كما يشهد المعرك الدّارعونا. سللن سيوفا ولاقيننا! ... فلا تسأل اليوم ماذا لقينا. كسرن الجفون ولولا الرّضا، ... بحكم الغرام كسرنا الجفونا. وحسب الشهيد سرورا بأن ... يعاين حورا مع القتل عينا. وقال أبو نواس: ضعيفة كرّ الطّرف تحسب أنها ... قريبة عهد بالإفاقة من سقم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 وقال آخر: يا من تكحّل طرفها ... بالسّحر لا بالإثمد! نفسى كما عذّبتها ... وقتلتها بالإثم، دى [1] ! ومما قيل في أدواء العين، فمن ذلك: الغمص، أن لا تزال العين ترمص. اللّحح، أسوأ الغمص. اللّخص، التصاق الجفون. العائر، الرّمد الشديد. وفيه يقول النابغة: وبات وباتت له ليلة ... كليلة ذى العائر الأرمد. وكذلك الساهك. الغرب، ورم في المآقى. السّبل، أن يكون على بياضها وسوادها شبه غشاء. السّجا [2] ، أن يعسر على الإنسان فتح عينيه إذا انتبه من النوم: الظّفر، ظهور ظفرة (وهى جليدة تغشى العين من تلقاء المآقى) . الطّرفة، أن يحدث في العين نقطة حمراء. الانتشار، أن يتسع ثقب الناظر حتّى يلحق البياض من كل جانب. الحثر، أن يخرج في العين حبّ وهو الجرب. القمر، أن يعرض للعين فترة وفساد. يقال: قمرت عينه.   [1] فعل أمر للمؤنث من «ودى» بمعنى دفع الدية بسبب الإثم الذى وقع منها [2] فى «فقه اللغة» الجسأة [بتقديم الجيم على السين ولعله الصواب] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 ومما قيل في أرمد، فمن ذلك قول عبد الله بن المعتز (وقيل إنها لابن الرومىّ، وقيل للناجم) : قالوا: اشتكت عينه! فقلت لهم: ... من كثرة الفتك نالها الوصب! حمرتها من دماء من قتلت، ... والدم في النّصل شاهد عجب. وقال ابن منير الطرابلسىّ: رنا وفي طرفه احمرار، ... يغضّ من سحر مقلتيه. وفاض من نرجسيه ماء، ... ضرّجه ورد وجنتيه. فقلت يا ممرضى بوجه، ... أظنّ دائى سرى إليه! هيهات، لا تجحدنّ قتلى! ... هذا دمى شاهد عليه! وقال الواثق بالله: لى حبيب قد طال شوقى إليه، ... لا أسميّه من حذارى. عليه. لم تكن عينه لتجحد قتلى، ... ودمى شاهد على وجنتيه! وقال الصولىّ: يكسر لى طرفا به حمرة، ... قد خلط النّرجس في ورده. ما احمرّت العين، ولكنّه ... يكحلها من وردتى خدّه! وقال آخر: قالوا: بدت في عينه حمرة ... قد حازها من وردة الخدّ. فقلت لم يرمد ولكنه ... يصافح النّرجس بالورد! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 وقال أبو عبد الله بن الحدّاد الوزير: يا شاكى الرّمد الذى بشكاته، ... قد صار دهرى فيه ليلة أرمدا! الله والإشفاق يعلم أنّنى ... لو أستطيع فدا، لكنت لك الفدا! كم من دم سفكت جفونك لم تزل ... تخفى وتكتم سفكه حتّى بدا. لم يشتمل بدم غرار مهنّد ... إلا وقد أهدى النفوس إلى الرّدى. وقال أبو الفرج الببغاء: بنفسى ما يشكوه من راح طرفه ... ونرجسه مما دهى حسنه ورد! أراقت دمى ظلما محاسن وجهه، ... فأضحت وفي عينيه آثاره تبدو! غدت عينه كالجمر حتّى كأنما ... سقى عينه من ماء توريده الخدّ. لئن أصبحت رمداء مقلة مالكى، ... لقد طال ما استشفت به مقل رمد! وقال آخر: قضب الهند والقنا أخدانك! ... والمقادير في الورى أعوانك! أيّها ذا الأمير ما رمدت عي ... نك! حاشا لها، ولا أجفانك! بل حكت فعلك الكريم لبضحى ... شانها في العلى سواء وشانك. فهى تحمرّ مثل سيفك في الرّو ... ع، وتصفو كما صفا إحسانك. وقال آخر وأجاد: لقد جار ما تشكوه في الحكم واعتدى ... وأسرف في أفعاله وتمرّدا! فمن لى بأن لو كنت أعرف حيلة ... تصيّر أجفانى لأجفانك الفدا؟ دهت عينك العين التى قد قضى القضا ... بأنك فيها سوف تصبح أرمدا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 فمذ بدّلت من نرجس بشقائق، ... أعادت لجين الدمع منّى عسجدا. سللت حسام اللحظ منها على الورى، ... وقد كان أحرى أن يصان ويغمدا! فأنت الذى أبليتها بالذى بها، ... إذا السيف لم يغمد تراكبه الصّدا. ومما قيل في أرمد غطى عينيه بشعريّة، [1] قول السراج الورّاق: شعريّتى، مذرمدت قد حجبت ... طرفى عنكم، فصرت محبوسا. الحمد لله! زادنى شرفا: ... كنت سراجا فصرت فانوسا. وقال آخر: غطّى على عينيه شعريّة، ... تشعل في القلب لهيب الغرام. كأنّه البدر بدا نصفه، ... ونصفه الآخر تحت الغمام! وقال آخر: لا تحسبوا شعريّة أصبحت ... من رمد في وجهه مرسله. وإنما وجنته كعبة، ... أستارها من فوقها مسبله. ومن رقعة كتبها أرمد (وهو عبد الله بن عثمان الواثقى) عفا الله عنه. قال: صادف ورود كتابه رمدا في عينى قد حصرنى في الظّلمه، وحبسنى بين الغم والغمّه، وتركنى أدرك بيدى ما كنت أدرك بعينى: كليل سلاح البصر، قصير خطو النظر. قد ثكلت مصباح وجهى، وعدمت بعضى، الذى هو آثر عندى   [1] لم نعثر على هذه الكلمة في اللسان ولا في القاموس. وفي شفاء الغليل للخفاجى: أن «شعريّة نسبة الى الشعر: غشاء أسود رقيق يكون على وجه النساء والأرمد، وأصله أنه ينسج من الشعر ثم يطلق على كل ما شابهه، وهى مولّدة» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 من كلّى. فالبيض عندى سود، والقريب منّى بعيد! قد أحاط الوجع أجفانى، وقبض عن التصرّف بنانى؛ ففراغى شغل، ونهارى ليل، وطوال الخطا قصار، وقصار أوقاتى طوال. وأنا ضرير وإن عددت في البصراء، وأمّىّ وإن كنت من جملة الكتّاب والقرّاء. قد قصرت العلة خطوتى قلمى وبنانى، وقامت بين يدى ولسانى. وقد كانت العرب تزاوج بين كلمات، فيقولون: القلّة ذلّة، والوحدة وحشة، والهوى هوان، والأقارب عقارب، والمرض حرض، والرّمد كمد، والعلة قلّة، والقاعد مقعد. والله تعالى أعلم. فصل فى ترتيب البكاء إذا تهيأ الرجل للبكاء، قيل: أجهش. فإذا امتلأت عينه دموعا، قيل: أغرورقت عينه، وترقرقت. فإذا سالت، قيل: دمعت، وهمعت. فإذا كثرت دموعه، قيل: همت. فإن كان لبكائه صوت، قيل نحب ونشج. فإذا صاح مع بكائه، قيل: أعول. قال سلم الخاسر: أتتنى تؤنّبنى في البكاء ... فأهلا بها، وبتأنيبها! تقول، وفي قولها حشمة: ... أتبكى بعين ترانى بها؟ فقلت: إذا استحسنت غيركم، ... أمرت الدّموع بتأديبها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 فصل فيما قيل في الأنف الشّمم، ارتفاع قصبة الأنف مع استواء أعلاها. القنا، طول الأنف، ودقّة أرنبته، وحدب في وسطه. الفطس، تطامن قصبته مع ضخم الأرنبة. الخنس، تأخّر الأنف عن الوجه. الذّلف، شخوص طرفه مع صغر أرنبته. الخشم، فقدان حاسّة الشمّ. الخرم، شقّ في المنخرين. الخثم، عرض الأنف. (يقال ثور أخثم) . القغم، اعوجاج في الأنف. (قال الشاعر: ليّن المنخرين معتدل الما ... رن لا سائل ولا جعد.) ومما قيل في الشّفاه والفم، الشّدق، سعة الشّدقين. الضّجم، ميل في الفم وفيما يليه. الضّزز، لصوق الحنك الأعلى بالأسفل. الهدل، استرخاء الشفتين وغلظهما. اللّطع، بياض يعتريهما. القلب، انقلابهما. الجلع، قصرهما عن الانضمام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 فصل فى تقسيم ماء الفم ما دام فيه، فهو ريق، ورضاب. فإذا علك، فهو عصيب. فإذا سال، فهو لعاب. فإذا رمى به، فهو بزاق، وبصاق. فصل فى ترتيب الضحك [1] التبسّم أوّل مراتبه، ثم الإهلاس وهو إخفاؤه، ثم الافترار، ثم الانكلال وهما الضحك الحسن، ثم الكتكتة أشدّ منهما، ثم القهقهة والقرقرة والكركرة، ثم الاستغراب، ثم الطّخطخة، ثم الإهزاق والزّهزقة، وهو أن يذهب الضحك به كلّ مذهب. قال كشاجم: عذبت في الرّشف منه شفة ... مصّها أطيب من نيل الأمل! وعليها حمرة في لعس ... تستعير اللون من صبغ الخجل! هى فيما خلت آثار دم ... من فؤادى، علّ فيه ونهل!   [1] فى الأصل: فى تقسيم ماء الوجه وترتيب الضحك. ولعدم وجود كلام على تقسيم ماء الوجه حذفناه من العنوان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 وقال ابن سكّرة الهاشمىّ: يا ضاحكا، يستهلّ مضحكه ... عن برد واضح وعن شنب! أعطيتنى قبلة رشفت بها الش ... هد مشوبا بعبرة العنب. كأنّنى إذ لثمت فاك بها ... لثمت تفّاحة من الذهب. وقال كشاجم: كأنّ الشفاه اللعس منها خواتم ... من التّبر مختوم بهنّ على درّ. وقال سيف الدّولة بن حمدان، فى صباه: أقبّله على عجل ... كشرب الطائر الفزع. رأى ماء فأطمعه ... فخاف عواقب الطّمع. فصادف فرصة فدنا ... ولم يلتذّ بالجرع. ومما قيل في طيب الريق والنكهة على لفظ التذكير، فمن ذلك قول ابن الرومىّ: أهيف الغصن، أهيل الدّعص لما ... يقتسم قدّه وشاح ومرط. طيّب طعمه إذا ذقت فاه، ... والثّريّا في جانب الغرب قرط. وقال آخر: با مانعى طيب المنام، ومانحى ... ثوب السّقام، وتاركى كالآل! عمّن أخذت جواز منعى ريقك ال ... معسول، يا ذا المعطف العسّال؟ عن ثغرك النظّام، أم عن شعرك ال ... فحّام، أم عن طرفك الغزّال؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 وقال آخر أتدرون شمعتنا لم هوت؟ ... لتقبيل ذا الرّشإ الأكحل! درت أن ريقته شهدة ... فحنّت إلى إلفها الأوّل. وقال بشار بن برد: يا أطيب الناس ثغرا غير مختبر ... إلّا شهادة أطراف المساويك! وقال ابن وكيع البستىّ: ريق إذا ما ازددت من شربه ... ريّا، ثنانى الرّىّ ظمآنا. كالخمر أروى ما يكون الفتى ... من شربها أعطش ما كانا. وقال ابن الرومىّ: يا ربّ ريق بات بدر الدّجى ... يمجّه بين ثناياكا. يروى ولا ينهاك عن شربه ... والماء يرويك وينهاكا. وقال أبو الفتح كشاجم: بلغته الكأس فارتعدت ... طربا منها إلى فمه. منعته أن يؤخّرها ... فى يديه من تحشّمه. فحساها ثم أعقبها ... أرجا من طيب مبسمه. وقال آخر: بقدر الصّبابة عند المغيب، ... تكون المسرّة عند الحضور. وأطيب ما كان يرد الثّغور ... إذا هو صادف حرّ الصّدور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 ومما وصف به على لفظ التأنيث، فمن ذلك قول ابن ميّادة: كأنّ على أنيابها المسك شابه ... بعيد الكرى من آخر الليل عابق. وما ذقته إلا بعينى تفرّسا ... كما شيم في أعلى السحابة بارق. يضم إلىّ الليل أذيال حبّها ... كما ضمّ أردان القميص البنائق. وقال البحترىّ: كأنّ على أنيابها بعد هجعة، ... إذا ما نجوم الليل حان انحدارها، مجاجة مسك صفّقت بمدامة ... معتّقة صهباء، حان اعتصارها. وقال ذو الرمة: أسيلة مجرى الدّمع هيفاء طفلة ... عروب، كإيماض الغمام ابتسامها. كأنّ على فيها، وما ذقت طعمه، ... زجاجة خمر طاب فيها مدامها. وقال كشاجم: البدر لا يغنيك عنها إذا ... غابت وتغنيك عن البدر. فى فمها مسك ومشمولة ... صرف ومنظوم من الدّرّ. فالمسك للنّكهة، والخمر للرّ ... يقة، واللّؤلؤ للثّغر. وقال الهذلىّ: وما صهباء صافية شمول، ... كعين الدّيك منجاب قذاها، تشجّ بماء سارية عريص ... على ظمإ به رصف صفاها، بأطيب نكهة من طعم فيها ... إذا ما طار عن سنة كراها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 وقال ابن الرومىّ: وما تعتريها آفة بشريّة ... من النّوم إلا أنها تتختّر. كذلك أنفاس الرّياض بسحرة ... تطيب وأنفاس الأنام تغيّر. وما ذفته إلا بشمّ ابتسامها ... وكم مخبر يدنيه للعين منظر. وغير عجيب طيب أنفاس روضة ... منوّرة باتت تراح وتمطر. وقال جميل: وكأنّ طارقها على علل الكرى، ... والنجم وهنا قد دنا لتغوّر، يستاف ريح مدامة معلولة ... بذكىّ مسك أو سحيق العنبر. وقال الشريف الموسوىّ، شاعر اليتيمة: يا عذبة المبسم! بلّى الجوى ... بنهلة من ريقك البارد! أرى غديرا سيّحا ماؤه، ... فهل لذاك الماء من وارد؟ من لى بذاك العسل الذائب ال ... جارى خلال البرد الجامد؟ ومما قيل في طيب عرف النساء، قالوا: من أجود ما قيل في ذلك من قديم الشعر قول الاعشى: ما روضة من رياض الحزن معشبة ... خضراء جاد عليها مسبل هطل، يضاحك الشمس منها كوكب شرق ... مؤزّر بعميم النبت مكتهل، يوما بأطيب منها نشر رائحة ... ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 وقول القطامىّ: وماريح قاع ذى خزامى وحوله ... شذا أرج من طيّب النّبت غارب، بأطيب من مىّ إذا ما تقلّبت ... من الليل وسنى جانبا بعد جانب. أخذه ابن المعتز ببعض لفظه وزاد زيادة حسنة، فقال: وما ريح قاع زاهر مسّت النّدى ... وروض من الرّيحان سحّت سحائبه، فجاء سحيرا بين يوم وليلة ... كما جرّ من ذيل الغلالة ساحبه، بأطيب من أنياب سرّة موهنا ... إذا الليل أدجى وارجحنّت كتائبه. إذا رغبت عن جانب من فراشها ... تضوّع مسكا أين مالت جوانبه. وقال ابن الرومىّ: والعرف ندّ ذكىّ، وهى ذاكية ... إذا أساء جوار العطر أبدان. نعيم كلّ بهار من مجامرها ... ويشمس الليل منها فهو ضحيان. كأنها، وعثان النّدّ يشملها، ... شمس عليها ضبابات وأدجان. وقال ابن الأحنف: ذكرتك بالرّيحان لمّا شممته ... وبالراح لما قابلت أوجه الشّرب. تذكّرت بالريحان منك روائحا ... وبالراح طعما من مقبّلك العذب. ومن البليغ قول سحيم: فما زال بردى طيّبا من ثيابها ... إلى الحول، حتّى أنهج البرد باليا. وأبلغ منه قول الأحنف: وجد الناس ساطع المسك من دج ... لة قد أوسع المشارع طيبا. فهم ينكرون ذاك وما يد ... رون أن قد حللت منها قريبا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 وقال آخر، وأحسن: جارية أطيب من طيبها ... والطّيب فيها المسك والعنبر. ووجهها أحسن من حليها ... والحلى فيها الدّرّ والجوهر. وقال امرؤ القيس: ألم تر أنى كلّما جئت طارقا، ... وجدت بها طيبا، وإن لم تطيّب. وقال آخر: أتاها بعطر أهلها فتضاحكت ... وقالت: وهل يحتاج عطر إلى عطر؟ وقد بالغوا حتّى وصفوا طيب المواضع التى وطئها المحبوب. وأوّل من قال ذلك النميرى الشاعر في زينب بنت يوسف أخت الحجاج فقال: تضوّع مسكا بطن نعمان أن مشت ... به زينب في نسوة خفرات. وقال جميل: ألا أيّها الربع الذى غيّر البلى! ... عفا وخلا، من بعد ما كان لا يخلو. تداءب ريح المسك فيه وإنما ... به المسك أن جرّت به ذيلها جمل. وقول الآخر: أرى كلّ أرض دست فيها، وإن مضت ... لها حجج، يزداد طيبها ترابها! ومما قيل في الأسنان، فمن محاسنها: الشّنب، وهو رقّة الأسنان واستواؤها وحسنها. الرّتل، حسن تنضيدها واتساقها. التّفليج، تفرّج ما بينها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 الشّتت، تفرّقها من غير تباعد بل في استواء وحسن. (يقال: ثغر شتيت، إذا كان مفلّجا حسنا أبيض) . الأشر، تحزيز في أطراف الثنايا يدل على حداثة السن. الظّلم، الماء الذى يجرى على الأسنان من البريق لا من الرّيق. فصل فى مقابحها الرّوق، طولها. الكسس، صغرها. الثّعل، تراكبها وزيادة سنّ فيها. الشّغا، اختلاف منابتها. اللّصص، شدّة تقاربها وانضمامها. اليلل، إقبالها على باطن الفم. الدّفق، انصبابها إلى قدّام. الفقم، تقدّم سفلاها على العليا. القلح، صفرتها. الطّرامة، خضرتها. الحفر، ما يلزق بها. الدّرد، ذهابها. الهتم، انكسارها. اللّطط، سقوطها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 فصل فى ترتيب الأسنان وهى: أربع ثنايا، وأربع رباعيات، وأربع أنياب، وأربع ضواحك، وثنتا عشرة رحا، وأربعة نواجذ. قال أبو الفتح كشاجم: عرضن! فعرّضن القلوب من الجوى ... لأسرع في كىّ القلوب من الجمر! كأن الشّفاه اللّعس فيها خواتم ... من المسك، مختوم بهنّ على درّ. وقال أيضا: كالغصن في روضة تميس: ... تصبو إلى حسنها النّفوس. ما شهدت والنّساء عرسا، ... فشكّ في أنها عروس! تبسم عن باسم برود ... تعبق من طيبه الكؤوس. يجمع فيه لمجتنيه: ... مسك، وورد، وخندريس. وقال المتنبى: ويبسمن عن درّ تقلّدن مثله ... كأنّ التّراقى وشحّت بالمباسم. وقال الصنوبرىّ: تلك الثّنايا من عقدها نظمت، ... بل نظم العقد من ثناياها. وقال البحترىّ: ويرجع الليل مبيضّا إذا ضحكت ... عن أبيض خصل السّمطين وضّاح. وقال ابن الرومىّ: كأنّى لم أبت أسقى رضابا: ... يموت به ويحيا المستهام! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 تعلّلنيه واضحة الثّنايا، ... كأنّ لقاءها حولا لمام. تنفّس كالشّمول ضحى شمال ... إذا ما فضّ عن فمها الختام. وقال النابغة: تجلو بقادمتى حمامة أيكة ... بردا، أسفّ لثاته بالإثمد. كالأقحوان غداة غبّ سمائه ... جفّت أعاليه، وأسفله ندى. وقال شقيق بن سليل: وتبسم عن ألمى اللّثات، مفلّج: ... خليق الثّنايا بالعذوبة والبرد. وقال جميل: بذى أشر كالأقحوان يزينه ... ندى الطّلّ، إلا أنه هو أملح. وقال السمهرىّ: كأنّ وميض البرق بينى وبينها، ... إذا حان من بعض البيوت، ابتسامها. وقال آخر: أحاذر في الظلماء أن تستشفّنى ... عيون العبارى في وميض المضاحك! ومما قيل في السّواك، قول بعض الشعراء: أقول لمسواك الحبيب: لك الهنا، ... بلثم فم ما ناله ثغر عاشق! فقال، وفي أحشائه حرق الجوى ... مقالة صبّ للديار مفارق: تذكّرت أوطانى فقلبى كما ترى، ... أعلّله بين العذيب وبارق! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 وقال آخر: نقل الأراك بأن ريقة ثغره ... من قهوة، مزجت بماء الكوثر. قد صحّ ما نقل الأراك لأنه ... قد جاء يروى عن «صحاح الجوهرى» . وقال آخر: بالله، إن جزت بوادى الأراك ... وقبلت أغصانه اللّدن فاك، فابعث إلى المملوك من بعضها ... فإنّنى والله ما لى سواك! ومما قيل في اللسان، فمن محاسنه: إذا كان الرجل حادّ اللسان قادرا على الكلام، فهو ذرب اللسان، وفتيق اللسان. فإذا كان جيّده، فهو لسن. فإذا كان يضعه حيث أراد، فهو ذليق. فإذا كان فصيحا بيّن اللهجة، فهو حذاقىّ. فإذا كان مع حدّة اللسان بليغا، فهو مسلاق. فإذا كان لا يعترض لسانه عقدة، ولا يتحيّف بيانه عجمة، فهو مصقع. فإذا كان المتكلم عن القوم، فهو مدره. فصل فى عيوبه الرّتّة، حبسة في لسان الرجل، وعجلة في كلامه. اللّكنة والحكلة، عقدة في اللسان وعجمة في البيان. الهتهتة (بالتاء والثاء) ، حكاية التواء اللسان عند الكلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 التّعتعة (بالتاء والثاء) . حكاية صوت الألكن والعىّ. الّلثغة، أن يصيّر الراء لاما من كلامه. الفأفأة، أن يتردّد في الفاء. التّمتمة، أن يتردّد في التاء. اللّفف، أن يكون في للسان ثقل وانعقاد. اللّيغ، أن لا يبيّن الكلام. اللّجلجة، أن يكون فيه عىّ وإدخال بعض كلامه في بعض. الخنخنة، أن يتكلم من لدن أنفه. ويقال: هى أن لا يبيّن الرجل كلامه فيخنخن فى خياشيمه. المقمقة، أن يتكلم من أقصى حلقه. فصل فى ترتيب العى ّ يقال: رجل عيىّ. ثم حصر، ثم فهّ، ثم مفحم، ثم لجلاج، ثم أبكم. قال علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: المرء مخبوّ تحت لسانه. وقال شاعر: وما المرء إلّا الأصغران: لسانه ... ومعقوله. والجسم خلق مصوّر. وقال امرؤ القيس: وذلك من نبإ جاءنى، ... وخبّرته عن أبى الأسود. ولو عن نثا غيره جاءنى، ... وجرح اللسان كجرح اليد. (النّثا القبيح من الكلام) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 وقال جرير: لسانى وسيفى: صارمان كلاهما! ... وللسّيف أشوى وقعة من لسانيا! (قوله أشوى إذا أخطأ المقتل) . وقال آخر: وجرح السيف تدمله فيبرى، ... وجرح الدّهر ما جرح اللسان! ومما وصف به حسن الحديث والنغمة، فمن ذلك قول ذى الرمّة: ولمّا تلاقينا، جرت من عيوننا ... دموع كففنا غربها بالأصابع. ونلنا سقاطا من حديث كأنه ... جنى النحل ممزوجا بماء الوقائع. وقال أيضا: وإنا ليجرى بيننا حين نلتقى ... حديث له وشى كوشى المطارف! حديث كوقع القطر في المحل يشتفى ... به من جوّى في داخل القلب، لاطف. وقال ابن الرومىّ: ولقد سئمت مآربى، ... فكأنّ طيّبها خبيث. إلّا الحديث فإنّه ... مثل اسمه أبدا حديث. وقال بشّار: وكأنّ رجع حديثها ... قطع الرياض كسين زهرا. وكأنّ تحت لسانها ... هاروت ينفث فيه سحرا. وتخال ما اشتملت علي ... هـ ثيابها: ذهبا وعطرا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 وقال البحترىّ: فلمّا التقينا- والنّقا موعد لنا- ... تعجّب رائى الدّرّ حسنا ولاقطه. فمن لؤلؤ تجلوه عند ابتسامها، ... ومن لؤلؤ عند الحديث تساقطه! وقال آخر: ظللنا نشاوى عند أمّ محمد ... بنوم، ولم نشرب شرابا ولا خمرا! إذا صمتت عنّا، صحونا بصمتها؛ ... وإن نطقت، هاجت لألبابنا سكرا. وقال ابن الرومىّ عفا الله عنه: وحديثها السّحر الحلال، لو انّه ... لم يجن قتل العاشق المتحرّز. إن طال لم يملل، وإن هى أو جزت ... ودّ المحدّث أنها لم توجز. شرك القلوب، وفتنة ما مثلها ... للمطمئنّ، وعقلة المستوفز. وقال القطامىّ: فهنّ ينبذن من قول يصبن به ... مواقع الماء من ذى الغلّة الصادى. وقال علىّ بن عطية البلنسىّ: كلّمتنى فخلت درّا نثيرا، ... وتأمّلت عقدها هل تناثر. فازدهاها جمالها، فأرتنى ... عقد درّ من التبسّم آخر! وقال الوأواء الدّمشقىّ: وحديث كأنّه ... أوبة من مسافر. كان أحلى من الرّقا ... دلدى طرف ساهر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 بتّ ألهو بطيبه ... فى رياض زواهر: بين ساق وسامر ... ومغنّ وزامر. وقال الطائىّ: مدّت إليك بنانة أسروعا، ... تشكو الفراق، ومقلة ينبوعا. كادت لعرقان النّوى ألفاظها ... من رقّة الشّكوى تكون دموعا. وقال ابن المعتزّ: وسرّ أحاديث عذاب لو أنّها ... جنى النحل، لم تمجج حلاوتها النحل. ومما قيل في الأذن، الصّمع، صغرها. السّكك، كونها في نهاية الصّغر. القنف، استرخاؤهما وإقبالهما إلى الوجه. الخطل، غلظهما. فصل فى ترتيب الصّمم يقال: بأذنه وقر. فإذا زاد، فهو صمم. فإذا زاد، فهو طرش. فإذا زاد حتّى لا يسمع الرعد، فهو صلخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 ومما وصف به الصّدغ، فمن ذلك قول عبد الله بن المعتزّ: ريم! يتيه بحسن صورته، ... عبث الفتور بلحظ مقلته. فكأن عقرب صدغه وقفت، ... لما دنت من نار وجنته. وقال ابن الرومىّ: أبدا نحن في خلاف: فمنّى ... فرط حبّ ومنك لى فرط بغض. فبصدغيك فوق خطّ عذار ... ظلمات، وبعضها فوق بعض. وقال الصاحب بن عبّاد: وعهدى بالعقارب حين تشتو ... تخفّف لدغها وتقلّ ضرّا. فما بال الشتاء أتى، وهذا ... عقارب صدغه يزددن شرّا؟ وقال ابن المعتزّ: أمن سبج في عارضيه صوالج ... معطّفة تفّاح خدّيه تضرب؟ وما ضرّه نار بخدّيه الهبت؛ ... ولكن بها قلب المحبّ يعذّب؟ عناقيد صدغيه بخدّيه تلتوى ... وأمواج ردفيه بخصريه تقلب. شربت الهوى صرفا زلالا، وإنما ... لواحظه تسقى وقلبى يشرب. وقال الثعالبىّ: وصو لجان في يدى شادن ... لا يسمح العاشق أن يذكره . وصو لجان المسك في خدّه ... متّخذ حبّة قلبى كره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 وقال الناشئ الأصغر: لك صدغ كأنما ... نونه نون كاتب. يلدغ الناس إذ تعق ... رب لدغ العقارب. وقال الصاحب بن عبّاد: يا شادنا في وجهه عقرب ... ما يستجيب الدّهر للراقى. يسلم خدّاه على لدغها، ... ولدغها في كبدى باقى! وقال عمر المطوعىّ: بنفسى من تمّت محاسن وجهه! ... فما هو إلا البدر عند تمام. وأرسل صدغا فوق خدّ كأنه ... جناح غراب فوق طوق حمام. وقال آخر: حلّت بمقارب صدغه في خدّه ... قمرا، فجلّ بها عن التشبيه! ولقد عهدناه يحلّ ببرجها ... فمن العجائب كيف جلّت فيه؟ وقال العماد الأصبهانىّ: وإذا بدا لك صدغه في وجهه، ... أبصرته قمرا بدا في العقرب! وقال أبو الفتح كشاجم: ومنعن ورد خدودهنّ فلم نطق ... قطفا لها لعقارب الأصداغ! ومما وصفت به الخدود والوجنات، فمن ذلك ما ورد على لفظ التذكير. قال أبو الفتح كشاجم: غدا، وغدا تورّد وجنتيه ... لعين محبه يصف الرّياضا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 على خدّيه ماء عسجدىّ؛ ... فلو نظر الرقيب إليه، غاضا. وقال آخر: دعوت بماء في زجاج، فجاءنى ... حبيبى به خمرا نظرت له شزرا. فقال: هو الماء القراح وإنما ... تجلّى له خدّى فأوهمك الخمرا! وقال أبو القاسم عبد الغفار المصرىّ، شاعر اليتيمة: ورد الخدود أرقّ من ... ورد الرّياض وأنعم. هذا تنشّقه الأنو ... ف، وذا يقبّله الفم. فإذا عدلت، فأفضل ال ... وردين ورد يلثم. وقال أيضا (ويروى للوأواء الدمشقى) : لا تظلموا الناس ولا تطلبوا ... بثارى اليوم أذى مسلم! ويا لقومى دونكم شادنا ... معتدل القامة والمبسم! فإن أبى إلا جحود الهوى ... واكتتم الأمر ولم يعلم، قولوا له يكشف عن خدّه؛ ... فإن فيه نقطا من دمى. وقال ابن الرومىّ: وغزال ترى على وجنتيه ... قطر سهميه من دماء القلوب. لهف نفسى لتلك من وجنات ... وردها ورد شارق مهضوب! أنهلت صبغ نفسها ثم علّت ... من دماء القتلى بغير ذنوب. جرحته العيون فاقتصّ منها ... بجوى في القلوب دامى النّدوب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 وقال أيضا: يا وجنتيه اللتين من بهج ... فى صدغيه اللذين من دعج! ما حمرة فيكما: أمن خجل، ... أم صبغة الله، أم دم المهج؟ وقال أبو الفتح البستىّ: ومهفهف غنج الشمائل أزعجت ... قلبى محاسن وجهه إزعاجا. درت الطبيعة أن فاحم شعره ... ليل فأذكت وجنتيه سراجا. وقال عبد الله بن المعتزّ: يا من يجود بموعد من لحظه ... ويصدّ حين أقول: أين الموعد؟ ويظلّ صبّاغ الحياء بخدّه ... تعبا: يعصفر تارة ويورّد. وقال الراضى بالله: يصفرّ وجهى إذا تأمّلنى ... خوفا، ويحمرّ خدّه خجلا. حتّى كأنّ الذى بوجنته ... من ماء وجهى إليه قد نقلا. وقال الخبز أرزى: صل بخدّى خدّيك، تلق عجيبا ... من معان يجاز فيها الضمير. فبخدّيك للرّبيع رياض، ... وبخدّى للدّموع غدير. وقال أيضا: أظهر الكبرياء من فرط زهو، ... فتلقّيته بذلّ الخضوع. وحبانى ربيع خدّيه بالور ... د فأمطرته سحاب الدّموع. وقال الصنوبرىّ: رقّ، فلو كلّفته أعيننا ... أن يرشح الخمر خدّه، رشحا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 وقال المفجّع: ظبى إذا عقرب أصداغه، ... رأيت ما لا يحسن العقرب. تفّاح خدّيه له نضرة ... كأنّه من دمعتى يشرب. وقال آخر: ومبيح أسرار القلو ... ب بوجنتيه وحاجبيه. جمع الإله له المحا ... سن ثم أفرغها عليه. وكأنّ مرآتين علّ ... قتا بصفحة عارضيه. وكأنّ ورد الجلّن ... ار مضعّف في وجنتيه. وقال علىّ بن عطيّة البلنسىّ في غلام جرح خدّه: وأحوى رمى عن قسىّ الحور ... سهاما يفوّقهنّ النظر. يقولون: وجنته قسّمت ... ورسم محاسنه قد دثر. وما شقّ وجنته عابثا ... ولكنّها آية للبشر. جلاها لنا الله كيما نرى ... بها كيف كان انشقاق القمر. ومما وصفت به على لفظ التأنيث، فمن ذلك قول عبد الله بن المعتزّ: نجل العيون، سواحر اللحظات ... هيّجن منك سواكن الحركات. أقبلن يرمين الجمار تنسّكا، ... فجعلن قلبك موضع الجمرات. فكأنهنّ غصون بان ناعم ... يحملن تفّاحا على الوجنات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 وقال ابن الرومىّ: تشرع الألحاظ في وجنتها ... فتلاقى الرّىّ من مشربها. فهى حسب العين من نزهتها، ... وهى حسب الأذن من مطربها. وقال ديك الجنّ: بأبى الثلاث الآنسا ... ت الرائقات الغانيات! أقبلن، والأصداغ في ... وجناتهنّ معقربات! ألفاظهنّ مؤنّثا ... ت والجفون مذكّرات! حتّى إذا عاينتهنّ ... وللأمور مسبّبات، جمّشتهنّ، وقلت: طي ... ب عناقكنّ هو الحياة! فحجلن حتّى خلت أنّ ... خدودهنّ معصفرات. ومما وصفت به الخيلان، فمن ذلك ما ورد على لفظ التذكير. قال بعض الشعراء: فى الساعد الأيمن خال له ... مثل السّويداء على القلب. كأنه من سبج فاحم ... مركّب من لؤلؤ رطب. وقال ابن منير الطرابلسى: لاح لنا عاطلا، فصيغ له ... مناطق من مراشق المقل. حياة روحى وفي لواحظه ... حتفى بين النّشاط والكسل. ما خاله من فتيت عنبر صد ... غيه ولا قطر صبغة الكحل. لكن سويداء قلب عاشقه ... طفت على نار وردة الخجل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 وقال أيضا: أنكرت مقلته سفك دمى، ... وعلى وجنته فاعترفت. لا تخالوا خاله في خدّه ... قطرة من صبغ جفن نطفت. تلك من نار فؤادى جذوة ... فيه ساخت وانطفت ثم طفت! وقال آخر: لا تخال الخال يعلو خدّه ... نقط مسك ذاب من طرّته. ذاك قلبى سلبت حبّته ... فاستوت خالا على وجنته. وقال ابن منير: كأنّ خدّيه دينارين قد وزنا ... وحرّر الصّيرفىّ الوزن واحتاطا. فخفّ إحداهما عن وزن صاحبه، ... فحطّ فوق الذى قد خفّ قيراطا. وقال آخر: أضحى ليوسف في الجمال خليفة، ... يخشأه كلّ العالمين إذا بدا. عرّج معى وانظر إليه لكى ترى ... فى خدّه علم الخلافة أسودا. وقال آخر: كم قلت للنفس: إليه اذهبى، ... فحبّه المشهور من مذهبى! مهفهف القدّ له شامة ... من عنبر في خدّه المذهب. آيسنى التوبة من حبّه ... طلوعه شمسا من المغرب! وقال آخر: ومهفهف من شعره وجبينه ... يغدو الورى في ظلمة وضياء. لا تنكروا الخال الذى في خدّه ... كلّ الشقيق بنقطة سوداء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 وقال آخر: لهيب الخدّ حين رأته عينى ... هوى قلبى عليه كالفراش. فأحرقه فصار عليه خالا؛ ... وها أثر الدّخان على الحواشى! وقال آخر: بدا على خدّه خال يزيّنه، ... فزادنى شغفا منه إلى شغفى. كأنّ حبّة قلبى عند رؤيته ... طارت فقلت لها: فى الخدّ منه قفى! وقال آخر: خيلان خدّك ردّت ... صحيح قلبى مريضا. فى العين سود، ولكن ... ما زلن في القلب بيضا. وقال آخر: خدّك مرآة كلّ حسن ... يحسن من حسنها الصّفات. مالى أرى فوقه نجوما ... قد كسفت وهى نيّرات؟ وقال آخر: حجّت إلى وجهك أبصارنا ... طائفة، يا كعبة الحسن! تمسح خالا منك في وجنة ... كالحجر الأسود في الركن. وقال الأسعد بن بليطة: سكران لا أدرى- وقد وافى بنا- ... أمن الملاحة أم من الجريال. تتنفّس الصّهباء في لهواته ... كتنفّس الرّيحان في الآصال. وكأنما الخيلان في وجناته ... ساعات هجر في ليال وصال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 ومما وصفت به على لفظ التأنيث، فمن ذلك قول أبى الفتح كشاجم: فديت زائرة في العيد واصلة ... لمستهام بها للوصل منتظر. فلم يزل خدّها ركنا ألوذبه، ... والخال في صحنه يغنى عن الحجر. وقال العباس بن الأحنف: ومحجوبة في الخدر عن كلّ ناظر، ... ولو برزت، ما ضلّ بالليل من يسرى. بخال بذاك الخدّ أحسن منظرا ... من النّقطة السّوداء في وضح البدر. ومما قيل في العذار، فمن ذلك ما ورد فيه على سبيل المدح. قال مانى الموسوس عفا الله عنه ورحمه: وما غاضت محاسنه؛ ولكن ... بماء الحسن أورق عارضاه. سمعت به فهمت إليه شوقا! ... فكيف لك التصبّر، لو تراه؟ وقال أبو فراس: من أين للرشإ الغرير الأحور ... فى الخذ مثل عذاره المتحدّر؟ يا من يلوم على هواه سفاهة! ... أنظر إلى تلك السوالف، تعذر. قمر كأنّ بعارضيه كليهما ... مسك تساقط فوق ورد أحمر. وقال ابن المعدّل: سالت مسايل عارضي ... هـ بنفسجا في ورده. فكأنّه من حسنه ... عبث الربيع بخدّه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 وقال الخبّاز البلدى: وعارض مثل دارة البدر ... دار بوجه كليلة القدر. فلو تراه وحسن منظره، ... شهدت أنّ الجمال للشّعر. وقال ابن المعتزّ: وتكاد الشمس تشبهه ... ويكاد البدر يحكيه. كيف لا يخضرّ عارضه، ... ومياه الحسن تسقيه؟ وقال محمد بن وهب: صدودك في الورى هتك استتارى، ... وساعده البكاء على اشتهارى. ولم أخلع عذارى فيك إلّا ... لما عاينت من حسن العذار. وكم أبصرت من حسن، ولكن ... عليك من الورى وقع اختيارى. وقال أبو الفرج الوأواء: وشمس [1] بأعلاه ولبلان أسبلا ... بخدّيه، إلا أنّها ليس تغرب. ولمّا حوى نصف الدّجى نصف خدّه ... تحيّر حتّى مادرى أين يذهب. وقال الخبز أرزّى: انظر إلى الغنج يجرى في لواحظه، ... وانظر إلى دعج في طرفه الساجى! وانظر إلى شعرات فوق عارضه ... كأنهنّ نمال سرن في العاج! وقال أيضا: وجه تكامل حسنه ... لما تطرّفه عذاره. والسيف أحسن ما ترى ... ما كان مخضرّا غراره.   [1] فى الأصل: «ليل» . والتصويب عن اليتيمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 وقال الأمير سيف الدّين المشدّ: ولائم في عذار بدر ... لم أستطع عن هواه ميلا. فقلت، والدّمع في جفونى ... لفرط وجدى تسيل سيلا: ضللت في خدّه نهارا! ... كيف رشادى، وصار ليلا؟ وقال أيضا: ولمّا أن بدا في الخدّ شعر ... توقّف عند منتصف العذار. فقلت للائمى فيه: تعجّب ... لنصف الليل في نصف النهار! وقال أيضا: ومهفهف يحمى ورود رضابه ... بصوارم سلّت من الأجفان. كتب العذار بليقة مسكيّة ... فى خدّه سطرا من الرّيحان. وقال أيضا: يقول العواذل لمّا بدا ... على خدّه شعر زائر: ذوى ورد خدّيه، قلت: اقصروا ... فنرجس ألحاظه وافر! وقال آخر: وقالوا: تسلّى فقد شانه ... عذار أراحك من صدّه. فقلت: وهمتم، ولكنّنى ... خلعت العذار على خدّه. وقال آخر: بروحى وقلبى ذلك العارض الذى ... غدا مسكه فوق السّوالف سائلا. درى خدّه أنّى أجنّ من الهوى، ... فأظهر لى قبل الجنون سلاسلا! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 وقال آخر: أصبحت مأسورا بغنج لحاظه ... ومقيّدا من صدغه بسلاسل. حتّى بدا سيف العذار مجرّدا ... فخشيت منه، فقلت هذا قاتلى! وقال آخر: قالت: اسودّ عارضاك بشعر، ... وبه تقبح الوجوه الحسان! قلت: أشعلت في فؤادى نارا، ... فعلى عارضىّ منه دخان! وقال آخر: قلت، وقد أبصرته مقبلا ... وقد بدا الشّعر على الخدّ: صعود ذا النمل على خدّه ... يشهد أن الرّيق من شهد. ومثله قول الآخر: قالوا: التحى، فاصب إلى غيره! ... قلت لهم: لست إذا أسلو! لو لم يكن من عسل ريقه، ... ما دبّ في عارضه النّمل. وقال آخر: عذاره أحسن ما فيه، ... وتيهه من أحسن التّيه. فى فمه الشّهد، فلا تعجبوا ... إن دبّ نمل بعذاريه. وقال آخر: أصلى بنار الخدّ عنبر خاله ... فغدا العذار دخان ذاك العنبر. وقال آخر (وقد تقدّم إيراده في صفاء الخدّ) . أعد نظرا، فما في الخدّ نبت ... حماه الله من ريب المنون! ولكن رقّ ماء الوجه حتّى ... أراك مثال أهداب الجفون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 ومثله قول الآخر (وقد تقدّم إيراده) : ولمّا استدارت أعين الناس حوله ... تلاحظه كيف استقلّ وسارا، تمثّلت الأهداب في ماء وجهه ... فظنّوا خيال الشّعر فيه عذارا. وقال الحاجرىّ: وما اخضرّ ذاك الخدّ نبتا، وإنما ... لكثرة ما شقّت عليه المرائر. وقال آخر: يا لائمى في حبّ ذى عارض، ... ما البلد المخصب كالماحل! يموج ماء الحسن في وجهه ... فيقذف العنبر في الساحل. وقال آخر: ولمّا بدا خطّ العذار بوجهه ... كظلمة ليل في ضياء نهار، تغلغل في قلبى هواه فلم أزل ... خليع عذار في جديد عذار. وقال آخر: قالوا: التحى، فامتحت بالشّعر بهجته! ... فقلت: لولا الدّجى لم يحسن القمر. من كان منتظرا للصبر عنه به، ... فإنّنى لغرامى كنت أنتظر. خطّت يد الحسن منه فوق وجنته: ... هذى محاسن، يا أهل الهوى، أخر! وقال آخر: وقلت: الشّعر يسلينى هواه! ... ولم اعلم بأنّ الشّعر حينى. فظلت لشقوتى أفدى وأحمى ... سواد عذاره بسواد عينى. وقال محمد بن عبد الله السلامى، شاعر اليتيمة: عذارك جادت عليه الرّيا ... ض بأجفانها وبآماقها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 وطال غرام الغوانى به ... فقد طرّزته بأحداقها. وقال ابن سكّرة الهاشمىّ: وغزال لولا نميمة شعر ... ذكّرته، لقلت: إحدى الجوارى. شارب أشرب الصّبابة قلبى، ... وعذار خلعت فيه عذارى. وقال آخر: قالوا: التحى وستسلو عنه، قلت لهم: ... هل يحسن الروض ما لم يطلع الزّهر؟ هل التحى طرفه الساجى، فأهجره؟ ... وهل تزحزح عن ألحاظه الحور؟ وقال أبو الفتح كشاجم: من عذيرى من عذارى قمر، ... عرّض القلب لأسباب التلف؟ زيد حسنا وضياء بهما، ... فهو الآن كبدر في سدف. خمّشا خدّيه ثم انعطفا، ... آه ما أحسن ذاك المنعطف! علم الشّعر الذى عاجله ... أنه جار عليه، فوقف. فهو في وقفته معترف ... بالتناهى في التعدّى والسّرف. وقال آخر: لا تعتقدوا ما لاح في وجنته ... شعرا، غلطا! ما ذاك من شمته! بل ساكن ماء الحسن قد حرّكه ... موج قذف العنبر في حافته. وقال عبد الله بن سارة الإشبيلىّ: ومعذّر رقّت حواشى حسنه، ... فقلوبنا حذرا عليه رقاق. لم يكس عارضه السواد، وإنما ... نفضت عليه صباغها الأحداق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 وقال أبو بكر الدانىّ، شاعر الذخيرة: بدا على خدّه عذار ... فى مثله يعذر الكئيب. وليس ذاك العذار شعرا، ... لكنّما سرّه غريب. لمّا أراق الدّماء ظلما، ... بدت على خدّه الذّنوب. وقال عبد الجليل الأندلسىّ: ومعذّرين كأنما بخدودهم ... طرق العيون ومنهج الأوداج. وكأنما صقلوا الجمال فأظهروا ... مشى النّمال على متون العاج. ومما وصف به العذار على طريق الذمّ، فمن ذلك ما قاله الوزير أبو المغيرة ابن حزم، عند ما عرضت عليه رسالة بديع الزمان في الغلام الذى خطب إليه ودّه بعد أن عذّر، قال: «ورد كتابك ينشد ضالّة ودّنا، ويرقع خلق عهدنا؛ ويطلب ما أفاءته جريرتك «إلينا، وذهبت به جنايتك علينا؛ أيام غصنك ناضر، وبدرك زاهر؛ لا نجد رسولا «إليك، غير لحظة تخرق حجاب الدّموع، أو زفرة تقيم مناد الضّلوع؛ فإن رمنا شكوى «ينفث بها مصدورنا، ويستريخ إليها مهجورنا؛ لقينا دونها أمنع سدّ، وأقبح كفّ «وصدّ، وأقدح ردّ. وفي فصل منها: «حتّى إذا طفئت تلك النّيران، وانتصف لنا منك الزمان؛ بشعرات أغشت «هلالك كسوفا، وقلبت ديباجك صوفا؛ وأعادت نهارك ليلا، وناحت عليك تلهّفا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 «وويلا؛ وأطار حمامك غرابك، وحجب ضياءك ضبابك؛ فصار عرسك مأتما، «وعاد وصلك محرّما، قال القائل: «وبتّ مداما تسرّ النزيف ... فأصبحت تجرع خلّا ثقيفا. «وصرت حجازا جديب المحلّ، ... وقد كنت للطالب الخصب ريفا. «أقبلت تتسلّل إلينا لواذا، وتطلب منا عياذا؛ قد أنساك ذلّ العزل عزّ الولايه، «وأولاك طمعا نسياننا تلك الجناية؛ أيّام ترشقنا سهام ألحاظك رشقا، وتقتلنا سيوف «ألفاظك عشقا؛ وتميس غصنا، فتثير حزنا؛ وتطلع شمسا، فتفتّت نفسا. «فالآن نلقاك بدمع قد جفّ، ووجد قد كفّ؛ وعزاء قد أبّد، وصبر قد أغار «وأنجد؛ وننظر منك إلى روض قد صوّح، وسار قد أصبح؛ وأعجم قد أفصح، «ومبهم قد صرّح. فلا شكّ قد رفع الغطاء، ولا إفك قد برح الخفاء، ولا لوم قد وقع «الجزاء. وهلّا ذكرت المثل الممتهن «الصّيف ضيّعت اللبن!» ونسيت من أحرقت «قلبه صدّا، وأقلقت جنبه ردّا؛ وملأت جوانحه نارا، وتركت نومه غرارا؛ «أن يوفيك قرضا، ويجازيك حتّى ترضى؛ حين نكّس علمك، وعثرت قدمك؛ «وضاقت طرقك، وأظلم أفقك؛ وهوى نجمك، وخاب قدحك؛ وفلّ سيفك، وحطّ «رمحك؛ فاطو ثوب وصلك فلا حاجة لنا إلى لباسه، وازو طارق شخصك فلا رغبة «لنا في إيناسه؛ فما يشتهى اليوم زيارة رمس، من زهد فيه أمس. قال: «حانت منيته فاسودّ عارضه، ... كما تسوّد بعد الميّت الدار. «يا من نعته إلى الإخوان لحيته، ... أدبرت، والناس إقبال وإدبار! «فيا لدهر مضى ما كان أحسنه! ... إذ أنت ممتنع والشّرط دينار. «ايّام وجهك مصقول عوارضه، ... وللرياض على خدّيك أنوار! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 وقال علىّ بن نصر الكاتب تعزية لمن طلعت لحيته: «لكل حادثة يفجع بها الدهر- أحسن الله معونتك- حدّ من القلق والالتياع، «ومبلغ من التحرّق والارتياع؛ تستوجب فنّا من التعزيه، وتستحق نصيبا من العظة «والتسليه؛ والاختصار فيها لما قرب خطبه وشانه، والإكثار لما جلّ محلّه «ومكانه. «ومصابك هذا- أعانك الله- فى بياض روضك لما اسودّ، كمصابك في سواده «إذا ابيضّ؛ والألم ببياض روضه جميما، نظير الألم به يوم يعود هشيما. «فليس أحد يدفع عظيم النازل بك، ولا يستصغر جسيم الطارق لك؛ وإن كان «ما يتعقبه من المشيب أقذى للعيون. «التفتت عنك النواظر، وكانت منتفتة إليك، ووقفت عنك الخواطر، وكانت «موقوفة عليك؛ وصيّرك قذى الأجفان وكنت جلاها، وجعلك كربة النفوس «وكنت هواها؛ وأبدلك من أنس التقبل، وحشة التنقل؛ وعوّضك من رقة الترفرف، «كلفة التأفّف؛ فتبارك الله الذى صرف عنك الابصار، ونقّل فيك الأطوار! «فعويلا دائما وبكاء! وعزاء عن الذكر الجميل عزاء! فلكل أجل كتاب، وعلى كل «جائحة ثواب. «ولقد استوفيت أمد الصبا والصبابه، واستنبت الحسرة عليها والكآبه. فرزيّتك «راسية والرزايا سوائر، ومصيبتك ثابتة والمصائب عوائر. «إنا لله وإنا إليه «راجعون» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 «ثم لا حيلة، فإنها الأيام التى لا تثبت على حاله، ولا تعرف غير التنقل والاستحاله! «فآجرك الله في وجه نضب ماؤه، وذهب رواؤه ومات حياؤه! وفي ضيعة استأجم «برّها، واستدغل نورها؛ وأسبع طريقها، واتسعت تنوفتها! وفي جاه كان عامرا «فخرب، ودخل كان وافرا فذهب، وتذكار كان واصلا إلى القلوب فحجب! «فأصبحت مسبوق السكّيت، وظللت حيا وأنت الميت؛ فلا حول ولا قوّة إلا بالله «من محن ذفعت إليها، ولم تعن بحال عليها. «وقد يشغل الإنسان عن نوائبه المشاركون فيها، ويسلّيه عنها المساهمون في معنى «معانيها؛ وأنت من بين هذه المنزلة لا شريك لك، فإنهم يعتاضون عنها ولست «بمعتاض، ويركضون للعيش ولست بركاض. والدهر يطوى محاسنك طىّ السجلّ «كتابه، وينشر مقابحك نشر اليمانى أثوابه. ويملّ الطرف رؤيتك فلا يفيق عليك «جفنا، ويمجّ السمع ذكرك فلا يجد عنده أذنا. ومنها: وقد جعلت رقعتى هذه جامعة بين البكاء عليك والأنين، وناظمة بين العزاء والتأبين. لها حلاوة النثر، وعليها طلاوة الشعر. نتجتها قريحة عليك، ونسجتها خواطر خاطرت إليك؛ تخفّف غرامك والناس مشاغيل بتثقيله، وتكرم مكانك والإجماع واقع على تهوينه. فإن عرفت لى ذاك، وإلا عرفه الصّدق؛ وإن شكرنه، وإلا شكره الحق. والسلام عليك من أسير لا يخلص بالفدية، وقتيل بسيف السّبال واللحية.» وقال الصنوبرىّ: ما بدت شعرة بخدّك إلّا ... قلت في ناظرىّ أو في فؤادى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 أنت بدر جنى الخسوف عليه ... ظلمة، لا أرى لها من نفاد. فاسوداد العذار بعد ابيضاض ... كابيضاض العذار بعد اسوداد. وقال آخر: أصبح نحسا- وكان سعدا- ... من كان مولى فصار عبدا. بكى على حسنه زمانا، ... لما رأى الشّعر قد تبدّى. لو نبت الشّعر في وصال، ... لعاد ذاك الوصال صدّا! وقال الخبز أرزى: بدا الشّعر في وجهه، فانتقم ... لعاشقه منه لمّا ظلم. وما سلّط الله نبت اللّحى ... على المرد إلّا زوال النّعم. توحّشت العين في وجهه، ... وحقّ لها وحشة في الظّلم. إذا اسودّ فاضل قرطاسه، ... فما ظنّه بمجارى القلم؟ ولم يعل في خدّه كالدّخا ... ن إلّا وأسفله كالحمم. وقال التّنوخىّ: قلت لأصحابى، وقد مرّ بى ... منتقبا بعد الضّيا بالظّلم: بالله، يا أهل ودادى! قفوا ... كى تبصروا كيف زوال النّعم! وقال إبراهيم بن خفاجة الأندلسىّ في ملتح: ما للعذار، وكان وجهك قبلة، ... قد خطّ فيه من الدّجى محرابا. وإذا الشّباب- وكان ليس بخاشع- ... قد خرّ فيه راكعا، وأنابا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 وقال أيضا: وافى بأوّله صحيفة صفحة ... جعل العذار بها يسيل مدادا. متجهّما ثكل الشّباب كأنما ... لبس العذار على الشّباب حدادا. وقال عمر المطوعىّ، من شعراء اليتيمة: غدا- منذ التحى- ليلا بهيما، ... وكان كأنّه القمر المنير. فقد كتب السّواد بعارضيه ... لمن يقرا: «وجاءكم النّذير» . وقال عبد الجليل الأندلسىّ، من شعراء الذخيرة: وأمرد يستهيم بكل واد ... وينصب للحشا خدّا صليبا. دعوت دعاء مظلوم عليه، ... وكان الله مستمعا مجيبا. فطوّقه الزمان بما جناه ... وعلّق من عدريه؟؟؟ ومما قيل في العنق، يقال: الجيد، طولها- التّلع، إشرافها- الهنع، نطامنها- الغلب، غلظها- البتع، شدّتها- الصّعر، ميلها- الوقص، قصرها- الخضع، خضوعها- الحدل، عوجها. وقال دعبل: أتاح لك الهوى بيض حسان ... سلبنك بالعيون وبالنّحور. نظرت إلى النّحور فكدت تقضى ... فأولى لو نظرت إلى الخصور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 وقال قيس بن الخطيم. وجيد كجيد الرّيم صاف يزينه ... توقّد ياقوت وفصل زبرجد. كأنّ الثريّا فوق ثغرة نحرها ... توقّد في الظّلماء أىّ توقّد. ومما قيل في اليد إذا باشرت ما يعلق بها، يقال: من اللحم غمرة، ومن الشحم زهمة، ومن السمن نسمة، ومن الزّبد وضرة، ومن الجبن نشمة، ومن اللبن مذقة، ومن البيض زهكة، ومن السمك صمرة، ومن الزيت قنمة، ومن الخمر عتكة، ومن الخل خمطة، ومن العسل ونحوه لزجة، ومن الطّيب عطرة، ومن الغالية عبقة، ومن الزعفران ردعة، ومن العنبر لطخة، ومن الخلوق ضمخة، ومن الحنّاء قنئة، ومن الدّم ضرجة، ومن الماء بللة، ومن الطين لثقة وردغة، ومن البرد صردة، ومن التراب كثبة وغضرة، ومن القار حلكة، ومن الفحم حممة، ومن المداد طرسة، ومن الحديد سهكة، ومن الفضة سبكة، ومن الذهب نضرة، ومن النار شعلة، ومن الرياحين فوحة، ومن البقل زهرة، ومن الفاكهة الرطبة لزقة، ومن البابسة فكهة، ومن العمل مجلة ونفطة، ومن الخشونة شثنة وثفنة، ومن الشوك مشطة وشظية، ومن الحطب حزمة، ومن الرمح كعبة، ومن الصولجان لعبة، ومن الجود سبطة، ومن العظية منحة، ومن البخل جعدة، ومن المنع لحزة، ومن العدم تربة، ومن الرزّ زنخة، ومن الصابون حفرة، ومن الفرصاد قانية، ومن الرجيع قثمة، ومن كل القاذورات قذرة، ومن الوسخ درنة. اه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 ومما مدحت به اليد، قال مؤيد الدّين الطّغرائى: ويد تمدّ المال راحتها ... أبدا، ويغمر ظهرها القبل. إن ضنّ غيث أوخبا قمر، ... فجبينه ويمينه البدل. وقال عبد المؤمن بن هبة الله الأصبهانىّ قالوا: بدت عارضة- لا بدت! - ... فى كفّ ذاك السيّد الأوحد. راحته راحة من يجتدى، ... وكفّه كفّ الذى يعتدى. فلا أصابت يده آفة! ... فكم يد عندى لتلك اليد! وقال ابن دريد: يا من يقبّل كفّ كلّ ممخرق، ... هذا ابن يحيى ليس بالمخراق! قبّل أنامله، فلسن أناملا؛ ... لكنهنّ مفاتح الأرزاق! وقال إبراهيم بن العباس بن محمد: لفضل بن سهل يد ... تقاصر عنها المثل. فباطنها للنّدى، ... وظاهرها للقبل. وبسطتها للغنى، ... وسطوتها للأجل. وقال ابن الرومىّ: فامدد إلىّ يدا تعوّد بطنها ... بذل النّوال، وظهرها التقبيلا. وقال أبو نواس: يا قمرا، أبرزه ماتم ... يندب شجوا بين أتراب! يبكى فيذرى الدّرّ من نرجس، ... ويلطم الورد بعنّاب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 وقال الناشى: من كفّ جارية كأنّ بنانها ... من فضّة قد طرّفت عنّابا. وكأنّ يمناها إذا نطقت بها ... تلقى على يدها الشّمال حسابا. وقال الراضى بالله: قالوا: الرّحيل! فأنشبت أظفارها ... فى خدّها، وقد اعتلقن خضابا. فاخضّر تحت بنانها فكأنّها ... غرست بأرض بنفسج عنّابا. وقال ابن كيغلغ: لمّا اعتنقنا للوداع وأعربت ... عبراتنا عنّا بدمع ناطق، فرّقن بين معاجر ومحاجر، ... وجمعن بين بنفسج وشقائق. وقال كشاجم: فما أنسها، لا أنس منها إشارة ... بسبّابة اليمنى إلى خاتم الفم! وأعلنت بالشكوى إليها فأومأت ... حذارا من الواشين أن لا تكلّم. فلم أر شكلا واقعا فوق شكله ... كعنّابة تومى بها فوق عندم. ومما قيل في النهود، يقال: ثندوة الرّجل، ثدى المرأة، خلف الناقة، ضرع الشاة والبقرة، طبى الكلبة. قال ابن الرومىّ: صدور فوقهنّ حقاق عاج، ... وحلى زانه حسن اتّساق! يقول الناظرون إذا رأوها: ... أهذا الحلى من هذى الحقاق؟ وما تلك الحقاق سوى ثدىّ ... قدرن من الحقاق على وفاق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 نواهد لا يعدّ لهنّ عيب ... سوى منع المحبّ من العناق. وهو مأخوذ من قول بعض الأعراب: ... أبت الرّوادف والثّدىّ لقمصها مسّ البطون، وأن تمسّ ظهورا. وقال محمد بن مبادر: ولها ثديان ما عدوا ... من حقاق العاج أن كعبا. قسمت نصفين دعص نقا ... وقضيبا لان، فاضطربا. وقال عبد الله بن أبى السّمط بن مروان: كأنّ الثّدىّ إذا ما بدت ... وزان العقود بهنّ النّحورا، حقاق من العاج مكنونة ... يسعن من الدّرّ شيئا كثيرا. وقال علىّ بن الجهم: كنت مشتاقا وما يحجزنى ... عنك إلا حاجز يمنعنى. شاخص في الصدر، غضبان على ... قبب البطن وطىّ العكن. يملأ الكفّ ولا يفضله، ... وإذا أثنيته لا ينثنى. وقال ابن الرومىّ: ملقمات أطفالهنّ ثديّا ... ناهدات كأحسن الرّمّان. مفعمات كأنها حافلات ... وهى صفر من درّة الألبان. وقال ابن المعتزّ: قبيح بمثلك أن تهجرى، ... وأقبح من ذاك أن تهجرى. أقاتلى بفتور الجفون ... ورمّانتين على منبر، كحقين من لبّ كافورة ... برأسيهما نقطتا عنبر! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 ومما قيل في البطن، يقال: الدّحل، عظمه- الحبن، خروجه- الثّجل، استرخاؤه- القمل، ضخمه- الضّمور، لطافته- العجر والبجر، شخوصه- التّخرخر، اضطرابه. قال محمد بن مبادر: والبطن ذو عكنة لطيف ... صفر وشاحاه جائلان. أشرف من فوقه عليه ... ثديان ميلان ناهدان. ومما قيل في الأرداف والخصور، فمن ذلك ما ورد على لفظ التذكير. فمنه قول عبد الله بن طاهر: صبّ كئيب يشتكيك الهوى ... كما اشتكى خصرك من ردفكا. لسانه عن وصف أسقامه ... أكلّ منه عن مدى وصفكا. وقال ابن أبى البغل: كأنّه في اعتداله غصن ... وفي السّراويل منه أمواج. إذا مشى كالقضيب جاذبه ... ردف له كالكشيب رجراج. ويعلم الله أنّنى رجل ... إليه مذ قد كثرت محتاج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 وأنشد أبو بكر بن دريد عفا الله عنه ورحمه: قد قلت لمّا مرّ يخطر ماشيا ... والرّدف يجذب خصره من خلفه. يا من يسلّم خصره من ردفه ... سلّم فؤاد محبّه من طرفه. وقال السرىّ الرّفاء: ضعفت معاقد خصره وعهوده ... فكأنّ عقد الخصر عقد وفائه. وقال المتنبى: وخصر تثبت الأبصار فيه ... كأنّ عليه من حدق نطاقا. وقال السرىّ الرفّاء: أحاطت عيون الناظرين بخصره ... فهنّ له دون النّطاق نطاق. وقال الأمير سيف الدّين المشدّ: وأهيف القدّ بتّ أشكو ... له تلافى وما تلافى. فلان عطفا ودقّ خصرا ... وإنما ردفه تجافى. وقال أبو نواس: ليّن القدّ لذيذ المعتنق ... يشبه البدر إذا البدر اتّسق. مثقل الرّدف إذا ولّى حكى ... موثقا في القيد يمشى في زلق. وإذا أقبل كادت أعين ... نحوه تجرح فيه بالحدق. وقال آخر وأجاد: أيا من نصفه غصن ... يميل ونصفه كفل. صفاتك في تباينها ... فمنفصل ومتّصل. فنصفك موج عاصفة ... ونصفك شارب ثمل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 ومما وصفت به على لفظ التأنيث، فمنه قول أبى عبادة البحترىّ: كأنّهنّ وقد قاربن في نظرى ... ضدّين في الحسن تثقيلا وإخطافا. رددن ما خفّفت عنه الخصور إلى ... ما في المآزر فاستثقلن أردافا. وقال آخر: لها ردف تعلّق في لطيف ... فذاك الرّدف لى ولها ظلوم. يعذّبنى إذا فكّرت فيه ... ويتعبها إذا قصدت تقوم. وقال مؤمل وأفرط: من رأى مثل حبّتى ... تشبه البدر إذ بدا. تدخل اليوم ثم تد ... خل أردافها غدا. وقال أبو هلال: تمشى بأرداف أبين قعودها ... بين النّساء كما أبين قيامها. وقال علىّ بن عطية البلنسى: وإنسيّة زارت من اللّيل مضجعى ... فعانقت غصن البان منها إلى الفجر. أسائلها أين الوشاح؟ وقد سرت ... معطّلة منه، معطّرة النّشر. فقالت: وأومت، للسّوار نقلته ... إلى معصمى لما تقلقل في خصرى. وقال الطائىّ: من الهيف لو أنّ الخلاخل صيّرت ... لها وشحا جالت عليها الخلاخل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 وقال إسحاق الموصلىّ: ظباء كاليعافير ... كنوس في المقاصير. وأدبرن بأعجاز ... كأوساط الزّنابير. وقال عمر بن أبى ربيعة: يتقابلن كالبدور على الأغ ... صان في مثقل من الأرداف. بخصور تحكى خصور الزّنابي ... ر ضعاف هممن بالانقصاف. وقال آخر: عظمت روادفها فآذت خصرها ... ووشاحها قلق كقلب المغرم. وقال آخر: آخرها متعب لأوّلها ... فبعضها جائر على بعض. وقال آخر: تمشى فتثقلها روادفها ... فكأنّها تمشى إلى خلف. وقال البجلىّ: إن العزيز علىّ خصرك إنه ... بالرّدف حمّل منك ما لا يحمل. فخذى له جسمى مكان وشاحه ... إن العليل بشكله يتعلّل. ومما قيل في السّوق، فمن ذلك قول الأمير سيف الدّين المشدّ: ساق تجلّى كأنّه قمر، ... يحمل شمسا، أفديه من ساق! شمّر عن ساقه غلائله، ... فقلت: مهلا، واكفف عن الباقى! لمّا رآنى، وقد فتنت به ... من فرط وجدى وعظم أشواقى، غنّى وكأس المدام في يده: ... قامت حروب الهوى على ساق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 وقال عروة: فقمن بطيئا مشيهنّ تأوّدا ... على قصب قد ضاق عنه خلاخله. كما هزّت الميزان ريح فحرّكت ... أعاليه منه وارجحنّت أسافله. وقال كثيّر عزّة: ويجعلن الخلاخل حين تلوى ... بأسوقهنّ في قصب خدال. وقال كشاجم: قلت: وقد أبصرتها حاسرا ... عن ساقها فاضل سربالها: لو لم تكن من برد ساقها، ... لاحترقت من نار خلخالها. وله أيضا: وإذا لبسن خلاخلا، ... كذّبن أسماء الخلاخل. ومما وصفت به القدود، فمن ذلك قول أبى فراس الحمدانىّ: غلام فوق ما أصف ... كأنّ قوامه ألف. إذا ما مال يرعبنى: ... أخاف عليه ينقصف. وأشفق من تأوّده: ... أخاف يذيبه التّرف. وقال الخبز أرزّىّ: أهيف يحكى بقدّه الألفا ... يخسر من لم يكن به كلفا. أحسن من بهجة الخلافة والأم ... ن لمن قد يحاذر التّلفا. لو أبصر الوجه منه منهزم ... يطلبه ألف فارس، وقفا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 وقال مانى: أتمنّى الذى إذا أنا أو مأ ... ت إليه بطرف عينى، تجنّى. أهيف كالقضيب لو أنّ ريحا ... حرّكت هدب ثوبه، لتثنّى! وقال آخر: أيا سائلى عن قدّ محبوبى الّذى ... كلفت به وجدا وهمت غراما. أبى قصر الأغصان ثمّ رأى القنا ... طوالا، فأضحى بين ذاك قواما. وقال آخر، وهو محمد بن التلمسانى: يا مخجلا بقوامه ... أغصان بانات اللّوى! ما أنت عندى والقضي ... ب الّلدن في حدّ سوى! هذاك حرّكه الهوا ... ء وأنت حرّكت الهوى! وقال آخر: يا غصنا راح الصّبا ... يثنيه، لا ريح الصّبا! ما إن بدا للعين إلا ... ارتاح قلبى وصبا. ولا انثنى يخطر إلا ... ازداد قلبى وصبا. وقال آخر، وهو كشاجم: معتدل من كلّ أعطافه، ... مستحسن القامة والملتفت. لو قيست الدّنيا ولذّاتها ... بساعة من وصله، ما وفت. سلّطت الألحاظ منه على ... قلبى، فلو أودت به ما اشتفت. واستعذنت روحى هواه فلا ... تصحو ولا تسلو، ولو أتلفت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 ومما قيل في العناق، فمن ذلك ما ورد على لفظ التذكير. فمنه قول الحسين بن الضحاك: وموشّح، نازعت فضل وشاحه ... وكسوته من ساعدىّ وشاحا. بات الغيور يشقّ جلدة خدّه ... وأمال أعطافا علىّ ملاحا. وقال آخر: بتّ وبدر الدّجى نديمى ... وهو موات بلا امتناع. فقلت للحاسدين لمّا ... أشرقت الشمس بالشّعاع: القلب والطّرف منزلاه ... وهو إلى الآن في الذّراع. وقال ابن المعتز: ما أقصر الليل على الراقد! ... وأهون السّقم على العائد! يفديك ما أبقيت من مهجتى، ... لست لما أوليت بالجاحد. كأنّنى عانقت ريحانة ... تنفّست في ليلها البارد. فلو ترانا في قميص الدّجى، ... حسبتنا في جسد واحد. وقال أبو هلال في نحو ذلك: ونحن في نظم الهوى واحد ... كأنّنا عقدان في نحر. وقال ابن الصولى: طال عمر الليل عندى ... إذ تولّعت بصدّ. يا ظلوما نقض العه ... د ولم يوف بعهد! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 أنسيت الوصل إذ بت ... نا على مرقد ورد. واعتنقنا كوشاح ... وانتظمنا نظم عقد. وتعطّفنا كغصني ... ن، فقدّانا كقدّ. وقال ابن عبد كان الكاتب: وكلانا مرتد صاحبه ... كارتداء السّيف في يوم الوغى. بخدود شافيات من جوّى ... وشفاه مرويات من ظما. نتساقى الريق فيما بيننا: ... زقّ أمّات القطا زغب القطا. وقال على بن الجهم: سقى الله ليلا ضمّنا بعد فرقة، ... وأدنى فؤادا من فؤاد معذّب! فبتنا جميعا: لو تراق زجاجة ... من الخمر فيما بيننا، لم تسرّب. وقال الخبزأرزّىّ: طوّقته طوق العتاق بساعدى، ... وجعلت كفّى للّثام وشاحا. هذا هو الفوز العظيم فخلّنا، ... متعانقين فما نريد براحا! وقال صالح بن يونس: لى سيّد ما مثله سيّد، ... تصدّت الحمّى له فاشتكى. عانقته عند موافاته، ... والأفق بالليل قد احلولكا. فجاءت الحمّى كعاداتها، ... فلم تجد ما بيننا مسلكا! وقال الحسين بن علىّ بن بشر الكاتب: ضممته ضمّ مفرط الضّمّ، ... لا كأب مشفق ولا أمّ. ولم نزل، والظلام حارسنا، ... جسمين مستودعين في جسم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 ألثمه في الدّجى، وبرق ثنا ... ياه يرينى مواضع اللّثم. ثمّ افترقنا عند الصباح وقد ... أثّرت فيه كهيئة الختم. وقال أبو عبد الله الحامدىّ: سقانى وحيّانى وبات معانقى! ... فيا عطف معشوق على ذلّ عاشق! ويا ليلة، باتت سواعدنا بها ... تدور على الأعناق دور المخانق! نبثّ من الشّكوى حديثا كأنّه ... قلائد درّ في نحور العواتق. ومما ورد على لفظ التأنيث، فمن ذلك قول أبى إسحاق الصابى: هيفاء تحكى قضيبا ... قد جمّشته الرّياح. تفترّ عن سمط درّ ... عليه مسك وراح. جرّدتها واعتنقنا: ... كلّ لكلّ وشاح! باتت، وكلّ مصون ... لى من حماها مباح. فى ليلة لم يعبها ... فى الدّهر إلا الصّباح. وقال أيضا: أقول وقد جرّدتها من ثيابها ... وعانقتها كالبدر في ليلة التّمّ: لئن آلمت صدرى بشدّة ضمّها، ... لقد جبرت قلبى وإن أوهنت عظمى! وقال أبو الفضل الأصبهانىّ: يا ليلة قرنت لنا ... فيها المآرب بالنّجاح. بتنا برغم وشاتنا ... متعانقين إلى الصّباح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 متمازجين كانّنا ... روحان من ماء وراح. ظنّ الوشاة لفرط ضمّ ... ى أنّنى بعض الوشاح! ومما قيل في وصف مشى النساء، يقال: تهالكت المرأة، إذا انفتلت في مشيتها. تأوّدت، إذا اختالت في تثنّ وتكسّر. بدحت وتبدّحت، إذا أحسنت مشيتها. تهزّعت تهزّعا، إذا اضطربت في مشيتها. قرصعت قرصعة، وهى المشية القبيحة؛ وكذلك مثعت مثعا. وقال الأعشى: غرّاء، فرعاء، مصقول عوارضها ... تمشى الهوينى كما يمشى الوجى الوحل كأنّ مشيتها من بيت جارتها ... مزّ السحابة: لا ريث ولا عجل. وقال آخر: يمشين مشى قطا البطاح تأوّدا، ... قب البطون، رواجح الأكفال. وقال ابن عائشة من أبيات: فكأنّهنّ إذا أردن خطا ... يقلعن أرجلهنّ من وحل وقال أبو الفتح كشاجم: وتهتزّ في مشيها مثل ما ... تهزّ الصّبا غصنا ناعما. وتأمر بالأمر فيه الذى ... كرهت فأرضى به راغما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 وقال آخر: شبّهت مشيتها بمشية ظافر ... يختال بين أسنّة وسيوف. صلف تباهت نفسه في نفسه، ... لما انثنى بسنانه المرعوف. وقال آخر: تمشى الهوينى إذا مشت فضلا ... مشى النّزيف المخمور في صعد. تظلّ من زور بيت جارتها ... واضعة كفّها على الكبد. وقال المنخّل اليشكرىّ: ولقد دخلت على الفتا ... ة الخدر في اليوم المطير. فدفعتها فتدافعت ... مشى القطاة إلى الغدير. ولمتها فتنفّست ... كتنفّس الظّبى البهير. وقال عمر بن أبى ربيعة: أبصرتها ليلة، ونسوتها ... يمشين بين المقام والحجر. يرفلن في الرّيط والمروط كما ... تمشى الهوينى سواكن البقر. وقال ابن مقبل: يهززن للمشى أوصالا منعّمة ... هزّ الجنوب ضحى عيدان يبرينا [1] . أو كاهتزاز ردينىّ تداوله ... أيدى التّجار فزادوا متنه لينا. يمشين هيل النّقا مالت جوانبه ... ينهال حينا وينهال الثّرى حينا.   [1] العيدان: النخل الطوال واحدته بهاء، ويبرين: اسم قرية كثيرة النخل والعيون العذبة بحذاء الأحياء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 وقال أشجع السلمىّ: وماجت كموج الماء بين ثيابها ... يميل بها شطر ويعدلها شطر. إذا وصفت ما فوق مجرى وشاحها ... غلائلها ردّت شهادتها الأزر. وقال العباس بن الأحنف: شمس مقدّرة في خلق جارية ... كأنما كشحها طىّ الطّوامير. كأنها حين تمشى في وصائفها ... تخطو على البيض أو خضر القوارير! انتهى الغرض في وصف الأعضاء، وما شاكلها واتصل بها. فلنذكر إن شاء الله تعالى ما جاء فيما قدّمناه من الأمثال. فأما ما جاء منها في الإنسان، يقال: شديد على الإنسان ما لم يعوّد. وما علّم الإنسان إلا ليعلما. الناس من جهة التمثيل أكفاء. الناس أخياف وشتّى في الشّيم. الناس بزمانهم اشبه منهم بآبائهم. وما الناس إلا هالك وابن هالك. والناس أولاد علّات فمن علموا ... أن قد أقلّ فمهجور ومحقور. وقال آخر: الناس أكيس من أن يحسدوا رجلا ... حتّى يروا عنده آثار إحسان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 ويقال: المرء أعلم بشأنه. المرء مع من أحبّ. دع امرأ وما اختار. كلّ امرئ في شأنه ساع. كلّ امرئ مصبّح في أهله. كلّ امرئ من شجو صاحبه خلو. المرء يعجز لا محالة. المرء توّاق إلى ما لم ينل. المرء يجمع، والزمان يفرّق. ويقال: الرّجال بالأموال. تقطّع أعناق الرجال المطامع. ولكلّ دهر دولة ورجال. ومما يتمثل به في ذكر النفس، يقال: النفس مولعة بحبّ العاجل. النفس أعلم من أخوك النافع. أكذب النفس إذا حدّثتها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 ما عاتب الرجل اللبيب كنفسه. الجود بالنفس أقصى غاية الجود. نفس عصام سوّدت عصاما. ومما يتمثل به من أعضاء الإنسان الظاهرة والباطنة ما قيل في الرأس والشعر من نجا برأسه فقد ربح. رماه بأقحاف رأسه. أى بالدواهى. اختلفت رءوسها فرتعت. كلّ رأس به صداع. ويقال: ادقّ من الشّعر. اهون من الشّعر الساقط. ما يتمثل به من ذكر الوجه وجه المحرّش أقبح. أى وجه مبلّغ القبيح أقبح من وجه قائله. فى وجه مالك تعرف إمرته. قبل البكاء كان وجهك عابسا. قال أبو تمام: وما أبالى، وخير القول أصدقه، ... حقنت لى ماء وجهى أم حقنت دمى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 وقال ابن الرومىّ: وقلّ من ضمنت خيرا طويّته ... إلا وفي وجهه للخير عنوان. له محيّا جميل يستدلّ به ... على جميل، وللبطنان ظهران. وقال آخر: صلابة الوجه صلاح الفتى ... ورقّة الوجه من الخرقة. ما يتمثل به من ذكر العين، يقال: أسرع من طرف العين. أسرع من لمح البصر. العين ترجمان القلب. شاهد البغض اللحظ. ربّ عين أنمّ من لسان. ليس لما قرّت به العين ثمن. نظرة من ذى علق. عين عرفت فذرفت. لحظه أصدق من لفظه. ليس لعين ما رأت، ولكن لكفّ ما أخذت. لا تطلب أثرا بعد عين. من أطاع طرفه، أصاب حتفه. وأىّ عار على عين بلا حور. والدّمع قد يعلن ما في الصّدور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 ومن الأبيات: وعين الرّضا عن كلّ عيب كليلة؛ ... ولكنّ عين السّخط تبدى المساويا. وقال الأمير أبو الفضل الميكالىّ: كم والد يحرم أولاده ... وخيره يحظى به الابعد. كالعين لا تنظر ما حولها، ... ولحظها يدرك ما يبعد. ما يتمثل به من ذكر الأنف أنفك منك وإن كان أجدع. يضرب في القريب السّوء. شفيت نفسى وجدعت أنفى. لأمر ما جدع قصير أنفه. كلّ شىء أخطأ الأنف جلل. لدغت حيث لا يضع الراقى أنفه. يضرب للأمر الذى لا دواء له. ربّ حام لأنفه وهو جادعه. يضرب لمن أنف من الشىء فتوقعه الأنفة في أشدّ منه. مات حتف أنفه. جدع الحلال أنف الغيرة. قاله رسول الله، صلى الله عليه وسلم. أنف في السّماء، واست في الماء! ما يتمثل به من ذكر الفم، واللسان، والأسنان كل جان يده إلى فيه. حدّثنى، فاه إلى فيّ. فلان خفيف الشّفة. أى قليل المسألة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 سكت ألفا، ونطق خلفا. قرع سنّ النادم. كدمت في غير مكدم. أى طلبت غير مطلب. وجرح الدّهر ما جرح اللّسان. وجرح اللسان كجرح اليد. ما يتمثل به من ذكر الأذن جاء فلان ناشرا أذنيه. لبست على ذلك أذنى. أساء سمعا فأساء إجابة. كلامه يدخل في الأذن بلا إذن. جعلت ذلك دبر أذنى. ما يتمثل به من ذكر العنق حسبك من القلادة ما أحاط بالعنق. أذلّ الحرص أعناق الرجال. وقال أبو الفتح البستىّ: فكم دقّت وشقّت واسترقّت ... فضول العيش أعناق الرّجال. ما يتمثل به من ذكر اليد أهدى من اليد إلى الفم. ألزم من اليمين للشّمال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 يداك أوكتا، وفوك نفخ. اليد العليا خير من اليد السّفلى. آثر لديه من يمين يديه. ذهبوا أيدى سبا. أى متفرّقين. بالساعد تبطش الكفّ. على يدى دار الحديث. إذا كان خبيرا بالأمر. هو على حبل ذراعه. أى موافق له. تربت يداه. دعاء عليه بالفقر. ما تبلّ إحدى يديه الأخرى. البخيل. تركه على أنقى من الراحة. فلان يقلّب كفّيه. سقط في يديه. للنادم. أعطاه عن ظهر يد. أى ابتدأه لا عن مكافأة. ما سدّ فقرك مثل ذات يدك. إن الذّليل الذى ليست له عضد. يد تشحّ، وأخرى منك تأسونى. على اليد ردّ ما أخذت. وما الكفّ إلا إصبع ثم إصبع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 ومن الأبيات: قد تطرف الكفّ عين صاحبها، ... ولا يرى قطعها من الرّشد. وقال آخر: فلو أنّها إحدى يدى رزئتها؛ ... ولكن يدى بانت على إثرها يد. وقال أبو تمام: وهل يستعيض المرء من خمس كفّه، ... ولو صاغ من حرّ اللّجين بنانها؟ ما يتمثل به من ذكر الصدر والقلب صدرك أوسع لسرّك. صدور الاحرار، قبور الأسرار. لا بدّ للمصدور من أن ينفث. ألزم له من شعرات صدره. ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه. القلب طليعة. القلوب تتقلّب. قال بعض الشعراء: متى تجمع القلب الذّكىّ وصارما ... وأنفا حميّا، تجتنبك المظالم. وقال آخر: إنّ التباعد لا يضرّ ... إذا تقاربت القلوب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 ما يتمثل به من ذكر الظهر والبطن والجنب استظهر على الدّهر بخفّة الظّهر. قلب الأمر ظهرا لبطن. لا تجعل حاجتى بظهر. أى لا تلقها وراء ظهرك. انقطع السّلى في البطن. لتناهى الشّدّة. نزت به البطنة. لمن لا يحتمل النّعمة. لكلّ جنب مصرع. لجنبه فلتكن الوجبة، فى الدعاء عليه. دمّث لجنبك قبل النّوم مضطجعا. ما يتمثل به من ذكر الكبد والدّم والعروق يا بردها على الكبد! فلان بين الخلب والكبد. ما ينفع الكبد يضرّ الطّحال. ويقال: جرى منه مجرى الدّم في العروق. هو أعزّ من دم الفؤاد. سرّك من دمك. لا تكايل بالدّم. لا يحزنك دم هراقه أهله. للجانى على نفسه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 فلان لا يشرب الماء إلا بدم. العرق نزّاع. ألا إنّ عرق السّوء لا بدّ مدرك! ما يتمثل به من ذكر الساق والقدم، يقال: التفّت الساق بالساق. فى الشدّة. كشفت الحرب عن ساقها، وكشرت عن نابها. قدح في ساقه، إذا عمل في شىء يكرهه. لا يرسل الساق إلا ممسكا ساقا. قد شمّرت عن ساقها، فشمّرى! فى الحثّ على الجدّ. ويقال: له قدم في الخير، أى سابقة. إنك لا تسعى برجلى من أتى. وقال الشاعر: إنّ قريشا- وهى من خير الأمم- ... لا يضعون قدما على قدم. من ضرب به المثل من الرجال على لفظ أفعل للتفضيل يقولون: أسخى من حاتم. أجود من كعب بن مامة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 أجود من هرم. قال الميدانى: هو هرم بن سنان بن أبى حارثة. وفيه يقول زهير بن أبى سلمى: إن البخيل ملوم حيث كان ول ... كنّ الجواد على علّاته هرم. أقرى من مطاعيم الرّيح. ومطاعيم الريح أربعة: منهم أبو محجن الثقفىّ. وكان لبيد بن ربيعة العامرىّ يطعم إذا هبّت الصّبا. أشجع من ربيعة بن مكدّم. أعزّ من كليب بن وائل. أعزّ من مروان القرظ. أسود من قيس بن عاصم. أحلم من الاحنف بن قيس. أزكن من إياس بن معاوية. أفتك من البرّاض بن قيس النمرىّ، خليع بنى كنانة. فتك بعروة الرّجّال، والمساور بن مالك الغطفانىّ، وأسد بن خيثم الغنوىّ بسبب لطيمة النعمان. وبسبب ذلك كانت أيام الفجار الأخر؛ وسنذكرها في وقائع العرب إن شاء الله تعالى. أوفى من الحارث بن عباد. وخبره مشهور مع مهلهل أخى كليب لما أمنه يوم تحلاق اللّم أوفى من عوف بن محلّم. أوفى من هانئ بن قبيصة. وخبره مشهور في أدرع النعمان؛ وبسببها كانت وقعة ذى قار. أوفى من السّموءل بن عادياء. أجمل من ذى العمامة. وهو سعيد بن العاص بن أمية، ويكنى أبا أحيحة؛ وهو المقول فيه: أبو أحيحة من يعتمّ عمّته ... يضرب ولو كان ذا مال وذا ولد. أمضى من سليك المقانب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 أغلى فداء من حاجب بن زرارة؛ ومن بسطام بن قيس؛ ومن الأشعث. أسرته مذحج ففدى نفسه بثلاثة آلاف بعير. أعدى من الشّنفرى؛ ومن السّليك بن السّلكة. أبطأ من فند. وهو مولى لعائشة بنت طلحة؛ وقال أبو هلال العسكرى: عائشة بنت سعد بن أبى وقّاص، بعثت به مولاته ليقتبس نارا، فأتى مصر، فأقام بها سنة، ثم جاء يشتد ومعه نار، فتبددت فقال: تعست العجلة! أنوم من عبّود. كان عبود عبدا أسود؛ وكان الله عز وجل قد بعث نبيا إلى قومه. قال الميدانى: إن النبىّ هو خالد بن صفوان، نبىّ أهل الرّسّ. فلم يؤمن به أحد منهم إلا ذلك العبد الأسود، وإن قومه احتفروا له بئرا فصيروه فيها وأطبقوا عليه صخرة. فكان ذلك الأسود يخرج من القرية فيحتطب، ويبيع الحطب فيشترى به طعاما وشرابا، ثم يأتى به إليه فيعينه الله تعالى على الصخرة فيرفعها ويدلى إليه الطعام والشراب. فاحتطب يوما وجلس فنام على شقّه الأيسر سبع سنين. ثم هبّ من نومه فانقلب على شقّه الأيمن، فنام سبع سنين، وهو يظن أنه نام ساعة من نهار. ثم احتمل حزمته وأتى القرية، فباع الحطب وجاء الى الحفرة فلم يجد النبىّ وكان قد بدا للقوم فأخرجوه. فكان يسأل عن الأسود، فيقولون: لا ندرى. فضرب به المثل لمن ينام نوما طويلا. وقيل فيه غير ذلك. وذكره الميدانى في أمثاله ولم يذكر السبعة الثانية، وإنما ذكرها صاحب كتاب المفاخر [1] . أنعم من خريم الناعم. هو رجل من ولد سنان بن أبى حارثة، كان في زمن الحجاج. أبلغ من سحبان وائل. ويقال أخطب من سحبان: وهو الذى يقول: لقد علم الحىّ اليمانون أنّنى ... إذا قلت: أمّا بعد، أنّى خطيبها. أخطب من قسّ. هو قسّ بن ساعدة بن حذافة بن زهير بن إياد بن نزار. وكان من حكماء العرب وهو أول من كتب من فلان الى فلان؛ وأوّل من أقرّ بالبعث من غير علم؛ وأوّل من قال: «البيّنة على من ادّعى، واليمين على من أنكر» . وقيل: إنّه عمّر مائة وثمانين سنة.   [1] هو كتاب «الفاخر» وتوجد منه نسخة بدار الكتب المصرية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 روى عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: وفد وفد بكر بن وائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم! فلما فرغ من حوائجهم قال: أفيكم من يعرف قسّ بن ساعدة الإيادىّ؟ فقالوا: كلنا نعرفه! قال: ما فعل؟ قالوا: هلك! فقال النبىّ صلى الله عليه وسلم: كأنّى به على جمل أحمر بعكاظ قائما، يقول: «أيها الناس اجتمعوا واسمعوا وعوا! كلّ من عاش مات، وكلّ من مات فات، وكل ما هو آت آت! إنّ في السماء لخبرا، وإن في الأرض لعبرا: مهاد موضوع، وسقف مرفوع، وبحار تموج، وتجارة لن تبور وليل داج، وسماء ذات أبراج! أقسم قسّ حقّا: إن كان في الأرض رضا ليكوننّ بعده سخط! وإن لله عز وجل دينا هو أحبّ إليه من دينكم الذى أنتم عليه! ما لى أرى الناس يذهبون فلا يرجعون؟ أرضوا فأقاموا؟ أم تركوا فناموا!» ثم أنشد أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه شعرا حفظه له، وهو: فى الذاهبين الأوّل ... ين من القرون لنا بصائر. لمّا رأيت مواردا ... للموت ليس لها مصادر. ورأيت قومى نحوها ... تسعى: الأصاغر والأكابر. لا يرجع الماضى إلىّ ... ولا من الباقين غابر. أيقنت أنّى لا محا ... لة حيث صار القوم صائر! ويقال: أعيا من باقل. وهو رجل من ربيعة ابتاع ظبيا وحشيا بأحد عشر درهما، وجعل بقية الدراهم في فيه. فسئل عن ثمنه، ففعل بيديه تجاه السائل (أى فتح أصابعه وفغر فاه وأدلى لسانه يشير بذلك إلى ثمنه) . فحصل من ذلك انفلات الظبى؛ وسقوط الدراهم؛ والإساءة على السائل فضرب به المثل. أبرّ من العملّس. كان برّا بأمه فكان يحملها على عاتقه. أبرّ من فلحس. وهو رجل من شيبان. حمل أباه على ظهره وحجّ به. وفيه أيضا يقال: أسأل من فلحس كان سيدا عزيزا، يسأل سهما في الجيش وهو في بيته فيعطى لعزه؛ فإذا أعطى سأل لامرأته؛ فإذا أعطى سأل لبعيره، وكان له ولد يقال له زاهر، فكان مثله، فقيل فيه: «العصا من العصيّة» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 ويقال: أخيب صفقة من شيخ مهو. وهو حىّ من عبد القيس اشتروا الفسو من إياد وكانوا يعرفون به، فعرفت به عبد القيس. قال الميدانى: هذا الشيخ اسمه عبد الله بن بيدرة، اشترى الفسو من إياد ببردى حبرة، وقال لقومه: اشتريت لكم عار الدهر، فقالت عبد القيس في ذلك: إن الفساة قبلنا إياد ... ونحن لا نفسو ولا نكاد. وفيهم يقول شاعر: يا من رأى كصفقة ابن بيدره ... من صفقة خاسرة مخسّره؟ المشترى العار ببردى حبره! ... شلّت يمين صافق ما أخسره! أخسر صفقة من أبى غبشان. فإنه باع مفاتيح الكعبة من قصىّ بزقّ خمر. أضلّ من سنان. وهو ابن أبى حارثة المرّى؛ وكان قومه عنفوه على الجود، فركب ناقة له ورمى بها الفلاة، فلم ير بعد ذلك. وسمته العرب ضالّة غطفان؛ وقالوا: إن الجانّ استفحلته تطلب كرم نجله. أبطش من دوسر. وهى كتيبة النعمان. أهدى من قيس بن زهير. أفرغ من حجّام ساباط. يقال إنه كان إذا أعوزه من يحجمه حجم أمّه. فلم يزل يحجمها حتى نزف دمها، فماتت. أندم من الكسعىّ. واسمه محارب بن قيس، وقيل غامد بن الحارث. وكان أرمى الناس، لا يخطئ له سهم، فخرج ومعه قوس وخمس سهام فرمى صيدا في الليل فأصاب سهمه ونفذ، فوقع في الحجر فقدح نارا. ثم رمى كذلك حتى استنفد السّهام. وهو يظن أنه أخطأ في الجميع فكسر قوسه، وخلع إبهامه. فلما أصبح رأى رميّته، فندم على فعله. أمنع من الحارث بن ظالم. وسيأتى خبره في وقائع العرب أبخل من مادر. وسيأتى خبره في باب الهجاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 أكذب من مسيلمة الحنفىّ، (وخبره مشهور في دعواه النبوّة) ومن المهلّب، (وكان يكذب لأصحابه في حرب الأزارقة، يعدهم بالنّجدة والإمداد) . أحمق من راعى ضأن ثمانين، (وذلك أن أعرابيا بشّر كسرى ببشارة سرّ بها، فقال له كسرى: سلنى ما شئت! فقال: أسألك ضأنا ثمانين) ؛ ومن هبنّقة، وهو ذو الودعات؛ واسمه يزيد بن ثروان أحد بن قيس بن ثعلبة؛ وبلغ من حمقه أنه ضلّ له بعير، فنادى من وجد بعيرى فهو له، فقيل له: فلم تنشده؟ قال: فأين حلاوة الوجدان. وفيه يقول الشاعر: عش بجدّ وكن هبتقة القي ... سىّ نوكا أو شيبة بن الوليد. ربّ ذى إربة مقلّ من الما ... ل وذى عنجهية مجدود. العنجهية الجهل أحمق من ربيعة البكّاء. هو ربيعة بن عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. ومن حمقه أن أمّه تزوّجت بعد أبيه، فدخل عليها الخباء، وكان قد التحى فوجد زوجها بياضعها، فتوهّم أنه يريد قتلها، فبكى وهتك الخباء، فاجتمع الناس وسألوه عن شأنه، فأخبرهم أنه وجده على بطنها يريد قتلها، فقالوا: «أهون مقتول» فصار مثلا. أتيه من أحمق ثقيف. وهو يوسف بن عمرو. ألصّ من شظاظ. وهو رجل من بنى ضبّة. أزنى من قرد. وهو قرد بن معاوية بن هذيل. أمطل من عرقوث. وقال كعب بن زهير: كانت مواعيد عرقوب لها مثلا ... وما مواعيدها إلا الاباطيل. أشام من خوتعة. وهو رجل من بنى غفيلة بن قاسط أخى النمر بن قاسط. أشأم من قدار (وهو عاقر الناقة) ؛ ومن أحمر ثمود (وهو عاقرها أيضا) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 أشأم من طويس. وهو مخنّث، كان يقول إنه ولد يوم مات النبىّ صلى الله عليه وسلم؛ وفطم يوم مات أبو بكر؛ وبلغ يوم قتل عمر؛ وتزوّج يوم قتل عثمان؛ وولد له يوم قتل علىّ. أمكر من قيس بن زهير. وأمّا من ضرب بها المثل من النساء يقال. أنجب من مارية. ولدت لزرارة: حاجبا، ولقيطا، وعلقمة. أنجب من بنت [1] الحارث. ولدت لزياد العبسىّ بنيه الكلمة، وهم: ربيعة الكامل، وعمارة الوهاب، وقيس الحافظ، وأنس الفوارس. أنجب من أمّ البنين [2] . ولدت لمالك بن جعفر بن كلاب، ملاعب الأسنة عامرا، فارسا. أنجب من عاتكة: ولدت لعبد مناف هاشما، وعبد شمس، والمطّلب. أسرع من نكاح أمّ خارجة. وهى عميرة بنت سعد بن عبد الله بن قدار بن ثعلبة بن معاوية بن زيد ابن الغوث بن أنمار بن أراش بن عمرو بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبإ بن يشجب ابن يعرب بن قحطان. ولدت في نيّف وعشرين حيّا من العرب. كان الرجل يقول لها: خطب! فتقول: نكح! قال أبو الفرج الأصبهانى: فمن ولدت، الدّيل، وليث، والحارث بنو بكر بن عبد مناف بن كنانة؛ وغاضرة بن مالك بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة؛ والعنبر، وأسيد، والهجيم بنو عمرو بن تميم؛ وخارجة ابن يشكر (وبه كانت تكنّى) ؛ وسعد بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن مزيقيا (وهو أبو المصطلق) .   [1] صوابه الخرشب وهى فاطمة بنت الخرشب الأنمارية انظر «مجمع الأمثال» و «تاج العروس» . [2] هم كما في «أمثال الميدانى» أبو براء، وملاعب الأسنة عامر، وطفيل فارس فرزل وربيعة، ومعاوية، وأم البنين هى ابنة عمرو بن عامر فارس الضحياء، وبذلك تعلم ما في الأصول من السقط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 قال: وزعموا أن بعض أزواجها طلّقها فرحل بها ابن لها عن حيه إلى حيها فلقيها راكب، فلما تبينته، قالت لابنها: هذا خاطب لى لا شكّ فيه، افتراه يعجلنى أن أنزل عن بعيرى، فجعل ابنها يسبّها. أحمق من الممهورة إحدى خدمتيها. وذلك أن زوجها طلقها، فطالبته بمهرها، فأخذ أحد خلخاليها من رجلها وأعطاها إيّاه، فرضيت به. أحمق من دغة. هى مارية بنت مغنج [1] بن ربيعة بن عجل، وقيل بنت منعج؛ تزوّجت وهى صغيرة فى بنى العنبر بن تميم، فحملت. فلما أدركها المخاض، ظنّت أنها تريد الخلاء فتبرزت فولدت فاستهلّ الولد. فانصرفت وهى تقدّر أنها إنما أحدثت. فقالت لضرّتها يا هنتاه، هل يفغر الجعرفاه؟ قالت: نعم، ويدعو أباه! فمضت ضرّتها للولد فأخذته، فبنو العنبر تسمّى بنى الجعراء. أبصر من زرقاء اليمامة. وهى امرأة من طسم، كانت تبصر الراكب على مسيرة ثلاث ليال. وسيأتى إن شاء الله تعالى خبرها في وقعة طسم وجديس. أزنى من هرّ. وهى امرأة يهودية؛ وهى التى قطع المهاجر يدها فيمن قطع من النساء حين شمتن بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم. أشبق من حبّى المدنيّة. أشأم من البسوس. وهى جارة جسّاس بن مرّة، صاحبة الناقة التى قتل بسببها كليب، وثارت الحرب بين بكر وتغلب أربعين سنة. ويقال: أمنع من أمّ قرفة. وهى امرأة مالك بن حذيفة بن بدر الفزارى. كان يعلّق في بيتها سبعون سيفا، كلّ سيف لذى محرم منها. فضرب بها المثل. والله سبحانه وتعالى أعلم.   [1] فى الأصلى «معج» وفي اللسان والقاموس وشرحه «مغنج» وفي بعض النسخ «منعج» قال المغفل بن سلمة: من أعجم العين فتح الميم ومن أهملها كسر الميم. قاله البكرى في شرح أمالى القالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 الباب الثالث من القسم الأوّل من الفن الثانى (فى الغزل، والنّسيب، والهوى، والمحبة، والعشق) ولنبدأ بذكر الهوى، لأنه السبب الباعث على الغزل. وذلك أنه إذا حلّ في الأجسام ارتاحت النفوس، ورقّت القلوب، وانجذبت الخواطر، وصفت الأذهان، وسهل على القرائح فأبرزته الألسن. والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم. ذكر شىء مما قيل في الهوى، والمحبة، والعشق، وما قيل في ماهية العشق، وحقيقته وسببه، وما قيل في مدحه، وذمّه، والممدوح منه، والمذموم، وضرر العشق في الدّنيا، والآفات التى تجرى على العاشق: من المرض، والجنون، والضّنا، والمخاطرات بالنفوس، وإلقائها إلى الهلاك. ثم نذكر أخبار ومن أخرجه عن دينه حتّى كفر بربه، ومن قتل، وقتل فيه، ومن قتل نفسه. ثم نذكر ما ورد في التحذير من فتنة النساء، وذمّ الزنا، والنظر إلى المردان، والتحذير من اللّواط، وعقوبة اللائط، وغير ذلك من أمر العشق، على ما سنشرحه إن شاء الله تعالى فنقول، وبالله التوفيق. أمّا ماهية العشق وحقيقته، فقد تكلم عليه أوائل الحكماء والفلاسفة وغيرهم من المسلمين، على ما نشرحه إن شاء الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 فأما كلام الحكماء والفلاسفة فقال أفلاطون: العشق، حركة النفس الفارغة بغير فكرة. وسئل ديوجانس عن العشق، فقال: سوء اختيار صادف نفسا فارغة. وقال أرسطاطاليس: العشق، هو عمى الحسّ عن إدراك عيوب المحبوب. وقال فيثاغورس: العشق، طبع يتولد في القلب ويتحرّك وينمى ثم يتربّى، ويجتمع إليه موادّ من الحرص، وكلما قوى ازداد صاحبه في الاهتياج واللّجاج، والتمادى في الطمع، والفكر في الأمانىّ، والحرص على الطلب، حتى يؤدّيه ذلك إلى الغم المقلق. وإلى هذا المعنى أشار المتنبى بقوله: وما العشق إلا غرّة وطماعة: ... يعرّض قلب نفسه فيصاب. وقال بعض الفلاسفة: لم أرحقّا أشبه بباطل، ولا باطلا أشبه بحق من العشق: هزله جدّ، وجدّه هزل، وأوّله لعب، وآخره عطب. وقد ذهب بعضهم إلى أنه مرض وسواسىّ شبيه بالماليخوليا. وأما كلام الإسلاميين وما قالوه فيه فقد حكى عن أبى العالية الشامىّ، قال: سأل المأمون يحيى بن أكثم عن العشق ما هو؟ فقال: هو سوانح للمرء يهيم بها قلبه وتؤثرها نفسه! قال فقال له ثمامة: اسكت يا يحيى! إنما عليك أن تجيب في مسئلة طلاق أو محرم صاد ظبيا، أو قتل نملة؛ فأما هذه فمسائلنا نحن! فقال له المأمون: ما العشق؟ يا ثمامة، فقال: العشق جليس ممتع، وأليف مؤنس، وصاحب مملّك، ومالك قاهر، مسالكه لطيفة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 ومذاهبه غامضة، وأحكامه جائرة؛ ملك الأبدان وأرواحها، والقلوب وخواطرها، والعيون ونواظرها، والعقول وآراءها، وأعطى عنان طاعتها، وقيود تصرفها، توارى عن الأبصار مدخله، وغيض في القلوب مسلكه! فقال له المأمون: أحسنت والله، يا ثمامة! وأمر له بألف دينار. وحكى عن الفضل بن يعقوب: قال لما اجتمع ثمامة بن أشرس، ويحيى بن أكثم عند المأمون، قال ليحيى: خبّرنى عن العشق ما هو؟ فقال: يا أمير المؤمنين، سوانح تسنح للعاشق يؤثرها، ويهيم بها تسمّى عشقا! فقال له ثمامة: يا يحيى، أنت بمسائل الفقه أبصر منك بهذا، ونحن بهذا أحذق منك! فقال المأمون: فهات ما عندك! فقال: يا أمير المؤمنين، إذا امتزجت خواطر النفوس بوصل المشاكلة نتجت لمح نور ساطع تستضىء به نواظر العقول، ويتصوّر من ذلك اللمح نور خاص بالنفوس متصل بجواهرها يسمّى عشقا! فقال له المأمون: صدقت، هذا وأبيك الجواب! وحكى عن الأصمعىّ، قال: دخلت على هرون الرشيد، فقال: يا أصمعىّ، إنى أرقت ليلتى هذه، فقلت: ممّ؟ أنام الله عين أمير المؤمنين، قال: فكّرت فى العشق ممّ هو، فلم أقف عليه، فصفه لى حتّى إخاله جسما مجسما! قال الأصمعىّ: لا والله ما كان عندى قبل ذلك فيه شىء فأطرقت مليّا، ثم قلت: نعم يا سيّدى، إذا تقاربت الأخلاق المشاكلة وتمازجت الأرواح المشابهة، لمح نور ساطع يستضىء به العقل، وتهتز لإشراقه طباع الحياة، ويتصوّر من ذلك النور خلق خاص بالنفس متصل بجوهريتها يسمّى العشق! فقال: أحسنت والله! يا غلام، أعطه وأعطه وأعطه! فأعطيت ثلاثين ألف درهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 وحكى عن الأصمعىّ أنه قال: لقد أكثر الناس في العشق، فما سمعت أوجز ولا أجمل من قول أعرابيّة (وقد سئلت عن العشق) فقالت: ذلّ وجنون. قلت: هذه صفة ثمرة العشق ومآله. والتحقيق أن العشق شدّة ميل النفس إلى صورة تلائم طبعها، فإذا قوى فكره فيه تصوّرت حصولها وتمنّت ذلك، فيتجدّد من شدّة الفكر مرض. وقيل لبعضهم: ما العشق؟ فقال: ارتياح في الخلقة، وفرح يجول في الرّوح، وسرور ينساب في أجزاء القوى. وقال أبو العيناء: سألت أعرابيّا عن الهوى، فقال: هو أظهر من أن يخفى. وأخفى من أن يرى، كامن ككمون النار في الحجر، إن قدحته أورى، وإن تركته توارى. وسئل يحيى بن معاذ عن حقيقة المحبة، فقال: التى لا تزيد بالبر، ولا تنقص بالجفاء. وسئل بعض الصوفية عن الهوى والمحبة فقال: الهوى يحلّ في القلب، والمحبة يحلّ فيها القلب! وللعشق مراتب من ابتدائه إلى انتهائه. ذكر مراتب العشق وضروبه قالوا: أوّل ما يتجدّد الاستحسان للشخص تحدث إرادة القرب منه، ثم المودّة. (وهو أن يودّ لو ملكه) ، ثم يقوى الودّ فيصير محبة، ثم يصير هوى (فيهوى بصاحبه فى محابّ المحبوب من غير تمالك) ، ثم يصير عشقا، ثم يصير تتيّما (والتتيّم حالة يصير بها المعشوق مالكا للعاشق لا يوجد في قلبه سواه) ، ثم يزيد التتيّم فيصير ولها (والوله إلخروج عن حدّ الترتيب، والتعطل عن أحوال التمييز) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 وقال بعضهم: أوّل مراتب العشق الميل إلى المحبوب، ثم العلاقة، ثم الحب، ثم يستحكم الهوى فيصير مودّة تزيد بالمؤانسة، وتدرس بالجفاء والأذى، ثم الخلّة، ثم الصّبابة (وهى رقة الشوق) تولّدها الألفة، ويبعثها الإشفاق، ويهيجها الذكر، ثم تصير عشقا. وهو على أضرب. فمبدؤه يصفى الذهن، ويهذّب العقل. كما قال ذو الرياستين لأصحابه: «اعشقوا، ولا تعشقوا حراما! فإن عشق الحرام يطلق اللسان ويرفع التبلّد ويطلق كفّ البخيل ويبعث على النظافة ويدعو إلى الذكاء، فإذا زاد؛ مرض الجسد، فإذا زاد؛ أخرج العقل وأزال الرأى فاستهلك، ثم يترقّى فيصير ولها، ويسمّى ذو الوله مدلّها، ومستهاما، ومستهترا، وحيران؛ ثم بعدها التتيّم فيدعى متيّما، والتتيّم نهاية الهوى، وآخر العشق؛ ومن التتيّم يكون الداء الدّوىّ، والجنون الشاغل» . وقال بعض الحكماء: أوّل الحب العلاقة (وهو شىء يحدثه النظر أو السمع فيخطر للبال، ويعرض للفكر، ويرتاح له القلب، ثم ينمى بالطمع، واللّجاج، وإدمان الذكر) ، ثم يقوى فيصير حبّا، ثم يصير هوى، ثم يصير خلّة، ثم عشقا، ثم ولها، فيسمّى صاحبه مدلّها، ومستهاما، وهائما، وحيران، ثم يصير متيّما، وهو أرفع منازل الحب، لأن التتيم التعبّد؛ والوجد ألم الحب، والهيمان الذهاب في طلب غرض لا غاية له؛ والكلف والشّغف اللهج بطلب الغرض. وقال الفرّاء: اللّوعة، حرقة القلب من الحب. وقال أبو عبيد القاسم بن سلّام: العلاقة الحب اللازم للقلب؛ والجوى الهوى الباطن؛ واللّوعة حرقة الهوى؛ واللاعج الهوى المحرق؛ والشّغف أن يبلغ الحب شغاف القلب (وهو جلد دونه) ؛ والتّتيم أن يستعبده الهوى؛ والتّبل أن يسقمه الهوى، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 يقال: رجل متبول؛ والتّدليه، ذهاب العقل من الهوى، يقال: رجل مدلّه؛ والهيوم أن يذهب على وجهه؛ والشّغف إحراق القلب مع لذة يجدها وهو شبيه باللّوعة. وقال أبو عبد الله بن عرفة: الإرادة قبل المحبة، ثم المحبة، ثم الهوى، ثم العشق. وقال ابن دريد: الصّبابة رقّة الهوى. واشتقاق الحب من أحب البعير، إذا برك من الإعياء. ذكر ما قيل في الفرق بين المحبة والعشق قالوا: المحبة جنس، والعشق نوع. فإن الرجل يحب أباه وأمه، ولا يبعثه ذلك على تلف نفسه، بخلاف العاشق. وقد حكى أن بعض العشاق نظر إلى جارية كان يهواها، فارتعدت فرائصه وغشى عليه، فقيل لبعض الحكماء: ما الذى أصابه؟ فقال: نظر من يحبّه، فانفرج قلبه، فتحرّك الجسم لانفراج القلب! فقيل له: فنحن نحب أهالينا ولا يصيبنا ذلك فقال: تلك محبة العقل، وهذه محبة الرّوح! وقالوا: كل عشق يسمّى حبّا، وليس كل حب يسمّى عشقا. لأن العشق اسم لما فضل عن المحبة، كما أن السّرف اسم لما جاوز الجود، والبخل اسم لما نقص عن الاقتصاد، والجبن اسم لما فضل عن شدّة الاحتراس، والهوج اسم لما فضل عن الشجاعة. قال الشاعر: ثلاثة أحباب: فحبّ علاقة، ... وحبّ تملّاق، وحبّ هو القتل! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 وأما سبب العشق وما قيل فيه، فقالوا: سبب العشق مصادفة النفس ما يلائم طبعها فتستحسنه وتميل إليه. وأكثر أسباب المصادفة النظر. ولا يكون ذلك بالملح، بل بالتثبت في النظر ومعاودته بالنظر، فإذا غاب المحبوب عن العين طلبته النفس، ورامت التقرّب منه، وتمنّت الاستمتاع به. فيصير فكرها فيه، وتصويرها إياه في الغيبة حاضرا، وشغلها كله به، فيتجدّد من ذلك أمراض لانصراف الفكر إلى ذلك المعنى. وكلما قويت الشهوة البدنية، قوى الفكر في ذلك. وقد أمر الله عز وجل بغضّ البصر فقال: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) . فقرن غض البصر بحفظ الفرج، لأنه يسببه ويؤول إليه. وعن علىّ رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم! قال: «لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى! وليست لك الآخرة» . وعن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «العينان تزنيان، وزناهما النظر» . وعن علىّ رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم! «يا علىّ، اتّق النظرة بعد النّظرة! فإنها سهم مسموم، يورث الشّهوة في القلب» . وعن أنس رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نظر الرجل إلى محاسن المرأة سهم مسموم من سهام إبليس» . وعن يحيى بن سعيد قال: كان عيسى بن مريم عليه السلام يقول: «النظر يزرع في القلب الشهوة، وكفى بها خطيئة!» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 وعن سفيان قال: قال عيسى عليه السلام: «إيّاكم والنظر! فإنّه يزرع في القلب الشهوة، وكفى بها لصاحبها فتنة!» . وقال الحسن البصرىّ: من أطلق طرفه، أطال أسفه. وقال ذو النون: اللّحظات تورث الحسرات: أوّلها أسف، وآخرها تلف. فمن تابع طرفه، تابع حتفه. وقال حكيم: أوّل العشق النظر، وأوّل الحريق الشّرر. وقال أبو الفرج بن الجوزىّ: البصر صاحب خبر القلب. ينقل إليه أخبار المبصرات، وينقش فيه صورها، فيجول الفكر فيها فيشغله ذلك عن الفكر فيما ينفعه من أمر الآخرة. فاحذر من شر النظر! فكم أهلك من عابد، وفسخ عزم زاهد! وهو سبب الآفات، إلا أن علاجه في بدايته قريب. فإذا كرر تمكن الشرّ فصعب علاجه. فإن النظرة إذا أثّرت في القلب، فإن أعجل الحازم بغضها وحسم المادّة من أوّلها سهل علاجه، وإن كرر النظر نقّب عن محاسن الصورة ونقلها إلى قلب متفرّغ ونقشها فيه. فكلما تواصلت النظرات كانت كالمياه تسقى بها الشجرة، فلا تزال تنمو فيفسد القلب، ويعرض عن الفكر فيما أمر به، ويخرج بصاحبه الى المحن، ويوجب ارتكاب المحظورات، ويلقى في التلف. وقد أكثر الشعراء في وصف ما يحدثه النظر من البلايا، فمن ذلك، قول الفرزدق: تزوّد منها نظرة لم تدع له ... فؤادا، ولم يشعر بما قد تزوّدا. فلم أر مقتولا ولم أر قاتلا ... بغير سلاح مثلها حين أقصدا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 وقال إبراهيم بن العباس بن صول الكاتب: فمن كان يؤتى من عدوّ وحاسد، ... فإنّى من عينى أتيت ومن قلبى! هما اعتورانى نظرة ثم فكرة، ... فما أبقيا لى من رقاد ولا لبّ! وقال إسمعيل بن عمار الأعرابىّ: عينان مشئومتان، ويحهما! ... والقلب حيران مبتلى بهما. عرّفتاه الهوى لظلمهما، ... يا ليتنى قبله عدمتهما! وقال أبو عبد الله المارستانىّ: رمانى بها طرفى فلم يخط مقتلى، ... وما كلّ من يرمى تصاب مقاتله! إذا متّ، فابكونى قتيلا لطرفه ... قتيل عدوّ حاضر ما يزايله! وقال ابن المعتز: متيّم يرعى نجوم الدّجى ... يبكى عليه رحمة عاذله! عينى أشاطت بدمى في الهوى، ... فابكوا قتيلا بعضه قاتله! وقال المتنبى: وأنا الّذى اجتلب المنيّة طرفه ... فمن المطالب؟ والقتيل القاتل! وقال ابن المعتز: وما أدرى، إذا ما جنّ ليل، ... أشوقا في فؤادى أم حريقا؟ ألا يا مقلتىّ، دهيتمانى ... بلحظكما فذوقا! ثم ذوقا! وقال أبو عبد الله بن الحجاج: يا من رأى سقمى يزي ... د وعلّتى تعيى طبيبى. لا تعجبنّ فهكذا ... تجّنى العيون على الدّلوب! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 وقال أبو منصور بن الفضل: لواحظنا، تجنى ولا علم عندها ... وأنفسنا مأخوذة بالجرائر. ولم أر أغبى من نفوس عفائف ... تصدّق أخبار العيون الفواجر. ومن كانت الأجفان حجّاب قلبه ... أذنّ على أحشائه بالفواقر! وقال أبو محمد بن الخفاجىّ: رمت عينها عينى، وراحت سليمة! ... فمن حاكم بين الكحيلة والعبرا؟ فياطرف، قد حذّرتك النظرة التى ... خلست فما راقبت نهيا ولا زجرا! ويا قلب، قد أرداك من قبل مرة! ... فويحك! لم طاوعته مرّة أخرى؟ وقال عبد المحسن بن غالب الصورىّ: ما نظرة إلا لها سكرة ... كأنّما طرفك خمّار. هذا هوى يصدر عنه جوى ... يتلوه لوعات وأفكار. وهذه أفعالها، هذه! ... ما بعد رأى العين إخبار. ولم يكن أوّل من غرنى! ... كلّ غرير الطّرف غرّار! وقال أبو شجاع الوزير: لأعذّبنّ العين غير مفكّر ... فيها، جرت بالدمع أم فاضت دما! ولأهجرنّ من الرّقاد لذيذه ... حتّى يصير على الجفون محرّما! سفكت دمى، فلأسفكنّ دموعها ... وهى التى بدأت فكانت أظلما! هى أوقعتنى في حبائل فتنة: ... لو لم تكن نظرت، لكنت مسلّما! وقال آخر عفا الله عنه: يا عين أنت قتلتنى، ... وجعلت ذنبك من ذنوبى! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 وأراك تهوين الدّمو ... ع كأنّها وفق الحبيب. تالله، أحلف صادقا ... والصّدق من شيم الأريب! لو ميّزت نوب الزما ... ن من البعيد إلى القريب، ما كنّ إلا دون ما ... جنت العيون على القلوب! وقال آخر، وأجاد: أنا ما بين عدوّي ... ن هما: قلبى وطرفى. ينظر الطّرف ويهوى ال ... قلب، والمقصود حتفى. وقال ابن الحريرىّ: فتصبّر، ولا تشم كلّ برق! ... ربّ برق فيه صواعق حين! واغضض الطّرف، تسترح من غرام ... تكتسى فيه ثوب ذلّ وشين. فقياد الفتى موافقة النف ... س، وبدء الهوى طموح العين. فصل قالوا: ومن أسباب العشق، سماع الغناء وإنشاد الغزل. فإن ذلك يصوّر في النفس نقوش صور فتخمّر خميرة صورة موصوفة، ثم تصادف نظرا مستحسنا، فتتعلق النفس بما كانت تطلبه حالة الوصف. فصل وذكر بعض الحكماء أنه لا يقع العشق إلا لمجانس، وأنه يضعف ويقوى على قدر التشاكل. واستدل بقول النبىّ صلى الله عليه وسلم! «الأرواح جنود مجنّدة ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف» . قال: وقد كانت الأرواح موجودة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 قبل الأجسام، فمال الجنس إلى الجنس. فلما افترقت في الأجساد، بقى في كل نفس حب ما كان مقارنا لها. فإذا شاهدت النفس من نفس نوع موافقة، مالت إليها ظانّة أنها هى التى كانت قرينتها. فإن كان التشاكل في المعانى كانت صداقة ومودّة، وإن كان في معنى يتعلق بالصورة، كان عشقا. وإنما يوجد الملل والإعراض من بعض الناس لأن التجربة أبانت ارتفاع المجانسة والمناسبة. وأنشدوا على ذلك: وقائل: كيف تهاجرتما؟ ... فقلت قولا فيه إنصاف: لم يك من شكلى ففارقته، ... والناس أشكال وألّاف. قال أبو الفرج بن الجوزىّ: فإن قيل إذا كان سبب العشق نوع موافقة بين شخصين في الطباع، فكيف يحب احدهما صاحبه والآخر لا يحبه؟ فالجواب أنه يتفق فى طبع المعشوق ما يوافق طبع العاشق، ولا يتفق في طبع العاشق ما يلائم طبع المعشوق. فإذا كان سبب العشق اتفاقا في الطباع بطل قول من قال: إن العشق لا يكون إلا للأشياء المستحسنة. إنما يكون العشق لنوع مناسبة وملاءمة، ثم قد يكون الشىء حسنا عند شخص غير حسن عند آخر. وحكى على ذلك حكاية رفعها بالسند إلى علىّ بن الحسين القرشىّ، عن رجل من أهل المدينة كان أديبا ظريفا طلّابا للأدب والملح، قال: كنت يوما في مجلس رجل من قريش ومعنا قينة ظريفة حسنة الصورة، ومعنا فتى من أقبح ما رأته العين، والقينة مقبلة عليه بحديثها وغنائها. فبينا نحن كذلك إذ دخل علينا فتى من أحسن الناس وجها، وأثراهم ثوبا، وأطيبهم ريحا، فأقبل علىّ صاحب البيت، فقال: إن في أمر هذين لعجبا! قلت: وما ذاك؟ قال: هذه الجارية تحب هذا (يعنى القبيح الوجه) وليس لها في قلبه محبة، وهذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 الحسن الوجه يحبها، وليس له في قلبها محبة. فبينا نحن على شرابنا إذ سرّ الفتى الحسن الوجه فتغنّى وقال: بيد الذى شغف الفؤاد بهم ... فرج الذى ألقى من السّقم! فاستيقنى أن قد كلفت بكم ... ثم افعلى ما شئت عن علم! فأقبلت عليه، وقالت: قد علمنا ذاك، فمه! ثم تركته، وأقبلت على القبيح الوجه، فلبثنا ساعة، ثم تغنى الفتى أيضا: ألا ليتنى أعمى أصمّ تقودنى ... بثينة لا يخفى علىّ كلامها! فقالت: اللهم أعط عبدك ما سأل! فغاظتنى، فقلت لها: يا فاجرة تختارين هذا، وهو أقبح من ذنوب المصرّين، على هذا الذى هو أحسن من توبة التائبين، فقالت لى: ليس الهوى بالاختيار! ثم أنشأت تغنى وتقول: فلا تلم المحبّ على هواه ... فكلّ متيمّ كلف عميد يظنّ حبيبه حسنا جميلا، ... وإن كان الحبيب من القرود! فقلت: أجل! إنه لكما قلت، وليس في هذا حيلة، وذكرت قول عمر ابن أبى ربيعة: فتضاحكن، وقد قلن لنا: ... حسن في كلّ عين ما تودّ! فصل قالوا: ويتأكد العشق بإدمان النظر، وكثرة اللقاء، وطول الحديث. فإن انضم إلى ذلك معانقة أو تقبيل فقد تمّ استحكامه. وقد ذكر حكماء الأوائل أنه إذا وقعت القبل بين المتحابّين ووصلت بلّة من ريق كل واحد منهما إلى معدة الآخر، اختلط ذلك بجميع البدن ووصل إلى جرم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 بد، وهكذا إذا تنفس كل واحد منهما في وجه صاحبه، فإنه يخرج مع ذلك النفس شىء من نسيم كل واحد منهما فيختلط بأجزاء الهواء، فإذا استنشق من ذلك الهواء دخل في الخياشيم، فوصل بعضه إلى الدماغ فسرى فيه كسريان النّور في جرم البلّور، ووصل بعضه إلى جرم الرئة، ثم إلى القلب فيدبّ في العروق الضوارب في جميع البدن فينعقد في بدن هذا ما تحلل من بدن هذا فيصير مزاجا، فيتولد به العشق وينمى. هذا ما قيل في سبب العشق والله أعلم. وأما ما قيل في مدحه وذمّه والممدوح منه والمذموم، قال ابن الجوزىّ فى كتابه المترجم ب «ذمّ الهوى» : اختلف الناس في العشق، هل هو ممدوح أو مذموم. فقال قوم: هو ممدوح، لأنه لا يكون إلا من لطافة الطبع، ولا يقع عند جامد الطبع. ومن لم يجد منه شيئا فذلك من غلظ الطبيعة. فهو يجلو العقول، ويصفّى الأذهان، ما لم يفرط. فإن أفرط عاد سمّا قاتلا. وقال آخرون: هو مذموم، لأنه يستأسر العاشق ويجعله في مقام المستعبد. قال: قلت: وفصل الحكم فى هذا الفصل أن نقول: أما المحبة والودّ والميل إلى الأشياء المستحسنة والملائمة فلا يذم، وأما العشق الذى يزيد على حدّ الميل والمحبة فيملك العقل ويصرّف صاحبه على غير مقتضى الحكمة فذلك مذموم. ويتحاشى من مثله الحكماء. هذا ما قيل في مدحه وذمّه مجملا. والله تعالى أعلم. فأما الممدوح منه، وهو الذى قدّمنا ذكره، فقد وقع فيه جماعة من الخلفاء والأكابر فلم يعب عليهم ولا نقصهم. وقد تكلموا في مدحه وتفضيله بما سنذكر منه إن شاء الله تعالى طرفا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 فقالوا: العشق يولّد الأخلاق الحميدة! وقالوا: لو لم يكن في الهوى إلا أنه يشجّع الجبان، ويصفّى الأذهان، ويبعث حزم العاجز، لكفاه شرفا! وقال أعرابىّ: من لم يحبّ قط فهو ردىء التركيب جافى الطبع كزّ المعاطف. وقد روى أن الشعبىّ كان ينشد: إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى، ... فأنت وعير في الفلاة سواء! وسمع ابن أبى مليكة غناء وهو يؤذّن، فطرب. فقيل له في ذلك، فقال: إذا أنت لم تطرب ولم تدر ما الهوى ... فكن حجرا من يابس الصّخر جلمدا. وسئل أبو نوفل: هل يسلم أحد من العشق؟ فقال: نعم الجلف الجافى الذى ليس فيه فضل ولا عنده فهم. فأما من في طبعه أدنى ظرف أو معه دماثة أهل الحجاز ورقّة أهل العراق، فهيهات! وحكى أبو الفرج بن الجوزىّ بسند يرفعه إلى اليمان بن عمرو مولى ذى الرياستين، قال: كان ذو الرياستين يبعثنى ويبعث أحداثا من أهله إلى شيخ عالم بخراسان، له أدب وحسن معرفة بالأمور، ويقول لنا: تعلّموا منه الحكمة، فإنه حكيم!، وكنا نأتيه. فإذا انصرفنا من عنده، سألنا ذو الرياستين واعترض ما حفظناه فنخبره به. فقصدناه ذات يوم، فقال: أنتم أدباء، وقد سمعتم الحكمة ولكم جدات ونعم، فهل فيكم عاشق؟ فقلنا: لا. فقال: اعشقوا، فإن العشق يطلق اللسان العيىّ، ويفتح جبلّة البليد، ويبعث على التنظيف وتحسين اللباس وتطييب المطعم، ويدعو إلى الحركة والذّكاء، ويشرّف الهمة! وإياكم والحرام! فانصرفنا من عنده إلى ذى الرياستين، فسألنا عما أخذنا في يومنا ذلك فهبناه أن نخبره. فعزم علينا فأخبرناه، فقال: صدق والله! فهل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 تعلمون من أين أخذ هذا؟ فقلنا: لا. قال ذو الرياستين: إن بهرام جوركان له ابن، وكان قد رشّحه للأمر من بعده، فنشأ الفتى ناقص الهمة، ساقط المروءة، خامل النفس، سيئ الأدب. فغمه ذلك ووكّل به من يلازمه من المؤدّبين والحكماء ليعلموه. فكان يسألهم عنه فيحكون عنه ما يغمّه من سوء فهمه وقلة أدبه. إلى أن سأل بعض مؤدّبيه يوما، فقال له المؤدّب: قد كنا نخاف سوء أدبه، فحدث من أمره ما صيّرنا إلى اليأس من فلاحه، قال: وما ذاك الذى حدث؟ قال: إنه رأى ابنة فلان المرزبان فعشقها حتى غلب عليه هواها، فهو لا يهذى إلا بها، ولا يتشاغل إلا بذكرها. فقال بهرام: الآن رجوت فلاحه! ثم دعا بأبى الجارية، فقال: إنى مسرّ إليك سرّا فلا يعدونّك. فضمن له ستره. فأعلمه أن ابنه قد عشق ابنته، وأنه يريد أن ينكحها إياه، وأمره أن يأمرها بإطماعه في نفسها ومراسلته من غير أن يراها، فإذا استحكم طمعه فيها تجنّت عليه وهجرته، فإن استعتبها أعلمته أنها لا تصلح إلا لملك ومن همته همة الملوك، وأنه يمنعها من مواصلته أنه لا يصلح للملك. ثم ليعلمه خبرهما، فقبل أبوها ذلك منه. ثم قال للمؤدّب الموكل به خوّفه منى وشجعه على مراسلة المرأة! ففعل ذلك وفعلت الصبيّة ما أمرها به أبوها. فلما انتهت إلى التجنى عليه، وعلم الفتى السبب الذى كرهته له، أخذ في الأدب وطلب الحكمة والعلم والفروسية والرّماية وضرب الصوالجة حتّى مهر في ذلك. ثم رفع إلى أبيه أنه محتاج من الدوابّ والآلات والمطاعم والملابس والندماء إلى فوق ما عنده. فسرّ الملك بذلك، وأمر له بما طلب. ثم دعا مؤدّبه، فقال: إن الموضع الذى وضع به ابنى نفسه من حبّ هذه المرأة لا يزرى به. فتقدّم إليه أن يرفع ذلك إلىّ ويسألنى أن أزوّجه إياها. ففعل. ورفع الفتى ذلك إلى أبيه، فاستدعى أباها، وزوّجه بها، وأمر بتعجيلها إليه، وقال له: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 إذا اجتمعت بها فلا تحدث شيئا حتّى آتيك! فلما اجتمع أتاه، فقال: يا بنىّ لا يضعنّ منها عندك مراسلتها إيّاك، وليست في حبالك! فإنى أنا أمرتها بذلك. وهى أعظم الناس منّة عليك، بما دعتك إليه من طلب الحكمة والتخلق بأخلاق الملوك، حتّى بلغت الحدّ الذى تصلح معه للملك بعدى. فزدها من التشريف والإكرام بقدر ما تستحق منك! ففعل الفتى ذلك، وعاش مسرورا بالجارية، وعاش أبوه مسرورا به، وأحسن ثواب أبيها، ورفع مرتبته وشرفه بصيانة سره وطاعته، وأحسن جائزة المؤدّب، وعقد لابنه على الملك من بعده. قال اليمان: ثم قال لنا ذو الرياستين: سلوا الشيخ الآن: لم حملكم على العشق؟ فسألناه: فحدّثنا بحديث بهرام جور وابنه. فهذا ممن ارتفع بالهوى وترقّى بسببه إلى مرتبة الملك. وحكى ابن الجوزىّ أيضا، قال: حدّث القاسم بن محمد النّميرىّ، قال: ما رأيت شابا ولا كهلا من ولد العباس أصون لنفسه، وأضبط لجأشه وأعفّ لسانا وفرجا من عبد الله بن المعتزّ! وكان ربما عبثنا بالهزل في مجلسه، فجرى معنا فيه فيما لا يقدح به عليه قادح. وكان أكثر ما يشغل به نفسه سماع الغناء، وكان كثيرا ما يعيب العشق، ويقول: هو ضرب من الحمق! وكان إذا رأى منا من هو مطرق أو مفكّرا تهمه بالعشق ويقول: وقعت والله يا فلان! وقلّ عقلك وسخفت! إلى أن رأيناه، وقد حدث به سهو شديد، وفكر دائم، وزفير متتابع، وسمعناه ينشد أشعارا منها: مالى أرى الثّريّا ... ولا أرى الرّقيبا؟ يا مرسلا غزالا، ... أما تخاف ذيبا؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 وسمعناه مرة أخرى ينشد، وهو يشرب في إناء قد لفه، فاتهمناه فيه، وكتب عين هذا الشعر: ما قليل منك لى بقليل، ... يا منى عينى وغاية سولى! سل بحقّ الله عينيك عنّى: ... هل أحسّت في الهوى بقتيل؟ أنت أفسدت حياتى بهجر، ... ومماتى بحساب طويل! وأنشد: أسر الحبّ أميرا ... لم يكن قبل أسيرا. فارحموا ذلّ عزيز ... صار عبدا مستجيرا! وأنشد يوما، وقد راى دار بعض الناس، فقال: أيا داركم فيك من لذّة ... وعيش لنا، كان ما أطيبه! ومن قينة أفسدت ناسكا، ... وكانت له في التّقى مرتبه. وقال أيضا مرّة: لقد قتلت عيناك نفسا كريمة، ... فلا تأمنن إن متّ سطوة ثائر! كأنّ فؤادى في السّماء معلّق، ... إذا غبت عن عينى، بمخلب طائر. وأنشد يوما، وفي يده خاتم: حصلت منك على خا ... تم حوته البنان! فما يفارق كفّى ... كأنّه قهرمان. يا أهل ودّى بعدتم ... وأنتم جيران! قال النميرىّ: فقلت له: جعلنا الله فداك! هذه أشياء قد كنت تعيب أمثالها منا، ونحن الآن ننكرها منك! وكان يرجع عن بعض ذلك تصنعا، ثم لا يلبث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 مستوره ان يظهر حتى تحقق عندنا عشقه، ودخل في طبقة المرحومين، فسمعته يوما ينشد: مكتوم، يا أحسن خلق الله ... لا تتركينى هكذا بالله! ثم تنفس إثر ذلك فأجبته: قد ظفر العشق بعبد الله ... وانهتك السّتر بحمد الله. فقل له: سمّ لنا سيّدى ... هذا الذى تهوى، بحقّ الله! فضحك وقال: لا، ولا كرامة! فكتبت إليه من الغد: بكت عينه وشكا حرقة ... من الوجد في القلب ما تنطفى. فقلت له: سيّدى، ما الذى ... أرى بك؟ قال: سقام خفى. فقلت: أعشق؟ فقال: اقتصر ... على ما ترى بى، أما تكتفى؟ فكتب إلىّ: يا من يحدّث عنّى ... بظنّ سمع وعين! إن كنت تخطب سرّى، ... فارجع بخفّى حنين! فكتبت إليه: هيهات لحظك عندى ... يقرّ فيه بعشقك! دع عنك خفّى حنين ... واحرص على حلّ ربقك! تعال نحتال فيما ... تهوى، برفقى ورفقك! وصرت إليه فقال: يا أبا طيب، قد عصيت إبليس أكثر مما عصى ربّه إلى أن أوقعنى في حبائله، فأنشدته: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 من أين لا كان إبلي ... س جاءنى بك يسعى؟ أبداك لى من بعيد ... فقلت: طوعا وسمعا! فأخبرنى بقصته. فسعيت له بلطيف الحيلة وأعاننى بحزم الرأى حتّى فاز بالظفر. قال أبو بكر الصولى: اعتل عبد الله بن المعتز فأتاه أبوه عائدا وقال: ما عراك، يا بنىّ؟ فأنشأ يقول: أيّها العاذلون، لا تعذلونى ... وانظروا حسن وجهها تعذرونى! وانظروا هل ترون أحسن منها، ... إن رأيتم شبيهها فاعذلونى! بى جنون الهوى، وما بى جنون ... وجنون الهوى جنون الجنون! قال: فتتبع أبوه الحال حتّى وقع عليها، فابتأع الجارية التى شغف بها بسبعة آلاف دينار، ووجّهها إليه. وحكى أن الرشيد كان له ثلاث جوار اشتدّ شغفه بهنّ، فقال العباس بن الأحنف على لسانه: ملك الثّلاث الآنسات عنانى ... وحللن من قلبى بكلّ مكان! مالى تطاوعنى البريّة كلّها، ... وأطيعهنّ وهنّ في عصيانى؟ ما ذاك إلا أن سلطان الهوى ... وبه عززن أعزّ من سلطانى! أخذ المعنى والروىّ سليمان بن الحكم المستعين، أحد خلفاء بنى أمية بالأندلس، فقال: عجبا يهاب الليث حدّ سنانى، ... وأهاب لحظ فواتر الأجفان! وأقارع الأهوال لا متهيّبا ... منها سوى الإعراض والهجران! وتملّكت نفسى ثلاث كالدّمى ... زهر الوجوه نواعم الأبدان! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 ككواكب الظلماء لحن لناظر ... من فوق أغصان على كثبان. هذى الهلال، وتلك بنت المشترى ... حسنا، وهذى أخت غصن البان! حاكمت فيهنّ السّلوّ إلى الصّبا ... فقضى لسلطان على سلطان. فأبحن من قلبى الحمى وثنيننى ... عن عزّ ملكى كالأسير العانى. لا تعذلوا ملكا تذلّل في الهوى! ... ذلّ الهوى عزّ وملك ثانى! إن لم أطع فيهنّ سلطان الهوى ... كلفا بهنّ، فلست من مروان! وإذا الكريم أحبّ، أمّن إلفه ... خطب القلى وحوادث السّلوان! وقال العباس: لا عار في الحبّ إنّ الحبّ؛ مكرمة ... لكنّه ربّما أزرى بذى الخطر! وأما القسم المذموم منه، وهو الذى ثنّينا بذكره في صدر هذا الفصل فقد أكثر الناس القول في ذمه، وبيّنوا أسبابه. فقال ابن الجوزىّ: بيان ذمه أن الشىء إنما يعرف مذموما أو ممدوحا بتأمل ذاته وفوائده وعواقبه، وذات العشق لهج بصورة، وهذا ليس فيه فضيلة فتمدح، ولا فائدة في العشق للنفس الناطقة، إنما هو أثر غلبة النفس الشّهوانية. وقال بعض الحكماء: ليس العشق من أدواء الحصفاء الحكماء، إنما هو من امراض الخلعاء الذين جعلوا دأبهم ولهجهم متابعة النفس وإرخاء عنان الشهوة وإمراح النظر في المستحسنات من الصور. فهنالك تتقيد النفس ببعض الصور فتأنس، ثم تألف، ثم تتوق، ثم تلهج، فيقال «عشق» . وليس هذا من صفة الحكماء: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 لأن الحكيم من استطال رأيه على هواه، وتسلطت حكمته على شهوته. فرعونات طبعه مقيّدة أبدا كصبىّ بين يدى معلمه أو عبد بمرأى سيده؛ وما كان العشق قط إلا لأرعن بطّال. وقلّ أن يكون لمشغول بصناعة أو بتجارة، فكيف لمشغول بالعلوم والحكم، فإنها تصرفه عن ذلك. ولهذا لا تكاد تجده في الحكماء. وقال ابن عقيل: العشق مرض يعترى النفوس العاطلة، والقلوب الفارغة المتلمحة للصور لدواع من النفس، ويساعدها إدمان المخالطة، فيتأكد الإلف ويتمكن الأنس، فيصير بالإدمان شغفا. وما عشق قط إلا فارغ. فهو من علل البظّالين وأمراض الفارغين من النظر في دلائل العبر، وطلب الحقائق؛ المستدل بها على عظم الخالق. ولهذا قلما تراه إلا في الرّعن البطرين، وأرباب الخلاعة النّوكى. وما عشق حكيم قط: لأن قلوب الحكماء أشدّ تمنعا عن أن توقفها صورة من صور الكون مع شدّة تطلبها، فهى أبدا تلحظ وتخطف ولا تقف. وقلّ أن يحصل عشق من لمحة، وقلّ أن يضيف حكيم إلى لمحة نظرة، فإنه مارّ في طلب المعانى، ومن كان طالبا لمعرفة الله لا توقفه صورة عن الطلب لأنها تحجبه عن الصور. وقال ابن الجوزىّ: واعلم أن العشاق قد جاوزوا حدّ البهائم في عدم ملكة النفس فى الانقياد إلى الشهوات: لأنهم لم يرضوا أن يصيبوا شهوة الوطء وهى أقبح الشهوات عند النفس الناطقة من أىّ موضع كان حتى أرادوها من شخص بعينه فضمّوا شهوة إلى شهوة، وذلّوا للهوى ذلّا على ذل. والبهيمة إنما تقصد دفع الأذى عنها حسب. وهؤلاء استخدموا عقولهم في تدبير نيل شهواتهم. ثم قال: والعشق بيّن الضرر في الدّين والدنيا. أما في الدّين فإنه يشغل القلب عن الفكر فيما له خلق: من معرفة الله تعالى، والخوف منه، والقرب إليه. ثم ينفذ ما ينال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 من موافقة غرضه المحرّم الذى يكون فيه خسران آخرته، ويعرّضه لعقوبة خالقه. فكلما قرب من هواه، بعد من مولاه. ولا يكاد العشق يقع في الحلال المقدور عليه فان وقع، فياسرعان زواله! قالت الحكماء: كل مملوك مملول. وقال الشاعر: وزادنى شغفا بالحبّ أن منعت ... أحبّ شىء إلى الإنسان مانحا. فان كان المعشوق لا يباح، اشتدّ القلق به والطلب له. فإن نيل منه غرض، فالعذاب الشديد في مقابلته. على أن بلوغ الغرض يزيد ألما فتربى مرارة الفراق على لذّة الوصال. كما قال الشاعر: كلّ شىء ربحته في التّدانى ... والتّلاقى، خسرته في الفراق. فإن منعه خوف الله تعالى عن نيل غرض، فالامتناع عذاب شديد فهو معذب فى كل حال. هذا ضرره في الدّين. وأما ضرره في الدّنيا فإنه يورث الهمّ الدائم، والفكر اللازم، والوسواس، والأرق، وقلة المطعم، وكثرة السهر. ويتسلط على الجوارح فتنشأ الصفرة في البدن، والرّعدة فى الأطراف، واللّجلجة في اللسان، والنّحول في الجسد. فالرأى عاطل، والقلب غائب عن تدبير مصلحة، والدموع هواطل، والحسرات تتتابع، والزّفرات تتوالى، والأنفاس لا تمتدّ، والأحشاء تضطرم. فإذا غشّى على القلب غشاء ثانيا أخرج إلى الجنون. وما أقربه حينئذ من التلف! قال: هذا، وكم جنى من جناية على العرض، ووهّن الجاه بين الخلق. وربما أوقع فى عقوبات البدن وإقامة الحدود. وقال جالينوس: العشق من فعل النفس، وهى كامنة في الدماغ والقلب والكبد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 وفي الدماغ ثلاثة مساكن: مسكن للتخيّل، وهو في مقدّم الرأس؛ ومسكن للفكر، وهو في وسطه؛ ومسكن للذّكر، وهو في مؤخّره. ولا يسمى عاشقا إلا من إذا فارق معشوقه لم يخل من تخيله فيمتنع من الطعام والشراب باشتغال الكبد، ومن النوم باشتغال الدماغ بالتخيل والفكر والذكر فيكون جميع مساكن النفس قد اشتغلت به. وقال الجاحظ: ذكر لى عن بعض حكماء الهند أنه قال: إذا ظهر العشق عندنا فى رجل أو امرأة، غدونا على أهله بالتعزية. قال: وبلغنى أن عاشقا مات بالهند عشقا، فبعث ملك الهند إلى المعشوق فقتله به. وقال الربعى: سمعت أعرابية تقول: مسكين العاشق! كل شىء عدوّه! هبوب الريح يقلقه، ولمعان البرق يؤرّقه، ورسوم الديار تحرقه، والعذل يؤلمه، والتذكّر يسقمه، والبعد والقرب يهيجه، والليل يضاعف بلاءه، والرقاد يهرب منه. ولقد تداويت بالقرب والبعد فلم ينجع فيه دواء، ولا عزّ بى عزاء. وقال شاعر: وقد زعموا أنّ المحبّ إذا دنا ... يملّ، وأن النّأى يشفى من الوجد! بكلّ تداوينا، فلم يشف ما بنا! ... على أنّ قرب الدار خير من البعد! وأنشد المارستانىّ: إذا قربت دار كلفت، وإن نأت ... أسفت! فلا بالقرب أسلو ولا البعد! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 وإن وعدت زاد الهوى لانتظارها، ... وإن بخلت بالوعد متّ على الوعد! ففى كلّ حبّ لا محالة فرحة، ... وحبّك ما فيه سوى محكم الجهد! وحكى الزبير بن بكّار قال: حدّثنى موهوب بن راشد قال: وقفت امرأة من بنى عقيل على أخت لها، فقالت لها: يا فلانة، كيف أصبحت من حبّ فلان؟ قالت: قلقل والله حبّه الساكن، وسكّن المتحرّك! ثم أنشدتها: ولو أنّ ما بى بالحصى فلق الحصى، ... وبالرّيح لم يسمع لهنّ هبوب! ولو أنّنى أستغفر الله كلّما ... ذكرتك لم يكتب على ذنوب! قالت: لا جرم والله، لا أقف حتّى أسأله كيف أصبح من حبّك! فجاءته فسألته فقال: إنما الهوى هوان، وإنما خولف باسمه، وإنما يعرف ما أقول من كان مثلى قد أبكته المعارف والطلول. وقال مسلم بن عبد الله بن جندب الهذلىّ: خرجت أنا وريان السوّاق إلى العقيق فلقينا نسوة نازلات من العقيق ذوات جمال وفيهن جارية حسناء العينين، فأنشد ريان قول أبىّ: ألا يا عباد الله، هذا أخوكم ... قتيل! فهلّا فيكم اليوم ثائر؟ خذوا بدمى إن متّ كلّ خريدة ... مريضة جفن العين، والطّرف ساحر! وأقبل علىّ، وأشار إليها فقال: يا ابن الكرام دم أبيك في أثوابها فلا تطلب أثرا بعد عين! قال: فأقبلت علىّ امرأة جميلة، أجمل من تيك، فقالت: أنت ابن جندب؟ فقلت: نعم. قالت: إن أسيرنا لا يفكّ، وقتيلنا لا يودى، فاحتسب أباك، واغتنم نفسك! ومضين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 ذكر شىء من الشعر المقول في ذمّ العشق والحب قال الأصمعىّ: سئل أعرابىّ عن الحبّ، فقال: وما الحب؟ وما عسى أن يكون؟ هل هو إلا سحر أو جنون. ثم قال: هل الحبّ إلا زفرة بعد زفرة، ... وحرّ على الأحشاء ليس له برد؟ وفيض دموع العين منّى كلّما ... بدا علم من أرضكم لم يكن يبدو؟ وقال: قلت لأعرابىّ: ما الحب؟ فقال: الحبّ مشغلة عن كلّ صالحة ... وسكرة الحبّ تنفى سكرة الوسن. وقال محمد بن عبد الله بن مبادر: من فتى أصبح في الحبّ ... سقاه الحبّ سمّا؟ كلّما أخفى جوى الحبّ ... ، عليه الدمع نمّا. ساهر لا يطعم النو ... م إذا الليل ادلهمّا. كلّما راقب نجما ... فهوى، راقب نجما. أنتمو همّى فإن لم ... تصلونى متّ غمّا. يا ثقاتى، خطم الحبّ ... لكم انفى وزمّا! يا أخى، دائى جوى الحبّ ... وداء الناس حمّى. لا تلم مفتضحا في ال ... حبّ، إن الحبّ أعمى! وقال محمد بن ابى أمية: فو الله، ما أدرى امن لوعة الهوى ... صبرت على التقصير أم ليس لى قلب؟ أقبّح أمرا، والفؤاد يودّه، ... أجنّ فؤادى في الهوى؟ بل هو الحبّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 وقال أبو عبادة البحترىّ: قال بطلا وأفال الراى من ... لم يقل إن المنايا في الحدق! إن تكن محتسبا من قد ثوى ... بحمام، فاحتسب من قد عشق! وقال أبو تمام: أمّا الهوى فهو العذاب، فإن جرت ... فيه النّوى فالتّيم كلّ التّيم. وقال ابن أبى حصينة: والعشق يجتذب النفوس إلى الرّدى ... بالطّبع، واحسدا لمن لم يعشق! طرق الخيال فهاج لى بطروقه ... ولها، فليت خيالها لم يطرق! وقال صالح بن عبد القدّوس: عاص الهوى إن الهوى مركب ... يصعب بعد اللّين منه الذّلول! إن يجلب اليوم الهوى لذّة ... ففى غد منه البكا والعويل. وقال ابن المعتزّ: فكأنّ الهوى امرؤ علوىّ ... ظنّ أنّى وليت قتل الحسين! وكأنّى لديه نجل زياد ... فهو يختار أوجع القتلتين! وقال أبو عبد الله بن الحجاج: ويحك، يا قلبى ما أغفلك! ... تعشق من يعشق أن يقتلك؟ وأنت يا طرفى أوقعتنى، ... ويحك يا طرفى مالى ولك؟ قد كان من حقّ بكائى على ... تبتّلى بالحبّ أن يشغلك. حتّى توصلت لقتلى، فلا ... كنت ولا كان الذى أرسلك! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 وقال عبد المحسن بن غالب الصورىّ: وكان ابتداء الذى بى مجونا، ... فلمّا تمكّن أمسى جنونا. وكنت أظنّ الهوى هيّنا ... فلاقيت منه عذابا مهينا. وقال أبو بكر بن محمد بن عمر العنبرىّ: يا صاح، إنّى مذ عرفت الهوى ... غرقت في بحر بلا ساحل! عينى لحينى نظرت نظرة ... رحت بها في شغل شاغل. علّقته في البيت من فارس؛ ... لكنّه في السّحر من بابل. يظلمنى، والعدل من شأنه! ... ما أوجع الظّلم من العادل! وقال آخر: من سرّه أن يرى المنايا ... بعينه منظرا صراحا. فليحس كأسا من التجنّى ... وليعشق الأوجه الملاحا! يا أعينا أرسلت مراضا ... فاختلست أعينا صحاحا! وقال آخر: ما أقتل الحبّ! والإنسان يجهله ... وكلّ ما لم يذقه فهو مجهول. راح الرّماة إلى بعض المها، فإذا ... بعض الرّماة ببعض الصّيد مقتول! وأما الآفات التى تجرى على العاشق من المرض والضّنا والجنون والمخاطرات بالنفوس وإلقائها إلى الهلاك، فهى كثيرة جدّا، مشاهدة ومسموعة. فمن ذلك ما حكاه أبو الفرج بن الجوزىّ بسند يرفعه، قال: لما بعثت قريش عمارة بن الوليد مع عمرو بن العاص إلى النجاشىّ يكلمانه فيمن قدم عليه من المهاجرين، فراسل عمارة جارية لعمرو بن العاص كانت معه فصغت إليه. فاطلع عمرو على ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 فوجد على عمارة. وكان عمارة أخبر عمرا أن زوجة النجاشىّ علقته وأدخلته إليها فوشى عمرو بعمارة عند النجاشىّ وأخبره بالخبر، فقال له النجاشىّ: ائتنى بعلامة أستدلّ بها على ما قلت! ثم عاد عمارة فأخبر عمرا بأمره وأمر زوجة النجاشىّ، فقال له عمرو: لا أقبل هذا منك إلا أن تعطيك من دهن الملك الذى لا يدّهن به غيره. فكلمها عمارة فى ذلك، فقالت: أخاف من الملك فأبى أن يرضى منها حتّى تعطيه من ذلك الدّهن فأعطته منه فأعطاه عمرا فجاء به عمرو إلى النجاشىّ فنفخ سحرا في إحليل عمارة. فذهب مع الوحش (فيما تقول قريش) فلم يزل متوحّشا يرد ماء في جزيرة بأرض الحبش حتى خرج إليه عبد الله بن أبى ربيعة في جماعة من أصحابه فرصده على الماء فأخذه فجعل يصيح به: يا بجير أرسلنى! فإنى أموت إن أمسكتنى! فأمسكه فمات في يده. وحكى عن محمد بن زياد الأعرابىّ قال: رأيت بالبادية أعرابيا في عنقه تمائم وهو عريان وعلى سوأته خرقة وفي رجله حبل ومن خلفه عجوز آخذة بطرف الحبل وهو يعضّ ذراعيه، فقلت للعجوز: من هذا؟ فقالت: ابن ابنتى! فقلت لها: أبه مسّ من الجنّ؟ فقالت: لا والله ولكنه نشأ وابنة عمّ له في مكان واحد، فعلّقها وعلّقته. فحبسها أهلها ومنعوها منه فزال عقله وصار إلى ما ترى! فقلت لها: ما اسمه قالت: عكرمة. فقلت: أيا عكرمة ما أصابك؟ قال: أصابنى داء قيس وعروة وجميل: فالجسم منى نخيل، والفؤاد عليل. قال: فتركته ومضيت. وحكى عن عباس بن عبيد، قال: كان بالمدينة جارية ظريفة حاذقة بالغناء فهويت فتى من قريش، فكانت لا تفارقه ولا يفارقها. فملّها الفتى وفارقها، وتزايدت محبتها له حتى ولهت. وتفاقم الأمر بها حتّى هامت على وجهها ومزّقت ثيابها، فرآها مولاها فى ليلة من الليالى، وهى تدور في السّكك ومعه أصحاب له، فجعلت تبكى وتقول: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 الحبّ أوّل ما يكون لجاجة ... تأتى به وتسوقه الأقدار. حتّى إذا اقتحم الفتى لجج الهوى ... جاءت أمور لا تطاق كبار. قال: فما بقى أحد إلا رحمها. فقال لها مولاها: يا فلانة، امضى معنا إلى بيتنا! فأبت وقالت: شغل الحلى أهله أن يعارا قال: وذكر بعض من رآها ليلة وقد لقيتها جارية أخرى مجنونة فقالت لها: فلانة، كيف أنت؟ قالت: كما لا أحب، فكيف أنت من ولهك وحبّك؟ قالت: على ما لم يزل، يتزايد على مرّ الأيام! قالت لها: فغنّى بصوت من أصواتك فإنى قريبة. الشّبه بك! فأخذت قصبة توقّع بها وغنّت: يا من شكا ألما للحبّ شبّهه ... بالنار في القلب من حزن وتذكار! إنّى لأعظم ما بى أن أشبّهه ... شيئا يقاس إلى مثل ومقدار. لو أنّ قلبى في نار لأحرقها، ... لأنّ أجزاءه أذكى من النّار! ثم مضت. وحكى عن سليمان بن يحيى بن معاذ قال: قدم علىّ بنيسابور إبراهيم بن سبابة الشاعر البصرى. فأنزلته علىّ فجاء ليلة من الليالى وهو مكروب قد هاج. فجعل يصيح بى: يا أبا أيوب! فخشيت أن يكون قد غشيته بلية، فقلت: ما تشاء؟ فقال: أعيانى الشادن الرّبيب! فقلت: بماذا؟ فقال: أشكو إليه فلا يجيب! فقلت: داره وداوه! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 فقال: من أين أبغى شفاء دائى؟ ... وإنما دائى الطّبيب! فقلت: إذن يفرّج الله عز وجل! فقال: يا ربّ، فرّج إذا وعجّل، ... فإنّك السامع المجيب! ثم انصرف. وحدث عن على بن محمد النوفلىّ عن أبى المختار عن محمد بن قيس العبدىّ، قال: إنى لبمزدلفة بين النائم واليقظان إذا سمعت بكاء حرقا وغناء عاليا. فاتبعت الصوت فإذا أنا بجارية كأنها الشمس حسنا ومعها عجوز. فلطئت بالأرض لأمتع عينى بحسنها، فسمعتها تقول: دعوتك يا مولاى سرا وجهرة ... دعاء ضعيف القلب عن محمل الحبّ! بليت بقاسى القلب لا يعرف الهوى ... وأقتل خلق الله للهائم الصبّ! فإن كنت لم تقض المودّة بيننا ... فلا تخل من حبّ له أبدا قلبى! رضيت بهذا ما حييت فإن أمت ... فحسبى معادا في المعاد به حسبى! قال: وجعلت تردّد هذه الأبيات وتبكى، فقمت إليها وقلت: بنفسى من أنت؟ مع هذا الوجه وهذا الجمال يمتنع عليك من تريدين؟ قالت: نعم! والله إنه يفعل تصبرا وفي قلبه أكثر مما في قلبى! قلت: فإلى كم البكاء؟ قالت: أبدا! أو يصير الدمع دما وتتلف نفسى غما. فقلت: إن هذه آخر ليلة من ليالى الحج، فلو سألت الله تعالى التوبة مما أنت فيه، رجوت أن يذهب حبه من قلبك! قالت: يا هذا، عليك بنفسك في طلب رغبتك، فإنى قد قدّمت رغبتى إلى من ليس يجهل بغيتى! وحوّلت وجهها عنى، وأقبلت على بكائها وشعرها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 وحكى أبو الفرج، عبد الرحمن بن على بن محمد بن الجوزىّ في كتابه المترجم ب «ذمّ الهوى» بسند رفعه إلى هشام بن عروة، قال: أذن معاوية بن أبى سفيان يوما للناس، فكان فيمن دخل عليه فتى من بنى عذرة. فلما أخذ الناس مجالسهم، قام الفتى العذرىّ بين السماطين فأنشأ يقول: معاوى، يا ذا الفضل والحلم والعقل ... وذا البرّ والإحسان والجود والبذل! أتيتك لمّا ضاق في الأرض مسكنى ... وأنكرت مما قد أصبت به عقلى. ففرّج- كلاك الله- عنّى فإننى ... لقيت الذى لم يلقه أحد قبلى! وخذ لى- هداك الله- حقّى من الذى ... رمانى بسهم كان أهونه قتلى! وكنت أرجّى عدله إن أتيته ... فأكثر تردادى مع الحبس والكبل! سبانى سعدى وانبرى لخصومتى ... وجار ولم يعدل وغاصبنى أهلى. فطلّقتها من جهد ما قد أصابني! ... فهذا أمير المؤمنين من العدل؟ فقال معاوية: أدن بارك الله عليك! ما خطبك؟ فقال: أطال الله بقاء أمير المؤمنين! إننى رجل من بنى عذرة، تزوّجت ابنة عمّ لى. وكانت لى صرمة من الإبل وشويهات فأنفقت ذلك عليها، فلما أصابتنى نائبة الزمان وحادثات الدهر، رغب عنى أبوها. وكانت جارية فيها الحياء والكرم، فكرهت مخالفة أبيها. فأتيت عاملك مروان بن الحكم مستصرخا به راجيا لنصرته. فذكرت له قصتى، فأحضر أباها وسأله عن قضيتى. وكان قد بلغه جمالها، فدفع لأبيها عشرة آلاف درهم، وقال له: هذه لك، وزوّجنى بها وأنا أضمن خلاصها من هذا الأعرابىّ! فرغب أبوها في البذل فصار الأمير لى خصما وعلىّ منكرا! فانتهرنى وأمر بى إلى السجن وأرسل إلىّ أن أطلقها فلم أفعل. فحبسنى وضيق علىّ وعذبنى بأنواع العذاب، فلما أصابنى مسّ الحديد وألم العذاب ولم أجد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 بدّا عن ذلك، طلقتها. فما استكملت عدّتها حتّى تزوّج بها. فلما دخل بها أرسل إلىّ فأطلقنى. وقد أتيتك يا أمير المؤمنين مستجيرا بك، وأنت غياث المكروب، وسند المسلوب. فهل من فرج؟ ثم بكى وقال في بكائه: فى القلب منّى نار ... والنار فيها استعار! والجسم منّى نحيل ... واللون فيه اصفرار. والعين تبكى بشجو ... فدمعها مدرار. والحبّ داء عسير ... فيه الطّبيب يحار. حمّلت منه عظيما ... فما عليه اصطبار. فليس ليلى ليلا ... ولا نهارى نهار! فرقّ له معاوية وكتب إلى ابن الحكم كتابا غليظا، وكتب في آخره: ركبت أمرا عظيما لست أعرفه ... أستغفر الله من جور امرئ زانى! قد كنت تشبه صوفيّا له كتب ... من الفرائض أو آيات فرقان. حتّى أتانا الفتى العذرىّ منتحبا ... يشكو إلىّ بحقّ غير بهتان. أعطى الإله عهودا لا أخيس بها: ... أو لا فبرّئت من دين وإيمان! إن أنت راجعتنى فيما كتبت به ... لأجعلنّك لحما بين عقبان! طلّق سعاد، وجهّزها معجّلة ... مع الكميت، ومع نصر بن ذبيان! فما سمعت كما بلّغت من عجب ... ولا فعالك حقّا فعل إنسان! ثم طوى الكتاب ودفعه إلى الكميت ونصر بن ذبيان وقال: اذهبا به إليه! قال: فلما ورد كتاب معاوية على ابن الحكم وقرأه تنفس الصّعداء، وقال: وددت أن أمير المؤمنين خلّى بينى وبينها سنة ثم عرضنى على السيف! وجعل يؤامر نفسه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 فى طلاقها فلا يقدر. فلما أزعجه الوفد طلقها وأسلمها إليهما. فلما رآها الوفد على هذه الصورة العظيمة وما اشتملت عليه من الجمال المفرط، قالوا: لا تصلح هذه إلا لأمير المؤمنين! وكتب ابن الحكم كتابا لأمير المؤمنين معاوية، ودفعه إليهما مع الجارية. فكان مما كتب فيه يقول: لا تحنثنّ أمير المؤمنين فقد ... أوفى بعهدك في رفق وإحسان. وما ركبت حراما حين أعجبنى، ... فكيف سمّيت باسم الخائن الزانى؟ أعذر فانك لو أبصرتها لجرت ... منك الأمانى على تمثال إنسان! وسوف تأتيك شمس ليس يعدلها ... عند البريّة من إنس ومن جان! حوراء يقصر عنها الوصف إن وصفت، ... أقول ذلك في سرّ وإعلان! فلما ورد الكتاب على معاوية وقرأه، قال: لقد أحسن في الطاعة، ولكن أطنب فى ذكر الجارية! ولئن كانت أعطيت حسن النّغمة مع هذا الوصف الحسن فهى أكمل البرية! فأمر بإحضارها، فلما مثلت بين يديه، استنطقها فإذا هى أحسن الناس كلاما وأكملهم شكلا ودلالا. فقال: يا أعرابىّ، هذه سعدى! ولكن هل لك عنها من سلوة بأفضل الرغبة؟ قال نعم، إذا فرّقت بين رأسى وجسدى! فقال: أعوّضك عنها يا أعرابىّ ثلاث جوار أبكار ومع كل واحدة ألف دينار وأقسم لك من بيت المال ما يكفيك في كل سنة ويعينك على صحبتهنّ. فشهق شهقة ظن معاوية أنه مات. فقال له: ما بالك يا أعرابىّ؟ قال: أشرّبال وأسوأ حال، استجرت بعدلك من جور ابن الحكم، فعند من أستجير من جورك؟ ثم أنشأ يقول: لا تجعلنى والأمثال تضرب بى ... كالمستغيث من الرّمضاء بالنار! اردد سعاد على حيران مكتئب ... يمسى ويصبح في همّ وتذكار! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 قد شفّه قلق ما مثله قلق. ... وأسعر القلب منه أىّ إسعار! كيف السّلوّ، وقد هام الفؤاد بها ... وأصبح القلب عنها غير صبّار؟ قال: فغضب معاوية غضبا شديدا، ثم قال: يا أعرابىّ، أنت مقرّ بأنك طلقتها! ومروان مقرّ بأنه طلقها، ونحن نخيرها فان اختارتك أعدناها إليك بعقد جديد، وإن اختارت سواك زوّجناه بها. ثم التفت إليها أمير المؤمنين وقال: ما تقولين، يا سعدى؟ أيما أحبّ إليك، أمير المؤمنين في عزه وشرفه وسلطانه وما تصيرين إليه عنده، أو مروان بن الحكم في عسفه وجوره، أو هذا الأعرابى في فقره وسوء حاله؟ فأنشأت تقول: هذا [1] ، وان كان في فقر وإضرار، ... أعزّ عندى من قومى ومن جارى! وصاحب التّاج أو مروان عامله ... وكلّ ذى درهم عندى ودينار! ثم قالت: والله يا أمير المؤمنين، ما أنا بخاذلته لحادثة الزمان ولا لغدزات الأيام! وإن لى معه صحبة لا تنسى ومحبة لا تبلى! والله إنى لأحق من صبر معه في الضراء كما تنعّمت معه في السرّاء! فعجب كلّ من كان حاضرا. فأمر له بها ثم أعادها له بعقد جديد، وأمر لهما بألف دينار. فأخذها وانصرف يقول: خلّوا عن الطّريق للأعرابى! ... ألم ترقّوا، ويحكم ممّا بى؟ قال: [2] فضحك معاوية وأمر بها فأدخلت في قصوره حتى انقضت عدّتها من ابن الحكم ثم أمر برفعها إلى الأعرابى.   [1] روى هذا الشعر في نسخة أخرى على وجه آخر وهو: هذا وإن أصبح في أطمار ... وكان في نقص من اليسار أكثر عندى من أبى وجارى ... وصاحب الدرهم والدينار أخشى إذا غدرت حرّ النار [2] وجدت هذه الزيادة في بعض النسخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 ولقد ساق ابن الجوزى في كتابه من أخبار العشاق وما نالهم من الأمراض والجنون والضنا، وقصّ كثيرا من أخبارهم، تركنا إيراد ذلك رغبة في الاختصار، لأنه أمر غير منكور. وأما من خاطر بنفسه وألقاها إلى الهلاك لأجل محبوبه، فمن ذلك ما روى عن أبى ريحانة أحد حجاب عبد الملك بن مروان أنه قال: كان عبد الملك يجلس يومين في الأسبوع جلوسا عامّا للناس: فبينا هو جالس في مستشرف له وقد ادخلت عليه القصص، إذ وقعت في يده قصّة غير مترجمة. فيها: «إن رأى أمير المؤمنين أن يأمر جاريته فلانة تغنينى ثلاثة أصوات ثم ينفذ فىّ ما شاء من حكمه، فعل!» . فاستشاط من ذلك غضبا وغيظا، وقال: يا رباح! علىّ بصاحب هذه القصة! فخرج الناس جميعا فأدخل عليه غلام كما عذّر، من أحسن الفتيان، فقال له عبد الملك: يا غلام، هذه قصتك؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: وما الذى غرّك منّى؟ والله لأمثلنّ بك ولأردعنّ بك نظراءك من أهل الجسارة! ثم قال: علىّ بالجارية فجىء بها كأنها فلقة قمر! وبيدها عودها ووضع لها كرسىّ، فجلست، فقال عبد الملك: مرها يا غلام! فقال لها: يا جارية، غنينى بشعر قيس بن ذريح: لقد كنت حسب النفس، لو دام ودنا؛ ... ولكنما الدنيا متاع غرور! وكنّا جميعا قبل أن يظهر الهوى ... بأنعم حالى غبطة وسرور. فما برح الواشون حتّى بدت لنا ... بطون الهوى مقلوبة لظهور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 فغنّت. فخرج الغلام من جميع ما كان عليه من الثياب تخريقا، ثم قال له عبد الملك: مرها تغنك الصوت الثانى! فقال: غنينى بشعر جميل: ألا ليت شعرى! هل أبيتنّ ليلة ... بوادى القرى؟ إنى إذا لسعيد! إذا قلت: ما بى يا بثينة قاتلى ... من الحبّ! قالت: ثابت ويزيد! وإن قلت: ردّى بعض عقلى أعش به ... مع الناس! قالت: ذاك منك بعيد! فلا أنا مردود بما جئت طالبا، ... ولا حبّها فيما يبيد يبيد! يموت الهوى منّى إذا ما لقيتها، ... ويحيا إذا فارقتها فيعود! فغنته الجارية. فسقط الغلام مغشيّا عليه ساعة. ثم أفاق، فقال له عبد الملك: مرها فلتغنك الصوت الثالث! فقال يا جارية! غنينى بشعر قيس بن الملوّح: وفي الجيرة الغادين من بطن وجرة ... غزال غضيض المقلتين ربيب. فلا تحسبى أن الغريب الذى نأى، ... ولكنّ من تنأين عنه غريب! فغنته الجارية فطرح نفسه من المستشرف، فتقطع قبل وصوله إلى الأرض. فقال عبد الملك: ويحه! لقد عجّل على نفسه! ولقد كان تقديرى فيه غير الذى فعل! وأمر بإخراج الجارية عن قصره، فأخرجت. ثم سأل عن الغلام فقالوا: غريب، لا يعرف إلا أنه منذ ثلاث ينادى في الأسواق، ويده على رأسه: غدا يكثر الباكون منا ومنكم، ... وتزداد دارى من دياركم بعدا! وحكى أن مثل هذه الحكاية جرت في مجلس سليمان بن عبد الملك. حكى عن أبى عثمان الجاحظ أنه قال: قعد سليمان بن عبد الملك يوما للمظالم وعرضت عليه القصص فمرّت به قصة فيها: إن رأى امير المؤمنين أن يخرج إلىّ فلانة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 (إحدى جواريه) حتّى تغنينى ثلاثة أصوات، فعل. فاغتاظ سليمان وأمر أن يؤتى برأسه. ثم أتبع الرسول برسول آخر فأمره أن يدخل الرجل إليه. فلما مثل بين يديه، قال له: ما الذى حملك على ما صنعت؟ فقال: الثقة بحلمك، والاتكال على عفوك! فأمره بالجلوس، فجلس حتى لم يبق من بنى أمية أحد. ثم أمر بإخراج الجارية فأخرجت ومعها عود، ثم قال: اختر! فقال: تغنى لى بقول قيس بن الملوّح: تعلّق روحى روحها قبل خلقنا ... ومن بعد أن كنّا نطافا وفي المهد! فعاش كما عشنا فأصبح ناميا، ... وليس- وإن متنا- بمنقصف العهد. يكاد فضيض الماء يخدش جلدها، ... اذا اغتسلت بالماء من رقّة الجلد. وإنّى لمشتاق إلى ريح جيبها، ... كما اشتاق إدريس إلى جنّة الخلد! فغنت. ثم قال: تأمر لى برطل. فأمر له به فشربه. ثم قال: تغنى بقول جميل: علقت الهوى منها وليدا، فلم يزل ... إلى اليوم ينمى حبّها ويزيد. وأفنيت عمرى في انتظار نوالها ... وأبليت فيها الدّهر وهو جديد. فلا أنا مردود بما جئت طالبا، ... ولا حبّها فيما يبيد يبيد. إذا قلت: ما بى يابثينة قاتلى ... من الحبّ! قالت: ثابت ويزيد. وإن قلت: ردّى بعض عقلى أعش به ... مع الناس! قالت: ذاك منك بعيد. فغنّت، فقال له سليمان: قل ما تريد؟ قال: تأمر لى برطل، فأمر له به فشربه. ثم قال: تغنى بقول قيس بن ذريح: «لقد كنت حسب النفس» الأبيات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 فغنت. فقال له سليمان: قل ما تشاء! قال: تأمر لى برطل! فأمر له به، فما استتمه حتّى وثب فصعد إلى أعلى قبة ثم زجّ نفسه على دماغه فمات. فاسترجع سليمان وقال: أتراه توهّم الجاهل أنى أخرج إليه جاريتى وأردّها إلى ملكى؟ يا غلام خذ بيدها فانطلق بها إلى أهله إن كان له أهل، وإلا فبيعوها وتصدّقوا بثمنها عنه. فلما انطلقوا بها، نظرت إلى حفرة في الدار قد أعدّت للمطر، فجذبت يدها من أيديهم وأنشأت تقول: من مات عشقا فليمت هكذا! ... لا خير في عشق بلا موت! وزجت نفسها في الحفرة على دماغها. فماتت. وقد حكى أيضا مثل هذه، وأنها وقعت للرشيد. روى عن أبى بكر محمد بن علىّ المخزومىّ قال: اشتريت للرشيد جارية مدنية. فأعجب بها وأمر الفضل بن الربيع أن يبعث في حمل أهلها ومواليها لينصرفوا بجوائزها. وأراد بذلك تشريفها. فوفد إلى مدينة السلام ثمانون رجلا، ووفد معهم رجل من أهل العراق استوطن المدينة كان يهوى الجارية. فلما بلغ الرشيد خبر مقدمهم أمر الفضل أن يخرج إليهم ليكتب اسم كل واحد منهم وحاجته، ففعل. فلما بلغ إلى العراقىّ قال: ما حاجتك؟ قال له: إن أنت كتبتها وضمنت لى عرضها مع ما يعرض، أنبأتك بها. فقال: أفعل ذلك، فقال: حاجتى أن أجلس مع فلانة حتّى تغنّينى ثلاثة أصوات وأشرب ثلاثة أرطال، وأخبرها بما تجنّ ضلوعى من حبها! فقال الفضل: أنت موسوس مدخول عليك في عقلك! فقال: يا هذا، قد أمرت أن تكتب ما يقول كلّ واحد منا فاكتب ما أقول واعرضه، فإن أجبت إليه وإلا فأنت في أوسع العذر، فدخل الفضل مغضبا فوقف بين يدى الرشيد، وقرأ عليه ما كتب من حوائجهم. فلما فرغ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 قال: يا أمير المؤمنين فيهم واحد مجنون! سأل ما أجلّ مجلس أمير المؤمنين عن التفوّه به. فقال: قل، ولا تجزعنّ! فقال: قال كذا وكذا. فقال: اخرج إليه، وقل له «إذا كان بعد ثلاث، فاحضر لينجز لك ما سألت» . وكن أنت متولّى الاستئذان له. ثم دعا بخادم فقال له: امض إلى فلانة فقل لها: حضر رجل يذكر كذا وكذا وقد أجبناه إلى ما سأل فكونى على أهبة. وخرج الفضل إلى الرجل وأخبره بما قال الرشيد، فانصرف وجاء فى اليوم الثالث. فعرّف الفضل الرشيد خبره فقال: يوضع له بحيث أرى كرسىّ من فضة، وللجارية كرسىّ من ذهب! وليخرج إليه ثلاثة أرطال! ففعلوا ذلك وجاء الفتى فجلس على الكرسىّ، والجارية بإزائه، فجعل يحدّثها والرشيد يراهما، فقال له الخادم: لم تدخل فتشتو وتصيّف! فأخذ رطلا وخرّ ساجدا، وقال: إن شئت أن تغنّى فغنّى: خليلىّ عوجا! بارك الله فيكما ... وإن لم تكن هند بأرضكما قصدا! وقولا لها: ليس الضلال أجازنا؛ ... ولكنّما جزنا لنلقاكما عمدا! غدا يكثر الباكون منا ومنكم، ... وتزداد دارى من دياركم بعدا! فغنت، فشرب الرطل، وحادثها ساعة. فاستحثه الخادم فأخذ الرطل بيده وقال: غنى جعلنى الله فداءك! تكلّم منّا في الوجوه عيوننا، ... فنحن سكوت والهوى يتكلّم! ونغضب أحيانا ونرضى بطرفنا، ... وذلك فيما بيننا ليس يعلم! فغنته وشرب الرطل الثانى وحادثها ساعة. واستعجله الخادم فخرّ ساجدا يبكى واخذ الرطل بيده واستودعها الله وقام ودموعه تستبق استباق المطر وقال: إذا شئت أن تغنّى فغنّى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 أحسن ما كنّا تفرّقنا ... وخاننا الدّهر وما خنّا! فليت ذا الدّهر لنا مرّة ... عاد لنا الدّهر كما كنا! فغنته الصوت، فقلّب الفتى طرفه فبصر بدرجة في الصحن، فأمها. فاتبعه الخدم ليهدوه الطريق، ففاتهم وصعد الدرجة فألقى نفسه إلى الأرض على رأسه فمات. فقال الرشيد: عجّل الفتى! ولو لم يعجّل لوهبتها له! وممن خاطر بنفسه في هواه وعرّضها للتلف فنجا ونال خيرا، ما حكاه ابن الجوزى بسند يرفعه إلى أبى الفرج أحمد بن عثمان بن إبراهيم الفقيه المعروف بابن الترسى قال: كنت جالسا بحضرة أبى، وأنا حدث، وعنده جماعة. فحدّثنى حديث وصول النعم إلى الناس بالألوان الظريفة. وكان ممن حضر صديق لأبى. فسمعته يحدّث أبى، قال: حضرت عند صديق لى من التّجّار- كان يتّجر بمائة ألف دينار- فى دعوة. وكان حسن المروءة، فقدّم مائدة وقدّم عليها ديكريكة [1] فلم يأكل   [1] فى الباب الثانى الخاص بالحوامض من كتاب «صفة الأطعمة» الموجود منه نسخة فتوغرافية بدار الكتب المصرية مانصه: «ديكبريكة. يقطّع اللحم أوساطا ويترك في القدر ويلقى عليه يسير ملح وكف حمص مقشور وكسفرة يابسة ورطبة وبصل مقطع وكراث ويطرح عليه غمرة ما، ويغلى ثم تؤخذ رغوته ويلقى عليه شيرج يسير وخل خمر ومرى ويلقى عليه قليل فلفل مسحوق ناعم ويطبخ حتّى يتبين طعمه. ومن الناس من يحليها بقليل سكر فاذا نضجت طرح فيها أطراف الطيب مع فلفل وكزبرة يابسة وتترك حتى تهدأ وترفع» انتهى. والظاهر أن صواب اللفظ (ديكبرديكة) ثم اختصر أو حرف الى ديكبريكة وديكريكة لأن الذى فى المعاجم الفارسية (ديك برديك) فمعنى (ديك) القدر و (بر) فوق وعلى، فيكون المراد قدر فوق قدر. وتقول هذه المعاجم إن هذا النوع المزدوج يستعمل لأعمال التصعيد والتقطير. ولا يبعد أن يكون هذا الطعام مما يعالج في طبخه بالبخار أى بوضع قدره على قدر أخرى فيها ماء يغلى على النار فسمى الطعام باسم وعائه اه. أفادنيه حضرة صاحب السعادة العلامة أحمد تيمور باشا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 منها، فامتنعنا. فقال: كلوا! فإنى أتأذّى بأكل هذا اللون. فقلنا: نساعدك على تركه. قال: بل أساعدكم على الأكل، واحتمل الأذى! فأكل وأكلنا، فلما أراد غسل يده أطال. فعددت عليه أنه قد غسلها أربعين مرة. فقلت: يا هذا، وسوست! فقال: هذه الأذية التى قرفت منها! فقلت: وما سببها؟ فامتنع من ذكر السبب، فلما ألححت عليه، قال: مات أبى وسنى عشرون سنة، وخلّف لى نعمة وفيرة ورأس مال ومتاعا في دكانه. فقال لما حضرته الوفاة: يا بنىّ! إنه لا وارث لى غيرك، ولا دين علىّ ولا مظلمة. فإذا أنا متّ فأحسن جهازى وتصدّق عنى بكذا وكذا، وأخرج عنى حجّة بكذا، وبارك الله لك في الباقى! ولكن احفظ وصيتى! فقلت: قل! قال: لا تسرف فى مالك، فتحتاج إلى ما في أيدى الناس فلا تجده. واعلم أن القليل مع الإصلاح كثير، والكثير مع الفساد قليل. فالزم السّوق وكن أوّل من يدخلها، وآخر من يخرج منها. وإن استطعت أن تدخلها سحرا بليل فافعل، فإنك تستفيد بذلك فوائد تكشفها لك الأيام، ومات. فأنفذت وصيته، وعملت بما أشار به. وكنت أدخل السوق سحرا، وأخرج منها عشاء. فلا أعدم من يجىء يطلب كفنا فلا يجد من قد فتح غيرى فأحتكم عليه، ومن يبيع شيئا والسوق لم تقم فأبتاع منه، وأشياء من هذه الفوائد. ومضى علىّ سنة وكسر، فصار لى بذلك جاه عند أهل السوق وعرفوا استقامتى وأكرمونى. فبينا أنا جالس يوما ولم تتكامل السوق، وإذا بامرأة راكبة حمارا مصريا وعلى كفله منديل دبيقىّ [1] ومعها خادم وهى بزىّ القهارمة. فبلغت آخر السوق ثم رجعت، فنزلت عندى. فقمت إليها وأكرمتها، وقلت: ما تأمرين؟ وتأملتها فإذا بامرأة لم أر قبلها   [1] دبيق (بالباء الموحدة ثم الياء) مدينة كانت بالقرب من دمياط وكانت مشهورة بنفائس المنسوجات التى تعرف باسمها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 ولا بعدها إلى الآن أحسن منها في كل شىء. فتكلمت وقالت: أريد كذا وكذا (ثيابا طلبتها) . فسمعت نغمة ورأيت شكلا قتلنى فعشقتها في الحال أشدّ عشق، وقلت: اصبرى حتى يخرج الناس، فآخذ ذلك لك فليس عندى إلا القليل مما يصلح لك. وأخرجت الذى عندى وجلست تحادثنى، وكأن السكاكين في فؤادى من عشقها. وكشفت عن أنامل رأيتها كالطّلع، ووجه كدارة القمر. فقمت لئلا يزيد علىّ الأمر، وأخذت لها من السوق ما أرادت، وكان ثمنه مع مالى نحو خمسمائة دينار، فأخذته وركبت ولم تعطنى شيئا. وذهب عنى لما تداخلنى من حبها أن أمنعها من المتاع إلا بالمال، وأن أستدل على منزلها ومن دار من هى؟ فحين غابت عنى، وقع لى أنها محتالة وأن ذلك سبب فقرى. فتحيرت في أمرى وكتمت خبرى، لئلا أفتضح بما للناس علىّ. وأجمعت على بيع ما في يدى من المتاع وإضافته إلى ما عندى من الدراهم وأدفع أموال الناس إليهم ولزوم البيت والاقتصار على غلة العقار الذى ورثته. وأخذت أشرع فى ذلك مدة أسبوع، وإذا بها قد أقبلت ونزلت عندى، فحين رأيتها أنسيت جميع ما جرى علىّ، وقمت إليها. فقالت: يا فتى، تأخرنا عنك لشغل عرض لنا، وما شككنا فى أنك لم تشك أنا احتلنا عليك، فقلت: قد رفع الله قدرك عن هذا! فقالت، هات التخت والطيار [1] ، فأحضرته، فأخرجت دنانير عتقا، فوفتنى المال بأسره. وأخرجت تذكرة بأشياء أخر. فأنفذت إلى التجّار أموالهم وطلبت منهم الذى أرادت، وحصّلت أنا   [1] فى شرح المقامات الحريرية للطرّزى المسمى بالايضاح في تفسير قول الحريرى في المقامة الثانية والأربعين «ثم اعتضد عصا التّسيار ... وأنشد ملغزا في الطيار. وذى طيشة شقه مائل ... وما عابه بهما عاقل» ما نصه: «الطيار معيار الذهب لأنه على شكل الطائر وقيل هو ميزان لا لسان له أفادنيه حضرة صاحب السعادة العلامة أحمد تيمور باشا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 فى الوسط ربحا جيدا. وأحضر التّجّاز الثياب فقمت وثمنتها معهم لنفسى. ثم بعتها عليها بربح عظيم، وأنا في خلال ذلك أنظر إليها نظر من تألّف حبها، وهى تنظر إلىّ نظر من فطنت بذلك ولم تنكره. فهممت بخطابها ولم أقدر عليه. وجمعت المتاع فكان ثمنه ألف دينار. فأخذته، وركبت ولم أسألها عن موضعها. فلما غابت عنى، قلت: هذه الآن الحيلة المحكمة! أعطتنى خمسمائة دينار وأخذت ألف دينار، وليس إلا بيع عقارى الآن، والحصول على الفقر! وتطاولت غيبتها عنى بنحو شهر. وألحّ التجّار علىّ بالمطالبة، فعرضت عقارى على البيع، ولازمنى بعض التجّار فوزنت جميع ما كنت أملكه ورقا وعينا. فبينا أنا كذلك، إذ نزلت عندى. فزال عنى جميع ما كنت فيه برؤيتها. واستدعت الطيّار والتخت، فوزنت المال ورمت إلىّ تذكرة يزيد ما فيها على ألفى دينار بكثير. فتشاغلت بإحضار التجّار ودفع أموالهم إليهم وأخذ المتاع منهم، وطال الحديث بيننا. فقالت لى: يا فتى، ألك زوجة؟ فقلت: لا، والله ما عرفت امرأة قط، وأطمعنى ذلك فيها، وقلت: هذا وقت خطابها، والإمساك عنها عجز، ولعلها تعود أو لا تعود. وأردت كلامها فهبتها. وقمت كأنى أحثّ التجار على جمع المتاع. وأخذت يد الخادم وأخرجت إليه دنانير وسألته أن يأخذها ويقضى لى حاجة. فقال: أفعل، فقصصت عليه قصتى وسألته توسط الأمر بينى وبينها. فضحك وقال: والله إنها لك أعشق منك لها! وو الله ما بها حاجة إلى أكثر هذا الذى تشتريه، وإنما تأتيك محبة لك وطريقا إلى مطاولتك، فخاطبها ودعنى، فجسّرنى على خطابها فخاطبتها وكشفت لها عشقى ومحبتى وبكيت، فضحكت. وتقبلت ذلك أحسن قبول. وقالت: الخادم يأتيك برسالتى. ونهضت ولم تأخذ شيئا من المتاع، فرددته على أصحابه. وحصل لى مما اشترته أوّلا وثانيا ألوف دراهم ربحا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 ولم أعرف النوم في تلك الليلة شوقا إليها، وخوفا من انقطاع السبب بيننا. فلما كان بعد أيام جاءنى الخادم، فأكرمته وسألته عن خبرها، فقال: هى والله عليلة من شوقها إليك، فقلت: اشرح لى أمرها، فقال: هذه مملوكة السيدة أم المقتدر وهى من أخص جواريها، واشتهت رؤية الناس والدخول والخروج. فتوصلت حتّى جعلتها قهرمانة. وقد والله حدّثت السيدة بحديثك وبكت بين يديها وسألتها أن تزوّجها منك، فقالت السيدة: لا أفعل أو أرى هذا الرجل. فإن كان يستأهلك وإلا لم أدعك ورأيك. وتحتاج أن تحتال في إدخالك الدار بحيلة، فإن تمت وصلت بها إلى تزويجك بها، وإن انكشفت ضرب عنقك. وقد أنقذتنى إليك في هذه الرسالة، وقالت لك: إن صبرت على هذا، وإلا فلا طريق لك والله إلىّ، ولا لى إليك بعدها! فحملنى ما في نفسى أن قلت: أصبر، فقال: إذا كانت الليلة فاعبر إلى المحرم، وادخل إلى المسجد، وبت فيه. ففعلت ذلك. فلما كان وقت السّحر، إذا بطيار [1] قد قدم، وخدم قد رفعوا صناديق فراغا. فجعلوها في المسجد وانصرفوا. وخرجت الجارية فصعدت إلى المسجد، والخادم معها. فجلست وفرقت باقى الخدم في حوائج، واستدعتنى فعانقتنى وقبلتنى. ولم أكن نلت ذلك منها قبله. ثم أجلستنى في بعض الصناديق وأقفلته. وطلعت الشمس وجاء الخدم بثياب وحوائج من المواضع التى كانت أنفذتهم إليها، فجعلت ذلك بحضرتهم في باقى الصناديق، وأقفلتها. وحملت إلى الطيار وانحدر. فلما حصلت فيه ندمت وقلت: قتلت نفسى لشهوة، وأقبلت ألومها تارة، وأشجّعها وأمنّيها أخرى، وأنذر النّذور على خلاصى، وأوطّن مرة نفسى على القتل إلى أن بلغنا الدار. وحمل الخدم الصناديق، وحمل صندوقى   [1] أى زورق من الزوارق الخفيفة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 الخادم الذى يعرف الحديث، وبادر به أمام الصناديق وهى معى، والخدم يحملون بقيتها. وكلما جازت بطائفة من الخدم والبوّابين، قالوا: نريد أن نفتّش الصندوق، فتصيح عليهم وتقول: متى جرى الرسم معى بهذا؟ فيمسكون عنها وروحى في السّياق إلى أن انتهينا إلى خادم خاطبته هى بالأستاذ. فعلمت أنه أجل الخدم، فقال: لا بدّ من فتح الصندوق الذى معك، فخاطبته بلين وذل، فلم يجبها. وعلمت أنها ما ذلّت ولها حيلة، فأغمى علىّ. وأنزلوا الصّندوق ليفتحوه. فبلت من شدّة ما نالنى من الفزع، فجرى البول من خلال الصندوق. فصاحت: يا أستاذ، أهلكت علينا متاعا بخمسة آلاف دينار في الصندوق. ثياب مصبّغات وماء ورد، وقد انقلب على الثياب، والساعة تختلط ألوانها، وهى هلاكى مع السيدة! فقال لها: خذى صندوقك إلى لعنة الله أنت وهو، مرّى! فصاحت بالخدم: احملوا، فأدخلت الدار ورجعت إلىّ روحى، فبينا نحن كذلك إذ قالت: وا ويلاه! الخليفة والله! فجاءنى أعظم من الأوّل. وسمعت كلام خدم وهو يقول من بينهم: ويك يا فلانة! إيش في صندوقك؟ أرينى هو، فقالت: ثياب لستى يا مولاى، والساعة أفتحه بين يديها، وتراه، وقالت للخدم: أسرعوا ويلكم! فأسرعوا فأدخلتنى إلى الحجرة وفتحت الصندوق وقالت: اصعد من هذه الدرجة إلى الغرفة فاجلس فيها، وفتحت صندوقا آخر فقلبت بعض ما فيه إلى الصندوق الذى كنت فيه، وأقفلت الجميع. وجاء المقتدر وقال: افتحيه، ففتحته، فلم ير شيئا فيه. فصعدت إلىّ وجعلت تقبلنى وترشفنى. ونسيت ما جرى. ثم تركتنى، وأقفلت باب الحجرة يومها. ثم جاءتنى ليلا فأطعمتنى وسقتنى وانصرفت. فلما كان من غد جاءتنى، فقالت: السيدة الساعة تجىء، فانظر كيف تخاطبها، ثم عادت بعد ساعة مع السيدة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 وقالت: انزل، فنزلت. فإذا بالسيدة جالسة على كرسىّ وليس معها إلا وصيفتان وصاحبتى. فقبّلت الأرض وقمت بين يديها، فقالت: اجلس، فقلت: أنا عبد السيدة وخادمها، وليس من محلى أن أجلس بحضرتها، فتأملتنى وقالت: ما اخترت يا فلانة إلا حسن الوجه والأدب، ونهضت، فجاءتنى صاحبتى بعد ساعة، وقالت: أبشر، فقد أذنت لى في تزويجك، وما بقى الآن عقبة إلا الخروج. فقلت: يسلم الله! فلما كان من غد حملتنى في الصندوق. فخرجت كما دخلت بعد مخاطرة أخرى وفزع ثان. ونزلت في المسجد ورجعت إلى منزلى، فتصدّقت، وحمدت الله تعالى على السلامة. فلما كان بعد أيام جاءنى الخادم ومعه كيس وفيه ثلاثة آلاف دينار عينا وقال: أمرتنى ستى بإنفاذ هذا إليك من مالها، وقالت: اشتر به ثيابا ومركوبا وخدما، وأصلح به ظاهرك، واحضر يوم الموكب إلى باب العامّة، وفف حتّى تطلب. فقد وافق الخليفة أن يزوجك بحضرته. فأخذت المال وأجبت عن رقعة كانت معه، واشتريت ما قالوه بشىء يسير منه وبقى الأكثر عندى. وركبت إلى باب العامة في يوم الموكب بزىّ حسن. وجاء الناس فدخلوا إلى الخليفة، ووقفت إلى أن استدعيت ودخلت. فإذا أنا بالمقتدر جالسا والقضاة والقوّاد وغيرهم من الهاشميين. فهبت المجلس وعلّمت كيف أسلّم. ففعلت. وتقدّم المقتدر إلى بعض القضاة الحاضرين فخطب لى وزوّجنى. وخرجت من حضرته. فلما انتهيت إلى بعض الدهاليز، عدل بى إلى دار عظيمة مفروشة بأنواع الفرش الفاخرة وفيها من الآلات والخدم والقماش ما لم أر مثله قطّ. وانصرف من أدخلنى. فجلست يومى لا أقوم إلا إلى الصلاة. وخدم يدخلون وخدم يخرجون، وطعام عظيم ينقل وهم يقولون: الليلة تزف فلانة باسم صاحبتى إلى زوجها البزّاز، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 وأنا لا أصدّق فرحا. فلما جاء الليل أثّر فيّ الجوع وأقفلت الأبواب، ويئست من الجارية، فقمت أطوف الدار فوقعت على المطبخ. ووجدت الطباخين جلوسا فاستطعمتهم فلم يعرفونى وقدّرونى بعض الوكلاء. فقدّموا إلىّ هذا اللون مع رغيفين فأكلتهما وغسلت يدى بأشنان كان في المطبخ وقدّرت أنها قد نقيت. وعدت إلى مكانى. فلما جنّ الليل إذا طبول وزمور وأصوات عظيمة. وإذا أنا بالأبواب قد فتّحت وصاحبتى قد أهديت إلىّ وجاءوا بها فجلوها علىّ، وأنا أقدّر أن ذلك في النوم. ثم تركت معى في المجلس. وتفرّق ذلك البوش. فلما خلونا، تقدّمت إليها فقبلتها وقبلتنى. فلما شمّت رائحة لحيتى، رفستنى فرمت بى عن المنصّة وقالت: أنكرت والله أن تفلح يا عامّى، يا سفلة، وقامت لتخرج، فقمت وعلقت بها وقبلت الأرض ورجليها، وقلت: عرفينى ذنبى واعملى بعده ما شئت، فقالت: ويحك، أكلت ولم تغسل يدك! فقصصت عليها قصتى، فلما بلغت إلى آخرها قلت: علىّ وعلىّ- وحلفت بطلاقها وطلاق كل امرأة أتزوّجها وصدقة مالى وجميع ما أملكه والحجّ ماشيا على قدمىّ وكلّ ما يحلف به المسلمون- لا أكلت بعدها ديكيريكة إلا غسلت يدى أربعين مرة. فاستحيت وتبسمت وصاحت: يا جوارى! فجاء مقدار عشر جوار ووصائف، فقالت: هاتوا شيئا نأكل، فقدّمت ألوان ظريفة وطعام من أطعمة الخلفاء. فأكلنا وغسلنا أيدينا. واستدعت شرابا فشربنا وغنّى أولئك الوصائف أطيب غناء وأحسنه، ثم قمنا إلى الفراش فخلوت بها وبتّ بأطيب ليلة، ولم نفترق أسبوعا. وكانت يوم الأسبوع وليمة عظيمة اجتمع فيه الجوارى. فلما كان من الغد، قالت لى: إن دار الخلافة لا تحتمل المقام فيها أكثر من هذا مع جارية غيرى، لمحبة سيدتى لى. وجميع ما تراه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 فهو هبة من السيدة لى. وقد أعطتنى خمسين ألف دينار من عين وورق وجوهر. ولى ذخائر في خارج القصر كثيرة من كل لون. وجميعها لك، فاخرج إلى منزلك، وخذ معك مالا واشتردارا سريّة واسعة الصحن، فيها بستان، كثيرة الحجر. وتحوّل إليها، وعرفنى لأنقل إليها هذا كله، ثم آتيك، وسلمت إلىّ عشرة آلاف دينار عينا. فخرجت وابتعت الدار وكتبت إليها بالخبر. فحملت إلىّ تلك النعمة بأسرها. فجميع ما أنا فيه منها، فأقامت عندى كذا وكذا سنة أعيش معها عيش الخلفاء، ولم أدع مع ذلك التجارة. فزاد مالى وعظمت منزلتى وأثرت حالى، وولدت لى هؤلاء الفتيان وأومأ إلى أولاده. ثم ماتت (رحمها الله) وبقى علىّ من مضرّة الديكيريكة ما شاهدته. وبالجملة فلا يغترّ أحد بهذه الحكاية وأمثالها، فيجهل بنفسه فيهلكها. «فما المغرّر محمود وإن سلما» . وأما من كفر بسبب العشق فكثير جدّا لا ينحصرون، ومما ورد فى ذلك حكاية عجيبة أوردتها لغرابتها وهى مما حكاه ابن الجوزىّ في كتابه المترجم «بذم الهوى» قال: سمعت شيخنا أبا الحسن علىّ بن عبيد الله الزعفرانى يحكى أن رجلا اجتاز بباب امرأة نصرانية، فرآها فهويها من وقته، وزاد الأمر به حتّى غلب على عقله، فحمل إلى البيمارستان. وكان له صديق يتردّد إليه ويترسّل بينه وبينها. ثم زاد الأمر به، فقالت أمّه لصديقه: إنى أجىء إليه فلا يكلمنى، فقال: تعالى معى، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 فأتت معه. فقال له: إن صاحبتك بعثت إليك رسالة، قال: كيف؟ قلت: هذه أمك تؤدّى رسالتها. فجعلت أمه تحدّثه عنها بشىء من الكذب. ثم زاد الأمر عليه ونزل به الموت، فقال لصديقه: قد جاء الأجل وحان الوقت وما لقيت صاحبتى في الدّنيا، وأنا أريد أن ألقاها في الآخرة. فقال له: كيف تصنع؟ قال: أرجع عن دين محمد، وأقول عيسى ومريم والصليب الأعظم. فقال ذلك ومات. فمضى صديقه إلى تلك المرأة فوجدها عليلة فجعل يحدّثها، وأخبرها بموت صاحبها، فقالت: أنا ما لقيته في الدّنيا وأنا أريد أن ألقاه في الآخرة. وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وأنا بريئة من دين النصرانية. فقام أبوها فقال للرجل: خذوها الآن فإنها منكم، فقام الرجل ليخرج، فقال له: قف ساعة؛ فوقف، فما لبث أن ماتت. قال: وبلغنى عن رجل ببغداد (يقال له صالح المؤذن، أذّن أربعين سنة، وكان يعرف بالصلاح) أنه صعد يوما إلى المنارة ليؤذن فرأى بنت رجل نصرانىّ كان بيته إلى جانب المسجد. فافتتن بها، فجاء فطرق الباب فقالت له: من أنت؟ قال: أنا صالح المؤذن. ففتحت له الباب فدخل وضمها إليه، فقالت: أنتم أصحاب الأمانات، فما هذه الخيانة؟ فقال: إن وافقتينى على ما أريد وإلا قتلتك، فقالت: لا، إلا أن تترك دينك، فقال كلمة الكفر وبرئ من الإسلام. ثم تقدّم إليها فقالت: إنما قلت هذا لتقضى غرضك ثم تعود إلى دينك. فكل من لحم الخنزير، فأكل منه، قالت: فاشرب الخمر، فشرب. فلما دبّ الشراب فيه دنا منها فدخلت بيتا وأغلقت بينها وبينه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 الباب، وقالت له: اصعد إلى السطح حتى إذا جاء أبى زوّجنى منك. فصعد فسقط فمات. فخرجت إليه ولفته في مسح. وجاء أبوها فقصت عليه القصة فأخرجه فى الليل ورماه في السكة. وظهر حديثه، فرمى على مزبلة. وأما من قتل بسبب العشق فلا يكاد ذلك يحصر كثرة، وأعظمه وأشدّه واقعة عبد الرحمن بن ملجم المرادىّ، لعنه الله. قال النبىّ صلى الله عليه وسلم لابن عمه علىّ بن أبى طالب كرم الله وجهه: «يا علىّ أشقى الأوّلين عاقر ناقة صالح، وأشقى الأوّلين والآخرين قاتلك، وهو هذا» وأشار إلى ابن ملجم قبحه الله تعالى ولعنه ، وأوجب له خزيه ومقته وعذابه، وذلك نكالا لما اجترأ عليه في قتله أمير المؤمنين علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه. وذلك أن ابن ملجم قبحه الله رأى امرأة من تيم الرباب يقال لها قطام، كانت من أجمل النساء وكانت ترى رأى الخوارج، وقد قتل علىّ رضى الله عنه قومها يوم النّهروان. فلما رآها ابن ملجم عشقها فخطبها فقالت: لا أتزوّجك إلا على ثلاثة آلاف درهم وعبد وقينة، وأن تقتل علىّ بن أبى طالب. فحمله العشق على أن خسر الدّنيا والآخرة، وتزوّجها على ذلك. وكان من خبره في قتل علىّ رضى الله عنه ما نذكره إن شاء الله تعالى في التاريخ. وفي ذلك يقول الشاعر: فلم أر مهرا ساقه ذو سماحة ... كهر قطام بيّنا غير معجم. ثلاثة آلاف، وعبد، وقينة، ... وضرب «علىّ» بالحسام المصمّم. فلا مهر أغلى من «علىّ» وإن علا ... ولا فتك إلا دون فتك ابن ملجم! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 ومنهم من حمله العشق على قتل أبيه. وهو أبو عبد الملك مروان بن عبد الرحمن ابن مروان بن عبد الرحمن الناصر، ويعرف هذا «بالطليق» . كان يتعشق جارية كان أبوه قد ربّاها معه وذكر أنها له، ثم استأثر بها وخلا معها. فحمله العشق على أن انتضى سيفا ورصد أباه في بعض خلواته بها فقتله. فسجنه المنصور بن أبى عامر سنين، ثم أطلقه. فلقّب «بالطّليق» واعتراه من ذلك شبه الجنون فكان يصرع فى بعض الأوقات. وأما من قتل بسبب العشق، فروى عن الشعبىّ قال: دخل عمرو بن معد يكرب على عمر بن الخطاب رضى الله عنه، فقال له عمر: يا عمرو، أخبرنى عن أشجع من لقيت، فقال: نعم يا أمير المؤمنين. خرجت مرة أريد الغارة. فبينا أنا أسير إذا أنا بفرس مشدود ورمح مركوز، وإذا رجل جالس، وهو كأعظم ما يكون من الرجال خلقا، وهو محتب بسيف. فقلت له: خذ حذرك فإنى قاتلك، فقال: ومن أنت؟ قلت: أنا عمرو بن معديكرب، فشهق شهقة فمات. فهذا أجبن من رأيت يا أمير المؤمنين. وخرجت يوما حتّى انتهيت إلى حىّ. فإذا أنا بفرس مشدود ورمح مركوز وإذا صاحبه في وهدة يقضى حاجة. فقلت: خذ حذرك فإنى قاتلك، قال: من أنت؟ قلت: أنا عمرو بن معديكرب، قال: أبا ثور، ما أنصفتنى، أنت على ظهر فرسك، وأنا في بئر، فأعطنى عهدا أنك لا تقتلنى حتى أركب فرسى وآخذ حذرى، فأعطته عهدا أن لا أقتله حتى يركب فرسه ويأخذ حذره. فخرج من الموضع الذى كان فيه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 حتى احتبى بسيفه وجلس. فقلت له: ما هذا؟ فقال: ما أنا راكب فرسى ولا بمقاتلك، فإن نكثت عهدك فأنت أعلم، فتركته ومضيت فهذا يا أمير المؤمنين أحيل من رأيت! ثم إنى خرجت يوما آخر حتّى انتهيت إلى موضع كنت أقطع فيه. فلم أر أحدا فأجريت فرسى يمينا وشمالا فظهر لى فارس. فلما دنا منى إذا هو غلام قد أقبل من نحو اليمامة. فلما قرب منى سلّم فرددت عليه وقلت: من الفتى؟ قال أنا الحارث بن سعد، فارس الشهباء، فقلت له: خذ حذرك، فإنى قاتلك فقال: الويل لك! من أنت؟ قلت: أنا عمرو بن معديكرب، قال: الحقير الذليل؟ والله ما يمنعنى من قتلك إلا استصغارك، فتصاغرت نفسى إلىّ وعظم عندى ما استقبلنى. فقلت له: خذ حذرك، فو الله لا ينصرف إلا أحدنا، قال: أغرب، ثكلتك أمّك! فإنى من أهل بيت ما نكلنا عن فارس قط! فقلت: هو الذى تسمع، قال: اختر لنفسك، إما أن تطرد لى، وإما أن أطرد لك، فاغتنمتها منه، فقلت: أطرد لى، فأطرد وحملت عليه، حتى إذا قلت إنى وضعت الرمح بين كتفيه، إذا هو قد صار حزاما لفرسه، ثم اتبعنى فقرع بالقناة رأسى، وقال: يا عمرو، خذها إليك واحده، فو الله لولا أنى أكره قتل مثلك لقتلتك، فتصاغرت إلىّ نفسى، وكان الموت والله يا أمير المؤمنين أحبّ إلىّ مما رأيت، فقلت: والله لا ينصرف إلا أحدنا، فقال: اختر لنفسك، فقلت: أطرد لى، فأطرد لى. فظننت أنى قد تمكنت منه واتبعته حتّى إذا ظننت أنى قد وضعت الرمح بين كتفيه، فإذا هو قد صار لببا لفرسه، ثم اتبعنى ففرع رأسى بالقناة وقال: يا عمرو، خذها إليك اثنتين، فتصاغرت إلىّ نفسى فقلت: والله لا ينصرف إلا أحدنا، فقال: اختر لنفسك، فقلت: أطرد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 لى، فأطرد حتّى إذا قلت إنى وضعت الرمح بين كتفيه وثب عن فرسه فإذا هو على الأرض، فأخطأته ومضيت، فاستوى على فرسه واتبعنى فقرع بالقناة رأسى وقال: يا عمرو، خذها إليك ثالثة، ولولا أنى أكره قتل مثلك لقتلتك، فقلت له: اقتلنى، فإن الموت أحب إلىّ مما أرى بنفسى وأن تسمع فتيان العرب بهذا، فقال يا عمرو: إنما العفو ثلاث، وإنى إن استمكنت منك الرابعة قتلتك، وأنشأ يقول: وكّدت أغلاظا من الأيمان ... إن عدت يا عمرو إلى الطّعان، لتوجرنّ لهب السّنان ... أولا، فلست من بنى شيبان! فلما قال هكذا، كرهت الموت، وهبته هيبة شديدة، وقلت: إنّ لى إليك حاجة، قال: وما هى؟ قلت: أكون لك صاحبا، ورضيت بذلك يا أمير المؤمنين، قال: لست من أصحابى، فكان ذلك والله أشدّ علىّ وأعظم مما صنع. فلم أزل أطلب إليه حتى قال: ويحك، وهل تدرى أين أريد؟ قلت: لا، قال: أريد الموت عيانا، فقلت: رضيت بالموت معك، فقال: امض بنا، فسرنا جميع يومنا وليلتنا حتّى جنّنا الليل وذهب شطره. فوردنا على حىّ من أحياء العرب، فقال لى: يا عمرو فى هذا الحىّ الموت، ثم أومأ إلى قبة في الحىّ فقال: وفي تلك القبة الموت الأحمر، فإما أن تمسك علىّ فرسى فأنزل فآتى بحاجتى، وإما أن أمسك عليك فرسك فتنزل فتأتينى بحاجتى، فقلت: لا، بل انزل أنت، فأنت أعرف بموضع حاجتك، فرمى إلىّ بعنان الفرس ونزل، فرضيت لنفسى يا أمير المؤمنين أن أكون له ساسا. ثم مضى حتّى دخل القبة فاستخرج منها جارية لم تر عيناى قط مثلها حسنا وجمالا، فحملها على ناقة، ثم قال: يا عمرو، قلت: لبيك، قال: إما أن تحمينى وأقود أنا، وإما أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 أحميك وتقود أنت، قلت: بل تحمينى أنت، وأقود أنا، فرمى إلىّ بزمام الناقة، وسرنا بين يديه وهو خلفنا حتّى أصبحنا، فقال لى: يا عمرو، قلت: لبيك، ما تشاء؟ قال: التفت فانظر هل ترى أحدا؟ قال: فالتفت، فقلت: أرى جمالا، قال: أغذّ السير، ثم قال لى: يا عمرو، قلت: لبيك، قال: انظر، فإن كان القوم قليلا فالجلد والقوّة والموت، وإن كانوا كثيرا فليسوا بشىء، قال: فالتفتّ، فقلت: هم أربعة أو خمسة، قال: أغذّ السير، ففعلت، وسمع وقع الخيل، فقال لى: يا عمرو، قلت: لبيك! قال: كن عن يمين الطريق، وقف وحوّل وجوه دوابنا إلى الطريق، ففعلت، ووقفت عن يمين الراحلة ووقف هو عن يسارها. ودنا القوم منا، فإذا هم ثلاثة نفر فيهم شيخ وهو أبو الجارية وأخواها غلامان شابان، فسلموا فرددنا السلام، ووقفوا عن يسار الطريق. فقال الشيخ: خلّ عن الجارية يا ابن أخى، فقال: ما كنت لأخلّيها ولا لهذا أخذتها، فقال لأصغر ابنيه: اخرج إليه، فخرج وهو يجرّ رمحه وحمل عليه الحارث وهو يقول: من دون ما ترجوه خضب الذابل ... من فارس مستلئم مقاتل، ينمى إلى شيبان خير وائل ... ما كان سيرى نحوها بباطل! ثم شدّ عليه قطعنه طعنة دقّ منها صلبه، فسقط ميتا. فقال الشيخ لابنه الآخر: اخرج إليه يا بنىّ، فلا خير في الحياة على الذّلّ، فخرج إليه وأقبل الحارث يقول: لقد رأيت كيف كانت طعنتى! ... والطّعن للقرن الشديد همّتى. والموت خير من فراق خلّتى ... فقتلتى اليوم ولا مذلّتى! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 ثم شدّ عليه فطعنه طعنة سقط منها ميتا. فقال له الشيخ: خلّ عن الظعينة يا ابن أخى، فإنى لست كمن رأيت، قال: ما كنت لأخلّيها ولا لهذا قصدت، فقال له الشيخ: اختر يا ابن أخى، فإن شئت طاردتك، وإن شئت نازلتك، فاغتنمها الفتى ونزل. ونزل الشيخ وهو يقول: ما أرتجى بعد فناء عمرى؟ ... سأجعل السّنين مثل الشّهر. شيخ يحامى دون بيض الخدر. ... إنّ استباح البيض قصم الظّهر. سوف ترى كيف يكون صبرى. فأقبل الحارث وهو يقول: بعد ارتحالى وطويل سفرى ... وقد ظفرت وشفبت صدرى. والموت خير من لباس الغدر، ... والعار أهديه لحىّ بكر. ثم دنا فقال له الشيخ: يا ابن أخى، إن شئت نازلتك، وإن بقيت فيك قوّة ضربتنى؛ وإن شئت فاضربنى، فان بقيت في قوّة ضربتك. فاغتنمها الفتى فقال: وأنا أبدؤك، قال: هات، فرفع الحارث السيف، فلما نظر الشيخ أنه قد أهوى به إلى رأسه، ضرب بطنه ضربة فقد معاه، ووقعت ضربة الحارث في رأسه. فسقطا ميتين. فأخذت يا أمير المؤمنين أربعة أفراس وأربعة أسياف، ثم أقبلت إلى الناقة فعقدت أعنة الأفراس بعضها إلى بعض وجعلت أقودها. فقالت الجارية: يا عمرو، إلى أين؟ ولست لى بصاحب، ولست كمن رأيت، ولو كنت صاحبى لسلكت سبيلهم! فقلت: اسكتى، قالت: فإن كنت صادقا فأعطنى سيفا ورمحا، فإن غلبتنى فأنا لك، وإن غلبتك قتلتك، فقلت لها: ما أنا بمعطيك ذلك، وقد عرفت أصلك وجرأة قومك وشجاعتهم، فرمت بنفسها عن البعير وهى تقول: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 أبعد ما شيخى وبعد إخوتى ... أطلب عيشا بعدهم في لذّة؟ هل لا تكون قبل ذا منيّتى؟ وأهوت إلى الرّمح فكادت تنتزعه من يدى. فلما رأيت ذلك خفت إن هى ظفرت بى أن تقتلنى، فقتلتها فهذا أشدّ ما رأيته يا أمير المؤمنين. فقال عمر بن الخطاب: صدقت يا عمرو. وروى ابن الجوزىّ بسند يرفعه إلى الليث بن سعد أنه قال: أتى عمر رضى الله عنه بفتى أمرد قد وجد قتيلا ملقى في الطريق. فسأل عمر عن أمره واجتهد فلم يقف له على خبر، ولم يعرف قاتله. فشقّ ذلك عليه، وقال: اللهم ظفّرنى بقاتله. حتّى إذا كان رأس الحول أو قريب من ذلك، وجد صبىّ مولود ملقى بموضع القتيل فأتى به عمر. فلما أتى به وأخبر بمكانه، قال: ظفرت تالله بدم القتيل إن شاء الله تعالى، فدفع الصبىّ إلى امرأة، وأمرها أن تقوم بشأنه وأعطاها نفقة. وقال: انظرى من يأخذه منك، فإذا وجدت امرأة تقبله وتضمه إلى صدرها فأعلمينى بمكانها. فلما شبّ الصبىّ جاءت جارية فقالت للمرأة إن سيدتى بعثتنى إليك لتبعثى إليها بالصبىّ لتراه وتردّه إليك. قالت: نعم، اذهبى به إليها وأنا معك، فذهبت بالصبىّ والمرأة معها إلى سيدتها. فلما رأته أخذته فقبلته وضمّته إلى صدرها. وإذا هى بنت شيخ من الأنصار، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأخبرت عمر خبرها. فاشتمل على سيفه، ثم أقبل على منزلها، فوجد أباها متكئا على باب داره. فسلم عليه، وقال له: أبا فلان، قال: لبّيك، قال: ما فعلت ابنتك فلانة؟ قال: يا أمير المؤمنين، جزاها الله خيرا، هى من أعرف الناس بحق الله تعالى وحق أبيها، مع حسن صلاتها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 وصيامها والقيام بدينها، فقال عمر: قد أحببت أن أدخل إليها فأزيدها رغبة في الخير وأحثّها على ذلك. فقال: جزاك الله خيرا يا أمير المؤمنين، امكث مكانك حتّى أعود إليك، فاستأذن بعمر، فلما دخل عمر، أمر من كان عندها بالخروج عنها، فخرجوا. وبقيت هى وعمر ليس معهما ثالث. فكشف عمر عن السيف، وقال: لتصدقينى وإلا ضربت عنقك، وكان عمر لا يكذب، فقالت: على رسلك يا أمير المؤمنين، فو الله لأصدقنّك. إن عجوزا كانت تدخل علىّ فاتخذتها أمّا، وكانت تقوم من أمرى بما تقوم به الوالدة، وكنت لها بمنزلة البنت، فأمضت بذلك حينا. ثم إنها قالت لى يوما: يا بنية، إنه قد عرض لى سفر، ولى بنت في موضع أتخوّف عليها فيه أن تضيع، وقد أحببت أن أضمها إليك حتّى أرجع من سفرى، فعمدت إلى ابن لها شاب أمرد، فهيأته كهيئة الجارية وأتتنى به لا أشك أنه جارية. فكان برى منى ما ترى الجارية من الجارية حتّى أغفلنى يوما وأنا نائمة فما شعرت حتّى علانى وخالطنى. فمددت يدى إلى شفرة كانت إلى جنبى فقتلته. ثم أمرت به فألقى حيث رأيت. فاشتملت منه على هذا الصبى، فلما وضعته ألقيته فى موضع أبيه. فهذا والله خبرهما، فقال عمر: صدقت، بارك الله فيك، ثم أوصاها ووعظها ودعا لها وخرج، وقال لأبيها: بارك الله لك في ابنتك، فنعم الابنة هى! وقد وعظتها وأمرتها، فقال: وصلك الله يا أمير المؤمنين، وجزاك خيرا عن رعيّتك. وروى أيضا بسنده إلى أبى عباد قال: أدركت الخادم الذى كان يقوم على رأس الحجاج، فقلت له: أخبرنى بأعجب شىء رأيته من الحجاج! قال: كان ابن اخيه أميرا على واسط، وكان بواسط امرأة يقال لها أبّة، لم يكن بواسط في ذلك الوقت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 أجمل منها. فأرسل ابن أخيه إليها يراودها عن نفسها مع خادم له. فأبت عليه وقالت: إن أردتنى فاخطبنى إلى إخوتى، وكان لها أربعة إخوة فأبى، وقال: لا، إلا كذا. وعاودها فأبت، فراجعها وأرسل إليها بهدية فأخذتها وعزلتها. وأرسل إليها عشية الجمعة: إنى آتيك الليلة، فقالت لأمّها: ان الأمير بعث إلىّ بكذا وكذا. فأنكرت أمّها ذلك، وقالت أمها لاخوتها إن أختكم قد زعمت كيت وكيت: فأنكروا ذلك وكذبوها. فقالت إنه قد وعدنى أن يأتينى الليلة، ترونه. قال: فقعد إخوتها في بيت حيال البيت الذى هى فيه، وجويرية لها على باب الدار تنتظره. فجاء ونزل عن دابته وقال لغلامه: إذا أذن المؤذن في الغلس، فأتنى بدابتى، ودخل والجارية أمامه. فوجد أبّة على سرير مستلقية. فاستلقى إلى جانبها ثم وضع يده عليها، وقال: إلى كم ذا المطل؟ فقالت له: كف يدك يا فاسق، ودخل إخوتها عليه بأيديهم السيوف فقطّعوه ثم لفوه في نطع وجاءوا به إلى سكة من سكك واسط فألقوه فيها. وجاء الغلام بالدابة فجعل يدقّ الباب دقّا رفيقا فلا يكلمه أحد. فلما خشى الضوء وأن تعرف الدابة انصرف. وأصبح الناس فإذا هم به على تلك الصفة. فأتوا به الحجاج فأخذ أهل تلك السكة، فقال أخبرونى: ما قصته؟ قالوا: لا نعلم حاله، غير أنا وجدناه ملقى. ففطن الحجاج فقال: علىّ بمن كان يخدمه، فأتى بذلك الخصىّ الذى كان الرسول بينهما، فقالوا: هذا كان صاحب سره، فقال له الحجاج: اصدقنى عن خبره وقصته، فأبى. فقال: إن صدقتنى لم أضرب عنقك، وإن لم تصدقنى فعلت بك وفعلت. قال: فأخبره الأمر على جهته. فأمر بالمرأة وأمها وإخوتها، فجىء بهم، وعزلت المرأة عنهم. فسألها فأخبرته بمثل ما أخبر به الخصىّ، ثم سأل إخوتها، فأخبروه بمثل ذلك ولم يختلفوا، وقالوا: نحن صنعنا به الذى ترى، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 فأمر برقيقه ودوابه للمرأة، فقالت المرأة: هديته عندى، فقال: بارك الله لك فيها، وكثّر في النساء مثلك، هى لك، وما ترك من شىء فهو لك، وقال: مثل هذا لا يدفن. فألقوه للكلاب، ودعا بالخصىّ فقال: أما أنت فقد قلت لك إنى لا أضرب عنقك! وأمر بضرب وسطه، فقطع نصفين. والأخبار في مثل هذا كثيرة، فلا تطوّل بذكرها. وأما من قتله العشق فكثير جدّا لا يكاد يحصر، روى عن عكرمة قال: إنى لمع ابن عباس عشية عرفة، إذ أقبل فتية يحملون فتى من بنى عذرة في كساء، وهو ناحل البدن، أحلى من رأيت من الفتيان، فوضعوه بين يديه ثم قالوا: استشف لهذا يا ابن عمّ رسول الله، فقال: وما به؟ فترنم الفتى بصوت ضعيف خفىّ الأنين، وهو يقول: بنا من جوى الأحزان والحبّ لوعة ... تكاد لها نفس الشّفيق تذوب! ولكنّما أبقى حشاشة معول ... على مابه عود هناك صليب! وما عجب موت المحبّين في الهوى؛ ... ولكن بقاء العاشقين عجيب! قال: ثم حمل فمات في أيديهم، فقال ابن عباس: هذا قتيل الحبّ، لا عقل ولا قود. قال عكرمة: فما رأيت ابن عباس سأل الله تعالى تلك الليلة- حتّى أمسى- إلا العافية مما ابتلى به ذلك الفتى. وروى عن الأصمعىّ قال: حدّثنى أبو عمرو بن العلاء قال: حدّثنى رجل من بنى تميم قال: خرجت في طلب ضالّة لى. فبينا أنا أدور في أرض بنى عذرة أنشد ضالّتى، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 إذا بيت معتزل عن البيوت، وإذا في كسر البيت شابّ مغمى عليه، وعند رأسه عجوز لها بقيّة من جمال، وهى ساهية تنظر إلى وجه الفتى. فسلمت فردّت السلام. فسألتها عن ضالّتى فلم يك عندها منها علم. فقلت: أيتها العجوز، من هذا الفتى؟ قالت: ابنى، ثم قالت: هل لك في أجر لا مؤنة فيه؟ فقلت: والله إنى لأحبّ الأجرو إن رزئت! فقالت: إن ابنى هذا يهوى ابنة عمّ له علقها وهما صغيران. فلما كبر حجبت عنه، فأخذه شبيه بالجنون. ثم خطبها إلى أبيها فامتنع من تزويجه، وخطبها غيره فزوّجها إياه. فنحل جسم ولدى واصفرّ لونه وذهل عقله. فلما كان منذ خمس، زفّت إلى زوجها، فهو كما ترى: لا يأكل ولا يشرب، مغمى عليه. فلو نزلت إليه فوعظته! قال: فنزلت إليه فلم أدع شيئا من الموعظة إلا وعظته به حتّى أن قلت له فيما قلت: إنهنّ الغوانى صاجبات يوسف، ناقضات العهد، وقد قال فيهن كثيّر عزّة: هل وصل عزّة إلا وصل غانية ... فى وصل غانية من وصلها خلف؟ قال: فرفع رأسه، محمرة عيناه كالمغضب، وقال: لست ككثيّر عزة! إنّ كثيّرا رجل مائق، وأنا رجل وامق! ولكننى كأخى تميم حيث يقول: ألا لا يضير الحبّ ما كان ظاهرا، ... ولكنّ ما اختاف الفؤاد يضير! ألا قاتل الله الهوى كيف قادنى ... كما قيد مغلول اليدين أسير! فقلت له: فإنه قد جاء عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أصيب منكم بمصيبة فليذكر مصابه بى» . فأنشأ يقول: ألا ما للمليحة لا تعود؟ ... أبخل بالمليحة أم صدود؟ مرضت فعادنى أهلى جميعا ... فما لك لا نرى فيمن يعود! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 فقدتك بينهم فبكيت شوقا، ... وفقد الإلف يا أملى شديد! وما استبطأت غيرك فاعلميه ... وحولى من ذوى رحمى عديد! ولو كنت السقيمة، كنت أسعى ... إليك ولم ينهنهنى الوعيد! قال: ثم شهق شهقة وخفت، فمات. فبكت العجوز وقالت: فاضت والله نفسه! فدخلنى أمر لم يدخلنى مثله قط. فلما رأت العجوز ما حلّ بى، قالت: يا فتى لا ترع! عاش بأجل، ومات بقدر، وقدم على ربّ كريم، واستراح من تباريحه وغصصه! ثم قالت: هل لك في استكمال الصنيعة؟ قلت: قولى ما أحببت! قالت: تأتى البيوت فتنعاه اليهم ليعاونونى على رمسه، فإنى وحيدة. قال: فركبت فرسى وقصدت البيوت وأقبلت أنعاه إليهم. فبينا أنا أنعاه، إذا خيمة رفع جانب منها، وإذا امرأة قد خرجت كأنها القمر ليلة البدر. ناشرة شعرها، تجرّ خمارها، وهى تقول: بفيك الكثكث! بفيك الحجر! من تنعى؟ قلت: أنعى فلانا! قالت: أوقد مات؟ قلت: إى والله قد مات! قالت: فهل سمعت له قولا، قلت: اللهم لا، إلا شعرا، قالت: وما هو؟ فأنشدتها قوله: ألا ما للمليحة لا تعود الأبيات. فاستعبرت باكية وأنشأت تقول: عدانى أن أزورك يا مناى ... معاشر كلّهم واش حسود! أشاعوا ما علمت من الدّواهى ... وعابونا، وما فيهم رشيد!. فأما إذ ثويت اليوم لحدا ... فكلّ الناس دورهم لحود. فلا طابت لى الدّنيا فواقا ... ولا لهم ولا أثرى عديد! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 ثم شهقت شهقة وخرّت مغشيّا عليها، وخرج النساء من البيوت واضطربت ساعة وماتت. فو الله ما برحت حتّى دفنتهما جميعا. وروى الساجى عن الأصمعىّ قال: رأيت بالبادية رجلا قددق عظمه، وضؤل جسمه، ورق جلده. فتعجبت ودنوت منه أسأله عن حاله. فقالوا: اذكر له شيئا من الشعر يكلمك، فقلت: سبق الفضاء بأنّنى لك عاشق ... حتّى الممات، فأين منك مذاهبى؟ فشهق شهقة ظننت أن روحه قد فارقته، ثم أنشأ يقول: أخلو بذكرك لا أريد محدّثا، ... وكفى بذكرك سامرا وسرورا! قال: فقلت له: أخبرنى عنك! قال: إن كنت تريد علم ذلك فاحملنى وألقنى على باب تلك الخيمة! ففعلت، فأنشأ يقول بصوت ضعيف يرفعه: ألا ما للمليحة لا تعود ... أبخل بالمليحة أم صدود؟ فلو كنت المريضة كنت أسعى ... إليك ولم ينهنهنى الوعيد! فإذا جارية مثل القمر، قد خرجت فألقت نفسها عليه فاعتنقا. وطال ذلك، فسترتهما بثوبى خشية أن يراهما الناس. فلما خفت عليهما الفضيحة، فرّقت بينهما، فإذا هما ميتان. فما برحت حتّى صليت عليهما ودفنا. فسألت عنهما، فقيل لى: عامر بن غالب، وجميلة بنت أميل المزنيّان. وروى ابن الجوزىّ بسند يرفعه إلى محمد بن خلف قال: ذكر بعض الرواة عن العمرىّ قال: كان أبو عبد الله الجيشانىّ يعشق صفراء العلاقمية. وكانت سوداء، فاشتكى من حبها، وضنبى حتّى صار إلى حدّ الموت. فقال بعض أهله لمولاها: لو وجهت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 صفراء إلى أبى عبد الله الجيشانى، فلعله أن يعقل إذا رآها! ففعل. فلما دخلت عليه قالت له: كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟ قال: بخير ما لم تبرحى! قالت: ما تشتهى؟ قال: قربك! قالت: ما تشتكى؟ قال: حبّك! قالت: فتوصى بشىء؟ قال: نعم، أوصى بك إن قبلوا منى! فقالت: إنى أريد الانصراف! قال: فتعجلى ثواب الصلاة علىّ! فقامت فانصرفت، فلما رآها مولية تنفس الصعداء. ومات من ساعته. وروى أيضا بسند يرفعه إلى عوانة بن الحكم أن عبد الله بن جعفر وفد إلى عبد الملك بن مروان فحدّثه، قال: اشتريت جارية بعشرة آلاف درهم، فوصفت ليزيد بن معاوية فأرسل إلىّ يقول: إما أن تهديها إلىّ، وإما أن تبيعها بحكمك، فكتبت إليه: لا تخرج والله من ملكى ببيع ولا هبة أبدا. ومكثت عندى لا أزداد لها إلا حبا. حتّى أتتنى عجوز من عجائزنا، فذكرت أن بعض عزّاب المدينة يهواها، وأنه يجىء في كل يوم متنكرا فيقف بالباب حتّى يسمع غناءها. فراعيت مجيئه ليلة، فإذا به قد أقبل متقنع الرأس حتّى قعد مستخفيا فدعوت قيّمة الجارية، فقلت: انطلقى الساعة فأصلحى هذه الجارية بأحسن ما أمكن، وعجلى بها، ففعلت. فقمت وقبضت على يدها وفتحت الباب وأتيت إلى الرجل فحركته فانتبه مذعورا. فقلت: لا بأس عليك، خذ هذه الجارية، هى لك، فإذا هممت ببيعها فارددها إلىّ، فدهش الفتى. فدنوت إلى أذنه فقلت: ويحك، قد أظفرك الله عز وجل ببغيتك، فانصرف إلى منزلك، فإذا الفتى ميت، فلم أر شيئا قط أعجب من ذلك، وهانت علىّ الجارية، فكرهت أن أوجّه بها إلى يزيد فيعلم حالها أو تخبره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 عن نفسها فيحقد ذلك علىّ. فمكثت مدّة مديدة ثم ماتت. ولا أظنها ماتت إلا كمدا وأسفا على الفتى. وروى ابن الجوزىّ أيضا بسنده قال: حكى عن شبابة بن الوليد العذرىّ أن فتى من بنى عذرة يقال له أبو مالك بن النضر، كان عاشقا لابنة عمّ له عشقا شديدا. فكان على ذلك مدّه، ثم إنه فقد بضع عشرة سنة، لا يحسّ له خبر. قال شبابة: فأضللت إبلا لى. فخرجت في طلبها. فبينا أنا أسير في الرمال إذا بهاتف يهتف. بصوت ضعيف: يا ابن الوليد، ألا تحمون جاركم ... وتحفظون له حتّى القرابات؟ عهدى إذا جار قوم نابه حدث، ... وقوه من كلّ مكروه الملمّات! هذا أبو مالك المسمى ببلقعة ... من الضّباع وآساد بغابات! طليح سوق، بنار الحبّ محترق، ... تعتاده زفرات إثر لوعات! أما النهار فيصيه تذكّره، ... والليل مرتقب للصبح هل ياتى. يهدى بجارية من عذرة اختلست ... فؤداه، فهو منها في بليّات! فقلت: دلّنى عليه، رحمك الله! قال: نعم، اقصد الصوت، فقصدته، فسمعت أتينا من خباء فاذا قائل يقول: يا رسيس الهوى، أذبت فؤادى ... وحشوت الحشا عذابا أليما! فدنوت منه فقلت: أبو مالك؟ قال: نعم! قلت: ما بلع بك إلى ما أرى؟ قال: حبّى سعاد ابنة أبى الهندام العذرىّ، شكوت يوما ما أجد من حبها إلى ابن عمّ لنا فاحتملنى إلى هذا الوادى، منذ بضع عشرة سنة، يأتينى كل يوم بخبرها ويقوتنى من عنده. فقلت إنى أصير إلى أهلها فأخبرهم ما رأيت. قال: أنت وذاك، قال: فانصرفت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 فأخبرتهم، فرقّوا له فزوّجوه بحضرتى. فرجعت إليه لأفرّج عنه، فلما أخبرته الخبر، نظر إلىّ، ثم تأوّه تأوّها شديدا بلغ من قلبى، ثم قال: ألآن إذ حشرجت نفسى وخامرها ... فراق دنيا وناداها مناديها! ثم زفر زفرة فمات. فدفنته في موضعه ثم انصرفت فأخبرتهم الخبر. فأقامت الجارية بعده ثلاثا لا تطعم، ثم ماتت. وحكى عن المبرد قال: خرجت أنا وجماعة من أصحابى مع المأمون. فلما قربنا من الرّقّة، إذا نحن بدير كبير، فقال لى بعض أصحابى: مل بنا إلى هذا الدير لننظر من فيه ونحمد الله تعالى على ما رزقنا من السلامة، فدخلنا إلى الدير، فرأينا مجانين مغلغلين، وهم فى نهاية القذارة، فاذا فيهم شابّ عليه بقية من ثياب ناعمة، فلما بصربنا قال: من أنتم يافتيان؟ حياكم الله! فقلنا: نحن من العراق. فقال: بأبى العراق وأهلها! بالله أنشدونى أو أنشدكم! فقال المبرد: قلت: والله إن الشعر من هذا لظريف، فقلنا: أنشدنا، فأنشأ يقول: الله يعلم أنّنى كمد ... لا أستطيع أبثّ ما أجد! روحان لى: روح تضمّنها ... بلد وأخرى حازها بلد! وأرى المقيمة ليس ينفعها ... صبر ولا يقوى لها جلد. وأظنّ غائبتى كشاهدتى ... فكأنّها تجد الذى أجد! قال المبرد: بالله زدنا، فأنشأ يقول: لمّا أناخوا قبيل الصّبح عيرهم ... ورحّلوها فثارت بالهوى الإبل، وقلّبت من خلال السّجف ناظرها ... ترنو إلىّ ودمع العين منهمل، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 وودّعت ببنان عقدها عنم، ... ناديت: لا حملت رجلاك يا جمل! ويلى من البين! ماذا حلّ بى وبها ... من نازل البين؟ حان البين فارتحلوا! يا راحل العيس، عرّج كى نودّعها! ... يا راحل العيس، فى ترحالك الأجل؟ إنّى على العهد لم أنقض مودّتهم، ... يا ليت شعرى! بعد العهد ما فعلوا؟ قال: فقال رجل من البغضاء الذين معى: ماتوا! قال: قال إذن فأموت! فقال له: إن شئت! فتمطّى واستند إلى السارية التى كان مشدودا فيها فمات. فما برحنا حتّى دفناه. وحكى عن أبى يحيى التيمى، قال: كنا نختلف إلى أبى مسعر بن كدام، وكان يختلف معنا فتى من النّسّاك، يقال له أبو الحسن، ومعه فتى حسن الوجه يفتتن به الناس إذا رأوه. فأكثر الناس القول فيه وفي صحبته إياه. فمنعه أهله أن يصحبه وأن يكلمه. فذهل عقله حتّى خيف عليه التلف. فلقيته فأخبرته بذلك، فتنفس الصّعداء ثم أنشأ يقول: يا من بدائع حسن صورته ... تثنى إليه أعنّة الحدق! لى منك ما للناس كلّهم: ... نظر وتسليم على الطّرق. لكنّهم سعدوا بأمنهم ... وشقيت حين أراك بالفرق! ثم صرخ صرخة وشخص بصره نحو السماء وسقط إلى الأرض. فحرّكته فإذا هو ميت. وروى ابن الجوزىّ قال: أنبأنا عبد الوهاب بن المبارك الأنماطىّ، قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أبى نصر الحميدىّ قال: حدّثنى أبو محمد علىّ بن أحمد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 الفقيه الحافظ قال: حدّثنى أبو عبد الله محمد بن الحسن المذحجىّ الأديب، قال: نت أختلف في النحو إلى أبى عبد الله محمد بن خطاب النحوى في جماعة، أيام الحداثة. وكان معنا أسلم بن سعيد قاضى قضاة الأندلس. قال محمد بن الحسن: وكان من أجمل من رأته العيون. وكان معنا عند ابن خطاب أحمد بن كليب. وكان من أهل الأدب والشعر فاشتدّ كلفه بأسلم، وفارق صبره، وصرف فيه القول متسترا بذلك، إلى أن فشت أشعاره فيه وجرت على الألسنة، وأنشدت في المحافل. فلعهدى بعرس في بعض الشوارع و «البكورىّ» الزامر في وسط المحفل يزمر بقول أحمد بن كليب في أسلم. أسلّمنى في هوا ... هـ أسلم، هذا الرّشا! غزال له مقلة ... يصيب بها من يشا! وشى بيننا حاسد ... سيسأل عمّا وشى! ولو شاء أن يرتشى ... على الوصل روحى، ارتشى! ومغنّ محسن يسايره. فلما بلغ هذا المبلغ، انقطع أسلم عن جميع مجالس الطلب ولزم بيته والجلوس على بابه. فكان أحمد بن كليب لا شغل له إلا المرور على باب دار أسلم نهاره كله. فانقطع أسلم عن الجلوس على باب داره نهارا. فإذا صلّى المغرب واختلط الظلام، خرج مستروحا، وجلس على باب داره. فعيل صبر أحمد بن كليب. فتحيل في بعض الليالى ولبس جبّة من جباب أهل البادية، واعتمّ بمثل عمائمهم، وأخذ بإحدى يديه دجاجا وبالأخرى قفصا فيه بيض. وجاء كأنه قدم من بعض الضّياع، فتقدّم إلى أسلم وقبل يده، وقد اختلط الظلام، وقال: يا مولاى، من يقبض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 هذا؟ فقال له أسلم: من أنت؟ فقال: أجيرك في الضّيعة الفلانية- (وقد كان يعرف أسماء ضياعه) . فأمر أسلم غلمانه بقبض ذلك منه على عادتهم في قبول هدايا العاملين في ضياعهم. ثم جعل أسلم يسأله عن أحوال الضيعة، فلما جاوبه أنكر الكلام فتأمله فعرفه، فقال له: يا أخى! وإلى هاهنا تتبعنى؟ أما كفاك انقطاعى عن مجالس الطلب، وعن الخروج جملة، وعن القعود على بابى نهارا حتّى قطعت علىّ جميع مالى فيه راحة فصرت في سجنك؟ والله لا فارقت بعد هذه الليلة قعر منزلى، ولا جلست بعدها على بابى، لا ليلا ولا نهارا، ثم قام. وانصرف أحمد بن كليب حزينا كئيبا. قال محمد: واتصل ذلك بنا فقلنا لأحمد بن كليب: وخسرت دجاجك وبيضك؟ فقال: هات كلّ ليل قبلة في يده، وأخسر أضعاف ذلك! فلما يئس من رؤيته البتة، نهكته العلة وأضجعه المرض. قال محمد بن الحسن: فأخبرنى شيخنا محمد بن خطاب قال: فعدته فوجدته بأسوإ حال. فقلت له: لم لا تتداوى؟ فقال: دوائى معروف، وأما الأطباء فلا حيلة لهم فيّ البتة، فقلت له: وما دواؤك؟ قال: نظرة من أسلم! فلو سعيت في أن يزورنى لأعظم الله جزاءك بذلك، وآجره. قال: فرحمته وتقطعت نفسى عليه، فنهضت إلى أسلم فاستأذنت عليه، فأذن لى وتلقّانى بما يجب، فقلت: لى حاجة، فقال: وما هى؟ قلت: قد علمت ما جمعك مع أحمد بن كليب من ذمام الطلب عندى. فقال: نعم، ولكن قد تعلم أنه برّح بى، وشهر اسمى وآذانى. فقلت له: كل ذلك يغتفر في مثل هذه الحال التى هو فيها، والرجل يموت، فتفضل بعيادته. فقال لى: والله ما أقدر على ذلك، فلا تكلّفنى هذا! فقلت: لا بدّ من ذلك فليس عليك فيه شىء، وإنما هى عيادة مريض. قال: ولم أزل به حتّى أجاب، فقلت له: فقم الآن، قال: لست والله أفعل، ولكن غدا، فقلت له: ولا خلف، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 قال: نعم. فانصرفت إلى أحمد بن كليب فأخبرته بوعده فسرّ بذلك وارتاحت نفسه. فلما كان من الغد بكّرت إلى أسلم، وقلت له: الوعد، قال: فوجم، وقال: والله لقد تحملنى على خطّة صعبة علىّ، وما أدرى كيف أطيق ذلك؟ فقلت له: لا بدّ أن تفى بوعدك لى، قال: فأخذ رداءه ونهض معى راجلا، فلما أتينا منزل أحمد، وكان يسكن في درب طويل. فعند ما توسّط الزّقاق وقف واحمرّ وخجل، وقال: يا سيدى، للساعة والله أموت! وما أستطيع أن أعرض هذا على نفسى! فقلت: لا تفعل بعد أن بلغت المنزل، قال: لا سبيل والله إلى ذلك البتّة! ورجع هاربا فاتّبعته وأخذت بردائه، فتمادى وتمزق الرداء وبقيت قطعة منه في يدى لشدّة إمساكى له. ومضى ولم أدركه. فرجعت ودخلت على أحمد، وكان غلامه قد دخل عليه لما رآنا من أوّل الزقاق مبشّرا. فلما رآنى تغير وجهه وقال: أين أبو الحسن؟ فأخبرته بالقصة فاستحال من وقته واختلط وجعل يتكلم بكلام لا يعقل منه أكثر من الاسترجاع. فاستبشعت الحال وجعلت أتوجّع وقمت، فثاب إليه ذهنه، وقال لى: يا أبا عبد الله، قلت: نعم، قال: اسمع منى، واحفظ عنّى، وأنشأ يقول: أسلم، يا راحة العليل ... رفقا على الهائم النّحيل! وصلك أشهى إلى فؤادى ... من رحمة الخالق الجليل! قال: فقلت له: اتق الله، ما هذه العظيمة؟ قال: قد كان، فخرجت عنه فو الله ما توسطت الزقاق حتّى سمعت الصراخ عليه وقد فارق الدّنيا. وهذه الحكاية مشهورة عند أهل الأندلس. وأسلم هذا من بنى خالد وكانت فيهم وزارة وحجابة. وهذا الباب طويل والحكايات والأخبار والوقائع فيه كثيرة يطول الشرح بذكرها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 وأما من قتل نفسه بسبب العشق، فحكى عن عبد الرحمن بن إسحاق القاضى قال: انحدرت من «سرّ من رأى» مع محمد بن إبراهيم أخى إسحاق، ودجلة تزخر من كثرة مائها. فلما سرنا ساعة، قال: ارفقوا بنا، ثم دعا بطعامه فأكلنا، ثم قال: ما ترى في النبيذ؟ قلت له: أعز الله الأمير، هذه دجلة قد جاءت بمدّ عظيم يرغب مثله، وبينك وبين منزلك مبيت ليلة، فلو شئت أخرته، قال: لا بدّ لى من الشراب، واندفعت مغنية فغنّت، واندفعت أخرى فغنته: يا رحمتا للعاشقينا، ... ما إن أرى لهم معينا! كم يشتمون ويضربو ... ن ويهجرون، فيصبرونا! فقالت لها المغنية الأولى: فيصنعون ماذا؟ قالت: يصنعون هكذا، ورفعت الستارة وقذفت بنفسها في دجلة. وكان بين يدى محمد غلام ذكر أنّ شراءه ألف دينار، بيده مذبّة، لم أر أحسن منه. فوضع المذبّة من يده وقذف بنفسه في دجلة، وهو يقول: أنت التى غرّقتنى ... بعد الفضا، لو تعلمينا! فأراد الملاحون أن يطرحوا أنفسهم خلفهما، فصاح بهم محمد: دعوهما يغرقا إلى لعنة الله! قال: فرأيتهما وقد خرجا معتنقين ثم غرقا. وحكى عن جميل بن معمر العذرىّ أنه قال: دخلت على عبد الملك بن مروان فقال لى: يا جميل حدّثنى بعض أحاديث بنى عذرة، فإنه بلغنى أنهم أصحاب أدب وغزل، فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، انتجعوا عن حيّهم مرة فوجدوا النّجعة بموضع نازح فقطنوه. فخرجت أريدهم. فبينا أنا أسير، غلطت الطريق وجنّ علىّ الليل، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 فلاح لى باب فقصدته. فوردت على راع في أصل جبل قد ألجأ غنمه إلى كهف فى الجبل، فسلمت عليه، فردّ علىّ السلام، وقال: أحسبك قد ضللت الطريق؟ قلت: قد كان ذلك، فأرشدنى! قال: بل أنزل حتّى تريح ظهرك، وتبيت ليلتك، فإذا أصبحت وقّفتك على القصد. فنزلت فرحّب بى وأكرمنى، وعمد إلى شاة فذبحها، وأجّج نارا، وجعل يشوى ويلقى بين يدىّ، ويحدّثنى في خلال ذلك. ثم قام إلى كساء فقطع به جانب الخباء ومهّد لى جانبا، ونزل جانبا خاليا. فلما كان في الليل سمعته يبكى ويشكو إلى شخص. فأرقت ليلتى. فلما أصبحت، طلبت الإذن فأبى، وقال: الضيافة ثلاث! فأقمت عنده، وسألته عن اسمه ونسبه وحاله، فانتسب لى. فإذا هو من بنى عذرة، من أشرافهم. فقلت: يا هذا، وما الذى أحلّك هذا الموضع؟ فأخبرنى أنه كان يهوى ابنة عمّ له وتهواه، وأنه خطبها إلى أبيها فأبى أن يزوّجه إيّاها لقلّة ذات يده، وأنه زوّجها رجلا من بنى كلاب فخرج بها عن الحىّ وأسكنها في موضعه ذلك، وأنه تنكّر ورضى أن يكون راعيا لتأتيه ويراها. وجعل يشكو إلىّ صبابته بها وعشقه لها، حتى إذا جنّنا الليل وحان وقت مجيئها، جعل يتقلقل ويقوم ويقعد كالمتوقّع لها. فلما أبطأت عن الوقت المعتاد وغلبه الشوق، وثب قائما وأنشأ يقول: ما بال ميّة لا تأتى لعادتها! ... أهاجها طرب أم صدّها شغل؟ لكن قلبى لا يلهيه غيرهم ... حتّى الممات، ولالى غيرهم أمل! لو تعلمين الّذى بى من فراقكم ... لما اعتللت ولا طابت لك العلل! روحى فداؤك! قد هيّجت لى سقما ... تكاد من حرّه الأعضاء تنفصل! لو أن عاديّه منّى على جبل، ... لزال وانهدّ من أركانه الجبل! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 ثم قال: يا أخا بنى عذرة، مكانك حتّى أعود إليك! فما أتوهّم أن أمر ابنة عمّى صحيح! ثم مضى. فما لبث أن أقبل وعلى يده شىء محمول، وقد علا شهيقه ونحيبه، فقال: يا أخا بنى عذرة، هذه ابنة عمى، أرادت أن تأتينى فاعترضها الأسد فأكلها! ثم وضعها عن يده، وقال: على رسلك حتّى أعود اليك، ومضى فأبطأ حتّى يئست من رجوعه. ثم أقبل ورأس الأسد على يده، فألقاها وجعل ينكت على أسنان الأسد ويقول: ألا أيّها الليث المخيل بنفسه! ... هلكت! لقد حرّت يداك لنا حزنا! وغادرتنى فردا وقد كنت آلفا ... وصيّرت بطن الأرض ثمّ لنا سجنا! أقول لدهر خاننى بفراقه: ... معاذ إلهى أن أكون له خدنا! ثم قال: يا أخا بنى عذرة، إنك سترانى بين يديك ميّتا! فإذا متّ فاعمد إلىّ وابنة عمّى، فأدرجنا في كفن واحد، واحفر لنا جدثا واحدا، وادفنّا فيه، واكتب على قبرى هذين البيتين: كنّا على ظهرها، والعيش في مهل! ... والشّمل يجمعنا والدار والوطن ففرّق الدهر والتصريف ألفتنا ... فصار يجمعنا في بطنها الكفن. وردّ الغنم إلى صاحبها وأعلمه بقصتنا، ثم عمد إلى خناق فطرحه في عنقه، فناشدته الله تعالى أن لا يفعل، فأبى وجعل يخنق نفسه حتّى سقط ميتا. فكفّنتهما ودفنتهما فى قبر واحد، وكتبت البيتين على قبرهما، ورددت الغنم إلى صاحبها، وأعلمته بقصتهما فحزن حزنا شديدا أشفقت منه على نفسه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 ذكر شىء مما ورد في التحذير من فتنة النساء، وذمّ الزنا، والنظر إلى المردان، والتحذير من اللّواط، وعقوبة اللّائط أما ما ورد من التحذير من فتنة النساء، فقد روى عن أبى أمامة بن يزيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما تركت في الناس بعدى فتنة أضرّ على الرجال من النّساء» . وعن أبى سعيد الخدرىّ رضى الله عنه، عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّ الدّنيا حلوة خضرة، وإن الله عز وجل مستخلفكم فيها لينظر كيف تعملون، فاتّقوا الدّنيا واتّقوا النساء؛ فإن أوّل فتنة بنى إسرائيل كانت في النّساء» . وعن أبى هريرة رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ أخوف ما أخاف على أمّتى النساء واخمرة» . وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: لم يكن كفر من مضى إلّا من قبل النساء، وهو كائن، كفر من بقى من قبل النساء. وعن حسان بن عطية، قال: ما أتيت أمّة قطّ إلا من قبل نسائهم. وعن سعيد بن المسيب، قال: ما يئس الشيطان من ابن آدم قطّ، إلا أتاه من قبل النّساء. وعن ابن عباس رضى الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال إبليس لربه عز وجل: يا ربّ قد أهبط آدم، وقد علمت أن سيكون لهم كتاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 ورسل، فما كتابهم ورسلهم؟ قال الله عز وجل: رسلهم الملائكة والنّبيّون منهم، وكتبهم التوراة والإنجيل والزّبور والفرقان، قال: فما كتابى؟ قال: كتابك الوشم، وقرآنك الشّعر، ورسلك الكهنة، وطعامك ما لم يذكر اسم الله عليه، وشرابك من كل مسكر. وصدقك الكذب، وبيتك الحمّام، ومصايدك النساء، ومؤذّنك المزمار، ومسجدك الأسواق» . ومن فتنة النساء، ما روى عن وهب بن منبّه أن عابدا كان في بنى إسرائيل، وكان من أعبد أهل زمانه. وكان في زمانه ثلاثة إخوة لهم أخت، وكانت بكرا. فخرج البعث عليهم فلم يدروا عند من يخلّفون أختهم، ولا من يأمنون عليها، فأجمعوا رأيهم على أن يخلّفوها عند العابد. فأتوه وسألوه أن يخلّفوها عنده. فأبى ذلك. فلم يزالوا به حتّى قال: أنزلوها في بيت جوار صومعتى، فأنزلوها في ذلك البيت، ثم انطلقوا وتركوها. فمكثت في جوار العابد زمانا ينزل إليها الطعام من صومعته فيضعه عند باب الصومعة، ثم يغلق بابه ويصعد صومعته، ثم يأمرها فتخرج من بيتها فتأخذ ما وضع لها من الطعام. قال: فتلطف له النبطان. فلم يزل يرغّبه في الخير ويعظّم عنده خروج الجارية من بيتها نهارا، ويخوّفه ان يراها أحد فيعلقها. فلم يزل به حتّى مشى بطعامها ووضعه عند باب بيتها، ولا يكلّمها. فلبث بذلك زمانا. ثم جاءه إبليس فرغّبه فى الخير والأجر، وقال له: لو كنت تمشى إليها بطعامها حتّى تضعه في بيتها. كان أعظم لأجرك. فلم يزل به حتّى مشى إليها بطعامها فوضعه في بيتها. فلبث بذلك زمانا. ثم جاءه إبليس فرغّبه في الخير وحضّه عليه، وقال له: لو كنت تكلمها وتحدّثها، فتأنس بحديثك، فإنها قد استوحشت وحشة شديدة، فلم يزل به حتّى حدّثها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 زمانا، يطلع إليها من فوق صومعته. ثم أتاه إبليس بعد ذلك، فقال له: لو كنت تنزل إليها فتقعد على باب صومعتك وتحدّثها، وتقعد على باب بيتها فتحدّثك، كان آنس لها. فلم يزل به حتّى أنزله فأجلسه على باب صومعته يحدّثها، وتخرج الجارية من بيتها حتّى تقعد على بابها. فلبثا زمانا يتحدّثان. ثم جاءه إبليس فرغّبه في الخير، فقال: لو خرجت من باب صومعتك فجلست قريبا من بيتها فحدّثتها، كان آنس لها. فلم يزل به حتّى فعل. فلبثا بذلك زمانا. ثم جاءه إبليس فقال: لو دنوت من باب بيتها، ثم قال: لو دخلت البيت فحدّثتها ولم تتركها تبرز وجهها لأحد، كان أحسن، فلم يزل به حتّى دخل البيت فجعل يحدّثها نهاره كله. فإذا أمسى صعد في صومعته. قال: ثم أتاه إبليس بعد ذلك، فلم يزل يزيّنها له حتّى ضرب العابد بيده على فخذها وقبّلها. ثم لم يزل يحسنها في عينه ويسوّل له حتّى وقع عليها فأحبلها، فولدت غلاما. فجاء إبليس، فقال له: أرأيت إن جاء إخوتها، وقد ولدت منك كيف تصنع؟ فاعمد إلى ابنها فاذبحه وادفنه، فإنها ستكتم ذلك عليك مخافة إخوتها، فقتله. ثم جاءه، فقال: أتراها تكتم ما صنعت بها؟ خذها فاذبحها وادفنها مع ابنها، فذبحها وألقاها في الحفرة. فمكث ما شاء الله حتّى قفل إخوتها من الغزو. فجاءوه فسألوه عن أختهم فنعاها لهم وترحّم عليها وبكاها، وقال: كانت خير امراة، وهذا قبرها. فأتى إخوتها القبر فبكوها وترحّموا عليها، وأقاموا على قبرها أياما ثم انصرفوا إلى أهاليهم. قال: فلما جنّهم الليل وأخذوا مضاجعهم، أتاهم الشيطان في النوم فبدأ بأكبرهم فسأله عن أختهم. فأخبره بقول العابد وبموتها. فكذّبه الشيطان، وقال: لم يصدقكم أمر أختكم. إنه أحبلها وولدت منه غلاما فذبحه وذبحها معه فرقا منكم، وألقاهما في الحفرة خلف باب البيت. وأتى الأوسط في منامه، فقال له مثل ذلك؛ ثم أتى أصغرهم، فقال له مثل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 ذلك. فلما استيقظ القوم، استيقظوا متعجبين لما رآه كلّ واحد منهم. فأقبل بعضهم على بعض يقول: لقد رأيت عجبا! وأخبر بعضهم بعضا بما رأى، فقال كبيرهم: هذا حلم، ليس هذا بشىء، فامضوا بنا ودعوا هذا، فقال أصغرهم: لا أمضى حتّى آتى ذلك لمكان فأنظر فيه، فانطلقوا فبحثوا الموضع، فوجدوا أختهم وابنها مذبوحين. فسألوا عنها العابد، فصدّق قول إبليس فيما صنع بهما. فاستعدوا عليه ملكهم فأنزل من صومعته وقدّموه ليصلبوه. فلما أوثقوه على الخشبة، أتاه الشيطان، فقال له: قد علمت أنى صاحبك الذى فتنتك في المرأة حتّى أحبلتها وذبحتها وابنها، فإن أنت أطعتنى اليوم وكفرت بالله الذى خلقك، خلّصتك مما أنت فيه، فكفر العابد بالله. فلما كفر، خلّى الشيطان بينه وبين أصحابه فصلبوه. قال وهب: ففيه نزلت هذه الآية: (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) . نسأل الله العافية من فتنتهن، ونعوذ به من الشيطان الرجيم. وأما ما جاء في ذم الزنا. فكفى به ذمّا قوله تعالى: (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا) . وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يزنى الزّانى حين يزنى وهو مؤمن» الحديث وعن عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا أمّة محمد، ما أحد أغير من الله أن يرى عبده أو أمته تزنى» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اشتدّ غضب الله تعالى على الزّناة» . وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الإيمان سربال يسربله الله من يشاء. فإذا زنى العبد، نزع منه سربال الإيمان. فاذا تاب ردّ عليه» . وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من ذنب بعد الشّرك أعظم عند الله من نطفة وضعها رجل في رحم لا يحلّ له» . وعن أنس رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إيّاكم والزّنا، فإنّ في الزنا ستّ خصال، ثلاث في الدنيا، وثلاث في الآخرة: فأما اللواتى فى الدنيا، فذهاب نور الوجه، وانقطاع الرّزق، وسرعة الفناء؛ وأما اللّواتى في الآخرة، فغضب الربّ، وسوء الحساب، والخلود في النار، إلا أن يشاء الله تعالى» . وعن عبد الله قال: قلت: يا رسول الله أىّ الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله ندّا، وهو خلقك!» قلت: ثم أىّ؟ قال: «أن تقتل ولدك من أجل أن يطعم معك» . قلت: ثم أىّ؟ قال: «أن تزنى بحليلة جارك» . والأحاديث الصحيحة في ذلك كثيرة. وأما ما جاء في النهى عن النظر إلى المردان ومجالستهم. روى عن أبى السائب انه قال: لأنا على القارئ من الغلام الأمرد أخوف منّى عليه من سبعين عذراء. وفي لفظ عنه: لأنا أخوف على عابد من غلام أمرد من سبعين عذراء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 وعن سعيد بن المسيب أنه قال: إذا رأيتم الرجل يلحّ النظر إلى غلام أمرد، فاتّهموه. وكان سفيان الثورىّ رضى الله عنه لا يدع أمرد يجالسه. وعن يعقوب بن سوال قال: كنا عند أبى نصر بشر بن الحارث. فوقفت عليه جارية ما رأينا أحسن منها، فقالت يا شيخ: أين مكان باب حرب؟ فقال لها: هذا الباب الذى يقال له باب حرب. ثم جاء بعدها غلام فسأله، فقال له يا شيخ: أين مكان باب حرب؟ فأطرق بشر. فردّ عليه الغلام السؤال فغمّض عينيه. فقلنا للغلام: أىّ شىء تريد فقال: باب حرب. فقلنا: بين يديك. فلما غاب، قلنا يا أبا نصر، جاءتك جارية فأجبتها وكلمتها، وجاءك غلام فلم تكلمه؟ فقال: نعم، يروى عن سفيان الثورىّ أنه قال: مع الجارية شيطان، ومع الغلام شيطانان، فخشيت على نفسى من شيطانيه. وعن أبى سعيد الخراز، قال: رأيت إبليس في النوم، وهو يمرّ عنّى ناحية، فقلت: تعال، فقال: أىّ شىء أعمل بكم؟ أنتم طرحتم عن نفوسكم ما أخادع به الناس، قلت ما هو؟ قال: الدنيا، فلما ولّى. التفت إلىّ فقال: غير أن لى فيكم لطيفة، قلت: ما هى؟ قال: صحبة الأحداث. وعن مظفر القرميسينىّ، قال: من صحب الأحداث على شرط السلامة والنصيحة، أدّاه ذلك إلى البلاء؛ فكيف من صحبهم على غير وجه السّلامة؟ وقد ذكر أبو الفرج في كتابه المترجم «بذم الهوى» من افتتن بالأحداث، وصرح بأسمائهم. فلم نؤثر التعرّض لذلك، لما فيه من التشنيع عليهم والإذاعة لمساويهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 وأما ما جاء في التحذير من اللواط وما ورد في سحاق النساء، روى عن ابن عباس رضى الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ملعون ملعون من عمل بعمل قوم لوط» . وعنه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لعن الله من عمل عمل قوم لوط» . وعن جابر بن عبد الله، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ أخوف ما أخاف على أمّتى عمل قوم لوط» . وفي لفظ آخر عنه صلى الله عليه وسلم: «إن أخوف ما أخاف على أمّتى من بعدى عمل قوم لوط، ألا فلتترقّب أمتى العذاب إذا كان الرجال بالرجال والنساء بالنساء» . وعن ابن عباس رضى الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلا أو امرأة في دبرها» . وعن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم يعل فحل فحلا حتّى كان قوم لوط، فإذا علا الفحل الفحل، ارتجّ أو اهتزّ عرش الرحمن عز وجل، فاطّلعت الملائكة تعظيما لفعلهما، فقالوا: يا ربّ، ألا تأمر الأرض أن تغور بهما، وتأمر السماء أن تحصبهما، فيقول الله تعالى: إنّى حليم لا يفوتنى شىء» . وعن سماك بن حرب، عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما أنه قال: إن الرجل ليأتى الرجل فتضجّ الأرض من تحتهما، والسماء من فوقهما، والبيت والسقف، كلهم يقولون: أى ربّ، ائذن لنا بنطبق بعضنا على بعض فنجعلهم نكالا ومعتبرا، فيقول الله عز وجل: إنهم وسعهم حلمى ولن يفوتونى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 وكان سفيان الثورىّ رحمه الله يقول: لو أنّ رجلا عبث بغلام بين إصبعين من أصابع رجليه يريد الشهوة، لكان لواطا. وروى عن مكحول عن واثلة بن الأسقع أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سحاق النساء زنّى بينهن» . وأما ما ورد في عقوبة اللائط والملوط به في الدنيا والآخرة: أما عقوبة الدنيا، فقد جاء بها نصّ القرآن في قصة قوم لوط، وشرح أفعالهم، وما عذبوا به في آى كثيرة. وجاء في الأحاديث النبوية، على قائلها أفضل الصلاة والسلام، فى عقوبة اللائط والملوط به ما يدل على التغليظ والتشديد. فمن ذلك ما روى عن عكرمة عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيمن عمل عمل قوم لوط: يقتل الفاعل والمفعول به، وفي لفظ آخر عن ابن عباس عن النبىّ صلّى الله عليه وسلم: اقتلوا الفاعل والمفعول به، فى عمل قوم لوط. وعن جابر بن عبد الله رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من عمل بعمل قوم لوط فاقتلوه» . وعن أبى هريرة رضى الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فارجموا الأعلى والأسفل» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 وعن محمد بن المنكدر أن خالد بن الوليد كتب إلى أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه، أنه وجد رجلا في بعض الأضاحى ينكح رجلا كما تنكح المرأة. فجمع أبو بكر رضى الله عنه لذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضى عنهم، فيهم علىّ بن أبى طالب، وقال: إن هذا ذنب لم تعمل به أمّة إلا أمّة واحدة. ففعل الله بهم ما قد علمتم. أرى أن نحرّقه بالنار، فاجتمع رأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يحرّق بالنار. فأمر به أبو بكر رضى الله عنه أن يحرّق بالنار. وقد حرّقهم عبد الله بن الزبير، وهشام بن عبد الملك. - وعن يزيد بن قيس أن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه رجم لوطيّا. - وعن سعيد بن زيد قال: سئل عبد الله بن عباس رضى الله عنهما، ما حدّ اللوطىّ؟ قال: ينظر أعلى بيت في القرية فيرمى منكّسا ثم يتبع بالحجارة. وللتابعين ولأئمة العلماء في ذلك أقوال: فمنهم من رأى أن حدّه كحدّ الزنا، وفرّق بين المحصن وغير المحصن. ومنهم من رأى أن حدّه القتل أحصنا، أو لم يحصنا. روى سفيان عن جابر عن الشعبىّ أنه قال: اللّوطىّ يرجم، أحصن أو لم يحصن. وعن ابن أبى نجيح عن عطاء قال: حدّ اللوطىّ حدّ الزانى؛ وإن أحصن رجم، وإلا جلد. وبه قال الهيثم. وعن قتادة عن الحسن أنه قال في الرجل يخالط الرجل: إن كان أحصن، جلد ورجم؛ وإن كان لم يحصن، جلد ونفى. وعن مالك بن أنس عن الزهرى قال: يرجم، أحصن أو لم يحصن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 وعن الطيالسىّ قال: حدّثنا إسحاق الكوسخ، قال: قلت لأحمد بن حنبل: أيرجم اللوطى، أحصن أو لم يحصن؟ قال: يرجم، أحصن أو لم يحصن. وقد روى عن أحمد بن حنبل أن حدّ اللوطىّ كحدّ الزانى، يختلف بالثّيوبة والبكارة. وهو قول محمد عن الشافعىّ. وقال الحكم: يضرب اللوطىّ دون الحدّ. قال ابن الجوزىّ: وإلى هذا مال أبو حنيفة. وأما مذهب ابن حزم الظاهرىّ فإنه لا يضرب في اللّواط فوق عشرة أسواط. وقال النخعىّ: لو كان أحد ينبغى أن يرجم مرتين، لكان ينبغى أن يرجم اللوطىّ مرتين. وحكى أبو الفرج بن الجوزىّ، قال: أخبرتنا شهدة بنت أحمد، قالت: أخبرنا جعفر بن أحمد السراج، قال: أخبرنا عبد العزيز بن علىّ، قال: أخبرنا علىّ بن جعفر الصوفى، قال: سمعت الموازينى يقول: قال لى رجل من الحاج: مررت بدار قوم لوط، وأخذت حجرا مما رجموا به، فطرحته في مخلاة، ودخلت مصر. فنزلت في بعض الدور في الطبقة الوسطى. وكان في سفل الدار حدث، فأخرجت الحجر من خرجى، ووضعته في روزنة في البيت. فدعا الحدث الذى كان في البيت صبيا إلى عنده واجتمع معه، فسقط الحجر على الحدث من الروزنة، فقتله. وقال أيضا: أخبرتنا شهدة، قالت: أخبرنا جعفر بن أحمد، قال: أخبرنا أبو الحسين محمد بن عثمان بن مكىّ، قال: أخبرنى جدّى أبو الحسن أحمد بن عبد الله بن أحمد، قال: أخبرنا أبو العباس أحمد بن عيسى الوشا المقرى، قال: سمعت أبا عبد الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 محمد بن عبد الله بن عبد الحكم يقول: سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول: خرجت حاجّا إلى مكة. فلما كانت ليلة عرفات، رأى الإمام الذى حجّ بنا تلك الليلة مناما. فلما صرنا إلى مكة بعد انقضاء الحج، سمعنا مناديا ينادى فوق الحجر: أنصتوا يا معشر الحجيج، فأنصت الخلق، فقال: يا معشر الحجيج، إن إمامكم رأى أن الله عز وجل قد غفر لكل من وافى البيت العام إلا رجلا واحدا فإنه فسق بغلام. وأما عقوبته في الآخرة، فقد روى عن أبى سلمة عن أبى هريرة وعبد الله ابن عباس رضى الله عنهم، قالا: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال فى خطبته: «من نكح امرأة في دبرها أو غلاما أو رجلا، حشر يوم القيامة أنتن من الجيفة، يتأذّى به الناس حتّى يدخله الله نار جهنم. ويحبط الله عمله، ولا يقبل منه صرفا ولا عدلا. ويجعل في تابوت من نار، ويسمّر عليه بمسامير من حديد من نار، فتشتبك تلك المسامير في وجهه وفي جسده» . قال أبو هريرة: وهذا لمن لم يتب. وعن انس بن مالك رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكّيهم ولا يجمعهم مع العالمين، يدخلون النار أوّل الداخلين إلا أن يتوبوا؛ فمن تاب، تاب الله تعالى عليه: الناكح يده، والفاعل والمفعول به، ومدمن خمر، والضارب أبويه حتّى يستغيثا، والمؤذى جيرانه حتّى يلعنوه، والناكح حليلة جاره» . وعن إبراهيم بن علقمة عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللّوطيّان لو اغتسلا بماء البحر، لم يجزهما إلا أن يتوبا» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 وعن أنس رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات من أمّتى يعمل عمل قوم لوط، نقله الله إليهم حتّى يحشر معهم» . قلت: وقد بلغنى من كثير من الناس أن رجلين مشيا على جانب البركة المعروفة ببركة قوم لوط، وهى في غور الكرك على جانبها ضياع، منها الصافية واللاخية وسويمة وغيرها، وتعرف هذه البركة أيضا بالمنتنة، ويقال إنها إحدى المدائن التى خسف بها (من مدائن قوم لوط) . فجعلا يتباسطان. فكان من جملة ما قالاه أو قاله أحدهما للآخر فلم ينكره: هذه بركة أصحابنا، فطلعت من البركة موجة اختطفتهما معا، وألقتهما في البركة. فكان آخر العهد بهما. وهذه الحكاية يتداولها أهل تلك البلاد. لا ينكرها سامع منهم على قائل. ولا يبعد أن يعاقب من تجاهر بمعاصى الله وانتسب لمن كفر بالله وعصاه وكذّب رسوله أن يعاقبه الله بما عاقبهم به ويلحقه بهم. وفي بعض هذا عبرة لمن اعتبر. ولنرجع إلى سياق ما جاء في ذلك من الأحاديث والأخبار. روى أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزىّ بسنده إلى أنس بن مالك رضى الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من قبّل غلاما بشهوة، عذّبه الله في النار ألف سنة؛ ومن جامعه لم يجد رائحة الجنة، وريحها يوجد من مسيرة خمسمائة عام، إلا أن يتوب» . وعن خالد عن إسمعيل بن كثير عن مجاهد، قال: لو أن الذى يعمل ذلك العمل (يعنى عمل قوم لوط) اغتسل بكل قطرة في السماء وكلّ قطرة في الأرض، لم يزل نجسا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 وعن عبّاد بن الوليد العنبرىّ قال: سمعت إبراهيم بن شمّاس يقول: سمعت الفضيل بن عياض يقول: لو أنّ لوطيّا اغتسل بكل قطرة من السماء، لقى الله تعالى غير طاهر. وعن طلحة بن زيد عن برد بن سنان عن أبى المنيب عن عبد الله بن عمر رضى الله تعالى عنهما، قال: يحشر اللوطيون يوم القيامة في صورة القردة والخنازير. وعن أبى الصهباء عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهم قال: من خرج من الدنيا على حال، خرج من قبره على تلك الحال، حتّى إن اللوطىّ يخرج يطلق ذكره على دبر صاحبه مفتضحين على رءوس الخلائق يوم القيامة. هذا ما أمكن إيراده في هذا الفصل على سبيل الاختصار والإيجاز، وإلا فالأخبار فى العشق وتوابعه وما يتولد عنه كثيرة جدّا، ووقفنا منها على كثير، ولا يحتمل أن يورد في الكتب الشاملة لفنون مختلفة أكثر مما أوردناه. فلنذكر الآن نبذة مما قيل في الغزل والنسيب. ذكر نبذة مما قيل في الغزل والنسيب هذا الباب- أكرمك الله وعافاك، ووقاك من فتنته وكفاك- باب متسع، قد أكثر الشعراء القول فيه، وتنوّعوا في أساليبه ومعانيه؛ لو استقصيناه لطال به هذا التصنيف، وانبسط هذا التأليف؛ وكان بمفرده كتبا مبسوطة وأسفارا كبيرة، فلخصنا منه دررا نفيسة وأعلاقا خطيرة؛ واقتصرنا منه على ما رقّ معناه وراق، وحسن لفظه وشاق؛ وارتاحت إليه النفوس، وتحلت به الطروس؛ ولمحته النواظر، وانجذبت إليه الخواطر. وقد تنوّع الشعراء في الغزل: فتغزّلوا في المحبوب باسمه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 وكنوا عنه واستعاروا له، ووصفوا أعضاءه وشبهوها بأشياء، فشبهوا العيون بالنّرجس، وأفعالها بالخمر والسّهام؛ وشبّهوا الحواجب بالقسىّ، والجبين بالصّباح، والشّعور بالليالى، والسّوالف بالغوالى والصوالج والعقارب؛ وشبهوا الوجه بالشمس والقمر؛ وشبهوا الخدود بالورد والتّفاح؛ وشبهوا الثّغور بالأقحوان، واللمى بالخمر، والريق بالشّهد، والشّفاه بالعقيق، والأسنان بالّلؤلؤ؛ وشبهوا النّهود بالرّمّان، والقوام بالغصون، والأرداف بالكثبان. وغير ذلك. وقد تقدّم إيراد ذلك كله مستوفى فى موضعه، وهو في الباب الذى قبل هذا الباب. وتغزلوا أيضا في أصناف الفواكه المأكولة والمشمومة؛ وتغزلوا في الرياض والأزهار. وسنورد إن شاء الله ذلك في موضعه، وهو في القسم الثانى والثالث والرابع من الفن الرابع من كتابنا هذا، فى السفر العاشر من هذه النسخة. فلنورد الآن هاهنا من باب الغزل والنسيب خلاف ما قدّمنا ذكره مما ذكرناه وما نذكره إن شاء الله تعالى. والذى نورده في هذا الباب نبذة مما قيل في المذكّر، والمؤنّث، والمطلق، والمشترك، وطيف الخيال، والردّ على العذول، ورجوع العذول، والوصال، والفراق، والبين، والتوديع، والصدّ، والهجران؛ وما قيل في الزيارة وتخفيفها، وموانعها، والمدامع، والرضا من المحبوب باليسير، والنّحول؛ وما قيل في المحبوب إذا اعتلّ؛ وما قيل على لسان الورقاء، والمراجعات، والمردوف، والجناس، والموشّحات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 فمما قيل في المذكر قال العماد الأصفهانى الكاتب: وأحور يسبى بطرف يكلّ ... وتخجل منه الظّبا والظّباء. بخدّيه من حسنه والشباب ... تجمّع ضدّان: نار وماء. وفي مقلتيه وقد صحّتا ... كما صحتا سقم وانتشاء. عففت وعفت الحيا في هوا ... هـ حتّى استوى صدّه واللّقاء. وكلّ حياء يذود العفا ... ف عن ودّه، فعليه العفاء! وقال آخر: وكأنّ بهجة وجهه في شعره ... قمر بدا في ليلة ليلاء. وكأنّ عقرب صدغه في خده ... وقفت مخافة ناره والماء. قمر رجوت من الزمان وصاله ... يوما، فأخلف بالصّدود رجائى! وقال عبد الجليل بن وهبون: وافت به غفلة الرّقيب ... والنجم قد مال للغروب، نشوان قد هزّت الحميّا ... منه قضيبا على كثيب! يعثر في ذيله فيحكى ... عثرة عينيه في القلوب! والله لو نالت الثّريّا ... ما نال من بهجة وطيب، دنا إليها الهلال حتّى ... قبّل في كفّها الخضيب! وقال ابن حجاج: ومذلّل! أما القضيب فقدّه ... شكلا وأمّا ردفه فكثيب! يمشى وقد فعل الصّبا بقوامه ... فعل الصّبا بالغصن، وهو رطيب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 متلوّن يبدى ويخفى شخصه ... كالبدر يطلع تارة ويغيب. أرمى مقاتله فتخطئ أسهمى ... غرضى، ويرمى مهجتى فيصيب! نفسى فداؤك! إنّ نفسى لم تزل ... يحلو فداؤك عندها ويطيب! مالى ومالك لا أراك تزورنى ... إلا ودونك كاشح ورقيب! وقال أبو نواس: شبيه بالقضيب وبالكثيب! ... غريب الحسن ذو دلّ غريب! بعيد. إن نظرت إليه يوما، ... رجعت وأنت ذو أجل قريب! ترى للصّمت والحركات فيه ... سواما لا يذاد عن القلوب. ويمتحن القلوب بمقلتيه، ... فينكشف البرىء من المريب! وقال الوأواء الدمشقىّ: بدر تقنّع بالظّلا ... م على قضيب في كثيب! تدعو محاسنه القلو ... ب إلى مشافهة الذّنوب. فعلت به ريح الصّبا ... ما ليس تفعل بالقضيب. عقلت ركائب حسنه ... بعقولنا عند المغيب. وتلطّمت وجناتنا ... بيد الدّموع من النّحيب! وقال الأمير تاج الملوك ابن أيوب: سلب الفؤاد فلا عدمت السالبا! ... ورنا، فكان اللحظ سهما صائبا! قمر مشارقه الجيوب، فلا ترى ... أبدا له إلا القلوب مغاربا! ملك الفؤاد بمقلتين وحاجب ... أمسى لحسن الصبر عنّى حاجبا. وحكى القضيب شمائلا عبثت به ... أيدى النّسيم شمائلا وجنائبا! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 وقال أيضا: يا أيّها البدر الّذى ... مطلعه طوق القبا! يا جنّة القلب الّذى ... أضرم فيه لهبا! فدّيت هذا الوجه، ما ... أحسنه وأعجبا! لم تر عينى قبله ... صبحا تردّى غيهبا! وقال أبو نواس: يا بدعة في مثال ... يجوز حدّ الصّفات! فالوجه بدر تمام ... بعين ظبى فلاة! والقدّ قدّ غلام ... والغنج غنج فتاة! مذكّر حين يبدو، ... مؤنّث الخلوات! زها علىّ بصدغ ... مزرفن الحلقات. من فوق خدّ أسيل ... يضىء في الظّلمات! وقال كشاجم: معتدل من كلّ أعطافه! ... مستحسن الإقبال والملتفت! لو قيست الدّنيا ولذّاتها ... بساعة من وصله، ما وفت! سلّطت الألحاظ منه على ... قلبى؛ فلو أودت به ما اشتفت! واستعذبت روحى هواه فما ... تسلو ولا تصحو، ولو أتلفت! وقال فضل الرّقاشىّ: وشاطر فاتك الشّمائل قد ... خالط منه المجون تخنيثا. تراه طورا مذكّرا؛ فإذا ... عاقر راحا، رأيت تأنيثا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 ألثغ إن قلت يا فديتك: قل ... موسى، يقل من رطوبة: موثا. ما زال حتّى الصباح معتنقى ... مطارحى في الدّجى الأحاديثا. وقال كشاجم: بليت بوجدين [1] وجدى بظبى ... يصدّ، وما به إلا لجاج. وعذّبنى قضيب في كثيب ... تساوى فيه لين واندماج. أغار إذا دنت من فيه كاس ... على درّ يقبّله زجاج. وقال أيضا: يا لقومى! من لمكتئب ... دمعه في الخدّ منسفح؟ لامه العذّال في رشإ ... عذره من مثله يضح. وادّعوا نصحى! وأخون ما ... كان عذّالى إذا نصحوا! خوّفونى من فضيحته، ... ليته وافى وأفتضح! كيف يسلو القلب عن غصن، ... علّه من مائه المرح؟ ذهبىّ الحسن تحسب من ... وجنتيه النار تقتدح! وكأنّ الشمس نيط لها ... قمر، يمناه والقدح. صدّ أن مازحته غضبا! ... ما على الأحباب إن مزحوا؟ وهو لا يدرى لنخوته ... أننا في النّوم نصطلح! ثمّ لا أنسى مقالته: ... أطفيلىّ ومقترح؟   [1] كذا في الأصول، وهو مخالف للوزن الشعرى، والذى في ديوان كشاجم المطبوع: بليت ولجّ بى وجد بظبى الابيات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 وقال تاج الملوك ابن أيوب: فديت وجه الحبيب بدرا! ... والبدر يفدى، وليس يفدى! سى فؤادى بليل شعر ... وصبح وجه وغصن قدّ. فى فمه عنبر مداف ... فى قهوة خولطت بشهد. كأنّما خدّه شقيق، ... نقّط من خاله بندّ. ظبى من التّرك ذو دلال ... يستحسن الجور والتعدّى. كأنّه غصن خيزران، ... إذا انثنى أو قضيب رند. يحلّ في الحبّ عقد صبرى ... إن شدّ في الخصر عقد بند! وقال أبو نواس: أيا من بحبّى علىّ اجترى؟ ... ومن بلسانى علىّ افترى؟ ومن بيدى غلّنى للهوى، ... فأصبحت للحبّ مستأسرا؟ أما والذى جعل المستهام ... صديق السّهاد عدوّ الكرى! لقد ذهبت مهجتى باطلا، ... لئن متّ منك على ما أرى! وقال آخر: ومهفهف طاوى الحشا ... خنث المعاطف والنظر! ملأ القلوب بصورة ... تليت محاسنها سور! فإذا رنا وإذا شدا ... وإذا سقى وإذا سفر: فضح الغزالة والحم ... امة والمدامة والقمر! وقال آخر: إذا أكثر الواشون فينا مقالهم ... وليس لهم عندى وعندك من ثار ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 وشنّوا على أسماعنا كلّ غارة ... وقلّت حماتى عند ذاك وأنصارى، لقيناهم من مقلتيك وأدمى ... وأنفاسنا بالسّيف والسّيل والنار. وقال آخر، من شعراء اليتيمة: وأغنّ أغيد حبّه ... مستأنس لى، وهو نافر! إن قلت: زرنى! قال: نم، ... فالطّيف ليس يزور ساهر! كيف السبيل إلى الرّقا ... د كما رسمت، وأنت هاجر؟ ويقول لى فيما يقو ... ل: نعم! وما للقول آخر! حتّى أشاور! قلت: ل ... كنّى هويت ولم أشاور! وقال تاج الملوك: يا قمرا أقبل يسعى على ... دعص من الأغصان مهزوز! وصلك، واويلى! على طيبه ... أصبح ذا منع وتعزيز. ما كان إلا بيضة الدّيك لى ... أو مطرة في شهر تمّوز. وقال أبو نواس: عذّبنى قلبى بمن قلبه ... للصّبّ مثل الحجر القاسى. أحور فتّان قطوف الخطا ... أغيد مثل الغصن ميّاس. أبيت ليلى ونهارى معا ... معلّقا منه بوسواس. إنّى وإن لم يك لى نائل ... منه لأرجوه على ياس. وقال سيف الدّين المشدّ: إلى قدّك اللّدن يعزى الهيف! ... فما هبّت الرّيح إلا انعطف! قوام أراد قضيب النّقا ... يحاكيه، لمّا انثنى، فانقصف! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 فيا راميا قد رمانى هواه ... بنار الأسى في بحار الأسف! سهام جفونك قلبى غدا ... لها غرضا، وضلوعى هدف. وأوردتنى في الهوى موردا ... تجرّعت فيه مرير التّلف. وأعرضت عنّى، ولا ذنب لى! ... فكم ذا الدّلال! وكم ذا الصّلف! ومخطف خصر على ردفه، ... فكلّ فؤاد به مختطف! وقال أبو القاسم العطار: وبى غزال، إذا صادفت غرّته ... جنيت من وجنتيه روضة أنفا! كالبدر مكتملا، كالظّبى ملتفتا، ... كالروض مبتسما، كالغصن منعطفا! وقال تاج الملوك: يا قمرا في غصن من بانة، ... يميل عجبا في كثيب من نقا! أصبح قلب المستهام مغربا ... له، وأطواق القباء مشرقا! أغيد، لا يقصد إلّا تلقى! ... ولم يزل قلبى به معلّقا. ذكّرنى حسن ابتسام ثغره ال ... واضح لمع البرق إذ تألّقا. وطالما ذكّرنى رضابه ال ... بارد صرف الراح إذ تعتّقا. أغنّ، ما فوّق سهم لحظه ... إلا أصاب القلب لمّا فوّقا. حاجبه قوس ولحظ عينه ... سهم، فما يخطى إذا ما رشقا. وقال أبو نواس. جال ماء الشّباب في خدّيكا، ... وتلالا البهاء في عارضيكا. ورمى طرفك المكحّل بالسّح ... ر فؤادى فصار رهينا لديكا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 أنا مستهتر بحبّك صبّ ... لست أشكو هواك إلّا إليكا. يا بديع الجمال والحسن والدّ ... لّ، حياتى وميتتى في يديكا. بأبى أنت! لو بليت بوجدى ... لم يهن ما لقيت منك عليكا! أصبحت بالهوى سهام المنايا ... قاصدات إلىّ من عينيكا! وقال أيضا: يا من جداه قليل ... ومن بلاه طويل! ومن دعانى إليه ... طرف أحمّ كحيل، وواضح النبت يحكى ... مزاجه الزّنجبيل، ووجنة جائل ما ... ؤها وخدّ أسيل. وغصن بان تثنّى ... قدّا، وردف ثقيل، ويجمع الحسن فيه ... وجه وسيم جميل! فكلّ ناحية من ... قلبى إليه تميل! وقال الوأواء الدمشقى: رماه ريم فأصا ... ب القلب منه، إذ رمى. واحتجّ في قتلته ... بأنّه ما علما. يا معشر الناس! أما ... ينصفنى من ظلما؟ علّم سقم طرفه ... جسمى منه سقما. فسقم جسمى في الهوى ... من طرفه تعلّما. لو قيل لى: ما تشتهى؟ ... مخيّرا محكّما. لقلت أن ألثمه: ... نحرا ووجها وفما! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 وقال الوزير أبو مروان عبد الملك بن جهور: أحوى النواظر، ألعس الشّ ... فتين، عذب الرّيق، ألمى! لو زارنى طيف له ... عند الهجوع ولو ألمّا، لأفاد روحا أو لفرّ ... ج من هموم النفس همّا! وقال آخر: وأهيف، مهزوز القوام إذا انثنى ... وهبت لعذرى فيه ذنب اللّوائم. بثغر كما يبدو لك الصّبح باسم، ... وشعر كما يبدو لك لليل فاحم. مليح الرضا والسّخط، تلقاه عاتبا ... بألفاظ مظلوم وألحاظ ظالم. ومما شجانى أنّنى يوم بينهم ... شكوت الذى ألقى إلى غير راحم. وحمّلت أثقال الجوى غير حامل ... وأودعت أسرار الهوى غير كاتم. وأبرح ما لا قيته أنّ متلفى ... بما حلّ بى في حبّه، غير عالم. ولو كنت مذ بانوا سهرت لساهر ... لهان، ولكنّى سهرت لنائم. وقال أبو نواس: يا ريم هات الدّواة والقلما ... أكتب شوقى إلى الّذى ظلما! غضبان قد غرّنى رضاه ولو ... يسئل ممّا غضبت، ما علما. فليس ينفكّ منه عاشقه ... فى جمع عذر لغير ما اجترما. أظلّ يقظان في تذكّره ... حتّى إذا نمت، كان لى حلما. لو نظرت عينه إلى حجر، ... ولّد فيه فتورها سقما! وقال سيف الدين المشدّ: وبى رشيق القوام لدن ... لقدّه ينسب الرّدينى! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 ما نظرته العيون إلّا ... فدته من نظرة وعين! قابل بالكأس وجنتيه، ... فخفّ نجم بنيّرين. وزيّنت كفّه الحميّا! ... ما أحسن التّبر في اللّجين! وقال كشاجم: بالله يا متفرّدا في حسنه ... ومقلّبا هاروت بين محاجره! ومحكّما أردافه في خصره، ... ومصافحا خلخاله بضفائره! لا تغضبنّ على فتى يرضى بما ... أوليته، ولو انتعلت بناظره. ويكاتم الأسرار حتّى إنه ... ليصونها عن أن تمرّ بخاطره. وقال أبو تمام الطائى: لها، وأعارنى ولها! ... وأبصر ذلّتى فزها! له وجه يعزّبه، ... ولى حرق أذلّ بها! دقيق محاسن، وصلت ... محاسن وجنتيه بها. ألاحظ حسن وجنته، ... فتجرحنى وأجرحها. وقال أيضا: نشرت فيك رسيسا كنت أطويه! ... وأظهرت لوعتى ما كنت أخفيه! إن كان وجهك لى تترى محاسنه، ... فإنّ فعلك لى تترى مساويه! مرتجّة في تهاديه أسافله، ... مهتزّة في تثنّيه أعاليه! تاهت على صور الأشياء صورته ... حتّى إذا كملت، تاهت على التّيه! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 وقال المخزومىّ: أىّ محبّ فيك لم أحكه؟ ... وأىّ ليل فيك لم أبكه؟ إن كان لا يرضيك إلا دمى، ... فقد أذنّا لك في سفكه! وقال أبو نواس: يا قابرى بملاله ... ودامرى بمطاله! ويا مبدّل ليلى ... قصاره بطواله! أعوذ منك بوجه ... بدر الدّجى في مثاله! لكنّه منه أحلى ... لحسن موضع خاله. هلّا رحمت صريعا ... تحت الرّدى وطلاله؟ من لا يرى منه فوق ال ... فراش غير خياله. مثل الخلال نحيلا ... يخفى على عذّاله. فمن بغى لك سوءا، ... فكان في مثل حاله! وقال محمد بن عبد الله السلامىّ، شاعر اليتيمة: ومختصر الخصر، من بعده ... هربت فألقيت في صدّه! وقابلنى وجهه مقبلا ... بحدّ الحسام وإفرنده. فما زلت أعصر من خمره ... وأقطف من مجتنى ورده. وأظما فأرشف من ريقه! ... فيا حرّ صدرى من برده! وقال أبو هلال العسكرىّ: أقول لمّا لاح من خدره، ... واللّيل يرخى الفضل من ستره: أبدره أحسن من وجهه، ... أم وجهه أحسن من بدره؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 قد مالت الرّقّة في شطره، ... ومالت الغلظة في شطره. فأزره غصّت بأردافه، ... ووشحه جالت على خصره. أصبحت لا أدرى- وإن لم يكن ... فى الأرض شىء أنا لم أدره- أشعره أحسن من قدّه؟ ... أم قدّه أحسن من شعره؟ ودرّه يؤخذ من لفظه، ... أم لفظه يؤخذ من درّه؟ وثغره ينظم من عقده، ... أم عقده ينظم من ثغره؟ فمن عذير الصّبّ من صدّه؟ ... ومن مجير القلب من هجره؟ يا ليته يعرف حبّى له! ... عساه يجزينى على قدره! وقال تاج الملوك بن أيوب: يا هلالا لاح في غصن، ... تشرق الدّنيا بطلعته! وغزالا طالما خضع ... الأسد الضارى لهيبته! ما رنا إلّا وجرّد لى ... صارما من لحظ مقلته. صل عليلا، أنت أعلم من ... كلّ مخلوق بعلّته. قد أطالت مقلتاك بلا ... سبب تعذيب مهجته. كلّما لجّت عواذله ... أجّجت نيران لوعته. فاتّئد من طول عذلك لى، ... يا عذولى في محبّته! من بنى الأتراك معتدل، ... قد تمادى في قطيعته. ليس يشفى القلب من ظمإ ... غير رشفى راح ريقته! لا، ولا يطفى لظى كبدى ... غير تقبيلى لوجنته! ليت أن الدّهر مكّننى ... بيدى من حلّ تكّته! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 وقال آخر: ومهفهف! عنّى يميل ولم يمل ... يوما إلىّ، فقلت من ألم الجوى: لم لا تميل إلىّ، يا غصن النّقا؟ ... فأجاب: كيف، وأنت من جهة الهوى؟ وقال ابن منير الطرابلسىّ: من ركّب البدر في صدر الرّدينىّ، ... وموّه السّحر في حدّ اليمانىّ؟ وأنزل النّيّر الأعلى إلى فلك ... مداره في القباء الخسروانىّ؟ طرف زنا أم قراب سلّ صارمه؟ ... وأغيد ماس أم أعطاف خطّىّ؟ وبرق غادية أم برق مبتسم، ... يفترّ من خلل الصّدغ الدّجوجىّ؟ ويلاه، من فارسىّ النّحر مفترس ... بفاتر أسدىّ الفتك ريمىّ! يكنّ ناظره ما في كنانته! ... فليس ينفكّ من إقصاد مرمىّ! أذلّنى بعد عزّ؛ والهوى أبدا ... يستعبد الليث للظّبى الكناسىّ. مامان مانىّ [1] ، لولا ليل عارضه ... ما شدّ خيل المنايا بالأمانىّ. تكنّف الحسن منه وجه مشتمل ... نفار أحور في تأنيث حورىّ. أما وذائب مسك من ذوائبه ... على أعالى القضيب الخيزرانىّ؟ لو قيل للبدر: من في الأرض تحسده؟ ... إذا تجلّى، لقال ابن الفلانىّ! أربى علىّ بشتّى من محاسنه ... تألّفت بين مسموع ومرئىّ. إباء فارس مع لين الشّآم مع الظ ... رف العراقىّ في النّطق الحجازىّ. وما المدامة بالألباب ألعب من ... فصاحة البدو في ألفاظ تركىّ! أشبهته ببعادى، ثم كان له ... مزية الخلق والأخلاق والزّىّ. من أين لى لهب يجرى على ذهب ... فى صحن أبيض صافى الماء فضّىّ؟   [1] الإشارة إلى مانى القائل بالثنوية أى بالنور والظلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 وروضة لم تحكها كفّ سارية ... ولا شكا خدّها من لثم وسمىّ؟ يحفّها سوسن غضّ يغازله ... بنرجس بنطاف السّحر مولىّ. من منقذى أو مجيرى من هوى رشإ ... أفتى وأفتك من عمرو بن معدىّ؟ لا يعشق الدّهر إلا ذكر معركة ... أو خوض مهلكة أو ضرب هندىّ. ولا يحدّث إلا عن ربابته ... من المهار العوالى والمهارىّ. والصّافنات ولبس الضافيات وشر ... ب الصافيات وإطراب الأغانىّ، أشهى إليه من الدّوح الظّليل على الرّ ... وح العليل وتغريد القمارىّ، شدّ الجياد لأيّام الجلاد وإر ... شاد الصّعاد إلى طعن الأناسىّ؟ وحثّ باز على نأى وحمل قطا ... مىّ تكدّر منه عيش كدرىّ؟ فى غلمة كغصون البان يحملها ... كثبان برد على غادات بردىّ؟ يمشون في الوشى أسرابا، فتحسبهم ... روض الرّبيع على بيض الأداحىّ. والساحر الساخر الغرّار بينهم ... كالشمس تكسف أنوار الدّرارىّ. مهفهف القدّ، سهل الخد، أغرب في ال ... جمال من لثغة في لفظ نجدىّ. يلهيه عن كتب تروى ونصرته ... لشافعىّ فقيه أو حنيفىّ. عوج القسىّ وقبّ الأعوجيّة والشّ ... هب الهماليج تربى في الأوارىّ. والشّعر في الشّعر الداجى على الغنج السّ ... اجى يليّن منه قلب حوشىّ. فلو بصرت به يصغى وأنشده، ... قلت النّواسىّ يشجو قلب عذرىّ. أو صائد الإنس قد ألقى حبائله ... ليلا فأوقع فيها صعيد وحشىّ. أغراه بى بعد ما جدّ النّفار به ... شدو القريض وألحان السّريجىّ. فصار أطوع لى منه لمقلته، ... وصرت أعرف فيه بالعزيزىّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 ومما قيل في المؤنث، قال ابن الرومى: مخفّفة مثقّلة، تراها ... كأن لم يعد نصفيها غذاء! إذا الإغباب جدّد حسن شىء ... من الأشياء، جدّدها اللّقاء. لها ريق تشفّ له الثّنايا، ... ويروى عنه- لا منه- الظّماء. وأنفاس كأنفاس الخزامى ... قبيل الصّبح، بلّتها السّماء! تنفّس نشرها سحرا، فجاءت ... به سحريّة المسرى رخاء! وقال أبو نواس: ما هوى إلا له سبب ... يبتدى منه وينشعب. فتنت قلبى محجّبة، ... وجهها بالحسن منتقب. خلّيت والحسن تأخذه ... تنتقى منه وتنتخب. فاكتسب منه طرائفه ... واستزادت بعض ما تهب. صار جدّا ما مزحت به ... ربّ جدّ ساقه اللّعب! وقال أيضا: يا قمرا، أبصرت في مأتم ... يندب شجوا بين أتراب! يبكى فيذرى الدّرّ من نرجس، ... ويلطم الورد بعنّاب. أبرزه المأتم لى كارها، ... برغم دايات وحجّاب! لا تبك ميتا حلّ في رمسه، ... وابك قتيلا لك بالباب! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 وقال سيف الدين المشد: وبمهجتى! من لو بدت ... للشمس من تحمت النّقاب، سترت محاسن وجهها ... خجلا، ولاذت بالسّحاب! وقال القاضى أبو على التّنوخى، شاعر اليتيمة: أقول لها والحىّ قد فطنوا بنا ... ومالى عن أيدى المنون براح: لما ساءنى أن وشّحتنى سيوفهم ... وإنّى لكم دون الوشاح وشاح. وقال عمارة اليمانى: طرقتها، والليل وحف الجناح، ... وما تلبّست بثوب الجناح. فى ليلة بات نجادى بها ... ذوائبا يخفقن فوق الوشاح. والحسن قد ألّف أشتاته ... غصن تثنّى فوق ردف رداح. نام رقيب الصّبح عن ليلتى، ... وبات لى كلّ مصون مباح! أجمع من خدّ ومن مبسم ... بحمرة الورد بياض الأقاح. حصلت من ريق ومن منطق ... على اقتراح ونمير قراح. ترنّحت من نشوات الصّبا ... فبتّ مسرورا بنشوان صاح. وفاح من نشر الصّبا عنبر ... أحرقه الفجر بجمر الصّباح! وقال أبو نواس: وذات خدّ مورّد ... قوهيّة المتجرّد. تأمّل العين منها ... محاسنا ليس تنفد. فالحسن في كل جزء ... منها معاد مردّد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 فبعضه في انتهاء ... وبعضه يتولّد. وكلّما عدت فيه ... يكون لى العود أحمد! وقال علىّ بن عبد الرحمن بن المنجم: شبّهتها بالبدر فاستضحكت ... وقابلت قولى بالنّكر. وسفّهت قولى وقالت: متى ... سمجت حتّى صرت كالبدر. البدر لا يرنو بعين كما ... أرنو، ولا يبسم عن ثغر. ولا يميط المرط عن ناهد، ... ولا يشدّ العقد في نحر. من قاس بالبدر صفاتى، فلا ... زال أسيرا في يدى هجرى! وقال العماد الأصفهانىّ: لثن الأهلّة بالمعاجر ... وكحلن بالسّقم المحاجر. ونظرن عن حدق حجر ... ن بها على آرام حاجر. شهرت لحاظ ظبائهنّ ... على القلوب ظبا بواتر. آرام خدر بالّلحا ... ظ تصيد آسادا خوادر. غيد لسفك دم المحب ... تظافرت منها الظّفائر. بيض التّرائب حمرها ... خضر اللّمى سود الغدائر. وقال كشاجم: جعلت إليك الهوى ... شفيعا فلم، تشفعى! وناديت مستعطفا ... رضاك فلم تسمعى. أتاركتى مدنفا ... أخا جسد موجع! ومغريتى والدّمو ... ع قد أحرقت مدمعى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 أحين سبيت الفؤا ... د بالنظر المطمع، جفوت وأقصيتنى؟ ... فهلّا، وقلبى معى؟ وقال ابن المعلم: صعدة القدّ وسيف الكحل ... حكما حكم الهوى في أجلى. يا لقومى! حملت ثقل دمى ... غادة يثقلها حمل الحلى! قدّها معتدل يظلمنى! ... حزنى من قدّها المعتدل! خصرها ينشط، لكن ردفها ... أبدا بقهره بالكسل. نظرة من مقلتى جارية ... وثنت عطف القضيب الثّمل. لست أدرى: قمر في كلّة ... ما أرى، أم دمية في هيكل؟ سألت جسمى عن ساكنه! ... ومن الجهل سؤال الطّلل! وقال سيف الدين المشدّ: وغادة، أعشق من أجلها ... بدر الدّجى والظّبى والخيزران. لأنّ ذا يشبهها بهجة، ... وذاك ألحاظا، وهذا بنان. وقال أبو نواس: يا منسى المأتم أشجانه ... لما أتاهم في المعزّينا! حلّت عجار الوشى عن صورة ... ألبسها الله التّحاسينا! استفتنتهنّ بتمثالها ... فهنّ للتّكليف يبكينا. حقّ لذاك الوجه أن يزدهى ... عن حزنه من كان محزونا. وقال أيضا: أيا ليت شعرى أمن صخرة ... فؤادك هذا الذى لا يلين! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 تقول إذا ما اشتكيت الهوى، ... كما يشتكى الباس المستكين: أفى النّوم أبصرت ذا كلّه؟ ... فخيرا رأيت، وخيرا يكون! وقال المشوق الشامى: أترى بثار أو بدين ... علقت محاسنها بعينى؟ فى خصرها وقوامها ... ولحاظها ما في الرّدينى. وبوجهها ماء الشّبا ... ب خليط نار الوجنتين. وقال السرىّ الرفّا، شاعر اليتيمة: قامت وخوط البانة ال ... ميّاس في أثوابها. ويهزّها سكران: سك ... ر شرابها وشبابها! تسعى بصهباوين من ... ألحاظها وشرابها. وكأنّ كأس مدامها ... لمّا ارتدت بحبابها: توريد وجنتها إذا ... ما لاح تحت نقابها. وقال ابن الرومىّ: من بنات الرّوم، لا يكذبنا ... لونها المشرق عن منصبها. قامة الغصن- إذا ما اعتدلت، ... قامة الغصن- إلى منكبها. شهد الشاهد من أحسنها، ... فحكى الغائب من أطيبها. تشفع الحسن بإحسان لها ... يجلب الأفراح من مجلبها. تشرع الألحاظ في وجنتها ... فتلاقى الرّىّ في مشربها. وجنة للغنج فيها عقرب، ... وبلاء الصبّ من عقربها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 وإذا قامت إلى ملعبها ... كمهاة الرمل في ملعبها، سألت أردافها أعطافها: ... هل رأت أوطأ من مركبها؟ وقال أبو الحسين بن فارس: مرّت بنا هيفاء مقدودة ... تركيّة تنمى لتركي. ترنو بطرف فاتر فاتن ... أضعف من حجّة نحوىّ. ومما قيل في المطلق والمشترك ، قال الطغرائى: فيم التعجّب من قلبى وصبوته ... كأنّكم لم تروا من قبله عجبا! ذوقوا الهوى ثم لوموا ما بدا لكم؛ ... أولا، فخلّوا ملامى واربحوا التّعبا! وقال أيضا: وكنت أرانى مفلتا شرك الهوى، ... وقد صادنى سحر العيون النّوافث. وأسمعنى داعى الغرام نداءه، ... فقمت إليه مسرعا غير لابث. وأعطيت إخوان البطالة صفقتى، ... وبعت قديما من غرامى بحادث. فما صفقتى في البيع صفقة خاسر، ... ولا بيعتى للحبّ بيعة ناكث. فلا تعذلونى في غرامى بعد ما ... تولّى الصّبا، فالعذل أوّل باعث! ولا تبحثوا عن سرّ قلبى إنّه ... صفا، ليس يمضى فيه معول باحث. أرى صبوات الحبّ قد جدّ جدّها، ... وقد كان بدء الحب مزحة عابث! وقال الأرّجانىّ: قفا معى في هذه المعاهد! ... لا بدّ للصّبّ من المساعد! لا تبحلا يا صاحبىّ واسمحا ... بوقفة على المعنّى الواجد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 فى منزل عهدت في عراصه، ... لو ردّ معهودا بكاء عاهد، كواعبا من الدّمى لواعبا ... مشبهة الثّغور لا القلائد. يمشين من فرط النّعيم والصّبا ... كالقضب الموائل الموائد. فيهنّ ظبى علق القلب به ... من الظّباء النّفر الشوارد. إذا تبدّى مرض بطرفه، ... لم يخل من أفئدة عوائد. رميته، فصادنى. فمن رأى ... صيدا يمرّ بفؤاد الصائد؟ قطعت من قلبى رجائى في الهوى! ... والقطع طبّ كلّ عضو فاسد! وقال أبو القاسم عبد الله الدينورىّ، شاعر اليتيمة: يا لعصر الخلاعة المودود ... ولظلّ الشّبيبة الممدود! وارتشافى الرّضاب من برد الثّغ ... ر ولثمى عليه ورد الخدود! وبكورى إلى مجالس علم ... ورواحى إلى كواعب غيد! فى قميص من السّرور مذال ... ورداء من الشّباب جديد! وقال تاج الملوك بن أيوب: ألّا رحمتم متيما دنفا ... ما زال من جوركم بكم عائذ! صبّا قضى الله أن يهيم بكم ... ولا مردّ لحكمه النافذ! يلوذ حبّا دون الأنام بكم ... وحسبه أنه بكم لائذ! وقال فخر الدين الوركانى، شاعر الخريدة: أأحبابنا أمّا حياتى بعدكم ... فموت، وأما مشربى فمنغّص وأسعد شىء فيّ قلبى لأنّه ... لديكم، وجسمى بالبعاد مخصّص! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 وقال العماد الأصفهانى: بذلت لهم- أبغى رضاهم- مودّتى ... وقلبى وصبرى والرّقاد، فما رضوا. وهبنى عن كلّ تعوّضت بعدهم ... فقل لى: بماذا عنهم أتعوّض؟ وما كان ظنّى أنّ عيشى ينقضى ... ونجم الصّبا ينقضّ والعهد ينقض. وقال الطغرائى: إن الألى أرضاك قولهم ... بالأمس، تحت رضاهم سخط! لمّا صفا ذاك الجمال لهم، ... تاهوا على العشّاق واشتطّوا. همّوا ببين فاستطار له ... قلبى، فكيف يكون إن شطّوا؟ وقال الطغرائى أيضا: فى القلب من حرّ الفراق شواظ، ... والدمع قد شرقت به الألحاظ. ولقد حفظت عهودكم، وغدرتم. ... شتّان غدر في الهوى وحفاظ! لله أىّ مواقف رقّت لنا ... فيها الوسائل، والقلوب غلاظ! وقال أيضا: وسائل عن جوى قلبى، فقلت له: ... ما أنت عندى على سرّ بمتّهم! طاب الجوى في الهوى حتّى أنست به، ... فهو المرارة يحلو طعمها بفمى! وقال أحمد بن محمد بن عبد ربه: أتقتلنى ظلما وتجحدنى قتلى، ... وقد قام من عينيك لى شاهدا عدل! أطلّاب ذحلى، ليس لى غير شادن ... بعينيه سحر فاطلبوا عنده ذحلى! أغار على قلبى، فلما أتيته ... أطالبه فيه، أغار على عقلى! بنفسى التى ضنّت بردّ سلامها! ... ولو سألت قتلى، وهبت لها قتلى! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 إذا جئتها صدّت حياء بوجهها، ... فتهجرنى هجرا ألذّ من الوصل. وإن حكمت جارت علىّ بحكمها؛ ... ولكنّ ذاك الجور أشهى من العدل. كتمت الهوى جهدى، فجوّده الأسى ... بماء البكا، هذا يخطّ وذا يملى! وأحببت فيها العذل حبّا لذكرها، ... فلا شىء أحلى في فؤادى من العذل! أقول لقلبى كلّما ضامه الأسى: ... إذا ما أبيت العزّ، فاصبر على الذّلّ! برأيك لا رأيى تعرّضت للهوى، ... وأمرك لا أمرى وفعلك لا فعلى. وجدت الهوى نصلا من الموت مغمدا ... فجرّدته ثم اتكأت على النصل! فإن كنت مقتولا على غير ريبة ... فأنت الذى عرّضت نفسك للقتل! وهذه الأبيات معارضة لصريع الغوانى في قوله: أديرا علىّ الكأس، لا تشربا قبلى ... ولا تطلبا من عند قاتلتى ذحلى! فما حزنى أنّى أموت صبابة؛ ... ولكن على من لا يحلّ لها قتلى! فديت التى صدّت وقالت لتربها: ... دعوه، الثّريّا منه أقرب من وصلى! وقال ابن عبد ربه: صحا القلب، إلا خطرة تبعث الأسى ... لها زفرة موصولة بحنين. بلى، ربّما حلت عرى عزماته ... سوالف آرام وأعين عين. لواحظ حبّات القلوب إذا رنت ... بسحر عيون وانكسار جفون. وريط من الموشىّ أينع تحته ... ثمار صدور، لا ثمار غصون. برود كأنوار الربيع لبسنها ... ثياب تصاب لا ثياب مجون. فرين أديم الليل عن نور أوجه ... تجنّ بها الألباب كلّ جنون. وجوه جرى فيها النعيم فكلّلت ... بورد خدود يجتنى بعيون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 سألبس للأيّام درعا من العزا، ... وإن لم يكن عند اللّقا بحصين. وكيف، ولى قلب إذا هبّت الصّبا ... أهاب بشوق في الضّلوع دفين؟ وقال آخر: هزّوا القدود وجرّدوا الأجفانا! ... فاطلب لنفسك، إن قدرت أمانا. والق السّلاح إذا انثنوا وإذا رنوا؛ ... وكن الجبان وإن ملكت جنانا. واحذر ضراما بالعيون، وسل به ... مثلى، وجانب بالقدود طعانا. فلقد رأيت الأسد وهى كواسر ... تخشى بمعترك الهوى الغزلانا. لا تعبثنّ بذابل وبباتر! ... وخف المهفهف واحذر الوسنانا! لولا تشابه مقلة أو قامة، ... ما خفت يوما صعدة وسنانا. وأنا الّذى حضر الوقائع في الهوى ... وأقام في أسر الغرام زمانا. ولكم رأيت به الشّدائد مرّة! ... ولكم رأيت به الممات عيانا! وثبتّ بين معاطف ولواحظ ... فى موقف يذر الشّجاع جبانا! مستسلما للعشق: لا مستصرخا ... صبرا، ولا مستنجدا سلوانا. أرجو الشهادة إن قتلت به، وما ... ولّيت فيه ولا ثنيت عنانا. يا ويح قلب ما خلا من شغله ... بصبابة ومحبّة مذكانا! لو فتّشوه لما لقوا لسوى الهوى ... فيه ولا غير الغرام مكانا. وقال التلعفرىّ: هذا العذول عليكم، مالى وله؟ ... أنا قد رضيت بذا الغرام وذا الوله! شرط المحبة أنّ كلّ متيّم ... صبّ يطيع هواه، يعصى عذّله. وأخذتمونى حين سار بحبّكم ... مثلى، ومثلى سرّه لن يبذله! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 ما أعربت والله عن وجدى بكم ... وصبابتى إلّا دموعى المهمله. جزتم مداكم في قطيعتكم، فلا ... عطف لعائدكم يرام، ولا صله. أألومكم في هجركم وصدودكم، ... ما هذه في الحبّ منكم أوّله! قسما بكم، قد حرت مما أشتكى! ... حسبى الدّجى، فعدمته ما أطوله! ليلى كيوم الحشر معنى إن يكن ... لا ليل ذاك له، فذا لا صبح له. يا سائلى من بعدهم عن حالتى! ... ترك الجواب جواب هذى المسأله! حالى إذا حدّثت لا لمعا ولا ... جملا لإيضاحى لها من تكمله [1] . عندى جوى يذر الفصيح مبلّدا: ... فاترك مفصّله! ودونك مجمله [2] ! القلب ليس من الصّحاح فيرتجى ... إصلاحه، والعين سحب مثقله [3] . يا نازحين، وفي أكلّة عيسهم ... رشأ عليه حشا المحبّ مقلقله! قمر له في الطّرف بل في القلب بل ... فى النّثرة الحصداء أشرف منزله [4] . الصّدغ منه عقرب، ولحاظه ... أسد، وخلف الظّهر منه سنبله [5] . ما أجور الألحاظ منه إذا رنا! ... وإذا انثنى، فقوامه ما أعدله! لو لم يصب صدغيه عارض خدّه، ... ما أصبحت في عارضيه مسلسله. لله منه مهفهف أجنيته ... عسل الهوى فجنيت منه حنظله! لو كنت فيه قبلت نصح عواذلى، ... ما أدبرت أيام حظّى المقبله!   [1] إشارة إلى الكتب الشهيرة: اللمع، الجمل، الإيضاح، التكملة. وكلها في علم العربية. [2] يشير إلى «الفصيح» لثعلب، و «المفصل» للزمخشرىّ، و «المجمل» لابن فارس. وكلها كتب في اللغة. [3] الاشارة إلى «للصحاح» للجوهرى، و «العين» للخليل بن أحمد. وهما من كتب اللغة. [4] يشير إلى بعض منازل القمر، وهى: الطرفة، والقلب، والنثرة. [5] يشير إلى بعض البروج، وهى: العقرب، والأسد، والسنبلة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 وقال الطغرائىّ: رويدكم! لا تسبقوا بقطيعتى ... صروف الليالى، إنّ في الدّهر كافيا. ويا قلب، عاود ما ألفت من الجوى! ... معاذ الهوى أن تصبح اليوم ساليا! ويا كبدى، ذوبى! ويا مقلتى، اسهرى! ... ويا نفس لا تبقى من الوجد باقيا! فلا تطمعوا في برء مابى، فإنّه ... هو الداء قد أعيا الطبيب المداويا! ومما قيل في طيف الخيال ، قال قيس بن الخطيم: إنى شربت، وكنت غير شروب! ... وتقرّب الأحلام غير قريب. ما تمنعى يقظى، فقد تؤتينه ... فى النوم غير مكدّر محسوب. كان المنى تلقاءها، فلقيتها ... ولهوت من لهو امرئ مكذوب! وقال عمرو بن قميئة: نأتك أمامة، إلا سؤالا ... وإلّا خيالا يوافى خيالا. خيالا يخيّل لى نيلها، ... ولو قدرت لم يخيّل نوالا! قال أبو هلال العسكرى: ومن هاتين القطعتين أخذ المحدثون أكثر معانيهم فى الخيال. وقال البعيث: أزارتك ليلى، والرّكاب خواضع؟ ... وقد بهر الليل النجوم الطّوالع! وأعطتك غايات المنى غير أنّها ... كواذب ان حصّلتها وخوادع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 وقال أبو تمام: استزارته فكرتى في المنام، ... فأتاها في خفية واكتتام. يا لها ليلة تزاورت الأر ... واح فيها سرّا عن الأجسام! مجلس لم يكن لنا فيه عيب ... غير أنّا في دعوة الأحلام! وقال الحمدونىّ: لم أنله، فنلته بالأمانى ... فى منامى سرّا من الهجران! واصل الحلم بيننا بعد هجر، ... فاجتمعنا ونحن مفترقان. وكأنّ الأرواح خافت رقيبا، ... فطوت سرّها عن الأبدان. منظر كان نزهة العين إلّا ... أنه منظر بغير عيان. وقال ابن الرومىّ: طرقتنا، فأنالت نائلا ... شكره- لو كان في النّبه- الجحود. ثم قالت، وأحسّت عجبى ... من سراها حيث لا تسرى الأسود. لا تعجّب من سرانا، فالسّرى ... عادة الأقمار والناس هجود. أخذ العسكرىّ المعنى، فقال: رقبت غفلة الرّقيب، فزارت ... تحت ليل مطرّز بنهار. فتعجّبت من سراها، فقالت: ... غير مستطرف سرى الأقمار! ثم مالت بكأسها فسقتنى ... جلّناريّة على جلّ نارى! وقال آخر: فيا ليت طيفا، خيّلته لى المنى، ... وإن زادنى شوقا إليك، يعود! أكلّف نفسى عنك صبرا وسلوة، ... وتكليف ما لا يستطاع شديد! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 وقال العسكرىّ: طرق الخيال، فزار منه خيالا. ... فسرى يغازل في الرّقاد غزالا. يا كشفة للكرب، إلّا أنّه ... ولّى على دبر الظّلام فزالا. قعد المتيّم، وهو أكثر صبوة ... وأشدّ بلبالا وأكسف بالا! وقال العماد الأصفهانىّ: ظبى طربت لطيفه المتأوّب ... طرب العليل لرؤية المتطبّب. لم أدر زورته، أكانت خطفة ... من بارق أم لمعة من كوكب. زار الكرى متهيّبا رقباءه، ... أهلا به من زائر متهيّب! لمّا رأى وجدى، تأوّه رحمة. ... لله من متأوّه متأوّب! وأتى ليقرب من وساد متيّم؛ ... لمّا أحسّ بناره، لم يقرب. وقال محمد بن بختيار: لو أنّ طيف الخيال يسرى، ... بلّ سراه غليل صدرى. ولو أراد الحبيب أن لا ... يضيمنى، ما استطاب هجرى. يلومنى في هواه من لا ... يعلم أنّ الملام يغرى. كم ليلة زار في دجاها، ... فكان تحت الظلام بدرى. يتحفنى باحمرار خدّ ... مورّد وابيضاض ثغر. يجمع لى بين سكر لحظ ... وسكر ريق وسكر خمر، ودرّ لفظ ودرّ ثغر ... ودرّ كأس ودرّ نحر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 وقال آخر: قلت للمعرض الّذى صدّ عنّى: ... إنّ طيف الخيال لى عنك يغنى. قال: لا تحمد الخيال فما زا ... رك إلّا عن اختيارى وإذنى. كدت تقضى أسى، فقلت لطيفى: ... أحى لى روحه بزور التّمنّى! ليس شحّا بأن تموت؛ ولكن ... خفت أن تستريح بالموت منّى! وقال آخر: فإن يحجبوها بالنهار، فما لهم ... بأن يحجبوا بالليل عنّى خيالها! وقال المجنون: وإنّى لأستغشى، وما بى نعسة؛ ... لعلّ لقاها في المنام يكون! تخبّرنى الأحلام أنّى أراكم، ... ألا ليت أحلام المنام يقين! وقال المؤمل: أتانى الكرى ليلا بشخص أحبّه؛ ... أضاءت له الآفاق، والليل مظلم. فكلّمنى في النّوم غير مغاضب، ... وعهدى به يقظان لا يتكلّم! وذكر العباس بن الأحنف العلة في طروق الخيال، فقال: خيالك حين أرقد نصب عينى ... إلى وقت انتباهى لا يزول. وليس يزورنى صلة، ولكن ... حديث النفس عنك به الوصول. وتبعه الطائىّ فقال: زار الخيال لها، لا بل أزاركه ... فكر، إذا نام فكر الحلو لم ينم. ظبى تقنّصته لمّا نصبت له ... فى آخر الليل أشراكا من الحلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 ومما قيل في الردّ على العذول، قال أبو نواس: ما حطّك الواشون من رتبة ... عندى، ولا ضرّك مغتاب. كأنّما أثنوا- ولم يشعروا- ... عليك عندى بالذى عابوا. وقال تاج الملوك: مه يا عذول عن المحبّ، فإنّما ... عذل المحبّ يزيد في بلباله! لا تعذلنّ على الصّبابة مغرما ... حتّى تبيت من الزّمان بحاله! وقال أيضا من قصيدة: ولقد قلت للذى لا منى في ... ك، وما زال حاله مثل حالى: يا عذولى في حبّه، كفّ عذلى. ... أنا ما للعذول فيه وما لى! كلما زدت في ملامى وعذلى، ... زدت في لوعتي وفي بلبالى! وقال الأرّجانى: وجدى بلومك، يا عذول يزيد! ... فاستبق سهمك، فالرمىّ بعيد! بلغ الهوى من سرّ قلبى موقعا: ... لا العذل يبلغه ولا التفنيد! وتنمّ بالشّجو المكتّم عبرتى، ... ومن الدّموع على الغرام شهود! وقال سيف الدين المشدّ: يا عاذلى، خلّ عنّى! ... أسمعت غير سميع! لا ترج منّى سلوّا! ... فما فؤادى مطيعى! وكيف أكتم ما بى ... من لوعة وولوع، والذّاريات جفونى، ... والمرسلات دموعى [1] !   [1] إشارة إلى اسم السورتين الكريمتين: الذاريات والمرسلات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 وقال ابن الخيمى: وتأمرنى العذّال بالصبر عنكم، ... ومن ذا الذى يرضى عن الحلو بالصّبر؟ ومن أعجب الأشياء أنّ عواذلى ... يطيلون لومى في الهوى، والهوى عذرى! ومما قيل في رجوع العذول، قال ابن وكيع: أقبل والعذّال يلحوننى، ... فكلّهم قال: من البدر؟ فقلت: ذا من طال في حبّه ... منكم لى التعنيف والزّجر! قالوا: جهلنا، فاغتفر جهلنا ... فليس عن ذا لامرئ صبر! عذرك في الحبّ له واضح، ... وما لنا في لومنا عذر! وقال أيضا: أبصره عاذلى عليه، ... ولم يكن قبل ذا رآه. فقال لى: لو عشقت هذا، ... ما لامك الناس في هواه! قل لى: إلى من عدلت عنه ... فليس أهل الهوى سواه؟ وظلّ من حيث ليس يدرى، ... يأمر بالحبّ من نهاه! ومما قيل في الوصال، قال ابن الرومىّ: ولقد يؤلّفنا اللّقاء بليلة ... جعلت لنا حتّى الصباح نظاما. نجزى العيون جزاءهنّ عن البكا ... وعن السّهاد ولا نصيب أثاما. فنبيحهنّ مرادهنّ، يردنه ... فيما ادّعين، ملاحة ووساما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 ونكافئ الآذان، وهى حقيقة ... إذ لا تزال تكابد اللّوّاما. فنثيبهنّ من الحديث مثوبة ... تشفى الغليل وتكشف الأسقاما. ونكافئ الأفواه عن كتمانها، ... إذ لا يزال لها الصّمات لجاما. فنبيحهنّ ملاثما ومراشفا، ... ما ضرّها أن لا تكون مداما! نجزى الثلاثة أنصباء ثلاثة ... مقسومة آناؤها أقساما. ومما قيل في الفراق والبين، قال بعض الكتّاب: فى الفراق مصافحة التسليم، ورجاء الأوبة، والسلامة من الملال، وعمارة القلب بالشوق، والدلالة على فضل المواصلة واللقاء. قال شاعر: جزى الله يوم البين خيرا، فإنّه ... أزانا على علّاته أمّ ثابت! وقال ابن الرومىّ: فإذا كان في الفراق اعتناق، ... جعل الله كلّ يوم فراقا! وقال أبو حفص الشطرنجىّ: من يكن يكره الفراق، فإنّى ... أشتهيه لموضع التّسليم! إنّ فيه اعتناقة لفراق ... وانتظار اعتناقة لقدوم. وقال سيف الدولة بن حمدان: راقبتنى العيون فيك، فأشفق ... ت؛ ولم أخل قطّ من إشفاق. ورأيت العدوّ يحسدنى في ... ك مجدّا بأنفس الأعلاق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 فتمنّيت أن تكون بعيدا، ... والذى بيننا من الودّ باق! ربّ هجر يكون من خوف هجر ... وفراق يكون خوف فراق! وأرى هذا كلّه على سبيل التعلل ليس إلا، وإنما الفراق لا شكّ في إيلامه للقلوب. قال بعض الشعراء: فلم لا تسبل العبرات منّى، ... ولست على اليقين من التّلاقى؟ فلا وأبيك، ما أبصرت شيئا ... أمرّ على النّفوس من الفراق! وقال آخر: يا ربّ، باعد بين جفنى والكرى ... مادام من أهواه في هجرانى! إنّى لأخشى أن أنام فألتقى ... بخياله، خوف الفراق الثانى! وقال آخر: فارقته وبودّى لو تفارقنى ... روح الحياة، وأنّى لا أفارقه! وقال أبو تمام: الموت عندى والفرا ... ق: كلاهما ما لا يطاق! يتعاونان على النفو ... س: فذا الحمام وذا السّياق! لو لم يكن هذا كذا، ... ما قيل: موت أو فراق! وقال غريب بن سعيد شاعر «اليتيمة» : ألان يوم الفراق قسوته ... حتّى جرى دمعه وما شعرا. فخلت ما سال من مدامعه ... درّا على وجنتيه منتثرا. لم يبك شوقا، لكن بكى جزعا ... لهول يوم الفراق إذ حضرا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 فى مشهد لو أطاق شاهده ... فيه استتارا لوجهه، سترا. أبى أساه وفيض أدمعه ... إلا اشتهارا في الحبّ، فاشتهرا. وقال أحمد بن محمد بن عبد ربه: هيّج البين دواعى سقمى، ... وكسا جسمى ثوب الألم! أيّها البين، أقلنى مرّة ... فإذا عدت، فقد حلّ دمى. يا خلىّ الرّوع، نم في غبطة! ... إنّ من فارقته لم ينم. ولقد هاج لقلبى سقما ... ذكر من لو شاء، داوى سقمى. وقال آخر: بكت وبكيت لوشك الفراق؛ ... فقف، تر من مد معينا العجب! فذا فضّة في عقيق جرى، ... وهذا عقيق جرى في ذهب! وقال آخر: قلت له والرّقيب يزعجه ... مستعجلا للفراق: أين أنا؟ فمدّ كفّا إلى ترائبه ... وقال: كن آمنا، فأنت هنا! وقال آخر: قد قلت إذ سار السّفين به، ... والشّوق ينهب مهجتى نهبا: لو كان لى ملك أصول به، ... «لأخذت كلّ سفينة غصبا» وقال كشاجم: مزجت دموع العين م ... نّى يوم بانوا بالدّما. فكأنّما مزجت بخدّ ... ى مقلتى خمرا بما! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 وقال آخر: لم أنس يوم الفراق موقفها، ... وطرفها في دموعها غرق. وقولها، والرّكاب سائرة: ... تتركنا هكذا، وتنطلق؟ ومنه ما قيل في مفارقة الأصحاب: لمّا رأيت مصاحبى ومعاشرى ... لجديد ودّى بالقطيعة مزّقا، فارقته وسللت من يده يدى، ... وقرأت لى وله: «وإن يتفرّقا» . وقال آخر: قالوا: قطعت صديقك البرّ الذى ... منه استفدت مكارم الأخلاق. فأجبتهم: بعض المفاصل ربّما ... فسدت، فتقطع في صلاح الباقى! وقال آخر: ولقد شكرت مفارقى ... إذ ساء في أخلاقه. لو كان أحسن عشرتى، ... لهلكت يوم فراقه. ومثله قول الآخر: علّمتنى بهجرها الصّبر عنها، ... فهى مشكورة على التّقبيح! وأرادت بذا قبيح فعال ... صنعته، فكان عين المليح! ومما قيل في التوديع، قال البحترىّ: أقول له عند توديعه، ... وكلّ بعبرته مبلس: لئن قعدت عنك أجسامنا، ... لقد سافرت معك الأنفس! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 وقال أبو الطيب المتنبى: يا راحلا، كلّ من يودّعه ... مودّع دينه ودنياه. إن كان فيما نراه من كرم ... فيك مزيد، فزادك الله! وقال البحترىّ: ألم ترنى يوم فارقته ... اودّعه، والهوى يستزيد أولّى إذا أنا ودّعته، ... فيغلبنى الشوق حتّى أعود. وقال أبو تمام: نأى وشيك وانطلاق، ... وغليل شوق واحتراق. بأبى فتى ودّعته ... تاهت بصحبته الرّفاق! بدر يضىء لعاشقي ... هـ فما يطيف به المحاق! وقال ابن زيدون: ودّع الصبر محبّ ودّعك، ... حافظ من سرّه ما استودعك! يقرع السّنّ على أن لم يكن ... زاد في تلك الخطا، إذ شيّعك! يا أخا البدر سناء وسنا، ... حفظ الله زمانا أطلعك! إن يطل بعدك ليلى، فلكم ... بتّ أشكو قصر الليل معك! وقال أبو عبد الرحمن شاعر «اليتيمة» : إذا دهاك الوداع فاصبر ... ولا يهولنّك البعاد! وانتظر العود عن قريب، ... فانّ قلب الوداع عادوا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 وقال آخر: ودّعته حيث لا تودّعه ... روحى، ولكنّها تسير معه ثم تولّى وفي القلوب له ... ضيق مجال وفي الدموع سعه وقال الإمام الصولى: لو كنت يوم الوداع حاضرنا ... وهنّ يشكون علّة الوجد، لم تر إلا الدّموع جارية ... تسقط من مقلة على خدّ. كأنّ تلك الدّموع قطر ندى، ... يقطر من نرجس على ورد! وقال أبو منصور أحمد بن محمد اللخمىّ: وقفت يوم النوى منهم على بعد ... ولم أودّعهم وجدا وإشفاقا. إنّى خشيت على الأظعان من نفسى ... ومن دموعى: إحراقا وإغراقا. وقال ابن نباتة: ولمّا استقلّت للّرواح حمولهم ... ولم يبق إلا شامت وغيور، وقفنا: فمن باك يكفكف دمعه، ... وملتزم قلبا يكاد يطير! وقال آخر: ولمّا وقفنا للوداع، وقلبها ... وقلبى يبثّان الصّبابة والوجدا، بكت لؤلؤا رطبا ففاضت مدامعى ... عقيقا فصار الكلّ في نحرها عقدا. وقال آخر: ودّعتها ولهيب الشّوق في كبدى ... والبين يبعد بين الرّوح والجسد، وداع صبّين لم يمكن وداعهما ... إلا بلحظة عين أو بنان يد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 وحاذرت أعين الواشين فانصرفت ... تعضّ من خوفها العنّاب بالبرد. وكان أوّل عهد العين يوم نأت ... بالدّمع آخر عهد القلب بالجلد. وقال الهيثم الكلاعىّ، من شعراء «اليتيمة» : ولم أنسها يوم الوداع، ومسحها ... بوادر دمع العين. والعين تذرف. أفانين تجرى من دموع ومن دم ... على الخدّ منها تستهلّ وترعف. وتكرارنا نجوى الهوى ذات بيننا، ... وكلّ إلى كلّ يلين ويعطف. جعلنا هناك الهجر منّا بجانب، ... وللبين داع بالتّرحّل يهتف. ولولا النوى، لم نشك ضعفا عن الأسى! ... ومن يحمل الأشجان بالبين يضعف! فقلت: كلانا مثقل من صبابة؛ ... ولكنّنى عن حملها منك أضعف. وقال الظاهر البصرىّ: نفسى الفداء لمن جاءت تودّعنى ... يوم الفراق بقلب خائف وجل! قد كنت فارقت روحى يوم فرقتها؛ ... لكن حييت بطيب الضّمّ والقبل! وقال يزيد بن معاوية: جاءت بوجه كأنّ البدر برقعه ... حسنا على مثل غصن البانة الثّمل. إحدى يديها تعاطينى معتّقة ... كخدّها عصفرته حمرة الخجل. ثمّ استبدّت وقالت وهى عالمة، ... بما تقول وشمس الكأس لم تفل: لا ترحلنّ، فما أبقيت لى جلدا ... مما أطيق به توديع مرتحل! ولا من الصبر ما ألقى الفراق به ... ولا من الدّمع ما أبكى على طلل! ومن الناس من كره الوداع. وفي ذلك يقول البحترىّ: الله جارك في انطلاقك ... تلقاء شامك أو عراقك! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 لا تعذلنّى في مسي ... رى يوم سرت ولم ألاقك! إنّى خشيت مواقفا ... للبين تسفح غرب ماقك! وعلمت أنّ بكاءنا ... حسب اشتياقى واشتياقك! وذكرت ما يجد المودّ ... ع عند ضمّك واعتناقك، فتركت ذاك تعمّدا ... وخرجت أهرب من فراقك! وقال آخر: الله يعلم ما تركت وداعه، ... ولقد جزعت لبعده وفراقه، إلا مخافة أن يذيب فؤاده ... ما في فؤادى منه عند عناقه! وقال آخر: إنّ تركى فضيلة التشييع ... لاجتنابى مشقّة التّوديع. ما يفى أنس ذا بوحشة هذا، ... فرأيت الصّواب ترك الجميع! وقال آخر: ما تركت الوداع يوم افترقنا ... عن ملال ولا لوجه قبيح. أنت روحى على الحقيقة ما زل ... ت، وما اخترت أن أودّع روحى! ومما قيل في الصدّ والهجران، قال أبو عبادة البحترىّ: هجر الحبيب، فمتّ من شغف ... لمّا حرمت عزيمة الصّبر! فإذا قضيت، فناد: يا حزنى، ... هذا قتيل الصّدّ والهجر! والبدر في حلّ وفي سعة ... من سفكه دم عبده الحرّ! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 وقال ابن ميّادة: كانوا بعيدا، فكنت آملهم ... حتّى إذا ما تقاربوا، هجروا. فالبعد منهم على رجائهم ... أنفع من قربهم إذا هجروا! وقال أبو الحسن أحمد بن عمر النهروانىّ: على قلبى الاحبّة بالت ... مادى في الهوى غلبوا. وبالهجران من عين ... ىّ طيب النوم قد سلبوا. وما طلبوا سوى قتلى، ... فهان علىّ ما طلبوا! ولما سمع الشيخ العالم صدر الدين محمد بن الوكيل هذه الأبيات، عارضها، وأنشدنى لنفسه في صفر الأغر الميمون سنة ثلاث عشرة وسبعمائة. لئن غلبوا على عقلى، ... لقد سلبوا لمن غلبوا! وإن أبكى تبسّمهم، ... فخلّب برقهم خلبوا! وإن ترج العيون، فقد ... إليها السّهد قد جلبوا! وإن عطفوا برقّتهم، ... فدرّ مدامعى حلبوا. ومما قيل في الزيارة، قال الوزير ابو عبد الله بن الحدّاد: إذا جاءنى زائرا حسنه ... أقام عليه رقيبا عتيدا. إذا ما بدا، سربلته العيون ... وخرّت وجوه إليه سجودا. هو البدر والغصن: خدّا وقدّا، ... كما أنه الظّبى: لحظا وجيدا. أتى زائرا وفؤادى خلىّ، ... فمرّ به مستهاما عميدا. وغادرنى بعده في غرام ... تضرّم بين ضلوعى وقودا! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 وقال نصير الخبز أرزّى، شاعر «اليتيمة» عفا الله عنه: خليلىّ! هل أبصرتما أو سمعتما ... بأكرم من مولى تمشّى إلى عبد! أتى زائرا من غير وعد وقال لى: ... أصونك عن تعليق قلبك بالوعد! وقال الوأواء الدمشقى: زار بليل على صباح ... على قضيب على كثيب! حتّى أتت ألسن الليالى ... معتذرات من الذّنوب. فيالها زورة أخذنا ... بها أمانا من الخطوب! وقال أبو عبد الله الحدّاد: يا زائرا، ملأ النّواظر نورا ... والنّفس لهوا والفؤاد سرورا! لو أستطيع، فرشت كلّ مسالكى ... حدقا وبيض سوالف ونحورا. وقال آخر: أهلا وسهلا بطارق طرقا، ... أحببت فيه السهاد والارقا! زار على غفلة الرقيب ويم ... ناه تدارى وشاحه القلقا. فبتّ منه معانقا صنما ... ينفح مسكا وعنبرا عبقا. لو شئت، أنشأت من ذوائبه ... ليلا، ومن نور وجهه فلقا! وقال أبو عبد الله الحامدىّ من شعراء «اليتيمة» : مشتاقة طرقت في الليل مشتاقا! ... أهلا بمن لم يخن في العهد ميثاقا! أهلا بمن ساق لى طيف الأحبّة في ... ليل الدّجنّة، بل أهلا بما ساقا! يا زائرا زار من قرب على بعد، ... آنست مستوحشا! لا ذقت ماذاقا! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 الله يعلم لو أنى استطعت، لقد ... فرشت ممشاك آماقا وأحداقا! يا ليل، عرّج على إلفين قد جعلا ... عقد السواعد للأعناق أطواقا! وقال مؤيد الدين الطغرائىّ: وزائرة وافت، فأجللت خدّها ... وقبّلت إكراما لموردها الأرضا! فيازورة جاءت على غير موعد، ... فقرّت عيون واشتفت أنفس مرضى! فلم أر إلّا ما ألذّ وأشتهى، ... ولم أر إلّا ما أودّ وما أرضى! على أنّها ولّت ولم أقض سنّة ... - من الوطر الممطول دهرا- ولا فرضا! وما سوّغتنا ليلة الوصل قرضها ... إلى أن بدا الإصباح يسترجع القرضا. وقال ابن سكّرة، من شعراء «اليتيمة» : أهلا وسهلا بمن زارت بلا عدة ... تحت الظلام ولم تحذر من الحرس! تستّرت بالدّجى عمدا، فما استترت ... وبات إشراقها ليلا على قبس! ولو طواها الدّجى عنّا، لأظهرها ... برق اللّثات وعطر النّحر والنّفس! ومما قيل في تخفيف الزيارة وموانعها، قال شاعر الحماسة: ولمّا رأيت الكاشحين تتّبعوا ... هوانا وأبدوا دوننا نظرا شزرا، جعلت- وما بى من جفاء ولا قلى- ... أزوركم يوما وأهجركم شهرا! وقال مسلم بن الوليد: أقلل زيارتك الصّدي ... ق، يراك كالثّوب استجدّه! إنّ الصّديق يملّه ... أن لا يزال يراك عنده. إلّا الكرام ذوى النّهى، ... إنّ الكريم يديم عهده! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 وقال آخر: إذا ما كثرت على صاحب ... وقد كان يدنيك من نفسه، فلا بدّ من ملل واقع، ... يغيّر ما كان من أنسه! وقال آخر: لئن تأخّرت عن مفروض خدمتكم ... تجشّما، فضميرى غير متّهم! سعى ودادى إليكم بالوفاء لكم، ... والسّعى بالقلب فوق السعى بالقدم! وقال ابن المعلم: لم أطو بحر نداك- مع قربى- قلى ... إلا مخافة موجه المتراكب. وعلمت أنّى إن أتيتك زائرا، ... ثقّلت، والتثقيل ليس بواجب. وقال المعوّج: ثلاثة منعتها من زيارتنا، ... وقد طوى الليل جفن الكاشح الحنق: نور الجبين، ووسواس الحلىّ، وما ... يمسّ أردانها من عنبر عبق. هب الجبين بفضل الثوب تستره، ... والحلى تنزعه، ما الشأن في العرق؟ وقال أبو فراس الحمدانىّ: لقد نافسنى الدّهر ... بتأخيرى عن الحضره. فما ألقى من العل ... ة ما ألقى من الحسرة! ومنها التأخر عن عيادة المرضى، قال ابن زريق الكوفىّ الكاتب: يا مريضا لسقمه، ... مرض العلم والوفا! لم يكن تركى العيا ... دة هجرا ولا جفا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 لم أطق أن أراك يا ... أكرم الناس مدنفا! طال خوفى عليك، وال ... حمد لله إذ كفى! وقال آخر: منعتنى عليك رقّة قلبى ... من دخولى عليك في العوّاد. لو بأذنى سمعت منك أنينا، ... لتفرّى على الأنين فؤادى. وقال آخر: فو الله! ليس انقطاعى جفا ... وفي كبدى منك نار تشبّ! ولكنّنى قطّ لا أشتهى ... أرى من أحبّ كما لا أحبّ! ومما قيل في المدامع، قال العسكرىّ: أبلغ ما قيل في امتلاء العين من الدمع قول بعض الأعراب: فظلت كأنّى من وراء زجاجة ... إلى الدّار من فرط الصّبابة أنظر. وقال البحترىّ: ويحسن دلّها والموت فيه، ... وقد يستحسن السيف الصّقيل! وقفنا والعيون مثقّلات ... يعالج دمعها طرف كليل! نهته رقبة الواشين حتّى ... تعلّق: لا يغيض ولا يسيل! وقال السرىّ: بنفسى من ردّ التحية ضاحكا، ... فجدّد بعد اليأس في الوصل مطمعى! إذا ما بدا، أبدى الغرام سرائرى ... وأظهر للعذّال ما بين أضلعى. وحالت دموع العين بينى وبينه، ... كأنّ دموع العين تعشقه معى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 وقال الصولىّ: قد كان في طول البكالى راحة، ... وعنان سرّى في يد الكتمان. حتّى إذا الإعلان نبّه واشيا، ... رقأت دموعى خشية الإعلان! وقال بشّار: ماء الصّبابة، نار الشّوق تحدره ... فهل سمعتم بماء فاض من نار؟ وقال أبو هلال العسكرىّ: أشكو الهوى بدموع قادها قلق ... حتّى علقن بجفن ردّها الفرق. ففى الفؤاد سبيل للأسى جدد، ... وفي الجفون مقيل للكرى قلق. لهيب قلبى أفاض الدّمع من بصرى، ... والعود يقطر ماء وهو يحترق! وقال الصولىّ: أنشد أبو الحسن بن رجاء المبرّد يوما بيت ذى الرّمّة: «لعلّ انحدار الدمع يعقب راحة ... من الوجد أو يشفى شجىّ البلابل!» وقال: من قال في مثله، فقد ملح. وقال الحسن بن وهب: ابك! فما أكثر نفع البكا! ... والحبّ إشفاق وتعليل! افزع إليه في ازدحام الجوى ... ففيه مسلاة وتسهيل. وهو إذا انت تأمّلته ... حزن على الخدّين محلول! وقال العباس بن أحمد بن الأحنف: إنّى لأجحد حبّكم وأسرّه ... والدمع معترف به لم يجحد. والدمع يشهد أنّنى لك عاشق ... والناس قد علموا وإن لم يشهد! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 وقال آخر: فلا تنكرن لون الدّموع فإنّما ... يبيّضها تصعيدها من دم القلب! وقال العسكرىّ: آفة السّر من دمو ... ع دوام دوامع! كيف يخفى مع الدّمو ... ع الهوامى الهوامع؟ ما رأينا أخا هوى ... سرّه غير ذائع! إنّ نيران حبّه ... باديات الطلائع! وقال خالد الكاتب: بكيت دما حتّى بقيت بلا دم، ... بكاء فتى فرد على شجن فرد! أأبكى الذى فارقت بالدّمع وحده؟ ... لقد جلّ قدر الدمع فيه إذا عندى! وقال آخر: غدت بأحبّتى كوم المطايا، ... فبان النوم وامتنع القرار. وكان الدّمع لى ذخرا معدّا، ... فأنفقت الذخيرة يوم ساروا! وقال آخر: طال عهدى بها فلمّا رأتنى، ... نظمت لؤلؤا على تفّاح! وقال آخر: إذ لا جواب لمفحم متحيّر ... إلا الدموع تصان بالأطراف. وقال آخر: تقول غداة البين عند وداعها: ... إلى الكبد الحرّى: فسر، ولك الصّبر! وقد سبقتها عبرة: فدموعها ... على خدّها بيض، وفي نحرها حمر! معناه: أن الدّموع إذا انحدرت إلى نحرها احمرّت من الطّيب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 قالوا: وأحسن ما قيل في صفة الدّموع إذا امتزجت بالدماء، قول أبى الشّيص: لهون عن الإخوان إذ سفر الضّحى ... وفي كبدى من حرّهنّ حريق. مزجت دما بالدّمع حتّى كأنما ... يذاب بعينى لؤلؤ وعقيق. وقول أبى تمام: نثرت فريد مدامع لم تنظم، ... والدمع يحمل بعض ثقل المغرم! وصلت نجيعا بالدّموع، فخدها ... فى مثل حاشية الرّداء المعلم! ومن أجود ما قيل في بياض الدمع على حمرة الخدّ قول الصولىّ: كأنّ تلك الدّموع قطر ندى ... يقطر من نرجس على ورد! وهى أبيات تقدّمت في التوديع. ونحوه قول ابن الرومىّ: لمّا دنا البين وزاح الدّلّ، ... ودّعتها ودمعها منهلّ. وخدّها من قطره مخضلّ ... كأنه ورد عليه طلّ! وقال آخر: كأنّ الدّموع على خدّها ... بقيّة طلّ على جلّنار. ومما قيل في الرضا من المحبوب باليسير، فمن ذلك قول حميد بن ثور: أقلّب طرفى في السماء لعلّه ... يوافق طرفى طرفها حين تنظر! ومثله قول ابن المعلوط: أليس اللّيل يجمع أمّ عمرو ... وإيّانا؟ فذاك لنا تدانى! بلى، وأرى السماء كما تراها، ... ويعلوها النهار كما علانى! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 وقال جميل: وإنى لأرضى منك، يابثن، بالّذى ... لو استيقن الواشى لقرّت بلابله! بلا، وبأن لا أستطيع، وبالمنى ... وبالأمل المكذوب قد خاب آمله! وبالنّظرة العجلى، وبالحول ينقضى، ... أواخره لا نلتقى وأوائله! وقريب منه قول الآخر: يودّ بأن يمسى سقيما لعلّها ... إذا سمعت منه بشكوى تراسله! ويهتزّ للمعروف في طلب العلا ... لتحمد يوما عند سلمى شمائله! أخذ العسكرىّ المعنى فقال: وقلت: عساها إن مرضت تعودنى ... فأحببت لو أنّى غدوت مريضا! وزدت اتّساعا في المكارم والعلا ... ليصبح جاهى عندهنّ عريضا! وقال أبو الفضل بن عبد العزيز: يا من هجرت فلا تبالى! ... هل ترجع دولة الوصال؟ هل أطمع يا عذاب قلبى ... أن ينعم في هواك بالى؟ الطّرف كما عهدت باك ... والجسم كما ترين بالى! ما ضرّك أن تعلّلينى ... فى الوصل بموعد المحال! أهواك وأنت حظّ غيرى، ... يا قاتلتى، فما احتيالى؟ ومما قيل في النحول، فمن ذلك قول المتنبى: أبلى الهوى أسفا يوم النّوى بدنى، ... وفرّق الهجر بين الجفن والوسن! روح تردّد في مثل الخلال إذا ... أطارت الريح عنه الثوب لم يبن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 كفى بجسمى نحولا أننى رجل ... لولا مخاطبتى إيّاك- لم ترنى! وقال آخر: أسرّ إذا بليت، وذاب جسمى ... لعلّ الريح تحملنى إليه! وقال ابن المعتزّ: ماذا ترى في مدنف ... يشكوك طول سقمه؟ أضنيته فما يطي ... ق ضعفه حمل اسمه، ولا يراك عائدا ... إلا بعين وهمه! وقال كشاجم: وما زال يبرى أعظم الجسم حبّها ... وينقصها حتّى لطفن عن النّقص. فقد ذبت حتّى صرت لو أنا زرتها، ... أمنت عليها أن يرى أهلها شخصى. ومن أبلغ ما قيل في ذلك، قول ديك الجنّ: أنحل الوجد جسمه والحنين، ... وبراه الهوى فما يستبين! لم يعش أنّه جليد؛ ولكن ... دقّ جدّا، فما تراه المنون! وقال نصير بن أحمد: أنحلنى الحبّ فلو زجّ بى ... فى مقلة النائم، لم ينتبه! وكان لى فيما مضى خاتم ... واليوم لو شئت، تمنطقت به! وقال الحسن بن وهب: أبليت جسمى من بعد جدّته، ... فما تكاد العيون تبصره. كأنه رسم منزل خلق ... تعرفه العين، ثمّ تنكره! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 ومما قيل في المحبوب إذا اعتلّ، قال العباس بن الأحنف: زعموا لى أنّها صارت تحمّ! ... ابتلى الله بهذا من زعم! اشتكت أكمل ما كانت، كما ... يكسف البدر إذا ما قيل تمّ! وقال أحمد بن إسحاق الطالقانىّ: لقد حلّت الحمّى بساحة خدّه ... فأبدلت التّفّاح بالسّوسن الغضّ! قال أبو هلال العسكرىّ: والأصل في ذلك قول عبد بنى الحسحاس. ونقل فى كتابه ديوان المعانى بسند رفعه قال: كتب عبد الله بن عامر إلى عثمان بن عفّان رضى الله عنه: إنى اشتريت لك عبدا حبشيا شاعرا. فكتب إليه عثمان: لا حاجة لى فيه، فإن قصارى الشاعر منهم أن يهجو أعراضهم ويشبب بكريمتهم. فاشتراه بنو الحسحاس، فرئى يوما وهو ينشد: ماذا يريد السّقام من قمر ... كلّ جمال لوجهه تبع؟ ما يبتغى- خاب- من محاسنه؟ ... أما له في القباح متّسع؟ غيّر من لونه وصفّر ما ... ورّد منه الجمال والبدع. لو كان يبغى الفداء، قيل له: ... ها أنا دون الحبيب يا وجع! ثم يقول لنفسه: أحسنك والله! يريد أحسنت. وكان العبد كما حدس عثمان، فما زال يهجو مواليه ويشبّب بنسائهم، حتّى قتلوه. فضحكت منه امرأة وقد ذهبوا به ليقتلوه، فقال: فإن تضحكى منّى، فيا ربّ ليلة ... جعلتك فيها كالقباء المفرّج! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 وقال لهم: فلقد تحدّر من جبين فتاتكم ... عرق على ظهر الفراش وطيب! وهو الذى مدح نفسه بقوله: إن كنت عبدا، فنفسى حرّة كرما؛ ... أو أسود اللون، إنى أبيض الخلق! ولم أورد هذه الواقعة هنا لأنه موضعها من كل وجه، وإنما الشىء بالشىء يذكر. وقال شاعر: لو لم تكن حمّاه مشغوفة ... تعشقه طورا وتهواه، ما عانقبت إذ أقبلت جسمه ... وقبّات إذ فارقت فاه! وقال آخر: لو كان كلّ مريض ... يزداد مثلك حسنا، لكان كلّ صحيح ... يودّ لو كان مضنى! وقال محمد بن العباس الخوارزمىّ، من شعراء «اليتيمة» : ولى من أمّ ملدم كلّ يوم ... ضجيع لا يلذّ له منام! مقبّلة وليس لها ثنايا، ... معانقة وليس لها التزام! كأنّ لها ضرائر من غذائى، ... فيغضبها شرابى والطّعام. إذا ما صافحت صفحات جسمى، ... غدا ألفا وأمسى وهو لام. ومما يناسب هذا الفصل ما قيل في شرب الدواء، فمن ذلك قول أبى تمام: أعقبك الله صحّة البدن، ... ما هتف الهاتفات في الغصن. كيف وجدت الدّواء؟ أوجدك الله ... شفاء به مدى الزّمن! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 وقال ابن حجاج: يا من به تتباهى ... مجالس الخلفاء! ومن تقصّر عنه ... مدائح الشّعراء! يا سيّدى كيف أصبح ... ت بعد شرب الدّواء؟ خرجت منه تضاهى ... فى الحسن بدر السّماء! فى ثوب صحّة جسم ... مطرّز بالشّفاء. ومما قيل على لسان الورقاء- وكل مطوّقة عند العرب حمامة: كالدّبسى والقمرىّ والورشان وما أشبه ذلك. وجمعها حمام. يقال للذكر والأنثى منه حمامة. والحمامة تبكى، وتغنّى، وتنوح، وتغرّد، وتسجع، وتقرقر، وتترنّم. وإنما لها صوت سجيع لا يفهم: فجعله الحزين بكاء، والطّرب غناء. قال حميد بن ثور: مطوّقة خطباء تسجع كلّما ... دنا الصيف وانزاح الربيع فأنجما. تغنّت على غصن عشاء فلم تدع ... لنائحة في نوحها متلوّما. فلم أر مثلى شاقه صوت مثلها، ... ولا عربيّا شاقه صوت أعجما! وقال مجنون بنى عامر: ألا يا حمامات اللّوى عدن غدوة ... فإنّى إلى أصواتكنّ حزين! فعدن؛ فلمّا عدن، كدن يمتننى ... وكدت بأسرار لهنّ أبين! فلم تر عينى مثلهنّ حمائما ... بكين، ولم تدمع لهنّ عيون! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 وقال أبو الأسود الدؤلى: وساجع في فروع الأيك هيّجنى! ... لم أدر لم ناح ممّا بى ولم سجعا؟ أباكيا إلفه من بعد فرقته، ... أم جازعا للنّوى من قبل أن يقعا؟ يدعو حمامته، والطير هاجعة: ... فما هجعت له ليلى وما هجعا! شكا النّوى فبكى خوف الأسى فرمى ... بين الجوانح من أوجاعه وجعا! كأنّه راهب في رأس صومعة ... يتلو الزّبور، ونجم الصّبح قد طلعا! وقال جحدر العكلىّ: وقدما هاجنى فازددت شوقا ... بكاء حمامتين تجاوبان. تجاوبتا بلحن أعجمىّ ... على عودين من غرب وبان. فكان البان أن بانت سليمى ... وفي الغرب اغتراب غير دانى! وقال عوف بن محلّم: ألا يا حمام الأيك إلفك حاضر ... وغصنك ميّاد! ففيم تنوح؟ وقال ابن عبد ربه من ابيات: وكيف، ولى قلب اذا هبّت الصّبا ... أهاب بشوق في الضّلوع دفين؟ ويهتاج منه كلّ ما كان ساكنا ... دعاء حمام لم تبت بوكون. وإنّ ارتياحى من بكاء حمامة ... كذى شجن داويته بشجون. كأنّ حمام الأيك لمّا تجاوبت، ... خزين بكى من رحمة لحزين! وقال ابن قلاقس: غناء حمام في معاطف بان ... إلى مذهب الحبّ القديم ثنانى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 تغنّى فأعطاف الغصون رواقص ... وأحداق أزهار الرّياض روانى. فذكّرنى شرخ الزمان فمدمعى ... سفوح وقلبى دائم الخفقان. وقال أعرابىّ: وقبلى أبكى كلّ من كان ذا هوى ... هتوف البواكى والدّيار البلاقع. وهنّ على الأغصان من كلّ جانب ... نوائح، ما تخضلّ منها المدامع! وقال فتح الدين بن عبد الظاهر: نسب الناس للحمامة حزنا، ... وأراها في الحزن ليست هنا لك! خضبت كفّها وطوّقت الجي ... د وغنّت، وما الحزين كذلك! وقال ابن الرومىّ: أشجتك داعية مع الإشراق، ... هتفت بساق من ذؤابة ساق؟ أيكيّة تدعو، ولم أر باكيا ... ريب الزمان قرينها لفراق. تبدو أواميت [1] الشّجى في صوتها ... وترى عليها أنّة الإطراق. لو تستطيع، تسلّبت من طوقها ... لو كان منتحلا من الأطواق. ومما قيل في المراجعات، فمن ذلك قول وضّاح اليمن: قالت: ألا لا تلجن دارنا، ... إنّ أبانا رجل غائر! أما رأيت الباب من دوننا؟ ... قلت: فإنّى واثب طافر! قالت: فإن القصر من دوننا! ... قلت: فإنّى فوقه ظاهر!   [1] يطلق الامت في اللغة على الضعف والوهن ويجمع على إمات وأموت ولم تر جمعه على أواميت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 قالت: فإنّ الليث عال به ... قلت: فسيفى مرهف باتر! قالت: فهذا البحر ما بيننا ... قلت: فإنّى سابح ماهر! قالت: أليس الله من فوقنا؟ ... قلت: بلى! وهو لنا غافر. قالت: فإمّا كنت أعييتنا، ... فأت إذا ما هجع السّامر! واسقط علينا كسقوط النّدى، ... ليلة لا ناه ولا زاجر! وقال المؤمل بن أميل: وطارقات طرقننى رسلا، ... والليل كالطّيلسان معتكر. فقلن: جئنا إليك عن ثقة ... من عند خود كأنّها قمر! هل لك في غادة منعّمة ... يحار فيها من حسنها النّظر؟ فى الجيد منها طول إذا التفتت ... وفي خطاها إذا خطت قصر. فقمت أسعى إلى محجّبة ... تضىء منها البيوت والحجر. فقلت لمّا بدا تخفّرها: ... جودى، ولا يمنعنّك الخفر. قالت: توقّر، ودع مقالك ذا ... أنت امرؤ بالقبيح مشتهر! والله لا نلت ما تحاول أو ... ينبت في بطن راحتى شعر! لا أنت لى قيّم فتجبرنى ... ولا أمير علىّ مؤتمر. قلت: ولكن ضيف أتاك به ... تحت الظلام القضاء والقدر. فاحتسبى الأجر في إنالته، ... ويا سرى قد تطاول العسر! قالت: فقد جئت تبتغى عملا ... تكاد منه السماء تنفطر. فقلت: لمّا رأيتها حرجت ... وغشيتها الهموم والفكر: لا عاقب الله في الصّبا أبدا ... أنثى ولكن يعاقب الذّكر! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 قالت: لقد جئتنا بمبتدع، ... وقد أتتنا بغيره النّذر. قد بيّن الله في الكتاب فلا ... وازرة غير وزرها تزر. قلت: دعى سورة لهجت بها ... لا تحرمنّا لذّاتنا السّور. وجهك وجه تمّت محاسنه، ... لا وأبى لا تمسّه سقر. وقال آخر: خطرت فقلت لها مقالة مغرم: ... ماذا عليك من السّلام فسلّمى. قالت: بمن تعنى فحبّك بيّن ... فى سقم جسمك؟ قلت: بالمتكلّم. فتبسّمت، فبكيت، قالت: لا ترع ... فلعلّ مثل هواك بالمتبسّم. قلت: اتّفقنا في الهوى، فزيارة ... أو موعدا قبل الزيارة قدّمى. فتضاحكت عجبا، وقالت: يا فتى ... لو لم أدعك تنام، بى لم تحلم. وقال آخر: ولمّا نزلنا على زمزم، ... ونحن نريد طواف الإفاضه، بكيت، فقالت: علام البكا؟ ... فقلت: على الودّ أخشى انتقاضه. فقالت: ثكلتك من عاشق ... تشمّر ذيلك قبل المخاضه. فقلت: صدقت، ولكنّنى ... أعلّم نفسى طريق الرّياضه. ومما قيل في المردوف، قال بعض الشعراء: عيناك على سفك دمى أسرفتا ... والجسم نحيل. أطلق برضاك في الهوى أسرفتى ... حيران ذليل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 فى ريقك خمرتان قد حرّمتا ... من غير دليل. والعاشق ظمآن فيا حرّ! متى ... تسقيه قليل؟ وقال آخر: فى خدّك وردتان قد ركّبتا ... من فوق قضيب. فى قلبى جمرتان قد أضرمتا: ... نار ولهيب. حلّفتك بالإله يا خير فتى ... رفقا بكئيب. حيران يهيم بين حتّى ومتى ... والأمر عجيب. وقال آخر: يا بدر! عصيت في الهوى عذّالى ... طوعا لهواك. وانقدت لأمرك الكبير العالى ... ما قلّ وفاك!. إن كان رضاك سقم جسمى البالى ... صبرا لرضاك. عذّب جسدى بسائر الأحوال ... إلا بجفاك. وقال آخر: يا مرتحلا إلى الحمى مصرفه ... بالله عليك خذ معك كتاب، فيه خبرى. ... لى ثمّ رشا عساك تستعطفه إن هان عليك ... فى رد جواب، للمنتظر. إن عرّض بى، فقل: نعم أعرفه ... يشتاق اليك قد رقّ وذاب، بين البشر. ... ما يتركه هواك أو تتلفه والأمر اليك ... ما الهجر صواب، من مقتدر. ومما قيل في الجناس، قال ابو الفضل الميكالى: مواعيده بالوصل أحلام. نائم ... أشبّهها بالقفر أو بسرابه فمن لى بوجه لو تحيّر في الدجى ... أخو سفر في جنح ليل سرى به الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 وقال أيضا: صل محبّا، أعياه وصف هواه ... فضناه ينوب عن ترجمانه. كلّما راقه سواك، تصدّت ... مقلتاه بدمعه ترجمانه. وقال آخر: ما ضرّ من قد أباح قتلى ... فى حبّه لو أباح ريقه. أبى فؤادى السلوّ عنه ... لكنه ما أبى حريقه. وقال آخر: أقول والليل مرخىّ غياهبه ... والدّير يسمعنى حسّ النواقيس: يا نفس كم بين مسرور بلذّته ... وبين مبلى بتشتيت النوى قيسى. وقال آخر: يا من تنكّدت الدنيا لغيبته ... أساخط أنت عنى اليوم أم راضى؟ أمرضت بالهجر قلب المستهام فما ... عليك، بالوصل لو داويت أمراضى؟ وقال آخر: لقد راعنى بدر الدجى بصدوده ... ووكّل أجفانى برعى كواكبه. فيا عبرتى سحّى دما لفراقه ... ويا كبدى صبرا على ما كواك به! وقال آخر: قلت له: ماذا السواد الذى ... فيك تبدّى؟ قال: ذا غاليه. فقلت: قبّلنى إذا قبلة ... فقال: خذها قبلة غاليه. فقلت: ما تغلو على عاشق ... فى حبكم، ذى كبد غاليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 وقال آخر: شافه كفّى رشأ ... بقبلة ما شفت. فقلت إذ قبّلها: ... يا ليت كفّى شفتى! وقال آخر: لم يكفكم أخذ قلبه سلبا ... حتى أخذتم عن طرفه وسنه. كم ليلة بات للغرام وكم ... يوم وشهر ما نامه وسنه. وقال آخر: يا من لحظاته أسود وثبت ... قد صحّ هواك في فؤادى وثبت. جرّدت لها سيوف صبرى فنبت ... يا من غرس الهوى بقلبى فنبت. وقال آخر: يا من بحشاشتى- إذا غاب- سكن ... هيّجت من الغرام ما كان سكن. يا من شرع الصدود في الحبّ وسنّ ... من بعدك مهجورك ما ذاق وسن. وقال آخر: أهوى قمرا سفك دمى حلّ له ... فى أىّ شريعة ومن حلّله. ما بلّل شعره وما حلّله ... إلا سمح البخيل وانحلّ له. وقال آخر: من بلّل صدغ قاتلى من سلسل؟ ... من أودع ثغره رحيقا سلسل؟ من علّلنى في حبّه؟ من سلسل؟ ... يا عاذل إن جهلت ما بى سل سل. وقال آخر: يا بانة لحبّها ... فى القلب أصل قد نبت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 سيوف صبرى عن سيو ... ف مقلتيك قد نبت. تلك لحاظ أعين ... أم أسد غيل وثبت؟ [1] لواحظ لو برزت ... فى يوم حرب، لسبت. وعقرب الصّدغ التى ... لكلّ قلب لسبت. أسناؤكم تاقت لها الن ... فوس يوما وصبت. لا سيّما إن حملت ... نشرك ريح وصبت. فخيلهم دون بلو ... غ السّول فينا قد كبت. أفدى حبيبا زارنى ... فكم عدوّ قد كبت. رعى حقوقى في الهوى ... عليه لمّا وجبت. وسكّن الأحشاء بال ... وصال لمّا وجبت. وقال أيضا: من لفتى، جار علي ... هـ طرفه فيما قضى؟ صبّ إذا الدهر قضى ... عليه بالبين، قضى. يبكى على دهر تول ... ى بالتدانى أو مضى. تمطر عيناه إذا ال ... برق الشآمى أو مضا. وقال آخر: رمى حرّ قلبى بهجرانه ... رشا مادرى قدر ما قد رمى. وقد كان قدّم إحسانه ... ولكنه قدّ ما قدّما. فتسليم أمرى به للقضا ... ذخرت به أجر ما أجرما.   [1] لعل هنا بيتا سقط من الأصل ولم نعثر عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 ومما قيل في الموشّحات، فمن ذلك ما قاله بعض الأندلسيين: يد الإصباح، قدحت زناد الأنوار ... فى مجامر الزّهر. دهر جذلان، واعتدال ريعان ... فما الإظعان؟ عن طلّا وغزلان. راق الزمان، وشدت على البان ... ذات الجناح، وانثنت قدود الأشجار. فى الغلائل الخضر ... لنا أجساد، للسرور تنجذب كما تنقاد، لربيعها العرب. ... حتى الجماد، لا يفوته الطرب طافت بالراح، سحب فسكر النّوّار. ... من سلافة القطر إن انخلاعى، مع رشا وصهباء ... لدى بقاع، حكت وشى صنعاء. وللشّعاع، لهب على الماء ... وللرياح، فى متون تلك الأنهار. شبك من التّبر ... وريم المى، بات بيده صدرى كبدر تمّا، وسط غرّة الشهر. ... شدوت لمّا، راعنى سنا الفجر قل للصباح: إن تدن بطرد الأقمار. ... فمع الدجى نسرى وغصن مائل، الهلال أعلاه ... له من نابل، فى النفوس قتلاه. سيف الحمائل، غمده عذاراه ... طوع الجماع، إن يكن كثير النّفار. فهى عادة العفر وقال ابن بقى: ما بى شمول، إلا شجون ... مزاجها في الكأس، دمع هتون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 لله ما بذّر، من الدموع ... صبّ قد استعبر، من الولوع. أودى به جؤذر، يوم البقيع ... فهو قتيل؛ لابل طعين. بين الرجا والياس، له منون ... [خرجت للحين، كفّى بكفّى وحيل ما بينى، وبين إلفى. ... لا شك بالبين، يكون حتفى حان الرحيل، ولى ديون. ... إن ردها العباس، فهو الأمين] [1] أما ترى البدرا؟ بدر السعود ... قد اكتسى خضرا، من البرود. إذا انثنى نضرا، من الفدود ... أضحى يقول،: مت يا حزين. قد اكتسى بالياس، الياسمين ... قلت وقد شرّد، النوم عنّى وآيس العوّد، السقم منّى: ... صدّ فلما صدّ، قرعت سنّى جسمى نحيل، لا يستبين. ... يطلبه الجلّاس، حيث الأنين تجاوز الحدّا، قلبى اشتياقا ... وكلّف السهدا، من لا أطاقا. قلت وقد مدّا، ليلى رواقا ... ليلى طويل، ولا معين: يا قلب بعض الناس، أما تلين؟ وقال سراج الدين عمر الكتّانى الحلبىّ، يمدح الملك المنصور صاحب حماه: جسمى ذوى، بالكمد، والسهر، والوصب، من جانى ... ذى شنب، كالبرد، كالدّرر، كالحبب، جمانى.   [1] الزيادة من نفح الطيب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 لى غصن بان نضر ... يسبيك منه الهيف. يرتع فيه النظر ... فزهره يقتطف. والخدّ منه قفر ... والجسم منه ترف. قد جاءنا يعتذر ... عذاره المنعطف. ثم التوى، كالزرد، معبقرى، معقربى، ريحانى ... فى مذهب، مورّد، مدنّر، مكتّب، سوسانى. ظبى له مرتشف ... كالسلسبيل البارد. غصن نقا ينعطف ... من لين قدّ مائد. بدر علاه سدف ... من ليل شعر وارد. مقرطق مشنّف ... يختال في القلائد. بين اللّوى، وثهمد، كجؤذر، فى ربرب، غزلانى ... ذى ضرب، ذى غيد، ذى حور، ذى هدب، وسنانى. أما وحلى جيده! ... ورنّة الخلاخل! والضمّ من بروده ... قدّ قضيب مائل. والورد من خدوده، ... إذ نمّ في الغلائل. لا كنت من صدوده ... متصلا بعاذل! نار الجوى، لا تخمدى، واستعرى، وكذّبى، سلوانى ... وأسبلى، واطّردى، وانهمرى كالسّحب، أجفانى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 مولاى جفنى ساهر ... مؤرّق كما ترى. فلا خيال زائر ... يطرقنى ولا كرى. إنّى عليل صابر ... فما جزا من صبرا؟ إن سحّ دمعى الهامر ... فلا تلمه إن جرى. جال الهوى، فى جلدى، ومضمرى، أضرّبى، كتمانى ... مؤنّبى، اتّئد، لا تفتر. وجنّب، عن عانى. إن صال بالهجر وصد ... رحت بصبرى مرتدى. عنه وإن طال الأمد ... إلى ذرى محمد. وكيف يخشى من قصد ... ملكا كريم المحتد. الملك المنصور قد ... سما سماء السّودد. ثم استوى، بأجرد، مضمّر، ومقضب، يمانى ... ذى شطب، مهنّد. وسمهرى. مضطرب، مرّانى. ملكا علت همّاته ... من فوق هام المشترى. وبخّلت راحاته ... سحّ السحاب الممطر. وعوّذت راياته ... بمحكمات السّور. بدر بدت هالاته ... من الصباح المسفر. تحت لوى، منعقد، بالظّفر، فى موكب، فرسانى ... كالأشهب، فى الأسعد، كالأقمر. فى أعذب، سيحانى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 يا ملكا دون الورى ... تخطبه الممالك. ومالكا إذا سرى ... تحجبه الملائك. بعض عطاك هل ترى ... جادت به البرامك. فاستجلها من عمرا ... ثغر مناها ضاحك. لا يجتوى: كالشّهد، كالسّكّر. كالضّرب، معانى ... كالسّحب، كالعسجد، كالجوهر، من حلب، كتّانى. انتهى ما أوردناه من الغزل والنسيب في هذا الموضع؛ وقد آن أن نأخذ في ذكر الأنساب وبالله التوفيق. الباب الرابع من القسم الأوّل من الفن الثانى في الأنساب قال الله تعالى: (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا) . ومعرفة أنساب الأمم مما افتخرت به العرب على العجم، لأنها احترزت على معرفة نسبها، وتمسكت بمتين حسبها؛ وعرفت جماهير قومها وشعوبها، وأفصح عن قبائلها لسان شاعرها وخطيبها؛ واتحدت برهطها وفصائلها وعشائرها، ومالت إلى أفخاذها وبطونها وعمائرها؛ ونفت الدعىّ فيها، ونطقت بملء فيها. وسأورد منها إن شاء الله تعالى ما يكتفى به، ويتمسك بأسبابه. وقد وقفت على المقدّمة التى وضعها الشريف «أبو البركات الجوّانىّ» فرفعت له علما، ونصبت له إلى المعالى سلما: لأنه أتقن أصولها، وحرّر فصولها؛ وأورد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 فيها من الأنساب ما ينتفع به اللبيب، ويستغنى بوجوده الكاتب الأريب. فوجدته بدأ فيها بذكر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بآبائه، وشرح جملة من نسبه الطاهر وأبنائه. فرأيت أن أسرد النسب من أصله، وأبدأ بآدم عليه السلام، ثم بنسله؛ وأجعل العمدة على سرد عمود النسب المتصل بسيد البشر. وأذكر من ذلك ما اشتهر عند أهل الأنساب وانتشر؛ إلى أن أنتهى إلى اسمه الشريف فأجعله خاتمة النسب، وأتمسك من شريعته ومحبته بأوثق سبب. وأرجو ببركته بلوغ مآربى، ونجح مطالبى؛ وستر عيوبى، ومغفرة ذنوبى؛ وتزكية عملى، وسدّ خللى، والتجاوز عن سيئاتى، والمسامحة بفلتاتى ولفتاتى؛ والخيرة فى حركاتى وسكناتى. هذا والله رجائى من كرم ربى، وإن قل عملى وكثر ذنبى؛ وعلى الشريف العمدة فيما أوردته، والعهدة فيما نقلته؛ فمن تأليفه نقلت، وعلى مقالته اعتمدت. قال السيد الشريف نقيب النقباء أبو البركات بن أسعد بن على بن معمر الحسينى الجوّانى، النسابة رحمه الله: إن جميع ما بنت عليه العرب في نسبها أركانها، وأسست عليه بنيانها، عشر طبقات. الطبقة الأولى الجذم وهو الأصل إما إلى عدنان وإما إلى قحطان، والجذم القطع، يقال: جذم وجدم؛ وذلك لما كثر الاختلاف في عدد الآباء وأسمائهم فيما فوق ذلك، وشق على العرب تشعب المناهج فيه وتصعب المسالك؛ قطع الخوض فيما فوق قحطان ومعدّ وعدنان، واقتصر على ذكر ما دونهما، لاجتماعهم على صحته. ومنه قول سيدنا رسول الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 صلى الله عليه وسلم لما انتسب إلى معدّ بن عدنان: «كذب النسابون فيما فوق ذلك» لتطاول العهد. فمن كان من ولد قحطان، قيل يمنىّ. ومن كان من ولد معدّ بن عدنان، قيل خندفى، أو قيسى، أو نزارى، وإن كان الجميع داخلا في نزار، أعنى معدّ بن عدنان؛ وإنما كان بعد نزار جماجم استغنى بالنسبة إليها عن نزار بن معدّ بن عدنان؛ ولأن جمهور العلماء طبقوا النسب على ما قدّمناه أربع طبقات: خندفىّ، وقيسىّ، ونزارىّ، ويمنىّ. فقولهم: خندفى أى كل من يرجع إلى الياس بن مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان؛ وهو جمّاع خندف، فتوسعت العرب في ذلك إلى أن قالوا: إلياس هو خندف، لأن ولده وهم مدركة، وطابخة، وقمعة، أمهم خندف، وهى ليلى بنت حلوان بن عمران، بن إلحاف بن قضاعة، خندفت في طلب ولدها أى أسرعت، فقال لها إلياس: مالك تخندفين؟ أى تهرولين فسميت خندف، فرجع إلى خندف أبطن عدّة: كمزينة، والرّباب، وضبّة، وصوفة، والشّعيرا، وتميم، وهذيل، وأسد، والقارة، وكنانة، وقريش، فقيل لولد إلياس «خندف» ثم قيل لإلياس نفسه خندف إذ كان أبا لمن أمه خندف لا غير ولا ولد له إلا من خندف. ولذلك نظائر وأشباه في العرب، كما قيل لمالك بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر: «عائدة» لأن أم ولده عائدة بنت الحمس بن قحافة الخثعميّة. وكما قيل لعوف بن وائل بن قيس بن عوف بن عبد مناة بن أدّ بن طابخة بن إلياس بن مضر: «عكل» لأن أمة يقال لها عكل حضنت ولده. وكما قيل لعمرو بن أدّ بن طابخة بن إلياس: «مزينة» لأن أم ولده مزينة بنت كلب بن وبرة القضاعية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 وكما قيل لعمرو بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار «جديلة قيس» لأن أم ولده جديلة بنت مرّ، أخت تميم بن مر، بن أدّ، بن طابخة. وكما قيل للحارث بن عدىّ بن الحارث بن مرّة بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبإ بن يشجب بن يعرب بن قحطان «عاملة» لأن أم ولده عاملة بنت مالك بن وديعة القضاعية. وكما قيل لأشرس بن السكون بن أشرس بن كندة «تجيب» لأن أم ولده تجيب. بنت ثوبان المذحجيّة، وغير ذلك مما يطول الكلام باستقصائه والله أعلم. وأما قولهم قيسىّ، فالمراد به من ولد قيس بن عيلان بن مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان، ويكون عيلان هاهنا أخا إلياس بن مضر، وكان [1] اسم إلياس عيلان. وقال الوزير ابن المغربى: هو الناسّ بتشديد السين فيكون مضر أعقب إلياس والناس. ومن العلماء من قال: إن عيلان كان حاضنا، حضن قيسا وليس بأب فيقول قيس عيلان بن مضر، مضاف إليه بغير ذكر البنوّة، كما قيل في فخذ من قضاعة سعد هذيم، وهذيم حاضن، وغير ذلك في العرب كثير والأوّل أصح. وهذا قيس بن عيلان بن مضر هو الذى قيل لقيس بن قيس والله أعلم. وذهب قوم إلى أن ولد معدّ بن عدنان كلهم يقال لهم: قيس وهو خطأ، وإنما هم يجوّزون ذلك على وجه بعيد ليميزوا بالعزوة إلى ذلك بين يمن وغيرها: فيقولون: قيس ويمن، فيظن السامع أنهما أخوان، وأين قيس من قحطان جدّ يمن: لأن قحطان أبا اليمن هو أخو الجدّ العشرين لقيس: وهو فالغ بن عابر، وقحطان بن عابر. وسيرد ذلك في سرد النسب بعون الله ومشيئته.   [1] لعله أو كان اسم إلياس الخ ليستقيم الكلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 وبيانه هاهنا أن قيس بن عيلان، بن مضر، بن نزار، بن معدّ، بن عدنان، ابن أد [1] ، بن أدد، بن إسماعيل الذبيح، بن إبراهيم الخليل، بن تارح: وهو آزر بن ناحور، بن ساروغ، بن أرغو، بن فالغ، بن عابر. ففالغ أخو قحطان، وقحطان هو الجد الذى ترجع إليه يمن كلها؛ وهو أحد جذمى النسب كما تقدّم. فقد بان أن قول من يقول قيس: ويمن قبيلة ليس بشىء، وإنما قال ذلك لولد معدّ بن عدنان إشارة لإعلام السائل إذا سأل المعدىّ من أىّ نسب هو، فكأنه يقول له من البطن التى منها قيس. وهذا بعيد وشاذ. ومما يؤكد بعده أنا إذا جوزنا ذلك لمن ينتسب إلى جمجمة فوق قيس كربيعة ابن نزار بن معدّ بن عدنان، وإياد بن نزار وغير ذلك وان كان بعيدا فكيف يجوز أن يطلق ذلك على قريش. فنقول: هم قيس، وإنما قريش بنو فهر بن مالك بن النّضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار، وإلياس هو عم قيس فيكون قريش دون قيس بهذه العدّة، فلا يجوز أن يقال: إن قريشا من قيس، وقيس إنما هو ابن عم الأب السادس من قريش: وهو مدركة؛ ولو كان عمّا له، لكان ربما يجوز على وجه التعارف عند العرب بأن العم أب كما أخبر الله تعالى عن نبيه يعقوب عليه السلام فقال تعالى: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) ، والذى ذهب إلى أن العم أب قال: أنا أطلق على ولد معدّ بن عدنان قيسا لأن قيسا منهم، فأقول: قريش من قيس. وهذا بعيد من وجه أن قيسا ليس   [1] هكذا بالأصل. وفي كتاب الجوّانى المنقول منه هذا الفصل والموجود منه نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية، ناقصة الآخر (ابن أدّ بن اليسع بن الهميسع بن سلامان بن نبت بن حمل بن قيذار بن إسماعيل الذبيح الخ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 بعم لقريش، وإنما هو ابن عم، ولا ترجع العزوة في الانتساب إلى ذيل الأعقاب، إنما يعزى لأعلى النسب؛ لا لأسفل العقب؛ ولو صح ذلك، لعزى الإنسان لابن ابن عمه وهذا لا يصح. فقد وضح أن العزوة إلى قيس لا تصح إلا لمن يرجع إليه بالولادة منه: لأن ربيعة وإيادا ابنى نزار أعلى منه، فلا يصح أن يعزوا إليه؛ وقريش وكنانة أسفل منه فلا يصح أن يعزوا إليه. وبالجملة فإنه ابن عم لهما، أعنى قريشا وكنانة، وأخ لهما أعنى ربيعة وإيادا؛ ولا يجوز أن يعزى الأب إلى ابنه إذ كانت النسبة في ذلك لا ترجع إلى الابن إنما ترجع إلى الأب. ولو اعتمد ذلك في الأنساب لاختلطت العزوة إلى كل أب بالأب الآخر فلم يتميز، ولم يقف عند حدّ دون الآخر. وهذا يؤول إلى الجهالة بالأبطن والأفخاذ والعشائر. وأمّا شهرة العزوة إلى قيس، فلما فيها من الجماجم والرءوس والقبائل والأرحاء وهى عند النسابين أكبر من تميم ومن بكر ابنى مرّ بن أد بن طابخة؛ إذ كان في قيس بنو عبس، وذبيان، وغطفان، وأعصر، وهوازن، وعدوان، وفهم: وهم جديلة قيس، وسليم، وثقيف، وعامر، وجشم، ونصر، وبكر، وسعد، وسلول، وربيعة، وكلاب، وقشير، وحبيب، وعقيل، وحريش، وخفاجة، وطهفة، وغير ذلك من الأفخاذ والعشائر التى تشرح في مواضعها بمشيئة الله وعونه. وأما نزار بن معدّ بن عدنان، ففيها من الأبطن والأفخاذ والعشائر: كبنى ربيعة الفرس، وضبيعة أضجم، وأكلب، وأسلم، ويقدم، وأجلان، وهميم، وعبد القيس، ودهن، والنّمر، وتغلب، ووائل، وبكر، وصعب، وعلى، وحبيب، وعنزة، وعنز، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 ورفيدة، وإراشة، ويشكر، وعكابة، وعجل، ولجيم، وحنيفة، وزمّان، والدول [1] ، وشيبان، وذهل، ومازن، وسدوس، وبلىّ، وعوف، وبدر، ومعن، ودعمىّ، وزهرة، وحذافة. فأما أنمار بن نزار، فانقلب في يمن كما انقلبت قضاعة في غير ذلك من الأفخاذ والعشائر مما بين في موضعه إن شاء الله تعالى والحمد لله. وأما يمن، فهم أولاد قحطان، بن عابر، بن شالخ، بن أرفخشذ، بن سام، بن نوح عليه السلام. وفيها عدّة جماجم وقبائل وأبطن وأفخاذ وعشائر: كسبإ، وطيئ، والأشعر، وحمير، وقضاعة، وغسّان، وأوس، والخزرج، والأزد، ولخم، وجذام، وعاملة، وخولان، وغافق، ومذحج، وحرب، وسعد العشيرة، ومعافر، وهمدان، وكندة، وكلب، ومهرة، وصنهاج [2] ، وبارق، وبجيلة، وثعلبة، ودرما، وزريق، وعنيز، وعتّاب، وبحتر، وجرم، ومراد، وعبس، وجعفىّ، وسلمان، وتجيب، وصدا، والنّخع، والصّدف، وحضرموت وغير وذلك. وكل ما ذكرناه فهو أبطن وأفخاذ وعشائر مختلطة، وما قصدنا فيها الترتيب، على طبقات النسب والتعقيب، وإنما جئنا من كل عزوة ببعض مشاهيرها التى تنسب إليها: ليتبين بعضها من بعض ويعلم غرضنا في تحرير ما قدمناه والله أعلم.   [1] بضم الدال وإسكان الواو وهو غير الدؤل الذى ينسب اليه أبو الأسود الدؤلى. [2] الذى في القاموس: وصنهاجة قوم بالمغرب من ولد صنهاجة الحميرى وفي تاج العروس: «قال ابن دريد بضم الصاد ولا يجوز غيره. قال شيخنا والمعروف عندنا الفتح خاصة في القبيلة بحيث لا يكادون يعرفون غيره» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 وأما عزوة العرب إلى يمن: وهم ولد قحطان، فلكونهم نزلوا اليمن؛ وكان منهم ملوك الحيرة وأصحاب سدّ مأرب فتيامنوا، فنسبوا إلى اليمن. وقيل: إنما قيل لهم: يمن بأيمن بن هميسع بن حمير، وهو جدّ الملوك التبابعة؛ والأوّل أولى. وأكثر العزوة لمن ينقلب عن نسبه إلى اليمن، لأجل أن الملوك كانت في اليمن: مثل آل النّعمان بن المنذر من لخم، وآل سليح من قضاعة، وآل محرّق، وآل العرنجج وهو حمير الأكبر بن سبإ كالتبابعة والأذواء وغيرهم. والعرب يطلبون العزّ ولو كان في شامخات الشواهق [1] [وبطون الأمالق البوالق فينتسبون الى الأعز لحماية الحمية وإباءة الدنية وسكون النفوس الى نفيس الكثرة والعصبية بطريق دقيق في النظر لا على الظن المشتهر] : كما جرى لقضاعة بن معدّ ابن عدنان [2] [لما خلف على أمه الجرهمية بعد] مالك بن مرة بن عمرو بن زيد بن مالك ابن حمير أباه معد بن عدنان؛ فجاءت بقضاعة على فراش مالك بن مرة فنسبه العرب إلى زوج أمّه [3] [مالك بن مرة، عادة للعرب فيمن يولد على فراش زوج أمه] . وقيل إن اسم الجرهمية: قضاعة، فلما جاءت بولدها سمته باسمها. وقيل بل كان اسمه عميرا فلما تقضع عن قومه أى بعد سمى قضاعة. والعادة عند العرب أن تنسب الرجل إلى زوج أمّه؛ ألا ترى أنها قالت في عبد مناة بن كنانة: بنو على وهو على بن مسعود الأزدىّ وكان حضن بنى أخيه لأمّه وهم بكر وعامر ومرة أولاد عبد مناة بن كنانة، فغلب   [1] زيادات وجدت في نسخة الجوّانى المخطوطة ولم توجد في الأصل «الفوتو غرافىّ» . [2] زيادات وجدت في نسخة الجوّانى المخطوطة ولم توجد في الأصل «الفوتو غرافىّ» . [3] زيادات وجدت في نسخة الجوّانى المخطوطة ولم توجد في الأصل «الفوتو غرافىّ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 اسمه عليهم لما تزوّج أمّهم هند ابنة بكر بن وائل وخلف عليها بعد أخيه، فضم إليه بنى أخيه المذكورين مع أمّهم هذه، وهم صغار فربوا في حجره فنسبهم العرب إلى على. وسيأتى من هذا الباب أمثال له في مواضعها إن شاء الله تعالى. والطبقة الثانية الجماهير، والتجمهر: الاجتماع والكثرة؛ ومنه قولهم: جماهير العرب أى جماعتهم، ومنه ترجمة مجموع لغة العرب «الجمهرة» الكتاب الذى ألفه أبو بكر بن دريد وجمهرة «الأنساب» أى مجموعها والله أعلم. والطبقة الثالثة الشعوب، واحدها شعب؛ ويقال شعب؛ ويقال في القبيلة بالفتح وفي الجنبل بالكسر: وهو الذى يجمع القبائل وتتشعب منه، ويشبه بالرأس من الجسد؛ قال الله تعالى: (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) الآية. والطبقة الرابعة القبيلة ، وهى التى دون الشعب تجمع العمائر؛ وإنما سميت قبيلة لتقابل بعضها ببعض واستوائها في العدد؛ وهى بمنزلة الصدر من الجسد. والطبقة الخامسة العمائر، واحدها عمارة: وهى التى دون القبائل. وتجمع البطون؛ وهى بمنزلة اليدين. والطبقة السادسة البطون، واحدها بطن: وهى التى تجمع الأفخاذ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 والطبقة السابعة الأفخاذ، واحدها فخذ وفخذ، مثل كبد وكبد: وهى أصغر من البطن. والفخذ تجمع العشائر. والطبقة الثامنة العشائر، واحدها عشيرة: وهم الذين يتعاقلون إلى أربعة آباء. وسميت بذلك لمعاشرة الرجل إياهم، قال الله تعالى: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) . فدعا النبى صلى الله عليه وسلم علياء قريش إلى أن اقتصر على بنى عبد مناف؛ وهم يجتمعون معه في الجدّ الرابع. فمن هاهنا جرت السنة بالمعاقلة إلى أربعة آباء؛ وهم بمنزلة الساقين من الجسد اللتين يعتمد عليهما دون الأفخاذ. والطبقة التاسعة الفصائل ، واحدها فصيلة؛ وهم أهل بيت الرجل وخاصته؛ قال الله تعالى: (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ) وهى بمنزلة القدم. والطبقة العاشرة الرهط، وهم رهط الرجل وأسرته: بمنزلة أصابع القدم. والرهط دون العشرة، والأسرة أكثر من ذلك، قال الله عز وجل: (وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ) . قال السيد أبو طالب في قصيدته المشهورة التى يمدح فيها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحضرت عند البيت رهطى وأسرتى ... وأمسكت من أثوابه بالوصائل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 ورهطه بنو عبد المطلب وكانوا دون العشرة. وأسرته من بنى عبد مناف الذين عاضدوه في نصرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. تمثيل التفصيل- عدنان جذم، قبائل معد جمهور، نزار بن معد شعب، مضر قبيلة، خندف عمارة: وهم ولد إلياس بن مضر، كنانة بطن، قريش فخذ، قصى عشيرة، عبد مناف فصيلة، بنو هاشم رهط. وحيث انتهى القول في ذكر الطبقات فلنأخذ الآن في بسط النسب وسرده فنقول وبالله التوفيق. أصل النسب (أبو البشر آدم عليه السلام) وآدم هو الجدّ الخمسون لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمود النسب الطاهر المحمدىّ من آدم عليه السلام في ابنه شيث بن آدم عليهما السلام: وهو هبة الله، وأمّه حواء أمة الله. ولما قتل قابيل بن آدم أخاه هابيل، ولد شيث؛ وقال آدم عليه السلام: هذا هبة من الله وخلف صالح. وهو الذى بنى الكعبة- شرفها الله تعالى- بالطين والحجارة على موضع الخيمة التى كان الله تعالى وضعها لآدم من الجنة. وقال وهب: إن الله تعالى أنزل على شيث خمسين صحيفة، ورزق عدّة من البنين والبنات. والعقب منه في ابنه أنوش بن شيث وأمّه لبود ابنة آدم عليه السلام. وهو الذى غرس النخلة وزرع الحبة، ونطق بالحكمة؛ وتدعى أمّه محوايلة البيضاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 والعقب منه في ابنه قينان بن أنوش، وله ولد اسمه أروى (أعنى لأنوش) ، اعقب وانقرض عقبه. والعقب من قينان في ابنه مهلائيل بن قينان ولم يرزق غيره. والعقب منه في ولده يارد بن مهلائيل. وكان ليارد اخوة. والعقب من يارد في ابنه أخنوخ بن يارد، وهو إدريس النبى عليه السلام، وأمّه تدعى بره. قيل سمى إدريس لدرسه الصحف الثلاثين التى أنزلها الله تعالى عليه؛ وهو أوّل من خطّ بالقلم، وكان له إخوة انقرضوا. والعقب منه في ابنه متوشلخ بن أخنوخ، وأمّه بروخا. وعقبه في ابنه لملك بن متوشلخ، واسمه لامخ. والعقب منه في ابنه نوح النبىّ عليه السلام، وأمّه قينوش ابنة بركائل بن محوايل، وهو عليه السلام آدم الثانى: لأنه لا عقب لآدم عليه السلام إلا من نوح وولده. وإخوة نوح عليه السلام جماعة: منهم صالح بن ملك، وسقطان، ومنان، وترسيس، وصدفا؛ وكان لهم أولاد انقرضوا كلهم والعقب من نوح لا غير؛ ورزق ملك والد نوح عليه السلام نوحا، وله من العمر مائة واثنان وثمانون سنة؛ وتوفى وقد مضى من عمر نوح خمسمائة سنة. واختلف في عمر نوح: فقيل عاش ألف سنة إلا خمسين عاما: ستمائة قبل الطوفان وثلاثمائة وخمسين سنة بعده. وقيل بل لبث قبل الطوفان ألف سنة إلا خمسين عاما، على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى في قصته في التاريخ. وعمود النسب من نوح فى ابنه سام بن نوح عليه السلام؛ وسام هو الجدّ الأربعون لسيدنا رسول الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 صلى الله عليه وسلم، وأمّه عمردة. وإخوة سام حام، ويافث، وبوناطل، وسالوم وهو الذى غرق في الطوفان. وأما سام بن نوح، فإن الله تعالى جعل في ذرّيته الكتاب والنبوّة والملك والجمال والبياض، ونزلوا ما بين ساقيد إلى البحر، وما بين البحر إلى الشام: وهو وسط الأرض، والحرم وما حوله، والحرم إلى حضرموت، وإلى عمان، وإلى عالج والدهناء. والعقب من يافث بن نوح طرسوس، وهمذان، والجبال، والجزر، وفرنجة، والصقالبة الذين على تخوم القسطنطينية، واشكار، والترك، وقبرس، ويأجوج، ومأجوج، وكومر، والمصيصة، وأدنه، وروادنيم، وماسج، وخراسان، وباوال، ويونان، وبرجام، وكرد بن مرد بن يافث. قال: وهذه رواية العلماء بالنسب، وسنذكر خبر كرد بعد هذا في موضعه. ومن ولد يونان بن يافث الروم واليونانيون؛ كان منهم الفلاسفة وأهل الحكمة كالإسكندر وغيره. وولد بوناطل بن نوح: وهو الذى عقد الألوية للناس حين تفرقوا: الأرغار، والبعاس، والدكايك، والدمشق؛ وهم أمم لا يحصون خلف صين الصين. والعقب من حام بن نوح، الهند والسند والنوب، والزنج، والحبشة، والقبط، والبربر، ومصرايم أو اسمه مصر بن حام. وذكر صاحب الشجرة: أن مصرايم أعقب من ابنه لوديم، وأن لوديم أعقب قبط مصر بالصعيد، والبيهيم، والتفوحيم، والبرنسيم، والكشلوجيم، والقابدقابين، ومودشايا، وكوشابا، وهبورشابا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 قال: وهؤلاء بأجمعهم ولد قوط بن حام، وأندلش، وكوشان؛ فولد قوط بن حام مصر، فولد مصر بن قوط قبط: وهم قبط مصر؛ وبهم سمّيت مصر مصر. قال: هذا قول شيوخنا. وذكر أهل التاريخ: أن مصر سمّيت بمصر بن بيصر بن حام؛ كل ذلك قد قيل وهو الأكثر عن العلماء. وقال أبو المنذر النسابة في روايته: إن السند والهند وما بينهما من البلاد قتلهم يوشع ابن نون إلا بقيّة منهم يسيرة لحقوا بأطراف بلاد السودان: وهم الذين ما بين مصر إلى بلاد السودان، ومنهم البربر والبجة. وذكر صاحب الشجرة: أن كوش أبو الحبش، وأنه كوش بن حام، وأنه أعقب من نمرود أبى ملوك بابل، ومن أحويلا وهو الواحات، ومن سفنا وهو أبو زغاوة، ومن سبإ، ومن سفخا: وهو أبو الدمدم، ومن رعما وهو أبو البقاقو من السودان، والعقب من زعما هذا من سبإ أبى الهند ومن دادان أبى السند. وذكر أبو المنذر النسابة أن كنعان بن حام أعقب من حماة، وحمص، واروادودى وطرابلس، وصيدون، وهى صيداء، وحاث، ونفوسة، وهوارة، ومزاتة، وامورا، وكركاسى، ومزانة من البربر. قال الجوّانىّ: وهذا كلّه بيّن الخلاف بين النسابين؛ ومن النسابين من يلحق لواتة وهم ولد برّ بالبربر هذا بن كنعان بن حام، ومن اللواتيّين من يقول فيهم: إنهم قيس، ويعبرون أنهم من ولد جابر بن بغيض، بن ريث، بن غطفان؛ وأنّ جابرا جدّهم عمّ فزارة. ومن لواتة ومزاتة من يزعم أنهم قوم ناقلة صاروا إلى بلد البربر، وأن البربر إنما هم هوّارة، وصنهاجة، وأن أباهم تزوّج امرأة منهم يقال لها: تصوين، فنسبوا إلى أمهم، وهوّارة تزعم أنهم قوم ناقلة من يمن جهلوا أنسابهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 وولد لواتة بن برّ: وهو لواتة أربعة أفخاد: وهم زنّارة ومصّانا ونيطا وتطوفا؛ ولكلّ فخذ من هذه الأفخاذ عدّة عشائر، حصل الإضراب عن ذكرها رغبة فى الاختصار. فلنرجع إلى عمود النسب فنقول: إن عمود النسب الشريف من سام بن نوح في ابنه أرفخشذ بن سام؛ وأمه من بنات الملوك. وكان لسام من الأولاد غير أرفخشذ: إرم ولاوذ وأشوذ وغليم وماش (والموصل ولد وأبو الأرمن وخوزستان أولاد سام) [1] . وفيهم خلاف عند النسابين. والعقب من إرم بن سام من عوص وجاثر وماش وأهلوا وإيران أولاد إرم. فالعقب من أهلوا بن إرم بن سام: قادسان. والعقب من أكراد [2] جدّ القبيلة المعروفة بالأكراد، فى قول أكثر النّسّابين. ومن عشيرة القبيلة من يذكر أنهم من بنى عمرو بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن العبسىّ كما نذكره في بنى هوازن. وفي الأكراد عدّة بطون: كالحلاليّة والمروانيّة وغيرهما. وقد ذكر بعض النسابين أن كرد بن مرد بن يافث بن نوح. وفي ذلك خلاف. والعقب من عوص بن إرم بن سام: عاد، وبه سمّيت عاد إرم. والعقب من ماش بن إرم بن سام من نبيط: وهو نبط سواد العراق.   [1] هكذا في الأصل بحروفه وجاء في «العبر» أن بنى أشوذ هم أهل الموصل وبنى غليم أهل خوزستان، ولعله الصواب. [2] لعله والعقب من إيران في كرد الخ، انظر «العبر» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 والعقب من جاثر بن إرم: ثمود وجديس. فالعقب من ثمود بن جاثر: فالج وهيلع وبنوق وأرام؛ من ولده صالح النبىّ عليه السلام ابن أسف بن كماشج بن أرام بن ثمود. والعقب من لاوذ بن سام: عمليق وهو أبو العمالقة والفراعنة والجبابرة بمصر والشام، وطسم بن لاوذ وأميم بن لاوذ. وفرعون موسى: هو الوليد بن مصعب ابن أشمير بن الهون بن عمليق بن لاوذ بن سام. وولد الفرس أشور [1] بن سام: تيرش وهم الفرس؛ وبهم سمّيت فارس؛ ومنهم الأكاسرة. وولد غليم بن سام: خوزان وهم الخوز الذين مساكنهم بلاد الأهواز مما يلى بحر الصين. فلنرجع إلى سرد عمود النسب فنقول: إن عمود النسب منه في شالخ [2] بن أرفخشذ وكان له من الأولاد غير شالخ مالك وقينان ابنا أرفخشذ. قال: وزعموا أن قينان أوّل من نظر في علم النجوم بعد الطوفان واستنبط ذلك من تنّور صفر كان فيه علمها قبل الطوفان، ودفن في الأرض فاستخرجه وعلم ما فيه. والعقب من شالخ في ابنه عابر بن شالخ، وعابر: هو هود النبىّ عليه السلام؛ وأمّه مرجانة وهو جماع النسب. وله من الأولاد: فالغ، وفيه عمود النسب، وهو أبو قريش وقحطان ويقطن. فولد يقطن بن عابر: جرهم بن يقطن، كانوا ولاة البيت الحرام فمكثوا ما شاء الله، ثم استحلّوا المحارم، وكثرت فيهم المآثم، فأخرجهم الله تعالى من جوار بيته، ورماهم بالفناء فلم يبق منهم أحد. وفيهم يقول القائل: وبادوا كما بادت بقيّة جرهم   [1] هكذا بالأصل وفي «العبر» : أنهم من ولد إيران بن أشوذ بن سام بن نوح. وفي ابن الأثير أنهم بنو فارس بن تيرش بن ماسور بن سام. [2] وردت هكذا في كل المصادر التى يعتمد عليها في النسب ووردت في الكتاب المقدس في سفر التكوين (شالح) بالحاء المهملة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 وقحطان بن عابر هو أبو اليمن كلها، وجذم نسبها. وولد قحطان هم العرب المتعرّبة؛ إذ العرب ثلاث فرق: عاربة ومتعرّبة ومستعربة. فأما العاربة فهم تسع قبائل من ولد إرم بن سام بن نوح: وهم عاد، ثم ثمود، ثم أميم، ثم عبيل، ثم طسم، ثم جديس، ثم عمليق، ثم جرهم، ثم وبار. فعاد وعبيل ابنا عوص بن إرم بن سام بن نوح، وطسم وعمليق وأميم: بنو لاوذ بن سام؛ وثمود وجديس ابنا جاثر بن إرم بن سام؛ ووبار وجرهم ابنا فالغ بن عابر: فهذه العرب العاربة. وأما المتعربة فهم بنو قحطان بن عابر الذين نطقوا بلسان العرب العاربة وسكنوا ديارهم. وأما المستعربة فهم بنو إسماعيل بن إبراهيم: وهم بنو عدنان بن أدّ. قال الشريف الجوّانى: وهذا مختصر من نسب اليمن. قال: إن العقب من قحطان ابن عابر من يعرب بن قحطان: وهو الذى زعمت يمن أن العرب إنما سميت عربا به وأنه أوّل من تكلم بالعربية ونزل أرض اليمن فهو أبو اليمن كلّها. وذكر بعض النسّابين أن حضرموت بن قحطان، وإليه ينسب كلّ حضرمىّ. وقيل. حضرموت من ولد حمير، وإنه حضرموت بن عمرو بن قيس بن معاوية ابن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن ابن الهميسع بن حمير. قال: وعلى ذلك اعتماد شيوخنا في النسب. وقال آخرون: هو حضرموت بن يقطان بن عابر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 فولد يعرب بن قحطان: يشجب؛ فولد يشجب بن يعرب: سبأ واسمه عبد شمس؛ وإنما سمى بسبإ لأنه أوّل من سبى من العرب، فولد سبأ بن يشجب: حمير وكهلان. وقالت طائفة من النسّابين: ومراء بن سبإ. فولد مراء بن سبإ: شعبان قبيلة وصريحان قبيلة، ولهم عدد ومدد. وولد حمير بن سبإ بن يشجب: مالكا وعامرا وعوفا وسعدا ووائلة وعمرا وهميسعا. فأما عمرو بن حمير فهم آل ذى رعين ملوك اليمن: وهم بنو الحارث بن عمرو ابن حمير. ومن النسّابين من ينسب ذارعين الى أنه ولد زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن حمير: وهم عشيرة ذى أصبح وعشيرة سيف بن ذى يزن. قال: وشيوخنا في النسب ينسبون التبابعة الملوك إلى أيمن بن هميسع بن حمير ولا خلاف عندهم فيه وأنهم يرجعون إلى أيمن. وأما عامر بن حمير، فمنه قبائل يحصب كلّها، وهو يحصب بن دهمان بن عامر بن حمير. قال: ومن شيوخ النسب من قال: يحصب بن ذى يزن بن ذى أصبح بن زيد بن الغوث بن سعد بن عوف بن مالك بن زيد بن سدد بن زرعة، وهم حمير الأصغر. وأما هميسع بن حمير فمن ولده: صنهاجة: القبيلة المشهورة المعقبة بالمغرب وفي ذلك خلاف؛ وهى من بنى زهير بن أيمن بن هميسع بن حمير، وصنهاجة اسم الجدّ للقبيلة كلها: وهو صنهاجة بن المثنّى بن المسور بن يحصب بن ذى يزن بن ذى أصبح بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 زيد بن الغوث بن سعد بن عوف بن عدىّ بن مالك بن زيد بن سدد بن زرعة، وهم حمير الاصغر بن سبإ الأصغر بن كعب بن كهف الظلم، بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن هميسع المذكور. قال: وإلى ذى أصبح هذا يرجع الإمام مالك بن أنس الأصبحىّ. وقيل: ذو يزن ابن أسلم بن زيد، وذو أصبح بن مالك بن زيد. قال: ومن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس هذا الذى في عمود النسب ثلاث بطون غير سهل بن عمرو: وهم شعبان بن عمرو وحيران بن عمرو وحضرموت بن عمرو؛ وحضرموت هذا هى القبيلة التى ينسب إليها كلّ حضرمىّ وقد تقدّم ذكره. وأما سعد بن حمير، فمنه السّلف البطن المشهورة، وأسلم بطن: وهما ابنا ربيعة ابن سعد بن حمير. وأما وائلة بن حمير، فمنهم السّكاسك: وهم بنو زيد بن وائلة بن حمير، وهى غير سكاسك كندة. وأما مالك بن حمير فمن ولده قضاعة: وهم قضاعة بن مالك بن مرّة بن عمرو بن زيد بن مالك بن حمير البطن المشهورة على ما نذكره. وقيل: إنها من ولد معدّ بن عدنان وفي ذلك يقول القائل: أبوكم معدّ كان يكنى ببكره ... قضاعة ما كنّى به من تجمجما. ومن قضاعة ثلاث بطون: وهم عمران بن الحاف بن قضاعة وعمرو بن الحاف وأسلم بن الحاف بن قضاعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 فأما البطن الأولى من قضاعة: وهم ولد عمران، فأعقب حلوان بن عمران بن الحلف بن قضاعة من خمس قبائل: وهم تغلب الغلباء، ويقال: تغلبىّ قضاعىّ أو يمنىّ، يراد به هذا الأب؛ وتغلبىّ معدّىّ أو نزارىّ، فيراد به تغلب بن وائل بن قاسط الذى فى أسد بن ربيعة بن نزار؛ وعشم بن حلوان، وزبّان بن حلوان، وعمرو بن حلوان وهو سليح وتزيد بن حلوان (بالتاء باثنتين من فوق وفتحها) . والعقب من تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة: وبرة بن تغلب. والعقب من وبرة بن تغلب من خمس أفخاذ: كلب بن وبرة، وإليه ينسب كلّ كلبىّ، وفيهم عدة أفخاذ وعشائر: كبنى عوف وبنى ضمضم وبنى غليم وبنى زهير وبنى كنانة، والجميع عشائر يرجعون إلى عذرة بن زيد الله بن رفيدة بن ثور بن كلب، وعرينة بن ثور بن كلب بن وبرة، وإليه يرجع كل عرنىّ، وأسد بن وبرة، والبرك ابن وبرة، والنّمر بن وبرة، والتغلب بن وبرة، وفهد، وضبع، ودبّ، وسيد، وسرحان، وذئب أولاد وبرة بن تغلب الغلباء. فمن أسد بن وبرة: بنو القين بن جسر بن شيع الله بن أسد، وتنوخ: وهو مالك بن زهير بن عمرو بن فهم بن تيم الله بن أسد؛ والى تنوخ هذا ينسب كلّ تنوخىّ؛ واليه يرجع أبو العلاء المعرّى الشاعر. وأعقب نمر بن وبرة بن تغلب في ثلاث أفخاذ: خشين، واليه يرجع كلّ خشنىّ وهو نمير، منهم أبو ثعلبة الخشنىّ الصحابىّ رضى الله عنه؛ ومشجعة بن تيم بن النّمر بن وبرة، واليه يرجع كلّ مشجعىّ، وغاضرة بن النّمر وعاتية بن النمر إلا أنهما دخيلان فى سليم. قالوا: عاتية وغاضرة ابنا سليم بن منصور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 وأما زبّان بن حلوان فأعقب من جرم بن زبّان، واليه يرجع كلّ جرمىّ. وفي جرم عدة بطون: منها ملكان بن جرم بفتح الميم واللام؛ بطن. وأما عمرو بن الحاف بن قضاعة فأعقب من ثلاث أفخاذ: بلىّ بن عمرو، وبهراء ابن عمرو، وحيدان، وقيل: حدّان بن عمرو؛ والى بلىّ هذا ينسب كلّ بلوىّ ككعب ابن عجرة البلوىّ، وبنو العجلان، وبنو أنيف، وبنو عصية [1] : وهم كلّهم حلفاء الأنصار: بنى عمرو بن عوف من الأوس وهى قبائل من بلىّ في الأنصار، منهم: المجذّر ابن ذياد وطلحة بن البرّاق، وأبو بردة بن نيار الصحابىّ بلوىّ حليف الأنصار واسمه هانئ. وأما بهراء بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، فإليه ينسب كلّ بهرانىّ كالمقداد بن الأسود الكندىّ ولم يكن كنديّا ولكن كان بهرانيّا قضاعيّا: لأنه المقداد بن عمرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة بن ثمامة بن مطرود بن عمرو بن سعد بن لؤىّ بن ثعلبة ابن مالك بن الشّريد بن أبى أهون بن قيس بن دريم بن القين بن أهود بن بهراء. وإنما قيل المقداد بن الأسود لأن الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف ابن زهرة تبنّاه لحلف كان بينهم فنسب اليه، وكان أبوه عمرو حليفا في كندة. وفي بهراء بطون. وأما حيدان، ويقال: حدّان بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، فمن بطونه خمس: عريب بن حيدان، وعريد بن جيدان، وتزيد بن حيدان؛ واليه تنسب الثياب التّزيدية، ومهرة بن حيدان. وإلى مهرة هذا ينسب كلّ مهرىّ، وفي مهرة أفخاذ، وحيادة بن حيدان.   [1] هكذا في الأصل، وفي الجوّانى: «غصينة» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 وأما أسلم بن الحاف بن قضاعة، فأعقب من فخذين: حوتكة وسود؛ فأما سود ابن أسلم بن الحاف، فأعقب من زيد وليث ابنى سود، وأعقب زيد بن سود من أربع بطون: جهينة، واليه يرجع كلّ جهنىّ، ونهد: رهط أبى عثمان النّهدىّ؛ واليه يرجع كلّ نهدىّ، وسعد هذيم، وعذرة؛ واليه يرجع كلّ عذرىّ أولاد زيد بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة. وقال ابن الكلبىّ: عذرة بن زيد اللّات بن رفيدة بن كلب بن وبرة. فأما جهينة بن زيد، فرهط عقبة بن عامر الجهنىّ الصحابىّ. وفي جهينة الحرقة وهم بنو أحمس بن عامر بن مودعة بن جهينة. وفي نهد بن سود المقدّم ذكره: بنو حرقة بن خزيمة بن نهد. وفي عذرة بن زيد بن سود بن أسلم: بنو ضنّة بالنون بن عبد بن كبير بن عذرة بن زيد ابن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة. ومن ولد ليث بن سود بن أسلم: بنو علّة بكسر العين مشدّدة اللام بن غنم بن سعد ابن زيد بن ليث بن سود، وفي سعد هذيم بن زيد بن سود: بنو علّة بن غنم ابن ضنّة بن سعد هذيم بن زيد بن سود بن أسلم. قال: فهذا نهاية الاختصار في نسب حمير. وهذا ولد كهلان أخيه. قال: وولد كهلان بن سبإ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عابر عليه السلام: زيدا، فولد زيد بن كهلان بن سبإ بن يشجب بن قحطان: مالكا وعريبا وهما فخذان. فالعقب من عريب بن زيد بن كهلان من يشجب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 والعقب من يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان من زيد بن يشجب. والعقب من زيد هذا: أدد بن زيد بن يشجب. والعقب من أدّد في طيّئ بن أدد، واسمه جلهمة؛ وهو البطن العليا، واليه ينسب كل طائىّ، والأشعر بن أدد، واليه يرجع كل أشعرى، واسم الأشعر نبت، وإنما قيل له الأشعر: لأنه ولد أشعر الجسد، ومالك بن أدد وهو مذحج، واليه يرجع كلّ مذحجىّ. وقيل: إن مذحج أمّ مالك بن أدد فنسب اليها ولدها. وقيل: بل هى أكمة حمراء ولد عليها مالك، فعرف بها ولده. وقيل: بل اجتمعوا على الأكمة باليمن، والأكمة تسمى مذحج، فقالوا: تعالوا نجعل مذحجا أمّا. وذكر ابن عبد البرّ في روايته: أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أكثر القبائل في الجنة مذحج» : ومذحج إحدى الجماجم التسع من جماجم العرب، سمّوا جماجم لأن ميلادها استوى بميلاد قبائل بإزائها من أفناء العرب، ثم تفرّعت منها قبائل اجتزأت بأسمائها والانتساب إليها فبعدت عنها واكتفت بانتسابها إليها. ومرّة بن أدد: أربع أبطن لأدد. والعقب من طيئ بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان من فخذين: فطرة والغوث ابنى طيئ. والعقب من فطرة بن طيّئ بن أدد من سعد بن فطرة. ومنه في خارجة بن سعد ومنه في جندب، ومنه في رومان بن جندب. والعقب من رومان بن جندب بن خارجة بن سعد بن فطرة من بطنين: ذهل وثعلبة، وهما الثّعلبتان وجماعة صغار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 والعقب من الغوث بن طيّئ من عمرو بن الغوث. والعقب من عمرو بن الغوث بن طيّئ من ثعل: بطن، ونبهان: بطن، وهناء ابن عمرو: بطن، وثعلبة بن عمرو: بطن، ومزروعة بن عمرو: بطن، وحسّان بن عمرو: بطن، وزيد بن عمرو: بطن، وخشين بن عمرو: بطن؛ وإلى نبهان هذا ينسب كل نبهانىّ. والعقب من نبهان بن عمرو بن الغوث بن طيّئ من ابنيه: سعد ونائل، ومن بنى سعد بن نبهان: بنو اليسر بن ثعلبة بن نصر بن سعد بن نبهان: فخذ، وإلى هناء ابن عمرو هذا ينسب كلّ هنائىّ. والعقب من ثعل بن عمرو بن الغوث [1] . فأما سلامان فالعقب منه من عنيز وثعلبة ونبل [2] أولاد سلامان لصلبه؛ وعنيز هذا جدّ القبيلة المشهورة؛ وثعلبة هذا جدّ ثعلبة طائفة من العربان المجاورين للدّاروم من الشام [وهم] بطنان: درما وزريق، فالعقب من عنيز بن سلامان بن ثعل بن عمرو بن الغوث بن طيّئ من فخذين: فرير بن عنيز، له عدد، وعتود بن عنيز. والعقب من عتود، من معن وبحتر ابنيه، وإليهما يرجع كلّ معنىّ وبحترىّ، والشاعر البحترىّ منهم. والعقب من معن بن عتود من ثلاث: ثوب، وودّ، ومالك: بنى معن بن عتود.   [1] أسقط الناسخ الخبر وهو «من سلامان وجرول فأما الخ» كما يؤخذ مما يأتى في التفصيل فتنبه. [2] كذا بالأصل. ولعلها محرفة عن «نابل» أنظر نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب؛ للقلقشخدى. فى الكلام على بنى نابل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 والعقب من ثوب بن معن: غنم له عدد، وأبو حارثة فأعقب من غنم بن ثوب بن معن بن سلسلة الفخذ التى يرجع إليها كلّ بنى سلسلة المعنيّون. وأما بحتر بن عتود بن عنيز بن سلامان فالعقب منه في تدول بن بحتر. والعقب من تدول من ستة أفخاذ: وهم جدىّ، وسنام، وأيمن، وخيثم، وأعور، وسالم أولاد تدول. وأما ثعلبة بن سلامان بن ثعل بن عمرو بن الغوث بن طيّئ فأعقب من عوف ابن ثعلبة، وأعقب عوف من فخذين: درما وزريق؛ ودرما هو عمرو بن عوف ودرما أمّه. فأعقب درما بن عوف بن ثعلبة بن سلامان من خمس أفخاذ: سلامة والأحمر وعمرو وقصير والأوس: أولاد درما. وأعقب زريق بن عوف بن ثعلبة من فخذين: لبنى والأشعث ولدى زريق. وأما جرول بن ثعل بن عمرو بن الغوث بن طيّئ، فأعقب من ابنيه: معاوية وربيعة؛ فأعقب معاوية بن جرول من سنبس [1] : القبيلة المشهورة، وعدىّ ولوذان: أولاد معاوية. والعقب من سنبس بن معاوية بن جرول من ثلاث أفخاذ: عمرو، ولبيد، وعدىّ؛ فأما لبيد بن سنبس، فأعقب من حرمز، فأعقب حرمز من يحصب وجرم؛ وعقدة أولاد لبيد فخذان. وإلى لبيد هذا تنسب العرب السّنابسة الذين بالبحيرة من أعمال مصر؛ وهم من فخذ يقال لها: قنّة بن خلّاد. وأما عدىّ بن سنبس بن معاوية، فأعقب من أبان بن عدىّ، وهو فخذ.   [1] ضبط في الأصل بضم السين والباء وكذا في صبح الأعشى: وضبطه السويدىّ في سبائك الذهب بفتح السين. وذكر في القاموس أنه بالكسر وكذا هو في الصحاح واللسان وكتاب المعارف لابن قتيبة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 والعقب من ربيعة بن جرول بن أبى أحزم: هزومة، وأعقب هزومة من أحزم، وأعقب أحزم من عبشمس مكسور الباء متصلا. وأما مذجح: وهو مالك بن أدد بن زيد فأعقب من أفخاذ أربعة: سعد العشيرة، ومراد: هو يحابر، وعنس، ولميس، وجلد أولاد مالك وهو مذجح. وإلى مراد هذا ينسب كلّ مرادىّ، وسمّى مرادا لتمرّده، وإلى عنس ينسب كلّ عنسىّ، منهم عمّار بن ياسر الصحابىّ والأسود العنسىّ الكذّاب. والعقب من سعد العشيرة بن مالك من ثلاث عشرة فخذا: وهم زيد اللات، وعابد اللات، وعبد اللات، وجا [1] ، وجعفىّ، وجرد، وحكم، وأوس اللات، ونمرة، وأنس اللات، وسعد اللات، وعمرو، وصعب: أولاد سعد العشيرة لصلبه. فإلى جعفىّ هذا ينسب الجعفيّون، وإلى نمرة ينسب النمريّون؛ وفي نمرة فخذان: جدا، على وزن ندا، وسلهم ابنا نمرة. وأما جعفىّ فالعقب منه في فخذين: مرّان، وحريم ابنى جعفىّ بن سعد العشيرة، يرجع [2] بنو سلهم بن حكم فخذ بكسر السين والهاء. وأما صعب بن سعد العشيرة، فالعقب منه في زبيد، واسمه منبّه، وإليه يرجع كل زبيدىّ؛ وفيهم عدّة أفخاذ منهم بنو حرب وغيرهم. وقيل للفخذ زبيد وهم بنو منبّه الأكبر لأن منبّها الأصغر بن صعب بن سعد العشيرة بن مالك بن أدد قال: من يزبدنى رفده؟ فأجابه إلى ذلك أعمامه كلّهم بنو منبّه الأكبر، فقيل لهم جميعا زبيد. ومن بنى زبيد مازن بن منبّه.   [1] كذا بالأصل وصوابه «خارجة» . [2] كذا بالأصل والكلام مبنور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 والعقب من مراد بن مذجح من فخذين: ناجية وزاهر ابنى مراد بن مذجح. والعقب من ناجية: جمل بن كنانة بن ناجية بن مراد: رهط هند بن عمرو الجملىّ الذى قتله ابن يثربى في يوم الجمل؛ وجمل هذه رهط سيفويه القاص. قال: وينزلون بنهر الملك؛ وعطيف بن ناجية بن مراد رهط فروة بن مسيك العطيفىّ الصحابىّ، وسلمان بن يشكر بن ناجية بن مراد رهط عبيدة السّلمانىّ؛ وهو جاهلى إسلامىّ من كبار التابعين. ومن ناجية: قرن بن ردمان بن ناجية بن مراد: رهط أويس القرنىّ نفعنا الله والمسلمين ببركته. وفي مراد، تجوب: وهو رجل من حمير، كان أصاب دما في قومه فلجأ إلى مراد فقال: جئت اليكم أجوب البلاد لأحالفكم؛ فقيل له: أنت تجوب، فسمّى به؛ وهو في مراد رهط عبد الرحمن بن ملجم المرادىّ التّجوبىّ لعنه الله، قاتل علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه. وأمّا جلد بن مذحج، فأعقب منه علّة بن جلد؛ والعقب من علة من ثلاث أفخاذ: عمرو وعامر وحرب. فمن بنى حرب بن علة: رهاء: وهو رهاء بن منبّه بن حرب ابن علة: منهم مالك بن مرارة الرّهاوىّ الصحابىّ، ويزيد بن شجرة الرّهاوىّ، وصداء: وهو يزيد بن حرب بن علة، منهم زياد بن الحارث الصّدائىّ الصحابىّ. وأمّا عمرو بن علة بن جلد بن مذحج، فالعقب منه ثلاث أفخاذ: النّخع القبيلة المشهورة، وكعب، وعامر. فأمّا النّخع بن عمرو، فأعقب منه فخذان: مالك وعوف ابنا النّخع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 وأمّا كعب بن عمرو، فأعقب منه فخذان: الحارث، وهم بلحارث بن كعب ورعيل بن كعب. وأمّا عامر بن عمرو بن علة، فالعقب منه في فخذ واحدة: وهى مسلية بن عامر. وأمّا مرّة بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبإ، فأعقب من فخذين: مرهم والحارث ابنى مرّة بن أدد؛ فالعقب من الحارث من فخذين: عدىّ ومالك ولديه. فالعقب من مالك بن الحارث بن مرّة خولان بن عمرو بن مالك وإليه ينسب كلّ خولانىّ، ومعافر بن يعفر بن مالك بن الحارث ابن مرّة بن أدد بن زيد بن يشجب؛ وإليه ترجع المعافر في أنسابها، ولهم خطة بمصر، ومنهم فخذ بنى قرافة وهى أمّهم: وهم الذين عرفت بهم القرافة بمصر، ومسجدهم المسجد المعروف بمسجد الرحمة بالقرافة؛ وهم بنو عضّ بن سيف بن وائل بن الحرىّ بن المعافر بن يعفر. وأما عدىّ بن الحارث بن مرّة فأعقب من أربع أبطن لصلبه: وهم عفير ولخم: قبيلة؛ واسمه مالك بن عدىّ، وجذام بن عدىّ: قبيلة؛ واسمه عامر، والحارث بن عدىّ وهو عاملة: قبيلة، وإنما سمّيا لخما وجذاما: لأنّ أحدهما لخم وجه أخيه فسمّى لخما، واللخمة: اللطمة، وجذم الآخر إصبع أخيه فقطعها فسمّى جذاما: وهما القبيلتان المشهورتان؛ والحارث بن عدىّ وهو عاملة وإليه يرجع كلّ عاملىّ، وعاملة وهى بنت مالك بن وديعة بن قضاعة؛ وهى أمّ ولد الحارث المذكور. فأما عفير بن عدىّ بن الحارث فأعقب من ثور بن عفير، وثور هو كندة الملوك فأعقب كندة من فخذين: معاوية وأشرس ابنى ثور. والعقب من معاوية هذا من ابنيه مرتّع وزيد؛ فمن ولد مرتّع: بنو امرئ القيس وبنو الرائش وبنو معاوية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 الأكرمين وبنو وهب. وبنو بدّا مشدّد، خمسة: بنو الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتّع. وإلى معاوية بن الحارث يرجع امرؤ القيس بن حجر بن الحارث بن عمرو ابن حجر آكل المرار بن معاوية المذكور الكندىّ الشاعر. والنسب إلى امرئ القيس بن الحارث بن معاوية المقدّم ذكره: مرقسىّ، مسموع عن العرب، وكلّ امرئ القيس غيره في العرب فالنسب مرئىّ بوزن مرعىّ. والعقب من أشرس بن ثور وهو: كندة بن عفير بن عدىّ: السّكون بن أشرس، والسّكاسك: وهو حميس السّكسك بن أشرس، وإليهما ينسب السّكونيون والسّكسكيّون؛ ومن السكونيّين معاوية بن حديج السكونىّ الصحابىّ، وحاشد بن أشرس، ومالك بن أشرس. والعقب من السكون بن أشرس من فخذين: شبيب وعقبة ابنى السّكون. أعقب شبيب بن السكون من أشرس وشكامة، فأعقب أشرس بن شبيب بن السّكون ابن أشرس من عدىّ وسعد: وهم تجيب البطن المشهورة؛ ولهم خطة بمصر، وعرفوا بتجيب: وهى أمّهم بنت ثوبان بن سليم بن رهاء بن منبّه بن حرب بن علة ابن جلد بن مذحج. والعقب من مالك بن أشرس بن شبيب المذكور: الصّدف، واسمه عمرو بن مالك، وإليه ينسب كلّ صدفىّ بالفتح كما قالوا: شقرىّ ونمرىّ وسلمىّ: فى شقرة تميم ونمر ابن قاسط وسلمة من الأنصار. ومن النسّابين من قال: الصدف هو سماك بن عمرو ابن دعمىّ بن حضرموت. وأما لخم بن عدى، فأعقب من فخذين وهما لصلبه: نمارة وجديلة، ويقال: جديلة؛ وذكر الوزير أبو القاسم بن المغربىّ أنه قيل فيها: جدبلة بالباء بواحدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 والعقب من نمارة بن لخم بن عدىّ بن الحارث بن مرّة بن أدد بن مالك بن نمارة فخذ، وحبيب بن نمارة، وهو عمم [وعدىّ بن نمارة] [1] سمّى بذلك لأنّه أوّل من اعتمّ، وهو الذى عمّم ملوك العراق؛ ولهم إخوة صغار: كالوجفا بن نمارة وقبيصة وعمرو وعوف ومجن أولاد نمارة أعقبوا؛ ومن ينسب اليهم يعزى لجدّهم لخم وأمّهم نمارة. ومن بنى مالك بن نمارة الفخذ الأولى: بنو راشدة بن مالك بطن مشهورة. ومن بنى عدىّ بن نمارة؛ وهم عمم بن لخم: بنو نصر بن ربيعة من ربيعة بن نصر. ومن ولد نصر بن ربيعة: النعمان بن المنذر بن ماء السماء: وهى أمّه، بضدّ ما في غسّان، لأن غسّان عامرا ماء السماء أب فهو ثمّ «أب» وهاهنا «أمّ» ، وماء السماء هاهنا هو امرؤ القيس بن النعمان بن امرئ القيس بن عمرو بن عدىّ بن نصر بن ربيعة. قال: وفي ذلك خلاف. ومن بنى حبيب بن نمارة: بنو الدار بن هانئ بن حبيب بن نمارة، ينتسب كلّ دارىّ إلى هذه البطن، وهم رهط تميم الدارىّ الصحابىّ المعروف بالمختطف، وقد انقرض تميم الدارىّ ولا عقب له. وأما جريلة [2] بن لخم ويقال: جزيلة، فأعقب من أراش وحجر وحليل ويشكر وعمرو، أولاد جزيلة بن لخم. فمن بنى أراش بن جزيلة أرش بن أراش لا غير؛ ويقال: أريش مصغّرا.   [1] الزيادة عن «السبائك» وتؤخذ أيضا من كلامه الآتى قريبا. [2] كذا في الأصل وفي السبائك أيضا بالزاى وأوردها القاموس في مادة (ج ز ل) وهو مخالف لما سلف له قريبا من قوله (جديلة) فتنبّه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 والعقب من أرش بن أراش من فخذين: غنم وحدس- بالحاء المهملة والدال المهملة المحرّكتين- والحمراء القبيلة؛ لها خطة بمصر، والأشعث فخذ، وهذه الحمراء فى غيرها من الحمراء من قضاعة، وفهم، وعدوان، والأزد، وهذيل بن مدركة وبنى الأزرق وهم من الروم؛ ومنهم سمّيت الحمراوات. فأعقب غنم بن أريش بن أراش بن جزيلة بن لخم من صعب وفهم وزرّ وعمرو: أولاد غنم. ومن شيوخ النسب من قال: إن النعمان بن المنذر بن ماء السماء بن امرئ القيس. ابن المنذر بن النعمان بن امرئ القيس بن عيينة بن أبى الحرام بن العمرّط بن غنم ابن عودة بن عبيد بن زرّ المذكور. والعقب من حدس بن أريش بن أراش بن جزيلة بن لخم من ربيعة ورميمة. والعقب من ربيعة بن حدس أربع عشائر: منارة، وسعد، وكعب، والهذيم: بنو ربيعة. والعقب من هذيم هذا من حداد وعامر والحارث: بنى الهذيم. والعقب من رميمة بن حدس بن أريش بن أراش بن جزيلة من عمرو وجدّه. والعقب من عمرو بن رميمة هذا: الحارث وصعب وعلامة وعدىّ والمنذر وثعلبة. فأما الحارث بن عمرو فأعقب من أبىّ بن الحارث، فأعقب أبىّ من كليب وعدىّ. والعقب من كليب بن أبىّ [بن] الحارث من أربع أفخاذ: فيض والحارث وغنم وعميت: أولاد كليب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 والعقب من فيض بن كليب من أربع أفخاذ: أبى الشتاء، ورقاش، وقحران، وصابى: أولاد فيض بن كليب. والعقب من الحارث بن كليب بن أبىّ من سعد وجدّه. وولد كعب بن غنم ثلاث أفخاذ: بنى قرقر بن كعب وبنى برّ بن كعب وبنى مرقّش بن كعب. ومن بنى برّ بن كعب: بنو واسع بن كعب: وهم بنو رومى وزهير وزير وحسان وبرّ: أولاد واسع، كلّ منهم فخذ. والعقب من عميت بن كليب بن أبىّ من دعجان وجدّه، ومن أفخاذه: مغالة بن دعجان: الفخذ المعروفة في آخرين. وأما حجر بن جزيلة بن لخم، فأعقب من ثلاث أفخاذ: أزدة وزغر وأذبّ. فأعقب أزدة من فخذين: منيع وعوف ابنى أزدة بن حجر. وأعقب زغر بن حجر من مالك بن دعن، وهو الذى استخرج يوسف الصدّيق عليه السلام من الجبّ، وله عقب. فهذا مختصر في نسب لخم. وأما جذام واسمه عامر، فالعقب منه في بطنين: حرام وحشم ابنى جذام. والعقب من حرام بن جذام من فخذين: إياس ومالك ابنى حرام بن جذام. والعقب من إياس بن حرام من ربيل بن إياس، ومن سعد بن إياس، فأعقب سعد هذا من أفصى، فأعقب أفصى بن سعد بن إياس من فخذين: زيد ومالك ابنى أفصى، وأعقب مالك هذا من سعد بطن المنسوب اليها بنو سعد جذام، وإن كان فى جذام عدّة سعود، لكن هذه ذات القعدد والبيت والصيت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 ومن ولد زيد بن أفصى بن سعد بن إياس بن حرام بن جذام: سعد بن مالك بن زيد المذكور: بطن؛ ووائل بن مالك ولهبة؛ وإلى وائل بن مالك بن زيد: يرجع زيد [1] بن زنباع في نسبه. والعقب من مالك بن حرام بن جذام، من وائل وسعد. أعقب وائل بن مالك من حبيش وجمع ومازن. من ولد حبيش: شعيب النبىّ عليه السلام: وهو شعيب بن ثويب بن حبيش المذكور ابن وائل بن مالك بن حرام بن جذام. وأعقب سعد ابن مالك بن حرام بن جذام من غطفان: البطن الأكبر في جذام. وأعقب غطفان ابن سعد من يامة بن عنبس بن غطفان وغنم بن غطفان. وأعقب يامة بن عنبس ابن غطفان من علىّ بن يامة. وأعقب علىّ من كعب بن علىّ. وأعقب كعب بن علىّ من ثلاثة أفخاذ لصلبه: عبيد ومطرود وعوف؛ من ولد عبيد بن كعب هذا: الضّبيب بن قرط بن حفيد بن؟؟؟ ح [2] بن عبيد: فخذ. وأعقب مطرود الضبيب هذا من ثعلبة بن أميّة بن الضبيب: فخذ، وعمرو بن مالك بن الضبيب: فخذ. وأعقب مطرود بن كعب بن علىّ من خالد وعمرو ومبذول ونفاثة. فأعقب غنم بن غطفان بن سعد، من نضرة بن غنم في آخرين، فأعقب نضرة ابن غنم بن صبرة الفخذ المشهورة ابن نصر. والعقب من حشم بن جذام من بديل بن حشم. فالعقب من بديل: بكر وشنوءة ابنى بديل. والعقب من بكر هذا من سود بن بكر. والعقب من سعد: أسود وعمرو   [1] لعل الصواب «روح» . [2] كذا بالأصل ولم نعثر على صحّها في كتب الأنساب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 ابنا سود. والعقب من أسعد بن سود بن بكر بن بديل بن حشم بن جذام من فخذين: السلّم والهون ابنى أسعد. وفي سود أيضا: السلّم بن مالك بن سود بإسكان اللام فخذ. والعقب من عمرو بن سود من لهبة وحبيش وعدا: أولاد عمرو. فهذا مختصر من نسب جذام. وأما عائذة: وهم ولد الحارث بن عدىّ بن الحارث بن مرة بن أدد بن يشجب وهو أخو جذام ولخم، فالعقب من الحارث بن عدىّ المذكور من فخذين: الزهد ومعاوية ابنى الحارث: وهما ابنا عاملة كما تقدّم؛ وزهد: فعل، من موهم: شىء زهيد أى قليل. والعقب من الزهد بن الحارث بن عدىّ من ثلاث أفخاذ: عوكلان وزحفان وسلمان: بنى الزهد. ومن بنى عوكلان المذكور السلّم بن ظبيان بن أبى عزم بن عوكلان المذكور. والعقب من معاوية بن الحارث بن عدىّ أخو الزهد خمس أفخاذ لصلبه: ثعل، وعجل، وسلمة، وقرّة، وثعلبة. قال: وهذا النهاية في اختصار نسب مرّة بن أدد. وأما الأشعر بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان، فأعقب من جماهير بن الأشعر وله عدد، وعبد الثريّا بن الأشعر وعبد شمس والأدغم ونعيم: أولاد الأشعر. وأعقب جماهير وهو جماهر بن الأشعر من ناجية بن جماهير له عدد. وأعقب ناجية من وائل بن ناجية وهو البيت. وهذا مختصر نسب الأشعريّين. ومنهم من الصحابة: أبو موسى وأبو عامر وأبو برزة؛ وهم فخذ متسع وفيه عدّة أفخاذ وعشائر يطول الكتاب بشرحها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 قال: وهذا نسب بنى مالك بن زيد بن كهلان بن سبإ بن يشجب بن يعرب ابن قحطان. فالعقب من مالك بن زيد من بطنين: وهما نبت والخيار ابنا مالك. والعقب من نبت من الغوث ابنه. والعقب من الغوث بن نبت من عمرو والأزد؛ وإلى هذا الأزد ينسب كلّ أزدىّ. فمن ولد عمرو بن الغوث: بجيلة: وهم ولد أنمار بن أراش بن عمرو بن لحيان ابن عمر وأم الغوث وبجيلة بن أنمار: وهى بنت صعب بن سعد العشيرة بن مذحج، وقد قيل: بل هى أم ولد أنمار. والعقب من أنمار بن أراش بن عمرو بن لحيان بن عمرو بن مالك بن زيد: خمس قبائل: الغوث وعبقر وصهيبة ووداعة وأفتل: وهو خثعم: بنو أنمار بن أراش. قال: وذكر علماؤنا في النسب أن بجيلة هو عبقر والغوث وصهيبه، وسمّوا بذلك لأجل أمهم بجيلة، وأن خثعم هو أفتل وأمّه هند بنت الغافق الأزدىّ، وسمّى خثعم باسم جمل كان لآل أنمار أو لآل أفتل بن أنمار، وكانوا يسمّونه خثعم. ويقال: بل قيل خثعم لأنهم تخثعموا بالدم؛ والأوّل أقرب إلى الصحيح. والعقب من الغوث بن أنمار من ثلاث أفخاذ: وهم زيد وأحمس وقيس كندة: بنو الغوث. وفي أحمس هذا: أسلم بن أحمس: فخذ؛ وفي أسلم بن أحمس بن الغوث: دهن. معاوية بن أسلم بن أحمس؛ فخذ: رهط عمّار بن أبى معاوية الدّهنىّ الصحابىّ. والعقب من عبقر: بجيلة بن أنمار بن أراش بن عمرو من ثلاث أفخاذ: قسر وعلقة وقطن: أولاد عبقر. وفي قسر: عرينة بن زيد بن قسر، يقال له: قسرىّ فى النسب، ويقال: عرنىّ. والى علقة يرجع كلّ علقىّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 والعقب من صهيبة بجيلة بن أنمار بن أراش بن عمرو: أتيد بن خطام بن صهيبة ابن أنمار: فخذ. والعقب من زرعة بن أنمار بن أراش بن عمرو بن لحيان بن عمرو من ثلاث أفخاذ: حزرق وسمط وحبيب: أولاد زرعة. والعقب من خثعم وهو أفتل بن أنمار بن أراش بن عمرو بن لحيان من ثلاث أفخاذ: شهران وربيعة وناهش: أولاد عقرس بن خلف بن أفتل وهو خثعم. وفي ربيعة بن أفرس: بنو أكلب بن ربيعة. فهذا مختصر كاف في بجيلة وخثعم. وأما الأزد بن الغوث (واسمه دراء: مثل رداء وقيل: درء مثل درع،) فالعقب من ولده أربع أبطن: وهم مازن وغسّان؛ وغسّان ماء بسدّ مأرب باليمن وقيل: بالمشلّل نزاوا به فنسبوا اليه. والى غسّان هذا ينسب كلّ غسّانىّ، ونصر وعبد الله والهنو بنو الأزد بن الغوث. والى غسّان هذا يرجع الأنصار، وقد يكون من غسّان من ليس أنصاريّا كثيرا، ويكون من مازن من ليس غسّانيا. والذى نزل على غسان من الأزد بعض بنى امرئ القيس البطريق بن ثعلبة البهلول ابن مازن وماويّة وربيعة وامرؤ القيس: بنو عمرو بن الأزد، وكرز وعامر ابنا ثعلبة البهلول بن مازن بن الأزد. والعقب من عبد الله بن الأزد بن الغوث من ثلاث أفخاذ: الحارث وقرن وعدثان: أولاد عبد الله بن الأزد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 والعقب من عدثان [1] هذا من عكّ وسود ومالك وغالب وكعب. ومن بنى سود ابن عدثان: طاحية بن سود: فخذ. والعقب من عك بن عدثان فخذان: الشاهد وصحار ابنا عكّ. والعقب من الشاهد بن عكّ: غافق، وإليه ينسب كلّ غافقىّ، قال: ولهم خطّة بمصر، وساعدة ابنا الشاهد. وقيل: بل هو غافق بن الحارث بن عك بن الحارث ابن عدثان. والعقب من صحار بن عك بن عدثان: بولان وعبس وغسّان: أولاد صحار هذا. وأما نضر بن الأزد، فأعقب من مالك بن نصر من أربع قبائل: عبد الله وراسب وميدعان وأكفر من حمار: أولاد مالك بن نصر بن الأزد. والى راسب ينسب كلّ راسبىّ. وفي بنى مالك راسبيّون أخر يأتى ذكرهم إن شاء الله تعالى. والعقب من عبد الله بن مالك في كعب بن عبد الله. ومنه في الحارث بن كعب. والعقب من الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك من ثلاث أفخاذ: كعب ومالك ونبيشة وهو فاسخة. فمن ولد فاسخة بن الحارث بن كعب: بنو غراء بن شريق ابن فاسخة؛ ومن ولد مالك بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر: بنو مجاعة وبنو الأرنب: ابنى مالك. والعقب من كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر: زهران وأحجن وعبد الله: أولاد كعب بن الحارث. والى زهران ينسب كلّ زهرانىّ.   [1] ورد في كل كتب النسب التى تحت أيدينا باسم (عدنان) بالنون وقال عنها صاحب القاموس ما يأتى: «وعك بن عدثان بالثاء المثلثة ابن عبد الله بن الأزد، وليس ابن عدنان أخا معدّ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 ومن أفخاذه: دهمان بن نصر بن زهران، وغاضرة بن زهران، ودوس بن عدثان من زهران، منهم: أبو هريرة الدوسىّ الصحابىّ؛ واسمه عمرو بن عامر، وفي اسمه خلاف. والعقب من أحجن بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر من ثلاث: أسلم ولهب وقرن، أولاد أحجن فمن أفخاذ أسلم هذا: بنو ثمالة وهو عوف بن أسلم بن أحجن: رهط محمد بن يزيد المبرّد النحوىّ؛ وفيه يقول عبد الصمد ابن المعدّل. سألنا عن ثمالة كلّ حىّ ... فقال القائلون: ومن ثماله؟ فقلت: محمد بن يزيد منهم ... فقالوا: زدتنا بهم جهاله. وأما ميدعان بن مالك بن نصر فمنه أربع أفخاذ: راسب واليه ينسب الراسبيّون أيضا، ومنهب وحبيب ومعاوية: بنو مالك بن ميدعان. فهذا مختصر نسب بنى نصر الأزديّين. وأما الهنو بن الأزد، فأعقب من سبع أفخاذ: الهون وبديد ودهنة وبرقا وعوجا وأفكه وحجر: أولاد الهنو. فأعقب الهون من فخذين: النّدب ونكل. وأما مازن بن غسّان بن الأزد فأعقب من فخذين لصليه: وهما عمرو وثعلبة العنقاء، سمّى بالعنقاء: لطول عنقه. فالعقب من عمرو بن مازن بن الأزد في عدّة أولاد، كلّهم في الأزد، من جماجمهم: عدىّ والعاص. فأما العاص فمن ولده: بنو بقيلة بن سنين بن زيد بن سعد بن عدىّ ابن نمير بن صوفة بن العاص بن عمرو بن مازن، وسمّى بقيلة: لأنه لبس ثوبين أخضرين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 وأما عدىّ بن عمرو بن مازن بن الأزد، فأعقب من عدّة أولاد، من جماجمهم: هند بن هند بن عمرو بن عدىّ وصبرة بن عمرو بن صبرة بن حارثة بن عدىّ ومسعود بن مازن بن ذئب بن عدىّ؛ اليه يرجع سطيح الكاهن وكلّ مسعودىّ فى الأزد، وجميع بنى عدىّ بن عمرو يعزون الى الأزد. وأعقب ثعلبة العنقاء بن مازن بن غسّان من امرئ القيس البطريق بن ثعلبة؛ فأعقب امرؤ القيس البطريق: حارثة الغطريف؛ فأعقب الفطريف من عامر ماء السماء؛ فأعقب عامر ماء السماء من عمران وعمرو وهو مزيقياء سمّى بذلك: لأنه كان يمزّق في كلّ يوم [حلّتين] لئلا يلبسهما غيره. والعقب من عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء بن حارثة الغطريف بن امرئ القيس البطريق بن ثعلبة العنقاء بن مازن بن غسّان وهو السّراج بن الأزد بن الغوث فى ست أفخاذ: ثعلبة: بطن الأنصار، وحارثة: بطن خزاعة، وجفنة: بطن، وعمران من أزد عمان، ومحرّق: بطن، سمّى بذلك لأنه أوّل من حرّق بالنار، وكعب: أولاد عمرو مزيقياء واليهما يرجع نسب الأنصار. فأما الأوس بن ثعلبة بن عمرو فأعقب من مالك بن الأوس، وأعقب مالك من خمس قبائل: النّبيت، وعوف، وجشم، وامرئ القيس، ومرّة: أولاد مالك بن الأوس. قال: وسمّى النّبيت نبيتا لكثرة ولده، فأعقب النبيت من فخذين: الحارث وكعب وهو ظفر بن الخزرج بن النبيت الأوسىّ. فأعقب الحارث بن الخزرج بن النبيت من ابنيه: جشم وحابية. فأعقب جشم من رعوان وانقرض، ومن عبد الأشهل: ابنى جشم. وأعقب حابية بن الحارث من مجذعة وجويرة وجشم بنى حارثة. ومن بنى جشم بن حارثة: بنو خديج بن رافع بن عدىّ بن جشم، وطهر بن رافع بن عدى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 واما ظفر وهو كعب بن الخزرج بن النبيت بن مالك بن الأوس- وبنو ظفر البطن المشهورة في الأوس- فأعقب من أربع أفخاذ: وهم بنو مرة وهيثم وعبد رداح وسواد: بنى ظفر بن الخزرج. ومن بنى سواد: بنو الحطيم بن عدىّ بن عمرو ابن سواد: فخذ؛ فهؤلاء بنو النبيت. أما عوف بن مالك بن الأوس، فأعقب من عمرو، وأعقب عمرو من لوذان، فجدّهم بنو السّميعة وثعلبة وحبيب وعوف: أولاد عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس. والعقب من عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس من بنيه: مالك وجلس وكلفة. فأعقب مالك بن عوف من بنيه: عزير ومعاوية وزيد. وأعقب زيد بن مالك هذا من ضبيعة: الفخذ المشهورة، وأميّة الفخذ المشهورة في الإسلام، وعبيد أولاد زيد. وبنو ضبيعة بن زيد بن مالك، يقال لولده: بنو كسر الذهب، منهم: بنو حارثة بن عامر بن مجمّع بن عطاف بن ضبيعة بن زيد: بطن معروفة. ومن أفخاذ كلفة بن عمرو بن عوف: جلاح بن حريش بن جحجبى من كلفة: بطن. وأما جشم بن مالك بن الأوس بن حارثة، فأعقب من خطمة: بطن؛ واسم خطمة عبد الله، وإنما سمّى خطمة: لأنه خطم رجلا بسيفه على خطمه فسمّى به، وأعقب خطمة بن جشم من ثلاث أفخاذ: الحارث وعامر ولوذان: بنى خطمة. وأما امرؤ القيس بن مالك بن الأوس، فأعقب من فخذين: بنى السلّم وبنى واقف، وإليه يرجع كلّ واقفىّ في الأوس. وأما مرّة بن مالك بن الأوس بن حارثة، فأعقب من ثلاث أفخاذ: عامر وسعيد ومازن. وهذا نهاية الاختصار في ولد الأوس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 وأما الخزرج بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو مزيقياء، فأعقب من خمس أفخاذ: الحارث وعمرو وعوف وجشم وكعب: بنى الخزرج. والعقب من الحارث هذا من سبع أفخاذ: عوف وحرديش وجشم وصخر وجديم والخزرج وزيد: أولاد الحارث، ومن عوف بن الحارث بن الخزرج: خدرة وخدار ابنا عوف؛ ولخدرة يرجع أبو سعيد الخدرىّ، وهو فخذ بنى خدرة. وأما عمرو بن الخزرج فمن ولده: بنو النجّار بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج: البطن المشهورة؛ واسم النجار: تيم الله يدعى العتر، وإليه يرجع حسّان بن ثابت ابن المنذر بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عدىّ بن عمرو بن مالك بن النجار الشاعر: أعنى بالشاعر حسّان، وقد انقرض عقب حسّان. وأما عوف بن الخزرج فمن أفخاذه: بنو غنم قوقل: فخذ، وهو أطم كان لبنى غنم، وسالم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج، وغنم: رهط عبادة بن الصامت الصحابىّ. ومن بنى عوف بن الخزرج: سالم الحبلى بن غنم بن عوف، سمّى بذلك لعظم بطنه. وأما جشم بن الخزرج، فأعقب من فخذين: وهما تزيد وغصب ابناه لصلبه؛ فمن أفخاذ تزيد بن جشم هذا: بنو سلمة وربيعة ابنا سعد بن علىّ بن راشد بن ساردة ابن تزيد. وسلمة رهط معاذ بن جبل الصحابىّ بكسر اللام. وأما غصب بن جشم بن الخزرج، فمن أفخاذه: بنو زريق وبياضة: ابنى عامر ابن زريق بن عبد بن حارثة بن مالك بن غصب بن جشم بن الخزرج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 وأما كعب بن الخزرج فمن أفخاذه: سعيد وقيس ابنا سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة ابن أبى جذيمة بن طريف بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج؛ وقد انقرض قيس بن سعد بن عبادة. ومن كعب بن الخزرج المذكور غير طريف هذا: ثلاث أفخاذ أخر إخوة طريف ابن الخزرج هذا: وهم ثعلبة وعامر وعمرو؛ كان لعامر هذا ابن الخزرج بن ساعدة ابن كعب بن الخزرج الأوّل: بنو قسّيّة بن عامر وقد انقرضوا عن آخرهم. فهذا مختصر كاف في أنساب الأوس والخزرج. وأما حارثة بن عمرو مزيقياء، فأعقب من أربع أفخاذ: عمرو بن ربيعة بن حارثة وهو أبو خزاعة؛ وإنما قيل لهم خزاعة: لأنهم انخزعوا من بنى عمرو مزيقياء بن عامر، والانخزاع التقاعس والتخلّف، فأقاموا بمرّ الظّهران بجنبات الحرم وولّوا حجابة البيت دهرا وهم حلفاء بنى هاشم؛ وقد اختلف النسّابون في خزاعة بعد إجماعهم على أنهم ولد عمرو بن لحىّ وأنّ خزاعة هو كعب بن عمرو بن لحىّ بن قمعة بن خندف، وهو ابن الياس بن مضر؛ وعمرو بن لحىّ: هو الذى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [فيه] لأكثم بن أبى الجون الخزاعىّ: «يا أكثم رأيت عمرو بن لحىّ بن قمعة بن خندف يجرّ قصبه في النار، ما رأيت رجلا أشبه منه برجل منك» ، فقال أكثم: أيضرّنى شبهه يا رسول الله؟ فقال: «لا، لأنك مسلم وهو كافر» والقصب: الحشوة من الأمعاء وهو المصران؛ وكان عمرو بن لحىّ أوّل من غيّر دين إسماعيل عليه السلام، فنصب الأوثان وسيّب السائبة وبحر البحيرة ووصل الوصيلة وحمى الحامى. قال عبد الله ابن عباس رضى الله عنهما: نزل القرءان بلغة الكعبين: كعب بن لؤىّ وكعب بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 عمرو بن لحىّ، وذلك أن دارهم كانت واحدة، وأفصى بن حارثة بن عمرو مزيقياء وعدىّ بن حارثة وعمرو بن حارثة. فأما عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو مريقياء، قال شيخنا شيخ الشرف: عمرو هو خزاعة نفسه أعقب من خمس أفخاذ: كعب وسعد وعدىّ ومليح وهو لحىّ: بطن كثّير بن عبد الرحمن الشاعر، وعوف بن عمرو خزاعة. فأما كعب بن عمرو خزاعة بن ربيعة، فأعقب من ستّ أفخاذ: وهم منقذ وسلول وحبشيّة ومطرود ومازن وسعد: أولاد كعب بن عمرو خزاعة. فأما سلول بن كعب، وإليه ينسب كلّ سلولىّ، فأعقب من ثلاث أفخاذ: حبشيّة وعدىّ وحرمز، فأعقب حبشيّة بن سلول من قمير وضاطر وكليب وحليل وغاضرة: بنيه لصلبه. وأعقب عدىّ بن سلول من حبير وهينه وحريز: بنى عدىّ. وأما حبشيّة بن كعب بن عمرو خزاعة، فأعقب من ابنيه لصلبه: غاضرة وحرام. وأما سعد بن عمرو وهو خزاعة، فأعقب من ثلاث قبائل: بنى المصطلق، وبنى عامر وبنى الكاهن. وأما أفصى بن حارثة بن عمرو مزيقياء، فإنه أعقب من أسلم: بطن في آخرين: وهم ملكان وزيد وعمرو وعدىّ وجهادة وحطّاب وسوادة وجريش وامرؤ القيس وصهيبة وجشم. فمن بنى أسلم بن أفصى: سلامان: فخذ، وهوزن: فخذ: ابنا أسلم بن أفصى، ومن ملكان، بالفتح، بن أفصى: غبشان بن ملكان: فخذ، منهم: ذو الشّمالين المقتول ببدر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 وأما عدىّ بن حارثة بن عمرو مزيقياء، فأعقب من سعد بارق، نزل بماء بالسراة أيام سدّ مأرب يسمّى بارق، وقيل: هو جبل. وقيل: بل تبعوا البرق فسمّوا بذلك، وعمرو وعوف: بنى عدىّ. وأما عمران بن عمرو مزيقياء، فأعقب من الأسد والحجر ابنيه لصلبه؛ فأعقب الأسد من ثلاث أفخاذ: العتيك وشهيل والحارث: بنى الأسد. فمن ولد العتيك: أسد بن الحارث بن العتيك: فخذ، ووائل بن الحارث، واليه ينسب المهلّب بن أبى صفرة. وأما الحجر بن عمران بن عمرو مزيقياء، فأعقب من أربع أفخاذ: زيد مناة ومرحوم وعمرو وسود: أولاده لصلبه؛ فأعقب عمرو بن الحجر من ابنه رباب. وأما كعب بن عمرو مزيقياء، فأعقب من خمس أفخاذ: السموءل وحنظلة وثعلبة ومالك وقاتل الجوع: أولاد كعب بن عمرو. وأما عمرو بن حارثة بن عمرو مزيقياء، فأعقب من ثلاث أفخاذ: حارثة والرّبعة وملادس: بنى عمرو. وأما جفنة بن عمرو مزيقياء، فهم ملوك الشام. والعقب من جفنة من ثلاث أفخاذ: كعب ورفاعة والحارث: بنى جفنة في آخرين. فالعقب من كعب بن جفنة بن مزيقياء، من أمام والحارث: ابنيه لصلبه؛ ومن ولد أمام: جبلة بن الأيهم بن عمرو بن جبلة بن الحارث الأعرج بن جبلة بن لحارث الأوسط بن ثعلبة بن الحارث الأكبر بن عمرو بن حجر بن هند بن أمام هذا ابن كعب بن جفنة بن عمرو مزيقياء. وقيل: بل هو جبلة بن الأيهم بن جبلة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 ابن الحارث الأكبر بن ثعلبة بن عمرو بن جفنة، وفيه اختلاف؛ وجبلة هو الذى تنصّر في خلافة عمر بن الخطّاب رضى الله عنه، ومن رفاعة بن جفنة: السموءل ابن أوفى بن عادياء بن رفاعة بن جفنة: بطن؛ وأعقب الحارث بن جفنة من المنذر ابن النعمان بن الحارث: بطن، ومن الحسحاس ومنارة: ابنى عوف بن الحارث: بطن. وجماعة من قبيلة الأرمن نصارى يزعمون أن جدّهم هيّر يرجع الى جفنة غسّان. وأما الخيار بن مالك بن زيد بن كهلان، فالعقب من ولده في همدان: وهو أوسلة ابن مالك بن زيد بن أوسلة بن ربيعة بن الخيار المذكور. وقيل: هو الجبار بالجيم والباء الموحدة. والعقب من همدان: ابن مالك بن جشم بن خيران بن نوف بن همدان هذا، ومن جشم: ابن بكيل وهو الحبك: فخذ، وحاشد ابنا جشم لصلبه. فأعقب الحبك من دومان وسوران وخيران. فمن ولد دومان بن الحبك وهو بكيل: أرحب ومرهنه: ابنا عامر بن مالك بن معاوية بن صعب بن دومان، اليه ينسب كلّ أرحبىّ. ومن حاشد ابن جشم بن خيران: سبيع: فخذ، ابن سبع بن صعب ابن خيران بن معاوية بن كبير بن خيران: وهو مالك بن زيد بن مالك بن جشم بن حاشد بن جشم بن خيران: رهط أبى إسحاق السّبيعىّ؛ وفي ذلك خلاف بين النسّابين فى الأسماء. وذكر بعض النّسابين أنّ ألهان بن مالك: أخا همدان بن مالك، اليه يرجع وينسب كلّ ألهانىّ: وهم قليل، ويام بن أحىّ بن نافع بن خيران وهو مالك بن زيد: رهط زبيد اليامىّ شيخ التّوّزىّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 وذكر بعض النّسابين: أن الأوزاع، وهم من مزيدة بن زيد عددهم في همدان وهم من حمير، واليه يرجع كلّ أوزاعىّ. ومن ولد سدد بن زرعة وهو حمير الأصغر: الأوزاع بن سعد بن عوف بن عدىّ بن مالك بن زيد بن سدد، والأوزاع بن زيد ابن سدد، والأوزاع بن سدد، والأوزاع بن شقران بن المعلّل بن سدد. قال: وهذه النهاية في اختصار أنساب اليمن. وقد احتوت على الغاية في حسن إيصال البطون وتبيينها في الترتيب؛ فلنرجع الى عمود النسب المحمدىّ فنقول: إن عمود النسب من عابر بن شالخ في ابنه: فالغ بن عابر؛ وأمّه ميشاخا؛ وكان له من الولد غير عمود النسب الجبابرة، مثل تميم وقينان وسيرى [1] ومدبّر وغيرهم انقرضوا كلّهم لم يعقب منهم إلا أرغو بن فالغ، وهو الجدّ الذى يرجع إليه كلّ قرشىّ وكلّ قيسى، وهو أحد شعبى النسب. والعقب من ولده في أرغو بن فالغ [1] وكان منه جبابرة انقرضوا. وعقبه في ابنه ساروغ بن أرغو. وكان له غير عمود النسب من العقب عشائر وأولاد جبابرة. منهم يعصم، ويعظم، ونعمان، وبعلاك، وبهران، وكاشم، وطولان، وغيرهم هلكوا دارجين. والعقب منه في ابنه ناحور بن ساروغ، فالعقب من ناحور في ابنه تارح: وهو آزر بن ناحور. ومن تارح غير عمود النسب: هاران بن تارح وناحور بن تارح، فولد هاران: لوطا النبىّ صلى الله عليه وسلم. وعمود النسب من آزر في ابنه:   [1] الاسمان المرقومان برقم 1 وردا في الأصل هكذا، وفي التوراة: (سترى) . (رعو بن فالج) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 إبراهيم خليل الله عليه الصلاة والسلام وهو الجدّ الحادى والثلاثون لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم! وأمه أدبا بنت نمر بن أرغو بن فالغ بن عابر. وله من الولد غير إسمعيل عمود النسب: إسحاق عليه السلام ويشباق: وهو طالب، وسوّاح: وهو خاضع، وزمران: وهو نجدان، ومدان، ويقشان: وهو مصعب؛ فهؤلاء ولد إبراهيم عليه السلام لصلبه، والعقب منهم غير عمود النسب وهو إسماعيل لإسحاق لا غير. فولد إسحاق صلى الله عليه وسلم: يعقوب إسرائيل الله صلى الله عليه وسلم والعيص وهو عيصو، [1] ، ولدا في بطن واحد، فخرج عيصو أوّلا وخرج يعقوب بعده، ويده عالقة بعقبه فسمّى يعقوب. وأمّهما رفقا بنت [1] ناحور بن تارح بنت عمّ أبيهما إسحاق. فولد العيص بن إسحاق: رعوال [1] ويعوس وأليفاز ويعلام وقورح وروم. فولد أليفاز بن العيص: عمالق [1] وغيره. وولد رعوال بن العيص: ناجب وغيره. وولد روم بن العيص بن إسحاق: بنى الأصفر لأن روم كان رجلا أصفر في بياض فلذلك سمّيت الروم: بنى الأصفر. قال: وعمر عيصو مائة وسبعا وأربعين سنة. وكذلك يعقوب؛ ودفنا معا عند قبر ابيهما إبراهيم الخليل عليه السلام في مزرعة حبرون. وقيل: هى مزرعة عفرون كان إبراهيم اشتراها لقبره، وفيها دفنت سارة. ومن ولد العيص: أيوب النبىّ عليه السلام، قيل: هو أيوب بن أموص بن تارح ابن رفو بن عيصان بن إسحاق، وأمّه من ولد لوط بن هاران عليه السلام. وولد يعقوب عليه السلام: اثنى عشر سبطا. منهم يوسف النبى عليه السلام: عزيز مصر وصاحبها، وإخوته: كاد [1] وبنيامين ويهوذا ونفتالى وزبولون وشمعون   [1] الأسماء المنمرة بنمرة 1 وردت كذا في الأصل؛ وفي التوراة: عيسو. رفقة. رعوئيل. يعوش. عماليق. جاد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 ورأوبين، وكشاحا، ولاوى، ودان، وياشير [1] . جاء من ولد يهوذا: سليمان النبىّ عليه السلام، وجاء من سليمان: مريم ابنة عمران أمّ المسيح عليهما السلام. وجاء من لاوى بن يعقوب: موسى كليم الله وهارون عليهما السلام ابنا عمران بن قاهث، وجاء من ولد هارون: يحيى بن زكريّا والياس واليسع والعزيز. وقد روى: أن الياس بن حضر نبىّ، وأنه المعنىّ بقوله تعالى وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ. سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ في قراءة نافع وابن عامر، وأن آل ياسين آل محمد صلى الله عليه وسلم. والعقب من يوسف الصدّيق عليه السلام: أفرائيم ومنشّا [2] ابنيه لصلبه؛ فمن ولد أفرائيم: يوشع بن نون وصىّ موسى عليه السلام: وهو الذى ردّت عليه الشمس فى حربه: وهو يوشع بن نون بن عازر بن شوتالج بن داباد بن ناحب بن العاد ابن ناحب بن يارد بن شوتالج بن أفرائيم بن يوسف بن يعقوب. وفي ولد منشا ابن يوسف: موسى بن منشا بن يوسف. وولد لمنشا ابنة اسمها رحمة: وهى امرأة أيوب عليه السلام. قال: وزعم أهل التوراة أن الله تعالى نبّأه وأنه صاحب الخضر. وذكر المؤرّخون أنه لما مات يعقوب، فشا في الأسباط الكهانة فبعث الله تعالى موسى بن منشا يدعوهم الى عبادة الله تعالى، وهو قبل موسى بن عمران بثمانمائة سنة والله تعالى أعلم. ونرجع إلى عمود النسب؛ وهو من إبراهيم في ولده إسماعيل: الذبيح بن إبراهيم الخليل عليهما السلام. وأمه أم ولد، تدعى هاجر، من قبط مصر، من قرية يقال لها: أمّ العرب نحو الفرما.   [1] فى التوراة: أشير. [2] فى التوراة: منسّى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 واختلف العلماء فيما بين عدنان إلى إسماعيل في ذكر الآباء: فمن العلماء من ينسب اليمن إلى إسمعيل عليه السلام ويقولون: إنهم من ولد يمن بن نبت بن إسماعيل، وافترق باقى ولد إسماعيل في أقطار الأرض فدخلوا في قبائل العرب ودرج بعضهم فلم ينسب النسابون لهم نسبا إلا من كان من ولد قيدار ابنه عمود النسب. قال: واتفق أهل العلم بالنسب كما وجدوه في التوراة وكما حملوه عن علماء أهل الكتاب، وكما روى عن عبد الله بن عباس: أن النسب فيما بين آدم وإسماعيل صحيح على ما أوردناه لا خلف فيه بينهم ولا خلاف إلا في الأسماء لتنقل الألسنة، وإنما الخلاف فيما بين إسماعيل وعدنان، وذلك أن قدماء العرب لم يكونوا أصحاب كتب يرجعون إليها، وإنما كانوا يرجعون إلى حفظ بعضهم من بعض، فمن أجل ذلك حدث الاختلاف فيما حفظوه، فقال قوم برواية وقال آخرون برواية. قال: وهذه الرواية التى أوردها في هذا التأليف هى أحسن الروايات، وهى عمدة أكثر النسّابين الأجلّاء، وعليها كان يعتمد شيخ الشرف محمد بن أبى جعفر الحسينىّ العبيدلىّ النسابة، وهى رواية عبد الله بن عباس، واختيار أبى بكر محمد بن عبده العبقسىّ النسّابة الطرسوسى وغيره. وكان لإسماعيل عليه السلام من الولد غير قيدار عمود النسب أحد عشر ولدا: وهم مسّا ويطور ومسماع ودوماء، وقيل: هو الذى بنى دومة الجندل، ومبشام وإديال ونعابوا وتيما، وحداد ونافيس وقيدما. وعمود النسب من إسماعيل عليه السلام في ابنه قيدار بن إسماعيل، وأمّه هالة بنت الحارث بن مضاض الجرهمىّ ويقال: اسمها سلمى، وقيل: الحنفا، وقيل: هى أم أولاد إسماعيل كلهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 والعقب منه في ابنه حمل بن قيدار؛ وأمه الغاضريّة بنت مالك الجرهمىّ. والعقب منه في نبت بن حمل وأمّه هامة بنت زيد بن كهلان بن سبإ بن يشجب ابن يعرب بن قحطان، وتدعى حريرة. والعقب من نبت في ابنه سلامان بن نبت. والعقب من سلامان في ابنه الهميسع بن سلامان، أمّه حارثة بنت مراد بن زرعة ذى رعين الحميرىّ. والعقب منه في ابنه اليسع بن الهميسع. والعقب من اليسع في ابنه أدد بن اليسع، وأمّه حيّة من قحطان. والعقب منه في ابنه أدّ بن أدد، وأمّه النعجا بنت عمرو بن تبّع سعد ذى فائش الحميرىّ. والعقب منه في ابنه عدنان بن أدّ، وأمّه المتمطّرة بنت عدى الجرهميّة: وهو الجدّ الحادى والعشرون لسيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد قال أكثر النسّابين: إن العقب من عدنان غير معدّ عمود النسب من عكّ: وهو الحارث والذئب والنعمان والضحّاك لا عقب له: وهو المذهب الذى يقال فى المثل: «أحسن من المذهب» وعدىّ درج؛ والغنىّ وأبىّ وعدن: وهو صاحب عدن، وعمرو ونبت وأدّ وعدا انقلبت في اليمن. فأما عكّ بن عدنان فكلّ من كان منهم بالمشرق فهم ينسبون الى الأزد، والذى فى الأزد أيضا عكّ بن عدنان بالثاء المثلّثة ابن عبد الله بن الأزد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 وقال شيخ الشرف النسّابة: عكّ بن عدنان بالنون. وقال الأفطسىّ النسابة: عكّ بن الحارث بن عدنان بن عبد الله بن الأزد، وكلّ من كان منهم بالشام ومصر واليمن والمغرب فهم مقيمون على نسبهم في عدنان. وأما الذئب بن عدنان فيزعمون أن الأوس والخزرج من ولده. قال عبّاس بن مرداس: وعكّ بن عدنان الذين تلعّبوا ... بغسّان حتى طرّدوا كلّ مطرد نرجع. وعمود النسب من عدنان في ابنه معدّ بن عدنان، وأمّه مهدد بنت اللهمّ الجرهميّة. قال [1] النسابون في أولاده لصلبه فقالوا: إن ولده أحد عشر رجلا: وقالوا: ثمانية، وزاد آخرون، وقال قوم: لم يكن له غير نزار. قال: فالذى أورد له أحد عشر ولدا قال: والعقب من معدّ بن عدنان: عبيد الرّمّاح أعقب، وجنيد وجنادة وحيد وقبضة، وقيل: بل اسمه قنص انقرض، وقناصة وحيدان أعقب، وشطّ وعوف وسنام وقضاعة، قال العلماء: وكلّهم انتقلوا في اليمن وغيرها إلا نزارا. وقد قيل: إن حيدان هذا هو أبو مهرة: القبيلة. وقال النسّابون: والقحم أعقب، وسنام أعقب، وحبيب والضحّاك أعقب، وأود أعقب: أولاد معدّ. فأمّا عبيد الرّمّاح فانتسب في بنى مالك بن كنانة، ومنهم كان إبراهيم بن عربىّ صاحب اليمامة. وأمّا سنام بن معدّ فإنه انتسب في سعد العشيرة بن مالك في اليمن.   [1] لعله: قال واختلف النسابون الخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 وأمّا حيدة بن معدّ فانتسب في الأشعريّين. وأمّا القحم بن معدّ فانتسب في مالك بن كنانة. وأمّا أود بن كعب فانتسب في مذحج. وأمّا قنص فانقرض عقبه، وقيل: كان منهم النعمان بن المنذر. وروى عن ابن عباس رضى الله عنه أنه قال: ذو القرنين عبد الله بن الضحاك بن معدّ بن عدنان. نرجع. وعمود النسب من معدّ بن عدنان في ابنه نزار بن معدّ وأمّه معانة بنت جوشم [1] الجرهميّة، ومنه غير مضر الذى هو عمود النسب ثلاث بطون: ربيعة الفرس وإياد وأنمار: بنو نزار. والصّريحان من ولد إسماعيل عليه السلام: مضر الحمراء وربيعة الفرس. وقولهم: ربيعة الفرس ومضر الحمراء، فزعموا أنه لما مات نزار تقسم بنوه ميراثه واستهمّوا عليه؛ وكان له فرس، مشهور فضله في العرب فأصابه ربيعة فقيل: ربيعة الفرس؛ وكان له ناقة حمراء، مشهورة الفضل بين العرب فأصابها مضر فقيل: مضر الحمراء؛ وكان له جفنة عظيمة يطعم فيها الطعام فأصابها إياد؛ وكان له قدح كبير يسقى فيه اللبن إذا أطعم فأصابه أنمار. هذا أحد ما قيل في ذلك، وسنذكر ما قيل في قسمة ميراث نزار وما اتفق لأولاده مع الأفعى الجرهمىّ في أمثال العرب في حرف الهمزة وفي قولهم: «إن العصا من العصيّة» ، وهو في الباب الأوّل من القسم الثانى من هذا الفن في أوّل السفر الثالث من كتابنا هذا إن شاء الله تعالى.   [1] كذا في الأصل وفي الطبرىّ: جرشم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 نرجع. فأمّا أنمار بن نزار فإنها انقلبت في اليمن، قال: كذا روينا عن شيوخنا فى النسب ومن قال: إنها انقلبت في اليمن يقول فيه: إنّ خثعم وبجيلة ابنا أنمار بن نزار، وإنما لحقا باليمن وانتسبا عن جهل منهما إلى أنمار بن أراش بن عمرو بن الغوث ابن النبيت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبإ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. وأمّا إياد بن نزار وهى القبيلة التى يرجع اليها كلّ إيادىّ، فمنها فخذان: بنو دعمىّ ابن إياد، وبنو زهر بن إياد؛ ومن زهر بنو حذاقة بن زهر: عشيرة في إياد، اليها ينسب الحذاقيّون. وأما ربيعة الفرس بن نزار بن معدّ، فأعقب من ثلاثة أبطن: أسد، وهو البطن الأعظم من ربيعة، وضبيعة بن ربيعة، وأكلب. وضبيعة يقال له: ضبيعة الأضجم: لأنه كان مائل الفم. ومن أكلب أفخاذ: منها لصلبه: هرير وعوف ومعن ومبشّر وجليلة. والعقب من ضبيعة بن ربيعة بن نزار من ثلاث قبائل: جلّى وعوف وبدر: بنو أحمس بن ضبيعة؛ ومن بنى جلّى: بنو مجمّع الشعوب: ربيعة بن سلمة بن سعد بن بلال ابن بهثة بن حرب بن وهب بن جلّى: بطن. وأما أسد بن ربيعة فمنه ثلاث بطون: أفصى بن دعمىّ بن جديلة بن أسد، وعنزة ابن اللهازم بن أسد، واسمه عمرو، وعميرة بن أسد؛ وإلى عنزة ينسب كلّ عنزىّ محرّك النون. والعقب من عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار فخذان: وهما أسلم ويقدم: ابنا يذكر ابن عنزة بن أسد. فمن أسلم فخذان: بنو صباح، وهو قمر الليل والنهار، وبنو حلّان: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 ابنى العتيك بن أسلم. ومن يقدم بن يذكر فخذان: تيم ونصر: ابنا يقدم. ومن بنى تيم: بنو هميم بن عبد العزّى بن ربيعة بن تيم بن يقدم. والعقب من عميرة بن أسد بن ربيعة بن نزار فخذان: هما مبشّر وعدىّ: ابنا عميرة بن أسد بن ربيعة. وأما أفصى بن دعمىّ بن جديلة بن أسد، فمنه بطنان: هنب وعبد القيس: ابنا أفصى بن دعمىّ بن جديلة؛ وإلى عبد القيس هدا ينسب كلّ عبقسىّ. والعقب من عبد القيس بن أفصى بن دعمىّ بن جديلة بن أسد من افصى بن عبد القيس، واللّبود بن عبد القيس. والعقب من أفصى بن عبد القيس من لكيز بن أفصى وشنّ بن أفصى. فمن لكيز بن أفصى ثلاث عشائر: وديعة وصباح ونكرة. فمن ولد نكرة بن لكيز بن أفصى بن عبد القيس: دهن بن عذرة بن منبّه بن نكرة بن لكيز ابن أفصى بن عبد القيس؛ وليس دهن هذا فخذ عمارة الدهنىّ، إنما فخذه دهن التى في بجيلة. والعقب من وديعة بن لكيز بن أفصى بن عبد القيس بن أفصى بن دعمى من عمرو بن وديعة ودهن بن وديعة وغنم بن وديعة. والعقب من عمرو بن وديعة بن لكيز بن أفصى- وقال لولده: العمور- أنمار وعجل ومحارب والدّيل: أولاد عمرو بن وديعة. والعقب من هنب بن أفصى بن دعمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة من قاسط ابن هنب وعمرو بن هنب، فمن ولد عمرو بن هنب هذا: عتيب بن عمرو، ومن عتيب في دهن: فخذ، وخفاجة: ابنى عتيب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 والعقب من قاسط بن هنب من النمر بن قاسط؛ واليه ينسب كل نمرى، وعمرو وهو غفيلة بن قاسط: قبيلة، ومعاوية بن قاسط في عاملة، ووائل بن قاسط: البطن الأعظم من قاسط. فالعقب من النمر بن قاسط من تيم الله ويقال: تيم اللات، وأوس مناة: ابنى النمر؛ ومن النمر بن قاسط: بنو الضّحيان وهو عامر بن سعد بن الخزرج بن سعد بن تيم الله ابن النمر. واليه كانت الرياسة واللواء والحكومة والمرباع. وقيل له الضحيان لأنه كان يحكم بين العرب في الضّحى. وأما وائل بن قاسط بن هنب، فأعقب من أربع أبطن: تغلب بن وائل: البطن المشهورة، اليها يرجع كلّ تغلبىّ معدّىّ. (وفي قضاعة أيضا تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة جدّ بنى كلب) ، وبكر بن وائل، وعنز بن وائل ساكنة النون كما ينسب في نزار إلى عنزة بن أسد كلّ عنزىّ محرّك النون، وعمرو بن وائل. فمن عنز بن وائل بن قاسط فخذان: وهما رفيدة بن عنز وأراشة بن عنز، وفيهما عدّة أفخاذ وعشائر. والعقب من بكر بن وائل بن قاسط بن هنب من الحارث وعلىّ ويشكر وجشم وبدن: بنى بكر؛ وإلى علىّ هذا ينسب كلّ علوىّ في نزار؛ وإلى يشكر هذا ينسب كلّ يشكرىّ. والعقب من يشكر بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب من ثلاث قبائل لصلبه: وهم حرب وكنانة وكعب؛ فأعقب حرب بن يشكر من جشم وذهل: ولدى كنانة بن حرب؛ ومن بنى جشم بن حرب: بنو عصيم بن سعد بن عمرو بن جشم؛ وبنو الحمير: حبيّب بن كعب بن جشم، وإلى جشم هذا ينسب كلّ جشمىّ في نزار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 وأعقب كنانة بن يشكر من ذبيان بالكسر بضد ذبيان عبس الذى هو بالضمّ؛ وأعقب ذبيان من فخذ وائلة وعامر: ابنى ذبيان بن كنانة بن يشكر. فمن بنى عامر بن ذبيان: بنو جشم بن عامر: فخذ يقال لهم: الجشميّون أيضا. وأما بنو علىّ الوائلى فالعقب من علىّ بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى ابن دعمىّ بن جديلة بن أسد بن ربيعة من صعب بن علىّ وحده؛ وإليه يرجع كلّ صعبىّ في نزار. والعقب من صعب من ثلاث بطون: عكابة ولحيم [1] ومالك: أولاد صعب بن علىّ بن بكر بن وائل، فأعقب مالك بن صعب في بنى زمّان بن مالك: فخذ، وإليه ينسب كلّ زمّانىّ. وأما لحيم بن صعب، فأعقب من حنيفة بن لحيم: البطن المشهورة، ومن عجل ابن لحيم. قال الزبير بن بكّار: وحنيفة امرأة نسب إليها ولدها: وهى حنيفة بنت كاهل بن أسد بن خزيمة. فأعقب حنيفة من ثلاث قبائل: الدّؤل بن حنيفة: القبيلة المشهورة فى بنى حنيفة، ويقال في النسبة إليه: دؤلىّ كذا بضد النسبة الى دؤل كنانة، وعامر ابن حنيفة وعدىّ بن حنيفة؛ وفيهم عدّة عشائر وقبائل، والعزوة إلى حنيفة تغنى عنها؛ منها بنو يربوع بن الدؤل بن حنيفة إليه ينسب كلّ يربوعىّ: وهم قبيلة خولة بنت جعفر بن قيس بن سلمة بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع المذكور أمّ أبى القاسم محمد بن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه المعروف بابن الحنفيّة؛ وهو الذى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه لعلىّ «سيولد لك ولد وقد نحلته اسمى وكنيتى» .   [1] كذا بالأصل وفي كتاب المعارف لابن قتيبة: «لجيم» بالجيم المعجمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 قال: ولعبيد بن ثعلبة بن يربوع غير سلمة خمس أفخاذ لصلبه: مسلمة وشيبان وزيد ووهب وأرقم؛ ولهم عدد في بنى مسلمة المذكور: عمرو بن معدى كرب بن الحارث بن مسلمة، إليه ينسب كنز الدولة حامى أسوان. وأما عجل بن لحيم فأعقب من أربع أبطن: وهى سعد وكعب وهم قليل، وربيعة وضبيعة أولاد عجل؛ وإليه ينسب كلّ عجلىّ. وفيهم عدّة أفخاذ وعشائر، وإلى ضبيعة ينسب كلّ ضبعىّ. وأما عكابة بن صعب بن علىّ فأعقب من بطنين: ثعلبة وفيه العدد، وقيس: ابنى عكابة. والعقب من ثعلبة بن عكابة بن صعب بن على من خمسة: قيس من اللهازم: بطن، ومالك وتيم الله من اللهازم: قبيلة أولاد ثعلبة بن عكابة، وشيبان وذهل وهما الذهلان: ابنا ثعلبة؛ وإلى شيبان هذا يرجع كلّ شيبانىّ، وإلى ذهل يرجع كلّ ذهلىّ. فأما قيس ابن ثعلبة فأعقب من ضبيعة وسعد: ابنيه لصلبه. والعقب من ضبيعة ابن قيس بن ثعلبة بن عكابة من ربيعة وهو جحدر، وإليه يرجع كلّ جحدرىّ، وسعد وتيم وعباد ومالك: بطن. وأعقب تيم الله بن ثعلبة بن عكابة من سبع أفخاذ: وهم الحارث وذهل وعدىّ ومالك وعامر وزمّان وحاطبة؛ ومن بنى مالك بن تيم الله: بنو عائش بن مالك: فخذ. فأما شيبان بن ثعلبة بن عكابة فأعقب من ثلاث بطون لصلبه: ذهل، وإليه يرجع الذهليّون، وتيم وثعلبة؛ وثعلبة هذا: هو الفخذ الذى ينسب إليه ويرجع أبو الصقر محمد بن إسماعيل وزير المعتمد. وفيه يقول ابن الرومىّ الشاعر: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 قالوا: أبو الصقر من شيبان، قلت لهم: ... كلّا لعمرى ولكن منه شيبان وكم أب قد علا بابن له شرفا ... كما علا برسول الله عدنان وأعقب ذهل بن شيبان من أولاده لصلبه: وهم مرّة؛ وإليه يرجع المرّيون الشيبانيّون وأبو ربيعة ومحلّم وصبح [1] والحارث وعمرو: وهو جذرة وعوف وعبد غنم، ومن ولد أبى ربيعة بن ذهل: المزدلف: وهو عمرو بن أبى ربيعة: فخذ كبيرة. وفي مرة بن ذهل بن شيبان عدّة أفخاذ: وهم سعد ودبّ وسيّار وكثيّر وجندب وبجير وجسّاس ونضلة وهمّام: قبيلة الأحلاف أولاد مرة. قال: وهمام بن مرة ابن ذهل هو بيت ذهل وقعدد فخرهم. وأعقب لصلبه الأحلاف من مازن وعوف وثعلبة خمسين بيتا، وعمرو وعائشة والأسعد وحبيب: هؤلاء هم الأحلاف ومرّة وعبد الله والحارث. وأما ذهل بن ثعلبة وهو أحد الذهليين فمنه بطنان لصلبه: شيبان وعامر، فأعقب شيبان بن ذهل بن ثعلبة من سبع أفخاذ لصلبه: وهم سندوس ومازن وعمرو الأعمى وعلباء ومالك وعامر وزيد مناة. وإلى سدوس هذا ينسب كلّ سدوسىّ. ومن ولد مازن هذا: أحمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله بن حيّان بن عبد الله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن. وإليه أيضا ينسب أبو عثمان المازنىّ النحوىّ وكلّ مازنىّ، وفي مذحج في بنى سليم: زبيد مازن المعروفة. نعود إلى باقى نسب وائل. وأما تغلب بن وائل بن قاسط بن هنب، واسم تغلب دثار وكان أكثرهم نصارى، فالعقب منه في ثلاث أفخاذ لصلبه: عمران وهم قليل، وأوس وغنم؛ وفيه العدد   [1] كذا بالأصل وفي كتاب المعارف لابن قتيبة: صبيح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 والبيت؛ ومن قبائل غنم الخنّاقون: بكر ورزاح ومالك وعدىّ: بنو معاوية ابن عمرو بن غنم بن تغلب، والأراقم الستة: جشم ومالك وعمرو والحارث ومعاوية وثعلبة: أولاد بكر بن حبيب بن غنم بن عمرو بن تغلب، ومن جشم هذا: بنو عطيف مجزئة بن حارثة بن مالك بن جشم بن بكر بن حبيب: رهط سيف الدولة ابن حمدان. فهذا نهاية الاختصار في نسب بنى نزار. وعمود النسب منه في ابنه مضر بن نزار، وأمّه سودة بنت عكّ العدنانية. ومنه غير عمود النسب وهو الياس ابنه قيس بن عيلان بن مضر؛ واسم عيلان: الناس، وهو أخو الياس. ويقال: قيس عيلان بن مضر؛ وعيلان حاضن كان لقيس فنسب إليه كما نسب غير واحد من العرب إلى الحضان: كسعد هذيم حضنه هذيم فنسب إليه؛ والصحيح: أن عيلان بن مضر، واسمه الناس، وقيسا ولده. وقد قيل فى الناس: النّاس بتشديد السين. ذكر نسب قيس وبطونها والعقب من قيس بن عيلان بن مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان ثلاثة نفر: خصفة وسعد وعمرو. وقال قائلون: وبر بن قيس وإنه ولد طوائف من البربر، وفي ذلك خلاف عند النسّابين. فالعقب من خصفة هذا من بطنين: عكرمة ومحارب ابنى خصفة بن قيس. وقيل: إن خصفة بن عكرمة غلب اسمها عليه فنسب إليها كما قيل في خندف. أعقب عكرمة بن خصفة من منصور بن عكرمة: البيت الأوّل من بنى قيس، فيه العدد، وسعد بن عكرمة وأبى مالك وعامر: بنى عكرمة. أعقب منصور بن عكرمة من هوازن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 ابن المنصور: القبيلة المشهورة، ومن سليم بن منصور: القبيلة المشهورة، وسلامان ابن منصور: قبيلة، ومازن بن منصور: قبيلة. فأما هوازن فأعقب من بكر بن هوازن لا غير، وأعقب بكر بن هوازن من ثلاث أفخاذ: معاوية بن بكر، وفيه العدد، وقسىّ وهو ثقيف، واسمه منبّه بن بكر، وإليه يرجع كلّ ثقفىّ؛ وسعد بن بكر؛ وإليه يرجع كلّ سعدىّ من عشيرة حليمة بنت أبى ذؤيب السعديّة: ظئر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهى حليمة بنت أبى ذؤيب عبد الله بن الحارث بن شجنة بن جابر بن رزام بن ناصرة بن قصيّة بن نصر ابن سعد المذكور؛ واسم زوجها وهو والد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة: الحارث بن عبد العزّى بن رفاعة بن ملّان بن ناصرة بن قصيّة بن نصر بن سعد؛ وكنيته أبو كبشة؛ وبه كانت العرب تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ابن أبى كبشة. وقيل في أبى كبشة [أقوال] منها أن جدّه لأمّه السيدة آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة كان يكنى أبا كبشة فنسبوه إلى ذلك ليتمه وموت أبيه. وكان أيضا عمرو بن زيد أبو أسد النجارىّ أبو سلمى بن عبد المطلّب جدّ النبىّ صلى الله عليه وسلم يكنى: أبا كبشة. وقيل: بل لحظوا لقولهم: أبا كبشة يعنون أبا كبشة جرير بن غالب بن الحارث، وهو أبو قيلة أمّ وهب بن عبد مناف والد آمنة أمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ابن قتيبة: إنه كان يعبد الشعرى دون العرب، فلما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبادة الله دون عبادة الأصنام، شبّهوه فى شذوذه عنهم بشذوذ بعض أجداده من قبل أمّه بعبادة الشعرى وانفصاله منهم. وأما معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان، فأعقب من صعصعة بن معاوية: القبيلة العظمى، وجشم بن معاوية؛ وإليه ينسب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 كلّ جشمىّ في هوازن. وله ثلاث أفخاذ: عصيمة وزمّان وبنو جشم ونصر ابن معاوية جدّ النصريّين القيسيّين. ومنه فخذان: بنو دهمان وبنو عوف: ابنى نصر، وجحش بن معاوية: فخذ، وسيّار بن معاوية: فخذ، وكلاب بن معاوية، ومنجاب ابن معاوية، وعمرو بن معاوية، وأدحيّة بن معاوية، ودحيّة بن معاوية، ودحوة ابن معاوية، والسّبّاق: وهو يعيش بن معاوية، وعوف بن معاوية، وجحاش بن معاوية: هؤلاء كلّهم أفخاذ قليلو العدد، يقال لهم: الهوازنيّون. وأما صعصعة بن معاوية فأعقب لصلبه عامر: القبيلة المشهورة، ومرّة: وهم سلول؛ وكلّ سلولىّ ينسب إلى مرّة هذا؛ وأمّ ولده سلول الشيبانيّة: وهى سلول ابنة شيبان بن ذهل بن ثعلبة؛ وولده عشرة أفخاذ: وهم عمرو وضبيعة ونهار وسحيم: وهو أعيا، وغاضرة وعديّة وجابر ومعاوية وجنى ودهى. وباقى ولد صعصعة لصلبه قبائل صغار: عبد الله وعائد وعمرو وقيس وكبير وسيار ومساور وزبيبة وربيعة وغالب ووائل ومازن وعوف ومنجور والحارث: خمس عشرة قبيلة؛ وفي هذه القبائل: بنو عادية وبنو عديّة بالضم، فأما بنو عادية فهى أم عبد الله عادية والحارث. وأما بنو عدية فهى أم قيس عدية وعوف عدية. والى عمرو بن صعصعة بن معاوية تعزى الطائفة المعروفة بالأكراد. ومن النسّابين من ذكرهم إلى كرد بن مرد بن عمرو بن صعصعة المذكور. ومنهم من نسبهم إلى أكراد بن فارسان بن أهلوا بن إرم بن سام بن نوح، وعليه اعتمدوا. ومنهم من قال: كرد بن مرد بن يافث ابن نوح. وأما غامر بن صعصعة فأعقب من أربع بطون: وهم نمير وسواءة وهلال وربيعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 فأما نمير بن عامر. واليه ينسب كلّ نميرىّ، ففيهم عدّة أفخاذ: بنو المقشّب: وهو ربيعة بن عبد الله بن الحارث بن نمير، وبنو خويلفة بن عبد الله بن الحارث ابن نمير، وبنو أسقع: وهو مالك بن عامر بن نمير. وأما سواءة بن عامر بن صعصعة فمنه عدّة أفخاذ: منها بنو حبيب بن سواءة وبنو جسّاس بن سواءة وبنو حرثان بن سواءة. وأما هلال بن عامر بن صعصعة فالبطن المشهور، وقد نزلوا المغرب من تلمسان إلى طرابلس، فأعقب هلال من إحدى عشرة قبيلة وهم أولاده لصلبه. أوّلهم البيت المقدّم عبد الله ونهيك وربيعة وعائذة وعبد مناف ورويبة وصخر وشعبة وشعيبة وناشرة وحضرة. وفي هلال عدّة أفخاذ وعشائر: كزغبة ورياح وفادع والأثيج وحوثة، وقرّة وغيرهم. فأعقب عبد الله: وهو البطن الأولى من بنى هلال من ثلاث أفخاذ: رويبة ابن عبد الله وحوثة وحارثة: ابنى عبد الله؛ فأعقب رويبة بن عبد الله من أربع عشائر: زغبة ورياح وهزوم ومعاوية: بنى رويبة بن عبد الله، فمن بنى الهزم بن رويبة بن عبد الله: ميمونة بنت الحارث بن حزن بن بجير بن الهزم بن رويبة بن عبد الله أمّ المؤمنين زوج النبى صلى الله عليه وسلم، ومن بنى رياح: بنو نجيّة بن علىّ ابن فادع: فخذ أعقب، إليه يرجع جنادة بن كامل مقدّم بنى هلال. وأما نهيك بن هلال فأعقب من خمس قبائل لصلبه: وهم معشر وأبو ربيعة وأبو معاوية وسهل وأبو جشم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 وأما عبد مناف بن هلال فأعقب من أربع قبائل: الحارث وعمرو وربيعة ويعمر: بنى عبد مناف لصلبه. فمن بنى ربيعة بن عبد مناف بن هلال: قرّة بن عمرو بن ربيعة: فخذ مشهورة كبيرة، إليه يرجع كلّ قرّىّ. ومن بنى عمرو بن عبد مناف بن هلال: زينب بنت خزيمة بن الحارث بن عبد الله بن عمرو بن عبد مناف أمّ المساكين زوج النبى صلى الله عليه وسلم أمّ المؤمنين. فهذا مختصر قبائل هلال. وأما ربيعة بن عامر بن صعصعة، فأعقب من خمس قبائل: وهم الحارث وكليب وعامر وكلاب وكعب: بنوه لصلبه. أما الحارث بن ربيعة فأعقب من فخذين لصلبه: عوف وعويف. وأما كليب بن ربيعة فأعقب من خمس أفخاذ لصلبه: أبان وجهم وجشم وخلف ومسروق. وأما عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة فأعقب من أربع أفخاذ لصلبه: عمرو وعوف والبكّاء ومعاوية. وأما كلاب بن ربيعة بن عامر فأعقب من عشر أبطن، قال الشاعر: وإن كلابا هذه عشر أبطن ... وأنت برىء من قبائلها العشر يعنى شمر بن ذى الجوشن الضّبابىّ، والعشر أبطن لصلب كلاب: وهم جعفر وأبو بكر واسمه عبيد، ومعاوية: وهو الضّباب بن كلاب وعامر وربيعة والأضبط وعمرو وعبد الله ورؤاس «قيل: بالفتح وواو بدل الهمز» ، وكعب. فأما جعفر بن كلاب فأعقب من أربعة أفخاذ لصلبه: مالك والأحوص وخالد وعتبة؛ وفيهم عدّة عشائر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 وأما أبو بكر عبيد بن كلاب فأعقب من ثلاثة أفخاذ لصلبه: عبد وكعب وعبد الله. فأما عبد بن أبى بكر فمن العشائر التى لصلبه: بنو قرط وبنو قريط. وأما كعب بن أبى بكر فمن العشائر التى لصلبه: بنو جحش بن كعب. وأما عبد الله بن أبى بكر فمن عشائره لصلبه: بنو المجنون: وهو ربيعة بن عبد الله. وأما معاوية بن كلاب وهو الضّباب فمنه ثلاث عشرة، قبيلة: وهم ضبّ ومضبّ وضباب؛ ولأجلهم عرف هذا البطن أعنى بنى معاوية بالضّباب، وحسيل وحسل وعمرو وأنس والأعور وزفر وأنيس ومالك وربيعة وزهير: أولاد عمرو بن معاوية. ومن ولد الأعور هذا شمر بن شرحبيل بن الأعور قاتل الحسين بن علىّ رضى الله عنه. وأما عامر بن كلاب فمنه أربع قبائل لصلبه: وهم بنو الأصمّ، وهم قليل، وبنو كعب وهو البيت من عامر بن كلاب وطريف بن عامر وعقيل بن عامر. فأعقب كعب بن عامر من الوحيد: وهو عامر بن كعب، من أفخاذه: خالد بن ربيعة بن الوحيد بن كعب بن عامر بن كلاب، منه أمّ البنين بنت حزام بن خالد المذكور زوج علىّ بن أبى طالب، وهى أمّ ابنه العباس السقّاء؛ عرف بذلك لأنه سقى الحسين الماء بكربلا. وأما ربيعة بن كلاب فمنه ثلاثة أفخاذ لصلبه: وهم بجير وعبيد ونفيل أبو نمير. وأما الأضبط بن كلاب فتخذه: بنو ويرين الأضبط؛ ومن بنى وبر سبع عشائر: وهم وهب الأكبر ووهب الأصغر وواهب وإهاب ووهبان وخالد وأبو ربيعة: أولاد وبر بن الأضبط. وأما عمرو بن كلاب فمنه فخذان: نفيل وأبو عوف: ابنا عمرو بن كلاب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 وأما عبد الله بن كلاب فأعقب من ثلاثة أفخاذ: عامر وعمرو والصّموت: أولاده لصلبه. ومن عشائر الضموت بن عبد الله: ضبيعة الأغرّ بن عبد الله ابن الصموت. وأما رؤاس بن كلاب فأعقب من ثلاثة أفخاذ: بجاد وبجيد وعبيد: أولاده لصلبه؛ ومن بجيد: عفيّف بن بجيد: فخذ؛ وإلى رؤاس هذا ينسب كلّ رؤاسىّ. وأما كعب بن كلاب فأعقب من أربعة لصلبه: عامر ووهب وربيعة وأوس. فهذا مختصر بنى كلاب وأبطنها- نعود إلى باقى ولد ربيعة بن عامر. وأما كعب بن ربيعة بن عامر فأعقب من ستة أبطن لصلبه: وهم جعدة بن كعب: البطن المشهورة؛ إليها يرجع كلّ جعدىّ؛ وفيها عدّة قبائل وعشائر، وحبيب ابن كعب: البطن المشهورة؛ وإليها يرجع كلّ حبيبى؛ وفيها أفخاذ، وعبد الله بن كعب منه العجلان بن عبد الله: بطن، وربيعة بن عبد الله، ونهم بن عبد الله؛ وفيهم أفخاذ، وقشير بن كعب، وإليه يرجع كلّ قشيرىّ؛ وفيها عدّة أفخاذ وعشائر، والحريش بن كعب، وإليه يرجع كلّ حرشىّ: كعبد الله بن الشّخّير بن عوف بن كعب بن وقدان بن الحريش الحرشىّ الصحابىّ وغيره، وعقيل بن كعب: البطن المشهورة، إليها يرجع كلّ عقيلىّ بالضم. والعقب من عقيل بن كعب: بن ربيعة ابن عامر من خفاجة بن عمرو بن عقيل: البطن المشهورة، وعبد الله وربيعة ومعاوية وعامر وعبادة؛ كلّ هؤلاء أبطن. والعقب من خفاجة من أحد عشر فخذا لصلبه: وهم بنو معاوية دى القرح: فخذ، وبنو كعب دى النّويرة، وبنو الأقرع: فخذ، وبنو كعب الأصغر، وبنو عامر، وبنو مالك، وبنو الهيثم، وبنو الوازع؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 إليه ينسب كلّ وازعىّ، وبنو عمرو، وبنو حزن، وبنو خالد. والفخذ العظمى من بنى عقيل بعد بنى خفاجة: بنو يزيد بضم الياء بن عبد الله بن يزيد بن قيس بن حوثة بن طهفة بن حزن بن عبادة: عشيرة الأمير أبى المنيع شرف الدولة محمد بن مرداس؛ ودرج شرف الدولة، وهو ملك العرب. فهذا مختصر من نسب بنى عقيل، وهؤلاء هوازن وهم بكر، والله سبحانه وتعالى أعلم. وأما سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان: وهو البطن المشهورة، فأعقب من بهثة بن سليم، وأعقب بهثة من خمسة أفخاذ لصلبه: معاوية وعوف وامرئ القيس والحارث وثعلبة. ومن بنى امرئ القيس بن بهثة: بنو عصيّة بن خفاف بن امرئ القيس: بطن. وأما محارب بن خصفة بن قيس بن عيلان، فأعقب فخذين لصلبه: طريف وجسر، ويقال لبنى جسر: بنو علىّ لأن العقب من جسر بن محارب في علىّ بن جسر لا غير. انقضى ذكر بنى خصفة بن قيس بن عيلان. وأما سعد بن عيلان فأعقب من بطنين لصلبه: وهما غطفان، ومنبه: وهو أعصر؛ والعقب من ريث بن غطفان من أربع أبطن لصلبه: بغيض ومازن وأشجع وإليه يرجع كلّ أشجعىّ، وأهون: بنو ريث. والعقب من بغيض بن ريث [من عبس وذبيان] وهما القبيلتان المشهورتان. وذكر بعض النسّابين أنمار بن بغيض منهم أبو كبشة الأنمارىّ. وقيل: إن أبا كبشة الأنمارىّ إنما هو من مذحج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 والعقب من عبس بن بغيض بن ريث بن غطفان من فخذين: قطيعة وورقة ابنى عبس. والعقب من قطيعة بن عبس من الحارث، ومعتمر: قبيلة قليلة، وعوف: قبيلة، وغالب: قبيلة الحطيئة، ومريطة: قبيلة من ولد خالد بن سنان نبىّ أهل الرّسّ بن جابر ابن غيث بن مريطة. والعقب من الحارث بن قطيعة بن عبس من جروة وعامر ومازن: قبيلة وذكوان وشدّاد: بنى الحارث بن قطيعة. ومن مازن بن الحارث أفخاذ: منهم جذيمة بن رواحة بن ربيعة بن مازن: فخذ؛ إليه يرجع الجذميون بالجيم: منهم عشيرة بنى زهير ابن جذيمة في آخرين. وأما ذبيان بن بغيض، فأعقب من فزارة: البطن المشهورة، وسعد؛ فأعقب فزارة بن ذبيان من مرّة وظالم ورومىّ، درج وشمخ وعدىّ ومازن: أولاد فزارة؛ وفيهم قبائل وعشائر وأفخاذ. وأما سعد بن ذبيان فمن بطونه المرّيون: بنو مرّة بن عوف بن سعد، وفيهم أفخاذ، وبنو عقال بن سعد: فخذ، وبنو بجالة بن ثعلبة بن سعد وبنو عجب بن ثعلبة وبنو رزام بن ثعلبة. وأما عبد الله بن غطفان بن سعد فالعقب منه في بهثة بن عبد الله وقطبة وعدىّ وعذرة وكلب وباعث وشبابة وغنم وعوف ومنبّه؛ عشرة أفخاذ. وأما أعصر: وهو منبّه بن سعد بن قيس فأعقب من باهلة: وهم ولد مالك بن أعصر، وهى باهلة بنت صعب بن سعد العشيرة أخت بجيلة بن مذحج؛ ولد سعد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 ابن مالك بن يعصر ومعن بن مالك بن يعصر فغلب اسمها عليهم ونسبوا إليها؛ وكلّ باهلىّ ينسب إلى باهلة وهم ولد مالك بن أعصر بن معن بن مالك، وغنىّ بن أعصر بن سعد بن قيس أعقب من غنم وجعدة، إليها ينسب كلّ غنوىّ والطّفاوة، اسمه الحارث بن أعصر إليه ينسب الطّفاويّون، وعامر بن أعصر. وأما عمرو بن قيس بن عيلان، فمنه بطنان لصلبه: وهما عدوان واسمه الحارث، وفهم: ابنا عمرو بن قيس؛ وإنما قيل له عدوان: لأنه عدا على أخيه فهم فقتله. وفهم وعدوان يقال لهما: جديلة قيس، وهى أمّهم جديلة بنت مرّ بن أدّ: أخت تميم بن مرّ. ومن قبائل عدوان: بنو يشكر وبنو دوس: ابنى عدوان: القبيلتان المشهورتان. هذا آخر مختصر نسب قيس بن عيلان بن مضر. فلنرجع إلى عمود النسب. وعمود النسب من مضر في ابنه: الياس بن مضر بن نزار وأمّه الرّباب بنت إياد المعدّية؛ ومنه غير عمود النسب (وهو مدركة) بطن واحد وهو طابخة بن الياس؛ قال: لأن قمعة بن الياس فيه خلاف كثير، وأكثر مشايخ النسب يذكرون أنه درج ولا عقب له؛ وذكر آخرون: أنه أبو خزاعة، وخزاعة ليست بأب ولا أمّ وإنما هم انخزعوا من مضر الى اليمن ببطن مرّ، وذلك حين أقبل بنو عمرو بن عامر يريدون الحجاز؛ ألا ترى قول عون بن أيّوب الأنصارىّ [1] : ولما هبطنا بطن مرّ تخزّعت ... خزاعة منّا في حلول كراكر حمت كلّ واد من تهامة واحتمت ... بصمّ القنا والمرهفات البواتر   [1] كذا بالأصل وفي اللسان أن القائل: حسان بن ثابت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 وقد أوردنا نسب خزاعة في بنى عمرو بن عامر ماء السماء الغسّانىّ في نسب اليمن، ومن قبائل طابخة بن الياس خمس: بنو مرّ بن أدّ بن طابخة، وبنو ضبّة بن أدّ ابن طابخة، وبنو عمرو، وبنو خميس، وبنو عبد مناة: أولاد أدّ بن طابخة. فأما بنو مرّ بن أدّ بن طابخة، فمنه بنو تميم بن مرّ، وبنو ثعلبة بن مرّ: ظاعنة من الشّعيراء، وبنو صوفة: وهم ولد الغوث: وهو الرّبيط بن مرّ وبكر بن مرّ من الشعيراء، ومحارب بن مرّ، فهم عدّة أفخاذ وقبائل. وقبائل تميم: وهم ثلاث: زيد مناة والحارث وعمرو: أولاد تميم لصلبه. فمن قبائل زيد مناة بن تميم نهشل بن دارم ابن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، وبنو سدوس بن دارم: قبيلة. وبنو عبد الله بن دارم: منهم عطارد: قبيلة حاجب بن زرارة بن عدس (وكلّ من عداه بفتح الدال) ابن زيد بن عبد الله بن دارم مجوس، وبنو أبان بن دارم: قبيلة. وبنو ثعلبة بن يربوع بن حنظلة: قبيلة. وبنو كليب بن يربوع: قبيلة. وبنو رياح بن يربوع: قبيلة. وبنو غدانة بن يربوع: قبيلة. وبنو جارية بن سليط بن يربوع. وبنو البراجم: وهم ظليم وعمرو وقيس وغالب وكلفة: أولاد حنظلة بن مالك؛ فهؤلاء بنو حنظلة بن مالك؛ سموا براجم لتجمّعهم كالأصابع. ثم قبيلة الجوع: وهم ولد ربيعة بن مالك بن زيد مناة؛ والكردوسان من بنى زيد مناة: معاوية وقيس ابنا مالك بن زيد مناة بن تميم. ومن زيد مناة: بنو سعد بن زيد مناة، منه عدّة قبائل، منهم قبائل الأبناء: وهم عبشمس وعوافة وعوف وجشم ومالك وعمرو: بنو سعد بن زيد مناة. ومن بنى سعد بن زيد مناة: بنو الحرام: وهو من الخدعة بن كعب ابن سعد، وبنو حمّان بن عبد العزّى بن كعب بن سعد، وبنو الأعرج: وهو الحارث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 ابن كعب بن سعد، وبنو قريع بن عوف بن كعب بن سعد، وبنو بهدلة بن عوف ابن كعب، وبنو برنيق بن عوف بن كعب، وبنو عطارد بن عوف بن كعب قليلون. ومن قبائل كعب بن سعد المذكور: بنو منقر بن عبيد بن مقاعس: وهو الحارث ابن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم وهم المنقريّون. ومن بنى زيد مناة: بنو امرئ القيس بن زيد مناة. له عدد ومدد، منه ثلاثة أفخاذ: بنو عصيّة وبنو مالك وبنو الحارث: أولاد امرئ القيس المذكور. ومن بنى زيد مناة: بنو عامر الصحيح بن زيد مناة؛ فهؤلاء بنو زيد مناة بن تميم. وأما الحارث بن تميم فمنه شقرة بن الحارث: قبيلة، اسمه معاوية، وسمّى شقرة ببيت قاله: وقد أحمل الرمح الأصمّ كعوبه ... به من دماء القوم كالشقرات والشقرات: شقائق النعمان، والنعمان: الدم؛ والله أعلم. وأما عمرو بن تميم فمنه سبعة أفخاذ. وهم بنو مالك وبنو العنبر وبنو الهجيم وبنو أسيد وبنو الحبطة: وهو الحارث. وبنو القليب: وهو أليهة [وزن عليهة] وكعب: بنو عمرو ابن تميم؛ وولى كعب هذا البيت قبل قريش. فأما مالك بن عمرو بن تميم فمنه فخذان: مازن، منهم أوفى بن مطر المازنىّ جلىّ العرب، والحرماز: وهو الحارث بن مالك. فمن بنى مازن بن مالك بن عمرو بن تميم: أنمار بن مازن: فخذ قليلون، ورألان بن مازن: قبيلة، وحرقوص بن مازن، ورزام بن مازن: قليل، وخزاعىّ بن مازن: قليل. وأما بلعنبر بن عمرو بن تميم فأعقب من ثلاثة: كعب وجندب ومالك: أولاد العنبر؛ وكلّ بلعنبرىّ ينسب إلى بلعنبر هذا: وهى قبيلة مشهورة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 وأما بلهجيم بن عمرو بن تميم وهو الهجيم فأعقب من خمسة: عامر وسعد وعمرو وربيعة وأنمار. ويقال لبلعنبر وبلهجيم: الخبطات [1] . وكذلك أخوهما الحارث الخبط؛ وهو الذى عرفوا بذلك من أجله، يقال: إنه أكل خبطا فسمّى به [2] . وأما أسيد بن عمرو بن تميم فأعقب من ستة لصلبه: عقيل ونمير وجروة: قبيلة، وعمرو والحارث. فمن بنى جروة بن أسيد بن هند بن أبى هالة: نبّاش ابن زرارة ابن وقدان بن حبيب بن سلامة بن غوىّ بن جروة بن أسيد بن عمرو بن تميم: ربيب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وأمّه خديجة بنت خويلد. وأما الحارث الخبط بن عمرو بن تميم فمنه قبيلة سعد بن الحارث، وهى قبيلة الخبطات، ومشادة بن الحارث الخبط ونضلة بن الحارث الخبط: فهؤلاء بنو تميم فى مرّ بن أدّ بن طابخة. وأما بنو ضبة بن أدّ فثلاث قبائل: سعد وسعيد وباسل. ولسعد وسعيد المثل السائر «أسعد أم سعيد» . أما سعيد بن ضبة فقليل عددهم. وأما سعد بن ضبة فأعقب من اثنين: ثعلبة وبكر: ابنى سعد؛ فأما ثعلبة بن سعد، فمن قبائلها: بنو مسعود بن دلجة بن نعيم بن قرامة بن كعب بن ربيعة بن ثعلبة بن سعد: قبيلة ينسب إليها كلّ مسعودىّ، وبنو مبذول بن عامر بن ربيعة بن كعب بن ربيعة بن ثعلبة   [1] كذا في الأصل الكوبريلى بإعجام الخاء. والصواب بالمهملة كما في كتب الأنساب واللغة، أنظر القاموس واللسان في مادة: ح ب ط. [2] إنه أكل خبطا فسمّى به كذا في الأصل، وجاء في القاموس: أن الذين سموا بهذا الاسم هم سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم جاعوا في الطريق حتى أكلوا الخبط وهو الورق المضروب بالمخابط يجفف ويطحن، فسموا بسريّة الخبط أو جيش الخبط وعليه يكون اسم الحارث الحبط بالحاء المهملة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 ابن سعد: قبيلة. ومن بنى بكر بن سعد بن ضبة: صبح وبجالة: ابنا ذهل بن مالك ابن بكر بن سعد: فخذان، وعائذة [1] بن مالك بن بكر بن سعد: فخذ، ونصر بن عبد الله ابن بكر بن سعد: فخذ. وأما باسل بن ضبة فإنه خرج مغاضبا لابيه فوقع بأرض الدّيلم فتزوّج امرأة من الديلم، فولدت له الديلم بن باسل: جدّ القبيلة المشهورة؛ ومن رجالها في الجاهلية: زيد الفوارس بن حصين، وفي الإسلام ابن شبرمة القاضى. وأعقب من الديلم فخذان: الأبيض بن معاوية بن الديلم، وبجير بن معاوية بن الديلم. فأعقب الأبيض ابن معاوية من الضحاك ولار وشهريار وإيران وناشر: أولاد الأبيض بن معاوية ابن ديلم من بهرام بن الضحاك؛ وفيروز وزر بوران وبريانوس: أربعة أفخاذ. وأعقب بريانوس بن الضحاك من قابوس بن بريانوس. وأعقب قابوس من شاه مرد. وأعقب لار بن الأبيض من كامياد بن لار. وأعقب كامياد من ابنه جور. وأعقب بجير بن معاوية بن ديلم من باسل بن تيداذما، فأعقب تيداذما من دادوه. فهذه النهاية في اختصار نسب الديلم؛ والله سبحانه وتعالى أعلم. وأمّا عمرو بن أدّ بن طابخة فهو مزينة، ومزينة أمه: وهى بنت كلب بن وبرة ابن ثعلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، وكلّ مزنىّ ينسب إلى مزينة هذا. ومن مزينة: عثمان وأوس: ولدا عمرو؛ فمن عثمان بن عمرو بن أدّ بن طابخة بطنان: عدا ولاطم: ابنا عثمان. ومن مزينة: النعمان بن مقرّن وزهير بن أبى سلمى؛ وليس في العرب سلمى بالضمّ سواه، ورؤبة بن العجّاج. قال رسول الله   [1] وردت في بعض كتب الأنساب بالدال المهملة وفي بعضها بالذال المعجمة فتنبه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 صلى الله عليه وسلم! «أسلم وغفار ومزينة وجهينة (أو قال: لمن كان من جهينة) خير من بنى تميم وبنى عامر بن صعصعة ومن الحليفين أسد وغطفان» . وأما عبد مناة بن أدّ بن طابخة فمنه ثور أطحل بن عبد مناة: بطن- رهط سفيان الثورىّ رحمه الله، (وأطحل جبل) ، وبنو الرباب: ولد تيم بن عبد مناة وعدىّ بن عبد مناة وعوف بن عبد مناة: سمّوا الرّباب: لأنهم غمسوا أيديهم في ربّ إذ تحالفوا على بنى تميم. قال: ومن النسّابين من يجعل الرباب بنى تميم وعدىّ وثور وعكل: وهم بنو عبد مناة وضبة بن أدّ. فأما عدىّ بن عبد مناة، فإليه ينسب كلّ عدوىّ ليس من عدىّ قريش؛ ومنهم: أبو قتادة العدوىّ: تابعىّ؛ وإلى عوف بن عبد مناة ينسب كلّ عوفىّ؛ ومنهم: عطيّة العوفىّ. قال: وشيخ الشرف النسابة يقول: إن عكلا هو عوف بن وائل ابن قيس بن عوف بن عبد مناة، وعكل: أمة لامرأة من حمير يقال لها: بنت ذى اللّحية، تزوّجها عوف بن وائل، فولدت له جشما وسعدا وعليّا، ثم هلكت، فحضنت عكل ولدها فغلبت عليهم ونسبوا اليها. وأما تيم بن عبد مناة بن أدّ بن طابخة ففخذه: عمرو بن الحارث بن التيم بن عبد مناة وفيه العدد. انقضت خندف فلنرجع الى عمود النسب من الياس في ابنه: مدركة بن الياس بن مضر واسمه عمرو، وأمّه خندف: وهى ليلى بنت حلوان القضاعيّة؛ وإنما سمّى مدركة: لان أباه الياس خرج منتجعا، ومعه أهله وماله، فدخلت بين إبله أرنب، فنفرت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 الإبل، فخرج أولاد الياس، فأدركها عمرو، فسمّاه أبوه الياس: مدركة؛ وخرجت ليلى بنت حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة أمّه تهرول فقال لها الياس: مالك تخندفين؟ والخندفة: الهرولة، فسمّيت خندف، وخرج عامر بن الياس أخو مدركة. فى طلب الأرنب فاصطادها وطبخها، فقال له أبوه الياس: أنت طابخة، ورأى عمرا أخاهما قد انقمع في الظلّة فهو يخرج رأسه منه، فقال له أبوه الياس: أنت قمعة. ومن مدركة غير عمود النسب: بنو هذيل بن مدركة، ومن هذيل: بطنان لصلبه: بنو لحيان وسعد؛ ومن قبائل سعد بن هذيل: بنو خناعة بن سعد، وبنو صاهلة بن كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل؛ منهم: عبد الله بن مسعود ابن غافل بن حبيب بن شمخ بن قار بن مخزوم بن صاهلة الصحابىّ: أحد القرّاء رضى الله عنه. ومن شعراء هذيل: أبو ذؤيب الهذلىّ وأبو كبير وأبو المثلّم وغيرهم. وعمود النسب من مدركة في ابنه خزيمة بن مدركة، وأمّه سلمى بنت اسلم القضاعية؛ ومنه غير كنانة عمود النسب قبيلتان: وهما الهون وأسد. فأما الهون ابن خزيمة، فأعقب من عضل والدّيش ابنى بليغ بن الهون، وهم القارة: سمّوا قارة: لأن يعمر بن عوف بن الشدّاخ أحد بنى ليث لما أراد أن يفرّقهم في بطون كنانة، قال رجل منهم: دعوة قارة لا تنفرونا فنجفل مثل إجفال الظليم فسمّوا قارة: وهم رماة العرب وفيهم قيل «قد أنصف القارة من راماها» وسبب هذا المثل أن رجلين التقيا، أحدهما من القارة، فقال القارىّ للاخر: إن شئت صارعتك، وإن شئت سابقتك، وإن شئت راميتك، فقال خصمه: قد اخترت المراماة، فقال القارىّ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 قد أنصف القارة من راماها ... إنا إذا ما فئة تلقاها نردّ أولاها على أخراها ثم انتزع له سهما فصلّ فؤاده؛ وقيل غير ذلك. ومن أسد بن خزيمة أربع عشائر: بنو كاهل وصعب وعمرو ودودان: بنى أسد. فمن دودان: بنو عمرو بن دودان: قبيلة: وهم وجوه بنى أسد؛ منهم: زينب بنت جحش بن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرّة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة؛ زوّجت النبىّ صلى الله عليه وسلم: وهى بنت عمّته أميمة بنت عبد المطلب. وبنو سعد بن الحارث بن ثعلبة بن دودان: قبيلة. من شعرائهم: بشر بن أبى خازم الوالبىّ الجاهلىّ. وبنو قعين بن الحارث بن ثعلبة بن دودان: قبيلة، منهم: فخذ بنى نصر بن قعين، ومنهم بنو فقعس بن طريف بن عمرو بن قعين بن الحارث بن ثعلبة ابن دودان: قبيلة. وبنو أعيا بن طريف: قبيلة، وبنو قيس بن طريف: قبيلة، وبنو كعب بن عمرو بن قعين: قبيلة، وبنو سواءة بن سعد بن مالك بن ثعلبة بن دودان: فخذ، وبنو ناشرة بن نصر بن سواءة بن سعد بن مالك بن ثعلبة بن دودان. وعمود النسب من خزيمة بن مدركة في ابنه كنانة بن خزيمة، وأمّه عوانة بنت سعد القيسية. وبنو كنانة أوّل عرب تلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسبه. ومن بنى كنانة غير عمود النسب وهو النضر: خمس قبائل لصلبه: بنو عبد مناة وعمرو وعامر وملكان ومالك منهم: بنو حداد بن مالك بن كنانة: فخذ. فأما عبد مناة بن كنانة، فمنهم: بنو بكر وبنو عامر وبنو مرة: بنى عبد مناة، ومن بنى بكر بن عبد مناة: بنو الدّئل بن بكر بن عبد مناة: رهط أبى الأسود الدؤلىّ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 وهو ظالم بن عمرو بن سفيان بن عمرو بن حلس بن نفاثة بن عدىّ بن الدئل بن بكر المدكور: وهو تلميذ علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه في النحو، ويقال في النسبة إلى هذا الفخذ: دؤلى مهموز مفتوح. ومن بنى بكر: بنو الحارث بن بكر: فخذ، وبنو ليث بن بكر: فخذ؛ منهم: بنو حدج بن ليث بن بكر فخذ، وبنو ضمرة بن بكر: فخذ. منهم: بنو غفار بن مليل بن ضمرة بن بكر: رهط أبى ذرّ الغفارىّ: وهو جندب بن جنادة بن قيس بن عمرو بن مذيل بن صعير بن حرام بن غفار، وقد انقرض أبو ذرّ الغفارىّ رضى الله عنه. وأما عامر بن عبد مناة بن كنانة، فمنه: قين بن عامر: قبيلة أهل الغميصاء، قتلهم خالد بن الوليد رضى الله عنه. وأما مرّة بن عبد مناة بن كنانة، فمنه: بنو مدلج بن مرّة: قبيلة سراقة بن مالك ابن جعشم وهم المدلجيّون، قالوا: وهم قافة العرب وأعلمهم بالزجر والقيافة. وأما عمرو بن كنانة، فهم العمريّون. وأما عامر بن كنانة، فهم العامريّون، وأما ملكان بن كنانة فهم الملكانيّون، وأما مالك بن كنانة فمنه في الحارث، ومن الحارث فى ثعلبة، ومن ثعلبة في فخذين: بنو عامر وبنو غنم. أما غنم فمنه: فراس بن غنم: وهم الفراسيّون. ومن بنى غنم: أمّ رومان بنت عامر بن عويمر بن عبد شمس بن عتّاب بن أذينة بن سبيع بن دهمان بن الحارث بن غنم: وهى أم عائشة بنت أبى بكر الصدّيق رضى الله عنها زوج النبىّ صلى الله عليه وسلم. ومن عامر عشيرتان: بنو مخدج بن عامر بن ثعلبة المخدجيّون، وبنو فقيم بن عدىّ بن عامر النسأة. فهؤلاء أفخاذ كنانة؛ والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 وعمود النسب من كنانة بن خزيمة في ابنه النّضر بن كنانة، واسمه قيس، وأمّه برّة بنت مرّ الأدّية، والنضر: الذهب؛ وكان له: يخلد [1] بن النضر، منه: بدر بن الحارث بن يخلد الذى سمّيت به بدر بدرا. قال: وليس له ولد باق والعقب من النضر بن كنانة في ابنه عمود النسب وهو: مالك بن النضر وأمه عكرشة بنت عدوان القيسيّة؛ ولا عقب لمالك إلا من عمود النسب وهو ابنه: فهر بن مالك وهو قريش، وأمّه جندلة بنت عامر الجرهميّة، وكلّ من لم يلده فهر فليس بقرشىّ. وقد قيل في تسميته بقريش أقوال: منها أنه اسم دابّة في البحر، وأنه اسم للقبيلة، وأحسن ما قيل فيه: إن التقريش: التفتيش، فكان يقرش عن خلّة كلّ ذى خلّة فيسدّها بفضله: فمن كان محتاجا أغناه، ومن كان عاريا كساه، ومن كان طريدا آواه، ومن كان خائفا حماه، ومن كان ضالا هداه. قال الحارث بن حلّزة اليشكرىّ عفا الله تعالى عنه: أيها الناطق المقرّش عنا ... عند عمرو، وهل لذاك بقاء؟ وقيل: التقرّش: التجمّع، وسمّيت قريش لتجمّعها، فإنها لما تجمّعت بمكة وجمعت خصائل الخير سمّيت قريشا؛ وتسمّى أيضا الحمس من الحماسة؛ وذلك أنها تحمّست فى دينها فقالت: لا نطوف بالبيت عراة، ولا تسلأ نساؤنا سمنا، ولا تغزل وبرا، ولا نخرج إلى عرفات، ولا نزايل حرمنا، ولا نعظّم غيره، ولا نطوف بين الصفا والمروة.   [1] كذا بالاصل ووردت في مكان آخر منه «مخلد» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 وكانوا يقفون بالمزدلفة ومن سواهم من العرب يقال لهم: الحلّة: كانوا يطوفون بالبيت عراة ويقولون: نكرم البيت أن نطوف فيه بثيابنا التى اجترحنا فيها الآثام. قال: ومن بنى فهو غير غالب عمود النسب: بنو الحارث بن فهر وبنو محارب ابن فهر. فمن بنى الحارث بن فهر: قيس بن الخلج [1] بن الحارث. ويقال: الخلج بلاد قيس، سمّوا بذلك: لأنهم نزلوا الخلج بالمدينة على ساكنها أفضل الصلاة وأتم السلام. منهم آل هرمة الشاعر: وهم هرمة بن الهذيل بن ربيع بن عامر ابن صبح بن عدىّ بن قيس. ومن بنى الحارث بن فهر: أبو عبيدة أمين هذه الأمة: وهو عامر بن عبد الله ابن الجرّاح بن هلال بن أهيب بن الحارث بن فهر، لا عقب له. ومن بنى محارب بن فهر: ضرار بن الخطّاب بن مرداس بن كثير بن حبيب بن شيبان بن محارب بن فهر وهو القائل: ونحن بنو الحرب العوان نشبّها ... وبالحرب سمّينا فنحن محارب وعمود النسب من فهر بن مالك في ابنه غالب بن فهر وأمّه ليلى بنت الحارث الهذلية، منه فخذ واحد غير عمود النسب، وهم الأدرميون: ولد تيم بن غالب. والأدرم: الناقص الذقن، وهم قليل وقد ولدوا في العرب ولادات. وعمود النسب من غالب بن فهر في ابنه لؤى بن غالب، وأمه عاتكة بنت مخلد الكنانية النضرية، وقيل بل هى سلمى بنت عمرو الخزاعية؛ وهو تصغير اللأى وهو ثور الوحش مهموز، وقال أبو حنيفة: اللأى البعرة، وقيل لؤىّ تصغير لأى وهو البطء: نقيض العجلة.   [1] وردت في القاموس بضمتين وفي كتاب المعارف لابن قتيبة بتسكين اللام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 وأنشد أبو أسامة: فدونكم بنى لأى أخاكم ... ودونك مالكا يا أمّ عمرو وقال ابن دريد: هو مشتقّ من لواء الجيش وهو مهموز، وإن كان من لوى الرمل فهو مقصور، قال امرؤ القيس: بسقط اللّوى بين الدّخول فحومل واللوى: اعوجاج في ظهر الفرس. قال: ومن قبائل بنى لؤى غير كعب عمود النسب: بنو عامر وبنو أسامة وبنو خزيمة: وهم عائذة قريش وسعد، وإليه ينسب بنو نباتة بفتح النون وضمها: وهى أمّ سعد بن لؤىّ؛ بها يعرفون، وإليها ينسبون، وقيل: نسبوا إلى حاضنة لهم اسمها نباتة من بنى القين بن جسر بن شيع الله؛ ويقال: سبع الله ابن الأسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن الحاف بن قضاعة. والحارث بن لؤىّ، وعوف وجشم: أولاد لؤىّ. فأما عامر بن لؤىّ، فمنهم ابن أمّ مكتوم الأعمى الذى نزل فيه (عَبَسَ وَتَوَلَّى) وهو مؤذّن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة؛ واسمه عمرو بن قيس بن زائدة ابن الأصم بن رواحة بن حجر بن عبد بن معيص بن عامر بن لؤىّ؛ ومنهم عمرو ابن عبدودّ بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر، الذى قتله علىّ بن أبى طالب يوم الخندق. وأما بنو أسامة بن لؤىّ، فيزعم من نسب بنى ناجية إلى قريش أنهم يلقون بنى لؤىّ عند أسامة بن لؤىّ، وقد كان علىّ بن أبى طالب سباهم حين أقاموا على النصرانية ثم باعهم فيمن يريد، فاشتراهم مصقلة بن هبيرة الشيبانىّ بمائة ألف درهم، فقدّم منها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 ثلاثين ألفا وأعتقهم، فأنفذ علىّ عتقهم، وهرب مصقلة ببقيّة المال إلى معاوية. وقد قيل عن علىّ إنه قال: ما أعقب عمّى سامة بن لؤىّ. وأما خزيمة بن لؤىّ، فإليه ينسب القوم الذين يزعمون أنهم عائدة قريش. قال: وشيخ الشرف بن أبى جعفر النسابة يدفعهم عن النسب؛ وهم قوم تكثر بهم معاوية فأدخلهم في قريش، وعائدة هى ابنة الخمس بن قحافة بن خثعم، بها يعرفون: وهم بنو الحارث بن مالك بن عبيد بن خزيمة بن لؤىّ، وعائدة أمّ الحارث هذا؛ ويقال: الحارث بن مالك بن عوف بن حرب بن خزيمة بن لؤى، وهم بمالك خمس أفخاذ من عوف: بنو جذيمة، وبنو عامر، وبنو سلامة، وبنو معاوية: أولاد عوف، وعائدة مع بنى محلب بن ذهل بن شيبان، باديتهم مع باديتهم، وحاضرتهم مع حاضرتهم يد واحدة. فلنرجع إلى عمود النسب، وهو من لؤىّ بن غالب في ابنه: كعب بن لؤىّ بن غالب وأمّه مارية بنت كعب القضاعيّة. ومنه غير مرّة عمود النسب وهما بطنان: بنو عدىّ وبنو هصيص؛ فأما بنو عدىّ، فمنهم عمر بن الخطاب رضى الله عنه، ابن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدىّ بن كعب. وسعيد بن زيد بن نفيل المذكور أحد العشرة. ومن بنى عدىّ: عبد الله بن مطيع ابن الأسود بن نضلة بن عوف بن عبيد بن عويج بفتح العين وضمها، بن عدىّ بن كعب، وهو وأبوه من الصحابة، وهو الذى أمره أهل المدينة حين أخرجوا بنى أميّة منها فى وقعة الحرّة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 وأما بنو هصيص بن كعب فمنه فخذان: بنو جمح وبنو سهم: ابنى عمرو بن هصيص. فأما بنو سهم: فمنهم عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعد بن سهم بن عمرو بن هصيص. وأما بنو جمح، فمنهم عثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح: هاجر الهجرتين وشهد بدرا. ومنهم صفوان بن أميّة بن خلف بن وهب بن حذافة المذكور، كناه رسول الله صلى الله عليه وسلم! «أبا وهب» . ومنهم أبو محذورة: أوس بن معين ابن لوذان بن سعد بن جمح، مؤذن المسجد الحرام لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ويرجع إلى عمود النسب وهو كعب بن لؤى في ابنه: مرّة بن كعب وأمّه وحشيّة بنت شيبان الفهرية. ومنه غير كلاب الذى هو عمود النسب: بطنان وهما: بنو تيم، منهم أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه ويكنى بعتيق، ابن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة: صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنيسه في الغار بنصّ القرءان بقوله تعالى (ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا) فشهد له القرءان بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وناهيك بذلك شرفا، وصهره، وخليفته صلى الله عليه وسلم ورضى عن أبى بكر وأرضاه. ومن بنى تيم: عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم أحد العشرة، وبنو يقظة بن مرّة، منهم: ام سلمة الصادقة: زوج النبى صلى الله عليه وسلم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 وهى بنت أبى أميّة بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم بن يقظة بن مرّة، وخالد بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم الملقّب بسيف الله. قال وقد انقرض ولد خالد بن الوليد فلم يبق منهم أحد شرقا ولا غربا، وإن انتمى إليهم أحد فهو مبطل في انتمائه، وكلّ من ادّعى إليه، فقد كذب. قال الشريف: وكان شيخنا الفقيه مجلّى بن جميع بن نجاء الشافعىّ قاضى مصر يدعى إليه، وهو على كتبه بخطه وشافهنا به ولا صحّة لذلك وعمود النسب من مرّة بن كعب في ابنه: كلاب بن مرة بن كعب وأمّه هند بنت بهز بن حكيم. وقيل عروة. ومنه غير قصىّ عمود النسب: بطن واحد: وهم زهرة بن كلاب؛ منهم: السيّدة آمنة بنت وهب بن عبد مناف، ابن زهرة: أمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبد الرحمن بن عوف بن الحارث ابن زهرة: أحد العشرة، وسعد بن أبى وقّاص. ويرجع عمود النسب منه في ابنه قصىّ بن كلاب بن مرّة. وأمّه فاطمة بنت سيل الأزديّة، واسمه زيد؛ ويدعى مجمّعا: لجمعه أمر قريش بالرحلتين وأوّل من جمع يوم الجمعة. وقيل: إنما سمّى قصىّ «مجمّعا» : لأنه لما أخرج خزاعة من مكة ورأى أنه من صريح ولد إسماعيل عليه السلام، وأنه أحقّ من خزاعة بالبيت الحرام، وبنى دار الندوة. وجعل بابها إلى البيت الحرام، وتجمّعت قريش بمكة، فسمى بذلك «مجمّعا» ، لأنه جمعهم ولم يجعل معهم غيرهم، وكان يجمعهم في دار الندوة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 وأما الرحلتان، فأوّل من سنّهما هاشم: فكان يرحل في الشتاء إلى اليمن وإلى الحبشة إلى النجاشىّ فيكرمه، ويرحل في الصيف إلى الشام إلى غزّة، وبها مات؛ وربما وصل إلى أنقرة ويدخل على قيصر فيكرمه. وقد قال ابن الزّبعرى: عمرو العلا هشم الثريد لقومه ... ورجال مكّة مسنتون عجاف سنّت إليه الرحلتان كلاهما: ... سفر الشتاء ورحلة الأصياف [1] وأما أوّل من جمع يوم الجمعة فهو كعب بن لؤىّ، وكان يسمّى: يوم العروبة؛ فكان يجمعهم ويعظهم ويحثّهم على اتباع نبىّ من صلبه. وإنما سمّى قصيّا: لأن أمّه فاطمة بنت سعد بن سيل لما تقصّت به مع زوجها ربيعة بن جذام القضاعىّ، فأحملها إلى بلاده من أرض عذره من بلاد الشام سمّى بذلك. قال: ومنه غير عمود النسب وهو عبد مناف بطنان: بنو أسد بن عبد العزّى ابن قصىّ، وبنو عبد الدار بن قصىّ. فأما بنو أسد، فمنهم خديجة بنت خويلد بن أسد: زوج النبىّ صلى الله عليه وسلم؛ ومنهم: الزّبير بن العوّام بن خويلد بن أسد أحد العشرة وحوارىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما بنو عبد الدار بن قصىّ، فمنهم الحجبة، فيهم: بنو شيبة بن عثمان بن أبى طلحة عبد الله بن عبد العزّى بن عثمان بن عبد الدار. وفي بنى عبد الدار: هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار. قال. وهى مسألة في النسب يمتحن بها من يدّعى علم النسب: يقال له: من يعلم في بنى قصىّ جدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هاشم بن عبد مناف غيرهاشم بن عبد مناف بن قصىّ؟ نرجع إلى عمود النسب من قصىّ بن كلاب في ابنه:   [1] يلاحظ القارئ أن قافيتى البيتين غير متجانستين والعرب يفعلون ذلك في أشعارهم، ويسمى «الإقواء» وهو اختلاف إعراب القوافى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 عبد مناف بن قصى ّ وأمّه حبّى بنت حليل الخزاعيّة، واسمه المغيرة والقمر. ومنه غيرهاشم عمود النسب ثلاث بطون: بنو المطّلب: وهو العيص، وبنو عبد شمس وبنو نوفل: أولاد عبد مناف. فمن بنى عبد شمس: أميّة الأصغر، يقال لولده: العبلات: لأن أمّ أميّة هذا عبلة بنت عبيد من البراجم بن تميم، وبنو أميّة الأكبر بن عبد شمس، منهم: ذو النورين: عثمان بن عفّان بن العاص بن أميّة بن عبد شمس أحد العشرة وزوج ابنتى النبىّ صلى الله عليه وسلم ورضى عنه. ومن بنى عبد شمس: أبو العاص بن الربيع بن عبد العزّى بن عبد شمس زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وكان النبىّ صلى الله عليه وسلم يثنى عليه في صهارته خيرا. ومن بنى عبد المطّلب بن عبد مناف: رهط بن عبيدة بن الحارث بن عبد المطّلب البدرىّ، انقرض، وشافع ابن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطّلب جدّ الشافعىّ رضى الله عنه: وهو محمد بن إدريس بن العبّاس بن عثمان بن شافع. ومن بنى نوفل: جبير بن مطعم ابن عدىّ بن نوفل، وكان ممّن قام في أمر الصحيفة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكر له ذلك، وهم يد مع بنى أميّة. وعمود النسب من عبد مناف في ابنه هاشم بن عبد مناف، وأمّه عاتكة بنت مرّة السلميّة، واسمه عمرو العلا، وسمّى هاشما لكرمه وهشمه الثريد في الجدب مبتدئا بذلك، انقرض جميع ولده من الذكور إلا عمود النسب عبد المطّلب، وكان له أسد ابن هاشم، منه: فاطمة بنت أسد أمّ علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه؛ وهى أوّل هاشميّة تزوّجت هاشميّا فولدت له؛ وانقرض أسد إلا منها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هى أمّى بعد أمّى . والعقب من هاشم في ابنه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 عبد المطّلب بن هاشم وأمه سلمى بنت زيد النجّارية: وهو شيبة الحمد، أعقب من غير عبد الله عمود النسب من بنى أبى طالب عبد مناف بن عبد المطّلب والعباس بن عبد المطّلب والحارث بن عبد المطّلب وأبا لهب بن عبد المطّلب وهو عبد العزّى. فأما بنو أبى طالب فهم ثلاث بطون: بنو علىّ بن أبى طالب بن عبد المطّلب: وهم العلويّون، وبنو جعفر الطيّار: وهم الجعفريّون، وبنو عقيل بن أبى طالب: وهم العقيليّون. فالعلويّون خمس أفخاذ: بنو الحسن بن علىّ، وبنو الحسين بن علىّ، وبنو محمّد ابن الحنفيّة: وهم المحمّديون، وبنو العباس السقّاء بن علىّ: سمّى بذلك لأنه كان قد سقى أخاه الحسين الماء بالقربة في الطّفّ، وبنو عمر الأطراف بن علىّ. وفي كلّ فخذ منهم عدّة عشائر. وأما الجعفريّون فثلاث أفخاذ: بنو علىّ بن عبد الله بن جعفر بن أبى طالب، وهم الزينبيّون، لأن أمّ علىّ هذا زينب بنت فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بنت علىّ رضى الله عنه، وبنو إسماعيل بن عبد الله بن جعفر بن أبى طالب، وبنو إسحاق العرضىّ بن عبد الله بن جعفر بن أبى طالب. والعرض: موضع بالمدينة. وفي كلّ فخذ عدّة عشائر. وأما العقيليّون، ففخذان: بنو محمّد ومسلم: ابنى عبد الله الأحول بن محمد بن عقيل بن أبى طالب: فهؤلاء بطون بنى طالب. وأما العباسيّون، فبطنان: بنو عبد الله الحبر ومعبد: ابنى العبّاس بن عبد المطلب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 فأما عبد الله، فمنه ثمانى أفخاذ: بنو عبد الله وانقرض، وبنو عيسى، وبنو عبد الصمد، وبنو داود، وبنو إسماعيل، وبنو صالح: صاحب الشام، وبنو سلمان: صاحب البصرة، وبنو محمد الكامل: جدّ الخلفاء أولاد علىّ السجّاد بن عبد الله بن العبّاس. وأما معبد، فمنه فخذان: بنو داود ومحمد: ابنى ابراهيم بن عبد الله بن معبد بن العبّاس: فهؤلاء بنو العباس بن عبد المطّلب. وأما الحارث بن عبد المطّلب، فمنه ثلاث أفخاذ: وهم الحارثيّون: بنو ربيعة، وبنو نوفل، وبنو أبى سفيان: أولاد الحارث بن عبد المطلب: فهؤلاء بنو الحارث. وأما أبو لهب عبد العزّى، فمنه فخذان: بنو عتبة وبنو معتّب: ولدى أبى لهب. وعمود النسب الشريف في عبد الله بن عبد المطّلب، وأمّه آمنة بنت عمرو المخزوميّة، ولا عقب لعبد الله بن عبد المطّلب إلّا من سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محمد النبىّ العربىّ، ابن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصىّ ابن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤىّ بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر (واسمه قيس) ابن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان ابن أدّ بن أدد بن اليسع بن الهميسع بن سلامان بن نبت بن حمل بن قيدار بن إسماعيل الذبيح بن إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم ابن تارح: وهو آزر بن ناحور ابن ساروع بن أرغو بن فالغ بن عابر: وهو هود النبىّ عليه السلام؛ وهو جماع قيس ويمن ونزار وخندف بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام ابن لمك بن متوشلخ [1] بن أخنوخ: وهو إدريس النبىّ عليه السلام ابن يارد بن مهلائيل [2]   [1] فى التوراة: متوشالخ. [2] فى التوراة: مهللئيل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 ابن قينان بن أنوش بن هبة الله شيث بن أبى البشر آدم عليه الصلاة والسلام وعلى سائر أنبياء الله تعالى أجمعين. نسب كأنّ عليه من شمس الضحى ... نورا ومن فلق الصباح عمودا وروى عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لما خلق الله تعالى آدم، أهبطنى في صلبه إلى الأرض، وحملنى في صلب نوح في السفينة، وقذف بى في النّار في صلب إبراهيم، ثم لم يزل ينقلنى من الأصلاب الكريمة إلى الأرحام الطاهرة، حتى أخرجنى من بين أبوين لم يلتقيا على سفاح قطّ» . والى هذا أشار العبّاس بن عبد المطلب رضى الله تعالى عنه بقوله حيث يقول: من قبلها طبت في الجنان، وفي ... مستودع، حيث يخصف الورق ثم هبطت البلاد، لا بشر ... أنت، ولا مضغة، ولا علق بل نطفة، تركب السفين وقد ... ألجم نسرا وأهله، الغرق تنقل من صالب إلى رحم ... إذا مضى عالم، بدا طبق اللهم صلّ على أسعد الخلق سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلم أفضل صلواتك وسلامك عدد خلقك، وأجر لطفك في أمورنا في الدنيا والآخرة، حسبنا الله ونعم الوكيل! كمل الجزء الثانى من كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب، يتلوه إن شاء الله تعالى في أوّل الجزء الثالث: «القسم الثانى من الفن الثانى في الأمثال» وحسبنا الله ونعم الوكيل وصلّى الله وسلّم على أشرف الخلق أجمعين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 فهرس الجزء الثالث من كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب للنويريّ القسم الثاني من الفن الثانى في الأمثال المشهورة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعن جماعة من الصحابة رضى الله عنهم، والمشهور من أمثال العرب، وأوابد العرب وأخبار الكهنة، والزجر، والفأل، والطيرة، والفراسة والذكاء، والكنايات، والتعريض، والأحاجى، والألغاز وفيه خمسة أبواب الباب الأوّل: في الأمثال 1 ما تمثل به من أقوال النبى صلّى الله عليه وسلم 2 ومن كلام أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه 4 ومن كلام عمر بن الخطاب رضى الله عنه 5 ومن كلام عثمان بن عفان رضى الله عنه 6 ومن كلام على بن أبى طالب كرم الله وجهه 6 ومن كلام عبد الله بن عباس رضى الله عنهما 6 الجزء: مقدمةج 3 ¦ الصفحة: 1 ... صحيفة ومن أمثال العرب المرتبة على حروف المعجم 6 حرف الهمزة 7 حرف الباء 19 حرف التاء 21 حرف الثاء 23 حرف الجيم 23 حرف الحاء 26 حرف الخاء 28 حرف الدال 30 حرف الذال 30 حرف الراء 31 حرف الزاى 33 حرف السين 34 حرف الشين 35 حرف الصاد 36 حرف الضاد 38 حرف الطاء 38 حرف الظاء 39 حرف العين 39 حرف الغين 42 حرف الفاء 43 الجزء: مقدمةج 3 ¦ الصفحة: 2 ... صحيفة حرف القاف 44 حرف الكاف 46 حرف اللام 48 حرف الميم 50 حرف النون 54 حرف الهاء 55 حرف الواو 56 ما جاء فيما أوله (لا) 57 حرف الياء 60 ومما يتمثل به من أشعار الجاهلية 61 امرؤ القيس بن حجر 61 زهير بن أبي سلمى 61 النابغة الذبيانيّ 62 طرفة بن العبد 63 أوس بن حجر 63 بشر بن أبى خازم 64 المتلمس 64 الأفوه الأودىّ 64 تميم بن أبى مقبل 65 حميد بن ثور 65 عدىّ بن زيد 65 الجزء: مقدمةج 3 ¦ الصفحة: 3 ... صحيفة الأسود بن يعفر 66 علقمة بن عبدة 66 عمرو بن كلثوم 66 الحارث بن حلزة 66 حاتم الطائىّ 67 المرقّش الأصغر 67 النمر بن تولب 67 مهلهل بن ربيعة 67 طفيل الغنوىّ 68 عروة بن الورد 68 الاعشى (ميمون بن قيس) 68 لقيط بن معبد 68 تأبط شرا 69 المثقّب العبدىّ 69 الممزّق العبدىّ 69 أفنون التغلبىّ 69 الأضبط بن قريع 69 سويد بن أبى كاهل 69 ومما يتمثل به من أشعار المخضرمين 70 لبيد بن ربيعة 70 كعب بن زهير 70 الجزء: مقدمةج 3 ¦ الصفحة: 4 ... صحيفة النابغة الجعدىّ 71 أمية بن أبى الصلت الثقفى 71 حسان بن ثابت 71 الحطيئة 71 متمم بن نويرة 72 أبو ذؤيب الهذلىّ 72 الخنساء 72 عمرو بن معديكرب 73 معن بن أوس 73 زياد بن زيد 73 أيمن بن خزيم 73 ومما يتمثل به من أشعار المتقدمين في صدر الاسلام 74 القطامىّ 74 الطرماح 74 الكميت بن زيد الأسدىّ 74 المساور بن هند 74 عدىّ بن الرقاع 75 الفرزدق 75 جرير 76 الأخطل 76 الصلتان العبدىّ 77 الجزء: مقدمةج 3 ¦ الصفحة: 5 ... صحيفة كثيّر عزّة 77 جميل 78 عمر بن عبد الله بن أبى ربيعة 78 ومما يتمثل به من أشعار المحدثين 78 إبراهيم بن هرمة 78 بشار بن برد 79 أبو العتاهية 80 سلم بن عمرو الخاسر 81 صالح بن عبد القدوس 82 ابن ميادة 83 أبو نواس 83 أبو عيينة المهلبىّ 84 عبد الله بن أبى عتبة 84 العباس بن الأحنف 84 مسلم بن الوليد 85 منصور النمرىّ 85 العتابىّ 76 أشجع السلمىّ 87 الجرهمىّ 87 محمود الوراق 88 محمود بن حازم الباهلىّ 88 الجزء: مقدمةج 3 ¦ الصفحة: 6 ... صحيفة السموءل بن عادياء 89 محمد بن أبى زرعة الدمشقىّ 89 أبو الشيص 89 علىّ بن جبلة 89 اللجلاج الحارثىّ 89 عبد الصمد بن المعذّل 90 الحمدونىّ 90 العتبىّ 90 أبو سعيد المخزومىّ 91 دعبل بن علىّ الخزاعىّ 91 إسحاق بن إبراهيم الموصلىّ 92 المؤمل بن أميل 92 إبراهيم بن العباس 92 أبو علىّ البصير 93 سعيد بن حميد 93 علىّ بن الجهم 93 ابن أبى فنن 93 يزيد بن محمد المهلبىّ 94 عمارة بن عقيل 94 أحمد بن أبى طاهر 94 أبو تمام حبيب بن أوس الطائىّ 94 الجزء: مقدمةج 3 ¦ الصفحة: 7 ... صحيفة أبو عبادة البحترىّ 96 ديك الجن 98 ابن الرومىّ 99 عبد الله بن المعتز 99 عبيد بن عبد الله بن طاهر 100 ابن طباطبا العلوىّ 101 منصور الفقيه 101 ابن بسام 102 جحظة 102 الصنوبرىّ 103 أبو الفتح كشاجم 104 ومما يتمثل به من أشعار المولدين 104 أبو فراس الحمدانىّ 104 أبو الطيّب المتنبى 104 السرىّ بن أحمد 107 أبو بكر محمد بن هاشم الخالدىّ 107 أبو عثمان سعيد بن هاشم الخالدىّ 108 الخباز البلدىّ 108 أبو إسحاق الصابىء 108 عبد العزيز عمر بن نباتة 108 ابن لنكك البصرىّ 109 الجزء: مقدمةج 3 ¦ الصفحة: 8 ... صحيفة أبو الحسن عبد الله 109 أبو الفرج الببغاء 110 ابن سكرة الهاشمىّ 110 ابن الحجاج 110 ابو الحسن الموسوىّ النقيب 111 أبو طالب المأمونىّ 112 ابن العميد 112 الصاحب بن عبّاد 113 الحسن بن علىّ بن عبد العزيز القاضى 113 أبو بكر محمد بن العباس الخوارزمىّ 113 بديع الزمان أبو الفضل الهمذانىّ 114 إسماعيل الناشئ 114 أبو الفتح علىّ بن محمد البستىّ 115 الباب الثانى: في أوابد العرب 116 البحيرة 116 الوصيلة 116 السائبة 117 الحامى 117 الأزلام 117 الميسر 118 الجزء: مقدمةج 3 ¦ الصفحة: 9 ... صحيفة نكاح المقت 120 رمى البعرة 120 ذبح العتائر 120 عقد السلع والعشر 120 ذبح الظبى 121 حبس البلايا 121 خروج الهامة 121 إغلاق الظهر 121 التعمية والتفقئة 121 بكاء المقتول 122 رمى السن في الشمس 122 خضاب النحر 122 التصفيق 122 جز النواصى 122 كىّ السليم عن الجرب 123 ضرب الثور 123 كعب الأرنب 123 حيض السمرة 124 الطارف والمطروف 124 وطء المقاليت 124 تعليق الحلى على السليم 124 الجزء: مقدمةج 3 ¦ الصفحة: 10 ... صحيفة ذهاب الخدر 125 الحلأ 125 التعشير 125 عقد الرتم 125 دائرة المهقوع 126 شق الرداء والبرقع 126 نوء السماك 126 النسىء 126 وأد البنات 126 الباب الثالث: في أخبار الكهنة ويتصل به الزجر والفأل والطيرة والفراسة والذكاء 128 أخبار الكهنة 128 الزجر 134 الفأل والطيرة 143 الفراسة والذكاء 149 الباب الرابع: فى الكنايات والتعريض 152 الباب الخامس: في الألغاز والأحاجى 162 ومما يتصل بهذا الباب مسائل العويص 171 الجزء: مقدمةج 3 ¦ الصفحة: 11 القسم الثالث من الفن الثانى فى المدح، والهجو، والمجون، والفكاهات، والملح، والخمر، والمعاقرة والندمان، والقيان، ووصف آلات الطرب وفيه خمسة أبواب .... صحيفة الباب الأوّل: في المدح وفيه ثلاثة عشر فصلا 173 ذكر ما قيل في الأفتخار 200 ذكر ما قيل في الجود والكرم وأخبار الكرام 204 ذكر من انتهى اليهم الجود في الجاهلية وذكر شىء من أخبارهم 208 ذكر ما قيل في الإعطاء قبل السؤال 218 ذكر ما قيل في الشجاعة والصبر والإقدام 220 ذكر ما قيل في وفور العقل 230 ذكر ما قيل في حد العقل وماهيته وما وصف به 233 ذكر ما قيل في الصدق 237 ذكر ما قيل في الوفاء والمحافظة والأمانة 239 ذكر ما قيل في التواضع 244 ذكر ما قيل في القناعة والنزاهة 247 ذكر ما قيل في الشكر والثناء 248 ذكر ما قيل في الوعد والإنجار 254 ذكر ما قيل في الشفاعة 257 ذكر ما قيل في الاعتذار والاستعطاف 258 الجزء: مقدمةج 3 ¦ الصفحة: 12 ... صحيفة الباب الثانى: في الهجاء وفيه أربعة عشر فصلا 265 ذكر ما قيل في الهجاء ومن يستحقه 266 ومما قيل في الهجاء من النظم 271 ذكر ما قيل في الحسد 284 ذكر ما قيل في السعاية والبغى والغيبة والنميمة 289 ذكر ما قيل في البخل واللؤم 294 احتجاج البخلاء وتحسينهم للبخل على قبحه 314 ذكر ما قيل في التطفيل ويتصل به أخبار الأكلة والمؤاكلة 323 ذكر آداب الأكل والمؤاكلة 338 ذكر الاقتصاد في المطاعم والعفة عنها 340 ذكر أخبار الأكلة 343 ذكر ما قيل في الجبن والفرار 346 ذكر ما قيل في الحمق والجهل 353 ذكر ما قيل في الكذب 359 ذكر ما قيل في الغدر والخيانة 364 ذكر أخبار أهل الغدر وغدراتهم المشهورة 365 ذكر ما قيل في الكبر والعجب 370 ذكر ما قيل في الحرص والطمع 376 ذكر ما قيل في الوعد والمطل 378 ذكر ما قيل في العىّ والحصر 381 الجزء: مقدمةج 3 ¦ الصفحة: 13 الجزء الثالث بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ القسم الثانى من الفن الثانى في الأمثال المشهورة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعن جماعة من الصحابة رضى الله عنهم، والمشهور من أمثال العرب، وأوابد العرب، وأخبار الكهنة، والزجر، والفأل، والطيرة، والفراسة، والذكاء، والكنايات، والتعريض، والأحاجى، والألغاز؛ وفيه خمسة أبواب. الباب الأوّل من هذا القسم (فى الأمثال) ضرب الله عزوجل الامثال في كتابه العزيز في آى كثيرة، فقال تعالى: (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) وتكرر ذكر الأمثال. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ضرب الله مثلا صراطا مستقيما، وعلى جنبى الصراط أبواب مفتّحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى رأس الصراط داع يقول ادخلوا الصراط ولا تعرّجوا» فالصراط: الإسلام، والستور: حدود الله تعالى، والأبواب: محارم الله، والداعى: القرآن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1 قال المبرّد: المثل مأخوذ من المثال وهو قول سائر، شبّه به حال الثانى بالأوّل والأصل فيه التشبيه. قال: وقولهم مثل بين يديه، إذا انتصب؛ معناه أشبه الصورة المنتصبة. وفلان أمثل من فلان، أى أشبه. والمثال: القصاص، لتشبيه حال المقتصّ منه بحال الأوّل. وقال ابن السّكّيت: المثل لفظ يخالف لفظ المضروب له ويوافق معناه. وقال إبراهيم النظّام: يجتمع في المثل أربع لا تجتمع في غيره من الكلام: إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحسن التشبيه، وجودة الكناية فهو نهاية البلاغة. وقال ابن المقفّع: إذا جعل الكلام مثلا كان أوضح للمنطق، وآنق للسمع، وأوسع لشعوب الحديث. وأوّل ما نبدأ به من ذلك ما تمثّل به من أقوال سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فمن ذلك قوله صلّى الله عليه وسلم وهو مما لم يسبق إليه: «إيّاكم وخضراء الدّمن» فقيل له: وما ذاك يا رسول الله؟ فقال: «المرأة الحسناء فى منبت السّوء!» «كلّ الصيد في جوف الفرا» قاله لأبى سفيان يتألّفه على الإسلام. «مات فلان حتف أنفه» . «لا ينتطح فيه عنزان» . «إن المنبتّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى» المنبتّ: المنقطع عن أصحابه في السفر؛ والظهر: الدابّة، قاله في الغلوّ في العبادة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 2 «الآن حمى الوطيس» : ضربه في الحرب. «يا خيل الله اركبى» . «اشتدّى أزمة تنفرجى» . وقوله صلّى الله عليه وسلم: «الناس كأسنان المشط وإنما يتفاضلون بالعافية» . «الناس كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا» . «النّاس كإبل، مائة لا تجد فيها راحلة» . «المؤمن هيّن ليّن، كالجمل الأنف إن انقيد انقاد، وإن أنيخ على صخرة استناخ» . «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا» . «أصحابى كالنجوم، بأيّهم اقتديتم اهتديتم» . «مثل أصحابى كالملح لا يصلح الطعام إلا به» . «أمّتى كالمطر، لا يدرى أوّله خير أم آخره» . «مثل أبى بكر كالقطر أين وقع نفع» . «عمّالكم كأعمالكم وكما تكونوا يولّى عليكم» . وقال لما كتب كتاب المهادنة بينه وبين سهيل بن عمرو: «والعقد بيننا كشرج العيبة» يعنى إذا انحلّ بعضه انحلّ جميعه. «المرأة كالضّلع العوجاء إن قوّمتها كسرتها، وإن داريتها استمتعت بها» . «المتشبّع بما لم يعطه كلابس ثوبى زور» . «الدالّ على الخير كفاعله» . «لو توكلتم على الله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 3 «وعد المؤمن كالأخذ باليد» . «مثل المؤمن كالنحلة، لا تأكل إلا طيّبا ولا تطعم إلا طيّبا» . «مثل المؤمن كالسّنبلة تميل أحيانا، وتعتدل أحيانا» . «مثل الجليس الصالح كالعطّار، إن لم تصب من عطره أصبت من ريحه، ومثل الجليس السوء كالكير إن لم يحرق ثوبك آذاك بدخانه» . «علم لا ينفع كنز لا ينفق منه» . وقال: «المؤمن مرآة أخيه» . «قد جدع الحلال أنف الغيرة» . «الأعمال بالنيّات ولكل امرئ ما نوى» . «نيّة المرء خير من عمله» . «إن من الشّعر لحكمة وإن من البيان لسحرا» . «من كثّر سواد قوم فهو منهم» . «الأعمال بخواتمها» . «ساقى القوم آخرهم شربا» . «المرء على دين خليله فلينظر امرؤ من يخالّ» . «المستشير معان والمستشار مؤتمن» . ومن كلام أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه إن الله قرن وعده بوعيده: ليست مع العزاء مصيبة. الموت أهون مما بعده وأشدّ مما قبله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 4 ثلاث من كنّ فيه كنّ عليه: البغى، والنّكث، والمكر. ذلّ قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة. احرص على الموت توهب لك الحياة؛ قاله لخالد بن الوليد حين بعثه إلى أهل الرّدّة. كثير القول ينسى بعضه بعضا. وإنما لك ما وعى عنك. لا تكتم المستشار خبرا فتؤتى من قبل نفسك. خير الخصلتين لك أبغضهما إليك. صنائع المعروف تقى مصارع السوء. ومن كلام عمر بن الخطاب رضى الله عنه من كتم سرّه كان الخيار في يده. أشقى الولاة من شقيت به رعيّته. اتقوا من تبغضه قلوبكم. أعقل الناس أعذرهم للناس. اجعلوا الرأس رأسين. أخيفوا الهوامّ قبل أن تخيفكم. لو أن الشكر والصبر بعيران لما بنيت أيهما ركبت. من لم يعرف الشرّ كان أجدر أن يقع فيه. ما الخمر صرفا بأذهب للعقول من الطبع. إلى الله أشكو ضعف الأمين وحبنة القوىّ. اقتصاد في سنّة خير من اجتهد في بدعة. لا يكن حبك كلفا، ولا بغضك تلقا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 ومن كلام عثمان بن عفان رضى الله عنه ما يزع الله بالسلطان أكثر مما يزع بالقرآن. الهدية من العامل اذا عزل، مثلها منه اذا عمل. أنتم إلى إمام فعّال، أحوج منكم إلى إمام قوّال؛ قاله يوم صعد المنبر فأرتج عليه. وقال يوم قتل: لأن أقتل قبل الدماء، أحبّ الىّ من أن أقتل بعد الدماء. ومن كلام علىّ بن أبى طالب كرم الله وجهه من رضى عن نفسه كثر الساخط عليه؛ ومن ضيّعه الأقرب أتيح له الأبعد؛ ومن بالغ في الخصومة أثم، ومن قصر فيها ظلم. رأى الشيخ خير من مشهد الغلام. الناس من خوف الذلّ في الذلّ. إن من السكوت ما هو ابلغ من الجواب. ومن كلام عبد الله بن عباس رضى الله عنهما لكل داخل دهشة فابدءوه بالتحية؛ ولكل طاعم حشمة فابدءوه باليمين. ومن أمثال العرب ما نقلته من كتاب «الأمثال» للميدانىّ. [والميدانىّ «1» : هو أبو الفضل أحمد بن محمد بن إبراهيم الميدانىّ النيشابورىّ- والميدانىّ: بفتح الميم وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الدال المهملة نسبة إلى ميدان زياد، وهى محلة بنيسابور؛ توفى سنة تسع وثلاثين وخمسمائة] ووضعته على حروف المعجم. فمن ذلك ما جاء منها على حرف الهمزة : الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 حرف الهمزة تقول العرب: «إنّ الموصّين بنو سهوان» قال الميدانىّ: يضرب لمن يسهو عن طلب شىء أمر به، وبنو سهوان: بنو آدم عليه السّلام حين عهد اليه فسها ونسى. وقولهم: «إنّ الرّثيئة تفثأ الغضب» قال: الرثيئة: اللبن الحامض يخلط بالحلو؛ والفثء: التسكين؛ وزعموا أن رجلا نزل بقوم وكان ساخطا عليهم، وكان جائعا فسقوه الرثيئة فسكن غضبه، فقال هذا المثل: يضرب في الهدية تورث الوفاق. وقولهم: «إن الحديد بالحديد يفلح» أى يستعان في الأمر الشديد بما يشاكله ويقاويه. وقولهم: «إن السلامة منها ترك ما فيها» فى اللّقطة وذمّ الدنيا «1» . والنفس تكلف بالدنيا وقد علمت ... أن السلامة منها ترك ما فيها وقولهم: «إن العصا من العصيّة» يقال: إن أوّل من قال ذلك الأفعى الجرهمىّ، ذلك أن نزارا لما حضرته الوفاة جمع بنيه: مضر، وإيادا، وربيعة، وأنمارا، فقال: يا بنىّ! هذه القبة الحمراء- وكانت من أدم- لمضر؛ وهذه الفرس الأدهم والخباء الأسود لربيعة؛ وهذه الخادم- وكانت شمطاء- لإياد؛ وهذه البدرة والمجلس لأنمار، فإن أشكل عليكم كيف تقسمون، فأتوا الأفعى الجرهمىّ ومنزله بنجران؛ فتشاجروا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 فى ميراثه، فتوجهوا إليه، فبينماهم في سيرهم إذ رأى مضر أثر كلإ قد رعى، فقال: إن البعير الذى رعى هذا أعور، وقال ربيعة: إنه لأزور، وقال إياد: إنه لأبتر، وقال أنمار: إنه لشرود، فساروا قليلا، فإذاهم برجل يوضع «1» حمله فسألهم عن البعير، فقال مضر: أهو أعور؟ قال: نعم، وقال ربيعة: أهو أزور؟ قال: نعم، وقال إياد: أهو أبتر؟ قال: نعم، وقال أنمار: أهو شرود؟ قال: نعم، هذه والله صفة بعيرى، فدلونى عليه، فقالوا: والله ما رأيناه. فقال: هذا والله الكذب كيف أصدّقكم وأنتم تصفونه بصفته؟ فساروا حتى قدموا نجران؛ فلما نزلوا، نادى صاحب البعير، هؤلاء أصحاب جملى وصفوا لى صفته ثم قالوا: لم نره؛ فاختصموا إلى الأفعى، فقال لهم: كيف وصفتموه وأنتم لم تروه؟ فقال مضر: رأيته قد رعى جانبا وترك جانبا، فعلمت أنه أعور؛ وقال ربيعة: رأيت إحدى يديه ثابتة والثانية فاسدة، فعلمت أنه أزرر لأنه أفسدها بشدّة وطئه؛ وقال إياد: عرفت أنه أبتر باجتماع بعره ولو كان ذيّالا لمصع به؛ وقال أنماره عرّفت أنه شرود، لأنه يرعى فى المكان الملتّف نبته ثم يجوزه إلى مكان أرقّ منه؛ فقال الأفعى: ليسوا بأصحاب جملك فاطلبه، ثم سألهم: من أنتم؟ فأخبروه بخبرهم، وبما جاءوا له، فأكرمهم، وقال: أتحتاجون إلىّ وأنتم كما أرى؟ ثم أنزلهم وذبح لهم شاة، وأتاهم بخمر؛ وجلس لهم الأفعى بحيث لا يرى؛ فقال ربيعة: لم أركاليوم أطيب لحما لولا أن شاتة غذيت بلبن كلبة؛ وقال مضر: لم أر كاليوم أطيب خمرا لولا أن حبلته نبتت على قبر؛ فقال إياد: لم أر كاليوم رجلا أسرّى لولا أنه ليس لأبيه الذى يدعى له؛ فقال أنمار: لم أر كاليوم كلاما أنفع في حاجتنا من كلامنا، وكلامهم بأذنه، فدعا قهرمانة، فقال: ما هذه الخمر، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 وما أمرها؟ قال: هى من حبلة غرستها على قبر أبيك؛ وقال للراعى: ما هذه الشاة؟ فقال: هى عناق أرضعتها بلبن كلبة وكانت أمّها ماتت؛ ثم أتى أمّه، فقال: اصدقينى، من أبى؟ فأخبرته أنها كانت تحت ملك كثير المال وكان لا يولد له، فخفت أن يموت وليس له ولد، فأمكنت من نفسى ابن عمّ له كان نازلا عليه فولدتك، فرجع إليهم وقال: ما أشبه القبة الحمراء من مال نزار فهو لمضر، فذهب بالإبل الحمر والدنانير، فسمّيت: مضر الحمراء. وأما صاحب الفرس الأدهم والخباء الأسود فله كل شىء أسود، فصار لربيعة الخيل الدّهم وما شاكلها، فقيل: ربيعة الفرس. وأما الخادم الشمطاء فلصاحبها الخيل البلق والماشية، فسميت: إياد الشمطاء، وقضى لأنمار بالدراهم والأرض فصدروا من عنده على ذلك، فقال الأفعى: إن العصا من العصيّة، وإنّ خشينا من أخشن؛ فأرسلهما مثلا. وقولهم: «إن العوان لا تعلّم الخمرة» : يضرب للرجل المجرّب. وقولهم: «إنى لآ كل الرأس وأنا أعلم بما فيه» : يضرب للأمر تأتيه وأنت تعلم ما فيه مما تكره. وقولهم: «أنف في السماء، واست في الماء» : يضرب للمتكبر الصغير الشأن. وقولهم: «إن الذليل الذى ليست له عضد» أى أنصار وأعوان: يضرب لمن يخذله ناصره. وقولهم: «إن يدم أظلك فقد نقب خفىّ» لأفضل: ما تحت منّسم البعير: والخفّ: قائمته: يصريه المشكو إليه لشاكى أى أنا منه في مثل ما تشكوه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 وقولهم: «إن تسلم الجلّة فالنّيب هدر» الجلّة: جمع جليل يعنى العظام من الإبل، والنيب: جمع ناب وهى الناقة المسنّة؛ معناه إذا سلم ما ينتفع به هان ما لا ينتفع به. وقولهم: «إن يبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر» يقال: إن بنى ثعلبة ابن سعد في الجاهلية تراهنوا على الشمس والقمر ليلة أربع عشرة، فقالت طائفة: تطلع الشمس والقمر يرى، وقالت طائفة: بل يغيب قبل طلوعها، فتراضوا برجل جعلوه بينهم، فقال رجل منهم: إن قومى يبغون علىّ، فقال العدل: إن يبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر؛ فذهبت مثلا: يضرب للأمر المشهور. وقولهم: «إن كنت ريحا فقد لاقيت إعصارا» الإعصار: ريح شديدة تهبّ فيما بين السماء والأرض: يضرب للمدل بنفسه إذا صلّى بمن هو أدهى منه وأشد. وقولهم: «إنّك خير من تفاريق العصا» قالوا: قالته غنيّة الأعرابية لابنها، وكان عارما مع ضعفه، فواثب يوما فتى فقطع أذنه فأخذت ديتها، فزادت حسن حل ثم واثب آخر فقطع شفته فأخذت الدية فذكرته في أرجوزتها فقالت أحلف بالمروة حقّا والصّفا ... إنك أجدى «1» من تفاريق العصا فقيل لأعرابى: ما تفاريق العصا؟ فقال: العصا تقطع ساجورا والسواجير للكلاب والأسرى من الناس ثم تقطع عصا الساجور فتصير أوتادا ويقطع الوتد فيصير كل قطعة شظاظا وإن جعل لرأس الشظاظ كالفلكة صار للبختىّ مهارا وهو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 العود الذى يدخل في أنفه، واذا فرق المهار جاءت منه تواد وهى الخشبة التى تشدّ على خلف الناقة. وقولهم: «إنّه ليعلم من أين تؤكل الكتف» : يضرب للرجل الداهى؛ قال بعضهم: لم تؤكل الكتف من أسفلها؟ قال: لأنها تنقشر عن عظمها وتبقى المرقة مكانها ثابتة. وقولهم: «إنّك لا تجنى من الشّوك العنب» أى لا تجد عند ذى المنبت السوء جميلا؛ والمثل من قول أكثم قال: إذا ظلمت فاحذر الانتصار، فان الظلم لا يكسبك إلا مثل فعلك. وقولهم: «أخو الظّلماء أعشى بالليل» : يضرب لمن يخطئ حجته ولا يبصر المخرج مما وقع فيه. وقولهم: «إنّك لتكثر الحزّ وتخطئ المفصل» : يضرب لمن يجتهد فى السعى ثم لا يظفر بالمراد. وقولهم: «أوّل الشجرة النّواة» : يضرب للأمر الصغير يتولد منه الكبير. وقولهم: «إذا صاحت الدّجاجة صياح الدّيك فلتذبح» قاله الفرزدق فى امرأة قالت الشعر. وقولهم: «إذا رآنى رأى السّكين في الماء» : يضرب لمن يخافك جدّا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 وقولهم: «إنك ريّان فلا تعجل بشربك» : يضرب لمن أشرف على إدراك بغيته فيؤمر بالرفق. وقولهم: «أبطش من دوسر» هى إحدى كتائب النعمان أشدّها بطشا ونكاية؛ قال بعض الشعراء ضربت دوسر فيهم «1» ضربة ... أثبتت أوتاد ملك فاستقر وقولهم: «أبرما قرونا» البرم: الذى لا يدخل مع القوم في الميسر لبخله، والقرون: الذى يقرن بين الشيئين؛ وأصله أن رجلا كان لا يدخل في الميسر ولا يرى اللحم فجاء إلى امرأته وبين يديها لحم تأكله فأقبل يأكل معها بضعتين يقرن بينهما فقالت له: أبرما قرونا: يضرب لمن يجمع بين خصلتين مكروهتين. وقولهم: «الثّيّب عجالة الراكب» : يضرب في الحث على الرضا بيسير الحاجة عند إعواز جليلها. وقولهم: «البس لكلّ حالة لبوسها ... إمّا نعيمها وإمّا بوسها» أوّل من قال ذلك بيهس: وهو رجل من بنى غراب بن فزارة، وكان سابع سبعة إخوة، فأغار عليهم أناس من بنى أشجع، وهم في إبلهم فقتلوا منهم ستة وتركوا بيهسا لحمقه فقال: دعونى أتوصل معكم إلى أهلى فأقبل معهم. فلما كان من الغد نحروا جزورا في يوم شديد حرّ، فقال بعضهم: أظلو لحمكم لا يفسده الضّحّ، فقال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 بيهس: لكن بالأثلاث «1» لحم لا يظلّل، فأرسلها مثلا؛ ثم فارقهم وأتى أمه فأخبرها الخبر فقالت: ما جاء بك من بين إخوتك وأنت أخبثهم، فقال: ما خيّرك القوم فتختارى، فأرسلها مثلا؛ ثم أعطته ثياب إخوته ومتاعهم، فقال: يا حبذا التراث لولا الذّلة، فأرسلها مثلا؛ وأخذ يوما يبرم سكينا، فقيل له: ما تصنع بها؟ فقال: أقتل بها قتلة إخوتى، فقيل له: إنك لأحمق، فقال: ما يؤمنك من أحمق في يده سكين، فأرسلها مثلا؛ ثم إنه مرّ بنسوة من قومه يصلحن امرأة يردن أن يهدينها لبعض قتلة إخوته فكشف ثوبه عن استه وغطى به رأسه، فقيل له: ما تصنع؟ فقال: البس لكل حالة لبوسها، ... إما نعيمها وإما بوسها وقولهم: «الصيف ضيّعت اللبن» قال الأصمعىّ: معناه تركت الشىء فى وقته؛ وقال غيره: تركت الشىء وهو ممكن، وقال أبو عبيدة: أوّل من قاله عمرو بن عدس، وكان قد تزوّج دختنوس بعد ما كبر، فكان ذات يوم نائما في حجرها فجخف وسال لعابه فتأففته فانتبه وهى تتأفف منه، فقال: أتحبين أن أطلّقك؟ قالت: نعم، فطلقها، وتزوّجها فتى ضرير حسن الوجه، ففجأتهم ذات يوم غارة والفتى نائم فجاءت دختنوس فأنبهته وقالت له: الخيل، فجعل يقول: الخيل الخيل، من الخوف حتى مات فرقا وسبيت دختنوس فبلغ عمرو الجبر مركب ولحقهم وقاتل حتى استنقذ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 جميع ما أخذوا واستنقذها فوضعها قدّامه على السرج وردّها إلى أهلها، ثم اصابتهم سنة فبعثت إليه تقول: نحتاج اللبن فبعث إليها بلقحة وقال: الصيف ضيّعت اللبن. وقولهم: «اضطره السيل إلى معطشه» وهو أن رجلا عطش وكان قد أتى واديا له غور وماء شديد الجرية، فبقى في أصل شجرة لا يقدر أن ينزل فيأخذ به الماء، ولم يجد ماء فمات عطشا: يضرب لمن ألقاه الخير الذى كان فيه إلى شرّ. وقولهم: «إنّ الحماة أولعت بالكنّه ... وأو لعت كنّتها بالظّنّه» الحماة: أمّ الزوج؛ والكنّة: امرأة الابن والأخ؛ والظّنّة: التهمة؛ وبين الحماة والكنة عداوة مستحكمة: يضرب بها المثل في الشر يقع بين قوم هم أهل لذلك. وقولهم: «إن لله جنودا منها العسل» قاله معاوية: لما بلغه أن الأشتر سقى عسلا فيه سمّ فمات: يضرب عند الشماتة بمصاب العدوّ. وقولهم: «إن الهوى ليميل باست الراكب» أى من هوى شيئا مال نحوه قبيحا أو جميلا، كما قيل وما زرتكم عمدا ولكنّ ذا الهوى ... إلى حيث يهوى القلب تهوى به الرّجل وقولهم: «إن الجواد قد يعثر» : يضرب لمن يكون الغالب عليه فعل الجميل ثم تكون منه الزلّة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 وقولهم: «إن الشفيق بسوء ظنّ مولع» : يضرب للمعنىّ بشأن صاحبه لأنه لا يكاد يظن به غير وقوع الحوادث كظنون الوالدات بالأولاد. وقولهم: «إن خصلتين خيرهما الكذب لخصلتا سوء» : يضرب للرجل يعتذر من شىء فعله بالكذب. وقولهم: «أحاديث طسم وأحلامها» : يضرب لمن يخبرك بما لا أصل له. وقولهم: «أحشفا وسوء كيلة» : يضرب لمن يجمع بين خصلتين مكروهتين. وقولهم: «الحق أبلج، والباطل لجلج» : معناه أن الحق واضح بيّن والباطل يتلجلج فيه أى يتردّد فلا يجد صاحبه مخرجا. وقولهم: «الحزم سوء الظّنّ بالناس» : هذا المثل قاله اكثم بن صيفىّ. وقولهم: «اختلط الخاثر بالزّبّاد» . الخاثر: ما خثر من اللبن، والزّبّاد: الزّبد: يضرب للقوم يقعون في التخليط من أمرهم. وقولهم: «أخطأت استه الحفرة» : يضرب لمن رام شيئا فلم ينله. وقولهم: «ادع الى طعانك، من تدعوه الى جفانك» أى استعمل في حوائجك من تخصّه بمعروفك. وقولهم: «أروغانا يا ثعال، وقد علقت بالحبال» ثعالة: الثعلب: يضرب لمن يراوغ وقد وجب عليه الحق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 وقولهم: «إرم فقد أفقته مريشا» يقال: أفقت السهم إذا وضعت فوقه فى الوتر: يضرب لمن تمكّن من طلبته. وقولهم: «أضرطا وأنت الأعلى؟» قاله سليك بن سلكة السعدىّ، وذلك انه بينا هو نائم إذ جثم عليه رجل من الليل وقال: استأسر فقال له سليك: الليل طويل وأنت مقمر، فأرسلها مثلا: ثم ضمه سليك بيديه ضمّة أضرطته، فقال له: أضرطا وأنت الأعلى فأرسلها مثلا: يضرب لمن يشكو في غير موضع الشكوى. وقولهم: «أضللت من عشر ثمانيا» : يضرب لمن يفسد أكثر ما يليه من الأمر. وقولهم: «أعط أخاك تمرة، فإن أبى فجمرة» : يضرب لمن يختار الهوان على الكرامة. وقولهم: «أكذب النّفس إذا حدّثتها» معناه لا تحدّث نفسك بأنك لا تظفر، فإن ذلك يثبّطك. قال لبيد أكذب النفس إذا حدّثتها ... إنّ صدق النفس يزرى بالأمل وقولهم: «أكبرا وإمعارا؟» أى أتجمع بين الكبر والفقر. وقولهم: «أمكرا وأنت في الحديد؟» هذا المثل قاله عبد الملك بن مروان لعمرو ابن سعيد لما قبض عليه وكبلّه، فقال: يا أمير المؤمنين، إن رأيت أن لا تفضحنى بأن تخرجنى للناس فتقتلنى بحضرتهم فافعل، وإنما أراد عمرو بهذه المقالة أن يخالفه عبد الملك فيخرجه فيمنعه منه أصحابه، فقال: أنا أمية! أمكرا وأنت في الحديد. يضرب لمن أراد أن يمكر وهو مقهور. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 وقولهم: «أهون هالك عجوز في هام سنة» : يضرب للشىء يستخفّ به وبهلاكه. قال الشاعر وأهون مفقود إذا الموت نابه ... على المرء من أصحابه من تقنّعا وقولهم: «أو سعتهم سبّا وأودوا بالإبل» أصله أن رجلا من العرب أغير على إبله فأخذت، فلما تواروا صعد أكمة وجعل يسبّهم ثم رجع إلى قومه فسألوه عن إبله، فقال هذا المثل. ويقال: إن أوّل من قاله كعب بن زهير بن أبى سلمى، وذلك أن الحارث بن ورقاء الصيداوىّ أغار على بنى عبد الله بن غطفان واستاق إبل زهير وراعيه، فقال زهير في ذلك قصيدته التى أوّلها بان الخليط ولم يأووا لمن تركوا ... وزوّدوك اشتياقا أيّة سلكوا وبعث بها إلى الحارث فلم يردّ الإبل، فهجاه، فقال كعب ابنه: أو سعتهم سبّا وأودوا بالإبل، فذهبت مثلا: يضرب لمن لم يكن عنده إلا الكلام. وقولهم: «أوردها سعد وسعد مشتمل» : هو سعد بن زيد مناة أخو مالك الذى يقال فيه: إنّك ابل من مالك، وذلك أن مالكا تزوّج بامرأة وبنى بها فأورد الإبل أخوه سعد ولم يحسن القيام عليها والرفق بها، فقال مالك أوردها سعد وسعد مشتمل ... ما هكذا تورد يا سعد الإبل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 فضرب مثلا لمن قصّر في طلب الأمر. وقولهم: «إن الشّقىّ وافد البراجم» قاله عمرو بن هند الملك. وذلك أن سويد بن ربيعة التميمىّ قتل أخاه سعد بن هند وهرب فنذر عمرو ليقتلن بأخيه مائة من بنى تميم، فسار إليهم بجمعه فلقيهم الخبر فتفرّقوا في نواحى بلادهم فلم يجد إلا عجوزا كبيرة وهى حمراء بنت ضمرة، فلما نظر اليها قال: إنى لأحسبك أعجمية، قالت: لا والذى أسأله أن يخفض جناحك، ويهدّ عمادك، ويضع وسادك، ويسلبك بلادك، ما أنا بأعجمية، قال: فمن أنت؟ قالت: أنا بنت ضمرة بن جابر، ساد معدّا كابرا عن كابر، وأنا أخت ضمرة بن ضمرة، قال: فمن زوجك؟ قالت: هوذة ابن جرول، قال: وأين هو الآن؟ أما تعرفين مكانه؟ قالت: لو كنت أعلم مكانه حال بينى وبينك، فقال عمرو: أما والله لولا أنى أخاف أن تلدى مثل أبيك وأخيك وزوجك لاستبقيتك، فقالت: والله ما أدركت ثارا، ولا محوت عارا، مع كلام كثير كلّمته به فأمر بإحراقها، فلما نظرت إلى النار، قالت: ألا فتى مكان عجوز! فذهبت مثلا، ثم مكثت ساعة فلم يفدها أحد، قالت: هيهات صارت الفتيان حمما، فذهبت مثلا ثم ألقيت في النار ولبث عمرو عامّة يومه لا يقدر على أحد، حتّى إذا كان آخر النهار أقبل راكب يسمى عمّارا توضع به راحلته حتى أناخ اليه، فقال له عمرو: من أنت؟ قال: أنا رجل من البراجم، قال: فما جاء بك إلينا؟ قال: سطع الدّخان وكنت طويت منذ أيام وظننته طعاما، فقال عمرو: إن الشقىّ وافد البراجم، فذهبت مثلا وأمر به فألقى في النار، قيل: إنه أحرق مائة من بنى تميم: تسعة وتسعين من بنى دارم، وواحدا من البراجم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 وقال بعضهم: ما بلغنا أنه أصاب من بنى تميم غير وافد البراجم وإنما أحرق النساء والصبيان؛ قال حرير وأخزاكم عمرو كما قد خزيتم ... وأدرك عمّارا شقىّ البراجم ولذلك عيّرت بنو تميم بحب الطعام؛ قال الشاعر إذا ما مات ميت من تميم ... وسرّك أن يعيش، فجىء بزاد بخبز أو بلحم أو بتمر ... أو الشّىء الملفّف في البجاد تراه ينقّب الآفاق حولا ... ليأكل رأس لقمان بن عاد وهذا المثل يضرب لمن يوقع نفسه في هلكة طمعا. حرف الباء تقول العرب: «بلغ السيل الزّبى» هى جمع زبية وهى حفرة تحفر للأسد إذا أرادوا صيده لا يعلوها الماء فإذا بلغها السيل كان مجحفا: يضرب لمن جاوز الحدّ. وقولهم: «بين العصا ولحائها» اللحاء: القشر: يضرب للمتخالّلين المتفقين؛ ويروى: لا مدخل بين العصا ولحائها. وقولهم: «بينهم داء الضرائر» هى جمع ضرّة يضرب للعداوة إذا رسخت بين قوم. وقولهم: «بينهم عطر منشم» قال الأصمعىّ: منشم كانت عطارة بمكة وكانت خزاعة وجرهم إذا أرادوا القتال تطيّبوا من طيبها فاذا فعلوا ذلك كثرت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 بينهم القتلى فكان يقال: أشأم من عطر منشم: يضرب في الشرّ العظيم، وفيه يقول زهير تداركتما عبسا وذبيان بعد ما ... تفانوا ودقّوا بينهم عطر منشم. وقولهم: «به داء ظبى» : أى أنه لا داء به كما أن الظبى لا داء به، وقيل: ربما يكون بالظبى داء لا يعرف مكانه معناه أنّ به داء لا يعرف. وقولهم: «بلغت الدّماء الثّنن» الثّنة، الشعرات التى في مؤخّر رسغ الدابّة: يضرب عند بلوغ الشرّ النهاية. وقولهم: «برح الخفاء» أى زال من قولهم ما برح، والمعنى زال الشرّ فوضح الأمر، ويقال: الخفاء المتطأطىء من الأرض، والبراح المرتفع أى صار الخفاء براحا. وقولهم: «بنان كفّ ليس فيها ساعد» : يضرب لمن له همة ولا مقدرة له على ما في نفسه. وقولهم: «بات فلان يشوى القراح» : يعنى الماء الخالص لا يخالطه شىء: يضرب لمن ساءت حاله، وفقد ماله بحيث يشوى الماء شهوة للطبيخ. وقولهم: «بخ بخ ساق بخلخال» هى كلمة يقولها المتعجب من حسن الشىء وكماله. وأوّل من قال ذلك الورثة بنت ثعلبة، وذلك أنّ ذهل بن شيبان كان زوج الورثة وكانت لا تترك له امرأة إلا ضربتها فتزوّج رقاش بنت عمرو بن عثمان من بنى ثعلبة، فخرجت رقاش يوما وعليها خلخالان، فقالت الورثة ذلك، فذهبت مثلا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 حرف التاء قولهم: «ترك الظّبى ظلّه» أى كناسه الذى يستظلّ به: يضرب لمن نفر من شىء فتركه تركا لا يعود له. وقولهم: «تركته على مثل ليلة الصّدر» وهى ليلة ينفر الناس من منى فلا يبقى منهم احد. وقولهم: «تركته أنقى من الرّاحة» أى على حال لا خير فيه كما لا شعر على الراحة: يضرب في اصطلام الدهر. وقولهم: «تجوع الحرّة ولا تأكل بثدييها» : أى لا تكون ظترا وإن آذاها الجوع. أوّل من قاله الحارث بن سليل الأسدىّ وكان حليفا لعلقمة بن حصفة الطائىّ فزاره فنظر إلى ابنته الزّبّاء وكانت من أجمل أهل دهرها، فقال: أتيتك خاطبا وقد ينكح الخاطب، ويدرك الطالب، ويمنح الراغب، فقال له علقمة: أنت كفء كريم يقبل منك الصفو، ويؤخذ منك العفو، فأقم ننظر في أمرك، ثم انكفأ إلى أمها، فقال: إن الحارث سيّد قومه حسبا ومنصبا وبيتا، وقد خطب الينا الزبّاء فلا ينصرفنّ إلا بحاجته، فقالت المرأة لابنتها: أى الرجال أحب إليك الكهل الحججاح، الواصل المناح، أم الفتى الوضاح؟ قالت: بل الفتى الوضّاح، فقالت: إن الفتى يغيرك، وإن الشيخ يميرك، وليس الكهل الفاضل، الكثير النائل، كالحديث السنّ، الكثير المنّ، قالت يا أماه: إن الفتاة تحب الفتى، كحبّ الرّعاء أنيق الكلا، قالت: أى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 بنية! إن الفتى شديد الحجاب، كثير العتاب، قالت: إن الشيخ يبلى شبابى، ويدنّس ثيابى، ويشمت بى أترابى. فلم تزل أمها بها حتى غلبتها على رأيها، فتزوّجها الحارث على مائة وخمسين من الإبل وخادم وألف درهم، فابتنى بها، ثم رحل بها إلى قومه فبينا هو ذات يوم جالس بفناء قومه وهى إلى جانبه، إذ أقبل شباب من بنى أسد يعتلجون فتنفست الصّعداء، ثم أرخت عينيها بالبكاء، فقال: ما ببكيك؟ قالت: مالى وللشيوخ، الناهضين كالفروخ، فقال لها: ثكلتك أمّك! تجوع الحرّة ولا تأكل بثدييها، ثم قال لها: وأبيك، لرب غارة شهدتها، وسبيّة أردفتها، وخمرة شربتها، فالحقى بأهلك فلا حاجة لى فيك، وهذا المثل يضرب في صيانة الرجل نفسه عن خسيس المكاسب. وقولهم: «تجشّأ لقمان من غير شبع» : يضرب لمن يدّعى ما ليس يملك. وقولهم: «تخبر عن مجهوله مرآته» : أى منظره يخبر عن مخبره. وقولهم: «تشكو إلى غير مصمّت» : أى إلى من لم يهتم بشأنك. قال الشاعر إنك لا تشكو إلى مصمّت ... فاصبر على الحمل الثقيل أو مت وقولهم: «تجاوز الرّوض إلى القاع القرق» : يضرب لمن يعدل بحاجته من الكريم إلى اللئيم، والقرق: المستوى. وقولهم: «تسمع بالمعيدىّ خير من أن تراه» ويروى: لا أن تراه: يضرب لمن خبره خير من مرآه، أوّل من قاله: المنذر بن ماء السماء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 وقولهم: «تقطّع أعناق الرجال المطامع» : يضرب في ذمّ الطمع. وقولهم: «تقلّدها طوق الحمامة» كناية عن الخصلة القبيحة التى لا تزايله ولا تفارقه. حرف الثاء قولهم: «ثار حابلهم على نابلهم» الحابل: صاحب الحبالة، والنابل: صاحب النبل أى اختلط أمرهم: يضرب في فساد ذات البين وتأريث الشرّ في القوم. وقولهم: «ثور كلاب في الرّهان أقعد» : هو كلاب بن ربيعة بن عامر ابن صعصعة القيسىّ كان يحمق، وذلك أنه ارتبط عجل ثور ليسابق عليه، والأقعد من القعيد وهو المختلف المتباطئ: يضرب لمن يروم ما لا يكون. حرف الجيم قولهم: «جرى المذكّيات غلاب» المذكّية من الخيل التى أتى عليها بعد قروحها سنة أو سنتان والغلاب المغالبة: يضرب لمن يوصف بالتبريز على أقرانه فى حلبة الفضل؛ وأوّل من قاله نذكره إن شاء الله تعالى في حرب داحس والغبراء. وقولهم: «جزاء سنمّار» وهو الذى بنى الحورنق وتقدّم خبره في مبانى العرب. وقولهم: «جرحه حيث لا يضع الراقى أنفه» قالته جندلة بنت الحارث، وكانت تحت حنظلة بن مالك وهى عذراء، وكان حنظلة شيخا كبيرا فخرجت في ليلة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 مطيرة فبصر بها رجل فوثب عليها وافتضّها، فصاحت وقالت: لسعت. قيل أين؟ قالت: حيث لا يضع الراقى أنفه: يضرب لمن يقع في أمر لا حيلة له في الخروج منه. وقولهم: «جعجعة ولا أرى طحنا» : يضرب لمن يعد ولا يفى. وقولهم: «جرى منه مجرى اللّدود» وهو ما يصبّ في أحد شقّى الفم من الدواء، يضرب لمن يبغض ويكره. وقولهم: «جماعة على أقذاء» . معناه اجتماع بالأبدان، وافتراق بالقلوب، وهو بمعنى قوله صلّى الله عليه وسلم «هدنة على دخن» : يضرب لمن يضمر أذى ويظهر صفاء. وقولهم: «جار كجار أبى دؤاد» يعنون كعب بن مامة فإنه كان إذا جاوره رجل فإن مات وداه، وإن هلك له بعير أو شاة أخلف عليه، فضربت به العرب المثل في حسن الجوار، قال طرفة إنّى كفانى من أمر هممت به ... جار كجار الحذّاقىّ الذى اتّصفا والحذاقىّ هو أبو دؤاد. وقولهم: «جدع الحلال أنف الغيرة» قاله رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليلة زفت فاطمة إلى علىّ رضى الله عنهما. وقولهم: «جوّع كلبك يتبعك» . أوّل من قال ذلك ملك من ملوك حمير كان جائرا على أهل مملكته يسلبهم ما في أيديهم وإن امرأته سمعت صوت السؤّال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 فقالت: إنى لأرحم هؤلاء وإنى لأخاف أن يكونوا عليك سباعا، بعد ما كانوا لك أتباعا، فقال: جوّع كلبك يتبعك، ثم إنه غزابهم ولم يقسم عليهم شيئا فقالوا لأخ له: قد ترى ما نحن فيه من الجهد ونحن نكره خروج الملك عنكم إلى غيركم فساعدنا على قتل أخيك واجلس مكانه، فوافقهم على ذلك، ثم وثبوا على الملك فقتلوه، فمرّ به عامر بن جذيمة وهو مقتول، فقال: ربما أكل الكلب مؤدّبه اذا لم ينل شبعه، فأرسلها مثلا، والمثل يضرب في اللئام وما ينبغى أن يعاملوا به. وقولهم: «جاءتهم عوانا غير بكر» أى مستحكمة غير ضعيفة يريدون حربا أو داهية عظيمة. وقولهم: «جاء بصحيفة المتلّمس» إذا جاء بالداهية؛ وكان من خبر صحيفة المتلمس أن المتلمس وطرفة قدما على عمرو بن المنذر بن امرىء القيس فجعلهما فى صحابة قابوس بن المنذر أخيه وأمرهما بلزومه، وكان قابوس شابا يعجبه اللهو، فطال بقاؤهما عنده، فهجا طرفة عمرا بأبيات فبلغته فاستدعاهما فحباهما بحباء وكتب معهما إلى أبى كرب عامله على هجر أن يقتلهما، وقال: قد كتبت لكما بحباء ومعروف، فلما صدرا من عنده، قال المتلمس لطرفة: هل لك في كتابينا، فإن كان فيهما خير مضينا له، وإن كان شرّا اتقيناه، فأبى طرفة وقرأ المتلمس كتابه فإذا فيه السوءة فألقاه في الماء وقال لطرفة: ألق كتابك فأبى ومضى بكتابه، قال: ومضى المتلمس حتى لحق بملوك بنى جفنة بالشام وسار طرفة بكتابه، فلما انتهى إلى العامل قتله. وقولهم: «جندلتان اصطكّتا» : يضرب لقرنين يتصاولان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 وقولهم: «جزيته حذو النّعل بالنّعل» : للمكافأة. وقولهم: «جاءوا على بكرة أبيهم» أى جاءوا جميعا لم يتخلّف منهم أحد. وقيل: بل البكرة تأنيث البكر. بصفهم بالقلة أى بحيث تحملهم بكرة أبيهم. وقيل بل البكرة التى يستقى عليها، معناه جاءوا بعضهم يتلو بعضا كدوران البكرة على نسق واحد؛ وقيل: المراد بالبكرة الطريقة كأنهم جاءوا على طريقة أبيهم، وقال ابن الأعرابىّ: البكرة: جماعة من الناس أى بأجمعهم. وقولهم: «جاوز الحزام الطيّبين» : يضرب في تجاوز الحدّ. حرف الحاء قولهم: «حرّك لها حوارها تحنّ» الحوار: ولد الناقة، والجمع القليل أحورة والكثير حوران وحيران، معناه ذكّره بعض أشجانه يهج له، قاله عمرو بن العاص لمعاوية حين أراد أن يستنصر أهل الشام، أى أرهم دم عثمان على قميصه. وقولهم: «حلبتها بالساعد الأشدّ» أى أخذتها بالقوّة إذ لم يتأتّ بالرفق. وقولهم: «حذو القذّة بالقذّة» أى مثلا بمثل: يضرب في التسوية بين الشيئين؛ ومثله: حذو النّعل بالنّعل، وقد تقدّم. وقولهم: «حلب الدهر أشطره» معناه أنه اختبر الدّهر شطرى خيره وشرّه فعرف ما فيه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 وقولهم: «حسبك من غنى شبع ورىّ» ؛ قال امرؤ القيس إذا ما لم تكن إبل فمعزى ... كأنّ قرون جلّتها العصىّ فتملا بيتنا أقطا وسمنا ... وحسبك من غنى شبع ورىّ قال أبو عبيدة: يحتمل معنيين أحدهما أعط كل ما كان لك وراء شبعك وريّك، والآخر القناعة باليسير. وقولهم: «حسبك من القلادة ما أحاط بالعنق» أى اكتف بالقليل عن الكثير. وقولهم: «حسبك من شرّ سماعه» أى اكتف بسماعه ولا تعاينه، قال: ويجوز أن يريد يكفيك سماع الشرّ وإن لم تقدم عليه ولم تنسب إليه، والمثل قالته فاطمة بنت الخرشب من بنى أنمار بن بغيض أمّ الربيع بن زياد، وذلك أن ابنها الربيع كان أخذ من قيس بن زهير بن جذيمة درعا، فتعرّض قيس لأمّ الربيع وهى على راحلتها فأراد أن يذهب بها ليرتهنها بالدرع، فقالت له: أين عزب عنك عقلك يا قيس؟ أترى بنى زياد مصالحيك! وقد ذهبت بأمّهم يمينا وشمالا وقال الناس ما قالوا وشاءوا، وإن حسبك من شرّ سماعه، فذهبت كلمتها مثلا تقول: كفى بالمقالة عارا وإن كان باطلا. وقولهم: «حلّقت به عنقاء مغرب» : يضرب لما يئس منه؛ قال الشاعر إذا ما ابن عبد الله خلّى مكانه ... فقد حلّقت بالجود عنقاء مغرب قال الميدانىّ: والعنقاء طائر عظيم معروف الاسم مجهول الجسم يقال: كان بأرض الرّس جبل يقال له: دمخ مصعّد في السماء، وكان يأتيه طائر عظيم لها عنق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 طويلة؛ وهى من أحسن الطير؛ فيها من كل لون، وكانت تقع منتصبة وتنقضّ على الطير فتأكلها، فجاعت يوما وأعوزها الطير فانقضّت على صبىّ فذهبت به فسميت عنقاء مغرب: لأنها تغرب بكل ما تأخذه، ثم انقضّت على جارية حين ترعرعت فأخذتها فضمتها إلى جناحين لها صغيرين سوى جناحيها الكبيرين ثم طارت، فشكوا ذلك إلى نبيّهم: خالد بن صفوان، فقال: اللهم خذها واقطع نسلها وسلّط عليها آفة! فأصابتها صاعقة فاحترقت فضربتها العرب مثلا. قال عترة بن الأخرس الطائىّ في مرثية خالد بن زيد لقد حلّقت بالجود عنقاء كاسر ... كفتخاء دمخ حلّقت بالحزوّر فما إن لها بيض فيعرف بيضها ... ولا شبه طير منجد أو مغوّر وقولهم: «حتّام تكرع ولا تنقع» كرع إذا تناول الماء بفيه من موضعه: يضرب للحريص في جمع الشىء. وقولهم: «حسبك من إنضاجه أن تقتله» : يضرب لطالب الثأر فيقول: لأقتلنّ فلانا وقومه أجمعين فيقال: لا تعدّ، حسبك أن تدرك ثأرك وطلبتك: ويضرب لمتجاوز الحدّ. حرف الخاء قولهم: «خير حالبيك تنطحين» : يضرب لمن يكافئ المحسن بالإساءة، ومثله: خير إناءيك تكفئين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 وقولهم: «خامرى أمّ عامر» معناه استترى؛ وأمّ عامر: الضبع، يشبه بها الأحمق، ومثله: خامرى حضاجر، أتاك ما تحاذر: وهو اسم للذكر والأنثى من الضباع. وقولهم: «خلالك الجوّ فبيضى واصفرى» قاله طرفة بن العبد، وكان فى سفر مع عمّه فنصب فحّا للقنابر ونثر حبّا فلم يصد شيئا، فلما تحملوا رأى القنابر يلقطن الحبّ الذى نثره لهنّ، فقال في ذلك يا لك من قنبرة بمعمر! ... خلالك الجوّ فبيضى واصفرى ونقّرى ما شئت أن تنقّرى ... قد رحل الصيّاد عنك فابشرى ورفع الفخّ فماذا تحذرى؟ ... لا بدّ من صيدك يوما فاصبرى! يضرب في الحاجة يتمكّن منها صاحبها. وقولهم: «خلع الدّرع بيد الزّوج» المثل لرقاش بنت عمرو بن تغلب بن وائل، وكان زوجها كعب بن مالك بن تيم الله بن ثعلبة، فقال لها: اخلعى؛ فقالت: خلع الدّرع بيد الزّوج، فقال: اخلعيه لأنظر إليك، فقالت: التجرّد لغير النكاح مثلة، فذهبت كلمتاها مثلين يضربان في وضع الشىء في غير موضعه. وقولهم «خلّ سبيل من وهى سقاؤه ... ومن هريق بالفلاة ماؤه» يضرب لمن كره صحبتك وزهد فيك. وقولهم: «خمر أبى الرّوقاء ليست تسكر» : يضرب للغنىّ الذى لا فضل له على أحد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 حرف الدال قولهم: «دمّث لجنبك قبل النّوم مضطجعا» أى استعدّ للنوائب قبل حلولها؛ والتدميث: التليين. وقولهم: «دع امرءا وما اختار» : يضرب لمن لا يقبل النصح؛ قال الشاعر إذا المرء لم يدر ما أمكنه ... ولم يأت من أمره أزينه! وأعجبه العجب فاقتاده ... وتاه به التّيه فاستحسنه، فدعه فقد ساء تدبيره ... سيضحك يوما ويبكى سنه! حرف الذال قولهم: «ذكّرنى فوك حمارى أهلى» أصله أن رجلا خرج يطلب حمارين ضلّاله، فرأى امرأة فأعجبته فنسى الحمارين، فلما أسفرت عن وجهها رآها فوهاء فقال: ذكّرنى فوك حمارى أهلى، وقال ليت النّقاب على النساء محرّم ... كى لا تغرّ قبيحة إنسانا وقولهم: «ذهبوا أيدى سبا» ويقال: تفرقوا، أى تفرّقوا تفريقا لا اجتماع معه. وقصة سبإ لمّا تفرقوا بسبب سيل العرم مشهورة؛ وسنذكرها إن شاء الله تعالى فى التاريخ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 وقولهم: «ذهبوا شغر بغر، وشذر مذر، وخذع مذع» أى في كل وجه. وقولهم: «ذلّ بعد شماسه اليعفور» : يضرب لمن انقاد بعد جماحه؛ واليعفور: فرس. وقولهم: «ذهبت طولا، وعدمت معقولا» : يضرب للطويل بلا طائل. حرف الراء قولهم: «رمتنى بدائها وانسلّت» أصل هذا المثل: أن سعد بن زيد مناة تزوّج رهم ابنة الخزرج، وكانت من أجمل النساء، وكان ضرائرها إذا ساببنها يقلن لها: يا عفلاء، فقالت لها أمّها: إذا ساببنك فابدئيهنّ بذلك، ففعلت رهم ذلك مع ضرّتها، فقالت: رمتنى بدائها وانسلّت، فذهبت مثلا: يضرب لمن يعيّر الآخر بما هو يعيّر به. وقولهم: «رماه بثالثة الأثافى» وهى قطعة من الجبل يوضع إلى جنبها حجران وينصب عليها القدر: يضرب لمن رمى بداهية عظيمة. وقولهم: «ربّ صلف تحت الراعدة» الصّلف: قلّة الخير، والراعدة: السحابة ذات الرعد: يضرب للبخيل مع السّعة. وقولهم: «رجع بخفّي حنين» أصله أن حنينا كان إسكافا بالحيرة وساومه أعرابىّ بخفّين فاختلفا حتى أغضبه، فلما ارتحل الأعرابىّ أخذ حنين الخفين فألقى أحدهما على طريق الأعرابىّ، ثم ألقى الآخر بموضع آخر على طريقه، فلما مرّ الأعرابىّ بالخف الأوّل قال: ما أشبه هذا بخف حنين ولو كانا خفين لأخذتهما، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 ثم مرّ بالآخر فندم على ترك الأوّل فأناخ راحلته وانصرف إلى الأوّل وقد كمن له حنين، فأخذ الراحلة وذهب بها وأقبل الأعرابىّ إلى أهله ليس معه غير خفّى حنين، فذهبت مثلا: يضرب عند اليأس من الحاجة والرجوع بالخيبة. وقولهم: «ربّ ساع لقاعد، وآكل غير حامد» أوّل من قاله النابغة الذّبيانى، وكان سبب ذلك أن وفدا وفد إلى النعمان وفيهم رجل من بنى عبس يقال له: شقيق، فمات عنده، فلما حبا النعمان الوفود بعث بحبائه إلى أهله، فقال النابغة فى ذلك أتى أهله منه حباء ونعمة ... وربّ امرىء يسعى لآخر قاعد وقولهم: «ربّ ملوم لا ذنب له» قاله أكثم بن صيفىّ، معناه قد ظهر للناس منه أمر أنكروه عليه وهم لا يعرفون عذره؛ وقيل: إن رجلا قال للأحنف ابن قيس: أنا أبغض التمر والزبد، فقال: ربّ ملوم لا ذنب له. وقولهم: «ربّ كلمة تقول لصاحبها دعنى» : يضرب في النهى عن الإكثار مخافة الإهجار؛ ذكروا أن ملكا من ملوك حمير خرج إلى الصيد ومعه نديم له فوقفا على صخرة ملساء، فقال النديم: لو أن إنسانا ذبح على هذه الصخرة إلى أين كان يبلغ دمه، فأمر بذبحه، وقال: ربّ كلمة تقول لصاحبها دعنى. ومثله قولهم: «ربّ رأس حصيد لسان» : يضرب للأمر بالسكوت. وقولهم: «ردّ الحجر من حيث جاءك» : أى لا تقبل الضّيم وارم من رماك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 حرف الزاى قولهم: «زيّن في عين والد ولده» : يضرب في عجب الرجل برهطه. وقولهم: «زاحم بعود أو دع» اى لا تستعن إلا بأهل السنّ والتجربة. وقولهم: «زوج من عود، خير من قعود» ، قالته بعض نساء العرب، قالوا: كان ذو الإصبع العدوانىّ غيورا، وله بنات أربع، وكان لا يزوّجهنّ غيرة عليهنّ، فاستمع عليهنّ يوما وقد خلون يتحدّثن، فقالت إحداهنّ: لتقل كلّ واحدة منا ما في نفسها، ولنصدقنّ جميعا، فاشتهت كلّ واحدة من الثلاثة زوجا وصفت من جماله وكماله وسعة حاله، ثم أبت الصغرى أن تتكلّم، فقالوا: لا بدّ أن تقولى، وألحّوا عليها، فقالت: زوج من عود، خير من قعود، فزوّجهنّ. وقولهم: «زرغبّا تزدد حبّا» قاله معاذ بن صرم الخزاعىّ، وكانت أمّه من عكّ، وكان يكثر من زيارة أخواله، فأقام فيهم زمانا، ثم خرج يتصيّد مع بنى أخواله، فحمل على عير، فلحقه ابن خال له يقال له: الغضبان فتخاصما، فقال له الغضبان: والله! لو كان فيك خير لما تركت قومك، فقال: زر غبّا، تزدد حبّا، فأرسلها مثلا، وفي ذلك يقول الشاعر إذا شئت أن تقلى فزر متواليا ... وإن شئت أن تزداد حبّا فزر غبّا وقال آخر عليك بإغباب الزيارة إنها ... إذا كثرت كانت إلى الهجر مسلكا ألم تر أنّ القطر يسأم دائما ... ويسأل بالأيدى إذا هو أمسكا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 حرف السين قولهم: «سبق السيف العذل» قاله ضبّة بن أدّ لمّا لامه الناس على قتل قاتل ابنه في الحرم، ويقال: إنه لخزيم بن نوفل الهمدانىّ. وقولهم: «سقط العشاء به على سرحان» أصله أن رجلا خرج يلتمس العشاء، فوقع على ذئب فأكله، وقال ابن الأعرابىّ: أضله أن رجلا من بنى غنىّ يقال له: سرحان ابن هزلة كان بطلا فاتكا فقال رجل! والله لأرعينّ إبلى هذا الوادى، فورد بإبله، فوجد سرحان فقتله، وأخذ إبله وقال أبلغ نصيحة: أنّ راعى أهلها ... سقط العشاء به على سرحان سقط العشاء به على متقمّر ... طلق اليدين معاود لطعان يضرب في طلب الحاجة يؤدّى صاحبها إلى التلف. ومثله قولهم: «سقط العشاء به على متقمّر» وهو الأسد. وقولهم: «سكت ألفا، ونطق خلفا» الخلف: الردىء من القول وغيره. وقولهم: «ساء سمعا فأساء جابة» أوّل من قاله سهيل بن عمرو أخو بنى عامر، وكان قد خرج بابنه أنس، فوقف بجزورة مكة، فأقبل الأخنس بن شريق الثّقفىّ فقال له: من هذا؟ فقال: ابنى! فقال: حياك الله يا فتى [أين أمّك؟] فقال: لا والله ما أمّى في البيت، ولكنها انطلقت إلى أمّ حنظلة تطحن دقيقا، فقال أبوه: ساء سمعا فأساء جابة، فأرسلها مثلا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 وقولهم: «سحاب نوء ماؤه حميم» : يضرب لمن له لسان لطيف وليس وراءه خير. وقولهم: «سوء الاستمساك خير من حسن الصّرعة» : معناه حصول البعض مع الاحتياط خير من الكلّ مع التهوّر. حرف الشين قولهم: «شخب في الإناء وشخب في الأرض» : يضرب لمن يتكلّم فيصينب مرة ويخطئ أخرى. وقولهم: «شرق بالرّيق» أى ضرّه أقرب الأشياء إلى نفعه. وقولهم: «شنشنة أعرفها من أخزم» قاله أبو أخزم الطائىّ: وكان له ابن يقال له: أخزم، فمات وترك بنين، فوثبوا على جدّهم يوما فأدموه، وكان أبوهم عاقّا له فقال إنّ نبىّ ضرّ جونى بالدّم ... شنشنة أعرفها من أخزم والشنشنة: الطبيعة والعادة: يضرب في قرب الشبه. وقولهم: «شمّر ذيلا، وادّرع ليلا» : يضرب على الحثّ في الجدّ والطلب. وقولهم: «شنوءة بين يتامى رضّع» الشنوءة: ما يستقذر من القول والفعل: يضرب لقوم اجتمعوا على فجور وفاحشة ليس فيهم مرشد ولا ناه. وقولهم: «شيخ بحوران له ألقاب» وبعده ... الذئب والعقعق والغراب حوران بأرض الشام: يضرب لمن يظهر للناس العفاف، ومن حقّه أن يحترز منه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 وقولهم: «شغل الحلى أهله أن يعارا» : يضرب للمسئول شيئا هو إليه أحوج من السائل. وقولهم: «شبّ عمرو عن الطّوق» قاله جذيمة الأبرش، وعمرو هذا هو ابن أخته وهو عمرو بن عدىّ بن نصر. حرف الصاد قولهم: «صبرا على مجامر الكرام» قال ذلك يسار الكواعب، وكان عبدا أسود يرعى لأهله إبلا ضخمة، وكان معه عبد يراعيه، فمرّ أهله يوما سائرين بحذاء الإبل التى يرعاها، فعمد إلى لقوح فحلبها في علبة، حتّى ملأها ثم مشى بها، وكان أفجح الرّجّلين، حتى أتى بها ابنة مولاه يسقيها، وهى راكبة على جملها، فنظرت إلى رجليه فتبسمت، ثم شربت اللبن وجرته خيرا، فانطلق فرحا حتّى أتى صاحبه، فقصّ عليه القصة، فقال: اسخر بنفسك ولا تسخر ببنات الأحرار؛ فقال: والله لقد دحكت إلىّ دحكة لا أخيّبها، يريد: ضحكت، وكان أعجمىّ اللسان، ثم باتا فقام فحلب في علبة فملأها، ثم أتى ابنة مولاه، فنبّهها من نومها فاستيقظت وشربت، ثم اضطجعت وجلس يسار حيالها، فقالت: ما حاجتك؟ فقال: ما أعلمك بحاجتى! فقالت: لا والله! فما هى؟ قال: ذاك الرجل الذى دحكت إلىّ. فقالت: حيّاك الله، وقامت إلى سفط لها فأخرجت منه بخورا ودهنا طيبا، وعمدت إلى موسى كانت تحفّ به الشعر، وأخذت مجمرة فيها نار، فوضعت عليها البخور ووضعتها تحته، وطأطأت كأنها تصلح البخور، فعمدت إلى مذاكيره فمسحتها بالموسى، فلما أحس بحرارة الحديد. قال: صبرا على مجامر الكرام، ثم أومأت إلى أنها تدهنه وقالت: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 إن هذا دهن طيب، إلا أن فيه حرارة فتصبّر عليه، فإن ريحك ريح الإبل وأنا أعافك، ثم أشمّته الدهن على الموسى، ورفعته فوضعته بين عينيه فاستلتت بها أنفه. وقالت: قم إلى إبلك يابن الخبيثة، فأتى صاحبه، فلما رآه. قال: أمقبل أنت أم مدبر؟ قال: أخزاك الله، أو قد عمى بصرك؟ إذ لا ترى أنفا ولا أذنين ... أما ترى وبّاصة العينين هذا أحد الأقوال في هذا المثل: يضرب لمن يؤمر بالصبر على ما يكره. ويقال: إن أعرابيا قدم الحضر بإبل، فباعها بمال كثير وأقام لحوائج له، ففطن قوم من جيرته لما معه من المال، فعرضوا عليه تزويج جارية وصفوها بالجمال والحسب طمعا في ماله، فرغب فيها فزوّجوه إياها، ثم اتخذوا طعاما وجمعوا الحىّ، وجلس الأعرابىّ في صدر المجلس، فأكلوا الطعام وأداروا الكؤوس وشرب الأعرابىّ، ثم أتوه بكسوة فاخرة، فلبسها وقدّموا له مجمرة فيها بخور لا عهد له به، وكان لا يلبس السراويل، فلما جلس على المجمرة، سقطت مذاكيره في النار، فظن أن ذلك سنّة لا بدّ منها، واستحيا أن يكشف ثوبه. فقال: صبرا على مجامر الكرام، فذهبت مثلا واحترقت مذاكيره، وتفرّق القوم، وارتحل إلى البادية وترك المرأة والمال، فلما وصل إلى قومه وقصّ عليهم القصة. قالوا: است لم تعوّد المجمر، فذهبت مثلا: يضرب لمن لا قديم له. وقولهم: «صار الزّجّ قدّام السّنان» : يضرب في سبق المتأخّر المتقدّم من غير استحقاق لذلك. وقولهم: «صرّح المحض عن الزّبد» : يضرب للأمر إذا انكشف وتبيّن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 وقولهم: «صفقة لم يشهدها حاطب» هو حاطب بن أبى بلتعة كان حازما، فباع بعض أهله بيعة غبن فيها حين لم يشهدها حاطب، فسارت مثلا لكلّ أمر ينبرم دون صاحبه. حرف الضاد قولهم: «ضربه ضرب غرائب الإبل» وذلك أن الغريبة تزدحم على الحياض عند الورود، وصاحب الحوض يطردها ويضربها بسبب إبله: يضرب فى دفع الظالم عن ظلمه بأشدّ ما يمكن. وقولهم: «ضلّ الدّريص نفقه» الدّريص: ولد الفأرة واليربوع والهرّة وأشباه ذلك، ونفقه: حجره: يضرب لمن يعنى بأمره ويعدّ حجّة لخصمه، فينسى عند الحاجة. وقولهم: «ضلّ حلم امرأة فأين عيناها؟» أى هب أنّ عقلها ذهب فأين ذهب بصرها؟: يضرب في استبعاد عقل الحليم. وقولهم: «ضائف اللّيث قتيل المحل» : يضرب لمن اضطرّ لشىء فغرّر بنفسه في طلبه. حرف الطاء قولهم: «طويته على بلاله وعلى بللته» قال الشاعر وصاحب مرامق داجيته ... على بلال نفسه طويته ويقال: طويت السقاء على بللته إذا طويته وهو ند لأنه إن طوى يابسا تكسّر، وإن طوى نديّا عفن: يضرب للرجل يحمل على ما فيه من العيب؛ قال الشاعر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 ولقد طويتكم على بللاتكم ... وعلمت ما فيكم من الأذراب فإذا القرابة لا تقرّب قاطعا ... وإذا المودّة أقرب الأنساب والأذراب: جمع ذرب وهو الفساد. وقولهم: «طويته على غرّه» : غرّ الثوب: أثر كسره الأوّل: يضرب لمن يوكل إلى رأيه وما انطوى عليه. حرف الظاء قولهم: «ظالع يعود كسيرا» : يضرب للضعيف ينصر من هو أضعف منه. وقولهم: «ظئر رءوم، خير من أمّ سؤوم» : الظئر؛ الحاضنة، والرءوم: العطوف، والسؤوم: الملول: يضرب في عدم الشفقة وقلة الاهتمام. وقولهم: «ظاهر العتاب خير من باطن الحقد» معناه ظاهر. وقولهم: «ظلال صيف ما لها قطار» : يضرب لمن له ثروة ولا يجدى على أحد. حرف العين قولهم: «عند الصباح يحمد القوم السّرى» أوّل من قاله خالد بن الوليد لما بعث إليه أبو بكر رضى الله عنه. وكان باليمامة أن يسير إلى العراق، ونالته مشقة بسبب العطش، فأسرى حتى أدرك الماء فقال: عند الصباح يحمد القوم السرى: يضرب لمن يحمل المشقة رجاء الراحة. وقولهم: «عند جهينة الخبر اليقين» : يضرب في معرفة الشىء حقيقة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 وقولهم: «عير عاره وتده» أى أهلكه؛ وأصله أنّ رجلا أشفق على حماره فربطه إلى وتد، فهجم عليه السبع فلم يمكنه الفرار فأهلكه. وقولهم: «عند النّطاح يغلب الكبش الأجمّ» وهو الذى لا قرن له: يضرب لمن غلبه صاحبه بما أعدّ له. وقولهم: «على أهلها تجنى براقش» قالوا: كانت براقش كلبة لقوم من العرب، فأغير عليهم فهربوا وهى معهم، فنبحت فاتبع القوم آثارهم بنباحها، فأدركوهم فقتلوهم، ففيها بقول حمزة بن بيض بل جناها أخ علىّ كريم ... وعلى أهلها براقش تجنى وقيل في هذا المثل غير ذلك. وقولهم: «عسى الغوير أبؤسا» الغوير: تصغير غار، والابؤس: جمع بؤس وهو الشدّة، قالته الزّبّاء عند رجوع قصير من العراق، ومعه الرجال، وكان الغوير على طريقه، ومعناه لعل الشرّ يأتيكم من قبل الغار: يضرب للرجل يقال له: لعل الشرّ جاء من قبلك. وقولهم: «عشب ولا بعير» : يضرب للرجل له مال كثير ولا ينفقه على نفسه ولا على غيره. وقولهم: «عاد غيث على ما أفسد» : يضرب للرجل فيه فساد، وصلاحه أكثر. وقولهم: «عاد السهم الى النّزعة» أى رجع الحق إلى أهله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 وقولهم: «عصا الجبان أطول» لانه يفعل ذلك من فشله، يرى أن طولها أشدّ ترهيبا لعدوّه من قصرها. وقولهم: «على الخبير سقطت» المثل لمالك بن جبير العامرىّ، وتمثّل به الفرزدق حين لقى الحسين بن علىّ رضى الله عنهما، عند مقدمه من العراق وخروج الحسين إليه وقد قال له: ما وراءك؟ فقال: على الخبير سقطت؛ قلوب الناس معك، وسيوفهم مع بنى أميّة، والنصر من السماء. وقولهم: «عادة السّوء شرّ من المغرم» معناه أن المغرم إذا أدّيته فارقك، وعادة السوء لا تفارق صاحبها. وقولهم: «عجعج لمّا عضّه الظّعان» أى صاح، والظعان: نسع يشدّ به الهودج: يضرب لمن يضجّ إذا لزمه الحقّ. وقولهم: «عند الرّهان تعرف السّوابق» : يضرب لمن يدّعى ما ليس فيه. وقولهم: «عاد الأمر إلى نصابه» : يضرب في الأمر يتولّاه أربابه. وقولهم: «عينك عبرى والفؤاد في دد» الدّد والدّدن والدّدا: اللعب واللهو: يضرب لمن يظهر حزنا لحزنك وفي قلبه خلاف ذلك. وقولهم: «عرفطة تسقى من الغوادق» ويروى: الغوابق؛ العرفطة: شجرة خشنة المسّ، والغوادق: السحاب الكثير الماء: يضرب للشّرّير يكرّم ويبجّل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 حرف الغين قولهم: «غدّة كغدّة البعير وموت في بيت سلوليّة» قاله عامر بن الطّفيل؛ وذلك أنه لما قدم على النبىّ صلّى الله عليه وسلم! وقدم معه أربد بن قيس اخو لبيد ابن ربيعة العامرىّ الشاعر لأمّه، فقال رجل: يا رسول الله، هذا عامر بن الطّفيل قد أقبل، قال: «دعه، فإن يرد الله به خيرا يهده» فأقبل حتى قام عليه، فقال: يا محمد، مالى إن أسلمت؟ قال: «لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم» قال: تجعل لى الأمر بعدك، قال: «ليس ذاك إلىّ، إنما ذاك إلى الله تعالى يجعله حيث يشاء» قال: فتجعلنى على الوبر وأنت على المدر، قال: «لا» قال: فماذا تجعل لى؟ قال: «أجعل لك أعنّة الخيل تغزو عليها» ، قال: أو ليس ذلك إلىّ اليوم؟ وكان قد أوصى إلى أربد بن قيس: «إذا رأيتنى أكلّمه فدر من خلفه فاضربه بالسيف» فاخترط أربد سيفه شبرا فحبسه الله تعالى فلم يقدر على سلّه، فالتفت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فرأى أربد وما يصنع بسيفه، فقال: «اللهمّ اكفنيهما بما شئت» فأرسل الله تعالى على أربد صاعقة في يوم صائف صاح فأحرقته، وولّى عامر بن الطّفيل هاربا وقال: يا محمد، دعوت ربّك فقتل أربد، والله لأملأنّها عليك خيلا جردا وفتيانا مردا، فقال: رسول الله صلّى الله عليه وسلم «يمنعك الله من ذلك» فسار عامر حتى نزل ببيت امرأة سلوليّة، فخرجت على ركبته غدّة عظيمة، فقال: غدّة كغدّة البعير وموت فى بيت سلوليّة، ثم مات على ظهر فرسه؛ وسلول أقلّ العرب وأذلّهم، فسار كلامه مثلا: يضرب في خصلتين إحداهما شرّ من الأخرى. وقولهم: «غرّنى برداك من خدافلى» ويروى: من غدافلى؛ أصل المثل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 أن رجلا استعار بردى امرأة فلبسهما، ورمى بخلقان كانت عليه، فاسترجعت المرأة برديها فقاله: يضرب لمن ضيّع ماله طمعا في مال غيره. حرف الفاء قولهم: «فى وجه المال تعرف أمرته» أى نماءه وخيره؛ ويقال: أمرت أموال بنى فلان إذا نمت وكثرت: يضرب لمن يستدلّ بحسن ظاهره على حسن باطنه. وقولهم: «فى بيته يؤتى الحكم» زعمت العرب أن الأرنب التقطت تمرة فاختلسها الثعلب فأكلها، فانطلقا يختصمان إلى الضبّ، فقالت الأرنب: يا أبا الحسل، قال: سميعا دعوت، قالت: أتيناك لنختصم إليك، قال: عادلا حكّمتما، قالت: فاخرج إلينا، قال: فى بيته يؤتى الحكم، قالت: إنى وجدت تمرة، قال: حلوة فكليها، قالت: فاختلسها الثعلب، قال: لنفسه بغى الخير، قالت: لطمته، قال: بحقّك أخذت، قالت: لطمنى، قال: حرّ انتصر، قالت: فاقض بيننا، قال: حدّث حديثين امرأة، فإن أبت فأربعة؛ فذهبت أقواله كلّها أمثالا. وقولهم: «فتى ولا كمالك» قاله متمّم بن نويرة في أخيه مالك لمّا قتل. وقولهم: «فى دون هذا ما تنكر المرأة صاحبها» أوّل من قاله جارية من مزينة، قال الحكم بن صخر الثّقفىّ: خرجت منفردا فرأيت بإمّرة (وإمّرة موضع) ، جاريتين أختين لم أر كجمالهما، فكسوتهما وأحسنت إليهما، قال: ثم حججت من قابل ومعى أهلى، وقد اعتللت ونصل خضابى، فلمّا صرت بإمرة، إذا إحداهما قد جاءت، فسألت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 سؤال منكرة، قال فقلت: فلانة؟ قالت: فدّى لك أبى وأمّى، أنّى تعرفنى وأنكرك؟ قال فقلت: أنا الحكم بن صخر، قالت: رأيتك عام أوّل شابا سوقة، وأراك العام شيخا ملكا، وفي دون هذا ما تنكر المرأة صاحبها، فذهبت مثلا، قال قلت: ما فعلت أختك؟ قال: فتنفّست الصّعداء، وقالت: تزوّجها ابن عمّ لها وذهب بها، فذاك حيث تقول إذا ما قفلنا نحو نجد وأهلها ... فحسبى من الدنيا قفول إلى نجد قال قلت: أمّا إنى لو أدركتها لتزوّجتها، قالت: وما يمنعك من شريكتها فى حسنها وجمالها وشقيقتها؟ قال قلت: يمنعنى من ذلك قول كثيّر حيث يقول إذا وصلتنا خلة كى تزيلنا ... أبينا وقلنا الحاجبيّة أوّل فقالت: كثيّر بينى وبينك، أليس الذى يقول هل وصل عزّة إلا وصل غانية؟ ... فى وصل غانية من وصلها خلف قال: فتركت جوابها عيّا. وقولهم: «فاتكة واثقة برىّ» زعموا أن امرأة كثر لبنها وطفقت تهريقه، فقال لها زوجها: لم تهر يقينه؟ فقالت: فاتكة واثقة برىّ: يضرب للمفسد الذى وراء ظهره ميسرة. حرف القاف قولهم: «قطعت جهيزة قول كلّ خطيب» أصله أن قوما اجتمعوا يخطبون في صلح بين حيّين، قتل أحدهما من الآخر قتيلا ليرضوا بالدية، فبينماهم فى ذلك، إذ جاءت أمة يقال لها: جهيزة، فقالت: إن القاتل قد ظفر به بعض الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 أولياء المقتول فقتله، فقالوا: قطعت جهيزة قول كلّ خطيب: يضرب لمن يقطع على الناس ما هم فيه بجهله. وقولهم: «قبل البكاء كان وجهك عابسا» : يضرب للبخيل يعتلّ بالإعدام. ومثله: «قبل النّفاس كنت مصفرّة» . وقولهم: «قلب الأمر ظهرا لبطن» : يضرب في حسن التدبير. وقولهم: «قد شمّرت عن ساقها فشمّرى» : يضرب في الحثّ على الجدّ فى الأمر. وقولهم: «قد يضرط العير والمكواة في النار» قاله عرفطة بن عرفجة سيّد بنى هزّان، وكان بينه وبين الحصين بن نبيت العكلىّ حروب ووقائع، فقتلت عكل رجلا من بنى هزّان، وأسر عرفطة بن عكل رجلين، فقال لهما: أيّكم أفضل لأقتله بصاحبنا؟ فجعل كلّ واحد منهما يخبر أنّ صاحبه أكرم منه، فأمر بقتلهما جميعا، فقدّم أحدهما للقتل، فجعل الآخر يضرط، فقال عرفطة: قد يضرط العير والمكواة في النار، فأرسلها مثلا: يضرب للرجل يخوّف بالأمر فيجزع قبل وقوعه. وهذا أحد الأقوال فيه؛ وقيل غير ذلك. وقولهم: «قد بيّن الصبح لذى عينين» : يضرب في ظهور الأمر كلّ الظهور. وقولهم: «قد أنصف القارة من راماها» القارة: قبيلة قد تقدّم ذكرها فى الأنساب. وقولهم: «قبل الرّماء تملأ الكائن» أى تؤخذ أهبة الأمر قبل وقوعه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 ومثله. «قبل الرّمى يراش السهم» : يضرب في تهيئة الآلة قبل الحاجة اليها. وقولهم: «قلب له ظهر المجنّ» : يضرب لمن كان لصاحبه على مودّة، ثم حال عن عهده. وقولهم: «قد ألقى عصاه» إذا استقرّ من سفر أو غيره؛ يقال: إنه لما بويع لأبى العباس السفّاح، قام خطيبا فسقط القضيب من يده، فقام رجل من القوم وأنشد فألقت عصاها واستقرّ بها النوى ... كما قرّ عينا بالإياب المسافر وقولهم: «قد ونى طرفاه» : يضرب لمن ذلّ وضعف عن أن يتمّ له أمر؛ قال النجاشىّ وإنّ فلانا والإمارة كالذى ... ونى طرفاه بعد ما كان أجدعا وقولهم: «قدّت سيورهم من أديمك» : يضرب للشيئين يستويان في الشبه قال الشاعر وقدّت من أديمهم سيورى وقولهم: «قد بلغ الشّظاظ الوركين» الشظاظ: عويد يجعل في عروة الجوالق: يضرب فيما جاوز الحدّ، وهو كقولهم: جاوز الحزام الطّبيين. حرف الكاف قولهم: «كان كراعا، فصار ذراعا» : يضرب للذليل الضّعيف صار عزيزا قويّا. وقولهم: «كلام كالعسل، وفعل كالأسل» : يضرب في اختلاف القول والفعل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 وقولهم: «كنت تبكى من الأثر العافى فقد لا قيت أخدودا» : يضرب لمن يشبكو القليل من الشرّ ثم يقع في الكثير. وقولهم: «كلّ ذات بعل ستئيم» هذا من أمثال أكثم بن صيفىّ؛ قال الشاعر أفاطم إنى هالك فتثبّتى ... ولا تجزعى، كلّ النساء تئيم أى ستفارق زوجها. وقولهم: «كلّ أزبّ نقور» قاله زهير بن جذيمة لأخيه أسيد، ونذكر الخبر فى وقائع العرب. وقولهم: «كلّ فتاة بأبيها معجبة» : يضرب في عجب الرجل بعشيرته ورهطه. وقولهم: «كلّ الصيد في جوف القرا» الفرا: الحمار الوحشى؛ أضل المثل أن ثلاثة نفر خرجوا متصيّدين، فاصطاد أحدهم أرنبا، والآخر ظبيا، والثالث حمارا، فتطاولا عليه بصيدهما، فقال: كلّ الصيد في جوف الفرأ: يضرب لمن يفضّل على أقرانه، وقد تمثّل به رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وقولهم: «كدمت غير مكدم» : يضرب لمن يطلب شيئا في غير مطلبه. وقولهم: «كالثور يضرب لمّا عافت البقر» : يضرب في عقوبة البرىء بذنب المجرم، ويأتى ذكر ذلك في أوابد العرب. وقولهم: «كالكبش يحمل شفرة وزنادا» : يضرب لمن يتعرّض للهلاك. وقولهم: «كالمستغيث من الرمضاء بالنار» : يضرب في الخلتين يجتمعان على الرجل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 وقولهم: «كالقابس العجلان» : يضرب لمن عجّل في طلب حاجته. وقولهم: «كلاهما وتمرا» أوّل من قاله عمرو بن حمران الجعدىّ، وذلك أنه مرّ برجل وبين يديه زبد وسنام وتمر، فقال: أنلنى ممّا بين يديك، فقال: أيّما أحبّ إليك أزبد أم سنام؟ فقال: كلاهما وتمرا، فسارت مثلا. وقولهم: «كالباحث عن المدية» يقال: إن رجلا وجد صيدا، ولم يكن معه ما يذبحه به، فبحث الصيد بأظلافه في الأرض، فسقط على شفرة فذبحه بها: يضرب فى طلب الشىء يؤدّى صاحبه إلى تلف النفس. وقولهم: «كذى العرّ يكوى غيره وهو راتع» : يضرب في أخذ البرىء بذنب الجانى، ويأتى ذكره في أوابد العرب. وقولهم: «كالمحتاض على عرض السراب» : يضرب لمن يطمع في محال. وقولهم: «كلّ لياليه لنا حنادس» : يضرب لمن لا يصل إليك منه إلا ما تكره. حرف اللام قولهم: «لو ذات سوار لطمتنى» معناه لو ظلمنى من كان كفؤا لى لهان علىّ، ولكن ظلمنى من هو دونى، وهو كقول بعضهم فلو أنى بليت بهاشمىّ ... خؤولته بنو عبد المدان لهان علىّ ما ألقى ولكن ... تعالى فانظرى بمن ابتلانى وقولهم: «لو غير ذات سوار لطمتنى» روى الأصمعىّ: أن حاتما الطائىّ مرّ ببلاد عنزة في بعض الأشهر الحرم فناداه أسير لهم: يا أبا سفانة: أكلنى الإسار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 48 والقمل، فقال: ويحك، أسأت إذ نوّهت باسمى في غير بلاد قومى، فساوم القوم به ثم قال: أطلقوه واجعلوا يدىّ في القدّ مكانه، ففعلوا ذلك؛ ثم جاءته امرأة ببعير ليفصده فنحره فلطمته فقال: لو غير ذات سوار لطمتنى، يعنى أنى لا أقتصّ من النساء، ثم عرف، ففدى نفسه فداء عظيما. وقولهم: «لو ترك القطا ليلا لنام» قالته امرأة عمرو بن مامة، وقد نزل عليه قوم من مراد، فطرقوه ليلا، فأثاروا القطا، فرأته امرأته فنبّهته فقال: إنما هذا القطا، فقالت: لو ترك القطا ليلا لنام؛ فسار مثلا: يضرب لمن حمل على مكروه من غير إرادته؛ وقيل: إن التى قالته له حذام بنت الريّان. وقولهم: «لبس له جلد النمر» : يضرب في إظهار العداوة وكشفها. وقولهم: «لقد ذلّ من بالت عليه الثعالب» أصله أن رجلا من العرب كان يعبد صنما، فجاء ثعلب فبال عليه، فقال في ذلك: أربّ يبول الثّعلبان برأسه؟ ... لقد ذلّ من بالت عليه الثعالب وقولهم: «ليس هذا بعشّك فادرجى» : يضرب لمن يرفع نفسه فوق قدره. وقولهم: «لم أجد لشفرتى محزّا» : يضرب عذرا في تعذّر الحاجة. وقولهم: «لو سئلت العارية أين تذهبين لقالت أكسب أهلى ذمّا» هذا من كلام أكثم بن صيفىّ: يضرب في سوء الجزاء للمنعم. وقولهم: «ليس من العدل، سرعة العذل» أى لا ينبغى أن تعجّل بالعذل قبل أن تعرف العذر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 وقولهم: «ليس القدامى كالخوافى» : يضرب عند التفضيل. وقولهم: «لو كويت على داء لم أكره» أى لو عوتبت على ذنب ما امتعضت. وقولهم: «ليس على الشّرق طخاء يحجب» أى ليس على الشمس سحاب: يضرب في الامر المشهور الذى لا يخفى على أحد. وقولهم: «لأكوينّه كيّة المتلوّم» أى كيّا بليغا؛ والمتلوّم: الذى يتتبّع الداء حتى يعلم مكانه: يضرب في التهديد الشديد. وقولهم: «لأمر ما جدع قصير أنفه» قالته الزّبّاء لما رأت قصيرا مجدوعا؛ وخبره يأتى في باب المكايد. حرف الميم قولهم: «ما تنفع الشّفعة في الوادى الرّغب» الشّفعة: المطرة الهيّنة، والرّغب: الواسع: يضرب للذى يعطيك قليلا لا يقع منك موقعا. وقولهم: «ما وراءك يا عصام؟» يقال: أوّل من قال ذلك الحارث بن عمرو ملك كندة، وذلك أنه بلغه جمال ابنة عوف بن محلّم فأرسل إليها امرأة ذات عقل ولسان، يقال لها: عصام، وقال: اذهبى لتعلمينى بحالها، فلما انتهت إليها ونظرتها خرجت وهى تقول: «ترك الخداع، من كشف القناع» فذهبت مثلا، ثم عادت اليه، فقال لها: ما وراءك يا عصام؟ فقالت: «صرّح المحض عن الزّبد» فأرسلتها مثلا؛ وساق الميدانىّ على هذا المثل كلاما طويلا قالته عصام في وصف أعضاء المخطوبة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 وقولهم: «ما يوم حليمة بسرّ» هى حليمة بنت الحارث بن أبى شمر، كان أبوها وجّه جيشا إلى المنذر بن ماء السماء فأخرجت لهم طيبا في مركن فطيّبتهم؛ فلما انتهت إلى لبيد بن عمرو وذهبت لتخلّقه، قبّلها، فلطمته وأتت أباها، فقال لها: ويلك اسكتى عنه، فهو أرجاهم عندى ذكاء فؤاد، وإنى مرسله، فإن قتل فقد كفى الله شرّه؛ فسار إلى المنذر بالجيش، فقتلوا المنذر وكان يوما مشهورا، فقيل فيه: ما يوم حليمة بسرّ. وقولهم: «ما أشبه الليلة بالبارحة» أى ما أشبه بعض القوم ببعض. وقولهم: «مرعى ولا كالسّعدان» قالوا: السّعدان أخثر العشب لبنا، ومنابته السهول: يضرب مثلا للشىء يفضّل على أقرانه وأشكاله؛ وأوّل من قال المثل: خنساء بنت عمرو بن الشريد، وقيل: بل قالته امرأة من طيىء تزوّجها امرؤ القيس بن حجر الكندىّ فقال لها: أين أنا من زوجك الأوّل؟ فقالت: مرعى ولا كالسّعدان، أى إنك إن كنت رضا فلست كفلان. وقولهم: «ماء ولا كصدّاء» صدّاء: ركيّة عذبة؛ قال ضرار السعدىّ وإنى وتهيامى بزينب كالذى ... تطلّب من أحواض صدّاء مشربا معناه أنه لا يصل إليها إلا بالمزاحمة لفرط حسنها، كالذى يرد الماء فإنه يزاحم عليه لفرط عذوبته. وقولهم: «محا السيف ما قال ابن دارة أجمعا» هو سالم بن دارة الغطفانىّ، ودارة: أمّه، وكان قد هجا بعض بنى فزارة فاغتاله زميل فقتله، ففيه يقول الكميت فلا تكثروا فيه الضّجاج فإنه ... محا السيف ما قال ابن دارة أجمعا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 وقولهم: «ملكت فأسجح» الإسجاح: حسن العفو، أى ملكت الأمر فأحسن العفو؛ وقد تمثّل به رسول الله صلّى الله عليه وسلم في بعض غزواته؛ ونذكر الخبر فى ذلك في المغازى. وقولهم: «من ينكح الحسناء يعط مهرها» أى من طلب حاجة بذل ماله فيها. وقولهم: «من سرّه بنوه ساءته نفسه» قاله ضرار بن عمرو الضبىّ: وكان ولده ثلاثة عشر رجلا، كلّهم قد غزا ورأس، فرآهم يوما وأولادهم، فعلم أنهم لم يبلغوا هذه الأسنان إلا مع كبر سنّه، فقال: من سرّه بنوه ساءته نفسه، فأرسلها مثلا. وقولهم: «من أشبه أباه فما ظلم» معناه ظاهر. وقولهم: «من ير يوما يربه» قاله كلحب بن شؤبوب الأسدىّ، وكان يغير على طيىء وحده، فدعا حارثة بن لأم رجلا من قومه يقال له: عترم، فقال له: أما تستطيع أن تكفينى مؤونة هذا الخبيث؟ فقال: بلى، فأرسل عشرة عيون عليه، فعلموا مكانه فانطلق إليه عترم فوجده نائما في ظلّ أراكة فنزل ومعه آخر فأخذ كلّ واحد منهما بإحدى يديه فانتبه فنزع يده اليمنى من ممسكها وقبض على حق الآخر فقتله وبادر الباقون فأخذوه وشدّوه وثاقا وأتوا به حارثة، فقال له: يا كحب، إن كنت أسيرا فطالما أسرت، فقال: من ير يوما ير به، فأرسلها مثلا، وقال حوذة وهو ابن المقتول لحارثة: أعطينه أقتله بأبى، فقال: دونكه! وجعلوا يتكلّمون وهو يعالج كتافه حتى انحلّ، ثم وثب على رجليه فاتبعوه بالخيل فأعجزهم. وقولهم: «من سلك الجدد أمن العثار» الجدد: الأرض المستوية: يضرب فى طلب العافية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 وقولهم: «من يشترى سيفى وهذا أثره؟» قاله الحارث بن ظالم، وذلك انه لما قتل خالد بن جعفر بن كلاب بزهير بن جذيمة العبسىّ على ما نذكره إن شاء الله فى وقائع العرب وهرب، فوجّه النعمان فوارس في طلبه فأدركوه سحرا فعطف عليهم وقتل منهم جماعة وكرّوا عليه فجعل لا يقصد لجماعة إلا فرّقها وهو يقول: من يشترى سيفى وهذا أثره، فارتدعوا عنه وانصرفوا إلى النعمان. وقولهم: «من مال جعد وجعد غير محمود» قاله جعد بن الحصين أبو صخر ابن جعد الشاعر، وكان قد كبر فتفرّق عنه بنوه وأهله، وبقيت له جارية سوداء تخدمه، فعلقت بفتى من الحىّ يقال له: عرابة، فجعلت تنقل إليه ما في بيت جعد، ففطن جعد لذلك، فقال في ذلك أبلغ لديك بنى عمرو مغلغلة ... عمرا وعوفا وما قولى بمردود بأنّ بيتى أمسى فوق داهية ... سوداء قد وعدتنى شرّ موعود تعطى عرابة بالكفّين مجتنحا ... من الخلوق وتعطينى على العود أمسى عرابة ذا مال يسرّ به ... من مال جعد، وجعد غير محمود يضرب للرجل يصاب من ماله ويذمّ. وقولهم: «من مأمنه يؤتى الحذر» قاله أكثم بن صيفىّ. وقولهم: «من يمش يرض بما ركب» : يضرب للذى يضطرّ إلى ما كان يرغب عنه. وقولهم: «من يلق أبطال الرجال يكلم» قاله عقيل بن علقمة المرّى، وقد رماه عملّس ابنه بسهم فحلّ فخذيه، فقال أبياتا منها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 إنّ بنىّ زمّلونى بالدم ... شنشنة أعرفها من أخزم من يلق أبطال الرجال يكلم وقولهم: «من لا يذد عن حوضه يهدّم» أى من لم يدفع عن نفسه يظلم، قاله زهير بن أبى سلمى. وقولهم: «مكره أخوك لا بطل» قاله أبو حنش خال بيهس: يضرب لمن يحمل على ما ليس من شأنه. وقولهم: «من نام لا يشعر بشجو الأرق» : يضرب لمن غفل عما يعانيه صاحبه من المشقّة. حرف النون قولهم: «نفس عصام سوّدت عصاما» هو عصام بن شهبر حاجب النعمان ابن المنذر: يضرب في نباهة الرجل من غير قديم؛ وقيل في هذا نفس عصام سوّدت عصاما ... وعلّمته الكرّ والإقداما وصيّرته ملكا هماما وقولهم: «نظرة من ذى علق» أى من ذى هوى: يضرب لمن ينظر بودّ. وقولهم: «نزت به البطنة» : يضرب لمن لا يحتمل النّعمة؛ قال الشاعر فلا تكوننّ كالنازى ببطنته ... بين القرينين حتى ظلّ مقرونا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 وقولهم: «نجوت وأرهنتهم مالكا» قال عبد الله بن همّام السّلولىّ فلمّا خشيت أظافيرهم ... نجوت وأرهنتهم مالكا يضرب لمن ينجو من هلكة نشب فيها شركاؤه وأصحابه. وقولهم: «نام عصام ساعة الرحيل» : يضرب لمن طلب الأمر بعد ما ولّى. حرف الهاء قولهم: «هدنة على دخن» . وقولهم: «هذا أوان شدّكم فشدّوا» . ومثله قولهم: «هذا أوان الشدّ فاشتدّى زيم» قال الأصمعىّ: زيم: اسم فرس: يضرب للرجل يؤمر بالجدّ. وقولهم: «هو على حبل ذراعك» أى الأمر فيه إليك: يضرب في قرب المتناول؛ وحبل الذراع: عرق في اليد. وقولهم: «هان على الأملس ما لا قى الدّبر» : يضرب في سوء اهتمام الرجل بشأن صاحبه. وقولهم: «هو بين حاذف وقاذف» لحاذف بالعصا، والقاذف بالحصى: يضرب لمن هو بين الشرّين. وقولهم: «هو على طرف الثّمام» الثمام: نبت ضعيف سهل المتناول تسدّ به خصاص البيوت، وربما حشيت به المخادّ؛ قالوا: إنه ينبت على قدر قامة الإنسان: يضرب في تسهيل الحاجة وقرب النجاح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 وقولهم: «هى الخمر تكنى الطّلاء» : يضرب للأمر ظاهره حسن وباطنه على خلاف ذلك. حرف الواو قولهم: «وافق شنّ طبقة» قال الشرقىّ بن القطامىّ: كان رجل من دعاة العرب وعقلائهم يقال له: شنّ، فآلى أنه يطوف البلاد حتى يجد امرأة مثله فيتزوّجها، فبينا هو في بعض مسيره إذ وافقه رجل في الطريق فسارا جميعا، فقال له شنّ: أتحملنى أم أحملك؟ فقال: أنا راكب وأنت راكب، فكيف تحملنى أو أحملك؟! ثم سارا فانتهيا إلى زرع قد استحصد، فقال شنّ: أترى هذا الزرع أكل أم لا؟ فقال: لم أر أجهل منك، نبتا مستحصدا فتقول: أكل أم لا! فسكت؛ ثم سارا حتى دخلا القرية فلقيا جنازة، فقال شنّ: أترى صاحب هذا النعش حيّا أم ميّتا؟ فقال له الرجل: ترى جنازة تسأل عنها أميّت صاحبها أم حىّ! فسكت عنه شنّ وأراد مفارقته فأبى أن يتركه وسار به إلى منزله، وكان للرجل بنت يقال لها: طبقة، فلما دخل عليها أبوها سألته عن ضيفه، فقال: ما رأيت أجهل منه، وحدّثها بحديثه، فقالت: يا أبت ما هذا بجاهل! قوله: أتحملنى أو أحملك؟ أراد أتحدّثنى أم أحدّثك، وأما قوله: أترى هذا الزرع أكل أم لا؟ فأراد هل باعه أهله فأكلوا ثمنه أم لا؟ وأما الجنازة فأراد هل ترك عقبا يحيا بهم ذكره أم لا؟ فخرج الرجل فقعد مع شنّ فحادثه، وقال له: أتحب أن أفسر لك ما سألتنى؟ قال نعم، ففسره، فقال شنّ: ما هذا من كلامك، فأخبرنى من صاحبه؟ فقال: ابنة لى، فخطبها إليه فزوّجه إياها وحملها إلى أهله، فلما رأوها قالوا: وافق شنّ طبقة، فذهبت مثلا: يضرب للمتوافقين؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 وقال الاصمعىّ: هم قوم كان لهم وعاء من أدم فتشنّن فجعلوا له طبقا فوافقه فقيل: وافق شنّ طبقه، ورواه أبو عبيدة في كتابه، وقال ابن الكلبىّ: طبقة: قبيلة من إياد كانت لا تطاق فأوقعت بها شنّ بن أفصى بن دعمىّ فانتصفت منها وأصابت فيها فضربتا مثلا وأنشد لقيت شنّ إيادا بالقنا ... طبقا، وافق شنّ طبقه وقولهم: «وجدت الناس اخبر تقله» أصله اخبر الناس تقلهم: يضرب فى ذمّ الناس وسوء معاشرتهم. وقولهم: «ولود الوعد عاقر الإنجاز» : يضرب لمن يكثر وعده ويقلّ نقده. وقولهم: «ودّع مالا مودعه» لأنه إذا استودعه غيره فقد ودّعه وغرّر به ولعله لا يرجع اليه. وقولهم: «ومورد الجهل وبىء المنهل» : يضرب في النّهى عن استعمال الجهل. ما جاء في ما أوّله (لا) قولهم: «لا مخبأ لعطر بعد عروس» ويقال: «لا عطر بعد عروس» أوّل من قاله امرأة من عذرة، يقال لها: أسماء بنت عبد الله، وكان لها زوج من بنى عمّها يقال له: عروس، فمات عنها، فتزوّجها رجل من قومها يقال له نوفل، وكان أعسر أبخر بخيلا ذميما، فلما دخل بها قال: ضمّى إليك عطرك، فقالت: لا عطر بعد عروس، فذهبت مثلا، ويقال: إن رجلا تزوّج امرأة، فلما أهديت إليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 وجدها تفلة فقال لها: أين الطّيب؟ فقالت: خبّأته، فقال لها: لا مخبأ لعطر بعد عروس: يضرب مثلا لمن لا يدّخر عنه نفيس. وقولهم: «لا يلدغ «1» المؤمن من حجر مرّتين» : يضرب لمن أصيب ونكب مرّة بعد أخرى، يقال هذا من امثال النبىّ صلّى الله عليه وسلم قاله لأبى عزّة الشاعر وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد أسره يوم بدر فمنّ عليه وأطلقه ثم أتاه يوم أحد فأسره، فقال: منّ علىّ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «لا يلدغ المؤمن من جحر مرّتين» أى لو كنت مؤمنا لم تعد لقتالنا. وقولهم: «لا أطلب أثرا بعد عين» أوّل من قاله مالك بن عمرو العامرى «2» ، وكان من حديثه أن بعض ملوك غسّان كان يطلب في بنى عامر ذحلا فأخذ منهم مالكا وسماك ابنى عمرو العامرىّ فاحتبسهما زمانا ثم دعا بهما، فقال لهما: إنى قاتل أحدكم فأيكما أقتل؟ فجعل كلّ واحد منهما يقول: اقتلنى مكان أخى، فقتل سماكا وخلّى سبيل مالك، فقال سماك حين ظنّ أنه مقتول فأقسم لو قتلوا مالكا، لكنت لهم حيّة راصده برأس سبيل على مرقب ... ويوما على طرق وارده فأمّ سماك فلا تجزعى ... فللموت ما تلد الوالده وانصرف مالك إلى قومه فأقام فيهم زمانا ثم إنّ ركبا مرّوا وواحد منهم يتغنّى بقول سماك فأقسم لو قتلوا مالكا فسمعته أمّ سماك، فقالت: يا مالك، قبح الله الحياة بعد سماك، اخرج في الطلب فخرج فلقى قاتل أخيه يسير في ناس من قومه فقال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 من أحسّ لى الجمل الأحمر، فقالوا له وقد عرفوه: يا مالك اكفف ولك مائة من الإبل، فقال: لا أطلب أثرا بعد عين، فذهبت مثلا. وقولهم: «لا يرسل الساق إلا ممسكا ساقا» أصله في الحرباء: يضرب لمن لا يدع حاجة إلا سأل أخرى. وقولهم: «لا ماءك أبقيت، ولا حرك أنقيت» ويروى: ولا درنك؛ اصله أنّ رجلا كان في سفر ومعه امرأته، وكانت عاركا فطهرت وكان معها ماء يسير فاغتسلت به فنفد ولم يكفها لغسلها فعطشا فقال هذا القول فسار مثلا، وقيل: إنّ الذى قاله الضبّ بن أروى الكلاعىّ قاله لامرأته عمرة بنت سبيع؛ قال الفرزدق وكنت كذات الحيض لم تبق ماءها ... ولا هى من ماء العذابة طاهر وقولهم: «لا ناقتى في هذا ولا جملى» المثل للحارث بن عبّاد حين قتل جسّاس بن مرّة كليبا وحاجت الحرب بين الفريقين واعتزلهما الحارث؛ قال الراعى وما هجرتك حتى قلت معلنة ... لا ناقة لى في هذا ولا جمل يضرب عند التبرؤ من الظلم والإساءة. وقولهم: «لا ينتطح فيها عنزان» قاله رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وقولهم: «لا ينبت البقلة، إلا الحقلة» الحقلة: القراح، أى لا يلد الوالد. إلا مثله: ويضرب مثلا للكلمة الخسيسة تخرج من الرجل الخسيس. وقولهم: «لا تدخل بين العصا ولحائها» : يضرب في المتخالّين المتصافيين. وقولهم: «لا يحزنك دم هراقه أهله» قال هذا المثل جذيمة: يضرب لمن يوقع نفسه فيما لا مخلص له منه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 حرف الياء قولهم: «يداك أوكتا وفوك نفخ» أصله أن رجلا كان في جزيرة من جرائر البحر فأراد أن يعبر على زقّ قد نفخ فيه فلم يحسن إحكامه، فلمّا توسّط البحر خرجت منه الريح فغرق فاستغاث برجل، فقال له: يداك أوكتا وفوك نفخ، فذهبت مثلا: يضرب لمن يجنى على نفسه الحين. وقولهم: «يشجّ ويأسو» : يضرب لمن يصيب في التدبير مرّة ويخطىء أخرى؛ قال الشاعر إنى لأكثر ممّا سمتنى عجبا ... يد تشجّ وأخرى منك تأسونى وقولهم: «يسرّ حسوا في ارتغاء» أصله أن الرجل يؤتى باللبن فيظهر أنه يريد الرّغوة خاصّة فيشربها، وهو في ذلك ينال من اللبن: يضرب لمن يريك أنه يعينك وإنما يجرّ النفع إلى نفسه؛ قال الكميت فإنى قد رأيت لكم صدودا ... وتحساء بعلّة مرتغينا وقولهم: «يمشى رويدا ويكون أوّلا» : يضرب للرجل يدرك حاجته في تؤدة ودعة، وينشد فيه تسألنى أمّ الوليد جملا ... يمشى رويدا ويكون أوّلا وقولهم: «يصبح ظمآن وفي البحر فمه» : يضرب لمن يعاشر بخيلا مثريا. وقولهم: «يملأ الدّلو الى عقد الكرب» مأخوذ من قول عتبة بن أبى لهب من يساجلنى يساجل ماجدا ... يملا الدّلو إلى عقد الكرب. وهو الحبل الذى يشدّ في وسط العراقىّ: يضرب لمن يبالغ فيما يلى من الأمر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 وقولهم: «يكوى البعير من يسير الداء» : يضرب في حسم الأمر الضائر قبل أن يعظم ويتفاقم. وقولهم: «يعود على المرء ما يأتمر» ويروى: يعدو؛ معناه يعود على الرجل ما تأمره به نفسه فيأتمر، أى يمتثله ظنّا منه أنه رشد، وربما كان هلاكه فيه، ومنه قول امرئ القيس أحار بن عمرو كأنى خمر ... ويعدو على المرء ما يأتمر ومما يتمثل به من أشعار الجاهلية امرؤ القيس بن حجر: قد تقدّم من شعره في الاستشهاد على أمثال العرب ما يستغنى عن إعادته في هذا المكان. ومن شعره والبرّ خير حقيبة الرّجل ... رضيت من الغنيمة بالإياب إن الشقاء على الأشقين مصبوب وقال أيضا وقاهم جدّهم بينى أبيهم ... وبالأشقين ما كان العتاب وقال فإنك لم يفخر عليك كفاخر ... ضعيف ولم يغلبك مثل مغلّب زهير بن أبى سلمى يقول ومن يغترب يحسب عدوّا صديقه ... ومن لا يكرّم نفسه لا يكرّم ومهما يكن عند امرىء من خليقة ... ولو خالها تخفى على الناس تعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 ومن لا يصانع في أمور كثيرة ... يضرّس بأنياب ويوطأ بمنسم ومن يجعل المعروف من دون عرضه ... يفره ومن لا يتّق الشتم يشتم ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله ... على قومه يستغن عنه ويذمم ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه ... يهدّم ومن لا يظلم الناس يظلم ومن يعص أطراف الزّجاج فإنه ... مطيع العوالى ركّبت كلّ لهذم وقال أيضا وهل ينبت الخطّىّ إلّا وشيجه ... وتغرس إلا في منابتها النخل وقال أيضا والستر دون الفاحشات وما ... يلقاك دون الخير من ستر وقال أيضا فإنّ الحقّ مقطعه ثلاث ... يمين أو نفار أو جلاء يقول: إنما الحقوق تصحّ بواحدة من هذه الثلاث: يمين أو محاكمة أو حجّة واضحة؛ وكان عمر بن الخطّاب رضى الله عنه يتعجّب من معرفته بمقاطع الحقوق. النابغة الذّبيانى: اسمه زياد بن عمرو، ويكنى أبا أمامة؛ غلب عليه «النابغة» لأنه عبر برهة لا يقول الشعر ثم نبغ فقاله؛ وكذلك الجعدىّ؛ وقيل: إنما لقّب بالنابغة لقوله فقد نبغت لهم منّا شؤون وقيل في نسبه: زياد بن معاوية بن ضباب بن جابر بن يربوع بن غيظ بن مرّة ابن عوف بن سعد بن ذبيان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 فمما يتمثّل به من شعره قوله فإنك كالليل الذى هو مدركى ... فإن مطيّة الجهل الشباب وقال ولست بمستبق أخا لا تلمّه ... على شعث، أىّ الرجال المهذّب؟ وقال أيضا استبق ودّك للصديق ولا تكن ... قتبا يعضّ بغارب ملحاحا طرفة بن العبد يقول حنانيك بعض الشرّ أهون من بعض ... ما أشبه الليلة بالبارحه وقال أيضا ستبدى لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد وقال أيضا وأعلم علما ليس بالشكّ أنه ... إذا ذلّ مولى المرء فهو ذليل أوس بن حجر يقول فإنكما يا ابنى حباب وجدتما ... كمن دبّ يستخفى وفي الكفّ جلجل وقال أيضا وما ينهض البازى بغير جناحه ... ولا يحمل الماشين إلا الحوامل اذا أنت لم تعرض عن الجهل والخنا ... أصبت حليما أو أصابك جاهل وقال أيضا ولست بخابئّ أبدا طعاما ... حذار غد، لكلّ غد طعام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 بشر بن أبى خازم يقول وأيدى الندى في الصالحين قروض ... كفى بالموت نأيا واغترابا المتلمس وهو جرير بن عبد المسيح يقول قليل المال تصلحه فيبقى ... ولا يبقى الكثير مع الفساد وقال أيضا لذى الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا ... وما علّم الإنسان إلا ليعلما ولو غير أخوالى أرادوا نقيصتى ... جعلت لهم فوق العرانين ميسما وما كنت إلا مثل قاطع كفّه ... بكفّ له أخرى فأصبح أجذما وقال أيضا ولا يقيم على ذلّ يراقبه ... إلا الأذلّان عير السوء والوتد هذا على الخسف مربوط برمّته ... وذا يشجّ فلا يرثى له أحد الأفوه الأودى ّ يقول إنما نعمة دنيا متعة ... وحياة المرء ثوب مستعار وصروف الدهر في أطباقه ... حلقة فيها ارتفاع وانحدار بينما الناس على عليائها ... إذ هووا في هوّة منها فغاروا وقال أيضا والبيت لا يبتنى إلا له عمد ... ولا عماد إذا لم ترس أوتاد فإن تجمّع أوتاد وأعمدة ... وساكن، بلغوا الأمر الذى كادوا تهدى الأمور بأهل الرأى ما صلحت ... وإن تولّت فبالأشرار تنقاد لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهّالهم سادوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 تميم بن أبى مقبل يقول خليلىّ لا تستعجلا وانظرا غدا ... عسى أن يكون الرفق في الأمر أرشدا وقال أيضا ما أنعم العيش! لو أن الفتى حجر ... تنبوا الحوادث عنه وهو ملموم حميد بن ثور يقول أرى بصرى قد رابنى بعد صحّة ... وحسبك داء أن تصحّ وتسلما ولن يلبث العصران يوما وليلة ... إذا طلبا- أن يدركا ما تيّمما عدى بن زيد يقول كفى واعظا للمرء أيام دهره ... تروح له بالواعظات وتغتدى عن المرء لا تسأل وسل عن قريبه ... فكلّ قرين بالمقارن يقتدى وظلم ذوى القربى أشدّ مضاضة ... على المرء من وقع الحسام المهنّد إذا ما رأيت الشرّ يبعث أهله ... وقام جناة الشرّ للشرّ فاقعد قال أيضا يا راقد الليل مسرورا بأوّله ... إن الحوادث قد يطرقن أسحارا وقال قد يدرك المبطئ من حظّه ... والخير قد يسبق جهد الحريص وقال لو بغير الماء حلقى شرق ... كنت كالغصّان بالماء اعتصارى وقال فهل من خالد إما هلكنا ... وهل بالموت يا للناس عار؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 الأسود بن يعفر يقول ماذا أؤمل بعد آل محرّق ... تركوا منازلهم وبعد إياد أرض تخيّرها لطيب مقيلها ... كعب بن مامة وابن أمّ دؤاد أهل الخورنق والسّدير وبارق ... والقصر ذى الشّرفات من سنداد جرت الرياح على محلّ ديارهم ... فكأنهم كانوا على ميعاد ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة ... فى ظلّ ملك ثابت الأوتاد فإذا النعيم وكلّ ما يلهى به ... يوما يصير إلى بلى ونفاد علقمة بن عبدة يقول فإن تسألونى بالنساء فإننى ... عليم بأدواء النساء طبيب إذا شاب رأس المرء أو قلّ ماله ... فليس له في ودّهن نصيب يردن ثراء المال حيث علمنه ... وشرخ الشباب عندهنّ عجيب وقال أيضا وكلّ حصن وإن طالت إقامته ... على دعائمه لا بدّ مهدوم ومن تعرّض للغربان يزجرها ... على سلامته لا بدّ مشئوم عمرو بن كلثوم يقول وما شرّ الثلاثة أمّ عمرو ... بصاحبك الذى لا تصحبينا وإنّ غدا وإنّ اليوم رهن ... وبعد غد بما لا تعلمينا الحارث بن حلّزة يقول لا تكسع الشّول بأغبارها ... إنك لا تدرى من الناتج؟ واصبب لأضيافك ألبانها ... فإن شرّ اللبن الوالج الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 حاتم الطائى ّ يقول أماوىّ ما يغنى الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر وقد علم الأقوام لو أن حاتما ... أراد ثراء المال، كان له وفر وقال أيضا وأنت إذا أعطيت بطنك سؤله ... وفرجك، نالا منتهى الذمّ أجمعا المرقّش الأصغر يقول ومن يلق خيرا يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغى لائما النمر بن تولب يقول يودّ الفتى طول السلامة جاهدا ... فكيف ترى طول السلامة يفعل؟ وقال أيضا ومتى تصبك خصاصة فارج الغنى ... وإلى الذى يهب الرغائب فارعب لا تغصبنّ على امرىء في ماله ... وعلى كرائم صلب مالك فاغضب وقال فلا وأبى، الناس لا يعلمون ... ، للخير خير وللشرّ شرّ فيوما علينا ويوما لنا ... ويوما نساء ويوما نسرّ مهلهل بن ربيعة، واسمه عدى ّ يقول أعزر على تغلب بما لقيت ... أخت بنى الأكرمين من جشم أنكحها ففدها الأراقم في ... جنب وكان الخباء من أدم لو بأبانين جاء يخطبها ... ضرّج ما أنف خاطب بدم ليسوا بأكفائنا الكرام ولا ... يغنون من ذلّة ولا عدم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 طفيل الغنوى ّ يقول إنّ النساء كأشجار نبتن معا ... منهن مرّ، وبعض المرّ مأكول إنّ النساء متى ينهن عن خلق ... فإنه واجب لا بدّ مفعول عروة بن الورد يقول وما شاب رأسى من سنين تتابعت ... علىّ ولكن شيّبتنى الوقائع وقال أيضا ومن يك مثلى ذا عيال ومقترا ... من المال يطرح نفسه كلّ مطرح ليبلغ عذرا أو ينال رغيبة ... ومبلغ نفس عذرها مثل منجح الأعشى: وهو ميمون بن قيس من بنى قيس بن ثعلبة يقول كناطح صخرة يوما ليفلقها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل وقال أيضا تعالوا فإنّ الحكم عند ذوى النهى ... من الناس كالبلقاء باد حجولها وقال أيضا ومن يغترب عن قومه لم يزل يرى ... مصارع مظلوم مجرّا ومسحبا وتدفن منه الصالحات وإن يسىء ... يكن ما أثار النار في رأس كبكبا وقال أيضا عوّدت كندة عادة فاصبر لها ... اغفر لجاهلها وروّ سجالها لقيط بن معبد يقول قوموا قياما على أمشاط أرجلكم ... ثم افزعوا، قد ينال الأمر من فزعا هيهات، ما زالت الأموال مذ أبد ... لأهلها- إن أصيبوا مرّة- تبعا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 تأبط شرّا: وهو ثابت بن جابر يقول لتقرعنّ علىّ السنّ من ندم ... اذا تذكّرت يوما بعض أخلاقى المثقّب العبدىّ يقول فإما أن تكون أخى بحقّ ... فأعرف منك غثّى من سمينى وإلا فاطرحنى واتّخذنى ... عدوّا أتّقيك وتتّقينى فإنى لو تعاندنى شمالى ... عنادك ما وصلت بها يمينى الممرّق العبدىّ يقول فإن كنت ماكولا فكن أنت آكلى ... وإلّا فأدركنى ولمّا أمزّق أفنون التغلبى ّ يقول لعمرك ما يدرى الفتى كيف يتّقى ... إذا هو لم يجعل له الله واقيا الأضبط بن قريع السّعدىّ يقول قد يجمع المال غير آكله ... وبأكل المال غير من جمعه لا تحقرنّ الفقير علّك أن ... تركع يوما والدهر قد رفعه وأقبل من الدهر ما أتاك به ... من قرّ عينا بعيشه نفعه سويد بن أبى كاهل يقول ربّ من أنضجت غيظا قلبه ... قد تمنّى لى موتا لم يطع ويرانى كالشّجى في حلقه ... عسرا مخرجه ما ينتزع ويحيّينى إذا لاقيته ... وإذا يحلو له لحمى رتع انتهى ما يتمثل به من أشعار الجاهلية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 ومما يتمثل به من أشعار المخضرمين المخضرمون: هم الذين أدركوا الجاهليّه والإسلام. منهم لبيد بن ربيعة، وفاته سنة إحدى وأربعين، وعمره مائة سنة وسبع وخمسون سنة يقول وإذا رمت رحيلا فارتحل ... واعص ما يأمر توصيم الكسل واكذب النفس إذا حدثتها ... إنّ صدق النفس يزرى بالأمل وقال أيضا وما المال والأهلون إلّا وديعة ... ولا بدّ يوما أن تردّ الودائع وما المرء إلا كالشهاب وضوئه ... يحور رمادا بعد إذ هو ساطع وقال أيضا كانت قناتى لا تلين لغامز ... فألانها الإصباح والإمساء ودعوت ربّى في السلامة جاهدا ... ليصحّنى فإذا السلامة داء وقال أيضا ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب وقال أيضا إلى لحول ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر كعب بن زهير يقول ومن دعا الناس إلى ذمّه ... ذمّوه بالحقّ وبالباطل مقالة السوء إلى أهلها ... أسرع من منحدر سائل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 النابغة الجعدىّ: وهو قيس بن عبد الله، وقيل حسّان بن قيس بن عبد الله وبكنى النابغة: أبا ليلى، وهو أسنّ من الذبيانىّ، وطال عمره حتى أدرك أيّام بنى أمية، وهو الذى قال له النبىّ صلّى الله عليه وسلم «لا يفضض الله فاك» فما سقطت له سنّ، وفي رواية: فكان أحسن الناس ثغرا إذا سقطت له سنّ تنبت له أخرى، وعاش عشرين ومائة سنة، وقبل أكثر. ومما يتمثل به من شعره قوله ولا خير في حلم إذا لم يكن له ... بوادر تحمى صفوه أن يكدّرا ولا خير في جهل إذا لم يكن له ... حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا وقال أيضا كليب لعمرى كان أكثر ناصرا ... وأيسر جرما منك ضرّج بالدم أميّة بن أبى الصّلت الثقفى يقول تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا حسّان بن ثابت يقول وإن امراء يمسى ويصبح سالما ... من الناس- إلا ما جنى- لسعيد وقال أيضا ربّ حلم أضاعه عدم المال ... وجهل غطّى عليه النعيم ما أبالى أنبّ بالحزن تيس ... أم لحانى بظهر غيب لئيم؟ الحطيئة: واسمه جرول بن اوس بن مخزوم. وقيل: جرول بن أوس بن مالك ابن غطفان بن سعد ويكنى: أبا مليكة، والحطيئة لقب غلب عليه؛ قيل لقب به الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 لقصره وقربه من الأرض؛ وقيل: حبق في مجلس قومه فقال: إنما هى حطأة فسمّى الحطيئة. فمما يتمثل به من شعره قوله من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسى وقال أيضا أقلّوا عليهم لا ابا لأبيكم ... من اللوم أوسدّوا المكان الذى سدّوا أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا ... وإن وعدوا أوفوا وإن عقدوا شدّوا متمم بن نويرة يقول وكنّا كندمانى جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدّعا فلما تفرّقنا كأنى ومالكا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا أبو ذؤيب الهذلى ّ يقول وتجلّدى للشامتين أريهم ... أنى لريب الدهر لا أتضعضع واذا المنّية أنشبت أظفارها ... ألفيت كلّ تميمة لا تنفع والنفس راغبة إذا رغّبتها ... وإذا تردّ إلى قليل تقنع الخنساء: وهى تماضر بنت عمرو بن الشريد تقول ومن ظنّ ممن يلاقى الحروب ... بأن لا يصاب فقد ظنّ عجزا وقالت أيضا نهين النفوس وبذل النفوس ... عند الكريهة أبقى لها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 72 عمرو بن معديكرب يقول إذا لم تستطع أمرا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع وقال أيضا ليس الجمال بمئزر ... فاعلم وإن ردّيت بردا إن الجمال مآثر ... ومكارم أورثن مجدا معن بن أوس يقول وفي الناس- إن رثّت حبالك- واصل ... وفي الأرض عن دار القلى متحوّل إذا انصرفت نفسى عن الشىء لم تكد ... إليه بوجه آخر الدهر تقبل وقال أيضا أعلّمه الرماية كلّ يوم ... فلما اشتدّ ساعده رمانى زياد بن زيد يقول ولا أتمنى الشرّ- والشرّ تازكى- ... ولكن متى أحمل على الشرّ أركب وقال أيضا هل الدهر والأيام إلا كما ترى؟ ... رزيّة مال أو فراق حبيب أيمن بن خزيم بن فاتك الأسدى ّ يقول إن للفتنة ميطا بيننا ... فرويد الميط منها تعتدل فإذا كان عطاء فأتهم ... وإذا كان قتال فاعتزل انتهى ما يتمثل به من أشعار المخضرمين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 ومما يتمثل به من أشعار المتقدّمين في صدر الإسلام القطامىّ: واسمه عمير بن شييم يقول ومعصية الشفيق عليك ممّا ... يزيدك مرّة منه استماعا وخير الأمر ما استقبلت منه ... وليس بأن تتّبعه اتّباعا أراهم يغمزون من آستركّوا ... ويجتنبون من صدق المصاعا كذاك وما رأيت الناس إلا ... إلى ما جرّ جانيهم سراعا وقال أيضا قد يدرك المتأنّى بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل وربما فات بعض القوم أمرهم ... مع التأنّى وكان الرأى لو عجلوا والناس من يلق خيرا قائلون له ... ما يشتهى ولأمّ المخطئ الهبل الطّرمّاح بن حكيم بن الحكم يقول لقد زادنى حبّا لنفسى أننى ... بغبض إلى كلّ امرىء غير طائل وأنى شقىّ باللئام ولن ترى ... شقيّا بهم إلا كريم الشمائل الكميت بن زيد الأسدى ّ يقول إذا لم يكن إلا الأسنة مركب ... فلا رأى للمضطرّ إلا ركوبها وقال أيضا فيا موقدا نارا لغيرك ضوءها ... ويا حاطبا في حبل غيرك تحطب المساور بن هند يقول شقيت بنو أسد بشعر مساور ... إن الشقىّ بكل حبل يخنق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 عدىّ بن الرقاع يقول وإذا نظرت إلى أميرى زادنى ... ضنا به نطرى إلى الأمراء بل ما رأيت جبال أرض تستوى ... فيما عشيت ولا نجوم سماء كالبرق منه وابل متتابع ... جود وآخر ما يبصّ بماء والمرء يورث مجده أبناءه ... ويموت آخر وهو في الأحياء الفرزدق، واسمه همام بن غالب يقول فوا عجبا حتى كليب تسبّنى ... كأنّ أباها نهشل أو مجاشع وقال أيضا ترجّى ربيع ان يجىء صغارها ... بخير وفد أعيا عليك كبارها وقال أيضا فإن تنج منها، تنج من ذى عظيمة ... وإلا فإنى لا إخالك ناجيا وقال أيضا يمضى أخوك فلا تلقى له خلفا ... والمأل بعد ذهاب المال مكتسب وقال أيضا ليس الشفيع الذى يأتيك مؤتزرا ... مثل الشفيع الذى يأتيك عريانا وقال أيضا قل لنضر، والمرء في دولة السلطان ... أعمى مادام يدعى أميرا فإذا زالت الولاية عنه ... واستوى بالرجال، عاد بصيرا وقال أيضا ولا يلين السلطان يكايدنا ... حتى بلين لصرس الماضغ الحجر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 وقال أيضا هل ابنك إلا ابن من الناس فاصبرن ... فلن يرجع الموتى حنين المآتم جرير: هو ابن الخطفى توفّى سنة عشر ومائة يقول إن الكريمة ينصر الكرم ابنها ... وابن اللئيمة للّئام نصور وقال أيضا زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا ... أبشر بطول سلامة يا مربع وقال أيضا وابن اللّبون إذا ما لزّ في قرن ... لم يستطع صولة البزل القناعيس وقال أيضا رأيتك مثل البرق يحسب ضوءه ... قريبا وأدنى ضوئه منك نازح وقال أيضا أمّا الرجال فجعلان ونسوتهم ... مثل القنافذ لا حسن ولا طيب الأخطل: واسمه مالك بن غياث بن غوث، وقال أبو الفرج الأصبهانى: اسمه غياث ابن غوث بن الصلت بن طارقة بن سيحان بن عمرو، ورفع نسبه إلى جشم بن بكر ويكنى: أبا مالك، قال: وقال المدائنى هو غياث بن غوث بن سلمة بن طارقة. فمما يتمثّل به من شعره قوله والناس همّهم الحياة ولا أرى ... طول الحياة يزيد غير خبال وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ... ذخرا يكون كصالح الأعمال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 قال أيضا إنّ الصنيعة تلقاها وإن قدمت ... كالعرّ يكمن حينا ثم ينتشر وأقسم المجد حقّا لا يخالفهم ... حتى يحالف بطن الراحة الشّعر وقال أيضا وإذا دعونك يا أخىّ فإنه ... أحنى إليك مودّة ووصالا وإذا دعونك عمّهنّ فإنه ... نسب يزيدك عندهنّ خبالا وقال أيضا ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت ... فدلّ عليها صوتها حيّة البحر وقال أيضا يا مرسل الريح جنوبا وصبا ... إن غضبت قيس فزدها غضبا الصّلتان العبدىّ يقول وإن يك بحر الحنظليّين واحد ... فما يستوى حيتانه والضفادع وما يستوى صدر القناة وزجّها ... وما يستوى في الراحتين الأصابع كثيّر عزة: وهو كثّير بن عبد الرحمن بن الأسود الخزاعىّ، توفّى سنة خمس ومائة يقول وإنى وتهيامى بعزّة بعد ما ... تخلّيت ممّا بيننا وتخلت لكالمرتجى ظلّ الغمامة كلّما ... تبوّأ منها للمقيل اضمحلّت فقلت لها يا عزّ كلّ مصيبة ... إذا وطّنت يوما لها النفس ذلّت هنيئا مريئا غير داء مخامر ... لعزّة من أعراضنا ما استحلّت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 وقال أيضا قضى كلّ ذى دين فوفّى غريمه ... وعزّة ممطول معنّى غريمها وقال أيضا ومن لا يغمّض عينه عن صديقه ... وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب ومن يتتبّع جاهدا كلّ عترة ... يجدها ولا يسلم له الدهر صاحب جميل يقول فإن بك حرب بين فومى وبينها ... فإنى لها في كلّ نائبة سلم وقال أيضا ولربّ عارضة عينا وصلها ... بالجدّ تحلطه بقول الهازل فأجبتها في القول بعد تستّر ... حبّى بثينة عن وصالك شاغلى لو كان في قلبى كقدر قلامة ... وصلا وصلتك أو أتتك رسائلى عمر بن عبد الله بن أبى ربيعة يقول ليت هندا أنجزتنا ما تعد ... وشقت أكبادنا ممّا نجد واستبدّت مرّة واحدة ... إنما العاجز من لا يستبد وقال أيضا لا تلمنى وأنت زيّنتها لى ... أنت مثل الشيطان للإنسان ومما يتمثّل به من أشعار المحدثين منهم إبراهيم بن هرمة يقول عجبت أثيلة أن رأتنى مخلقا ... تكلتك أمّك، أىّ ذاك يروع؟ قد يدرك الشرف الفتى ورداؤه ... خلق وجيب قميصه مرقوع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 وقال ايضا كتاركة بيضها بالعراء ... وملبسة بيض أخرى جناحا بشّار بن برد يقول اذا كنت في كلّ الأمور معانتا ... صديقك لم تلق الذى لا نعاتبه فعش واحدا أو صل أخاك فإنه ... مقارف دنب مرة ومجانبه إذا أنت لم نشرب مرارا على القذى ... ظمئت وأىّ الناس نصفو مشاربه وقال أيضا ولا تجعل الشورى عليك غصاضة ... فإن لخوافى عدّة للقوادم وما خير كفّ أمسك الغلّ أختها ... وما خير سيف لم يؤيّد بقائم؟؟ وقال أيضا كبكر تشهّى لذيذ النّكاح ... وتفرّق من صولة الناكج وقال أيضا أنت من قلبها محلّ شراب ... يشتهى شربه ويخشى صداعه وقال أيضا الحرّ يلحى والعصا للعبد ... وليس للملحف مثل الردّ وصاحب كالدّمّل للممدّ؟؟ ... حملته في رقعة من جلدى وقال أيضا وإذا جفوت قطعت عنك منافعى ... والدّرّ يقطعه جفاء الحالب وقال أيضا ولولا الذى خبّروا لم أكن ... لأمدح ريحانة قبل شمّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 وقال أيضا تأتى المقيم- وما سعى- حاجاته ... عدد الحصى، ويخيب سعى الناصب وقال أيضا أنا والله أشتهى سحر عينيك ... وأخشى مصارع العشّاق وقال أيضا نرجو غدا، وغدا كحاملة ... فى الحىّ لا يدرون ماتلد وقال أيضا سقط الطير حيث ينتثر الحبّ ... وتغشى منازل الكرماء ليس يعطيك للرجاء ولا الخوف ... ولكن يلذّ طعم العطاء وقال أيضا والصعب يمكن بعد ما جمحا ... ولن تبلغ العليا بغير الدراهم وقال أيضا ولا بدّ من شكوى إلى ذى مروءة ... يواسيك أو يسليك أو يتوجّع أبو العتاهية يقول أذلّ الحرص أعناق الرجال ... وكلّ غنّى في العيون جليل روائح الجنّة في الشباب ... وأىّ الناس ليس له عيوب وقال أيضا إنّ الشباب والفراغ والجده ... مفسدة للدّين، أىّ مفسده! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 وقال أيضا أنت ما استغنيت عن صاحبك ... الدهر أخوه فإذا احتجت إليه ... ساعة مجّك فوه وقال أيضا ما يحرز المرء من أطرافه طرفا ... إلا تخوّنه النقصان من طرف وقال أيضا يصاد فؤادى حين أرمى ورميتى ... تعود إلى نحرى ويسلم من أرمى وقال أيضا ولربّ شهوة ساعة ... قد أورثت حزنا طويلا سلم بن عمرو الخاسر: وهو مولى أبى بكر الصديق رضى الله عنه، وهو بصرىّ لقّب الخاسر لأنه ورث من أبيه مصحفا فباعه واشترى بثمنه طنبورا، وقيل: بل خلّف أبوه مالا فأنفقه في الأدب والشعر، فقال له بعض أهله: إنك لخاسر الصفقة، فلقّب بذلك. فما يتمثّل به من شعره قوله من راقب الناس مات غمّا ... وفاز باللذة الجسور لولا منى العاشقين ماتوا ... غمّا، وبعض المنى غرور وقال أيضا ولو ملكت عنان الريح تصرفه ... فى كلّ ناحية ما فاتك الطلب وقال ايضا لا تسأل المرء عن خلائقه ... فى وجهه شاهد من الخبر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 صالح بن عبد القدّوس يقول ما يبلغ الأعداء من جاهل ... ما يبلغ الجاهل من نفسه والجاهل الآمل ما في غد ... كحفظه في اليوم أو أمسه والشيخ لا يترك أخلاقه ... حتى يوارى في ثرى رمسه والحمق داء ماله حيلة ... ترجى كبعد النجم من لمسه وقال أيضا وإنّ عناء أن تفهّم جاهلا ... فيحسب جهلا انه منك أفهم متى يبلغ البنيان يوما تمامه ... اذا كنت تبنيه وغيرك يهدم وقال أيضا إذا وترت امرءا فاحذر عداوته ... من يزرع الشوك لا يحصد به عنبا وقال أيضا شرّ المواهب ما تجود به ... من غير محمدة ولا أجر وقال أيضا لا تجد بالعطاء في غير حقّ ... ليس في منع غير ذى الحقّ بخل إنما الجود أن تجود على من ... هو لل؟؟ منك والبذل أهل وقال أيضا يشقى رجال ويشقى آخرون بهم ... ويسعد الله اقواما بأقوام وليس رزق الفتى من لطف حيلته ... لكن جدود بأرزاق وأقسام كالصّيد يحرمه الرامى المجيد وقد ... يرمى فيرزقه من ليس بالرامى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 وقال أيضا إن يكن ما به أصبت جليلا ... فذهاب العزاء منه أجلّ كلّ آت لا شك آت وذو الجه ... ل معنّى والغمّ والحزن فضل ابن ميّادة: هو الرّماح بن بى أبرد كنيته شرحبيل يقول وا عجبا من خالد كيف لا ... يخطئ فينا مرّة بالصواب وقال أيضا وأرانا كالزرع يحصده الده ... ر فمن بين قائم وحصيد وكأنّا للموت ركب مخبّون ... سراع لمنهل مورود أبو نواس الحسن بن هانئ يقول دع عنك لومى فإن اللوم إغراء ... ألا ربّ إحسان عليك ثقيل وقال وللرجاء حرمة لا تجهل ... وأىّ جدّ بلغ المازح وقال أيضا إذا امتحن الدنيا لبيب تكشّفت ... له عن عدوّ في ثياب صديق وقال أيضا لا أذود الطير عن شجر ... قد بلوت المرّ من ثمره وقال أيضا وليس لله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد! وقال أيضا صار جدّا ما مزحت به ... ربّ جدّ ساقه اللعب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 وقال أيضا كفى حزنا أنّ الجواد مقتّر ... عليه ولا معروف عند بخيل وقال أيضا وأوبة مشتاق بغير دراهم ... إلى أهله من أعظم الحدثان أبو عيينة المهلّبىّ يقول وكيف جحود القلب والعين تشهد ... ولا خير فيمن لا يدوم له عهد وشتّان ما بين الولاية والعزل وقال أيضا وإذا تطاولت الرءوس ... فغطّ رأسك ثمّ طاطه عبد الله بن أبى عتبة المهلّبى يقول كل المصائب قد تمرّ على الفتى ... فتهون غير شماتة الأعداء وقال أيضا ما كنت إلا كلحم ميت ... دعا إلى أكله اضطرار العبّاس بن الأحنف يقول لو كنت عاتبة لسكّن روعتى ... أملى رضاك وزرت غير مراقب لكن مللت فما لصدّك حيلة ... صدّ الملول خلاف صدّ العاتب وقال أيضا صرت كأنّى ذبالة نصبت ... تضىء للناس وهى تحترق وقال أيضا أرى الطريق قريبا حين أسلكه ... إلى الحبيب، بعيدا حين أنصرف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 84 وقال أيضا كفى حزنا أنّ التباعد بيننا ... وقد جمعتنا والأحبّة دار وقال أيضا اقمنا مكرهين بها فلمّا ... ألفناها خرجنا مكرهينا وقال أيضا ولا خير في ودّ يكون بشافع ... من عالج الشوق لم يستبعد الدارا مسلم بن الوليد: هو مولى الأنصار، ثم مولى آل أبى أمامة: أسعد بن زرارة الخزرجى ولقّب صريع الغوانى، وممّا يتمثّل به من شعره قوله دلّت على عيبها الدنيا وصدّقها ... ما استرجع الدهر ممّا كان أعطانى وكان يقول أخذت معنى هذا البيت من التوراة. وقال أيضا يعدّ الفتى مر الليالى سليمة ... وهنّ به عما قليل عواثر وقال أيضا أما الهجاء فدقّ عرضك دونه ... والمدح عنك كما علمت جليل فاذهب فأنت طليق عرضك إنه ... عرض عززت به وأنت ذليل منصور النمرىّ: هو منصور بن الزبرقان بن سلمة. وقيل منصور بن سلمة بن الزبرقان بن شريك، مطعم الكبش الرّخم؛ سمّى بذلك لأنه أطعم ناسا نزلوا به ونحر لهم. ثم رفع رأسه فإذا هو برخم يحمن حول أضيافه، فأمر أن يذبح لهنّ كبش ويرمى لهنّ ففعل ذلك ونزلن عليه فمزّقنه؛ وهو ابن مالك بن سعد بن عامر الضحيان، سمّى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 بذلك لأنه كان سيد قومه وحاكمهم وكان يجلس لهم إذا أضحى النهار؛ وهو ابن سعد ابن الخزرج بن تيم الله بن النمر بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمىّ بن جديلة ابن أسد بن ربيعة بن نزار. فمما يتمثّل به من شعره قوله لعلّ لها عذرا وأنت تلوم ... ورب امرىء قد لام وهو مليم وقال أيضا ما كنت أوفى شبابى كنه عزّته ... حتى انقضى فإذا الدنيا له تبع وقال أيضا أقلل عتاب من استربت بودّه ... ليست تنال مودة بعتاب العتّابىّ: هو كلثوم بن عمرو بن أيوب بن عبيد بن حبيش بن أوس بن مسعود ابن عمرو بن كلثوم الشاعر ابن مالك بن عتّاب بن سعد بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب. فمما يتمثل به من شعره قوله وإن عظيمات الأمور مشوبة ... بمستودعات في بطون الأساود وقال أيضا ولله في عرض السموات جنّة ... ولكنها محفوفة بالمكاره وقال أيضا قلت للفرقدين، والليل ملق ... سود أكنافه على الآفاق ابقيا ما بقيتما سوف يرمى ... بين شخصيكما بسهم الفراق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 أشجع السّلمىّ: هو أشجع بن عمرو أبو الوليد، وقيل: أبو عمرو من أهل الرّقّة. فمما يتمثل به من شعره قوله نسيبك من أمسى يناجيك طرفه ... وليس لمن تحت التراب نسيب وقال ايضا سبق القضاء بكلّ ما هو كائن ... فليجهد المتقلّب المحتال وقال أيضا داء قديم في بنى آدم ... فتنة إنسان بإنسان وقال أيضا وعلى عدوك يا ابن عمّ محمد ... رصدان، ضوء الصبح والإظلام فاذا تنبه رعته وإذا غفا ... سلّت عليه سيوفك الأحلام الجرهمى ّ وأعددته ذخرا لكل ملمة ... وسهم الرزايا بالذخائر مولع وقال أيضا إذا مامات بعضك فابك بعضا ... فإن البعض من بعض قريب وقال أيضا أرى الحلم في بعض المواطن دلة ... وفي بعضها عزّا يسوّد فاعله وقال أيضا ودون الندى في كل قلب ثنية ... لها مصعد حزن ومنحدر سهل وقال أيضا العيش لا عيش إلا ما قنعت به ... قد يكثر المال والإنسان مفتقر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 وقال أيضا وهل حازم إلا كآخر عاجز ... اذا حل بالإنسان ما يتوقّع محمود الورّاق: هو محمود بن الحسن البغدادى مولى بنى زهرة، ويكنى أبا الحسن. فمما يتمثّل به من شعره قوله وإذا غلا شىء علىّ تركته ... فيكون أرخص ما يكون إذا غلا وقال أيضا ما كدت أفحص عن أخى ثقة ... إلّا ذممت عواقب الفحص وقال أيضا الدهر لا يبقى على حالة ... لا بدّ أن يقبل أو يدبرا فإن تلقّاك بمكروهه ... فاصبر فإن الدهر لن يصبرا وقال أيضا إذا كان وجه العذر ليس بواضح ... فإنّ اطراح العذر خير من العذر محمود بن حازم الباهلى ّ ألا إنما الدّنيا على المرء فتنة ... على كل حال أقبلت أم تولّت وقال أيضا وقائل كيف تفرّقتما ... فقلت قولا فيه إنصاف لم يك لى شكلا ففارقته ... والناس أشكال وألّاف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 السّموءل بن عادياء إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه ... فكلّ رداء يرتديه جميل وقال أيضا إذا كنت ملحيّا مسيئا ومحسنا ... فغشيان ما تهوى من الأمر أكيس محمد بن أبى زرعة الدّمشقى لا يؤنسنّك أن ترانى ضاحكا ... كم ضحكة فيها عبوس كامن وقال أيضا قد يمهن الهندىّ وهو حسام ... ويحثّ الجواد وهو جواد أبو الشيص: واسمه محمد بن رزين بن تميم بن نهشل، وأبو الشّيص لقب غلب عليه، وكنيته أبو جعفر وهو عمّ دعبل بن علىّ. فمما يتمثل به من شعره قوله اذا لم تكن طرق الهوى لى ذليلة ... تنكبتها وانحزت من جانب السّهل علىّ بن جبلة بن عبد الرحمن الأنبارىّ، وهو الملقّب العكوّك قال وأرى الليالى ما طوت من شرّتى ... ردّته في عظتى وفي إفهامى وعلمت انّ المرء من سنن الردى ... حيث الرميّة من سهام الرامى وقال أيضا وخافت على التطواف قومى وإنما ... تصاب غرار الوحش وهى رتوع اللجلاج الحارثى ّ وما كنت زوّارا ولكنّ ذا الهوى ... إلى حيث يهوى القلب تهوى به الرجل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 وقال أيضا اذا ما أهان امرؤ نفسه ... فلا أكرم الله من يكرمه عبد الصمد بن المعذّل ليس لى عذر وعندى بلغة ... إنما العذر لمن لا يستطيع وقال أيضا وأعلم أن بنات الرجاء ... تحلّ العزيز محلّ الذليل وأن ليس مستغنيا بالكثير ... من ليس مستغنيا بالقليل وقال ايضا أرى الناس أحدوثة ... فكونوا حديثا حسن كان لم يكن ما أتى ... وما قد مضى لم يكن إذا وطن رابنى ... فكل بلاد وطن إذا عزّ يوما أخوك ... في بعض أمر فهن الحمدونى ّ إن المقدّم في حذق بصنعته ... أنى توجه فيها فهو محروم العتبى قالت عهدتك مجنونا، فقلت لها: ... إن الشباب جنون برؤه الكبر وقال أيضا وحسبك من حادث بامرىء ... يرى حاسديه له راحمينا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 أبو سعيد المخزومى: واسمه عيسى بن خالد بن الوليد، والصحيح أنه أبو سعد لا سعيد. فمما يتمثل به من شعره قوله وكم رأينا للدهر من أسد ... بالت على راسه ثعالبه وقال أيضا إذا ضنّ الجواد بما لديه ... فما فضل الجواد على البخيل؟ وقال أيضا ليس لبس الطيالس ... من لباس الفوارس لا ولا حومة الوغى ... كصدور المجالس وظهور الجياد غير ... ظهور الطنافس ليس من مارس الخطوب ... كمن لم يمارس دعبل بن علىّ الخزاعىّ: هو أبو جعفر واسمه محمد ودعبل لقب غلب عليه، والدعبل: البعير المسنّ، وقيل: الناقة التى معها أولادها. فمما يتمثّل به من شعره قوله لا تعجبى يا سلم من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكى وقال ايضا هى النفس ما حسّنته فمحسّن ... إليها وما قبّحته فمقبّح وقال أيضا جئنا به يشفع في حاجة ... فاحتاج في الإذن إلى شافع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 وقال أيضا تلك المساعى اذا ما أخرت رجلا ... أحب للناس عيبا كالذى عابه كذاك من كان هدم المجد عادته ... فإنه لبناء المجد عيّابه إسحاق بن إبراهيم الموصلى ّ وكلّ مسافر يزداد شوقا ... إذا دنت الديار من الديار المؤمل بن أميل إذا مرضنا أتيناكم نعودكم ... وتذنبون فنأتيكم ونعتذر لا تسحبونى غنيّا عن مودّتكم ... إنى إليكم وإن أيسرت مفتقر إبراهيم بن العباس بن محمد بن صول مولى يزيد بن المهلّب يكنى أبا إسحاق، وأصله من خراسان. فمما يتمثّل به من شعره قوله ورب أخ ناديته لملمة ... فألفيته منها أجلّ وأعظما وقال أيضا وكنت أذمّ إليك الزمان ... فأصبحت فيك أذمّ الزمانا وكنت أعدّك للنائبات ... فها أنا أطلب منك الأمانا وقال أيضا دنت بأناس عن تناء زيارة ... وشطّ بليلى عن دنوّ مزارها وإن مقيمات بمنقطع اللوى ... لأقرب من ليلى وهاتيك دارها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 أبو علىّ البصير: وهو الفضل بن جعفر الكوفىّ يقول فلا تعتذر بالشّغل عنّا فإنّما ... تناط بك الآمال ما اتصل الشّغل وقال أيضا لعمر أبيك ما نسب المعلّى ... الى كرم وفي الدنيا كريم ولكنّ البلاد إذا اقشعرّت ... وصوّح نبتها رعى الهشيم سعيد بن حميد يقول إنّ جهد المقلّ غير قليل ... وعلى المريب شواهد لا تدفع وقال أيضا وإنك كالدنيا تذمّ صروفها ... ونوسعها سبّا ونحن عبيدها علىّ بن الجهم يقول ولكلّ حال معقب ولربما ... أجلى لك المكروه عمّا تحمد وقال أيضا وعاقبة الصبر الجميل جميلة ... وأفضل أخلاق الرجال التفضّل ولا عار إن زالت عن المرء نعمة ... ولكنّ عارا أن يزول التجمّل وقال أيضا ارض للسائل الخضوع وللقارف ... ذنبا مذلّة الأعذار ابن أبى فنن: هو أحمد بن صالح بن أبى معشر مولى المنصور يقول أرى الدهر يخلقنى كلّما ... لبست من الدهر ثوبا جديدا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 وقال أيضا سرّ من عاش ماله فإذا حاسبه ... الله سرّه الإعدام وقال أيضا ربّ أمر سرّ أخره ... بعد ما ساءت أوائله يزيد بن محمد المهلبى ّ يقول لا عار إن ضامك دهر أو ملك وقال وإن الناس جمعهم كثير ... ولكن من تسرّ به قليل وقال أيضا ومن ذا الذى ترضى سجاياه كلّها ... كفى المرء نبلا ان تعدّ معايبه عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير يقول فإن تلحظى حالى وحالك مرّة ... بنظرة عين عن هوى النفس تحجب ترى كلّ يوم مرّ من بؤس عيشتى ... عليك بيوم من نعيمك يحسب أحمد بن أبى طاهر يقول ودين الفتى بين التماسك والنهى ... ودنيا الفتى بين الهوى والتغرّر وقال أيضا حسن الفتى أن يكون ذا حسب ... من نفسه، ليس حسنه حسبه أبو تمام حبيب بن أوس الطائى يقول ما الحبّ إلا للحبيب الأوّل ... لسان المرء من جذم الفؤاد وذى النقص في الدنيا بذى الفضل مولع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 وقال ما أبّ من أبّ لم يظفر بحاجته ... ولم يعب طالب للنّجح لم يجب وقال أيضا ومن لم يسلّم للنوائب أصبحت ... خلائقه طرّا عليه نوائبا وقال أيضا لأمر عليهم أن يتمّ صدوره ... وليس عليهم أن تتم عواقبه وقال أيضا لا تنكرى عطل الكريم من الغنى ... فالسيل حرب للمكان العالى وقال أيضا واذا تأمّلت البلاد رأيتها ... تثرى كما تثرى الرجال وتعدم وقال أيضا واذا أمرؤ أهدى اليك صنيعة ... من جاهه فكأنها من ماله وقال أيضا خلقنا رجالا للتجلد والأسى ... وتلك الغوانى للبكا والمآتم وقال أيضا ينال الفتى من عيشه وهو جاهل ... ويكدى الفتى في دهره وهو عالم ولو كانت الأرزاق تجرى على الحجى ... هلكن إذا من جهلهنّ البهائم وقال أيضا أآلفة النحيب كم افتراق ... أطلّ فكان داعية اجتماع وليست فرحة الأوبات إلا ... لموقوف على ترح الوداع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 وقال أيضا واذا أراد الله نشر فضيلة ... يوما، أتاح لها لسان حسود لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود وقال أيضا خشعوا لصولتك التى هى عندهم ... كالموت يأتى ليس فيه عار وقال أيضا ذاك الذى قرحت بطون جفونه ... مرها وتربة أرضه من إثمد وقال أيضا وتركى سرعة الصّدر اعتباطا ... يدلّ على موافقة الورود وقال أيضا ولم أر كالمعروف تدعى حقوقه ... مغارم في الأقوام وهى مغانم وقال أيضا وإن أمرءا ضنّت يداه على أمرىء ... نيل يد من غيره لبخيل أبو عبادة البحترىّ، وهو الوليد بن عبيد بن يحيى بن عبيد بن شملان بن جابر ابن مسلمة بن مسهر بن الحارث بن خيثم بن أبى حارثة بن جدى بن نزول بن بحتر الطائىّ. فمما يتمثل به من شعره قوله وأبرح ممّا حلّ ما يتوقّع وقال أيضا وليس تقترن النعماء والحسد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 وقال أيضا إن المعنىّ طالب لا يظفر وقال أيضا أرى الكفر للنعماء ضربا من الكفر وقال أيضا يزين اللآلى في النظام ازدواجها وقال وكان رجائى أن أؤوب مملّكا ... فصار رجائى أن أؤوب مسلّما وقال أيضا متى أحرجت ذا كرم تخطّى ... اليك ببعض أخلاق اللئيم! وقال أيضا والشىء تمنعه يكون بفوته ... أجدى من الشىء الذى تعطاه وقال أيضا تناس ذنوب قومك إنّ حفظ الذنوب ... اذا قدمن من الذنوب وقال أيضا واذا ما خفيت كنت حريّا ... أن أرى غير مصبح حيث أمسى وقال أيضا متى أرت الدنيا نباهة خامل ... فلا تنتظر إلا خمول نبيه وقال أيضا وأرى النجابة لا يكون تمامها ... لنجيب قوم ليس بابن نجيب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 وقال أيضا واذا ما الشريف لم يتواضع ... للأخلّاء فهو عين الوضيع وقال أيضا ولم أر أمثال الرجال تفاوتت ... الى المجد حتى عدّ ألف بواحد وقال أيضا ليس الذى يعطيك تالد ماله ... مثل الذى يعطيك مال الناس وتفاضل الأخلاق إن حصّلتها ... فى الناس حيث تفاضل الأجناس وقال أيضا لا ييأس المرء أن ينجّيه ... ما يحسب الناس أنه عطبه يسرّك الشىء قد يسوءوكم ... نوّه يوما بخامل لقبه وقال أيضا اذا محاسنى اللاتى أدلّ بها ... كانت ذنوبى فقل لى كيف أعتذر وقال أيضا وعطاء غيرك إن بذل ... ت عناية فيه عطاؤك ديك الجن، واسمه عبد السلام بن رغبان بن عبد السلام بن حبيب بن عبد الله ابن رغبان بن زيد بن تميم بن مجد من أهل حمص يقول وشافى النصح يعدل بالأشافى ... وليس القدر إلا بالأثافى وقال اذا شجر المودة لم تجده ... بغيث البرّ أسرع في الجفاف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 وقال أيضا يرقد الناس آمنين وريب الد ... هر يرعاهم بمقلة لصّ ابن الرومى ّ يقول وكم داخل بين الحميمين مصلح ... كما انغل بين العين والجفن مرود وقال أيضا هو باز صائد أرسلته ... فارجعوه سالما إن لم يصد وقال أيضا وما الحمد إلا توأم الشكر في الفتى ... وبعض السجايا ينتسبن الى بعض اذا الأرض ردّت ريع ما أنت زارع ... من البذر فهى الأرض ناهيك من أرض وقال أيضا واذا أتاك من الأمور مقدّر ... ففررت منه فنحوه نتوجّه وقال أيضا كيف ترضى الفقر عرسا لامرىء ... وهو لا يرضى لك الدنيا أمه! وقال أيضا عدوّك من صديقك مستفاد ... فلا تستكثرنّ من الصحاب فإن الداء أكثر ما تراه ... يكون من الطعام أو الشراب عبد الله بن المعتز ّ يقول فإن العيون وجوه القلوب وقال أيضا أمّ الكرام قليلة الأولاد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 وقال أيضا أبطأ فيض الدلاء أملؤها وقال أيضا اصبر على كيد الحسود ... فإن صبرك قاتله فالنار تأكل بعضها ... إذ لم تجد ما تاكله وقال أيضا ولا همّ إلا سوف يفتح قفله ... ولا حال إلا للفتى بعدها حال وقال أيضا لا تأمنوا من بعد خير شرّا ... كم غصن أخضر عاد جمرا وقال أيضا وإنى على إشفاق عينى من البكا ... لتجمح منى نظرة ثم أطرق كما حلّئت عن ماء برد طريدة ... تمدّ اليه جيدها وهى تفرق وقال أيضا وإشارته الى الديك صفّق إما ارتياحة لسنا ال ... فجر وإما على الدجى أسفا عبيد بن عبد الله بن طاهر ألم تر أن المرء تدوى يمينه ... فيقطعها عمدا ليسلم سائره؟ فكيف تراه بعد يمناه صانعا ... لمن ليس منه حين تدوى سرائره؟ وقال أيضا ألا قبّح الله الضرورة إنها ... تكلّف أعلى الخلق أدنى الخلائق! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 وقال أيضا وكم قائل قد قال مالك راجلا؟ ... فقلت له من أجل أنك فارس! وقال أيضا ومن سرّه أن لا يرى ما يسوءه ... فلا يتّخذ شيئا يخاف له فقدا ابن طباطبا العلوىّ: هو أبو الحسن محمد بن أحمد العلوى الأصبهانى يقول إنّ في نيل المنى وشك الردى ... وقياس القصد عند السرف كسراج دهنه قوت له ... فاذا غرّقته فيه طفى وقال أيضا لقد قال أبو بكر ... صوابا بعد ما أنصت خرجنا لم نصد شيئا ... وما كان لنا أفلت وقال أيضا يا عيشنا المفقود خذ من عمرنا ... عاما وردّ من الصّبا أياما! منصور الفقيه المقرىء يقول يا من يخاف أن يكون ... ما أخاف سرمدا أما سمعت قولهم ... إنّ مع اليوم غدا! وقال أيضا الملح يصلح كلّ ما ... يخشى عليه من الفساد فاذا الفساد جرى علي ... هـ فحكمه حكم الرّماد وقال أيضا كلّ مذكور من الناس اذا ما ... فقدوه صار في حكم الرّماد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 وقال أيضا كلّ مذكور من الناس ... اذا ما فقدوه صار في حكم حديث ... حفظوه ونسوه وقال أيضا كلّ من أصبح في دهرك ... ممن قد تراه هو من خلفك مقراض ... وفي الوجه مراه ابن بسّام: هو على بن محمد بن نصر بن منصور بن بسّام كنيته أبا الحسن يقول وكم أمنيّة جلبت منيّه وقال ولولا الضرورة ما جئتكم ... وعند الضرورة يؤتى الكنيف! وقال أيضا قل لأبى القاسم المرجّى ... قابلك الدهر بالعجائب مات لك ابن وكان زينا ... وعاش ذو الشين والمعائب حياة هذا كموت هذا ... فلست تخلو من المصائب وقال أيضا ربّ يوم بكيت منه فلما ... جزت في غيره بكيت عليه وقال أيضا قد يحمل الشيخ الكبي ... ر جنازة الطفل الصغير جحظة: هو أبو الحسن أحمد بن جعفر بن موسى بن يحيى بن خالد بن برمك النديم يقول وللمساكين ايضا بالندى ولع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 وقال أيضا وآفة التبر ضعف منتقده وقال أيضا متى يلتقى الميت والغاسل؟ وقال أيضا لا تعدنّ للزمان صديقا ... وأعدّ الزمان للأصدقاء وقال أيضا وما كذب الذى قد قال قبلى: ... اذا ما مرّ يوم مرّ بعضى وقال أيضا اذا الشهر حلّ ولا رزق لى ... فعدّى لأيامه باطل وقال أيضا واذا جفانى جاهل ... لم أستخر ما عشت قطعه وجعلته مثل القبور ... أزوره في كلّ جمعه الصنوبرى ّ يقول محن الفتى يخبرن عن فضل الفتى ... كالنار مخبرة بفضل العنبر وقال أيضا ربّ حال كأنها مذهب الدي ... باج صارت من رقة كاللاذ «1» وزمان مثل ابنة الكرم حسنا ... عاد عند العيون مثل الداذى «2» أو ما من فساد رأى الليالى ... أنّ شعرى هذا وحالى هذى! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 أبو الفتح كشاجم: هو محمود بن الحسين بن السندىّ بن شاهك، وشاهك أمّه يقول يعاد حديثه فيزيد حسنا ... وقد يستقبح الشىء المعاد وقال أيضا شخص الأنام الى جمالك فاستعذ ... من شرّ أعينهم بعيب واحد! ومما يتمثّل به من أشعار المولّدين: منهم أبو فراس الحمدانى ّ غنى النفس لمن يع ... قل خير من غنى المال وفضل الناس في الأنف ... س ليس الفضل في الحال وقال أيضا ونحن أناس لا توسّط عندنا ... لنا الصدر دون العالمين أو القبر تهون علينا في المعالى نفوسنا ... ومن خطب الحسناء لم يغله المهر وقال أيضا وندعو كريما من يجود بماله ... ومن يبذل النفس النفيسة أكرم وقال أيضا وجميل العدوّ غير جميل ... وقبيح الصديق غير قبيح! أبو الطيب المتنبّى يقول مصائب قوم عند قوم فوائد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 وقال أيضا إن المعارف في أهل النّهى ذمم وقال أيضا وخير جليس في الزمان كتاب وقال أيضا وتأبى الطباع على الناقل وقال أيضا ومنفعة الغوث قبل العطب وقال أيضا ومن فرح النفس ما يقتل وقال أيضا اذا عظم المطلوب قلّ المساعد وقال أيضا أنا الغريق فما خوفى من البلل وقال أيضا فإن الرفق بالجانى عتاب وقال أيضا بغيض الىّ الجاهل المتعاقل وقال أيضا وكلّ امرىء يولى الجميل محبب ... وكلّ مكان ينبت العزّ طيّب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 وقال أيضا اذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمرّدا ووضع الندى في موضع السيف بالعلى ... مضرّ كوضع السيف في موضع الندى وقال أيضا والأمر لله، ربّ مجتهد ... ما خاب إلا لأنه جاهد وقال أيضا وليس يصحّ في الأفهام شىء ... اذا احتاج النهار الى دليل وقال أيضا ومن نكد الدنيا على الحرّ أن يرى ... عدوّا له ما من صاقته بدّ وقال وإذا كانت النفوس كبارا ... تعبت في مرادها الأجسام وقال أيضا وإن يكن الفعل الذى ساء واحدا ... فأفعاله اللّاتى سررن ألوف وقال أيضا واذا أتتك مذمّتى من ناقص ... فهى الشهادة لى بأنى فاضل وقال أيضا وما الحسن في وجه الفتى شرفا له ... اذا لم يكن في فعله والخلائق! وقال أيضا وما يوجع الحرمان من كفّ حارم ... كما يوجع الحرمان من كفّ رازق! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 وقال أيضا إنّا لفى زمن ترك القبيح به ... من أكثر الناس إحسان وإجمال ذكر الفتى عمره الثانى وحاجته ... ما فاته وفضول العيش أشغال وقال أيضا وقيّدت نفسى في ذراك محبّة ... ومن وجد الإحسان قيدا تقيّدا وقال أيضا ما كلّ ما يتمنّى المرء يدركه ... تجرى الرياح بما لا تشتهى السفن! السرىّ بن أحمد بن السرىّ الموصلىّ يقول اذا العبء الثقيل توزّعته ... أكفّ القوم هان على الرقاب وقال أيضا فإنك كلّما استودعت سرّا ... أنمّ من النسيم على الرياض وقال أيضا إلى كم أحبّر فيك المديح ... ويلقى سواى لديك الحبورا؟ أبو بكر محمّد بن هاشم الخالدىّ يقول إن خانك الدهر فكن عائذا ... بالبيد والظّلماء والعيس ولا تكن عبد المنى فالمنى ... رءوس أموال المفاليس وقال أيضا وأخ رخصت عليه حتى ملّنى ... والشىء مملول اذا ما يرخص ما في زمانك ما يعزّ وجوده ... إن رمته إلا صديق مخلص الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 أبو عثمان سعيد بن هاشم الخالدىّ [أخوه] يقول يا هذه إن رحت في ... خلق فما في ذاك عار هذى المدام هى الحياة ... قميصها خرق وقار وقال أيضا صغير صرفت اليه الهوى ... وما خاتم في سوى خنصر الخبّاز البلدىّ: هو أبو بكر محمد بن أحمد بن حمدان، نسبة الى «بلد» وهى من بلاد الجزيرة التى منها الموصل يقول اذا استثقلت أو أبغضت خلّقا ... وسرّك بعده حتى التّناد فشرّده بقرض دريهمات ... فإن القرض داعية الفساد أبو إسحاق الصابىء يقول نعم الله كالوحوش وما تألف ... إلّا الأخاير النّساكا نفّرتها آثام قوم وصارت ... لأولى البرّ والتّقى أشراكا وقال أيضا ومن الظلم أن يكون الرضى سرا ... ويبدو الإنكار وسط النادى وقال أيضا الضبّ والنون قد يرجى التقاؤهما ... وليس يرجى التقاء اللبّ والذهب عبد العزيز عمر بن نباته يقول فلا تحقرنّ عدوّا رماك ... وإن كان في ساعديه قصر فإن السيوف تحزّ الرقاب ... وتعجز عما تنال الإبر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 وقال أيضا مثل خلعت على الزمان رداءه ... عوز الدراهم آفة الأجواد وقال أيضا يهوى الثناء مبرّز ومقصّر ... حبّ الثناء طبيعة الإنسان وقال أيضا ونبت بنا أرض العراق فما مجنّاها بمجنه ... غير الرحيل، كفى البلاد برحلة العجفاء هجنه ابن لنكك البصرىّ: هو أبو الحسين محمد بن محمد يقول وماذا أرجّى من حياة تكدّرت؟ ... ولو قد صفت كانت كأضغاث أحلام وقال أيضا عدنا في زماننا ... عن حديث المكارم من كفى الناس شرّه ... فهو في جود حاتم وقال أيضا جار الزمان علينا في تصرّفه ... وأىّ دهر على الأحرار لم يجر عندى من الدهر مالو أنّ أيسره ... يلقى على الفلك الدوّار لم يدر أبو الحسن عبد الله بن محمد بن محمد السلامى ّ يقول تبسّطنا على الأيام لما ... رأينا العفو من ثمر الذنوب وقال أيضا والمرء ما شغلته فرصة لذة ... ناسى الحوادث آمن الحدثان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 وقال وكان رقادى بين كأس وروضة ... فصار سهادى بين طرف وصارم وقال أيضا ركوب الهول أركبك المذاكى ... ولبس الدرع ألبسك الغلائل أبو الفرج الببّغا يقول ما الذل إلا تحمّل المنن ... فكن عزيزا إن شئت أو فهن وقال أيضا ومن طلب الأعداء بالمال والظبى ... وبالسعد لم يبعد عليه مرام وقال أيضا ولم أر مذ عرفت محلّ نفسى ... بلوغ منى تساوى حمل منّ وقال أيضا أكلّ وميض بارقة كذوب ... أما في الدهر شىء لا يريب؟ ابن سكّرة الهاشمىّ: هو محمد بن عبد الله يقول وعلة الحال تنسى علّة الجسد وقال أيضا وقد ينبت الشوك بين الأقاحى وقال أيضا الموت أنصف حين عدّل قسمة ... بين الخليفة والفقير البائس ابن الحجّاج: هو عبد الله الحسين بن أحمد بن الحجاج يقول وربّ كلام تستثار به الحرب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 وقال أيضا خود تزفّ الى ضرير مقعد وقال أيضا واللوزة المرّة يا سادتى ... يفسد في الطّعم بها السكّر وقال أيضا ما زلت أسمع كم من واقف خجل ... حتى ابتليت فكنت الواقف الخجلا وقال أيضا وبى مرضان مختلفان حال ال ... عليلة منهما يمنى بحالى اذا عالجت هذا جفّ كبدى ... وإن عالجت ذاك ربى طحالى أبو الحسن الموسوىّ النقيب: هو محمد بن الحسين بن موسى يقول أمسيت أرحم من قد كنت أغبطه ... لقد تقارب بين العزّ والهون ومنظر كان بالسرّاء يضحكنى ... يا قرب ما عاد بالضّراء يبكينى وقال أيضا والحرّ من حذر الهوا ... ن يزاول الامر الجسيما وهو العظيم وغير بد ... ع منه إن ركب العظيما وقال أيضا ما السؤدد المطلوب إلّا دون ما ... يومى اليه السؤدد المولود فاذا هما اتفقا تكسرت القنا ... إن غالبا وتضعضع الجلمود وقال أيضا اشتر العزّ بما بيع ... فما العزّ بغالى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 بالقصار البيض إن شئت ... أو السمر الطوال ليس بالمغبون عقلا ... مشتر عزّا بمال إنما يدّخر المال ... لحاجات الرجال والفتى من جعل الأقوال ... أثمان المعالى أبو طالب المأمونى ّ يقول لى في ضمير الدهر سرّ كامن ... لا بدّ أن تستلّه الأقدار وقال أيضا وما شرف الإنسان إلا بنفسه ... أكان ذووه سادة أم مواليا وقال اذا الغيث وفّى الروض واجب حقه ... وزاد فإن الغيث للروض ظالم ابن العميد: هو أبو الفضل محمد بن أبى عبد الله الحسين بن محمد* عرف بابن العميد، كان أبوه أبو عبد الله وزير مرداويج توفى ابن العميد بالرّىّ في محرّم سنة ستين وثلاثمائة يقول لن يصرف الدهر من سجيّته ... أرب أريب وحول ذى حيل أىّ معين صفا على كدر الدهر ... وأىّ النعيم لم يزل وقال أيضا من يشف من ذا بآخر مثله ... أثرت جوانحه من الأدواء داوى جوى بجوى وليس بحازم ... من يستكفّ النار بالحلفاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 112 الصاحب بن عبّاد: هو أبو القاسم إسماعيل بن عبّاد. توفى في صفر سنة خمس وثمانين وثلاثمائة وعمره خمس وستون سنة وسمىّ بالصاحب لصحبة ابن العميد يقول بقدر الهموم تكون الهمم ... كم صارم جرّب في خنزير وقال أيضا لقد صدقوا والراقصات الى منى ... بأن مودّات العدا ليس تنفع ولو أنّنى داريت دهرى حيّة ... اذا استمكنت يوما من اللسع تلسع الحسن بن علىّ بن عبد العزيز القاضى يقول القلب يدرك ما لا يدرك البصر ... يتملك الأحرار بالإيناس وقال أيضا وما أعجبتنى قطّ دعوى عريضة ... ولو قام في تصديقها ألف شاهد! وقال أيضا يقولون لى فيك انقباض وإنّما ... رأوا رجلا عن موقف الذل أحجما اذا قيل هذا مورد قلت قد أرى ... ولكنّ نفس الحرّ تحتمل الظما وقال أيضا وقالوا اضطرب في الأرض فالرزق واسع ... فقلت ولكن مطلب الرزق ضيّق اذا لم يكن في الأرض حرّ يعيننى ... ولم يك لى كسب فمن أين أرزق؟ أبو بكر محمد بن العباس الخوارزمى ّ يقول ومن عجب الأيام ترك التعجب وقال أيضا لكلّ صناعة يوما مديل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 وقال أيضا واذا مدة الشقىّ تناهت ... جاءه من شقائه متقاضى وقال أيضا عليك بإظهار التجلّد للعدا ... ولا تظهرن منها الدنوّ فتحقرا بديع الزمان أبو الفضل الهمذانىّ، أحمد بن الحسين بن يحيى بن سعيد توفّى سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة مسموما وأوفى على الأربعين سنة يقول يا حريصا على الغنى ... قاعدا بالمراصد! لست في سعيك الذى ... خضت فيه بقاصد إن دنياك هذه ... لست فيها بخالد بعض هذا فإنما ... أنت ساع لقاعد إسماعيل الناشىء يقول وللشباب نراعى حرمة الكتم وقال أيضا وكنت أرى أنّ التجارب عدّة ... فخانت ثقات الناس حتى التجارب وقال أيضا فركضا في ميادين التصابى ... أحقّ الخيل بالركض المعار وقال أيضا ولا تجزعنّ على أيكة ... أبت أن تظلّك أغصانها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 أبو الفتح علىّ بن محمد البستىّ يقول اذا مرّ بى يوما ولم أتخذ يدا ... ولم أستفذ علما فما ذاك من عمرى! وقال أيضا أنا كالورد فيه راحة قوم ... ثمّ فيه لآخرين زكام! وقال أيضا لا ترج شيئا خالصا نفعه ... فالغيث لا يخلو من العيث وقال أيضا ولم أر مثل الشكر جنّة غارس ... ولا مثل حسن الصبر جنّة لابس وقال أيضا ولن يشرب السمّ الزّعاف أخو الحجى ... مدلّا بدرياق لديه مجرّب وقال أيضا ما استقامت قناة رأيى إلا ... بعد أن عوّج المشيب قناتى وقال أيضا وطول جمام الماء في مستقرّه ... يغيّره لونا وريحا ومطعما وقال أيضا اذا حيوان كان طعمة ضدّه ... توقّاه كالفأر الذى يتّقى الهرا ولا شك أن المرء طعمة دهره ... فما باله يا ويحه يأمن الدهرا! وقال أيضا لا تحقر المرء إن رأيت به ... دمامة أو رثاثة الحلل فالنحل لا شك في ضؤولته ... يشتار منه الفتى خيّر العسل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 الباب الثانى من القسم الثانى من الفن الثانى فى أوابد العرب ومعنى الأوابد هاهنا: الدواهى؛ وهى مما حمى الله تعالى هذه الملّة الإسلاميّة منها، وحذر المؤمنين عنها. فقال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ) وقال تعالى (ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ) وقال تعالى (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً) وكانت للعرب أوابد جعلوها بينهم أحكاما ونسكا وضلالة وعادة ومداواة ودليلا وتفاؤلا وطيرة. فمنها: البحيرة: قالوا: كان أهل الوبر يعطون لآلهتهم من اللحم، وأهل المدر يعطون لها من الحرث، فكانت الناقة اذا أنتجت خمسة أبطن عمدوا الى الخامس ما لم يكن ذكرا فشقّوا أذنها، فتلك: البخيرة؛ فربما اجتمع منها هجمة من البحر فلا يجزّ لها وبر ولا يذكر عليها إن ركبت اسم الله، ولا إن حمل عليها شىء، فكانت ألبانها للرجال دون النساء. الوصيلة: كانت الشاة اذا وضعت سبعة أبطن عمدوا الى السابع، فإن كان ذكرا ذبح، وإن كانت أنثى تركت في الشاء، فان كان ذكرا وأنثى قيل: وصلت أخاها، فحرّما جميعا، وكانت منافعها، ولبن الأنثى منها للرجال دون النساء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 السائبة: كان الرجل يسيّب الشىء من ماله، إما بهيمة أو إنسانا، فتكون حراما أبدا، منافعها للرجال دون النساء. الحامى: كان الفحل اذا أدركت أولاده فصار ولده جدّا قالوا: حمى ظهره، اتركوه فلا يحمل عليه، ولا يركب، ولا يمنع ماء، ولا مرعى، فاذا ماتت هذه التى جعلوها لآلهتهم، اشترك في أكلها الرجال والنساء، وذلك قوله تعالى (وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ) قالوا: وكان أهل المدر والحرث اذا حرثوا حرثا، أو غرسوا غرسا، خطّوا في وسطه خطّا، فقسموه بين اثنين فقالوا: مادون هذا الخط: لآلهتهم؛ وما وراءه: لله؛ فإن سقط ممّا جعلوه لآلهتهم شىء فيما جعلوه لله وردّوه، وإن سقط مما جعلوه لله فيما جعلوه لآلهتهم أقرّوه، واذا أرسلوا الماء في الذى لآلهتهم. فانفتح في الذى سموه لله سدّوه، وإن انفتح من ذاك في هذا قالوا: اتركوه فإنه فقير اليه، فأنزل الله عزّوجلّ (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) . الأزلام: قالوا: كانوا اذا كانت مداراة أو نكاح أو أمر يريدونه. ولا يدرون ما الامر فيه ولم يصحّ لهم أخذوا قداحا لهم فيها: أفعل ولا أفعل لا يفعل؛ نعم لا خير، شرّ بطىء سريع، فأما المداراة فإن قداحا لهم فيها بيضا ليس فيها شىء فكانوا يحيلونها فمن خرج الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 سهمه فالحقّ له، وللحضر والسفر سهمان؛ فيأتون السادن من سدنة الأوثان فيقول السادن: اللهم أيّهما كان خيرا فأخرجه لفلان، فيرضى بما يخرج له، فاذا شكّوا فى نسب الرجل أجالوا له القداح وفيها: صريح، وملصق؛ فإن خرج الصريح ألحقوه بهم، وإن خرج الملصق نفوه، وإن كان صريحا فهذه قداح الاستقسام. الميسر: قالوا في الميسر: إن القوم كانوا يجتمعون فيشترون الجزور بينهم، فيفصّلونها على عشرة أجزاء؛ ثم يؤتى بالحرضة وهو رجل يتألّه عندهم لم يأكل لحما قط بثمن، ويؤتى بالقداح وهو أحد عشر قدحا، سبعة منها لها حظّ إن فازت، وعلى أهلها غرم إن خابت، بقدر ما لها من الحظّ إن فازت، وأربعة ينقل بها القداح، لا حظّ لها إن فازت، ولا غرم عليها إن خابت. فأما التى لها الحظّ: فأوّلها الفذّ في صدره حزّ واحد؛ فإن خرج أخذ نصيبا، وإن خاب غرم صاحبه ثمن نصيب، ثم التوأم، له نصيبان إن فاز، وعليه ثمن نصيبين إن خاب، ثم الضّريب، وله ثلاثة أنصباء، ثم الحلس وله أربعة، ثم النافس، وله خمسة، ثم المسبل، وله ستة، ثم المعلّى وله سبعة. قالوا: والمسبل يسمّى: المصفح، والضريب يقال له: الرقيب. وقد جمع الصاحب بن عبّاد هذه الأسماء ونظمها في أبيات فقال إنّ القداح أمرها عجيب ... الفذّ، والتوأم، والرقيب، والحلس، ثم النّافس المصيب ... والمصفح المشتهر النجيب، ثم المعلّى حظّه الترغيب ... هاك فقد جاء بها الترتيب، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 وأما الأربعة التى ينقل بها القداح فهى: السّفيح، والمنيح، والمضعف، والوغد. قال ابن قتيبة: والمنيح له موضعان: أحدهما لا حظّ له، والثانى له حظّ. فكأته الذى يمنح حظّه، وعلى ذلك دلّ قول عمرو بن قبيصة بأيديهم مقرومة ومغالق ... يعود بأرزاق العيال منيحها قالوا: فيؤتى بالقداح كلها وقد عرف كلّ ما اختار من السبعة ولا يكون الأيسار إلا سبعة، لا يكونون أكثر من ذلك، فإن نقصوا رجلا أو رجلين، فأحب الباقون أن يأخذوا ما فضل من القداح، فيأخذ الرجل القدح والقدحين فيأخذ فوزهما إن فازا، ويغرم عنهما إن خابا ويدعى ذلك: التّميم قال النابغة إنى أتمّم أيسارى وأمنحهم ... من الأيادى وأكسوا الجفنة الأدما فيعمدوا الى القداح؛ فتشدّ مجموعة في قطعة جلد ثم يعمد الى الحرضة فيلفّ على يده اليمنى ثوبا لئلا يجد مس قدح له في صاحبه هوى، فيحابيه في إخراجه، ثم يؤتى بثوب أبيض يدعى. المجول، فيبسط بين يدى الحرضة، ثم يقوم على رأسه رجل يدعى: الرقيب، ويدفع ربابة القداح الى الحرضة وهو محوّل الوجه عنها. والرّبابة: ما يجمع فيها القداح، فيأخذها ويدخل شماله من تحت الثوب، فينكر القداح بشماله، فاذا نهد منها قدح تناوله فدفعه إلى الرقيب. فإن كان مما لا حظّ له ردّ الى الرّبابة، فإن خرج بعده المسبل، أخذ الثلاثة الباقية، وغرم الذين خابوا ثلاثة أنصباء من جزور أخرى، وعلى هذه الحال يفعل بمن فاز ومن خاب، فربما نحروا عدة جزور ولا يغرم الذين فازوا من ثمنها شيئا، وإنما الغرم على الذين خابوا ولا يحلّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 للخائبين أن يأكلوا من ذلك اللحم شيئا، فإن فاز قدح الرجل فأرادوا أن يعيدوا قدحه ثانية على خطار فعلوا ذلك به. ومنها: نكاح المقت: كان الرجل اذا مات قام أكبر ولده فألقى ثوبه على امرأة أبيه فورث نكاحها، فإن لم يكن له فيها حاجة تزوّجها بعض إخوته بمهر جديد، فكانوا يرثون نكاح النساء كما يرثون المال، فأنزل الله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ) . ومنها: رمى البعرة: كانت المرأة في الجاهليّة اذا توفى عنها زوجها، دخلت حفشا، والحفش: الخصّ، ولبست شرّ ثيابها ولم تمسّ طيبا ولا شيئا، حتى تمرّ لها سنة ثم تؤتى بدابة: حمار أو شاة أو طير فتفتضّ به أى تمسح به، فقلّما تفتضّ بشىء إلا مات، ثم تخرج على رأس الحول، فتعطى بعرة فترمى بها، ثم تراجع ما شاءت من طيب أو غيره ومعنى رميها بالبعرة: أنها ترى أن هذا الفعل هيّن عليها مثل البعرة المرميّة، فنسخ الإسلام ذلك بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) . ومنها: ذبح العتائر: قالوا: كان الرجل منهم يأخذ الشاة، وتسمّى العتير والمعتورة فيذبحها ويصبّ دمها على رأس الصنم، وذلك يفعلونه في رجب، والعتر قيل: هو مثل الذبح، وقيل: هو الصنم الذى يعتر له. قال الطرمّاح فخرّ صريعا مثل عاترة النسك أراد بالعاترة: الشاة المعتورة. عقد السّلع والعشر: وقد تقدم ذكره عند ذكر أسماء نيران العرب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 ذبح الظبى: كان الرجل ينذر أنه إذا بلغت إبله أو غنمه مبلغا فأذبح عنها كذا، فاذا بلغت ضنّ بها، وعمد الى الظّباء فيصطادها ويذبحها وفاء بالنذر؛ قال الشاعر عنتا باطلا وزورا كما يعتر ... عن حجرة الرّبيض الظباء ومنها: حبس البلايا: كانوا اذا مات الرجل يشدّون ناقته الى قبره، ويعكسون رأسها الى ذنبها، ويغطّون رأسها بولّية وهى البردعة، فإن أفلتت لم تردّ عن ماء ولا مرعى، ويزعمون أنهم إنما يفعلون ذلك، ليركبها صاحبها في المعاد، ليحشر عليها، فلا يحتاج أن يمشى؛ قال أبو زبيد كالبلايا رءوسها في الولايا ... مانحات السّموم حرّ الخدود ومنها: خروج الهامة: زعموا أن الإنسان اذا قتل، ولم يطالب بثأره، خرج من رأسه طائر يسمّى: الهامة، وصاح على قبره: اسقونى! اسقونى! الى أن يطلب بثأره؛ قال ذو الإصبع يا عمرو إن لا تدع شتمى ومنقصتى ... أضربك حتى تقول الهامة: اسقونى ومنها: إغلاق الظهر: كان الرجل منهم اذا بلغت إبله مائة، عمد الى البعير الذى أمات به، فأغلق ظهره لئلا يركب، ويعلم أن صاحبه حمى ظهره، وإغلاق ظهره أن ينزع سناسن فقرته ويعقر سنامه. ومنها: التعمية والتفقئة: وكان الرجل إذا بلغت إبله ألفا فقأ عين الفحل يقول: إن ذلك يدفع عنها العين والغارة؛ قال الشاعر وهبتها وأنت ذو امتنان ... تفقأ فيها أعين البعران فإن زادت عن ألف فقأ العين الأخرى، فهو التعمية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 ومنها: بكاء المقتول: كان النساء لا يبكين المقتول إلا أن يدرك بثأره، واذا أدرك بثأره بكينه؛ قال شاعر من كان مسرورا بمقتل مالك ... فليأت نسوتنا بوجه نهار يجد النساء حواسرا ينبنه ... يلطمن حرّ الوجه بالأسحار ومنها: رمى السنّ في الشمس: يقولون: إن الغلام اذا ثغر، فرمى سنّه فى عين الشمس بسبّابته وإبهامه وقال: أبدلينى أحسن منها، أمن على أسنانه العوج، والفلج، والثّعل؛ قال طرفة بدّلته الشمس من منبته ... بردا أبيض مصقول الأشر ومنها: خضاب النحر: كانوا اذا أرسلوا الخيل على الصّيد فسبق واحد منها، خضبوا صدره بدم الصّيد علامة له؛ قال الشاعر كأن دماء العاديات بنحره ... عصارة حنّاء بشيب مرجّل ومنها: التصفيق: كانوا اذا ضلّ الرجل منهم في الفلاة، قلب ثيابه، وحبس ناقته، وصاح في أذنها كأنه يومىء الى إنسان، وصفّق بيديه: الوحا الوحا، النجا النجا، هيكل، الساعة الساعة، الىّ الىّ، عجّل؛ ثم يحرّك الناقة فيهتدى؛ قال الشاعر وأذّن بالتصفيق من ساء ظنّه ... فلم يدر من أىّ اليدين جوابها يعنى: يسوء ظنّه بنفسه اذا ضل. ومنها: جز النواصى. كانوا اذا أسروا رجلا، ومنّوا عليه فأطلقوه، جزّوا ناصيته ووضعوها في الكنانة؛ قال الحطيئة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 قدنا سلول فسلّوا من كنانتهم ... مجدا تليدا ونبلا غير أنكاس يعنى بالنّبل: الرجال؛ وقالت الخنساء جززنا نواصى فرسانهم ... وكانوا يظنون أن لا تجزّا ومنها: كىّ السليم عن الجرب: زعموا أن الإبل اذا أصابها العرّ فأخذوا الصحيح وكووه زال العرّ عن السقيم؛ قال النابغة وكلّفتنى ذنب امرىء وتركته ... كذى العرّ يكوى غيره وهو راتع ويقال: إنهم كانوا يفعلون ذلك، ويقولون: تؤمن معه العدوى. ومنها: ضرب الثور: وزعموا أن الجنّ تركب الثيران فتصدّ البقر عن الشرب؛ قال الأعشى وإنى وما كلفتمانى وربّكم ... ليعلم من أمسى أعق وأحوبا لكالثور والجنىّ يركب ظهره ... وما ذنبه إن عافت الماء مشربا وما ذنبه إن عافت الماء باقر ... وما إن تعاف الماء إلا ليضربا وقال آخر كذاك الثور يضرب بالهراوى ... اذا ما عافت البقر الظّلماء. ومنها: كعب الأرنب: كانوا يعلّقونه على أنفسهم ويقولون: إن من فعل ذلك لم تصبه عين ولا سحر، وذلك أن الجنّ تهرب من الأرنب، لأنها ليست من مطايا الجنّ لأنها تحيض؛ قال الشاعر ولا ينفع التعشير إن حمّ واقع ... ولا زعرع يغنى ولا كعب أرنب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 وقيل لزيد بن كثوة: أحقّ ما يقولون: إن من علّق على نفسه كعب أرنب لم يقربه جنّان الحىّ وعمّار الدار؟ فقال: إى والله! ولا شيطان الحماطة، الحماطة: شجرة التين؛ وجان العشرة، وغول العقر، وكلّ الخوافى، إى والله يطفىء نيران السّعالى. ومنها: حيض السّمرة: يزعمون أن الصبى اذا خيف عليه نظرة أو خطفة، فعلّق عليه سنّ ثعلب؛ أو سنّ هرة، أو حيض سمرة، أمن، فإن الجنيّة اذا أرادته لم تقدر عليه، فاذا قال لها صواحباتها في ذلك، قالت كانت عليه نفره ... ثعالب وهرره والحيض حيض السّمره ومنها: الطارف والمطروف: يزعمون أن الرجل اذا طرف عين صاحبه، فهاجت فمسح الطارف عين المطروف سبع مرات وقال في كلّ مرة: بإحدى جاءت من المدينة، باثنتى جاءتا من المدينة، بثلاث جئن من المدينة، الى سبع، سكن هيجانها. ومنها: وطء المقاليت: يزعمون أن المرأة المقلات اذا وطئت قتيلا شريفا بقى أولادها، وفي ذلك يقول بشر بن أبى خازم تظلّ مقاليت النساء يطأنه ... يقلن ألا يلقى على المرء مئزر ومنها: تعليق الحلى على السليم: كانوا يعلّقون الحلى على الملسوع ويقولون إنه اذا علّق عليه أفاق، فيلقون عليه الأسورة والرّعاث، ويتركونها عليه سبعة أيام ويمنع من النوم؛ قال النابغة يسهّد في وقت العشاء سليمها ... لحلى النساء في يديه قعاقع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 ومنها: ذهاب الخدر: يزعمون أن الرجل اذا خدرت رجله فذكر أحبّ الناس اليه ذهب عنه؛ قال كثيّر اذا خدرت رجلى دعوتك أشتفى ... بذكراك من مذل بها فيهون وقالت امرأة من كلاب اذا خدرت رجلى ذكرت ابن مصعب ... فإن قلت: عبد الله، أجلى فتورها وقيل ذلك لابن عمر وقد خدرت رجله فقال: يا محمّداه. ومنها: الحلأ: زعموا أنه اذا ظهرت بشفة الغلام بثور، يأخذ منخلا على رأسه ويمرّبين بيوت الحىّ، وينادى: الحلأ الحلأ، فيلقى في منخله من هاهنا ثمرة، ومن هاهنا كسرة، ومن ثمّ بضعة لحم، فاذا امتلأ، نثره بين الكلاب، فيذهب عنه البثر، وذلك البثر يسمّى: الحلأ. ومنها: التعشير: يزعمون أن الرجل اذا أراد دخول قرية، فخاف وباءها، فوقف على بابها قبل أن يدخلها فعشّر كما ينهق الحمار، ثم دخلها لم يصبه وباؤها؛ قال عروة ابن الورد لعمرى لئن عشّرت من خشية الردى ... نهاق الحمير إننى لجزوع! ومنها: عقد الرّتم: كان الرجل منهم اذا أراد سفرا، عمد الى رتم فعقده، والرتم: نبت، فإن رجع ورآه معقودا؛ زعم أن امرأته لم تخنه، وإن رأه محلولا زعم أنها قد خانته؛ قال الشاعر هل ينفعنك اليوم إن همّت بهم ... كثرة ما توصى وتعقاد الرّتم؟ وقال آخر خانته لما رأت شيبا بمفرقه ... وغرّه حلفها والعقد للرّتم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 ومنها: دائرة المهقوع: وهو الفرس الذى به الدائرة التى تسمّى: الهقعة، يزعمون أنه اذا عرق تحت صاحبه، اغتلمت حليلته وطلبت الرجال؛ قال الشاعر اذا عرق المهقوع بالمرء أنعظت ... حليلته وازداد حرّا عجانها ومنها: شقّ الرداء والبرقع: زعموا أن المرأة اذا أحبّت رجلا أو أحبّها ثم لم تشقّ عليه رداءه، ويشقّ عليها برقعها، فسد حبّهما، فاذا فعل ذلك دام حبّهما؛ قال الشاعر اذا شق برد شقّ بالبرد برقع ... دواليك حتى كلّنا غير لابس فكم قد شققنا من رداء محبّر ... ومن برقع عن طفلة غير عانس ومنها: نوء السماك: كانوا يكرهونه ويقولون فيه داء الإبل؛ قال الشاعر ليت السماك ونوءه لم يخلقا ... ومشى الأفيرق في البلاد سلما ومنها: النسيء: وقد تقدّم خبره في الفن الأوّل من الكتاب. ومنها: وأد البنات: وقد نهاهم الله عزوجلّ عنه في قوله: (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) . وكانوا يقتلوهنّ خشية الإملاق أو من الإملاق؛ وقد قيل: إنهم كانوا يقتلوهنّ خوف العار أو أن يسبين، فمن قتلهم خشية الإملاق ما روى عن صعصعة بن ناجية المجاشعىّ جد الفرزدق: أنه لما أتى النبىّ صلّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنى كنت أعمل عملا في الجاهليّة، أفينفعنى ذلك اليوم؟ قال: وما عملك؟ قال: أضللت ناقتين عشراوين، فركبت جملا ومضيت فى بغائهما فرفع لى بيت جريد، فقصدته فاذا رجل جالس بفنائه، فسألته عن الناقتين، فقال: ما نارهما؟ قلت: ميسم بنى دارم، قال: هما عندى، وقد أحيا الله تعالى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 بهما قوما من أهلك من مضر، واذا عجوز قد خرجت من كسر البيت، فقال لها: ما وضعت؟ فان كان سقبا شاركنا في أموالنا، وإن كانت حائلا وأدناها، (معنى قوله سقبا أى ذكرا، وحائلا أى أنثى) فقالت العجوز: وضعت أنثى، فقلت: أتبيعها؟ قال: وهل تبيع الغرثب أولادها؟ قال قلت: احتكم، قال بالناقتين والجمل، قلت: لك ذلك، على أن تبلغنى الحمل وإياها ففعل، فآمنت بك يا رسول الله، وقد صارت لى سنّة على أن أشترى كلّ موءودة بناقتين عشراوين وجمل، فعندى الى هذه الغاية ثمانون ومائتا موءودة قد أنقذتها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لا ينفعك ذلك، لأنك لم تبتغ به وجه الله تعالى، وإن تعمل في إسلامك عملا صالحا تثب عليه؛ ففى ذلك يقول الفرزدق مفتخرا وجدى الذى منع الوائدين ... وأحيى الوئيد فلم توءد! وممن قتلهم خشية العار: قيس بن عاصم المنقرىّ وكان من وجوه قومه ومن ذوى الأموال فيهم وكان يئد بناته وسبب ذلك: أن النعمان بن المنذر لما منعته بنو تميم الإتاوة التى كانت تؤدّيها له جهّز اليهم أخاه الريّان بن المنذر، ومعه بكر بن وائل فغزاهم، فاستاق النعم وسبى الذرارى، فوفدت اليه بنو تميم فلما رآها أحب البقاء عليها، فقال النعمان ما كان ضرّ تميما لو تعمّدها ... من فضلنا ما عليه قيس غيلان فأناب القوم وسألوه النساء، فقال النعمان: كلّ امرأة اختارت أباها ردّت اليه وإن اختارت صاحبها تركت عليه، فكلّهن اخترن أباهن إلا ابنة لقيس بن عاصم اختارت صاحبها عمرو بن المشمرج، فنذر قيس لا يولد له ابنة إلا قتلها، فاعتلّ بهذا من وأد وزعم أنه حميّة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 الباب الثالث من القسم الثانى من الفن الثانى فى أخبار الكهنة ويتصل به الزجر والفأل والطّيرة والفراسة والذكاء، أخبار الكهنة وكانت كهنة العرب لهم أتباع من الشياطين يسترقون السمع ويأتونهم بالأخبار، فيلقونها لمن يتبعهم، ويسألهم عن خفيّات الأمور حتى جاء الإسلام، فمنعت الشياطين من استراق السمع، كما أخبر الله تعالى عنهم في كتابه العزيز (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) فعند ذلك انقطعت الكهانة فلم يسمع في الإسلام بكاهن، وهذا من معجزات سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم لزوال الإشكال فى الوحى. فمن أخبار الكهنة، خبر سطيح الكاهن حين ورد عليه ابن أخته عبد المسيح وهو يعالج الموت، فأخبره خبر ما جاء لأجله، وذلك أنه لما كانت الليلة التى ولد فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلم ارتجس إيوان كسرى، وسقط منه أربع عشرة شرفة، وخمدت نار فارس، ولم تكن خمدت قبل ذلك بألف عام، وغارت بحيرة ساوة، ورأى الموبذان إبلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة وانتشرت في بلاد فارس، فلما أصبح كسرى تصبّر تشجّعا ثم رأى أن لا يكتم ذلك عن وزرائه ومرزبته، فلبس تاجه، وقعد على سريره، وجمعهم وأخبرهم الخبر فبيناهم كذلك إذ ورد عليهم كتاب بخمود النار فازداد غمّا وسأل الموبذان وكان أعلمهم فقال: حادث يكون من قبل العرب، فكتب كسرى الى النّعمان ابن المنذر: أن وجّه الىّ رجلا عالما بما أريد أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 أسأله عنه فوجّه اليه عبد المسيح بن حسّان بن نفيلة الغسّانىّ فقال له كسرى: أعندك علم بما أريد أن أسألك عنه؟ قال: ليخبرنى الملك فإن كان عندى منه علم، وإلّا أخبرته بمن يعلمه، فأخبره بما رآه فقال: علم ذلك عند خال لى يسكن مشارق الشام يقال له: سطيح، فأرسله كسرى اليه فورد على سطيح وقد أشفى على الموت فسلّم عليه وحيّاه فلم يحر سطيح جوابا فأنشد يقول أصمّ أم يسمع غطريف اليمن ... أم فاز فازلمّ به شأو العنن؟ يا فاصل الخطّة أعيت من ومن ... وكاشف الكربة عن وجه الغضن أتاك شيخ الحىّ من آل سنن ... وأمّه من آل ذئب بن حجن أزرق ممهى الناب صرّار الأذن ... أبيض فضفاض الرّداء والبدن رسول قيل العجم يسرى بالوسن ... لا يرهب الرعد ولا ريب الزمن يجوب في الأرض على ذات شجن ... ترفعنى وجنا وتهوى بى وجن حتى أتى عارى الجآجى والقطن ... تلفّه في الريح بوغاء الدّمن كأنما حثحث من حضنى ثكن ففتح سطيح عينيه ثم قال: عبد المسيح، على جمل مشيح، أتى الى سطيح، وقد أوفى على الضريح، بعثك ملك بنى ساسان، لارتجاس الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان؛ رأى إبلا صعابا، تقود خيلا عرابا، قد قطعت دجلة وانشرت في بلاد فارس، يا عبد المسيح اذا كثرت التلاوه، وبعث صاحب الهراوه، وفاض وادى السماوه، وغاصت بحيرة ساوه، وخمدت نار فارس؛ فليس الشام لسطيح شاما، ولا بابل للفرس مقاما، يملك فيهم ملوك وملكات، بعدد الشّرفات، وكلّ ما هو آت آت؛ ثم قضى سطيح لوقته، فثار عبد المسيح الى رحله وهو يقول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 شمّر فإنك ماضى العزم شمّير ... لا يفزعنّك تفريق وتغيير إن كان ملك بنى ساسان أفرطهم ... فإن ذا الدهر أطوار دهارير فربّما ربّما أضحوا بمنزلة ... تهاب صولهم الأسد المهاصير منهم أخو الصّرح بهرام وإخوته ... والهرمزان وسابور وشابور والناس أولاد علّات فمن علموا ... أن قد أقلّ فمحقور ومهجور وهم بنو الأمّ أمّا إن رأوا نشبا ... فذاك بالغيب محفوظ ومنصور والخير والشرّ مقرونان في قرن ... فالخير متّبع والشرّ محذور فلما قصّ الخبر على كسرى قال: الى أن يملك منّا أربعة عشر تكون أمور؛ فملك منهم عشرة في أربع سنين، وملك الباقون الى زمن عثمان رضى الله عنه. ومن أخبارهم: أن سعدى بنت كريز بن ربيعة كانت قد تطرّقت وتكهّنت وهى خالة عثمان بن عفّان رضى الله عنه، روى عنه أنه قال: لما زوّج النبىّ صلّى الله عليه وسلم ابنته رقيّة من عتبة بن أبى لهب وكانت ذات جمال رائع، دخلتنى الحسرة أو كالحسرة أن لا أكون سبقت اليها ثم لم ألبث أن انصرفت الى منزلى فألفيت خالتى فلما رأتنى قالت أبشر وحيّيت ثلاثا تترى ... ثمّ ثلاثا وثلاثا أخرى ثمّ بأخرى كى تتمّ عشرا ... أتاك خير ووقيت شرّا نكحت والله حصانا زهرا ... وأنت بكر ولقيت بكرا وافيتها بنت نفيس قدرا ... بنت نبىّ قد أشاد ذكرا قال عثمان: فعجبت من قولها، وقلت: مادا تقولين؟ فقالت عثمان يا ابن أخت يا عثمان ... لك الجمال ولك البيان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 هذا نبىّ معه البرهان ... أرسله بحقّه الدّيّان وجاءه التنزيل والفرقان ... فاتبعه لا تحتالك الأوثان فقلت: يا خالة! إنك لتذكرين ما قد وقع ذكره في بلدتنا فأثبتيه لى، فقالت: إن محمد بن عبد الله رسول من عند الله، جاء بتنزيل الله، يدعو الى الله، مصباحه مصباح، وقوله صلاح، ودينه فلاح، وأمره نجاح، وقرنه نطّاح، ذلّت له البطاح، ما ينفع الصياح، لو وقع الذباح، وسلّت الصفاح، ومدّت الرماح، قال: ثم قامت فانصرفت ووقع كلامها في قلبى، وجعلت أفكر فيه، وذكر بعد ذلك إسلامه وتزويجه رقية؛ فكان يقال: أنهما أحسن زوجين اتفاقا وجمالا. ومنها أن هندا بنت عتبة بن ربيعة كانت عند الفاكه بن المغيرة، وكان من فتيان قريش، وكان له بيت الضيافة، خارجا من البيوت، تغشاه الناس من غير إذن؛ فخلا البيت ذات يوم واضطجع هو وهند فيه، ثم نهض لبعض حاجته، وأقبل رجل ممن كان يغشى البيت فولجه، فلما رآها ولّى هاربا وأبصره الفاكه فأقبل اليها فضربها برجله وقال لها: من هذا الذى خرج من عندك؟ قالت: ما رأيت أحدا، ولا انتبهت حتى أنبهتنى! فقال لها: ارجعى الى أبيك، وتكلّم النتاء فيها، فقال لها أبوها: يا بنيّة! إن الناس قد أكثروا فيك، فأنبئينى نبأك، فإن يكن الرجل عليك صادقا دسست عليه من يقتله، فتنقطع عنك المقالة، وإن يك كاذبا حاكمته الى بعض الكهّان، فقالت: لا والله! ما هو علىّ بصادق؛ فقال له: يا فاكه! إنك قد رميت ابنتى بأمر عظيم، فحاكمنى الى بعض كهّان اليمن؛ فخرج للفاكه في جماعة من بنى مخزوم، وخرج عتبة في جماعة من بنى عبد مناف، ومعهم هند ونسوة، فلما شارفوا البلاد، وقالوا: غدا نرد على الرجل، تنكّرت حال هند، فقال لها عتبة: إنى أرى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 ما بك من تنكّر الحال، وما ذاك إلّا لمكروه عندك، فهلّا كان هذا قبل أن يشتهر عند الناس مسيرنا؟ فقالت: لا والله! ولكنّى أعرف أنكم تأتون بشرا يخطىء ويصيب ولا آمنه أن يسمنى ميسما يكون علىّ سبة فقال: إنى سوف أختبره لك، فصفّر لفرسه حتى أدلى ثمّ أدخل في إحليله حبّة حنطة وأوكأ عليها بسير، فلما أصبحوا قدموا على الرجل فأكرمهم ونحرلهم، فلما تغدّوا قال له عتبة: قد جئناك في أمر وقد خبأنا لك خبيئا أختبرك به، فانظر ما هو؟ فقال ثمره، فى كمره. قال إنّى أريد أبين من هذا، قال: حبّة برّ، فى إحليل مهر، قال: انظر في أمر هؤلاء النسوة، فجعل يدنو من إحداهنّ فيضرب بيده على كتفها ويقول لها، انهضى، حتى دنا من هند فقال لها: انهضى غير رسحاء ولا زانية، ولتلدنّ ملكا اسمه معاوية؛ فنهض اليها الفاكه فأخذ بيدها فجذبت يدها من يده وقالت: اليك عنّى فو الله لأحرصنّ أن يكون من غيرك؛ فتزوّجها أبو سفيان. ومنها. أن أمية بن عبد شمس دعا هاشم بن عبد مناف الى المنافرة، فقال هاشم: إنّى أنافرك على خمسين ناقة سود الحدق، ننحرها بمكة أو الجلاء عن مكّة عشر سنين، فرضى أميّة وجعلا بينهما الخزاعىّ الكاهن وخرجا اليه ومعهما جماعة من قومهما فقالوا: نخبأ له خبيئا فان أصابه تحاكمنا اليه، وإن لم يصبه تحاكمنا الى غيره، فوجدا أبا همهمة وكان معهم أطباق جمجمة، فأمسكها معه ثم أتوا الكاهن فأناخوا ببابه وكان منزله بعسفان: فقالوا: إنا قد خبأنا لك خبيئا فأنبئنا عنه. قال: أحلف بالضّوء والظلمه، وما بتهامة من تهمه، وما بنجد من أكمه، لقد خبأتم لى أطباق جمجمه، مع الفلندح أبى همهمه؛ فقالوا: صدقت احكم بين هاشم بن عبد مناف وبين أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف أيّهما أشرف بيتا ونفسا، قال: والقمر الباهر، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 والكوكب الزاهر، والغمام الماطر، وما بالجوّ من طائر، وما اهتدى بعلم مسافر، من منجد وغائر، لقد سبق هاشم أميّة الى المآثر، أوّلا منه وآخر؛ فأخذ هاشم لإبل ونحرها وأطعمها من حضر وخرج أميّة الى الشام فأقام بها عشر سنين؛ فيقال: إنها أوّل عداوة وقعت بين بنى هاشم وبين بنى أميّة. ومنها: أن بنى كلاب وبنى رباب من بنى نضر خاصموا عبد المطّلب في مال قريب من الطائف فقال عبد المطّلب: المال مالى فسلونى أعطكم، قالوا: لا، قال: فاختاروا حاكما قالوا: ربيعة بن حذار الأسدىّ فتراصوا به وعقلوا مائة ناقة في الوادى وقالوا: الإبل والمال لمن حكم له، وخرجوا وخرج مع عبد المطّلب حرب بن أميّة فلما نزلوا بربيعة بعث اليهم بجزائر فنحرها عبد المطّلب، وأمر فصنع جزرا وأطعم من أتاه، ونحر الكلابيّون والنضريّون ووشقوا فقيل لربيعة فقال: إنّ عبد المطلب امرؤ من ولد خزيمة فمتى يملق يصله بنو عمّه وأرسل اليهم أن اخبأوا لى خبيئا فقال عبد المطّلب: قد خبأت كلبا اسمه سوّار في عنقه قلادة، فى خرزة مزادة، وضممتها بعين جرادة، فقال الآخرون: قد رضينا ما خبأت وأرسلوا الى ربيعة فقال: خبأثمّ خبيئا حيّا قالوا: زد، قال: ذو برثن أغبر، وبطن أحمر، وظهر أنمر؛ قالوا: قربت، قال: سما فسطع، ثمّ هبط فلطع، فترك الأرض بلقع، قالوا: قربت فطبّق قال: عين جرادة، فى خرزة مزادة، فى عنق سوّار ذى القلادة، قالوا: زه زه أصبت فاحكم لأشدّنا طعانا، وأوسعنا مكانا، قال عبد المطلب: احكم لأولانا بالخيرات، وأبعدنا عن السو آت وأكرمنا أمهات، فقال ربيعة: والغسق والشفق، والخلق المتّفق، ما لبنى كلاب وبنى رباب من حقّ، فانصرف يا عبد المطّلب على الصواب، ولك فصل الخطاب؛ فوهب عبد المطّلب المال لحرب بن أميّة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 وأخبار الكهنة كثيرة نذكر منها إن شاء الله تعالى في السيرة النبويّة جملة تقف عليها فى المبشرات برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وذلك في السفر الرابع عشر من كتاب الأصل. الزّجر قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ في زجر الطير: إنّ العلماء بهذا الفنّ قالوا: اذا خرجت من منزلك تطلب حاجة، أو تخطب امرأة، فنعب غراب عن يمينك وعن يسارك أو سنح أو برح فامض فإنّك مدرك حاجتك إن شاء الله تعالى فإن تعب أمامك أو فوقك فارجع ففيها تأخير. وإن خرجت تريد خصومة فنعب فوق رأسك فامض فإنك مدرك حاجتك إن شاء الله تعالى. فإن خرجت تطلب دابّة فنعب عن يمينك أو يسارك على حائط مرتفع، فامض لحاجتك، فإن نعب أمامك فارجع. وإن خرجت تطلب مالا ضلّ عنك أو سرق، فنعب غراب على شجرة يابسة فلا تطلبه فقد استهلك وقد يأتيك بعضه، فإن نعب على جدار جديد أو شجرة خضراء فإنك تصيب مالك إن شاء الله تعالى. فإن خرجت تريد الضّالّ فنعب من ورائك، فارجع فليس لك في ذلك خيرة، وإن نعب عن يسارك فإنى خائف على نفسك إلا أن يشاء الله. فإن خرجت تريد الصيد فنعب من فوقك فارجع فإن نعب أمامك فامض فإنّك تدرك خيرا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 وإن خرجت تطلب سلطانا في طلب مال أو حاجة فنعب عن يمينك ثمّ طار ثمّ نعب أدركت منه طلبتك إن شاء الله تعالى. وإن خرجت تريد شراء شىء فنعب عن يمينك فإنه صالح، وإن نعب عن يسارك فلا خير فيه. وإن خرجت من منزلك فرأيت غرابا يمسح منقاره على الأرض فإنك تصيب أو تأتيك هديّة من مكان بعيد. وإن خرجت تطلب حاجة فنعب عن يمينك ثم قطع الطريق الى يسارك فنعب فإنك تدرك حاجتك عجلا إن شاء الله تعالى! فإن نعب فوق رأسك فارجع فإنى أخاف عليك بعض أعدائك. وإن خرجت تريد سلطانا فنعب غراب وهو مستقبل الشرق فامكث يومك ذلك فإنى أخاف عليك. فإن خرجت فرأيت غرابا ينفض ريشه؛ فإنه يأتيك خير عاجل. وإن خرجت تريد أرضا بعيدة فرأيت غرابا ينتفض فامض لحاجتك؛ فإنك تدرك أملك إن شاء الله تعالى. وإن خرجت تريد السلطان فوقع غراب على شىء فنعب ثلاث مرّات فامض لحاجتك؛ فهو خير عاجل وتيسير للحوائج إن شاء الله تعالى. وإن خرجت فرأيت غرابا ناشرا جناحيه يريد الطيران فامض، فإن نعب فارجع يومك. وإن خرجت تريد خصومة فنعب من فوقك فامض، وإن نعب فأجابه الآخر فهو جيّد صالح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 وإن خرجت تريد خصومة فنعب من فوقك أو شخّ فامض؛ فإنك تلقى في يومك ذلك ما تريد إن شاء الله تعالى. وإن خرج جماعة وفيهم رجل شريف فشخّ غراب على رأس الشريف، ثم أتوا ملكا فإنهم يصيبون خيرا إن شاء الله تعالى. وإن خرج يطلب حاجة الى سلطان فواجهه غراب فليمكث يومه ذلك ولا يمض فى تلك الحاجة، وإن نعب عن يمينه فقطع الطريق ثمّ وقع فهو يدرك حاجته. وإن خرج يريد السلطان أو بعث اليه وهو لا يدرى فرأى غرابا يطير قليلا؛ ثم يقع فيلقط من الأرض شيئا فليمض فإنّه يصيب سلطانا ويلى قوما، وإن رأى غرابا يبحث فى الأرض فإنّ بعض أهله يموت سريعا، وإن رآه ينقر في الأرض فذلك ملك. وإن خرج فرأى غرابا يطير ثمّ وقع ثلاث مرات وهو ساكت لا ينعب، فذلك غمّ يصيبه إلا أن يدفع الله عزّوجلّ عنه. وإن خرج فرآه ينتفض ثم ينعب ثمّ يطير فذلك سلطان يناله ويتزوج؛ والعلم عند الله. وإن خرج فرأى غرابا يطير ثمّ يقع فذاك خير وسرور يأتيه. وإن خرج فرأى غرابا يطير نحو عين الشمس فذاك همّ يصيبه شديد. وإن خرج فلقى بقرا فليرجع فإن لقى من البغال شيئا لم يركب فليرجع والمركوبة صالحة لا بأس بها. وإن خرج يعود مريضا فنهق حمار عن يمينه أو عن يساره فالمريض صالح، وإن نهق خلفه فقد اشتدّ بالمريض مرضه وأنا خائف عليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 وإن خرج يريد حاجة فاستقبله غلام يبكى وهو متلطّخ بعذرة وهو ذاهب والغلام راجع فليمض فإنّ حاجته تقضى، وإن استقبله غلام يعدو ويتلهّف فإن حاجته تعسر وتطول. وإن خرج في حاجته فرأى ورشانا يطير، يرتفع ويهبط فليمض فإن ذلك أنجح لحاجته، وإن رآه يطير مستعليا فليرجع، وإن رأى حمامة مسرولة تطير من فوق رأسه وتدور فإنّ حاجته مقضيّة بعد بطء ومطل، وإن رأى حمامة هابطة واقعة تقع وتطير فإنّ ذلك خير صالح وسرور إن شاء الله تعالى. وإن خرج من منزله فاستقبلته جنازة وجماعة فليرجع يومه ذلك ولا يعود لحاجته فإنّها غير مقضية، فإن كانت الجنازة قد جاوزته مدبرة فليذهب لحاجته؛ فإن ذلك صالح. وإن رأى نسوة الى المقابر وهنّ مقبلات نحوه فليقعد حتى يمضين عنه فإنّه أنجح لحاجته وإن رآهن مدبرات فليمض في حاجته فإنها مقضيّة. وإن خرج من داره قرأى في أرضها نملا كثيرا وفي حائطها فليمض لحاجته فذلك خير وسرور يناله. فإن رأى ذبابا كثيرا مجتمعا على حائط وهو يسمع لهنّ دبيبا فذاك مرض يصيبه في بدنه أو يصيب بعض أهله. ومن رأى ذرّا كثيرا وقردانا فذلك فرح ورزق عاجل يناله إن شاء الله تعالى. ومن رأى دجاجتين تقتتلان بنقر بعضهما فذاك يدل على أنّه يقع بينه وبين امرأته كلام وغضب. وإن خرج من منزله فرأى ورشانين يقتتلان في جوّ السماء رافعين وهابطين فيأتيه ما يسرّ به. وإن رأى كلبة والكلاب تطوف حولها ويتبع بعضها بعضا فإن كان عليه دين قضاه الله عنه وإن كانت له حاجة مهمة قضيت في وجهه ذلك وإن أراد شيئا يسّره الله له وإن أراد سفرا تهيّأ له ورجع سالما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 وإن خرج فرأى على رجل قربة ثمّ انشقت فليرجع الى منزله ويتعوّذ بالله من شرّ ذلك اليوم فإنّه مكروه جدّا. وإن خرج فرأى رجلا وهو يريد أن يملأ قربة فليمض في حاجته فإنه فرح وسرور وخير يناله عاجلا إن شاء الله تعالى. وإن خرج فرأى حمارا أو بغلا عليه راوية مملوءة فشأنه غير صالح وهو مكروه، وإن كان صاحب الراوية يريد أن يملأها فليمض فحاجته مقضية إن شاء الله تعالى. وإن خرج من منزله فرأى جملا عليه حطب أو بعض منافع الناس فهو من علامات النجاح في الخصومة والظفر العاجل إن شاء الله تعالى، فإن رآه غير محمول عليه وعليه صاحبه فإنّ ذلك خير يأتيه وينعى اليه بعض أهله من مكان بعيد. قال: وأرجو أن يدفع الله، فإن رآه مناخا يرغو فإن ذلك خير يأتيه ويخبر عن شىء ممّا يحبّ من تزويج أو غنيمة وهو صالح. وإن خرج فرأى بعيرا قد شرد ورأى من يطلبه فإن ذلك نجاة من عدوّه وفرح قريب إن شاء الله تعالى. وإن خرج فرأى بعيرا قد شرد فاجتمع عليه الناس فإن ذلك يدلّ على ظفره بعدوّه وانتقامه منه فليحمد الله على ما رأى ويشكره. ومن خرج من منزله فرأى قردا يتقلّب والناس حوله فليمض لحاجته فإنّها مقضية. وإن خرج فرأى القرد يلعب والناس مجتمعون عليه وقد صار لعبه الى أن يتقلّب ظهرا لبطن في الأرض فليرجع من وجهه ذلك فليس بموفّق وهو مكروه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 وإن خرج من منزله فرأى غلمانا يلعبون بالأكرة ويتسابقون فليمض في وجهه ذلك فإنّه يصيب رفعة وشرفا وتمكنا من السلطان ويصيب مالا عظيما. وإن خرج فرآهم يلعبون بالصوالجة فهو رفعة ويدلّ على مال ردىء حرام يصيبه من سلطان ويركب أمرا عظيما من عمله فليتق الله. وإن رأى جوارى يلعبن بالطرق كأنهنّ يزففن عروسا فهو خير وسرور ودخول فى أمر شريف وإنّه يربح ربحا عظيما وهو خير الزجر. وإن خرج فرأى عصفورين يلقطان الحبّ فهو صالح، وإن رآهما يتسافدان فهو خير يناله في يومه، وإن رآهما مدبرين فليمض لحاجته فإنها مقضية إن شاء الله تعالى. وإن خرج فتعلق بثوبه شىء فليرجع؛ فإنى أكره له أن يذهب في حاجته تلك. وإن خرج فرأى حدأة تسفد حدأة وهى تصيح فهو نجاح فليمض لحاجته. وإن خرج فعثر فلا يذهبن في تلك الحاجة وليؤخّرها. ومن الزجر ما مخرجه مخرج الكهانة. فمن ذلك ما حكى أنّ أميّة بن أبى الصلت الثقفىّ بينا هو يشرب مع إخوان له فى قصر عيلان بالطائف إذ سقط غراب على شرفة القصر فنعب نعبة فقال أميّة: بفيك الكثكث أى التراب فقال له أصحابه: ما يقول؟ قال يقول: إنّك اذا شربت الكأس التى بيدك متّ، ثم نعب نعبة أخرى، فقال أميّة كمقالته الأولى فقال أصحابه: ما يقول؟ قال: يزعم أنّه يقع على هذه المزبلة في أسفل القصر فيستثير عظما فيبتلعه فيشجى به فيموت، فوقع الغراب على المزبلة فأثار العظم وابتلعه فشجى فمات، فأنكر أميّة ووضع الكأس من يده وتغيّر لونه فقال أصحابه: ما أكثر ما سمعنا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 139 مثل هذا وكان باطلا وألحّوا عليه حتى شرب الكأس فمال فأغمى عليه ثم أفاق فقال: لا برىء فأعتذر، ولا قوىّ فأنتصر، ثم خرجت نفسه. وزعموا أن رجلا من كعب خرج في جماعة ومعه سقاء من لبن فسار صدر يومه فعطش فأناخ ليشرب فاذا غراب ينعب فأثار راحلته، ثم سار فلما أظهر أناخ ليشرب، فنعب الغراب وتمرّغ في التراب فضرب الرجل السقاء بسيفه فاذا فيه أسود ضخم فقتله، ثم سار فاذا غراب واقع على سدرة فصاح به فوقع على سلمة فصاح به فوقع على صخرة فانتهى اليها فأثار كنزا، فلما رجع الى أبيه قال له: إيه ما صنعت؟ قال: سرت صدر يومى، ثم أنخت لأشرب فنعب الغراب، قال أثرها وإلا فلست يا بنى! قال: أثرتها، ثم أنخت لأشرب فنعب الغراب وتمرّغ في التراب قال: اضرب السقاء وإلا لست يا بنى! قال: فعلت، فاذا أسود ضخم قال: ثم مه! قال: ثم رأيت غرابا على سدرة قال: أطره وإلا فلست يا بنى! قال: فعلت فوقع على سلمة قال: أطره وإلا فلست يا بنى! قال: فعلت فوقع على صخرة قال: أحد يا بنىّ! فأحداه ومن الزجر: ما يروى أن كسرى أبرويز بعث الى النبىّ صلّى الله عليه وسلم حين بعث زاجرا ومصوّرا وقال للزاجر: انظر ما ترى في طريقك وعنده، وقال للمصوّر: إئتنى بصورته، فلما عاد اليه أعطاه المصوّر صورته صلّى الله عليه وسلم فوضعها كسرى على وسادته، وقال للزاجر: ما رأيت؟ فقال: لم أر ما أزجره حتى الآن وأرى أمره يعلو عليك لأنك وضعت صورته على وسادتك. وقيل: إن كثيّرا تعشّق امرأة من خزاعة يقال لها: أمّ الحويرث، فشبّب بها فكرهت أن يفضحها كما فضح عزّة فقالت له: إنّك رجل فقير لا مال لك فابتغ مالا، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 140 ثم تعال فاخطبنى كما يخطب الكرام قال: فاحلفى لى ووثّقى أنّك لا تتروّجين حتى أقدم عليك فحلفت ووثقت له فمدح عبد الرحمن بن الأزدىّ وخرج اليه؛ فلقى ظباء سوانح، ولقى غرابا يفحص التراب بوجهه فتطيّر من ذلك حتى قدم على حىّ من لهب فقال: أيّكم يزجر؟ قالوا: كلّنا! فمن تريد؟ قال: أعلمكم بذلك! قالوا: ذلك الشيخ المنحنى الصلب، فأتاه فقصّ عليه القصّة فكره ذلك له وقال: قد ماتت أو تزوّجت رجلا من بنى عمّها فقال كثيّر تيممت لهبا أبتغى العلم عندهم ... وقد ردّ علم العائفين الى لهب! فيممت شيخا منهم ذا نحالة ... بصيرا يزجر الطير منحنى الصّلب! فقلت له: ماذا ترى في سوانح ... وصوت غراب يفحص الأرض بالترب؟ فقال: جرى الطير السنيح ببينها ... ونادى غراب بالفراق وبالسلب فإن لا تكن ماتت فقد حال دونها ... سؤال خليل باطن من بنى كعب قال: ثم مدح الرجل الأزدىّ فأصاب منه خيرا، ثم قدم عليها فوجدها قد تزوّجت رجلا من بنى عمّها فأخذه الهلاس فكشح جنباه بالنار؛ فلمّا اندمل من علّته ووضع يده على ظهره فاذا هو برقمتين فقال: ما هذا؟ قالوا: أخذك الهلاس وزعم الأطباء أنّه لا علاج لك إلا بالكشح بالنار فكشحت بها فأنشأ يقول عفى الله عن أمّ الحويرث ذنبها ... علام تعنّينى وتكمى دوائيا؟ ولو آذنونى قبل أن يرقموا بها ... لقلت لهم: أمّ الحويرث دائيا وحكى أن صاحب الروم بعث الى النبىّ صلّى الله عليه وسلم رسولا وقال له: انظر أين تراه جالسا، ومن الى جانبه، وانظر ما بين كتفيه حتى الخاتم والشامة؛ فقدم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 141 ورسول الله صلّى الله عليه وسلم على نشز واضعا قدميه في الماء، وعن يمينه علىّ عليه السلام؛ فلما رآه صلّى الله عليه وسلم قال: «تحوّل فانظر ما أمرت به» فنظر ثم رجع الى صاحبه فأخبره الخبر فقال: ليعلونّ أمره وليملكنّ ما تحت قدمى وقال: بالنشز العلوّ وبالماء الحياة. ومن الزجر: ما روى عن أبى ذؤيب الهذلىّ قال: إنّه بلغنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم عليل فأوجس أهل الحىّ خيفة عليه فبتّ بليلة ثابتة النجوم طويلة الأناة لا ينجاب ديجورها ولا يطلع نورها حتى اذا قرب السّحر غفوت فهتف لى هاتف يقول خطب أجلّ أناخ بالإسلام ... بين النخيل ومعقد الآطام قبض النبىّ محمد فعيوننا ... تذرى الدموع عليه بالتّسجام قال أبو ذؤيب: فوثبت من نومى فزعا فنظرت الى السماء فلم أر إلّا سعد الذابح فتفاءلت به ذبحا يقع في العرب، وعلمت أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلم قد مات أو هو ميّت من علّته، فركبت ناقتى وسرت حتى أصبحت فطلبت شيئا أزجره، فعنّ لى شيهم قد أرم على صلّ وهو يتلوّى عليه والشيهم يقضمه حتى أكله فزجرت ذلك شيئا مهمّا فقلت: تلوّى الصّلّ: انفتال الناس عن الحق على القائم بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم أوّلت أكل الشيهم إياه: غلبة القائم على الأمر فحثثت ناقتى حتى اذا كنت بالعلية زجرت الطير فأخبرنى بوفاته. ونعب غراب سانحا بمثل ذلك فتعوّذت من شرّ ما عنّ لى في طريقى، ثم قدمت المدينة ولأهلها ضجيج كضجيج الحجيج أهلّوا جميعا بالإحرام فقلت: مه! قالوا قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلم فجئت المسجد فأصبته خاليا فأتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأصبت بابه مرتجد وقد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 142 خلا به أهله فقلت: أين الناس؟ فقيل: فى سقيفة بنى ساعدة صاروا الى الأنصار فجئت السقيفة فوجدت أبا بكر، وعمر رضى الله عنهما، وأبا عبيدة، وسالما، وجماعة من قريش ورأيت الأنصار فيهم سعد بن عبادة ومعهم شعراؤهم وأمامهم حسّان بن ثابت، وكعب في ملإ منهم فأويت الى الأنصار فتكلموا فأكثروا وتكلّم أبو بكر فلله من رجل لا يطيل الكلام ويعلم مواضع الفصل، والله لتكلّم بكلام لم يسمعه سامع إلّا انقاد له ومال اليه، وتكلم بعده عمر رضى الله عنه بكلام دون كلامه، ومدّ يده فبايعه، ورجع أبو بكر رضى الله عنه ورجعت معه، فشهدت الصلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وشهدت دفنه قال: ولقد بايع الناس من أبى بكر رجلا حلّ قداماها ولم يركب ذنابابها وانصرف أبو ذؤيب الى باديته وثبت على إسلامه. ومنه: ما روى عن مصعب بن عبد الله الزّبيرىّ أنه حدّث عن رجل قال: شردت لنا إبل فأتيت حليسا الأسدىّ فسألته عنها فقال لبنت له: خطّى، فخطّت ونظرت ثمّ انقبضت وقامت منصرفة فنظر حليس في خطّها فضحك وقال: أتدرى لم قامت؟ قلت: لا، قال: رأت أنك تجد إبلك وأنّك تتزوّجها فاستحيت فقامت، فخرجت فأصبت إبلى ثمّ تزوجتها بعد. الفأل والطّيرة حكى أنه لما ولد لسعيد بن العاص عنبسة قال سعيد لابنه يحيى: أىّ شىء تجلّه؟ قال: دجاجة بفراريجها، وإنما أراد احتقاره بذلك لأن أمّه كانت أمة فقال سعيد: إن صدق الطير ليكوننّ أكثركم ولدا فكان كذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 143 لما طلب عامر بن إسماعيل مروان بن محمد اعترضه بالفيّوم قوم من العرب فسأل رجلا: ما اسمك؟ فقال منصور بن سعد: وأنا من سعد العشيرة، فتبسم تفاؤلا به وتيمّنا واستصحبه فظفر بمروان تلك الليلة. ومن الطّيرة: ما حكى عن بعضهم قال: حضرت الموقف مع عمر بن الخطاب رضى الله عنه فصاح به رجل من خلفه: يا خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم قال: يا أمير المؤمنين! فقال رجل من خلفه: دعاه باسم ميت! مات والله أمير المؤمنين، ولا يقف هذا الموقف أبدا! فالتفت اليه فاذا هو اللهبىّ؛ فقتل عمر قبل الحول. وحكى أنّ عمر رضى الله عنه خرج الى حرّة واقم فلقى رجلا من جهينة فقال له: ما اسمك؟ قال: شهاب، قال: ابن من؟ قال: ابن جمرة! قال: وممن أنت؟ قال: من الحرقة! قال: ثم ممن؟ قال: من بنى ضرام! قال: وأين منزلك؟ قال: بحرّة ليلى! قال: وأين تريد؟ قال: لظى وهو موضع! فقال عمر: أدرك أهلك، فما أراك تدركهم إلا وقد احترقوا، قال: فأدركهم، وقد أحاطت بهم النار. وقال المداينىّ: وقع الطاعون بمصر في ولاية عبد العزيز بن مروان فخرج هاربا منه فنزل قرية من الصعيد يقال لها: شكر، فقدم عليه حين نزلها رسول لعبد الملك فقال له عبد العزيز: ما اسمك؟ قال طالب بن مدرك! فقال: أوّه! ما أرانى راجعا الى الفسطاط أبدا؛ ومات في تلك القرية. وقيل: بينا مروان بن محمد في إيوان له ينفّذ الأمور، فانصدعت زجاجة الأموال، فوقعت الشمس منها على منكب مروان وكان هناك عياف فقال: صدع الزّجاج الجزء: 3 ¦ الصفحة: 144 أمر منكر على أمير المؤمنين، ثم قام فاتّبعه ثوبان مولى مروان. فقال له: ويحك! ما قلت؟ قال. قلت: صدع الزجاج صدع السلطان، ستذهب الشمس بملك مروان، بقوم من الترك أو خراسان، ذلك عندى واضح البرهان! قال: فما ورد لذلك شهران حتّى ورد خبر أبى مسلم. وقال إبراهيم بن المهدىّ: أرسل الىّ محمد الأمين في ليلة مقمرة من ليالى الصيف فقال: يا عمّى! إن الحرب بينى وبين طاهر قد سكنت فصر الىّ فإنى اليك مشتاق فجئته وقد بسط له على سطح، وعنده سليمان بن جعفر، وعليه كساء روذبارىّ، وقلنسوة طويلة، وجواريه بين يديه وضعف جاريته عنده. فقال لها: غنّينى فقد سررت بعمومتى فاندفعت تغنّيه هم قتلوه كى يكونوا مكانه ... كما فعلت يوما بكسرى مرازبه! بنى هاشم كيف التّواصل بيننا ... وعند أخيه سيفه ونجائبه؟ هكذا غنته، وإنما هو وعند علىّ سيعه ونجائبه فغضب وتطيّر، وقال: ما قصّتك؟ ويحك! غنينى ما يسرّنى، فغنّت هذا مقام مطرّد ... هدمت منازله ودوره! فازداد تطيّرا، ثم قال: ويحك! انتهى وغنّى غير هذا فغنّت كليب لعمرى كان أكثر ناصرا ... وأيسر جرما منك ضرّج بالدّم فقال لها: قومى الى لعنة الله، فوثبت؛ وكان بين يديه قدح بلّور وكان لحبه إيّاه يسمّيه محمدا باسمه، فأصابه طرف ذيلها فسقط على بعض الصوانى فانكسر، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 فأقبل علىّ وقال: أرى والله يا عمّ أن هذا آخر أمرنا، فقلت: كلّا! بل يبقيك الله يا أمير المؤمنين ويسرّك، قال: ودجلة والله هادئة ما فيها صوت مجداف، ولا أحد يتحرّك؛ فسمعت هاتفا يهتف: (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) قال فقال لى: سمعت يا عمّ؟ فقلت: وما هو؟ وقد والله سمعته، فاذا الصوت قد عاد فقال: انصرف بيتك الله بخير فمحال أن لا تكون الآن قد سمعت ما سمعت، فانصرفت وكان آخر العهد به. وشبيه بهذا ما حكى عن علّوية المغنىّ قال: كنت مع المأمون لما خرج الى الشام، فدخلنا دمشق فطفنا فيها، وجعل يطوف على قصور بنى أميّة، ويتتبّع آثارهم، فدخلنا صحنا من صحونهم، مفروشا بالرخام الأخضر، وفيه بركة ماء فيها سمك، وأمامها بستان، فاستحسن ذلك وعزم على الصّبوح ودعا بالطعام والشراب، وأقبل علىّ فقال: غنّنى ونشّطنى، فكأنّ الله تعالى أنسانى الغناء كله إلا هذا الصوت من شعر عبد الله بن قيس الرّقيّات لو كان حولى بنو أمية لم ... تنطق رجال أراهم نطقوا من كلّ قرم محض ضرائبه ... عن منكبيه القميص ينخرق قال: فنظر الىّ مغضبا، وقال: عليك وعلى بنى أميّة لعنة الله، ويلك! أقلت لك سرّنى أو سؤنى؟ ألم يكن لك وقت تذكر فيه بنى أميّة إلا هذا الوقت تعرّض بى؟ فتجلّدت عليه وعلمت أنّى قد أخطأت، فقلت: أتلومنى على أن أذكر بنى أميّة؟ هذا مولاكم زرياب عندهم يركب في مائتى غلام مملوك له، ويملك ثلاثمائة ألف دينار [وهبوها له سوى الخيل والضياع والرّقيق «1» ] : وأنا عندكم أموت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 146 جوعا، فقال: أو لم يكن لك شىء تذكّرنى به نفسك غير هذا؟ فقلت: هكذا حضرنى حين ذكرتهم، فقال: أعرض وتنبّه على إرادتى وغنّ فأنسانى الله كلّ شىء أحسنه إلا هذا الصوت الحين ساق الى دمشق وما ... كانت دمشق لأهلنا بلدا قادتك نفسك فاستقدت لها ... وأرتك أمر غواية رشدا فرمانى بالقدح فأخطأنى وانكسر القدح، وقال: قم الى لعنة الله وحرّ سقر! فركب، وكانت تلك الحال آخر عهدى به حتى مرض ومات بعد ذلك بقليل. ومثل ذلك ما حكى في قتلة المتوكل، وذلك أنه جلس يوم الأربعاء لأيام خلون من شوّال سنة تسع وأربعين ومائتين وقال للفتح بن خاقان: أحبّ أن نصطبح؛ فأحضر المغنّين وفيهم أحمد بن أبى العلاء فقال له: غنّ فغنّى يا عاذلىّ من الملام دعانى ... إنّ البليّة فوق ما تصفان زعمت بثينة أنّ فرقتنا غدا ... لا مرحبا بغد فقد أبكانى فتطّير المتوكّل منه، وقال: أحمد! كيف وقع لك أن تغنّى بهذا الشعر، قال: فشغل قلب ابن أبى العلاء لما أنكر عليه، ثم ذهب ليغنّى غيره، فغنّاه ثانية، فقال المتوكّل: نسأل الله خير هذا اليوم، وصرف المغنّين وقام لصلاة الظهر، فلمّا فرغ قال له الفتح: يا سيّدى أتمم يومك، فدعا بالشراب وقال: أين ابن أبى العلاء؟ فأحضر فقال له: غنّ، فأغمى عليه فأعاد البيتين فاغتمّ المتوكّل غاية الغمّ وقتل في الليلة الآتية من ذلك اليوم. قال القاضى أبو على الجوينىّ: حضرت بين يدى سيف الدولة أبى الحسن صدقة ابن منصور بن دبيس، وابنه أبو المكارم محمد إذ ذاك مريض مرضه الذى مات فيه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 وقد أتى بديوان أبى نصر بن نباته فتصفّحه فوقع بيده وقال: يعزّى سيف الدولة أبا الحسن ويرثى ابنه أبا المكارم محمد، فأخذت المجلّد وأطبقته فعاد فتصفّحه فخرج ذلك، ومن القصيدة التى عناها قوله فإنّ بميّا فارقين حفيرة ... تركنا عليها ناظر الجود داميا تضمّنها أيدى فتى ثكلت به ... غداة ثوى أمالنا والأمانيا ولمّا عدمنا الصبر بعد محمد ... أتينا أباه نستفيد التعازيا حكى: أنّ أبا الشمقمق شخص مع خالد بن يزيد بن مزيد وقد تقلّد الموصل، فلما أراد الدخول اليها اندقّ لواؤه في أوّل درب منها، فتطيّر من ذلك وعظم عليه، فقال أبو الشمقمق ما كان مندقّ اللواء لريبة ... تخشى ولا أمر يكون مبذّلا لكنّ هذا الرمح ضعّف متنه ... صغر الولاية فاستقلّ الموصلا فسرّى عن خالد، وكتب صاحب البريد بذلك الى المأمون، فزاده ديار ربيعة وكتب اليه: هذا التضعيف الموصل متن رمحك، فأعطى خالد أبا الشمقمق عشرة آلاف درهم. وقيل: لمّا توجّه المسترشد للقاء السلطان مسعود بن محمد بن ملكشاه السلجلقىّ، وقع على الشمسية التى ترفع على رأسه طائر من الجوارح وألحّ، كلما نفّر عاد، فتفاعل الناس له بذلك وسرّ هو به، فقال إنسان يعرف بملكدار: هذا جارح ومنقبض الكفّ وليس فيه بشرى بل ضدّها، وأقبل السلطان في جيشه فكانت الكسرة وقبض على المسترشد وقتل من بعد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 148 خرج بعض ملوك الفرس الى الصيد، فكان أوّل من استقبله أعور فأمر بضربه وحبسه، ثم خرج وتصيّد صيدا كبيرا، فلمّا عاد استدعى الأعور وأمر له بصلة، فقال الأعور: لا حاجة لى في صلتك، ولكن ائذن لى في الكلام، فقال: تكلّم! قال: لقيتنى فضربتنى وحبستنى، ولقيتك فصدت وسلمت فأيّنا أشأم؟ فضحك وخلاه. الفراسة والذكاء يقولون: عظم الجبين يدلّ على البله، وعرضه يدلّ على قلة العقل، وصغره على لطف الحركة، والحاجبان اذا اتصلا على استقامة دلّا على تخنيث واسترخاء، واذا تزججا نحو الصّدغين دلّا على طنز واستهزاء، والعين اذا كانت صغيرة الموق دلّت على سوء دخلة، وخبث شمائل، واذا وقع الحاجب على العين دلّ على الحسد، والعين المتوسطة في حجمها دليل فطنة وحسن خلق ومروءة، والناتئة على اختلاط عقل، والطائرة على حدّة، والتى يطول تحديقها على قحة وحمق، والتى تكسر طرفها على خفّة وطيش، والشّعر على الأذن يدلّ على جودة السمع، والأذن الكبيرة المنتصبة تدلّ على حمق وهذيان. وحكى: أن أبا موسى الأشعرىّ وجّه السائب بن الأقرع في خلافة عمر بن الخطّاب رضى الله عنه الى مهرجا بعد أن فتحها ودخل دار الهرمزان بعد أن جمع السبى والغنائم، ورأى في بعض مجالس الدار تصاوير فيها مثال ظبى وهو مشير بإحدى يديه الى الأرض، فقال السائب: لأمر ما صوّر هذا الظبى هكذا، إن له لشأنا، فأمر بحفر الموضع الذى الإشارة اليه فأفضى الى موضع فيه حوض من رخام، فيه سفط جوهر فأخذه السائب وخرج به الى عمر رضى الله عنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 149 وقيل: كان المعتضد يوما جالسا في بيت يبنى له وهو يشاهد الصّنّاع فرأى في جملتهم عبدا أسود منكر الخلق، شديد المرح، يصعد على السلاليم مرقاتين مرقاتين ويحمل ضعف ما يحمل غيره، فأنكر أمره، وأحضره وسأله عن سبب ذلك، فلجلج فقال لوزيره: قد خمّنت في هذا نخمينا ما أحسبه باطلا، إمّا أن يكون معه دنانير قد ظفر بها من غير وجهها، أو لصّا يتستّر بالعمل، ثم قال: علىّ بالأسود فأحضره وضربه، وحلف إن لم يصدقه ليضربنّ عنقه، فقال الأسود: ولى الأمان يا أمير المؤمنين، قال: نعم! إلّا ما كان من حدّ، فظن أنه قد أمّنه، فقال: كنت أعمل في أتّون الآجرّ، منذ سنين، فأنا منذ شهور جالس إذ مرّ بى رجل في وسطه كيس فتبعته وهو لا يعرف مكانى فحلّ الهميان وأخرج منه دينارا فتأمّلته فاذا كله دنانير فكتّفته وسددت فاه وأخذت الهميان وحملته على كتفى وطرحته في التّنور وطيّنت عليه، فلما كان بعد أيام أخرجت عظامه وطرحتها في دجلة والدنانير معى تقوّى قلبى قال: فأرسل المعتضد من أحضر الدنانير، واذا على الكيس: لفلان بن فلان، فنادى في المدينة، فحضرت امرأته وقالت: هذا زوجى وقد ترك طفلا صغيرا خرج في وقت كذا ومعه كيس فيه ألف دينار، فغاب الى الآن، فسلّم الدنانير اليها وأمرها أن تعتدّ، وضرب عنق الأسود وأمر أن يوضع فى الأتّون. وقيل: جلس المنصور في إحدى قباب المدينة فرأى رجلا ملهوفا مهموما يجول فى الطرقات، فأرسل من أتاه به فسأله عن حاله فأخبره أنّه خرج في تجارة فأفاد مالا ورجع الى منزله به، فدفعه الى امرأته، فذكرت المرأة أنّ المال سرق ولم يرنقبا ولا تسلّقا، فقال له المنصور: منذكم تزوّجتها؟ قال: منذ سنة، قال: فبكرا أو ثيّبا؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 150 قال ثيّبا، قال: فلها ولد من سواك؟ قال: لا، قال: شابّة أم مسنّة؟ قال: شابّة، فدعا المنصور بقارورة طيب، وقال: تطيّب بهذا، فهو يذهب همّك، فأخذها وانقلب الى أهله، ثم قال المنصور لأربعة من ثقاته: اقعدوا على أبواب المدينة، فمن مرّبكم وعليه شىء من هذا الطّيب فأتونى به، وأشمهم من ذلك الطّيب، ومضى الرجل بالطّيب، فدفعه الى امرأته وقال: وهبه لى أمير المؤمنين، فلمّا شمّته بعثت به الى رجل كانت تحبّه وقد كانت دفعت اليه المال فتطيّب به، ومرّ مجتازا ببعض الأبواب، فأخذ وأتى به الى المنصور، فقال له: من أين استفدت هذا الطيب؟ فلجلج لسانه، فسلّمه الى صاحب شرطته وقال: أن احضر الدنانير وإلّا فاضربه ألف سوط، فما هو إلّا أن جرّد وهدّد، فأحضر الدنانير على حالتها فأعلم المنصور بذلك، فدعا صاحب الدنانير وقال: أرأيتك إن رددت عليك متاعك بعينه أتحكّمنى في امرأتك؟ قال: نعم! قال: خذ دنانيرك وقد طلّقت امرأتك وخبّره الخبر. ودخل شريك بن عبد الله القاضى على المهدىّ فأراد أن يبخّره فقال للخادم: ائت القاضى بعود، فذهب فجاء بالعود الذى يلهى به، فوضعه في حجر شريك، فقال شريك: ما هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: عود أخذه صاحب العسس البارحة فأحببنا أن يكون كسره على يد القاضى، فقال شريك: جزاك الله خيرا يا أمير المؤمنين، ثم ضرب به الأرض فكسره ثم أفاضوا في حديث آخر حتى نسى الأمر ثم قال المهدىّ لشريك: ما تقول فيمن أمر وكيلا له أن يأتى بشىء فجاء بغيره فتلف ذلك الشىء؟ فقال: يضمن يا أمير المؤمنين، فقال للخادم: اضمن ما تلف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 151 الباب الرابع من القسم الثانى من الفن الثانى فى الكنايات والتعريض والكنايات لها مواضع؛ فأحسنها العدول عن الكلام القبيح الى ما يدلّ على معناه فى لفظ أبهى منه. ومن ذلك أن يعظّم الرجل فلا يدعى باسمه ويكنى بكنيته، أو يكنى باسم ابنه صيانة لاسمه، وقد ورد في ذلك كثير من آى القرآن فمنها قوله تعالى (فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً) أى كنّياه. وقد كنّى رسول الله صلّى الله عليه وسلم علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: بأبى تراب؛ وقال البحترىّ يتشاغفن بالصغير المسمّى ... موضعات وبالكبير المكنّى وهذا يدل على أن المراد بالكنية التبجيل؛ وقول ابن الرومىّ بكت شجوها الدنيا فلما تبيّنت ... مكانك منها استبشرت وتثنّت وكان ضئيلا شخصها فتطاولت ... وكانت تسمّى ذلة فتكنّت وقال أبو صخر الهذلىّ أبى القلب إلا حبّه عامريّة ... لها كنية: عمرو، وليس لها عمرو ومن عادة العرب وشأنهم؛ استعمال الكنايات في الأشياء التى يستحيى من ذكرها، قصدا للتعفّف باللسان، كما يتعفّف بسائر الجوارح، قال الله عزوجلّ تأديبا لعباده (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) فقرن عفّة البصر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 152 بعفّة الفرج؛ وفي القرآن كنايات عدل بها عن التصريح تنزيها عن اللفظ المستهجن، كقوله تعالى: (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) وقال أبو عبيد: هو كناية، شبّه النساء بالحرث، وقوله تعالى: (وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا) ، قيل: هو كناية عن الفروج، وفي موضع آخر: يوم (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) ، وقوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) ، وقوله تعالى: (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) قال المفسرون: هذا تنبيه بأكل الطعام على عاقبة ما يصير اليه؛ وهو الحدث، لأن من أكل الطعام فلا بدّ أن يحدث. ثم قال: (انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ) وهذا من ألطف الكناية، ومنه قوله تعالى: (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) * فالغائط: المطمئن من الأرض، وكانوا يأتونه لحاجتهم ويستترون به عن الأماكن المرتفعة. ومن لم ير الوضوء من لمس النساء جعل الملامسة هاهنا كناية عن الفعل. ومن الكنايات في كلام رسول الله صلّى الله عليه وسلم- وهو وإن كان قد ورد في الأمثال أشبه بالكناية- منها قوله صلّى الله عليه وسلم «إياكم وخضراء الدّمن» يريد بها المرأة الحسناء في المنبت السوء، وتفسير ذلك: أن الريح تجمع الدّمن، وهو البعر في البقعة من الأرض فأذا أصابه المطر نبت نبتا غضّا يهتزّ وتحته الدّمن الخبيث، يقول: فلا تنكحوا هذه المرأة الحسناء لجمالها، ومنبتها خبيث كالدّمن؛ فإن أعراق السوء تزرع أولادها؛ وقال زفر بن الحارث وقد ينبت المرعى على دمن الثرى ... وتبقى حزازات النفوس كما هيا! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 153 وقوله صلّى الله عليه وسلم: «حمى الوطيس» قاله لما جال المسلمون يوم حنين، والوطيس: حفيرة تحتفر في الأرض شبيهة بالتنّور؛ وقال الحسن: لبث أيوب عليه السلام على المزبلة سبع سنين، وما على الأرض يومئذ خلق أكرم على الله منه، فما سأل الله العافية إلا تعريضا في قوله: (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) والعرب تكنى عن الفضلة المستقذرة بألفاظ كلّها كنايات، منها: الرّجيع والنّجو والبراز والغائط والعذرة والحشّ، فبعض هذه الألفاظ يراد بها نفس الحدث، وبعضها يراد بها المواضع التى يأتى اليها المحدث، وكذلك استعملوا في إتيان النساء: المجامعة، والمرافعة، والمباضعة، والمباشرة، والملامسة، والمماسّة، والخلوة، والإفضاء، والغشيان، والتغشّى، وكل هذه الألفاظ مذكورة في القرآن. وحكى: أن رجلا من بنى العنبر كان أسيرا في بكر بن وائل، وعزموا على غزو قومه، فسألهم رسولا الى قومه، فقالوا: لا ترسل إلا بحضرتنا لئلا تنذرهم، وجىء بعبد أسود، فقال له: أتعقل؟ قال: نعم إنى لعاقل! قال: ما أراك عاقلا! ثم أشار بيده الى الليل، فقال: ما هذا؟ قال: الليل! قال: أراك عاقلا. ثم ملأ كفّيه من الرمل فقال: كم هذا؟ قال: لا أدرى وإنه لكثير، قال: أيّما أكثر؟ النجوم أم النيران؟ قال: كلّ كثير، فقال: أبلغ قومى التحيّة، وقل لهم ليكرموا فلانا، يعنى أسيرا كان في أيديهم من بكر، فإن قومه لى مكرمون وقل لهم: إن العرفج قد أدبى، وشكّت النساء، وأمرهم أن يعروا ناقتى الحمراء، فقد أطالوا ركوبها، وأن يركبوا جملى الأصهب بآية ما أكلت معهم حيسا، واسألوا عن خبرى أخى الحارث؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 154 فلما أدّى العبد الرسالة اليهم قالوا: قد جنّ الأعور، والله ما نعرف له ناقة حمراء، ولا جملا أصهب، ثم سرّحوا العبد ودعوا الحارث فقصّوا عليه القصّة، فقال: قد أنذركم؛ أمّا قوله: قد أدبى العرفج؛ يريد: أن الرجال قد استلاموا ولبسوا السلاح، وقوله: وشكّت النساء؛ أى اتخذن الشّكاء للسفر، وقوله: الناقة الحمراء؛ أى ارتحلوا عن الدهناء واركبوا الصّمّان وهو الجمل الأصهب، وقوله: بآية ما أكلت معكم حيسا أى أخلاط من الناس وقد غزوكم؛ لأن الحيس يجمع التمر والسمن والأقط، فامتثلوا ما قال، وعرفوا لحن كلامه. وحكى أبو الفرج الأصفهانىّ بسنده الى مجالد ابن سعيد عبد الملك بن عمر قال: قدم علينا عمر بن هبيرة الكوفة، فأرسل الى عشرة أنا أحدهم من وجوه أهل الكوفة، فسمرنا عنده. ثم قال: ليحدثنى كلّ رجل منكم أحدوثة. وابدأ أنت يا أبا عمرو، فقلت: أصلح الله الأمير، أحديث الحق أم حديث الباطل؟ قال: بل حديث الحقّ، قلت: إن امرأ القيس آلى ألية أن لا يتزوّج امرأة حتى يسألها عن ثمانية وأربعة واثنين، فجعل يخطب النساء فاذا سألهن عن هذا، قلن أربعة عشر، فبينا هو يسير في جوف الليل اذا هو برجل يحمل ابنة له صغيرة، كأنها البدر لتّمه، فأعجبته فسألها: يا جارية! ما ثمانية وأربعة واثنان؟ فقالت: أما ثمانية فأطباء الكلبة، وأما أربعة فأخلاف الناقة، وأما اثنان فثديا المرأة، فخطبها الى أبيها، فزوّجه إياها وشرطت عليه أن تسأله ليلة بنائها عن ثلاث خصال، فجعل لها ذلك، وعلى أن يسوق اليها مائة من الإبل، وعشرة أعبد، وعشر وصائف، وثلاثة أفراس؛ ففعل ذلك، ثم إنه بعث عبدا له الى المرأة، وأهدى لها نحيا من سمن، ونحيا من عسل، وحلّة من قصب، فنزل العبد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 155 على بعض المياه، فنشر الحلّة فلبسها فتعلّقت بسمرة فانشقّت، وفتح النّحيين فأطعم أهل الماء منهما فنقصا، ثم قدم على حىّ المرأة وهم خلوف فسألها عن أبيها وأمها وأخيها، ودفع اليها هديّتها فقالت له: أعلم مولاك أنّ أبى ذهب يقرّب بعيدا، ويبعّد قريبا، وأنّ أمّى ذهبت تشقّ النفس نفسين، وأنّ أخى ذهب يراعى الشمس، وأنّ سماءكم انشقّت، وأنّ وعاءيكم نضبا، فقدم الغلام على مولاه فأخبره، فقال: أما قولها: أنّ ابى ذهب يقرّب بعيدا ويبعّد قريبا: فإن أباها ذهب يحالف قوما على قومه، وأما قولها: ذهبت أمّى تشق النفس نفسين: فإن أمها ذهبت تقبل امرأة نفساء؛ وأما قولها: ذهب أخى يراعى الشمس: فإن أخاها في سرح له يرعاه، فهو ينتظر وجوب الشمس ليروح به، وقولها: أن سماءكم انشقّت: فإن البرد الذى بعثت به انشقّ، وأما قولها: أن وعاءيكم نضبا: فإن النّحيين نقصا؛ فاصدقنى؛ فقال: يا مولاى! إنى نزلت بماء من مياه العرب، فسألونى عن نسبى، فأخبرتهم أنى ابن عمك، ونشرت الحلّة فلبستها وتجمّلت بها، فتعلّقت بسمرة فانشقّت، وفتحت النّحيين فأطعمت منهما أهل الماء. فقال: أولى لك؛ ثم ساق مائة من الإبل، وخرج ومعه الغلام ليسقى الإبل، فعجز؛ فأعانه امرؤ القيس فرمى به الغلام في البئر، وخرج حتى أتى المرأة بالإبل فأخبرهم أنه زوجها، فقيل لها: قد جاء زوجك! فقالت: والله ما أدرى أزوجى هو أم لا؟ ولكن انحروا له جزورا وأطعموه من كرشها وذنبها، ففعلوا؛ فأكل ما أطعموه، قالت: اسقوه لبنا حازرا (وهو الحامض) فسقوه؛ فشرب، فقالت: افرشوا له عند الفرث والدم، ففرشوا له؛ فنام. فلما أصبحت أرسلت اليه: أريد أن أسألك عن ثلاث، قال: سلى عما بدا لك، فقالت: لم تختلج شفتاك؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 156 قال: من تقبيلى إياك! قالت: لم تختلج فخذاك؟ قال: لتورّكى إياك! قالت: فلم يختلج كشحاك؟ قال: لالتزامى إياك! قالت: عليكم العبد! فشدّوا أيديكم به؛ ففعلوا؛ قال: ومرّقوم فاستخرجوا امرأ القيس من البئر، فرجع الى حيّه واستاق مائة من الإبل وأقبل الى امرأته. فقيل لها: قد جاء زوجك! فقالت: والله ما أدرى أزوجى هو أم لا؟ ولكن انحروا له جزورا وأطعموه من كرشها وذنبها، ففعلوا؛ فلما أتوه بذلك، قال: وأين الكبد والسّنام والملحاء؟ فأبى أن يأكل، فقالت: اسقوه لبنا حازرا، فأتى به، فأبى أن يشربه وقال: أين الصّريف والرّثيئة؟ فقالت: افرشوا له عند الفرث والدم، ففرشوا له؛ فأبى أن ينام وقال: افرشوا لى فوق التلعة الحمراء واضربوا عليها خباء، ثم أرسلت اليه: هلمّ شريطتى عليك في المسائل الثلاث، فأرسل اليها: سلينى عما شئت، فقالت: لم تختلج شفتاك؟ قال: لشرب المشعشعات؛ قالت: فلم يختلج كشحاك؟ قال: للبس الحبرات؛ قالت: فلم يختلج فخذاك؟ قال: لركض المطهّمات؛ قالت: هذا زوجى لعمرى! فعليكم به، واقتلوا العبد فقتلوه، ودخل امرؤ القيس بالجارية؛ قال ابن هبيرة: حسبكم! فلا خير فى الحديث في سائر الليلة بعد حديثك يا أبا عمرو ولن يأتينا أحد بأعجب منه، فقمنا فانصرفنا وأمر لى بجائزة. وقيل: بعث نشامة بن الأعور العنبرىّ الى أهله بثلاثين شاة ونحى صغير فيه سمن، فسرق الرسول شاة، وأخذ من رأس النحى شيئا، فقال لهم الرسول: ألكم حاجة أخبره بها؟ فقالت امرأته: أخبره أنّ الشهر محاق، وأن جدينا الذى كان يطالعنا وجدناه مرثوما، فارتجع منه الشاة والسمن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 وقيل: أسرت طىّء غلاما، فقدم أبوه ليفديه، فاشتطّوا عليه. فقال أبوه: لا والذى جعل الفرقدين يمسيان ويصبحان على جبلى طىّء! ما عندى غير ما بذلته، ثم انصرف وقال: لقد أعطيته كلاما إن كان فيه خير فهمه. كأنه قال: الزم الفرقدين على جبلى طىّء، ففهم الابن تعريضه وطرد إبلا لهم من ليلته ونجا. ومن التخليص المتوسّط اليه بالكناية؛ ما روى عن عدىّ بن حاتم بن عبد الله الطائىّ، أنه قال يوما في حق الوليد بن عقبة بن أبى معيط: ألا تعجبون لهذا؟ أشعر بركا يولّى مثل هذا المصر، والله ما يحسن أن يقضى في تمرتين. فبلغ ذلك الوليد فقال على المنبر: أنشد الله رجلا سمّانى أشعر بركا إلا قام، فقام عدىّ بن حاتم فقال: أيها الأمير، إن الذى يقوم فيقول: أنا سمّيتك أشعر بركا لجرىء، فقال له: اجلس يا أبا طريف! فقد برّأك الله منها، فجلس وهو يقول: ما برأنى الله منها. وقيل: كان شريح عند زياد بن أبيه وهو مريض، فلما خرج من عنده أرسل اليه مسروق رسولا وقال: كيف تركت الأمير؟ فقال: تركته يأمر وينهى، قال مسروق: إنه صاحب مرض، فارجع اليه واسأله ما يأمر وينهى، قال: يأمر بالوصيّة وينهى عن النّوح. خطب رجل الى قوم فجاءوا الى الشعبىّ يسألونه عنه، وكان به عارفا، فقال: هو والله ما علمت نافذ الطعنة، ركين الجلسة، فزوّجوه؛ فاذا هو خيّاط فأتوه فقالوا: غررتنا فقال: ما فعلت وإنه لكما وصفت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 158 وخطب باقلانىّ الى قوم وذكر أن الشعبىّ يعرفه فسألوه فقال: إنه لعظيم الرماد، كثير الغاشية. قيل: أخذ العسس رجلين فقال لهما: من أنتما؟ فقال أحدهما أنا ابن الذى لا ينزل الدهر قدره ... وإن نزلت يوما فسوف تعود ترى الناس أفواجا الى ضوء ناره ... فمنهم قيام حولها وقعود! وقال الآخر أنا ابن من تخضع الرقاب له ... ما بين مخزومها وهاشمها تأتيه بالذلّ وهى صاغرة ... يأخذ من مالها ومن دمها! فظنوهما من أولاد الأكابر، فلما أصبح سأل عنهما؛ فإذا الأول ابن طبّاخ والثانى ابن حجّام. وقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه للأحنف: أىّ الطعام أحبّ اليك؟ قال: الزّبد والكمأة. فقال: ما هما بأحبّ الطعام اليه، ولكنه يحبّ الخصب للمسلمين. وقال لقمان لابنه: كل أطيب الطعام، ونم على أوطأ الفرش؛ كنّى عن إكبار الصيام، وإطالة القيام. ومن جيّد التورية وغريبها مع توخّى الصدق في موطن الخوف: قول أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه، وقد أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو رديفه عام الهجرة، فقيل له: من هذا يا أبا بكر؟ فقال: رجل يهدينى السبيل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 159 ورفع الى عبيد الله بن الحسن قاضى البصرة وصية لرجل بمال أمر أن تتّخذ به حصون. فقال: اشتروا به خيلا للسبيل، أما سمعتم قول النخعىّ ولقد علمت على تجنبى الردى ... أن الحصون الخيل لا مدر القرى قيل كان البراء بن قبيصة صاحب شراب؛ فدخل على الوليد بن عبد الملك، وبوجهه أثر، فقال: ما هذا؟ قال فرس لى أشقر، ركبته فكبابى، فقال: لو ركبت الأشهب لما كبابك؛ يريد الماء. قال عبد الملك بن مروان لثابت بن الزبير: ما ثابت من الأسماء! ليس باسم رجل ولا امرأة، قال: يا أمير المؤمنين لا ذنب لى لو كان اسمى الىّ، لسمّيت نفسى زينب، يعرّض به؛ فإنه كان يعشق زينب بنت عبد الرحمن بن هشام فخطبها؛ فقالت: لا أوسّخ نفسى بأتى الذبّان. قال نميرىّ لفقعسىّ: إنى أريد إتيانك فأجد على بابك جروا، فقال له الفقعسىّ: اطرح عليه ترابا وادخل؛ أراد النميرىّ قول الشاعر ينام الفقعسىّ وما يصلّى ... ويخرى فوق قارعة الطريق وأراد الفقعسىّ قول الآخر ولو وطئت نساء بنى نمير ... على ترب لخبّثن الترابا قال عبد الله بن الزبير لامرأة عبد الله بن حازم السلمىّ: أخرجى المال الذى وضعته تحت استك، فقالت: ما ظننت أن أحدا يلى شيئا من أمور المسلمين يتكلّم بهذا، فقال بعض من حضر: أما ترون الخلع الخفىّ الذى أشارت اليه؟ فلما أخذ الحجّاج أمّ عبد الرحمن بن الأشعث تجنّب ما عيب على ابن الزبير، فكنّى عن المعنى فقال لها: عمدت الى مال الله فوضعته تحت ذيلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 160 ماتت للهذلىّ أمّ ولد، فأمر المنصور الربيع بأن يعزّيه ويقول له: إن أمير المؤمنين يوجّه اليك بجارية نفيسة لها أدب وظرف تسليك عنها، وأمر لك بفرس وكسوة وصلة؛ فلم يزل الهذلىّ يتوقّعها، ونسيها المنصور، ثم حجّ ومعه الهذلىّ فقال له وهو بالمدينة: أحبّ أن أطوف الليلة في المدينة، وأطلب من يطوف بى فقال: أنا لها يا أمير المؤمنين؛ فطاف به حتى وصل الى بيت عاتكة فقال: يا أمير المؤمنين! وهذا بيت عاتكة الذى يقول فيه الأحوص يا بيت عاتكة الذى أتعزّل فأنكر المنصور ذكر بيت عاتكة من غير أن يسأله عنه؛ فلما رجع أمرّ القصيدة على خاطره فاذا فيها وأراك تفعل ما تقول وبعضهم ... مذق الحديث يقول ما لا يفعل فتذكّر الموعد وأنجزه واعتذر اليه. اجتمع الشعراء بباب أمير من أمراء العرب، فمرّ رجل بباز فقال رجل من بنى تميم لآخر من بنى نمير: هذا البازى! فقال النميرىّ: إنه يصيد القطا؛ عرّض الأوّل بقول جرير أنا البازى المطلّ على نمير ... أتيح من السماء لها انصبابا وأراد الآخر قول الطرمّاح تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا ... ولو سلكت طرق المكارم ضلّت قال عمر بن هبيرة الفزارىّ لأيوب بن ظبيان النميرىّ وهو يسايره: غضّ من بغلتك! فقال: إنها مكتوبة، أراد بن هبيرة قول جرير فغضّ الطرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 161 وأراد النميرىّ قول ابن دارة لا تأمننّ فزاريّا خلوت به ... على قلوصك واكتبها بأسيار وقيل: كان العزيز بن المعزّ العبيدىّ أحد الخلفاء بمصر يلعب بالحمام فتسابق هو وخادم له فسبق طائر الخادم طائر الخليفة؛ فبعث الى وزيره ابن كلس اليهودىّ يستعلمه عن ذلك فاستحيى أن يقول: إن طائر الخليفة سبق، فكتب إليه يابن الذى طاعته عصمة ... وحبّه مفترض واجب طائرك السابق لكنّه ... جاء وفي خدمته حاجب جاءت امرأة إلى عمر رضى الله عنه فقالت: أشكو اليك زوجى، خير أهل الأرض إلا رجل سبقه لعمل، أو عمل مثل عمله، يقوم الليل حتى يصبح، ويصوم النهار حتى يمسى؛ ثم أخذها الحياء فقالت: أقلنى يا أمير المؤمنين! فقال: جزاك الله خيرا! فقد أحسنت الثناء، فلما ولّت قال كعب بن شور: يا أمير المؤمنين لقد أبلغت اليك في الشكوى، فإنها كنّت بذلك عن عدم المباضعة. الباب الخامس من القسم الثانى من الفن الثانى فى الألغاز والأحاجى ّ قالوا: واشتقاق اللّغز من ألغز اليربوع ولغز: إذا حفر لنفسه مستقيما، ثم أخذ يمنة ويسرة ليوارى بذلك ويعمّى على طالبه. وللّغز أسماء فمنها: المعاياة، والعويص، والرمز، والمحاجاة، وأبيات المعانى، والملاحن، والمرموس، والتأويل، والكناية، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 162 والتعريض، والإشارة، والتوجيه، والمعمّى، والممثّل، ومعنى الجميع واحد، واختلافها بحسب اختلاف وجوه اعتباراته، فانك إذا اعتبرته من حيث إن واضعه كأنه يعاييك، أى يظهر إعياءك وهو التعب، سميته: معاياة، وإذا اعتبرته من حيث صعوبة فهمه واعتياص استخراجه، سمّيته: عويصا، وإذا اعتبرته من حيث إنه قد عمل على وجوه وأبواب، سمّيته: لغزا، وفعلك له: إلغازا، واذا اعتبرته من حيث إن واضعه لم يفصح عنه قلت: رمز، وقريب منه الإشارة، وإذا اعتبرته من حيث إن غيرك حاجاك أى استخرج مقدار عقلك، سمّيته: محاجاة، وإذا اعتبرته من حيث إنه استخرج كثرة معانيه، سمّيته: أبيات المعانى، وإذا اعتبرته من حيث إنّ قائله قد يوهمك شيئا ويريد غيره، سميته: لحنا وسميت فعلك: الملاحن، وإذا اعتبرته من حيث إنه ستر عنك ورمس فهو: المرموس، والرمس: القبر، وإذا اعتبرته من أن معناه يؤوّل اليك، سميته: مؤوّلا، وسميت فعلك: تأويلا، وإذا اعتبرته من حيث إن صاحبه لم يصرّح بغرضه، سميته: تعريضا وكناية، وإذا اعتبرته من حيث إنه ذو وجوه، سميته: الموجّه، وسميت فعلك: التوجيه، وإذا اعتبرته من حيث إنه مغطّى عليك، سمّيته: معمّى. قال الحكيم أمير الدولة المعروف بابن التلميذ في الميزان ما واحد مختلف الأسماء؟ ... يعدل في الأرض وفي السماء يحكم بالقسط بلا رياء ... أعمى يرى الرشاد كلّ رائى أخرس لا من علّة وداء ... يغنى عن التصريح بالإيماء يجيب إن ناداه ذو امتراء ... بالرفع والخفض عن النداء يفصح إن علّق في الهواء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 163 قولة: مختلف الأسماء يعنى ميزان الشمس، والآصطرلاب، وسائر آلات الرصد، وهو معنى قوله: يحكم في السماء. وميزان الكلام: النحو، وميزان الشعر: العروض، وميزان المعانى: المنطق، وهذه الميزان والذراع والمكيال. وقال آخر فيه ما تقولون؟: فيما نزل من السماء، وعلّق في الهواء، له عين عمياء، وكفّ شلاء، ليس له إن عدل ثواب، ولا عليه إن جار عقاب، خلق من ثلاثة أجناس، تضعضعه الأنفاس، جسمه عار من غير لباس، أخرس اللسان، فى أذنه خرصان، مكرر الذكر فى القرآن، ينطوى اذا نام كالصّلّ، وفعله المستقبل معتلّ، وله في الآخرة أكبر محلّ. وقال أبو نصر الكاتب في الخاتم ومنكوح إذا ملكته كفّ ... وليس يكون في هذا مراء له عين تخلّلها صياء ... فإن كحلت فللميل العماء يظلّ طليعة للوصل هونا ... وللخاشى بزورته احتماء وقد أوضحته وأبت عنه ... ففسّره فقد برح الخفاء أراد بقوله: تخلّلها ضياء أى أنها مفتوحة وكحلها بالإصبع؛ وقد يبعث المحبوب بخاتمه علامة للزيارة أو رهنا عليها وهو أمان للجانى. وقال ابن الرومىّ في فتيلة السراج ما حيّة في رأسها درّة ... تسبح في بحر قليل المدى؟ إن غيّبت كان العمى حاضرا ... وإن بدت لاح طريق الهدى! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 164 وقال السرىّ الرفّاء في شبكة الصيّاد وكثيرة الأحداق إلا أنها ... عمياء ما لم تنغمس في ماء وإذا هى انغمست أفادت ربّها ... ما لا ينال بأعين البصراء وقال آخر في النوم وحامل يحملنى ... وما له شخص يرى! إذا حصلت فوقه ... وهو لذيذ الممتطى! سريت لا أدرى أفى ... أرض سريت أم سما! وقال أبو العلاء المعرىّ في ركابى السرج خليلان نيطا في جوانب مجلس ... جداراه قدّام له ووراء! متى يضع الرّجلين ماش عليهما ... يزل عنه في وشك حفا وحفاء! قوله: خليلان لتشابههما، والمجلس: السرج، وجداراه: قربوسه ورادفته، والحفا مقصور: وجع الرّجل، وممدود: من مشى الرجل حافيا بغير نعل. وقال ابن القاسم عبد الصمد بن نائل في القفل مجامع يعقد عقد الكلبه ... إن رامه غيرك جرّ نكبه ينام كالأمرد لا كالقحبه ... حتى اذا شكّ القمدّ جنبه وعالج الجذبة بعد الجذبه ... وانحلّ بالحقنة لا بالشربه ألقى جنينا نتجته العزبه ... ثم إذا عاد إليه أشبه بعض حروف المعجم المنكبه ... يبغض وهو صادق المحبه يعتقد السّلم وينوى حربه ... وهو على ذاك طويل الصحبه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 165 شبّهه بالمجامع: لدخول الفراش في بطنه، وقوله: يعقد عقد الكلبة: فى عسر المفارقة، وإن فتحه غيرك جرّ نكبة عليك لسرقة ما فيه، ينام كالأمرد: لانكبابه، والقمدّ: الذكر وهو المفتاح، والجنين: الفراش، وإذا عاد إليه أشبه حرف الكاف. وقال في اسم سعيد يبسم عن أوّل اسمه حبّى ... ثم بثانى حروفه يسبى ثم بحرفين لو بدا بهما ... أسدى يدا، صورة اسمها تنبى أربعة نصفها كجملتها ... فى العدّ لم تنتقص ولم تربى هذا وفيه اسم يوم اتّفقت ... مفاخر العجم فيه والعرب فأعمل الفكر في تأمله ... واركب به كلّ مركب صعب شبّه السين بالثغر، وثانيه العين وهى تسبى القلوب، والحرفان يد وهى أربعة في العدد وستّة في الصورة، وإذا أخذت السين والعين فهى أربعة وهى جملة العدد، وفيه عيد وهو يوم التفاخر بالزينة واللبوس. وقال ابن أبى البغل الكاتب في القلم اصمّ عن المنادى لا يجيب ... به تخبو وتشتعل الخطوب ضئيل الجسم «أعلم» ليس تخفى ... عليه غيوب ما تخفى القلوب تراه راجلا لا روح فيه ... ويحييه وينطقه الرّكوب يبين لسانه مكنّ سودا ... معارفه ويخرسه المشيب يقسّم في الورى بؤسى ونعمى ... ويحكم والقضاء له مجيب عجبت لسطوة فيه وضعف ... وكلّ أموره عجب عجيب أراد بقوله: أعلم: مشقوق الشّفة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 166 وقال أبو العلاء المعرّى في الملح وبيضاء من سرّ الملاح ملكتها ... فلما قضت إربى حبوت بها صحبى فباتوا بها مستمتعين ولم تزل ... تحثّهم بعد الطعام على الشّرب قوله: سرّ أى خالصة، والملاح جمع ملح، والإرب: الحاجة. وقال آخر في عودى الغناء والبخور وما شيئان إسمهما سواء ... وأصلهما معا عند انتساب إذا حضراك بتّ قرير عين ... بلا طعم يلذّ ولا شراب وما أن يوجدان النفع إلّا ... بضرب أو بضرب من عذاب معنى اسمهما سواء ظاهر، وأصلهما خشب، والضّرب الأول: ضرب العود، والثانى: من العذاب وهو الإحراق. وقال آخر في الحرب ما ذات شوك لها جناح ... يختطف الناس عن قريب وهى عقيم ترى بنيها ... من بين مرد وبين شيب يأكل بعض البنين بعضا ... طلوع شمس الى غروب تصحيفها الداء غير شك ... قد يحسم الداء بالطبيب والداء معكوسه مكان ... يصلح للطائر النجيب يعرفها من يكون طبّا ... بالشعر والنحو والغريب هذا لغز معمى في الحرب، وشوكها: السلاح، وجناحاها: جانباها، وعقيم: لأنها لا تلد، وبنوها: رجالها. وأكلهم: قتلهم. وتصحيفها: الجرب، وعكسه: برح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 167 وقال آخر في الثدى وما أخوان مشتبهان جدّا ... كما اشتبه الغرابة والغراب يضمّهما على مرّ الليالى ... وما اجتمعا ولا افترقا إهاب لذاك وذا دموع هاملات ... ولكن كلّ دمعهما شراب يصونهما عن الأبصار دين ... ويضرب دون نيلهما حجاب هما: ثديا المرأة، ويضمّهما إهاب: وهو الجلد. وقال آخر في الفخّ وما ميّت كفّنته ودفنته ... فقام الى حىّ صحيح فأوثقه وقال آخر وهو لغز حلف الحبيب علىّ لا سمّيته ... فكنيته ولطفت خوف تغاضبه ظبى! اذا ما زارنى حلّ اسمه ... قلبى وذلك من عجيب عجائبه ويكون إن رحمته وخرمته ... وقلبته ما تشتهى من صاحبه ويكون إن صحّفت مبدأه الذى ... أصبحت تهواه لعين مراقبه وتراه بعد الجزم إن ميّزت في التصحيف ... مقلوبا أشدّ معائبه وحروفها فالنصف منها جذرها ... وحساب ذلك غير متعب حاسبه فاطلبه سادس سادس ثانيه ثا ... نيه وثالثه كذاك لطالبه وتمامه من بعد مثل حروفه ... فى البيت صحّ اسم الحبيب لقالبه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 168 هو لغز في فرحة، والترخيم: حذف الآخر، والخرم: حذف الأوّل؛ فاذا رخم وخرم وقلب بقى: حر، واذا قلبت الفاء قافا بقى: قرحة لعين المراقب، واذا صحفته مقلوبا، وجزمت آخره صار: هجر، والنصف من حروفه اثنان، وهما جذر جميع حروفه، وقوله: فاطلبه سادس سادس: يعنى البيت السادس. وقال آخر في سلمى سل ماهرا بالقريض والأدب ... ما اسم فتاة قعيدة النّسب قد صرّح الشّعر باسمها فمتى ... فكّرت فيها ظفرت بالعجب الاسم: سلمى، وهو ظاهر في أول البيت. وقال آخر في الكرة ومضروبة تحيا إذا ما ضربتها ... وإن تركت من شدّة الضرب ماتت وقال أبو عبد الله بن المغلّس في السّراج وداع الى نفسه في الظلام ... وما سمعت أذنه صوته اذا هو بيّض وجه الطريق ... سوّد في وجهه بيته وقال آخر في الصّدى وساكن يسكن في الفلاة ... ليس من الوحش ولا النبات ولا من الجنّ ولا لحيّات ... ولا الخيام الشعر والأبيات ولا بذى جسم ولا حياة ... كلا! ولا يدرك بالصفات بلى! له صوت من الأصوات ... يسمع في الأحيان والأوقات الجزء: 3 ¦ الصفحة: 169 وقال ابن المغلّس في النخلة وقائمة أبدا لا تنام ... وما قعدت قطّ مذ قامت تعيش إذا غسلوا رجلها ... وإن حلقوا رأسها ماتت وقال آخر ما يقول سيدنا الشيخ: فى شىء نزل من السماء، وركض في الهواء، وخيّم في البيداء، نطق على نفسه فأفصح، وتكلّم فبيّن وأوضح، أفقر وأغنى، وأمات وأحيا، له شوارق من غير غضب، ورقصات على غير طرب، يسبق الفرس السريع، ويسبقه الطفل الرضيع، مختلف الألوان، يوجد في كلّ زمان، ما أكثر لغاته! وأعمّ في البشر ذكر صفاته! وهو خفيف ثقيل، كثير قليل، كبير صغير، طويل قصير، غال رخيص، قوىّ ضعيف، سريع بطىء، بارد حارّ، نافع ضارّ، أبيض أسود أزرق، قريب بعيد، قديم جديد، متحرّك ساكن، ظاهر باطن، يتجسّر ويتكسّر، ويتعوّج ويتدوّر، سلطانه في الشمال وبه يذلّ، وضعفه في الجنوب وبه يعزّ، نحيل يخفى جثّة الفيل في طيّه وعطفه. ويتخلّل جفن العين الرمدة برفقه ولطفه، يمشى على الحدق فلا يؤلمها، ويطأ القلوب فلا يكلمها، على أنّه يقطع الطريق، ويخيف الفريق، كم أهلك من قوم وما راق ولا سفك! يحمل ألف قنطار، ويعجز عن حمل دينار، وهو ليلىّ نهارىّ، عربىّ عجمىّ، برىّ بحرىّ، سهلىّ جبلىّ، رومىّ نوبىّ، هندىّ حبشىّ، صينىّ جاهلىّ إسلامىّ. كان مع آدم في الجنّة، وصحب نوحا في السفينة، وتوسّط النار مع إبراهيم، كم له مع موسى من خبر! ولموسى فيه من آية وأثر! حمل المسيح على غير ظهر، وما سر في برّ ولا بحر، أخرجه النبىّ صلّى الله عليه وسلّم من جسده، وفرّقه على صحابته، إذا نطقت به كان بعض أحد خلفاء بنى العباس السبعة وهو 1431. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 170 وقال آخر ما شىء وجهه قمر، وقلبه حجر إن علّقته ضاع، وإن أدخلته السّوق أبى أن يباع، وإن فككته دعا لك، وإن ركبت نصفه هالك، وربّما كثر أموالك، وإن حذفت آخره، وشدّدت ثانيه، أورثك الألم عند الفجر، والضجر عند العصر: هو الدّملج الفضة. ومما يتصل بهذا الباب مسائل العويص فمن ذلك: امرأتان التقتا برجلين قالتا لهما: مرحبا بابنينا وزوجينا وابنى زوجينا، وذلك أن كلّ واحد منهما تزوّج بأم الآخر فهما ابناهما وزوجاهما وابنا زوجيهما. رجلان كلّ واحد منهما عمّ الآخر وابن أخيه، وذلك: أنّ كلّ واحد من أبويهما تزوّج بأم الآخر، فرزق كل واحد منهما ولدا فكل من الولدين عمّ الآخر وابن أخيه. رجلان كل واحد منهما خال الآخر وابن أخته، وذلك: أنّ كلّ واحد من أبويهما تزوّج بابنة الآخر، فرزق كلّ واحد منهما ولدا فكلّ من ولديهما خال الآخر وابن أخته. رجل وامرأتان هو خال أحديهما، وهى خالته وعمّ الأخرى، وهى عمّته، وذلك: أنّ جدّته أمّ أبيه تزوّجت بأخيه لأمّه وأخته لأبيه تزوّجت بأب أمّه، فولدتا بنتين فبنت أخته خالته وهو خالها، وبنت جدّته عمّته وهو عمّها، وهذا أصل الأبيات المنظومة في ذلك ولى خالة وأنا خالها ... ولى عمّة وأنا عمّها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 171 رجلان كلّ واحد منهما ابن خال الآخر وابن عمّته، وذلك: أنّ كل واحد من أبويهما تزوّج بأخت الآخر، فرزق كلّ منهما ولدا، فكل من ولديهما ابن خال الآخر وابن عمّته. رجلان كلّ واحد منهما عمّ والد الآخر، وذلك: أنّ كلّ واحد من أبويهما تزوّج بأم أب الآخر، فكلّ من أولادهما عمّ أب الآخر. رجلان كلّ واحد منهما عمّ أمّ الآخر، وذلك: أنّ كلّ واحد من أبويهما تزوّج بابنة ابن الآخر، فكلّ من أولادهما خال أمّ الآخر. رجلان كل واحد منهما خال أمّ الآخر، وذلك: أن كلّ واحد من أبويهما تروّج بابنة بنت الآخر، فكلّ من أولادهما خال أمّ الآخر. رجلان احدهما عمّ الآخر والآخر خاله، وذلك: أن رجلين تزوّج أحدهما امرأة وتزوّج الآخر ابنة ابنها، فولد لكل منهما ولد فابن الأب عمّ ابن الابن، وابن الابن من أمّ امرأة الأب؛ هو أخوها وخال ابنها. رجلان أحدهما عمّ الآخر وخاله، والآخر ابن أخيه وابن أخته، وذلك: أن رجلا له أخ لأب وأخت لأمّ فزوّج أخاه لأبيه بأخته لأمّه فأولدها ولدا فهما كذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 172 القسم الثالث من الفنّ الثانى فى المدح، والهجو، والمجون، والفكاهات، والملح، والخمر، والمعاقرة، والنّدمان، والقيان، ووصف آلات الطّرب وفيه خمسة أبواب الباب الأوّل من هذا القسم فى المدح، وفيه ثلاثة عشر فصلا حقيقة المدح وما قيل فيه، ما قيل في الجود والكرم وأخبار الكرام، ما قيل في الإعطاء قبل السؤال، ما قيل في الشجاعة والصبر والإقدام، ما قيل في وفور العقل، ما قيل فى الصّدق، ما قيل في الوفاء والمحافظة، ما قيل في التواضع، ما قيل في القناعة والنّزاهة ما قيل في الشكر والثناء، ما قيل في الوعد والإنجاز، ما قيل في الشفاعة، ما قيل فى الاعتذار والاستعطاف. فأمّا حقيقية المدح، فقد عبّر عنها الحمدونىّ في «غاية الاختصار والإيجاز» بقوله: حقيقة المدح: وصف الموصوف بأخلاق يحمد صاحبها عليها، ويكون نعتا حميدا. قال الله تعالى (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) وقال عزّوجلّ: (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) وروى عن النبىّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «أصحابى كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم» وقد أوّلوا الخبر المروىّ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «اذا رأيتم المدّاحين فاحثوا في وجوههم التراب» قال العتبىّ هو المدح الباطل والكذب. وأمّا مدح الرجل بما هو فيه فلا بأس به، وممّا يعضد هذا أنّ العبّاس بن عبد المطّلب وكعب بن زهير، وحسّان بن ثابت، وغيرهم؛ مدحوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلم يرد أنه حثا في وجه أحد منهم ترابا. وقيل في حثو التراب معنيان: أحدهما التغليظ في الردّ عليه، والثانى يقال له: بفئك التراب. وللشعراء عادة في تجاوز قدر الممدوح فوق ما يستحقّه حتى إنّ ذلك أفضى بكثير منهم الى الكفر والخروج عن الحدّ أعاذنا الله من ذلك؛ وقال أنو شروان: من أثنى عليك بما لم توله فغير بعيد أن يذمّك بما لم تحبّه. وقال وهب بن منبّه: من مدحك بما ليس فيك، فلا تأمن أن يذمّك بما ليس فيك. وأنشد عمر بن الخطاب رضى الله عنه قول زهير بن أبى سلمى في هرم بن سنان دع ذا! وعدّ القول في هرم ... خير الكهول وسيّد الحضر لو كنت من شىء سوى بشر ... كنت المنوّر ليلة القدر ولأنت أوصل من سمعت به ... لنوائل الأرحام والصّهر ولنعم حشو الدّرع أنت اذا ... دعيت نزال ولجّ في الذّعر فقال عمر رضى الله عنه: ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 174 ولما حضر أبا بكر الصدّيق رضى الله عنه الوفاة؛ قالت عائشة رضى الله عنها وهو يغمض وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل فنظر اليها وقال: ذاك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقال آخر ولو كنت أرضا كنت ميثاء سهلة ... ولو كنت ليلا كنت صاحبة البدر ولو كنت ماء كنت ماء غمامة ... ولو كنت يوما كنت تعريسة الفجر وقال محمّد بن هانئ أغير الذى قد خطّ في اللوح أبتغى ... مديحا له إنّى إذا لعنود وما يستوى وحى من الله منزل ... وقافية في الغابرين شرود وقال عمر بن الخطّاب رضى الله عنه لمتمّم بن نويرة صف لى أخاك فإنى أراك تمدحه، فقال: كان أخى يحبس المزاد بين الصّوحين في الليلة القرّة معتقلا للرمح الخطل، عليه الشّملة القلوب، يقود الفرس الحرون فيصيح ضاحكا مستبشرا: الخطل: الطويل المضطرب، والقلوب: التى لا تنضمّ على الرّحل لقصرها. وسأل عبد الله بن عباس صعصعة بن صوحان العبدىّ عن إخوته فقال: أما زيد فكما قال أخو عبس فتى لا يبالى أن يكون بوجهه ... إذا نال خلّان الكرام شحوب ثم قال: كان والله يا ابن عباس، عظيم المروءة، شريف الأبوّة، جليل القدر، بعيد الشرّ، كميش العروة، زين النّدوة، سليم جوانح الصدر، قليل وساوس الفكر، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 175 ذاكرا لله تعالى في طرفى النّهار وزلفا من الليل، الجوع والشّبع عنده سيّان، لا منافس فى الدنيا، ولا غافل عن الآخرة، يطيل السكوت، ويديم الفكر، ويكثر الاعتبار، ويقول الحق، ويلهج الصدق، ليس في قلبه غير ربه، ولا يهمه غير نفسه، فقال ابن عبّاس: ما ظنّك برجل سبقه عضو منه الى الجنّة؟ رحم الله زيدا! فأين كان عبد الله منه؟ فقال: كان عبد الله سيّدا شجاعا، شيخا مطاعا، خيره وساع، وشره دفاع. ليّن النحيزة، أحوذىّ الغريزة، لا ينهنه منهنه عمّا أراد، ولا يركب إلّا ما اعتاد، سمام العدى، فيّاض النّدى، صعب المقادة، جزل الرّفادة. أخو إخوان، وفتى فتيان، ثم أنشد شعر حسّان بن ثابت اذا قال لم يترك مقالا لقائل ... بملتقطات لا يرى بينها فصلا قضى فشفى ما في النّفوس فلم يدع ... لذى إربة في القوم جدّا ولا هزلا ودخل ضرار بن ضمرة الكنانىّ على معاوية بن أبى سفيان فقال له: صف لى عليّا فقال له: أو تعفينى؟ فقال: لا أعفيك؟ قال: أما إذ لا بدّ، فإنّه كان بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلا، ويحكم عدلا، يتفجّر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس بالليل وظلمته، كان والله غزير العبرة، طويل الفكرة، يقلّب كفّيه، ويخاطب نفسه، يعجبه من اللّباس ما قصر، ومن الطعام ما خشن، كان والله كأحدنا يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه، وكان مع تقرّبه إلينا وقربه منا لا نكلّمه هيبة له، فان تبسّم فعن مثل لؤلؤ منظوم، يعظم أهل الدين، ويحب المساكين، لا يطمع القوىّ في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 176 وذكر عمرو بن معديكرب بنى سليم فقال: بارك الله على حىّ بنى سليم ما أصدق فى الهيجاء لقاءها! وأثبت في النوازل بلاءها! وأجزل في النائبات عطاءها! والله لقد قابلتهم فما أجبتهم، وهاجيتهم فما أفحمتهم، وسألتهم فما أبخلتهم. وقال بعض العرب: فلان حتف الأقران غداة النزال، وربيع الضّيفان عشيّة النزول. وقال آخر: فلان ليث اذا غدا، وبدر اذا بدا، ونجم اذا هدى. وسمّ إذا أردى. ودخل على النّعمان بن المنذر بن امرىء القيس ابن عمرو بن عدىّ اللّخمىّ فحيّاه بتحيّة الملوك ثم قال: أيفاخرك ذو فائش وأنت سائس العرب، وعروة الحسب والأدب، لأمسك أيمن من يومه! ولعبدك أكرم من قومه، ولقفاك أحسن من وجهه، وليسارك أجود من يمينه، ولظنّك أصدق من يقينه ولوعدك أثلج من رفده، ولخالك أشرف من جدّه، ولنفسك أمنع من جنده، وليومك أزهر من دهره، ولفترك أبسط من شبره، ثم قال أخلاق مجدك جلّت ما لها خطر ... فى البأس والجود بين الحلم والخفر متوّج بالمعالى فوق مفرقه ... وفي الوغى ضيغم في صورة القمر اذا دجا الخطب جلاه بصارمه ... كما يجلّى زمان المحل بالمطر فتهلّل وجه النعمان سرورا، ثم أمر أن يحشى فوه درّا وكسى أثواب الرضى وكانت حباب أطواقها الذهب بقصب الزمرد. ثم قال النّعمان: هكذا فليمدح الملوك. وذو فائش: هو سلامة بن يزيد بن سلامة من ولد يحصب بن مالك وكان النابغة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 177 متّضلا به قبل اتصاله بالنّعمان، وله فيه مدائح كثيرة فاقتص الله تعالى من النّعمان ابن المنذر بعد ذلك لما حكى أنه دخل حسان بن ثابت على الجفنىّ فقال: انعم صباحا أيها الملك! السماء غطاؤك، والأرض وطاؤك، ووالدى ووالدتى فداؤك، أنّى ينافسك ابن المنذر؟ فو الله لقذالك أحسن من وجهه، ولأمّك خير من أبيه، ولظلك خير من شخصه، ولصمتك أبلغ من كلامه، ولشمالك خير من يمينه، ثم قال قذالك أحسن من وجهه ... وأمّك خير من المنذر ويسرى يديك اذا أعسرت ... كيمنى يديه فلا تمترى أخذ المعنى الحسن بن هانئ فقال بأبى أنت من غزال غرير ... بذّ حسن الوجوه حسن قفاكا ونظر بعض الشعراء الى هذا المعنى فقال يمدح زبيدة ابنة جعفر بن أبى جعفر المنصور أم الأمين أزبيدة ابنة جعفر ... طوبى لزائرك المثاب تعطين من رجليك ما ... تعطى الأكفّ من الرّغاب فلما أنشد ذلك تبادر العبيد ليوقعوا به فقالت زبيدة: كفّوا عنه فلم يرد إلّا خيرا، ومن أراد خيرا فأخطأ خير ممّن أراد شرا فأصاب، إنّه سمع الناس يقولون: قفاك أحسن من وجه غيرك، وشمالك أندى من يمين سواك، فقدّر أن هذا مثل ذاك، أعطوه ما أمل، وعرّفوه ما جهل؛ ومثله: مدح شاعر أميرا فقال أنت الهمام ابن الهما ... م الواسع ابن الواسعه فقال له: من أين عرفتها؟ قال: قد جرّبتها فقال: أسوأ من شعرك، ما أتيت به من عذرك! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 178 قال دخل خالد بن عبد الله العنبرىّ على عمر بن عبد العزيز لمّا ولى الخلافة فقال: يا أمير المؤمنين من تكن الخلافة قد زانته فأنت قد زيّنتها، ومن يكن شرّفته فقد شرّفتها، وأنت كما قال الشاعر وإذا الدّر زان حسن وجوه ... كان للدّر حسن وجهك زينا فقال عمر بن عبد العزيز: أعطى صاحبكم مقولا، ولم يعط معقولا. ولمّا دخل عبد الله المأمون بغداد تلقّاه وجوه أهلها فقال له رجل منهم: يا أمير المؤمنين! بارك الله لنا في مقدمك، وزادك في نعمتك، وشكرك على رعيّتك، تقدّمت من قبلك، وأتعبت من بعدك، وأيأست أن نعاين مثلك، أمّا فيمن مضى فلا نعرفه، وأمّا فيمن بقى فلا نرجوه، فنحن جميعا ندعولك، ونثنى عليك. خصب لنا جنابك، وعذب شرابك، وحسنت نصرتك، وكرمت مقدرتك. جبرت الفقير، وفككت الأسير، فأنت يا أمير المؤمنين كما قال الشاعر ما زلت في البذل للنوال وإط ... لاق لعان بجرمه علق حتى تمنّى البراء أنّهم ... عندك أمسوا في القدّ والحلق وقال رجل للحسن بن سهل: لقد صرت لا أستكثر كثيرك، وإن قليلك أكثر من كثير غيرك. وقال الرشيد لبعض الشعراء: هل أحدثت فينا شيئا؟ قال: يا أمير المؤمنين! المديح كلّه دون قدرك، والشّعر فيك فوق قدرى. ولكنى أستحسن قول العتّابى ماذا عسى مادح يثنى عليك وقد ... ناداك في الوحى تقديس وتطهير فتّ الممادح إلا أن ألسننا ... مستنطقات بما تخفى الضمائير! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 179 وقال رجل في خالد بن صفوان: قريع المنطق، جزل الألفاظ، عربىّ اللسان، قليل الحركات، حسن الإشارات، حلو الشمائل، كثير الطلاوة، صموتا قؤولا، يهنأ الجرب، ويداوى الدبر، ويفك المحزّ، ويطبق المفصل، لم يكن بالزمر في مروءته، ولا بالهذر في منطقه، متبوعا غير تابع، كأنّه علم في رأسه نار. وقيل لبعض الخلفاء: إن شبيب بن شيبة يستعمل الكلام ليستعدّ به؛ فلو أمرت به ان يصعد المنبر فجاءة لافتضح، قال: فأمر من أخذ بيده فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبىّ صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: إن لأمير المؤمنين أشباها أربعة؛ فمنها: الأسد الخادر، والبحر الزاخر، والقمر الباهر، والربيع الناضر؛ فأما الأسد الخادر، فأشبه منه صولته ومضاؤه. وأما البحر الزاخر، فأشبه منه جوده وعطاؤه. وأمّا القمر الباهر، فأشبه منه نوره وضياؤه. وأما الربيع الناضر، فأشبه منه حسنه وبهاؤه، ثم نزل. وقيل دخل رجل على المنصور فقال له تكلّم بحاجتك؛ فقال: يبقيك الله تعالى يا أمير المؤمنين! قال: تكلّم بحاجتك؛ فإنّك لا تقدر على مثل هذا المقام في كلّ حين. قال: والله يا أمير المؤمنين! ما أستقصر أجلك، ولا أخاف بخلك، ولا أغتنم مالك، وإن عطاءك لشرف، وإنّ سؤالك لزين، وما بامرىء بذل اليك وجهه نقص ولا شين، فأحسن جائزته وأكرمه. وقال محمد بن مالك القرطبىّ من رسالة: ما رأيت وجها أسمح، ولا حلما أرجح، ولا سجيّة أسمح، ولا بشرا أبدى، ولا كفّا أندى، ولا غرّة أجمل، ولا فضيلة أكمل، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 180 ولا خلقا أصفى، ولا وعدا أوفى، ولا ثوبا أطهر، ولا سمتا أوفر، ولا أصلا أطيب، ولا رأيا أصوب، ولا لفظا أعذب، ولا عرضا أنقى، ولا بناء أبقى، ممّا خصّ الله به ثالث القمرين، وسراج الخافقين، وعماد الثّقلين المعتصم بالله. وقال بعض الكتّاب: إنّ من النعمة على المثنى عليك أن لا يخاف الإفراط، ولا يأمن التقصير، ولا يحذر أن يلحقه نقيصة الكذب، ولا ينتهى به المدح الى غاية، إلا وجد في فضلك عونا على تجاوزها. ومن سعادة جدّك أنّ الداعى لك لا يعدم كثرة المشايعين له، والمؤمنين معه. وقال آخر: إنى فيما أتعاطى من مدحك كالمخبر عن ضوء النهار الباهر، والقمر الزاهر الذى لا يخفى على كلّ ناظر، وأيقنت أنى حيث انتهى بى القول الى العجز مقصر عن الغاية فانصرفت عن الثناء عليك الى الدعاء لك، ووكلت الإخبار عنك الى علم الناس بك. وقال أبو عبد الله محمد بن الخباط من رقعة طويلة في المظفّر في أوّلها: حجب الله عن الحاجب المظفّر أعين النائبات، وقبض دونه أيدى الحادثات؛ فإنه مذ كان أنور من الشمس ضياء، وأكمل من البدر بهاء، وأندى من الغيث كفّا، وأحمى من الليث أنفا، وأسخى من البحر بنا، وأمضى من النصل لسانا، وأنجبه المنصور فجرى على سننه، وأدّب فأخذ بسننه، وكانت الرياسة عليه موقوفة، والسياسة اليه مصروفة، قصرت الأوهام عن كنه فضله، وعجزت الأقلام عن وصف مثله، غير أن الفضائل لا بدّ من نشرها، والمكارم لا عذر في ترك شكرها. فهذه نبذة كافية مما ورد في المنثور فلنذكر ما ورد من المنظوم في ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 181 قال أبو هلال العسكرىّ: سمعت أبا أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد يقول: امدح بيت قالته العرب قول النابغة الذبيانىّ يمدح النّعمان بن المنذر ألم تر أن الله أعطاك سورة؟ ... ترى كلّ ملك دونها يتذبذب بأنك شمس والملوك كواكب ... اذا طلعت لم يبد منهنّ كوكب وهو مأخوذ من قول بعض شعراء كندة مدح عمرو بن هند تكاد تميد الأرض بالناس أن رأوا ... لعمرو بن هند غضبة وهو عاتب هو الشمس وافت يوم سعد فأفضلت ... على كلّ ضوء والملوك كواكب وقال نصيب هو البدر والناس الكواكب حوله ... وهل يشبه البدر المضىء كواكب وقالوا: أبدع بيت قيل في المديح قول النابغة فإنك كالليل الذى هو مدركى ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع وقوله: «أخلاق مجدك» - الأبيات وقد تقدمت- وقد تداول الناس قول النابغة فإنك كالليل الذى هو مدركى فقال الفرزدق فلو حملتنى الريح ثم طلبتنى ... لكنت كشىء أدركته مقادره وقول النابغة أبلغ، لأن الليل أعمّ من الريح، والريح يمتنع منها بأشياء، والليل لا يمتنع منه بشىء. وأخذ سلم الخاسر قول الفرزدق فقال فأنت كالدهر مبثوثا حبائله ... والدهر لا ملجأ منه ولا هرب ولو ملكت عنان الريح أصرفه ... فى كلّ ناحية ما فاتك الطلب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 182 وقالوا: أجود شىء قيل في الحسن مع الشجاعة من شعر المتقدّمين والمحدّثين قول أبى العتاهية يمدح الرشيد بن المهدىّ وولده بنو المصطفى! هارون حول سريره ... فخير قيام حوله وقعود تقلّب ألحاظ المهابة بينهم ... عيون ظباء في قلوب أسود وقالوا: أمدح بيت قالته العرب قول أبى الطّمحان القينى أضاءت لهم أحسابهم ووجوهم ... دجى الليل حتى نظّم الجزع ثاقبه نجوم سماء كلّما انقضّ كوكب ... بدا كوكب يأوى اليه كواكبه وما زال منهم حيث كان مسوّد ... تسير المنايا حيث سارت كتائبه وهذه الأبيات من قصيدة مدح بها بجير بن أوس بن حارثة، ابن لأم الطائى، وكان أسيرا في يده، فلما مدحه بها أطلقه بعد أن جزّ ناصيته؛ وأوّل القصيدة اذا قيل: أىّ الناس خير قبيلة؟ ... وأصبر يوما لا توارى كواكبه؛ فإنّ بنى لأم بن عمرو أرومة ... علت فوق صعب لا تنال مراتبه! أضاءت لهم أحسابهم الأبيات. ومثله قول ابن أبى السّمط فتى لا يبالى المدلجون بنوره ... الى بابه أن لا تضىء الكواكب له حاجب من كلّ أمر يشينه ... وليس له عن طالب العرف حاجب ومثله قول الحطيئة نمشى على ضوء أحساب أضأن لنا ... كما أضاءت نجوم الليل للسارى ومثله قول الآخر وجوه، لو انّ المدلجين اعتشوا بها ... صدعن الدجى حتى يرى الليل ينجلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 183 وقال عيسى بن أوس يمدح الجنيد بن عبد الرحمن الى مستنير الوجه طال بسؤدد ... تقاصر عنه الشاهق المتطاول مدحتك بالحق الذى أنت أهله ... ومن مدح الأقوام حقّ وباطل يعيش الندى مادمت حيّا فإن تمت ... فليس لحىّ بعد موتك طائل وما لامرىء عندى مخيلة نعمة ... سواك وقد جادت علىّ مخائل وقالوا: أمدح بيت قالته العرب قول الأعشى فتى، لو ينادى الشمس ألقت قناعها ... أو القمر السارى لألقى المقالدا وهذا من الغلو وهو مذموم عند بعضهم. ومثله في الغلوّ قول طريح بن إسماعيل لو قلت للسيل: دع طريقك وال ... موج عليه كالهضب يعتلج لارتدّ أو ساخ أو لكان له ... فى جانب الأرض عنك منعرج ومن الغلوّ قول أبى تمّام في المعتصم بالله بيمن أبى إسحاق طالت يد العلى ... وقامت قناة الدين واشتدّ كاهله هو البحر من أىّ النواحى أتيته ... فلجّته المعروف والجود ساحله تعوّد بسط الكفّ حتى لو انه ... أراد انقباضا لم تطعه أنامله ولو لم يكن في كفّه غير نفسه ... لجاد بها فليتّق الله سائله وقال العسكرىّ وكيف يبيت الجار منك على صدى؟ ... وكفّك بحر لجّة الجود ساحله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 184 وقال أبو هلال العسكرىّ يرفعه الى الأصمعىّ قال: سمعت أعرابيّا يقول: إنكم معاشر أهل الحضر، لتخطئون المعنى، إنّ أحدكم ليصف الرجل بالشجاعة فيقول: كأنه الأسد، ويصف المرأة بالحسن فيقول: كأنها الشمس، ولم لا تجعلون هذه الأشياء بهم أشبه؟ ثم قال: والله لأنشدنّك شعرا يكون لك إماما. ثم أنشدنى اذا سألت الورى عن كلّ مكرمة ... لم تلف نسبتها إلا الى الهول فتى حوادا أعار النّيل نائله ... فالنّيل يشكر منه كثرة النّيل والموت يرهب أن يلقى منيّته ... فى شدّة عند لفّ الخيل بالخيل لو عارض الشمس ألفى الشمس مظلمة ... أو زاحم الصّمّ ألجاها الى الميل أو بارز الليل غطّته قوادمه ... دون الخوافى كمثل الليل في الليل أمضى من النجم إن نابته نائبة ... وعند أعدائه أجرى من السيل ومثله قول الآخر علّم الغيث الندى حتى اذا ... ما حكاه علّم البأس الأسد فله الغيث مقرّ بالندى ... وله الليث مقرّ بالجلد وقال اميّة بن أبى الصلت في عبد الله بن جدعان أأذكر حاجتى أم قد كفانى ... حياؤك؟ إن شيمتك الحياء كريم لا يغيّره صباح ... عن الخلق الكريم ولا مساء فأرضك أرض مكرمة بنتها ... بنو تيم وأنت لها سماء ونحوه قوله لكل قبيلة شرف وعزّ ... وأنت الرأس تقدم كلّ هاد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 185 وقال ابن الرومىّ قوم يحلّون من مجد ومن شرف ... ومن غناء محلّ البيض واليلب حلّوا محلّهما من كلّ جمجمة ... نفعا ودفعا وإطلالا على الرتب قوم هم الرأس إذ حسّادهم ذنب ... ومن يمثّل بين الرأس والذنب وقال أبو هلال العسكرىّ فابشر فإنك رأس والعلى جسد ... والمجد وجه وأنت السمع والبصر لولاك لم تك للأيّام منقبة ... تسمو اليها ولا للدهر مفتخر وقال علىّ بن جبلة لولا أبو دلف لم تحى عارفة ... ولم ينؤ نوء مأمول بآمال يابن الأكارم من عدنان، قد علموا ... وتالد المجد بين العمّ والخال وناقل الناس من عدم الى جدة ... وصارف الدهر من حال الى حال أنت الذى تنزل الأيّام منزلها ... وتمسك الأرض عن خسف وزلزال وما مددت مدى طرف الى أحد ... إلا قضيت بآمال وآجال تزورّ سخطا فتمسى البيض راضية ... وتستهلّ فتبكى أوجه المال وقالوا: أمدح بيت قالته العرب قول زهير تراه اذا ما جئته متهللا ... كأنك تعطيه الذى أنت سائله وعاب بعضهم هذا البيت وقال: جعل الممدوح يفرح بغرض يناله، وليس هذا صفة كبير الهمة، والجيّد قول أبى نوفل عمرو بن محمد الثقفىّ ولئن فرحت بما ينيلك إنه ... لبما ينيلك من نداه أفرح ما زال يعطى ناطقا أو ساكتا ... حتى ظننت أبا عقيل يمزح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 186 ومثله قول أبى تمّام أسائل نصر لا تسله فإنّه ... أحنّ الى الإرفاد منك الى الرّفد وقالوا: أمدح بيت قالته العرب قول الحطيئة متى تأته تعشو الى ضوء ... تجد خير نار عندها خير موقد وقال القاسم بن حنبل من البيض الوجوه بنى سنان ... لو انك تستضىء بهم أضاءوا لهم شمس النهار اذا استقلّت ... ونور لا يغيّبه العماء هم حلّوا من الشرف المعلّى ... ومن حسب العشيرة حيث شاءوا فلو أنّ السماء دنت لمجد ... ومكرمة دنت لهم السماء وقالوا أيضا: أمدح بيت قيل قول الأوّل أيضا قوم، سنان أبوهم حين تنسبهم ... طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا لو كان يقعد فوق الشمس من كرم ... قوم بعزّهم أو مجدهم قعدوا محسّدون على ما كان من نعم ... لا ينزع الله عنهم ما له حسدوا وقالوا: أمدح بيت قاله محدّث، قول مروان بن أبى حفصة في معن ابن زائدة بنو مطر يوم اللقاء كأنّهم ... أسود لها في غيل خفّان أشبل هم المانعون الجار حتى كأنما ... لجارهم بين السّماكين منزل بها ليل في الإسلام سادوا ولم يكن ... كأوّلهم في الجاهليّة أوّل هم القوم، إن قالوا أصابوا، وإن دعوا ... أجابوا، وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 187 وقال العسكرىّ: وأنشد بعض أهل الأدب قول ابن أبى طاهر وقال: لو استعمل الإنصاف لكان هذا أحسن مدح قاله متقدّم ومتأخّر وهو إذا أبو أحمد جادت لنا يده ... لم يحمد الأجودان: البحر والمطر وإن أضأت لنا أنوار غرّته ... تضاءل النيران: الشمس والقمر وإن مضى رأيه أو جدّ عزمته ... تأخّر الماضيان: السيف والقدر من لم يكن حذرا من حدّ صولته ... لم يدر ما المزعجان: الخوف والحذر حلو، اذا أنت لم تبعث مرارته ... فإن أمرّ فحلو عنده الصّبر سهل الخلائق إلا أنه خشن ... لين المهزة إلا أنه حجر لا حيّة ذكر في مثل صولته ... إن صال يوما ولا الصّمصامة الذكر اذا الرجال طغت آراؤهم وعموا ... بالأمر ردّ اليه الرأىّ والنظر الجود منه عيان لا ارتياب به ... إذ جود كلّ جواد عنده خبر وقال: ومن المديح القليل النظير، قول علىّ بن محمد الأفوه أوفوا من المجد والعلياء في قلل ... شمّ، قواعدهنّ البأس والجود سبط اللقاء اذا شيمت مخائلهم ... بسل اللقاء اذا صيد الصناديد محسّدون، ومن يعلق بحبلهم ... من البريّة يصبح وهو محسود وقالوا: أمدح بيت قاله محدّث قول علىّ بن جبلة في أبى دلف إنما الدنيا أبو دلف ... بين باديه ومختضره فاذا ولّى أبو دلف ... ولّت الدّنيا على أثره وهى من القصائد المشهورة، وأولها ... ذاد ورد الغىّ عن صدره وارعوى، واللهو من وطره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 188 جاء منها في مدحه يا دواء الأرض إن فسدت ... ومجير اليسر من عسره كلّ من في الأرض من عرب ... بين باديه الى حضره مستعير منه مكرمة ... يكتسيها يوم مفتخره إنما الدنيا أبو دلف ... ............... .... قال العسكرىّ: ومن المديح البارع قول بشار ألا أيها الطالب المبتغى ... نجوم السماء بسعى أمم سمعت بمكرمة ابن العلاء ... فأنشأت تطلبها لست ثم اذا عرض الهمّ في صدره ... لها بالعطاء، وضرب البهم فقل للخليفة إن ... نصيحا ولا خير في المتّهم اذا أيقظتك جسام الأمور ... فنبّه لها عمرا ثمّ نم فتى، لا يبيت على دمنة ... ولا يشرب الماء إلا بدم يحبّ العطاء وسفك الدماء ... فيغدو على نعم أو نقم قال ومن المديح القليل النظير: قول أمامة بنت الجلّاح الكلبيّة اذا شئت أن تلقى فتى لو وزنته ... بكلّ معدّىّ وكلّ يمانى وفي بهم جودا وحلما وسؤددا ... وباسا، فهذا الأسود بن قنان فتى، كالفتاة البكر، يسفر وجهه ... كأن تلالى وجهه القمران أغرّ أبرّ ابنى نزار ويعرب ... وأوثقهم عقدا بقول لسان وأوفاهم عهدا وأطولهم يدا ... وأعلاهم فعلا بكلّ مكان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 189 وأضربهم بالسيف من دون جاره ... وأطعنهم من دونه بسنان كأنّ العطايا والمنايا بكفه ... سحابان مقرونان مؤتلفان ومن المديح البارع قول أبى تمّام رأيت لعيّاش خلائق لم تكن ... لتكمل إلّا في اللباب المهذّب له كرم لو كان في الماء لم يغض ... وفي البرق ما شام امرؤ برق خلّب أخو عزمات بذله بذل محسن ... الينا ولكن عذره عذر مذنب يهولك أن تلقاه في صدر محفل ... وفي نحر أعداء وفي قلب موكب وما ضيق أقطار البلاد أضافنى ... اليك ولكن مذهبى فيك مذهبى وهذى بنات المدح فاجرر ذيولها ... عليك وهذا مركب الحمد فاركب وقد أحسن التّنوخىّ في قوله وفتية من حمير حمر الظّبى ... بيض العطايا حين يسودّ الأمل شموس مجد في سموات على ... وأسد موت بين غابات أسل وقالت الخنساء في أخيها صخر طويل النجاد رفيع العما ... د ساد عشيرته أمردا اذا القوم مدّوا بأيديهم ... الى المجد مدّ اليه يدا فنال الذى فوق أيديهم ... من المجد ثم مضى مصعدا فكلّفه القوم ما عالهم ... وإن كان أصغرهم مولدا ترى الحمد يهوى الى بيته ... يرى أفضل الكسب أن يحمدا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 190 قال آخر ومصعد هضبات المجد يطلعها ... كأنه لسكون الجأش منحدر مازال يسبق حتى قال حاسده ... له طريق الى العلياء مختصر وقال إبراهيم بن العبّاس تلج السنون بيوتهم وترى لها ... عن بيت جارهم ازورار مناكب وتراهم بسيوفهم وشفارهم ... مستشرفين لراغب أو راهب حامين أو قارين حيث لقيتهم ... نهب العفاة ونزهة للراغب وقال أيضا اذا السّنة الشّهباء مدّت سماءها ... مددت سماء دونها فتحلّت وعادت بك الريح العقيم لدى القرى ... لقاحا فدرّت عن نداك وطلّت وقال ابن الرومىّ كأن مواهبه في المحو ... ل آراؤه عند ضيق الحيل فلو كان غيثا لعمّ البلاد ... ولو كان سيفا لكان الأجل ولو كان يعطى على قدره ... لأغنى النفوس وأفنى الأمل وقال أبو الحسن بن أبى البغل البغدادىّ يمدح أبا القاسم بن وهب وقد تقدّم ذكر بعضها لابن أبى طاهر اذا أبو قاسم جادت لنا يده ... لم يحمد الأجودان: البحر والمطر وإن أضاءت لنا أنوار غرّته ... تضاءل النّيّران: الشّمس والقمر وإن بدا رأيه أو جدّ عزمته ... تأخر المأضيان: السيف والقدر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 191 ينال بالظنّ ما كان اليقين به ... والشاهدان عليه العين والأثر كأنّه وزمام الدهر في يده ... يدرى عواقب ما يأتى وما يذر وقال ذو الرمّة يطيب تراب الأرض إن نزلوا بها ... ويختال أن تعلو عليها المنابر وما زلت تسمو للمعالى وتجتنى ... جنى المجد مذ شدّت عليك المآزر الى أن بلغت الأربعين فألقيت ... اليك جماهير الأمور الأكابر فأحكمتها لا أنت في الحكم عاجز ... ولا أنت فيها عن هدى الحقّ جائر وقال الشّريف الرّضىّ يا مخرس الدّهر عن مقالته ... كلّ زمان عليك متّهم شخصك في وجه كلّ داجية ... ضحى وفي كلّ مجهل علم وقال أبو الحسن السلامىّ اذا زرته لم تلق من دون بابه ... حجابا ولم تدخل عليه بشافع كماء الفرات الجمّ أعرض ورده ... لكلّ أناس فهو سهل الشرائع تراه اذا ما جئته متهللا ... تهلّل أبكار الغيوث الهوامع وقال محمد بن الحسين الآمدىّ من القوم لما استغرب المجدّ غيرهم ... من الناس أمسوا منه فوق الغرائب اذا سالموا كانوا صدور مراتب ... وإن حاربوا كانوا قلوب مواكب جواد متى ما رامت الريح شأوه ... كبت دون مرمى خطوه المتقارب وبحر ندى لو زاره البحر حدّثت ... عجائبه عن فعله بالعجائب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 192 وقال الأصمعى: كنت بالبادية فرأيت امرأة على قبر تبكى وتقول فمن للسؤال ومن للنوال ... ومن للمقال ومن للخطب؟ ومن للحماة ومن للكماة ... اذا ما الكماة جثوا للرّكب؟ اذا قيل: مات أبو مالك ... فتى المكرمات قريع العرب [فقد مات عزّ بنى آدم ... وقد ظهر النّكد بعد الطرب «1» ] قال: فملت إليها، وسألتها عنه، فقالت: فديتك! هذا أبو مالك الحجّام، ختن أبى منصور الحائك، فما ظننت إلا أنّه من سادات العرب. وقال العماد الأصفهانىّ حيّيون يخفون إحسانهم ... ويعتذرون كان قد اساءوا اذا أظلم الدهر أعدوا عليه ... وإن أظلم الخطب يوما أضاءوا بمثلكم قد أقرّ الرجال ... فمثلكم لم تلده النّساء وللناس من حسن أيّامكم ... بدولتكم كلّ يوم هناء وقال ايضا فلأطوين على أغرّ محجّل ... عرض الفلاة الى أغرّ محجّب ليث الوغى غوث ورى غيث النّدى ... بدر النّدىّ، نعم! وصدر الموكب واذا استوى في دسته مالت له ... أعناق كل متوّج ومعصّب وتميت رأفته حقود عداته ... وتحلّ هيبته عقود المحتبى إنّ الممالك ما تزال برأيه ... فى صائب وبجوده في صيّب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 193 يحبوك معتذرا اليك فيا له ... من محسن تعروه خجلة مذنب يزهى بأصل في العلاء مخيّم ... شرفا وفرع بالكرام مطنّب وقال أحمد بن محمد النامىّ له سورة في البشر تقرأ في العلا ... وتثبت في صحف العطاء وتكتب اذا ما علىّ أمطرتك سماؤه ... رأيت العلا أنواؤها تتحلّب وأزهر يبيضّ الندى منه في الرضا ... وتحمرّ أطراف القنا حين يغضب أمير الندى ما للندى عنك مذهب ... ولا عنك يوما للرغائب مرغب وقال أبو حامد أحمد بن محمد الأنطاكىّ سيّد شادت علاه له ... فى العلا آباؤه النجب وله بيت يمدّ له ... فوق مجرى الأنجم الطّنب حسبه بالمصطفى شرفا ... وعلىّ حين ينتسب رتبة في العز شامخة ... قصرت عن مثلها الرتب وقال ابن نباتة السعدىّ يرى الشمس أمّا والكواكب إخوة ... وينظر من بدر السماء الى ترب غنيت عن الآمال حين رأيته ... وأصبح من بين الورى كلّهم حسبى فلم أطلب المعروف من غير كفّه ... وهل تطلب الأمطار إلا من السحب؟ وقال أبو حامد أحمد الأنطاكىّ لو نيل بالمجد في العلياء منزلة ... لنال بالمجد أعنان السموات يرمى الخطوب برأى يستضاء به ... اذا دجا الرأى من أهل البصيرات فليس يلقاه إلا عند عارفة ... أو واقفا في صدور السمهريّات الجزء: 3 ¦ الصفحة: 194 وقال أبو طالب المأمونىّ قد وجدنا خطا الكلام فساحا ... فجعلنا النسيب فيك امتداحا وأفضنا ما في الصدور ففاض المدح ... قبل النسيب فيك انفساحا وعمدنا الى علاك فصغنا ... لصدور القريض منها وشاحا وصدعنا في أوجه الشّعر من بيض ... مساعيك بالندى أوضاحا كم كسير جبرته وفقير ... مستميح رددته مسمّاحا وأمان خرس بسطت لها في القول ... حتى أعدتهنّ فصاحا وبلاد جوامح رضتها بالعزم ... حتى أنسيتهنّ الجماحا شهرت منك آل سامان عضبا ... ينجح السعى غربه إنجاحا لا يذوق الإغفاء إلا رجاء ... أن يرى طيف مستميح رواحا وقال أحمد بن محمد النامىّ أمير العلا إن العوالى كواسب ... علاءك في الدنيا وفي جنّة الخلد يمرّ عليك الحول، سيفك في الطّلى ... وطرفك ما بين الشكيمة واللّبد ويمضى عليك الدهر، فعلك للعلا ... وقولك للتقوى، وكفّك للرّفد وقال أيضا فتى، قسّم الايّام بين سيوفه ... وبين طريفات المكارم والتلد فسوّد يوما بالعجاج وبالردى ... وبيّض يوما بالفضائل والحمد وقال الصاحب بن عبّاد أيّها الآملون حطّوا سريعا ... برفيع العماد وارى الزناد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 195 فهو إن جاد ذمّ حاتم طىء ... وهو إن قال فلّ قسّ إياد واذا ما ربا فأين زياد ... من علاه وأين آل زياد وقال أبو طالب المأمونىّ من قصيدة فتى ملئت بردتاه علا ... ونبلا وفضلا ومجدا وخيرا اذا ضمّه الدّست ألفيته ... سحابا مطيرا وبدرا منيرا وإن أبرزته وغى خلته ... حساما بتورا وليثا هصورا وطورا معيدا وطورا مبيدا ... وطورا مجيرا وطورا أميرا ترى في ذراه لسان المنى ... طويلا وباع الليالى قصيرا تضمّ الأسرّة منه ذكاء ... وتحمل منه المذاكى ثبيرا وقال أبو الطيّب المتنبى بمشى الكرام على آثار غيرهم ... وأنت تخلق ما تأتى وتبتدع من كان فوق محلّ الشمس موضعه ... فليس يرفعه شىء ولا يضع وقال أبو المعالى محمد بن مسعود الأصفهانىّ شاعر الخريدة قد حلّ في مدرج العلياء مرتبة ... مطامح الشهب عن غاياتها تقف أغرى بوصف معاليه الورى شغفا ... لكنه والمعالى فوق ما وصفوا إن ناصبته العدا فالدهر معتذر ... أو أنكروا فضله فالمجد معترف وقال السلامىّ شاعر اليتيمة يزور نائلك العافى وصارمك العاصى ... فتحويهما أيد وأعناق فى كلّ يوم لبيت المجد منك غنى ... وثروة ولبيت المال إملاق كم خضت من لجة للنفع زاخرة، ... ماء المنون بها- حاشاك- دفّاق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 196 وقال المتنبى أنت الجواد بلا منّ ولا كدر ... ولا مطال ولا وعد ولا ملل وقال أبو الفرج الببغاء لا غيث نعماه في الورى خلّب البرق ... ولا ورد جوده وشل جاد الى أن لم يبق نائله ... مالا ولم يبق للورى أمل وقال محمد بن الحسن الحاتمىّ شاعر اليتيمة ومن عوّدته المكرمات شمائلا ... فليس له عنها- ولو شاء- ناقل وإن راسل الأعداء فالجود رسله ... اليهم وأطراف العوالى الرسائل عظمت، فهذا الدهر دونك همة، ... وجدت فهذا القطر عندك باخل وقال مؤيّد الدين الطغرائىّ لو دبّ رأيك في كعوب قنا ... ما مسّها طنب ولا خلل أو كان ضوءك للغزالة لم ... يحجب ضياء جبينها الطّفل أو كان لطفك في الحياة لما ... طافت بها الأسقام والعلل أنت الذى لولا علاه عفت ... طرق الهدى واستبهم السّبل فى كلّ شعب من رويّته ... شعب ومن آرائه شعل يرتدّ عنه جفن حاسده ... فكأنه بالنار يكتحل وجه كيوم الصحو مبتسم ... ويد كليل الدّجن تنهمل مسحت على الأنواء راحته ... فانساق منها العارض الهطل إن ضنّ غيث أو خبا قمر ... فجبينه ويمينه البدل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 197 وقال ابن الرومىّ آراؤكم ووجوهكم وسيوفكم ... فى الحادثات- اذا دجون- نجوم فيها معالم للهدى ومصابح ... تجلو الدجى والأخريات رجوم وقال أبو الطيّب المتنبّى قوم بلوغ الغلام عندهم ... طعن نحور الكماة لا الحلم كأنما يولد الندى معهم ... لا صغر عاذر ولا هرم اذا تولّوا عداوة كشفوا ... وإن تولّوا صنيعة كتموا تظن من كثرة اعتذارهم ... أنهم أنعموا وما علموا إن برقوا فالحتوف حاضرة ... أو نطقوا فالصواب والحكم أو شهدوا الحرب لاقحا أخذوا ... من مهج الدار عين ما احتكموا أو ركبوا الخيل غير مسرجة ... فإن أفخاذهم لها حزم تشرق أعراضهم وأوجههم ... كأنها في نفوسهم شيم أعيذكم من صروف دهركم ... فإنه في الكرام متّهم وقال أيضا ودانت له الدنيا فأصبح جالسا ... وأيّامه فيما يريد قيام وكلّ أناس يبتغون إمامهم ... وأنت لأهل المكرمات إمام وقال أيضا هم المحسنون الكرّ في حومة الوغى ... وأحسن منه كرّهم في المكارم ولولا احتقار الأسد شبّهتها بهم ... ولكنها معدودة في البهائم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 198 وقال المشوّق الشامىّ شاعر اليتيمة يروح الى كسب الثناء ويغتدى ... اذا كان همّ الناس كسب الدراهم وإن جلس الأقوام عن واجب الندى ... وحقّ العطايا كان أوّل قائم يزيد ابتهاجا كلّما زار قاصد ... كأنّ به شوقا إلى كلّ قادم وقال السلامىّ شاعرها تشبّهه المدّاح في البأس والندى ... بمن لو رآه كان أصغر خادم ففى جيشه خمسون ألفا كعنتر ... وأمضى وفي خزّانه ألف حاتم وقال أبو طالب المأمونىّ من قصيدة يعمّم بالهندىّ حين يسلّه ... أسود الوغى بالضرب فوق العمائم فلا ملك إلا ما أقمت عروشه ... ولا غيث إلا ما أفضت لشائم ولا تاج إلا ما تولّيت عقده ... على جبهة الملك المكنّى بقاسم فرأيك نجم في دجى الليل ثاقب ... وعزمك غضب في طلى كلّ ناجم وقال المشوّق الشامىّ ما زال يبنى كعبة للعلى ... ويجعل الجود لها ركنا حتى أتى الناس فطافوا بها ... وقبّلوا راحته اليمنى وقال المأمونىّ من قصيدة همام يبكّى المشرفيّة ساخطا ... ويضحك أبكار الأمانىّ راضيا ولو أنّ بحرا يستطيع ترقّيا ... اليه لأمّ البحر جدواه راجيا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 199 ذكر ما قيل في الافتخار قالوا: أفخر بيت قالته العرب قول جرير إذا غضبت عليك بنو تميم ... حسبت الناس كلّهم غضابا قال: دخل رجل من بنى سعد على عبد الملك بن مروان فقال له: ممن الرجل؟ قال: من الذين قال لهم الشاعر اذا غضبت عليك بنو تميم، البيت. قال: فمن أيّهم أنت؟ قال: من الذين يقول فيهم القائل يزيد بنو سعد على عدد الحصى ... وأثقل من وزن الجبال حلومها قال: فمن أيّهم أنت؟ قال: من الذين يقول لهم الشاعر بنات بنى عوف طهارى نقية ... وأوجههم عند المشاهد غرّان قال: فمن أيّهم أنت؟ قال: من الذين يقول لهم الشاعر فلا وأبيك ما ظلمت قريع ... بأن يبنوا المكارم حيث شاءوا قال: فمن أيّهم أنت؟ قال: من الذين يقول لهم الشاعر قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ... ومن يسوّى بأنف الناقة الذنبا قال: اجلس، لا جلست، والله لقد خفت أن تفخر علىّ! وقالوا: أفخر بيت قالته العرب قول الفرزدق ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا ... وإن نحن أومأنا الى الناس وقّفوا! وقال عمرو بن كلثوم وهو أبلغ ما قاله جاهلىّ في الافتخار ونحن الحاكمون إذا أطعنا ... ونحن العائفون اذا عصينا! ونحن التاركون لما سخطنا ... ونحن الآخذون لما رضينا! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 200 وقال إبراهيم بن العبّاس إما ترينى أمام القوم متّبعا، ... فقد أرى من وراء الخيل أتّبع يوما أبيح فلا أرعى على نشب ... وأستبيح فلا أبقى ولا أدع لا تسألى القوم عن حىّ صبحتهم ... ماذا صنعت؟ وماذا أهله صنعوا؟ وقالوا: من أحسن ما مدح به الرجل نفسه قول أعشى ربيعة وما أنا في نفسى ولا في عشيرتى ... بمهتضم حقّى ولا قارع سنّى ولا مسلم مولاى عند جناية ... ولا خائف مولاى من شرّ ما أجنى وأن فؤادى بين جنبىّ عالم ... بما أبصرت عينى وما سمعت أذنى وفضّلنى في الشّعر واللّبّ أننى ... أقول على علم وأعلم ما أعنى فأصبحت إذ فضّلت مروان وابنه ... على الناس قد فضّلت خير أب وابن وقال أبو هفان لعمرى لئن بيّعت في دار غربة ... بناتى إذ ضاقت علىّ المآكل فما أنا إلا السيف يأكل جفنه، ... له حلية من نفسه وهو عاطل قال أبو هلال العسكرىّ: ولا أعرف في الافتخار أحسن مما أنشده أبو تمام وهو فقل لزهير إن شتمت سراتنا ... فلسنا بشتّامين للمتشتّم ولكننا نأبى الظّلام ونقتضى ... بكلّ رقيق الشفرتين مصمّم وتجهل أيدينا ويحلم رأينا ... ونشتم بالأفعال لا بالتكلّم ومن الافتخار قول السموءل بن عاديا من كلمته التى أوّلها اذ المرء لم يدنس من اللؤم عرضه ... فكلّ رداء يرتديه جميل وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها ... فليس إلى حسن الثناء سبيل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 201 وقائلة ما بال أسرة عاديا ... تنادى وفيها قلّة وحمول تعيّرنا أمّا قليل عديدنا ... فقلت لها إنّ الكرام قليل وما قلّ من كانت بقاياه مثلنا ... شباب تسامى للعلا وكهول وما ضرّنا أنّا قليل وجارنا ... عزيز وجار الأكثرين ذليل وأنّا أناس لا نرى القتل سبّة ... اذا ما رأته عامر وسلول يقرّب حبّ الموت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالهم فتطول وما مات منّا سيد حتف أنفه ... ولا طلّ منّا حيث كان قتيل تسيل على حدّ الظّباة نفوسنا ... وليست على غير الظّباة تسيل صفونا فلم نكدر وأخلص سرّنا ... إناث أطابت حملنا وفحول علونا الى خير الظهور وحطّنا ... لوقت الى خير البطون نزول فنحن كماء المزن ما في نصابنا ... كهام ولا فينا يعدّ بخيل وننكر إن شئنا على الناس قولهم ... ولا ينكرون القول حين نقول اذا سيّد منا خلا قام سيّد ... قؤول لما قال الكرام فعول وما أخمدت نار لنا دون طارق ... ولا ذمّنا في النازلين نزيل وأيامنا مشهورة في عدوّنا ... لها غرر معلومة وحجول وأسيافنا في كلّ شرق ومغرب ... بها من قراع الدارعين فلول معوّدة أن لا تسلّ نصالها ... فنغمد حتى يستباح قبيل سلى إن جهلت الناس عنا وعنهم ... وليس سواء عالم وجهول فإن بنى الديّان قطب لقومهم ... تدور رحاهم حولهم وتجول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 202 وقال أبو هلال العسكرىّ من قصيدة وما ضاع مثلى حيث حلّت ركابه ... بلى حيث ضاع المجد مثلى ضائع ومثلى مخضوع له غير أنه ... اذا كان مجهول الفضائل خاضع ومثلى متبوع على كل حالة ... فإن ينقلب وجه الزمان فتابع وقال عبد الله بن المعتز سألتكما بالله هل تعلماننى؟ ... ولا تكتما شيأ فعندكما خبرى أأرفع نيران القرى لعفاتها ... وأصبر يوم الروع في ثغرة الثّغر؟ وأسأل نيلا لا يجاد بمثله ... فيفتحه بشرى ويختمه عذرى؟ ومن الافتخار قول بعض الشعراء، ويروى لحسّان بن ثابت من قصيدة أوّلها أنسيم ريحك أم خيار العنبر ... يا هذه، أم ريح مسك أزفر؟ قولى لطيفك أن يصدّ عن الحشى ... سطوات نيران الأسى، ثمّ اهجرى وانهى رماتك أن يصبن مقاتلى ... فينال قومك سطوة من معشرى إنّا من النّفر الذين جيادهم ... طلعت على كسرى بريح صرصر وسلبن تاجى ملك قيصر بالقنا ... واجترن باب الدّرب لابن الأصفر كم قد ولدنا من كريم ماجد ... دامى الأظافر أو ربيع ممطر خلقت أنامله لقائم مرهف ... ولبذل مكرمة وذروة منبر يلقى الرماح بوجهه وبصدره ... ويقيم هامته مقام المغفر ويقول للطّرف اصطبر لشبا القا ... فهدمت ركن المجد إن لم تصبر واذا تأمّل شخص ضيف مقبل ... متسربل سر بال ثوب أغبر أوما الى الكوماء هذا طارق ... نحرتنى الأعداء إذ لم تنحر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 203 ذكر ما قيل في الجود والكرم وأخبار الكرام حقيقة الجود بذل المال، قال الله عزّوجلّ: (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) وقال تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) وروى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله استخلص هذا الدّين لنفسه ولا يصلح لدينكم إلا السخاء وحسن الخلق ألا فزيّنوا دينكم بهما» وقال صلّى الله عليه وسلم: «تجاوزوا عن ذنب السّخىّ فإن الله عزّوجلّ آخذ بيده كلّما عثر وفاتح له كلّما افتقر» وقال صلّى الله عليه وسلم: «الجود من جود الله تعالى فجودوا يجود الله عليكم» . «ألا إن السخاء شجرة في الجنة أغصانها متدلية فى الأرض فمن تعلق بغصن منها أدخله الجنة» . «ألا إن السخاء من الإيمان والإيمان في الجنة» . وقال علىّ بن عبد الله بن عبّاس: سادة الناس في الدنيا الأسخياء. وقال بعض الحكماء: الجواد من جاد بماله وصان نفسه عن مال غيره. وقيل لعمرو بن عبيد: ما الكرم؟ فقال: أن تكون بمالك متبرّعا، وعن مال غيرك متورّعا. ويقال: مراتب السخاء ثلاثة: سخاء وجود وإيثار، فالسخاء إعطاء الأقل وإمساك الأكثر، والجود إعطاء الأكثر وإمساك الأقل، والإيثار إعطاء الكل من غير إمساك بشىء، وهو أشرف درجات الكرم، وبه استحقّوا ثناء الله عزّوجلّ عليهم في قوله: (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) . ومن كلام ينسب الى جعفر بن محمّد: لا يتمّ المعروف إلا بثلاثة: تعجيله، وتصغيره، وستره. الجود زكاة السّعادة، والإيثار على النفس موجب لاسم الكرم، وقال: لا يستحى من بذل القليل فإن الحرمان أقلّ منه. قال بعض الشّعراء أعط القليل ولا يمنعك قلته ... فكلّ ما سدّ فقرا فهو محمود الجزء: 3 ¦ الصفحة: 204 وقال علىّ بن الحسين: الكريم يبتهج بفضله، واللئيم يفتخر بماله. وقال الحسين بن على رضى الله تعالى عنهما: أيّها الناس من جاد ساد، ومن بخل رذل، وأن أجود الناس من أعطى من لا يرجوه. وقيل ليزيد بن معاوية: ما الجود؟ قال: أن تعطى المال من لا تعرف؛ فإنّه لا يصير اليه حتى يتخطّى من تعرف. وقال أحمد بن محمد بن عبد ربه: لو لم يكن في الكرم، إلا أنه صفة من صفات الله تعالى، تسمّى بها فهو الكريم عزّوجلّ. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه» . وقيل لعبد الله بن جعفر: إنك قد أسرفت في بذل المال، قال: إن الله عزوجل قد عوّدنى بعادة أن يتفضل علىّ، وعودته أن أتفضل على عباده، وأخاف أن أقطع العادة فيقطع عنى. وقال المأمون لمحمد بن عباد المهلّبىّ: إنك متلاف، قال: منع الجود، سوء ظنّ بالمعبود. قال الله تعالى: (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) . وقال أكثم بن صيفىّ حكيم العرب: ذلّلوا أخلاقكم للمطالب، وقودوها الى المحامد، وعلّموها المكارم، ولا تقيموها على خلق تذمّونه من غيركم، وصلوا من رغب اليكم وتحلّوا بالجود يكسبكم المحبة، ولا تعتقدوا البخل، تتعجلوا الفقر؛ أخذه شاعر فقال أمن خوف فقر تعجلته ... وأخّرت إنفاق ما تجمع؟ فصرت الفقير وأنت الغنىّ ... وما كنت تعدو الذى تصنع وكتب رجل من البخلاء الى رجل من الأسخياء يأمره بالإنفاق على نفسه ويخوّفه الفقر، فأجابه: (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا) وإنى أكره أن أترك أمرا قد وقع لأمر لعلّه لا يقع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 205 وكان سعيد بن العاصى يقول على المنبر: من رزقه الله رزقا حسنا، فلينفق منه سرا وجهرا، حتى يكون أسعد الناس به، فإنما يترك ما يترك لأحد رجلين، إما لمصلح، فلا يقلّ عليه شىء، وإما لمفسد، فلا يبقى له شىء. أخذ بعض الشعراء هذا المعنى فقال: اسعد بمالك في الحياة فإنما ... يبقى خلافك مصلح أو مفسد فاذا جمعت لمفسد لم يغنه ... وأخو الصّلاح قليله يتزيّد وقال أبو ذرّ رضى الله عنه: لك في مالك شريكان، الحدثان، والوارث، فإن استطعت أن لا تكون أبخس الشركاء حظّا فافعل. وقال بزرجمهر الفارسىّ: إذا أقبلت عليك الدنيا، فانفق منها، فإنها لا تفنى، وإذا أدبرت عليك، فانفق منها، فإنها لا تبقى؛ أخذ الشاعر هذا المعنى فقال لا تبخلنّ بدنيا وهى مقبلة ... فليس ينقصها التبذير والسّرف وإن تولّت فأحرى أن تجود بها ... فالحمد منها إذا ما أدبرت خلف وكان كسرى يقول: عليكم بأهل السخاء والشجاعة، فإنهم أهل حسن ظنّ بالله، ولو أن أهل البخل، لم يدخل عليهم من ضرّ بخلهم، ومذمّة الناس لهم، وإطباق القلوب على بغضهم، إلا سوء ظنّهم بربهم في الخلف، لكان عظيما؛ أخذه محمود الورّاق فقال من ظنّ بالله خيرا جاد مبتدئا ... والبخل من سوء ظنّ المرء بالله وقيل لأبى عقيل البليغ العراقىّ: كيف رأيت مروان بن الحكم عند طلب الحاجة اليه؟ قال: رأيت رغبته في الإنعام، فوق رغبته في الشكر، وحاجته الى قضاء الحاجة، أشدّ من حاجة صاحبها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 206 وقال زياد: كفى بالبخيل عارا، أن اسمه لم يقع في حمد قطّ. وقال أسماء بن خارجة: ما أحبّ أن أردّ أحدا عن حاجة طلبها، لأنه لا يخلو أن يكون كريما، فأصون له عرضه. أو لئيما، فأصون عرضى منه. وقال إبراهيم بن المهدىّ: قلت لرجل من أهل الكوفة من وجوه أهلها كان لا يجفّ بيده قلم، ولا يستريح قلبه، ولا تسكن حركته في طلب حوائج الرجال، وإدخال المرافق على الضعفاء: أخبرنى عن الحالة التى خفّفت عنك النّصب، وهوّنت عليك التعب، فى القيام بحوائج الناس، ما هى؟ قال: قد والله سمعت [تغريد الطّير بالأسحار، فى فروع الأشجار، وسمعت خفق أوتار العيدان «1» ] وترجيع أصوات القيان، فما طربت من صوت قطّ، طربى من ثناء حسن، بلسان حسن، على رجل قد أحسن، ومن شكر حرّ لمنعم حرّ، ومن شفاعة محتسب، لطالب شاكر؛ قال إبراهيم: فقلت، لله أبوك! لقد حشيت كرما. وكان طلحة بن عبد الله بن عوف الزهرىّ من أجود قريش في زمانه، فقالت له امرأته: ما رأيت قوما ألأم من إخوتك، فقال لها: لمه؟ وأنّى قلت ذاك؟ فقالت: أراهم إذا أيسرت أتوك، وإذا أعسرت تركوك، قال: هذا والله كرمهم، يأتوننا في حال القوّة عليهم، ويتركوننا في حال العجز عنهم. وحكى أن رجلا شيخا أتى سعيد بن سالم، وكلّمه في حاجة وما شاه، فوضع الشيخ زجّ عصاه التى يتوكأ عليها، على رجل سعيد حتّى أدماها، فما تأوّه لذلك، وما نهاه، فلما فارقه، قيل له: كيف صبرت على هذا منه؟ فقال: خفت أن يعلم جنايته، فينقطع عن ذكر حاجته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 207 ذكر من انتهى اليهم الجود في الجاهلية وذكر شىء من أخبارهم والذى انتهى اليهم الجود في الجاهلية حاتم بن عبد الله بن سعد الطائىّ، وهرم بن سنان المرّىّ، وكعب بن مامة الإيادى، وضرب المثل بحاتم وكعب، والمشهور حاتم. وكعب هذا: هو الذى جاد بنفسه، وآثر رفيقه بالماء في المفازة، ولم يشهر له خبر غير هذا. وأما حاتم فأخباره مشهورة منها: أنه كان اذا اشتد البرد، أمر غلامه يسارا، فأوقد نارا في بقاع من الأرض، لينظر اليها من ضلّ عن الطريق، وفي ذلك يقول أوقد فإن الليل ليل قرّ ... والريح يا واقد ريح صرّ عسى يرى نارك من يمرّ ... إن جلبت ضيفا فأنت حرّ قالوا: ولم يك حاتم يمسك غير سلاحه وفرسه، ثم جاد بفرسه في سنة أزمة. قالت النوار امرأة حاتم: أصابتنا سنة اقشعرّت لها الأرض، واغبرّ أفق السماء، وضنّت المراضع عن أولادها، لا تبضّ بقطرة، وأيقنّا بالهلاك، فو الله، إنّى لفى ليلة صنبرة، بعيدة ما بين الطرفين، إذ تضاغى صبيتنا جوعا، عبد الله، وعدىّ، وسفانة، فقام حاتم الى الصبيّين، وقمت الى الصبيّة، فو الله ما سكتوا إلا بعد هدأة من الليل، وأقبل يعلّلنى، فعرفت ما يريد، فتناومت، فلما تهوّرت النجوم، إذا بشىء قد رفع كسر البيت، فقلت: من هذا؟ فولّى، ثم عاد آخر الليل، فقال من هذا؟ فقالت: جارتك فلانة، أتيتك من عند صبية يتعاوون عوى الذئاب، فما وجدت معوّلا إلا عليك أبا عدىّ، فقال: أعجليهم، فقد أشبعك الله وإياهم، فأقبلت المرأة تحمل اثنين، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 208 ويمشى بجانبها أربع كأنها نعامة حولها رئالها، فقام الى فرسه، فوجأ لبّته بمدية، فخر، ثم كشط عن جلده، ودفع المدية الى المرأة، وقال: شأنك، فاجتمعنا على اللحم نشوى، ونأكل، ثم جعل يأتيهم بينا بيتا، فيقول: هبّوا عليكم بالنار، والتفع بثوبه ناحية ينظر الينا، لا والله إن ذاق منه مضغة وإنه لأحوج اليه منّا، فأصبحنا وما في الأرض إلا عظم أو حافر. وقيل: كان مبدأ الأمر لحاتم في الجود، أنه لما ترعرع، جعل يخرج طعامه فإن وجد من يأكله معه أكله، وإن لم يجد طرحه، فلما رأى أبوه، أنه يهلك طعامه، قال له: ألحق بالإبل، فخرج إليها، فوهب له جارية، وفرسا وفلوها. وقيل: بل هلك أبو حاتم وهو صغير، وهذه القصّة كانت مع جدّه سعد بن الحشرج، فلما أتى حاتم الإبل، طفق يبتغى الناس، فلا يجدهم، ويأتى الطريق، فلا يجد عليه أحدا، فبينا هو كذلك، إذ بصر بركب على الطريق، فأتاهم، فقالوا: يا فتى، هل من قرى؟ فقال: تسألوننى عن القرى؟ وقد ترون الإبل! وكان الذى بصر بهم، عبيد ابن الأبرص، وبشر بن أبى خازم، والنابغة الذّبيانىّ، وكانوا يريدون النعمان، فنحر لهم ثلاثة من الإبل، فقال عبيد: إنما أردنا اللبن، وكانت تكفينا بكرة، إن كنت لا بدّ متكلّفا لنا شيئا، فقال حاتم: قد عرفت، ولكن رأيت وجوها مختلفة، وألوانا متفرّقة، فظننت أن البلدان غير واحد، فأردت أن يذكر كلّ واحد منكم ما رأى، إذا أتى قومه فقالوا فيه أشعارا امتدحوه بها، وذكروا فضله، فقال حاتم: أردت أن أحسن اليكم، فصار لكم الفضل علىّ، وإنى أعاهد الله أن أضرب عراقيب إبلى عن آخرها، أو تقوموا اليها فتقتسموها ففعلوا! فأصاب كل واحد تسعا وثلاثين بعيرا، ومضوا على سفرهم الى النعمان، وأن أبا حاتم أو جدّه، سمع بما فعل، فقال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 209 أين الإبل؟ فقال: يا أبت طوقتك بها طوق الحمامة مجدا وكرما، لا يزال الرجل يحمل بيث شعر أثنى به علينا عوضا من إبلك، فلما سمع أبوه ذلك، قال: أبإبلى فعلت ذلك؟ قال: نعم، قال: والله لا أساكنك أبدا، فخرج أبوه بأهله، وترك حاتما، ومعه جاريته وفرسه وفلوه. قال: فبينما حاتم يوما نائم، إذ انتبه، وحوله نحو مائتى بعير تجول وتحطم بعضها بعضا، فساقها الى قومه، فقالوا: يا حاتم، أبق على نفسك، فقد رزقت مالا، ولا تعودنّ الى ما كنت فيه من الإسراف، قال: فإنها نهب بينكم، فانتهبت؛ ثم أقبل ركب من بنى أسد ومن قيس يريدون النعمان، فلقوا حاتما، فقالوا له: إنا تركنا قومنا يثنون عليك خيرا، وقد أرسلوا اليك برسالة، قال: وما هى؟ فأنشده الأسديّون شعرا، لعبيد، وأنشده الليثيّون شعرا للنابغة، ثم قالوا: إنا لنستحى أن نسألك شيئا وإنّ لنا لحاجة، قال: وما هى؟ قالوا: صاحب لنا راجل، فقال حاتم: خذوا فرسى هذه، فاحملوا عليها صاحبكم، فأخذوها، وربطت الجارية فلوها بثوبها، فأفلت فاتبعته الجارية لتردّه، فقال حاتم: ما لحقكم من شىء فهو لكم، فذهبوا بالفرس والفلو والجارية. وأما هرم بن سنان، فمن أخباره: أنه آلى على نفسه أنه لا يسلّم عليه زهير إلا أعطاه فقلّ مال هرم، وكان زهير يمرّ بالنادى وفيه هرم فيقول: أنعموا صباحا ما خلا هرما، وخير القوم تركت؛ قالوا: وكان عبد الله بن جدعان، حين كبر، أخذت بنو تميم على يده، ومنعوه أن يعطى شيئا من ماله، فكان الرجل اذا أتاه يطلب منه، قال له: ادن منّى، فاذا دنا منه لطمه، ثم قال: اذهب فاطلب لطمتك أو ترضى، فترضيه بنو تميم من ماله؛ وفيه يقول الشاعر والذى إن أشار نحوك لطما ... تبع اللّطم نائل وعطاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 210 ومن أخبار الكرام: ما حكى أنّ خالد بن عبد الله القسرىّ أمير العراق، كان يكثر الجلوس ثم يدعو بالبدر ويقول: إنما هذه الأموال ودائع العرب لا بدّ من تفرقتها، فقال ذلك مرّة، وقد وفد عليه أخوه أسد بن عبد الله من خراسان، فقام، فقال أيها الأمير إن الودائع تجمع لا تفرق، فقال: ويحك! إنها ودائع المكارم؛ وأيدينا وكلاؤها، فإذا أتانا المملق فأغنيناه، والظمآن فأرويناه، فقد أدّينا فيها الأمانة، ومرّ يزيد بن المهلّب بأعرابية في هروبه من سجن عمر بن عبد العزيز، وهو يريد البصرة، فقدّمت له عنزا فقبلها، ثم قال لابنه معاوية: ما معك من النفقة؟ قال ثمانمائة دينار، قال: ادفعها اليها! فقال له ابنه: إنك تريد الرجال، ولا تكون الرجال إلا بالمال، وهذه يرضيها اليسير، وهى بعد لا تعرفك، فقال: إن كانت ترضى باليسير، فأنا لا أرضى إلا بالكثير، وإن كانت لا تعرفنى، فأنا أعرف نفسى، ادفعها إليها، فدفعها اليها. قال الأحنف: كثرت علىّ الدّيات بالبصرة، لما قتل مسعود، فلم أجدها في حاضرة تميم، فخرجت نحو يبرين، فسألت: من المقصود هناك؟ فأرسلت الى قبّة، فاذا شيخ جالس بفنائها، مؤتزر بشملة، محتب بحبل، فسلمت عليه، وانتسبت له، فقال: ما فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ قلت: توفّى، قال: فما فعل عمر بن الخطاب الذى كان يحفظ العرب ويحوطها؟ قلت: مات، قال: فأىّ خبر فى حاضرتكم بعدهما؟ قال: فذكرت الديات التى لزمتنا للأزد وربيعة، قال: أقم، فإذا راع قد أزاح عليه بألف بعير، فقال: خذها، ثم أراح عليه آخر بمثلها، فقال: خذها، قلت: لا أحتاج اليها، فانصرفت بالألف، وو الله ما أدرى من هو الى الساعة. وروى عن معن بن زائدة، قال: لما هربت من المنصور، خرجت من باب حرب، بعد أن أقمت في الشمس أياما، وخففت لحيتى وعارضى، ولبست الجزء: 3 ¦ الصفحة: 211 جبّة صوف غليظة، وركبت جملا، وخرجت عليه لأمضى الى البادية، قال: فتبعنى أسود متقلد سيفا، حتى إذا غبت عن الحرس، قبض على خطام الجمل فأناخه، وقبض علىّ، فقلت: ما شأنك؟ فقال: أنت بغية أمير المؤمنين فقلت له: ومن أنا حتّى يطلبنى أمير المؤمنين؟ فقال معن بن زائدة فقلت: يا هذا! اتق الله وأين أنا من معن؟ فقال: دع هذا عنك، فأنا والله أعرف بك، فقلت له: فإن كانت القصة كما تقول، فهذا جوهر حملته معى، بأضعاف ما بذله المنصور، لمن جاءه بى فخذه ولا تسفك دمى، فقال: هاته، فأخرجته اليه، فنظر إليه ساعة، وقال: صدقت فى قيمته، لست قابله حتى أسألك عن شىء، فإن صدقتنى أطلقتك، فقلت: قل، فقال: إن الناس قد وصفوك بالجود فأخبرنى هل وهبت قطّ مالك كلّه! قلت: لا، قال: فنصفه! قلت: لا، قال: فثلثه! قلت، لا حتى بلغ العشر فاستحييت وقلت: إنى أظن قد فعلت هذا، فقال: ما ذاك بعظيم، أنا والله راجل، ورزقى على أبى جعفر، عشرون درهما، وهذا الجوهر قيمته ألف دينار، وقد وهبته لك، ووهبتك لنفسك، ولجودك المأثور بين الناس، ولتعلم أن في الدنيا من هو أجود منك، ولا تعجبك نفسك، ولتحقّر بعد هذا كلّ شىء تفعله ولا تتوقف عن مكرمة، ثم رمى بالعقد إلىّ، وخلّى خطام الجمل وانصرف، فقلت: يا هذا! قد والله فضحتنى، ولسفك دمى أهون علىّ مما فعلت، فخذ ما دفعته اليك، فإنى عنه في غنى، فضحك، ثم قال: أردت أن تكذّبنى في مقامى هذا، فو الله لا آخذه، ولا آخذ لمعروف ثمنا أبدا، ومضى، فو الله لقد طلبته بعد أن أمنت، وبذلت لمن جاءنى به ماشاء، فما عرفت له خبرا، وكأنّ الأرض ابتلعته، وكان سبب غضب المنصور على معن ابن زائدة: أنه خرج مع عمرو بن يزيد بن عمرو بن هبيرة وأبلى في حربه بلاء حسنا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 212 ويقال: إن شاعرا أتى وهب بن وهب، وكان جوادا، فمدحه فهشّ وبش له وثنى له الوسادة وأضافه ورفده وحمله، فلما أراد الرّجل الرحلة، لم يخدمه أحد من غلمان وهب، فأنكر الرجل ذلك مع جميل فعله، فعاتب بعضهم، فقال له الغلام: إنّا إنّما نعين النازل على الإقامة ولا نعين الراحل على الفراق. وكان الحارث بن هشام المخزومى في وقعة اليرموك، وبها أصيب فأثبتته الجراح، فاستسقى ماء، فأتى به، فلما تناوله، نظر الى عكرمة بن أبى جهل صريعا في مثل حاله، فردّ الإناء على الساقى، وقال: امض الى عكرمة بن أبى جهل، فمضى إليه، فأبى أن يشرب قبله، فرجع الى الحارث، فوجده ميتا، فرجع الى عكرمة، فوجده قد مات، فلم يشرب واحد منهما. وقد وصف الناس أهل الجود والكرم بمدائح، سنذكر ما استجودناه منها. فمن ذلك ما حكى عن أبى العباس أحمد بن يحيى المعروف بثعلب، قال: كان ببغداد فتى يجنّ ستة أشهر، فاستقبلته ببعض السكك ذات يوم، فقال: ثعلب؟ قلت: نعم، قال: فأنشدنى فأنشدته وإذا مررت بقبره فاعقر به ... كوم الهجان وكلّ طرف سابح وانضح جوانب قبره بدمائها ... فكذا يكون أخادم وذبائح فضحك، ثم سكت ساعة، وقال: ألا قال؟ اذهبا بى إن لم يكن لكما عقر ... على ترب قبره فاعقرانى وانضحا من دمى عليه فقد كا ... ن دمى من نداه لو تعلمان ثم رآنى يوما بعد ذلك فتأمّلنى، وقال: ثعلب! قلت: نعم، قال: أنشدنى فأنشدته الجزء: 3 ¦ الصفحة: 213 أعار الجود نائله ... إذا ما ماله نفدا وإن ليثا شكا جبنا ... أعار فؤاده الأسدا فضحك، وقال: ألا قال؟ علّم الجود النّدى حتّى إذا ... ما حكاه علّم البأس الأسد فله الجود مقرّ بالندى ... وله الليث مقرّ بالجلد وقال مسلم بن الوليد وهو مما يجوز إيراده في الشجاعة والكرم يجود بالنفس إن ضنّ الجواد بها ... والجود بالنفس أقصى غاية الجود وأول من أتى بهذا المعنى علقمة بن عبدة حيث قال تجود بنفس لا يجاد بمثلها ... فأنت بها يوم اللّقاء خصيب وهذا مثل قول يزيد بن أبى يزيد الشيبانى: من جاد بنفسه عند اللقاء، وبماله عند العطاء، فقد جاد بنفسيه كلتيهما. قالوا: وأجود ما قيل في ذلك قول أبى العتاهية يمدح العباس بن محمد لو قيل للعباس يا ابن محمد ... قل «لا» وأنت مخلّد ما قالها إن السماحة لم تزل معقولة ... حتّى حللت براحتيك عقالها وإذا الملوك تسايرت في بلدة ... كانوا كواكبها وكنت هلالها فلم يثبه العباس، فقال هزرتك هزّة السيف المحلّى ... فلما أن ضربت بك انثنيت فهبها مدحة ذهبت ضياعا ... كذبت عليك فيها وافتريت فلما سمع العباس الأبيات غضب، وقال: والله لأجهدنّ في حتفه، قال: فمرّ أبو العتاهية بإسحاق بن العباس، وقال له إسحاق: أنشدنى شيئا من شعرك فأنشده الجزء: 3 ¦ الصفحة: 214 ألا أيها الطالب المستغيث ... بمن لا يفيد ولا يرفد ألا تسأل الله من فضله ... فإن عطاياه لا تنفد إذا جئت أفضلهم للسؤا ... ل ردّ وأحشاؤه ترعد كأنّك من خشية للسؤا ... ل في عينه الحيّة الأسود فقرّ الى الله من لؤمهم ... فإنى أرى الناس قد أصلدوا وإنى أرى الناس قد أبرقوا ... بلؤم الفعال وقد أرعدوا ثم مضى، فقيل لإسحاق: إن هذا الشعر له في أبيك، فقال إسحاق: أولى له، لم عرّض نفسه وأحوج أبا العتاهية إلى مثل هذا مع ملكه وقدرته؟ وقد أورد أبو الفرج الأصفهانىّ خبر هذه الأبيات، فقال: امتدح ربيعة الرّقّى العباس بن محمد بن على بن عبد الله بن العباس بقصيدة لم يسبق اليها حسنا، وهى طويلة يقول فيها لو قيل للعباس: يا ابن محمّد ... قل «لا» وأنت مخلّد ما قالها ما إن أعدّ من المكارم خصلة ... إلا وجدتك عمّها أو خالها وإذا الملوك تسايرت في بلدة ... كانوا كواكبها وكنت هلالها إن المكارم لم تزل معقولة ... حتّى حللت براحتيك عقالها قال: فبعث إليه بدينارين، وكان يقدّر فيه ألفين، فلما نظر إلى الدينارين، كاد أن يجن غضبا، وقال للرسول: خذ الدينارين فهما لك على أن تردّ إلىّ الرّقعة، من حيث لا يدرى العباس؛ ففعل الرسول ذلك، فأخذها ربيعة، وأمر من كتب فى ظهرها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 215 مدحتك مدحة السيف المحلّى ... لتجرى في الكرام كما جريت فهبها مدحة ذهبت ضياعا ... كذبت عليك فيها وافتريت فأنت المرء ليس له وفاء ... كأنى إذ مدحتك قد زنيت ثم دفعها إلى الرسول وقال: ضعها في الموضع الذى أخذتها منه، ففعل، فلما كان من الغد، أخذها العباس فنظر فيها، فلما قرأ الأبيات، غضب، وقام من وقته، فركب إلى الرشيد، وكان أثيرا عنده يبجله ويقدّمه، وكان قد همّ أن يخطب اليه ابنته، فرأى الرشيد الكراهة في وجهه، فقال ما شأنك؟ قال: هجانى ربيعة الرقّى، فأحضره الرشيد، وقال له: يا ماص كذا وكذا من أمّه أتهجو عمّى، وآثر خلق الله عندى؟ لقد هممت أن أضرب عنقك، فقال: يا أمير المؤمنين، والله لقد امتدحته بقصيدة ما قال أحد مثلها من الشعراء في أحد من الخلفاء، ولقد بالغت في الثناء، وأكثرت الوصف، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بإحضارها فعل، فلما سمع الرشيد ذلك، سكن غضبه، وأحب أن ينظر في القصيدة، فأمر العباس بإحضارها فتلكأ عليه، فقال له الرشيد: سألتك بحق أمير المؤمنين، إلا أمرت بإحضارها؟ فأحضرت، فإذا فيها القصيدة بعينها، فاستحسنها واستجادها وأعجب بها، وقال: والله ما قال أحد من الشعراء في أحد من الخلفاء مثلها، ولقد صدق ربيعة فبرّ، ثم قال للعباس: كم أثبته عليها؟ فسكت العباس، وتغيّر لونه، وغصّ بريقه، فقال ربيعة: أثابنى عنها يا أمير المؤمنين دينارين، فتوهم الرشيد أنه قال ذلك من الموجدة عليه، فقال: بحياتى يا رقّى كم أثابك؟ فقال: وحياتك يا أمير المؤمنين ما أثابنى إلا بدينارين، فغضب الرشيد غضبا شديدا، ونظر في وجه العباس، وقال: سوءة لك! أيّة حال قعدت بك عن إثابته؟ أقلّة مال؟ فو الله لقد نولتك جهدى، أم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 216 انقطاع المال عنك؟ فو الله ما انقطعت بك، ام أصلك؟ فهو الاصل الذى لا يدانيه شىء، أم نفسك؟ لا ذنب لى، بل نفسك والله فعلت بك ذلك، حتى فضحت أجدادك وفضحتنى، وفضحت نفسك، فنكس العباس رأسه، ولم ينطق، فقال الرشيد: يا غلام، أعط ربيعة ثلاثين ألف درهم، وخلعة، واحمله على بغلة، ثم قال له: بحياتى لا تذكره في شىء من شعرك تعريضا ولا تصريحا، وفتر الرشيد عما كان قد همّ به من أن يتزوج اليه وأظهر له بعد ذلك جفاء واطراحا. وقال محمد بن هانئ الواهب الألف إلا أنها بدر ... والطاعن الألف إلا أنها نسق تأتى عطاياه شتّى غير واحدة ... كما تدافع موج البحر يصطفق وقال الرضىّ الموسوىّ ريّان والأيام ظمآنة ... من النّدى نشوان بالبشر لا يمسك العدل يديه ولا ... تأخذ منه نشوة الخمر وقال أيضا ذخائره العرف في أهله ... وخزّان أمواله السائلونا وقال أمية بن أبى الصلت الثقفىّ يمدح عبد الله بن جدعان أأذكر حاجتى أم قد كفانى ... حياؤك إن شيمتك الحياء؟ وعلمك بالأمور وأنت قرم ... لك الحسب المهذّب والسناء كريم لا يغيّره صباح ... عن الخلق السنىّ ولا مساء إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرّضه الثناء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 217 وقال الشمّاخ بن ضرار نزور امرأ يعطى على الحمد ماله ... ومن يعط أثمان المحامد يحمد وأنت امرؤ، من تعطه اليوم نائلا ... بكفّك، لا يمنعك من نائل الغد ترى الجود لا يدنى من المرء حتفه ... كما البخل والإمساك ليس بمخلد مفيد ومتلاف، اذا ما سألته ... تهلّل، واهتزّ اهتزاز المهنّد متى تأته تعشو الى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد قال: ولما سمع عمر رضى الله عنه هذا البيت، قال: كذب، تلك نار موسى عليه السّلام. وقال السرىّ الرفّاء كالغيث والليث والهلال اذا ... أقمر بأسا وبهجة وندى ناس من الجود ما يجود به ... وذاكر منه كلما وعدا وقال أبو الفرج الوأواء من قاس جدواك بالغمام فما ... أنصف في الحكم بين اثنين أنت اذا جدت ضاحكا أبدا ... وهو اذا جاد باكى العين وقال ابن نباتة السعدىّ من قصيدة لم يبق جودك لى شيئا أؤمّله ... تركتنى أصحب الدنيا بلا أمل ذكر ما قيل في الإعطاء قبل السؤال قال سعيد بن العاصى: قبح الله المعروف، اذا لم يكن ابتداء من غير مسألة، فما المعروف عوض من مسألة الرجل، اذا بذل وجهه، فقلبه خائف، وفرائصه ترعد، وجبينه يرشح، لا يدرى ايرجع بنجح الطلب أم بسوء المنقلب، قد بات ليلته الجزء: 3 ¦ الصفحة: 218 يتململ على فراشه، يعاقب بين شقّيه، مرّة هكذا، ومرّة هكذا، من لحاجته؟ فخطرت بباله أنا أو غيرى، فمثّل أرجاهم في نفسه، وأقربهم من حاجته، ثم عزم علىّ، وترك غيرى، قد انتقع لونه، ودهب دم وجهه، فلو خرجت له مما أملك لم أكافئه، وهو على أمن منّى عليه، اللهم فإن كانت الدنيا لها عندى حظّ فلا تجعل لى حظّا في الآخرة. وقال أكثم بن صيفىّ: كلّ سؤال وإن قلّ، أكثر من كلّ نوال وإن جلّ. وقال علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه لأصحابه: من كانت له إلىّ منكم حاجة، فليرفعها في كتاب، لأصون وجوهكم عن المسألة. وقال عبد العزيز بن مروان: ما تأمّلنى رجل قط، إلا سألته عن حاجته، ثم كنت من ورائها. وقال حبيب عطاؤك لا يفنى ويستغرق المنى ... وتبقى وجوه الراغبين بمائها وقال أيضا ما ماء كفك إن جادت وإن بخلت ... من ماء وجهى إذا أفنيته عوض وقالوا: من بذل اليك وجهه، فقد وفّاك حقّ نعمته. وقال معاوية لصعصعة بن صوحان: ما الجود؟ فقال: التّبرع بالمال، والعطاء قبل السؤال. وقال أحمد بن محمد بن عبد ربّه كريم على العلّات جزل عطاؤه ... ينيل وإن لم يعتمد لنوال وما الجود من يعطى اذا ما سألته ... ولكنّ من يعطى بغير سؤال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 219 وقال حبيب الطائىّ لئن جحدتك ما أوليت من كرم ... إنى لفى اللؤم أمضى منك في الكرم أنسى ابتسامك- والألوان كاسفة- ... تبسّم الصبح، فى داج من الظّلم رددت رونق وجهى في صفيحته ... ردّ الصّقال صفاء الصارم الخذم وما أبالى- وخير القول أصدقه- ... حقنت لى ماء وجهى أم حقنت دمى ذكر ما قيل في الشجاعة والصبر والإقدام روى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «الشجاعة غريزة يضعها الله فيمن يشاء من عباده، إن الله يحبّ الشجاع ولو على قتل حيّة» . وقالوا: حدّ الشجاعة سعة الصدر بالإقدام على الأمور المتلفة. وسئل بعضهم عن الشجاعة فقال: جبلّة نفس أبيّة، قيل له: فما النجدة؟ قال: ثقة النفس عند استرسالها الى الموت، حتى تحمد بفعلها دون خوف. وقيل لبعضهم: ما الشجاعة؟ فقال: صبر ساعة. وقال بعض أهل التجارب: الرجال ثلاثة: فارس، وشجاع، وبطل، فالفارس: الذى يشدّ اذا شدّوا، والشجاع: الداعى الى البراز والمجيب داعيه، والبطل: الحامى لظهور القوم اذا ولّوا. قال يعقوب بن السكّيت في كتاب الألفاظ: العرب تجعل الشجاعة في أربع طبقات، تقول: رجل شجاع، فاذا كان فوق ذلك، قالوا: بطل، فاذا كان فوق ذلك، قالوا: بهمة، فاذا كان فوق ذلك، قالوا: اليس. وقال بعض الحكماء: جسم الحرب: الشجاعة، وقلبها: التدبير، ولسانها: المكيدة، وجناحها: الطاعة، وقائدها: الرفق، وسائقها: النصر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 220 قالوا: لما ظفر المهلّب بن أبى صفرة بالخوارج، وجّه كعب بن معدان الى الحجّاج، فسأله عن بنى المهلّب، فقال: المغيرة فارسهم وسيّدهم، وكفى بيزيد فارسا شجاعا، وجوادهم وشيخهم: قبيصة، ولا يستحيى الشجاع أن يفرّ من مدرك، وعبد الملك: سمّ ناقع، وحبيب: موت زعاف، ومحمد: ليث غاب، وكفاك بالمفضّل نجدة، قال: فكيف خلّفت جماعة الناس؟ قال: خلّفتهم بخير، قد أدركوا ما أملوا، وأمنوا ما خافوا، قال: فكيف كان بنو المهلّب فيهم؟ قال: كانوا حماة السّرح نهارا، فاذا أليلوا ففرسان البيات، قال: فأيّهم كان أنجد؟ قال: كانوا كالحلقة المفرغة، لا يدرى أين طرفها، قال: فكيف كنتم أنتم وعدوّكم؟ قال: كنّا اذا أخذنا، عفونا، واذا اجتهدوا، اجتهدنا فيهم، فقال الحجّاج: (إنّ العاقبة للمتّقين) . وقالوا: أشجع بيت قالته العرب قول العباس بن مرداس السلمىّ أشدّ على الكتيبة لا أبالى ... أحتفى كان فيها أم سواها؟ وقد مدح الشعراء الشجاعة وأهلها، وأوسعوا في ذلك، فمن ذلك قول المتنبّى شجاع كأنّ الحرب عاشقة له ... اذا زارها فدّته بالخيل والرّجل وقال أيضا وكم رجال بلا أرض لكثرتهم ... تركت جمعهم أرضا بلا رجل ما زال طرفك يجرى في دمائهم ... حتى مشى بك مشى الشارب الثمل وقال العماد الإصفهانىّ قوم إذا لبسوا الحديد الى الوغى ... لبس الحداد عدوّهم في المهرب المصدرون الدّهم عن ورد الوغى ... شقرا تجلّل بالعجاج الأشهب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 221 وقال أبو الفرج الببغاء واليوم من غسق العجاجة ليلة ... والكرّ يخرق سجفها الممدودا وعلى الصّفاح من الكفاح وصدقه ... ردع أحال بياضها توريدا والطعن يغتصب الجياد شياتها ... والضرب يقدح في التليل وقودا وعلى النفوس من الحمام طلائع ... والخوف ينشد صبرها المفقودا وأجلّ ما عند الفوارس حثّها ... فى طاعة الهرب الجياد القودا حتى إذا ما فارق الرأى الهوى ... وغدا اليقين على الظنون شهيدا لم يغن غير أبى شجاع والعلا ... عنه تناجى النصر والتأييدا وقال أيضا وروى للبحترىّ من كلّ متّسع الأخلاق مبتسم ... للخطب إن ضاقت الأخلاق والحيل يسعى به البرق، إلا أنه فرس ... فى صورة الموت إلا أنه رجل يلقى الرماح بصدر منه ليس له ... ظهر وهادى جواد ما له كفل وقال البحترىّ معشر أمسكت حلومهم الأر ... ض وكادت لو لاهم أن تميدا فإذا الجدب جاء كانوا غيوثا ... وإذا النقع ثار ثاروا أسودا وكأنّ الإله قال لهم في ال ... حرب كونوا حجارة أو حديدا وقال مسلم لو أنّ قوما يخلقون منيّة ... من بأسهم كانوا بنى جبريلا قوم إذا حمى الوطيس لديهم ... جعلوا الجماجم للسيوف مقيلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 222 وقال آخر عقبان روع والسروج وكورها ... وليوث حرب والقنا آجام وبدور تمّ والشوائك في الوغى ... هالاتها والسابرىّ غمام جادوا بممنوع التلاد وجوّدوا ... ضربا تخدّ به الطّلا والهام وتجاورت أسيافهم وجيادهم ... فالأرض تمطر والسماء تغام وقال آخر قوم، شراب سيوفهم ورماحهم ... فى كلّ معترك دم الأشراف رجعت إليهم خيلهم بمعاشر ... كلّ لكلّ جسيم أمر كاف يتحنّنون إلى لقاء عدوّهم ... كتحنّن الألّاف للألّاف ويباشرون ظبا السيوف بأنفس ... أمضى وأقطع من ظبا الأسياف وقال ابن حيّوس إن ترد خبر حالهم عن قريب ... فأتهم يوم نائل أو نزال تلق بيض الوجوه سود مثار النقع، ... خضر الأكناف حمر النصال ومما قيل في الصبر والإقدام قال الله عزوجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) . وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا تتمنّوا لقاء العدوّ وسلوا الله العافية فاذا لقيتموهم فاثبتوا وأكثروا من ذكر الله وإن جلبوا وضجّوا فعليكم بالصمت» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 223 ومن كلام علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: ربّ حياة، سببها التعرّض للموت، وربّ منيّة، سبّبها طلب الحياة. وقالوا: أجمع كلمة قيلت في الصبر قول بعضهم: الصبر مطيّة النصر. وقال آخر: الصبر مطيّة لا تكبو، وإن عنف عليه الزمان. وقال آخر: الصبر شرية «1» ، تثمر أرية «2» . وقيل للمهلّب بن أبى صفرة: إنك لتلقى نفسك في المهالك، فقال: إن لم آت الموت مسترسلا، أتانى مستعجلا، إنى لست آتى الموت من حبّه، وإنما آتيه من بغضه، وتمثّل بقول الحصين بن الحمام تأخّرت أستبقى الحياة فلم أجد ... لنفسى حياة مثل أن أتقدّما وهى قصيدة مشهورة منها فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أقدامنا تقطر الدّما نفلّق هاما من كرام أعزّة ... علينا، وهم كانوا أعقّ وأظلما ولما رأينا الصبر قد حيل دونه ... وإن كان يوما ذا كواكب مظلما صبرنا، وكان الصبر منا سجية ... بأسيافنا يقطعن كفّا ومعصما ولما رأيت الودّ ليس بنافعى ... عمدت الى الأمر الذى كان أحزما فلست بمبتاع الحياة بسبّة ... ولا مرتق من خشية الموت سلّما وقالت العرب: الشجاعة وقاية، والجبن مقتلة. وكذلك: إن من يقتل مدبرا، أكثر ممن يقتل مقبلا. وقال أبو بكر الصديق رضى الله عنه لخالد بن الوليد: احرص على الموت، توهب لك الحياة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 224 وقالت الحكماء: استقبال الموت، خير من استدباره. وقال العلوىّ محرّمة أكفال خيلى على القنا ... ودامية لبّاتها ونحورها حرام على أرماحنا طعن مدبر ... وتندقّ منها في الصدور صدورها وقال أبو تمّام قلّوا ولكنّهم طابوا فأنجدهم ... جيش من الصبر لا يحصى له عدد اذا رأوا للمنايا عارضا لبسوا ... من اليقين دروعا مالها زرد ناوا عن المصرح الأدنى فليس لهم ... إلا السيوف على أعدائهم مدد وما زالت العرب يتمادحون بالموت قعصا، ويتسابّون بالموت على الفراش، ويقولون فيه: مات فلان حتف أنفه، وأوّل من قال ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ومدح أعرابىّ قوما فقال يقتحمون الحرب كأنما ... يلقونها بنفوس أعدائهم وقال عبد الله بن الزبير لما بلغه قتل أخيه مصعب: إن يقتل فقد قتل أخوه وأبوه وعمه، إنا والله لا نموت حتفا ولكن قعصا بأطراف الرماح، وموتا تحت ظلال السيوف، وقال السموءل بن عادياء وما مات منا سيّد في فراشه ... ولا ظلّ منا حيث كان قتيل تسيل على حدّ الظّباة نفوسنا ... وليست على غير الظّباة تسيل وقال أيضا آخر وإنا لتستحلى المنايا نفوسنا ... ونترك أخرى مرّة ما نذوقها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 225 وقال علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه يوم صفّين، وقد قيل له: أتقائل أهل الشام بالغداة، وتظهر بالعشىّ في إزار ورداء؟ فقال: أبا لموت تخوّفوننى؟ فو الله ما أبالى، أسقطت على الموت، أم سقط الموت علىّ؛ وقال لابنه الحسن: لا تدعونّ أحدا الى المبارزة، وإن دعيت اليها فأجب، فانّ الداعى اليها باغ، وللباغى مصرع. وقال رضى الله عنه بقية السيف أنمى عددا يريد أن السيف اذا أسرع في أهل بيت كثر عددهم ونمى. وقال ابن عباس رضى الله عنه: عقمت النساء أن تأتى بمثل علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، لعهدى به يوم صفّين، وعلى رأسه عمامة بيضاء، وهو يقف على شرذمة شرذمة من الناس، يحضّهم على القتال، حتى انتهى الىّ، وأنا في كنف من الناس، وفي أغيلمة من بنى عبد المطّلب، فقال: يا معشر المسلمين، تجلببوا السكينة، وكلّموا اللأمة، وأقلقوا السيوف في الأغماد، وكافحوا بالظّبا، وصلوا السيوف بالخطا، فإنكم بعين الله، ومع ابن عم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، عاودوا الكرّ، واستحيوا من الفرّ، فإنه عار في الأعقاب، ونار في الحساب، وطيبوا على الحياة أنفسا، وسيروا الى الموت سيرا سجحا «1» ، ودونكم هذا الرواق الأعظم، فاصبروا، فإن الشيطان راكب صعدته، قدّموا للوثبة رجلا، وأخّروا للنكوص أخرى، فصمدا صمدا، حتى يبلغ الحقّ أجله، والله معكم، ولن تترككم اعمالكم؛ ثم صدر عنا، وهو يقرأ (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) . وكان معاوية بن أبى سفيان يتمثل يوم صفّين بهذه الأبيات أبت لى شميتى وأبى بلائى ... وأخذى الحمد بالثمن الربيح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 226 وإقدامى على المكروه نفسى ... وضربى هامة البطل المشيج وقولى كلّما جشأت لنفسى ... مكانك تحمدى أو تستريحى لأدفع عن مآثر صالحات ... وأحمى بعد عن عرض صحيح وقال قطرىّ بن الفجاءة أمير الخوارج وقولى كلّما جشأت لنفسى ... من الأبطال ويحك لا تراعى فإنك لو سألت بقاء يوم ... على الأجل الذى لك لم تطاعى فصبرا في مجال الموت صبرا ... فما نيل الخلود بمستطاع سبيل الموت غاية كلّ حىّ ... وداعيه لأهل الأرض داعى وقال عبد الله بن رواحة الأنصارىّ يا نفس إن لم تقتلى تموتى ... إن تسلمى اليوم فلا تفوتى أو تبتلى فطالما عوفيت ... هذى حياض الموت قد صليت وما تمنّيت فقد لقيت ... إن تفعلى فعلهما هديت وإن تولّيت فقد شقيت يريد بقوله فإن تفعلى فعلهما هديت فعل زيد بن حارثة، وجعفر بن أبى طالب رضى الله عنهما؛ وكانا قتلا في ذلك اليوم بموته. وكان علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، يخرج كلّ يوم بصفّين حتى يقف بين الصفين وينشد من أىّ يومىّ من الموت أفرّ ... يوم لا يقدر أم يوم قدر فيوم لا يقدر لا أرهبه ... ثمّ من المقدور لا ينجو الحذر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 227 ومثله قول جرير من قصيدة أولها هاج الفراق لقلبك المهتاج منها قل للجبان إذا تأخر سرجه ... ما أنت من شرك المنية ناجى وقالت امرأة من عبد القيس أبوا أن يفرّوا والقنا في نحورهم ... ولم يبتغوا من خشية الموت سلّما ولو أنهم فرّوا لكانوا أعزّة ... ولكن رأوا صبرا على الموت أكرما وقال حبيب بن أوس الطائىّ فأثبت في مستنقع الموت رجله ... وقال لها من تحت أخمصك الحشر وقد كان فوت الموت سهلا فردّه ... عليه الحفاظ المرّ والخلق الوعر غدا غدوة والحمد نسج ردائه ... فلم ينصرف إلا وأكفانه الأجر تردّى ثياب الموت حمرا فما أتى ... لها الليل إلا وهى من سندس خضر وقال قوم اذا لبسوا الحديد حسبتهم ... لم يحسبوا أن المنيّة تخلق أنظر بحيث ترى السيوف لوامعا ... أبدا وفوق رءوسهم تتألّق وقال الببغاء يسعى الى الموت والقنا قصد ... وخيله بالرءوس تنتعل كأنه واثق بأنّ له ... عمرا مقيما وما له أجل وقال كعب بن مالك نصل السيوف اذا قصرن بخطونا ... قدما ونلحقها اذا لم تلحق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 228 ومثله لبعض بنى قيس بن ثعلبة لو كان في الألف منا واحد فدعوا ... من فارس؟ خالهم إياه يعنونا إذا الكماة تنحّوا أن يصيبهم ... حدّ الظباة وصلناها بأيدينا ومثله قول الآخر إذا قصرت أسيافنا كان وصلها ... خطانا الى أعدائنا فنقارب ومثله قول ودّاك بن ثميل المازنىّ مقاديم وصّالون في الرّوع خطوهم ... بكلّ رقيق الشّفرتين يمانى اذا استنجدوا لم يسألوا من دعاهم ... لأية حرب أم بأىّ مكان وقال أبو تمّام في سعة الخطو خطو، ترى الصارم الهندىّ منتصرا ... به، من المازن الخطّىّ منتصفا وقال آخر كأنّ سيوفه صيغت عقودا ... تجول على الترائب والنحور وسمر رماحه جعلت هموما ... فما يخطرن إلا في ضمير وأجود ما قاله محدّث في الصبر قول ابن الرومىّ أرى الصبر محمودا وعنه مذاهب ... فكيف اذا ما لم يكن عنه مذهب؟ هناك يحقّ الصبر، والصبر واجب ... وما كان منه كالضرورة أوجب فشدّ امرؤ بالصبر كفّا فإنه ... له عصمة، أسبابها لا تقضّب هو المهرب المنجى لمن أحدقت به ... مكاره دهر ليس منهنّ مهرب لبوس جمال جنّة من شماتة ... شفاء أسى يثنى به ويثوّب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 229 فيا عجبا للشىء هذى خلاله ... وتارك ما فيه من الحظ أعجب وقد يتظّنى الناس أن أساهم ... وصبرهم فيهم طباع مركّب فإنهما ليسا كشىء مصرّف ... يصرّفه ذو نكبة حين ينكب فإن شاء أن يأسى أطاع له الأسى ... وإن شاء صبرا جاءه الصبر يجلب وليسا كما ظنوهما بل كلاهما ... لكلّ لبيب مستطاع مسبّب يصرّفه المختار منا فتارة ... يراد فيأتى، أو يزاد فيذهب اذا احتجّ محتجّ على النفس لم تكد ... على قدر يمنى لها تتعتّب وساعدها الصبر الجميل فأقبلت ... إليها له طوعا جنائب تجنب وإن هو منّاها الأباطيل لم تزل ... تقاتل بالعتب القضاء وتغلب فيضحى جزوعا إن أصابت مصيبة ... ويمسى هلوعا إن تعذّر مطلب فلا يعذرنّ التارك الصبر نفسه ... بأن قيل: إن الصبر لا يتكسّب ذكر ما قيل في وفور العقل قال الله تعالى: (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) قال المفسرون: عبّر عن العقل بالقلب، لأنه محلّه وسكنه، وقال تعالى: (وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) ، وقال تعالى: (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) .* وقال تعالى: (هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) . وروى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «أوّل ما خلق الله العقل، قال له: أقبل، فأقبل، ثم قال له: أدبر، فأدبر، ثم قال: وعزتى وجلالى، ما خلقت خلقا أكرم على منك، بك آخذ، وبك أعطى، وبك أثيب، وبك أعاقب» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 230 وعنه صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله تعالى قسم العقل على ثلاثة أقسام، فمن كنّ فيه كمل عقله، ومن لم يكن فيه جزء منها، فلا عقل له» ، قيل: يا رسول الله، ما أجزاء العقل؟ قال: حسن المعرفة بالله، وحسن الطاعة لله، وحسن الصبر على أمر الله» . وعنه صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «ما اكتسب رجل مثل فضل عقل يهدى صاحبه الى هدى، ويردّه عن ردّى، وما تمّ إيمان عبد ولا استقام دينه، حتى يكمل عقله» . وعن عمر رضى الله عنه أنه قال لتميم الدارىّ: ما السؤدد فيكم؟ قال: العقل، قال: صدقت، سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم كما سألتك، فقال كما قلت، ثمّ قال: سألت جبريل ما السؤدد؟ فقال: العقل. وعن عايشة رضى الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، بأى شىء يتفاضل الناس في الدنيا؟ قال: بالعقل، قلت: وفي الآخرة؟ قال بالعقل، قلت: أليس إنما يجزون بأعمالهم! فقال: «يا عايشة، وهل عملوا إلا بقدر ما أعطاهم الله تعالى من العقل، فبقدر ما أعطوا من العقل كانت أعمالهم، وبقدر ما عملوا يجزون» . وعن سعيد بن المسيّب: أن عمرو أبىّ بن كعب وأبا هريرة دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله، من أعلم الناس؟ قال: العاقل، قالوا: فمن أعبد الناس؟ قال: العاقل، قالوا: فمن أفضل الناس؟ قال: العاقل، قالوا: أليس العاقل من طهرت مروءته، وظهرت فصاحته، وجادت كفّه، وعظمت منزلته؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (وإن كلّ ذلك لمّا متاع الحياة الدّنيا والآخرة عند ربّك للمتّقين) إن العاقل هو التقىّ وإن كان في الدنيا خسيسا دنيا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 231 وورد في الأثر: «أنّ الله تعالى أنزل على آدم عليه السّلام العقل والدين والحياء، فاختار العقل، فقيل للدين والحياء: ارتفعا، قالا: لا، قال: أفعصيتما أمر ربّكما؟ قالا: ما عصينا أمر ربّنا، ولكنّا أمرنا أن نتبع العقل حيث كان» . وقال لقمان لابنه: إن غاية الشرف والسؤدد في الدنيا والآخرة، حسن العقل، لأن العبد إذا حسن عقله، غطّى ذلك عيوبه، وأصلح مساويه، ورضى عنه خالقه، وكفى بالمرء عقلا أن يسلم الناس من شرّه. وقيل: مكتوب في حكمة آل داود عليه السّلام: على العاقل أن يكون عالما بأهل زمانه، مالكا للسانه، مقبلا على شأنه. وقال بعض الحكماء: كلّ شىء يعز اذا قلّ، والعقل كلّما كان أكثر كان أعز وأغلى، ولو بيع، لما اشتراه إلا العاقل لمعرفته بفضله، وأوّل شرف العقل أنه لا يشترى بالمال. قال أبو عطاء السندىّ فإن العقل ليس له اذا ما ... تذكّرت الفضائل من كفاء وقالوا: العلم قائد، والعقل سائق، والنفس بينهما حرون، فاذا كان قائد بلا سائق هلكت، وان كان سائق بلا قائد أخذت يمينا وشمالا، فاذا اجتمعا أجابت طوعا أوكرها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 232 ذكر ما قيل في حدّ العقل وماهيّته وما وصف به وقد اختلف الحكماء، فى حد العقل، فقيل: حدّه الوقوف عند مقادير الأشياء قولا وفعلا، وقيل: النظر في العواقب، وقال المتكلمون: هو اسم لعلوم اذا حصلت للإنسان صحّ تكليفه. وقيل: العاقل من له رقيب على شهواته، وقيل: هو من عقل نفسه عن المحارم، وقال عمرو بن العاص: أن يعرف خير الخيرين، وشرّ الشرين. قال أبو هلال: ومن العجب أن العرب تمثّلت في جميع الخصال، بأقوام جعلوهم أعلاما فيها، فضربوا بها المثل اذا أرادوا المبالغة، فقالوا: أحلم من الأحنف، ومن قيس بن عاصم، وأجود من حاتم، ومن كعب بن مامة، وأشجع من بسطام، وأبين من سحبان، وأرمى من ابن تقن، وأعلم من دغفل، ولم يقولوا: أعقل من فلان، فلعلّهم لم يستكملوا عقل أحد، على حسب ما قال الأعرابىّ، وقد قيل له: حدّ لنا العقل، فقال: كيف أحدّه ولم أره كاملا في أحد قطّ. وقيل لحكيم: ما جماع العقل؟ فقال: ما رأيته مجتمعا في أحد فأصفه، وما لا يوجد كاملا فلا حدّ له. وقالوا: لكلّ شىء غاية وحدّ، والعقل لا غاية له ولا حدّ، ولكن الناس يتفاوتون فيه كتفاوت الأزهار في الرائحة والطّيب. واختلفوا في ماهيّة العقل، كما اختلفوا في حدّه، فقال بعضهم: هو نور وضعه الله تعالى طبعا وغريزة في القلب، كالنور في العين وهو البصر، فالعقل نور في القلب، والبصر نور في العين، وهو ينقص ويزيد، ويذهب ويعود، وكما يدرك بالبصر شواهد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 233 الأمور، كذلك يدرك بالعقل كثير من المحجوب والمستور، وعمى القلب كعمى البصر، قال تعالى: (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) . وعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «ليس الأعمى من عمى بصره، ولكن من عميت بصيرته» . وقال عبد الله بن عمر بن معاوية عن عمر بن عتبة المعروف بالعتبىّ: العقل عقلان، عقل تفرّد الله تعالى بصنعه، وهو الأصل، وعقل يستفيده المرء بأدبه وهو الفرع، فاذا اجتمعا، قوّى كلّ واحد منهما صاحبه، تقوية النار في الظّلمة للبصر. نظم بعض الشعراء هذا اللفظ فقال، ويروى لعلىّ بن أبى طالب رضى الله عنه رأيت العقل عقلان: ... فمطبوع ومسموع ولا ينفع مسموع ... اذا لم يك مطبوع كما لا تنفع الشمس ... وضوء العين ممنوع وأكثر الناس على أنّ العقل في القلب، ودليله قوله عزوجلّ: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) . وروى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «العقل في القلب يفرق به بين الحقّ والباطل» . وقال بعضهم: هو في الدماغ، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه. وأما ما وصف به فقيل: العقل وزير رشيد، وظهير سعيد، من عصاه أرداه، ومن أطاعه أنجاه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 234 وقال سعيد بن جبير: لم تر عيناى أجلّ من فضل عقل يتردّى به الرجل إن انكسر جبره، وإن تصدّع أنعشه، وإن ذلّ أعزّه، وإن أعوج أقامه، وإن عثر اقاله، وإن افتقر أغناه، وإن عرى كساه، وإن غوى أرشده، وإن خاف أمّنه، وإن حزن أفرحه، وإن تكلّم صدقه، وإن أقام بين أظهر قوم اغتبطوا به، وإن غاب عنهم أسفوا عليه، وإن بسط يده قالوا: جواد، وإن قبضها قالوا: مقتصد، وإن أشار قالوا: عالم، وإن صام قالوا: مجتهد، وإن أفطر قالوا: معذور. قال بعض الشعراء يعدّ رفيع القوم من كان عاقلا ... وإن لم يكن في قومه بحسيب وإن حلّ أرضا عاش فيها بعقله ... وما عاقل في بلدة بغريب وقال بعض الحكماء: إذا غلب العقل الهوى، صرف المساوىء الى المحاسن، فجعل البلادة حلما، والحدّة ذكاء، والمكر فطنة، والهذر بلاغة، والعىّ صمتا، والعقوبة أدبا، والجبن حذرا، والإسراف جودا. وقيل: لو صوّر العقل، لأضاء معه الليل، ولو صوّر الجهل، لأظلم معه النهار. قال المتنبّى لولا العقول لكان أدنى ضيغم ... أدنى الى شرف من الإنسان وقد ندب الى صحبة العقلاء. قال الزّهرىّ: اذا أنكرت عقلك، فاقدحه بعاقل. قال ابن زرارة: جالس العقلاء أعداء كانوا أم أصدقاء، فإنّ العقل يقع على العقل. قال بعض الشعراء عدوّك ذو العقل أبقى عليك ... وأبقى من الوامق الأحمق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 235 وقال آخر لله درّ العقل من راشد ... وصاحب في اليسر والعسر وحاكم يقضى على غائب ... قضيّة الشاهد للأمر وإنّ شيئا بعض أحواله ... أن يفصل الخير من الشرّ له قوّى، قد خصّه ربّه ... بخالص التقديس والطّهر وقال آخر إذا لم يكن للمرء عقل فإنه ... - وإن كان ذا قدر على الناس- هيّن وإن كان ذا عقل أجلّ لعقله، ... وأفضل عقل عقل من يتبيّن وقال آخر العقل حلّة فخر من تسر بلها ... كانت له نشبا يغنى عن النّشب وأفضل العقل ما في الناس كلّهم ... بالعقل ينجو الفتى من حومة العطب وقال ابن دريد وأفضل قسم الله للمرء عقله ... فليس من الخيرات شىء يقاربه فزين الفتى في الناس صحّة عقله ... وإن كان محظورا عليه مكاسبه ويزرى به في الناس قلّة عقله ... وإن كرمت أعراقه ومناسبه اذا أكمل الرحمن للمرء عقله ... فقد كملت أخلاقه ومآربه وقال آخر ما وهب الله لامرئ هبة ... أشرف من عقله ومن أدبه هما جمال الفتى، فإن عدما ... فإنّ فقد الحياة أنفع به الجزء: 3 ¦ الصفحة: 236 وقال آخر ولم أر مثل الفقر أوضع للفتى ... ولم أر مثل المال أرفع للنّذل ولم أر من عدم أضرّ على الفتى ... اذا عاش بين الناس من عدم العقل ذكر ما قيل في الصدق قال الله عزّوجلّ مبشّرا للصادقين: (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) . وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «تحرّوا الصدق، فإن الصدق يهدى الى البرّ، والبرّ يهدى الى الجنة، وإن المرء ليتحرّى الصدق، حتى يكتب صدّيقا» . وعن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما أنه قال: جاء رجل الى النبىّ صلّى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله، ما عمل أهل الجنّة؟ قال: الصدق، اذا صدق العبد برّ، واذا بر أمن، واذا أمن دخل الجنّة. قال: يا رسول الله ما عمل أهل النار؟ قال: الكذب، إذا كذب العبد فجر، واذا فجر كفر، واذا كفر دخل النار. وعن عائشة رضى الله عنها قالت: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، بم يعرف المؤمن؟ قال: بوقاره، ولين كلامه، وصدق حديثه. ومن كلام علىّ رضى الله عنه: الإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرّك، على الكذب حيث ينفعك. وقال بعض الحكماء: الصدق أزين حلية، والمعروف أربح تجارة، والشكر أدوم نعمة. وقال بعضهم: رأيت أرسطا طاليس في المنام، فقلت: أىّ الكلام أحسن؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 237 فقال: ما صدق قائله، قلت: ثمّ ماذا؟ قال: ما استحسنه سامعه، قلت: ثمّ ماذا؟ قال: كل كلام جاوز هذا فهو ونهيق الحمار بمنزله. وقال الأحنف لابنه: يا بنىّ، يكفيك من شرف الصدق، أن الصادق يقبل قوله في عدوّه، ومن دناءة الكذب، أن الكاذب لا يقبل قوله في صديقه ولا عدوّه، لكلّ شىء حلية، وحلية المنطق الصدق يدل على اعتدال وزن العقل. قال عامر بن الظّرب العدوانىّ في وصيّته: إنى وجدت صدق الحديث طرفا من الغيب فاصدقوا، من لزم الصدق وعوّده لسانه، فلا يكاد يتكلّم بشىء يظنّه، إلا جاء على ظنّه. وقالوا: ما السيف الصارم، فى كفّ الشجاع، بأعزّ من الصدق. وقيل: مرّ عمر بن الخطاب رضى الله عنه، بعجوز تبيع اللبن، فقال لها: يا عجوز، لا تغشّى المسلمين، ولا تشوبى لبنك بالماء، قالت: نعم يا أمير المؤمنين، ثم مرّ بها بعد ذلك، فقال يا عجوز، ألم أعهد إليك أن لا تشوبى لبنك بالماء؟ فقالت: والله ما فعلت يا أمير المؤمنين، فتكلّمت بنت لها من داخل الخباء، فقالت: يا أمّاه، أغشّا وحنثا جمعت على نفسك؟ فسمعها عمر فأعجبته، فقال لولده: أيّكم يتزوّجها؟ فلعلّ الله أن يخرج منها نسمة طيّبة، فقال ابنه عاصم: أنا أتزوّجها يا أمير المؤمنين، فزوّجها منه، فأولدها أمّ عاصم، تزوّجها عبد العزيز بن مروان فأولدها عمر ابن عبد العزيز. وروى أنّ بلالا لم يكذب منذ أسلم، فبلغ ذلك بعض من يحسده، فقال: اليوم أكذبه فسايره، فقال له: يا بلال ما سنّ فرسك؟ قال عظم، قال: فما جريه؟ قال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 238 يحضر ما استطاع، قال: فأين تنزل؟ قال: حيث أضع قدمى، قال: ابن من أنت» قال ابن أبى وأمى، قال: فكم أتى عليك؟ قال: ليال وأيام، والله أعلم بعدها، قال: هيهات، أعيت فيك حيلتى، ما اتعب بعد اليوم أبدا. ذكر ما قيل في الوفاء والمحافظة والأمانة قال الله عزّوجلّ: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا) . وقال تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) . وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) . وقال تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) .* وروى: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لأبى بكر الصدّيق رضى الله عنه: عليك بصدق الحديث، ووفاء العهد، وحفظ الأمانة، فإنها وصيّة الأنبياء. كان أبو العاص بن الربيع بن عبد العزّى بن عبد شمس، ختن «1» رسول الله صلّى الله عليه وسلم على ابنته زينب، تاجرا تضاربه قريش بأموالهم، فخرج الى الشام سنة الهجرة، فلما قدم، عرض له المسلمون، وأسروه، وأخذوا ما معه، وقدموا به المدينة ليلا، فلما وصلوا الفجر، قامت زينب على باب المسجد، فقالت: يا رسول الله، قد أجرت أبا العاص وامعه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: قد أجرنا من أجرت ودفع اليه ما أخذوه منه، وعرض عليه الإسلام، فأبى، وخرج الى مكّة، ودعا قريشا، فأطعمهم، ثم دفع اليهم أموالهم، ثم قال: هل وفيت؟ قالوا: نعم، قد أدّيت الأمانة ووفيت، قال: اشهدوا جميعا، إنى أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وما منعنى أن أسلم إلا أن يقولوا: أخذ أموالنا، ثمّ هاجر، فأقرّه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على النكاح، وتوفّى في سنة اثنتى عشرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 239 وقيل لمّا قوى أمر بنى العباس وظهر، قال مروان بن محمد لعبد الحميد بن يحيى كاتبه: إنّا نجد في الكتب، أن هذا الأمر زائل عنا لا محالة، وسيظهر اليك هؤلاء القوم، يعنى ولد العباس، فصر اليهم، فإنى لأرجو أن تتمكن منهم، فتنفعنى فى مخلفى، وفي كثير من أمورى، فقال: وكيف لى بعلم الناس جميعا أن هذا عن رأيك، وكلّهم يقول: إنى غدرت بك، وصرت الى عدوّك؟ وأنشد أسرّ وفاء ثم أظهر غدرة ... فمن لى بعذر يوسع الناس ظاهره ثم قال ولؤم ظاهر لا شكّ فيه ... للأئمة وعذرى بالمعيب فلما سمع مروان ذلك، علم أنه لا يفعل، ثم قال له عبد الحميد: إن الذى أمرتنى به، لأنفع الأمرين لك، وأقبحهما بى، ولك علىّ الصبر معك، الى أن يفتح الله عليك، أو أقتل معك. والعرب تضرب المثل في الوفاء بالسموءل بن عادياء الأزدىّ، وقيل: إنه من ولد الكاهن بن هارون بن عمران، وكان من خبره، أن امرأ القيس بن حجر، أودعه أدراعا مائة، فأتاه الحارث بن ظالم، ويقال الحارث بن أبى شمر الغسّانىّ، ليأخذها منه، فتحصّن منه السموءل، فأخذ ابنا له غلاما وناداه: إما أن أسلمت إلىّ الأدرع، وإما أن قتلت ابنك، فأبى أن يسلمها، فقتل ابنه بالسيف، ففى ذلك يقول وفيت بأدرع الكندىّ، إنى ... اذا ما القوم قد غدروا وفيت وأوصى عاديا يوما بأن لا ... تهدّم يا سموءل ما بنيت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 240 وفيه يقول الأغشى كن كالسموءل إذ طاف الهمام به ... فى جحفل كسواد الليل جرّار الأبلق الفرد من تيماء منزله ... حصن حصين وجار غير غدّار قد سامه خطّتى خسف فقال له: ... قل ما بدا لك إنى سامع حار فقال: ثكل وغدر أنت بينهما ... فاختر وما فيهما حظّ لمختار فحار غير طويل ثم قال له: ... أقتل أسيرك إنّى مانع جارى ومن وفاء العرب، ما فعله هانىء بن مسعود الشّيبانىّ، حتى جرّ ذلك يوم ذى قار، وكان من خبره: أن النعمان بن المنذر لما خاف كسرى، وعلم أنه لا منجأ منه ولا ملجأ، رأى أن يضع يده في يده، فأودع ماله وأهله عند هانىء*، ثمّ أتى كسرى فقتله، وأرسل الى هانىء يطالبه بوديعة النعمان، وقال له: إن النعمان كان عاملى، فابعث الىّ بوديعته، وإلا بعثت اليك بجنود تقتل المقاتلة وتسبى الذّرّية، فبعث اليه هانىء: أن الذى بلغك باطل، وإن يكن الأمر كما قيل، فأنا أحد رجلين، إما رجل استودع أمانة، فهو حقيق أن يردّها على من استودعه إياها، ولن يسلّم الحرّ أمانته، أو رجل مكذوب عليه، وليس ينبغى للملك أن يأخذه بقول عدوّ، فبعث كسرى اليه الجنود، وعقد لإياس بن قبيصة على جميع العرب، وبعث معه الكتيبة الشّهباء والأساورة «1» ، فلما التقوا، قام هانىء بن مسعود، وحرّض قومه على القتال، وجرى بينهم حروب كثيرة ليس هذا موضع ذكرها، وسنذكرها إن شاء الله في وقائع العرب، فانتصر هانىء وانهزمت الفرس، وكانت وقعة مشهورة، قيل: وكان مرداس في سجن عبيد الله بن زياد بن أبيه، فقال له السجّان: أنا أحبّ أن أوليك حسنة، قال: فإن أذنت لك في الانصراف الى دارك أفتدلج علىّ؟ قال: نعم، فكان يفعل ذلك به، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 241 فلما كان ذات يوم، قتل بعض الخوارج صاحب شرطة ابن زياد، فأمر أن يقتل من في السجن من الخوارج، وكان مرداس إذ ذاك خارجا، فقال له أهله: اتّق الله في نفسك، فإنك مقتول إن رجعت، فقال: ما كنت لألقى الله غادرا، وهذا جبّار، ولا آمن أن يقتل السجّان، فرجع وقال للسجّان: قد بلغنى ما عزم صاحبك عليه من قتل أصحابنا، فبادرت لئلا يلحقك منه مكروه، فقال له السجّان: خذ أىّ طريق شئت، فانج بنفسك. خرج سليمان بن عبد الملك ومعه يزيد بن المهلّب الى بعص جبابين «1» الشام، وإذا بامرأة جالسة عند قبر تبكى، فجاء سليمان ينظر اليها، فقال لها يزيد، وقد عجب سليمان من حسنها: يا أمة الله، هل لك في أمير المؤمنين؟ فنظرت إليهما، ثم نظرت الى القبر، وقالت فإن تسألانى عن هواى فإنه ... بحوماء هذا القبر يافتيان وإنى لأستحييه والتّرب بيننا ... كما كنت أستحييه وهو يرانى ومن أحسن الوفاء، ما حكى عن نائلة بنت القرافصة زوج عثمان بن عفّان رضى الله عنه: أن معاوية خطبها فردّته، وقالت: ما يعجب الرجال منّى؟ قالوا: ثنايا فكسرت ثناياها، وبعثت بها الى معاوية، فكان ذلك مما رغّب قريشا في نكاح نساء كلب. وامرأة هدبة لما قتل زوجها، قطعت أنفها وشفتيها، وكانت جميلة الوجه، لئلا يرغب فيها. وحيث ذكرنا الوفاء والمحافظة، فلنذكر بيعة خليفة ويمين، ذكرها بعض أهل الأدب فى تصنيفه، وهى: تبايع عبد الله الإمام أمير المؤمنين، بيعة طوع وإيثار ورضا واختيار واعتقاد وإضمار وإعلان وإسرار وإخلاص من طويتك وصدق من نيتك، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 242 وانشراح من صدرك، وصحة من عزيمتك، طائعا غير مكره، ومنقادا غير مجبر، مقرّا بفضلها، مذعنا بحقها، ومعترفا ببركتها، ومعتدّا بحسن عائدتها، وعالما بما فيها، وفي توكيدها من صلاح الكافّة، واجتماع كلمة الخاصّة والعامّة، ولمّ الشّعث، وأمن العواقب، وسكون الدّهماء، وعزّ الأولياء، وقمع الأعداء، على أن فلانا عبد الله وخليفته المفترض عليك طاعته، الواجب على الأمة إمامته وولايته، اللازم لهم القيام بحقه، والوفاء بعهده، لا تشكّ فيه، ولا ترتاب به، ولا تداهن من أمره، ولا تميل، ولكنك ولىّ أوليائه، وعدوّ أعدائه، من خاصّ وعامّ، وقريب وبعيد، وحاضر وغائب، متمسك في بيعته بوفاء العهد، وذمّة العقد، سريرتك مثل علانيتك، وضميرك فيه وفق ظاهرك، على أن إعطاءك هذه البيعة من نفسك، وتوكيدك إياها فى عنقك، لفلان أمير المؤمنين، على سلامة من قلبك، واستقامة من عزمك، واستمرار من هواك ورأيك، على أن لا تتأوّل عليه فيها، ولا تسعى في نقض شىء منها، ولا تقعد عن نصرة له في الرخاء والشدّة، ولا تدع النّصح له في كل حال راهنة وحادثة، حتى تلقى الله موفيا بها، مؤدّيا للأمانة فيها، إذ كان الذين يبايعون ولاة الأمر وخلفاء الله في الأرض (إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) عليك بهذه البيعة التى طوّقتها عنقك، وبسطت لها يدك، وأعطيت ما شرط عليك فيها، من وفاء، ونصح، وموالاة، ومشايعة، وطاعة، وموافقة، واجتهاد، ومبالغة؛ عهد الله إن عهده كان مسئولا، وما أخذ الله على أنبيائه ورسله عليهم السلام، وعلى من أخذ من عباده من وكدات مواثيقه، ومحكمات عهوده، وعلى أن تتمسك بها، فلا تبدل، وتستقيم، فلا تميل، وإن نكثت هذه البيعة، وبدّلت شرطا من شروطها، أو عفيت رسما من رسومها، أو غيّرت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 243 حكما من أحكامها، معلنا أو مسرّا، محتالا او متأولا، أو زغت عن السبيل التى يسلكها من لا يحتقر الأمانة، ولا يستحلّ الغدر والخيانة، ولا يستجيز حلّ العقود والعهود، فكلّ ما تملكه من عين أو ورق، أو آنية أو عقار أو سائمة أو زرع أو ضرع أو غير ذلك من صنوف الأملاك المعتقدة، والأموال المدّخرة، صدقة على المساكين، يحرّم عليك أن ترجع شيئا من ذلك الى مالك، بحيلة من الحيل، على وجه من الوجوه، أو سبب من الأسباب، أو مخرج من مخارج الإيمان، فكلّ ما تفيده عمرك من مال يقلّ خطره أو يجلّ فتلك سبيله الى أن تتوفاك [منيتك، أو يأتيك «1» أجلك، وكل مملوك لك اليوم من ذكر وأنثى أو تملكه الى آخر أيامك أحرار سائبون لوجه الله تعالى، ونساؤك يوم يلزمك الحنث وما تتزوّج بعدهن مدة بقائك طوالق ثلاثا، طلاق الحرج والسنّة لا مثنويّة فيها ولا رجعة، وعليك المشى الى بيت الله الحرام، ثلاثين حجّة حافيا راجلا، لا يرضى الله منك إلا بالوفاء بها، ولا يقبل الله صرفا ولا عدلا، وخذلك يوم تحتاج اليه، وبرّأك من حوله وقوّته، وألجأك الى حولك وقوّتك والله عزوجلّ بذلك شهيد (وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً) * وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ. ذكر ما قيل في التواضع قال الله تبارك وتعالى: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) . وقال الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم: (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) . وقال قتادة في تفسير قوله تعالى: (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) قال: هم المتواضعون. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأكل على الأرض متواضعا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 244 وقال أنس بن مالك: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعود المريض ويتبع الجنائز ويجيب دعوة المملوك ويركب الحمار، ولقد رأيته يوم حنين على حمار، خطامه ليف. وقال صلّى الله عليه وسلم: «إن العفو لا يزيد العبد إلا عزّا فاعفوا يعزّكم الله، وإن التواضع لا يزيد العبد إلا رفعة فتواضعوا يرفعكم الله، وإن الصدقة لا تزيد المال إلا نماء فتصدّقوا يزدكم الله» . وقال عروة ابن الزبير: التواضع أحد مصايد الشرف، وفي لفظ «سلّم الشرف» . وقال جعفر بن محمد: رأس الخير التواضع، فقيل له: وما التواضع؟ فقال: أن ترضى من المجلس بدون شرفك وأن تسلّم على من لقيت، وأن تترك المراء وإن كنت محقّا. وعن على رضى الله تعالى عنه ولم يذكر المراء فيه وزاد فيه: وتكره الرياء والسمعة. وقيل: ثمرة القناعة الراحة، وثمرة التواضع المحبة، وقيل: التواضع نعمة لا يفطن لها الحاسد، وقيل: التواضع كالوهدة يجتمع فيها قطرها وقطر غيرها. وقال عبد الله بن المعتز: متواضع العلماء أكثرهم علما، كما أن المكان المنخفض أكثر الاماكن ماء. وكان يحيى بن خالد يقول: لست أرى أحدا تواضع في إمارة إلا وهو في نفسه اكبر مما نال من سلطانه. ومن التواضع المأثور ما روى: أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه مرّ ويده على المعلّى بن الجارود فلقيته امرأة من قريش، فقالت له: يا عمر، فوقف لها، فقالت له: كنا نعرفك مرّة عميرا ثم صرت بعد عمير عمر ثم صرت بعد عمر أمير المؤمنين فاتق الله يابن الخطّاب، فانظر في أمور الناس، فإنّه من خاف الوعيد، قرب عليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 245 البعيد، ومن خاف الموت، خشى الفوت، فقال لها المعلّى، إيّها، إليك يا أمة الله لقد ابكيت أمير المؤمنين، فقال له عمر أتدرى من هذه؟ ويحك! هذه خولة بنت حكيم التى سمع الله قولها من سمائه، فعمر أحرى أن يسمع قولها ويقتدى به. وقال عدىّ بن أرطاة لإياس بن معاوية: إنك لسريع المشية، قال: ذلك أبعد من الكبر وأسرع الى الحاجة. وقال عمر رضى الله عنه وقد قيل له مثل هذا: أنجح للحاجة وأبعد من الكبر. أما سمعت قوله عزوجل؟ (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) . وقد مدح الشعراء أهل التواضع، فمن ذلك قول أبى تمّام حبيب متبذّل في القوم وهو مبجّل ... متواضع في الحىّ وهو معظّم وقال آخر متواضع والنّبل يحرس قدره ... وأخو النباهة بالنباهة ينبل وقال البحترىّ دنوت تواضعا وعلوت مجدا ... فشأناك انحدار وارتفاع كذاك الشمس تبعد أن تسامى ... ويدنو الضوء منها والشّعاع وقال أبو محمد التيمىّ تواضع لما زاده الله رفعة ... وكلّ رفيع قدره متواضع وقال آخر دنوت تواضعا وعلوت قدرا ... ففيك تواضع وعلوّ شان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 246 ذكر ما قيل في القناعة والنزاهة جاء في تفسير قوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) أن المراد بالحياة الطيبة: القناعة. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «القناعة مال لا ينفد» . وقال عليه السّلام: «ما عال من اقتصد» . ومن كلام على رضى الله عنه: كفى بالقناعة ملكا، وبحسن الخلق نعيما. وقال جعفر بن محمد: ثمرة القناعة الراحة. وقال على بن موسى: القناعة تجمع الى صيانة النفس، وعز القدرة طرح مؤونة الاستكثار والتعبّد لأهل الدنيا، ولا ملك طريق القناعة إلا رجلان، إما متقلّل يريد أجر الآخرة، أو كريم يتنزّه عن آثام الدنيا. وقال الراضى: القانع يعيش آمنا مطمئنا مستريحا مريحا، والشّره لا يعيش إلا تعبا نصبا في خوف وأذى. وقال بعض الحكماء: عزّ النزاهة أحبّ الىّ من فرح الفائدة، والصبر على العسرة أحبّ الىّ من احتمال المنّة. وقال أبو ذؤيب الهذلىّ والنفس راغبة إذا رغّبتها ... وإذا تردّ الى قليل تقنع وقال سالم بن وامضة غنى النفس ما يكفيك في سدّ فاقة ... فإن زاد شيئا عاد ذاك الغنى فقرا وقال أبو هلال العسكرى ألا إنّ القناعة خير مال ... لذى كرم يروح بغير مال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 247 وإن يصبر فإن الصبر أولى ... بمن عثرت به نوب الليالى تجمّل إن بليت بسوء حال ... فإن من التجمل حسن حال ذكر ما قيل في الشكر والثناء قال الله تبارك وتعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) فالشكر مما يوجب الزيادة. وقال علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: لا يزهّدك في المعروف من لا يشكرك عليه، فقد يشكرك عليه من لا يستمتع بشىء منه، وقد يدرك من شكر الشاكر، أكثر مما أضاع الكافر، (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) *. ومما تعزيه الفرس الى إسفنديار: الشكر أفضل من النعمة لأنه يبقى وتلك تفنى. وقال موسى بن جعفر: المعروف لا يفكّه إلا المكافأة أو الشكر، وقال: قلّة الشكر تزهّد في اصطناع المعروف. وقيل: إذا قصرت يدك عن المكافأة، فليطل لسانك بالشكر. وقيل: للشكر ثلاث منازل: ضمير القلب، ونشر اللسان، ومكافأة اليد. قال الشاعر أفادتكما النّعماء منّى ثلاثة ... يدى ولسانى والضمير المحجّبا وقال يحيى بن زياد الحارثىّ بن كعب حلفت بربّ العيس تهوى بركبها ... الى حرم ما عنه للناس معدل لما يبلغ الإنعام في النفع غاية ... على المرء إلا مبلغ الشكر أفضل ولا بلغت أيدى المنيلين بسطة ... من الطّول إلا بسطة الشكر أطول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 248 ولا ثقلت في الوزن أعباء منّة ... على المرء إلا منّة الشكر أثقل فمن شكر المعروف يوما فقد أتى ... أخا العرف من حسن المكافاة من عل وقال رجل من غطفان الشكر أفضل ما حاولت ملتمسا ... به الزيادة عند الله والناس وقال أبو بجيلة شكرتك إنّ الشكر حبل من التّقى ... وما كلّ من أوليته نعمة يقضى ونبّهت لى ذكرى وما كان خاملا ... ولكنّ بعض الذّكر أنبه من بعض وقال آخر سأشكر عمرا ما تراخت منيّتى ... أيادى لم تمنن وإن هى جلّت فتى غير محجوب الغنى عن صديقه ... ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلّت رأى خلّتى من حيث يخفى مكانها ... فكانت قذى عينيه حتّى تجلّت وقال أبو تمام كم نعمة منك تسربلتها ... كأنها طرّة برد قشيب من اللواتى إن ونى شاكر ... قامت لمسديها مقام الخطيب وقال أبو عيينة بن محمد بن أبى عتبة المهلّبىّ ياذا اليمينين قد أوليتنى مننا ... تترى هى الغاية القصوى من المنن ولست أسطيع من شكر أجىء به ... إلا استطاعة ذى جسم وذى بدن لو كنت أعرف فوق الشكر منزلة ... أوفى من الشكر عند الله في الثّمن أخلصتها لك من قلبى مهذّبة ... حذوا على مثل ما أوليت من حسن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 249 قالوا وأجود ما قيل في عظم النعمة وقصور الشكر من قديم الشّعر قول طريح ابن إسماعيل سعيت ابتغاء الشكر فيما صنعت لى ... فقصّرت مغلوبا وإنّى لشاكر لأنك تولينى الجميل بداهة ... وأنت لما استكثرت من ذاك حاقر فأرجع مغبوطا وترجع بالّتى ... لها أوّل في المكرمات وآخر وقال دعبل هجرتك لا عن جفوة وملالة ... ولا لقلى أبطأت عنك أبا بكر ولكنّنى لما رأيتك راغبا ... فأفرطت في برّى عجزت عن الشكر فملآن «1» لا آتيك إلا تعذّرا ... أزورك في الشهرين يوما وفي الشهر وقال البحترىّ هاتيك أخلاق إسماعيل في تعب ... من العلا والعلا منهنّ في تعب أبث شكرى فأمسى منك في نصب ... أقصر فمالى في جدواك من أرب لا أقبل الدهر نيلا لا يقوم له ... شكرى ولو كان يسديه إلىّ أبى لما سألتك وافانى نداك على ... أضعاف شكرى فلم أظفر ولم أخب وقال أيضا إنى هجرتك إذ هجرتك وحشة ... لا العود يذهبها ولا الإبداء أخجلتنى بندى يديك فسوّدت ... ما بيننا تلك اليد البيضاء وقطعتنى بالجود حتّى إنّنى ... متخوّف أن لا يكون لقاء صلة غدت للناس وهى] قطيعة ... عجبا وبرّ راح وهو جفاء ليواصلنّك ركب شعر سائر ... يرويه فيك لحسنه الاعداء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 250 حتى يتمّ لك الثناء مخلّدا ... أبدا كما تمت لك النّعماء فتظلّ تحسدك الملوك الصّيدبى ... وتظلّ تحسدنى بك الشعراء وقال الحسن بن هانىء قد قلت للعباس معتذرا ... من عظم شكريه ومعترفا أنت امرؤ جلّلتنى نعما ... أوهت قوى شكرى فقد ضعفا لا تسدينّ إلىّ عارفة ... حتّى أقوم بشكرها سلفا وقال الحسين بن الضحّاك للواثق من أبيات ... إذا كنت من جدواك في كلّ نعمة فلا كنت إن لم أفن عمرى بشكركا وقال البحترىّ إذا أنا لم أشكر لنعماك جاهدا ... فلا نلت نعمى بعدها توجب الشّكرا وقال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر إنى لشاكر أمسه ووليّه ... فى يومه ومؤمّل عنه غدا وقال آخر وكيف أنساك؟ لا نعماك واحدة ... عندى ولا بالذى أوليت من قدم وقال عبد الأعلى بن حمّاد: دخلت على المتوكّل، فقال لى: قد هممنا أن نصلك، فتدافعت الأمور، فقلت: يا أمير المؤمنين، قد بلغنى عن جعفر بن محمد الصادق أنه قال: من لم يشكر للهمّة، لم يشكر للنعمة، وأنشدته قول الباهلىّ لأشكرنّك معروفا هممت به ... إن اهتمامك بالمعروف معروف ولا ألومك إن لم يمضه قدر ... فالشىء بالقدر المحتوم مصروف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 251 وقال ابن الرومىّ كم من يد بيضاء قد أسديتها ... تثنى إليك عنان كلّ وداد شكر الإله صنائعا أوليتها ... سلكت مع الأرواح في الأجساد وقال آخر وأحسن ما قال امرؤ فيك مدحة ... تلاقت عليها منّة وقبول وشكر كأن الشمس تعنى بنشره ... ففى كلّ أرض مخبر ورسول ومن كلام الحسن بن وهب: من شكر لك على درجة رفعته اليها، أو ثروة أفدته إيّاها، فإن شكرى لك على مهجة أحييتها، وحشاشة أبقيتها، ورمق أمسكته، وقمت بين التّلف وبينه، ولكل نعمة من نعم الدنيا حدّ ينتهى إليه، ومدى توقف عليه، وغاية من الشكر يسمو اليها الطرف، خلا هذه النعمة التى فاتت الوصف، وطالت الشكر، وتجاوزت كلّ قدر، وأتت من وراء كلّ غاية، وردت عنّا كيد العدوّ، وأرغمت أنف الحسود، نلجأ منها الى ظلّ ظليل، وكنف كريم، فكيف يشكر الشاكر، وأين يبلغ جهد المجهود. وقال الشريف الرضىّ ألبستنى نعما على نعم ... ورفعت لى علما على علم وعلوت بى حتّى مشيت على ... بسط من الأعناق والقمم فلأشكرنّ يديك ما شكرت ... خضر الرّياض مصانع الدّيم فالحمد يبقى ذكر كلّ فتى ... ويبين قدر مواقع الكرم والشكر مهر للصنيعة إن ... طلبت مهور عقائل النّعم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 252 وقال أبو الحسن الكاتب المغربىّ سأشكر نعماك التى انبسطت بها ... يدى ولسانى فهو بالمجد ينطق وأثنى بما أوليتنى من صنيعة ... ومن منّة تغدو علىّ وتطرق وكلّ امرىء يرجو نداك موفّق ... وكلّ امرىء يثنى عليك مصدّق وقال ابن رشيق القيروانىّ خذ ثناء عليك غبّ الأيادى ... كثناء الرّبى على الأمطار سقط الشكر وهو موجب نعما ... ك سقوط الأنواء بالأثمار ومن المنعمين من رأى أن الشكر بإظهار النعمة، أبلغ منه بالنطق باللسان، وعاقب على ذلك بالحرمان. فمن ذلك مارواه أبو هلال العسكرىّ يسنده الى العتبىّ قال: أراد جعفر بن يحيى حاجة كان طريقه إليها على باب الأصمعىّ، فدفع الى خادم له كيسا فيه ألف دينار وقال: إنى سأنزل في رجعتى الى الأصمعىّ، ثم سيحدثنى ويضحكنى، فاذا ضحكت، فضع الكيس بين يديه، فلما رجع، ودخل إليه، رأى حبّا «1» مكسور الرّأس، وجرّة مكسورة العنق، وقصعة مشعبة، وجفنة أعشارا، ورآه على مصلّى بال، وعليه برنكان «2» أجرد، فغمز غلامه أن لا يضع الكيس بين يديه، فلم يدع الأصمعى شيئا ممّا يضحك الثّكلان والغضبان إلا أورده عليه فلم يتبسم، ثمّ خرج، فقال لرجل يسايره: من استرعى الذئب ظلم، ومن زرع السّبخة حصد الفقر، إنى والله لما علمت أن هذا يكتم المعروف بالفعل، ما حفلت بنشره له باللسان، وأين يقع مديح اللسان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 253 من آثار العيان؟ إن اللسان قد يكذب، والحال لا تكذب، ولله در نصيب حيث يقول فعاجوا فأثنوا بالذى أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب ثم قال: أعلمت أن ناووس أبرويز، أمدح لأبرويز من زهير لآل سنان؟ وقالت الحكماء: لسان الحال، أصدق من لسان الشكوى. وقد أجاد ابن الرومىّ في هذا المعنى فقال حالى تبوح بما أوليت من حسن ... فكلّ ما تدعيه غير مردود كلّى هجاء، وقتلى لا يحلّ لكم ... فما يداويكم منّى سوى الجود وقالوا: شهادات الأحوال، أعدل من شهادات الرجال. ذكر ما قيل في الوعد والإنجاز روى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «وعد المؤمن كأخذ باليد» . وقال الحسن بن على رضى الله عنهما: الوعد مرض في الجود، والإنجاز دواءه. ومن كلامه: المسئول حرّ حتّى يعد، ومسترقّ بالوعد حتى ينجز. وقال الزّهرىّ: حقيق على من أزهر بالوعد، أن يثمر بالفعل. وقال مسلم بن الوليد عن أبيه قال: سألت الفضل بن سهل حاجة، فقال: أشرّفك اليوم بالوعد، وأحبوك غدا بالإنجاز، فإنى سمعت يحيى بن خالد يقول: المواعيد شبكة من شباك الكرام، يصيدون بها محامد الأحرار، ولو كان المعطى لا يعد، لارتفعت مفاخر إنجاز الوعد، ونقص فضل صدق المقال. وقال الأبرش الكلبىّ لهشام بن عبد الملك: يا أمير المؤمنين، لا تصنع إلىّ معروفا حتى تعدنى، فإنه لم يأتنى منك سيب على غير وعد، إلا هان علىّ قدره، وقلّ منّى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 254 شكره، فقال له هشام: لئن قلت ذلك، لقد قال سيّد أهلك أبو مسلم الخولانىّ: أنجع المعروف في القلوب، وأبرده على الأكباد، معروف منتظر من وعد لا يكدّر بالمطل. وكان يحيى بن خالد لا يقضى حاجة إلا بوعد. وقالت أعرابيّة لرجل: مالك تعطى ولا تعد، فقال: مالك والوعد؟ قالت ينفسح به البصر، وينشر فيه الأمل، وتطيب بذكره النفس، ويرخى به العيش، وتربح به المدح بالوفاء. قيل: كلّم منصور بن زياد يحيى بن خالد في حاجة لرجل فقال: عده عنّى قضاءها، قال: وما يدعوك أعزّك الله الى العدة مع وجود القدرة؟ فقال يحيى: هذا قول من لا يعرف موضع الصنائع من القلوب، إن الحاجة إن لم تتقدمها بوعد ينتظر به نجحها؛ لم تتجاذب الأنفس بسرورها، ولم تتلذذ بتأميلها، وإن الوعد تطعّم، والإنجاز طعام، وليس من فاجأه طعام، كمن وجد رائحته، وتمطّق له وتطعّمه، ثم طعمه، فدع الحاجة تحتّم بالوعد، ليكون لها عند المصطنع اليه حسن موقع، ولطف محلّ. وقال عيسى بن ماهان: إنى أحبّ أن أهب بلا وعد، وأحبّ أن أعد، لأخرج من جملة المخلفين، وأدخل في عدد الوافين، ويؤثر عنّى كرم المنجزين، فإن من سبق فعله وعده، وصف بكرم فرد، وسقط عنه جميع ما ذكرت. قال ذكر العباس المأمون فقال: إنه ألقح معروفه عندى بالوعد، ونتجه بالنّجح، وأرضعه بالزيادة، وشيّبه بالتعهد، وهرّمه باستتمامه من جهاته، وهنأه «1» بترك الامتنان به. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 255 وشكا رجل جعفر بن يحيى لأبيه: أنه وعده وعدا ومطله به، فوقّع: يا بنىّ، أنتم معاقل الأحرار ومظانّ المطالب ومعادن الشكوى، فكونوا سواء في الأقوال والأفعال، فإن الحرّ، يدّخر وعد الحر ويعتقده وينفقه قبل ملكته، فإن أخفق أمله، كان سببا لذمّه واتّهامه وسوء ظنّه، حتّى يوارى قبح ذلك حسن يقينه، فأنجز الوعد، وإلا فأقصر القول، فإنه أعذر والسلام. قال: كلّم المأمون في الحسين بن الضحّاك الخليع أن يردّ عليه رزقه، فقال: أليس هو القائل في الأمين فلا فرح المأمون بالملك بعده ... ولا زال في الدّنيا طريدا مشردا فما زالوا يتلطفون معه في القول، إلى أن أذن له أن ينشده، فأنشده أبن لى فإنى قد ظمئت الى الوعد ... متى تنجز الوعد المؤكّد بالعهد؟ أعيذك من صدّ الملوك وقد ترى ... تقطّع أنفاسى عليك من الوجد فما لى شفيع عند حسنك غيره ... ولا سبب إلا التمسك بالودّ أيبخل فرد الحسن فرد صفاته ... علىّ وقد أفردته بهوى وحدى رأى الله عبد الله خير عباده ... فملّكه والله أعلم بالعبد فقال له المأمون: هذه بتلك، وقد عفونا عنك فقال: يا أمير المؤمنين، فأتبع عفوك إحسانك، فأمر بردّ أرزاقه عليه، وكانت في كلّ شهر خمسمائة دينار، فقال المأمون: لولا أنى نويت عفوا عنه، وجعلت ذلك وعدا له من قبل، ما فعلته، وإنما ذكر الوعد في تشبيبه يذكرنيه. وقال بعض ملوك العجم: البخل بعد الوعد، يضعف قبحه على البخل قبله، فما قولك في أمر، البخل أحسن منه؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 256 وقال بعض الشعراء ولى منك موعود طلبت نجاحه ... وأنت امرؤ لا تخلف الدهر موعدا وعوّدتنى أن لا تزال تظلّنى ... يد منك قد قدّمت من قبلها يدا فلو أن محدا أو ندى أو فضيلة ... تخلّد شيئا كنت أنت المخلّدا وقال بشار وعد الكريم يحثّ نائله ... كالغيث يسبق رعده مطره وقال ابن الرومىّ يتخطّى العداة عمدا الى البذ ... ل كسحّ الحيا بلا إيماض ذكر ما قيل في الشفاعة قال الله عزّوجلّ: (مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها) . وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله تعالى يسأل العبد عن جاهه كما يسأله عن عمره، فيقول له: جعلت لك جاها، فهل نصرت به مظلوما، أو قمعت به ظالما، أو أعنت به مكروبا» ؟ وقال صلّى الله عليه وسلّم: «أفضل الصدقة أن تعين بجاهك من لا جاه له» وقال: «الخلق عيال الله، فأحبّهم اليه، أنفعهم لعياله» . وقال: «الشفيع جناح الطلب» . وقيل: قصد ابن السمّاك الواعظ رجلا في حاجة لرجل سأله الشفاعة فيها، فقال ابن السّماك: إنى أتيتك في حاجة، وأن الطالب والمطلوب اليه عزيزان إن قضيت الحاجة، وذليلان إن لم تقض، فاختر لنفسك عزّ البذل، على ذلّ المنع، واختر لى عزّ النّجح، على ذلّ الردّ، فقضى حاجته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 257 قال أبو تمام واذا امرؤ أسدى اليك ضنيعة ... من جاهه فكأنها من ماله وقال رجل لبعض الملوك: إن الناس يتوسّلون اليك بغيرك، يسألون معروفك، ويشكرون غيرك، وأنا أتوسّل اليك بك، ليكون شكرى لك لا لغيرك. قال بعض الشعراء إذا أنت لم تعطفك إلا شفاعة ... فلا خير في ودّ يكون بشافع ذكر ما قيل في الاعتذار والاستعطاف رأيت جماعة من أهل الأدب قد ألحقوا الاعتذار والاستعطاف بالمدح، كالحمدونىّ فى تذكرته، وغيره، فلذلك أضفته اليه، وجعلته من فصوله. قال الله عزّوجلّ: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) . وروى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من اعتذر اليه أخوه المسلم، فلم يقبل، لم يرد على الحوض» . وقال علىّ رضى الله عنه: أولى الناس بالعفو، أقدرهم على العقوبة. وقال: العفو زكاة الظّفر. وقال: اذا قدرت على عدوّك، فاجعل عفوك عنه شكر المقدرة عليه. وقال الحسن بن علىّ رضى الله عنهما: لا تعاجل الذنب بالعقوبة، واجعل بينهما للاعتذار طريقا. وقال: أوسع ما يكون الكرم بالمغفرة، اذا ضاقت بالذنب المعذرة. وقال جعفر بن محمد الصادق: شفيع المذنب إقراره، وتوبة المجرم الاعتذار. وقالوا ما أذنب من اعتذر، ولا أسى من استغفر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 258 وأوصى بعض الحكماء ولده فقال: يا بنىّ لا يعتذر اليك أحد من الناس، كائنا من كان، فى أى جرم كان، صادقا كان أو كاذبا، إلا قبلت عذره، فكفاك بالاعتذار برّا من صديقك، وذلّا من عدوّك. قال بعض الشعراء فإن كنت ترجو في العقوبة راحة ... فلا تزهدن عند التجاوز في الأجر وقال أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل العسكرىّ: الاعتذار ذلّة، ولا بدّ منه، لأن الإصرار على الذنب، فيما بينك وبين خالقك هلكة، وفيما بينك وبين صديقك فرقه، وعند سائر الناس مثلبة وهجنة، فعليك به، اذا واقعت الذنب، وقارفت الجرم، ولا تستنكف من خضوعك وتذلّلك فيه، فربما استثير العزّ من تحت الذلة، واجتنى الشرف من شجرة النذلة، وربّ محبوب في مكروه، والمجد شهد يجتنى من حنظل. قال: ومما خصّ به الاعتذار أنّ الحقّ لا يثبت لباطله، والحقيقة لا تقوم مع تخييله وتمويهه، وأنّ ردّه لا يسع مع الكذب اللائح في صفحاته. وقالوا: لا عذر فى ردّ الاعتذار، والمعتذر من الذنب، كمن لا ذنب له، وهذه خصلة لا يشركه فيها غيره. قال بعضهم: كنت بحضرة عبيد الله بن سليمان، فوردت عليه رقعة من جعفر ابن توّابة، نسختها: قد فتحت للمظلوم بابك، ورفعت عنه حجابك، فأنا أحاكم الأيّام الى عدلك، وأشكو صروفها الى فضلك، وأستجير من لؤم غلبتها بكرم قدرتك، وحسن ملكتك، فإنها تؤخّرنى اذا قدّمت، وتحرمنى اذا قسّمت، فإن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 259 أعطت أعطت يسيرا، وإن ارتجعت ارتجعت كثيرا، ولم أشكها الى أحد قبلك، ولا أعددت الانتصاف منها إلا الى فضلك، ولى مع ذمام المسألة لك، وحقّ الظّلام اليك، ذمام تأميلك، وقدم صدق في طاعتك، والذى يملأ من النّصفة يدى، ويفرغ الحقّ علىّ، حتى تكون لى محسنا، وأكون بك الى الأيام مقرّبا، أن تخلطنى بخواصّ خدمك الذين نقلتهم من حدّ الفراغ الى الشغل، ومن الخمول الى النباهة والذّكر، فإن رأيت أن تعذّبنى فقد استعديت اليك، وتنصرنى فقد عذت بك، وتوسع لى كنفك فقد أويت اليه، وتسمنى بإحسانك فقد عوّلت عليه، وتستعمل يدى ولسانى فيما يصلحان له من خدمتك، فقد درست كتب أسلافك وهم القدوة في البيان، واستضأت بآرائهم، واقتفوت آثارهم اقتفاء جعلنى بين وحشىّ الكلام وأنيسه، ووقفنى منه على جادة متوسطة، يرجع اليها العالى، ويلحق بها المقصّر التالى، فعل إن شاء الله. قال: فعل إن شاء الله! قال: فجعل عبيد الله يرددها ويستحسنها؛ ثم قال: هذا أحقّ بديوان الرسائل. ومن الاستعطاف: ما حكى أن محمد بن الحنفيّة، جرى بينه وبين أخيه الحسين، كلام افترقا بسببه متغاضبين؛ فلما وصل محمد الى منزله، كتب الى الحسين رقعة فيها: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فإن لك شرفا لا أبلغه، وفضلا لا أدركه، أبونا علىّ، لا أفضلك فيه ولا تفضلنى، وأمّى امرأة من بنى حنيفة، وأمّك فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولو كان ملء الأرض نساء مثل أمى ما وفين بأمّك، فاذا قرأت رقعتى هذه فالبس رداءك ونعليك وتعال لتترضّانى، وإياك أن أسبقك الى هذا الفضل الذى أنت أولى به منى والسلام. فلبس الحسين رداءه ونعليه وجاء الى محمد وترضّاه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 260 وقيل: وقّع جعفر بن يحيى في رقعة معتذرا: قد تقدمت طاعتك ونصيحتك، فإن ثبت منك هفوة فلن تغلب سيئة حسنتين. وقال شاعر إرض للسائل الخضوع وللقا ... رف ذنبا مذلّة الإعتذار قال أبو هلال العسكرىّ: لم يرو عن أحد قبل النابغة الذبيانىّ في الاعتذار شعر؛ فمن أجود ما روى له فيه، قوله حين سعى به المنخّل اليشكرىّ الى النّعمان، وزعم أنه غشى المتجرّدة حظيّة النعمان، وذلك حين وصفها النابغة في شعره فقال واذا لمست، لمست أخثم جاثما ... متحيّزا بمكانه ملء اليد واذا طعنت، طعنت في مستهدف ... رابى المحبّسة بالعبير مقرمد واذا نزعت، نزعت من مستحصف ... نزع الحزوّر بالرّشاء المحصد فقال المنخّل للنعمان: هذا وصف من ذاقها، فوقر ذلك في نفس النعمان، ثم وفد عليه رهط من بنى سعد بن زيد مناة من بنى قريع، فأبلغوه أن النابغة ما يزال يذكرها ويصف منها، فأجمع النعمان على الإيقاع بالنابغة، فعرّفه بذلك عصام حاجب النعمان، وهو الذى قيل فيه نفس عصام سوّدت عصاما فانطلق النابغة الى آل غسّان وكانوا قتلوا المنذر ولد النعمان، فزادهم لحاق النابغة بهم حشمة؛ ثم اتصلت بالنعمان كثرة مدائح النابغة لهم، فحسدهم عليه وأمّنه وراسله فى المصير اليه، فأتاه وجعل يعتذر ممّا قذف به ومن مدحه لآل غسّان فقال حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مذهب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 261 لئن كنت قد بلّغت عنى جناية ... لمبلغك الواشى أغشّ وأكذب ولست بمستبق أخا لا تلمّه ... على شعث! أىّ الرجال المهذب؟ فأن أك مظلوما، فعبد ظلمته ... وإن تك ذا عتبى، فمثلك يعتب يقول: مثلك يعفو ويحسن وإن كان عاتبا، وفي كرمك ما يفعل ذلك، ولك العتبى والرجوع الى ما تحبّ، ومنه قوله أيضا للنعمان أتانى أبيت اللّعن! أنك لمتنى ... وتلك التى تستكّ منها المسامع مقالة أن قد قلت سوف أناله ... وذلك من تلقاء مثلك رائع فبتّ كأنّى ساورتنى ضئيلة ... من الرّقش في أنيابها السمّ ناقع لكلّفتنى ذنب امرىء وتركنه ... كذى العرّ يكوى غيره وهو راتع الى أن قال فإن كنت لا ذو الضّغن عنى مكذّب ... ولا حلفى على البراءة نافع ولا أنا مأمون بشىء أقوله ... وأنت بأمر لا محالة وقع فإنك كالليل الذى هو مدركى ... وإن خلت أنّ المنتأى عنك وسع وقال أيضا أنبئت أن أبا قابوس أوعدنى ... ولا قرار على زار من الأسد مهلا، فداء لك الأقواء كلّهم، ... وما أثمّر من مال ومن ولد لا تقذفنّى بركن لا كفاء به ... وإن تأثّفك «1» الأعداء بالرّفد ما قلت من سيىء ممّا أتيت به ... اذا فلا رفعت سوطى الى يدى قال: فخلع عليه النعمان خلع لرضى، وكنّ حبرات خضرا مطّرقّة بالجوهر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 262 قال العسكرىّ: ولم يسلك أحد طريقته فأحسن فيها كإحسان البحترىّ، فمن اعتذاراته قوله في قصيدته التى أوّلها لوت بالسلام بنانا خضيبا قال منها فديناك من أىّ خطب عرى ... ونائبة أو شكت أن تنوبا وإن كان رأيك قد حال فيّ ... وأوليتنى بعد شرّ قطوبا يريبنى الشىء تأتى به ... وأكبر قدرك أن أستريبا وأكره أن يتمادى علىّ سبيل اغترار ... فألقى شعوبا أكذّب نفسى بأن قد سخطت ... وما كنت أعهد ظنّى كذوبا ولو لم تكن ساخطا لم أكن ... أذمّ الزمان وأشكو الخطوبا أيصبح ودّى في ساحتي ... ك طرقا «1» ومرعاى محلا جديبا وما كان سخطك إلا الفراق ... أفاض الدموع وأشجى القلوبا ولو كنت أعرف ذنبا لما كا ... ن خالجنى الشك في أن أتوبا سأصبر حتى ألاقى رضاك ... إما بعيدا وإما قريبا أراقب رأيك حتى يصحّ ... وأنظر عطفك حتى يثوبا وقوله عذيرى من الأيّام رنّقن مشربى ... ولقّيننى نحسا من الطير أشأما وأكسبننى سخط امرىء بتّ موهنا ... أرى سخطه ليلا مع الصبح مظلما تبلّج عن بعض الرضى، وانطوى على ... بقية عتب شارفت أن تصرّما اذا قلت يوما: قد تجاوز حدّها ... تلبّث في أعقابها وتلوّها وأصيد إن نازعته الطرف رده ... قليلا، وإن راجعته القول جمجما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 263 ثناه العدا عنى، فأصبح معرضا ... ووهّمه الواشون حتى توهّما وقد كان سهلا واضحا فتوعّرت ... رباه، وطلقا ضاحكا فتجهّما أمتّخذ عندى الإساءة محسن ... ومنتقم منى امرؤ كان منعما ومكتسب فيّ الملامة ماجد ... يرى الحمد غنما والملامة مغرما يخوّفنى من سوء رأيك معشر ... ولا خوف إلا أن تجور وتظلما أعيذك أن أخشاك من غير حادث ... تبيّن، أو جرم إليك تقدما الست الموالى فيك نظم قصائد ... هى الأنجم اقتادت مع الليل أنجما؟ أعد نظرا فيما تسخطت، هل ترى ... مقالا دنيئا أو فعالا مذمّما؟ وكان رجائى أن أؤوب مملّكا ... فصار رجائى أن أؤوب مسلّما حياء فلم يذهب بى الغىّ مذهبا ... بعيدا، ولم أركب من الأمر معظما ولم أعرف الذنب الذى سؤتنى له ... فأقتل نفسى حسرة وتندّما ولو كان ما خبّرته أو ظننته ... لما كان غروا أن ألوم وتكرما أذكّرك العهد الذى ليس سؤددا ... تناسيه، والودّ الصحيح المسلّما وما حمل الركبان شرقا ومغربا ... وأنجد في أعلى البلاد وأتهما أقرّ بما لم أجنه متنصّلا ... اليك، على أنى إخالك ألوما لى الذنب معروفا. فإن كنت جاهلا ... به، فلك العتبى علىّ وأنعما ومثلك، إن أبدى الفعال أعاده ... وإن صنع المعروف زاد وتمّما وقال سعيد بن حميد لم آت ذنبا، فإن زعمت بأن ... أتيت ذنبا، فغير معتمد قد تطرف الكفّ عين صاحبها ... فلا يرى قطعها من الرشد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 264 وقال آخر وكنت اذا ما جئت أدنيت مجلسى ... ووجهك من ماء البشاشة يقطر فمن لى بالعين التى كنت مرّة ... الىّ بها في سالف الدهر تنظر؟ وقال آخر اغتفر زلّتى لتحرز فضل ال ... عفو عنى ولا يفوتك أجرى لا تكلنى الى التوسّل بالعذ ... ر لعلّى أن لا أقوم بعدرى وقال بعض فضلاء الأندلس إنى جنيت ولم يزل أهل النهى ... يهبون للجانين ما يجنونه ولقد جمعت من الذنوب فنونها ... فاجمع من الصفح الجميل فنونه من كان يرجو عفو من هو فوقه ... فليعف عن ذنب الذى هو دونه الباب الثانى من القسم الثالث من الفن الثانى فى الهجاء، وفيه أربعة عشر فصلا ما قيل في الهجاء ومن يستحقّه. ما قيل في الحسد. ما قيل في السعاية والبغى. ما قيل في الغيبة والنميمة. ما قيل في البخل واللؤم وأخبار البخلاء واحتجاجهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 265 ما قيل في التطفيل ويتّصل به أخبار الأكلة والمؤاكلة. ما قيل في الجبن والفرار. ما قيل في الحمق والجهل. ما قيل في الكذب. ما قيل في الغدر والخيانة. ما قيل في الكبر والعجب. ما قيل في الحرص والطمع. ما قيل في الوعد والمطل. ما قيل في العىّ والحصر. ذكر ما قيل في الهجاء ومن يستحقه قال الله تعالى: (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) فهذه رخصة لمن ظلم فى الانتصار. وقال حسّان بن ثابت الأنصارىّ يردّ على أبى سفيان بن الحارث ألا أبلغ أبا سفيان عنى ... مغلغلة «1» فقد برح الخفاء هجوت محمّد، فأجبت عنه، ... وعند الله في ذاك الجزاء أتهجوه ولست له بكفء ... فشرّكما لخيركما الفداء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 266 لنا في كلّ يوم من معدّ ... سباب أو قتال أو هجاء لسانى صارم لا عيب فيه ... وبحرى لا تكدّره الدّلاء فإنّ أبى ووالدتى وعرضى ... لعرض محمّد منكم وقاء ويستحقّ الهجاء من اتصف بسوء الخصال، واتسم بأخلاق الأرذال والأنذال، وجعل اللؤم جلبابه وشعاره، والبخل وطاءه ودثاره، وسأذكر جماع ما اتصفوا به من سوء الفعال، وأسّسوا بنيانهم عليه من قبح الخلال. قال بعض الحكماء: أربعة من علامات اللؤم: إفشاء السرّ، واعتقاد الغدر، وغيبة الأحرار، وإساءة الجوار. وسأل عبد الملك بن مروان الحجاج بن يوسف عن خلقه، فتلكأ عليه وأبى أن يخبره فأقسم عليه فقال: حسود، كنود، حقود، فقال عبد الملك: ما في إبليس شرّ من هذه الخلال؛ فبلغ ذلك خالد بن صفوان فقال: لقد انتحل الشرّ بحذافيره، ومرق من جميع خلال الخير، وتأنق في ذمّ نفسه، وتجرّد في الدلالة على لؤم طبعه، وأفرط في إقامة الحجّة على كفره، وخرج من الخلال الموجبة رضى ربّه. قال أبو تمام تأنّست بذميم الفعل طلعته ... تأنّس المقلة الرمداء بالظلم وعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «أربعة، من كنّ فيه فهو منافق، من اذا حدّث كذب، واذا وعد أخلف، واذا عاهد غدر، واذا أؤتمن خان» . وقالوا: اللئيم كذوب الوعد، خؤون العهد، قليل الرفد، وقالوا: اللئيم اذا استغنى بطر، واذا افتقر قنط، واذا قال أفحش، واذا سئل بخل، وإن سأل ألحّ، وإن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 267 أسدى اليه صنيع أخفاه، وإن استكتم سرّا أفشاه، فصديقه منه على حذر، وعدوّه منه على غرر «1» . وإنّ للشعراء والبلغاء في الذّم والهجاء نظما ونثرا سنورد منه طرفا، ونشرح ما يجعل ضوء النهار على المقول فيه سدفا «2» . فمن ذلك ما قاله أحمد بن يوسف الكاتب في بنى سعيد بن مسلم بن قتيبة: محاسنهم مساوىء السّفل، ومساوئهم فضائح الأمم، وألسنتهم معقودة بالعىّ، وأيديهم معقولة بالبخل، وأعراضهم أعراض الذمّ؛ فهم كما قيل لا يكثرون وإن طالت حياتهم ... ولا تبيد مخازيهم وإن بادوا وذمّ أعرابى قوما فقال هم أقلّ الناس ذنوبا الى أعدائهم، وأكثرهم تجرؤا على أصدقائهم، يصومون عن المعروف، ويفطرون على الفحشاء. وذمّ أعرابىّ قوما فقال: قوم سلخت أقفاؤهم بالهجاء، وذبغت جلودهم باللؤم، فلباسهم في الدنيا الملامة، وفي الآخرة الندامة. وكان عيسى بن فرخان شاه يتيه على أبى العيناء حال وزارته، فلما صرف عن الوزارة لقى أبا العيناء في بعض السكك فسلّم عليه سلاما خفيفا، فقال أبو العيناء لقائده: من هذا؟ قال: أبو موسى، فدنا منه حتّى أخذ بعنان بغلته وقال: لقد كنت أقنع بإيمائك دون بنانك، وبلحظك دون لفظك، الحمد لله على ما آلت اليه حالك، فلئن كانت أخطأت فيك النعمة، لقد أصابت فيك النقمة؛ ولئن كانت الدنيا أبدت صفحاتها بالإقبال عليك، لقد أظهرت محاسنها بالإدبار عنك، ولله المنّة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 268 إذ أغنانا عن الكذب عليك، ونزّهنا عن قول الزور فيك، وقد والله أسأت حمل النعمة، وما شكرت حقّ المنعم؛ ثم أطلق يده من عنانه، ورجع الى مكانه فقيل له: يا أبا عبد الله! لقد بالغت في السّبّ؛ فما كان الذنب؟ قال: سألته في حاجة أقلّ من قيمته، فردّنى عنها بأقبح من خلقته. قال بعض الأعراب: نزلت بذاك الوادى فإذا ثياب أحرار على أجسام عبيد، إقبال حظهم، إدبار حظ الكرام؛ ألمّ بهذا المعنى شاعر فقال أرى حللا تصان على رجال ... وأعراضا تذال ولا تصان يقولون الزمان به فساد ... وهم فسدوا وما فسد الزمان وسئل بعض البلغاء عن رجل فقال: هو صغير القدر، قصير الشّبر، ضيّق الصدر، لئيم النّجر «1» ، عظيم الكبر، كثير الفخر. وذمّ أعرابىّ رجلا فقال: هو عبد البدن، حرّ الثياب، عظيم الرّواق، صغير الأخلاق، الدهر يرفعه، ونفسه تضعه. وقال آخر: فلان غثّ في دينه، قذر في دنياه، رثّ في مروءته، سمج في هيئته، منقطع الى نفسه، راض عن عقله، بخيل بما أنعم الله عليه، كتوم لما آتاه الله من فضله، حلّاف لجوج، إن سأل ألحف، وإن وعد أخلف، لا ينصف الأصاغر، ولا يعرف حقّ الأكابر. وترجم الفتح بن عبد الله القيسىّ صاحب قلائد العقيان في كتابه عن أبى بكر بن ماجة المعروف بابن الصائغ فقال: هو رمد جفن الدّين، وكمد نفوس المهتدين، اشتهر سخفا وجنونا، وهجر مفروضا ومسنونا، فما يشرع، ولا يأخذ في غير الأضاليل ولا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 269 يشرع، ناهيك به من رجل ما تطهّر من جنابه، ولا أظهر مخيلة إنابه، ولا استنجى من حدث، ولا أسجى فؤاده موارى في جدث، ولا أقرّ ببارئه ومصوّره، ولافرّ عن تباريه في ميدان تهوّره، الإساءة اليه أجدى من الإحسان، والبهيمة أهدى عنده من الإنسان، نظر في تلك التعاليم، وفكّر في أجرام الأفلاك وحدود الأقاليم، ورفض كتاب الله الحكيم العليم، ونبذه وراء ظهره، ثانى عطفه، وأراد إبطال ما لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، واقتصر على الهيئة، وأنكر أن يكون له عند الله تبارك وتعالى فيئة، وحكم للكواكب بالتدبير، واجترم على الله اللطيف الخبير، واجترأ عند سماع النهى والإيعاد، واستهزأ بقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) فهو يعتقد أن الزمان دور، وأن الإنسان نبات له نور، حمامة تمامه، واختلافه فطامه، قد محى الإيمان من قلبه فما له فيه رسم، ونسى الرحمن لسانه فما يمرّ له عليه اسم، وانتمت نفسه للضلال وانتسبت، ونفت يوما تجزى فيه كلّ نفس بما كسبت، فقصر عمره على طرب ولهو، واستشعر كل كبر وزهو، وهو يعكف على سماع التلاحين، ويقف عليها كلّ حين، يعلن بذلك الاعتقاد، ولا يؤمن بشىء قادنا الى الله فى أسلس مقاد، مع منشإ وخيم، ولؤم أصل وخيم «1» ، وصورة شوّهها الله وقبحها، وطلعة لو رآها كلب لنبحها، وقدارة يؤذى البلاد نفسها، ووضارة يحكى الحداد دنسها وفند لا يعمر إلا كنفه، ولدد لا يقوّم إلا الصّفاد جنفه «2» . وكتب أحمد بن يوسف: أما بعد فإنى لا أعرف للمعروف طريقا أوعر من طريقه إليك، لأنه يحصل منك بين حسب دنىء، ولسان بذىء، وجهل قد ملك عليك طباعك، فالمعروف لديك ضائع، والشكر عندك مهجور، وإنما غايتك في المعروف أن تحوّره، وفي وليّه أن تكفّره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 270 ومما قيل في الهجاء من النظم فمن ذلك قول جرير وهو أهجى بيت قالته العرب فغضّ الطّرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا ولو وضعت فقاح بنى نمير ... على خبث الحديد إذا لذابا وقال عبد الملك بن مروان يوما لجلسائه: هل تعلمون أهل بيت قيل فيهم شعر ودّوا أنهم افتدوا منه بأموالهم، وشعر لم يسرّهم به حمر النّعم فقال أسماء بن خارجة: نحن يا أمير المؤمنين! قال: وما قيل فيكم: قال: قول الحارث بن ظالم وما قومى بثعلبة بن سعد ... ولا بفزارة الشّعر الرّقابا فو الله يا أمير المؤمنين! إنى لألبس العمامة الصفيقة فيخيّل إلىّ أن شعر قفاى قد بدا منها، وقول قيس بن الخطيم هممنا بالإقامة يوم سرنا ... مسير حذيفة الخير بن بدر فما يسرّنا أنّ لنا بها أو به حمر النّعم، فقال هانىء بن قبيصة النّميرىّ: أولئك نحن يا أمير المؤمنين! قال: ما قيل فيكم؟ قال قول جرير فغضّ الطّرف إنك من نمير والله لوددنا أننا افتديناه بأملاكنا، وقول زياد الأعجم لعمرك ما رماح بنى نمير ... بطائشة الصّدور ولا قصار فو الله ما يسرّنا به حمر النّعم قال العسكرىّ وذكر أن جريرا لما قال والتّغلبىّ إذا تنحنح للقرى ... حكّ استه وتمثّل الأمثالا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 271 قال: قلت فيهم بيتا لو طعن أحدهم في استه لم يحكّها! وقالوا: مرت امرأة ببنى نمير فتغامزوا إليها فقالت: يا بنى نمير! لم تعملوا بقول الله ولا بقول الشاعر، يقول الله تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) ويقول الشاعر فغضّ الظّرف إنّك من نمير فحجلوا؛ وكان النّميرىّ إذا قيل له: ممن أنت؟ قال: من نمير، فصار يقول: من بنى عامر بن صعصعة. قال العسكرىّ: ولو قيل إنّ أهجى بيت قالته العرب قول الفرزدق لم يبعد وهو ولو ترمى بلؤم بنى كليب ... نجوم الليل ما وضحت لسارى ولو يرمى بلؤمهم نهار ... لدنّس لؤمهم وضح النّهار وما يغدو عزيز بنى كليب ... ليطلب حاجة إلا يحار ومثله قول الآخر ولو أنّ عبد القيس ترمى بلؤمها ... على الليل لم تبد النجوم لمن يسرى وقالوا: أهجى بيت قالته العرب قول الأعشى تبيتون في المشتا ملاء بطونكم ... وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا وهذا البيت من أبيات ولها سبب نذكره الآن في هذا الموضع وإن كان خارجا عن مكانه وذلك: أن عامر بن الطّفيل بن مالك وعلقمة بن علائة تنازعا الزعامة فقال عامر: أنا أفضل منك! وهى لعمّى ولم يمت، وعمّه عامر بن مالك بن جعفر ابن كلاب وكان قد أهتر وسقط، وقال علقمة: أنا أفضل منك! أنا عفيف، وأنت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 272 عاهر، وأنا وفىّ وأنت غادر، وأنا ولود وأنت عاقر، وأنا أدنى الى ربيعة، فتداعيا الى هرم بن قطنة؛ ليحكم بينهما فرحلا اليه ومع كل واحد منهما ثلاثمائة من الإبل، مائة يطعمها من تبعه، ومائة يعطيها للحاكم، ومائة تعقر إذا حكم؛ فأبى هرم بن قطنة أن يحكم بينهما مخافة الشّرّ وأبيا أن يرتحلا؛ فخلا هرم بعلقمة وقال له: أترجو أن ينفّرك رجل من العرب على عامر فارس مضر؛ أندى الناس كفّا، وأشجعهم لقاء، لسنان رمح عامر أذكر في العرب من الأحوص، وعمّه ملاعب الأسنة، وأمّه كبشة بنت عروة الرّحال، وجدّته أم البنين بنت عمرو بن عامر فارس الضّحياء، وأمك من النّخع، وكانت أمّه مهيرة، وأمّ علاثة أخيذة من النّخع، ثم خلا بعامر فقال له: أعلى علقمة تفخر؟ أنت تناوئه؛ أعلى بن عوف بن الأحوص؛ أعفّ بنى عامر وأيمنهم نقيبة، وأحلمهم وأسودهم وأنت أعور عاقر مشئوم! أما كان لك رأى يزعك عن هذا! أكنت تظنّ أن أحدا من العرب ينفّرك عليه؟ فلما اجتمعا وحضر الناس للقضاء قال: أنتما كركبتى الجمل فتراجعا راضيين. قال العسكرىّ: والصحيح أنه توارى عنهما ولم يقل شيئا فيهما ولو قال: أنتما كركبتى الجمل لقال كل واحد منهما: أنا اليمنى، فكان الشرّ حاضرا؛ قال وسأله عمر بن الخطاب رضى الله عنه بعد ذلك بحين: لمن كنت حاكما لو حكمت؟ فقال: أعفنى يا أمير المؤمنين! فلو قلتها لعادت جذعة. فقال عمر: صدقت! مثلك فليحكم. قال فارتحلوا عن هرم لما أعياهم نحو عكاظ فلقيهم الأعشى منحدرا من اليمن، وكان لمّا أرادها قال لعلقمة: اعقد لى حبلا فقال: أعقد لك من بنى عامر! قال: لا يغنى عنّى قال: فمن قيس! قال: لا، قال: فما أنا بزائدك، فأتى عامر بن الطفيل فأجاره من أهل السماء والأرض فقيل له: كيف تجيره من أهل السماء؟ قال: إن مات الجزء: 3 ¦ الصفحة: 273 وديته، فقال الأعشى لعامر: أظهر أنكما حكّتمانى ففعل؛ فقام الأعشى فرفع عقيرته (أى صوته) فى الناس فقال حكّمتموه فقضى بينكم ... أبلج مثل القمر الزاهر لا يأخذ الرّشوة في حكمه ... ولا يبالى خسر الخاسر علقم لا لست الى عامر الناقض ... الأوتار والواتر واللابس الخيل بخيل اذا ... ثار عجاج الكبّة الثائر إن تسد الحوص فلم تعدهم ... وعامر ساد بنى عامر ساد وألفى رهطه سادة ... وكابرا سادوك عن كابر قال وشدّ القوم في أعراض الإبل المائة فعقروها وقالوا: نفّر عامر، وذهبت بها الغوغاء، وجهد علقمة أن يردّها فلم يقدر على ذلك، فجعل يتهدّد الأعشى فقال أتانى وعيد الحوص من آل عامر ... فيا عبسه عمرو لو نهيت الأحاوصا فما ذنبنا إن جاش بحر ابن عمّكم ... وبحرك ساج لا يوارى الدّعا مصا كلا أبويكم كان فرعا دعامة ... ولكنّهم زادوا وأصبحت ناقضا تبيتون في المشتا ملاء بطونكم ... وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا يراقبن من جوع خلال مخافة ... نجوم العشاء العاتمات الغوامصا رمى بك في أخراهم تركك النّدى ... وفضّل أقواما عليك مراهصا فعضّ حديد الأرض إن كنت ساخطا ... بفيك وأحجار الكلاب الرّواهصا قال فبكى علقمه لما بلغه هذا الشعر وكان بكاؤه زيادة عليه في العار، والعرب تعيّر بالبكاء؛ قال مهلهل يبكى علينا ولا نبكى على أحد ... ونحن أغلظ أكبادا من الإبل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 274 وقال جرير بكى دوبل لا يرقىء الله دمعه ... ألا إنما يبكى من الذّل دوبل قال عبد الملك بن مروان لأمية: مالك وللشاعر إذ يقول إذا هتف العصفور طار فؤاده ... وليث حديد الناب عند الشدائد فقال: أصابه حدّ من حدود الله فأقمته عليه قال: فهلّا درأته عنه بالشّبهات؟ قال: كان أهون علىّ من أن أعطّل جدّا من حدود الله فقال: يا بنى أمية! أحسابكم أحسابكم، أنسابكم أنسابكم، لا تعرضوا للفصحاء فإن للشعر مواسم لا يزيدها الليل والنهار إلا جدّة، والله ما يسرّنى أنى هجيت ببيت الأعشى حيث يقول: تبيتون في المشتا الخ ولى الدنيا بحذافيرها ولو أن رجلا خرج من عرض الدنيا كان قد أخذ عوضا لقول ابن حرثان على مكثريهم حقّ من يعتريهم ... وعند المقلّين السماحة والبذل وهذا البيت لزهير. وقالوا أهجى بيت قالته العرب قول الحضيئة؟؟ في الزّبرقان بن بدر دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... وأقعد فإنك أنت الطاعم الكاسى ولهذا الشعر حكاية نذكرها في أخبار الحطيئة في البخلاء. وقيل: أتفق جماعة من الشعراء على أن أهجى بيت قالته العرب، قول الفرزدق في جرير أنتم قرارة كلّ معدن سوءة ... ولكلّ سائلة تسيل قرار أخذه أبو تمام فقال وكانت زفرة ثم اطمأنت ... كذاك لكل سائلة قرار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 275 وقالوا أهجى بيت قالته العرب قول الأخطل لجرير ما زال فينا رباط الخيل معلمة ... وفي كليب رباط اللّؤم والعار قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم ... قالوا لأمهم: بولى على النّار قالت بنو تميم: ما هجينا بشىء، هو أشدّ علينا من هذا البيت، وهو يتضمن وجوها شتّى من الذّم: جعلهم بخلاء بالقرى، وجعل أمّهم خادمهم، يأمرونها بكشف فرجها، وجعلهم يبخلون بالماء أن يطفئوا به النار، وجعل نارهم من قلّتها تطفى ببولة، وأغرى بينهم وبين المجوس، لتعظيم المجوس للنار، وإهانتهم لها إلى غير ذلك. وقالوا أهجى بيت قالته العرب قول الطرمّاح تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا ... ولو سلكت طرق المكارم ضلّت وقيل أهجى بيت قالته العرب قول الأعرابىّ اللؤم أكرم من وبر ووالده ... واللؤم أكرم من وبر وما ولدا قوم إذا ما جنى جانيهم أمنوا ... من لؤم أحسابهم أن يقتلوا قودا وقال مسلم بن الوليد يهجو دعبل الخزاعىّ أما الهجاء فدقّ عرضك دونه ... والمدح عنك كما علمت جليل فاذهب فأنت طليق عرضك إنّه ... عرض عززت به وأنت ذليل وكان سبب ذلك أنه كان بخراسان عند الفضل بن سهل، فبلغ دعبل ما هو فيه من الحظوة عنده، فصار إلى مرو، وكتب الى الفضل بن سهل لا تعبأن بابن الوليد فإنه ... يرميك بعد ثلاثة بملال إن الملول إذا تقادم عهده ... كانت مودّته كفىء ضلال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 276 فدفع الفضل الرّقعة إلى مسلم، فلما قرأها قال: هل عرفت لقب دعبل وهو غلام أمرد يفسق به؟ فقال: لا، قال: كان يلقّب بميّاس، وكتب إليه مياس قل لى: أين أنت من الورى؟ ... لا أنت معلوم ولا مجهول أما الهجاء الخ، ومنه أخذ إبراهيم بن العباس فقال فكن كيف شئت وقل ما تشاء ... وأبرق يمينا وأرعد شمالا نجابك لؤمك منجا الذّباب ... حمته مقاذيره أن ينالا وأنشد لجاحظ ووثقت أنّك لا تسبّ ... حماك لؤمك أن تنالا وقال الآخر بذلّة والديك كسيت عزّا ... وباللؤم اجترأت على الجواب وقال آخر دناءة عرضك حصن منيع ... يقيك إذا ساء منك الصنيع فقل لعدوّك ما تشتهى ... فأنت المنيع الرفيع الوضيع وقال أبو نواس ما كان لو لم أهجه غالب ... قام له هجوى مقام الشرف يقول: قد أسرف في هجونا ... وإنما ساد بذاك السّرف عائب؟؟، لا تسع لتبنى العلا، ... بلغت مجدا بهجائى، فقف قد كنت مجهولا ولكننى ... نوّهت بالمجهول حتى عرف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 277 وقال أبو هلال العسكرىّ أهنت هجائى يابن عروة، فانتحى ... علىّ ملام الناس في البعد والقرب وقالوا: أتهجو مثله في سقوطه؟ ... فقلت لهم: جرّبت سيفى في كلب وقال ابن لنكك وعصبة لمّا توسّطهم ... صارت علىّ الأرض كالخاتم كأنّهم من سوء أفهامهم ... لم يخرجوا بعد إلى العالم يضحك إبليس سرورا بهم ... لأنهم عار على آدم وقالوا أهجى بيت قاله محدّث قول الآخر قبحت مناظرهم، فحين خبرتهم، ... حسنت مناظرهم لقبح المخبر وقال العسكرىّ: ولست أعرف في الهجاء أبلغ من قول الأوّل إن يفجروا أو يغدروا، ... أو يبخلوا لم يحفلوا وغدوا عليك مرجّلين ... كأنّهم لم يفعلوا! ومن البليغ قول حسان أبناء حار، فلن تلقى لهم شبها ... إلا التيوس على أكتافها الشّعر إن نافروا نفروا، أو كاثروا كثروا، ... أو قامرو الربح عن أحسابهم قمروا كأنّ ريحهم في الناس إن خرجوا ... ريح الكلاب إذا ما مسّها المطر وقال أيضا أبوك أبو سوء وخالك مثله ... ولست بخير من أبيك وخالكا وإن أحقّ الناس أن لا تلومه ... على اللؤم من ألفى أباه كذلكا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 278 وقال الآخر سل الله ذا المنّ من فضله ... ولا تسألنّ أبا واثله فما سأل الله عبد له ... فخاب ولو كان من باهله وقال آخر ولو قيل للكلب: يا باهلىّ ... لأعول من قبح هذا النسب! وقال زياد: ما هجيت ببيت قطّ أشدّ علىّ من قول الشاعر فكّر، ففى ذاك إن فكّرت معتبر ... هل نلت مكرمة إلا بتأمير عاشت سميّة ما عاشت وما علمت ... أن ابنها من قريش في الجماهير وقال إبراهيم بن العباس ولما رأيتك لا فاسق ... تهاب ولا أنت بالزاهد وليس عدوّك بالمتّقّى ... وليس صديقك بالحامد أتيت بك السوق سوق الهوان ... فناديت: هل فيك من زائد؟ على رجل غادر بالصديق ... كفور لنعمائه جاحد فما جاءنى رجل واحد ... يزيد على درهم واحد سوى رجل حان منه الشقىء ... وحلّت به دعوة الوالد فبعتك منه بلا شاهد ... مخافة ردّك بالشاهد وأبت الى منزلى سالم ... وحلّ البلاء على الناقد وقال العسكرىّ إن كان شكلك غير متّفق ... فكذا خلالك غير مؤتلفه صوّرت من نطف قد اختلفت ... فأتت خلالك وهى مختلفه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 279 من عصبة شتى اذا اجتمعوا ... شبّهت داركم بهم عرفه فورثت من ذا قبح منظره ... وورثت ذاك خناه أو صلفه وقال الحسن بن مطران شاعر اليتيمة كم غصت في مدحك فكرا على ... درّ نفيس غير مثقوب ولم يغض رأيك يوما على ... برّى، ولا رأى لمكذوب إن كان موعودك في الجود لى ... أكذب من موعود عرقوب فإنّ أخبارك في مدحتى ... أكذب من ذئب ابن يعقوب وقال أحمد بن محمد بن حامد شاعر الخريدة بليت بقوم ما لهم في العلايد ... ولا قدم تسعى لبذل الصنائع اذا نظرت عينى اليهم تنجّست ... برؤيتهم طهّرتها بالمدامع وقال المتنبّى إن أوحشتك المعالى ... فإنها دار غربه أو آنستك المخازى ... فإنها يك؟؟ أشبه وقال أبو عبد الله الحسين بن محمد بن الحجّاج ولقد عهدتك تشتهى ... قربى، وتستدعى حضورى وأرى الجفا بعد الوفا ... مثل النفسا؟؟ بعد البخور يا خرية العدس الصحيح ... النّبى، والخبز الفطير فى جوف منحلّ الطبيعة ... والقوى شيخ كبير يجرى فيخرج سرمه ... شبرين من وجع الزحير يا؟؟ نتموة أبعد العشا ... بالبيض واللبن الكثير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 280 وفطائر عجنت بلا الملح ... الجريش ولا الخمير يا نتن رائحة الطبيخ ... إذا تغيّر في القدور يا عشّ بيض القمل فرّخ ... فى السوالف والشعور يا بول صبيان الفطا ... م ويا خراهم في الحجور يا بعض تدخين الحشا ... فى الصوم من تخم السّحور يا حرّ قولنج البطو ... ن وبردّ أعصاب الظهور يا ذلّة المظلوم أصبح ... وهو معدوم النصير يا سوء عاقبة التفقّد ... عند تشبيه الأمور يا كلّ شىء متعب ... متعقّد صعب عسير يا حيرة الشيخ الأصمّ ... ، وحسرة الحدث الضرير يا قعدة في دجلة ... والريح تلعب بالجسور يا قرحة السلّ التى ... هدّت شراسيف الصدور يا أربعاء لا تدو ... ربه مخافات الشهور يا هدّة الحيطان تنقض ... بالمعاول والمرور يا قرحة في ناظر ... غلظوا عليها بالذّرور فتسلّخت مع ما يليها ... في الجفون من البثور يا خيبة الأمل الذى ... أمسى يعلّل بالغرور يا غلمة المتخدّرا ... ت وراء أبواب القصور يا وحشة الموتى إذا ... صاروا إلى ظلم القبور يا ضجرة المحموم بالغدوات ... من ماء الشعير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 281 يا شؤم إقبال الشتا ... ءأضرّ بالشيخ الفقير يا دولة الحسن التى ... خسفت بأيّام السّرور يا ضجّة الضّجر المصدّع ... بالتنازع والشّرور يا عثرة القلم المرشش ... بين أثناء السطور يا ليلة العريان غبّ ... عشيّة اليوم المطير يا نومعة في شمس آ ... ب على التراب بلا حصير يا فجأة المكروه في البيوم ... العبوس القمطرير يا نهمة الكلب الرضيع ... ونكهة الليث الهصور يا عيش عان موثق ... فى القيد مغلول أسير يا حدّة الرّمد الذى ... لا يستفيق من القطور يا غيشة الكنّاس من ... شمّ الذرائر والعبير يا حيرة العطشان وقت ... الظّهر في وسط الهبير من لى بأن تلقاك خيل ... بنى كلاب بلا خفير وأرى بعينى لحمك المطبوخ ... فى حرّ الهجير فى الأرض ما بين السباع ... وفي السما بين النّسور وقال المتنبّى يمشى بأربعة على أعقابه ... تحت العلوج ومن وراء يلجم وجفونه ما تستقرّ كأنها ... مطروفة أو فتّ فيها حصرم وتراه أصغر ما تراه ناطقا ... ويكون أكذب ما يكون ويقسم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 282 واذا أشار مكلّما فكأنه ... قرد يقهقه أو عجوز تلطم يقلى مفارقة الأكفّ قذاله ... حتى يكاد على يد يتعمّم ومما يذمّ به الرجل أن يكون ثقيلا، فأبلغ ما قيل في ذلك قول بعضهم وثقيل أشدّ من غصص الموت ... ومن زفرة العذاب الأليم لو عصت ربّها الجحيم لما كا ... ن سواه عقوبة للجحيم وأبلغ ما قيل في هذا المعنى قول بشّار ولقد قلت حين وتّد في الأر ... ض ثقيل اربى على ثهلان كيف لم تحمل الأمانة أرض ... حملت فوقها أبا سفيان ومما هجى به أهل الوقت على الإطلاق، فمن ذلك قول أبى هلال العسكرىّ. كم حاجة أنزلتها ... بكريم قوم أو لئيم فإذا الكريم من اللئيم ... أو اللئيم من الكريم سبحان ربّ قادر ... قدّ البريّة من أديم فشريفهم ووضيعهم ... سيّان في سفه ولوم قد قلّ خير غنيّهم ... فغنّيهم مثل العديم وإذا اختبرت حميدهم ... ألفيته مثل الذميم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 283 ومما قيل في هجاء بعض العشيرة ومدح بعضهم، فمن ذلك قول أبى عيينة ليهجو خالد بن يزيد المهلّبىّ ويمدح أباه أبوك لنا غيث نعيش بفضله ... وأنت جراد ليس يبقى ولا يذر له أثر في المكرمات يسرّنا ... وأنت تعفّى دائبا ذلك الأثر لقد قنّعت قحطان خزيا بخالد ... فهل لك فيه يخزك الله يا مضر؟ وله في قبيصة بن روح، يفضّل عليه ابن عمّه داود بن يزيد بن حاتم أقبيص لست وإن جهدت ببالغ ... سعى ابن عمّك ذى النّدى داود شتّان بينك يا قبيص وبينه ... إن المذمّم ليس كالمحمود داود محمود وأنت مذمّم ... عجبا لذاك وأنتما من عود ولربّ عود قد يشقّ لمسجد ... نصفا وسائره لحشّ يهودى وقال حسان في أبى سفيان بن الحارث أبوك أب حرّ وأمّك حرّة ... وقد يلد الحرّان غير نجيب فلا تعجبنّ الناس منك ومنهما ... فما خبث من فضّة بعجيب ذكر ما قيل في الحسد ومما يذمّ به الرجل، أن يكون حسودا، وقد أمر الله تعالى نبيّه عليه الصلاة والسلام، أن يتعوّذ من شرّ الحاسد إذا حسد قال ابن السمّاك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 284 أنزل الله تعالى سورة جعلها عوذة لخلقه من صنوف الشرّ، فلما انتهى الى الحسد، جعله خاتما إذ لم يكن بعده في الشرّ نهاية. والحسد أوّل ذنب عصى الله تعالى به فى السماء، وأول ذنب عصى به في الأرض، أما في السماء، فحسد إبليس لآدم، وأما في الأرض، فحسد قابيل لهابيل، وذهب بعض أهل التفسير في قوله عزّوجلّ إخبارا عن أهل النّار (رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) أن المراد بالجنّ إبليس، وبالإنس قابيل، وذلك أن إبليس أوّل من سنّ الكفر، وقابيل أوّل من سنّ القتل، وأصل ذلك كلّه الحسد. وقال عبد الله بن مسعود: لا تعادوا نعم الله، فقيل له: ومن يعادى نعم الله؟ قال: الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، يقول الله تعالى في بعض الكتب: الحسود عدوّ نعمتى، مسخط لقضائى، غير راض بقسمتى. وقالت الحكماء: إذا أراد الله، أن يسلّط على عبد عدوّا لا يرحمه، سلّط عليه حاسدا. وكان يقال في الدعاء على الرجل: طلبك من لا يقصّر دون الظّفر، وحسدك من لا ينام دون الشّقاء. وقالوا: ما ظنّك بعداوة الحاسد، وهو يرى زوال نعمتك نعمة عليه؟ قال أبو الطيب المتنبىّ سوى وجع الحساد داء فإنه ... إذا حلّ في قلب فليس يحول ولا تطمعن من حاسد في مودّة ... وإن كنت تبديها له وتنيل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 285 وقال الببّغاء ومن البلية أن تداوى حقد من ... نعم الاله عليك من أحقاده وقال علىّ رضى الله عنه لا راحة لحسود، ولا أخ لملول، ولا محبّ لسىء الخلق. وقال الحسن ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من حاسد؛ نفس دائم، وحزن لازم، وغيره لا تنفد، ثم قال: لله درّ الحسد ما أعدله! يقتل الحاسد قبل أن يصل الى المحسود. وقال الجاحظ: من العدل المحض، والإنصاف الصحيح، أن تحطّ عن لحاسد نصف عقابه، لأن ألم جسمه، قد كفاك مؤنة شطر غيظك عليه. وقيل: الحسد أن تتمنى زوال نعمة غيرك، والغبطة أن تتمنى مثل حال صاحبك، وفي الحديث: «المؤمن يغبط، والمنافق يحسد» . وقال أرسطا طاليس: الحسد حسدان: محمود، ومذموم، فالمحمود أن ترى عالما فتشتهى أن تكون مثله، وزاهدا فتشتهى مثل فعله، والمذموم أن ترى علما وفاضلا فتشتهى أن يموتا، وقيل: الحسود غضبان على القدر، والقدر لا يعتبه. قال منصور الفقيه ألا قل لمن كان لى حاسدا ... أتدرى على من أسأت الأدب أسأت على الله في فضله ... إذا أنت لم ترض ما قد وهب وقال المتنبّى وأظلم أهل الأرض من بات حاسدا ... لمن بات في نعمائه يتقلّب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 286 ومن أخبار الحسدة: ما حكى، أنه اجتمع ثلاثة نفر منهم، فقال أحدهم لصاحبه: ما بلغ من حسدك؟ قال: ما اشتهيت أن أفعل بأحد خيرا قطّ، فقال. الثانى: أنت رجل صالح، أنا ما اشتهيت أن يفعل أحد بأحد خيرا قطّ، فقال الثالث: ما في الأرض أفضل منكما، أنا ما اشتهيت أن يفعل بى أحد خيرا قط. ومما قيل من الشعر في تفضيل المحسود ومدحه، وهجاء الحاسد وذمّه، قال بعض شعراء إن يحسدونى فإنى غير لائمهم ... قبلى من الناس أهل الفضل قد حسدوا فذم لى ولهم ما ب؟؟ ى وما بهم ... ومات أكثرنا غمّا بما يجد وقال آخر إن الغراب وكان يمشى مشبة ... فيما مضى من سالف الاحوال حسد القطاة ورام يمشى مشيها ... فأصابه ضرب من العقّال وقال آخر حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ... فالقوم أعداء له وخصوم كضرائر الحسناء قلن لوجهها ... حسدا وبغيا إنّه لدميم وقال البحترىّ لا تحسدوه فضل رتبته التى ... أعيت عليكم وافعلوا كفعاله وقال السّرىّ الرفّاء نالت يداه أقاصى المجد الّذى ... بسط الحسود إليه باعا ضيّقا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 287 أعدّوه هل للسّماك جريرة ... فى أن دنوت من الحضيض وحلّقا؟ أم هل لمن ملأ اليدين من العلا ... ذنب إذا ما كنت منها مملقا؟ وقال أبو تمام الطائىّ وإذا أراد الله نشر فضيلة ... يوما أتاح لها لسان حسود لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود وقال البحترىّ ولن يستبين الدّهر موضع نعمة ... إذا أنت لم تدلل عليها بحاسد وقال محمد بن مناذر يا أيّها العاتبى وما بى من ... عتب ألا ترعوى وتزدجر! هل لك عندى وتر فتطلبه ... أم أنت ممّا أتيت معتذر؟ إن يك قسم الإله فضّلنى ... وأنت صلد ما فيك معتصر فالحمد والشكر والثناء له ... وللحسود التّراب والحجر ماذا الذى يجتنى جليسك أو ... يبدو له منك حين يختبر اقرأ لنا سورة تذكّرنا ... فإن خير المواعظ السّور أوصف لنا الحكم في فرائضنا ... ما تستحقّ الأنثى أو الذّكر أو ارو فقها تروى القلوب به ... جاء به عن نبيّنا الأثر أو من أحاديث جاهليّتنا ... فإنها حكمة ومفتخر أو ارو عن فارس لنا مثلا ... فإن أمثالها لنا عبر أو غنّ صوتا تشجى النّفوس به ... وذنب ما قد أتيت مغتفر فإن تكن قد جهلت ذاك وذا ... ففيك للناظرين معتبر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 288 ذكر ما قيل في السّعاية والبغى والغيبة والنّميمة قال الله تعالى: (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) . وقال تعالى: (ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ) . وقال تعالى: (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ) . وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الاخر فلا يرفعن إلينا عورة أخيه المؤمن» . وقال صلّى الله عليه وسلم: «لا يراح القتّات رائحة الجنّة» . وفي لفظ «لا يدخل الجنّة قتّات» ؛ والقتّات: النّمّام. قال بعض الشعراء فلا تسعى على أحد ببغى ... فان البغى مصرعه وخيم وقال العتّابىّ بغيت فلم تقع إلا صريعا ... كذاك البغى مصرع كلّ باغى وسأل رجل عبد الملك بن مروان الخلوة، فقال لأصحابه: إذا شئتم، فقاموا، فلما تهيّأ الرجل للكلام، قال له: إياك أن تمدحنى فإنى أعلم بنفسى منك، أو تكذبنى، فإنه لا رأى لكذوب، أو تسعى إلىّ بأحد، وإن شئت أقلتك، قال: أقلنى. قال: ولما ولى عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك دمشق، ولم يكن في بنى أميّة ألبّ منه في حداثة سنّه، قال أهل دمشق: هذا غلام شابّ، ولا علم له بالأمور، وسيسمع منا، فقام إليه رجل، فقال: أصلح الله الأمير، عندى نصيحة، فقال له: يا ليت شعرى، ما هذه النصيحة التى ابتدأتنى بها من غير يد سبقت منّى إليك؟ فقال: جار لى عاص، متخلّف عن ثغره، فقال له: ما اتقيت الله، ولا أكرمت أميرك، ولا حفظت جوارك. إن شئت، نظرنا فيما تقول، فإن كنت صادقا؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 289 لم ينفعك ذلك عندنا، وإن كنت كاذبا، عاقبناك، وإن شئت، أقلناك، قال: أقلنى، قال: اذهب حيث شئت، لا صحبك الله، ثم قال: يا أهل دمشق، ما أعظمتم ما جاء به الفاسق، إن السّعاية أحسب منه سجيّة، ولولا أنه لا ينبغى للوالى أن يعاقب، قبل أن يعاتب، كان لى فيه رأى، فلا يأتنى أحد منكم بسعاية على أحد، فإن الصادق فيها فاسق، والكاذب بهّات؛ وسعى رجل برجل إلى عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه، فقال: إن شئت نظرنا في أمرك، فإن كنت كاذبا، فأنت من هذه الآية: (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) وإن كنت صادقا، فأنت من هذه الآية: (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) وإن شئت عفونا عنك، قال: العفو يا أمير المؤمنين، قال: على أن لا تعود. وكتب محمد بن خالد إلى ابن الزيّات: إن قوما صاروا إلىّ متنصّحين، فذكروا أن رسوما للسلطان قد عفت ودرست، وأنه توقّف عن كشفها إلى أن يعرف موقع رأيه فيها، فوقّع على رقعته: قرأت هذه الرّقعة المذمومة، وسوق السّعاة مكسد عندنا، وألسنتهم تكلّ في أيامنا، فاحمل الناس على قانونك، وخذهم بما فى ديوانك، فلم ترد للناحية لكشف الرسوم العافية، ولا لتحيى الأعلام الدثرة، وجنّبنى وتجنّب قول جرير وكنت إذا حللت بدار قوم ... رحاب؟؟ بخزية وتركت عارا قالوا: وكان الفضل بن يحيى يكره السّعاة، فإذا أتاه ساع، قال له: إن صدقتنا، أبغضناك، وإن كدبتنا، عقبناك، وإن استقلتنا، أقلناك. وحكى صاحب العقد قال: قال العتبىّ، حدّثنى أبى عن سعيد القصرىّ، قال: نظر إلىّ عمرو ابن عينه ورجل يستم بين يدىّ رجلا، فقال لى: ويلك، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 290 وما قال لى ويلك قبلها: نزّه سمعك عن استماع الخنا، كما تنزّه لسانك عن الكلام به، فإن السامع شريك القائل، وإنه عمد إلى شرّ ما في وعائه، فأفرغه في وعائك، ولو ردّت كلمة جاهل في فيه، لسعد رادّها، كما شقى قائلها، وقد جعله الله تعالى شريك القائل، فقال: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) . ومما قيل في الغيبة والنّميمة، روى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا قلت في الرجل ما فيه فقد اغتبته وإذا قلت ما ليس فيه فقد بهتّه» . اغتاب رجل رجلا عند قتيبة بن مسلم، فقال له: أمسك عليه أيّها الرجل، والله لقد تلمظت بمضغة طالما لفظتها الكرام. وذكر في مجلسه رجل، فنال منه بعض جلسائه، فقال له: يا هذا أوحشتنا من نفسك، وأيأستنا من مودّتك، ودللتنا على عورتك. واغتاب رجل عند بعض الأشراف، فقال له: قد استدللت على كثرة عيوبك، بما تذكر من عيب الناس، لأن الطالب للعيوب، إنما يطلبها بقدر ما فيه منها، أما سمعت قول الشاعر لا تهتكن من مساوى الناس ما ستروا ... فيهتك الله سترا من مساويكا واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا ... ولا تعب أحدا منهم بما فيكا وقال ابن عبّاس رضى الله عنهما اذكر أخاك إذا غاب عنك بما تحبّ أن يذكرك به، ودع منه ما تحبّ أن يدع منك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 291 وقال بعض الملوك لولده وهو ولىّ عهده: يا بنىّ ليكن أبغض رعيتك إليك، أشدّهم كشفا لمعايب الناس عندك، فإنّ في الناس معايب وأنت أحق بسترها، وإنما تحكم فيما ظهر لك، والله يحكم فيما غاب عنك، وأكره للناس ما تكرهه لنفسك، واستر العورة، يستر الله عليك، ما تحبّ ستره، ولا تعجّل الى تصديق ساع، فإن الساعى غاشّ، وإن قال قول نصح. ووشى واش برجل الى الإسكندر فقال له: أتحبّ أن نقبل منك ما قلت فيه، على أن نقبل منه ما يقول فيك؟ قال: لا، قال: فكفّ عن الشر، نكفّ عنك. وقال ذو الرّياستين: قبول النميمة، شرّ من النميمة، لأن النميمة دلالة، والقبول إجازة، وليس من دلّ على شىء، كمن قبله وأجازه. قال أبو الأسود الدّؤلىّ لا تقبلنّ نميمة بلّغتها ... وتحفظنّ من الذى أنباكها إن الذى أهدى إليك نميمة ... سينمّ عنك بمثلها قد حاكها وقال رجل لعمرو بن عبيد: إن الأساورىّ لم يزل يذكرك، ويقول: الضآلّ، فقال عمرو: يا هذا! والله ما راعيت حقّ مجالسته، حتّى نقلت إلينا حديثه، ولا راعيت حقّى، حين أبلغتنى عن أخى ما أكرهه، اعلم أن الموت يعمّد، والبعث يحشرنا، والقيامة تجمعنا، والله يحكم بيننا. وقال معاوية للأحنف في شىء بلغه عنه، فأنكره الأحنف: بلّغنى عنك الثقة، فقال الأحنف: إن الثقة لا يبلّغ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 292 قال بعض الشعراء لعمرك ما سبّ الأمير عدوّه ... ولكنما سبّ الأمير المبلّغ وقال ابن المعتزّ: الساعى كاذب لمن سعى إليه، خائن لمن سعى عليه. وقالوا: النّمام، شرّ من الساحر، فإن النمام، يفسد في الساعة الواحدة، ما لا يفسد الساحر في المدة الطويلة. وقالوا: النميمة، من الخلال الذميمة، تذلّ على نفس سقيمة، وطبيعة لئيمة، مشغوفة بهتك الأستار، وإفشاء الأسرار. وقال بعض الحكماء: الأشرار يتتبعون مساوىء الناس، ويتركون محاسنهم، كما يتتبع الذباب المواضع الألمة من الجسد، ويترك الصحيحة. وقالوا: لم يمش ماش، شرّ من واش. والساعى بالنميمة، كشاهد الزّور، يهلك نفسه، ومن سعى به، ومن سعى اليه. وقالوا: حسبك من شرّ سماعه. وقد لهج الشعراء بذمّ النمام، وجعلوه من أهاجيهم. قال بعض الشعراء من نمّ في الناس لم تؤمن عقاربه ... على الصديق ولم تؤمن أفاعيه كالسّيل بالليل لا يدرى به أحد ... من أين جاء ولا من أين يأتيه وقال السّرىّ الرّفّاء أنمّ بما استودعته من زجاجة ... ترى الشىء فيها ظاهرا وهو باطن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 293 وقال محمد بن شرف وناصب نحو أفواه الورى أذنا ... كالقعب يلقط فيها كلّ ما سقطا يظلّ يلتقط الأخبار مجتهدا ... حتى إذا ما وعاها زقّ ما لقطا وقال ابن وكيع ينمّ بسرّ مسترعيه لؤما ... كما نمّ الظلام بسرّ نار أنم من النّصول على مشيب ... ومن صافى الزّجاج على عقار وقال الحسن البصرىّ: لا غيبة في ثلاثة: فاسق مجاهر، وإمام جائر، وصاحب بدعة. وكتب الكسائىّ الى الرقاشىّ تركت المسجد الجامع ... والتّرك له ريبه وأخبارك تأتين ... على الأعلام منصوبه فإن زدت من الغيبة ... زدناك من الغيبه ذكر ما قيل في البخل واللؤم والبخل منع الحقوق وإليه الإشارة بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) ، وقال تعالى: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 294 وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «خلّتان لا تجتمعان في مؤمن: البخل وسوء الخلق» . وقال بعض السلف: منع الجود، سوء ظن بالمعبود، وتلا (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) وروى أبو بكر الخطيب في كتاب البخلاء، بإسناده عن أبى هريرة عن النبىّ صلّى الله عليه وسلم، أنه قال: «لما خلق الله تعالى جنّة عدن، قال لها: تزيّنى فتزينت، ثم قال لها: أظهرى أنهارك، فأظهرت عين السلسبيل، وعين الكافور، وعين التسنيم، ونهر الخمر، ونهر العسل، ونهر اللبن، ثم قال لها: أظهرى حورك، وحللك، وسررك وحجالك، ثم قال لها: تكلّمى، فقالت: طوبى لمن دخلنى، فقال الله عزّوجل: أنت حرام على كل بخيل» . وقال سقراط: الأغنياء البخلاء، بمنزلة البغال والحمير، تحمل الذهب والفضة، وتعتلف التّبن والشعير. وقالوا: البخل من سوء الظن، وخمول الهمّة، وضعف الرويّة، وسوء الاختيار، والزّهد في الخيرات. وقال الحسن بن علىّ رضى الله عنهما: البخل جامع للمساوىء والعيوب، وقاطع للمودّات من القلوب. وقالوا: حدّ البخل، منع المسترفد مع القدرة على رفده. وكان أبو حنيفة لا يقبل شهادة البخيل، ويقول محتجّا لذلك: إن البخيل يحمله بخله، على أن يأخذ فوق حقّه، مخافة أن يغبن، ومن كان هكذا لا يكون مأمونا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 295 وقال بشر بن الحارث الحافى: لا غيبة لبخيل، ولشرطىّ سخىّ أحبّ إلىّ من عابد بخيل. وقالوا: البخيل لا يستحقّ اسم الحرّية، فإن ماله يملكه. ويقال: لا مال للبخيل، وإنما هو لماله. وقال الحسن البصرىّ: لم أر أشقى بماله من البخيل؛ لأنّه في الدنيا يهتمّ بجمعه، وفي الآخرة يحاسب على منعه، غير آمن في الدنيا من همه، ولا ناج في الآخرة من إثمه، عيشه في الدنيا عيش الفقراء، وحسابه في الآخرة حساب الأغنياء. ودخل رحمه الله على عبد الله بن الأهتم يعوده في مرضه، فرآه يصعّد بصره ويصوّبه الى صندوق في بيته، ثم التفت اليه، فقال: يا أبا سعيد، ما تقول في مائة ألف دينار في هذا الصندوق لم أودّ منها زكاة ولم أصل بها رحما؟ فقال له: ثكلتك أمك! ولم كنت تجمعها؟ قال لروعة الزمان، وجفوة السلطان، وتكاثر العشيرة، ثمّ مات، فشهده الحسن، فلما فرغ من دفنه، ضرب بيده على القبر، ثم قال: انظروا إلى هذا، أتاه شيطانه فخوّفه روعة زمانه، وجفوة سلطانه، بما استودعه الله إيّاه، وعمّره فيه. انظروا اليه كيف خرج مذموما مدحورا! ثم التفت إلى وارثه، فقال: أيها الوارث لا تخدعنّ كما خدع صويحبك بالأمس، أتاك هذا لمال حلالا، فلا يكونن عليك وبالا، أتاك عفوا صفوا، ممن كان له جموعا منوعا، من باطل جمعه، ومن حقّ منعه، قطع فيه لجج البحار، ومفاوز القفار، ولم تكدح لك فيه عين ولم يعرق لك فيه جبين، إن يوم القيامة يوم ذو حسرات، وإن من أعظم الحسرات غدا، أن ترى مالك في ميزان غيرك، فيالها حسرة لا تقال، وتوبة لا تنال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 296 ومن أخبار البخلاء: قيل: بخلاء العرب أربعة، الحطيئة، وحميد الأرقط، وأبو الأسود الدّؤلىّ، وخالد بن صفوان، ونقلت عنهم أمور دلّت على بخلهم. أما الحطيئة: فقد حكى عنه: أنه مرّ به ابن الحمامة، وهو جالس بفناء بيته، فقال له: السلام عليكم، فقال: قلت ما لا ينكر، فقال: إنى خرجت من أهلى بغير زاد، قال: ما ضمنت لأهلك قراك، قال: أفتأذن لى أن آتى بظلّ بيتك فأتفيّأ به؟ قال: دونك الجبل يفىء عليك، قال أنا ابن الحمامة، قال: انصرف وكن ابن أى طائر شئت. قال: واعترضه رجل وهو يرعى غنما، فقال له: يا راعى الغنم، وكان بيد الحطيئة عصا فرفعها، وقال: عجراء من سلم، فقال الرجل: إنما أنا ضيف، فقال: للأضياف أعددتها. وكان الحطيئة أحد الحمقى، أوصى عند موته، أن يحمل على حمار، وقال: لعلّى إن حملت عليه، لا أموت، فإنى ما رأيت كريما مات عليه قطّ. وقال: لكلّ جديد لذّة، إلا جديد الموت* فإنى رأيته غير لذيذ. وقيل له: أوص، فقال: أوصى أن مالى للذكور دون الإناث، قالوا: فإن الله ليس يقوله كذلك، قال: لكنى أقوله. وقالوا له: قل لا إله الا الله، فقال: أشهد أن الشمّاخ أشعر غطفان. ومن أخباره: أن الزّبرقان بن بدر، لقيه في سفر، فقال له: من أنت؟ فقال: أنا حسب موضوع، أنا أبو مليكة، فقال له الزّبرقان: إنى أريد وجها، فصر إلى منزلى، وكن هناك، حتّى أرجع، فصار الحطيئة إلى امرأة الزّبرقان، فأنزلته وأكرمته، فجسده بنو عمّه، وهم بنو لأى، فقالوا للحطيئة: إن تحولت إلينا، أعطيناك مائة ناقة. ونشدّ الى كلّ طب من أطناب بيتك حلّة تحويه، وقالوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 297 لامرأة الزّبرقان: إن الزّبرقان إنما قدّم هذا الشيخ ليتزوّج بنته، فقدح ذلك فى نفسها، فلما أراد القوم النّجعة، تخلّف الحطيئة، فتغافلت عنه امرأة الزّبرقان، فاحتمله القريعيّون ووفّوا له بما قالوا، فمدحهم، وهجا الزّ برقان، فقال أزمعت يأسا مبينا من نوالكم ... ولا يرى طاردا للحرّ كالياس دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسى من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس فاستعدى الزبرقان عليه عمر بن الخطاب رضى الله عنه، فحكّم عمر، حسان ابن ثابت، فقال حسان: ما هجاه ولكن سلح عليه، فحبس عمر الحطيئة، فقال يستعطفه ماذا تقول لأفراخ بذى مرخ ... حمر الحواصل لا ماء ولا شجر؟ ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة ... فاغفر عليك سلام الله يا عمر ما آثروك بها إذ قدّموك لها ... لكن لأنفسهم كانت بك الآثر فأخرجه عمر، وجلس على كرسىّ، وأخذ بيده شفرة، وأوهم أنه يريد قطع لسانه، فضجّ، وقال: إنى والله يا أمير المؤمنين! قد هجوت أبى وأمّى وامرأتى ونفسى، فتبسّم عمر، ثم قال: ما الذى قلت؟ قال: قلت لأبى وأمّى ولقد رأيتك في النساء فسؤتنى ... وأبا بنيك فساءنى في المجلس وقلت لأبى خاصة فبئس الشيخ أنت لدى تميم ... وبئس الشيخ أنت لدى المعالى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 298 وقلت لأمّى خاصة تنحّى واجلسى منّى بعيدا ... أراح الله منك العالمينا؟ أغربالا إذا استودعت سرّا ... وكانونا على المتحدّثينا؟ وقلت لامرأتى أطوّف ما أطوّف ثم آتى ... إلى بيت قعيدته لكاع وقلت لنفسى أبت شفتاى اليوم إلا تكلّما ... بسوء فما أدرى لمن أنا قائله أرى لى وجها شوّد الله خلقه ... فقبّح من وجه وقبّح حامله فخلّى عمر سبيله، وأخذ عليه أن لا يهجو أحدا، وجعل له ثلاثة آلاف اشترى بها منه أعراض المسلمين، فقال يذكر نهيه إيّاه عن الهجاء ويتأسف وأخذت أطراف الكلام فلم تدع ... شتما يضرّ ولا مديحا ينفع ومنعتنى عرض البخيل فلم يخف ... شتمى وأصبح آمنا لا يجزع وأما حميد الأرقط: فكان هجّاء للضيف، فحاشا عليه، فنزل به ضيف ذات ليلة، فقال لامرأته: نزل بك البلاء، قومى فأعدى لنا شيئا، ففعلت، فجعل الضيف يأكل ويقول: ما فعل الحجاج بالناس؟ فلما فرغ، قال حميد يجرّ على الأطناب من جذل بيتنا ... هجفّ «1» لمخزون التّحيّة باذل يقول وقد ألقى المراسى للقرى ... أبن لى ما الحجّاج بالناس فاعل؟ فقلت: لعمرى ما لهذا أتيننا ... فكل ودع الأخبار ما أنت آكل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 299 تدبّر كفاه ويحدر حلقه ... الى الصدر ما حازت عليه الأنامل أتانا ولم يعدله سحبان وائل ... بيانا وعلما بالذى هو قائل فما زال عنه اللّقم حتّى كأنه ... من العىّ لمّا أن تكلّم باقل ونزل به أضياف، فأطعمهم تمرا وهجاهم، وادعى عليهم أنهم يأكلونه بنواه، فقال باتوا وجلّتنا «1» الصّهباء حولهم ... كأن أظفارهم فيها السكاكين فأصبحوا والنّوى ملقى معرّسهم ... وليس كلّ النّوى ألقى المساكين وأما خالد بن صفوان: فكان إذا أخذ جائزته، قال للدرهم: طالما سرت فى البلاد، أما والله لأطيلنّ حبسك، ولأديمنّ لبثك. وقيل له: مالك لا تنفق، فإن مالك عريض؟ فقال: الدهر أعرض منه، قيل: كأنك تؤمل أن تعيش الدهر كلّه، قال: ولا أخاف أن أموت في أوله. وأما أبو الأسود الدؤلىّ: فعمل دكانا عاليا يجلس عليه، فكان ربما أكل عليه فلا يناله المجتاز، فمرّ به أعرابىّ على جمل، فعرض عليه أن يأكل معه، وظنّ أنه لا يناله، فأناخ الأعرابىّ بعيره، حتّى وازى الدكان، وأكل معه، فما جلس بعد ذلك على الدكان، وكان يقول: لو أطعنا المساكين في أموالنا، كنا أسوأ حالا منهم. وقال لبنيه: لا تطمعوا المساكين في أموالكم، فإنهم لا يقنعون منكم، حتّى يروكم في مثل حالهم. ووقف عليه أعرابىّ وهو يتغدّى، فسلّم عليه، فردّ عليه، ثم أقبل على الأكل، ولم يعرض عليه، فقال الأعرابىّ: أما إنى قد مررت بأهلك، قال: كان ذلك طريقك، قال: وهم صالحون، قال: كذلك فارقتهم، قال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 300 وامرأتك حبلى، قال: كذلك كان عهدى بها، قال: ولدت، قال: ما كان بدّلها أن تلد، قال: ولدت غلامين، قال: كذلك كانت أمّها، قال: مات أحدهما، قال: ما كانت تقوى على رضاع اثنين، قال: ثمّ مات الآخر، قال: ما كان ليبقى بعد أخيه، قال: وماتت الأمّ، قال: جزعا على ولديها، قال: ما أطيب طعامك! قال: ذلك جزائى على أهله، قال: أفّ لك ما ألأمك! قال: من شاء سبّ صاحبه. ونظير هذه الحكاية: ما حكى أن أعرابيّا مرّ بآخر، فقال: من أين أقبلت يابن عمّ؟ قال: من الثّنيّة، قال: فهل أتيتنا منها بخبر؟ قال: سل عما بدا لك، قال: كيف علمك بيحيى؟ قال: أحسن العلم، قال: هل لك علم بكلبى نفّاع؟ قال: حارس الحىّ، قال: فبأمّ عثمان؟ قال بخ بخ، ومن مثل أمّ عثمان! لا تدخل من الباب إلا منحرفة بالثياب المعصفرات، قال: فبعثمان؟ قال: وأبيك فإنه جرو الأسد ويلعب مع الصبيان، وبيده الكسرة، قال: فبجملنا السقّاء؟ قال: إن سنامه ليخرج من الغبيط، قال فبالدار؟ قال: وأبيك، إنها لخصيبة الجناب، عامرة الفناء، ثم قام عنه، وقعد ناحية يأكل فلا يدعوه، فمرّ كلب، فصاح به، وقال: يابن عمّ، أين هذا الكلب من نفّاع؟ قال: يا أسفا على نفّاع! مات، قال: وما أماته؟ قال: أكل من لحم الجمل السقّاء، فاغتصّ بعظم منه فمات، قال: إنا لله، أو قد مات الجمل! فما أماته؟ قال: عثر بقبر أم عثمان، فانكسرت رجله. قال: ويلمّك! أماتت أم عثمان؟ قال: إى والله، أماتها الأسف على عثمان، قال ويلك! أمات عثمان؟ قال: إى وعهد الله! سقطت الدار عليه، فرمى الأعرابىّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 301 بطعامه ونثره وأقبل ينتف لحيته ويقول: إلى أين أذهب؟ فيقول الآخر الى النار، وأقبل يلتقط الطعام ويأكله ويهزأ به ويضحك، ويقول: لا أرغم الله إلا أنف اللئام. وكان أحيحة بن الجلاح من البخلاء، وكان إذا هبت الصّبا، طلع أطمة، ينظر الى ناحية هبوبها ثم يقول: هبى هبوبك، فقد أعددت لك ثلاثمائة وستين صاعا من عجوة، أدفع الى الوليد منها، خمس نمرات، فيردّ علىّ منها ثلاثا، أى لصلابتها بعد جهد ما يلوك منها. والعرب تضرب المثل في اللؤم بمادر، تقول: هو ألام من مادر، ويزعمون أنه بنى حوضا وسقى إبله، فلما أصدرها سلح في الحوض، لئلا يسقى غيره فيه. وكان عمر بن يزيد الأسدىّ مبخلا جدّا، فأصابه القولنج فحقنه الطبيب بدهن كثير، فانحل ما في بطنه، فلما أبرزه، قال للغلام: ما تصنع به؟ قال أصبّه، قال: لا ولكن ميّز الدّهن منه واستصبح به. وقال سلم بن أبى المعافى: كان أبى متنحيا عن المدينة، وكان الى جنبه مزرعة فيها قثّاء، وكنت صبيّا فجاءنى صبيان أقران لى، فكلّمت أبى ليهب لى درهما أشترى لهم به قثّاء، فقال لى: أتعرف حال الدرهم؟ كان في حجر في جبل، فضرب بالمعاول، حتى استخرج، ثم طحن، ثم أدخل القدر وصبّ عليه الماء، وجمع بالزّئبق، ثم صفّى من رقّ، ثم أدخل النار فسبك، ثمّ أخرج فضرب، وكتب في أحد شقّيه: لا إله إلا الله، وفي الآخر: محمد رسول الله، ثم حمل الى أمير المؤمنين، فأمر بإدخاله بيت ماله، ووكل به عوج القلانس صهب السّبال، ثم وهبه لجارية حسناء حميلة، وأنت والله أقبح من قرد، أو ززقه رجلا شجاعا وأنت والله أجبن من صرد، فهل ينبغى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 302 لك أن تمسّ الدرهم إلا بثوب؟ ومثله قول سهل بن هارون، وقد قال له رجل هبنى ما لا مرزئة عليك فيه، قال: وما ذاك؟ قال: درهما واحدا، قال: يابن أخى لقد هوّنت الدرهم، وهو طابع الله في أرضه، والدرهم ويحك عشر العشرة، والعشرة عشر المائة، والمائة عشر الألف، والألف عشردية المسلم، ألا ترى يابن أخى كيف انتهى الدرهم الذى هوّنته؟ وهل بيوت الأموال إلا درهم على درهم؟. وقال سليمان بن مزاحم، وقد وقع بيده درهم، فجعل يقلّبه، ويقول: فى شقّ، لا إله إلا الله محمد رسول الله، وفي شقّ، قل هو الله أحد، ما ينبغى لهذا إلا أن يكون تعويذا أو رقية، ويرمى به في الصندوق. كان بعضهم إذا صار الدرهم في يده يخاطبه ويقول: بأبى وأمّى أنت، كم من أرض قطعت، وكيس خرقت، وكم من خامل رفعت، ومن رفيع أخملت، لك عندى أن لا تعرى ولا تضحى، ثم يلقبه في كيسه، فيقول: اسكن على اسم الله، فى مكان لا تزول عنه، ولا تزعج منه. ومن البخلاء «مزبّد» وله حكاية يذكرها، قيل كان بالمدينة جارية جميلة مغنيّة. يقال لها: «بصبص» وكانت الأشراف تجتمع عند مولاها، فاجتمع يوما عنده محمّد بن عيسى الجعفرىّ وعبد الله بن مصعب الزّبيرىّ في جماعة من الأشراف، فتداكروا أمر مزبد وبخله، فقالت لحارية: أنا آخذ لكم منه درهما، فقال لها مولاها: أنت حرّة إن فعلت إن لم أسر لك مختقة بمائة دينار ونوب وسى بمائة دينار. وأجعل لك مجلسا بالعقيق أنحر فيه بدنة. فقالت: جىء به، وأرفع لغيره، حتّى أفعل، فقال: أنت حرّه إن معتك منه، ولأعاونته عليك إن حصلت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 303 منه الدرهم، فقال عبد الله بن مصعب: أنا آتيكم به، قال عبد الله: فصلّيت الغداة في المسجد، فاذا أنا به قد أقبل، فقلت: يا أبا إسحاق، إنّا نحب أن نرى بصبص؟ قال: بلى والله، وامرأته طالق إن لم تكن له سنة يشتهى أن يلقاها، فقلت له: إذا صليت العصر، فاتنى هاهنا، فقال: امرأته طالق إن برح من هاهنا الى العصر، قال فانصرفت في حوائجى، فلما كان العصر جئت فوجدته، فأخذت بيده، وأتيتهم به، فأكل القوم وشربوا حتّى صلّيت العتمة، ثم تساكروا وتناوموا، فأقبلت بصبص على مزبّد، فقالت له: يا أبا إسحاق كأنّى والله في نفسك تشتهى أن أغنّيك الساعة لقد حثّوا الجمال ليه ... ربوا منّا فلم يئلوا فقال لها: امرأته طالق إن لم تكونى تعلمين ما في اللوح المحفوظ، فغنته إيّاه، ثم قالت له: كأنّى بك تشتهى أن أقوم من مجلسى فأجلس إلى جنبك فتدخل يدك فى جلبابى، فقال: امرأته طالق إن لم تكونى تعلمين ما في الأرحام، وما تكسب الأنفس غدا قالت: فقم، فقام وجلس إلى جانبها وغنّت له، ثم قالت: أعلم أنك تشتهى أن أغنّيك أنا أبصرت باللّيل ... غلاما حسن الدّلّ كغصن البان قد أصبح ... مسقيّا من الطّلّ فقال لها: امرأته طالق أن لم تكونى نبيّة مرسلة، فغنته وقبّلها، ثم قالت: يا أبا إسحاق، هل رأيت قطّ أنذل من هؤلاء؟ يدعوننى ويدعونك، ويخرجوننى اليك ولا يشترون نقلا ولا ريحانا، كأنّى بك وفي جيبك درهم وأنت تقول: الساعة أخرجه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 304 وأعطيها إيّاه، وتشترى به ما تريد، فقام من جنبها وقال: أخطأت استك الحفرة، وانقطع عنك الوحى، ووثب وجلس ناحية، فانتبه القوم وعطعطوا «1» عليها وعلموا أن حيلتها لم تتمّ، وخرج من عندهم ولم يعد إليهم. وقال بعضهم: بتّ عند رجل من أهل الكوفة من الموسرين، وله صبيان نيام، فرأيته في الليل يقوم فيقلّبهم من جنب الى جنب، فلما أصبحنا سألته عن ذلك، فقال: هؤلاء الصبيان يأكلون وينامون على اليسار، فيمريهم الطعام، ويصبحون جياعا، فأنا أقلّبهم من اليسار الى اليمين لئلا ينهضم ما أكلوه سريعا. وكان زياد بن عبد الله الحارثىّ واليا على المدينة، وكان فيه بخل وجفاء، فأهدى اليه كاتب له سلالا فيها أطعمة، وقد تنوّق فيها فوافته وقد تغدّى، فقال: ما هذه؟ قالوا: غداء بعثه فلان الكاتب، فغضب، وقال: يبعث أحدهم الشىء في غير وقته، يا خيثم بن مالك! يريد صاحب شرطته، ادع لى أهل الصّفّة يأكلون هذا، فبعث خيثم الحرس يدعونهم، فقال الرسول الذى جاء بالسّلال: أصلح الله الأمير، لو أمرت بهذه السلال تفتح وينظر ما فيها، قال: اكشفوها فاذا طعام حسن من دجاج وفراخ وجداء وسمك وأخبصة وحلواء فقال: ارفعوا هذه السّلال، وجاء أهل الصّفّة، فأخبر بهم، فأمر بإحضارهم وقال: يا خيثم! اضربهم عشرة أسواط، فإنه بلغنى أنهم يفسون في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ومن الخلفاء من ينسب الى البخل، فمنهم عبد الملك بن مروان كان يلقب برشح الحجر ولبن الطير لبخله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 305 ومنهم هشام ابنه وكان ينظر في بيع الهدايا التى تهدى اليه. حكى عنه أن أعرابيّا أكل عنده فرفع اللّقمة الى فيه، فقال له هشام: فى لقمتك شعرة يا أعرابىّ، فقال: وإنك تلاحظنى ملاحظة من يرى الشّعرة، والله لا أكلت عندك أبدا، ثم قام وانصرف. ومنهم أبو جعفر المنصور كان يلقّب بأبى الدوانيق، لقّب بذلك لأنه لما بنى مدينة بغداد كان يباشرها بنفسه ويحاسب الصّناع، فيقول لهذا: أنت نمت القائلة، ولهذا: لم تبكّر، ولهذا: انصرفت قبل أن تكمّل اليوم، فيسقط لهذا دانقا، ولهذا دانقين، فلا يكاد يعطى لأحد أجرة كاملة، وكان يقول: يزعمون أنّى بخيل، وما أنا ببخيل، ولكن رأيت الناس عبيد المال، فمنعتهم عنه، ليكونوا عبيدا لى. ويحكى عنه أنه قال لطباخه: لكم ثلاثة وعليكم اثنتان، لكم الرءوس والأكارع والجلود، وعليكم الحبوب والتوابل. ومن حكاياته الدالة على بخله: أن صاحبه الربيع بن يونس قال له يوما: يا أمير المؤمنين، إن الشعراء ببابك وهم كثير، وقد طالت أيامهم ونفدت نفقاتهم، فقال: اخرج إليهم وسلم عليهم، وقل لهم من مدحنا منكم فلا يصف الأسد، فإنما هو كلب من الكلاب، ولا الحيّة، فإنما هى دويبة منتنة تأكل التراب، ولا الجبل فإنه حجر أصمّ، ولا البحر، فإنه عطن بضّ لجب، فمن ليس في شعره شىء من هذا فليدخل، ومن كان في شعره شىء منه فلينصرف، فأبلغهم فانصرفوا كلهم إلا إبراهيم بن هرمة فقال: أنا له يا ربيع فأدخلنى عليه: فأدخله، فلما مثل بين يديه، قال له: يا ربيع قد علمت أنه لا يجيبك غيره فأنشده قصيدته التى منها له لحظات في حفافى سريره ... إذا كرّها فيها عقاب ونائل فأمّ الذى أمّنت آمنة الردى ... وأمّ الذى خوّفت بالثّكل ثاكل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 306 فرفع له السّتر وأقبل عليه وأصغى إليه، فلما فرغ من إنشاده أمر له بعشرة آلآف درهم وقال له: يا إبراهيم، لا تتلفها طمعا في نيل مثلها منّا، فما كلّ وقت تصل إلينا، فقال إبراهيم: ألقاك بها يا أمير المؤمنين يوم القيامة وعليها الجهبذ «1» . ودخل المؤمّل بن أميل على المهدىّ وكان بالرّىّ، وهو إذ ذاك ولىّ عهد أبيه المنصور، فامتدحه بأبيات يقول فيها هو المهدىّ إلا أن فيه ... مشابه صورة القمر المنير تشابه ذا وذا فهما إذا ما ... أنارا يشكلان على البصير فهذا في الضياء سراج عدل ... وهذا في الظلام سراج نور ولكن فضّل الرحمن هذا ... على ذا بالمنابر والسّرير وبعض الشهر يخفى ذا، وهذا ... منير عند نقصان الشهور وجاء منها فإن سبق الكبير فأهل سبق ... له فضل الكبير على الصغير وإن بلغ الصغير مدى كبير ... فقد خلق الصغير من الكبير فأعطاه عشرين ألف درهم، فكتب بذلك صاحب البريد إلى المنصور وهو ببغداد، فكتب الى المهدىّ يلومه ويقول له: إنما كان ينبغى أن تعطى الشاعر إذا أقام ببابك سنة، أربعة آلاف درهم، وأمره أن يوجهه إليه، فطلب فلم يوجد، وتوجه إلى بغداد، فكتب الى المنصور بذلك، فأمر بإرصاده فمسك، وقيل له أنت بغية أمير المؤمنين وطلبته، قال المؤمل: فكاد قلبى ينخلع خوفا وفرقا، ثم أخذ بيدى وانطلق بى إلى الربيع، فأدخلنى على المنصور، وقال: يا أمير المؤمنين، هذا المؤمّل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 307 ابن أميل قد ظفر به، فسلمت عليه، فرد علىّ السلام، فسكن جأشى واطمأن قلبى وزال روعى، ثم قال لى: أتيت غلاما غرّا فخدعته فانخدع، فقلت: يا أمير المؤمنين، إنما أتيت ملكا جوادا كريما، فمدحته فحملته أريحيّته على أن وصلنى وبرّنى، فأعجبه ذلك، ثم قال: أنشدنى ما قلت فيه، فأنشدته، فقال: والله لقد أحسنت، لكن ما يساوى عشرين ألفا، يا ربيع، خذ المال منه، وأعطه منه أربعة آلاف درهم، فلما ولى المهدى الخلافة، قدم عليه المؤمّل، فأخبره بما كان بينه وبين أبيه، فضحك وردّ عليه ما أخذ منه. وحكى ابن حمدون في كتابه المترجم بالتذكرة: أن المنصور حجّ في بعض السنين فحدا به سالم الحادى يوما بقول الشاعر أبلج بين حاجبيه نوره ... إذا تغدّى رفعت ستوره يزينه حياؤه وخيره ... ومسكه يشوبه كافوره فطرب المنصور حتى ضرب برجله المحمل، ثم قال: يا ربيع، أعطه نصف درهم، فقال سالم: لا غير، يا أمير المؤمنين، والله لقد حدوت بهشام بن عبد الملك فأمر لى بثلاثين ألف درهم، فقال المنصور: ما كان له أن يعطيك من بيت المال ما ذكرت، يا ربيع! وكلّ به من يستخرج منه هذا المال، قال الربيع: فما زلت أسفر بينهما حتى شرط عليه أن يحدو به في خروجه ورجوعه بغير مؤنة، وكان سالم هذا يورد الإبل لثمان ولتسع ولعشر، فيحدو لها فيلهيها حدوه عن ورود الماء. ومن طريق ما حكى عنه: أن عبيد الله بن زياد الحارثىّ، كتب إليه رقعة بليغة يستميحه فيها، فوقّع عليها: إن الغنى والبلاغة إذا اجتمعا لرجل أبطره، وإن أمير المؤمنين مشفق عليك، فاكتف بالبلاغة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 308 وقد ذمّ الشعراء البخل وهجوا من اتصف به، فمن ذلك، وهو أبلغ ما قاله محدث، قول ابن الرومى الحابس الروث في أعفاج بغلته ... خوفا على الحبّ من لقط العصافير وقال العسكرىّ: أبلغ ما قيل في البخل، قول ابن الرومىّ يقتّر عيسى على نفسه ... وليس بباق ولا خالد فلو يستطيع لتقتيره ... تنفّس من منخر واحد رضيت لتشتيت أمواله ... يدى وارث ليس بالحامد وقال أبو تمام صدّق أليّته إن قال مجتهدا ... لا والرّغيف فذاك البرّ من قسمه وإن هممت به فافتك بخبزته ... فإن موقعها من لحمه ودمه قد كان يعجبنى لو كان غيرته ... على جرادقه كانت على حرمه وقال دعبل استبق ودّ أبى المقا ... تل حين تأكل من طعامه سيّان كسر رغيفه ... أو كسر عظم من عظامه وتراه من خوف النزيل ... به يروّع في منامه وقال أبو هلال العسكرىّ خبز الأمير عشيقه ... يغدو عليه يلاعبه وإذا بدا لجليسه ... أفضى إليه يعاتبه وتحوطه حرّاسه ... وتذبّ عنه كتائبه فالزّور يصفع عنده ... والضيف ينتف شاربه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 309 وقال آخر فتى لرغيفه قرط وشنف ... وإكليلان من درّ وشذر إذا كسر الرغيف بكى عليه ... بكا الخنساء إذ فجعت بصخر ودون رغيفه قلع الثنايا ... وحرب مثل وقعة يوم بدر وقال آخر إن هذا الفتى يصون رغيفا ... ما إليه لآكل من سبيل هو في سفرتين من أدم الطا ... ئف في سلّتين من زنبيل ختمت كلّ سلّة برصاص ... وسيور قددن من جلد فيل فى جراب في جوف تابوت موسى ... والمفاتيح عند ميكائيل وقال العسكرىّ قلّ خير ابن قاسم ... فغناه كعدمه كادمن خشية القرى ... يختبى في حر امه جاز في اللؤم حدّه ... كأبيه وعمه كاد يعديك لؤمه ... لو تسمّيت باسمه وقال ايضا لك برمة نزّهتها ... من أن تدنّس بالدّسم بيضاء يشرق نورها ... كالبدر في غسق الظّلم لو كان عرضك مثلها ... كنت الممدّح في الأمم أو كان فعلمك مثل قو ... لك كنت تاريخ الكرم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 310 وقال أيضا ضفت عمرا فجاءنى برغيف ... زادنى أكله على الجوع جوعا ثم ولىّ يقول وهو كئيب: ... لهف نفسى على رغيف أضيعا كان خدّاعة الضيوف ولكن ... ربما أصبح الخدوع خديعا كنت أنزلته محلّا رفيعا ... فغدا ذلك الرفيع وضيعا عجبا منه إذ أبيح حماه ... كيف لم يمتنع وكان منيعا وقال آخر أرى ضيفك في الدر ... وكرب الموت يغشاه على خبزك مكتوب: «فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ» وقال بشّار وضيف عمرو وعمرو يسهران معا ... عمرو لبطنته والضيف للجوع وقال آخر نوالك دونه خرط القتاد ... وخبزك كالثّريا في البعاد ولو أبصرت ضيفا في منام ... لحرّمت المنام الى التّنادى أرى عمر الرغيف يطول جدّا ... لديك كأنّه من قوم عاد وما أهجوك أنك كفء شعرى ... ولكنّى هجوتك للكساد وقال العسكرىّ قد كان للمال ربّا ... فصار بالبخل عبده وصحّف الصّيف ضيفا فراح يلطم خدّه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 311 وقال أبو نواس في إسماعيل بن نوبخت. بعد أن نصب إسماعيل في صحن داره طارمة، واصطبح فيها أربعين يوما ومعه جماعة، منهم أبو نواس، فبلغت نفقته اربعين ألف درهم، ثم قال بعد ذلك خبز إسماعيل كالوشى ... إذا ما شقّ يرفا عجبا من أثر الصنعة ... فيه كيف تخفى؟ إنّ رفّاءك هذا ... ألطف الأمة كفّا فإذا ألصق بالنصف ... من الجردق نصفا الطف الصنعة حتّى ... ما ترى مطعن إشفى «1» مثل ما جاء من التّنّور ... ما غادر حرفا وله في الماء أيضا ... عمل أبدع ظرفا مزجه العذب بماء البئر ... كى يزداد ضعفا فهو لا يسقيك منه ... مثل ما يشرب صرفا وقال فيه على خبز إسماعيل واقية البخل ... فقد حلّ في دار الأمان من الأكل وما خبزه إلا كعنقاء مغرب ... يصوّر في بسط الملوك وفي المثل يحدّث عنها الناس من غير رؤية ... سوى صورة ما إن تمرّ ولا تحلى وما خبزه إلا كآوى يرى ابنه ... ولم ير آوى في الحزون وفي السّهل وما خبزه إلا كليب بن وائل ... ليالى «2» يحمى عزّه منبت البقل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 312 وإذ هو لا يستبّ خصمان عنده ... ولا الصوت مرفوع بجدّ ولا هزل فإن خبز إسماعيل حلّ به الذى ... أصاب كليبا لم يكن ذاك عن ذلّ ولكن قضاء ليس يسطاع ردّه ... بحيلة ذى مكر ولا دهي ذى عقل وقال ابن الرومىّ بخيل يصوّم أضيافه ... ويبخل عنهم بأجر الصيام بدسّ الغلام فيوليهم ... هوانا فيشتم مولى الغلام فهم مفطرون وهم صائمون ... وما يطعمون وهم في أثام فيحتال بخلا لأن يفطرون ... على رفث القول دون الطّعام وقال أحمد بن كشاجم صديق لنا من أبرع الناس في البخل ... وأفضلهم فيه وليس بذى فضل دعانى كما يدعو الصديق صديقه ... فجئت كما يأتى إلى مثله مثلى فلما جلسنا للطعام رأيته ... يرى أنه من بعض أعضائه أكلى ويغتاظ أحيانا ويشتم عبده ... وأعلم أن الغيظ والشتم من أجلى فأقبلت أستلّ الغداء مخافة ... وألحاظ عينيه رقيب على فعلى أمدّ يدى سرا لأسرق لقمة ... فيلحظنى شزرا فأعبث بالبقل إلى أن جنت كفّى لحتفى جناية ... وذلك أن الجوع أعدمنى عقلى فجرّت يدى للحين رجل دجاجة ... فجرّت كما جرّت يدى رجلها رجلى وقدّم من بعد الطعام حلاوة ... فلم أستطع فيها أمرّ ولا أحلى وقمت لو انّى كنت بيّت نيّة ... ربحت ثواب الصوم مع عدم الأكل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 313 وقال آخر تراهم خشية الأضياف خرسا ... يقيمون الصلاة بلا أذان احتجاج البخلاء وتحسينهم للبخل على قبحه قالت الحكماء: لتكن عنايتك بحفظ ما اكتسبته، كعنايتك باكتسابه. وقال أبو الأسود الدؤلىّ لبنيه: لا تجاودوا الله، فإنه أكرم وأجود، ولو شاء أن يغنى الناس كلّهم لفعل، ولكنه علم أن قوما لا يصلحهم ولا يصلح لهم إلا الفقر، وقوما لا يصلحهم ولا يصلح لهم إلا الغنى. وقال رجل من تغلب: أتيت رجلا من كندة أسأله، فقال: يا أخا بنى تغلب، إنّى لن أصلك حتّى أحرم من هو أقرب إلى منك، وإنه لم يبق من مالى وعرضى واهلى إلا ما منعته من الناس. وقيل: إن لقمان الحكيم، قال لابنه: يا بنىّ، أوصيك باثنتين لن تزال بخير ما تمسكت بهما: درهمك لمعاشك، ودينك لمعادك. وقال أبو الأسود: إمساكك ما تبذل، خير من طلبك ما يبذل غيرك، وأنشد يلوموننى في البخل جهلا وضلّة ... وللبخل خير من سؤال بخيل ونظيره قول المتلمّس وحبس المال أيسر من بغاه ... وضرب في البلاد بغير زاد وإصلاح القليل يزيد فيه ... ولا يبقى الكثير مع الفساد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 314 وقال الجاحظ: قلت للحزامىّ: يا بخيل! قال: لا أعدمنى الله هذا الاسم، لأنه لا يقال لى: بخيل إلا وأنا ذو مال فسلّم لى المال، وسمّنى بأىّ اسم شئت، قلت: ولا يقال لك: سخىّ، إلا وأنت ذو مال، فقد جمع الله لهذا الاسم المال والحمد، وجمع لذاك المال والذّمّ، فقال: بينهما فرق عجيب، وبون بعيد، إن في قولهم: بخيل، سببا لمكث المال في ملكى، وفي قولهم: سخىّ، سببا لخروجه عن ملكى، واسم البخل فيه حزم وذمّ واسم السخاء فيه تضييع وحمد، وما أقلّ غناء الحمد عنه إذا جاع بطنه وعرى ظهره وضاع عياله وشمت به عدوّه. وقال محمد بن الجهم: من شأن من استغنى عنك، أن لا يقيم عليك، ومن احتاج إليك أن لا يزول من عندك، ومن حبّك لصديقك وضنّك بمودّته أن لا تبذل له ما يغنيه عنك، وأن تتلطف له فيما يحوجه إليك. وقد قيل في مثل هذا: «أجع كلبك يتبعك، وسمّنه يأكلك» ، فمن أغنى صديقه فقد أعانه على الغدر، وقطع أسباب الشكر، والمعين على الغدر شريك للغادر، كما أن المزيّن للفجور شريك للفاجر. وقال أبو حنيفة: لا خير فيمن لا يصون ماله ليصون به عرضه، ويصل به رحمه ويستغنى به عن لئام الناس. قال عبد الله بن المعتز أعاذل ليس البخل منّى سجيّة ... ولكن وجدت الفقر شرّ سبيل لموت الفتى خير من البخل للفتى ... وللبخل خير من سؤال بخيل وكان داود بن علىّ يقول: لأن يترك الرجل ماله لأعدائه، خير من الحاجة في حياته لأوليائه؛ قال الشاعر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 315 مال يخلّفه الفتى ... للشامتين من العدا خير له من قصده ... إخوانه مسيرفدا وقال سفيان الثّورىّ: لأن أخلّف عشرة آلاف درهم أحاسب عليها، أحب إلىّ من أن أحتاج إلى الناس؛ وقال: كان المال فيما مضى يكره، وأما اليوم فهو يزين المؤمن؛ وجاءه رجل فقال له: يا أبا عبد الله، تمسك هذه الدنانير! فقال: اسكت، فلولاها لتمندلتنا هؤلاء الملوك، ولكن من كان في يده منها شىء فليصلحه، فإنه زمان من احتاج فيه كان أوّل ما يبذل دينه. وقال المنصور لمحمد بن مروان التميمىّ: إنك لسيد لولا جمود فيك، فقال: يا أمير المؤمنين، إنى لأجمد في الحق، ولا أذوب في الباطل. وكان محمد بن الجهم يقول: من وهب من عمله، فهو أحمق، ومن وهب بعد العزل، فهو مجنون، ومن وهب من جوائز ملوكه أو ميراثه، فهو مخذول، ومن وهب من كسبه وما استفاده بحيلة، فهو المطبوع على قلبه، المأخوذ ببصره وسمعه. وسأل رجل زياد بن أبيه، فأعطاه درهما، فقال: صاحب العراقين أسأله فيعطينى درهما؟ فقال له زياد: من بيده خزائن السموات والأرض ربما رزق أخصّ عباده عنده وأكرمهم لديه التمرة واللقمة، وما يكبر عندى أن أصل رجلا بمائة ألف درهم، ولا يصغر أن أعطى سائلا رغيفا، إن كان ربّ العالمين فعل ذلك. قال الشاعر يا ربّ جود جرّ فقر امرىء ... فقام للناس مقام الذليل فاشدد عرى مالك واستبقه ... فالبخل خير من سؤال البخيل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 316 وقال الشريف بن الهبّاريّة لأصوننّ درهمى ... فهو لا شكّ صائنى لم يعنّى ابن والدى ... وصحيحى أعاننى وقال أيضا لله درّ دراهمى ... فهى التى أعلت مكانى لولا الغنى عن صاحبى ... لأحلّنى دار الهوان وقال آخر كن بما أوتيته مغتبطا ... تستدم عيش القنوع المكتفى إن في نيل المنى وشك الرّدى ... واجتناب القصد عين السّرف كسراج دهنه قوت له ... فإذا غرّقته فيه طفى ومن ذلك رسالة كتبها سهل بن هارون، وقد عيب عليه أمور من البخل، فاعتذر عنها واحتجّ فقال: أصلح الله أمركم، وجمع شملكم، وعلمكم الخير، وجعلكم من أهله، قال الأحنف بن قيس: يا بنى تميم، لا تسرعوا إلى الفتنة، فإن أسرع الناس إلى القتال، أقلّهم حياء من الفرار، وكانوا يقولون: إذا أردت أن ترى العيوب جمّة، فتأمّل عيّابا فإنه يعيب الناس بفضل ما فيه من العيب، ومن أعيب العيب أن تعيب ما ليس بعيب، وقبيح أن تنهى مرشدا أو تغرى مشفقا، وما أريد بما قلت إلا هدايتكم وتقويمكم وصلاح فسادكم، وإبقاء النعمة عليكم، ولئن أخطأنا سبيل إرشادكم، فما أخطأنا سبيل حسن النية فيما بيننا وبينكم، ثم قد تعلمون أنا ما أوصيناكم إلا بما اخترناه لأنفسنا قبلكم، وشهرنا به في الآفاق دونكم، ثم نقول في ذلك ما قال العبد الصالح لقومه: (وَما أُرِيدُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 317 أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) فما كان أحقّكم في كريم حرمتنا بكم أن ترعوا حقّ قصدنا بذلك إليكم، على ما رعيناه من واجب حقّكم، فلا العذر المبسوط بلغتم، ولا بواجب الحرمة قمتم، ولو كان ذكر العيوب برّا وفخرا، لرأينا في أنفسنا عن ذلك شغلا، عبتمونى بقولى لخادمى: أجيدى العجين فيكون أطيب لطعمه، وأزيد في ريعه، وقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: أملكوا العجين فإنه أحد الريعين، وعبتمونى حين ختمت على سلّ عظيم، وفيه شىء ثمين من فاكهة نفيسة، ومن رطبة غريبة، على عبدنهم، وصبىّ جشع، وأمة لكعاء، وزوجة مضيعة، وليس بين أهل الأدب، ولا في ترتيب الحكم، ولا في عادات القادة، ولا في تدبير السادة، أن يستوى- فى نفيس المأكول، وغريب المشروب، وثمين الملبوس، وخطير المركوب- التابع والمتبوع، والسيد والمسود، كما لا تستوى مواضعهم في المجالس، ومواقع أسمائهم فى العنوانات، ومن شاء أطعم كلبه الدّجاجة السمينة، وعلف حماره السّمسم المقشّر، وعبتمونى بالختم، وقد ختم بعض الأئمة على مدّ سويق، وختم على كيس فارغ، وقال طينة خير من ظنّة، فأمسكتم عمن ختم على لا شىء، وعبتم على من ختم على شىء، وعبتمونى أيضا، أن قلت للغلام: إذا زدت في المرق، فزد في الإنضاج، ليجتمع مع التأدّم باللحم طيب المرق، وقال النبىّ صلّى الله عليه وسلم: «إذا طبخ أحدكم لحما، فليزد من الماء، فمن لم يصب لحما أصاب مرقا،» وعبتمونى بخصف النعل، وبتصدير القميص، وحين زعمت أن المخصوفة من النعل أبقى وأقوى وأشبه بالنّسك، وأن الترقيع من الحزم، والتفريق من التضييع، والاجتماع مع الحفظ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 318 وقد كان النبىّ صلّى الله عليه وسلم يخصف نعله، ويرقّع ثوبه، ويلطع أصابعه، ويقول: «لو أهدى إلىّ كراع لقبلت، ولو دعيت إلى ذراع لأجبت» وقال صلّى الله عليه وسلم «من لم يستحى من الخلال، خفت مؤنته، وقلّ كبره» . وقالت الحكماء: لا جديد لمن لم يلبس الخلق، وبعث زياد رجلا يرتاد له محدّثا، واشترط عليه أن يكون عاقلا، فأتاه به موافقا، فقال له: أكنت به ذا معرفة؟ قال: لا، ولكنّى رأيته في يوم قائظ، يلبس خلقا، ويلبس الناس جديدا، فتفرّست فيه العقل والأدب، وقد علمت أن الخلق في موضعه، مثل الجديد في موضعه، وقد جعل الله لكل شىء قدرا، وسمى له موضعا، كما جعل لكل زمان حالا، ولكل مقام مقالا، وقد أحيا الله بالسّم، وأمات بالغذاء، وأغصّ بالماء، وقتل بالدواء، وقد زعموا أن الإصلاح أحد الكاسبين، كما زعموا أن قلّة العيال أحد اليسارين، وقد جبر الأحنف بن قيس يد عنز وأمر مالك بن أنس بفرك البعر، وقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: من أكل بيضة فقد أكل دجاجة، ولبس سالم بن عبد الله جلد أضحية، وقال رجل لبعض الحكماء: أريد أن أهدى لك دجاجة، قال: إن كان لا بدّ، فاجعلها بيوضا، وعبتمونى حين قلت: من لم يعرف مواضع السّرف في الموجود الرخيص لم يعرف مواضع الاقتصاد في الممتنع الغالى، وقد أتيت بماء للوضوء على مبلغ الكفاية، وأشفّ من الكفاية، فلما صرت الى تفريق أجزائه على الأعضاء، وإلى التوفير عليها من وظيفة الماء، وجدت في الأعضاء فضلا عن الماء، فعلمت أن لو كنت مكّنت الاقتصاد في أوائله لخرج أوّله على كفاية آخره، ولكان نصيب الأوّل كنصيب الآخر، فعبتمونى بذلك وشنعتموه علىّ، وقد قال الحسن وذكر السرف: أما إنه ليكون في الماء والكلا، فلم يرض الجزء: 3 ¦ الصفحة: 319 بذكر الماء حتى أردفه بالكلا، وعبتمونى انى قلت: لا يغترّن أحد بطول عمره، وتقويس ظهره، ورقة عظمه، ووهن قوّته، وأن برى دخله أكثر من رزقه فيدعوه ذلك الى إخراج ماله من يده، وتحويله إلى ملك غيره، أو تحكيم السرف فيه، وتسليط الشهوات عليه، فلعلّه أن يكون معمّرا وهو لا يدرى وممدودا له في السن وهو لا يشعر، ولعلّه أن يرزق الولد على اليأس، وتحدث عليه آفات الكبر ما لا يخطر على باله، ولا يدركه عقله، فيستردّه ممن لا يردّه، ويظهر الشكوى إلى من لا يرحمه، أضعف ما كان عن الطلب، وأقبح ما كان له أن يطلب، فعبتمونى بذلك، وقال عمرو بن العاص: اعمل لدنياك عمل من يعيش أبدا، واعمل لآخرتك عمل من يموت غدا، وعبتمونى بأن قلت: إن التلف والتبذير إلى مال المواريث، وأموال الملوك، وإن الحفظ الى المال المكتسب، والغنى المجتلب، والى ما يعرض فيه بذهاب الدين، واهتضام العرض، ونصب البدن، واهتمام القلب أسرع، ومن لم يحسب نفقته لم يحسب دخله، ومن لم يحسب الدخل فقد أضاع المال، ومن لم يعرف للغنى قدره فقد أذن بالفقر، وطاب نفسا بالذلّ، وعبتمونى بأن زعمت أن كسب الحلال، مضمّن بالإنفاق في الحلال، وأن الخبيث ينزع إلى الخبيث، وأن الطيّب يدعو إلى الطيّب، وأن الإنفاق في الهوى، حجاب دون الحقوق، وأن الإنفاق في الحقوق حجاب دون الهوى، فعبتم علىّ هذا القول، وقد قال معاوية بن أبى سفيان: لم أر تبذيرا قطّ، إلا وإلى جنبه حقّ مضيّع، وقال الحسن: إذا أردتم أن تعرفوا من أين أصاب الرجل ماله، فانظروا في أىّ شىء ينفقه، فإن الخبيث إنما ينفق في السرف، وقلت لكم بالشفقة عليكم، وحسن النظر منّى إليكم، أنتم في دار الآفات، والجوائح غير مأمونات، فإن أحاطت بمال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 320 أحدكم آفة، لم يرجع إلى ثقة، فاحذروا النّقم، باختلاف الأمكنة، فإن البلية لا تجرى فى الجميع، وقد قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه في العبد، والأمة، والشاة، والبعير: فرّقوا بين المنايا، واجعلوا الرأس رأسين، وقال ابن سيرين [لبعض البحريين «1» ] : كيف تصنعون في أموالكم؟ قالوا: نفرّقها في السفن، فإن عطب بعض، سلم بعض، ولولا أن السلامة أكثر، ما حملنا أموالنا في البحر، فقال ابن سيرين: تحسبها خرقاء وهى صناع، وعبتمونى بأن قلت لكم عند إشفاقى عليكم: إن للغنى سكرا، والمال نزوة، فمن لم يحفظ الغنى من سكره، فقد أضاعه، ومن لم يرتبط المال لخوف الفقر فقد أهمله، فعبتمونى بذلك، وقد قال زيد بن جبلة: ليس أحد أقصر عقلا، من غنىّ أمن الفقر، وسكر الغنى أشدّ من سكر الخمر، وقد قال الشاعر في يحيى ابن خالد وهو تلاد المال فيما ينوبه ... منوع إذا ما منعه كان أحزما وعبتمونى حين زعمتم، أنّى أقدّم المال على العلم، لأن المال به يفاد العلم، وبه تقوم النفس، قبل أن يعرف فضل العلم؛ فهو أصل، والأصل أحقّ بالتفضيل من الفرع، فقلتم، كيف هذا؟ وقد قيل لبعض الحكماء: الأغنياء أفضل أم العلماء؟ فقال: العلماء، قيل له: فما بال العلماء يأتون أبواب الأغنياء، أكثر مما يأتى الأغنياء أبواب العلماء؟ قال: ذلك لمعرفة العلماء بحقّ المال، وجهل الأغنياء بحقّ العلم، فقلت: حالهما هى القاضية بينهما، وكيف يستوى شىء حاجة العلماء إليه، وشىء يغنى فيه بعضهم عن بعض، وكان النبىّ صلّى الله عليه وسلم يأمر الأغنياء باتّخاذ الغنم، والفقراء باتّخاذ الدّجاج، وقال أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه: إنى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 321 لأبغض أهل البيت ينفقون نفقة الأيام في اليوم الواحد، وكان أبو الأسود الدّؤلىّ يقول لولده: إذا بسط الله لك في الرزق فابسط، وإذا قبض فاقبض، وعبتمونى حين قلت: إن فضل الغنى عن القوت، إنّما هو كفضل الآلة تكون في البيت، إن احتيج إليها استعملت، وإن استغنى عنها كانت عدّة، وقد قال الحصين بن المنذر: وددت أن لى مثل أحد ذهبا لا أنتفع منه بشىء، قيل له: فما كنت تصنع به؟ قال: لكثرة من كان يخدمنى عليه، لأن المال مخدوم، وقال بعض الحكماء: عليك بطلب الغنى، فلو لم يكن فيه إلا أنه عزّ في قلبك، وذلّ في قلب عدوّك، لكان الحظّ فيه جسيما، والنفع عظيما، ولسنا ندع سيرة الأنبياء، وتأدّب الخلفاء، وتعليم الحكماء، لأصحاب الهوى، فلستم علىّ تردّون، ولا رأيى تفنّدون، فقدّموا النظر قبل العزم، وأدركوا ما عليكم من قبل أن تدركوا مالكم، والسلام. ومن نوادر البخلاء، قال رجل لبعض البخلاء: لم لا تدعونى إلى طعامك؟ قال: لأنك جيّد المضغ سريع البلع، إذا أكلت لقمة هيّأت أخرى، قال: يا أخى أتريد إذا أكلت عندك أن أصلّى ركعتين بين كلّ لقمتين؟. وقال آخر لبخيل: لم لا تدعونى إلى طعامك؟ قال: لأنك تعلّق، وتشدّق، وتحدق، أى تحمل واحدة في يدك، وأخرى في شدقك، وتنظر إلى الأخرى بعينك. وقال بعض البخلاء: أنا لا آكل إلا نصف الليل، قيل له: ولم؟ قال يبرد الماء، وينقمع الذّباب، وآمن فجأة الداخل، وصرخة السائل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 322 وطبخ بعض البخلاء قدرا، وجلس يأكل مع زوجته فقال: ما أطيب هذا الطعام! لولا كثرة الزّحام، فقالت: وأىّ زحام وما ثمّ إلا أنا وأنت؟ قال: كنت أحبّ أن أكون أنا والقدر. وقال بعض البخلاء لغلامه: هات الطعام، وأغلق الباب، فقال: يا مولاى، ليس هذا بحزم، وإنّما أغلق الباب، وأقدّم الطعام، فقال له: أنت حرّ لوجه الله. وعزم بعض إخوان أشعب عليه ليأكل عنده، فقال: إنّى أخاف من ثقيل يأكل معنا فينغّص لذّتنا، فقال: ليس عندى إلا ما تحبّ فمضى معه فبينما هما يأكلان، إذا بالباب قد طرق، فقال أشعب: ما أرانا إلا صرنا لما نكره، فقال صاحب المنزل: إنه صديق لى، وفيه عشر خصال، إن كرهت منها واحدة لم آذن له، فقال اشعب: هات، قال: أوّلها، أنه لا يأكل ولا يشرب، فقال: التسع لك ودعه يدخل، فقد أمنّا منه ما نخافه. ذكر ما قيل في التطفيل ويتصل به أخبار الأكلة والمؤاكلة والتطفيل من اللؤم، وهو التعرّض إلى الطعام، من غير أن يدعى إليه، وسنذكر تلو هذا الفصل آداب الأكل، والمؤاكلة، والاقتصاد في المطاعم، والعفّة عنها، وما يجرى هذا المجرى، وإن كان خارجا عنه، وإنما الشىء يذكر بالشىء، والعرب تقول للطفيلىّ: الوارش، والراشن، قيل: هو مشتق من الطّفل، وهو الظلمة لأن الفقير من العرب كان يحضر الطعام الذى لم يدع إليه مستترا بالظلمة، لئلا يعرف. وقيل: سمّى بذلك، لإظلام أمره على الناس، لا يدرى من دعاه. وقيل: بل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 323 من الطّفل لهجومه على الناس كهجوم الليل على النهار، فيكون من الظلمة، ولذلك قيل: «أطفل من ليل على نهار» ، وأوّل من سمى بهذا الاسم: طفيل العرائس، وإليه ينسب الطّفيليّون، وكان يقول لأصحابه: إذا دخل أحدكم عرسا، فلا يلتفت تلفّت المريب، ويتخيّر المجالس، وإن كان العرس كثير الزحام، فليمض ولا ينظر في عيون الناس، ليظنّ أهل المرأة أنه من أهل الرجل، ويظنّ أهل الرجل أنه من أهل المرأة، وإن كان البوّاب غليظا فاحشا، فليبدأ به، ويأمره وينهاه من غير أن يعنّف عليه، ولكن بين النصيحة والإدلال. وأشهر من نسب إليه هذا الاسم، وكثرت عنه الحكايات، بنان الطّفيلىّ، وهو عبد الله بن عثمان، ويكنى أبا الحسن، ولقبه بنان، وأصله مروزىّ وأقام ببغداد، وكان نقش خاتمه، «مالكم لا تأكلون» . حكى أن رجلا سأله أن يدعو له، فقال: اللهم ارزقه صحة الجسم وكثرة الأكل، ودوام الشهوة، ونقاء المعدة، وأمتعه بضرس طحون، ومعدة هضوم، مع السعة والدّعة، والأمن والعافية؛ وقال يوصى بعض أصحابه: إذا قعدت على مائدة وكان موضعك ضيّقا فقل للذى يليك: لعلى ضيقت عليك فإنه يتأخر إلى خلف، ويقول: موضعى واسع، فيتسع عليك موضع رجل؛ وقال له طفيلىّ: أوصنى، فقال: لا تصادفنّ من الطعام شيئا، فترفع يدك عنه وتقول: لعلّى أصادف ما هو أطيب منه، فإن هذا عجز ووهن، قال: زدنى، قال: إذا وجدت خبزا فيه قلّة، فكل الحروف، فإن كان كثيرا فكل الأوساط، قال: زدنى، قال: لا تكثر شرب الماء وأنت تأكل، فإنه يصدّك عن الأكل، ويمنعك من أن تستوفى، قال: زدنى، قال: إذا وجدت الطعام، فكل منه أكل من لم يره قط، وتزوّد منه زاد من لا يراه أبدا، قال: زدنى، قال: إذا وجدت الطعام، فاجعله زادك إلى الله تعالى، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 324 وقال: إذا دعاك صديق لك، فاقعد يمنة البيت فإنّك ترى ما تحبّ، وتسودهم في كلّ شىء، وتسبقهم إلى كلّ خير، وأنت أوّل من يغسل يده والمنديل جافّ، والماء واسع، والخوان بين يديك يوضع، والنبيذ أوّل القنيّنة ورأسها تشربه، والنقل منتخب، يوضع بين يديك، وتكون أوّل من يتبخّر، فإذا أردت أن تقوم لحاجة لم تحتج أن تتخطّاهم، وأنت في كل سرور الى أن تنصرف. قال البديع الهمذانىّ في طفيليّين يشبههم ببنان خلفتم بنانا فكم من أديب ... من الغيظ عضّ عليكم بنانا إذا ما النهار بدا ضوءه ... غدوتم خماصا ورحتم بطانا ومنهم: عثمان بن درّاج، قيل له: كيف تصنع إذا لم يدخلك أهل العرس؟ قال: أنوح على الباب، فيتطيّرون فيدخلوننى. وحكى أبو الفرج الأصفهانى: أن عثمان هذا، كان يلزم سعيد بن عبد الكريم الخطابىّ أحد ولد زيد بن الخطاب، فقال له: ويحك! إنى أبخل بأدبك وعلمك، وأضنّ بك عما أنت فيه من التطفيل ولى وظيفة راتبة في كلّ يوم، فالزمنى وكن مدعوّا، أصلح لك مما تفعل، فقال: يرحمك الله فأين لذّة الجديد، وطيب التنقل كل يوم إلى مكان؟ وأين هو يناك ووظيفتك من احتفال العرس؟ وأين ألوانك من ألوان الوليمة؟ قال: فأما إذا ثبت ذاك: فإذا ضاقت عليك المذاهب فأتنى قال: أمّا هذا فنعم؛ قال: وقال له رجل: ما هذه الصّفرة التى في لونك؟ قال: من الفترة التى بين القصعتين، ومن خوفى في كل يوم من نفاد الطعام قبل أن أشبع؛ وقيل له مرة: هل تعرف بستان فلان؟ فقال: إى والله، وإنه للجنة الحاضرة في الدنيا، قيل له: فلم لا تدخل اليه فتأكل من ثماره، وتقيل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 325 تحت أشجاره، وتسبح في أنهاره؟ قال: لأن فيه كلبا لا يتمضمض إلا بدماء عراقيب الرجال، وعثمان هذا الذى يقول لذّة التطفيل دومى ... وأقيمى لا تريمى أنت تشفين غليلى ... وتسلّين همومى ولهم أخبار وحكايات، منها: ما نقل عن نصر بن علىّ الجهضمىّ أنه قال: كان لى جار طفيلىّ، إذا دعيت إلى مدعاة ركب معى وجلس حيث أجلس، فيأكل وينصرف، وكان نظيفا عطرا، حسن اللباس والمركب، وكنت لا أعرف من أمره إلا الظاهر، فاتفق لجعفر بن القاسم الهاشمىّ حقّ دعا له أشراف البصرة ووجوهها، وهو يومئذ أمير البصرة، فقلت في نفسى: إن تبعنى هذا الرجل إلى دار الأمير لأخزيته، فلما كان يوم الحضور، جاءنى الرسول، فركبت، وإذا به قد تبعنى حتى دخل بدخولى، وارتفع حيث أجلست، فلما حضرنا الطعام، قلت: حدّثنا درست ابن زياد عن أبان بن طارق عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من دخل إلى دار قوم بغير إذنهم، دخل سارقا، وخرج مغيرا، ومن دعى ولم يجب فقد عصى الله ورسوله» ، فظننت أنى قد أشرفت على الرجل وقصّرت من لسانه، فأقبل علىّ وقال: أعيذك بالله من هذا الكلام في دار الأمير، فإن الأشراف لا يحتملون التعريض باللؤم، وقد حظر الدين التعريض، وعزّر عليه عمر رضى الله عنه، ووليمة الأمير دعاء لأهل مصره فإنه سليل أهل السقاية، والرفادة، والمطعمين الأفضلين الذين هشموا الثّريد، وأبرزوا الجفان لمن غدا إليها، ثم لا توزع وأنت فى بيت من العلم معروف من أن تحدّث عن درست بن زياد وهو ضعيف عن أبان ابن طارق وهو متروك الحديث بحكم رفعه الله إلى النبىّ صلّى الله عليه وسلم، والمسلمون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 326 على خلافه، لأن حكم السارق القطع، والمغير يعزّر على ما يراه الإمام، وهذان حكمان لا ينفذان على داخل دارا في مجمع فيتناول لقما من فضل الله الذى آتى أهلها ثم لا يحدث حدثا حتى يخرج عنها، وقد قال النبىّ صلّى الله عليه وسلم: «طعام الواحد يكفى الاثنين، وطعام الاثنين يكفى الأربعة» . حدّثنا بذلك أبو عاصم النبيل عن ابن جريح عن أبى الزبير عن جابر عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فأين أنت عن هذا الحديث الصحيح الإسناد والمتن؟ قال نصر: فأصابتنى خجلة شديدة، فلما نظر الرجل إلى ما بى أكل ونهض قلبى، فلما خرجت وجدته واقفا على دابته بالباب، فلما رآنى تبعنى، ولم يكلّمنى ولم أكلّمه، إلا أننى سمعته يتمثل ومن ظنّ ممّن يلاقى الحروب ... بأن لا يصاب فقد ظنّ عجزا وقيل: مرّ طفيلىّ بسكة النّخع بالبصرة على قوم، وعندهم وليمة، فاقتحم عليهم، وأخذ مجلسه مع من دعى، فأنكره صاحب المنزل، فقال له: لو تأنّيت أو وقفت حتّى يؤذن لك، أو يبعث إليك، فقال: إنما اتّخذت البيوت ليدخل إليها، ووضعت الموائد ليؤكل ما عليها، وما وجّهت بهديّة فأتوقع الدعوة، والحشمة قطيعة، واطّراحها صلة، وقد جاء في الأثر: «صل من قطعك، وأعط من حرمك» ، ثم أنشد كلّ يوم أدور في عرصة الدّا ... ر أشمّ القتار «1» شمّ الذّباب فاذا ما رأيت آثار عرس ... أو دخانا أو دعوة الأصحاب لم أعرّج دون التقحّم لا أر ... هب شتما ولكرة البوّاب مستهينا بمن دخلت عليه ... غير مستأذن ولا هيّاب فترانى ألفّ بالرغم منه ... كلّ ما قدّموه لفّ العقاب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 327 ووصف طفيلىّ نفسه فقال نحن قوم إذا دعينا أجبنا ... ومتى ننس يدعنا التطفيل قولنا: علّنا دعينا فغبنا ... أو أتانا فلم يجدنا الرسول وقال آخر نحن قوم نحبّ هدى رسول الله ... هديا به الصواب أصبنا فادعنا كلّما بسطت فإنّا ... لو دعينا إلى كراع أجبنا وقال آخر نحن قوم إن جفا النّا ... س وصلنا من جفانا لا نبالى صاحب الدّا ... ر نسينا أم دعانا وقال آخر وقد أقبل إلى طعام، من غير أن يدعى إليه فقال له صاحب الصنيع: من دعاك؟ فأنشد دعوت نفسى حين لم تدعنى ... فالحمد لى لا لك في الدّعوة وكان ذا أحسن من موعد ... إخلافه يدعو إلى جفوة وقد مدح أبو روح ظفر بن عبد الله الهروىّ طفيليّا ولم يسبق إليه، فقال إنّ الطفيلىّ له حرمة ... زادت على حرمة ندمانى لأنه جاء ولم أدعه ... مبتدئا منه بإحسان ودخل طفيلىّ إلى قوم فقالوا له: ما دعوناك! فما الذى جاء بك؟ فقال: إذا لم تدعونى ولم آت، وقعت وحشة، فضحكوا منه وقرّبوه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 328 وقيل: مرّ طفيلىّ على قوم يتغدّون، فقال: سلام عليكم معشر اللئام، فقالوا: لا والله! بل كرام، فثنى ركبته ونزل، وقال: اللهمّ اجعلهم من الصادقين، واجعلنى من الكاذبين. قال هشام أخوذى الرمّة لرجل أراد سفرا: إن لكل رفقة كلبا يشركهم في فضلة الزاد، فإن استطعت أن لا تكون كلب الرّفاق فافعل. ونظر طفيلىّ إلى قوم من الزنادقة يسار بهم إلى القتل، فظنهم يدعون الى صنيع، فتلطف حتّى دخل في لفيفهم وصار كواحد منهم، فلما بلغوا صاحب الشّرطة، أمر بضرب أعناقهم، فقدّموا واحدا بعد واحد حتّى انتهوا إلى الطفيلىّ فلما قدّم للقتل التفت إلى صاحب الشّرطة، فقال له: إنّى والله ما أنا منهم، ولا أعلم بما يدينون، وإنما أنا طفيلىّ ظننتهم يذهب بهم إلى صنيع، فتلطّفت حتّى دخلت في جملتهم، فقال ليس هذا مما ينجيك، اضربوا عنقه، فقال: أصلحك الله، إن كنت عزمت على قتلى، فأمر السياف أن يضرب بطنى بالسيف، فإنه هو الذى أوقعنى في هذه الورطة، فضحك، وكشف عنه، فأخبر أنه طفيلىّ معروف، فخلّى سبيله. وحكى أن المأمون أمر أن يحمل إليه عشرة من الزنادقة سمّوا له من أهل البصرة، فجمعوا، فأبصرهم طفيلىّ، فقال: ما اجتمعوا إلا لصنيع، فدخل في وسطهم ومضى بهم الموكّلون، حتّى انتهوا إلى زورق قد أعدّلهم، قال الطفيلىّ: هى نزهة، فدخل معهم الزّورق، فلم يكن بأسرع من أن قيّدوا، وقيّد معهم الطفيلىّ، ثم سير بهم إلى بغداد، فأدخلوا على المأمون، فجعل يدعوهم بأسمائهم رجلا رجلا، ويأمر بضرب أعناقهم، حتّى وصل إلى الطفيلىّ، وقد استوفى العدّة، فقال للموكلين: ما هذا؟ قالوا: والله ما ندرى، غير أنّا وجدناه مع القوم، فجئنا به، فقال له المأمون: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 329 ما قصّتك؟ ويلك! فقال يا أمير المؤمنين: امرأتى طالق إن كنت أعرف من أقاويلهم شيئا ولا مما يدينون به وإنما أنا رجل طفيلىّ، رأيتهم مجتمعين، فظننت صنيعا يدعون إليه، فضحك المأمون وقال: يؤدّب، وكان إبراهيم بن المهدىّ قائما على رأس المأمون فقال: يا أمير المؤمنين، هب لى أدبه، وأحدثك بحديث عجيب عن نفسى، قال: قل يا إبراهيم، قال: يا أمير المؤمنين، خرجت من عندك يوما، فطفت في سكك بغداد متطرّفا، حتّى انتهيت إلى موضع كذا، فشممت من قتار أبازير قدور قد فاح، فتاقبت نفسى إليها، وإلى طيب ريحها، فوقفت إلى خياط، فقلت له: لمن هذه الدار؟ فقال: لرجل من التّجار، قلت: ما اسمه؟ قال: فلان بن فلان، فرميت بطرفى إلى الدار، فإذا شبّاك فيها مطلّ، وإذا كفّ قد خرج من الشّبّاك ومعصم، فشغلنى حسن الكفّ والمعصم عن رائحة القدور، فبهتّ ساعة، ثم أدركنى ذهنى، فقلت للخياط: أهو ممّن يشرب النبيذ؟ قال: نعم، وأحسب أن عنده اليوم دعوة، وهو لا ينادم إلا تجّارا مثله مستورين، فإنى لكذلك، إذ أقبل رجلان نبيلان راكبان من رأس الدّرب، فقال لى الخياط: هؤلاء منادماه، فقلت: ما اسماهما وما كناهما؟ فقال: فلان وفلان، فحرّكت دابتى وداخلتهما، وقلت: جعلت فداكما، قد استبطأكما أبو فلان، وسايرتهما حتّى بلغنا الباب فأجلّانى وقدّمانى، فدخلت ودخلا، فلما رآنى صاحب المنزل معهما، لم يشكّ أنى منهما، فرحّب بى وأجلسنى في أفضل المواضع، فجىء يا أمير المؤمنين بمائدة عليها خبز نظيف وأتينا بتلك الألوان، فكان طعمها أطيب من ريحها، فقلت في نفسى: هذه الألوان قد أكلتها، بقيت الكفّ، كيف إلى صاحبتها؟ ثم رفع الطعام، وجىء بالوضوء، ثم صرنا إلى مجلس المنادمة، فإذا أشكل منزل، وجعل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 330 صاحب المنزل يلطف بى، ويميل علىّ بالحديث، حتّى إذا شربنا أقداحا، خرجت علينا جارية، كأنها بدر، تتثنى يا أمير المؤمنين كالخيزران، فأقبلت، وسلّمت غير خجلة وثنيت لها وسادة، فجلست عليها، وأتى بالعود فوضع في حجرها، فجسته فاستبينت حذقها في جسّها، ثم اندفعت تغنّى توهّمها طرفى فأصبح خدّها ... وفيه مكان الوهم من نظرى أثر تصافحها كفّى فتؤلم كفّها ... فمن مسّ كفّى في أناملها عقر فهيّجت يا أمير المؤمنين بلابلى، وطربت لحسن شعرها، ثم اندفعت تغنّى أشرت إليها هل عرفت مودّتى؟ ... فردّت بطرف العين إنى على العهد فحدت عن الإظهار عمدا لسرها ... وحادت عن الإظهار أيضا على عمد فصحت يا أمير المؤمنين، وجاءنى من الطرب ما لم أملك نفسى معه، ثم اندفعت فغنّت الصوت الثالث أليس عجيبا أن بيتا يضمّنى ... وإياك لا نخلو ولا نتكلّم! سوى أعين تشكو الهوى بجفونها ... وتقطيع أكباد على النار تضرم إشارة أفواه وغمز حواجب ... وتكسير أجفان وكفّ تسلّم فحسدتها والله يا أمير المؤمنين على حدقها ومعرفتها بالغناء، وإصابتها لمعنى الشعر، فقلت: بقى عليك يا جارية، فضربت بالعود على الأرض، وقالت: متى كنتم تحضرون مجالسكم البغضاء؟ فندمت على ما كان منّى، ورأيت القوم قد تغيّروانى، فقلت: أما عندكم عود غير هذا؟ قالوا: بلى، فأتيت بعود، فأصلحت من شأنه ثم غنيّت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 331 ما للمنازل لا يجبن حزينا ... أصممن أم قدم البلى فبلينا؟ راحوا العشيّة روحة مذكورة ... إن متن متنا أو حيين حيينا فما استتممته يا أمير المؤمنين، حتّى قامت الجارية، فأكبّت على رجلىّ تقبّلهما، وقالت: معذرة يا سيدى، فو الله ما سمعت أحدا يغنّى هذا الصوت غناءك، وقام مولاها وأهل المجلس، ففعلوا كفعلها، وطرب القوم واستحثّوا الشرب فشربوا، ثم اندفعت أغنّى أفى الحقّ أن تمشى ولا تذكرنّنى ... وقد همعت عيناى من ذكرها الدّما إلى الله أشكو بخلها وسماحتى ... لها عسل منى وتبذل علقما فردّى مصاب القلب أنت قتلته ... ولا تتركيه ذاهل العقل مغرما فطرب القوم حتّى خرجوا من عقولهم، فأمسكت عنهم ساعة حتّى تراجعوا، ثم غنّيت الثالث هذا محبّك مطويّا على كمده ... عبرى مدامعه تجرى على جسده له يد تسأل الرحمن راحته ... مما به ويد أخرى على كبده فجعلت الجارية تصيح: هذا الغناء والله يا سيدى، لا ما كنّا فيه منذ اليوم، وسكر القوم، وكان صاحب المنزل حسن الشرب، صحيح العقل، فأمر غلمانه أن يخرجوهم ويحفظوهم إلى منازلهم، وخلوت معه، فلما شربنا أقداحا، قال: يا سيدى، ذهب ما مضى من أيامى ضياعا، إذ كنت لا أعرفك، فمن أنت؟ ولم يزل يلحّ علىّ، حتّى أخبرته الخبر، فقام وقبّل رأسى، وقال: وأنا أعجب أن يكون هذا الأدب إلا لملك! وإنى لجالس مع الخلافة ولا أشعر، ثمّ سألنى عن قصتى، فأخبرته حتّى بلغت إلى صاحبة الكف والمعصم، فقال للجارية: قومى فقولى لفلانة تنزل، فلم تزل تنزل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 332 جواريه واحدة واحدة، فأنظر إلى كفّها ومعصمها، وأقول: ليس هى هذه! حتّى قال: والله ما بقى غير أختى وأمّى، والله لأنزلهما إليك، فعجبت من كرمه وسعة صدره، فقلت: جعلت فداك، ابدأ بالأخت قبل الأمّ فعسى أن تكون هى، فبرزت، فلما رأيت كفّها ومعصمها، قلت: هى هذه فأمر! غلمانه، فساروا إلى عشرة مشايخ من جلّة جيرانه، فأقبلوا بهم، وأمر ببدرتين فيهما عشرون ألف درهم، ثمّ قال للمشايخ: هذه أختى فلانة، أشهدكم أنى قد زوّجتها من سيدى إبراهيم بن المهدىّ، وأمهرتها عنه عشرين ألف درهم، فرضيت وقبلت النكاح، فدفع إليها بدرة، وفرّق الأخرى على المشايخ وصرفهم، ثم قال: يا سيدى، أمهّد بعض البيوت فتنام فيه مع أهلك، فأحشمنى ما رأيت من كرمه، فقلت: أحضر عماريّة «1» وأحملها إلى منزلى، ففعل، فو الله يا أمير المؤمنين، لقد أتبعها من الجهاز ما ضاقت عنه بيوتنا، فأولدتها هذا القائم على رأس أمير المؤمنين، يشير إلى ولده، فعجب المأمون من كرم الرجل وألحقه في خاصة أهله، وأطلق الطفيلىّ وأجازه. ومن إنشاء المولى الفاضل تاج الدين عبد الباقى بن عبد المجيد اليمانىّ وهو الذى حاز قصبات السبق في فن الأدب على أترابه، وفاز من البلاغة بقدحها المعلّى في عنفوان شبابه، رسالة وضعها في هذا الفنّ، وصار له بها على أهله غاية المنّ، مع نزاهة نفسه الأبيّة، وارتفاعه عن المطاعم الدنية، وإنما وضعها تجربة لخاطره، وضمها إلى فوائد دفاتره، وهى: هذا عهد عهده زارد بن لاقم، لبالع بن هاجم، استفتحه بأن قال: الحمد لله مسهل أوقات اللذّات وميسّرها، وناظم أسباب الخيرات ومكثّرها، وجاعل أسواق الأفراح قائمة على ساق، جابرة لمن ورد إليها بأنواع الإرفاد وأجناس الإرفاق، أحمده الجزء: 3 ¦ الصفحة: 333 على أن أحلّنا في منازل السادات، أرفع الدرجات، وأحلّ لنا من الأطعمة الفائقة الطيّبات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تهدينا إلى المقام الرفيع، وتخصنا بالمحل الجسيم المنيع، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله رب المكارم الجسام، ومعدن الجسارة والإقدام، الجامع بين فضيلتى الطعان والطعام، صلى الله عليه وعلى آله أهل السماحة والكرم والإكرام، صلاة تحلّ قائلها في غرفات الجنان في دار السلام، وبعد، فإن صناعة التطفيل صناعة مهوبة، وحرفة هى عند الظرفاء محبوبة، لا يلبس شعارها إلا كلّ مقدام، ولا يرفع خافق علمها إلا من عدّ في حرفته من الأعلام، ولا يتلو أساطير شهامتها إلا من ارتضع أفاويق الصّفاقة، ولا يهتدى لمنار علائها إلا من نزع عن منكبيه رداء الرّقاعة والحماقة، وكنت والفود غدافىّ الإهاب، والغصن ريّان من ماء الشباب، والقدّ يميس في حلّة النشاط، والقدم تذرع الأرض ذرع الاختباط، لا يقام سوق وليمة إلا وأنا الساعى إليها، ولا ترفع أعلام نار مأدبة إلا وكنت الواقف لديها، أتخذ الدروب شباكا للاصطياد، وحبائل أبلغ بها لذيذ الازدراد، قد جعلت المعطس حليف الهواء، والقلب نزيل الأهواء، فحيث عبقت روائح الأبازير من أعالى تلك القصور، وتمندلت تلك الشوارع بزعفران البرم والقدور، ألقيت عصا المسير على الباب، وخلبت بحسن أدبى قلب البواب، وأوسعت في وصولى ألف حيله، وجعلتها على ما عندى من حسن فنونها مخيله، فلا دعوة، إلا وكنت عليهم دعوة، ولا وليمة ختان، إلا وقد طلعت على أرجائها مثل الجان، ولا سماط تأنيب، إلا وكنت إليه الساعى المنيب، ولا مجمع ضيافة، إلا وكنت عليه أشد آفة، ولا ملاك عرس مشهود، إلا وانتظمت في سلك الشهود، يحسن فيّ قول القائل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 334 لو طبخت قدر بمطمورة ... موقدها الشام وأعلى الثغور وأنت في الصين لوافيتها ... يا عالم الغيب بما في القدور واليوم قد مال القويم إلى الاعوجاج، وعزّ بازى الشيب غراب الشّعر الدّاج، وقيّد الزمن أقداما، ومنعت الشيخوخة إقداما، وصرت لحما على وضم، بعد أن كنت نارا على علم، وقد أفادتنى التّجربة من هذه الصناعة فنونا، وتلت علىّ من محاسنها متونا، وقد أبقيت لكل مجمع بابا، وفذلكت لكل مشهد حسابا، وقد اقتضى حسن الرأى أن أفوّض إليك أمرها، وأودع تأمور قلبك وحسّك سرّها، علمى بأنك الكيّس الفطن، بل الألمعىّ الذّرب المرن، لو عقدت أكلة الولائم بغاب ولجه، وأحسن بتأنّيه الجميل مدخله ومخرجه، وقد شاهدت من أعمالك الصالحة، ما يقال عند ذهابى: ما أشبه الليلة بالبارحة، وقد عهدت إليك، واستخرت الله في التعويل عليك، فمثلك من يخطب للمناصب، ويتسنّم ذروة المراتب، ودونك ما أنطق به من الوصايا، واحفظ ما يسرده لسان القلم من جميل المزايا، إياك وموائد اللئام، وانزل بساحات الكرام، واتخذ الشروع في الشوارع حرفة، وأظهر على مشيك صلافة وعفّة، وميّز بعينك حسن المساطب ونقش الستور، وجمال الخدء وقعود الصدور، واقصد الأبواب العالية، والأكلة المنقوشة الجالية، فإن دللت على مأدبة نصبها بعض الأعيان، وجمع إليها أصحابه الإخوان، فالبس من ثيابك الجميلة قشيبها، وضوّع بالمندل الرطب طيبها، وأتقن خبر صاحب الدار وأخباره، وقف في صدر الشارع من الحاره، فإذا رأيت الجمع وقد تهادوا بالهوادى والأقدام، وتهادوا فيما بينهم لذيذ الكلام، تقدّم إليهم بقلب قلب الأمور، وعلم بحسن تطلّعه وتضلّعه داء الجمهور، وقل لهم: رب الدار قد استبطأكم، فما الذى أبطأكم؟ حتّى إذا قاربوا صعود العتبة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 335 ولم تبق هنا لك معتبة، تقدّم رافعا لهم الستور، ومعرّفا بمقدار أولئك الصدور، فالأضياف، يعتقدون أنك غلام المضياف، وربّ الحلّة، يعتقد أنك رفيق السادة الجلّة، وإن ولجت مجتمع ختان، وقد نصبت فيه موائد الألوان، وذرفنت الأبواب، واكفهرّت وجوه الحجّاب، فاجعل تحت ضبنك المجمع، واخدع قلوبهم فمثلك من يخدع، وقل: رفيق الأستاذ ومعينه، ورجله التى يسعى بها بل يمينه، فحينئذ ترفع الستور، وتقدّم لك أطايب القدور، وإن رماك القدر على باب غفل عنه صاحبه، وسها في غلقه حاجبه، وقد مدّوا في أوانيه سماطا، وجعلوا لأوائل من يقدمه فراطا، وقد تقاربت الزبادى، وامتدت الأيادى، ورأيت السّماط روضة تخالفت ألوانها، وامتدّت أفنانها، والموائد فيما بينها أفلاك تدور بصحونها، بل بروج ثابتة تشعر بسكونها، فلج على غفلة من الرقيب، وابسط بنان الأكل وكفّ لسان المجيب، فإن قيل لك: أما غلق دونك باب؟ فقل: ما على الكرماء من حجاب، وإيّاك والإطالة على الموائد، فإنها مصايد الشوارد، وإياك والقذارة عليها، فإنها إمارة الحرمان لديها، وإن وقعت على وليمة كثيرة الطعام، قليلة الازدحام، كبّر اللقمة ولا تطل علكها، ومر الفكّ في سرعة أن يفكّها، فإنك ما تدرى ما تحدث الليالى والأيام، خيفة أن يعثر عليك بعض الأقوام، فتكتسى حلّة الخجل، وتظهر على وجهك صفرة الوجل، واجعل من آدابك، تطلعك الى أثوابك، ولا ترفع لمستجلّ وجها وجيها، وقل لمن يحادثك: إليه ولا تقل: إيها، وجاوب بنعم، فإنها معينة على اللّقم، واجعل لكل مقام ما يناسبه من الحيلة، ومل على أهل الولائم والمآدب ميلة وأىّ ميلة، واسأل عمن ورث من آبائه مالا، وقد جمعه بوعثاء السفر وعنائه حراما وحلالا، أهل يعقد مقاما؟ أم يبلغ من دنياه بالقصف مراما؟ فإن قيل: فلان الفلانىّ ربّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 336 هذه المثابة، وصاحب الدعوة المجابة، فكن ثالثة الأثافى لبابه، وانتظم في سلك عشرائه وأترابه، وتفقّد الأسواق خصوصا اللّحامين، ومواطن الطبخ ومساطب المطربين، ومجمع القراء ومعاهد محالّ الوعّاظ، وكلّ بقعة هى مظنّة فرح يعود عليك نفعه وكن أوّل داخل وآخر خارج، ومل إلى الزوايا، فهى أجمل ما لهذه الحرفة من المزايا، ونقّل ركابك في كلّ يوم، فتارة في سوق اللحم وتارة في سوق الثّوم؛ وغيّر الحلية، وقصّر اللحية، وابرز كلّ يوم في لباس، فهو أكثر للالتباس، وجدّد البهت حتى تتخذه عصاك، وتجعله ذريعة لمن عصاك، وأتقن الفنون المحتاج اليها من غنى ونجامة، وطب وشهامة، وتاريخ وأدب، وكرم أصل وحسب، وحالتى التوقيت والتنزيل، فاجعلهما دأبك، فإذا عرفوك، وحضر الجمع وكشفوك، فطرّز كلّ محفل بمحاسنن أقوالك، وكلّل جيد كلّ مأدبة بجواهر أفعالك، واعلم أنها صنعة دثرت معالمها، وقلّ عالمها، ولو لم أر على وجهك مخائل بشرها، وعلى أعطاف أردافك روائح نشرها، لما ألقيت إليك كتاب عهدها، ولا حملت لبابك راية مجدها، فتلقّ راية هذا العهد بساعد مساعد، وعضد في الولوج على الأسمطة معاضد، فوّضت اليك أمر من تحلّى بجواهرها المنظومة، ولبس حللها القشيبة المرقومة، وبسطت لسان قلمك في رقم عهودها، وأذنت لك أن تجريهم على سنن معهودها، وإياك أن تعهد إلا لمن ملك خصالها، وجاس خلالها، واستجلى هلالها، وأتقن أحوالها، ولاية عامّة، وكلمة مبرمة تامّة، حرس الله بك معقل الأدب واللطافة، ومحابك معالم الثقالة والكثافة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 337 ذكر آداب الأكل والمؤاكلة قال الله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) وروى أنّ داود عليه السّلام أمر مناديه فنادى: أيها الناس، اجتمعوا لأعلّمكم التقوى، فاجتمعوا فقام في محرابه، فبكى ثم حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يأيها الناس، لا تدخلوا هاهنا إلا طيّبا، ولا تخرجوا منه إلا طيّبا، وأشار إلى فيه. قيل: أوّل آداب الأكل، معرفة الحلال من الحرام، والخبيث من الطيّب. وأما الآداب في هيئة المؤاكلة وأفعالها، فقد روى أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ماعاب طعاما قطّ، إن اشتهاه أكله وإلا تركه. وروى أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تشمّوا الطعام كما تشمّه البهائم، من اشتهى شيئا فليأكل، ومن كره فليدع» . وقال أنس: قدم النبىّ صلّى الله عليه وسلم المدينة، وأنا ابن عشر، ودخل دارنا، فحلبنا له شاة، فشرب، وأبو بكر عن يساره، وأعرابىّ عن يمينه، فقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: أعط أبا بكر، فقال صلى الله عليه وسلّم: «الأيمن فالأيمن» وفي هذا المعنى يقول الشاعر صددت الكأس عنّا أمّ عمرو ... وكان الكأس مجراها اليمينا وروى عن أنس: أنه رأى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم شرب جرعة، ثم قطع، ثمّ سمّى، ثم شرب جرعة، ثم قطع، ثم سمّى، ثم قطع الثالثة، ثمّ جرع مصّا، حتّى فرغ ثمّ حمد الله، وقد ندب إلى غسل اليد قبل الأكل فإنه ينفى الفقر، وينقّى اللّمم؛ ومن السّنة: البداءة باسم الله، وحمده عند الانتهاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 338 روى عن عمر بن أبى سلمة أنه قال: مررت بالنبىّ صلّى الله عليه وسلم وهو يأكل، فقال «اجلس يا بنىّ وسمّ الله، وكل بيمينك مما يليك» . وقال بعض السلف: إذا جمع الطعام أربعا، فقد كمل كلّ شىء، إذا كان حلالا، وذكر اسم الله عليه، وكثرت عليه الأيدى، وحمد الله حين يفرغ منه. وروى عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من قال عند مطعمه ومشربه بسم الله خير الأسماء ربّ الأرض والسماء لم يضره ما أكل وما شرب» وفي حديث عائشة رضى الله عنها، عنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله فإن نسى في أوّله، فليقل بسم الله في أوّله وآخره» . وقال صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، فإنّ الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله» . وروى: أنّ المسيح عليه السّلام كان إذا دعا أصحابه قام عليهم، ثمّ قال: هكذا فاصنعوا بالفقراء. ووصف شاعر قوما فقال جلوس في مجالسهم رزان ... وإن ضيف ألمّ بهم وقوف قال سهل بن حصين: شهدت الحسن في وليمة، فطعم ثم قام، فقال: مدّ الله لكم في العافية، وأوسع عليكم في الرزق، واستعملكم بالشكر. وروى عن النبى صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «تخللّوا فإنه نظافة والنظافة من الإيمان، والإيمان مع صاحبه في الجنّة» . وفي حديث عمر رضى الله عنه: عليكم بالخشبتين: يعنى السّواك والحلال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 339 وكان بعضهم يقول لولده إذا رأى حرصه في الطعام: يا بنىّ، عوّد نفسك الأثرة، ومجاهدة الشهوة، ولا تنهس نهس السّباع، ولا تخضم خضم البراذين، فإن الله جعلك إنسانا، فلا تجعل نفسك بهيمة. وحكى عن بعض الكتاب قال: تغديت مع المأمون فالتفت إلىّ وقال: خلال قبيحة عند الجلوس على الطعام: كثرة مسح اليد، والانكباب على الطعام، وكثرة أكل البقل، ومعنى ذمّه هذه الخلال الثلاث: أنه إذا أكثر مسح اليد فإنما ذلك من غمسها فى الطعام، والانكباب يدلّ على شدّة الحرص وزيادة الشره والنّهم. قال الشاعر لقد سترت منك الخوان عمامة ... دجوجيّة ظلماؤها ليس تقلع وأما البقل، فإن الحاجة إلى البلغة منه، وفي الإكثار منه تشبّه بالبهائم، لأنه مرعاها. وقيل: الأكل ثلاثة: مع الفقراء بالإيثار، ومع الإخوان بالانبساط، ومع أبناء الدنيا بالأدب. وقيل لبعض الحكماء: أىّ الأوقات أحمد للأكل؟ فقال: أما من قدر فإذا اشتهى، وأما من لم يقدر فإذا وجد. ذكر الاقتصاد في المطاعم والعفّة عنها قال الله عزوجل: (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) وفي الحديث أن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من زاره أخوه المسلم فقرّب إليه ما تيسر غفر له وجعل في طعامه البركة، ومن قرّب إليه ما تيسر فاستحقر ذلك كان في مقت من الله حتّى يخرج» . وقالت عائشة رضى الله عنها: أولم النبىّ صلّى الله عليه وسلم على بعض نسائه مدّين من شعير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 340 وقيل: كان عيسى بن مريم صلوات الله عليه يقول: اعملوا ولا تغملوا لبطونكم، وإياكم وفضول الدنيا، فإن فضولها رجز، هذه طير السماء تغدو وتروح، ليس معها من أرزاقها شىء، لا تحرث ولا تحصد، والله يرزقها، فإن قلتم: بطوننا أعظم من بطونها، فهذه الوحش تغدو وتروح، وليس معها من أرزاقها شىء والله يرزقها. وروى أنّ علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: لما دخل شهر رمضان كان يفطر ليلة عند الحسن، وليلة عند الحسين، وليلة عند عبد الله بن جعفر، لا يزيد على لقمتين أو ثلاث، فقيل له، فقال: إنما هى أيّام قلائل يأتى أمر الله وأنا خميص، فقتل من ليلته. وفي الحديث عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من قلّ طعمه صحّ بدنه وضفا قلبه، ومن كثر طعمه سقم جسمه وقسا قلبه» . وعنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما زيّن الله رجلا بزينة أفضل من عفاف بطنه» . قال حاتم أبيت خميص البطن مضطمر الحشا ... من الجوع أخشى الذّم أن أتضلعا فإنك إن أعطيت بطنك سؤله ... وفرجك نالا منتهى الذّم أجمعا وقال بعضهم: رأيت مجنونا ببغداد، وهو على باب دار فيها صنيع والناس يدخلون، وكنت ممن دعى، فقلت: ألا تدخل فتأكل؟ فإن الطعام كثير، قال: وإن كثر فإنى ممنوع منه، فقلت: كيف والباب مفتوح، ولا مانع من الدخول؟ فقال: أآكل طعاما لم أدع إليه؟ لقد اضطرّنى إلى ذلك غير الجوع، فقلت: ما هو؟ قال: دناءة النفس وسوء الغريزة، قال الشاعر وإنّى لعفّ عن مطاعم جمّة ... إذا زيّن الفحشاء للنفس جوعها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 341 وقال آخر وأعرض عن مطاعم قد أراها ... فأتركها وفي البطن انطواء فلا وأبيك ما في العيش خير ... وفي الدنيا إذا ذهب الحياء! قال الجنيد: مرّ بى الحارث بن أسد المحاسبىّ، فرأيت فيه أثر الجوع، فقلت: يا عمّ، تدخل الدار وتتناول شيئا؟ قال: نعم، فدخل، وقدّمت إليه طعاما حمل إلىّ من عرس، فأخذ لقمة فلاكها ونهض فألقاها في الدّهليز ومضى، فالتقيت به بعد أيام، فقلت له في ذلك، فقال: كنت جائعا، وأردت أن أسرّك بأكلى، ولكن بينى وبين الله تعالى علامة، أن لا يسوّغنى طعاما فيه شبهة، فمن أين كان ذلك الطعام؟ فأخبرته، ثم قلت له: تدخل اليوم؟ قال: نعم، فقدّمت إليه كسرا كانت لنا فأكل وقال: إذا قدّمت لفقير شيئا، فقدّم مثل هذا. روى أن عمرو بن العاص قال لأصحابه يوم الحكمين: أكثروا لهم الطعام، فو الله ما بطن قوم إلا فقدوا بعض عقولهم، وما مضت عزمة رجل بات بطينا؛ فلما وجد معاوية ما قال صحيحا، قال: البطنة تذهب الفطنة. وروى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تميتوا القلوب بكثرة الطعام والشرب، فإن القلوب تموت كالزّرع إذا كثر عليه الماء» . ودخل عمر رضى الله عنه على ابنه عاصم وهو يأكل لحما فقال: ما هذا؟ قال: قرمنا اليه، قال: ويحك! قرمت إلى شىء فأكلته، كفى بالمرء شرها أن يأكل كلّ ما يشتهى. قال ابن دريد: العرب تعيّر بكثرة الأكل، وأنشد لست بأكّال كأكل العبد ... ولا بنوّام كنوم الفهد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 342 وقال عمر رضى الله عنه: ما اجتمع عند النبىّ صلّى الله عليه وسلّم إدامان إلا أكل أحدهما وتصدّق بالآخر. وقال أبو سليمان الدارانىّ: خير ما أكون إذا لصق بطنى بظهرى، أجوع الجوعة فأخرج تزحمنى المرأة فما ألتفت إليها، وأشبع الشّبعة فأخرج فأرى عينىّ تطمحان. ذكر أخبار الأكلة قد نسب ذلك إلى جماعة من الأكابر وذوى الهمم، فمن ذلك ما حكاه الحمدونىّ فى تذكرته: أن معاوية بن أبى سفيان أتى بعجل مشوىّ، فأكل معه دستا من الخبز السميد، وأربع فرانىّ «1» ، وجديا حارا، وجديا باردا، سوى الألوان، ووضع بين يديه مائة رطل من الباقلّاء الرطب، فأتى عليه، وقيل: إنه كان يأكل كل يوم أربع أكلات آخرهنّ أشدّهنّ، ثم يقول: يا غلام، أرفع، فو الله ما شبعت، ولكنى مللت. ومنهم عبيد الله بن زياد، كان يأكل في اليوم خمس أكلات آخرها جنبة بغل، ويوضع بين يديه بعد ما يفرغ من الطعام عناق «2» أو جدى فيأتى عليه وحده. ومنهم الحجّاج بن يوسف، قال سالم بن قتيبة: كنت في دار الحجاج مع ولده، وأنا غلام، فقالوا جاء الأمير، فدخل الحجاج وأمر بتنوّر، فنصب، وأمر رجلا يخبز خبز الماء ودعا بسمك، فأكل حتّى أتى على ثمانين جاما من السمك بثمانين رغيفا من خبز الماء. ومنهم سليمان بن عبد الملك، روى أنه شوى له أربعة وثمانون خروفا، فمدّيده إلى كلّ واحد منها فأكل شحم أليته ونصف بطنه، مع أربعة وثمانين رغيفا، ثم أذن للناس، وقدّم الطعام، فأكل معهم أكل من لم يذق شيئا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 343 وقال الشّمردل وكيل عمرو بن العاص: قدم سليمان بن عبد الملك الطائف، فدخل هو وعمر بن عبد العزيز، فجاء حتى ألقى صدره إلى غصن، ثم قال: يا شمردل، ما عندك شىء تطعمنى؟ قلت عندى جذع تغدو عليه حافل وتروح أخرى، قال: عجّل به، فأتيته به كأنه عكّة سمن، فجعل يأكل، وهو لا يدعو عمر، حتى بقى منه فخذ، قال: يا أبا حفص، هلمّ، قال: إنى صائم، فأتى عليه، ثم قال: يا شمردل ويلك! ما عندك شىء؟ قلت: دجاجات ست، كأنهنّ رئلان النعام، فأتيته بهنّ فأتى عليهن، ثم قال: ويلك يا شمردل! ما عندك؟ قلت: سويق كأنه قراضة الذهب، فأتيته بعسّ «1» يغيب فيه الرأس، فشربه، فلما فرغ تجشأ كأنه صارخ في جبّ، ثم قال: يا غلام! أفرغت من غدائنا؟ قال: نعم، قال: ما هو؟ قال: نيّف وثمانون قدرا، قال: فأت بقدر قدر، وبقناع عليه رقاق، فأكل من كل قدر ثلاث لقم، ثم مسح يده واستلقى على فراشه، فوضع الخوان، وقعد يأكل مع الناس. ومن المشهورين بالأكل، هلال بن الأسعر المازنىّ، قال المعتمر بن سليمان: سألته عن أكله فقال: جعت مرة ومعى بعير لى فنحرته وأكلته إلا ما حملت منه على ظهرى، فلما كان الليل راودت أمة لى فلم أصل إليها، فقالت كيف تصل إلىّ وبينى وبينك جمل؟ فقلت له: كم بلّغتك هذه الأكلة؟ فقال: أربعة أيام. وحكى أبو سعيد منصور بن الحسن الأبىّ في كتابه المترجم بنثر الدّر: أن هلالا هذا أكل بعيرا، وأكلت امرأته فصيلا وجامعها، فلم يتمكن منها، فقالت له: كيف تصل إلى وبينى وبينك بعيران؟ وله حكايات ذكرها الحمدونىّ في التذكرة، والأبىّ فى نثر الدر تركناها اختصارا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 344 ومنهم محمد بن علىّ بن عبد الله بن عباس، ذكر الجاحظ: أنه أكل يوما جنبى بكر شواء بعد طعام كثير. ومن المشهورين بالنهم، أحمد بن أبى خالد الأحول وزير المأمون، وكان المأمون إذا وجهه في حاجة، أمره أن يتغدى ويمضى فرفع إلى المأمون في المظالم: إن رأى أمير المؤمنين أن يجرى على ابن أبى خالد نزلا، فإنّ فيه كلبية، إلا أن الكلب يحرس المنزل بكسرة، وابن أبى خالد يقتل المظلوم، ويعين الظالم بأكلة، فأجرى عليه المأمون في كلّ يوم ألف درهم لمائدته، وكان مع ذلك يشره الى طعام الناس. ولما انصرف دينار بن عبد الله من الجبل، قال المأمون لاحمد بن أبى خالد: امض إلى هذا الرجل وحاسبه وتقدّم إليه يحمل ما يحصل لنا عليه وأنفذ معه خادما ينهى إليه ما يكون منه، وقال: إن أكل أحمد عند دينار عاد إلينا بما نكره، ولما اتصل خبر أحمد بدينار، قال للطباخ: إن أحمد أشره من نفخ فيه الروح، فإذا رأيته فقل له: ما الذى تأمر أن يتخذ لك؟ ففعل الطباخ، فقال أحمد: فراريح كسكرية بماء الرمان تقدّم مع خبز الماء بالسميد، ثم هات بعدها ما شئت، فابتدأ الطباخ بما أمر، وأخذ أحمد يكلّم دينارا، فقال له: يقول لك أمير المؤمنين: إن لنا قبلك ما لا قد حبسته علينا، فقال: الذى لكم ثمانية آلاف ألف، قال فاحملها، قال: نعم، وجاء الطباخ فاستأذن في نصب المائدة، فقال أحمد: عجّل بها فإنى أجوع من كلب، فقدّمت وعليها ما اقترح، وقدّم الدجاج وعشرين فروجا كسكرية فأكل أكل جائع نهم، ما ترك شيئا مما قدّم، فلما فرغ وقدّر الطباخ أنه قد شبع، لوّح بطيفورية فيها خمس سمكات شبابيط كأنها سبائك الفضة، فأنكر أحمد عليه إلا قدمها؟ وقال: هاتها، وأعاد أحمد الخطاب، فقال دينار: أليس قد عرفتك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 345 أن الباقى لكم عندى سبعة آلاف ألف؟ قال أحسبك اعترفت بأكثر منها، فقال: ما اعترفت إلا بها، فقال: هات خطك بما اعترفت به، فكتب بستة آلاف ألف فقال أحمد: سبحان الله! أليس قد اعترفت بأكثر من هذا؟ قال: ما لكم قبلى إلا هذا المقدار، فأخذ خطه بها وتقدّم الخادم، فأخبر المأمون بما جرى، فلما ورد أحمد ناوله الخط، فقال: قد عرفنا ما كان من الألف ألف بتناول الغداء؛ فما بال الألف ألف الأخرى، فكان المأمون بعد ذلك يقول: ما أعلم غداء قام على أحد بألفى ألف إلا غداء دينار، واقتصر على الخط ولم يتعقبه كرما ونبلا. ومنهم أبو العالية، حكى أن امرأة حملت فحلفت إن ولدت غلاما لأشبعنّ أبا العالية خبيصا، فولدت غلاما، فأطعمته، فأكل سبع جفان، فقيل له: إنها حلفت أن تشبعك خبيصا، فقال: والله لو علمت لما شبعت إلى الليل. ومنهم أبو الحسن بن أبى بكر العلّاف الشاعر دخل يوما على الوزير المهلّبى ببغداد، فأنفذ الوزير من أخذ حماره الذى كان يركبه من غلامه، وأدخل المطبخ وذبح وطبخ لحمه بماء وملح، وقدّم بين يديه، فأكله كلّه وهو يظن أنه لحم بقر، فلما خرج طلب الحمار، قيل له: قد أكلته، وعوّضه الوزير عنه ووصله، فهذا كاف في أخبار الأكلة. ذكر ما قيل في الجبن والفرار ومن أقبح ما هجى به الرجل أن يكون جبانا فرّارا، وقد نهانا الله عزّوجل عن الفرار، فقال: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 346 وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) . وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) . وقالت عائشة رضى الله عنها: إن لله خلقا، قلوبهم كقلوب الطير، كلما خفقت الريح خفقت معها، فأفّ للجبناء، أفّ للجبناء. وقال خالد بن الوليد عند موته: لقيت كذا وكذا زحفا، وما في جسدى موضع إلا فيه طعنة برمح أو ضربة بسيف أو رمية بسهم، وهأنذا أموت على فراشى حتف أنفى، كما يموت العير، فلا نامت أعين الجبناء. وقيل كتب زياد إلى ابن عباس: أن صف لى الشجاعة والجبن والجود والبخل فكتب إليه: كتبت تسألنى عن ضائع ركّبت في الإنسان تركيب الجوارح، اعلم أن الشجاع يقاتل عمن لا يعرفه، ولجبان يفرّ عن عرسه، وأن الجواد يعطى من لا يلزمه، وأن البخيل يمسك عن نفسه؛ وقال شاعر يفرّ جبان القوم عن عرس نفسه ... ويحمى شجاع القوم من لا يناسبه وقالوا: الجبن غريزة كالشجاعة بضعها الله فيمن شاء من خلقه. قال المتنبى يرى الجبناء آن الجبن حزم ... وتلك خديعة الطبع اللئيم وقالوا: حدّ الجبن الضنّ بالحياة، والحرص على النجاة. وقالت الحكماء في الفراسة: من كانت فزعته في رأسه، فذاك الذى يفرّ من أمّه وأبيه، وصاحبته وأخيه، وفصيلته التى تؤويه. ويقال: أسرع الناس إلى الفتنة أقلّهم حياء من الفرار. وقال هانىء الشيبانىّ لقومه يوم ذى قار يحرّضهم على القتال: يا بنى بكر! هالك معذور، خير من ناج الجزء: 3 ¦ الصفحة: 347 فرور، المنيّة، ولا الدّنيّة، استقبال الموت خير من استدباره، الثغر في ثغور النحور، خير منه في الأعجاز والظهور، يا بنى بكر! قاتلوا، فما من المنايا بدّ، الجبان مبغّض حتّى لأمّه، والشجاع محبّب حتّى لعدوّه. ويقال: الجبن خير أخلاق النساء، وشرّ أخلاق الرجال. وقال يعلى بن منبّه لقومه حين فروا من علىّ يوم صفّين: إلى أين؟ قالوا: ذهب الناس، قال: أفّ لكم! فرارا واعتذارا! قال: ولما قوتل أبو الطيّب المتنبى ورأى الغلبة عليه فرّ، فقال له غلامه: أترضى أن يحدّث بهذا الفرار عنك؟ وأنت القائل الخيل والليل والبيداء تعرفنى ... والطّعن والضّرب والقرطاس والقلم فكّر راجعا، وقاتل حتى قتل، واستقبح أن يعيّر بالفرار. وقال المنصور لبعض الخوارج عليه وقد ظفر به: أخبرنى عن أصحابى، أيهم كان أشدّ إقداما في المبارزة، قال: لا أعرف وجوههم مقبلين وإنما أعرف أقفيتهم مدبرين، فقل لهم: يدبروا لأعرفك أيّهم كان أشدّ فرارا. وقال ابن الرّومىّ في سليمان بن عبد الله بن طاهر قرن سليمان قد أضرّ به ... شوق إلى وجهه سيدنفه لا يعرف القرن وجهه ويرى ... قفاه من فرسخ فيعرفه وقال حسّان بن ثابت يعيّر الحارث ابن هشام بفراره يوم بدر إن كنت كاذبة الذى حدثتنى ... فنجوت منجى الحارث بن هشام ذاك لأحبّة لم يقاتل دونهم ... ونجا برأس طمرّة ولجام ملأت به الفرجين فارمدّت به ... وثوى أحبّته بشرّ مقام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 348 وقال أبو الفرج الأصفهانىّ: وكان أبو حيّة النميرىّ وهو الهيثم بن الربيع ابن زرارة جبانا بخيلا كذّابا، قال ابن قتيبة: وكان له سيف يسمّيه: لعاب المنية، ليس بينه وبين الخشبة فرق، قال: وكان أجبن الناس؛ قال: فحدثنى جار له، قال: دخل ليلة إلى بيته كلب فظنه لصّا، فأشرفت عليه، وقد انتضى سيفه، وهو واقف في وسط الدار يقول: أيها المغترّبنا، المجترىء علينا، بئس والله ما اخترت لنفسك، خير قليل، وسيف صقيل، لعاب المنية الذى سمعت به، مشهورة ضربته، لا تخاف نبوته، أخرج بالعفو عنك قبل أن أدخل بالعقوبة عليك، إنى والله إن أدع قيسا إليك لا تقم لها، وما قيس؟ تملأ والله الفضاء خيلا ورجلا، سبحان الله! ما أكثرها وأطيبها! فبينا هو كذلك، إذا الكلب قد خرج، فقال: الحمد لله الذى مسخك كلبا، وكفانا حربا. ومن أبلغ ما قيل في الجبن من الشعر القديم، قول الشاعر ولو أنها عصفورة لحسبتها ... مسوّمة تدعو عبيدا وأرنما «1» ومثله قول عروة بن الورد وأشجع قد أدركتهم فوجدتهم ... يخافون خطف الطير من كلّ جانب وقال آخر ما زلت تحسب كلّ شىء بعدهم ... خيلا تكرّ عليهم ورجالا وقول أبى تمام موكّل بيفاع الأرض يشرفه ... من خفة الخوف لا من خفّة الطّرب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 349 وقال ابن الرومىّ وفارس أجبن من صفرد «1» ... يحول أو يغور من صفره لو صاح في الليل به صائح ... لكانت الأرض له طفره يرحمه الرحمن من جبنه ... فيرزق الجند به النصره ومن أخبار الفرّارين الذين حسّنوا الفرار على قبحه قال صاحب كلبلة ودمنة: إن الحازم يكره القتال ما وجد بدّا منه، لأن النفقة فيه من النفس، والنفقة في غيره من المال. وقالوا: من توقّى سلّم، ومن تهوّر ندم. وقال عبد الله بن المقفّع: الشجاعة متلفة، وذلك أن المقتول مقبلا أكثر من المقتول مدبرا، فمن أراد السلامة فليؤثر الجبن على الشجاعة. وليم بعض الجبناء على جبنه، فقال: أوّل الحرب شكوى، وأوسطها نجوى، وآخرها بلوى. وقال آخر: الحرب مقتلة للعباد، مذهبة للطارف والتّلاد. وقيل لجبان: لم لا تقاتل؟ فقال: عند النطاح يغلب الكبش الأجمّ «2» . وقالوا: الحياة أفضل من الموت، والفرار في وقته ظفر. وقالوا: الشجاع ملقّى، والجبان موقّى. قال البديع الهمذانىّ ما ذاق همّا كالشجاع ولا خلا ... بمسرّة كالعاجز المتوانى وقالوا: الفرار في وقته، خير من الثبات في غير وقته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 350 وقالوا: السّلم أزكى للمال، وأبقى لأنفس الرّجال. وقالوا: الحمام في الإقدام، والسلامة في الإحجام. وقال المتوكّل لأبى العيناء: إنى لأفرق من لسانك، فقال: يا أمير المؤمنين، الكريم ذو فرق وإحجام، واللئيم ذو وقاحة وإقدام. وقيل لأعرابىّ: ألا تعرف القتال؟ فإن الله قد أمرك به، فقال: والله إنى لأبغض الموت على فراشى في عافية، فكيف أمضى إليه ركضا؛ قال شاعر تمشى المنايا الى قوم فأبغضها ... فكيف أعدو إليها عارى الكفن؟ وقيل ليزيد: إن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا رأيت شخصا بالليل، فكن للإقدام عليه أولى منه عليك» فقال: أخاف أن يكون قد سمع الحديث قبلى، فأقع معه فيما أكره، وإنما الهرب خير. وسمع سليمان بن عبد الملك قارئا يقرأ (قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتّعون إلّا قليلا) فقال: ذلك القليل نريد. ولما فرّ أميّة بن عبد الله بن خالد بن أسد يوم مرداء هجر بالبحرين من أبى فديك الخارجىّ إلى البصرة، ودخل عليه أهلها، فلم يدروا كيف يكلّمونه ولا ما يلقونه به من القول، أيهنئونه بالسّلامة أم يعزّونه بالفرار، حتى دخل عبد الله ابن الأهتم، فاستشرف الناس له، ثم قالوا: ما عسى أن يقول لمنهزم؟ فسلّم ثم قال: مرحبا بالصابر المخذول، الحمد لله الذى نظر لنا عليك، ولم ينظر لك علينا، فقد تعرضت للشهادة جهدك، ولكن الله علم حاجة أهل الإسلام إليك فأبقاك لهم بخذلان من معك لك، فقال أميّة: ما وجدت أحدا أخبرنى عن نفسى غيرك. وقال الحارث بن هشام وأحسن في اعتذاره عن الفرار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 351 الله يعلم ما تركت قتالهم ... حتى علوا مهرى بأشقر مزبد وعلمت أنّى إن أقاتل واحدا ... أقتل ولا يضرر عدوّى مشهدى فصدفت عنهم والأحبّة فيهم ... طمعا لهم بعقاب يوم سرمد وقال زفر بن الحارث وقد فرّ يوم مرج راهط عن رفيقيه أيذهب يوم واحد إن أسأته ... بصالح أيامى وحسن بلائيا؟ فلم تر منّى زلّة قبل هذه ... فرارى وتركى صاحبىّ ورائيا وهى أبيات نذكرها إن شاء الله في التاريخ، ونظير ذلك قول عمرو بن معد يكرب من أبيات يخاطب بها أخته ريحانة، وقد فرّ من بنى عبس أجاعلة أمّ النّوير خزاية ... علىّ فرارى إذا لقيت بنى عبس وليس يعاب المرء من جبن يومه ... إذا عرفت منه الحماية بالأمس وعكس هذا البيت عبد الله بن مطيع بن الأسود العدوىّ، وكان قد فرّ يوم الحرّة من جيش مسلم بن عقبة، فلما حاصر الحجاج عبد الله بن الزبير بمكة جعل يقاتل أهل الشّام ويرتجز أنا الذى فررت يوم الحرّة ... والشيخ لا يفرّ إلا مرّة فاليوم أجزى كرّة بفرّه ... لا بأس بالكرّة بعد الفرّه ولم يزل يقاتل حتى قتل؛ قال الفرّار السّلمىّ. وفوارس لبّستها بفوارس ... حتى إذا التبست أملت بها يدى وتركتهم نقض الرّماح ظهورهم ... من بين مقتول وآخر مسند هل ينفعنّى أن تقول نساؤهم ... وقتلت دون رجالهم: لا تبعد؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 352 وقال آخر قامت تشجّعنى هند فقلت لها: ... إن الشجاعة مقرون بها العطب لا والذى منع الأبصار رؤيته ... ما يشتهى الموت عندى من له أرب للحرب قوم أضل الله سعيهم ... إذا دعبتهم إلى نيرانها وثبوا وقيل لجبان في بعض الوقائع: تقدّم، فقال وقالوا: تقدّم قلت: لست بفاعل ... أخاف على فخّارتى أن تحطّما فلو كان لى رأسان أتلفت واحدا ... ولكنه رأس إذا زال أعقما وأونتم أولادا وأرمل نسوة ... فكيف على هذا ترون التقدّما؟ ذكر ما قيل في الحمق والجهل قالوا: الحمق قلّة الإصابة، ووضع الكلام في غير موضعه، وقيل: هو فقدان ما يحمد من العاقل؛ وقيل لعمر بن هبيرة: ما حدّ الحمق؟ قال: لا حدّ له كالعقل. وروى عن النبىّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «الأحمق أبغض الخلق إلى الله، لأنّه حرمه أعزّ الأشياء عليه وهو العقل» . وقيل: أوحى الله تعالى إلى موسى، أتدرى لم رزقت الأحمق؟ قال: لا يا ربّ، قال: ليعلم العاقل أن طلب الرزق ليس بالاجتهاد. وقال الشعبىّ: إذا أراد الله أن يزيل عن عبد نعمة، كان أوّل ما يعدمه عقله. وقالوا: الحمق داء دواؤه الموت. وقد بيّن الله تعالى لحبيبه من لم يعقل بقوله (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا) قيل: عاقلا، وبقوله (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 353 وعن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: أثنى قوم على رجل عند النبىّ صلّى الله عليه وسلم حتى بالغوا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «كيف عقل الرجل؟» فقالوا: نخبرك عن اجتهاده في العبادة وأصناف الخير وتسألنا عن عقله! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنّ الأحمق يصيب بحمقه أعظم من فجور الفاجر، وترتفع العباد غدا في الدرجات على قدر عقولهم» . ومن كلام لقمان لابنه: أن تكون أخرس عاقلا خير من أن تكون نطوقا جاهلا، ولكل شىء دليل، ودليل العقل النقل، ودليل النقل الصمت، وكفى بك جهلا أن تنهى الناس عن شىء وتركبه. وقال عيسى عليه السّلام: عالجت الأكمه والأبرص فأبرأتهما، وعالحت الأحمق فأعيانى؛ قال شاعر لكل داء دواء يستطبّ به ... إلا الحماقة أعيت من يداويها وقال آخر وعلاج الأبدان أيسر خطب ... حين تعتلّ من علاج العقول وقال آخر الحمق داء ما له حيلة ... ترجى كبعد النجم من مسّه وقيل: إذا قيل لك إن فقيرا استغنى، وغنيّا افتقر، وحيّا مات، أو ميتا عاش، فصدّق، وإذا بلغك أن أحمق استفاد عقلا فلا تصدّق. وقالوا: الأحمق لتمنى أمّه أنّها به مشكلة، ولتمنى زوجه أنّها منه أرملة، ويتمنى جاره منه العزلة، ورفيقه منه الوحشة، وأخوه منه الفرقة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 354 وقال سهل بن هارون: وجدت مودّة الجاهل، وعداوة العاقل، أسوة في الخطر، ووجدت الأنس بالجاهل، والوحشة من العاقل، سيّين في العيب، ووجدت غشّ العاقل أقلّ ضررا من نصيحة الجاهل، ووجدت ظنّ العاقل أوقع بالصواب من يقين الجاهل، ووجدت العاقل أحفظ لما لم يستكتم من الجاهل لما استكتم. وقال لقمان لابنه: لا تعاشر الأحمق وإن كان ذا جمال، وانظر إلى السيف ما أحسن منظره وأقبح أثره! وقال علىّ رضى الله عنه: قطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل؛ وقال: صديق الجاهل في تعب. وقال آخر: لأنا للعاقل المدبر، أرجى شىء من الأحمق المقبل، وقال شاعر عدوّك ذو العقل خير من الصّديق ... لك الوامق الأحمق والبيت المشهور السائر ولأن يعادى عاقلا خير له ... من أن يكون له صديق أحمق وقيل: الحمق يسلب السلامة، ويورث الندامة؛ وقد ذمّوا من له أدب بلا عقل. ووصف أعرابىّ رجلا فقال: هو ذو أدب وافر، وعقل نافر؛ قال شاعر فهبك أخا الآداب، أىّ فضيلة ... تكون لذى علم وليس له عقل؟ ومن صفات الأحمق وعلاماته، قيل: ما أعدمك من الأحمق فلا يعدمك منه كثرة الالتفات وسرعة الجواب، ومن علاماته الثقة بكلّ أحد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 355 ويقال: إنّ الجاهل مولع بحلاوة العاجل، غير مبال بالعواقب، ولا معتبر بالمواعظ، ليس يعجبه إلا ما ضرّه، إن أصاب فعلى غير قصد، وإن أخطأ فهو الذى لا يحسن به غيره، لا يستوحش من الإساءة، ولا يفرح بالإحسان. وقالوا: ستّ خصال تعرف في الجاهل، الغضب من غير شىء، والكلام في غير نفع، والفطنة في غير موضع، ولا يعرف صديقه من عدوّه، وإفشاء السرّ، والثّقة بكلّ أحد. وقالوا: غضب الجاهل في قوله، وغضب العاقل في فعله، والعاقل إذا تكلّم بكلمة أتبعها مثلا، والأحمق إذا تكلم بكلمة أتبعها خلفا، الأحمق إذا حدّث ذهل، وإذا تكلم عجل، وإذا حمل على القبيح فعل. وقال أبو يوسف: إثبات الحجة على الجاهل سهل، ولكن إقراره بها صعب. وقال وهب بن منبّه: كان يقال للأحمق إذا تكلّم: فضحه حمقه، وإذا سكت فضحه عيّه، وإذا عمل أفسد، وإذا ترك أضاع، لا علمه يعينه، ولا علم غيره ينفعه، تودّ أمّه أنها ثكلته، وتتمنى امرأته أنها عدمته، ويتمنى جاره منه الوحدة، وتأخذ جليسه منه الوحشة. ويستدلّ على الأحمق بأشياء، قالوا: من طالت قامته، وصغرت هامته، وانسدلت لحيته، كان حقيقا على من يراه أن يقرئه عن عقله السلام. ويقال في التوراة: اللحية مخرجها من الدّماغ، فمن أفرط عليه طولها قلّ دماغه، ومن قلّ دماغه قلّ عقله، ومن قلّ عقله فهو أحمق. وقالت أعرابيّة لقاض قضى عليها: صغر رأسك، فبعد فهمك، وانسدلت لحيتك، فتكوسج عقلك، وما رأيت ميتا يقضى بين حيين غيرك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 356 وقال مسلمة بن عبد الملك لجلسائه: يعرف حمق الرجل في أربع، طول لحيته، وبشاعة كنيته، وإفراط شهوته، ونقش خاتمه، فدخل عليه رجل طويل اللحية، فقال: أمّا هذا فقد أتاكم بواحدة، فانظروا أين هو من الثّلاث؟ فقيل له: ما كنيتك؟ فقال: أبو الياقوت، فقيل له: ما نقش خاتمك؟ فقال: (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ) قيل: فأىّ الطعام أحبّ إليك؟ قال: الجلنجبين «1» ، فقال مسلمة: فيه ما بعد كنيته، مع طول لحيته، مع نقش خاتمه، شك لمعتبر. قال الشّعبىّ: خطب الحجاج يوم جمعة فأطال، فقام إليه أعرابىّ، فقال له: إن الوقت لا ينتظرك وإنّ الربّ لا يعذرك، فأمر به فحبس، فأتاه أهله يشفعون فيه وقالوا: إنه مجنون، فقال الحجاج: إن أقرّ بالجنون خليت سبيله، فأتوه وسألوه ذلك، فقال: لا والله، لا أقول إن الله ابتلانى وقد عافانى، فبلغ كلامه الحجاج، فعظم في نفسه وأطلقه. وقال الأصمعىّ: قلت لغلام من أبناء العرب: أيسرّك أن يكون لك مائة ألف وأنت أحمق؟ قال: لا والله، قلت: ولم؟ قال: أخاف أن يجنى علىّ حمقى جناية، فتذهب منّى، ويبقى حمقى. والعرب تضرب المثل في الحمق بعجل بن لجيم، ويزعمون أنّه قيل له: إنّ لكل فرس جواد اسما، وإنّ فرسك هذا سابق فسمّه، ففقأ عينه وقال: سميته الأعور، وفيه يقول الشاعر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 357 رمتنى بنو عجل بداء أبيهم ... وهل أحد في الناس أحمق من عجل؟ أليس أبوهم عار «1» عين جواده؟ ... فسارت به الأمثال في الناس بالجهل! ويضربون المثل في الحمق بهبنّقة القيسىّ، وهو يزيد بن ثروان، ويكنى أبا نافع، حكى أنه شرد له بعير، فقال: من جاء به فله بعيران، فقيل له: أتجعل في بعير بعيرين؟ فقال: إنكم لا تعرفون فرحة الوجدان. وقد رضى قوم بالجهل فقالوا: ضعف العقل أمان من الغمّ؛ وقالوا: ما سرّ عاقل قطّ؛ قال أبو الطيّب المتنبى ذو العقل يشقى في النعيم بعقله ... وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم وقال حكيم: ثمرة الدنيا السرور، ولا سرور للعقلاء؛ وقال المغيرة بن شعبة: ما العيش إلّا في إلقاء الحشمة. وقال بكر بن المعتمر: إذا كان العقل سبعة أجزاء احتاج الى جزء من جهل ليقدم على الأمور، فإنّ العاقل أبدا متوان مترقبّ متوقّف متخوّف؛ قال النابغة الجعدىّ ولا خير في حلم إذا لم تكن له ... بوادر تحمى صفوه أن يكدّرا وقال آخر من راقب الناس لم يظفر بحاجته ... وفاز بالطيّبات الفاتك اللهج أخذه آخر فقال من راقب الناس مات غمّا ... وفاز باللذّة الجسور وقالوا: الجاهل ينال أغراضه، ويظفر بأرائه، ويطيع قلبه، ويجرى في عنان هواه، وهو برىء من اللوم، سليم من العيب، مغفور الزّلّات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 358 وقالوا: الجاهل رخىّ الذرع، خالى البال، عازب الهمّ، حسن الظن، لا يخطر خوف الموت بفكره، ولا يجرى ألم الإشفاق على ذكره. وقالوا: الجهل مطيّة المراح والمسرة، ومسرح المزاح والفكاهة، وحليف الهوى والتصابى، وصاحبه في ذمام من عهدة اللوم والعتب، وأمان من قوارص الذمّ والسبّ؛ قال بعض الشعراء ورأيت الهموم في صحّة العقل ... فداويتها بإمراض عقلى وقالوا: لو لم يكن من فضيلة الجهل، غير الإقدام، وورود الحمام، إذ هما من الشجاعة والبسالة، وسبب تحصيل المهابة والجلالة، لكفاه؛ قال أبو هلال العسكرىّ: سألنى بعض الأدباء أىّ الشعراء أشدّ حمقا، قلت الذى يقول أتيه على إنس البلاد وجنّها ... ولو لم أجد خلقا لتهت على نفسى أتيه فلا أدرى من التّيه من أنا ... سوى ما يقول الناس فيّ وفي جنسى فإن صدقوا أنى من الإنس مثلهم ... فما فيّ عيب غير أنّى من الإنس ذكر ما قيل في الكذب قال الله عزّوجلّ: (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) . وقال: (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) وقال في الكاذبين: (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) . وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إياكم والكذب فإنّ الكذب يهدى إلى الفجور، والفجور يهدى إلى النّار» . وقال صلّى الله عليه وسلم: «الكذب مجانب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 359 الإيمان» . وقال صلّى الله عليه وسلم: «ثلاث من كنّ فيه فهو منافق، وإن صلّى وصام وزعم أنه مسلم، من إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان» . وقال صلّى الله عليه وسلم: «لا يجوز الكذب في جدّ ولا هزل» وقال: «لا يكون المؤمن كذّابا» . وقالت الحكماء: ليس لكاذب مروءة. وقالوا: من عرف بالكذب لم يحسن صدقه. وقال عبد الله بن عمر رضى الله عنهما: خلف الوعد ثلث النفاق. وقال بعض الحكماء: الصدق منجيك وإن خفته، والكذب مرديك وإن أمنته. قال عمرو بن العلاء القارىء: ساد عتبة بن ربيعة وكان مملقا، وساد أبو جهل وكان حدثا، وساد أبو سفيان وكان بخّالا، وساد عامر بن الطّفيل وكان عاهرا، وساد كليب بن وائل وكان ظلوما، وساد عيينة وكان محمّقا، ولم يسد قطّ كذاب، فصلح السؤدد مع الفقر والحداثة والبخل والعهر والظلم والحمق، ولم يصلح مع الكذب، لأن الكذب يعمّ الأخلاق كلّها بالفساد. وقال يحيى بن خالد: رأيت شرّيب خمر نزع، ولصّا أقلع، وصاحب فواحش رجع، ولم أر كذابا رجع. ويقال: الكذب مفتاح كلّ كبيرة، والخمر جماع كل شرّ. وقيل: لا تأمننّ من يكذب لك أن يكذب عليك. وقيل: الكذب والنفاق والحسد أثافىّ الذّلّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 360 وقال ابن عباس: حقيق على الله أن لا يرفع للكاذب درجة، ولا يثبّت له حجة. وقال سليمان بن سعد: لو صحبنى رجل وقال: لا تشترط على إلا شرطا واحدا لقلت: لا تكذبنى. وقال أبو حيان التّوحيدىّ: الكذب شعار خلق، ومورد رنق، وأدب سيّىء، وعادة فاحشة، وقلّ من استرسل فيه إلا ألفه، وقلّ من ألفه إلا أتلفه. وقال غيره: الكذب أوضع الرذائل خطة، وأجمعها للمذمّة والمحطّة، وأكبرها ذلّا فى الدنيا، وأكثرها خزيا في الآخرة، وهو من أعظم علامات النفاق، وأقوى الدلائل على دناءة الأخلاق والأعراق، لا يؤتمن حامله على حال، ولا يصدّق إذا قال. وقيل: لكل شىء آفة، والكذب آفة النطق. وقال بعض الكرماء: لو لم أدع الكذب تأثّما، لتركته تكرّما. وقال أرسطا طاليس: فضّل الناطق على الأخرس بالنطق، وزين النطق الصدق، فإذا كان الناطق كاذبا، فالأخرس خير منه. وقال بعض الحكماء لولده: يا بنىّ إياك والكذب، فأنه يزرى بقائله، وإن كان شريفا في أصله، ويذلّه وإن كان عزيزا في أهله. وقال الأحنف بن قيس: اثنان لا يجتمعان: الكذب والمروءة. وقال بزرجمهر: الكاذب والميت سواء، لأن فضيلة النطق الصدق، فإذا لم يوثق بكلامه بطلت حياته. وقال معاوية يوما للأحنف: أتكذب؟ فقال: والله ما كذبت مذ علمت أن الكذب شين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 361 وقيل: لا يجوز للرجل أن يكذب لصلاح نفسه، فما عجز الصدق عن إصلاحه كان الكذب أولى بفساده. قال بعض الشعراء ما أحسن الصدق والمغبوط قائله ... وأقبح الكذب عند الله والناس وقالوا: احذر مصاحبة الكذّاب، فان اضطررت إليها فلا تصدّقه ولا تعلمه أنك كذبته، فينتقل عن مودّته، ولا ينتقل عن كذبه. وقال هرمس: اجتنب مصاحبة الكذاب، فإنك لست منه على شىء يتحصّل، وإنما أنت معه على مثل السّراب يلمع ولا ينفع. وقيل: الكذّاب شرّ من النّمّام، فإن الكذّاب يختلق عليك، والنّمام ينقل عنك. قال شاعر إن النّموم أغطّى دونه خبرى ... وليس لى حيلة في مفترى الكذب وقال آخر لى حيلة فيمن ينم ... وليس في الكذّاب حيلة من كان يخلق ما يقو ... ل فحيلتى فيه قليله ووصف أعرابىّ كذابا فقال: كذبه مثل عطاسه، لا يمكنه ردّه. وقال بعض الأعراب: عجبت من الكذّاب المشيد بكذبه، وإنما هو يدلّ الناس على عيبه، ويتعرّض للعقاب من ربّه، فالآثام له عادة، والأخبار عنه متضادّة، إن قال حقا لم يصدّق، وإن أراد خيرا لم يوفّق، فهو الجانى على نفسه بفعاله، والدّالّ على فضيحتها بمقالة، فما صحّ من صدقه نسب إلى غيره، وما صحّ من كذب غيره نسب إليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 362 ويقال: الكذب جماع النفاق، وعماد مساوىء الاخلاق، عار لازم، وذلّ دائم، يخيف صاحبه نفسه وهو آمن، ويكشف ستر الحسب عن لؤمه الكامن، وقال بعض الشعراء لا يكذب المرء إلا من مهانته ... أو عادة السوء أو من قلّة الورع وقال الأصمعىّ: قيل لرجل معروف بالكذب. هل صدقت؟ قال: أخاف أن أقول: «لا» فأصدق. وآفة الكذب النسيان. قال شاعر ومن آفة الكذّاب نسيان كذبه ... وتلقاه ذا دهى إذا كان كاذبا وقال علىّ بن اللّحام شاعر اليتيمة تكذب الكذبة يوما ... ثم تنساها قريبا كن ذكورا يا أبا يحيى ... إذا كنت كذوبا وقال أبو تمّام يا أكثر الناس وعدا حشوه خلف ... وأكثر الناس قولا حشوه كذب وقال أحمد بن محمّد بن عبد ربّه صحيفة أفنيت «ليت» بها و «عسى» ... عنوانها راحة الراجى إذا يئسا وعد له هاجس في القلب قد برمت ... أحشاء صدرى به من طول ما هجسا يراعة غرّنى منها وميض سنا ... حتى مددت إليها الكفّ مقتبسا فصادفت حجرا لو كنت تضربه ... من لؤمه بعصا موسى لما انبجسا وقال آخر وتقول لى قولا أظنّك صادقا ... فأحىء من طمع اليك وأذهب فإذا اجتمعت أنا وأنت بمجلس ... قالوا مسيلمة وهذا أشعب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 363 ذكر ما قيل في الغدر والخيانة قال الله عزّوجلّ: (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ) وقال تعالى: (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) . وروى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «من أمّن رجلا ثم قتله وجبت له النار وإن كان المقتول كافرا» وعنه صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا جمع الله الأوّلين والآخرين رفع لكل غادر لواء وقيل: هذه غدرة فلان» . وقالوا: من نقض عهده، ومنع رفده، فلا خير عنده. وقالوا: الغالب بالغدر مغلول، والناكث للعهد ممقوت مخذول. وقالوا: من علامات النفاق، نقض العهد والميثاق. وقالوا: لا عذر في الغدر. والعذر يصلح في كل المواطن، ولا عذر لغادر ولا خائن. وفي بعض الكتب المنزّلة: إن مما تعجّل عقوبته من الذنوب ولا يؤخر: الإحسان يكفر، والذّمة تحفر. قال شاعر أخلق بمن رضى الخيانة شيمة ... أن لا يرى إلا صريع حوادث ما زالت الأرزاء تلحق بؤسها ... أبدا بغادر ذمّة أو ناكث وقالوا: الغدر ضامن العثرة، قاطع ليد النّصرة. ويقال: من تعدّى على جاره، دلّ على لؤم نجاره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 364 وذكر أن عيسى صلوات الله عليه مرّ برجل وهو يطارد حيّة وهى تقول له: والله لئن لم تذهب عنّى، لأنفخنّ عليك نفخة أقطّعك بها قطعا، فمضى عيسى عليه السّلام في شأنه، ثم عاد فرأى الحية في جونة الرجل محبوسة، فقال لها: ويحك! أين ما كنت تقولين؟ قالت: يا روح الله، إنه خلف لى وغدر، وإنّ سمّ غدره أقتل له من سمّى. ذكر أخبار أهل الغدر وغدراتهم المشهورة أعرف الناس في الغدر آل الأشعث بن قيس بن معد يكرب، وقد عدّت لهم غدرات، فمنها: غدر قيس بن معد يكرب بمراد، وكان بينهم عهد أن لا يغزوهم إلى انقضاء شهر رجب، فوافاهم قبل الأمد بكندة، وجعل يحمل عليهم ويقول أقسمت لا أنزل حتّى يهزموا ... أنا ابن معد يكرب فاستسلموا فارس هيجا ورئيس مصدم فقتل قيس بن معد يكرب وارتد الأشعث عن الإسلام. وغدر الأشعث ببنى الحارث بن كعب، وكان قد غزاهم فأسروه، ففدى نفسه بمائتى بعير، فأعطاهم مائة وبقى عليه مائة، فلم يؤدّها، وجاء الإسلام فهدم ما كان في الجاهليّة. وغدر محمد بن الأشعث بن قيس بمسلم بن عقيل بن أبى طالب، وغدر أيضا بأهل طبرستان وكان عبيد الله بن زياد ولّاه إياها، فصالح أهلها على أن لا يدخلها ورحل عنهم، ثم عاد إليهم غادرا، فأخذوا عليه الشّعاب، وقتلوا ابنه أبا بكر. وغدر عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بالحجّاج لما ولّاه خراسان، وخرج عليه وادعى الخلافة، وكان بينهم من الوقائع ما نذكره في التاريخ في أخبار الحجاج الجزء: 3 ¦ الصفحة: 365 إن شاء الله تعالى، وكانت الدائرة على عبد الرحمن، وكلّهم ورثوا الغدر عن معديكرب، فإنه غدر مهرة، وكان بينه وبينهم عهد إلى أجل، فغزاهم ناقضا لعهدهم، فقتلوه وبقروا بطنه وملأوه بالحصا. وغدرت ابنة الضّيزن بن معاوية بأبيها صاحب الحصن ودلّت سابور على طريق فتحه، ففتحه وقتل أباها وتزوّجها، ثم قتلها. وقد ذكرنا ذلك في الجزء الأوّل من هذا الكتاب في المبانى. ومن ذلك ما فعله النعمان بسنمّار، وقد ذكرناه أيضا فى خبر بناء الخورنق. وممن اشتهر بالغدر عمرو بن جرموز: غدر بالزّبير بن العوّام، وقتله بوادى السباع، ونذكر ذلك إن شاء الله تعالى في حرب الجمل. ومن الغدر الشنيع ما فعله عضل والقارة، روى أنه قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد أحد رهط من عضل والقارة، فقالوا: يا رسول الله إن فينا إسلاما وخيرا فابعث معنا نفرا من أصحابك يفقّهوننا في الدّين، ويقرئوننا القرءان، ويعلّموننا شرائع الإسلام، فبعث معهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم سبعة نفر من أصحابه، وهم مرثد بن أبى مرثد الغنوىّ، وخالد بن البكير حليف بنى عدىّ ابن كعب، وعاصم بن ثابت بن أبى الأقلح أخو بنى عمرو بن عوف، وخبيب بن عدىّ أخو بنى جحجبى بن كلفة بن عمرو بن عوف، وزيد بن الدّثنة أخو بنى بياضة بن عامر، وعبد الله بن طارق، ومعتّب بن عبيد أخو عبد الله لأمّه، وأمّر عليهم مرثد ابن أبى مرثد، وقيل أمّر عليهم عاصما، فخرجوا مع القوم، حتى إذا كانوا على الرجيع: - ماء لهذيل- غدروا بهم واستصرخوا عليهم هديلا، فلم يرع القوم وهم في رحالهم إلّا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 366 الرجال في أيديهم السيوف، فأخذوا أسيافهم ليقاتلوا القوم، فقالوا: إنا والله ما نريد قتلكم، ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئا من أهل مكة، فأما مرثد وخالد وعاصم ومعتّب فقالوا: والله ما نقبل من مشرك عهدا ولا عقدا، فقاتلوا حتى قتلوا، وأما زيد وخبيب وعبد الله فلانوا ورغبوا في الحياة، وأعطوا بأيديهم، فأسروهم وخرجوا بهم إلى مكة ليبيعوهم بها، حتى إذا كانوا بمرّ الظّهران، انتزع عبد الله بن طارق يده من القرآن، ثم أخذ سيفه واستأخر عن القوم، فرموه بالحجارة حتى قتلوه، وقدموا بخبيب وزيد الى مكة فباعوهما فابتاع خبيبا حجر بن أبى إهاب التميمىّ حليف بنى نوفل لعقبة بن الحارث بن عامر بن نوفل ليقتله بالحارث، وأما زيد بن الدّثنة فابتاعه صفوان بن أميّة ليقتله بأمية بن خلف، وروى أن خبيبا لما حصل عند بنات الحارث استعار من إحداهن موسى يستحدّ بها فما راع المرأة إلا صبىّ لها يدرج، وخبيب قد أجلس الصبىّ على فخذه، والموسى في يده، فصاحت المرأة، فقال خبيب: أتحسبين أنى أقتله؟ إن الغدر ليس من شأننا، فقالت المرأة: ما رأيت بعد أسيرا قطّ خيرا من خبيب، لقد رأيته وما بمكّة من ثمرة، وان في يده قطفا من عنب يأكله، إن كان إلا رزقا رزقه الله خبيبا، ولما خرج بخبيب من الحرم ليقتلوه، قال: ذرونى أصلّى ركعتين، ثم قال: لولا أن يقال: جزع لزدت، وما أبالى على أى شقّى كان مصرعى، وهذه القصّة نذكرها إن شاء الله تعالى بما هو أبسط من هذا فى السّيرة النبويّة في سيرة مرثد إلى الرجيع. قيل: أغار خيثمة بن مالك الجعفىّ على حىّ من بنى القين فاستاق منهم إبلا فلحقوه ليستنقذوها منه، فلم يطمعوا فيه، ثم ذكر يدا كانت لبعضهم عنده، فخلّى عما كان فى يده، وولّى منصرفا، فنادوه وقالوا: إن المفازة أمامك، ولا ماء معك، وقد فعلت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 367 جميلا، فانزل ولك الذّمام والحباء فنزل فلما اطمأنّ وسكن، واستمكنوا منه غدروا به فقتلوه، ففى ذلك تقول عمرة ابنته غدرتم بمن لو كان ساعة غدركم ... بكفّيه مفتوق الغرارين قاضب أذادكم عنه بضرب كأنّه ... سهام المنايا كلّهن صوائب وتلاحى بنو مقرون بن عمرو بن محارب، وبنو جهم بن مرّة بن محارب، على ماء لهم فغلبتهم بنو مقرون فظهرت عليهم، وكان في بنى جهم شيخ له تجربة وسنّ، فلما رأى ظهورهم، قال: يا بنى مقرون، نحن بنو أب واحد، فلم نتفانى؟ هلمّوا إلى الصلح، ولكم عهد الله تعالى وميثاقه وذمّة آبائنا، أن لا نهيجكم أبدا ولا نزاحمكم فى هذا الماء، فأجابتهم بنو مقرون إلى ذلك، فلما اطمأنوا ووضعوا السلاح عدا عليهم بنو جهم فنالوا منهم منالا عظيما، وقتلوا جماعة من أشرافهم، ففى ذلك يقول أبو ظفر الحارثىّ هلّا غدرتم بمقرون وأسرته ... والبيض مصلته والحرب تستعر لما اطمأنوا وشاموا في سيوقهم ... ثرتم إليهم وعرّ الغدر مشتهر غدرتموهم بأيمان مؤكدة ... والورد من بعده للغادر الصّدر هذا ما قيل في الغدر. وأما الخيانة، فقد نهى الله تعالى عنها فقال: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) . وروى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له» . وقيل: من ضيّع الأمانة، ورضى بالخيانة، فقد برىء من الدّيانة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 368 وقال حكيم: لو علم مضيّع الأمانه، ما في النّكث والخيانه، لقصّر عنهما عنانه. وقالوا: من خان مان، ومن مان هان، وتبرّأ من الإحسان. قيل دخل شهر بن حوشب وهو من جلّة القرّاء وأصحاب الحديث على معاوية، وبين يديه خرائط فيها مال، قد جمعت لتوضع في بيت المال، فقعد على خريطة منها، وأخذها، ومعاوية ينظر إليه، فلما رفعت الخرائط، فقد من عددها خريطة، فأعلم الخازن بذلك معاوية، فقال: هى محسوبة لك فلا تسأل عن آخذها، ففيه يقول بعض الشعراء لقد باع شهر دينه بخريطة ... فمن يأمن القرّاء بعدك يا شهر؟ وقال المنصور لعامل بلغه عنه خيانته: يا عدوّ الله، وعدوّ أمير المؤمنين، وعدوّ المسلمين، أكلت مال الله، وخنت خليفة الله، فقال: يا أمير المؤمنين، نحن عيال الله، وأنت خليفة الله، والمال مال الله، فمن أين نأكل إذا، فضحك وأطلقه، وأمر أن لا يولّى عملا بعدها. وسرق رجل في مجلس أنو شروان جاما من ذهب وهو يراه، فتفقّده الشرابىّ، فقال: والله لا يخرج أحد حتى يفتّش، فقال له أنو شروان: لا تتعرّض لأحد، فقد أخذه من لا يردّه، ورآه من لا ينمّ عليه. وحكى أنّ بعض التّجار أودع عند قاض بمعرّة النعمان وديعة، وغاب مدّة، فلما رجع، طالب بها، فأنكرها القاضى، فتشفع إليه برؤساء بلده في ردّها، فما زالوا به حتى أقرّبها، وادّعى أنها سرقت من حرزه، فاستحلفه المودع فحلف، فقال ابن الدّويدة في ذلك لا يصدق القاضى الخئون إذا ادّعى ... عدم الوديعة من حصين المودع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 369 إن قال قد ضاعت فيصدق أنها ... ضاعت ولكن منك يعنى لو تعى! أو قال قد وقعت فيصدق أنها ... وقعت ولكن منه أحسن موقع وقال ابن الحجاج وأدعوهم إلى القاضى عساهم ... إذا وقع اليمين يحلّقونى وأضيع ما يكون الحقّ عندى ... إذا عزم الغريم على اليمين ذكر ما قيل في الكبر والعجب قال الله عزّوجلّ: (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) . وقال تعالى: (فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) . وقال: (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ) . وقال: (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) . وقال: (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) . وناهيك بهذا زجرا. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة، من في قلبه حبّة من خردل من كبر» . وقال صلّى الله عليه وسلم: «من تعظّم في نفسه، واختال في مشيته لقى الله عزّوجلّ وهو عليه غضبان» . وقال صلّى الله عليه وسلم: «من جرّ ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه» . وروى: أن عبد الله بن سلّام، مرّ بالسوق يحمل حزمة حطب، فقيل له: أليس قد أغناك الله عن هذا؟ قال: بلى! ولكنى أردت أن أقمع به الكبر، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبّة من كبر» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 370 وقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: ما وجد أحد في نفسه كبرا إلا من مهانة يجدها في نفسه. وقالوا: من قل لبّه، كثر عجبه. وقالوا: عجب المرء بنفسه، أحد حسّاد عقله. وقال أزدشير بن بابك: ما الكبر إلا فضل حمق لم يدر صاحبه أين يضعه فصرفه إلى الكبر. ومن كلام لابن المعتزّ: لما عرف أهل التقصير حالهم، عند أهل الكمال استعانوا بالكبر ليعظّم صغيرا، ويرفع حقيرا، وليس بفاعل. وقال أكثم بن صيفىّ: من أصاب حظا من دنياه، فأصاره ذلك الى كبر وترفّع، فقد علم أنه نال فوق ما يستحقّ، ومن أقام على حاله فقد علم أنه نال ما يستحقّ، ومن تواضع وغادر الكبر، فقد علم أنه نال دون ما يستحقّ. وقال على رضى الله عنه: عجبت للمتكبر الذى كان بالأمس نطفة، وهو غدا جيفة. وقيل: مرّ بعض أولاد المهلّب بمالك بن دينار وهو يخطر، فقال له: يا بنىّ، لو خفّضت بعض هذه الخيلاء! ألم يكن أحسن بك من هذه الشّهرة التى قد شهرت بها نفسك؟ فقال له الفتى: أو ما تعرف من أنا؟ قال: بلى! والله أعرفك معرفة جيّدة، أوّلك نطفة مذره، وآخرك جيفة قذره، وأنت بين ذلك حامل عذره، فأرخى الفتى ردينه وكفّ مما كان يفعله، وطأطأ رأسه، ومضى مسترسلا. وقال الواقدىّ: دخل الفضل بن يحيى ذات يوم على أبيه وهو يتبختر في مشيته، فقال له يحيى: يا أبا عبد الله، إن البخل والجهل مع التواضع، أزين بالرجل من الكبر مع السخاء والعلم؛ فيالها من حسنة غطّت على عيبين عظيمين، ويا لها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 371 من سيّئة غطّت على حسنتين كبيرتين، ثم أومأ اليه بالجلوس وقال: احفظه يا عبد الله، فإنه أدب كبير أخذناه عن العلماء. ومن الكبر المستهجن ما روى: أن وائل بن حجر أتى النبى صلّى الله عليه وسلم، فأقطعه أرضا، وقال لمعاوية: اعرض هذه الأرض عليه واكتبها له، فخرج مع وائل في هاجرة شاوية، ومشى خلف ناقته، وقال له: أردفنى على عجز راحلتك، فقال: لست من أرداف الملوك، قال: فأعطنى نعليك، فقال: ما بخل يمنعنى يابن أبى سفيان، ولكن أكره أن يبلغ أقيال اليمن أنك لبست نعلى، ولكن امش فى ظل ناقتى، فحسبك بها شرفا. وقيل: إن وائلا أدرك زمن معاوية ودخل عليه فأقعده معه على السرير وحدّثه. والعرب تجعل جذيمة الأبرش الغاية في الكبر، وروى: أنه كان لا ينادم أحدا ترفّعا وكبرا، ويقول: إنما ينادمنى الفرقدان. ومنه قول متمّم: وكنا كندمانى جذيمة حقبة قيل: إنما أراد الفرقدين، لا كما ذكره الرواة أنهما مالك وعقيل. وقيل: كان أبو ثوابة أقبح الناس كبرا، روى: أنّه قال لغلامه اسقنى ماء، فقال: نعم، قال: إنما يقول: «نعم» من يقدر على أن يقول: «لا» وأمر بضربه، ودعا أكّارا فكلمه، فلما فرغ دعا بماء، وتمضمض استقذارا لمخاطبته. قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود. ولا تعجبا أن تؤتيا فتكلّما ... فما حشى الأقوام شرّا من الكبر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 372 قال الجاحظ: المذكورون بالكبر من قريش، بنو مخزوم، وبنو أميّة، ومن العرب، بنو جعفر بن كلاب، وبنو زرارة بن عدس، وأما الأكاسرة فكانوا لا يعدّون الناس إلا عبيدا، وأنفسهم إلا أربابا؛ والكبر في الأجناس الذليلة أرسخ، ولكن القلّة والذّلة مانعتان من ظهور كبرهم، ومن قدر من الوضعاء أدبى قدرة، ظهر من كبره ما لا خفاء به، ولم أر ذا كبر قطّ علا من دونه، إلا وهو يذلّ لمن فوقه بمقدار ذلك ووزنه. قال: أما بنو مخزوم، وبنو أمية، وبنو جعفر بن كلاب، واختصاصهم بالتّيه، فإنهم أبطرهم ما وجدوا لأنفسهم من الفضيلة، ولو كان في قوى عقولهم فضل عن قوى دواعى الحميّة فيهم، لكانوا كبنى هاشم في تواضعهم وإنصافهم من دونهم. وقال أبو الوليد الأعرابىّ. ولست بتيّاه إذا كنت مثريا ... ولكنه خلقى إذا كنت معدما وأن الذى يعطى من المال ثروة ... إذا كان نذل الوالدين تعظّما ومن المتكبرين، عمارة بن حمزة، حكى عنه: أنه دخل على المهدىّ، فلما استقر به الجلوس، قام رجل كان المهدىّ قد أعدّه له ليتهكّم به، فقال: مظلوم يا أمير المؤمنين، قال: من ظلمك؟ قال: عمارة غصبنى ضيعتى، وذكر ضيعة من أحسن ضياع عمارة وأكثرها خراجا، فقال المهدىّ لعمارة: قم فاجلس مع خصمك، فقال: يا أمير المؤمنين، ما هو لى بخصم، إن كانت الضّيعة له، فلست أنازعه فيها، وإن كانت لى فقد وهبتها له، ولا أقوم من مجلس شرّفنى به أمير المؤمنين، فلما انصرف المجلس، سأل عمارة عن صفة الرجل، وما كان لباسه، وأين كان موضع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 373 جلوسه، وكان من تيهه أنه إذا أخطأ يمرّ على خطئه تكبرا عن الرجوع ويقول: نقض وإبرام في ساعة واحدة، الخطأ أهون منه. ومنهم من أهلكه الكبر وأذلّه. كان خالد بن عبد الله بن يزيد بن أسد القسرىّ أميرا على العراق، وبلغ من هشام بن عبد الملك محلا رفيعا، فأفسد أمره العجب والكبر، وأدناه إلى الهلكة، وعذّب حتّى مات، وذلك أنه كان إذا ذكر هشام عنده، قال: ابن الحمقاء! فسمعها رجل من أهل الشام، فقال لهشام: إنّ هذا البطر الأشر الكافر لنعمتك ونعمة ابيك وإخوتك، يذكرك بأسوأ الذّكر، قال: لعله يقول: الأحول، قال: لا، ولكنّه يقول: ما لا تلتقى به الشّفتان، قال: لعله يقول: ابن الحمقاء، فأمسك الشامىّ، فقال هشام قد بلغنى كلّ ذلك عنه؛ وكان خالد يقول: والله ما إمارة العراق مما تشرّفنى، فبلغ ذلك هشاما، فكتب إليه: بلغنى أنك يابن النصرانية تقول: إن إمارة العراق لا تشرّفك وأنت دعىّ بجيلة القليلة الذليلة، والله إنى لأظن أن أول من يأتيك صيفىّ بن قيس فيشدّ يدك إلى عنقك، قال خالد بن صفوان بن الأهتم: لم تزل أفعال خالد حتى عزله هشام وعذّبه، وقتل ابنه يزيد بن خالد، فرأيت في رجله شريطا قد شدّه به الصّبيان يجرّونه، فدخلت إلى هشام يوما، فحدّثته فأطلت، فتنفّس، وقال: يا خالد! كان أحبّ إلىّ قربا وألذّ عندى حديثا منك، يعنى خالد القسرى، قال: فانتهزتها ورجوت أن أشفع فتكون لى عند خالد يدا، فقلت: يا أمير المؤمنين، ما يمنعك من استئناف الصّنيعة، فقد أدّبته بما فرط منه، فقال: هيهات! إن خالدا أوجف فأعجف، وأدلّ فأملّ، وأفرط فى الإساءة، فأفرطنا في المكافأة، فحلم الأديم، ونغل الجرح، وبلغ السّيل الزّبى، والحزام الطّبيين، ولم يبق فيه مستصلح، ولا للصّنيعة عنده موضع، عد إلى حديثك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 374 ومنهم: من أفرط به الكبر إلى الكفر، حكى: أن سعيد بن زرارة مرّت به امرأة فقالت له: يا عبد الله، كيف الطريق إلى مكان كذا؟ فقال لها: أمثلى يكون من عبيد الله. ومنهم: عبيد الله بن زياد بن ظبيان، قال له رجل من قومه وقد رأى منه ما أعجبه: كثّر الله فينا مثلك، فقال: لقد كلّفتم الله شططا. ومن أشعار المتكبّرين التيّاهين قول بعضهم أتيه على جنّ البلاد وإنسها الأبيات، وقد تقدّمت في الحمقى. وقال آخر ألقنى في لظى فإن أحرقتنى ... فتيقّن أن لست بالياقوت صنع النسج كلّ من حاك لكن ... ليس داود فيه كالعنكبوت قال ابن حبارة الحرّانىّ المنجنيقىّ يردّ عليه أيّها المدّعى الفخار دع الفخر ... لذى الكبرياء والجبروت نسج داود لم يفد ليلة الغا ... ر وكان الفخار للعنكبوت وبقاء السّمند «1» فى لهب النا ... ر مزيل فضيلة الياقوت وكذاك النّعام يلتقم الجمر ... وما الجمر للنّعام بقوت! ومما هجى به أهل التكبّر ، قول جعيفران يهجو سعيد بن مسلم بن قتيبة أمّ سعيد لم ولدتيه ... ملوّثا بالكبر والتّيه؟ ليتك إذ جئت به هكذا ... حين خريتيه أكلتيه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 375 ذكر ما قيل في الحرص والطمع قال الله عزّوجل لنهيّه صلّى الله عليه وسلم: (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى) . وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أربع من الشقاء الخ ... عدّ منها الحرص والأمل» وقال: «ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم فأفسداها أشدّ من حرص المرء على المال «1» » . وقال: «يشيب ابن آدم وتشبّ منه اثنتان: «الحرص على المال، والحرص على العمر» وقال: «إيّاكم والطمع فإنه الفقر الحاضر» . ومن كلام علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: «الطمع مورد غير مصدر، وضامن غير وفىّ، وكلما عظم قدر الشىء المتنافس فيه، عظمت الرّزية لفقده، والأمانىّ تعمى البصائر. أزرى بنفسه من استشعر الطمع، واستولت عليه الأمانىّ. وقال بعضهم: الحرص ينقص من قدر الإنسان، ولا يزيد في رزقه. وقال قتيبة: إن الحريص استعجل الذّلة، قبل إدراك البغية. وقيل: لا راحة لحريص، ولا غنى لذى طمع. وقيل: إن كعبا لقى عبد الله بن سلام، فقال: يابن سلام، من أرباب العلم؟ قال: الذين يعملون به، قال: فما أذهب العلم من قلوب العلماء بعد إذ علموه ووعوه؟ قال: الطمع، وشره النفس، وطلب الحوائج الى الناس. قال الأصمعىّ: سمعت أعرابيّا يقول: عجبت للحريص المستكبر، المستقلّ لكثير ما في يده، المستكثر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 376 لقليل ما في يد غيره، حتّى طلب الفضل، بذهاب الأصل، فركب مفاوز البرارى، ولجج البحار، معرّضا نفسه للمات، وماله للآفات، ناظرا إلى من سلم، غير معتبر بمن عدم. قال يزيد بن الحكم الثّقفىّ. رأيت السّخىّ النفس، يأتيه رزقه ... هنيئا، ولا يعطى على الحرص جامع وكلّ حريص لن يجاوز رزقه ... وكم من موفّى رزقه وهو وادع وقالوا: مصارع الألباب تحت ظلال الطمع. ويقال الحرّ عبد ما طمع ... والعبد حرّ ما قنع وقالوا: أخرج الطمع من قلبك، تحلّ القيد من رجلك. وقال عمرو بن مالك الحارثىّ الحرص للنفس فقر والقنوع غنى ... والقوت إن قنعت بالقوت يجزيها والنفس لو أن ما في الأرض حيز لها ... ما كان إن هى لم تقنع بكافيها وقال ابن هرمة وفي اليأس عن بعض المطامع راحة ... ويا ربّ خسر أدركته المطامع وقال هرمة بن خشرم وبعض رجاء المرء ما ليس نائلا ... عناء وبعض اليأس أعفى وأروح وقال مكنف بن معاوية التيمىّ ترى المرء يأمل ما لا يرى ... ومن دون ذلك ريب الأجل وكم آيس قد أتاه الرّجاء ... وذى طمع قد لواه الأمل وقال آخر طمعت فيما وعدتك المنى ... وليس فيما وعدت مطمع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 377 وثقت بالباطل من قولها ... وليس حقّا كلّ ما تسمع وإنما موعدها بارق ... فى كل حين خلّب يلمع ويضرب المثل في الطمع «بأشعب» . قيل له: ما بلغ من طمعك؟ فقال للقائل له: لم تقل هذا إلا وفي نفسك خير تصنعه بى؛ وقيل: إنه لم يمت شريف قطّ من أهل المدينة إلا استعدى أشعب على وصيّه أو وارثه وقال له: احلف أنه لم يوص لى بشىء قبل موته؛ ووقف على رجل يعمل طبقا من الخيزران، فقال له: وسّعه قليلا، قال الخيزرانىّ: كأنك تريد أن تشتريه؟ قال: لا، ولكن ربما يشتريه بعض الأشراف فيهدى إلىّ فيه شيئا؛ وسأله سالم بن عبد الله بن عمر رضى الله عنه عن طمعه، قال: قلت لصبيان مرة: اذهبوا، هذا سالم قد فتح بيت صدقة عمر حتى يطعمكم تمرا، فلما أحضروا ظننت أنه كما قلت لهم، فعدوت فى إثرهم؛ وقيل له: ماذا بلغ من طمعك؟ قال: أرى دخان جارى فأثرد «1» عليه؛ وقيل له أيضا: ما بلغ من طمعك؟ قال: ما رأيت عروسا بالمدينة تزفّ إلا كنست بيتى ورششته طمعا أن تزفّ إلىّ؛ وقيل له: هل رأيت أطمع منك؟ قال: نعم، كلب أمّ حومل، تبعنى فرسخين، وأنا أمضغ كندرا «2» ، ولقد حسدته على ذلك. ذكر ما قيل في الوعد والمطل روى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «العدة دين» . وقال بعض القرشيّين: من خاف الكذب، أقلّ من المواعيد. وقيل: أمران لا يسلمان من الكذب: كثرة المواعيد، وشدّة الاعتذار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 378 وقالوا: خلف الوعد، خلق الوغد. وقال المهلّب لبنيه: يا بنىّ، إذا غدا عليكم الرجل أو راح مسلّما، فكفى بذلك تقاضيا. قال الشاعر اروح لتسليم عليك وأغتدى ... فحسبك بالتسليم منى تقاضيا كفى بطلاب المرء ما لا يناله ... عناء وباليأس المصرّح ناهيا وقيل: الوعد إذا لم يشفعه إنجاز يحقّقه، كان كلفظ لا معنى له، وجسم لا روح فيه. وقالوا: الخلف ألأم من البخل، لأنه من لم يفعل المعروف، لزمه ذمّ اللؤم «1» ، وذمّ الخلف، وذمّ العجز. قال بعض الشعراء وعدت فأكذبت المواعيد جاهدا ... وأقلعت إقلاع الجهام بلا وبل وأجررت لى حبلا طويلا تبعته ... ولم أدر أن اليأس في طرف الحبل وقال أبو تمّام وما نفع من قد مات بالأمس صاديا ... إذا ما سماء اليوم طال انهمارها وما العرف بالتّسويف الا كخلّة ... تسلّيت عنها حين شطّ مزارها والعرب تضرب المثل بمواعيد عرقوب، وكان رجلا من العماليق وله في ذلك حكايات، فمنها: أنه أتاه أخ له، يسأله شيئا، فقال له عرقوب: إذا أطلعت هذه النخلة فلك طلعها، فلما أطلعت، أتاه الرجل للعدة، فقال: دعها حتى تصير بلحا، فلما أبلحت، أتاه، فقال: دعها حتى تصير زهوا، فلما أزهت، قال: دعها حتى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 379 تصير رطبا، فلما أرطبت، قال: دعها حتى تصير تمرا، فلما أتمرت، عمد إليها عرقوب، فجذّها ولم يعط أخاه منها شيئا. وفيه يقول الأشجعىّ وعدت وكان الخلف منك سجيّة ... مواعيد عرقوب أخاه بيثرب «1» وقال كعب بن زهير بن أبى سلمى كانت مواعيد عرقوب لها مثلا ... وما مواعيدها إلا الأباطيل وقال السّكّيت للمهدىّ: يا أمير المؤمنين، لو كان الوعد يستنزل بالإهمال والسكون، لشكرتك القلوب بالضمير، ولنظرت إلى فضلك العيون بالأوهام، فقال المهدىّ: هذا جزاء التفريط فيما يكسب الأجر، ويدخر الشكر، وأمر بقضاء حاجته. وقال أعرابىّ: العذر الجميل، أحسن من المطل الطويل، فإن أردت الإنعام فأنجح، وإن تعذّرت الحاجة فأفصح. وقال بعض كرماء العرب: لأن أموت عطشا، أحبّ إلىّ من أن أخلف موعدا. وقالوا: من وعد فأخلف، لزمته ثلاث مذمّات: ذمّ اللّؤم، وذمّ الخلف، وذمّ الكذب؛ وقال بعض الشعراء ولا خير في وعد إذا كان كاذبا ... ولا خير في قول إذا لم يكن فعل فإن تجمع الآفات فالبخل شرّها ... وشرّ من البخل المواعيد والمطل قال بعض الأعراب: فلان له مواعيد عواقبها المطل، وثمارها الخلف، ومحصولها اليأس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 380 وقال آخر: فلان له وعد مطمع، ومطل مؤيس، وأنت منه أبدا بين يأس وطمع، فلا بذل مريح، ولا منع صريح. وقال الثعالبىّ: أوّل من أخلف المواعيد ولم يف بشىء منها: إسماعيل بن صبيّح كاتب الرشيد، وما كان الرؤساء يعرفون قبله المواعيد الكاذبة ذكر ما قيل في العىّ والحصر قال الله عزّوجلّ: (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ) وقال تعالى إخبارا عن فرعون عند افتخاره على موسى بالبيان: (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ) قال أهل التفسير: إن موسى عليه السّلام لما سمع هذا القول قال: (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي) الآية، فقال الله تعالى: (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) . وقيل: حدّ العىّ معنى قصير، يحويه لفظ طويل. وقال أكثم بن صيفىّ: هو أن تتكلّم فوق ما تقتضيه حاجتك. وقالوا: الفقير الناطق، أغنى من الغنىّ الساكت. وقال كسرى: الصّمت خير من غىّ الكلام. وقالوا: فضّل الإنسان على ما عداه من الحيوان بالبيان، فإذا نطق ولم يفصح عاد بهيما. وقالوا: العىّ داء دواؤه الخرس. ومن علامات العىّ الاستعانة، وهى أن ترى المخاطب إذا كلّ لسانه عند مقاطع كلامه، يقول للمخاطب: اسمع منّى، أو سمعت لى، وافهم عنى، وأشباه ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 381 ومنهم من يقول: قولى كذا، أعنى به كذا، ولا يريد التفسير، ولكنه يعيد كلامه بصيغة أخرى تكون غير مراده الأوّل ليفهم عنه. ومن عيوب اللسان، التّمتمة، والفأفأة، والعقلة، والحبسة، واللّفف، والرّتّة، والغمغمة، والطّمطمة، واللّكنة، والغنّة، واللّثغة. فالتمتمة، قال الأصمعىّ: إذا تعتع في التاء فهو تمتام، وإذا ردّد في الفاء فهو فأفاء، قال الراجز ليس بفأفاء ولا تمتام ... ولا كثير الهجر في الكلام والعقلة: التواء اللسان عند الكلام؛ والحبسة: تعذّر النطق، ولم تبلغ حدّ الفأفاء ولا التمتام، ويقال: إنها تعرض أوّل الكلام، فإذا مرّ فيه انقطعت. واللّفف: إدخال بعض الكلام في بعص؛ قال الراجز كانّ فيه لففا إذا نطق ... من طول تحبيس وهمّ وأرق والرّتّة: اتصال بعض الكلام ببعض دون إفادة؛ والغمغمة: أن تسمع الصوت ولا يتبيّن لك تقطيع الحروف، ولا تفهم معناه؛ والطمطمة: أن يكون الكلام شبيها بكلام العجم، وهى حميريّة، وقالوا: هى إبدال الطاء بالتاء لأنهما من مخرج واحد، فيقول: السّلتان والشّيتان، وأشباه ذلك، قيل: وكانت في لسان زياد بن سلمى، وكان خطيبا شاعرا كاتبا؛ واللّكنة: إدخال بعض حروف العرب في حروف العجم، وتشترك فيها اللغة التركية والنبطيّة، وهى إبدال الهاء حاء، وانقلاب العين همزة، وكانت في لسان عبيد الله بن زياد، وصهيب الرومىّ صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وقيل: إن مولى لزياد، قال له: أيها الأمير، أحدوا لنا همار وهش: يريد: أهدوا لنا حمار وحش، فلم يفهم زياد عنه، وقال: ويلك! ماذا تقول؟ قال: أحدوا لنا أيرا: يريد عيرا، فقال زياد: أرجعنا إلى الأول فهو خير؛ والغنّة: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 382 أن يشرب الصوت الخيشوم؛ والخنّة: ضرب منها؛ والترخيم: حذف بعض الكلمة لتعذّر النطق بها؛ واللّثغة: إبدال ستة حروف بغيرها، وهى الهمزة والراء والسين والقاف والكاف واللام، فالتى تعرض للهمزة، فهى إبدالها عينا، فإذا أراد أن يقول: أنت، قال: عنت وهى مستعملة في لسان التّكرور، وأما التى تعرض فى الراء، فهى ستة أحرف، فمنهم من يجعلها غينا معجمة فيقول (عمغ) : يريد عمر، وهى غالبة على لسان أهل دمشق، وإذا اجتمعت الراء والغين في كلمة كقولهم: رغيف، قال: (غريف) ، وفغرت بمكان فرغت: فيبدلون كلّ حرف بالآخر، قيل: وكانت في لسان محمد بن شبيب الخارجىّ، وواصل بن عطاء المعتزلىّ، وكان لاقتداره على الكلام، وغزارة مادته، يتجنب النطق بها، وفيه يقول الشاعر من ابيات ويجعل البرّ قمحا في تصرّفه ... وجانب الرّاء حتى احنال للشّعر ولم يطق مطرا والقول يعجله ... فعاد بالغيث إشفاقا من المطر ومنهم من يجعلها عينا مهملة، فيقول في أزرق: أزعق، وهى في لسان عوامّ أهل دمشق، ومنهم من يجعلها ياء، فيقول في عمر: عمى، ومنهم من يبدلها بالظاء أخت الطاء، ومنهم من يبدلها همزة، فإذا أراد أن يقول: رأيت، قال: أأيت، وأما التى تعرض للسين، فإنهم يبدلونها ثاء، فيقولون: بثم الله، ويثرة الله: إذا أرادوا بسم الله، ويسرة الله، أو أشباه ذلك، وهى مستحسنة في الجوارى والغلمان. قال الشاعر وأهيف كالهلال شكوت وحدى ... إليه لحسنه وأطلت بثّى وقلت له فدتك النفس صلنى ... تحز فيّ الثواب فقال بثّى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 383 وأما التى تعرض للقاف، فإن صاحبها يجعل القاف طاء، فإذا أراد أن يقول: قال، وقلت، نطق: بطال، وطلت، وهى نبطيّة، وكانت في لسان أبى مسلم صاحب الدعوة، وعبيد الله بن زياد؛ ومنهم من يجعلها كافا فيقول: كال وكلت؛ وأمّا التى تعرض للكاف، فمنهم من يجعلها همزة، فيقول: أأف، ومنهم من يبدلها تاء، فيقول: تان، إذا أراد: كان، وأما التى تعرض في اللام، فمنهم من يبدلها ياء، فيقول: اعتييت، بمعنى: اعتللت، ويقول في جمل: جمى، وإذا أقسم بالله، يقول: ويّاه، ومنهم من يبدل الخاء المعجمة حاء مهملة، فيقول في خوخ: حوح؛ وتستحسن في الغلمان والجوارى، ومنهم من يبدل الجيم ضادا، فإذا اجتمع لأحد فى كلمة جيم وضاد، مثل ضجر، ونضج، قال: جضر، ونجض. والحمد لله وحده! كمل الجزء الثالث من كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب، يتلوه إن شاء الله تعالى في أوّل الجزء الرابع منه: «الباب الثالث من القسم الثالث من الفن الثانى في المجون والنوادر والفكاهات والملح» والحمد لله وحده وصلّى الله على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا وحسبنا الله ونعم الوكيل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 384 فهرس الجزء الرابع من كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب للنويرى .... صفحة الباب الثالث فى المجون والنوادر والفكاهات والملح 1 ذكر مزاحات رسول الله صلّى الله عليه وسلم 3 - ذكر من اشتهر بالمزاح من الصحابة رضوان الله عليهم 3 - ذكر شىء من مجون الأعراب 7 - من نوادر القضاة 9 - من نوادر النحاة 13 - من نوادر المتنبئين 14 - من نوادر المغفلين والحمقى 16 - من نوادر النبيذيين 17 - من نوادر النساء والجوارى 18 - من نوادر العميان 22 - من نوادر السؤال 23 - من نوادر من اشتهر بالمجون 23 - من نوادر أشعب وأخباره 24 - من نوادر أبى دلامة 36 - من نوادر أبى صدقة 48 - من نوادر الأقيشر 52 - من نوادر ابن سيابة 56 - من نوادر مطيع بن إياس الكنانى وأخباره 57 - من نوادر أبى الشبل 63 - من نوادر حمزة بن بيض الحنفى 65 - من نوادر أبى العيناء عفا الله عنه 68 - ذكر ما ورد في كراهة المزح 72 - من الشعر المناسب لهذا الباب والداخل فيه 74 الباب الرابع فى الخمر وتحريمها، وآفاتها، وجناياتها، وأسمائها، وأخبار من تنزّه عنها فى الجاهلية، ومن حدّ فيها من الأشراف، ومن اشتهر بها، ولبس ثوب الخلاعة بسببها، وما قيل فيها من جيّد الشعر، وما قيل في وصف آلاتها وآنيتها، وما قيل في مبادرة اللذات، وما وصفت به المجالس، وما يجرى هذا المجرى 102 ذكر ما قيل في الخمر وتحريمها 76 - ما ورد في تحريمها في كتاب الله وبينته السنة 81 - ما قيل في إباحة المطبوخ 82 - آفات الخمر وجناياتها 83 - أسماء الخمر من حيث تعصر الى أن تشرب 86 - أخبار من تنزه عنها في الجاهلية وتركها ترفعا عنها 88 الجزء: مقدمةج 4 ¦ الصفحة: 1 ... صفحة ذكر من حدّ فيها من الأشراف ومن شربها منهم ومن اشتهر بها ولبس فيها ثوب الخلاعة ومن افتخر بشربها: 90 من حدّ فيها من الأشراف 90 - من شربها منهم واشتهر بها 92 - من افتخر بشربها وسبائها 103 ذكر شىء مما قيل فيها من جيّد الشعر: 107 ما قيل فيها على سبيل المدح لها 107 - ما قيل في وصفها وتشبيهها 108 - ما قيل في أفعالها 112 - ما وصفت به غير ما قدّمناه 113 - ما قيل فيها اذا مزجت بالماء 115. ذكر ما قيل في مبادرة اللذات ومجالس الشراب وطيها: 118 ما وصفت به مجالس الشرب 119 - ما قيل في طىّ مجالس الشراب 121 ذكر ما قيل في وصف آلات الشراب وأوانيها: 121 ما قيل في الراووق 122 - ما وصفت به زقاق الخمر 123 - ما وصفت به الأباريق 123 - ما وصفت به الكاسات والأقداح 124 الباب الخامس فى الندمان والسقاة 126 ما قيل في السقاة 129 الباب السادس فى الغناء والسماع وما ورد في ذلك من الحظر والإباحة وما استدل به من رأى ذلك ومن سمع الغناء من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، ومن التابعين ومن الأئمة والعبّاد والزهّاد، ومن غنّى من الخلفاء وأبنائهم والأشراف والقوّاد والأكابر، وأخبار المغنين الذين نقلوا الغناء من الفارسية الى العربية، ومن أخذ عنهم، ومن اشتهر بالغناء وأخبار القيان 160 ذكر ما ورد في الغناء من الحظر والاباحة 133 - ما قيل في تحريم الغناء وما استدل به من رأى ذلك 133 - دليلهم من الكتاب العزيز 134 - دليلهم من السنة 134 - أقوال الصحابة والتابعين رضى الله عنهم 135 - أقوال الأئمة رحمهم الله تعالى 136 - ما ورد في إباحة الغناء والسماع والضرب بالآلة 137 - ما استدلوا به على إباحة الغناء من الأحاديث النبوية 138 - ما ورد في الضرب بالآلة 140 - فى اليراع 142 - فى القصب والأوتار 143 - فى المزامير والملاهى 145 - ذكر ما ورد في توهين الجزء: مقدمةج 4 ¦ الصفحة: 2 ما استدلوا به على تحريم الغناء والسماع 147 - ما احتجوا به من الآيات 147 - ما احتجوا به من الحديث 151 - ذكر أقسام السماع وبواعثه 167 - ذكر العوارض التى يحرم معها السماع 171 - العارض الأوّل 171 - الثانى في الآلة 172 - الثالث في نظم الصوت 172 - الرابع في المستمع 173 - العارض الخامس 174 - ذكر آثار السماع وآدابه 174 - من سمع الغناء من الصحابة والتابعين رضى الله عنهم 190 - من سمع الغناء من الأئمة والعباد والزهاد 194 - من غنى من الخلفاء وأبنائهم ونسبت له أصوات من الغناء نقلت عنه 200 - من غنى من الخلفاء 200 - وممن غنى من خلفاء الدولة العباسية 201 - أبناء الخلفاء الذين لهم صنعة ويد في هذا الفن 205 - من غنى من الأشراف والعلماء رحمهم الله 227 - من غنى من الأعيان والأكابر والقوّاد ممن نسبت له صنعة في الغناء 231 ذكر أخبار المغنين الذين نقلوا الغناء من الفارسية الى العربية ومن أخذ عنهم ومن اشتهر بالغناء: 239 أخبار سعيد بن مسجح 239 - أخبار سائب خاثر 243 - أخبار طويس 246 - أخبار عبد الله بن سريج 249 - أخبار معبد 262 - أخبار الغريض وما يتصل بها من أخبار عائشة بنت طلحة 267 - أخبار محمد ابن عائشة 280 - أخبار ابن محرز 287 - أخبار مالك بن أبى السمح 288 - أخبار يونس الكاتب 292 - أخبار حنين 293 - أخبار سياط 295 - أخبار الأبجر 297 - أخبار أبى زيد الدلال 298 - أخبار عطرّد 302 - أخبار عمر الوادى 304 - أخبار حكم الوادى 305 - أخبار ابن جامع 306 - أخبار عمرو بن أبى الكنات 308 - أخبار أبى المهنأ مخارق 312 - أخبار يحيى بن مرزوق المكىّ 320 - أخبار أحمد بن يحيى المكى الملقب بطنين 321 - أخبار هاشم بن سليمان مولى بنى أمية 322 - أخبار يزيد حوراء 323 - أخبار فليح بن أبى العوراء 326 - أخبار إبراهيم الموصلى عفا الله عنه 328 - نبذة من أخبار إبراهيم الموصلى مع البرامكة رحمهم الله تعالى 335. الجزء: مقدمةج 4 ¦ الصفحة: 3 الجزء الرابع من كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اللهم صل أفضل صلاة على أفضل خلقك سيدنا محمد وآله وسلّم. [ تتمة الفن الثاني في الإنسان وما يتعلق به ] [تتمة القسم الثالث في المدح والهجو و ... ] الباب الثالث من القسم الثالث من الفن الثانى (فى المجون والنوادر والفكاهات والملح) وهذا الباب مما تنجذب النفوس اليه، وتشتمل الخواطر عليه؛ فإن فيه راحة للنفوس إذا تعبت وكلّت، ونشاطا للخواطر إذا سئمت وملّت؛ لأن النفوس لا تستطيع ملازمة الأعمال، بل ترتاح إلى تنقل الأحوال. فإذا عاهدتها بالنوادر فى بعض الأحيان، ولا طفتها بالفكاهات في أحد الأزمان، عادت إلى العمل الجدّ بنشطة جديدة، وراحة في طلب العلوم مديدة. وقد روى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «روّحوا القلوب ساعة بعد ساعة فإن القلوب إذا كلّت عميت» . وقال علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: أجمّوا «1» هذه القلوب والتمسوا لها طرق الحكمة، فإنها تملّ كما تملّ الأبدان، والنفس مؤثرة للهوى، آخذة بالهوينى، جانحة إلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1 اللهو، أمّارة بالسوء، مستوطنة بالعجز، طالبة للراحة، نافرة عن العمل؛ فإن «1» أكرهتها أنضيتها، وإن أهملتها أرديتها. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يضحك حتى تبدو نواجذه. وكان محمد بن سيرين يضحك حتى يسيل لعابه. وقال هشام بن عبد الملك: قد أكلت الحلو والحامض حتى ما أجد لواحد منهما طعما، وشممت الطّيب حتى ما أجد له رائحة، وأتيت النساء حتى ما أبالى أمرأة أتيت أم حائطا؛ فما وجدت شيئا ألذّ إلىّ من جليس تسقط بينى وبينه مؤنة «2» التحفّظ. وقال أحمد بن عبد ربه: الملح نزهة النفس، وربيع القلب، ومرتع السمع، ومجلب الراحة، ومعدن السرور. وقال أيضا: إن في بعض الكتب المترجمة أن يوحنّا وشمعون كانا من الحواريّين، فكان يوحنا لا يجلس مجلسا إلا ضحك وأضحك من حوله، وكان شمعون لا يجلس مجلسا إلا بكى وأبكى من حوله. فقال شمعون ليوحنا: ما أكثر ضحكك! كأنك قد فرغت من عملك! فقال له يوحنا: ما أكثر بكاك! كأنك قد يئست من ربك. فأوحى الله إلى عيسى بن مريم عليه السّلام: أنّ أحبّ السيرتين إلىّ سيرة يوحنا. والعرب إذا مدحوا الرجل قالوا: هو ضحوك السنّ، بسّام العشيّات «3» ، هشّ الى الضيف. وإذا ذمّته قالت: هو عبوس الوجه، جهم المحيّا، كريه المنظر، حامض الوجه «كأنما وجهه بالخل منضوح» . وكأنما أسعط خيشومه بالخردل. وقيل لسفيان: المزاح هجنة؛ فقال: بل سنّة، لقوله عليه الصلاة والسلام: «إنى لأمزح ولا أقول إلا الحق» ، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2 ذكر مزاحات رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقد مزح رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ فمن ذلك: أنه قال صلّى الله عليه وسلم لرجل استحمله: «نحن حاملوك على ولد الناقة» يريد: البعير. وقال صلّى الله عليه وسلم لامرأة من الأنصار: «الحقى زوجك ففى عينه بياض» . فسعت المرأة نحو زوجها مرعوبة؛ فقال لها: مادهاك؟ فقالت: قال لى رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إنّ في عينك بياضا؛ فقال: إن في عينى بياضا لا لسوء. وأتته عجوز أنصاريّة فقالت: يا رسول الله، ادع لى بالمغفرة. فقال لها: «أما علمت أنّ الجنة لا يدخلها العجز» ! فصرخت؛ فتبسّم صلّى الله عليه وسلم وقال لها: «أما قرأت (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً عُرُباً أَتْراباً) . ونظر عمر بن الخطاب رضى الله عنه إلى أعرابىّ قد صلّى صلاة خفيفة، فلما قضاها قال: اللهم زوّجنى بالحور العين؛ فقال عمر: يا هذا! أسأت النقد، وأعظمت الخطبة. ذكر من اشتهر بالمزاح من الصحابة رضوان الله عليهم كان أشهرهم بالمزاح رضى الله عنهم نعيمان، وهو أحد أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم البدريّين، وله رضى الله عنه مزاحات مشهورة، منها ما روى: أنه خرج مع أبى بكر الصّدّيق إلى بصرى، وكان في الحملة سويبط، وهو بدرىّ أيضا، وكان سويبط على الزاد؛ فجاءه نعيمان فقال له: أطعمنى؛ قال: لا، حتى يأتى أبو بكر. فقال نعيمان: والله لأغيظنّك. وجاء إلى أناس جلبوا ظهرا، فقال ابتاعوا منى غلاما عربيا فارها إلا أنه دعّاء، له لسان، لعله يقول: أنا حرّ؛ فإن كنتم تاركيه لذلك فدعوه، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 3 لا تفسدوا علىّ غلامى. قالوا: بل نبتاعه منك بعشر قلائص. فأقبل بها يسوقها، وأقبل بالقوم حتى عقلها، ثم قال: دونكم! هذا هو. فقالوا: قد اشتريناك. فقال سويبط: هو كاذب، أنا رجل حرّ؛ فقالوا: قد أخبرنا خبرك، ووضعوا في عنقه حبلا وذهبوا به. فجاء أبو بكر رضى الله عنه فأخبر بذلك، فذهب هو وأصحابه، فردّوا القلائص على أربابها وأخذوه. وأخبر النبىّ صلّى الله عليه وسلم بالقصة فضحك منها حولا. ومن مزاحاته: أنه أهدى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم جرّة عسل اشتراها من أعرابىّ، وأتى بالأعرابىّ إلى باب النبىّ صلّى الله عليه وسلم فقال: خذ الثمن من هاهنا. فلما قسمها النبىّ صلّى الله عليه وسلم نادى الأعرابىّ: ألا أعطى ثمن عسلى؟! فقال النبى صلّى الله عليه وسلم: «إحدى هنات نعيمان» . وسأله: لم فعلت هذا؟ فقال: أردت برّك يا رسول الله، ولم يكن معى شىء. فتبسّم النبىّ صلّى الله عليه وسلم وأعطى الأعرابىّ حقّه. ومن مزاحاته أيضا: أنه مرّ يوما بمخرمة بن نوفل الزّهرىّ، وهو ضرير، فقال له: قدنى حتى أبول، فأخذ بيده حتى إذا كان في مؤخّر المسجد قال له: اجلس؛ فجلس مخرمة ليبول؛ فصاح الناس: يا أبا المسور، أنت في المسجد. فقال: من قادنى؟ فقيل له: نعيمان. قال: لله علىّ أن أضربه بعصاى إن وجدته. فبلغ ذلك نعيمان، فجاء يوما فقال لمخرمة: يا أبا المسور، هل لك في نعيمان؟ قال نعم. قال: هو ذا يصلى. وأخذ بيده وجاء به إلى عثمان بن عفّان رضى الله عنه وهو يصلّى، فقال: هذا نعيمان؛ فعلاه مخرمة بعصاه؛ فصاح به الناس: ضربت أمير المؤمنين. فقال: من فادنى؟ قالوا: نعيمان؛ فقال: لا جرم لا عرضت له بسوء أبدا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 4 ومنهم ابن أبى عتيق، وهو عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبى بكر الصدّيق رضى الله عنهم. وكان ذا ورع وعفاف وشرف، وكان كثير المجون، وله نوادر مستظرفة، منها: أنه لقى عبد الله بن عمر بن الخطاب رضى الله عنه فقال: ما تقول فى إنسان هجانى بشعر، وهو: أذهبت مالك غير متّرك ... فى كل مؤنسة وفي الخمر «1» ذهب الإله بما تعيش به ... وبقيت وحدك غير ذى وفر فقال عبد الله بن عمر: أرى أن تأخذ بالفضل وتصفح. فقال له عبد الله بن محمد ابن عبد الرحمن: والله أرى غير ذلك. فقال: وما هو؟ قال: أرى أن أنيكه. فقال ابن عمر: سبحان الله! ما تترك الهزل! وافترقا. ثم لقيه بعد ذلك فقال له: أتدرى ما فعلت بذلك الإنسان؟ فقال: أىّ إنسان؟ قال: الذى أعلمتك أنه هجانى. قال: ما فعلت به؟ قال: كل مملوك لى حرّ إن لم أكن نكته. فأعظم ذلك عبد الله بن عمر واضطرب له. فقال له: امرأتى والله التى قالت الشعر وهجتنى به. وكانت امرأته أمّ إسحاق «2» بنت طلحة بن عبيد الله. وقد مدح الشعراء اللعب في موضعه، كما مدح الجدّ في موضعه؛ فقال أبو تمّام: الجدّ شيمته وفيه فكاهة ... طورا ولا جدّ لمن لم يلعب وقال الأبيرد رحمة الله عليه: اذا جدّ عند الجدّ أرضاك جدّه ... وذو باطل إن شئت ألهاك باطله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 ومن مجون عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن ما حكى أنّ جاريته قالت له: إن فلانا القارىء، وكان يظهر النسك، قد قطع علىّ الطريق وآذانى ويقول لى: أنا أحبّك. فقال لها: قولى له: وأنا أحبّك أيضا، وواعديه المنزل؛ ففعلت وأدخلته المنزل؛ وكان عبد الله قد واعد جماعة من أصحابه ليضحكوا من الرجل. ودخلت الجارية الى البيت الذى فيه الرجل، فدعاها فاعتلّت عليه؛ فوثب إليها [فاحتملها «1» وضرب بها الأرض؛ فدخل عليه ابن أبى عتيق وأصحابه وقد تورّكها؛ فخجل وقام وقال: يا فسّاق، ما تجمّعتم هاهنا إلا لريبة. فقال له ابن أبى عتيق: استر علينا ستر الله عليك. ثم لم يرتدع عن العبث بها، فشكت ذلك الى سيّدها؛ فقال لها: هيّئى من الطعام طحن ليلة الى الغداة ففعلت، ثم قال لها: عديه الليلة، فإذا جاء فقولى له: إنّ وظيفتى الليلة طحن هذا كله، ثم اخرجى الى البيت واتركيه، ففعلت. فلما دخل طحنت الجارية قليلا، ثم قالت له: أدر الرحى حتى أفتقد سيّدى؛ فاذا نام وأمنّا أن يأتينا أحد، صرت إلى ما تحبّ، ففعل؛ ومضت الجارية الى مولاها، وأمر ابن أبى عتيق عدّة من مولياته أن يتراوحن على سهر ليلتهنّ ويتفقّدن أمر الطّحن ويحثثن عليه، ففعلن وجعلن ينادين الفتى كلما كفّ عن الطحن: يا فلانة إنّ مولاك مستيقظ والساعة يعلم أنك قد كففت عن الطحن، فيقوم إليك بالعصا كعادته مع من كانت نوبتها قبلك إذا هى نامت وكفّت عن الطحن. فلم يزل كلما سمع ذلك الكلام منهن اجتهد في العمل والجارية تتفقّده وتقول له: استيقظ مولاى والساعة ينام فأصير الى ما تحبّ وهو يطحن، حتى أصبح وفرغ القمح. فأتته الجارية بعد فراغه فقالت له: قد أصبح فانج بنفسك. فقال: أو قد فعلتها يا عدوّة الله! الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 وخرج تعبا نصبا، وأعقبه ذلك مرضا شديدا أشرف منه على الموت، وعاهد الله ألّا يعود الى كلام الجارية، فلم تر منه بعد ذلك شيئا تكرهه. قال: وتعشّى عبد الله ليلة ومعه رجل من الأنصار، فوقع حجر في الدار ووقع آخر وثالث؛ فقال للجارية: اخرجى فانظرى: أذّنوا المغرب أم لا؛ فخرجت وجاءت بعد ساعة، وقالت: قد أذّنوا وصلّوا. فقال الرجل الذى كان عنده: أليس قد صلّينا قبل أن تدخل الجارية؟ قال: بلى، ولكن لو لم أرسلها تسأل عن ذلك لرجمنا الى الغداة، أفهمت؟! قال: نعم، قد فهمت. قال وسمع عبد الله بن أبى عتيق قول عمر بن أبى ربيعة. من رسولى الى الثّريّا فإنى «1» ... ضقت ذرعا بهجرها والكتاب فركب بغلته من المدينة، وسار يريد مكة، فلما بلغ ذا الحليفة «2» قيل له: أحرم؛ قال: ذو الحاجة لا يحرم، وجاء حتى دخل على الثريّا. فقال لها: ابن عمك يقول: ضقت ذرعا بهجرها والكتاب ثم ركب بغلته وعاد. ذكر شىء من مجون الأعراب سئل أعرابىّ عن جارية له يقال لها زهرة، فقيل له: أيسرّك أنك الخليفة وأن زهرة ماتت؟ فقال: لا والله! تذهب الأمة وتضيع الأمّة. وجد أعرابىّ مرآة وكان قبيح الصورة، فنظر فيها فرأى وجهه فاستقبحه، فرمى بها وقال: لشرّ ما طرحك أهلك. وقيل لأعرابىّ: لم يقال: باعك الله في الأعراب؟ فقال: لأنّا نجيع كبده، ونعرى جلده، ونطيل كدّه. وتزوّج أعرابىّ على كبر سنه، فقيل له الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 فى ذلك؛ فقال: أبادره باليتم، قبل أن يبادرنى بالعقوق. ومرّ أعرابىّ وفي يده رغيف برجل في يده سيف، فقال: بعنى هذا السيف بهذا الرغيف؛ فقال: أمجنون أنت؟ فقال الأعرابىّ: ما أنكرت منى؟ أنظر أيهما أحسن أثرا في البطن. وحكى أن المهدىّ خرج للصيد فغلبه فرسه حتى انتهى به الى خباء لأعرابىّ، فقال: يا أعرابىّ، هل من قرى؟ قال نعم، وأخرج له فضلة من خبز ملّة فأكلها وفضلة من لبن فسقاه، ثم أتى بنبيذ في زكرة «1» فسقاه قعبا «2» . فلما شرب قال: أتدرى من أنا؟ قال: لا والله. قال: أنا من خدم الخاصّة؛ قال: بارك لك الله في موضعك. ثم سقاه آخر؛ فلمّا شربه قال: أتدرى من أنا؟ قال: نعم، زعمت أنك من خدم الخاصة؛ قال: بل أنا من قوّاد أمير المؤمنين؛ فقال له الأعرابىّ: رحبت بلادك؛ وطاب مزادك ومرادك. ثم سقاه قدحا ثالثا؛ فلما فرغ منه قال: يا أعرابىّ، أتدرى من أنا؟ قال: زعمت أخيرا أنك من قوّاد أمير المؤمنين؛ قال: لا ولكنى أمير المؤمنين. فأخذ الأعرابىّ الزكاة فأوكاها «3» وقال: والله لئن شربت الرابع لتقولنّ: إنك لرسول الله؛ فضحك المهدىّ. ثم أحاطت بهم الخيل، فنزل أبناء الملوك والأشراف؛ فطار قلب الأعرابىّ؛ فقال له المهدىّ: لا بأس عليك! وأمر له بصلة. فقال: أشهد أنك صادق، ولو ادّعيت الرابعة لخرجت منها. ودخل أعرابىّ على يزيد بن المهلّب وهو على فرشه والناس سماطان، فقال: كيف أصبح الأمير؟ قال يزيد: كما تحبّ. فقال الأعرابىّ: لو كنت كما أحبّ كنت أنت مكانى وأنا مكانك؛ فضحك يزيد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 ذكر شىء من نوادر القضاة قيل: أتى عدىّ بن أرطاة شريحا القاضى ومعه امرأة له من أهل الكوفة يخاصمها اليه؛ فلما جلس عدىّ بين يدى شريح، قال عدىّ: أين أنت؟ قال: بينك وبين الحائط. قال: إنى امرؤ من أهل الشام؛ قال: بعيد الدار. قال: وإنى قدمت العراق؛ قال: خير مقدم. قال: وتزوّجت هذه المرأة؛ قال: بالرفاء والبنين. قال: وإنها ولدت غلاما؛ قال: ليهنك الفارس. قال: وقد أردت أن أنقلها إلى دارى؛ قال: المرء أحق بأهله. قال: كنت شرطت لها دارها؛ قال: الشرط أملك. قال: اقض بيننا؛ قال: قد فعلت. قال: فعلى من قضيت؟ قال: على ابن أمّك. ودخل على الشعبىّ في مجلس قضائه رجل وامرأته، وكانت المرأة من أجمل النساء، فاختصما اليه، فأدلت المرأة بحجتها، وقويت بيّنتها. فقال للزوج: هل عندك من دافع؟ فأنشأ يقول: فتن الشّعبىّ لمّا ... رفع الطّرف إليها فتنته بدلال ... وبخطّى حاجبيها قال للجلواز «1» قرّب ... ها وقدّم شاهديها فقضى جورا على الخص ... م ولم يقض عليها قال الشعبىّ: فدخلت على عبد الملك بن مروان؛ فلما نظر إلىّ تبسّم وقال: فتن الشعبىّ لما ... رفع الطرف اليها ثم قال: ما فعلت بقائل هذه الأبيات؟ قلت: أوجعته ضربا يا أمير المؤمنين بما انتهك من حرمتى في مجلس الحكومة وما افترى به علىّ. قال: أحسنت!. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 9 وأحضر رجل امرأته الى بعض قضاة البصرة، وكانت حسنة المنتقب، قبيحة المسفر؛ فمال القاضى لها على زوجها وقال: يعمد أحدكم الى المرأة الكريمة فيتزوّجها ثم يسىء اليها. ففطن الرجل لميله اليها فقال: أصلح الله القاضى، قد شككت فى أنها امرأتى، فمرها تسفر عن وجهها؛ فوقع ذلك بوفاق من القاضى، فقال لها: اسفرى رحمك الله؛ فسفرت عن وجه قبيح. فقال القاضى لمّا نظر الى قبح وجهها: قومى عليك لعنة الله! كلام مظلوم، ووجه ظالم. قيل: بينا رقبة بن مصقلة القاضى في حلقته، إذ مرّ به رجل غليظ العنق؛ فقال له بعض جلسائه: يا أبا عبد الله، هذا أعبد الناس. فقال رقبة: إنى لأرى لهذا عنقا ما دقّقتها» العبادة. قال: فمضى الرجل وعاد قاصدا اليهم. فقال رجل لرقبة: يا أبا عبد الله، أخبره بما قلت حتى لا تكون غيبة؛ قال: نعم، أخبره أنت حتى تكون نميمة. ودخل رقبة الى المسجد الأعظم فألقى نفسه الى حلقة قوم، ثم قال: قتيل فالوذج رحمكم الله! قالوا: عند من؟ قال: عند من حكم في الفرقة وقضى في الجماعة، يعنى: بلال بن أبى بردة. واختصم رجلان الى إياس بن معاوية وهو قاضى البصرة لعمر بن عبد العزيز فى مطرف خزّو أنبجانىّ، وادّعى كل واحد منهما أن المطرف له وأن الأنبجانىّ لصاحبه. فدعا إياس بمشط وماء، فبلّ رأس كل واحد منهما، ثم قال لأحدهما: سرّح رأسك فسرّحه، فخرج في المشط عفر المطرف، وفي مشط الآخر عفر الأنبجانىّ؛ فقال: يا خييث! الأنبجانىّ لك، فأقرّ، فدفع المطرف لصاحبه. وقال رجل لإياس: هل ترى علىّ من بأس إن أكلت تمرا؟ قال لا. قال: فهل ترى علىّ من بأس ان أكلت معه كيسوما؟ قال لا. قال: فإن شربت عليهما ماء؟ قال: جائز. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 10 قال: فلم تحرّم السكر، وإنما هو ما ذكرت لك؟ قال له إياس لو صببت عليك ماء هل كان يضرّك؟ قال لا. قال: فلو نثرت عليك ترابا هل كان يضرّك؟ قال لا. قال: فإن أخذت ذلك فخلطته وعجبته وجعلت منه لبنة عظيمة فضربت بها رأسك هل كان يضرّك؟ قال: كنت تقتلنى. قال: فهذا مثل ذاك. دعا الرشيد أبا يوسف القاضى فسأله عن مسألة فأفتاه؛ فأمر له بمائة ألف درهم. فقال] إن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بتعجيلها قبل الصبح! فقال: عجلّوها له. فقيل: إن الخازن في بيته والأبواب مغلقة. فقال أبو يوسف: وقد كنت في بيتى والدروب مغلقة، فلما دعيت فتحت. فقال له الرشيد: بلغنى أنك لا ترى لبس السواد. فقال: يا أمير المؤمنين، ولم وليس في بدنى شىء أعزّ منه؟ قال: وما هو؟ قال: السواد الذى في عينىّ. وسأل الرشيد الأوزاعىّ عن لبس السواد، فقال: لا أحرّمه، ولكنى أكرهه. قال: ولم؟ قال: لأنه لا تجلى فيه عروس، ولا يلبّى فيه محرم، ولا يكفّن فيه ميت. فالتفت الرشيد الى أبى يوسف وقال: ما تقول أنت في السواد؟ قال: يا أمير المؤمنين، النور في السواد. فاستحسن الرشيد ذلك. ثم قال: وفضيلة أخرى يا أمير المؤمنين، قال: وما هى؟ قال: لم يكتب كتاب الله إلا به؛ فاهتزّ الرشيد لذلك. تقدّم رجل الى أبى حازم عبد الحميد بن عبد العزيز السّكونىّ قاضى المعتمد، وقدّم أباه يطالبه بدين له عليه، فأقرّ الأب بالدين، وأراد الابن حبس والده. فقال القاضى: هل لأبيك مال؟ قال: لا أعلمه. قال: فمذكم داينته بهذا المال؟ قال: منذ كذا وكذا. قال: قد فرضت عليك نفقة أبيك من وقت المداينة؛ فحبس الابن وخلّى الأب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 11 كان عبد الملك بن عمر قاضى الكوفة، فهجاه هذيل الأشجعىّ بأبيات منها: اذا ذات دلّ كلّمته بحاجة ... فهمّ بأن يقضى تنحنح أو سعل فكان عبد الملك يقول: قاتله الله! والله لربما جاءتنى النحنحة وأنا في المتوضّأ فأذكر ما قال فأردّها. وقيل: شهد سلمى الموسوس عند جعفر بن سليمان على رجل، فقال: هو- أصلحك الله- ناصبىّ، رافضىّ، قدرىّ، مجبرىّ، يشتم الحجاج بن الزبير الذى يهدم الكعبة على علىّ بن أبى سفيان. فقال له جعفر: ما أدرى على أى شىء أحسدك: على علمك بالمقالات، أم على معرفتك بالأنساب! فقال: أصلح الله الأمير، ما خرجت من الكتّاب، حتى حذفت هذا كله ورائى. واستفتى بعض القضاة، وقد نسبت الى القاضى أبى بكر بن قريعة، فقيل له: ما يقول سيدنا القاضى أيده الله في رجل باع حجرا «1» من رجل، فحين رفع ذنبها ليقلّبه خرجت منها ريح مصوّتة اتصلت بحصاة ففقأت عين المشترى؟ أفتنا في الدية والردّ يرحمك الله. فأجاب: لم تجر العادة بمثل هذه البدائع، بين مشتر وبائع؛ فلذلك لم يثبت في كتب الفقهاء، ولم يستعمل في فتوى العلماء؛ لكن هذا وما شاكله يجرى مجرى الفضول، المستخرج من أحكام العقول، والقول فيه- وبالله العصمة من الزلل والخطل-: أن دية ما جنته الحجر ملغى في الهدر، عملا بقول النبىّ المختار، صلى الله عليه وعلى آله الأطهار، «جرح العجماء جبار» ؛ لا سيما والمشترى عند كشفه لعورتها، استثار كامن سورتها. وعلى البائع لها ارتجاعها، وردّ ما قبض من ثمنها، لأنه دلّس حجرا مضيقا منجنيقها. وإذا كانت السهام طائشة، فهى من العيوب الفاحشة. وكيف يمتنع ردّها وأغراضها نواظر الحدق، وقلّما يستظهر المقلّبون الخيل بالدّرق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 12 ذكر شىء من نوادر النّحاة قدّم رجل من النحاة خصما الى القاضى، وقال: لى عليه مائتان وخمسون درهما. فقال لخصمه: ما تقول؟ فقال: أصلح الله القاضى، الطلاق لازم له، إن كان له إلا ثلاثمائة، وإنما ترك منها خمسين ليعلم القاضى أنه نحوىّ. ومرّ أبو علقمة بأعدال قد كتب عليها: ربّ سلّم لأبو فلان؛ فقال لأصحابه: لا إله إلا الله! يلحنون ويربحون. وجاء رجل الى الحسن البصرىّ فقال: ما تقول في رجل مات فترك أبيه وأخيه؟ فقال الحسن: ترك أباه وأخاه. فقال: ما لأباه وأخاه؛ فقال الحسن: ما لأبيه وأخيه. فقال الرجل: إنى أراك كلما طاوعتك تخالفنى!. وقيل سكر هارون بن محمد ابن عبد الملك ليلة بين يدى الموفّق، فقام لينصرف فغلبه السكر فنام في المضرب. فلما انصرف الناس جاء راشد الحاجب فأنبهه وقال: يا هارون انصرف، فقال: هارون لا ينصرف، فأعاد راشد القول على هارون، فقال هارون: سل مولاك فهو يعلم أن هارون لا ينصرف. فسمع الموفّق فقال: هارون لا ينصرف؛ فتركه راشد. فلما أصبح الموفّق وقف على أن هارون بات في مضربه؛ فأنكر على راشد، وقال: يا راشد، يبيت في مضربى رجل لا أعلم به! فقال: أنت أمرتنى بهذا، قلت: هارون لا ينصرف. فضحك وقال: ما أردت إلا الإعراب وظننت أنت غيره. وقيل: قدم العريان بن الهيثم على عبد الملك، فقيل له: تحفّظ من مسلمة فإنه يقول: لأن يلقمنى رجل بحجر أحبّ إلىّ من أن يسمعنى رجل لحنا. فأتاه العريان ذات يوم فسلّم عليه. فقال له مسلمة: كم عطاءك؟ قال: ألفين. فنظر الى رجل عنده وقال له: لحن العراقىّ؛ فلم يفهم الرجل عن مسلمة، فأعاد مسلمة القول على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 13 العريان وقال: كم عطاؤك؟ فقال: ألفان. فقال: ما الذى دعاك الى اللحن أوّلا والإعراب ثانيا؟ قال: لحن الأمير فكرهت أن أعرب، وأعرب فأعربت. فاستحسن قوله وزاد في عطائه. ووقف نحوىّ على بقّال يبيع الباذنجان فقال له: كيف تبيع؟ قال: عشرين بدانق، فقال: وما عليك أن تقول: عشرون بدانق؟ فقدّر البقّال أنه يستر يده، فقال ثلاثين بدانق. فقال: وما عليك أن تقول: ثلاثون؟ فما زال على ذلك الى أن بلغ سبعين، فقال: وما عليك أن تقول: سبعون؟ فقال: أراك تدور على الثمانون وذلك لا يكون أبدا. ذكر شىء من نوادر المتنبئين قيل: ادّعى رجل النبوّة في أيام المهدى، فأدخل عليه؛ فقال له: الى من بعثت؟ فقال: ما تركتمونى أذهب الى من بعثت اليهم، فإنى بعثت بالغداة وحبستمونى بالعشىّ. فضحك المهدىّ منه وأمر له بجائزة وخلّى سبيله. وتنبأ رجل وادّعى أنه موسى بن عمران، فبلغ خبره الخليفة، فأحضره وقال له: من أنت؟ قال: أنا موسى بن عمران الكليم. قال: وهذه عصاك التى صارت ثعبانا! قال نعم. قال: فألقها من يدك ومرها أن تصير ثعبانا كما فعل موسى. قال: قل أنت (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) كما قال فرعون حتى أصيّر عصاى ثعبانا كما فعل موسى. فضحك الخليفة منه واستظرفه. وأحضرت المائدة، فقيل له: أكلت شيئا؟ قال: ما أحسن العقل! لو كان لى شىء آكله، ما الذى كنت أعمل عندكم؟ فأعجب الخليفة وأحسن اليه. وادّعت امرأة النبوّة على عهد المأمون؛ فأحضرت اليه فقال لها: من أنت؟ قالت: أنا فاطمة النبيّة. فقال لها المأمون: أتؤمنين بما جاء به محمد صلّى الله عليه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 14 وسلم؟ قالت: نعم، كل ما جاء به فهو حق. فقال المأمون: فقد قال محمد صلّى الله عليه وسلم «لا نبىّ بعدى» . قالت: صدق عليه الصلاة والسلام، فهل قال: لا نبية بعدى؟ فقال المأمون لمن حضره: أمّا أنا فقد انقطعت، فمن كانت عنده حجة فليأت بها، وضحك حتى غطّى على وجهه. وادّعى رجل النبوّة؛ فقيل له: ما علامات نبوّتك؟ قال: أنبئكم بما في نفوسكم. قالوا: فما في أنفسنا؟ قال: فى أنفسكم أننى كذبت ولست بنبىّ. وتنبأ رجل في أيام المأمون، فأتى به إليه؛ فقال له: أنت نبىّ؟ قال نعم. قال: فما معجزتك؟ قال: ما شئت. قال: أخرج لنا من الأرض بطّيخة. قال: أمهلنى ثلاثة أيام. قال المأمون: بل الساعة أريدها. قال: يا أمير المؤمنين، أنصفنى، أنت تعلم أن الله ينبتها في ثلاثة أشهر، فلا تقبلها منى في ثلاثة أيام! فضحك منه، وعلم أنه محتال، فآستتابه ووصله. وادّعى آخر النبوّة في زمانه فطالبه بمعجزة، فقال: أطرح لكم حصاة في الماء فأذيبها حتى تصير مع الماء شيئا واحدا. قالوا: قد رضينا. فأخرج حصاة كانت معه فطرحها في الماء فذابت. فقالوا: هذه حيلة، ولكن أذب حصاة غيرها نأتيك بها نحن. فقال لهم: لا تتعصّبوا، فلستم أضلّ من فرعون، ولا أنا أعظم من موسى، ولم يقل فرعون موسى: لا أرضى بما تفعله بعصاك حتى أعطيك عصا من عندى تجعلها ثعبانا. فضحك المأمون منه وأجازه. وادّعى رجل النبوّة في أيام المعتصم، فأحضر بين يديه؛ فقال له: أنت نبى؟ قال نعم. قال: إلى من بعثت؟ قال: إليك. قال: أشهد إنك لسفيه أحمق. قال: إنما يذهب إلى كل قوم مثلهم. فضحك منه وأمر له بشىء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 15 وادّعى آخر النبوّة في أيام المأمون؛ فقال له: ما معجزتك؟ قال: سل ما شئت؛ وكان بين يديه قفل، فقال: خذ هذا القفل فافتحه. فقال: أصلحك الله، لم أقل إنى حدّاد. فضحك منه واستتابه وأجازه. وادّعى آخر النبوّة، فطلب ودعى له بالسيف والنّطع؛ فقال: ما تصنعون؟ قالوا: نقتلك، قال: ولم تقتلوننى؟ قالوا: لأنك ادّعيت النبوّة. قال: فلست أدّعيها. قيل له: فأىّ شىء أنت؟ قال: أنا صدّيق. فدعى له بالسياط؛ فقال: لم تضربوننى؟ قالوا: لادّعائك أنك صدّيق؛ قال: لا أدّعى ذلك. قالوا: فمن أنت؟ قال: من التابعين لهم بإحسان. فدعى له بالدّرة. قال: ولم ذلك؟ قالوا: لادّعائك ما ليس فيك؛ فقال: ويحكم! أدخل إليكم وأنا نبىّ تريدون أن تحطّونى في ساعة واحدة الى مرتبة العوامّ! لا أقلّ من أن تصبروا «1» علىّ الى غد حتى أصير لكم ما شئتم. وادّعى آخر النبوّة، وسمّى نفسه نوحا، فنهاه صديق له عن ذلك فلم ينته؛ فأخذه السلطان وصلبه؛ فمرّ به صديقه الذى كان ينهاه، فقال: يا نوح! ما حصل لك من السفينة غير الدّقل. ذكر شىء من نوادر المغفّلين والحمقى قال بعضهم: رأيت ابن خلف الهمدانىّ في صحراء وهو يطلب شيئا، فقلت له: ما تبغى هاهنا؟ قال: دفنت شيئا ولست أهتدى اليه. قلت: فهلّا علّمت عليه بشىء! قال: جعلت علامتى قطعة من الغيم كانت فوقه، وما أراها الساعة. ونظر مرة في الحبّ (وهو الزير) فرأى وجهه، فعدا الى أمّه فقال: يا أمّى في الحبّ لصّ. فجاءت أمه وتطلّعت فيه، فقالت: إى والله ومعه قحبة. ورئى في وسط داره الجزء: 4 ¦ الصفحة: 16 وهو يعدو عدوا شديدا ويقرأ بصوت عال. فسئل عن ذلك فقال: أردت أن أسمع صوتى من بعيد. ودخل إلى رجل يعزّيه، فقال: عظّم الله مصيبتكم، وأعان أخاك على ما يرد عليه من يأجوج ومأجوج. فضحك الناس. فقال: تضحكون مما قلت! وإنما أردت هاروت وماروت. وقيل: كتب المنصور إلى زياد بن عبد الله الحارثىّ، ليقسّم بين القواعد والعميان والأيتام مالا. فدخل عليه أبو زياد التميمىّ، وكان مغفّلا فقال: أصلحك الله! اكتبنى في القواعد، فقال له: عافاك الله، القواعد هنّ النساء اللّاتى قعدن عن أزواجهنّ. فقال: فاكتبنى في العميان. قال: اكتبوه منهم؛ فإن الله تعالى يقول: (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) . قال أبو زياد: واكتب ابنى في الأيتام؛ قال: نعم! من كنت أباه فهو يتيم. وسئل بعضهم عن مولده، فقال: ولدت رأس الهلال للنصف من رمضان بعد العيد بثلاثة أيام، فاحسبوا الآن كيف شئتم. ذكر شىء من نوادر النبيذيّين قال رجل لبعض أصحاب النبيذ: وجّهت إليك رسولا عشيّة أمس فلم يجدك؛ فقال: ذاك وقت لا أجد فيه نفسى. وقيل لبعضهم: كم الصلاة؟ فذكر الغداة والظهر. قالوا: فالعصر؟ قال: تعرف وتنكر. قالوا: فالعشاء؟ قال: يبلغها الجواد. قالوا: فالعتمة؟ قال: ما كانت لنا في حساب قطّ. شرب الأقيشر في حانوت خمّار حتى نفد ما معه، ثم شرب بثيابه وبقى عريانا، فجلس في تبن يستدفىء به. فمرّ رجل ينشد ضالّة؛ فقال الأقيشر: اللهم اردد عليه، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 17 واحفظ علينا. فقال له الخمار: سخنت عينك، أىّ شىء يحفظ عليك ربّك! قال: هذا التبن، لئلا يأخذه صاحبه فأهلك من البرد. وباع بعضهم ضيعة له؛ فقال له المشترى: بالعشىّ أشهد عليك. فقال: لو كنت ممن يفرغ بالعشىّ ما بعت ضيعتى. ذكر شىء من نوادر النساء والجوارى قال رجل: قلت لجارية أريد شراءها: لا يريبك شيبى؛ فإن عندى قوّة. فقالت: أيسرك أنّ عندك عجوزا مغتلمة! أدخل على المنصور جاريتان فأعجبتاه. فقالت التى دخلت أوّلا: يا أمير المؤمنين، إن الله فضّلنى على هذه بقوله: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ) . وقالت الأخرى: لا، بل الله فضّلنى عليها بقوله: (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) . وعرض على المعتصم جاريتان بكر وثيّب؛ فمال إلى البكر. فقالت الثيب: ما بيننا إلا يوم واحد. فقالت البكر: (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) . قيل لامرأة ظريفة: أبكر أنت؟ قالت: أعوذ بالله من الكساد. وقال المتوكل لجارية استعرضها: أنت بكر أم إيش؟ قالت: أنا إيش يا أمير المؤمنين. واستعرض رجل جارية فاستقبح قدميها. فقالت: لا تبال؛ فإنى أجعلهما وراء ظهرك. وقال الرشيد لبغيض جاريته: إنك لدقيقة الساقين. قالت: أحوج ما تكون إليهما لا تراهما. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 18 وروى أبو الفرج الأصفهانىّ عن إسحاق: أن الرشيد أحضره مجلسه ذات ليلة، وقد مضى شطر الليل؛ قال: فأخرج جارية كأنها مهاة، فأجلسها في حجره، ثم قال غنّينى؛ فغنته: جئن من الروم وقاليقلا «1» ... يرفلن في المرط ولين الملا مقرطقات بصنوف الحلى ... يا حبذا البيض وتلك الحلى فاستحسنه وشرب عليه. طلبت جارية محمود الورّاق للمعتصم بسبعة آلاف دينار، فامتنع من بيعها، واشتريت له بعد ذلك من ميراثه بسبعمائة دينار. فذكر المعتصم ذلك لها، فقالت: إن كان أمير المؤمنين ينتظر بشهواته المواريث فسبعون دينارا في ثمنى كثير، فكيف بسبعمائة! واستعرض رجل جارية فقال لها: فى يديك عمل؟ قالت: لا، ولكن في رجلىّ. وحكى أنّ بعض المجّان كان يعشق جارية أمجن منه. فضاق يوما، فكتب إليها: قد طال عهدى بك يا سيّدتى، وأقلقنى الشوق إليك. فإن رأيت أن تستدركى رمقى بمضغة علك وتجعليه بين دينارين وتنفذيه إلىّ لأستشفى به فعلت إن شاء الله. ففعلت ذلك وكتبت إليه: ردّ الظّرف من الظّرف، وقد سارعت إلى إنفاذ ما طلبت؛ فأنعم بردّ الطبق والمكبّة، واستعمل الخبر: «استدرّوا الهدايا بردّ الظّروف» . وطلب آخر من عشيقته خاتما كان معها؛ فقالت: يا سيّدى، هذا ذهب وأخاف أن تذهب، ولكن خذ هذا العود حتّى تعود. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 19 وكتب رجل الى عشيقته: مرى خيالك أن يلم بى. فكتبت اليه: ابعث إلىّ بدينارين حتى آتيك بنفسى. قدّم بعضهم عجوزا دلّالة الى القاضى وقال: أصلح الله القاضى، زوّجتنى هذه امرأة، فلما دخلت بها وجدتها عرجاء. فقالت: أصلح الله القاضى! زوّجته امرأة يجامعها، ولم أعلم أنه يريد أن يحج عليها أو يسابق بها في الحلبة أو يلعب عليها بالكرة والصولجان!. كتب رجل الى عشيقته رقعة، قال في أوّلها: عصمنا الله وإياك بالتقوى. فكتبت اليه في الجواب: يا غليظ الطبع، إن استجاب الله دعاءك لم نلتق أبدا. قال عقيل بن بلال: سمعتنى أعرابيّة أنشد: وكم ليلة قد بتّها غير آثم ... بمهضومة الكشحين ريّانة القلب «1» فقالت: هلّا أثمت! أخزاك الله!. كان أبو نواس يوما عند بعض إخوانه؛ فخرجت عليه جارية بيضاء عليها ثياب خضر. فلما رآها مسح عينيه وقال: خيرا رأيت إن شاء الله تعالى. فقالت: وما رأيت؟ قال: ألك معرفة بعلم التعبير؟ قالت: ولا أعرف غيره. قال: رأيت كأنى راكب دابة شهباء، وعليها جلّ أخضر وهى تمرح تحتى. فقالت: إن صدقت رؤياك فستدخل فجلة. وقد روى أن هذه الحكاية اتفقت له مع عنان جارية الناطفىّ. وكان بعضهم جالسا مع امرأته في منظرة؛ فمرّ غلام حسن الوجه؛ فقالت: أعيذ هذا بالله؛ ما أحسنه وأحسن وجهه وقدّه! فقال الزوج: نعم، لولا أنه خصىّ. فقالت: لعنه الله ولعن من خصاه!. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 20 قال أبو العيناء: خطبت امرأة فاستقبحتنى. فكتبت اليها: فإن تنفرى من قبح وجهى فإننى ... أريب أديب لا غبىّ ولا فدم فأجابتنى: ليس لديوان الرسائل أر يدك. وخطب ثمامة العوفىّ امرأة. فسألت عن حرفته؛ فكتب اليها يقول: وسائلة عن حرفتى قلت حرفتى ... مقارعة الأبطال في كل مازق وضربى طلى الأبطال بالسيف معلما ... إذا زحف الصفان تحت الخوافق فلما قرأت الشعر، قالت للرسول: قل له: فديتك! أنت أسد، فاطلب لك لبؤة؛ فإنى ظبية أحتاج الى غزال. خرجت حبّى المدنيّة في جوف الليل؛ فلقيها إنسان فقال لها: تخرجين في هذا الوقت! قالت: ما أبالى، إن لقينى شيطان فأنا في طاعته، وإن لقينى رجل فأنا فى طلبه. وجاءت الى شيخ يبيع اللبن، ففتحت ظرفا فذاقته ودفعته إليه وقالت: لا تعجل بشدّة؛ ثم فتحت آخر فذاقته ودفعته إليه. فلما أشغلت يديه جميعا، كشفت ثوبه من خلفه، وجعلت تصفق «1» بظاهر قدميها استه وخصييه، وتقول: يا ثارات ذات النّحيين، والشيخ يستغيث، فلم يخلص منها إلا بعد جهد. غاب رجل عن امرأته فبلغها أنه اشترى جارية، فاشترت غلامين. فبلغه ذلك فجاء مبادرا، وقال لها: ما هذا؟ فقالت: أما علمت أنّ الرحى الى بغلين أحوج من البغل الى رحيين! ولكن بع الجارية حتى نبيع الغلامين؛ ففعل ذلك ففعلت. ومثل ذلك ما حكى عن الأحنف: أنه اعتمّ ونظر في المرآة؛ فقالت له امرأته: كأنك قد هممت بخطبة امرأة! قال: قد كان ذلك. قالت: فإذا فعلت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 21 فاعلم أن المرأة الى رجلين أحوج من الرجل الى امرأتين. فنقض عمته وترك ما كان قد همّ به. ذكر شىء من نوادر العميان قال إبراهيم بن سيابة لبشّار الأعمى: ما سلب الله من مؤمن كريمتيه إلا عوّضه عنهما: إمّا الحفظ والذكاء، وإمّا حسن الصوت. فما الذى عوّضك الله عن عينيك؟ قال: فقد «1» النظر لبغيض ثقيل مثلك! ونظير هذه الحكاية ما حكى عن بعضهم، قال: خرجت ليلة من قرية لبعض شأنى، فإذا أنا بأعمى على عاتقه جرّة وبيده سراج، فلم يزل حتى انتهى إلى النهر، وملأ جرّته وعاد. قال: فقلت له: يا هذا، أنت أعمى، والليل والنهار عندك سواه، فما تصنع بالسراج؟ قال: يا كثير الفضول، حملته لأعمى القلب مثلك، يستضىء به لئلا يعثر في الظلمة، فيقع علىّ ويكسر جرّتى. قالوا: بلغ أبا العيناء «2» أنّ المتوكل يقول: لولا عمى أبى العيناء لاستكثرت منه؛ فقال: قولوا لأمير المؤمنين: إن كان يريدنى لرؤية الأهلّة ونظم اللآلىء واليواقيت وقراءة نقوش الخواتيم، فأنا لا أصلح لذلك؛ وإن كان يريدنى للمحاضرة والمنادمة والمذاكرة والمسامرة، فناهيك بى، فانتهى ذلك الى المتوكل فضحك منه، وأمر بإحضاره، فحضر ونادمه. تزوّج بعض العميان بسوداء؛ فقالت له: لو نظرت الى حسنى وجمالى وبياضى لازددت فيّ حبّا. فقال لها: لو كنت كما تقولين ما تركك لى البصراء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 22 ذكر شىء من نوادر السؤّال سأل أبو عون رجلا فمنعه، فألحّ عليه فأعطاه؛ فقال: اللهم آجرنا وإياهم، نسألهم إلحافا ويعطوننا كرها، فلا يبارك الله لنا فيها ولا يؤجرهم عليها. وقف أعرابىّ سائل على باب وسأل؛ فأجابه رجل وقال: ليس هاهنا أحد. فقال: إنك أحد لو جعل الله فيك بركة. ووقف سائل على باب، وكانت صاحبة الدار تبول في البالوعة؛ فسمع السائل صوت بولتها فظنه نشيش المقلى، فقال: أطعمونا من هذا الذى تقلونه؛ فضرطت المرأة وقالت: حطبنا رطب ليس يشعل. ووقف سائل على باب وقال: تصدّقوا علىّ فإنى جائع. قالوا: إلى الآن لم نخبز. قال: فكفّ سويق. قالوا: ليس عندنا سويق. قال: فشربة من ماء فإنى عطشان. قالوا: ما أتانا السقاء. قال: فيسير دهن أجعله في رأسى. قالوا: من أين لنا دهن. فقال: يا أولاد الزنا، فما قعودكم هنا! قوموا واشحتوا «1» معى! ذكر شىء من نوادر من اشتهر بالمجون كان مزبّد ممن اشتهر بالمجون والنوادر، وله نوادر. فمنها ما قيل: إنه أخذه بعض الولاة وقد اتّهم بالشّرب، فاستنكهه، فلم يجد منه رائحة؛ فقال: قيّئوه. فقال مزبّد: ومن يضمن عشائى أصلحك الله؟ فضحك منه وأطلقه. وهبّت ريح شديد فصاح الناس: القيامة، القيامة! فقال مزبّد: هذه قيامة على الريق بلا دابة، ولا دجّال، ولا القائم، ولا عيسى بن مريم، ولا يأجوج ومأجوج. وقيل له: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 23 لم لا تكون كفلان؟ (يعنون رجلا موسرا) فقال: بأبى أنتم! كيف أشبّه بمن يضرط فيشمّت «1» وأعطس فألطم!. وقيل له: ما بال حمارك يتبلّد إذا توجّه نحو المنزل وحمير الناس إلى منازلها أسرع؟ قال: لأنه يعرف سوء المنقلب. ونظرت امرأته وهى حبلى الى قبح وجهه، فقالت: الويل لى إن كان الذى في بطنى يشبهك. فقال لها: الويل لك إن لم يكن يشبهنى. وسمع رجلا يقول عن ابن عباس: من نوى حجّة وعاقه عائق، كتبت له. فقال مزبّد: ما خرج العام كراء أرخص من هذا. وممن اشتهر بالمجون أشعب. ذكر شىء من نوادر أشعب وأخباره هو أشعب بن جبير. واسمه شعيب، وكنيته أبو العلاء. وأمه أمّ الجلندح، وقيل: أمّ حميد حميدة «2» . وهى مولاة أسماء بنت أبى بكر الصدّيق رضى الله عنها. وكان أبوه قد خرج مع المختار بن أبى عبيد؛ فأسره مصعب بن الزبير؛ فقال له: ويلك! تخرج علىّ وأنت مولاى! وقتله صبرا. وقد قيل في ولائه: إن أباه مولى عثمان ابن عفّان رضى الله عنه، وإن أمه كانت مولاة أبى سفيان بن حرب، وإن ميمونة أمّ المؤمنين أخذتها لمّا تزوّجها رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وكانت تدخل على أزواج النبىّ صلّى الله عليه وسلم، فيستظر فنها؛ ثم صارت تنقل أحاديث بعضهنّ الى بعض، وتغرى بينهن. فدعا عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلم فماتت. وقد حكى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 24 عن أشعب: أنه جلس يوما في مجلس فيه جماعة، فتفاخروا وذكر كل واحد منهم مناقبه وشرفه أو شجاعته أو شعره وغير ذلك مما يتمدّح به الناس ويتفاخرون؛ فوثب أشعب وقال: أنا ابن أمّ الجلندح، أنا ابن المحرّشة بين أزواج النبىّ صلّى الله عليه وسلم. فقيل له: ويلك! أو بهذا يفتخر الناس! قال: وأىّ افتخار أعظم من هذا! لو لم تكن أمّى عندهن ثقة لما قبلن روايتها في بعضهنّ بعضا. وقد حكى: أنها زنت، فحلقت، وطيف بها على جمل، فكانت تنادى على نفسها: من رآنى فلا يزنين. فقالت لها امرأة: نهانا الله عزوجل عنه فعصيناه، ونطيعك وأنت مجلودة محلوقة، راكبة على جمل!. ونشأ أشعب بالمدينة في دور آل أبى طالب، وكفلته وتولّت تربيته عائشة بنت عثمان. وعمّر أشعب عمرا طويلا. وحكى عنه أنه قال: كنت مع عثمان رضى الله عنه يوم الدار لمّا حصر؛ فلما جرّد مماليكه السيوف ليقاتلوا كنت فيهم؛ فقال عثمان: من أغمد سيفه فهو حرّ. فلما وقعت في أذنى كنت والله أوّل من أغمد سيفه فعتقت. وكانت وفاته بعد سنة أربع وخمسين ومائة. وهذا القول يدل على أنه كان مولى عثمان بن عفّان رضى الله عنه. وقد روى أبو الفرج الأصفهانىّ بإسناد رفعه الى إبراهيم بن المهدىّ عن عبيد ابن أشعب عن أبيه: أنه كان مولده في سنة تسع من الهجرة، وأن أباه كان من مماليك عثمان بن عفان. وعمّر أشعب حتى هلك في أيام المهدىّ. قال: وكانت فى أشعب خلال، منها: أنه كان أطيب أهل زمانه عشرة، وأكثرهم نادرة، وكان أقوم أهل دهره لحجج المعتزلة، وكان امرأ منهم. وقال مصعب بن عبد الله: كان أشعب من القرّاء حسن الصوت بالقراءة، وكان قد نسك وغزا؛ وقد روى الحديث عن عبد الله بن جعفر. وقال الأصمعىّ: قال أشعب: نشأت أنا وأبى الزّناد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 25 فى حجر عائشة بنت عثمان؛ فلم يزل يعلو وأسفل حتى بلغنا هذه المنزلة. وقال إسحاق ابن إبراهيم: كان أشعب مع ملاحته ونوادره يغنّى أصواتا فيجيدها. وفيه يقول عبد الله ابن مصعب الزبيرى عفا الله عنه: اذا تمززت صراحيّة «1» ... كمثل ريح المسك أو أطيب ثم تغنّى لى بأهزاجه ... زيد أخو الأنصار أو أشعب حسبت أنى ملك جالس ... حفّت به الأملاك والموكب وما أبالى وإله العلا «2» ... أشرّق العالم أم غرّبوا ولأشعب نوادر مستظرفة وحكايات مستحسنة، وقد آن أن نذكرها. فمنها ما حكى أنه كان يقول: كلبى كلب سوء، يبصبص للأضياف، وينبح على أصحاب الهدايا. وقيل له: قد لقيت رجالا من أصحاب النبىّ صلّى الله عليه وسلم فلو حفظت أحاديث تتحدّث بها! فقال: أنا أعلم الناس بالحديث. قيل: فحدّثنا. قال: حدّثنى عكرمة عن ابن عبّاس رضى الله عنهم قال: خلّتان لا تجتمعان في مؤمن إلا دخل الجنة، ثم سكت، فقيل له: هات، ما الخلتان؟ قال: نسى عكرمة إحداهما ونسيت أنا الأخرى. وكان أشعب يحدّث عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما فيقول: حدّثنى عبد الله، وكان يبغضنى في الله. وكان أشعب يلازم طعام سالم بن عبد الله ابن عمر رضى الله عنهم. فآشتهى سالم أن يأكل مع بناته فخرج الى البستان؛ فجاء أشعب الى منزل سالم على عادته؛ فأخبر بالقصة؛ فاكترى جملا بدرهم وجاء الى البستان. فلما حاذى الحائط وثب فصار عليه؛ فغطّى سالم بناته بثوبه وقال: بناتى بناتى! فقال أشعب: (لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 26 قال أشعب: جاءتنى جارية بدينار وقالت: هذا وديعة عندك؛ فجعلته بين ثنى الفراش. فجاءت بعد أيام وقالت: بأبى أنت! الدينار؛ فقلت ارفعى فراشى وخذى ولده فإنه قد ولد، وكنت قد تركت الى جنبه درهما، فأخذت الدرهم وتركت الدينار. وعادت بعد أيام فوجدت معه درهما آخر فأخذته، وفي الثالثة كذلك. وجاءت في الرابعة، فلما رأيتها بكيت؛ فقالت: ما يبكيك؟ قلت: مات دينارك فى النفاس. فقالت: وكيف يكون للدينار نفاس؟ قلت: يا فاسقة! تصدّقين بالولادة ولا تصدّقين بالنفاس!. ومن أخباره المستظرفة ما حكاه المدائنىّ، قال: قال أشعب: تعلّقت بأستار الكعبة فقلت: اللهم أذهب عنّى الحرص والطلب إلى الناس؛ فمررت بالقرشيين وغيرهم فلم يعطنى أحد شيئا. فجئت الى أمى، فقالت: مالك قد جئت خائبا؟ فأخبرتها بذلك؛ فقالت: والله لا تدخل حتى ترجع فتستقيل ربك. فرجعت فجعلت أقول: يا ربّ أقلنى، ثم رجعت، فما مررت بمجلس لقريش ولا غيرهم إلا أعطونى، ووهب لى غلام؛ فجئت الى أمى بجمال موقرة من كل شىء. فقالت: ما هذا الغلام؟ فخفت أن أخبرها فتموت فرحا إن قلت: وهبوه لى. فقالت: أىّ شىء هذا؟ فقلت: غين. قالت: أىّ شىء [غين] «1» ؟ قلت: لام. قالت: أىّ شىء [لام] «2» ؟ [قلت: ألف. قالت: وأى شىء ألف «3» ] ؟ قلت: ميم. قالت: وأىّ ميم؟ قلت: غلام؛ فغشى عليها. ولو لم أقطّع الحروف لماتت الفاسقة فرحا. قال: وجلس أشعب يوما الى جانب مروان بن أبان بن عثمان؛ فانفلتت من مروان ريح لها صوت؛ فانصرف أشعب يوهم الناس أنه هو الذى خرجت منه الريح. فلما انصرف مروان الى منزله جاءه أشعب فقال له: الدية، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 27 قال: دية ماذا؟ قال: دية الضرطة التى تحملتها عنك، وإلا شهرتك؛ فلم يدعه حتى أخذ منه شيئا صالحه عليه. وقال محمد بن أبى قبيلة: غذّى أشعب جديا بلبن أمّه وغيرها حتى بلغ غاية، ثم قال لزوجته أمّ ابنه وردان: إنى أحبّ أن ترضعيه بلبنك ففعلت. ثم جاء به الى إسماعيل بن جعفر بن محمد، فقال: تالله إنه لابنى، رضع بلبن زوجتى، قد حبوتك به، ولم أر أحدا يستأهله سواك. فنظر إسماعيل إليه وأمر به فذبح وسمط. فأقبل عليه أشعب وقال: المكافأة؛ فقال: ما عندى والله اليوم شىء، ونحن من تعرف، وذلك غير فائت لك. فلما يئس أشعب منه قام من عنده فدخل على أبيه جعفر، ثم اندفع فشهق حتى التقت أضلاعه، ثم قال: أخلنى. قال: ما معنا أحد يسمع، ولا عليك عين. قال: وثب ابنك إسماعيل على ابنى فذبحه وأنا أنظر اليه. فارتاع جعفر وصاح: ويلك! وفيم؟ وتريد ماذا؟ قال: أمّا ما أريد فو الله مالى في إسماعيل حيلة ولا يسمع هذا سامع أبدا بعدك. فجزاه خيرا وأدخله منزله وأخرج اليه مائتى دينار فقال: خذ هذه، ولك عندنا ما تحبّ. قال: وخرج الى إسماعيل وهو لا يبصر ما يطأ عليه، فإذا به مسترسل في مجلسه. فلما رأى وجه أبيه أنكره وقام إليه؛ فقال: يا إسماعيل، فعلتها بأشعب! قتلت ولده؟ قال: فاستضحك وقال: جاءنى، وأخبره الخبر. فأخبره أبوه بما كان منه وما صار إليه. قال: فكان جعفر يقول لأشعب: رعتنى راعك الله! فيقول: روعة ابنك بنا في الجدى أكثر من روعتك بالمائتى الدينار. قال المدائنىّ: دخل أشعب على الحسين بن علىّ رضى الله عنهما، وعنده أعرابىّ قبيح المنظر، مختلف الخلقة؛ فسبّح أشعب حين رآه وقال للحسين: بأبى أنت وأمى، أتأذن لى أن أسلح عليه؟ فقال: إن شئت. ومع الأعرابىّ قوس وكنانة، ففوّق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 28 نحوه سهما، وقال: والله لئن فعلت لتكونن آخر سلحة سلحتها. فقال أشعب للحسين: جعلت فداك، أخذنى القولنج «1» . وعنه قال: توضأ أشعب فغسل رجله اليسرى وترك اليمنى. فقيل له: لم تركت غسل اليمنى؟ فقال: لأن النبىّ صلّى الله عليه وسلم قال: «أمتى غرّ محجّلون من آثار الوضوء «2» » وأنا أحب أن أكون أغرّ محجّلا مطلق اليمين. وقال: سمع أشعب حبّى المدنيّة تقول: اللهم لا تمتنى حتى تغفر لى ذنوبى؛ فقال لها: يا فاسقة! أنت لم تسألى الله تعالى المغفرة، وإنما سألته عمر الأبد! (يريد: أن الله لا يغفر لها أبدا) . وقال الزبير بن بكّار: كان أشعب يوما في المسجد يدعو، وقد قبّض وجهه فصيّره كالصّبرة «3» المجموعة. فرآه عامر بن عبد الله بن الزبير فحصبه وناداه: يا أشعب، إنما أنت تناجى ربك فناجه بوجه طليق. قال: فأرخى لحييه حتى وقعا على زوره «4» . قال: فأعرض عنه، وقال: ولا كلّ ذا. وقال مصعب: بلغ أشعب أنّ الغاضرىّ قد أخذ في مثل مذهبه ونوادره، وأن جماعة استطابوه؛ فرقبهم حتى علم أنه في مجلس من مجالس قريش يحادثهم ويضحكهم، فصار اليهم، ثم قال: قد بلغنى انك قد نحوت نحوى، وشغلت عنى من كان يألفنى؛ فإن كنت مثلى فافعل كما أفعل. ثم غضّن وجهه وعرّضه وشنّجه، حتى صار عرضه أكثر من طوله، وصار في هيئة لم يعرفه أحد بها، ثم أرسل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 29 وجهه حتى كاد ذقنه يجوز صدره، وصار كأنه وجه الناظر في سيف؛ ثم نزع ثيابه وتحادب، فصار في ظهره حدبة كسنام للبعير، وصار طوله مقدار شبر، ثم نزع سراويله، وجعل يمد جلد خصييه حتى حك بهما الأرض، ثم خلّاهما من يده، وجعل يميس، وهما يخطان الأرض، ثم قام فتطاول وتمدّد وتمطّى، حتى صار كأطول ما يكون من الرجال. فضحك القوم حتى أغمى عليهم، وقطع بالغاضرىّ فما تكلم بنادرة ولا زاد على أن يقول: يا أبا العلاء، لا أعاود ما تكره أبدا، إنما أنا عبدك وتخريجك؛ ثم انصرف أشعب وتركه. وقال الزبير بن بكّار: حدثنى عمّى، قال: لقى أشعب صديق لأبيه، فقال له: ويلك يا أشعب! كان أبوك الحى وأنت أقطّ «1» ، فإلى من خرجت تشبه؟ قال: إلى أمّى. وقال الهيثم بن عدىّ: لقيت أشعب فقلت له: كيف ترى أهل زمانك هذا؟ قال: يسألوننى عن أحاديث الملوك؛ ويعطوننى عطاء العبيد. وقال مصعب بن عثمان: لقى أشعب سالم بن عبد الله بن عمر، فقال له: يا أشعب، هل لك في هريس أعدّ لنا؟ قال: نعم، بأبى أنت وأمى. فمضى أشعب إلى منزله؛ فقالت له امرأته: قد وجّه عبد الله بن عمرو بن عثمان يدعوك، قال: ويحك! إن لسالم بن عبد الله هريسة قد دعانى اليها، وعبد الله بن عمرو فى يدى متى شئت، وسالم إنما دعوته للناس فلتة، وليس لى بدّ من المضىّ اليه. قالت: إذا يغضب عبد الله. قال: آكل عنده ثم أصير إلى عبد الله. فجاء إلى منزل سالم فجعل يأكل أكل متعالل. فقال له: كل يا أشعب، وابعث ما فضل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 30 عنك إلى منزلك. قال: ذلك أردت، بأبى أنت وأمّى. قال: فقال: يا غلام، احمل هذا إلى منزله، فحمله ومشى أشعب معه. فقالت امرأته: ثكلتك أمّك، قد حلف عبد الله لا يكلّمك شهرا؛ قال: دعينى وإياه، هاتى شيئا من زعفران؛ فأعطته، فأخذه ودخل الحمّام، فمسحه على وجهه وبدنه، وجلس في الحمام حتى صفّره، وخرج متوكأ على عصا يرعد حتى أتى دار عبد الله بن عمرو بن عثمان. فلما رآه حاجبه قال: ويحك! بلغت بك العلّة ما أرى. ودخل فأعلم صاحبه، فأذن له. فلما دخل عليه، إذا سالم بن عبد الله عنده، فجعل يزيد في الرعدة، ويقارب الخطو، وجلس وما كاد أن يستقلّ. فقال عبد الله: ظلمناك يا أشعب في غضبنا عليك. فقال له سالم: ويلك! مالك؟ ألم تكن عندى آنفا وأكلت هريسة! قال: لقد شبّه لك، لا حول ولا قوة إلا بالله. قال: لعل الشيطان يتشبّه بك. قال أشعب: علىّ وعلىّ إن كنت رأيتك منذ شهر. فقال له عبد الله: اعزب ويلك عن خالى! أتبهته لا أمّ لك! قال: ما قلت إلا حقّا. قال: بحياتى اصدقنى وأنت آمن من غضبى. قال: وحياتك لقد صدق؛ وحدّثه بالقصة؛ فضحك حتى استلقى على قفاه. وقال المدائنىّ والهيثم بن عدىّ: بعث الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان إلى أشعب بعد ما طلق امرأته سعدة، فقال له: يا أشعب، لك عندى عشرة آلاف درهم على أن تبلّغ رسالتى سعدة. فقال له: أحضر المال حتى أنظر اليه، فأحضر الوليد بدرة، فوضعها أشعب على عنقه، وقال: هات رسالتك. قال: قل لها يقول لك: أسعدة هل اليك لنا سبيل ... وهل حتى القيامة من تلاق بلى! ولعلّ دهرا أن يؤاتى ... بموت من حليلك أو طلاق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 31 فأصبح شامتا وتقرّ عينى ... ويجمع شملنا بعد افتراق قال: فأتى أشعب الباب فأخبرت بمكانه، فأمرت ففرش لها فرش وجلست وأذنت له؛ فدخل فأنشدها. فلما أنشد البيت الأوّل: أسعدة هل اليك لنا سبيل ... وهل حتى القيامة من تلاق قالت: لا والله، لا يكون ذلك أبدا. فلما أنشد البيت الثانى: بلى! ولعلّ دهرا أن يؤاتى ... بموت من حليلك أو طلاق قالت: كلّا إن شاء الله، بل يفعل الله ذلك به. فلما أنشد البيت الثالث: فأصبح شامتا وتقرّ عينى ... ويجمع شملنا بعد افتراق قالت: بل تكون الشماتة به. ثم قالت لخدمها: خذوا الفاسق. فقال: يا سيّدتى، إنها عشرة آلاف درهم. قالت: والله لأقتلنّك أو تبلّغه كما بلّغتنى. قال: وما تهبين لى؟ قالت: بساطى الذى تحتى. قال: قومى عنه؛ فقامت، فطواه، ثم قال: هاتى رسالتك، جعلت فداك! قالت: قل له: أتبكى على لبنى وأنت تركتها ... فقد ذهبت لبنى فما أنت صانع؟ فأقبل أشعب، حتى دخل على الوليد، فأنشده البيت. فقال: أوّه قتلتنى والله! فما ترانى صانعا بك يا ابن الزانية! اختر إمّا أنّ أدليك منكّسا في بئر، أو أرميك من فوق القصر منكّسا، أو أضرب رأسك بعمودى هذا ضربة. قال له: ما كنت فاعلا بى شيئا من ذلك. قال: ولم؟ قال: لأنك لم تكن لتعذّب عينين قد نظرتا إلى سعدة! قال: صدقت يا ابن الزانية! وروى أبو الفرج الأصفهانىّ بإسناده إلى إبراهيم بن المهدىّ عن ابن أشعب عن أبيه، قال: دعى ذات يوم بالمغنّيين إلى الوليد بن يزيد، وكنت نازلا معهم، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 32 فقلت للرسول: خذنى فيهم؛ قال: لم أؤمر بك، إنما أمرت بإحضار المغنيين، وأنت بطّال لا تدخل في جملتهم. فقلت له: أنا والله أحسن غناء منهم؛ ثم اندفعت فغنّيت. فقال: لقد سمعت حسنا، ولكن أخاف. قلت: لا خوف عليك؛ ولك مع ذلك شرط. قال: وما هو؟ قلت: كل ما أصبت فلك شطره؛ فأشهد علىّ الجماعة، ومضينا حتى دخلنا على الوليد، وهو لقس النفس؛ فغنّاه المغنّون في كل فنّ فلم يتحرّك ولم ينشط. فقام الأبجر إلى الخلاء، وكان خبيثا داهيا، فسأل الخادم عن خبره؛ فقال: بينه وبين امرأته شرّ، لأنه عشق أختها فغضبت عليه، وهو إلى أختها أميل، وقد عزم على طلاقها، وحلف ألّا يذكرها أبدا بمراسلة أو مخاطبة، فخرج على هذه الحال من عندها. فعاد الأبجر الينا، وجلس ثم اندفع يغنّى: فبينى فإنى لا أبالى وأيقنى ... أصعّد باقى حبّكم أم تصوّبا ألم تعلمى أنى عزوف عن الهوى ... إذا صاحبى من غير شىء تغضّبا فطرب الوليد وارتاح، وقال للأبجر: أصبت والله يا عبيد ما في نفسى، وأمر له بعشرة آلاف درهم وشرب حتى سكر، ولم يحظ أحد بشىء سوى الأبجر. فلما أيقنت بانقضاء المجلس وثبت فقلت: إن رأى أمير المؤمنين أن يأمر من يضر بنى مائة سوط الساعة بحضرتك! فضحك، ثم قال: قبّحك الله! وما السبب في ذلك؟ فأخبرته بقصّتى مع الرسول، وقلت له: إنه بدأنى بالمكروه في أوّل يومه فاتصل «1» علىّ إلى آخره، فأريد أن أضرب مائة سوط ويضرب بعدى مثلها. فقال: لقد لطّفت، بل أعطوه مائة دينار، وأعطوا الرسول خمسين دينارا من مالنا عوض الخمسين التى أراد أخذها من أشعب، فقبضتها وانصرفت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 33 قال ابن زبنّج «1» : كان أبان بن عثمان من أهزل الناس وأعبثهم «2» ، فبينا نحن ذات يوم عنده وعنده أشعب، إذ أقبل أعرابىّ معه جمل، والأعرابىّ أشقر أزرق أزعر يتلظّى كأنه أفعى، والشرّبيّن في وجهه، ما يدنو منه أحد إلا شتمه ونهره؛ فقال أبان: هذا والله من البادية «3» ، ادعوه لى، فدعوه له وقيل: إن الأمير أبان بن عثمان يدعوك؛ فأتاه فسلّم عليه، فسأله أبان بن عثمان عن نسبه، فانتسب له. فقال له أبان: حيّاك الله يا خال، اجلس، فجلس. فقال له: إنى أطلب جملا مثل جملك هذا منذ زمان فلم أجده كما أشتهى بهذه الصفة وهذه الهامة والصورة والورك والأخفاف، والحمد لله الذى جعل ظفرى به عند من أحبّه، أتبيعنيه؟ فقال: نعم أيها الأمير. قال: فإنى قد بذلت لك به مائة دينار؛ فطمع الأعرابىّ وسرّ بذلك وانتفخ، وبان الطمع في وجهه. فأقبل أبان على أشعب ثم قال له: ويلك يا أشعب! إن خالى هذا من أهلك وأقاربك (يعنى: فى الطمع) فأوسع له مما عندك؛ قال: نعم، بأبى أنت وزيادة. فقال له أبان: يا خال، إنما زدتك في الثمن على بصيرة أنّ الجمل يساوى ستين دينارا، ولكنى بذلت لك مائة دينار لقلة النقد عندنا، وإنى أعطيك عروضا تساوى مائة دينار؛ فزاد طمع الأعرابىّ وقال: قد قبلت ذلك أيها الأمير. وأسرّ أبان الى أشعب، فأخرج شيئا مغطّى، فقال له: أخرج ما جئت به؛ فأخرج جرد عمامة تساوى أربعة دراهم. فقال له: قوّمها يا أشعب. فقال: عمامة الأمير يشهد فيها الأعياد والجمع ويلقى فيها الخلفاء! خمسون دينارا. قال: ضعها بين يديه، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 34 وقال لابن زبنّج: أثبت قيمتها، فكتب ذلك، ووضعت العمامة بين يدى الأعرابىّ؛ فكاد يدخل بعضه في بعض غيظا، ولم يقدر على الكلام. قال: هات قلنسوتى، فأخرج قلنسوة طويلة خلقا «1» قد علاها الوسخ والدّهن وتخرّقت تساوى نصف درهم. قال: قوّم؛ فقال: قلنسوة الأمير تعلو هامته، ويصلّى فيها الصلوات الخمس، ويجلس فيها للحكم! ثلاثون دينارا. قال: أثبت، فأثبت ذلك، ووضعت القلنسوة بين يدى الأعرابىّ فاربدّ وجهه وحجظت عيناه وهمّ بالوثوب، ثم تماسك وهو مقلقل. ثم قال لأشعب: هات ما عندك؛ فأخرج خفّين خلقين قد نقبا وتقشّرا وتفتّتا، فقال: قوّم؛ فقال: خفّا الأمير يطأ بهما الروضة، ويعلو بهما منبر النبىّ صلى الله عليه وسلم! أربعون دينارا، فقال: ضعهما بين يديه. ثم قال للأعرابى: أضمم اليك متاعك، وقال لبعض الأعوان: امض مع الأعرابىّ واقبض ما بقى لنا عليه من ثمن المتاع، وهو عشرون دينارا. فوثب الأعرابىّ فأخذ القماش فضرب به وجوه القوم لا يألو في شدّة الرمى، ثم قال له: أتدرى في أى شىء أموت؟ قال لا؛ قال: لم أدرك «2» أباك عثمان فأشترك والله في دمه إذ ولد مثلك! ثم نهض كالمجنون حتى أخذ برأس بعيره؛ وضحك أبان حتى سقط، وضحك من كان معه. فكان الأعرابىّ بعد ذلك إذا لقى أشعب يقول له: هلمّ إلىّ يابن الخبيثة، حتى أكافئك على تقويمك «3» المتاع يوم قوّمت؛ فيهرب منه أشعب. وقال المدائنىّ: حدّثنى شيخ من أهل المدينة قال: كانت امرأة شديدة العين، لا تنظر الى شىء فتستحسنه إلا عانته؛ فدخلت على أشعب وهو في الموت، وهو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 35 يقول لابنته: يا بنية، إذا أنا مت فلا تندبينى، والناس يسمعونك، وتقولين: وا أبتاه، أندبك للصوم والصلاة، للفقه والقرآن، فيكذّب الناس ويلعنوننى. ثم التفت فرأى المرأة، فغطّى وجهه بكمه وقال لها: يا فلانة، بالله إن كنت استحسنت شيئا مما أنا فيه، فصلى على النبىّ صلّى الله عليه وسلم ولا تهلكينى؛ فغضبت المرأة وقالت: سخنت عينك! وفي أى شىء أنت مما يستحسن؟ أنت في آخر رمق! قال: قد علمت، ولكن قلت لئلا «1» تكونى قد استحسنت خفة الموت علىّ وسهولة النزع، فيشتدّ ما أنا فيه. فخرجت من عنده وهى تسبّه، وضحك من كان حوله من كلامه ومات. ذكر شىء من نوادر أبى دلامة هو أبو دلامة زند بن الجون. وزند بالنون. وهو كوفىّ، أسود، مولى لبنى أسد؛ كان أبوه عبدا لرجل منهم يقال له قصاقص، فأعتقه. وأدرك آخر زمن بنى أمية ولم يكن له نباهة في أيامهم، ونبغ في أيام بنى العباس، فانقطع الى أبى العباس السفّاح وأبى جعفر المنصور والمهدىّ، وكانوا يقدّمونه ويفضّلونه ويستطيبون مجالسته ونوادره. قال أبو الفرج الأصفهانىّ: كان أبو دلامة ردىء المذهب، مرتكبا للمحارم، مضيّعا للفروض، متجاهرا بذلك؛ وكان يعلم هذا منه ويعرف به، فيتجافى عنه للطف محلّه. وله أخبار وأشعار ليس هذا موضع ذكرها، وإنما نثبت في هذا الموضع ما له من نادرة أو حكاية مستظرفة. فمن ذلك أنه دخل على أبى جعفر المنصور، وكان المنصور قد أمر أصحابه بلبس السواد والقلانس الطوال، تدعم «2» بعيدان من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 36 داخلها، وأن يعلّقوا السيوف في المناطق، ويكتبوا على ظهورهم: (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) . فلما دخل عليه أبو دلامة في هذا الزىّ قال له المنصور: ما حالك؟ قال: شرّ حال يا أمير المؤمنين، وجهى في نصفى، وسيفى في استى، وقد صبغت بالسواد ثيابى ونبذت كتاب الله وراء ظهرى؛ ثم أنشد: وكنا نرجى منحة من إمامنا ... فجاءت بطول زاده في القلانس تراها على هام الرجال كأنها ... دنان «1» يهود جلّلت بالبرانس فضحك منه المنصور وأعفاه وحذّره من ذلك، وقال: إياك أن يسمع هذا منك أحد. وحكى عنه: أنه كان واقفا بين يدى السفاح أو المنصور، فقال له: سلنى حاجتك؛ فقال أبو دلامة: كلب صيد؛ قال: أعطوه إياه. قال: ودابّة أتصيّد عليها. قال: أعطوه. قال: وغلام يقود الكلب ويتصيّد به؛ قال: أعطوه غلاما. قال: وجارية تصلح لنا الصيد وتطعمنا منه؛ قال: أعطوه جارية. قال: هؤلاء يا أمير المؤمنين عيال «2» فلا بدّ لهم من دار يسكنونها؛ قال: أعطوه دارا تجمعهم. قال: فإن لم يكن ضيعة فمن أين يعيشون؟ قال: قد أقطعتك مائة جريب» عامرة ومائة جريب غامرة. قال: وما الغامرة؟ قال: مالا نبات فيه. قال: قد أقطعتك يا أمير المؤمنين خمسمائة ألف جريب غامرة من فيافى بنى أسد. فضحك وقال: اجعلوا المائتين كلها عامرة. قال: فأذن لى أن أقبّل يدك؛ قال: أمّا هذه فدعها، فإنى لا أفعل. قال: والله ما منعت عيالى شيئا أقلّ عليهم ضررا منها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 37 وروى: أنه دخل على المنصور فأنشده قصيدته التى يقول فيها: إنّ الخليط أجدّوا البين فانتجعوا ... وزوّدوك خبالا بئس ما صنعوا والله يعلم أن كادت، لبينهم ... يوم الفراق، حصاة القلب تنصدع عجبت من صبيتى يوما وأمّهم ... أمّ الدّلامة لمّا هاجها الجزع لا بارك الله فيها من منبّهة ... هبّت تلوم عيالى بعد ما هجعوا ونحن مشتبهو الألوان، أوجهنا ... سود قباح، وفي أسمائنا شنع إذا تشكّت إلىّ الجوع، قلت لها ... ما هاج جوعك إلا الرّىّ والشّبع أذابك الجوع مذ صارت عيالتنا ... على الخليفة منه الرىّ والشبع «1» لا والذى يا أمير المؤمنين قضى ... لك الخلافة في أسبابها الرّفع ما زلت أخلصها كسبى فتأكله ... دونى ودون عيالى ثم تضطجع شوهاء مشنأة «2» فى بطنها ثجل «3» ... وفي المفاصل من أوصافها فدع «4» ذكّرتها بكتاب الله حرمتنا ... ولم تكن بكتاب الله ترتجع فاخر نطمت «5» ثم قالت وهى مغضبة «6» ... أأنت تتلو كتاب الله يا لكع! الجزء: 4 ¦ الصفحة: 38 أخرج تبغّ لنا مالا ومزرعة ... كما لجيراننا مال ومزدرع واخدع خليفتنا عنّا بمسألة ... إنّ الخليفة للسّؤال ينخدع قال: فضحك أبو جعفر وقال: أرضوها عنه بمائتى جريب عامرة- ويروى ستمائة جريب عامرة وغامرة- فقال: أنا أقطعك يا أمير المؤمنين أربعة آلاف جريب غامرة فيما بين الحيرة والنّجف، وإن شئت زدتك. فضحك وقال: اجعلوها كلها عامرة. قال: ولما توفّى السفّاح دخل أبو دلامة على المنصور والناس عنده يعزّونه، فقال: أمسيت بالأنبار يابن محمد ... لم تستطع عن عقرها تحويلا وبلى عليك وويل أهلى كلّهم ... ويلا وعولا في الحياة طويلا فلتبكينّ لك السماء بعبرة ... ولتبكينّ لك الرجال عويلا مات الندى إذ متّ يابن محمد ... فجعلته لك في التراب عديلا إنى سألت الناس بعدك كلّهم ... فوجدت أسمح من سألت بخيلا ألشقوتى أخّرت بعدك للتى ... تدع العزيز من الرجال ذليلا؟ فلأحلفنّ يمين حقّ برّه ... تالله ما أعطيت بعدك سولا قال: فأبكى الناس قوله: فغضب المنصور غضبا شديدا وقال: إن سمعتك تنشد هذه القصيدة لأقطعنّ لسانك. قال: يا أمير المؤمنين، إنّ أبا العباس أمير المؤمنين كان لى مكرما، وهو الذى جاء بى من البدو، كما جاء الله بإخوة يوسف اليه؛ فقل كما قال يوسف: (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) . فسرّى عن المنصور وقال: قد أقلناك يا أبا دلامة، فسل حاجتك. قال: يا أمير المؤمنين، قد كان أبو العباس أمر لى بعشرة آلاف درهم وخمسين ثوبا وهو مريض ولم أقبضها. فقال المنصور: ومن يعلم ذلك؟ قال: هؤلاء (وأشار الى جماعة ممن حضر) فوثب سليمان ابن مجالد وأبو الجهم فقالا: صدق أبو دلامة، نحن نعلم ذلك. فقال المنصور لأبى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 39 أيّوب الخازن [وهو مغيظ «1» ] : يا سليمان ادفعها اليه وسيّره الى هذا الطاغية (يعنى عبد الله بن علىّ، وكان قد خرج بالشام وأظهر الخلاف) فوثب أبو دلامة وقال: يا أمير المؤمنين، أعيذك بالله أن أخرج معهم، وو الله إنى مشئوم. قال المنصور: امض فإن يمنى يغلب شؤمك. فقال: يا أمير المؤمنين، والله ما أحبّ أن يجرّب ذلك منّى على مثل هذا العسكر، فإنى لا أدرى أيّهما يغلب: يمنك أو شؤمى؛ إلّا أنى بنفسى أوثق وأعرف وأطول تجربة. فقال: دعنى وهذا، فمالك من الخروج بدّ. قال: فإنى أصدقك الان، شهدت والله تسعة عشر عسكرا كلها هزمت، وكنت سببها، فإن شئت الآن على بصيرة أن يكون عسكرك تمام العشرين فافعل. فضحك المنصور وأمره أن يتخلّف مع عيسى بن موسى بالكوفة. وعن جعفر بن حسين اللهبىّ قال: حدثنى أبو دلامة قال: أتى بى المنصور او المهدىّ وأنا سكران، فحلف ليخرجنّى في بعث حرب؛ فأخرجنى مع روح بن حاتم المهلّبىّ لقتال الشّراة «2» . فلما التقى الجمعان قلت لروح: أما والله لو أنّ تحتى فرسك ومعى سلاحك لأثّرت في عدوّك اليوم أثرا ترتضيه! فضحك وقال: والله العظيم لأدفعنّ اليك ذلك ولآخذنّك بالوفاء بشرطك؛ فنزل عن فرسه ونزع سلاحه ودفع ذلك إلىّ، ودعا بغيره فاستبدل به. فلمّا حصل ذلك في يدى قلت: أيها الأمير، هذا مقام العائذ بك، وقد قلت أبياتا فاسمعها. قال: هات، فأنشدته: إنى استجرتك أن أقدّم في الوغى ... لتطاعن وتنازل وضراب فهب السيوف رأيتها مشهورة ... وتركتها ومضيت في الهرّاب ماذا تقول لما يجىء ولا يرى ... من بادرات الموت بالنّشّاب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 40 فقال: دع هذا عنك، وبرز رجل من الخوارج يدعو الى المبارزة فقال: اخرج اليه يا أبا دلامة. فقال: أنشدك الله أيها الأمير في دمى. فقال: والله لتخرجنّ! فقلت: أيها الأمير، فإنه أوّل يوم من الآخرة وآخر يوم من الدنيا، وأنا والله جائع ما تنبعث منى جارحة من الجوع، فمر لى بشىء آكله ثم أخرج؛ فأمر لى برغيفين ودجاجة؛ فأخذت ذلك وبرزت عن الصفّ. فلما رآنى الشارى أقبل نحوى وعليه فرو قد أصابه المطر فابتلّ، وأصابته الشمس فاقفعلّ «1» وعيناه تقدان، فأسرع إلىّ؛ فقلت: على رسلك يا هذا! فوقف؛ فقلت: أتقتل من لا يقاتلك؟ قال لا. قلت: أنستحلّ أن تقتل رجلا على دينك؟ قال لا. قلت: أفتستحلّ ذلك قبل أن تدعو من تقاتله الى دينك؟ قال: لا، فاذهب عنى الى لعنة الله، فقلت: لا أفعل أو تسمع منى. قال: قل. فقلت: هل كانت بيننا عداوة أو ترة أو تعرفنى بحال تحفظك علىّ أو تعلم بينى وبين أهلك وترا؟ قال: لا والله؛ قلت: ولا أنا والله لك إلا على جميل [الرأى «2» ] ، فإنى لأهواك وأنتحل مذهبك وأدين دينك وأريد السوء لمن أرادك. فقال: يا هذا، جزاك الله خيرا فانصرف. قلت: إنّ معى زادا أريد أن آكله وأريد مؤاكلتك لتتوكّد المودّة بيننا ويرى أهل العسكرين هوانهم علينا؛ قال: فافعل. فتقدّمت اليه حتى اختلفت أعناق دوابّنا وجمعنا أرجلنا على معارفها وجعلنا نأكل والناس قد غلبوا ضحكا. فلما استوفينا ودّعنى، ثم قلت له: إنّ هذا الجاهل، إن أقمت على طلب المبارزة ندبنى اليك فتتعب وتتعبنى، فإن رأيت ألّا تبرز اليوم فافعل. قال: قد فعلت؛ فانصرف وانصرفت. فقلت لروح: أمّا أنا فقد كفيتك قرنى، فقل لغيرى يكفيك قرنه كما كفيتك. وخرج آخر يدعو الى البراز؛ فقال لى: اخرج اليه، فقلت: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 41 إنى أعوذ بروح أن يقدّمنى ... الى القتال فتخزى بى بنو أسد إن البراز الى الأقران أعلمه ... مما يفرّق بين الرّوح والجسد قد حالفتك المنايا إذ رصدت لها ... وأصبحت لجميع الخلق كالرّصد إنّ المهلّب حبّ الموت أورثكم ... فما ورثت اختيار الموت عن أحد لو أنّ لى مهجة أخرى لجدت بها ... لكنها خلقت فردا فلم أجد قال: فضحك روح وأعفانى. قال: وشرب أبو دلامة في بعض الحانات وسكر، فمشى وهو يميل، فلقيه العسس فأخذه؛ فقيل له: من أنت؟ وما دينك؟ فقال: دينى على دين بنى العبّاس ... ما ختم الطّين على القرطاس إذا اصطحبت أربعا بالكاس ... فقد أدار شربها براسى فهل بما قلت لكم من باس فأخذوه وخرقوا ثيابه وساجه «1» ، وأتى به الى أبى جعفر، فأمر بحبسه مع الدّجاج فى بيت. فلما أفاق جعل ينادى غلامه مرّة وجاريته أخرى فلا يجيبه أحد، وهو مع ذلك يسمع صوت الدّجاج وزقاء «2» الديك. فلمّا أكثر قال له السجّان: ما شأنك؟ قال: ويلك! من أنت؟ وأين أنا؟ قال: أنت في الحبس، وأنا فلان السجّان. قال: ومن حبسنى؟ قال: أمير المؤمنين. قال: ومن خرق طيلسانى؟ قال: الحرس. فطلب أن يأتيه بدواة وقرطاس، ففعل فأتاه؛ فكتب الى أبى جعفر المنصور يقول: أمير المؤمنين فدتك نفسى ... علام حبستنى وخرقت ساجى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 42 أمن صهباء صافية المزاج ... كأنّ شعاعها لهب السّراج وقد طبخت بنار الله حتى ... لقد صارت من النّطف النّضاج تهشّ لها القلوب وتشتهيها ... اذا برزت ترقرق في الزّجاج أقاد الى السجون بغير جرم ... كأنى بعض عمّال الخراج! فلو معهم حبست لكان سهلا ... ولكنى حبست مع الدجاج وقد كانت تخبّرنى ذنوبى ... بأنى من عقابك غير ناج على أنّى وإن لاقيت شرّا ... لخيرك بعد ذاك الشرّ راجى فاستدعاه المنصور وقال: أين حبست يا أبا دلامة؟ قال: مع الدّجاج. قال: فما كنت تصنع؟ قال: أقوقىء «1» معهم الى الصباح؛ فضحك وخلّى سبيله وأمر له بجائزة. فلما خرج قال الربيع: إنه شرب الخمر يا أمير المؤمنين، أما سمعت قوله: وقد طبخت بنار الله؟ (يعنى الشمس) قال: لا والله، ما عنيت إلا نار الله الموقدة التى تطّلع على فؤاد الربيع. فضحك المنصور وقال: خذها يا ربيع ولا تعاود التعرّض له. وروى عن المدائنىّ قال: دخل أبو دلامة على المهدىّ وعنده إسماعيل بن على وعيسى بن موسى والعبّاس بن محمد بن إبراهيم الإمام وجماعة من بنى هاشم؛ فقال له المهدىّ: أنا أعطى الله عهدا إن لم تهج واحدا ممن في البيت، لأقطعنّ لسانك أو لأضربنّ عنقك. فنظر اليه القوم، وكلما نظر إلى أحد منهم غمزه بأنّ علىّ رضاك. قال أبو دلامة: فعلمت أنى قد وقعت وأنها عزمة من عزماته لا بدّ منها، فلم أر أحدا أحقّ بالهجاء منّى ولا أدعى الى السلامة من هجاء نفسى، فقلت: ألا أبلغ لديك أبا دلامه ... فلست من الكرام ولا كرامه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 43 إذا لبس العمامة كان «1» قردا ... وخنزيرا إذا نزع العمامه جمعت دمامة وجمعت لؤما ... كذاك اللؤم تتبعه الذمامه فإن تك قد أصبت نعيم دنيا ... فلا تفرح فقد دنت القيامه فضحك القوم ولم يبق منهم أحد إلا أجازه. قال: وخرج المهدىّ وعلىّ بن سليمان الى الصيد، فسنح لهما قطيع من ظباء. فأرسلت الكلاب وأجريت الخيل، ورمى المهدىّ سهما فأصاب ظبيا، ورمى علىّ بن سليمان فأصاب بعض الكلاب فقتله؛ فقال أبو دلامة: قد رمى المهدىّ ظبيا ... شكّ بالسهم فؤاده وعلىّ بن سليما ... ن رمى كلبا فصاده فهنيئا لهما كلّ ... امرىء يأكل زاده فضحك المهدىّ حتى كاد يسقط عن سرجه، وقال: صدق والله أبو دلامة، وأمر له بجائزة سنية؛ فلقّب علىّ بن سليمان بعد ذلك صائد الكلب، فغلب عليه. قال: وتوفّيت حمادة بنت عيسى، وحضر المنصور جنازتها؛ فلما وقف على حفرتها قال لأبى دلامة: ما أعددت لهذه الحفرة؟ قال: ابنة عمك يا أمير المؤمنين حمادة بنة عيسى يجاء بها الساعة فتدفن فيها. فضحك المنصور حتى غلب وستر وجهه. قال الهيثم بن عدىّ رحمة الله عليه: حجّت الخيزران، فلما خرجت، صاح أبو دلأمة: جعلنى الله فداك، الله الله في أمرى! فقالت: من هذا؟ قالوا: أبو دلامة. فقالت: سلوه ما أمره؛ قالوا له: ما أمرك؟ قال: أدنونى من محملها؛ قالت أدنوه؛ فأدنى، فقال لها: أيها السيدة، إنى شيخ كبير وأجرك فيّ عظيم. قالت: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 44 فمه! قال: تهبينى جارية من جواريك تؤنسنى، وترفق بى وتريحنى من عجوز عندى؛ قد أكلت رفدى، وأطالت كدّى؛ فقد عاف جلدى جلدها، وتشوّقت فقدها. فضحكت الخيزران وقالت: سوف آمر لك بما سألت. فلمّا رجعت تلقاها وأذكرها وخرج معها الى بغداد، فأقام حتى غرض «1» . ثم دخل على أمّ عبيدة حاضنة موسى وهارون فدفع اليها رفعة قد كتب بها الى الخيزران، فيها: أبلغى سيّدتى بالله ... يا أمّ عبيده أنّها أرشدها الله ... وإن كانت رشيده وعدتنى قبل أن تخرج ... للحج وليده فتأنّيت وأرسلت ... بعشرين قصيده كلما أخلقن أخلفت ... لها أخرى جديده ليس في بيتى لتمهيد ... فراشى من قعيده غير عجفاء عجوز ... ساقها مثل القديده وجهها أقبح من حو ... ت طرىّ في عصيده ما حياة مع أنثى ... مثل عرسى بسعيده فلما قرئت عليها، ضحكت ودعت بجارية من جواريها فائقة الجمال، فقالت لها: خذى كل مالك في قصرى، ففعلت؛ ثم دعت بعض الخدم وقالت له: سلّمها الى أبى دلامة. فانطلق الخادم بها فلم يصادفه في منزله؛ فقال لامرأته: اذا رجع أبو دلامة فادفعيها اليه وقولى له: تقول لك السيدة: أحسن صحبة هذه الجارية فقد أمرت لك بها. فقالت له نعم. فلما خرج الخادم دخل ابنها دلامة فوجد أمّه تبكى؛ فسألها عن خبرها فأخبرته وقالت: إن أردت أن تبرّنى يوما من الأيام فاليوم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 45 قال: قولى ما شئت فإنى أفعله. قالت: تدخل عليها فتعلمها أنك مالكها وتطؤها فتحرّمها عليه وإلا ذهبت بعقله فجفانى وجفاك، ففعل ودخل الى الجارية فوطئها ووافقها ذلك منه، وخرج. فدخل أبو دلامة فقال لامرأته: أين الجارية؟ قالت: فى ذلك البيت، فدخل اليها شيخ محطّم ذاهب، فمدّ يده اليها وذهب ليقبّلها؛ فقالت: مالك ويحك! تنحّ وإلّا لطمتك لطمة دققت منها أنفك. فقال لها: أبهذا أوصتك السيّدة؟ قالت: إنها بعثت بى الى فتى من هيئته وحاله كيت وكيت، وقد كان عندى آنفا ونال منى حاجته. فعلم أنه قد دهى من أمّ دلامة وابنها. فخرج أبو دلامة الى دلامة فلطمه ولبّبه «1» وحلف ألّا يفارقه إلا الى المهدىّ. فمضى به ملببّا «2» حتى وقف بباب المهدىّ، فعرّف خبره؛ وأنه جاء بابنه على تلك الحال. فأمر بإدخاله فلما دخل قال: مالك؟ قال: فعل بى هذا ابن الخبيثة ما لم يفعله ولد بأبيه، ولا يرضينى إلا أن تقتله. قال: ويحك! وما فعل بك؟ فأخبره الخبر؛ فضحك حتى استلقى ثم جلس. فقال له أبو دلامة: أعجبك فعله فتضحك منه؟! فقال: علىّ بالسيف والنّطع. فقال له دلامة: قد سمعت قوله يا أمير المؤمنين، فاسمع حجّتى. قال: هات! قال: هذا الشيخ أصفق الناس وجها، هو يفعل بأمّى منذ أربعين سنة ما غضبت، وفعلت أنا بجاريته مرّة واحدة غضب وصنع بى ما ترى. فضحك المهدىّ أشدّ من ضحكه الأوّل، ثم قال: دعها له يا أبا دلامة، وأنا أعطيك خيرا منها؛ قال: على أن تخبأها لى بين السماء والأرض وإلا فعل بها والله كما فعل بهذه؛ فتقدّم إلى دلامة ألّا يعاود مثل فعله، وحلف أنه إن عاود قتله، ثم وهب له جارية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 46 قال عبد الله بن صالح رحمه الله: جاء ابن أبى دلامة يوما الى أبيه وهو في محفل من جيرانه وعشيرته فجلس بين يديه، ثم أقبل على الجماعة فقال لهم: إنّ شيخى كما ترون قد كبر سنّه ورقّ جلده ودقّ عظمه، وبنا الى حياته حاجة شديدة، فلا أزال أشير عليه بالشىء يمسك رمقه ويبقى قوّته فيخالفنى فيه، وإنى أسألكم أنّ تسألوه قضاء حاجة لى أذكرها بحضرتكم فيها صلاح جسمه وبقاء حياته، فأسعفونى بمسألته معى. فقالوا: نفعل حبّا وكرامة؛ ثم أقبلوا على أبى دلامة بألسنتهم فتناولوه بالعتاب حتى رضى ابنه وهو ساكت، قال: قولوا للخبيث فليقل ما يريد، فستعلمون أنه لم يأت إلا ببليّة. فقالوا له: قل؛ فقال: إن أبى إنما قتله كثرة الجماع، فتعاونونى حتى أخصيه، فلن يقطعه عن ذلك غير الخصاء فيكون أصحّ لجسمه وأطول لعمره. فعجبوا بما أتى به وضحكوا. ثم قالوا لأبى دلامة: قد سمعت فأجب. قال: قد سمعتم أنتم فعرّفتكم أنه لم يأت بخير. قالوا: فما عندك في هذا؟ قال: قد جعلت أمّه حكما فيما بينى وبينه، فقوموا بنا اليها. فقاموا بأجمعهم ودخلوا اليها، وقصّ أبو دلامة القصة عليها وقال: قد حكّمتك. فأقبلت على الجماعة فقالت: إن ابنى هذا أبقاه الله قد نصح أباه ولم يأل جهدا، وما أنا إلى «1» بقاء أبيه أحوج منى الى بقائه، وهذا أمر لم يقع به تجربة منّا ولا جرى بمثله عادة لنا؛ وما أشك في معرفته بذلك، فليبدأ بنفسه فليخصها، فاذا عوفى ورأينا ذلك قد أثّر عليه أثرا محمودا استعمله أبوه. فضحك أبوه والقوم وانصرفوا يعجبون من خبثهم جميعا. ومنهم أبو صدقة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 47 ذكر شىء من نوادر أبى صدقة هو أبو صدقة مسكين بن صدقة من أهل المدينة مولى لقريش، قال أبو الفرج: وكان مليح الغناء طيب الصوت كثير الرواية صالح الصنعة، من أكثر الناس نادرة وأخفّهم روحا وأشدّهم طمعا وألحّهم مسألة، وهو من المغنّين الذين أقدمهم الرشيد من الحجاز في أيامه. قيل: إنه عوتب على كثرة إلحاحه في المسألة، فقال: وما يمنعنى من ذلك، واسمى مسكين وكنيتى أبو صدقة وابنتى فاقة وابنى صدقة، فمن أحقّ بهذا منى؟ وكان الرشيد يعبث به كثيرا؛ فقال ذات يوم لمسرور: قل لابن جامع وإبراهيم الموصلىّ وزبير بن دحمان وزلزل وبرصوما وابن أبى مريم المدينىّ: إذا رأيتمونى قد طابت نفسى، فليسأل كل واحد منكم حاجة، مقدارها مقدار صلته، وذكر لكل واحد منهم مبلغ ذلك، وأمرهم أن يكتبوا أمرهم عن أبى صدقة؛ فقال لهم مسرور ما أمر به الرشيد. ثم أذن الرشيد لأبى صدقة قبل إذنه لهم. فلما جلس قال له: يا أبا صدقة، لقد أضجرتنى بكثرة مسألتك وأنا في هذا اليوم ضجر وأحببت أن أتفرّج وأفرح، ولست آمن أن تنغص علىّ مجلسى بمسألتك، فإما أن تعفينى أن تسألنى اليوم حاجة وإلّا فانصرف. فقال له: لست من يومى هذا الى شهر أسألك حاجة. فقال له الرشيد: أمّا إذ شرطت لى هذا على نفسك فقد اشتريت منك حوائجك بخمسمائة دينار وها هى ذه فخذها طيبة معجلة، فإن سألتنى شيئا بعدها من هذا اليوم فلا لوم علىّ إن لم أصلك سنة بشىء. فقال: نعم وسنتين. فقال له الرشيد: زدنى في الوثيقة. فقال: قد جعلت أمر أمّ صدقة في يدك فطلّقها متى شئت، إن شئت واحدة وإن شئت ألفا إن سألتك في يومى هذا حاجة، وأشهدت الله ومن حضر على ذلك. فدفع اليه المال، ثم أذن للجلساء والمغنّين فدخلوا وشرب القوم. فلما طابت نفس الرشيد، قال له ابن جامع: يا أمير المؤمنين، قد نلت منك ما لم تبلغه أمنيّتى، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 48 وكثر إحسانك إلىّ حتى كبتّ أعدائى وقتلتهم، وليس لى بمكة دار تشبه حالى، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر لى بمال أبنى به دارا وأفرشها بباقيه لأفقأ عيون أعدائى وأزهق نفوسهم فعل. فقال له: وكم قدّرت لذلك؟ قال: أربعة آلاف دينار، فأمر له بها. وقام إبراهيم الموصلىّ فقال: يا أمير المؤمنين، قد ظهرت نعمتك علىّ وعلى الكبار من ولدى؛ وفي أصاغرهم من أحتاج [إلى «1» ] ختانه، وفيهم صغار أحتاج أن أتخذ لهم خدما؛ فإن رأى أمير المؤمنين أن يحسن معونتى على ذلك فعل. فأمر له بمثل ما أمر به لابن جامع. وجعل كل واحد منهم يقول في الثناء ما يحضره ويسأل حاجته على قدر جائزته، وأبو صدقة ينظر إلى الأموال تفرّق يمينا وشمالا، فوثب قائما ورمى بالدنانير من كمّه وقال للرشيد: أقلنى أقال الله عثرتك. فقال الرشيد: لا أفعل. فجعل يستحلفه ويضطرب ويلّح والرشيد يضحك ويقول: مالى إلى ذلك سبيل، الشرط أملك. فلمّا عيل صبره أخذ الدنانير ورمى بها بين يدى الرشيد وقال: هاكها قد رددتها عليك وزدتك أمّ صدقة فطلّقها واحدة إن شئت وإن شئت ألفا. وإن لم تلحقنى بجوائز القوم فألحقنى بجائزة هذا البارد عمرو الغزّال- وكانت جائزته ثلاثة آلاف دينار- فضحك حتى استلقى ثم رد عليه الخمسمائة الدينار وأمر له بألف أخرى معها، وكان ذلك أكثر ما أخذه منذ خدمه إلى أن مات، رحمة الله عليهم. وروى أبو الفرج عن أبى إسحاق قال: مطرنا ونحن مع الرشيد بالرّقّة مع الفجر فاتّصل إلى غد ذلك اليوم، وعرفنا خبر الرشيد أنه مقيم عند أمّ ولده المسماة سحر، فتشاغلنا عنه في منازلنا. فلما كان من غد جاءنا رسول الرشيد فحضرنا جميعا، وأقبل يسأل كلّ واحد منا عن يومه الماضى وما صنع فيه؛ فيخبره إلى أن انتهى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 49 إلى جعفر بن يحيى، فسأله عن خبره فقال له: كان عندى أبو زكّار الأعمى وأبو صدقة، وكان أبو زكّار كلّما غنّى صوتا، لم يفرغ منه حتى يأخذه أبو صدقة؛ فإذا انتهى الدور اليه أعاده وحكى أبا زكّار فيه وحركاته وشمائله، ويفطن أبو زكّار لذلك فيجنّ ويموت غيظا ويشتم أبا صدقة كلّ الشتم حتى يضجر، وهو لا يجيبه ولا يدع العبث به وأنا أضحك من ذلك، إلى أن توسّطنا الشرب وسمئنا من عبثه به؛ فقلت له: دع هذا عنك وغنّ غناءك. فغنّى رملا ذكر أنه من صنعته، فطربت له والله يا أمير المؤمنين طريا ما أذكر أنى طربت مثله منذ حين «1» وهو: فتنتنى بفاحم اللون جعد ... وبثغر كأنه نظم درّ وبوجه كأنه طلعة البد ... روعين في طرفها نفث سحر فقلت له: أحسنت والله يا أبا صدقة! فلم أسكت من هذه الكلمة حتى قال: يا سيدى إنى قد بنيت دارا أنفقت عليها جميع مالى وما أعددت لها فرشا فآفرشها لى. فتغافلت عنه. وعاود الغناء فتعمّدت أن «2» قلت: أحسنت، فسألنى فتغافلت؛ فقال: يا سيدى، هذا التغافل متى حدث لك؟ سألتك بالله وبحقّ أبيك عليك إلا أجبتنى عن كلامى ولو بشتم. فأقبلت عليه وقلت له: أنت والله بغيض، اسكت يا بغيض، واكفف عن هذه المسألة الملحّة. فوثب من بين يدىّ، فقلت: إنه قد خرج لحاجة، فإذا هو قد نزع ثيابه وتجرّد منها خوفا من أن تبتلّ ووقف تحت السماء لا يواريه شىء والمطر يأخذه ورفع رأسه وقال: يا ربّ أنت تعلم أنى مله ولست نائحا، وعبدك الذى قد رفعته وأحوجتنى الى خدمته يقول لى: أحسنت لا يقول لى: أسأت، وأنا مذ جلست أقول له: بنيت ولا أقول له: هدمت، فيحلف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 50 بك جرأة عليك أنى بغيض، فاحكم بينى وبينه فأنت خير الحاكمين. فغلبنى الضحك وأمرت به فتنحّى، وجهدت به أن يغنّى فامتنع، حتى حلفت له بحياتك أنى أفرش له داره يا أمير المؤمنين، وخدعته فلم أسمّ له بما أفرشها. فقال له الرشيد: طيّب والله! الآن تمّ لنا به اللهو، أدعه فإنه اذا رآك سوف يتنجّزك الفرش لأنك حلفت له بحياتى فهو يقتضيك ذاك بحضرتى ليكون أوفق له؛ فقل له: أنا أفرشها لك بالبوارىّ «1» وحاكمه الىّ. ثم دعا به فحضر؛ فلما استقرّ في المجلس قال لجعفر: الفرش الذى حلفت بحياة أمير المؤمنين أنك تفرش به دارى، تقدّم به. فقال له جعفر: اختر، إن شئت فرشتها لك بالبوارىّ وإن شئت فبالبردىّ من الحصر؛ فصاح واضطرب. فقال له الرشيد: وكيف كانت القصة؟ فأخبره، فقال له: أخطأت يا أبا صدقة إذ لم تسمّ النوع ولا حدّدت «2» القيمة؛ فاذا فرشها لك بالبردىّ أو بما دون ذلك فقد برّ فى يمينه، وإنما خدعك ولم تفطن أنت ولا توثّقت وضيّعت حقّك. فسكت ثم قال: نوفّر أيضا البردىّ والبوارىّ عليه أعزّه الله. وغنّى المغنّون حتى انتهى الدور اليه، فأخذ يغنّى غناء الملّاحين والبنّائين والسقّائين وما يجرى مجراه من الغناء. فقال له الرشيد: أى شىء هذا الغناء؟ قال: من فرش داره بالبوارىّ والبردىّ فهذا الغناء كثير منه، [وكثير «3» ] أيضا لمن هذه صلته. فضحك الرشيد وطرب وصفّق وأمر له بألف دينار من ماله، وقال له: افرش دارك بهذه. فقال: وحياتك يا أمير المؤمنين لا آخذها أو تحكم لى على جعفر بما وعدنى وإلا متّ والله أسفا لفوات ما حصل في طمعى ووعدت به؛ فحكم له على جعفر بخمسمائة دينار أخرى، فأمر له جعفر بها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 51 ذكر شىء من نوادر الأقيشر «1» هو أبو معرض المغيرة بن عبد الله بن معرض بن عمرو بن معرض بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر. والأقيشر لقب غلب عليه لأنه كان أحمر الوجه أقيشر. قال أبو الفرج الأصفهانىّ: وعمّر الأقيشر عمرا طويلا، ولعله ولد في الجاهلية ونشأ في الإسلام، وكان أبعد بنى أسد نسبا. قال: وكان كوفيّا خليعا ماجنا مدمنا للخمر. وهو الذى يقول لنفسه: فإنّ أبا معرض إذ حسا ... من الرّاح كأسا على المنبر خطيب لبيب أبو معرض ... فإن ليم في الخمر لم يصبر، أحلّ الحرام أبو معرض ... فصار خليعا على المكبر يحبّ اللئام ويلحى الكرام ... وإن أقصروا عنه لم يقصر قال: وشرب الأقيشر في بيت خمّار بالحيرة، فجاءه الشّرط ليأخذوه، فتحرّز منهم وأغلق الباب وقال: لست أشرب فما سبيلكم علىّ؟ قالوا: قد رأينا العسّ فى كفّك وأنت تمثرب. فقال: إنما شربت من لبن لقحة لصاحب هذه الدار، فما برحوا حتى أخذوا منه درهمين. فقال: إنما لقحتنا باطية «2» ... فاذا ما مزجت كانت عجب لبن أصفر صاف لونه ... ينزع الباسور من عجب «3» الذّنب إنما نشرب من أموالنا ... فسلوا الشرطىّ ما هذا الغضب؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 52 وروى أبو الفرج الأصفهانىّ عن أبى عمرو الشيبانىّ وغيره قال: كان الأقيشر لا يسأل أحدا أكثر من خمسة دراهم، يجعل درهمين للشراب ودرهما للطعام ودرهمين في كراء بغل الى الحيرة. وكان له جاريكنى أبا المضاء، له بغل يكريه، فكان يعطيه درهمين ويأخذ بغله فيركبه الى الحيرة حتى يأتى به بيت الخمّار فينزل عنه ويربطه، ثم يجلس للشرب حتى يمسى ثم يركبه. وله في ذلك أشعار كثيرة. قال وتزوّج الأقيشر ابنة عمّ له يقال لها الرّباب، على أربعة آلاف درهم- ويقال: على عشرة آلاف درهم- فأتى قومه فسألهم فلم يعطوه شيئا، فأتى ابن «1» رأس البغل وهو دهقان «2» الصين، وكان مجوسيّا، فسأله فأعطاه الصّداق كاملا؛ فقال: كفانى المجوسىّ همّ «3» الرّباب ... فدى للمجوسىّ خال وعمّ شهدت بأنك رطب «4» اللسان ... وأنك بحر جواد خضمّ وأنك سيد أهل الجحيم ... اذا ما تردّيت فيمن ظلم تجاور هامان» فى قعرها ... وفرعون والمكتنى بالحكم فقال له المجوسىّ: ويحك! سألت قومك فما أعطوك شيئا، وجئتنى فأعطيتك فجزيتنى هذا القول ولم أفلت من شرّك! قال: أو ما ترضى أن جعلتك مع الملوك وقرين أبى جهل؟. قال: ثم جاء الى عكرمة بن ربعىّ التميمىّ، فسأله فلم يعطه؟ شيئا؛ فقال فيه: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 53 سألت ربيعة من شرّها ... أبا ثم أمّا فقالوا لمه فقلت لأعلم من شرّكم ... وأجعل للسبّ فيه سمه فقالوا لعكرمة المخزيات ... وماذا يرى الناس في عكرمة فإن يك عبدا زكا ماله ... فما غير ذا فيه من مكرمه قال الأصمعى: قال عبد الملك بن مروان للأقيشر: أنشدنى أبياتك في الخمر؛ فأنشده قوله: تريك القذى من دونها وهى دونه ... لوجه أخيها في الإناء قطوب كميت اذا شجّت «1» وفي الكأس وردة ... لها في عظام الشاربين دبيب فقال له: أحسنت والله يا أبا معرض! لقد أجدت في وصفها، وأظنك قد شربتها. فقال: والله يا أمير المؤمنين، إنه ليريبنى معرفتك بها. قال: وكان الأقيشر يأتى إخوانا له فيسألهم فيعطونه، فأتى رجلا منهم فأمر له بخمسمائة درهم فأخذها ومضى الى الحانة فدفعها الى صاحبها، وقال له: أقم لى ما أحتاج اليه، ففعل. فانضم اليه رفقاء له فلم يزل معهم حتى نفدت الدراهم؛ فأتاهم بعد إنفاقها فاحتملوه يوما ويوما. فلما أتاهم في اليوم الثالث نظروا اليه من بعيد، فقالوا لصاحب الحانة: اصعد بنا الى الغرفة، وأعلم الأقيشر أنا لم نأت اليوم، ففعل. فلما جاء الأقيشر أعلمه بما قالوا، فعلم أنه لا فرج له عند صاحب الحانة إلا برهن، فطرح اليه بعض ثيابه وقال له: أقم لى ما أحتاج اليه، ففعل. فلما أخذ منه الشراب أخذ يقول: يا خليلىّ اسقيانى كأسا ... ثمّ كأسا حتى أخرّ نعاسا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 54 إن في الغرفة التى فوق رأسى ... لأناسا يخادعون أناسا يشربون المعتّق الراح صرفا ... ثم لا يرفعون للزّور «1» راسا قال: فلما سمع أصحابه هذا الشعر، فدّوه بآبائهم وأمهاتهم، ثم قالوا له: إمّا أن تصعد الينا وإما أن ننزل اليك، فصعد اليهم. قال: وكان يختلف الى رجل من بنى تميم وكان يجرى عليه في كل شهر عشرة دراهم؛ فجاءه مرة فوجده قد أصيب بابنه، فردّته امرأته عنه، ثم عاد بعد ذلك بيومين فردّته عنه أيضا؛ فكتب اليه بيتى شعر ودفع الرقعة اليها وقال: أوصليها اليه؛ فقرأها، فاذا فيها: ألا أبلغ لديك أبا هشام ... فإن الريح أبردها الشّمال عداتك في الهلال عدات صدق ... فهل سمنت كما سمن الهلال فلما قرأ الرقعة أمر بردّه وقال: لقد سمنت وما بقى إلا الهزال إن تأخرت، فأمر له بها وزادها خمسة دراهم. وكان الأقيشر مع شرفه وشعره يرضيه اليسير ويسخطه. وأخباره كثيرة ونوادره مشهورة، وفيما أوردناه منها كفاية. ومات الأقيشر قتيلا. وقيل: إنه مدح عبد الله بن إسحاق بن طلحة بن عبيد الله فلم يعطه شيئا فهجاه؛ فزعموا أنّ غلمانا لعبد الله بن إسحاق قتلوه؛ فاجتمع بنو أسد وادّعوا عليه قتل الأقيشر؛ فاقتدى منهم بديته. وقال ابن الكلبىّ: كان الأقيشر مولعا بهجاء عبد الله بن إسحاق ومدح أخيه زكريا. فقال لغلمانه: ألا تريحوننى منه! فانطلقوا فجمعوا بعرا وقصبا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 55 بظهر الكوفة وجعلوه في وسط إرة «1» ، وأقبل الأقيشر سكرانا من الحيرة على بغل أبى المضاء المكارى، فأنزلوه عن البغل وشدّوه رباطا ثم وضعوه في تلك الإرة وألهبوا النار في القصب والبعر فمات، ولم يعلم من قتله. والله أعلم. ذكر شىء من نوادر ابن سيّابة هو إبراهيم بن سيّابة مولى بنى هاشم. كان يقال: إن جدّه حجام أعتقه بعض الهاشميين. قدّمه إبراهيم الموصلىّ وابنه إسحاق لأنه مدحهما فرفعا من قدره وغنيّا بشعره ونوّها بذكره. وكان خليعا ما جنا حسن النادرة. وله نوادر نذكر منها نبذا فيما رواه أبو الفرج الأصفهانىّ. منها مارواه عن إسحاق الموصلىّ قال: أتى إبراهيم ابن سيابة وهو سكران ابنا لسوّار بن عبد الله القاضى أمرد، فعانقه وقبّله؛ وكانت معه داية يقال لها رحاص، فقيل لها: إنه لم يقبّله تقبيل التسليم، وإنما قبّله شهوة؛ فلحقته الداية فشتمته وأسمعته كلّ ما يكره، وهجره الغلام بعد ذلك؛ فقال: لئن لثمتك سرّا ... فأبصرتنى رحاص وقال في ذاك قوم ... على انتقاصى حراص هجرتنى وأتتنى ... شتيمة وانتقاص فهاك فاقتصّ منى ... إنّ الجروح قصاص وقد قيل: إنّ رحاص هذه كانت مغنّية كان الغلام يهواها، وإنه سكر ونام، فقبّله ابن سيّابة. فلما انتبه قال للمغنيّة: ليت شعرى! ما كان خبرك مع ابن سيّابة؟ فقالت له: سل عن خبرك أنت معه، وحدّثته بالقصة؛ فهجره الغلام، فقال هذا الشعر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 56 وقال إسحاق بن إبراهيم: كان ابن سيّابة عندنا يوما مع جماعة تتحدّث ونتناشد وهو ينشد شيئا من شعره، فتحرّك فضرط فضرب بيده على استه غير مكترث وقال: إما أن تسكتى حتى أتكلّم، وإما أن تتكلّمى حتى أسكت. وقال جعفر الكاتب: قال لى إبراهيم بن سيّابة الشاعر: اذا كان عند جيرانك جنازة وليس في بيتك دقيق فلا تحضر الجنازة، فإن المصيبة عندك أكبر منها عند القوم، وبيتك أولى بالمأتم من بيتهم. وقال سليمان بن يحيى بن معاذ: قدم علىّ إبراهيم بن سيّابة بنيسابور فأنزلته علىّ، فجاء ليلة من الليالى فجعل يصيح: يا أبا أيّوب، فخشيت أن يكون قد غشيه شىء، فقلت: ما تشاء؟ فقال: أعيانى الشادن الربيب قلت بماذا؟ فقال: أكتب أشكو فلا يجيب فقلت: داره وداوه، فقال: من أين أبغى شفاء قلبى ... وإنما دائى الطبيب فقلت: لا دواء إذا إلا أن يفرّج الله عزّوجلّ عنك. فقال: يا رب فرّج إذا وعجّل ... فإنك السامع المجيب ثم انصرف. وقد تقدّمت هذه الحكاية. والسلام. ذكر شىء من نوادر مطيع بن إياس الكنانىّ وأخباره قال أبو الفرج الأصفهانىّ: هو شاعر من مخضرمى الدولتين الأمويّة والعباسيّة. كان ظريفا خليعا ما جنا حلو العشرة مليح النادرة قال: وكان متهما فى دينه بالزندقة. وكان مولده ومنشؤه بالكوفة، وكان منقطعا الى الوليد بن عبد الملك، ثم اتصل بخدمة الوليد بن يزيد. وكان سبب ذلك ما حكى عن حكم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 57 الوادىّ المغنّى، قال: غنّيت الوليد بن يزيد وهو غلام حديث السنّ بشعر مطيع بن أياس وهو: إكليلها ألوان ... ووجهها فتّان وخالها فريد ... ليس له جيران اذا مشت تثنّت ... كأنها ثعبان قد جدلت فجاءت ... كأنها عنان فطرب حتى زحف عن مجلسه الىّ، واستعادنى الصوت حتى صحل «1» صوتى؛ ثم قال: ويحك! من يقول هذا؟ فقلت: عبد لك يا أمير المؤمنين أرضاه لخدمتك. قال: ومن هو؟ قلت: مطيع بن إياس. قال: وأين هو؟ قلت: بالكوفة؛ فأمر أن يحمل اليه مع البريد، فحمل اليه؛ فسأله عن الشعر فقال: من يقول هذا؟ فقال: عبدك أنا يا أمير المؤمنين. فقال له: أدن منى، فدنا منه فضمّه الوليد اليه وقبّل فاه وبين عينيه، وقبّل مطيع رجليه والأرض بين يديه؛ ثم أدناه حتى جلس في أقرب المجالس اليه، واصطبح معه أسبوعا متوالى الأيام على هذا الصوت. وكان في خلال الدولة الأمويّة ينقطع الى أوليائها وعلمائها، ثم انقطع في الدولة العباسيّة الى جعفر ابن أبى جعفر المنصور فكان معه حتى مات جعفر. ومات مطيع في خلافة الهادى بعد ثلاثة أشهر مضت منها. وله نوادر وأخبار مستظرفة هذا موضع ذكرها، فلنقتصر هاهنا من أخباره عليها دون غيرها. قيل: سقط لمطيع حائط؛ فقال له بعض أصحابه: احمد الله على السلامة. قال: احمد الله أنت إذ لم ترعك هدته، ولم يصبك غباره، ولم تغرم أجرة بنائه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 58 ومن أخباره ما رواه أبو الفرج الأصفهانىّ بإسناده الى عبد الملك المروانىّ عن مطيع بن إياس، قال: قال لى حماد عجرد يوما: هل لك أن أريك «خشّة» صديقتى وهى المعروفة بظبية الوادى! قلت نعم. قال: إنك إن قعدت عندها «1» وخبثت عينك فى النظر أفسدتها علىّ. فقلت: لا والله لا أتكلّم بكلمة تسوءك ولأسرنّك. فمضى بى وقال: والله لئن خالفت ما قلت لأخرجنّك. قال: قلت: إن خالفت إلى ما تكره فاصنع بى ما أحببت. قال: امض بنا فمضينا، فأدخلنى على أحسن خلق الله وأظرفهم وأحسنهم وجها. فلما رأيتها أخذنى الزّمع «2» ؛ وفطن لى فقال: اسكت يابن الزانية، فسكتّ قليلا، فلحظتنى ولحظتها لحظة أخرى فغضب ووضع قلنسوته عن رأسه، وكانت صلعته حمراء كأنها است قرد؛ فلما وضعها وجدت للكلام موضعا، فقلت: وإن السوءة السوءا ... يا حمّاد عن خشّه عن الأترجّة الغضّ ... ة والتفّاحة الهشّه فالتفت الىّ وقال: فعلتها يابن الزانية! فقالت له: أحسن، فو الله ما بلغ صفتك بعد، فما تريد منه! فقال لها: يا زانية! فسبّته وتثاورا، فشقّت قميصه وبصقت في وجهه وقالت له: ما يصادقك ويدع مثل هذا إلا زانية، وخرجنا وقد لقى كلّ بلاء، وقال لى: ألم أقل لك يابن الزانية: إنك ستفسد علىّ مجلسى! فأمسكت عن جوابه، وجعل يهجونى ويسبنى ويشكونى الى أصحابنا؛ فقالوا لى: اهجه ودعنا وإياه؛ فقلت: ألا يا ظبية الوادى ... وذات الجسد الرادى وزين المصر والدار ... وزين الحىّ والنادى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 59 وذات المبسم العذب ... وذات المبسم البادى أما بالله تستحي ... ين من خلّة حمّاد فحمّاد فتى ليس ... بذى عزّ فتنقادى ولا مال ولا طرف ... ولا حظّ «1» لمرتاد فتوبى واتقى الله ... وبتّى حبل عجراد فقد ميّزت بالحسن ... عن الخلق بإفراد وهذا البين قد حمّ ... فجودى لى بالزاد قال: فأخذ أصحابنا رقاعا فكتبوا الأبيات فيها وألقوها في الطريق، وخرجت أنا فلم أدخل عليهم ذلك اليوم، فلما رآها وقرأها قال لهم: يا أولاد الزنا فعلها ابن الزانية وساعدتموه؟ قال: وأخذها حكم الوادىّ فغنّى بها، فلم يبق بالكوفة سقّاء ولا طحّان ولا مكار إلا غنّى فيها ثم غبت مدّة وقدمت فأتانى فما سلّم علىّ حتى قال لى: أما بالله تستحي ... ين من خلّة حمّاد قتلتنى قتلك الله! والله ما كلمتنى حتى الساعة. قال: قلت: اللهم أدم هجرها له وسوء رأيها فيه وأسفه عليها وأغوه بها؛ فشتمنى ساعة. قال مطيع: ثم قلت له: قم امض بنا حتى أريك أختى- وكانت لمطيع صديقة يسمّيها أختى وتسمّيه أخى، وكانت مغنّية- فلما خرجت الينا، دعوت قيّمة لها فأسررت إليها في أن تصلح لنا طعاما وشرابا، وعرفتها أن الذى معى حمّاد فضحكت. ثم أخذت صاحبتى في الغناء وقد علمت بموضعه وعرفت، فكان أوّل ما غنّت: أما بالله تستحيين ... من خلّة حمّاد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 60 فقال لها: يا زانية! وأقبل علىّ وقال: وأنت يا زانى يابن الزانية! أسررت هذا الى قيّمتها! فقلت: لا والله كذبت. وشاتمته صاحبتى ساعة ثم قامت فدخلت، وجعل يتغيّظ علىّ. فقلت: أنت ترى أنى أمرتها أن تغنّى بما غنّت؟ فقال: أرى ذلك وأظنّه ظنّا لا والله ولكنى أتيقنه. فحلفت له بالطلاق على بطلان ظنّه وانصرفنا. وحكى قال يحيى بن زياد المحاربىّ لمطيع وكان صديقا له: انطلق بنا الى فلانة صديقتى، فإن بينى وبينها مغاضبة لتصلح بيننا وبئس المصلح والله أنت. قال: فدخلا «1» عليها، فأقبلا يتعاتبان ومطيع ساكت، حتى اذا أكثر قال يحيى: ما يسكتك؟ أسكت الله نأمتك «2» ! قال مطيع: أنت معتلّة عليه وما زا ... ل مهينا لنفسه في رضاك فأعجب يحيى وهشّ له. فقال مطيع: فدعيه وواصلى ابن إياس ... جعلت نفسه الغداة فداك فقام يحيى اليه بوسادة في البيت فما زال يجلد بها رأسه ويقول: ألهذا جئت بك يابن الزانية! ومطيع يغوّث «3» حتى ملّ يحيى، والجارية تضحك منهما، ثم تركه. وروى عن محمد بن الفضل السكونىّ قال: رفع صاحب الخبر الى المنصور أن مطيع بن إياس زنديق وأنه يلازم ابنه جعفر وجماعة من أهل بيته، ويوشك أن يفسد أديانهم أو ينسبوا الى مذهبه. فقال له المهدىّ: أنا به عارف، أما الزندقة فليس من أهلها، ولكنه خبيث الدين فاسق مستحلّ للمحارم؛ قال: فأحضره وانهه «4» عن صحبة جعفر وسائر أهله؛ فأحضره المهدىّ وقال له: يا خبيث يا فاسق! لقد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 61 أفسدت أخى ومن تصحبه من أهلى، والله لقد بلغنى أنهم يتقارعون عليك، ولا يتم لهم سرور إلا بك، وقد غررتهم وشهرتهم في الناس، ولولا أنى شهدت لك عند أمير المؤمنين بالبراءة مما نسبت اليه من الزندقة، لقد كان أمر بضرب عنقك! يا ربيع اضربه مائة سوط واحبسه. قال: ولم يا سيدى؟ قال: لانك سكّير خميّر قد أفسدت أهلى كلّهم بصحبتك. فقال له: إن أذنت لى وسمعت احتججت. فقال له: قل؛ فقال: أنا امرؤ شاعر، وسوقى إنما تنفق مع «1» الملوك وقد كسدت عندكم، وأنا في أيامكم مطّرح «2» ، وقد رضيت منها مع سعتها للناس جميعا بالأكل على مائدة أخيك، لا يتبع ذلك غيره، وأصفيته على ذلك شكرى وشعرى؛ فإن كان ذلك غاليا عندك تبت منه. فأطرق المهدىّ ثم رفع رأسه فقال: قد رفع إلىّ صاحب الخبر أنك تتماجن على السؤّال، وتضحك منهم. قال: لا والله ما ذاك من فعلى ولا شأنى ولا جرى منّى قط إلا مرة واحدة؛ فإن سائلا أعمى اعترضنى وقد عبرت الجسر على بغلتى، فظنّنى من الجند فرفع عصاه في وجهى، ثم صاح: اللهم سخّر الخليفة لأن يعطى للجند أرزاقهم فيشتروا من التجار الأمتعة وتربح التجار عليهم فتدرّ أموالهم فتجب فيها الزكاة عليهم فيتصدّقوا علىّ منها. فنفرت بغلتى من صياحه ورفعه عصاه في وجهى حتى كدت أسقط في الماء. فقلت: يا هذا، ما رأيت أكثر فضولا منك، سل الله أن يرزقك ولا تجعل بينك وبينه هذه الحوالات والوسائط التى لا يحتاج إليها فإن هذه المسائل فضول. فضحك الناس منه ورفع علىّ في الخبر [قولى له هذا «3» ] . فضحك المهدىّ وقال: خلّوه ولا يضرب ولا يحبس. فقال له: أدخل عليك لموجدة وأخرج عن رضا وتبرأ ساحتى وأنصرف بلا جائزة! قال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 62 لا يجوز هذا، اعطوه مائتى دينار، ولا يعلم أمير المؤمنين فتجدّد عنده ذنوبه؛ وقال له: اخرج عن بغداد ودع صحبة جعفر حتى ينساك أمير المؤمنين، ثم عد إلىّ. فقال له: فأين أفصد؟ قال: أكتب الى سليمان بن علىّ فيولّيك عملا ويحسن اليك. قال: قد رضيت. فوفد الى سليمان بكتاب المهدىّ فولّاه الصدقة بالبصرة، وكان عليها داود بن أبى هند فعزله به. وأخباره في هذا الباب كثيرة أغضينا عن كثير منها. ذكر شىء من نوادر أبى الشّبل هو عاصم بن وهب بن البراجم. مولده الكوفة. نشأ وتأدّب بالبصرة. وفد إلى سامرّاء «1» أيام المتوكل ومدحه. وكان طيّبا كثير الغزل والنوادر والمجون. فنفق عند المتوكل وخدمه واختصّ به وامتدحه بقوله: أقبلى فالخير مقبل ... واتركى قول المعلّل وثقى بالنّجح إن ... أبصرت وجه المتوكّل ملك ينصف يا ظا ... لمتى فينا ويعدل فهو الغاية والمأ ... مول يرجوه المؤمّل فأمر له بثلاثين ألف درهم. وله أخبار مستظرفة تتضمن شعرا ونوادر تدلّ على ظرفه سنذكر منها طرفا. فمن ذلك ما حكى عنه: أنه مدح مالك بن طوق، وقدّر أن يعطيه ألف درهم. فبعث اليه بصرة مختومة فيها مائة دينار، فظن أنها دراهم فردها اليه وكتب معها: فليت الذى جادت به كفّ مالك ... ومالك مدسوسان في است أمّ مالك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 63 وكان الى يوم القيامة في استها ... فأيسر مفقود وأيسر هالك وكان مالك يومئذ أميرا على الأهواز. فلما قرأ الرقعة أمر بإحضاره فأحضر وقال: ما هذا؟ ظلمتنا واعتديت علينا. فقال: قدّرت عندك ألف درهم فوصلتنى بمائة درهم. فقال: افتحها؛ ففتحها فإذا فيها مائة دينار؛ فقال: أقلنى أيها الأمير. فقال: قد أقلتك ولك كل ما تحب أبدا ما بقيت وقصدتنى. قال: وكان له جار طبيب أحمق، فمات فرثاه فقال: قد بكاه بول المريض بدمع ... واكف فوق مقلتيه ذروف ثم شقّت جيوبهن القواري ... ر عليه ونحن نوح اللهيف يا كساد الخيار شنبر والأقراص ... طرّا ويا كساد السفوف كنت تمشى مع القوىّ فإن جا ... ضعيف لم تكترث بالضعيف لهف نفسى على صنوف رقاعا ... ت تولّت منه وعقل سخيف وقال أبو الشبل: كان خالد بن يزيد بن هبيرة يشرب النبيذ، وكان يغشانا، وكانت له جارية صفراء مغنية يقال لها لهب، كانت تغشانا معه، وكنت أعبث بها كثيرا. فقام مولاها يوما الى الخابية «1» يستقى نبيذا، فاذا قميصه قد انشقّ؛ فقلت فيه: قالت له لهب يوما وجاد لها ... بالشّعر في باب فعلان ومفعول أمّا القميص فقد أزرى «2» الزمان به ... فليت شعرى ما حال السراويل قال أبو الشبل: وكانت أمّ خالد هذا ضرّاطة تضرط على صوت العيدان وغيرها فى الإيقاع. فقلت فيه: فى الحىّ من لا عدمت خلّته ... فتى إذا ما قطعته وصلا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 64 له عجوز بالحبق «1» أبصر من ... أبصرته ضاربا ومرتجلا نادمته مرّة وكنت فتى ... ما زلت أهوى وأشتهى الغزلا حتى إذا ما أمالها سكر ... يبعث «2» فى قلبها لها مثلا اتّكأت يسرة وقد خرفت «3» ... أشراجها كى تقوّم الرّملا فلم تزل إستها تطارحنى ... اسمع إلى من يسومنى العللا وقال محمد بن المرزبان: كنت أرى أبا الشبل كثيرا عند أبى، وكان إذا حضر أضحك الثكلى بنوادره. فقال له أبى يوما: حدّثنا ببعض نوادرك وطرائفك. قال نعم. من طرائف أمورى أن ابنى زنى بجارية سنديّة لبعض جيرانى، فحبلت وولدت؛ وكانت قيمة الجارية عشرين دينارا. فقال: يا أبت، الصبىّ والله ابنى، فساومت فيه فقيل لى: خمسون دينارا. فقلت له: ويلك! كنت تخبرنى وهى حبلى فأشتريها بعشرين دينارا ونربح الفضل بين الثمنين! وأمسكت عن المساومة بالصبى حتى اشتريته من القوم بما أرادوا. ثم أحبلها ثانيا فولدت ابنا آخر، فجاء يسألنى أن أبتاعه؛ فقلت: عليك لعنة الله، أى شىء حملك على أن تحبل هذه، هلا عزلت عنها! فقال: إنى لا أستحلّ العزل. ثم أقبل على جماعة عندى فجعل يقول: شيخ كبير يأمرنى بالعزل ويستحلّه. فقلت له: يابن الزانية! تستحلّ الزنا وتتحرّج من العزل! فضحكنا منه. ذكر شىء من نوادر حمزة بن بيض الحنفى كان شاعرا من شعراء الدولة الأمويّة، وهو كوفىّ خليع ماجن. وكان منقطعا إلى المهلّب بن أبى صفرة وولده، ثم إلى أبان بن الوليد وبلال بن أبى بردة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 65 واكتسب بالشعر من هؤلاء مالا عظيما. يقال: إنه أخذ بالشعر من مال وشاء ورقيق وحملان وغير ذلك ألف ألف درهم. وله نوادر، منها ما حكاه أبو الفرج الأصفهانىّ عنه: أنه كان يسامر عبد الملك بن بشر بن مروان، وكان عبد الملك يعبث به عبثا شديدا. فوجّه اليه ليلة برسول وقال: خذه على أىّ حالة وجدته، وأحلفه وغلّظ عليه الأيمان على ذلك. فمضى الرسول فهجم عليه فوجده يريد أن يدخل الخلاء؛ فقال له: أجب الأمير، فقال: ويحك! إنى أكلت طعاما كثيرا وشربت نبيدا حلوا وأخذنى بطنى. فقال: والله ما تفارقنى أو أمضى بك اليه ولو سلحت في ثيابك. فجهد فى الخلاص فلم يقدر عليه. ومضى به، فوجده قاعدا في طارمة «1» له وجارية جميلة جالسة بين يديه، وكان يتحظّاها، تسجر «2» الندّ. فجلس حمزة يحادثه وهو يعالج ما هو فيه. قال حمزة: فعرضت لى ريح فقلت: أسرّحها وأستريح لعل ريحها لا يظهر مع هذا الندّ، فأطلقتها، فغلبت والله ريح البخور وغمرته. فقال: ما هذا يا حمزة؟ فقلت: علىّ عهد الله وميثاقه وعلىّ المشى والهدى إن كنت فعلتها! وما هذا إلا عمل هذه الجارية الفاجرة. فغضب، وخجلت الجارية فما قدرت على الكلام. ثم جاءتنى أخرى فسرّحتها، فسطع والله ريحها. فقال: ما هذا؟ ويلك! أنت والله الآفة. فقلت: امرأتى طالق ثلاثا إن كنت فعلتها. فقال: وهذه اليمين لازمة إن كنت فعلتها، وما هو إلا عمل هذه الجارية؛ وقال لها: ما قصّتك؟ ويلك! قومى إلى الخلاء إن كنت تجدين شيئا. فزاد خجلها، وطمعت فيها فسرّحت الثالثة فسطع من ريحها مالم يكن في الحساب. فغضب عبد الملك حتى كاد يخرج من جلده؛ ثم قال: يا حمزة، خذ بيد الزانية فقد وهبتها لك وامض، فقد نغّصت علىّ ليلتى. فأخذت بيدها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 66 وخرجت. فلقينى خادم له فقال: ما تريد أن تصنع؟ فقلت له: أمضى بهذه الجارية. فقال: لا تفعل، فو الله لئن فعلت ليبغضنّك بغضا لا تنتفع به بعده أبدا، وهذه مائتا دينار خذها ودع هذه الجارية فإنه يتحظّاها، وسيندم على هبته إيّاها لك. فأبيت إلا بخمسمائة دينار. فقال: ليس غير ما ذكرت لك. فأخذتها وتركت الجارية. فلما كان بعد ثلاث دعانى عبد الملك. فلما قربت من داره لقينى الخادم وقال لى: هل لك في مائة أخرى وتقول مالا يضرّك ولعله ينفعك؟ قلت: وما ذاك «1» ؟ قال: إذا دخلت فادّع الفسوات الثلاث وانسبها إلى نفسك وانضح «2» عن الجارية ما قرفتها به. فأخذتها ودخلت على عبد الملك. فلما وقفت بين يديه قلت له: الأمان حتى أخبرك بخبر يسرّك ويضحكك. قال: لك الأمان. فقلت: أرأيت ليلة كذا وكذا وما جرى؟ قال نعم. قلت: فعلىّ وعلىّ إن كان فسا تلك الفسوات غيرى. فضحك حتى سقط على قفاه وقال: ويلك! فلم لم تخبرنى؟ قال فقلت: أردت بذلك خصالا، منها أنى قمت فقضيت حاجتى وقد كان رسولك منعنى من ذلك. ومنها أنى أخذت جاريتك. ومنها أنى كافأتك على أذاك لى بمثله. قال: وأين الجارية؟ قلت: ما برحت من دارك ولا خرجت حتى سلّمتها الى فلان الخادم وأخذت مائتى دينار. فسرّ بذلك وأمر لى بمائتى دينار أخرى، وقال: هذه لجميل فعلك فيّ وتركك أخذ الجارية. قال حمزة: ودخلت اليه يوما وكان له غلام لم ير الناس أنتن إبطا منه. فقال لى: يا حمزة، سابق غلامى هذا حتى يفوح صنانكما، فأيّكما كان صنانه أنتن فله مائة دينار. فطمعت في المائة ويئست منها لما أعلمه من نتن إبط الغلام؛ فقلت: أفعل. وتعادينا ساعة فسبقنى، فسلحت في يدى ثم طليت إبطى بالسّلاح؛ وقد كان عبد الملك جعل بيننا حكما؛ فلمّا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 67 دنا الغلام منه وشمّه وثب وقال: هذا والله لا يشاكله شىء. فصحت به: لا تعجل علىّ بالحكم، مكانك! ثم دنوت منه فألقمت أنفه إبطى حتى علمت أنه قد خالط دماغه وأنا ممسك رأسه تحت يدى؛ فصاح: الموت والله! هذا بالكنف أشبه منه بالإبط. فضحك عبد الملك ثم قال: أفحكمت له؟ قال نعم. فأخذت الدنانير. قال: ودخلت يوما على سليمان بن عبد الملك. فلما مثلت بين يديه قلت: رأيتك في المنام شتنت «1» خزّا ... علىّ بنفسجا وقضيت دينى فصدّق يا فدتك النفس رؤيا ... رأتها في المنام لديك عينى قال سليمان: يا غلام، أدخله خزانة الكسوة واشتن عليه كلّ ثوب خزّ بنفسجىّ، فخرجت كأنى مشجب «2» . ثم قال: كم دينك؟ قلت: عشرة آلاف؛ فأمر لى بها وما أعلم والله أنّى رأيت من ذلك شيئا. ذكر شىء من نوادر أبى العيناء عفا الله عنه هو محمد بن القاسم بن خلاد بن ياسر بن سليمان، من بنى حنيفة أهل اليمامة. وأسر ياسر في سباء في خلافة المنصور. فلما صار في يد المنصور أعتقه؛ فهم موالى بنى هاشم. وكان أبو العيناء ضرير البصر، يقال: إنّ جدّه الأكبر لقى علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه فأساء مخاطبته فدعا عليه وعلى ولده بالعمى؛ فكلّ من عمى منهم فهو صحيح النسب. وهو ممن اشتهر بالمجون، وله نوادر وحكايات مستظرفة، ومراسلات عجيبة، سأورد منها طرفا، وأسطّر طرفا. فمن ذلك: أنّ بعض الرؤساء قال له: يا أبا العيناء، لو متّ لرقص الناس طربا وسرورا. فقال بديهة: أردت مذمّتى فأجدت مدحى ... بحمد الله ذلك لا بحمدك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 68 فلا تك واثقا أبدا بعمد ... فقد يأتى القضاء بغير عمدك ثم قال: أجل! الناس قد ذهبوا، فلو رآنى الموتى لطربوا لدخول مثلى عليهم، وحلول عقلى لديهم، ووصول فضلى اليهم؛ فما زال الموتى يغبطونكم ويرحموننى بكم. وقال: واتّصلت أشغال أبى الصّقر الوزير، فتأخّر توقيعه عن أبى العيناء برسومه. فكتب اليه: رقعتى، أطال الله بقاء الوزير، رقعة من علم شغلك فاطّرح عدلك؛ وحقّق أمرك فبسط عدرك. أمّا والليل اذا عسعس، فالبنان لبنات الدّنان، وملامسات الحسان؛ وأمّا والصبح اذا تنفّس، فالبنان للعنان، ومؤامرات السلطان؛ فمن أبو العيناء القرنان «1» !. فوقّع أبو الصّقر تحت سطوره: لكل طعام مكان، ولكل معوز إمكان؛ وقد وقّعنا لك بالرسوم، وجعلنا لك حظّا من المقسوم؛ وكفينا أنفسنا عذرك الذى هو تعزير، ولسانك الذى هو تحذير. والسلام. ثم لقيه أبو العيناء في صدر موكبه فقال: طاعة شيمك لسلطان كرمك، ألزمتك الصبر على ذنوبى إليك، وتجنّى خلقى عليك. فقال أبو الصقر: كبير حسناتك، يستغرق يسير سيئاتك. فدعا له وانصرف شاكرا. قال: وبسط أبو العيناء لسانه على أهله في بعض الدواوين. فقال له فتى من أبناء الكتّاب كانت فيه جرأة: كلّ الناس لك يا أبا العيناء زوجة، وأنت زوجة أبى علىّ البصير. فقال له أبو العيناء: قد ملكنا عصمتك بيقين فحواك، ثم ننظر في شكوك دعواك، وقد طلّقت الناس كلهم سواك؛ ذلك أدنى ألّا نعول، وفيك ما يروى الفحول، ويتجاوز السول. قال: ففضحه بهذا الكلام، فلم يجبه. قال: وكان في بنى الجراح فتى خليع ما جن فأراد العبث بأبى العيناء؛ فنهاه نصحاؤه فأبى؛ فقالوا: شأنك. فقال له: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 69 يا أبا العيناء، متى أسلمت؟ فقال: حين آمن أهلك وأبوك الذين لم يؤدّبوك. فقال له الفتى: إذا قد علمت أنك ما أسلمت. فقال أبو العيناء: شهادتك لأهلك دعوى، وشهادتى عليهم بلوى، وسترى أىّ السلطانين أقوى، وأىّ الشيطانين أغوى؛ وسيعلم أهلك، ما جنى عليهم جهلك. قال: فأتاه أبوه فتبرّأ من ذمّته، ودفعه اليه برمّته. فقال له أبو العيناء: قد وهبت جوره لعدلك، وتصدّقت بحمقه على عقلك. ومن أخبار أبى العيناء أيضا: أنّ محمد بن عبيد الله بن خاقان حمله على برذون زعم أنه غير فاره، فكتب الى أبيه: أعلم الوزير أعزّه الله تعالى أنّ أبا علىّ محمدا أراد أن يبرّنى فعقّنى، وأن يركبنى فأرجلنى! أمر لى بدابّة تقف للنبرة، وتعثر بالبعرة، كالقضيب اليابس عجفا، وكالعاشق المجهود دنفا؛ يساعد أعلاه لأسفله «1» ، حباقه «2» مقرون بسعاله؛ فلو أمسك لترجّيت، أو أفرد لتعزّيت؛ ولكنه يجمعهما في الطريق المعمور، والمجلس المشهور، كأنه خطيب مرشد، أو شاعر منشد؛ تضحك من فعله النسوان، ويتناغى من فعله الصبيان؛ فمن صائح يصيح: داوه بالطباشير، ومن قائل يقول: نقّ له من الشعير. قد حفظ الأشعار، وروى الأخبار، ولحق العلماء فى الأمصار؛ فلو أعين بنطق، لروى بحقّ وصدق، عن جابر الجعفىّ، وعامر الشّعبىّ. وإنما أتيت من كاتبه الأعور، الذى اذا اختار لنفسه أطاب وأكثر، وإذا اختار لغيره أخبث وأنزر. فإن رأى الوزير أن يبدلنى ويريحنى بمركوب يضحكنى كما يضحك منى، يمحو بحسنه وفراهته، ما سطّره العيب بقبحه ودمامته. ولست أردّ كرامه، سرجه ولجامه؛ لأن الوزير أكرم من أن يسلب ما يهديه، أو ينقض ما يمضيه. فوجّه اليه عبيد الله برذونا من براذينه بسرجه ولجامه. ثم اجتمع محمد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 70 ابن عبيد الله عند أبيه. فقال عبيد الله لأبى العيناء: شكوت دابّة محمد، وقد أخبرنى إنه ليشتريه منك الآن بمائة دينار، وما هذا ثمنه فلا يشتكى. فقال: أعزّ الله الوزير لو لم أكذب مستزيدا، لم أنصرف مستفيدا. وإنى وإياه لكما قالت امرأة العزيز: (الآن حصحص الحقّ أنا راودته عن نفسه وإنّه لمن الصّادقين) . فضحك عبيد الله وقال: حجّتك الداحضة، بملاحتك وظرفك أبلغ من حجة غيرك البالغة. ودخل أبو العيناء على أبى الصّقر وكان قد تأخّر عنه، فقال: ما أخّرك عنا؟ قال: سرق حمارى. قال: وكيف سرق؟ قال: لم أكن مع اللص فأخبرك. قال: فلم لم تأت على غيره؟ قال: أبعدنى عن الشراء قلّة يسارى، وكرهت ذلّة المكارى، ومنّة العوارى. قال: وصار يوما الى باب صاعد بن مخلد، فقيل له: هو مشغول يصلّى؛ فقال: لكلّ جديد لذّة. وكان صاعد نصرانيّا قبل الوزارة. وقال له صاعد يوما: ما الذى أخّرك عنّا؟ قال: بنتى. قال: وكيف؟ قال: قالت لى: يا أبت، قد كنت تغدو من عندنا فتأتى بالخلعة السّريّة، والجائزة السنيّة، ثم أنت الآن تغدو مسدفا، وترجع معتما، فإلى من؟ قلت: إلى أبى العلاء ذى الدرايتين. قالت: أيعطيك؟ قلت: لا، قالت: أفيشفّعك؟ قلت: لا. قالت: أيرفع مجلسك؟ قلت: لا. قالت: يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئا!. وقال له رجل من بنى هاشم: بلغنى أنك بغّاء. قال: ولم أنكرت ذلك مع قول رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «مولى القوم منهم» ؟ قال: إنك دعىّ فينا. قال: بغائى صحّح نسبى فيكم. وسأل أبو العيناء الجاحظ كتابا الى محمد بن عبد الملك فى شفاعة لصاحب له؛ فكتب الكتاب وناوله الرجل؛ فعاد به الى أبى العيناء وقال: قد أسعف. قال: فهل قرأته؟ قال: لا، لأنه مختوم. قال: ويحك! فضّه لا يكون صحيفة المتلمّس. ففضّه فاذا فيه: موصّل كتابى سألنى فيه أبو العيناء، وقد عرفت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 71 سفهه وبذاء لسانه، وما أراه لمعروفك أهلا. فإن أحسنت اليه فلا تحسبه علىّ يدا، وإن لم تحسن اليه لم أعدّه عليك ذنبا، والسلام. فركب أبو العيناء الى الجاحظ وقال له: قد قرأت الكتاب يا أبا عثمان. فخجل الجاحظ وقال: يا أبا العيناء، هذه علامتى فيمن أعتنى به. قال: فإذا بلغك أنّ صاحبى قد شتمك فآعلم أنها علامته فيمن شكر معروفه. وقال أبو العيناء: مررت يوما بدرب بسامرّاء؛ فقال لى غلامى: يا مولاى، فى الدرب حمل سمين والدرب خال. فأمرته أن يأخذه وغطّيته بطيلسانى وصرت به الى منزلى. فلما كان من الغد جاءتنى رقعة من بعض رؤساء ذلك الدرب مكتوب فيها: جعلت فداك، ضاع لنا بالأمس حمل، فأخبرنى صبيان دربنا أنك أنت سرقته، فأمر بردّه متفضّلا. قال أبو العيناء: فكتبت اليه: أى سبحان الله! ما أعجب هذا الأمر! مشايخ دربنا يزعمون أنك بغّاء وأكذّبهم ولا أصدّقهم، وتصدّق أنت صبيان دربكم أنى سرقت الحمل!. قال فسكت وما عاودنى. ولأبى العيناء أخبار كثيرة وحكايات مشهورة قد أوردنا منها ما يدخل في هذا الباب وتركنا ما سواه. ذكر ما ورد في كراهة المزح روى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «من مزح استخفّ به» . وقال حكيم: خير المزاح لا ينال، وشرّه لا يقال؛ سكرات الموت به محدقة، وعيون الآجال اليه محدّقة. وقال آخر: تجنّب شؤم الهزل ونكد المزاح؛ فإنهما بابان إذا فتحا لم يغلقا إلا بعد عسر، وفحلان إذا لقحا لم ينتجا غير ضرّ. وقالوا: المزاح يضع قدر الشريف، ويذهب هيبة الجليل. وقالوا: لا تقل ما يسوءك عاجله، ويضرّك آجله. وقالوا: إيّاك وما يستقبح من الكلام، فإنه ينفر عنك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 72 الكرام، ويجسّر عليك اللئام. وقال عمر بن عبد العزيز: اتّقوا المزاح، فإنها حمقة تورث ضغينة. وقال حكيم لابنه: يا بنىّ، إياك والمزاح؛ فإنه يذهب ببهاء الوجه ويحطّ من المروءة. قال شاعر: اكره لنفسك ما لغيرك تكره ... وافعل لنفسك فعل من يتنزّه وارفع بصمتك عنك سبّات الورى ... خوف الجواب فإنه بك أشبه ودع الفكاهة بالمزاح فإنها ... تودى وتسقط من بها يتفكّه وقيل: ألا ربّ قول قد جرى من ممازح ... فساق اليه الموت في طرف الحبل فإنّ مزاح المرء في غير حينه ... دليل على فرط الحماقة والجهل وقيل: فإياك إيّاك المزاح فإنه ... يجرّى عليك الطفل والرجل النّذلا ويذهب ماء الوجه بعد بهائه ... ويورث بعد العزّ صاحبه ذلّا وقال بعض البلغاء: المزاح خرف، والاقتصاد فيه ظرف، والإفراط فيه ندامة. وقالوا: من كثر مزحه لم يسلم من استخفاف به أو حقد عليه. ويقال: أكثر أسباب القطيعة المزاح. وإن كان لا غنى للنفس عنه للجمام «1» ، فليكن بمقدار الملح فى الطعام. قال أبو الفتح البستىّ رحمه الله: أفد طبعك المكدود بالهمّ راحة ... تراح وعلّله بشىء من المزح ولكن إذا أعطيته المزح فليكن ... بمقدار ما يعطى الطعام من الملح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 73 وقيل: امزح بمقدار الطلاقة واجتنب ... مزحا تضاف به الى سوء الأدب لا تغضبنّ أخا إذا مازحته ... إن المزاح على مقدّمة الغضب وقيل: مازح صديقك ما أحبّ مزاحا ... وتوقّ منه في المزاح جماحا فلربما مزح الصديق بمزحة ... كانت لبدء عداوة مفتاحا وقال سعيد بن العاص لولده: يا بنىّ، اقتصد في مزحك؛ فإن الإفراط فيه يذهب البهاء، ويجزّىء السفهاء. ويقال: المزاح أوّله فرح، وآخره ترح. قال أبو العتاهية: وترى الفتى يلقى أخاه وخدنه ... فى بعض منطقه بما لا يغفر ويقول كنت ملاعبا وممازحا ... هيهات! نارك في الحشا تتسعّر ألقيتها وطفقت تضحك لاهيا ... وفؤاده مما به يتفطّر أو ما علمت ومثل جهلك غالب ... أنّ المزاح هو السّباب الأكبر فهذه نبذة مما قيل في الفكاهات والمجون، يفرح لها قلب المحزون، وتزول عنه الشجون. فلنذكر ما قيل مما يناسب هذا الباب من أشعار المزّاحين. ذكر شىء من الشعر المناسب لهذا الباب والداخل فيه وسنورد في هذا الفصل من أشعار هذا الفن، ما رفلت معانيه في حلل أنفاسها على صفحات أطراسها، وأهلت مغانيه بما أودعه لسان القلم صدر قرطاسها من بديغ إيناسها. يضحك سامعه وإن كان ثكلا. ويستوفيه وإن كان عجلا. هذا مع ما فيه من فحش القول الذى إذا تأمّلته في موضعه كان أزين من عقود اللآلى، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 74 وإن لمحته في غيره كان أقفر من ظلم الليالى. نسأل الله المسامحة لكاتبه وقائله، ومستمعه وناقله. فمن ذلك ما كتب به ابن حجاج لمن شرب دواء: يا أبا أحمد بنفسى أفديك ... وأهلى من سائر الأسواء كيف كان انحطاط جعسك «1» فى طاعة ... شرب الدواء يوم الدواء كيف أمسى سبال مبعرك النّد» ل غريقا في المرّة الصفراء وقال الحسن بن هانىء: للطمة يلطمنى أمرد ... تأخذ منّى العين والفكّا أطيب من تفّاحة من يدى ... ذى لحية محشوّة مسكا وقال أبو عبد الله محمد بن الحسن الحجاج: قومى تنحّى فلست من شانى ... قومى اذهبى لا يراك شيطانى لا كان دهر عليك حصّننى ... ولا زمان اليك ألجانى قعدت تفسين فوق طنفستى ... ما بين راحى وبين يحانى فما عدمنا من الكنيف وقد ... حضرت إلا بنات وردان «3» وقال أبو بكر محمد الخوارزمىّ: فسا الشيخ سهوا وفي كفّه ... شراب فلمناه لوما قبيحا فقال لى الدخل والخرج لى ... فأدخلت راحا وأخرجت ريحا وقال ابن سكّرة الهاشمىّ: وبات في السطح معى صاحب ... من أكرم الناس ذوى الفضل أفسو فيفسو فهو لى مسعد ... وإنما أملى ويستملى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 75 الباب الرابع من القسم الثالث من الفنّ الثانى فى الخمر وتحريمها وآفاتها وجناياتها وأسمائها، وأخبار من تنزّه عنها في الجاهليّة، ومن حدّ فيها من الأشراف، ومن اشتهر بها، ولبس ثوب الخلاعة بسببها، وما قيل فيها من جيّد الشعر، وما قيل في وصف آلاتها وآنيتها، وما قيل فى مبادرة اللذّات، وما وصفت به المجالس وما يجرى هذا المجرى ذكر ما قيل في الخمر وتحريمها أجمع الناس على أنّ الخمر المحرّمة في كتاب الله عزّوجلّ هى المتّخذة من عصير العنب بعد أن يغلى ويقذف بالزّبد من غير أن يمسّها نار. واذا انقلبت بنفسها وتخلّلت طهرت من غير أن يتسبّب في ذلك بشىء يلقى فيها. وطهارتها إذا غلبت عليها الحموضة وفارقتها النشوة. والخمر المتّخذة أيضا من التمر، لقول النبىّ صلّى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في صحيحه عن أبى هريرة رضى الله عنه: «الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة» . وفي حديث آخر: «من هاتين الشجرتين الكرمة والنخلة» . وعن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال: سمعت عمر رضى الله عنه على منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «أمّا بعد، أيها الناس، إنه نزل تحريم الخمر وهى من خمسة، من التمر والعنب والعسل والحنطة والشعير» . والخمر ما خامر العقل. ولا خلاف بين أحد من الأئمة في أن الخمر حرام، لما ورد في ذلك من الكتاب والسنة. أما ما ورد في كتاب الله عزّوجلّ فأربع آيات، منها ما يقتضى الإباحة، ومنها ما يقتضى الكراهة والتحريم. فأوّل ما نزل فيها بمكة قوله عزّوجلّ: (وَمِنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 76 ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً) . فكان المسلمون يشربونها يومئذ وهى حلال لهم. ثم أنزل الله عزّوجلّ بالمدينة: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) نزلت هذه الآية فى عمر بن الخطّاب ومعاذ بن جبل ونفر من الأنصار أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، أفتنا في الخمر والميسر فإنهما مذهبة للعقل مسلبة للمال؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن ربكم تقدّم فى تحريم الخمر» . فتركها قوم للإثم الكبير وقالوا: لا حاجة لنا في شربها ولا في شىء فيه إثم كبير، وشربها قوم لقوله تعالى: (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) * . وكانوا يستمتعون بمنافعها ويتجنّبون مآثمها؛ الى أن صنع عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعا ناسا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأتاهم بخمر فشربوا وسكروا وحضرت صلاة المغرب، فقدّموا بعضهم ليصلّى بهم؛ فقرأ قل يأيها الكافرون أعبد ما تعبدون الى آخر السورة بحذف «لا» فأنزل الله عزّوجلّ: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) فحرّم السكر في أوقات الصلاة. فقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: إن الله عزّوجلّ تقارب في النهى عن شرب الخمر وما أراه إلا سيحرّمها. فلما نزلت هذه الآية تركها قوم، وقالوا: لا خير فى شىء يحول بيننا وبين الصلاة. وقال قوم: نشربها ونجلس في بيوتنا؛ فكانوا يتركونها وقت الصلاة ويشربونها في غير حين الصلاة؛ الى أن شربها رجل من المسلمين، فجعل ينوح على قتلى بدر ويقول: تحيّا بالسلامة أمّ بكر ... وهل لى بعد رهطك من سلام ذرينى أصطبح بكرا فإنى ... رأيت الموت كفّت عن هشام وودّ بنو المغيرة لو فدوه ... بألف من رجال أو سوام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 77 فى أبيات أخر. فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فجاء فزعا يجرّ رداءه، حتى انتهى اليه، ورفع شنّا كان في يده ليضربه؛ فلما عاينه الرجل قال: أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله، والله لا أطعمها أبدا؛ ثم نزلت آية التحريم وهى قوله عزّوجلّ: (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) . وروى أن هذه الآية نزلت فى شأن حمزة بن عبد المطّلب، وكان نزولها وتحريم الخمر في شهر ربيع الأوّل سنة أربع من الهجرة. وكان من خبر حمزة بن عبد المطّلب ما رواه مسلم بن الحجاج بن مسلم في صحيحه عن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه قال: أصبت شارفا «1» مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مغنم يوم بدر، وأعطانى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شارفا أخرى من الخمس. قال علىّ: فلما أردت أن أبتنى بفاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واعدت رجلا صوّاغا من بنى قينقاع «2» يرتحل معى فنأتى بإذخر «3» أردت أن أبيعه من الصوّاغين فأستعين به على وليمة عرسى. فبينا أنا أجمع لشارفىّ متاعا من الأقتاب والغرائر والحبال، وشارفاى مناختان الى جنب حجرة رجل من الأنصار ورجعت حين جمعت ما جمعت، فاذا شارفاى قد اجتبّت أسنمتهما وبقرت خواصرهما وأخذ من أكبادهما، فلم أملك نفسى حين رأيت ذلك المنظر منهما [أن «4» ] قلت: من فعل هذا؟ قالوا: فعله حمزة بن عبد المطلب وهو في هذا البيت في شرب من الأنصار، غنّته قينة وأصحابه، فقالت في غنائها: ألا يا حمز للشّرف النّواء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 78 - لم يذكر مسلم في صحيحه من الشعر غير ما ذكرناه. والأبيات التى غنت بها: ألا يا حمز للشّرف «1» النّواء ... وهنّ معقّلات بالفناء ضع السكّين في اللّبّات منها ... فضرّجهنّ حمزة بالدماء وعجّل من شرائحها كبابا ... ملهوجة «2» على وهج الصّلاء وأصلح من أطايبها طبيخا ... لشربك من قديد أو شواء فأنت أبا عمارة المرجّى ... لكشف الضرّ عنها والبلاء - فقام حمزة بالسيف فاجتبّ أسنمتهما وبقر خواصرهما وأخذ من أكبادهما. فقال علىّ: فانطلقت حتى أدخل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعنده زيد بن حارثة. قال: فعرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في وجهى الذى لقيت، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مالك» ؟ قلت: يا رسول الله، ما رأيت كاليوم قط، عدا حمزة على ناقتىّ فاجتبّ اسنمتها وبقر خواصرهما وها هو ذا في بيت معه شرب. فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بردائه فارتداه ثم انطلق يمشى واتّبعته أنا وزيد بن حارثة حتى جاء الباب الذى فيه حمزة؛ فاستأذن فأذنوا له، فإذا هم شرب؛ فطفق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يلوم حمزة فيما فعل وإذا حمزة محمّرة عيناه؛ فنظر حمزة الى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم صعّد النظر الى ركبتيه ثم صعّد النظر الى سرّته ثم صعّد النظر فنظر الى وجهه، فقال حمزة: وهل أنتم إلا عبيد لأبى! فعرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه ثمل، فنكص رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على عقبيه القهقرى وخرج وخرجنا معه. وفي حديث آخر: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لعلىّ: «إنّ عمّك قد ثمل وهما لك علىّ» فغرمهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 79 لعلىّ. فلما أصبح حمزة غدا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعتذر. فقال: «مه يا عمّ فقد سألت الله فعفا عنك» . قالوا: واتخذ عتبان بن مالك صنيعا ودعا رجالا من المسلمين، منهم «1» سعد بن أبى وقّاص، وكان قد شوى لهم رأس بعير فأكلوا منه وشربوا الخمر حتى أخذت منهم، ثم إنهم افتخروا عند ذلك وانتسبوا وتناشدوا الأشعار، وأنشد سعد قصيدة فيها هجاء الأنصار وفخر لقومه؛ فقام رجل من الأنصار فأخذ لحى البعير فضرب به رأس سعد فشجّه شجّة موضحة. فانطلق سعد الى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشكا اليه الأنصار. فقال عمر رضى الله عنه: اللهم بيّن لنا رأيك في الخمر بيانا شافيا؛ فأنزل الله عزّوجلّ تحريم الخمر في سورة المائدة (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ) الآية الى (مُنْتَهُونَ) . فقال عمر: انتهينا يا ربّ. وقيل: إنها حرّمت بعد غزوة الأحزاب بأيام في ذى القعدة سنة خمس من الهجرة. والله أعلم. قال أنس رضى الله عنه: حرّمت ولم يكن للعرب يومئذ عيش أعجب منها، وما حرّم عليهم شيء أشدّ من الخمر. قال: فأخرجنا الحباب الى الطريق فصببنا ما فيها، فمنّا من كسر حبّه، ومنّا من غسله بالماء والطين، ولقد غودرت أزقّة المدينة بعد ذلك حينا، كلّما مطرت استبان فيها لون الخمر وفاحت ريحها. وقال أنس بن مالك رضى الله عنه: كنت ساقى القوم يوم حرّمت الخمر فى بيت أبى طلحة، وما شرابهم إلا فضيخ «2» البسر والتمر، فاذا مناد ينادى، فقال القوم: اخرج فانظر، فاذا مناد ينادى: ألا إنّ الخمر قد حرّمت، قال: فجرت في سكك المدينة. فقال لى أبو طلحة: اخرج فاهرقها فهرقتها. فقالوا: أو قال بعضهم: قتل فلان! قتل فلان! وهى في بطونهم، فأنزل الله عزّوجلّ: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 80 وأما ما ورد في تحريمها في كتاب الله وبيّنته السّنّة، فالأحاديث متضافرة فى تحريمها. فمن ذلك ما روى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من مات وهو مدمن خمر لقى الله وهو كعابد وثن» . وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يدخل الجنة مدمن خمر» . وأمّا من زعم أنها تباح للتّداوى بها فيردّ عليه ذلك ما صحّ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن طارق بن سويد الجعفىّ سأل النبىّ صلّى الله عليه وسلّم عن الخمر فنهاه أوكره أن يصنعها، وقال: إنما أصنعها للدواء؛ فقال: «إنها ليست بدواء ولكنه داء» . وعنه صلّى الله عليه وسلّم وقد سأله رجل قدم من جيشان (وجيشان من اليمن) فسأل النبىّ صلّى الله عليه وسلّم عن شراب يشربونه بأرضهم من الذّرة يقال له المزر؛ فقال النبىّ صلّى الله عليه وسلّم: «أو مسكر هو» قال نعم. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كلّ مسكر حرام إن على الله عهدا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال» . فقالوا: يا رسول الله، وما طينة الخبال؟ قال: «عرق أهل النار» . وعن ابن عمر رضى الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «كلّ مسكر خمر وكلّ مسكر حرام ومن شرب الخمر في الدنيا فمات وهو يدمنها لم يتب لم يشربها في الآخرة» وفي لفظ: «حرمها في الآخرة فلم يسقها» وفي لفظ: «إلا أن يتوب» . وعن عبد الله بن عبّاس رضى الله عنهما قال: حرّمت الخمر قليلها وكثيرها وما أسكر من كلّ شراب. وعنه رضى الله عنه: من سرّه أن يحرّم ما حرّم الله ورسوله فليحرّم النبيذ. وعن أبى هريرة رضى الله عنه: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يزنى الزّانى حين يزنى وهو مؤمن ولا يشرب الشارب حين يشرب وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن» أخرجه البخارىّ في صحيحه والله سبحانه وتعالى أعلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 81 ذكر ما قيل في إباحة المطبوخ والمطبوخ يسمّى الظّلاء وهو الذى طبخ حتى ذهب ثلثاه وبقى ثلثه. سمّى بذلك لأنه شبيه بطلاء الإبل في ثخنه «1» وسواده. وقد اختلف العلماء في المطبوخ، فقال بعضهم: كلّ عصير طبخ حتى ذهب نصفه فهو حلال إلا أنه يكره، وإن طبخ حتى ذهب ثلثاه وبقى ثلثه فهو حلال مباح شربه وبيعه إلا أن السكر منه حرام. وحجتهم في ذلك ما روى: أن عمر بن الخطّاب رضى الله عنه كتب إلى بعض عماله: أن ارزق المسلمين من الطلاء ما ذهب ثلثاه وبقى ثلثه. وعن عبد الله بن يزيد الخطمىّ قال: كتب الينا عمر بن الخطاب رضى الله عنه: أمّا بعد، فاطبخوا شرابكم حتى يذهب منه نصيب الشيطان في عود الكرم، فإن له اثنين ولكم واحد. وعن أنس بن مالك رضى الله عنه: أنّ نوحا عليه السّلام لمّا نازعه الشيطان في عود الكرم فقال: هذا لى، وقال: هذا لى؛ فاصطلحا على أن لنوح ثلثها وللشيطان ثلثيها. وسئل سعيد بن المسيّب: ما الشراب الذى أحلّه عمر رضى الله عنه؟ فقال: الذى يطبخ حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه. وحكى أن أبا موسى الأشعرىّ وأبا الدرداء كانا يشربان من الطلاء ما ذهب ثلثاه وبقى ثلثه. وعلى الجملة فمجموع هذه الأخبار في مثلّث «2» لم يسكر البتة. ودليل ذلك ما حكى عن عبد الله بن عبد الملك ابن الطفيل الخزرجىّ قال: كتب الينا عمر بن عبد العزيز: ألّا تشربوا من الطّلاء حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه، وكلّ مسكر حرام. هذا الذى عليه أكثر العلماء. وقال قوم: اذا طبخ العصير أدنى الطبخ صار حلالا، وهو قول إسماعيل بن عليّة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 82 وبشر المرّيسىّ وجماعة من أهل العراق. وذهب بعضهم الى أن الطّلاء الذى رخّص فيه إنما هو الرّبّ «1» والدّبس. والله عزّوجلّ أعلم. ذكر آفات الخمر وجناياتها وآفات الخمر وجناياتها كثيرة، لأنها أمّ الكبائر. وأوّل آفاتها أنها تذهب العقل، وأفضل ما في الإنسان عقله، وتحسّن القبيح وتقبّح الحسن. قال أبو نواس الحسن ابن هانىء عفا الله عنه ورحمه وغفر له ما أسلف: اسقنى حتى ترانى ... حسنا عندى القبيح وقال أيضا: اسقنى صرفا حميّا ... تترك الشيخ صبيّا وتريه الغىّ رشدا ... وتريه الرّشد غيّا وقال أبو الطّيب: رأيت المدامة غلّابة ... تهيّج للمرء أشواقه تسىء من المرء تأديبه ... ولكن تحسّن أخلاقه وانفس ما للفتى لبّه ... وذو اللبّ يكره إنفاقه وقد متّ أمس بها ميتة ... وما يشتهى الموت من ذاقه قالوا: وإنما قيل لمشارب الرجل نديم، من الندامة؛ لأن الرجل معاقر الكأس اذا سكر تكلّم بما يندم عليه وفعل ما يندم عليه، فقيل لمن شاربه «نادمه» لأنه فعل مثل فعله فهو نديم له، كما يقال: جالسه فهو جليس له. والمعاقر: المدمن، كأنه لزم عقر الشىء أى فناءه. وقد شهر أصحاب الشراب بسوء العهد وقلّة الحفاظ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 83 وقالوا: صاحب الشراب صديقك ما استغنيت عنه حتى تفتقر، وما عوفيت حتى تنكب، وما غلت دنانك حتى تنزف، وما رأوك بعيونهم حتى يفقدوك. قال بعض الشعراء عفا الله تعالى عنه: أرى كلّ قوم يحفظون حريمهم ... وليس لأصحاب النّبيذ حريم اذا جئتهم حيّوك ألفا ورحّبوا ... وإن غبت عنهم ساعة فذميم إخاؤهم ما دارت الكأس بينهم ... وكلّهم رثّ الوصال سئوم فهذا بيانى لم أقل بجهالة ... ولكننى بالفاسقين عليم قيل: سقى قوم أعرابيّة مسكرا، فقالت: أيشرب نساؤكم هذا الشراب؟ قالوا نعم. قالت: فما يدرى أحدكم من أبوه. وقال قصىّ بن كلاب لبنيه: اجتنبوا الخمر فإنه يصلح الأبدان ويفسد الأذهان. وقيل لعدىّ بن حاتم: مالك لا تشرب النبيذ؟ قال: معاف الله! أصبح حليم قوم وأمسى سفيههم. وقيل لأعرابىّ: مالك لا تشرب النبيذ؟ قال: لا أشرب ما يشرب عقلى. وقيل لعثمان بن عفّان: ما منعك من شرب الخمر في الجاهليّة ولا حرج عليك؟ قال: إنى رأيتها تذهب العقل جملة وما رأيت شيئا يذهب جملة ويعود جملة. وقال عبد العزيز بن مروان لنصيب ابن رباح: هل لك فيما يثمر المحادثة؟ يريد المنادمة، فقال: أصلح الله الأمير! الشّعر مفلفل واللون مرمدّ، ولم أقعد اليك بكرم عنصر ولا بحسن منظر، وإنما هو عقلى ولسانى؛ فإن رأيت ألّا تفرّق بينهما فافعل. ودخل نصيب هذا على عبد الملك ابن مروان فأنشده فاستحسن عبد الملك شعره فوصله؛ ثم دعا بالطعام فطعم معه. فقال له عبد الملك: هل لك [أن «1» ] تنادم عليه؟ قال: يا أمير المؤمنين، تأمّلنى. قال: قد أراك. قال: يا أمير المؤمنين، جلدى أسود وخلقى مشوّه ووجهى قبيح ولست الجزء: 4 ¦ الصفحة: 84 فى منصب، وإنما بلغ بى مجالستك ومؤاكلتك عقلى، وأنا أكره أن أدخل عليه ما ينقصه. فأعجبه كلامه وأعفاه. وقال الحسن: لو كان العقل عرضا لتغالى الناس في ثمنه؛ فالعجب لمن يشترى بماله شيئا ليشربه فيذهب عقله!. وقال الوليد بن عبد الملك للحجاج بن يوسف في وفدة وفدها عليه وقد أكلا: هل لك في الشراب؟ قال: يا أمير المؤمنين، ليس بحرام ما أحللت، ولكن أمنع أهل عملى، وأكره أن أخالف قول العبد «1» الصالح وهو قوله تعالى: (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) . وقالوا: للنبيذ حدّان، حدّ لا همّ معه، وحدّ لا عقل معه؛ فعليك بالأوّل واتقّ الثانى. ومن آفات الخمر افتضاح شاربها بريحها عند من يحتشم منه ويتّقيه ويخافه فلا يستطيع مع وجود ريحها إنكار شربها. والولاة تحدّ بالاستنكاه؛ لأن خمارها يثبت في الفم اليوم واليومين بعد تركها. فمن شربها ساعة وهو يحتشم من الناس أن يظهر ذلك عليه احتاج الى الانقطاع في بيته بعد زوال السكر وأوبة العقل حتى تزول الرائحة. وقد تحايل الذين يشربون الخمر على قطع ريحها من الفم وعالجوا ذلك بأدوية صنعوها يستعملونها بعد شربها. فأجود ما صنعوه من هذه الأدوية أن يؤخذ من المرّ والبسباسة «2» والسّعد «3» والجناح «4» والقرنفل أجزاء متساوية وجزءان من الصمغ، ويدقّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 85 ذلك ويجبل «1» بماء الورد ويستعمل منه فإنه يقطع رائحة الخمر من الفم، كما زعموا. وقد نظم بعض الشعراء هذه المفردات في أربعة أبيات فقال: مرّ وبسباسة وسعد ... الى جناح وماء ورد ينظمها الصمغ إن تلاه ... قرنفل الهند نظم عقد أجزاؤها كلّها سواء ... والصمغ جزآن، لا تعدّى فيه لذى مرّة شفاء ... وصون عرض وحفظ ودّ ذكر أسماء الخمر من حين تعصر الى أن تشرب الخمر اذا عصر فاسم ما يسيل منه قبل أن تطأه الرجل: السّلاف؛ وأصله من السّلف وهو المتقدّم من كلّ شىء، وهو في مثل ذلك الخرطوم أيضا. ويقال للذى يعصر بالأقدام: العصير، والموضع الذى يعصر فيه: المعصرة. والنّطل: ما عصر فيه السلاف؛ ويقال للعاصر: الناطل، ثم يترك العصير حتى يغلى فاذا غلا فهو خمر، وقيل: سمّيت خمرا لأنها تخامر العقول فتخالطها. وقالوا: لأنها تخمر في الإناء، أى تغطّى وهى مؤنثة. ويقال لها: القهوة، لأنها تفهى عن الطعام والشراب، يقال: أقهى عن الطعام وأقهم عنه اذا لم يشتهه. ومن أسمائها: الشّمول، سمّيت بذلك لأن لها عصفة كعصفة الشّمال، وقيل: لأنها تشمل القوم بريحها. ومنها: السّلاف والسّلافة والخرطوم وقد تقدّم معناها. ومنها: القرقف لأن شاربها يقرقف اذا شربها، أى يرعد، يقال: قرقف وقفقف. وقال أبو عمرو: القرقف اسم للخمر غير صفة وأنكر قولهم سمّيت بها لأنها ترعد. ومنها: الراح لأنها تكسب صاحبها الأريحيّة أى خفة العطاء. ومنها: العقار لأنها عاقرت الدّنّ، وقيل: لأنها تعقر شاربها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 86 من قول العرب: كلأ بنى فلان عقّار، أى يعقر الماشية. ومن أسمائها: المدامة والمدام لأنها داومت الظّرف الذى انتبذت فيه. والرحيق ومعناه الخالص من الغش. وقيل: الصافى. وقيل: العتيق. والكميت سمّيت بذلك للونها اذ كانت تضرب الى السواد. والجريال وهو صبغ أحمر سمّيت ذلك للونها أيضا. والسبيئة والسّباء وهى المشتراة وأصلها مسبوءة، يقال: سبأت الخمر اذا اشتريتها. والمشعشعة وهى الممزوجة. والصهباء وهى التى عصرت من العنب الأبيض. والشّموس شبّهت بالدابّة التى تجمح براكبها. والخندريس وهى القديمة. والحانيّة: منسوبة الى الحانة. والماذيّة: الليّنة يقال: عسل ماذى اذا كان ليّنا. والعانيّة: منسوبة الى عانة. والسّخامية: اللّينة من قولهم: قطن سخام أى ليّن وثوب سخام. قال الراجز: كأنه بالصّحصحان «1» الأنجل ... قطن سخامىّ بأيدى غزّل والمزّة والمزّاء لطعمها. والإسفنط، قال الأصمعىّ: هو بالرومية. والغرب ومعناه الحدّ؛ وغرب كلّ شىء حدّه. ولعلها سمّيت بذلك لحدّتها. والحميّا، وحميّا كلّ شىء سورته وحدّته. والمصطار: الخلّة ويقال: المضطار بالضاد أيضا. والخمطة: المتغيّرة الطعم. والمعتّقة: التى قد طال مكثها. والإثم: اسم لها لعله وقع عليها لما فى شربها من الإثم. والحمق كذلك. قال الشاعر: شربت الإثم حتى ضلّ عقلى ... كذاك الإثم يفعل بالعقول والمعرق: الممزوج قليلا، يقال: عرق من ماء أى ليس بكثير. ومن أسمائها: القنديد والفيهج وأمّ زنبق والمقطّب والطّوس والسّلسال والسّلسل والزّرجون والكلفاء والجرباء والعانسة والطّابة والنّاجود والكأس والطّلاء، قال عبيد بن الأبرص: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 87 هى الخمر صرفا تكنّى الطلا «1» ... ء كالذئب يسمى أبا جعدة والباذق والبختج: فارسيّان. والجهورىّ. والمقدىّ منسوبة الى قرية من قرى الشام. والمزاء من قولك: هذا أمزى من هذا أى أفضل. والنبيذ. والبتع: نبيذ العسل والسّكركة من الذرة. والجعة من الشعير. والفضيخ من البسر. والمزر من الحبوب ذكر أخبار من تنزّه عنها في الجاهليّة وتركها ترفّعا عنها كان ممن تركها في الجاهلية عثمان بن عفان رضى الله عنه وعبد المطلب بن هاشم وعبد الله بن جدعان التيمىّ وكان سيّدا جوادا من سادات قريش، وسبب تركه لها أنه شرب مع أميّة بن أبى الصلت الثقفىّ فأصبحت عين أميّة مخضرّة فخاف عليها الذهاب، فسأله عبد الله: ما بال عينك؟ فقال: أنت صاحبها أصبتها البارحة، قال: وبلغ منّى الشراب ما أبلغ معه من جليسى هذا المبلغ، فأعطاه عشرة آلاف درهم وقال: الخمر علىّ حرام، لا أذوقها أبدا، وقال فيها: شربت الخمر حتى قال صحبى ... ألست عن السّقاة بمستفيق؟ وحتى ما أوسد في مبيت ... أنام به سوى التّرب السحيق وممّن حرّمها في الجاهليّة: قيس بن عاصم المنقرىّ، والسبب في ذلك أنه سكر فغمز عكنة ابنته أو أخته فهربت منه، فلما صحا أخبروه فحرّم الخمر على نفسه، وقال في ذلك: وجدت الخمر جامحة وفيها ... خصال تفضح الرجل الكريما فلا والله أشربها حياتى ... ولا أدعو لها أبدا نديما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 88 ولا أعطى لها ثمنا حياتى ... ولا أشفى بها أبدا سقيما فإنّ الخمر تفضح شاربيها ... وتجشمهم بها أمرا عظيما اذا دارت حميّاها تعلّت ... طوالع تسفه الرجل الحليما ومنهم: عامر بن الظّرب العدوانىّ، قال: سأّلة للفتى ما ليس في يده ... ذهّابة بعقول القوم والمال أقسمت بالله أسقيها وأشربها ... حتى يفرّق ترب القبر أوصالى ومنهم: صفوان بن أميّة بن محرّث الكتامىّ وعفيف بن معديكرب الكندىّ والأسلوم بن نامى من همدان ومقيس بن عدىّ السهمىّ وكان سكر فجعل يخط ببوله: أنعامة أو بعيرا، فلما أفاق وأخبر بذلك حرّمها. ومنهم: العبّاس بن مرداس السلمىّ قيل له: لم تركت الشراب وهو يزيد فى جرأتك وسماحتك؟ فقال: أكره أن أصبح سيّد قومى وأمسى سفيههم. ومنهم: سعيد بن ربيعة بن عبد شمس وورقة بن نوفل والوليد بن المغيرة. وقال زيد بن ظبيان: بئس الشراب شراب حين تشربه ... يوهى العظام وطورا يوهى «1» العصب إنى أخاف مليكى أن يعذّبنى ... وفي العشيرة أن يزرى على حسبى وقال رجل لسعيد بن سلّم: ألا تشرب النبيذ؟ فقال: تركت كثيره لله تعالى وقليله للناس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 89 ذكر من حدّ فيها من الأشراف ومن شربها منهم ومن اشتهر بها ولبس فيها ثوب الخلاعة ومن افتخر بشربها فأما من حدّ فيها من الأشراف فالوليد بن عقبة بن أبى معيط وهو أخو عثمان بن عفّان لأمه، شهد عليه أهل الكوفة أنه صلّى بهم الصبح ثلاث ركعات وهو سكران ثم التفت اليهم فقال: وإن شئتم زدتكم، فجلده عبد الله بن جعفر بين يدى عثمان رضى الله عنه، وسنذكر الواقعة إن شاء الله تعالى بجملتها في الباب الثانى من القسم الخامس من الفن الخامس في التاريخ في خلافة عثمان رضى الله عنه. ومنهم: عبيد الله بن عمر بن الخطاب شرب بمصر فحدّه بها عمرو بن العاص سرّا، فلما قدم على أبيه جلده حدّا آخر علانية. ومنهم: عبد الرحمن بن عمر بن الخطّاب المعروف بأبى شحمة «1» ، حدّه أبوه فى الشراب فمات تحت حدّه. ومنهم: عاصم بن عمر بن الخطّاب، حدّه بعض ولاة المدينة. ومنهم: قدامة بن مظعون، حدّه عمر بن الخطّاب رضى الله عنه بشهادة علقمة الخصىّ وغيره. ومنهم: عبد الله بن عروة بن الزبير، حدّه هشام بن إسماعيل المخزومىّ. ومنهم: عبد العزيز بن مروان، حدّه عمرو بن سعيد الأشدق. ومنهم: أبو محجن الثقفىّ واسمه عمرو بن حبيب، وكان مغرما بالشراب، حدّه عمر مرارا في الخمر، وحدّه سعيد بن أبى وقّاص مرارا وشهد القادسيّة وأبلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 90 بلاء حسنا، ثم حلف بعد القادسيّة ألا يذوق الخمر أبدا ومات تائبا عنها، وأنشد رجل عند عبد الله بن مسلم بن قتيبة قوله: اذا متّ فآدفنّى الى جنب كرمة ... تروّى عظامى بعد موتى عروقها ولا تدفننّى في الفلاة فإننى ... أخاف اذا مامتّ أن لّا أذوقها فقال عبد الله: حدّثنى من رأى قبره بأرمينية بين شجرات كرم يخرج اليه الفتيان ويشربون عنده ويتناشدون شعره فاذا جاءت كأسه صبّوها على قبره. ومنهم: إبراهيم بن هرمة وكان مغرما بالشراب، حدّه جماعة من عمال المدينة فلما طال ذلك عليه رحل الى أبى جعفر المنصور، وقيل: إنما رحل الى المهدىّ وامتدحه بقصيدته التى يقول فيها: له لحظات في حفافى سريره ... اذا كرّها فيها عقاب ونائل له تربة بيضاء من آل هاشم ... اذا اسودّ من لؤم التراب القبائل فاستحسن شعره وقال له: سل حاجتك، فقال: تأمر لى بكتاب الى عامل المدينة ألّا يحدّنى على شراب، فقال له: ويلك! لو سألتنى عزل عامل المدينة وتوليتك مكانه لفعلت؛ قال: يا أمير المؤمنين، ولو عزلته ووليتنى مكانه أما كنت تعرلنى أيضا وتولّى غيرى! قال: بلى، قال: فكنت أرجع الى سيرتى الأولى فأحدّ، فقال المهدىّ لوزرائه: ما تقولون في حاجة ابن هرمة وما عندكم فيها من التلطّف؟ قالوا: يا أمير المؤمنين، إنه سأل مالا سبيل اليه، إسقاط حدّ من حدود الله عزّوجلّ، فقال المهدى: له حيلة اذا أعيتكم الحيل فيه، اكتبوا الى عامل المدينة: من أتاك بابن هرمة سكرانا فاضربه مائة سوط واجلد ابن هرمة ثمانين، فكان إذا شرب ومشى في أزقة المدينة يقول: من يشترى مائة بثمانين؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 91 وأما من شربها منهم واشتهر بها، جماعة من الأكابر والأعيان والخلفاء. منهم: يزيد بن معاوية شهر بشربها، وكان يقال له: يزيد الخمور، روى هشام ابن الكلبىّ عن أبيه قال: وجّه معاوية جيشا الى أرض الروم فأصابهم الجدرىّ، وعند يزيد امرأته أمّ كلثوم بنت عبد الله بن عامر فسكر وأنشأ يقول: إذا ارتفقت على الأنماط في غرف ... بدير مرّان عندى أمّ كلثوم فما أبالى الذى لاقت جيوشهم ... بالغذقذونة «1» من حمّى ومن موم «2» فبلغ الخبر معاوية، فقال: أنت هاهنا! إلحق بهم، وسيّره الى قتال الروم. ومنهم: عبد الملك بن مروان، وكان يسمّى: حمامة المسجد، لاجتهاده فى العبادة، هذا قبل أن يلى الخلافة، فلما أفضت الخلافة اليه شرب، فقال له سعيد بن المسيّب: بلغنى يا أمير المؤمنين، أنك شربت الطلاء، قال: إى والله والدماء. ومنهم: يزيد بن عبد الملك بن مروان وهو صاحب حبابة «3» وسلّامة، وأخباره مشهورة. ومنهم: ابنه الوليد بن يزيد بن عبد الملك ذهب به الشراب كلّ مذهب حتى خلع وقتل؛ وله في ذلك حكايات وأشعار. منها: أنه سمع بشرّاعة بن الزّندبوذ الكوفىّ، وكان من أهل البطالة المشهورين باللعب واللهو وإدمان الشراب؛ فاستدعاه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 92 بالكوفة الى دمشق فحمل اليه فلما دخل عليه قال له: يا شرّاعة، ما أرسلت اليك لأسألك عن كتاب الله ولا سنّة نبيّه، قال: لو سألتنى عنهما لوجدتنى فيهما حمارا، قال: وإنما أرسلت اليك لأسألك عن القهوة، قال: أنا دهقانها الخبير، ولقمانها الحكيم، وطبيبها الماهر؛ قال: فأخبرنى عن الشراب قال: سل عمّا بدا لك قال: ما تقول في الماء قال: لا بدّ منه، والحمار شريكى فيه. قال: فاللبن؟ قال: ما رأيته إلا استحييت من طول ما أرضعتنى أمّى به، قال: فالسّويق؟ قال: شراب الحزين والمستعجل والمريض. قال: فشراب التمر؟ قال: سريع الامتلاء، سريع الانفشاش. قال: فنبيذ الزبيب؟ قال: حاموا به على الشراب، قال: فالخمر؟ قال: تلك والله صديقة روحى، قال: وأنت والله صديق روحى، قال: فأى المجالس أحسن؟ قال: ما شرب فيه على وجه السماء؛ ومن شعر الوليد: خذوا ملككم لا ثبّت الله ملككم ... ثباتا يساوى ما حييت عقالا دعوا لى سلمى والنبيذ وقينة ... وكأسا، ألا حسيى بذلك مالا أبا لملك أرجو أن أخلّد فيكم ... ألا ربّ ملك قد أزيل فزالا ومنهم: المأمون بن الرشيد وشهر بالشراب وله فيه أخبار، منها: أنه شرب هو ويحيى بن أكثم القاضى وعبد الله بن طاهر، فتعامل «1» المأمون وابن طاهر على سكر يحيى، فأشار الى الساقى فأسكره، وكان بين أيديهم رزم من الورد والرياحين، فأمر المأمون فشقّ ليحيى لحد من الورد والرياحين وصيّروه فيه، وعمل بيتى شعر ودعا قينة فجلست عند رأس يحيى وغنّت بالشعر: دعوته وهو حىّ لا حياة به ... مكفّنا في ثياب من رياحين فقلت قم قال رجلى لا تطاوعنى ... فقلت خذ قال كفّى لا تواتينى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 93 فانتبه يحيى لرنّة العود وصوت الجارية فقال: يا سيّدى وأمير الناس كلّهم ... قد جارفى حكمه من كان يسقينى إنى غفلت عن الساقى فصيّرنى ... كما ترانى سليب العقل والدّين فانظر لنفسك قاض إننى رجل ... ألراح يقتلنى والرّوح يحيينى ومنهم: العباس بن علىّ بن عبد الله بن العباس وهو عمّ المنصور، كان يأخذ الكأس بيده ويقول: أما العقل فتتلفين، وأما المروءة فتمحقين، وأما الدّين فتفسدين، ويسكت ساعة ثم يقول: وأما النّفس فتسخّين، وأما القلب فتشجّعين، وأما الهمّ فتطردين، أفتراك منى تفلتين! ثم يشربها. ومنهم: بلال بن أبى بردة فضح بالشراب وفيه يقول يحيى بن نوفل الحميرىّ: وأما بلال فذاك الذى ... يميل الشراب به حيث مالا يبيت يمصّ عتيق الشراب ... كمصّ الوليد يخاف الفصالا ويصبح مضطربا ناعسا ... تخال من السّكر فيه احولا لا ويمشى ضعيفا كمشى النزيف «1» ... تخال به حين يمشى شكالا ومنهم: عبد الرحمن بن عبد الله الثقفى ّ قاضى الكوفة وفضح بمنادمة سعد بن هبّار وفيه يقول حارثة بن بدر: نهاره في قضايا غير عادلة ... وليله في هوى سعد بن هبّار ومنهم: آدم بن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز وهو الذى يقول: هاك فاشرب يا خليلى ... فى مدى الليل الطويل قهوة في ظلّ كرم ... سبيت من نهر نيل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 94 فى لسان المرء منها ... مثل لذع الزنجبيل إنما أذهب مالى ... طول إدمان الشّمول «1» وحنين العود تثني ... هـ يدا ظبى كحيل فالطويل العنق الأ ... هيف كالسيف الصقيل يا خليلىّ اسقيانى ... واهتفا بالشمس زولى قل لمن لامك فيها ... من نصيح أو عذول يبق بين الباب والدا ... ر على نعب الطلول وقيل لأبيه عبد العزيز بن عمر: إن بنيك يشربون الخمر، فقال: صفوهم لى، فقالوا: أما فلان إذا شرب خرق ثيابه وثياب نديمه، فقال: سوف يدع هذا شربها، قالوا: وأما فلان فاذا شربها تقيّأ في ثيابه، قال: وهذا سوف يدعها، قالوا: وأما آدم فإذا شربها فأسكن ما يكون لا ينال أحدا بسوء، قال: هذا لا يدعها أبدا. ومنهم: حارثة بن زيد العدوانى ّ رجل من تميم- دخل يوما على زياد ابن أبيه وبوجهه أثر، فقال له زياد: ما هذا الأثر بوجهك؟ فقال: أصلح الله الأمير ركبت فرسى الأشقر «2» فجمح بى حتى صدمنى الحائط، فقال: أما إنك لو ركبت فرسك الأشهب «3» لم يصبك مكروه. ولحارثة فيها أشعار كثيرة وأخبار مع الأحنف ابن قيس، وكان الأحنف ينهاه عنها وهو لا ينتهى ويجيبه بشعر في مدحها وقيل: إن حارثة هذا أدرك النبىّ صلّى الله عليه وسلّم بالسنّ في حال صباه وحداثته. ومنهم: والبة بن الحباب الأسدى ّ وهو الذى ربّى أبا نواس وأدّبه وعلّمه الفتوّة وقول الشعر. حكى أن المنصور قال له يوما: ادخل إلى محمد- يعنى المهدىّ- وحدّثه، فدخل عليه، فأوّل ما أنشده قوله: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 95 قولا لعمرو لا تكن ناسيا ... وسقّنى لا تحبسن كاسيا واردد على الهيثم مثل الذى ... هجت به ويحك وسواسيا وقل لساقينا على خلوة ... أدن كذا رأسك من راسيا فبلغ ذلك المنصور، فقال: لا تعيدوه إليه أردنا أن نصلحه فأراد هو أن يفسده. ومنهم: أبو الهندى ّ وهو عبد المؤمن بن عبد القدّوس بن شبث بن ربعىّ اليربوعىّ، حجّ به نصر بن سيّار فلما ورد الحرم قال له نصر: إنك بفناء بيت الله الحرام ومحل حرمه فدع الشراب، فلما زال عنه وضعه بين يديه وجعل يشرب ويبكى ويقول: رضيع مدام فارق الراح روعه ... فظلّ عليها مستهلّ المدامع أديرا علىّ الكأس إنى فقدتها ... كما فقد المفطوم درّ المراضع ومرّ به نصر بن سيّار وهو يميل سكرا، فقال له: أفسدت شرفك، فقال: لو لم أفسد شرفى لم تكن أنت اليوم والى خراسان. ومنهم: سعيد بن وهب وكان شاعرا بصريّا. ومنهم: الحسين بن الضحّاك النديم صاحب الحسن بن هانىء وكان خليعا ماجنا مليح الشعر وهو الذى يقول: ألا إنما الدّنيا وصال حبيب ... وأخذك من مشمولة بنصيب وعيشك بين المسمعات ممتّعا ... بفنّين من عرف وشدو مصبب وأنس وإنسان تلذّ بقربه ... وبدلة معشوق ويوم رقيب وعدّى ساعات النهار ورقبتى ... إلى الشمس لما آذنت بمعيب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 96 ومنهم: يحيى بن زياد وهو الذى يقول: أعاذل ليت البحر خمر وليتنى ... مدى الدهر حوت ساكن لجّة البحر فأضحى وأمسى لا أفارق لجّة ... أروّى بها عظمى وأشفى بها صدرى طوال الليالى، ليس عنّى بناضب ... ولا ناقص حتى أصير الى الحشر ومنهم: أبو نواس الحسن بن هانىء ممن اشتهر بالشراب واللهو والطرب ومنادمة القيان، وله في الخمر تشبيهات حسنة وحكايات ظريفة، نذكر هاهنا من أخباره طرفا: حكى أن مسلم بن الوليد عاتبه وقال: يا أبا نواس، قد خلعت عذارك وأطلت الإكباب على المجون حتى غلب على لبّك وما كذلك يفعل الأدباء! فأطرق ثم قال: فأوّل شربك طرح الرداء ... وآخر شربك طرح الإزار وما هنّأتك الملاهى بمثل ... إمانة مجد وإحياء عار وما جاد دهر بلذّاته ... على من يضنّ بخلع العذار فانصرف مسلم وقد أيس من فلاحه وهو يقول: جواب حاضر، من كهل فاجر. ومما يحفظ من أخباره، ويروى من أشعاره في ذلك: أنه بلغ إخوانه عنه أنه ترك الشراب واللذّات وأخذ في الزهد والصلاة في أوقاتها فاجتمعوا إليه وأقبلوا يهنّئونه، فوضع بين يديه باطية وجعل لا يدخل اليه أحد يهنئه إلا شرب بين يديه رطلا وأنشد: قالوا نزعت ولمّا يعلموا وطرى ... فى كلّ أغيد ساجى الطرف ميّاس كيف النزوع وقلبى قد تقسّمه ... لحظ العيون وقرع السنّ بالكاس لا خير في العيش إلا في المجون مع ال ... أكفاء والراح والريحان والآس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 97 ومسمع يتغنّى والكئوس لها ... حثّ علينا بأخماس وأسداس يا مورى الزند قد أكبت قوادحه ... اقبس اذا شئت من قلبى بمقياس ما أقبح الناس في عينى وأسمجهم ... إذا نظرت فلم أبصرك في الناس وحدّث الفضل بن سلمة عن الثورىّ، قال: خرج الحسن بن هانىء ومعه مطيط صاحبه، حتى أتيا دار خمّار. فقال الحسن لمطيط: ادخل بنا نمزح بهذا الخمّار. فدخلا فسلّما فردّ عليهما. فقال له الحسن: أعندك خمر عتيقة يا خمّار؟ فقال: عندى منها أجناس، فأيها تريد؟ قال: التى يقول فيها الشاعر: حجبت خيفة وصينت فجاءت ... كجلاء العروس بعد الصّيان وكأنّ الأكفّ تصبغ من ضو ... ء سناها بالورس والزعفران فملأ له الخمّار قدحا من خمر صفراء، كأنها ذهب محلول؛ فشربه الحسن وقال: أحسن من هذا أريد. فقال له الخمار: أىّ جنس تريد؟ قال: التى يقول فيها الشاعر: دفعتها أيدى الهواجر حتّى ... صيّرت جسمها كجسم الهواء فهى كالنّور في الإناء وكالنّا ... ر إذا ما تصير في الأحشاء فملا له الخمار قدحا من خمر كأنها العقيق. فشربه وقال: أرفع من هذا أريد. فقال: أىّ جنس؟ قال: التى يقول فيها الشاعر: وإذا حسا منها الوضيع ثلاثة ... سمح الوضيع كفعل ذى القدر فى لون ماء الغيث إلا أنها ... بين الضلوع كواقد الجمر فملأ له قدحا من خمر بيضاء، كأنها ماء المزن. فشرب الحسن وقال للخمار: أتعرفنى؟ قال: إى والله يا سيدى، أنا أعرف الناس بك. قال: من أنا؟ قال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 98 أنت الذى يسكر من غير وزن. فضحك الحسن وقال لمطيط: ادفع إليه ما بقى عندك من النفقة، فأعطاه مائة درهم وانصرف. وقال الحسين بن الضحّاك: كنت مع أبى نواس بمكة عام حجّ، فسمع صبيّا يقرأ (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) . فقال أبو نواس: فى مثل هذا يجىء للخمر صفة حسنة؛ ففكّر ساعة ثم أنشدنى: وسيّارة ضلّت عن القصد بعد ما ... ترادفهم أفق من الليل مظلم فأصغوا الى صوت ونحن عصابة ... وفينا فتى من سكره يترنم فلاحت لهم منّا على النأى قهوة ... كأن سناها ضوء نار تضرّم إذا ما حسوناها أقاموا مكانهم ... وإن مزجت حثّوا الركاب ويمموا قال: فحدّث بهذا الحديث محمد بن الحسين فقال: لا ولا كرامة، ما سرقه من القرآن ولكن من قول الشاعر: وليل بهيم كلّما قلت غوّرت ... كواكبه عادت لنا لتذيّل به الركب إمّا أومض البرق يمّموا ... وإن لم يلح فالقوم بالسير جهّل وقال أبو نواس فيها: ألا دارها بالماء حتى تلينها ... فما تكرم الصهباء حتى تهينها أغالى بها حتى اذا ما مللتها ... أهنت لإكرام النديم مصونها وقال أيضا: نبهته والليل ملتبس به ... وأزحت عنه حثاثة «1» فانزاحا قال ابغنى المصباح، قلت له اتّئد ... حسبى وحسبك ضوءها مصباحا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 99 فسكبت منها في الزجاجة شربة ... كانت له حتى الصباح صباحا من قهوة جاءتك قبل مزاجها ... عطلا فألبسها المزاج وشاحا شكّ البزال» فؤادها فكأنها ... أبدت اليك بريحها تفاحا وقال أيضا: ردّا علىّ الكأس، إنكما ... لا تدريان الكأس ما تجدى خوّفتمانى الله جهدكما ... وكحيفتيه رجاؤه عندى لا تعذلا في الراح إنكما ... فى غفلة عن كنه ما تسدى لو نلت ما نلت ما مزجت ... إلا بدمعكما من الوجد ما مثل نعماها اذا اشتملت ... إلا اشتمال فم على خدّ إن كنتما لا تشربان معى ... خوف الإله شربتها وحدى وأخبار الحسن بن هانىء فيها كثيرة، وفيما أوردناه منها كفاية. ومنهم: الثّروانىّ، كان شاعرا مطبوعا بليغا، من أهل الخلاعة المشهورين. وكان آخر أمره أن أصيب في حانة خمّار بين زقّى خمر وهو ميت. وهو القائل فيها: كرّ الشراب على نشوان مضطجع ... قد هب يشربها والدّيك لم يصح والليل في عسكر حمر بوارقه ... من النجوم، وضوء الصبح لم يضح والعيش لا عيش إلا أن تباكرها ... نشوان تقتل همّ النفس بالفرح حتى يظلّ الذى قد بات يشربها ... ولا مراح به يختال كالمرح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 100 ومنهم: مطيع بن إياس. وكان شاعرا أديبا ظريفا مشتهرا بالخلاعة واللعب. وكان أصحابه على ذلك، وهم يحيى بن زياد، ووالبة بن الحباب، وحمّاد عجرد. ومنهم: أبو عبد الرحمن العطوىّ. كان شاعرا فصيحا، لا يكاد يتقدّمه أحد لجزالة ألفاظه وحلاوة معانيه. وكان مولعا بالخمر مشتهرا بها مدمنا عليها، أكثر أشعاره فيها. فمن شعره: أخطب لكأسك ندمانا تسرّ به ... أو لا فنادم عليها حكمة الكتب أخطبه حرّا كريما ذا محافظة ... ترى مودّته من أقرب النسب وقال أيضا: وكم قالوا تمنّ، فقلت كأسا ... يطوف بها قضيب في كثيب وندمانا يساقطنى حديثا ... كصدق الوعد أو غضّ الرقيب ومنهم: أبو هفّان. وكان شاعرا محسنا، وخليعا ماجنا. حكى أنه شرب مع أحمد بن أبى طاهر حتى فنى ما عندهما، وكانا بجوار العلاء بن أيّوب. فقال ابن أبى طاهر لأبى هفّان: تماوت حتى نحتال على أبى العلاء في أن ينيلنا شيئا. فمضى اليه ابن أبى طاهر فقال: أصلحك الله! نزلنا جوارك فوجب حقّنا عليك، وقد مات أبو هفّان وليس له كفن. فقال لوكيله: امض معه وشاهد أمره وادفع اليه كفنا. فأتاه فوجده ملقى عليه ثوب فنقر أنفه فضرط. فقال: ما هذا؟ فقال: أصلحك الله عجّلت له صعقة القبر فإنه مات وعليه دين؛ فضحك وأمر له بدنانير. ومنهم: الأقيشر. وكان مغرما بالشراب مدمنا عليه. وهو القائل: ومقعد قوم قد مشى من شرابنا ... وأعمى سقيناه ثلاثا فأبصرا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 101 كميت كأن العنبر الورد ريحه ... ومسحوق هندىّ من المسك أذفرا ومنهم: النعمان بن علىّ بن نضلة. وكان عاملا لعمر بن الخطّاب رضى الله عنه على ميسان، وكان مدمن الشراب. وهو القائل: ألا أبلغ الحسناء أنّ خليلها ... بميسان يسقى في زجاج وحنتم «1» فإن كنت ندمانى فبالأكبر اسقنى ... ولا تسقنى بالأصغر المتثلّم لعلّ أمير المؤمنين يسوءه ... تنادمنا بالجوسق «2» المتهدّم فبلغ الشعر عمر رضى الله عنه. فكتب اليه: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أما بعد، فقد بلغنى قولك: لعلّ أمير المؤمنين يسوءه ... تنادمنا بالجوسق المتهدّم وايم الله لقد ساءنى! وعزله. فلمّا قدم عليه سأله، فقال: والله ما كان من هذا شىء، وما كان إلا فضل شعر وجدته وما شربتها قط. فقال عمر: أظنّ ذلك، ولكن لا تعمل لى عملا أبدا. فنزل البصرة، ولم يزل يغزو مع المسلمين حتى مات رحمه الله. ومنهم: عمارة بن الوليد بن المغيرة. خطب امرأة من قومه، فقالت: لا أتزوّجك حتى تدع الخمر والزنا. فقال: أمّا الزنا فإنى أدعه، وأما الخمر فوجدى بها شديد. ثم اشتدّ وجده بالمرأة فعاود طلبها؛ فقالت: حتى يحلف بطلاقى يوم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 102 يزنى أو يشرب خمرا؛ فحلف لها وتزوّجها. ومكث حينا لا يشرب، الى أن مرّ بخمّار وعنده قوم يشربون وقينة تغنّيهم وهو على ناقة؛ فطرب اليهم وارتاح ورمى بثيابه الى الخمّار، وقال: أسقهم بها؛ ونحر لهم ناقته، ومكث أياما يطعمهم ويسقيهم حتى أنفد ما معه. ثم رجع الى امرأته، فلامته، فأنشأ يقول: أقلّى علىّ اللوم يا أمّ سالم ... وكفّى فإن العيش ليس بدائم أسرّك لما صرّع القوم نشوة ... خروجى منهم سالما غير غارم سليما كأنى لم أكن كنت منهم ... وليس الخداع من تصافى التنادم ثم قال لها: الحقى بأهلك، وعاد الى ما كان عليه. وأما من افتخر بشربها وسبائها «1» ، فقد كانت العرب تفتخر بسبائها، وتضيفه إلى عظيم غنائها، وتقرنه بمذكور بلائها. وشاهد ذلك قول امرىء القيس: كأنّى لم أركب جوادا للذّة ... ولم أتبطّن كاعبا ذات خلخال ولم أسبأ الزّقّ الروىّ ولم أقل ... لخيلى كرّى كرّة بعد إجفال فقرن جوده في سباء الزقّ ببسالته في كرّ الخيل. ولمّا أنشد أبو الطيب المتنبى سيف الدولة بن حمدان قصيدته التى يقول فيها: وقفت وما في الموت شكّ لواقف ... كأنك في جفن الردى وهو نائم تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمة ... ووجهك وضّاح وثغرك باسم فقال له سيف الدولة: انتقدنا عليك يا أبا الطيّب هذين البيتين كما انتقد على امرىء القيس بيتاه، وذكرهما، قال: وبيتاك لا يلتئم شطراهما كما لا يلتئم شطرا هذين البيتين: كان ينبغى لامرىء القيس أن يقول: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 103 كأنى لم أركب جوادا ولم أقل ... لخيلى كرّى كرّة بعد إجفال ولم أسبأ الزقّ الروىّ للذّة ... ولم أتبطّن كاعبا ذات خلخال وأن تقول أنت: وقفت وما في الموت شكّ لواقف ... ووجهك وضّاح وثغرك باسم تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمة ... كأنك في جفن الردى وهو نائم فقال: أيّد الله مولانا! إن كان صحّ أنّ الذى استدرك على امرىء القيس أعلم منه بالشعر فقد أخطأ امرؤ القيس وأخطأت أنا، والثوب لا يعرفه البزّاز معرفة الحائك لأن البزّاز يعرف جملته والحائك يعرف جملته وتفاريقه، لأنه هو الذى أخرجه من الغزليّة الى الثوبيّة. وإنما قرن امرؤ القيس لذّة النساء بلذّة الركوب للصيد، وقرن السماحة في سباء الخمر للأضياف بالشجاعة في منازلة الأعداء؛ وأنا لما ذكرت الموت في أوّل البيت أتبعته بذكر الردى وهو الموت ليجانسه. ولما كان الجريح المنهزم لا يخلو من أن يكون عبوسا وعينه باكية قلت: ووجهك وضّاح وثغرك باسم لأجمع بين الأضداد في المعنى وإن لم يتسع اللفظ لجميعها. فأعجب سيف الدولة بقوله ووصله. وقال لقيط بن زرارة: شربت الخمر حتى خلت أنى ... أبو قابوس أو عبد المدان وقال حسّان بن ثابت الأنصارىّ عفا الله عنه ورحمه: إذا ما الأشربات ذكرن يوما ... فهنّ لطيّب الراح الفداء ونشربها فتتركنا ملوكا ... وأسدا ما ينهنهها اللّقاء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 104 حكى أنّ حسّان بن ثابت عنّف جماعة من الفتيان على شرب الخمر وسوء تنادمهم عليها وأنهم يضربون عليها ضرب الإبل ولا يرجعون عنها؛ فقالوا: إنا اذا هممنا بالإقلاع عنها ذكرنا قولك: ونشربها فتتركنا ملوكا ... وأسدا ما ينهنهها اللقاء فعاودناها. وقال الأخطل يخاطب عبد الملك بن مروان: اذا ما نديمى علّنى ثم علّنى ... ثلاث زجاجات لهنّ هدير خرجت أجرّ الذيل حتى كأننى ... عليك أمير المؤمنين أمير وقال آخر: إذا صدمتنى الكأس أبدت محاسنى ... ولم يخش ندمانى أذاى ولا بخلى ولست بفحّاش عليه وإن أسا ... وما شكل من آذى نداماه من شكلى وقال آخر: شربنا من الدّاذىّ «1» حتى كأننا ... ملوك لهم برّ العراقين والبحر فلما انجلت شمس النهار رأيتنا ... تولّى الغنى عنّا وعاودنا الفقر ومثله للمنخّل اليشكرىّ: فإذا سكرت فإننى ... ربّ الخورنق والسدير وإذا صحوت فإننى ... ربّ الشّويهة والبعير وقال عنترة: وإذا سكرت فإننى مستهلك ... مالى، وعرضى وافر لم يكلم وإذا صحوت فما أقصّر عن ندى ... وكما علمت شمائلى وتكرّمى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 105 أخذه البحترىّ وزاد عليه في قوله: وما زلت خلّا للندامى إذا انتشوا ... وراحوا بدورا يستحثّون أنجما تكرّمت من قبل الكؤس عليهم ... فما اسطعن أن يحدثن فيك تكرّما والزيادة أن عنترة ذكر أنه يستهلك ماله اذا سكر، والبحترى ذكر أن ممدوحه يتكرم قبل الكؤس فيبالغ حتى لا تستطيع الكؤس أن تزيده تكرّما. وكان الأعشى ميمون بن قيس مشهورا بتعاطى الخمر مشغوفا بها كثير الذكر لها فى شعره. ومن اشتهاره بها قال المفضّل بين قدماء الشعراء: أشعرهم امرؤ القيس اذا ركب، والنابغة اذا رهب، وزهير اذا رغب، والأعشى اذا طرب. وقصد الأعشى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليسلم وامتدحه بقصيدته التى أوّلها: ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا ... وبتّ كما بات السليم مسهّدا فاعترضه في طريقه من أراد منعه، فقالوا له: إنه يحرّم عليك الزنا والخمر. فقال: أمّا الزنا فقد كبرت فلا حاجة لى فيه، وأمّا الخمر فلا أستطيع تركها. وعاد لينظر في أمره، وقيل: إنه قال: أعود فأشربها سنة وأرجع، فمات قبل الحول. قالوا: ونظر الحسن بن وهب الى رجل يعبس في كأسه، فقال: ما أنصفتها، تضحك في وجهك وتعبس في وجهها. ومن ذلك قول الشريف الرضىّ: كالخمر يعبس حاسيها على مقة ... والكأس تجلو عليه ثغر مبتسم وهو مأخوذ من قول عبد الله بن المعتزّ حيث يقول: ما أنصف النّدمان كأس مدامة ... ضحكت اليه فشمّها بتعبّس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 106 ذكر شىء مما قيل فيها من جيّد الشعر قد أوسع الشعراء في هذا المعنى وأطنبوا فيه وتنوّعوا. فمنهم من مدحها ومنهم من وصفها وشبّهها، ومنهم من ذكر أفعالها وتغزّل فيها. وسنورد في هذا الموضع نبذة مما طالعناه في ذلك؛ إذ لو أوردنا مجموع ما وقفنا عليه لطال، ولا تسعت فيه دائرة المقال. فأمّا ما قيل فيها على سبيل المدح لها، فمن ذلك قول ابن الرومى حيث يقول: تالله ما أدرى بأيّة علّة ... يدعون هذا الراح باسم الراح؟ ألريحها ولروحها تحت الحشا ... أم لارتياح نديمها المرتاح؟ إن حرّمت فبحقّها من خمرة ... ما كان مثل حريمها بمباح أو حلّلت فبحقّها من نشوة ... تشفى سقام قلوبنا بصحاح وقال أيضا: خمر اذا ما نديمى ظلّ يكرعها ... أخشى عليه من اللألاء يحترق لو رام يحلف أن الشمس ما غربت ... فى فيه كذّبه في وجهه الشفق ومثله قول الطليق المروانىّ: فإذا ما غربت في فمه ... أطلعت في الخدّ منه شفقا وقال الناجم: وقهوة كشعاع الشمس صافية ... مثل السراب ترى من رقّة شبحا اذا تعاطيتها لم تدر من فرح ... راحا بلا قدح أعطيت أم قدحا؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 107 وقال الناشى: يا ربّما كأس تناولتها ... تسحب ذيلا من تلاليها كأنها النار ولكنها ... منعّم والله صاليها ومما قيل في وصفها وتشبيهها؛ فمن ذلك ما قاله يزيد بن معاوية: ومدامة حمراء في قارورة ... زرقاء تحملها يد بيضاء فالخمر شمس والحباب كواكب ... والكفّ قطب والإناء سماء وقال السروىّ: عنيت بالمدامة الشعراء ... وصفوها وذاك عندى عناء كيف تحصيل علمها وهى موت ... وحياة وعلّة وشفاء فهى في باطن الجوانح نار ... وهى في ظاهر المحاجر ماء حلوة مرّة فما أحد يد ... رى أداء خصوصها أم دواء وقال البحترىّ: اشرب على زهر الرياض يشوبه ... زهر الخدود وزهرة الصهباء من قهوة تنسى الهموم وتبعث ال ... شوق الذى قد ضلّ في الأحشاء يخفى الزجاحة لونها فكأنها ... فى الكفّ قائمة بغير إناء ولها نسيم كالرياض تنفّست ... فى أوجه الأرواح والأنداء وفواقع مثل الدموع تردّدت ... فى صحن خدّ الكاعب الحسناء يسقيكها رشأ يكاد يردّها ... فى صحن خدّ الكاعب الحسناء يسقيكها رشأ يكاد يردّها ... سكرى بفترة مقلة حوراء يسعى بها وبمثلها من طرفه ... عودا وإبداء على الندماء وقال الوأواء الدمشقىّ: فآمزج بمائك نار كأسك واسقنى ... فلقد مزجت مدامعى بدماء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 108 واشرب على زهر الرياض مدامة ... تنفى الهموم بعاجل السّراء لطفت فصارت من لطيف محلّها ... تجرى كجرى الروح في الأعضاء وكأنّ مخنقة عليها جوهر ... ما بين نار أذ كيت وهواء وكأنها وكأنّ حامل كأسها ... إذ قام بجلوها على الندماء شمس الضحى رقصت فنقّط وجهها ... بدر الدجى بكواكب الجوزاء وقال أبو نواس: أقول لما تحاكيا شبها ... أيّهما للتشابه الذهب هما سواء وفرق بينهما ... أنهما جامد ومنسكب وله أيضا: إذا عبّ «1» فيها شارب القوم خلته ... يقبّل في داج من الليل كوكبا ترى حيثما كانت من البيت مشرقا ... وما لم تكن فيه من البيت مغربا يدور بها ساق أغنّ ترى له ... على مستدار الأذن صدغا معقربا سقاهم ومنّانى بعينيه منية ... فكانت الى نفسى ألذّ وأطيبا ومثل البيت الأوّل قول ابن المعتزّ: كأنه قائم والكأس في يده ... هلال أوّل شهر غاب في شفق وقال ابن الرومىّ: ومهفهف تمّت محاسنه ... حتى تجاوز منتهى النفس أبصرته والكأس بين فم ... منه وبين أنامل خمس فكأنه والكأس في فمه ... قمر يقبّل عارض الشمس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 109 وقال الحسين بن الضحّاك: كأنما نصب كأسه قمر ... يكرع في بعض أنجم الفلك وقال آخر: واكتست من فضّة دررا ... خلتها من تحتها ذهبا ككميت اللون قلدها ... فارس من لؤلؤ حببا وقال آخر: تغشى «1» بياض شاربها ... فتخالها بيمين مختضب دارت وعين الشمس غائبة ... فحسبت عين الشمس لم تغب وقال آخر: حمراء ورديّة مشعشعة ... كأنها في إنائها لهب صهباء صرفا لو مسّها حجر ... من جامد الصخر مسّه طرب وقال آخر: قلت والراح في أكفّ النّدامى ... كنجوم تلوح في أبراج أمداما خرطتم لمدام ... أم زجاجا سبكتم لزجاج وقال الحسن بن وهب: وقهوة صافية ... كالمسك لمّا نفحا شربت من دنانها ... من كلّ دنّ قدحا فعدت لا تحملنى ... أعواد سرجى مرحا من شدة السكر الذى ... على فؤادى طفحا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 110 وقال ابن المعتز: خليلىّ قد طاب الشراب المبرّد ... وقد عدت بعد النسك والعود أحمد فهات عقارا من قميص زجاجة ... كيافوتة في درّة تتوقّد يصوغ عليها الماء شبّاك فضة ... له حلق بيض تحلّ وتعقد وقال التنوخىّ: وراح من الشمس مخلوقة ... بدت لك في قدح من نهار هواء ولكنه ساكن ... وماء ولكنه غير جارى اذا ما تأملته وهى فيه ... تأمّلت ماء محيطا بنار فهذا النهاية في الابيضاض ... وهذا النهاية في الاحمرار وما كان في الحكم أن يوجدا ... لفرط تنافيهما والنّفار ولكن تجاوز سطحاهما ال ... بسيطان فأتلفا بالحوار كأنّ المدير لها باليمين ... إذا مال بالسّقى أو باليسار تدرّع ثوبا من الياسيمين ... له فرد كمّ من الجلّنار وقال ابن وكيع التّنّيسىّ: حملت كفّه الى شفتيه ... كأسه والظلام مرخى الإزار فالتقى لؤلؤا حباب وثغر ... وعقيقان من فم وعقار وقال آخر: قم فاسقنى قد تبلّج الغسق ... من قهوة في الزجاج تأتلق كأننا والكؤس نأخذها ... نشرب نارا وليس نحترق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 111 وقال أبو نواس: غنّنا بالطلول كيف بلينا ... واسقنا نعطك «1» الجزاء الثمينا من سلاف كأنها كلّ شىء ... يتمنى مخيّر أن يكونا أكل الدهر ما تجسّم منها ... وتبقّى لنا «2» بها المكنونا فإذا ما اجتليتها فهباء ... تمنع الكفّ ما تبيح العيونا ثم شجّت فاستضحكت عن لآل ... لو تجمّعن في يد لاقتنينا فى كؤس كأنهن نجوم ... جاريات، بروجها أيدينا طالعات مع السقاة علينا ... فاذا ما غربن يغربن فينا لو ترى الشّرب حولها من بعيد ... قلت قوم من قرّة يصطلونا وقال ابن المعتزّ: وخمّارة من بنات المجوس ... ترى الدّنّ في بيتها شائلا وزنّا لها ذهبا جامدا ... فكالت لنا ذهبا سائلا وأما ما قيل في أفعالها، فمن ذلك قول أبى تمّام الطائىّ: وكأس كمعسول الأمانى شربتها ... ولكنها أجلت وقد شربت عقلى اذا عوتبت بالماء كان اعتذارها ... لهيبا كوقع النار في الحطب الجزل اذا اليد نالتها بوتر توفّرت ... على ضغنها «3» ثم استقادت من الرّجل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 112 ومثله قول ديك الجنّ واسمه عبد السلام: فقام تكاد الكأس تخضب كفّه ... وتحسبه من وجنتيه استعارها مشعشعة من كفّ ظبى كأنما ... تناولها من خدّه فأدارها فظلنا بأيدينا نتعتع روحها ... وتأخذ من أقدامنا الراح ثارها وقريب من المعنى الأوّل قول أبى بكر الخالدىّ: كانت لها أرجل الأعلاج «1» واترة ... بالدوس فانتصفت من أرؤس العرب [أخذ «2» هذا المعنى أبو غالب الإصباعىّ الكاتب فقال: عقرتهم معقورة لو سالمت ... شرّابها ما سمّيت بعقار لانت لهم حتى انتشوا وتمكّنت ... منهم فصاحت فيهم بالثار ذكرت حقائدها القديمة إذ غدت ... صرعى تداس بأرجل العصّار] وقال آخر: أسروها وجه النهار من الدّنّ ... فأمسوا وهم لها أسراء وقال عبد الصمد بن بابك عفا الله عنه: عقار عليها من دم الصّبّ نفضة ... ومن عبرات المستهام فواقع معوّدة غصب العقول كأنما ... لها عند ألباب الرجال ودائع وأما ما وصفت به غير ما قدّمناه، فمن ذلك قول أبى الفضل يحيى بن سلامة الحصكفىّ [والحصكفى نسبة الى حصن كيفا] : وخليع بتّ أعتبه ... ويرى عتبى من العبث الجزء: 4 ¦ الصفحة: 113 قلت إن الخمر مخبثة ... قال حاشاها من الخبث قلت منها القىء، قال أجل ... طهرت عن مخرج الحدث قلت فالأرفاث تتبعها ... قال طيب العيش في الرفث وسأسلوها فقلت متى ... قال عند الكون في الجدث وقال آخر: ثقلت زجاجات أتتنا فرّغا ... حتى اذا ملئت بصرف الراح خفّت فكادت أن تطير بما حوت ... وكذا الجسوم تخفّ بالأرواح [وقريب من المعنى قول الآخر: وزنّا الكأس فارغة وملأى ... فكان الوزن بينهما سواء «1» ] وقال أبو نواس: قهوة أعمى عنها ... ناظرا ريب المنون عتّقت في الدنّ حتى ... هى في رقّة دينى ثم شجّت فأدارت ... فوقها مثل العيون حدقا ترنو الينا ... لم تحجّر بجفون ذهبا يثمر درّا ... كلّ إبّان وحين من يدى ساق عليه ... حلّة من ياسمين غاية في الظرف والشكل وفرد في المجون وقال: ذد بماء الكرم والعنب ... خطرات الهمّ والنّوب قهوة لو أنها نطقت ... ذكرت ساما أبا العرب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 114 وهى تكسو كفّ شاربها ... دستبانات «1» من الذهب وقال تاج الملوك بن أيّوب: وكم ليلة فيها وصلنا غيوقنا ... وكم من صباح كان فيه صبوح تدار علينا من أكفّ سقاتنا ... عقار من الهمّ الطويل تريح تلوح لنا كالشمس في كفّ أغيد ... يلوح لعينى البدر حين يلوح مدام تحاكى خدّه ورضابه ... ونكهته في الطّيب حين تفوح ولكن لها أفعال عينيه في الحشا ... فكلّ حشا فيها عليه جريح وقال أيضا: والكأس أعطاها عقيقا أحمرا ... قان، فأعطيها لجينا يققا «2» من قهوة ما العيش إلا أن أرى ... مصطبحا في شربها مغتبقا أشربها شربا هنيئا من يدى ... غصن رشيق وغزال أرشقا ومما قيل فيها اذا مزجت بالماء، فمن ذلك قول أبى نواس: وصفراء قبل المزج بيضاء بعده ... كأن شعاع الشمس يلقاك دونها ترى العين تستعفيك من لمعانها ... وتحسر حتى ما تقلّ جفونها ومنه أخذ ديك الجنّ فقال: وحمراء قبل المزج صفراء بعده ... بدت بين ثوبى نرجس وشقائق حكت وجنة المعشوق صرفا فسلّطوا ... عليها مزاجا فاكتست لون عاشق وقال أبو هلال العسكرىّ: راح اذا ما الليل مدّ رواقه ... لاحت تطرّز حلّة الظلماء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 115 حتى اذا مزجت أراك حبابها ... زهرات أرض أو نجوم سماء وقال أيضا: وكأس تمتطى أطراف كفّ ... كأنّ بنانها من أرجوان أنازعها على العلّات شربا ... لهنّ مضاخك من أقحوان يلوح على مفارقها حباب ... كأنصاف الفرائد والجمان وطالعنى الغلام بها سحيرا ... فزاد على الكواكب كوكبان ووافقها بخدّ أرجوان ... وخالفها بفرع أدجوان قوله: كأنصاف الفرائد والجمان مأخوذ من قول ابن الرومىّ: لها صريح كأنه ذهب ... ورغوة كاللآلىء الفلق وقال أبو نواس: فإذا علاها الماء ألبسها ... حببا «1» شبيه جلاجل الحجل حتى اذا سكنت جوانحها «2» ... كتبت بمثل أكارع النمل وهو مأخوذ من قول الأوّل، ويقال: إنه ليزيد بن معاوية: وكأس سباها التّجر من أرض بابل ... كرقّة ماء الحزن في الأعين النّجل اذا شجّها الساقى حسبت حبابها ... عيون الدّبا «3» من تحت أجنحة النمل وقال أبو نواس أيضا: قامت ترينى وأمر الليل مجتمع ... صبحا تولّد بين الماء واللهب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 116 كأنّ صغرى وكبرى من فقاقعها ... حصباء درّ على أرض من الذهب وقال ابن المعتز: للماء فيها كتابة عجب ... كمثل نقش في فصّ ياقوت وقال العسكرىّ: ذاب في الكأس عقيق فجرى ... وطفا الدّرّ عليه فسبح نصب الساقى على أقداحها ... شبك الفضّة تصطاد الفرح وقال ابن الساعاتىّ: وليلة بات بدر التّمّ ساقينا ... يدير في فلك من شربها شهبا بكر اذا فرعت بالماء كان بنا ... جدّا وإن كان في كاساتها لعبا حمراء من خجل حتى اذا مزجت ... لم تدر ما خجلا تحمرّ أم غضبا تزيد بالبارد السلسال جذوتها ... وما سمعت بماء محدث لهبا تكسو النديم إذا ما ذاقها وضحا ... حتى كأنّ شعاع الشمس قد شربا وقال آخر: فنبّهتنى وساقى القوم يمزجها ... فصار في البيت للمصباح مصباح قلنا على علمنا والشكّ يغلبنا ... أراحنا نارنا أم نارنا الراح وقال ابن وكيع التّنّيسىّ: وصفراء من ماء الكروم كأنها ... فراق عدوّ أو لقاء صديق كأنّ الحباب المستدير بطوقها ... كواكب درّ في سماء عقيق صببت عليها الماء حتى تعوّضت ... قميص بهار من قميص شقيق وقال آخر: حمراء ما اعتصموا بالماء حين طفت ... إلا وقد حسبوها أنها لهب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 117 وقال الخالديّان: فهاتها كالعروس محمرّة ال ... خدّين في معجر «1» من الحبب كادت تكون الهواء في أرج ال ... عنبر لو لم تكن من العنب من كفّ راض عن الصدود وقد ... غضبت في حبّه على الغضب فلو ترى الكأس حين يمزجها ... رأيت شيئا من أعجب العجب نار حواها المزاج يلهبها ... الماء ودرّ يدور في لهب ذكر ما قيل في مبادرة اللّذات ومجالس الشراب وطيّها قال أحمد بن أبى فنن: جدّد اللّدّات فاليوم جديد ... وامض فيما تشتهى كيف تريد واله ما أمكن يوم صالح ... إن يوم الشرّ- لا كان- عتيد وقال ديك الجنّ: تمتّع من الدنيا فإنك فانى ... فى أيدى حوادث عانى ولا تنظرنّ اليوم لهوا إلى غد ... ممن لغد من حادث بأمان فإنى رأيت الدهر يسرع بالفتى ... وينقله حالين مختلفان «2» فأمّا الذى يمضى فأحلام نائم ... وأمّا الذى يبقى له فأمانى وقال ابن المعتزّ من أبيات: وبادر بأيام السرور فإنها ... سراع وأيام الهموم بطاء وخلّ عتاب الحادثات لوجهها ... فإن عتاب الحادثات عناء تعالوا فسقّوا أنفسا قبل موتها ... ليأتى ما يأتى وهنّ رواء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 118 وقال أحمد الماردانىّ: عاقر الراح ودع نعت الطلل ... واعص من لامك فيها وعذل غادها واسع لها واغر بها ... وإذا قيل: تصابى، قل أجل إنما دنياك- فاعلم- ساعة ... أنت فيها وسوى ذاك أمل وقال ابن بسّام: واصل خليلك إنما ال ... دنيا مواصلة الخليل وانعم ولا تتعجّل ال ... مكروه من قبل النزول بادر بما تهوى فما ... تدرى متى وقت الرحيل وارفض مقالة لائم ... إن الملام من الفضول ومما وصفت به مجالس الشرب؛ فمن ذلك قول أبى نواس: فى مجلس ضحك السرور به ... عن ناجذيه وحلّت الخمر وقال ديك الجنّ: كأنما البيت بريحانة ... ثوب من السندس مشقوق وقال السرىّ: ألست ترى ركب الغمام يساق ... وأدمعه بين الرياض تراق وقد رقّ جلباب النسيم على الثرى ... ولكن جلابيب الغيوم صفاق وعندى من الرّيحان نوع تجسّه ... وكأس كرقراق الخلوق «1» دهاق وذو أدب جلّت صنائع كفّه ... ولكن معانى الشعر منه دقاق له أبدا من نثره ونظامه ... بدائع حلى ما لهنّ حقاق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 119 وأغيد مهتزّ، على صحن خدّه ... غلائل من صبغ الحياء رقاق أحاطت عيون العاشقين بخصره ... فهنّ له دون النّطاق نطاق وقد نظم المنثور فهو قلائد ... علينا، وعقد مذهب وخناق وغرفتنا بين السحائب تلتقى ... لهنّ علينا كلّة ورواق تقسّم زوّار من الهند سقفها ... خفاف على قلب الكريم رشاق أعاجم تلتذّ الخصام كأنها ... كواعب زنج راعهنّ طلاق أنسن بنا أنس الإماء تحبّبت ... وشيمتها غدر بنا وإباق مواصلة والورد في شجراته ... مفارقة إن حان منه فراق فزر فتية، برد الشراب لديهم ... حميم اذا فارقتهم وغساق «1» قوله: أحاطت عيون العاشقين بخصره ... فهن له دون النطاق نطاق مأخوذ من قول المتنبّى: وخصر تثبت الأحداق فيه ... كأنّ عليه من حدق نطاقا وقال أبو هلال العسكرىّ: وليل ابتعت به لذّة ... وبعت فيه العقل والدّنيا أصاب فيه الوصل قلب الجوى ... وبات فيه الهمّ مسكينا وقد خلطنا بنسيم الصّبا ... نسيم راح ورياحينا وأكؤس الراح نجوم اذا ... لاحت بأيدينا هوت فينا تضحك في الكأس أباريقنا ... وحسبما تضحك تبكينا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 120 ومما قيل في طىّ مجالس الشراب؛ فمن ذلك قول بعض الشعراء: حكم العقار اذا قصدت لشربها ... فى لذّة من مسمع «1» وقيان ألّا تعود لذكر ما أبصرت من ... أحدوثة من شارب سكران وقال آخر: إذا ذكر النبيذ فليس حقّا ... إعادة ما يكون على النبيذ إعادة ما يكون من السّكارى ... يكدّر صفوة العيش اللذيذ وقال آخر: تنازعوا لذّة الصهباء بينهم ... وأوجبوا لرضيع الكأس ما يجب لا يحفظون على السكران زلّته ... ولا يريبك من أخلاقهم ريب ذكر ما قيل في وصف آلات الشراب وأوانيها من ذلك ما قيل في وصف معصرة الخمر: قال أبو الفرج الببّغاء: ومعصرة أنخت بها ... وقرن الشمس لم يغب فخلت قرارها بالرا ... ح بعض معادن الذهب وقد ذرفت لفقد الكر ... م فيها أعين العنب وجاش عباب واديها ... بمنهلّ ومنسكب وياقوت العصير بها ... يلاعب لؤلؤ الحبب فياعجبا لعاصرها ... وما يفنى به عجبى وكيف يعيش وهو يخو ... ض في بحر من اللهب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 121 وقال ابن المعتزّ يصف الدّنان: ودنان كمثل صفّ رجال ... قد أقيموا ليرقصوا دستبندا «1» وقال القطامىّ يصف جرار الخمر: واستودعتها رواقيد «2» مقيّرة «3» ... دكن الظواهر قد برنسن بالطّين مكافحات لحرّ الشمس قائمة ... كأنهنّ نبيط في تبابين «4» وقال العلوىّ الأصفهانىّ: مخدّرة مكنونة قد تقشّفت ... كراهبة بين الحسان الأوانس وأترابها يلبسن بيض غلائل ... هى العرى مغرور بها كلّ لابس مشعّثة مرهاء «5» ما خلت أننى ... أرى مثلها عذراء في زىّ عانس ومما قيل في الراووق ؛ قال بعض الشعراء: كأنما الراووق وانتصابه ... خرطوم فيل سقطت أنيابه والبيت منه عطر ترابه ... كأنّ مسكا فتّقت عيابه وقال آخر: سماء لاذ «6» ، قطرها رحيق ... رحب الذّرى ينحطّ فيه الضّيق ماء عقيق لو جرى العقيق ... حتى اذا ألهبها التّصفيق صحنا الى جيراننا: الحريق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 122 ومما وصفت به زقاق الخمر؛ فمن ذلك قول الأخطل: أناخوا فجرّوا شاصيات «1» كانها ... رجال من السودان لم يتسربلوا وقال أبو الهندىّ وأجاد في شعره: أتلف المال وما جمعته ... طلب اللّذات من ماء العنب واستباء الزقّ من حانوتها ... شائل الرجلين معضوب «2» الذنب كلّما كبّ لشرب خلته ... حبشيّا قطعت منه الرّكب وقال ابن المعتزّ: وتراها وهى صرعى ... فرّغا بين الندامى مثل أبطال حروب ... قتلوا فيها كراما وقال العلوىّ الأصفهانىّ: عجبت من حبشىّ لا حراك به ... لا يدرك الثأر إلا وهو مذبوح طورا يرى وهو بين الشّرب مضطجع ... رخو الصّفاق «3» وطورا وهو مشبوح ومما وصفت به الأباريق ؛ فمن ذلك قول شبرمة بن الطفيل: كأنّ أباريق الشّمول عشيّة ... إوزّ بأعلى الطفّ عوج الحناجر وقال آخر: يا ربّ مجلس فتية نادمتهم ... من عبد شمس في ذرى العلياء وكأنما إبريقهم من حسنه ... ظبى على شرف أمام ظباء وقال ابن المعتزّ: وكأنّ إبريق المدام لديهم ... ظبى على شرف أناف مدلها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 123 لما استحثّته السّقاة جثى لها ... فبكى على قدح النديم وقهقها وقال إسحاق الموصلىّ: كأن أباريق المدام لديهم ... ظباء بأعلى الرّقمتين قيام وقد شربوا حتى كأنّ رقابهم ... من اللّين لم يخلق لهنّ عظام وكلّهم نظروا الى قول علقمة بن عبدة: كأنّ إبريقهم ظبى على شرف ... مقدّم بسبا «1» الكتّان ملثوم وقال محمد بن هانىء من أبيات: والأباريق كالظباء العواطى ... أوجست نبأة الخيول العتاق مصغيات إلى الغناء مطلا ... ت عليه كثيرة الإطراق وهى شمّ الأنوف يشمخن كبرا ... ثم يرعفن بالدّم المهراق وقال أبو نواس عفا الله عنه: والكوب يضحك كالغزال مسبّحا ... عند الركوع بلثغة الفأفاء وكأنّ أقداح الرحيق إذا جرت ... وسط الظلام كواكب الجوزاء وقال بشّار بن برد: كأنّ إبريقنا والقطر من فمه ... طير تناول ياقوتا بمنقار ومما وصفت به الكاسات والأقداح ؛ فمن ذلك قول ابن المعتزّ: غدا بها صفراء كرخيّة ... تخالها في كأسها تتّقد وتحسب الماء زجاجا لها ... وتحسب الأقداح ماء جمد وقال ابن المعتزّ أيضا عفا الله عنه: وكأس تحجب الأبصار عنها ... فليس لناظر فيها طريق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 124 كأن غمامة بيضاء بينى ... وبين الكأس تخرقها البروق وقال أبو الفرج الببّغاء: من كلّ جسم كأنه عرض ... يكاد لطفا باللحظ ينتهب كأنما صاغه النّفاق فما ... يخلص منه صدق ولا كذب وقال الرفّاء: كأنّ الكؤس بفضلاتها ... متوّجة بأكاليل نور جيوب من الوشى مزرورة ... يلوح عليها بياض النحور وقال آخر: وكأنما الأقداح مترعة الحشا ... بين الشروب كواكب الجوزاء وكأنها ياقوتة فضلاتها ... مخروطة من درّة بيضاء وقال المعوّج: يعاطيك كأسا غير ملأى كأنها ... إذا مزجت أحداق درع مزرّد كأنّ أعاليها بياض سوالف ... يلوح على توريد خدّ مورّد وقال أبو نواس: وكأنما الروض السماء ونهره ... فيه المجرّة والكؤس الأنجم وقال الثعالبىّ: يا واصف الكأس بتشبيهها ... دونك وصفا عالى القدر كأنّ عين الشمس قد أفرغت ... فى قالب صيغ من البدر وقال آخر: أقول للكأس إذ تبدّت ... بكفّ أحوى أغنّ أحور أخربت بيتى وبيت غيرى ... وأصل ذا كعبك المدوّر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 125 الباب الخامس من القسم الثالث من الفنّ الثانى فى النّدمان والسّقاة [ ومما قيل في الندمان ] قال سهل بن هارون: ينبغى للنديم أن يكون كأنما خلق من قلب الملك يتصرّف بشهواته ويتقلّب بإرادته، لا يملّ المعاشرة، ولا يسأم المسامرة؛ إذا انتشى يحفظ، وإذا صحا يبقظ، ويكون كاتما لسرّه، ناشرا لبرّه. قالوا: فاخر كاتب نديما، فقال الكاتب: أنا معونة، وأنت مؤونة؛ وأنا للجدّ، وأنت للهزل؛ وأنا للشدّة، وأنت للرخاء؛ وأنا للحرب، وأنت للسلم. فقال النديم: أنا للنعمة، وأنت للخدمة؛ وأنا للحظوة، وأنت للمهنة؛ تقوم وأنا قاعد، وتحتشم وأنا مؤانس؛ تدأب لراحتى، وتشقى لما فيه سعادتى؛ فأنا شريك وأنت معين، كما أنك تابع وأنا قرين. فلم يحر الكاتب جوابا. والله أعلم. وسئل إسحاق بن إبراهيم الموصلىّ رحمه الله عن الندماء، فقال: واحد غمّ، واثنان همّ، وثلاثة قوام، وأربعة تمام، وخمسة مجلس، وستّة زحام، وسبعة جيش، وثمانية عسكر، وتسعة أضرب طبلك، وعشرة الق بهم من شئت. وقال الجمّاز: النبيذ حرام على اثنى عشر نفسا، من غنّى الخطأ، واتكأ على اليمين، وأكثر من أكل البقل، وكسر الزجاج، وسرق الريحان، وبل ما بين يديه، وطلب العشاء، وقطع البمّ «1» ، وحبس أوّل قدح، وأكثر الحديث، وامتخط في منديل الشراب، وبات في موضع لا يحتمل المبيت فيه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 126 قال أبو هلال العسكرىّ: ما أعاف النبيذ خيفة إثم ... إنما عفته لفقد النّديم ليس في اللهو والمدامة حظّ ... لكريم دون النديم الكريم فتخيّر قبل النبيذ نديما ... ذا خلال معطّرات النسيم وجمال إذا نظرت بديع ... وضمير إذا اختبرت سليم وقال آخر: أرى للكأس حقّا لا أراه ... لغير الكأس إلا للنديم هو القطب الذى دارت عليه ... رحى اللّذات في الزمن القديم وقال آخر: وندمان أخى ثقة ... كأنّ حديثه حبره «1» يسرّك حسن ظاهره ... وتحمد منه مختبره ويستر عيب صاحبه ... ويستر أنه ستره وقال آخر: ونديم حلو الحديث يجاري ... ك بما تشتهيه في ميدانك ألمعىّ كأنّ قلبك في أض ... لاعه أو كلامه في لسانك وقال يحيى بن زياد: ولست له في فضلة الكأس قائلا ... لأصرفه عنها «2» : تحسّ وقد أبى ولكن أحييّه وأكرم وجهه ... وأشرب ما أبقى وأسقيه ما اشتهى ولست إذا ما نام عندى بموقظ ... ولا مسمع يقظان شيئا من الأذى وقال آخر: ليس من شأنه إذا دارت الكأ ... س فأزرى إدمانها بالحلوم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 127 قول ما يسخط النديم وإن أسخطه ... عند ذاك قول النديم وقال عبد الرحمن العطوىّ رحمه الله: اخطب لكأسك ندمانا تسرّ به ... أو لا فنادم عليها حكمة الكتب أخطبه حرّا كريما ذا محافظة ... ترى مودّته من أقرب النسب وقال أبو نواس: وندمان يرى عيبا عليه ... بأن يمشى وليس به انتشاء إذا نبّهته من نوم سكر ... كفاه مرّة منك النداء فليس بقائل لك: إيه دعنى ... ولا مستخبرا لك ما تشاء ولكن سقّنى ويقول أيضا ... عليك الصّرف إن أعياك ماء اذا ما أدركته الظهر صلّى ... ولا عصر عليه ولا عشاء يصلّى هذه في وقت هذى ... وكلّ صلاته أبدا قضاء وقال آخر: نبهت ندمانى فهبّوا ... بعد المنام لما استحبّوا هذا أجاب وذا أنا ... ب وذا يسير وذاك يحبو أنشدتهم بيتا يعلّم ... ذا الصبابة كيف يصبو «ما العيش إلا أن تحبّ ... وأن يحبّك من تحبّ» فتطرّبوا والأريحية ... شأنها طرب وشرب وقال أبو عبادة البحترىّ عفا الله تعالى عنه: ونديم نبّهته ودجى الليل ... وضوء الصباح يعتلجان قم نبادر بها الصيام فقد أق ... مر ذاك الهلال من شعبان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 128 وقال أيضا: بات نديما لى حتى الصباح ... أغيد مجدول مكان الوشاح كأنما يبسم عن لؤلؤ ... منضّد أو برد أو أقاح يساقط الورد علينا وقد ... تبلّج الصبح، نسيم الرياح إن لان عطفاه قسا قلبه ... أو ثبّت الخلخال جال الوشاح «1» أمزج كأسى بجنى ريقه ... وإنما أمزج راحا براح ومنهم من كره النديم وآثر الانفراد. قال إبراهيم الموصلىّ عفا الله تعالى عنه ورحمه: دخلت يوما على الفضل بن يحيى فصادفته يشرب وعنده كلب، فقلت له: تنادم كلبا! قال: نعم، يمنعنى أذاه، ويكفّ عنّى أذى سواه، ويشكر قليلى، ويحفظ مبيتى ومقيلى. وأنشد: وأشرب وحدى من كراهتى الأذى ... مخافة شرّ أو سباب لئيم انتهى وأستغفر الله العظيم. ومما قيل في السّقاة ؛ فمن ذلك قول الصنوبرىّ عفا الله عنه: ومورد الخدّين يخطر ... حين يخطر في مورّد يسقيك من جفن اللّجي ... ن اذا سقاك دموع عسجد حتى تظنّ النجم ين ... زل أو تظنّ الأرض تصعد فإذا سقاك بعينه ... وبفيه ثم سقاك باليد حيّاك بالياقوت ثم ... الدّرّ من تحت الزّبرجد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 129 وقال ديك الجنّ: ومزر بالقضيب اذا تثنّى ... ومزهاة على القمر التمام سقانى ثم قبّلنى وأوما ... بطرف سقمه يشفى سقامى فبتّ له على الندمان أسقى ... مداما في مدام في مدام وقال ابن المعتزّ: تدور علينا الراح من كفّ شادن ... له لحظ عين يشتكى السقم مدنف كأنّ سلاف الخمر من ماء خدّه ... وعنقودها من شعره الجعد يقطف وقال أيضا: بين أقداحهم حديث قصير ... هو سحر وما سواه الكلام فكأنّ السّقاة بين الندامى ... ألفات بين السطور قيام وقال أحمد بن أبى فنن: بكفّ مقرطق خنث ... تطيب بطيبه الرّيب تراها وهى في كفّي ... هـ من خدّيه تلتهب وقال الصنوبرىّ: وساق اذا همّ ندماننا ... بأن يزجى الكأس لم يزجه كلعبة عاج على فرشه ... وليث عرين على سرجه لطيف الممنطق مهتزّه ... ثقيل المؤزّر مرتجّه سقانى بعينيه أضعاف ما ... سقانى بكفّيه من غنجه وقال آخر: يا ساقى القوم إن دارت إلىّ فلا ... تمزج فإنى بدمعى مازج كاسى ويافتى الحىّ إن غنّيت من طرب ... فغنّ: واحربا من قلبه القاسى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 130 وقال ابن المعتزّ: وعاقد زنّار على غصن الآس ... دقيق المعانى مخطف الخصر ميّاس سقانى عقارا صبّ فيها مزاجها ... فأضحك عن ثغر الحباب فم الكاس وقال أيضا: قام كالغصن في النقا ... يمزج الشمس بالقمر وسقانى المدام ... والليل بالصبح مؤتزر والثريّا كنور غصن ... على الغرب قد نثر وقال البحترىّ: وفي القهوة أشكال ... من الساقى وألوان حباب مثل ما يضحك ... عنه وهو جذلان ويسكر مثل ما يسكر ... طرف منه وسنان وطعم الريق إن جاد ... به والصبّ هيمان لنا من كفّه راح ... ومن ريّاه ريحان وقال أبو القاسم الهبيرىّ الكاتب رحمة الله تعالى عليه: سقانا الراح ساق، كلّ راح ... سوى ألحاظ عينيه سراب يدير الكأس مبتسما علينا ... فما ندرى أثغر أم حباب؟ وقد سفر الدجى عن ثوب فجر ... منير مثل ما سفر النقاب فخلت الصبح في أثر التريّا ... بشيرا جاء في يده كتاب وقال أبو الشّيص: يطوف علينا به أحور ... يداه من الكأس مخضوبتان غزال تميل بأعطافه ... قناة تعطّف كالخيزران الجزء: 4 ¦ الصفحة: 131 وقال أبو بكر محمد بن عمّار: وهويته يسقى المدام كأنه ... قمر يطوف بكوكب في حندس متأرّج الحركات تندى ريحه ... كالغصن هزّته الصّبا بتنفّس يسعى بكأس في أنامل سوسن ... ويدير أخرى في محاجر نرجس وقال المعوّج يصف ساقية: لا عيش إلا من كفّ ساقية ... ذات دلال في طرفها مرض كأنما الكأس حين تمزجها ... نجوم ليل تعلو وتنخفض وقال آخر يصف امرأة ساقية: وساقية كأنّ بمفرقيها ... أكاليلا على طبقات ورد لها طيب المنى وصفاء لون ... وحمرة وجنة ومذاق شهد وقال ديك الجنّ يصف ساقيا وساقية: أفديكما من حاملى قدحين ... قمرين في غصنين في دعصين رود منعّمة ومهضوم الحشا ... للناظرين منّى وقرّة عين قامت مؤنّثة وقام مؤنّثا ... فتناهبا الألحاظ بالنظرين صبّا علىّ الراح إن هلالنا ... قد صبّ نعمته على الثّقلين وإلىّ كأسكما على ما خيّلت ... بالتبر معجونا بماء لجين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 132 الباب السادس من القسم الثالث من الفنّ الثانى فى الغناء والسماع، وما ورد في ذلك من الحظر والإباحة، وما استدلّ به من رأى ذلك؛ ومن سمع الغناء من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ومن التابعين ومن الأئمة والعبّاد والزّهاد، ومن غنّى من الخلفاء وأبنائهم والأشراف والقوّاد والأكابر، وأخبار المغنّين الذين نقلوا الغناء من الفارسيّة الى العربيّة، ومن أخذ عنهم، ومن اشتهر بالغناء وأخبار القيان. ذكر ما ورد في الغناء من الحظر والإباحة قد تكلم الناس في الغناء في التحريم والإباحة واختلفت أقوالهم وتباعدت مذاهبهم وتباينت استدلالاتهم؛ فمنهم من رأى كراهته وأنكر استماعه، واستدلّ على تحريمه؛ ومنهم من رأى خلاف ذلك مطلقا وأباحه وصمّم على إباحته؛ ومنهم من فرّق بين أن يكون الغناء مجرّدا أو أضيف اليه آلة كالعود والطنبور وغيرهما من الالات ذوات الأوتار والدفوف والمعازف والقصب، فأباحه على انفراده وكرهه إذا انضاف إلى غيره وحرّم سماع الالات مطلقا. ولكل طائفة من أرباب هذه المقالات أدلّة استدلّت بها. وقد رأينا أن نثبت في هذا الموضع نبذة من أقوالهم على سبيل الاختصار وحذف النظائر المطوّلة فنقول وبالله التوفيق. أما ما قيل في تحريم الغناء وما استدلّ به من رأى ذلك، فإنهم استدلّوا على التحريم بالكتاب والسنّة وأقوال الصحابة والتابعين والأئمة من علماء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 133 المسلمين. أما دليلهم من الكتاب العزيز فقول الله عزّوجلّ: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) . وقوله عزّوجلّ: (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) . وقوله سبحانه وتعالى: (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) . وقوله تبارك وتعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) . وقوله سبحانه وتعالى: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) ، وقوله: (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) . قال ابن عباس: (سامدون) هو الغناء بلغة حمير، وقال مجاهد: هو الغناء بقول أهل اليمن، سمد فلان اذا غنّى. وروى عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال في هذه الآية (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) : إنه الغناء، ومن طريق آخر: إنه الغناء وأشباهه. وروى عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه: هو- والذى لا إله إلا هو- الغناء. وعن مجاهد رضى الله عنه في قوله تعالى: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) قال: صوته الغناء والمزامير. وعنه في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) قال: الغناء. وأمّا دليلهم من السنّة، فما روى عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: إن الله عزّوجلّ حرّم القينة وبيعها وثمنها وتعليمها والاستماع إليها، ثم قرأت (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) الآية. وروى أبو أمامة رضى الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «ما رفع أحد صوته بغناء إلّا بعث الله عزّوجلّ اليه شيطانين على منكبيه يضربان بأعقابهما على صدره حتى يمسك» . وروى أبو الزبير عن جابر بن عبد الله رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «كان إبليس أوّل من ناح وأوّل من تغنّى» . وعن عبد الرحمن بن عوف رضى الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 134 عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين صوت عند نعمة وصوت عند مصيبة» . وأمّا أقوال الصحابة والتابعين رضى الله عنهم، فقد روى عن عثمان بن عفّان رضى الله عنه أنه قال: ما تغنّيت قطّ. فتبرّأ من الغناء وتبحّح بتركه. وروى عن ابن مسعود رضى الله عنه أنه قال: الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل. وروى أنّ ابن عمر رضى الله عنهما مرّ على قوم محرمين ومعهم قوم ورجل يغنّى فقال: الا لا أسمع والله لكم، ألا لا أسمع والله لكم. وروى عن عبد الله ابن دينار قال: مرّ ابن عمر رضى الله عنهما بجارية صغيرة تغنّى، فقال: لو ترك الشيطان أحدا ترك هذه. وعن إسحاق بن عيسى قال: سألت مالك بن أنس رضى الله عنه عما ترخّص فيه بعض أهل المدينة من الغناء فقال: ما يفعله عندنا إلا الفسّاق. وقال الشعبىّ: لعن المغنّى والمغنّى له. وقال الحكم بن عتيبة: حبّ السماع ينبت النفاق في القلب. وروى أن رجلا سأل القاسم بن محمد فقال: ما تقول فى الغناء، أحرام هو؟ فأعاد عليه؛ فقال له في الثالثة: اذا كان يوم القيامة فأتى بالحق والباطل أين يكون الغناء؟ قال: مع الباطل. قال القاسم: فأفت نفسك. وقال الفضيل بن عياض: الغناء رقية الزنا. وقال بعضهم: الغناء رائد من روّاد الفجور. وقال الضحّاك: الغناء مفسدة للقلب، مسخطة للرب. وقال يزيد ابن الوليد مع اشتهاره بما اشتهر به: يا بنى أميّة، إيّاكم والغناء؛ فإنه ينقص الحياء ويزيد في الشهوة ويهدم المروءة، وإنه لينوب عن الخمر ويفعل ما يفعله السكر؛ فإن كنتم لا شكّ فاعلين فجنّبوه النساء؛ فإن الغناء رقية الزنا. وإنى لأقول ذلك فيه على أنه أحبّ إلىّ من كلّ لذّة، وأشهى الى نفسى من الماء الى ذى الغلّة الصادى، ولكن الحقّ أحقّ أن يقال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 135 وأمّا أقوال الأئمة رحمهم الله تعالى فقد قال الإمام الشافعىّ رضى الله عنه فى كتاب أدب القضاة: الغناء لهو مكروه يشبه الباطل. وقال: من استكثر منه فهو سفيه تردّ شهادته. قال القاضى حسين بن محمد: وأمّا سماعه من المرأة التى ليست بمحرم، فإن أصحاب الشافعىّ قالوا: لا يجوز بحال سواء كانت بارزة أو من وراء حجاب وسواء كانت حرّة أو مملوكة. وقال الشافعىّ: وصاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعها فهو سفيه تردّ شهادته. ثم غلّظ القول فيه وقال: هو دياثة. قال: وإنما جعل صاحبها سفيها لأنه دعا الناس إلى الباطل، ومن دعا الى باطل كان سفيها فاسقا. وقال مالك بن أنس: اذا اشترى جارية فوجدها مغنّية كان له ردّها بالعيب، قال: وهو مذهب سائر أهل المدينة إلا إبراهيم بن سعد وحده. وكره أبو حنيفة ذلك وجعل سماع الغناء من الذنوب. قال: وذلك مذهب سائر أهل الكوفة وسفيان الثورىّ، وحمّاد بن سلمة، وإبراهيم النّخعىّ، والشعبىّ وغيرهم لا خلاف بينهم في ذلك. قال: ولا يعرف أيضا بين أهل البصرة خلاف في كراهة ذلك والمنع منه. وقال بعض الزهّاد: والغناء يورث العناد في قوم، ويورث التكذيب في قوم، ويورث القساوة في قوم. وقال بعضهم عن حاله عند السماع: أتذكر وقتنا وقد اجتمعنا ... على طيب الغناء الى الصباح ودارت بيننا كأس الأغانى ... فأسكرت النفوس بغير راح فلم تر فيهم إلا نشاوى ... سرورا والسرور هناك صاحى إذا لبّى أخو اللذّات فيه ... منادى اللهو حىّ على السماح ولم يملك سوى المهجات شيئا ... أرقناها لألحاظ ملاح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 136 هذا ملخص ما ذكروه في تحريم الغناء. وقد استدلّ من أباحه بما يناقض ما تقدّم على ما نذكر ذلك إن شاء الله في إباحة الغناء. ذكر ما ورد في إباحة الغناء والسماع والضرب بالآلة وقد تكلم الناس في إباحة الغناء وسماع الأصوات والنغمات والآلات، وهى الدفّ واليراع والقصب والأوتار على اختلافها من العود والطّنبور وغيره، وأباحوا ذلك واستدلّوا عليه وضعفّوا الأحاديث الواردة في تحريمه، وتكلّموا على رجالها وجرّحوهم وبسطوا في ذلك المصنّفات ووسّعوا القول وشرحوا الأدلّة. وطالعت من ذلك عدّة تصانيف في هذا الفنّ مجرّدة له ومضافة الى غيره من العلوم. وكان ممّن تكلّم فى ذلك وجرّد له تصنيفا الشيخ الإمام الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر بن على المقدّسى رحمه الله تعالى، فقال في ذلك ما نذكر مختصره ومعناه: اعلم أن الله تعالى بعث محمدا صلّى الله عليه وسلم بالحنيفية السمحة الى الكافّة. قال الله تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) . فبلّغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمة، وسنّ وشرع، وأمر ونهى، كما أمر صلّى الله عليه وسلم. فليس لأحد بعده وبعد الخلفاء الراشدين الذين أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالاقتداء بهم والاتباع لسنّتهم أن يحرّم ما أحلّ الله عزّوجلّ ورسوله صلّى الله عليه وسلّم إلا بدليل ناطق من آية محكمة، أو سنّة ماضية صحيحة، أو إجماع من الأمة على مقالته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 137 وأما الاستدلال بالموضوعات والغرائب والأفراد من رواية المكذّبين والمجرحين الذين لا تقوم بروايتهم حجّة، وبأقاويل من فسّر القرآن على حسب مراده ورأيه، فلا يرجع إلى قولهم ولا يسلك طريقهم؛ إذ لو جاز ذلك لم يكن قول أحد من الناس أولى من قول غيره، وإنما يلزم بقول من أيّد بالوحى والتنزيل، وعصم من التغيير والتبديل. قال الله تعالى: (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) . فعلمنا أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يأمر ولم ينه عن أمر إلا بوحى من الله تعالى. وكذلك كان صلّى الله عليه وسلم اذا سئل عن أمر لم ينزل فيه وحى توقّف حتى يأتيه الوحى، وليست هذه المنزلة لغيره فيلزم قبول قوله. ذكر ما استدلّوا به على إباحة الغناء من الأحاديث النبوية قد استدلّوا على إباحة الغناء بأحاديث صحيحة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. منها ما روى عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: دخل علىّ أبو بكر رضى الله عنه وعندى جاريتان من جوارى الأنصار تغنّيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث وليستا بمغنّيتين؛ فقال أبو بكر: أمزمار الشيطان في بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم! وذلك يوم عيد. فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا» . ومن طريق آخر عنها رضى الله عنها قالت: دخل علىّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعندى جاريتان تغنّيان بغناء بعاث؛ فاضطجع على الفراش وحوّل وجهه، ودخل أبو بكر فانتهزنى وقال: مزمارة الشيطان عند النبىّ صلى الله عليه وسلم! فأقبل عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «دعهما» . فلما غفل غمزتهما فخرجتا، وكان يوم عيد يلعب فيه السودان بالدّرق والحراب، فإمّا سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإمّا قال: «تشتهين تنظرين» فقلت نعم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 138 فأقامنى وراءه، خدّى على خدّه وهو يقول: «دونكم يا بنى أرفدة «1» » حتى اذا مللت قال. «حسبك؟» قلت نعم. قال: «فاذهبى» . ومن طريق آخر عنها رضى الله عنها: أنّ أبا بكر رضى الله عنه دخل عليها وعندها جاريتان في أيام منّى تدفّفان وتضربان والنّبى صلّى الله عليه وسلّم متغشّ بثوبه؛ فانتهرهما أبو بكر؛ فكشف النبىّ صلّى الله عليه وسلّم عن وجهه وقال: «دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد» . وتلك الأيام أيام منى. وقالت عائشة: رأيت النبىّ صلّى الله عليه وسلّم يسترنى وأنا أنظر الى الحبشة وهم يلعبون في المسجد فزجرهم عمر، فقال النبىّ صلّى الله عليه وسلّم: «دعهم أمنا بنى أرفدة» (يعنى من الأمن) . قال أبو محمد علىّ بن أحمد بن سعيد ابن حزم رحمه الله عند ذكر هذه الأحاديث: أين يقع إنكار من أنكر من إنكار سيّدى هذه الأمة بعد نبيها صلّى الله عليه وسلّم، أبى بكر وعمر رضى الله عنهما! وقد أنكر عليه الصلاة والسلام عليهما إنكارهما، فرجعا عن رأيهما إلى قوله صلّى الله عليه وسلّم. وعن عائشة رضى الله عنها قالت: كانت جارية من الأنصار فى حجرى فزففتها؛ فدخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يسمع غناء، فقال: «يا عائشة ألا تبعثين معها من يغنّى فإن هذا الحىّ من الأنصار يحبّون الغناء» . وعن جابر بن عبد الله رضى الله عنهما قال: نكح بعض الأنصار بعض أهل عائشة فأهدتها إلى قباء؛ فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أهديت عروسك» ؟ قالت نعم. قال: «فأرسلت معها بغناء فإن الأنصار يحبّونه» ؟ قالت لا. قال: «فأدركيها يا زينب» (امرأة كانت تغنّى بالمدينة) رواه أبو الزبير محمد بن الزبير بن مسلم المكّى عن جابر. وعنه أيضا قال: أنكحت عائشة رضى الله عنها ذات قرابة لها رجلا من الأنصار؛ فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أهديتم الفتاة» ؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 139 قالوا نعم. قال: «أرسلتم معها» ؟.- قال أبو طلحة راوى الحديث: ذهب عنى- فقالت لا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الأنصار قوم فيهم غزل فلو بعثتم معها من يقول: أتيناكم أتيناكم ... فحيّانا وحيّاكم «1» » وروى عن فضالة بن عبيد قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لله أشدّ أذنا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن يجهر به من صاحب القينة الى قينته» . قال أبو عبد الله الحاكم في كتابه المستدرك: هذا حديث صحيح على شرط البخارى ومسلم، ولم يخرّجاه؛ وقد خرّجه الحافظ أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه القزوينىّ فى سننه. قال الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسىّ رحمه الله تعالى: ووجه الاحتجاج من هذا الحديث هو أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أثبت أن الله تعالى يستمع الى حسن الصوت بالقرآن كما يستمع صاحب القينة الى قينته، فأثبت دليل السماع إذ لا يجوز أن يقيس على استماع «2» محرّم. قال: ولهذا الحديث أصل فى الصحيحين أخرجاه عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما أذن الله لشىء ما أذن «3» لنبىّ يتغنّى بالقرآن» . هذا ما ورد في السماع. وأمّا ما ورد في الضرب بالآلة، فمن ذلك ما ورد في الدّفّ. روى عن محمد ابن حاطب قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فصل ما بين الحلال والحرام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 140 الدّفّ والصوت في النكاح» . قال الحافظ أبو الفضل رحمه الله تعالى: هذا حديث صحيح ألزم أبو الحسن الدارقطنىّ مسلما إخراجه في الصحيح، وقال: قد روى عنه (يعنى محمد بن حاطب) أبو مالك الأشجعىّ وسماك بن حرب وابن عون ويوسف بن سعد وغيرهم. قال: وأخرج هذا الحديث أبو عبد الرحمن النسائىّ وأبو عبد الله ابن ماجه في سننهما. وروى الحافظ أبو الفضل بسند رفعه إلى جابر رضى الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سمع صوت دفّ فقال: «ما هذا» ؟ فقيل: فلان تزوّج. فقال: «هذا نكاح ليس بالسّفاح» . وقد ضعّف أبو الفضل إسناد هذا الحديث، وقال: إنما أخرجته على ضعف إسناده لأنه شاهد الحديث الصحيح المتقدّم. وروى أبو الفضل أيضا بسنده إلى خالد بن ذكوان عن الرّبيّع بنت معوّذ قالت: جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فدخل علىّ صبيحة «1» بنى علىّ، فجلس على فراشى كمجلسك منّى، فجعلت جويريات يضربن بدفّ لهنّ ويندبن من قتل من آبائى يوم بدر إلى أن قالت إحداهن: وفينا نبىّ يعلم ما في غد؛ فقال: «دعى هذا «2» وقولى الذى كنت تقولين قبله» . وهذا حديث صحيح أخرجه البخارىّ قال: وقد رواه حمّاد بن سلمة عن خالد بن ذكوان أتمّ من هذا، قال: كنّا بالمدينة يوم عاشوراء وكان الجوارى يضر بن بالدّفّ ويغنّين، فدخلنا على الرّبيع بنت معوّذ، فذكرنا لها ذلك، فقالت: دخل علىّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صبيحة عرسى وعندى جاريتان تغنّيان وتندبان آبائى الذين قتلوا يوم بدر، ونقولان فيما تقولان: وفينا نبىّ يعلم ما في غد، فقال: «أمّا هذا فلا تقولوه لا يعلم ما في غد إلا الله عزّوجلّ» . وعن عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سافر سفرا، فنذرت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 141 جارية من قريش لئن ردّه الله تعالى أن تضرب في بيت عائشة بدفّ. فلما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاءت الجارية فقالت عائشة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فلانة ابنة فلان نذرت لئن ردّك الله تعالى أن تضرب في بيتى بدفّ؛ قال: «فلتضرب» . قال أبو الفضل: وهذا إسناد متّصل ورجاله ثقات، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا نذر في معصية الله» . فلو كان ضرب الدف معصية لأمر بالتكفير عن نذرها أو منعها من فعله. وروى عن الشعبىّ قال: مرّ عياض الأشعرىّ في يوم عيد فقال: ما لى لا أراهم يفلّسون فإنه من السنّة!. والتفليس: الضرب بالدفّ. قاله هشيم. وأمّا ما ورد في اليراع، فقد احتجّ بعضهم بحديث عبد الله بن عمر رضى الله عنهما وهو ما خرّجه أبو داود سليمان بن الأشعث السّجستانى في سننه قال: حدّثنا أحمد بن عبد الله الغدانىّ، حدّثنا مسلم، حدّثنا سعيد بن عبد العزيز عن سليمان بن موسى عن نافع، قال: سمع ابن عمر رضى الله عنهما مزمارا، فوضع إصبعيه على أذنيه ونأى عن الطريق، وقال لى: يا نافع، هل تسمع شيئا؟ قلت لا. قال: فرفع إصبعيه من أذنيه وقال: كنت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسمع مثل هذا فصنع مثل هذا. قال أبو عبد الله اللؤلئىّ: سمعت أبا داود يقول: هذا الحديث منكر. وقال الحافظ محمد بن طاهر: هذا حديث خرّجه أبو داود في سننه هكذا وقد أنكره. وقد ورد من غير هذا الطريق أن ابن عمر رضى الله عنهما سمع راعيا وذكره. وفساد هذا الحديث من وجهين: أحدهما فساد طريق الإسناد؛ فإن سليمان هذا هو الأشدق الدمشقىّ تكلم فيه أهل النقل وتفرّد بهذا الحديث عن نافع ولم يروه عنه غيره. وقال البخارىّ: سليمان بن موسى عند، مناكير. والثانى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 142 قول عبد الله بن عمر لنافع رضى الله عنهم: أتسمع؟ ولو كان ذلك منهيّا عنه لم يأمره بالاستماع. وقوله: كنت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم فسمع مثل هذا فصنع مثل هذا. ولو كان حراما لنهاه عنه وصرح بتحريمه؛ لأنه الشارع المأمور بالبيان. قالت عائشة رضى الله عنها: علّقت على سهوة «1» لى سترا فيه تصاوير، فلما رآه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تلوّن وجهه وهتكه. وسمع النبىّ صلّى الله عليه وسلّم عمر بن الخطاب رضى الله عنه يحلف بآبائه فنهاه عن ذلك. ورأى يزيد بن طخفة مضطجعا على بطنه فنهاه وقال: «هذه ضجعة يبغضها الله عزّوجلّ» . وسمع صلّى الله عليه وسلّم رجلا يلعن ناقته، فوقف فقال: «لا يتبعنا ملعون» ؛ فنزل عنها وأرسلها. قال الحافظ المقدسىّ: وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز بحال، فثبت فساد هذا الحديث إسنادا ومتنا. وأمّا ما ورد في القصب والأوتار. ويقال له التغيير، ويقال له القطقطة أيضا. ولا فرق بينه وبين الأوتار؛ إذ لم يوجد في إباحته وتحريمه أثر لا صحيح «2» ولا سقيم؛ وإنما استباح المتقدّمون استماعه لأنه مما لم يرد الشرع بتحريمه، وكان أصله الإباحة. وأمّا الأوتار، فالقول فيها القول في القصب، لم يرد الشرع بتحليلها ولا تحريمها. قال: وكل ما أوردوه في التحريم فغير ثابت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ولا خلاف بين أهل المدينة في إباحة سماعه. ومن الدليل على إباحته أن إبراهيم بن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 143 سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف مع جلالته وفقهه وثقته كان يفتى بحلّه، وقد ضرب بالعود- وسنذكر خبره في ذلك بعد هذا إن شاء الله تعالى- ولم تسقط عدالته بفعله عند أهل العلم، فكيف تسقط عدالة المستمع! ومكان يبالغ في هذا الأمر أتمّ مبالغة. وقد أجمعت الأئمة على عدالته واتفق البخارىّ ومسلم على إخراج حديثه في الصحيح؛ وقد علم من مذهبه إباحة سماع الأوتار. والأئمة الذين رووا عنه أهل الحلّ والعقد في الآفاق إنما سمعوا منه ورووا عنه بعد استماعهم غناءه وعلمهم أنه يبيحه، ومنهم الإمام أحمد بن حنبل، سمع منه ببغداد بعد حلفه أنه لا يحدّث حديثا إلا بعد أن يغنّى على عود، وذلك أنه لا شك سمع غناءه ثم سمع حديثه. قال: وهذا أمر لم يرد عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم في تحليله ولا تحريمه نصّ يرجع إليه، فكان حكمه كحكم الإباحة. وإنما تركه من تركه من المتقدّمين تورّعا كما تركوا لبس اللّين وأكل الطّيب وشرب البارد والاجتماع بالنسوان الحسان؛ ومعلوم أن هذا كلّه حلال. وقد ترك رسول الله صلّى الله عليه وسلم أكل الضبّ وسئل عنه أحرام هو؟ قال: «لا ولكن لم يكن بأرض قومى فأجدنى أعافه» وأكل على مائدته صلّى الله عليه وسلم. وقد روى عن زيد بن ثابت رضى الله عنه أنه قال: إذا رأيت أهل المدينة اجتمعوا على شىء فاعلم أنه سنّة. وقد روى عن محمد بن سيرين رحمه الله أنّ رجلا قدم المدينة بجوار، فنزل على ابن عمر وفيهنّ جارية تضرب؛ فجاء رجل فساومه فلم يهو منهنّ شيئا. فقال: انطلق إلى رجل هو أمثل لك بيعا من هذا؛ فأتى إلى عبد الله بن جعفر فعرضهنّ عليه؛ فأمر جارية قال: خذى، فأخذت العود حتى ظنّ ابن عمر أنه قد نظر الى ذلك؛ فقال ابن عمر: حسبك سائر اليوم من مزمور الشيطان، قال: فبايعه. ثم جاء الرجل إلى ابن عمر فقال: يا أبا عبد الرحمن، إنى غبنت بسبعمائة درهم. فأتى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 144 ابن عمر إلى ابن جعفر فقال: إنه قد غبن بسبعمائة درهم، فإما أن تعطيها إياه وإمّا أن تردّ عليه بيعه؛ فقال: بل نعطيها إياه. وهذه الحكاية ذكرها أبو محمد بن حزم واستدلّ بها على إباحته فقال: فهذا عبد الله بن جعفر وعبد الله بن عمر رضى الله عنهما قد سمعا الغناء بالعود، وإن كان ابن عمر كره ما ليس من الجدّ فلم ينه عنه، وقد سفر «1» في بيع مغنّية كما ترى، ولو كان حراما ما استجاز ذلك أصلا. وأما ما ورد في المزامير والملاهى، قال الشيخ الإمام الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسىّ: وأما القول في المزامير والملاهى، فقد وردت الأحاديث الصحيحة بجواز استماعها. فمن ذلك ما رواه بسند رفعه إلى علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «ما هممت بشىء مما كان أهل الجاهليّة يفعلونه غير مرّتين كلّ ذلك يحول الله عزّ وجلّ بينى وبين ما أريده من ذلك ثم ما هممت بعدها بشىء حتى أكرمنى الله برسالته فإنى قلت لغلام من قريش ليلة وكان يرعى معى في أعلى مكة لو أنك أبصرت غنمى حتى أدخل مكة فأسمر بها كما يسمر الشباب قال أفعل. فخرجت أريد ذلك حتى جئت أوّل دار من ديار مكة سمعت عزفا بالدفوف والمزامير فقلت ما هذا فقالوا فلان تزوّج فلانة بنت فلان فجلست أنظر إليهم فضرب الله عزّ وجلّ على أذنى فنمت فما أيقظى إلا مسّ الشمس فرجعت إلى صاحبى فقال ماذا فعلت قلت ما صنعت شيئا ثم خبّرته الخبر [فقال «2» ] ثم قلت له ليلة أخرى مثل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 145 ذلك فقال أفعل فخرجت حتى دخلت مكة فسمعت حين دخلت مكة مثل ما سمعت تلك الليلة فسألت عنه فقالوا فلان نكح فلانة فجلست أنظر فضرب الله على أذنى فما أيقظنى إلا مسّ الشمس فخرجت إلى صاحبى فأخبرته الخبر ثم ما هممت بسوء حتى أكرمنى الله تعالى برسالته» . قال الحافظ أبو الفضل: وكان هذا قبل النبوّة والرسالة ونزول الأحكام والفرق بين الحلال والحرام؛ فإن الشرع لمّا ورد أمره الله تعالى بالإبلاغ والإنذار فأقرّه على ما كان عليه في الجاهلية ولم يحرّمه كما حرّم غيره. قال: والدليل على أنه باق على الإباحة قول الله عز وجلّ: (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) . ثم بيّن الدليل على ذلك بما رواه بسنده إلى جابر قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يخطب قائما، ثم يجلس ثم يقوم فيخطب قائما، يخطب خطبتين. فكانت الجوارى إذا أنكحوهنّ يمرّون فيضربون بالدفّ والمزامير فيتسلّل «1» الناس ويدعون رسول الله صلّى الله عليه وسلم قائما، فعاتبهم الله عز وجل بقوله: (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً) . وقال: هذا حديث صحيح أخرجه مسلم في كتابه عن عبد الله بن حميد عن خالد بن مخلد عن سليمان بن بلال. والله عز وجلّ عطف اللهو على التجارة وحكم المعطوف حكم ما عطف عليه، والإجماع على تحليل التجارة، فثبت أن هذا الحكم مما أقرّه الشرع على ما كان عليه في الجاهليّة لأنه غير محتمل أن يكون رسول الله صلّى الله عليه وسلم حرّمه، ثم يمرّ به على باب المسجد يوم الجمعة ثم يعاتب الله عز وجلّ من ترك رسوله صلى الله عليه وسلم قائما ثم خرج ينظر إليه ويستمع. ولم ينزل في تحريمه آية ولا سنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم سنّة، فعلمنا بذلك بقاءه على حاله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 146 قال: ويزيد ذلك بيانا ووضوحا حديث عائشة رضى الله عنها في المرأة التى زفّتها وقد تقدّم ذكر الحديث. وروى أيضا بسند رفعه عن زوج درّة بنت أبى لهب قال: دخل علىّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين تزوّجت درّة فقال: «هل من لهو» . ذكر ما ورد في توهين ما استدلّوا به على تحريم الغناء والسماع قد ذكر الحافظ أبو الفضل المقدسىّ رحمه الله تعالى الأحاديث التى استدلوا بها على تحريمه وفسّروا بها الآيات والأحاديث التى استدلّوا بها على تحريمه ممّا قدّمنا ذكر ذلك في حججهم ومما لم نذكره مما يستدلّ به على تحريمه وكراهته وضعف رجالها. وتكلم الإمام أبو حامد الغزالىّ رحمه الله أيضا في ذلك ووهنّ احتجاجهم إذا ثبت الحديث على ما نذكر ذلك. قال الحافظ أبو الفضل: أمّا ما احتجّوا به من الآيات في قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) الآية. وما أوردوه في ذلك من الأسانيد إلى عبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر رضى الله عنهم، فنظرت في جميعها فلم أر فيها طريقا يثبت إلا واحدا منها رواه يوسف بن موسى القطّان عن جرير بن عبد الحميد عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضى الله عنهم في قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) قال: الغناء وأشباهه. وسائرها لا يخلو من رواية ضعيف لا تقوم بروايته حجّة. قال: ورأيت في بعضها رواية عطيّة العوفّى عن ابن عباس من حديث غير ثابت أصلا (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) قال: باطل الحديث وهو الغناء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 147 ونحوه؛ وهو أن رجلا من قريش اشترى جارية مغنّية فنزلت فيه. قال: وهذا وإن لم يصحّ عندى الاحتجاج بسندهم فيلزمهم قبوله لأنهم احتجّوا به فيكون فى حقّ هذا الرجل بعينه. وقد ورد في الآية تفسير ثالث يلزمهم قبوله على أصلهم، وذكر حديثا رفعه إلى نافع عن ابن عمر رضى الله عنهما: أنه سمع النبىّ صلّى الله عليه وسلم يقول في قوله عز وجلّ: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) «اللعب والباطل وتشحّ نفسه أن يتصدّق بدرهم» . قال: وهذا أيضا غير ثابت عندى وإنما أوردت هذين التفسيرين مناقضة لما أوردوه فيما تمسّكوا به. قال: ولن أركن إلى هذا أبدا ولا أقنع به ولا أحتجّ عليه ولا ألزمهم إياه، بل أقول صحّ عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما إجماع أهل السنّة على أن السنّة تقضى على الكتاب، وأن الكتاب لا يقضى على السنة، وقد جاءت السنّة الصحيحة: أن النبىّ صلّى الله عليه وسلم استمع للغناء وأمر باستماعه، وقد أوردنا في ذلك من الأحاديث ما تقدّم إيراده. قال: وجواب ثان يقال لهؤلاء القوم المحتجين بهذه التفاسير: هل علم هؤلاء الصحابة الذين أوردتم أقاويلهم من هذه الآية ما علمه رسول الله صلّى الله عليه وسلم أو لم يعلمه؟ فإن قالوا: لم يعلمه وعلمه هؤلاء، كان جهلا عظيما بل كفرا. وإن قالوا: علمه، قلنا: نقل إلينا عنه في تفسير هذه الآية مثل ما نقل عن هؤلاء من الصحابة، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز بحال. ومن المحال أن يكون تفسير قوله عز وجلّ: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) هو الغناء، ويقول رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أما كان معكنّ لهو فإن الأنصار يعجبهم اللهو» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 148 وقال أحمد بن حنبل رحمه الله: ثلاثة ليس لها أصل: المغازى، والملاحم، والتفسير. وقال أبو حاتم محمد بن حسان في كتاب الضعفاء: الله عز وجلّ يؤتى رسوله صلّى الله عليه وسلم تفسير كلامه وتأويل ما أنزل عليه حيث قال: (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) . ومن المخلّ المحال أن يأمر الله تعالى نبيّه صلّى الله عليه وسلم أن يبيّن لخلقه مراده حيث جعله موضع الإبانة عن كلامه ومفسّرا لهم حتى يفهموا مراد الله عز وجلّ فلا يفعل ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ بل أبان مراد الله عز وجلّ من الآى وفسّر لأمّته، ما تهمّ الحاجة إليه، وبيّن سنّته صلّى الله عليه وسلم. فمن تتبّع السنن وحفظها وأحكمها فقد عرف تفسير كتاب الله عز وجلّ وأغناه الله تعالى عن الكلبىّ وذويه، وما لم يبيّن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأمّته في معانى الأى التى أنزلت عليه مع أمر الله عز وجلّ له بذلك وجاز ذلك كان لمن بعده من أمّته أجوز، وترك التفسير لما تركه رسول الله صلّى الله عليه وسلم أحرى. قال: ومن أعظم الدلائل على أن الله تعالى لم يرد بقوله: (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) القرآن كله أن النبىّ صلّى الله عليه وسلم نزل عليه من الكتاب متشابه من الآى. فالآيات التى ليس فيها أحكام لم يبين كيفيتها لأمته. فلما فعل ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم دلّ ذلك على أن المراد من قوله تعالى: (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) كان بعض القرآن لا الكلّ. وقال الإمام أبو حامد الغزالىّ رحمه الله في هذه الآية: وأمّا شراء لهو الحديث بالدّين استبدالا به ليضلّ به عن سبيل الله فهو حرام مذموم، وليس النزاع فيه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 149 وليس كل غناء بدلا عن الدّين مشترى به ومضلّا عن سبيل الله وهو المراد في الآية، ولو قرأ القرآن: ليضل به عن سبيل الله لكان حراما. حكى عن بعض المنافقين: أنه كان يؤمّ الناس ولا يقرأ إلا سورة «عبس» لما فيها من العتاب مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فهمّ عمر بقتله [ورأى فعله حراما لما فيه من الإضلال «1» ] فالإضلال بالشعر والغناء أولى بالتحريم. وقال الثعلبىّ في أحد أقواله عن تفسير هذه الآية عن الكلبىّ ومقاتل: نزلت فى النّضير بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد الدار بن قصىّ؛ كان يتّجر فيخرج إلى فارس فيشترى أخبار الأعاجم فيرويها ويحدّث بها قريشا ويقول: إن محمدا يحدّثكم بحديث عاد وثمود وأنا أحدّثكم بحديث رستم واسفنديار وأخبار الأكاسرة فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن. واحتجوا بقوله تعالى: (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) قال ابن عباس: هو الغناء بلغة حمير، يعنى- السمود- قال الغزالىّ رحمه الله: فنقول ينبغى أن يحرم الضحك وعدم البكاء أيضا، لأن الآية تشتمل عليه، فإن قيل: إن ذلك مخصوص بالضحك على المسلمين لإسلامهم فهذا أيضا مخصوص بأشعارهم وغنائهم في معرض الاستهزاء بالمسلمين كما قال تعالى: (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) وأراد به شعراء الكفّار ولم يدل ذلك على تحريم نظم الشعر في نفسه. واحتجّوا بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) . قال الثعلبىّ: قال الحسن، عن المعاصى. وقال ابن عباس: الحلف الكاذب. وقال مقاتل: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 150 الشتم والأذى. وقال غيرهم: ما لا يحلّ من القول والفعل. قال: وقيل اللغو الذى لا فائدة فيه. واحتجّوا بقوله تعالى: (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) . قال الثعلبىّ: أى القبيح من القول. وبقوله تعالى: (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) . قال مقاتل: إذا سمعوا من الكفّار الشتم والأذى أعرضوا وصفحوا، وبقوله: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) . قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: بدعائك إلى معصية الله تعالى. وكلّ داع إلى معصية الله تعالى فهو من جنود إبليس. وأما ما احتجّوا به من الحديث فإنهم احتجّوا بحديث روى عن أبى أمامة الباهلىّ رضى الله عنه أن النبىّ صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يحلّ بيع المغنّيات ولا شراؤهنّ ولا تحلّ التجارة فيهنّ وأثمانهنّ حرام والاستماع إليهنّ حرام» . قال الحافظ أبو الفضل المقدسىّ رحمه الله: هذا حديث رواه عبيد الله بن زحر عن علىّ ابن يزيد عن القاسم عن أبى أمامة، قال: والصحابة كلهم عدول. وأما عبيد الله ابن زحر وعلىّ والقاسم فهم في الرواية سواء لا يحتجّ بحديث واحد منهم إذا انفرد بالرواية عن ثقة فكيف إذا روى عن مثله. أما عبيد الله بن زحر فيقال: إنه من أهل مصر. قال أبو مسهر الغسّانى: عبيد الله بن زحر صاحب كلّ معضلة ليس على حديثه اعتماد. وقال عثمان بن سعيد الدارمىّ: قلت ليحيى بن معين: عبيد الله ابن زحر كيف حديثه؟ قال: كل حديثه ضعيف، قلت: عن على بن يزيد وغيره؟ قال نعم. وقال عباس الدّورىّ عن يحيى: عبيد الله بن زحر ليس بشىء. وقال أبو حاتم في كتاب الضعفاء والمتروكين: عبيد الله بن زحر منكر الحديث جدّا، روى الموضوعات عن الثّقات وإذا روى عن علىّ بن يزيد أتى بالظلمات، وإذا اجتمع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 151 فى إسناد عبيد الله بن زحر وعلىّ بن يزيد والقاسم بن عبد الرحمن لا يكون متن ذلك الحديث إلا ممّا عملت أيديهم فلا يحلّ الاحتجاج بهذه الصحيفة. قال المقدسىّ: وهذا الحديث قد اجتمعوا في إسناده، قال: وأما علىّ بن يزيد فهو من أهل دمشق يكنى بأبى عبد الملك روى عن القاسم قال النّسائىّ في كتاب الضعفاء: علىّ بن يزيد متروك الحديث. وقال أبو عبد الرحمن بن حيّان: علىّ بن يزيد مطروح منكر الحديث جدّا. وأما القاسم بن عبد الرحمن ويكنى بأبى عبد الرحمن فقال يحيى بن معين: القاسم بن عبد الرحمن لا يسوى شيئا. وقال أحمد بن حنبل، وذكر القاسم مولى يزيد بن معاوية فقال: منكر الحديث. وقال أبو حاتم بن حسّان: القاسم يروى عنه أهل الشأم، كان يروى عن الصحابة المعضلات ويأتى عن الثقات بالأسانيد المقلوبات، حتى كان يسبق إلى القلب أنه المعتمد لها. قال المقدسىّ: فهذا شرح أحوال رواة الحديث الذى احتجّوا به في التحريم، هل تجوز روايته كما ذكره الأئمة حتى يستدلّ به في التحليل والتحريم. واحتجّوا بما روى عن النبىّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «أمرنى ربى عز وجلّ بنفى الطنبور والمزمار» وهو حديث رواه إبراهيم بن اليسع بن الأشعث المكىّ وإسماعيل بن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضى الله عنها، وإبراهيم هذا- قال البخارىّ-: منكر الحديث. وقال النسائىّ: المكّى ضعيف. واحتجّوا بما روى عن علىّ رضى الله عنه أنه قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن ضرب الدّفّ ولعب الصّنج وصوت الزمّارة، وهو حديث رواه عبد الله بن ميمون عن مطر بن سالم عن علىّ قال: وعبد الله هو القدّاح ذاهب الحديث؛ ومطر هذا شبه المجهول. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 152 واحتجّوا بما روى عن علىّ رضى الله عنه أنه قال: نهانى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن المغنّيات والنوّاحات وعن شرائهنّ وبيعهنّ والتجارة فيهنّ وقال: «كسبهنّ حرام» . قال: وهذا حديث رواه علىّ بن يزيد الصّدائىّ عن الحارث بن نبهان عن أبى إسحاق السّبيعىّ عن الحارث عن علىّ رضى الله عنه قال: والحارث بن نبهان ليس بشىء ولا يكتب حديث قاله يحيى بن معين. وقال البخارىّ: الحارث منكر الحديث. وقال أحمد بن حنبل: الحارث رجل صالح ولم يكن يعرف الحديث ولا يحفظ، منكر الحديث. وقال النسائىّ: الحارث بن نبهان متروك الحديث. لم يروه عن أبى إسحاق عمرو بن عبد الله السّبيعى وغيره ولا رواه عنه غير علّى بن يزيد الصّدائىّ. وعلى هذا قال أحمد بن عدىّ: أحاديثه لا تشبه أحاديث الثقات. والحارث الذى روى عن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه هو الحارث بن عبد الله أبو زهير الخارفى «1» الأعور، أجمع أهل النقل على كذبه، والحمل في هذا الحديث على الحارث بن نبهان وإن كان في الإسناد من الضعفاء غيره. واحتجّوا بما روى عن النبى صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «صوتان ملعونان فى الدنيا والآخرة صوت مزمار عند نعمة وصوت ندبة «2» عند مصيبة» وهذا حديث رواه محمد بن زياد عن ميمون بن مهران عن ابن عباس رضى الله عنهما، ومحمد بن زياد هذا هو الطحّان اليشكرىّ. قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سألت أبى عنه فقال: أعور كذّاب خبيث يضع الحديث. وقال يحيى بن معين: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 153 أجمع الناس على طرح هؤلاء النفر لا يعتدّ بهم، منهم محمد بن زياد. وكان أبو يوسف الصّيدلانىّ يقول: قدم محمد بن زياد الرّقّة بعد موت ميمون بن مهران. واحتجّوا بما روى عن النبىّ صلّى الله عليه وسلم: أنه ذكر خسفا ومسخا وقذفا يكون في هذه الأمة، قالوا: يا رسول الله إنهم يقولون: لا إله إلا الله، قال: «نعم إذا أظهروا النّرد والمعازف وشرب الخمور ولبس الحرير» قال: وهذا حديث رواه عثمان بن مطر عن عبد الغفور عن عبد العزيز بن سعيد عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم. قال: وعثمان هو الشيبانىّ من أهل البصرة وكان ضريرا. قال يحيى بن معين: ليس بشىء. وقال البخارىّ: متروك الحديث. واحتجّوا بما روى عن النبىّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «بعثنى ربّى عز وجلّ بمحق المزامير والمعازف والأوثان التى كانت تعبد في الجاهلية والخمر وأقسم ربى عز وجلّ بعزّته ألا يشربها عبد في الدنيا» الحديث. قال: وهذا حديث رواه محمد بن الفرات عن أبى إسحاق السّبيعىّ عن الحارث الأعور عن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، ومحمد بن الفرات هذا من أهل الكوفة. قال أبو بكر بن أبى شيبة: هذا شيخ كذّاب. وقال يحيى بن معين: ليس بشىء. وقال النسائىّ: متروك. وقد تقدّم ذكر السبيعىّ والحارث الأعور، ومضى الكلام عليه. واحتجّوا بما روى عن أبى هريرة رضى الله عنه مسندا: «إن الغناء ينبت النفاق في القلب» وهو حديث عبد الرحمن بن عبد الله العمرىّ ابن أخى عبيد الله ابن عمر عن أبيه عن سعيد بن أبى سعيد المقبرىّ عن أبى هريرة عن النبىّ صلّى الله عليه وسلم، وعبد الرحمن هذا قال أحمد بن حنبل: ليس يسوى حديثه شيئا، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 154 سمعت منه ثم تركناه وكان ولى قضاء المدينة، أحاديثه مناكير وكان كذّابا. قال النسائىّ: وهو متروك الحديث. واحتجّوا بما روى عن النبىّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «من استمع إلى قيان صبّ في أذنيه الآنك «1» » وهو حديث رواه أبو نعيم الحلبىّ عن عبد الله بن المنذر عن مالك عن محمد بن المنكدر عن أنس بن مالك. وأبو نعيم اسمه عبيد بن هشام «2» من أهل حلب ضعيف ولم يبلغ «3» عن ابن المبارك. مرسل. واحتجّوا بما روى عن النبىّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «لعن الله النائحة والمستمعة والمغنّى والمغنّى له» وهو حديث رواه عمرو بن يزيد المدائنىّ عن الحسن البصرىّ عن أبى هريرة، وعمرو هذا قال أبو أحمد «4» بن عدىّ: منكر الحديث، والحسن لم يسمع من أبى هريرة شيئا. وقال ابن عدىّ: هذا الحديث غير محفوظ. واحتجّوا بما روى عن النبىّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «النظر إلى المغنّية حرام وغناؤها حرام وثمنها حرام» وهو حديث يزيد بن عبد الملك بن المغيرة بن نوفل النوفلىّ المدنى «5» عن يزيد بن خصيفة عن السائب بن يزيد عن عمر بن الخطاب رضى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 155 الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ويزيد الأوّل قال النسائىّ: متروك الحديث. وقال أحمد بن حنبل: عنده مناكير. وقال يحيى بن معين: يزيد بن عبد الملك ليس بذاك. واحتجّوا بما روى عن علىّ رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا عملت أمتى خمس عشرة خصلة حلّ فيها البلاء» وذكرها وقال فى جملتها: «واتخذت القيان والمعازف» ، وهو حديث رواه فرج بن فضالة الشيبانىّ من أهل حمص عن يحيى بن سعيد الأنصارىّ عن محمد بن علىّ عن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه. قال عبد الرحمن بن مهدى: أحاديث الفرج عن يحيى بن سعيد منكرة. وقال يحيى بن معين: فرج ضعيف. وقال أبو حاتم «1» بن حسّان: فرج بن فضالة كان يقلب الأحاديث الصحيحة ويلصق المتون الواهية بالأسانيد الصحيحة، لا يحلّ الاحتجاج به. واحتجّوا بحديث جابر رضى الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أخذ بيد عبد الرحمن فذكر حديثا قال فيه: «نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين صوت عند مصيبة وصوت عند نعمة لعب ولهو ومزامير الشيطان» وهذا حديث رواه محمد ابن عبد الرحمن بن أبى ليلى عن عطاء عن جابر، وأنكر عليه هذا الحديث وضعّف لأجله. قال أبو حاتم بن حسّان: كان ردىء الحفظ كثير الوهم فاحش الخطأ يروى الشىء على وجه الوهم ويستحق الترك. وتركه أحمد بن حنبل ويحيى ابن معين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 156 واحتجّوا بأنه صلّى الله عليه وسلم سمع صوتا فقال: «انظروا من هذا» فنظرت فإذا معاوية وعمرو يتغنّيان. الحديث، وفيه: «اللهمّ اركسهما في الفتنة ركسا» وهو حديث رواه يزيد «1» بن أبى زياد عن سليمان عن عمرو بن الأحوص عن أبى برزة الأسلمى. ويزيد هذا من أهل الكوفة، وكان الكذبة يلقّنونه على وفق اعتقادهم فيتلّقاها ويحدّث بها ضعفة أهل النقل، وقد روى هذا الحديث من طريق آخر ليس فيه معاوية هذا، وأنه ابن التابوت «2» . قال المقدسىّ: ولم يصحّ عن النبىّ صلّى الله عليه وسلم أنه ذكر أحدا من أصحابه إلّا تحير. واحتجّوا بما روى عن أبى سعيد الخدرىّ رضى الله عنه رفع الحديث، أن النبىّ صلّى الله عليه وسلم قال: «يكون في آخر هذه الأمة خسف ومسخ وقذف فى متّخذى القيان وشاربى الخمور ولا بسى الحرير» وهو حديث رواه زياد بن أبى زياد الجصّاص عن أبى نضرة عن أبى سعيد الخدرىّ رضى الله عنه. وزياد هذا متروك الحديث. واحتجّوا بحديث روى عن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من مات وله قينة فلا تصلّوا عليه» وهو حديث روى بإسناد مجهول عن خارجة بن مصعب عن داود بن أبى هند عن الشعبىّ عن علىّ. وخارجة متروك الحديث من أهل سرخس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 157 واحتجّوا بما روى عبد الرحمن بن الجندىّ قال: قال عبد الله بن بسر «1» صاحب النبىّ صلّى الله عليه وسلم: يابن الجندىّ، فقلت: لبّيك يا أبا صفوان، قال: والله ليمسخنّ قوم وإنهم لفى شرب الخمور وضرب المعازف حتى يكونوا قردة أو خنازير. والحديث موقوف وابن الجندىّ مجهول. والنبىّ صلّى الله عليه وسلم سأل ربه ألّا يعذّب أمّته بما عذّب به الأمم قبلها فأعطاه ذلك. واحتجّوا بما روى عن أبى أمامة رضى الله عنه وقد تقدّم بعضه، وفيه زيادة أخرى أن النبىّ صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يحلّ بيع المغنّيات ولا شراؤهنّ ولا الجلوس إليهنّ» ثم قال: «والذى نفسى بيده ما رفع رجل عقيرته بغناء إلا ارتدف على ذلك «2» شيطان على عاتقه هذا وشيطان على عاتقه هذا حتى يسكت» وهذا حديث قد تقدّم أوّله من حديث عبيد الله بن زحر، وهذه الزيادة من رواية مسلمة بن علىّ الدمشقىّ عن يحيى بن الحارث عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبى أمامة. ومسلمة هذا، قال ابن معين: ليس بشىء. وقال البخارىّ: منكر الحديث. وقد تقدّم القول في القاسم بن عبد الرحمن. واحتجّوا بحديث روى عن عبد الله بن مسعود من رواية سلّام بن مسكين قال: حدّثنى شيخ سمع أبا وائل يقول: سمعت ابن مسعود يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «الغناء ينبت النفاق في القلب» هكذا رواه سلّام عن شيخ مجهول لا يعرف. ورواه جرير بن عبد الحميد عن ليث بن أبى سليم عن محمد ابن عبد الرحمن بن يزيد عن أبيه عن عبد الله بن مسعود وقوله «3» ، ولم يذكر النبىّ صلّى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 158 الله عليه وسلم. ورواه الثقات عن شعبة بن الحجاج عن مغيرة عن إبراهيم، قوله «1» ، ولم يذكر أحدا تقدّمه فيه وهذا أصحّ الأقاويل «2» فيه من قول إبراهيم. قال الغزالى رحمه الله تعالى: قول ابن مسعود: ينبت النفاق أراد به في حقّ المغنّى فإنه فى حقه ينبت النفاق إذ غرضه كله أن يعرض نفسه على غيره ويروّج صوته عليه، ولا يزال ينافق ويتودّد إلى الناس ليرغبوا في غنائه، وذلك أيضا لا يوجب تحريما، فإن لبس الثياب الجميلة وركوب الخيل المهملجة وسائر أنواع الزينة والتفاخر بالحرث والأنعام والزرع ينبت الرياء والنفاق في القلب ولا يطلق القول بتحريم ذلك كله. فليس السبب في ظهور النفاق في القلب المعاصى فقط. بل المباحات التى هى مواقع نظر الخلق أكثر تأثيرا. ولذلك نزل «3» ابن عمر رضى الله عنهما عن فرس هملج تحته وقطع ذنبه لأنه استشعر في نفسه الخيلاء لحسن مشيته، فهذا النفاق من المباحات. واحتجّوا بحديث روى عن صفوان بن أمية قال: كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه عمرو بن قرّة فقال: يا نبىّ الله إن الله عز وجلّ كتب علىّ الشّقوة ولا أرانى أرزق إلّا من «4» دفّى بكفّى أفتأذن لى في الغناء من غير فاحشة؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا إذن ولا كرامة ولا نعمة» وذكر حديثا طويلا، وهو حديث رواه عبد الرزاق بن همّام الصّنعانى عن يحيى بن العلاء عن بشر بن نمير عن مكحول قال: حدّثنى يزيد بن عبد الملك عن صفوان بن أمية. ويحيى بن العلاء هذا مدنىّ الأصل رازىّ. قال يحيى بن معين: يكنى ابا عمرو ليس بثقة. وقال عمرو بن على الصيرفىّ: يحيى بن العلاء متروك الحديث والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 159 واحتجّوا بما روى عن النبىّ صلّى الله عليه وسلم أنه نهى عن ثمن الكلب وكسب الزمّارة، وهو حديث نقله سليمان بن أبى سليمان الداودىّ البصرىّ عن محمد ابن بشر عن أبى هريرة. وسليمان هذا متروك الحديث غير ثقة. واحتجّوا بقول عثمان رضى الله عنه: ما تغنّيت ولا تمنّيت «1» ولا مسست ذكرى بيمينى منذ بايعت النبىّ صلّى الله عليه وسلم. وهذا حديث رواه صقر بن عبد الرحمن عن أبيه عن مالك بن مغول عن عبد الله بن إدريس عن المختار بن فلفل عن أنس بن مالك في حديث القفّ والصيد. قال المقدسىّ: هذا حديث لم أرفيه تحاملا، ورأيته ذكر من هذا أشياء لم يأت بها غيره توجب ترك حديثه والله أعلم. وقال الغزالىّ رحمه الله تعالى وذكر هذا الحديث: قلنا فليكن التمنّى ومسّ الذكر باليمين حراما إن كان هذا دليل تحريم الغناء، فمن أين ثبت أن عثمان كان لا يترك إلا الحرام. قال الحافظ أبو الفضل المقدسىّ رحمه الله تعالى: فهذه الأحاديث وأمثالها احتجّ بها من أنكر السماع جهلا منهم بصناعة علم الحديث ومعرفته، فترى الواحد منهم إذا رأى حديثا مكتوبا في كتاب جعله لنفسه مذهبا واحتجّ به على مخالفه، وهذا غلط عظيم بل جهل جسيم. هذا ملخص ما أورده رحمه الله تعالى وفيه من الزيادات ما هو منسوب الى الثعلبىّ والغزالىّ على ما بيّناه في مواضعه. وقد تكلم الإمام أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالىّ الطوسىّ رحمه الله تعالى على السماع في كتابه المترجم ب «إحياء علوم الدين» وبيّن دليل الإباحة وذكر بعد ذلك آداب السماع وآثاره في القلب والجوارح فقال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 160 اعلم أن السماع هو أوّل الأمر، ويثمر السماع حالة في القلب تسمّى الوجد ويثمر الوجد تحريك الأطراف، إما بحركة غير موزونة فتسمّى الاضطراب، وإمّا موزونة فتسمّى التصفيق والرقص. ثم بدأ بحكم السماع وبيّن الدليل على إباحته ثم ذكر ما تمسّك به القائلون بتحريمه وأجاب عن ذلك بما نذكره أو مختصره إن شاء الله تعالى. قال رحمه الله تعالى: نقل أبو طالب المكّى إباحة السماع عن جماعة وقال: سمع من الصحابة عبد الله بن جعفر، وابن الزّبير، والمغيرة بن شعبة، ومعاوية وغيرهم. وقد فعل ذلك كثير من السلف صحابىّ وتابعىّ. قال: ولم يزل الحجازيّون عندنا بمكة يسمعون السماع في أفضل أيام السنة وهى الأيام المعدودات التى أمر الله عز وجلّ عباده فيها بذكره كأيام التشريق. ولم يزل أهل المدينة ومكة مواظبين على السماع إلى زماننا هذا فأدركنا أبا مروان القاضى وله جوار يسمعن [النّاس «1» ] التلحين قد أعدّهنّ للصوفية. قال: وكان لعطاء جاريتان تلحّنان وكان إخوانه يستمعون إليهما. قال: وقيل لأبى الحسن بن سالم: كيف تنكر السماع وقد كان الجنيد وسرىّ السّقطىّ وذو النون يسمعون! فقال: كيف أنكر السماع وأجازه وسمعه من هو خير منّى. وقد كان عبد الله بن جعفر الطيّار يسمع. وإنما أنكر اللهو واللعب فى السماع. وروى عن يحيى بن معاذ أنه قال: فقدنا ثلاثة أشياء فلا نراها ولا أراها تزداد إلا قلّة: حسن الوجه مع الصيانة، وحسن القول مع الديانة، وحسن الإخاء مع الوفاء. قال الغزالىّ: ورأيت في بعض الكتب هذا بعينه محكيا عن المحاسبىّ وفيه ما يدلّ على تجويزه السماع مع زهده وتصاونه وجدّه في الدّين وتشميره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 161 وحكى عن ممشاد الدّينورىّ أنه قال: رأيت النبىّ صلّى الله عليه وسلم في النوم فقلت: يا رسول الله، هل تنكر من هذا السماع شيئا؟ فقال: «ما أنكر منه شيئا ولكن قل لهم يفتتحون قبله بالقرآن ويختتمون بعده بالقرآن» . قال الغزالىّ: وعن ابن جريح أنه كان يرخص في السماع فقيل له: تقدّمه يوم القيامة في جملة حسناتك أو سيئاتك؟ فقال: لا في الحسنات ولا في السيئات لأنه شبيه باللغو، قال الله تعالى: (لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) * ؛ ثم بيّن الغزالىّ رحمه الله الدليل على إباحة السماع فقال: اعلم أن قول القائل: السماع حرام، معناه أن الله تعالى يعاقب عليه وهذا أمر لا يعرف بمجرّد العقل بل بالسمع، ومعرفة الشرعيّات محصورة في النصّ أو القياس على المنصوص. قال: وأعنى بالنصّ ما أظهره رسول الله صلّى الله عليه وسلم بقوله أو فعله، وبالقياس المعنى المفهوم من ألفاظه وأفعاله، فإن لم يكن فيه نصّ ولم يستقم فيه قياس على منصوص بطل القول بتحريمه ويبقى فعلا لا حرج فيه كسائر المباحات، ولا يدلّ على تحريم السماع نصّ ولا قياس. قال: وقد دلّ القياس والنصّ جميعا على إباحة السماع. أما القياس فهو أن الغناء اجتمع فيه معان ينبغى ان يبحث عن أفرادها ثم عن مجموعها فإن فيه سماع صوت طيّب موزون مفهوم المعنى المحرّك للقلب. فالوصف الأعمّ أنه صوت طيّب، ثم الطيب ينقسم الى الموزون وغيره. والموزون ينقسم إلى المفهوم كالأشعار، وإلى غير المفهوم كأصوات الجمادات وأصوات سائر الحيوانات. أما سماع الصّوت الطيّب من حيث إنه طيّب فلا ينبغى أن يحرّم بل هو حلال بالنصّ والقياس. أمّا القياس فإنه يرجع إلى تلذّذ حاسّة السمع بإدراك ما هو مخصوص به. وللإنسان عقل وخمس حواس ولكلّ حاسّة إدراك. وفي مدركات تلك الحاسة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 162 ما يستلذّ. فلذّة البصر في المبصرات الجميلة كالخضرة والماء الجارى والوجه الحسن وسائر الألوان الجميلة وهى في مقابلة ما يكره من الألوان الكدرة القبيحة. وللشمّ الروائح الطيّبة وهى في مقابلة الأنتان المستكرهة. وللذّوق الطعوم اللذيذة كالدّسومة والحلاوة والحموضة وهى في مقابلة المرارة والمزازة المستبشعة. وللمسّ لذّة اللين والنعومة والملاسة وهى في مقابلة الخشونة والضّراسة. وللعقل لذّة العلم والمعرفة وهى في مقابلة الجهل والبلادة. فكذلك الأصوات المدركة بالسمع تنقسم إلى مستلذّة كصوت العنادل والمزامير، ومستكرهة كنهيق الحمر وغيرها، فما أظهر قياس هذه الحاسّة ولذّتها على سائر الحواس ولذّاتها. وأما النصّ فيدلّ على إباحة سماع الصوت الحسن امتنان الله على عباده به إذ قال تعالى: (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) فقيل: هو حسن الصوت. وفي الحديث: «ما بعث الله نبيّا إلا حسن الصوت» . وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لله أشدّ أذنا للرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته» وفي الحديث فى معرض المدح لداود عليه السّلام: «أنه كان حسن الصوت في النياحة على نفسه وفي تلاوة الزّبور حتى كان يجتمع الإنس والجنّ والوحش والطير لسماع صوته، وكان يحمل من مجلسه أربعمائة جنازة وما يقرب من ذلك في الأوقات» . وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم في مدح أبى موسى الأشعرىّ: «لقد أعطى مزمارا من مزامير آل داود» وقوله تعالى: (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) يدل بمفهومه على مدح الصوت الحسن. ولو جاز أن يقال: إنما أبيح ذلك بشرط أن يكون فى القرآن للزمه أن يحرّم سماع صوت العندليب لأنه ليس بقرآن. وإذا جاز سماع صوت غفل لا معنى له، فلم لا يجوز سماع صوت يفهم منه الحكمة والمعانى الصحيحة! وإن من الشعر لحكمة. قال: فهذا نظر في الصوت من حيث إنه طيّب حسن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 163 الدرجة الثانية: النظر في الصوت الطيّب الموزون فإنّ الوزن وراء الحسن، فكم من صوت حسن خارج عن الوزن، وكم من صوت موزون غير مستطاب. والأصوات الموزونة باعتبار مخارجها ثلاثة، فإنها إمّا أن تكون من جماد كصوت المزامير والأوتار وضرب القضيب والطبل وغيره. وإمّا أن تخرج من حنجرة حيوان وذلك الحيوان إما إنسان وإما غيره. فصوت العنادل والقمارىّ وذوات السجع من الطيور مع طيها موزونة متناسبة المطالع والمقاطع فلذلك يستلذّ سماعها. والأصل فى الأصوات حناجر الحيوانات. وإنما وضعت المزامير على صورة «1» الحناجر وهى تشبيه الصّنعة بالخلقة. وما من شىء توصّل أهل الصناعات بصناعتهم إلى تصويره إلا وله مثال في الخلقة التى استأثر الله تعالى باختراعها، منه تعلّم الصّنّاع وبه قصدوا الاقتداء. فسماع هذه الأصوات يستحيل أن يحرم لكونها طيّبة أو موزونة فلا ذاهب إلى تحريم صوت العندليب وسائر الطيور. ولا فرق بين حنجرة وحنجرة ولا بين جماد وحيوان. فينبغى أن يقاس على صوت العندليب الأصوات الخارجة من سائر الأجسام باختيار الآدمىّ كالذى يخرج من حلقه أو من القضيب والطبل والدّفّ وغيره. ولا يستثنى من هذا إلا الملاهى والأوتار والمزامير، إذ ورد الشرع بالمنع منها لا للذّتها إذ لو كان للذّة لقيس عليها كل ما يلتذّ به الإنسان ولكن حرّمت الخمور واقتضت ضراوة «2» الناس بها المبالغة في الفطام عنها حتى انتهى الأمر في الابتداء الى كسر الدّنان، فحرّم معها ما هو شعار أهل الشرب وهى الأوتار والمزامير فقط. وكان تحريمه من قبيل الإتباع كما حرّمت الخلوة «3» لأنها مقدّمة الجماع. وحرّم النظر الى الفخذ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 164 لاتصاله بالسوأتين. وحرّم قليل الخمر وإن كان لا يسكر لأنه يدعو إلى المسكر. وما من حرام إلا وله حرم يطيف به. وحكم الحرمة ينسحب على حريمه ليكون حمى للحرام ووفاية له وحظارا «1» مانعا حوله كما قال صلّى الله عليه وسلم: «إن لكلّ ملك حمى وإنّ حمى الله محارمه» فهى محرّمة تبعا لتحريم الخمر. الدرجة الثالثة: الموزون المفهوم وهو الشعر، وذلك لا يخرج إلا من حنجرة الإنسان فيقطع بإباحة ذلك لأنه ما زاد إلا كونه مفهوما. والكلام المفهوم غير حرام. والصوت الطيب الموزون غير حرام. فإذا لم يحرم الآحاد فمن أين يحرم المجموع؛ نعم ينظر فيما يفهم منه، إن كان فيه أمر محظور جرم نثره ونظمه وحرم التصويت «2» به سواء كان بألحان أو لم يكن. والحقّ فيه ما قاله الشافعىّ رحمه الله إذ قال: الشعر كلام فحسنه حسن وقبيحه قبيح. ومهما جاز إنشاد الشعر بغير صوت وألحان جاز مع الألحان. فإن أفراد المباحات إذا اجتمعت كان مباحا، ومهما انضمّ مباح الى مباح لم يحرم إلا إذا تضمنّ المجموع محظورا لا تتضمّنه الآحاد، ولا محظور هاهنا. وكيف ينكر إنشاد الشعر وقد أنشد بين يدى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقال صلّى الله عليه وسلم: «إنّ من الشّعر لحكمة» وساق رحمه الله في هذا الموضع الأحاديث الصحيحة التى تضمّنت إنشاد الشعر والحداء به وهى أشهر من أن يحتاج إلى سردها. ثم قال بعد سياق الأحاديث: ولم يزل الحداء وراء الجمال من عادة العرب في زمان سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وزمان الصحابة، وما هو إلا أشعار تؤدّى بأصوات طيّبة وألحان موزونة. ولم ينقل عن أحد من الصحابة إنكاره. بل ربما كانوا يلتمسون ذلك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 165 تارة لتحريك الجمال وتارة للاستلذاذ، فلا يجوز أن يحرّم من حيث إنه كلام مفهوم مؤدّى بأصوات طيّبة وألحان موزونة. الدرجة الرابعة: النظر فيه من حيث إنه محرّك للقلب ومهيّج لما هو الغالب عليه، قال أبو حامد: فأقول: لله سبحانه وتعالى سرّ في مناسبة النغمات الموزونة للأرواح حتى إنها لتؤثر فيها تأثيرا عجيبا. فمن الأصوات ما يفرح ومنها ما يحزن ومنها ما ينوّم ومنها ما يضحك ويطرب ومنها ما يستخرج من الأعضاء حركات على وزنها باليد والرجل والرأس. ولا ينبغى أن يظنّ أن ذلك لفهم معانى الشعر بل هذا جار فى الأوتار حتى قيل: من لم يحركه الربيع وأزهاره والعود وأوتاره فهو فاسد المزاج ليس له علاج. وكيف يكون ذلك بفهم المعنى، وتأثيره مشاهد في الصبىّ في مهده فإنه يسكته الصوت الطيّب عن بكائه، وتنصرف نفسه عما يبكيه الى الإصغاء إليه. والجمل مع بلادة طبعه يتأثر بالحداء تأثيرا يستخفّ معه الأحمال الثقيلة ويستقصر لقوّة نشاطه في سماعه المسافات الطويلة، وينبعث فيه من النشاط ما يسكره ويولهه؛ فتراها إذا طالت عليها البوادى واعتراها الإعياء والكلال تحت المحامل والأحمال اذا سمعت منادى الحداء تمدّ أعناقها وتصغى إلى الحادى ناصبة آذانها وتسرع في سيرها حتى تتزعزع عليها أحمالها ومحاملها، وربما تتلف أنفسها في شدّة السير وثقل الحمل وهى لا تشعر به لنشاطها فقد حكى أبو بكر محمد بن داود الدّينورى المعروف بالرّقى، قال: كنت في البادية فوافيت قبيلة من قبائل العرب فأضافنى رجل منهم وأدخلنى خباء فرأيت في الخباء عبدا أسود مقيّدا بقيد، ورأيت جمالا قد ماتت بين يدى البيت «1» وقد بقى منها جمل وهو ناحل ذابل كأنه ينزع روحه. فقال لى الغلام: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 166 أنت ضيف ولك حقّ فتشفّع في حقّى إلى مولاى فإنه مكرم لضيفه فلا يردّ شفاعتك فعساه يحلّ القيد عنّى. فلما أحضروا الطعام امتنعت وقلت: لا آكل ما لم أشفّع فى هذا العبد، فقال: إن هذا العبد قد أفقرنى وأهلك جميع مالى؛ فقلت: ماذا فعل؟ فقال: إن له صوتا طيّبا، وإنى كنت اعيش من ظهور هذه الجمال فحمّلها أحمالا ثقالا وكان يحدو بها حتى قطعت مسيرة ثلاث ليال في ليلة من طيب نغمته فلما حطّت أحمالها موّتت كلّها إلا هذا الجمل الواحد، ولكن أنت ضيفى فلكرامتك قد وهبته لك قال: فأحببت أن أسمع صوته، فلما أصبحنا أمره أن يحدو على جمل يستقى الماء من بئر هناك، فلما رفع صوته هام ذلك الجمل وقطع حباله ووقعت أنا على وجهى، فما أظنّ أنى قط سمعت صوتا أطيب منه. قال: فإذا تأثير السماع في القلب محسوس. ومن لم يحرّكه السماع فهو ناقص مائل عن الاعتدال بعيد عن الروحانية، زائد في غلظ الطبع وكثافته على الجمال والطيور بل على سائر البهائم فإن جميعها تتأثّر بالنغمات الموزونة. ومهما كان النظر فى السماع باعتبار تأثيره في القلوب لم يجز أن يحكم فيه مطلقا بإباحة ولا تحريم، بل يختلف ذلك بالأحوال والأشخاص واختلاف طرق النغمات، فحكمه حكم ما في القلب. قال أبو سليمان: السماع لا يجعل في القلب ما ليس فيه، ولكن يحرّك ما هو فيه. ذكر أقسام السماع وبواعثه وأقسام السماع تختلف بآختلاف الأحوال: فإن منه ما هو مستحبّ وما هو مباح وما هو مكروه وما هو حرام. أما المستحبّ فهو لمن غلب عليه حبّ الله تعالى ولم يحرّك السماع منه إلا الصفات المحمودة. وأما المباح فهو لمن لا حظّ له من السماع إلا التلذّذ بالصوت الحسن، وأما المكروه فهو لمن لا ينزله على صورة المخلوقين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 167 ولكن يتخذه عادة له في أكثر الأوقات على سبيل اللهو. وأما الحرام فهو لأكثر الناس من الشباب ومن غلبت عليه شهوة الدنيا فلا يحرّك السماع منهم إلا ما هو الغالب على قلوبهم من الصفات المذمومة. وقد تكلم على هذه الأقسام الإمام أبو حامد الغزالىّ فقال رحمه الله ما مختصره ومعناه: الكلمات المسجعة الموزونة تعتاد في مواضع لأغراض مخصوصة ترتبط بها آثار فى القلب وهى سبعة مواضع: الأوّل: غناء الحجيج فإنهم يدورون أوّلا في البلاد بالطبل والغناء وذلك مباح لما فيه من التشويق إلى الحجّ وأداء الفريضة وشهود المشاعر. الثانى: ما يعتاده الغزاة لتحريض الناس على الغزو وهو مباح أيضا لما فيه من استثارة النفس وتحريكها على الغزو وإثارة الغضب على الكفّار وتحسين الشجاعة وتقبيح الفرار. الثالث: ما يرتجزه الشّجعان عند اللقاء في الحرب وهو مباح ومندوب لما فيه من تشجيع النفس وتحريك النشاط للقتال والتمدّح بالشجاعة والنجدة وقد فعله غير واحد من الصحابة رضوان الله عليهم، منهم علىّ بن أبى طالب وخالد بن الوليد وغيرهما. الرابع: أصوات النّياحة ونغماتها وتأثيرها في تهييج البكاء وملازمة الحزن والكآبة وهذا قسمان: محمود ومذموم. فأمّا المذموم فالحزن على ما فات. قال الله تبارك وتعالى: (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ) . والحزن على الأموات من هذا القبيل فإنه يغضب الله جلّ جلاله «1» وتأسّف على ما لا تدارك فيه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 168 وأمّا المحمود فهو حزن الإنسان على تقصيره في أمر دينه وبكاؤه على خطاياه. والبكاء والتباكى والحزن والتحازن على ذلك محمود لأنه يبعث على التشمير للتدارك. ولذلك كانت نياحة داود عليه السّلام محمودة، فقد كان يحزن ويحزن ويبكى ويبكى حتى كانت الجنائز ترفع من مجالس نياحته وكان يفعل ذلك بألفاظه وألحانه، وذلك محمود لأن المفضى إلى المحمود محمود. وعلى هذا لا يحرم على الواعظ الطيّب الصوت أن ينشد على المنبر بألحانه الأشعار المحزنة المرقّقة للقلب ولا أن يبكى ويتباكى ليتوصّل به الى بكاء غيره وإثارة حزنه. الخامس: السماع في أوقات السرور تأكيدا للسرور وتهييجا له إن كان ذلك السرور مباحا كالغناء في أيام العيد وفي العرس وفي وقت قدوم الغائب ووقت الوليمة والعقيقة وعند الولادة والختان وعند حفظ القرآن، وكل ذلك معتاد لأجل إظهار السرور. قال: ووجه جوازه أنّ من الألحان ما يثير الفرح والسرور والطرب وكل ما جاز السرور به جاز إثارة السرور فيه، ويدلّ على هذا إنشادهم بالدفّ والألحان عند مقدم النبىّ صلّى الله عليه وسلم يقولون: طلع البدر علينا ... من ثنيّات الوداع وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داعى فإظهار هذا السرور بالنغمات والشعر والرقص والحركات محمود. فقد نقل عن جماعة من الصحابة أنهم حجلوا في سرور أصابهم كما سيأتى في أحكام الرقص وهو جائز في قدوم كل غائب وكل ما يجوز الفرح به شرعا. ويجوز الفرح بزيارة الإخوان ولقائهم واجتماعهم في موضع واحد على طعام أو كلام. السادس: سماع العشّاق تحريكا للشوق وتهييجا للعشق وتسلية للنفس؛ فإن كان في حال مشاهدة المعشوق فالغرض تأكيد اللذّة، وإن كان مع المفارقة فالغرض الجزء: 4 ¦ الصفحة: 169 تهييج الشوق. والشوق وإن كان مؤلما ففيه نوع لذّة إذا انضاف اليه رجاء الوصال؛ فإن الرجاء لذيذ واليأس مؤلم، وقوّة لذّة الرجاء بحسب قوّة الشوق والحبّ للشىء المرجوّ، ففى هذا السماع تهييج للعشق وتحريك للشوق وتحصيل للذة الرجاء المقدّر في الوصال مع الإطناب في وصف حسن المحبوب. قال: وهذا حلال إن كان المشتاق إليه ممن يباح وصاله كمن يعشق زوجته أو سرّيته فيصغى إلى غنائها لتتضاعف لذّته في لقائها، فيحظى بالمشاهدة البصر وبالسماع الأذن ويفهم لطائف معانى الوصال والفراق القلب، فتترادف أسباب اللذّة. فهذا نوع تمتّع من جملة مباحات الدنيا ومتاعها، وما متاع الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وهذا منه. وكذلك إن غصبت منه جارية أو حيل بينه وبينها بسبب من الأسباب فله أن يحرّك بالسماع شوقه وأن يستثير به لذّة رجاء الوصال. فإن باعها أو طلقها حرم عليه ذلك بعده إذ لا يجوز تحريك الشوق حيث لا يجوز تحقيقه بالوصل واللقاء. وأما من يتمثّل في نفسه صورة صبىّ أو امرأة لا يجوز له النظر إليها وكان ينزّل ما يسمع على ما يتمثّل في نفسه فهو حرام لأنه محرّك للفكر في الأفعال المحظورة ومهيّج للداعية إلى مالا يباح الوصول إليه لا لأمر يرجع إلى نفس السماع. وقد سئل بعض الحكماء عن العشق فقال: دخان يصعد الى دماغ الإنسان يزيله الجماع ويهيّجه السماع. السابع: سماع من أحبّ الله سبحانه وتعالى وعشقه واشتاق إلى لقائه فلا ينظر إلى شىء إلّا رآه فيه، ولا يقرع سمعه قارع إلّا سمعه منه أو فيه؛ فالسماع في حقه مهيّج لشوقه، ومؤكّد لعشقه وحبّه، ومور زناد قلبه، ومستخرج منه أحوالا من المكاشفات والملاطفات لا يحيط الوصف بها يعرفها من ذاقها وينكرها من كلّ حسّه عن ذواقها؛ وتسمّى تلك الأحوال بلسان الصوفيّة وجدا- مأخوذ من الوجود- وللصوفية على هذا كلام يطول شرحه ليس هذا موضع إيراده. والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 170 ذكر العوارض التى يحرم معها السماع قال أبو حامد رحمه الله تعالى: والسماع يحرم بخمسة عوارض: عارض في المسمع وعارض في آلة السماع، وعارض في نظم الصوت، وعارض في نفس المستمع أو في مواطنه، لأن أركان السماع هى المسمع والمستمع وآلة السماع. العارض الأوّل: أن يكون المسمع امرأة لا يحلّ النظر إليها وتخشى الفتنة من سماعها، وفي معناها الصبىّ الذى تخشى فتنته، وهذا حرام لما فيه من خوف الفتنة، وليس ذلك لأجل الغناء بل لو كانت المرأة بحيث تفتن بصوتها في المحاورة فى غير ألحان فلا يجوز محاورتها ومحادثتها ولا سماع صوتها في القرآن أيضا، وكذلك الصبى الذى تخاف فتنته. فإن قلت: فهل تقول: إن ذلك حرام بكل حال حسما للباب، أو لا يحرم إلا حيث تخاف الفتنة. فأقول: هذه مسئلة محتملة من حيث الفقه يتجاذبها أصلان: أحدهما: أن الخلوة بالأجنبيّة والنظر إلى وجهها حرام سواء خيفت منها الفتنة أو لم تخف لأنها مظنّة الفتنة على الجملة. فقضى الشرع بحسم الباب من غير التفات إلى الصورة. والثانى: أن النظر إلى الصبيان مباح إلا عند خوف الفتنة فلا يلحق الصبيان بالنساء في عموم الحسم بل ينبغى أن يفصّل فيه الحال. وصوت المرأة دائر بين هذين الأصلين، فإن قسناه على النظر إليها وجب حسم الباب وهو قياس قريب، ولكن بينهما فرق إذ الشهوة تدعو إلى النظر في أوّل هيجانها ولا تدعو إلى سماع الصوت. وليس تحريك النظر لشهوة المماسّة كتحريك السماع بل هو أشدّ. وصوت المرأة في غير الغناء ليس بعورة ولكن للغناء مزيد أثر في تحريك الشهوة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 171 فقياس هذا على النظر إلى الصبيان أولى لأنّهم لم يؤمروا بالاحتجاب كما لم تؤمر النساء بستر الأصوات، فينبغى أن يتّبع مثار الفتن ويقصر التحريم عليه، هذا هو الأقيس عندى. قال: ويتأيّد بحديث الجاريتين المغنّيتين في بيت عائشة رضى الله عنها إذ يعلم أن النبىّ صلّى الله عليه وسلم كان يسمع صوتهما ولم يحترز عنه ولكن لم تكن الفتنة مخوفة عليه فلذلك لم يحترز. فإذا يختلف هذا بأحوال المرأة وأحوال الرجل في كونه شابا وشيخا ولا يبعد أن يختلف الأمر في مثل هذا بالأحوال. فإنا نقول: للشيخ أن يقبّل زوجته وهو صائم وليس للشاب ذلك. والقبلة تدعو إلى الوقاع في الصوم وهو محظور. والسماع يدعو إلى النظر والمقاربة وهو حرام، فيختلف ذلك أيضا بالأشخاص. العارض الثانى في الآلة بأن تكون من شعائر أهل الشرب أو المخنّثين وهى المزامير والأوتار وطبل الكوبة، فهذه ثلاثة أنواع وما عدا ذلك يبقى على أصل الإباحة كالدّفّ وإن كان فيه الجلاجل وكالطبل والشاهين والضرب بالقضيب وسائر الآلات. العارض الثالث في نظم الصوت وهو الشعر فإن كان فيه شىء من الخنا والفحش والهجاء أو هو كذب على الله عز وجلّ أو على رسوله أو على الصحابة كما رتبه الروافض في هجاء الصحابة وغيرهم، فسماع ذلك حرام بألحان وغير ألحان، والمستمع شريك القائل وكذلك ما فيه وصف امرأة بعينها فإنه لا يجوز وصف المرأة بين يدى الرجال. وأمّا هجاء الكفّار وأهل البدع فذلك جائز. فقد كان حسان بن ثابت ينافح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ويهاجى الكفار، وأمره رسول الله صلّى الله عليه وسلم بذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 172 فأمّا النسيب وهو التشبيب بوصف الخدود والأصداغ وحسن القدّ والقامة وسائر أوصاف النساء فهذا فيه نظر. والصحيح أنه لا يحرم نظمه وإنشاده بلحن وغير لحن «1» ، وعلى المستمع ألّا ينزّله على امرأة معيّنة إلّا على من تحلّ له من زوجة أو جارية، فإن نزّله على أجنبية فهو العاصى بالتنزيل وإجالة الفكر فيه. ومن هذا وصفه فينبغى أن يجتنب السماع رأسا فإن من غلب عليه عشق نزّل كلّ ما يسمعه عليه سواء كان اللفظ مناسبا أو لم يكن، إذ ما من لفظ إلا ويمكن تنزيله على معان بطريق الاستعارة فالذى غلب عليه عشق مخلوق ينبغى أن يحترز من السماع بأىّ لفظ كان، والذى غلب عليه حبّ الله تعالى فلا تضرّه الألفاظ ولا تمنعه عن فهم المعانى اللطيفة المتعلّقة بمجارى همته الشريفة. العارض الرابع في المستمع - وهو أن تكون الشهوة غالبة عليه وكان في غرّة الشباب وكانت هذه الصفة أغلب من غيرها عليه، فالسماع حرام عليه سواء غلب على قلبه حبّ شخص معيّن أو لم يغلب. فإنه كيفما كان فلا يسمع وصف الصّدغ والخدّ والوصال والفراق إلا ويحرّك ذلك شهوته وينزّله على صورة معيّنة ينفخ الشيطان بها في قلبه فتشتعل فيه نار الشهوة وتحتدّ بواعث الشرّ. وذلك هو النّصرة لحزب الشيطان والتخذيل للعقل المانع منه الذى هو حزب الله تعالى. والقتال فى القلب دائم بين جنود الشيطان وهى الشهوات، وبين حزب الله وهو نور العقل إلا في قلب قد فتحه أحد الجندين واستولى عليه بالكليّة. وغالب القلوب قد فتحها جند الشيطان وغلب عليها فتحتاج حينئذ الى أن تستأنف أسباب القتال لإزعاجه فكيف يجوز تكثير أسلحته وتشحيذ سيوفه وأسنّته، والسماع مشحّذ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 173 لأسلحة جند الشيطان في حقّ مثل هذا الشخص. فليخرج مثل هذا عن جميع السماع فإنه يستضريه والله أعلم. العارض الخامس- أن يكون الشخص من عوامّ الخلق ولم يغلب عليه حبّ الله فيكون السماع له محبوبا ولا غلبت عليه الشهوة فيكون في حقّه محظورا، ولكنه أبيح في حقه كسائر أنواع اللذّات المباحة إلا أنه اتخذه ديدنه وهجيّراه وقصر عليه أكثر أوقاته، فهذا هو السفيه الذى تردّ شهادته فإن المواظبة على اللهو جناية. وكما أن الصغيرة بالإصرار والمداومة تصير كبيرة؛ فبعض المباحات بالمداومة يصير صغيرة وهو كالمواظبة على متابعة الزنوج والحبشة والنظر إلى لعبهم على الدوام فإنه ممنوع وإن لم يكن أصله ممنوعا إذ فعله رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ومن هذا القبيل اللّعب بالشّطرنج فإنه مباح، ولكن المواظبة عليه مكروهة كراهة شديدة، ومهما كان الغرض اللعب والتلذّذ باللهو فذلك إنما يباح لما فيه من ترويح القلب؛ إذ راحة القلب معالجة له في بعض الأوقات لتنبعث دواعيه. هذا ملخص ما أورده في أقسام السماع وبواعثه ومقتضياته، ثم ذكر بعد ذلك آثار السماع وآدابه. ذكر آثار السماع وآدابه قال أبو حامد رحمه الله: اعلم أن أوّل درجة السماع فهم المسموع وتنزيله على معنى يقع للمستمع ثم يثمر الفهم الوجد. ويثمر الوجد الحركة بالجوارح. فلينظر إلى هذه المقامات الثلاثة: المقام الأوّل- فى الفهم، وهو مختلف باختلاف أحوال المستمع. وللمستمع أربعة أحوال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 174 إحداها- أن يكون سماعه بمجرّد الطبع أى لا حظّ له في السماع إلا استلذاذ الألحان والنغمات فهذا مباح وهو أخسّ رتب السماع؛ إذ الإبل شريكة له فيه وكذا سائر البهائم. ولكل حيوان نوع تلذّذ بالأصوات الطيّبة. الحالة الثانية- أن يسمع بفهم ولكن ينزّله على صورة إما معيّنة أو غير معيّنة وهو سماع الشباب وأرباب الشهوة ويكون تنزيلهم المسموع على حسب شهواتهم ومقتضى أحوالهم. وهذه الحالة أخسّ من أن يتكلّم فيها إلا ببيان خسّتها والنهى عنها. الحالة الثالثة- أن ينزّل ما يسمعه على أحوال نفسه في معاملة الله تعالى وتقلّب أحواله في التمكّن منه «1» مرّة وبعده منه أخرى، وهذا سماع المريدين لا سيّما المبتدئين. فإن للمريد لا محالة مرادا هو مقصده، ومقصده معرفة الله تعالى ولقاؤه والوصول إليه بطريق المشاهدة بالسرّ وكشف الغطاء؛ وله في مقصده طريق هو سالكه، ومعاملات هو مثابر عليها، وحالات تستقبله في معاملاته. فإذا سمع ذكر عتاب أو خطاب أو قبول أو ردّ أو وصل أو هجر أو قرب أو بعد أو تلهّف على فائت أو تعطّش إلى منتظر أو شوق إلى وارد أو طمع أو يأس أو وحشة أو استئناس أو وفاء بالوعد أو نقض للعهد أو خوف فراق أو فرح بوصال أو ذكر ملاحظة الحبيب ومدافعة الرقيب أو همول العبرات أو ترادف الحسرات أو طول الفراق أو عدة الوصال «2» أو غير ذلك مما يشتمل على وصفه الأشعار؛ فلا بدّ أن يوافق بعضها حال المريد في طلبه، فيجرى ذلك مجرى القدّاح الذى يورى زناد قلبه، فتشتعل به نيرانه، ويقوى به انبعاث الشوق وهيجانه، وتهجم عليه بسببه أحوال مخالفة لعادته، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 175 ويكون له مجال رحب في تنزيل الألفاظ على أحواله. وليس على المستمع مراعاة مراد الشاعر من كلامه؛ بل لكلّ كلام وجوه ولكلّ ذى فهم في اقتباس المعنى منه حظّ. وضرب الإمام الغزالىّ لذلك أمثلة يطول شرحها. الحالة الرابعة- سماع من جاوز الأحوال والمقامات فعزب عن فهم ما سوى الله تعالى حتى عزب عن نفسه وأحوالها ومعاملاتها وكان كالمدهوش الغائص في عين الشهود الذى يضاهى حاله حال النّسوة اللاتى قطّعن أيديهنّ فى مشاهدة جمال يوسف حتى بهتن وسقط إحساسهنّ. وعن مثل هذه الحالة تعبّر الصوفية بأنه فنى عن نفسه. ومهما فنى عن نفسه فهو عن غيره أفنى؛ فكأنه فنى عن كلّ شىء إلا عن الواحد المشهود، وفنى أيضا عن الشهود فإنّ القلب إن التفت إلى الشهود وإلى نفسه بأنه مشاهد فقد غفل عن المشهود. فالمستهتر بالمرئىّ لا التفات له في حال استغراقه إلى رؤيته و [لا «1» ] إلى عينه التى بها رؤيته ولا إلى قلبه الذى به لذّته. فالسكران لا خبر له في سكره «2» ، والملتذّ لا خبر له في «3» التذاذه، إنما خبره من الملتذّ به فقط، ولكن هذا في الغالب يكون كالبرق الخاطف الذى لا يثبت ولا يدوم وإن دام لم تطقه القوّة البشريّة فربما يضطرب تحت أعبائه اضطرابا تهلك فيه نفسه كما روى عن أبى الحسن النورى أنه سمع هذا البيت: ما زلت أنزل من ودادك منزلا ... تتحيّر الألباب دون نزوله فقام وتواجد وهام على وجهه ووقع في أجمة قصب قد قطعت وبقيت أصولها مثل السيوف فصار «4» يعدو فيها ويعيد البيت إلى الغداة والدم يجرى من رجليه حتى ورمت قدماه وساقاه ومات بعد أيام رحمه الله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 176 قال أبو حامد: وهذه درجة الصدّيقين في الفهم والوجد وهى أعلى الدرجات، لأن السماع على الأحوال وهى ممتزجة بصفات البشرية نوع قصور، وإنما الكمال أن يفنى بالكلية عن نفسه وأحواله. أعنى أنه ينساها فلا يبقى له التفات إليها كما لم يكن للنّسوة التفات الى اليد والسّكّين. فيسمع بالله، ولله، وفي الله، ومن الله؛ وهذه رتبة من خاض لجّة الحقائق وعبر ساحل الأحوال والأعمال واتّحد بصفاء التوحيد وتحقّق بمحض الإخلاص فلم يبق فيه منه شىء أصلا، بل خمدت بالكليّة بشريّته وفنى التفاته إلى صفات البشرية رأسا. قال: ولست أعنى بفنائه فناء جسده بل فناء قلبه، ولست أعنى بالقلب اللحم والدم بل سرّ لطيف له إلى القلب الظاهر نسبة خفيّة وراءها سرّ الرّوح الذى هو من أمر الله عرفها من عرفها وجهلها من جهلها ولذلك السرّ وجود. وصورة ذلك الوجود ما يحضر فيه فإذا حضر فيه غيره فكأنه لا وجود إلا للحاضر. ومثاله المرآة المجلوّة، إذ ليس لها لون في نفسها بل لونها لون الحاضر فيها. وكذلك الزجاجة فإنها تحكى لون قرارها ولونها لون الحاضر فيها وليس لها في نفسها صورة بل صورتها قبول الصّور ولونها هو هيئة الاستعداد لقبول الألوان. قال: وهذه مغاصة من مغاصات علوم المكاشفة منها نشأ خيال من ادّعى الحلول والاتحاد. هذا ملخّص ما أورده في مقام الفهم والله سبحانه وتعالى أعلم. المقام الثانى- بعد الفهم والتنزيل الوجد. قال الإمام الغزالىّ رحمه الله تعالى: قال الإمام الغزالىّ رحمه الله تعالى: وللناس كلام طويل في حقيقة الوجد أعنى الصوفيّة والحكماء الناظرين في وجه مناسبة السّماع للأرواح فلنتقل من أقوالهم ألفاظا ثم لنكشف عن الحقيقة فيه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 177 أما الصوفيّة، فقد قال ذو النون المصرىّ رحمه الله في السماع: إنه وارد حقّ جاء يزعج القلوب إلى الحقّ، فمن أصغى إليه بحقّ تحقّق، ومن أصغى إليه بنفس تزندق. فكأنه عبّر عن الوجد بانزعاج القلوب إلى الحق وهو الذى يجده عند ورود وارد السماع، إذ سمّى السماع وارد حقّ. وقال أبو الحسين الدرّاج مخبرا عمّا وجده فى السماع: والوجد عبارة عما يوجد عند السماع، وقال: جال بى السماع في ميادين البهاء، فأوجدنى وجود الحقّ عند العطاء، فسقانى بكأس الصفاء، فأدركت به منازل الرضاء، وأخرجنى إلى رياض النزهة والفضاء. وقال الشّبلىّ: السماع ظاهره فتنة وباطنه عبرة، فمن عرف الإشارة حلّ له استماع العبرة وإلا فقد استدعى الفتنة وتعرّض للبليّة. وأقوال الصوفيّة في هذا النوع كثيرة. وأما الحكماء، فقال بعضهم: فى القلب فضيلة شريفة لم تقدر قوّة النطق على إخراجها باللفظ فأخرجتها النفس بالألحان، فلما ظهرت سرّت وطربت إليها، فاستمعوا من النفس وناجوها ودعوا مناجاة الظواهر. وقال بعضهم: نتائج السماع استنهاض العاجز من الرأى واستجلاب العازب من الفكر وحدّة الكالّ من الأفهام والآراء حتى يثوب ما عزب وينهض ما عجز ويصفو ما كدر ويمرح في كل «1» رأى ونيّة فيصيب ولا يخطىء ويأتى ولا يبطىء. ثم ذكر المعنى الذى الوجد عبارة عنه فقال: هو عبارة عن حالة يثمرها السماع وهو وارد [حقّ «2» ] جديد عقيب السماع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 178 يجده المستمع من نفسه. وتلك الحالة لا تخلو من قسمين: فإنها إما أن ترجع إلى مكاشفات ومشاهدات هى من قبيل العلوم والتنبيهات؛ وإما أن ترجع إلى تغيرات وأحوال ليست من العلوم والتنبيهات بل هى كالشوق والخوف والحزن والقلق والسرور والأسف والندم والبسط والقبض. وهذه الأحوال يهيّجها السماع ويقوّيها فإن ضعفت بحيث لم تؤثّر في تحريك الظاهر أو تسكينه أو تغيير حاله حتى يتحرّك على خلاف عادته أو يطرق أو يسكن عن النظر والنطق والحركة على خلاف عادته لم يسمّ وجدا. وإن ظهر على الظاهر سمّى وجدا إما ضعيفا وإما قويّا بحسب ظهوره وتغييره الظاهر وتحريكه بحسب قوّة وروده وحفظ الظاهر عن التغيير بحسب قوّة الواجد وقدرته على حفظ جوارحه، فقد يقوى الوجد في الباطن ولا يتغيّر الظاهر لقوّة صاحبه وقد لا يظهر لضعف الوارد وقصوره عن التحريك وحلّ عقد التماسك. وإلى المعنى الأوّل أشار أبو سعيد بن الأعرابىّ حيث قال في الوجد: إنه مشاهدة الرقيب وحضور الفهم وملاحظة الغيب ولا يبعد أن يكون السماع منشأ لكشف ما لم يكن مكشوفا قبله؛ فإنّ الكشف يحصل بأسباب: منها التنبيه، والسماع منبّه. ومنها تغيّر الأحوال ومشاهدتها وإدراكها، فإنّ إدراكها نوع علم يفيد إيضاح أمور لم تكن معلومة قبل الورود. ومنها صفاء القلب، والسماع مؤثّر في تصفية القلوب، والصفاء سبب المكاشفة. ومنها انبعاث نشاط القلب بقوّة السماع فيقوى على مشاهدة ما كان تقصر عنه [قبل ذلك «1» ] قوّته كما يقوى البعير على حمل ما كان لا يقوى عليه قبله، وهذا الاستكشاف من ملاحظة أسرار الملكوت. وكما أنّ حمل الجمل يكون بواسطة، فبواسطة هذه الأسباب يكون سبب الكشف؛ بل القلب إذا صفا تمثّل له الحقّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 179 فى صورة مشاهدة أو في لفظ منظوم يقرع سمعه يعبّر عنه بصوت الهاتف إذا كان فى اليقظة وبالرؤيا إذا كان في المنام وذلك جزء من النبوّة؛ وعلم تحقيق ذلك خارج عن علم المعاملة. وذلك كما روى عن محمد بن «1» مسروق البغدادىّ أنه قال: خرجت يوما في أيام جهلى وأنا نشوان وكنت أغنّى هذا البيت: بطيزنا «2» باذكرم ما مررت به ... إلا تعجّبت ممن يشرب الماء فسمعت قائلا يقول: وفي جهنّم ماء ما تجرّعه ... خلق فأبقى له في الجوف أمعاء فقال: وكان ذلك سبب توبتى واشتغالى بالعلم. قال أبو حامد: فانظر كيف أثّر الغناء في تصفية قلبه حتى تمثّل له حقيقة الحقّ فى صفة جهنم وفي لفظ منظوم موزون وقرع ذلك سمعه الظاهر. وكما يسمع صوت الهاتف عند صفاء القلب. ويشاهد أيضا بالبصر صورة الخضر عليه السّلام فإنه يخيّل لأرباب القلوب بصور مختلفة، وفي مثل هذه الأحوال من الصفاء يقع الاطلاع على ضمائر القلوب؛ ولذلك قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اتّقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى» . قال: فحاصل الوجد يرجع إلى مكاشفات وإلى حالات ينقسم كل واحد منهما إلى ما لا يمكن التعبير عنه عند الإفاقة منه وإلى ما لا تمكن العبارة عنه أصلا. وضرب لذلك أمثلة، منها أن الفقيه قد تعرض عليه مسألتان متشابهتان في الصورة ويدرك بذوقه أن بينهما فرقا في الحكم، فإذا كلّف ذكر وجه الفرق لم يساعده اللسان على التعبير عنه وإن كان من أفصح الناس، فيدرك بذوقه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 180 الفرق ولا يمكنه التعبير عنه. وإدراكه الفرق علم يصادفه في قلبه بالذوق. ولا شك أنّ لوقوعه في قلبه سببا، وله عند الله تعالى حقيقة، ولا يمكنه الإخبار عنه لقصور فى لسانه بل لدقة المعنى أن تناله العبارة. وأمّا الحال فكم من إنسان يدرك في قلبه في الوقت [الذى يصبح فيه «1» ] قبضا أو بسطا ولا يعلم سببه، وقد يتفكر في شىء فيؤثّر في نفسه أثرا فينسى ذلك السبب ويبقى الأثر في نفسه وهو يحسّ به. وقد تكون الحالة التى يحسّها سرورا يثبت فى نفسه بتفكره في سبب موجب للسرور؛ أو حزنا فينسى المتفكر فيه ويحس بالأثر عقيبه. وقد تكون تلك الحال حالة غريبة لا يعرب عنها لفظ السرور والحزن ولا يصادف لها عبارة مطابقة مفصحة عن المقصود؛ بل ذوق الشعر الموزون والفرق بينه وبين غير الموزون يختصّ به بعض الناس دون بعض، وهى حالة يدركها صاحب الذوق بحيث لا يشك فيها (أعنى التفرقة بين الموزون والمنزحف) ولا يمكنه التعبير عنها بما يتّضح به مقصوده لمن لا ذوق له. وفي النفس أحوال غريبة هذا وصفها بل المعانى المشهورة من الخوف والحزن والسرور إنما تحصل في السماع عن غناء مفهوم. فأمّا الأوتار وسائر النغمات التى ليست مفهومة فإنها تؤثّر في النفس تأثيرا عجيبا، ولا يمكن التعبير عن عجائب تلك الأوتار، وقد يعبّر عنها بالشوق، ولكن شوق لا يعرف صاحبه المشتاق إليه، فهذا عجيب. والذى اضطربت نفسه بسماع الأوتار والشاهين وما أشبهه ليس يدرى إلى ماذا يشتاق، ويجد في نفسه حالة كأنها تتقاضى أمرا ليس يدرى ما هو، حتى يقع ذلك للعوامّ ومن لا يغلب على قلبه لا حبّ آدمىّ ولا حبّ الله تعالى. وهذا له سرّ، وهو أنّ كل شوق فله ركنان: أحدهما صفة المشتاق وهو نوع مناسبة مع المشتاق إليه. والثانى معرفة المشتاق إليه ومعرفة صورة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 181 الوصول إليه. فإن وجدت الصفة التى بها الشوق ووجد العلم بالمشتاق ووجدت الصفة المشوّقة وحركت قلبك الصفة واشتعلت نارها، أورث ذلك دهشة وحيرة لا محالة. ولو نشأ آدمىّ وحده حيث لم ير صورة النساء ولا عرف صورة الوقاع ثم راهق الحلم وغلبت عليه الشهوة لكان يحسّ من نفسه بنار الشهوة ولا يدرى أنه يشتاق إلى الوقاع لأنه ليس يدرى صورة الوقاع ولا يعرف صورة النساء؛ فكذلك في نفس الآدمىّ مناسبة مع العالم الأعلى واللذّات التى وعد بها في سدرة المنتهى والفراديس العلا، إلا أنه لم يتخيّل من هذه الأمور إلا الصفات والأسماء كالذي يسمع [لفظ «1» ] الوقاع و [اسم «2» ] النساء ولم يشاهد صورة امرأة قط ولا صورة رجل ولا صورة نفسه في المرآة ليعرف بالمقايسة. فالسماع يحرّك منه الشوق؛ والجهل المفرط والاشتغال بالدنيا قد أنساه نفسه وأنساه ربه وأنساه مستقرّه الذى إليه حنينه واشتياقه بالطبع، فيتقاضاه قلبه أمرا ليس يدرى ما هو فيدهش ويضطرب ويتحيّر ويكون كالمختنق «3» الذى لا يعرف طريق الخلاص. فهذا وأمثاله من الأحوال التى لا يدرك تمام حقائقها، ولا يمكن المتّصف بها أن يعبّر عنها. فقد ظهر انقسام الوجد إلى ما يمكن إظهاره وإلى ما لا يمكن إظهاره. قال: واعلم أيضا أنّ الوجد ينقسم إلى هاجم وإلى متكلّف يسمى التواجد. وهذا التواجد المتكلف، فمنه مذموم وهو الذى يقصد به الرياء وإظهار الأحوال الشريفة مع الإفلاس منها؛ ومنه ما هو محمود وهو التوصّل الى الاستدعاء للاحوال الشريفة واكتسابها واجتلابها بالحيلة؛ فإن للكسب مدخلا في جلب الأحوال الشريفة؛ ولذلك أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم من لم يحضره البكاء في قراءة القرآن أن يتباكى ويتحازن، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 182 فإن هذه الأحوال قد تتكلّف مباديها ثم تتحقّق أواخرها. وكيف لا يكون التكلّف سببا في أن يصير المتكلّف بالآخرة طبعا، وكل من يتعلّم القرآن أوّلا يحفظه تكلّفا ويقرؤه تكلّفا مع تمام التأمّل وإحضار الذهن ثم يصير ذلك ديدنا للسان مطّردا حتى يجرى به لسانه في الصلاة وغيرها وهو غافل فيقرأ تمام السورة وتثوب نفسه إليه بعد انتهائه الى آخرها ويعلم أنه قرأها في حال غفلته. وذكر أبو حامد أمثلة نحو ذلك ثم قال: وكذلك الأحوال الشريفة لا ينبغى أن يقع اليأس منها عند فقدها، بل ينبغى أن يتكلّف اجتلابها بالسماع وغيره؛ فلقد شوهد في العادات من اشتهى أن يعشق شخصا ولم يكن يعشقه فلم يزل يردّد ذكره على نفسه ويديم النظر إليه ويقرّر على نفسه الأوصاف المحبوبة إليه والأخلاق المحمودة فيه حتى عشقه ورسخ ذلك في قلبه رسوخا خرج عن حدّ اختياره، واشتهى بعد ذلك الخلاص منه فلم يتخلّص، فكذلك حبّ الله تعالى والشوق إلى لقائه والخوف من سخطه وغير ذلك من الأحوال الشريفة إذا فقدها الإنسان فينبغى أن يتكلّف اجتلابها بمجالسة الموصوفين بها، ومشاهدة أحوالهم، وتحسين صفاتهم في النفس، وبالجلوس معهم في السماع، وبالدعاء والتضرّع إلى الله تعالى في أن يرزقه تلك الحالة بأن يسّر له أسبابها؛ ومن أسبابها السماع ومجالسة الصالحين والخائفين والمحبّين والمشتاقين والخاشعين؛ فمن جالس شخصا سرت إليه صفاته من حيث لا يدرى. ويدلّ على إمكان تحصيل الحبّ وغيره من الأحوال بالأسباب قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في دعائه: «اللهمّ ارزقنى حبّك وحبّ من أحبّك وحبّ من يقرّبنى إلى حبّك» . فقد فزع «1» إلى الدعاء في طلب الحبّ. قال: فهذا بيان انقسام الوجد إلى مكاشفات وإلى أحوال، وانقسامه الى ما يمكن الإيضاح عنه وإلى ما لا يمكن، وانقسامه إلى المتكلّف وإلى المطبوع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 183 المقام الثالث- فى آداب السماع ظاهرا وباطنا، وما يحمد من آثار الوجد ويذمّ. قال الإمام أبو حامد رحمه الله تعالى: فأما الآداب فهى خمس جمل: الأوّل- مراعاة الزمان والمكان والإخوان. قال الجنيد: السماع يحتاج الى ثلاثة أشياء وإلا فلا تسمع: الزمان والمكان والإخوان. قال الغزالىّ: ومعناه أن الاشتغال به في وقت حضور طعام أو خصام أو صلاة أو صارف من الصوارف مع اضطراب القلب لا فائدة فيه، فهذا معنى مراعاة الزمان، فيراعى فراغ القلب. والمكان قد يكون شارعا مطروقا أو موضعا كريه الصورة أو فيه سبب يشغل القلب فيتجنّب ذلك. وأما الإخوان فسببه أنه إذا حضر غير الجنس من منكر السماع متزهّد الظاهر مفلس من لطائف القلوب كان مستثقلا في المجلس واشتغل القلب به، وكذا إذا حضر متكبّر من أهل الدنيا فيحتاج إلى مراقبته ومراعاته، أو متكلّف متواجد من أهل التصوّف يرائى بالوجد والرقص وتمزيق الثوب، فكل ذلك مشوّشات، فترك السماع عند فقد هذه الشروط أولى. الثانى- وهو نظر للحاضرين، أن الشيخ إذا كان حوله مريدون يضرّهم السماع فلا ينبغى أن يسمع في حضورهم؛ فإن سمع فليشغلهم بشغل آخر. والمريد الذى لا يستفيد بالسماع أحد ثلاثة: أقلّهم درجة هو الذى لم يدرك من الطريق إلا الأعمال الظاهرة ولم يكن له ذوق السماع؛ فاشتغاله بالسماع اشتغال بما لا يعنيه؛ فإنه ليس من أهل اللهو فيلهو، ولا من أهل الذوق فيتنعّم بذوق السماع؛ فليشتغل بذكر أو خدمة وإلا فهو مضيّع لزمانه. الثانى: هو الذى له ذوق ولكن فيه بقية من الحظوظ والالتفات إلى الشهوات والصفات البشريّة ولم ينكسر بعد انكسارا تؤمن غوائله، فربما يهيّج السماع منه داعية اللهو والشهوة فينقطع طريقه ويصدّه عن الاستكمال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 184 الثالث: أن يكون قد انكسرت شهوته وأمنت غائلته وانفتحت بصيرته واستولى على قلبه حبّ الله تعالى، ولكنه لم يحكم ظاهر العلم ولم يعرف أسماء الله وصفاته وما يجوز عليه وما يستحيل، وإذا فتح له باب السماع نزل المسموع في حقّ الله تعالى على ما يجوز وما لا يجوز، فيكون ضرره من تلك الخواطر التى هى كفر أعظم عليه من نفع السماع. قال سهل: كلّ وجد لا يشهد له الكتاب والسنّة فهو باطل. فلا يصلح السماع لمثل هذا ولا لمن قلبه بعد ملوّث بحبّ الدنيا وشهوة المحمدة والثناء، ولا من يسمع لأجل التلذّذ والاستطابة بالطبع، فيصير ذلك عادة له ويشغله عن عبادته ومراعاة قلبه وتنقطع عليه طريقة الأدب؛ فالسماع مزلّة قدم يجب حفظ الضعفاء عنه. الأدب الثالث- أن يكون مصغيا إلى ما يقوله القائل، حاضر القلب، قليل الالتفات إلى الجوانب، متحرّزا عن النظر إلى وجوه المستمعين وما يظهر عليهم من أحوال الوجد، مشتغلا بنفسه ومراعاة قلبه ومراقبة ما يفتح الله له من رحمته في سرّه، متحفّظا عن حركة تشوّش على أصحابه قلوبهم؛ بل يكون ساكن الظاهر، هادىء الأطراف متحرّزا عن التنحنح والتثاؤب، يجلس مطرقا رأسه كجلوسه في فكر مستغرق لقلبه، متماسكا عن التصفيق والرقص وسائر الحركات على وجه التصنّع والتكلّف والمراءاة، ساكتا عن النطق في أثناء القول بكل ما عنه بدّ. فإن غلبه الوجد وحرّكه بغير اختيار فهو فيه معذور وغير ملوم؛ ومهما رجع إليه اختياره فليعد إلى هدوّه وسكونه. ولا ينبغى أن يستديمه حياء من أن يقال: انقطع وجده على القرب، ولا أن يتواجد خوفا من أن يقال: هو قاسى القلب عديم الصفاء والرقّة. قال: وقوّة الوجد تحرّك، وقوّة العقل والتماسك تضبط الظواهر. وقد يغلب أحدهما الآخر إما لشدّة قوّته، وإما لضعف ما يقابله، ويكون النقصان والكمال بحسب ذلك. فلا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 185 تظنن أن الذى يضطرب بنفسه على الأرض أتمّ وجدا من الساكن باضطرابه، بل ربّ ساكن أتمّ وجدا من المضطرب؛ فقد كان الجنيد يتحرّك في السماع في بدايته ثم صار لا يتحرّك فقيل له في ذلك فقال: (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) إشارة إلى أن القلب مضطرب جائل فى الملكوت، والجوارح متأدّبة في الظاهر ساكنة. الأدب الرابع- ألّا يقوم ولا يرفع صوته بالبكاء وهو يقدر على ضبط نفسه؛ ولكن إن رقص أو تباكى فهو مباح إذا لم يقصد به المراءاة؛ لأن التباكى استجلاب للحزن، والرقص سبب في تحريك السرور والنشاط، وكل سرور مباح فيجوز تحريكه؛ ولو كان ذلك حراما لما نظرت عائشة رضى الله عنها إلى الحبشة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهم يزفنون «1» . وقد روى عن جماعة من الصحابة أنهم حجلوا لمّا ورد عليهم سرور أوجب ذلك [وذلك «2» ] فى قصة ابنة حمزة بن عبد المطلب لما اختصم فيها علىّ بن أبى طالب وأخوه جعفر وزيد بن حارثة رضى الله عنهم، فتشاحّوا في تربيتها؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لعلّى: «أنت منّى وأنا منك» فحجل علىّ. وقال لجعفر: «أشبهت خلقى وخلقى» فحجل. وقال لزيد: «أنت أخونا ومولانا» فحجل. الحديث. قال: والحجل «3» : الرقص، ويكون لفرح أو شوق، فحكمه حكم مهيّجه إن كان فرحه محمودا؛ والرقص يزيده ويؤكده فهو محمود، فإن كان مباحا فهو مباح، وإن كان مذموما فهو مذموم. نعم لا يليق ذلك بمناصب الأكابر وأهل القدوة لأنه في الأكثر يكون عن لهو ولعب، وما له صورة اللعب في أعين الناس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 186 فينبغى أن يجتنبه المقتدى به لئلا يصغر في أعين الخلق فيترك الاقتداء به. وأما تخريق الثياب فلا رخصة فيه إلا عند خروج الأمر عن الاختيار. ولا يبعد أن يغلب الوجد بحيث يمزّق ثوبه وهو لا يدرى لغلبة سكر الوجد عليه أو يدرى ولكن يكون كالمضطر الذى لا يقدر على ضبط نفسه، وتكون صورته صورة المكره، إذ يكون له في الحركة أو التمزيق متنفّس فيضطرّ إليه اضطرار المريض الى الأنين؛ ولو كلّف الصبر عنه لم يقدر عليه مع أنه فعل اختيارىّ؛ فليس كلّ فعل حصوله بالإرادة يقدر الإنسان على تركه؛ فالتنفّس فعل يحصل بالإرادة، ولو كلّف الإنسان نفسه أن يمسك النفس ساعة اضطر من باطنه إلى أن يختار التنفّس، فكذلك الزعقة وتخريق الثياب قد يكون كذلك فهذا لا يوصف بالتحريم. الأدب الخامس- موافقة القوم في القيام إذا قام واحد منهم في وجد صادق من غير رياء وتكلّف، أو قام باختيار من غير إظهار وجد وقام له الجماعة فلا بدّ من الموافقة، فذلك من آداب الصحبة. وكذلك إن جرت عادة طائفة بتنحية العمامة على موافقة صاحب الوجد إذا سقطت عمامته أو خلع الثياب إذا سقط عنه ثوبه بالتخريق «1» . فالموافقة في هذه الأمور من حسن الصحبة والعشرة، إذ المخالفة موحشة. ولكلّ قوم رسم؛ ولا بدّ من مخالفة الناس بأخلاقهم كما ورد في الخبر لا سيما إذا كانت أخلاقا فيها حسن المعاشرة والمجاملة وتطييب القلب بالمساعدة. وقول القائل: إنّ ذلك بدعة لم تكن في الصحابة، فليس كلّ ما يحكم بإباحته منقولا عن الصحابة ولم ينقل النهى عن شىء من هذا. والقيام عند الدخول للداخل لم يكن من عادة العرب، بل كان الصحابة لا يقومون لرسول الله صلّى الله عليه وسلم في بعض الأحوال كما رواه أنس رضى الله عنه، وإن كان لم يثبت فيه نهى عامّ، فلا نرى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 187 به بأسا في البلاد التى جرت العادة فيها بإكرام الداخل بالقيام؛ فإنّ القصد منه الاحترام والإكرام وتطييب القلب به؛ كذلك سائر أنواع المساعدة إذا قصد بها طيبة القلب واصطلح عليها جماعة فلا بأس بمساعدتهم عليها؛ بل الأحسن المساعدة إلا فيما ورد فيه نهى لا يقبل التأويل. ومن الأدب ألّا يقوم للرقص «1» مع القوم إن كان يستثقل رقصه ويشوّش عليهم أحوالهم؛ إذ الرقص من غير إظهار التواجد مباح، والمتواجد هو الذى يلوح للجمع منه أثر التكلّف؛ ومن يقوم عن صدق لا تستثقله الطباع؛ فقلوب الحاضرين إذا كانوا من أرباب القلوب محكّ للصدق والتكلّف. سئل بعضهم عن الوجد الصحيح فقال: صحته قبول قلوب الحاضرين له إذا كانوا أشكالا غير أضداد. هذا ملخّص ما أورده الغزالىّ رحمه الله تعالى فى معنى السماع وقسمه الى هذه الأقسام التى ذكرناها. وأما أبو محمد علىّ بن أحمد بن سعيد بن حزم فقد ذكرنا مسألة السماع وبيّن إباحته، فبدأ بذكر الأحاديث التى احتجّوا بها وضعّف رواتها نحو ما تقدّم وذكر الآية: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) وأنه قيل: إنه الغناء، فليس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولا ثبت عن أحد من أصحابه رضى الله عنهم، فإنما هو قول بعض المفسّرين ممن لا يقوم بقوله حجّة؛ وما كان هكذا فلا يجوز القول به. ثم لو صحّ لما كان فيه متعلّق؛ لأنّ الله تبارك وتعالى يقول: (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) * وكلّ شىء اقتنى ليضل به عن سبيل الله فهو إثم وحرام ولو أنه شراء مصحف أو تعليم قرآن. فإذا لم يصحّ في هذا شىء فقد قال الله عز وجلّ: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) . وقال تعالى: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 188 (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أعظم الناس جرما فى الإسلام من سأل عن شىء لم يحرّم فحرّم من أجل مسألته» ، فصحّ أن كل شىء حرّمه الله عزّوجلّ علينا فقد فصّله لنا، وكل ما لم يفصّل تحريمه لنا فهو حلال. واستدلّ رحمه الله على إباحته بالأحاديث التى ذكرناها، حديث عائشة عن خبر أبى بكر الصدّيق رضى الله عنهما في غناء الجاريتين، واستدلّ أيضا بحديث نافع أن ابن عمر سمع مزمارا فوضع إصبعيه في أذنيه ونأى عن الطريق وقال: يا نافع، هل تسمع شيئا؟ قلت لا، فرفع إصبعيه عن أذنيه وقال: كنت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم وسمع مثل هذا وصنع مثل هذا. قال: فلو كان حراما ما أباح عليه الصلاة والسلام لابن عمر سماعه ولا أباح ابن عمر لنافع سماعه؛ ولكنّه عليه الصلاة والسلام كره لنفسه كلّ شىء ليس من التقرّب إلى الله عز وجلّ، كما كره الأكل متّكئا، والتنشّف بعد الغسل في ثوب يعدّ لذلك، والستر الموشّى على سهوة عائشة وعلى باب فاطمة رضى الله عنهما، وكما كره صلّى الله عليه وسلم أشدّ الكراهة أن يبيت عنده دينار أو درهم. وإنما بعث عليه الصلاة والسلام منكرا للمنكر، آمرا بالمعروف. فلو كان ذلك حراما لما اقتصر النبىّ صلّى الله عليه وسلم أن يسدّ أذنيه عنه دون أن يأمر بتركه وينهى عنه، ولم يفعل عليه الصلاة والسلام شيئا من ذلك بل أقرّه وتنزّه عنه، فصحّ أنه مباح وأن الترك له أفضل كسائر فضول الدنيا المباحة. قال: فإن قال قائل: قال الله تبارك وتعالى: (فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) ففى أىّ ذلك يقع الغناء؟ قيل له: حيث يقع التروّح في البساتين وصباغ ألوان الثياب؛ ولكلّ امرىء ما نوى فإذا نوى المرء ترويح نفسه وإجمامها لتقوى على طاعة الله فما أتى ضلالا. قال: ولا يحلّ تحريم شىء ولا إباحته إلا بنص من الله عز وجلّ أو من رسوله صلّى الله عليه وسلم، لأنه إخبار عن الله عز وجلّ، ولا يجوز الجزء: 4 ¦ الصفحة: 189 عنه تعالى إلا بالنّص الذى لا شكّ فيه. وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من كذب علىّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النار» . وقد تكلّم على إباحة السماع جماعة من العلماء. وفيما أوردناه من هذا الفصل كفاية. فلنذكر من سمع الغناء من الصحابة رضى الله عنهم. ذكر من سمع الغناء من الصحابة والتابعين رضى الله عنهم قد روى أن جماعة من الصحابة رضى الله عنهم سمعوا الغناء. منهم النعمان بن بشير الأنصارىّ الخزرجىّ رضى الله عنه. روى أبو الفرج الأصفهانىّ في كتابه المترجم: «بالأغانى» بسند رفعه إلى أبى السائب المخزومىّ وغيره، قال: دخل النعمان بن بشير المدينة في أيام يزيد بن معاوية وابن الزّبير فقال: والله لقد أخفقت أذناى «1» [من] الغناء فأسمعونى. فقيل له: لو وجّهت إلى عزّة الميلاء. فإنها من قد عرفت؛ فقال: إى وربّ هذه البنيّة «2» ! إنها لممن «3» يزيد النفس طيبا والعقل شحذا، ابعثوا إليها عن رسالتى، فإن أبت صرت إليها. فقال له بعض القوم: إنّ النّقلة تشتدّ عليها لثقل بدنها، وما بالمدينة دابّة تحملها. فقال النعمان: وأين النجائب عليها الهوادج؟ فوجّه إليها بنجيبة فذكرت علّة؛ فلما عاد الرسول إلى النعمان قال لجليسه: أنت كنت أخبر بها، قوموا بنا «4» . فقام هو مع خواصّ أصحابه حتى طرقوها، فأذنت وأكرمت واعتذرت، فقبل النعمان عذرها وقال لها: غنّى، فغنّت: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 190 أجدّ بعمرة غنيانها «1» ... فتهجر أم شأنها «2» شانها؟ وعمرة من سروات النسا ... ء تنفح بالمسك أردانها «3» قال: وهذا الشعر هو لقيس بن الخطيم في أمّ النعمان بن بشير، وهى عمرة بنت رواحة أخت عبد الله بن رواحة؛ قال: فأشير الى عزّة أنها أمه فأمسكت؛ فقال: غنّنى فو الله ما ذكر إلا كرما وطيبا ولا تغنّى سائر اليوم غيره؛ فلم تزل تغنّيه هذا اللحن حتى انصرف. ومنهم حسان بن ثابت الأنصارىّ رضى الله عنه. روى أبو الفرج الأصفهانىّ بسنده الى محرز بن جعفر قال: ختن زيد بن ثابت بنيه وأو لم واجتمع إليه المهاجرون والأنصار وعامّة أهل المدينة، وحضر حسان بن ثابت وقد كفّ بصره يومئذ وثقل سمعه فوضع بين يديه خوان ليس عليه غيره إلا عبد الرحمن ابنه، وكان يسأله كلما وضعت صحفة أطعام «4» يد أم يدين؟ فلم يزل يأكل حتى جىء بشواء، فقال: أطعام يد أم يدين؟ فقال: بل طعام يدين، فأمسك يده؛ حتى إذا فرغ من الطعام ثنيت وسادة وأقبلت عزّة الميلاء وهى إذا شابّة، فوضع في حجرها مزهر فضربت به وتغنّت، فكان أوّل ما ابتدأت به شعر حسان: فلا زال قصر بين بصرى وجلق «5» ... عليه من الوسمىّ جود ووابل فطرب حسان وجعلت عيناه تنضحان على خدّيه وهو مصغ لها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 191 وروى أيضا بسنده إلى خارجة بن زيد أنه قال: دعينا الى مأدبة في آل نبيط، فحضرنا وحضر حسان بن ثابت، فجلسنا جميعا على مائدة واحدة وهو يومئذ قد ذهب بصره ومعه ابنه عبد الرحمن، وكان إذا أتى بطعام سأل ابنه عبد الرحمن أطعام يد أم طعام يدين؟ (يعنى بطعام اليد الثريد؛ وطعام اليدين الشواء لأنه ينهش نهشا) فإذا قال: طعام يد أكل، واذا قال: طعام يدين أمسك يده. فلما فرغوا من الطعام أتوا بجاريتين مغنّيتين إحداهما «رائقة» والأخرى «عزّة» فجلستا وأخذتا مزهريهما وضربتا ضربا عجيبا وغنّتا بقول حسان بن ثابت: انظر خليلى بباب جلّق هل ... تؤنس دون البلقاء من أحد قال: فأسمع حسان يقول: قد أرانى هناك «1» سميعا بصيرا، وعيناه تدمعان، فإذا سكتتا سكن عنه البكاء واذا غنّتا يبكى. قال: وكنت أرى عبد الرحمن ابنه إذا سكتتا يشير إليهما أن غنّيا، فيبكى أبوه، فيقال: ما حاجته إلى بكاء أبيه!. وروى أيضا بسنده الى عبّاد بن عبد الله بن الزّبير عن شيخ من قريش قال: إنى وفتية من قريش عند قينة ومعنا عبد الرحمن بن حسّان بن ثابت إذ استأذن حسان، فكرهنا دخوله وشقّ علينا؛ فقال لنا عبد الرحمن ابنه: أيسرّكم ألّا يجلس؟ قلنا نعم. قال: فمروا هذه إذا نظرت اليه أن تغنّى: أولاد جفنة حول قبر أبيهم ... قبر ابن مارية الكريم المفضل يغشون حتى ما تهرّ كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل قال: فغنّته، فو الله لقد بكى حتى ظنّنا أنه سيلفظ نفسه. ثم قال: أفيكم الفاسق؟ لعمرى لقد كرهتم مجلسى اليوم. وقام فانصرف. وهذا الشعر لحسان بن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 192 ثابت وهو مما امتدح به جبلة بن الأيهم، وهو من قصيدة طويلة منها قوله في مدح آل جفنة: بيض الوجوه كريمة أحسابهم ... شمّ الأنوف من الطّراز الأوّل وروى أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسىّ رحمه الله تعالى بسند رفعه إلى الحارث بن عبد الله بن العباس: أنه بينما هو يسير مع عمر بن الخطاب رضى الله عنه بطريق مكة في خلافته ومعه من معه من المهاجرين والأنصار، ترنّم عمر ببيت فقال له رجل من أهل العراق- ليس معه عراقىّ غيره-: غيرك فليقلها يا أمير المؤمنين! قال: فاستحيا عمر وضرب راحلته حتى انقطعت من الرّكب. قال المقدسى: ويزيد ذلك وضوحا- وساق حديثا بسند رفعه الى يحيى بن عبد الرحمن- قال: خرجنا مع عمر بن الخطاب رضى الله عنه في الحجّ الأكبر، حتى اذا كان عمر بالرّوحاء «1» كلّم الناس رباح بن المعترف «2» ، وكان حسن الصوت بغناء الأعراب، فقالوا: أسمعنا وقصّر عنّا الطريق؛ فقال: إنّى أفرق من عمر. قال: فكلّم القوم عمر. إنا كلّمنا رباحا أن يسمعنا ويقصّر عنا طريق المسير فأبى إلّا أن تأذن له. فقال له: يا رباح، أسمعهم وقصّر عنهم المسير، فإذا أسحرت فارفع واحدهم بشعر ضرار بن الخطّاب؛ فرفع عقيرته يتغنّى وهم محرمون. وروى أيضا بسنده الى يزيد بن أسلم عن أبيه: أن عمر رضى الله عنه مرّ برجل يتغنّى فقال: إن الغناء زاد المسافر. وروى سفيان الثّورى وشعبة كلاهما عن أبى إسحاق السّبيعىّ عن عامر بن سعد البجلىّ: أن أبا مسعود البدرىّ، وقرظة بن كعب، وثابت بن يزيد، وهم في عرس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 193 وعندهم غناء، فقلت: هذا وأنتم أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم! فقالوا: إنه رخّص لنا في الغناء في العرس والبكاء على الميّت في غير نوح. إلا أن شعبة قال: ثابت بن وديعة مكان ثابت بن يزيد، ولم يذكر أبا مسعود. وقال الإمام أبو حامد الغزالىّ رحمه الله تعالى عن أبى طالب المكّى: سمع من الصحابة عبد الله بن جعفر، وعبد الله بن الزبير، والمغيرة بن شعبة، ومعاوية وغيرهم، وقال: قد فعل ذلك كثير من السّلف صحابىّ وتابعىّ بإحسان. وروى الحافظ أبو الفضل المقدسىّ بسند رفعه إلى عمر بن أبى زائدة قال: حدّثتنى امرأة عمر «1» بن الأصمّ قالت: مررنا ونحن جوار بمجلس سعيد بن جبير ومعنا جارية تغنّى ومعها دفّ وهى تقول: لئن فتنتنى فهى بالأمس أفتنت ... سعيدا فأمسى قد قلى كلّ مسلم وألقى مفاتيح القراءة واشترى ... وصال الغوانى بالكتاب المنمنم فقال سعيد: تكذبين تكذبين. ذكر من سمع الغناء من الأئمة والعبّاد والزّهاد قالوا: وقد سمع الغناء من الأئمة الإمام الشافعى، وأحمد بن حنبل رحمهما الله تعالى، وغيرهما من أصحابهما. روى الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر بن علىّ المقدسىّ رحمه الله تعالى بسند رفعه إلى المريسىّ، قال: مررنا مع الشافعى وإبراهيم ابن إسماعيل على دار قوم وجارية تغنّيهم: خليلىّ ما بال المطايا كأنها ... نراها على الأعقاب بالقوم تنكص «2» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 194 فقال الشافعىّ: ميلوا بنا نسمع. فلما فرغت قال الشافعىّ لإبراهيم: أيطريك هذا؟ قال لا. قال: فما لك حسّ! وروى أيضا بسند رفعه إلى صالح بن أحمد بن حنبل قال: كنت أحبّ السماع وكان أبى يكره ذلك، فواعدت ليلة ابن الخبّازة، فمكث عندى إلى أن علمت أنّ أبى قد نام، فأخذ يغنّى، فسمعت خشفة فوق السطح، فصعدت، فرأيت أبى فوق السطح يسمع ما يغنّى وذيله تحت إبطه وهو يتبختر كأنه يرقص. قال: وقد رويت هذه الحكاية أيضا عن عبد الله بن أحمد بن حنبل- وساق سندا إليه- قال: كنت أدعو ابن الخبّازة وكان أبى ينهانا عن الغناء، وكنت إذا كان عندى كتمته من أبى لئلا يسمع. فكان ذات ليلة عندى وهو يقول، فعرضت لأبى عندنا حاجة- وكانوا فى زقاق- فجاء وسمعه يقول، فوقع في سمعه شىء من قوله، فخرجت لأنظر فإذا بأبى يترّجح «1» ذاهبا وجائيا، فرددت الباب ودخلت. فلما كان من الغد قال أبى: يا بنىّ، إذا كان مثل هذا فنعم الكلام، أو معناه. قال أبو الفضل: وابن الخبّازة هذا هو أبو بكر محمد بن عبد الله بن يحيى بن زكريا الشاعر، وكان عاصر أحمد ورثاه حين مات. وروى أبو الفضل أيضا بسند رفعه الى [أبى] مصعب «2» الزّهرىّ أنه قال: حضرت مجلس مالك بن أنس فسأله أبو مصعب عن السماع، فقال مالك: ما أدرى، أهل العلم ببلدنا لا ينكرون ذلك ولا يقعدون عنه ولا ينكره إلا غبىّ جاهل أو ناسك عراقى غليظ الطبع. وقال أيضا: أخبرنا أبو محمد التميمىّ ببغداد قال: سألت الشريف أبا علىّ محمد بن أحمد بن أبى موسى الهاشمىّ عن السماع فقال: ما أدرى ما أقول فيه، غير أنى حضرت دار شيخنا أبى الحسن عبد العزيز بن الحارث التميمى سنة سبعين وثلاثمائة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 195 فى دعوة عملها لأصحابه؛ حضرها أبو بكر الأبهرىّ شيخ المالكية، وأبو القاسم الدّاركى شيخ الشافعية، وأبو الحسن طاهر بن الحسن شيخ أصحاب الحديث، وأبو الحسن ابن سمعون شيخ الوعّاظ والزهّاد، وأبو عبد الله محمد بن مجاهد شيخ المتكلّمين، وصاحبه أبو بكر الباقلانى في دار شيخنا أبى الحسن التميمىّ شيخ الحنابلة؛ فقال أبو علىّ: لو سقط السقف عليهم لم يبق بالعراق من يفتى في حادثة يشبه واحدا منهم، ومعهم أبو عبد الله غلام تامّ، وكان هذا يقرأ القرآن بصوت حسن، وربما قال شيئا. فقيل له: قل لنا شيئا؛ فقال لهم وهم يسمعون: خطّت أناملها في بطن قرطاس ... رسالة بعبير لا بأنقاس «1» أن زر فديتك لى من غير محتشم «2» ... فإنّ حبّك لى قد شاع في الناس فكان قولى لمن أدّى رسالتها ... قف لى لأمشى على العينين والراس قال أبو على: فبعد أن رأيت هذا لا يمكننى أن أفتى في هذه المسألة بحظر ولا إباحة. وممن أحبّ السماع والغناء وسمعه من الزهاد والعباد والعلماء أبو السائب المخزومىّ. روى أبو الفرج الأصبهانىّ بسنده الى صفيّة بنت الزّبير بن هشام قالت: كان أبو السائب المخزومى رجلا صالحا زاهدا متقلّلا يصوم الدهر، وكان أرقّ خلق الله قلبا وأشدّهم غزلا. فوجّه غلامه «3» يوما يأتيه بما يفطر عليه، فأبطأ الغلام الى العتمة. فلما جاء قال له: يا عدوّ نفسه، ما أخّرك إلى هذا الوقت؟ قال: اجتزت بباب فلان فسمعت منه غناء فوقفت حتى أخذته. فقال: هاته يا بنىّ، فو الله لئن كنت أحسنت لأحبونّك، وإن كنت أسأت لأضربنّك، فاندفع يغنّى بشعر كثير: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 196 ولمّا علوا شغبا «1» تبيّنت أنه ... تقطّع من أهل الحجاز علائقى فلا زلن حسرى ظلّعا لم حملنها ... الى بلد ناء قليل الأصادق فلم يزل يغنيّه ويستعيده الى نصف الليل. فقالت له زوجته: يا هذا، قد انتصف الليل وما أفطرت. فقال لها: أنت الطلاق إن أفطرنا على غيره. فلم يزل يغنّيه ويستعيده حتى أسحر. فقالت له: هذا السّحر وما أفطرنا. فقال لها: أنت الطلاق إن كان سحورنا غيره. ثم قال لابنه: يا بنىّ، خذ جبّتى هذه وأعطنى خلقك ليكون الحباء فضل ما بينهما. فقال له: يا أبت، أنت شيخ وأنا شابّ وأنا أقوى على البرد منك، فقال له: يا بنىّ، ما ترك هذا الصوت للبرد علىّ سبيلا ما حييت. ويؤيد هذه الحكاية ما حكاه أبو طالب المكّى في كتابه، قال: كان بعض السامعين يقتات بالسماع ليقوى به على زيادة طيّه، كان يطوى اليوم واليومين والثلاثة، فإذا تاقت نفسه الى القوت عدل بها الى السماع، فأثار تواجده، فاستغنى بذلك عن الطعام. وروى أبو الفرج بسنده إلى عبد الله بن أبى مليكة عن أبيه عن جدّه قال: كان بالمدينة رجل ناسك من أهل العلم والعفّة، وكان يغشى عبد الله بن جعفر، فسمع جارية مغنّية لبعض النّخاسين تغنّى: بانت ساعدو أمسى حبلها انقطعا ... واحتلّت الغور فالجدّين فالفرعا وأنكرتنى وما كان الذى نكرت ... من الحوادث إلا الشّيب والصّلعا فهام الناسك وترك ما كان عليه، حتى مشى إليه عطاء وطاوس ولا ماه؛ فكان جوابه لهما أن تمثّل: يلومنى فيك أقوام أجالسهم ... فما أبالى أطار اللّوم أم وقعا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 197 فبلغ عبد الله بن جعفر خبره، فبعث إلى النخاس، فاعترض الجارية وسمع غناءها بهذا الصوت وقال: ممن أخذتيه؟ قالت: من عزّة الميلاء؛ فابتاعها بأربعين ألف درهم. ثم بعث إلى الرجل فسأله عن خبرها فأعلمه إياه؛ فقال: أتحبّ أن تسمع هذا الصوت ممن أخذته عنه تلك الجارية؟ قال نعم. فدعا عزّة الميلاء فقال: غنيّه إياه. فغنّته، فصعق الرجل [وخرّ «1» ] مغشيّا عليه. فقال ابن جعفر: أثمنا فيه، الماء الماء! فنضح على وجهه. فلما أفاق قال له: أكلّ هذا بلغ بك عشقها؟ قال: وما خفى عليك أكثر. قال: أفتحبّ أن تسمعه منها؟ قال: قد رأيت ما نالنى حين سمعته من غيرها وأنا لا أحبّها، فكيف يكون حالى إن سمعته منها وأنا لا أقدر على ملكها! فأخرجها إليه وقال: خذها فهى لك؛ وو الله ما نظرت إليها إلا عن عرض. فقبّل الرجل يديه ورجليه وقال: أنمت عينى، وأحييت نفسى، وتركتنى أعيش بين قومى، ورددت إلىّ عقلى، ودعا له دعاء كثيرا. فقال عبد الله: ما أرضى أن أعطيكها هكذا، يا غلام، احمل معه مثل ثمنها، ففعل. قال الغزالىّ رحمه الله في «إحياء علوم الدين» : كان ابن مجاهد لا يجيب دعوة إلا أن يكون فيها سماع. قال: وكان أبو الخير العسقلانىّ الأسود من الأولياء يسمع ويوله عند السماع، وصنّف فيه كتابا وردّ فيه على منكريه. وحكى عن بعض الشيوخ أنه قال: رأيت أبا العباس الخضر عليه السّلام، فقلت: ما تقول في هذا السماع الذى اختلف فيه أصحابنا؟ قال: هو الصّفا «2» الزّلّال الذى لا تثبت عليه إلا أقدام العلماء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 198 وروى الأصفهانىّ بسند رفعه إلى ابن كناسة قال: اصطحب شيخ مع شابّ فى سفينة في الفرات ومعهم مغنّية. فلما صاروا في بعض الطريق قالوا للشيخ: معنا جارية وهى تغنّى، فأحببنا أن نسمع غناءها فهبناك، فإن أذنت فعلنا. فقال: أنا أصعد على أطلال «1» السفينة، فاصنعوا أنتم ما شئتم؛ فصعد وأخذت المغنّية عودها وغنّت: حتى إذا الصبح بدا ضوءه ... وغابت الجوزاء والمرزم أقبلت والوطء خفىّ كما ... ينساب «2» من مكمنه الأرقم فطرب الشيخ وصاح، ثم رمى بنفسه وبثيابه في الفرات وجعل يغوص ويطفو ويقول: أنا الأرقم أنا الأرقم! فألقوا أنفسهم خلفه، فبعد لأى ما استخرجوه، وقالوا: يا شيخ، ما حملك على ما فعلت؟ فقال: إليكم عنّى، فإنى أعرف من معانى الشعر ما لا تعرفون. فقالوا له: ما أصابك؟ قال: دبّ من قدمى شىء إلى رأسى كدبيب النّمل ونزل من رأسى مثله، فلما اجتمعا على قلبى عملت ما عملت. وقال أحمد بن أبى داود: كنت أعيب الغناء وأطعن على أهله؛ فخرج المعتصم يوما إلى الشّمّاسيّة في حرّاقة، ووجّه في طلبى فصرت إليه. فلما قربت منه سمعت غناء حيّرنى وشغلنى عن كلّ شىء، فسقط سوطى عن يدى، فالتفتّ إلى غلامى أطلب منه سوطا؛ فقال لى: قد والله سقط منّى سوطى. فقلت له: أىّ شىء كان سبب سقوطه؟ قال: صوت سمعته فحيّرنى، فما علمت كيف سقط، فإذا قصّته قصّتى. قال: وكنت أنكر أمر الطرب على الغناء وما يستفزّ الناس منه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 199 فيغلب على عقولهم، وأناظر المعتصم عليه. فلما دخلت عليه يومئذ أعلمته بالخبر، فضحك وقال: هذا عمّى كان يغنّينى: إنّ هذا الطويل من آل حفص ... أنشر المجد بعد ما كان ماتا فإن تبت مما كنت تناظر عليه من ذمّ الغناء سألته أن يعيده، ففعلت وفعل، فبلغ بى الطرب أكثر مما يبلغه من غيرى، ورجعت عن رأيى منذ ذلك اليوم. وعمّه الذى أشار إليه هو إبراهيم بن المهدىّ. ذكر من غنّى من الخلفاء وأبنائهم ونسبت له أصوات من الغناء نقلت عنه [أما من غنّى من الخلفاء] كان من غنّى من الخلفاء- على ما أورده أبو الفرج الأصفهانىّ في كتابه المترجم «بالأغانى» - ونسبت له أصوات جماعة، منهم عمر بن عبد العزيز قد نسبت له أصوات، ومنهم من أنكر ذلك. ولعلّ ما نقل عنه كان منه قبل الخلافة. وكان رحمه الله من أحسن الناس صوتا. فكان مما نسب إليه من الغناء: علق القلب سعادا ... عادت القلب فعادا كلّما عوتب فيها ... أو نهى عنها تمادى وهو مشغوف بسعدى ... وعصى فيها وزادا ومما نسب إليه من الغناء ما قيل إنه غنّاه من شعر جرير: قفا يا صاحبىّ نزر سعادا ... لو شك فراقها ودعا البعادا «1» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 200 لعمرك إنّ نفع سعاد عنّى ... لمصروف ونفعى عن سعادا إلى الفاروق ينتسب ابن ليلى «1» ... ومروان الذى رفع العمادا ومن ذلك ما قيل إنه غنّاه من شعر الأشهب بن رميلة «2» : ألا يا دين قلبك من سليمى ... كما قد دين قلبك من سعادا هما سبتا الفؤاد وهاضتاه «3» ... ولم يدرك بذلك ما أرادا قفا نعرف منازل من سليمى ... دوارس بين حومل أو عرادا ذكرت لها الشباب وآل ليلى ... فلم يزد الشباب بها مزادا فإن تشب الذوائب أمّ عمرو ... فقد لاقيت أياما شدادا وممّن غنّى من خلفاء الدولة العباسية، ممن دوّنت له صنعة، الواثق بالله أبو جعفر هارون بن المعتصم بالله بن الرشيد. حكى أبو الفرج الأصفهانىّ بسند رفعه إلى إسحاق بن إبراهيم الموصلىّ قال: دخلت يوما دار الواثق بالله بغير إذن إلى موضع أمر أن أدخله إذا كان جالسا، فسمعت صوت عود من بيت وترنّما لم أسمع أحسن منه. فأطلع خادم رأسه ثم ردّه وصاح بى، فدخلت وإذا أنا بالواثق بالله. فقال: أىّ شىء سمعت؟ فقلت: الطلاق كامل لازم له وكلّ مملوك له حرّ، لقد سمعت ما لم أسمع مثله قطّ حسنا! فضحك وقال: وما هو؟ إنما هذه فضلة أدب وعلم مدحه الأوائل واشتهاه أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم والتابعون بعدهم وكثر فى حرم الله عز وجلّ ومهاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أتحبّ أن تسمعه؟ قلت: إى والله الذى شرّفنى بخطابك وجميل رأيك. فقال: يا غلام، هات العود وأعط الجزء: 4 ¦ الصفحة: 201 إسحاق رطلا؛ فدفع الرطل إلىّ وضرب وغنّى في شعر لأبى العتاهية بلحن صنعه فيه: أضحت قبورهم من بعد عزّتهم ... تسفى عليها الصّبا والحرجف الشّمل لا يدفعون هواما عن وجوههم ... كأنهم خشب بالقاع منجدل فشربت الرطل ثم قمت. فدعوت له، فاحتبسنى وقال: أتشتهى أن تسمعه بالله؟ فقلت: إى والله، فغنّانيه ثانية وثالثة، وصاح ببعض خدمه وقال: احمل إلى إسحاق الساعة ثلاثمائة ألف درهم. قال: يا إسحاق، قد سمعت ثلاثة أصوات وشربت ثلاثة أرطال وأخذت ثلاثمائة ألف درهم، فانصرف إلى أهلك مسرورا ليسّروا معك، فانصرفت بالمال. وقال أبو الفرج بسنده إلى عريب المأمونيّة قالت: صنع الواثق بالله مائة صوت ما فيها صوت ساقط. ولقد صنع فيّ هذا الشعر: هل تعلمين وراء الحبّ منزلة ... تدنى إليك فإن الحبّ أقصانى هذا كتاب فتى طالت بليّته ... يقول يا مشتكى بثّى وأحزانى قال: وكان الواثق بالله إذا أراد أن يعرض صنعته على إسحاق نسبها إلى غيره فقال: وقع إلينا صوت قديم من بعض العجائز فاسمعه، وأمر من يغنّيه إياه. وكان إسحاق يأخذ نفسه بقول الحقّ في ذلك أشدّ أخذ، فإن كان جيّدا رضيه واستحسنه وإن كان فاسدا أو مطّرحا أو متوسّطا ذكر ما فيه. فإن كان للواثق فيه هوى سأله تقويمه وإصلاح فاسده وإلّا اطّرحه. وقال إسحاق بن إبراهيم: كان الواثق أعلم الناس بالغناء، وبلغت صنعته مائة صوت، وكان أحذق من غنّى بضرب العود، ثم ذكر أغانيه. وذكر أبو الفرج الأصفهانىّ منها أصواتا؛ منها: ولم أر ليلى غير موقف ليلة ... بخيف منّى ترمى جمار المحصّب ويبدى الحصى منها إذا خذفت به ... من البرد أطراف البنان المخضّب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 202 ألا إنما غادرت يا أمّ مالك ... صدى أينما تذهب به الريح يذهب وأصبحت من ليلى الغداة كناظر ... مع الصبح في أعجاز نجم مغرّب وذكر أصواتا كثيرة غير هذا تركنا ذكرها اختصارا. قال: ولما خرج المعتصم إلى عمّوريّة استخلف الواثق. فوجّه الواثق إلى الجلساء والمغنّين أن يبكّروا إليه يوما حدّه لهم، ووجّه إلى إسحاق، فحضر الجميع. فقال لهم الواثق: إنى عزمت على الصّبوح، ولست أجلس على سرير حتى أختلط بكم ونكون كالشىء الواحد، فاجلسوا معى حلقة، وليكن إلى جانب كلّ جليس مغنّ، فجلسوا كذلك. فقال الواثق: أنا أبدأ، فأخذ العود فغنّى وشربوا وغنّى من بعده، حتى انتهى إلى إسحاق وأعطى العود فلم يأخذه؛ فقال: دعوه. ثم غنوا دورا آخر؛ فلما بلغ الغناء إلى إسحاق لم يغنّ وفعل ذلك ثلاث مرّات. فوثب الواثق فجلس على سريره وأمر بالناس فأدخلوا؛ فما قال لأحد منهم: اجلس. ثم قال: علىّ بإسحاق. فلما رآه قال: يا خوزى «1» يا كلب، أتبذّل لك وأغنّى فتترفّع علىّ! أترانى لو قتلتك كان المعتصم يقيدنى بك! ابطحوه، فبطح وضرب ثلاثين مقرعة ضربا خفيفا وحلف لا يغنّى سائر يومه سواه؛ فاعتذر وتكلّمت الجماعة فيه؛ فأخذ العود، وما زال يغنّى حتى انقضى مجلسه. وللواثق بالله في الغناء أخبار وحكايات يطول بذكرها الشرح. ومنهم المنتصر بالله أبو جعفر محمد بن المتوكل على الله أبو الفضل جعفر. قال يزيد المهلّبىّ: كان المنتصر حسن العلم بالغناء، وكان إذا قال الشعر صنع فيه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 203 وأمر المغنّين بإظهاره. فلما ولى الخلافة قطع ذلك وأمر بستر ما تقدّم منه؛ فلذلك لم تظهر أغانيه. ومنهم المعتزّ بالله أبو عبد الله محمد بن جعفر المتوكل. ذكر أيضا أنه كان يغنّى أصواتا. فمما غنّى به في شعر عدىّ بن الرّقاع: لعمرى لقد أصحرت «1» خيلنا ... بأكناف دجلة للمصعب فمن يك منّا يبت آمنا ... ومن يك من غيرنا يهرب وهذه الأبيات من قصيدة لعدىّ بن الرّقاع قالها في الوقعة التى كانت بين عبد الملك بن مروان ومصعب بن الزّبير وقتل فيها مصعب بن الزبير، على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى في أخبار عبد الله بن الزبير. ومنهم المعتمد على الله أبو العباس أحمد بن المتوكل على الله. هو ممن له يد في الغناء وصنعة حسنة. ومما نقل من أغانيه أنه غنّى في شعر الفرزدق: ليس الشفيع الذى يأتيك مؤتزرا ... مثل الشفيع الذى يأتيك عريانا وقال «2» عبيد الله بن عبد الله بن طاهر: إن المعتضد جمع النغم العشر في صوت صنعه في شعر دريد بن الصّمّة وهو: يا ليتنى فيها جذع ... أخبّ فيها وأضع قال: واستعلمنى هل هو صحيح القسمة والأجزاء أم لا، فعرّفته صحّته ودللته على ذلك حتى تيقّنه فسّر به. قال عبيد الله: وهو لعمرى من جيّد الصنعة ونادرها. قال: وقد صنع ألحانا في عدّة أشعار قد «3» صنع فيها الفحول من القدماء والمحدثين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 204 وعارضهم بصنعته فأحسن وشاكل وضاهى فلم يعجز ولا قصّر، ولا أتى بشىء يعتذر منه. قال: فمن ذلك أنه صنع في قول الشاعر: أما القطاة فإنى سوف أنعتها ... نعتا يوافق نعتى بعض ما فيها فجاء في نهاية الجودة وهو أحسن ما صنع في هذا الشعر على كثرة الصنعة فيه واشتراك القدماء والمحدثين في صنعته مثل معبد ونشيط ومالك وابن محرز وسنان وعمر الوادى وابن جامع وإبراهيم وابنه إسحاق وعلّويه. قال: وصنع في: تشكّى الكميت الجرى لمّا جهدته ... وبيّن لو يسطيع أن يتكلّما فما قصّر في صنعته ولا عجز عن بلوغ الغاية فيها مع أصوات له صنعها تناهز مائة صوت ما فيها ساقط ولا مرذول. فهؤلاء الذين لهم صنعة في الغناء من الخلفاء. وأما أبناء الخلفاء الذين لهم صنعة بد في هذا الفنّ. فمنهم إبراهيم بن المهدى ّ وأخته عليّة بنت المهدىّ رحمهما الله تعالى، وإبراهيم يكنى أبا إسحاق أمّه شكلة أمة مولّدة كان أبوها من أصحاب المازيار يقال له: شاه أفرند «1» قتل مع المازيار وسبيت شكلة فحملت إلى المنصور فوهبها لمحيّاة أمّ ولده فربتها وبعثت بها إلى الطائف فنشأت هناك، فلما كبرت ردّت إليها. فرآها المهدىّ فأعجبته فطلبها من محيّاة فأعطته إياها فولدت له إبراهيم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 205 قال أبو الفرج الأصفهانىّ بسند رفعه إلى إسحاق بن إبراهيم قال: كان إبراهيم بن المهدىّ أشدّ خلق الله إعظاما للغناء وأحرصهم عليه وأشدّهم منافسة فيه. قال: وكانت صنعته ليّنة فكان إذا صنع شيئا نسبه إلى غيره لئلا يقع عليه طعن أو تقريع فقلّت صنعته في أيدى الناس مع كثرتها. وكان إذا قيل له فيها شىء يقول: إنما أصنع تطرّبا لا تكسّبا وأغنّى لنفسى لا للناس فأعمل ما أشتهى. قال: وكان حسن صوته يستر عوار ذلك. وكان الناس يقولون: لم ير في جاهليّة ولا إسلام أخ وأخت أحسن غناء من إبراهيم بن المهدىّ وأخته عليّة. وكان إبراهيم يجادل إسحاق ويأخذ عليه في مواطن كثيرة إلّا أنه كان لا يقوم له «1» ويظهر إسحاق خطأه. ووقع بينهما في ذلك بين يدى الرشيد وفي مجلسه كلام كثير أفضى إلى أمور نذكرها إن شاء الله تعالى في أخبار إسحاق بن إبراهيم. وكان إبراهيم بن المهدىّ في أوّل أمره يتستّر في الغناء بعض التستّر إلا أنه يذكره فى مجلس الرشيد أخيه. فلما كان من أمره في الوثوب على الخلافة ما نذكره إن شاء الله تعالى في أخبار الدولة العباسيّة عند ذكرنا لخلافة المأمون بن الرشيد، ثم [لما «2» ] أمّته المأمون بعد هربه منه تهتّك بالغناء ومشى مع المغنّين ليلا إذا خرجوا من عند المأمون، وإنما أراد المأمون بذلك ليظهر للناس أنه قد خلع ربقة الخلافة من عنقه وأنه تهتّك فلا يصلح للخلافة. وكان من أعلم الناس بالنغم والوتر والإيقاعات وأطبعهم فى الغناء وأحسنهم صوتا. وكان مع علمه وطبعه ومعرفته يقصّر عن الغناء القديم وعن أن ينحوه في صنعته. فكان يحذف نغم الأغانى الكثيرة العمل حذفا شديدا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 206 ويحقّقها على قدر ما يصلح له ويفى بأدائه فاذا عيب ذلك عليه قال: أنا ملك وابن ملك وإنما أغنّى على ما أشتهى وكما ألتذّ. فهو أوّل من أفسد الغناء القديم. وروى عن حمدون بن إسماعيل قال: قال إبراهيم بن المهدىّ: لولا أنّى أرفع نفسى عن هذه الصناعة لأظهرت منها ما يعلم الناس معه أنهم لم يروا قبلى مثلى. وروى أبو الفرج الأصفهانىّ عن جعفر بن سليمان الهاشمىّ قال: حدّثنا إبراهيم ابن المهدىّ قال: دخلت يوما على الرشيد وبى فضلة خمار «1» وبين يديه ابن جامع وإبراهيم الموصلىّ فقال: بحياتى يا إبراهيم غنّ، فأخذت العود ولم ألتفت إليهما لما في رأسى من الفضلة فغنّيت: أسرى بخالدة «2» الخيال ولا أرى ... شيئا ألذّ من الخيال الطارق إن البليّة من تملّ حديثه ... فانقع فؤادك من حديث الوامق أهواك فوق هوى النفوس ولم يزل ... مذ بنت قلبى كالجناح الخافق شوقا إليك ولم تجاز مودّتى ... ليس المكذّب كالحبيب الصادق فسمعت إبراهيم يقول لابن جامع: لو طلب هذا بهذا الغناء ما نطلب لما أكلنا خبزا أبدا فقال ابن جامع: صدقت، فلما فرغت من غنائى وضعت العود ثم قلت: خذا في حقّكما ودعا باطلنا. وروى عن إبراهيم قال: كان الرشيد يحبّ أن يسمعنى فخلا بى مرّات إلى أن سمعنى، ثم حضرته مرّة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 207 وعنده سليمان بن أبى جعفر فقال لى: عمّك وسيّد ولد المنصور بعد أبيك وقد أحبّ أن يسمعك، فلم يتركنى حتى غنّيت بين يديه: سقيا لربعك من ربع بذى سلم ... وللزمان به إذ ذاك من زمن إذ أنت فينا لمن ينهاك عاصية ... وإذ أجرّ إليكم سادرا رسنى «1» فأمر لى بألف ألف درهم، ثم قال لى ليلة ولم يبق في المجلس عنده إلا جعفر ابن يحيى: أنا أحبّ أن تشرّف جعفرا بأن تغنّيه صوتا فغنّيته لحنا صنعته في شعر الدّارمىّ: كأنّ صورتها في الوصف إذ وصفت ... دينار عين من المضروبة العتق فأمر لى الرشيد بألف ألف درهم. وحكى عن إسحاق بن إبراهيم قال: لما صنعت صوتى الذى هو: قل لمن صدّ عاتبا ... ونأى عنك جانبا قد بلغت الذى أرد ... ت وإن كنت لاعبا واعترفنا بما ادّعي ... ت وإن كنت كاذبا فافعل الآن ما أرد ... ت فقد جئت تائبا اتصل خبره بإبراهيم بن المهدىّ فكتب إلىّ يسألنى عنه، فكتبت إليه الشعر وإيقاعه وبسيطه «2» ومجراه وإصبعه وتجزئته وأقسامه ومخارج نغمه ومواضع مقاطعه ومقادير أدواره وأوزانه فغنّاه ثم لقينى فغنّانيه، ففضلنى فيه بحسن صوته. وقال ابن أبى طيبة: كنت أسمع إبراهيم بن المهدىّ يتنحنح فأطرب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 208 وعن محمد بن خير عن عبد الله بن العباس الرّبيعىّ قال: كنّا عند إبراهيم بن المهدىّ ذات يوم وقد دعا كلّ محسن من المغنّين يومئذ وهو جالس يلاعب أحدهم بالشّطرنج فترنّم إبراهيم بصوت فريدة في شعر أبي العتاهية: قال لى أحمد ولم يدر ما بى ... أتحبّ الغداة عتبة حقّا فتنفّست ثم قلت نعم حبّا ... جرى في العروق عرقا فعرقا وهو متكىء «1» ، فلما فرغ ترنّم به مخارق فأحسن فيه وأطربنا «2» وزاد على إبراهيم، فغنّاه إبراهيم وزاد في صوته على غناء مخارق. فلما فرغ ردّه مخارق وغنّاه بصوته كلّه وتحفّظ فيه وكدنا نطير سرورا. فاستوى إبراهيم جالسا وكان متّكئا وغنّاه بصوته كلّه ووفّاه نغمه وشذوره ونظرت إلى كتفيه تهتزّان وبدنه أجمع يتحرّك إلى أن فرغ منه ومخارق شاخص نحوه يرعد وقد انتقع لونه وأصابعه تختلج فخيّل إلىّ أن الإيوان يسير بنا، فلما فرغ منه تقدّم إليه مخارق فقبّل يده وقال: جعلنى الله فداك أين أنا منك! ثم لم ينتفع مخارق بنفسه بقيّة يومه في شىء من غنائه، والله لكأنما كان يتحدّث. وروى عن منصور بن المهدىّ قال: كنت عند أخى إبراهيم في يوم كانت عليه فيه نوبة لمحمد الأمين، فتشاغل بالشرب فى بيته ولم يمض، وأرسل إليه الأمين عدّة رسل فتأخّر. قال منصور: فلمّا كان من غد قال لى: ينبغى أن نعمل على الرواح إلى أمير المؤمنين فنترضّاه، فما أشكّ فى غضبه علينا. فمضينا فسألنا عن خبره فأعلمنا أنه مشرف على خير «3» الوحش وهو مخمور، وكان من عادته ألّا يشرب إذا لحقه الخمار. فدخلنا، وكان طريقنا على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 209 حجرة تصنع فيها الملاهى، فقال لى: اذهب فاختر منها عودا ترضاه وأصلحه غاية الإصلاح حتى لا يحتاج إلى إصلاحه وتغييره عند الضرب به؛ ففعلت وجعلته فى كمّى. ودخلنا على الأمين وظهره إلينا. فلما بصرنا به من بعد قال: أخرج عودك فأخرجته، فاندفع يغنّى: وكأس شربت على لذّة ... وأخرى تداويت منها بها لكى يعلم الناس أنى امرؤ ... أتيت الفتوّة من بابها وشاهدنا «1» الورد والياسمي ... ن والمسمعات بقصّابها «2» وبربطنا «3» دائم معمل ... فأىّ الثلاثة أزرى بها فاستوى الأمين جالسا وطرب طربا شديدا وقال: أحسنت والله يا عمّ وأحييت لى طربا. ودعا برطل فشربه على الرّيق وابتدأ «4» شربه. قال منصور: وغنّى إبراهيم يومئذ على أشدّ طبقة يتناهى إليها في العود، وما سمعت مثل غنائه يومئذ قط. ولقد رأبت منه شيئا عجيبا لو حدّثت به ما صدّقت: كان إذا ابتدأ يغنّى صغت الوحوش إليه ومدّت أعناقها، ولم تزل تدنو حتى تكاد تضع رءوسها على الدّكّان الذى كنّا عليه، فإذا سكت نفرت وبعدت عنّا حتى تنتهى إلى أبعد غاية يمكنها التباعد عنّا فيها، وجعل الأمين يعجب من ذلك. وانصرفنا من الجوائز بما لم ينصرف بمثله قطّ. وعن الحسن بن إبراهيم بن رباح قال: كنت أسأل مخارقا: أىّ الناس أحسن غناء؟ فكان يجيبنى جوابا مجملا، حتى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 210 حقّقت عليه يوما فقال: كان إبراهيم المو صلّى أحسن غناء من ابن جامع بعشر طبقات، وإبراهيم بن المهدىّ أحسن غناء منى بعشر طبقات. ثم قال لى: أحسن الناس غناء أحسنهم صوتا. وإبراهيم بن المهدىّ أحسن الإنس والجنّ والوحش والطير صوتا، وحسبك هذا!. وعن إسحاق بن إبراهيم قال: غنّى إبراهيم بن المهدىّ ليلة محمدا الأمين صوتا لم أرضه في شعر لأبى نواس، وهو: يا كثير النوح في الدّمن ... لا عليها بل على السّكن سنّة العشّاق واحدة ... فإذا أحببت فاستنن «1» ظنّ بى من قد كلفت به ... فهو يجفونى على الظّنن رشأ لولا ملاحته ... خلت الدّنيا من الفتن فأمر له بثلاثمائة ألف دينار. فقال له إبراهيم: يا أمير المؤمنين. أجزتنى إلى هذه الغاية بعشرين ألف ألف درهم! فقال: وهل هى إلا خراج بعض الكور «2» . هكذا رواه إسحاق، وقد حكيت هذه الحكاية عن محمد بن الحارث، وفيها أن إبراهيم لما أراد الانصراف قال: أو قروا زورق عمّى دنانير فأوقروه، فانصرف بمال جليل. قال: وكان محمد بن موسى المنجّم يقول: حكمت أنّ إبراهيم بن المهدىّ أحسن الناس كلهم غناء ببرهان، وذلك أنّى كنت أراه في مجالس الخلفاء مثل المأمون والمعتصم يغنّى المغنّون ويغنّى، فإذا ابتدأ بالصوت لم يبق من الغلمان أحد إلا ترك ما في يديه وقرب من أقرب موضع يمكنه أن يسمعه فلا يزال مصغيا إليه لاهيا عما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 211 كان فيه مادام يغنّى، حتى إذا أمسك وتغنّى غيره رجعوا إلى التّشاغل بما كانوا فيه ولم ينبعثوا إلى شىء. فلا برهان أقوى من هذا [فى مثل هذا من «1» ] شهادة الفطن به واتّفاق الطبائع مع اختلافها وتشعّب طرقها على الميل اليه والانقياد نحوه. ولإبراهيم بن المهدىّ أصوات معروفة. منها ما غنّاه بشعر مروان بن أبى حفصة: هل تطمسون من السماء نجومها ... بأكفّكم أو تسترون هلالها أو تدفعون مقالة من ربكم ... جبريل بلّغها النبىّ فقالها طرقتك زائرة فحىّ خيالها ... زهراء تخلط بالدّلال جمالها وأمّا عليّة بنت المهدىّ، فقد قيل: ما اجتمع في جاهليّة ولا إسلام أخ وأخت أحسن غناء من إبراهيم بن المهدىّ وأخته عليّة. وروى عن أبى أحمد ابن الرشيد قال: كنت يوما بحضرة المأمون وهو يشرب، ثم قام وقال لى: قم؛ فدخل دار الحرم ودخلت معه، فسمعت غناء أذهل عقلى ولم أقدر أن أتقدّم ولا أتأخّر؛ وفطن المأمون لما بى فضحك وقال: هذه عمّتك عليّة تطارح عمّك إبراهيم. قال أبو الفرج: وأمّ عليّة أمّ ولد مغنّية يقال لها مكنونة، كانت من جوارى المروانيّة المغنيّة. والمروانيّة هذه ليست من آل مروان بن الحكم، وإنما هى زوجة الحسن بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس. وكانت مكنونة من أحسن جوارى المدينة وجها، وكانت رسحاء «2» ، وكانت حسنة البطن والصدر. فاشتريت للمهدىّ فى حياة أبيه بمائة ألف درهم؛ فغلبت عليه حتى كانت الخيزران تقول: ما ملك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 212 أمّة أغلظ علىّ منها. ولما اشتريت للمهدىّ ستر أمرها عن أبيه المنصور حتى مات، وولدت للمهدىّ عليّة هذه. وكانت عليّة بنت المهدىّ من أجمل الناس وأظرفهم، نقول الشعر الجيّد وتصوغ فيه الألحان الحسنة. وكان في جبينها فضل سعة، فاتّخذت العصائب المكللّة بالجوهر لتستربها جبينها؛ فهى أوّل من أحدث ذلك. قال: وكانت عليّة حسنة الدّين، وكانت لا تغنّى ولا تشرب النبيذ إلّا إذا كانت معتزلة الصلاة؛ فإذا طهرت أقبلت على الصلاة وقراءة القرآن وقراءة الكتب. ولم تله بشىء غير قول الشعر في الأحيان، إلّا أن يدعوها الخليفة إلى شىء فلا تقدر على خلافه. وكانت رحمها الله تقول: ما حرّم الله شيئا إلا وقد جعل فيما حلّل منه عوضا، فبأىّ شىء يحتجّ عاصيه والمنتهك لحرماته!. وكانت تقول: لا غفر الله لى فاحشة ارتكبتها قطّ، وما أقول في شعرى إلّا عبثا. وعن سعيد بن هريم قال: كانت عليّة بنت المهدىّ تحبّ أن تراسل بالأشعار من تختصّه، فاختصّت خادما يقال له طلّ من خدم الرشيد، تراسله بالشعر. فلم تره أيّاما؛ فمشت على ميزاب وحدّثته ثم قالت في ذلك: قد كان ما كلّفته زمنا ... ياطلّ من وجد بكم يكفى حتى أتيتك زائرا عجلا ... أمشى على حتف إلى حتفى «1» فخلف عليها الرشيد ألّا تكلّم طلّا ولا تسمّيه باسمه، فضمنت له ذلك. واستمع عليها يوما وهى تقرأ آخر سورة البقرة حتى بلغت إلى قوله عز وجل: (فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ) فأرادت أن تقول: (فَطَلٌّ) فقالت: فالذى نهى عنه أمير المؤمنين. فدخل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 213 الرشيد فقبّل رأسها وقال: قد وهبت لك طلّا ولا أمنعك بعدها من شىء تريدينه. ولها في طلّ هذا عدّة أشعار صنعت فيها ألحانا، وكانت في بعضها تصحّف اسمه وتكنى عنه بغيره. وكانت أيضا تقول الشعر في خادم لها يقال له: رشأ وتكنى عنه بزينب. فمن شعرها فيه: وجد الفؤاد بزينبا ... وجدا شديدا متعبا أصبحت من كلف بها ... أدعى شقيّا منصبا ولقد كنيت عن اسمها ... عمدا لكى لا تغضبا وجعلت زينب سترة ... وكتمت أمرا معجبا قالت وقد عزّ الوصا ... ل ولم أجد لى مذهبا والله لا نلت المودّة ... أو تنال الكوكبا فصحّفت اسمه في قولها: «زينبا» ؛ وهذا من الجناس الخطّى. قال: وكانت لأمّ جعفر جارية يقال لها طغيان، فوشت بعليّة إلى رشأ وحكت عنها ما لم تقل. فقالت عليّة: لطغيان خفّ مذ ثلاثين حجّة ... جديد فلا يبلى ولا يتخرّق وكيف بلى خفّ هو الدهر كلّه ... على قدميها في السماء «1» معلّق فما خرقت خفّا ولم تبل جوربا ... وأمّا سراويلاتها فتمزّق وروى عن أبى هفّان قال: أهديت للرشيد جارية في غاية الجمال؛ فخلا معها يوما وأخرج كلّ قينة في داره واصطبح. وكان من حضر من جواريه الغناء والخدمة في الشراب زهاء ألفى جارية فى أحسن زىّ من كل نوع من أنواع الثياب والجوهر. واتّصل الخبر بأمّ جعفر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 214 فعظم عليها ذلك؛ فأرسلت إلى عليّة تشكو إليها. فأرسلت إليها عليّة: لا يهولنّك هذا، والله لأردّنّه إليك. قد عزمت أن أضع شعرا وأصوغ فيه لحنا وأطرحه على جوارىّ، فلا تبقى عندك جارية إلّا بعثت بها إلىّ وألبسيهنّ أنواع الثّياب ليأخذن الصوت مع جوارىّ؛ ففعلت أمّ جعفر ما أمرتها به. فلما جاء وقت صلاة العصر لم يشعر الرشيد إلا وعليّة وأمّ جعفر قد خرجتا إليه من حجرتيهما معهما زهاء ألفى جارية من جوازيهما وسائر جوارى القصر عليهنّ غرائب اللّباس وكلهنّ في لحن واحد هزج صنعته عليّة وهو: منفصل عنّى وما ... قلبى عنه منفصل يا هاجرى اليوم لمن ... نويت بعدى أن تصل فطرب الرشيد وقام على رجليه حتى استقبل أمّ جعفر وعليّة وهو على غاية السرور، وقال: لم أر كاليوم قطّ. يا مسرور، لا تبقيّن في بيت المال درهما إلا نثرته. فكان ما نثر يومئذ ستة آلاف درهم، وما سمع بمثل ذلك اليوم. وروى عن عريب أنها قالت: أحسن يوم رأيته في الدنيا وأطيبه يوم اجتمعت فيه مع إبراهيم بن المهدىّ عند أخته عليّة وعندها أخوهما يعقوب بن المهدىّ، وكان أحذق الناس بالزّمر. فبدأت عليّة فغنّت من صنعتها وأخوها يعقوب يزمر عليها: تحبّب فإنّ الحبّ داعية الحبّ ... وكم من بعيد الدار مستوجب القرب تبصّر فإن حدّثت أنّ أخا هوى ... نجا سالما فارج النجاة من الحبّ إذا لم يكن في الحبّ سخط ولا رضا ... فأين حلاوات الرسائل والكتب وغنّى إبراهيم في صنعته وزمر عليه يعقوب: لم ينسنيك سرور لا ولا حزن ... وكيف لا، كيف ينسى وجهك الحسن ولا خلا منك قلبى لا ولا جسدى ... كلّى بكلّك مشغول ومرتهن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 215 يا فردة الحسن مالى منك مذكلفت ... نفسى بحبّك إلّا الهمّ والحزن نور تولّد من شمس ومن قمر ... حتى تكامل فيك «1» الروح والبدن قالت عريب: فما سمعت مثل ما سمعت منها قط وأعلم أنى لا أسمع مثله أبدا. وروى عن خشف الواضحيّة قالت: تماريت أنا وعريب في غناء عليّة بحضرة المتوكل أو غيره من الخلفاء. فقلت أنا: هى ثلاثة وسبعون صوتا، وقالت عريب: هى اثنان وسبعون صوتا. فقال المتوكل: غنيّا غناءها؛ فلم أزل أغنّى غناءها حتى مضى اثنان وسبعون صوتا، ولم أدر الثالث والسبعين. قالت: فقطع بى واستعلت عريب وانكسرت. قالت خشف: فلما كان الليل رأيت عليّة فيما يرى النائم، فقالت: يا خشف خالفتك عريب في غنائى. قلت: نعم يا سيّدتى. قالت: الصواب معك، أفتدرين ما الصوت الذى أنسيتيه؟ قلت: لا ولله، ولوددت أنّى فديت ما جرى بجميع ما أملك. قالت: هو: بنى الحبّ على الجور فلو ... أنصف المعشوق فيه لسمج ليس يستحسن في وصف الهوى ... عاشق يعرف تأليف الحجج وقليل الحبّ صرفا خالصا ... لك خير من كثير قد مزج وكأنها قد اندفعت تغنّى به، فما سمعت أحسن مما غنّته، وقد زادتنى فيه أشياء في نومى لم أكن أعرفها، فانتبهت وأنا لا أعقل فرحا به. فباكرت الخليفة وذكرت له القصّة. فقالت عريب: هذا شىء صنعته أنت لما جرى أمس، وأمّا الصوت فصحيح. فحلفت للخليفة بما رضى به أنّ القصّة كما حكيت. فقال: رؤياك والله أعجب، رحم الله عليّة! فما تركت ظرفها حيّة ولا ميّتة. وأجازنى جائزة سنيّة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 216 وروى أبو الفرج أيضا بسنده إلى محمد بن جعفر بن يحيى بن خالد قال: شهدت أبى جعفرا وأنا صغير وهو يحدّث جدّى يحيى بن خالد في بعض ما كان يخبره به من خلوته مع هارون الرشيد، قال: يا أبت، أخذ بيدى أمير المؤمنين وأقبل فى حجره يخترقها حتى انتهى إلى حجرة مغلقة، ففتحها بيده ودخلها ودخلت وأغلق بابها من داخل بيده، ثم صرنا إلى رواق ففتحه، وفي صدره مجلس مغلق فقعد على باب المجلس، ونقر الباب بيده نقرات فسمعنا حسّا، ثم أعاد النّقر ثانية فسمعنا صوت عود، ثم أعاد النقر ثالثة فغنّت جارية ما ظننت والله أنّ الله جلّ وعزّ خلق مثلها فى حسن الغناء وجودة الضرب. فقال [لها «1» ] أمير المؤمنين بعد أن غنّت أصواتا: غنّى صوتى؛ فغنت صوته، وهو: ومخنّث شهد الزّفاف وقبله ... غنّى الجوارى حاسرا ومنقّبا لبس الدلال وقام ينقر دفّه ... نقرا أقرّ به العيون وأطربا إنّ النساء رأينه فعشقنه ... فيشكون شدّة ما بهنّ فأكذبا قال: فطربت والله طربا هممت معه أن أنطح برأسى الحائط. ثم قال: غنّى: طال تكذيبى وتصديقى فغنّت: طال تكذيبى وتصديقى ... لم أجد عهدا لمخلوق إنّ ناسا في الهوى غدروا ... حسّنوا نقض المواثيق لا ترانى بعدهم أبدا ... أشتكى عشقا لمعشوق قال: فرقص الرشيد ورقصت معه؛ ثم قال: امض بنا، فإنى أخشى أن يبدو منّا ما هو أكثر من هذا، فمضينا. فلمّا صرنا إلى الدّهليز قال وهو قابض على يدى: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 217 هل عرفت هذه المرأة؟ فقلت: لا يا أمير المؤمنين. قال: فإنّى أعلم أنك ستسأل عنها ولا تكتم ذلك وأنا أخبرك بها، هذه علية بنت المهدىّ. وو الله لئن لفظت به بين يدى أحد وبلغنى لأقتلنّك. قال: فسمعت جدّى يقول لأبى: فقد والله لفظت به؛ وو الله ليقتلنّك، فاصنع ما أنت صانع. وأخبار عليّة وأغانيها كثيرة، وقد ذكرنا منها ما يكتفى به. قال أبو الفرج: وكان مولد عليّة سنة ستين ومائة، وتوفّيت سنة عشرة ومائتين، وقيل: سنة تسع ومائتين، ولها خمسون سنة. وكانت عند موسى بن عيسى ابن موسى بن محمد بن على بن عبد الله بن عبّاس رضى الله عنهما. وكان سبب وفاتها أنّ المأمون ضمّها اليه وجعل يقبّل رأسها ووجهها مغطّى، فشرقت من ذلك وسعلت ثم حمّت بعقب هذا أيّاما يسيرة وماتت. رحمها الله. ومنهم أبو عيسى بن الرشيد. هو أبو عيسى أحمد، وقيل: بل اسمه صالح «1» بن هارون الرشيد. وأمّه أمّ ولد بربريّة. كان من أحسن الناس وجها ومجالسة وعشرة وأمجنهم وأحدّهم نادرة وأشدّهم عبثا. وكان أبو عيسى جميل الوجه جدّا؛ فكان إذا عزم على الركوب جلس الناس له حتى يروه أكثر مما كانوا يجلسون للخلفاء. وكانت عريب المأمونية تقول: ما سمعت غناء أحسن من غناء أبى عيسى بن الرشيد، ولا رأيت وجها أحسن من وجهه. وروى أنّ الرشيد قال يوما لأبى عيسى وهو صبىّ: ليت جمالك لعبد الله! (يعنى المأمون) فقال له: يا أمير المؤمنين، على أنّ حظّه منك لى. فعجب الرشيد من جوابه على صباه وضمّه إليه وقبّله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 218 قال أبو الفرج: وكان أبو عيسى جيّد الصّنعة، وله أغان منسوبة إليه ومعروفة به. منها: رقدت عنك سلوتى ... والهوى ليس يرقد وأطار السهاد نو ... مى فنومى مشرّد أنت بالحسن منك يا ... حسن الوجه يشهد وفؤادى بحسن وجهك ... يشقى ويكمد وله غير هذا من الأصوات. قال: وكان كثير البسط والمجون والعبث. وكان المأمون أشدّ الناس حبّا له، وكان يعدّه للأمر بعده ويذكر ذلك كثيرا. حتى لقد حكى عنه أنه قال يوما: إنه ليسهل علىّ أمر الموت وفقد الملك، ولا يسهل شىء منهما على أحد؛ وذلك لمحبّتى أن يلى أبو عيسى الأمر بعدى لشدّة حبّى إياه. وكانت وفاة أبى عيسى في سنة سبع ومائتين. روى عن عبد الله بن طاهر قال: حدّثنى من شهد المأمون ليلة وهم يتراءون هلال شهر رمضان وأبو عيسى أخوه معه وهو مستلق على قفاه، فرأوه وجعلوا يدعون. فقال أبو عيسى قولا أنكر عليه؛ كأنه يسخط لورود الشهر، فما صام بعده. ونقل عنه أنه قال: دهانى «1» شهر الصوم لا كان من شهر ... ولا صمت شهرا بعده آخر الدهر فلو كان يعدينى الإمام بقدرة ... على الشهر لاستعديت «2» جهدى على الشهر فناله بعقب هذا القول صرع، فكان يصرع في اليوم مرّات حتى مات. ولمّا مات وجد المأمون عليه وجدا شديدا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 219 روى عن محمد بن عبّاد المهلّبىّ قال: لمّا مات أبو عيسى بن الرشيد دخلت على المأمون فخلعت عمامتى ونبنتها ورائى- والخلفاء لا تعزّى في العمائم- فقال لى: يا محمد، حال القدر، دون الوطر. فقلت: يا أمير المؤمنين، كلّ مصيبة أخطأتك شوى «1» ، فجعل الله الحزن لك لا عليك!. قال: فركب المأمون إلى دار أبى عيسى فحضر جهازه وصلّى عليه ونزل في قبره. وامتنع من الطعام أياما حتى خيف أن يضرّ ذلك به. قال: وما رأيت مصابا حزينا قطّ أجمل أثرا في مصيبته ولا أحرق وجدا منه، صامت ودموعه تهمى على خدّيه من غير كلح «2» ولا استنثار. وروى عن أحمد بن أبى داود قال: دخلت على المأمون وقد توفّى أخوه أبو عيسى وهو يبكى ويمسح عينيه بمنديل، فقعدت الى جنب عمرو بن مسعدة وتمثّلت قول الشاعر: نقص من الدّنيا وأسبابها ... نقص المنايا من بنى هاشم فلم يزل على تلك الحال يبكى ثم يمسح عينيه، وتمثّل: سأبكيك ما فاضت دموعى فإن تغض ... فحسبك منّى ما تجنّ الجوانح «3» كأن لم يمت حىّ سواك ولم تقم ... على أحد إلا عليك النوائح ثم التفت إلىّ وقال: هيه يا أحمد! فتمثّلت بقول عبدة بن الطبيب: عليك سلام الله قيس بن عاصم ... ورحمته ما شاء أن يترحّما تحيّة من أوليته منك نعمة ... إذا زار عن شحط بلادك سلّما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 220 فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنّه بنيان قوم تهدّما فبكى ساعة، ثم التفت إلى عمرو بن مسعدة فقال: هيه يا عمرو! فقال: نعم يا أمير المؤمنين: بكّوا حذيفة لم تبكّوا مثله ... حتى تعود قبائل لم تخلق قال: فإذا عريب وجوار معها يسمعن ما يدور بيننا؛ فقالت: اجعلوا لنا معكم فى القول نصيبا. فقال المأمون: قولى، فربّ صواب منك كثير. فقالت: كذا فليجلّ الخطب وليفدح الأمر ... فليس لعين لم يفض ماؤها عذر كأنّ بنى العبّاس يوم وفاته ... نجوم سماء خرّ من بينها البدر «1» فبكى وبكينا. ثم قال لها المأمون: نوحى، فناحت وردّ عليّها الجوارى. فبكى المأمون حتى قلت: قد فاضت نفسه وبكينا معه أحرّ بكاء، ثم أمسكت. فقال المأمون: اصنعى فيه لحنا على مذهب النّوح وغنّى به؛ ففعلت وغنّته إياه على العود. فو الذى لا يحلف بأعظم منه لقد بكينا عليه غناء أكثر مما بكينا عليه نوحا. ومنهم عبد الله بن موسى الهادى. قال أبو الفرج: كان له في الغناء صنعة حسنة، وله أصوات مذكورة، منها قوله: تقاضاك دهرك ما أسلفا ... وكدّر عيشك بعد الصّفا فلا تجزعنّ فإن الزمان ... رهين بتشتيت ما ألّفا ولما رآك قليل الهموم ... كثير الهوى ناعما مترفا ألحّ عليك بروعاته ... وأقبل يرميك مستهدفا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 221 قال: وكان عبد الله هذا من أضرب الناس بالعود وأحسنهم غناء. وكان له غلام أسود يقال له «قلم» ، فعلّمه الضرب فحذق فيه؛ فاشترته منه أمّ جعفر بثلاثمائة ألف درهم. وروى عن سليمان بن داود كاتب أمّ جعفر قال: كنت جالسا مع عبد الله بن موسى الهادى، فمرّ به خادم لصالح بن الرشيد؛ فقال له: ما اسمك؟ قال: اسمى لا تسل. فأعجبه حسنه وحسن منطقه، فقال لى: قم بنا حتى نشرب اليوم ونذكر هذا البدر، فقمت معه. فأنشدنى في ذلك اليوم: وشادن مرّ بنا ... يجرح باللّحظ المقل مظلوم خصر ظالم ... منه إذا يمشى الكفل اعتدلت قامته ... والطرف منه ما عدل بدر تراه أبدا ... طالع سعد ما أفل سألته عن اسمه ... فقال: إسمى لا تسل وطلعت في وجنتي ... هـ وردتان من خجل فقلت ما أخطا الذى ... سمّاك بل قال المثل لا تسألن عن شادن ... فاق جمالا وكمل وقال فيه: عزّ الذى تهوى وذلّ ... صبّ الفؤاد مختبل جدّ به الهجر وذا ال ... هجر اذا جدّ قتل من شادن ممنطق ... فاق جمالا وكمل تناصف الحسن به ... فلا تسل عن لا تسل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 222 وعن أحمد بن المكّى قال: دعانى عبد الله بن موسى يوما فقال لى: أتقوّم غلاما ضاربا مغنّيا قيمة عدل لا حيف فيها على البائع ولا على المشترى؟ فقلت نعم. فأخرج إلىّ ابنه القاسم، وكنت قد عرفت خبره وهو أحسن من القمر ليلة البدر، فأخذ عودا يضرب به؛ فأكببت على يديه أقبلّهما فقال لى عبد الله: أتقبّل يد غلام مملوك! فقلت: بأبى وأمى هو من مملوك! وقبّلت رجله أيضا. فقال: أمّا إذ عرفته فأحبّ أن تضاربه، ففعلت. فلما رأى الغلام زيادتى في الضرب عليه اغتمّ وأقبل على أبيه فقال له كالمعتذر إليه: يا أبت، أنا متلذّذ وهذا متكسّب. فضحكت وقلت: هو كذلك يا سيّدى. وعجبت من حدّة جوابه معتذرا على صغر سنه. قال عبد الله بن حبيب: كان عبد الله بن موسى الهادى معربدا، وكان قد أعضل» المأمون مما يعربد عليه إذا شرب معه؛ فأمر به أن يحبس في منزله فلا يخرج منه، وأقعد على بابه حرسا؛ ثم تذمّم من ذلك فأظهر له الرضا وصرف الحرس عن بابه. ثم نادمه فعربد عليه أيضا وكلّمه بكلام أحفظه. وكان عبد الله مغرما بالصيد؛ فأمر المأمون خادما من خواصّ خدمه يقال له حسن «2» فسمّه في درّاج؛ فلما أكله أحسّ بالسمّ، فركب في الليل وقال لأصحابه: هو آخر ما ترونى، ومات بعد أيام. وأكل معه خادمان، فمات أحدهما لوقته، وضنى الآخر ثم مات بعد مدّة. ومنهم عبد الله بن محمد الأمين. قال أبو الفرج الأصفهانىّ: كان عبد الله بن محمد الأمين ظريفا غزلا يقول شعرا ليّنا ويصنعه صنعة صالحة. وكان بينه وبين أبى نهشل بن حميد مودّة؛ فاعترض عبد الله جارية مغنّية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 223 لبعض نساء بنى هاشم وأعطى بها مالا عظيما. وعرفت مولاتها منه رغبة فيها فزادت عليه في السّوم فتركها؛ فاشتراها أخ لأبى نهشل، فتبعتها نفس عبد الله، فسأل أبا نهشل أن يسأل أخاه النزول عنها؛ فسأله ذلك فوعده ودافعه. فكتب عبد الله إلى أبى نهشل: يابن حميد يا أبا نهشل ... مفتاح باب الحدث المقفل يا أكرم الناس ودادا وأر ... عاهم لحقّ ضائع مهمل أحسنت في ودّى وأجملت بل ... جزت فعال المحسن المجمل بيتك في ذى يمن شامخ ... تقصر عنه قنّتا يذبل خلفت فينا حاتما ذا النّدى ... وجدت جود العارض المسبل أىّ أخ أنت لذى وحدة ... تركته بالعزّ في جحفل نجوم حظّى منك مسعودة ... فيما أرجّى ليس بالأقل فصدّق الظنّ بما قلته ... وسهّل الأمر به يسهل لا تحرمنّى ولديك المنى ... بالله صيد الرّشأ الأكحل رميت منه بسهام الهوى ... وما درى ما الرّمى في مقتلى أدنيتنى بالوعد في صيده ... إدناء «1» عطشان من المنهل ثم تناسيت وأسلمتنى ... إلى مطال موحش المنزل تركتنى في لجّة عائما ... لا أعرف المدبر من مقبل صرّح بأمر واضح بيّن «2» ... لا خير في ذى لبس مشكل قال: فلم يزل أبو نهشل بأخيه حتى نزل له عنها. ولعبد الله هذا صنعة منها قوله: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 224 ألا يادير حنظلة المفدّى ... لقد أورثتنى سقما وكدّا أزفّ من الفرات اليك زقّا ... وأجعل حوله «1» الورد المندّى ومنهم أبو عيسى بن المتوكل. قال عبد الله بن المعتز: جمع لأبى عيسى بن المتوكل صنعة مقدارها أكثر من ثلاثمائة صوت، منها الجيّد الصنعة ومنها المتوسّط. وقال النّميرىّ: سمعت أبا عيسى بن المتوكل يقول: إذا أتممت صنعة ثلاثمائة وستين صوتا عدد أيام السنة تركت الصنعة. فلما أتمها ترك الصنعة. فمنها قوله في شعر علىّ بن الجهم: هى النفس ما حمّلتها تتحمّل ... وللدهر أيّام تجور وتعدل وعاقبة الصبر الجميل جميلة ... وأفضل أخلاق الرجال التجمّل قال أبو الفرج الأصفهانى: وهو لعمرى من جيّد الغناء وفاخر الصنعة، ولو لم «2» يصنع غيره لكفى. ومنهم عبد الله بن المعتز. هو أبو العباس عبد الله بن المعتز بالله العباسىّ. قد وصفه أبو الفرج الأصفهانى فقال: وأمره مع قرب عهده بعصرنا مشهور فى فضائله وأدبه شهرة يشترك في أكثرها الخاصّ والعامّ، وشعره وإن كان فيه رقّة الملوكية وغزل الظرفاء وهلهلة المحدثين، فإنّ فيه أشياء كثيرة تجرى في أسلوب المجيدين، ولا تقصر عن مدى السابقين وأشياء ظريفة من أشعار الملوك في جنس ما هم بسبيله، ليس عليه أن يتشبّه فيها بفحول الجاهلية. وأطنب في وصفه وتقريظه، وهو فوق ما قال. ثم قال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 225 وكان عبد الله حسن العلم بصناعة الموسيقي والكلام على النّغم وعللها؛ وله فى ذلك وفي غيره من الآداب كتب مشهورة ومراسلات جرت بينه وبين عبيد الله ابن عبد الله بن طاهر وبين بنى حمدون وغيرهم تدلّ على فضله وغزارة أدبه. وذكر منها شيئا ليس هذا موضع إيراده. ثم قال: ومن صنعة عبد الله بن المعتز في شعره: هل ترجعنّ ليال قد مضين لنا ... والدار جامعة أزمان أزمانا قال أبو الفرج: ومن صنعته الظريفة الشكل مع جودتها: وابلائى من محضر ومغيب ... وحبيب منّى بعيد قريب لم ترد ماء وجهه العين إلّا ... شرقت قبل ايّها برقيب قال: ومن صنعته التى تظارف فيها وملح: زاحم كمّى كمّه فالتويا ... وافق قلبى قلبه فاستويا وطالما ذاقا الهوى فاكتويا ... يا قرّة العين ويا همّى ويا وحكى عن جعفر بن قدّامة قال: كان لعبد الله بن المعتز غلام يحبّه، فغضب الغلام عليه، فجهد أن يترضّاه، فلم يكن له فيه حيلة. ودخلت عليه فأنشدنى فيه: بأبى أنت قد تما ... ديت في الهجر والغضب واصطبارى على صدو ... دك يوما من العجب ليس لى إن فقدت وج ... هك في العيش من أرب رحم الله من أعا ... ن على الصّلح واحتسب قال: فمضيت إلى الغلام، فلم أزل أداريه وأرفق به حتى ترضّيته له وجئته به؛ فمرّ لنا يومئذ أطيب يوم وأحسنه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 226 ذكر من غنّى من الأشراف والعلماء رحمهم الله كان ممن غنى من الأشراف والعلماء على ما نقل إلينا من أخبارهم: عبد العزيز بن المطلب «1» . روى الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر بن على المقدسىّ رحمه الله بسند رفعه إلى محمد بن مسلمة قال حدّثنى أبى قال: أتيت عبد العزيز بن المطلب أسأله عن بيعة الجنّ للنبىّ صلّى الله عليه وسلّم بمسجد الأحزاب ما كان بدؤها، فوجدته مستلقيا وهو يغنّى: فما روضة بالحزن طيّبة الثّرى ... يمجّ النّدى جثجاثها وعرارها «2» بأطيب من أردان عزّة موهنا ... وقد أوقدت بالمندل الرّطب نارها من الخفرات البيض لم تلق شقوة ... وبالحسب المكنون صاف نجارها فإن برزت كانت لعينيك قرّة ... وإن غبت عنها لم يغمّك عارها «3» فقلت له: تغنّى أصلحك الله وأنت في جلالتك وشرفك! أما والله لأحدونّ بها ركبان نجد. قال: فو الله ما أكترث وعاد يتغنّى: فما ظبية أدماء خفّاقة الحشى ... تجوب بظلفيها بطون الخمائل بأحسن منها إذ تقول تدلّلا ... وأدمعها يذرين حشو المكاحل تمتّع بذا اليوم القصير فإنه ... رهين بأيّام الشهور الأطاول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 227 قال: فندمت على قولى له، فقلت: أصلحك الله، أتحدّثنى في هذا بشىء! فقال: نعم، حدّثنى أبى قال: دخلت على سالم بن عبد الله بن عمر- رضى الله عنهم- وأشعب يغنّيه: معقربة كالبدر سنّة «1» وجهها ... مطهّرة الأثواب والعرض وافر لها نسب زاك وعرض مهذّب ... وعن كل مكروه من الأمر زاجر من الخفرات البيض لم تلق ريبة ... ولم يستملها عن تقى الله شاعر فقال له سالم رضى الله عنه: زدنى. فقال: ألّمت بنا والليل داج كأنه ... جناح غراب عنه قد نفض القطرا فقلت أعطّار ثوى في رحالنا ... وما احتملت ليلى سوى ريحها عطرا فقال سالم: أما والله لولا أن تداوله الرّواة لأجزلت جائزتك، فلك من هذا الأمر مكان. ومنهم ابراهيم بن سعد «2» . هو أبو إسحاق إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزّهرىّ. كان من العلماء الثّقات المحدّثين. سمع أباه وابن شهاب الزهرىّ وهشام بن عروة وصالح بن كيسان ومحمد بن إسحاق بن يسار. روى عنه يزيد بن عبد الله بن الهاد وشعبة بن الحجاج والليث بن سعد، وابناه يعقوب وسعد «3» ابنا إبراهيم وعبد الرحمن بن مهدىّ ويزيد بن هارون ويونس المؤدّب وأبو داود الطيالسىّ وسليمان بن داود الهاشمى وعبد العزيز الآدمىّ وعلىّ بن الجعد ومحمد بن جعفر الور كانىّ وأحمد بن حنبل وغيرهم. كان يبيح السماع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 228 ويضرب بالعود ويغنّى عليه. وله في ذلك قصّة رواها أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسىّ بسند رفعه إلى سعيد بن كثير بن عفير قال: قدم إبراهيم بن سعد الزهرىّ العراق سنة أربع وثمانين ومائة، فأكرمه الرشيد وأظهر برّه. وسئل عن الغناء فأفتى بتحليله؛ فأتاه بعض أهل الحديث ليسمع منه أحاديث الزهرىّ، فسمعه يتغنّى، فقال: لقد كنت حريصا على أن أسمع منك، فأمّا الآن فلا سمعت منك حديثا أبدا. قال: إذا لا أفقد إلّا شخصك. علىّ وعلىّ ألّا أحدّث ببغداد ما أقمت حديثا واحدا حتى أغنّى قبله. وشاعت هذه الحكاية ببغداد، فبلغت الرشيد، فدعا به فسأله عن حديث المخزوميّة التى قطعها النبىّ صلّى الله عليه وسلم في سرقة الحلىّ؛ فدعا بعود. فقال الرشيد: أعود المجمر؟ قال: لا ولكن عود الطّرب، فتبسّم. ففهمها إبراهيم بن سعد فقال: لعلك بلغك يا أمير المؤمنين حديث السّفيه الذى آذانى بالأمس وألجأنى إلى أن حلفت. قال نعم. فدعا له الرشيد بعود فأخذه وغنّى: يا أمّ طلحة إنّ البين قد أفدا ... ملّ الثّواء لأن كان الرحيل غدا فقال له الرشيد: من كان من فقهائكم ينكر السماع؟ قال: من ربط الله على قلبه. قال: فهل بلغك عن مالك في هذا شىء؟ فقال: لا والله، إلا أن أبى أخبرنى أنهم اجتمعوا في مدعاة كانت في بنى يربوع وهم يومئذ جلّة «1» ، ومالك أقلّهم في فقه وقدر، ومعهم دفوف ومعازف وعيدان يغنّون ويلعبون. ومع مالك دفّ مربّع وهو يغنيهم: سليمى أزمعت بينا ... وأين لقاؤها أينا وقد قالت لأتراب ... لها زهر تلاقينا تعالين فقد طاب ... لنا العيش تعالينا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 229 فضحك الرشيد ووصله بمال عظيم، ومات إبراهيم في هذه السنة وهو ابن خمس وسبعين سنة. قال: وكان ابراهيم بن سعد يبالغ فيه إلى هذا الحدّ. وقد أجمعت الأئمة على ثقته وعدالته والرواية عنه. واتّفق البخارىّ ومسلم على إخراج حديثه فى الصحيح. ولم تسقط عدالته بفعله عند أهل العلم، بل قلّد قضاء بغداد على جلالتها، وقلّد أبوه القضاء بالمدينة على شرفها. وروى أبو الفرج الأصفهانى بسند رفعه إلى إسحاق بن إبراهيم الموصلى قال: شهدت إبراهيم بن سعد يحلف للرشيد وقد سأله عمن بالمدينة ينكر الغناء، فقال: من قنّعه الله خزيه: مالك بن أنس؛ ثم حلف أنه سمع مالكا يغنّى: سليمى أزمعت بينا ... فأين لقاؤها أينا فى عرس لرجل من أهل المدينة يكنى أبا حنظلة. وروى أيضا بسنده إلى الحسين بن دحمان الأشقر قال: كنت بالمدينة، فخلا لى الطريق في نصف النهار، فجعلت أتغنّى: ما بال أهلك يا رباب ... خزرا كأنهم غضاب قال: فإذا خوخة قد فتحت وإذا وجه قد بدا تتبعه لحية حمراء، فقال: يا فاسق! أسأت التأدية، ومنعت القائلة، وأذعت الفاحشة؛ ثم اندفع يغنّيه؛ فظننت أنّ طويسا قد نشر يغنّيه، فقلت: أصلحك الله! من أين لك هذا الغناء؟ قال: نشأت وأنا غلام أتبع المغنّين وآخذ عنهم؛ فقالت لى أمّى: يا بنىّ، إن المغنّى إذا كان قبيح الوجه لم يلتفت إلى غنائه، فدع الغناء واطلب الفقه فإنه لا يضرّ معه قبح الوجه. فتركت المغنّين واتبعت الفقهاء، فبلغ الله بى ما ترى. فقلت: فأعد جعلت فداءك. فقال: لا ولا كرامة! أتريد أن تقول أخذته عن مالك بن أنس! وإذا هو مالك ولم أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 230 ومنهم محمد بن إسماعيل بن علىّ بن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما. كان عالما بالفقه والغناء جميعا. وكان يحيى بن أكثم وصفه للمأمون بالفقه، ووصفه أحمد بن يوسف بالغناء. فقال المأمون: ما أعجب ما اجتمع فيه العلم بالعلم والغناء!. ذكر من غنّى من الأعيان والأكابر والقوّاد ممن نسبت له صنعة في الغناء منهم أبو دلف العجلىّ. هو أبو دلف القاسم بن عيسى بن إدريس أحد بنى عجل بن لجيم بن مصعب بن علىّ بن بكر بن وائل. كان محلّه من الشجاعة وبعد الهمة وعلوّ المحلّ عند الخلفاء وعظم الغناء في المشاهد وحسن الأدب وجودة الشعر محلا كبيرا ليس لكثير من أمثاله. قال أبو الفرج الأصبهانىّ: وله صنعة حسنة. فمن جيّد صنعته قوله- والشعر له أيضا-: بنفسى يا جنان وأنت منّى ... مكان الرّوح من جسد الجبان ولو أنى أقول مكان نفسى ... خشيت عليك بادرة الزمان لإقدامى إذا ما الخيل حامت ... وهاب كماتها حرّ الطّعان قال: وكان أحمد بن أبى داود ينكر أمر الغناء إنكارا شديدا؛ فأعلمه المعتصم أن أبا دلف صديقه يغنّى. فقال: ما أراه مع عقله يفعل ذلك! فستر المعتصم أحمد بن أبى داود في موضع وأحضر أبا دلف وأمره أن يغنّى ففعل ذلك وأطال، ثم أخرج أحمد بن أبى داود عليه؛ فخرج والكراهة ظاهرة في وجهه. فلما رآه أحمد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 231 قال: سوءة لهذا من فعل! أبعد [هذه «1» ] السنّ وهذا المحلّ تصنع «2» بنفسك ما أرى! فخجل أبو دلف وتشوّر «3» وقال: إنهم ليكرهونى على ذلك. فقال: هبهم أكرهوك على الغناء أهم أكرهوك على الإحسان فيه والإصابة!. قال: وكان أبو دلف ينادم الواثق. فوصف للمعتصم فأحبّ أن يسمعه، وسأل الواثق عنه فقال له: يا أمير المؤمنين، أنا على نيّة الفصد غدا وهو عندى. وفصد الواثق فأتاه أبو دلف وأتته رسل الخليفة بالهدايا؛ فأعلمهم الواثق حصول أبى دلف عنده. فلم يلبث أن أقبل الخدم يقولون: قد جاء الخليفة. فقام الواثق وكلّ من كان عنده حتى تلقّوه؛ وجاء حتى جلس، وأمر بندماء الواثق فردّوا إلى مجالسهم. وأقبل الواثق على أبى دلف فقال: يا قاسم، غنّ أمير المؤمنين. فقال: صوتا بعينه أو ما اخترت؟ قال: بل من صنعتك في شعر جرير. فغنّى: بان الخليط برامتين فودّعوا ... أو كلّما اعتزموا لبين تجزع كيف العزاء ولم أجد مذ غبتم ... قلبا يقرّ ولا شرابا ينقع فقال المعتصم: أحسن أحسن- ثلاثا- وشرب رطلا. ولم يزل يستعيده حتى شرب تسعة أرطال. ثم دعا بحمار فركبه، وأمر أبا دلف أن ينصرف معه؛ فخرج معه فثبّت في ندمائه، وأمر له بعشرين ألف دينار. قال: وكان أبو دلف جوادا ممدّحا. وفيه يقول علىّ بن جبلة من قصيدة بقول فيها: ذاد ورد الغىّ عن صدره ... وارعوى واللهو من وطره ندمى أنّ الشباب مضى ... لم أبلّغه مدى أشره الجزء: 4 ¦ الصفحة: 232 حسرت عنّى بشاشته ... وذوى المحمود من ثمره ودم أهدرت من رشأ ... لم يرد عقلا على هدره جاء منها: دع جدا قحطان أو مضر ... فى يمانيه وفي مضره وامتدح من وائل رجلا ... عصر «1» الآفاق من عصره ومنها: المنايا في مقانبه ... والعطايا في ذرا حجره ملك تندى أنامله ... كانبلاج النّوء عن مطره مستهلّ عن مواهبه ... كابتسام الرّوض عن زهره ومنها: إنما الدنيا أبو دلف ... بين باديه ومحتضره فإذا ولّى أبو دلف ... ولّت الدنيا على أثره كلّ من في الأرض من عرب ... بين باديه إلى حضره مستعير منه مكرمة ... يكتسيها يوم مفتخره وهذان البيتان اللذان أحفظا المأمون على علىّ بن جبلة حتى سلّ لسانه من قفاه. وقوله فيه: أنت الذى تنزل الأيام منزلها ... وتنقل الدهر من حال إلى حال وما مددت مدى طرف إلى أحد ... إلّا قضيت بأرزاق وآجال تزورّ سخطا فتضحى البيض ضاحكة ... وتستهل فتبكى أعين المال وكان سبب مدح علىّ بن جبلة أبا دلف بقوله: إنما الدنيا أبو دلف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 233 ما رواه أبو الفرج الأصفهانى بسنده عن علىّ بن جبلة قال: زرت أبا دلف بالجبل، فكان يظهر من برّى وإكرامى والتحفّى بى أمرا عظيما مفرطا حتى تأخرت عنه حياء، فبعث إلىّ معقلا وقال: يقول لك الأمير: قد انقطعت عنّى، وأظنّك قد استقللت برّى، فلا يغضبنك ذلك فإنى سأزيد فيه حتى ترضى. فقلت: والله ما قطعنى إلا الإفراط في البرّ، وكتبت إليه: هجرتك لم أهجرك من كفر نعمة ... وهل يرتجى نيل الزيادة بالكفر ولكننى لمّا أتيتك زائرا ... فأفرطت في برّى عجزت عن الشكر فم الآن لا آتيك إلّا مسلّما ... أزورك في الشهرين يوما وفي الشهر فإن زدتنى برّا تزايدت جفوة ... ولم تلقنى طول الحياة إلى الحشر فلما قرأها معقل استحسنها وقال: أحسنت والله! أمّا إن الأمير يعجبه هذا من المعانى. فلما أوصلها إلى أبى دلف قال: قاتله الله! ما أشعره وأرقّ معانيه! وأجابنى لوقته- وكان حسن البديهة حاضر الجواب-: ألا ربّ طيف طارق قد بسطته ... وآنسته قبل الضّيافة بالبشر أتانى يرجّينى فما حال دونه ... ودون القرى والعرف من نائلى سترى وجدت له فضلا علىّ بقصده ... إلىّ وبرّا زاد فيه على برّى فزوّدته ما لا يدوم بقاؤه ... وزوّدنى مدحا يدوم على الدهر قال: وبعث بالأبيات وصيفا وبعث إلىّ معه بألف دينار. فقلت حينئذ: إنما الدنيا أبو دلف الأبيات. وروى أبو الفرج عن أحمد بن عبيد الله بن عمّار قال: كنا عند أبى العبّاس المبرّد يوما وعنده فتى من ولد أبى البخترىّ وهب بن وهب، أمرد حسن الوجه، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 234 وفتى من ولد أبى دلف البجلىّ شبيه به في الجمال. فقال المبرّد لابن أبى البخترىّ: أعرف لجدّك قصّة ظريفة من الكرم حسنة لم يسق إليها. قال: وما هى؟ قال: دعى رجل من أهل الأدب إلى بعض المواضع فسقوه نبيذا غير الذى يشربون منه؛ فقال فيهم: نبيذان في مجلس واحد ... لإيثار مثر على مقتر فلو كان فعلك ذا في الطعام ... لزمت قياسك في المسكر ولو كنت تفعل فعل الكرام ... صنعت صنيع أبى البخترى تتّبع إخوانه في البلاد ... فأغنى المقلّ عن المكثر فبلغت الأبيات أبا البخترىّ فبعث إليه ثلاثمائة دينار. قال ابن عمار: فقلت وقد فعل جدّ هذا الفتى في هذا المعنى ما هو أحسن من هذا. قال: وما فعل؟ قلت: بلغه أنّ رجلا افتقر من ثروة، فقالت له امرأته، افترض في الجند، فقال: إليك عنّى فقد كلّفتنى شططا ... حمل السلاح وقول الدّارعين قف تمشى المنايا إلى قوم فأكرهها ... فكيف أمشى إليها عارى الكتف حسبت أنّ نفاد المال غيّرنى ... أو أنّ روحى في جنبى أبى دلف فأحضره أبو دلف وقال: كم أمّلت امرأتك أن يكون رزقك؟ قال: مائة دينار، قال: كم أمّلت أن تعيش؟ قال: عشرين سنة. قال: فذلك لك على ما أمّلت وأمّلت امرأتك في مالنا دون مال السلطان، وأمر بإعطائه إياه. قال: فرأيت وجه ابن أبى دلف يتهلّل وانكسر ابن أبى البخترىّ. وهذه الأبيات رويت لابن أبى فنن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 235 ومنهم أخوه معقل بن عيسى. كان فارسا شاعرا جوادا مغنّيا فهما بالنّغم والوتر، ذكره الجاحظ مع ذكر أخيه أبى دلف. وهو القائل لمخارق- وقد كان زار أبا دلف بالجبل ثم رجع الى العراق، وله في ذلك غناء-: لعمرى لئن قرّت بقربك أعين ... لقد سخنت بالبعد عنك عيون فسر أو أقم، وقف عليك مودّتى ... مكانك من قلبى عليك مصون فما أوحش الدنيا إذا كنت نازحا ... وما أحسن الدنيا بحيث تكون ومنهم عبد الله بن طاهر بن الحسين وابنه عبيد الله. فأمّا عبد الله فكان محلّه من علوّ المنزلة وعظم القدر والتمكّن عند الخلفاء ما هو مشهور مذكور فى أخبارهم. وتقلّد الولايات الكبيرة مثل مصر والجزيرة وما يلى ذلك، ثم نقل إلى خراسان. وله عطايا وهبات وصلات لا ينكرها أحد. ومحلّه من الشجاعة والإقدام معروف. وكان يعتنى بالغناء ويصنعه، إلا أنه كان يترفّع عن ذكره والاعتراف به ونسبته إليه. قال أبو الفرج: والأصوات التى غنّى فيها عبد الله بن طاهر كثيرة. وكان ابنه عبيد الله إذا ذكر شيئا منها من صنعته قال: الغناء للدار الكبيرة، وإذا ذكر شيئا من صنعة نفسه قال: الغناء للدار الصغيرة. فمن الأصوات التى صنع فيها عبد الله بن طاهر قوله: هلّا سقيتم بنى حزم «1» أسيركم ... نفسى فداؤك من ذى غلّة صادى الطاعن الطّعنة النجلاء يتبعها ... مضرّج بعد ما جادت بإزباد قال: فقد جاء به عبد الله صحيح العمل مزدوج النغم [بين «2» ] لين وشدّة على رسم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 236 الحذّاق القدماء. قال عبيد الله- وذكر صوتا من أصواته-: لمّا صنع أبى هذا الصوت لم يحبّ أن يسمع عنه شىء من الغناء ولا ينسب إليه؛ لأنه كان يترفّع «1» عن ذلك، وما جسّ بيده وترا قطّ ولا تعاطاه، ولكنه كان يعلم من هذا الشأن بطول الدّربة وحسن الثقافة ما لا يعرفه كثير. قال: وبلغ من علم ذلك إلى أن صنع في أبيات أصواتا كثيرة، فألقاها على جواريه، فأخذتها عنه وغنّين بها وسمعها الناس منهنّ [وممن أخذ عنهنّ. فلما أن صنع هذا الصوت: هلا سقيتم بنى سهم أسيركم ... نفسى فداؤك من ذى غلّة صادى «2» ] نسبه إلى مالك بن أبى السمح. وكانت لآل الفضل بن الربيع جارية يقال لها راحة «3» ، وكانت ترغب إلى عبد الله لمّا ندبه المأمون إلى مصر، وكانت تغنّيه؛ وأخذت هذا الصوت عن جواريه، وأخذه المغنون عنها، وروى لمالك بن أبى السمح مدّة. ثم قدم عبد الله العراق، فحضر مجلس المأمون وغنّى الصوت بحضرته ونسب إلى مالك؛ فضحك عبد الله ضحكا كثيرا؛ فسئل عن القصة فصدق فيها «4» واعترف بصنعة الصوت. وكشف المأمون عن القصة؛ فلم يزل كلّ من سئل عنه يخبر عمن «5» أخذه، فينتهى بالقصة إلى راحة ويقف فلا يعدوها. فأحضرت راحة وسئلت فأخبرت بقصته؛ فعلم أنه من صنعته حينئذ بعد أن جاز على إسحاق وطبقته أنه لمالك. ويقال: إنه لم يعجب من شىء عجبه من حذق عبد الله بمذاهب الأوائل وحكاياتهم. وأمّا عبيد الله، ويكنى أبا أحمد. قال أبو الفرج الأصبهانى: له محلّ من الأدب والتصرّف في فنونه ورواية الشعر وقوله والعلم باللغة وأيام الناس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 237 وعلوم الأوائل من الفلاسفة «1» فى الموسيقى والهندسة وغير ذلك [مما «2» ] يجلّ عن الوصف ويكثر ذكره. وله صنعة في الغناء حسنة متقنة عجيبة [تدلّ على ما ذكرناه هاهنا من توصّله «3» ] إلى ما عجز عنه الأوائل من جمع النّغم كلها في صوت واحد تتّبعه هو «4» وأتى به على ما فصّله فيها وطلبه منها. وكان المعتضد بالله ربما أراد أن يصنع في بعض الأشعار غناء ويحضره أكابر المغنّين فيعدل عنهم إليه فيصنع فيه أحسن صنعة، ويترفّع عن إظهار نفسه بذلك فيومىء إلى أنه من صنعة جاريته ساجى «5» . وسنذكر ساجى إن شاء الله تعالى في أخبار القيان، وكانت تخريج عبيد الله وتأديبه. قال: ولمّا اختلّت حال عبيد الله كان المعتضد بالله يتفقّده بالصّلات. ومن أصوات عبيد الله التى جمع فيها النّغم العشر قوله في شعر إبراهيم بن علىّ بن هرمة: وإنك إذ أطمعتنى منك بالرّضا ... وأيأستنى من بعد ذلك بالغضب كممكنة من درّها كفّ حالب ... ودافقة من بعد ذلك ما حلب وأخبار عبيد الله كثيرة سنذكر منها في هذا الباب في أخبار ساجى طرفا، ونورد منها إن شاء الله تعالى في فنّ التاريخ ما يناسب. وأستغفر الله العظيم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 238 ذكر أخبار المغنّين الذين نقلوا الغناء من الفارسيّة إلى العربيّة ومن أخذ عنهم ومن اشتهر بالغناء والغناء قديم في الفرس والروم، ولم يكن للعرب قبل ذلك إلا الحداء والنشيد، وكانوا يسمّونه «الركبانية» . وأوّل من نقل الغناء العجمىّ إلى العربىّ من أهل مكة «سعيد بن مسجح» ومن أهل المدينة «سائب خاثر» . وأوّل من صنع الهزج «طويس» . ولنبدأ بذكر أخبار هؤلاء ثم نذكر من أخذ عنهم إن شاء الله تعالى. ذكر أخبار سعيد بن مسجح هو أبو عثمان سعيد بن مسجح، مولى بنى جمح، وقيل: مولى بنى مخزوم، وقيل: مولى بنى نوفل بن الحارث بن عبد المطّلب. مكّى أسود- وقيل: أصفر- حسن اللّون. وقيل: كان مولّدا، يكنى أبا عيسى. وقيل: كان هو وابن سريح لرجل واحد. مغنّ متقدّم من فحول المغنّين وأكابرهم. وهو أوّل من وضع الغناء منهم، وأوّل من غنّى الغناء العربىّ بمكة؛ وذلك أنه مرّ بالفرس وهم يبنون المسجد الحرام في أيام عبد الله بن الزّبير، فسمع غناءهم بالفارسيّة فقلبه في شعر عربىّ، ثم رحل إلى الشأم فأخذ ألحان الرّوم والبربطية والأسطو خوسيّة «1» ، وانقلب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 239 إلى فارس فأخذ غناء كثيرا وتعلّم الضرب، ثم قدم إلى الحجاز وقد أخذ محاسن تلك النّغم وألقى منها ما استقبحه من النّبرات والنّغم؛ وكان أوّل من فعل ذلك، وتبعه الناس بعد؛ وعلّم ابن سريج، وعلّم ابن سريح الغريض. قالوا: وكان في صباه فطنا ذكيّا، وكان مولاه معجبا به، فكان يقول: ليكونن لهذا الغلام شأن، وما يمنعنى من عتقه إلّا حسن فراستى فيه، ولئن عشت لأتعرّفنّ ذلك، وإن متّ قبله فهو حرّ. فسمعه مولاه يوما يتغنّى بشعر ابن الرّقاع يقول: ألمم على طلل عفا متقادم ... بين الذّؤيب «1» وبين غيب النّاعم لولا الحياء وأنّ رأسى قد عسا ... فيه المشيب لزرت أمّ القاسم فدعاه مولاه فقال: أعد يا بنىّ؛ فأعاده فإذا هو أحسن مما ابتدأ به، وقال: إنّ هذا لبعض ما كنت أقول. ثم قال له: أنّى لك هذا؟ قال: سمعت هذه الأعاجم تتغنّى بالفارسيّة فقلبتها في هذا الشعر. قال: فأنت حرّ لوجه الله. فلزم مولاه وكثر أدبه واتّسع في غنائه وشهر بمكة وأعجبوا به. فدفع إليه مولاه عبيد بن سريج وقال: يا بنىّ علّمه واجتهد فيه. وكان ابن سريج أحسن الناس صوتا، فتعلّم منه ثم برّز عليه. وقد قيل: إنه إنما سمع الغناء من الفرس لمّا أمر معاوية ببناء دوره بمكة التى يقال لها «الرّقط» ، وكان قد حمل إليها بنّائين من الفرس الذين كانوا بالعراق فكانوا يبنونها، وكان سعيد بن مسجح يأتيهم فيسمع غناءهم على بنائهم؛ فما استحسن من ألحانهم أخذه ونقله إلى الشعر العربىّ، ثم صاغ على نحو ذلك. وكان من قديم غنائه الذى صنعه على تلك الألحان شعر الأحوص، وهو: أسلام إنك قد ملكت فأسجحى ... قد يملك الحرّ الكريم فيسجح منّى على عان أطلت عناءه ... فى الغلّ عندك والعناة تسرّح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 240 إنى لأنصحكم وأعلم أنّه ... سيّان عندك من يغشّ وينصح وإذا شكوت إلى سلامة حبّها ... قالت أجدّ منك ذا أم تمزح وهذا من أقدم الغناء العربىّ المنقول عن الفارسىّ. قال: وعاش سعيد بن مسجح حتى لقيه معبد وأخذ عنه في أيام الوليد بن عبد الملك. ومن أخبار سعيد مارواه أبو الفرج الأصفهانىّ بسند رفعه قال: كتب عامل لعبد الملك بن مروان بمكة إليه أنّ رجلا أسود يقال له سعيد بن مسجح قد أفسد فتيان قريش وأنفقوا عليه أموالهم. فكتب إليه: أن اقبض ماله وسيّره إلىّ. فتوجّه ابن مسجح الى الشأم؛ فصحبه رجل له جوار مغنّيات في الطريق. فقال له: أين تريد؟ فأخبره الخبر وقال: أريد الشأم؛ فصحبه حتى بلغا دمشق، فدخلا مسجدها فسألا: من أخصّ الناس بأمير المؤمنين؟ فقالوا: هؤلاء النفر من قريش وبنو عمّه. فوقف ابن مسجح عليهم فسلّم، ثم قال: يا فتيان، هل فيكم من يضيف رجلا غريبا من أهل الحجاز؟ فنظر بعضهم إلى بعض وكان عليهم موعد أن يذهبوا إلى قينة يقال لها «برق الأفق» ، فتثاقلوا به إلّا فتى منهم تذمّم» فقال له: أنا أضيفك، وقال لأصحابه: انطلقوا أنتم وأنا أذهب مع ضيفى. فقالوا: لا، بل تجىء معنا أنت وضيفك. فذهبوا جميعا الى بيت القينة. فلما أتوا بالغداء قال لهم سعيد: إنى رجل أسود، ولعل فيكم من يقذرنى، فأنا أجلس وآكل ناحية وقام؛ فاستحيوا منه وبعثوا له بما أكل. فلما صاروا إلى الشّراب قال لهم مثل ذلك ففعلوا. ثم أخرجوا جاريتين، فجلستا على سرير قد وضع لهما فغنّتا إلى العشاء ثم دخلتا؛ وخرجت جارية حسنة الوجه والهيئة وهما معها فجلستا أسفل السرير عن يمينه وشماله وجلست هى على السرير. قال ابن مسجح: فتمثلت هذا البيت: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 241 فقلت أشمس أم مصابيح بيعة ... بدت لك خلف السّجف أم أنت حالم فغضبت الجارية وقالت: أيضرب مثل هذا الأسود بى الأمثال! فنظروا إلىّ نظرا منكرا، ولم يزالوا يسكّنونها. ثم غنّت صوتا. قال ابن مسجح: فقلت: أحسنت والله! فغضب مولاها وقال: أمثل هذا الأسود يقدم على جاريتى! فقال لى الرجل الذى أنزلنى عنده: قم فانصرف إلى منزلى، فقد ثقلت على القوم. فذهبت أقوم. فتذمّم القوم وقالوا: بل أقم وأحسن أدبك: فأقمت. فغنّت، فقلت: أخطأت والله وأسأت! ثم اندفعت فغنّيت الصوت؛ فوثبت الجارية فقالت لمولاها: هذا أبو عثمان سعيد بن مسجح. فقلت: إى والله، أنا هو، والله لا أقيم عندكم ووثبت؛ فوثب القرشيون: فقال هذا: تكون عندى، وقال هذا: تكون عندى، [وقال هذا: بل عندى «1» ] . فقلت: والله لا أقيم إلا عند سيّدكم! (يعنى الرجل الذى أنزله منهم) وسألوه عما أقدمه. فأخبرهم. فقال له صاحبه: إنى أسمر الليلة عند أمير المؤمنين، فهل تحسن أن تحدو؟ فقال: لا والله، ولكنى أنا حداء. فقال له: إنّ منزلى بحذاء منزل أمير المؤمنين، فإذا وافقت منه طيب نفس أرسلت إليك. ومضى إلى عبد الملك. فلما رآه طيّب النفس أرسل إلى ابن مسجح؛ فأخرج رأسه من وراء شرف القصر ثم حدا: إنك يا معاذ يابن الفضّل «2» ... إن زلزل الأقدام لم تزلزل عن دين موسى والكتاب المنزل ... تقيم أصداغ «3» القرون الميّل للحق حتى ينتحوا للأعدل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 242 فقال عبد الملك للقرشىّ: من هذا؟ فقال: رجل حجازىّ قدم علىّ. قال: أحضره، فأحضره. ثم قال له: [هل «1» ] تغنّى غناء الرّكبان؟ فغنّى. فقال له: هل تغنّى الغناء المتقن؟ قال نعم. قال: هيه، فغنّى؛ فاهتزّ عبد الملك طربا، ثم قال: أقسم بالله إنّ لك في القوم اسما كبيرا، من أنت؟ ويلك! قال: أنا المظلوم المقبوض ماله المسيّر عن وطنه «سعيد بن مسجح» ، قبض مالى عامل الحجاز ونفانى. فتبسّم عبد الملك ثم قال: قد وضح عذر فتيان قريش في أن ينفقوا عليك أموالهم؛ وأمّنه ووصله وكتب إلى عامله بالحجاز أن اردد إليه ماله، ولا تتعرّض اليه بسوء. والله أعلم. ذكر أخبار سائب خاثر هو أبو جعفر سائب خاثر بن يسار، مولى لبنى ليث. وأصله من فيء كسرى، واشتراه عبد الله بن جعفر فأعتقه. وقيل: بل كان على ولائه لبنى ليث، ولكنه انقطع إلى عبد الله بن جعفر ولزمه وعرف به. وهو أوّل من عمل العود بالمدينة وغنّى به. قال: وكان عبد الله بن عامر بن كريز سبىّ «2» إماء صنّاجات «3» فأتى بهنّ المدينة. فكنّ يلعبن في يوم الجمعة ويسمع الناس منهنّ، فأخذ عنهنّ. وقدم رجل فارسىّ يعرف بنشيط، فغنّى، فعجب عبد الله بن جعفر منه. فقال له سائب خاثر: أنا أصنع لك مثل غناء هذا الفارسىّ بالعربيّة. ثم غدا على عبد الله بن جعفر وقد عمل في: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 243 لمن الديار رسومها قفر ... لعبت بها الأرواح والقطر وخلا لها من بعد ساكنها ... حجج مضين ثمان أو عشر والزعفران على ترائبها ... شرق به اللّبات والنحر قال ابن الكلبىّ: وهو أوّل صوت غنّى به في الإسلام من الغناء العربىّ المتقن الصّنعة. قال: ثم اشترى عبد الله بن جعفر نشيطا بعد ذلك؛ فأخذ عنه سائب خاثر الغناء العربىّ، وأخذ عنه ابن سريج وجميلة ومعبد وعزّة الميلاء وغيرهم. وقيل: إنه لم يكن يضرب بالعود وإنما كان يقرع بالقضيب ويغنّى مرتجلا. قال ابن الكلبى: وكان [سائب تاجرا «1» ] موسرا يبيع الطعام بالمدينة، وكان تحته أربع نسوة. وكان انقطاعه إلى عبد الله بن جعفر، وهو مع ذلك يخالط سروات الناس وأشرافهم لظرفه وحلاوته وحسن صوته. وكان قد آلى على نفسه ألّا يغنّى أحدا سوى عبد الله بن جعفر إلا أن يكون خليفة أو ولىّ عهد أو ابن خليفة؛ فكان على ذلك الى أن قتل، على ما نذكره. وأخذ عنه معبد غناء كثيرا. قال: وسمع معاوية غناء سائب خاثر مرارا، فالمرّة الأولى لمّا وفد عبد الله بن جعفر إلى معاوية وهو معه، فسأل عنه معاوية، فأخبره عبد الله خبره واستأذنه في دخوله عليه، فأذن له. فلما دخل قام على الباب ثم رفع صوته فغنّى: لمن الديار رسومها قفر ... الأبيات فالتفت معاوية إلى عبد الله وقال: أشهد لقد حسّنه. وقضى معاوية حوائجه وأحسن اليه ووصله. وقيل: أشرف معاوية ليلة على منزل يزيد، فسمع صوتا أعجبه، واستخفّه السماع فاستمع حتى ملّ؛ ثم دعا بكرسىّ فجلس عليه واشتهى الاستزادة، فاستمع بقيّة ليلته. فلما أصبح غدا عليه يزيد؛ فقال: يا بنىّ، من كان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 244 جليسك البارحة؟ قال: أىّ جليس يا أمير المؤمنين؟ واستعجم عليه. فقال: عرّفنى به فإنه لم يخف علىّ شىء من أمرك. قال: هو سائب خاثر. قال معاوية: فأكثر له يا بنىّ من برّك وصلتك، فما رأيت بمجالسته بأسا. قال ابن الكلبىّ: وقدم معاوية المدينة في بعض ما كان يقدم، فأمر حاجبه بالإذن للنّاس؛ فخرج ثم رجع فقال: ما بالباب أحد. فقال معاوية: وأين الناس؟ قال: عند عبد الله بن جعفر. فركب معاوية بغلته ثم توجّه اليهم. فلما جلس قال بعض القرشيّين لسائب خاثر: مطرفى هذا لك إن اندفعت تغنّى (وكان المطرف من خز) ؛ فقام بين السّماطين وغنّى فقال: لنا الجفنات الغرّ يلمعن بالضحى «1» ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما فسمع منه معاوية وطرب وأصغى اليه حتى سكت وهو مستحسن لذلك، ثم انصرف، وأخذ سائب خاثر المطرف «2» . وكان مقتل سائب خاثر بالمدينة يوم الحرّة. قال: وكان يخشى على نفسه من أهل الشأم. فخرج اليهم وجعل يقول: أنا مغنّ، ومن حالى ومن قصتى كيت وكيت، وقد خدمت أمير المؤمنين يزيد وأباه قبله. فقالوا له: غنّ لنا، ففعل. فقام أحدهم فقال: أحسنت والله، ثم ضربه بالسيف فقتله. وبلغ يزيد خبره ومرّ به اسمه في أسماء من قتل فلم يعرفه وقال: من سائب خاثر؟ فعرّف به، فقال: ويله ما له وما لنا! ألم نحسن إليه ونصله ونخلطه بأنفسنا! فما الذى حمله على عداوتنا! لا جرم أنّ بغيه علينا صرعه. وقيل: إنه لمّا بلغه قتله قال: إنا لله! أو بلغ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 245 القتل إلى سائب خاثر وطبقته! ما أرى أنه بقى بالمدينة أحد، وقال. قبحكم الله يأهل الشأم! تجدهم وجدوه في حائط أو حديقة مستترا فقتلوه. وقد قيل: إنه تقدّم يوم الحرّة وقاتل حتى قتل. والله أعلم. ذكر أخبار طويس هو عيسى بن عبد الله. وكنيته أبو عبد المنعم، وغيّرها المخّنثون فقالوا: أبو عبد النعيم. وطويس لقب غلب عليه، وقيل: اسمه طاوس، مولى بنى مخزوم. وكان أيضا يلقّب بالذائب؛ لأنه غنّى: قد برانى الحبّ حتى ... كدت من وجدى أذوب وهذا أوّل غناء غنّاه وهزج هزجه. وقد ضرب المثل به في الشؤم فقالوا: «أشأم من طويس» لأنه ولد يوم مات رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وفطم يوم مات أبو بكر رضى الله عنه، وختن يوم مات عمر رضى الله عنه، وتزوّج يوم قتل عثمان، وولد له يوم مات علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه. وكان مخنّثا أحول طويلا؛ وقيل: إنه ولد ذاهب العين اليمنى. قالوا: وكانت أمّه تمشى بين نساء الأنصار بالنمائم. وطويس أوّل من صنع الهزج والرمل في الإسلام، وكان الناس يضربون به المثل فيقولون: «أهزج من طويس» . وكان لا يضرب بالعود وإنما ينقر بالدّفّ. وكان ظريفا عالما بأمر المدينة وأنساب أهلها. حكى أبو الفرج الأصفهانىّ بسنده إلى المدائنىّ قال: قدم ابن سريح المدينة، فجلس يوما في جماعة وهم يقولون له: أنت والله أحسن الناس غناء، إذ مرّ بهم طويس فسمعهم وما يقولون، فاستلّ دفّه من حضنه ونقره وغنّى؛ فلما سمعه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 246 ابن سريج قال: هذا والله أحسن الناس غناء لا أنا. وقال المدائنىّ، قال مسلمة «1» ابن محارب: حدّثنى رجل من أصحابنا قال: خرجنا في سفر ومعنا رجل من أصحابنا فانتهينا إلى واد، فدعونا بالغداء، فمدّ الرجل يده إلى الطعام فلم يقدر عليه، وكان قبل ذلك يأكل معنا؛ فخرجنا نسأل عن حاله فنلقى «2» رجلا طويلا أحول مضطرب الخلق في زىّ الأعراب؛ فقال لنا: ما لكم؟ فأنكرنا سؤاله لنا؛ فأخبرناه خبر الرجل فقال: ما اسم صاحبكم؟ فقلنا: أسيد؛ فقال: هذا واد قد أخّذت «3» سباعه فارتحلوا، فلو قد جاوزتم الوادى استمرّ «4» صاحبكم وأسد «5» وأكل. قلنا في أنفسنا: هو من الجنّ، ودخلتنا فزعة. ففهم ذلك وقال: ليفرخ روعكم فأنا طويس. فقال له رجل منّا: مرحبا بك أبا عبد النعيم، ما هذا الزّىّ؟! فقال: دعانى بعض أودّائى من الأعراب فخرجت إليهم وأحببت أن أتخطّى الأحياء فلا ينكرونى. فسأله رجل منّا أن يغنّينا؛ فاندفع ونقر بدفّ كان معه مربّع، فلقد خيّل لى أنّ الوادى ينطق معه حسنا. وتعجّبنا من علمه وما أخبرنا به من أمر صاحبنا. قال المدائنىّ: وكان طويس ولعا بالشعر الذى قالته الأوس والخزرج فى حروبهم، وكان يريد بذلك الإغراء؛ فقلّ مجلس اجتمع فيه هذان الحيّان فغنّى فيه طويس إلا وقع فيه شىء. فنهى عن ذلك، فقال: والله لا تركت الغناء بشعر الأنصار حتى يوسّدونى التراب؛ وذلك لكثرة تولّع القوم به، وكان يبدى السرائر ويخرج الضغائن؛ وغناؤه يستحسن ولا يصبر عن حديثه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 247 وحكى الأصبهانىّ عفا الله عنه قال: كان بالمدينة مخنّث يقال له النّغاشى. فقيل لمروان بن الحكم: إنه لا يقرأ من كتاب الله تعالى شيئا. فبعث إليه فاستقرأه أمّ الكتاب؛ فقال: والله ما معى بناتها، أو ما أقرأ البنات فكيف أقرأ أمّهنّ! فقال: أتهزأ لا أمّ لك! فأمر به فقتل ببطحان «1» ، وقال: من جاءنى بمخنّث فله عشرة دنانير. فأتى طويس وهو في بنى الحارث بن الخزرج فأخبر بمقالة مروان؛ فقال: أما فضّلنى الأمير عليهم بفضل حتى جعل فيّ وفيهم شيئا واحدا!. ثم خرج حتى نزل السويداء (على ليلتين من المدينة في طريق الشأم) فنزلها، فلم يزل بها بقيّة عمره. وعمّر حتى مات في ولاية الوليد بن عبد الملك. ثم ساق الأصفهانىّ هذه القصة في موضع آخر بسند آخر قال: خرج يحيى بن الحكم وهو أمير على المدينة، فبصر بشخص في السّبخة مما يلى مسجد الأحزاب؛ فلما نظر إلى يحيى جلس؛ فاستراب به، فوجّه إليه أعوانه، فأتى به كأنه امرأة في ثياب مصبّغة مصقولة وهو ممتشط مختضب. فقال له أعوانه: هذا ابن نغاش المخنث. فقال: ما أحسبك تقرأ من كتاب الله تعالى شيئا! اقرأ أمّ القرآن؛ فقال: لو عرفت أمّهن عرفت البنات. فأمر به فضربت عنقه. وساق نحو ما تقدّم، إلا أنه قال: جعل في كل مخنّث ثلاثمائة درهم. وحكى أيضا بسند رفعه إلى صالح بن كيسان وغيره: أنّ أن بن عثمان لمّا أمّره عبد الملك على الحجاز أقبل، حتى [اذا «2» ] دنا من المدينة تلقّاه أهلها وخرج إليه أشرافها، فخرج معهم طويس. فلما رآه سلّم عليه، ثم قال له: أيها الأمير، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 248 إنى كنت قد أعطيت الله تعالى عهدا إن رأيتك أميرا لأخضبن يدى إلى المرفقين ثم أزدو «1» بالدّف بين يديك. ثم أبدى عن دفّه وتغنّى [بشعر ذى جدن الحميرىّ «2» ] : ما بال أهلك يا رباب ... خزرا كأنهم غضاب فطرب أبان حتى كاد يطير، ثم جعل يقول: حسبك يا طاوس! - ولم يقل له طويس لنبله في عينه- ثم قال له: اجلس، فجلس. فقال له أبان: قد زعموا أنك كافر. فقال له: جعلت فداءك! والله إنى لأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله [صلّى الله عليه وسلّم] وأصلّى الخمس وأصوم رمضان وأحجّ البيت. قال: أفأنت أكبر أم عمرو بن عثمان؟ - وكان عمرو أخا أبان لأبيه وأمه- فقال طويس: جعلت فداءك! أنا والله مع جلائل نساء قومى أمسك بذيولهن يوم زفّت أمّك المباركة إلى «3» أبيك الطيب. فاستحيا أبان ورمى بطرفه الى الأرض. ذكر أخبار عبد الله «4» بن سريج هو أبو يحيى عبد الله بن سريج، مولى بنى نوفل بن عبد مناف. وقال ابن الكلبى: إنه مولى لبنى الحارث بن عبد المطلب. وقيل: إنه مولى لبنى ليث، ومنزله بمكة. وقال الحسن بن عتبة اللهبىّ: إنه مولى لبنى عائذ بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم. وحكى أبو الفرج الأصبهانىّ أنه كان آدم أحمر ظاهر الدّم سناطا «5» ، فى عينيه قبل «6» ، وبلغ خمسا وثمانين سنة، وكان منقطعا إلى عبد الله بن جعفر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 249 ونقل أيضا عن ابن الكلبىّ أنه كان مخنّثا أحول أعمش، يلقّب وجه الباب. وكان لا يغنّى إلا متنقّبا، مسبل القناع على وجهه. قال: وكان أحسن الناس غناء، وكان يغنّى مرتجلا ويوقع بقضيب، وقيل: كان يضرب بالعود. وغنّى في زمن عثمان بن عفّان، ومات في خلافة هشام بن عبد الملك. وقيل: كان اسمه عبيد بن سريج من أهل مكة. وقال ابن جريج: كان عبيد بن سريج مولى آل خالد بن أسيد، وقيل: كان أبوه تركيا. وقيل: كان عوده على صنعة عيدان الفرس، وهو أوّل من ضرب به على الغناء العربىّ بمكة؛ وذلك أنه رآه مع العجم الذين قدم بهم ابن الزبير لبناء الكعبة، فأعجب أهل مكة غناؤهم. فقال ابن سريج: أنا أضرب به على غنائى، فضرب به فكان أحذق الناس. وأخذ الغناء عن سعيد بن مسجح، وقد تقدّم ذكر ذلك. وأوّل ما اشتهر بالغناء في ختان ابن مولاه عبد الله بن عبد الرحمن بن أبى حسين. قال ابن سريج لأمّ الغلام: خفّضى عليك بعض المغرم والكلفة، فو الله لألهين نساءك حتى لا يدرين ما جئت به. وكان معبد إذا أعجبه غناء نفسه قال: أنا اليوم سريجىّ. ومن أخباره أيضا أن عطاء بن أبى رباح لقيه بذى طوى وعليه ثياب مصبّغة وفي يده جرادة مشدودة الرّجل بخيط يطيرها ويجذبها كلما تخلّفت؛ فقال له عطاء: يا فتّان، ألا تكفّ عما أنت فيه! كفى الله الناس مئونتك. فقال له ابن سريج: وما على الناس من تلوبنى ثيابى ولعبى بجرادتى! فقال: تغنّيهم أغانيك الخبيثة. فقال له ابن سريج: بحقّ من تبعته من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبحق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليك إلّا سمعت منّى بيتا من الشعر، فإن سمعت منكرا أمرتنى بالإمساك عما أنا عليه، وأنا أقسم بالله وبحقّ هذه البنيّة إن أمرتنى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 250 بعد استماعك منّى بالإمساك عما أنا عليه لأفعلنّ. فأطمع ذلك عطاء في ابن سريج وقال له: قل. فاندفع يغنّى بشعر جرير: إنّ الذين غدوا بلبّك غادروا ... وشلا بعينك لا يزال معينا غيّضن من عبراتهنّ وقلن لى ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا قال: فلما سمعه عطاء اضطرب اضطرابا شديدا وداخلته أريحيّة، فحلف ألّا يكلّم أحدا بقيّة يومه إلا بهذا الشعر، وصار إلى مكانه من المسجد الحرام، فكان كل من يأتيه يسأل عن حلال أو حرام أو خبر لا يجيبه إلا بأن يضرب إحدى يديه على الأخرى وينشد هذا الشعر حتى صلّى المغرب، ولم يعاود ابن سريج بعدها ولا تعرّض له. وحكى عنه أيضا أنّ عمر بن أبى ربيعة حجّ في عام من الأعوام ومعه ابن سريج، فلما رموا الجمرات تقدّما الحاجّ إلى كثيب على خمسة أميال من مكة مشرف على طريق المدينة وطريق الشأم والعراق، وهو كثيب شامخ مفرد عن الكثبان، فصارا إليه فأكلا وشربا. فلما انتشيا أخذ ابن سريج الدفّ فنقره وجعل يتغنّى وهم ينظرون إلى الحاجّ. فلما أمسيا رفع ابن سريج صوته وتغنّى بشعر لعمر بن أبى ربيعة، فسمعه الرّكبان، فجعلوا يصيحون به: يا صاحب الصوت، أما تتّقى الله! قد حبست الناس عن مناسكهم، فيسكت قليلا حتى إذا مضوا رفع صوته فيقف آخرون؛ إلى أن وقف عليه في الليل رجل حسن الهيئة على فرس عتيق حتى وقف بأصل الكثيب، ثم نادى: يا صاحب الصوت، أيسهل عليك أن تردّد شيئا مما سمعته منك؟ قال: نعم ونعمة عين، فأيّها تريد؟ فاقترح صوتا فغنّاه. ثم قال له ابن سريج: ازدد إن شئت؛ فاقترح صوتا آخر فغنّاه، فقال له: والثالث ولا أستزيدك، فغناه الثالث. وقال له ابن سريج: أبقيت «1» لك حاجة؟ قال نعم، تنزل لأخاطبك؛ فنزل إليه فإذا هو يزيد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 251 ابن عبد الملك، فأعطاه حلّته وخاتمه وقال: خذهما ولا تخدع فيهما فإن شراءهما ألف وخمسمائة دينار؛ فعاد ابن سريج بهما فأعطاهما لعمر بن أبى ربيعة وقال: هما بك أشبه منهما بى، فأخذهما وعوّضه عنهما ثلاثمائة دينار؛ وغدا فيهما إلى المسجد، فعرفهما الناس وجعلوا يتعجّبون ويسألون عمر عنهما؛ فيخبرهم أن يزيد بن عبد الملك كساه ذلك. وقيل: إن عمر بن عبد العزيز مرّ به فسمع ابن سريج وهو يغنّى، فقال: لله درّ هذا الصوت لو كان بالقرآن!. قال إبراهيم بن المهدىّ: كان ابن سريج رجلا عاقلا أديبا، وكان يعاشر الناس بما يشتهون فلا يغنّيهم بما مدح به أعداؤهم ولا بما فيه عار عليهم أو غضاضة منهم. ومن أخباره ما حكاه أبو الفرج الأصبهانى بإسناده، قال: كتب الوليد بن عبد الملك إلى عامل مكة أن أشخص إلىّ ابن سريج، فأشخصه إليه. فلما قدم مكث أياما لا يدعوه ولا يلتفت إليه، ثم ذكره فاستحضره، فدخل عليه وسلّم فأذن له بالجلوس واستدناه حتى كان قريبا منه؛ فقال: ويحك يا عبيد! لقد بلغنى عنك ما حملنى على الوفادة بك من كثرة أدبك وجودة اختيارك مع ظرف لسانك وحلاوة مجلسك. قال: جعلت فداءك يا أمير المؤمنين! «تسمع بالمعيدىّ لا أن تراه «1» » ، قال الوليد: إنى لأرجو ألا تكون أنت ذاك، ثم قال: هات ما عندك؛ فاندفع يغنّى بشعر الأحوص: وإنّى إذا حلّت ببيش «2» مقيمة ... وحلّ بوجّ «3» جالسا أو تتهما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 252 يمانية شطّت وأصبح نفعها ... رجاء وظنّا بالمغيب مرجّما أحبّ دنوّ الدّار منها وقد أبى ... بها صدع شعب الدار إلّا تثلّما بكاها وما يدرى سوى الظنّ ما بكى ... أحيّا يبكّى أم ترابا وأعظما فدعها وأخلف للخليفة مدحة ... تزل عنك بؤسى أو تفيدك مغنما «1» فإن بكفّيه مفاتيح رحمة ... وغيث حيا يحيا به الناس مرهما «2» إمام أتاه الملك عفوا ولم يثب ... على ملكه مالا حراما ولا دما تخيّره ربّ العباد لخلقه ... وليّا وكان الله بالناس أعلما ينال الغنى والعزّ من نال ودّه ... ويرهب موتا عاجلا من تشأما «3» فقال الوليد: أحسنت والله وأحسن الأحوص. ثم قال: يا عبيد هيه! فغنّاه بشعر عدى بن الرّقاع العاملىّ يمدح الوليد: طار الكرى وألمّ الهمّ فاكتنعا «4» ... وحيل بينى وبين النوم فامتنعا كان الشباب قناعا أستكنّ به ... وأستظلّ زمانا ثمّت انقشعا واستبدل الرأس شيبا بعد داجية ... فينانة ما ترى في صدغها نزعا «5» فإن تكن ميعة من باطل ذهبت ... وأعقب الله بعد الصّبوة الورعا فقد أبيت أراعى الخود رابية «6» ... على الوسائد مسرورا بها ولعا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 253 برّاقة الثغر يشفى القلب لذّتها ... إذا مقبّلها في ريقها كرعا كالأقحوان بضاحى الروض صبّحه ... غيث أرشّ بتنضاح وما نقعا صلى الذى الصلوات الطيّبات له ... والمؤمنون إذا ما جمّعوا الجمعا على الذى سبق الأقوام ضاحية ... بالأجر والحمد حتى صاحباه معا هو «1» الذى جمع الرحمن أمّته ... على يديه وكانوا قبله شيعا عذنا بذى العرش أن نحيا ونفقده ... وأن نكون لراع بعده تبعا إن الوليد أمير المؤمنين له ... ملك أعان عليه الله فارتفعا لا يمنع الله «2» ما أعطى الذين هم ... له عباد ولا يعطون ما منعا فقال الوليد: صدقت يا عبيد، أنّى لك هذا؟ قال: (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) *. قال الوليد: لو غير هذا قلت لأحسنت أدبك. قال ابن سريج: (ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) * قال الوليد: (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) . قال ابن سريج: (هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) . قال الوليد: لعلمك والله أكثر وأعجب إلىّ من غنائك! غنّنى؛ فغنّاه بشعر عدىّ بن الرّقاع يمدح الوليد «3» فقال: عرف الدّيار توهما فاعتادها ... من بعد ما شمل البلى أبلادها «4» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 254 [إلا رواسى كلهنّ قد اصطلى ... جمرا وأشعل أهلها إيقادها «1» كانت رواحل للقدور فعرّيت ... منهنّ واستلب الزمان رمادها وتنكّرت كلّ التنكّر بعدنا ... والأرض تعرف بعلها وجمادها «2» ] ولربّ واضحة العوارض حرّة «3» ... كالرّيم قد ضربت به أوتادها تصطاد بهجتها المعلّل بالصبا ... عرضا فتقصده ولن يصطادها «4» كالظّبية البكر الفريدة ترتعى ... من أرضها قفّاتها وعهادها «5» خضبت لها عقد البراق جبينها ... من عركها علجانها وعرادها «6» كالزّين في وجه العروس تبذّلت ... بعد الحياء فلاعبت أرآدها تزجى أغنّ كأن إبرة روقه ... قلم أصاب من الدّواة مدادها ركبت به من عالج متحيّرا ... قفرا تريّث وحشه أولادها «7» فترى محانيه التى تسق الثرى ... والهبر يونق نبتها روّادها «8» بانت سعاد وأخلفت ميعادها ... وتباعدت عنا لتمنع زادها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 255 إنى إذا ما لم تصلنى خلّتى ... وتباعدت عنّى اغتفرت بعادها «1» [إمّا ترى شيبى تقشّع لمّتى ... حتى علا وضح يلوح «2» سوادها فلقد ثنيت يد الفتاة وسادة ... لى جاعلا يسرى يدىّ وسادها وأصاحب الجيش العرمرم فارسا ... فى الخيل أشهد كرّها وطرادها وقصيدة قد بتّ أجمع بينها ... حتى أقوّم ميلها وسنادها «3» نظر المثقّف في كعوب قناته ... حتى يقيم ثقافه منآدها «4» فسترت عيب معيشتى بتكرّم ... وأتيت في سعة النعيم سدادها «5» وعلمت حتى ما أسائل واحدا ... عن علم واحدة لكى أزدادها] صلّى الإله على امرىء ودّعته ... وأتمّ نعمته عليه وزادها وإذا الربيع تتابعت أنواؤه ... فسقى خناصرة الأحصّ فجادها «6» نزل الوليد بها فكان لأهلها ... غيثا أغاث أنيسها وبلادها أولا ترى أن البريّة كلّها ... ألقت خزائمها إليه فقادها ولقد أراد الله إذ ولّاكها ... من أمّة إصلاحها ورشادها أعمرت أرض المسلمين فأقبلت ... وكففت عنها من يروم فسادها وأصبت في أرض العدوّ مصيبة ... عمّت أقاصى غورها ونجادها ظفرا ونصرا ما تناول مثله ... أحد من الخلفاء كان أرادها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 256 فإذا نشرت له الثناء وجدته ... جمع المكارم طرفها وتلادها [غلب المساميح الوليد سماحة ... وكفى قريش المعضلات وسادها تأتيه أسلاب الأعزّة عنوة ... قسرا ويجمع للحروب عتادها وإذا رأى نار العدوّ تضرّمت ... سامى جماعة أهلها فاقتادها بعرمرم تبدو الرّوابى ذى وعى ... كالحرّة احتمل الضحى أطوادها «1» أطفأت نارا للحروب وأوقدت ... نار قدحت براحتيك زنادها فبدت بصيرتها لمن يبغى الهدى ... وأصاب حرّ شديدها حسّادها وإذا غدا يوما بنفحة نائل ... عرضت له الغد مثلها فأعادها واذا عدت خيل تبادر غاية ... فالسابق الجالى يقود جيادها] فأشار الوليد إلى بعض الخدم فغطّوه بالخلع، ووضعوا بين يديه كيس الدنانير وبدر الدراهم، ثم قال الوليد: يا مولى بنى نوفل بن الحارث لقد أوتيت أمرا جليلا فقال ابن سريج: وأنت يا أمير المؤمنين لقد آتاك الله ملكا عظيما وشرفا عاليا وعزا بسط يدك فيه فلم يقبضه عنك ولا يفعل إن شاء الله، فأدام الله لك ما ولّاك وحفظك فيما استرعاك؛ فإنك أهل لما أعطاك، ولا ينزعه منك إذ رآك له موضعا. قال: يا نوفلىّ، وخطيب أيضا! قال ابن سريج: عنك نطقت، وبلسانك تكلّمت، وبعزّك بيّنت، وكان قد أمر بإحضار الأحوص بن محمد الأنصارىّ وعدىّ بن الرّقاع العاملىّ، فلما قدما عليه أمر بإنزالهما حيث ابن سريج فأنزلا منزلا بجوار منزله. فقالا: والله لقرب أمير المؤمنين كان أحبّ إلينا من قربك يا مولى بنى نوفل، وإن فى قربك لما يلذّنا ويشغلنا عن كثير مما نريد. فقال لهما ابن سريج: أو قلّة شكر! الجزء: 4 ¦ الصفحة: 257 فقال له عدىّ: كأنك يابن اللّخناء تمنّ علينا، [علىّ وعلىّ «1» ] إن جمعنا وإياك سقف بيت أو صحن دار عند أمير المؤمنين، فقال الأحوص: أو لا تحتمل لأبى يحيى الزّلّة والهفوة، وكفّارة يمين خير من لجاج في غير منفعة. فتحوّل عدىّ وبقى الأحوص. وبلغ الوليد ما جرى بينهم، فدعا ابن سريج فأدخله بيتا وأرخى دونه سترا ثم أمره إذا فرغ الأحوص وعدىّ من كلمتيهما أن يغنّى، فلما دخلا وأنشداه مدائح لهما فيه، رفع ابن سريج صوته من حيث لا يرونه وضرب بعود. فقال عدىّ: يا أمير المؤمنين، أتأذن لى أن أتكلّم؟ قال: قل يا عاملىّ، قال: مثل هذا عند أمير المؤمنين ويبعث إلى ابن سريج يتخطّى رقاب قريش والعرب من تهامة إلى الشأم ترفعه أرض وتخفضه أخرى ليسمع غناءه! قال: ويحك يا عدىّ! أو لا تعرف هذا الصوت؟ قال: لا والله ما سمعته قط ولا سمعت مثله، ولولا أنه فى مجلس أمير المؤمنين لقلت طائفة من الجنّ يتغنّون، فقال: اخرج عليهم، فخرج فإذا ابن سريج. فقال عدىّ: حقّ لهذا أن يحمل! حقّ لهذا أن يحمل! ثلاثا، ثم أمر لهما بمثل ما أمر به لابن سريج وارتحل القوم. وروى أبو الفرج أيضا عن سهل بن بركة وكان يحمل عود ابن سريج قال: كان على مكة نافع بن علقمة الكنانىّ فشدّد في الغناء والمغنّين والنبيذ ونادى فى المخنّثين. فخرج فتية من قريش إلى بطن محسّر «2» وبعثوا برسول لهم، فجاءهم براوية من شراب الطائف، فلما شربوا وطربوا قالوا: لو كان معنا ابن سريج تم سرورنا، فقلت: هو علىّ لكم، فقال لى بعضهم: دونك هذه البغلة فاركبها وامض إليه، فأتيته فأخبرته بمكان القوم وطلبهم إيّاه؛ فقال لى: ويحك! وكيف لى بذلك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 258 مع شدّة السلطان في الغناء وندائه فيه. فقلت له: أتردّهم؟ قال: لا والله! فكيف لى بالعود؛ فقلت: أنا أخبؤه لك فشأنك. فركب وسترت العود فأردفنى. فلما كنّا ببعض الطريق إذا بنافع بن علقمة قد أقبل؛ فقال لى: يابن بركة، هذا الأمير. فقلت له: لا بأس عليك! أرسل عنان البغلة وامض ولا تخف، ففعل. فلما حاذيناه عرفنى ولم يعرف ابن سريج، فقال لى: يابن بركة، من هذا أمامك؟ قلت: من ينبغى أن يكون! هذا ابن سريج؛ فتبسّم ثم تمثّل: فإن تنج منها يا أبان مسلّما ... فقد أفلت الحجّاج خيل شبيب ثم مضى ومضينا. فلما كنّا قريبا من القوم نزل إلى شجرة يستريح. فقلت له: غنّنى مرتجلا؛ فرفع صوته فخيّل إلىّ أن الشجرة تنطق معه، فغنّى وقال: كيف الثّواء ببطن مكة بعد ما ... همّ الذين تحبّ بالإنجاد أم كيف قلبك إذ ثويت مخمّرا ... سقما خلافهم وكربك «1» بادى هل أنت إن ظعن الأحبّة غادى ... أم «2» قبل ذلك مدلج بسواد قال: فقلت: أحسنت والذى فلق الحبّة وبرأ النّسمة! ولو أن كنانة كلّها سمعتك لاستحسنتك «3» ، فكيف بنافع بن علقمة! المغرور من غرّه نافع. ثم قلت: زدنى وإن كان القوم متعلّقة قلوبهم بك؛ فغنّى وتناول عودا من الشجرة فوقّع به على الشجرة؛ فكان صوت الشجرة أحسن من خفق بطون الضّأن على العيدان إذا أخذتها عيدان الدّفلى «4» ، وغنّى: لا تجمعى هجرا علىّ وغربة ... فالهجر في تلف المحبّ سريع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 259 من ذا فديتك يستطيع لحبه ... دفعا إذا اشتملت عليه ضلوع فقلت: بنفسى أنت والله، من لا يكلّ ولا يملّ! والله ما جهل من فهمك، اركب بنا فدتك نفسى. قال: أمهلنى كما أمهلتك أقض بعض شأنى. فقلت: وهل عما تريد مدفع!. فقام فصلّى ركعتين ثم ضرب بيده إلى الشجرة وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله. ثم مضينا والقوم مستشرفون. فلما دنونا منهم إذا الغريض يغنّيهم: من خيل حىّ لا تزال مغيرة ... سمعت على شرف صهيل حصان فبكى ابن سريج حتى ظننت أن نفسه قد خرجت. فقلت: ما يبكيك يا أبا يحيى؟ جعلت فداك لا يسوءك الله ولا يريك سوءا «1» ! قال: أبكانى هذا المخنّث بحسن غنائه وشجا صوته، والله ما ينبغى لأحد أن يغنّى وهذا الصبىّ حىّ؛ ثم نزل واستراح وركب. فلما سرنا هنيهة اندفع الغريض يغنّى لهم بلحنه: يا خليلىّ قد مللت ثوائى ... بالمصلّى وقد سئمت البقيعا بلّغانى ديار هند وسعدى ... وارجعانى فقد هويت الرجوعا قال: ولصوته دوىّ في تلك الجبال. فقال ابن سريج: يابن بركة، أسمعت مثل هذا الغناء قط؟! قال: ونظروا إلينا فأقبلوا نشاوى يسحبون أعطافهم وجعلوا يقبلّون وجه ابن سريج. فنزل فأقام عندهم ثلاثا، والغريض لا ينطق بحرف، وأخذوا في شرابهم وقالوا: يا حبيب النفس وشقيقها، أعطها بعض شأنها «2» . فضرب بيده إلى جيبه «3» فأخرج منه مضرابا ثم أخذه بيده ووضع العود في حجره- فما رأيت [يدا «4» ] أحسن من يده الجزء: 4 ¦ الصفحة: 260 ولا خشبة تخيّلت لى أنها جوهرة إلّا هى- ثم ضرب فلقد ضجّ «1» القوم جميعا؛ ثم غنّى فكلّ قال: لبّيك لبّيك! فكان ممّا غنّى به [واللحن له» ] هزج: لبّيك يا سيّدتى ... لبّيك ألفا عددا لبيك من ظالمة ... أحببتها مجتهدا قومى إلى ملعبنا ... نحك الجوارى الخرّدا وضع يد فوق يد ... نرفعها يدا يدا فكلّ قال: نفعل ذاك؛ فلقد رأيتنا نستبق أيّنا تقع يده على يده. ثم غنّى: ما هاج شوقك بالصّرائم ... ربع أحال لآل «3» عاصم ربع تقادم عهده ... هاج المحبّ على التقادم فيه النواعم والشبا ... ب النّاعمون مع النواعم من كل واضحة الجبين عميمة ريّا المعاصم ثم غنّى بقوله: شجانى مغانى الحىّ وانشقّت العصا ... وصاح غراب البين أنت مريض ففاضت دموعى عند ذاك صبابة ... وفيهنّ خود كالمهاة غضيض وولّيت محزون الفؤاد مروّعا ... كئيبا ودمعى في الرداء يفيض قال: فلقد رأيت جماعة من الطير وقعن بقربنا وما نحسّ من قبل ذلك منها شيئا. فقالت الجماعة: يا تمام السرور وكمال المجالس، لقد سعد من أخذ بحظّه «4» منك وخاب من حرمك، يا حياة القلوب ونسيم النفوس جعلنا الله فداءك، غنّنا. فغنّى: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 261 يا هند إنك لو علم ... ت بعاذلين تتابعا قال: فبدرت من بينهم فقبّلت عينيه، فتهافت القوم عليه يقبّلونه، ولقد رأيتنى وأنا أرفعهم عنه شفقة عليه. وكانت وفاة ابن سريج بالعلّة التى أصابته من الجذام بمكة في خلافة سليمان ابن عبد الملك أو في خلافة الوليد، ودفن في موضع يقال له «دسم «1» » . رحمة الله عليه وعفا عنه وغفر له. والحمد لله ربّ العالمين. حكى أنه لما احتضر نظر إلى ابنته نبكى فبكى وقال: إنه من أكبر همّى أنت وأخشى أن تضيعى بعدى. فقالت: لا تخف فما غنّيت شيئا إلا وأنا أغنّيه. فقال: هاتى، فاندفعت فغنّت وهو مصغ إليها. فقال: قد أصبت ما في نفسى وهوّنت علىّ أمرك. ثم دعا سعيد بن مسعود الهذلى فزوّجه إيّاها؛ فأخذ أكثر غناء أبيها وانتحله. ذكر أخبار معبد هو معبد بن وهب، وقيل: ابن قطنىّ مولى ابن قطن؛ وقيل: إن قطنا مولى العاص بن واقصة «2» المخزومىّ، وقيل: مولى معاوية بن أبى سفيان. غنّى معبد فى أيام بنى أميّة في أوائلها، ومات في أيام الوليد بن يزيد بدمشق. قال أبو الفرج الأصفهانى: إنه لمّا مات خرجت سلامة جارية الوليد بن يزيد بن عبد الملك وأخذت بعمود السرير والناس ينظرون إليها وهى تندبه وتقول شعر الأحوص: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 262 قد لعمرى بتّ ليلى ... كأخى الداء الوجيع ونجىّ الهمّ منّى ... بات أدنى من نجيعى كلما أبصرت ربعا ... خاليا فاضت دموعى قد خلا من سيّد كا ... ن لنا غير مضيع لا تلمنا إن خشعنا ... أو هممنا بخشوع وكان معبد قد علّمها هذا الصوت فندبته به. قال إسحاق بن إبراهيم الموصلىّ: كان معبد من أحسن الناس غناء، وأجودهم صنعة، وأحسنهم حلقا «1» ؛ وهو إمام أهل المدينة في الغناء، وأخذ عن سائب خاثر ونشيط الفارسىّ مولى عبد الله بن جعفر، وعن جميلة مولاة بهز (بطن من بنى سليم) . وفي معبد يقول الشاعر: أجاد طويس والسّريجىّ بعده ... وما قصبات السّبق إلا لمعبد وحكى أبو الفرج أيضا: أن الوليد بن يزيد اشتاق إلى معبد، فوجّه اليه البريد إلى المدينة فأحضره. فلما بلغ الوليد قدومه أمر ببركة ملئت ماء ورد وخلط بمسك وزعفران، ثم جلس الوليد على حافة البركة وفرش لمعبد مقابله وضرب بينهما ستر ليس معهما ثالث. وجىء بمعبد فقيل له: سلّم على أمير المؤمنين واجلس في هذا الموضع؛ فسلّم فردّ عليه من خلف السّجف، ثم قال له: أتدرى لم وجّهت إليك؟ قال: والله أعلم وأمير المؤمنين. قال: ذكرتك فأحببت أن أسمع منك. فقال له معبد: أأغنّى ما حضر أو ما يقترحه أمير المؤمنين؟ قال: [بل «2» ] غنّ: مازال يعدو عليهم ريب دهرهم ... حتى تفانوا وريب الدهر عدّاء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 263 فغنّاه. فرفع الجوارى السّجف، ثم خرج الوليد فألقى نفسه في البركة فغاص فيها، ثم خرج منها، فاستقبله الجوارى بثياب غير الثياب التى كانت عليه، ثم شرب وسقى معبدا ثم قال له: غنّنى يا معبد: يا ربع مالك لا تجيب متيّما ... قد عاج نحوك زائرا ومسلّما جادتك كلّ سحابة هطّالة ... حتى ترى عن زهرة «1» متبسّما لو كنت تدرى من دعاك أجبته ... وبكيت من حرق عليه إذا دما قال: فغنّاه. وأقبل الجوارى فرفعن السّتر، وخرج الوليد فألقى نفسه في البركة فغاص فيها ثم خرج، فلبس ثيابا غير تلك الثياب، ثم شرب وسقى معبدا وقال له: غنّنى يا معبد: عجبت لمّا رأتنى ... أندب الربع المحيلا واقفا في الدار أبكى ... لا أرى إلّا الطلولا كيف تبكى لأناس ... لا يملّون الذّميلا «2» كلما قلت اطمأنت ... دارهم جدّوا «3» الرحيلا قال: فلما غنّاه ألقى نفسه في البركة ثم خرج فردّوا عليه ثيابه، ثم شرب وسقى معبدا وقال له: يا معبد، من أراد أن يزداد حظوة عند الملوك فليكتم أسرارهم. فقال: ذلك ممّا لا يحتاج أمير المؤمنين إلى إيصائى به. فقال الوليد: يا غلام احمل إلى معبد عشرة آلاف دينار تحصّل «4» له في بلده وألفى دينار لنفقة طريقه؛ فحملت إليه كلّها، وحمل على البريد من وقته إلى المدينة. وقد قيل: إنه أعطاه في ذلك المجلس خمسة عشر ألف دينار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 264 وقال أبو الفرج بسند رفعه: إن معبدا كان قد علّم جارية من جوارى الحجاز الغناء تدعى «طيبة «1» » وعنى بتخريجها؛ فاشتراها رجل من أهل العراق وأخرجها إلى البصرة وباعها هناك، فاشتراها رجل من أهل الأهواز فأعجب بها وذهبت به كلّ مذهب وغلبت عليه، ثم ماتت بعد أن أقامت عنده برهة من الزمان؛ فأخذ جواريه أكثر غنائها عنها. فكان لمحبّته إيّاها وأسفه عليها لا يزال يسأل عن أخبار معبد وأين مستقرّه، ويظهر التعصب له والميل إليه والتقديم لغنائه على سائر الأغانى من أهل عصره، إلى أن عرف ذلك منه وبلغ معبدا خبره. فخرج من مكة حتى أتى البصرة؛ فلما وردها صادف الرجل قد خرج عنها في ذلك الوقت واليوم إلى الأهواز. فجاء معبد في طلب سفينة تحمله إلى الأهواز، فلم يجد غير سفينة الرجل، فركب فيها وكلاهما لا يعرف الآخر؛ وانحدرت السفينة. فلما صاروا بفهم نهر الأبلّة «2» ، أمر الرجل جواريه بالغناء فغنّين، إلى أن غنّت إحداهنّ صوتا من غناء معبد فلم تجد أداءه؛ فصاح بها معبد: يا جارية، إن غناءك هذا ليس بمستقيم. فقال مولاها وقد غضب: وأنت ما يدريك الغناء ما هو! ألا تمسك «3» وتلزم شأنك! فأمسك. ثم غنّت أصواتا من غناء غيره وهو ساكت لا يتكلّم حتى غنّت من غنائه فأخلّت ببعضه؛ فقال لها معبد: يا جارية، قد أخللت بهذا الصوت إخلالا كثيرا. فغضب الرجل وقال له: ويلك! ما أنت والغناء! ألا تكفّ عن هذا الفضول! فأمسك معبد. وغنّى الجوارى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 265 مليّا؛ ثم غنّت إحداهنّ صوتا من غنائه فلم تصنع فيه شيئا. فقال لها معبد: يا هذه، أما تقومين «1» على أداء صوت واحد! فغضب الرجل وقال له: ما أراك تدع هذا الفضول بوجه ولا حيلة! فأقسم بالله إن عاودت لأخرجنّك من السفينة. فأمسك معبد، حتى سكتت الجوارى سكتة، فاندفع يغنّى الصوت الأوّل حتى فرغ منه. فصاح الجوارى: أحسنت والله يا رجل، فأعده. قال: لا والله ولا كرامة. ثم اندفع يغنّى الثانى؛ فقلن لسيّدهن: ويحك! هذا والله أحسن الناس غناء، فسله أن يعيده علينا ولو مرّة واحدة لعلنا نأخذه منه، فإنه إن فاتنا لم نجد مثله أبدا. قال: قد سمعتنّ سوء ردّه عليكنّ وأنا خائف مثله منه، وقد استقبلناه بالإساءة، فاصبرن حتى نداريه. قال: ثم غنّى الثالث فزلزل عليهم الأرض. فوثب الرجل فقبّل رأسه، وقال: يا سيّدى أخطأنا عليك ولم نعرف موضعك. فقال له: وهبك لم تعرف موضعى، قد كان ينبغى لك أن تتثبّت ولا تسرع إلى سوء العشرة وجفاء القول. فلم يزل يرفق به حتى نزل إليه، وكان معبد قد أجلس في مؤخّر السفينة. فقال له الرجل: ممن أخذت هذا الغناء؟ قال: من بعض أهل الحجاز، فمن أين أخذه جواريك؟ قال: أخذنه من جارية كانت لى، كانت قد أخذت الغناء عن أبى عبّاد معبد وكانت تحلّ منى مكان الروح من الجسد، ثم استأثر الله بها وبقى هؤلاء الجوارى وهنّ [من «2» ] تعليمها، فأنا إلى الآن أتعصّب لمعبد وأفضّله على المغنّين جميعا، وأفضّل صنعته على كل صنعة. فقال له معبد: وإنك لأنت هو! أفتعرفنى؟ قال لا. قال: فصكّ معبد بيده صلعته ثم قال: فأنا «3» والله معبد وإليك قدمت من الحجاز ووافيت البصرة ساعة نزلت السفينة لأقصدك بالأهواز، وو الله لا قصّرت في جواريك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 266 هؤلاء ولأجعلنّ لك في كل واحدة خلفا من الماضية. فأكبّ الرجل والجوارى على يده ورجليه يقبّلونها ويقولون: كتمتنا نفسك حتى جفوناك في المخاطبة وأسأنا عشرتك وأنت سيّدنا ومن تتمنّى أن تلقاه. ثم غيّر الرجل أثواب معبد وخلع عليه عدّة خلع وأعطاه في ذلك الوقت ثلاثمائة دينار وطيّبا وهدايا مثلها، وانحدر معه إلى الأهواز فأقام عنده حتى رضى حذق جواريه، ثم ودّعه وانصرف إلى الحجاز. ذكر أخبار الغريض وما يتّصل بها من أخبار عائشة بنت طلحة هو عبد الملك، وكنيته أبو زيد «1» ، وقيل: أبو مروان. والغريض لقب لقّب به؛ لأنه [كان «2» ] طرىّ الوجه نضرا غضّ الشباب حسن المنظر، فلقّب بذلك. والغريض: الطّرىّ من كل شىء. وقال ابن الكلبى: شبّه بالإغريض وهو الجمّار ثم ثقل ذلك على الألسنة فحذفت الألف فقيل: الغريض. وهو من مولّدى البربر. وولاؤه للثريّا (صاحبة عمر بن أبى ربيعة) وأخواتها الرّضيّا وقريبة وأم عثمان بنات علىّ بن عبد الله بن الحارث بن أميّة الأصغر. قالوا: وكان يضرب بالعود وينقر بالدّفّ ويوقع بالقضيب. وكان قبل الغناء خيّاطا. وأخذ الغناء في أوّل أمره عن عبيد بن سريج، لأنه كان قد خدمه؛ فلما رأى ابن سريج طبعه وظرفه وحلاوة منطقه، خشى أن يأخذ غناءه فيغلبه عليه ويفوقه بحسن وجهه، وحسده، فاعتلّ عليه وشكاه الى مولياته، وكنّ دفعنه اليه ليعلّمه الغناء، وجعل يتجنّى عليه ثم طرده. فعرّف مولياته غرض ابن سريج فيه وأنه حسده؛ فقلن له: هل لك أن تسمع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 267 نوحنا على قتلانا فتأخذه وتغنّى عليه؟ قال نعم. فأسمعنه المراثى فآحتذاها وخرّج غناءه عليها. وكان ينوح مع ذلك فيدخل المآتم وتضرب دونه الحجب ثم ينوح فيفتن كلّ من سمعه. فلما كثر غناؤه عدل الناس إليه لما كان فيه من الشّجا «1» ؛ فكان ابن سريج لا يغنّى صوتا إلا عارضه فيه فيغنّى فيه لحنا آخر. فلما رأى ابن سريج موقع الغريض اشتدّ عليه وحسده، فغنّى الأرمال والأهزاج، فاشتهاها الناس. فقال له الغريض: يا أبا يحيى قصّرت الغناء وحذفته. قال: نعم يا مخنّث حين جعلت تنوح على أبيك وأمّك. قال: ولم يفضّل ابن سريج عليه إلا بالسّبق، وأما غير ذلك فلا. وقال بعضهم: كان الغريض أشجى غناء، وابن سريج أحكم صنعة. وحكى أبو الفرج الأصفهانى بسند رفعه إلى أيّوب بن عباية عن مولى لآل الغريض قال: حدّثنى بعض مولياتى وقد ذكرن الغريض فترحّمن عليه وقلن: جاءنا يوما فحدّثنا بحديث أنكرناه عليه ثم عرفناه بعد ذلك حقيقة. قالت: وكان ابن سريج بجوارنا فدفعناه إليه ولقّن الغناء، وكان من أحسن الناس صوتا، ففتن أهل مكة بحسن وجهه مع حسن صوته. فلما رأى ذلك ابن سريج نحّاه «2» عنه. فكان بعض مولياته تعلّمه النّياحة فبرّز فيها. فجاءنى يوما فقال: نهتنى الجنّ أن أنوح وأسمعتنى صوتا عجيبا، فقد ابتنيت عليه لحنا فاسمعيه منى، فاندفع فغنّى بصوت عجيب في شعر لمرّار الأسدىّ: حلفت لها بالله ما بين ذى الغضا ... وهضب القنان «3» من عوان ومن بكر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 268 أحبّ إلينا منك دلّا وما نرى ... به عند ليلى من ثواب ولا أجر قالت: فكذّبناه وقلنا: شىء فكّر فيه وأخرجه على هذا الجنس. فكان في كل يوم يأتينا فيقول: سمعت البارحة صوتا من الجنّ بترجيع وتقطيع، فقد بنيت عليه صوت كذا وكذا بشعر فلان، فلم يزل على ذلك ونحن ننكر عليه. فإنا لكذلك ليلة وقد اجتمع جماعة من نساء أهل مكة في جمع لنا سمرنا فيه ليلتنا والغريض يغنّينا بشعر عمر بن أبى ربيعة حيث يقول: أمن آل زينب جدّ البكور ... نعم فلأىّ هواها تصير إذ سمعنا في بعض الليل عزيفا عجيبا وأصواتا ذعرتنا وأفزعتنا. فقال لنا الغريض: إن في هذه الأصوات صوتا إذا نمت سمعته وأصبح أبنى عليه غنائى؛ فأصغينا إليه فإذا نغمته نغمة الغريض بعينها، فصدّقناه تلك الليلة. وكانت وفاة الغريض باليمن في خلافة سليمان بن عبد الملك أو عمر بن عبد العزيز، وكان قد هرب من نافع بن علقمة لمّا ولى مكة من مكة إلى اليمن واستوطنها ومات بها. وللغريض أخبار مستظرفة وحكايات مستحسنة قد رأينا أن نثبت في هذا الموضع ما سنقف عليه إن شاء الله تعالى. فمن ذلك ما حكاه أبو الفرج الأصبهانىّ في كتابه المترجم بالأغانى في أخبار الحارث بن خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة المخزومىّ، بعد أن ساق قطعة من أخباره مع عائشة بنت طلحة بن عبيد الله، وأنه كان يهواها ويشبّب بها في شعره، ثم قال في أثناء ذلك: لمّا قدمت عائشة بنت طلحة مكة أرسل إليها الحارث وهو أمير مكة يومئذ، وكان وليها من قبل عبد الملك بن مروان، فأرسل إليها: إنى أريد السلام عليك؛ فإذا خفّ ذلك عليك أذنت، وكان الرسول الغريض. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 269 فأرسلت إليه: إنّا حرم، فإذا أحللنا أذنّاك. فلما أحلّت خرجت سرّا على بغلتها، ولحقها الغريض بعسفان أو قريب منه ومعه كتاب الحارث إليها، وفيه: ما ضرّكم لو قلتم سددا ... إنّ المطايا عاجل غدها ولها علينا نعمة سلفت ... لسنا على الأيام نجحدها لو أتممت أسباب نعمتها ... تمّت بذلك عندنا يدها فلما قرأت الكتاب قالت: ما يدع الحارث باطله!. ثم قالت للغريض: هل أحدثت شيئا؟ قال: نعم فاسمعى، ثم اندفع يغنّى في هذا الشعر. فقالت عائشة: والله ما قلنا «1» إلا سددا ولا أردنا إلا أن نشترى لسانه؛ واستحسنت الشعر، وأمرت للغريض بخمسة آلاف درهم وأثواب، [وقالت «2» ] : زدنى. فغنّى في قول الحارث أيضا حيث يقول: زعموا بأنّ البين بعد غد ... فالقلب ممّا أحدثوا يجف والعين منذ أجدّ بينهم ... مثل الجمان دموعها تكف نشكو وتشكو ما أشتّ بنا ... كلّ بوشك البين معترف ومقالها ودموعها سجم ... أقلل حنينك حين تنصرف فقالت عائشة: يا غريض، بحقّى عليك أهو أمرك أن تغنّينى في هذا الشعر؟ قال: لا وحياتك يا سيّدتى؛ فأمرت له بخمسة آلاف درهم، ثم قالت: غنّنى فى [غير «3» ] شعره؛ فغنّاها بشعر عمر بن أبى ربيعة- وكان عمر قد سأله ذلك- فقال: أجمعت خلّتى مع الهجر بينا ... جلّل الله ذلك الوجه زينا أجمعت بينها ولم نك منها ... لذّة العيش والشباب قضينا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 270 فتولّت حمولها واستقلّت ... لم تنل طائلا ولم تقض دينا ولقد قلت يوم مكّة لمّا ... أرسلت تقرأ السلام علينا أنعم الله بالرسول الذى أر ... سل والمرسل الرسالة عينا قال: فضحكت ثم قالت: وأنت يا غريض فأنعم الله بك عينا وأنعم بابن أبى ربيعة عينا، لقد تلطّفت «1» حتى أدّيت إلينا رسالته، وإنّ وفاءك له لمما يزيدنا رغبة فيك وثقة بك. وكان عمر سأل الغريض أن يغنّيها بشعره هذا لأنه كان قد ترك ذكرها لمّا غضبت بنو تيم من ذلك، فلم يحبّ التصريح بها وكره إغفال ذكرها. فقال له عمر بن أبى ربيعة: إن أبلغتها هذه الأبيات في غناء فلك خمسة آلاف درهم، فوفّى له، وأمرت له عائشة بخمسة آلاف درهم. ثم انصرف الغريض من عندها، فلقى عاتكة بنت يزيد بن معاوية امرأة عبد الملك بن مروان وقد كانت حجّت فى تلك السنة؛ فقال لها جواريها: هذا الغريض. فقالت لهنّ: علىّ به؛ فجئن به إليها. قال الغريض: فلما دخلت سلّمت فردّت علىّ وسألتنى عن الخبر، فقصصته «2» عليها. فقالت: غنّنى بما غنّيتها به، ففعلت؛ فلم أرها تهشّ لذلك؛ فغنيتها معرّضا ومذكّرا بنفسى في شعر مرّة بن محكان السّعدىّ يخاطب امرأته وقد نزل به أضياف: أقول والضيف مخشىّ ذمامته «3» ... على الكريم وحقّ الضيف قد وجبا يا ربّة البيت قومى غير صاغرة ... ضمّى إليك رحال القوم والقربا فى ليلة من جمادى ذات أندية ... لا يبصر الكلب في ظلمائها الطّنبا لا ينبح الكلب فيها غير واحدة ... حتى يلفّ على خيشومه الذّنبا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 271 فقالت وهى مبتسمة: نعم وقد وجب حقّك يا غريض، فغنّنى؛ فغنّيتها: يا دهر قد أكثرت فجعتنا «1» ... بسراتنا ووقرت «2» فى العظم وسلبتنا ما لست «3» مخلفه ... يا دهر ما أنصفت في الحكم لو كان لى قرن أناضله ... ما طاش عند حفيظة سهمى لو كان يعطى النّصف «4» قلت له ... أحرزت قسمك فاله عن قسمى فقالت: نعطيك النّصف فلا يضيع سهمك عندنا ونجزل لك قسمك، وأمرت له بخمسة آلاف درهم وثياب عدنيّة وغير ذلك من الألطاف. قال الغريض: فأتيت الحارث بن خالد فأخبرته الخبر وقصصت عليه القصة؛ فأمر لى بمثل ما أمرتا لى جميعا؛ وأتيت ابن أبى ربيعة فأعلمته بما جرى، فأمر لى بمثل ذلك. فما انصرف أحد من ذلك الموسم بمثل ما انصرفت به: نظرة من عائشة، ونظرة من عاتكة- وهما أجمل نساء عالمهما- وبما أمرتا لى به، والمنزلة عند الحارث- وهو أمير مكة- وابن أبى ربيعة وما أجازانى به جميعا من المال. ولنصل هذا الفصل بشىء من أخبار عائشة بنت طلحة؛ لأن الشىء بالشىء يذكر. هى عائشة بنت طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم. وأمّها أمّ كلثوم بنت أبى بكر الصّديق رضى الله عنه. وكانت عائشة لا تستر وجهها من أحد. فعاتبها مصعب في ذلك فقالت: إن الله تبارك وتعالى وسمنى بميسم جمال أحببت أن يراه الناس ويعرفوا فضلى عليهم فما كنت لأستره، وو الله ما في وصمة يقدر أن يذكرنى بها أحد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 272 قال أبو الفرج الأصبهانىّ: وكانت شرسة الخلق، وكذلك نساء بنى تيم، هنّ أشرس خلق الله خلقا وأحظاهنّ عند أزواجهنّ. قال: وآلت عائشة من زوجها مصعب بن الزبير، فقالت: أنت علىّ كظهر أمّى، وقعدت في غرفة وهيّأت ما يصلحها. فجهد مصعب أن تكلّمه فأبت. فبعث إليها ابن قيس الرّقيّات فسألها كلامه. فقالت: كيف بيمينى؟ فقال: هاهنا الشّعبىّ فقيه أهل العراق فاستفتيه. فدخل الشّعبىّ عليها فأخبرته؛ فقال: ليس هذا بشىء؛ فأمرت له بأربعة آلاف درهم. وحكى أبو الفرج أنّ مصعب بن الزبير لمّا عزم على زواج عائشة بنت طلحة، جاء هو وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبى بكر الصدّيق وسعيد بن العاص إلى عزّة الميلاء- وكانت عزّة هذه يألفها الأشراف وغيرهم من أهل المروءات، وكانت من أظرف الناس وأعلمهم بأمور النساء- فقالوا لها: إنّا خطبنا فانظرى لنا. فقالت لمصعب: يابن أبى عبد الله، ومن خطبت؟ قال: عائشة بنت طلحة. قالت: فأنت يابن أبى أحيحة؟ قال: عائشة بنت عثمان بن عفّان. قالت: فأنت يابن الصّدّيق؟ قال: أمّ الهيثم بنت زكريا بن طلحة. فقالت: يا جارية، هاتى منقلىّ (تعنى خفّيها) ، فلبستهما وخرجت ومعها خادم لها، فبدأت بعائشة بنت طلحة، فقالت: فديتك، كنّا في مأدبة أو مأتم لقريش، فتذاكروا جمال النساء وخلقهن فذكروك فلم أدر كيف أصفك، فديتك، فألقى ثيابك؛ ففعلت فأقبلت وأدبرت فارتجّ كلّ شىء منها. فقالت لها عزّة: خذى ثوبك. فقالت عائشة: قد قضيت حاجتك وبقيت حاجتى. فقالت عزّة: وما هى؟ فديتك! قالت: تغنّينى صوتا. فاندفعت تغنّى لحنها في شعر لجميل بن عبد الله بن معمر العذرىّ: خليلىّ عوجا بالمحلّة من جمل ... وأترابها بين الأصيفر فالحيل نقف بمغان قد عفا رسمها اليلى ... تعاقبها الأيام بالرّيح والوبل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 273 فلو درج النّمل الصغار بجلدها ... لأندب أعلى جلدها مدرج النّمل وأحسن خلق الله جيدا ومقلة ... تشبّه [فى النسوان بالشادن الطّفل «1» ] فقبّلت عائشة ما بين عينيها ودعت لها بعشرة أثواب وطرائف من أنواع الفضّة، فدفعته إلى مولاتها. وأتت النّسوة على مثل ذلك تقول ذلك لهنّ. ثم أتت القوم فى السقيفة. فقالوا: ما صنعت؟ فقالت: يابن أبى عبد الله، أمّا عائشة فلا والله ما رأيت مثلها مقبلة ولا مدبرة، محطوطة «2» المتنين، عظيمة العجيزة، ممتلئة الترائب، نقيّة الثغر وصفحة الوجه، فرعاء الشعر، ممتلئة الصدر، خميصة البطن ذات عكن، ضخمة السّرّة، مسرولة الساق، يرتجّ ما بين أعلاها إلى قدميها؛ وفيها عيبان، أمّا أحدهما فيواريه الخمار، وأما الآخر فيواريه الخفّ: عظم الأذن والقدم. وكانت عائشة بنت طلحة كذلك. ثم قالت عزّة: وأمّا أنت يابن أبى أحيحة فإنى والله ما رأيت مثل خلق عائشة بنت عثمان لامرأة قط! ليس فيها عيب والله لكأنما أفرغت إفراغا ولكن في الوجه ردّة، وإن استشرتنى أشرت عليك. قال: هات. قالت: عليك بوجه تستأنس به. وأمّا أنت يابن الصدّيق: فو الله ما رأيت مثل أمّ الهيثم، كأنها خوط بانة تنثنى، أو كأنها جانّ يتثنى على رمل، لو شئت أن تعقد طرفيها لفعلت، ولكنها شختة الصدر «3» وأنت عريض الصدر، فاذا كان كذلك كان قبيحا، لا والله حتى يملأ كلّ شىء مثله. قال: فوصلها الرجال والنساء وتزوّجوهنّ. وحكى أبو الفرج أيضا: أنّ مصعب بن الزبير إنما تزوّجها بعد عبد الله بن عبد الرحمن بن أبى بكر. وقال: وكانت عائشة بنت طلحة تشبّه بخالتها عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها، فزوّجتها عائشة من ابن أخيها عبد الله بن عبد الرحمن بن أبى بكر، وهو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 274 أوّل من تزوّجها. ولم تلد عائشة بنت طلحة من أحد من أزواجها غيره، ولدت له عمران وبه كانت تكنى «1» ، وعبد الرحمن وأبا بكر وطلحة ونفيسة، ولكلّ من هؤلاء عقب. وأنا من عقب طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبى بكر من ولده ليث ابن طلحة. وليس هذا موضع سرد نسبى فأسرده. قال أبو الفرج: وصارمت عائشة بنت طلحة زوجها عبد الله بن عبد الرحمن وخرجت من داره مغضبة تريد عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها. فرآها أبو هريرة فسبّح الله تعالى وقال: كأنها من الحور العين. فمكثت عند عائشة قريبا من أربعة أشهر. وكان عبد الله قد آلى منها؛ فأرسلت عائشة إليه: إنى أخاف عليك الإيلاء؛ فضمّها إليه وكان موليا منها «2» . فقيل له: طلّقها؛ فقال: يقولون طلّقها لأصبح ثاويا ... مقيما علىّ الهمّ، أحلام نائم وإنّ فراقى أهل بيت أحبّهم ... لهم زلفة عندى لإحدى العظائم وتوفّى عبد الله بعد ذلك وهى عنده، فما فتحت فاها عليه؛ وكانت عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها تعدّ هذا عليها في ذنوبها التى تعدّدها. ثم تزوّجها بعده مصعب بن الزبير، فمهرها خمسمائة ألف درهم وأهدى لها مثل ذلك. وكانت عائشة تمتنع على مصعب في غالب الأوقات. فحكى أنه دخل عليها يوما وهى نائمة ومعه ثمانى لؤلؤات قيمتها عشرون ألف دينار، فأنبهها ونثر اللؤلؤ في حجرها. فقالت: نومتى كانت أحبّ الىّ من هذا اللؤلؤ. ولم تزل حالها معه على مثل ذلك حتى شكا ذلك الى كاتبه ابن أبى فروة. فقال له: أنا أكفيك هذا إن أذنت لى. قال: نعم! افعل ما شئت. فأتاها ليلا ومعه أسودان فاستأذن عليها. فقالت: أفى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 275 مثل هذه الساعة؟ قال نعم؛ فأذنت له فدخل. فقال للأسودين: احفرا هاهنا بئرا. فقالت له جاريتها: وما تصنع بالبئر؟ قال: شؤم مولاتك، أمرنى هذا الظالم أن أدفنها حيّة، وهو أسفك خلق الله لدم حرام. قالت عائشة: فأنظرنى أذهب اليه؛ قال: هيهات لا سبيل إلى ذلك، وقال للأسودين: احفرا. فلما رأت الجدّ منه بكت وقالت: يابن أبى فروة، إنك لقاتلى ما منه بدّ؟ قال: نعم، وإنى لأعلم أن الله عزّوجلّ سيخزيه بعدك، ولكنّه قد غضب وهو كافر الغضب. قالت: وفي أى شىء غضبه؟ قال: من امتناعك عليه وقد ظنّ أنك تبغضينه وتتطلّعين إلى غيره، فقد جنّ. فقالت: أنشدك الله إلّا عاودته. قال: أخاف أن يقتلنى؛ فبكت وبكى جواريها. فقال لها: قد رققت لك وحلف لها إنه يغرّر بنفسه، وقال لها: فما أقول؟ قالت: تضمن له عنّى أنى لا أعود أبدا. قال: فمالى عندك؟ قالت: قيام بحقّك ما عشت. قال: فأعطينى المواثيق فأعطته. فقال للأسودين: مكانكما. وأتى مصعبا فأخبره. فقال: استوثق منها بالأيمان؛ فاستوثق منها ففعلت، وصلحت بعد ذلك لمصعب. قال: وكان مصعب من أشدّ الناس إعجابا بها. ولم يكن لها شبيه في زمانها حسنا وديانة «1» وجمالا وهيئة وشارة وعفّة. وإنها دعت يوما نسوة من قريش، فلما جئنها أجلستهن في مجلس قد نضد فيه الريحان والفواكه والطّيب والمجامر، وخلعت على كلّ امرأة منهن خلعة من الوشى والحزّ ونحو ذلك، ودعت عزّة الميلاء ففعلت بها مثل ذلك وأضعفته؛ ثم قالت لعزّة: هات يا عزّة فغنّينا. فغنّتهن في شعر امرىء القيس فقالت: وثغر أغرّ شنيب اللّثات ... لذيذ المقبّل والمبتسم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 276 وما ذقته غير ظنّ به ... وبالظنّ يقضى عليك الحكم وكان مصعب قريبا منهن ومعه إخوان له، فقام فانتقل حتى دنا منهنّ والستور مسبلة، فصاح بها: يا هذه، إنا قد ذقناه فوجدناه على ما وصفت، فبارك الله فيك يا عزة، ثم أرسل إلى عائشة: أمّا أنت فلا سبيل لنا اليك مع من عندك، وأمّا عزّة فتأذنين لها أن تغنّينا هذا الصوت ثم تعود إليك، ففعلت وخرجت عزّة اليهم فغنّتهم هذا الصوت مرارا، وكاد مصعب أن يذهب عقله فرحا. ثم قال لها: يا عزّة، إنك لتحسنين القول والوصف، وأمرها بالعود إلى مجلسها. قال: ولم تزل عند مصعب حتى قتل عنها. فخطبها بشر بن مروان، وقدم عمر ابن عبيد الله بن معمر التّيمى من الشأم فنزل الكوفة، فبلغه أن بشرا خطبها، فأرسل إليها جارية لها وقال: قولى لابنة عمّى: ابن عمك يقرئك السلام ويقول لك: أنا خير لك من هذا المبسور المطحول، وأنا ابن عمك أحقّ بك، وإن تزوجت بك ملأت بيتك خيرا. فتزوّجته فبنى عليها بالحيرة، فمهّدت له سبعة أفرشة عرضها أربع أذرع؛ فأصبح ليلة بنى بها عن تسعة. فلقيته مولاة لها فقالت: أبا حفص، فديتك! قد كملت في كلّ شىء حتى في هذا. وقيل إنه لمّا تزوّجها حمل إليها ألف ألف درهم، خمسمائة ألف مهر، وخمسمائة ألف هديّة، وقال لمولاتها: لك علىّ ألف دينار إن دخلت بها الليلة، وأمر بالمال فحمل فألقى في الدار وغطّى بالثياب؛ وخرجت عائشة فقالت لمولاتها: ما هذا؟ أفرش أم ثياب؟ قالت: انظرى إليه؛ فنظرت فاذا هو مال، فتبسّمت. فقالت الجارية: أجزاء من حمل هذا المال أن يبيت عزبا! قالت: لا والله، ولكن لا يجوز دخوله إلا بعد أن أتزيّن له وأستعدّ. قالت: وماذا؟ فو الله لوجهك أحسن من كلّ زينة وما تمدّين يديك إلى طيب أو ثوب أو مال أو فراش إلا وهو عندك، وقد عزمت عليك أن تأذنى له. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 277 فقالت: افعلى. فذهبت إليه فقالت له: بت بنا الليلة. فجاءهم عند العشاء الآخرة فأدنى إليه طعام فأكل الطعام كلّه حتى أعرى الخوان وغسل يده وسأل عن المتوضّأ فأخبر به، فقام فتوضّأ وقام يصلّى حتى ضاق صدرى ونمت، ثم قال: أعليكم آذن؟ قلت: نعم فادخل، فأدخلته وأسبلت السّتر عليهما. فلما أصبحنا وقفت على رأسه فقال: أتقولين شيئا؟ قلت: نعم والله ما رأيت مثلك! فضحك وضرب بيده على منكب عائشة وقال لها: كيف رأيت ابن عمّك؟ فضحكت وغطّت وجهها وقالت: قد رأيناك فلم تحل لنا ... وبلوناك فلم نرض الخبر ومكثت عائشة عند عمر بن عبيد الله ثمانى سنين حتى مات سنة اثنتين وثمانين. ولما مات ندبته قائمة، ولم تندب أحدا قبله من أزواجها إلا جالسة. فقيل لها في ذلك فقالت: إنه كان أكرمهم علىّ وأمسّهم بى رحما، فأردت ألّا أتزوّج بعده. وكانت المرأة إذا ندبت زوجها قائمة لا تتزوّج بعده أبدا. ولم تتزوّج عائشة بنت طلحة بعد زوجها عمر بن عبيد الله. ومن أخبار عائشة بنت طلحة أيضا ما رواه أبو الفرج الأصبهانىّ بسنده إلى يزيد ابن عياض، قال: استأذنت عاتكة بنت يزيد بن معاوية عبد الملك في الحجّ، فأذن لها وقال: ارفعى حوائجك واستظهرى، فإن عائشة بنت طلحة تحجّ، ففعلت وتجهزت بهيئة جهدت فيها. فلما كانت بين مكة والمدينة إذا موكب قد جاء فضغطها «1» وفرّق جماعتها؛ فقالت: أرى هذه عائشة بنت طلحة، فسألت عنها، فقالوا: هذه جاريتها «2» . ثم جاء موكب آخر أعظم من ذلك، فقالوا: عائشة عائشة، فضغطهم فسألت عنها، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 278 فقالوا: هذه ما شطتها. ثم جاءت مواكب على هذا لحاشيتها، ثم أقبلت في ثلاثمائة راحلة عليها القباب والهوادج؛ فقالت عاتكة: ما عند الله خير وأبقى. قال: ووفدت عائشة بنت طلحة على هشام بن عبد الملك، فقال لها: ما أوفدك؟ قالت: حبست السماء مطرها ومنع السلطان الحقّ. قال: فأنا أصل رحمك وأعرف حقّك. ثم بعث إلى مشايخ بنى أميّة فقال: إن عائشة عندى فاسمروا عندى الليلة فحضروا؛ فما تذاكروا شيئا من أخبار العرب وأشعارها وآثارها إلا أفاضت معهم فيه، وما طلع نجم ولا غار إلا أسمته. فقال لها هشام: أمّا الأوّل فلا أنكره، وأمّا النجوم فمن أين لك؟ قالت: أخذته «1» عن خالتى عائشة رضى الله عنها؛ فأمر لها بمائة ألف درهم وردّها إلى المدينة. قال: ولما تأيّمت عائشة كانت تقيم «2» بمكة سنة وبالمدينة سنة، وتخرج إلى مال لها بالطائف عظيم وقصر لها هناك فتتنزه وتجلس فيه بالعشيّات، فتتناضل بين [يديها «3» ] الرّماة. فمرّ بها النّميرىّ الشاعر، فسألت عنه فانتسب لها؛ فقالت: ائتونى به، فجىء به. فقالت له: أنشدنى مما قلت في زينب؛ فامتنع وقال: بنت عمّى وقد صارت عظاما بالية. قالت: أقسمت عليك لمّا فعلت؛ فأنشدها قوله: نزلن بفخّ «4» ثم رحن عشيّة ... يلبّين للرحمن معتمرات يخمّرن أطراف الأكفّ من التّقى ... ويخرجن جنح اللّيل معتجرات «5» ولما رأت ركب النّميرىّ راعها ... وكنّ من ان يلقينه حذرات تضوّع مسكا بطن نعمان أن مشت ... به زينب في نسوة خفرات الجزء: 4 ¦ الصفحة: 279 - وزينب هذه هى زينب بنت يوسف الثّقفىّ أخت الحجّاج، وكان النميرىّ يهواها ويشبّب بها، وله معها أخبار يطول شرحها ليس هذا موضع إيرادها- قال: فقالت له عائشة لما أنشدها هذا الشعر: والله ما قلت إلا جميلا، ولا وصفت إلا كرما وطيّبا ودينا وتقى، أعطوه ألف درهم. فلما كانت الجمعة الأخرى تعرّض لها، فقالت: علىّ به؛ فجاء فقالت له: أنشدنى من شعرك في زينب؛ قال: فأنشدك من قول الحارث فيك. فوثب مواليها إليه، فقالت: دعوه فإنه أراد أن يستقيد لابنة عمّه، هات؛ فأنشدها: ظعن الأمير بأحسن الخلق ... وغدا بلبّك مطلع الشرق وتنوء تثقلها عجيزتها ... نهض الضعيف ينوء بالوسق ما صبّحت زوجا بطلعتها ... إلا غدا بكواكب الطّلق بيضاء من تيم كلفت بها ... هذا الجنون وليس بالعشق فقالت: والله ما ذكر إلا جميلا، ذكر أنى إذا صبّحت زوجا بوجهى غدا بكواكب الطّلق، وأنى غدوت مع أمير تزوّجنى الى الشرق، أعطوه ألف درهم واكسوه حلّتين ولا تعد لإنياننا يا نميرىّ؛ والله أعلم [ولنرجع إلى أخبار المغنّين «1» ] . ذكر أخبار محمد بن عائشة يكنى أبا جعفر ولم يكن له أب يعرف فنسب الى أمه؛ وكان يزعم أن اسم أبيه جعفر. وعائشة أمه مولاة لكثير بن الصّلت الكندىّ حليف قريش، وقيل: هى مولاة لآل المطلب بن [أبى «2» ] وداعة السّهمى. وقال ابن عائشة- وقد سأله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 280 الوليد بن يزيد فقال: يا محمد ألبغية أنت «1» ؟ -: كانت أمى يا أمير المؤمنين ماشطة وكنت غلاما، وكانت إذا دخلت إلى موضع قالت «2» : ارفعوا هذا لابن عائشة، فغلبت على نسبى. قالوا: وكان ابن عائشة يفتن كلّ من سمعه، وكان فتيان [من «3» ] المدينة قد فسدوا في زمانه بمحادثته ومجالسته. وأخذ عن معبد ومالك بن أبى السّمح، ولم يموتا حتى ساواهما على تقديمه لهما واعترافه بفضلهما. وكان تيّاها سيىء الخلق، إن قال له إنسان: تغنّ قال: ألمثلى يقال هذا! فإن غنّى وقال له إنسان: أحسنت، سكت؛ فكان قليلا ما ينتفع به. وكان ابن عائشة منقطعا إلى الحسن بن الحسن، وكان الحسن مكرما له. فسأله الحسن أن يخرج معه إلى البغيبغة «4» ، فامتنع ابن عائشة؛ فأقسم عليه وأظهر الجدّ. فلما عاين ما ظهر عليه قال: أخرج طائعا لا كارها؛ فأمر له ببغلة فركبها ومضيا الى البغيبغة، فنزلا الشّعب ثم أكلوا. وقال له: غنّنى، فاندفع فغنّاه صوتا فاستحسنه. فقال ابن عائشة: والله لا غنّيتك في يومى هذا شيئا. فأقسم الحسن ألّا يفارق البغيبغة ثلاثة أيام. فاغتمّ ابن عائشة ليمينه وندم. فلما كان في اليوم الثانى قال له: غنّ فقد برّت يمينك؛ فنظر إلى ناقة تقدم جماعة إبل فاندفع يغنّى: تمرّ كجندلة المنجنيق ... يرمى بها السّور يوم القتال وهى أبيات لأميّة بن أبى عائذ الهذلىّ يصف حمارا وحشيّا؛ والبيت «يمر» بالياء. وقيل: سال العقيق مرّة فدخل عرصة سعيد بن العاص [الماء «5» ] حتى ملأها، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 281 فخرج الناس إليها، وخرج ابن عائشة فجلس على قرن البئر. فبينا هم كذلك إذ طلع الحسن على بغلة ومعه غلامان أسودان، فقال لهما: امضيا رويدا حتى تقفا بأصل القرن الذى عليه ابن عائشة، ففعلا ذلك. ثم ناداه الحسن: كيف أصبحت يابن عائشة قال: بخير. قال: انظر من تحتك، فنظر فإذا العبدان. قال: أتعرفهما؟ قال نعم. قال: فهما حرّان لئن لم تغنّنى مائة صوت لآمرنّهما بطرحك في البئر، وهما حرّان لئن لم يفعلا لأقطعنّ أيديهما «1» . فاندفع ابن عائشة وغنّى بشعر الهذلىّ: ألا لله درّك من ... فتى قوم إذا رهبوا وقالوا من فتى للحر ... ب يرقبنا ويرتقب «2» فكنت فتاهم فيها ... إذا تدعى لها تثب ذكرت أخى فعاودنى ... صداع الرأس والوصب كما يعتاد ذات البوّ ... بعد سلوّها الطّرب على عبد بن زهرة بتّ ... طول الليل أنتحب وروى أبو الفرج الأصفهانىّ بسند رفيه إلى حمّاد الراوية: أن الوليد بن يزيد استقدمه من العراق إلى الشأم على دوابّ البريد. وكان ممّا حكاه عنه قال: قدمت عليه فأذن لى، فدخلت فإذا هو على سرير ممهّد وعليه ثوبان أصفران وعنده معبد ومالك بن أبى السّمح وأبو كامل مولاه، فاستنشدنى: أمن المنون وريبها «3» تتوجّع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 282 فأنشدته حتى أتيت على آخرها. ثم قال: يا مالك، غنّنى: ألا هل هاجك الأظعا ... ن إذ جاوزن مطّلحا فغنّاه. ثم قال: غنّنى: جلا أميّة عنّى كلّ مظلمة ... سهل الحجاب وأوفى بالذى وعدا فغنّاه. ثم قال: غنّنى: أتنسى «1» إذ تودّعنا سليمى ... بفرع بشامة، سقى البشام! فغنّاه؛ ثم أتاه الحاجب فقال: يا أمير المؤمنين، الرجل الذى طلبت بالباب، فأذن له فدخل شابّ لم أر أحسن وجها منه. فقال له: غنّنى: وهى إذ ذاك عليها مئرر ... ولها بيت جوار من لعب فغنّاه، فنبذ إليه الثوبين، ثم قال: غنّنى: طاف الخيال فمرحبا ... ألفا برؤية زينبا فغضب معبد وقال: يا أمير المؤمنين، إنّا مقبلون عليك بأقدارنا وأسناننا وإنك تركتنا بمزجر الكلب وأقبلت على هذا الصبىّ. فقال: يا أبا عبّاد، ما جهلت قدرك ولا سنّك، ولكن هذا الغلام طرحنى في مثل الطّناجير من حرارة غنائه. قال حماد: فسألت عن الغلام فقيل لى: هو ابن عائشة. وحكى عن شيخ من تنوخ قال: كنت صاحب ستر الوليد بن يزيد، فرأيت ابن عائشة عنده وقد غنّاه: إنى رأيت صبيحة النّفر ... حورا نفين عزيمة الصبر مثل الكواكب في مطالعها ... بعد العشاء أطفن بالبدر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 283 وخرجت أبغى الأجر محتسبا ... فرجعت موفورا من الوزر فطرب الوليد حتى كفر وألحد، وقال: يا غلام، اسقنا بالسماء السابعة «1» ، ثم قال: أحسنت والله يا أميرى، أعد بحقّ عبد الشمس فأعاد، ثم قال: أحسنت يا أميرى والله، أعد بحق أميّة فأعاد، ثم قال: أعد بحق فلان حتى بلغ من الملوك نفسه، فقال: أعد بحياتى فأعاده؛ فقام فأكبّ عليه، فلم يبق عضو من أعضائه إلّا قبّله؛ ثم نزع ثيابه فألقاها عليه وبقى مجرّدا إلى أن أتوه بمثلها، ووهب له ألف دينار وحمله على بغلة وقال: اركبها بأبى أنت وانصرف، فقد تركتنى على مثل المقلى من حرارة غنائك. فركبها على بساطه وانصرف. وحكى أيضا أن ابن عائشة انصرف من عند الوليد وقد غنّاه: أبعدك معقلا أرجو وحصنا ... قد اعيتنى «2» المعاقل والحصون فأمر له بثلاثين ألف درهم وبمثل كارة القصّار «3» كسوة. فبينا ابن عائشة يسير إذ نظر إليه رجل من أهل وادى القرى، وكان يشتهى الغناء ويشرب النبيذ، فقال لغلامه: من هذا الراكب؟ قال: ابن عائشة المغنّى، فدنا منه فقال: جعلت فداءك! أنت ابن عائشة أمّ المؤمنين؟ قال: لا أنا مولى لقريش وعائشة أمى، وحسبك هذا. قال: وما هذا الذى أراه بين يديك من المال والكسوة؟ قال: غنّيت أمير المؤمنين صوتا فأطربه فكفر وترك الصلاة وأمر لى بهذا المال وهذه الكسوة. قال: جعلت فداءك! فهل تمنّ علىّ أن تسمعنى ما أسمعته إيّاه؟ فقال: ويلك! الجزء: 4 ¦ الصفحة: 284 أمثلى يكلّم بهذا في الطريق! قال: فما أصنع؟ قال: الحقنى بالباب. وحرّك ابن عائشة بغلته لينقطع عنه، فعدا معه حتى وافيا الباب كفرسى رهان. ودخل ابن عائشة فمكث طويلا طمعا ان يضجر فينصرف، فلم يفعل حتى أعياه. فقال لغلامه: أدخله، فلما دخل، قال له: ويلك! من أين صبّك الله علىّ! قال: أنا رجل من أهل وادى القرى أشتهى هذا الغناء. فقال له: هل لك فيما هو أنفع لك منه؟ قال: وما ذاك؟ قال: مائتا دينار وعشرة أثواب تنصرف بها الى أهلك. فقال له: جعلت فداءك! والله إن لى بنيّة ما في أذنها- علم الله- حلقة من الورق فضلا عن الذهب، وإن لى زوجة ما عليها- شهد الله- قميص، ولو أعطيتنى جميع ما أمر لك به أمير المؤمنين على هذه الحالة والفقر اللّذين عرّفتكهما وأضعفت لى هذا لكان الصوت أعجب إلىّ. فتعجّب ابن عائشة وغنّاه الصوت، فجعل يحرّك رأسه ويطرب له طربا شديدا حتى ظنّ أن عنقه ستنقصف؛ ثم خرج من عنده ولم يرزأه شيئا. وبلغ الخبر الوليد بن يزيد، فسأل ابن عائشة عنه، فجعل يغيب عن الحديث؛ فلم يزل به حتى صدقه الحديث، فطلب الرجل، فطلب حتى أحضر إليه ووصله صلة سنيّة وجعله من ندمائه ووكلّه بالسّقى؛ فلم يزل معه حتى قتل رحمه الله. وعن علىّ بن الجهم الشاعر قال: حدّثنى رجل أن ابن عائشة كان واقفا بالموسم مهجّرا «1» فمرّ به بعض أصحابه فقال: ما يقيمك هاهنا؟ قال: إنى أعرف رجلا لو تكلم لحبس الناس هاهنا فلم يذهب أحد ولم يجئ. فقال له الرجل: ومن ذاك؟ قال: أنا؛ ثم اندفع يغنّى: جرت سنحا فقلت لها أجيزى ... نوى مشمولة فمتى اللّقاء بنفسى من تذكّره سقام ... أعانيه ومطلبه عناء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 285 قال: فحبس الناس واضطربت المحامل ومدّت الإبل أعناقها، فكادت الفتنة أن تقع. فأتى به هشام بن عبد الملك، فقال له: يا عدوّ الله! أردت أن تفتن الناس! قال: فأمسك عنه وكان تيّاها؛ فقال له هشام: ارفق بتيهك. فقال: يحقّ لمن كانت هذه مقدرته على القلوب أن يكون تيّاها! فضحك هشام وخلّى سبيله. واختلف في وفاة ابن عائشة وسببها. فقيل: كانت وفاته في أيام هشام بن عبد الملك، وقيل: فى أيام الوليد بن يزيد وهو أشبه، لأنه قد تقدّم أنه نادم الوليد وغنّاه. والذى يقول: إنه توفّى في أيام هشام يزعم أنه نادم الوليد في أيام ولايته العهد. وكانت وفاته بذى خشب، وهو على أميال من المدينة. قيل: كان سبب وفاته أن الغمر بن يزيد خرج إلى الشأم؛ فلما نزل قصر ذى خشب جلس على سطحه، فغنى ابن عائشة صوتا طرب له الغمر، فقال: أعده فأبى، وكان لا يردّد صوتا لسوء خلقه. فأمر به فطرح من أعلى السطح فمات. وقيل: بل قام من الليل يبول وهو سكران فسقط من السطح فمات. وقيل: بل كان قد رجع من عند الوليد بن يزيد، فلما قرب من المدينة نزل بذى خشب، وكان والى المدينة إبراهيم بن هشام المخزومىّ وكان في قصره هناك، فدعاه فأقام عنده ذلك اليوم. فلما أخذوا في الشّرب أخرج المخزومىّ جواريه، فنظر إلى ابن عائشة وهو يغمز جارية منهنّ؛ فقال لخادمه: إذا خرج ابن عائشة يريد حاجته فارم به من القصر، وكانوا يشربون في سطح القصر، فلما قام رماه الخادم فمات. وقيل: بل أقبل من الشأم فنزل بقصر ذى خشب فشرب فيه ثم صعد إلى أعلى القصر فنظر إلى نسوة يمشين في ناحية الوادى، فقال لأصحابه: هل لكم فيهنّ؟ فقالوا: وكيف لنا بهنّ! فلبس ملاءة مدلوكة ثم قام على شرفة من شرفات القصر وتغنّى بشعر ابن أذينة: وقد قالت لأتراب ... لها زهر تلاقينا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 286 تعالين فقد طاب ... لنا العيش تعالينا فأقبلن عليه، فطرب واستدار فسقط فمات، عفا الله تعالى عنه ورحمه. وقيل: بل مات بالمدينة. وأوّل هذه الأبيات: سليمى أزمعت بينا ... وأين لقاؤها أينا وقد قالت لأتراب ... لها زهر تلاقينا تعالين فقد طاب ... لنا العيش تعالينا فأقبلن إليها مس ... رعات يتهادينا إلى مثل مهاة الرم ... ل تكسو المجلس الزّينا إلى خود منعّمة ... حففن بها وفدّينا تمنّين «1» مناهنّ فكنّا ما تمنّينا ذكر أخبار ابن محرز هو مسلم، وقيل: عبد الله بن محرز. ويكنى أبا الخطاب. مولى عبد الدار بن قصىّ. وكان أبوه من سدنة الكعبة، وأصله من الفرس. وكان يسكن المدينة مرّة ومكة مرّة. فكان إذا أتى المدينة أقام بها ثلاثة أشهر يتعلّم الضرب من عزّة الميلاء ثم يرجع إلى مكة فيقيم بها ثلاثة أشهر. ثم شخص إلى فارس فتعلّم ألحان الفرس وأخذ غناءهم، ثم صار إلى الشأم فتعلّم ألحان الروم «2» وأخذ غناءهم. وأسقط من ذلك مالا يستحسن من غناء الفريقين ونغمهم وأخذ محاسنها، فمزج بعضها ببعض وألّف منها الأغانى التى صنعها في أشعار العرب، فأتى بما لم يسمع مثله. وكان يقال له صنّاج العرب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 287 وقيل: إنه أوّل من أخذ الغناء عن ابن مسجح. وهو أوّل من غنّى بالرّمل وما غنّى قبله. وكان ابن محرز قليل الملابسة للناس، فأخمل ذلك ذكره. وأخذ أكثر غنائه جارية كانت لصديق له من أهل مكة كانت تألفه فأخذه الناس عنها. ومات بعلّة الجذام، وكان ذلك سبب امتناعه من معاشرة الخلفاء ومخالطة الناس. وحكى أنه رحل إلى العراق، فلما بلغ القادسيّة لقيه حنين فقال له: كم منّتك نفسك من العراق؟ قال: ألف دينار؛ قال: هذه خمسمائة دينار فخذها وانصرف واحلف ألّا تعود، ففعل. فلما شاع ما فعل حنين لامه أصحابه: فقال: والله لو دخل العراق ما كان لى معه خبزا آكله ولاطّرحت ثم سقطت إلى آخر الدهر. ولم أقف من أخبار ابن محرز على أكثر من هذا فأورده. والسلام. ذكر أخبار مالك بن أبى السّمح هو أبو الوليد مالك بن أبى السّمح. واسم أبى السمح جابر بن ثعلبة الطائى. وأمّه قرشيّة من بنى مخزوم؛ وقيل: بل أمّ أبيه [منهم» ] ؛ وقيل فيه: مالك بن أبى السمح بن سليمان. وكان أبوه منقطعا إلى عبد الله بن جعفر بن أبى طالب ويتيما في حجره أوصى به أبوه إليه. وكان مالك أحول طويلا. وأخذ الغناء عن جميلة ومعبد وعمر، وأدرك الدولة العباسيّة. وكان منقطعا إلى بنى سليمان بن علىّ، ومات في خلافة أبى جعفر المنصور. وروى الأصفهانىّ بسنده إلى الوردانىّ، قال: كان مالك بن أبى السمح المغنّى من طيىء، فأصابتهم حطمة «2» فى بلادهم بالجبلين، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 288 فقدمت به أمّه وبإخوة له وأخوات أيتام لا شىء لهم. وكان يسأل الناس على باب حمزة بن الزبير. وكان معبد منقطعا إلى حمزة يكون عنده في كل يوم. فسمع مالك غناءه فأعجبه واشتهاه. وكان لا يفارق باب حمزة يسمع غناء معبد إلى الليل ولا يطوف بالمدينة ولا يطلب من أحد شيئا ولا يريم موضعه «1» ، فينصرف إلى امه ولم يكسب شيئا فتضربه، وهو مع ذلك يترنّم بألحان معبد فيؤدّيها نغما بغير لفظ. وجعل حمزة كلما غدا أو راح رآه ملازما لبابه؛ فقال لغلامه يوما: أدخل هذا الغلام إلىّ فأدخله الغلام اليه؛ فقال له حمزة: من أنت؟ قال: غلام من طيئ أصابتنا حطمة بالجبلين فهبطنا إليكم ومعى أمّ لى وإخوة، وإنى لزمت بابك فسمعت من دارك صوتا أعجبنى ولزمت بابك من أجله. قال: فهل تعرف منه شيئا؟ قال: أعرف لحنه كلّه ولا أعرف الشعر. فقال: إن كنت صادقا إنك لفهم. ودعا بمعبد فأمره أن يغنّى صوتا فغنّاه، ثم قال لمالك: هل تستطيع أن تقوله؟ قال نعم. قال: هاته؛ فاندفع فغنّاه فأدّى نغمه بغير شعر «2» ، يؤدّى مدّاته وليّاته وعطفاته ونبراته ومتعلقاته لا يخرم منه حرفا. فقال لمعبد: خذ هذا الغلام إليك وخرّجه فليكوننّ له شأن. قال معبد: ولم أفعل ذلك؟ قال: لتكون محاسنه منسوبة إليك وإلّا عداك إلى غيرك فكانت محاسنه منسوبة إليه. فقال معبد: صدق الأمير، وأنا أفعل ما أمرتنى به. قال حمزة لمالك: كيف [وجدت «3» ] ملازمتك لبابنا؟ قال: أرأيت إن قلت فيك غير الذى أنت له مستحقّ من الباطل أكنت ترضى بذلك؟ قال لا. قال: وكذلك لا يسرّك أن تحمد بما لم تفعل؛ قال نعم. قال: فو الله ما شبعت على بابك شبعة قط، ولا انقلبت إلى أهلى منه بخير. فأمر له ولأمّه ولإخوته بمنزل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 289 وأجرى عليهم رزقا وكسوة وأمر لهم بخادم يخدمهم وعبد يسقيهم الماء، وأجلس مالكا معه في مجالسه، وأمر معبدا أن يطارحه فلم ينشب أن مهر. فخرج مالك يوما فسمع امرأة تنوح على زيادة الذى قتله هدبة بن خشرم- والشعر لأخى زيادة-: أبعد الذى بالنّعف نعف كويكب ... رهينة رمس ذى تراب وجندل أذكّر بالبقيا على من أصابنى ... وذلك أنّى جاهد غير مؤتلى «1» فلا يدعنى قومى لزيد بن مالك ... لئن لم أعجّل ضربة أو أعجّل وإلّا أنل ثأرى من اليوم أو غد ... بنى عمّنا فالدّهر ذو متطوّل أنختم علينا كلكل الحرب «2» مرّة ... فنحن منيخوها «3» عليكم بكلكل فغنّى في هذا الشعر لحنين، أحدهما نحا فيه نحو المرأة في نوحها ورقّقه وأصلحه، والآخر نحا فيه نحو معبد في غنائه. ثم دخل على حمزة فقال له: أيها الأمير، إنى قد صنعت غناء في شعر سمعت أهل المدينة ينشدونه وقد أعجبنى، فإن أذن الأمير غنّيته. قال: هات؛ فغنّى اللحن الذى نحا فيه نحو معبد؛ فطرب حمزة وقال: أحسنت يا غلام، هذا الغناء غناء معبد بطريقته. قال: لا تعجل أيها الأمير واسمع منّى شيئا ليس من غناء معهد ولا طريقته؛ فغنّاه اللحن الذى تشبّه فيه بنوح المرأة. فطرب حمزة حتى ألقى عليه حلّة كانت عليه قيمتها مائتا دينار. ودخل معبد فرأى حلّة حمزة على مالك فأنكرها. وعلم حمزة بذلك فأخبر معبدا بالسبب، وأمر مالكا فغنّاه الصوتين. فغضب معبد لمّا سمع الصوت الأوّل وقال: قد كرهت أن آخذ هذا الغلام فيتعلّم غنائى فيدّعيه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 290 لنفسه. فقال حمزة: لا تعجل واسمع غناء [صنعه «1» ] ليس من شأنك ولا غنائك، وأمره أن يغنّى الصوت الآخر فغنّاه، فأطرق معبد. فقال له حمزة: والله لو انفرد بهذا لضاهاك ثم تزايد على الأيام، وكلما كبر وزاد شخت أنت وانتقصت، فلأن يكون منسوبا إليك أجمل. فقال له معبد وهو منكسر: صدق الأمير. فأمر حمزة لمعبد بخلعة من ثيابه وجائزة حتى سكن وطابت نفسه. فقام مالك على رجليه وقبّل رأس معبد وقال له: يا أبا عبّاد، أساءك ما سمعت منى؟ والله لا أغنّى لنفسى شيئا أبدا ما دمت حيّا! وإن غلبتنى نفسى فغنّيت في شعر استحسنته لا نسبته إلا إليك، فطب نفسا وارض عنّى. فقال له معبد: أتفعل هذا وتفى به؟ قال: إى والله وأزيد. فكان مالك إذا غنّى صوتا وسئل عنه قال: هذا لمعبد، ما غنّيت لنفسى شيئا قط، وإنما آخذ غناء معبد فأنقله إلى الأشعار وأحسّنه وأزيد فيه وأنقص منه. وحضر مالك بن أبى السّمح عند يزيد بن عبد الملك مع معبد وابن عائشة فغنّوه، فأمر لكلّ واحد منهم بألف دينار. وحكى عن ابن الكلبىّ قال: قال الوليد بن يزيد لمعبد: قد آذتنى ولولتك هذه، وقال لابن عائشة: قد آذانى استهلالك هذا، فاطلبا لى رجلا يكون مذهبه متوسّطا بين مذهبيكما. فقالا له: مالك بن أبى السمح؛ فكتب فى إشخاصه إليه وسائر من بالحجاز من المغنّين. فلما قدم مالك على الوليد بن يزيد فيمن معه نزل على الغمر بن يزيد، فأدخله على الوليد فغنّاه فلم يعجبه. فلما انصرف قال له الغمر: إنّ أمير المؤمنين لم يعجبه شىء من غنائك، فقال له: جعلنى الله فداك! اطلب لى الإذن عليه مرّة أخرى، فإن أعجبه شىء ممّا أغنّيه وإلا انصرفت إلى بلادى. فلما جلس الوليد في مجلس اللهو ذكره الغمر له؛ فأذن له فشرب مالك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 291 ثلاث صراحيّات «1» صرفا، ودخل على الوليد وهو يخطر في مشيته، فلما بلغ باب المجلس وقف ولم يسلّم وأخذ بحلقة الباب ثم رفع صوته فغنّى: لا عيش إلا بمالك بن أبى السّمح ... فلا تلحنى ولا تلم أبيض كالبدر أو كما يلمع ال ... بارق في حالك من الظّلم فليس يعصيك إن رشدت ولا ... يهتك حقّ الإسلام والحرم يصيب من لذّة الكرام ولا ... يجهل آى الترخيص في اللّمم يا ربّ ليل لنا كحاشية ال ... برد ويوم كذاك لم يدم نعمت فيه ومالك بن أبى السّمح ... الكريم الأخلاق والشّيم فطرب الوليد ورفع يديه حتى بان إبطاه وقام فاعتنقه، ثم أخذ في صوته ذلك فلم يزالوا فيه أياما، وأجزل له العطيّة حين أراد الانصراف. قال: ولما أتى مالك على قوله: «أبيض كالبدر» قال الوليد: أحول كالقرد أو كما يرقب السّارق ... فى حالك من الظّلم قالوا: وكان مالك بن أبى السمح مع الوليد بن يزيد يوم قتل هو وابن عائشة. قال ابن عائشة: وكان مالك من أحمق الخلق، فلما قتل الوليد قال: اهرب بنا؛ قلت: وما يريدون منّا؟ قال: وما يؤمنّك أن يأخذوا رأسينا فيجعلوا رأسه بينهما ليحسّنوا أمرهم بذلك!. ذكر أخبار يونس الكاتب هو يونس بن سليمان بن كرد بن شهريار من ولد هرمز، مولى «2» لعمرو بن الزبير، ومنشؤه ومنزله بالمدينة، وكان أبوه فقيها فأسلمه في الديوان وكان من كتابه. وأخذ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 292 الغناء عن معيد وابن سريج وابن محرز والغريض، وكان أكثر روايته عن معبد. ولم يكن في أصحاب معبد أحذق منه ولا أقوم بما أخذ عنه منه. وله غناء حسن، وصنعة كثيرة، وشعر جيّد. وهو أوّل من دوّن الغناء. وله كتاب في الأغانى نسبها إلى من غنّى فيها. وخرج إلى الشأم في تجارة، فبلغ الوليد بن يزيد مكانه فأحضره والوليد إذ ذاك ولىّ العهد. قال: فلما وصلت إليه سلّمت عليه، فأمرنى بالجلوس، ثم دعا بالشراب والجوارى. قال يونس: فمكثنا يومنا وليلتنا في أمر عجيب، وغنّيته فأعجب بغنائى إلى أن غنّيته: إن يعش مصعب فنحن بخير ... قد أتانا من عيشنا ما نرجّى ثم تنبهت فقطعت الصوت وأخذت أعتذر من غنائى بشعر في مصعب، فضحك ثم قال: إن مصعبا قد مضى وانقطع أثره ولا عداوة بينى وبينه وإنما أريد الغناء، فأمض الصوت؛ فعدت فيه فغنّيته ولم يزل يستعيده حتى أصبح فشرب مصطبحا وهو يستعيدنى هذا الصوت ولا يتجاوزه. فلما مضت ثلاثة أيام قلت: جعلنى الله فداك إنى رجل تاجر خرجت مع تجّار وأخاف أن يرتحلوا فيضيع مالى، فقال: أنت تغدو غدا، وشرب باقى ليلته وأمر لى بثلاثة آلاف دينار. فحملت إلىّ وغدوت إلى أصحابى. فلما استخلف بعث إلىّ فأتيته فلم أزل معه حتى قتل. ذكر أخبار حنين هو حنين بن بلوع الحيرى. واختلف في نسبه، فقيل: هو من العباديّين من تميم، وقيل: إنه من بنى الحارث بن كعب، وقيل: إنه من قوم بقوا من طسم وجديس، فنزلوا في بنى الحارث بن كعب فعدّوا فيهم. ويكنى أبا كعب. وكان شاعرا مغنّيا من فحول المغنّين، وكان يسكن الحيرة ويكرى الجمال إلى الشأم، وكان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 293 نصرانيّا. وعن المدائنىّ قال: كان حنين غلاما يحمل الفاكهة بالحيرة، وكان إذا حمل الرياحين إلى بيوت الفتيان «1» ومياسير أهل الكوفة وأصحاب القيان والمتطرّبين ورأوا رشاقته وحسن قدّه وحلاوته وخفّة روحه استحلوه وأقام عندهم، فكان يسمع الغناء ويصغى له، حتى شدا منه أصواتا فاستمعه الناس، وكان مطبوعا حسن الصوت. واشتهر غناؤه وشهر بالغناء ومهر فيه وبلغ فيه مبلغا كبيرا. ثم رحل إلى عمر «2» بن داود الوادى وإلى حكم الوادىّ وأخذ منهما وغنّى لنفسه واستولى على الغناء في عصره، وهو الذى بذل لابن محرز خمسمائة دينار حتى رجع عن العراق، كما قدّمناه في أخبار ابن محرز. وبلغ من الناس بالغناء مبلغا عظيما، حتى قيل له فيما حكى: إنك تغنّى منذ خمسين سنة فما تركت لكريم مالا ولا دارا ولا عقارا إلا أتيت عليه. فقال: بأبى أنتم! إنما هى أنفاسى أقسمها بين الناس، أفتلوموننى أن أغلى بها الثمن. وحكى المدائنىّ قال: حجّ هشام بن عبد الملك وعديله الأبرش الكلبىّ؛ فوقف له حنين بظهر الكوفة ومعه عود وزامر له. فلما مرّ به هشام عرض له فقال: من هذا؟ قيل: حنين؛ فأمر به هشام فحمل في محمل على جمل وعديله زامره وسيّره أمامه، فغنّاه: أمن سلمى بظهر الكوفة ... الآيات والطّلل تلوح كما تلوح على ... جفون الصّيقل الخلل فأمر له هشام بمائتى دينار وللزّامر بمائة دينار. وحكى أن خالد بن عبد الله القسرىّ حرّم الغناء بالعراق في أيامه ثم أذن للناس يوما في الدخول عليه عامّة؛ فدخل عليه حنين في جملة الناس ومعه عود تحت ثيابه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 294 فقال: أصلح الله الأمير! كانت لى صناعة أعود بها على عيالى فحرّمها الأمير فأضرّ ذلك بى وبهم. فقال: وما كانت صناعتك؟ فكشف عن عوده وقال: هذا. فقال له خالد: غنّ؛ فعرك «1» أوتاره وغنّى: أيّها الشّامت المعيّر بالدهر ... أأنت المبرّأ الموفور أم لديك العهد الوثيق من الأيام ... بل أنت جاهل مغرور من رأيت المنون خلّدن أم من ... ذا عليه من أن يضام خفير قال: فبكى خالد وقال: قد أذنت لك وحدك خاصّة، ولا تجالس سفيها ولا معربدا. فكان إذا دعى قال: أفيكم سفيه أو معربد؟ فإذا قالوا لا، دخل. وقال بشر بن الحسين بن سليمان بن سمرة بن جندب: عاش حنين بن بلوع مائة سنة وسبع سنين. ذكر أخبار سياط هو عبد الله بن وهب ويكنى أبا وهب، وسياط لقب غلب عليه. وهو مكىّ مولى خزاعة. كان مقدّما في الغناء رواية وصنعة، مقدّما في الطرب. وهو أستاذ ابن جامع وإبراهيم الموصلىّ وعنه أخذا، وأخذ هو عن يونس الكاتب. وكان سياط زوج أمّ ابن جامع. قيل: وإنما لقّب سياط بهذا اللقب لأنه كان كثيرا ما يغنّى: كأنّ مزاحف الحيّات فيها «2» ... قبيل الصبح آثار السّياط حكى أن إبراهيم الموصلىّ غنّى صوتا لسياط، فقال ابنه إسحاق: لمن هذا الغناء يا أبت؟ قال: لمن لو عاش ما وجد أبوك خبزا يأكله، سياط. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 295 وحكى أن سياطا مرّ بأبى ريحانة في يوم بارد وهو جالس في الشمس وعليه سمل ثوب رقيق رثّ؛ فوثب إليه أبو ريحانة المدنىّ وقال: بأبى أنت يا أبا وهب! غنّنى صوتك في شعر ابن جندب: فؤادى رهين في هواك ومهجتى ... تذوب وأجفانى عليك همول فغنّاه إياه، فشقّ قميصه ورجع إلى موضعه من الشمس وقد ازداد بردا وجهدا. فقال له رجل: ما أغنى عنك هذا من شقّ قميصك؟! فقال: يابن أخى، إن الشعر الحسن من المغنّى المحسن ذى الصوت المطرب أدفأ للمقرور من حمّام محمّى. فقال له رجل: أنت عندى من الذين قال الله تعالى فيهم: (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) فقال: بل أنا ممّن قال الله تعالى فيهم: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) . وقد حكيت هذه الحكاية أيضا من طريق آخر: أنّه لمّا غنّاه هذا الصوت شقّ قميصه حتى خرج منه وبقى عاريا وغشى عليه واجتمع الناس حوله، وسياط واقف يتعجّب مما فعل، ثم أفاق فقام إليه. فقال له سياط: مالك «1» يا مشئوم! أىّ شىء تريد؟ قال: غنّنى بالله عليك يا سيدى: ودّع أمامة حان منك رحيل ... إنّ الوداع لمن تحبّ قليل مثل القضيب تمايلت أعطافه ... فالرّيح تجذب متنه فيميل «2» إن كان شأنكم الدّلال فإنه ... حسن دلالك يا أميم جميل فغنّاه، فلطم وجهه حتى خرج الدّم من أنفه ووقع صريعا. ومضى سياط وحمل الناس أبا ريحانة إلى الشمس. فلما أفاق قيل له في ذلك فقال نحو ما تقدّم. قال: ووجّه إليه سياط بقميص وسراويل وجبّة وعمامة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 296 وكانت وفاة سياط في أيام موسى الهادى. ودخل عليه ابن جامع وقد نزل به الموت فقال له: ألك حاجة؟ قال: نعم لا تزد في غنائى شيئا ولا تنقص منه، فإنما هو ثمانية عشر صوتا دعه رأسا برأس. وقيل: بل كانت وفاته فجأة، وذلك أنه دعاه بعض إخوانه فأتاهم وأقام عندهم وبات؛ فأصبحوا فوجدوه ميّتا في منزلهم؛ فجاءوا إلى أمه وقالوا: يا هذه إنا دعونا ابنك لنكرمه ونسرّ به ونأنس بقربه فمات فجأة، وها نحن بين يديك، فاحكمى ما شئت، وناشدناك الله أن [لا «1» ] تعرّضينا للسلطان أو تدّعى علينا ما لم نفعله. قالت: ما كنت لأفعل، وقد صدقتم، وهكذا مات أبوه فجأة، وتوجّهت معهم فحملته إلى منزله ودفنته. ذكر أخبار الأبجر هو عبيد الله بن القاسم بن منبّه «2» ، ويكنى أبا طالب. وقيل: اسمه محمد بن القاسم، والأبجر لقب غلب عليه. وهو مولى لكنانة ثم لبنى ليث بن بكر «3» . وكان يلقّب بالحسحاس. وكان مدنيّا منشؤه مكة أو مكيّا منشؤه المدينة. قال عورك اللهبىّ: لم يكن بمكة أحد أظرف ولا أسرى ولا أحسن هيئة من الأبجر؛ كانت حلته بمائة دينار وفرسه بمائة دينار ومركبه بمائة دينار؛ وكان يقف بين المأزمين ويرفع عقيرته، فيقف الناس له فيركب بعضهم بعضا. وروى الأصفهانىّ بسنده إلى اسحاق ابن إبراهيم الموصلىّ قال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 297 جلس الأبجر في ليلة اليوم السابع من أيام الحجّ على قريب من التّنعيم فإذا عسكر جرّار [قد أقبل «1» ] فى آخر الليل وفيه دوابّ تجنب ومنها فرس أدهم عليه سرج حليته ذهب، فاندفع يغنّى: عرفت ديار الحىّ خالية قفرا ... كأن بها لمّا توهّمتها سطرا فلما سمعه من في القباب والمحامل أمسكوا وصاح صائح: ويحك أعد الصوت! فقال: لا والله إلا بالفرس الأدهم بسرجه ولجامه وأربعمائة دينار؛ وإذا الوليد بن يزيد صاحب العسكر. فنودى: أين منزلك؟ ومن أنت؟ فقال: أنا لأبجر، ومنزلى على زقاق باب الخرّازين «2» . فغدا عليه رسول الوليد بذلك الفرس وأربعمائة دينار وتخت ثياب وشى وغير ذلك، ثم أتى به الوليد، فأقام وراح مع أصحابه عشيّة التّروية وهو أحسنهم هيئة، وخرج معه أو بعده إلى الشأم. وحكى عن عمرو بن حفص بن أمّ كلاب «3» ، قال: كان الأبجر مولانا وكان مكيّا، وكان إذا قدم من مكة نزل علينا. فقال لنا يوما: أسمعونا غناء ابن عائشتكم هذا؛ فأرسلنا إليه فجمعنا بينهما في بيت ابن هبّار. فغنّى ابن عائشة؛ فقال الأبجر: كلّ مملوك له حرّ إن غنّيت معك إلّا بنصف صوتى، ثم أدخل إصبعه في شدقه وغنّى فسمع صوته من في السوق، فحشر الناس علينا، فلم يفترقا حتى تشاتما. ذكر أخبار أبى زيد الدّلال هو أبو زيد ناقد مدنىّ، مولى عائشة بنت سعيد بن العاص، وكان مخنّثا. قال إسحاق: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 298 لم يكن في المخنّثين أحسن وجها ولا أنظف ثوبا ولا أظرف من الدّلال. قالوا: ولم يكن بعد طويس أظرف منه ولا أكثر ملحا. وكان كثير النوادر نزر الحديث، فإذا تكلم أضحك الثّكالى، وكان ضاحك السنّ، ولم يكن يغنّى إلّا غناء مضعّفا (يعنى كثير العمل) . وقال أيّوب بن عباية: شهدت أهل المدينة إذا ذكروا الدّلال وأحاديثه طوّلوا رقابهم وفخروا به، فعلمت أن ذلك لفضيلة كانت عنده. قالوا: وكان مبتلى بالنّساء والكون معهنّ، فكان يطلب فلا يقدر عليه. وكان صحيح الغناء حسن الجرم. قالوا: وإنما لقّب بالدلال لشكله وحسن ظرفه ودلّه وحلاوة منطقه وحسن وجهه. وكان مشغوفا بمخالطة النساء يكثر وصفهنّ للرجال. وكان يشاغل كلّ من يجالسه عن الغناء بأحاديث النساء كراهة منه للغناء. وكان إذا غنّى أجاد، كما حكاه ابن الماجشون عن أبيه قال: غنّانى الدّلال يوما بشعر مجنون بنى عامر، فلقد خفت الفتنة على نفسى. واستحضره سليمان بن عبد الملك من المدينة سرّا وغنّاه وأقام عنده شهرا ثم صرفه إلى الحجاز مكرما. قال الأصمعىّ: حجّ هشام بن عبد الملك؛ فلما قدم المدينة نزل رجل من أشرف أهل الشأم وقوّادهم بجنب دار الدّلال، فكان الشامىّ يسمع غناء الدلال ويصغى إليه ويصعد فوق السطح ليقرب من الصوت، ثم بعث إلى الدّلال: إمّا أن تزورنا وإمّا أن نزورك. فبعث إليه الدّلال بل تزورنا. فبعث الشامىّ ما يصلح ومضى إليه بغلامين من غلمانه كأنهما درّتان مكنونتان. فغنّاه الدّلال، فاستحسن الشامىّ غناءه فقال: زدنى؛ قال: أو ما يكفيك ما سمعت! قال: لا والله ما يكفينى. قال: فإنّ لى حاجة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 299 قال: وما هى؟ قال: تبيعنى أحد هذين الغلامين أو كليهما، فقال: اختر أيّهما شئت، فاختار أحدهما، فقال له الشامىّ: هو لك؛ فقبله منه الدلال، ثم غنّاه وغنّى: دعتنى دواع من أريّا فهيّجت ... هوى كان قدما من فؤاد طروب لعل زمانا قد «1» مضى أن يعود لى ... فتغفر أروى عند ذاك ذنوبى سبتنى أريّا يوم نعف محسّر ... بوجه جميل للقلوب سلوب فقال له الشامىّ: أحسنت. ثم قال له: أيّها الرجل الجميل، إن لى [إليك «2» ] حاجة، قال الدّلال: وما هى؟ قال: أريد وصيفة ولدت في حجر صالح ونشأت في خير، جميلة الوجه مجدولة وضيئة جعدة في بياض مشربة حمرة حسنة الهامة سبطة أسيلة الخدّ عذبة اللّسان لها شكل [ودلّ «3» ] تملأ العين والنفس. فقال له الدّلال: قد أصبتها لك، فما لى عندك إن دللتك عليها؟ قال: غلامى هذا. قال: إذا رأيتها وقبلتها فالغلام لى؟ قال نعم. قال: فأتى امرأة كنّى عن اسمها، فقال لها: جعلت فداءك! نزل بقربى رجل من قوّاد هشام، له ظرف وسخاء، وجاءنى زائرا فأكرمته، ورأيت معه غلامين كأنهما الشمس الطالعة المنيرة والكواكب الزاهرة ما وقعت عينى على مثلهما ولا يطول لسانى بوصفهما، فوهب لى أحدهما والآخر عنده، وإن لم يصر إلىّ فنفسى ذاهبة. قالت: وتريد ماذا؟ قال: طلب منى وصيفة على صفة لا أعلمها إلا في ابنتك، فهل لك أن تريه إيّاها؟ قالت: وكيف لك بأن يدفع الغلام إليك إذا رآها؟ قال: إنى قد شرطت عليه ذلك عند النظر لا عند البيع. قالت: شأنك، لا يعلم هذا أحد. فمضى الدّلال وأتى بالشامىّ. فلما صار إلى المرأة وضع له كرسىّ وجلس. فقالت له المرأة: أمن العرب أنت؟ قال نعم. قالت: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 300 من أيّهم؟ قال: من خزاعة. قالت: مرحبا بك وأهلا! أىّ شىء طلبت؟ فوصف لها الصّفة. قالت: قد أصبتها؛ وأسرّت إلى جارية لها فدخلت فمكثت هنيهة ثم خرجت فنظرت فقالت: اخرجى، فخرجت وصيفة ما رأى [الراءون «1» ] مثلها. فقالت لها: أقبلى فأقبلت، ثم قالت: أدبرى فأدبرت تملأ العين والنفس، فما بقى منها شىء إلا وضع يده عليه. فقالت له: أتحبّ أن نؤزّرها لك؟ قال نعم. قالت: ائتزرى؛ فضمّها الإزار وظهرت محاسنها الخفيّة؛ فضرب بيده إلى عجيزتها وصدرها. ثم قالت: أتحب أن نجرّدها لك؟ قال نعم. قالت: [أى حبيبتى «2» ] وضحّى؛ فألقت الإزار فإذا أحسن خلق الله كأنها سبيكة. فقالت: يا أخا العرب، كيف رأيت؟ قال: منية المتمنّى. قال: بكم تقولين؟ قالت: ليس يوم النظر يوم البيع، ولكن تعود غدا حتى نبايعك فلا تنصرف إلا عن رضا، فانصرف من عندها. فقال له الدّلال: أرضيت؟ قال: نعم، ما كنت أحسب أن مثل هذه فى الدنيا، وإن الصفة لتقصر دونها، ثم دفع إليه الغلام الثانى. فلما كان من الغد قال له الشامىّ: امض بنا. فمضيا حتى قرعا الباب، فأذن لهما فدخلا فسلّما، فرحّبت المرأة بهما ثم قالت للشامىّ: أعطنا ما تبذل؛ فقال: ما لها عندى ثمن إلا وهى أكثر منه، فقولى أنت يا أمة الله. قالت: بل قل أنت، فإنا لم نوطئك أعقابنا ونحن نريد خلافك وأنت لها رضا. قال: ثلاثة آلاف [دينار «3» ] . قالت: والله لقبلة منها خير من ثلاثة آلاف [دينار «4» ] . قال: أربعة آلاف [دينار «5» ] . قالت: غفر الّه لك أعطنا أيّها الرجل. قال: والله ما معى غيرها- ولو كان لزدتك- إلا رقيق ودوابّ. قالت: ما أراك إلا صادقا، أتدرى من هذه؟ قال: تخبرينى. قالت: هذه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 301 ابنتى فلانة بنت فلان وأنا فلانة بنت فلان، قم راشدا. فقال للدّلال: خدعتنى. قال: أو ما ترضى أن ترى ما رأيت من مثلها وتهب مائة غلام مثل غلامك؟ قال: أمّا هذا فنعم. وخرجا من عندها. والدّلال أحد من خصى من المخنّثين بالمدينة لمّا أمر سليمان بن عبد الملك عامله على المدينة أبا بكر بن عمرو بن حزم بخصيهم. ذكر أخبار عطرّد هو أبو هارون «1» عطرّد، مولى الأنصار [ثم مولى «2» ] بنى عمرو بن عوف، وقيل: إنه مولى مزينة. مدنىّ كان ينزل قباء. وكان جميل الوجه حسن الغناء طيّب الصوت جيّد الصنعة حسن الزىّ والمروءة فقيها قارئا للقرآن. وقيل: إنه كان معدّل الشهادة بالمدينة. وأدرك دولة بنى أميّة وبقى إلى أوّل أيام الرشيد. وكان يغنّى مرتجلا. وحكى أبو الفرج الأصفهانىّ بسند رفعه قال: لمّا استخلف الوليد بن يزيد كتب إلى عامله بالمدينة فأمره بإشخاص عطرّد المعنّى إليه، ففعل. قال عطرّد: فدخلت على الوليد وهو جالس في قصره على شفير بركة مرصّصة مملوءة خمرا ليست بالكبيرة ولكنّها يدور الرجل فيها [سباحة «3» ] . قال: فو الله ما تركنى أسلّم حتى قال: أعطرّد؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين. قال: ما زلت إليك مشتاقا يا أبا هارون، غنّنى: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 302 حىّ الحمول بجانب العزل «1» ... إذ لا يشاكل شكلها شكلى الله أنجع ما طلبت به ... والبرّ خير حقيبة الرّحل إنى بحبلك واصل حبلى ... وبريش نبلك رائش نبلى وشمائلى ما قد علمت وما ... نبحت كلابك طارقا مثلى قال: فغنّيته إياه، فو الله ما أتممته حتى شقّ حلّة وشى كانت عليه لا أدرى كم قيمتها، فتجرّد منها كما ولدته أمّه، وألقى نفسه في البركة فنهل منها حتى تبيّنت أنها قد نقصت نقصانا بيّنا، وأخرج منها وهو كالميت سكرا، فأضجع وغطّى؛ فأخذت الحلّة وقمت وانصرفت إلى منزلى متعجّبا من فعله. فلما كان في غد، جاءنى رسوله فى مثل الوقت فأحضرنى. فلما دخلت عليه قال: يا عطرّد! قلت: لبّيك يا أمير المؤمنين! قال: غنّنى: أيذهب عمرى هكذا لم أنل به ... مجالس تشفى قرح قلبى من الوجد وقالوا تداو إنّ في الطبّ راحة ... فعلّلت نفسى بالدواء فلم يجد فغنّيته إيّاه، فشقّ حلّة وشى كانت تلمع عليه بالذّهب احتقرت والله الأولى عندها، ثم ألقى نفسه في البركة فنهل منها حتى تبيّنت نقصانها وأخرج كالميت سكرا، فألقى وغطّى ونام؛ وأخذت الحلّة وانصرفت. فلما كان اليوم الثالث، جاءنى رسوله فدخلت إليه وهو في بهو قد ألقيت ستوره، فكلّمنى من وراء الستور وقال: يا عطرّد! قلت: لبّيك يا أمير المؤمنين! قال: كأنى بك الآن قد أتيت إلى المدينة فقمت في مجالسها وقعدت وقلت: دعانى أمير المؤمنين فدخلت عليه فاقترح علىّ فغنّيته فأطربته فشقّ ثيابه وأخذت سلبه وفعل وفعل! وو الله يابن الزّانية إن تحرّكت شفتاك بشىء مما جرى لأضربنّ عنقك يا غلام أعطه ألف دينار؛ خذها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 303 وانصرف إلى المدينة. فقلت: إن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لى في تقبيل يده ويزوّدنى نظرة منه وأغنّيه صوتا! فقال: لا حاجة بى ولا بك إلى ذلك، فانصرف. قال عطرّد: فخرجت من عنده وما علم الله أنّى ذكرت شيئا مما جرى حتى مضت من دولة بنى هاشم مدّة. ودخل عطرّد على المهدىّ وغنّاه. قيل: ودخل على الرشيد وغنّاه. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. ذكر أخبار عمر الوادى ّ هو عمر بن داود بن زاذان. وجدّه زاذان مولى عمرو بن عثمان بن عفّان. وأخذ الغناء عن حكم، وقيل: بل أخذ حكم عنه. وهو من أهل وادى القرى. قدم الحرم وأخذ من غناء أهله فحذق وصنع فأجاد. وكان طيّب الصوت شجيّا مطربا. وهو أوّل من غنّى من أهل وادى القرى، واتصل بالوليد بن يزيد في أيام إمارته فتقدّم عنده جدّا، وكان يسمّيه «جامع لذّاتى ومحيى طربى» . وقتل الوليد وهو يغنّيه، وكان آخر الناس به عهدا. قال: وكان يجتمع مع معبد ومالك بن أبى السّمح وغيرهما من المغنّين عند الوليد بن يزيد، فلا يمنعه حضورهم من تقديمه والإصغاء إليه والاختصاص به. وفي عمر هذا يقول الوليد بن يزيد: إنما فكّرت في عمر ... حين قال القول واختلجا إنه للمستنير به ... قمر قد طمّس السّرجا ويغنّى الشعر ينظمه ... سيّد القوم الذى فلجا أكمل الوادىّ صنعته ... فى كتاب الشعر فاندمجا أراد الوليد بن يزيد بقوله: «سيّد القوم» نفسه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 304 ذكر أخبار حكم الوادى ّ هو أبو يحيى الحكم بن ميمون، وقيل: الحكم بن يحيى بن ميمون. مولى الوليد بن عبد الملك، كان أبوه حلّاقا «1» يحلق رأس الوليد، فاشتراه فأعتقه. وكان حكم طويلا أحول، يكرى الجمال ينقل [عليها «2» ] الزيت من الشأم إلى المدينة. وقيل: كان أصله من الفرس. وكان واحد عصره في الحذق، وكان يغنّى بالدّفّ ويغنّى مرتجلا. وعمّر عمرا طويلا، غنّى الوليد بن عبد الملك، وغنّى الرشيد، ومات في الشّطر من خلافته. وأخذ الغناء عن عمر الوادىّ، وقد قيل: إن عمر أخذ عنه. قال حمّاد بن إسحاق قال لى أبى: أربعة بلغت في أربعة أجناس من الغناء مبلغا قصّر عنه غيرهم: «معبد» فى الثقيل، و «ابن سريج» فى الرّمل، و «حكم» فى الهزج، و «إبراهيم» فى الماخورىّ. قال أبو الفرج الأصفهانىّ: وزار حكم الوادىّ الرشيد، فبرّه ووصله بثلاثمائة ألف درهم، وخيّره فيمن يكتب له بها عليه؛ فقال: اكتب لى بها على إبراهيم بن المهدىّ- وكان إبراهيم إذ ذاك عاملا له بالشأم- فقدم عليه حكم بكتاب الرشيد؛ فأعطاه ما كتب له به، ووصله بمثل ذلك، إلّا أنه نقصه ألف درهم من الثلاثمائة ألف وقال له: لا أصلك بمثل ما وصلك أمير المؤمنين. قال إبراهيم بن المهدىّ: وأقام عندى ثلاثين يوما أخذت عنه فيها ثلاثمائة صوت، كلّ صوت أحبّ إلى من الثلاثمائة ألف التى وهبتها له. وقيل: إنه لم يشتهر بالغناء حتى صار إلى بنى العبّاس، فانقطع إلى محمد بن أبى العباس، وذلك في خلافة المنصور، فأعجب به واختاره على المغنّين وأعجبته أهزاجه. وكان يقال: إنه أهزج الناس. ويقال: إنه غنّى الأهزاج في آخر عمره؛ فلامه ابنه على ذلك وقال: أبعد الكبر تغنّى غناء المخنّثين! فقال له: اسكت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 305 فإنّك جاهل، غنّيت [الثقيل «1» ] ستين سنة فلم أنل إلا القوت، وغنّيت الأهزاج منذ سنتين فكسبتك ما لم تر مثله قطّ. والله أعلم. ذكر أخبار ابن جامع هو أبو القاسم إسماعيل بن جامع بن عبد الله بن المطلب بن أبى وداعة ابن صبيرة بن سهم بن هصيص بن كعب بن لؤىّ. قالوا: وكان ابن جامع من أحفظ خلق الله لكتاب الله تعالى، كان يخرج من منزله مع الفجر يوم الجمعة فيصلّى الصبح ثم يصفّ قدميه حتى تطلع الشمس، فلا يصلّى الناس الجمعة حتى يختم القرآن ثم ينصرف إلى منزله. وكان حسن السّمت، كثير الصلاة. وكان يعتمّ بعمامة سوداء على قلنسوة ويلبس لباس الفقهاء ويركب حمارا مرّيسيّا «2» فى زىّ أهل الحجاز. وروى عنه أنه قال: لولا أن القمار وحبّ الكلاب قد شغلانى لتركت المغنّين لا يأكلون الخبز. قال ابن جامع: أخذت من الرشيد ببيتين غنّيته إياهما عشرة آلاف دينار. قالوا: وكان إبراهيم بن المهدىّ يفضّل ابن جامع فلا يقدّم عليه أحدا. قال: وكان ابن جامع منقطعا إلى موسى الهادى في أيام أبيه، فضربه المهدىّ وطرده. فلما مات المهدىّ بعث الفضل بن الربيع إلى مكة فأحضر ابن جامع في قبّة ولم يعلم به أحدا. فذكره موسى الهادى ذات ليلة فقال لجلسائه: أما فيكم أحد يرسل إلى ابن جامع وقد عرفتم موقعه منى؟ فقال الفضل بن الربيع: هو والله عندى يا أمير المؤمنين وأحضره إليه. فوصل الفضل في تلك الليلة بعشرة آلاف دينار وولّاه حجابته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 306 وحكى أنه دخل على الهادى فغنّاه فلم يعجبه؛ فقال له الفضل: تركت الخفيف وغنّيت الثقيل. قال: فأدخلنى عليه أخرى فأدخله؛ فغنّاه الخفيف، فأعطاه ثلاثين ألف دينار. قال أحمد بن يحيى المكىّ: كان ابن جامع أحسن ما يكون غناء إذا حزن. وأحبّ الرشيد أن يسمع ذلك، فقال للفضل بن الربيع: ابعث بخريطة فيها نعى أمّ ابن جامع- وكان برّا بأمّه- ففعل. فقال الرشيد: يابن جامع، فى هذه الخريطة نعى أمّك؛ فاندفع ابن جامع يغنّى بتلك الحرقة والحزن الذى فى قلبه: كم «1» بالدروب وأرض السّند من قدم ... ومن جماجم صرعى ما بها قبروا بقندهار «2» ومن تكتب منيّته ... بقندهار يرجّم دونه الخبر قال: فو الله ما ملكنا أنفسنا، ورأيت الغلمان يضربون برءوسهم الحيطان والأساطين، وأمر له الرشيد بعشرة آلاف دينار. وروى أبو الفرج بسنده إلى عبد الله بن علىّ بن عيسى بن ماهان قال: سمعت يزيد يحدّث عن أمّ جعفر أنه بلغها أنّ الرشيد جالس وحده وليس معه أحد من الندماء ولا المسامرين، فأرسلت إليه: يا أمير المؤمنين، إنّى لم أرك منذ ثلاث وهذا اليوم الرابع. فأرسل إليها: عندى ابن جامع. فأرسلت إليه: أنت تعلم أنى لا أتهنّأ بشرب ولا سماع ولا غيرهما إلا أن تشركنى فيه، ما كان عليك أن أشركك فى هذا الذى أنت فيه! فأرسل إليها: إنى صائر إليك الساعة. ثم قام وأخذ بيد ابن جامع وقال للخادم: امض إليها واعلمها أنّى قد جئت. وأقبل الرشيد؛ فلما نظر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 307 إلى الخدم والوصائف قد استقبلوه علم أنّها قد قامت تستقبله؛ فوجّه إليها: إن معى ابن جامع، فعدلت إلى بعض المقاصير. وجاء الرشيد وصيّر ابن جامع في بعض المواضع التى يسمع منه فيها، ثم أمر ابن جامع فاندفع يغنّى: ما رعدت رعدة ولا برقت ... لكنها أنشئت لنا خلقه «1» الماء يجرى ولا نظام «2» له ... لو يجد الماء مخرقا خرقه بتنا وباتت على نمارقها ... حتى بدا الصبح عينها أرقه أن قيل إن الرحيل بعد غد ... والدّار بعد الجميع مفترقه فقالت أمّ جعفر للرشيد: ما أحسن ما اشتهيت والله يا أمير المؤمنين! ثم قالت لمسلم خادمها: ادفع إلى ابن جامع بكل بيت مائة ألف درهم. فقال الرّشيد: غلبتينا يابنة أبى الفضل وسبقتينا إلى برّ ضيفنا وجليسنا. فلما خرج حمل الرشيد إليها مكان كل درهم دينارا. ذكر أخبار عمرو بن أبى الكنّات «3» قال أبو الفرج الأصفهانىّ: هو أبو عثمان، وقيل: أبو معاذ عمرو بن أبى الكنّات، مولى بنى جمح. وهو مكىّ مغنّ حسن الصوت، من طبقة ابن جامع وأصحابه. وفيه يقول الشاعر: أحسن الناس فاعلموه غناء ... رجل من بنى أبى الكنّات الجزء: 4 ¦ الصفحة: 308 قال محمد بن عبد الله بن فروة: قلت لإسماعيل بن جامع يوما: هل غلبك أحد من المغنّين قط؟ قال: نعم، كنت ليلة ببغداد إذ جاءنى رسول أمير المؤمنين هارون الرشيد فأمرنى بالرّكوب، فركبت حتى صرت إلى الدار، فإذا أنا بالفضل بن الربيع ومعه زلزل العوّاد وبرصوما؛ فسلّمت وجلست يسيرا. فطلع خادم فقال للفضل: هل جاء؟ قال لا. قال: فابعث إليه. ولم يزل المغنّون يدخلون واحدا واحدا حتى كنّا ستّة أو سبعة. ثم طلع الخادم فقال: هل جاء؟ فقال لا؛ فقال: قم فابعث فى طلبه؛ فقام فغاب غير طويل فإذا هو قد جاء بعمرو بن أبى الكنّات. فسلّم وجلس إلى جنبى، فقال لى: من هؤلاء؟ قلت: مغنّون، هذا «زلزل» وهذا «برصوما» . فقال: لأغنّينّك غناء يخرق هذا السقف وتجيبه الحيطان. ثم طلع الخصىّ فدعا بكراسىّ، وخرج الجوارى. فلما جلسن قال الخادم: شدّوا فشدّوا عيدانهم؛ ثم قال: يغنّى ابن جامع، فغنّيت سبعة أو ثمانية أصوات؛ قال: اسكت، وليغنّ إبراهيم الموصلىّ؛ فغنّى مثل ذلك أو دونه ثم سكت، وغنّى القوم كلّهم واحدا بعد واحد حتى فرغوا. ثم قال لابن أبى الكنّات: غنّ؛ فقال لزلزل: شدّ طبقتك فشدّ؛ ثم قال له: شدّ فشدّ، ثم أخذ العود من يده فجسّه حتى وقف على الموضع الذى يريده، ثم قال: على هذا. وابتدأ الصوت الذى أوّله «ألالا» ؛ فو الله لقد خيّل إلىّ أن الحيطان تجاوبه؛ ثم رجّع النّغمة فيه؛ فطلع الخصىّ فقال: اسكت لا تتمّ الصوت فسكت. ثم قال: يجلس عمرو بن أبى الكنّات وينصرف سائر المغنّين؛ فقمنا بأسوأ حال وأكسف بال، ولا والله ما زال كلّ واحد منّا يسأل صاحبه عن كلّ ما يرويه من الغناء الذى أوّله «ألالا» طمعا في أن يعرفه وأن يوافق غناءه فما عرفه منا أحد. وبات عمرو عند الرشيد ليلته وانصرف من عنده بجوائز وصلات وطرف سنية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 309 وقال موسى بن أبى المهاجر: خرج ابن جامع وابن أبى الكنّات حين دفع الإمام «1» من عرفة، حتى إذا كانوا بين المأزمين جلس عمرو على طرف الجبل ثم اندفع يغنّى، فركب الناس بعضهم بعضا حتى صاحوا به واستغاثوا: يا هذا، الله الله! اسكت عنا يجز الناس؛ فضبط ابن جامع بيده على فيه حتى مضى الناس إلى مزدلفة. قال علىّ بن الجهم: حدّثنى من أثق به قال: واقفت ابن أبى الكنّات على جسر بغداد أيام الرشيد فحدّثته بحديث اتّصل بى عن ابن عائشة أنه وقف في الموسم فى أيام هشام، فمرّ به بعض أصحابه فقال: ما تصنع؟ فقال: إنى لأعرف رجلا لو تكلم لحبس الناس فلم يذهب منهم أحد ولم يجئ. فقلت له «2» : من هذا الرجل؟ قال: أنا، ثم اندفع فغنّى فحبس الناس، فاضطربت المحامل ومدّت الإبل أعناقها. فقال ابن أبى الكنّات وكان معجبا بنفسه: أنا أفعل كما فعل وقدرتى على القلوب أكثر من قدرته. ثم اندفع فغنّى الصوت الذى غنّى فيه ابن عائشة، وهو: جرت سنحا فقلت لها أجيزى ... نوى مشمولة فمتى اللّقاء بنفسى من تذكرّه سقام ... أعالجه ومطلبه عناء قال: فغنّاه، وكنا إذ ذاك على جسر بغداد، وكان على دجلة ثلاثة جسور، فانقطعت الطّرق وامتلأت الجسور بالناس فآزدحموا عليها واضطربت حتى خيف عليها أن تنقطع لثقل من عليها من الناس. فأخذ فأتى به الرشيد؛ فقال له: يا عدوّ الله، أردت أن تفتن الناس! قال: لا والله يا أمير المؤمنين ولكنّه بلغنى أن ابن عائشة فعل مثل هذا في أيام هشام، فأحببت أن يكون في أيامك مثله. فأعجبه ذلك، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 310 وأمر له بمال وأمره أن يغنّى فغنّى؛ فسمع شيئا لم يسمع مثله، فآحتبسه عنده شهرا يستر يده، وكلّ يوم يستأذن له في الانصراف فلا يأذن له حتى تمّم شهرا، وانصرف بأموال جسيمة. وقال عثمان بن موسى: كنّا على شراب يوما ومعنا عمرو بن أبى الكنّات إذ قال لنا قبل طلوع الشمس: من تحبّون أن يجيئكم؟ قلنا: منصور الحجبىّ. فقال: أمهلوا حتى يكون الوقت الذى ينحدر فيه إلى سوق البقر. فمكثنا ساعة ثم اندفع يغنّى: أحسن الناس فاعلموه غناء ... رجل من بنى أبى الكنّات عفت الدّار فالهضاب اللّواتى ... بين «1» ثور فملتقى عرفات فلم نلبث أن رأينا منصورا من بعد قد أقبل يركض دابّته نحونا. فلما جلس إلينا قلت له: من أين علمت بنا؟ قال: سمعت صوت عمرو وأنا في سوق البقر، فخرجت أركض دابّتى حتى صرت إليكم. قال: وبيننا وبين ذلك الموضع ثلاثة أميال. وقال يحيى بن يعلى بن سعيد: بينا أنا ليلة في منزلى في الرّمضة بأسفل مكة، إذ سمعت صوت عمرو بن أبى الكنّات كأنّه معى، فأمرت الغلام فأسرج لى دابّتى وخرجت أريده، فلم أزل أتبع الصوت حتى وجدته جالسا على الكثيب العارض ببطن عرفة يغنّى: خذى العفو منى تستديمى مودّتى ... ولا تنطقى في سورتى حين أغضب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 311 ولا تنقرينى نقرة الدّفّ مرّة ... فإنّك لا تدرين كيف المغيّب فإنى رأيت الحبّ في الصدر والأذى ... إذا اجتمعا لم يلبث الحب يذهب ذكر أخبار أبى المهنّأ مخارق هو أبو المهنّأ مخارق بن يحيى بن ناووس الجزّار مولى الرشيد. وقيل: بل ناووس لقب أبيه يحيى؛ وإنما لقّب بناووس لأنه بايع رجلا أنه يمضى إلى ناووس الكوفة فيطبخ فيه قدرا بالليل حتى تنضج، فطرح رهنه بذلك؛ فدسّ الرجل الذى راهنه رجلا فألقى نفسه في الناووس بين الموتى. فلما فرغ ناووس من الطبخ مدّ الرجل يده من بين الموتى وقال له: أطعمنى؛ فغرف بالمغرفة من المرق وصبّها في يد الرجل فأحرقها وضربها بالمغرفة وقال له: اصبر حتى نطعم الأحياء أوّلا ثم نتفرّغ للموتى؛ فلقّب ناووسا لذلك. قال: وكان مخارق لعاتكة بنت شهدة، وهى من المغنّيات المحسنات المتقدّمات فى الضرب. نشأ مخارق بالمدينة؛ وقيل: كان منشؤه بالكوفة. وكان أبوه جزارا مملوكا، وكان مخارق وهو صبىّ ينادى على ما يبيعه أبوه من اللحم. فلما بان طيب صوته علّمته مولاته طرفا من الغناء، ثم أرادت بيعه، فاشتراه إبراهيم الموصلىّ منها وأهداه للفضل بن يحيى، فأخذه الرشيد منه ثم أعتقه. وقيل: اشتراه إبراهيم من مولاته بثلاثين ألف درهم وزادها ثلاثة آلاف درهم. قال: ولما اشتراه قال له الفضل بن يحيى: ما خبر غلام بلغنى أنك اشتريته؟ فقال: هو ما بلغك. قال: فأرنيه، فأحضره، فغنّى بين يديه؛ فقال له: ما أرى فيه الذى رأيت. قال: تريد أن يكون في الغناء مثلى في ساعة واحدة! فقال: بكم تبيعه؟ قال: اشتريته بثلاثين ألف درهم، وهو حرّ لوجه الله تعالى إن بعته إلا بثلاثة وثلاثين ألف دينار. فغضب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 312 الفضل وقال: إنما أردت ألّا تبيعه أو تجعله سببا لأن تأخذ منّى ثلاثة وثلاثين ألف دينار. فقال إبراهيم: أنا أصنع بك خصلة واحدة، أبيعك نصفه بنصف هذا المال وأكون شريكك في نصفه [وأعلّمه «1» ] ، فإن أعجبك إذا علمته أتممت لى باقى المال وإلا بعته بعد، وكان الرّبح بينى وبينك. فقال الفضل: إنما أردت أن تأخذ منّى المال الذى قدّمت ذكره، فلما لم تقدر على ذلك أردت أن تأخذ نصفه، وغضب. فقال إبراهيم له: فأنا أهبه لك على أنه يساوى ثلاثة وثلاثين ألف دينار؛ قال: قد قبلته؛ قال: وقد وهبته لك. وغدا إبراهيم على الرشيد؛ فقال له: يا إبراهيم، ما غلام بلغنى أنك وهبته للفضل؟ قال: غلام يا أمير المؤمنين لم تملك العرب ولا العجم مثله، ولا يكون مثله أبدا. قال: فوجّه إلى الفضل يأمره بإحضاره. فوجّه به إليه، فغنّى بين يديه؛ فقال له: كم يساوى؟ قال إبراهيم: يساوى خراج مصر وضياعها. قال: ويحك! أتدرى ما تقول! مبلغ هذا المال كذا وكذا! قال: وما مقدار هذا المال في غلام لم يملك أحد مثله قطّ! قال: فالتفت الرشيد إلى مسرور الكبير وقال: قد عرفت يمينى أنى لا أسأل أحدا من البرامكة شيئا. فقال مسرور: فأنا أمضى إلى الفضل فأستوهبه منه، فإذا كان عندى فهو عندك. فقال له: شأنك. فمضى مسرور إلى الفضل واستوهبه منه، فوهبه له. وقيل: بل إبراهيم هو الذى أهداه للرشيد؛ فأمره الرشيد بتعليمه فعلّمه حتى بلغ ما بلغه. قال: وكان مخارق يقف بين يدى الرشيد مع الغلمان لا يجلس ويغنّى وهو واقف. فغنّى ابن جامع ذات يوم بين يدى الرشيد: كأنّ نيراننا «2» فى جنب قلعتهم ... مصبّغات على أرسان قصّار «3» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 313 هوت هرقلة لمّا أن رأت عجبا ... جواثما «1» ترتمى بالنّفط والنّار فطرب الرشيد واستعاده مرارا؛ وهو شعر مدح به الرشيد في فتح هرقلة. فأقبل الرشيد على ابن جامع دون غيره. فغمز مخارق إبراهيم بعينه وتقدّمه إلى الخلاء، فلما جاء قال له: مالى أراك منكسرا؟ فقال له: أما ترى إقبال أمير المؤمنين على ابن جامع بسبب هذا الصوت! فقال مخارق: قد والله أخذته. فقال: ويحك! إنه الرشيد، وابن جامع من تعلم، ولا يمكن معارضته إلا بما يزيد على غنائه وإلا فهو الموت! فقال: دعنى وخلاك ذمّ، وعرّفه أنّى أغنّى به، فإن أحسنت فإليك ينسب، وإن أسأت فإلىّ يعود. فقال إبراهيم للرشيد: يا أمير المؤمنين، أراك متعجّبا من هذا الصوت بغير ما يستحقّه وأكثر مما يستوجبه! فقال: لقد أحسن فيه ابن جامع ما شاء. قال: أو لابن جامع هو؟ قال: نعم، كذا ذكر. وقال: فإنّ عبدك مخارقا يغنيه. فنظر إلى مخارق؛ فقال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: هاته؛ فغنّاه وتحفّظ فيه فأتى بالعجائب، وطرب الرشيد حتى كاد يطير؛ ثم أقبل على ابن جامع فقال: ويلك! ما هذا؟ فابتدأ يحلف بالطلاق وكلّ محرجة أنه لم يسمع ذلك الصوت قطّ من غيره وأنه صنعه وأنها حيلة جرت عليه. فأقبل على إبراهيم وقال: اصدقنى بحياتى؛ فصدقه عن قصّة مخارق. فقال لمخارق: اجلس إذا مع أصحابك، فقد تجاوزت مرتبة من يقوم. وأعتقه ووصله بثلاثة آلاف دينار وأقطعه ضيعة ومنزلا. وقد روى أبو الفرج الأصفهانىّ عن هارون بن مخارق، قال: كان أبى إذا غنّى هذا الصوت: يا ربع سلمى لقد هيّجت لى طربا ... زدت الفؤاد على علّاته وصبا ربع تبدّل ممن كان يسكنه ... عفر الظباء وظلمانا به عصبا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 314 يبكى ويقول: أنا مولى هذا الصوت. فقلت له: كيف يا أبت؟ فقال: غنّيته مولاى الرشيد، فبكى وشرب عليه رطلا ثم قال: أحسنت يا مخارق! فسلنى حاجتك؛ فقلت: تعتقنى يا أمير المؤمنين أعتقك الله من النار؛ فقال: أنت حرّ لوجه الله تعالى، فأعد الصوت فأعدته؛ فبكى وشرب رطلا، ثم قال: أحسنت يا مخارق! فسلنى حاجتك؛ فقلت: ضيعة تقيمنى غلّتها «1» ؛ فقال: قد أمرت لك بها، أعد الصوت فأعدته؛ فبكى وقال: سل حاجتك؛ فقلت: يا أمير المؤمنين، تأمر لى بمنزل وفرس وخادم؛ فقال: ذلك لك، أعد الصوت فأعدته؛ فبكى وقال: سل حاجتك؛ فقبّلت الأرض بين يديه وقلت: حاجتى أن يطيل الله بقاءك ويديم عزّك ويجعلنى من كل سوء فداءك؛ فأنا مولى هذا الصوت بعد مولاى. ويروى أيضا عن الحسين بن الضحّاك عن مخارق أنّ الرشيد قال يوما للمغنّين وهو مصطبح: من منكم يغنّى: يا ربع سلمى لقد هيّجت لى طربا فقمت وقلت: أنا يا أمير المؤمنين. فقال: هاته؛ فغنّيته فطرب وشرب ثم قال: علىّ بهرثمة؛ فقلت في نفسى: ماذا يريد منه! فجاء هرثمة فقال له: مخارق الشّارىّ الذى قتلناه بنواحى الموصل ما كانت كنيته؟ فقال: أبو المهنّأ؛ فقال: انصرف فانصرف؛ ثم أقبل الرشيد علىّ فقال: قد كنّيتك أبا المهنّأ لإحسانك؛ وأمر لى بمائة ألف درهم؛ فانصرفت بها وبالكنية. قال أبو عبد الله بن حمدون: كنّا عند الواثق وأمّه عليلة. فلما صلّى المغرب دخل إليها وأمر ألا نبرح، فجلسنا في صحن الدار، وكانت ليلة مقمرة وأبطأ الواثق علينا؛ فاندفع مخارق يغنّى، فاجتمع علينا الغلمان، وخرج الواثق فصاح: يا غلام، فلم يجبه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 315 أحد، ومشى في المجلس الى أن توسّط الدار؛ فلما رأيته بادرت إليه؛ فقال لى: ويلك! هل حدث في دارى شىء؟ فقلت: لا يا سيّدى. قال: فما بالى أصيح فلا أجاب؟ فقلت: مخارق يغنّى والغلمان قد اجتمعوا اليه فليس فيهم فضل لسماع غير ما يسمعونه. فقال: عذر والله لهم يابن حمدون وأىّ عذر! ثم جلس وجلسنا بين يديه الى السّحر. وقد روى نحو هذه الحكاية في أمر الغلمان مع مخارق عند المعتصم. وقال محمد بن عبد الملك الزيّات: قال لى الواثق: ما غنّانى مخارق قط إلا قدّرت أنه من قلبى خلق. وكان يقول: أتريدون أن تنظروا فضل مخارق على جميع أصحابه؟ انظروا الى هؤلاء الغلمان الذين يقفون في السّماط، فكانوا يتفقّدونهم وهم وقوف فكلّهم يسمع الغناء من المغنّين جميعا وهو واقف مكانه ضابط لنفسه، فاذا تغنّى مخارق خرجوا عن صورهم فتحرّكت أرجلهم ومناكبهم وبانت أسباب الطرب فيهم، وازدحموا على الحبل الذى يقفون من ورائه. وحكى أنّه خرج مرّة الى باب الكناسة بمدينة السلام والناس يرحلون الى مكة؛ فنظر إلى كثرتهم وازدحامهم، فقال لأصحابه الذين معه: قد جاء في الخبر أنّ ابن سريج كان يغنّى في أيام الحجّ والناس يمشون فيستوقفهم بغنائه، وسأستوقف لكم هؤلاء الناس وأستلهيهم جميعا لتعلموا أنّه لم يكن ليفضلنى إلّا بصنعته دون صوته؛ ثم اندفع يؤذّن، فاستوقف أولئك الخلق واستلهاهم، حتى جعلت المحامل يغشى بعضها بعضا. قالوا: وجاء أبو العتاهية الى باب مخارق وطرقه فخرج اليه؛ فقال له: يا حسّان هذا الإقليم، يا حكيم أرض بابل، أصبب في أذنى شيئا يفرح به قلبى وتتنّعم به نفسى- وكان في جماعة منهم محمد بن سعيد اليزيدىّ- فقال: انزلوا، فنزلوا، فغنّاهم. فقال محمد بن سعيد: فكدت أسعى على وجهى طربا. قال: وجعل أبو العتاهية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 316 يبكى، ثم قال: يا دواء المجانين، لقد رققت حتى كدت أن أحسوك، فلو كان الغناء طعاما لكان غناؤك أدما، ولو كان شرابا لكان ماء الحياة. وقال أبو الفرج عن عمر بن شبّة قال: حدّثنى بعض آل نوبخت قال: كان أبى وعبد الله بن أبى سهل وجماعة من آل نوبخت وغيرهم وقوفا بكناسة الدّوابّ فى الجانب الغربىّ ببغداد يتحدّثون، وإنهم لكذلك إذ أقبل مخارق على حمار أسود وعليه قميص رقيق ورداء مسهّم؛ فقال: فيم كنتم؟ فأخبروه. فقال: دعونا من وسواسكم هذا، أىّ شىء لى عليكم إن رميت بنفسى بين قبرين من هذه القبور وغطّيت وجهى وغنّيت صوتا فلم يبق أحد بهذه الكناسة ولا في الطريق من مشتر ولا بائع ولا صادر ولا وارد إلا ترك عمله وقرب منّى واتّبع صوتى؟ فقال عبد الله: إنى لأحبّ أن أرى هذا، فقل ما شئت. فقال مخارق: فرسك الأشقر الذى طلبته منك فمنعتنيه. قال: هو لك إن فعلت ما قلت. قال: فرمى بنفسه بين قبرين وتغطّى بردائه، ثم اندفع يغنّى بشعر أبى العتاهية: نادت بوشك رحيلك الأيّام ... أفلست تسمع أم بك استصمام ومضى أمامك من رأيت وأنت لل ... باقين حتى يلحقوك أمام مالى أراك كأنّ عينك لا ترى ... عبرا تمرّ كأنهنّ سهام تمضى الخطوب وأنت منتبه لها ... فإذا مضت فكأنها أحلام قال: فرأيت الناس يأتون إلى المقبرة أرسالا بين راكب وراجل وصاحب شغل ومار في الطريق حتى لم يبق أحد. ثم قال لنا من تحت ردائه: هل بقى أحد؟ قلنا: لا، وقد وجب الرّهن. فقام فركب حماره، وعاد الناس إلى صنائعهم؛ وقال لعبد الله: أحضر الفرس؛ قال: على أن تقيم عندى؛ قال نعم! فسلّم الفرس إليه وبرّه وأحسن رفده. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 317 وروى عن يحيى المكىّ قال: خرج مخارق مع بعض إخوانه إلى بعض المتنزّهات، فنظر إلى قوس مذهبة مع بعض من خرج معه، فسأله إيّاها، وكان المسئول ضنّ بها، وسنحت ظباء بالقرب منه؛ فقال لصاحب القوس: أرأيت إن تغنّيت صوتا فعطفت علىّ به خدود هذه الظباء أتدفع إلىّ القوس؟ قال نعم! فاندفع يغنّى: ماذا تقول الظباء ... أفرقة أم لقاء أم عهدها بسليمى ... وفي البيان شفاء مرّت بنا سانحات ... وقد دنا الإمساء فما أحارت جوابا ... وطال فيها العناء قال: فعطفت الظباء راجعة إليه حتى وقفت بالقرب منه تنظر إليه مصغية إلى صوته. فعجب من حضر من رجوعها ووقوفها؛ وناوله الرجل القوس، فأخذها وقطع الغناء [فعاودت الظباء نفارها ومضت راجعة على سننها «1» ] . وروى عن إسحاق بن إبراهيم قال: دخلت على أبى وهو جالس بين بابين له ومخارق بين يديه وهو يغنّيه: يا ربع بشرة إن أضرّبك البلى ... فلقد رأيتك آهلا معمورا قال: فرأيت أبى ودموعه تجرى على خدّيه من أربعة أماكن وهو ينشج أحرّ نشيج. فلما رآنى قال: يا إسحاق، هذا والله صاحب اللّواء غدا إن مات أبوك. وروى عن مخارق قال: رأيت وأنا حدث كأنّ شيخا جالسا على سرير في روضة حسنة، فدعانى فقال لى: غنّنى يا مخارق؛ فقلت: أصوتا تقترحه أو ما حضر؟ فقال: ما حضر. فغنّيته: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 318 دعى القلب لا يزدد خبالا مع الذى ... به منك أو داوى جواه المكتّما وليس بتزويق اللسان وصوغه ... ولكنّه قد خالط اللّحم والدّما فقال لى: أحسنت يا مخارق! ثم أخذ وترا من أوتار العود فلفّه على المضراب ودفعه الىّ، فجعل المضراب يطول ويغلظ والوتر ينتشر ويعرض حتى صار المضراب كالرمح والوتر كالعذبة [عليه «1» ] وصار في يدى علما، ثم انتبهت فحدّثت برؤياى إبراهيم الموصلىّ؛ فقال لى: الشيخ بلا شك إبليس، وقد عقد لواء صنعتك فانت ما حييت رئيس أهلها. وقال أحمد بن حمدون: غضب المعتصم على مخارق فأمر أن يجعل في المؤذّنين ويلزمهم ففعل ذلك؛ وأمهل حتى علم أن المعتصم يشرب، فأذّنت العصر، فدخل الى السّتر حيث يقف المؤذّن للسلام، ثم رفع صوته جهده وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، الصلاة يرحمك الله. فبكى حتى جرت دموعه وبكى كلّ من حضر، ثم قال: أدخلوه علىّ وأقبل علينا؛ ثم قال: سمعتم هكذا قط! هذا الشيطان لا يترك أحدا يغضب عليه!. فدخل اليه فقبّل الأرض بين يديه؛ فدعاه المعتصم اليه فأعطاه يده فقبّلها وأمره بإحضار عوده فأحضره، وأعاده الى مرتبته. وأخباره كثيرة، وفيما أوردناه منها كفاية. وكانت وفاته في أوّل خلافة المتوكّل؛ وقيل: بل في آخر خلافة الواثق. وغنّى خمسة من الخلفاء: الرشيد والأمين والمأمون والمعتصم والواثق. رحمهم الله تعالى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 319 ذكر أخبار يحيى بن مرزوق المكّىّ هو أبو عثمان يحيى بن مرزوق المكىّ، مولى بنى أميّة، وكان يكتم ذلك لخدمته للخلفاء من بنى العبّاس؛ وكان إذا سئل عن ولائه انتمى الى قريش، ولم يذكر البطن الذى ولاؤه له، ويستعفى من يسأله عن ذلك. قال الأصفهانىّ: وعمّر يحيى المكىّ مائة وعشرين سنة، وأصاب بالغناء ما لم يصبه أحد من نظرائه ومات وهو صحيح العقل والسمع والبصر. وكان قدم مع الحجازيّين الذين قدموا على المهدىّ في أوّل خلافته فبقى بالعراق. وكان ابن جامع وإبراهيم الموصلىّ وفليح يفزعون اليه في الغناء القديم فيأخذونه عنه، ويعابى بعضهم بعضا بما يأخذونه منه. فإذا خرجت لهم الجوائز أحذوه «1» منها ووفّروا نصيبه. وله صنعة عجيبة نادرة متقدّمة. قال: وله كتاب في الأغانى ونسبها وأجناسها كبير جليل مشهور، إلّا أنّه كالمطروح عند الرواة لكثرة تخليطه في رواياته؛ والعمل على كتاب ابنه أحمد، فإنه صحّح كثيرا مما أفسده وأزال ما عرفه من تخاليط أبيه، وحقّق ما نسبه من الأغانى الى صانعه. قال: وهو يشتمل على نحو ثلاثة آلاف صوت. قال أحمد بن سعيد: كانت صنعة يحيى ثلاثة آلاف صوت، منها زهاء ألف صوت لم يقاربه فيها أحد. وسئل ابنه أحمد عن صنعة أبيه فقال: الذى صحّ عندى منها ألف صوت وثلاثمائة صوت، منها مائة وسبعون صوتا، غلب «2» فيها على الناس جميعا من تقدّم منهم و [من «3» ] تأخّر، فلم يقم له أحد فيها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 320 قال أحمد بن يحيى قال لى إسحاق: يا أبا جعفر لأبيك مائة وسبعون صوتا من أخذها عنه بمائة وسبعين ألف درهم فهو الرّابح. والله أعلم. ذكر أخبار أحمد بن يحيى المكىّ الملقّب بطنين «1» هو أبو جعفر أحمد بن يحيى المكىّ، وكان يلقّب طنينا «2» . وهو أحد المحسنين المبرّزين الرّواة للغناء المحكمى الصنعة. كان إسحاق يقدّمه ويؤثره ويشدو «3» بذكره ويجهر بتفضيله. قال أبو الفرج: وكتابه المجرّد في الأغانى ونسبها أصل من الأصول المعوّل عليها. قال: وكان مع جودة غنائه وحسن صنعته أحد الضّرّاب الموصوفين المتقدّمين. قال علىّ بن يحيى: قلت لإسحاق بن إبراهيم الموصلىّ- وقد جرى ذكر أحمد ابن يحيى المكىّ-: يا أبا محمد لو كان أبو جعفر أحمد بن يحيى مملوكا كم كان يساوى؟ قال: أخبرك عن ذلك، انصرفت ليلة من دار الواثق فاجتزت بدار الحسن بن وهب فدخلت اليه فإذا أحمد عنده. فلما قاموا لصلاة العشاء الآخرة قال لى الحسن بن وهب كم يساوى أحمد لو كان مملوكا؟ قلت: يساوى عشرين ألف دينار. قال: ثم رجع فغنّى صوتا؛ فقال لى الحسن: كم يساوى أحمد لو كان مملوكا؟ قلت: يساوى ثلاثين ألف دينار. ثم تغنّى صوتا آخر؛ فقلت للحسن: يا أبا علىّ أضعفها. ثم أردت الانصراف فقلت لأحمد: غنّنى لولا الحياء وأنّ السّتر «4» من خلقى ... إذا قعدت إليك الدهر لم أقم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 321 أليس عندك سكر «1» للتى جعلت ... ما ابيضّ من قادمات الرأس كالحمم فغنّاه فأحسن فيه كلّ الإحسان. فلما قمت للانصراف قلت: يا أبا علىّ، أضعف الجميع. فقال له أحمد: ما هذا الذى أسمعكما تقولانه ولست أدرى ما معناه؟ فقال: نحن نبيعك ونشتريك منذ الليلة وأنت لا تدرى. وقال محمد بن عبد الله بن مالك: سألنى إسحاق بن إبراهيم الموصلىّ يوما: من بقى من المغنّين؟ قلت: وجه القرعة محمد بن عيسى. فقال: صالح كيّس؛ ومن أيضا؟ قلت: أحمد بن يحيى المكىّ. قال: بخ بخ! ذاك المحسن المجمل الضارب المغنّى، القائم بمجلسه لا يحوج أهل المجلس الى غيره. وكانت وفاته في أوّل خلافة المستعين. ذكر أخبار هاشم بن سليمان مولى بنى أميّة يكنّى أبا العباس. وكان موسى الهادى يسمّيه أبا الغريض. قال أبو الفرج: وهو حسن الصنعة غزيرها؛ وفيه يقول الشاعر: يا وحشتى بعدك يا هاشم ... غبت فشجوى بك لى لازم» اللهو واللّذّة يا هاشم ... ما لم تكن حاضره ماتم وقال الأصبهانىّ بسند رفعه إلى هاشم: أصبح موسى أمير المؤمنين يوما وعنده جماعة فقال: يا هاشم غنّنى: أبهار قد هيّجت لى أوجاعا فإن أصبت مرادى فيه فلك حاجة مقضية. قال: فغنّيته، وهو: أبهار قد هيّجت لى أوجاعا ... وتركتنى عبدا لكم مطواعا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 322 بحديثك الحسن الذى لو كلّمت ... وحش الفلاة به لجئن سراعا وإذا مررت على البهار منضّدا ... فى السوق هيّج لى إليك نزاعا والله لو علم البهار بأنها ... أضحت سمّيته لصار ذراعا فقال: أصبت وأحسنت، سل حاجتك؛ فقلت: يا أمير المؤمنين، تأمر بأن يملأ هذا الكانون دراهم- وكان بين يديه كانون عظيم- فأمر به فملىء فوسع ثلاثين ألف درهم. فلمّا حصّلتها قال لى: يا ناقص الهمة، والله لو سألت أن أملأه لك دنانير لفعلت. فقلت: أقلنى يا أمير المؤمنين. قال: لا سبيل الى ذلك ولم يسعدك الجدّ به. وقد رويت هذه الحكاية في موضع آخر، وذكر أنّ الذى غنّاه غير هذا الشعر، وأن الكانون وسع ستّ بدر، فدفعها اليه. ذكر أخبار يزيد حوراء هو رجل من أهل المدينة من موالى بنى ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة؛ ويكنى أبا خالد. مغنّ محسن كثير الصنعة، من طبقة ابن جامع وإبراهيم الموصلىّ. وكان ممن قدم على المهدىّ في خلافته فغنّاه. وكان حسن الصوت حلو الشمائل. فحسده إبراهيم الموصلىّ على شمائله وإشاراته في الغناء، فاشترى عدّة جوار وشاركه [فيهنّ «1» ] ، وقال له: علّمهنّ، فما رزق الله تعالى من ربح فيهنّ فهو بيننا. وأمرهنّ أن يجعلن وكدهنّ «2» أخذ إشاراته ففعلن ذلك. فكان إبراهيم يأخذها عنهنّ هو وابنه ويأمرهنّ بتعليم كل من يعرفنه ذلك حتى شهرها في الناس، فأبطل عليه ما كان منفردا به من ذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 323 قال عبد الله بن العباس الرّبيعىّ: كان يزيد حوراء نظيفا ظريفا حسن الوجه شكلا، لم يقدم علينا من الحجاز أنظف منه ولا أشكل، وما كنت تشاء أن ترى خصلة جميلة لا تراها في أحد منهم إلا رأيتها فيه. وكان يتعصّب لإبراهيم الموصلىّ على ابن جامع، فكان إبراهيم يرفع منه ويشيع ذكره بالجميل وينبّه على مواضع تقدّمه [وإحسانه «1» ] ، ويبعث بابنه إسحاق [إليه «2» ] يأخذ عنه. وحكى أبو الفرج بسند رفعه الى يزيد حوراء قال: كلّمنى أبو العتاهية في أن أكلّم المهدى في عتبة؛ فقلت: إن الكلام لا يمكننى، ولكن قل شعرا أغنّيه به؛ فقال: نفسى بشىء من الدنيا معلّقة ... الله والقائم المهدىّ يكفيها إنى لأيأس منها ثم يطمعنى ... فيها احتقارك للدّنيا وما فيها قال: فعملت فيه لحنا وغنّيته. فقال: ما هذا؟ فأخبرته خبر أبى العتاهية؛ فقال: ننظر فيما سأل؛ فأخبرت بذلك أبا العتاهية. ثم مضى شهر فجاءنى فقال: هل حدث خبر؟ قلت لا. قال: فاذكرنى للمهدىّ. فقلت: إن أحببت ذلك فقل شعرا تحرّكه به وتذكّره وعده حتى أغنّيه به؛ فقال: ليت شعرى ما عندكم ليت شعرى ... فلقد أخّر الجواب لأمر ما جواب أولى بكل جميل ... من جواب يردّ من بعد شهر قال يزيد: فغنّيت المهدىّ، فقال: علىّ بعتبة فأحضرت؛ فقال: إن أبا العتاهية كلّمنى فيك، فما تقولين ولك عندى وله ما تحبّان مما [لا «3» ] تبلغه أمانيكما؟ فقالت: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 324 قد علم أمير المؤمنين ما أوجب الله علىّ من حقّ مولاتى، وأريد أن أذكر هذا لها. قال: فافعلى. قال: فأعلمت أبا العتاهية. ومضت أيام فسألنى معاودة المهدىّ؛ فقلت: قد عرفت الطريق، فقل ما شئت حتى أغنّيه به؛ فقال: أشربت قلبى من رجائك ما له ... عنق يخبّ إليك بى ورسيم وأملت نحو سماء جودك ناظرى ... أرعى مخايل برقها «1» وأشيم ولقد تنسّمت الرّياح لحاجتى ... فإذا لها من راحتيك نسيم ولربما استيأست ثم أقول لا ... إن الذى وعد النّجاح كريم قال يزيد: فغنّيته الشعر، فقال: علىّ بعتبة فجاءت؛ فقال: ما صنعت؟ فقالت: ذكرت ذلك لمولاتى فكرهته وأبت أن تفعل، فليفعل أمير المؤمنين ما يريد. قال: ما كنت لأفعل شيئا تكرهه. فأعلمت أبا العتاهية بذلك، فقال: قطّعت منك حبائل الآمال ... وأرحت من حلّ ومن ترحال ما كان أشأم إذ رجاؤك قاتلى ... وبنات وعدك يعتلجن ببالى ولئن طمعت لربّ برقة خلّب ... مالت بذى طمع ولمعة آل وقد حكى أبو الفرج أيضا هذه الحكاية واختصرها، ولم يذكر الأبيات التى منها أشربت قلبى من رجائك ماله إلا أنّه غيّر قوله: «أشربت قلبى» بقوله: «أعلمت نفسى من رجائك» . وقال: فصنع فيه يزيد لحنا وغنّاه المهدىّ. فدعا بأبى العتاهية وقال له: أما عتبة فلا سبيل إليها، لأن مولاتها قد منعت منها، ولكن هذه خمسون ألف درهم فاشتر ببعضها خيرا من عتبة فحملت إليه، فأخذها وانصرف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 325 وحكى عن حماد بن إسحاق قال: قال يزيد حوراء: كنت أجلس بالمدينة على أبواب قريش، وكانت تمرّ بى جارية تختلف الى الزرقاء تتعلّم منها الغناء. فقلت لها يوما: افهمى قولى وردّى جوابى وكونى عند ظنّى؛ فقالت: هات ما عندك. فقلت: بالله ما اسمك؟ فقالت: ممنّعة. فأطرقت طيرة من اسمها مع طمعى فيها، ثم قلت: بل باذلة ومبذولة إن شاء الله فاسمعى منّى. فقالت وهى تتبسّم: إن كان عندك شىء فقل. فقلت: ليهنك منّى أنّنى لست مفشيا ... هواك إلى غيرى ولو متّ من كربى ولا ما نحا خلقا سواك محبّة ... ولا قائلا ما عشت من حبكم حسبى فنظرت إلىّ طويلا ثم قالت: أنشدك الله، أعن فرط محبّة أم اهتياج غلمة [تكلمت «1» ] ؟ فقلت: لا والله إلا عن فرط محبّة. فقالت: فو الله ربّ الناس لا خنتك الهوى ... ولا زلت مخصوص المحبّة من قلبى فثق بى فإنى قد وثقت ولا تكن ... على غير ما أظهرت لى يا أخا الحبّ قال: فو الله لكأنما أضرمت في قلبى نارا. فكانت تلقانى في الطريق الذى كانت تسلكه فتحدّثنى فأتفرّج بها؛ ثم اشتراها بعض أولاد الخلفاء، وكانت تكاتبنى وتلاطفنى دهرا طويلا. ذكر أخبار فليح بن أبى العوراء هو رجل من أهل مكّة مولى لبنى مخزوم، وهو أحد مغنّى الدولة العبّاسية؛ له محلّ كبير من صناعته، وهو أحد الثلاثة الذين اختاروا المائة الصوت للرّشيد التى بنى أبو الفرج الأصفهانى كتابه المترجم بالأغانى عليها. قال إسحاق بن إبراهيم الموصلى: ما سمعت أحسن من غناء فليح وابن جامع. وكان المهدى لا يغنّيه مغنّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 326 إلا من وراء الستارة إلا فليح فإن الستارة كانت ترفع بينه وبين المهدىّ. وهو أوّل مغنّ نظر وجه المهدىّ. وروى أبو الفرج الأصفهانىّ عن يوسف بن إبراهيم عن إبراهيم بن المهدىّ قال: كتب إلىّ جعفر بن يحيى وأنا عامل الرشيد على [جند «1» ] دمشق: قد قدم علينا فليح بن أبى العوراء، فأفسد علينا بأهزاجه وخفيفه كلّ غناء سمعناه قبله. وأنا محتال لك في تخليصه إليك لتسمع منه كما أسمعنا. فلم ألبث أن ورد على فليح بكتاب الرشيد يأمر له بثلاثة آلاف دينار؛ فورد علىّ منه رجل أذكرنى لقاؤه الناس وأخبرنى أنه قد ناهز المائة. فأقام عندى ثلاث سنين، وأخذ جوارى عنه كلّ ما كان معه من الغناء، وانتشر بعض غنائه بدمشق. وروى أيضا بسنده إلى أحمد بن يحيى المكّىّ عن فليح بن أبى العوراء قال: كان بالمدينة فتى يعشق ابنة عمّ له، فوعدته أنها تزوره؛ وشكا إلىّ أنها تأتيه ولا شىء عنده؛ فأعطيته دينارا للنفقة. فلما زارته قالت له: من يلهينا؟ قال: صديق لى، ووصفنى لها؛ ودعانى فأتيته؛ وكان أوّل ما غنّيته: من الخفرات لم تفضح أخاها ... ولم ترفع لوالدها شنارا فقامت إلى ثوبها فلبسته لتنصرف. فتعلّق بها وجهد كلّ الجهد في أن تقيم فم تفعل وانصرفت. فأقبل يلومنى في أن غنّيتها ذلك الصوت. فقلت: والله ما هو شىء اعتمدت به مساءتك ولكنّه شىء اتّفق. قال: فلم نبرح حتى عاد رسولها ومعه صرّة فيها ألف دينار، فدفعها إلى الفتى وقال: تقول لك ابنة عمّك: هذا مهرى، فادفعه إلى أبى واخطينى، ففعل وتزوّجها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 327 ذكر أخبار إبراهيم الموصلىّ عفا الله عنه هو إبراهيم بن ماهان بن ميمون، وأصله من فارس، ومولده في سنة خمس وعشرين ومائة بالكوفة، ووفاته ببغداد في سنة ثمان وثمانين ومائة. قالوا: ومات ماهان وترك إبراهيم صغيرا، فكفله آل خزيمة بن خازم، فكان ولاؤه لبنى تميم. وكان السبب فى نسبه إلى الموصل أنه لما كبر واشتدّ وأدرك صحب الفتيان واشتهى الغناء وطلبه؛ فاشتدّ أخواله بنو عبد الله بن دارم عليه في ذلك وبلغوا منه، فهرب منهم إلى الموصل فأقام بها سنة؛ فلما رجع إلى الكوفة قال له إخوانه من الفتيان: مرحبا بالفتى الموصلىّ، فغلب عليه «1» ثم ارتحل إلى الرّىّ في طلب الغناء، فطال مقامه هناك، وأخذ الغناء الفارسى والعربى. قال إسحاق: حدّثنى أبى قال: أوّل شىء أعطيته بالغناء أنى كنت بالرىّ أنادم أهلها بالسويّة لا أرزؤهم شيئا ولا أنفق إلا من بقية مال كان معى. فمرّ بنا خادم أبو جعفر المنصور إلى بعض عمّاله برسالة، فسمعنى عند رجل من أهل الرّىّ فشغف بى وخلع علىّ دوّاج «2» سمّور له قيمة، ومضى بالرّسالة فرجع وقد وصله العامل بسبعة آلاف درهم وكسوة كثيرة، فجاءنى إلى منزلى الذى كنت أسكنه، فأقام عندى ثلاثة أيام ووهب لى نصف الكسوة [التى معه «3» ] وألفى درهم. وكان ذلك أوّل مال كسبته من الغناء. فقلت: والله لا أنفق هذه الدراهم إلّا على الصناعة التى أفادتنيها. ووصف لى رجل بالأبلّة «4» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 328 اسمه: «جوانويه «1» » وكان حاذقا، فخرجت إليه، وصحبت فتيانها وأخذت عنهم وغنّيتهم فشغفوا بى. قال إبراهيم: ولما أتيت «جوانويه» لم أصادفه في منزله فأقمت حتى جاء. فلما رآنى احتشمنى وكان مجوسيا؛ فأخبرته بصناعتى والحال التى قصدته فيها؛ فرحّب بى وأفرد لى جناحا في داره ووكّل بى جارية «2» ، فقدّمت لى ما أحتاج إليه. فلما كان العشاء عاد إلى منزله ومعه جماعة من الفرس ممن يغنّى؛ فنزلت إليه فجلسنا وأخذوا فى شأنهم وضربوا وغنّوا؛ فلم أجد في غناء أحد منهم فائدة؛ وبلغت النّوبة إلىّ فضربت وغنّيت؛ فقاموا جميعا إلى فقبّلوا رأسى وقالوا: سخرت بنا، نحن إلى تعليمك إيّانا أحوج منك إلينا. فأقمت على تلك الحال أياما حتى بلغ [محمد بن «3» ] سليمان بن علىّ خبرى، فوجّه إلىّ فأحضرنى وأمرنى بملازمته. فقلت: أيها الأمير، لست أتكسّب بهذه الصناعة وإنما ألتذّ بالغناء فلذلك تعلّمته، وأريد العود الى الكوفة؛ فلم أنتفع بذلك عنده وأخذنى بملازمته وسألنى: من أين أنا؟ فانتسبت الى الموصل، فلزمتنى وعرفت بها. ولم أزل عنده مكرّما، حتى قدم عليه خادم المهدىّ. فلما رآنى عنده قال له: أمير المؤمنين أحوج إلى هذا منك، فدافعه عنّى. فلما قدم الخادم على المهدىّ سأله عمّا رأى في طريقه ومقصده، فأخبره بما رأى، حتى انتهى إلى ذكرى فوصفنى له. فأمره المهدىّ بالرّجوع وإشخاصى إليه، فجاء وأشخصنى إلى المهدىّ، وحظيت عنده وقدّمنى. قال: وما سمع المهدىّ قبلى أحدا من المغنّين سوى فليح بن أبى العوراء وسياط؛ فإن الفضل بن الربيع وصفهما له. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 329 قال: وكان المهدىّ لا يشرب، فأرادنى على ملازمته وترك الشّرب، فأبيت عليه. وكنت أغيب عنه الأيام، فاذا جئته جئته منتشيا؛ فغاظه ذلك منّى وضربنى وحبسنى؛ فحذقت القراءة والكتابة في الحبس. ثم دعانى يوما فعاتبنى على شربى فى منازل الناس والتبذّل معهم. فقلت: يا أمير المؤمنين، إنما تعلّمت «1» هذه الصناعة للذّتى وعشرة إخوانى ولو أمكننى تركها تركتها وجميع ما أنا فيه لله تعالى. فغضب غضبا شديدا وقال: لا تدخل على موسى وهارون، فو الله لئن دخلت عليهما لأفعلنّ وأصنعنّ. فقلت نعم. ثم بلغه أنّى دخلت عليهما وشربت معهما وكانا مشتهرين «2» بالنّبيذ، فضربنى ثلاثمائة سوط وستين سوطا. فقلت له وأنا أضرب: إن جرمى ليس من الأجرام التى يحلّ بها سفك دمى، وو الله لو كان سرّ ابنيك تحت قدمىّ ما رفعتهما عنه ولو قطعتا، ولو فعلت ذلك كنت في حالة أبان العبد «3» الساعى. فلما قلت ذلك ضربنى بالسيف في جفنه «4» فشجّنى، فسقطت مغشيّا علىّ. وقال لعبد الله ابن مالك: خذه إليك واجعله في مثل القبر. فدعا عبد الله بكبش فذبحه وسلخه وألبسنى جلده ليسكن الضّرب عنى، ودفعنى الى خادم له يقال له أبو عثمان سعيد التركىّ، فجعلنى في قبر ووكّل بى جارية. فتأذّيت بنزّ كان في القبر وببقّ «5» . فقلت للجارية: أصلحى لى مجمرة وكندرا «6» ليذهب عنى هذا البقّ ففعلت. فلما دخّنت أظلم القبر وكادت نفسى تذهب، ثم خفّ ذلك وزال البقّ، وإذا حيّتان مقبلتان نحوى من شقّ في القبر تدوران حولى، فهممت أن آخذ واحدة بيدى اليمنى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 330 والأخرى بيدى اليسرى، فإمّا علىّ وإمّا لى، ثم كفيتهما، فدخلتا في الثّقب الذى خرجتا منه. فمكثت في ذلك القبر ما شاء الله، ثم أخرجت منه. وأحلفنى المهدىّ بالطّلاق والعتاق وكلّ يمين لا فسحة لى فيها ألّا أدخل على ابنيه موسى وهارون أبدا ولا أغنّيهما، وخلّى سبيلى. قال إبراهيم: وقلت وأنا في الحبس: ألا طال ليلى أراعى النجوم ... أعالج في السّاق كبلا ثقيلا بدار الهوان وشرّ الديار ... أسام بها الخسف صبرا جميلا كثير الأخلّاء عند الرخاء ... فلما حبست أراهم قليلا لطول بلائى ملّ الصديق ... فلا يأمننّ خليل خليلا قال: فلمّا ولى موسى الهادى الخلافة استتر إبراهيم منه ولم يظهر له بسبب الأيمان التى حلف بها للمهدىّ. فلم يزل يطلبه حتى أتى به فلما عاينه قال: يا سيّدى، [فارقت «1» ] أمّ ولدى أعز الخلق علىّ؛ ثم غنّاه: يابن خير الملوك لا تتركنّى ... غرضا للعدوّ يرمى حيالى فلقد في هواك فارقت أهلى ... ثم عرّضت مهجتى للزوال ولقد عفت في هواك حياتى ... وتغرّبت بين أهلى ومالى قال إسحاق بن إبراهيم: فموّله الهادى وخوّله؛ وبحسبك أنه أخذ منه مائة ألف وخمسين ألف دينار في يوم واحد، ولو عاش لنا لبنينا حيطان دورنا بالذهب والفضّة. قال حمّاد بن إسحاق قال لى أبى: والله ما رأيت أكمل مروءة من جدّك، وكان له طعام يعدّ أبدا في كل وقت. فقلت لأبى: كيف كان يمكنه ذلك؟ قال: كان له في كل يوم ثلاث شياه، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 331 واحدة مقطّعة في القدور، وأخرى مسلوخة معلّقة، وأخرى قائمة في المطبخ؛ فإذا أتاه قوم طعموا ممّا في القدور، فإذا فرغت القدور قطّعت الشّاة المعلّقة ووضعت فى القدور وذبحت القائمة وأتى بأخرى فأقيمت في المطبخ. وكانت وظيفته لطعامه وطيبه وما يتّخذ له في كل شهر ثلاثين ألف درهم سوى ما كان يجرى وسوى كسوته. ولقد كان مرّة عندنا من الجوارى الودائع لإخوانه ثمانون جارية، ما فيهنّ واحدة إلا ويجرى عليها من الطعام والكسوة والطّيب مثل ما يجرى لأخصّ جواريه، فإذا ردّت الواحدة الى مولاها وصلها وكساها. ومات وما في ملكه إلا ثلاثة آلاف دينار وعليه من الدّين سبعمائة دينار قضيت منها. وروى عن إسحاق بن إبراهيم قال: اشترى الرشيد من أبى جارية بستة وثلاثين ألف دينار، فأقامت عنده ليلة ثم أرسل الى الفضل بن الرّبيع وقال له: إنا اشترينا هذه الجارية من إبراهيم ونحن نحسب أنها على صفة وليست كما ظنّنا وما قربتها، وقد ثقل علىّ الثمن وبينك وبينه ما بينكما؛ فاذهب اليه فسله أن يحطّنا من ثمنها ستة آلاف دينار. قال: فأتاه الفضل، فخرج اليه وتلقّاه؛ فقال له: دعنى من هذه الكرامة التى لا مؤنة فيها، قد جئتك فى أمر، ثم أخبره الخبر. فقال له إبراهيم: إنما أراد أن يبلو قدرك عندى. قال: هو ذاك؟ قال: فمالى في المساكين صدقة إن لم أضعفه لك، قد حططتك اثنى عشر ألف دينار. فرجع الفضل اليه بالخبر؛ فقال: ويحك! احمل اليه المال بجملته، فما رأيت سوقة أنبل «1» منه نفسا. قال إسحاق: وكنت قد أتيت أبى فقلت: ما كان لحطيطة هذا المال معنى ولا هو قليل يتغافل عنه، قال لى: يا أحمق، أنا أعرف الناس به، والله لو أخذت المال منه كملا ما أخذته إلا وهو كاره ولحقد ذلك، وكنت أكون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 332 عنده صغير القدر، وقد مننت عليه وعلى الفضل وانبسطت نفسه وعظم قدرى عنده، وإنما اشتريت الجارية بأربعين ألف درهم وقد أخذت بها أربعة وعشرين ألف دينار. فلما حمل اليه المال بكماله دعانى وقال: كيف رأيت يا إسحاق، من البصير أنا أم «1» أنت؟ فقلت: أنت، جعلنى الله فداك. قال: وإبراهيم أوّل من علّم الجوارى المثمّنات الغناء فإنه بلغ بالقيان كلّ مبلغ ورفع من أقدارهنّ. ومن أخباره مع الرشيد ما روى عن إسحاق قال حدّثنى أبى قال: إنّ الرشيد غضب علىّ فقيّدنى وحبسنى بالرّقّة وجلس للشرب يوما في مجلس قد زينه وحسّنه. فقال لعيسى بن جعفر: هل لمجلسنا عيب؟ قال: نعم، غيبة إبراهيم الموصلىّ عنه. فأمره باحضارى؛ فأحضرت في قيودى، ففكّت عنّى بين يديه، وأمرهم فناولونى عودا؛ ثم قال: غنّ يا إبراهيم؛ فغنّيته: تضوّع مسكا بطن نعمان أن مشت ... به زينب في نسوة عطرات فاستعاده وشرب وطرب وقال: هنأتنى وسأهنئك بالصلة، وقد وهبت لك الهنىء والمرىء «2» ، فانصرفت؛ فلما أصبحت عوّضت منهما مائتى ألف درهم. قال إبراهيم: دخلت على موسى الهادى فقال لى: يا إبراهيم، غنّ من الغناء ما ألذّ وأطرب عليه ولك حكمك. فقلت: يا أمير المؤمنين، إن لم يقابلنى زحل ببرده رجوت ذلك؛ فغنيّته: وإنى لتعرونى لذكراك هزة ... كما انتفض العصفور بلّله القطر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 333 فضرب بيده إلى جيب درّاعته «1» فحطّه ذراعا؛ ثم قال: أحسنت والله! زدنى؛ فغنّيت: فيا حبّها زدنى جوى كلّ ليلة ... ويا سلوة الأيام موعدك الحشر فضرب بيده الى درّاعته فحطها ذراعا آخر وقال: زدنى ويلك! أحسنت والله ووجب حكمك؛ فغنّيت: هجرتك حتى قيل ما يعرف الهوى ... وزرتك حتى قيل ليس له صبر فرفع صوته وقال: أحسنت والله! لله أبوك! هات ما تريد. فقلت: يا سيّدى عين مروان بالمدينة. فدارت عيناه في رأسه حتى صارتا كأنهما جمرتان وقال: يابن اللخناء! أردت أن تشهرنى بهذا المجلس فيقول الناس: أطربه فحكم عليه فتجعلنى سمرا وحديثا! يا إبراهيم الحرّانى «2» ، خذ بيد هذا الجاهل فأدخله بيت مال الخاصة، فإن أخذ كلّ ما فيه فخلّه وإياه. فدخلت فأخذت خمسين ألف دينار. وهذا الشعر لأبى صخر الهذلىّ، وأوّله: عجبت لسعى الدّهر بينى وبينها ... فلما انقضى ما بيننا سكن الدّهر فيا حبّها زدنى جوى كلّ ليلة ... ويا سلوة الأيام موعدك الحشر ويا هجر ليلى قد بلغت بى المدى ... وزدت على ما ليس يبلغه «3» الهجر وإنى لتعرونى لذكراك هزّة ... كما انتفض العصفور بلّله القطر هجرتك حتى قيل لا يعرف الهوى ... وزرتك حتى قيل ليس له صبر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 334 أما والذى أبكى وأضحك والذى ... أمات وأحيا والذى أمره الأمر لقد تركتنى أحسد الوحش أن أرى ... أليفين منها لا يروعهما الذّعر ذكر نبذة من أخبار إبراهيم الموصلى مع البرامكة رحمهم الله تعالى كان لإبراهيم الموصلىّ مع البرامكة أخبار مستحسنة، سنورد منها طرفا. منها ما حكى عن مخارق قال: أذن لنا أمير المؤمنين الرشيد أن نقيم في منازلنا ثلاثة أيام وأعلمنا أنه يشتغل فيها مع الحرم. فمضى الجلساء أجمعون الى منازلهم وقد أصحبت السماء متغيّمة تطشّ طشيشا خفيفا. فقلت: والله لأذهبنّ الى أستاذى إبراهيم فأعرف خبره ثم أعود، وأمرت من عندى أن يسوّوا لنا مجلسا الى وقت رجوعى. فجئت الى إبراهيم، فدخلت اليه، فإذا هو جالس في رواق له والستارة منصوبة والجوارى خلفها؛ فدخلت أترنّم ببعض الأصوات وقلت له: ما بال السّتارة لست أسمع من ورائها صوتا؟ فقال: اقعد ويحك! إنى أصبحت فجاءنى خبر ضيعة تجاورنى قد والله طلبتها زمانا وتمنيتها ولم أملكها، وقد أعطى بها مائة ألف درهم. فقلت له: ما يمنعك منها؟ فو الله لقد أعطاك الله أضعاف هذا المال وأكثر. قال: صدقت، ولكن لست أطيب نفسا بأن أخرج هذا المال. فقلت: فمن يعطيك الساعة مائة ألف درهم؟ قال «1» : والله ما أطمع في ذلك من الرشيد، فكيف بمن دونه! ثم قال: اجلس، خذ هذا الصوت. ثم نقر بقضيب على الدّواة وألقى علىّ هذا الصوت: نام الخلّيون من همّ «2» ومن سقم ... وبتّ من كثرة الأحزان لم أنم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 335 يا طالب الجود والمعروف مجتهدا ... اعمد ليحيى حليف الجود والكرم قال: فأخذت الصوت وأحكمته. ثم قال لى: انصرف الى الوزير يحيى بن خالد فإنك تجد الناس على بابه قبل أن يفتح الباب، ثم تجد الباب قد فتح ولم يجلس بعد، فاستأذن عليه قبل أن يصل اليه أحد، فإنه ينكر مجيئك ويقول: من أين أقبلت فى هذا الوقت؟ فحدّثه بقصدك إيّاى وما ألقيت إليك من خبر الضيعة وأعلمه أنى قد صنعت هذا الصوت وأعجبنى ولم أر أحدا يستحقه إلا جاريته فلانة، وأنى ألقيته عليك [حتى أحكمته «1» ] لتطرحه عليها؛ فسيدعوها ويأمر بالستارة فتنصب ويوضع لها كرسىّ ويقول لك: اطرحه عليها بحضرتى؛ فافعل وأتنى بما يكون بعد ذلك من الخبر. قال مخارق: فجئت الى باب يحيى بن خالد فوجدته كما وصف. وسألنى فأعلمته بما أمرنى به؛ ففعل كل شىء قاله لى إبراهيم وأحضر الجارية فألقيته عليها. ثم قال لى: تقيم عندنا يا أبا المهنّأ أو تنصرف؟ فقلت: بل أنصرف، أطال الله بقاءك، فقد علمت ما أذن لنا فيه. فقال يا غلام، احمل مع أبى المهنّأ عشرة آلاف درهم واحمل الى أبى إسحاق مائة ألف درهم ثمن هذه الضيعة. فحملت عشرة الآلاف معى، وأتيت منزلى وقلت: أسرّ يومى هذا وأسرّ من عندى. ومضى الرسول بالمال الى إبراهيم؛ فدخلت منزلى ونثرت على من عندى دراهم من تلك البدرة وتوسّدتها وأكلت وشربت وطربت وسررت يومى كلّه. فلما أصبحت قلت: والله لآتينّ أستاذى ولأعرفنّ خبره؛ فأتيته فوجدته كهيئته بالأمس ملى مثل ما كان عليه، فترنّمت وطربت فلم يتلقّ ذلك بما يجب؛ فقلت: ما الخبر؟ ألم يأتك المال بالأمس؟! فقال: بلى، فما كان خبرك أمس؟ فأخبرته بما كان وقلت: ما تنتظر؟ فقال: ارفع السّجف، فرفعته فإذا عشر بدر؛ فقلت: فأىّ شىء بقى عليك في أمر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 336 الضيعة؟ فقال: ويحك! ما هو والله إلا أن دخلت منزلى حتى شححت عليها وصارت مثل ما حويت قديما. فقلت: سبحان الله! فتصنع ماذا؟ قال: قم حتى ألقى عليك صوتا صنعته يفوق ذاك. فقمت فجلست بين يديه؛ فألقى علىّ: ويفرح بالمولود من آل برمك ... بغاة النّدى، والسيف والرمح والنصل وتنبسط الآمال فيه لفضله ... ولا سيما إن كان والده الفضل قال مخارق: فلما ألقى علىّ الصوت سمعت ما لم أسمع مثله قطّ وصغر في عينى الأوّل، فأحكمته. ثم قال: امض الساعة إلى الفضل بن يحيى، فإنك تجده لم يأذن لأحد بعد وهو يريد الخلوة مع جواريه اليوم؛ فاستأذن عليه وحدّثه بحديثنا وما كان من أبيه إلينا، وأعلمه أنى صنعت هذا الصوت وكان عندى أرفع منزلة من الصوت الأوّل الذى صنعته بالأمس، وأنى ألقيته عليك حتى أحكمته ووجّهت بك قاصدا لتلقيه على فلانة جاريته. فصرت إلى باب الفضل فوجدت الأمر على ما ذكر، فاستأذنت فوصلت إليه؛ وسألنى عن الخبر، فأعلمته بخبرى وما وصل إلىّ وإليه من المال؛ فقال: أخرى الله إبراهيم! ما أبخله على نفسه! ثم دعا خادما فقال له: اضرب السّتارة، فضربها؛ فقال لى: ألقه. فلما ألقيته وغنّته الجارية لم أتمّه حتى أقبل يجرّ مطرفه، ثم قعد على وسادة دون الستارة وقال: أحسن والله أستاذك وأحسنت أنت يا مخارق. ولم أبرح حتى أحكمته الجارية؛ فسرّ بذلك سرورا عظيما وقال: أقم عندى اليوم. فقلت: يا سيّدى إنما بقى لنا يوم واحد، ولولا أنّنى أحبّ سرورك لم أخرج من منزلى. فقال: يا غلام، احمل مع أبى المهنّأ عشرين ألف درهم وإلى أبى إسحاق مائتى ألف درهم. فانصرفت إلى منزلى بالمال، وفتحت بدرة ونثرت منها على الجوارى وشربت وسررت أنا ومن عندى يومنا. فلما أصبحت بكّرت إلى إبراهيم أتعرّف خبره وأعرّفه خبرى، فوجدته على الحال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 337 التى كان عليها أوّلا وآخرا؛ فدخلت أترنّم وأصفّق. فقال لى: أدن؛ فقلت: ما بقى عليك؟ فقال: اجلس وارفع سجف هذا الباب؛ فرفعته فاذا عشرون بدرة مع تلك العشر. فقلت: ما تنتظر الآن؟ فقال: ويحك! ما هو إلا أن حصلت حتى جرت مجرى ما تقدّم. فقلت: والله ما أظن أحدا نال من هذه الدولة ما نلت! فلم تبخل على نفسك بشىء تمنيته دهرا وقد ملّكك الله أضعافه! ثم قال: اجلس فخذ هذا الصوت. فألقى علىّ صوتا أنسانى صوتى الأوّلين وهو: أفى كلّ يوم أنت صبّ وليلة ... إلى أمّ بكر لا تفيق فتقصر أحبّ على الهجران أكناف بيتها ... فيالك من بيت يحبّ ويهجر إلى جعفر سارت بنا كلّ جسرة ... طواها سراها نحوه والتهجّر إلى واسع للمجتدين فناؤه ... تروح عطاياه عليهم وتبكر - وهو شعر مروان بن أبى حفصة يمدح جعفر [بن يحيى «1» ]- قال مخارق: ثم قال لى إبراهيم: هل سمعت مثل هذا قطّ؟ فقلت: ما سمعت قط مثله! فلم يزل يردّده علىّ حتى أخذته، ثم قال لى: امض إلى جعفر فافعل به كما فعلت بأبيه وأخيه. قال: فمضيت ففعلت مثل ذلك وأخبرته بما كان وعرضت عليه الصوت؛ فسرّ به ودعا خادما فأمره أن يضرب السّتارة، وأحضر الجارية وقعد على كرسىّ؛ ثم قال: هات يا مخارق؛ فألقيت الصوت عليها حتى أخذته؛ فقال: أحسنت يا مخارق وأحسن أستاذك، فهل لك في المقام عندنا اليوم؟ فقلت: يا سيّدى، هذا آخر أيامنا، وإنما جئت لموقع الصوت منّى حتى ألقيته على الجارية. فقال: يا غلام، احمل معه ثلاثين ألف درهم وإلى الموصلىّ ثلاثمائة ألف درهم. فصرت إلى منزلى بالمال وأقمت ومن عندى مسرورين نشرب طول يومنا ونطرب. ثم بكّرت إلى إبراهيم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 338 فتلقّانى قائما، ثم قال لى: أحسنت يا مخارق! فقلت: ما الخبر؟ قال: اجلس فجلست؛ فقالت لمن خلف الستارة: خذوا فيما أنتم عليه «1» ثم رفع السّجف فإذا المال. فقلت ما خبر الضّيعة؟ فأدخل يده تحت مسورة «2» وهو متكىء عليها فقال: هذا صكّ الضّيعة اشتراها يحيى بن خالد وكتب إلىّ: «قد علمت أنك لا تسخو نفسك بشراء هذه الضّيعة من مال يحصل لك ولو حويت الدنيا كلّها، وقد ابتعتها من مالى» . ووجّه إلىّ بصكها، وهذا المال كما ترى، ثم بكى وقال: يا مخارق، إذا عاشرت فعاشر مثل هؤلاء، وإذا خنكرت «3» فخنكر لمثل هؤلاء، ستمائة ألف، وضيعة بمائة ألف، وستون ألف درهم لك، حصّلنا ذلك أجمع وأنا جالس في مجلسى لم أبرح منه، متى يدرك مثل هؤلاء!. وروى عنه قال: أتيت الفضل بن يحيى يوما فقلت له: يا أبا العبّاس، جعلت فداك! هب لى دراهم فإن الخليفة قد حبس برّه. فقال: ويحك يا أبا إسحاق ما عندى ما أرضاه لك. ثم قال: هاه! إلا أنّ هاهنا خصلة، أتانا رسول صاحب اليمن فقضينا حوائجه، ووجّه [الينا «4» ] بخمسين ألف دينار يشترى لنا بها محبّتنا. فما فعلت ضياء جاريتك؟ قلت: عندى جعلت فداك. قال: فهو ذا، أقول لهم يشترونها «5» منك فلا تنقصها من خمسين ألف دينار؛ فقبّلت رأسه ثم انصرفت. فبكّر علىّ رسول صاحب اليمن ومعه صديق له ولى، فقال: جاريتك فلانة [عندك «6» ] ؟ قلت: عندى. قال: اعرضها علىّ فعرضتها عليه؛ فقال: بكم؟ فقلت: بخمسين ألف دينار ولا أنقص منها دينارا واحدا، وقد أعطانى الفضل بن يحيى أمس هذه العطيّة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 339 فقال: هل لك في ثلاثين ألف دينار مسلّمة؟ وكان مشترى الجارية أربعمائة دينار، فلما وقع في أذنى ذكر ثلاثين ألف دينار أرتج علىّ ولحقنى زمع «1» ، وأشار علىّ صديقى الذى معه بالبيع، وخفت والله أن يحدث بالجارية حدث أو بى أو بالفضل «2» بن يحيى، فسلّمتها وأخذت المال. ثم بكّرت على الفضل، فإذا هو جالس وحده. فلما نظر إلىّ ضحك وقال لى: يا ضيّق العطن والحوصلة، حرمت نفسك عشرين ألف دينار. فقلت له: جعلت فداك، دع ذا عنك، فو الله لقد دخلنى شىء أعجز عن وصفه وخفت أن تحدث بى حادثة أو بالجارية أو بالمشترى أو بك أعاذك الله من كل سوء، فبادرت بقبول الثلاثين ألف دينار. فقال: لا ضير، يا غلام جىء بجاريته، فجىء بها، فقال: خذ بيدها وانصرف بارك الله لك فيها، ما أردنا إلّا منفعتك ولم نرد الجارية. فلما نهضت قال لى: مكانك، إن رسول صاحب أرمينية قد جاءنا فقضينا حوائجه ونفّذنا كتبه، وقد ذكر أنه قد جاء بثلاثين ألف دينار يشترى لنا بها ما نحبّ، فاعرض عليه جاريتك هذه ولا تنقصها من ثلاثين ألف دينار؛ فانصرفت بالجارية. وبكّر علىّ رسول صاحب أرمينية ومعه صديق لى آخر، فقاولنى بالجارية؛ فقلت: لن أنقصها من ثلاثين ألف دينار. فقال لى: معى عشرون ألف دينار مسلّمة خذها بارك الله لك فيها. فدخلنى والله مثل الذى دخلنى في المرّة الأولى وخفت مثل خوفى الأوّل، فسلّمتها وأخذت المال. وبكّرت على الفضل، فإذا هو وحده. فلما رآنى ضحك وضرب برجله ثم قال: ويحك، حرمت نفسك عشرة آلاف دينار. فقلت: أصلحك الله، خفت والله مثل ما خفت في المرّة الأولى. فقال: لا ضير، [أخرج «3» ] يا غلام جاريته فجىء بها؛ فقال: خذها، ما أردناها وما أردنا إلا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 340 منفعتك. فلما ولّت الجارية صحت بها: ارجعى فرجعت؛ فقلت: أشهدك جعلت فداك هى حرّة لوجه الله تعالى، وإنى قد تزوّجتها على عشرة آلاف درهم، كسبت لى في يومين خمسين ألف دينار فما جزاؤها إلا هذا. فقال: وفّقت إن شاء الله تعالى. وأخباره مع البرامكة كثيرة وصلاتهم له وافرة. وقد ذكرنا منها ما فيه غنية عن زيادة. فلنذكر وفاة إبراهيم. كانت وفاته ببغداد في سنة ثمان وثمانين ومائة، ومات في يوم وفاته العباس بن الأحنف الشاعر، وهشيمة الخّمارة؛ فرفع ذلك إلى الرشيد فأمر المأمون أن يصلّى عليهم، فخرج وصلّى عليهم. قال إسحاق: لمّا مرض إبراهيم مرض موته ركب الرشيد حمارا ودخل على إبراهيم يعوده وهو جالس في الأبزن «1» ، فقال له: كيف انت يا إبراهيم؟ فقال: أنا والله يا سيّدى كما قال الشاعر: سقيم ملّ منه أقربوه ... وأسلمه المدواى والحميم فقال الرشيد: إنّا لله! فخرج، فما بعد حتى سمع الواعية «2» عليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 341 صورة ما ورد بآخر الجزء الرابع في أحد الأصلين الفتوغرافيين: هذا آخر الجزء الرابع من نهاية الأرب في فنون الأدب. والحمد لله وحده، وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله وصحبه وسلم؛ وحسبنا الله ونعم الوكيل. صورة ما ورد بآخر الجزء الرابع في الأصل الآخر الفتوغرافى: كمل الجزء الرابع من كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب على يد مؤلفه فقير رحمة ربه أحمد بن عبد الوهاب بن محمد بن عبد الدائم البكرىّ التيمىّ القرشىّ المعروف بآلنويرى عفا الله عنهم. تمّ الجزء الرابع من كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب، يتلوه إن شاء الله تعالى الجزء الخامس وأوّله ذكر أخبار إسحاق بن إبراهيم الموصلىّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 342 فهرس الجزء الخامس من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويرىّ (تابع) أخبار المغنّين الذين نقلوا الغناء من الفارسية الى العربية ومن أخذ عنهم ومن اشتهر بالغناء .... صفحة ذكر أخبار إسحاق بن إبراهيم 1 ذكر أخبار علّويه 9 ذكر أخبار معبد اليقطينى (صوابه: القطنى) 13 ذكر أخبار محمد الرّف 17 ذكر أخبار محمد بن الأشعث 19 ذكر أخبار عمرو بن بانه 21 ذكر أخبار عبد الله بن العباس الربيعى 22 ذكر أخبار وجه القرعة 30 ذكر أخبار محمد بن الحارث بن بسخنّر 32 ذكر أخبار أحمد بن صدقة 33 ذكر أخبار أبى حشيشة 35 ذكر أخبار القيان وأوّل من غنّى من النساء ومن اشتهر بالغناء منهن فى الإسلام 38 الجزء: مقدمةج 5 ¦ الصفحة: 1 ذكر أخبار جميلة (مولاة بنى سليم) 41 ذكر أخبار عزّة الميلاء 50 ذكر أخبار سلّامة القسّ 52 ذكر أخبار حبابة 58 ذكر أخبار خليدة المكية 64 ذكر أخبار متيّم الهاشمية 65 ذكر أخبار ساجى جارية عبيد الله بن عبد الله بن طاهر (فى الأغانى طبع بلاق: شاجى) 69 ذكر أخبار دقاق 70 ذكر أخبار قلم الصالحية 71 ذكر أخبار بصبص جارية ابن نفيس 73 ذكر أخبار جوارى ابن رامين (وهن سلّامة الززقاء، وربيحة، وسعدة) 75 ذكر أخبار عنان جارية الناطفىّ 78 ذكر أخبار شارية جارية إبراهيم بن المهدىّ 82 ذكر أخبار بذل 88 ذكر أخبار ذات الخال 91 ذكر أخبار دنانير البرمكية 93 ذكر أخبار عريب المأمونية 95 ذكر أخبار محبوبة 112 ذكر أخبار عبيدة الطّنبورية 114 الباب السابع: فيما يحتاج إليه المغنّى ويضطرّ الى معرفته، وما قيل فى الغناء وما وصفت به القيان، ووصف آلات الطرب 117 الجزء: مقدمةج 5 ¦ الصفحة: 2 ذكر ما يحتاج اليه المغنّى ويضطر الى معرفته وما قيل فى الغناء والقيان من جيّد الشعر 117 ذكر ما قيل فى وصف آلات الطرب 122 القسم الرابع: فى التهانى والبشائر والمراثى والنوادب والزهد والتوكل والأدعية وفيه أربعة أبواب 127 الباب الأوّل: فى التهانى والبشائر 127 ذكر شىء مما هنىّء به ولاة المناصب 127 ومما هنّىء به من اتصل بزوجة ذات جمال وحسب وأصالة وأدب 131 ومما هنّئ به من رزقه الله ولدا وزاده به قوّة وعددا 132 ومما هنّئ به فى المواسم والقدوم 135 ومما قيل من شواذّ التهانى وهى الجمع بين التهنئة والتعزية، والبشارة والنسلية 136 ذكر نبذة من التهانى العامة والبشائر التامة 140 ومما قيل فى التهانى بالفتوحات وهزيمة جيوش الأعداء 145 الباب الثانى: فى المراثى والنوادب 164 ذكر شىء من المراثى والنوادب 168 ومما قيل فى شواذّ المراثى 217 الباب الثالث: فى الزهد والتوكل 230 ذكر بيان حقيقة الزهد 231 الجزء: مقدمةج 5 ¦ الصفحة: 3 وأما العلم الذى هو المثمر لهذا الحال 233 وأما العمل الصادر عن حال الزهد 235 ذكر فضيلة الزهد وبغض الدنيا 237 ذكر بيان ذم الدنيا وشىء من المواعظ والرقائق الداخلة فى هذا الباب 242 ذكر بيان الزهد وأقسامه وأحكامه 256 ذكر بيان تفصيل الزهد فيما هو من ضروريّات الحياة 260 ذكر بيان علامات الزهد 272 ذكر ما ورد فى التوكل من فضيلته وحقيقته 275 أما فضيلته 275 وأما حقيقته 275 ذكر بيان أعمال المتوكلين 278 أما جلب النافع 278 وأما حفظ النافع 281 وأما دفع الضار عن النفس والمال 281 وأما إزالة الضرر 282 الباب الرابع: فى الأدعية 284 وأما ما ورد فى نفع الدعاء ودفعه للبلاء 287 وأما ما ورد فى الإلحاح فى الدعاء وهيئة الذّلة والإنابة 287 وأما ما ورد من كراهية استعجال الإجابة ورفع البصر والسجع فى الدعاء 288 وأما ما ورد فيمن تجاب دعواتهم 289 ذكر الأوقات التى ترجى فيها إجابة الدعاء 290 ذكر دعوات ساعات الأيام السبعة ولياليها 292 الجزء: مقدمةج 5 ¦ الصفحة: 4 ذكر ما يدعى به فى المساء والصباح والغدوّ والرواح والصلاة والصوم والجماع والنوم والورد والصدر والسفر والحضر وغير ذلك 304 فأما ما يقال عند المساء والصباح 304 وأما ما يقال عند النوم 306 وأما ما يقال عند دخول المنزل والمسجد والخروج منهما 306 وأما ما يقال عند النداء 308 وأما ما يقال عند الدخول الخلاء 308 وأما ما يقال عند الوضوء وغسل الأعضاء 308 وأما أدعية الصلاة 310 وأما ما يدعى به فى نفس الصلاة 310 وأما ما يدعى به بعد التسليم 313 وأما ما يقال عند رؤية الجنازة والتلقين والدفن 315 وأما ما يقال عند زيارة القبور 316 وأما ما يقال عند الإفطار من الصوم والأكل والشرب 317 وأما ما يقال عند لباس الثوب وإلباسه وعند النظر فى المرآة والتسريح وفى المجلس 318 وأما ما يقال فى المرض والرّقى والوسواس والحريق 319 وأما ما يقال عند دخول السوق وشراء الجارية والدابة 321 وأما ما يقال عند هبوب الرياح وفى الرعد والمطر 322 وأما ما يقال فى الخوف والشدائد 323 وأما ما يقال فى الغضب والفزع 324 وأما ما يقال فى السفر وركوب الدابّة والسفينة ودخول القرّية 324 وأما ما يقال فى الزواج والجماع 327 وأما ما يقال فى قضاء الدّين ونجاح الحوائج 327 الجزء: مقدمةج 5 ¦ الصفحة: 5 وأما ما يقال فى ردّ الضالّة 329 ذكر ما ورد فى أسماء الله الحسنى والاسم الأعظم 330 كيفية العلم والعمل بأسماء الله الحسنى وخاصية كل اسم منها وترتيب ذلك إلى عشرة أنماط 331 النمط الأوّل 331 النمط الثانى 331 النمط الثالث 332 النمط الرابع 333 النمط الخامس 334 النمط السادس 334 النمط السابع 335 النمط الثامن 336 النمط التاسع 337 النمط العاشر 337 وأما ما ورد فى الاسم الأعظم 337 صورة ما ورد بآخر الجزء الخامس فى الأصلين الفتوغرافيين 339 الجزء: مقدمةج 5 ¦ الصفحة: 6 الجزء الخامس [ تتمة الفن الثاني في الإنسان وما يتعلق به ] [ القسم الثالث في المدح والهجو والمجون والفكاهات وغيرها ] [ تتمة الباب السادس في الغناء والسماع ] تابع أخبار المغنين الذين نقلوا الغناء من الفارسية إلى العربية ومن أخذ عنهم ومن اشتهر بالغناء بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وبه توفيقى ذكر أخبار إسحاق بن إبراهيم هو أبو محمد إسحاق بن إبراهيم الموصلىّ، وقد تقدّم نسبه فى أخبار أبيه. وكان الرشيد يولّع به فيكنيه أبا صفوان. قال أبو الفرج الأصفهانى فى ترجمة إسحاق: وموضعه من العلم، ومكانه من الأدب، ومحلّه من الرواية، وتقدّمه فى الشعر، ومنزلته فى سائر المحاسن [1] أشهر من أن يدلّ عليها بوصف. قال: فأما الغناء فكان أصغر علومه وأدنى ما يوسم به وإن كان الغالب عليه وعلى ما كان يحسنه، فإنه كان له فى سائر أدواته نظراء وأكفاء ولم يكن له فى هذا نظير. لحق بمن مضى فيه وسبق من قد بقى، وسهّل طريق الغناء وأنارها، فهو إمام أهل صناعته جميعا وقدوتهم ورأسهم ومعلّمهم؛ يعرف ذلك منه الخاصّ والعامّ، ويشهد له به الموافق والمفارق. على أنه كان أكره الناس للغناء وأشدّهم بغضا له لئلا يدعّى اليه ويسمّى به. وكان المأمون يقول: لولا ما سبق على ألسنة الناس وشهر [2] به عندهم من الغناء لوليّته القضاء بحضرتى، فإنه أولى به وأعفّ وأصدق وأكثر دينا وأمانة من هؤلاء القضاة. وقد روى الحديث ولقى أهله مثل مالك بن أنس وسفيان بن عيينة [وهشيم بن بشير [3]] وإبراهيم بن سعد وأبى معاوية الضرير وروح   [1] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «المجالس» . [2] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «لولا ما سبق إسحاق على ألسنة الناس وشهرته ... الخ» . [3] زيادة عن الأغانى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1 ابن عبادة وغيرهم من شيوخ العراق والحجاز. وكان مع كراهته للغناء أضنّ خلق الله به وأشدّهم بخلا على كل أحد حتى على جواريه وغلمانه ومن يأخذ عنه منتسبا إليه ومتعصّبا له فضلا عن غيرهم. قال: وهو صحّح أجناس الغناء وطرائقه وميّزها تمييزا لم يقدر عليه أحد قبله. وقال محمد بن عمران الجرجانى: كان والله إسحاق غرّة فى زمانه، وواحدا فى عصره علما وفهما وأدبا ووقارا وجودة رأى وصحّة مودّة. وكان والله يخرس الناطق إذا نطق، ويحيّر السامع إذا تحدّث، لا يملّ جليسه مجلسه، ولا تمجّ الآذان حديثه، ولا تنبو النفس عن مطاولته. إن حدّثك ألهاك، وإن ناظرك أفادك، وإن غنّاك أطربك. وما كانت خصلة من الأدب، ولا جنس من العلم يتكلم فيه إسحاق فيقدم أحد على مساجلته أو مناوأته فيه. حكى أبو الفرج عن إسحاق قال: دعانى المأمون وعنده إبراهيم بن المهدىّ وفى مجلسه عشرون جارية قد أجلس عشرا عن يمينه وعشرا عن شماله. فلما دخلت سمعت من الناحية اليسرى خطأ فأنكرته. فقال المأمون: أسمعت خطأ؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين. فقال لإبراهيم بن المهدىّ: هل تسمع خطأ؟ قال لا. قال: فأعاد علىّ السؤال، فقلت: بلى والله يا أمير المؤمنين، وإنه لفى الجانب الأيسر. فأعاد إبراهيم سمعه إلى الناحية اليسرى ثم قال: لا والله يا أمير المؤمنين ما فى هذه الناحية خطأ. فقلت: يا أمير المؤمنين، مر الجوارى اللاتى على اليمين يمسكن، فأمرهنّ فأمسكن، ثم قلت لإبراهيم: هل تسمع خطأ؟ فتسمّع ثم قال: ما هاهنا خطأ. فقلت: يا أمير المؤمنين، يمسكن وتضرب الثانية [1] ، فأمسكن وضربت الثانية [2] ، فعرف إبراهيم الخطأ فقال: نعم يا أمير المؤمنين، هاهنا خطأ. فقال المأمون عند ذلك   [1] فى الأغانى: «الثامنة» . [2] فى الأغانى: «الثامنة» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2 لإبراهيم بن المهدىّ: لا تمار إسحاق بعدها، فإن رجلا عرف الخطأ بين ثمانين وترا وعشرين حلقا لجدير ألّا تماريه؛ قال: صدقت. وقال ابن حمدون: سمعت الواثق يقول: ما غنّانى إسحاق قطّ إلا ظننت أنه قد زيد فى ملكى، ولا سمعته قط يغنّى غناء ابن سريح إلا ظننت أنّ ابن سريح قد نشر، وإنى ليحضرنى غيره إذا لم يكن حاضرا، فيتقدّمه عندى بطيب الصوت، حتى إذا اجتمعا عندى رأيت إسحاق يعلو ورأيت من ظننت أنه يتقدّمه ينقص. وإن إسحاق لنعمة من نعم الملوك التى لم يحظ أحد بمثلها. ولو أن العمر والشباب والنشاط مما يشترى لاشتريتهنّ له بشطر ملكى. وحكى عن أحمد بن المكّى عن أبيه قال: كان المغنّون يجتمعون مع إسحاق وكلهم أحسن صوتا منه ولم يكن فيه عيب إلا صوته فيطمعون فيه، ولا يزال بلطفه وحذقه ومعرفته حتى يغلبهم جميعا ويفضلهم ويتقدّم عليهم. قال: وهو أوّل من أحدث المجتثّ ليوافق صوته ويشاكله فجاء معه عجبا من العجب، وكان فى حلقه نبوّ عن الوتر. وحكى قال: سأل إسحاق الموصلىّ المأمون أن يكون دخوله مع أهل العلم والأدب والرّواة لا مع المغنّين، فإذا أراد الغناء غنّاه، فأجابه إلى ذلك. ثم سأله بعد مدّة طويلة أن يأذن له فى الدخول مع الفقهاء فأذن له؛ قال: فكان يدخل ويده فى يد قاضى القضاة يحيى بن أكثم. ثم سأل إسحاق المأمون فى لبس السواد يوم الجمعة والصلاة معه فى المقصورة؛ قال: فضحك المأمون وقال: ولا كلّ هذا يا إسحاق! وقد اشتريت منك هذه المسئلة بمائة ألف دينار [1] وأمر له بها.   [1] فى الأغانى: «درهم» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3 وكان لإسحاق مع إبراهيم بن المهدىّ مخاطبات ومنازعات ومحاورات بسبب الغناء، وكان الرشيد ينصر إسحاق على إبراهيم أخيه. من ذلك ما حكاه إسحاق قال: كنت عند الرشيد يوما، وعنده ندماؤه وخاصّته وفيهم إبراهيم بن المهدىّ؛ فقال لى الرشيد: غنّ: شربت مدامة وسقيت أخرى ... وراح المنتشون وما انتشيت فغنيته. فأقبل علىّ إبراهيم بن المهدىّ فقال لى: ما أصبت يا إسحاق ولا أحسنت. فقلت له: ليس هذا مما تعرفه ولا تحسنه، وإن شئت فغنّه فإن لم أجدك أنك تخطئ فيه منذ ابتدائك إلى انتهائك فدمى حلال. ثم أقبلت على الرشيد فقلت: يا أمير المؤمنين، هذه صناعتى وصناعة أبى، وهى التى قرّبتنا منك واستخدمتنا لك فأوطاتنا بساطك، فإذا نازعنا أحد بغير علم لم نجد بدّا من الإفصاح والذبّ؛ فقال: لا غرو ولا لوم عليك. وقام الرشيد ليبول؛ فأقبل إبراهيم بن المهدىّ علىّ وقال: ويحك يا إسحاق! أتجترئ علىّ وتقول لى ما قلت يا ابن الفاعلة! لا يكنى. فداخلنى ما لم أملك نفسى معه، فقلت له: أنت تشتمنى ولا أقدر على إجابتك وأنت ابن الخليفة وأخو الخليفة، ولولا ذلك لقلت لك: يا ابن الزانية كما قلت لى يا ابن الزانية. أو ترانى كنت لا أحسن أن أقول: يا ابن الزانية! ولكن قولى فى ذمّك ينصرف كله إلى خالك الأعلم [1] ، ولو لاك لذكرت صناعته ومذهبه- قال إسحاق: وكان بيطارا- قال: ثم سكتّ، وعلمت أن إبراهيم سوف يشكونى إلى الرشيد، وسوف يسأل من حضر عما جرى فيخبرونه، فتلافيت ذلك بأن قلت: إنك تظن أن الخلافة [2] تصير اليك، فلا تزال تتهدّدنى بذلك وتعادينى كما تعادى سائر أولياء أخيك حسدا   [1] الأعلم: الذى بشفته العليا أو فى جانبيها شق. [2] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «أن الخلافة لك ... » الجزء: 5 ¦ الصفحة: 4 له ولولده على الأمر! وأنت تضعف عنه وعنهم، وتستخفّ بأوليائهم شفّيا، وأرجو ألا يخرجها الله من الرشيد وولده، وأن يقتلك دونها. فإن صارت إليك- والعياذ بالله تعالى من ذلك- فحرام علىّ حينئذ العيش! والموت أطيب من الحياة معك، فاصنع حينئذ ما بدالك! قال: فلما خرج الرشيد وثب إبراهيم فجلس بين يديه وقال: يا أمير المؤمنين، شتمنى إسحاق وذكر أمّى واستخفّ بى. فغضب وقال لى: ويلك! ما تقول؟ قلت: لا أعلم، فسل من حضر. فأقبل على مسرور وحسين فسألهما عن القصة فجعلا يخبرانه ووجهه يربدّ الى أن انتهيا إلى ذكر الخلافة فسّرى عنه ورجع لونه، وقال لإبراهيم: لا ذنب له، شتمته فعرّفك أنه لا يقدر على جوابك، ارجع إلى موضعك وأمسك عن هذا. فلما انفضّ المجلس وانصرف الناس أمر الرشيد بألّا أبرح. وخرج كل من حضر حتى لم يبق غيرى، فساء ظنّى وهمّتنى نفسى. فأقبل علىّ وقال: يا إسحاق، أترانى لم أفهم قولك ومرادك! قد والله زنّيته ثلاث مرات! أترانى لا أعرف وقائعك وأقدامك وأين ذهبت! ويلك لا تعد! حدّثنى عنك لو ضربك إبراهيم أكنت أقتصّ لك منه فأضربه وهو أخى يا جاهل! أتراه لو أمر غلمانه فقتلوك أكنت أقتله بك! فقلت: والله يا أمير المؤمنين، قد قتلنى هذا الكلام، وإن بلغه ليقتلنّى، وما أشك أنه قد بلغه الآن. فصاح بمسرور وقال له: علىّ بإبراهيم فأحضر، وقال لى: قم فانصرف. فقلت لجماعة من الحدم- وكلهم كان لى محبّا وإلىّ مائلا ولى مطيعا-: أخبرونى بما يجرى؛ فأخبرونى من غد أنه لمّا دخل عليه وبّخه وجهّله وقال له: أتستحفّ بخادمى وصنيعتى وابن خادمى وصنيعتى وصنيعة أبى فى مجلسى! وتقدم علىّ وتستخفّ بمجلسى وحضرتى! هاه هاه هاه! وتقدم على هذا وأمثاله! وأنت مالك وللغناء! وما يدريك ما هو! ومن أخذك به وطارحك إياه حتى تتوهّم أنك تبلغ منه مبلغ إسحاق الذى غذّى به وعلّمه وهو من صناعته! ثم تظن أنك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 5 تخطّئه فيما لا تدريه، ويدعوك الى إقامة الحجة عليه [1] فلا تثبت لذلك وتعتصم بشتمه! هذا مما يدلّ على السقوط وضعف العقل وسوء الأدب من دخولك فيما لا يشبهك، وغلبة لذّتك على مروءتك [2] وشرفك، ثم إظهارك إياه ولم تحكمه، وادّعائك ما لا تعلمه حتى ينسبك إلى إفراط الجهل. ألا تعلم، ويحك، أن هذا سوء أدب وقلّة معرفة وقلة مبالاة بالخطأ والتكذيب والردّ القبيح! ثم قال: والله العظيم وحق رسوله وإلا فأنا برىء من المهدىّ إن أصابه أحد بسوء أو سقط عليه حجر من السماء أو سقط من دابّته أو سقط عليه سقفه أو مات فجأة لأقتلنك به. والله! والله! والله! فلا تعرض له وأنت أعلم [3] ! قم الآن فاخرج؛ فخرج وقد كاد يموت. فلما كان بعد ذلك دخلت على الرشيد وإبراهيم عنده [فأعرضت عن إبراهيم [4]] فجعل ينظر إلىّ مرة وإليه مرة ويضحك؛ ثم قال: إنى لأعلم محبّتك لإسحاق وميلك إليه وإلى الأخذ عنه، وإن هذا لا يجيئك من جهته كما تريد إلا بعد أن يرضى، والرضا لا يكون بمكروه، ولكن أحسن إليه وأكرمه واعرف حقّه وبرّه وصله، فإذا فعلت ذلك ثم خالف ما تهواه عاقبته بيد مستطيلة منبسطة ولسان منطلق. ثم قال لى: قم إلى مولاك وابن مولاك فقبّل رأسه؛ فقمت إليه وقام إلىّ وأصلح الرشيد بيننا. قال أبو الفرج: وكان إسحاق جيّد الشعر، كان يقول الشعر وينسبه للعرب. فمن ذلك قوله: لفظ الخدور إليك حورا عينا ... أنسين ما جمع الكناس قطينا فإذا بسمن فعن كمثل غمامة ... أو أقحوان الرمل بات معينا وأصحّ ما رأت العيون محاجرا [5] ... ولهنّ أمراض ما رأيت عيونا   [1] فى الأغانى: عليك. [2] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «من دخولك فيما لا يشبهك ثم إظهارك إياه وغلبت لذتك الخ» . [3] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «وأنت أعلم ولا تعرض له» . [4] زيادة عن الأغانى. [5] كذا بالأغانى، وفى الأصل: «جوارحا» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 6 فكأنما تلك الوجوه أهلّة ... أقمرن بين العشر والعشرينا وكأنهنّ إذا نهضن لحاجة ... ينهضن بالعقدات من يبرينا وأشعاره فى هذا النوع كثيرة. روى عن الأصمعىّ قال: دخلت أنا وإسحاق بن إبراهيم الموصلىّ يوما على الرشيد فرأيناه لقس [1] النفس؛ فأنشده إسحاق: وآمرة بالبخل قلت لها اقصرى ... فذلك شىء ما إليه سبيل أرى الناس خلّان الكرام ولا أرى ... بخيلا له حتى الممات خليل وإنى رأيت البخل يزرى بأهله ... فأكرمت نفسى أن يقال بخيل ومن خير حالات التى لو علمته ... إذا نال خيرا أن يكون ينيل [2] فعالى فعال المكثرين تجمّلا ... ومالى كما قد تعلمين قليل وكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى ... ورأى أمير المؤمنين جميل! قال: فقال الرشيد: لا تخف [3] إن شاء الله؛ ثم قال: لله درّ أبيات تأتينا بها ما أشدّ أصولها، وأحسن فصولها، وأقلّ فضولها! وأمر له بخمسين ألف درهم. فقال له إسحاق: وصفك والله يا أمير المؤمنين لشعرى أحسن منه، فعلام آخذ الجائزة! فضحك الرشيد وقال: اجعلوها مائة ألف درهم. قال الأصمعىّ: فعلمت يومئذ أن إسحاق أحذق بصيد الدراهم منّى. قال أبو عبد الله بن حمدون: سأل المتوكل عن إسحاق، فعرّف أنه كفّ وأنه بمنزله ببغداد، فكتب فى إحضاره. فلما دخل عليه رفعه حتى أجلسه قدّام السرير وأعطاه   [1] لقست نفسه (من باب فرح) : غئت وخبثت. [2] كذا فى الأغانى وكتب الأدب. وفى الأصل: ومن خير خلات الفتى قد علمته ... إذا قال خيرا أن يقال نبيل [3] كذا فى الأغانى: وفى الأصل: «لا كيف ان شاء الله» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 7 مخدّة وقال: بلغنى أن المعتصم دفع إليك فى أوّل يوم جلست بين يديه مخدّة، وقال: إنه لا يستجلب ما عند حرّ مثل إكرامه. ثم سأله: هل أكل؟ فقال نعم؛ فأمر أن يسقى. فلما شرب أقداحا قال: هاتوا لأبى محمد عودا؛ فجىء به فاندفع يغنّى بشعره: ما علّة الشيخ عيناه بأربعة ... تغرورقان بدمع ثم ينسكب قال ابن حمدون: فما بقى غلام من الغلمان الوقوف [على الحير [1]] إلا وجدته يرقص طربا وهو لا يعلم بما يفعل؛ فأمر له بمائة ألف دينار [2] . ثم انحدر المتوكل الى الرّقة وكان يستطيبها لكثرة تغريد الطير فيها؛ فغنّاه إسحاق: أأن هتفت ورقاء فى رونق الضّحى ... على فنن غضّ النبات من الرّند بكيت كما يبكى الوليد ولم تزل ... جليدا وأبديت الذى لم تكن تبدى فضحك المتوكل ثم قال: يا إسحاق، هذه أخت فعلتك بالواثق لمّا غنّيته بالصالحيّة: طربت إلى أصيبية صغار ... وذكّرنى الهوى قرب المزار فكم أعطاك لمّا أذن لك فى الانصراف؟ قال: مائة ألف دينار [2] ؛ فأمر له بمائة ألف دينار [2] وأذن له بالانصراف [3] . وكان آخر عهده بإسحاق. توفى بعد ذلك بشهرين. وكانت وفاته فى شهر رمضان سنة خمس وثلاثين ومائتين. وكان يسأل الله تعالى ألا يبتليه بالقولنج [4] لما رأى من صعوبته على أبيه، فرأى فى منامه كأنّ قائلا يقول له: قد أجيبت دعوتك ولست تموت بالقولنج ولكنّك   [1] زيادة عن الأغانى. والجير: اسم قصر بسرّ من رأى بناه المتوكل وأنفقى على عمارته وأربعة آلاف ألف درهم. [2] فى الأغانى: «درهم» . [3] عبارة الأغانى: «وأذن له بالانصراف الى بغداد. وكان هذا آخر عهدنا به لأن إسحاق الخ» [4] مرض يصيب المعدة يعسر معه خروج الثفل والريح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 8 تموت بضدّه، فأصابه ذرب فى شهر رمضان، فكان يتصدّق فى كل يوم يمكنه صومه بمائة درهم، ثم ضعف عن الصوم فلم يطقه ومات فى الشهر. ولما نعى إلى المتوكل غمّه وحزن عليه وقال: ذهب صدر عظيم من جمال الملك وبهائه وزينته. رحمه الله تعالى. ذكر أخبار علّويه هو أبو الحسن على بن عبد الله بن سيف. وجدّه سيف من الصّغد الذين سباهم الوليد بن عثمان بن عفّان واسترقّ منهم جماعة اختصهم لخدمته وأعتق بعضهم ولم يعتق الباقين فقتلوه. قال أبو الفرج الأصفهانى: وكان علىّ هذا مغنّيا حاذقا، ومؤدّبا محسنا، وصانعا متقنا، وضاربا متقدّما، مع خفّة روح وطيب مجالسة وملاحة نوادر. وكان إبراهيم الموصلىّ علّمه وخرّجه وعنى بتحذيقه جدّا، فبرع وغنّى لمحمد الأمين وعاش إلى أيام المتوكّل ومات بعد إسحاق الموصلى بيسير. وكان سبب وفاته أنه خرج عليه جرب، فشكاه إلى يحيى بن ماسويه، فبعث إليه بدواء مسهل وطلاء، فشرب الطلاء واطّلى بالدواء، فقتله ذلك. قال: وكان علّويه أعسر، فكان عوده مقلوب الأوتار: البمّ أسفل الأوتار كلها ثم المثلث فوقه ثم المثنى ثم الزّير؛ فكان عوده إذا كان فى يد غيره يكون مقلوبا، وإذا أخذه كان فى يده اليمنى وضرب باليسرى فيكون مستويا. وكان إسحاق يتعصّب له فى أكثر أوقاته على مخارق. وقال حماد ابن إسحاق: قلت لأبى: أيّما أفضل عندك مخارق أم [1] علّويه؟ فقال: يا بنىّ، علّويه أعرقهما فهما بما يخرج من رأسه، وأعلمهما بما يغنّيه ويؤدّيه، ولو خيّرت [2] بينهما من يطارح جوارىّ، أو شاورنى من يستنصحنى لما أشرت إلا بعلّويه؛ لأنه يؤدّى   [1] فى الأصل: «أو» . [2] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «خيرنى» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 9 الغناء، [و] [1] إذا صنع شيئا صنعه صنعة محكمة، ومخارق لتمكّنه من حلقه وكثرة نغمه لا يقنع بالأخذ منه، لأنه لا يؤدّى صوتا واحدا كما أخذه ولا يغنيّه مرّتين غناء واحدا لكثرة زوائده فيه، ولكنهما إذا اجتمعا عند خليفة أو سوقة غلب مخارق على المجلس والجائزة بطيب صوته وكثرة نغمه. وقال أبو عبد الله بن حمدون: حدّثنى أبى قال: اجتمعت مع إسحاق يوما فى بعض دور بنى هاشم، وحضر علّويه فغنّى أصواتا ثم غنّى من صنعته: ونبّئت ليلى أرسلت بشفاعة ... إلىّ فهلّا نفس ليلى شفيعها! فقال له إسحاق: أحسنت أحسنت والله يا أبا الحسن! أحسنت ما شئت! فقام علّويه من مجلسه فقبّل رأس إسحاق وعينيه وجلس [2] بين يديه وسرّ بقوله سرورا كثيرا؛ ثم قال: أنت سيدى وابن سيدى [وأستاذى [3]] وابن أستاذى، ولى إليك حاجة. قال: قل، فو الله إنى أبلغ فيها ما تحبّ. قال: أيّما أفضل أنا عندك أم مخارق؟ فإنى أحبّ أن أسمع منك فى هذا المعنى قولا يؤثر ويحكيه عنك من حضر، فشرّفنى به. فقال إسحاق: ما منكما إلا محسن مجمل، فلا ترد أن يجرى فى هذا شىء. قال: سألتك بحقّى عليك وبتربة أبيك وبكل حقّ تعظّمه إلا حكمت! فقال: ويحك! والله لو كنت أستجيز أن أقول غير الحق لقلته فيما تحب، فأمّا إذا أبيت إلا ذكر ما عندى، فلو خيّرت أنا من يطارح جوارىّ ويغنّينى لما اخترت غيرك، ولكنكما إذا غنيّتما بين يدى خليفة أو أمير غلبك على إطرابه واستبدّ عليك بجائزته. فغضب علّويه وقام وقال: أفّ من رضاك وغضبك! وكان الواثق بالله يقول: علّويه أصحّ الناس صنعة بعد إسحاق، وأطيب الناس صوتا بعد مخارق، وأضرب الناس بعد زلزل وملاحظ، فهو مصلّى كلّ سابق نادر   [1] زيادة نراها لازمة. [2] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «وصلى» . [3] زيادة من الأغانى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 10 وثانى كل أوّل، وأصل كل متقدّم. وكان يقول: [غناء] [1] علّويه مثل نقر الطست يبقى ساعة فى السمع بعد سكوته. وقال عبد الله بن طاهر: لو اقتصرت على رجل واحد يغنّينى لما اخترت سوى علّويه؛ لأنه إن حدّثنى ألهانى، وإن غنّانى أشجانى، وإن رجعت إلى رأيه كفانى. وقال محمد بن عبد الله بن مالك: كان علّويه يغنّى بين يدى الأمين، فغنّى فى بعض غنائه: ليت هندا أنجزتنا ما تعد ... وشفت أنفسنا مما تجد وكان الفضل بن الربيع يضطغن عليه شيئا، فقال للأمين: إنما يعرّض بك ويستبطئ المأمون فى محاربته إياك؛ فأمر به فضرب خمسين سوطا وجرّ برجله حتى أخرج، وجفاه مدّة؛ حتى سأل كوثرا أن يترضّاه له فترضّاه له وردّه إلى الخدمة وأمر له بخمسة آلاف درهم [2] . فلما قدم المأمون تقرّب إليه بذلك فلم يقع له بحيث يحبّ، وقال: إن الملك بمنزلة الأسد أو النار فلا تتعرّض لما يغضبه، فإنه ربما جرى منه ما يتلفك ثم لا يقدر بعد ذلك على تلافى ما فرط منه؛ ثم قرب من المأمون بعد ذلك. قال علّويه: أمرنا المأمون أن نباكره لنصطبح، فلقينى عبد الله بن إسماعيل المراكبى مولى عريب فقال: أيها الظالم المعتدى، أما ترحم ولا ترقّ! عريب هائمة من الشوق إليك تدعو الله وتستحكمه عليك وتحلم بك فى نومها فى كل ليلة ثلاث مرات. قال [علّويه: فقلت أمّ الخلافة زانية] [1] ومضيت معه. فحين دخلت قلت: أستوثق من الباب فإنى أعرف الناس بفضول الحجّاب؛ وإذا عريب جالسة على كرسىّ تطبخ ثلاث قدور من دجاج. فلما رأتنى قامت فعانقتنى وقبّلتنى وقالت: أىّ شىء تشتهى؟   [1] زيادة عن الأغانى. [2] فى الأغانى: «دينار» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 11 فقلت: قدرا من هذه القدور؛ فأفرغت قدرا بينى وبينها فأكلنا، ودعت بالنبيذ فصبّت رطلا فشربت نصفه وسقتنى نصفه؛ فما زلت أشرب حتى كدت أن أسكر. ثم قالت: يا أبا الحسن، غنّيت البارحة فى شعر لأبى العتاهية أعجبنى، أفتسمعه [1] وتصلحه؟ فغنّت: عذيرى من الإنسان لا إن جفوته ... صفا لى ولا إن صرت طوع يديه وإنّى لمشتاق إلى ظلّ صاحب ... يروق ويصفو إن كدرت عليه فصيّرناه مجلسنا. وقالت: قد بقى فيه شىء؛ فلم أزل أنا وهى حتى أصلحناه، ثم قالت: أحبّ أن تغنّى أنت أيضا فيه لحنا ففعلت، وجعلنا نشرب على اللحنين ثلاثا [2] . ثم جاء الحجّاب فكسروا الباب واستخرجونى، فدخلت على المأمون فأقبلت أرقص من أقصى الإيوان وأصفّق وأغنّى بالصوت؛ فسمع المأمون والمغنّون ما لم يعرفوه فاستطرفوه، وقال المأمون: ادن يا علّويه وردّده، فردّدته عليه سبع مرات. فقال لى فى آخرها عند قولى: «يروق ويصفو إن كدرت عليه» : يا عليوه خذ الخلافة وأعطنى هذا الصاحب. وقال علّويه: قال إبراهيم الموصلىّ يوما: إنى قد صنعت صوتا وما سمعه منى أحد بعد، وقد أحببت أن أنفعك به وأرفع منك بأن ألقيه عليك وأهبه لك، وو الله ما فعلت هذا بإسحاق قطّ، وقد خصصتك به، فآنتحله وادّعه، فلست أنسبه إلى نفسى، وستكسب به مالا. فألقى علىّ: إذا كان لى شيئان يا أمّ مالك ... فإنّ لجارى منهما ما تخيّرا فأخذته عنه وادّعيته، وسترته طول أيام الرشيد خوفا من أن أتّهم فيه وطول أيام الأمين، حتى حدث عليه ما حدث وقدم المأمون من خراسان، وكان يخرج   [1] كذا بالأغانى؛ وليس فى الأصل همزة الاستفهام. [2] فى الأغانى: «مليا» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 12 إلى الشّمّاسيّة فيتنزّه، فركبت يوما فى زلالى [1] وجئت أتبعه، فرأيت حرّاقة علىّ بن هشام، فقلت للملّاح: اطرح زلالى على الحرّاقة ففعل، واستؤذن لى فدخلت وهو يشرب مع الجوارى، وما كانوا يحجبون جواريهم، فغنيّته الصوت فاستحسنه جدّا وطرب عليه، وقال: لمن هذا؟ فقلت: هذا صوت صنعته وأهديته لك ولم يسمعه أحد قبلك؛ فأزداد به عجبا وطربا، وقال للجارية: خذيه عنه، فألقيته عليها حتى أخذته، فسرّ بذلك وطرب، وقال لى: ما أجد لك مكافأة على هذه الهديّة إلا أن أتحوّل عن هذه الحرّاقة بما فيها وأسلمه إليك؛ فتحوّل إلى أخرى وسلّمت لى بخزانتها وجميع آلاتها وكل شىء فيها؛ فبعت ذلك بمائة ألف وخمسين ألف درهم، واشتريت ضيعتى الصالحيّة. وقال علّويه: خرج المأمون يوما ومعه أبيات قد قالها وكتبها فى رقعة بخطّه وهى: خرجت إلى صيد الظّباء فصادنى ... هناك غزال أدعج العين أحور غزال كأنّ البدر حلّ جبينه ... وفى خدّه الشّعرى المنيرة تزهر فصاد مؤادى إذ رمانى بسهمه ... وسهم غزال الإنس طرف ومحجر فيا من رأى ظبيا يصيد، ومن رأى ... أخا قنص يصطاد قهرا ويقسر قال: فغنّيته فأمر لى بعشرين [2] ألف درهم. ذكر أخبار معبد اليقطينى قال أبو الفرج: كان معبد هذا غلاما مولّدا من مولّدى المدينة، أخذ الغناء عن جماعة من أهلها، واشتراه بعض ولد علىّ بن يقطين. وأخذ الغناء بالعراق عن إسحاق وابن جامع وطبقتهما، وخدم الرشيد ولم يخدم غيره من الخلفاء، ومات فى أيامه.   [1] زلال (على وزن غراب مضاف الى ياء المتكلم) : ضرب من سفن دجلة كالحراقة والطيار. [2] فى الأغانى: «عشرة آلاف» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 13 وكان أكثر انقطاعه إلى البرامكة. وروى أبو الفرج الأصفهانىّ حكاية عنه أحببت أن أذكرها فى هذا الموضع، وهى ما رواه بسنده إلى محمد بن عبد الله بن مالك الخزاعىّ، قال حدّثنى معبد الصغير المغنّى مولى على بن يقطين قال: كنت منقطعا إلى البرامكة أحدّثهم وألازمهم. فبينا أنا ذات يوم فى منزلى إذا أتانى آت فدقّ بابى، فخرج غلامى ثم رجع إلىّ فقال لى: على الباب فتى ظاهر المروءة يستأذن عليك؛ فأذنت له، فدخل شابّ ما رأيت أحسن وجها منه ولا أنظف ثوبا ولا أجمل زيّا منه من رجل دنف عليه آثار السّقم [ظاهرة] [1] . فقال لى: إنى أحلول لقاءك منذ مدّة ولا أجد إلى ذلك سبيلا، وإن لى حاجة. فقلت: وما هى؟ فأخرج ثلاثمائة دينار فوضعها بين يدىّ فقال: أسألك أن تقبلها وتصنع فى بيتين قلتهما لحنا تغنّينى به. فقلت: هاتهما؛ فأنشدنى: والله يا طرفى الجانى على بدنى ... لتطفئنّ بدمعى لوعة الحزن أو لأبوحنّ [2] حتى يحجبوا سكنى ... فلا أراه وقد أدرجت فى كفنى قال: فصنعت فيه لحنا ثم غنيّته إياه، وأغمى عليه حتى ظننته قدمات، ثم أفاق فقال: أعد، فديتك! فنا شدته الله فى نفسه وقلت: أخشى أن تموت؛ فقال: هيهات! أنا أشقى من ذلك. وما زال يخضع لى ويتضرّع حتى أعدته، فصعق صعقة أشدّ من الأولى حتى ظننت أن نفسه قد فاضت. فلما أفاق رددت عليه الدنانير فوضعتها بين يديه، وقلت: يا هذا، خذ دنانيرك وانصرف عنى، قد قضيت حاجتك وبلغت وطرا مما أردته، ولست أحبّ أن أشرك فى دمك. فقال: [يا] [1] هذا، لا حاجة لى فى الدنانير، وهذه مثلها لك، ثم أخرج ثلاثمائة دينار فوضعها بين يدىّ وقال: أعد الصوت علىّ مرة أخرى وحلّ لك دمى! فشرهت نفسى فى الدنانير،   [1] زيادة عن الأغانى. [2] كذا فى الاغانى، وفى الأصل: «أو لا توجن» ولا معنى له. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 14 وقلت: لا والله ولا بعشرة أضعافها إلا على ثلاث شرائط. قال: وما هى؟ قلت: أولاهن أن تقيم عندى وتتحرّم بطعامى. والثانية أن تشرب أقداحا من النهيذ تطبّب [1] قلبك وتسكّن ما بك. والثالثة أن تحدّثنى بقصّتك. قال: أفعل ما تريد. فأخذت الدنانير ودعوت بطعام فأصاب منه إصابة معذّر، ثم دعوت بالنبيذ فشرب أقداحا، وغنيّته بشعر غيره فى معناه وهو يشرب ويبكى، ثم قال: الشرط أعزّك الله! فغنيّته صوته فجعل يبكى أحرّ بكاء وينشج أشدّ نشيج وينتحب. فلما رأيت ما به قد خفّ عما كان يلحقه ورأيت النبيذ قد شدّ قلبه، كررت عليه صوته مرارا. ثم قلت: حدّثنى حديثك، فقال: أنا رجل من أهل المدينة خرجت متنزّها فى ظاهرها وقد سال العقيق فى فتية من أقرانى وأخذانى، فبصرنا بفتيات قد خرجن لمثل ما خرجنا له، فجلسن حجرة [2] منا، وبصرت منهن بفتاة كأنها قضيب قد طلّه الندى، تنظر بعينين ما ارتد طرفهما إلا بنفس من يلاحظهما. فأطلنا وأطلن حتى تفرّق الناس، وانصرفن وانصرفنا وقد أبقت بقلبى جرحا بطيئا اندماله؛ فعدت إلى منزلى وأنا وقيذ، وخرجت من الغد إلى العقيق وليس به أحد فلم أر لها ولا لصواحبها أثرا، ثم جعلت أتتبّعها فى طرق [3] المدينة وأسواقها، وكأنّ الأرض أضمرتها فلم أحسّ لها بعين ولا أثر، وسقمت حتى أيس منى أهلى. وخلت بى ظئرى فاستعلمتنى حالى وضمنت لى كتمانها والسعى فيما أحبّه منها، فأخبرتها بقصتى؛ فقالت: لا بأس عليك، هذه أيام الربيع وهى سنة خصب وأنواء وليس يبعد عنك المطر، ثم هذا العقيق فتخرج حينئذ وأخرج معك فإن النسوة سيجئن؛ فإذا فعلن ورأيتها أتبعها حتى أعرف موضعها ثم أصل بينك وبينها وأسعى لك فى تزويجها. فكأنّ نفسى اطمأنت إلى ذلك ووثقت به وسكنت إليه، فقويت وطمعت وتراجعت إلىّ نفسى. وجاء مطر بعقب ذلك وسال العقيق   [1] فى الأغانى: «تشد» . [2] ناحية. [3] كذا بالأغانى. وفى الأصل: «طريق المدينة» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 15 وخرج الناس وخرجت مع إخوانى اليه، فجلسنا مجلسنا الأوّل بعينه، فما كنا والنسوة إلا كفرسى رهان؛ فأومأت إلى ظئرى فجلست، وأقبلت على إخوانى فقلت: لقد أحسن القائل: رمتنى بسهم أقصد القلب وانثنت ... وقد غادرت جرحا به وندوبا فأقبلت على صواحباتها وقالت: أحسن والله القائل، وأحسن من أجابه حيث يقول: بنا مثل ما تشكو فصبرا لعلنّا ... نرى فرجا يشفى السّقام قريبا فسكتّ عن الجواب خوفا من أن يظهر منى ما يفضحنى وإياها، وعرفت ما أرادت. ثم تفرّق الناس وانصرفنا، وتبعتها ظئرى حتى عرفت منزلها، وصارت إلىّ فأخذت بيدى ومضينا إليها، فلم نزل نتلطّف حتى وصلت إليها، فتلاقينا وتزاورنا على حال مخالسة ومراقبة، حتى شاع حديثى وحديثها وظهر ما بينى وبينها، فحجبها أهلها وسدّوا أبوابها؛ فما زلت أجهد فى لقائها فلا أقدر عليه، وشكوت ذلك إلى أبى لشدّة ما نالنى وسألته خطبتها لى. فمضى أبى ومشيخة أهلى إلى أبيها فحطبوها؛ فقال: لو كان بدأ بهذا قبل أن يفضحها ويشهرها لأسعفته بما التمس، ولكنه قد فضحها فلم أكن لأحقّق قول الناس فيها بتزويجه إياها؛ فانصرفت على يأس منها ومن نفسى. قال معبد: فسألته أن ينزل بجوارى، وصارت بيننا عشرة. ثم جلس جعفر بن يحيى ليشرب فأتيته، فكان أوّل صوت غنيّته صوتى فى شعر الفتى، فشرب وطرب عليه طربا شديدا، وقال: ويحك! إن لهذا الصوت حديثا فما هو؟ فحدّثته، فأمر بإحضار الفتى فأحضر من وقته، واستعاده الحديث فأعاده؛ فقال: هى فى ذمتى حتى أزوّجك إياها؛ فطابت نفسه وأقام معنا ليلتنا حتى أصبح، وغدا جعفر إلى الرشيد فحدّثه الحديث، فعجب منه وأمر بإحضارنا جميعا فأحضرنا، وأمر بأن أغنيّه الصوت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 16 فغنيته إياه وشرب عليه وسمع حديث الفتى؛ فأمر من وقته بكتاب الى عامل الحجاز بإشخاص الرجل وابنته وجميع أهله إلى حضرته؛ فلم تمض إلا مسافة الطريق حتى أحضروا. فأمر الرشيد بإحضار أبى الجارية إليه فأحضر، وخطب إليه الجارية للفتى وأقسم عليه ألّا يخالف أمره؛ فأجابه وزوّجها إياه؛ وحمل الرشيد إليه ألف دينار لجهازها وألف دينار لنفقة طريقه، وأمر للفتى بألف دينار ولى بألف دينار، وأمر جعفر لى وللفتى بألف دينار. وكان المدينىّ بعد ذلك من ندماء جعفر بن يحيى. ذكر أخبار محمد الرف هو محمد بن عمرو مولى بنى تميم، كوفىّ المولد والمنشأ. والرفّ [1] لقب غلب عليه. وكان مغنيّا ضاربا صالح الصّنعة مليح النادرة. وكان أسرع خلق الله أخذا للغناء وأصحّهم أداء له وأذكاهم. وكان اذا سمع الصوت مرتين أو ثلاثا أدّاه لا يكون بينه وبين من أخذه عنه فرق فيه. وكان متعصّبا على ابن جامع مائلا إلى إبراهيم الموصلىّ وابنه إسحاق، وكانا يرفعان منه ويقدّمانه ويأخذان له الصّلات من الخلفاء. وكانت فيه عربدة إذا سكر. فعربد بحضرة الرشيد مرة، فأمر بإخراجه ومنعه من الدخول إليه وجفاه وتناساه. قال أبو الفرج: وأحسبه مات فى خلافته أو خلافة الأمين. ومن أخباره فى جودة الأخذ وسرعة الحفظ ما رواه حماد بن إسحاق عن أبيه قال: غنّى ابن جامع يوما بحضرة الرشيد: جسور على هجرى جبان عن الوصل ... كذوب عدات يتبع الوعد بالمطل مقدّم رجل فى الوصال مؤخّر ... لأخرى يشوب الجدّ فى ذاك بالهزل   [1] ورد فى أكثر أصول الأغانى المخطوطة والمطبوعة «الرف» بالراء المهملة، وورد فى بعض المواضع من أصول الأغانى «الزف» بالزاى المعجمة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 17 يهمّ بنا حتى إذا قلت قد دنا ... وجاذبنى عطفاه مال إلى البخل يزيد امتناعا كلما زدت صبوة ... وأزداد حرصا كلما ضنّ بالبذل فأحسن فيه ما شاء وأجمل، فغمزت عليه محمد الرفّ وفطن لما أردت، واستحسنه الرشيد وشرب عليه واستعاده مرتين أو ثلاثا. ثم قمت إلى الصلاة وغمزت الرف فجاءنى، وأومأت إلى مخارق وعلويّه وعقيد فجاءونى؛ فأمرته بإعادة الصوت فأعاده وأدّاه كأنه لم يزل يرويه؛ ولم يزل يكرره على الجماعة حتى غنّوه. ثم عدت إلى المجلس؛ فلما انتهى الدور إلىّ ابتدأت فغنيّته قبل كل شىء غنيّته. فنظر إلى ابن جامع محدّدا طرفه؛ وأقبل علىّ الرشيد وقال: أكنت تروى هذا الصوت؟ قلت: نعم يا سيّدى. فقال ابن جامع: كذب والله ما أخذه إلا منى الساعة. فقلت: هذا صوت أرويه قديما، وما فيمن حضر [أحد] [1] إلا وقد أخذه منّى. وأقبلت عليهم فقلت لهم: غنّوه؛ فغنّاه علّويه ثم عقيد ثم مخارق. فوثب ابن جامع فجلس بين يديه فحلف بحياته وبطلاق امرأته أنّ اللحن صنعه منذ ثلاث ليال وما سمع به قبل ذلك الوقت. فأقبل الرشيد علىّ وقال: بحياتى اصدقنى عن القصّة، فصدقته، فجعل يضحك ويصفّق ويقول: لكل شىء آفة، وآفة ابن جامع الرفّ. قال إسحاق بن إبراهيم: كان محمد الرفّ أروى خلق الله تعالى للغناء وأسرعهم أخذا لما سمعه، ليست عليه فى ذلك كلفة، إنما يسمع الصوت مرة واحدة وقد أخذه. وكنا معه فى بلاء إذا حضر، فكان [2] كل من غنّى منّا صوتا فسأله عدو له أو صديق بأن يلقيه عليه فبخل ومنعه إياه وسأل محمد الرفّ أن يأخذه فما هو إلا أن يسمعه مرّة واحدة حتى أخذه وألقاه على من سأله. قال: وكان أبى يبرّه ويصله ويجديه من   [1] زيادة من الأغانى. [2] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «وكل من غنى الخ» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 18 كل جائزة وفائدة تصل إليه. وكان محمد الرفّ مغرى بابن جامع خاصّة من بين المغنّين ليخله، وكان لا يفتح ابن جامع فاه بصوت إلا وضع عينه عليه وصغى بسمعه إليه حتى يحكيه. وكان فى ابن جامع بخل شديد لا يقدر معه على أن يسعفه ببرّ ورفد. وساق نحو ما تقدّم إلا أنه قال: إن الرّف أخذ الصوت لأوّل مرة وألقاه على إسحاق فأخذه عنه فى ثلاث مرار. قال حماد: وللرفّ صنعة يسيرة، وذكر منها أصواتا. ذكر أخبار محمد بن الأشعث قال أبو الفرج: كان محمد بن الأشعث القرشىّ ثم الزّهرىّ كاتبا، وكان من فتيان أهل الكوفة وظرفائهم، وكان يقول الشعر ويغنّى فيه. فمن ذلك قوله فى سلّامة زرقاء ابن رامين: أمسى لسلّامة الزرقاء فى كبدى ... صدع يقيم طوال الدهر والأبد لا يستطيع صناع القوم يشعبه ... وكيف يشعب صدع الحبّ فى الكبد إلّا بوصل التى من حبّها انصدعت ... تلك الصدوع من الأسقام والكمد وكان ملازما لابن رامين ولجاريته سلّامة الزرقاء، فشهر بذلك، فلامه قومه فى فعله فلم يحفل بمقالتهم؛ وطال ذلك منه ومنهم، حتى رأى بعض ما يكره فى منزل ابن رامين، فمال الى سحيقة جارية زريق ابن منيح مولى عيسى بن موسى، وكان زريق شيخا كريما نبيلا، يجتمع إليه أشراف أهل الكوفة من كل حىّ، وكان الغالب على منزله رجلا من ولد القاسم بن عبد الغفار العجلىّ كغلبة محمد بن الأشعث على منزل ابن رامين؛ فتلازما على ملازمة زريق. وفى ذلك يقول محمد بن الأشعث: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 19 يابن رامين بحت بالتصريح ... فى هواى سحيقة ابن منيح قينة عفّة ومولى كريم ... ونديم من اللّباب الصريح ربعىّ مهذّب أريحىّ ... يشترى الحمد بالفعال الرّبيح نحن منه فى كل ما تشتهى الأن ... فس من لذّة وعيش نجيح عند قوم من هاشم فى ذراها ... وغناء من الغزال المليح فى سرور وفى نعيم مقيم ... قد أمنّا من كل أمر قبيح فاسل عنّا كما سلوناك إنّى ... غير سال عن ذات نفسى وروحى حافظ منك كل ما كنت قد ض ... يّعت مما عصيت فيه نصيحى فالقلى ما حييت منى لك الده ... ر بودّ لمنيّتى ممنوح يابن رامين فالزمن مسجد الح ... ىّ بطول الصلاة والتسبيح قال عمر بن نوفل وهو راوى هذه الأبيات: فلم يدع ابن رامين شريفا بالكوفة إلا تحمّل به على ابن الأشعث وهو يأبى أن يرضى عنه وأن يعاود زيارته، حتى تحمّل عليه بالجحوانىّ، وهو محمد بن بشر بن جحوان الأسدىّ وكان يومئذ على الكوفة، فكلّمه فرضى عنه وعاد إلى زيارته، ولم يقطع منزل زريق. وقال فى سحيقة: سحيقة أنت واحدة القيان ... فما لك مشبه فيهنّ ثانى فضلت على القيان بفضل حذق ... فحزت على المدى قصب الرّهان سجدن لك القيان مكفّرات ... كما سجد المجوس لمرزبان ولا سيما إذا غنّت بصوت ... وحرّكت المثالث والمثانى شربت الخمر حتى خلت أنى ... أبو قابوس أو عبد المدان فإعمال اليسار على الملاوى ... ومن يمناك ترجمة البيان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 20 ولمحمد بن الأشعث أصوات له فيها غناء. منها: رحبت بلادك يا أمامه ... وسلمت ما سجعت حمامه وسقى ديارك كلما ... حنّت الى السّقيا غمامه إنّى وإن أقصيتنى ... شفق [1] أحبّ لك الكرامه وأرى أمورك طاعة ... مفروضة حتى القيامه وله غير ذلك من الأصوات. ذكر أخبار عمرو بن بانة قال أبو الفرج الأصفهانىّ: هو عمرو بن محمد بن سليمان بن راشد مولى ثقيف. وكان أبوه صاحب ديوان ووجها من وجوه الكتّاب، ونسب إلى أمه. وكان مغنّيا محسنا، وشاعرا صالح الشعر، وصنعته صنعة متوسّطة، وكان مرتجلا. قال: وكتابه فى الأغانى أصل من الأصول. وكان يذهب مذهب إبراهيم بن المهدىّ فى الغناء، ويخالف إسحاق ويتعصّب عليه تعصّبا شديدا ويواجهه بنفسه. وهو معدود فى ندماء الخلفاء ومغنّيهم، على ما كان به من الوضح. وفيه يقول الشاعر: أقول لعمرو وقد مرّ بى ... فسلّم تسليمة جافيه لئن فضّلوك بفضل الغنا ... ءفقد فضّل الله بالعافيه وقال أحمد بن حمدون: كان عمرو حسن الحكاية لمن أخذ عنه الغناء، حتى كان من يسمعه لو توارى عن عينه [عمرو [2]] لم يشكّ فى أنه هو الذى أخذ عنه، لحسن حكايته. وكان محظوظا ممن يعلّمه، ما علّم أحدا قطّ إلا خرج نادرا مبرّزا. وله أخبار مع الخلفاء وإنعام منهم عليه، منهم المتوكل على الله. رحمه الله.   [1] فى الأغانى: «سفها» . [2] زيادة عن الأغانى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 21 ذكر أخبار عبد الله بن العباس الربيعى ّ هو أبو العباس عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع، والربيع، على ما يدّعيه أهله، ابن يونس بن أبى فروة. وآل أبى فروة يدفعون ذلك ويزعمون أنه لقيط وجد منبوذا كفله يونس، فلما خدم المنصور ادّعى إليه. قال أبو الفرج الأصفهانى: وكان شاعرا مطبوعا ومغنّيا محسنا جيّد الصنعة نادرها. قال: وهو أوّل من غنّى بالكنكلة فى الإسلام. وكان سبب دخوله فى الغناء على ما رواه أبو الفرج بسنده إليه قال: كان سبب دخولى فى الغناء وتعلّمى إياه أنّى كنت أهوى جارية لعمّتى رقيّة بنت الفضل ابن الربيع، وكنت لا أقدر على ملازمتها والجلوس معها خوفا من أن يظهر ما لها عندى، فيكون ذلك سبب منعى منها؛ فأظهرت لعمّتى أنى أشتهى أن أتعلّم الغناء ويكون ذلك فى ستر عن جدّى- وكان جدّى وعمّتى على حال من الرقّة علىّ والمحبّة لى لا نهاية وراءها، لأن أبى توفّى فى حياة جدّى الفضل- فقالت: يا بنىّ، وما دعاك إلى ذلك؟ فقلت: شهوة غلبت على قلبى، إن منعت منها متّ غمّا- قال: وكان لى فى الغناء طبع قوىّ- فقالت لى: أنت أعلم وما تختاره، والله ما أحبّ منعك من شىء، وإنى كارهة أن تحذق فى ذلك وتشتهر فتسقط ويفتضح أبوك وجدّك. فقلت: لا تخافى من ذلك، فإنما آخذ منه مقدار ما ألهو به. ولازمت الجارية لمحبتى إياها بعلّة الغناء، فكنت آخذ عنها وعن صواحباتها حتى تقدّمت الجماعة حذقا وأقرّت لى بذلك، وبلغت ما كنت أريد من الجارية، وصرت ألازم مجلس جدّى. ثم لم يكن يمرّ لإسحاق ولا لابن جامع ولا للزّبير بن دحمان ولا لغيرهم صوت إلا أخذته، وكنت سريع الأخذ، إنما كنت أسمعه مرّتين أو ثلاثا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 22 وقد صحّ لى. وأحسست فى نفسى قوّة فى الصناعة، فصنعت أوّل صوت صنعته فى شعر العرجىّ: أماطت كساء الخزّ عن حرّ وجهها ... وأدنت على الخدّين بردا مهلهلا ثم صنعت: أقفر من بعد خلّة شرف ... فالمنحنى فالعقيق فالجرف وعرضتهما على الجارية التى كنت أهواها وسألتها عما عندها فيهما؛ فقالت: لا يجوز أن يكون فى الصنعة فوق هذا. وكان جوارى الحارث بن بسخنّر وجوارى أبيه يدخلن إلى دارنا فيطرحن على جوارى عمّتى وجوارى جدّى ويأخذن أيضا ما ليس عندهن، فأخذنهما منّى، وسألن الجارية عنهما فأخبرتهن أنهما من صنعتى. ثم اشتهرا حتى غنّى الرشيد بهما يوما فاستظرفهما، وسأل إسحاق: هل تعرفهما؟ فقال: لا، وإنهما لمن أحسن الصنعة وجيّدها ومتقنها. ثم سأل الجارية عنهما فوقفت خوفا من عمّتى وحذرا أن يبلغ جدّى أنها ذكرتنى؛ فانتهرها الرشيد فأخبرته القصّة؛ فوجّه من وقته فدعا بجدّى فقال له: يا فضل، أيكون لك ابن يغنّى ثم يبلغ فى الغناء المبلغ الذى يمكنه أن يصنع صوتين يستحسنهما إسحاق وسائر المغنين ويتداولهما جوارى القيان فلا تعلمنى بذلك، كأنك رفعت قدره عن خدمتى فى هذا الشأن! فقال له جدّى: وحقّ ولائك يا أمير المؤمنين ونعمتك وإلا فأنا برئ من بيعتك وعلىّ العهد والميثاق [1] والعتق والطلاق إن كنت علمت بشىء من هذا قط إلا منك الساعة. [فمن هذا من ولدى؟ قال: عبد الله بن العباس هو [2] ، فأحضرنيه. الساعة [3]] . فجاء جدّى وهو يكاد أن ينشق غيظا، فدعانى؛ فلما خرجت إليه شتمنى   [1] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «والبيان» . [2] لعل العبارة: «هو عبد الله ابن العباس» . [3] زيادة عن الأغانى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 23 وقال: [يا كلب [1]] بلغ من أمرك أنك تجسر على أن تتعلّم الغناء بغير إذنى! ثم زاد ذلك حتى صنعت، ولم تقنع بهذا حتى ألقيت صنعتك على الجوارى فى دارى، ثم تجاوزهن إلى جوارى الحارث بن بسخنّر، فاشتهرت، وبلغ أمير المؤمنين فتنكّر لى ولا منى، وفضحت آباءك فى قبورهم وسقطت للأبد إلا من المغنّين! فبكيت مما جرى علىّ وعلمت أنه صدقنى؛ فرحمنى وضمّنى إليه وقال: قد صارت الآن مصيبتى فى أبيك مصيبتين، إحداهما به وقد مضى وفات، والأخرى بك وهى موصولة بحياتى، ومصيبة [2] باقية العار علىّ وعلى أهلى بعدى، وبكى وقال: عزّ علىّ يا بنىّ أنّى أراك أبدا ما بقيت على غير ما أحبّ؛ وليست لى فى هذا الأمر حيلة لإنه أمر قد خرج عن يدى. وقال: جئنى بعود حتى أسمعك وأنظر كيف أنت، فإن كنت تصلح للخدمة فى هذه الفضيحة وإلا جئت بك منفردا وعرّفته خبرك واستعفيته لك. فأتيت بعود وغنّيته غناء قديما؛ فقال: لا، بل صوتيك اللذين صنعتهما، فغنيّته إياهما، فاستحسنهما وبكى، ثم قال: بطلت والله يا بنىّ وخاب أملى فيك. فوا حزنا عليك وعلى أبيك! فقلت: ليتنى متّ قبل ما أنكرته أو أخرست! ومالى حيلة! لكنى وحياتك يا سيّدى- وإلا فعلىّ عهد الله وميثاقه والعتق والطلاق وكل يمين يحلف بها [حالف [3]] لازمة [لى [3]]- لا غنيّت أبدا إلا لخليفة أو ولىّ عهد. فقال: قد أحسنت فيما نبهت [4] عليه من هذا. فركب وأمر بى فأحضرت، ووقفت بين يدى الرشيد وأنا أرعد؛ فاستدعانى واستدنانى حتى صرت أقرب الجماعة إليه، ومازحنى   [1] زيادة عن الأغانى. [2] فى الأغانى: مصيبته، ولعلها: مصيبتك. [3] زيادة عن الأغانى. [4] الذى فى أساس البلاغة: «تنبهت على الأمر: تفطنت له» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 24 وأقبل علىّ وسكّن منى [1] ، وأمر جدّى بالانصراف؛ وأما إلى الجماعة فحدّثونى وسقيت أقداحا [2] وغنّى المغنون جميعا؛ وأومأ إلىّ إسحاق بعينه أن ابدأ فغنّ إذا بلغت النوبة إليك قبل أن تؤمر بذلك ليكون ذلك أملح وأجمل بك. فلما جاءت النّوبة إلىّ أخذت عودا ممن كان إلى جنبى وقمت قائما واستأذنت فى الغناء؛ فضحك الرشيد وقال: غنّ جالسا؛ فغنيّت لحنى الأوّل، فطرب واستعاده ثلاث مرّات وشرب عليه ثلاثة أنصاف. ثم غنيّت الثانى فكانت هذه حاله، فسكر ودعا بمسرور وقال: احمل الساعة مع عبد الله عشرة آلاف دينار وثلاثين ثوبا من فاخر ثيابى وعيبة مملوءة طيبا، فحمل ذلك كله معى. قال عبد الله: ولم أزل كلما أراد ولىّ عهد أن يعلم من الخليفة بعد الخليفة هو أم غيره دعانى وأمرنى أن أغنّى، فأعرّفه يمينى فيستأذن الخليفة فى ذلك، فإن أذن لى فى الغناء علم أنه ولىّ عهد وإلا عرف أنه غيره، حتى كان آخرهم الواثق فدعانى فى ايام المعتصم وسأله أن يأذن لى فى الغناء، فأذن لى ثم دعانى من الغد فقال: ما كان غناؤك إلا سببا لظهور سرّى وأسرار الخلفاء قبلى! والله لقد هممت أن آمر بضرب رقبتك! لا يبلغنى أنك امتنعت من الغناء عند أحد، فو الله لئن امتنعت لأضربن عنقك! فأعتق من كنت تملكه يوم حلفت، وطلّق من كان عندك يومئذ، وأرحنا من يمينك هذه المشئومة. فقمت وأنا لا أعقل جزعا منه؛ فأعتقت جميع ما كان بقى عندى من مماليكى الذين حلفت يومئذ وهم فى ملكى ثم تصدّقت بجملة، واستفتيت فى يمينى أبا يوسف القاضى حتى خرجت منها؛ وغنيّت بعد ذلك إخوانى جميعا حتى اشتهر أمرى، وبلغ المعتصم خبرى فتخلّصت منه.   [1] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «وأقبل على الجماعة وشكر منى الخ» . [2] فى الأغانى: «وسقيت الجماعة وغنى الخ» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 25 وروى أبو الفرج أيضا عن الصّولىّ عن الحسين بن يحيى قال: قلت لعبد الله ابن العباس: إنه بلغنى لك خبر مع الرشيد أوّل ما شهرت بالغناء فحدّثنى به؛ فقال: نعم! أوّل صوت صنعته: أتانى يؤامرنى فى الصّبو ... ح ليلا فقلت له غادها فلما دار [1] لى وضربت عليه بالكنكلة، عرضته على جارية [2] لنا يقال لها راحة، فاستحسنته، وأخذته عنى. وكانت تختلف إلى إبراهيم الموصلى، فسمعها يوما تغنيّه وتناغى [3] به جارية من جواريه، فآستعادها إياه فأعادته؛ فقال: لمن هذا الصوت؟ قالت: صوت قديم. قال: كذبت، لو كان قديما لعرفته. وما زال يداريها ويتغاضب عليها حتى اعترفت له أنه من صنعتى، فعجب من ذلك. ثم غناه يوما بحضرة الرشيد ليغرب به على المغنّين؛ فاستحسنه الرشيد، فقال له: لمن هذا يا إبراهيم؟ فأمسك عن الجواب وخشى أن يكذبه فينمى إليه الخبر من غيره، وخاف من جدّى إن يصدقه؛ فقال له: مالك لا تجيبنى؟ قال: ما يمكننى يا أمير المؤمنين. فاستراب بالقصّة، فأقسم الرشيد أنه إن لم يعرّفه عاقبه عقوبة توجعه، وتوهّم أنه لعليّة بنت المهدىّ أو لبعض حرمه فأستطير غضبا. فلما رأى إبراهيم الجدّ منه صدقه فيما بينه وبينه سرّا. فدعا لوقته بالفضل بن الربيع وقال له: أيصنع ولدك غناء يرويه الناس ولا تعرّفنى! فجزع وحلف بحياته وبيعته أنه ما عرف ذلك قط ولا سمع به إلا فى وقته ذلك. وساق باقى الخبر نحو ما تقدّم. قال عبد الله بن العباس: دخل محمد بن عبد الملك الزيات على الواثق وأنا بين يديه أغنّيه وقد استعادنى صوتا فأعدته، فآستحسنه محمد بن عبد الملك [وقال: [4]] هذا والله   [1] فى الأغانى: «تأتى لى» . [2] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «على جارة» . [3] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «تغانى» . [4] زيادة نراها لازمة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 26 يا أمير المؤمنين أولى الناس بإقبالك عليه وإصغائك إليه؛ فقال: أجل! هذا والله مولاى وابن موالىّ لا يعرفون غير ذلك. فقال: ليس كل مولى يا أمير المؤمنين مولى لمواليه، ولا كل مولى يتجمّل بولائه يجمع ما جمعه عبد الله من ظرف وأدب وصحّة عقل وفضل علم وجودة شعر. فقال له: صدقت يا محمد. فلما كان من الغد جئت محمد بن عبد الملك شاكرا لحسن محضره، فقلت فى أضعاف كلامى: وأفرط الوزير، أعزّه الله تعالى، فى وصفى وتقريظى بكل شىء حتى وصفنى بجودة الشعر، وليس ذلك عندى، وإنما أعبث بالبيتين والثلاثة. ولو كان عندى أيضا شىء من ذلك لصغر عن أن يصفه الوزير ويحكيه فى هذا المجلس الرفيع المشهور [1] . فقال: والله يا أخى لو عرفت مقدار قولك: يا شادنا رام إذ م ... رّ فى الشّعانين [2] قتلى يقول لى: كيف أصبح ... ت؟ كيف يصبح مثلى لما قلت هذا القول. والله لو لم يكن لك شعر فى عمرك إلا قولك: «كيف يصبح مثلى» لكنت شاعرا مجيدا. وهذا الشعر قاله عبد الله بن العباس فى نصرانية كان يهواها ولا يصل إليها إلا إذا خرجت إلى البيعة. وله معها أخبار وأشعار له فيها أصوات. منها قوله: إنّ فى القلب من الظّبى كلوم ... فدع اللّوم فإنّ اللّوم لوم حبذا يوم الشّعانين وما ... نلت فيه من نعيم لو يدوم إن أكن أعظمت أن همت به ... فالذى تركب من عذلى عظيم لم أكن أوّل من سنّ الهوى ... فدع العذل فذا داء قديم   [1] لعله «المشهود» . [2] الشعانين: عيد للنصارى قبل الفصح بأسبوع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 27 وروى أبو الفرج بسنده إلى محمد بن جبير قال: كنا عند أبى عيسى بن الرشيد فى زمن ربيع وعندنا مخارق وعلّويه وعبد الله بن العباس الربيعىّ وعبد الله بن الحارث بن بسخنّر ونحن مصطبحون فى طارمة مضروبة على بستانه وقد تفتّح فيه ورد وياسمين وشقائق والسماء متغيّمة غيما مطبقا وقد بدأت ترشّ رشّا ساكبا، فنحن فى أكمل نشاط وأحسن يوم، إذ خرجت قيّمة دار أبى عيسى فقالت: يا سيّدى، قد جاءت عساليج؛ قال: تخرج إلينا فليس بحضرتنا من تحتشمه. قال: فخرجت إلينا جارية شكلة حلوة حسنة العقل والهيئة والأدب فى يدها عود فسلّمت، وأمرها أبو عيسى بالجلوس فجلست. وغنّى القوم حتى انتهى الدّور إليها، وظننا أنها لا تصنع شيئا وخفنا أن تهابنا فتحصر، فغنّت غناء حسنا مطربا متقنا، لم تدع أحدا ممن حضر إلا غنّت صوتا من صنعته فأدّته على غاية الإحكام؛ فطربنا واستحسنّا غناءها وخاطبناها بالاستحسان؛ وألح عبد الله بن العباس من بيننا بالاقتراح عليها والمزاح معها والنظر اليها. فقال أبو عيسى: عشقتها وحياتى يا عبد الله! فقال: لا والله يا سيّدى وحياتك ما عشقتها، ولكن استملحت كل ما شاهدته منها من منظر وشكل وعقل وعشرة وغناء. فقال له: ويحك! فهذا والله هو العشق وسببه. ورب جدّ جرّه اللعب. قال: وشربنا؛ فلما غلب النبيذ على عبد الله غنّى أهزاجا قديمة وحديثة، وغنّى فيما بينها هزجا فى شعر قاله فيها لوقته، فما فطن له إلا أبو عيسى، وهو: نطق المكتوم منّى فبدا ... كم ترى المكتوم منّى لا يضح سحر عينيك إذا ما رنتا ... لم يدع ذا صبوة أو يفتضح ملكت قلبا فأمسى غلقا ... عندها صبا بها لم يسترح [1]   [1] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: ملكت نفسى وأمسى علقا ... عندنا صبا بها لم يسترح الجزء: 5 ¦ الصفحة: 28 بجمال وغناء حسن ... جلّ عن أن ينتقيه [1] المقترح أورث القلب هموما ولقد ... كنت مسرورا بمرآه فرح ولكم مغتبق همّا وقد ... باكر اللهو بكور المصطبح فقال له أبو عيسى: فعلتها والله يا عبد الله، صح والله قولى لك فى عساليج وأنت تكابر حتى فضحك السّكر. فجحد وقال: هذا غناء كنت أرويه. فخلف أبو عيسى أنه ما قاله وما غنّاه إلا فى يومه؛ وقال له: احلف بحياتى أنّ الأمر ليس هو كذلك! فلم يفعل. فقال أبو عيسى: والله لو كانت لى لوهبتها لك، ولكنها لآل يحيى ابن معاذ، وو الله إن باعوها لأملّكنّك إياها ولو بكل ما أملك! ووحياتى لتنصرفنّ قبلك إلى منزلك. ثم دعا بحافظتها وخادما من خدمه فوجّه بها معهما إلى منزله. والتوى عبد الله قليلا وتجلّد ثم انصرف. واتصل الأمر بينهما بعد ذلك فاشترتها عمته رقيّة بنت الفضل بن الربيع من آل يحيى بن معاذ، وكانت عندهم حتى ماتت. قال: وقالت بذل الكبيرة لعبد الله بن العباس: قد بلغنى أنك عشقت جارية اسمها عساليج، فأعرضها علىّ، فإما أن عذرتك أو عذلتك؛ فوجّه إليها فحضرت، وقال لبذل: هذه هى يا سيّدتى، فاسمعى وانظرى ثم مرينى بما شئت أطعك. فأقبلت عليه عساليج وقالت: يا عبد الله، أتشاور فىّ! فو الله ما شاورت فيك لمّا سحبتك. فقالت بذل: أحسنت والله يا صبيّة! ولو لم تحسنى شيئا و [لا [2]] كانت فيك خصلة تحمد لوجب أن تعشقى لهذه الكلمة. ثم قالت لعبد الله: ما ضيّعت، احتفظ بصاحبتك هذه. وقال حمدون بن إسماعيل: دخلت يوما على عبد الله بن العباس الربيعىّ وخادم له يسقيه، وبيده عود وهو يغنّى:   [1] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «أن يقنفيه» . [2] التكملة عن الأغانى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 29 إذا أصطبحت ثلاثا ... وكان عودى نديمى والكأس تضحك [1] ضحكا ... من كفّ ظبى رخيم فما علىّ طريق ... لطارقات الهموم فما رأيت أحسن مما حكى حاله فى غنائه ولا سمعت أحسن مما غنّى. ومن صنعته وشعره قوله: صدع البين الفؤادا ... إذ به الصائح نادى بينما الأحباب مجمو ... عون إذ صاروا فرادى فأتى بعض بلادا ... وأتى بعض بلادا كلما قلت تناهى ... حدثان [2] الدّهر زادا ذكر أخبار وجه القرعة هو أبو جعفر محمد بن حمزة بن نصير الوصيف مولى المنصور، ويلقّب وجه القرعة، أحد المغنّين الحذّاق الضّرّاب الرواة. أخذ الغناء عن إبراهيم الموصلىّ وطبقته. وكان حسن الأداء طيّب الصوت لا علّة فيه، إلا أنه كان إذا غنّى الهزج خاصّة خرج لا لسبب يعرف، إلا أنه [إن [3]] تعرّض للحنين فى جنس من الأجناس فلا يصح له البتة. وروى أبو الفرج بسنده عن محمد الهاشمىّ أنه شهد إسحاق بن إبراهيم الموصلىّ عند عمه هارون بن عيسى وعنده محمد بن الحسن بن مصعب، قال: فأتانا محمد بن   [1] فى الأغانى: «تغرب» . [2]- هذه رواية الأغانى. وفى الأصل: كلما قلت تناهت ... حادثات الدهر زادا [3] زيادة عن الأغانى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 30 حمزة وجه القرعة، وكان شرس الأخلاق أبىّ النفس، وكان إذا سئل الغناء أباه، فإذا أمسك عنه كان هو المبتدئ به؛ فأمسكنا عنه حتى طلب العود فأتى به فغنّى: مرّ بى سرب ظباء ... رائحات من قباء زمرا نحو المصلّى ... يتمشّين حذائى فتجاسرت وألقي ... ت سرابيل الحياء وقديما كان لهوى ... وفنونى بالنساء قال: وكان يحسنه ويجيده، فجعل إسحاق يشرب ويستعيده حتى شرب ثلاثة أرطال، ثم قال: أحسنت يا غلام! هذا الغناء لى وأنت تتقدّمنى فيه! ولا يخلق الغناء ما دام مثلك ينشأ فيه. وقال أيضا: كنا فى البستان المعروف ببستان خالص النصرانىّ ببغداد، ومعنا محمد ابن حمزة وجه القرعة وهو يغنينا: يا دار أقفر رسمها ... بين المحصّب والحجون يا بشر إنى فاعلمى ... والله مجتهداً يمينى ما إن صرمت حبالكم ... فصلى حبالى أو ذرينى فإذا برجل راكب على حمار يؤمّنا وهو يصيح: أحسنت والله! فقلنا: أصعد إلينا كائنا من كنت؛ فصعد وقال: لو منعتمونى من الصعود لما امتنعت؛ ثم سفر اللثام عن وجهه فإذا هو مخارق. فقال: يا أبا جعفر، أعد علىّ صوتك فأعاده، وشرب رطلا من شرابنا وقال: لولا أنى مدعوّ الخليفة لأقمت عندكم واستمعت هذا الغناء الذى هو أحسن من النزهة غبّ المطر. وله مع إسحاق بن إبراهيم ومخارق أخبار شهدا له فيها بحسن الصنعة؛ وكفاه ذلك فضلا فى صناعته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 31 ذكر أخبار محمد بن الحارث بن بسخنّر [1] قال أبو الفرج الأصفهانى: هو من أهل الرّىّ، مولى المنصور، من ولد بهرام شوبين مرزبان الرىّ. قال: وهو مرتجل قليل الصّنعة حسن الغناء والنغم بقوّة وشجا واقتدار شديد على الغناء، وكان فى زمانه أحد المعدودين فى حسن الأدب وتمام المروءة وحسن الزّىّ والآلة، وكان عظيم التّيه رفيع الهمة، وكانت له منزلة عند المأمون. قال محمد بن الحارث: كنت مع المأمون وهو يريد بلاد الروم ومعه عدّة من المغنّين، فجلس يوما والمعتصم والعباس معه من حيث لا نراهم وهم يسمعون غناءنا؛ فغنّى المغنّون جميعا وغنّيت هزجا لإسماعيل بن جامع، فبعث إلىّ المأمون بأصل شاهشفرم [2] وقد لفّ أصله بمنديل حرير؛ فجاءنى به الغلام وقال: أعد الصوت؛ فأخذته وشممته ووثبت فأعدته قائما، ووضعت الأصل بين يدى وشربت رطلا وقلت للمغنّين: حكم لى أمير المؤمنين بالحذق والغناء. فقالوا: وكيف؟ قلت: دفع إلىّ لواء الغناء من بينكم. فقالوا: ليس كما ذكرت، ولكن حيّاك إذ أطربته، والرسول قائم فانصرف بالخبر، فما لبث أن رجع إلىّ فقال: هو كما ذكرت. قال أبو العنبس بن حمدون: كان محمد بن الحارث أحسن خلق الله شمائل وإشارة إذا غنّى. وقال أحمد بن حمدون: صنع محمد بن الحارث [هزجا فى هذا الشعر [3]] : أمسيت عبدا مسترقّا ... أبكى الألى سكنوا دمشقا أعطيتهم قلبى فمن ... يبقى بلا قلب فأبقى!   [1] كذا فى تصحيح كتاب الأغانى للأستاذ الشقيطى المطبوع بمصر سنة 1334 هـ. وبسختر هو أحد الأعاجم من مرازبة الرى موالى المنصور الخليفة العباسىّ الثانى. وفى الأصل: «بشخير» وهو تحريف. [2] فى مفردات ابن البيطار: «شاهسفرم» وهو ضرب من النبات عطر الرائحة. [3] التكملة من الأغانى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 32 وطرحه على المسدود الطّنبورىّ فوقع له موقعا حسنا؛ واستحسنه محمد منه فقال: أتحبّ أن أهبه لك؟ قال: نعم؛ قال: قد فعلت. فكان المسدود يغنّيه ويدّعيه، وإنما هو لمحمد بن الحارث. قال محمد: لمّا قدم المأمون من خراسان لم يشتق مغنّيا بمدينة السلام غيرى. فبعث إلىّ فكنت أنادمه سرّا، ولم يظهر للندماء حتى ظفر بإبراهيم بن المهدىّ؛ فلما عفا عنه ظهر للندماء. ولمحمد بن الحارث شعر، منه قوله: ومن ظنّ أنّ التّيه من فضل قدره [1] ... فإنى رأيت التيه من صغر القدر ولو كان ذا عزّ ونفس أبيّة ... لغضّ الغنى منه وعزّ عن الفقر رأى نفسه لا تستقلّ بحقّها ... فتاه لنقص النفس أو قلّة الشكر ذكر أخبار أحمد بن صدقة قال أبو الفرج الأصفهانىّ: هو أحمد بن صدقة بن أبى صدقة. كان أبوه حجازيّا مغنّيا، قدم على الرشيد وغنّى له. وقد ذكرنا أخباره فى النوادر من كتابنا هذا، فلا حاجة بنا إلى إعادتها. وكان أحمد طنبوريّا محسنا مقدّما حاذقا حسن الغناء محكم الصّنعة. قال: وله غناء كثير فى الأرمال والأهزاج وما يجرى مجراها من غناء الطّنبوريّين. وكان ينزل الشأم. ووصف للمتوكل فأمر بإحضاره، فقدم عليه فغنّاه، فاستحسن غناءه وأجزل صلته. واشتهاه الناس وكثر من يدعوه؛ فكسب بذلك أكثر مما كسبه مع المتوكل أضعافا. وروى أبو الفرج عن أحمد بن صدقة قال: اجتزت بخالد بن يزيد الكاتب، فقلت له: أنشدنى بيتين من شعرك حتى أغنّى فيهما. فقال: وأىّ حظّ لى فى ذلك!   [1] فى الأصل: «من فضل قدرة» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 33 تأخذ أنت الجائزة وأحصل أنا على الإثم! فخلفت أنى إن أخذت بشعره فائدة جعلت له فيها حظّا، وأذكرت به الخليفة وسألته فيه. فقال: أمّا الحظّ من جهتك فأنت أنذل من ذلك، ولكن عسى أن تفلح فى مسئلة الخليفة؛ وأنشدنى: تقول سلا، فمن المدنف ... ومن عينه أبدا تذرف! ومن قلبه قلق خافق ... عليك وأحشاؤه ترجف! فلما جلس المأمون للشرب دعانى، وكان قد غضب على حظّية له، فحضرت مع المغنّين. فلما طابت نفسه وجّهت إليه بتفّاحة من عنبر عليها مكتوب بالذهب: «يا سيّدى سلوت» ، وما علم الله أنى عرفت شيئا من خبرهما. وانتهى الدّور إلىّ فغنيّت البيتين؛ فاحمرّ وجه المأمون وانقلبت عيناه وقال: يابن الفاعلة، لك علىّ وعلى حرمى صاحب خبر! فوثبت وقلت: يا سيّدى، ما السبب؟ قال: من أين عرفت قصّتى مع جاريتى حتى غنيّت فى معنى ما بيننا؟ فحلفت أنى لم أعرف شيئا من ذلك، وحدّثته بحديثى مع خالد، فلما انتهيت إلى قوله: «أنت أنذل من ذلك» ضحك وقال: صدق، وعجب من هذا الاتّفاق؛ وأمر لى بخمسة آلاف درهم ولخالد بمثلها. وروى عنه أيضا قال: دخلت على المأمون فى يوم الشعانين [1] وبين يديه عشرون وصيفة جلب روميّات مزنّرات قد تزيّنّ بالديباج الرومىّ، وعلّقن فى أعناقهن صلبانا من الذهب، وفى أيديهن الخلوص والزيتون. فقال لى المأمون: ويلك يا أحمد! قد قلت فى هؤلاء أبياتا فغنّ بها، ثم أنشدنى:   [1] الشعانين: عيد من أعياد النصارى ويسمى: «الزيتونة» يعملونه فى سابع أحد من صومهم. ومعنى الشعانين: التسبيح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 34 ظباء كالدّنانير ... ملاح فى المقاصير جلاهنّ الشّعانين ... علينا فى الزّنانير وقد زرفنّ [1] أصداغا ... كأذناب الزرازير وأقبلن بأوساط ... كأوساط الزّنابير فحفظته وغنيّته؛ فلم يزل يشرب والوصائف يرقصن بين يديه بأنواع الرقص من الدّستبندا [2] إلى الإيلىّ حتى سكر، وأمر لى بألف دينار، وأمر بأن ينثر على الجوارى ثلاثة آلاف دينار، فقبضت الألف ونثرت ثلاثة آلاف الدينار فانتهبتها معهنّ. قال: ولم يزل أحمد بالعراق حتى بلغه موت بنيّة له بالشأم، فشخص نحو منزله، وخرج عليه الأعراب فأخذوا ما معه وقتلوه. ذكر أخبار أبى حشيشة قال أبو الفرج: أبو حشيشة لقب غلب عليه، وهو محمد بن أبى أميّة، ويكنى أبا جعفر. وكان أهله جميعا متّصلين بإبراهيم بن المهدىّ، وكان هو من بينهم يغنّى بالطّنبور أحسن الناس غناء. وخدم جماعة من الخلفاء، أوّلهم المأمون ومن بعده إلى المعتمد. قال: وكان أكثر انقطاعه إلى أبى أحمد بن الرشيد أيام حياته. وكان أبوه وجدّه وأخواله كتّابا. قال أحمد بن جعفر جحظة فى ترجمة أبى حشيشة: وكان له صنعة تقدّم فيها كلّ طنبورىّ لا أحاشى أحدا فى ذلك. قال: فمنها:   [1] زرفن صدغيه: جعلهما كالزرفين، وهو حلقة الباب. [2] الدستبندا: نوع من أنواع رقص المجوس يأخذ بعضهم بيد بعض ويدورون ويرقصون. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 35 كأنّ هموم الناس فى الأرض كلّها ... علىّ وقلبى بينهم قلب واحد ولى شاهدا عدل سهاد وعبرة ... وكم مدّع للحبّ من غير شاهد قال جحظة: ورأيته بين يدى المعتمد على الله وقد غنّاه من شعر علىّ بن محمد ابن نصر: حرمت بذل نوالك ... واسوءتا من فعالك! لمّا ملكت وصالى ... آيستنى من وصالك فوهب له مائتى دينار. قال: وغنّى يوما عند ابن المدبّر بحضرة عريب؛ فقالت له: أحسنت يا أبا جعفر! ولو عاش الشيخان ما قلت لهما هذا (تعنى علّويه ومخارقا) . وقال أبو الفرج: إنّ أبا حشيشة ألّف كتابا جمع فيه أخباره مع من عاشر وخدم من الخلفاء؛ قال: وهو تاب مشهور. قال: أوّل من سمعنى من الخلفاء المأمون، وصفنى له مخارق، فأمر بإشخاصى إليه، وأمر لى بألف درهم أتجهّز بها. فلما وصلت إليه أدنانى وأعجب بى؛ وقال للمعتصم: هذا أثر خدمك وخدم آبائك وأجدادك يا أبا إسحاق. وذكر ما كان يشتهيه عليه كلّ خليفة، فقال: كان المأمون يشتهى من غنائى: كان ينهى فنهى حتى [سلا [1]] ... وانجلت عنه غيايات الصّبا خلع اللهو وأضحى مسبلا ... للنّهى فضل قميص وردا قال: وكان المعتصم يشتهى علىّ: أسرفت فى سوء الصّنيع ... وفتكت بى فتك الخليع   [1] آخر الشطر الأوّل من البيت مفقود من الأصل، ولم نوفق اليه حين التصحيح. فلعل الكلمة التى وضعناها تكون قريبة من الأصل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 36 وولعت بى متمرّدا ... والعذر فى طرق الولوع صيّرت حبّك شافعا ... فأتيت من قبل الشّفيع قال: وكان الواثق يختار من غنائى: يا تاركى متلذّذ ال ... عذّال جذلان العداة انظر إلىّ بعين را ... ض نظرة قبل الممات خلّيتنى بين الوعي ... د وبين ألسنة الوشاة! ماذا يرجّى بالحيا ... ة منغّص روح الحياة! قال: وكان المتوكل يحبّنى ويستخفّنى، وكانت أغانيه التى يشتهيها علىّ كثيرة. منها: أطعت الهوى وخلعت العذارا ... وباكرت بعد المراح العقارا ونازعك الكأس من هاشم ... كريم يحبّ عليها الوقارا فتى فرّق الحمد أمواله ... يجرّ القميص ويرخى الإزارا رأى الله جعفر خير الأنام ... فملّكه ووقاه الحذارا قال: وكان المستعين يشتهى علىّ: وما أنس لا أنس منها الخشوع ... وفيض الدّموع وغمز اليد وخدّى مضاف إلى خدّها ... قياما الى الصبح لم نرقد قال: واشتهى علىّ المعتمد: قلبى يحبّك يا منى ... قلبى ويبغض من يحبّك لأكون فردا فى هوا ... ك، فليت شعرى كيف قلبك؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 37 قال حجظة: وكانت وفاة أبى حشيشة بسرّ من رأى. وسببها أنه اصطبح عند قلم غلام الفضل بن كاوش فى يوم بارد؛ فقال له: أنا لا آكل إلا طعاما حارّا، فأتاه بفجليّة باردة وقال: تساعدنى وتأكل معى، فأكل منها فحمد قلبه فمات. ذكر أخبار القيان وأوّل من غنّى من النساء ومن اشتهر بالغناء منهنّ فى الإسلام قالوا: أوّل من غنّى الغناء العربىّ جرادتا ابن جدعان. قال أبو الفرج الأصفهانىّ: قال ابن الكلبىّ: كان لابن جدعان أمتان يسمّيان الجرادتين يغنّيان فى الجاهليّة، وسمّاهما جرادتى عباد [1] ؛ ووهبهما عبد الله بن جدعان لأميّة بن أبى الصّلت الثّقفىّ وكان قد امتدحه. وابن جدعان هو عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد ابن تيم بن مرّة بن كعب بن لؤىّ بن غالب. كان سيّدا جوادا؛ فرأى أميّة ينظر الى الجرادتين وهو عنده فأعطاه إياهما. وقد قيل فى سبب إعطائه إياهما: إن أميّة بن أبى الصّلت قدم عليه؛ فقال له عبد الله: أمر ما أتى بك! فقال أميّة: كلاب غرماء قد نجتنى ونهشتنى. فقال له عبد الله: قدمت علىّ وأنا عليل وحقوق لحقتنى ولزمتنى، فأنظرنى قليلا وقد ضمنت قضاء دينك فلا أسألك عن مبلغه، قال: فأقام أميّة أياما ثم أتاه فقال: أأذكر حاجتى أم قد كفانى ... حياؤك إنّ شيمتك الحياء وعلمك بالأمور وأنت قرم ... لك الحسب المهذّب والسّناء كريم لا يغيّره صباح ... عن الخلق الكريم ولا مساء تبارى الريح مكرمة ومجدا ... إدا ما الكلب أحجره الشّتاء   [1] فى الأغانى: «جرادتى عاد» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 38 إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرّضه [1] الثناء إذا خلّفت عبد الله فاعلم ... بأنّ القوم ليس لهم جزاء فأرضك كلّ مكرمة بنتها ... بنو تيم وأنت لهم سماء وهل تخفى السماء على بصير! ... وهل بالشمس طالعة خفاء! فلمّا أنشده أميّة هذا الشعر كانت عنده قينتان، فقال لأميّة: خذ أيّتهما شئت، فأخذ إحداهما وانصرف [2] ؛ فمرّ بمجلس من مجالس قريش فلاموه على أخذها، وقالوا له: لقد ألفيته عليلا، فلو رددتها عليه، فإن الشيخ محتاج إلى خدمتها، كان [3] ذلك أقرب لك عنده وأكثر من كل حقّ ضمنه. فوقع الكلام من أميّة موقعا وندم؛ فرجع إليه ليردّها عليه. فلما أتاه بها، قال ابن جدعان: لعلك إنما رددتها لأن قريشا لاموك على أخذها؛ وذكر لأميّة ما قال القوم. فقال أميّة: والله ما أخطأت يا أبا زهير. قال: فما الذى قلت فى ذلك؟ فقال: عطاؤك زين لامرئ إن حبوته ... ببذل وما كلّ العطاء يزين وليس بشين لامرئ بذل وجهه ... إليك كما بعض السؤال يشين فقال عبد الله لأمية: خذ الأخرى؛ فأخذهما جميعا وخرج. فلما أن صار إلى القوم بهما أنشأ يقول: ومالى لا أحيّيه وعندى ... مواهب قد طلعن من النّجاد لأبيض من بنى عمرو بن تيم ... وهم كالمشرفيّات الحداد لكلّ قبيلة هاد ورأس ... وأنت الرأس تقدم كلّ هاد   [1] فى الأصل: «تعرّضه» . [2] كذا بالأغانى. وفى الأصل: «قال لأمية: خذ إحداهما أيهما شئت فأخذها وانصرف الخ» . [3] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «فكان ... » بزيادة الفاء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 39 عماد الخيف قد علمت معدّ ... وإنّ البيت يرفع بالعماد له داع بمكّة مشمعلّ ... وآخر فوق دارته ينادى إلى ردح من الشّيزى ملاء ... لباب البرّ يلبك بالشّهاد وكان سبب قول أميّة بن أبى الصلت هذا الشعر أنّ عبد الله بن جدعان وفد على كسرى فأكل عنده الفالوذ؛ فسأل عنه فقيل له: هذا الفالوذ. قال: وبم يصنع؟ قيل: لباب البرّ يلبك مع عسل النحل. قال: أبغونى غلاما يصنعه؛ فأتوه بغلام يصنعه فابتاعه، ثم قدم به مكة؛ فأمره أن يصنع الفالوذ ففعل، ثم وضع الموائد من الأبطح إلى باب المسجد، ثم نادى مناديه: ألا من أراد الفالوذ فليحضر، فحضره الناس. وكان فيمن حضر أميّة بن أبى الصلت فقال الأبيات. وقال فيه أيضا: ذكر ابن جدعان بخي ... ر كلّما ذكر الكرام من لا يخون ولا يعقّ ... ولا يبخّله الأنام يهب النجيبة والنجي ... ب له الرّحالة والزّمام وابن جدعان ممن ترك شرب الخمر فى الجاهليّة، وقد تقدّم ذكره. وهجاه دريد ابن الصّمّة بشعر؛ فلقيه بعد ذلك عبد الله بسوق عكاظ، فحيّاه وقال: هل تعرفنى يا دريد؟ قال لا. قال: فلم هجوتنى؟ قال: ومن أنت؟ قال: عبد الله بن جدعان. قال: هجوتك لأنك كنت أثرا كريما فأحببت أن أضع شعرى موضعه. فقال له عبد الله: لئن كنت هجوت لقد مدحت؛ وكساه وحمله على ناقة برحلها، فقال دريد: إليك ابن جدعان أعملتها ... مخفّفة للسّرى والنّصب فلا خفض حتى تلاقى امرأ ... جواد الرّضا وحليم الغضب وجلدا إذا الحرب مرّت به ... يعين عليها بجزل الحطب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 40 وجلت البلاد فما إن أرى ... شبيه ابن جدعان وسط العرب سوى ملك شامخ ملكه ... له البحر يجرى وعين الذهب وأخبار ابن جدعان كثيرة وسيادته فى الجاهليّة مشهورة، ليس هذا موضع إيرادها، وإنما أوردنا ما أوردنا منها فى هذا الموضع على سبيل الاستطراد، فالشىء بالشىء يذكر. فلنرجع إلى أخبار القيان. ذكر أخبار جميلة هى جميلة مولاة بنى سليم، ثم مولاة بطن منهم يقال لهم بنو بهز، وكان لها زوج من موالى بنى الحارث بن الخزرج، وكان ينزل فيهم، فغلب عليها ولاء زوجها فقيل لها: مولاة الأنصار. وقد قيل: إنها كانت لرجل من الأنصار ينزل بالسّنح. وقيل: كانت مولاة الحجّاج بن علاط السّلمىّ. قال أبو الفرج الأصفهانىّ: وهى أصل من أصول الغناء، أخذ عنها معبد وابن عائشة وحبابة وسلّامة وعقيلة والعتيقة وغيرهم. وفيها يقول عبد الرحمن بن أرطاة: إنّ الدّلال وحسن الغنا ... ء وسط بيوت بنى الخزرج وتلكم جميلة زين النساء ... إذا هى تزدان للمخرج إذا جئتها بذلت ودها ... بوجه منير لها أبلج قال: وكانت جميلة أعلم خلق الله بالغناء. وكان معبد يقول: أصل الغناء جميلة وفرعه نحن، ولولا جميلة لم نكن نحن مغنّين. قال: وسئلت جميلة: أنّى لك هذا الغناء؟ قالت: والله ما هو إلهام ولا تعليم، ولكنّ أبا جعفر سائب خاثر كان جارنا، وكنت أسمعه يغنّى ويضرب بالعود فلا أفهمه، فأخذت تلك النغمات وبنيت عليها غنائى، فجاءت أجود من تأليف ذلك الغناء، فعلمت وألقيت؛ فسمعنى مولياتى يوما وأنا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 41 أغنّى سرّا، ففهمننى ودخلن علىّ وقلن: قد علمنا ما تكتمين وأقسمن علىّ؛ فرفعت صوتى وغنيّتهن بشعر زهير بن أبى سلمى: وما ذكرتك إلا هجت لى طربا ... إنّ المحبّ ببعض الأمر معذور ليس المحبّ كمن إن شطّ غيّره ... هجر الحبيب، وفى الهجران تغيير فحينئذ شاع أمرى وظهر ذكرى وقصدنى الناس وجلست للتعليم؛ فكان الجوارى يكثرن عندى، وربما انصرف أكثرهن ولم يأخذن شيئا سوى [1] ما سمعننى أطارح غيرهن، وقد كسبت لموالىّ ما لم يخطر لهم ببال، وأهل [2] ذلك كانوا وكنت. وقد أقرّ لجميلة كلّ مكىّ ومدنىّ من المغنّين. قال: ولما قدم ابن سريح والغريض وابن مسجح وسلم بن محرز المدينة واجتمعوا هم ومعبد وابن عائشة حكّموها بينهم؛ واجتمعوا عندها، وصنع كل منهم صوتا وغناه بحضرتها- وقد ذكر الأصفهانىّ الأصوات- فلما سمعت الأصوات قالت: كلّكم محسن مجيد فى غنائه ومذهبه. قال ابن عائشة: ليس هذا بمقنع. قالت: أمّا أنت يا أبا يحيى فتضحك الثّكلى بحسن صوتك ومشاكلته النفوس. وأمّا أنت يا أبا عبّاد فنسيج وحده بتأليفك [3] وحسن نظمك وعذوبة غنائك. وأمّا أنت يا أبا عثمان فلك أوّليّة هذ الأمر وفضله. وأمّا أنت يا أبا جعفر فمع الخلفاء تصلح. وأمّا أنت يا أبا الخطّاب فلو قدّمت أحدا على نفسى لقدّمتك. وأمّا أنت يا مولى العبلات فلو ابتدأت قدّمتك عليهم. ثم سألوها جميعا أن تغنّيهم لحنا كما غنّوا، فغنّتهم، فكلهم أقرّوا لها وفضّلوها. وكانت جميلة قد آلت أنها لا تغنّى أحدا إلا فى منزلها. فكان عبد الله بن جعفر   [1] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «ولم يأخذن شيئا مما سمعننى» . [2] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «وأصل» . [3] فى الأغانى: «بجودة تأليفك» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 42 يأتيها فى مجلسها فيجلس عندها وتغنّيه. فأرادت أن تكفّر عن يمينها وتأتيه فتغنّيه فى بيته؛ فقال: لا أكلّفك ذلك. وروى الأصفهانىّ أنّ ابن أبى عتيق وابن أبى ربيعة والأحوص بن محمد الأنصارىّ أتوا منزل جميلة واستأذنوا عليها فأذنت لهم. فلما جلسوا سألت عن عمر، فقال لها: إنى قصدتك من مكة للسلام عليك؛ فقالت: أهل الفضل أنت. قال: وقد أحببت أن تفرّغى لنا نفسك اليوم وتخلى مجلسك؛ قالت: أفعل. فقال لها الأحوص: أحبّ ألّا تغنّى إلا بما نسألك؛ فقالت: ليس المجلس لك، القوم شركاؤك؛ فقال: أجل. قال عمر: فإنى أرى أن نجعل الخيار إليها. قال ابن أبى عتيق: وفّقك الله. فدعت بعود فغنّت: تمشى الهوينى إذا مشت فضلا ... مشى النّزيف [1] المخمور فى الصّعد تظلّ من بعد بيت جارتها ... واضعة كفّها على الكبد يا من لقلب متيّم سدم ... عان رهين مكلّم كمد أزجره وهو غير منزجر ... عنها بطرف مكحّل السّهد قال راوى هذه الحكاية: فلقد سمعت للبيت زلزلة وللدار همهمة. فقال عمر: لله درّك يا جميلة! ماذا أعطيت! أنت أوّل الغناء وآخره! ثم سكتت ساعة وأخذت العود فغنّت، فطرب القوم وصفّقوا بأيديهم وفحصوا بأرجلهم وحرّكوا رءوسهم، وقالوا: نحن فداؤك من المكروه، ما أحسن ما غنيّت وأجمل ما قلت!. وأحضر الغداء فتغدّى القوم بأنواع من الأطعمة ومن الفواكه، ثم دعت بأنواع الأشربة؛ فقال عمر: لا أشرب، وقال ابن أبى عتيق مثل ذلك؛ فقال الأحوص: لكنّى   [1] النزيف: السكران. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 43 أشرب، وما جزاء جميلة أن يمتنع من شرابها! فقال عمر: ليس ذاك كما ظننت. فقالت جميلة: من شاء أن يحملنى بنفسه ويخلط روحه بروحى فعل، ومن أبى ذلك عذرناه، ولم يمنعه ذلك عندنا ما يريد من قضاء حوائجه والأنس بمحادثته. قال ابن أبى عتيق: ما يحسن بنا إلا مساعدتك. فقال عمر: إنى لا أكون أخسّكم، افعلوا ما شئتم تجدونى سامعا مطيعا. فشرب القوم أجمع؛ فغنّت بشعر ابن أبى ربيعة: ولقد قالت لجارات لها ... كالمها يلعبن فى حجرتها خذن عنى الظلّ لا يتبعنى ... ومضت تسعى إلى قبّتها لم تعلّق رجلا فيما مضى ... طفلة غيداء فى حلّتها لم يطش قطّ لها سهم ومن ... ترمه لا ينج من رميتها فصاح عمر ثم شقّ جيب قميصه إلى أسفله، ثم ثاب اليه عقله فندم واعتذر وقال: لم أملك من نفسى شيئا. وقال القوم: قد أصابنا الذى أصابك وأغمى علينا غير أننا قد فارقناك فى تخريق الثّياب. فدعت جميلة بثياب فجعلتها على عمر فقبلها ولبسها، وانصرف القوم إلى منازلهم. وكان عمر نازلا على ابن أبى عتيق، فوجّه إلى جميلة بعشرة آلاف درهم وعشرة أثواب كانت معه فقبلتها جميلة، وانصرف عمر إلى مكة جذلان مسرورا. وروى أبو الفرج بأسانيد رفعها إلى يونس الكاتب والزبير بن بكّار عن عمه مصعب قالا: حجّت جميلة فخرج معها من الرجال المغنّين والنساء والأشراف وغيرهم جماعة ذكرهم أبو الفرج، منهم من المغنّين هنب وطويس والدّلال ومعبد ومالك بن أبى السّمح وابن عائشة ونافع الخير ونافع بن طنبورة وغير هؤلاء ممن ذكرهم؛ ومن النساء المغنّيات جماعة ذكرهنّ: منهن الفرهة وعزّة الميلاء وحبابة وسلّامة وخليدة وعقيلة والشّماسيّة وفرعة ونبيلة ولذّة العيش وسعيدة والزّرقاء؛ ومن غير المغنّين من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 44 الأشراف ابن أبى عتيق والأحوص وكثيّر عزّة ونصيب؛ وجماعة من الأشراف الرجال والنساء. وحج معها من القيان مشيّعات لها ومعظّمات لقدرها خمسون قينة وجّه بهنّ مواليهنّ معها وأعطوهنّ النفقات وحملوهنّ على الإبل فى الهوادج والقباب وغير ذلك؛ فأبت جميلة أن تنفق واحدة منهنّ درهما فما فوقه حتى يرجعن. قال: وتخاير من خزج معها فى اتخاذ أنواع اللّباس العجيب والهوادج والقباب. قال: ولما قاربوا مكة تلقّاهم سعيد بن مسجح وابن سريج والغريض وابن محرز والهذليّون وجماعة من المغنّين من أهل مكة وفتيان كثير [1] ؛ ومن غير المغنّين عمر بن أبى ربيعة والحارث ابن خالد المخزومىّ والعرجىّ وجماعة من الأشراف. فدخلت جميلة مكة وما بالحجاز مغنّ حاذق ولا مغنيّة إلا وهو معها وجماعة من الأشراف [ممن سمّينا وغيرهم من الرجال والنساء، وخرج أبناء أهل مكة من [2]] الرجال والنساء ينظرون إلى جمعها وحسن هيئتهم. فلما قضت حجّها سألها المكيّون أن تجعل لهم مجلسا؛ فقالت: للغناء أم للحديث؟ فقالوا: لهما جميعا. قالت: ما كنت لأخلط جدّا بهزل، وأبت أن تجلس للغناء. فقال عمر بن أبى ربيعة: أقسمت على من كان فى قلبه حبّ لسماع غنائها إلا خرج معها إلى المدينة، فإنى خارج معها. فخرجت فى جمع كثير من الأشراف وغيرهم أكثر من جمعها بالمدينة. فلما قدمت المدينة تلقّاها الناس والأشراف من الرجال والنساء، فدخلت بأحسن مما خرجت منها، وخرج الرجال والنساء فوقفوا على أبواب دورهم ينظرون إلى جمعها وإلى القادمين معها. فلما دخلت إلى منزلها وتفرّق الناس إلى منازلهم ونزل أهل مكة على أقاربهم وإخوانهم، أتاها الناس مسلّمين، وما استنكف من ذلك صغير ولا كبير. فلما مضى لمقدمها عشرة أيام جلست للغناء، وقالت لعمر بن أبى ربيعة: إنى جالسة لك ولأصحابك، فإذا شئت فعد الناس.   [1] فى الأغانى: «وقيان كثيرة لم يسمين» . [2] زيادة عن «الأغانى» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 45 فغصّت الدار بالأشراف من الرجال والنساء، وابتدأت جميلة فغنّت بشعر لعمر بن أبى ربيعة: هيهات من أمة الرّحمن منزلنا [1] ... إذا حللنا بسيف البحر من عدن واحتلّ أهلك أجيادا فليس لنا [2] ... إلا التّذكّر أو حظّ [3] من الحزن لو أنها أبصرت بالجزع عبرته ... وقد تغرّد قمرىّ على فنن إذا رأت غير ما ظنّت بصاحبها ... وأيقنت أنّ لحجا ليس من وطنى ما أنس لا أنس يوم الخيف موقفها ... وموقفى وكلانا ثمّ ذو شجن وقولها للثّريّا وهى باكية ... والدمع منها على الخدّين ذو سنن بالله قولى له من غير معتبة ... ماذا أردت بطول المكث فى اليمن إن كنت حاولت دنيا أو ظفرت [4] بها ... فما أصبت بترك الحج من ثمن فكلهم استحسن الغناء، وضجّ القوم لحسن ما سمعوا، وبكى عمر حتى جرت دموعه على ثيابه ولحيته. ثم أقبلت على ابن سريج فقالت: هات، فغنّى صوته بشعر لعمر: أليست بالّتى قالت ... لمولاة لها ظهرا أشيرى بالسّلام له ... إذا ما نحونا نظرا وقولى فى ملاطفة ... لزينب نولّى عمرا وهذا سحرك النّسوا ... ن قد خبّرننى الخبرا   [1] كذا فى الأغانى وديوان عمر بن أبى ربيعة. وفى الأصل: «منزلها» . [2] كذا فى الأغانى والديوان. وفى الأصل: «فليس لهم» . [3] كذا فى الأغانى والديوان. وفى الأصل: «همّ» . [4] فى الأصل: إن كنت حاولت دينا أو نعمت به الجزء: 5 ¦ الصفحة: 46 ثم قالت لسعيد بن مسجح: هات يا أبا عثمان، فاندفع فغنّى. ثم قالت: يا معبد هات، فاندفع فغنّى فاستحسنته. ثم قالت: هات يابن محرز، فإنى لم أؤخّرك لخساسة بك ولا جهلا بالذى يجب فى [1] الصناعة، ولكنى رأيتك تحبّ من الأمور كلّها أوسطها وأعدلها. فجعلتك حيث تحب واسطة بين المكيّين والمدنيّين، فغنّى. ثم قالت للغريض: هات يا مولى العبلات؛ فغنّى بشعر عمرو بن شأس الأبيات، وفى آخرها: أرادت عرارا بالهوان ومن يرد ... عرارا لعمرى بالهوان فقد ظلم فقالت: أحسن عمرو بن شأس ولم تحسن، إذ أفسدت غناءك بالتعريض، وو الله ما وضعناك إلا موضعك ولا نقصناك من حظّك، فبماذا أهنّاك! ثم أقبلت على الجماعة فقالت: يا هؤلاء اصدقوه وعرّفوه نفسه ليقنع [2] بمكانه. فأقبل القوم عليه وقالوا: يا أبا زيد، قد أخطأت إن كنت عرّضت. فقال: قد كان ذلك، ولست بعائد؛ وقام إلى جميلة فقبّل طرف ثوبها واعتذر، فقبلت عذره وقالت: لا تعد، وأقبلت على ابن عائشة فقالت: يا أبا جعفر، هات، فغنّى، فقالت: حسن ما قلت. ثم أقبلت على نافع وبديح فقالت: أحبّ أن تغنيّا جميعا بصوت ولحن واحد، فغنيا. ثم أقبلت على الهذلّيين الثلاثة فقالت: غنّوا صوتا واحدا، فاندفعوا فغنّوا. ثم أقبلت على نافع بن طنبورة فقالت: هات يا نقش الغضارة ويا حسن اللسان؛ فاندفع فغنّى، فقالت: حسن والله. ثم قالت: يا مالك هات، فإنى لم أؤخّرك لأنك فى طبقة آخرهم، ولكن أردت أن أختم بك، يومنا تبرّكا بك، وكى يكون أوّل مجلسنا كآخره ووسطه كطرفه؛ فإنك عندى ومعبدا فى طريقة واحدة ومذهب واحد،   [1] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «من الصناعة» . [2] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «ليقع» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 47 لا يدفع ذلك إلا ظالم ولا ينكره إلا عاضل للحق، والحقّ أقول، فمن شاء أن ينكر؛ فسكت القوم كلهم إقرارا بما قالت. فاندفع فغنّى: عدوّ لمن عادت وسلم لسلمها ... ومن قرّبت سلمى أحبّ وقرّبا هبينى امرأ إمّا بريئا ظلمته ... وإمّا مسيئا تاب بعد وأعتبا أقول التماس العذر لمّا ظلمتنى ... وحمّلتنى ذنبا وما كنت مذنبا ليهنك إشمات العدوّ بهجرنا ... وقطعك حبل الودّ حتى تقضّبا فقالت جميلة: يا مالك، ليت صوتك قد دام لنا ودمنا له! وقطعت المجلس، وانصرف عامّة الناس وبقى خواصّهم. قال: ولما كان فى اليوم الثانى حضر القوم جميعا. فقالت لطويس: هات يا أبا عبد النّعيم، فغنّى: قد طال ليلى وعادنى طربى ... من حبّ خود كريمة الحسب غرّاء مثل الهلال آنسة ... أو مثل تمثال صورة الذّهب صادت فؤادى بجيد مغزلة ... ترعى رياضا ملتفّة العشب فقالت جميلة: حسن والله يا أبا عبد النعيم. ثم قالت للدّلال: هات يا أبا يزيد، فغنّى، فاستحسنت غناءه. ثم قالت لهنب: إنا نجلّك اليوم لكبر سنّك ورقّة عظمك؛ فقال: أجل. ثم قالت لبرد الفؤاد ونومة الضّحى: هاتيا جميعا لحنا واحدا، فغنيّا، فقالت: أحسنتما. ثم قالت لفند وزجة [1] وهبة الله: هاتوا جميعا صوتا واحدا، إنكم متفقون فى الأصوات؛ فاندفعوا فغنّوا. ثم غنّت جميلة بشعر الأعشى: بانت سعاد وأمسى حبلها انقطعا ... واحتلّت الغور فالجدّين فالفرعا واستنكرتنى وما كان الذى نكرت ... من الحوادث إلا الشّيب والصّلعا   [1] فى الأغانى: «رحمة» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 48 تقول بنتى وقد قرّبت مرتحلا ... يا ربّ جنّب أبى الأوصاب والوجعا وكان شىء إلى شىء فغيّره ... دهر ملحّ على تفريق ما جمعا قال: فلم يسمع شىء أحسن من ابتدائها بالأمس وختمها فى اليوم؛ وقطعت المجلس وانصرف قوم وأقام آخرون. فلما كان فى اليوم الثالث اجتمع الناس فضربت ستارة وأجلست الجوارى، فضربن كلّهنّ، وضربت هى فضربت على خمسين وترا فزلزلت الدار. ثم غنّت على عودها وهنّ يضربن على ضربها: فإن خفيت كانت لعينك قرّة ... وإن تبد يوما لم يعمّمك عارها من الخفرات البيض لم تر غلظة ... وفى الحسب الضّخم الرفيع نجارها فما روضة بالحزن طيّبة الثّرى ... يمجّ النّدى جثجاثها وعرارها بأطيب من فيها إذا جئت موهنا ... وقد أوقدت بالمندل الرّطيب نارها فدمعت أعين كثير منهم حتى بلّوا ثيابهم وتنفّسوا الصّعداء، وقالوا: بأنفسنا أنت يا جميلة! ثم قالت للجوارى: اكففن فكففن؛ وقالت: يا عزّ غنّى، فغنّت بشعر لعمر: تذكّرت هندا وأعصارها ... ولم تقض نفسك أوطارها تذكّرت النفس ما قد مضى ... وهاجت على العين عوّارها لتمنح رامة منّا الهوى ... وترعى لرامة أسرارها إذا لم نزرها حذار العدا ... حسدنا على الزّور زوّارها فقالت جميلة: يا عزّ، إنك لباقية على الدهر، فهنيئا لك حسن هذا الصوت مع جودة هذا الغناء. ثم قالت لحبابة وسلّامة: هاتيا لحنا واحدا، فغنّتا فاستحسن غناؤهما. ثم أقبلت على خليدة فقالت: بنفسى أنت! غنّى فغنّت، فاستحسن منها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 49 ما غنّت. ثم قالت لعقيلة والشّمّاسيّة: هاتيا، فغنّتا. ثم قالت لفرعة ونبيلة ونديمة ولذة العيش هاتين، فغنّين، فقالت: أحسنتنّ. وقالت لسعيدة والزّرقاء: غنيا، فغنّتا. ثم قالت للجماعة فغنّوا؛ وانقضى المجلس وعاد كل إنسان إلى وطنه. فما رئى مجلس ولا جمع أحسن من هذه الأيام الثلاثة. وقد ذكر أبو الفرج ما غنّى به كل واحد منهم فأوردنا بعضه وتركنا بعضه اختصارا. وأخبار جميلة كثيرة، قد ذكر منها أبو الفرج الأصفهانىّ جملة تدلّ على أنها كانت مبجّلة عند الأشراف معظّمة عند المغنّين؛ يأخذون عنها ويأتمرون بأمرها، ويسعون إليها، وينطقون إذا استنطقتهم، ويكفّون إذا استكفّتهم؛ وفيما قدّمناه دلالة على ذلك والله أعلم. ذكر أخبار عزّة الميلاء قال أبو الفرج الأصفهانىّ: كانت عزّة مولاة للأنصار، ومسكنها المدينة، وهى أقدم من غنّى الغناء الموقع من نساء الحجاز، وماتت قبل جميلة. قال: وقد أخذ عنها معبد ومالك بن أبى السّمح وابن محرز وغيرهم من المكيّين والمدنيّين. وكانت من أجمل النساء وجها وأحسنهنّ جسما. وسمّيت الميلاء لتمايلها فى مشيتها. وقال معبد: كانت من أحسن النساء ضربا [1] بعود، مطبوعة على الغناء، لا يعييها أداؤه ولا صنعته ولا تأليفه، وكانت تغنّى أغانى القيان القدماء [2] مثل شيرين وزرياب وخولة والرّباب وسلمى ورائقة [3] ؛ وكانت رائقة أستاذتها. فلما قدم نشيط وسائب؛   [1] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «صوتا بعود» . [2] فى الأغانى: «من القدائم» . [3] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «ورائعة» بالعين المهملة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 50 خاثر المدينة غنيّا أغانى بالفارسيّة [1] ، فأخذت عزّة عنهما نغما وألّفت [2] عليها ألحانا عجيبة؛ فهى أوّل من فتن أهل المدينة بالغناء وحرّض رجالهم ونساءهم عليه. وقال الزّبيرىّ. وجدت مشايخ أهل المدينة إذا ذكروا عزّة قالوا: لله درّها! ما كان أحسن غناءها، وأطلّ صوتها، وأندى حلقها، وأحسن ضربها بالمزاهر والمعازف وسائر الملاهى، وأجمل وجهها، وأظرف لسانها، وأقرب مجلسها، وأكرم خلقها، وأسخى نفسها، وأحسن مساعدتها!. وكانت جميلة تقول مثل ذلك فيها. وكان ابن سريح فى حداثة سنّه يأتى المدينة فيأخذ عنها ويتعلّم منها؛ وكان بها معجبا، وكان إذا سئل: من أحسن الناس غناء؟ قال: مولاة الأنصار المتفضّلة على كل من غنّى وضرب بالمعازف والعيدان من الرجال والنساء. وكان ابن محرز يقيم بمكة ثلاثة أشهر ثم يأتى المدينة فيقيم بها ثلاثة أشهر من أجل عزّة، وكان يأخذ عنها. وقد تقدّم ذلك فى أخباره. وكان طويس أكثر ما يأوى إلى منزل عزّة، وكان فى جوارها، وكان إذا ذكرها يقول: هى سيّدة من غنّى من النساء، مع جمال بارع، وخلق فاضل، وإسلام لا يشوبه دنس؛ تأمر بالخير وهى من أهله، وتنهى عن الشرّ وهى تجانبه، فناهيك بها! ما كان أنبلها وأنبل مجلسها!. ثم قال: كانت إذا جلست جلوسا عامّا فكأنّ الطير على رءوس أهل مجلسها، فمن تكلّم أو تحرّك نقر رأسه. وقال صالح بن حسّان الأنصارىّ: كانت عزّة مولاة لنا، وكانت عفيفة جميلة. وكان عبد الله بن جعفر وابن أبى عتيق وعمر بن عبد الله بن أبى ربيعة يغشونها   [1] كذا بالأغانى. وفى الأصل: «أغانى الفارسية» . [2] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «وألقت عليهما» الخ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 51 فى منزلها فتغنّيهم. وغنّت عمر بن أبى ربيعة لحنا لها فى شىء من شعره، فشقّ ثيابه وصاح صيحة عظيمة صعق معها. فلما أفاق قال له القوم: لغيرك الجهل يا أبا الخطّاب؛ قال: إنى سمعت والله ما لم أملك معه نفسى ولا عقلى. وكان حسّان بن ثابت معجبا بها، وكان يقدّمها على سائر قيان المدينة. وقد ذكرنا خبرها مع النعمان بن بشير وحسّان بن ثابت، وأن كلّ واحد منهما سمع غناءها، فبكى حسّان بن ثابت واستعاد النعمان بن بشير صوتها مرارا؛ وتقدّم أيضا من أخبارها فى خبر عائشة بنت طلحة وأخبار جميلة ما يستغنى عن إعادته فى هذا الموضع. فلنذكر من سواها. ذكر أخبار سلّامة القسّ كانت سلّامة القسّ هذه مولّدة من مولّدات المدينة، وبها نشأت، وأخذت الغناء عن معبد وابن عائشة وجميلة ومالك بن أبى السّمح ومن دونهم، فمهرت فيه. وإنما سمّيت سلّامة القسّ لأنّ رجلا يعرف بعبد الرحمن بن أبى عمّار بن جشم بن معاوية- وكان منزله بمكة، وهو من قرّاء أهل المدينة، كان يلقّب بالقسّ لعبادته- شغف بها وشهر بحبها. وكان سبب ذلك أنه سمع غناءها على غير تعمّد منه فبلغ منه كلّ مبلغ. فرآه مولاها فقال: هل لك أن تدخل فتسمع؟ فأبى. فقال له مولاها: أنا أقعدها حيث تسمع غناءها ولا تراها. فلم يزل به حتى دخل، فأسمعه غناءها فأعجبه. فقال: هل لك أن أخرجها إليك؟ قال لا. فلم يزل به حتى أخرجها فأقعدها بين يديه، فغنّت فشغف بها وشغفت به وعرف ذلك أهل مكة. فقالت له يوما: أنا والله أحبّك. فقال: وأنا والله الذى لا إله إلا هو أحبّك. فقالت: والله أشتهى أن أعانقك وأقبّلك. فقال: والله وأنا أشتهى مثل ذلك. قالت: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 52 وأشتهى والله أن أضاجعك وأضع بطنى على بطنك وصدرى على صدرك قال: وأنا والله كذلك. قالت: فما يمنعك من ذلك؟ والله إنّ المكان لخال. قال: يمنعنى منه قول الله عزّ وجل: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ، فأنا أكره أن تحول مودّتى إياك عداوة يوم القيامة. ثم قام وانصرف وعاد إلى ما كان عليه من النّسك، ولم يعد إليها بعد ذلك. وكان يشبّه بعطاء بن أبى رباج. وله فيها أشعار كثيرة، منها قوله: إنّ التى طرقتك بين ركائب ... تمشى بمزهرها وأنت حرام لتصيد قلبك أو جزاء مودّة ... إنّ الرّفيق له عليك ذمام باتت تعلّلنا وتحسب أننا ... فى ذاك أيقاظ ونحن نيام حتى إذا سطع الضياء لناظر ... فإذا وذلك [1] بيننا أحلام قد كنت أعذل فى السّفاهة أهلها ... فاعجب لما تأتى به الأيام فاليوم أعذرهم وأعلم أنما ... سبل الضّلالة والهدى أقسام وقوله أيضا فيها: ألم ترها- لا يبعد الله دارها- ... إذا رجّعت فى صوتها كيف تصنع! تمدّ نظام القول ثم تردّه ... إلى صلصل من صوتها يترجّع وقوله فيها: ألا قل لهذا القلب هل أنت مبصر ... وهل أنت عن سلّامة اليوم مقصر ألا ليت أنّى حيث صارت بى النّوى ... جليس لسلمى كلّما عجّ مزهر   [1] كذا فى الأصل. ولعلها: «فاذا بذلك» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 53 وله من قصيدة طويلة أوّلها: سلّام هل لى منكم ناصر ... أم هل لقلبى عنكم زاجر قد سمع الناس بوجدى بكم ... فمنهم اللائم والعاذر فى أشعار كثيرة يطول الشرح بذكرها. ومدحها الأحوص أيضا بشعر كثير. وقال فيها أيضا ابن قيس الرّقيّات. وروى أبو الفرج الأصفهانىّ قال: كانت سلّامة وريّا أختين، وكانتا من أجمل النساء وأحسنهنّ غناء؛ فاجتمع الأحوص وابن قيس الرقيّات عندهما. فقال لهما ابن قيس الرقيّات: إنى أريد أن أمدحكما بأبيات فأصدق فيها و [لا [1]] أكذب. فإن أنتما غنيّتمانى بذلك وإلّا هجوتكما ولم أقربكما أبدا. قالتا: فما قلت؟ قال: قلت: لقد فتنت ريّا وسلّامة القسّا ... فلم يتركا للقسّ عقلا ولا نفسا فتاتان أمّا منهما فشبيهة ال ... هلال وأخرى منهما تشبه الشمسا تكنّان أبشارا رقاقا وأوجها ... عتاقا وأطرافا مخضّبة ملسا فغنّته سلّامة فاستحسنه. وقال ابن قيس الرقيّات للأحوص: يا أخا الأنصار، ما قلت؟ قال قلت: سلّام هل لمتيّم تنويل ... أم قد صرمت وغال ودّك غول لا تصرمى عنّى ولاءك إنه ... حسن لدىّ وإن بخلت جميل أزعمت أنّ مودّتى وصبابتى ... كذب وأنّ زيارتى تقليل [2] فغنّت الأبيات. فقال ابن قيس الرقيّات: أحسنت والله! ما أظنك إلا عاشقة لهذا الجلف. فقال له الأحوص: وما الذى أخرجك إلى هذا؟ قال: حسن غنائها   [1] التكملة عن الأغانى. [2] فى الأغانى: «تعليل» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 54 بشعرك، فلولا أنّ لك فى قلبها محبّة مفرطة ما جاء هكذا [1] حسنا على هذه البديهة. فقال الأحوص: على قدر حسن شعرى على شعرك هكذا حسن الغناء به. وما هذا [منك] [2] إلا حسد، وليس ذلك إلا ما حسدت عليه. فقالت سلّامة: لولا أنّ الدخول بينكما يوجب بغضة لحكمت بينكما حكومة لا يردّها أحد. قال الأحوص: فأنت [من ذلك [2]] آمنة. قال ابن قيس الرقيّات: كلّا! قد أمنت أن تكون الحكومة عليك، فلذلك سبقت بالأمان لها. فتفرّقا على ذلك. ثم مشى ابن قيس الرقيّات إلى الأحوص فاعتذر إليه فقبل عذره. ومن شعر الأحوص فيها: سلّام إنّك قد ملكت فأسجحى ... قد يملك الحرّ الكريم فيسجح منّى على عان أطلت عناءه ... فى الغلّ عندك والعناة تسرّح إنّى لأنصحكم وأعلم أنه ... سيّان عندك من يغشّ وينصح وإذا شكوت إلى سلامة حبّها ... قالت أجدّ منك ذا أم تمزح وحكى أبو الفرج قال: لمّا قدم عثمان بن حيّان المرّى المدينة واليا عليها، قال له قوم من وجوه الناس: إنك قد وليت المدينة على كثرة من الفساد؛ فإن كنت تريد أن تصلح فطهّرها من الغناء والرّثاء [3] . فصاح فى ذلك وأجّل أهله ثلاثا يخرجون فيها من المدينة، وكان ابن أبى عتيق غائبا، وكان من أهل الفضل والعفاف والصلاح. فلما كان آخر ليلة من الأجل قدم فقال: لا أدخل منزلى حتى أدخل على سلّامة القسّ. فدخل عليها فقال: ما دخلت منزلى حتى جئتكم لأسلّم عليكم. فقالوا: ما أغفلك عن أمرنا! وأخبروه الخبر. فقال: اصبروا علىّ الليلة. فقالوا: نخاف ألّا يمكنك شىء.   [1] كذا فى الأغانى. وفى الأصل،: «ما جاء هذا ... » . [2] زيادة عن الأغانى. [3] فى الأغانى: «والزنا» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 55 قال: إن خفتم شيئا فاخرجوا فى السحر. ثم خرج فاستأذن على عثمان بن حيّان فأذن له، فسلّم عليه وذكر غيبته وأنه جاء ليقضى حقّه، ثم جزاه خيرا على ما فعل من إخراج أهل الغناء والرّثاء، وقال: أرجو ألّا تكون [عملت [1]] عملا هو خير لك من ذلك. قال عثمان: قد فعلت ذلك وأشار علىّ به أصحابك. فقال: قد أصبت، ولكن ما تقول فى امرأة كانت هذه صناعتها وكانت تكره على ذلك، ثم تركته وأقبلت على الصلاة والصيام والخير، وأنا رسولها إليك تقول: أتوجه إليك وأعوذ بك أن تخرجنى من جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسجده؛ قال قال: فإنى أدعها لك ولكلامك. فقال ابن أبى عتيق: لا يدعك الناس، ولكن تأتيك وتسمع من كلامها وتنظر إليها، فإن رأيت أن مثلها ينبغى أن يترك تركتها؛ قال نعم فجاءه بها. وقال: احملى معك سبحة وتخشّعى ففعلت. فلما دخلت على عثمان سلّمت عليه وجلست وحدّثته، فإذا هى من أعلم الناس بأمور الناس، فأعجب بها؛ وحدّثته عن آبائه وأمورهم ففكه لذلك فقال ابن أبى عتيق: اقرئى للأمير. فقرأت؛ فقال لها: احدى ففعلت. وكثر عجبه منها. فقال: كيف لو سمعتها فى صناعتها! فلم يزل ينزله شيئا فشيئا حتى أمرها بالغناء فغنّته. فقام عثمان من مجلسه وقعد بين يديها، ثم قال: لا والله ما مثل هذه تخرج. فقال ابن أبى عتيق: لا يدعك الناس تقرّ سلّامة وتخرج غيرها. قال: فدعوهم جميعا. فتركهم جميعا وأصبح الناس يتحدّثون بذلك. ثم اشترى يزيد بن عبد الملك سلّامة، وكانت لمصعب بن سهيل الزّهرىّ، وقيل: لسهيل بن عبد الرحمن بن عوف. وكانت حبابة جارية آل لاحق؛ فاشتراهما جميعا؛ فاشترى سلّامة بعشرين ألف درهم، وتسلّمها رسل يزيد فخرجوا بها وشيعّها   [1] زيادة عن الأغانى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 56 الناس. فلما نزلت سقاية سليمان بن عبد الملك قالت للرّسل: إنّ لى قوما كانوا يغشوننى ويسلّمون علىّ، ولا بدّ لى من وداعهم والسلام عليهم؛ فأذن للناس عليها، فأتوا حتى ملؤا رحبة القصر والفناء؛ ووقفت هى بينهم بارزة ومعها العود فغنّت: فارقونى وقد علمت يقينا ... ما لمن ذاق ميتة من إياب إنّ أهل الحصاب قد تركونى ... موزعا مولعا بأهل الحصاب أهل بيت تتايعوا [1] للمنايا ... ما على الدّهر بعدهم من عتاب كم بذاك الحجون من حىّ صدق ... من كهول أعفّة وشباب سكنوا الجزع جزع بيت أبى مو ... سى إلى النخل من صفىّ السّباب فلى الويل بعدهم وعليهم ... صرت فردا وملّنى أصحابى قال: فلم تزل تردّد هذا الصوت حتى راحت، وانتحب الناس بالبكاء عند ركوبها؛ فما شئت أن ترى باكيا نبيلا إلا رأيته. قالوا: وكانت حبابة عند يزيد متقدّمة على سلّامة، وكانت حبابة تنظر الى سلّامة بتلك العين الجليلة المتقدّمة وتعرف فضلها عليها؛ فلما رأت أثرة يزيد لها ومحبّته إيّاها استخفّت بها. فقالت لها سلّامة: أى أخيّة، نسيت فضلى عليك! ويلك! أين تأديب الغناء! أين حق التعليم! أنسيت قول جميلة لك وهى تطارحنا: خذى إحكام ما أطارحك من أختك سلّامة، فلا تزالين بخير ما بقيت لك وكان أمركما مؤتلفا!. فقالت: صدقت والله لا عدت لشىء تكرهينه أبدا. وماتت حبابة وعاشت سلّامة بعدها دهرا.   [1] كذا فى ديوانه والأغانى ج 1 ص 321 طبع دار الكتب المصرية. وفى الأصول: «تتابعوا» بالباء الموحدة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 57 ولما مات يزيد أحضرها ابنه الوليد وأمرها بالغناء، فتنغصّت من ذلك وبكت، ثم غنّته. فقال: رحم الله أبى وأطال عمرى وأمتعنى بحسن غنائك!. يا سلّامة، بم كان أبى يقدّم حبابة عليك؟ قالت: لا أدرى والله. قال: لكننى أدرى ذلك، بما قسم الله عزّ وجلّ لها. قالت: يا سيّدى أجل. وهى إحدى من اتّهم بهنّ الوليد من جوارى أبيه. ذكر أخبار حبابة كانت حبابة جارية مولّدة من مولّدات المدينة لرجل من أهلها يعرف بابن دبابة، [1] وقيل: بل كانت لآل لا حق المكيّين، وقيل: كانت لرجل يعرف بابن مينا. وكانت تسمّى العالية [2] ، فسماها يزيد بن عبد الملك لما اشتراها حبابة. وكانت حلوة جميلة الوجه ظريفة حسنة الغناء طيّبة الصوت ضاربة بالعود. أخذت الغناء عن ابن سريج وابن محرز ومالك بن أبى السّمح ومعبد وعن جميلة وعزّة الميلاء. وكان يزيد بن عبد الملك يقول: ما تقرّ عينى بما [3] أوتيت من الخلافة حتى أشترى سلّامة جارية مصعب بن سليم وحبابة جارية ابن لاحق المكيّة. فأرسل فاشتريتا له. فلما اجتمعتا عنده قال: أنا الآن كما قال الأوّل: فألقت عصاها واستقرّ بها النّوى ... كما قرّ عينا بالإياب المسافر وكان يزيد بن عبد الملك فى خلافة أخيه سليمان قد قدم المدينة فتزوّج سعدة بنت عبد الله بن عمرو بن عثمان على عشرين ألف دينار، وربيحة بنت محمد بن على ابن عبد الله بن جعفر بن أبى طالب على مثل ذلك، واشترى العالية [2] بأربعة آلاف   [1] فى الأغانى: «يعرف بابن رمانة وقيل: ابن مينا وهو خرجها وأدّبها» . [2] كذا فى الأغانى طبع بولاق والطبرى طبع ألمانيا. وفى الأصل: «الغالية» بالغين المعجمة. [3] كذا فى الأغانى، وفى الأصل: «لم يقر عينى ما أوتيت الخ» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 58 دينار. فبلغ ذلك سليمان فقال: لأحجرنّ عليه. فبلغ يزيد ذلك فاستقال مولى حبابة؛ ثم اشتراها بعد ذلك رجل من أهل إفريقية. فلما ولى يزيد اشترتها سعدة امرأته وعلمت أنه لا بدّ طالبها ومشتريها. فلما حصلت عندها قالت له: هل بقى عليك شىء من الدنيا لم تنله؟ قال: نعم، العالية. قالت: أو رأيتها؟ قال نعم. قالت: أفتعرفها؟ قال نعم. فرفعت الستر فرآها، فقالت: هذه هى؟ قال نعم؛ قالت: هى لك، وخرجت عنهما. فسمّاها حبابة وعظم قدر سعدة عنده. ويقال: إنها أخذت عليها قبل أن تهبها له أن توطّئ لابنها عنده فى ولاية العهد. قال: وارتفع قدر حبابة عند يزيد وتمكّن حبّها فى قلبه تمكنا عظيما. وكان أوّل ذلك أنه أقبل يوما الى البيت الذى هى فيه فقام من وراء الستر فسمعها تترنّم وتغنّى: كان لى يا يزيد حبّك حينا ... كاد يقضى علىّ لمّا التقينا فرفع الستر فوجدها مضطجعة مقبلة على الجدار، فعلم أنها لم تعلم به ولم يكن ذلك لمكانه؛ فألقى نفسه عليها وحرّكت منه. قال: وأراد يزيد بن عبد الملك أن يتشبّه بعمر بن عبد العزيز، وقال: بماذا صار عمر أرجى لربه منى!. وقيل: بل لامه مسلمة بن عبد الملك على الإلحاح على الغناء والشرب، وقال له: إنك وليت بعقب عمر بن عبد العزيز وعدله، وقد تشاغلت بهذه الإماء عن النظر فى الأمور، والوفود ببابك وأصحاب الظّلامات يصيحون وأنت غافل! قال: صدقت والله، وهمّ أن يترك الشرب، ولم يدخل على حبابة أياما، فشقّ ذلك عليها فأرسلت الى الأحوص أن يقول أبياتا فى ذلك، فقال: ألا لا تلمه اليوم أن يتبلّدا ... فقد غلب المحزون أن يتجلّدا بكيت الصّبا جهدى فمن شاء لامنى ... ومن شاء آسى فى البكاء وأسعدا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 59 وإنّى وإن فنّدت فى طلب الصّبا ... لأعلم أنّى لست فى الحبّ أوحدا إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى ... فكن حجرا من يابس الصّخر جلمدا فما العيش إلا ما تلذّ وتشتهى ... وإن لام فيه ذو الشّنان وفنّدا قال: فلما كان فى يوم الجمعة تعرّضت له حبابة عند خروجه الى الصلاة، فلقيته والعود فى يدها، فغنّت البيت الأوّل، فغطى وجهه وقال: مه لا تفعلى. ثم غنّت «وما العيش إلا ما تلذّ وتشتهى» فعدل إليها وقال: صدقت، قبّح الله من لامنى فيك! يا غلام، مر مسلمة فليصلّ بالناس. وأقام معها يشرب وهى تغنيّه وعاد الى حاله، وقال لها: من يقول هذا الشعر؟ قالت: الأحوص. فاستدعاه واستنشده الشعر فأنشده الأبيات. ثم أنشده قصيدته التى أوّلها: يا موقد النّار بالعلياء من إضم ... أوقد فقد هجت شوقا غير منصرم وهى قصيدة طويلة، فقال له يزيد: ارفع حوائجك؛ فكتب إليه فى نحو أربعين ألف درهم من دين وغيره فأمر له بها. وقد قيل فى أمر هذه الأبيات: إن حبابة لمّا بعثت الى الأحوص فى عمل الشعر قالت له: إن رددت أمير المؤمنين عن رأيه فلك ألف دينار، فدخل الأحوص عليه واستأذنه فى الإنشاد؛ فقال: ليس هذا وقتك. فلم يزل به حتى أذن له فأنشده الأبيات. فلما سمعها وثب حتى دخل على حبابة وهو يتمثّل: وما العيش إلا ما تلذّ وتشتهى ... وإن لام فيه ذو الشّنان وفنّدا قالت: ما ذاك [1] يا أمير المؤمنين؟ فقال: أبيات أنشدنيها الأحوص، فسلي ما شئت. قالت: ألف دينار تعطيها الأحوص؛ فأعطاه ألف دينار.   [1] فى الأغانى: «فقالت ما ردّك يا أمير المؤمنين» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 60 قال: وقال يزيد يوما لسلّامة وحبابة: أيّكما غنّتنى ما فى نفسى فلها حكمها. فغنّت سلّامة فلم تصب ما فى نفسه؛ وغنّت حبابة بشعر ابن قيس الرّقيّات: حلق من بنى كنانة حولى ... بفلسطين يسرعون الرّكوبا جزعت [1] أن رأت مشيبى عرسى ... لا تلومى ذوائبى أن تشيبا فأصابت ما فى نفسه، فقال: احتكمى. قالت: تهب لى سلّامة ومالها. قال: اطلبى غيرها؛ فأبت غيرها؛ فقال: أنت أولى بها ومالها، فلقيت سلّامة من ذلك أمرا عظيما. فقالت حبابة: لا ترين إلّا خيرا. فجاءها يزيد فسألها أن تبيعه إيّاها بحكمها. فقالت: أشهدك الآن أنها حرّة، فاخطبها الآن أزوّجك مولاتى. قال: وغنّت حبابة يوما يزيد: ما أحسن الجيد من مليكة والّ ... لبّات إذ زانها ترائبها يا ليتنى ليلة- إذا هجع النا ... س ونام الكلاب- صاحبها فى ليلة لا يرى بها أحد ... يسعى علينا إلّا كواكبها فطرب يزيد، وقال: هل رأيت قطّ أطرب منّى؟ قالت: نعم، ابن الطيار معاوية ابن عبد الرحمن بن جعفر. فكتب يزيد الى عبد الرحمن بن الضحّاك فحمله إليه. فلما قدم أرسلت إليه حبابة: إنما بعث إليك لكذا وكذا وأخبرته بالقصة؛ فإذا أدخلت عليه وتغنّيت فلا تظهرنّ طربا حتى أغنّى الصوت الذى غنيّته؛ فقال: سوءة على كبر السنّ! فدعاه يزيد وهو على طنفسة خزّ، ووضع لمعاوية مثلها، وجاءوا بجامين فيهما مسك، فوضع أحدهما بين يدى يزيد والآخر بين يدى معاوية. قال معاوية: فلم أدر كيف أصنع، فقلت: أنظر كيف يصنع فأصنع مثله؛ فكان يقلّبه فتفوح   [1] فى الأغانى: «هزئت» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 61 ريحه وأفعل مثل ذلك. فلما جىء بحبابة وغنّت، فلما غنّت ذلك الصوت أخذ معاوية الوسادة فوضعها على رأسه وقام يدور ويقول: الدّخن بالنّوى يعنى اللّوبيا! وأمر له يزيد بصلات فى دفعات مبلغها ثمانية آلاف دينار. وحكى أيضا أنها غنّت يوما يزيد فطرب، ثم قال: هل رأيت أطرب منّى؟ قالت: نعم، مولاى الذى باعنى. فغاظه ذلك، فكتب فى حمله مقيّدا. فلما وصل أمر يزيد بإدخاله عليه فأدخل يرسف فى قيوده، وأمر يزيد حبابة أن تغنّى فغنّت: تشطّ بنا دار جيراننا ... وللدّار بعد غد أبعد فوثب حتى ألقى نفسه على الشمعة فاحترقت لحيته، وجعل يصيح: الحريق يا أولاد الزنا! فضحك يزيد وقال: لعمرى إن هذا لأطرب [1] الناس! وأمر بحلّ قيوده ووصله بألف دينار ووصلته حبابة، وردّه الى المدينة. وروى أبو الفرج الأصفهانىّ بسنده الى غانم الأزدىّ قال: نزل يزيد بن عبد الملك ببيت رأس بالشأم ومعه حبابة، فقال: زعموا أنه لا يصفو لأحد يوما عيشه الى الليل لا يكدّره شىء عليه، وسأجرّب ذلك؛ ثم قال لمن معه: إذا كان غد لا تخبرونى بشىء ولا تأتونى بكتاب. وخلا هو وحبابة، فأتيا بما يأكلان، فأكلت رمّانة فشرقت بحبّة منها فماتت، فأقام لا يدفنها ثلاثا حتى تغيّرت وأنتنت وهو يشمّها ويرشفها. فعاتبه على ذلك ذووه وأقر باؤه وصديقه وعابوا عليه ما يصنع، وقالوا: قد صارت جيفة بين يديك، فأذن لهم فى غسلها ودفنها، فأخرجت فى نطع، وخرج معها لا يتكلّم حتى جلس على قبرها. فلما دفنت قال: أصبحت والله كما قال كثيّر:   [1] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «إن مثل هذا يطرب الناس» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 62 فإن تسل عنك النفس أو تدع الهوى ... فباليأس تسلو عنك لا بالتّجلّد وكلّ خليل راءنى فهو قائل ... من اجلك هذا هامة اليوم أو غد فما بقى إلا خمس عشرة ليلة ومات، فدفن الى جنبها. وروى أيضا عن مسلمة بن عبد الملك قال: لمّا ماتت حبابة جزع عليها يزيد، فجعلت أسكّنه وأعزّيه وهو ضارب بذقنه على صدره ما يكلّمنى حتى دفنها. فلمّا بلغ إلى بابه التفت إلىّ وقال: فإن تسل عنك النفس ... البيت، ثم دخل بيته فمكث أربعين يوما ثم هلك. قال: وروى المدائنىّ أنه اشتاق إليها بعد ثلاثة أيام من دفنه إيّاها؛ فقال: لا بدّ أن تنبش حتى أنظر إليها، فنبشت وكشف له عن وجهها وقد تغيّرت تغيّرا قبيحا، فقيل له: يا أمير المؤمنين، اتّق الله تعالى! ألا تراها كيف صارت! فقال: ما رأيت قطّ أحسن منها اليوم، أخرجوها. فجاء مسلمة ووجوه أهله [1] ، فلم يزالوا به حتى أزالوه عن ذلك ودفنوها؛ وانصرف، وكمد كمدا شديدا حتى مات، فدفن إلى جانبها. وروى عن عبد الله بن عروة بن الزّبير قال: خرجت مع أبى إلى الشأم زمن يزيد بن عبد الملك. فلما ماتت حبابة وأخرجت، لم يستطع يزيد الركوب من الجزع ولا المشى، فحمل على منبر على رقاب الرجال. فلمّا دفنت قال: لم أصلّ عليها، انبشوا عنها. فقال له مسلمة: ننشدك الله يا أمير المؤمنين، إنما هى أمة من الإماء وقد واراها الثرى. فلم يأذن للناس بعد حبابة إلا مرّة واحدة؛ قال: فو الله ما استتمّ دخول الناس حتى قال الحاجب: اخرجوا رحمكم الله. ولم ينشب يزيد أن مات كمدا.   [1] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «وركبه أهله» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 63 ذكر أخبار خليدة المكّيّة قال أبو الفرج: هى مولاة لابن شمّاس، كانت هى وعقيلة وربيحة يعرفن بالشّمّاسيّات. وقد أخذت الغناء عن ابن سريج ومالك ومعبد. وروى أبو الفرج بسنده إلى الفضل بن الربيع أنه قال: ما رأيت ابن جامع يطرب لغناء كما يطرب لغناء خليدة المكيّة. وكانت سوداء، وفيها يقول الشاعر: فتنت كاتب الأمير رباح ... يا لقومى خليدة المكّيّه وغنّت هشام بن عروة يوما، فلما سمعها قال: اكتبى على صدرك (قل هو الله أحد) وبين يديك المعوّذتين لا تصيبك العين. وقال عمر بن شبّة: بلغنى أنّ محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفّان أرسل إلى خليدة المكيّة أبا عون مولاه يخطبها عليه. فاستأذن فأذنت له وعليها ثياب رقاق لا تسترها، ثم وثبت فقالت: إنما ظننتك بعض سفهائنا، ولكنّنى ألبس لك ثياب مثلك ففعلت. وقال: قد أرسلنى إليك مولاى، وهو من تعلمين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن عثمان بن عفّان ومن علىّ وهو ابن عمّ أمير المؤمنين، يخطبك. قالت: قد نسبت فأبلغت، فاسمع نسبى أنا بأبى [أنت] [1] ! إن أبى بيع على غير عقد الإسلام ولا عهده، فعاش عبدا ومات فى رجله قيد وفى عنقه سلسلة على الإباق والسّرقة، وولدتنى أمى على غير رشدة وماتت وهى آبقة، فأنا من تعلم. فإن أراد صاحبك نكاحا مباحا أو زنا صراحا فهلمّ الينا فنحن له. فقال: إنه لا يدخل فى الحرام. فقالت: لا ينبغى أن يستحيى من الحلال، فأمّا نكاح السرّ فلا والله لا فعلته ولا كنت عارا على القيان. قال: فأتيت محمدا فأخبرته؛ فقال:   [1] التكملة عن الأغانى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 64 ويحك! أتزوّجها مغنّية وعندى بنت طلحة بن عبيد الله! لا! ولكن ارجع إليها فقل لها: تختلف إلىّ أردّد بصرى فيها لعلّى أسلو، فرجعت إليها فأبلغتها الرسالة فضحكت وقالت: أمّا هذا فنعم، لسنا نمنعه. ذكر أخبار متيّم الهشاميّة قال أبو الفرج: كانت متيّم مولّدة صفراء من مولّدات البصرة، وبها نشأت وتدرّبت [1] وغنّت. وأخذت عن إسحاق وأبيه قبله وعن طبقتهما من المغنّين. وكانت من تخريج بذل وتعليمها. واشتراها علىّ بن هشام بعد ذلك فازدادت أخذا ممن كان يغشاه من أكابر المغنّين. وكانت من أحسن الناس وجها وغناء وأدبا. وكانت تقول: الشعر ليس مما يستجاد ولكنه يستحسن من مثلها. وحظيت عند علىّ بن هشام حظوة شديدة، وتقدّمت جواريه جمع عنده، وهى أمّ ولده كلهم. حكى أبو الفرج قال: كان عند علىّ بن هشام برذون أشهب قرطاسىّ فى نهاية الحسن والفراهة وكان به معجبا، وكان إسحاق بن إبراهيم يشتهيه شهوة شديدة ويعرّض لعلىّ مرارا فى طلبه فلم يسمح به. فسار إسحاق إلى علىّ يوما وقد صنعت متيم: فلا زلن حسرى ظلّعا، لم حملنها ... إلى بلد ناء قليل الأصادق فاحتبسه علىّ وبعث إلى متيّم يأمرها أن تجعل صوتها فى صدر غنائها ففعلت، فأطربت إسحاق إطرابا شديدا، وجعل يستعيده ويستوفيه ليزيد فى طربه [2] وهو يصغى إليه ويتفهّمه حتى صحّ له. ثم قال لعلىّ: ما فعل البرذون الأشهب؟ قال: على ما عهدت من حسنه وفراهته. قال: اختر الآن منّى خلّة من اثنتين: إمّا أن   [1] فى الأغانى: «وتأدّبت» . [2] عبارة الأغانى: «وجعل يسترده فترده وتستوفيه ليزيد فى إطرابه إسحاق وهو يصغى ... » . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 65 طبت لى نفسا [به [1]] وحملتنى عليه، وإمّا أن أبيت فأدّعى والله هذا الصوت [لى [1]] وقد أخذته، أفتراك تقول: إنه لمتيّم وأقول: إنه لى، فيؤخذ قولك ويترك قولى؟ فقال: لا والله ما أظنّ هذا ولا أراه؛ يا غلام، قد البرذون إلى منزل إسحاق، لا بارك الله لك فيه!. وحكى أن علىّ بن هشام مولاها كلّمها بشىء فأجابته جوابا لم يرضه، فدفع [يده] فى صدرها، فغضبت ونهضت وتثاقلت عن الخروج إليه. فكتب إليها: فليت يدى بانت غداة مددتها ... إليك ولم ترجع بكفّ وساعد فإن يرجع الرحمن ما كان بيننا ... فلست إلى يوم التّنادى بعائد قال: وعتبت عليه مرّة فتمادى عتبها، فترضّاها فلم ترض، فكتب إليها: الإدلال يدعو إلى الملال، وربّ هجر دعا إلى صبر، وإنما سمّى القلب قلبا لتقلّبه؛ وقد صدق عندى العباس بن الأحنف حيث يقول: ما أرانى إلا سأهجر من لي ... س يرانى أقوى على الهجران ملّنى [2] واثقا بحسن وفائى ... ما أضرّ الوفاء بالإنسان قال: فخرجت إليه من وقتها ورضيت. وروى عن يحيى المكّى قال: قال لى علىّ بن هشام: لمّا قدمت جدّتى شاهك من خراسان، قالت: اعرض جواريك علىّ؛ فعرضتهن عليها. ثم جلسنا على الشراب وغنّتنا متيّم، فأطالت جدّتى الجلوس، فلم أنبسط إلى جوارى كما كنت أفعل، فقلت هذين البيتين: أنبقى على هذا وأنت قريبة ... وقد منع الزّوّار بعض التكلّم سلام عليكم لا سلام مودّع ... ولكن سلام من حبيب متيّم   [1] زيادة عن الأغانى. [2] فى الأغانى: قد حدا بى إلى الجفاء وفائى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 66 وكتبت بهما فى رقعة ورميتها إلى متيّم؛ فأخذتها ونهضت لصلاة الظهر، ثم عادت وقد صنعت فيه لحنا فغنّته. فقالت شاهك: ما أرانا إلا قد ثقّلنا عليكم اليوم؛ وأمرت الجوارى فحملوا محفّتها، وأمرت للجوارى بجوائز ساوت بينهن، وأمرت لمتيّم بمائة ألف درهم. قال: ومرّت متيّم فى نسوة وهى متخفّية بقصر على بن هشام بعد أن قتله المأمون. فلما رأت بابه مغلقا لا أنيس به وقد علاه التراب والغبرة وطرحت فى أفنيته المزابل وقفت عليه وتمثّلت: يا منزلا لم تبل أطلاله ... حاشى لأطلالك أن تبلى لم أبك أطلالك لكنّنى ... بكيت عيشى فيك إذ ولّى قد كان لى فيك هوى مرّة ... غيّبه الترب وما ملّا فصرت أبكى بعده جاهدا [1] ... عند ادّكارى حيث قد حلّا والعيش أولى ما بكاه الفتى ... لا بدّ للمحزون أن يسلى قال: ثم بكت حتى سقطت من قامتها، وجعل النسوة يناشدنها [ويقلن [2]] : الله الله فى نفسك! فإنك الآن تؤخذين. فبعد لأى مّا احتملت تتهادى بين امرأتين حتى جاوزت الموضع. وحكى عنها قالت: بعث إلىّ المعتصم بعد قدومه بغداد؛ فلما دخلت أمر بالعود فوضع فى حجرى، وأمرنى بالغناء فغنّيت: هل مسعد لبكائى ... بعبرة أو دماء وذاك شىء قليل ... لسادتى النّجباء   [1] فى الأغانى: «فصرت أبكى جاهدا فقده» . [2] زيادة عن «الأغانى» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 67 - وهذا الشعر لمراد جارية علىّ بن هشام ترثيه- فقال: اعدلى عن هذا الصوت؛ فغنيّت: ذهبت عن الدنيا وقد ذهبت عنّى فدمعت عيناه وقال: غنّى غير هذا؛ فغنيّت: أولئك قومى بعد عزّ وثروة [1] ... تفانوا فإلّا تذرف العين أكمد فبكى بكاء شديدا، ثم قال: ويحك! لا تغنّى فى هذا المعنى شيئا. فغنيّته: لا تأمن الموت فى حلّ وفى حرم ... إنّ المنايا بجنبى [2] كلّ إنسان واسلك طريقك هونا غير مكترث ... فسوف يأتيك ما يمنى لك المانى فقال: والله إنى لأعلم أنك إنما أردت بما غنيّت ما فى قلبك لصاحبك [وأنّك] لم تريدينى، ولو أعلم أنك تريديننى لقتلتك، ولكن خذوها! فأخذوا بيدى فأخرجت. وهذه متيّم هى التى كان يهواها عبد الصمد بن المعذّل، وأظنّ ذلك قبل اتصالها بعلىّ بن هشام، وهى إذ ذاك عند رجل من وجوه البصرة. قال: وكانت لا تخرج إلا متنقّبة. فحكى المبرّد وغيره: أنها قدمت يوما إلى ابن عبيد الله بن الحسين العنبرىّ القاضى، فآحتاج إلى أن يشهد عليها، فأمر بها أن تسفر ففعلت. فقيل لعبد الصمد: لو رأيت متيّم وقد أسفرها القاضى لرأيت شيئا عجيبا! فقال: ولمّا سرت عنها القناع متيّم ... تروّح منها العنبرىّ متيّما رأى ابن عبيد الله وهو محكّم ... عليها لها طرفا عليه محكّما   [1] فى الأغانى: «ومنعة» . [2] فى الأغانى: «تغشى» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 68 وكان قديما كالح الوجه عابسا ... فلما رأى منها السفور تبسّما فإن يصب قلب العنبرىّ فقبله ... صبا باليتامى قلب يحيى بن أكثما فبلغ قوله يحيى بن أكثم؛ فكتب إليه: عليك لعنة الله! أىّ شىء أردت منّى حتى أتانى شرّك من البصرة! فقال لرسوله: قل له: متيّم أقعدتك على طريق القافية. ذكر أخبار ساجى جارية عبيد الله بن عبد الله بن طاهر قال أبو الفرج: كانت ساجى إحدى المحسنات المبرّزات المتقدّمات، وهى تخريج مولاها عبيد الله. وكان مهما صنع من الغناء نسبه إليها، وكان قد بلغ من ذلك الغاية، ولكنه كان يترفّع عن ذكره ويكره أن ينسب إليه. حكى أبو الفرج عن أحمد بن جعفر جحظة قال: كتب المعتضد إلى عبيد الله ابن عبد الله بقمّ [1] أن يأمر جاريته ساجى بزيارته ففعل. قال جحظة: فحدّثنى من حضر ذلك المجلس من المغنيّات قالت: دخلت علينا وما فينا إلا من ترفل فى الحلىّ والحلل وهى فى أثواب ليست كأثوا بنا فاحتقرناها؛ فلما غنّت احتقرنا أنفسنا؛ ولم تزل تلك حالنا حتى صارت فى أعيننا كالجبل وصرنا كلا شىء. ولمّا انصرفت أمر لها المعتضد بمال وكسوة. ودخلت إلى مولاها فجعل يسألها عن خبرها وما رأت مما استظرفت وسمعت واستغربت؛ فقالت: ما استحسنت هناك شيئا ولا استغربته من غناء ولا غيره إلّا عودا من عود محفورا فإنى استظرفته. قال جحظة: فما قولك فيمن تدخل إلى دار الخليفة ولا تمدّ عينها إلى شىء تستظرفه وتستحسنه إلّا عودا!   [1] قم: مدينة كبيرة بين أصبهان وساوة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 69 قالوا: وكان المعتضد إذا استحسن شيئا بعث به إلى ساجى فتغنّى فيه. وكانت صنعتها فى عصره تسمّى غناء الدار. وماتت ساجى فى حياة مولاها وكان عليلا، فرثاها ببيتين فقال: يمينا يقينا لو بليت بفقدها ... وبى نبض عرق للحياة وللنّكس لأوشكت قتل النفس قبل فراقها ... ولكنها ماتت وقد ذهبت نفسى ذكر أخبار دقاق قال أبو الفرج: كانت دقاق مغنيّة محسنة متقنة الأداء والصنعة جميلة الوجه. أخذت الغناء عن أكابر مغنّى الدّولة العبّاسية. وكانت ليحيى بن الربيع، فولدت له ابنه أحمد. ومات يحيى فتزوّجت بعده بعدّة من القوّاد والكتّاب فماتوا وورثتهم، ثم انقطعت إلى حمدونة بنت الرشيد ثم إلى غضيض. وكانت مشهورة بالظّرف والمجون. قال هبة الله بن إبراهيم بن المهدىّ: وكانت تواصل جماعة كانوا يميلون إليها وترى كلّ واحد منهم أنها تهواه. وكانت أحسن أهل عصرها وجها وأشأمهم على من تزوّجها أو رابطها. فقال فيها إبراهيم بن المهدىّ: عدمتك يا صديقة كلّ خلق ... أكلّ الناس ويحك تعشقينا وكيف إذا خلطت الغثّ منهم ... بلحم سمينهم لا تبشمينا قال أبو هفّان: خرج يحيي بن الربيع إلى بعض النواحى وترك جاريته دقاق فى داره؛ فعملت [بعده [1]] الأوابد. فقال موسى [2] الأعمى [فيه [1]] :   [1] زيادة عن الأغانى. [2] فى الأغانى: «أبو موسى» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 70 قل ليحيى نعم صبرت على المو ... ت ولم تخش ريب سهم المنون كيف قل لى أطقت ويحك يا يح ... يى على الضّعف منك حمل القرون يشير بقوله: «سهم ريب المنون» إلى شؤمها. ذكر أخبار قلم الصالحيّة قال أبو الفرج الأصفهانىّ: كانت قلم الصالحيّة مولّدة صفراء حلوة حسنة الغناء والضّرب حاذقة، قد أخذت عن إبراهيم وابنه إسحاق ويحيى المكّى وزبير بن دحمان. وكانت لصالح بن عبد الوهاب [أخى أحمد بن عبد الوهاب [1]] كاتب صالح بن الرشيد، وقيل: بل كانت لابنه [2] . قال: وكانت لها صنعة يسيرة نحو عشرين صوتا، فاشتراها الواثق بعشرة آلاف دينار. قال أحمد بن الحسين بن هشام: كانت قلم إحدى المغنّيات المحسنات المتقدّمات، فغنّى بين يدى الواثق لحن لها فى شعر محمد بن كناسة، وهو: فىّ انقباض وحشمة فإذا ... صادفت أهل الوفاء والكرم أرسلت نفسى على سجيّتها ... وقلت ما قلت غير محتشم فسأل: لمن الصنعة؟ فقيل: لقلم الصالحيّة جارية صالح بن عبد الوهاب. فبعث إلى محمد بن عبد الملك الزّيات فأحضره وسأله: من صالح بن عبد الوهاب؟ فأخبره. قال: وأين هو؟ قال: ببغداد. قال: ابعث وأشخصه وليحضر معه جاريته قلم. فكتب فى إشخاصهما، فقدما على الواثق، فدخلت عليه، فأمرها بالجلوس والغناء، فغنّت فاستحسن غناءها وأمر بابتياعها. فقال صالح: أبيعها بمائة ألف دينار وولاية مصر. فغضب الواثق من ذلك وردّها اليه. ثم غنّى بعد ذلك زرزر الكبير فى مجلس   [1] زيادة عن الأغانى. [2] فى الأغانى «لأبيه» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 71 الواثق بشعر الغناء فيه لها؛ فقال الواثق: لمن هذا الغناء؟ فقال: لقلم الصالحيّة؛ فبعث إلى ابن الزيّات بإشخاصها ففعل، فدخلت على الواثق فأمرها بالغناء، فغنّته من صنعتها فأعجبه غناؤها، وبعث الى صالح فأحضره وقال له: إنّى قد رغبت فى هذه الجارية فاستم فى ثمنها سوما يجوز أن تعطاه. فقال: أمّا إذ وقعت الرغبة فيها من أمير المؤمنين فما يجوز أن أملك شيئا له فيه رغبة، وقد أهديتها الى أمير المؤمنين، فإنّ من حقها علىّ إذا تناهيت فى قضائه أن أصيّرها ملكه، فبارك الله له فيها. فقال الواثق: قد قبلتها، وأمر ابن الزيّات أن يدفع إليه خمسة آلاف دينار، وسمّاها اعتباطا. فلم يعطه ابن الزيّات المال ومطله به؛ فوجّه إلى قلم من أعلمها بذلك؛ فغنّت الواثق صوتا وقد اصطبح؛ فقال لها: بارك الله فيك وفيمن ربّاك. فقالت: يا سيّدى وما نفع من ربّانى منّى إلّا التعب والغرم والخروج منّى صفرا! فقال: أو لم نأمر له بخمسة آلاف دينار؟ قالت: بلى! ولكنّ ابن الزيّات لم يعطه شيئا. فدعا بخادم من خاصّة الخدم ووقعّ إلى ابن الزيّات بحمل خمسة آلاف الدينار إليه وبخمسة آلاف أخرى معها. قال صالح: فصرت مع الخادم إليه فقرّ بنى وقال: أمّا خمسة الالاف الأولى فقد حضرت، وخمسة الآلاف الأخرى أنا أدفعها اليك بعد جمعة. قال: فقمت، ثم تناسانى كأنه لم يعرفنى. فكتبت إليه أقتضيه؛ فبعث إلىّ: اكتب لى قبضا بها وخذها بعد جمعة. فكرهت أن أكتب إليه قبضا فلا يحصل لى شىء. قال: فاستترت فى منزل صديق لى. فلما بلغه استتارى خاف أن أشكوه إلى الواثق، فبعث إلىّ بالمال وأخذ كتابى بالقبض. قال: فابتعت بالمال ضيعة وتعلّقت بها وجعلتها معاشى، وقعدت عن عمل السلطان، فما تعرّضت لشىء بعدها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 72 ذكر أخبار بصبص جارية ابن نفيس قال أبو الفرج: كانت جارية من مولّدات المدينة حلوة الوجه حسنة الغناء، قد أخذت عن الطبقة الأولى من المغنّين. وكان يحيى بن نفيس مولاها صاحب قيان، يغشاه الأشراف ويسمعون غناء جواريه. ثم اشتريت للمهدىّ، وهو ولىّ عهد، بسبعة عشر ألف دينار. وقيل: إنها ولدت له عليّة بنت المهدىّ وقيل: أمّ عليّة غيرها. قال: وكان عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزّبير يأتيها فيسمع منها، وكان يأتيها فتيان قريش فيسمعون منها. فقال عبد الله بن مصعب حين قدم المنصور منصرفا إلى الحجّ ومرّ بالمدينة يذكر بصبص: أراحل أنت أبا جعفر ... من قبل أن تسمع من بصبصا هيهات أن تسمع منها إذا ... جاوزت العيس بك الأعوصا فخذ عليها مجلسى لذّة ... ومجلسا من قبل أن تشخصا أحلف بالله يمينا ومن ... يحلف بالله فقد أخلصا لو أنها تدعو إلى بيعة ... بايعتها ثم شققت العصا فبلغ الشعر أبا جعفر المنصور، فغضب ودعاه، ثم قال: أما إنكم يا آل الزبير قديما ما قادتكم [1] النساء وشققتم معهنّ العصا، حتى صرت أنت آخر الحمقى تبايع المغنيّات! فدونكم يا آل الزبير هذا المرتع الوخيم. وقال هارون بن محمد بن عبد الملك وهو ابن ذى الزوائد فيها: بصبص أنت الشمس مزدانة ... فإن تبدّلت فأنت الهلال سبحانك اللهمّ ما هكذا ... فيما مضى كان يكون الجمال   [1] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «كادتكم» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 73 إذا دعت بالعود فى مشهد ... وعاونت يمنى يديها الشّمال غنّت غناء يستفزّ الفتى ... حذقا وزان الحذق منها الدّلال قال: وهوى محمد بن عيسى الجعفرىّ بصبص فهام بها وطال ذلك عليه؛ فقال لصديق له: قد شغلتنى هذه عن صنعتى وكلّ أمرى، وقد وجدت مسّ السّلوّ عنها، فاذهب بنا إليها حتى أكاشفها ذلك وأستريح. فأتياها؛ فلما غنّتهما قال لها محمد بن عيسى: أتغنّين: وكنت أحبّكم فسلوت عنكم ... عليكم فى دياركم السّلام فقالت: لا، ولكنى أغنّى: تحمّل أهلها عنها فبانوا ... على آثار من ذهب العفاء قال: فاستحيا وازداد بها كلفا ولها عشقا؛ فأطرق ساعة ثم قال لها: أتغنّين: وأخضع بالعتبى إذا كنت مذنبا ... وإن أذنبت كنت الذى أتنصّل قالت: نعم، وأغنّى أحسن منه: فإن تقبلوا بالودّ نقبل بمثله ... وننزلكم منّا بأقرب منزل فتقاطعا فى بيتين وتواصلا فى بيتين، وما شعر بهما أحد. قال: وحضر أبو السائب المخزومىّ مجلسا فيه بصبص، فغنّت: قلبى حبيس عليك موقوف ... والعين عبرى والدمع مذروف والنفس فى حسرة بغصّتها ... قد شفّ أرجاءها التساويف إن كنت بالحسن قد وصفت لنا ... فإنّنى بالهوى لموصوف يا حسرتا حسرة أموت بها ... إن لم يكن لى إليك معروف قال: فطرب أبو السائب ونعر وقال: لا عرف الله من لا يعرف لك معروفك، ثم أخذ قناعها عن رأسها ووضعه على رأسه وجعل يبكى ويلطم ويقول الجزء: 5 ¦ الصفحة: 74 لها: بأبى أنت! والله إنى لأرجو أن تكونى عند الله أفضل من الشّهداء لما توليناه من السرور، وجعل يصيح: واغوثاه! يا لله ما يلقى العاشقون!. وقال عثمان بن محمد الليثىّ: كنت يوما فى منزل ابن نفيس، فخرجت إلينا جاريته بصبص، وكان فى القوم فتى يحبها، فسألته حاجة فقام ليأتيها بها، فنسى أن يلبس نعله ومضى حافيا. فقالت له: يا فلان، نسيت نعلك؛ فرجع فلبسها وقال: أنا والله كما قال الأوّل: وحبّك ينسينى عن الشىء فى يدى ... ويشغلنى عن كلّ شىء أحاوله فأجابته فقالت: وبى مثل ما تشكوه منّى وإنّنى ... لأشفق من حبّ لذاك تزايله ذكر أخبار جوارى ابن رامين وهنّ سلّامة الزّرقاء، وربيحة، وسعدة قال أبو الفرج: وابن رامين هو عبد الملك بن رامين مولى عبد الملك بن بشر ابن مروان. وكان له جوار مغنّيات مجيدات، وهنّ سلّامة الزرقاء، وربيحة، وسعدة. وفيهنّ يقول إسماعيل بن عمّار قصيدته التى أوّلها: هل من شفاء لقلب لجّ محزون ... صبا وصبّ إلى رئم ابن رامين إلى ربيحة إن الله فضّلها ... بحسنها وسماع ذى أفانين نعم شفاؤك منها أن تقول لها ... قتلتنى يوم دير اللّجّ [1] فآحيينى أنت الطبيب لداء قد تلبّس بى ... من الجوى فانفثى فى فىّ وارقينى نفسى تأبى لكم إلّا طواعية ... وأنت تحمين أنفا أن تطيعينى   [1] دير اللج: هو بالحيرة مما بناه النعمان بن المنذر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 75 ومنها: لم أنس سعدة والزّرقاء يومهما ... باللّجّ شرقيّه فوق الدكاكين يغنّيان ابن رامين ضحاءهما ... بالمسجحىّ وتشبيب المحبّين فما دعوت به فى عيش مملكة ... ولم نعش يومنا عيش المساكين وهى أبيات طويلة، وله فيهنّ غيرها. قال: واشترى جعفر بن سليمان بن علىّ سلّامة الزرقاء بثمانين ألف درهم؛ وقيل: إنه اشترى ربيحة بمائة ألف درهم، والأوّل أصح. وقيل: إنّ الذى اشترى ربيحة محمد بن سليمان، واشترى صالح بن علىّ سعدة بتسعين ألف درهم. وقيل: اشترى معن بن زائدة إحداهنّ. قال: وكانت سلّامة الزرقاء عاقلة شكلة. قال: ولمّا اشتراها جعفر ومضت لها مدّة عنده، سألها يوما: هل ظفر منك أحد قطّ ممن كان يهواك بخلوة أو قبلة؟ فخشيت أن يبلغه شىء كانت فعلته بحضرة جماعة أو يكون قد بلغه شىء، فقالت: لا والله إلا يزيد بن عون العبادىّ الصيرفى، فإنه قبّلنى قبلة وقذف فى فىّ لؤلؤة بعتها بثلاثين ألف درهم. فلم يزل جعفر بن سليمان يحتال له حتى وقع به فضربه بالسّياط حتى مات. وقد روى أبو الفرج الأصفهانىّ فى خبر يزيد بن عون هذا بسند رفعه إلى عبد الرحمن بن مقرون أنه اجتمع هو وروح بن حاتم عند ابن رامين، وأن الزرقاء خرجت عليهم فى إزار ورداء [قهويّين [1]] مورّدين، كأنّ الشمس طالعة بين رأسها وكعبها. قال: فغنّتنا ساعة؛ ثم جاء الخادم الذى كان يأذن لها- وكان الإذن عليها دون مولاها- فقام على الباب وهى تغنّى، حتى إذا قطعت الغناء نظرت إليه فقالت: مه! قال: يزيد بن عون العبادىّ الصيرفىّ الملقّب بالماجن على الباب. قالت:   [1] زيادة عن الأغانى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 76 ائذن له. فلما استقبلها طفر ثم أقعى بين يديها، فوجدت والله له، ورأيت أثر ذلك، وتنوّقت تنوّقا [1] خلاف ما كانت تفعل بنا. فأدخل يده فى ثوبه فأخرج لؤلؤتين فقال: انظرى يا زرقاء، جعلت فداك! ثم حلف أنه نقد فيهما بالأمس أربعين ألف درهم. قالت: فما أصنع بك؟ قال: أردت أن تعلمى. فغنّت صوتا ثم قالت: يا ماجن هبهما لى! قال: إن شئت والله فعلت. قالت: قد شئت. قال: فاليمين التى حلفت بها لازمة [لى [2]] إن أخذتهما إلا بشفتيك من شفتىّ. فقال ابن رامين للغلام: ضع لى ماء ثم خرج عنا؛ فقالت: هاتهما. فمشى على ركبتيه وكفّيه وهما بين شفتيه وقال: هاك؛ فلما ذهبت تتناولهما جعل يصدّ عنها يمينا وشمالا ليستكثر منها؛ فغمزت جارية على رأسها، فخرجت كأنها تريد حاجة ثم عطفت عليه؛ فلما دنا وذهب ليروغ دفعت منكبيه وأمسكتهما حتى أخذت الزرقاء اللؤلؤتين بشفتيها من فمه ورشح جبينها عرقا حياء منا. ثم تجلّدت علينا فأقبلت عليه [3] وقالت: المغبون فى استه عود. فقال: فأمّا أنا فلا أبالى، والله لا يزال طيب هذه الرائحة فى أنفى وفى ما حييت. قال: واجتمع عند ابن رامين معن بن زائدة وروح بن حاتم وابن المقفّع. فلما تغنّت الزّرقاء وسعدة بعث معن فجىء ببدرة فصبّها بين يديها، وبعث روح فجىء ببدرة فصبّها بين يديها، ولم تكن عند ابن المقفّع دراهم، فبعث فجاء بصكّ ضيعة، وقال: هذه عهدة ضيعتى خذيها، فأمّا الدراهم فما عندى منها شىء. وشربت زرقاء دواء فأهدى لها ابن المقفّع ألف درّاجة [4] . وعن إسحاق بن إبراهيم قال: كان روح بن حاتم بن المهلّب كثير الغشيان لمنزل ابن رامين، وكان يختلف إلى الزّرقاء، وكان محمد بن جميل يهواها وتهواه؛ فقال لها:   [1] تنوق فى الأمر: تأنق فيه. [2] زيادة عن الأغانى. [3] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «علينا» . [4] نوع من الطيور. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 77 إنّ روح بن حاتم قد ثقل علينا. قالت: فما أصنع وقد غمر مولاى ببرّه! قال: احتالى له. فبات عندهم روح ليلة، فأخذت سراويله وهو نائم فغسلته. فلما أصبح سأل عنه، فقالت: غسلناه. فظنّ أنه أحدث فيه فاحتيج إلى غسله فآستحيا من ذلك فانقطع عنهم؛ وخلا وجهها لابن جميل. ذكر أخبار عنان جارية الناطفى ّ قال أبو الفرج الأصفهانىّ: كانت عنان مولّدة من مولّدات اليمامة، وبها نشأت وتأدّبت، واشتراها الناطفىّ وربّاها. وكانت صفراء جميلة الوجه شكلة مليحة الأدب والشعر سريعة البديهة، وكان فحول الشعراء يساجلونها ويعارضونها فتنتصف منهم. ولها مع أبى نواس الحسن بن هانئ وغيره من الشعراء والفضلاء معاياة ومراجعات، نذكر منها طرفا. قال أبو حبش: قال لى النّاطفىّ: لو جئت إلى عنان فطارحتها! فعزمت على الغدوّ إليها، وبتّ ليلتى أحوك بيتين، ثم غدوت عليها فأنشدتها: أحبّ الملاح البيض قلبى وربّما ... أحبّ الملاح الصّفر من ولد الحبش بكيت على صفراء منهنّ مرّة ... بكاء أصاب العين منّى بالعمش فقالت عنان: بكيت عليها إنّ قلبى يحبّها ... وإنّ فؤادى كالجناحين ذو رعش تعنّيتنا بالشعر لمّا أتيتنا ... فدونك خذه محكما يا أبا حبش وقال مروان بن أبى حفصة: لقينى الناطفىّ فدعانى إلى عنان، فانطلقت معه. فدخل إليها قبلى فقال: جئتك بأشعر الناس مروان بن أبى حفصة؛ فوجدها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 78 عليلة فقالت: إنى عن مروان لفى شغل. فأهوى إليها بسوط فضربها، وقال لى: ادخل؛ فدخلت وهى تبكى، فرأيت الدموع تتحدّر من عينيها؛ فقلت: بكت عنان فجرى دمعها ... كالدّرّ إذ يسبق من خيطه فقالت مسرعة: فليت من يضربها ظالما ... تيبس يمناه على سوطه قال مروان: فقلت: أعتق ما أملك إن كان فى الجنّ والإنس أشعر منها. وقال أحمد بن معاوية قال لى رجل: تصفّحت كتبا فوجدت فيها بيتا جهدت جهدى أن أجد من يجيزه فلم أجد. فقال لى صديق لى: عليك بعنان جارية الناطفىّ؛ فأتيتها فأنشدتها البيت وهو: وما زال يشكو الحبّ حتى رأيته ... تنفّس من أحشائه وتكلّما فلم تلبث أن قالت: ويبكى فأبكى رحمة لبكائه، ... إذا ما بكى دمعا بكيت له دما وقال موسى بن عبد الله التميمىّ: دخل أبو نواس على الناطفىّ وعنان جالسة تبكى، وقد كان الناطفىّ ضربها، فأومأ إلى أبى نواس أن حرّكها بشىء؛ فقال أبو نواس: عنان لو جدت لى فإنّى من ... عمرى فى (آمن الرّسول [1] بما) فقالت: فإن تمادى ولا تماديت فى ... قطعك حبلى أكن كمن ختما فقال أبو نواس: علّقت من لو أتى على أنفس ال ... ماضين والغابرين ما ندما   [1] لعله يريد من اقتباس هذه الآية، وهى قبيل آخر سورة البقرة، أن يدل على أنه فى آخر مرحلة من حياته وأنه لم يبق من عمره إلا بمقدار ما تقع هذه الآية من السورة المذكورة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 79 فقالت: لو نظرت عينها إلى حجر ... ولّد فيه فتورها سقما وقال أبو جعفر النّخعىّ: كان العبّاس بن الأحنف يهوى عنان جارية الناطفىّ. فجاءنى يوما فقال لى: امض بنا إلى عنان. فصرنا إليها، فرأيتها كالمهاجرة له؛ فجلسنا قليلا؛ ثم ابتدأ العبّاس فقال: قال عبّاس وقد أج ... هد من وجد شديد ليس لى صبر على الهج ... ر ولا لذع الصّدود لا ولا يصبر للهج ... ر فؤاد من حديد فقالت عنان: من تراه كان أغنى ... منك عن هذا الصّدود بعد وصل لك منّى ... فيه إرغام الحسود! فاتّخذ للهجر إن شئ ... ت فؤادا من حديد ما رأيناك على ما ... كنت تجنى بجليد فقال عبّاس: لو تجودين لصبّ ... راح ذا وجد شديد وأخى جهل بما قد ... كان يجنى بالصّدود ليس من أحدث هجرا ... لصديق بسديد ليس منه الموت إن لم ... تصليه ببعيد قال: فقلت للعبّاس: ويحك! ما هذا الأمر؟ قال: أنا جنيت على نفسى بتتايهى عليها. فلم أبرح حتى ترضّيتها له. وقال الأصمعىّ: بعثت الىّ أمّ جعفر أنّ امير المؤمنين قد لهج بذكر هذه الجارية عنان، فإن صرفته عنها فلك حكمك. قال: فكنت أربع لأن أجد للقول الجزء: 5 ¦ الصفحة: 80 فيها موضعا فلا أجده ولا أقدم عليه هيبة له؛ إذ دخلت يوما فرأيت فى وجهه أثر الغضب فانخزلت. فقال: مالك يا أصمعىّ؟ قلت: رأيت فى وجه أمير المؤمنين أثر الغضب، فلعن الله من أغضبه! فقال: هذا الناطفىّ، والله لولا أنّى لم أجر فى حكم قطّ متعمّدا لجعلت على كل جبل منه قطعة! ومالى فى جاريته من أرب غير الشعر. قال الأصمعىّ: فذكرت رسالة أمّ جعفر فقلت: أجل، والله ما فيها غير الشعر، أفيسرّ أمير المؤمنين أن يجامع الفرزدق! فضحك حتى استلقى. واتّصل قولى بأمّ جعفر فأجزلت لى الجائزة. وقال يعقوب بن إبراهيم: طلب الرشيد من الناطفىّ جاريته، فأبى أن يبيعها بأقلّ من مائة ألف دينار. فقال الرشيد: أعطيك مائة ألف دينار على أن تأخذ الدينار بسبعة دراهم، فامتنع عليه، فأمر أن تحمل إليه. فذكروا أنها دخلت مجلسه فى هيئتها؛ فقال لها الرشيد ويلك! إن هذا قد اعتاص علىّ فى أمرك. فقالت: ما منعك أن توفيه وترضيه؟ فقال: ليس يقنع بما أعطيه، وأمرها بالانصراف. فتصدّق الناطفىّ حين رجعت إليه بثلاثين ألف درهم. فلم تزل فى قلب الرشيد حتى مات مولاها. فلما مات بعث الرشيد مسرورا الخادم، فأخرجها الى باب الكرخ وأقامها على سرير وعليها رداء سندىّ قد جلّلها، فنودى عليها فيمن يزيد بعد أن شاور الفقهاء فيها، فقالوا: هذه كبد رطبة وعلى الرجل دين، فأشاروا ببيعها. وكانت تقول وهى على المصطبة: أهان الله من أهاننى وأرذل من أرذلنى! فوكزها مسرور بيده. وبلغ بها مسرور مائتى ألف درهم؛ فجاء رجل فقال: علىّ زيادة خمسة وعشرين ألف درهم؛ فوكزه مسرور وقال: أتزيد على أمير المؤمنين! فبلغ بها مائتين وخمسين ألف درهم وأخذ مالها. قال: ولم يكن فيها عيب يعاب، فطلبوا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 81 لها عيبا لا تصيبها العين، فأوقعوا بخنصر رجلها فى ظفره شيئا. قال: وأولدها الرجل الذى اشتراها ولدين، ثم خرج بها الى خراسان فمات هناك وماتت بعده. ذكر أخبار شارية جارية إبراهيم بن المهدى ّ قال أبو الفرج: كانت شارية مولّدة من مولّدات البصرة. يقال: إنّ أباها كان من بنى سامة بن لؤىّ المعروفين ببنى ناجية، وإنه جحدها. وكانت أمّها أمة، فدخلت فى الرقّ. وقيل: إن أمّها كانت تدّعى أنها بنت محمد بن زيد من بنى سامة ابن لؤىّ، وقيل: إنها كانت تدّعى أنها من بنى زهرة، وقيل: بل سرقت فبيعت، فاشترتها امرأة من بنى هاشم فأدّبتها وعلّمتها الغناء، ثم اشتراها إبراهيم بن المهدىّ، فأخذت عنه غناءه كلّه أو أكثره. وبذلك يحتجّ من يقدّمها على عريب ويقول: إنّ إبراهيم خرّجها، وكان يأخذها بصحة الأداء لنفسه وبمعرفة ما يأخذها به؛ ولم تلق عريب ذلك، لأن المراكبىّ لم يكن يقارب إبراهيم فى العلم ولا يقاس به فى بعضه فضلا عن سائره. قال: ولما عرضتها مولاتها الهاشميّة للبيع ببغداد عرضت على إسحاق بن إبراهيم الموصلىّ فأعطى فيها ثلاثمائة دينار، ثم استغلاها بذلك ولم يردها. فجىء بها الى ابراهيم بن المهدىّ فساوم بها؛ فقالت له مولاتها: إن إسحاق بن إبراهيم أعطى بها ثلاثمائة دينار وأنت أحقّ بها. فقال: زنوا لها ما قالت فوزن لها. ثم دعا بقيّمته فقال: خذى هذه الجارية ولا تزيّنيها سنة، وقولى للجوارى يطرحن عليها. فلما كان بعد سنة أخرجت إليه، فنظر إليها وسمع منها؛ فأرسل إلى إسحاق بن إبراهيم؛ فلما أتاه أراه إيّاها وأسمعه غناءها، وقال: هذه جارية تباع، فبكم تأخذها لنفسك؟ قال إسحاق: آخذها بثلاثة آلاف دينار وهى رخيصة بها. فقال له إبراهيم: أتعرفها؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 82 قال لا. قال: هذه الجارية التى عرضتها الهاشميّة بثلاثمائة دينار فلم تقبلها. فعجب إسحاق من حالها وما صارت إليه. وقد حكى عن هبة الله بن إبراهيم بن المهدىّ أنها عرضت ببغداد على إبراهيم فأعجب بها إعجابا كبيرا، [فلم يزل يعطى بها حتى [1]] بلغت ثمانية آلاف درهم. قال: ولم يكن عند أبى درهم ولا دانق؛ فقال لى: ويحك! قد والله أعجبتنى هذه الجارية إعجابا شديدا، وليس عندنا شىء. فقلت له: بع ما تملكه حتى الخزف وتجمع ثمنها. فقال لى: [قد تذكّرت فى شىء [1]] ، اذهب إلى علىّ بن هشام فأقرئه منّى السلام، وقل له: قد عرضت على جارية وقد أخذت بمجامع قلبى، وليس عندى شىء، فأحبّ أن تقرضنى عشرة آلاف درهم. فقلت: إن ثمنها ثمانية آلاف درهم، فلم نكثر على الرجل بعشرة آلاف درهم! فقال: إذا اشتريتها بثمانية آلاف درهم فليس لنا بدّ من أن نكسوها ونقيم لها ما تحتاج إليه. قال: فصرت إلى علىّ بن هشام وأبلغته الرسالة؛ فدعا بوكيل له وقال: ادفع إلى خادمه عشرين ألف درهم، وقل له: أنا لا أصلك، ولكن هى لك حلال فى الدنيا والآخرة. قال: فصرت إلى أبى بالدراهم، فلو طلعت عليه بالخلافة لم تكن تعدل عنده تلك الدراهم. قال: وكانت أمّها خبيثة، وكانت كلما لم يعط إبراهيم ابنتها ما تشتهى ذهبت إلى عبد الوهاب بن علىّ، ودفعت إليه رقعة يوصلها إلى المعتصم تسأله أن تأخذ ابنتها من إبراهيم. وحكى عن يوسف بن إبراهيم المصرىّ صاحب إبراهيم بن المهدىّ أنّ إبراهيم وجّه به إلى عبد الوهاب بن علىّ فى حاجة كانت له. قال: فلقيته وانصرفت من عنده؛ فلم أخرج من دهليز عبد الوهاب حتى استقبلتنى امرأة؛ فلما نظرت فى وجهى   [1] زيادة عن الأغانى. وفى الأصل: «إعجابا كبيرا فبلغت» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 83 سترت وجهها، فأخبرنى شاكرىّ أن المرأة امّ شارية جارية إبراهيم. فبادرت إلى إبراهيم وقلت له: إنى رأيت أمّ شارية فى دار عبد الوهاب، وهى من تعلم، وما يفجؤك إلا حيلة قد أوقعتها. فقال لى: اشهدك أنّ جاريتى شارية صدقة على ميمونة بنت إبراهيم بن المهدىّ، ثم أشهد ابنه هبة الله على مثل ما أشهدنى، وأمرنى بالركوب إلى ابن أبى دواد وإحضار من قدر عليه من الشهود المعدّلين عنده؛ فأحضر أكثر من عشرين شاهدا. وأمر بإخراج شارية فاخرجت. فقال لها: استرى وجهك؛ فجزعت من ذلك، فأعلمها أنما أمرها بذلك لخير يريده لها ففعلت. فقال لها: تسمّى؛ فقالت: أنا أمتك. فقال لهم: تأمّلوا وجهها ففعلوا. ثم قال: فإنى أشهدكم أنها حرّة لوجه الله تعالى، وأنى قد تزوّجتها وأصدقتها عشرة آلاف درهم؛ يا شارية أرضيت؟ قالت: نعم يا سيّدى، قد رضيت، والحمد لله تعالى على ما أنعم به علىّ. فأمرها بالدخول، وأطعم الشهود وطيّبهم وانصرفوا. قال: فما أحسبهم تجاوزوا دار ابن أبى دواد حتى دخل علينا عبد الوهاب بن علىّ، فأقرأ عمّه سلام المعتصم، ثم قال له: يقول لك أمير المؤمنين: من المفترض علىّ طاعتك وصيانتك عن كلّ ما يسوءك، إذ كنت عمّى وصنو أبى. وقد رفعت [امرأة [1]] إلىّ قصّة ذكرت فيها أن شارية ابنتها، وأنها امرأة من قريش من بنى زهرة، واحتجّت بأنه لا تكون بنت امرأة من قريش أمة. فإن كانت هذه المرأة صادقة فى أنّ شارية بنتها، وأنها من بنى زهرة، فمن المحال أن تكون شارية أمة. والأشبه بك والأصلح إخراج شارية من دارك وتصيّرها عند من تثق به من أهلك، حتى يكشف عما قالته هذه المرأة. فإن ثبت ذلك أمرت من جعلتها عنده بإطلاقها، وكان فى ذلك الحظ لك فى دينك ومروءتك. وإن لم يصح ذلك   [1] التكملة عن الأغانى (ج 14 ص 110 طبع بولاق) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 84 أعيدت الجارية إليك وقد زال عنك القول الذى لا يليق بك ولا يحسن. فقال إبراهيم: فديتك، هب شارية بنت زهرة بن كلاب، أينكر على [ابن [1]] العباس بن عبد المطلب أن يكون بعلا لها؟! فقال عبد الوهاب لا. فقال: أبلغ أمير المؤمنين- أبقاه الله- السلام، وأخبره أنّ شارية حرّة، وأنى قد تزوّجتها بشهادة جماعة من العدول. وقد كان الشهود أعلموا ابن أبى دواد بالقصة، فركب إلى المعتصم وحدّثه بالحديث معجبا له منه؛ فقال: ضلّ سعى عبد الوهاب. ثم دخل عبد الوهاب على المعتصم. فلما رآه يمشى فى صحن الدار سدّ المعتصم أنفه وقال: يا عبد الوهاب، أنا أشمّ رائحة صوف محرق، وأحسب عمّى لم يقنعه ردّك على أذنك صوفة حتى أحرقها، فشممت رائحتها منك. فقال: الأمر على ما ظنّ أمير المؤمنين وأسمج. قال: ثم ابتاع إبراهيم من بنته ميمونة شارية بعشرة آلاف درهم وستر ذلك عنها؛ فكان عتقه إياها وهى فى ملك غيره، ثم ابتاعها من ميمونة فحلّت له، فكان يطؤها بملك اليمين وهى تتوهّم أنها زوجته. فلما توفّى طلبت شارية مشاركة أمّ محمد بنت خالد زوجة إبراهيم فى الثّمن، فأظهرت خبرها؛ فأمر المعتصم بابتياعها من ميمونة بخمسة آلاف وخمسمائة دينار فحوّلت الى داره، وكانت فى ملكه حتى توفّى. وقال ابن المعتز: وقد قيل: إنّ المعتصم ابتاعها بثلاثمائة دينار؛ وملكها إبراهيم ولها سبع سنين وربّاها تربية الولد. قال: وحدّثت شارية أنها كانت مع إبراهيم فى حرّاقة قد توسّط بها دجلة فى ليلة مقمرة، فاندفعت فغنّت: لقد حثّوا الجمال ليه ... ربوا منّا فلم يئلوا   [1] زيادة عن الأغانى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 85 فوثب إليها فأمسك فاها فقال: أنت والله أحسن من الغريض وجها وغناء، فما يؤمننى عليك! أمسكى. ويقال: إنها لم تضرب بالعود إلا فى أيام المتوكل لمّا اتّصل الشرّ بينها وبين عريب، فصارت تقعد بها عند الضرب، فضربت بعد ذلك. قال ابن المعتز: وحدّث محمد بن سهل بن عبد الكريم المعروف بسهل الأحول، وكان قاضى الكتّاب فى زمانه، كان يكتب لإبراهيم وكان ثقة، قال: أعطى المعتصم إبراهيم بشارية سبعين ألف دينار، فامتنع من بيعها. قال: فعاتبته على ذلك، فلم يجبنى بشىء. ثم دعانى بعد أيام وبين يديه مائدة لطيفة، فأحضر الغلام سفّودا فيه ثلاثة فراريج، فرمى إلىّ بواحدة فأكلتها وأكل اثنتين، ثم شرب رطلا وسقانى؛ ثم أتى بسفّود آخر ففعل كما فعل وشرب [كما شرب [1]] وسقانى؛ ثم ضرب ستر إلى جانبه فسمعت حركة العيدان؛ ثم قال: يا شارية تغنّى، فسمعت شيئا ذهب بعقلى. فقال: يا سهل، هى التى عاتبتنى فى أن أبيعها بسبعين ألف دينار، لا والله ولا هذه الساعة الواحدة بسبعين ألف دينار! وحكى عن عبيد الله بن عبد الله بن طاهر قال: أمرنى المعتز بالله ذات يوم بالمقام عنده فأقمت، ومدّت الستارة وخرج من كان يغنّى وراءها وفيهنّ شارية، ولم أكن سمعتها قبل ذلك فاستحسنت ما سمعت منها؛ وقال لى المعتز: يا عبيد الله، كيف ما تسمع منها عندك؟ فقلت: حظ العجب من هذا الغناء أكثر من حظ الطرب؛ فاستحسن ذلك، وأخبرها به فاستحسنته. قالوا: وكانت شارية أحسن الناس غناء منذ توفّى المعتصم إلى آخر خلافة الواثق. وقيل: إن إبراهيم بن المهدىّ لم يطأ شارية، وإن الذى افتضّها المعتصم. وكان إبراهيم يسمّى شارية بنتى.   [1] زيادة عن الأغانى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 86 وقال يعقوب بن بيان: كانت شارية لصالح بن وصيف. فلما بلغه رحيل موسى بن بغا من الجبل يريده بسبب قتل المعتز، أودع شارية جوهره، فظهر لها جوهر كثير بعد ذلك. فلما أوقع موسى بصالح استترت شارية عند هارون بن شعيب العكبرىّ، وكان أنظف خلق الله طعاما وأسراهم مائدة، وأوسخهم كلّ شىء بعد ذلك، وكان له بسرّ من رأى منزل وفيه بستان كبير، وكانت شارية تسمّيه أبى، وتزوره فى منزله فتحمل معها كل شىء تحتاج إليه حتى الحصير تقعد عليه. وكانت من أكرم الناس. عاشرها أبو الحسن علىّ بن الحسين عند هارون هذا، ثم أضاق [1] فى وقت فاقترض منها على غير رهن عشرة آلاف دينار فأقرضته، ومكثت أكثر من سنة ما أذكرته بها ولا طالبته بردّها. قال يعقوب بن بيان: وكان الناس بسرّ من رأى متحازبين، فقوم مع شارية، وقوم مع عريب، لا يدخل أصحاب هذه فى هؤلاء، ولا أصحاب هذه فى هؤلاء. وكان [أبو الصقر [2]] إسماعيل بن بلبل عريبيّا؛ فدعا علىّ بن الحسين يوم جمعة أبا الصقر وعنده عريب وجواريها. فاتصل الخبر بشارية فبعثت بجواريها إلى علىّ ابن الحسين بعد يوم أو يومين، وأمرت إحداهنّ- قال: وما أدرى [من [2]] هى: مهرجان أو مطرب أو قمرية، إلا أنها إحدى الثلاث- أن تغنّيه: لا تعودنّ بعدها ... فترى كيف أصنع فلما سمع الغناء ضحك وقال: لست أعود. قال: وكان المعتمد قد وثق بشارية فلم يكن يأكل إلا طعامها؛ فمكثت دهرا تعدّ له كلّ يوم جونتين، فكان طعامه منهما فى أيام المتوكل.   [1] يقال: أضاق الرجل اذا ذهب ماله وافتقر. [2] زيادة عن الأغانى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 87 وقال أبو الفرج: حدّثنى جحظة قال: كنت عند المعتمد يوما فغنّت شارية بشعر مولاها إبراهيم بن المهدىّ ولحنه: يا طول علّة قلبى المعتاد ... إلف الكرام وصحبة الأمجاد ما زلت آلف كلّ قرم ماجد ... متقدّم الآباء والأجداد فقال لها: أحسنت والله! فقالت: هذا غنائى وأنا عارية، فكيف لو كنت كاسية! فأمر لها بألف ثوب من جميع أصناف الثياب الخاصّة، فحمل ذلك إليها. فقال لى علىّ بن الحسين بن يحيى المنجم: اجعل انصرافك معى، ففعلت. فقال لى: هل بلغك أنّ خليفة أمر لمغنّية بمثل ما أمر به أمير المؤمنين اليوم لشارية؟ قلت لا. فأمر بإخراج سير الخلفاء، فأقبل بها الغلمان فى دفاتر عظام، فتصفّحناها كلها فما وجدنا أحدا قبله فعل مثل ذلك. انقضت أخبار شارية. ذكر أخبار بذل قال أبو الفرج: كانت بذل صفراء مولّدة من مولّدات المدينة وربّيت بالبصرة، وهى إحدى المحسنات المتقدّمات الموصوفات بكثرة الرواية. يقال: إنها كانت تغنّى ثلاثين ألف صوت. قال: ولها كتاب فى الأغانى منسوب الأصوات [غير مجنّس [1]] يشتمل على اثنى عشر ألف صوت، يقال: إنها عملته لعلىّ بن هشام. قال: وكانت حلوة الوجه ظريفة ضاربة متقدّمة. وابتاعها جعفر بن موسى الهادى؛ فأخذها منه محمد الأمين وأعطاه مالا جزيلا. وأخذت بذل عن أبى سعيد مولى فائد ودحمان وفليح وابن جامع وإبراهيم وطبقتهم.   [1] زيادة عن الأغانى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 88 وقال جحظة عن أبى حشيشة: وكانت أحسن الناس غناء فى دهرها، وكانت أستاذة كل محسن ومحسنة، وكانت أروى خلق الله للغناء. وكانت لجعفر بن موسى الهادى؛ فوصفت لمحمد الأمين، فبعث إلى جعفر فسأله أن يزيره إياها فأبى؛ فأتاه الأمين إلى منزله فسمع ما لم يسمع مثله قطّ؛ فقال لجعفر: يا أخى، بعنى هذه الجارية. فقال له: يا سيّدى، مثلى لا يبيع جارية. قال: هبها لى. قال: هى مدبّرة [1] . فاحتال الأمين عليه حتى أسكره وأمر بحمل بذل إلى الحرّاقة وانصرف بها. فلما أفاق جعفر سأل عنها، فأخبر بالخبر، فسكت. فبعث إليه محمد من الغد، فجاء وبذل جالسة فلم يقل شيئا. فلما أراد جعفر أن ينصرف قال الأمين: أوقروا حرّاقة ابن عمىّ دراهم فأوقرت، فكان مبلغ ذلك عشرين ألف ألف درهم. وبقيت بذل عند الأمين إلى أن قتل؛ ثم خرجت فكان ولد جعفر وولد الأمين يدّعون ولاءها؛ فلما ماتت ورثها ولد الأمين. وقال محمد بن الحسن الكاتب: إن الأمين وهبها من الجوهر ما لم يملك أحد مثله، فسلّم لها بعد مقتل الأمين، فكانت تبيع منه الشىء بعد الشىء بالمال العظيم؛ فكانت على ذلك مع ما يصل إليها من الخلفاء إلى أن ماتت وعندها منه بقية عظيمة. قال: ورغب إليها وجوه القوّاد والكتّاب والهاشمييّن فى التزويج فأبته، وأقامت على حالها حتى ماتت. وحكى أبو حشيشة قال: كنت يوما عند بذل وأنا غلام، وذلك فى أيّام المأمون وهو ببغداد، وهى فى طارمة [2] لها تمتشط؛ فخرجت إلى الباب فرأيت الموكب فظننت أنّ الخليفة يمرّ على ذلك الموضع؛ فرجعت إليها فقلت: يا سيّدتى، الخليفة يمرّ على   [1] دبر العبد اذا قال له: أنت حر بعد موتى. [2] الطارمة: بناء من خشب كالقبة. معرب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 89 بابك. فقالت: انظروا أىّ شىء هذا، إذ دخل بوّابها فقال: علىّ بن هشام بالباب. فقالت: وما أصنع به! فقامت إليها جاريتها وشيك [1] ، وكانت ترسلها إلى الخليفة وغيره فى حوائجها، فأكبّت على رجلها وقالت: الله! الله! أتحتجبين على علىّ بن هشام! فدعت بمنديل فطرحته على رأسها ولم تقم إليه. فقال: إنى جئتك بأمر سيّدى أمير المؤمنين، وذلك أنه سألنى عنك فقلت له: لم أرها منذ أيام؛ فقال: هى عليك غضبى، فبحياتى لا تدخل منزلك حتى تدخل إليها فتسترضيها!. فقالت: إن كنت جئتنا بأمر الخليفة فأنا أقوم، فقامت فقبّلت رأسه ويديه؛ وقعد ساعة وانصرف. فقالت: يا وشيك، هاتى الدواة وقرطاسا ففعلت، فجعلت تكتب فيه يومها وليلتها حتى كتبت اثنى عشر ألف صوت- وقيل: سبعة آلاف صوت- ثم كتبت إليه: يا علىّ بن هشام، تقول: استغنيت عن بذل بأربعة آلاف صوت أخذناها منها! وقد كتبت هذا وأنا ضجرة، فكيف لو فرّغت لك قلبى كلّه!. وختمت الكتاب وقالت لها: امضى به إليه. فما كان أسرع من أن جاء رسوله (خادم أسود يقال له مخارق) بالجواب يقول فيه: يا سيّدتى، لا والله ما قلت الذى بلغك، ولقد كذب علىّ عندك، إنما قلت: لا ينبغى أن يكرن فى الدنيا أكثر من أربعة آلاف صوت، وقد بعثت إلىّ بديوان لا أؤدّى شكرك عليه أبدا؛ وبعث إليها بعشرة آلاف درهم وتخوت فيها بزّ [2] ووشى وملح وتختا مطبقا فيه أنواع الطيب. وقيل: إن إبراهيم بن المهدىّ كان يعظّمها، ثم يرى أنه يستغنى عنها بنفسه. فصارت إليه، فدعت بعود فغنّت فى طريقة واحدة وانقطاع واحد وإصبع واحدة مائة صوت لم يعرف إبراهيم منها صوتا واحدا، ثم وضعت العود وانصرفت، ولم تدخل داره حتى طال طلبه لها وتضرّعه إليها فى الرجوع إليه.   [1] فى الأغانى (ج 15 ص 145 طبع بلاق) : «وشيكة» . [2] فى الأغانى: خز. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 90 وقال أحمد بن سعيد المالكىّ: إن إسحاق بن إبراهيم الموصلىّ خالف بذلا فى نسبة صوت غنّته بحضرة المأمون؛ فأمسكت عنه ساعة ثم غنّت ثلاثة أصوات فى الثقيل الثانى واحدا بعد واحد، وسألت إسحاق عن صانعها فلم يعرفه. فقالت للمأمون: هى والله لأبيه أخذتها من فيه، فإذا كان لا يعرف غناء أبيه فكيف يعرف غناء غيره! فاشتدّ ذلك على إسحاق حتى رئى ذلك فيه. وقال حماد بن إسحاق: غنّت بذل بين يدى أبى: إن ترينى ناحل البدن ... فلطول الهمّ والحزن كان ما أخشى بواحدتى ... ليته والله لم يكن قال: فطرب أبى طربا شديدا وشرب رطلا وقال لها: أحسنت يا بنتى، والله لا تغنّين صوتا إلا شربت عليه رطلا. انتهت أخبار بذل. ذكر أخبار ذات الخال قال أبو الفرج الأصبهانىّ: واسم ذات الخال خشف، وكانت لأبى الخطّاب النحاس المعروف بقرين مولى العبّاسة بنت المهدىّ. وكانت ذات الخال من أجمل النساء وأكملهنّ، وكان لها خال فوق شفتها العليا، وقيل: على خدّها. وكان إبراهيم الموصلى يتعشّقها، وله فيها أشعار كثيرة كان يقولها ويغنّى فيها حتى شهرها بشعره وغنائه. واتصل خبرها بالرشيد، فاشتراها بسبعين ألف درهم. فقال لها ذات يوم: أسألك عن شىء، فإن صدقتنى وإلا صدقنى غيرك وكذّبتك. قالت: أصدقك. قال: هل كان بينك وبين إبراهيم الموصلىّ شىء قط؟ وأنا أحلّفه أن يصدقنى. قال: فسكتت ساعة ثم قالت: نعم! مرّة واحدة؛ فأبغضها. وقال يوما فى مجلسه: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 91 أيّكم لا يبالى أن يكون كشخانا [1] حتى أهبه ذات الخال؟ فبدر حمويه الوصيف فقال: أنا؛ فوهبها له. ثم اشتاقها الرشيد يوما فقال: ويلك يا حمويه! وهبنا لك الجارية على أن تسمع غناءها وحدك! فقال: يا أمير المؤمنين، مر فيها بأمرك. قال: نحن عندك غدا. فمضى فآستعدّ لذلك واستعار لها من بعض الجوهريين بدنة [2] وعقودا ثمنها اثنا عشر ألف دينار، فأخرجها إلى الرشيد وهى عليها. فلما رآه أنكره وقال: ويلك يا حمويه! من أين لك هذا؟! ما ولّيتك عملا تكسب فيه مثله ولا وصل إليك منّى هذا القدر! فصدقه عن أمره، فبعث الرشيد إلى أصحاب الجوهر، فأحضرهم واشترى الجوهر منهم ووهبه لها، وحلف ألّا تسأله فى يومه ذلك حاجة إلّا قضاها؛ فسألته أن يولّى حمويه الحرب والخراج بفارس سبع سنين، ففعل ذلك وكتب له عهده بذلك، وشرط على ولىّ العهد أن يتممها له إن لم تتمّ فى حياته. قال الأصفهانىّ: ولإبراهيم الموصلىّ فى ذات الخال شعر كثير غنّى فيه. فمنه قوله: أذات الخال قد طال ... بمن أسقمته الوجع وليس إلى سواكم فى الّ ... ذى يلقى له فزع أما يمنعك الإسلا ... م من قتلى ولا الورع وما ينفكّ لى فيك ... هوى تغترّه خدع ومنها: جزى الله خيرا من كلفت بحبّه ... وليس به إلا التّموّه [1] من حبّى وقالوا قلوب الغانيات رقيقة ... فما بال ذات الخال قاسية القلب   [1] الكشخان: الديوث. [2] البدنة: قميص لا كمين له تلبسه النساء. [1] فى الأغانى (ج 15 ص 83 طبع بولاق) : «اتموّه» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 92 وقالوا لها هذا حبيبك معرضا ... فقالت لهم إعراضه أيسر الخطب فما هى إلا نظرة بتبسّم ... فتنشب رجلاه ويسقط للجنب وله فيها أشعار كثيرة غير ما أوردناه. ذكر أخبار دنانير البرمكيّة قال أبو الفرج: كانت دنانير مولاة يحيى بن خالد البرمكىّ، وكانت صفراء مولّدة، من أحسن الناس وجها، وأظرفهم وأكملهم أدبا، وأكثرهم رواية للغناء والشعر، ولها كتاب مجرّد فى الأغانى مشهور. وكان اعتمادها فى غنائها على ما أخذته من بذل، وهى خرّجتها؛ وقد أخذت أيضا عن الأكابر الذين أخذت بذل عنهم مثل فليح وإبراهيم وابن جامع وإسحاق ونظرائهم. وكانت تغنّى غناء إبراهيم فتحكيه فيه حتى لا يكون بينهما فرق؛ فكان يقول ليحيى: متى فقدتنى ودنانير باقية فما فقدتنى. وقال أحمد بن المكىّ: كانت دنانير لرجل من أهل المدينة، كان قد خرّجها وأدّبها، وكانت أروى الناس للغناء القديم، وكانت صفراء صادقة الملاحة. فلما رآها يحيى وقعت من قلبه موقعا فاشتراها. وشغف بها الرشيد حتى كان يصير إلى منزل مولاها فيسمعها، فألفها واشتدّ إعجابه بها، ووهب لها هبات سنيّة. منها أنه وهب لها فى ليلة عقدا قيمته ثلاثون ألف دينار، فردّته عليه فى مصادرة البرامكة بعد ذلك. وعرفت أمّ جعفر الخبر فشكته إلى عمومته وأهله، فصاروا جميعا اليه فعاتبوه؛ فقال: مالى فى هذه الجارية أرب فى نفسها، وإنما أربى فى غنائها؛ فاسمعوها، فإن استحقّت أن تؤلف لغنائها وإلّا فقولوا ما شئتم. فلمّا سمعوها عذروه؛ وعادوا إلى أمّ جعفر وأشاروا عليها ألّا تلحّ فى أمرها؛ فقبلت ذلك، وأهدت إلى الرشيد عشر جوار منهنّ أمّ المأمون وأمّ المعتصم وأمّ صالح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 93 وقال عمر بن شبّة: إنّ دنانير أصابتها العلّة الكلبية فكانت لا تصبر عن الطعام ساعة واحدة، وكان يحيى يتصدّق عنها فى كل يوم من شهر رمضان بألف دينار لأنها كانت لا تصومه. وبقيت عند البرامكة مدّة طويلة. وقال إسحاق وأحمد بن الطيّب: إنّ الرشيد دعا بدنانير بعد البرامكة، فأمرها أن تغنّى. فقالت: يا أمير المؤمنين، إنى آليت ألّا أغنّى بعد سيّدى أبدا. فغضب وأمر بصفعها فصفعت، وأقيمت على رجليها وأعطيت العود؛ فأخذته وهى تبكى أحرّ بكاء، واندفعت فغنّت: يا دار سلمى بنازح السّند ... من الثّنايا ومسقط اللّبد لمّا رأيت الديار قد درست ... أيقنت أنّ النعيم لم يعد قال: فرقّ لها الرشيد، وأمر بإطلاقها، فانصرفت. وقال أبو عبد الله بن حمدون: إنّ عقيدا مولى صالح بن الرشيد خطب دنانير وشغف بها فردّته؛ فاستشفع إليها بمولاه صالح بن الرشيد وببذل والحسن بن محرز فلم تجب، وأقامت على الوفاء لمولاها. فكتب اليها عقيد: يا دنانير قد تنكّر عقلى ... وتحيّرت بين وعد ومطل شغفى شافعى إليك وإلّا ... فاقتلينى إن كنت تهوين قتلى أنا بالله والأمير وما آ ... مل من موعد الحسين وبذل ما أحبّ الحياة يا حبّ إن لم ... يجمع الله عاجلا بك شملى فلم يعطفها ذلك عليه، ولم تزل على حالها حتى ماتت. ولعقيد هذا فيها أشعار فيها غناء. وكان عقيد حسن الغناء؛ وله فيها أصوات؛ منها قوله: هذى دنانير تنسانى وأذكرها ... وكيف تنسى محبّا ليس ينساها أعوذ بالله من هجران جارية ... أصبحت من حبّها أهذى بذكراها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 94 قد أكمل الحسن فى تركيب صورتها ... فارتجّ أسفلها واهتزّ أعلاها قامت لتمشى فليت الله صوّرنى ... ذاك التراب الذى مسّته رجلاها والله والله لو كانت، إذا برزت، ... نفس المتيّم فى كفّيه ألقاها ذكر أخبار عريب [1] المأمونيّة قال أبو الفرج الأصفهانىّ: كانت عريب مغنّية محسنة، وشاعرة صالحة الشعر، وكانت مليحة الخطّ والمذهب فى الكلام، ونهاية فى الحسن والجمال والظّرف وحسن الصوت وجودة الضّرب وإتقان الصّنعة والمعرفة بالنّغم والأوتار والرواية للشعر؛ لم يتعلّق بها أحد من نظرائها، ولا رئى فى النساء- بعد القيان الحجازيّات مثل جميلة وعزّة الميلاء وسلّامة الزرقاء ومن جرى مجراهنّ على قلّة عددهنّ- نظير لها. قال: وكان فيها من الفضائل التى وصفناها ما ليس لهنّ مما يكون فى مثلها من جوارى الخلفاء ومن نشأ فى قصور الخلفاء وغذى برقيق العيش الذى لا يدانيه عيش الحجاز والمنشأ بين العامّة والعرب الجفاة. قال: وقد شهد لها من لا تحتاج مع شهادته الى غيره؛ فروى عن حمّاد بن إسحاق قال قال أبى: ما رأيت امرأة أضرب من عريب، ولا أحسن صنعة ووجها، ولا أخفّ روحا، ولا أحسن خطابا بارعا، ولا أسرع جوابا، ولا ألعب بالشّطرنج والنّرد، ولا أجمع لخصلة   [1] ورد هذا الاسم مضبوطا فى الأغانى ج 21 ص 184 طبع ليدن والمحاسن والأضداد للجاحظ ص 199 طبع ليدن (بضم أوّله وفتح ثانيه) . ولكن رأينا فى الأغانى من الشعر ما يؤيد أن ضبطه بفتح أوّله وكسر ثانيه؛ ومن هذا الشعر: لقد ظلموك يا مظلوم لما ... أقاموك الرقيب على عريب ولو أولوك إنصافا وعدلا ... لما أخلوك أنت من الرقيب ومن هذا الشعر أيضا: قاتل الله عريبا ... فعلت فعلا عجيبا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 95 حسنة لم أرها فى امرأة غيرها قطّ. قال حماد: فذكرت ذلك ليحيى بن أكثم، فقال: صدق أبو محمد، هى كذلك. قلت: أفسمعتها؟ قال: نعم، هناك (يعنى فى دار المأمون) . قلت: أفكانت كما ذكر أبو محمد فى الحذق؟ قال يحيى: هذه مسئلة الجواب فيها على أبيك، هو أعلم منّى بها. فأخبرت أبى بذلك، فضحك ثم قال: أما استحييت من قاضى القضاة أن تسأله عن مثل هذا! وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلىّ: استدعانى المأمون يوما فدخلت عليه، فسألنى عن صوت وقال لى: أتدرى لمن هو؟ فقلت: أسمعه ثم أخبر أمير المؤمنين إن شاء الله بذلك. فأمر جارية من وراء السّتارة أن تغنّيه، فضربت فإذا هى قد شبّهته بالقديم؛ فقلت: زدنى معها عودا آخر، فإنه أثبت لى؛ فزادنى عودا آخر. فقلت: يا أمير المؤمنين، هذا صوت محدث لامرأة ضاربة. قال: من أين قلت ذلك؟ فقلت: إنى لمّا سمعت لينه عرفت أنه محدث من غناء النساء، ولمّا رأيت جودة مقاطعه علمت أنّ صاحبته ضاربة حفظت مقاطعه وأجزاءه، ثم طلبت عودا آخر فلم أشكّ. قال: صدقت، الغناء لعريب. وقال ابن المعتزّ: قال علىّ بن يحيى: أمرنى المعتمد على الله أن أجمع غناء عريب الذى صنعته، فأخذت منها دفاترها وصحفها التى كانت قد جمعت فيها غناءها، فكتبته فكان ألف صوت، وقد قيل أكثر من ذلك. وقد وصفها أبو الفرج الأصفهانىّ وأطنب فى وصفها وتفضيلها، واستدلّ على ذلك وبسط القول فيه. وأمّا ما قيل فى نسبها وسنّها وكيف تنقّلت بها الحال إلى أن اتصلت بالمأمون، فقد روى عن إسماعيل بن الحسين خال المعتصم أنها ابنة جعفر بن يحيى، وأنّ البرامكة لما نهبوا سرقت وهى صغيرة فبيعت. قال أحمد بن عبد الله بن إسماعيل المراكبىّ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 96 إن أمّ عريب كانت تسمّى فاطمة، وكانت يتيمة؛ فتزوّجها جعفر بن يحيى بن خالد؛ فأنكر عليه أبوه، وقال له: تتزوّج بمن لا يعرف لها أمّ ولا أب! اشتر مكانها ألف جارية. فأخرجها جعفر وأسكنها فى دار فى ناحية باب الأنبار سرّا من أبيه، ووكّل بها من يحفظها، وكان يتردّد إليها؛ فولدت عريب فى سنة إحدى وثمانين ومائة. وكانت سنوها إلى أن ماتت ستّا وتسعين سنة. قال: وماتت أمّ عريب فى حياة جعفر، فدفعها إلى امرأة نصرانيّة وجعلها داية [1] لها. فلما حدثت بالبرامكة تلك الحادثة باعتها من سنبس النخّاس، فباعها من المراكبىّ. قال ابن المعتزّ: وأخبرنى يوسف بن يعقوب قال: كنت إذا نظرت قدمى عريب شبّهتهما بقدمى جعفر بن يحيى. قال: وسمعت من يحكى أنّ بلاغتها فى كتبها ذكرت لبعض الكتّاب، فقال: وما يمنعها من ذلك وهى بنت جعفر بن يحيى! هذا ملخص ما حكاه أبو الفرج فى نسبها. وأمّا أخبارها مع من ملكها وكيف تنقّلت بها الحال، فقد حكى ابن المعتزّ عن الهشامىّ أنّ مولاها خرج بها إلى البصرة فأدّبها وخرّجها وعلّمها الخطّ والنحو والشعر والغناء، فبرعت فى ذلك أجمع، وتزايدت حتى قالت الشعر. وكان لمولاها صديق يقال له حاتم بن عدىّ من قوّاد خراسان، وقد قيل: إنه كان يكتب لعجيف على ديوان العرض؛ فكان مولاها يدعوه كثيرا ويخالطه. فركبه دين فاستتر عنده؛ فمدّ عينه الى عريب وكاتبها فأجابته، ودامت المواصلة بينهما وعشقته؛ ثم انتقل من منزل مولاها. فلم تزل تحتال حتى اتّخذت سلّما من سبّ [2] ، وقيل: من خيوط غلاظ، وكان قد اتخذ لها موضعا، ثم لفّت ثيابها وجعلتها فى فراشها بالليل ودثّرتها   [1] الداية: الظئر المرضعة والمربية. [2] السب: شقة كتان رقيقة. وفى الأصل: «سقب» . وفى الأغانى: «عقب» . فلعلهما محرفان عما أثبتناه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 97 بدثارها، ثم تسوّرت الحائط وهربت، وأتته فمكثت عنده؛ ومولاها لا يتهمه بشىء من أمرها. فقال عيسى بن عبد الله بن إسماعيل المراكبىّ يهجو أباه ويعيّره بها- وكان كثيرا ما يهجوه-: قاتل الله عريبا ... فعلت فعلا عجيبا ركبت والليل داج ... مركبا صعبا مهيبا فارتقت متّصلا بالنّ ... جم أو منه قريبا صبرت حتى إذا ما ... أقصد النوم الرّقيبا مثّلث بين حشايا ... ها، لكى لا تستريبا خلفا منها إذا نو ... دى لم يلف [1] مجيبا ومضت يحملها الخو ... ف قضيبا وكثيبا محّة لو حرّكت خف ... ت عليها أن تذوبا فتدلّت لمحبّ ... فتلقّاها حبيبا جذلا قد نال فى الدّن ... يا من الدّنيا نصيبا أيّها الظبى الذى تس ... حر عيناه القلوبا والذى يأكل بعضا ... بعضه حسنا وطيبا كنت نهبا لذئاب ... فلقد أطمعت ذيبا وكذا الشاة إذا لم ... يك راعيها لبيبا لا يبالى وبأ المر ... عى إذا كان خصيبا ولقد أصبح عبد اللّ ... هـ كشخانا جريبا   [1] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «لم تلق» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 98 قد لعمرى لطم الخدّ ... وقد شقّ الجيوبا وجرت منه دموع ... بلّت الذّقن الخضيبا قال ابن المعتزّ: وحدّثنى محمد بن موسى بن يونس: أنها ملّته بعد ذلك فهربت منه، فكانت تغنّى عند أقوام عرفتهم ببغداد وهى مستترة متخفّية. فلمّا كان يوم من الأيام اجتاز ابن أخى المراكبىّ ببستان كانت فيه مع قوم تغنّى، فسمع غناءها فعرفه؛ فبعث إلى عمّه وأقام هو مكانه، فلم يبرح حتى جاء عمّه وكبسها، فأخذها وضربها مائة مقرعة وهى تصيح: يا هذا، لم تقتلنى! لست أصبر عليك، أنا امرأة حرّة، فإن كنت مملوكة فبعنى، لست أصبر على الضّيق. فلما كان من الغد ندم على فعله وصار إليها فقبّل رأسها ويدها ورجلها ووهب لها عشرة آلاف درهم. ثم بلغ محمدا الأمين خبرها فأخذها. قال: وكان الأمين فى حياة أبيه طلبها منه فلم يجبه إلى ذلك. فلما أفضت إليه الخلافة جاء المراكبىّ ومحمد راكب ليقبّل يده؛ فأمر بمنعه ودفعه، ففعل ذلك الشاكرىّ [1] ؛ فضربه المراكبىّ وقال: أتمنعنى من تقبيل يد مولاى! فجاء الشاكرىّ لمّا نزل محمد الأمين فشكاه؛ فأمر بإحضار المراكبىّ فأمر بضرب عنقه، فسئل فى أمره فعفا عنه وحبسه، وطالبه بخمسمائة ألف درهم مما اقتطعه من نفقات الكراع؛ وبعث فأخذ عريب من منزله مع خدم كانوا له. فلمّا قتل محمد الأمين هربت عريب الى المراكبىّ فكانت عنده. قال ابن المعتزّ: وأمّا رواية إسماعيل بن الحسن خال المعتصم فإنها تخالف هذا، وذكر أنها إنما هربت من دار مولاها المراكبىّ إلى محمد بن حامد الخاقانىّ المعروف بالخشن أحد قوّاد خراسان، وكان أشقر أصهب أزرق العين. وفيه تقول عريب ولها فيه غناء:   [1] الشاكرىّ: الأجير والمستخدم، وهو معرب جاكر. (عن القاموس) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 99 بأبى كلّ أصهب ... أزرق العين أشقر جنّ قلبى به ولي ... س جنونى بمنكر وقال إسحاق بن إبراهيم: لمّا نمى إلى الأمين خبر عريب بعث فى إحضارها وإحضار مولاها فأحضرا، فغنّت بحضرة إبراهيم بن المهدىّ، فطرب الأمين واستعادها، وقال لإبراهيم: كيف سمعت؟ قال: سمعت يا سيّدى حسنا، وإن تطاولت بها الأيام وسكن روعها ازداد غناؤها حسنا وطيبا. فقال للفضل بن الربيع: خذها إليك وساوم بها ففعل، فاشتطّ مولاها فى السّوم ثم أوجبها له بمائة ألف درهم. وانتقض أمر الأمين وشغل عنها فلم يأمر لمولاها بشىء حتى قتل بعد أن افتضّها؛ فرجعت إلى مولاها، ثم هربت منه إلى ابن حامد؛ فلم تزل عنده حتى قدم المأمون بغداد فتظلم المراكبىّ من محمد بن حامد، فأمر المأمون بإحضاره وسئل عنها فأنكرها. فقال له المأمون: كذبت، وقد سقط إلىّ خبرك، وأمر صاحب الشّرط أن يجرّده فى مجلس الشّرط ويضع عليه السّياط حتى يردّها فأخذه. فبلغها الخبر، فركبت حمار مكار وجاءت وقد جرّد ليضرب، وهى مكشوفة الوجه وهى تصيح: إن كنت مملوكة فليبعنى، وإن كنت حرّة فلا سبيل علىّ. فرفع خبرها إلى المأمون، فأمر بتعديلها عند قتيبة بن زياد القاضى فعدّلت عنده. وتقدّم إليه المراكبىّ مطالبا بها، فسأله البيّنة على ملكه إياها فعاد متظلّما إلى المأمون وقال: قد طولبت بما لم يطالب به أحد فى رقيق. وتظلمت زبيدة بنة جعفر إليه وقالت: من أغلظ ما جرى علىّ، بعد قتل ابنى، هجوم المراكبىّ على دارى [1] وأخذ عريب منها. فقال المراكبىّ: إنما أخذت ملكى، لأنه لم ينقدنى الثمن. فأمر المأمون بدفعها إلى محمد ابن عمر الواقدىّ، وكان قد ولّاه القضاء بالجانب الشرقىّ، فأخذها من قتيبة بن زياد   [1] فى الأصل: «داره» وهو تحريف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 100 وأمر ببيعها ساذجة؛ فآشتراها المأمون بخمسين ألف درهم، وقيل: اشتراها بخمسة آلاف درهم. ودعا عبد الله بن إسماعيل وقال له: لولا أنّى حلفت ألّا أشترى مملوكا بأكثر من هذا لزدتك، ولكنى سأولّيك عملا تكسب فيه أضعاف هذا الثمن، ورمى إليه بخاتمين من ياقوت أحمر قيمتهما ألف دينار، وخلع عليه خلعا سنيّة. فقال: يا أمير المؤمنين، إنما ينتفع بهذا الأحياء، وأمّا أنا فإنى لا محالة ميّت؛ لأن هذه الجارية كانت حياتى. وخرج فاختلط وتغيّر عقله ومات بعد أربعين يوما. وذهبت بالمأمون كلّ مذهب ميلا إليها ومحبّة لها، حتى قيل: إن المأمون قبّل رجلها فى بعض الأيام وإنها قالت أثر ذلك: والله يا أمير المؤمنين، لولا ما شرّفها الله به من وضع فمك الكريم عليها لقطعتها! ولكن لله علىّ ألّا أغسلها لغير وضوء أو طهر إلا بماء الورد ما عشت. فكانت تفعل ذلك إلى أن ماتت. وحكى علىّ بن يحيى المنجّم أنّ المأمون لمّا مات بيعت فى ميراثه- ولم يبع له عبد ولا أمة غيرها- فاشتراها المعتصم بمائة ألف وأعتقها فهى مولاته. وقيل: إنه لمّا مات محمد الأمين تدلّت عريب من قصر الخلد بحبل إلى الطريق وهربت إلى حاتم بن عدىّ. وحكى إبراهيم بن رباح قال: كنت أتولّى نفقات المأمون، فوصف له إسحاق ابن إبراهيم الموصلىّ عريب، فأمره أن يشتريها له، فاشتراها بمائة ألف درهم؛ فأمرنى المأمون بحملها، وأن أحمل إلى إسحاق مائة ألف درهم، ففعلت ذلك؛ فلم أدر كيف أثبتها، فكتبت فى الدّيوان أنّ مائة الألف خرجت فى ثمن جوهرة، ومائة الألف الأخرى خرجت لصائغها ودلّالها. فجاء الفضل بن مروان الى المأمون وقد رأى ذلك وأنكره، وسألنى عنه فقلت: نعم، هو ما رأيت. فسأل المأمون عن ذلك فقال: وهبت لدلّال وصائغ مائة ألف درهم! وغلّظ القصّة؛ فأنكرها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 101 المأمون، ودعانى فدنوت وأخبرته أنّ المال الذى خرج فى ثمن عريب وصلة إسحاق، وقلت: أيّما أصوب يا أمير المؤمنين: ما فعلت، أم أثبت فى الديوان أنها خرجت ثمن مغنيّة وصلة مغنّ. فضحك المأمون وقال: الذى فعلت أصوب. ثم قال للفضل ابن مروان: يا نبطىّ، لا تعترض على كاتبى هذا فى شىء. ولعريب أخبار قد بسط أبو الفرج الأصبهانىّ القول بها فى كتابه الذى ترجمه «تحف الوسائد فى أخبار الولائد» ، وذكر أيضا نتفا من أخبارها فى كتابه المترجم «بالأغانى» . منها خبرها مع محمد بن حامد المعروف بابن الخشن، وأخبار لها مع المأمون، وأخبار مع صالح المنذرىّ الخادم، وإبراهيم بن المدبّر، وغير ذلك من أخبارها. وقد رأينا أن نثبت لمعا من ذلك. أما أخبارها مع محمد بن حامد- وهو أحد من كانت تعشقه وتهواه وتخاطر بنفسها فى الاجتماع به- فمنها ما روى عن ابن عبد الملك الضرير أنها لمّا صارت فى دار المأمون احتالت حتى وصلت إليه، وكانت تلقاه فى الوقت بعد الوقت حتى حملت منه وولدت بنتا؛ فبلغ ذلك المأمون فزوّجه إياها. وقال محمد بن موسى: اصطبح المأمون يوما ومعه ندماؤه وفيهم محمد بن حامد وجماعة من المغنّين وعريب معه على مصلاة؛ فأومأ إليها محمد بن حامد بقبلة؛ فاندفعت فغنّت ابتداء: رمى ضرع ناب فاستمرّ بطعنة ... كحاشية البرد اليمانى المسهّم تريد بغنائها جواب محمد بن حامد بأن تقول له: طعنة. فقال المأمون للندماء: أيّكم أومأ إلى عريب بقبلة؟ والله لئن لم يصدقنى لأضربنّ عنقه! فقال محمد بن حامد: أنا يا أمير المؤمنين أومأت إليها، والعفو أقرب للتقوى. فقال: قد عفوت عنك. فقال: كيف استدلّ أمير المؤمنين على ذلك؟ فقال: ابتدأت صوتا، وهى لا تغنّى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 102 ابتداء إلا لمعنّى، فعلمت أنها لم تبتدئ هذا الصوت إلا لشىء أومئ إليها به، ولم يكن من شرط هذا الموضع إلا إيماء بقبلة، فعلمت أنها أجابته بطعنة. وقد حكى أنّ المأمون قال فى هذه الواقعة عن محمد بن حامد: نكشخنه قبل أن يكشخننا [1] ؛ فزوّجه إياها، واشترط عليه أن يحضرها إلى مجلسه فى أوقات عيّنها له المأمون. وقال حمدون: كنت ليلة فى مجلس المأمون ببلاد الروم بعد العشاء الآخرة فى ليلة ظلماء ذات رعود وبروق؛ فقال لى المأمون: اركب الساعة فرس النّوبة وسر إلى عسكر أبى إسحاق، (يعنى المعتصم) ، فأدّ إليه رسالتى وهى كيت وكيت. فركبت فلم تثبت معى شمعة، وسمعت وقع حافر دابّة فرهبت ذلك فجعلت أتوقّاه حتى صكّ ركابى تلك الدابّة، وبرقت بارقة فأبصرت وجه الراكب فإذا عريب؛ فقلت: عريب؟ قالت: نعم، حمدون؟ قلت نعم. ثم قلت لها: من أين أقبلت فى هذا الوقت؟ قالت: من عند محمد بن حامد. قلت: وما صنعت عنده؟ قالت: يانكس، عريب تجىء فى هذا الوقت من عند محمد بن حامد خارجة من مضرب الخليفة راجعة إليه تقول لها: أىّ شئ عملت معه! صلّيت معه التراويح، أو قرأت عليه أجزاء من القرآن، أو دارسته شيئا من الفقه! يا أحمق، تحادثنا وتعاتبنا وآصطلحنا ولعبنا وشربنا وغنّينا وانصرفنا. قال: فأخجلتنى وغاظتنى وافترقنا. ومضيت فأدّيت الرسالة؛ ثم عدت إلى المأمون وأخذنا فى الحديث وتناشدنا الأشعار، فهممت أن أحدّثه بحديثها ثم هبته، فقلت: أقدّم قبل ذلك تعريضا بشىء من الشعر فأنشدته: ألا حىّ أطلالا لقاطعة الحبل ... ألوف تساوى صالح القوم بالرّذل فلو أنّ من أمسى بجانب تلعة ... الى جبلى طىّ فساقطة النعل   [1] كشخنه وكشخه: شتمه بالكشخنة وهى الدّياثة وعدم الغيرة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 103 جلوس إلى أن يقصر الظّلّ عندها ... لراحوا وكلّ القوم منها على وصل فقال لى المأمون: اخفض صوتك لا تسمع عريب فتغضب وتظنّ أنّا فى حديثها؛ فأمسكت عما أردت أن أخبره به، وخار الله لى فى ذلك. وقال محمد بن عيسى الواثقىّ: قال لى محمد بن حامد ليلة: أحبّ أن تفرّغ لى مضربك، فإنى أريد أن أجيئك فأقيم عندك؛ ففعلت وأتانى. فلما جلس جاءت عريب فدخلت وجلسنا؛ فجعل محمد يعاتبها ويقول: فعلت كذا وفعلت كذا! فقالت لى: يا محمد، هذا عندك رأى! ثم أقبلت عليه فقالت: يا عاجز، خذ بنا فيما نحن فيه، واجعل سراويلى مخنقتى وألصق خلخالى بقرطى، فإذا كان غد فاكتب بعتابك فى طومار حتى أكتب اليك بعذرى فى مثله، ودع عنك هذا الفضول؛ فقد قال الشاعر: دعى عدّ الذنوب إذا التقينا ... تعالى لا نعدّ ولا تعدّى فأقسم لو هممت بمدّ شعرى ... إلى باب [1] الجحيم لقلت مدّى وقال أحمد بن حمدون: وقع بين عريب وبين محمد بن حامد شرّ حتى كادا يخرجان إلى القطيعة، وكان فى قلبها منه أكثر مما فى قلبه منها. فلقيته يوما فقالت: كيف قلبك يا محمد؟ قال: أشقى ما كان وأقرحه. فقالت: استبدل تسل. فقال لها: لو كانت البلوى باختيار لفعلت! فقالت: لقد طال إذا تعبك. فقال: وما يكون! أصبر مكرها! أما سمعت قول العبّاس بن الأحنف: تعب يطول مع الرّجاء لذى الهوى ... خير له من راحة فى الياس لولا كرامتكم لما عاتبتكم ... ولكنتم عندى كبعض النّاس قال: فذرفت عيناها، واعتذرت اليه واعتنقته، واصطلحا وعادا إلى ما كانا عليه.   [1] فى الأغانى: «الى نار الجحيم» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 104 وحكى أحمد بن جعفر بن حامد قال: لمّا توفّى عمّى محمد بن حامد، صار جدّى إلى منزله، فنظر إلى تركته وجعل يقلّب ما خلّف، ويخرج إليه منها الشىء بعد الشىء، إلى أن أخرج إليه سفط مختوم؛ ففضّ الخاتم وفتحه، فاذا فيه رقاع عريب إليه؛ فجعل يتصفّحها ويبتسم، فوقعت فى يده رقعة فقرأها ووضعها بين يديه، وقام لحاجته؛ فقرأتها فإذا فيها: ويلى عليك ومنكا! ... أوقعت فى الحقّ شكّا زعمت أنّى خؤون ... جورا علىّ وإفكا إن كان ما قلت حقّا ... أو كنت أزمعت تركا فأبدل الله ما بى ... من ذلّة الحبّ نسكا قال: وهذا الشعر لعريب. وامّا أخبارها مع المأمون وإخوته وغير ذلك من أخبارها- قال صالح ابن علىّ بن الرشيد المعروف بزعفرانة: تمارى خالى أبو علىّ والمأمون فى صوت، فقال المأمون: أين عريب؟ فجاءت وهى محمومة، فسألها عن الصوت؛ فقالت فيه بعلمها. فقال لها: غنّيه. فولّت لتجىء بالعود؛ فقال: غنّيه بلا عود. فاعتمدت من الحمّى على الحائط وغنّت، وأقبلت عقرب فرأيتها وقد لسبت يدها مرّتين أو ثلاثا، فما نحّت يدها ولا سكتت حتى فرغت من الصوت؛ ثم سقطت وقد غشى عليها. قال عثمان بن العلاء عن أبيه: عتب المأمون على عريب فهجرها [1] أياما؛ ثم اعتلّت فعادها فقال: كيف وجدت طعم الهجر؟ فقالت: يا أمير المؤمنين، لولا مرارة   [1] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «فهجرته» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 105 الهجر ما عرفت حلاوة الوصل، ومن ذمّ بدء الغضب حمد عاقبة الرضا. فخرج المأمون إلى جلسائه فحدّثهم بالقصة؛ ثم قال: أترى لو كان هذا من كلام النّظام لم يكن كثيرا! وقال أحمد بن أبى دواد: جرى بين المأمون وبين عريب كلام، فكلّمها المأمون بشىء غضبت منه فهجرته أياما. فدخلت على المأمون، فقال: يا أحمد، اقض بيننا. فقالت عريب: لا حاجة لى فى قضائه ودخوله بيننا، وأنشأت تقول: ونخلط الهجر بالوصال ولا ... يدخل [1] فى الصّلح بيننا أحد وكانت قد تمكّنت من المأمون وأخذت بمجامع قلبه، وذهب به حبّها كلّ مذهب؛ وقد قدّمنا أنه قبّل رجلها. وكانت عريب تهوى أبا عيسى بن الرشيد أخا المأمون، وكان المثل يضرب بحسنه وحسن غنائه، وكانت تزعم أنها ما عشقت أحدا من بنى هاشم وأصفته من الخلفاء وأولادهم سواه. ولم تزل عريب مبجّلة عند الخلفاء محبوبة اليهم مكرّمة لديهم إلى أن غضب عليها المعتصم والواثق وانحرفا عنها. وكان سبب ذلك أن المعتصم وجد لها كتابا إلى العبّاس بن المأمون ببلد الروم تقول فيه: اقتل أنت العلج حتى أقتل أنا الأعور الليلىّ هاهنا (تعنى الواثق، وكان المعتصم استخلفه ببغداد) . ولعمرى إنّ هذا من الأمور العظيمة التى لا تحتمل من الأولاد والإخوة فكيف من أمة مغنّية! ولو لم تكن لها عندهم المكانة العظمى والمحلّ الكبير لما أبقوها بعد الاطّلاع من باطن حالها على هذه الطّويّة. وكانت عريب تكايد الواثق فيما يصوغه من الألحان، وتصوغ فى ذلك الشعر تغنّيه لحنا فيكون أجود من لحنه.   [1] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «ولا يصلح» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 106 قال: وكانت عريب تتعشّق صالحا المنذرىّ الخادم، فتزوّجته سرّا. فحكى عنها أنّ بعض الجوارى دخلت عليها يوما؛ فقالت لها عريب: ويحك! تعالى إلىّ! فجاءت؛ فقالت: قبّلى هذا الموضع منّى، فإنك تجدين ريح الجنّة، وأومأت إلى سالفتها، ففعلت ثم قالت لها: ما السبب فى هذا؟ قالت: قبّلنى الساعة صالح المنذرىّ فى هذا الموضع. قال: ووجّهه المتوكل إلى مكان بعيد فى حاجة؛ فقالت عريب فيه: أمّا الحبيب فقد مضى ... بالرّغم منّى لا الرّضا أخطأت فى تركى لمن ... لم ألق [1] منه عوضا وكانت عريب تهوى إبراهيم بن المدبّر ويهواها، ولها معه أخبار وحكايات، وبينهما أشعار وفكاهات. فمن مكاتباتها إليه ما روى عن ابن المعتز قال: كتبت إليه تدعو له فى شهر رمضان: أفديك بسمعى وبصرى، وأهلّ الله عليك هذا الشهر باليمن والمغفرة، وأعانك على المفترض منه والمتنفّل، وبلّغك مثله أعواما، وفرّج عنك وعنّى فيه [2] . وكتبت فى شىء بلغها عنه: وهب الله لنا بقاءك ممتّعا بالنّعم. ما زلت أمس فى ذكرك، فمرّة بمدحك، ومرّة بأكلك وبذكرك بما فيك لونا لونا. اجحد ذنبك الآن، وهات حجج الكتّاب ونفاقهم. فأمّا خبرنا أمس فإنا شربنا من فضل نبيذك على تذكارك رطلا، وقد رفعنا حسابنا إليك، فارفع حسابك إلينا، وخبّرنا من زارك أمس وألهاك، وأىّ شىء كانت القصّة على جهتها. [ولا تخطرف [3] فتحوجنا إلى كشفك والبحث عليك وعن حالك] ، وقل الحق، فمن صدق [نجا [4]] . وما أحوجك إلى تأديب، فإنك لا تحسن أن [5] تودّ. [والحقّ أقول إنه يعتريك كزاز [6]   [1] كذا فى الأغانى (ج 18 ص 184 طبع بلاق) . وفى الأصل لم ألف عنه معرضا [2] فى الأصل: «فيك» . [3] تخطرف الشىء: جاوزه. [4] التكلملة عن الأغانى. [5] كذا فى الأغانى (ج 19 ص 122 طبع بلاق) . وعبارة الاصل: «وما أحوجك الى تأديب فانك لا تحسن أن تؤدبه» : [6] الكزاز: تشنج يصيب الإنسان من البرد الشديد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 107 شديد يجوز حدّ البرد. وكفاك بهذا من قولى عقوبة. وإن عدت سمعت أكثر منه [1]] . والسلام. ولما نكب عبد الله بن يحيى بن خاقان ابن المدبّر وحبسه، كتبت إليه كتابا تتشوّقه وتخبره استيحاشها له واهتمامها بأمره، وأنها قد سألت الخليفة فى أمره فوعدها ما تحبّ. فأجابها عن كتابها، وكتب فى آخر الجواب: لعمرك ما صوت بديع لمعبد ... بأحسن عندى من كتاب عريب تأمّلت فى أثنائه خطّ كاتب ... ورقّة مشتاق ولفظ خطيب وراجعنى من وصلها ما استفزّنى ... وزهّدنى فى وصل كلّ حبيب فصرت لها عبدا مقرّا بملكها ... ومستمسكا من ودّها بنصيب وقال أبو عبد الله بن حمدون: اجتمعت أنا وإبراهيم بن المدبّر وابن ميّادة والقاسم بن زرزر فى بستان بالمطيرة فى يوم غيم ورذاذ يقطر أحسن قطر ونحن فى أطيب عيش وأحسن يوم، فلم نشعر إلا بعريب قد أقبلت من بعيد؛ فوثب إبراهيم من بيننا فخرج حافيا حتى تلقاها، وأخذ بركابها حتى نزلت، وقبّل الأرض بين يديها. وكانت قد هجرته مدّة لشىء أنكرته عليه. فجاءت وجلست وأقبلت عليه متبسمة، ثم قالت: إنما جئت إلى من هاهنا لا إليك. فآعتذر وشفعنا له فرضيت. وأقامت عندنا يومئذ وباتت، واصطبحنا من غد وأقامت عندنا. فقال إبراهيم: بأبى من حقّق الظنّ به ... وأتانا زائرا مبتديا كان كالغيث تراخى مدّة ... وأتى بعد قنوط مرويا طاب يومان لنا فى قربه ... بعد شهرين لهجر مضيا فأقرّ الله عينى و؟؟؟ ... سقما كان لجسمى مبليا   [1] التكملة عن الأغانى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 108 وقال فيها أيضا: ألا يا عريب وقيت الرّدى ... وجنّبك الله صرف الزّمن فإنّك أصبحت زين النساء ... وواحدة النّاس فى كلّ فنّ فقربك يدنى لذيذ الحياة ... وبعدك ينفى لذيذ الوسن فنعم الأنيس ونعم الجليس ... ونعم السمير ونعم السّكن وقال أيضا فيها وفى جاريتين بدعة وتحفة: إنّ عريبا خلقت وحدها ... فى كلّ ما يحسن من أمرها ونعمة لله فى خلقه ... يقصّر العالم فى شكرها أشهدنى جاريتاها على ... أنّهما محسنتا دهرها فبدعة تبدع فى شجوها ... وتحفة تتحف فى زمرها يا ربّ أمتعها بما خوّلت ... وامدد لها يا ربّ فى عمرها وقال علىّ بن العباس بن أبى طلحة الكاتب: كنت عند إبراهيم بن المدبّر، فزارته بدعة وتحفة، وأخرجتا رقعة من عريب؛ فقرأها فإذا فيها: بنفسى أنت وسمعى وبصرى، وقلّ ذلك لك. أصبح يومنا هذا طيبا- طيّب الله عيشك- قد احتجبت سماؤه، ورق هواؤه، وتكامل صفاؤه، وكأنه أنت فى رقّة شمائلك وطيب محضرك ومخبرك، لا فقدت ذلك أبدا منك! ولم يصادف حسنه وطيبه منّا نشاطا ولا طربا لأمور صدّتنى عن ذلك، أكره تنغيص ما أشتهيه لك من السرور بشرحها. وقد بعثت إليك ببدعة وتحفة ليؤنساك وتسرّ بهما، سرّك الله وسرّنى بك!. فكتب إليها: كيف السرور وأنت نازحة ... عنّى! وكيف يسوغ لى الطرب! إن غبت غاب العيش وانقطعت ... أسبابه وألحّت الكرب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 109 وأنفذ الجواب [1] [اليها] . فلم تلبث أن جاءت على حمار مصرىّ، فبادر إليها وتلقاها حافيا حتى جاء بها إلى صدر المجلس، يطأ الحمار بساطه وما عليه، حتى أخذ بركابها فأجلسها فى مجلسه وجلس بين يديها. ثم قال: ألا ربّ يوم قصر الله طوله ... بقرب عريب، حبّذا هو من قرب بها تحسن الدّنيا وينعم عيشها ... وتجتمع السّرّاء للعين والقلب وقال إبراهيم بن اليزيدىّ: كنت مع المأمون فى بلد الروم. فبينما أنا أسير فى ليلة مظلمة شاتية ذات غيم وريح وإلى جانبى قبّة، إذ برقت برقة فإذا فى القبّة عريب. فقالت: يا إبراهيم بن اليزيدىّ. فقلت: لبّيك! قالت: قل فى هذا البرق أبيانا ملاحا لأغنّى فيها. فقلت: ماذا بقلبى من أليم الخفق ... إذا رأيت لمعان البرق من قبل الأردنّ أو دمشق ... لأن من أهوى بذاك الأفق فارقته وهو أعزّ الخلق ... علىّ والزّور خلاف الحقّ ذاك الذى يملك منّى رقّى ... ولست أبغى ما حييت عتقى فتنفّست نفسا ظننته قد قطع حيازيمها؛ فقلت: ويحك! على من هذا التنفس؟ فضحكت ثم قالت: على الوطن. فقلت: هيهات! ليس هذا كله على الوطن. فقالت: ويلك! أظننت أنك تستفزّنى! والله لقد نظرت نظرة مريبة فى مجلس فادّعاها أكثر من ثلاثين رئيسا، والله ما علم أحد منهم لمن كانت إلى هذا الوقت.   [1] فى الأصل: «وابتدأ الجواب فلم تلبث» . والتصويب والزيادة عن الأغانى (ج 19 ص 125 طبع بلاق) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 110 وقال أبو العبيس بن حمدون: غضبت عريب على بعض جواريها، فجئت إليها وسألتها أن تعفو عنها؛ فقالت- فى بعض ما تقوله مما تعتدّ به عليها من ذنوبها-: يا أبا العباس، إن كنت تشتهى أن ترى زناى وصفاقة وجهى وجرأتى على كلّ عظيمة أيّام شبابى، فانظر إليها واعرف أخبارها. قال: وكانت فى شبابها يقدّم إليها البرذون فتطفر عليه بلا ركاب. وقال أبو العبّاس بن الفرات: حدّثتنى بدعة جارية عريب: أنّ عريب كانت تجد فى رأسها بردا وكانت تغلّف رأسها بستين مثقالا مسكا وعنبرا، وتغسله من جمعة إلى جمعة، فإذا غسلته جدّدت غيره، وتقتسم الجوارى غسالة رأسها. وقال علىّ بن المنجّم: دخلت يوما على عريب مسلّما عليها، فلما جلست هطلت السماء بمطر عظيم. فقالت: أقم عندى اليوم حتى أغنّيك أنا وجوارىّ، وابعث إلى من أحببت من إخوانك، فأمرت بدوابّى فردّت، وجلسنا نتحدّث. فسألتنى عن خبرنا بالأمس فى مجلس الخليفة ومن كان يغنيّنا، وأىّ شىء استحسنّاه من الغناء. فأخبرتها أنّ صوت الخليفة كان لحنا صنعه بنان من الماخورىّ. فقالت: وما هو؟ فقلت: تجافى ثم تنطبق ... جفون حشوها الأرق وذى كلف بكى جزعا ... وسفر القوم منطلق به قلق يململه ... وكان وما به قلق جوانحه على خطر ... بنار الشّوق تحترق فوجّهت رسولا إلى بنان، فحضر وقد بلّته السماء؛ فأمرت بخلع فاخرة فخلعت عليه، وقدّم له طعام فأكل، وجلس يشرب معنا. فسألته عن الصوت فغنّاها إياه. فأخذت دواة ورقعة وكتبت: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 111 أجاب الوابل الغدق ... وصاح النّرجس الغرق وقد غنّى بنان لنا: ... «جفون حشوها الأرق» فهاك الكأس مترعة ... كأنّ ختامها حدق قال: فما شربنا بقيّة يومنا إلا على هذه الأبيات. وأخبار عريب كثيرة، قد وضع عبد الله بن المعتز فيها ديوانا. وفيما أوردناه من أخبارها كفاية لا تحتمل المختصرات أكثر منها. والله تعالى أعلم. ذكر أخبار محبوبة قال أبو الفرج: كانت مولّدة من مولدات البصرة، شاعرة، سريعة الخاطر، مطبوعة، لا تكاد فضل الشاعرة اليمانية تتقدّمها، وكانت أجمل من فضل وأعفّ، وكانت تغنّى غناء غير فاخر. وقال علىّ بن الجهم: كانت محبوبة لعبد الله بن طاهر أهداها إلى المتوكّل فى جملة أربعمائة جارية. وكانت بارعة الحسن والظّرف والأدب، مغنّية محسنة، فحظيت عند المتوكل حتى كان يجلسها خلف السّتارة وراء ظهره إذا جلس للشّرب، فيدخل رأسه إليها فيراها ويحدّثها فى كل ساعة. وقال علىّ بن يحيى المنجّم: كان علىّ بن الجهم يقرب من أنس المتوكل جدّا، فلا يكتمه شيئا من سرّه مع حرمه وأحاديث خلواته. فقال له يوما: إنّى دخلت على قبيحة فوجدتها قد كتبت اسمى على خدّها بغالية، فلا والله ما رأيت شيئا أحسن من سواد تلك الغالية على بياض ذاك الخدّ؛ فقل فى هذا شيئا- قال: وكانت محبوبة حاضرة الكلام من وراء الستارة- فدعا علىّ بن الجهم بدواة، فإلى أن أتى بها وابتدأ يفكّر قالت محبوبة على البديهة من غير فكرة ولا رويّة: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 112 وكاتبة فى الخدّ بالمسك جعفرا ... بنفسى مخطّ المسك من حيث أثّرا لئن كتبت فى الخدّ سطرا بكفّها ... لقد أودعت قلبى من الحبّ أسطرا فيامن لمملوك لملك يمينه ... مطيع له فيما أسرّ وأظهرا! ويا من هواها فى السريرة جعفر ... سقى الله من سقيا ثناياك جعفرا قال: فبقى علىّ بن الجهم واجما لا ينطق بحرف، وأمر المتوكّل بالأبيات فبعثت إلى عريب وأمرها أن تغنّى فيها. قال علىّ بن الجهم: فتحيّرت والله وتقلّبت خواطرى، فو الله ما قدرت على حرف واحد أقوله. وقال أيضا: غاضب المتوكل يوما محبوبة وهجرها ومنع جواريها جميعا من كلامها؛ ثم نازعته نفسه إليها وأراد ذلك، ثم نازعته العزّة منها وامتنع من ابتدائها، وامتنعت من ابتدائه دلالا عليه لمحلّها منه. قال علىّ: فبكّرت إليه يوما؛ فقال لى: يا علىّ، إنى رأيت البارحة فى نومى كأنّى صالحت محبوبة. فقلت: أقرّ الله عينك يا أمير المؤمنين وأنامك على خير وأيقظك على سرور! أرجو أن يكون هذا الصلح فى اليقظة. فبينا هو يحدّثنى وأحدّثه إذا بوصيفة قد جاءت فأسرّت إليه شيئا، فقال: أتدرى ما أسرّت إلىّ هذه؟ قلت لا. قال: حدّثتنى أنها اجتازت بمحبوبة الساعة وهى فى حجرتها تغنّى، أفلا تعجب من هذا؟ أنا مغاضبها وهى متهاونة بذلك، لا تبدؤنى بصلح ثم لا ترضى حتى تغنّى فى حجرتها؛ فقم بنا حتى نسمع ما تغنّى. ثم قام وتبعته حتى انتهى إلى حجرتها، وإذا هى تغنّى: أدور فى القصر لا أرى أحدا ... أشكو إليه ولا يكلّمنى حتى كأنّى أتيت معصية ... ليست لها توبة تخلّصنى فهل لنا شافع إلى ملك ... قد زارنى فى الكرى وصالحنى حتى إذا ما الصّباح لاح لنا ... عاد إلى هجره فصارمنى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 113 فعجب المتوكل، وأحسّت بمكانه فأمرت بخدمها فخرجوا وتنحيّنا، وخرجت إليه فحدّثته أنها رأته فى منامها فانتبهت وقالت هذه الأبيات وغنّت فيها؛ فحدّثها هو أيضا رؤياه واصطلحا. فلما قتل المتوكل سلاه جميع جواريه غيرها؛ فإنها لم تزل حزينة هاجرة لكل لذّة حتى ماتت. ولها فيه مراث. حكى أبو الفرج: أنّ وصيفا بعد قتل المتوكل أحضرها يوما وأحضر الجوارى، فجئن وعليهن الثياب الملوّنة المذهبة والحلىّ وقد تزيّنّ وتعطّرن، وجاءت محبوبة وعليها ثياب بيض غير فاخرة حزنا على المتوكل. فغنّى الجوارى جميعا وشربن، وطرب وصيف وشرب. ثم قال: يا محبوبة، غنّى؛ فأخذت العود وغنّت وهى تبكى: أىّ عيش يطيب لى ... لا أرى فيه جعفرا ملكا قد رأته عي ... نى قتيلا معفّرا كلّ من كان ذا هيا ... م وحزن فقد برا غير محبوبة التى ... لو ترى الموت يشترى لاشترته بملكها ... كلّ هذا لتقبرا إنّ موت الكثيب أص ... لح من أن يعمّرا فاشتدّ ذلك على وصيف وأمر بقتلها؛ فاستوهبها بغا منه فوهبها له. فأعتقها وأمر بإخراجها وأن تكون حيث تختار من البلاد. فخرجت إلى بغداد من سرّ من رأى، وأخملت ذكرها طول عمرها؛ وما طمع فيها أحد. رحمها الله تعالى. ذكر أخبار عبيدة الطّنبوريّة قال أبو الفرج الأصفهانى: كانت عبيدة الطّنبوريّة من المحسنات المتقدّمات فى الصّنعة والأدب، شهد لها بذلك إسحاق بن إبراهيم الموصلىّ؛ قال: وحسبها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 114 بشهادته. قال: وكان أبو حشيشة يعظّمها ويعترف لها بالرياسة والأستاذيّة. وكانت من أحسن الناس وجها وأطيبهم صوتا، وكانت لا تخلو من عشق. قال: ولم يعرف فى الدنيا امرأة أعظم صنعة منها فى الطّنبور. وكانت لها صنعة عجيبة. فمنها فى الرمل: كن لى شفيعا إليكا ... إن خفّ ذاك عليكا وأعفنى من سؤالى ... سواك ما فى يديكا يا من أعزّ وأهوى ... مالى أهون لديكا قال: وحضرت يوما عند علىّ بن الهيثم اليزيدىّ وعنده عمرو بن مسعدة وهارون بن أحمد بن هشام؛ فجاءه إسحاق بن إبراهيم الموصلى فأخبره خبرهم. فقال له إسحاق: إنى كنت أشتهى أن أسمع عبيدة، ولكنها إن عرفتنى وسألتمونى أن أغنّى بحضرتها انقطعت ولم تصنع شيئا، فدعوها على جبلّتها [1] ؛ فوافقوه على ذلك، ودخل وكتموها أمره، وكانت لا تعرف إسحاق. وقدّم النبيذ، فغنّت لحنا لها: قريب غير مقترب ... ومؤتلف كمجتنب له ودّى ولى منه ... دواعى الهمّ والكرب أواصله على سبب ... ويهجرنى بلا سبب ويظلمنى على ثقة ... بأنّ إليه منقلبى قال: فطرب إسحاق وشرب نصفا، ثم تغنّت وشرب، حتى والى بين عشرة أنصاف؛ قال علىّ بن الهيثم: وشربنا معه. وقام إسحاق ليصلّى؛ فقال لها هارون: ويحك يا عبيدة! ما تبالين والله متى متّ! قالت: ولم؟ قال: أتدرين من المستحسن غناءك والشارب عليه ما شرب؟ قالت: لا والله. قال: إسحاق بن إبراهيم، فلا   [1] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «فدعوها على حملتها» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 115 تعرّفيه أنك قد عرفتيه. فلما جاء إسحاق ابتدأت تغنّى فلحقتها هيبة له واختلاط، فنقصت نقصانا بيّنا. قال: أعرّفتموها من أنا؟ فقلت: نعم، عرّفها هارون. فقال إسحاق: نقوم إذا فننصرف؛ فإنه لا خير فى عشرتكم الليلة ولا فائدة لى ولا لكم؛ وقام فانصرف. وقال ملاحظ غلام أبى العبّاس: اجتمع الطّنبوريّون عند أبى العباس بن الرشيد يوما وفيهم المسدود وعبيدة. فقالوا للمسدود: غنّ؛ فقال: لا والله، لا تقدّمت على عبيدة وهى الأستاذ، فما غنّى حتى غنّت. وقال محمد بن عبد الله بن مالك الخزاعىّ: سمعت إسحاق يقول: الطنبور إذا تجاوز عبيدة هذيان. هذا ما أمكن إيراده فى هذا الباب من أخبار من اشتهر بالغناء، وأخبار القيان، وهو مختصر مما أورده أبو الفرج الأصفهانى- رحمه الله تعالى- فى كتابه المترجم بالأغانى من أخبارهم. ولم نلتزم استيعابهم بل ذكرنا أكثرهم وأشهرهم بالغناء، وذكرنا من أخبارهم ما فيه كفاية. فلنذكر خلاف ذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 116 الباب السابع من القسم الثالث من الفنّ الثانى فيما يحتاج إليه المغنّى ويضطرّ إلى معرفته، وما قيل فى الغناء، وما وصفت به القيان، ووصف آلات الطّرب ذكر ما يحتاج إليه المغنّى ويضطرّ إلى معرفته وما قيل فى الغناء والقيان من جيّد الشعر قال مالك بن أبى السّمح: سألت ابن أبى إسرائيل عن المحسن المصيب من المغنّين، فقال: هو الذى يشبع الألحان، ويملا الأنفاس، ويعدّل الأوزان، ويفخّم الألفاظ، ويعرف الصواب، ويقيم الإعراب، ويستوفى النّغم الطّوال، ويحسن مقاطع النّغم القصار، ويصيب أجناس الإيقاع، ويختلس مواضع النّبرات، ويستوفى ما يشاكلها من النّقرات. فعرضت ما قال على معبد، فاستحسنه وقال: ما يقال فيه أكثر من هذا. وقد رويت هذه المقالة عن ابن سريج. وقال إبراهيم الموصلىّ: الغناء على ثلاثة أضرب: فضرب مله مطرب يحرّك ويستخفّ، وضرب ثان له شجى ورقّة، وضرب ثالث حكمة وإتقان صنعة. وقال: كان هذا كله مجموعا فى غناء ابن سريج. وقال أبو عثمان الناجم: بحوحة الحلق الطيّب تشبه مرض الأجفان الفاترة. وأمّا ما قيل فى الغناء وما وصفت به القيان. حكى أنّ بعض المحدثين سمع غناء بخراسان بالفارسيّة، فلم يدر ما هو غير أنه شوقه لشجاه وحسنه؛ فقال فى ذلك، وقيل إنه لأبى تمّام: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 117 حمدتك ليلة شرفت وطابت ... أقام سهادها ومضى كراها سمعت بها غناء كان أولى ... بأن يقتاد نفسى من عناها ومسمعة بحار السّمع فيها ... ولم تصممه، لا يصمم صداها مرت أوتارها فشفت وشاقت ... فلو يسطيع حاسدها فداها ولم أفهم معانيها ولكن ... ورت كبدى فلم أجهل شجاها فكنت كأننى أعمى معنّى ... بحبّ الغانيات وما رآها وقال كشاجم فى بحّة حلق المغنّى: أشتهى فى الغناء بحّة حلق ... ناعم الصوت متعب مكدود كأنين المحبّ أضعفه الشو ... ق فضاهى به أنين العود لا أحبّ الأوتار تعلو كما لا ... أشتهى الضرب لازما للعمود وأحبّ المحنبات [1] كحبّى ... للمبادى موصولة بالنّشيد كهبوب الصّبا توسّط حالا ... بين حالين شدّة وركود وقال الناجم: شدو ألذّ من ابتدا ... ء العين فى إغفائها أحلى وأشهى من منى ... نفس وصدق رجائها وقال محمد بن بشير: وصوت لبنى الأحرا ... ر أهل السّيرة الحسنى شج يستغرق الأوتا ... ر حتى كلّها تفنى فما أدرى اليد اليسرى ... به أشقى أم اليمنى؟   [1] فى ديوان كشاجم طبع بيروت وفى نسختين مخطوطتين منه أيضا محفوظتين بدار الكتب المصرية: «وأحب المجنبات» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 118 وقلنا لمغنّيه ... وقد غنّى على المثنى ألا يا ليت هذا الصو ... ت حتى الصّبح لا يفنى فقد أيقظت اللذّا ... ت عينا لم تزل وسنى وما أفهم ما يعنى ... مغنّيه إذا غنّى ولكنّى من حبّى ... له أستحسن المعنى وقال الثّعالبىّ: غناؤك يهزم جيش الكروب ... وعيناك للناس عذر الذنوب فويل القلوب إذا ما رنوت ... وإمّا شدوت فويل الجيوب وقال أيضا: وسائلة تسائل عنك قلنا ... لها فى وصفك العجب العجيبا رنا ظبيا وغنّى عندليبا ... ولاح شقائقا ومشى قضيبا وقال عكاشة يصف قينة: من كفّ جارية كأنّ بنانها ... من فضّة قد طرّفت عنّابا وكأنّ يمناها إذا نطقت به ... تلقى على يدها الشّمال حسابا وقال ابن الرومىّ: وقيان كأنها أمّهات ... عاطفات على بنيها حوانى مطفلات وما حملن جنينا ... مرضعات ولسن ذات لبان كلّ طفل يدعى بأسماء شتّى ... بين عود ومزهر وكران [1] أمّه دهرها تترجم عنه ... وهو بادى الغنى عن التّرجمان   [1] فى الأصل: «ذكران» وهو تحريف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 119 وقال أيضا: كأنما رقة مسموعها ... رقّة شكوى سبقت دمعه غنّت فلم تحتج إلى زامر ... هل تحوج الشمس إلى شمعه كأنما غنّت لشمس الضّحى ... فألبستها حسنها خلعه وقال الناجم: ما صدحت عاتب ومزهرها ... إلّا وثقنا باللهو والفرح لها غناء كالبرء فى جسد ... أضناه طول السّقام والتّرح تعبدها الرّاح فهى ما صدحت ... إبريقنا ساجد على القدح وقال أيضا: ما تغنّت إلّا تكشّف همّ ... عن فؤاد وأقشعت أحزان تفضل المسمعين طيبا وحسنا ... مثل ما يفضل السّماع العيان وقال أبو عبادة البحترىّ: وأشارت على الغناء بألحا ... ظ مراض من التّصابى، صحاح فطربنا لهنّ قبل المثانى ... وسكرنا لهنّ قبل الراح وقال كشاجم وهو أبو الفتح محمود: أفدى التى أهدت لنا ... شمس الضّحى والليل حالك مملوكة جلّت فلي ... س تفى بقيمتها الممالك عرضت فأعطت عودها ... ضربا يعرّض للمهالك وتبعتها فتصرّفت ... بالضّرب فى كلّ المسالك ويئست من إدراكها ... فجعلت صوتى عند ذلك: قصرت يدى عنك الغدا ... ة، فكيف لى بيد تنالك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 120 وقال أيضا: بدت فى نسوة مثل ال ... مها أدمجن إدماجا يجاذبن من الأردا ... ف كثبانا وأمواجا ويسترن من الأبشا ... ر فى الدّيباج ديباجا وقضبانا من الفضّ ... ة قد أثمرت العاجا وقد لاثت من الكور ... على مفرقها تاجا فلما طفن بالمجل ... س أفرادا وأزواجا تجاوبن فغنّين ... ك أرمالا وأهزاجا وحرّكن من الأوتا ... ر إمساكا وإدماجا فلا لوم على قلب ... ك إن هيّج فاهتاجا وقال علىّ بن عبد الرحمن بن يونس المنجّم فى عوّادة: غنّت فأخفت صوتها فى عودها ... فكأنما الصوتان صوت العود غيداء تأمر عودها فيطيعها ... أبدا ويتبعها اتّباع ودود أندى من النّوار صبحا صوتها ... وأرقّ من نشر الثّنا المعهود فكأنما الصوتان حين تمازجا ... ماء الغمامة وابنة العنقود وقال أبو عون الكاتب: تشدو فيرقص بالرءو ... س لها ويزمر بالكئوس وقال الناجم: طفقت تغنّينا فحلنا أنّها ... لسرورنا بغنائها تعنينا وقال أبو هلال العسكرىّ: وهيّجت لى من شجو ومن فرح ... أيد نثرن على الأوتار عنّابا لا عيب فى العيش إلّا خوف غيبتكم ... إنّ السرور إذا ما غبتمو غابا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 121 وقال هارون بن علىّ المنجّم: غصن على دعص نقّا منهال ... سعى بكأس مثل لمع الآل وفاتنات الطّرف والدّلال ... هيف الخصور رجّح الأكفال يأخذن من طرائف الأرمال ... ومحكم الخفاف والثّقال تجرى مع النّاس بلا انفصال ... مثل اختلاط الخمر بالزّلال تدعو إلى الصّبوة كلّ سال ... تصرع كلّ فاتك بطّال بين حرام اللهو والحلال ... أكرم من مصارع الأبطال وقال شاعر يذمّ مغنّيا: ومغنّ بارد النّغ ... مة مختلّ اليدين ما رآه أحد فى ... دار قوم مرّتين صوته أقطع للّذّ ... ات من سطوة بين وقال ابن الرومىّ: فظلت أشرب بالأرطال لا طربا ... عليه بل طلبا للسّكر والنّوم ذكر ما قيل فى وصف آلات الطرب فمن ذلك ما وصف به العود. نظم أبو الفتح محمود المعروف بكشاجم قول الحكماء: إنّ العود مركّب على الطبائع الأربع، فقال: شدت فجلت أسماعنا بمخفّف ... يحدّثها عن سرّها وتحدّثه مشاكلة أوتاره فى طباعها ... عناصر منها أحدث [1] الخلق محدثه فللنار منه الزّير والبمّ أرضه ... وللريح مثناه وللماء مثلثه   [1] فى ديوان كشاجم: «ألف الخلق» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 122 وكلّ امرئ يرتاح منه لنغمة ... على حسب الطّبع الذى منه يبعثه شكاضرب يمناها فظلّت يسارها ... تطوّقه طورا وطورا ترعّثه فما برحت حتى أرتنا مخارقا ... يجاوبه فى أحسن النّقر عثعثه وحتى حسبت البابليّين [2] ألقيا ... على لفظها السّحر الذى فيه تنفثه وقال آخر: جاءت بعود تناغيه فيسعدها ... انظر بدائع ما تأتى به الشّجر غنّت على عوده الأطيار من طرب ... رطبا، فلما ذوى غنّت به البشر فلا يزال عليه أو به طرب ... يهيجه الأعجمان: الطير والوتر وقال آخر: سقى الله أرضا أنبتت عودك الذى ... ذكت منه أنفاس وطابت مغارس تغنّت عليه الورق والعود أخضر ... وغنّت عليه الغيد والعود يابس وقال آخر: لا تحسب العود إن غنّتك شادنة ... جاءتك بالطّيف فيه نغمة الوتر وإنما الطير ألقت عنده خبرا ... فعذّبوه فنمّ العود بالخبر وقال آخر: فكأنه فى حجرها ولد لها ... ضمّته بين ترائب ولبان طورا تدغدغ بطنه فإذا هفا ... عركت له أذنا من الآذان وقال الناجم: إذا احتضنت عودها عابث ... وناغته أحسن أن يعربا تدغدغ فى مهل بطنه ... فيسمعنا مضحكا معجبا   [1] يريد هاروت وماروت اللذين ورد ذكرهما فى القرآن الكريم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 123 وقال الحمدونىّ: وناطق بلسان لا ضمير له ... كأنه فخذ نيطت إلى قدم يبدى ضمير سواه فى الحديث كما ... يبدى ضمير سواه الخطّ بالقلم وقال كشاجم: جاءت بعود كأنّ نغمته ... صوت فتاة تشكو فراق فتى مخفّف خفّت النفوس به ... كأنما الزّهر حوله نبتا دارت ملاويه فيه واختلفت ... مثل اختلاف الكفّين شبّكتا لو حرّكته وراء منهزم ... على بريد لعاج والتفتا يا حسن صوتيهما كأنّهما ... أختان فى صنعة تراسلتا وهو على ذا ينوب إن سكتت ... عنها، وعنه تنوب إن سكتا وقال أيضا: وجارية مثل شمس النّهار ... أو البدر بين النجوم الدّرارى أتتك تميس بقدّ القضيب ... وترنو بعين مهاة القفار وترفل فى مصمت أبيض ... تلوّن من خدّها الجلّنارى وتحمل عودا فصبح الجواب ... يشارك أرواحنا فى المجارى له عنق كذراع الفتاة ... ودستانة بمكان السّوار فجادت عليه وجادت له ... بعسف اليمين ولطف اليسار فما أمهلته ولا نهنهته ... من الظّهر حتى تقضّى النهار ولمّا تغنّت غناء الوداع ... بكيت وقلت لبعض الجوارى: لئن عشت عند هزار اللّقاء ... لقد متّ عند هزار الإزار الجزء: 5 ¦ الصفحة: 124 وقال أيضا: وكثيرة النّغمات تحسبها ... فى كلّ عضو أوتيت حلقا غنّت فظلت إخالنى طربا ... أسمو إلى الأملاك أو أرقى وتكلّمت أوتارها فأنا ... فيها أخبّر بالذى ألقى تحكى أنينى وهى شاكية ... مما أجنّ وتشتكى عشقا وترى لها عودا تعانقه ... وكلامه وكلامها وفقا لو لم تحرّكه أناملها ... كان الهواء يفيده نطقا جسّته عالمة بحالته ... جسّ الطبيب لمدنف عرقا فحسبت يمناها تحرّكه ... رعدا، وخلت يسارها برقا وقال أيضا: تميس من الوشى فى حلّة ... تجرّر من فضل أذيالها وتحمل عودا فصيح الجواب ... يضاهى اللّحون بأشكالها له عنق مثل ساق الفتاة ... ودستانة مثل خلخالها فظلّت تطارح أوتاره ... بأهزاجها وبأرمالها وتعمل جسّا لجسّ العروق ... وتلوى الملاوى بأمثالها وقال آخر يصف الطّنبور: مخطف الخصر أجوف ... جيده نصف سائره أنطقته يدا فتى ... فاتر اللّحظ ساحره فجلا عن ضميره ... ما حوى فى خواطره الجزء: 5 ¦ الصفحة: 125 وقال سيف الدين المشدّ فى دفّ: وطاريّة قرعت طارها ... وغنّت عليه بصوت عجيب فعاينت شمس الضّحى أقبلت ... وبدر تقدّمها عن قريب وقال أيضا يصف شبّابة: وعارية من كلّ عيب، حبيبة ... إلى كل قلب بات بالبين مجروحا لها جسد ميت يعيش بنفخة ... متى داخلته الريح صارت به روحا تعيد الذى يلقى عليها بلذّة ... تزيد فؤاد الصّبّ وجدا وتبريحا وتنطق بالسحر الحلال عن الهوى ... وتوحى إلى الأسماع أطيب ما يوحى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 126 القسم الرابع من الفنّ الثانى فى التهانى والبشائر والمراثى والنوادب والزهد والتوكل والأدعية وفيه أربعة أبواب الباب الأوّل من هذا القسم فى التهانى والبشائر والتهانى تنقسم إلى قسمين وتنحاز فى جهتين: خصوص وعموم. فالخصوص هو ما يتعلّق بالرجل من منصب يليه، ونعمة تواليه؛ وولد رزقه، وشفاء من مرض أقلقه وأرّقه؛ وقدوم من سفر، وزواج قضى به الأرب والوطر. والعموم هو ما يتعلّق بالجمهور، ويتساوى فيه الملك والمملوك والآمر والمأمور: من انصباب غيث عمّ الرّبا والوهاد، وجريان نيل شمل بريّه البلاد وآمن العباد؛ وهزيمة عدوّ زاد فى عدوانه وتمادى فى طغيانه، وفتوح حصن أمن أهله بتشييد أركانه وإتقان بنيانه. ذكر شىء مما هنّئ به ولاة المناصب كتب بعض الفضلاء تهنئة بخلافة فقال: أمّا بعد، فإن أولى النعم بالدوام، وأرجاها للبقاء والتمام، وأجدرها بالخلود، وأقربها إلى المزيد، وأحراها بالسلامة على نوب الأيام وتصاريف الأحداث، نعمة نشأت بفنائه، وسكنت ذراه فحمدت مثواه، وساسها أولياؤها بحسن المجاورة وكرم المصاحبة سياسة الحانى الشفيق، وكفلوها كفالة الحدب الرفيق؛ فنمت وتمّت، وخصّت وعمّت؛ ثم اعترضها من ريب الزمان ما هاج سواكنها، وأزعج كوامنها؛ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 127 وأصارها إلى الوحشة بعد الأنس، والنّفرة بعد الإلف، تتقلقل تقلقل العوادى، وتشرد شرود الضوالّ، لافظة لها الأقطار ونابية بها المحالّ؛ إلى أن أعادها الله تعالى بلطفه إلى مغناها المعروف، وربعها المألوف؛ واستقرّت بعد الاضطراب، وفاءت بعد الاغتراب. وتلك نعمة الله عند سيّدنا أمير المؤمنين، لما جدّد له من كرامته، واصطفاه له من خلافته، وطوّقه إياه من إمامته؛ وردّه إليه من تدبير الملك، واعتمد عليه من سياسة الأنام؛ فأحيا به السّنن القاصرة، وأزال به الرسوم الجائرة؛ ونهج به سبيل العدل، وأقام به منار الفضل. وقال طريح بن إسماعيل الثّقفىّ فى المنصور لمّا أفضت الخلافة إليه: لمّا أتى الناس أنّ ملكهم ... إليك قد صار أمره سجدوا واستبشروا بالرضا تباشرهم ... بالخلد لو قيل إنهم خلدوا كنت أرى أنّ ما وجدت من الفر ... حة لم يلق مثله أحد حتى رأيت العباد كلّهم ... قد وجدوا فيك مثل ما أجد قد طلب الناس ما بلغت فما ... نالوا ولا قاربوا ولا جهدوا يرفعك الله بالتّكرّم والتق ... وى فتعلو وأنت تقتصد وقال زيد السّندىّ يهنئ الوزير يعقوب بن كلّس بوزارة العزيز بمصر: إنّ الوزارة لم تزل بك صبّة ... تهواك لم يخطر سواك ببالها خطبت فلم تعط القياد لطالب ... وأبت على طلّابها بوصالها وقال ابن بشر الصّقلّىّ الكاتب يهنّئ الحسن بن إبراهيم التّسترىّ بوزارة مصر، وقد وزر للمستنصر فى سنة أربع وخمسين وأربعمائة: بيومك طارت فى البلاد البشائر ... وطابت بمرجوع الحديث المحاضر وأصبحت الأمصار أمنا وغبطة ... أسرّتها مهتزّة والمنابر وقام خطيب الحمد فى كل موقف ... يعدّد ما تملى عليه المآثر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 128 ومنها: لقد عاشرت منك الوزارة ما جدا ... له كنف لا يجتويه المعاشر فسيح امتداد الظّلّ بين رحابه ... وبين المعالى آهل الرّبع عامر «فألقت عصاها واستقرّ بها النّوى ... كما قرّ عينا بالإياب المسافر» وما زلت ملحوظا لها ومؤهّلا ... لذا الأمر مذ شدّت عليك المآزر وقال آخر: كلّما رمت أن أهنّيك وقتا ... بمحلّ من العلا ترتقيه شمت مقدارك الذى أعجز الوا ... صف أعلى من الذى أنت فيه وكتب الحمدونىّ أخو صاحب التّذكرة يهنّئ بالسلامة من حريق وقع فى دار الخلافة: الدّنيا- أعزّ الله أنصار الخدمة الشريفة- دار الامتحان والاختبار، ومجاز الابتلاء والاعتبار؛ ولله فيما نزّله فيها إلى عباده من نعمه، وتخوّلهم من مواهبه وقسمه، عادات يقتضيها بالغ حكمته، وماضى إرادته ومشيئته؛ ليستيقظ الذاهل، ويعترف الجاهل؛ ويزداد العالم اللبيب اعتبارا، ويستفيد العاقل الأريب تفكّرا واستبصارا؛ فلا يغفل عن واجب الشكر إذا سيقت النعمة إليه، ولا يلهو عن استدعاء المزيد منها بالاعتراف إذا أسبغت عليه؛ وهو أن البارى سبحانه إذا تابع آلاءه إلى عبد ووالاها، [وجرّدها [1]] له من الشوائب وأخلاها؛ أماط عن مشاربها أكدار الدنيا المطبوعة على الكدر، وغمر مساربها بالأمن من طوارق الغير؛ خيف عليها الانتقاض والزوال، وتوقّع لها الانتهاء والانتقال. ومن ذلك الخبر المروىّ: أنه لما أنزل الله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينا) ابتهج الصحابة رضى الله تعالى عنهم إلا عمر بن الخطّاب رضى الله عنه فإنه بكى. فقالوا:   [1] زيادة يقتضيها سياق الكلام. ولعل هذه الكلمة أو ما فى معناها سقطت من الناسخ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 129 ما يبكيك وقد أكمل الله لنا ديننا برحمته، وأتمّ لنا سابغ نعمته؟ فقال: يبكينى أنه ماتم أمر إلا بدا نقصه. فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قريب. وإذا كانت مشوبة برائع يتخلّل صفوها، وطارق يجهم فى بعض الأوقات عفوها [1] ؛ كان ذلك صارفا عنها عين الكمال، مؤذنا بطول الآجال؛ حاكما لها بتراخى عمر البقاء، دالّا على الصعود بها إلى درج المكث الطويل والارتقاء؛ وحكمه حكم المرض الذى تصحّ به الأجساد، وتمحّص ذنوب من يسلّط عليه من العباد: فلا يبهج الأعداء سوء ظنونهم ... فلله صنع فى الذى ساء ظاهر فكم طالب شيئا به الشرّ كامن ... وكم كاره أمرا به الخير وافر فلله الحمد الذى جعل ما جرت به الأقدار من الألم الواقع ظاهره، الوجل لوقعه ناظره؛ لعنايته جلّت عظمته عنوانا، وعلى دوام نعمته دليلا واضحا وبرهانا. وإليه الرغبة فى أن يجعل الديار وساكنيها، والناس فى أقاصى الدّنيا وأدانيها؛ لشريف الحوزة التى بها صلاح العالم فداء، وعنها للمكروه وقاء. فكل حادث مع دوام هذه الأيام الزاهرة جلل، وكل غمر [2] من نوائب الدهر ما دافع لطف الله عنها وشل. وقال أبو عبادة البحترىّ يهنّئ الفتح بن خاقان بسلامته من الغرق: بعدوّك الحدث الجليل الواقع ... ولمن يكايدك الحمام الفاجع قلنا: لعا لمّا عثرت ولا تزل ... نوب الليالى وهى عنك رواجع ولربما عثر الجواد وشأوه ... متقدّم ونبا الحسام القاطع لن [3] تظفر الأعداء منك بزلّة ... والله دونك حاجز ومدافع إحدى الحوادث شارفتك فردّها ... صنع الإله ولطفه المتتابع   [1] العفو: الفضل والمعروف وخيار الشىء وأجوده. [2] الغمر: الماء الكثير. وفى الأصل: «وكل غم» وهو تحريف، لأنه يريد المقابلة بينه وبين «وشل» بعده. [3] كذا فى ديوان البحترى. وفى الأصل: «إن تظفر» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 130 حتى برزت لنا وجأشك ساكن ... من نجدة وضياء وجهك ساطع ما حال لون عند ذاك ولاهفا ... عزم ولا راع الجوانح رائع وقال المتنبّى يهنّئ بعافية: المجد عوفى إذ عوفيت والكرم ... وزال عنك إلى أعدائك الألم وما أخصّك فى برء [1] بتهنئة ... إذا سلمت فكلّ الناس قد سلموا ومما هنّئ به من اتّصل بزوجة ذات جمال وحسب، وأصالة وأدب. وقلما تقع التهنئة بذلك إلامين صديقين صحّ بينهما الالتئام، وسقطت بينهما مؤنة الاحتشام؛ وتساويا فى الرتبة، واتّحدا فى الصحبة. فمن ذلك ما كتب به الوزير أبو الحسن العامرىّ إلى بعض إخوانه وقد ابتنى بأهل: بأيمن طائر وأتمّ سعد ... يكون من الكريمين اجتماع أما إنّه المجد اليفاع، والحسن المطاع، تعارفت الطباع، فالتأمت الأنفس الشّعاع؛ كما التقى الثّريّان، واقترن النيّران؛ كما حاصر الرئم الضيغم، وهاصر النسيم الغصن المنعّم؛ كما راق فوق المعطف الصارم العضب، كما التقت الصهباء والبارد العذب؛ بل كما فازت القداح، ونظم الوشاح؛ واعتنق شنّ طبقه، واعتلق الرّوض عبقه. فحبّذا النّسب شابكه الصّهر، والحسب عاقده التّقى والبرّ؛ على حين جرت الأيامن، واكتنف الحرم الآمن. وبالبنين والرّفاء، والنعيم والصّفاء، والثروة والنماء والزمن الرّغد والعزّة القعساء الشّماء؛ على الوفاق، والوئام والاتّساق؛ والحظوظ والجدود، والفسطاط الممدود، وهصر العيش الأملود، والالتئام وتتابع البشرى بالفارس المولود. ومالى تأوّدت أعطافا، وتأنّقت أوصافا! وتهلّلت جذلا، وبسطت فى الدعاء مذلا [2] ! أهنأنى الأرب، أم صفا لى المشرب! وقد غبت عن اليوم المشهود،   [1] كذا فى ديوان المتنبى. وفى الأصل: «وما أخصك فى قون» . [2] كذا فى الأصل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 131 وعطّلت سدّة الإذن للوفود، ولم أقم فى السّماط، سافرا عن وجه الاغتباط؛ أتلقّى الوالج بمبرور التحيّة، وأفدّى الخارج بحكم السرور والأريحيّة؛ وأتخدّم رفع الوحى والإيماء، وأتقدّم من المصافاة والموالاة فى الغفير الجمّاء، كلا! ولا شهدت ليلة الزّفاف، وما حلت من محاسنها الأفواف؛ حيث دارت المنى سلافا؛ وصارت العلا دوحة ألفافا؛ وأبدى رونق السيف جلاء، وأبرز عقيلة الحىّ هداء؛ هنالك حلّت النعماء، ونهلت الأظماء؛ فياله منظرا، ووعدا منتظرا؛ لو ناجيته من كثب، وكرعت منه فى المنهل الأعذب! بلى! إنه [1] وقع، فشفى ونفع؛ والرّكب سنح، فنعم ما منح؛ أهداها حملا، فكأنما أسداها أملا؛ أثلج الفؤاد، وأورى الزّناد، وفى بالنفس أو كاد؛ وملت [2] عن قراه، نفس جذلت بسراه، وأرجت لذكراه. ولله ما أحظاه مقدما وأعلاه فى الإحسان قدما، لو وهبت لمقتضاه من الكرامة دما. وقد كان فى الحق أن أهاجر، وأعصى الناهى والزاجر؛ فابسط لى عذرا، وأعدّنى لك ذخرا، وطب مدى الدهر خبرا وخبرا. ومما هنئ به من رزقه الله ولدا وزاده به قوّة وعددا. فمن ذلك ما كتب به الأستاذ ابن العميد فى فصل يهنئ عضد الدولة بن بويه وقد ولد له ابنان توءمان: وصل كتاب الأمير بالبشرى التى أبت النعمة بها أن تقع مفردة، وامتنعت العارفة فيها أن تسنح موحدة، حتى تيسّرت منحتان فى وطن، وانتظمت موهبتان فى قرن، وطلع من النجيبين أبى القاسم وأبى كاليجار- أدام الله عزّهما- طالعا ملك، ونجما سعد، وشهابا عزّ، وكوكبا مجد؛ فتأهلت بهما رباع المحاسن، ووطّئت لهما أكناف المكارم، واستشرفت إليهما صدور الأسرّة والمنابر. وفهمته وشكرت   [1] فى الأصل: «ان» وهو غير واضح. [2] وردت هذه الكلمة هكذا بالأصل؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 132 الله تعالى شكر من نادى الامال فأجابته مكتّبة، ودعا الأمانى فجاءته [1] مصحبة [2] ، وحمدته حمدا مكافئا جسيم ما أتاح وعظيم ما أفاد؛ واكتنفنى من السرور ما فسح مناهج الغبطة، وسهّل موارد البهجة؛ وأشعت ما ورد إشاعة شرحت صدور الأولياء بمسارّها، وأزعجت قلوب الأعداء عن مقارّها؛ وسألت الله إتمام ما آذن [3] به الأميران السيّدان من سعادة لا يهتدى إليها الاختيار علوّا، ولا ترتقى اليها الأفكار سموّا؛ وسلطان تضيق البحار عن اتساعه، وتنخفض الأفلاك عن ارتفاعه؛ ويبلّغهما أفضل ما تقسمه السعود، وتعلو به الجدود، حتى يستغرقا مع السابقين إخوتهما مساعى الفضل، ويشيدا قواعد الفخر، ويرجما صروف الدهر، ويضبطا أطراف الأرض، وهو تعالى قريب مجيب. ومن كلام الوزير الفقيه أبى القاسم محمد بن الجدّ الأندلسىّ: إنّ أحقّ ما انبسط فيه للتهنئة لسان، وتصرّف فى ميادين معانيه بيان وبنان؛ أمل رجّى فتأبّى زمانا، واستدعى فلوى عنانا؛ وطاردته الأمانىّ فأتعبها حينا، وغازلته الهمم فأشعرها حنينا؛ ثم طلع غير مرتقب، وورد من صحبة المناجح فى عسكر لجب؛ وكان كالمشير إلى ما بعده من مواكب الآمال، والدليل على ما وراءه من كواكب الإقبال؛ أو كالصّبح افترّت عن أنوار الشمس مباسمه، والبرق تتابعت إثر وميضه غمائمه. وفى هذه الجملة ما دلّ على المولود، المؤذن بترادف الحظوظ وتضاعف السعود. فياله نجم سعادة، طلع فى أفق سيادة؛ وغصن سناء، تفرّع عن دوحة علاء. لقد تهلّلت وجوه المحاسن باستهلاله، وأقبلت وفود الميامن لاستقباله؛ ونظمت له قلائد التّمائم، من جواهر المكارم؛ وخصّ بالثّدىّ الحوافل، بلبان الفضائل. وما كان منبت الشرف بإفراد   [1] فى الأصل: «فجعلته» . [2] مصحبة: منقادة. [3] فى الأصل: «ما أدنا» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 133 تلك الأرومة الكريمة إلا مقشعرّ الرّبا، مغبرّ الثرى، متهافت أغصان الرضا. فأمّا وقد اهتزّ أيكة السّيادة قضيب، ونشأ من نبتة النّجابة نجيب؛ فأخلق بذلك المنبت أن تعاوده نضرته، وترفّ عليه حبرته؛ ويراجعه رونقه وبهاؤه، وتضاحكه أرضه وسماؤه. فالحمد لله على ما أتاحه من انثناء الأمل من جماحه، واختيال الجذل فى حلبة غرره وأوضاحه. وهو المسئول أن يهبك منه صنعا يحسن فى مثله الحسد، ويتمنّى لفضله النسل والولد، بعزّته. وقال أبو هلال العسكرىّ: قد زاد فى عدد الكرام كريم ... محض صريح فى الكرام صميم عالى المحلّة لا يزال كأنه ... للفرقدين وللسّماك نديم فلأمره التتميم كيف تصرّفت ... حالاته، ولشأنه التفخيم فابشر فقد وافاك يوم رزقته ... حظّ بتخليد السرور زعيم فرع تكفّل دهره بتمامه ... حتى يكّر الدهر وهو أروم إنّ الهلال يصير بدرا كاملا ... ويهدّ سدّ اللّيل وهو بهيم وهو الوجيه إذا تبدّى وجهه ... وغدا إذا نزل العظيم عظيم فلأهله شرف به متوطّد ... ولهم به شرف أشمّ عميم فاقرر به عينا فإنّ خلاله ... تصفو وتسلس أو يقال نسيم ولجدّه التصميم حيث تلاحقت ... أقرانه ولشأوه التّقديم ومن كلام الصاحب بن عبّاد تهنئة ببنت: أهلا وسهلا بعقيلة النساء، وأمّ الأبناء؛ وجالبة الأصهار، وأولاد الأطهار؛ والمبشّرة بإخوة يتنافسون، ونجباء يتلاحقون. فلو كان النّساء كمثل هذى ... لفضّلت النّساء على الرّجال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 134 وما التأنيث لاسم الشمس عيب ... ولا التذكير فخر للهلال فادّرع يا سيّدى اغتباطا، واستأنف نشاطا؛ فالدنيا مؤنّثة والرجال يخدمونها، والذكور يعبدونها؛ والأرض مؤنّثة ومنها خلقت البرية؛ وفيها كثرت الذّرّيّة؛ والسماء مؤنّثة وقد تزيّنت بالكواكب، وحليت بالنجم الثّاقب؛ والنّفس مؤنّثة وهى قوام الأبدان، وملاك الحيوان؛ والجنّة مؤنّثة وبها وعد المتّقون، وفيها ينعم المرسلون. فهنيئا هنيئا ما أوليت، وأوزعك الله شكر ما أعطيت؛ وأطال بقاءك ما عرف النسل والولد، وما بقى الأبد، وكما عمّر لبد. ومن كلام أبى المكارم بن عبد السلام من شعراء الخريدة: هذا شعيب النبىّ بابنته صفوراء استأجر موسى كليم الله. وهذا سيّد المرسلين، أبقى الله بفاطمة ابنته نسله إلى يوم الدّين. وهذه أمّ الكتاب سمّيت الفاتحة، وهى لأبواب مناجاة الرحمن فاتحة. وهذه محكمات القرآن، بها ثبتت شرائع الإيمان. وهذه سورة النساء وسمّيت بهنّ وهى من الطّوال، ولا سورة من القصار سمّيت بالرجال. على أنّ الدّنيا بأسرها مؤنّثة والملوك من خدّامها، والشّمس مؤنّثة والضّياء والبهاء من تمامها؛ والنفس تؤنّث وبها فضّل الناس، والحياة تؤنّث وهى أساس الحواس؛ والعين تؤنّث وبها يتوسّل الى علم الدقائق؛ واليد تؤنّث وهى المتصدّية لتحبير الأشياء، والعضد تؤنّث وبها استعانة سائر الأعضاء؛ والسماء تؤنّث وهى تزجى الأمطار، والأرض تؤنّث وهى مجمع أطايب الثّمار، والجنّة تؤنّث وبها وعد الأبرار الأخيار؛ والعين (أعنى الذهب) تؤنّث وبها يدفع الهلك، والقوس تؤنّث وبها عزّ الملك. ومما هنّئ به فى المواسم والقدوم- قال ابن الرومى تهنئة بعيد الفطر: قد مضى الصّوم صاحبا محمودا ... وأتى الفطر صاحبا مودودا ذهب الصّوم وهو يحكيك نسكا ... وأتى الفطر وهو يحكيك جودا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 135 وقال آخر: رأى العيد وجهك عيدا له ... وإن كنت زدت عليه جمالا وكبّر حين رآك الهلال ... كفعلك حين رأيت الهلالا رأى منك ما منه أبصرته ... هلالا أضاء ووجها تلالا وقال ابن الرومىّ يهنّئ بعيد أضحى وهو يوم نوروز: عيدان: أضحى ونوروز كأنهما ... يوما فعالك من بؤس وإنعام كذاك يوماك: يوم سيبه ديم ... على العفاة، ويوم سيفه دامى وقال أبو إسحاق الصّابى: يا سيّدا أضحى الزما ... ن بأنسه منه ربيعا أيّام دهرك لم تزل ... للنّاس أعيادا جميعا حتى لأوشك بينها ... عيد الحقيقة أن يضيعا وقال الشّريف الرّضىّ تهنئة بقدوم: قدم السّرور بقدمة لك بشّرت ... غرر العلا وعوالى التّيجان قلقت ظبا الأسياف منك بفرحة ... فتكاد تنهضها من الأجفان قد كان هذا الدهر يلحظ جانبى ... عن طرف ليث ساغب ظمآن فالآن حين قدمت عدن صروفه ... يرمقننى بنواظر الغزلان ومما قيل من شواذّ التهانى وهى الجمع بين التهنئة والتعزية، والبشارة والتسلية- فمن ذلك ما قاله عبد الملك بن صالح للرشيد، وكان من يحسده قد قال للرشيد عنه: إنه يعدّ كلامه. فأنكر الرشيد ذلك وقال: بل هو طبع. وجلس فى بعض الأيام ودخل عبد الملك؛ فقال الرشيد للفضل: قل له: ولد لأمير المؤمنين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 136 فى هذه الليلة ابن ومات له ابن. فقال الفضل له ذلك. فدنا عبد الملك وقال: يا أمير المؤمنين، سرّك الله فيما ساءك، ولا ساءك فيما سرّك، وجعلها واحدة بواحدة، ثواب الشاكر وأجر الصابر. فقال الرشيد: أهذا الذى زعموا أنه يتصنّع الكلام! ما رأى الناس أطبع من عبد الملك فى الفصاحة. ومن ذلك ما حكاه ثمامة بن أشرس قال: لمّا دخل المأمون بغداد بعد قتل الأمين دخلت عليه زبيدة بنة جعفر أمّ الأمين، فجلست بين يديه وقالت: الحمد لله! إن أهنّئك بالخلافة فقد هنّأت بها نفسى قبل أن أراك، وإن كنت فقدت ابنا خليفة لقد اعتضت ابنا خليفة. وما خسر من اعتاض مثلك، ولا ثكلت أمّ ملأت عينها منك. وأنا أسأل الله أجرا على ما أخذ، وإمتاعا بما وهب. فقال المأمون: ما تلد النساء مثل هذه، ما تراها أبقت فى الكلام لبلغاء الرجال! وقال عبد الله بن الحسن الجعفرىّ السمرقندىّ يهنّئ العزيز بخلافة مصر ويرثى أباه المعزّ: قد أصبح الجوهر العلوىّ منتقلا ... فى خير من كان من خير الورى بدلا يا منحة كملت فى محنة عظمت ... لو لاك فى الدّهر ما نال امرؤ أملا صنع من الله فى خطب أتيح لنا ... عمّ البلاد وعمّ السّهل والجبلا كان الزمان بمن أبقى ومن أخذت ... صروفه مدنبا طورا ومنتصلا قام العزيز بما أفضى المعزّ به ... إليه مضطلعا بالعبء محتملا فقام أحفظ مسترعى رعى فكفى ... من بعد خير إمام قوم الميلا كالسيف منصلتا والبحر مندفقا ... والبدر مؤتلقا والغيث محتفلا ومنها: فى طلعة البدر من شمس الضّحى عوض ... وظلمة الّليل يجلو جنحها ابن جلا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 137 وما الأئمّة إلا أنجم زهر ... يبدو لنا كوكب إن كوكب أفلا إنّ المعزّ الذى لا خلق يشبهه ... إلّا العزيز ابنه إن قال أو فعلا ملك وجدنا التّقى والعدل عدّته ... إذا الملوك استعدّوا الكيد والحيلا سمت الى العالم النّورىّ همّته ... ففارق القمّ الأرضىّ وانتقلا وراجعت نفسه فى القدس عنصرها ... ولم يزل بحبال الله متّصلا لم يرض خلقا من الدّنيا يجاوره ... إلّا الملائك فى الفردوس والرّسلا لولا نزار وعين الله تحرسه ... كنّا بفقد معدّ أمّة هملا فإن مضى كافل [1] الدّنيا وما ضمنت ... فذا ابنه كافل عنه بما كفلا وإن هوى الجبل الراسى فذا جبل ... راس لنا بعده، أعظم به جبلا! عمّت خلافته الدّنيا برونقها ... كأنه الشّمس فيها حلّت الحملا ملك أغرّ وأيّام محجّلة ... ودولة كلّ وقت تقهر الدّولا أضحت ملوك بنى الدّنيا له خولا ... وما حوت كلّ دار منهم نفلا يأيّها الملك المأمول نائله ... ومن هو الغاية القصوى لنا أملا كان السرير سرير الملك منخفضا ... حتى ارتقيت ذراه فارتقى وعلا ومن ذلك ما كتب به عامل الى المصروف به: قد قلّدت العمل بناحيتك، فهنأك الله بتجدّد [2] ولايتك، فأنفذت خليفتى لخلافتك، فلا تخله من هدايتك، إلى أن يمنّ الله بزيارتك. فأجابه: ما انتقلت عنّى نعمة صارت إليك، ولا خلوت من كرامة اشتملت عليك. وإنى لأجد صرفى بك ولاية ثانية وصلة وافية؛ لما أرجو لمكانك من حسن الخاتمة ومحمود العاقبة. والسلام.   [1] فى الأصل: «كامل الدنيا» . [2] فى الأصل: «تجدد» من غير حرف الجر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 138 وكتب إبراهيم بن عيسى الكاتب يهنّئ إبراهيم بن المدبّر بالعزل عن عمل: ليهنئ أبا إسحاق أسباب نعمة ... مجدّدة بالعزل، والعزل أنبل شهدت لقد منّوا عليك وأحسنوا ... لأنك بعد العزل أعلى وأفضل آخر: إنّ الأمير هو الّذى ... يضحى أميرا عند عزله إن زال سلطان الولا ... ية فهو فى سلطان فضله وكتب أبو إسحاق الصّابى الى رجل زوّج أمّه: قد جعلك الله- وله الحمد- من أهل التحصيل، والرأى الأصيل؛ وصحّة الدّين، وخلق ذى اليقين. فكما أنّك لا تتّبع الشهوة فى محظور تحلّه، فكذلك لا تطيع الأنفة فى مباح تحظره. وتأدّى إلىّ من اتّصال الوالدة- يسّر الله لها فى مدّتك، وأحسن بالبقيّة منها إمتاعك- بأبى فلان، أعزّه الله، ما علمت فيه أنّك بين طاعة للدّيانة توخّيتها، ومشقّة تجشّمتها؛ وأنّك جدعت أنف الغيرة بها، وأضرعت خدّ الحميّة فيها، وأسخطت نفسك بإرضائها، وعصيت هواك لرأيها. فنحن نهنّيك بعزيمة صبرك، ونعزّيك عن فائت مرادك؛ ونسأل الله الخيرة لك فيه، وأن يجعلها أبدا معك فيما شئت وأبيت، وتجنّبت وأتيت. وقال كاتب متقدّم فى مثل ذلك: الرضا بما يبيحه حكم الله أولى من الامتعاض فيما تحظره أنفة الحميّة. ولا قبح فيما أحلّ الله، كما لا جمال فيما حرّم الله. فعرّفك الله الخيرة فيما اختارته من طهارة العفاف ونبل الحصانة، وعطفك من برّها على ما تؤدّى به حقّها، وما لزمك من المعروف فى مصاحبتها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 139 وكتب الصّاحب بن عبّاد تهنئة بزواج أمّ وتعزية بموت أب، فقال: الأيّام- أطال الله بقاءك- تجرى على أنحاء مختلفة، وشعب متفرّقة؛ وأحكامها تتفاوت بيننا بما يسوء ويسرّ، وينفع ويضرّ. وبلغنى من نفوذ قضاء الله فى شيخك- رحمه الله- ما أزعجنى، وأبهم طرق السلوة دونى، وإن كان من خلّفك غير خارج عن مزيّة الأحياء، ولا حاصل فى زمرة الأموات. والله يأسو كلمك، ويسدّ ثلمك. وقد فعل ذلك بأن أتاح الله لك بعد أبيك أبا لا يقصر عنه شفقة عليك وحنوّا، وإيثارا لك وبرّا. وقد لعمرى وفّقت حين وصلت بحبلك حبله، وأسكنت الكبيرة- حرسها الله تعالى- ظلّه؛ لئلا تفقد من الماضى- عفا الله عنه- إلّا شخصه. فالحمد لله الذى أرشدك لما يعيد الشّمل مجتمعا بعد فراقه، والعدد موفورا بعد انتقاصه؛ حمدا يقضى لك بالمسرّة، ويحسم دونك مراد الوحشة، ويلقّيك ثواب ما قضيته من الحق، وتحمّلته فيه من الأوق [1] ؛ إنه فعّال لما يريد. فهذه نبذة كافية فى التهانى الخاصة؛ فلنذكر العامّة. ذكر نبذة من التهانى العامّة والبشائر التامّة ولنبدأ من ذلك بما قيل فى البشارة بوفاء النيل، لما فيه من عموم المنافع الشاملة، وشمول النّعم الكاملة، والخصب الذى يتساوى فى الانتفاع به الغنىّ والفقير، والمأمور والأمير. فمن ذلك ما كتب به المولى الفاضل، الصدر الكبير الكامل، ذو المناقب والمآثر، والفضائل وللفاخر، شهاب الدين محمود الحلبىّ:   [1] الأوق: الثقل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 140 وسرّه بنبأ النيل الذى عمّ نيلا، وجرّ على وجه الأرض ملاءة ملأته، فشمّر المحل للرّحلة ذيلا، وجرّد على الجدب سيف خصبه فسال محمرّ دمه على وجه الصّعيد سيلا، وجرى وسرى فى ضياء إشراقه وظلمة تراكمه إلى الأرض التى بارك به حولها، فجلّ من أجراه نهارا وسبحان من أسرى به ليلا. صدرت هذه المكاتبة إليه- أعزّه الله تعالى- ونعم الله قد عمّت، وآلاؤه مع تحقّق المزيد قد تمّت، وموادّ فضله قد أمّت الأقطار فقامت صلاة الصّلات إذ أمّت؛ وكلمة الخصب قد نمت فى الآفاق، فوشت بمكنون حديثها للأرض ونمّت؛ والخصب قد أقبل على الجدب فلم يكن له بمقاومته قبل، وطوفان الرّحمة قد طبق الوهاد، فلم يغن المحل أن قال: سآوى منه إلى جبل. والسيل قد بلغ فى تتبّع بقايا القحط الزّبى، والنّيل قد عمّ بنيله الأرض حتى كلّل مفارق الآكام وعمّم رءوس الرّبا؛ وحمى الأرض من تطرّق المحول إليها فأصبحت منه فى حرم، وظهرت به عجائب القدرة، ومنها أنّ ابن الستة عشر بلغ إلى الهرم، وبثّ جوده فى الوجود فلو صوّر نفسه لم يزدها على ما فيه من كرم؛ وتلقّت منه النفوس أبهج محبوب طرد ممقوتا، ووثقت من حمرته بالغنى والمنى إذ لم تدر أياقوتا تشاهد منه أم قوتا. وجرى فى الوفاء على أكمل ما ألف من عادته، وظهر بإشراقه وعموم نفعه ظهور الشّمس فألقى على الأرض أشعّة سعادته؛ وأقبلت به على الخلق بوادر الإقبال، وركب الناس منه فى سفن النجاح والنجاة فهى تجرى بهم فى موج كالجبال. وبلّغ الله به المنافع فزعزع الشّمّ ولم يتجاسر على الجسور، وأمن الناس به طروق المحل المطرود به عنهم فضرب بينهم بسور، وأقطع الخصب الأرض كلها فله فى كل بقعة مثال مرئىّ ومنشور منشور، وبعث إلى كل عمل من سرايا جوده عارضا مغضبا على المحل ما يخطر إلّا وسيفه مشهور؛ وأودع بطن الثّرى موادّ ثرائه، واستقبل الورى بوجه ما تأمّله امرؤ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 141 صادى الجوانح إلا ارتوى من مائه، وأظهر الله به مثال ما سلف من كرامة أصفيائه؛ إذ جعل تحت كل نخلة من سراه سريّا، وجلا به عن الأمّة ظلم الغمّة إذ أطلع منه فى أوّل مطالعه المرتقبة محيّا بدريّا. وذلك أنه لما كان فى اليوم الفلانىّ وفى النّيل المبارك ستة عشر ذراعا، ومدّ بحسن صنع الله إلى مصالح البلاد يدا صناعا؛ وركبنا إلى المقياس الذى تعلم به مواقع الرحمة فى كلّ يوم، وتهدى منه واردات السرور إلى كلّ قوم؛ ووقفنا به لابسين من رحمة الله تعالى أحسن لباس، آنسين من أنوار رحمة الله التى أزالت اليأس وأذهبت الباس، ناظرين إلى أثر رحمة الله التى أحيت الأرض بعد موتها، ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس. وجرى الأمر فى التخليق على أجمل عادات البدور، وعلّقت ستارة المقياس لا للإخفاء على عادة الأستار، بل للإشاعة والظهور؛ واستقرّ حكم المسرّة على السّنن المعهود، وعاد للناس عيد سرورهم إذ ذاك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود. وركب مولانا السلطان إلى سدّ الخليج والماء قد استطال عليه، وسرت سرايا أمواجه إليه، وصدمه بقوّة فاندفع منكسرا بين يديه؛ فانجبرت القلوب بكسره، واستوفت الأنفس السّرور بأسره، وأيقن كل ذى عسر بحصول يسره؛ وساق الله به الماء إلى الأرض الجرز فأحياها وحيّاها، ورقّ لوجهها المغبرّ فستر بردائه المحمرّ صفحة محيّاها. كل ذلك وهو- بحمد الله تعالى- آخذ فى الازدياد، جار على وفق المراد إلى حدّه المعتاد، سالك ببلاغه سبيل أهل البلاغة إذ يهيمون فى كلّ واد. وها هو الآن يرتفع إلى كلّ ربوة على جناح النّجاح، ويخيف السّبل وما عليه حرج ويقطع الطّرق وليس عليه جناح. فليأخذ مولانا حظّه من هذه البشرى التى عمّ بشرها، ووجب على كل مؤمن شكرها؛ ويتحقق أنّ هذه بوادر خير تسرى إليه على ركائب السّحائب، وطلائع خصب هى لديه أقرب غائب وأسرع آئب. والله تعالى يعزّ أنصاره، ويوالى مبارّه، بمحمد وآله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 142 وكتب أيضا فى مثل ذلك: ضاعف الله نعمة المجلس العالى، وبشّره بما أجرى الأمّة عليه من عوائد كرمه، وسره بما يسره من خصوص برّه وعموم نعمه، وهنّاه بما سنّاه [1] من هرب جيش المحل بعد قدم وثباته وثبات قدمه، وأورد على سمعه من أنباء نصرة الخصب ما يتحقّق به أن لم يبق فى الأرض علم إلا تحت علمه، وأنه ذبح الجدب بسيف مدده الذى أنبأ بحمرة عندمه عن دمه، وبثّ سراياه فى الأقطار، على متون القطار، مرهفا على بقايا المحل سيوف بروقه ونبال ديمه؛ وضرب قباب موجه على المسالك، فلو هبّت بينها عاصفة جدب تعثّرت بأطناب خيمه، ولعب على ما شمخ من الرّبا، فعجب له من كامل يلعب وقد بلغ إلى هرمه! صدرت هذه المكاتبة تقصّ عليه من نعم الله أحسن القصص، وتهدى إليه من موادّ فضله ما يخصّ الشأم وأهله منه بأوفى الأقسام وأوفر الحصص، وتحثّه على شكر الله تعالى الذى به ينتهز من مزيد برّه أعظم الحظوظ وأفضل الفرص، وتعلم أنّ الله نصر جيش الرخاء بمدد لطفه على اليأس الذى تولّى الشيطان أمره فلمّا تراءت الفئتان نكص، وأنعم على خلقه بما أرخصته عزائم كرمه بهم، فوجب أن تقابل نعمه بعزائم الشكر دون الرّخص؛ وذلك أن الله تعالى أجاب دعوة المضطرّ، وأفاض برّه العميم على الغنىّ والفقير والقانع والمعترّ؛ وأحيا الأرض بعد موتها، وتدارك برحمته دنيا الدّهماء بعد أن أشرفت على فوتها؛ وأجرى الخلق على عوائد كرمه، وأجرى لهم بقدرته من حجب الغيب موادّ نعمه، وأعلى لديهم موارد نيلهم حتى كاد ما يشرب بفروق ساقه يتناول الماء بفمه؛ وأمر البحر فأقبل بالفرج القريب من الأمد البعيد، وأذن له فى الترفّع من محلّه فسجد على التّرب شكرا وتيمّم الصعيد وإن لم يبق به الآن على وجه   [1] سناه: سنه وسهله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 143 الأرض صعيد؛ وأسرى منه ركائب السرور إلى الأقطار ففى كلّ ناد من هديره حاد وفى كل برّ من بروره بريد، وذكّر بإحياء الأرض بعد موتها إحياء أمواتها، إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ، ونشر ألويته على الثّرى لأهل الأرض بشرا بين يدى رحمته، وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ؛ وأقبل بعد نقص عامه الماضى بوجه عليه حمرة الخجل، وعزم سبق سيفه إلى المحل العذل بل الأجل، وحزم أدرك الجدب بوجه قبل أن يقول: سآوى إلى جبل، واستظهار على كلّ ما علا من الأرض حتى إن الهرمين باتا منه على وجل؛ ومهّد الأرض التى كانت ترقبه فهو لها المنتظر على الحقيقه، ووطئ بطن القرى فنتج الخصب بينهما وذبح المحل فى العقيقه؛ وقطع الطّرق فآمن بذلك كلّ حاضر وباد ورائح وغاد، واتّبعه الرّىّ لا الرّوىّ حتى أضحى كالشعراء يهيم فى كل واد؛ وعمت بركاته على الأرض «فتركن كل قرارة كالدرهم» من الخصب مرتعا، وأربى على ريّه فيما [1] سلف من السنين، فأضحى كهوى ابن أبى ربيعة «يقيس ذراعا كلما قسن إصبعا» ؛ وتجعّد على الآكام فخيّل للعيون أنها تسيل، وشيّب مفارق الرّبا ببياض زبده، وعادة بياض الشيب أن يخضب بورق النيل. وكأنّ ما بقى من المحل قد جعل بينه وبينه سدّا، وتستّر منه ورآه وهو يملى ويعدّ له عدّا؛ فصدمه بقلبه وجعله دكّا إذ جاء أمر ربه وأدركه وملكه، وسفك دمه فجرى مستطيلا إذ سفكه؛ ووفى بما وعد من ظفره، وأتى لنصرة الخصب من مكان بعيد فأسفر عن النّجح وجه سفره، وأسبل على مقياسه ستر السرور لإخفاره ذمّة الجدب لا لخفره، وبشّر مصره بنصرة سرايا السحائب   [1] فى الأصل: «وأربى على ريه ما سلف من السنين» وظاهر أنه غير مستقيم. ويجوز أن يكون الأصل: «وأربى ريه على ما سلف» فحدث فيه تقديم وتأخير من الناسخ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 144 فى أقطار الممالك لأنها من أشياعه ونفره. ولما كان اليوم الفلانى علّق الستر وخلّق المقياس، وكسر الخليج فكان فى كسره جبر للخليقة ومنافع للناس؛ وذلك بعد أن وفّى النيل المبارك ستة عشر ذراعا، وصرف فى مصالح البلاد يدا تضنّ بالبذل خرقا وتكفى بحسن التدبير ضياعا، [وبثّ فى أرجاء الأعمال بحارا تحسب بتلاطم الأمواج ركاما وبمضاعفة الفجاج [1] سراعا] . وهو بحمد الله آخذ فى ازدياده إلى حدّه، جار على اعتياده فى المشى على وجه الثرى وخدّه؛ يتتبّع أدواء المحل تتبّع طبيب خبير، ويعكس بيت أبى الطّيّب فتمسى وبسطها تراب، ويصبّحها وبسطها حرير. وقد وثقت الأنفس بفضل الله العميم، وأصبح الناس بعد قطوب اليأس تعرف فى وجوههم نضرة النّعيم؛ تيمّنا ببركة أيّامنا التى أعادت إليهم الهجوع، وأعاذتهم مما ابتلى به غيرهم من الخوف والجوع. فليأخذ المجلس العالى حظّه من هذه البشرى التى خصّت وعمّت، ووثقت النفوس بمزيد النعمة إذ قيل: تمّت؛ ويذيعها فى الأقطار، ويعرّفهم قدر ما منح الله جيوش الإسلام من فضله الذى يعجب الزّرّاع ليغيظ بهم الكفّار؛ ويستقبل نعم الله التى سيسم الأرض وسميّها ويولى النعم وليّها ويأتى بالبركات أتيّها حتى تغصّ بالنعم تلك الرّحاب، ويظنّ لعموم رىّ البلاد الشاميّة أنّ نيل مصر وصل إليها على السّحاب؛ ويقيم منار العدل الذى هو خير بالأرض من أن تمطر، ويعفّى آثار الظلم حتى لا تكاد تظهر. ومما قيل فى التهانى بالفتوحات، وهزيمة جيوش الأعداء. فمن ذلك ما كتب به المهلّب بن أبى صفرة إلى الحجّاج بن يوسف الثقفىّ فى حرب الأزارقة:   [1] وردت هذه الجملة هكذا بالأصل! الجزء: 5 ¦ الصفحة: 145 أمّا بعد، فالحمد لله الذى لا تنقطع موادّ نعمته من خلقه حتى تنقطع موادّ السّكر. وإنّا وعدوّنا كنا على حالتين: يسرنّا منهم أكثر مما يسوءنا، ويسوءهم منّا أكثر مما يسرّهم؛ فلم يزل الله عز وجل يزيدنا وينقصهم، ويعزّنا ويذلّهم، ويؤيّدنا ويخذلهم، ويمحصنا ويمحقهم؛ حتى بلغ الكتاب أجله، فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين. وكتب الحارث بن عبد الله بن أبى ربيعة حين ولّى العراق من قبل عبد الله ابن الزبير إليه يخبره بهزيمة الخوارج: أمّا بعد، فإنا مذ خرجنا نؤمّ هذا العدوّ فى نعم من الله متّصلة علينا، ونقمة من الله متتابعة عليهم؛ نقدم ويحجمون، ونجدّ ويرحلون، إلى أن حللنا بسوق الأهواز. والحمد لله رب العالمين. ثم كتب إليه بعد هذا الكتاب [1] : أمّا بعد، فإنا لقينا الأزارقة بجدّ وحدّ، وكانت فى الناس جولة ثم ثاب أهل الحفاظ والصبر بنيّات صادقة وأبدان شداد وسيوف حداد؛ فأعقب الله خير عاقبة، وجاوز بالنعمة مقدار الأمل، فصاروا دريئة رماحنا وضريبة سيوفنا، وقتل الله أميرهم ابن الماحوز؛ وأرجو أن يكون آخر هذه النعمة كأوّلها. والسلام. وكتب طاهر بن الحسين إلى المأمون لمّا فتح بغداد وقتل محمدا الأمين: أمّا بعد، فإن المخلوع وإن كان قسيم أمير المؤمنين فى النسب واللّحمة، لقد فرّق الله بينهما فى الولاية والحرمة؛ لمفارقته عصمة الدين، وخروجه عن الأمر الجامع للمسلمين. قال الله عز وجل: يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ . ولا صلة لأحد فى معصية الله، ولا قطيعة فى ذات الله. وكتبت إلى أمير المؤمنين وقد قتل المخلوع   [1] فى الكامل المبرد (ص 640 صبع أوربا) ان هذا الكتاب من المهك الى الحارث. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 146 وردّاه الله رداء نكبة، وأحمد لأمير المؤمنين أمره، وأنجز له ما كان ينتظر من صادق وعده. والحمد لله المتولّى لأمير المؤمنين بنعمته، والراجع إليه بمعلوم حقّه، والكائد له ممن ختر عهده ونكث عقده؛ حتى ردّ له الألفة بعد تفريقها، وأحيا الأعلام بعد دروس أثرها، ومكّن له فى الأرض بعد شتات أهلها. ولمّا فتح المعتصم عمّوريّة أكثر الشعراء من ذكر هذا الفتح؛ فمن ذلك قول أبى تمام حبيب بن أوس الطائى من قصيدته التى يقول فى أوّلها: السيف أصدق إنباء من الكتب ... فى حدّه الحدّ بين الجدّ واللّعب بيض الصفائح لا سود الصحائف فى ... متونهنّ جلاء الشكّ والرّيب والعلم فى شهب الأرماح لامعة ... بين الخميسين لا فى السبعة الشّهب جاء منها: فتح الفتوح تعالى أن يحيط به ... نظم من الشّعر أو نثر من الخطب فتح تفتّح أبواب السماء له ... وتبرز الأرض فى أثوابها القشب ومنها: وبرزة الوجه قد أعيت رياضتها ... كسرى وصدّت صدودا عن أبى كرب بكر فما افترعتها كفّ حادثة ... ولا ترقّت إليها همّة النّوب من عهد إسكندر أو قبل ذاك فقد ... شابت نواصى اللّيالى وهى لم تشب حتى إذا مخض الله السنين لها ... مخض الحليبة كانت زبدة الحقب أتهم الكربة السوداء سادرة ... منها وكان اسمها فرّاجة الكرب لمّا رأت أختها بالأمس قد خربت ... كان الخراب لها أعدى من الحرب أشار فى هذا البيت إلى فتح أنقرة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 147 ومنها: لبّيت صوتا زبطريّا هرقت له ... كأس الكرى ورضاب الخرّد العرب قيل: كانت الروم لمّا فتحت زبطرة صاحت امرأة من المسلمين: وا محمداه! وا معتصماه! فلما بلغه الخبر ركب لوقته يؤمّ الشأم، وصاح: لبّيك! لبّيك! ولم يرجع إلى أن فتح أنقرة وعمّوريّة. ومنها: خليفة الله جازى الله سعيك عن ... جرثومة الدّين والإسلام والحسب إن كان بين صروف الدهر من رحم ... موصولة أو ذمام غير منقضب فبين أيّامك الّلاتى نصرت بها ... وبين أيام بدر أقرب النّسب وكتب أبو عبيد [عبد] الله البكرى إلى المعتمد على الله المؤيّد بنصر الله يهنّئه بالفتح الذى كان فى سنة سبع وسبعين وأربعمائة: أطال الله بقاء سيّدى ومولاى الجليل القدر، الجميل الذكر، ذى الأيادى الغرّ، والنعم الزّهر؛ وهنأه ما منحه من فتح ونصر، واعتلاء وقهر. بطالع السعد يا مولاى أبت، وبسانح اليمن عدت، وبكنف الحرز عذت، وفى سبيل الظّفر سرت، وبقدم البرّ سعيت، وبجنّة العصمة أتيت، وبسهم السّداد رميت فأصميت. صدر عن أكرم المقاصد وأشرف المشاهد، وعود بأجلّ ما ناله عائد وآب به وارد؛ فتوح أضحكت مبسم الدهر، وسفرت عن صفحة البشر، وردّت ماضى العمر، وأكبت [1] وارى الكفر؛ وهزّت أعطاف الأيام طربا، وسقت أقداح السرور نخبا، وثنت آمال الشرك كذبا، وطوت أحشاء الطاغية رهبا؛ فذكرها زاد الراكب، وراحة اللّاغب؛ ومتعة الحاضر، ونقلة المسافر.   [1] أكبت: جعلته لا يورى. وفى الأصل: «أكفت» . ولعله تحريف من الناسخ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 148 بها تنقض الأحلاس فى كلّ منزل ... وتعقد اطراف الحبال وتطلق شملت النعمة وجبرت الأمة، وجلت الغمّة؛ وشفت الملّة، وبرّدت الغلّة، وكشفت العلّة. كان داء الإشراك سيفك واشت ... دّت شكاة الهدى وكان طبيبا فغدا الدّين جديدا، والإسلام سعيدا، والزمان حميدا؛ وعمود الدين قائما، وكتاب الله حاكما؛ ودعوة الإيمان منصورة، وعين الملك قريرة. فهنأ الله مولانا وهنأنا هذه المنح البهيّة مطالعها، الشّهيّة مواقعها؛ المشهورة آثارها، المأثورة أخبارها؛ ونصر الله أعلامه ففى البرّ تحلّ وتعقد، وعضد حسامه فبالقسط يسلّ ويغمد؛ وأيّد مذاهبه فبالتّحزّم تسدى وتلحم، وأمّر كتائبه ففى الله تسرج وتلجم. فكم فادح خطب كفاه، وظلام كرب جلاه، وميّت حقّ أحياه، وحىّ باطل أرداه! وكم جاحم ضلالة أطفأ ناره، وناجم فتنة قلّم أظفاره، ومفلول سنّة أرهف شفاره، ومستباح حرمة حمى ذماره. فلله هذه المساعى الكريمة والمنازع القويمة، المتبلّجة عن ميمون النّقيبة ومحمود العزيمة؛ فقد تمثّل بها العهد الأوّل والقرن الأفضل الذى أخرج للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر؛ والذى سطع هذا السّراج، وانتهج هذا المنهاج؛ فلا زالت الفتوح تتوالى عليه، وصنائع الله تتّصل لديه، إدالة من مشاقّيه وإذالة لمحاربيه، وإبادة لمناوئيه. وإن أجلّ هذه النعم فى الصدور، وأحقّها بالشكر الموفور؛ ما منّ الله به من سلامة مولاى التى هى جامعة لعزّ الدّين وصلاح كافّة المسلمين، بعد أن صلى من الحرب نيرانها، فكان أثّبت أركانها وأصبر أقرانها: وقفت وما فى الموت شكّ لواقف ... كأنّك فى جفن الردى وهو نائم تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمة ... ووجهك وضّاح وثغرك باسم هنيئا لضرب الهام والمجد والعلا ... ووجهك والإسلام أنّك سالم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 149 فلله الحمد والإبداع والإلهام، وله المنّة وعلينا متابعة الشكر والدوام. وقد فازت الكفّ الكليم، بأعلى قداح المكلوم لدى المقام الكريم؛ وإنها لهى التالية للإصبع الدامية فى المنزلة العالية. بصرت بالراحة العليا [1] فلم ترها ... تنال إلا على جسر من التّعب ومن كلام القاضى الفاضل عبد الرحيم البيسانىّ جواب كتاب ورد عليه يخبر فيه بانتصار المسلمين. ابتدأه بقوله عز وجل: يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ . وصلت بشرى المجلس السامى- أعلاه الله وشيّده، وأسعده وأصعده، وشكر مشهده وأنجح مقصده، وملأ بالحسنات أمسه ويومه وغده، وأهلك وعادى أعداءه وحسّده، واجتبّ بسيفه زرع الكفّار وذراه وحصده- بما منّ الله سبحانه من نصرة المسلمين عند لقاء عدوّهم؛ وما وليهم الله من القوّة والإظهار، وما قذف فى قلوب الكفر من الخوف والحذار؛ وشرح القضيّة شرحا شرح الصدور، واستوى فيها الغيّاب مع الحضور؛ فكانت البشارة منه وكانت المباشرة له، وما كلّ من بشّر باشر، ولا كلّ من غار غاور؛ ولا كلّ من خبّر عن السيوف لقيها بوجهه، ولا كلّ من حدّث عن الرماح عانقها بصدره. فنفعه الله بالإسلام كما نفع الإسلام به، وأتمّ النعمة عليه كما أتمّها فيه؛ وتقبّل جهاده الذى جلا فيه الكربات، وابتغى فيه القربات. ويتوقّع إن هان العدوّ فى العيون، وظهر منه غير ما كان فى الظنون، أن يكسر الله بكم مصافّه، ويفتح عليكم بلاده، ويطهّر بسيوفكم الشام، ويسرّ بنصركم الإسلام، ويشرّف بيوم نصركم الأيّام. والخير يغتنم إذا عنّت فرصه، ويصاد إذا أمكن الصائد قنصه، والجهاد فرض على المطيق تقتضيه عزائمه ولا تقتضيه رخصه. وقد حضر المولى وحضر كلّ خير، وحضر من رأيه ما يكفى   [1] فى ديوان أبى تمام: «الكبرى» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 150 أمر العدوّ ولو لم يكن إلا رأيه لا غير؛ فكيف وفى يده من العضب، مثل ما فى صدره من القلب؛ كلاهما حديد لا تكلّ مضاربه، ولا تخونه ضرائبه، ولا تفنى إذا عدّدت عجائبه. فكم له من يوم أغرّ محجّل الأطراف، وليلة فى سبيل الله دهماء الأهوال بيضاء الأوصاف؛ والنفوس واثقة بأن الظّفر على يده يجرى، والمبشّر من جهته يسرّ ويسرى. والله خير حافظا وهو أرحم الراحمين. وكتب أيضا فى مثل ذلك: ورد كتاب المجلس- نصر الله عزمته، وشكر همّته، وأتمّ عليه نعمته، وصرف به وعنه صرف كلّ دهر وملمّته ومؤلمته، وأعان أولياءه على أن يؤدّوا خدمته، ويستوهبوا له فضل الله ورحمته، وأجزل قسمه من الخير الذى يحسن بين محبّيه قسمته- سافرا عن مثل الصباح السافر، متحدّثا عن روض أفعاله بلسان النسيم السّحرىّ الساحر، حاملا حديث بيضه وسمره حديث السامر. وهنّأ بالفتح وهو المهّنأ به، وكيف لا يهنّأ بالفتح من هو فاتحه! وكيف لا يشرح خبره من هو فاتح كلّ صدر وشارحه! ولقد دعا له لسان كلّ مسلم وساعدت لسانه جوارحه؛ وعلم أنه باشر الحرب وتولّى كبرها، وأخمد جمرها، ولقى أقرانها، وافترس فرسانها، وجبّن شجعانها، وشجّع جبانها؛ وأنفق الكريمين على النفس: النّفس والمال، وحفظ على الإسلام الطّرفين: الفاتحة والمآل. وإذا تأمل المجلس الدنيا علم أن الذى يبقى بها أحاديث، وإذا نظر إلى المال علم أن الذى فى الأيدى منه مواريث؛ فالحازم من ورث ماله ولم يورثه لغيره، والسعيد من لم يرض لنفسه من الحديث إلا بخيره. وما يخفى عن أحد ما فعله، ولا ما بذله، ولا ما هان عليه، ولا ما أهان الله كرائم المال بيديه؛ ولقد حلّت نعمة الله فى محلّها لديه، وكان كفأها الكريم الذى أصدقها ما فى كفّيه. هذا ثنائى وهاتيكم مناقبكم ... يا أعين النّاس ما أبعدت إسهادى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 151 وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً ، بل هو سبحانه يوفى عباده مثاقيل الذّرّ، وللصابرين عنده الأجر بغير حساب لجلالة قدر الصبر. والمجلس صبّر نفسه على المشقّات فليبشر بثوابها، وكثّر أعمال البرّ فهو يدخل الجنّة بفضل الله من جميع أبوابها. وكما يهنّأ المجلس بالافتتاح فهو يهنّأ بالجراح؛ ولا يغسل ثوب العمل إلا الدم المسفوح، وكل جرح إنما هو باب إلى الجنة مفتوح. والحمد لله على أن أمتع الأمّة بنفسه التى بذلها، وقد باعها له وأبقاها لنا وقبلها. وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ. وكتب المرحوم علاء الدين علىّ بن القاضى محيى الدين بن الزكىّ إلى أخيه بهاء الدين مبشّرا بفتح صفد، وكان هذا الفتح فى يوم الجمعة ثامن عشر شوّال سنة أربع وستين وستمائة، على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخبار دولة الترك فى أيام الملك الظاهر ركن الدين بيبرس: يقبّل اليد الكريمة، ويبثّ ما يعالجه من لواعج الأشواق التى تركته بين الأصحاب مدلّها، وسلبت لبّه فلا أعلم عليه من دلّها؛ وينهى أن المملوك فارق كريم جنابه وتوجّه إلى صفد المحروسة فوصل إليها فى تاريخ كذا، ووافاها والحصن قد تزعزعت أركانه، والكفر قد انهدم بنيانه، وشمّر عن ساق الهزيمة شيطانه؛ وحماة الحرب قد وقفت فى مراكزها، وكماة الهيجاء قد استعدّت لأخذ فرص النصر ومناهزها؛ والرماح قد اهتزّت شوقا الى لقائهم، والسيوف قد آلت أنها لا توافق على مقامهم، والمجانيق تزور حماهم وتلك الزيارة لشقائهم؛ وتدمّر بحجارتها عليهم تدميرا، وتريهم من بأسها يوما عبوسا قمطريرا، وتصير بهم إلى الهلاك وتعدهم جهنّم وساءت مصيرا؛ والقسىّ ترسل اليهم المنايا فى أجنحة السهام، وقد أحدقت بهم كماة الترك كأنها ظباء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 152 بأعلى الرقمتين قيام؛ فمن نازع بقوسه وهو لمهج الكافرين منازع، ومن متدرّع بنحره نحو المنايا يسارع، ومن وارد منهل المنيّة وآخر فى إثره كارع، ومن متدرّع وحاسر علما أن ليس لقضاء الله دافع؛ وما زادهم إلا إيمانا وتسليما، وما سلك بهم إلا صراطا مستقيما، وما اشترى أنفسهم وأموالهم إلا بالجنّة وأعدّ لهم أجرا كريما. والسلطان- عزّ نصره- قد شحذ شبوات عزمه، وفوّق سديد سهمه ليفوز بجزيل سهمه؛ وهو يرتّب عساكره، ويهيّئ ميامنه ومياسره، وينفذ أوائله ويقدّم أواخره، ويحثّ صناديده، ويثبت رعاديده؛ ويسعر همّة مساعره، ويذكى نار الحرب فى مجامره؛ ويقابل الأبراج ببروج يهدمونها، ويكل بالنّقوب نقباء يحفرونها، ويعد للمؤمنين مغانم كثيرة يأخذونها؛ ويعدّ لكل مقام رجالا، ويرتّب لكل مقاتل من المسلمين قتالا، ويبسط لهم بقتل الكافرين آمالا؛ حتى قامت الحرب على ساق، وضاق بأهل الشقاق الخناق؛ وبلغت الأرواح منهم التّراقى، ودارت عليهم كؤوس المنايا فانتشى المسقّى والساقى؛ وأحدقت بهم الجياد تصهل، وسحب القسىّ تهطل، وكواذب الآمال تعدهم وتمطل؛ وخرصوا لأنفسهم الفرج فكذّبتهم أسنّة الخرصان، ونظروا إلى الحياة بعين الطمع فكحلتهم بنات الحنيّة المرنان؛ فلما أشرب [1] العجز نفوسهم، واستوى فى الشّورى مرءوسهم ورئيسهم؛ ومنوا بالمنايا من كل جانب، وسمح كلّ منهم بالمال والذهب مذ علم أنّه ذاهب؛ وتحقّقوا أن لا ملجأ من السيف إلا إليه، ولا معوّل بعد المعوّل إلا عليه، وتيقّنوا أن لا مقام لهم ولا مقرّ، وقال الكافر يومئذ أين المفرّ. والمسلمون مثابرون على العمل الصالح يرفعونه، ومبادرون أجل عدوّهم يمزّقون منه كل ما يرقعونه؛ وإذا بصيحة كالصيحة التى تأخذهم وهم ينظرونها، أو الصعقة التى ينتظرونها، إذ أمرّت السيوف على رقابهم وهم يبصرونها؛   [1] فى الأصل: «اشراب» وهو غير واضح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 153 فارتجّت أرجاء الحصن بالاصطخاب، ووقع الاختلاف بينهم والاضطراب؛ وقيل: إن الكافر قد طلب الأمان، وإنه ركب ظهر المذلّة مذ ناوله الجزع العنان، وإن الكفر قد ذلّ للإيمان، وإن شيطانه قد نكص على عقبه لما تراءت الفئتان؛ فأمسكت المجانيق عن ضربها، وكفّت الحنايا عن إرسال شهبها، وأقصرت ليوث الحرب الضارية عن وثبها. فما كان إلّا هنيهة وقد خرج رسول منهم حيث لا تنفع الرسائل، واخترق وشيج القنا وشوك النّصال وظبا المناصل، ورأى كثرة هالته فكادت تنقدّ تحت الذعر منه المفاصل، ومشى إلى السلطان خاضعا وأعيا على السّماطين يقوم كلما عوّجته الأفاكل. وقبّل كمّا قبّل التّرب قبله ... وكلّ كمىّ واقف متضائل وأدّى الرسالة وإذا هى كما قال أبو الطيب دروع، ورجع إلى أهله وفى قلبه من جيش الإسلام- كثره الله- صدوع. فأقبل من أصحابه وهو مرسل ... وعاد إلى أصحابه وهو عاذل فأبوا لنصيحته قبولا، وقالوا: قاتلك الله رسولا؛ لقد خرجت عن سنّة إخوانك، وألقيت إلى المسلمين فاضل عنانك، ولم ترقب رضا أقسّتك [1] ورهبانك. والرعب قد خرج به عن قومه وآله، وهو يناشدهم الله فى أموالهم وأنفسهم وينشدهم بلسان حاله: أمرتهم أمرى بمنعرج اللّوى ... فلم يستبينوا الرّشد إلا ضحى الغد فلما استحكمت مرّة عصيانهم، وأبوا إلا مغالاة فى طغيانهم؛ ولم يسمحوا بتسليم ذلك الحصن الحصين، وقالوا: إنه على حفظ أرواحنا لقوىّ أمين؛ أرسلت عليهم من المجانيق حجارة كالمطر، إلا أنها ترمى بشرر كالقصر فتهدم قصورا كالشرر؛   [1] فى الأصول: «أقسائك» وهو تحريف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 154 فزعزعت منها بروجا وبدنا، وقالت: هذا جزاؤكم وإن عدتم عدنا، ولنتبعنّ بعدها آثاركم ونقلع منكم قلاعا ومدنا. فلما أكذبهم الحصن فى آمالهم، وأراهم الله قرب آجالهم؛ وكان ذلك فى اليوم الأغرّ يوم الجمعة والفتح، سلكوا فى التسليم عادة لم يسلكوها، ورأوا من الجزع خطّة ملكتهم ولم يملكوها؛ فأجمعوا أمرهم وشركاءهم إلا أنه كان عليهم غمّة، وطلبوا الذّمام ومن قبلها كانوا لا يرقبون فى مؤمن إلّا ولا ذمّة؛ فألقوا إلى الإسلام يومئذ السلم، ورأوا نور الله الظاهر أشهر من نار على علم؛ فخرجوا من الحصن زرافات وأوزاعا، مهطعين إلى الداعى كيوم يخرجون من الأجداث سراعا. فلو تراهم نحو المنايا يركضون، كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ. جرت الرياح على مقرّ ديارهم ... فكأنما كانوا على ميعاد وصدق الله المؤمنين وعده، وكان بصدق وعده حقيقا، وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً . فلما كان يوم السبت نادى فيهم السيف بالرحيل، ولم يتزوّدوا من متاع الدنيا إلا القليل؛ وقام النصر على منابر الهامات خطيبا، وكثر القتل فصار المهنّد الصقيل خضيبا؛ وأجرى أودية من دمائهم، ولم يغادر بقيّة من ذمائهم؛ واستوى العبيد منهم والأرباب، وصار فرسانهم فرانس الذئاب، واستمرءوا المرعى الوخيم فرعاهم الذّباب؛ ووجدوا غبّ البغى علينا، وقلنا: هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا ؛ وآب المسلمون بخير عميم، وفتح عظيم وأجر كريم؛ وجعل الله الجنّة جزاء للسالمين منهم والذاهبين، وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ . فليأخذ حظّه من هذه البشرى فإن لها من النصر العزيز ما بعدها، ومن المغانم الكثيرة ما ينجز للأمّة المحمديّة وعدها؛ ويثق بأن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 155 له إن شاء الله من ثواب هذه الغزوة أوفر نصيب، وأن سهم عزمه فى نحور الأعداء إن شاء الله مصيب؛ فقد روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن بالمدينة قوما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم» . والله لا يخليه من أجرها، ولا يحرمه وافر برّها؛ ويتحفه من مقربات التهانى بما تكون له هذه بمنزلة العنوان فى الكتاب، والآحاد فى الحساب؛ وركعة النافلة بالنسبة إلى الخمس، والفجر الأوّل قبل طلوع طلعة الشمس؛ وأن يديم على الإسلام والمسلمين حياة مولانا السلطان الملك الظاهر ركن الدنيا والدين، ويؤيّده بالملائكة المقربين، ما دامت السموات والأرضون، إن شاء الله تعالى. ومن إنشاء المولى المرحوم محيى الدين عبد الله بن عبد الظاهر كتاب كتبه عن السلطان الملك الأشرف خليل إلى الملك المظفّر يوسف بن عمر صاحب اليمن قرين كتاب السلطان الملك المنصور المسيّر إليه بالهناء بفتح طرابلس الشأم: أعز الله نصرة المقام وأوفد عليه كلّ بشرى أحسن من أختها، وكل تهنئة لا يجلّيها إلا هو لوقتها، وكل مبهجة يعجز البيان والبنان عن ثبتها ونعتها، وتتبلّج فتودّ الدّرر والدرارى لو زفّت هذه إلى تراقيها وسمت هذه إلى سمتها؛ وصبّحه منها بكل هاتفة أسجع من هواتف الحمائم، وبكلّ عارفة أسرع من عوارف الزّهر عند عزائم النسائم، وبكل عاطفة أعنّة الإتحاف بالإيجاف الذى شكرت الصّفاح منه أعظم قادر والصحائف أكرم قادم، والغزو الذى لا تخصّ تهامة ببشراه بل جميع النجود والتهائم، وذوو الصوارم والصرائم، وأولو القوى والقوائم، وكلّ ثغر عن ابتهاج أهل الإسلام باسم، وكلّ برّبرّ بتوصيل ما ترتّب عليه من ملاحم، وكلّ بحر عذب يمون كلّ غاز لا يحبس عن جهاد الكفار فى عقر الدار الشكائم، وكلّ بحر ملح كم تغيّظ من مجاورة أخيه لأهل الشرك ومشاركتهم فيه فراح وموجه المتلاطم. المملوك يجدّد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 156 خدمة يقتفى فيها أثر والده، ويجرى فى تبليغها على أجمل عوائده، ويستفتح فيها استفتاحا تحفّ به من هنا ومن هنا تحف محامده؛ ويصف ولاء قد جعله أجمل عقوده وأكمل عقائده، ويشفعهما بإخلاص قد جعله ميله أحسن وسائله وقلبه أزين وسائده؛ ويطلع العلم الكريم أن من سجايا المتعرّضين إلى الإعلان بشكر الله فى كلّ ما يعرض للمسلمين من نصر، ويفرض لهم من أجر غزوكم قعد عنه ملك فيما مضى من عصر؛ أن يقدروا تلك النعمة حقّ قدرها من التحدّث بنعمتها، والتنبيه لسماع نغمتها؛ وإرسال أعنّة الأقلام فى ميادين الطروس، وإدارة حرباء وصف خير حرب إلى مواجهة خير الشموس. ولما كانت غزوات مولانا السلطان ملك البسيطة الوالد- خلّد الله سلطانه- قد أصبحت ذكرى للبشر، ومواقفه للنصر فكم جاءت هى والقدر على قدر؛ وقد صارت سيرها وسيرها هذه شدو الأسمار، وهذه جادّة يستطيب منها حسن الحدو السّفّار، فكم قاتلت من يليها من الكفّار، وكم جعلت من يواليها وهو منصورها منصورا بالمهاجرين والأنصار. ولما أذلّ الله ببأسها طوائف التتار فى أقاصى بلاد العجم، وجعل حظّ قلوبهم الوجع من الخوف ونصيب وجهوهم الوجم، وأخلى الله من نسورهم الأوكار ومن أسودهم الأجم، وقصرت بهم هممهم حتى صاروا يخافون الصبح إذا هجم والظن اذا رجم، وصارت رؤية الدماء تفزعهم فلو احتاج أحدهم لتنقيص دم لمرض لأحجم من خوفه وما احتجم. وأباد الله الأرمن فحل بالنّيل منهم الويل، وما شمّر أحد من الجنود الإسلامية عن ساعد إلا وشمّر هو من الذّل الذّيل، ولا أثارت الجياد من الخيل عثيرا منعقدا إلا وظنّوه مساء قد أقبل أو ليل. وانتهت نوبة القتل بهم والإسار إلى «التّكفور ليفون» ملك الأرمن الذى كان يحمى سرحهم ويمرّد صرحهم، ويستنطق هتف التّتار ويسترجع صدحهم؛ وتعتزّ طرابلس الشأم بأنه خال إبرنسها الكافر، ولسان مشورته السفير ووجه تدبيره الجزء: 5 ¦ الصفحة: 157 السافر؛ وطالما غرّ وأغرى، وجرّ وأجرى، وضرّ وأضرى؛ فلما توكّل مولانا السلطان وعزم وعزم فتوكّل، وتحقّق أن البلاء به قد نزل، وما تشكّك أن ذلك فى ذهن القدر قد تصوّر وتشكّل؛ وأنّ يومه فى الفتك سيكون أعظم من أمسه وأعظم منهما معاداة غده، وأن نصر الله لن يخلفه صادق موعده، أكل يده ندامة على ما فرّط فى جنب الله؛ وساق الحتف لنفسه بيده فعمر الله بروحه الخبيثة الدّرك الأسفل من النار، وسقاه الحتف كأسا بعد كأس لم يكن لها غير الهلك من خمار. وكانت طرابلس هى ضالّة الإسلام الشريدة، وإحدى آبقاته من الأعوام العديدة؛ وكلما مرّت شمخت بأنفها، وتأنّقت فى تحسين منازه منازهها وتزيين ريحانها وعصفها، ومرّت وهى لا تغازل ملكا بطرفها وكلما تقادم عهدها تكثرت بالأفواج والأمواج من بين يديها ومن خلفها؛ إذ البحر لها جلباب والسحاب لها خمار، وليس بها من البرّ إلا بمقدار ساحة الباب من الدار؛ كأنها فى سيف ذلك البحر جبل قد انحطّ، أو ميل استواء قد خرج عن الخط، وما قصد أحد شطّها بنكاية إلا شطّ واشتط؛ قدّر الله أن صرف مولانا السلطان إليها العنان، وسبق جيشه اليها كلّ خبر وليس الخبر كالعيان، وجاءها بنفسه النفيسة والسعادة قد أحرسته عيونها وتلك المخاوف كلّهن أمان، وقد اتخذ من إقدامه عليها خير حبائل ومن مفاجأته لها أمدّ عنان؛ وفى خدمته جنود لا تستبعد مفازة، وكم راحت وغدت وفى نفوسها للأعداء حزازة؛ فامتطوا بخيولهم من جبال لبنان تيجانا لها صاغتها الثّلوج، ومعارج لا ترافق بها غير الرياح الهوج؛ وانحطّت تلك الجيوش من تلك الجنادل، انحطاط الأجادل، واندفعوا فى تلك الأوعار اندفاع الأوعال، ولم يحفل أحد منهم بسرب لاصق ولا بجبل شاهق فقال: هذا منخفض أو عال؛ وشرعوا فى التحصيل لما يوهى ذلك التحصين، وابتناء كلّ سور أمام أسوارها من التدبير الحسن والرأى الرصين؛ فما لبثوا إلا مقدار ما قيل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 158 لهم: دونكم والاحتطاب، ونقل المجانيق على الخيل وعلى الرقاب؛ حتى جرّوها بأسرع من جرّ النّفس، وأجروها على الأرض سفائن وكم قالوا: السفينة لا تجرى على يبس. وفى الحال نقلت إليها فرأوا من متوقّلها [1] من يمشى بها على رجلين ومنهم من يمشى على أربع، ووجّهت سهامها وجوهها إلى منافذها فما شوهدت منها عين إلا وكان قدّامها منها إصبع؛ وألقيت العداوة بين الحجارة من المجانيق وبين الحجارة من الأسوار، فكم نقبت ونقّبت من فلذة كبدها عن أسرار؛ وأوقدت نيران المكايد ثمّ فكم حولها من صافن ومن صافر. وكم رمتهم بشرر كالقصر فوقع الحافر كما يقال على الحافر. وما برحت سوق أهل الإيمان فى نفاق على أهل النّفاق، وأكابرهم تساق أرواحهم الخبيثة إلى السّياق. وكان أهل عكّاء قد أنجدوهم من البحر بكلّ برّ، ورموا الإسلام بكل شرر وكل شرّ؛ فكان السهم الذى يخرج منها لا يخرج إلا مقترنا بسهام. وشرفات ذلك الثغر كالثنايا ولكنها لكثرة من بها لا تفترّ عن ابتسام؛ وما زالت جنود الإسلام كذلك، ومولانا السلطان لا ترى جماعة مقدمة ولا متقدّمة إلا وهو يرى بين أولئك. واستمرّ ذلك من مستهلّ شهر ربيع الأول إلى يوم الثلاثاء رابع شهر ربيع الآخر، فزحف عليها فى بكرة ذلك النهار زحفا يقتحم كلّ هضبة ووهده، وكلّ صلبة وصلده، حتى أنجز الله وعده، وفتحها المسلمون مجازا وفى الحقيقة فتحها وحده. وطلعت سناجق الإسلام الصّفر على اسوارها، ودخلت عليهم من أقطارها، وجاست الكسّابة خلال ديارها؛ فاحتازها مولانا السلطان لنفسه ملكا، وما كان يكون له فى فتحها شريك وقد نفى عنها شركا؛ وكلما قيل: هذه طرابلس فتحت قال النصر بمن قتل فيها من النّجد الواصلة وأكثر عكا [2] وأهل عكا؛ وأعاد الله قوّة الكفر بها أنكاثا،   [1] توقل فى الجبل: صعد. [2] كذا وردت هذه الكلمات بالأصل، وهى كما يظهر قلقة غير واضحة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 159 وكان أخذها من مائة سنة وثمانين سنة فى يوم ثلاثاء واستردّت فى يوم الثلاثا. ولما عمّت هذه البشائر [و] وكل بها مولانا السلطان إلى كلّ من يستجلى حسان هذه العرائس، ويستحلى نفيس هذه النفائس؛ سيّر مولانا السلطان إلى مولانا بشرى فقعقع بها البريد، لتتلى بأمر مولانا على كل من ألقى السمع وهو شهيد، وكما عمّ السرور بذلك كلّ قريب قصد أن يعمّ الهناء كل بعيد. وأصدر المملوك هذه الخدمة يتحجّب بين يدى نجواها، ويتوثّب بعد هذه المفاتحة لكلّ سانحة يحسن لدى المولى مستقرّها ومثواها. لا برح المقام يستبشر لكماة الإسلام بكل فضل وبكلّ نعمى، ويفرح لسرح الكفر إذا انتهك ولسفح الملك إذا يحمى، ولسمع الشّرك إذا يصمّ ولقلبه إذا يصمى. وكتب المولى محيى الدين أيضا عن نفسه مطالعة إلى السلطان الملك المنصور يهنّئه بهذا الفتح: هنّئت يا ملك البسيطه ... فتحا به النّعمى محيطه وبقيت يا خير الملو ... ك بسيفك الدّنيا محوطه يقبّل الأرض ويبتهل إلى دعاء صالح يقدّمه بين يدى بشره وبشراه، وكلّ مقام محمود من الإجابة يحوّله فى سرّه ونجواه؛ ويهنّىء بهذا الفتح الذى كم مضى ملك وفى قلبه منه حسره، وما ادّخر الله إلا لمولانا السلطان أجره وفخره. فالحمد لله على هذا النصر العزيز وهذا الفتح المبين، والظفر الذى أعطاه الله إيّاه فى شهر وقد أقامت جموع الكفر حتى حازت بعضه فى مدّة سبع سنين. وله الشكر على أن جعل الكفر من بعد قوة أنكاثا، وجعل أخذ مدينة طرابلس من الكفّار فى يوم الثلاثاء وكان أخذها من المسلمين فى يوم الثلاثاء؛ وله المنّة فى ردّ هذه الأخيذة، وجعلها بين يدى مولانا السلطان منبوذة. ثم المنّة لله على أن سطر فى سيرة مولانا السلطان هذه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 160 السّنة، وجعلها ما بين نومة عين وانتباهتها فى أقرب من سنة، وردّ إباقها على المسلمين بعد أن أقامت هاربة عند الكفار مائة سنة وستّا وثمانين سنة؛ والله يلحق بها فى الفتح أخواتها من المدن، ولا يلبث إن شاء الله هاديا بها بعدها مثل عكّاء وصور وصيدا حتى يراهنّ الى قبضته قد عدن، إن شاء الله تعالى. وكتب إلى الأمير حسام الدين طرنطاى عن الأمير بدر الدين بيدرا فى ذلك: المملوك يهنئ بهذا الفتح الذى كادت به هذه الغزوة تزهو على غيرها من الغزوات وتتيه، وأشرقت الأرض بنور ربها ابتهاجا بما أمضاه الله منه وما سيمضيه، وبما سيعطيه حتى يرضيه، وذلك أن فتح طرابلس التى طالما شمخت بأنفها على الملوك، وكم أبت على مستفتح فما قال لغيره إباؤها: لله أبوك؛ وأخّر الله مدّتها إلى خير الأزمان، وفتحها على يدى سلطاننا الذى حقّق الله به آمالا تنفذ إلا منه بسلطان. فالحمد لله الذى عضد هذا الملك من مولانا بخير من دبّره، وحماه منه بأقطع حسام جرّده الله لنقض ما أمرّه؛ وما من فتوح ولا أمر ممنوح إلا ومولانا منضّد عقوده، ومجهّز بريده، ومطلع سعوده؛ ورافع علمه، وممضى سيفه ومرضى قلمه. فأمتع الله الأمة من مولانا السلطان بسلطان يستردّ لهم الحقوق ويتقاضى الديون، وأمتع الله سلطانها من مولانا بمن آراؤه أقفال الممالك وسيوفه مفاتيح الحصون. ومن إنشاء المولى شهاب الدين محمود الحلبى ما كتب به عن الأمير سيف الدين سلّار نائب السلطنة الشريفة إلى النائب بقلعة الجبل عند كسرة التتار بمرج الصّفّر فى شهر رمضان سنة اثنتين وسبعمائة: وبشّره بالفتح الذى أعاد الله به الأمة خلقا جديدا، والنصر الذى أنزل الله فيه من الملائكة أنصارا للملّة وجنودا، والظفر الذى أطفأ الله به من نار الكفر ما لم يكن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 161 يرهب خمودا، والغزوة التى زلزل الله بها جبال أهل الشرك وقد تدفّقت على الأرض أمثال البحار عددا وعديدا. المملوك يقبّل اليد العالية التى لها من هذه النّصرة وإن لم تبلغها أجر الرامى المسدّد سهمه، المعجّل من التهانى غنمه، الموفّر من المحامد الجزيلة قسمه؛ ويهنّىء المولى بهذا الفتح الذى مدّ الله به على الأمة جناح رحمته وفضله، ومنّ على أيّامنا الزاهرة فيه بالشأم وأهله، وبرز فيه الإسلام كلّه للشرك كلّه. ولله الحمد الذى أعز دينه ونصره، وحصد بسيوف الإسلام عدوّ دينه بعد أن حصره؛ وأباد جيوش الشّرك وهم مائة ألف أو يزيدون، وأفنى أحزاب أهل الكفر وكانوا أمثال الرمال لا يعدّون؛ وينهى أنّ علمه الكريم قد أحاط بما كان من أمر هذا العدوّ المخذول ودخوله إلى البلاد المحروسة بجيوشه وكتائبه وجموعه وجنوده من أشياع أهل الكفر وأحزاب الشرك. ولما تواصلت الأخبار بقربه، واستعداده بحزبه، ومهاجمته البلاد، وإيقاع الرّعب فى قلوب أهلها بالتنوّع فى الفساد؛ ساق الرّكاب الشريف فى طلبه يطوى المراحل، ويقطع فى كلّ يوم منزلتين بل منازل. ولما حلّ الركاب الشريف بمرج الصّفّر على مرحلة من دمشق المحروسة فى يوم السبت مستهلّ شهر رمضان المعظّم زيّنت العساكر المنصورة للقاء حال وصولها، واستعدّت للحرب دون تشاغل بأسباب نزولها؛ فوافى العدوّ المخذول فى مائة ألف من جيوش تسيل كالرمال، وتعلو الجبال بأشدّ من الجبال؛ وحين وصلوا حملوا على الميمنة بجملتهم، وقصدوا إزاحتها عن موقفها بحملتهم؛ فتلقّتهم الجيوش المنصورة بنفوس قد بايعت الله على لقاء عدوّ الله وعدوّها، ووثقت بما أعد الله لها من الجزاء فى رواحها فى سبيله وغدوّها؛ وصدمتهم صدمة كسرت حدّهم، وأوهنت شدّتهم وشدّهم؛ وأزالت طمعهم، وأبانت ظلعهم؛ وسالت [1] عليهم الجيوش المنصورة من   [1] فى الأصل. «وأسالت» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 162 كلّ جانب، وحميت الحرب بين الكتائب الإسلاميّة وبين تلك الكتائب؛ ودخل الليل ونار الحرب تشتعل، والجياد من المحاجر تحفى وبالجماجم تنتعل؛ فأووا إلى جبال اعتصموا بهضابها، واحتموا بتوعّر مسالكها وضيق عقابها؛ وأحاطت بهم الجيوش المنصورة لحوسهم [1] لا لحفظهم، وتضمّ أطرافهم لا لحبّهم بل لبغضهم؛ فكانوا- بعد كثرة من قتل منهم فى المعركة الأولى أو فرّ من أوّل الليل- جمعا يناهز الأربعين ألف فارس، فأصبحوا يعاودون القتال، وينزلون إلى أطراف الجبال للنّزال؛ والجيوش المنصورة تلزمهم من كل جانب، وتحكّم فى أبطالهم القنا والقواضب. وجرت فى أثناء ذلك حملات ظهر فى كلّ منها خسارهم، وشهد عندهم بما يكابدون قتلهم وإسارهم؛ وبعد ذلك نزلوا من جانب واحد يطلبون الفرار، ويتوقّعون القتل إن تعذّر الإسار؛ فساقت خلفهم الجيوش المنصورة تتخطّفهم رماحها، وتتلقّفهم صفاحها؛ وتقاذفت بمن نجا منهم الفلوات، وغرّقتهم أمواج السّراب قبل أمواج الفرات؛ فأخذوا قنصا باليد من بطون الأودية ورءوس الشّعاب، ولم يحصل أحد منهم على الغنيمة بالإياب؛ وقتل أكثر مقدّمى التمانات [2] وفرّ كبيرهم وأنّى له الفرار، وبين يديه مفاوز إن سلك منها تناولته بأرماح من العطش القفار. فليأخذ المولى حظّه من هذه البشرى التى تنبىء عن الفتح العظيم والفضل العميم، والنّصرة التى حفظ الله بها على الإسلام البلاد والثغور والأموال والحريم؛ ويكتب إلى البلاد بمضمونها، ويسرّ قلوب أهل الثغور بمكنونها؛ ويستنهض المولى الأمّة لشكر الله عليها، ومن ذا الذى يقوم بشكر ذلك! ويعرّفهم مواقع هذه النّصرة التى أنجد الله فيها الإسلام بالملائك؛ ويتقدّم أمره بضرب البشائر بكلّ مكان، ويشهر فى جميع الثغور أن عدوّ   [1] فى الأصل: «لحرسهم» بالراء. والحوس: القتل. [2] فى أحد الأصول: «التومانات» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 163 الله وعدوّ الإسلام دخل فى خبر كان؛ وأن الله تعالى كسر جيوش التتار كسرا لا يجبر صدعه، ولا يتأتّى إن شاء الله تعالى جمعه. والله تعالى يسمعه من التهانى كلّ ما يسرّ الإسلام وأهله، ويشكر قوله فى مصالح الإسلام وفعله؛ إن شاء الله تعالى. الباب الثانى من القسم الرابع من الفن الثانى فى المراثى والنوادب والمراثى إنما جعلت تسلية لمن عضّته النوائب بأنيابها، وفرّقت الحوادث بين نفسه وأحبابها؛ وتأسية لمن سبق الى هذا المصرع، ونهل من هذا المشرع؛ ووثوقا باللّحاق بالماضى، وعلما أنّ حادثة الموت من الديون التى لا بدّ لها من التقاضى؛ وأنه لا سبيل إلى الخلود والبقاء، ولا بدّ لكلّ نفس من الذّهاب ولكلّ جسد من الفناء. قال الله تعالى فى محكم تنزيله مخاطبة لرسوله: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ. فليرض من فجع بخليله وشقيقه، وصاحبه وصديقه؛ وأهله وولده، وجمعه وعدده، وماله ومدده؛ نفسه الجامحة فى ميادين أسفها وبكائها، الجانحة إلى طلب دوائها من مظانّ أدوائها؛ بزمام الصبر الجميل، لينال الأجر الكريم والثواب الجزيل؛ فقد أثنى الله تعالى على قوم بقوله: وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ ؛ وقال تعالى إخبارا عن لقمان فى وصيّته لابنه: وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ . وليسترجع من أصابته مصيبة أو نزلت به بليّة، وطرقته حادثة أو ألّمت به رزيّة؛ لما جعل الله تعالى للمسترجع بفضله ومنّته، من صلاته عليه ورحمته؛ قال الله عز وجل: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 164 الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ . وليتأسّ الفاقد برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد جعل الله فيه أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، وليقتد بأصحابه رضى الله عنهم ليفوز بثواب الصابر ويحوز أجر الشاكر. وباب الرّثاء فهو باب فسيح الرّحاب والنوادى، فصيح اللسان فى إجابة المنادى ذى القلب الصادى؛ متباين الأسلوب، مختلف الأطراف متباعد الشعوب؛ منه ما يصمى القلوب بنباله، ومنه ما يسلّيها بلطيف مقاله؛ ومنه ما يبعثها على الأسف، ومنه ما يصرفها عن موارد التلف. وقد أكثر الشعراء القول فى هذا الباب، وارتقوا الذّروة العلياء من هذه الهضاب؛ ووجدوا مكان القول ذا سعة فقالوا، وأصابهم هجير اللوعة فمالوا إلى ظلّه وقالوا. قال الأصمعىّ: قلت لأعرابىّ: ما بال المراثى أشرف أشعاركم؟ قال: لأنا نقولها وقلوبنا محترقة. وعلى الجملة فالموت هو المصيبة التى لا تدفع، والرزيّة التى لا تردّ بكثرة الجموع ولا تمنع؛ والحادثة التى لا تنصرف بالفداء وإن جلّ مقداره، والنازلة التى لا تتأخر عن وقتها بالدعاء وإن عظمت فى غيرها آثاره؛ وهو أحد الأربعة التى فرغ منها، وصرفت وجوه المطامع عنها. وقد قالت الحكماء: أعظم المصائب كلّها انقطاع الرجاء. وقالوا: كل شىء يبدو صغيرا ثم يعظم إلا المصيبة فإنها تبدو عظيمة ثم تصغر. وقالوا: لا يكون البكاء إلا من فضل، فإذا اشتدّ الحزن ذهب البكاء. قال شاعر: فلئن بكيناه لحقّ لنا ... ولئن تركنا ذاك للصّبر فلمثله جرت العيون دما ... ولمثله جمدت فلم تجر وقيل: مرّ الأحنف بامرأة تبكى ميّتا ورجل ينهاها؛ فقال: دعها فإنها تندب عهدا وسفرا بعيدا. قيل لأعرابيّة مات ابنها: ما أحسن عزاءك؟ قالت: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 165 إنّ فقدى إيّاه آمننى كلّ فقد سواه، وإنّ مصيبتى به هوّنت علىّ المصائب بعده؛ ثم أنشأت تقول: كنت السواد لمقلتى ... فعمى عليك النّاظر من شاء بعدك فليمت ... فعليك كنت أحاذر ليت المنازل والدّيا ... ر حفائر ومقابر إنّى وغيرى لامحا ... لة حيث صرت لصائر وقد نقل أبو الفرج الأصفهانى: أن بعض هذا الشعر لإبراهيم بن العباس بن محمد بن صول يرثى ابنا له فقال: أنت السواد لمقلة ... تبكى عليك وناظر من شاء بعدك فليمت ... فعليك كنت أحاذر ولم يزد على هذين البيتين شيئا. أخذ الحسن بن هانىء معنى البيت الأوّل فقال فى الأمين: طوى الموت ما بينى وبين محمد ... وليس لما تطوى المنيّة ناشر وكنت عليه أحذر الموت وحده ... فلم يبق لى شىء عليه أحاذر لئن عمرت دور بمن لا نحبّه ... لقد عمرت ممّن نحبّ المقابر وقيل: من أحسن ما قيل فى التّعازى أنّ أعرابيّا مات له ثلاثة بنين فى يوم واحد فدفنهم وعاد إلى مجلسه، فجعل يتحدّث كأن لم يفقد أحدا؛ فليم على ذلك، فقال: ليسوا فى الموت ببديع، ولا أنا فى المصيبة بأوحد، ولا جدوى للجزع، فعلام تلوموننى، وهذه ثلاثة الأقسام لا رابع لها!. وعزّى أعرابىّ رجلا فقال: لا أراك الله بعد مصيبتك ما ينسيكها. وقيل: لمّا دفن على بن أبى طالب رضى الله عنه فاطمة رضى الله عنها تمثّل على قبرها بهذين البيتين: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 166 لكل اجتماع من خليلين فرقة ... وكلّ الذى دون الممات قليل وإن افتقادى واحدا بعد واحد ... دليل على ألّا يدوم خليل وعزّى علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه الأشعث بن قيس عن ابنه فقال: إن تحزن فقد استحقّت ذلك منك الرّحم، وإن تصبر ففى الله خلف من كلّ هالك، مع أنك إن صبرت جرى عليك القدر وأنت مأجور، وإن جزعت جرى عليك القدر وأنت موزور؛ سرّك الله وهو بلاء وفتنة، وحزنك وهو ثواب ورحمة. وعزّى أكثم بن صيفىّ حكيم العرب عمرو بن هند الملك عن أخيه فقال: أيها الملك، إنّ أهل هذه الدار سفر لا يحلّون عقد الرحال إلا فى غيرها، وقد أتاك ما ليس بمردود عنك، وارتحل عنك ما ليس براجع إليك، وأقام معك من سيظعن ويدعك؛ فما أحسن الشكر للمنعم والتسليم للقادر! وقد مضت لنا أصول نحن فروعها، فما بقاء الفرع بعد أصله! واعلم أن أعظم من المصيبة سوء الخلف منها، وخير من الخير معطيه، وشرّ من الشر فاعله. وقال ابن السّماك: المصيبة واحدة، فإن كان فيها جزع فهى اثنتان. وقال أبو على الرّازى: صحبت الفضيل بن عياض ثلاثين سنة ما رأيته ضاحكا ولا متبسّما إلا يوم مات ابنه علىّ؛ فقلت له فى ذلك؛ فقال: إنّ الله أحبّ أمرا فأحببت ما أحبّ الله. وقال صالح المرّىّ: إن تكن مصيبتك فى أخيك أحدثت لك خشية فنعم المصيبة مصيبتك، وإن تكن مصيبتك بأخيك أحدثت لك جزعا فبئست المصيبة مصيبتك. وقال علىّ بن موسى للفضل بن سهل يعزّيه: التهنئة بآجل الثواب أولى من التّعزية على عاجل المصيبة. وعزّى الرشيد رجل فقال: كان لك الأجر يا أمير المؤمنين لا بك، وكان العزاء لك لا عنك. أخذه الآخر فقال: كن المعزّى لا المعزّى به ... إن كان لا بدّ من الواحد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 167 وقال عمر بن عبد العزيز لابنه عبد الملك وقد اشتدّ به الألم: كيف تجدك يا بنىّ؟ قال: أجدنى فى الموت، فاحتسبنى، فإنّ ثواب الله خير لك منى. قال: والله يا بنىّ لأن تكون فى ميزانى أحبّ إلىّ من أن أكون فى ميزانك. قال: وأنا والله لأن يكون ما تحبّ أحب إلىّ من أن يكون ما أحبّ. وعزّى شبيب بن شبّة أبا جعفر المنصور بأخيه أبى العباس السفّاح فقال: جعل الله ثواب ما رزئت لك أجرا، وأعقبك عليه صبرا؛ وختم لك بعافية تامّة، ونعمة عامّة؛ فثواب الله خير لك منه، وأحقّ ما صبر عليه ما ليس إلى تغييره سبيل. ودخل البلاذرىّ على علىّ بن موسى الرّضا يعزّيه بآبنه فقال: أنت تجلّ عن وصفنا، ونحن نقصر عن عظتك، وفى علمك ما كفاك، وفى ثواب الله ما عزّاك. فهذه نبذة فى التعازى كافية، وجنّة لمن تحصّن بها من ذوى الفجائع واقية. فلنذكر المراثى. ذكر شىء من المراثى والنوادب ولنبدأ من ذلك بما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبشىء مما قيل عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمن ذلك ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم وفاة ولده إبراهيم عليه السلام: «يا إبراهيم لولا أنه أمر حقّ ووعد صدق وأن آخرنا سيلحق أوّلنا لحزنّا عليك حزنا هو أشدّ من هذا وإنّا بك يا إبراهيم لمحزونون تبكى العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الربّ» . ذكره الجوّانىّ النسابة فى شجرة الأنساب، وذكره غيره مختصرا. ومنه ما روى أن فاطمة رضى الله عنها وقفت على قبره صلى الله عليه وسلم وقالت: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 168 إنّا فقد ناك فقد الأرض وابلها ... وغاب مذغبت عنّا الوحى والكتب فليت قبلك كان الموت صادفنا ... لمّا نعيت وحالت دونك الكتب ووقف علىّ رضى الله عنه على قبره صلى الله عليه وسلم ساعة دفن وقال: إنّ الصبر لجميل إلّا عنك، وإن الجزع لقبيح إلا عليك؛ وإنّ المصاب بك لجليل، وإنه قبلك وبعدك لجلل. وقد ألّم الشعراء بهذا المعنى؛ فقال إبراهيم بن إسماعيل فى علىّ ابن موسى الرّضا: إنّ الرزيّة يابن موسى لم تدع ... فى العين بعدك للمصائب مدمعا والصبر يحمد فى المواطن كلّها ... والصبر أن نبكى عليك ونجزعا ووقف أعرابىّ على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قلت فقبلنا، وأمرت فحفظنا؛ وقلت عن ربّك فسمعنا: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً ، وقد ظلمنا أنفسنا وجئناك فاستغفر لنا؛ فما بقيت عين إلا سالت. ودخل عمر بن الخطاب على أبى بكر الصّدّيق رضى الله عنهما فى مرض موته، فقال: يا خليفة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، لقد كلّفت القوم بعدك تعبا، وولّيتهم نصبا؛ فهيهات من شقّ غبارك! وكيف باللّحاق بك!. وقالت عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها وأبوها يغمّض: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل فنظر إليها وقال: ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم أغمى عليه، فقالت: لعمرك ما يغنى الثّراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر فنظر إليها كالغضبان وقال: قولى: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 169 مِنْهُ تَحِيدُ . ثم قال: انظروا ملاءتىّ فاغسلوهما وكفّنونى فيهما، فإن الحىّ أحوج إلى الجديد من الميّت. ووقفت رضى الله عنها على قبره رضى الله عنه فقالت: نضّر الله وجهك، وشكر لك صالح سعيك؛ فقد كنت للدنيا مذلّا بإدبارك عنها، وكنت للآخرة معزّا بإقبالك عليها؛ ولئن كان أجلّ الحوادث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم رزءك، وأعظم المصائب بعده فقدك؛ إن كتاب الله ليعد بحسن الصبر فيك وحسن العوض منك؛ فإنا لنتنجّز موعود الله بحسن العزاء عليك، وأستعيضه منك بالاستغفار لك. أما لئن كانوا أقاموا بأمور الدنيا لقد قمت بأمر الدّين حين وهى شعبه، وتفاقم صدعه، ورجفت جوانبه. فعليك السلام ورحمة الله توديع غير قالية لك، ولا زارية على القضاء فيك. ثم انصرفت. ولما قبض رضى الله عنه سجّى عليه بالثوب، فارتجّت المدينة بالبكاء ودهش القوم كيوم قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وجاء علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه باكيا مسرعا مسترجعا حتى وقف بالباب وهو يقول: رحمك الله أبا بكر، كنت والله أوّل القوم إسلاما، وأخلصهم إيمانا، وأشدّهم يقينا، وأعظمهم غناء، وأحفظهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحدبهم على الإسلام، وأحناهم على أهله، وأشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم خلقا وفضلا وهديا وسمتا؛ فجزاك الله عن الإسلام وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا، صدّقت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كذّبه الناس، وواسيته حين بخلوا، وقمت معه حين قعدوا، وأسماك الله فى كتابه صدّيقا فقال: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ، يريد محمدا ويريدك. كنت والله للإسلام حصنا وعلى الكافرين عذابا، لم تفلل حجّتك، ولم تضعف بصيرتك؛ ولم تجبن نفسك. كنت كالجبل الذى لا تحرّكه العواصف ولا تزيله القواصف. كنت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفا فى بدنك، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 170 قويّا فى أمر الله، متواضعا فى نفسك، عظيما عند الله؛ جليلا فى الأرض، كبيرا عند المؤمنين. لم يكن لأحد عندك مطمع ولا لأحد عندك هوادة؛ فالقوى عندك ضعيف حتى تأخذ الحقّ منه، والضعيف عندك قوىّ حتى تأخذ الحقّ له. فلا حرمنا الله أجرك، ولا أضلّنا بعدك. فانظر إلى هذا الأسلوب العجيب، وتأمّل هذا النّمط الغريب؛ الذى جمع بين سلاسة الألفاظ وإيجازها، وإصابة المعانى وإعجازها. ولا يستكثر على من أنزل القرآن بلغتهم، أن يكون هذا القول من بديهتهم. ولنذكر لمعة من رسائل البلغاء والفضلاء، ولمحة من أشعار الأدباء والشعراء. فمن ذلك رسالة كتبها الوزير الفقيه الكاتب أبو القاسم محمد بن عبد الله بن الجدّ، إلى الوزير الفقيه أبى القاسم الهورينى يعزّيه عن أخيه، ابتدأها بأن قال: لا بدّ من فقد ومن فاقد ... هيهات ما فى الناس من خالد كن المعزّى لا المعزّى به ... إن كان لا بدّ من الواحد إذا لم يكن بدّ من تجرّع الحمام، وتشتّت النّظام، وانصداع شمل الكرام؛ فمن الاتفاق السعيد والقدر الحميد أن يرث أعمار البنية الكريمة مشيّد علاها، وتسلم من القلادة وسطاها، فمدار الكنانة على معلّاها، وفخار الحلبة بمحرز مداها. وفى هذه النّبذة إشارة إلى من فرط من الإخوة النبلاء، ودرج من السادة النّجباء؛ فإنهم وإن كانوا فى رتبة الفضل صدورا، وغدوا فى سماء النّبل بدورا؛ فإنّ شمس علائك أبهر أضواء وأزهر أنوارا، وظلّ جنابك على بنيهم ومخلّفيهم أندى آصالا وأبرد أسحارا. نعى إلىّ- أوشك الله سلوانك، ولا أخلى من شخصك الكريم مكانك! - الوزير الجزء: 5 ¦ الصفحة: 171 أبو فلان، بردّ الله ثراه، وكرّم مثواه؛ فكأنّما طعن ناعيه فى كبدى، وظعن باكيه بذخيرة جلدى. لا جرم أنّى دفعت إلى غمرة من التّلدّد لو صدم بها النجم لحار، أودهم بها الحزم لخار؛ ثم ثابت إلىّ نفسى وقد وقذها الجزع، وعضّها الوجع؛ فأطلت الاسترجاع، وجمعت الجلد الشّعاع، وها أنا عند الله أحتسبه جماع فضائل، وجمال محافل؛ وحديقة مكارم صوّحت، وصحيفة محاسن درست وانمحت. وما اقتصرت من رسم التعزية المألوف، على القليل المحذوف؛ إلا لعلمى بأن المعزّى لا يورد عليك غريبا، ولا يسمعك من مواعظه عجيبا؛ فبك يقتدى اللّبيب، وعلى مثالك يحتذى الأديب، وإلى غرضك فى كل موطن يوفى [1] المصيب؛ وفى تجافى الأقدار عن حوبائك، وسقوطها دون فنائك؛ ما يدعو إلى حسن التعزية. لا صدع الله جمعك، ولا قرع بنبأة المكروه سمعك. ومن إنشاء القاضى الفاضل عبد الرحيم البيسانى: ورد الخبر بمصرع فلان الذى عزّ على المعالى، وعزّيت به الليالى؛ وسقط به نجم الشرف وهوى، وجفّ به روض الكرم وذوى؛ ونقصت الأرض من أطرافها، ورجفت الجبال من أعرافها؛ وبكت عليه السماء فإنّ يده كانت من سحبها، وتناثرت له النجوم فإنّ عزمه كان من شهبها؛ واظلمت فى عينى الدنيا الظالمة، وتجرّعت منها كأسا لا تسيغها النفس كاظمة؛ وتقسّمت الأيام فريقين فى مودّتى وعداوتى، فآها على السالفة ولا مرحبا بالقادمة؛ وأصبحت أخوض الماء وأحشائى تتقطّع غليلا، وأرى الناس كثيرا بعينى وبقلبى قليلا. وما النّاس فى عينىّ إلّا حجارة ... لبينك والأعراس إلا مآتم   [1] كذا بالأصول. ولعله محرف عن: «يرمى» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 172 فقد استوحشت الدنيا لفقده، وارتابت بنفسها من بعده، وعلمت حلاوة قربه بمرارة بعده؛ وانصرف ذوو الأبواب عن بابه، واجتنبت الآمال مغنى جنابه، وبكت الرياض على آثار سحابه. فإن يمس وحشا بابه فلربّما ... تناطح أفواجا عليه المواكب ومن إنشائه أيضا رحمه الله تعالى: ما شككت- أطال الله بقاءك- حين ورد النعى بالمصائب التى قصمت الظهور بمكروهها، وحسرت فيها الحسرات عن وجوهها؛ أنّ السماء على الأرض قد انطبقت، وأنّ الأيام ما أبقت والسعادة قد أبقت؛ والحياة لم يبق فى طولها طائل، والصبر بهجير اللوعة ظلّ منسوخ زائل؛ وشمس الفضائل قد غربت وكيف بطلوعها، ونفس المكارم قد نزعت من بين ضلوعها؛ وغاب الإسلام قد غاب منه أىّ ليث، ورياض الآمال قد أقلع عن سقياها أىّ غيث. فإنّا لله وإنا اليه راجعون، رضا بحكمه، وتجلّدا على ما رمى به الحادث من سهمه، وطبّا للقلوب على مضض البلاء وكلمه، وفرارا من الجمع بين مصيبة الفاقد وإثمه. وسقى الله ذاك الضريح ما شاء أن يسقيه من سحاب كصوب يديه، ورحمه رحمة تحفّ بجانبيه. وآها للماء العذب كيف ارتشفته النوازل وأبقت الملح، ثم آها للصباح الطّلق كيف اغتالته الأصائل وأطلقت الجنح؛ ووا أسفا لتلك الذخيرة التى فذلكت بها الأيّام ذخائرى، والسريرة التى طالما صنتها أن تمرّ بسرائرى؛ شفقا عليها من سهام دهر بالذخائر مولعة، وسترا لها من عين زمان على السرائر موقعة. ولئن صحب قلبى بعده أضلعى، وتحمّلت بعد فقده على ظلعى؛ فإنّا غدا على أثره، وإن كنّا اليوم على خبره. وقصر الحياة الى قصور، كما أن محصول غرورها غرور. والتأدّب بأدب الله أولى ما خفّف به المسلوب عن منكبه، وطريق السّلوان لابدّ أن يراجعه عزم منكبّه. فأنشدها الله إلا جعلت مصيبتها مصيبة على الشامت بما تلبسه من صبر يلبس عليه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 173 المصيبة فيشبّهها بنعمة، وبما تستشعره من تجلّد فى النازلة ينزل عليها صلوات من ربّها ورحمة. ولن ترى أعجب من مصاب لا ترى به إلا مصابا، وساكن ترب لم يبق بعده إلا من سقى بدمعه ترابا؛ اشترك فيه الأمّتان العرب والعجم، وعزّى به العزيزان المجد والكرم، واستباح الدهر به الصيد فى الحرم. وتشابه الباكون فيه فلم يبن ... دمع المحقّ لنا من المتعمّل وكتب أيضا فى مثل ذلك: أخّرت مكاتبة الحضرة- مدّ الله فى عمرها وفى صبرها وفى أجرها، وألهمها التسليم لحكم من هو غالب على أمرها- إلى أن تنقضى نبوة الخطب، وتضع الأنفاس أوزارها للحرب، ويخرج ماء الجفن نار القلب؛ وتراجع الخواطر إلى عاداتها، وتنظر فى الدنيا التى ما صحبت إلا على عادياتها ومعاداتها؛ فتكون الحضرة عرفت من غير تعريف، ووقفت على الحزم من غير توقيف؛ وتوفّر عليها الثواب بغير مشارك، ورجعت إلى فهم مدرك وصواب مدارك. وتأخير التعزية عن البادرة خلاف ما شرع فيها، ولكن إنما يحتاج أن يثبّت من صبره هاف، ويرمّ من تجلّده عاف. وقد علم الله اهتمامى واغتمامى بفقد شيخها رحمه الله وعدمها منه من لا عوض عنه إلا ثواب الله الذى يهوّن الوقائع، ويوطّن على الروائع. وأسباب التعزية غير واحدة، منها أنه إنما درج فى السنّ التى هى معترك المنايا، ومنها أنه ما خرج عن الدنيا الى أن رأى منها خلفا يهوّن الرزايا؛ ومنها أنه لقى الله بعمل صالح هو بمشيئة الله نجاته، ومنها أنه فارقها على الرضا عنها ويكفيها مرضاته، وعلى الدعاء المقبول لها ونعمت الجنن دعواته. ولكن للألّاف لا بدّ حسرة ... إذا جعلت أقرانها تنقطع ومنها أن الحزن لو أطيع والحزم لو أضيع لما أفضى إلى مراد، ولا أعاد ميّتا قبل المعاد. وأحقّ متروك ما يأثم طالبه، ويؤجر مجانبه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 174 عن الدهر فاصفح إنه غير معتب ... وفى غير من قد وارت التّرب فاطمع والحضرة تعلمنى من لا حقة رجوعها إلى الله بعد الاسترجاع، ومن تسليم خاطر الحزن إلى حكم الله ما يسرّ خاطر الاستطلاع؛ وحسبه- أبقاه الله تعالى- من كل هالك، ولا يجزع المحاسب من فذالك، ومثله من أخذ بعزائم الله فيما هو آخذ وتارك. جبر الله مصابه، وعظّم ثوابه، وسقى الماضى وروّى ترابه، ولا تذهب النفس حسرة لما شهدت العين ذهابه. وتخطّفته يد الرّدى فى غيبتى ... هبنى حضرت فكنت ماذا أصنع ومن إنشاء الشيخ ضياء الدين أحمد بن محمد القرطبىّ ما كتب به الى الصاحب شرف الدين الفائزىّ يعزّيه فى مملوك توفّى له، وكان الصاحب قد جزع لفقده. ابتدأ كتابه بأن قال: فدى لك من يقصّر عن مداكا ... فلا أحد إذا إلا فداكا إنا لله وإنا إليه راجعون. لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة، وسنّة فى الأسى مستحسنة؛ وإنما الأنفس ودائع مستودعة، وعوار مسترجعة، ومواهب بيد الفناء مستنزعة. فالعمر نوم والمنيّة يقظة ... والمرء بينهما خيال سارى وما برح ذوو العزمات يتلقّون واردات المصائب بصبرهم، وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم. وإنّ يد الله لمليّة بفيض المواهب، وفى الله عوض من كل بائن وخلف من كل ذاهب. وإذا سلم مولانا فى نفسه وولده، فلا بأس إذا تطرّقت يد الردى إلى ملك يده. فأنت جوهرة الأعناق، ما ملكت ... كفّاك من طارف أو تالد عرض الجزء: 5 ¦ الصفحة: 175 والحمد لله الذى جعل المصيبة عندك لا بك، والرزيّة لك لا فيك. إذا سلمت فكلّ الناس قد سلموا واذا تخطّتكما المنيّة فلها فى سواكما الخيار، ولنا القدح المعلّى إذا أورى زند هذا الاختيار. ولا بدّ فى مشرع المنيّة من مفقود وفاقد. كن المعزّى لا المعزّى به ... إن كان لا بدّ من الواحد وهذا فقد وهبه الله لمولانا من حيث إنه أخذه منه، وأبقاه له من حيث رآه ذاهبا عنه؛ فهو بالأمس عارية مردودة، واليوم ذخيرة موجودة؛ وكان عطيّة مسلوبة وهو الآن نعمة موهوبة؛ كنت له وهو الآن لك، وفزت به والسعيد من فاز بما ملك. وهذه دار دواؤها داؤها، وبقاؤها فناؤها؛ طالبها مطلوب، وسالبها مسلوب؛ وإن لنا فيمن سلف لعزاء، ولنا برسول الله صلى الله عليه وسلم اقتداء؛ ولا بدّ من ورود هذا المشرع، وملاقاة هذا المصرع. ومن إنشاء المولى شهاب الدين محمود الحلبى ما كتب به عن بعض النوّاب إلى الأمير عزّ الدّين الحموىّ النائب- كان بدمشق- تعزية بولده: أعزّ الله أنصار المقرّ الكريم العالى، ولا هدمت له الخطوب ركنا، ولا فجأت له الحوادث حمّى ولا طلبت عليه إذنا، ولا هصرت أيدى الأقدار من عروشه الناضرة غصنا، ولا أذاقته الأيّام بعد ما مرّ أسفا على من يحبّ ولا حزنا، ولا سلبه الجزع رداء الصّبر الذى يخصّه بجزيل الأجر وإن شركه فى الأسى والأسف كلّ منا. المملوك يقبّل اليد الكريمة، وينهى أنه اتّصل به النبأ الذى صدع قلبه، وشغل بالبكاء طرفه وبالأسف لسانه وبالحزن لبّه؛ وهو ما قدّره الله تعالى من وفاة المولى الأمير ركن الدين عمر- تغمده الله برضوانه- الذى اختار الله له ما لديه، وارتضى له البقاء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 176 الدائم على الفانى فنقله إليه؛ على أن الدين فقد منه ركنا شديدا، ورأيا سديدا، وعزما وحزما معينا مفيدا، وأميرا أردنا أن يعيش سعيدا، فأبى الله إلا أن يموت شهيدا؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون. لقد كان للرجاء فى اعتضاد الدولة القاهرة به أىّ مجال، وللآمال فى الانتظار ببأسه ظنون تحقّق أن الغلبة للدّين دائما مع أن الحروب سجال؛ وللمواكب بطلوع طلعته أىّ إشراق، وللعيون عن مشاهدة كماله وأبهة جلاله أىّ إغضاء وأىّ إطراق. ولله أىّ بدر هوى من أفق بروجه [1] عن فلك، وأىّ شمس ما رأته الجوارى الكنّس إلا قلن: حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك؛ وأىّ حصن كانت منه ثمار الشجاعة تجتنى، وأىّ أسد براثنه الصوارم وأجماته القنا. لقد فتّ فى عضد الدين مصابه، وأذهب صحّة الأنس به وحلاوة وجوده أوصاب فقده وصابه؛ وكادت الصوارم أن تشقّ عليه غمودها، والرّايات أن تقطّع عليه ذوائبها وتغيّر بنودها، والرماح أن تعرض على النار لتقصف لا لتثقّف قدودها؛ والجياد أن تتعثّر للحزن بذيولها، وتعتاض بالنّوح عن صهيلها. ولو أنصف لأكنّته القلوب فى ضمائرها، ولو قبل الفداء لسمحت فيه النفوس بالنفائس ولو كانت الحياة من ذخائرها؛ أو لو كان الحتف مما يدافع بالجنود تحطّمت دونه القنا فى دروع عساكرها، ولكنه السبيل الذى لا محيد عن طريقه، والمعرّس الذى لا بدّ لكل حىّ من النزول على فريقه؛ وهو الغاية التى تستنّ إليها النفوس استنان الجياد، والحلبة التى كنّا نحن وهذا الدارج نركض إليها ولكنّ السابق كان الجواد؛ على أن المتأخّر لا بدّ له من اللّحاق، وماذا عسى يسرّ البدر بكماله وهو يعلم أن وراءه المحاق! وفى رسول الله أسوة حسنة لمن كان يعلم أن كلّ رزء بعده جلل، وإذا انتقل العبد إلى الله تعالى غير مفتون فى دينه ولا مثقل الظهر من الأوزار حمد فى غد ما فعل؛ وغبط بقدومه   [1] فى الأصل: «من أفق سروجه» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 177 على أكرم الأكرمين مسرورا، ولقى الله وقد جعل فى قلبه نورا وفى سمعه نورا وفى بصره نورا. والمولى أعزه الله تعالى أولى من تلقّى أمر الله بالتسليم والرضا، وقابل أقداره بأن الخيرة فيما قدّر وقضى؛ وحمد الله على ما وهب من بقاء إخوته الذين فيهم أعظم خلف، وأجمل عوض يقال به للدّهر الذى اعتذر بدوام المسرّة فيهم: عفا الله عمّا سلف؛ وعلم أنّ الخطب الذى هدّ ركن الدين باحترابه واجتراحه، قد صرفه إلى الأمد عن الإلمام بساحة شهابه والتعرّض إلى حمى فخره والنظر إلى حىّ صلاحه؛ ففى بقائهم ما يرغم العدا، ويعزّ حزب الهدى؛ ويقيم كلّا منهم فى خدمة الدولة القاهرة بين يدى المولى مقام الشّبل المنتمى للأسد، وينهضهم من مصالح الإسلام مع ما يعلمه منهم من حسن الثّبات من الوالد وسرعة الوثبات من الولد. والله تعالى يجزل له من الأجر أوفاه، ويحفظ عليه- وقد فعل- أخراه؛ ويجعله للإسلام ذخرا، ولا يسمعه مع طول البقاء بعدها تعزية أخرى. ومن أحسن الرثاء وأشجاه ما نطقت به الخنساء فى رثائها لأخيها صخر، فمن ذلك قولها: ألا يا صخر إن أبكيت عينى ... لقد أضحكتنى دهرا طويلا دفعت بك الجليل وأنت حىّ ... فمن ذا يدفع الخطب الجليلا إذا قبح البكاء على قتيل ... رأيت بكاءك الحسن الجميلا وقالت أيضا فيه: الا هبلت أمّ الذين غدوا به ... إلى القبر، ماذا يحملون إلى القبر! وماذا يوارى القبر تحت ترابه ... من الجود! يا بؤس الحوادث والدهر! فشأن المنايا إذ أصابك ريبها ... لتغد على الفتيان بعدك أو تسرى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 178 وقالت: يذكّرنى طلوع الشمس صخرا ... وأبكيه لكلّ غروب شمس ولولا كثرة الباكين حولى ... على إخوانهم لقتلت نفسى وما يبكون مثل أخى ولكن ... أسلّى النفس عنه بالتأسّى وقالوا: أرثى بيت قالته العرب قول متمّم بن نويرة فى أخيه مالك، وكان قد قتله خالد بن الوليد فى الرّدّة. وكان متمم قدم العراق، فأقبل لا يرى قبرا إلا بكى؛ فقيل له: يموت أخوك بالملا وتبكى على قبر بالعراق! فقال: لقد لامنى عند القبور على البكا ... رفيقى لتذراف الدموع السّوافك أمن أجل قبر بالملا أنت نائح ... على كلّ قبر أو على كلّ هالك وقال: أتبكى كلّ قبر رأيته ... لقبر ثوى بين اللّوى فالدّكادك فقلت له: إن الشّجا يبعث الشجا ... فدعنى فهذا كلّه قبر مالك معناه قد ملأ الأرض مصابه عظما، فكأنه مدفون بكلّ مكان. وهو أبلغ ما قيل فى تعظيم ميّت. وقيل أرثى بيت قالته العرب قول المحدث: على قبره بين القبور مهابة ... كما قبلها كانت على صاحب القبر وقيل: بل قول الآخر: أرادوا ليخفوا قبره عن عدوّه ... فطيب تراب القبر دلّ على القبر وقالوا: بل بيت غيره: فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنّه بنيان قوم تهدّما وقال الأصمعى: أرثى بيت قالته العرب قول الشاعر: ومن عجب أنّ بتّ مستشعر الثّرى ... وبتّ بما زوّدتنى متمتّعا ولو أننى أنصفتك الودّ لم أبت ... خلافك حتى ننطوى فى الثرى معا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 179 ومن أحسن الرثاء قول حسين بن مطير الأسدىّ: ألمّا بمعن ثم قولا لقبره: ... سقتك الغوادى مربعا ثم مربعا فتى عيش فى معروفه بعد موته ... كما كان بعد السيل مجراه مرتعا أيا قبر معن كنت أوّل حفرة ... من الأرض خطّت للسماحة مضجعا ويا قبر معن كيف واريت جوده ... وقد كان منه البرّ والبحر مترعا! بلى قد وسعت الجود والجود ميّت ... ولو كان حيّا ضقت حتى تصدّعا ولمّا مضى معن مضى الجود والنّدى ... وأصبح عرنين المكارم أجدعا قال أبو هلال العسكرىّ: هذه الأبيات أرثى ما قيل فى الجاهلية والإسلام. وقال بكر بن النّطّاح يرثى معقل بن عيسى: وحدّثنى عن بعض ما قال أنه ... رأت عينه فيما ترى عين نائم كأن النّدى يبكى على قبر معقل ... ولم تره يبكى على قبر حاتم ولا قبر كعب إذ يجود بنفسه ... ولا قبر حلف الجود قيس بن عاصم فأيقنت أن الله فضّل معقلا ... على كل مذكور بفضل المكارم وقال آخر: لعمرك ماوارى التراب فعاله ... ولكنما وارى ثيابا وأعظما ومثله لمنصور النّمرىّ: فإن تك أفنته الليالى وأوشكت ... فإن له ذكرا سيبقى اللياليا وقال التميمىّ فى منصور بن زياد: أمّا القبور فإنّهنّ أوانس ... بفناء قبرك والدّيار قبور عمّت صنائعه فعمّ مصابه ... فالناس فيه كلّهم مأجور يثنى عليك لسان من لم توله ... خيرا لأنك بالثناء جدير الجزء: 5 ¦ الصفحة: 180 ردّت صنائعه إليه حياته ... فكانه من نشرها منشور فالناس مأتمهم عليه واحد ... فى كل دار رنّة وزفير وقال ابن القزّاز المغربىّ: سأبكيك لا أن البكا عدل لوعتى ... ولا أنّ وجدى فيك كفء تندّمى وقلّ لعينى أن تفيض دموعها ... عليك ولو أنّ الذى فاض من دمى وقال الخريمىّ وأعددته ذخرا لكلّ ملمّة ... وسهم الرّزايا بالذخائر مولع وإنى وإن اظهرت منّى جلادة ... وصانعت أعدائى عليه لموجع ولو شئت أن أبكى دما لبكيته ... عليه ولكن ساحة الصبر أوسع وقال أبو هلال العسكرىّ: على الرغم من أنف المكارم والعلا ... غدت داره قفرا ومغناه بلقعا ألم تر أنّ البأس أصبح بعده ... أشلّ وأن الجود أصبح أجدعا فمرّا على قبر المسوّد وانظرا ... إلى المجد والعلياء كيف تخشّعا فإن يك واراه التراب فكبّرا ... على الجود والمعروف والفضل أربعا ولا تسأما نوحا عليه مكرّرا ... ونوحا لفقد العارفات مرجّعا فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنّه بنيان قوم تضعضعا ولا تحسبا أنّى أواريه وحده ... ولكنّنى واريته والنّدى معا وقال أيضا: ألست ترى موت العلا والفضائل ... وكيف غروب النجم بين الجنادل! فما للمنايا أغفلت كلّ ناقص ... ونقّبن فى الآفاق عن كلّ فاضل! على الرغم من أنف العلاسيق للرّدى ... بكل كريم الفعل حر الشمائل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 181 على أنّ من أبقته ليس بخالد ... وليس امرؤ يرجو الخلود بعاقل رأيت المنايا بين غاد ورائح ... فما للبرايا بين ساه وغافل! ولم أر كالدنيا حبيبا مضرّة ... ولم أر مثل الموت حقّا كباطل وقال الرّقاشىّ فى البرامكة: ألان استرحنا واستراحت ركابنا ... وقلّ الذى يحدى ومن كان يحتدى فقل للمطايا: قد أمنت من السّرى ... وطىّ الفيافى فدفدا بعد فدفد وقل للمنايا: قد ظفرت بجعفر ... ولن تظفرى من بعده بمسوّد وقل للعطايا بعد فضل: تعطّلى ... وقل للرزايا كل يوم: تجدّدى ودونك سيفا برمكيّا مهنّدا ... أصيب بسيف هاشمىّ مهنّد وقال آخر: سأبكيك للدّنيا وللدّين، إننى ... رأيت يد المعروف بعدك شلّت ربيع إذا ضنّ الغمام بمائه ... وليث إذا ما المشرفيّة سلّت وقال عبد الله بن المعتزّ: ألست ترى موت العلا والمحامد ... وكيف دفنّا الخلق فى قبر واحد وللدّهر أيّام يسئن عوامدا ... ويحسنّ إن أحسنّ غير عوامد وقال أبو الطيّب المتنّبى: إنى لأعلم- واللبيب خبير- ... أن الحياة وإن حرصت غرور ما كنت أعلم قبل دفنك [1] فى الثرى ... أن الكواكب فى التّراب تغور خرجوا به ولكلّ باك حوله ... صعقات موسى يوم دكّ الطّور   [1] كذا فى ديوان المتنبى طبع مطبعة هندية سنة 1898. وفى الأصل: «قبل تنزل فى الثرى» على حذف أن المصدرية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 182 حتى أتوا جدثا كأنّ ضريحه ... فى قلب كلّ موحّد محفور نبكى عليه وما استقرّ قراره ... فى اللحد حتى صافحته الحور ومنها: صبرا على المكروه [1] فيه تكرّما ... إنّ العظيم على العظيم صبور ولكلّ مفجوع سواكم مشبه ... ولكلّ مفقود سواه نظير وقال آخر: كفى حزنا أنّى تخلّفت بعده ... أدور مع الباكين فى عرصاته وصارت يمينى ما حلفت بقبره ... وكانت يمينى قبلها بحياته وقال آخر: وكنت أخاف الدّهر ما كان باقيا ... فلما تولّى مات خوفى على الدّهر وقال آخر: ولما دعوت الصبر بعدك والبكا ... أجاب البكا طوعا ولم يجب الصبر وإن ينقطع منك الرجاء فإنه ... سيبقى عليك الحزن ما بقى الدهر وقال آخر: فو الله لو أسطيع قاسمته الرّدى ... فمتنا جميعا أو يقاسمنى عمرى ولكنما أرواحنا ملك غيرنا ... فما لى فى نفسى ولا فيه من أمر أحمّله ثقل التّراب وإننى ... لأخشى عليه الثقل من موطئ الذّرّ وما انا بالوافى وقد عشت بعده ... وربّ اعتراف كان أبلغ من عذر وقال آخر: يا راحلا لم يبق لى ... من بعده فى العيش نفعا   [1] فى الديوان: «صبرا بنى إسحاق فيه تكرما» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 183 ضاقت علىّ الأرض في ... ك وضقت بالإخوان ذرعا ورعيت فيك النّجم يا ... من كان يحفظنى ويرعى أبكيك بالشعر الذى ... قد رقّ حتى صار دمعا وقال تاج الملوك بن أيّوب يرثى أخاه: لو كان يشفى الدمع غلّة واجد ... لشفى غليلى فيض دمعى الهامر هيهات لا برد الغليل وقد ثوى ... من كان من عددى وخير ذخائرى يا للرّجال لنكبة قد أذهبت ... جلد الجليد وحسن صبر الصابر طرقت فتى الملك المعظّم فانثنى ... من بعد بهجته كربع داثر ومنها: جبل هوى فارتجّت الدنيا له ... فكأنما ركبت جناحى طائر ومنها: من للنّوائب يوم تفترس الورى ... قسرا بأنياب لها وأظافر أضحى وحيدا فى التراب كأنّه ... ما سار بين مواكب وعساكر قد كان لا تعصى البريّة أمره ... فانقاد ممتثلا لأمر الآمر مولاى دعوة واله غادرته ... وقفا على نوب الزمان الغادر هل من سبيل للزيارة عندها ... هيهات حال الموت دون الزائر لو كان خصمك غير حادثة الرّدى ... لرددته بذوابل وبواتر أو كان يدرك ثأر من أودى به ... ريب المنون لكنت أوّل ثائر لكنّه الموت الذى قهر الورى ... من حيث لا تثنيه قدرة قادر وقال كمال الدين بن النبيه يرثى الأمير على ابن الخليفة الناصر لدين الله: الناس للموت كخيل الطّراد ... فالسابق السابق منها الجوادّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 184 والله لا يدعو إلى داره ... إلا من استصلح من ذى العباد والموت نقّاد، على كفه ... جواهر يختار منها الجياد والمرء كالظلّ ولا بدّ أن ... يزول ذاك الظلّ بعد امتداد لا تصلح الأرواح إلّا إذا ... سرى إلى الأجسام هذا الفساد أرغمت يا موت أنوف القنا ... ودست أعناق السيوف الحداد كيف تخرّمت أميرا وما ... أنجده كلّ طويل النّجاد مصيبة أذكت قلوب الورى ... كأنما فى كلّ قلب زناد نازلة عمّت فمن أجلها ... سنّ بنو العباس لبس السّواد مأتمة فى الأرض لكن لها ... عرس على السبع الطّباق الشّداد طرقت يا موت كريما فلم ... يقنع بغير النفس للضيف زاد قصمته من سدرة المنتهى ... غصنا فشلّت يد أهل العناد يا ثالث السّبطين خلّفتنى ... أهيم من همّى فى كلّ واد يا نائما فى غمرات الرّدى ... كحلت اجفانى بميل السّهاد ويا ضحيع التّرب أسقمتنى ... كأنما فرشى شوك القتاد دفنت فى الترب ولو أنصفوا ... ما كنت إلا فى صميم الفؤاد خليفة الله اصطبر واحتسب ... فما وهى البيت وأنت العماد فى العلم [1] والحلم بكم يقتدى ... إذا دجا الخطب وضلّ الرشاد وأنت لجّ البحر ما ضرّه ... أن سال من بعض نواحيه واد ولما مات الإخشيد محمد بن طغج رثاه جماعة من الشعراء منهم محمد بن الحسن ابن زكريا فقال:   [1] كذا فى ديوان ابن النبيه طبع مصر. وفى الأصلين: «فالعلم والحلم» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 185 فى الرزايا روائع الأوجال ... والبرايا دريئة الأجال وكذا الليل والنهار اعتبار ... للورى فى تفكّر الأحوال كلّ شىء وإن تمادى مداه ... قصره للفناء أو للزّوال وأرى كلّ عيشة لأناس ... كونها مؤذن بوشك انتقال كل ذى جدّة- إذا ما الجديدا ... ن ألّحا عليه- مود بال ما لخلق من المنون مفرّ ... لا ولا دون بطشها من مآل كان [1] غيث الأيّام إن أخلف الغي ... ث أطلّت سحابه بانهمال فجعتنا بواهب لا نراه ... يخلق الوجه عنده بابتذال فجعتنا ببهجة الأرض فى الأر ... ض وشمس الضّحى وبدر اللّيالى فجعتنا بمن حمى حرمة الإس ... لام من حادث ومن ختّال فجعتنا بالباسل البطل السا ... مى غداة الوغى إلى الأبطال فجعتنا بالواهب المجزل المر ... تاح حين السؤال للسّؤال عجب إذ دنت إليه المنايا ... وحمى عزّه المنيع العالى أين من يشترى المدائح والشك ... ر بأسنى وفر وأوفى نوال قطع الموت وصلنا منه كرها ... والردى قاطع لكل اتّصال رحمة الله والسلام عليه ... فى الضّحى والعشاء والاصال وسقى الله حفرة ضمّنته ... شكر واه من الحيا هطّال ثم خرج من الرثاء إلى مدح ابنه فقال: إن خبا بدره فقد لاح للأمّ ... ة لمّا خبا طلوع الهلال نوره مشرق مضىء مدى الده ... ر منير وليس ذا اضمحلال   [1] فى الأصول: «كل» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 186 وقال أبو الطيب المتنبّى يرثيه: هو الزمان مشتّ بالذى جمعا ... فى كل يوم نرى من صرفه بدعا لو كان ممتنع تغنيه منعته ... لم يصنع الدهر بالإخشيد ما صنعا ذاق الحمام فلم تدفع كتائبه ... عنه القضاء ولا أغناه ما جمعا لقد نعى من نعاه كلّ مفتخر ... وكلّ جود لأهل الأرض حين نعى لله ما حلّ بالإسلام حين ثوى! ... لقد وهى شعب هذا الدّين فآنصدعا فمن تراه يقود الخيل ساهمة ... سدّ الفضاء وملء الأرض ما وسعا ترى الحتوف غلوقا فى أسنّته ... لدى الوغى وشهاب الموت قد لمعا لو كان يسطيع قبر ضمّه لسعى ... إليه شوقا ليلقاه وإن شسعا فليعجب الناس من لحد تضمّن من ... تضمّن الرزق بعد الله فاضطلعا لو يعلم اللحد ما قد ضمّ من كرم ... ومن فخار ومن نعماء لاتّسعا يا لحده إن تضق عنه فلا عجب ... فيه الحجا والنّهى والبأس قد جمعا يا لحد طل إنّ فيك البحر محتبسا ... واللّيث منهصرا والجود مجتمعا يا يومه لم تخصّ الفجع أسرته ... كلّ الورى بردى الإخشيد قد فجعا يا يومه لم تدع صبرا لمصطبر ... ولم تدع مدمعا إلا وقد دمعا اردى الرّفاق ردى الإخشيد فآنقرضوا ... فما ترى منهم فى الأرض منتجعا يأيها الملك المخلى مجالسه ... أحميت أعيننا الإغماض فامتنعا ومنها: لئن مضيت حميد الأمر مفتقدا ... لقد تركت حميد الأمر متّبعا ثم خرج من الرثاء إلى مدح ولد الإخشيد: ثبت الجنان فلا نكس ولا ورع ... تلقاه مؤتزرا بالحزم مدّرعا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 187 أعطت أبا القاسم الأملاك بيعتها ... ولو أبت أخذت أسيافه البيعا وانقاد أعداؤه ذلّا لهيبته ... وظلّ متبوعهم من خوفه تبعا أضحت به همم الغلمان عالية ... كأنّ مولاهم الإخشيد قد رجعا وقال مهلهل بن يموت يرثيه أيضا: أىّ عزّ مضى من الإسلام! ... أىّ ركن أضحى حديث انهدام! ذاق موتا محمد بن طغج ... هو ليث الشّرى وغيث الغمام فقد الناس مولى الإنعام ... فهم سائمون كالأنعام مات ربّ العلا وراعى الرعايا ... والسرايا وكافل الأيتام أين ما كنت فيه من عزّك البا ... ذخ والمرتقى عزيز المرام! أين ذاك الحجاب والملك والهي ... بة أين الزّحام وقت الزّحام! من أمير وقائد وخطير ... ورئيس وماجد وهمام كلّهم مطرق لديك من الهي ... بة خوف الإجلال والإعظام أين تلك الخيام حولك إن عرّ ... ست والأسد حول تلك الخيام من عديد وعدّة لك ما بي ... ن قعود فيها وبين قيام لم يطق جمعهم دفاع الرّدى عن ... ك ولم يمنعوك منع اعتصام أسلمتك الخيول قسرا وقد كن ... ت عليها سورا على الإسلام خانك السيف وهو يصدر عن أم ... رك مستعديا بغير احتجام خذل الرمح وهو عونك لوحا ... ن لقاء وثار نقع قتام لم تردّ القسىّ عنك سهام ال ... حتف والحتف عندها فى السهام ما وقتك الحراب حرب المنايا ... حين وافاك جيشها من أمام الجزء: 5 ¦ الصفحة: 188 لم يحصّنك ما اقتنيت من الآ ... لات من جوشن ولا من لام [1] حكم الموت فيك من بعد ما كن ... ت ترى حاكما على الحكّام فقدتك الفسطاط وجدا مدى الده ... ر ومن بعدها بلاد الشام فجعت يثرب ومكّة والبي ... ت إلى زمزم أجل والمقام عمّ فيك المصاب فاشترك العا ... لم فى الرّزء منه والآلام حسبنا الله عزّ من حكم يج ... رى على الحاكمين بالأحكام كلّ شىء إلى زوال، ومن ذا ... نال ملك الدنيا بغير اخترام أين أين الملوك فى سالف الدّه ... ر دهتهم حوادث الأيّام أين من قد كانوا يخافون فى البأ ... س ويرجون للعطايا الجسام ليس يبقى إلا الإله تعالى ... من له الملك ثابتا بالدّوام أيّهذا الأمير بل يا أبا القا ... سم يابن السّميدع القمقام ارض حكم الإله فى الملك الما ... ضى وسلّم لنافذ الأحكام وهناك الذى بلغت من الأم ... ر وما حزته بحسن انتظام ما كمثل الذى رزئت ولا مث ... ل الذى قد ملكت فى ذا العام أنت مثل الإخشيد فانهض بما ملّ ... كت بالجدّ منك والإعتزام وقال بعض الشعراء يرثى الوزير يعقوب بن كلّس وزير العزيز بن المعزّ خليفة مصر: إن التصبر فى الأمور جميل ... إلا عليك فما إليه سبيل يا حاملا ثقل العلا وكأنه ... لعلوّ همّته بها محمول يا واهبا فوق المنى وكأنه ... لسخائه مما يجود بخيل   [1] لام: مخفف «لأم» جمع «لأمة» وهى الدرع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 189 جاء منها: يا ترب لا تأكل لسانا طالما ... والى به التحميد والتهليل يا ترب لا تعنف بكفّ طالما ... قد كان يؤلم ظهرها التقبيل ومنها: يا دهر تعلم ما جنيت على الورى؟! ... خطب لعمرك إن علمت جليل ما كان ضرّك لو مهلت بمثله ... يا دهر إنك بعدها لعجول ومن المراثى المشهورة التى عنى بها، واتصلت أسباب الشارحين بسببها، المرثية العبدونيّة التى نظمها الوزير الكاتب أبو محمد عبد المجيد بن عبدون يرثى بها بنى مسلمة المعروفين ببنى الأفطس، وهى من أمهات القصائد ووسائط القلائد؛ فإنه ذكر فيها عدّة من مشاهير الملوك والخلفاء والأكابر ممن أبادهم الدهر بحوادثه ونكباته، ووثب عليهم الزمن فما وجدوا جنّة تقيهم من وثباته؛ ودبّت [عليهم [1]] الأيام بصروفها، وسقتهم المنيّة بكأس حتوفها. وها نحن نذكرها ونزيدها تبيانا بشرح من استبهمت أخباره، وخفيت على المطالع آثاره. وأوّل القصيدة: الدّهر يفجع بعد العين بالأثر ... فما البكاء على الأشباح والصّور أنهاك أنهاك لا آلوك معذرة ... عن وقفة بين ناب الليث والظّفر فالدهر حرب وإن أبدى مسالمة ... فالبيض والسّمر مثل البيض والسّمر ولا هوادة بين الرأس تأخذه ... يد الضّراب وبين الصارم الذّكر فلا تغرّنك من دنياك نومتها ... فما صناعة عينيها سوى السّهر   [1] زيادة يقتضيها السياق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 190 ما للّيالى- أقال الله عثرتنا ... من اللّيالى وخانتها يد الغير- فى كلّ حين لها فى كلّ جارحة ... منّا جراح وإن زاغت عن البصر تسرّ بالشىء لكن كى تغرّ به ... كالأيم [1] ثار إلى الجانى من الثمر كم دولة وليت بالنصر خدمتها ... لم تبق منها! وسل ذكراك من خبر هوت «بدار:» وفلّت غرب قاتله ... وكان عضبا على الأملاك ذا أثر «دارا» الذى ذكره هو دارا بن دارا آخر ملوك الفرس؛ وقاتله الإسكندر. وسنذكر إن شاء الله أخبارهما فى فنّ التاريخ. واسترجعت من بنى ساسان ما وهبت ... ولم تدع لبنى يونان من أثر «بنو ساسان» هم الفرس الأخر ولهم دولة مشهورة انقرضت فى الإسلام. و «بنو يونان» أيضا من الملوك أرباب الدول المشهورة، ومن مشاهير ملوكهم الإسكندر بن فيلبس. وسترد إن شاء الله أخبارهم. وأتبعت أختها طسما، وعاد على ... عاد وجرهم منها ناقض المرر أخت «طسم» جديس، وهما أبناء عمّ كثر نسلهما وهم العرب العاربة. وسنذكر أخبارهما إن شاء الله فى وقائع العرب. و «عاد» هم قوم هود. و «جرهم» هو ابن عوف بن زهير بن أنس بن الهميسع بن حمير بن سبأ الأكبر بن يشجب ابن يعرب بن قحطان، وقيل: إن العمالقة من ولد جرهم. أراد بذكرهم أنهم كلّهم أبادهم الموت. وما أقالت ذوى الهيئات من يمن ... ولا أجارت ذوى الغايات من مضر   [1] الأيم: الأفعى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 191 «اليمن» كلّهم باتفاق العلماء بالأنساب من ولد قحطان، ومنهم ملوك نذكرهم إن شاء الله فى التاريخ. و «مضر» بن نزار بن معدّ بن عدنان. وقدّ تقدم ذكرهم فى الأنساب. ومزّقت سبا فى كلّ قاصية ... فما التقى رائح منهم بمبتكر «سبأ» الذى أشار إليه هو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، واسمه عبد شمس، وإنما قيل فيه سبأ لأنه أوّل من أدخل بلاد اليمن السّبى. وكان له عشرة أولاد سكن الشام منهم أربعة وهم: لخم وغسّان وجذام وعاملة، وسكن اليمن منهم ستة: كندة ومذحج والأزد وأنمار [والأشعر وعمرو [1]] ؛ وقد ذكر الله عزّ وجل تمزيقهم بقوله: وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ . وسنذكر أخبار سيل العرم وسدّ مأرب. وأنفذت فى كليب حكمها ورمت ... مهلهلا بين سمع الأرض والبصر «كليب» الذى ذكر هو كليب بن ربيعة بن الحارث الذى ضرب به المثل فقيل: «أعزّ من كليب وائل» . وأشار ابن عبدون فى هذا البيت إلى ما كان من قتل جسّاس بن مرّة كليبا وما وقع بين بكر وتغلب من الحروب التى نشرحها إن شاء الله فى وقائع العرب. وقوله: «ورمت مهلهلا بين سمع الأرض والبصر» كأنه أراد ما حكى أنه قتل فى موضع لم يطّلع عليه أحد، وهو مثل؛ يقال: فعل كذا وكذا بين سمع الأرض وبصرها إذا فعله خاليا. ولم تردّ على الضّلّيل صحّته ... ولا ثنت أسدا عن ربّها حجر «الضّلّيل» الذى أشار إليه هو امرؤ القيس بن حجر بن عمرو، والحارث هو آكل المرار؛ وسمّى امرؤ القيس بالضلّيل لأنه ترك ملكه وتوجّه إلى قيصر يطلب منه   [1] التكملة عن قلائد الجمان فى التعريف بقبائل عرب الزمان للعلامة القلقشندى مؤلف كتاب صبح الأعشى. وفى الأصل بيان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 192 جيشا يأخذ به ثأر أبيه من بنى أسد. وإشارته إلى الصحّة لقول امرئ القيس فى قصيدته السينيّة: وبدّلت قرحا داميا بعد صحّة ... لعلّ منايانا تحوّلن أبؤسا لقد طمح الطمّاح من بعد أرضه ... ليلبسنى من دائه ما تلبّسا و «الطّماح» رجل من بنى أسد أرسله قيصر إلى امرئ القيس بحلّة مسمومة، فلما لبسها تقطّع ومات بأنقرة. وإشارته إلى أسد لأن بنى أسد كانوا قتلوا حجر ابن الحارث يوم ماقط. ودوّخت آل ذبيان وإخوتهم ... عبسا وعضّت بنى بدر على النّهر أشار إلى ما كان بين عبس وذبيان من الحروب بسبب داحس والغبراء. وسير ذلك فى وقائع العرب إن شاء الله تعالى. وألحقت بعدىّ بالعراق على ... يد ابنه أحمر العينين والشّعر أراد عدىّ بن أيوب بن زيد مناة بن تميم الشاعر. وأحمر العينين والشعر هو النّعمان بن المنذر. وكان عدىّ هذا ترجمانا لأبرويز وكاتبه بالعربيّة، فلما مات قابوس بن المنذر تلطّف عدىّ وتحيّل على أبرويز حتى ولّى النعمان إمرة العرب وقدّمه على إخوته وكان أدمّهم، ثم اتهمه النعمان أنه وشى به فاحتال عليه حتى ظفر به وحبسه ثم قتله بالعراق؛ فتلطّف ابنه زيد بن عدىّ وتوصّل حتى خدم أبرويز على عادة أبيه، وأوقع بين أبرويز والنعمان حتى قتله أبرويز، على ما يرد إن شاء الله تعالى فى التاريخ. والله أعلم. وأشرفت بخبيب فوق فارعة ... وألصقت طلحة الفيّاض بالعفر أشار إلى خبيب بن عدىّ الأنصارىّ وهو بدرىّ وأسر فى السريّة التى خرج فيها مرثد بن أبى مرثد فانطلق به المشركون إلى مكّة واشتراه حجر بن إهاب التميمىّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 193 حليف بنى نوفل لعقبة بن الحارث بن نوفل ليقتله بأبيه، وكان خبيب قتل الحارث أبا عقبة يوم بدر، فصلبه عقبة على خشبة بالتّنعيم وقتله. وطلحة الفيّاض هو طلحة ابن عبد الله التميمىّ أحد العشرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتل يوم الجمل، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. ومزّقت جعفرا بالبيض، واختلست ... من غيله حمزة الظّلام للجزر «جعفر» الذى ذكره هو جعفر بن أبى طالب أخو علىّ رضى الله عنهما قتل فى غزوة مؤتة. «حمزة» هو ابن عبد المطلب عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتل يوم أحد قتله وحشىّ غلام جبير بن مطعم؛ وجعله ظلّاما للجزر وصفه بالكرم. وبلّغت يزدجرد الصّين واختزلت ... عنه سوى الفرس جمع التّرك والخزر ولم تردّ مواضى رستم وقنا ... ذى حاجب عنه سعدا فى ابنة الغير «يزدجرد» الذى ذكر هو ابن شهريار آخر الملوك الساسانيّة. ورستم هو الأرمينىّ وهو الذى قاتل سعد بن أبى وقّاص وقتل يوم القادسيّة، على ما ياتى شرح ذلك فى مواضعه إن شاء الله تعالى. وخضّبت شيب عثمان دما، وخطت ... إلى الزبير، ولم تستحى من عمر أشار فى هذا البيت إلى مقتل عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان والزبير بن العوّام رضى الله عنهم. وسترد إن شاء الله أخبارهم. وما رعت لأبى اليقظان صحبته ... ولم تزوّده إلا الضّيح فى الغمر «أبو اليقظان» هو عمّار بن ياسر العنسىّ قتل بصفّين وكان مع علىّ؛ وعنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تقتل عمّارا الفئة الباغية» . ولما قتل كانت الراية يومئذ بيده فعطش فدعا بشربة من الماء فأتى بضيحة [1] فشربها ثم قال: أخبرنى   [1] الضيحة: الشربة من الضياح أو الضيح بالفتح فيهما وهو اللبن الرقيق الممزوج بالماء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 194 رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اللّبن آخر شربة أشربها فى الدنيا؛ فقتل يومئذ رضى الله عنه. وأجزرت سيف أشقاها أبا حسن ... وأمكنت من حسين راحتى شمر أشقاها هو عبد الرحمن بن ملجم المرادىّ قاتل علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه لقوله صلى الله عليه وسلم: «يا علىّ، أشقاها الذى يخضب هذه من هذه» وأشار إلى لحية علىّ ورأسه. والحسين الذى ذكره هو الحسين بن علىّ. وشمر هو شمر ابن ذى الجوشن وهو الذى أرسله عبيد الله بن زياد إلى عمر بن سعد يحرّضه على قتل الحسين؛ وقيل: إن شمرا لم يباشر قتل الحسين، والذى قتله سنان بن [1] أنس النّخعى، وشمر فهو المجهز والمحرّض على قتله، فلذلك ذكره. وليتها إذ فدت عمرا بخارجة ... فدت عليّا بمن شاءت من البشر عمرو الذى أشار إليه هو عمرو بن العاص بن وائل بن هشام بن سعيد بن سهم ابن عمرو بن هصيص بن كعب، أمير مصر لمعاوية بن أبى سفيان. وخارجة رجل من سهم بن عمرو. وكان من خبره أن الخوارج كانت قد اجتمعت على قتل علىّ ومعاوية وعمرو، فكان الذى انتدب لقتل عمرو زادويه مولى بنى العنبر، ورصده إلى ليلة المعاد التى اتفقوا على الفتك بهم فيها؛ فاشتكى عمرو تلك الليلة من بطنه ولم يخرج للصلاة واستخلف خارجة ليصلّى بالناس؛ فلما قام فى المحراب وثب عليه زادويه وهو يظن أنه عمرو بن العاص فقتله؛ وأخذ زادويه وأدخل على عمرو، فسمع الناس   [1] كذا فى الطبرى طبع أوربا (ق 2 ص 362، 366، 367) وابن الأثير طبع أوربا (ج 4 ص 66- 68) . وفى الأصل: «ابن أبى أنس» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 195 يخاطبونه بالإمرة، فقال: أو ما قتلت عمرا؟ قيل له: [لا [1]] إنما قتلت خارجة؛ فقال: «أردت عمرا وأراد الله خارجة» . فلذلك قال: وليتها إذ فدت عمرا بخارجة وفى ابن هند وفى ابن المصطفى حسن ... أتت بمعضلة الألباب والفكر فبعضنا قائل ما اغتاله أحد ... وبعضنا ساكت لم يؤت من حصر ابن هند الذى أشار إليه هو معاوية بن أبى سفيان، أراد ما كان بينه وبين الحسن بن علىّ فى أمر الخلافة. وأراد بالبيت الثانى ما وقع الاختلاف فيه من أن الحسن مات مسموما وأنّ معاوية وعد زوجة الحسن جعدة بنت قيس الكندىّ بمائة ألف درهم ويزوّجها لابنه يزيد إن قتلت الحسن، ففعلت وسمّته. ولما مات الحسن وفّى لها بالمال وقال: حبّ حياة يزيد منعنى تزويجه منك؛ وقيل: مات الحسن حتف أنفه. والله أعلم. وعمّمت بالرّدى فودى أبى أنس ... ولم تردّ الردى عنه قنا زفر أبو أنس هو الضحاك بن قيس الفهرى. يشير إلى ما وقع بينه وبين مروان ابن الحكم بمرج راهط، وكان الضحاك يدعو لابن الزبير فقتل الضحّاك، على ما نذكره إن شاء الله فى أخبار مروان. وكان زفر بن الحارث الكلابىّ مع الضحّاك ففرّ عنه. وأردت ابن زياد بالحسين فلم ... يبؤ بشسع له قد طاح أو ظفر أشار إلى عبيد الله بن زياد ابن أبيه عامل يزيد بن معاوية على العراق، وهو الذى جهّز عمر بن سعد لحرب الحسين بن علىّ رضى الله عنهما. وقوله «يبؤ بشسع له» أخذه من قول مهلهل حين قتل يجير بن الحارث وقال: بؤبشسع نعل كليب.   [1] زيادة من شرح القصيدة العبدونية لابن بدرون، طبع ليدن سنة 1846 م. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 196 وأنزلت مصعبا من رأس شاهقة ... كانت به مهجة المختار فى وزر [1] أشار إلى مصعب بن الزبير بن العوّام وقتله. والشاهقة هى الكوفة. جعلها شاهقة لمنعتها وكثرة رجالها. وأراد ما كان بين مصعب وعبد الملك بن مروان من الحرب التى قتل فيها مصعب. والمختار الذى ذكره هو المختار بن أبى عبيد بن مسعود ابن عمرو الثّقفىّ. أشار إلى ما كان بينه وبين مصعب من الحرب وقتل المختار. وسنورد كلّ هذه الوقائع إن شاء الله فى التاريخ. ولم تراقب مكان ابن الزبير ولا ... راعت عياذته بالبيت والحجر أراد عبد الله بن الزبير، وكان يسمّى العائذ لأنه كان يقول: أنا العائذ بالبيت، وقتله الحجّاج بن يوسف الثقفىّ لما وجّهه عبد الملك لحربه. ولم تدع لأبى الذّبّان قاضيه ... ليس اللّطيم لها عمرو بمنتصر أبو الذّبّان هو عبد الملك بن مروان بن الحكم، سمّى بذلك لبخره. وقوله «قاضيه» لأنه كان مظفّرا على أعدائه فإنه غلب من كان يناوئه فى سلطانه مثل عبد الله ومصعب ابنى الزبير، وعمرو بن سعيد، وعبد الرحمن بن الأشعث، ما منهم إلا من قتل وحكم فيه قاضيه وهو سيفه، ولم يغن ذلك عنه لمّا أتته منيّته. وأما اللّطيم فهو عمرو بن سعيد الأشدق، سمّى بذلك لميل كان فى فمه فقيل له من أجله لطيم الشيطان، وقتله عبد الملك بن مروان. وأظفرت بالوليد بن اليزيد ولم ... تبق الخلافة بين الكأس والوتر الوليد هذا هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وهو الذى يقال له الجبّار العنيد. أشار إلى ظفر يزيد بن الوليد بن عبد الملك به وقتله. و [قوله [2]] :   [1] الوزر: الملجأ والمعتصم. [2] من عادته أن يذكر هذه الكلمة. فلعلها سقطت من الناسخ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 197 .............. .... ولم ... تبق الخلافة بين الكأس والوتر أراد بذلك ما كان عليه الوليد من الاشتهار باللهو واللّعب. ولم تعد قضب السفّاح نابية ... عن رأس مروان أو أشياعه الفجر السفّاح هو أبو العباس عبد الله بن محمد بن علىّ بن عبد الله بن عباس، وهو أوّل خلفاء الدولة العباسيّة. يشير إلى ظفره بمروان بن محمد وقتله، وانقراض دولة بنى أميّة وقتلهم على يديه. وأسبلت عبرات للعيون على ... دم بفخّ [1] لآل المصطفى هدر أشار فى هذا البيت إلى ذكر من قتل بفخّ وهم الحسين بن علىّ بن حسن بن حسن بن على، والحسن بن محمد بن الحسن بن الحسن بن علىّ، وعبد الله بن إسحاق ابن إبراهيم بن الحسن بن الحسن، على ما نذكره فى التاريخ إن شاء الله تعالى. وأشرقت جعفرا والفضل ينظره ... والشيخ يحيى بريق الصارم الذّكر أشار فى هذا البيت إلى قتل جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك ونكبة البرامكة فى أيام الرشيد. وأخفرت فى الأمين العهد، وانتدبت [2] ... لجعفر بآبنه والأعبد الغدر الأمين هو محمد بن هارون الرشيد. يشير إلى ما كان بينه وبين أخيه المأمون وإلى العهد الذى كان الرشيد كتبه بينهما. وجعفر الذى أشار إليه هاهنا هو المتوكل ابن المعتصم. أراد ما كان من قتل باغر التركى له بمواطأة من ابنه المنتصر، على ما نورده فى أخباره. وروّعت كلّ مأمون ومؤتمن ... وأسلمت كلّ منصور ومنتصر   [1] فخ: واد بمكة. [2] كذا فى شرح القصيدة العبدونية لأبن بدرون. وفى الأصل: «وانتبدت» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 198 المأمون هو عبد الله بن الرشيد وهو أوّل من لقّب بالمأمون، ولقّب به بعد ذلك ولد من أولاد المعتمد بن عبّاد ويحيى بن ذى النون صاحب طليطلة. والمؤتمن فأوّل من لقب به مروان بن الحكم على قول من يقول إنه كان لبنى أميّة ألقاب، ثم لقّب به القاسم بن الرشيد. وكان الرشيد لما كتب العهد بين الأمين والمأمون جعل ابنه المؤتمن بعد المأمون، وجعل أمر المؤتمن إلى اخيه المأمون إذا أفضت الخلافة إليه إن شاء أمضاه وإن شاء خلعه؛ فلما أفضت الخلافة إلى المأمون أزال المؤتمن فارتاع لذلك. وتلقّب بالمؤتمن محمد بن ياقوت مولى المعتضد صاحب فارس. وتلقّب به سلامة الطّولونى، وعبد العزيز بن عبد الرحمن بن أبى عامر ثم تسمّى بالمنصور. وأما المنصور فأوّل من لقّب به هشام بن عبد الملك بن مروان على تلك الرواية، ثم المنصور أبو جعفر عبد الله بن علىّ العباسى، ثم أبو طاهر إسماعيل ابن القائم بن المهدى صاحب إفريقيّة، ثم محمد بن أبى عامر بالأندلس، وتلقّب به ابن زيرى الصّنهاجى، وتلقّب به سابور صاحب بطليوس، وعبد الله بن محمد ابن مسلمة التّجيبىّ، وحفيده يحيى بن محمد بن عبد الله، وعبد العزيز بن أبى عامر؛ ثم تلقّب به جماعة من الملوك بعد نظم هذه المرثية. وأما المنتصر فهو محمد ابن المتوكّل؛ وممّن تلقّب بالمنتصر مدرار بن اليسع صاحب سجلماسة. وكلّ هؤلاء أبادهم الموت. وأعثرت آل عبّاس- لعا لهم- ... بذيل زبّاء [1] من بيض ومن سمر أشار فى هذا البيت إلى ما كان من تغلّب الأتراك والدّيلم على خلفاء الدولة العباسيّة حتى لم يبق لهم إلا اسم الخلافة، على ما سيرد فى أخبارهم. وقوله:   [1] الزباء: الداهية الشديدة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 199 بذيل زباء من بيض ومن سمر تنبيها على كثرة عدد المتغلّبين على الأمر وقدرتهم على السّلاح. ولا وفت بعهود المستعين ولا ... بما تأكّد للمعتزّ من مرر المستعين هو أحمد بن المعتصم العبّاسى. أشار إلى ما كان من قيام المعتزّ على المستعين وهرب المستعين من سامرّا إلى بغداد. والمعتزّ هو أبو عبد الله محمد بن المتوكّل، وسترد أخبارهم إن شاء الله تعالى: وأوثقت فى عراها كلّ معتمد ... وأشرقت بقذاها كلّ مقتدر المعتمد هو أبو العباس بن المتوكّل، وهو أوّل من لقّب بهذا اللقب، وتلقّب به محمد بن عبّاد بإشبيلية. والمقتدر هو أبو الفضل جعفر بن المعتضد، وهو أوّل من لقّب بالمقتدر، ثم لقّب به أحمد بن سليمان بن هود الجذامىّ بسرقسطة. ثم أخذ ابن عبدون فى رثاء بنى الأفطس فقال: بنى المظفّر والأيّام ما برحت ... مراحلا والورى منها على سفر سحقا ليومكم يوما ولا حملت ... بمثله ليلة فى مقبل العمر من للأسرّة أو من للأعنّة أو ... من للأسنّة يهديها إلى الثّغر من للبراعة أو من لليراعة أو ... من للسماحة أو للنفع والضّرر أو رفع كارثة أو دفع آزفة ... أو قمع حادثة تعيا على القدر من للظّبى [1] وعوالى الخطّ قد عقدت ... أطراف ألسنها بالعىّ والحصر وطوّقت بالثنايا [2] السّود بيضهم ... أعجب بذاك وما منها سوى ذكر   [1] كذا فى شرح ابن بدرون. وفى الأصل: «من للعدى ... » . [2] كذا فى شرح ابن بدرون طبع ليدن سنة 1846. وفى الأصلين: «فطرّفت بالثنايا ... » . ولعل المراد بالثنايا ما يعلو السيوف من الصدأ لإهمالها بعد موت أصحابها. وفى هامش شرح ابن بدرون إشارة الى أنه فى نسخة أخرى «وطوّقت بالمنايا السود ... » الخ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 200 ويح السّماح وويح الجود لو سلما ... وحسرة الدّين والدّنيا على عمر سقت ثرى الفضل والعبّاس هامية ... تعزى إليهم سماحا لا إلى المطر ثلاثة ما ارتقى [1] النّسران حيث رقوا ... وكلّ ما طار من نسر ولم يطر ثلاثة ما رأى العصران مثلهم ... فضلا ولو عزّزا بالشمس والقمر ومرّ من كل شىء فيه أطيبه ... حتى التمتع بالآصال والبكر من للجلال الذى عمّت مهابته [2] ... قلوبنا وعيون الأنجم الزّهر أين الإباء الذى أرسوا قواعده ... على دعائم من عزّ ومن ظفر أين الوفاء الذى أصفوا مشاربه ... فلم يرد أحد منها على كدر كانوا رواسى أرض الله منذ نأوا ... عنها استطارت بمن فيها ولم تقر كانوا مصابيحها فمذ خبوا غبرت ... هذى الخليقة يالله فى سدر كانوا شجا الدهر فاستهوتهم خدع ... منه بأحلام عاد فى خطا الخضر من لى ولا من بهم إن أطبقت محن ... ولم يكن وردها يفضى إلى صدر من لى ولا من بهم إن أظلمت نوب ... ولم يكن ليلها يفضى إلى سحر من لى ولا من بهم إن عطّلت سنن ... وأخفتت ألسن الأيام والسّير على الفضائل إلّا الصبر بعدهم ... سلام مرتقب للأجر [3] منتظر يرجو عسى، وله فى أختها طمع ... والدّهر ذو عقب شتّى وذو غير، قرّطت آذان من فيها بفاضحة ... على [4] الحسان حصى الياقوت والدّرر   [1] كذا فى شرح ابن بدرون. وفى الأصل: «رقا» . [2] فى شرح ابن بدرون: «غضت مهابته» . [3] كذا فى شرح ابن بدرون. وفى الأصل: «مرتقب للأمر ... » . [4] كذا فى شرح ابن بدرون. وفى الأصل: «من الحسان ... » . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 201 ومن أجود الرثاء وأصنعه وأتقنه وأبدعه مراثى أبى تمام حبيب بن أوس الطائى؛ فمن ذلك ما قاله يرثى به غالب بن السّعدىّ: هو الدّهر لا يشوى وهنّ المصائب ... وأكثر آمال الرّجال كواذب فيا غالبا لا غالب لرزيّة ... بل الموت لا شك الذى هو غالب وقلت: أخى، قالوا: أخ من قرابة؟ ... فقلت لهم إن الشّكول أقارب نسيبى فى رأى وعزم ومنصب [1] ... وإن باعدتنا فى الأصول المناسب كأن لم يقل يوما: كأنّ، فتنثنى ... إلى قوله الأسماع وهى رواغب [2] ولم يصدع النادى بلفظة فيصل ... سنانيّة فى صفحتيها التّجارب [3] ومنها: مضى صاحبى واستخلف البثّ والأسى ... علىّ، فلى من ذا وهذاك صاحب عجبت لصبرى بعده وهو ميّت ... وكنت امرأ أبكى دما وهو غائب على أنّها الأيام قد صرن كلّها ... عجائب حتى ليس فيها عجائب وقال يرثى محمد بن الفضل الحميرىّ: ريب دهر أصمّ دون العتاب ... مرصد بالأوجال والأوصاب جفّ درّ الدنيا فقد أصبحت تك ... تال أرواحنا بغير حساب لو بدت سافرا أهينت ولكن ... شغف الخلق أنّها فى النّقاب إن ريب الزمان يحسن أن يه ... دى الرّزايا إلى ذوى الأحساب فلهذا يجفّ بعد اخضرار ... قبل روض الوهاد روض الرّوابى   [1] فى ديوان أبى تمام: «ومذهب» . [2] كذا فى الديوان. وفى الأصل: «وهى لواعب» . [3] فى الديوان: ولم يصدع النادى بخطبة فيصل ... سنانية قد دربتها التجارب وقال فى الأصل: ويروى، ثم وضع تحت بعض الكلمات ما هو مذكور فى رواية الديوان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 202 جاء منها: ذهبت يا محمد الغرّ من أيّ ... امك الواضحات أىّ ذهاب عبّس اللحد والثرى منك وجها ... غير ما عابس ولا قطّاب أطفأ اللحد والثرى لبّك المس ... روج فى وقت ظلمة الألباب وتبدّلت منزلا ظاهر الجد ... ب يسمّى مقطّع الأسباب منزلا موحشا وإن كان معمو ... را بجلّ الصديق والأحباب يا شهابا خبا لآل عبيد الله ... أعزز بفقد هذا الشّهاب ومنها: أنزلته الأيّام عن ظهرها من ... بعد إثبات رجله فى الرّكاب حين تمّ الشّباب [1] واغتدت الدن ... يا إليه مفتوحة الأبواب وحكى الصارم المحلّى سوى أنّ ... حلاه جواهر الآداب قصدت نحوه المنيّة حتى ... وهبت حسن وجهه للتراب وقال يرثى إسحاق بن أبى ربعىّ: أىّ ندى بين الثرى والجيوب [2] ... وسؤدد لدن ورأى صليب يا بن أبى ربعىّ استقبلت ... من يومك الدنيا بيوم عصيب شقّ جيوبا من أناس لو اس ... تطاعوا لشقّوا ما وراء الجيوب كنت على البعد قريبا فقد ... صرت على قربك غير القريب راحت وفود الأرض عن قبره ... فارغة الأيدى ملاء القلوب قد علمت ما رزئت، إنما ... يعرف فقد الشّمس بعد المغيب   [1] فى الديوان: «سامى الشباب» . [2] كذا فى الأصل. وفى بعض نسخ الديوان: «الجنوب» وفى بعض آخر: «الجبوب» . والجبوب: الأرض الغليظة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 203 إذا البعيد الوطن انتابه ... حلّ إلى نهى وواد خصيب أدنته أيدى العيس من ساحة ... كأنها مسقط رأس الغريب أظلمت الآمال من بعده ... وعرّيت من كل حسن وطيب كانت خدودا صقلت برهة [1] ... واليوم صارت مألفا للشّحوب كم حاجة صارت ركوبا به ... ولم تكن من قبله بالرّكوب حلّ عقاليها كما أطلقت ... من عقد المزنة ريح الجنوب إذا تيمّمناه فى مطلب ... كان قليبا ورشاء القليب ونعمة منه تسربلتها ... كأنها طرّة برد قشيب من اللّواتى إن ونى شاكر ... قامت لمسديها مقام الخطيب متى تنخ ترحل بتفضيله ... أو غاب يوما حضرت بالمغيب فما لنا اليوم ولا للعلا ... من بعده غير الأسى والنّحيب وقال يرثى أحمد بن هارون القرشىّ: دأب عينى البكاء، والحزن دابى ... فاتركينى- وقيت ما بى- لمابى سأجزّى بقاء أيام عمرى ... بين بثّى وعبرتى واكتئابى فيك يا أحمد بن هارون خصّت ... ثم عمّت رزيّتى ومصابى فجعتنى الأيّام فى الصادق النّط ... ق فتى المكرمات والآداب بخليل دون الأخلّاء [لا [2]] بل ... صاحبى المصطفى على أصحابى أفلمّا تسربل المجد واجتا ... ب من الحمد أيّما مجتاب وتراءته أعين النّاظريه ... قمرا باهرا ورئبال غاب   [1] كذا فى الديوان. وفى الأصل: «صقلت مرة» . [2] التكملة عن الديوان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 204 وعلا عارضيه ماء النّدى الجا ... رى وماء الحجا وماء الشباب أرسلت نحوه المنيّة عينا ... قطّعت منه أوثق الأسباب وقال يرثى أبا الصقر: لو صحّح الدمع لى أو ناصح الكمد ... لقلّما صحبانى الرّوح والجسد خان الصفاء أخ خان الزمان له ... أخا فلم يتخوّن جسمه الكمد تساقط الدمع أدنى ما بليت به ... للوجد إذ لم تساقط مهجة ويد فو الذى رتكت [1] تطوى الفجاج له ... سفائن البرّ فى خدّ الثرى تخد لأنفدنّ أسى إن لم أمت أسفا ... وينفد العمر بى أو ينفد الأمد عنّى إليك فإنى عنك فى شغل ... لى منه يوم سيبلى مهجتى وغد وإن بجريّة [2] نابت جأرت لها ... إلى ذرى جلدى فاستؤهل الجلد هى النوائب فاشجى أوفعى عظة ... فإنها شجر [3] أثمارها رشد هبّى ترى قلقا من تحته أرق ... يحدوهما كمد يعنو [4] له الجسد صمّاء سمّ العدا فى جنبها ضرب ... وشرب كأس الردى فى ظلّها شهد هناك أمّ النّهى لم تود من حزن ... ولم تجد لبنى الدنيا بما تجد لو يعلم الناس علمى بالزمان وما ... عائت يداه لما ربّوا ولا ولدوا لا يبعد الله ملحودا أقام به ... شخص الحجا وسقاه الواحد الصّمد يا صاحب القبر، دعوى غير متّئب [5] ... إن قال أودى النّدى والبدر والأسد   [1] رتك (من باب ضرب) : عدا فى مقاربة خطو. [2] فى الديوان: «وإن بجيرية» بالتصغير، والبجرية: الداهية. [3] فى الديوان: «فانها فرض» : جمع فرضة وهى موضع الاستقاء. [4] كذا فى الديوان. ويعنو: يذل ويخضع. وفى الأصل: «يحنو له الجسد» . [5] متئب: مستح أو منخذل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 205 بات الثرى بأخى جذلان مبتهجا ... وبتّ يحكم فى أجفانى السّهد لهفى عليك وما لهفى بمجدية ... ما لم يزرك بنفسى حرّ ما أجد أمسى أبو الصقر يعفو الترب أحسنه ... دونى ودلو الرّدى فى مائه يرد ويل لأمّك أقصر إنه حدث ... لم يعتقد مثله قلب ولا خلد [1] غال الزمان شقيق [2] الجود لم يقه ... أهل ولم يفده مال ولا ولد حين ارتوى الماء وافترّت شبيبته ... عن مضحك للمعالى ثغره برد وقيل: أحمدها، بل قيل: أمجدها ... بل قيل: أنجدها إن فرّت النّجد رؤد الشباب كنصل السيف لا جعد ... فى راحتيه ولا فى عوده أود سقى الحبيس ومحبوسا ببرزخه ... من السّمىّ كغيث الودق يطّرد بحيث حلّ أبو صقر فودّعه ... صفو الحياة ومن لذّاتها الرّغد بحيث حلّ فقيد المجد مغتربا ... ومورثا حسرات ليس تفتقد وقال يرثى عمير بن الوليد: أعيدى النّوح معولة أعيدى ... وزيدى فى بكائك ثم زيدى وقومى حاسرا فى حاسرات ... خوامش للنّحور وللخدود هو الخطب الذى ابتدأ الرّزايا ... وقال لأعين الثّقلين جودى ألا رزئت خراسان فتاها ... غداة ثوى عمير بن الوليد ألا رزئت بمسئول منيل ... ألا رزئت بمتلاف مفيد ألا إنّ النّدى والجود حلّا ... بحيث حللت من حفر الصّعيد بنفسى أنت من ملك رمته ... منيّته بسهم ردّى سديد   [1] كذا فى الديوان. وفى الأصل «حلد» . [2] فى الديوان: «رضيع الجود» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 206 تجلّت غمرة الهيجاء عنه ... خضيب الوجه من دمه الجسيد فيابحر المنون ذهبت منه ... ببحر الجود فى السّنة الصّلود ويا أسد المنون فرست منه ... غداة فرسته أسد الأسود أبا لبطل النّجيد فتكت [1] منه ... نعم وبقاتل البطل النّجيد تراءى للطّعان وقد تراءت ... وجوه الموت من حمر وسود فيالك وقعة جللا أعادت ... أسى وصبابة جلد الجليد ويا لك ساعة أهدت غليلا ... الى أكبادنا أبد الأبيد ألا أبلغ مقالتى الإمام ال ... خليفة والأمين بن الرشيد بأن أميرنا لم يأل عدلا ... ونصحا فى الرّعايا والجنود أفاض نوال راحته عليهم ... وسامح بالطّريف وبالتّليد وأضحى دونهم للموت حتى ... سقاه الموت من مقر هبيد [2] وما ظفروا به حتى قراهم ... قشاعم أنسر وضباع بيد بطعن فى نحورهم رشيق ... وضرب فى رءوسهم عتيد فيا يوم الثلاثاء اصطبحنا ... غداة منك هائلة الورود ويا يوم الثلاثاء اعتمدنا ... بفقد فيك للسّند العميد وكم أسخنت فينا من عيون ... وكم أعثرت فينا من جدود فما زجرت طيورك عن سنيح ... ولا طلعت نجومك بالسّعود ألا يأيها الملك المردّى ... رداء الموت فى جدث جديد حضرت فناء بابك واعترانى ... شجى بين المخنّق والوريد   [1] فى الديوان: «فتكت منا» . [2] المقو: السم أو الصبر أو شبهه. والهبيد: الحنظل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 207 رأيت به مطايا مهملات ... وأفراسا صوافن بالوصيد فكنت عتاد إما فكّ عان ... وإما قتل طاغية عنود رأيت مؤمّليك عدت عليهم ... عواد صعّدتهم فى كؤود وأضحت عند غيرك فى هبوط ... حظوظ كنّ عندك فى صعود وأصبحت الوفود إليك وقفا ... على أن لا مفاد لمستفيد فكلّهم أعدّ اليأس وقفا ... عليك ونصّ راحلة القعود لقد سخنت عيون الجود لمّا ... ثويت وأقصدت غرر القصيد وقال يرثى محمد بن حميد الطّوسىّ: كذا فليجلّ الخطب وليفدح الأمر ... فليس لعين لم يفض ماؤها عذر توفّيت الآمال بعد محمد ... وأصبح فى شغل عن السّفر السّفر وما كان إلا مال من قلّ ماله ... وذخرا لمن أمسى وليس له ذخر وما كان يدرى المجتدى جود كفّه ... إذا ما استهلّت أنه خلق العسر ألا فى سبيل الله من عطّلت له ... فجاج سبيل الله واثّغر الثغر [1] فتى كلما فاضت عيون قبيلة ... دما ضحكت عنه الأحاديث والذّكر [فتى دهره شطران فيما ينوبه ... ففى بأسه شطر وفى جوده شطر [2]] فتى مات بين الضرب والطعن ميتة ... تقوم مقام النّصر إذ فاته النّصر وما مات حتى مات مضرب سيفه ... من الشّلّ [3] واعتلّت عليه القنا السّمر وقد كان فوت الموت سهلا فردّه ... عليه الحفاظ المرّ والخلق الوعر ونفس تعاف العار حتى كأنه ... هو الكفر يوم الرّوع أو دونه الكفر   [1] الإثغار: أن يلقى الصبى ثغره على أسنانه. [2] زيادة من الديوان. [3] شل الأعداء بسيفه: طردهم بين يديه. وفى الديوان: «من الضرب» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 208 فأثبت فى مستنقع الموت رجله ... وقال لها من تحت أخمصك الحشر غدا غدوة والحمد نسج رداثه ... فلم ينصرف إلا وأكفانه الأجر تردّى ثياب الموت حمرا فما أتى ... لها الليل إلا وهى من سندس خضر كأنّ بنى نبهان يوم وفاته ... نجوم سماء خرّ من بينها البدر يعزّون عن ثاو تعزّى به العلا ... ويبكى عليه الجود والبأس والشعر وأنّى لهم صبر عليه وقد مشى ... إلى الموت حتى استشهدا هو والصّبر! فتى كان عذب الروح لا عن غضاضة ... ولكنّ كبرا أن يكون له كبر [1] فتى سلبته الحيل وهو حمى لها ... وبزّته نار الحرب وهو لها جمر وقد كانت البيض المآثير فى الوغى ... بواتر فهى الآن من بعده بتر أمن بعد طىّ الحادثات محمدا ... يكون لأثواب العلا أبدا نشر! [إذا شجرات العرف جذّت أصولها ... ففى أىّ فرع يوجد الورق النّضر! [2]] لئن أبغض الدهر الخؤن لفقده ... لعهدى به ممّن يحبّ له الدهر لئن غدرت فى الرّوع أيامه به ... لما زالت الأيام شميتها الغدر لئن ألبست فيه المصيبة طيئ ... لما عرّيت منها تميم ولا بكر كذلك ما ننفكّ نفقد هالكا ... يشاركنا فى فقده البدو والحضر سقى الغيث غيثا وارت الأرض شخصه ... وإن لم يكن فيها سحاب ولا قطر وكيف احتمالى للسّحاب صنيعة ... بإسقائها قبرا وفى لحده البحر ثوى فى الثّرى من كان يحيا به الثّرى ... ويغمر صرف الدهر نائله الغمر   [1] رواية الديوان: فتى كان عذب الروح لا من غضاضة ... ولكن كبرا أن يقال به كبر [2] زيادة من الديوان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 209 مضى طاهر الأثواب لم تبق روضة ... غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبر عليك سلام الله وقفا فإننى ... رأيت الكريم الحرّ ليس له عمر وقال يرثى إدريس بن بدر السّامىّ: دموع أجابت داعى الحزن همّع ... توصّل منا عن قلوب تقطّع عفاء على الدنيا طويل فإنها ... تفرّق من حيث ابتدت تتجمّع تبدّلت الأشياء حتى لخلتها ... ستثنى غروب الشمس من حيث تطلع لها صيحة فى كل روح ومهجة ... وليست لشىء ما خلا القلب تسمع أإدريس ضاع المجد بعدك كلّه ... ورأى الذى يرجوه بعدك أضيع وغودر وجه العرف أسود بعد ما ... يرى وهو كالبكر الكعاب تصنّع وأصبحت الأحزان لا لمبرّة ... تسلّم شزرا والمعالى تودّع وضلّ بك المرتاد من حيث يهتدى ... وضرّت بك الأيام من حيث تنفع وأضحت قريحات القلوب من الجوى ... تقيظ [1] ولكن المدامع تربع [2] عيون حفظن الليل فيك محرّما ... وأعطينك الدمع الذى كان يمنع وقد كان يدعى لابس الصبر حازما ... فأصبح يدعى حازما حين يجزع وقالوا عزاء: ليس للموت مدفع ... فقلت: ولا للحزن للمرء مدفع لإدريس يوم ما تزال لذكره ... دموعى وإن سكّنتها تتفرّع ولما نضا ثوب الحياة وأوقعت ... به نائبات الدهر ما يتوقّع غدا ليس يدرى كيف يصنع معدم ... درى دمعه من وجده كيف يصنع وماتت نفوس الغالبيّين كلهم ... وإلا فصبر الغالبيّين أجمع   [1] تقيظ: يشتد حرها. وفى الأصل والديوان: «تقاظ» . [2] تربع: تخصب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 210 غدوا فى زوايا نعشه وكأنما ... قريش قريش حين مات مجمّع [1] ولم أنس سعى الجود خلف سريره ... بأكسف بال يستقيم ويظلع وتكبيره خمسا عليه معالنا ... وإن كان تكبير المصلّين أربع وما كنت أدرى يعلم الله قبلها ... بأن النّدى فى أهله يتشيّع وقمنا فقلنا بعد أن أفرد الثرى ... به ما يقال فى السّحابة تقلع - هذا مأخوذ من قول مسلم: فاذهب كما ذهبت غوادى مزنة ... أثنى عليها السهل والأوعار- ألم تك ترعانا من الدّهر إن سطا ... وتحفظ من أموالنا ما نضيّع وتبسط كفّا فى الحقوق كأنما ... أناملها فى البأس والجود أذرع وتلبس أخلاقا كراما كأنها ... على العرض من فرط الحصانة أدرع وتربط جأشا والكماة قلوبهم ... تزعزع خوفا من قنا تتزعزع وأمنيّة المرتاد يحضرك النّدى ... فيشفع فى مثل الفلا [2] فيشفّع فأنطق فيه حامد وهو مفحم ... وأفحم فيه حاسد وهو مصقع ألا إنّ فى ظفر المنيّة مهجة ... تظلّ لها عين العلا وهى تدمع هى النفس إن تبك المكارم فقدها ... فمن بين أحشاء المكارم تنزع ألا إنّ أنفا لم يعد وهو أجدع ... لفقدك عند المكرمات لأجدع وإن امرأ لم يمس فيك مفجّعا ... بملحوده، فى عقله لمفجّع وقال يرثى القاسم بن طوق بن مالك: جوى ساور الأحشاء والقلب واغله ... ودمع يضيم [3] العين والجفن هامله   [1] مجمع: لقب قصى بن كلاب بن مرة وهو الجد الخامس لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لقب بذلك لجمعه قريشا للرحلتين: رحلة الصيف ورحلة الشتاء. [2] فى ديوان أبى تمام: فيشفع ... فى ملء الملا فيشفع [3] كذا بالأصل. ولعله محرّف عن «يطم» بمعنى يملا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 211 وفاجع موت لا عدوّ يخافه ... فيبقى، ولا يبقى صديقا يجامله وأىّ أخى عزّ [1] وذى جبرية ... ينابذه أو أىّ، رام يناضله إذا ما جرى مجرى دم المرء حكمه ... وبثّت على طرق النفوس حبائله! فلو شاء هذا الدهر أقصر شرّه ... كما أقصرت عنّا لهاه ونائله سنشكوه إعلانا وسرّا ونيّة ... شكيّة من لا يستطيع يقاتله فمن مبلغ عنّى ربيعة أنّه ... تقشّع طلّ الجود عنها ووابله وأنّ الحجا منها استطارت صدوعه ... وأنّ الندى منها أصيبت مقاتله مضى للزّيال القاسم الواهب اللهى ... ولو لم يزايلنا لكنّا نزايله ولم يعلموا أنّ الزمان يريده ... بفجع ولا أنّ المنايا تراسله ومنها: طواه الردى طىّ الرّداء وغيبّت ... فضائله عن قومه وفواضله طوى شيما كانت تروح وتغتدى ... وسائل من أعيت عليه وسائله فيا عارضا للعرف أقلع مزنه ... ويا واديا للجود [2] جفّت مسايله وقال يرثى محمد بن حميد وأخاه [3] قحطبة: بأبى وغير أبى- وذاك قليل- ... ثاو عليه ثرى النّباج مهيل   [1] فى الديوان: «وأى أخى عزاء أو جبرية» . [2] كذا فى الديوان. وفى الأصل: «ويا واديا للعرف» . [3] كذا فى الجزء الثالث من شرح ديوانه لأبى بكر محمد بن يحيى الصولى المحفوظ بدار الكتب المصرية تحت رقم (573 أرب) وكان محمد هو الأكبر والآخر قحطبة. وفى الأصل: «وقال يرثى محمد بن حميد ويسمى قحطبة، وقيل: فحطبة أخوه» والصحيح ما أثبتناه وهو أن قحطبة أخوه ويؤيد هذا قول أبى تمام من مرثية أخرى يرثى بها بنى حميد الطوسى: ذكرت أبا نصر بفقد محمد ... وقحطبة ذكرى طويل البلابل ومنها: للعمرك ما كانوا ثلاثة إخوة ... ولكنهم كانوا ثلاث قبائل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 212 خذلته أسرته كأنّ سراتهم ... جهلوا بأن الخاذل المخذول أكّال أشلاء الفوارس بالقنا ... أضحى بهنّ وشلوه مأكول كفّى، فقتل محمد لى شاهد ... أن العزيز مع القضاء ذليل ومنها: هيهات لا يأتى الزمان بمثله ... إنّ الزمان بمثله لبخيل ما أنت بالمقتول صبرا إنّما ... أملى غداة نعيّك المقتول ومنها: من ذا يحدّث بالبقاء ضميره! ... هيهات! أنت على الفناء دليل يا ليت شعرى بالمكارم كلّها ... ماذا، وقد فقدت نداك، تقول؟ ومنها: يا يوم قحطبة لقد أبقيت لى ... حرقا أرى أيّامها ستطول ليث لو انّ الليث قام مقامه ... لانصاع [1] وهو يراعة إجفيل لمّا رأى جمعا قليلا فى الوغى ... وأولو الحفاظ من القليل قليل لاقى الكريهة وهو مغمد روعه ... فيها ولكن بأسه [2] مسلول ومشى إلى الموت الزّؤام كأنما ... هو من محبّته إليه خليل ومنها: أضحت عراص محمد ومحمد ... وأخيهما وكأنهنّ طلول أبنى حميد ليس أوّل ما عفا ... بعد الأسود من الأسود الغيل ما زال ذاك الصبر وهو عليكم ... بالموت فى ظلّ السيوف كفيل ستبسلون كأنّما مهجاتهم ... ليست لهم إلا غداة تسيل   [1] انصاع: انفتل راجعا مسرعا. [2] كذا فى الديوان. وفى الأصل: «ولكن سيفه» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 213 ألفوا المنايا فالقتيل لديهم ... من لم يخلّ [1] العيش وهو قتيل إن كان ريب الدهر أثكلنيكم ... فالموت أيضا ميّت مثكول وقال يعزّى مالك بن طوق: أمالك إنّ الحزن أحلام حالم ... ومهما تدم فالحزن ليس بدائم امالك إفراط الصبابة تارك ... حنا واعوجاجا فى قناة المكارم تأمّل رويدا هل تعدّن سالما ... إلى آدم أم هل تعدّ ابن سالم! متى ترع هذا الموت عينا بصيرة ... تجد عادلا منه شبيها بظالم فإن تك مفجوعا بأبيض لم تكن ... تشدّ على جدواه عقد التمائم بفارس دغمىّ وهضبة وائل ... وكوكب عتّاب وحمزة هاشم شجا الريح فازدادت حنينا لفقده ... وأحدث شجوا فى بكاء الحمائم فمن قبله ما قد أصيب نبيّنا ... أبو القاسم النور المبين بقاسم وخبّر قيس بالجليّة فى ابنه ... فلم يتغيّر وجه قيس بن عاصم وقال علىّ فى التعازى لأشعث ... وخاف عليه بعض تلك المآثم: أتصبر للبلوى عزاء وحسبة ... فتؤجر، أم تسلو سلوّ البهائم؟ خلقنا رجالا للتجلّد والأسى ... وتلك الغوانى للبكا والمآتم وأىّ فتى فى الناس أحرض [2] من فتى ... غدافى خفارات الدموع السّواجم وهل من حكيم ضيّع الصبر بعدما ... رأى الحكماء الصبر ضربة لازم فلا برحت تسطو ربيعة منكم ... بأرقم عطّاف وراء الأراقم   [1] فى نسخة من الديوان: «من لا تجلى الحرب وهو قتيل» وفى نسخة أخرى منه: «من لم يخل الحرب ... » . [2] من حرض ككرم: طال همه وسقمه وفسد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 214 فأنت وصنواك الشقيقان إخوة ... خلقتم سعوطا للانوف الرواغم ثلاثة أركان، وما انهدّ سؤدد ... إذا ثبتت فيه ثلاث دعائم وقال يرثى عمير بن الوليد: كفّ الندى أمست بغير بنان ... وقناته أضحت بغير سنان جبل الجبال غدت عليه ملمّة ... تركته وهو مهدّم الأركان أنعى عمير بن الوليد لغارة ... بكر من الغارات أو لعوان أنعى فتى الفتيان غير مكذّب ... قولى، وأنعى فارس الفرسان عثر الزمان ونائبات صروفه ... بمقيلنا عثرات كلّ زمان لم يترك الحدثان يوم سطابه ... أحدا نصول به على الحدثان قد كنت حشو الدرع ثم أراك قد ... أصبحت حشو اللحد والأكفان شغلت قلوب الناس ثم عيونهم ... مذ متّ بالخفقان والهملان واستعذبوا الأحزان حتى إنّهم ... يتحاسدون مضاضة الأحزان ما يرعوى أحد الى أحد ولا ... يشتاق إنسان الى إنسان أأصاب منك الموت فرصة ساعة ... فعدا عليك وأنتما أخوان! فمن الذى أبقى ليوم تكرّم ... ومن الذى أبقى ليوم طعان [1] ! وقال يرمى ابنا له: كان الذى خقت أن يكونا ... إنّا إلى الله راجعونا أمسى المرجّى أبو علىّ ... موسّدا فى الثرى يمينا حين استوى وانتهى شبابا ... وحقّق الرأى والظنونا   [1] كذا بالأصل. والذى بالديوان: فمن الذى يبغى ليوم كريهة ... ومن الذى يدعى ليوم طعان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 215 أصبت فيه وكان عندى ... على المصيبات لى معينا كنت كثيرا به عزيزا ... وكنت صبّا به ضنينا دافعت إلا المنون عنه ... والمرء لا يدفع المنونا آخر عهدى به صريعا ... للموت بالداء مستكينا إذا شكا غصّة وكربا ... لا حظ أو راجع الأنينا يدير فى رجعه لسانا ... يمنعه الموت أن يبينا يشخص طورا بناظريه ... وتارة يطبق الجفونا ثم قضى نحبه وأمسى ... فى جدث للثرى دفينا باشر برد الثرى بوجه ... قد كان من قبله مصونا بعيد دار قريب جار ... قد فارق الإلف والقرينا بنىّ يا واحد البنينا ... غادرتنى مفردا حزينا هوّن رزئى بك الرزايا ... علىّ فى الناس أجمعينا آليت أنساك ما تجلّى ... صبح [1] نهار لمصبحينا وما دعا طائر هديلا ... ورجّعت واله حنينا تصرّف الدهر بى صروفا ... وعاد لى شأنه شؤونا وحزّ فى اللحم بل براه ... واجتثّ من طلحتى فنونا أصاب منّى صميم قلبى ... وخفت أن يقطع الوتينا والمرء رهن بحالتيه ... فشدّة مرّة ولينا   [1] كذا فى الديوان. وفى الأصل: «شمس نهار» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 216 ومما قيل فى شواذّ المراثى: من ذلك ما قالته جليلة بنت مرّة أخت جسّاس زوج كليب لما قتل أخوها جسّاس زوجها كليبا؛ وكان نساء الحىّ لما اجتمعن للمأتم قلن لأخت كليب: رحّلى جليلة عنك فإن قيامها فيه شماتة وعار علينا عند العرب، فقالت لها: أخرجى عن مأتمنا، فأنت أخت واترنا وشقيقة قاتلنا، فخرجت وهى تجرّ أعطافها؛ فلقيها أبوها مرّة فقال لها: ما وراءك يا جليلة؟ فقالت: ثكل العدد، وحزن الأبد؛ وفقد حليل، وقتل أخ عن قليل؛ وبين ذلك [1] غرس الأحقاد، وتفّتت الأكباد. فقال لها: أو يكفّ ذلك كرم الصّفح وإغلاء الدّيات؟ فقالت جليلة: أمنيّة مخدوع وربّ الكعبة، ابا لبدن تدع لك وائل [2] دم ربّها! قال: ولما رحلت جليلة قالت أخت كليب: رحلة المعتدى وفراق الشامت! ويل [غدا [3]] لآل مرّة، من الكرّة بعد الكرّة! وبلغ قولها جليلة فقالت: وكيف تشمت الحرّة بهتك سترها وترقّب وترها! [أسعد الله أختى، ألا قالت: نفرة الحياء وخوف الأعداء [3]] ثم أنشأت تقول: يابنة الأقوام إن لمت فلا ... تعجلى باللوم حتى تسألى فإذا أنت تبينت الذى ... يوجب اللوم فلومى واعذلى إن تكن أخت امرئ ليمت على ... جزع منها عليه فافعلى جلّ عندى فعل جسّاس فيا ... حسرتا عما انجلت أو تنجلى فعل جسّاس على ضنّى به ... قاطع ظهرى ومدن أجلى   [1] كذا فى الكامل لابن الأثير (ج 1 ص 216 طبعة بلاق) . وفى الأصل: «وبين رزأين: غرس الأحقاد ... » . [2] فى الكامل لابن الأثير: «تدع لك تغلب ... » . [3] زيادة من الكامل لابن الأثير. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 217 لو بعين فقئت [1] عين سوى ... أختها وانفقأت لم أحفل تحمل العين قذى العين كما ... تحمل الأمّ أذى ما تفتلى [2] إنّنى قاتلة مقتولة ... فلعلّ الله أن يرتاح لى يا قتيلا قوّض الدهر به ... سقف بيتىّ جميعا من عل ورمانى فقده [3] من كثب ... رمية المصمى به المستأصل هدم البيت الذى استحدثته ... وبدا [4] فى هدم بيتى الأوّل يا نسائى دونكنّ اليوم قد ... خصّنى الدهر برزء معضل مسّنى فقد كليب بلظى ... من ورائى ولظى مستقبلى ليس من يبكى ليومين كمن ... إنما يبكى ليوم ينجلى درك الثائر شافيه وفى [5] ... دركى ثارى ثكل المثكل ليته كان دمى فاحتلبوا ... دررا منه دما من أكحلى ولما مات معاوية بن أبى سفيان اجتمع الناس بباب يزيد فلم يقدروا على الجمع بين التهنئة والتعزية، حتى أتى عبد الله بن همّام فقال: يا أمير المؤمنين، أجزل الله أجرك على الرزيّة. وبارك لك فى العطيّة، وأعانك على الرعية؛ فقد رزئت عظيما، وأعطيت جسيما؛ فآشكر الله على ما أعطيت، واصبر على ما رزيت؛ فقد فقدت خليفة الله، وأعطيت خلافة الله؛ ففارقت جليلا، وأعطيت جزيلا؛ إذ قضى معاوية نحبه؛ ووليت الرياسة، وأعطيت السياسة؛ فأورده الله موارد السرور، ووفّقك فى جميع الأمور:   [1] فى رواية أخرى أشار اليها هامش الأصل: «فديت عين سوى» . [2] افتلى الصغير: رباه. [3] فى رواية أشير اليها فى هامش الأصل: «ورمانى قتله ... » . [4] فى الكامل لابن الأثير (ج 1 ص 389 طبع أوربا) : «وانثنى فى هدم ... » . [5] فى الكامل لابن الأثير: «يشتفى المدرك بالثأر وفى ... » . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 218 فاشكر يزيد فقد فارقت ذا مقة ... واشكر حباء الذى بالملك حاباكا [1] [أصبحت تملك هذا الخلق كلّهم ... فأنت ترعاهم والله يرعاكا [2]] لارزء أعظم فى الأقوام قد علموا ... مما رزئت، ولا عقبى كعقباكا وفى معاوية الباقى لنا خلف ... إذا نعيت ولا نسمع بمنعاكا ففتح للناس باب الرثاء وجروا على منواله. وقال أبو نواس الحسن بن هانىء يعزّى الفضل بن الربيع عن الرشيد ويهنّئه بالأمين: تعزّ أبا العبّاس عن خير هالك ... بأكرم حىّ كان أو هو كائن حوادث أيام تدور صروفها ... لهنّ مساو مرّة ومحاسن وفى الحىّ بالميت الذى غيّب الثرى ... فلا أنت مغبون ولا الموت غابن وقال أبو تمام يرثى المعتصم ويهنىء الواثق: ما للدموع تروم كلّ مرام ... والجفن ثاكل هجعة ومنام يا حفرة المعصوم تربك مودع ... ماء الحياة وقاتل الإعدام إن الصفاتح منك قد نضدت على ... ملقى عظام لو علمت عظام فتق المدامع أن لحدك حلّه ... سكن الزمان وممسك الأيام ومصرّف الملك الجموح كأنه ... قد زمّ مصعبه له بزمام هدمت صروف الدهر أرفع حائط ... ضربت دعائمه على الإسلام دخلت على ملك الملوك رواقه ... وتسرّبت لمقوّم القوّام   [1] رواية الكامل للبرد: (ص 785 طبع ليبزج سنة 1864) : اصبر يزيد فقد فارقت ذا ثقة ... واشكر بلاء الذى بالملك أصفاكا [2] زيادة من الكامل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 219 مفتاح كلّ مدينة قد أبهمت ... غلقا ومخلى كلّ دار مقام ومعرّف الخلفاء أنّ حظوظها ... فى حيّز الإسراج والإلجام أخذ الخلافة عن أسنّته التى ... منعت حمى الآباء والأعمام فلسورة الأنفال فى ميراثه ... آثارها ولسورة الأنعام ما دام هارون الخليفة فالهدى ... فى غبطة موصولة بدوام إنّا رحلنا واثقين بواثق ... بالله شمس ضحى وبدر تمام لله أىّ حياة انبعثت لنا ... يوم الخميس وبعد أىّ حمام أودى بخير إمام اضطربت به ... شعب الرجال وقام خير إمام تلك الرزيّة لا رزيّة مثلها ... والقسم ليس كسائر الأقسام جاء منها: نقض كرجع الطّرف قد أبرمته ... يابن الخلائف أيّما إبرام ما إن رأى الأقوام شمسا قبلها ... أفلت فلم تعقبهم بظلام أكرم بيومهم الذى ملّكتهم ... فى صدره وبعامهم من عام ثم أخذ فى مدح الواثق. وفى هذه الواقعة يقول ابن الزيّات: قد قلت إذ غيّبوك واصطفقت ... عليك أيد بالتّرب والطين اذهب فنعم المعين كنت على الد ... نيا ونعم الظهير للدين لن يجبر الله أمّة فقدت ... مثلك إلا بمثل هارون ومن أشدّ الرثاء صعوبة على الشاعر وأضيقه مجالا أن يرثى امرأة أو طفلا. وقد أخذ على المتنبىّ فى قوله يرثى أمّ سيف الدولة بن حمدان: سلام الله خالقنا حنوط ... على الوجه المكفّن بالجمال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 220 وقالوا: ما له ولهذه العجوز يصف جمالها! ووبّخه الصاحب بن عبّاد فى قوله فيها: رواق العز فوقك مسبطّر ... وملك علىّ ابنك فى كمال قال أبو الحسن علىّ بن رشيق الأزدى فى كتابه المترجم بالعمدة وبالأغانى [1] أيضا: أشدّ ما هجّن هذه اللفظة وجعلها مقام قصيدة من الهجاء أنه قرنها «بفوقك» فجاء عملا تامّا لم يبق فيه إلا الإفضاء. وإن يكن المتنبى أخطأ فى هذا فلقد أجاد فى غيره؛ والفاضل من عدّت سقطاته، وحفظت هفواته وفلتاته؛ وانظر إلى قوله فى أخت سيف الدولة: يا أخت خير أخ يا بنت خير أب ... كناية بهما عن أشرف النسب أجلّ قدرك أن تدعى مؤنّثة ... ومن يصفك فقد سمّاك للعرب وقوله أيضا: ولو كان النساء كمن فقدنا ... لفضّلت النساء على الرجال مشى الأمراء حوليها حفاة ... كأن المرو من زفّ [2] الرئال ومن جيّد ما رثى النساء به وأشدّه تأثيرا فى القلب وإثارة للحزن قول ابن عبد الملك ابن الزيّات فى أمّ ولده: ألا من رأى الطفل المفارق أمّه ... بعيد الكرى عيناه تبتدران رأى كلّ أمّ وابنها غير أمّه ... يبيتان تحت الليل ينتجيان وبات وحيدا فى الفراش تحثّه ... بلابل قلب دائم الخفقان   [1] لم يذكر أبو الفرج فى النسخ التى تحت أيدينا من كتابه الأغانى شيئا عن المتنبى مع أنه كان من معاصريه. [2] الزف: ريش النعام. والرئال: جمع رأل، وهو ولد النعام. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 221 ومنها بعد أبيات: ألا إنّ سجلا واحدا قد أرقته ... من الدمع أو سجلين قد شفيانى فلا تلحيانى إن بكيت فإنما ... أداوى بهذا الدمع ما تريان وإنّ مكانا فى الثّرى خطّ لحده ... لمن كان من قلبى بكلّ مكان أحقّ مكان بالزيارة والهوى، ... فهل أنتما إن عجت منتظران؟ فهبنى عزمت الصبر عنها لأنّنى ... جليد فمن بالصبر لابن ثمان ضعيف القوى لا يعرف الأجر حسبة ... ولا يأنسى بالناس فى الحدثان ألا من أمنّيه المنى وأعدّه ... لعثرة أيّام وصرف زمان ألا من إذا ما جئت أكرم مجلسى ... وإن غبت عنه حاطنى ورعانى فلم أر كالأقدار كيف تصيبنى ... ولا مثل هذا الدهر كيف رمانى وقال أبو تمّام يرثى جارية له: ألم ترنى خلّيت عينى وشانها ... ولم أحفل الدنيا ولا حدثانها لقد خوّفتنى النائبات صروفها ... ولو أمّنتنى ما قبلت أمانها وكيف على نار الليالى معرّسى ... إذا كان شيب العارضين دخانها أصبت بخود سوف أغبر بعدها ... حليف أسى أبكى زمانى زمانها عنان من اللذّات قد كان فى يدى ... فلما مضى الإلف استردّت عنانها منحت الدّمى هجرى فلا محسناتها ... أودّ ولا يهوى فؤادى حسانها يقولون: هل يبكى الفتى لخريدة ... متى ما أراد اعتاض عشرا مكانها! وهل يستعيض المرء من خمس كفّه ... ولو صاغ من حرّ الّلجين بنانها! وقال أبو الفتح كشاجم يعزّى بابنة: تأسّ يا أبا بكر ... لموت الحرّة البكر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 222 فقد زوّجتها القبر ... وما كالقبر من صهر وعوّضت بها الأجر ... وما كالأجر من مهر زفاف أهديت فيه ... من الخدر إلى القبر فتاة أسبغ الله ... عليها أفضل السّتر ورزء أشبه النعم ... ة فى الموقع والقدر وقد يختار فى المكرو ... هـ للمرء وما يدرى فقابل نعمة الله ... وما أولاك من شكر وعزّ النفس عمّا فا ... ت بالتسليم والصبر وقال أبو مروان بن أبى الخصال الأندلسىّ فى مثل ذلك: ألا يا موت كنت بنا رءوفا ... فجدّدت الحياة لنا بزوره حمدت لفعلك المأثور لمّا ... كفيت مؤونة وسترت عوره فأنكحنا الضريح بغير مهر ... وجهّزنا الفتاة بغير شوره وقال أبو تمّام حبيب بن أوس الطائىّ فى ابنين لعبد الله بن طاهر ماتا صغيرين فى يوم واحد من قصيدة: نجمان شاء الله ألّا يطلعا ... إلا ارتداد الطّرف حتى يأفلا إنّ الفجيعة بالرياض نواضرا ... لأجلّ منها بالرياض ذوابلا لو ينسآن لكان هذا غاربا ... للمكرمات وكان هذا كاهلا لهفى على تلك الشواهد فيهما ... لو أمهلت حتى تكون شمائلا لغدا سكونهما حجا وصباهما ... حلما وتلك الأريحيّة نائلا إنّ الهلال إذا رأيت نموّه ... أيقنت أن سيكون بدرا كاملا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 223 وقال أبو الحسن الأنبارى فى محمد بن بقيّة وزير عزّ الدولة بختيار بن معزّ الدولة ابن بويه لما صلبه عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه عند خلع بختيار، وهى من نوادر المراثى: علوّ فى الحياة وفى الممات ... لحقّ أنت إحدى المعجزات كأنّ الناس حولك حين قاموا ... وفود نداك أيّام الصّلات كأنّك قائم فيهم خطيبا ... وكلّهم قيام للصّلاة مددت يديك نحوهم جميعا [1] ... كمدّهما إليهم بالهبات ولما ضاق بطن الأرض عن أن ... يضمّ علاك من بعد الممات أصاروا الجوّ قبرك واستنابوا ... عن الأكفان ثوب السافيات لعظمك فى النفوس بقيت ترعى ... بحرّاس وحفّاظ ثقات وتشعل عندك النيران ليلا ... كذلك كنت أيّام الحياة ولم أر قبل جذعك قطّ جذعا ... تمكّن من عناق المكرمات ركبت مطيّة من قبل زيد ... علاها فى السنين الذاهبات أشار فى هذا البيت إلى زيد بن الحسن بن علىّ بن أبى طالب لمّا قتل وصلب فى أيّام هشام بن عبد الملك. ومما يدخل فى هذا الباب ويلتحق به ما يطرأ من الحوادث التى تعمّ بها البليّة، وتشمل بسببها الرزيّة، كاستيلاء أهل الكفر على بلد من بلاد الإسلام، وهزيمتهم لجيشه اللهام؛ فمن ذلك ما كتب به القاضى الفاضل عبد الرحيم البيسانى إلى الأمير عزّ الدين سامة لما استعاد الفرنج- خذلهم الله تعالى- مدينة بيروت: ابتدأ كتابه بأن قال بعد البسملة: قال الله سبحانه فى كتابه العزيز مسلّيا لنبيّه الكريم   [1] كذا بالأصل. وفى احدى النسخ: «اقتفاء» وهو محرف عن «احتفاء» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 224 صلى الله عليه وسلم: وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ ، فإذا كان من الناس من خان الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فكيف لا يخون الناس الناس! وأين الموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرون فى البأساء والضرّاء وحين الباس: وقد كانوا إذا عدّوا قليلا ... فقد صاروا أقلّ من القليل والمولى- أعزّه الله بنصره، وعوّضه أحسن العوض من أجره، وكتب له ثواب تسليمه إليه وصبره- ليس بأوّل من وثق بمن خان، وقضيّة بيروت بأوّل مقدور قال الله له: كن فكان؛ والقدر السابق لا يدفعه الهمّ اللاحق، ومن الخجلات المستعارة خجلة الواثق، والموثوق به لائق به الخجل الصادق؛ ومعاذ الله أن ينكس المجلس رأسه حياء، أو أن يسخط لله قضاء؛ أو أن يأسف على مال نقله من مودعه الذى لا يؤمن من الآفات عليه، إلى مودع الله الذى يحفظه إلى أن يأتيه به أحوج ما كان إليه؛ والحمد لله الذى جعل مصائبنا فى الدنيا فوائدنا فى الأخرى، ثم الحمد لله الذى جعل البادرة للعدوان والعاقبة للتقوى. وقد علم الله أنى مقاسمه ومساهمه، ومضمر من الهمّ بما اتفق من هذا المقدور ما مقدّره عالمه؛ غير أنه لا حيلة لمن لا حيلة له إلا الصبر، وإن صبر جرى عليه القدر وجرى له الأجر، وإن لم يصبر جرى عليه القدر وكتب عليه الوزر؛ وكل ما ذهب من صاحبه قبل أن يذهب صاحبه فقد أنعم الله عليه، حيث أخرج ما فى يديه وأبقى يديه؛ والمال غاد ورائح، والمال بالحقيقة هو العمل الصالح؛ وإن اجتمع موصلها بحضرته فهو ينهى ما عندى، ويؤدّى حقيقة ودّى؛ ورأية الموفّق. وقال أبو المظفّر الأبيوردىّ [1] لما استولى الفرنج على البيت المقدّس فى سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة قصيدة منها:   [1] وتنسب هذه الأبيات أيضا فى النجوم الزاهرة (ج 5 ص 151 طبع دار الكتب المصرية) القاضى زين الدين أبى سعد الهروىّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 225 مزجنا دماء بالدموع السواجم ... فلم يبق منا عرضة للمراجم وشرّ سلاح المرء دمع يفيضه ... إذا الحرب شبّت نارها بالصوارم فإيّها بنى الإسلام! إن وراءكم ... وقائع يلحقن الذّرى بالمناسم أتهويمة فى ظلّ أمن وغبطة ... وعيش كنوّار الخميله ناعم! وكيف تنام العين ملء جفونها ... على هبوات أيقظت كلّ نائم وإخوانكم بالشأم يضحى مقيلهم ... ظهور المذاكى أو بطون القشاعم يسومهم الروم الهوان وأنتم ... تجرّون ذيل الخفض فعل المسالم وكم من دماء قد أبيحت، ومن دمّى ... توارى حياء حسنها بالمعاصم بحيث السيوف البيض محمّرة الظّبى ... وسمر العوالى داميات اللهاذم وبين اختلاس الطعن والضرب وقفة ... تظلّى لها الولدان شيب القوادم وتلك حروب من يغب عن غمارها ... ليسلم يقرع بعدها سنّ نادم سللن بأيدى المسلمين قواضيا ... ستغمد منهم فى الطّلى والجماجم يكاد بهنّ المستجنّ بطيبة ... ينادى بأعلى الصوت: يا آل هاشم أرى أمّتى لا يشرعون إلى العدا ... رماحهم والدّين واهى الدعائم ويجتنبون النار خوفا من العدا ... ولا يحسبون العار ضربة لازم أترضى صناديد الأعاريب بالأذى ... وتغضى على ذلّ كماة الأعاجم! فليتهم إذ لم يذودوا حميّة ... عن الدين ضنّوا غيرة بالمحارم وإن زهدوا فى الأجر إذ حمى [1] الوغى ... فهلّا أتوه رغبة فى المغانم!   [1] فى الأصل: «جمش» ولعلها محرفة عن «حمس» بالحاء والسين المهملتين وهو (بالتخفيف والتشديد) بمعنى اشتداد الأمر واضطرام النار، وهى رواية ابن الأثير. وما أثبتناه رواية النجوم الزاهرة لابن ثغرى بردى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 226 لئن أذعنت تلك الخياشيم للثرى ... فلا عطسوا إلا بأجدع راغم دعوناكم والحرب ترنو ملحّة ... إلينا بألحاظ النسور القشاعم تراقب فينا غارة عربيّة ... تطيل عليها الروم عضّ الأباهم فإن أنتم لم تغضبوا عند هذه ... رمتنا إلى أعدائنا بالجرائم وقال علاء الدين علىّ الأوتارىّ الدمشقىّ فى مثل ذلك لما استولى التتار على دمشق فى سنة تسع وتسعين وستمائة: لك علم بما جرى يا سهادى ... من جفونى على افتقاد رقادى لم أجد عند شدّتى مؤنسا لى ... غير سهدى ملازما لسوادى وحبيب العين الرقاد جفاها ... مذ رآها خليفة الأنكاد أحسن الله يا دمشق عزاك ... فى مغانيك يا عماد البلاد وبرستقا نير بيك مع الم ... زّة مع رونق بذاك الوادى وبأنس بقاسيون وناس ... أصبحوا مغنما لأهل الفساد طرقتهم حوادث الدهر بالقت ... ل ونهب الأموال والأولاد وبنات محجّبات عن الشم ... س تناءت بهنّ أيدى الأعادى وقصور مشيّدات تقضّت ... فى ذراها الأيام كالأعياد وبيوت فيها التّلاوة والذك ... ر وعالى الحديث بالإسناد حرّقوها وخرّبوها وبادت ... بقضاء الإله ربّ العباد وكذا شارع العقيبة والقص ... ر وشاغورها وذاك النادى أصبحوا اليوم مثل أمس تقضّى ... وبكتهم سماؤهم والغوادى ولكم سورها حوى من معنى ... مقرح القلب والحشى والفؤاد إن بكى لا يفيده أو تشكّى ... وجد المشتكى حليف سهاد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 227 يشتكى فوق ما اشتكاه بأضعا ... ف فيغدو وهمه فى ازدياد فالغلا والجلا مع الجوع والعر ... ى ونهب الأفوات والأزواد والحصار الشديد والحبس والخو ... ف مع السادة العراة المكادى [1] وبوزن الأموال من غير وجد ... بآعتساف الغتم [2] الغلاظ الشداد كاتر آقچاكبر خوار أنت ياغيه ... لمحمود غازان قاآن البلاد [3] يا ترى هل لكربنا من مجير ... أم لتشديد أسرنا من مفادى لهف نفسى على جيوش تولّت ... ثم ولّت جريحة الأكباد كلّ ندب عضب حمىّ كمىّ ... أمجد أصيد شجاع جواد إن سطا فى هباته كان بحرا ... أو سطا خلته من الآساد أو بدا حاملا تخل عنتريّا ... أو غدا سابق الجواد فغادى إن أتانى مبشّر بلقاهم ... حاز روحى ومهجتى وقيادى ولثمت التراب شكرا وعفّر ... ت خدودى على بلوغ مرادى لست أرجو غير البشير شفيعا ... عند ربّى فى المنّ بالإنجاد فهو الصادق الذى وعد الدي ... ن بنصر جار على الاباد غير أنّ الفساد يكسب ذلّا ... ويعمّى الفساد طرق السّداد وارتكاب الفساد يورث فقرا ... وخراب البيوت عقبى الفساد يا حبيب الإله لا تتخلّى ... عن عضاة غمرتهم بالأيادى   [1] المكادى: جمع «مكدى» اسم مفعول من كداه بمعنى حبسه. [2] الغتم: جمع أغتم وهو من لا يفصح. [3] عرضنا هذا البيت على العالم الجليل موسى افندى جار الله نزيل القاهرة الآن لشرحه بما يأتى: كاتر: هات. آقچا: النقود. كبرخوار: كافر حقير غير كتابىّ. ياغيه: العدوّ الباغى. قا آن: كبير الملوك. ومعنى البيت: هات أيها الكافر الحقير الخراج أنت عدوّ لقاآن (خاقان) البلاد محمود غازان. وهذا البيت لا تتفق أوزانه مع التفاعيل الشعرية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 228 يا حبيب الإله قد مسّنا الض ... رّ فجد بالإسعاف والإسعاد يا حبيب الإله تبنا إلى الل ... هـ وأنت العماد حتّى المعاد من لأسرى كسرى حيارى دهتهم ... دهمتهم جياد أهل العناد واضع اللقط فى الحساب عناه ... - لو يعش- حصر كثرة الأعداد منهم الطفل والصبيّة والشا ... بّ ينادى، فمن يجيب المنادى! وينادى عليهم برغيف ... وبنزر بخس بسوق الكساد عوّضوا عن سرورهم بغرور ... وقصور البلاد سكنى البوادى وبأهل الوداد شرّ أناس ... وبلين المهاد شوك القتاد أىّ عين عليهم ليس تبكى ... أىّ قلب عليهم غير صادى! فلأنت الرحيم قلبا ولبّا ... ولأنت الهادى لسبل الرّشاد ولأنت البديع خلقا وخلقا ... ولأنت السميع للإنشاد ولأنت الظّراز فى كلّ معنى ... ولسيف المقال شبه النّجاد ولأنت الحاوى فنون صفات ... دون حصر لها فناء المداد ولأنت الممدوح من فوق عرش ... بعد ماذا يقول قسّ الإيادى جلّ قصد الفصيح بالنظم معنى ... نشر فضل الممدوح بين العباد فإذا كان منشئ المدح ربّى ... عاد مدح الفصيح جمع سواد فعليك الصلاة يرجو بها الأم ... ن علىّ من سائر الأنكاد وحيث انتهينا من المرائى والنوادب إلى هذه الغاية، فلنذكر نبذة من الزهد والتوكّل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 229 الباب الثالث من القسم الرابع من الفن الثانى فى الزهد والتوكل وهذا الباب- وفّقنا الله وإياك لقصدنا، وألهمنا سلوك سبيل رشدنا؛ واستعملنا فى مراضيه، وجنّبنا عن الالتفات بالقول والفعل إلى معاصيه- من هذا الفنّ هو واسطة عقده، وعضد زنده، وقائم مرهفه وحدّ فرنده؛ وشبا سنانه، ومثنى عناته، وإنسان حدقته، وحدقة إنسانه؛ وكيف لا وهو للنفس درّة تاجها، وطبيب علاجها، وواضح منهاجها؛ ودليلها المرشد إذا ضلّ الدليل، ومنجيها من الهول الأعظم إذا فرّ المرء من الأخ والأمّ والأب والابن والصاحبة والخليل. فتأمله أيها المطالع بعين قلبك قبل ناظرك، واتخذه من أحصن جنتّك وأعدّ عددك وأنفس ذخائرك؛ ورض به نفسك إذا جمحت، وسكّن به آمالك إذا مالت إلى المطالع وجنحت. واعلم أن الدنيا ظلّ زائل، وعدوّ قد نصب لك الشّباك ومدّ الحبائل، وأنك لا بدّ مسئول عما اكتسبته منها، فليت شعرى ما أعددت لجواب المسائل؟ فهى العدوّ الذى أشبه بالصديق، والغادر الماكر الذى ما أخوفنى أنّ مكره بى وبك سيحيق. فاقتصر على القليل منها، واعلم أنك سترحل فى غد عنها؛ وأن الموت نازل بك فلا ينفعك ما جمعته من مال وخول، ولا يصحبك من الدنيا إلا ما قدّمته لآخرتك من صالح العمل؛ وأنّ مالك سيقتسمه من لعلّه لا يشكرك عليه، وماذا ينفعك شكره أن لو فعل! وغاية ما ينالك من دنياك، وإن بلغت منها مناك، وطال بها مداك؛ أن تتمتّع بزهرتها، وتنال من لذّتها؛ وقد علمت بالمشاهدة من حالك وحال غيرك ما يؤول أمر ملاذّها إليه فى العاجل، وما يتوقّع لمن اقتصر من دنياه عليها فى الآجل؛ فالمأكل والمشرب صائران إلى ما علمته وإنما تحصل اللذّة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 230 بهما قبل الزدراد؛ والمنكح والمركب فأنت وهما فى الموت والفناء على ميعاد، والملابس فستخلقها الأيام بعد الجدّة، والمساكن فستعفّى الليالى آثارها ولو بعد مدّة. فإذا علمت أن مآل الدنيا إلى الزوال، وقصاراها إلى الانتقال؛ وملاذّها إلى هذه الغاية، والعمر فيها وإن طال سريع النهاية؛ فتقلّل منها حسب طاقتك، واقتصر على ما تسدّ به بعض خلّتك وفاقتك؛ واعمل لآخرتك التى لا ينقضى أمدها، ولا يفنى من النعيم الدائم مددها. وقد أمرتك الخير وليتنى به لو ائتمرت، وأوضحت لك سبيل الرشاد وليتنى به لو مررت. أمرتك الخير لكن ما ائتمرت به ... وما استقمت فما قولى لك: استقم! وسأورد إن شاء الله على سمعك من هذا الباب ما إن تمسّكت به كان سببا لإرشادك، وذخيرة تجدها فى يوم معادك. ذكر بيان حقيقة الزهد قال الإمام الأوحد العالم زين الدين حجّة المتكلّمين أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالىّ الطّوسىّ رحمه الله تعالى فى كتابه المترجم بإحياء علوم الدين: إعلم أن الزهد فى الدنيا مقام شريف من مقامات السالكين. وينتظم هذا المقام من علم وحال وعمل كسائر المقامات؛ لأن أبواب الإيمان كلّها كما قال السلف ترجع إلى عقد وقول وعمل. وكأن القول لظهوره أقيم مقام الحال، إذ به يظهر الحال الباطن، وإلا فليس القول مرادا بعينه؛ وإذا لم يكن صادرا عن حال سمّى إسلاما ولم يسمّ إيمانا. والعلم هو السبب فى الحال يجرى مجرى المثمر، والعمل يجرى مجرى الثمرة. فأما الحال فنعنى بها ما يسمّى زهدا، وهو عبارة عن انصراف الرغبة عن الشئ إلى ما هو خير منه؛ فكلّ من عدل عن شئ إلى غيره بمعاوضة وبيع وغيره فإنّما عدل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 231 عنه لرغبته عنه، وإنما عدل إلى غيره لرغبته فيه. فحاله بالإضافة إلى المعدول عنه يسمّى [زهدا، وبالإضافة إلى المعدول إليه يسمّى [1]] رغبة وحبّا. فإذا يستدعى حال الزهد مرغوبا عنه ومرغوبا فيه [2] هو خير من المرغوب عنه. وشرط المرغوب عنه أن يكون هو أيضا مرغوبا فيه بوجه من الوجوه؛ فمن رغب عما ليس مطلوبا فى نفسه لا يسمّى زاهدا، فتارك التراب والحجارة والحشرات لا يسمّى زاهدا، لأن ذلك ليس فى مظنّة الرغبة، وإنما يسمّى زاهدا تارك الدراهم والدنانير. وشرط المرغوب فيه أن يكون عنده خيرا من المرغوب عنه حتى تغلب هذه الرغبة؛ فالبائع لا يقدم على البيع إلا والمشترى عنده خير من المبيع، فيكون حاله بالإضافة إلى المبيع زهدا فيه، وبالإضافة إلى العوض رغبة وحبّا؛ ولذلك قال الله تعالى: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ وشروه بمعنى باعوه، ووصف إخوة يوسف بالزهد فيه إذ طمعوا أن يخلو لهم وجه أبيهم، وكان ذلك عندهم أحبّ إليهم من يوسف فباعوه طمعا فى العوض. فإذا كلّ من باع الدنيا بالآخرة فهو زاهد فى الدنيا، وكلّ من باع الاخرة بالدنيا فهو أيضا زاهد ولكن فى الاخرة؛ ولكن العادة جارية بتخصيص اسم الزهد بمن زهد فى الدنيا؛ كما خصّص اسم الإلحاد بمن يميل إلى الباطل خاصّة، وإن كان هو الميل فى وضع اللسان. قال: ولما كان الزهد رغبة عن محبوب بالجملة لم يتصوّر إلا بالعدول إلى شىء هو أحبّ منه، وإلا فترك المحبوب بغير الأحبّ محال. والذى يرغب عن كلّ ما سوى الله تعالى حتى الفردوس ولا يحبّ إلا الله تعالى فهو الزاهد المطلق. والذى يرغب عن كل حظّ ينال فى الدنيا ولم يزهد فى مثل تلك الحظوظ فى الآخرة بل طمع فى الحور العين   [1] زيادة عن الإحياء. [2] كذا فى الإحياء. وفى الأصل: «إليه» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 232 والقصور والفواكه والأنهار فهو أيضا زاهد ولكنّه دون الأوّل. والذى يترك من حظوظ الدنيا البعض دون البعض، كالذى يترك المال دون الجاه، أو يترك التوسّع فى الأكل ولا يترك التجمّل فى الزينة، فلا يستحقّ اسم الزهد مطلقا؛ ودرجته فى الزّهاد درجة من يتوب عن بعض المعاصى فى التائبين، وهو زهد صحيح كما أن التوبة عن بعض المعاصى صحيحة؛ فإنّ التوبة عبارة عن ترك المحظورات، والزهد عبارة عن ترك المباحات التى هى حظّ النفس. والمقتصر على ترك المحظورات لا يسمّى زاهدا، وإن كان زهد فى المحظور وانصرف عنه، ولكنّ العادة تخصّص هذا الاسم بتارك المباحات. فإذا الزهد عبارة عن رغبة عن الدنيا عدولا إلى الآخرة أو عن غير الله عدولا إلى الله، وهى الدرجة العليا. وكما يشترط فى المرغوب فيه [1] أن يكون خيرا عنده؛ فيشترط فى المرغوب عنه أن يكون مقدورا عليه، فإنّ ترك ما لا يقدر عليه محال، وبالترك يتبيّن زوال الرغبة؛ ولذلك قيل لابن المبارك: يا زاهد؛ فقال: الزاهد عمر بن عبد العزيز، إذ جاءته الدنيا راغمة فتركها، وأما أنا ففيم زهدت! وأمّا العلم الذى هو المثمر لهذا الحال فهو العلم يكون المتروك حقيرا بالإضافة إلى المأخوذ، كعلم التاجر بأن العوض خير من المبيع فيرغب فيه؛ وما لم يتحقّق هذا العلم لا يتصوّر أن تزول الرغبة عن المبيع، فكذلك من عرف أن ما عند الله باق وأن الآخرة خير وأبقى، أى لذّتها خير فى نفسها وأبقى. فبقدر قوّة اليقين والمعرفة بالتفاوت بين الدنيا والآخرة تقوى الرغبة فى البيع والمعاملة؛ حتّى إنّ من قوى يقينه يبيع نفسه وماله، كما قال الله عز وجل:   [1] كذا فى الإحياء. وفى الأصل: «المرغوب اليه» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 233 إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ... الآية، ثم بيّن أن صفقتهم رابحة فقال تعالى: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ . فليس يحتاج من العلم فى الزهد إلا إلى هذا القدر وهو أنّ الآخرة خير وأبقى؛ وقد يعلم ذلك من لا يقدر على ترك الدنيا إمّا لضعف علمه ويقينه، وإما لاستيلاء الدنيا والشهوة فى الحال عليه ولكونه مقهورا فى يد الشيطان، وإما لاغتراره بمواعيد الشيطان فى التسويف يوما فيوما إلى أن يختطفه الموت، ولا يبقى معه إلا الحسرة بعد الفوت. قال: وإلى تعريف خساسة الدنيا الإشارة بقوله تعالى: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا ، وإلى تعريف نفاسة الآخرة الإشارة بقوله عزّ وجل: وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ ؛ فنبّه على أنّ العلم بنفاسته هو المرغّب عن عوضه. قال: ولمّا لم يتصور الزهد إلا بمعاوضة ورغبة عن محبوب فى أحبّ منه قال رجل: اللهمّ أرنى الدنيا كما تراها؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقل هذا ولكن قل اللهمّ أرنى الدنيا كما أريتها الصالحين من عبادك» . وهذا لأن الله يراها حقيرة كما هى، وكلّ مخلوق فهو بالإضافة إلى جلاله حقير، والعبد يراها حقيرة فى حقّ نفسه بالإضافة إلى ما هو خير له [1] ، ولا يتصوّر أن يرى بائع الفرس وإن رغب عن فرسه كما يرى حشرات الأرض [مثلا [2]] ، لأنّه مستغن عن الحشرات أصلا وليس مستغنيا عن الفرس؛ والله تعالى غنىّ بذاته عن كلّ ما سواه، فيرى الكلّ فى درجة واحدة بالإضافة إلى جلاله، ويراها متفاوتة بالإضافة إلى غيره، والزاهد هو الذى يرى تفاوتها بالإضافة إلى نفسه لا إلى غيره.   [1] كذا فى الإحياء. وفى الأصل: «الى ما هو خير منه» . [2] زيادة عن الاحياء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 234 وأمّا العمل الصادر عن حال الزهد فهو ترك وأخذ، لأنه بيع ومعاملة واستبدال الذى هو خير بالذى هو أدنى. فكما أنّ العمل الصادر من عقد البيع هو ترك المبيع [1] وإخراجه عن اليد وأخذ العوض، فكذلك الزهد يوجب ترك المزهود فيه بالكلّية وهى الدنيا بأسرها مع أسبابها ومقدماتها وعلائقها، فيخرج من القلب حبّها ويدخل حبّ الطاعات ويخرج من اليد والعين ما أخرجه من القلب، ويوظّف على اليد والعين وسائر الجوارح وظائف من الطاعات، وإلّا كان كمن سلّم المبيع ولم يأخذ الثمن. فإذا وفّى شرط الحالتين فى الأخذ والترك فليستبشر ببيعه الذى بايع به، فإن الذى بايعه بهذا البيع وفىّ بالعهد؛ فمن سلّم حاضرا فى غائب وسلّم الحاضر وأخذ يسعى فى طلب الغائب سلّم إليه الغائب حين فراغه من سعيه إن كان العاقد ممن يوثق بصدقه وقدرته ووفائه بالعهد. وما دام ممسكا للدّنيا فلا يصح زهده أصلا، ولذلك لم يصف الله تعالى إخوة يوسف بالزهد فى بنيامين وإن كانوا قد قالوا: لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا ، وعزموا على إبعاده كما عزموا على إبعاد يوسف حتى شفع فيه أحدهم فترك، ولا وصفهم أيضا بالزهد فى يوسف عند العزم على إخراجه إلا عند التسليم والبيع. فعلامة الرغبة الإمساك، وعلامة الزهد الإخراج. فإن أخرجت عن اليد بعض الدنيا دون البعض فأنت زاهد فيما أخرجت فقط، ولست زاهدا مطلقا؛ وإن لم يكن لك مال ولم تساعدك الدنيا لم يتصوّر منك الزهد، لإنّ ما لا تقدر عليه لا تقدر على تركه. وربما يستهو يك الشيطان بغروره ويخيّل [إليك [2]] أنّ الدنيا وإن لم تأتك فأنت زاهد فيها، فلا ينبغى أن تتدلّى بحبل   [1] كذا بالإحياء. وفى الأصل: «هو بدل البيع» . [2] زيادة عن الإحياء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 235 غروره دون أن [تستوثق [1] و] تستظهر بموثق غليظ [2] من الله تعالى؛ فإنّك إذا لم تجرّب حال القدرة فلا تثق بالقدرة على الترك عندها؛ فكم من ظانّ بنفسه كراهة المعاصى عند تعذّرها فلما تيسّرت له أسبابها من غير مكدّر ولا مخوف من الخلق وقع فيها. وإذا كان هذا غرور النفس فى المحظورات فإيّاك أن تثق بوعدها فى المباحات. والموثق الغليظ الذى تأخذه عليها أن تجرّبها مرّة بعد مرّة فى حال القدرة، فاذا وفّت بما وعدت على الدوام مع انتفاء الصوارف والأعذار ظاهرا وباطنا فلا بأس أن تثق بها وثوقا ما، ولكن تكون من تغيّرها على حذر، فإنها سريعة النقض للعهد، قريبة الرجوع إلى مقتضى الطبع. وبالجملة فلا أمان منها إلا عند الترك بالإضافة إلى ما تركت فقط وذلك عند القدرة. قال: وليس من الزهد بذل المال على سبيل السخاء والفتوّة وعلى سبيل استمالة القلوب ولا على سبيل الطمع، فذلك كلّه من محاسن العادات ولا مدخل له فى العبادات، إنما الزهد أن تترك الدنيا لعلمك بحقارتها بالإضافة إلى نفاسة الآخرة. [فأمّا كل نوع من الترك فإنه يتصوّر ممن لا يؤمن بالآخرة [1]] فذلك قد يكون مروءة وفتوّة وسخاء وحسن خلق، وحسن الذكر وميل القلوب من حظوظ العالجة، وهى ألذّ وأهنأ من المال؛ بل الزاهد من أتته الدنيا راغمة عفوا وصفوا وهو قادر على التنعّم بها من غير نقصان جاه وقبح اسم وفوات حظّ للنفس، فتركها خوفا من أن يأنس بها فيكون آنسا بغير الله ومحبّا لما سوى الله، ويكون مشركا فى حبّ الله غير الله؛ أو تركها طمعا فى ثواب آخر فترك التمتّع بأشربة الدنيا طمعا فى أشربة الجنّة، وترك التمتّع بالسرارى والنسوان طمعا فى الحور العين، وترك التفرّج فى البساتين طمعا فى بساتين الجنّة وأشجارها، وترك التزيّن والتجمّل بزينة الدنيا طمعا فى زينة الجنّة، وترك المطاعم اللذيذة طمعا   [1] زيادة عن الإحياء. [2] كذا فى الإحياء. وفى الأصل: «بموثق عليك» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 236 فى فواكه الجنّة وخوفا من أن يقال له: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا فآثر فى جميع ذلك ما وعد به فى الجنّة على ما تيسّر له فى الدنيا عفوا صفوا، لعلمه بأن ما فى الآخرة خير وأبقى؛ وما سوى هذه فمعا ملات دنيويّة لا جدوى لها فى الآخرة أصلا. وحيث قدّمنا هذه المقدّمة من أحوال الزهد فى الحال والعلم فلنذكر بيان فضيلة الزهد وذم الدنيا. ذكر فضيلة الزهد وبغض الدنيا قال الله تعالى: فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ، فنسب الزهد الى العلماء ووصف أهله بالعلم، وذلك غاية الثناء. وقال تعالى: أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا جاء فى التفسير: على الزهد فى الدنيا. وقال تعالى: إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا . قيل: معناه أيّهم أزهد فى الدنيا، فوصف الزهد بأنه من أحسن الأعمال. وقال تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ . وقال تعالى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ ... إلى قوله: وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أصبح وهمّه الدّنيا شتّت الله عليه أمره وفرّق عليه ضيعته وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له ومن أصبح وهمّه الآخرة جمع الله له أمره وحفظ عليه ضيعته وجعل غناه فى قلبه وأتته الدنيا وهى راغمة» . وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم العبد قد أوتى [1] منطقا وزهدا فى الدنيا فاقتربوا منه فإنه يلقّن الحكمة» . وقال تعالى: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ؛ ولذلك   [1] الذى فى الإحياء: «اذا رأيتم العبد وقد أعطى صمتا وزهدا فى الدنيا فاقتربوا منه فانه يلقى الحكمة» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 237 قيل: من زهد فى الدنيا أربعين يوما اجرى الله ينابيع الحكمة فى قلبه وأطلق بها لسانه. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أردت أن يحبّك الله فازهد فى الدنيا» فجعل الزهد سببا للمحبّة؛ فمن أحبّه الله فهو فى أعلى الدرجات، فينبغى أن يكون الزهد فى أفضل المقامات. ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وقيل له: ما هذا الشرح؟ قال: «إن النّور إذا دخل القلب انشرح له الصدر وانفسح» . قيل: يا رسول الله، هل لذلك من علامة؟ قال: «نعم التجافى عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزوله» . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استحيوا من الله حقّ الحياء» قالوا: إنا نستحيى من الله، فقال: « [ليس كذلك [1]] تبنون ما لا تسكنون وتجمعون ما لا تأكلون» . فبيّن أن ذلك يناقض الحياء من الله. وقدم وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنّا مؤمنون. قال: «وما علامة إيمانكم؟» فذكروا الصبر على البلاء، والشكر على الرخاء، والرّضا بمواقع القضاء، وترك الشماتة بالمصيبة إذا نزلت بالأعداء. قال: «إن كنتم كذلك فلا تجمعوا ما لا تأكلون ولا تبنوا ما لا تسكنون ولا تنافسوا فيما عنه ترحلون» ؛ فجعل الزهد تكملة إيمانهم. وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ فى أصحابه بإبل عشار حفّل وهى الحوامل، وكانت من أحبّ أموالهم إليهم وأنفسها عندهم، لأنها تجمع بين اللحم واللبن والوبر والظّهر، فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وغضّ بصره. فقيل له: يا رسول الله، هذه أنفس أموالنا، لم لا تنظر إليها؟ فقال: قد نهانى الله عن ذلك، ثم تلا قوله تعالى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى.   [1] التكملة من الإحياء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 238 وروى مسروق عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: قلت: يا رسول الله، ألا تستطعم الله فيطعمك؟ قالت: وبكيت لما رأيت به من الجوع. فقال: «يا عائشة والذى نفسى بيده لو سألت ربّى أن يجرى معى جبال الدنيا ذهبا لأجراها حيث شئت من الأرض ولكن اخترت جوع الدنيا على شبعها وفقر الدنيا على غناها وحزن الدنيا على فرحها يا عائشة إنّ الدنيا لا تنبغى لمحمد ولا لآل محمد يا عائشة إن الله لم يرض لأولى العزم من الرسل إلا الصبر على مكروه الدنيا والصبر عن محبوبها ثم لم يرض إلا أن يكلّفنى ما كلّفهم فقال فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ والله مالى بدّ من طاعته وإنّى والله لأصبرنّ كما صبروا جهدى ولا حول ولا قوّة إلا بالله» . وروى عن عمر بن الخطّاب رضى الله عنه أنه حين فتح عليه الفتوحات قالت له ابنته حفصة: البس ليّن الثياب إذا وفدت عليك الوفود من الآفاق، ومر بصنعة طعام تطعمه وتطعم من حضر. فقال: يا حفصة، ألست تعلمين أنّ أعلم الناس بحال الرجل أهل بيته؟ قالت بلى. قال: ناشدتك الله، هل تعلمين أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لبث فى النبوّة كذا وكذا سنة لم يشبع هو ولا أهل بيته غدوة إلّا جاعوا عشيّة، ولا شبعوا عشيّة إلا جاعوا غدوة؟ وناشدتك الله، هل تعلمين أن النبىّ صلى الله عليه وسلم لبث فى النبوّة كذا وكذا سنة لم يشبع من التمر هو وأهله حتى فتح الله عليه خيبر؟ وناشدتك الله، هل تعلمين أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قرّبتم إليه [يوما [1]] طعاما على مائدة فيها ارتفاع فشقّ ذلك عليه حتى تغيّر لونه ثم أمر بالمائدة فرفعت ووضع الطعام على دون ذلك أو وضع على الأرض؟ ناشدتك الله، هل تعلمين أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينام على عباءة مثنيّة فثنيت له ليلة أربع   [1] زيادة عن الإحياء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 239 طاقات فنام عليها، فلما استيقظ قال: «منعتمونى قيام الليلة بهذه العباءة اثنوها بآثنتين كما كنتم تننونها» ؟ وناشدتك الله، هل تعلمين أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يضع ثيابه لتغسل فيأتيه بلال فيؤذنه بالصلاة فما يجد ثوبا يخرج به إلى الصلاة حتى تجفّ ثيابه فيخرج بها إلى الصلاة؟ وناشدتك الله، هل تعلمين أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صنعت له امرأة من بنى ظفر كساءين إزارا ورداء وبعثت إليه بأحدهما قبل أن يبلغ الآخر، فخرج إلى الصلاة وهو مشتمل به ليس عليه غيره قد عقد طرفيه إلى عنقه فصلّى كذلك؟ فما زال [يقول [1]] حتى أبكاها، وبكى عمر رضى الله عنه وانتحب حتى ظننّا أنّ نفسه ستخرج. وفى بعض الروايات زيادة من قول عمر وهو أنّه قال: كان لى صاحبان سلكا طريقا، فإن سلكت غير طريقهما سلك بى طريق غير طريقهما، وإنّى والله سأصبر على عيشهما الشديد لعلّى أدرك معهما عيشهما الرّغيد. وعن أبى سعيد الخدرىّ رضى الله عنه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لقد كان الأنبياء قبلى يبتلى أحدهم بالفقر فلا يلبس إلا العباءة وإن كان أحدهم ليبتلى بالقمل حتى يقتله القمل وكان ذلك أحبّ إليهم من العطاء إليكم» . وعن ابن عبّاس رضى الله عنه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لما ورد موسى عليه السلام ماء مدين كانت خضرة البقل ترى فى بطنه من الهزال» . وفى حديث عمر رضى الله عنه أنه لمّا نزل قوله تعالى وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ الآية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تبّا للدّنيا! تبّا للدّينار والدرهم!» فقلنا: نهانا الله عن كنز الذهب والفضّة قأىّ شىء ندّخر؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «ليتّخذ أحدكم لسانا ذاكرا وقلبا شاكرا وزوجة صالحة تعينه على أمر آخرته» . وفى حديث حذيفة رضى الله عنه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم: «من آثر   [1] زيادة من الإحياء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 240 الدنيا على الآخرة ابتلاه الله تعالى بثلاث: همّا لا يفارق قلبه أبدا وفقرا لا يستغنى أبدا وحرصا لا يشبع أبدا» . وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يستكمل العبد الإيمان حتّى يكون ألّا يعرف أحبّ إليه من أن يعرف وحتى تكون قلة الشىء أحبّ إليه من كثرته» . وقال المسيح عليه السلام: الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها. وقيل له: يا نبىّ الله، لو أمرتنا أن نبتنى بيتا نعبد الله فيه! قال: اذهبوا فابنوا بيتا على الماء. فقالوا: كيف يستقيم بنيان على الماء! قال: وكيف تستقيم عبادة مع حبّ الدنيا!. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ ربّى عرض علىّ أن يجعل لى بطحاء مكة ذهبا فقلت لا يا ربّ ولكن أجوع يوما وأشبع يوما فأمّا اليوم الذى أجوع فيه فأتضّرع إليك وأدعوك وأمّا اليوم الذى أشبع فيه فأحمدك وأثنى عليك» . وعن ابن عبّاس رضى الله عنهما قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم يمشى وجبريل معه فصعد على الصّفا، فقال له النبىّ صلى الله عليه وسلم: والذى بعثك بالحقّ ما أمسى لآل محمد كفّ سويق ولا سفّة دقيق. فلم يكن كلامه بأسرع من أن سمع هدّة من السماء أفظعته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمر الله القيامة أن تقوم؟ قال: لا، ولكن هذا إسرافيل قد نزل إليك حين سمع كلامك. فأتاه إسرافيل فقال: إنّ الله عز وجلّ سمع ما ذكرت، فبعثنى بمفاتيح الأرض وأمرنى أن أعرض عليك إن أحببت أن أسيّر [1] معك جبال تهامة زمرّدا وياقوتا وذهبا وفضّة فعلت، وإن شئت نبيّا ملكا وإن شئت نبيّا عبدا. فأومأ إليه جبريل أن تواضع لله. فقال: «نبيّا عبدا» ثلاثا . وقال صلى الله عليه وسلم: «اذا أراد الله بعبد خيرا زهّده فى الدنيا ورغّبه فى الآخرة وبصّره بعيوب نفسه» . وقال صلى الله عليه وسلم: «من أراد أن يؤتيه الله علما بغير تعلّم وهدى بغير هداية فليزهد فى الدنيا» .   [1] كذا فى الإحياء، وفى الأصل: «أن تسير ... » . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 241 وقال صلى الله عليه وسلم: «من اشتاق إلى الجنّة سارع إلى الخيرات ومن خاف من النار لها عن الشهوات ومن ترقّب الموت ترك اللذّات ومن زهد فى الدنيا هانت عليه المصائب» . والأحاديث فى ذلك كثيرة وفيما ذكرناه منها كفاية. فلنذكر ما جاء من ذلك فى الأثر. قيل: جاء فى الأثر: لا تزال لا إله إلّا الله تدفع عن العباد سخط الله ما لم يسألوا ما نقص من دنياهم. وفى لفظ آخر: ما لم يؤثروا صفقة دنياهم على دينهم فإذا فعلوا ذلك وقالوا: لا إله إلا الله قال الله تعالى: كذبتم لستم بها صادقين. وعن بعض الصحابة رضى الله عنهم أنه قال: تابعنا الأعمال كلّها فلم نرفى أمر الآخرة أبلغ من زهد الدنيا. وقال بعض الصحابة لصدر التابعين: أنتم أكثر أعمالا واجتهادا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا خيرا منكم. قيل: ولم ذاك؟ قال: كانوا أزهد فى الدنيا منكم. وقال عمر رضى الله عنه: الزهادة فى الدنيا راحة القلب والجسد. والآثار أيضا فى ذلك كثيرة فلا نطوّل بسردها. ذكر بيان ذمّ الدنيا وشىء من المواعظ والرقائق الداخلة فى هذا الباب وقد ورد فى كتاب الله عز وجلّ كثير فى ذمّ الدنيا وصرف الخلق عنها ودعوتهم إلى الآخرة؛ وهو أيضا مقصود الأنبياء ولذلك بعثوا، فلا حاجة إلى الاستشهاد بالايات لظهورها. فلنذكر نبذة من الأخبار والآثار الواردة فى ذلك، وذلك من جملة ما اختاره الغزالىّ رحمه الله فى كتابه المترجم بإحياء علوم الدين. فمن ذلك ما روى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه مرّ على شاة ميّتة فقال: «أترون أن الشاة هينّة على أهلها» ؟ قالوا: من هوانها عليهم ألقوها. قال: «والذى نفسى بيده للدنيا أهون على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 242 الله من هذه الشاة على أهلها ولو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة [ماء [1]] » . وقال صلى الله عليه وسلم: «الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان لله منها» . وقال صلى الله عليه وسلم: «حبّ الدنيا أسّ كلّ خطيئة» . وقال صلى الله عليه وسلم: «يا عجبا كلّ العجب للمصدّق بدار الخلود وهو يسعى لدار الغرور!» . وروى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على مزبلة فقال: «هلمّوا إلى الدنيا وأخذ خرقا قد بليت على تلك المزبلة وعظاما قد نخرت فقال هذه الدنيا» وهذه إشارة إلى أن زينتها ستخلق مثل تلك الخرق، وأن الأجسام التى ترى بها ستصير عظاما بالية. وقال عيسى بن مريم عليه السلام: لا تتّخذوا الدنيا ربّا فتتّخذكم عبيدا، اكنزوا كنزكم عند من لا يضيّعه، فإنّ صاحب كنز الدنيا يخاف عليه الآفة وصاحب كنز الله لا يخاف عليه الآفة. وقال أيضا: يا معشر الحواريّين، إنى قد كببت لكم الدنيا على وجهها فلا تنعشوها بعدى، فإنّ من خبث الدنيا أن الله عصى فيها، وإن من خبث الدنيا أن الآخرة لا تدرك إلا بتركها. ألا فاعبروا الدنيا ولا تعمروها، واعلموا أن أصل كلّ خطيئة حبّ الدنيا. وربّ شهوة أورثت حزنا طويلا. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله جلّ ثناؤه لم يخلق خلقا أبغض اليه من الدنيا وإنه منذ خلقها لم ينظر اليها» . وقال صلى الله عليه وسلم: «ألهاكم التكاثر يقول ابن آدم مالى مالى وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدّقت فأبقيت!» . وقال صلى الله عليه وسلم: «الدنيا دار من لا دار له ومال من لا مال له ولها يجمع من لا عقل له وعليها يعادى من لا علم له وعليها يحسد من لا فقه له ولها يسعى من لا يقين له» . وقال صلى الله   [1] التكملة عن الإحياء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 243 عليه وسلم: «من أصبح والدنيا أكبر همّه فليس من الله فى شئ وألزم الله قلبه أربع خصال همّا لا ينقطع عنه أبدا وشغلا لا يتفرّغ منه أبدا وفقرا لا يبلغ غناه أبدا وأملا لا يبلغ منتهاه أبدا» . وقال أبو هريرة رضى الله عنه: قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا هريرة ألا أريك الدنيا جميعا بما فيها» ؟ قلت: بلى يا رسول الله. فأخذ بيدى وأتى بى واديا من أودية المدينة، فإذا مزبلة فيها رءوس ناس وعذرات وخرق وعظام، ثم قال: «يا أبا هريرة هذه الرءوس كانت تحرص كحرصكم وتأمل آمالكم هى اليوم عظام بلا جلد ثم هى صائرة رمادا وهذه العذرات هى ألوان أطعمتهم اكتسبوها من حيث اكتسبوها ثم قذفوها فى بطونهم فأصبحت والناس يتحامونها وهذه الخرق البالية كانت رياشهم ولباسهم فأصبحت الرياح تصفّقها وهذه العظام عظام دوابّهم التى كانوا ينتجعون عليها أطراف البلاد فمن كان باكيا على الدنيا فليبك» . قال: فما برحنا حتى اشتدّ بكاؤنا. وقال صلى الله عليه وسلم: «الدنيا موقوفة بين السماء والأرض منذ خلقها الله تعالى لا ينظر إليها وتقول يوم القيامة: يا ربّ اجعلنى لأدنى أوليائك نصيبا اليوم فيقول اسكتى يا لا شئ إنى لم أرضك لهم فى الدنيا أأرضاك لهم اليوم،! وقال صلى الله عليه وسلم: «ليجيئنّ أقوام يوم القيامة وأعمالهم كجبال تهامة فيؤمر بهم إلى النار» . قالوا: يا رسول اللهّ، مصلين؟ قال: «نعم [كانوا [1]] يصلّون ويصومون ويأخذون هنة من الليل فإذا عرض لهم من الدنيا شئ وثبوا عليه» . وقال صلى الله عليه وسلم فى بعض خطبه: «المؤمن بين مخافتين بين أجل قد مضى لا يدرى ما الله صانع فيه وبين أجل قد بقى لا يدرى ما الله قاض فيه فليتزوّد العبد من نفسه لنفسه ومن دنياه لآخرته ومن حياته لموته ومن شبابه   [1] التكملة عن الإحياء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 244 لهرمه فإنّ الدنيا خلقت لكم وأنتم خلقتم للآخرة والذى نفسى بيده ما بعد الموت مستعتب ولا بعد الدنيا من دار إلا الجنّة أو النار» . قال صلى الله عليه وسلم: «احذروا الدنيا فإنها أسحر من هاروت وماروت» . وقال عليه السلام لأصحابه: «هل منكم من يريد أن يذهب الله عنه العمى ويجعله بصيرا ألا إنه من رغب فى الدنيا وطال أمله فيها أعمى الله قلبه على قدر ذلك ومن زهد فى الدنيا وقصر أمله فيها أعطاه الله علما بغير تعلّم وهدى بغير هداية ألا إنه سيكون بعدكم قوم لا يستقيم لهم الملك إلا بالقتل والتّجبّر ولا الغنى إلا بالفخر والبخل ولا المحبّة إلا باتّباع الهوى ألا فمن أدرك ذلك الزمان منكم فصبر للفقر وهو يقدر على الغنى وصبر على البغضاء وهو يقدر على المحبّة وصبر للذّلّ وهو يقدر على العزّ لا يريد بذلك إلا وجه الله تعالى أعطاه الله ثواب خمسين صدّيقا» . وقال عيسى بن مريم عليه السلام: ويل لصاحب الدنيا! كيف يموت ويتركها، ويأمنها وتغرّه، ويثق بها وتخذله! وويل للمغترّين! كيف أرتهم ما يكرهون وفارقهم ما يحبّون، وجاءهم ما يوعدون! وويل لمن الدنيا همّه، والخطايا عمله كيف يفتضح غدا بذنبه!. وقيل له: علّمنا علما واحدا يحبّنا الله عليه، قال: أبغضوا الدنيا يحبّكم الله. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ولهانت عليكم الدنيا ولآثرتم الآخرة» . ومن الآثار فى ذلك ما حكاه داود بن هلال قال: مكتوب فى صحف إبراهيم عليه السلام: يا دنيا، ما أهونك على الأبرار الذين تصنّعت وتزّينت لهم! إنى قذفت فى قلوبهم بغضك والصدود عنك، وما خلقت خلقا أهون علىّ منك، كلّ شأنك صغير، وإلى الفناء تصيرين، قضيت عليك يوم خلقتك الّا تدومى لأحد ولا يدوم أحد لك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 245 وإن بخل بك صاحبك وشحّ عليك. طوبى للأبرار الذين أطلعونى من قلوبهم على الرضا، ومن ضميرهم على الصدق والاستقامة! طوبى لهم! ما لهم عندى من الخير إذا وفدوا إلىّ من قبورهم [إلا [1]] النور يسعى أمامهم والملائكة حافّون بهم حتى أبلّغهم ما يرجون من رحمتى. وقال عمّار بن سعيد: مرّ عيسى بن مريم عليه السلام بقرية فإذا أهلها موتى فى الأفنية والطرق، فقال: يا معشر الحواريّين، إن هؤلاء ماتوا عن سخطة، ولو ماتوا عن غير ذلك لتدافنوا. فقالوا: يا روح الله، وددنا أنّا علمنا خبرهم، فسأل الله تعالى فأوحى اليه: إذا كان الليل فنادهم يجيبوك. فلما كان الليل أشرف على نشز، ثم نادى يأهل القرية، فأجابه مجيب: لبّيك يا روح الله. فقال: ما حالكم وما قصّتكم؟ قال: بتنا فى عافية وأصبحنا فى الهاوية. قال: وكيف ذاك؟ قال [2] : لحبّنا الدنيا وطاعتنا أهل المعاصى. قال: وكيف كان حبّكم للدنيا؟ قال: حبّ الصبىّ لأمّه، إذا أقبلت فرح بها، وإذا أدبرت حزن وبكى عليها. قال: فما بال أصحابك لا يجيبونى؟ قال: لأنهم ملجمون بلجم من نار بأيدى ملائكة غلاظ شداد. قال: فكيف أجبتنى من بينهم؟ قال: لأنّى كنت فيهم ولم أكن منهم، فلما نزل بهم العذاب أصابنى معهم، فأنا معلّق على شفير جهنّم لا أدرى أنجو منها أم أكبّ فيها. فقال المسيح للحواريّين: لأكل الخبز الشعير بالملح الجريش ولبس المسوح والنوم على المزابل كثير مع عافية الدنيا والآخرة. قيل: وأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام أن يا موسى لا تركننّ إلى حبّ الدنيا فلن تأتينى بكيرة هى أشدّ منها.   [1] زيادة عن الإحياء (ج 3 ص 188) [2] فى الأصل وفى الإحياء: «قالوا» والسياق يقتضى الإفراد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 246 وقال لقمان لابنه: يا بنىّ، إن الدنيا بحر عميق وقد غرق فيه ناس كثير، فلتكن سفينتك فيها تقوى الله عز وجل، وحشوها الإيمان بالله تعالى، وشراعها التوكّل على الله عز وجل، لعلك تنجو وما أراك ناجيا. وقال بعض الحكماء: إنك لن تصبح فى شىء من الدنيا إلا وقد كان له أهل قبلك ويكون له أهل بعدك؛ وليس لك من الدنيا إلا عشاء ليلة وغداء يوم، فلا تهلك فى أكلة، وصم [عن [1]] الدنيا وأفطر على الآخرة، وإن رأس مال الدنيا الهوى وربحها النار. وقيل لبعضهم: كيف ترى الدهر؟ قال: يخلق الأبدان، ويجدّد الآمال، ويقرّب المنيّة، ويبعد الأمنيّة. قيل: فما حال أهله؟ قال: من ظفر به تعب، ومن فاته نصب. وفى ذلك قيل: ومن يحمد الدنيا لعيش يسرّه ... فسوف لعمرى عن قريب يلومها إذا أدبرت كانت على المرء حسرة ... وإن أقبلت كانت كثيرا همومها وقال بعض الحكماء: كانت الدنيا ولم أكن فيها، وتذهب الدنيا ولا أكون فيها، فلا أسكن إليها، فإنّ عيشها نكد، وصفوها كدر، وأهلها منها على وجل، إمّا بنعمة زائلة، أو بلية نازلة، أو منيّة قاضية. وقال أبو حازم: إيّاكم والدنيا، فإنّه بلغنى أنه يوقف العبد يوم القيامة إذا كان معظّما للدنيا فيقال: هذا عظّم ما حقّره الله. وقال ابن مسعود: ما أصبح أحد من الناس إلا وهو ضيف وماله عارية، فالضيف يرتحل والعارية مردودة. وفى ذلك قيل: وما المال والأهلون إلّا وديعة ... ولا بدّ يوما أن تردّ الودائع   [1] الزيادة عن الإحياء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 247 وزار رابعة العدوية أصحابها فذكروا الدنيا فأقبلوا على ذمّها، فقالت: أمسكوا عن ذكرها، فلولا موقعها من قلوبكم ما أكثرتم من ذكرها، ألا من أحبّ شيئا أكثر من ذكره. وقال رجل لعلىّ رضى الله عنه: يا أمير المؤمنين، صف لنا الدنيا؛ فقال: وما أصف لكم من دار من صحّ فيها ما أمن، ومن سقم فيها ندم [1] ، ومن افتقر فيها حزن، ومن استغنى فيها فتن؛ فى حلالها الحساب، وفى حرامها العذاب. وقال الحسن بعد أن تلا قوله تعالى فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا* : من قال ذا؟ من خلقها من هو أعلم بها. إيّاكم وما شغل من الدنيا فإنّ الدنيا كثيرة الأشغال، لا يفتح رجل على نفسه باب شغل إلا أوشك ذلك الباب أن يفتح عليه عشرة أبواب. وقال أيضا: مسكين ابن آدم رضى بدار حلالها حساب، وحرامها عذاب، إن أخذه من حلّه حوسب به، وإن أخذه من حرام عذّب به. ابن آدم يستقلّ ماله ولا يستقلّ عمله، يفرح بمصيبته فى دينه ويجزع من مصيبته فى دنياه. وقال داود الطائىّ: يآبن آدم، فرحت ببلوغ أملك، وإنّما بلغته بانقضاء أجلك، ثم سوّفت بعملك، كأنّ منفعته لغيرك. وقال بشر: من سأل الله الدنيا فإنما يسأله طول الوقوف بين يديه. وقال أبو حازم: ما فى الدنيا شىء يسرّك إلا وقد ألصق الله إليه شيئا يسوءك وقال الحسن: أهينوا الدنيا، فو الله ما هى لأحد بأهنأ منها لمن أهانها. وقال أيضا: إذا أراد الله بعبد خيرا أعطاه عطيّة من الدنيا ثم يمسك، فإذا نفد أعاد عليه؛ وإذا هان عليه عبد بسط له الدنيا بسطا.   [1] كذا فى الأصلين. وفى الإحياء (ج 3 ص 192) : «من صح فيها سقم، ومن أمن فيها ندم» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 248 قال الجنيد: كان الشافعىّ رحمه الله من المريدين الناطقين بلسان الحقّ فى الدين، وعظ أخا له فى الله تعالى وخوّفه بالله فقال: يا أخى، إنّ الدنيا دحض مزلّة، ودار مذلّة، عمرانها إلى الخراب صائر، وساكنها إلى القبور زائر؛ شملها على الفرقة موقوف، وغتاها إلى الفقر مصروف؛ الإكثار فيها إعسار، والإعسار فيها يسار؛ فافزع إلى الله وارض برزق الله. لا تستسلف من دار بقائك فى دار فنائك، فإن عيشك فىء زائل، وجدار مائل؛ أكثر من عملك، وقصّر من أملك. وهذا من أبلغ المواعظ والترغيب. ومن المواعظ ما قاله أبو الدرداء رضى الله عنه: والله لو تعلمون ما أعلم لخرجتم إلى الصّعدات [تجأرون و [1]] تبكون على أنفسكم، ولتركتم أموالكم لا حارس لها ولا راجع إليها إلّا ما لا بدّ لكم منه، ولكن يغيب عن قلوبكم ذكر الآخرة وحضرها الأمل، فصارت الدنيا أملك بأعمالكم وصرتم كالذين لا يعلمون، فبعضكم شرّ من البهائم التى لا تدع هواها مخافة مما فى عاقبته. ما لكم لا تحابّون ولا تناصحون وأنتم إخوان على دين [الله [1]] ؛ ما فرّق بين أهوائكم إلا خبث سرائركم، ولو اجتمعتم على البرّ لتحاببتم. ما لكم تناصحون [2] فى أمر الدنيا ولا يملك أحدكم النصيحة لمن يحبّه ويعينه على أمر آخرته! ما هذا إلا من قلّة الإيمان فى قلوبكم. لو كنتم توقنون بخير الآخرة وشرّها كما توقنون بالدنيا لآثرتم طلب الاخرة لأنها أملك بأموركم. فإن قلتم: حبّ العاجلة غالب؛ فإنّا نراكم تدعون العاجل من الدنيا للآجل مما تكدّون أنفسكم بالمشقّة والاحتراف فى طلب أمر لعلكم لا تدركونه.   [1] زيادة عن الإحياء. [2] فى الأصلين: «ما لكم لا تناصحون فى أمر الدنيا» بدخول لا النافية والسياق يقتضى حذفها. وفى الإحياء: «ما لكم تناصحون فى أمر الدنيا ولا تناصحون فى أمر الآخرة ولا يملك أحدكم ... » . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 249 فبئس القوم أنتم! ما حقّقتم إيمانكم بما يعرف به الإيمان البالغ فيكم. فإن كنتم فى شكّ مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فأتونا لنبيّن لكم ولنريكم من النور ما تطمئنّ اليه قلوبكم. والله ما أنتم بالمنقوصة عقولكم فنعذركم؛ إنكم لتبيّنون صواب الرأى فى دنياكم وتأخذون بالحزم فى أموركم. ما لكم تفرحون باليسير من الدنيا تصيبونه وتحزنون على اليسير منها يفوتكم، يتبين ذلك فى وجوهكم ويظهر على ألسنتكم، وتسمّونها المصائب وتقيمون فيها المآتم، وعامّتكم قد تركوا كثيرا من دينهم ثم لا يتبيّن ذلك فى وجوهكم [1] ولا يتغيّر حال بكم!. إنى لأرى الله قد تبرّأ منكم. يلقى بعضكم بعضا بالسرور، وكلكم يكره أن يستقبل صاحبه بما يكره مخافة أن يستقبله صاحبه بمثله، فاصطحبتم [2] على الغلّ، ونبتت مراعيكم على الدّمن، وتصافيتم على رفض الأجل. ولو ددت أن الله أراحنى منكم وألحقنى بمن أحبّ رؤيته، ولو كان حيّا لم يصابركم. فإن كان فيكم خير فقد أسمعتكم؛ وإن تطلبوا ما عند الله تجدوه يسيرا. والله أستعين على نفسى وعليكم. وكتب الحسن البصرىّ إلى عمر بن عبد العزيز رحمهما الله تعالى: أمّا بعد، فإن الدنيا دار ظعن ليست بدار إقامة، وإنما أنزل آدم عليه السلام من الجنّة إليها عقوبة؛ فاحذرها يا أمير المؤمنين؛ فإنّ الزاد منها تركها، والغنى منها فقرها؛ لها فى كلّ حين قتيل؛ تذلّ من أعزّها، وتفقر من جمعها؛ هى كالسّم يأكله من لا يعرفه وهو حتفه. فكن فيها كالمداوى جراحته، يحتمى قليلا مخافة ما يكره طويلا، ويصبر على شدّة الدواء مخافة طول الداء. فاحذر هذه الدار الغدّارة الختّالة الخدّاعة التى قد تزيّنت بخدعها وفتنت بغرورها، وحلت بامالها، وسوّفت بخطّابها؛   [1] كذا فى الإحياء. وفى الأصلين: «ثم لا يتبين ذلك فى وجوههم» . [2] كذا فى الإحياء. وفى الأصل: «فأصبحتم على الغل ... » . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 250 فأصبحت كالعروس المجلوّة [1] ، فالعيون إليها ناظرة، والقلوب عليها والهة، والنفوس لها عاشقة، وهى لأزواجها كلّهم قالية؛ فلا الباقى بالماضى معتبر، ولا الآخر بالأوّل مزدجر، والعارف بالله عز وجلّ حين أخبره عنها مدّكر؛ فعاشق لها قد ظفر منها بحاجته فاغترّ وطغى ونسى المعاد، فشغل لبّه حتى زلّت [به [2]] قدمه، فعظمت ندامته، وكثرت حسرته، واجتمعت عليه سكرات الموت وتألّمه، وحسرات الفوت بغصّته؛ وراغب [3] فيها لم يدرك فيها ما طلب، ولم يروّح نفسه من التعب؛ فخرج بغير زاد، وقدم على غير مهاد. فاحذرها يا أمير المؤمنين، وكن أسرّ ما تكون فيها أحذر ما تكون لها؛ فإنّ صاحب الدنيا كلما اطمأنّ فيها إلى سرور أشخصته إلى مكروه؛ السارّ فيها أهلها غارّ، والنافع فيها غدّار [4] ضارّ؛ وقد وصل الرخاء فيها بالبلاء، وجعل البقاء فيها إلى فناء، فسرورها مشوب بالأحزان. لا يرجع منها ما ولّى وأدبر، ولا يدرى ما هو آت فينتظر؛ أمانيها كاذبة، وآمالها باطلة، وصفوها كدر، وعيشها نكد، وابن آدم فيها على خطر، ومن البلاء على حذر. فلو كان الخالق لم يخبر عنها خبرا، ولم يضرب لها مثلا، لكانت الدنيا أيقظت النائم ونبّهت الغافل، فكيف وقد جاء من الله عز وجلّ عنها زاجر وفيها واعظ! فما لها عند الله جل ثناؤه قدر، وما نظر إليها منذ خلقها. ولقد عرضت على نبيّك صلى الله عليه وسلم بمفاتيحها وخزائنها لا ينقصه ذلك عند الله جناح بعوضة فأبى أن يقبلها إذ كره أن يخالف على الله أمره، أو يحبّ ما أبغض خالقه، أو يرفع ما وضع مليكه. فزواها [5] عن الصالحين اختبارا. وبسطها   [1] فى الأصل: «المجلية» والفعل واوى كما فى القاموس. [2] زيادة عن الإحياء. [3] كذا فى الإحياء. وفى الأصلين: «ومن راغب بزيادة «من» والسياق يأباها. [4] كذا فى الإحياء. وفى الأصلين: «والنافع فيها غدا ضارّ» . [5] زواه زيّا وزويّا: نحّاه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 251 لأعدائه اغترارا؛ فيظنّ المغرور المقتدر عليها أنه أكرم بها، ونسى ما صنع الله عز وجل بمحمد صلى الله عليه وسلم حين شدّ الحجر على بطنه. ولقد جاءت الرواية عنه عن ربّه عز وجل أنه قال لموسى عليه السلام: إذا رأيت الغنى مقبلا فقل: ذنب عجّلت عقوبته، وإذا رأيت الفقر مقبلا فقل: مرحبّا بشعار الصالحين. فإن شئت اقتديت بصاحب الروح والكلمة عيسى بن مريم عليه السلام فإنه كان يقول: إدامى الجوع، وشعارى الخوف، ولباسى الصوف، وصلائى فى الشتاء مشارق الشمس، وسراجى القمر، ودابّتى رجلاى، وطعامى وفاكهتى ما تنبت الأرض، أبيت ليس لى شىء وأصبح وليس لى شىء وليس على الأرض أغنى منّى. وقال بعضهم لبعض الملوك: إن أحقّ الناس بذمّ الدنيا وقلاها من بسط له فيها وأعطى حاجته منها، لأنه يتوقّع آفة تعدو على ماله فتجتاحه، أو على جمعه فتفرّقه، أو تأتى سلطانه فتهدمه من القواعد، أو تدبّ إلى جسمه فتسقمه، أو تفجعه بشىء هو ضنين به من أحبابه. فالدنيا أحقّ بالذمّ، هى الآخذة لما تعطى، الراجعة فيما تهب. بينا هى تضحك صاحبها إذ أضحكت منه غيره، وبينا هى تبكى له إذ بكت عليه، وبينا هى تبسط كفّه بالإعطاء إذ بسطتها بالاسترداد. تعقد التاج على رأس صاحبها اليوم وتعفّره فى التراب غدا؛ سواء عليها ذهاب ما ذهب وبقاء ما بقى، تجد فى الباقى من الذاهب خلفا، وترضى بكلّ من كلّ بدلا. وعن وهب بن منبّه أنه قال: لمّا بعث الله عز وجلّ موسى وهارون عليهما السلام إلى فرعون قال: لا يرو عنّكما لباسه الذى لبس من الدنيا، فإنّ ناصيته بيدى ليس ينطق ولا يطرف ولا يتنفّس إلا بإذنى، ولا يعجبنّكما ما متّع به منها فإنما هى زهرة الدنيا وزينة المترفين. فلو شئت أن أزيّنكما بزينة من الدنيا يعرف فرعون حين يراها أنّ قدرته الجزء: 5 ¦ الصفحة: 252 تعجز عمّا أوتيتما لفعلت، ولكنّى أرغب بكما عن ذلك فأزوى ذلك عنكما، وكذلك أفعل بأوليائى، إنى لأذودهم عن نعيمها كما يذود الراعى الشفيق غنمه عن مراتع الهلكة؛ وما ذاك لهوانهم علىّ ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتى سالما موفّرا. إنما يتزيّن لى أوليائى بالذّلّ والخضوع والخوف والتقوى تنبت فى قلوبهم فتظهر على أجسادهم، فهى ثيابهم التى يلبسون، ودثارهم الذى يظهرون، وضميرهم الذى يستشعرون، ونجاتهم التى بها يفوزون، ورجاؤهم الذى إيّاه يأملون، ومجدهم الذى به يفخرون، وسيماهم التى بها يعرفون. فإذا لقيتهم فاخفض لهم جناحك وذلّل لهم قلبك ولسانك. واعلم أنّ من أخاف لى وليّا فقد بارزنى بالمحاربة، ثم أنا الثائر له يوم القيامة. وخطب علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه يوما [خطبة [1]] فقال فيها: اعلموا أنكم ميّتون، ومبعوثون من بعد الموت وموقوفون على أعمالكم ومجزيّون بها، فلا تغرّنّكم الحياة الدنيا؛ فإنّها بالبلاء محفوفة، وبالفناء معروفة، وبالغدر موصوفة؛ وكلّ ما فيها إلى زوال، وهى بين أهلها دول وسجال؛ لا تدوم أحوالها، ولا يسلم من شرها نزّالها؛ بينا أهلها فى رخاء وسرور، إذا هم منها فى بلاء وغرور؛ أحوال مختلفة، وتارات متصرّفة؛ العيش فيها مذموم، والرخاء فيها لا يدوم. وإنما أهلها فيها أغراض مستهدفة ترميهم بسهامها، وتقصيهم بحمامها؛ وكلّ حتفه فيها مقدور، وحظّه فيها موفور. واعلموا عباد الله أنكم وما أنتم فيه من هذه الدنيا على سبيل من قد مضى ممن كان أطول منكم أعمارا، وأشدّ منكم بطشا وأعمر ديارا، وأبعد آثارا؛ فأصبحت أصواتهم هامدة وخامدة من بعد طول تقلّبها، وأجسادهم بالية، وديارهم خالية، وآثارهم عافية؛ استبدلوا بالقصور المشيّدة، والسّرر والنمارق الممهّدة، الصخور   [1] زيادة عن الإحياء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 253 والأحجار المسندة، فى القبور اللاطئة الملحدة؛ فمحلّها مقترب، وساكنها مغترب، بين أهل عمارة موحشين، وأهل محلّة متشاغلين؛ لا يستأنسون بالعمران، ولا يتواصلون تواصل الجيران والإخوان؛ على ما بينهم من قرب المكان والجوار، ودنوّ الدار. وكيف يكون بينهم تواصل وقد طحنهم بكلكله البلى، وأكلتهم الجنادل والثرى؛ وأصبحوا بعد الحياة أمواتا، وبعد غضارة العيش رفاتا؛ فجع بهم الأحباب، وسكنوا التراب، وظعنوا فليس لهم إياب. هيهات هيهات! كلّا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون؛ فكأن قد صرتم إلى ما صاروا إليه من البلى والوحدة فى دار المثوى، وارتهنتم فى ذلك المضجع، وضمّكم ذلك المستودع؛ فكيف بكم لو قد عاينتم الأمور، وبعثرت القبور، وحصّل ما فى الصدور؛ ووقفتم للتحصيل، بين يدى الملك الجليل؛ فطارت القلوب، لإشفاقها من سالف الذنوب؛ وهتكت عنكم الحجب والأستار، وظهرت منكم العيوب والأسرار؛ هنالك تجزى كلّ نفس ما كسبت. إن الله عز وجلّ يقول: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ؛ وقال تعالى: وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً . جعلنا الله وإيّاكم عاملين بكتابه، متّبعين لأوليائه، حتّى يحلّنا وإيّاكم دار المقامة من فضله، إنه حميد مجيد. ومما يلتحق بهذا الفصل ويدخل فيه، خطبة قطرىّ بن الفجاءة وسترد فى كلام البلغاء فى باب الكتابة. وقال بعضهم: يأيها الناس، اعملوا على مهل، وكونوا من الله على وجل، ولا تغترّوا بالأمل ونسيان الأجل؛ ولا تركنوا إلى الدنيا فإنها غدّارة خدّاعة، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 254 قد تزخرفت لكم بغرورها، وفتنتكم بأمانيها، وتزينت لخطّابها، فأصبحت كالعروس المجلوّة؛ العيون اليها ناظرة، والقلوب عليها عاكفة، والنفوس لها عاشقة. فكم من عاشق لها قتلت، ومطمئنّ إليها خذلت. فانظروا إليها بعين الحقيقة فإنّها دار كثرت بوائقها، وذمّها خالقها؛ جديدها يبلى، وملكها يفنى؛ وعزيزها يذلّ، وكثيرها يقلّ؛ وحيّها يموت، وخيرها يفوت. فاستيقظوا من غفلتكم، وانتبهوا من رقدتكم؛ قبل أن يقال: فلان عليل، أو مدنف ثقيل، فهل على الدواء من دليل، أو على الطبيب من سبيل؛ فيدعى لك الأطبّاء، ولا يرجى لك الشفاء؛ ثم يقال: فلان أوصى، ولماله أحصى؛ ثم يقال: قد ثقل لسانه فما يكلّم إخوانه، ولا يعرف جيرانه؛ وعرق عند ذلك جبينك، وتتابع أنينك، وثبت يقينك [1] ، وطمحت جفونك، وصدقت ظنونك؛ وتلجلج لسانك، وبكى إخوانك؛ وقيل لك: هذا ابنك فلان، وهذا أخوك فلان، ومنعت الكلام فلا تنطق؛ ثم حلّ بك القضاء، وانتزعت نفسك من الأعضاء، ثم عرج بها الى السماء؛ فاجتمع عند ذلك إخوانك، وأحضرت أكفانك؛ فغسّلوك وكفّنوك؛ فانقطع عوّادك، واستراح حسّادك؛ وانصرف أهلك إلى مالك، وبقيت مرتهنا بأعمالك. وقال بعض الحكماء: الأيام سهام، والناس أغراض، والدهر يرميك كلّ يوم بسهامه، ويتخرّمك بلياليه وأيّامه، حتّى يستغرق جميع أجزائك؛ فكم بقاء سلامتك مع وقوع الأيّام بك، وسرعة الليالى فى بدنك! لو كشف لك [2] عما أحدثت الأيام فيك من النقص لاستوحشت من كلّ يوم يأتى عليك، واستثقلت ممرّ الساعات بك؛ ولكنّ تدبير الله فوق تدبير الاعتبار؛ وبالسلوّ عن غوائل الدنيا وجد طعم لذّاتها، وإنّها   [1] كذا فى الإحياء. وفى الأصلين: «وثبت نفسك ... » . [2] كذا فى الإحياء. وفى الأصل: «لو كشفت عما ... » . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 255 لأمرّ من العلقم إذا عجمها الحكيم؛ وقد أعيت الواصف لعيوبها بظاهر أفعالها، وما تأتى به من العجائب أكثر مما يحيط به الواعظ. اللهم أرشدنا للصواب. وخطب عمر بن عبد العزيز رحمه الله فقال: أيها الناس، إنكم خلقتم لأمر إن كنتم تصدّقون [به [1]] فإنكم حمقى، وإن كنتم تكذّبون به إنكم لهلكى [2] ؛ إنما خلقتم للأبد، ولكنكم من دار الى دار تنقلون. عباد الله، إنكم فى دار لكم فيها من طعامكم غصص، ومن شرابكم شرق، لا تصفو نعمة تسرّون بها إلا بفراق أخرى تكرهون فراقها، فاعملوا لما أنتم صائرون إليه خالدون فيه. ثم غلبه البكاء ونزل. ذكر بيان الزهد وأقسامه وأحكامه فأمّا درجاته فقد قال الغزالىّ رحمه الله: إنها تتفاوت بحسب تفاوت قوّته على درجات ثلاث: الأولى وهى السفلى منها: أن يزهد فى الدنيا وهو لها مشته، وقلبه إليها مائل، ونفسه إليها ملتفتة ولكنّه يجاهدها ويكفّها، وهذا يسمّى التزهّد، وهو مبدأ الزهد فى حقّ من يصل الى درجة الزهد بالكسب والاجتهاد. والمتزهّد يذيب أوّلا نفسه ثم كسبه، والزاهد يذيب أوّلا كسبه ثم يذيب نفسه فى الطاعة لا فى الصبر على ما فارقه. والمتزهّد على خطر، فإنه ربما تغلبه نفسه وتجذبه شهوته فيعود إلى الدنيا وإلى الاستراحة بها فى قليل أو كثير. الثانية: الذى يترك الدنيا طوعا [3] لاستحقاره إياها بالإضافة إلى ما طمع فيه كالذى يترك درهما لأجل درهمين فإنّه لا يشقّ عليه ذلك وإن كان يحتاج   [1] زيادة عن الإحياء. [2] الذى فى الإحياء: «وان كنتم تكذبون به فإنكم هلكى» . [3] كذا فى الإحياء. وفى الأصل: «طاعة» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 256 إلى انتظار قليل. ولكن هذا الزاهد يرى لا محالة زهده ويلتفت إليه، كما يرى البائع المبيع ويلتفت إليه، فيكاد يكون معجبا بنفسه وبزهده، ويظنّ بنفسه أنّه ترك شيئا له قدر لما هو أعظم قدرا منه؛ وهذا أيضا نقصان. الثالثة وهى العليا: أن يزهد طوعا ويزهد فى زهده فلا يرى زهده، إذ لا يرى أنّه ترك شيئا إذ عرف أن الدنيا لا شىء، فيكون كمن ترك خزفة وأخذ جوهرة فلا يرى ذلك معاوضة ولا يرى نفسه تاركا شيئا. [والدنيا بالإضافة إلى الله ونعيم الآخرة أخسّ من خزفة بالإضافة إلى جوهرة [1]] ؛ فهذا هو الكمال فى الزهد، وسهبه كمال المعرفة. وأما أقسامه فمنها ما هو مضاف إلى المرغوب فيه والمرغوب عنه؛ فأما المرغوب فيه فهو على ثلاث درجات: الأولى وهى السفلى: أن يكون المرغوب فيه النجاة من النار ومن سائر الآلام كعذاب القبر ومناقشة الحساب وخطر الصراط وسائر ما بين يدى العبد من الأهوال كما وردت به الأخبار. وفى الخبر: «إن الرجل ليوقف فى الحساب حتى لو وردت مائة بعير عطاشا على عرقه لصدرت رواء» ؛ فهذا زهد الخائفين وكأنّهم رضوا بالعدم لو أعدموا فإنّ الخلاص من الألم يحصل بمجرّد العدم. الدرجة الثانية: أن يزهد رغبة فى ثواب الله ونعيمه واللّذّات الموعودة فى جنّته من الحور والقصور وغيره، وهذا زهد الراجين، فإن هؤلاء ما تركوا الدنيا قناعة بالعدم والخلاص من الألم بل طمعوا فى وجود دائم ونعيم سرمد لا آخر له. الدرجة الثالثة وهى العليا: ألا يكون له رغبة إلا فى الله وفى لقائه، فلا يلتفت قلبه إلى الالام ليقصد الخلاص منها، ولا إلى اللذّات ليقصد نيلها والظفر بها،   [1] زيادة من الإحياء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 257 بل هو مستغرق الهمّ بالله تعالى، وهو الموحّد الحقيقىّ الذى لا يطلب غير الله تعالى، لأنّ من طلب غير الله فقد عبده؛ وكلّ مطلوب معبود، وكلّ طالب عبد بالإضافة إلى مطلبه، وطلب غير الله من الشرك الخفىّ؛ وهذا زهد المحبّين وهم العارفون، لأنه لا يحبّ الله تعالى خاصّة إلا من عرفه؛ وكما أنّ من عرف الدينار والدرهم وعلم أنّه لا يقدر على الجمع بينهما لم يحبّ إلا الدينار، فكذلك من عرف الله تعالى وعرف لذّة النظر الى وجهه الكريم، وعرف أن الجمع بين تلك اللذّة وبين لذّة التنعّم بالحور العين والنظر الى نقش القصور وخضرة الأشجار غير ممكن، فلا يحبّ إلّا لذّة النظر ولا يؤثر غيره. قال: ولا تظنّن أن أهل الجنّة عند النظر إلى وجه الله تعالى يبقى للذّة الحور والقصور متّسع فى قلوبهم، بل تلك اللذّة بالإضافة إلى لذّة نعيم الجنّة كلذّة ملك الدنيا والاستيلاء على أطراف الأرض ورقاب الخلق بالإضافة إلى الاستيلاء على عصفور واللعب به؛ والطالبون لنعيم الجنة عند أهل المعرفة وأرباب القلوب كالصبىّ الطالب للّعب بالعصفور التارك للذّة الملك، وذلك لقصوره عن إدراك لذّة الملك لا لأن اللعب بالعصفور فى نفسه أعلى وألذّ من الاستيلاء بطريق الملك على كافة الخلق. وأمّا المرغوب عنه، فقد كثرت فيه الأقاويل. قال الغزالىّ رحمه الله: لعلها تزيد على مائة قول، وأشار إلى كلام محيط بالتفاصيل فقال: المرغوب عنه بالزهد له إجمال وتفصيل، ولتفصيله مراتب بعضها أشرح لآحاد الأقسام وبعضها أجمع للجمل. أما الإجمال فى الدرجة الأولى: فهو كلّ ما سوى الله فينبغى أن يزهد فيه حتّى يزهد فى نفسه أيضا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 258 والإجمال فى الدرجة الثانية: أن يزهد فى كل صفة للنفس فيها متعة، وهذا يتناول جميع مقتضيات الطبع من الشهوة والغضب والكبر والرياسة والمال والجاه وغير ذلك. وفى الدرجة الثالثة: أن يزهد فى المال والجاه وأسبابهما، إذ إليهما ترجع جميع حظوظ النفس. وفى الدرجة الرابعة: أن يزهد فى العلم والقدرة والدينار والدرهم [والجاه [1]] ، إذ الأموال وإن كثرت أصنافها فيجمعها الدينار والدرهم، والجاه وإن كثرت أسبابه فيرجع إلى العلم والقدرة. قال: وأعنى به كلّ علم وقدرة مقصودهما ملك القلوب؛ إذ معنى الجاه هو ملك القلوب والقدرة عليها، كما أن معنى المال ملك الأعيان والقدرة عليها. قال: فإن جاوزت هذا التفصيل إلى شرح وتفصيل أبلغ من هذا فتكاد تخرج ما فيه الزهد عن الحصر. وقد ذكر الله تعالى فى آية واحدة سبعة منها فقال: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا . ثم ردّه فى آية أخرى إلى خمسة فقال: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ . ثم ردّه فى موضع آخر إلى اثنين فقال: وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى ؛ فالهوى لفظ يجمع جميع حظوظ النفس فى الدنيا، فينبغى أن يكون الزهد فيه. قال: فالحاصل أن الزهد عبارة عن الرغبة عن حظوظ النفس كلّها.   [1] زيادة عن الإحياء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 259 وقال أبو سليمان الدارانىّ: سمعنا فى الزهد كلاما كثيرا، والزهد عندنا ترك كلّ شى يشغلك عن الله عز وجلّ، وقرأ قوله تعالى: إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ، قال: هو القلب الذى ليس فيه غير الله. فهذا بيان أقسامه بالإضافة إلى المرغوب فيه وعنه. وأما أحكامه فتنقسم إلى فرض ونفل وسلامة. فالفرض هو الزهد فى الحرام، والنفل هو الزهد فى الحلال، والسلامة هو الزهد فى الشبهات. فهذه درجاته وأقسامه وأحكامه على سبيل الاختصار. ذكر بيان تفصيل الزهد فيما هو من ضروريات الحياة قال الغزالىّ رحمه الله: اعلم أنّ ما الناس منهمكون فيه ينقسم إلى فضول وإلى مهمّ؛ فالفضول كالخيل المسوّمة- إذ غالب الناس إنما يقتنيها للترفّه بركوبها وهو قادر على المشى- وغير ذلك مما لا ينحصر. ثم حصر المهمّ الضرورىّ فتميّز ما عداه أنّه فضول. قال: والمهمّ أيضا يتطرّق إليه فضول فى مقداره وجنسه [1] وأوقاته على ما يشرحه من قوله. قال: والمهمّات ستّة أمور، وهى: المطعم، والملبس، والمسكن وأثاثه، والمنكح، والمال، والجاه يطلب لأغراض. فالمهمّ الأوّل المطعم. ولا بدّ للإنسان من قوت حلال يقيم صلبه، ولكن له طول وعرض ووقت. فأما طوله فبالإضافة إلى جملة العمر فإن من يملك طعام يومه قد لا يقنع به، وهو لا يقصر إلا بقصر الأمل، وأقلّ درجات الزهد فيه الاقتصار على قدر دفع الجوع عند شدّته وخوف المرض. ومن هذا حاله فإذا استقل بما تناوله لم يدّخر [2] من غدائه لعشائه؛ وهذه الدرجة العليا.   [1] كذا فى الإحياء. وفى الأصل: «وحسنه ... » . [2] كذا فى الإحياء. وفى الأصل: «ولم يدخر» بالواو. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 260 والثانية: أن يدّخر لشهر أو أربعين يوما. والثالثة: أن يدّخر لسنة فقط، وهذه رتبة ضعفاء الزهّاد. ومن ادّخر لأكثر من ذلك فتسميته زاهدا محال؛ لأنّ من أمّل بقاء أكثر من سنة فهو طويل الأمل جدّا فلا يتمّ منه الزهد إلا إذا لم يكن له كسب ولم يرض لنفسه الأخذ من أيدى الناس، كداود الطانىّ فإنه ورث عشرين دينارا فأمسكها وأنفقها عشرين سنة، فهذا لا يضادّ الزهد إلا عند من جعل التوكل شرط الزهد. وأمّا عرضه فبالإضافة الى المقدار، وأقل درجاته فى اليوم والليله نصف رطل، وأوسطه رطل، وأعلاه مدّ- وهو ما قدّره الله تعالى فى إطعام المساكين فى الكفّارة- وما وراء ذلك فهو اتساع واشتغال بالبطن. ومن لم يقدر على الاقتصار على مدّ لم يكن له من الزهد فى البطن نصيب. وأمّا بالإضافة إلى الجنس فأقلّه ما يقوت وهو الخبز من النّخالة، وأوسطه خبز الشعير والذرة، وأعلاه خبز البرّ غير منخول؛ فاذا ميّزت النّخالة منه وصار حوّارى فقد دخل فى التنعّم وخرج عن آخر أبواب الزهد فضلا عن أوائله. وأمّا الأدم، فأقلّه الملح أو البقل والخلّ، وأوسطة الزيت أو يسير من الأدهان، وأعلاه اللحم وذلك فى الأسبوع مرّة أو مرّتين؛ فإن صار دائما أو أكثر من مرّتين فى الأسبوع خرج من آخر أبواب الزهد فلم يكن صاحبه زاهدا فى البطن أصلا. وأمّا بالإضافة إلى الوقت فأقلّه فى اليوم والليلة مرّة وهو أن يكون صائما ثم يفطر فى وقت الإفطار؛ وأوسطه أن يصوم ويشرب ليلة ولا يأكل، ويأكل ليلة ولا يشرب؛ وأعلاه أن ينتهى إلى أن يطوى ثلاثة أيام وأسبوعا وما زاد عليه. وانظر الى أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فى كيفيّة زهدهم فى المطاعم وتركهم الأدم واقتصارهم على ما يمسك الرمق. قالت عائشة أمّ المؤمنين رضى الله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 261 عنها: كانت تأتى علينا أربعون ليلة وما يوقد فى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مصباح ولا نار. قيل لها: فبم كنتم تعيشون؟ قالت: بالأسودين التمر والماء. وجاء أهل قباء إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم بشربة من لبن مشوبة بعسل، فوضع القدح من يده وقال: «أما إنّى لست أحرّمه ولكنّى أتركه تواضعا لله تعالى» . وأتى عمر بن الخطّاب رضى الله عنه بشربة من ماء بارد وعسل فى يوم صائف فقال: اعزلوا عنّى حسابها. وقال يحيى بن معاذ الرازىّ. الزاهد الصادق قوته ما وجد، ولباسه ما ستر، ومسكنه حيث أدرك؛ الدنيا سجنه، والقبر مضجعه، والخلوة مجلسه، والاعتبار فكرته، والقرآن حديثه، والربّ أنيسه، والذكر رفيقه، والزهد قرينه، والحزن شأنه، والحياء شعاره، والجوع إدامه، والحكمة كلامه، والتراب فراشه، والتقوى زاده، والصمت غنيمته، والصبر معتمده، والتوكّل حسبه، والعقل دليله، والعبادة حرفته، والجنّة مبلغه إن شاء الله تعالى. المهم الثانى الملبس. وأقلّ درجاته ما يدفع الحرّ والبرد ويستر العورة، وهو كساء يتغطّى به؛ وأوسطه قميص وقلنسوة ونعلان؛ وأعلاه أن يكون معه منديل وسراويل. وما جاوز هذا من حيث المقدار فهو مجاوز حدّ الزهد. وشرط الزهد ألّا يكون له ثوب يلبسه اذا غسل ثوبه بل يلزمه القعود فى البيت؛ فإذا صار صاحب قميصين وسراويلين ومنديلين فقد خرج من جميع أبواب الزهد. هذا من حيث المقدار. وأما الجنس، فأقلّه المسوح الخشنة، وأوسطه الصوف الخشن، وأعلاه القطن الغليظ. وأما من حيث الوقت، فأقصاه ما يستر سنة، وأقلّه ما يبقى يوما، وقد رقع بعضهم ثوبه بورق الشجر [وإن كان يتسارع الجفاف إليه [1]] ؛ وأوسطه ما يتماسك   [1] زيادة من الإحياء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 262 عليه شهرا وما يقاربه. فطلب ما يبقى أكثر من سنة خروج إلى طول الأمل، وهو مضادّ للزهد إلا إذا كان المطلوب خشونته وقد يتبع ذلك قوّته ودوامه. فمن وجد زيادة من ذلك فينبغى أن يتصدّق به؛ فإن أمسكه لم يكن زاهدا بل كان محبّا للدنيا. ولينظر إلى أحوال الأنبياء صلى الله عليهم والصحابة رضى الله عنهم كيف تركوا الملابس. قال أبو بردة: أخرجت لنا عائشة رضى الله عنها كساء ملبّدا وإزارا غليظا فقالت: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فى هذين. وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يحبّ المتبذّل الذى لا يبالى ما لبس» . وفى الخبر: «ما من عبد لبس ثوب شهرة إلا أعرض الله عنه حتى ينزعه وإن كان عنده حبيبا» . واشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبا بأربعة دراهم وكان إزاره أربعة أذرع ونصفا، واشترى سراويل بثلاثة دراهم، وكان يلبس شملتين بيضاوين من صوف وكانت تسمّى حلّة لأنهما ثوبان من جنس واحد. وربما كان يلبس بردين يمانيين أو سحوليّين. ولبس صلى الله عليه وسلم يوما واحدا ثوبا سيراء [1] من سندس قيمته مائتا درهم، فكان أصحابه يلمسونه ويقولون: يا رسول الله، أنزل هذا عليك من الجنّة! تعجّبا، وكان قد أهداه إليه المقوقس ملك الإسكندرية، فأراد أن يكرمه بلبسه ثم نزعه وأرسل به إلى رجل من المشركين وصله به، ثم حرّم لبس الحرير والديباج. وقد صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى خميصة [2] لها علم فلمّا سلّم قال: «شغلنى النظر الى هذه اذهبوا بها الى أبى جهم وأتونى بأنجبانيّته [3] » (يعنى كساءه) فاختار لبس الكساء على الثوب الناعم. وكان شراك نعله قد أخلق فأبدل بسير جديد فصلّى   [1] السيراء (بكسر السين وفتح التحتية ممدودا) : ضرب من البرود فيه خطوط صفر. [2] الخميصة: ثوب خز أو صوف معلم. [3] الأنبجانىّ: نسبة الى منبج (كمجلس) موضع بالشأم، يقال فى النسبة اليه منبجانى وأنبجانى بفتح بائهما على غير قياس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 263 فيه؛ فلما سلّم قال: «أعيدوا الشّراك الخلق وانزعوا هذا الجديد فإنّى نظرت إليه فى الصلاة» . وعن جابر رضى الله عنه قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على فاطمة رضى الله عنها وهى تطحن بالرحا وعليها كساء من وبر الإبل [1] ، فلما نظر إليها بكى وقال: «يا فاطمة تجرّعى مرارة الدنيا لنعيم الأبد» . فأنزل الله عليه (ولسوف يعطيك ربّك فترضى) . [وقد أوصى أمته عامّة باتباعه إذ قال: «من أحبنى فليستنّ بسنّتى» . وقال: «عليكم بسنتى وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدى عضّوا عليها بالنواجذ» . وقال الله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [2]] . وأوصى رسول صلى الله عليه وسلم عائشة رضى الله عنها خاصة وقال لها: «إن أردت اللّحوق بى فإيّاك ومجالسة الأغنياء ولا تنزعى ثوبا حتى ترقعيه» . وعدّ على قميص عمر رضى الله عنه اثنتان [3] وعشرون رقعة بعضها من أدم. وفى الخبر: «من ترك ثوب جمال وهو يقدر عليه تواضعا لله تعالى وابتغاء لوجهه كان حقّا على الله أن يدّخر له من عبقرىّ الجنّة فى أتخات الياقوت» . وقال عمر رضى الله عنه: اخلولقوا واخشوشنوا، وإيّاكم وزىّ العجم كسرى وقيصر. وقال الثورىّ وغيره: البس من الثياب ما لا يشهّرك عند العلماء ولا يحقّرك عند الجهّال. وقال بعضهم: قوّمت ثوبى سفيان ونعليه بدرهم وأربعة دوانيق. والأخبار فى التقلّل من اللباس كثيرة فلا نطوّل بسردها. المهم الثالث المسكن. وللزهد فيه أيضا ثلاث درجات، أعلاها ألّا يطلب موضعا خاصا لنفسه فيقنع بزوايا المساجد كأصحاب الصّفّة، وأوسطها أن يطلب   [1] كذا فى الإحياء. وفى الأصلين: «من أجلة الابل ... » . [2] زيادة عن الإحياء. [3] كذا بالأصل. وفى الإحياء (ج 4 ص 223 طبع بلاق) : «اثنتا عشرة رقعة» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 264 موضعا خاصّا لنفسه مثل كوخ مبنىّ من سعف أو خصّ أو ما يشبهه، وأدناها أن يطلب حجرة مبنيّة إما بشراء أو إجارة. فإن كان قدر سعة المسكن على قدر حاجته من غير زيادة ولم تكن فيه زينة لم يخرجه هذا القدر عن آخر درجات الزهد. فإن طلب التشييد والتجصيص والسعة وارتفاع السقف أكثر من ستة أذرع فقد جاوز بالكليّة حدّ الزهد فى المسكن. قال: والغرض من المسكن دفع المطر والبرد ودفع الأعين والأذى. وأقلّ الدرجات فيه معلوم، وما زاد عليه فهو من الفضول، والفضول كله من الدنيا، وطالب الفضول والساعى له بعيد من الزهد. وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا أراد الله بعبد شرّا أهلك ماله فى الماء والطين» . وقال الحسن: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يضع لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة. وقال عبد الله بن عمر رضى الله عنهما: مرّ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نعالج خصّا فقال: «ما هذا» قلنا: خصّ لنا قد وهى؛ قال: «أرى الأمر أعجل من ذلك» . واتخذ نوح عليه السلام بيتا من قصب؛ فقيل له: لو بنيت! فقال: هذا كثير لمن يموت. وقال الحسن: دخلنا على صفوان بن محرز [1] وهو فى بيت من قصب قد مال عليه؛ فقيل له: لو أصلحته! فقال: كم من رجل قد مات وهذا قائم على حاله. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من بنى فوق ما يكفيه كلّف أن يحمله يوم القيامة» . وفى الخبر: «كلّ نفقة للعبد يؤجر عليها إلا ما أنفقه فى الماء والطين» . وجاء فى تفسير قوله تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً أنه الرياسة والتطاول فى البنيان. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلّ بناء وبال على صاحبه يوم القيامة إلا ما أكنّ من حرّ وبرد» . ونظر عمر رضى الله عنه   [1] كذا فى كتابى الخلاصة والتهذيب فى أسماء الرجال. وفى الأصلين: «محيريز» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 265 فى طريق الشأم الى صرح قد بنى بجصّ وآجرّ، فكبّر وقال: ما كنت أظنّ أن يكون فى هذه الأمّة من يبنى بنيان هامان لفرعون. وكان ارتفاع بناء السلف قامة وبسطة. قال الحسن: كنت اذا دخلت بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضربت بيدى الى السقف. وقال عمرو بن دينار: اذا علىّ العبد البناء فوق ستة أذرع ناداه ملك: الى أين يا أفسق الفاسقين. وقال الفضيل: إنّى لا أعجب ممن بنى وترك ولكنّى أعجب ممن نظر اليه ولم يعتبر. وقال ابن مسعود: يأتى قوم يرفعون الطين، ويضعون الدين، ويستعملون البراذين، يصلّون الى قبلتكم، ويموتون على غير دينكم. المهم الرابع أثاث البيت. وللزهد فيه أيضا درجات، أعلاها حال عيسى عليه السلام إذ كان لا يصحبه إلا مشط وكوز؛ فرأى إنسانا يمشط لحيته بأصابعه؛ فرمى بالمشط. ورأى آخر يشرب من النهر بكفّيه فرمى بالكوز. وهذا حكم كلّ أثاث فإنه إنما يراد لمقصود فإذا استغنى عنه فهو وبال فى الدنيا والآخرة. وما لا يستغنى عنه فيقتصر فيه على أقلّ الدرجات وهو الخزف فى كلّ ما يكفى فيه الخزف، ولا يبالى أن يكون مكسور الطرف اذا كان المقصود يحصل به. وأوسطها أن يكون له أثاث بقدر الحاجة صحيح فى نفسه، ولكن يستعمل الآلة الواحدة فى مقاصد كالذى معه قصعة يأكل فيها ويشرب فيها ويحفظ المتاع فيها. وكان السلف يستحبّون استعمال آلة واحدة فى أشياء للتخفيف. وأعلاها أن يكون له بعدد كلّ حاجة آلة من الجنس النازل الخسيس؛ فإن زاد فى العدد أو فى نفاسة الجنس خرج من جميع أبواب الزهد وركن الى طلب الفضول. ولينظر الى سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه رضى الله عنهم. قالت عائشة رضى الله عنها: كان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 266 ضجاع [1] رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى ينام عليه وسادة من أدم حشوها ليف. وقال الفضيل: ما كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم إلّا عباءة مثنيّة ووسادة حشوها ليف. وروى أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نائم على سرير مرمول [2] بشريط، فجلس فرأى أثر السرير فى جنبه عليه السّلام فدمعت عينا عمرّ. فقال له النبىّ صلى الله عليه وسلم: «ما الذى أبكاك يابن الخطاب» ؟ قال: ذكرت كسرى وقيصر وما هما فيه من الملك وذكرتك وأنت حبيب الله وصفيّه ورسوله نائم على سرير مرمول بالشريط! فقال صلى الله عليه وسلم: «أما ترضى يا عمر أن تكون لهما الدنيا ولنا الآخرة» ! قال: بلى يا رسول الله. قال: «فذلك كذلك» . ودخل رجل على أبى ذرّ فجعل يقلّب بصره فى بيته فقال: يا أبا ذرّ، ما أرى فى بيتك متاعا ولا غير ذلك من الأثاث! فقال: إن لنا بيتا نوجّه إليه صالح متاعنا. فقال: إنه لا بدّ لك من متاع ما دمت هاهنا. فقال: إن صاحب المنزل لا يدعنا فيه. ولما قدم عمير بن سعد أمير حمص على عمر قال له: ما معك من الدنيا؟ فقال: معى عصاى أتوكّأ عليها وأقتل بها حيّة إن لقيتها، ومعى جرابى أحمل فيه طعامى، ومعى قصعتى آكل فيها وأغسل فيها رأسى وثوبى، ومعى مطهرتى أحمل فيها شرابى ووضوئى للصلاة، فما كان بعد هذا من   [1] كذا فى الأصلين والإحياء، ولم نجده فى كتب اللغة التى بين أيدينا. وفى لسان العرب ونهاية ابن الأثير «ضجعة» وقالا فى تفسيره: «الضجعة بالكسر من الاضطجاع وهو النوم كالجلسة من الجلوس وبفتحها المرة الواحدة، والمرادّ ما كان يضطجع عليه فيكون فى الكلام مضاف محذوف تقديره كانت ذات ضجعته أو ذات اضطجاعه فراش أدم ... » . [2] الرمل: النسج، والسرير المرمول هو الذى ينسج له شريط ويجعل ظهرا له (عن القاموس) . وقد ورد الحديث فى نهاية ابن الأثير وفى لسان العرب: «واذا هو جالس على رمال سرير» وفى رواية أخرى «على رمال حصير» . والرمال كحطام وركام ما رمل أى نسج. والمراد أن هذا السرير قد نسج وجهه بالسعف ولم يكن عليه وطاء سوى الحصير. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 267 الدنيا فهو تبع لما معى. فقال عمر: صدقت، رحمك الله. وقدم رسول الله صلى الله وسلم من سفر، فدخل على فاطمة رضى الله عنها فرأى على باب منزلها سترا وفى يديها قلبين من فضّة فرجع. فدخل عليها أبو رافع وهى تبكى، فأخبرته برجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسأله أبو رافع فقال: «من أجل الستر والسّوارين» : فأرسلت بهما بلالا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: قد تصدّقت بهما فضعهما حيث ترى. فقال: «اذهب فبعه وادفعه إلى أهل الصّفّة» . فباع القلبين بدرهمين ونصف وتصدّق بهما عليهم. فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «بأبى أنت قد أحسنت» . وقال الحسن: أدركت سبعين من الأخيار ما لأحدهم إلا ثوبه، وما وضع أحدهم بينه وبين الأرض ثوبا قطّ، كان إذا أراد النوم باشر الأرض بجسمه وجعل ثوبه فوقه. المهم الخامس المنكح. قال الغزالىّ: وقد قال قائلون: لا معنى للزهد فى أصل النكاح ولا فى كثرته؛ وإليه ذهب سهل بن عبد الله وقال: قد حبّب إلى سيّد الزاهدين النساء فكيف نزهد فيهنّ! ووافقه ابن عيينة، وقال: كان أزهد الصحابة علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه وكان له أربع نسوة وبضع عشرة سرّيّة. قال الغزالىّ: والصحيح ما قاله أبو سليمان الدارانىّ إذ قال: كلّ ما شغلك عن الله من أهل ومال وولد فهو عليك مشئوم. والمرأة قد تكون شاغلا عن الله. قال: وكشف الحقّ فيه أنّه قد تكون العزوبة أفضل فى بعض الأحوال فيكون ترك النكاح من الزهد. وحيث يكون النكاح أفضل لدفع الشهوة الغالبة فهو واجب فكيف يكون تركه من الزهد! وإن لم يكن عليه آفة فى تركه ولا فعله ولكن ترك النكاح احترازا عن ميل القلب إليهنّ والأنس بهنّ بحيث يشتغل عن ذكر الله فترك ذلك من الزهد. وإن علم أن المرأة لا تشغله عن ذكر الله ولكن ترك ذلك احترازا من لذّة النظر والمضاجعة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 268 والمواقعة فليس هذا من الزهد أصلا؛ فإن الولد مقصود لبقاء نسله، وتكثير أمّة محمد صلى الله عليه وسلم من القربات. واللذّة التى تلحق الإنسان فيما هو من ضرورة الوجود لا تضرّه إذا لم تكن هى المقصد والمطلب؛ وهذا كمن ترك أكل الخبز وشرب الماء احترازا من لذّة الأكل والشرب، وليس ذلك من الزهد فى شئ؛ لأن فى ترك ذلك فوات بدنه، فكذلك فى ترك النكاح انقطاع نسله؛ فلا يجوز أن يترك النكاح زهدا فى لذّته من غير آفة أخرى. قال: وأكثر الناس تشغلهم كثرة النسوان، فينبغى أن يترك الأصل إن كان يشغله، وإن لم يشغله وكان يخاف من أن تشغله الكثرة منهن أو جمال المرأة فلينكح واحدة غير جميلة وليراع قلبه فى ذلك. قال أبو سليمان: الزهد فى النساء أن تختار المرأة الدّون أو اليتيمة على المرأة الجميلة والشريفة. وقال الجنيد: أحبّ للمريد المبتدى ألّا يشغل قلبه بثلاث وإلّا تغيّر حاله: التكسّب، وطلب الحديث، والتزوّج. فقد ظهر أن لذّة النكاح كلذّة الأكل والشرب، فما شغل عن الله تعالى فهو محذور فيهما جميعا. المهم السادس: ما يكون وسيلة إلى هذه الخمسة وهو المال والجاه. [أمّا الجاه [1]] فمعناه ملك القلوب بطلب محلّ فيها ليتوصّل به إلى الاستعانة فى الأغراض والأعمال. وكلّ من لا يقدر على القيام بنفسه فى جميع حاجاته وافتقر إلى من يخدمه افتقر إلى جاه لا محالة فى قلب خادمه؛ لأنه إن لم يكن له عنده محلّ وقدر لم يقم بخدمته. وقيام القدر والمحلّ فى القلوب هو الجاه. قال: وإنما يحتاج إلى المحلّ فى القلوب إما لجلب نفع أو لدفع ضرر أو لخلاص من ظلم. فأمّا النفع فيغنى عنه المال؛ فإنّ من بخدم بأجرة خدم وإن لم يكن عنده للمستأجر قدر، وإنما يحتاج إلى الجاه فى قلب من يخدم   [1] الزيادة عن الإحياء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 269 بغير أجرة. وأما دفع الضرر فيحتاج لأجله إلى الجاه فى بلد لا يكمل فيه العدل أو يكون بين جيران يظلمونه فلا يقدر على دفع شرّهم إلا بمحلّ له فى قلوبهم أو محلّ له عند السلطان. وقدر الجاه فيه لا ينضبط. والخائض فى طلب الجاه سالك طريق الهلاك. بل حق الزاهد ألّا يسعى لطلب المحل فى القلوب أصلا؛ فإن اشتغاله بالدين والعبادة يمهّد له من المحلّ فى القلوب ما يدفع به عنه الأذى ولو كان بين الكفّار فكيف بين المسلمين. وأمّا التوهّمات والتقديرات التى تحوج [1] إلى زيادة فى الجاه على الحاصل بغير كسب فهى أوهام كاذبة؛ إذ من طلب الجاه لم يخل عن أذى فى بعض الأحوال؛ فعلاج ذلك بالاحتمال والصبر أولى من علاجه بطلب الجاه. فإذا طلب المحلّ فى القلوب لا رخصة فيه أصلا، واليسير منه داع إلى الكثير، وضراوته أشدّ من ضراوة الخمر، فليحترز من قليله وكثيره. وأمّا المال، فهو ضرورىّ فى المعيشة أعنى القليل منه. فإن كان كسوبا، فإذا اكتسب حاجة يومه فينبغى أن يترك الكسب، هذا شرط الزهد؛ فإن جاوز ذلك إلى ما يكفيه أكثر من سنة فقد خرج عن حدّ ضعفاء الزهّاد وأقويائهم جميعا. وإن كانت له ضيعة ولم تكن له قوّة يقين فى التوكّل فأمسك منها مقدار ما يكفى ريعه لسنة واحدة فلا يخرج بهذا القدر عن الزهد بشرط أن يتصدّق بكلّ ما يفضل عن كفاية سنة؛ ولكن يكون من ضعفاء الزّهاد. قال: وأمر المنفرد فى جميع ذلك أخف من أمر المعيل. وقد قال أبو سليمان: لا ينبغى أن يرهق الرجل أهله إلى الزهد بل يدعوهم إليه؛ فإن أجابوا وإلّا تركهم   [1] كذا فى الإحياء. وفى الأصل: «تخرج ... » . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 270 وفعل بنفسه ما شاء. قال: والذى يضطرّ الإنسان إليه من الجاه والمال ليس بمحدود؛ فالزائد منه على الحاجة سمّ قاتل، والاقتصار على قدر الضرورة دواء نافع، وما بينهما درجات متشابهة، فما يقرب من الزيادة وإن لم يكن سمّا قاتلا فهو مضرّ، وما يقرب من الضرورة فهو وإن لم يكن دواء نافعا لكنّه قليل الضرر. والسمّ محظور شربه، والدواء فرض تناوله، وما بينهما مشتبه أمره. فمن احتاط فإنما يحتاط لنفسه، ومن تساهل فإنما يتساهل على نفسه، ومن استبرأ لدينه وترك ما يريبه إلى ما لا يريبه وردّ نفسه إلى مضيق الضرورة فهو الآخذ بالحزم وهو من الفرقة الناجية لا محالة. والمقتصر على [قدر [1]] الضرورة والمهمّ لا يجوز أن ينسب إلى الدنيا، بل ذلك القدر من الدنيا هو عين الدين لأنه شرط الدين، والشرط من جملة المشروط. وقد روى أن إبراهيم الخليل عليه السلام أصابته حاجة فذهب إلى صديق له يستقرضه شيئا فلم يقرضه فرجع مهموما. فأوحى الله تعالى إليه: لو سألت خليلك لأعطاك. فقال: يا ربّ، عرفت مقتك للدنيا فخفت أن أسألك منها شيئا. فأوحى الله إليه: ليس الحاجة من الدنيا. فعلى هذا يكون قدر الحاجة من الدين وما وراء ذلك وبال فى الآخرة؛ وهو أيضا فى الدنيا كذلك، يعرفه من يخبر أحوال الأغنياء وما عليهم من المحنة فى كسب المال وجمعه وحفظه واحتمال الذّلّ فيه؛ وغاية سعادته به أن يسلم لورثته فيأكلوه، وربما يكونون أعداء له، وقد يستعينون به على المعاصى فيكون هو معينا لهم عليها. ولذلك شبّه جامع الدنيا ومتّبع الشهوات بدود القزّ إذ لا يزال ينسج على نفسه حيّا [2] ثم يروم الخروج فلا يجد مخلصا فيموت ويهلك بسبب عمله الذى عمله بنفسه؛ فكذلك كلّ من اتبع شهوات الدنيا. قال الشاعر:   [1] الزيادة عن الإحياء. [2] كذا فى الإحياء. وفى الأصل: «ينسج على نفسه حتى يقتلها ثم يروم» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 271 كدود كدود القزّ ينسج دائما ... ويهلك غمّا وسط ما هو ناسجه قال: ولما انكشف لأولياء الله تعالى أنّ العبد مهلك نفسه بأعماله واتبّاعه هوى نفسه إهلاك دود القزّ نفسه رفضوا الدنيا بالكلّيّة؛ حتى قال الحسن: رأيت سبعين بدريّا كانوا فيما أحلّ الله لهم أزهد منكم فيما حرّم الله عليكم. وفى لفظ آخر: كانوا بالبلاء أشدّ فرحا منكم بالخصب والرخاء، لو رأيتموهم قلتم: مجانين، ولو رأوا خياركم قالوا: ما لهؤلاء من خلاق، ولو رأوا شراركم قالوا: ما يؤمن هؤلاء بيوم الحساب. وكان أحدهم يعرض له المال الحلال فلا يأخذه ويقول: أخاف أن يفسد علىّ قلبى. فمن كان له قلب فهو لا محالة يخاف من فساده، والذين أمات حبّ الدنيا قلوبهم فقد أخبر الله عنهم فقال: وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ ؛ وقال تعالى: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ؛ وقال تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ؛ فأحال ذلك كلّه على الغفلة وعدم الفكر. وقال بعضهم: ما من يوم ذرّ شارقه إلا وأربعة أملاك ينادون فى الآفاق بأربعة أصوات: ملكان بالمشرق وملكان بالمغرب يقول أحدهم بالمشرق: يا باغى الخير هلّم، ويا باغى الشرّ أقصر. ويقول الآخر: اللهم أعط منفقا خلفا، وأعط ممسكا تلفا. ويقول اللذان بالمغرب أحدهما: لدوا للموت وابنوا للخراب؛ ويقول الآخر: كلوا وتمتّعوا لطول الحساب. ذكر بيان علامات الزهد قال الغزالىّ رحمه الله تعالى: اعلم أنه قد يظنّ أنّ تارك المال زاهد، وليس كذلك؛ فإن ترك المال وإظهار الخشونة سهل على من أحب المدح بالزهد. فكم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 272 من الرّهابين [1] من ردّوا أنفسهم كل يوم الى نزر يسير من الطعام ولازموا ديّرا لا باب له، وإنما مسرّة أحدهم معرفة الناس حاله ونظرهم إليه ومدحهم له؛ فذلك لا يدلّ على الزهد دلالة قاطعة؛ بل لا بدّ من الزهد فى المال والجاه جميعا حتى يكمل الزهد فى [2] جميع حظوظ النفس من الدنيا؛ بل قد يدّعى جماعة الزهد مع لبس الأصواف الفاخرة والثياب الرفيعة كما قال الخوّاص فى وصف المدّعين إذ قال: وقوم ادّعوا الزهد ولبسوا الفاخر من الثياب يموّهون بذلك على الناس ليهدى إليهم مثل لباسهم لئلّا ينظر إليهم بالعين التى ينظر بها الى الفقراء فيحقروا فيعطوا كما يعطى المساكين ويحتجّون لأنفسهم باتّباع العلم وأنّهم على السنّة وأنّ الأشياء داخلة إليهم وهم خارجون منها، وإنما يأخذون [ما يأخذون [3]] بعلّة غيرهم؛ هذا إذا طولبوا بالحقائق وألجئوا إلى المضايق. وكلّ هؤلاء أكلة الدنيا بالدين لم يعنوا بتصفية أسرارهم ولا بتهذيب أخلاق نفوسهم، فظهرت عليهم صفاتهم فغلبتهم فادّعوها حالا لهم، فهم مائلون إلى الدنيا متبعون للهوى. هذا كلام الخوّاص. قال الغزالىّ رحمه الله: فإذا معرفة الزهد أمر مشكل، [بل حال الزهد على الزاهد مشكل [2]] ؛ فينبغى أن يعوّل فى باطنه على ثلاث علامات: العلامة الأولى: ألّا يفرح بموجود، ولا يحزن على مفقود، كما قال الله تعالى: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ ، بل ينبغى أن يكون بالضدّ من ذلك وهو أن يحزن لوجود المال ويفرح لفقده. العلامة الثانية: أن يستوى عنده ذامّه ومادحه؛ فالأولى علامة الزهد فى المال، والثانية علامة الزهد فى الجاه.   [1] الرهابين: جمع رهبان وهو الكثير الخوف. [2] كذا فى الإحياء. وفى الأصل: «حتى يكمل الزهد بل فى جميع ... الخ» . [3] زيادة من الإحياء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 273 العلامة الثالثة: أن يكون أنسه بالله عز وجل، والغالب على قلبه حلاوة الطاعة، إذ لا يخلو القلب من حلاوة المحبّة، إما محبّة الدنيا وإما محبّة الله، وهما فى القلب كالماء والهواء فى القدح؛ فالماء إذا دخل خرج الهواء ولا يجتمعان؛ وكلّ من أنس بالله اشتغل به ولم يشتغل بغيره. وقد قال أهل المعرفة: إذا تعلّق الإيمان بظاهر القلب أحبّ الدنيا والآخرة جميعا وعمل لهما، وإذا بطن الإيمان فى سويداء القلب وباشره أبغض الدنيا ولم ينظر إليها ولم يعمل لها. وقد ورد فى دعاء آدم عليه السلام: اللهمّ إنّى أسألك إيمانا يباشر قلبى. وقال أبو سليمان: من شغل بنفسه شغل عن الناس، وهذا مقام العاملين. ومن شغل بربّه شغل عن نفسه، وهذا مقام العارفين. والزاهد لا بدّ أن يكون فى أحد هذين المقامين. وبالجملة فعلامة الزهد استواء الفقر والغنى والعزّ والذّلّ والمدح والذمّ، وذلك لغلبة الأنس بالله. ويتفرّع عن هذه العلامات علامات أخر مثل أن يترك الدنيا ولا يبالى من أخذها. وقيل: علامته أن يترك الدنيا كما هى فلا يقول: أبنى رباطا أو أعمر مسجدا؛ وهذا من كلام الأستاذ أبى علىّ الدقّاق. وقال ابن خفيف: علامته وجود الراحة فى الخروج من الملك. وقال الجنيد: علامته خلوّ القلب عمّا خلت منه اليد. وقال أحمد بن حنبل وسفيان: علامة الزهد قصر الأمل. وقال رجل ليحيى بن معاذ: متى أدخل حانوت التوكّل وألبس برد الزهد وأقعد مع الزاهدين؟ فقال: إذا صرت من رياضتك لنفسك فى السرّ إلى حدّ لو قطع الله عنك الرزق ثلاثة أيام لم تضعف فى نفسك؛ فأمّا ما لم تبلغ هذه الدرجة فجلوسك على بساط الزاهدين جهل ثم لا آمن عليك أن تفتضح. قالوا: ولا يتمّ الزهد إلا بالتوكّل؛ فلنذكر التوكّل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 274 ذكر ما ورد فى التوكل من فضيلته وحقيقته أمّا فضيلته فقد قال الله تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ، وقال الله تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ . وقال تعالى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ . وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ؛ وناهيك بذلك مقاما. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أريت الأمم فى الموسم فرأيت أمّتى قد ملئوا السهل والجبل فأعجبتنى كثرتهم وهيئتهم فقيل لى أرضيت قلت نعم قال ومع هؤلاء سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب قيل من هم يا رسول الله قال هم الذين لا يكتوون ولا يتطيّرون ولا يسترقون وعلى ربّهم يتوكّلون» . وقال صلّى الله عليه وسلم: «من انقطع إلى الله عز وجلّ كفاه الله تعالى مئونة رزقه [1] من حيث لا يحتسب ومن انقطع الى الدنيا وكله الله اليها» . وأمّا حقيقة التوكل فقد قال الغزالىّ رحمه الله: التوكّل مشتقّ من الوكالة يقال: وكل أمره إلى فلان أى فوّضه إليه واعتمد عليه [فيه [2]] . ويسمّى الموكول [3] إليه وكيلا، ويسمّى المفوّض اليه متّكلا عليه ومتوكّلا عليه مهما [4] اطمأنت إليه نفسه ووثق به ولم يتّهمه فيه [بتقصيره ولم يعتقد فيه عجزا ولا قصورا [5]] . ثم قال بعد أن ضرب لذلك أمثلة يطول شرحها: واعلم أن حالة التوكّل فى القوّة والضعف ثلاث درجات: الأولى: أن يكون حاله فى حقّ الله تعالى والثقة بكفالته وعنايته كحاله فى الثقة بالوكيل.   [1] فى الإحياء (ج 4 ص 242) : «كفاه الله كل مئونة ورزقه ... » . [2] الزيادة عن الإحياء. [3] كذا فى الإحياء. وفى الأصل: «الموكل اليه ... » . [4] كذا فى الأصل والإحياء. ولعلها: «ما اطمأنت ... » . [5] زيادة عن الإحياء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 275 الثانية وهى أقوى: أن يكون حاله مع الله تعالى كحال الطفل فى حق أمّه فإنه لا يعرف غيرها ولا يفزع إلى سواها ولا يعتمد [1] إلا إياها؛ فإن رآها تعلّق فى كلّ حال بها، وإن نابه أمر فى غيبتها كان أوّل سابق إلى لسانه: يا أمّاه، وأوّل خاطر يخطر على قلبه أمه لوثوقه بكفالنها وكفايتها وشفقتها. الثالثة وهى أعلاها: أن يكون بين يدى الله تعالى فى حركاته وسكناته مثل الميّت بين يدى الغاسل يقلّبه كيف أراد لا يكون له حركة ولا تدبير. قال: وهذا المقام فى التوكل يثمر ترك الدعاء والسؤال منه ثقة بكرمه وعنايته، وأنه يعطى ابتداء أفضل مما يسأل. وقد تكلّم المشايخ فى التوكّل وبيان حدّه واختلفت عباراتهم وتكلّم كلّ واحد عن مقام نفسه وأخبر عن حدّه. قال أبو موسى الدّيلى: قلت لأبى يزيد: ما التوكل؟ فقال: ما تقول أنت؟ قلت: إن أصحابنا يقولون: لو أن السباع والأفاعى عن يمينك ويسارك ما تحرّك لذلك سرّك. فقال أبو يزيد: نعم هذا قريب، ولكن لو أن أهل الجنة فى الجنّة يتنّعمون، وأهل النار فى النار يعذبون، ثم وقع بك تمييز عليهما خرجت من جملة التوكّل. وسئل أبو عبد الله القرشىّ عن التوكّل فقال: التعلّق بالله تعالى فى كلّ حال. فقال السائل: زدنى؛ فقال: ترك كلّ سبب يوصّل إلى سبب حتى يكون [الحق [2]] هو المتولّى لذلك. وهذا مثل توكّل إبراهيم الخليل عليه السلام إذ قال له جبريل: ألك حاجة؟ فقال: أمّا إليك فلا؛ إذ كان سؤاله يفضى الى سبب فترك ذلك ثقة بأن الله يتولّى ذلك.   [1] كذا فى الإحياء. وفى الأصل: «يغتنم» . [2] زيادة عن الإحياء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 276 قال أبو سعيد الخرّاز: التوكّل اضطراب بلا سكون، وسكون بلا اضطراب. أشار بالأوّل إلى فزعه إلى الله تعالى وابتهاله وتضرّعه بين يديه كاضطراب الطفل بيديه إلى أمّه؛ وبالثانى إلى سكون القلب إلى الوكيل وثقته به [1] . وقال أبو علىّ الدقّاق: التوكّل على ثلاث درجات: التوكّل ثم التسليم ثم التفويض، فالمتوكّل يسكن إلى وعده، وصاحب التسليم يكتفى بعلمه، وصاحب التفويض يرضى بحكمه. وقال: التوكّل بداية، والتسليم وسائط، والتفويض نهاية. وقال: التوكّل صفة المؤمنين، والتسليم صفة الأولياء، والتفويض صفة الموحّدين. وسئل ابن عطاء عن حقيقة التوكّل فقال: ألّا يظهر فيك انزعاج إلى الأسباب مع شدّة فاقتك إليها، ولا تزول عن حقيقة السكون إلى الحقّ مع وقوفك عليها. وقال أبو نصر السرّاج: شرط التوكّل ما قاله أبو تراب النّخشبىّ وهو طرح البدن فى العبودية وتعلّق القلب بالربوبيّة والطّمأنينة إلى الكفاية، فإن أعطى شكر [2] ، وإن منع صبر. وكما قال ذو النّون: التوكّل ترك تدبير النفس والانخلاع من الحول والقوّة. وقال أبو بكر الدقّاق: التوكّل ردّ العيش إلى يوم واحد وإسقاط همّ غد. وسئل ذو النون: ما التوكّل؟ فقال: خلع الأرباب، وقطع الأسباب. فقال السائل: زدنى؛ فقال: إلقاء النفس فى العبودية وإخراجها من الرّبوبيّة. وقال مسروق: التوكّل الاستسلام لجريان [3] القضاء والأحكام. وقال أبو عثمان: التوكّل الاكتفاء بالله مع الاعتماد عليه. وقيل: التوكل الثقة بما فى يد الله واليأس مما فى يد الناس. وقيل: التوكّل فراغ السرّ عن التفكّر فى التقاضى فى طلب الرزق.   [1] كذا فى الإحياء. وفى الأصل: «وبالثانى الى سكون القلب الى التوكل وثقة به» . [2] فى الأصلين: «سكن» والسياق يقتضى ما أثبتناه. [3] فى الأصل: «بجريان» بالباء ولم نجد هذا الفعل يتعدى بالباء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 277 ذكر بيان أعمال المتوكلين قال الغزالىّ رحمه الله: قد يظنّ أن معنى التوكّل ترك الكسب [بالبدن [1]] وترك التدبير بالقلب، والسقوط على الأرض كالخرقة الملقاة وكاللحم على الوضم؛ وهذا ظنّ الجهّال، فإنّ ذلك حرام فى الشرع؛ والشرع قد أثنى على المتوكّلين فكيف ينال مقام من مقامات الدّين بمحظورات الدّين! بل إنما يظهر تأثير التوكّل فى حركة العبد وسعيه بعمله إلى مقاصده. وسعى العبد باختياره إمّا أن يكون لأجل جلب نافع هو مفقود [2] عنده كالكسب، أو لحفظ نافع هو موجود عنده كالادّخار، أو لدفع ضارّ لم ينزل به كدفع الصائل والسارق والسباع، أو لإزالة ضارّ قد نزل به كالتداوى من المرض. فمقصود حركات العبد لا يعدو هذه الحالات الأربع التى هى جلب النافع أو حفظه أو دفع الضارّ أو قطعه. ثم ذكر شرط التوكّل ودرجاته فى كل واحد منها، وقرن ذلك بشواهد الشرع، فقال ما مختصره ومعناه: امّا جلب النافع، فالأسباب التى بها يجلب النافع على ثلاث درجات: مقطوع به، ومظنون ظنّا يوثق به، وموهوم وهما لا تثق النفس به ثقة تامّة ولا تطمئنّ إليه. فالدرجة الأولى: المقطوع به كالطعام إذا وضع بين يدى الرجل وهو جائع محتاج إلى تناوله فامتنع من مدّ يده إليه وقال: أنا متوكّل، وشرط التوكل ترك السعى، ومدّ اليد إليه سعى وحركة، وكذلك مضغه بالأسنان وابتلاعه بإطباق أعالى الحنك على أسفله؛ فهذا جنون وليس من التوكّل فى شىء، فإنه إن انتظر أنّ الله تعالى يخلق فيه شبعا دون الخبز أو يسخّر ملكا يمضغه ويوصله الى معدته فهذا رجل جهل سنّة الله   [1] الزيادة عن الإحياء (ج 4 ص 253 طبعة بلاق) . [2] كذا فى الإحياء. وفى الأصل: «معبود عنه» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 278 تعالى؛ وكذلك لو لم يزرع الأرض وطمع أنّ الله تعالى يخلق نباتا من غير بذر أو تلد زوجه من غير مباضعة كمريم، فكلّ ذلك جنون؛ بل يجب عليه أن يعلم أن الله تعالى خالق الطعام واليد والأسنان وقوة الحركة، وأنّه الذى يطعمه ويسقيه، وأن يكون قلبه واعتماده على فضل الله تعالى لا على اليد والطعام، فليمدّ يده ويأكل فإنه متوكل. والدرجة الثانية: الأسباب التى ليست متعيّنة، ولكن الغالب أن المسبّبات لا تحصل دونها واحتمال حصولها دونها بعيد كالذى يفارق الأمصار والقوافل ويسافر فى البوادى التى لا يطرقها الناس إلا نادرا ويكون سفره من غير استصحاب زاد، فهذا ليس شرطا فى التوكّل، بل استصحاب الزاد فى البوادى سنّة الأوّلين مع الاعتماد على فضل الله عز وجل لا على الزاد؛ ولكن فعل ذلك جائز، وهو من أعلى مقامات التوكل وهو فعل الخواصّ. قال الغزالىّ: فإن قلت: فهذا سعى فى الهلاك وإلقاء النفس إلى التّهلكة، فاعلم أن ذلك يخرج عن كونه حراما بشرطين: أحدهما أن يكون الرجل قد راض نفسه وجاهدها حتى صبرت عن الطعام أسبوعا أو ما يقاربه بحيث إنه لا يناله ضيق قلب ولا تشويش خاطر. والثانى أن يكون بحيث يقوى على التقوّت بالحشيش وما يتّفق من الأشياء الخسيسة، فإنه لا يخلو غالب الأمر فى البوادى فى كلّ أسبوع أن يلقاه آدمى أو ينتهى إلى محلّة أو قرية أو الى حشيش يتقوّت به؛ وعلى هذا كان يعوّل الخوّاص ونظراؤه من المتوكّلين. وقد كان الخوّاص مع توكّله لا تفارقه الإبرة والمقراض والحبل والركوة، ويقول: هذا لا يقدح فى التوكّل. وأمّا لو انحاز الى شعب من شعاب الجبال حيث لا ماء ولا حشيش ولا يطرقه طارق فيه وجلس متوكلا فهو آثم به ساع فى إهلاك نفسه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 279 وأمّا القاعد فى البلد بغير كسب فليس ذلك حراما، لأنه لا يبعد أن يأتيه الرزق من حيث لا يحتسب ولكن قد يتأخّر عنه. فإن أغلق باب البيت على نفسه بحيث لا طريق لأحد إليه ففعله ذلك حرام. فإن فتح باب البيت وهو بطّال غير مشغول بعبادة فالكسب والخروج له أولى، ولكن ليس فعله حراما إلّا أن يشرف على الموت، فعند ذلك يلزمه الخروج والسؤال والكسب. وإن كان مشغول القلب بالله غير متطلّع إلى الناس ولا إلى من يدخل من الباب فيأتيه برزق، بل تطلّعه إلى فضل الله تعالى واشتغاله بالله فهو أفضل وهو من مقامات التوكّل، فإن الرزق يأتيه لا محالة. فلو هرب العبد من رزقه لطلبه كما لو هرب من الموت لأدركه. قال ابن عباس رضى الله عنهما: اختلف الناس فى كلّ شىء إلا فى الرزق والأجل [فإنّهم [1]] أجمعوا أن لا رازق ولا مميت إلا الله تعالى. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو توكّلتم على الله تعالى حقّ توكّله لرزقكم [2] كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا ولزالت بدعائكم الجبال» . وقال عيسى عليه السلام: انظروا إلى الطير لا تزرع ولا تحصد ولا تدّخر والله تعالى يرزقها يوما بيوم، فإن قلتم نحن أكبر بطونا، فانظروا إلى الأنعام كيف قيّض الله تعالى لها هذا الخلق [للرزق [1]] . وقال أبو يعقوب السوسى: المتوكّلون تجرى أرزاقهم على أيدى العباد بلا تعب منهم وغبرهم مشغولون مكدودون. وقال بعضهم: العبيد كلّهم فى رزق الله تعالى، لكن بعضهم يأكل بذلّ كالسّؤال، وبعضهم يأكل بتعب كالتجّار، وبعضهم بامتهان كالصنّاع، وبعضهم بعزّ كالصوفيّة، يشهدون العزيز فيأخذون رزقهم من يده ولا يرون الواسطة. والدرجة الثالثة: ملابسة الأسباب التى يتوهّم إفضاؤها إلى المسبّبات من غير ثقة ظاهرة، كالذى يستقصى فى التدبيرات الدقيقة فى تفصيل الاكتساب ووجوهه،   [1] زياة عن الإحياء. [2] كذا فى الإحياء. وفى الأصلين: «لرزقتم ... » . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 280 وذلك يخرج بالكلّيّة عن درجات التوكّل كلّها، وهو الذى الناس كلّهم فيه من التكسّب بالحيل الدقيقة اكتسابا مباحا لمال مباح. هذا ملخص ما أورده رحمه الله تعالى فى جلب النافع، وذكر لذلك أمثلة ونظائر تركناها اختصارا. وأمّا حفظ النافع فهو التعرض لأسباب الادّخار، فمن حصل له مال بإرث أو كسب أو سؤال أو سبب من الأسباب فله فى الادّخار ثلاث أحوال: الأولى: أن يأخذ قدر حاجته فى الوقت فيأكل إن كان جائعا، ويلبس إن كان عاريا، ويشترى مسكنا مختصرا إن كان محتاجا، ويفرّق الباقى فى الحال ولا يدّخر منه إلا ما أرصده لمحتاج؛ فهذا هو الموفى بموجب التوكّل تحقيقا، وهى الدرجة العليا. الحالة الثانية المقابلة لهذه المخرجة له عن حدود التوكّل: أن يدّخر لسنة فما فوقها، فهذا ليس من المتوكّلين أصلا. الحالة الثالثة: أن يدّخر لأربعين يوما فما دونها، فهذا يوجب حرمانه من المقام المحمود الموعود فى الآخرة للمتوكّلين. وقال الخوّاص: لا يخرج بأربعين يوما ويخرج بما زاد عليها. وامّا دفع الضارّ عن النفس والمال فقد قال الغزالىّ رحمه الله: ليس من شرط التوكل ترك الأسباب الدافعة للضرر. أمّا فى النفس فكالنوم فى الأرض المسبعة أو فى مجارى السيل من الوادى أو تحت الجدار المائل أو السقف المتكسّر، فإنّ ذلك منهىّ عنه وصاحبه قد عرّض نفسه إلى الهلاك بغير فائدة. وأمّا فى المال فلا ينقص التوكّل إغلاق باب البيت عند الخروج منه ولا أن يعقل البعير. فهذه أسباب عرفت بسنّة الله تعالى، فقد روى عن أنس بن مالك رضى الله عنه أنه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 281 قال: جاء رجل على ناقة فقال: يا رسول الله، أدعها وأتوكل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اعقلها وتوكّل» . وأمّا إزالة الضرر فقد قال الغزالىّ رحمه الله تعالى: إن الأسباب المزيلة للضرر تنقسم إلى مقطوع به كالماء المزيل لضرر العطش والخبز المزيل لضرر الجوع؛ وإلى مظنون كالفصد والحجامة وشرب الدواء وسائر أبواب الطبّ؛ وإلى موهوم كالكىّ والرّقية. أمّا المقطوع به فليس من التوكّل تركه بل تركه حرام عند خوف الموت. وأمّا الموهوم، فشرط التوكل تركه، إذ بتركه وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم المتوكّلين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم يتوكّل من استرقى واكتوى» . وقال سعيد بن جبير: لدغتنى عقرب فأقسمت علىّ أمّى لتسترقينّ، فناولت الراقى يدى التى لم تلدغ. وأمّا الدرجة الوسطى وهى المظنونة كالمداواة بالأسباب الظاهرة عند الأطبّاء ففعل ذلك لا يناقض التوكّل بخلاف الموهوم، وتركه ليس بمحظور بحلاف المقطوع به. وقد تداوى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بالتداوى وقال: «ما من داء إلا وله دواء عرفه من عرفه وجهله من جهله إلّا السام» يعنى الموت؛ وتضافرت الأحاديث بالأمر بالدواء. ومنهم من رأى أن ترك التداوى قد يحمد فى بعض الأحيان إذا اقترن به أحد أسباب ستة: الأوّل: أن يكون المريض من المكاشفين وقد كوشف بأنه انتهى أجله وأن الدواء لا ينفعه، وتحقّق ذلك إما برؤيا صادقة أو بحدس وظنّ أو بكشف محقّق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 282 كحال أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه لمّا قيل له فى مرض موته: لو دعونا لك طبيبا! فقال: الطبيب نظر إلىّ وقال إنّى فعّال لما أريد. وكان رضى الله عنه من المكاشفين؛ والدليل على ذلك أنّه قال لعائشة رضى الله عنها فى أمر الميراث: إنما هنّ أختاك؛ وما كان لها إلا أخت واحدة وكانت امرأته حاملا فولدت أنثى؛ فلا يبعد أن يكون كوشف بانتهاء أجله؛ ومحال أن ينكر التداوى وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله. الثانى: أن يكون المريض مشغولا بحاله وبخوف عاقبته واطّلاع الله تعالى عليه، فينسيه ذلك ألم المرض فلا يتفرّغ قلبه للتداوى شغلا بحاله، كحال أبى ذرّ لمّا رمدت عيناه، فقيل له: لو داويتهما! فقال: إنّى عنهما مشغول. فقيل له: لو سألت الله أن يعافيك! فقال: أسأل فيما هو أهمّ علىّ منهما. وكحال أبى الدرداء فإنه قيل له فى مرضه: ما تشتكى؟ قال: ذنوبى. قيل: فما تشتهى؟ قال: مغفرة ربى. قالوا: ألا ندعو لك طبيبا؟ قال: الطبيب أمرضنى. ويكون حال هذا كالمصاب بموت عزيز من أحبابه أو كالخائف من ملك فيشغله ذلك عن ألم الجوع. الثالث: أن تكون العلّة مزمنة والدواء الذى يؤمر به بالإضافة إلى علّته موهوم كالكىّ والرقية، فتركه للتوكّل كالربيع بن خيثم فإنه أصابه فالج، فقيل له: لو تداويت! فقال: لقد هممت ثم ذكرت عادا وثمود وقرونا بين ذلك كثيرا وكان فيهم الإطبّاء فهلك المداوى والمداوى ولم تغن الرّقى شيئا. أى إن الدواء غير موثوق به. الرابع: أن يقصد العبد ترك التداوى استيفاء للمرض لينال ثواب المرض بحسن الصبر على بلاء الله تعالى وليجرّب نفسه فى القدرة على الصبر. الخامس: أن يكون العبد قد سبق له ذنوب وهو خائف منها عاجز عن تكفيرها فيرى المرض إذا طال تكفيرا، وترك التداوى خوفا من أن يسرع زوال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 283 المرض ورغب فى مضاعفة الأجر. فقد ورد عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «حمّى يوم كفّارة سنة» . السادس: أن يستشعر العبد فى نفسه مبادئ البطر والطّغيان بطول مدّة الصحّة، فيترك التداوى خوفا من أن يعاجله زوال المرض فتعاوده الغفلة والبطر والطغيان أو طول الأمل والتسويف فى تدارك الفائت وتأخير الخيرات؛ فإن الصحة تحرّك الهوى وتبعث على الشهوات وتدعو إلى المعاصى، وأقلّها أن تدعو إلى التنعّم فى المباحات وهو تضييع الأوقات وإهمال الربح العظيم فى مخالفة النفس وملازمة الطاعات. وإذا أراد الله بعبد خيرا لم يخله عن التنبيه بالأمراض والمصائب؛ ولذلك قيل: لا يخلو المؤمنون من علّة أو قلّة أو ذلّة. قال: فلما أن كثرت فوائد المرض رأى جماعة ترك الحيلة فى زوالها، إذ رأوا لأنفسهم مزيدا فيها لا من حيث رأوا التداوى نقصانا، وكيف يكون ذلك نقصانا وقد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم!. فهذه نبذة كافية فى مقامى الزهد والتوكل. فلنذكر الأدعية. الباب الرابع من القسم الرابع من الفن الثانى فى الأدعية وهذا الباب- يقبل الله منا ومنك وفينا وفيك صالح الدعوات، وجعلنا وإيّاك ممن اعتمد على كرمه ومنّته فى الحركات والسكنات؛ ووفّقنا للتضرع والسكون إلى فضله، وعاملنا بما هو من أهله لا ما نحن من أهله- هو مشرع الظمآن إلى موارد الكرم العذبة، ومفزع الحيران إذا ألّمت به الضائقة وحصرته الكربة؛ فبه يتوسّل الى الله تعالى فى مطالب الدنيا والآخرة، ويتوصّل إلى النعم الوافية والخيرات الوافرة؛ كيف لا وقد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 284 أمرنا الرب العظيم بالدعاء والإنابة، ووعدنا وهو الوفىّ الكريم بالقبول والإجابة؛ وترادفت بفضله الأخبار الصحيحة، وجاءت بشرفه الآثار الصريحة؛ على ما ستقف على ذلك إن شاء الله تعالى واضحا، وتعوّل عليه مقيما وظاعنا وغاديا ورائحا. فلازمه فى سائر أحوالك، وتعاهده فى بكرك وآصالك؛ فستجنى إن شاء الله منه ثمار غرسك، وتجد حلاوة ذلك فى قلبك وأنسه فى نفسك. واعلم أن للدعاء، كما قال ابن عطاء، أركانا وأجنحة وأسبابا وأوقاتا. قال: فإن وافق أركانه قوى، وإن وافق أجنحته طار فى السموات، وإن وافق مواقيته فاز، وإن وافق أسبابه أنجح. فأركانه حضور القلب والرقة والاستكانة والخشوع وتعلق القلب بالله وقطعه من الأسباب. وأجنحته الصدق. ومواقيته الأسحار. وأسبابه الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم. قال الله عز وجل: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ. روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقول الله تعالى للعبد يوم القيامة أكنت ترى لبعض دعائك الإجابة ولا ترى لبعضه فيقول نعم فيقول له أما إنك ما دعوتنى بدعوة إلا وقد استجبت لك فيها أليس دعوتنى يوم كذا وكذا فرأيت الإجابة فيقول نعم ويقول ودعوتنى يوم كذا وكذا فلم تر الإجابة فيقول نعم فيقول فإنى ادّخرتها لك فى الجنة فلا يبقى له دعوة إلا بيّنها له حتى يتمنّى المؤمن أن دعواته كلها كانت ذخائره فى الآخرة» . وعن النعمان بن بشير رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الدعاء هو العبادة» قال: وقرأ وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ. وعن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليس شىء أكرم على الله من الدعاء» . وعن ابن عمر رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الدعاء ينفع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 285 مما نزل ومما لم ينزل فعليكم عباد الله بالدّعاء» . وعن أنس رضى الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل حيّى كريم يستحيى إذا بسط الرجل إليه يديه أن يردّهما صفرا ليس فيهما شىء» . وعن أبى سعيد الخدرىّ رضى الله عنه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «دعوة المسلم لا تردّ إلا بإحدى ثلاث ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم إمّا أن يستجيب الله له فيما دعا أو يدّخر له فى الآخرة أو يصرف عنه من السوء بقدر ما دعا» . وعن أنس رضى الله عنه قال: قيل يا رسول الله: إنا ندعو بدعاء كثير منه ما نرى إجابته ومنه ما لا نرى إجابته فقال: «والذى نفسى بيده ما من أحد يدعو بدعوة إلا استجيب له أو صرف عنه مثلها شرّا» . قالوا: يا رسول الله، إذا نكثر؟ قال: «الله أكثر وأكثر» ثلاث مرات. وعنه رضى الله عنه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم: «دعوة فى السر تعدل سبعين دعوة فى العلانية» . وعن أبى سعيد الخدرىّ رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله عز وجل فى الليل والنهار عتقاء من النار ولكلّ مسلم ومسلمة فى كلّ يوم وليلة دعوة مستجابة» . وعن أبى هريرة رضى الله عنه أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى يقول من ذا الذى دعانى فلم أجبه وسألنى فلم أعطه واستغفرنى فلم أغفر له وأنا أرحم الراحمين» . وعن أنس رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا فتح الله على عبد باب الدعاء فليكثر فإنّ الله يستجيب له» . وعن ابن عمر رضى الله عنهما عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من فتح له باب فى الدعاء فتحت له أبواب الإجابة» . وعن أبى هريرة عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من لم يسأل الله يغضب عليه» . وعن جابر بن عبد الله رضى الله عنه أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قرأ قوله تعالى: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ الآية فقال صلى الله عليه وسلم: «اللهم إنّك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 286 أمرت بالدعاء وتوكّلت بالإجابة لبّيك اللهم لبّيك لبّيك لا شريك لك لبيك إنّ الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك أشهد أنّك فرد أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد وأشهد أنّ وعدك حق ولقاءك حقّ والجنة حق والنار حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأنّك تبعث من فى القبور» . هذا مما ورد فى الحثّ على الدعاء. وأمّا ما ورد فى نفع الدعاء ودفعه للبلاء؛ روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن أنواع البرّ كلّها نصف العبادة والنصف الآخر الدعاء» . وعن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ينفع حذر من قدر والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل وإن الدعاء ليلقى البلاء فيعتلجان إلى يوم القيامة» . وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدعاء ينفع مما نزل ومما لم لا ينزل وإن الدعاء ليردّ القضاء المبرم وإن الدعاء والبلاء ليلتقيان بين السماء والأرض فلا يزال أحدهما يدفع صاحبه إلى يوم القيامة» . وعن سلمان الفارسىّ رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يردّ القضاء إلا الدعاء ولا يزيد فى العمر إلا البرّ» . وعن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدّين ونور السموات والأرض» . وأمّا ما ورد فى الإلحاح فى الدعاء وهيئة الذّلّة والإنابة؛ قال الله تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. وعن عائشة رضى الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله يحبّ الملحّين فى الدعاء» . وعن أبى هريرة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 287 رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله عز وجل لا يستجيب دعاء من قلب ساه لاه» . وعن أنس رضى الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه فى الدعاء حتى يرى بياض [1] إبطيه. وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعا جعل باطن كفّيه إلى وجهه. وعنه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سلوا الله ببطون أكفّكم ولا تسألوه بظهورها فإذا فرغتم فامسحوا بها وجوهكم» وعن ابن عمر رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن ربكم عز وجل حيىّ كريم يستحيى أن يرفع العبد يديه فيردّهما صفرا لا خير فيهما فإذا رفع أحدكم يده فليقل يا حىّ لا إله إلا أنت يا أرحم الراحمين ثلاث مرات ثم إذا ردّ يده فليفرغ ذلك الخير على وجهه» . وعن عمر رضى الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا مدّ يديه فى الدعاء لم يردّهما حتى يمسح بهما وجهه. وعن ابن عبّاس رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الإخلاص هكذا ورفع إصبعا واحدا من اليد اليمنى والدعاء هكذا وجعل بطونهما مما يلى السماء والابتهال هكذا ومدّ يديه شيئا وجعل ظهر الكفّ مما يلى السماء» . وعن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أقرب ما يكون العبد من ربّه وهو ساجد فأكثروا الدعاء» . وأمّا ما ورد من كراهية استعجال الإجابة ورفع البصر والسجع فى الدعاء قال تعالى: بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ. وعن أبى هريرة رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل   [1] فى الأصلين هكذا: «بيان» والتصحيح عن الإحياء (ج 1 ص 287) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 288 فيقول قد دعوت فلم يستجب لى» . وعنه صلى الله عليه وسلم: «لا يزال العبد بخير ما لم يستعجل» . قالوا: وكيف يستعجل؟ قال: «يقول قد دعوت الله مرارا فلا أراه يستجيب لى» . وعن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لينتهينّ أقوام عن رفع أبصارهم عند الدعاء فى الصلاة إلى السماء أو لتخطفنّ أبصارهم» . وعن ابن عبّاس رضى الله عنهما قال: إيّاك والسجع فى الدعاء فإنّى شهدت النبىّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يفعلون ذلك. وأمّا ما ورد فيمن تجاب دعواتهم. قال الله عز وجل: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ . وقال تعالى: وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ. وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «خمس دعوات لا تردّ دعوة الحاجّ حتّى يصدر ودعوة الغازى حتى يرجع ودعوة المظلوم حتى ينتصر ودعوة المريض حتى يبرأ ودعوة الأخ لأخيه بالغيب وأسرع هؤلاء الدعوات إجابة دعوة الأخ لأخيه بالغيب» . وعن أبى هريرة رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث دعوات مستجابات لا شكّ فيهنّ دعوة الوالد ودعوة المسافر ودعوة المظلوم» . وفى حديث آخر: «دعوة الصائم بدل دعوة الوالد» . وعن ابن عبّاس رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: «إنّك تأتى قوما أهل كتاب فاتّق دعوة المظلوم» . وعنه صلى الله وسلم: «الإمام العادل لا تردّ دعوته» . وقال صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا تردّ دعوتهم إمام مقسط ودعوة الصائم ودعوة المظلوم تفتح لها أبواب السماء ويقول الله عز وجل لأنصرنّك ولو بعد حين» . وعنه صلى الله عليه وسلم: «دعاء الوالد لولده مثل دعاء النبى لأمته» . وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 289 «أسرع الدعاء إجابة دعوة غائب لغائب» . وعن أبى الدرداء، رضى الله عنه، عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «دعوة الرجل لأخيه بظهر الغيب تعدل سبعين دعوة مستجابة ويوكّل الله عز وجل ملكا يقول آمين ولك مثل ما دعوت» . وعن جابر بن عبد الله رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مؤمن يدعو لأخيه المؤمن بظهر الغيب إلّا قال له ملك عن يمينه وملك عن شماله ولك مثله» . وعن أبى أمامة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حامل القرآن له دعوة مستجابة» . وعن ابن عمر رضى الله عنهما عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا دخلت على المريض فسله يدعو لك فإن دعاءه كدعاء الملائكة» . وعن أنس رضى الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ألهم الدعاء لم يحرم الإجابة لأن الله تعالى يقول: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ومن ألهم التوبة لم يحرم القبول لأن الله تعالى يقول: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ ومن ألهم الشكر لم يحرم الزيادة لأن الله تعالى يقول: ولَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ومن ألهم الاستغفار لم يحرم المغفرة لأن الله تعالى يقول: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً ومن ألهم النفقة لم يحرم الخلف لقوله تعالى: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ » ذكر الأوقات التى ترجى فيها إجابة الدعاء قال الله عز وجل: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ . وقال تعالى: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا. وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ينزل الله حين يبقى ثلث اللّيل إلى السماء الدّنيا فيقول من يسألنى فأعطيه ومن يدعونى فأستجيب له ومن يستغفرنى فأغفر له» . وعنه صلى الله عليه وسلم: «تفتح أبواب السماء ويستجاب دعاء المسلم عند إقامة الصلاة وعند الجزء: 5 ¦ الصفحة: 290 نزول الغيث وعند زحف الصفوف فى سبيل الله وعند رؤية الكعبة» . وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا فاءت الأفياء وهبّت الرياح فارفعوا إلى الله حوائجكم فإنّها ساعة الأوّابين إنه كان للأوّابين غفورا» . وعن أبى أمامة قال قلت: يا رسول الله، أىّ الدعاء أسمع؟ قال: «جوف الليل وأدبار المكتوبات» . وعن ابن عمر قال: أفضل الساعات مواقيت الصّلاة فادعوا فيها. وعن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم: «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة إن فيه لساعة لا يوافقها عبد يصلّى يسأل الله فيها خيرا إلا أعطاه إيّاه» . وقد اختلف فى ابتداء وقت هذه الساعة فقيل: أوّل ساعة من طلوع الشمس، وقيل: آخر ساعة من غروبها، وقيل: عند جلوس الإمام على المنبر، وقيل: من الزوال إلى ابتداء الصلاة، وقيل: من بعد العصر إلى الغروب، وقيل: إنها تنتقل فى ساعات اليوم كما تنتقل ليلة القدر فى شهر رمضان. روى عن أبى بردة بن أبى موسى الأشعرىّ قال: قال لى عبد الله بن عمر رضى الله عنهم: أسمعت أباك يحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى شأن ساعة الجمعة؟ قال: نعم، سمعته يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى شأن ساعة الجمعة يقول: «هى ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة» . وعن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضى عنها عن أبيها صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن فى الجمعة لساعة لا يوافقها مسلم يسأل الله فيها خيرا إلا أعطاه إياه» . فقلت: يا أبت، أىّ ساعة هى؟ قال: «إذا تدلّى نصف الشمس للغروب» . فكانت فاطمة رضى الله عنها إذا كان يوم الجمعة تأمر غلاما لها يقال له زيد يرصد لها الشمس، فإذا تدلّى نصف الشمس للغروب أعلمها، فتقوم فتدخل المسجد فتدعو حتى تغرب الشمس وتصلّى. وحيث ذكرنا هذه المراتب فلنذكر الأدعية المنصوص عليها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 291 ذكر دعوات ساعات الأيام السبعة ولياليها قد أورد الشيخ أبو العباس أحمد بن علىّ بن يوسف القرشىّ البونى رحمه الله تعالى دعوات الساعات فى اللّمعة النورانيّة [1] فبدأ بيوم الأحد وذكر دعاء كل ساعة منه، ثم ذكر يوم الاثنين فقال: ساعة كذا يدعى فيها بدعاء ساعة كذا من يوم الأحد، ثم ذكر يوم الثلاثاء فقال: ساعة كذا يدعى فيها بدعاء ساعة كذا من يوم الاثنين وكذلك فى بقيّة ساعات الأيام والليالى، يذكر كلّ ساعة ويحيل فى دعائها على ساعة من اليوم أو الليلة التى قبلها. فرأيت أن الراغب فى الدعاء يحتاج فى معرفته إلى كشف طويل وتحقيق إلى أن يصل إلى تلك الساعة من يوم الأحد، وربما تعذّر ذلك على كثير من الناس، فرتّبت الأدعية على ما ستقف إن شاء الله تعالى عليه ليسهل على المتناول طريقها ويدنو من المحاول تحقيقها؛ فقلت وبالله التوفيق: دعاء يدعى به فى الساعة الأولى من يوم الأحد، وفى الثامنة من ليلة الاثنين، وفى العاشرة من يوم الاثنين، وفى الخامسة من ليلة الثلاثاء، وفى السابعة من يوم الثلاثاء، وفى الثانية من ليلة الأربعاء وفى الرابعة من يوم الأربعاء، وفى الحادية عشرة من ليلة الخميس وفى الأولى من يوم الخميس، والحادية عشرة من ليلة الجمعة والعاشرة من يوم الجمعة، وفى الثامنة من ليلة السبت وفى السابعة من يوم السبت، وفى الخامسة من ليلة الأحد، وهو: «ربّ اغمسنى فى بحر [من [2]] نور هيبتك حتى أخرج منه وفى وجهى شعاعات هيبة تخطف أبصار الحاسدين من الجنّ والإنس فتعميهم عن رمى سهام الحسد فى قرطاس   [1] فى الأصلين: «اللمحة النورانية» وصحة الاسم ما ذكرناه. وفى دار الكتب المصرية منه نسختان خطيتان تحت رقمى (1993 و 85 م تصوّف) . [2] زيادة عن اللمعة النورانية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 292 نعمتى، واحجبنى عنهم بحجاب النور الذى باطنه النور وظاهره النار. أسألك باسمك النور وبوجهك النور يا نور النور أن تحجبنى فى نور اسمك بنور اسمك حجابا يمنعنى من كلّ نقص يمازج منّى جوهرا أو عرضا إنّك نور الكلّ ومنوّر الكل بنورك» . قال البونى: تدعو بهذا الدعاء ثمانيا وأربعين مرّة فى هذه الساعة على وضوء بعد صلاة ركعتين فيما يتعلق بسؤال الهيبة وإقامة الكلمة وقهر العدوّ. ويناسب هذا الدعاء من القرآن قوله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الآية، قال: من قرأ هذه الآية هذا العدد المتقدّم فى بيت مظلم وعيناه مغلقتان شاهد أنوارا عجيبة تملا قلبه، وإن استدام ذلك تشكّلت له فى عالم الحسّ. وهو ذكر يصلح لأرباب الهمم وأهل الخلوات، وكاتبه وحامله تظهر له زيادات فى قوى نفسه وقهر عدوّه وخصمه لم يكن يعهدها من قبل؛ ومن أمكنه أن يداوى به العلل الكائنة فى الرأس خصوصا من البرودة وجد تأثير ذلك لوقته. دعاء يدعى به فى الساعة الثانية من يوم الأحد والتاسعة من ليلة الاثنين وفى الحادية عشرة من يوم الاثنين، وفى السادسة من ليلة الثلاثاء وفى الثامنة من يوم الثلاثاء، وفى الثالثة من ليلة الأربعاء وفى الخامسة من يوم الأربعاء، وفى الثانية عشرة من ليلة الخميس وفى الثانية من يوم الخميس، وفى الحادية عشرة من يوم الجمعة، وفى التاسعة من ليلة السبت وفى الثامنة من يوم السبت، وفى السادسة من ليلة الأحد وهو: «ربّ فرّحنى بما ترضى به عنّى فرحا يبهجنى بجميل المسارّ، حتى لا ينبسط شىء من وجودى إلا بما بسطه جودك العلىّ. ربّ فرّحنى بنيل المراد منك بفناء إرادتى منّى حتى لا يكون فى كونى إرادة إلا إرادتك محفوظة من عوارض التكوين، وأبهج الجزء: 5 ¦ الصفحة: 293 بذلك فى سرّ سماء الأفراح فى الوجودين برزق الباطن والظاهر، إنك باسط الرزق والرحمة يا ذا الجود الباسط يا ذا البسط والجود» . هذا الذكر من ذكره فى ساعة من هذه الساعات تسعا وأربعين مرة أذهب الله تعالى عن قلبه الحزن وعن صدره الحرج والضّيق، ونفى عنه كل همّ وغمّ، وبه يدعو المسجونون والمأسورون والمحزونون فيفرّج الله تعالى عنهم، وذلك بعد صلاة تسليمتين؛ والآيات [1] المناسبة لهذا القسم فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ الآية، قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ الآية. قال البونى: ويقدّم على ذكر هذه الآيات [1] : اللهم اجعلنى من الفرحين بما آتاهم الله من فضله، يقول ذلك [2] بعد الذكر الأوّل مثل العدد المذكور، فيرى المهموم من فضل الله تعالى به عجبا، ويزداد [به [3]] ذو السرور سرورا لا يعرف سببه. ويصلح هذا الذكر لأرباب الفيض من أهل الخلوات فإنّهم يستروحون منه أنسا فى خلواتهم ومخاطبات بألفاظ مختلفة بقدر الفيض والمقام والسبب، يعرف ذلك من كانت له إحاطة بكشف أسرار الدعوات والأسماء. دعاء يدعى به فى الساعة الثالثة من يوم الأحد، والعاشرة من ليلة الاثنين وفى الثانية عشرة من يوم الاثنين، وفى السابعة من ليلة الثلاثاء وفى التاسعة من يوم الثلاثاء، وفى الرابعة من ليلة الأربعاء وفى السادسة من يوم الأربعاء، وفى الأولى من ليلة الخميس وفى الثالثة من يوم الخميس، وفى الأولى من ليلة الجمعة وفى الثانية عشرة من يوم الجمعة، وفى العاشرة من ليلة السبت وفى التاسعة من يوم السبت، وفى السابعة من ليلة الأحد. وهو:   [1] كذا فى اللمعة النورانية. وفى الأصل: «والآية» . [2] الذى فى اللمعة النورانية: «يضاف بعد الذكر الأوّل مثل هذا العدد المذكور» . [3] زيادة من اللمعة النورانية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 294 «ربّ قلّبنى فى أطوار معارف أسمائك تقليبا تشهدنى به فى ذرّات وجودى ما أودعته ذرّات [1] وجودى الملك والملكوت حتّى أعاين سريان سرّ قدرك [2] فى معالم المعلومات، فلا يبقى معلوم إلا وبيدى سرّ دقيقة منه مجذوبة بيد الكمال ونور الطوع؛ وأذهب [3] ظلمة الإكراه حتى أتصرّف فى المهج بمبهجات المحبّة إنك أنت المحبّ المحبوب يا مقلّب القلوب» . قال: من دعا بهذا الاسم والذكر ستّ عشرة مرة بعد صلاة ثلاث تسليمات قلب الله قلبه عن كل خاطر فيه نقص [4] إلى كلّ خاطر فيه كمال [فى حقّه [5]] ، ويصلح لأرباب الاستخارات، وفيه لسرعة قضاء الحاجات معنى بديع. والآيات [6] المناسبة له قَوْلُهُ الْحَقُّ [وَلَهُ الْمُلْكُ ، وقوله تعالى [5]] : يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ إلى آخر الآية، وقوله تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً الآية؛ وما يناسب ذلك من القرآن. وهو ذكر يصلح لأرباب القلوب من تكرار الخواطر والوساوس، وله فى تقلّب الأحوال أمور عجيبة عظيمة لمن فهم ذلك؛ وكذلك من كتب الذكر كله وعلّقه عليه عصمه الله فى تقلّباته من الآفات حتى فى أمور دنياه وآخرته.   [1] كذا فى اللمعة النورانية. وفى أحد الأصلين: «ما أودعته فى دورات» وفى الأصل الآخر: «ما أودعته من ذوات ... » . [2] فى إحدى نسخ اللمعة المخطوطة: «سر قدرتك ... » . [3] كذا فى اللمعة النورانية. وفى الأصلين: «مجذوبة بيد كمال يبدو الكمال ونور الطلوع أذهب» الخ [4] كذا فى اللمعة النورانية. وفى الأصلين: «قلب الله قلب كل من خاطره فيه نقص ... » . [5] زيادة من اللمعة النورانية. [6] كذا فى اللمعة النورانية: وفى الأصلين: «والآية ... » . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 295 دعاء يدى به فى الساعة الرابعة من يوم الأحد، وفى الحادية عشرة من ليلة الاثنين وفى الأولى من يوم الاثنين، وفى الثامنة من ليلة الثلاثاء وفى العاشرة من يوم الثلاثاء، وفى الخامسة من ليلة الأربعاء وفى السابعة من يوم الأربعاء، وفى الثانية من ليلة الخميس وفى الرابعة من يوم الخميس، وفى الثانية من ليلة الجمعة والأولى من يوم الجمعة، وفى الحادية عشرة من ليلة السبت وفى العاشرة من يوم السبت، وفى الثامنة من ليلة الأحد. وهو: «ربّ قابلنى بنور اسمك مقابلة تملأ وجودى ظاهرا وباطنا حتى تمحو منّى حظوظ الأشكال كلها فيبدو لى فى وجودى ومن وجودى سرّ ما كتبه قلم تقديرك من كل مستودع فى مستقرّ ومستقرّ فى مستودع فلا يخفى علىّ ما غاب عنّى فأنظرنى بك وأنظر من سواى بنور اسمك [1] فأرى الكمال المطلق فى الملك المطلق، يا مودع الأنوار قلوب عباده الأبرار يا سريع يا قريب» . قال: من دعا بهذا الدعاء فى ساعة من هذه الساعات ست عشرة مرة ثم قصد أىّ حاجة أراد، أسرع الله تعالى قضاءها ونمّى له ما يملكه من مال أو جاه أو حال أو مقام. ومن خاصّة هذا الذكر وضع البركة فى أىّ شىء وضع عليه. ويصلح هذا الذكر لطالبى المكاشفات من أرباب الخلوات فإنهم اذا داوموا هذا الذكر ألقى اليهم الخاطر الصحيح. قال: وإن أضيف له يا سريع يا قريب يا مبين ظهر له ما يريد من كشف العواقب فى الأفعال المرتبطة بعالم الغيب والشهادة. دعاء يدعى به فى الساعة الخامسة من يوم الأحد، وفى الثانية عشرة من ليلة الاثنين وفى الثانية من يوم الاثنين، وفى التاسعة من ليلة الثلاثاء وفى الحادية عشرة   [1] كذا فى اللمعة النورانية. وفى الأصل: «أنيتك» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 296 من يوم الثلاثاء، وفى السادسة من ليلة الأربعاء وفى الثامنة من يوم الأربعاء، وفى الثالثة من ليلة الخميس وفى الخامسة من يوم الخميس، وفى الثالثة من ليلة الجمعة وفى الثانية من يوم الجمعة، وفى الثانية عشرة من ليلة السبت وفى الحادية عشرة من يوم السبت، وفى التاسعة من ليلة الأحد. وهو: «ربّ أسألك مددا روحانيّا تقوى به قواى الكلّية والجزئيّة حتى أقهر بمبادئ نفسى كلّ نفس قاهرة فتنقبض لى رقابها انقباضا تسقط به قواها، فلا يبقى فى الكون ذو روح إلّا ونار القهر أخمدت ظهوره، يا شديد يا ذا البطش يا قهّار يا جبّار أسألك بما أودعته عزرائيل من قوى أسمائك القهريّة فانفعلت له النفوس بالقهر أن تكسونى [1] ذلك السرّ فى هذه الساعة حتى أليّن به كلّ صعب، وأذلّ به كلّ منيع بقوّتك يا ذا القوّة المتين» . قال: من دعا بهذا الدعاء فى ساعة من هذه الساعات تسعا وثمانين مرة، ثم دعا على ظالم أخذ لوقته، وذلك بعد صلاة خمس تسليمات بالفاتحة لا غير. ويناسب هذا الدعاء من آى القرآن العظيم وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ . قال: فى هذا الذكر قمع الجبابرة، وقطع دابر الظالمين، وخراب ديار الماردين، وما شابه ذلك. وهو ذكر يليق بالسالكين فى مبادئ الرياضات والمنتهين فى مقامات التجلّى إلى الخلوة؛ وهو من الأسرار العجيبة، ولا يذكره من غلبته الشيخوخة إلّا وجد فى قلبه خفقانا بالخاصيّة، ولا يذكره محموم إلا برئ من حمّاه لوقته، وإن كتبه وعلّقه عليه دامت صحّته. دعاء يدعى به فى الساعة السادسة من يوم الأحد، وفى الأولى من ليلة الاثنين وفى الثالثة من يوم الاثنين، وفى العاشرة من ليلة الثلاثاء وفى الثانية عشرة من يوم   [1] كذا فى إحدى نسخ اللمعة النورانية. وفى الأصلين: «وا كسنى ... » . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 297 الثلاثاء، وفى السابعة من ليلة الأربعاء وفى التاسعة من يوم الأربعاء، وفى الرابعة من ليلة الخميس وفى السادسة من يوم الخميس، وفى الرابعة من ليلة الجمعة وفى الثالثة من يوم الجمعة، وفى الأولى من ليلة السبت وفى الثانية عشرة من يوم السبت، وفى العاشرة من ليلة الأحد. وهو: «رب صفّنى [من كدرات الأغيار [1]] صفاء من صفّته يد عنايتك من نقص التكوين [2] حتى ينجلى فى مرآة قلبى ومستوى نفسى كلّ اسم انطبع فى قوّة جبرائيل فقوى به على كشف ما فى اللوح من أسرار أسمائك ومجامع رسائلك، فكلّ نفس منفوسة امتدّت لها من دقائقه [3] دقيقة طرفها منه والثانى لمن هو به، ومجامع هذه الدقائق [3] فى دقيقة [3] الاسم الجبرائيلى العالم العليم العّلام، يا ذا الكرم الذى علّم بالقلم، فموادّ الوحى والإلهام والتحديث والفهم تسرى بنفحة منه فى هذه الساعة إلى مثلها. إلهى منطقنى بالدقيقة العظمى منه حتى أتلقّى عنك بما به تلقّى [عنك جبرائيل [1]] مما أملأ به وجودى بلا ميل لغلبة حتى أتلذّذ بمصافاتك تلذّذ جبريل برسائلك، إنك علّام الغيوب» . قال: من دعا به خمسا وعشرين مرة فى ساعة من هذه الساعات ألهم رشده فى عواقب أموره. والاسم اللائق بهذا الدعاء يا علّام الغيوب يا عالم الخفيّات وما شاكل هذا النمط من الأسماء، ومن القرآن العظيم وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ الآية. قال: وهو من الكبريت الأحمر وبعضه من الدّرياق الأكبر. وهذا الذكر للذى فتح عليه باب من المعارف فإنّه مهما استدامه ألهم قلبه إلى علوم جليلة، ويخاطب   [1] زيادة من اللمعة النورانية. [2] كذا فى إحدى نسخ اللمعة النورانية. وفى الأصلين: «من نقص التلوين ... » . [3] كذا فى الأصلين بالدال فى هذه الكلمات. وفى اللمعة النورانية بالراء فيها جميعا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 298 فى نفسه بإلقاءات [1] من وحى الإلهام، ويخاطبه الحيوان بمعنى يفهمه فيستفيد علوما عظيمة، يعرف ذلك أرباب المنازلات لفهم الحديث. دعاء يدعى به فى الساعة السابعة من يوم الأحد، وفى الثانية من ليلة الاثنين وفى الرابعة من يوم الاثنين، وفى الحادية عشرة من ليلة الثلاثاء وفى الأولى من يوم الثلاثاء، وفى الثامنة من ليلة الأربعاء وفى العاشرة من يوم الأربعاء، وفى الخامسة من ليلة الخميس وفى السابعة من يوم الخميس، وفى الخامسة من ليلة الجمعة وفى الرابعة من يوم الجمعة، وفى الثانية من ليلة السبت وفى الأولى من يوم السبت، وفى الحادية عشرة من ليلة الأحد. وهو: «ربّ أوقفنى موقف العزّ حتّى لا أجد فىّ ذرّة ولا رقيقة ولا دقيقة إلا وقد غشّاها من عزّ عزّتك ما منعها من الذّلّ لغيرك، حتى لا أشهد ذلّ من سواى لعزّتى بك مؤيّدا برقيقة من الرعب يخضع لها [2] كلّ شيطان مريد، وجبّار عنيد؛ وأبق علىّ ذلّ العبوديّة فى العزّة بقاء يبسط لسان الاعتراف، ويقبض لسان الدعوى، إنّك العزيز الجبّار المتكبّر القّهار» . قال: من دعا بهذا الدعاء فى هذه الساعة أو فى ساعة من هذه الساعات ستّ عشرة مرة بعد صلاة [3] وحضور قلب نصر على أىّ عدوّ قصده ظاهرا وباطنا. دعاء يدعى به فى الساعة الثامنة من يوم الأحد، وفى الثالثة من ليلة الاثنين وفى الخامسة من يوم الاثنين، وفى الثانية عشرة من ليلة الثلاثاء، وفى الثانية من يوم   [1] كذا فى اللمعة النورانية. وفى الأصل: «بألقاب» . [2] كذا فى إحدى نسخ اللمعة النورانية. وفى نسخة أخرى منها: «حتى يخضع له ... » . وفى الأصلين: «حتى يخضع به ... » . [3] فى هامش إحدى نسخ اللمعة النورانية: «ثلاث تسلمات ... » وكتب عليها كلمة «صح» وأشار الى موضعها بعد كلمة «صلاة» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 299 الثلاثاء، وفى التاسعة من لبلة الأربعاء وفى الحادية عشرة من يوم الأربعاء، وفى السادسة من ليلة الخميس وفى الثامنة من يوم الخميس، وفى السادسة من ليلة الجمعة وفى الخامسة من يوم الجمعة، وفى الثالثة من ليلة السبت وفى الثانية من يوم السبت، وفى الثانية عشرة من ليلة الأحد. وهو: «إلهى أطلع على وجودى شمس شهودى منك فى الأكوان والألوان حتى أمشى بما أشهدتنى فى آفاق الملكوت فأكشف منه معنى كلمة التكوين فينفعل لى كلّ مكوّن انفعاله للكلمة بإذنك الذى سخّرت به ما فى الوجودين بلا ظلمة وضع ولا ظلمة طبع، إنك منوّر الكلّ بكلّك ومنوّر الأنوار بنورك الذى صدوره عن اسمك النور والظاهر والحى والقيّوم، كلّ شىء هالك إلّا وجهه» الآية. قال البونى: لا يذكر أحد هذا الذكر فى ساعة من هذه الساعات تسعا وأربعين مرة إلا كساه الله نورا يجد ذلك فى نفسه، وييسّر عليه المقسوم من الرزق، وتسرى كلمته فى الأسباب سريانا عجيبا. وهو ذكر يصلح لأرباب المكاشفات يثبت لهم ما يكاشفون. دعاء يدعى به فى الساعة التاسعة من يوم الأحد، وفى الرابعة من ليلة الاثنين وفى السادسة من يوم الاثنين، وفى الأولى من ليلة الثلاثاء وفى الثالثة من يوم الثلاثاء، وفى العاشرة من ليلة الأربعاء وفى الثانية عشرة من يوم الأربعاء، وفى السابعة من ليلة الخميس وفى التاسعة من يوم الخميس، وفى السابعة من ليلة الجمعة وفى السادسة من يوم الجمعة، وفى الرابعة من ليلة السبت وفى الثالثة من يوم السبت، وفى الأولى من ليلة الأحد. وهو: «سيّدى أدخلنى فى بواطن رياض اسمك من الباب الخاصّ الذى لا يحجب بنور ولا بظلمة ولا بشىء منه ولا بشىء خارج عنه، وأطلق يد قواى فى نيل النعمة، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 300 وألهمنى تحقيق ذوق كلّ مذوق منه حتى أكون بك فيه وأكون فيه بك مبتهجا منك وبك، ربّ إنك لطيف عطوف رحيم رحمن» . قال: هذا الذكر بخاصيّة فيه يجلب الفرح ويذهب الحزن ويطيب الوقت ويجلو الكرب؛ ومن دعا به أربعين مرة فى ساعة من هذه الساعات على طهارة [1] واستقبال فرّج به كربه وانجلى غمّه. دعاء يدعى به فى الساعة العاشرة من يوم الأحد، وفى الخامسة من ليلة الاثنين وفى السابعة من يوم الاثنين، وفى الثانية من ليلة الثلاثاء وفى الرابعة من يوم الثلاثاء، وفى الحادية عشرة من ليلة الأربعاء وفى الأولى من يوم الأربعاء، وفى الثامنة من ليلة الخميس وفى العاشرة من يوم الخميس، وفى الثامنة من ليلة الجمعة وفى السابعة من يوم الجمعة، وفى الخامسة من ليلة السبت وفى الرابعة من يوم السبت، وفى الثانية من ليلة الأحد. وهو: «يا من نسبة العلوم إلى علمه نسبة لا شىء لشىء لا يتناهى، أظهرت الحروف بالقلم فكان لها صريف فى ألواح الملكوت قام لها مقام مخارج الحروف من الحلق والصدر واللها واللسان، كلّ جنس صدر عنه اسم لا يعلم تركيبه سوى ملك قلمك؛ وكلّ نوع صدر عنه مركّبا، فلوح إسرافيل أظهره بقوّة ما فى آحاد كليّاته من جزئيّات تراكيبه، أسألك بهذا السرّ الخفىّ الذى وقف العقل دونه وتقدّم إليك السرّ بسرّ أودعته فيه يوم إمكان وجوده، أسألك كشف حجاب الغيب حتى أعاين الغيب [2] بما به حىّ الرّوح الباقى، يا حىّ، ياه يا هو، يا أنت يا مهيمن يا خالق يا بارىء أنت هو» .   [1] فى هامش إحدى نسختى اللمعة النورانية: «وصلاة ثلاث تسليمات» وكتب عليها كلمة «صح» وموضعها بعد كلمة «طهارة» . [2] فى اللمعة النورانية: «المغيب» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 301 قال البونى: هذا الذكر من ذكره فى ساعة من هذه الساعات مائة مرة يسّر له قضاء أىّ حاجة قصدها بغير مشقّة. دعاء يدعى به فى الساعة الحادية عشرة من يوم الأحد، وفى السادسة من ليلة الاثنين وفى الثامنة من يوم الاثنين، وفى الثالثة من ليلة الثلاثاء وفى الخامسة من يو الثلاثاء، وفى الثانية عشرة من ليلة الأربعاء وفى الثانية من يوم الأربعاء، وفى التاسعة من ليلة الخميس وفى الحادية عشرة من يوم الخميس، وفى التاسعة من من ليلة الجمعة وفى الثامنة من يوم الجمعة، وفى السادسة من ليلة السبت وفى الخامسة من يوم السبت، وفى الثالثة من ليلة الأحد. وهو: «يا من لوجوده العلىّ باعتبار حكمته إلى كلّ موجود حصل من وجوده [1] اسم يليق به هو مفتاحه الخاصّ، ومعناه المغيّب، وحقيقته الوجودية وسرّه القابل؛ فما فى الأكوان جوهر فرد من جواهر آحاد العالم العلوىّ والسّفلىّ إلا ومقاليد أحكامه متعلّقة باسم من أسمائه، واجتماعها برقائقها بيد اسمك الذى استأثرت به عن جميع خلقك فلم يظهر لهم إلا ما ناسب الأفعال، فأسماؤك إلهى لا تحصى، ومعلوماتك لا نهاية لها، أسألك غمسة فى بحر هذا النور حتى أعود إلى الكمال الأوّل فأتصرّف فى الكون باسم الكمال تصرّفا ينفى النقص بالوقوف على عبوديّة النقص، إنّك المعزّ المذلّ اللطيف الخبير العدل المجيب» . قال: من ذكر هذا الذكر ستّ عشرة مرة فى ساعة من هذه الساعات ثم سأل الله تعالى فيها رزقا [2] ، ويتسير أسباب، وسكون بحر هائج [3] ، وسلطان غاصب، ونفس   [1] كذا فى إحدى نسخ اللمعة النورانية. وفى الأصلين: «من جوده ... » . [2] كذا فى اللمعة النورانية. وفى الأصل: «ثم سأل الله تعالى فمن سأله فيها رزقا ... » . [3] كذا فى إحدى نسخ اللمعة النورانية. وفى الأصلين: «بحر هائل» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 302 متمرّدة من شيطانى الإنس والجنّ وما ناسب ذلك إلّا أجيب له لوقته، وذلك على طهارة وصلاة [1] وجمع همة فى موضع خال من الأصوات. دعاء يدعى به فى الساعة الثانية عشرة من يوم الأحد، والسابعة من ليلة الاثنين والتاسعة من يوم الاثنين، وفى الرابعة من ليلة الثلاثاء وفى السادسة من يوم الثلاثاء، وفى الأولى من ليلة الأربعاء وفى الثالثة من يوم الأربعاء، وفى العاشرة من ليلة الخميس وفى الثانية عشرة من يوم الخميس، وفى العاشرة من ليلة الجمعة وفى التاسعة من يوم الجمعة، وفى السابعة من ليلة السبت وفى السادسة من يوم السبت، وفى الرابعة من ليلة الأحد. وهو: «تعاليت يا من تقاصر كلّ فكر عن حصر مغنى من معانى أسمائه، فكل علوّ ورفعة فمن ذلك [2] العلوّ والرفعة صدوره ظاهرا وباطنا؛ تقدّس مجدك يا من أستار عرشه أظهر فيها كبرياءه ومجده، أسألك بالصفات التى لا تعلّق لها بموجود، يا ذا العظمة والكبرياء والجلال والجمال والبهاء، أسألك الأنس بمقابلات سرّ القدر أنسا يمحو آثار وحشة الفكر حتى يطيب وقتى بك فأطيب بوقتى لك، فلا يتحرّك ذو طبع لمخالفتى إلا صغر لعظمتك وقصم بكبريائك، إنك جبّار الأرض والسماء، وقاهر الكلّ بقهرك يا مجيب» . قال البونى: من ذكر هذا الذكر سبعا وعشرين مرة فى ساعة من هذه الساعات ودعا [بما يريد [3]] كفى لوقته [شرّ ما يحاذره [3]] . فهذه دعوات ساعات الأيّام واللّيالى.   [1] فى إحدى نسخ اللمعة بعد كلمة «صلاة» بين الأسطر: «ثلاث تسليمات» . [2] كذا فى اللمعة النورانية. وفى الأصلين: «فمن دون ذلك العلو» الخ. [3] الزيادة عن إحدى نسختى اللمعة النورانية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 303 ذكر ما يدعى به فى المساء والصباح، والغدوّ والرواح، والصلاة والصوم، والجماع والنوم؛ والورد والصدر، والسفر والحضر؛ وغير ذلك. فأمّا ما يقال عند المساء والصباح؛ فقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبى بكر الصدّيق رضى الله عنه وقد سأله فقال: يا رسول الله مرنى بشىء أقوله إذا أصبحت وإذا أمسيت. فقال: «قل اللهمّ عالم الغيب والشهادة فاطر السموات والأرض ربّ كلّ شىء ومليكه أشهد أن لا إله إلّا أنت أعوذ بك من شرّ نفسى وشرّ الشيطان وشركه قلهن إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك» . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصبح يقول: «أصبحنا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص ودين نبيّنا [2] محمد صلى الله عليه وسلم وملّة أبينا إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين» . وكان صلى الله عليه وسلم إذا أصبح قال: «أصبحنا وأصبح الملك والكبرياء والعظمة والخلق والأمر واللّيل والنهار وما سكن فيهما من شىء لله وحده لا شريك له اللهم اجعل أوّل هذا النهار لنا صلاحا وأوسطه فلاحا وآخره نجاحا أسألك خير الدنيا وخير الآخرة يا أرحم الراحمين» . وكان صلى الله عليه وسلم يقول إذا أصبح: «اللهم بك أصبحنا وبك أمسينا وبك نحيا وبك نموت وإليك النشور» . وإذا أمسى قال: «اللهم بك أمسينا وبك نحيا وبك نموت» . وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قال حين يصبح أو يمسى اللهم أنت ربّى لا إله إلّا أنت خلقتنى وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شرّ ما صنعت أبوء   [1] فى كتاب الأذكار للنووى (ص 39) : «كذا وقع فى كتاب ابن السنى، ثم قال هو غير متبع. ولعله صلى الله عليه وسلم قال ذلك جهرا ليسمعه غيره فيتعلمه» اه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 304 لك [1]] بنعمتك [عليك [1]] وأبوء بذنبى فاغفرلى إنّه لا يغفر الذنوب إلّا أنت فمات من يومه أو من ليلته دخل الجنة» . وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قال لا إله إلّا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كلّ شىء قدير بعد ما يصلّى الغداة عشر مرّات كتب الله له عشر حسنات ومحا عنه عشر سيّئات ورفع له عشر درجات وكنّ له عدل رقبتين من ولد إسماعيل وكنّ له حجابا من الشيطان حتّى يمسى فإن قالها حين يمسى كان له مثل ذلك وكنّ له حجابا من الشيطان حتى يصبح» ، وفى رواية: «من قالها فى يوم مائة مرّة كانت له عدل عشر رقاب وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيّئة وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتّى يمسى ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه ومن قال سبحان الله وبحمده فى اليوم مائة مرة حطّت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر» . وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قال حين يمسى أعوذ بكلمات الله التامّات كلّها من شرّ ما خلق لم تضرّه لدغة عقرب حتى يصبح» . وعنه صلى الله عليه وسلم: «من قال حين يصبح فى أوّل يومه أو فى أوّل ليلته باسم الله الذى لا يضرّ مع اسمه شىء فى الأرض ولا فى السماء وهو السميع العليم ثلاثا لم يضرّه شىء فى ذلك اليوم أو تلك الليلة» . وعنه صلى الله عليه وسلم. «من قال إذا أصبح باسم الله العلىّ الأعلى الذى لا ولد له ولا صاحبة ولا شريك أشهد أنّ نوحا رسول الله وأنّ إبراهيم خليل الله وأنّ موسى نجىّ الله وأنّ داود خليفة الله وأنّ عيسى روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم وأنّ محمدا رسول الله وخاتم النبيّين لا نبىّ بعده لم تلسعه حيّة ولا عقرب ولم يخف من سلطان ولا كاهن ولا ساحر حتى يمسى وإذا قالها إذا أمسى لم يخف شيئا من ذلك حتى يصبح» .   [1] زيادة عن صحيح البخارى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 305 وأمّا ما يقال عند النوم؛ روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «وإذا أخذت مضجعك فتوضّا وضوءك للصّلاة ثم اضطجع على شقّك الأيمن ثم قل أسلمت وجهى إليك وفوّضت أمرى اليك وألجأت ظهرى إليك رهبة ورغبة إليك لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك اللهم آمنت بكتابك الذى أنزلت ونبيّك الذى أرسلت فإن متّ من ليلتك متّ على فطرة الإسلام واجعلهنّ آخر ما تتكلّم به» . قال البراء بن عازب: فردّدتها على النبىّ صلى الله عليه وسلم، فلما بلغت اللهم آمنت بكتابك الذى أنزلت قلت: ورسولك قال: «ونبيك الذى أرسلت» . وعن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من اللّيل يقول: «اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ولك الحمد أنت قيّام السموات والأرض ومن فيهنّ أنت الحق وقولك الحق ووعدك الحق ولقاؤك حق والجنّة حق والنار حق والساعة حق اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكّلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لى ما قدّمت وما أخّرت [1] وما أسررت وما أعلنت أنت إلهى لا إله إلا أنت» . وأمّا ما يقال عند دخول المنزل والمسجد والخروج منهما؛ روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذ ولج الرجل بيته فليقل باسم الله اللهم إنّى أسألك خير المولج وخير المخرج باسم الله ولجنا وباسم الله خرجنا وعلى الله توكّلنا ثم ليسلّم على أهله» . وعنه صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل الرجل بيته فقال باسم الله قعد الشيطان على الباب وقال ما من مقيل فهل من غداء فاذا أتى بغدائه فقال باسم الله   [1] كذا فى رواية الأذكار للنورى من رواية الصحيحين. وقد ورد فى الأصل بدون ما الموصولة إلا فى الفعل الأوّل دون الأفعال الباقية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 306 قال ما من غداء ولا مقيل» . وعنه صلى الله عليه وسلم: «إذا خرج الرجل من بيته فقال سبحان الله قال الملك هديت واذا قال لا حول ولا قوّة إلا بالله قال الملك وقيت فإذا قال توكّلت على الله يقول الملك كفيت يقول الشيطان عند ذلك كيف أعمل بمن كفى وهدى ووقى» . وعن أمّ سلمة رضى الله عنها قالت: ما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيته صباحا قطّ إلا قال: «اللهم إنّى أعوذ بك أن أزلّ أو أضلّ أو أظلم أو أجهل أو يجهل علىّ» . وعنه صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم خرج من بيته يريد سفرا أو غيره فقال حين يخرج باسم الله آمنت بالله اعتصمت بالله توكّلت على الله لا حول ولا قوّة إلا بالله إلا رزق خير ذلك المخرج وصرف عنه شرّ ذلك المخرج» . وعن أبى سعيد رضى الله عنه قال فضيل بن مرزوق- أحسبه رفعه- قال: «من قال حين يخرج إلى الصّلاة اللهم إنى أسألك بحقّ السائلين عليك وبحقّ ممشاى هذا إنى لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا رياء ولا سمعة خرجت خوف سخطك وابتغاء مرضاتك أسألك أن تنقذنى من النّار وأن تغفر ذنوبى إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت وكلّ الله به سبعين ألف ملك يستغفرون له وأقبل الله عليه بوجهه حتى يفرغ من صلاته» . وعن فاطمة [1] رضى الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد قال: «باسم الله والسلام على رسول الله اللهم اغفر لى وافتح لى أبواب رحمتك وإذا خرج قال باسم الله والسلام على رسول الله اللهم اغفر لى ذنوبى وافتح لى أبواب فضلك» . وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل أحدكم المسجد فليقل اللهم افتح لى أبواب رحمتك وإذا خرج فليقل اللهم إنى أسألك من فضلك» .   [1] وضع على حاشية إحدى النسخ «لعلها بنت قيس» ووضعت هذه الزيادة فى نسخة أخرى فى صلب الكاب. والظاهر أنها فاطمة الزهراء رضى الله عنها؛ فقد روى هذا الحديث الإمام النووى فى كتاب الأذكار عن عبد الله بن الحسن عن أمه عن جدّته اه وجدته هى فاطمة الزهراء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 307 وأمّا ما يقال عند النداء؛ فقد روى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا كان عند الأذان فتحت أبواب السماء واستجيب الدعاء وإذا كان عند الإقامة لم تردّ دعوة» . وعنه صلى الله عليه وسلم: «من قال حين يسمع المؤذّن وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنّ محمدا عبده ورسوله رضيت بالله ربّا وبمحمد رسولا وبالإسلام دينا غفر له ذنبه» . وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من سمع المؤذّن فقال اللهم ربّ هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذى وعدته حلّت له شفاعتى يوم القيامة» .- وعنه صلى الله عليه وسلم: «إذا سمعتم المؤذّن فقولوا مثل ما يقول ثم صلّوا علىّ فإنه من صلّى علىّ مرّة صلى الله عليه بها عشرا» . وأمّا ما يقال عند دخول الخلاء؛ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: «اللهم إنى أعوذ بك من الخبث والخبائث» وإذا خرج قال «غفرانك» . وفى لفظ إذا خرج قال: «الحمد لله الذى أذهب عنّى الأذى وعافانى» . وعن أنس رضى الله عنه قال: كان النبىّ صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: «اللهم إنّى أعوذ بك من الرّجس النجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم» ، وإذا خرج قال: «الحمد لله الذى أذهب عنّى الأذى وعافانى» . وأمّا ما يقال عند الوضوء وغسل الأعضاء؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة لمن لا وضوء له ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» . وعن علىّ ابن أبى طالب رضى الله عنه قال: قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا علىّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 308 إذا توضّأت فقل باسم الله والصلاة على رسول الله» . وعن محمد بن الحنفيّة قال: دخلت على والدى علىّ بن أبى طالب- رضى الله عنهما- وإذا عن يمينه إناء من ماء، فسمّى ثم سكب على يمينه ثم تمضمض فقال: اللهم حصّن فرجى واستر عورتى ولا تشمت بى الأعداء؛ ثم تمضمض واستنشق وقال: اللهم لقّنّى حجّتى ولا تحرمنى رائحة الجنّة. ثم غسل وجهه وقال: اللهم بيّض وجهى يوم تسودّ الوجوه ولا تسوّد وجهى يوم تبيضّ الوجوه. ثم سكب على يمينه فقال: اللهم أعطنى كتابى بيمينى والخلد بشمالى. ثم سكب على شماله وقال: اللهم لا تعطنى كتابى بشمالى ولا تجعلها مغلولة إلى عنقى. ثم مسح برأسه وقال: اللهم غشّنا برحمتك فإنّا نخشى عذابك، اللهم لا تجمع بين نواصينا وأقدامنا. ثم مسح عنقه فقال: اللهم نجّنا من مقطّعات [1] النيران وأغلالها. ثم غسل قدميه فقال: اللهم ثبّت قدمىّ على الصراط المستقيم يوم تزلّ فيه الأقدام. ثم استوى قائما فقال: اللهم كما طهّرتنا بالماء فطهّرنا من الذنوب، ثم قال بيده هكذا، يقطر الماء من أنامله، ثم قال: يا بنىّ، افعل كفعلى هذا فإنه ما من قطرة تقطر من أناملك إلا خلق الله منها ملكا يستغفر لك إلى يوم القيامة. يا بنىّ؛ من فعل كفعلى هذا تساقطت عنه الذنوب كما يتساقط الورق عن الشجر يوم الريح العاصف. وعن علىّ رضى الله عنه قال: دعانى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا علىّ إذا توضّأت فقل اللهم إنى أسألك تمام الوضوء وتمام مغفرتك ورضوانك» . وعن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «من توضّأ فأحسن وضوءه ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صادقا من قلبه فتح الله له ثمانية أبواب الجنّة يدخل من أيّها شاء» . وعن   [1] المقطعات من الثياب: شبه الجباب، وفى التنزيل: (قطعت لهم ثياب من نار) أى قطعت وخيطت وجعلت لبوسالهم. (عن لسان العرب) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 309 علىّ رضى الله عنه قال: قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا علىّ إذا فرغت من وضوئك فقل أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله اللهم اجعلنى من التوّابين واجعلنى من المتطهّرين تخرج من ذنوبك كيوم ولدتك أمّك وتفتح لك ثمانية أبواب الجنة فيقال ادخل من أيّها شئت» . وأمّا ادعية الصلاة، فهى إمّا أن تقع قبلها أو فيها أو بعدها. فأمّا ما يقال قبلها فقد روى عن أبى سلمة بن عبد الرحمن قال: سألت عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها بأىّ شىء كان نبىّ الله صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة إذا قام من الليل؟ قالت: إذا قام يفتتح صلاته يقول: «اللهم ربّ جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدنى لما اختلفت فيه من الحقّ بإذنك إنك تهدى من تشاء إلى صراط مستقيم» . وأمّا ما يدعى به فى نفس الصلاة، فقد روى عن عائشة رضى الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه ثم يقول: «سبحانك اللهمّ وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدّك ولا إله غيرك» . وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: كان النبىّ صلى الله عليه وسلم إذا كبّر فى الصلاة سكت هنيّة قبل أن يقرأ. فقلت: يا رسول الله، بأبى أنت وأمى، ما تقول فى سكوتك بين التكبير والقراءة؟ قال: «أقول اللهم باعد بينى وبين خطاياى كما باعدت بين المشرق والمغرب اللهم نقّنى من الخطايا كما ينقّى الثوب الأبيض من الدّنس واغسلنى من خطاياى بالثلج والماء والبرد» . وعن جبير بن مطعم رضى الله عنه أنه رأى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 310 النبىّ صلى الله عليه وسلم يصلّى قال: فكبّر فقال «الله أكبر كبيرا ثلاث مرات والحمد لله كثيرا ثلاث مرات وسبحان الله بكرة وأصيلا ثلاث مرات اللهم إنى أعوذ بك من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه» . قال راويه عمرو بن مرّة: نفخه: الكبر، ونفثه: السحر، وهمزه: الموتة، وهى الجنون. وعن علىّ ابن أبى طالب رضى الله عنه أن النبىّ صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصلاة كبّر ثم قال: «وجّهت وجهى للّذى فطر السموات والأرض حنيفا مسلما وما أنا من المشركين إن صلاتى ونسكى ومحياى ومماتى لله ربّ العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أوّل المسلمين اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت أنت ربّى وأنا عبدك ظلمت نفسى واعترفت بذنبى فاغفرلى ذنوبى جميعا لا يغفر الذنوب إلا أنت واهدنى لأحسن الأخلاق لا يهدى لأحسنها إلا أنت واصرف عنى سيّئها لا يصرف سيّئها إلا أنت لبّيك وسعديك والخير كلّه فى يديك [والشرّ ليس إليك [1]] وأنا بك وإليك تباركت وتعاليت أستغفرك وأتوب إليك» . فإذا ركع قال: «اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت خشع لك سمعى وبصرى ومخّى وعظمى وعصبى» . فإذا رفع رأسه قال: «سمع الله لمن حمده ربّنا ولك الحمد ملء السموات والأرض وما بينهما وملء ما شئت من شىء بعد» . فإذا سجد قال: «اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت سجد وجهى للّذى خلقه وصوّره فأحسن صوره وشقّ سمعه وبصره فتبارك الله أحسن الخالقين» . فإذا فرغ من الصلاة وسلّم قال: «اللهم اغفرلى ما قدّمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به منّى أنت المقدّم وأنت المؤخّر لا إله إلا أنت» . وقد ورد فى لفظ آخر أنه يقول: اللهم اغفر لى إلى آخر الدعاء بين التشهّد والتسليم. وعن حذيفة رضى الله عنه قال: صلّيت مع رسول الله   [1] زيادة من كتاب الأذكار للنووى (ص 21) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 311 صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول فى ركوعه: «سبحان ربّى العظيم» ، وفى سجوده: «سبحان ربّى الأعلى» . وفى لفظ أنه كان يقول ذلك ثلاث مرات. وعن عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول فى سجوده وركوعه: «سبّوح قدّوس ربّ الملائكة والروح» . وعن أبى سعيد الخدرىّ رضى الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال: «ربّنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شىء بعد أهل الثناء والمجد أحقّ ما قال العبد وكّلنا لك عبد اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطى لما منعت ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ» . وعن النبى صلى الله عليه وسلم: «من قال وهو ساجد ثلاث مرّات ربّ اغفرلى لم يرفع رأسه حتّى يغفر له» . وعن ابن عبّاس رضى الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلّمنا التشهّد كما يعلّمنا السّورة من القرآن، وكان يقول: «التحيّات المباركات الصلوات الطيبات لله سلام عليك أيها النبىّ ورحمة الله وبركاته سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أن محمدا رسول الله» . وروى: «السلام» فى الموضعين. وعن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال: كنّا نقول فى الصلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم: السلام على الله السلام على فلان. فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم: «إن الله هو السلام فإذا قعد أحدكم فى الصلاة فليقل التحيّات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبىّ ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فإذا قالها أصابت كلّ عبد صالح فى السماء والأرض أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ثم يتخيّر فى المسألة ما شاء» . وقد علّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه الصلاة عليه. وقد سأله كعب بن عجرة عنها فقال: «قولوا اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد وبارك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 312 على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد» . وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا فرغ أحدكم من التشهّد فليتعوّذ بالله من أربع: من عذاب جهنم وعذاب القبر وفتنة المحيا والممات وشرّ المسيح الدجّال» . وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن أبا بكر الصدّيق رضى الله عنه قال: قلت يا رسول الله: علّمنى دعاء أدعو به فى الصلاة وفى بيتى قال: «قل اللهم إنى ظلمت نفسى ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لى مغفرة من عندك إنّك أنت الغفور الرحيم» . وروى بعد قوله من عندك: «وارحمنى إنك أنت التوّاب الرحيم» . وأمّا ما يدعى به بعد التسليم؛ فقد روى عن ابن عبّاس رضى الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول دبر كلّ صلاة: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو على كلّ شىء قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطى لما منعت ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ» . وعن عبد الله ابن الزّبير رضى الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلّم من صلاته يقول بصوته الأعلى: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير لا حول ولا قوّة إلا بالله ولا نعبد إلا إيّاه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون» . وفى طريق آخر: «له الدين وهو على كل شىء قدير» . وعن أمّ سلمة رضى عنها أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلّى الصبح قال: «اللهم إنى أسألك علما نافعا ورزقا طيّبا وعملا متقبّلا» . وعن أنس رضى الله عنه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 313 «من قال حين ينصرف من صلاته سبحان الله العظيم وبحمده لا حول ولا قوّة إلا بالله العلىّ العظيم ثلاث مرات فإنه مغفور له» . وعن أبى أمامة الباهلىّ رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ آية الكرسىّ دبر كلّ صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت» . وعن أنس بن مالك رضى الله عنه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «ما من عبد بسط كفّيه فى دبر صلاته ثم يقول إلهى إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب إله جبريل وميكائيل وإسرافيل أسألك أن تستجيب دعوتى وتعصمنى فى دينى فإنى مبتلى وتنالنى برحمتك فإنّى مذنب وتنفى عنى الفقر فإنى مستمسك إلّا كان حقّا على الله ألّا يردّ يديه خائبتين» . وعن أبى هريرة رضى الله عنه أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «من قال دبر كلّ صلاة الحمد لله ثلاثا وثلاثين مرّة وسبحان الله ثلاثا وثلاثين مرة والله أكبر ثلاثا وثلاثين مرّة وتمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير غفرت ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر» . وعن علىّ رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول فى آخر وتره: «اللهم إنى أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بمعافتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» . وعن الحسن بن علىّ رضى الله عنهما قال: علّمنى رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهنّ فى الوتر، وفى لفظ: فى قنوت الوتر: «اللهم اهدنى فيمن هديت وعافنى فيمن عافيت وتولّنى فيمن تولّيت وبارك لى فيما أعطيت وقنى شرّ ما قضيت إنك تقضى ولا يقضى عليك وإنّه لا يذلّ من واليت تباركت ربّنا وتعاليت» . وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة فقال: «اللهم اغفر لحيّنا وميّتنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا وشاهدنا وغائبنا اللهم من أحييته منّا فأحيه على الإيمان ومن توفّيته منا فتوفّه على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 314 الإسلام اللهم لا تحرمنا أجره ولا تضلّنا بعده» . وعن علىّ رضى الله عنه قال: دعانى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا علىّ اذا صلّيت على جنازة رجل فقل اللهم هذا عبدك ابن عبدك ابن أمتك ماض فيه حكمك خلقته ولم يكن شيئا مذكورا نزل بك وأنت خير منزول به اللهم لقّنه حجّته وألحقه بنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم وثبّته بالقول الثابت فإنه افتقر إليك واستغنيت عنه كان يشهد أن لا إله إلّا الله فاغفر له وارحمه ولا تحرمنا أجره ولا تفتنّا بعده اللهم إن كان زاكيا فزكّه وإن كان خاطئا فاغفر له. وإذا صلّيت على جنازة امرأة فقل اللهم أنت خلقتها وأنت أحييتها وأنت أمتّها تعلم سرّها وعلانيتها جئناك شفعاء لها فاغفر لها وارحمها ولا تحرمنا أجرها ولا تفتنّا بعدها. وإذا صلّيت على جنازة طفل فقل اللهم اجعله لوالديه سلفا واجعله لهما ذخرا واجعله لهما رشدا واجعله لهما نورا واجعله لهما فرطا وأعقب لوالديه الجنّة ولا تحرمنا أجره ولا تفتنّا بعده» . وعن عوف بن مالك رضى الله عنه قال: سمعت النبىّ صلى الله عليه وسلم وصلّى على جنازة يقول: «اللهم اغفر له وارحمه واعف عنه وعافه وأكرم نزله ووسّع مدخله واغسله بماء وثلج وبرد ونقّه من الخطايا كما ينقّى الثوب الأبيض من الدنس وأبدله دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله وزوجا خيرا من زوجه وقه فتنة القبر وعذاب القبر وعذاب النار» . قال عوف رضى الله عنه: فتمنّيت لو كنت أنا الميّت لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأمّا ما يقال عند رؤية الجنازة والتلقين والدفن، وما فى ذلك من الأجر؛ روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: من رأى جنازة فقال الله أكبر صدق الله ورسوله هذا ما وعدنا الله ورسوله اللهم زدنا إيمانا وتسليما كتب له عشرون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 315 حسنة فى كلّ يوم من يوم يقولها إلى يوم القيامة» . وقال صلى الله عليه وسلم: «لقّنوا موتاكم لا إله إلا الله» . وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا وضعتم موتاكم فى القبر فقولوا بآسم الله وعلى ملّة رسول الله» . وعن ابن عمر رضى الله عنهما أنه كان اذا سوّى على الميّت التراب قال: «اللهم أسلمه إليك الأهل و؟؟؟ والعشيرة وذنبه عظيم فاغفر له» . وعن سعيد بن عبد الله الأودىّ قال: شهدت أبا أمامة وهو فى النّزع فقال: إذا أنا متّ فاصنعوا بى كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصنع بموتانا، أمرنا فقال: «إذا مات أحد من إخوانكم فسوّيتم التراب على قبره فليقم أحدكم على رأس قبره فليقل يا فلان بن فلانة فإنه يسمعه ولا يجيبه ثم يقول يا فلان بن فلانة فإنّه يستوى قاعدا ثم يقول يا فلان بن فلانة فإنه يقول أرشدنا رحمك الله ولكن لا تشعرون فليقل اذكر ما خرجت عليه من الدنيا شهادة أن لا إله إلّا الله وأنّ محمدا عبده ورسوله وأنّك رضيت بالله ربّا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيّا وبالقرآن إماما فإن منكرا ونكيرا يأخذ كلّ واحد منهما بيد صاحبه ويقول انطلق بنا ما نقعد عند من لقّن حجّته فيكون الله حجيجه دونهما» . فقال رجل: يا رسول الله فإن لم يعرف أمّه؟ قال: «فينسبه إلى حوّاء يا فلان ابن حوّاء» . وأمّا ما يقال عند زيارة القبور؛ عن عائشة رضى الله عنها أنّها تبعت النبىّ صلى الله عليه وسلم إلى زيارة البقيع فقال لها: «قولى السّلام على أهل الديار من المؤمنين والمؤمنات ويرحم الله المستقدمين منّا والمستأخرين وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون» . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى المقابر قال: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون أنتم لنا فرط ونحن لكم تبع أسأل الله العافية لنا ولكم» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 316 وأمّا ما يقال عند الإفطار من الصوم، والأكل والشرب؛ روى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أفطر قال: «اللهم لك صمنا وعلى رزقك أفطرنا فتقبّل منّا إنك أنت السميع العليم» . وعنه صلى الله عليه وسلم: «من قال اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت وعليك توكّلت كتب له من الأجر بعدد من صام ذلك اليوم» . وعن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ أحدكم لتوضع مائدة بين يديه فما تكاد أن ترفع حتى يغفر له» . قيل يا رسول الله وكيف ذلك؟ قال: «لأنه يسمّى الله إذا وضعت المائدة وأكل ويحمد الله إذا رفعت» . وعن عائشة رضى الله عنها أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا نسى أحدكم أن يذكر اسم الله فى أوّل طعامه فليقل باسم الله أوّله وآخره» . وعنه صلى الله عليه وسلم «من أكل طعاما ثم قال الحمد لله الذى أطعمنى هذا الطعام ورزقنيه بغير حول منّى ولا قوّة غفر له ما تقدّم من ذنبه» . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أكل قال: «الحمد لله الذى أطعم وسقى وسوّغه وجعل له مخرجا» . ومن رواية أنس: «الحمد لله الذى أطعمنى وسقانى وهدانى وكلّ بلاء حسن أبلانى الحمد لله الرازق ذى القوّة اللهم لا تنزع منّا صالحا أعطيتناه ولا صالحا رزقتناه واجعلنا لك من الشاكرين» . وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أكل قال: «الحمد لله الذى أطعمنا وسقانا وأشبعنا وآوانا وكفانا» . وعن علىّ رضى الله عنه قال: دعانى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا علىّ إذا شربت ماء فقل الحمد لله الذى سقانا ماء عذبا فراتا برحمته ولم يجعله ملحا أجاجا بذنوبنا تكتب شاكرا» . وكان صلى الله عليه وسلم إذا أفطر عند أهل بيت قال لهم: «أفطر عندكم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 317 الصائمون وأكل طعامكم الأبرار ونزلت عليكم الملائكة» ؛ وروى: «وصلّت عليكم الملائكة وذكركم الله فيمن عنده» . وأمّا ما يقال عند لباس الثوب وإلباسه؛ وعند النظر فى المرآة والتسريح وفى المجلس؛ روى أبو سعيد الخدرىّ رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استجدّ ثوبا- سمّاه باسمه قميصا أو إزارا أو عمامة- يقول: «اللهم لك الحمد أنت كسوتنيه اللهم إنى أسألك من خيره [1] وخير ما صنع له وأعوذ بك من شرّه وشرّ ما صنع له» . وعن علىّ رضى الله عنه قال: قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا علىّ إذا لبست ثوبا فقل باسم الله الحمد لله الذى كسانى ما أوارى به عورتى وأستغنى به عن الناس لم يبلغ الثوب رقبتك حتى يغفر لك يا علىّ من لبس ثوبا جديدا وكسا أسماله [2] عريانا أو مسكينا كان فى جوار الله وأمنه وحفظه ما دام عليه منه سلك [3] » . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لبس ثوبا فقال الحمد لله الذى كسانى هذا ورزقنيه من غير حول منّى ولا قوّة غفر له [4] ما تقدّم من ذنبه وما تأخر [5] » . وعن ابن عبّاس رضى الله عنهما قال: كان النبىّ صلى الله عليه وسلم إذا نظر فى المرآة يقول: «الحمد لله رب العالمين الذى خلقنى وسوّى خلقى وجعلنى بشرا سويّا ولا حول ولا قوّة إلا بالله» . قال ابن عباس رضى الله عنهما: فما تركتها منذ سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: لا يمس   [1] الذى فى أذكار النووى؛ «أسألك خيره ... » بدون كلمة «من» . [2] فى الأصول: «أو كسا أسماله ... » وظاهر أن السياق يقتصى الواو دون «أو» . وقد ورد ما يشبه هذا الحديث فى أذكار النووى (ص 11) وأداة العطف فيه «ثم» . [3] السلك: الخيط. [4] فى الأصل: «إلا غفر له» بزيادة «إلا» وهى غير موجودة فى أذكار النووى. [5] كلمة «وما تأخر» غير موجودة فى أذكار النووى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 318 وجه من قالها سوء أبدا. وعن علىّ رضى الله عنه قال: دعانى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا علىّ إذا نظرت فى المرآة فقل اللهم كما حسّنت خلقى فأحسن خلقى وارزقنى» . وعن الرّضى علىّ بن موسى عن أبيه عن آبائه أبا فأبا رضى الله عنهم عن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «من أمرّ المشط على رأسه ولحيته فى كل يوم سبع مرّات وقال فى كلّ مرة سبحان الله العظيم وبحمده لا حول ولا قوّة إلا بالله العلىّ العظيم لم يقارنه ذنب» . وعن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «من جلس فى مجلس كثر لغطه فيه فقال قبل أن يقوم سبحانك اللهم ربّنا وبحمدك لا إله إلّا أنت أستغفرك وأتوب إليك غفر الله له ما كان فى مجلسه ذلك» . وأمّا ما يقال فى المرض والرّقى والوسواس والحريق؛ عن عائشة رضى الله عنها أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول للمريض: «باسم الله تربة أرضنا وريقة بعضنا يشفى سقيمنا بإذن [1] ربّنا» . وعن عثمان بن أبى العاص الثقفىّ رضى الله عنه قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبى وجع قد كاد يبطلنى فقال لى صلى الله عليه وسلم: «اجعل يدك اليمنى عليه ثم قل باسم الله أعوذ بعزة الله وقدرته من شرّ ما أجد سبع مرات [2] » ، ففعلت ذلك فشفانى الله تعالى. وعنه صلى   [1] كذا فى الأصول. وفى صحيح مسلم: «باسم الله تربة أرضنا بريقة بعضنا ليشفى به سقيمنا باذن ربنا وقال ابن أبى شيبة: يشفى وقال زهير: ليشفى به سقيمنا» . وفى أذكار النووى (ص 61) : «وروينا فى صحيحى البخارى ومسلم وسنن أبى داود وغيرها، إلى أن قال: باسم الله تربة أرضنا بريقة بعضنا يشفى به سقيمنا باذن ربنا، وفى رواية ترية أرضنا وريقة بعضنا» اهـ. فما فى الأصول هنا يوافق بعض الروايات. [2] الذى فى صحيح مسلم: «عن عثمان بن أبى العاصى الثقفى أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعا يجده فى جسده منذأ سلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ضع يدك على الذى تألم من وقل باسم الله ثلاثا وقل سبع مرات أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 319 الله عليه وسلم: «من عاد مريضا لم يحضر أجله فقال عنده سبع مرات أسأل الله العظيم ربّ العرش العظيم أن يشفيك إلا عافاه الله من ذلك المرض» . وكان صلى الله عليه وسلم إذا دخل على مريض وضع يده اليمنى على خدّه وقال: «أذهب الباس، ربّ الناس واشف أنت الشافى شفاء لا يغادر سقما» . وعن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه أنه قرأ فى أذن مبتلى فأفاق، فقال له النبىّ صلى الله عليه وسلم: «ما قرأت فى أذنه» ؛ قال: قرأت (أفحسبتم أنّما خلقناكم عبثا) إلى آخر السورة. فقال النبىّ صلى الله عليه وسلم: «لو أنّ رجلا موقنا قرأبها على جبل لزال» . وعن ابن عمر أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «من رأى صاحب بلاء فقال الحمد الذى عافانى مما ابتلاك به وفضّلنى عليك وعلى كثير ممن خلق الله عافاه الله من ذلك البلاء كائنا ما كان أبدا ما عاش» . وعن عائشة رضى الله عنها قالت: كنت أرقى رسول الله صلى الله عليه وسلم من العين فأضع يدى على صدره وأقول: أذهب الباس، ربّ الناس؛ بيدك الشفاء ولا كاشف له إلا أنت. وعن ابن عبّاس رضى الله عنهما رفع الحديث أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «هذه الكلمات دواء من كلّ داء أعوذ بكلمات الله التامّة وأسمائه كلها عامّة من السامّة والهامّة وشرّ العين اللّامّة ومن شرّ حاسد إذا حسد ومن شرّ أبى قترة [1] وما ولد ثلاثون من الملائكة أتوا ربّهم عز وجل فقالوا وصب بأرضنا فقال خذوا تربة من أرضكم وامسحوا بوصبكم رقية محمد صلى الله عليه وسلم من أخذ عليها صفدا [1] أو كتمها أحدا فلا أفلح أبدا» . وعن علىّ رضى الله عنه قال: من اشتكى ضرسه فليأخذ التراب من موضع سجوده ثم يمسح يده على الموضع الذى يشتكى، ثم يقول: باسم الله، والشافى الله، ولا حول ولا قوّة إلا بالله. وعن أبى الدرداء رضى الله عنه أنه أتاه رجل فذكر له أن   [1] أبو قترة: إبليس. [2] الصفد (بفتحتين) : العطاء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 320 أباه احتبس بوله وأصابته حصاة منعته البول فعلّمه رقية سمعها من النبىّ صلى الله عليه وسلم وهى: «ربّنا الله الذى فى السماء تقدّس اسمك أمرك فى السماء والأرض كما رحمتك فى السماء فاجعل رحمتك فى الأرض واغفر لنا حوبنا [1] وخطايانا أنت ربّ الطيّبين فأنزل شفاء من شفائك ورحمة من رحمتك على الوجع فيبرأ» ؛ فأمره برقيه بها فرقاه بها فبرئ. وعن علىّ رضى الله عنه أن جبريل عليه السلام أتى النبىّ صلى الله عليه وسلم فوافقه مغتمّا، فقال: يا محمد، ما هذا الغمّ الذى أراه فى وجهك؟ قال: «الحسن والحسين أصابتهما عين» . فقال: يا محمد، صدّق العين فإن العين حقّ. ثم قال: أفلا عوّذتهما بهؤلاء الكلمات؟ فقال: «وما هنّ يا جبريل» ؛ فقال: «قل اللهمّ ذا السلطان العظيم، ذا المنّ القديم، ذا الوجه الكريم، والكلمات التامّات، والدعوات المستجابات عاف الحسن والحسين من أنفس الجنّ وأعين الإنس» . فقالها النبىّ صلى الله عليه وسلم فقاما يلعبان بين يديه. فقال النبىّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «عوّذوا أنفسكم بهذا التعوّذ فإنّه لم يتعوّذ المتعوذّون بمثله» . وعن علىّ رضى الله عنه قال: دعانى النبىّ صلى الله عليه وسلم فقال: «أمان لك من الحرق أن تقول سبحانك ربّى لا إله إلّا أنت عليك توكّلت وأنت ربّ العرش العظيم» . وعنه أيضا رضى الله عنه قال: دعانى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا علىّ أمان لك من الوسواس أن تقرأ وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً . وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً » . وأمّا ما يقال عند دخول السوق وشراء الجارية والدابّة؛ روى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل السوق قال: «اللهم إنّى أسألك من خير   [1] الحوب: الإثم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 321 هذه السوق وأعوذ بك من الكفر والفسوق» . وعن علىّ رضى الله عنه قال: قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا علىّ إذا دخلت السوق فقل حين تدخل باسم الله وبالله أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله يقول الله عز وجل عبدى هذا ذكرنى والناس غافلون اشهدوا أنّى قد غفرت له» . وعن عمر ابن الخطاب رضى الله عنه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «من دخل السوق فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو حىّ لا يموت بيده الخير وهو على كل شىء قدير كتب الله له ألف ألف حسنة ورفع له ألف ألف درجة» أو قال: «وبنى له بيتا فى الجنّة» . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أفاد أحدكم الجارية أو المرأة أو الدابّة فليأخذ بناصيتها وليدع بالبركة وليقل اللهم إنّى أسألك خيرها وخير ما جبلت عليه وأعوذ بك من شرّها وشرّ ما جبلت عليه فإن كان بعيرا فليأخذ بذروة سنامه» . وأمّا ما يقال عند هبوب الرياح وفى الرعد والمطر؛ عن أبىّ بن كعب رضى الله عنه أن الريح هاجت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبّها رجل فقال له النبىّ صلى الله عليه وسلم: «لا تسبّها فإنها مأمورة ولكن قل اللهم إنى أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أمرت به وأعوذ بك من شرّها وشر ما فيها وشرّ ما أمرت به» . وعن ابن عمر رضى الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع الرعد أو البرق قال. «اللهم لا تقتلنا غضبا ولا تقتلنا بغتة وعافنا قبل ذلك» . وعن عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع الرعد والصواعق قال: «اللهم لا تهلكنا بغضبك ولا تقتلنا بعذابك وعافنا قبل ذلك» . وعن أنس أن النبىّ صلى الله عليه وسلم كان لا يرفع يديه فى شىء من الدعاء إلا فى الاستسقاء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 322 حتى يرى بياض إبطيه. وعن كعب بن مرّة السلمىّ رضى الله عنه قال: كنّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءه رجل فقال: يا رسول الله، استسق الله لمضر، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وقال: «اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريعا مريئا عاجلا غير رائث نافعا غير ضارّ» . وقال: فما جمّعوا [1] حتى أحيوا [2] . فأتوه فشكوا إليه المطر فقالوا: يا رسول الله قد تهدّمت البيوت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديه: «اللهم حوالينا ولا علينا» ، فجعل السحاب يتقطّع يمينا وشمالا. وعن عائشة رضى الله عنها أن النبىّ صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى ناشئا فى أفق السماء ترك العمل وإن كان فى صلاة، ثم يقول: «اللهم إنى أعوذ بك من شرّها» ؛ فإن رأى مطرا قال: «اللهم صيّبا هنيئا» . وعنها رضى الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى المطر قال: «اللهم صيّبا نافعا» . وأمّا ما يقال فى الخوف والشدائد؛ عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا تخوّف الرجل من السلطان فليقل اللهم ربّ السموات السبع وربّ العرش العظيم كن لى جارا من فلان بن فلان يسمّى الذى يريد وشرّ الجنّ والإنس وأحزابهم وأتباعهم أن يفرط علىّ أحد منهم أو يطغى عزّ جارك وجلّ ثناؤك ولا إله غيرك» . وعن ابن عباس رضى الله عنهما عن النبىّ صلى الله عليه وسلم: «من خاف من السلطان أو غيره فليفزع إلى هذه الدعوة الله أكبر وأعزّ من خلقه جميعا الله أكبر وأعزّ مما أخاف وأحذر وأعوذ بالله الذى لا إله إلّا هو ممسك السموات السبع أن يقعن على الأرض إلّا بإذنه من شرّ فلان   [1] جمعوا: شهدوا الجمعة. [2] أحيوا: حيث ما شيتهم وحسن حالها أو صاروا فى الخصب (عن القاموس) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 323 ابن فلان يا ربّ كن لى جارا من شرّه عزّ جارك وجلّ ثناؤك ولا إله إلا أنت العلىّ العظيم يقولهنّ ثلاث مرات إلّا أعاذه الله من شرّ ذلك» . وعن علىّ رضى الله عنه قال: دعانى النبىّ صلى الله عليه وسلم فقال: «يا علىّ إذا اشتدّ بك أمر فكبّر ثلاثا وقل الله أكبر وأعزّ من كل شىء والله أكبر أعزّ من خلقه وأقدر وأعزّ مما أخاف وأحذر اللهم أدرأ بك فى نحره وأعوذ بك من شرّه فإنك تكفى بإذن الله عز وجل» . وأمّا ما يقال فى الغضب والفزع؛ عن سليمان بن صرد رضى الله عنه قال: استبّ رجلان عند النبىّ صلى الله عليه وسلم فجعل أحدهما تحمرّ عيناه وتنتفخ أوداجه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّى لأعرف كلمة لو قالها لذهب عنه الذى يجد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» . وعن النبىّ صلى الله عليه وسلم: «إذا فزع أحدكم فليقل أعوذ بكلمات الله التامّة من غضبه وعذابه [1] ومن شرّ عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون فإنّها لم تضرّه» . قال فكان عبد الله يعلّمها من بلغ من ولده، ومن لم يبلغ منهم كتبها فى صكّ وعلّقها عليه. وفى لفظ: «إذا فزع أحدكم فى النوم فليقل ... » يعنى الكلمات؛ وفى طريق: كان خالد بن الوليد رجلا يفزع فى نومه فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: «إذا اضطجعت للنوم فقل ... » يعنى الكلمات، فقالها فذهب ذلك عنه. وأمّا ما يقال فى السفر وركوب الدابّة والسفينة ودخول القرية؛ عن عائشة رضى الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا توصّأ   [1] ذكر هذا الحديث فى أذكار النووى مرات ولم تذكر فيه كلمة «وعذابه» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 324 فأسبغ وضوءه وصلّى ركعتين، ويقول وهو فى مجلسه مستقبل القبلة: «الحمد لله الذى خلقنى ولم أك شيئا ربّ أعنّى على أهوال الدنيا والآخرة ومن مصيبات الليالى والأيّام فى سفرى فاحفظنى وفى أهلى فاخلفنى» . وعن النبىّ صلى الله عليه وسلم: «ما استخلف العبد فى أهله إذا هو شدّ عليه ثياب سفره خيرا من أربع ركعات يصلّيهنّ [1] فى بيته يقرأ فى كل واحدة بفاتحة الكتاب وقل هو الله أحد ثم يقول اللهم إنّى أتقرّب بهنّ اليك فاجعلهنّ خليفتى فى أهلى ومالى قال فهو [2] خليفته فى أهله وماله وولده ودور حول داره حتى يرجع إلى داره» . وعن أنس رضى الله عنه قال: لم يرد النبىّ صلى الله عليه وسلم سفرا قطّ إلا قال حين ينهض من جلوسه: «بك انتشرت إليك وجّهت [3] وبك اعتصمت أنت ثقتى ورجابى اللهم اكفنى ما يهمّنى وما لا أهتمّ به وما أنت أعلم به منّى اللهم زوّدنى التقوى واغفر لى ذنبى ووجّهنى إلى الخير أينما توجّهت» . وعن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا ركبتم الإبل فتعوّذوا بالله واذكروا اسم الله عليه فإنّ على سنام كلّ بعير شيطانا» . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استوى على بعيره يريد السفر كبّر ثلاثا ثم قال: «سبحان الذى سخّر لنا هذا وما كنّا له مقرنين وإنا إلى ربّنا لمنقلبون اللهم إنا نسألك فى سفرنا هذا البرّ والتقوى ومن العمل ما ترضى اللهم هوّن لنا سفرنا هذا واطو عنّا بعده اللهم أنت   [1] كذا فى شرح الإحياء طبع المطبعة الميمنية (ج 6 ص 403) . وفى الأصل «يضعهن» . [2] ورد هذا الحديث فى كتاب منتخب كنز العمال فى سنن الأقوال والأفعال الموضوع بهامش الجزء الثالث من مسند الامام أحمد بن حنبل طبع مصر سنة 1313 هـ (ج 3 ص 39) مع شىء يسير جدّا من النقص أو الزيادة. وفيه «فاجعلهن خليفتى فى أهلى ومالى فهن خليفة» الخ. [3] كذا فى الأصلين. وقد روى هذا الحديث فى منتخب كنز العمال: «اللهم لك انتشرت واليك توجهت وبك اعتصمت اللهم أنت ثقتى وأنت رجائى اللهم اكفنى ما أهمنى وما لا أهتم له وما أنت أعلم به اللهم زودنى التقوى» الخ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 325 الصاحب فى السفر والخليفة فى الأهل والمال والولد» ، وإذا رجع صلى الله عليه وسلم قالهن وزاد فيهن: «آئبون تائبون لربّنا حامدون» . وعن ابن عمر رضى الله عنهما أن النبىّ صلى الله عليه وسلم كان إذا قفل من حجّ أو عمرة فأشرف على شرف كبّر ثلاثا ثم قال: «لا إله إلّا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير آئبون تائبون لربّنا حامدون صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده وكلّ شىء هالك إلّا وجهه له الحكم وإليه ترجعون اللهم إنى أعوذ بك من وعثاء السفر وكابة المنقلب وسوء المنظر فى الأهل والمال» . وعن ابن عبّاس رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمان لأمّتى من الغرق إذا ركبوا السّفن أن يقولوا بسم الله الرحمن الرحيم وما قدروا الله حقّ قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويّات بيمينه سبحانه وتعالى عمّا يشركون باسم الله مجريها ومرساها إن ربّى لغفور رحيم» . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فأقبل اللّيل قال: «يا أرض ربّى وربّك الله أعوذ بالله من شرّك وشرّ ما فيك وشرّ ما يدبّ عليك أعوذ بالله من أسد وأسود ومن الحيّة والعقرب ومن ساكن البلد ومن والد وما ولد» . وعن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه قال: قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا علىّ إذا نزلت منزلا فقل باسم الله اللهم أنزلنا منزلا مباركا وأنت خير المنزلين ترزق خيره ويدفع عنك شرّه» . وقال صلى الله عليه وسلم: «من نزل منزلا ثم قال أعوذ بكلمات الله التامّات كلّها من شرّ ما خلق لم يضرّه شىء حتى يرتحل من منزله ذلك» . وعن علىّ رضى الله عنه قال: دعانى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إذا أردت الدخول إلى مدينة أو قرية فقل حين تعاينها اللهم إنّى أسألك خير هذه القرية وخير ما كتبت فيها وأعوذ بك من شرّها وشرّ ما كتبت فيها اللهم ارزقنى خيرها وأعوذ بك من شرّها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 326 وحبّبنا إلى أهلها وحبّب أهلها إلينا» . وعن صهيب رضى الله عنه أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم لم ير قرية يريد دخولها إلّا قال: «اللهم ربّ السموات السبع وما أظللن وربّ الأرضين السبع وما أقللن وربّ الرياح وما ذرين وربّ الشياطين وما أضللن أسألك خير هذه القرية وخير ما فيها وأعوذ بك من شرّها وشرّ ما فيها» . وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فأراد أن ينزل قرية عدل إليها وقال: «الله أكبر ثلاثا اللهم ارزقنا خيرها واصرف عنّا وباءها وحبّبنا إلى صالح أهلها وحبّبهم إلبنا» . وأمّا ما يقال فى الزواج والجماع؛ عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا تزوّج أحدكم ثم دخل على أهله فليقل اللهمّ بارك لى فى أهلى وبارك لأهلى فىّ وارزقنى منها وارزقها منى واجمع بيننا ما جمعت فى خير وإذا فرّقت بيننا ففرّق فى خير» . وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: قال النبى صلى الله عليه وسلم: «لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال اللهم جنّبنى الشيطان وجنّب الشيطان ما رزقتنى فإن قضى بينهما ولد لم يضرّه الشيطان [1] » ، أو قال: «لم يسلّط عليه» . وأمّا ما يقال فى قضاء الدّين ونجاح الحوائج؛ عن أبى سعيد رضى الله عنه قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم المسجد فإذا هو برجل من   [1] كذا فى الأصلين. وفى أذكار النورى (ص 125) عن رواية صحيحى البخارى ومسلم: «لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال باسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فقضى بينهما ولد لم يضره» وفى رواية البخارى: « ... لم يضره شيطان أبدا» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 327 الأنصار يقال له أبو أمامة، فقال: «يا أبا أمامة مالى أراك جالسا فى المسجد فى غير وقت صلاة» ؟ قال: هموم لزمتنى وديون يا رسول الله. قال: «أفلا أعلّمك كلاما إذا قلته أذهب الله همّك عنك وقضى عنك دينك» ! قال: بلى يا رسول الله. قال: «قل إذا أصبحت وأمسيت اللهم إنى أعوذ بك من الهمّ [1] والحزن وأعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من الجبن والبخل وأعوذ بك من غلبة الدّين وقهر الرجال» ؛ قال: ففعلت ذلك فأذهب الله همّى وقضى عنّى دينى. وعن معاذ ابن جبل رضى الله عنه أنّه تخلّف عن صلاة من الصلوات ففقده النبىّ صلى الله عليه وسلم. فلما جاءه قال: «ما خلّفك عن الصلاة يا معاذ» ؟ قال: ليوحنّا اليهودىّ علىّ دين فخشيت إن خرجت أن يلزمنى فلا أنا وصلت إليك ولا أنا كنت فى أهلى. فقال صلى الله عليه وسلم: «ألا أعلّمك [2] كلمات إذا قلتهنّ قضى الله عنك دينك ولو كان مثل الأرض أو مثل صبر [3] ذهبا أو ورقا قضاه الله عنك» ! قلت: بلى يا رسول الله قال: «قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممّن تشاء وتعزّ من تشاء وتذلّ من تشاء بيدك الخير إنّك على كلّ شىء قدير. تولج اللّيل فى النّهار وتولج النّهار فى اللّيل وتخرج الحىّ من الميّت وتخرج الميّت من الحىّ وترزق من تشاء بغير حساب. رحمن الدنيا والاخرة ورحيمهما تعطى منهما من تشاء وتمنع منهما من تشاء أسألك بعزّتك ورحمتك أن تقضى عنّى دينى» . وعن عبد الله بن أبى أوفى الأسلمىّ رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كانت له   [1] كذا فى أذكار النورى (ص 39) . وفى الأصلين: « ... من الجبن والحزن ... » . [2] كذا فى نزل الأبرار بالعلم المأثور من الأدعية والأذكار طبع مطبعة الجوائب (ص 264) . وفى الأصلين: «ألا أكلمك ... » . [3] صبر (بفتح فكسر) : جبل من جبال اليمن مطل على قلعة «تعز» المدينة المشهورة بها. (عن تاج العروس) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 328 حاجة إلى الله أو إلى أحد من بنى آدم فليتوضّأ وليحسن الوضوء وليصلّ ركعتين ثم ليثن على الله عز وجل ويصلّ على النبىّ صلى الله عليه وسلم ثم ليقل لا إله إلا الله الحكيم الكريم سبحان الله ربّ العرش العظيم والحمد لله ربّ العالمين أسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك والغنيمة من كلّ برّ والسلامة من كلّ ذنب لا تدع لى ذنبا إلا غفرته ولا همّا إلا فرّجته ولا حاجة هى لك رضا إلا قضيتها» . وعن علىّ رضى الله عنه قال: دعانى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا علىّ إذا خرجت من منزلك تريد حاجة فاقرأ آية الكرسىّ فإنّ حاجتك تقضى إن شاء الله تعالى» . وعنه رضى الله عنه قال: «إذا أراد أحدكم الحاجة فليبكّر فى طلبها يوم الخميس وليقرأ إذا خرج من بيته آخر سورة آل عمران وآية الكرسىّ وإنّا أنزلناه فى ليلة القدر وأمّ الكتاب فإنّ فيها قضاء حوائج الدنيا والآخرة» . وأمّا ما يقال فى ردّ الضالّة؛ عن مكحول رضى الله عنه أنه كان يدعو فى الضالّة: اللهم هادى ورادّ الضّوالّ اردد علىّ ضالّتى ولا تعنّنى بطلبها ولا تفجعنى بمصيبتها فإنها من رزقك وعطائك. وكان يقول فى الآبق: اللهم ضيّق عليه البلاد واجعله فى أضيق من ضرورة الحمل [1] حتى تردّه . دعاء الاستخارة؛ عن أبى بكر الصّدّيق رضى الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا أراد الأمر: «اللهم خر لى واختر لى» . وعن جابر   [1] كذا فى الأصل. وقد راجعنا كثيرا من كتب الحديث والأدعية فلم نوفق له. وفى كتاب الفوائد فى الصلات والعوائد المطبوع بالمطبعة الكاستلية سنة 1296 هـ (ص 28) وردت العبارة الآتية فى عزيمة العبد الآبق وهى: «اللهم إنى أسألك يا مالك السموات والأرض ومن فيهن أن تجعل اللهم السماء والأرض وما فيهما على عبد فلان بن فلانة أضيق من حلقة حتى يرجع الى مولاه برحمتك يا أرحم الراحمين» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 329 ابن عبد الله رضى الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلّمنا الاستخارة فى الأمور كما يعلّمنا السورة من القرآن، يقول: «إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل اللهم إنّى أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علّام الغيوب اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لى فى دينى ومعاشى وعاقبة أمرى- أو قال فى عاجل أمرى وآجله- فآقدره لى [ويسّره لى ثم بارك لى فيه [1]] وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شرّ لى فى دينى ومعاشى وعاقبة أمرى- أو قال فى عاجل أمرى وآجله- فا [صرفه عنّى [1] وا] صرفنى عنه واقدر لى الخير حيث كان ثم رضّنى به ويسمّى حاجته» . ذكر ما ورد فى أسماء الله الحسنى والاسم الأعظم قال الله تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها. وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله عز وجل تسعة وتسعين اسما مائة غير واحد إنّه وتر يحبّ الوتر من أحصاها دخل الجنة هو الله الذى لا إله إلّا هو الرحمن، الرحيم، الملك، القدّوس، السّلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبّار، المتكبّر، الخالق، البارئ، المصوّر، الغفّار، القهّار، الوهّاب، الرزّاق، الفتّاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعزّ، المذلّ، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلىّ، الكبير، الحفيظ، المقيت، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحقّ، الوكيل، القوىّ، المتين، الولىّ، الحميد،   [1] زيادة عن كتاب الأذكار للنووى (ص 65) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 330 المحصى، المبدئ، المعيد، المحيى، المميت، الحىّ، القيّوم، الواجد، الماجد، الواحد، الصّمد، القادر، المقتدر، المقدّم، المؤخّر، الأوّل، الآخر، الظاهر، الباطن، الوالى، المتعال، البرّ، التوّاب، المنتقم، العفوّ، الرءوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغنى، المغنى، المانع، الضارّ، النافع، النور، الهادى، البديع، الباقى، الوارث، الرشيد، الصّبور. وقد نبّه البونى رحمه الله فى اللّمعة النورانية على كيفية العلم والعمل بأسماء الله الحسنى وخاصيّة كل اسم منها، ورتّب ذلك وجعله عشرة أنماط فقال: النمط الأوّل من نظم الأسماء اسمه الله، والإله، والربّ، والخالق، والبارىء، والمصوّر، والمبدئ والمعيد، والمحيى، والمميت. قال البونى: هذا النمط عشرة أسماء لا تكون إلّا أذكارا للذاكرين [على اختلاف [1]] أحوالهم. فالله والإله ذكر الأكابر والمولّهين فى الغالب. والربّ، والخالق، والبارئ ذكر الأكابر من السالكين المريدين [2] . والمصوّر، والمبدئ، والمعيد، والمحيى، والمميت ذكر عباد الله المتعبّدين والمتبصّرين [3] . النمط الثانى الأحد، الواحد، الصمد، الفعّال، البصير، السميع، القادر، المقتدر، القوىّ، القائم. قال: هذه الأسماء العشرة سلك واحد فى تقارب الأذكار؛ وهذا القسم فيه أذكار السالكين المتعلّقين بأسرار التوحيد ذكرهم الأحد والواحد. وأمّا الصمد   [1] الزيادة عن اللمعة النورانية. [2] فى إحدى نسختى اللمعة النورانية: من المسلكين المربين: [3] فى إحدى نسختى اللمعة: «المعتبرين والمتبصرين» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 331 فذكر يصلح للمرتاضين [1] بالجوع، فذاكره لا يحسّ بألم الجوع البتّة ما لم يدخل عليه ذكرا [2] غيره. والفعّال اسم للمغلوبين بالخواطر والوساوس وكثرة الأفكار واغتمام القلب [بهذا السبب [3]] ؛ فمهما ذكره من هذه صفته تقلّبت [4] أفكاره إلى ما يقع له به سرور وفرح. وأما السميع والبصير فتنزيه جليل، وهو ذكر يصلح للملحّين فى الدعاء فإنه ربما أسرعت لهم الإجابة. وأمّا القادر، والمقتدر، والقوىّ، والقائم فذكر يصلح لأصحاب الإعياء والحرف الثقيلة؛ ولو علم سرّه من يعانى الأثقال واستدامه لم يحسّ بثقل فيما يتعاطاه البتّة؛ ومن نقشها [5] فى فص خاتم وتختّم به أدرك ذلك لوقته؛ ومن ضعف عن شىء ما وعلّقه عليه وذكره قوى لوقته. النمط الثالث الحىّ [6] ، القيّوم، الرحمن، الرحيم، الملك القدير [7] ، العلىّ، العظيم، الكبير، المتعال. قال: هذا القسم من الأسماء يحتوى على أذكار المراقبين، وفيه أعمال جليلة البرهان. فالحىّ القيّوم اسمان جليلان، ذكر لأهل الحضرة، وهو من أذكار إسرافيل وملائكة الصّور أجمعين، يصلح أن يذكر من مبادئ الفجر إلى طلوع الشمس، يجد ذاكره من الزيادة والخشية والتطلّع إلى طلب الفضائل ما لم   [1] فى نسختى اللمعة النورانية: «للمتريضين» . [2] كذا فى إحدى نسخى اللمعة. وفى الأخرى والأصلين: «ما لم يدخل عليه ذكر غيره» . [3] الزيادة عن اللمعة النورانية. [4] فى نسختى اللمعة النورانية: «نقلت» . [5] فى الأصلين ونسختى اللمعة النورانية: «ومن نقشهم» بميم الجمع. وظاهر أن قواعد اللغة لا تقتضيها [6] كذا فى إحدى نسختى اللمعة. وفى الأصلين وفى نسخة أخرى من اللمعة: «يا حى يا قيوم الرحمن» الخ [7] كذا فى إحدى نسختى اللمعة. وفى نسخة أخرى منها وفى الأصلين: «القدوس» ووجد بأحد الأصلين كلمة «القدير» فوق كلمة القدوس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 332 يعهده قبل؛ ومن نقش الاسمين عند طلوع الشمس [من يوم الجمعة [1]] مستقبل القبلة على ذكر وأمسكه عنده أحيا الله ذكره إن كان خاملا [2] ، وأحيا رزقه إن كان قليلا. وأمّا الرحمن الرحيم فأذكار شريفة للمضطرّين وأمان للخائفين لا ينقشه أحد فى خاتم فى يوم جمعة آخر النهار فيرى ما يكرهه مادام عليه. ومن أكثر من ذكره كان ملطوفا به فى كل أموره. وأمّا الملك والقديرف [ذكر [3]] يذكر عند كل ذى ملك وقدرة فإنه ما من ملك يستديم هذا الذّكر فى عموم أوقاته إلّا ثبت ملكه وانبسطت قدرته؛ ويصلح للسالك الذى تغلبه شهوات نفسه؛ فإنه ما يستديم ذكره من هذا مقامه إلا بعث الله إليه قوّة ملكيّة تؤيّده وتنصره على من يخالفه من عوالمه. وأما العلىّ العظيم فللتنزيه. والكبير المتعال مناسب للتنزيه أيضا، وهما اسمان لائقان [4] بأهل التعظيم من أرباب الأحوال ليس للعامّة فى الذكر [5] بهما قسم. النمط الرابع المهيمن، المقيت، العزيز، الجبّار، المتكبّر، المحيط، الحفيظ، الفاطر، المجيد ذو الجلال. قال البونى: أمّا المهيمن، والمقيت فللعلم والاستيلاء [6] والمراقبة فى الجزئيات والكليات. والعزيز، والجبّار، والمتكبّر فمن أسماء صفات الذات اللازمة للخوف والرهبة والعظمة، لا يذكرها [7] ذليل إلا عزّ، ولا حقير إلا ارتفع، ولا بين يدى جبّار إلا ذلّ وخضع، ولا يذكرها [7] ملك من ملوك الأرض إلا وجد   [1]- هذه الكلمة ساقطة من نسختى اللمعة. [2] كذا فى نسختى اللمعة. وفى الأصلين: «أحيا الله ذكره وإن كان خاملا وأحيا رزقه وإن كان قليلا» . [3] زيادة عن نسختى اللمعة النورانية. [4] كذا فى نسختى اللمعة النورانية. وفى الأصلين: «وهما اسمان يليق» . [5] فى الأصلين: «بهم» . [6] فى نسختى اللمعة النورانية: «فللعلم بالأشياء» . [7] فى الأصلين ونسختى اللمعة بميم الجمع، وقواعد اللغة تقتضى ما وضعناه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 333 فى نفسه ذلّة وانكسارا. وأما الحفيظ فإنه اسم سريع الإجابة للخائفين فى الأسفار. وأما المحيط، والمجيد، والفاطر، وذو الجلال، فأسماه التنزيه وزيادات فى التوحيد. النمط الخامس العليم، الحكيم، البديع، النور، القابض، الباسط، الأوّل الآخر، الظاهر، الباطن. قال: هذا القسم من الأسماء جليل القدر عظيم الشأن. فأمّا العليم، والحكيم فللتوحيد الخاص، لا يصلحان إلا لمن أبهم عليه أمر من كشف سرّ من أسرار الله تعالى يعسر على الفكر إدراكه، فإنه إذا استدام ذكر العليم الحكيم يسّر الله عليه علم [1] ما سأل وعرّفه الحكمة فيه، ومنه اسمه البديع أيضا [مثل ذلك] . وأمّا النّور، والباسط، والظاهر، فذكر أرباب المكاشفات. ومن أراد أن ينظر شيئا فى منامه فليذكر هذه الأسماء على طهارة وهو فى فراشه إلى أن ينام على هذا الذكر، ويعمل همّته فيما يريده فإنه يمثّل له فى نومه كشف ذلك. وأمّا القابض، والأوّل، والآخر، والباطن، فكلها أسماء للتعظيم والتوحيد. النمط السادس الحليم، الرءوف، المنّان، الكريم، ذو الطّول، الوهّاب، الغفور، الغافر، العفوّ، المجيب. قال: هذا النّمط من الأسماء عليه مدار إبقاء الوجود ودفع الأضداد وجمع المتفرّق. أما الحليم، والرءوف، والمنّان، فذكر للخائفين؛ ما داومه من يخاف شيئا إلا أوجده الله تعالى برد الطّمأنينة وسكّن روعه. قال البونى: وذكر [لى [2]] من له   [1] هكذا فى الأصلين. والذى فى نسختى اللمعة: «علمه فيما يناله، وعرفه الحكمة فيما سأل» . [2] زيادة عن اللمعة النورانية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 334 اطلاع أنه من استدام هذا الذكر إلى أنّ يغلب عليه حال منه على خلوّ معدة ثم أمسك النار لم تعد عليه، ولو تنفّس حينئذ على قدر تغلى سكن غليانها بإذن الله تعالى، ولا يكتبها [1] أحد ويقابل بها من يخاف منه إلّا أطفأ الله شرّه عند رؤيته، ولا يستديم هذا الذكر من غلبته شهوته إلا نزع الله منه النزوع إليها فى أثناء ذكره. وأما الكريم، الوهّاب، وذو الطّول؛ فلا يستديم على هذا الذكر من قدر عليه رزقه ومسّته حاجة إلا يسّر الله عليه من حيث لا يشعر، ومن نقش هذه الأسماء وعلّقها عليه لم يدر كيف ييسّر الله عليه المطالب من غير عسر. وأما الغفور، والغافر، والعفوّ، فنظم متقارب لسؤال دفع المؤلم خصوصا من آلام الدين والدنيا. وأمّا المجيب، فيذكر فى آخر الدعوات. النمط السابع الكافى، الغنىّ، الفتاح، الرزاق، الودود، اللطيف، الواسع، الشهيد، نعم المولى ونعم النصير. قال: هذا النّمط من الأسماء جليل القدر، به ينزّل الله الرغائب من كل مفضول به على أحد من عباده. فاسمه الكافى، والغنىّ، والفتاح، والرزّاق لا يذكر أحد هذه الأسماء الأربعة وهو يتمنّى شيئا لم تبلغه أمنيّته إلا بلغه بإذن الله تعالى من جهة لا يعتمد عليها لم تخطر بباله. لا يذكر أحد هذا الذكر على القليل إلا كثّره الله ولا على طعام إلا ظهرت فيه زيادة، ولا يذكره من هو فى رتبة وهمّته طالبة أعلى منها إلا يسّر الله له الوصول إليها. وأمّا الودود، واللطيف، والواسع، والشهيد، فنمط جليل النظم لأرباب الهجوع والخلوة؛ واللطيف خصوصا لتفريج الكرب فى أوقات الشدائد لا يضاف إليه غيره؛ لا يذكره من يؤلمه شىء فى نفسه وبدنه إلا أزاله الله عنه أثناء الذكر.   [1] فى الأصلين ونسختى اللمعة: «ولا يكتبهم أحد ويقابل بهم الخ» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 335 النمط الثامن الشديد، ذو القوّة، المتين، السريع، الرقيب، المقتدر، القاهر، الوارث، الباعث، القوىّ [1] . هذا النمط من الأسماء عظيم الشأن. فأمّا الشديد، وذو القوّة، والقاهر، والمقتدر، فهى أسماء القهر لا يذكرها [2] ضعيف الهمّة إلا قويت نفسه، ولا يدعو بها () أحد على ظالم فى احتراق [3] الشهر فى السابعة من الليل فى بيت مظلم حاسر الرأس على الأرض لا حائل بينه وبينها مائة [4] مرة يقول فى آخرها: يا شديد خذلى بحقّى من فلان [5] ؛ ولا يشخّص [6] شيئا فالله أعلم بما يعمل. قال: وقد جرّب مئين من المرّات. ولا ينقشها [2] أحد فى خاتم ويتختّم به إلا ألبسه الله تعالى مهابة يدركها من نفسه ويدركها غيره منه، ويرتاع منه كل جبّار عنيد عند رؤيته، حتى كأن الجبال على كاهله ما دام ينظر إلى من هو معه. وأمّا السريع، والرقيب، والمتين، فذكر لأرباب المراقبة فى الأفعال تنفتح لهم بذلك مكاشفات وأسرار. وأمّا الوارث، والباعث، فلحكمة الاعتبار والتصديق بآثار القدرة.   [1] فى إحدى نسختى اللمعة النورانية بدل اسم القوى بين السطور اسم «الشكور» . ولم يرد فى نسخة اللمعة الثانية شىء بعد كلمة الباعث. [2] فى الأصلين ونسختى اللمعة: «لا يذكرهم ... ولا يدعو بهم» ، وكذلك ما عليه رقم (2) . [3] فى المخصص (ج 9 ص 31) : وامتحاق القمر احتراقه يوم المحاق آخر الشهر لأن الشمس تمحق الهال فيه ولا تبينه. [4] كذا فى إحدى نسختى اللمعة. وفى نسخة أخرى والأصلين: «لا حائل بينه وبينها يقول فى آخرها مائة مرة: يا شديد خذ لى الخ» . [5] فى الكلام حذف يدل عليه السياق بأن يقدر: «إلا استجيب له» . [6] كذا فى الأصلين وإحدى نسختى اللمعة. وفى أخرى: «ولا تنجسنى» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 336 النمط التاسع التوّاب، الشاكر، الولىّ، الحسيب، الوكيل، القريب، الصادق، البرّ، الباقى، الخلّاق. قال: هذا القسم مرتّب على سلوك مقامات السالكين؛ فالتوّاب للتائبين، والشاكر للشاكرين، والولىّ للأولياء، والحسيب لأهل الكفاية، والوكيل للمتوكّلين، والقريب من أهل القرب، والصادق مع الصادقين، والبرّ مع أهل البرّ، والباقى مع الشهداء، والخلّاق لذوى الاعتبار. وللمشايخ فى هذا الميدان مجال رحب بحسب اختلاف أحوالهم. النمط العاشر الهادى، الخبير، المبين، علّام الغيوب، ذو الجلال والإكرام، القدّوس، السلام، المؤمن، وينتظم فى ذلك المعزّ، والمذلّ، وما فى آخر سورة الإخلاص. قال: فالهادى، والخبير، والمبين، لمن أراد كشف عواقب الأمور بجوع وسهر؛ ويذكر هذه الأسماء وعلى رأس مائة من أعداد الذكر يقول: اهدنى يا هادى، وخبّرنى يا خبير، وبيّن لى يا مبين؛ ويسمّى ما يريده وذلك فى جوف الليل، فإذا أدركه النوم مثّل له كشف ما أراده من أىّ نوع شاء. هذا مختصر ما قاله البونى فى ترتيب أسماء الله الحسنى. وأمّا ما ورد فى الاسم الأعظم؛ فقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سمع رجلا يقول: اللهم إنى أسألك أنى أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد، الصمد، الّذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد؛ فقال: «لقد سألت الله بالاسم الذى إذا سئل به أعطى وإذا دعى به أجاب» . وعن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد فإذا رجل من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 337 الأنصار يقال له أبو عيّاش [1] الزّرقىّ يصلّى، فدنوت منه، فدعا فى صلاته: اللهم إنى أسألك- بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنّان بديع السموات والأرض ذو الجلال والإكرام- أن تغفر لى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد دعا الله باسمه الأعظم الذى إذا دعى به أجاب وإذا سئل به أعطى» . وعن أسماء بنت يزيد رضى الله عنها أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «اسم الله الأعظم فى هاتين الايتين وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ » وفاتحة سورة آل عمران الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ . وعن أبى أمامة واسمه صدىّ بن عجلان الباهلىّ رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن اسم الله الأعظم لفى ثلاث سور من القرآن فى البقرة وآل عمران وطه» . قال فآلتمستها فوجدت فى البقرة آية الكرسى اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ، وفاتحة آل عمران الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ، وفى طه وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ. والأدعية المختارة كثيرة وقد أتينا منها بما فيه كفاية لمن توجّه إلى الله تعالى وسأله. ولنختم هذا الباب بما ختم به البخارىّ كتابه: كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان فى الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم.   [1] فى أحد الأصلين: «أبو العباس» وفى الآخر: «أبو عياس» بالسنين المهملة وهو محرف عن أبى «عياش» الزرقىّ الأنصارى وهو صحابى روى عن النبى صلى الله عليه وسلم حديث صلاة الخوف بعسفان كما فى تهذيب التهذيب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 338 صورة ما ورد بآخر الجزء الخامس فى أحد الأصلين الفتوغرافيين: تمّ الجزء الخامس من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويرىّ، والحمد لله وحده، وصلى الله على من لا نبىّ بعده محمد وآله وسلّم يتلوه إن شاء الله الجزء السادس صورة ما ورد بآخر الجزء الخامس فى الأصل الثانى الفتوغرافى: كمل السفر الخامس من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب، على يد مؤلفه فقير رحمة ربه أحمد بن عبد الوهّاب بن محمد بن عبد الدائم البكرىّ التّيمىّ القرشىّ، عرف بالنّويرىّ، عفا الله عنهم. ووافق الفراغ من كتابته فى يوم الأحد المبارك لثمان بقين من شهر ربيع الأوّل سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة بالقاهرة المعزّيّة. يتلوه إن شاء الله تعالى فى أوّل الجزء السادس القسم الخامس من الفن الثانى فى الملك وما يحتاج إليه وما يجب له على الرعية وما يجب للرعيّة عليه إن شاء الله تعالى. الحمد لله وحده وصلواته على سيدنا محمد نبيّه وآله وصحبه، وسلّم تسليما كثيرا، وحسبنا الله ونعم الوكيل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 339 فهرس الجزء السادس من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويري .... صفحة القسم الخامس فى الملك وما يشترط فيه وما يحتاج اليه وفيه أربعة عشر بابا الباب الأوّل- فى شروط الإمامة الشرعية والعرفية 1 الباب الثانى- فى صفات الملك وأخلاقه وما يفضل به على غيره 5 ذكر شىء من الأقوال الصادرة عن الخلفاء والملوك الدالّة على عظم هممهم وكرم أخلاقهم 7 الباب الثالث- فيما يجب للملك على الرعايا من الطاعة والنصيحة والتعظيم والتوقير 9 الباب الرابع- فى وصايا الملوك 16 الباب الخامس- فيما يجب على الملك للرعايا 33 ذكر ما قيل فى العدل وثمرته وصفة الامام العادل 33 ذكر ما قيل فى الظلم وسوء عاقبته 39 ذكر ما قيل فى حسن السّيرة والرفق بالرعيّة 41 الباب السادس- فى حسن السياسة وإقامة المملكة، ويتصل به الحزم والعزم الخ 43 الجزء: مقدمةج 6 ¦ الصفحة: 1 فأما ما قيل فى حسن السياسة أو اقامة المملكة 43 وأما ما قيل فى الحزم والعزم وانتهاز الفرصة 45 ذكر ما قيل فى الحلم 48 ذكر أخبار من اشتهر بالحلم واتصف به 50 ذكر ما قيل فى العفو 57 ذكر ما قيل فى العقوبة والانتقام 65 الباب السابع- فى المشورة وإعمال الرأى والاستبداد الخ 69 ذكر ما قيل فى المشورة وإعمال الرأى 69 ذكر ما قيل فيمن يعتمد على مشورته وبديهته 74 ذكر ما قيل فيمن نهى عن مشاورته ومعاضدته 76 ذكر ما قيل فى الأناة والرويّة 77 ذكر ما قيل فى الاستبداد وترك الاستشارة وكراهة الاشارة 78 الباب الثامن- فى حفظ الأسرار والحجاب 81 ذكر ما قيل فى حفظ الأسرار 81 ومما قيل فى استراحة الرجل بمكنون سرّه الى صديقه 84 ومما وصف به كتمان السرّ 84 ذكر ما قيل فى الإذن والاستئذان 86 ذكر ما قيل فى الحجاب 87 ذكر ما قيل فى النهى عن شدّة الحجاب 90 الباب التاسع- فى الوزراء وأصحاب الملك 92 ذكر ما قيل فى الوزارة وشروطها واشتقاقها وما يحتاج الوزير اليه 92 ذكر ما قيل فى اشتقاق الوزارة وصفة الوزير وما يحتاج اليه 93 ذكر صفة الوزارة وشروطها وأقسامها 98 الجزء: مقدمةج 6 ¦ الصفحة: 2 ذكر حقوق الملك على وزيره وحقوق الوزير على ملكه 121 فأما حقوق الملك على وزيره فهى ثلاثة 121 وأما حقوق الوزير على سلطانه فثلاثة 122 ذكر وزارة التنفيذ 124 ذكر ما تتميز به وزارة التفويض على وزارة التنفيذ وما تختلف فيه 128 ذكر حقوق الوزارة وعهودها ووصايا الوزراء 129 أما حقوق الوزارة 129 وأما عهودها ووصاياها 131 ذكر ما قيل فى وصايا أصحاب السلطان وصفاتهم 141 أما صفاتهم 141 وأما وصايا أصحاب السلطان 143 ذكر ما يحتاج اليه نديم الملك وما يأخذ به نفسه وما يلزمه 146 وأما الآداب فى محادثة السلطان 148 وأما آداب الأكل بين يدى الرئيس 150 ذكر ما ورد فى النهى عن صحبة الملوك والقرب منهم 150 الباب العاشر- فى قادة الجيوش والجهاد ومكايد الحروب ووصف الوقائع والرباط وما قيل فى أوصاف السلاح 151 ذكر ما قيل فى قادة الجيوش وشروطهم وأوصافهم ووصاياهم وما يلزمهم 151 وأما ما يلزم قائد الجيش 152 وأما وصايا أمير الجيش 167 ذكر ما يقوله قائد الجيش وجنده 171 ذكر ما قيل فى المكيدة والخداع فى الحروب وغيرها 176 ذكر ما ورد فى الجهاد وفضله وترتيب الجيوش وأسمائها الخ 188 فأما ما ورد فى الجهاد وفضله 188 الجزء: مقدمةج 6 ¦ الصفحة: 3 وأما ما قيل فى أسماء العساكر فى القلة والكثرة وأسماء مواضع القتال 189 وأما أسماء غبار الحرب 190 وأما ما قيل فى الحروب والوقائع 190 ذكر ما ورد فى الغزو فى البحر 197 ذكر ما ورد فى المرابطة 199 ما ذكر قيل فى السلاح وأوصافه 200 ما قيل فى السيف من الأسماء والنعوت والأوصاف 202 ومن أسماء أجزاء السيف 207 ومما يضاف الى السيف 208 ومن أسماء قرابه وآلته 209 وأما ما وصفته به الشعراء 209 وأما ما قيل فى الرمح من الحديث والأسماء والنعوت والأوصاف 214 أسماء الرمح ونعوته 215 ومن أسماء ما يعقد عليه 218 وأما اذا حمله الرجل وطعن به 218 وأما ما وصفته به الشعراء 220 وأما ما قيل فى القوس العربية 222 وأما أسماء القوس ونعوتها 223 وأما الوتر فمن أسمائه الخ 226 وأما أصوات القوس 227 ذكر ما قيل فى تركيب القوس ومبدإ عملها الخ 228 وأما ما قيل فى السهم 230 وأما أسماء النصل 234 وأما أوعية السهام 235 الجزء: مقدمةج 6 ¦ الصفحة: 4 وأما ما وصف به القوس والسهم من النظم والنثر 236 ذكر ما قيل فى الجنّة 239 فأما الترس 239 وأما ما وصف به حامل الترس 240 وأما البيضة وأسماؤها 240 وأما ما قيل فى الدرع 241 الباب الحادى عشر- فى القضاة والحكام 48 الشروط التى تلزم فيمن يتولّى القضاء 248 ذكر الألفاظ التى تنعقد بها ولاية القضاء والشروط 252 ذكر ما يشتمل عليه نظر الحاكم المطلق التصرّف من الأحكام 254 ذكر ما يأتيه القاضى ويذره فى حق نفسه اذا دعى للولاية أو خطبها 258 وأما كاتب القاضى وبطانته 260 وأما ما يعتمده فى جلوسه 261 ذكر شىء مما ورد من التزهيد فى تقلد القضاء 263 الباب الثانى عشر- فى ولاية المظالم وهى نيابة دار العدل 265 ذكر من نظر فى المظالم فى الجاهلية والإسلام 266 ذكر ما يحتاج اليه ولاة المظالم فى جلوسهم لها 270 وأما ما يختص بنظر متولى المظالم وتشتمل عليه ولايته فعشرة أقسام 271 ذكر الفرق بين نظر ولاة المظالم ونظر القضاة 274 ذكر ما ينبغى أن يعتمده ولاة المظالم عند رفعها اليهم الخ 275 بيان أصول الدعوى وما يتخذ فيها: فإن اقترن بالدعوى ما يقوّيها 276 وأما إن اقترن بالدعوى ما يضعفها 281 الجزء: مقدمةج 6 ¦ الصفحة: 5 وأما إن تجرّدت الدعوى من أسباب القوّة والضعف 284 ذكر توقيعات متولّى المظالم وما يترتّب عليها من الأحكام 287 الباب الثالث عشر- فى نظر الحسبة وأحكامها 291 شروط ناظر الحسبة 291 ذكر الفرق بين المحتسب والمتطوّع وفيه تسعة أوجه 292 ذكر أوضاع الحسبة وموافقتها للقضاء وقصورها عنه وزيادتها عليه الخ 293 وأما ما بين الحسبة والمظالم من موافقة ومخالفة 295 ذكر ما تشتمل عليه ولاية نظر الحسبة وما يختص بها من الأحكام 296 الجزء: مقدمةج 6 ¦ الصفحة: 6 الجزء السادس [ تتمة الفن الثاني في الإنسان وما يتعلق به ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ القسم الخامس فى الملك وما يشترط فيه وما يحتاج إليه وما يجب له على الرعيّة وما يجب للرعية عليه ، ويتصل به ذكر الوزراء وقادة الجيوش وأوصاف السلاح وولاة المناصب الدينية والكتّاب والبلغاء وفيه أربعة عشر بابا الباب الأوّل من هذا القسم فى شروط الإمامة الشرعيّة والعرفيّة أما الشروط الشرعية، فقد ذكر منها الشيخ الإمام أبو عبد الله الحسين ابن الحسن بن محمد بن الحليم الحليمىّ الجرجانى الشافعىّ [1]- رحمه الله- فى كتابه المترجم ب «المنهاج» لمعة واضحة البيان، حسنة التّبيان؛ اكتفينا بإيرادها عما سواها، واقتصرنا عليها دون ما عداها؛ لجمعها أكثر الشروط مع إيجاز اللفظ وإصابة الغرض، على ما ستقف عليه إن شاء الله تعالى. قال الحليمىّ: إذا أراد أهل الاجتهاد نصب إمام حين لا إمام لهم، فأول شرائطه أن يكون من قريش. والثانية أن يكون عالما بأحكام الدين من الصلاة وأخذ   [1] توفى سنة 403 هـ وكتابه المنهاج يقع فى نحو ثلاثة مجلدات فيه أحكام كثيرة ومسائل فقهية وغيرها مما يتعلق بأصول الإيمان وآيات الساعة وأحوال القيامة. عن كشف الظنون. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1 الصدقات ومصارفها والقضايا والجهاد بالمسلمين وقسم الغنائم والنظر فى حدود الله تعالى إذا رفعت إليه فيقيمها أو يدرأها وغير ذلك. والثالثة أن يكون عدلا فى دينه وتعاطيه ومعاملاته. فأما اشتراط النسب؛ فلما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الأئمة من قريش ... » وأنه صلى الله عليه وسلم قال: «قدّموا قريشا ولا تقدّموها ولولا أن تبطر قريش لأخبرتها بما لها عند الله تعالى» . وأما اشتراط العلم بأحكام الصلاة والزكاة والجهاد والقضاء والحدود والأموال التى يتولّاها الأئمة، فإنه لا يمكنه أن يقوم بحقّها والواجب فيها إلا بعد العلم، لتكون معالم الدنيا قائمة، وأحكام الله تعالى بين عباده جارية. فإذا لم [يكن [1]] عنده من العلم ما يتوصّل به إلى ما يحتاج الإمام إليه فوجوده وعدمه بمنزلة واحدة. وينبغى أن يكون شجاعا شهما، لأن رأس أمور الناس الجهاد؛ فإذا كان من يتولّى أمورهم جبانا فشلا منعه ذلك من مجاهدة المشركين وحمله على أن يترك كثيرا من حقوق المسلمين فكان ضررهم به أكثر من نفعهم. وأما اشتراط العدالة، فلأن الإمام إذا كان يتولّى حقوق الله تعالى وحقوق المسلمين فمنصبه منصب الأمانة ائتمان له على الحقوق؛ ولا يجوز أن يؤتمن على حقوق الله تعالى من ظهرت خيانته لله ولعباده، ولأن الفاسق ناقص الإيمان فلا يجوز أن يشرف بالتّولية على المسلمين الذين فيهم من هو كامل الإيمان وأقرب إلى كماله منه، كما لا يجوز أن يولّى شيئا من أمور المسلمين كافر، ولأن الفاسق لا يرضى للشهادة فكان بألّا يرضى للحكم وهو أرفع منزلة من الشهادة أولى، وإذا لم يرض للحكم كان بألّا يرضى للإمامة التى هى أجمع من الحكم أولى، والله أعلم، ولأنه إذا لم يكن يصلح   [1] زيادة يقتضيها السياق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2 نفسه، إما تضييعا لها أو عجزا عن إصلاحها، فهو فى حقّ غيره أكثر تضييعا ولإصلاحه أشدّ عجزا، ومن كان بهذه المنزلة فهو أبعد الناس من موقف الأئمة. فصل- وإذا اجتمعت هذه الشرائط التى ذكرناها فى رجل، فإن كان الإمام الذى تقدّمه ولّاه فى حياته ما يتولّاه إما استخلافا عند عجزه عن القيام بما عليه فيه، وإما انخلاعا إليه منه فلا اعتراض فى ذلك عليه، وإن كان أوصى له بالولاية بعد موته فالأظهر جواز ذلك. قال: فإن لم يكن لمن جمع شرائط الإمامة عهد من إمام قبله واحتيج إلى نصب إمام للمسلمين فاجتمع أربعون عدلا من المسلمين أحدهم عالم يصلح للقضاء بين الناس، فعقدوا لرجل جمع الشرائط التى تقدّم ذكرها بعد إمعان النظر والمبالغة بالاجتهاد، ثبتت له الإمامة ووجبت طاعته. وينبغى أن يبدأ العالم الذى بينهم بالعقد ثم الذين ليسوا فى العلم والرأى مثله. فصل- قال: وإذا لم يجدوا من قريش من توجد فيه شرائط الإمامة- وهذا بعيد جدّا وإنما هى مسائل توضع لاحتمال الوقوع- فعند ذلك يكون الإمام من أقرب القبائل إلى قريش، فيكون من كنانة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله اصطفى كنانة من العرب واصطفى قريشا من كنانة» ؛ فإن لم يوجد فيهم كان من أقرب العرب من كنانة، حتى إذا استوفى بنو إسماعيل لم يعدل إلى بنى إسحاق، وإن كانوا أقرب لأنهما ابنا إبراهيم، ولكن الى جدّهم من العرب، ثم الأقرب فالأقرب. فصل- وإذا وجد قرشىّ عالم غير عدل وقرشىّ عدل غير عالم وكنانىّ عالم عدل، قال الحليمىّ: الأشبه عندى أن يقدّم القرشىّ العدل، فإن أشكل عليه شىء عمل فيه برأى أهل العلم. فصل- وإذا خلع الإمام نفسه ولم يولّ أحدا مكانه، فإن كان الإمام صالحا للإمامة بالإطلاق فذلك منه غير نافذ، لأنه نصب ناظرا للمسلمين، وخلعه نفسه فى هذه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3 الحالة ضرر عليهم، لأنه يدعهم بلا إمام ويعرّضهم للاجتهاد فى نصب غيره، وقد يصيبون فى ذلك أو يخطئون. فصل- وإذا أمّر الإمام أمراء واستقضى قضاة ثم مات، كان أمراؤه وقضاته على أعمالهم كما كانوا فى حياته ولا ينعزلون، وليسوا كالوكيل ينعزل بموت الموكّل، لأن الوكالة نيابة، والولاية شركة. هذا ما قاله الحليمىّ، والله تعالى أعلم. فهذه الشرعية التى لا بدّ منها فى حقّ الإمام. وأما الشروط العرفية والاصطلاحية، وهى ما ينبغى أن يأتيه الملك من جميل الفعال، ويذره من قبيح الخصال. قال معاوية بن أبى سفيان: مهما كان فى الملك فلا ينبغى أن تكون فيه خمس خصال: لا ينبغى أن يكون كذّابا، فإنه إذا كان كذّابا فوعد بخير لم يرج، وإن وعد بشرّ لم يخف؛ ولا ينبغى أن يكون بخيلا، فإنه إذا كان بخيلا لم يناصحه أحد، ولا تصلح الولاية إلا بالمناصحة؛ ولا ينبغى أن يكون حديدا، فإنه إذا كان حديدا مع القدرة هلكت الرعيّة؛ ولا ينبغى أن يكون جسودا، فإنه إذا كان حسودا لم يشرّف أحدا، ولا يصلح الناس إلا على أشرافهم؛ ولا ينبغى أن يكون جبانا، فإنه إذا كان جبانا اجترأ عليه عدوّه. وقال ابن المقفّع: ليس للملك أن يغضب، لأن القدرة من وراء حاجته؛ وليس له أن يكذب، لأنه لا يقدر على استكراهه على غير ما يريد؛ وليس له أن يبخل، لأنه أقلّ الناس عذرا فى خوف الفقر؛ وليس له أن يكون حقودا، لأن خطره أعظم من المجازاة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 4 وقالت الحكماء: يجب على الملك أن يتلبّس بثلاث خصال: تأخيره العقوبة فى سلطان الغضب، وتعجيل مكافأة المحسن، والعمل بالأناة فيما يحدث؛ فإن له فى تأخير العقوبة إمكانا، وفى تعجيل المكافأة بالإحسان المسارعة فى الطاعة من الرعية، وفى الأناة انفساح الرأى وإيضاح الصواب. وقالوا: ينبغى للملك أن يأنف أن يكون فى رعيّته من هو أفضل منه دينا، كما يأنف من أن يكون منهم من هو أنفذ منه أمرا. وقيل: لا ينبغى للملك أن يسرع إلى حبس من يكتفى له بالجفاء والوعيد. وقالوا: ينبغى للملك أن تعرفه رعيّته بالأمانة، ولا يعجّل بالعقاب ولا بالثواب، فإن ذلك أدوم لخوف الخائف ورجاء الراجى. وقال بعض حكماء الفرس: أحزم الملوك من غلب جدّه هزله، وقهر رأيه هواه، وعبّر عن ضميره فعله، ولم يخدعه رضاه عن حظّه، ولا غضبه عن كيده. الباب الثانى من القسم الخامس من الفن الثانى فى صفات الملك وأخلاقه وما يفضّل به على غيره، وذكر ما نقل من أقوال الخلفاء والملوك الدالّة على علوّ هممهم وكرم شميهم قال أحمد بن محمد بن عبد ربّه: السلطان زمام الأمور، ونظام الحقوق، وقوام الحدود، والقطب الذى عليه مدار الدّين والدنيا؛ وهو حمى الله فى بلاده، وظلّه الممدود على عباده، به يمنع حريمهم، وينصر مظلومهم، ويقمع ظالمهم، ويؤمّن خائفهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 5 وقال بعض البلغاء: الملك من تبيضّ آثار أياديه، وتسودّ أيّام أعاديه؛ وتخضرّ مواقع سيبه، وتحمرّ مواضع سيفه؛ وتصفرّ وجوه [1] حسّاده، وتروق أعين أنداده. وقال سهل بن هارون: الملك صبىّ الرضا، كهل الغضب؛ يأمر بالقتل وهو يضحك، ويستأصل شأفة القوم وهو يمزح، يخلط الجدّ بالهزل، ويتجاوز فى العقوبة قدر الذنب، وربما أحفظه الذنب اليسير، وربما أعرض صفحا عن الخطب الكبير؛ أسباب الموت والحياة متعلّقة بطرف لسانه، لا يعرف ألم العقوبة فيبقى، ولا يؤنّب على بادرة فينتهى، يخطئ فيصوّب ويصيب فيفترض، مفتون الهوى فظّ الخليقة أخرق العقوبة، لا يمنعه من ذى الخاصّة به ما يعلم من عنايته [2] وطول صحبته أن يقتله بخطرة من خطرات موجدته، ثم لا ينفكّ ان يخطب إليه موضعه، فلا الثانى بالأوّل يعتبر، ولا الملك عن مثل ما فرط منه يزدجر. قال عمرو بن هند: الملوك يشتمون بالأفعال لا بالأقوال، ويسفّهون بالأيدى لا بالألسن. قال معبد بن علقمة: وتجهل أيدينا ويحلم رأينا ... ونشتم بالأفعال لا بالتّكلّم وأما ما يفضّل به الملك على غيره، فقد قيل: تميّز الملك على غيره إنما يكون بفضيلة الذات لا بفضيلة الآلات. وفضل ذات الملك بخمس خصال: رحمة تشمل رعيّته، ويقظة تحوطهم، وصولة تذبّ عنهم، ولين يكيد به الأعداء، وحزم ينتهز به الفرص، فهذه فضيلة الذات.   [1] الذى بالأصل: وجوده، وهو تحريف ظاهر. [2] بالأصل «عناية» وأضفناه الى الضمير ليشاكل تاليه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 6 وأما فضيلة الآلات، فإتخاذ المبانى الوثيقة العليّة، والملابس الأنيقة السنيّة، والذخائر النفيسة، والمطاعم الشهيّة، والمراكب البهيّة. وقالت أمّ ملك طخارستان لنصر بن سيّار: ينبغى للملك أن يكون على ستة أشياء خاصّة به: وزير يثق به ويفضى إليه بسرّه، وحصن إذا فزع يأوى إليه، وسيف إذا نزل به أمر لم يخف أن يخونه، وذخيرة خفيفة إذا نابته نائبة استعان بها، وامرأة جميلة إذا دخل عليها أذهبت همّه، وطبّاخ إذا لم يشته الطعام عمل له ما يشتهيه. ذكر شىء من الأقوال الصادرة عن الخلفاء والملوك الدالّة على عظم هممهم، وكرم أخلاقهم وشيمهم، وشدّة كيدهم، وقوّة أيدهم قيل للإسكندر وهو يحارب دارا: إن دارا فى ثمانين ألفا؛ فقال: إن القصّاب لا يهوله كثرة الغنم. واصطنع أنو شروان رجلا؛ فقيل له: إنه لا قديم له؛ فقال: اصطناعنا إيّاه بيته وشرفه. ولما رهن حاجب ابن زرارة قوسه عند كسرى [قال [1]] : لولا أنهم عندى أقلّ من القوس لم أقبلها. قال النّعمان بن المنذر يعفو الملوك عن الكث ... ير من الذنوب لفضلها ولقد تعاقب فى اليس ... ير وليس ذاك لجهلها لكن ليرجى عفوها ... ويخاف شدّة نكلها ومن كلام معاوية: نحن الزمان، من رفعناه ارتفع، ومن وضعناه اتّضع. وكان يقول: إنى لآنف أن يكون فى الأرض جهل لا يسعه حلمى، وذنب لا يسعه   [1] زيادة يقتضيها سياق الكلام. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 7 عفوى، وحاجة لا يسعها جودى. وقال معاوية أيضا: إنى لأرفع نفسى أن يكون ذنب أوسع من حلمى، وما غضبى على من أملك، أو ما غضبى على من لا أملك! يريد: إنى إذا كنت مالكا للمذنب فإنى قادر على الانتقام منه، فلم ألزم نفسى الغضب! وإن لم أكن أملكه فليس يضرّه غضبى، فلم أغضب عليه فأضرّ نفسى ولا أضرّه! ومن كلام السّفّاح: ما أقبح بنا أن تكون الدنيا لنا وأولياؤنا خالون من حسن آثارنا!. ومن كلام المأمون: إنما تطلب الدنيا لتملك، فإذا ملكت فلتوهب. وكان يقول: إنما يستكثر من الذهب والفضّة من يقلّان عنده. ومن كلام العبّاس بن محمد للرشيد: إنما هو درهمك وسيفك، فازرع بهذا من شكرك، واحصد بهذا من كفرك؛ فقال: يا عمّ، والله ما للملك غير هذا. كما قيل: لم أر شيئا صادقا نفعه ... للمرء كالدرهم والسيف يقضى له الدرهم حاجاته ... والسيف يحميه من الحيف قيل: لمّا أشير على الإسكندر بتبييت الفرس قال: لا أجعل غلبتى سرقة. وقيل [له [1]] : لو تزوّجت ببنت دارا! فقال: لا تغلبنى امرأة غلبت أباها. ومن كلام أنوشروان: إن الملك إذا كثرت أمواله مما يأخذ من رعيّته كان كمن يعمر سطح بيته مما يقتلع من قواعد بنيانه. وكان يقول: وجدنا للذّة العفو ما لم نجد للذّة العقوبة. ومن كلام المنصور: يحتمل الملوك كلّ شىء إلا ثلاثة: القدح فى الملك، وإفشاء السرّ، والتعرّض للحرم.   [1] زيادة يقتضيها السياق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 8 الباب الثالث من الفن الثانى فيما يجب للملك على الرعايا من الطاعة والنصيحة والتعظيم والتوقير وأما الطاعة فواجبة على سائر الرعيّة، لأن الله تعالى قرن طاعة أولى الأمر بطاعته وطاعة رسوله، ونصّ على ذلك فى محكم تنزيله فقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ، فبأمره تبارك وتعالى وجبت، وبسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم تأكّدت وترتّبت. روى عن أبى هريرة رضى الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أطاعنى فقد أطاع الله ومن يعصنى فقد عصى الله ومن يطع الأمير فقد أطاعنى ومن يعص الأمير فقد عصانى» وهذا الحديث ثابت فى صحيح مسلم. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اسمعوا وأطيعوا ولو أمّر عليكم بعد حبشىّ كأنّ رأسه زبيبة» . فقد تبيّن بكتاب الله وسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم وجوب طاعة الإمام على كلّ مسلم. وأما النصيحة، فلما روى عن تميم الدّارىّ رضى الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الدّين النصيحة إن الدين النصيحة إن الدين النصيحة» ؛ قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله ولكتابه ورسوله وأئمة المؤمنين» أو قال: «أئمة المسلمين وعامّتهم» . وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل رضى لكم ثلاثا وسخط لكم ثلاثا رضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرّقوا وأن تناصحوا من ولّاه الله عز وجل أمركم» . وقال أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الخيرىّ رحمه الله: فانصح للسلطان وأكثر له من الدعاء بالصلاح والرشاد فى القول والعمل، فإنهم إذا صلحوا صلح العباد والبلاد بصلاحهم، وإيّاك أن تدعو عليهم فيزدادوا شرّا ويزداد البلاء بالمسلمين، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 9 وإيّاك أن تأتيهم أو تتصنّع لإتيانهم أو تحبّ أن يأتوك، واهرب منهم ما استطعت. وفى كتاب للهند أن رجلا دخل على بعض ملوكهم فقال: أيها الملك، إنّ نصيحتك واجبة فى الصغير الحقير والكبير الخطير، ولولا الثقة بفضيلة رأيك واحتمال ما يسوء موقعه منك فى جنب صلاح العامّة وتلافى الخاصّة لكان خرقا منّى أن أقول، ولكنّا إذا رجعنا إلى أن بقاءنا مشمول ببقائك، وأنفسنا معلّقة بنفسك لم نجد بدّا من أداء الحقّ إليك وإن أنت لم تسلنى ذلك؛ فإنه يقال: من كتم السلطان نصيحته والأطباء مرضه والإخوان بثّه فقد أخلّ بنفسه. وأنا أعلم أنّ كلّ ما كان من كلام يكرهه سامعه، لم يتشجّع عليه قائله إلا أن يثق بعقل المقول له، فإنه إذا كان عاقلا احتمل ذلك، لأنه ما كان فيه من نفع فإنما هو للسامع دون القائل. وإنك أيها الملك ذو فضيلة فى الرأى وتصرّف فى العلم، وإنما يشجّعنى ذلك على أن أخبرك بما تكره واثقا بمعرفتك بنصحى لك وإيثارى إيّاك على نفسى. وقال عمرو بن عتبة للوليد بن يزيد حين تغيّر الناس له: يا أمير المؤمنين، إنه ينطقنى الأمن منك، وتسكتنى الهيبة لك، وأراك تأمن أشياء أخافها عليك، أفأسكت مطيعا، أم أقول مشفقا؟ قال: قل، مقبول منك، ولله فينا علم غيب نحن صائرون إليه؛ فقتل بعد ذلك بأيام. وقالوا: ينبغى لمن صحب السلطان ألّا يكتم عنه نصيحته وإن استقلّها، وليكن كلامه له كلام رفق لا كلام خرق، حتى يخبره بعيبه من غير أن يواجهه بذلك، ولكن يضرب له الأمثال ويعرّفه بعيب غيره، ليعرف به عيب نفسه. دخل الزّهرىّ على الوليد بن عبد الملك فقال له: ما حديث يحدّثنا به أهل الشام؟ قال: وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: يحدّثوننا أن الله إذا استرعى عبدا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 10 رعيّة كتب له الحسنات ولم يكتب له السيئات؛ قال: باطل يا أمير المؤمنين، أنبىّ خليفة أكرم على الله، أم خليفة غير نبىّ؟ قال: نبىّ خليفة؛ قال: فإن الله تعالى يقول لنبيّه داود عليه السلام: (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) ؛ فهذا يا أمير المؤمنين وعيده لنبىّ خليفة، فما ظنّك بخليفة غير نبىّ! قال: إن الناس ليعرّوننا من ديننا. خطب المنصور فقال فى خطبته ما كأنّه تفسير ما أدمجه فيثاغورث وإيضاحه، وهو: معشر الناس، لا تضمروا غشّ الأئمة فإنه من أضمر ذلك أظهره الله على سقطات لسانه، وقلبات أحواله وسحنة وجهه. قال: خرج الزّهرىّ يوما من مجلس هشام بن عبد الملك فقال: ما رأيت كاليوم ولا سمعت كأربع كلمات تكلّم بهنّ رجل عند هشام بن عبد الملك، دخل عليه فقال: يا أمير المؤمنين، احفظ عنّى أربع كلمات فيهن صلاح ملكك، واستقامة رعيّتك، قال: هاتهن؛ فقال: لا تعدنّ عدة لا تثق من نفسك بإنجازها، ولا يغرّنّك المرتقى وإن كان سهلا إذا كان المنحدر وعرا، واعلم أن الأعمال جزاء فاتّق العواقب، وأن الأمور بغتات فكن على حذر؛ قال عيسى بن دأب: فحدّثت الهادى بها وفى يده لقمة قد رفعها إلى فيه فأمسكها، وقال: ويحك! أعد علىّ؛ فقلت: يا أمير المؤمنين؛ أسغ لقمتك؛ فقال: حديثك أعجب إلىّ. وقال ابن المقفّع: اعلم أن السلطان يقبل من الوزراء التّبخيل [1] ويعدّه منهم شفقة ويحمدهم عليه وإن كان جوادا، فإن كنت [2] مبخّلا غششت صاحبك بفساد مروءته،   [1] كذا فى الأدب الكبير ورسائل البلغاء لابن المقفع وفى الأصل «التبخل» . والتبخيل: المطالبة بالبخل. [2] كذا فى الأدب الكبير ورسائل البلغاء لابن المقفع وفى الأصل: «كان ... » . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 11 وإن كنت مسخّيا لم تأمن إضرار ذلك بمنزلتك؛ فالرأى تصحيح النصيحة على وجهها، والتماس المخرج [من العيب واللائمة فيما تترك [1]] من تبخيل صاحبك، فلا يعرف منك فيما تدعوه إليه ميلا إلى شىء من هواك، ولا طلبا لغير ما ترجو أن يزينه وينفعه. وأما تعظيمه وتوقيره والأدب فى خدمته والتمسّك بجماعته، فلما روى عن أبى بكر الصّدّيق رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «السلطان ظلّ الله فى الأرض فمن أكرمه أكرمه الله ومن أهانه أهانه الله» . وعن أبى عبيدة بن الجرّاح رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تسبّوا السلطان فإنه [2] فىء الله فى أرضه» . وعن أبى ذرّ رضى الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنه كائن بعدى سلطان فلا تذلّوه فمن أراد أن يذلّه فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه وليس بمقبول توبته حتى يسدّ الثّلمة التى ثلم ثم يعود فيكون فيمن يعزّه» . وقد روى عن أنس رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مررت ببلد ليس فيه سلطان فلا تدخله فإنما السلطان ظلّ الله ورمحه [3] فى الأرض» . وعن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من خرج من الطاعة وفارق الجماعة ثم مات مات ميتة جاهليّة» وعن أبى رجاء العطاردىّ قال: سمعت ابن عبّاس يرويه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم   [1] الزيادة عن الأدب الكبير. [2] فى الأصل: «فانهم فىء الله ... » بميم الجمع وما ذكرناه عن الجامع الصغير. [3] فى الأصل «السلطان ظل وريحه فى الأرض» والتصويب عن الجامع الصغير والنهاية لابن الأثير، ثم شرحه صاحب النهاية بكلام طويل ملخصه: أن الظل يلجأ اليه عند الحر، والرمح يدفع به شر العدوّ وأذاه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 12 قال: «من رأى من أميره ما يكرهه فليصبر فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت إلا مات ميتة جاهليّة [1] » رواه البخارىّ. فقد تبيّن لك من سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوب تعظيم السلطان وتوقيره. وقال بزرجمهر: من جالس الملوك بغير أدب فقد خاطر بنفسه. وقال ابن المقفّع: من خدم السلطان فعليه بالملازمة من غير معاتبة. وقال: إن سأل السلطان غيرك فلا تكن المجيب عنه، فإن استلابك الكلام خفّة منك واستخفاف بالسائل والمسئول؛ وما أنت قائل إن قال لك: ما إيّاك سألت! أو قال لك المسئول عند المسئلة [يعاد له بها [2]] : يا هذا، دونك فأجب؟ وإذا لم يقصد الملك بمسئلته رجلا بعينه وعمّ بها جميع من عنده فلا تبادرنّ بالجواب، ولا تسابق الجلساء ولا تواثب بالكلام مواثبة، فإنك إن سبقت القوم الى الجواب صاروا لكلامك خصوما فتعقّبوه بالعيب له والطعن فيه، وإذا أنت لم تعجل بالجواب وخلّيته للقوم عرضت قولهم على عينك، ثم تدبّرته وفكّرت فيه وفيما عندك، ثم هيّأت من تفكيرك ومما سمعت جوابا مرضيا، ثم استدبرت به أقاويلهم حتى [3] تصغى إليك الأسماع، ويهدأ عنك الخصوم. فإن لم يبلغك الكلام واكتفى بغيرك وانقطع الحديث فلا يكوننّ من الغبن عند نفسك فوت ما فاتك من الجواب، فإن صيانة القول خير من سوء موضعه. وقال: إذا كلّمك السلطان فاستمع لكلامه واصغ إليه، ولا تشغل طرفك بنظر، ولا أطرافك بعمل،   [1] نص ما فى البخارى: «من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه فانه من فارق الجماعة شبرا فمات إلا مات ميتة جاهلية» . [2] الزيادة عن الأدب الكبير، والمراد من الجملة: ماذا أنت قائل اذا أعاد السائل السؤال على المسئول الأول دون التفات الى جوابك. [3] فى الأدب الكبير «حين» بدل «حتى» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 13 ولا قلبك بحديث نفس، واحذر هذا من نفسك وتعهدها به. وقال: لا تشكونّ إلى وزراء السلطان ودخلائه ما اطّلعت عليه منه من رأى أنت تكرهه، فإنك تكون قد فطّنتهم لهواه والميل عليك معه. وقال: لا تكونن صحبتك للملوك إلا بعد رياضة منك لنفسك على طاعتهم فى المكروه عندك، وموافقتهم فيما خالفك، وتقدير الأمور على أهوائهم دون هواك، وعلى [1] ألّا تكتمهم سرّك ولا تستطلعهم ما كتموك، وتخفى ما أطلعوك عليه عن الناس كلهم [حتى تحمى نفسك الحديث به [2]] ، وعلى الاجتهاد فى طلب رضاهم، والتلطّف لحاجاتهم، والتثبيت لحجتهم [3] ، والتصديق لمقالتهم، [والتزيين [2] لرأيهم] ، وقلّة الامتعاض لما فعلوا إذا أساءوا، وترك الانتحال لما فعلوا اذا أحسنوا [4] ، وكثرة النشر لمحاسنهم، وحسن السّتر لمساوئهم، والمقاربة لمن قاربوا وإن كان بعيدا، والمباعدة لمن باعدوا وإن كان قريبا، والاهتمام بأمورهم وإن لم يهتمّوا، والحفظ لأمورهم وإن ضيّعوا، والذكر لأمورهم وإن نسوا، والتخفيف بمؤنتك عنهم، والاحتمال لكل مؤنة لهم، والرضا منهم بالعفو، وقلة الرضا من نفسك بالمجهود. فإن كنت حافظا إذا ولّوك، حذرا إذا قرّبوك، أمينا إذا ائتمنوك، ذليلا إذا صرموك، راضيا إذا أسخطوك، تعلّمهم وكأنّك تتعلّم منهم، وتؤدّبهم وكأنك تتأدّب منهم، وتشكرهم ولا تحمّلهم الشكر، وإلّا فالبعد منهم كلّ البعد. ومن الآداب العرفية فى صحبة الملوك وخدمتهم، ألّا يسلّم على قادم بين أيديهم، وإنما استسنّ ذلك زياد بن أبيه، وذلك أن عبد الله بن عبّاس قدم على   [1] كذا فى الأدب الكبير، وفى الأصل: «وعلم» بدل «وعلى ... » وهو تحريف. [2] زيادة عن الأدب الكبير. [3] كذا فى الأدب الكبير، وفى الأصل: «والتثبت بحجتهم» . [4] الجملة من «وقلة الامتعاض ... اذا أحسنوا» منقولة عن الأدب الكبير، وهى فى الأصل: «وقلة الانتحال لما فعلوا إذا أساءوا» ففيه تحريف شوّه المعنى وأضاعه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 14 معاوية بن أبى سفيان وعنده زياد، فرحّب به معاوية وألطفه وقرّبه ولم يكلّمه زياد بكلمة، فابتدأه ابن عبّاس وقال: ما حالك يا أبا المغيرة! كأنك أردت أن تحدث بيننا وبينك هجرة؛ قال: لا، ولكنه لا يسلّم على قادم بين يدى أمير المؤمنين؛ فقال له ابن عبّاس: ما ترك الناس التحيّة بينهم عند أمرائهم؛ فقال له معاوية: كفّ عنه يابن عبّاس، فإنك لا تشاء أن تغلب إلا غلبت. وقالوا: كن على التماس الخطإ بالسكوت بين يدى السلطان أحرص منك على التماسه بالكلام. وقالوا: مساءلة الملوك عن أحوالهم من تحيّة النّوكى. وقالوا: لا تسلّم على الملك، فإنه إن أجابك شقّ عليه، وإن لم يحبك شقّ عليك. وقال الفضل بن الربيع: سنتان مهملتان عند الملوك: السلام والتشميت، لأنهم يصانون عن كلّ ما يقتضى جوابا. وقيل: لا يقدر على صحبة السلطان إلا من يستقلّ بما حمّلوه، ولا يلحف إذا سألهم، ولا يغتّر بهم إذا رضوا عنه، ولا يتغيّر لهم إذا سخطوا عليه، ولا يطغى إذا سلّطوه، ولا يبطر إذا أكرموه. وقال فيلسوف: إذا قرّبك السلطان فكن منه على حدّ السّنان، وإن استرسل إليك فلا تأمن انقلابه عليك، وارفق به رفقك بالصبىّ، وكلّمه بما يشتهى. قال الصاحب بن عبّاد إذا ولّاك سلطان فزده ... من التعظيم واحذره وراقب فما السلطان إلا البحر عظما ... وقرب البحر محذور العواقب وقال أبو الفتح البستىّ: أجهل الناس من كان مدلّا على السلطان مذلّا للإخوان. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 15 قال الشّعبىّ: قال لى ابن عبّاس قال لى أبى: إنى أرى هذا الرجل- يعنى عمر بن الخطاب- يستفهمك ويقدّمك على الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنى موصيك بخلال أربع: لا تفشينّ له سرّا، ولا يجرّبنّ عليك كذبا، ولا تطو عنه نصيحة، ولا تغتابنّ عنده أحدا؛ قال الشّعبىّ فقلت لابن عباس: كلّ واحدة خير من ألف؛ قال: إى والله ومن عشرة آلاف!. الباب الرابع من القسم الخامس من الفن الثانى فى وصايا الملوك كتب أرسطا طاليس إلى الإسكندر: أن املك الرعيّة بالإحسان إليها تظفر بالمحبّة منها، فإنّ طلبك الناس بإحسانك هو أدوم بقاء منه باعتسافك؛ [واعلم أنك إنما تملك الأبدان فاجمع لها القلوب [1]] ؛ واعلم أن الرعيّة إذا قدرت أن تقول قدرت أن تفعل. وهذا مخالف لما حكى عن معاوية أن رجلا أغلظ عليه فحلم عنه؛ قيل له: أتحلم عن مثل هذا؟ فقال: إنا لا نحول بين الناس وبين ألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين سلطاننا. وكتب إلى الإسكندر: اعلم أنك غير مستصلح رعيّتك وأنت مفسد، ولا مرشدهم وأنت غاو، ولا هاديهم وأنت ضالّ؛ وكيف يقدر الأعمى على الهدى، والفقير على الغنى، والذليل على العزّ!. وقال أنو شروان: ثمانية أشياء هى أساس الملك، يأتى بأربعة، ويحذر أربعة؛ فالذى يأتى به: النصح فى الدين، وكفاء [2] الأمين، وتقديم الحزم، وإمضاء العزم. والذى يحذره: غشّ الوزير، وسوء التدبير، وخبث النيّة، وظلم الرّعية. وقال أردشير لأصحابه: إنى إنما أملك الأجساد لا النيّات، وأحكم بالعدل لا بالرضا، وأفحص عن الأعمال لا عن السرائر.   [1] زيادة عن العقد الفريد. [2] مصدر كافأه: جازاه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 16 وقال أبرويز لابنه شيرويه: لا توسعنّ على جندك سعة يستغنون بها عنك فيطغوا، ولا تضيّق عليهم ضيقا يضجّون به منك، ولكن أعطهم عطاء قصدا وامنعهم منعا جميلا، وابسط لهم فى الرجاء، ولا تبسط لهم فى العطاء. وكتب إليه أيضا من الحبس: اعلم أن كلمة منك تسفك دما وأخرى تحقن دما، وأن سخط سيفك مسلول على من سخطت عليه، وأن رضاك بركة مستفادة على من رضيت عنه، وأنّ نفاذ أمرك مع ظهور كلامك، فاحترس فى غضبك من قولك أن يخطىء، ومن لونك أن يتغيّر، ومن جسدك أن يخفّ؛ فإنّ الملوك تعاقب حزما وتعفو حلما. واعلم أنك تجلّ عن الغضب، وأن ملكك يصغر عن رضاك، فقدّر لسخطك من العقاب كما تقدّر لرضاك من الثواب. وكتب إليه أيضا من الحبس: اختر لولايتك امرأ كان فى وضيعة فرفعته، وذا شرف كان مهملا فاصطنعته، ولا تجعله امرأ أصبته بعقوبة فاتّضع لها، ولا امرأ أطاعك بعد ما أذللته، ولا أحدا ممن يقع فى خلدك [1] أنّ إزالة سلطانك أحبّ إليه من ثبوته؛ وإيّاك أن تستعمله ضرعا غمرا، كثيرا إعجابه بنفسه، قليلا تجربته فى غيره، ولا كبيرا مدبرا قد أخذ الدهر من عقله كما أخذت السّنّ من جسمه. قال لقيط الإيادىّ: فقلّدوا أمركم لله درّكم ... رحب الذّراع بأمر الحرب مضطلعا لا مترفا إن رخاء العيش ساعده ... ولا إذا عضّ مكروه به خشعا ما زال يحلب درّ الدهر أشطره ... يكون متّبعا طورا ومتّبعا حتّى استمرّت على شزر [2] مريرته [3] ... مستحصد الرأى لا قحما [4] ولا ضرعا [5]   [1] الخلد: البال والقلب والنفس. [2] الشزر: الصعوبة والشدّة. [3] المريرة: العزيمة. [4] القحم: الكبير السن جدّا. [5] الضرع: الصغير السن. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 17 وكتب سابور بن أردشير فى عهده إلى ولده: ليكن وزيرك مقبول القول عندك، قوىّ المنزلة لديك، يمنعه مكانه منك وما يثق به من لطافة منزلته، من الخشوع لأحد أو الضراعة أو المداهنة لأحد فى شىء مما تحت يده، لتبعثه الثّقة بك على محض النصيحة لك، والمنابذة لمن أراد غشّك وانتقاصك حقّك. وإن أورد عليك رأيا يخالفك ولا يوافق الصواب عندك، فلا تجبهه جبه الظّنين، ولا تردّه عليه بالتّجهّم فيفتّ ذلك فى عضده، ويقبضه عن إبثاثك كلّ رأى يلوح صوابه، بل اقبل ما ارتضيت من قوله، وعرّفه ما تخوّفت من ضرر الرأى الذى انصرفت عنه، لينتفع بأدبك فيما يستقبل الرأى فيه. واحذر كلّ الحذر أن تنزل هذه المنزلة سواه ممن يطيف بك من خدمك وخاصّتك، وأن تسهّل لأحد منهم سبيل الانبساط بالنطق عندك والإفاضة فى أمور ولايتك ورعيّتك، فإنه لا يوثق بصحّة رأيهم، ولا يؤمن الانتشار فيما أفضى من السرّ إليهم. وقال ابن المقفّع: عوّد نفسك الصبر على من خالفك من ذوى [1] النصيحة، والتجرّع لمرارة قولهم وعذلهم، ولا تسهّلن سبيل ذلك إلا لأهل الفضل والعقل [والسّن [2]] والمروءة فى ستر، لئلا ينتشر من ذلك ما يجترئ به سفيه أو يستخفّ به شانئ. واعلم أن رأيك لا يتّسع لكل شىء ففرّغه لمهمّ ما يعنيك، وأن مالك لا يتّسع للناس فاخصص به أهل الحق [3] ، وأن كرامتك لا تطيق العامّة فتوخّ بها أهل الفضل، وأن ليلك ونهارك لا يستوعبان حاجاتك وإن دأبت فيهما، فأحسن قسمتهما [4] بين عملك ودعتك. واعلم أن ما شغلت [5] من رأيك بغير المهمّ أزرى بك، وما صرفت من مالك فى الباطل   [1] كذا فى الأدب الكبير، وفى الأصل: «من رأى ذوى النصيحة» وظاهر أن كلمة «رأى» مقحمة لغير فائدة. [2] الزيادة عن الأدب الكبير ورسائل البلغاء. [3] فى رسائل البلغاء: «وأن مالك لا يغنى الناس كلهم فاختصّ به ذوى الحقوق» . [4] كذا فى الأدب الكبير، وفى الأصل «فأحسن قسمتك ... » . [5] فى الأصل: «ما شغلت به الخ» وظاهر أن كلمة «به» مقحمة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 18 فقدته حين تريده للحقّ، وما عدلت به من كرامتك إلى أهل النقص أضرّ بك فى العجز عن أهل الفضل. وكتب عبد الله بن عبّاس إلى الحسن بن علىّ لمّا ولّاه الناس أمرهم بعد علىّ رضى الله عنهما: أن شمّر للحرب، وجاهد عدوّك، واشتر من الضّنين [1] دينه بما لا يثلم دينك، ووال [2] أهل البيوتات تستصلح به عشائرهم. وقال علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: يجب على الوالى أن يتعهّد أموره ويتفقّد أعوانه حتى لا يخفى عليه إحسان محسن ولا إساءة مسىء، ثم لا يترك أحدهما بغير جزاء، فإنه إذا ترك ذلك تهاون المحسن واجترأ المسىء، وفسد الأمر وضاع العمل. وقال بعض الحكماء: الملك المنعم إذا أفاض المكارم [3] واغتفر الجرائم ارتبط بذلك خلوص نيّة من قرب منه وهم الأقل، وانفساح الأمل ممن بعد عنه وهم الأكثر، فيستخلص حينئذ ضمائر الكلّ من حيث لم يصل معروفه إلا إلى البعض. ولم أر فيما طالعته من هذا المعنى أجمع للوصايا ولا أشمل من عهد كتبه علىّ ابن أبى طالب رضى الله عنه إلى مالك بن الحارث الأشتر حين ولّاه مصر، فأحببت أن أورده على طوله وآتى على جملته وتفصيله، لأن مثل هذا العهد لا يهمل، وسبيل فضله لا يجهل؛ وهو: هذا ما أمر [به [4]] عبد الله علىّ أمير المؤمنين إلى مالك بن الحارث الأشتر فى عهده إليه حين ولاه مصر: جباية خراجها، وجهاد عدوّها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها، أمره بتقوى الله وإيثار طاعته واتّباع ما أمر به فى كتابه من فرائضه وسننه التى   [1] فى الأصل هكذا: «واستر الصين» وهو محرف عما أثبتناه عن عيون الأخبار والعقد الفريد. [2] وال: ناصر وصادق. [3] فى الأصل «المكاره» وسياق الكلام يقتضى ما وضعنا. [4] زيادة عن نهج البلاغة (طبع بيروت ج 2 ص 50- 68) ، وكذلك كل ما وضع بين هذين القوسين [] فى ثنايا هذا الكتاب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 19 لا يسعد أحد إلا باتّباعها، ولا يشقى إلا بالعدول عنها؛ وأن ينصر الله تعالى بيده وقلبه ولسانه، فإنه جلّ اسمه قد تكفّل بنصر من نصره وإعزاز من أعزّه؛ وأمره أن يكسر نفسه عند الشهوات ويزعها [1] عند الجمحات، فإن النفس لأمّارة بالسوء. ثم اعلم يا مالك أنى قد وجّهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور، وأن الناس ينظرون من أمورك فى مثل ما كنت تنظر فيه من أمر الولاة قبلك، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم. وإنما يستدلّ على الصالحين بما يجرى الله لهم على ألسن عباده. فليكن أحبّ الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح. فاملك هواك وشحّ بنفسك عما لا يحلّ لك؛ فإن الشّحّ بالنفس الإنصاف منها فيما أحبّت [أ] وكرهت. وأشعر قلبك الرحمة للرعيّة والمحبّة لهم؛ والطف بهم، ولا تكوننّ عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم [2] ؛ فإنهم صنفان: إما أخ فى الدّين، وإما نظير لك فى الخلق، يفرط منهم الزّلل وتعرض لهم العلل ويؤتى على أيديهم فى العمد والخطأ؛ فأعطهم من صفحك وعفوك مثل الذى تحبّ أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنّك فوقهم، ووالى الأمر عليك فوقك؛ والله فوق من ولّاك؛ وقد استكفاك أمرهم [3] وابتلاك [بهم] . فلا تنصبنّ نفسك لحرب الله، فإنه لا قوّة لك بنقمته، ولا غنى بك عن عفوه ورحمته. ولا تندمنّ على عفو، ولا تبجحنّ [4] بعقوبة، ولا تسرعنّ إلى بادرة وجدت منها مندوحة، ولا تقولنّ: إنى مؤمّر امر فأطاع، فإن ذلك إدغال فى القلب ومنهكة للدّين وتقرّب من الغير. فإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبّهة أو مخيلة، فانظر إلى عظم ملك الله تعالى فوقك وقدرته [منك] على ما لا تقدر عليه من نفسك [5] ، فإن ذلك يطامن إليك من   [1] كذا فى نهج البلاغة وفى الأصل: «وينزعها ... » . [2] كذا فى نهج البلاغة وفى الأصل: «وتغتنم أكلها» . [3] كذا فى نهج البلاغة وفى الأصل: «استكفاك أمره» . [4] بجح: كفرح لفظا ومعنى. [5] فى الأصل: « ... وقدرته على ما لا يقدر عليك من نفسه» ولعل فيه تحريفا جعله غير واضح، وما وضعناه عن نهج البلاغة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 20 طماحك، ويكفّ عنك من غربك ويفىء إليك بما عزب عنك من عقلك. وإياك ومساماة [1] الله فى عظمته والتشبّه به فى جبروته، فإن الله يذلّ كلّ جبّار ويهين كلّ مختال. أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصّة أهلك وممن لك فيه هوى من رعيّتك، فإنك إلّا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض حجّته وكان لله حربا حتى ينزع ويتوب. وليس شىء أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم [فإن الله سميع دعوة المضطهدين وهو للظالمين بالمرصاد] . وليكن أحبّ الأمور إليك أوسطها فى الحق وأعمّها فى العدل وأجمعها لرضا الرعيّة، فإنّ سخط العامة يجحف برضا الخاصّة، وإن سخط الخاصة يغتفر برضا العامة. وليس أحد من الرعيّة أثقل على الوالى مؤنة فى الرخاء، وأقلّ معونة فى البلاء، وأكره للإنصاف، وأسأل بالإلحاف، وأقلّ شكرا عند الإعطاء، وأبطأ عذرا عند المنع، وأضعف صبرا عند ملمّات الدهر من أهل الخاصة، وإن عمود الدين وجماع المسلمين والعدّة للأعداء العامّة من الأمة؛ فليكن صغوك لهم وميلك معهم. وليكن أبعد رعيّتك منك وأشنؤهم عندك أطلبهم لعيوب الناس، فإن فى الناس عيوبا الوالى أحقّ بسترها، فلا تكشفنّ عما غاب عنك منها، فإنما عليك تطهير ما ظهر لك، والله حكم على ما غاب عنك منها. فاستر العورة ما استطعت يستر الله ما تحبّ ستره من عيبك. أطلق عن الناس عقدة كلّ حقد، واقطع عنهم سبب كل وتر، وتغاب عن كل ما لا يصحّ لك. ولا تعجلنّ إلى تصديق ساع، فإن الساعى غاشّ وإن تشبّه بالناصحين. ولا تدخلنّ فى مشورتك بخيلا فيعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر، ولا جبانا فيضعفك عن الأمور، ولا حريصا فيزيّن لك الشره بالجور؛ فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتّى يجمعها سوء الظنّ بالله. واعلم أن شرّ وزرائك من كان   [1] فى الأصل: «مساومة الله» وما هنا عن نهج البلاغة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 21 للأشرار قبلك وزيرا ومن شركهم فى الآثام، فلا يكوننّ لك بطانة، فإنهم أعوان الأثمة وإخوان الظّلمة. [وأنت واجد منهم خير الخلف] ممن له مثل آرائهم ونفاذهم، وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم، ممن لم يعاون ظالما على ظلمه ولا آثما على إثمه، أولئك أخفّ عليك مؤنة وأحسن لك معونة [1] ، وأحنى عليك عطفا وأقلّ لغيرك إلفا، فاتّخذ أولئك خاصّة لخلواتك وحفلاتك. ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم للحق، وأقلّهم مساعدة فيما يكون منك مما كره الله تعالى لأوليائه [2] واقعا من هواك [حيث وقع] . ثم رضهم على ألّا يطروك ولا يبجّحوك بباطل لم تفعله، فإن كثرة الإطراء تحدث الزّهو وتدنى إلى العزّة. ولا يكوننّ المحسن والمسىء عندك بمنزلة واحدة، فإن فى ذلك تزهيدا لأهل الإحسان فى الإحسان، وتدريبا لأهل الإساءة على الإساءة، وألزم كلّا منهم ما ألزم نفسه. واعلم أنه ليس شىء أدعى إلى حسن ظن وال برعيّته من إحسانه إليهم وتخفيف المؤنات عنهم وترك استكراهه إياهم على ما ليس له قبلهم. وليكن منك فى ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظنّ برعيّتك، فإنّ حسن الظنّ يقطع عنك نصبا طويلا. وإن أحقّ من حسن ظنّك به من حسن بلاؤك عنده، [وإن أحقّ من ساء ظنّك به لمن ساء بلاؤك عنده] . ولا تنقض سنّة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة واجتمعت بها الألفة وصلحت عليها الرعيّة، ولا تحدثنّ سنّة تضرّ بشىء من ماضى تلك السنن، فيكون الأجر لمن سنّها، والوزر عليك بما نقضت منها. وأكثر [3] مدارسة العلماء ومناقشة الحكماء فى تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك، وإقامة ما استقام به الناس قبلك. واعلم أنّ الرعيّة طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض، [ولا غنى ببعضها عن بعض] ، فمنها جنود   [1] كذا فى نهج البلاغة، وفى الأصل «معاونة» . [2] كذا فى نهج البلاغة، وفى الأصل «مما كره الله لأولئك ... » وهو تحريف. [3] كذا فى نهج البلاغة، وفى الأصل «ولكن ... » وهو تحريف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 22 [الله] ، ومنها كتّاب العامّة والخاصّة، ومنها قضاة العدل، ومنها عمّال الإنصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج من [أهل] الذّمّة ومسلمة [1] الناس، ومنها التجّار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السّفلى من ذوى الحاجة والمسكنة، وكلّ قد سمّى الله سهمه، ووضع على حدّه فريضته فى كتابه وسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم عهدا منه محفوظا. فالجنود بإذن الله حصون الرعيّة وزين [2] الولاة وعزّ الدّين وسبل الأمن، وليس تقوم الرعيّة إلا بهم. [ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج الذى يقوون به فى جهاد عدوّهم ويعتمدون عليه فيما يصلحهم ويكون من وراء حاجتهم] . ثم لا قوام لهذين الصّنفين إلا بالصّنف الثالث من القضاة والعمّال والكتّاب لما يحكمون من المعاقد، ويجمعون من المنافع، ويؤتمنون عليه من خواصّ الأمور وعوامّها. ولا قوام لهم جميعا إلا بالتجّار وذوى الصناعات فيما يجتمعون عليه من مرافقهم، ويقومون به فى أسواقهم، ويكفونهم من الرّفق [3] بأيديهم ما لا يبلغه رفق غيرهم. ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحقّ رفدهم ومعونتهم؛ وفى الله لكلّ سعة؛ ولكلّ على الوالى حقّ بقدر ما يصلحه. [وليس يخرج الوالى من حقيقة ما ألزمه الله من ذلك إلا بالاهتمام والاستعانة بالله وتوطين نفسه على لزوم الحقّ والصبر عليه فيما خفّ عليه أو ثقل] . فولّ من جنودك أنصحهم فى نفسك لله تعالى ولرسوله ولإمامك، [وأنقاهم] ، جيبا، وأفضلهم حلما، ممن يبطئ عن الغضب ويستريح الى العذر ويرفق بالضعفاء وينبو عن [4] الأقوياء، [و] ممن لا يثيره العنف ولا يقعد به الضعف. ثم ألحق بذوى الأحساب وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة أهل النّجدة والشجاعة والسخاء والسماحة، فإنهم جماع الكرم وشعب العرف؛ ثم تفقّد من أمورهم ما يتفقده الوالدان من ولدهما. ولا يتفاقمنّ فى نفسك شىء قوّيتهم به، ولا تحقرنّ   [1] مسلمة الناس: المسلمون منهم. [2] كذا فى نهج البلاغة وفى الأصل: «زى الولاة ... » وهو تحريف [3] الرفق بالفتح: النفع. [4] يقال نبا عنه وعليه: اذا لم ينقد له. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 23 لطفا تعاهدهم به وإن قلّ، فإنه داعية لهم إلى بذل النصيحة لك، وحسن الظن بك. ولا تدع تفقّد لطيف أمورهم اتّكالا على جسيمها، فإن لليسير من لطفك موضعا ينتفعون به، وللجسيم موقعا لا يستغنون عنه. وليكن آثر رءوس جندك عندك من واساهم فى معونته وأفضل عليهم من جدته بما يسعهم ويسع من وراءهم من خلوف أهليهم حتى يكون همّهم همّا واحدا فى جهاد العدوّ، فإنّ عطفك عليهم يعطّف عليك قلوبهم؛ [وإنّ أفضل قرّة عين الولاة استقامة العدل فى البلاد وظهور مودّة الرعيّة؛ وإنه لا تظهر مودّتهم إلا بسلامة صدرهم] ، ولا تصحّ نصيحتهم إلا بحيطتهم على ولاة أمورهم وقلّة استثقال دولهم وترك استبطاء انقطاع مدّتهم، فافسح فى آمالهم [1] وواصل فى حسن الثناء عليهم وتعديد ما أبلى ذوو البلاء منهم، فإن كثرة الذّكر لحسن فعالهم تهزّ الشجاع وتحرّض الجبان إن شاء الله. ثم اعرف لكل امرئ منهم ما أبلى. ولا تضمّنّ [بلاء] امرئ الى غيره، ولا تقصّرنّ به دون غاية بلائه. ولا يدعونّك شرف امرئ الى أن تعظّم من بلائه ما كان صغيرا، ولا ضعة امرئ الى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيما. واردد الى الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب ويشتبه عليك من الأمور؛ فقد قال الله تعالى لقوم أحبّ إرشادهم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ؛ فالرادّ الى الله هو الآخذ بمحكم كتابه، والرادّ الى الرسول الآخذ بسنّته الجامعة غير المتفرّقة. ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك فى نفسك ممن لا تضيق به الأمور، ولا تمحكه [2] الخصوم، ولا يتمادى فى الزّلّة، ولا يحصر [3] من الفىء الى الحق إذا عرفه، ولا تشرف [نفسه] على طمع، ولا يكتفى بأدنى فهم دون أقصاه، أوقفهم فى الشّبهات،   [1] كذا فى نهج البلاغة، وفى الأصل «وافسح فى أموالهم ... » . [2] أمحكه: أغضبه أو جعله محكان كسكران: عسر الخلق. [3] يحصر: يضيق صدره. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 24 وآخذهم بالحجج، وأقلّهم تبرّما بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشّف الأمور، وأصرمهم عند إيضاح الحكم، ممن لا يزدهيه إطراء، ولا يستميله إغراء؛ وأولئك قليل. ثم أكثر تعاهد قضائه؛ وافسح له فى البذل ما يريح علّته وتقلّ معه حاجته الى الناس، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصّتك، ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك. فانظر فى ذلك نظرا بليغا؛ فإن هذا [الدّين] قد كان أسيرا فى أيدى الأشرار يعمل فيه بالهوى وتطلب به [1] الدنيا. ثم انظر فى أمور عمّالك فاستعملهم اختبارا ولا تولّهم محاباة وأثرة، فإنهما جمّاع من شعب الجور والخيانة. وتوخّ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم فى الإسلام المتقدّمة، فإنهم أكرم أخلاقا، وأصحّ أعراضا، وأقلّ فى المطامع إسرافا، وأبلغ فى عواقب الأمور نظرا. ثم أسبغ عليهم الأرزاق، فإن ذلك قوّة لهم على استصلاح أنفسهم، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم، وحجّة عليهم إن خالفوا أمرك أو ثلموا أمانتك. ثم تفقّد أعمالهم، وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم، فإنّ تعاهدك فى السرّ لأمورهم حدوة [2] لهم على استعمال الأمانة والرّفق بالرعيّة. وتحفّظ من الأعوان، فإن أحد منهم بسط يده الى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهدا، فبسطت عليه العقوبة فى بدنه، وأخذته بما أصاب من عمله، ثم نصبته بمقام الذّلة، ووسمته بالخيانة، وقلّدته عار التّهمة. وتفقّد أمر الخراج بما يصلح أهله، فإنّ صلاحهم وصلاحه صلاح لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم، لأنّ الناس كلّهم عيال على الخراج وأهله. وليكن نظرك فى عمارة الأرض أبلغ من نظرك فى استجلاب الخراج، لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة؛ ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد   [1] كذا فى نهج البلاغة، وفى الأصل: «وتطلب منه الدنيا» . [2] حذوة لهم أى سوق لهم وحثّ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 25 ولم يستقم أمره إلا قليلا. فإن شكوا ثقلا أو علّة أو انقطاع شرب [أو بالّة [1]] أو إحالة أرض اغتمرها غرق أو أجحف بها عطش، خفّفت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم؛ ولا يثقلنّ عليك شىء خفّفت به المؤنة عنهم، فإنه ذخر يعودون به عليك فى عمارة بلادك وتزيين ولايتك، مع استجلابك حسن ثنائهم وتبجّحك [2] باستفاضة العدل فيهم، معتمدا فضل قوّتهم بما ذخرت عندهم من إجمامك [3] لهم والثّقة منهم بما عوّدتهم من عدلك عليهم ورفقك بهم. فربما حدث من الأمور ما إذا عوّلت [فيه] عليهم من بعد، احتملوه طيّبة أنفسهم به، فإن العمران يحتمل ما حمّلته، وإنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها، وإنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع وسوء ظنّهم بالبقاء وقلّة انتفاعهم بالعبر. واستعمل من يحبّ أن يدّخر حسن الثناء من الرعيّة والمثوبة من الله عزّ وجلّ والرضا من الإمام. ثم انظر فى حال الكتّاب فولّ أمورك خيرهم. واخصص رسائلك التى تدخل فيها مكايدك وأسرارك بأجمعهم لوجود [4] صالح الأخلاق ممن لا تبطره الكرامة فيجترئ بها عليك فى خلاف لك بحضرة ملأ، ولا تقصّر [5] به الغفلة عن إيراد مكاتبات عمّالك [عليك] وإصدار جوابها على الصواب منها عنك، وفيما يأخذ لك ويعطى منك، ولا يضعف عقدا اعتقده لك، ولا يعجز عن إطلاق ما عقد عليك، ولا يجهل مبلغ قدر نفسه [6] فى الأمور، فإن الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل. ثم لا يكن   [1] أى شكوا ثقل المضروب عليهم من مال الخراج، أو نزول علة سماوية، أو انقطاع شرب (الشرب بالكسر: الماء) فيما يسقى بالأنهار، أو بالّة وهو ما يبل الأرض من مطروندى فيما يسقى بالمطر، وإحالة الأرض: تحولها وتغيرها. [2] التبجح: الفرح والسرور. [3] إجمامك لهم: تركك إياهم حتى اذا ما استراحوا تقوّوا على معونتك. [4] كذا فى الأصل ولعله محرف عن «وجوه» . [5] كذا فى نهج البلاغة وفى الأصل: «ولا تقصر بك ... » . [6] فى الأصل: «قدر نفسك ... » وكذلك فعلا يعجز ويجهل بتاء الخطاب، والسياق يقتضى ما وضعناه عن نهج البلاغة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 26 اختيارك إيّاهم على فراستك واستنامتك وحسن الظّن منك، فإن الرجال يتعرّفون [1] لفراسات الولاة بتصنّعهم وحسن خدمتهم؛ وليس وراء ذلك من النصيحة والأمانة شىء؛ ولكن اختبرهم بما ولوا للصالحين [2] قبلك، فآعمد لأحسنهم كان فى العامّة أثرا، وأعرفهم بالأمانة وجها، فإن ذلك دليل على نصيحتك لله ولمن وليت أمره. واجعل لرأس كل أمر من أمورك رأسا منهم لا يقهره كبيرها ولا يتشتّت عليه كثيرها. ومهما كان فى كتّابك من عيب فتغابيت عنه ألزمته. ثم استوص بالتجّار وذوى الصناعات، وأوص بهم خيرا المقيم [منهم و] المضطرب بماله والمترفّق ببدنه، فإنهم موادّ المنافع وأسباب المرافق وجلّابها من المباعد والمطارح فى برّك وبحرك وسهلك وجبلك وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها ولا يجترئون عليها، فإنّهم سلم لا تخاف بائقته، وصلح لا تخشى غائلته. وتفقّد أمورهم بحضرتك وفى حواشى بلادك. واعلم أن [فى] كثير منهم ضيقا فاحشا وشحّا قبيحا واحتكارا للمنافع فى المبايعات، وذلك باب مضرّة للعامّة، وعيب على الولاة. فامنع [من] الاحتكار، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم منع منه. وليكن البيع بيعا سمحا بموازين عدل وأسعار لا تجحف بالفريقين البائع والمبتاع، فمن قارف حكرة بعد نهيك إيّاه فنكّل به وعاقبه من غير إسراف. ثم الله الله فى الطبقة السّفلى من الذين لا حيلة لهم والمساكين والمحتاجين و [أهل] البؤسى والزّمنى، فإن [فى] هذه الطبقة قانعا ومعترّا، فاحفظ لله ما استحفظك من حقّه فيهم، واجعل لهم قسما من بيت مالك، وقسما من غلّات صوافى [3] الإسلام فى كل بلد، فإن للأقصى منهم مثل الذى للأدنى. وكلّ قد استرعيت حقّه فلا يشغلنّك   [1] قال الأستاذ الإمام: أى يتوسلون إليها لتعرفهم. [2] كذا فى نهج البلاغة وفى الأصل: «ولكن اختبرهم بهؤلاء الصالحين» . [3] صوافى جمع صافية: أرض الغنيمة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 27 عنهم بطر [1] فإنك لا تعذر بتضييع [ك التافه لإحكامك] الكثير المهمّ، فلا تشخص همّك عنهم ولا تصعّر خدّك لهم؛ وتفقّد أمور من لا يصل إليك [منهم] ممن تقتحمه العيون وتحقره الرجال، ففرّغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع، فليرفع إليك أمورهم؛ ثم اعمل فيهم بالإعذار إلى الله سبحانه وتعالى يوم تلقاه، فإن هؤلاء من بين الرعيّة أحوج إلى الإنصاف من غيرهم. وكلّ فأعذر إلى الله تعالى فى تأدية حقّه إليه [2] . وتعهّد أهل اليتم وذوى الرّقّة فى السنّ ممن لا حيلة له ولا ينصب للمسئلة نفسه. وذلك على الولاة ثقيل؛ [والحق كله ثقيل] وقد يخفّفه الله على أقوام طلبوا العاقبة فصبّروا أنفسهم ووثقوا بصدق موعود الله لهم. واجعل لذوى الحاجات منك قسما تفرّغ لهم [فيه شخصك] وتجلس لهم فيه مجلسا عامّا فتتواضع فيه لله الذى خلقك وتبعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك حتى يكلّمك متكلّمهم غير متعتع [3] فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فى غير موطن: «لن تقدّس أمّة لا يؤخذ للضعيف فيها [4] [حقّه] من القوىّ غير متعتع» . ثم احتمل الخرق منهم والعىّ، ونحّ عنك الضّيق والأنف يبسط الله عليك بذلك أكناف رحمته ويوجب لك ثواب طاعته، وأعط ما أعطيت هنيئا، وامنع فى إجمال وإعذار. ثم أمور من أمورك لا بدّ [لك] من مباشرتها: منها إجابة عمّالك بما لا يغنى عنه كتّابك، ومنها إصدار حاجات الناس عند ورودها عليك مما تحرج به صدور أعوانك. وأمض لكلّ يوم عمله فإن لكلّ يوم ما فيه. واجعل لنفسك فيما بينك وبين الله   [1] كذا فى نهج البلاغة؛ وفى الأصل: «فلا يشغلنك عنهم نظر ... » . [2] كذا فى نهج البلاغة؛ وفى الأصل: «فى تأدية حقه اليك ... » . [3] التعتعة فى الكلام: التردد فيه من عجز وعىّ والمراد أنه غير خائف، تعبيرا باللازم. [4] كذا فى نهج البلاغة؛ وفى الأصل: «لم يؤخذ للضعيف منها ... » الخ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 28 أفضل تلك المواقيت وأجزل تلك الأقسام، وإن كانت كلّها لله إذا صلحت فيها النّيّة وسلمت منها الرعيّة. وليكن فى خاصّة ما تخلص لله به [دينك] إقامة فرائضه التى هى له خاصّة، فأعط الله من بدنك [1] فى ليلك ونهارك، ووفّ ما تقرّبت به إلى الله تعالى من ذلك كاملا غير مثلوم ولا منقوص بالغا من بدنك ما بلغ. وإذا قمت فى صلاتك للناس فلا تكوننّ مفّرا ولا مضيّعا؛ فإن فى الناس من به العلّة وله الحاجة؛ وقد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وجّهنى إلى اليمن كيف أصلّى بهم؟ قال: «كصلاة أضعفهم وكن بالمؤمنين رحيما» . وأما بعد هذا فلا يطولنّ احتجابك عن رعيّتك، فإن احتجاب الولاة عن الرعيّة شعبة من الضّيق وقلّة علم بالأمور. والاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه، فيصغر عندهم الكبير ويعظم الصغير ويقبح الحسن ويحسن القبيح ويشاب الحقّ بالباطل. وإنما الوالى بشر لا يعرف ما يوارى عنه الناس من الأمور؛ وليست على الحق سمات تعرف بها ضروب الصّدق من الكذب. وإنما أنت أحد رجلين: إما امرؤ سخت نفسك بالبذل فى الحقّ، ففيم احتجابك من واجب حقّ تعطيه أو فعل كريم تسديه؟ وإما امرؤ مبتلى بالمنع، فما أسرع كفّ الناس عن مسألتك إذا يئسوا من ذلك! مع أنّ أكثر حاجات الناس إليك مما لا مؤنة فيه عليك من شكاة مظلمة أو طلب إنصاف فى معاملة. ثم إن للوالى خاصة وبطانة فيهم استئثار وتطاول [وقلة إنصاف فى معاملة] ، فاحسم مادّة ذلك بقطع أسباب تلك الأحوال. ولا تقطعنّ لأحد من حاشيتك وخاصّتك   [1] كذا فى نهج البلاغة، وفى الأصل: «من ذلك ... » . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 29 قطيعة، ولا يطمعنّ [من] ك [فى] اعتقاد عقدة تضرّ [1] بمن يليها من [الناس فى] شرب أو عمل مشترك يحملون مؤنته على غيرهم، فيكون مهنأ ذلك لهم دونك، وعيبه عليك فى الدنيا والآخرة. وألزم الحقّ من لزمه من القريب والبعيد، وكن فى ذلك صابرا محتسبا واقعا ذلك من قرابتك وخاصّتك حيث وقع؛ وابتغ [2] عاقبته بما يثقل عليك منه، فإن مغبّة ذلك محمودة. وإن ظنّت الرعيّة بك حيفا فأصحر [3] لهم بعذرك واعدل عنك ظنونهم بإصحارك، فإن فى ذلك إعذارا تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحقّ. ولا تدفعنّ صلحا دعاك إليه عدوّك [و] لله فيه رضا، فإن فى الصلح دعة لجنودك وراحة من همومك وأمنا لبلادك. ولكن احذر كلّ الحذر من عدوّك بعد صلحه، فإن العدوّ ربما قارب ليتغفّل، فخذ بالحزم واتّهم فى ذلك حسن الظن. فإن عقدت بينك وبين عدوّك عقدة وألبسته منك ذمّة فحط عهدك بالوفاء وارع ذمّتك بالأمانة واجعل نفسك جنّة دون ما أعطيت، فإنه ليس من فرائض الله شىء الناس [4] أشدّ عليه اجتماعا مع تفرّق أهوائهم وتشتّت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود؛ وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين لما استوبلوا [5] من عواقب الغدر. فلا تغدرنّ بذمّتك ولا تخيسنّ بعهدك ولا تختلنّ عدوّك، فإنه لا يجترئ على الله إلا جاهل شقىّ. وقد جعل الله عهده وذمّته أمنا قضاه بين العباد برحمته، وحرما يسكنون إلى منعته ويستفيضون إلى جواره، فلا إدغال ولا مدالسة [6] ولا خداع فيه. ولا تعقد عقدا   [1] كذا فى نهج البلاغة: وفى الأصل: «ولا تطمعنّ فيك اعتقاد عقدة فيضر ... » وهى مضطربة النسج ولا تؤدى المعنى المراد. والعقدة: الضّيعة، واعتقادها: امتلاكها واقتناؤها. [2] كذا فى نهج البلاغة وفى الأصل: «واتبع ... » وهو تحريف. [3] الإصحار بالأمر: إظهاره. [4] كذا فى نهج البلاغة وفى الأصل: «فانه ليس من فرائض الله شىء إلا الناس ... الخ» . [5] كذا فى نهج البلاغة. واستوبل الشىء اذا تركه لو خامنه وان كان محبّا له، وفى الأصل «لما استولوا عليه ... » . [6] كذا فى نهج البلاغة «والمدالسة» : الخيانة، وفى الأصل «مخالة» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 30 تجوز فيه العلل. ولا تعوّلنّ على لحن قول بعد التأكيد والتوثقة. ولا يدعونّك ضيق أمر لزمك فيه عهد الله إلى طلب انفساخه بغير الحقّ، فإنّ صبرك على ضيق ترجو انفراجه وفضل عاقبته خير من غدر تخاف تبعته وأن تحيط بك من الله طلبة فلا تستقيل فيها [1] دنياك ولا آخرتك. إيّاك والدماء وسفكها بغير حلّها، فإنه ليس شىء أدعى لنقمة ولا أعظم تبعة ولا أحرى بزوال نعمة وانقطاع مدّة من سفك الدماء بغير حقّها، والله سبحانه مبتدئ بالحكم [بين العباد] فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة؛ فلا تقوّينّ [2] سلطانك بسفك دم حرام، فإن ذلك مما يضعفه ويوهنه بل يزيله وينقله. فلا عذر لك عند الله ولا عندى فى قتل العمد، لإن فيه قود البدن. فإن ابتليت بخطأ وأفرط عليك سوطك [أو سيفك] أو يدك بعقوبة؛ فإن فى الوكزة فما فوقها مقتلة، فلا تطمحنّ بك نخوة سلطانك عن أن تؤدّى إلى أولياء المقتول حقّهم. وإيّاك والإعجاب بنفسك والثقة بما يعجبك منها وحبّ الإطراء، فإن ذلك من أوثق فرص الشيطان فى نفسه ليمحق ما يكون من إحسان المحسنين. وإيّاك والمنّ على رعيتك بإحسانك، والتزيّد فيما كان [من فعلك] ، وأن تعدهم فتتبع موعدك بخلف، فإن المنّ يبطل الإحسان، والتزيّد يذهب بنور الحق، والخلف يوجب المقت عند الله والناس. قال الله تعالى: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ.   [1] كذا فى نهج البلاغة وعليه يكون معنى الجملة: لا تطلب أن تقال منها لا فى دنياك ولا فى آخرتك. وفى الأصل: لا تستقلّ دنياك ولا آخرتك. وهذه العبارة غير واضحة المعنى الا اذا زيدت عليها كلمة بها، والمراد لا تقوم بحملها دنياك ولا آخرتك. والطلبة اسم من المطالبة. [2] كذا فى نهج البلاغة، وفى الأصل «فلا تقومن» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 31 وإياك والعجلة بالأمور قبل أوانها، أو التسقّط [1] فيها عند إمكانها، أو اللّجاجة فيها إذا تنكّرت، أو الوهن عنها إذا استوضحت؛ فضع كلّ أمر موضعه وأوقع كلّ عمل موقعه. وإياك والاستئثار بما الناس فيه أسوة [2] ، والتغابى عما يعنى به مما قد وضح لعيون الناظرين، فإنه مأخوذ منك لغيرك، وعما قليل تنكشف عنك أغطية الأمور وينتصف منك للمظلوم. املك حميّة أنفك وسورة حدّك وسطوة يدك وغرب لسانك، واحترس من كلّ ذلك بكفّ البادرة وتأخير السطوة حتى يسكن غضبك فتملك الاختيار، ولن تحكم ذلك من نفسك [3] حتى تكثر همومك بذكر المعاد إلى ربك. والواجب عليك أن تتذكّر ما مضى لمن تقدّمك من حكومة عادلة، أو سنّة فاضلة، أو أثر عن نبيّنا صلى الله عليه وسلم، أو فريضة فى كتاب الله، فتقتدى بما شاهدت مما عملنا به فيها، وتجتهد لنفسك فى اتّباع ما عهدت إليك فى عهدى هذا، واستوثقت به من الحجّة لنفسى عليك لكيلا تكون لك علّة عند تسرّع نفسك إلى هواها. وأنا أسأل الله بسعة رحمته وعظيم قدرته على إعطاء كلّ ذى رغبة: أن يوفّقنى [4] وإياك لما فيه رضاه من الإقامة على العذر الواضح إليه وإلى خلقه، مع حسن الثناء فى العباد وجميل الأثر فى البلاد وتمام النعمة وتضعيف الكرامة، وأن يختم لى ولك بالسعادة والشهادة. إنّا لله وإنّا إليه راجعون. تمّ العهد بعون الله تعالى. وقيل: ينبغى للملك أن يسوق العنف باللطف، والتوفير بالتوقير، ولا يتخذ أعوانا إلا أعيانا، ولا أخلّاء إلا أجلّاء، ولا ندماء إلا كرماء، ولا جلساء إلا ظرفاء.   [1] كذا فى نهج البلاغة. وفى الأصل: «التثبت» والمراد بالتسقّط: التهاون. [2] أسوة بمعنى سواء، قال فى اللسان: القوم أسوة فى هذا الأمر أى حالهم فيه واحدة. [3] كذا فى نهج البلاغة، وفى الأصل «وأن تحكم بذلك فى نفسك» . [4] أن يوفقنى، مفعول «أسأل» وفى الأصل: «وتوفيقى ... » وما هنا نقلناه عن نهج البلاغة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 32 الباب الخامس من القسم الخامس من الفن الثانى فيما يجب على الملك للرعايا ويجب على الملك أن يبسط لرعيّته من العدل بساطا، ويبنى لهم من الأمن فسطاطا، وينشر عليهم ألوية حلم خفقت ذوائبها، ويسلسل لهم أنهار برّ امتدّت دوائبها [1] ؛ ويكفّ عنهم أكفّ المظالم، ويوكف عليهم سحائب المكارم. وأهمّ ما قدّم من ذلك «العدل» . ذكر ما قيل فى العدل وثمرته وصفة الإمام العادل والعدل واجب على كل من استرعى رعيّة من إمام وغيره؛ قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ ، وقال تعالى: وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ وقال تعالى وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وقال تعالى يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى وقال تعالى الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عدل ساعة فى حكومة خير من عبادة ستين سنة» وقال صلى الله عليه وسلم: «ألا [2] كلّكم راع وكلّكم مسئول عن رعيته فالإمام الذى على الناس راع عليهم وهو مسئول عنهم والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهى   [1] لعله «ذنائبها» جمع ذناب وهو مسيل ما بين التعلتين. [2] نصه فى البخارى ومسلم يختلف عن الأصل فى بعض ألفاظ لا تخرجه عن معناه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 33 مسئولة عنهم والعبد راع على مال سيّده وهو مسئول عنه فكلّكم راع وكلكم مسئول عن رعيّته» قال بعض الشعراء: فكلّكم راع ونحن رعيّة ... وكلّ سيلقى ربّه فيحاسبه وقالت الحكماء: إمام عادل خير من مطر وابل، وإمام غشوم خير من فتنة تدوم. يقال: إنّ جمشيد [1] أحد ملوك الفرس الأول، لما ملك الأقاليم عمل أربعة خواتيم: خاتما للحرب والشّرطة وكتب عليه الأناة، وخاتما للخراج وكتب عليه العمارة، وخاتما للبريد وكتب عليه الوحا [2] ، وخاتما للمظالم وكتب عليه العدل، فبقيت هذه الرسوم فى ملوك الفرس إلى أن جاء الإسلام. وقال عبد الله بن عمر رضى الله عنهما: إذا كان الإمام عادلا فله الأجر وعليك الشكر، وإذا كان جائرا فله الوزر وعليك الصبر. وقال أردشير لابنه: يا بنىّ إن الملك والعدل أخوان لا غنى لأحدهما عن صاحبه، فالملك أسّ والعدل حارس، فما لم يكن له أس فمهدوم، وما لم يكن له حارس فضائع، يا بنىّ اجعل حديثك مع أهل المراتب، وعطيّتك لأهل الجهاد، وبشرك لأهل الدّين، وبرّك لمن عناه ما عناك من ذوى العقول. وقال بعض الحكماء: يجب على السلطان أن يلتزم العدل فى ظاهر أفعاله لإقامة أمر سلطانه، وفى باطن ضميره لإقامة أمر دينه، فإذا فسدت السياسة ذهب السلطان؛ ومدار السياسة كلّها على العدل والإنصاف، فلا يقوم السلطان لأهل الكفر والإيمان إلا بهما، ولا يدور إلا عليهما.   [1] فى الأصل: «حمشيد» بالحاء المهملة، وصوابه جمشيد بالجيم المعجمة، ومعناه: شعاع القمر. [2] الوحا: العجلة والإسراع، ويمدّ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 34 وقال عبد الملك بن مروان لبنيه: كلّكم يترشّح لهذا الأمر، ولا يصلح له منكم إلا من له سيف مسلول، ومال مبذول؛ وعدل تطمئنّ إليه القلوب. وخطب سعيد بن سويد بحمص، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيّها الناس، إن للإسلام حائطا منيعا وبابا وثيقا؛ فحائط الإسلام الحقّ وبابه العدل؛ ولا يزال الإسلام منيعا ما اشتدّ السلطان؛ وليس شدّة السلطان قتلا بالسيف ولا ضربا بالسّوط، ولكن قضاء بالحقّ وأخذ بالعدل. وكتب إلى عمر بن عبد العزيز بعض عمّاله يستأذنه فى تحصين مدينة؛ فكتب إليه: حصّنها بالعدل ونقّ طريقها من الظلم. وقال معاوية: إنّى لأستحيى أن أظلم من لا يجد علىّ ناصرا إلا الله. وقال المهدىّ للربيع بن الجهم [1] وهو وال على أرض فارس: يا ربيع، انشر الحقّ والزم القصد وابسط العدل وارفق بالرعيّة؛ واعلم أن أعدل الناس من أنصف من نفسه، وأجورهم من ظلم الناس لغيره. وقال جعفر بن يحيى: الخراج عمود الملك، وما استغزر بمثل العدل، ولا استنزر بمثل الظلم. وقال عمرو بن العاص: لا سلطان إلا برجال، ولا رجال إلا بمال، ولا مال إلا بعمارة، ولا عمارة إلا بعدل. وقيل: سأل الإسكندر حكماء بابل، فقال: أيّما أبلغ عندكم، الشجاعة أم [2] العدل؟ فقالوا: إذا استعملنا العدل استغنينا عن الشجاعة.   [1] فى العقد الفريد ج 1 ص 13: «ابن أبى الجهم» . [2] فى الأصل «أو» والمقام يقتضى «أم» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 35 ولما جىء بالهرمزان ملك خوزستان أسيرا إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه، لم يزل الموكّل به يقتفى أثر عمر بن الخطاب رضى الله عنه حتى وجده بالمسجد نائما متوسّدا درّته، فلما رآه الهرمزان قال: هذا هو الملك؟ قيل: نعم؛ فقال له: عدلت فأمنت فنمت، والله إنى قد خدمت أربعة من ملوك الأكاسرة أصحاب التّيجان فما هبت أحدا منهم هيبتى لصاحب هذه الدّرّة. وقالوا: إذا عدل الإمام خصب الزمان. وقال ابن عبّاس رضى الله عنهما: إن الأرض لتزّيّن فى أعين الناس إذا كان عليها إمام عادل، وتقبح إذا كان عليها إمام جائر. وحكى أن كسرى أبرويز نزل متنكّرا بامرأة، فحلبت له بقرة فرأى لها لبنا كثيرا، فقال لها: كم يلزمك فى السنة على هذه البقرة للسلطان؟ فقالت: درهم واحد؛ فقال: وأين ترتع وبكم منها ينتفع؟ فقالت: ترتع فى أراضى السلطان، ولى منها قوتى وقوت عيالى؛ فقال فى نفسه: إن الواجب أن أجعل إتاوة على البقور [1] فلأصحابها نفع عظيم؛ فما لبث أن قالت المرأة: أوّه! إن سلطاننا همّ بجور؛ فقال أبرويز: لمه؟ فقالت: لأن درّ البقرة انقطع، وإن جور السلطان مقتض لجدب الزمان؛ فأقلع عما كان همّ به. وكان يقول بعد ذلك: إذا همّ الإمام بجور ارتفعت البركة. وقال سقراط: ينبوع فرح العالم الملك العادل، وينبوع حزنهم الملك الجائر.   [1] هكذا فى الأصل. والذى فى كتب اللغة التى تحت أيدينا من جموع هذا الاسم: بقر وأبقر وأبقار وأباقر وبقّار وأبقور، وله أسماء جمع وهى باقر وبقير وبيقور وباقور وباقورة، ولعل ما فى الأصل جمع لبقر والقياس لا يأباه فإن من النحويين من ذهب الى أن فعلا يجمع قياسا على فعول كأسد وأسود وذكر وذكور. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 36 وقال الفضل: لو كان عندى دعوة مستجابة لم أجعلها إلا فى الإمام، فإنه إذا صلح أخصبت البلاد وأمنت العباد؛ فقبّل ابن المبارك رأسه وقال: لا يحسبنّ هذا غيرك. وقال قدامة: حسبكم دلالة على فضيلة العدل أن الجور الذى هو ضدّه لا يقوم إلا به؛ وذلك أن اللصوص إذا أخذوا الأموال واقتسموها بينهم احتاجوا إلى استعمال العدل فى اقتسامهم وإلا أضرّ ذلك بهم. صفة الإمام العادل- كتب عمر بن عبد العزيز لما ولى الخلافة إلى الحسن ابن أبى الحسن البصرىّ أن يكتب له بصفة الإمام العادل؛ فكتب إليه الحسن: اعلم يا أمير المؤمنين، أن الله جعل الإمام العادل قوام كلّ مائل، وقصد كل جائر، وصلاح كلّ فاسد، وقوّة كلّ ضعيف، ونصفة كلّ مظلوم، ومفزع كلّ ملهوف. والإمام العادل يا أمير المؤمنين كالراعى الشفيق [على إبله [1]] والحازم الرفيق الذى يرتاد لها أطيب المراعى، ويذودها عن مراتع الهلكة، ويحميها من السباع، ويكنفها من أذى الحرّ والقرّ. والإمام العادل يا أمير المؤمنين كالأب الحانى على ولده، يسعى لهم صغارا، ويعلّمهم كبارا، يكسب لهم فى حياته، ويدّخر لهم بعد وفاته. والإمام العادل يا أمير المؤمنين كلأمّ الشفيقة البرّة الرفيقة بولدها، حملته كرها، ووضعته كرها، وربّته طفلا، تسهر لسهره وتسكن لسكونه، وترضعه تارة وتفطمه أخرى، وتفرح بعافيته، وتغتّم بشكايته. والإمام العادل يا أمير المؤمنين وصىّ اليتامى، وخازن المساكين، يربىّ صغيرهم، ويمون كبيرهم. والإمام العادل يا أمير المؤمنين كالقلب بين الجوارح، تصلح الجوارح بصلاحه، وتفسد بفساده. والإمام العادل يا أمير المؤمنين هو القائم بين الله وبين عباده، يسمع كلام الله ويسمعهم، وينظر إلى الله ويريهم، وينقاد لله ويقودهم. فلا تكن   [1] زيادة عن العقد الفريد (جزء أوّل ص 14) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 37 يا أمير المؤمنين فيما ملّكك الله كعبد ائتمنه سيّده واستحفظه ماله وعياله، فبدّد المال وشرّد العيال فأفقر أهله وأهلك ماله. واعلم يا أمير المؤمنين أن الله أنزل الحدود ليزجربها عن الخبائث والفواحش، فكيف [إذا أتاها من يليها! وأن الله أنزل القصاص حياة لعباده، فكيف [1]] إذا قتلهم من يقتصّ لهم! واذكر يا أمير المؤمنين الموت وما بعده، وقلّة أشياعك [2] عنده وأنصارك عليه؛ فتزوّد له وما بعده من الفزع الأكبر. واعلم يا أمير المؤمنين أن لك منزلا غير منزلك الذى أنت به، يطول [فيه [1]] ثواؤك، ويفارقك أحبّاؤك، ويسلمونك فى قعره فريدا وحيدا؛ فتزوّد له ما يصحبك يوم يفرّ المرء من أخيه وأمّه وأبيه وصاحبته وبنيه. واذكر يا أمير المؤمنين إذا بعثر ما فى القبور، وحصّل ما فى الصّدور؛ فالأسرار ظاهرة، والكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها؛ فالآن يا أمير المؤمنين وأنت فى مهل، قبل حلول الأجل، وانقطاع الأمل؛ لا تحكم يا أمير المؤمنين فى عباد الله بحكم الجاهلين، ولا تسلك بهم سبيل الظالمين، ولا تسلّط المستكبرين على المستضعفين، فإنهم لا يرقبون فى مؤمن إلّا ولا ذمّة، فتبوء بأوزارك وأوزار مع أوزارك، وتحمل أثقالك وأثقالا مع أثقالك. ولا يغرّنك الذين ينعمون بما فيه بؤسك، ويأكلون الطيّبات من دنياهم بإذهاب طيباتك فى آخرتك. ولا تنظرنّ إلى قدرك [3] اليوم، ولكن انظر الى قدرك [3] غدا وأنت مأسور فى حبائل الموت، وموقوف بين يدى الله تعالى فى مجمع الملائكة والمرسلين، وقد عنت الوجوه للحىّ القيّوم. إنى يا أمير المؤمنين إن لم أبلغ فى عظتى ما بلغه أولو النّهى قبلى، فلم آلك شفقة ونصحا؛ فأنزل كتابى هذا إليك كمداوى حبيبه يسقيه   [1] زيادة عن العقد الفريد، جزء أوّل ص 14 [2] كذا فى العقد الفريد، وفى الأصل «امتناعك» [3] كذا فى الأصل. وفى العقد الفريد: قدرتك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 38 الأدوية الكريهة لما يرجو له بذلك من العافية والصحة. والسلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. وحيثما ذكرنا العدل وصفة الإمام العادل فلنذكر الظلم وسوء عاقبته. ذكر ما قيل فى الظلم وسوء عاقبته قال الله تعالى: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ . وقال تعالى: أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً . وقال تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ مُهْطِعِينَ ؛ قيل: هذا تعزية للمظلوم ووعيد للظالم. وقال تعالى: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً . وقال تعالى: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ . وقال تعالى: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ* . وقال تعالى: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أشدّ الناس عذابا يوم القيامة إمام جائر» وفى لفظ آخر: «أبغض الناس إلى الله يوم القيامة وأشدّهم عذابا إمام جائر» . وقال صلى الله عليه وسلم: «اتقوا دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب [1] » وفى لفظ: «فإنها مستجابة» . ويقال: ما أنعم الله على عبد نعمة فظلم بها إلا كان حقيقا على الله أن يزيلها. وقال الأحنف: إذا دعتك نفسك إلى ظلم الناس فاذكر قدرة الله على عقوبتك، وانتقام الله لهم، وذهاب ما آتيت إليهم [2] عنهم. وقال يوسف بن أسباط: من دعا لظالم بالبقاء فقد أحبّ أن يعصى الله.   [1] فى الجامع الصغير: «اتقوا دعوة المظلوم وإن كان كافرا فإنه ليس دونها حجاب» . [2] أى ما سقته إليهم من الظلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 39 وروى فى الحديث: «إن الله تعالى يقول وعزّتى لأجيبنّ دعوة المظلوم وإن كان كافرا» . وقال: «ما من عبد ظلم فشخص ببصره إلى السماء ثم قال: يا ربّ؛ عبدك، ظلمت فلم أنتصر إلا بك إلا قال الله لبّيك عبدى لأنصرنّك ولو بعد حين» . وقيل: الظلم أدعى شىء إلى تغيير نعمة وتعجيل نقمة. وقال ابن عبّاس: ليس للظالم عهد، فإن عاهدته فانقضه، فإن الله تعالى يقول: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ . وأجمعوا على أن المظلوم موقوف على النّصرة لقوله تعالى: ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ . والظالم مدرجة العقوبة وإن تنفّست مدّته. وقيل لعمر بن الخطاب رضى الله عنه: كان الرجل يظلم فى الجاهلية فيدعو على من ظلمه فيجاب عاجلا ولا يرى ذلك فى الإسلام؛ فقال: هذا حاجز بينهم وبين الظلم، وإن موعدكم الآن الساعة، والسّاعة أدهى وأمرّ. وقيل: تندمل من المظلوم جراحه، إذا انكسر من الظالم جناحه. وقالوا: الجور آفة الزمان، ومحدث الحدثان؛ وجالب الإحن، ومسبّب المحن؛ ومحيل الأحوال، وممحق الأموال؛ ومخلى الديار، ومحيى البوار. وهو مأخوذ [1] من قولهم: جار عن الطريق إذا نكب عنها، فكأنه عدل عن طريق العدل وحاد عن سبيله. وفى الإسرائيليّات أن الله عزّ وجلّ أوحى إلى موسى عليه السّلام: يا موسى، قل لبنى إسرائيل: تجنّبوا الظلم؛ وعزّتى وجلالى إن له عندى مغبّة؛ قال: يا رب وما مغبته؟ قال: يتم الولد، وتقليل العدد، وانقطاع الأمد، والثّواء فى النار. وقد أوردنا فى ذلك ما يكتفى به من يعلم أن الله تعالى مسائله ومحاسبه، ومناقشه غدا ومطالبه؛ وجامع الناس ليوم لا ريب فيه، وموقف المظلوم لطلب حقّه ممن   [1] فى الأصل: «وهو مأخوذ به ... الخ» وظاهر أن كلمة «به» هنا مقحمة لغير حاجة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 40 ظلمه بملء فيه؛ وربما يعجّل له العقوبة فى دنياه، ويضاعف عليه العذاب فى أخراه، ويريه عاقبة بغيه فى يوم ينظر المرء ما قدّمت يداه. نسأل الله تعالى أن يحمينا أن نظلم أو نظلم، وأن يجعلنا ممن فوّض أمره إليه وسلّم، ولا يمتحننا بمكروه، فهو بضعفنا عن حمله أدرى، وبعجزنا أعلم، بمنّه وكرمه. ذكر ما قيل فى حسن السّيرة والرّفق بالرعيّة قال الله تعالى: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ. وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أعطى حظّه من الرفق فقد أعطى حظّه من الخير كلّه، ومن حرم حظّه من الرّفق فقد حرم حظّه من الخير كلّه» . ولما ولى عمر بن عبد العزيز الخلافة أرسل إلى سالم بن عبد الله ومحمد بن كعب فقال لهما: أشيرا علىّ؛ فقال له سالم: اجعل الناس أبا وأخا وابنا، فبرّ أباك، واحفظ أخاك، وارحم ابنك. وقال محمد بن كعب: أحبب للناس ما تحبّ لنفسك، واكره لهم ما تكره لنفسك، واعلم أنك أوّل خليفة يموت. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدىّ بن أرطاة: أما بعد، فإذا أمكنتك القدرة على المخلوق فاذكر قدرة الخالق عليك، واعلم أن مالك عند الله مثل ما للرعيّة عندك. وقال المنصور لابنه المهدىّ: يا بنىّ لا تبرم أمرا حتى تفكّر فيه، فإن فكرة العاقل مرآته تريه حسناته وسيئاته؛ واعلم أن الخليفة لا يصلحه إلا التقوى، والسلطان لا يصلحه إلا الطاعة، والرعية [1] لا يصلحها إلا العدل؛ وأولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة، وأنقص الناس عقلا من ظلم من هو دونه.   [1] كذا فى العقد الفريد (ج 1 ص 17) وفى الأصل: «والطاعة» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 41 وقال خالد بن عبد الله القسرىّ [1] لبلال بن أبى بردة: لا يحملنّك فضل المقدرة على شدّة السّطوة، ولا تطلب من رعيّتك إلا ما تبذله لها، ف إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ. وقيل: لما انصرف مروان بن الحكم من مصر إلى الشام، استعمل ابنه عبد العزيز على مصر، وقال له حين ودّعه: أرسل حكيما ولا توصه؛ انظر أى بنىّ [2] إلى أهل عملك؛ فإن كان لهم عندك حقّ غدوة فلا تؤخّره إلى عشيّة، وإن كان لهم عشيّة فلا تؤخّره إلى غدوة، وأعطهم حقوقهم عند محلّها تستوجب بذلك الطاعة منهم. وإيّاك أن يظهر لرعيّتك منك كذب، فإنهم إن ظهر لهم منك كذب لم يصدّقوك فى الحق. واستشر جلساءك وأهل العلم، فإن لم يستبن لك فاكتب إلىّ يأتك رأيى فيه إن شاء الله. وإن كان بك غضب على أحد من رعيّتك فلا تؤاخذه به عند سورة الغضب، واحبس عقوبتك حتى يسكن غضبك ثم يكون منك ما يكون وأنت ساكن الغضب مطفأ الجمرة، فإنّ أوّل من جعل السجن كان حليما ذا أناة؛ ثم انظر إلى أهل الحسب والدّين والمروءة، فليكونوا أصحابك وجلساءك، ثم ارفع منازلهم منك على غيرهم على غير استرسال ولا انقباض. أقول هذا وأستخلف الله عليك.   [1] فى الأصل: «خالد البصرى» والتصويب عن العقد الفريد. [2] كذا فى العقد الفريد (ج ص 17) ، وفى الأصل: «أى شىء» وهو تحريف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 42 الباب السادس من القسم الخامس من الفن الثانى فى حسن السياسة، وإقامة المملكة، ويتّصل به الحزم، والعزم، وانتهاز الفرصة، والحلم، والعفو، والعقوبة، والانتقام فأما ما قيل فى حسن السياسة وإقامة المملكة؛ قالوا: من طلب الرياسة فليصبر على مضض السياسة. ويقال: إذا صحّت السياسة تمّت الرياسة. كتب الوليد بن عبد الملك إلى الحجّاج بن يوسف يأمره أن يكتب إليه [بسيرته [1]] فكتب إليه: إنّى أيقظت رأيى وأنمت هواى، وأدنيت السّيد المطاع فى قومه، وولّيت الحرب الحازم فى أمره، وقلّدت الخراج الموفّر لأمانته، وقسمت لكلّ خصم من نفسى قسما، أعطيته حظّا من لطيف عنايتى ونظرى، وصرفت السيف إلى النّطف [2] المسىء، [والثواب الى المحسن البرىء [1]] ؛ فخاف المريب صولة العقاب، وتمسّك المحسن بحظّه [من [1]] الثواب. وقال الوليد بن عبد الملك لأبيه: يا أبت، ما السياسة؟ فقال: هيبة الخاصّة مع صدق مودّتها، واقتياد قلوب العامّة مع الإنصاف لها، واحتمال هفوات الصنائع [3] . وقيل: بلغ بعض الملوك سياسة ملك آخر فكتب اليه: قد بلغت من حسن السياسة مبلغا لم يبلغه ملك فى زمانك، فأفدنى الذى بلغت به ذلك؛ فكتب إليه: لم أهزل فى أمر و [لا [4]] نهى ولا وعد ولا وعيد، واستكفيت أهل الكفاية وأثبت على   [1] زيادة عن العقد الفريد، ج 1 ص 10 [2] النطف: المريب. [3] فى الأصل: «أهل الصناعات» والتصويب عن عيون الأخبار (مجلد 1 ص 10) والصنائع جمع صنيعة، يقال: فلان صنيعة فلان إذا اصطنعه وخرّجه وأدّبه وربّاه. [4] زيادة عن عيون الأخبار (مجلد 1 ص 10 طبع دار الكتب المصرية) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 43 العناء لا على الهوى، وأودعت القلوب هيبة لم يشبها مقت، وودّا لم يشبه كذب، وعمّمت القوت، ومنعت الفضول. وقيل: إن أنوشروان كان يوقّع فى عهود الولاة: سس خيار الناس بالمحبّة، وامزج للعامّة الرغبة بالرهبة. ولما قدم سعد العشيرة فى مائة من أولاده على ملك حمير سأله عن صلاح الملك؛ فقال: معدلة شائعة، وهيبة وازعة، ورعيّة طائعة؛ ففى المعدلة حياة الإمام، وفى الهيبة نفى للظّلّام وفى طاعة الرعية حسن التئام. وقال أبو معاذ للمتوكّل: إذا كنتم للناس أهل سياسة فسوسوا كرام الناس بالرفق والبذل، وسوسوا لئام الناس بالذّلّ يصلحوا على الذلّ، إن الذلّ يصلح النّذل. وقال أنوشروان: الناس ثلاث طبقات، تسوسهم [1] ثلاث سياسات، طبقة هم خاصّة الأشراف، تسوسهم باللين والعطف، وطبقة هم خاصّة الأشرار، تسوسهم بالغلظة والعنف، وطبقة هم العامّة، تسوسهم بالشدّة واللين. وقال معاوية بن أبى سفيان: إنى لا أضع سيفى حيث يكفينى سوطى، [ولا أضع [2]] سوطى حيث يكفينى لسانى، ولو أن بينى وبين العامّة شعرة ما [3] ما انقطعت؛ قيل له: وكيف ذلك؟ قال: كنت إذا جذبوها أرخيتها وإذا أرخوها جذبتها. وقال المأمون: أسوس الملوك من ساس نفسه لرعيّته، فأسقط مواقع حجّتها عنه وقطع مواقع حجّته عنها.   [1] فى الأصل «يسوسهم» بالياء وكذلك بقية الأفعال فى هذه الجملة، وظاهر أن الخطاب هو الذى يستقيم معه اللفظ والمعنى. [2] زيادة عن العقد الفريد (ج 1 ص 10) . [3] كذا فى العقد الفريد (ج 1 ص 10) وعيون الأخبار (مجلد 1 ص 9) . والكثير فى جواب «لم» المنفى بما عدم اقترانه باللام. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 44 وأما ما قيل فى الحزم والعزم وانتهاز الفرصة؛ قالت الحكماء: أحزم الملوك من قهر جدّه هزله، وغلب رأيه هواه، وأعرب عن ضميره فعله، ولم يختدعه رضاه عن سخطه، ولا غضبه عن كيده. وقيل لبعضهم: ما الحزم؟ فقال: التفكّر فى العواقب. وقال عبد الملك بن مروان لابنه الوليد: يا بنىّ، اعلم أنه ليس بين السلطان وبين أن يملك الرعيّة أو تملكه الرعيّة إلّا حزم أو توان. وقالوا: ينبغى للعاقل ألّا يستصغر شيئا من الخطأ والزّلل، فإنّ من استصغر الصغير يوشك أن يقع فى الكبير، فقد رأينا الملك يؤتى من العدوّ المحتقر، ورأينا الصّحّة تؤتى من الداء اليسير، ورأينا الأنهار تنبثق من الجداول الصغار. وقال مسلمة بن عبد الملك: ما أخذت أمرا قطّ بحزم فلمت نفسى فيه وإن كانت العاقبة علىّ، ولا أخذت أمرا قطّ وضعيّت الحزم فيه فحمدت نفسى وإن كانت العاقبة لى. وقال عبد الملك لعمر بن عبد العزيز: ما العزيمة فى الأمر؟ فقال: إصداره إذا أورد بالحزم؛ قال: وهل بينهما فرق؟ قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر: ليست تكون عزيمة ما لم يكن ... معها من الحزم المشيّد رافد وقيل لملك سلب ملكه: ما الذى سلبك ملكك؟ فقال: [دفع شغل [1]] اليوم إلى غد، والتماس عدّة بتضييع عدد، واستكفاء كلّ مخدوع عن [2] عقله. والمخدوع [عن عقله [1]] : من بلغ قدرا لا يستحقّه أو أثيب ثوابا لا يستوجبه. وفى كتب للهند: الحازم يحذر عدوّه على كل حال، يحذر المواثبة إن قرب، والمغارة [3] إن بعد، والكمين   [1] زيادة من العقد الفريد (ج 1 ص 18) . [2] فى الأصل: «من عقله» . [3] كذ فى الأصل، ولعله «المغاورة» بمعنى الإعارة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 45 إن انكشف، والاستطراد إن ولّى. وقال صاحب كتاب كليلة ودمنة: إذا عرف الملك أنّ رجلا يساوى به فى المنزلة والرأى والهمّة والمال واتّبع فليصرعه، فإن لم يفعل فهو المصروع. وقيل: من لم يقدّمه حزمه أخّره عجزه. وقيل: من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ. قال البحترىّ: فتى لم يضيّع وجه حزم ولم يبت ... يلاحظ أعجاز الأمور تعقّبا ومثله قول آخر: وخير الأمر ما استقبلت منه ... وليس بأن تتبّعه اتّباعا وقيل: من لم ينظر فى العواقب فقد تعرّض لحادثات النوائب. قال الشاعر: ومن ترك العواقب مهملات ... فأيسر سعيه أبدا تبار وقال صاحب كتاب كليلة ودمنة: رأس الحزم للملك معرفته بأصحابه وإنزالهم منازلهم واتهام بعضهم على بعض، فإنه إن وجد بعضهم إلى هلاك بعض سبيلا أو إلى تهجين بلاء المبلين وإحسان المحسنين والتغطية على إساءة المسيئين، سارعوا الى ذلك، واستحالوا [1] محاسن أمور المملكة، وهجّنوا محاسن رأيه؛ ولم يبرح منهم حاسد قد أفسد ناصحا، وكاذب قد اتّهم أمينا، ومحتال قد أغضب بريئا. وليس ينبغى للملك أن يفسد أهل الثقة فى نفسه بغير أمر يعرفه، بل ينبغى فى فضل حلمه وبسطة علمه الحيطة على رأيه فيهم، والمحاماة على حرمتهم وذمامهم، وألّا يرتاح [2] إلى إفسادهم، فلم يزل جهّال الناس يحسدون علماءهم، وجبناؤهم شجعانهم، ولئامهم كرماءهم، وفجّارهم أبرارهم، وشرارهم خيارهم.   [1] كذا فى الأصل. ولعله: «أحالوا» بمعنى غيّروا. [2] فى الأصل «ألا يريح» ولعل الصواب ما وضعناه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 46 وقال علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: انتهزوا هذه الفرص فإنها تمرّ مرّ السّحاب، ولا تطلبوا أثرا بعد عين. وكتب يزيد بن الوليد إلى مروان بن محمد، وقد بلغه عنه تلكّؤ فى بيعته: أما بعد، فإنى أراك تقدّم رجلا وتؤخّر أخرى، فإذا أتاك كتابى فاعتمد أيّهما شئت والسلام. وكتب عبد الله بن طاهر الخراسانىّ إلى الحسن بن عمر التّغلبىّ [1] : أما بعد، فإنه بلغنى من قطع الفسقة الطريق [ما بلغنى [2]] ، فلا الطريق تحمى، ولا اللصوص تكفى، ولا الرعية ترضى، وتطمع بعد هذا فى الزيادة! إنك لمنفسح الأمل! وايم الله لتكفينّ من قبلك أو لأوجّهنّ إليك رجالا لا تعرف مرّة من جشم، ولا عديّا من رهم [3] . ولا حول ولا قوّة إلا بالله. وكتب الحجاج بن يوسف إلى قتيبة بن مسلم والى خراسان: أما بعد، فإن وكيع ابن حسّان [4] كان بالبصرة [منه [5]] ما كان، ثم صار لصّا بسجستان، ثم صار إلى خراسان، فإذا أتاك كتابى هذا فاهدم بناءه واحلل لواءه. وكان على شرطة قتيبة فعزله وولّى الضّبىّ.   [1] فى الأصل: الثعلبى وهو تحريف إذ هو الحسن بن أيوب بن أحمد بن عمر بن الخطاب العدوى التغلبى. انظر ابن الأثير طبع أوربا ج 7 ص 127 و 172. [2] زيادة يقتضيها السياق وفى العقد الفريد «ما بلغ» (ج 1 ص 20) . [3] كذا فى العقد الفريد «رهم» بالراء وهو بطن من بطون العرب وفى الأصل: «دهم» . [4] فى الأصل: «حيّان» والتصويب عن العقد الفريد والطبرىّ. [5] زيادة يقتضيها المقام. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 47 ذكر ما قيل فى الحلم الحلم دفع السيئة بالحسنة. وقيل: تجرّع الغيظ [1] . وقيل: الحلم دعامة العقل، وقال الله تعالى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ. وقال علىّ رضى الله عنه: حلمك عن السفيه يكثر أنصارك عليه. وقيل: ليس الحليم من إذا ظلم حلم حتى إذا قدر انتصر، ولكن الحليم من ظلم فإذا قدر غفر [2] . وقيل: الحليم من لم يكن حلمه لفقد النّصرة أو لعدم القدرة. وهو جوهر فى الإنسان يصدر عن صدر سالم من الغوائل والأذى، صاف [3] من شوائب الكدر والقذى؛ لا يستطاع تعلّما، ولا يدرك تبصّرا وتفهّما؛ كما قال أبو الطيّب: وإذا الحلم لم يكن فى طباع ... لم يحلّم تقادم الميلاد [4] ويدلّ على ذلك أنه غريزة فى الإنسان. وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأشجّ عبد القيس: «يا أبا المنذر إن فيك خصلتين [5] يرضاهما الله ورسوله الحلم والأناة» فقال: يا رسول الله، أشىء جبلنى الله عليه أم شىء اخترعته من قبل   [1] فى الأصل: «الغليظ» . [2] عبارة الإحياء فى شطر هذه الجملة الأخيرة «ولكن الحليم من ظلم فحلم حتى إذا قدر عفا» . [3] فى الأصل: «صاف عن شوائب ... الخ» واللغة تقتضى «من» . [4] ورد هذا البيت فى ديوان المتنبى هكذا: وإذا الحلم لم يكن عن طباع ... لم يكن عن تقادم الميلاد [5] فى الإحياء للغزالىّ «خلقين يحبهما ... » (ج 3 ص 122) طبع المطبعة الميمنية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 48 نفسى؟ قال: «بل شىء جبلك الله عليه» ؛ قال: الحمد لله الذى جبلنى على خلق يرضاه الله ورسوله. ومن الناس من يقول: إن الحلم ليس غريزة ولا طبيعة بل مكتسب مستفاد، تتمرّن النفس الأبيّة عليه، وتنقاد حبّا فى المحمدة إليه. وقالوا: الحلم بالتحلّم كما أن العلم بالتعلّم. ويدلّ على ذلك ما حكى عن جعفر الصادق أنه كان عنده عبد سيّئ الخلق، فقيل له: أما تأنف [من [1]] مثل هذا عندك وأنت قادر على الاستبدال به؟ فقال: إنما أتركه لأتعلّم عليه الحلم. ويحكى عنه أنه كان إذا أذنب إليه عبد أعتقه؛ فقيل له فى ذلك؛ فقال: أريد بفعلى هذا تعلّم الحلم. قال الشاعر: وليس يتمّ الحلم للمرء راضيا ... إذا هو عند السّخط لم يتحلّم كما لا يتمّ الجود للمرء موسرا ... إذا هو عند القتر لم يتحشّم [2] وروى عن سرىّ السّقطىّ أنه قال: الحلم على خمسة أوجه: حلم غريزىّ، وهو هبة من الله للعبد، يعفو عمّن ظلمه، ويصل من قطعه، ويعطى من حرمه، ويحسن لمن أساء إليه؛ وحلم تحالم، يكظم غيظه رجاء الثواب وفى القلب كراهية؛ وحلم كبر، لا يرى المسىء أهلا أن يجاريه؛ وحلم مذموم، رياء وسمعة وهو حاقد ساكت يرائى به جلساءه؛ وحلم مهانة وذلّة وعجز وضعف نفس وصغر همّة. وقال أبو هلال العسكرىّ: أجمع كلمة سمعناها فى الحلم ما سمعت عمّ أبى يقول: الحليم ذليل عزيز؛ وذلك أن صورة الحليم صورة الذليل الذى لا انتصار له، واحتمال السفيه والتغافل عنه فى ظاهر الحال ذلّ وإن لم يكن به. وقيل: « [الحليم [3]] مطيّة الجهول» لاحتماله جهله وتركه الانتصاف منه. وقال الأوّل البيتين وقد تقدّما.   [1] زيادة يقتضيها استعمال اللغة، ولعلها سقطت من الناسخ. [2] يتحشم: يتذمّم ويستحى. [3] زيادة عن ديوان المعانى لأبى هلال العسكرىّ (ج 1 ص 108 مخطوط ومحفوظ بدار الكتب المصرية) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 49 ولهذا [1]] قال شيخ من الأعراب وقد قيل له: ما الحلم؟ فقال: الذى تصبر عليه. وقال: الحلم عقال الشرّ، وذلك أن من سمع مكروهة فسكت عنها انقطعت عنه أسبابها، وإن أجاب اتصلت بأمثالها [2] . وقالوا: الحلم والأناة توءمان ينتجهما علوّ الهمة. ومن كلام النبوّة: «كاد الحليم أن يكون نبيّا» . ورأى حكيم رقّة من ملك فقال: أيها الملك! ليس التاج الذى يفتخر به عظماء الملوك فضّة ولا ذهبا، ولكنه الوقار المكلّل بجواهر الحلم، وأحق الملوك بالبسطة، من حلم عند ظهور السّقطة. وقال معاوية لابنه يزيد: عليك بالحلم والاحتمال حتى تمكنك الفرصة، فإذا أمكنتك فعليك بالصفح، فإنه يدفع عنك معضلات الأمور، ويقيك مصارع المحذور. وقال أيضا: أفضل ما أعطى الرجل الحلم. وقال: ما وجدت لذّة هى عندى ألذّ من غيظ أتجرّعه وسفه بحلم أقمعه. وقالوا: الحلم مطيّة وطيئة تبلّغ راكبها قاصية المجد، وتملّكه ناصية الحمد. وقال أبو هلال: ومن أشرف نعوت الإنسان أن يدعى حليما، لأنه لا يدعاه حتى يكون عاقلا وعالما ومصطبرا محتسبا وعفوّا وصافحا ومحتملا وكاظما. وهذه شرائف الأخلاق وكرائم السجايا والخصال. ذكر أخبار من اشتهر بالحلم واتصف به كان ممن اشتهر بالحلم الأحنف بن قيس. قيل له: ممّن تعلّمت الحلم؟ قال: من قيس بن عاصم المنقرىّ، رأيته قاعدا بفناء داره محتبيا بحمائل سيفه يحدّث قومه، حتى أتى بمكتوف ورجل مقتول، فقيل له: هذا ابن أخيك قتل ابنك؛   [1] زيادة عن ديوان المعانى لأبى هلال العسكرى. [2] زيادة عن ديوان المعانى لأبى هلال العسكرىّ وفى الأصل: «بأسبابها» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 50 قال: فو الله ما حلّ حبوته ولا قطع كلامه، ثم التفت إلى ابن أخيه فقال: يابن أخى أثمت بربّك، ورميت نفسك بسهمك، وقتلت ابن عمك؛ ثم قال لابن له آخر: قم يا بنىّ فوار أخاك وحلّ كتاف ابن عمك وسق إلى أمّك مائة ناقة دية ابنها فإنها غريبة. وقد ساق أبو هلال هذه القصة بسند وزاد فيها زيادة حسنة نذكرها، فقال: إن قيس بن عاصم لما فرغ من حديثه التفت إلى بعض بنيه، فقال: قم إلى ابن عمك فأطلقه، وإلى أخيك فادفنه. فبدأ بإطلاق القاتل قبل دفن المقتول. وقال فى خبره: ثم اتّكأ على شقّه الأيسر وقال: إنى امرؤ لا يعترى خلقى [1] ... دنس يفنّده ولا أفن [1] من منقر فى بيت مكرمة ... والفرع ينبت فوقه الغصن خطباء حين يقول قائلهم ... بيض الوجوه مصاقع [2] لسن لا يفطنون لعيب جارهم ... وهمو لحفظ جواره فطن وقيل: قتل للأحنف بن قيس ولد وكان الذى قتله أخ للأحنف، فجىء به مكتوفا ليقيده؛ فلما رآه الأحنف بكى، وأنشد: أقول للنفس تأساء وتعزية ... إحدى يدىّ أصابتنى ولم ترد كلاهما خلف من فقد صاحبه ... هذا أخى حين أدعوه وذا ولدى وممن اشتهر بالحلم «معاوية بن أبى سفيان» . حكى أن رجلا خاطر [3] رجلا أن يقوم إلى معاوية إذا سجد فيضع يده على كفله ويقول: سبحان الله يا أمير المؤمنين!   [1] رواه فى العقد الفريد (ج 1 ص 17) : إنى امرؤ لا يطّبى حسبى ... دنس يهجّنه ولا أفن وفى عيون الأخبار لابن قتيبة (مجلّد 1 ص 286 طبع دار الكتب المصرية) : إنى امرؤ لا شائن حسى ... دنس يغيّره ولا أفن [1] الأفن: النقص. [2] فى العقد الفريد، وعيون الأخبار «أعفّة» . [3] يقال: خاطره على الأمر: راهته عليه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 51 ما أشبه عجيزتك بعجيزة أمّك هند! ففعل ذلك؛ فلما انفتل معاوية عن [1] صلاته قال له: يا أخى، إن أبا سفيان كان محتاجا إلى ذلك منها؛ فخذ ما جعلوه لك. فأخذه؛ ثم خاطره آخر بعد ذلك أن يقوم إلى زياد وهو فى الخطبة فيقول: أيها الأمير، من أمّك، ففعل؛ فقال زياد: هذا يخبرك، وأشار إلى صاحب الشّرطة، فقدّمه وضرب عنقه؛ فلما بلغ ذلك معاوية قال: ما قتله غيرى، ولو أدّبته على الأولى ما عاد إلى الثانية. قيل: ودخل خريم الناعم على معاوية بن أبى سفيان فنظر معاوية إلى ساقيه، فقال: أىّ ساقين! لو أنهما على جارية! فقال له خريم: فى مثل عجيزتك يا أمير المؤمنين؛ فقال: واحدة بواحدة والبادئ أظلم. وقيل: خاطر رجل على أن يقوم إلى عمرو بن العاص وهو فى الخطبة فيقول له: أيها الأمير، من أمّك؛ ففعل؛ فقال عمرو: النابغة بنت عبد الله أصابتها رماح العرب فبيعت بعكاظ؛ فاشتراها عبد الله بن جدعان فوهبها للعاصى بن وائل فولدت له فأنجبت، فإن كانوا جعلوا لك شيئا فخذه. وقيل: أسمع رجل عمر بن عبد العزيز بعض ما يكره؛ فقال: لا عليك، إنما أردت أن يستفزّنى الشيطان بعزّ السلطان فأنال منك اليوم ما تناله منّى غدا، انصرف إذا شئت. حكى صاحب العقد عن ابن عائشة أن رجلا من أهل الشأم دخل المدينة، قال: فرأيت رجلا راكبا على بغلة لم أر أحسن وجها ولا سمتا ولا ثوبا ولا دابّة منه، قال: فمال قلبى إليه، فسألت عنه، فقيل: هذا الحسن بن علىّ بن أبى طالب، فامتلأ قلبى بغضا له وحسدت عليّا أن يكون له ولد مثله، فصرت إليه فقلت: أنت   [1] فى الأصل: «من» وهذا يخالف الاستعمال اللغوى، فإنه يقال: انفتل عن كذا إذا انصرف عنه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 52 ابن أبى طالب؟ قال: أنا ابن ابنه؛ قلت: قلت فيك وفى أبيك أشتمهما، فلما انقضى كلامى، قال: أحسبك غريبا؛ فقلت: أجل؛ قال: فإن احتجت إلى منزل أنزلناك أو إلى مال آسيناك أو إلى حاجة عاونّاك؛ فانصرفت وما على الأرض أحبّ إلىّ منه. حدّث زياد عن مالك بن أنس قال: بعث إلىّ أبو جعفر المنصور وإلى ابن طاوس؛ فأتينا فدخلنا عليه، فإذا هو جالس على فرش قد نضدت، وبين يديه أنطاع قد بسطت، وجلاوزة [1] بأيديهم السيوف يضربون بها الأعناق، فأومأ إلينا أن اجلسا فجلسنا، ثم أطرق عنا طويلا، ثم رفع رأسه والتفت إلى ابن طاوس فقال: حدّثنى عن أبيك؛ قال: نعم، سمعت أبى يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ أشدّ الناس عذابا يوم القيامة رجل أشركه الله فى حكمه فأدخل عليه الجور فى عدله» ؛ فأمسك ساعة؛ قال مالك: فضممت ثيابى من ثيابه مخافة أن يملأنى من دمه؛ ثم التفت إليه أبو جعفر فقال: عظنى يابن طاوس؛ قال: نعم يا أمير المؤمنين إن الله تعالى يقول: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ ؛ قال مالك: فضممت ثيابى من ثيابه مخافة أن يملأنى دمه؛ فأمسك ساعة حتى اسودّ ما بيننا وبيته، ثم قال: يابن طاوس ناولنى هذه الدواة؛ فأمسك؛ فقال: ما يمنعك أن تناولنيها؟ قال: أخشى أن تكتب بها معصية لله فأكون شريكك فيها؛ فلما سمع ذلك قال: قوما عنّى؛ فقال ابن طاوس: ذلك ما كنّا نبغى منذ اليوم. قال مالك: فما زلت أعرف لابن طاوس فضله.   [1] الجلاوزة جمع جلواز بكسر الجم: الشّرطى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 53 وقيل: دخل الحارث بن مسكين على المأمون فسأله عن مسألة؛ فقال: أقول فيها كما قال مالك بن أنس لأبيك الرشيد؛ وذكر قوله فلم يعجب المأمون، فقال: لقد تتيّست فيها وتتيّس مالك؛ فقال الحارث بن مسكين: فالسامع يا أمير المؤمنين من التيسين أتيس؛ فتغيّر وجه المأمون، وقام الحارث وندم على ما كان منه؛ فلم يستقرّ فى منزله حتى أتاه رسول المأمون، فأيقن بالشرّ ولبس ثياب أكفانه، ثم أقبل حتى دخل عليه، فقرّ به المأمون من نفسه، ثم أقبل عليه بوجهه وقال له: يا هذا، إنّ الله تبارك وتعالى قد أمر من هو خير منك بإلانة القول لمن هو شرّ منّى، قال لنبيّه موسى صلى الله عليه وسلم إذا أرسله إلى فرعون: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى فقال الحارث بن مسكين: يا أمير المؤمنين، أبوء بالذنب وأستغفر الربّ؛ فقال: عفا الله عنك، انصرف إذا شئت. وقد مدح الشعراء ذوى الحلم، فمن ذلك قول بعضهم: لن يدرك المجد أقوام وإن كرموا ... حتّى يذلّوا- وإن عزّوا- لأقوام ويشتموا فترى الألوان مسفرة [1] ... لا ذلّ عجز ولكن ذلّ أحلام وقال آخر: لقد أسمع القول الذى هو كلّما ... تذكّرنيه النفس قلبى يصدّع فأبدى لمن أبداه منّى بشاشة ... كأنّى مسرور بما منه أسمع وما ذاك من عجز به غير أنّنى ... أرى أنّ ترك الشرّ للشرّ أدفع وقال مهيار: وإذا الإباء المرّ قال لك: انتقم ... قال خلائقك الكرام: بل احلم   [1] مسفرة: مشرقة سرورا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 54 شرع من العفو [1] انفردت بدينه ... وفضيلة لسواك لم تتقدّم حتّى لقد ودّ البرىء لو انّه ... أدلى إليك بفضل جاه المجرم وقال آخر: فدهره يصفح عن قدرة ... ويغفر الذنب على علمه كأنّه يأنف من أن يرى ... ذنب امرئ أعظم من حلمه وقال آخر: أسد على أعدائه ... ما إن يذلّ ولا يهون فإذا تمكّن منهم ... فهناك أحلم ما يكون وقال محمود الورّاق: إنّى وهبت لظالمى ظلمى ... وغفرت زلّته على علمى ورأيته أسدى إلىّ يدا ... لمّا أبان بجهله حلمى فكأنّما الإحسان كان له ... وأنا المسىء إليه فى الحكم ما زال يظلمنى وأرحمه ... حتّى بكيت له من الظلم وقال آخر: وذى رحم قلّمت أظفار ضغنه ... بحلمى عنه حين [2] ليس له حلم إذا سمته وصل القرابة سامنى ... قطيعتها، تلك السفاهة والإثم فداويته بالحلم، والمرء قادر ... على سهمه ما كان فى كفّه السهم لأستلّ منه الضّغن حتّى سللته ... وإن كان ذا ضغن يضيق به الحزم   [1] كذا فى ديوان مهيار. وفى الأصل: «المجد» . [2] كذا فى الأصل، ورواية الأمالى (ج 2 ص 103 طبع بولاق) : «وهو ليس ...... » والأبيات من قصيدة طويلة لمعن بن أوس. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 55 وقد كره بعضهم الحلم فى كل الأمور، فمن ذلك ما أنشد المبرّد: أبا حسن ما أقبح الجهل بالفتى ... وللحلم أحيانا من الجهل أقبح إذا كان حلم المرء عون عدوّه ... عليه فإنّ الجهل أعفى وأروح وقال آخر: ترفّعت عن شتم العشيرة إنّنى ... رأيت أبى قد عفّ عن شتمهم قبلى حليم إذا ما الحلم كان جلالة [1] ... وأجهل أحيانا إذا التمسوا جهلى وقال آخر: إذا الحلم لم ينفعك فالجهل أحزم وقال الأحنف: آفة الحلم الذّلّ. وقال: لا حلم لمن لا سفيه له. وقال: ما قلّ سفهاء قوم إلا ذلّوا. وقال النابغة الجعدىّ: ولا خير فى حلم إذا لم تكن له ... بوادر تحمى صفوه أن يكدّرا ولا خير فى جهل إذا لم يكن له ... حليم إذا ما أورد [2] الأمر أصدرا ولما أنشد هذين البيتين النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «أجدت لا يفضض [3] الله فاك» ؛ قال: فعاش مائة وثلاثين سنة لم تنفضّ له ثنيّة. وقال كعب بن زهير: إذا أنت لم تعرض عن الجهل والخنا ... أصبت حليما أو أصابك جاهل   [1] كذا فى ديوان المعانى لأبى هلال العسكرىّ؛ وفى الأصل: «إذا ما الجهل كان حلالة» ، ورواية الأغانى (ج 13 ص 56 طبع بولاق) : «حليما إذا ما الحلم كان مروءة» . [2] كذا فى جمهرة أشعار العرب (طبع مطبعة بولاق الأميرية) وفى الأغانى أيضا (ج 4 ص 131) . وفى الأصل: «حليم اذا هاجه الأمر أصدرا» . [3] كذا فى الأغانى (ج 4 ص 131 طبع بولاق) وفى الأصل: «لا تفضض» ونصه فى العقد الفريد (ج 1 ص 218) ، كما فى الأغانى ولم يذكر لفظ: «أجدت» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 56 ذكر ما قيل فى العفو قال الله تعالى: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ . وقال تعالى: فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ . وقال تعالى: وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ . وقال تعالى: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى . وقال: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ . وقال تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ العفو لا يزيد العبد إلا عزّا فاعفوا يعزّكم الله» . وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا كان يوم القيامة وجمع الله الخلق فى صعيد واحد حيث يسمعهم الداعى وينفذهم البصر [1] ينادى مناد من تحت العرش ألا من كان له على الله حقّ فليقم فلا يقوم إلا من عفا عن مجرم» . وفى لفظ «ينادى مناد يوم القيامة ألا من كان له أجر على الله فليقم، فيقوم العافون عن الناس» . وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من إمام عفا بعد قدرة إلا قيل له يوم القيامة ادخل الجنّة بغير حساب» . وقال معاذ بن جبل: لما بعثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال لى: «يا معاذ ما زال جبريل يوصينى بالعفو فلولا علمى بالله لظننت أنه يوصينى بترك الحدود» . وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من عفا عن مظلمة صغيرة أو كبيرة فأجره على الله ومن كان أجره على الله فهو من المقرّبين يوم القيامة» . وعن علىّ بن الحسين أنه قال: إذا [2] كان يوم القيامة نادى مناد: ليقم أهل الفضل فيقوم ناس، فيقال لهم: انطلقوا إلى الجنة، فتتلقّاهم الملائكة وهم سائرون فيقولون لهم:   [1] فى الأصل: «وينفدهم الصبر» والتصويب عن الإحياء (ج 3 ص 126 طبع المطبعة الميمنية) . [2] فى الإحياء أن هذا حديث رواه البيهقىّ فى الشعب من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه. قال البيهقىّ: فى إسناده ضعف. انظر (ج 8 ص 32) من شرح الإحياء (طبع المطبعة الميمنية) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 57 أين تريدون؟ فيقولون: الجنة؛ فيقولون لهم: قبل الحساب؟ فيقولون: نعم؛ فيقولون: من أنتم؟ فيقولون: نحن أهل الفضل؛ فيقولون: وما فضلكم؟ فيقولون: كنا إذا جهل علينا حلمنا، وإذا ظلمنا صبرنا، وإذا أسىء إلينا عفونا؛ فيقولون: يحقّ لكم أن تكونوا من أهل الجنّة فنعم أجر العاملين. وقيل لأبى الدّرداء: من أعزّ الناس؟ فقال: الذين يعفون إذا قدروا؛ فاعفوا يعزّكم الله تعالى. قيل: حدّ العفو ترك المكافأة عند القدرة قولا وفعلا. وقيل: هو السكون عند الأحوال المهيّجة للانتقام. قال الأحنف: إياك وحميّة الأوغاد؛ قيل: وما هى؟ قال: يرون العفو مغرما والتحمّل مغنما. وقيل لبعضهم: هل لك فى الإنصاف، أو ما هو خير من الإنصاف؟ فقال: وما هو خير من الإنصاف؟ فقال: العفو. وقيل: العفو زكاة النفس. وقيل: لذّة العفو أطيب من لذّة التّشفّى؛ لأن لذة العفو يلحقها حمد العاقبة، ولذة التشفّى يلحقها ذمّ الندم. وقيل للإسكندر: أىّ شىء أنت أسرّ به مما ملكت؟ فقال: مكافأة من أحسن إلىّ بأكثر من إحسانه، وعفوى عمّن أساء بعد قدرتى عليه. قال أشجع: يعفو عن الذنب العظ ... يم وليس يعجزه انتصاره صفحا عن الجانى علي ... هـ وليس حاط به اقتداره الجزء: 6 ¦ الصفحة: 58 وقال المتنبّى: فتى لا تسلب القتلى يداه ... ويسلب عفوه الأسرى الوثاقا وقال قابوس وشمكير [1] : العفو عن المذنب من واجبات الكرم. وقالوا: العفو يزين حالات من قدر، كما يزين الحلى قبيحات الصّور. وقال المنصور لولده المهدىّ: لذّة العفو أطيب من لذّة التشفّى، وقد تقدّم ذكر الدليل. وقال الشاعر: لذّة العفو إن نظرت بعين ال ... عدل أشفى من لذّة الإنتقام هذه تكسب المحامد والأج ... ر وهذى تجىء بالآثام قال عمر بن حبيب العدوىّ [2] : كنت فى وفد أهل البصرة لما قدموا على المنصور يسألونه أن يولّى عليهم قاضيا، فبينا نحن عنده إذ جىء برجل مصفّد بالحديد، يده مغلولة فى عنقه، فوقف بين يديه فساءله طويلا، ثم بسط له نطع وأمر بضرب عنقه، والرجل يحلف وهو يكذّبه، ولم يتكلّم أحد من الجمع، فقمت وكنت أحدثهم سنّا فقلت: يا أمير المؤمنين؛ أتأذن لى فى الكلام؟ فقال: قل؛ قلت: يروى عن ابن عمّك رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من اعتذر إليه أخوه المسلم فلم يقبل لم يرد على الحوض» ، وقد اعتذر إليك فاقبل منه عذره؛ فقال: يا غلام اضرب عنقه؛ قلت: إن أباك حدّثنى عن جدّك عن ابن عبّاس أنه قال: قال رسول الله صلى الله   [1] فى ابن خلكان (ج 1 ص 606 ما نصه: «الأمير قابوس: الأمير شمس المعالى أبو الحسن قابوس بن أبى طاهر وشمكير بن زيار بن وردان شاه الجيلىّ أمير جرجان وبلاد الجيل وطبرستان. وهذا موافق تماما لما جاء فى «قاموس الأعلام التركى» لصاحبه «شمس الدين سامى بك» فقد قال تحت عنوان «قابوس: إنه هو الأمير شمس المعالى أبو الحسن بن أبى طاهر وشمكير الجيلى» . وفى الأصل: «وشمكرى» . وفى اليتيمة للثعالبى (ج 3 ص 288) : «قابوس بن وشمكير ...... » . [2] فى الأصل: العدى، بدون واو. والتصويب عن الطبرىّ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 59 عليه وسلم: «إذا كان يوم القيامة نادى مناد من تحت العرش ليقم كل من كان له عند الله يد فلا يقوم إلا من عفا عن أخيه المسلم» ، فقال: آلله [1] أبى حدّثك؟ فقلت: آلله إن أباك حدّثنى عن جدّك عن ابن عباس عن النبى صلى الله عليه وسلم؛ فقال أبو جعفر: صدق، حدّثنى أبى عن جدّى عن ابن عباس بهذا؛ [فقال [2]] : يا غلام خلّ له السبيل، وأمر له بجائزة وولّانى قضاء البصرة. وقيل: أتى المأمون برجل يريد أن يقتله وعلىّ بن موسى الرّضا جالس، فقال ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال: أقول: إن الله تعالى لا يزيدك بحسن العفو إلا عزّا؛ فعفا عنه. وكان المأمون مؤثرا للعفو كأنّه غريزة له؛ وهو الذى يقول: لقد حبّب إلىّ العفو حتى إنى أظنّ أنى لا أثاب عليه. وأحضر إلى المأمون رجل قد أذنب، فقال له المأمون: أنت الذى فعلت كذا وكذا؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، أنا الذى أسرف على نفسه واتكل على عفوك؛ فعفا عنه. قال: ولما ظفر المأمون بإبراهيم بن المهدىّ أمر بإدخاله عليه، فلما مثل بين يديه قال: ولىّ الثّأر محكّم فى القصاص، والعفو أقرب للتقوى، والقدرة تذهب الحفيظة، ومن مدّ له الاعتذار فى الأمل هجمت به الأناة على التلف، وقد جعل الله كلّ ذنب دون عفوك، فإن صفحت فبكرمك، وإن أخذت فبحقّك؛ قال المأمون: إنى شاورت أبا إسحاق والعبّاس فى قتلك فأشارا علىّ به؛ قال: أمّا أن يكونا قد نصحاك فى عظم قدر الملك ولما جرت عليه السياسة فقد فعلا، ولكن أبيت أن تستجلب [3] النصر إلا من حيث عوّدك الله، ثم استعبر باكيا؛ فقال له المأمون:   [1] فى حاشية الأمير على المغنى: (ج 1 ص 18 طبع مصر) : أن من معانى الهمزة القسم مثل «آلله لأفعلنّ» نظرا الى أنها الهاء المبدلة من التاء. [2] زيادة يقتضيها السياق. [3] كذا فى عيون الأخبار ص 100 طبع دار الكتب المصرية. وفى الأصل: «أبيت أن لا تستجلب من حيث الخ» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 60 ما يبكيك؟ قال: جذلا إذ كان ذنبى إلى من هذه صفته، ثم قال: إنه وإن كان جرمى بلغ سفك دمى فحلم أمير المؤمنين وفضله يبلّغانى عفوه، ولى بعد هذا شفعة الإقرار بالذنب وحرمة الأب بعد الأب؛ قال المأمون: لو لم يكن فى حق نسبك ما يبلّغ الصفح عن جرمك لبلّغك إليه حسن تنصّلك. فكان تصويب إبراهيم لرأى أبى إسحاق والعباس ألطف فى طلب الرضا ودفع المكروه عن نفسه من تخطئتهما. ثم قال المأمون لإسحاق بن العبّاس: لا تحسبنّى أغفلت إجلابك مع ابن المهدىّ وتأييدك لرأيه وإيقادك لناره؛ فقال: والله لإجرام قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم من جرمى إليك، ولرحمى أمسّ من أرحامهم، وقد قال [لهم [1]] رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال يوسف لإخوته (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) ، وأنت يا أمير المؤمنين أحقّ وارث لهذه المنّة ومتمثّل بها؛ قال: هيهات! تلك أجرام جاهلية عفا عنها الإسلام، وجرمك جرم فى إسلامك فى دار خلافتك؛ قال يا أمير المؤمنين، فو الله للمسلم أحقّ بإقالة العثرة وغفران الذنب من الكافر، هذا كتاب الله بينى وبينك، يقول الله تعالى: وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ الآية [إلى [2]] وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ، فهى للناس يا أمير المؤمنين سنّة دخل فيها المسلم والكافر والشريف والمشروف؛ قال: صدقت، اجلس وريت بك زنادى، وعفا عنه. وقال أحمد بن أبى دواد: ما رأيت رجلا نزل به الموت فما شغله ذلك ولا أذهله عما كان يجب أن يفعله إلا تميم ابن جميل، فإنه كان تغلّب على شاطئ الفرات فظفر به، ووافى به الرسول باب المعتصم فى يوم الموكب فى حين جلوسه للعامّة   [1] زيادة يقتضيها حسن السياق ولعلها سقطت سهوا من الناسخ. [2]- هذه الزيادة موجودة فى العقد الفريد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 61 فأدخل عليه، فما مثل بين يديه دعا بالنّطع والسيف فأحضرا، وجعل تميم بن جميل يصعّد النظر إلى ذلك ولا يقول شيئا، وجعل المعتصم يصعّد النظر فيه ويصوّبه، وكان جسيما وسيما، فرأى أن يستنطقه لينظر أين جنانه ولسانه من منظره، فقال: يا تميم، إن كان لك عذر فأت به أو حجّة فأدل بها؛ فقال: أمّا إذ قد أذنت لى يا أمير المؤمنين بالكلام فإنى أقول: الحمد لله الذى أحسن كلّ شىء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين، [ثم جعل [1] نسله من سلالة من ماء مهين] ، يا أمير المؤمنين جبر الله بك صدع الدّين، ولأم بك شعث الأمّة، وأخمد بك شهاب الباطل، وأوضح بك سراج الحقّ؛ يا أمير المؤمنين، إن الذنوب تخرس الألسنة، وتصدع الأفئدة، ولقد عظمت الجريرة وكبر الذنب وساء الظنّ، ولم يبق إلا عفوك أو انتقامك، وأرجو أن يكون أقربهما منك وأسرعهما إليك أولاهما بإمامتك وأشبههما بخلافتك، ثم أنشد: أرى الموت بين السيف والنّطع كامنا ... يلاحظنى من حيثما أتلفّت [2] وأكبر ظنّى أنك اليوم قاتلى ... وأىّ امرئ مما قضى الله يفلت! ومن ذا الذى يدلى بعذر وحجّة ... وسيف المنايا بين عينيه مصلت يعزّ على أبناء تغلب موقف ... يسلّ علىّ السيف فيه وأسكت وما جزعى من أن أموت وإننى ... لأعلم أنّ الموت شىء مؤقّت ولكنّ خلفى صبية قد تركتهم ... وأكبادهم من حسرة تتفتّت كأنى أراهم حين أنعى إليهم ... وقد خمشوا تلك الوجوه وصوّتوا فإن عشت عاشوا خافضين بغبطة ... أذود الردى عنهم وإن متّ موّتوا وكم قائل: لا يبعد الله داره ... وآخر جذلان يسرّ ويشمت   [1]- هذه الزيادة موجودة فى العقد الفريد. [2] كذا فى العقد الفريد (ج 1 ص 238. وفى الأصل: من حيث لا ... ) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 62 قال: فتبسّم المعتصم وقال: كاد والله يا تميم أن يسبق السيف العذل! اذهب فقد غفرت لك الهفوة وتركتك للصّبية. وحكى: أن عبد الملك بن مروان غضب على رجل فهرب منه، فلما ظفر به أمر بقتله؛ فقال له الرجل: إن الله قد فعل ما أحببت من الظفر فافعل ما يحبّه من العفو، فإن الانتقام عدل والتجاوز فضل، والله يحبّ المحسنين؛ فعفا عنه. وحكى عن محمد بن حميد الطّوسىّ أنه كان يوما على غدائه مع جلسائه إذا بصيحة عظيمة على باب داره، فرفع رأسه وقال لبعض غلمانه: ما هذه الضجّة؟ من كان على الباب فليدخل؛ فخرج الغلام ثم عاد إليه وقال: إن فلانا أخذ وقد أوثق بالحديد والغلمان ينتظرون أمرك فيه؛ فرفع يده من الطعام؛ فقال رجل من جلسائه: الحمد لله الذى أمكنك من عدوّك، فسبيله أن تسقى الأرض من دمه؛ وأشار كلّ من جلسائه عليه بقتله على صفة اختارها، وهو ساكت؛ ثم قال: يا غلام، فكّ عنه وثاقه ويدخل إلينا مكرّما، فأدخل عليه رجل لادم فيه؛ فلما رآه هشّ إليه ورفع مجلسه وأمر بتجديد الطعام، وبسطه بالكلام ولقّمه حتى انتهى الطعام، ثم أمر له بكسوة حسنة وصلة، وأمر بردّه إلى أهله مكرّما ولم يعاتبه على جرم ولا جناية، ثم التفت إلى جلسائه وقال لهم: إنّ أفضل الأصحاب من حضّ الصاحب على المكارم، ونهاه عن ارتكاب المآثم؛ وحسّن لصاحبه أن يجازى الإحسان بضعفه، والإساءة بصفحه؛ إنا إذا جازينا من أساء الينا بمثل ما أساء فأين موقع الشكر على النعمة فيما أتيح من الظفر! إنه ينبغى لمن حضر مجالس الملوك أن يمسك إلا عن قول سديد وأمر رشيد، فإنّ ذاك أدوم للنعمة وأجمع للألفة؛ إن الله تعالى يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ الآية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 63 وقيل: بعث بعض الملوك فى رجل وجد عليه فظفر به، فلما مثل بين يديه قال: أيها الأمير، إنّ الغضب شيطان فاستعذ بالله منه، وإنما خلق العفو للمذنب والتجاوز للمسيىء، فلا يضيق علىّ ما يسع الرعيّة من حلمك وعفوك؛ فعفا عنه وأطلق سبيله. وقال خالد بن عبد الله لسليمان بن عبد الملك حين وجد عليه: يا أمير المؤمنين، إنّ القدرة تذهب الحفيظة، وأنت تجلّ عن العقوبة، ونحن مقرّون بالذنب، فإن تعف عنّى فأهل ذلك أنت، وإن تعاقبنى فأهل ذلك أنا؛ فعفا عنه. وقيل: أتى الحجاج بأسرى من الخوارج، فأمر بضرب أعناقهم فقتلوا، حتى قدّم شابّ منهم فقال: والله يا حجّاج إن كنا أسأنا فى الذنب فما أحسنت فى العفو؛ فقال الحجاج: أفّا لهذه الجيف! أما كان فيهم من يقول مثل هذا! وأمسك عن القتل. وأتى الحجاج بأسرى فأمر بقتلهم، فقال له رجل منهم: لا جزاك الله يا حجّاج عن السّنّة خيرا، فإنّ الله تعالى يقول: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً ، فهذا قول الله تعالى فى كتابه، وقال شاعركم فيما وصف به قومه من مكارم الأخلاق: وما نقتل الأسرى ولكن نفكّهم ... إذا أثقل الأعناق حمل القلائد فقال الحجّاج: ويحكم! أعجزتم أن تخبرونى ما أخبرنى به هذا المنافق! وأمسك عمن بقى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 64 ذكر ما قيل فى العقوبة والانتقام ومن الناس من يرجّح عقوبة المذنب على ذنبه، ومقابلة المسىء بما يستحقّه من نكاله وضربه؛ ورأى أن العفو عن المجرم موجب لتكراره، والإحسان إلى المسىء مقتض لإصراره؛ وقال: إنّ طباع اللؤم التى حملته على ذلك لا ترتدع بالإحسان، ومرارة الذنب التى استحلاها لا تغيّرها حلاوة الغفران. وأخذ فى ذلك بالكتاب والحديث، وقابل على الذنب القديم بالعذاب الحديث؛ قال الله تعالى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ . وقال تعالى: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ . وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل أبى عزّة، لما كان يتعرّض له من أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلب عقبة بن أبى معيط يوم بدر إلى شجرة؛ فقال: يا رسول الله، أنا من بين قريش! قال: «نعم» ؛ قال: فمن للصبية؟ قال: «النار» . وقيل: إنه أوّل مصلوب صلب فى الإسلام. وكان النّضر بن الحارث بن كلدة شديد العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ أسيرا يوم بدر، فأمر النبىّ صلى الله عليه وسلم بقتله، فقتل صبرا بيد علىّ بن أبى طالب. وقال علىّ رضى الله عنه: الخير بالخير والبادئ أفضل، والشرّ بالشرّ والبادئ أظلم. وقال: «ردّ [1] الحجر من حيث جاءك» فالشرّ لا يدفع إلا بالشرّ؛ وأنشد: لئن كنت محتاجا إلى الحلم إنّنى ... إلى الجهل فى بعض الأحايين أحوج ولى فرس للخير بالخير ملجم ... ولى فرس للشرّ بالشرّ مسرج فمن رام تقويمى فإنّى مقوّم ... ومن رام تعويجى فإنّى معوّج وقال الجاحظ: من قابل الإساءة بالإحسان فقد خالف الله فى تدبيره، وظنّ أن رحمة الله دون رحمته، فإنّ الله تعالى يقول: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وقال:   [1] ورد هذا المثل فى مجمع الأمثال للميدانى ومعناه: لا تقبل الضيم وارم من رماك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 65 وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ، وقال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ . وقال أكثم بن صيفىّ: من تعمّد الذنب فلا ترحمه دون العقوبة، فإنّ الأدب رفق، والرفق يمن. قال أبو الطيّب المتنبّى: من الحلم أن تستعمل الجهل دونه ... إذا اتّسعت فى الحلم طرق المظالم وقالوا: تواضع للمحسن إليك وإن كان عبدا حبشيّا، وانتصف ممن أساء إليك وإن كان حرّا قرشيّا. وقال الشعبىّ: يعجبنى الرجل إذا سيم هوانا دعته الأنفة [1] إلى المكافأة، وجزاء سيّئة سيّئة مثلها. ورفع كلامه إلى الحجّاج بن يوسف الثقفىّ فقال: لله درّه! أىّ رجل بين جنبيه! وتمثّل بقول الشاعر: ولا خير فى عرض امرئ لا يصونه ... ولا خير فى حلم امرئ ذلّ جانبه وقال رجل لابن سيرين: إنّى وقعت فيك فاجعلنى فى حلّ؛ قال: ما أحبّ أن أحلّ لك ما حرّم الله عليك. وقالوا: من ترك العقوبة أغرى بالذنب، ولولا السيف كثر الحيف. قال الشاعر: إذا المرء أولاك الهوان فأوله ... هوانا وإن كانت قريبا أواصره وإن أنت لم تقدر على أن تهينه ... فدعه إلى اليوم الذى أنت قادره وقارب إذا ما لم تكن لك [2] حيلة ... وصمّم إذا أيقنت أنّك عاقره وقيل: استؤمر عبد الله بن طاهر بن الحسين فى رجلين كانا فى السجن، أحدهما ضعيف والآخر عليل، فوقّع: الضعيف يقوى والعليل يبرأ، فإن يكن   [1] فى الأصل: «اذا سيم هو انا ودعته إلى الأنفة ... » ولعله تحريف من الناسخ. [2] فى الاصل: «وقارب اذا لم تكن له حيلة» وهو تحريف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 66 فى الحبس ممن يؤمن شرّه غيرهما فليفرج عنه ودعهما فى موضعهما، فإنه من أطلق مثلهما على الناس فهو شرّ منهما وشريكهما فى فعلهما. وكتب رجل إلى المأمون- وكان قد طال حبسه-: أغفلت يا أمير المؤمنين أمرى، وتناسيت ذكرى، ولم تتأمّل حجّتى وعذرى، وقد ملّ من صبرى الصبر، ومسّنى فى حبسك الضّرّ. فأجابه المأمون: ركوبك مطية الجهل، صيّرك أهلا للقتل، وبغيك علىّ وعلى نفسك نقلك من سعة الدنيا إلى قبر من قبور الأحياء، ومن جهل الشكر على المنن قلّ صبره على المحن، فاصبر على عواقب هفواتك وموبقات زلّاتك، على قدر صبرك على كثير جناياتك؛ فإن حصل فى نفسك كفّ عن معصيتى، وعزم على طاعتى، وندم على مخالفتى، فلن تعدم مع ذلك جميلا من بيتى [1] والسلام. وقيل لأعرابىّ: أيسرّك أن تدخل الجنّة ولا تسيىء إلى من أساء إليك؟ قال: بل يسرّنى أن أدرك الثار وأدخل النار. قال البحترىّ: تذمّ الفتاة الرّؤد شيمة بعلها ... إذا بات دون الثأر وهو ضجيعها ويقال: إنما هو مالك وسيفك، فازرع بملك من شكرك، واحصد بسيفك من كفرك. قال الشاعر: قطّ العدا قطّ اليراعة وانتهز ... بظبا السيوف سوائم الأضغان إنّ البيادق إن توسّع خطوها ... أخذت إليك مآخذ الفرزان وقالوا: العفو يفسد من اللئيم، بقدر ما يصلح من الكريم. وقال معاوية ابن يزيد بن معاوية لأبيه: هل ذممت عاقبة حلم قطّ؟ قال: ما حلمت عن لئيم وإن كان وليّا إلا أعقبنى ندما على ما فعلت. قال بعض الشعراء: متى تضع الكرامة من لئيم ... فإنّك قد أسأت إلى الكرامه   [1] كذا فى الأصل ولعله: «برّى» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 67 وقالوا: جنّب كرامتك اللئام، فإنك إن أحسنت إليهم لم يشكروا، وإن أساءوا لم يشعروا. ومن رسالة لأبى إسحاق الصابى فى حقّ من نزع يده من الطاعة [1] : وكان الذى أثمره الجهاد، ودلّ عليه الارتياد؛ اليأس من صلاح هذه الطوائف الناشئة على اعتياد المعاصى والاستئناس بالدواهى، والثقة بأنّ أودها لا يتقوّم، وزيغها لا يتسدّد، وخلائقها لا تنصرف عمّا ضربت العادة عليه بسياجها، واستمرّت به على اعوجاجها، إذ كانت العادة طبيعة ثانية، وسجيّة لازمة؛ كذلك زعمت الحكماء، وبرهنت عليه العلماء. قال بعض الشعراء: ما كلّ يوم ينال المرء ما طلبا ... ولا يسوّغه المقدار ما وهبا [2] وأنصف الناس فى كلّ المواطن من ... سقى الأعادى بالكأس التى شربا وليس يظلمهم من بات يضربهم ... [بحدّ [3]] سيف به من قبلهم ضربا فالعفو إلّا عن الأعداء مكرمة ... من قال غير الذى قد قلته كذبا قتلت عمرا وتستبقى يزيد لقد ... رأيت رأيا يجرّ الويل والحربا لا تقطعن ذنب الأفعى وتتركها ... إن كنت شهما فأتبع رأسها الذنبا هم جرّدوا السيف فاجعلهم به جزرا [4] ... هم أوقدوا النار فاجعلهم لها حطبا   [1] فى الأصل: «من نزع يده من الطاعة منها» وظاهر أن كلمة «منها» مقحمة لغير حاجة. [2] كذا فى تاريخ أبى الفدا طبع دار الطباعة العامرة الشاهانية بالقسطنطينية وفى الأصل «ما طلبا» وقائل هذه القصيدة أبو أذينة يحرّض ابن عمه الأسود بن المنذر على قتل جماعة من ملوك الشام كان قد أسرهم وأراد أن يعفو عنهم. [3] زيادة عن تاريخ أبى الفدا. [4] الجزر بالتحريك: ما يذبح من الشاء واحدتها جزرة بالتحريك أيضا. وفى أبى الفدا: «فاجعلهم له جزرا» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 68 ومنها: لا عفو عن مثلهم فى مثل ما طلبوا ... لكنّ ذلك كان الهلك والعطبا علام تقبل منهم فدية وهم ... لا فضّة قبلوا منّا ولا ذهبا الباب السابع من الفن الثانى فى المشورة وإعمال الرأى والاستبداد ومن يعتمد على رأيه وذكر من كره أن يستشير ذكر ما قيل فى المشورة وإعمال الرأى قد امر الله عز وجل نبيّه صلى الله عليه وسلم بمشاورة من هو دونه من أصحابه فقال تعالى: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ؛ ذهب المفسّرون إلى أن الله تعالى لم يأمر نبيّه صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه لحاجة منه إلى رأيهم ولكن ليعلم ما فى المشاورة من البركة. وقيل: أمره بذلك تألّفا لهم وتطييبا لنفوسهم. وقيل: ليستنّ بذلك المسلمون. وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما ندم من استشار ولا خاب من استخار» . وقيل: الخطأ مع الاستشارة أحمد من الإصابة مع الاستبداد. وقيل: من استشار فيما نزل به صديقه واستخار ربّه واجتهد رأيه، فقد قضى ما عليه، وأمن من رجوع الملامة إليه؛ ويفعل الله فى أمره ما يشاء. وقيل: ما هلك امرؤ عن مشورة. وقال على بن أبى طالب رضى الله عنه: نعم المؤازرة المشاورة، وبئس الاستعداد الاستبداد. وقيل: الأحمق من قطعه العجب عن الاستشارة، والاستبداد عن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 69 الاستخارة. وقيل: لما همّت ثقيف بالارتداد بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم، استشاروا عثمان بن [أبى [1]] العاصى وكان مطاعا فيهم؛ فقال: لا تكونوا آخر العرب إسلاما وأوّلهم ارتدادا؛ فنفعهم الله تعالى برأيه. وقال العتبىّ لرجل من عبس: ما أكثر صوابكم [2] ! فقال: نحن ألف رجل وفينا حازم واحد، فنحن نشاوره فكأنّا ألف حازم. وسئل بعض الحكماء: أىّ الأمور أشد تأييدا للعقل، وأيها أشدّ إضرارا به؟ فقال: أشدّها تأييدا له ثلاثة أشياء: مشاورة العلماء، وتجربة الأمور، وحسن التثبّت. وأشدّها إضرارا به ثلاثة أشياء: الاستبداد، والتهاون، والعجلة. وقال بعض الحكماء: إذا استبدّ الرجل برأيه عميت عليه المراشد. وقال الفضل بن سهل: الرأى يسدّ ثلم السيف، والسيف لا يسدّ ثلم الرأى. وقالوا: من استغنى برأيه فقد خاطر بنفسه. وقال بعض البلغاء: إذا أشكلت عليك [الأمور [3]] ، وتغيّر لك الجمهور؛ فارجع إلى رأى العقلاء، وافزع إلى استشارة العلماء؛ ولا تأنف من الاسترشاد، ولا تستنكف من الاستمداد [4] ؛ فلأن تسأل وتسلم خير من أن تستبدّ وتندم. وقال حكيم لابنه: يا بنىّ، إنّ رأيك إذا احتجت إليه وجدته نائما ووجدت هواك يقظان، فإيّاك أن تستبدّ برأيك، فإنّه حينئذ هواك. ويقال: تعوّذ من سكرات الاستبداد بصحوات الاستشارة، ومن عثرات البغى باستقالة الاستخارة.   [1] الزيادة عن الكامل لابن الأثير، والطبرى، ومعجم ياقوت. [2] كذا فى العقد الفريد (ج 1 ص 25) وأدب الدنيا والدين (ص 304) وفى الأصل «صوابك» . [3] زيادة عن «أدب الدنيا والدين» ص 306. [4] فى الأصل «ولا تستنكف من الاستبداد ... الخ» والتصويب عن أدب الدنيا والدين ص 306. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 70 وقال ابن المقفّع: لا يقذفنّ فى روعك [1] أنّك إذا استشرت الرجال ظهر للناس منك الحاجة [إلى رأى غيرك [2]] فتنقطع بذلك عن المشورة، فإنك لا تريد الفخر ولكن الانتفاع. قال بشّار: إذا بلغ الرأى المشورة فاستعن ... برأى نصيح أو نصيحة حازم ولا تحسب الشّورى عليك غضاضة ... فإن الخوافى [3] رافدات القوادم قال الأصمعىّ: قلت لبشار: إن الناس يعجبون من أبياتك فى المشورة؛ فقال: يا أبا سعيد، إن المشاور بين صواب يفوز بثمرته، وخطإ يشارك فى مكروهه؛ فقلت: أنت والله فى قولك أشعر منك فى شعرك. وهذان البيتان من قصيدة كان بشّار بن برد قد كتب بها إلى إبراهيم بن عبد الله بن الحسن يمدحه بها ويحرّضه على أبى جعفر المنصور، فمات إبراهيم قبل وصول القصيدة إليه، فخاف بشار من اشتهارها فقلبها [4] وجعل التحريض على أبى مسلم [5] الخراسانىّ فقال: أبا مسلم ما طيب عيش بدائم ... ولا سالم عما قليل بسالم وإنما كان قال: أبا جعفر ما طيب عيش بدائم قال فيها بعد هذين البيتين المقدّمين: وخلّ الهوينى للضعيف ولا تكن ... نؤوما فإنّ الحزم ليس بنائم   [1] كذا فى عيون الأخبار (مجلد 1 ص 31 طبع دار الكتب المصرية) وفى الأصل: «لا تنفذن فى روعاتك ... » . [2] زيادة عن عيون الأخبار. [3] الخوافى: ريشات فى جناح الطائر اذا ضم جناحيه خفيت. والقوادم: ريشات فى مقدم جناح الطائر. يريد: أن الضعيف قد يمد القوى بالمعونة. [4] فى الأغانى: «فقلب الكنية» . [5] فى الأصل: «وجعل التحريض فيها على أبى موسى ... » والتصويب عن الأغانى ج 3 ص 56 طبع بولاق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 71 وما خير كفّ امسك الغلّ أختها ... وما خير سيف لم يؤيّد بقائم وحارب إذا لم تعط إلّا ظلامة ... شبا الحرب خير من قبول المظالم وأدن على [1] القربى المقرّب نفسه ... ولا تشهد الشّورى امرأ غير كاتم فإنّك لا تستطرد الهمّ بالمنى ... ولا تبلغ العليا بغير المكارم إذا كنت فردا هرّك [2] القوم مقبلا ... وإن كنت أدنى لم تفز بالعزائم وما قرع [3] الأقوام مثل مشيّع [4] ... أريب ولا جلّى العمى مثل عالم وقال الهيثم: ما رأيت ابن شبرمة قطّ إلا وهو متهيئ كأنه يريد الركوب، فذكر ذلك له وأنا حاضر؛ فقال: إنّ الرجل لا يستجمع له رأيه حتى يجمع عليه ثيابه، ثم قال: أتى رجل من الحىّ فقال لدهقان: يا هذا، إنه ربما انتشر علىّ أمرى فى الرأى فهل عندك مشورة؟ فقال: تهيّأ والبس ثيابك ثم اهمم بما تريد، فهو أجمع لرأيك، فليس من أحد يفعل ذلك إلا اجتمع له رأيه. وقال أفلاطون: إذا استشارك عدوّك فجرّد له النصيحة، لأنه بالاستشارة قد خرج من عداوتك إلى موالاتك. وقيل: إذا أردت أن تعرف الرجل فشاوره، فإنك تقف من مشورته على جوره وعدله، وحبّه وبغضه، وخيره وشرّه. وقيل: لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قريش فى غزاة بدر نزل صلى الله عليه وسلم أدنى ماء من مياه بدر، فقال له الحباب بن المنذر: يا رسول الله،   [1] فى عيون الأخبار (المجلد الأوّل ص 32) : «وأدن من القربى ... » . [2] يقال: فلان هرّه الناس اذا كرهوا ناحيته. والعزائم: الحاجات التى يعتزم المرء فعلها. يريد أنك اذا انفردت برأى نفسك ولم تستعن بآراء ذوى التجارب باعدك الناس وأصغروا من شأنك، وان كنت أدنى القوم شأنا لم تفز بحاجاتك التى اعتزمت عليها. [3] كذا فى الأغانى (ج 3 ص 56) وفى الأصل: «وما قارب ... » . [4] المشيّع: الشجاع كأنه شيع بغيره أو بقوة قلبه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 72 أرايت هذا المنزل [أمنزل [1]] أنزلكه الله عز وجل ليس لنا أن نتقدّمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأى والحرب والميكدة؟ قال: «بل هو الرأى والحرب والمكيدة» ؛ فقال: يا رسول الله، فإنّ هذا ليس [لك [1]] بمنزل فارحل [2] بالناس حتى نأتى أدنى ماء من مياه القوم فننزله، ثم نعوّر [3] ما سواه من القلب، ثم نبنى عليه حوضا فنملأه ماء، ثم نقاتل [القوم [1]] فنشرب ولا يشربوا؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد أشرت بالرأى» ؛ وفعل ما أشار به الحباب. وقال بزرجمهر: أفره ما يكون من الدوابّ لا غنى به عن السوط، وأعقل ما يكون من النساء لا غنى بها عن الزوج، وأدهى ما يكون من الرجال لا غنى به عن المشورة. وقيل: كانت اليونان والفرس لا يجمعون وزراءهم على الأمر يستشيرون فيه، وإنما يستشيرون الواحد منهم من غير أن يعلم الآخر به، لمعان شتّى: منها لئلا يقع بين المشاورين منافسة تذهب أصالة الرأى وصحّة النظر، لأن من طباع المشتركين فى الأمر التنافس والتغالب والطعن من بعضهم على بعض، وربما أشار أحدهم بالرأى الصواب وسبق إليه فحسده الآخرون فتعقّبوه بالإعراض والتأويل والتهجين وكدّروه وأفسدوه. ومنها أنّ فى اجتماعهم على المشورة تعريض السرّ للإضاعة والشناعة والإذاعة؛ ولذلك قالت الفرس: إنما يراد الاجتماع والكثرة والتناصر فى الأمور التى يحتاج فيها إلى القوّة، فأمّا الآراء والأمور الغامضة فإنّ الاجتماع يفسدها ويولّد فيها التضاغن والتنافس.   [1] الزيادة عن الطبرى جزء خامس ص 1309 من القسم الأول طبع ليدن. [2] فى الطبرى وسيرة ابن هشام: «فانهض» . [3] نعوّر: نطمّه ونردمه بالتراب حتى ينضب الماء. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 73 ذكر ما قيل فيمن يعتمد على مشورته وبديهته، ويعتضد بفكرته ورويته قال بعض الحكماء: عليك بمشورة من حلب أشطر دهره، ومرّت عليه ضروب خيره وشرّه؛ وبلغ من العمر أشدّه، وأورت التجربة زنده. وقيل: استشار زياد رجلا؛ فقال الرجل: حقّ المستشار أن يكون ذا عقل وافر، واختبار متظاهر، ولا أرانى كذلك. قال إبراهيم بن العبّاس: يمضى الأمور على بديهته ... وتريه فكرته عواقبها فيظلّ يصدرها ويوردها ... فيعمّ حاضرها وغائبها وإذا الحروب علت بعثت لها ... رأيا تفلّ به كتائبها رأيا إذا نبت السيوف مضى ... قدما بها فسقى مضاربها وقال آخر: ألمعىّ يرى بأوّل رأى [1] ... آخر الأمر من وراء المغيب لا يروّى ولا يقلّب كفّا ... وأكفّ الرجال فى تقليب وقال آخر [2] . الألمعىّ الذى يظنّ بك الظّ ... نّ كأن قد رأى وقد سمعا وكانت العرب تحمد آراء الشيوخ لتقدّمها فى السن، ولأنها لا تتبع حسناتها بالأذى [3] والمنّ، ولما مرّ عليها من التجارب التى عرفت بها عواقب الأمور، حتى   [1] فى ديوان ابن الرومىّ: بأول ظنّ. [2] القائل هو أوس بن حجر؛ وهذا البيت من قصيدة له فى الرثاء ذكرها القالى فى أماليه (ج 3 ص 35) مطلعها: أيّتها النفس أجملى جزعا ... إن الذى تحذرين قد وقعا [3] فى الأصل: «إلا بالأذى ... » والسياق يقتضى حذف «إلا» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 74 كأنّها تنظرها عيانا، وطرأ عليها من الحوادث التى أوضحت لها طريق الصواب وبيّنته تبيانا؛ ولما منحته من أصالة رأيها، واستفادته بجميل سعيها. ولذلك قال علىّ ابن أبى طالب رضى الله عنه: رأى الشيخ خير من مشهد [1] الغلام. ومن أمثالهم «زاحم بعود أودع» [2] . قال بعض الشعراء: لئن فقدوا الشباب فربّ عقل ... أفادوه على مرّ الليالى خبت نار الذكاء فأجّجوها ... بآراء أحدّ من النّصال وقد عدل قوم عن ذلك، وسلكوا فى خلافه أوضح الطّرق وأنهج المسالك؛ وقالوا: بل رأى الشباب هو الرأى الصائب، وفهمهم الفهم الثاقب؛ ونجم سعدهم الطالع، وسحاب جدّهم الهامع؛ وإن لهم من الفطنة أوفر نصيب، وإنّ سهم رأيهم الرائش [3] المصيب؛ وإن عقولهم سليمة من العوارض، وأذهانهم آخذة بحظ وافر من الغوامض. ولذلك قالت الحكماء: عليكم بآراء الأحداث ومشورة الشبّان، فإن لهم أذهانا تفلّ القواصل [4] ، وتحطّم الذوابل. وقالوا: آراء الشّباب خضرة نضرة لم يهتصر [5] غصنها هرم، ولا أذوى زهرتها قدم، ولا خبا من ذكائها بطول المدّة ضرم. قال شاعر: عليكم بآراء الشّباب فإنّها ... نتائج ما لم يبله قدم العهد فروع ذكاء تستمدّ من النّهى ... بأنور فى اللّأواء [6] من قمر السعد   [1] كذا فى عيون الأخبار، وفى الأصل: «من جلد الغلام» . [2] كذا فى مجمع الأمثال للميدانى، وفى الأصل: «أو فدع» بزيادة الفاء. والعود: المسنّ من الإبل، أى لا تستعن إلا بأهل السن والتجربة فى الأمور. [3] الرّائش: السهم ذو الريش. [4] قواصل جمع قاصل، والقاصل: السيف القطاع. [5] يهتصر الغصن: يعطفه ويكسره من غير انفصال. [6] اللأواء: الشدة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 75 وقال آخر: رأيت العقل لم يكن انتهابا ... ولم يقسم على عدد السّنينا ولو أنّ السنين تقسّمته ... حوى الآباء أنصبة البنينا وقال آخر: أدركت ما فات الكهول من الحجا ... فى عنفوان شبابك المستقبل فإذا أمرت فلا يقال لك: اتّئد ... وإذا قضيت فلا يقال لك: اعدل ذكر ما قيل فيمن نهى عن مشاورته ومعاضدته وأمر بالامتناع من مشايعته ومتابعته وقد كرهت العرب والحكماء مشاورة من اعترته الشواغل، وألمّت به النوازل؛ مع وفور عقله وحزمه، والتمسّك بنصحه وفهمه. قال قسّ بن ساعدة الإيادىّ لابنه: لا تشاور مشغولا وإن كان حازما، ولا جائعا وإن كان فهما، ولا مذعورا وإن كان ناصحا، ولا مهموما وإن كان عاقلا، فالهمّ يعقل العقل فلا يتولّد منه رأى ولا تصدق به رويّة. وقال الأحنف بن قيس: لا تشاور الجائع حتّى يشبع، ولا العطشان حتى يروى، ولا الأسير حتّى يطلق، ولا المقلّ حتى يجد، ولا الراغب حتّى ينجح. وقالوا: لا تشاور المعزول، فإنّ رأيه مفلول. وقيل: لا تدخل فى مشورتك بخيلا فيقصّر بفعلك، ولا جبانا فيخوّفك، ولا حريصا فيعدك ما لا يرجى؛ فإنّ البخل والجبن والحرص طبيعة واحدة يجمعها سوء الظنّ بالله. قال الشاعر وأنفع من شاورت من كان ناصحا ... شفيقا فأبصر بعدها من تشاور وليس بشافيك الشفيق ورأيه ... عزيب ولا ذو الرأى والصدر واغر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 76 ذكر ما قيل فى الأناة والرويّة كانت العرب تحمد الأناة فى الرأى وإجالة الفكرة فيه وعدم التسرّع. وكان عبد الله بن وهب الرّاسبىّ [1] يقول: إيّاى والرأى الفطير [2] ! وكان يستعيذ [بالله [3]] من الرأى الدّبرىّ؛ وهو الذى يسنح بعد الفوت. وأوصى إبراهيم بن هبيرة ولده فقال: لا تكن أوّل مشير، وإيّاك والرأى الفطير؛ ولا تشيرنّ على مستبدّ، فإنّ التماس موافقته لؤم والاستماع منه خيانة. وكان عامر بن الظّرب حكيم العرب يقول: دعوا الرأى يغبّ حتّى يختمر، وإيّاكم والرأى الفطير! يريد الأناة فى الرأى والتثبّت فيه. قال شاعر: تأنّ وشاور فإنّ الأمو ... ر منها مضىء ومستغمض فرأيان أفضل من واحد ... ورأى الثلاثة لا ينقض وقال آخر: الرأى كاللّيل مسودّ جوانبه ... والليل لا ينجلى إلا بإصباح فاضمم مصابيح آراء الرّجال إلى ... مصباح رأيك تزدد ضوء مصباح وقال المتنبّى: الرأى قبل شجاعة الشّجعان ... هو أوّل وهى المحلّ الثانى فإذا هما اجتمعا لنفس حرّة [4] ... بلغت من العلياء كلّ مكان وقال طاهر بن الحسين: اعمل صوابا تنل بالحزم مأثرة ... فلن يذمّ لأهل الحزم تدبير   [1] فى الأصل «الرياشى» والتصويب عن الطبرى (ص 2478 من القسم الأوّل) ، والكامل للمبرد (ص 543) ؛ والعقد الفريد (ج 1 ص 25) . [2] الرأى الفطير: الذى أعجل به قبل أن يختمر. [3] زيادة عن العقد الفريد (ج 1 ص 25) . [4] كذا فى ديوان المتنبى وفى الأصل «لنفس مرة» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 77 فإن هلكت برأى أو ظفرت به ... فأنت عند ذوى الألباب معذور وإن ظفرت على جهل وفزت به ... قالوا: جهول أعانته المقادير ومن أحسن ما قيل فيمن أشير عليه فلم يقبل، قول السّبيع لأهل اليمامة بعد إيقاع خالد بن الوليد بهم: يا بنى حنيفة بعدا كما بعدت عاد وثمود، والله لقد أنبأتكم بالأمر قبل وقوعه، كأنّى أسمع جرسه وأبصر غبّه، ولكنّكم أبيتم النصيحة فاجتنيتم الندامة، وإنّى لمّا رأيتكم تتّهمون النصيح، وتسفّهون الحليم، استشعرت منكم اليأس وخفت عليكم البلاء. والله ما منعكم [الله [1]] التوبة ولا أخذكم [على [1]] غرّة، ولقد أمهلكم حتّى ملّ الواعظ وهرأ [2] الموعوظ، وكنتم كأنّما يعنى بما أنتم فيه غيركم، فأصبحتم وفى أيديكم من تكذيبى التصديق ومن نصحى الندامة، وأصبح فى يدى من هلاككم البكاء ومن ذلّكم الجزع، وأصبح ما كان غير مردود، وما بقى غير مأمون. ذكر ما قيل فى الاستبداد وترك الاستشارة وكراهة الإشارة ومن الناس من آثر الاستبداد برأيه وكره أن يستشير. قال عبد الملك بن صالح: ما استشرت أحدا قطّ إلا تكبّر علىّ وتصاغرت له، ودخلته العزّة ودخلتنى الذّلّة. فعليك بالاستبداد، فإن صاحبه جليل فى العيون مهيب فى الصدور. واعلم أنك متى استشرت تضعضع شأنك، ورجفت بك أركانك. وما عزّ سلطان لم يغنه عقله عن عقول وزرائه، وآراء نصحائه. فإيّاك والمشورة وإن ضاقت عليك المذاهب، واستبهمت لديك المسالك؛ وأنشد: فما كلّ ذى نصح بمؤتيك نصحه ... ولا كلّ مؤت نصحه بلبيب   [1] زيادة عن عيون الأخبار والعقد الفريد. [2] هرأ فى منطقه كمنع: أكثر فى خطأ، أو قال الخنا والقبيح. وفى الأصل والعقد الفريد: «وهرى الموعوظ» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 78 وقال المهلّب بن أبى صفرة: لو لم يكن فى الاستبداد بالرأى إلّا صون السّرّ وتوفير العقل لوجب التمسّك به. وقال بزرجمهر: أردت نصيحا أثق به فما وجدت غير فكرى، واستضأت بنور الشمس والقمر فلم أستضئ بشىء أضوأ من نور قلبى. وقال علىّ بن الحسين: الفكرة مرآة ترى المؤمن سيئاته فيقلع عنها، وحسناته فيكثر منها، فلا تقع مقرعة التقريع عليه، ولا تنظر عيون العواقب شزرا إليه. وما زال المنصور يستشير أهل بيته حتّى مدحه ابن هرمة بقوله: يزرن امرأ لا يصلح القوم أمره ... ولا ينتجى [1] الأدنين فيما يحاول فاستوى جالسا وقال: أصبت والله! واستعاده، وما استشار بعدها. قالوا: وعلى المستبدّ أن يتروّى فى رأيه، فكلّ رأى لم تتمخّض به الفكرة ليلة فهو مولود لغير تمام. قال شاعر: إذا كنت ذا رأى فكن ذا أناءة ... فإنّ فساد الرأى أن تتعجّلا وما العجز إلّا أن تشاور عاجزا ... وما الحزم إلا أن تهمّ فتفعلا قال بعض جلساء هارون الرشيد: أنا قتلت جعفر بن يحيى، وذلك أنّى رأيت الرشيد يوما وقد تنفّس تنفّسا منكرا فأنشدت فى إثر تنفّسه: واستبدّت [2] مرّة واحدة ... إنما العاجز من لا يستبدّ وممّا مدح به ذوى الرأى قول بعض الشعراء: بصير بأعقاب الأمور كأنّما ... يخاطبه من كلّ أمر عواقبه وأين مفرّ الحزم منه وإنما ... مرائى الأمور المشكلات تجاربه   [1] يقال: انتجاه إذا أفضى اليه بسره وخصه به. [2] كذا فى ديوان عمر بن أبى ربيعة المطبوع بليبرج. وفى الأصل «فاستبدت» بالفاء. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 79 وقال البحترىّ فى سليمان بن عبد الله: كأنّ آراءه والحزم يتبعها ... تريه كلّ خفىّ وهو إعلان ما غاب عن عينه فالقلب يكلؤه ... وإن تنم عينه فالقلب يقظان وقال أيضا: كأنّه وزمام الدّهر فى يده ... يرى عواقب ما يأتى وما يذر وقال آخر: يرى العواقب فى أثناء فكرته ... كأنّ أفكاره بالغيب كهّان وقال آخر: بديهته وفكرته سواء ... إذا ما نابه الخطب الخطير وأحزم ما يكون الدهر يوما ... إذا عجز المشاور والمشير ومن الناس من كره أن يشير، فمنهم عبد الله بن المقفّع؛ وذلك أنّ عبد الله ابن علىّ استشاره فيما كان بينه وبين المنصور؛ فقال: لست أقود جيشا، ولا أتقلّد حربا، ولا أشير بسفك دم، وعثرة الحرب لا تستقال، وغيرى أولى بالمشورة فى هذا المكان. واجتمع رؤساء بنى سعد إلى أكثم بن صيفىّ يستشيرونه فيما دهمهم يوم الكلاب؛ فقال: إنّ وهن الكبر قد فشا فى بدنى، وليس معى من حدّة الذّهن ما أبتدئ به الرأى، ولكن اجتمعوا وقولوا، فإنّى إذا مرّ بى الصواب عرفته. وسيأتى خبر كلامه فى وقائع العرب؛ وإنما أوردناه فى هذا الموضع لدخوله فيه والتئامه به، ومناسبته له، لا على سبيل السهو والتّكرار لغير فائدة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 80 الباب الثامن من الفن الثانى فى حفظ الأسرار والإذن والحجاب ذكر ما قيل فى حفظ الأسرار قال الله تعالى إخبارا عن نبيّه يعقوب بن إسحاق حين أوصى يوسف ابنه عليهم السلام: يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً. وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان» . وقالت الحكماء: صدرك أوسع لسرّك. وقالوا: سرّك من دمك. يعنون أنه ربما كان فى إفشاء السرّ سفك الدّم. وقالوا: أصبر الناس من صبر على كتمان سرّه، فلم يبده لصديق فيوشك أن يصير عدوّا فيذيعه. وقالوا: ما كنت كاتمه عن عدوّك فلا تظهر عليه صديقك. وقال عمرو بن العاص: ما استودعت رجلا سرّا فأفشاه فلمته، لأنّى كنت أضيق صدرا حين استودعته منه حين أفشاه. قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الفقيه: إذا كان لى سرّ فحدّثته العدا ... وضاق به صدرى فللنّاس أعذر هو السّرّ ما استودعته وكتمته ... وليس بسرّ حين يفشو ويظهر وقال آخر: فلا تودعنّ الدهر سرّك أحمقا ... فإنّك إن أودعته منه أحمق إذا ضاق صدر المرء عن كتم سرّه ... فصدر الذى يستودع السّرّ أضيق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 81 وكتب عبد الملك بن مروان إلى الحجّاج: لا تفش سرّك إلا إليك ... فإنّ لكل نصيح نصيحا فإنّى رأيت غواة الرجا ... ل لا يتركون أديما صحيحا وقال الوليد بن عتبة لأبيه: إنّ أمير المؤمنين أسرّ إلىّ حديثا [ولا [1] أراه يطوى عنك ما يبسطه لغيرك] أفلا أخبرك به؟ فقال: [لا! [1]] ، يا بنىّ إنّه من كتم سرّا كان الخيار له، ومن أظهره كان الخيار عليه، فلا تكن مملوكا بعد أن كنت مالكا. وفى كتاب التاج: أن بعض ملوك العجم استشار وزيريه، فقال أحدهما: إنّه لا ينبغى للملك أن يستشير منّا أحدا إلا خاليا به، فإنّه أموت للسرّ وأحزم للرأى وأجدر بالسلامة وأعفى لبعضنا من غائلة بعض؛ فإن إفشاء السّرّ إلى رجل واحد أوثق من إفشائه إلى اثنين، وإفشاؤه إلى ثلاثة كإفشائه إلى جماعة؛ لأنّ الواحد رهن بما أفشى إليه، والثانى [2] مطلق عنه ذلك الرهن، والثالث [3] علاوة فيه. فإذا كان السرّ عند واحد كان أحرى ألّا يظهره رهبة ورغبة. وإن كان عند اثنين كان الملك على شبهة، واتسعت على الرجلين المعاريض. فإن عاقبهما عاقب اثنين بذنب واحد، وإن اتّهمهما اتّهم بريئا بجناية مجرم. وإن عفا عنهما كان العفو عن أحدهما ولا ذنب له، وعن الآخر ولا حجّة عليه. وقال علىّ رضى الله عنه: الظّفر بالحزم، والحزم بأصالة الرأى، والرأى بتحصين السرّ. وقيل: من حصّن سرّه فله من تحصينه إيّاه خلّتان: إمّا الظفر بما يريد، وإما السلامة من العيب والضرر إن أخطأه الظفر. وقيل: كلّما كثر خزّان السرّ ازداد ضياعا.   [1] زيادة عن عيون الأخبار (مجلد 1 ص 40 طبع دار الكتب المصرية) . [2] فى العقد الفريد «والاثنان مطلق عنهما» . [3] فى العقد الفريد «والثلاثة» (ج 1 ص 26) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 82 ويقال: إذا انتهى السرّ من الجنان إلى عذبة اللسان، فالإذاعة مستولية عليه. وقال عمرو بن العاص [1] : القلوب أوعية للأسرار، والشّفاه أقفالها، والألسن مفاتيحها، فليحفظ كلّ امرئ مفتاح سرّه. قال شاعر: صن السرّ عن كلّ مستخبر ... وحاذر فما الحزم إلا الحذر أسيرك سرّك إن صنته ... وأنت أسير له إن ظهر وكان يقال: الكاتم سرّه بين إحدى فضيلتين: الظّفر بحاجته، والسلامة من شرّ إذاعته. ويقال: أصبر الناس من صبر على كتمان سرّه. وقال آخر: كتمانك سرّك يعقبك السلامة، وإفشاؤه يعقبك الندامة، والصبر على كتمان السرّ أيسر من الندامة [2] على إفشائه. قال شاعر: إذا أنت لم تحفظ لنفسك سرّها ... فسرّك عند الناس أفشى وأضيع وقال آخر: تبوح سرّك ضيقا به ... وتحسب كلّ أخ يكتم وكتمانك السرّ ممن تخاف ... ومن لا تخافنّه أحزم إذا ذاع سرّك من مخبر ... فأنت متى لمته ألوم وكان يقال: لا تظهر كوامن صدرك بإذاعة سرّك، فيمكربك حاسدك، ويظهر عليك معاندك. قال عمر بن أبى ربيعة: فقالت وأرخت جانب السّتر إنّما ... معى فتحدّث غير ذى رقبة أهلى فقلت لها ما بى لهم من ترقّب ... ولكنّ سرّى ليس يحمله مثلى   [1] فى كتاب أدب الدنيا والدين (ص 311) تنسب هذه الكلمة الى عمر بن عبد العزيز. [2] كذا فى المحاسن والاصاد. وفى الأصل: «من التبذل به على إفشائه» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 83 ومما قيل فى استراحة الرجل بمكنون سرّه إلى صديقه- قال الله تعالى: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ . وقالت الحكماء: لكل سرّ مستودع. قال بعض الشعراء: وأبثثت عمرا بعض ما فى جوانحى ... وجرّعته من مرّ ما أتجرّع فلا بدّ من شكوى إلى ذى حفيظة [1] ... إذا جعلت أسرار نفسى تطلّع وقال حبيب: شكوت وما الشكوى لمثلى عادة ... ولكن تفيض الكأس [2] عند امتلائها وقال أبو الحسن بن محمد البصرىّ: تعب الهوى بمعالمى ورسومى ... ودفنت حيّا تحت ردم همومى وشكوت همّى حين ضقت، ومن شكا ... همّا يضيق به فغير ملوم ومما وصف به كتمان السرّ- قيل: أسرّ رجل إلى صديق له حديثا، فلما استقصاه قال: أفهمت؟ قال: بل نسيت. وقيل لآخر: كيف كتمانك للسرّ؟ فقال: أجحد المخبر، وأحلف للمستخبر. ومن جيّد ما قيل فى كتمان السرّ قول الأوّل: تلاقت حيازيمى على قلب حازم ... كتوم لما ضمّت عليه أضالعه [3] أؤاخى رجالا لست أطلع بعضهم ... على سرّ بعض، إنّ قلبى واسعه   [1] الحفيظة: اسم من المحافظة والحفاظ. [2]- هذه هى الرواية المشهورة فى البيت، وفى الأصل «تفيض النفس» . [3] فى الأصل: «أصابعه» والسياق يقتضى ما وضعنا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 84 قال قيس بن الخطيم: إذا جاوز الإثنين سرّ فإنّه ... بنثّ [1] وتكثير الحديث قمين وإن ضيّع الإخوان سرّا فإنّنى ... كتوم لأسرار العشير أمين يكون له عندى إذا ما ضممته ... مكان بسوداء الفؤاد مكين وقال أبو إسحاق الصابى: لسرّ صديقى مكمن [2] فى جوانحى ... تمنّع أن تدنو إليه المباحث تغلغل منّى حيث لا تستطيعه ... كؤوس النّدامى والأنيس المحادث إذا الفحص آلى جاهدا أن يناله ... تراجع عنه وهو خزيان حانث فقل لصديقى اذا [3] لم السّر آمنا ... إذا لم يكن ما بيننا فيه ثالث وهذا البيت مأخوذ من قول جميل: ولا يسمعن سرّى وسرّك ثالث ... ألا كلّ سرّ جاوز اثنين ضائع [4] وقال الصابى أيضا: وللسرّ فيما بين جنبىّ مكمن ... خفى قصىّ عن مدارج أنفاسى أضنّ به ضنّى بموضع حفظه ... فأجميه عن إحساس غيرى وإحساسى فقد صار كالمعدوم لا يستطيعه ... يقين ولا ظنّ لخلق من الناس كأنّى من فرط احتياطى أضعته ... فبعضى له واع وبعضى له ناسى   [1] النثّ: الإفشاء. [2] فى الأصل «ممكن» وهو تحريف. [3] كذا فى الأصل، وفيه تحريف واضح، ولم نوفق الى أصل هذا الشعر فى مصدر آخر. ولو قيل: قل لصديقى كن على السر آمنا لاستقام به الوزن والمعنى. [4] فى حماسة البحترى طبع «ليدن» ص 217. «ذائع» وفيها ينسب الشعر الى قيس بن منقلة الخزاعىّ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 85 وقال كثيّر: كريم يميت السرّ حتى كأنّه ... إذا استنطقوه عن حديثك جاهله رعى سرّكم مستودع القلب والحشا ... شفيق عليكم لا تخاف غوائله وأكتم نفسى بعض سرّى تكرّما ... إذا ما أضاع السرّ فى الناس حامله ذكر ما قيل فى الإذن والاستئذان قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ الآية. وقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ الآية. وقيل: استأذن رجل على النبىّ صلى الله عليه وسلم وهو فى بيت فقال: أألج؟ فقال النبىّ صلى الله عليه وسلم [لخادمه [1]] : «أخرج إلى هذا وعلّمه الاستئذان وقل له يقول السلام عليكم أأدخل» . وقال النبىّ صلى الله عليه وسلم: «الاستئذان ثلاث فإن أذن لك وإلّا فارجع» . وقال علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: الأولى إذن والثانية مؤامرة والثالثة عزمة، إما أن يأذنوا وإما أن يرجع [2] . وقال زياد بن أبيه لعجلان حاجبه: كيف تأذن للناس؟ قال: على البيوتات ثم على الأسنان ثم على الأدب؛ قال: فمن تؤخّر؟ قال: الذين لا يعبأ الله بهم؛ قال: ومن هم؟ قال: الذين يلبسون كسوة الشتاء فى الصيف وكسوة الصيف فى الشتاء.   [1] زيادة عن العقد الفريد (ج 1 ص 27) [2] كذا فى العقد الفريد، وفى الأصل: «إما تأذنوا وإما رجع» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 86 وكان سعيد بن عتبة بن حصين إذا حضر باب أحد من السلاطين جلس جانبا؛ فقيل له: إنّك لتتباعد من الآذن جهدك؛ فقال: لأن أدعى من بعيد خير من أن أقصى من قريب. قال بعض الشعراء: رأيت أناسا يسرعون تبادرا ... إذا فتح البوّاب بابك إصبعا ونحن جلوس ساكنون رزانة ... وحلما إلى أن يفتح الباب أجمعا وقيل لمعاوية: إنّ آذنك ليقدّم معارفه فى الإذن على وجوه الناس؛ قال: وما عليه! إنّ المعرفة لتنفع فى الكلب العقور والجمل الصّؤول، فكيف رجل حسيب ذو كرم ودين! ونظر رجل إلى روح بن حاتم وهو واقف فى الشمس عند باب المنصور، فقال له: لقد طال وقوفك فى الشمس؛ فقال: ذلك ليطول جلوسى فى الظلّ. ذكر ما قيل فى الحجاب قال خالد بن عبد الله القسرىّ أمير العراق لحاجبه: إذا أخذت مجلسى فلا تحجبنّ عنى أحدا، فإنّ الوالى يحتجب عن الرعيّة لإحدى ثلاث: إمّا لعىّ يكره أن يطّلع عليه، وإما لبخل يكره أن يسأل شيئا، وإما لريبة لا يحبّ أن تظهر منه. وقال زياد لحاجبه: ولّيتك حجابتى وعزلتك عن أربع: المنادى إلى الصلاة والفلاح، [لا تفرّجنّه عنّى فلا سلطان لك عليه [1]] ، وطارق الليل [لا تحجبه فشرّ ما جاء به، ولو كان خيرا ما جاء به تلك الساعة [1]] ، ورسول الثّغر فإنّه إن أبطأ ساعة فسد عمل سنة فأدخله علىّ وإن كنت فى لحافى، وصاحب الطعام فإن الطعام إذا أعيد تسخينه فسد.   [1] زيادة عن العقد الفريد ج 1 ص 27 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 87 وقف أبو سفيان بباب عثمان بن عفّان رضى الله عنه وقد اشتغل بمصلحة للمسلمين فحجبه؛ فقال له رجل وأراد إغراءه: يا أبا سفيان، ما كنت أرى أن تقف بباب مضرىّ فيحجبك! فقال أبو سفيان: لا عدمت من قومى من أقف ببابه فيحجبنى. واستأذن أبو الدّرداء على معاوية بن أبى سفيان فحجبه؛ فقال: من يغش أبواب الملوك يقم ويقعد، ومن يجد بابا مغلقا يجد إلى جانبه بابا مفتوحا إن دعا أجيب وإن سأل أعطى. قال محمود الورّاق: شاد الملوك قصورهم فتحصّنوا ... من كل طالب حاجة أو راغب غالوا بأبواب الحديد لعزّها ... وتنوّقوا [1] فى قبح وجه الحاجب فإذا تلطّف فى الدخول إليهم ... راج تلقّوه بوعد كاذب فاطلب إلى ملك الملوك ولا تكن ... يا ذا الضّراعة طالبا من طالب قال أبو مسهر: أتيت إلى باب أبى جعفر محمد بن عبد الله بن عبد كان، فحجبنى فكتبت إليه: إنى أتيتك للتسليم أمس فلم ... تأذن عليك لى الأستار والحجب وقد علمت بأنى لم أردّ ولا ... والله ما ردّ إلّا العلم والأدب فأجابه ابن عبدكان: لو كنت كافأت بالحسنى لقلت كما ... قال ابن أوس وفيما قاله أدب ليس الحجاب بمقص عنك لى أملا ... إنّ السماء ترجّى حين تحتجب وقف إلى باب محمد بن منصور رجل من خاصّته فحجب عنه، فكتب إليه: على أىّ باب أطلب الإذن بعد ما ... حجبت عن الباب الذى أنا حاجبه   [1] تنوّقوا: جوّدوا وبالغوا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 88 وقف أبو العتاهية إلى باب بعض الهاشمييّن، فطلب الإذن؛ فقيل له: تكون لك عودة [1] ؛ فقال: لئن عدت بعد اليوم إنّى لظالم ... سأصرف وجهى حين تبغى المكارم متى يظفر الغادى إليك بحاجة ... ونصفك محجوب ونصفك نائم ونظيره قول العمانىّ [2] : قد أتيناك للسلام مرارا ... غير منّ بنا [3] بتلك المرار [4] فإذا أنت فى استتارك باللي ... ل [على [5]] مثل حالنا بالنّهار وقال أبو تمّام: سأترك هذا الباب مادام إذنه ... على ما أرى حتّى يلين قليلا فما خاب من لم يأته متعمّدا ... ولا فاز من قد نال منه وصولا ولا جعلت أرزاقنا بيد امرئ ... حمى بابه من أن ينال دخولا إذا لم أجد للإذن عندك موضعا ... وجدت إلى ترك المجىء سبيلا وقال آخر: أتيتك للتسليم لا أننى امرؤ ... أردت بإتيانيك أسباب نائلك فألفيت بوّابا ببابك مغرما ... بهدم الذى وطّدته من فضائلك وقال العمانىّ: إذا ما أتيناه فى حاجة ... رفعنا الرّقاع له بالقصب له حاجب دونه حاجب ... وحاجب حاجبه محتجب وقال آخر: يا أبا موسى وأنت فتى ... ماجد حلو ضرائبه [6]   [1] فى الأصل: «يكون له دعوة» وهو تحريف والتصويب عن العقد الفريد (ج 1 ص 28) [2] فى العقد الفريد: «العتابى» . [3] لعله «منا» ويؤيد هذا رواية العقد الفريد. [4] فى العقد الفريد: «غير من منا بذاك المزار» . [5] زيادة من العقد الفريد ج 1 ص 28 [6] ضرائب: جمع ضريبة، وهى الطبيعة والسجية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 89 كن على منهاج معرفة ... إنّ وجه المرء حاجبه فبه تبدو محاسنه ... وبه تبدو معايبه وقف عبد الله بن العباس بن الحسين العلوىّ على باب المأمون يوما، فنظر إليه الحاجب ثم أطرق؛ فقال عبد الله لقوم معه: إنه لو أذن لنا لدخلنا، ولو صرفنا لانصرفنا، ولو اعتذر إلينا لقبلنا، فأمّا الفترة بعد النّظرة، والتوقّف بعد التعرّف، فلا أفهمه، ثم تمثّل: وما عن رضا كان الحمار مطيّتى ... ولكنّ من يمشى سيرضى بما ركب وانصرف؛ فبلغ المأمون كلامه، فصرف الحاجب وأمر لعبد الله بصلة جزيلة وعشر دوابّ. وحجب بعض الهاشميّين فرجع مغضبا فردّ فلم يرجع، وقال: ليس بعد الحجاب إلا العذاب، لأن الله تعالى يقول: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ. ذكر ما قيل فى النهى عن شدّة الحجاب قيل: لا شىء أضيع للمملكة وأهلك للرعيّة من شدّة الحجاب، لأنّ الرعيّة إذا وثقت بسهولة الحجاب أحجمت عن الظلم، وإذا وثقت بصعوبته هجمت على الظلم. وهذا مخالف لوصيّة زياد لابنه: عليك بالحجاب، فإنّما تجرّأت الرّعاة على السّباع لكثرة نظرها إليها. قال سعيد بن المسيّب: نعم الرجل عبد العزيز لولا حجابه! وعن علىّ رضى الله عنه: إنما أمهل فرعون مع دعواه ما ادّعاه لسهولة إذنه وبذل طعامه. وقال ميمون بن مهران: كنت عند عمر بن عبد العزيز، فقال لابنه: من بالباب؟ فقال: رجل أناخ الآن يزعم أنه ابن بلال مؤذّن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من ولى شيئا من أمور المسلمين ثم حجب عنه حجبه الله يوم القيامة؛ فقال لحاجبه: الزم بيتك. فما رئى على بابه بعده حاجب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 90 وقال عمرو بن العاص لابنه وقد ولّى ولاية: انظر حاجبك فإنّه لحمك ودمك، ولقد رأيتنا بصفّين وقد أشرع قوم رماحهم فى وجوهنا يريدون نفوسنا مالنا ذنب إليهم إلا الحجاب. وقيل: ولّى المنصور حجابته الخصيب [1] فقال: إنّك بولايتى عظيم القدر، وبحجابتى عظيم الجاه، فبقّها على نفسك، ابسط وجهك للمستأذنين، وصن عرضك عن تناول المحجوبين، فما شىء أوقع بقلوبهم من سهولة الإذن وطلاقة الوجه. قال سليمان بن زيد النابلسىّ: سأهجركم حتى يلين حجابكم ... على أنّه لا بدّ أن سيلين خذوا حذركم من نبوة الدّهر إنّها ... وإن لم تكن حانت فسوف تحين وقال آخر: كم من فتى تحمد أخلاقه ... وتسكن الأحرار فى ذمّته قد كثّر الحاجب أعداءه ... وسلّط الذمّ [2] على نعمته وقال أعرابىّ: لعمرى إن حجبتنى العبيد ... ببابك ما تحجب القافيه سأرمى بها من وراء الحجاب ... فتعدو عليك بها داهيه تصمّ السميع وتعمى البصير ... وتسأل من مثلها العافيه وقال جعفر المصرىّ: [و] تفضّل علىّ بالإذن إن جئ ... ت فإنّى مخفّف فى اللقاء ليس لى حاجة سوى الحمد والشّك ... ر فدعنى أقريك حسن الثناء   [1] فى الأصل: «للخصيب» ولعله تحريف، فان الفعل ينصب المفعولين بنفسه. [2] كذا فى عيون الأخبار (مجلد 1 ص 85) وهو الأنسب بالسياق، وفى الأصل: «وسلط الدهر» الجزء: 6 ¦ الصفحة: 91 الباب التاسع من القسم الخامس من الفن الثانى فى الوزراء وأصحاب الملك ذكر ما قيل فى الوزارة وشروطها واشتقاقها وما يحتاج الوزير إليه قال الله عزّ وجلّ إخبارا عن موسى عليه السلام: وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي. وروى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من أحد [1] أعظم أجرا من وزير صالح يكون مع إمام فيأمر بذات الله تعالى» . قالت الحكماء: أعرف الملوك يحتاج إلى الوزير، وأشجع الرجال يحتاج إلى السلاح، وأجود الخيل يحتاج الى السّوط، وأحدّ الشّفار يحتاج الى المسنّ. وقالوا: صلاح الدنيا بصلاح الملوك، وصلاح الملوك بصلاح الوزراء، ولا يصلح الملك إلا لأهله، ولا تصلح الوزارة إلا لمستحقّها. وقالوا: أفضل عدد الملوك صلاح للوزراء الكفاة، لأن فى صلاحهم صلاح قلوب عوامّهم لهم. وقالوا: خير الوزراء أصلحهم للرعيّة، وأصدقهم نيّة فى النصيحة، وأشدّهم ذبّا عن المملكة، وأسدّهم بصيرة فى الطاعة، وآخذهم لحقوق الرعيّة من نفسه وسلطانه. وقالوا: الوزير الخيرّ لا يرى أنّ صلاحه فى نفسه وسلطانه كائن صلاحا حتى يتّصل بصلاح الملك ورعيّته، وتكون عنايه فيما عطّف الملك على عامّته، وفيما   [1] ورد هذا الحديث فى «قوانين الوزارة» للماوردى هكذا: «ما من رجل من المسلمين أعظم أجرا من وزير صالح مع إمام يطيعه ويأمره بذات الله تعالى» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 92 استعطف قلوب العامّة على الطاعة لملكه، وفيما قوّم أمر الملك والمملكة من تدبير، حتى يجمع إلى أخذ الحق وتقديمه عموم الأمن والسلامة، ويجمع إلى صلاح الملك صلاح أتباعه. وإذا تطرّقت الحوادث ودهمت العظائم كان للملك عدّة وعتادا، وللرعيّة كافيا محتاطا، ومن ورائها ذابّا ناصرا، يعنيه من صلاحها ما لا يعنيه [1] من صلاح نفسه دونها. ذكر ما قيل فى اشتقاق الوزارة وصفة الوزير وما يحتاج إليه أما اشتقاقها فقد اختلف فى معناه على ثلاثة أوجه: أحدها أنه مشتقّ من الوزر وهو الثّقل، لأنه يحمل عن الملك أثقاله. والثانى أنّه مشتقّ من الأزر وهو الظّهر، لأن الملك يقوى بوزيره كقوّة البدن بظهره. والثالث أنه مشتقّ من الوزر- وهو الملجأ- ومنه قوله تعالى: كَلَّا لا وَزَرَ أى لا ملجأ؛ لأن الملك يلجأ الى وزيره ومعونته. وأما صفة الوزير وما يحتاج إليه، فقد قال أقضى القضاة أبو الحسن على ابن محمد بن محمد بن حبيب الماوردىّ فى كتابه المترجم «قوانين الوزارة» ما معناه: إن الوزير فى منصب مختلف الأطراف، يدبّر غيره من الرعايا ويتدبّر بغيره من الملوك، فهو سائس ومسوس يقوم بسياسة رعيّته وينقاد لطاعة سلطانه، فيجمع بين سطوة مطاع وانقياد مطيع، فشطر فكره جاذب لمن يسوسه، وشطره مجذوب بمن يطيعه؛ لأن الناس بين سائس، ومسوس، وجامع بينهما، و [له [2]] هذه المرتبة الجامعة؛ فهو يجمع ما اختلف من أحكامها، ويستكمل ما تباين من أقسامها؛ وبيده تدبير مملكة صلاحها   [1] فى الأصل: «يعينه فى صلاحها ما لا يعينه من ... » وظاهر أنه تحريف. [2] زيادة أصلها فى قوانين الوزارة: «ولك هذه الرتبة الجامعة» والكلام هناك لمخاطب وهاهنا لغائب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 93 مستحقّ [1]] عليه، وفسادها منسوب إليه؛ يؤاخذ بالإساءة ولا يعتدّ له بالإحسان، تلان له المبادئ [بالإرغاب [1]] وتشدّد [2] عليه الغايات بالإعتاب [3] ، مستظهرا ليكفى [4] اعتداد الإحسان إليه، ويسلم من غبّ المؤاخذة له، ويلزمه ضدّها فى حقّ سلطانه ألّا يعتدّ عليه بصلاح ملكه، لأنّه للصلاح مندوب، ولا يعتذر إليه من اختلاله [5] ، لأن الاختلال إليه منسوب. والوزير مباشر لتدبير ملك له أسّ هو الدّين المشروع، ونظام هو الحقّ المتبوع. فإن جعل الدّين قائده، والحقّ رائده؛ تذلّل له كلّ صعب، وسهل عليه كلّ خطب؛ لأن للدّين أنصارا وأعوانا، إن قعدت عنه أجسادهم لم تقعد عنه قلوبهم. وحسبه أن [تكون [6]] القلوب معه، فإن للدّين سلطانا قد انقادت اليه إمامته، واستقرّت عليه زعامته [7] . فإن جعله ظهيرا [8] له فى أموره، وعونا له على تدبيره، يجد من القلوب خشوعا، ومن النفوس خضوعا؛ فما اعتزت مملكة إليه إلا صالت، ولا التحفت بشعاره إلا طالت. ولن يستغزر الوزير موادّه إلا بالعدل والإحسان، ولن يستنزرها بمثل الجور والإساءة؛ لأن العدل استثمار دائم، والجور استئصال منقطع. وليس يختصّ بالأموال دون الأقوال والأفعال؛ فعدله فى الأموال أن تؤخذ بحقّها وتدفع إلى مستحقّها؛ لأنه فى الحقوق سفير مؤتمن، وكفيل مرتهن؛ عليه غرمها، ولغيره غنمها. وعدله فى الأقوال ألّا يخاطب الفاضل بخطاب المفضول، ولا العالم بخطاب الجهول؛ ويقف فى الحمد والذّمّ على حسب الإحسان والإساءة، ليكون   [1] الزيادة عن «قوانين الوزارة» . [2] فى الأصل «تشد» وما أثبتناه عن قوانين الوزارة. [3] كذا فى قوانين الوزارة وهو ما يقتضيه السجع. وفى الأصل: «بالإعنات» . [4] فى هذه الجملة كلها شىء من الغموض. [5] كذا فى «قوانين الوزارة» وفى الأصل: «ولا يعتذر إليه من إضلاله لأن الإضلال ... الخ» [6] فى قوانين الوزارة: «دعامته» . [7] الزيادة عن «قوانين الوزارة» . [8] كذا فى قوانين الوزارة، وفى الأصل «ظهرا» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 94 إرغابه وإرهابه وفق أسبابهما من غير سرف ولا تقصير؛ فلسانه ميزانه، فليحفظه من رجحان أو نقصان. وعدله فى الأفعال ألّا يعاقب إلا على ذنب، ولا يعفو إلا عن إنابة، ولا يبعثه السّخط على اطّراح المحاسن، ولا يحمله الرضا على العفو عن المساوئ. وليكن وفاؤه بالوعد حتما [1] ، وبالوعيد حزما؛ لأن الوعد حقّ عليه لغيره يسقط فيه اختياره، والوعيد حقّ له على غيره فهو فيه على خياره. فمن أجل ذلك لم يجز إخلاف الوعد وإن جاز إخلاف الوعيد. قال بعض الشعراء: وإنى إذا أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادى ومنجز موعدى لكن ينبغى أن يقرن بخلف الوعيد عذرا حتى لا يهون وعيده؛ ليكون نظام الهيبة محفوظا، وقانون السياسة فيه مضبوطا؛ وليظهره إن خفى ليكون بإخلاف وعيده معذورا، وبعفوه عنه مشكورا. ولتكن أفعاله أكثر من أقواله؛ فإن زيادة القول على الفعل دناءة وشين، وزيادة الفعل على القول مكرمة وزين. ولا يجعل لغضبه سلطانا على نفسه يخرجه عن الاعتدال الى الاختلال؛ فلن يسلم بالغضب رأى من زلل، ولا كلام من خطل؛ لأن ثورته طيش معرّ، ونفرته بطش مضرّ؛ لأنه يخرج عن التأديب الى الانتقام، وعن التقويم الى الاصطلام [2] . قال ابن عبّاس: لم يمل إلى الغضب إلّا من أعياه سلطان الحجّة. وقال بعض السّلف: إيّاك وعزّة الغضب، فإنها تفضى بك الى ذلّ الاعتذار. وقال بعض الحكماء: من كثر شططه، كثر غلطه. قال بعض الشعراء: ولم أر فى الأعداء حين اختبرتهم ... عدوّا لعقل المرء أعدى من الغضب   [1] كذا فى قوانين الوزارة، وفى الأصل: «جسيما» . [2] الاصطلام: القطع والاستئصال. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 95 وليكن غضبه تغاضبا يملك به عزمه، ويقوّم به خصمه، فيسلم من جور غضبه ويقف على اعتدال تغاضبه. فقد قيل فى بعض صحف بنى إسرائيل: إذا كان الرجل ذا غضب تواترت عليه الوضائع [1] ، فكلّما اشتدّ غضبه ازداد بلاء. وقد يقترن بالغضب لجاج يساويه فى معرّته، ويشاركه فى مضرّته؛ لأن فى اللّجاج التزام الخطأ واطّراح الصواب. فليدع عنه لجاج الخصم الألدّ، وليتجنّب عواقب المدل الفدم [2] . وليتابع الرأى فيما اقتضاه؛ فلأن ينتفع بالرأى خير من أن يستضرّ بالّلجاج. فقد قال بعض الحكماء: من استعان بالرأى ملك، ومن كابر الأمور هلك. وقال ابن المقفّع: دع اللّجاج فإنه يكسر عزائم العقول. وقيل: الظّفر لمن احتجّ، لا لمن لجّ. وليأخذ الوزير أموره بالجدّ دون الهزل. فالجدّ والهزل ضدّان متنافران؛ لأن الجدّ من قواعد الحقّ الباعث على الصلاح، والهزل من مرح الباطل الداعى إلى الفساد؛ فصار فرق ما بين الجدّ والهزل هو فرق ما بين الحقّ والباطل. وتنافر الأضداد يمنع من الجمع بينهما [3] ؛ فمتى انفرد بأحدهما كان للآخر تاركا. وقد روى عن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه أنه قال: العقل حسام قاطع، والحلم غطاء ساتر، فقابل هواك [4] بعقلك، واستر خلل خلقك بحلمك، واستعمل الجدّ ينقد إليك الحقّ ويفارقك الباطل. ولا تعدل إلى الهزل فيتبعك الباطل وينافرك الحقّ. وقلّما انثلمت هيبة الجدّ أو تكاملت هيبة الهزل. والهيبة أسّ السلطنة.   [1] الوضائع: الأثقال. [2] الفدم: الغليظ الأحمق الجافى وفى الأصل «المدل الندم» وفى قوانين الوزارة: «النذل الفدم» . وما أثبتناه مختارا من الأصل ومن قوانين الوزارة هو المناسب للسياق. [3] كان الظاهر أن تكون الجملة: وتنافر الضدين يمنع من الجمع بينهما، أو: وتنافر الأضداد يمنع من الجمع بينها، ليوافق الضمير مرجعه. [4] فى قوانين الوزارة: «فقاتل هواك ... » وكلتا الكلمتين يستقيم بها المعنى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 96 حكى عن عمرو بن مرّة أن رجلا من قريش قال لعمر بن الخطّاب رضى الله عنه: لن لنا فقد ملأت قلوبنا مهابة؛ فقال عمر: أفى ذلك ظلم؟ قال: لا؛ قال: فزادنى الله فى صدوركم مهابة. وقال حكيم الهند: ليكن [فيك [1]] مع طلاقتك تشدّد، لئلّا يجترأ عليك بالطلاقة وينفر منك بالتشدّد. والهزل إنما يكون من سخف أو بطر يجلّ عنهما من ساس الرعايا ودبّر الممالك. وسأل ملك الهند الإسكندر [وقد دخل بلاده [2]] : ما علامة [دوام [3]] الملك؟ قال: الجدّ فى كلّ الأمور؛ قال: فما علامة زواله؟ قال: الهزل فيها. وليس الكبر والعنف جدّا، ولا التواضع واللطف هزلا. قالوا: وإن استكدّ الجدّ خاطره فلا بأس أن يستروح ببعض الهزل ليستعين به على مصابرة الجدّ، لكن يكون فى زمان راحته وأوقات خلوته بمقدار دوائه من دائه، فإن الكلال ملال [4] . وليكن ذلك كما قال بعض الشعراء: أفد طبعك المكدود بالجدّ راحة ... يجمّ وعلّله بشىء من المزح ولكن إذا أعطيته المزح فليكن ... بمقدار ما تعطى الطعام من الملح وكذلك فليتحرّ الصدق ويتجنّب الكذب، فإنّهما ضدّان متنافران تختلف عللهما وتفترق نتائجهما؛ فالصدق من لوازم العقل وهو أسّ الدّين وقوام الحقّ؛ والكذب من غرائز الجهل وهو زور يقترن بغرور، إن التبست أوائله انهتكت [5] أواخره، وإن جرّ التباسه نفعا عاد انهتاكه ضررا، فلن يسلم من معرّة زوره، ومضرّة غروره. وقد قدّمنا من مدح الصدق فى باب المدح، وذمّ الكذب فى باب الهجاء، ما فيه غنية عن تكراره. وحيث ذكرنا هذه المقدّمة فى اشتقاق الوزارة وما يحتاج الوزير إليه فلنذكر صفة الوزارة وشروطها.   [1] زيادة عن «قوانين الوزارة» . [2] زيادة عن «قوانين الوزارة» . [3] زيادة عن «قوانين الوزارة» . [4] كذا فى قوانين الوزارة، وفى الأصل «ملول» . [5] كذا فى قوانين الوزارة، والمصدر الآتى يعينه، وفى الأصل «انتهكت» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 97 ذكر صفة الوزارة وشروطها قال أقضى القضاة أبو الحسن علىّ بن محمد بن حبيب الماوردىّ: والوزارة ضربان: وزارة تفويض تجمع بين كفايتى السيف والقلم، ووزارة تنفيذ تختصّ بالرأى والحزم. ولكل واحدة منهما حقوق وشروط. فأما وزارة التفويض فهى: الاستيلاء على التدبير بالعقد، والحلّ، والتقليد والعزل. فأما العقد فيشتمل على شرطين: تنفيذ [1] وإقدام. [وأما الحلّ [2]] فيشتمل على شرطين: دفاع وحذر. وكلّ شرط من هذه الأربعة الشروط يشتمل على فصول. فأما الشرط الأول، وهو التنفيذ، فهو أسّ [3] الوزارة وقاعدة النيابة، وهو الأخصّ بكفاية القلم فى مصالح الملك واستقامة الأعمال. ويشتمل على أربعة أقسام: الأوّل- تنفيذ ما صدرت به أوامر الملك. وعلى الوزير فيها حقّان: أحدهما أن يتصفّحها من زلل فى ابتدائها، ويحرسها من خلل فى أثنائها [4] ؛ ليردّه عن زللها باللطف، ويقوّى عزمه على صوابها بالإحماد. وقد قال أفلاطون: أوّل رياضة الوزير أن يتأمّل أخلاق الملك ومعاملته، فإن كانت شديدة فظّة عامل الناس بدونها، وإن كانت ليّنة مطلقة عاملهم بأقوى منها، ليقرب من العدل فى سعيه. والثانى:   [1] كذا يؤخذ من «قوانين الوزارة» وهو ما يقتضيه سياق التقسيم الآتى. وفى الأصل: «دفاع وإقدام» . [2] التكملة عن قوانين الوزارة، ومكانها فى الأصل بياض. [3] كذا فى قوانين الوزارة، وفى الأصل «فالشرط الأول وهو التنفيذ وهو أس ... الخ» . [4] فى الأصل: «فى انتهائها» وما أثبتناه هنا عن قوانين الوزارة، وهو ما يقتضيه المعنى، إذ لا معنى للحراسة فى الانتهاء. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 98 تعجيل إمضائها للوقت المقدّر لها حتى لا يقف فيوحش، [لأن وقوف أوامره يوحش [1]] وهو مندوب للتنفيذ دون الوقوف. وقد قال حكيم الهند: العجلة فى الأمر خرق، وأخرق منه التفريط فى الأمر بعد القدرة عليه. ودرك [2] هذا التنفيذ عائد على الملك دون الوزير. القسم الثانى- تنفيذ ما اقتضاه رأى الوزير من تدبير المملكة. فعليه فى إمضائه حقّان: أحدهما أن يراعى [3] أولى الأمور فى اجتهاده، وأصوبها فى رأيه، لأنه مندوب لأصلحها ومأخوذ بأصوبها. والثانى أن يطالع الملك به إن جلّ، ويجوز أن يطويه إن قلّ، ليخرج عن الاستبداد المنفّر، ويسلم من الحقد المؤثّر. وقال حكيم الهند: الأحقاد مؤثّرة حيث كانت، وأخوفها ما كان فى أنفس الملوك، لأنهم يدينون بالانتقام ويرون التطلّب بالوتر مكرمة وفخرا. فإن عارضه الملك فى رأيه بعد المطالعة به لم يستوحش من معارضته، لأنه مالك مستنيب، وظانّ مستريب؛ وقابل بين رأيه ومعارضته، واستوضح من الملك أسباب المعارضة بلطف إن خفيت، فإن وضح صوابها توقّف عن رأيه وشكره على استدراك زلله وتلافى خلله وقد منّ عليه ولم يؤنّب. وإن كان الصواب مع الوزير تلطّف فى إيضاح صوابه، وكشف علله وأسبابه. فإن ساعده على إمضائه أمضاه؛ وكان درك تنفيذه عائدا على الوزير دون الملك. وإن لم يساعده عليه توقّف انقيادا لطاعته؛ وكان درك وقوفه عائدا على الملك دون الوزير. والقسم الثالث- تنفيذ ما صدر عن خلفائه على الأعمال التى فوّضها إلى آرائهم ووكلها إلى اجتهادهم. فإن تفرّدوا بتنفيذها أمضاها لهم ولم يتعقّبها عليهم ما لم   [1] زيادة عن قوانين الوزارة. [2] الدّرك: التبعة. [3] كذا فى قوانين الوزارة، وفى الأصل: «أن يكون» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 99 يتحقّق زللهم فيها؛ وكان درك تنفيذها عائدا على العمّال دون الوزير. وإن وقفوها على تنفيذ الوزير فعليه فى تنفيذها حقّان: أحدهما أن يستكشف عن أسبابها، ليعلم خطأها من صوابها. والثانى تقوية أيديهم ونفى الارتياب عنهم، فإن ظهور الارتياب مجشّة [1] للقلوب. فإن نفّذها لهم حين لم يتحقّق زللهم فيها كان درك تنفيذها عائدا على الوزير دون العمّال. والقسم الرابع- تنفيذ أمور الرعايا على ما ألفوه من عادات ومعاملات اختلفوا فيها حين ائتلفوا بها، لأنّ الناس مجبولون على الحاجة إلى أنواع لا يقدر الواحد أن يقوم بجميعها، فخولف بين هممهم لينفرد كلّ قوم بنوع منها فيأتلفوا بها، فيقوم الزرّاع بمزارعهم، ويتشاغل الصنّاع بصنائعهم، ويتوفّر التجّار على متاجرهم. وعليه فى تنفيذها لهم حقّان: أحدهما ألّا يعارض صنفا منهم فى مطلبه، والثانى ألّا يشاركه فى مكسبه. وربما كان للسلطان رأى فى الاستكثار من أحد الأصناف فينقل إليه من لم يألفه فيختلّ النظام بهم فيما نقلوا عنه وفيما نقلوا إليه. وربما ضنّ السلطان عليهم بمكاسبهم فتعرّض لها أو شاركهم فيها فاتّجر مع التجار وزرع مع الزرّاع. وهذا وهن فى حقوق السياسة وقدح فى شروط الرياسة من وجهين: أحدهما أنه إذا تعرّض لأمر، قصرت فيه يد من عداه؛ فإن تورك عليه لم ينهض به، وإن شورك فيه ضاق على أهله. وقد روى عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ما عدل وال اتّجر فى رعيّته» . والثانى لأن الملوك أشرف الناس منصبا فخصّوا بموادّ السلطنه، لأنها أشرف الموادّ مكسبا. فإن زاحموا العامّة فى رذل [2] مكاسبهم أوهنوا الرعايا ودنّسوا   [1] كذا فى الأصل، والمجشة بكسر الميم: الرحا، من جش الشىء: دقه وكسره، وفى «قوانين الوزارة» : «فإن ظهور الارتياب لخيبة» . [2] فى قوانين الوزارة: «فى درك مكاسبهم» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 100 الممالك؛ وعاد وهنهم عليها فاختلّ نظامها، واعتلّ مرامها. وقد روى عن النبىّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال «إذا اتّجر الراعى هلكت الرعيّة» . وكتب حكيم الروم إلى الإسكندر: أىّ ملك تطنّف [1] نفسه إلى المحقّرات فالموت أكرم له. فهذا ما اشتمل عليه الشرط الأوّل. وأما الشرط الثانى من شروط وزارة التفويض، فهو الدفاع. وهو أسّ السلطنة وقانون السياسة والأخصّ بكفاية السيف فى تدبير الملك وضروب المصالح. ويشتمل على أربعة أقسام: أحدها الدفاع عن الملك من الأولياء، والثانى الدفاع عن المملكة من الأعداء، والثالث دفاع الوزير عن نفسه من الأكفاء، والرابع دفاعه عن الرعية من خوف [2] واختلال. فالقسم الأول فى دفاعه عن الملك من أوليائه- ويكون بثلاثة أسباب: أحدها أن يقودهم إلى طاعته بالرغبة، ويكفّهم عن معصيته بالرهبة؛ فإن الرغبة والرهبة إذا تواليا على النفس ذلّت لهما وانقادت خوفا وطمعا، وبهما تعبّد الله الخلق فى وعده ووعيده. والثانى أن يقوم بكفايتهم حتى لا ينفروا بالقوّة أو يتفرّقوا بالضعف؛ وكلاهما قدح فى الملك. والثالث أن يحفظهم من الإغواء، ويحرسهم من الإغراء؛ وذلك بأمرين: أحدهما البحث عن أخبارهم حتى يعلم سليمهم من سقيمهم. والثانى بإبعاد المفسدين عنهم حتى لا يتعدّى إليهم فسادهم؛ فإن الكفّ بحسب الكشف.   [1] تطنفت نفسه الى الشىء: أشفت وأشرفت عليه. وفى قوانين الوزارة «تطلعت» بدل «تطنفت» . [2] كذا فى قوانين الوزارة، وفى الأصل: «من حزف ... » وهو تحريف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 101 والقسم الثانى فى دفاعه عن المملكة من أعدائها- وأعداء الممالك [1] من انفرد بملك أو امتنع بقوّة. وهم ثلاثة أصناف: أكفاء مماثلون، وعظماء متقدّمون، وناجمة منافسون. فأما الأكفاء المماثلون فيدفعون بالمقاربة والمسالمة. وأما العظماء المتقدّمون فيدفعون بالملاطفة والملاينة. وأما الناجمة المنافسون فيدفعون بالسوط والمخاشنة. والقسم الثالث فى دفاع الوزير عن نفسه من أكفائه- ويكون بعد استصلاح الطرفين: الأعلى وهو الملك، والأدنى وهم الأعوان. وأكفاؤه ثلاثة: واتر، وموتور، ومنافس. فأما الواتر- فقد بدأ بشرّه وجاهر بعداوته؛ وكلاهما بغى مؤنس [2] بالنصر عليه. وللوزير فى ترته حقّان: حقّ فى مقابلته على ما قدّم من ترته، وحق فى استدفاع ما جاهر به من عداوته. فأما حقه فى المقابلة، فإن عفا الوزير عنها كان بالفضل جديرا، وإن قابل كان فى المقابلة معذورا. وقد قيل: لذّة العفو أطيب من لذّة التشفى [لأن لذّة العفو يتبعها الحمد ولذة التشفى يعقبها الندم [3]] . قال الشاعر: فإنّك تلقى فاعل الشّرّ نادما ... عليه ولم يندم على الخير فاعله وأما حقّه فى استدفاع شرّه، فقد أيقظته مجاهرته، وأوهن كيده مظاهرته. وقد قيل فى منثور الحكم: أوهن الأعداء كيدا أظهرهم بعداوته. فاحذر بادرته وادفع [4] عداوته. ودفعها مختلف باختلاف طباعه فى انثنائه بالرغبة وتقويمه بالرهبة.   [1] كذا فى قوانين الوزارة، وهو ما يقتضيه السياق، فان الكلام فى أعداء المملكة. وفى الأصل: «وأعداء الملك» . [2] مؤنس: يوقع فى القلب أنسا وطمأنينة بالظفر به. [3] زيادة عن قوانين الوزارة. [4] كان ينبغى أن تكون الجملة «فليحذر ... وليدفع ... » لأن الكلام هنا لغائب هو الوزير. لكنها منقولة من قوانين الوزارة- والكلام فيه لمخاطب- من غير تغيير. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 102 وأما الموتور- فقد بودئ بالإساءة فصبر عليها، وجوهر بالعداوة فأخفاها؛ فله ترة مظلوم ووثبة مختلس، فتتوقّى ترة ظلامته بالاستعطاف، ووثبة مخالسته بالاحتراز. وأما المنافس- فهو طالب رتبة إن نال منها سدادا من عوز ياسر، وإن ضويق فيها نافر. فليرخ [1] الوزير له عنان الأمل، وليخفض [2] له جناح منافسته بالاستنابة والعمل؛ ليندفع بالمياسرة عن المنافرة. وليغالط [3] به الأيام، فإن الساعات تهدم الأعمار، ولا يجعل له فراغا يتشاغل فيه بمساءته، ويجعله عذرا فى السعى على منزلته. فإن ساق القضاء إليه حظّا كان له مصطنعا، يرعى له حقوق الاصطناع. فقد قيل: [من [4]] علامة الإقبال، اصطناع الرجال. فإن صدّه القضاء عن إرادته وعجّزه القدر عن طلبته كفى الوزير منه ما خافه [وقد أحسن [5]] ، ووصل إلى ما أراده [وقد أجمّ [6]] ، وأوجب بإحسانه شكرا، وأقام بإجمامه عذرا، اجتذب بهما قياد منافسه إلى طاعته، وصرفه بهما عن التعرّض لمنافسته. فهنالك يجعله قبلة رجائه؛ إذ لم يحظ بخير إلّا منه، ولم يقض من زمان وطرا إلّا به. وقد قيل فى منثور الحكم: من استصلح الأضداد، بلغ المراد.   [1] الفعل فى الأصل بصيغة الإخبار ووضعناه بصيغة الطلب للغائب لأن سياق الكلام يقتضى ذلك، ولأنه فى قوانين الوزارة المنقول عنه ما هنا بصيغة الطلب، الا أنه لمخاطب. [2] الفعل فى الأصل بصيغة الإخبار ووضعناه بصيغة الطلب للغائب لأن سياق الكلام يقتضى ذلك، ولأنه فى قوانين الوزارة المنقول عنه ما هنا بصيغة الطلب، الا أنه لمخاطب. [3] الفعل فى الأصل بصيغة الإخبار ووضعناه بصيغة الطلب للغائب لأن سياق الكلام يقتضى ذلك، ولأنه فى قوانين الوزارة المنقول عنه ما هنا بصيغة الطلب، الا أنه لمخاطب. [4] زيادة عن قوانين الوزارة. [5] زيادة عن «قوانين الوزارة» مع تغيير من الخطاب الى الغيبة لمناسبة السياق، أثبتناها هنا ليتضح بها الكلام. فان قوله: «وأوجب باحسانه الخ» يزداد وضوحا بذكر هذه الزيادة. [6] زيادة عن «قوانين الوزارة» مع تغيير من الخطاب الى الغيبة لمناسبة السياق، أثبتناها هنا ليتضح بها الكلام. فان قوله: «وأوجب باحسانه الخ» يزداد وضوحا بذكر هذه الزيادة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 103 وربما تعرّض لعداوة الوزير من قصّر عن رتبة منافسته. فليعطه [1] من رجائه طرفا، وليقبض [2] من زمامه طرفا، وليختبره [3] فيهما، فسيقف على صلاحه أو فساده. فإن صلح سوعد، وإن فسد بوعد. فقد قال أردشير بن بابك: احذروا صولة الكريم إذا جاع، واللئيم إذا شبع. وقد قيل فى منثور الحكم: علّة المعاداة، قلّة المبالاة. والقسم الرابع فى الدفاع عن الرعية من خوف [4] واختلال- فالخوف من نتائج الخرق [5] ، والاختلال من نتائج الإهمال؛ وكلاهما من سوء السّيرة وفساد السياسة، [لتردّدهما بين تفريط وإفراط، وخروجهما عن العدل إلى تقصير أو إسراف [6]] . وهم قوام الملك المستمدّ، وذخيرة المستعدّ. وليس يستقيم ولن يستقيم ملك فسدت فيه أحوال الرعايا، لأنّه منهم بمنزلة الرأس من الجسد لا ينهض إلا بقوّته ولا يستقلّ إلا بمعونته. وعلى الوزير لهم ثلاثة حقوق: أحدها أن يعينهم على صلاح معايشهم ووفور مكاسبهم، لتتوفّر بهم موادّه، وتعمر بهم بلاده. والثانى أن يقتصر منهم على حقوقه، ويحملهم فيها على إنصافه، ليكونوا على الاستكثار أحرص، وفى الطاعة أخلص؛ ولا يكلهم فى مقادير الحقوق الى غيره، ليكونوا له أرجى وعليه أحنى.   [1] فى الأصل: بصيغة المضارع من غير لام الطلب، وحسن السياق يقتضى الطلب كما هو فى قوانين الوزارة. [2] فى الأصل: بصيغة المضارع من غير لام الطلب، وحسن السياق يقتضى الطلب كما هو فى قوانين الوزارة. [3] فى الأصل: بصيغة المضارع من غير لام الطلب، وحسن السياق يقتضى الطلب كما هو فى قوانين الوزارة. [4] كذا فى قوانين الوزارة، وفى الأصل: «من حزف ... » . [5] فى الأصل: «فالحزف من نتائج الخوف» . وبما أثبتناه يستقيم الكلام، فان الخرق يلزمه مجاوزة الحد والخروج عما يقضى به العدل، وهو بهذا المعنى إفراط وإسراف يقابله الاهمال الذى هو التفريط والتقصير. وفى الحق أن خوف الرعية نتيجة لازمة للخرق بهذا المعنى. على أن صورة ما أثبتناه أقرب شىء لصورة الأصل. [6] زيادة عن قوانين الوزارة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 104 والثالث أن يحوطهم بكفّ الأذى عنهم، ومنع الأيدى الغالبة منهم؛ ليكون لهم كالأب الرءوف ويكونوا له كالأولاد البررة؛ فإنّه كافل مسترعى ومسئول مؤاخذ. ولله عليه فيهم حقّ، وللسلطان عليه فيهم [1] تبعة. فليغتنم الوزير بهم شكر إحسانه، ويجمّل بعدله فيهم آثار سلطانه. وأما الشرط الثالث من شروط وزارة التفويض وهو الإقدام، فهو فى السياسة أوفى شطريها [2] ، وفى الوزارة أكفى [3] نظريها؛ لظفر الإقدام، وخيبة الإحجام. وقد قيل فى منثور الحكم: بالإقدام تثبت الأقدام. وإنما يجب الإقدام إذا ظهرت أسبابه، وقصدت أبوابه. قال الشاعر: إذا ما أتيت الأمر من غير بابه ... ضللت وإن تقصد إلى الباب تهتدى ثم يجمع بعدهما بين حزمه وعزمه. فالحزم تدبير الأمور بموجب الرأى، والعزم تنفيذها للوقت المقدّر لها. فإذا تكاملت شروط الإقدام من هذه الوجوه الأربعة- وهى: ظهور أسبابه، وقصد أبوابه، والحزم، والعزم- لم يمنع من الظّفر، إلا عوائق القدر. والإقدام ينقسم إلى قسمين: أحدهما الإقدام على اجتلاب المنافع، والثانى على دفع المضارّ. فأما الإقدام على اجتلاب المنافع فضربان: أحدهما استضافة ملك، والثانى استزادة موادّ. فأما استضافة الملك فتكون بالحزم والعزم إذا اقترنا برغبة أو رهبة. ولأن تكون بالاغتيال والاحتيال، أولى من أن تكون بالقتال. وأما استزادة الموادّ فتكون بالعدل والإحسان إذا اقترنا برفق ومياسرة لتكثر بهما العمارة وتتوفّر بهما الزراعة؛ فإنّ الأرض كنوز الملك يستخرجها أعوان متطوّعون يقنعهم   [1] كذا فى قوانين الوزارة، وفى الأصل «منهم تبعة» . [2] فى قوانين الوزارة: «أو فى شرطها» . [3] كذا فى قوانين الوزارة، وفى الاصل «أو فى نظريها» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 105 الكفّ عنهم ويقطعهم العسف بهم. وأما الإقدام على دفع المضارّ فضربان: أحدهما. دفع ما اختلّ من الملك. وله سببان: إهمال أو عجز. والثانى دفع ما نقص من الموادّ. وله سببان: نفور أو جور. فيحتاج الوزير أن يدفع ضرر كلّ واحد منهما بالضدّ [من سببه، فإن علاج كل داء بضده [1]] من الدواء. فإن كان اختلال الملك من الإهمال أيقظ له عزمه، وإن كان من العجز استعمل فيه حزمه. وإن كان نقص الموادّ من النفور استنجد فيه رهبته، وإن كان من الجور أظهر فيه معدلته. فإن كان حدوث ذلك فى الملك صدر عن الوزير كان مؤاخذا بتفريطه فى الابتداء، ومستدركا لتقصيره فى الانتهاء؛ فيجبر إساءته بإحسانه، ويمحو قبيحه بجميله. وإن كان حدوثه من غيره كانت جريرة الإساءة على من أحدثه، وكان حمد الإحسان للوزير. وأما الشرط الرابع من شروط وزارة التفويض وهو الحذر- فيتعيّن على الوزير أن يكون حذرا، لأنّ الدهر ثائر بطوارقه، ومنافر بنوائبه، يغدر إن وفى، ويفتك إن هفا. قال عبد الحميد: أصاب الدنيا من حذرها، وأصابت الدنيا من أمنها. وقال عبد الملك بن مروان: احذروا الجديدين، فللأقدار أوقات تغضى عنها الأبصار. فإذا صادفت طوارق الدهر غرّا مسترسلا صار هدفا لسهامه الصوائب، وغرضا لمنافرة الحوادث والنوائب. وقد قال بعض الحكماء: من أعرض عن الحذر والاحتراس، وبنى أمره على غير أساس، زال عنه العزّ واستولى عليه العجز؛ وإن قدّم لطوارقه حذر المتيقّظ، وتلقّاها بعدّة المتحفّظ، ردّ بادرتها بعزم ذى حزم قد حلب أشطر دهره، وقام بواضح عذره. قال بعض الشعراء: إنّ للدهر صولة فاحذرنها ... لا تبيتنّ قد أمنت الدّهورا   [1] التكملة عن «قوانين الوزارة» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 106 ثم هو بعد حذره مستسلم لقضاء لا يردّ؛ وقدر لا يصدّ. وقد روى عن أبى الدّرداء رضى الله عنه عن رسول الله عليه وسلم أنه قال: «احذروا الدنيا فإنّها أسحر من هاروت وماروت» . وقيل لبعض الحكماء: من السعيد؟ قال: من اعتبر بأمسه، واستظهر لنفسه. قال بعض الشعراء: وحذرت من أمر فمرّ بجانبى ... لم يبكنى ولقيت ما لم أحذر وللحذر حدّ يقف عنده إن زاد [عليه [1]] صار خورا، كما أن للإقدام حدّا إن زاد عليه صار تهوّرا. والزيادة على الحدود، نقص فى المحدود. ولهما زمان إن خرجا عنه صار الحذر فشلا، والإقدام خرقا. وعيارهما معتبر بحزم العاقل ويقظة الفطن. قال بعض الحكماء: ليعرفك السلطان عند افتتاح التدبير بالحذر، وعند وقوع الأمر بالجدّ. والحذر يلزم من أربعة أوجه: أحدها الحذر من الله تعالى فيما فرض. والثانى [الحذر [2]] من السلطان فيما فوّض. والثالث الحذر من الزمان فيما اعترض. والرابع الحذر من [غلبة [3]] الأعداء ومكر الدّهاة. فأما الحذر من الله تعالى- فهو عماد الدّين الباعث على الطاعة. والحذر منه هو الوقوف عند أوامره، والانتهاء عن زواجره؛ فيعمل بطاعته فيما أمر، وينتهى عن معصيته فيما حظر. فلن يرى قليل الحذر إلا متجوّزا فى دينه طائحا فى غلوائه، لا يرى رشدا فى العاجل، وهو على وعيد فى الآجل؛ مع نفور النفوس منه وسراية الذّم فيه. وقد قيل فى بعض الصحف الأولى: العزّة والقوّة يعظمان القلب، وأفضل منهما خوف الله تعالى؛ لأن من لزم خشية الله لم يخف الوضيعة ولم يحتج إلى ناصر. وقال علىّ رضى الله عنه: من حاول أمرا بمعصية الله كان أبعد لما رجا، وأقرب لمجىء ما اتّقى.   [1] زيادة عن «قوانين الوزارة» . [2] زيادة عن «قوانين الوزارة» . [3] زيادة عن «قوانين الوزارة» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 107 وأما الحذر من السلطان، فهو وثّاب بقدرته، متحكّم بسطوته، يميل به الهوى فيقطع بالظنّ ويؤاخذ بالارتياب؛ فالثقة به عجز، والاسترسال معه خطر. والحذر منه فى حالتى السّخط والرضا أسلم؛ لأنّه يستذنب إذا ملّ حتى يصير المحسن عنده كالمسىء. فليستخلص [1] رأيه بالنصح، ويستدفع تنكّره بالحذر. وقال بعض الحكماء: اصحب السلطان بثلاث: الحذر، ورفض الدولة، والاجتهاد فى النصح. والحذر منه يكون بثلاثة أمور: أحدها ألّا يعوّل على الثقة به فى الإدلال والاسترسال، فما جرّت الثقة إلا ندما. وقد قيل: الخرق الدالّة على السلطان، والوثبة قبل الإمكان. [فاقبض نفسك إذا قدّمك، وتواضع له إذا عظّمك، واحتشمه [2] إذا آنسك، ولن له إذا خاشنك، واصبر على تجنّيه [إذا غالظك [3]] ؛ فهو على التّجنى أقدر، فكن على احتماله أصبر؛ فربّما كانت مجاملته لك مكرا، وتجنّيه عليك غدرا [4]] . فقد قيل فى بعض الصحف الأولى: حبّ الملك وهواه يشبه الطّلّ على العشب. فلا تجعل له فى إظهار تنكّره عذرا؛ فربما اعترف بالحق فوفّى، ورقّ بالصبر فكفّ. وقد قيل فى أمثال كليلة ودمنة: صاحب السلطان كراكب الأسد يخافه الناس وهو لمركوبه أشدّ خوفا. والثانى من حذره منه أن يساعده على مطالبه، ويوافقه على محابّه [ومآربه [5]] ، ولا يصدّه عن غرض إذا لم يقدح فى دين ولا عرض، ولا يتوقّف عن إجابته   [1] فى الأصل: «فيستخلص ... » والسياق يقتضى الأمر كما فى «قوانين الوزارة» . [2] ورد فى الأساس: «أنا أحتشمك منك أى أستحيى» وفى اللسان وشرح القاموس أحتشم منه وعنه ولا يقال: احتشمه. فعبارة الأصل هاهنا صحيحة على ما فى الأساس. [3] زيادة عن «قوانين الوزارة» . [4]- هذه الجملة التى بين القوسين المربعين نقلها صاحب الأصل عن قوانين الوزارة من غير تغيير فى الضمائر، وعادته فى النقل عنه أن يغير الضمير من الخطاب الى الغيبة، لأن قوانين الوزارة يوجه الكلام لمخاطب، والأصل هنا يوجهه لغائب، كما هو واضح. [5] زيادة عن «قوانين الوزارة» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 108 وإن شغله ما هو أهمّ؛ فإن الملك لا يقيم لوزيره عذرا إذا وجده فى أغراضه مقصّرا، وإن كان على مصالح ملكه متوفّرا؛ فإنّه اتخذه لنفسه ثم لملكه؛ وقد يقدّم حظّ نفسه على مصلحة ملكه، لغلبة الهوى ونازع الشهوة. فليكن متوفّرا على مراده ليسلم اعتقاده له. فإن قدحت أغراضه فى دين أو عرض سلّ الوزير نفسه من وزرها وتحفّظ من شينها [1] بالتلطّف فى كفّه عنها بما يعتاضه بدلا منها، ليسهل عليه إقلاعه عنها. فإن ساعده الملك عليها سلم دينهما، وزال شينهما. فقد روى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن لله خزائن للخير والشرّ مفاتيحها الرجال فطوبى لمن جعله الله مفتاحا للخير مغلاقا للشرّ وويل لمن جعله الله مفتاحا للشر مغلاقا للخير» . وقال الشاعر: ستلقى الذى قدّمت للشّرّ محضرا ... وأنت بما تأتى من الخير أسعد وإن أصرّ الملك عليها فليلن [2] الوزير فى متاركته، ويحجم عن مساعدته؛ وهو خداع يتدلّس بالمغالطة ويخفى بالحزم؛ فليستنجد فيه عقله، ويستعمل فيه حزمه؛ ليسلم من تنكّره، ويخلص من وزره. فقد روى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّ من شرار الناس عند الله يوم القيامة عبدا أذهب آخرته بدنيا غيره» . والثالث من حذره منه أن يذبّ عن نفسه وملكه بما استطاع من مال ونفس؛ فإنّه [عن نفسه [3]] يذبّ، ولها يربّ [4] ؛ فإنّه لا يصلح حاله مع فساد حال ملكه وهو فرع من أصله. وهو [5] يسترسل لثقته به، ويستسلم لتعويله عليه؛ فليقابل ثقته بأمانته، واستسلامه بكفايته، ولا   [1] كذا فى «قوانين الوزارة» ويرجحه ما يأتى من قوله «سلم دينهما وزال شينهما» وفى الأصل «من شبهتها» . [2] كذا يؤخذ من «قوانين الوزارة» ، وفى الأصل «فليكن ... » . [3] زيادة من قوانين الوزارة يقتضيها السياق. [4] يرب: يصلح. [5] الضمير فى «وهو يسترسل ... » يرجع الى الملك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 109 يلجئه أن يباشر دفع الخوف والحذر، فيلجئه إلى ما هو أخوف وأحذر؛ لأن الوزير يخاف الملك ويخاف ما يخافه، فيتوالى عليه خوفان، ويتمالأ عليه خطران. قال شاعر: إنّ البلاء يطاق غير مضاعف ... فإذا تضاعف صار غير مطاق وأما حذره من زمانه، فلأنّه يتقلّب بألوانه، ويخشن بعد ليانه، فيسلب ما أعطى ويفرّق ما جمع. وقد روى عن أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنظروا دور من تسكنون وأرض من تزرعون وفى طرق من تمشون» . وقال بعض الحكماء: الدنيا إن بقيت لك لم تبق لها. وقال بعض البلغاء: إن الدنيا تقبل إقبال الطالب، وتدبر إدبار الهارب؛ لا تبقى على حالة، ولا تخلو من استحالة؛ تصلح جانبا بإفساد جانب، وتسرّ صاحبا بمساءة صاحب؛ فالكون فيها على خطر، والثّقة بها على غرر. وقال قيس بن الخطيم: ومن عادة الأيّام أنّ خطوبها ... إذا سرّ منها جانب ساء جانب [والحذر [1]] من الزمان يكون من أربعة أوجه: أحدها: ألّا يثق بمساعدته، ولا يركن إلى مياسرته، فيغفل عن الحذر والاستعداد، فربّما انعكس فافترس، وغافص [2] فاختلس. وقد قيل: للدهر صروف، لست عنها بمصروف. قال أبو العتاهية: إنّ الزمان وإن ألا ... ن لأهله لمخاشن فخطوبه [3] المتحرّكا ... ت كأنّهنّ سواكن   [1] فى الأصل بياض، والتكملة عن «قوانين الوزارة» . [2] غافصه: فاجأه وأخذه على غرّة منه. [3] كذا فى «قوانين الوزارة» . وفى الأصل: «بخطوبه» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 110 والثانى: أن ينتهز فرصة مكنته [1] بفعل الجميل، وغرس الصنائع، وإسداء العوارف؛ ليكون ذلك ذخيرة له فى النوائب، وخلفا فى العواقب؛ ولا يلهيه استكفاؤه عن الاستظهار، ولا يمنعه استغناؤه عن الاستكثار. فقد قيل: المرء ابن يومه، فلينتبه من نومه. وقد روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اغتنم خمسا قبل خمس شبابك قبل هرمك وصحّتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك» . قال سعيد بن سلم: إنّما الدنيا هبات ... وعوار مستردّه شدّة بعد رخاء ... ورخاء بعد شدّه والثالث: أن يكفّ نفسه عن القبيح ويقبض يده عن الإساءة، ليكفى رصد التّرات، وغوائل الهفوات؛ فيأمن من وجله، ويسلم من زلله؛ ولا يتطاول بالقدرة فيغفل وهو مطلوب، ويأمن وهو مسلوب. والرابع: أن يستعدّ لآخرته، ويستظهر لمعاده، ولا يغترّ بالأمل فيخونه الفوت، ولا تلهيه الدنيا فتصدّه عن الآخرة. فقلّ من لا بسها فسلم من تبعاتها؛ لهفوات غرورها، [وعواقب [2] شرورها] . روى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يا عجبا كل العجب للمصدّق بدار الخلود وهو يسعى لدار الغرور» . وقيل فى منثور الحكم: طلاق الدنيا مهر الجنّة. وأما حذره من أهل الزمان- فلأن الإنسان محسود بالنعمة، مغبوط بالسلامة. والناس على أربعة أطوار متباينة:   [1] المكنة بفتح فكسر: التمكن. [2] زيادة عن «قوانين الوزارة» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 111 أحدها [1]] خيّر عاقل يسالم بخيره، ويساعد بعقله؛ فالظّفر به سعادة، والاستعانة به توفيق. فليجتهد [2] ألّا يفوته وإن كان قليل الوجود، ليحظى بخيره ويسعد بعقله. وقلّ أن يكون الخيّر العاقل إلا متحلّيا بالعلم متزيّنا بالأدب. فإذا أظفره الزمان بمن تكاملت فضائله، وتهدّبت خصائله، فليتّخذه [2] ذخيرة نوائبه، وعدّة شدائده، يجده كفيل صلاحها، وزعيم نجاحها. والطور الثانى: شرّير جاهل يضرّ بشرّه، ويضلّ بجهله. فليحذر مخالطته، فهى أضر من السّمّ، وأنفذ من السهم. وشرّه بجهله منتشر يضعف إن تورك، ويقوى إن شورك؛ فليكفف شرّه بالإبعاد، ولا يعزّه بالتقريب، فيلحقه ضررى شرّه وجهله. وضرر الجهل أعمّ من ضرر الشر؛ لأن قانون الشر معلوم، وقانون الجهل غير معلوم. والطور الثالث: خيّر جاهل يسالم بخيره، ويضل بجهله؛ فليقاربه [3] ، إن شاء، لخيره، ولا يستعمله لجهله؛ ليكون بخيره موسوما، ومن جهله سليما. والطور الرابع: شرّير عاقل وهو الداهية المكر، يستعمل للخطوب إذا حزبت [4] . فليكن على حذر من مكره، ويتاركه فى الدّعة على استدفاع لشره. وقد روى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله يؤيّد هذا الدّين بالرجل الفاجر» . ومثل هذا يستكفّ بمعونة تمدّه، ومراعاة ترضيه؛ فإنّه كالسّبع الضارى إن أجعته هاج، وإن أشبعته سكن؛ ليكون مذخورا للحاجة؛ فإن للزمان خطوبا لا تدفع إلا بشرار أهله؛ كما قال حذيفة بن اليمان لرجل: أيسرّك أن تغلب شرّ الناس؟ قال: نعم؛ قال:   [1] زيادة عن «قوانين الوزارة» . [2] السياق يقتضى صيغة الأمر كما فى «قوانين الوزارة» . والفعل فى الأصل مجرد من لام الأمر. [3] السياق يقتضى صيغة الأمر كما فى «قوانين الوزارة» . والفعل فى الأصل مجرد من لام الأمر. [4] حزبه الأمر: نابه واشتدّ عليه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 112 إنك لن تغلبه حتى تكون شرّا منه. فيعدّ لخطوب الشرّ إن طرقت؛ فإنّه بها أخبر، وعلى دفعها أقدر، ولأهلها أقهر؛ ف «إنّ الحديد بالحديد يفلح» . فيستكفّ إلى حينها بما يدفع عادية شرّه، ويقطع غائلة مكره، وإن كانت ضراوة الشر أجذب، وطباع النفوس أغلب. فإن وجد الوزير من هذا الداهية فتورا فى همّته، وقصورا فى منّته [1] كانت سراية مكره أنزر، وتأثيره فى الخطوب أيسر. وإن كان عالى الهمّة قوىّ المنّة يتطاول إلى معالى الأمور، كانت سراية مكره أوفر، وتأثيره فى الخطوب أكثر. فليعطه [2] فى كل حال من أمريه من الحذر والسكون بحسب ما تقتضيه همّته، وتبعث عليه منّته؛ ليكون قانونه معه مستقيما، [ومن دهاء مكره [3] سليما] ؛ لا يناله خور من سرف، ولا استرسال من تقصير؛ فقد جعل الله تعالى لكل شىء قدرا. فهذا تفصيل ما اشتمل عليه العقد والحلّ. وأما التقليد والعزل، وهو الشطر الثانى من شروط وزارة التفويض، فالتقليد على ضربين: تقليد تقرير، وتقليد تدبير. فأما تقليد التقرير، فهو فيما يستأنف إنشاء قواعده، ويبتدأ تقرير رسومه. وهو على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون فى حاضر يقدر الوزير على مباشرته، فالوزير أخصّ بتقريره، وأحقّ بتنفيذه؛ لأنها أصول مؤبّدة وهى من خواصّ نظره. فإن قلّد عليها واستناب   [1] المنة: القوة. [2] السياق يقتضى صيغة الأمر كما فى «قوانين الوزارة» . والفعل فى الأصل مجرد من لام الأمر. [3] زيادة عن «قوانين الوزارة» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 113 فيها، كان تقصيرا منه إن جلّ، ومعذورا فيه إن قلّ. ولم يكن لمن قلّده تنفيذ تقريره إلا عن إذنه، وإلا كان عزلا خفيّا؛ لأنه يصير ملتزما وقد كان ملزما، ومحكّما [1] وقد كان حاكما. والثانى: أن يكون التقليد فيما بعد عنه ويمكن استئماره [2] فيه، فيجوز أن يستنيب فى تقريره، ويكون موقوفا على إمضاء الوزير وتنفيذه. ولا يجمع المستناب بين الأمرين، ليكون التقليد مقصورا على التقرير، والوزير مختصا بالتنفيذ. فإن جمع المستناب بين التقرير والتنفيذ كان فيه متجوّزّا، إلا أن يؤمر به فيصير الآمر متجوّزا، إلا أن يكون اضطرارا يزول معه حكم الاختيار. والثالث: أن يكون التقليد [3] فيما بعد عنه ويتعذّر استئماره فيه، فيجوز أن [يستنيب [4] فيه من] يجمع بين تقريره وتنفيذه إذا تكاملت فى المستناب ثلاثة شروط: أحدها الكفاية التى ينهض بها فى التقرير. والثانى الهيبة التى يطاع بها فى التنفيذ. والثالث الأمانة التى يكفّ بها عن الاسترشاء والخيانة، بعد تكامل الشروط المعتبرة فى جميع الولايات، وهى ثلاثة: العقل، والديانة، والمروءة. فلا فسحة فى تقليد من أخلّ ببعضها، لقصوره عن حقها، وخروجه من أهلها؛ وإنما يختلف ما سواها باختلاف الولايات، وإن كانت هذه مستحقّة فى جميعها. وقد قال كسرى أبرويز: من اعتمد على كفاة السوء لم يخل من رأى فاسد وظنّ كاذب وعدوّ غالب. وقد قال بعض الحكماء:   [1] كذا فى قوانين الوزارة، وفى الأصل: «لأنه ملزم وقد كان ملزما، ومحكم ... الخ» . [2] الاستثمار: المشاورة. [3] كذا فى قوانين الوزارة، والتقليد هو موضوع الكلام، وفى الأصل: «التنفيذ ... » . [4] التكلمة عن «قوانين الوزارة» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 114 لا تستكفينّ مخدوعا عن عقله؛ والمخدوع [1] من بلغ به قدرا لا يستحقه، أو أثيب ثوابا لا يستوجبه. وأما تقليد التدبير، فهو النظر فيما استقرّت رسومه، وتمهّدت قواعده. وهو مشترك بين الوزير وبين الناظر فيه؛ لكن [2] يختصّ الوزير بمراعاته، والناظر بمباشرته؛ ليستظهر [3] الوزير بالمراعاة، ولا يتبذّل [4] بالمباشرة. وهو ضربان: أحدهما تدبير الأجناد. والثانى تدبير الأموال. فأما تدبير الأجناد، فلا يستغنى الوزير عن تقليد سفير فيه وإن كانوا يلاقونه؛ ليحفظ بالسفير حشمة وزارته ولا يقف أغراض أجناده، وقد انصان عن لغط كلامهم، وجفوة طباعهم. والأغلب على تدبيرهم الرأى والسياسة. فيعتبر فى هذا المختار لهذا التقليد ستة شروط: أحدها: الهيبة التى تقودهم إلى طاعته، لأنه يقوم بتدبير ذوى سطوة، فيحتاج إلى قوّة الهيبة. والثانى: أن يكون من ذوى الرأى والسياسة، ليقودهم برأيه إلى الصواب ويقفهم بسياسته على الاستقامة. والثالث: أن يكون متوصّلا إلى استعطاف القلوب، واجتماع الكلمة، ليسلموا من اختلاف أو منافرة.   [1] كذا فى قوانين الوزارة، وفى الأصل: «فالمخدوع ... » بالفاء وظاهر أن حسن السياق يقتضى الواو. [2] كذا فى «قوانين الوزارة» . وفى الأصل: «لكى يختص ... » . [3] يستظهر: يحتاط ويستوثق. [4] فى الأصل «يتبدّل» بالدال. والسياق يقتضى ما وضعناه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 115 والرابع: أن يكون بينه وبين الأجناد مناسبة فى الطباع ومشاكلة فى الأخلاق يمتزجون [بها [1]] فى الموافقة و [لا [2]] يختلفون [فيها [3]] فى المباينة [4] . والخامس: أن يكون سليم الباطن صحيح المعتقد؛ لأنه يصير أخصّ بهم، ويصيرون أطوع له. والسادس: ما اختلف باختلاف الحال، فإن كان فى زمان السلّم اعتبر فيه الأناة والسكون؛ وإن كان فى زمان الحرب اعتبر فيه الإقدام والسّطوة، ليكون مطبوعا على ما يضاهى حال زمانه. فإذا ظفر بمن استكملها- وبعيد أن يظفر به إلا أن يعان بالتوفيق- وجب تقليده، ولزمت مناصفته فى الحقوق التى له وعليه، ليدوم ويستقيم. فقد قيل فى منثور الحكم: من قضيت واجبه، أمنت جانبه. وأما تدبير الأموال، فالوزير مصون عن مباشرتها، وإنما يحفظ دخلها بالهيبة والاستظهار، ويضبط خرجها بالحاجة والاضطرار. وللتقليد على كل حال [5] منهما شروط. فشروط التقليد على مباشرة دخلها خمسة: أحدها: أن يكون مطبوعا على العدل، لينصف وينتصف. والثانى: أن يكون متديّنا بالأمانة، ليستوفى ويوفّى. والثالث: أن يكون كافيا، ليضبط بكفايته، ولا يضيع بعجزه. والرابع: أن يكون خبيرا بعمله يعرف وجوه موادّه، وأسباب زيادته.   [1] زيادة عن «قوانين الوزارة» . [2] زيادة عن «قوانين الوزارة» . [3] زيادة عن «قوانين الوزارة» . [4] فى «قوانين الوزارة» : « ... فيها بالمباينة» . [5] فى قوانين الوزارة: «على كل واحد منهما» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 116 والخامس: أن يكون رفيقا بمعامليه غير عسوف ولا أخرق. حكى ان الإسكندر كتب إلى معلّمه أرسطاطاليس ليستشيره فى عمّاله؛ فكتب إليه: إنّ من كان له عبيد فأحسن فى سياستهم فولّه الجند، ومن كان له ضيعة فأحسن تدبيرها فولّه الخراج. وأما شروط التقليد على مباشرة خرجها، بعد الأمانة التى هى مشروطة فى كلّ ولاية، فمعتبرة بأحوال الخرج. وينقسم إلى ثلاثة أقسام: أحدها: ما كان راتبا عن رسوم مستقرّة كأرزاق الجيوش والحواشى، فللتقليد عليه شرطان: معرفة مقاديرها، ومعرفة مستحقّيها. والثانى: ما كان عارضا عن أوامر تقدّمتها والناظر مأمور بها كالصّلات وحوادث النّفقات، فللتقليد عليه شرطان: وقوفها على الأوامر، ومعرفة أغراض [1] الآمر. والثالث: ما كان عارضا فوّض إلى رأى الناظر ووكل إلى تقريره كالمصالح والنّفقات، فالتقليد عليه أوفى شروطا لوقوفها على اجتهاده وتقديره، فيحتاج مع الأمانة إلى ثلاثة شروط: أحدها: معرفة وجوه الخرج، حتى لا يتصرف فى غير حقّ. والثانى: الاقتصاد فيه، حتى لا يفضى إلى سرف ولا تقصير. والثالث: استصلاح الأثمان والأجور من غير تحيّف [2] ولا غبن.   [1] كذا فى «قوانين الوزارة» . وفى الأصل: «ومعرفة أغراض الأوامر» . [2] التّحيّف: التنقّص. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 117 وأما العزل فضربان: أحدهما: ما كان عن غير سبب فهو خارج عن السياسة؛ لأن للأفعال والأقوال أسبابا إذا تجرّدت عنها [1] صار الفعل عبثا والكلام لغوا لا يقتضيه رأى حصيف، ولا توجبه سياسة لبيب. وقد قيل: العزل أحد الطّلاقين. فكما أنه لا يحسن الطلاق بغير سبب، كذلك لا يحسن العزل بغير سبب. وإذا لم يثق الناظر باستدامة نظره مع الاستقامة، عدل عنها إلى النظر لنفسه، فعاد الوهن على عمله. وما يكون هذا العزل إلا عن فشل أو ملل. والضرب الثانى: أن يكون العزل لسبب دعا إليه. وأسبابه تكون من ثمانية أوجه: أحدها: أن يكون سببه خيانة ظهرت منه، فالعزل لها من حقوق السياسة مع استرجاع الخيانة والمقابلة عليها بالزواجر المقوّمة. ولا يؤاخذ فيها بالظنون والتّهم. فقد قيل: من يخن يهن. والوجه الثانى: أن يكون سببه عجزه وقصور كفايته، فالعمل بالعجز [مضاع [2]] ؛ وهو نقص فى العاجز وإن لم يكن ذنبا له؛ فلا يجوز فى السياسة إقراره على العمل الذى عجز عنه. ثم روعى عجزه بعد عزله، فإن كان لثقل ما تقلّده من العمل جاز أن يقلّد ما هو أسهل، وإن كان لقصور منّته وضعف حزمه لم يكن أهلا لتقليد ولا عمل.   [1] كذا فى الأصل. والذى يؤخذ من كتب اللغة أن «تجرّد» يتعدّى ب «من» . [2] التكملة عن «قوانين الوزارة» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 118 والوجه الثالث: أن يكون سببه اختلال العمل من عسفه أو خرقه. فهذا السبب زائد على الكفاية، وخارج عن السياسة. والوزير المقلّد فيه بين خيارين: إما أن يعزله بغيره، وإما أن بكفّه عن عسفه وخرقه. ويجوز أن يكون مرصدا لتقليد ما تدعو [1] السياسة فيه الى العسف لمن شاقّ ونافر. فقد قيل: لكلّ بناء أساس، ولكلّ تربة غراس. والوجه الرابع: أن يكون سببه انتشار العمل به من لينه وقلّة هيبته. فهذا السبب موهن للسياسة. والوزير فيه بين خيارين: إما أن يعزله بمن هو أقوى وأهيب، وإما أن يضمّ إليه من تتكامل به القوّة والهيبة. وخياره فيه معتبر بالأصلح. ويجوز أن يقلّد بعد صرفه ما لا يستضرّ فيه بضعفه. والوجه الخامس: أن يكون سببه فضل كفايته وظهور الحاجة إليه فيما هو أكبر من عمله. فهذا أحمد وجوه العزل وليس بعزل فى الحقيقة، وإنما هو نقل من عمل إلى ما هو أجلّ منه، فصار بهذا العزل زائد الرتبة. وقد قال بعض البلغاء: الناس فى العمل رجلان: رجل يجلّ به العمل لفضله ورياسته؛ ورجل يجلّ بالعمل لتقصيره ودناءته، فمن جلّ به العمل ازداد تواضعا وبشرا، ومن جلّ بالعمل ازداد ترفّعا وكبرا. والوجه السادس: أن يكون سببه وجود من هو أكفأ [2] منه. فيراعى حال الأكفأ، فإن كان فضل كفايته مؤثّرا فى زيادة العمل به كان عزل الناظر به من لوازم   [1] كذا فى قوانين الوزارة. وفى الأصل: «ما تدعو إليه السياسة فيه ... الخ» وظاهر أن كلمة «إليه» مقحمة لغير حاجة. [2] استعمال «أكفأ» بمعنى أكثر اضطلاعا بالأمر، من الخطأ المشهور، وكذلك كفء وأكفاء فى هذا المعنى، وانما الصواب لغة فى كل هذا: أكفى، وكاف، وكفاة، من الكفاية التى هى الاضطلاع بالأمر وحسن القيام به. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 119 السياسة ولم يسغ فيها إقراره على عمله؛ وإن لم يؤثّر فى زيادة العمل كان عزل الناظر من طريق الأولى فى تقديم الأكفاء وتخيّر الأعوان، وإن جاز فى السياسة إقرار الناظر على عمله لنهوضه به. والوجه السابع: أن يكون سببه أن يخطب عمله من الكفاة من يبذل زيادة فيه. فلا يجوز عزله ببذل الزيادة حتى يكشف عن سببها، فربما تخرّص [1] بها الباذل لرغبة فى العمل، أو لعداوة فى العامل. فإن لم يظهر لها بعد الكشف موجب لم يجز فى السياسة عزله بهذا البذل الكاذب؛ وكان الباذل جديرا بالإبعاد لابتدائه بالإدغال [2] . فإن ظهر موجب الزيادة لم يخل من ثلاثة أقسام: أحدها أن يكون لتقصير الناظر؛ فيجب عزله. والوزير بعد عزله بين خيارين: إما أن يقلّد الباذل أو غيره من الكفاة. والثانى أن يكون موجبها فضل كفاية الباذل؛ فيجب عزله بالباذل دون غيره. والثالث أن يكون سببها عسف الباذل وخرقه، فلا يجوز فى السياسة عزل الناظر ولا تقريب الباذل، فربما مال إلى الزيادة من تغاضى عن العدل، فعزل وقلّد فصار هو العاسف المجازف. والوجه الثامن: أن يكون سببه أن الناظر مؤتمن، فيخطب عمله ضامن. فتضمين الأعمال خارج عن قوانين السياسة العادلة، لأن المؤتمن عليها إذا كان كافيا استوفى ما وجب، وكفّ عما لم يجب؛ وهذا هو العدل. والضامن إن ضمنها بمثل ارتفاعها لم يؤثر، وإن ضمنها بأكثر منه تحكّم فى عمله، وكان بين عسف أو هرب، لأنه ضمن ليغنم لا ليغرم. وحكى أن المأمون عزم على تضمين السّواد، وعنده عبيد الله   [1] تخرص: افترى وكذب. وفى الأصل «فربما تحرص ... » ، وفى قوانين الوزارة «فربما يخرجه ... » . وما وضعناه يظهر أنه المناسب للسياق. فلعل ما فى الأصل يكون محرفا عنه. [2] الإدغال هنا: الوشاية والخيانة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 120 ابن الحسن العنبرىّ القاضى؛ فقال له: [يا أمير المؤمنين [1]] إن الله قد دفعها إليك أمانة، فلا تخرجها من يدك قبالة [2] . فعدل عن الضّمان. فهذا تفصيل ما تعلّق بوزارة التفويض من عقد وحل وتقليد وعزل. فلن ذكر حقوق الملك على وزيره وحقوق الوزير على ملكه . ذكر حقوق الملك على وزيره وحقوق الوزير على ملكه فأما حقوق السلطان على وزيره فهى ثلاثة: أحدها: قيامه بمصالح ملكه، وهى أربع: عمارة بلاده، وتقويم أجناده، وتثمير أمواله، وحياطة رعيّته. والثانى: قيامه بمصالح نفسه، وهى أربع: إدرار [3] كفايته، وتحمّل عوارضه، وتهذيب حاشيته، وإعداد ما يستدفع به النوائب. والثالث: قيامه بمقاومة أعدائه، وذلك بأربعة أشياء: تحصين الثّغور، واستكمال العدّة، وترتيب العساكر، وتقدير الحدود. فيجب على الوزير أن يؤدّى حقوق سلطانه، ويوفّى شروط ائتمانه؛ ويحذر بادرة مؤاخذته إن قصّر، وسطوة انتقامه إن فرّط؛ لأن بادرة الانتقام، أسرع من ظهور الإنعام؛ [لأن الانتقام يصدر عن طيش الغضب، والإنعام يصدر عن أناة الكرم [4]] . وقد قيل فى حكم الفرس: ما أضعف طمع صاحب   [1] زيادة عن «قوانين الوزارة» . [2] القبالة: الكفالة. من قبل (من باب نصر وضرب وسمع) بمعنى كفل. ومعناها هنا: أن يعطى السلطان عاملا أو أن يقبل العامل عملا من أعمال السلطان يستغله فى مقابل مقدار معين من المال يتكفل بأدائه إليه. [3] كذا بالاصل، وفى قوانين الوزارة «إدراك» . [4] زيادة عن «قوانين الوزارة» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 121 السلطان فى السلامة. وذلك أنّه إن عفّ جنى عليه العفاف عداوة الخاصة، وإن بسط يده جنى عليه البسط ألسنة المتنصّحين. فلزم لذلك أن يكون حذره أغلب من رجائه، وخوفه أكثر من أمنه. ولئن تكدّر بهما العيش فهما إلى السلامة أدعى. وأما حقوق الوزير على السلطان فثلاثة: أحدها: معونته على نظره. وذلك بأربعة أشياء: تقوية يده، وتنفيذ أمره، وإطلاق كفايته، وألّا يجعل لغيره عليه أمرا. وقد قال سابور بن أردشير فى عهده إلى ابنه هرمز: ينبغى للوزير أن يكون قوىّ الأمر، مقبول القول، يمنعه مكانه منك، من الضراعة لغيرك، وتبعته الثّقة بك، على بذل النصيحة لك، ويشجّعه ما يعرف من رأيك، على مقاومة أعدائك؛ وأحذّرك أن تنزل بهذه المنزلة من سواه من خدمك. والثانى: أن يثق منه بأربعة أشياء: ألّا يؤاخذه بغير ذنب، وألّا يطمع فى ماله من غير خيانة، وألّا يقدّم عليه من هو دونه، وألّا يمكّن منه عدوّا. وقد عهد ملك إلى ابنه فقال: يا بنىّ، إنّك لن تصل إلى إحكام ما تريده من تدبير ملكك إلا بمعونة وزرائك وأعوانك، فأعنهم على طاعتك بمياسرتك، وعلى معونتك بمساعدتك. والثالث: أن يحفظ منزلته من أربعة أشياء: [الأوّل [1]] ألّا يرتاب بباطنه وظاهره سليم، فيؤاخذ بالظن، ويعجز عن دفعه باليقين؛ فليس يؤاخذ بضمائر القلوب، إلّا علّام الغيوب. قيل لكسرى قباذ: إنّ قوما من خواصّك قد فسدت سرائرهم؛ فوقّع: أنا أملك الأجساد دون النيّات، وأحكم بالعدل لا بالرضا، وأفحص عن الأعمال لا عن السرائر. والثانى: ألّا يستبدل به ونظره مستقيم، فيقلّ نفعه، ويضعف   [1] زيادة يقتضيها السياق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 122 نشاطه، ولا يجهد نفسه فى النهوض بما كلّفه؛ فإن داعى الطبع أبلغ من مصنوع التكلّف. وقد اتّخذه لاستقامة وجدها به. فإذا أضاع حقّه بالاستبدال ظلم نفسه، وكان من غيره على خطر. وقد قال كسرى: الوزارة أبعد الأمور من أن تحتمل غير أهلها. لأن الوزير من الملك بمنزلة سمعه وبصره ولسانه وقلبه، لأنه مغلق الأبواب، مستور عن الأبصار؛ ليحفظه فى أمواله، ويستر خلله فى أفعاله؛ وحقيق بمن [1] كان بهذه المنزلة أن يكون محفوظا. والثالث: ألّا يؤاخذه بدرك ما جرّه القضاء وساقه القدر، فيجعله غرضا فى معارضة خالقه. وهل الوزير فيه إلا كالملك! فأفعال الله عزّ وجلّ لا تكون ذنوبا لعباده. وقد روى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره سلب ذوى العقول عقولهم حتى ينفذ فيهم قضاؤه وقدره» [2] . والرابع: ألّا يحمّله ما ليس فى قدرته، ولا يكلّفه ما ليس فى طاقته، فلا يكلّف الله نفسا إلّا وسعها. وما ذاك إلّا من دواعى التّجنّى، ومبادئ التنكّر. فهذه حقوق الوزير على سلطانه. وهى مقابلة لحقوق السلطان على وزيره. لكنّ حقوق الوزير موضوعة على المسامحة فى أكثرها، وحقوق السلطان موضوعة على المؤاخذة بأقلها؛ لاستطالته عليه بالقدرة وقصوره عنه بالنيابة. وحيث ذكرنا هذه الحقوق الداخلة فى وزارة التفويض فلنذكر وزارة التنفيذ.   [1] فى الأصل «وحقيق على من ... » . [2] هكذا فى الأصل وفى قوانين الوزارة وفى مسند الفردوس للديلمىّ. وفى الجامع الصغير زيادة نصها: «فإذا مضى أمره ردّ إليهم عقولهم ووقعت الندامة» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 123 ذكر وزارة التنفيذ قال الماوردىّ ما معناه: إنّ لوزارة التنفيذ أربعة قوانين: فالأوّل من قوانينها: السّفارة بين الملك وأهل مملكته، لأن الملك معظّم بالحجاب، مصون عن المباشرة بالخطاب؛ فاقتضى ذلك اختصاصه بسفير محتشم ووزير معظّم مطاع فيما يورده عنه من الأوامر والنواهى، ويهاب فيما يتحمله إليه من المطالب والمباغى. ليكون للملك لسانا ناطقا، وأذنا واعية. وهذه السّفارة مختصّة بخمسة أصناف: أحدها: السّفارة بين الملك وأجناده، فيحملهم على أوامره ونواهيه، ويتنجّز لهم من [1] الملك ما استوجبوه أو سألوه. ويحتاج فى سفارته معهم أن يجمع بين اللّين والعنف، والخشونة واللّطف، ليقتادهم [2] إلى طاعته بالرغبة والرهبة. والثانى: السفارة بين الملك وعمّاله، فيستوفى مناظرة العمّال ويتصفّح أحوال الأعمال؛ ليستدرك خللا إن كان، ويستديم صلاحا إن وجد. ويحتاج فى هذه السفارة إلى استعمال الرّهبة خاصّة؛ ليكفّهم عن الخيانة، ويبعثهم على الأمانة. والثالث: السّفارة بين الملك ورعيّته، ليتصدّى لإنصافهم، ويصغى إلى ظلاماتهم؛ فيمضى ما تيسّر له، وينهى ما تعسّر عليه. ويحتاج فى هذه السفارة إلى استعمال اللّين واللّطف؛ ليصلوا إلى استيفاء الظّلامة، ويستدفعوا ذلّ الاستضامة.   [1] فى الأصل «عن الملك» . [2] فى الأصل: «لا يفتادهم ... » وظاهر أنه تحريف. وفى «قوانين الوزارة» لانقيادهم ... » وهذا أيضا لا يتفق مع السياق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 124 والرابع: السفارة فى استيفاء حقوق السّلطنة التى للملك وعليه، من غير مباشرة قبض ولا إقباض [1] . ويحتاج فى هذه السفارة إلى الرهبة فيما يستوفيه للملك، وإلى اللّطف فيما يتنجّزه منه. والخامس السفارة فى اختيار العمّال، ومشارفة الأعمال؛ لينهى حال من يرى تقليده وعزله من غير أن يباشر تقليدا ولا عزلا؛ لانّ التقليد والعزل داخل فى وزارة التفويض خارج عن وزارة التنفيذ. وشروط هذه السفارة: أن يكون جيّد الحدس، صحيح الاختيار، قليل الاغترار، عارفا بكفاة [2] العمّال ومقادير الأعمال، ليحمد اختياره، ويقلّ عثاره. والثانى من قوانينها: أن يمدّ الملك برأيه ومشورته؛ فإن الملك مع جزالة رأيه وصحّة رويّته محجوب الشخص عن مباشرة الأمور، فصار محجوب الرأى عن الخبرة بها. فاحتاج إلى بارز الشخص بالمباشرة، ليكون بارز الرأى بالخبرة؛ فليس الشاهد كالغائب، ولا المخبر كالمعاين. والوزير أحقّ بهذه المرتبة. وله فى المشورة حالتان: إحداهما: أن يبتدئه الملك بالاستشارة، فيلزمه أن يشير فيها برأيه سواء اختصّت بملكه أو تعدّت إلى غيره. وعلى الوزير فيها حقّان: أحدهما: اجتهاد رأيه فى إيضاح الصواب. والثانى: إبانة صحّته بتعليل الجواب ليكون مجيبا ومحتجّا؛ فيكفى توهّم الزّلل ويسلم من ظنّة الارتياب.   [1] قبض وإقباض: أى تسلم وتسليم. والموجود فى كتب اللغة التى بين أيدينا متعديا من هذه المادة «قبّض» بالتضعيف. ويصح «إقباض» على القول بأن تعدية الفعل بالهمزة قياسية. [2] كفاة: جمع كافى، من الكفاية وهى الاضطلاع بالأمر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 125 والحالة الثانية: أن يبتدئ الوزير بالمشورة على الملك، فله فيها حالتان: إحداهما: ألّا يقع بمشورته اجتلاب نفع ولا استدفاع ضرر. فهذا تجوّز من الوزير، وتبسّط على الملك؛ إن أنكره فبحقه، وإن احتمله فبفضله. والثانية: أن يتعلّق بمشورته اجتلاب نفع، أو استدفاع ضرر. فإن اختصّ بالمملكة كان من حقوق الوزارة، وإن تجاوزها كان من نصح الوزير. وعليه أن يذكر سبب ابتدائه، ويوضّح صواب رأيه. ويلزمه فيما يؤدّى به من الاستشارة ويبدأ به من المشورة، أن يكتمه عن كل خاصّ وعامّ؛ لأمرين: أحدهما: أن الرأى لا يجب أن يظهر إلا بالأفعال دون الأقوال؛ لأن ظهوره بالفعل ظفر، وظهوره بالقول خطر. وقد قيل: من وهن الأمر إعلانه قبل إحكامه. والثانى: أنه من أسرار الملك التى يجب أن تكتم فى الصدور، وتصان عن الظهور؛ ليجمع بين تأدية الأمانة وطلب السلامة؛ فإن فى إفشاء سرّ الملك خطرا به وبمن أفشاه. وقلّما تعفو الملوك عن مفشى أسرارها؛ لتردّده بين خيانة وجناية. والثالث من قوانينها: أن يكون عينا للملك ناظرة، وأذنا سامعة، ينهى ما شاهد على حقّه، ويخبر بما سمع على صدقه؛ لأنه قد سوهم فى الملك وميّز بالاختصاص، وندب للمصالح؛ فهو القائم مقام الملك فى مشاهدة ما غاب، وسماع ما بعد. وعليه فى ذلك ثلاثة حقوق: أحدها: أن يديم الفحص عن أحوال المملكة حتى يعلم ما غاب كعلمه بما حضر، وما خفى كعلمه بما ظهر؛ فلا يتدلّس عليه حقّ أمر [1] من باطله، ولا يشتبه   [1] كذا فى قوانين الوزارة. وفى الأصل: «حق امرئ ... » . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 126 عليه صدق قوى من كذبه. فإن قصّر فيها حتى خفيت، أو استرسل فيها حتى تدلّست كان مؤاخذا بجرم التقصير، وجريرة الضرر. والثانى: أن يعجّل مطالعة الملك بها ولا يؤخّرها، وإن جاز تأخير العمل بها؛ لأن عليه الإنهاء، وليس عليه العمل. وإذ كان من الملك بمنزلة عينه وأذنه اللتين يتعجّل [العلم [1]] بهما، وجب أن يجرى معه على حكمهما؛ ليستدرك الملك ما يجب تعجيله، ويقدّم الرّويّة فيما يجوز تأخيره. فإن أخّر الوزير إعلام الملك بها وقد حسم ضررها، كان للنصيحة مؤدّيا، ومن الملك على وجل. والثالث: أن يوضّح له حقائق الأمور، ويساوى فيها بين الصغير والكبير، فلا يمايل [2] قريبا، ولا يتحيّف بعيدا، ولا يعظّم من الأمور صغيرا، ولا يصغّر منها عظيما. فإن خاف من صغار الأمور أن تصير كبارا، أو كبارها أن تعود صغارا، أخبر بحقائقها فى المبادئ، وذكر ما تؤول إليه فى العواقب؛ ليكون بالمبادئ مخبرا، وفى الغايات مشيرا. فإن أخبر بالغايات وأعرض عن ذكر المبادئ، كان تدليسا، وكان بالإنكار حقيقا وبالذمّ جديرا. والرابع من قوانينها: أن يفتدى راحة الملك بتعبه، ويقى دعته بنصبه؛ ولا يغيب إذا أريد، ولا يسأم إذا أعيد؛ لأنه لسان الملك إذا نطق، وعينه إذا رمق، ويده إذا بطش؛ فلا يبعد عن دعائه، ولا يضجر من ندائه؛ لأن عوارض الملك من هواجس أفكاره وتقلّب خاطره. وقد يتجدّد مع الأوقات ما لا [3] تعرف أسبابه، ولا تتعيّن   [1] زيادة عن «قوانين الوزارة» . [2] مايله: مالأه وساعده. [3] كذا فى قوانين الوزارة. وهو الذى ينسجم به الكلام. وفى الأصل: ما لم تعرف ... » . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 127 أوقاته؛ فليكن هذا [1] الوزير على رصد منها. وربما ملّ الوزير الملازمة فأعقبته أسفا إذا فارقها، لأن فى ملازمته للملك نصبا يقترن بعزّ، وفى متاركته راحة تؤول إلى ذلّ. فليختر لنفسه ما وافقها من عز يجتذبه بالكدّ، أو ذلّ يؤول إليه بالدّعة. فإنه إن صبر على ما أراده الملك ظفر بإرادته من الملك، وهو على الضدّ إن خالفها. وقد قال أنوشروان: ما استنجحت الأمور بمثل الصبر، ولا اكتسبت البغضاء بمثل الكبر. وقيل: من خدم السلطان خدمه الإخوان. فيطّرد على هذا التعليل أنّ من تنكّر له السلطان، تنكّر له الإخوان. هذه قوانين وزارة التنفيذ. ذكر ما تتميز به وزارة التفويض على وزارة التنفيذ وما تختلف فيه. وتتميز وزارة التفويض على وزارة التنفيذ وتختلف من ستة أوجه: أحدها: أن الملك يقلّد وزير التفويض فى حقوقه وحقوق رعيته، ويقلّد وزير التنفيذ فى حقوقه خاصة دون حقوق رعيته؛ لأنّ وزير التفويض تنفّذ الأمور برأيه، ووزير التنفيذ يمضيها بأمر الملك وعن رأيه. والثانى: أن وزارة التفويض تفتقر إلى عقد يصح به نفوذ أفعاله، ووزارة التنفيد لا تفتقر إلى عقد، لأنه فيها مأمور بتنفيذ ما صدر عن أمر الملك. والثالث: أن وزير التفويض مأخوذ بدرك ما أمضاه، ووزير التنفيذ غير مؤاخذ بدركه. والرابع: أن وزير التفويض لا ينعزل إلا بالقول أو ما فى معناه دون المتاركة، [لأنّه قد تملّك بها مباشرة الأمور [2]] ، ووزير التنفيذ ينعزل بالمتاركة لأنه مأمور.   [1] ظاهر أن كلمة «هذا» هنا قلقة فى مكانها إلا أذا أريد الإشارة الى الوزير الذى سيق الكلام فيه وهو وزير التنفيذ دون وزير التقليد. [2] زيادة عن «قوانين الوزارة» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 128 والخامس: أن وزير التفويض لا ينعزل إن كفّ وترك، حتى يستعفى ويعفيه الملك منها، لأنه مستودع الأعمال فلزمه ردّها إلى مستحقّها، ووزير التنفيذ يجوز أن ينعزل بعزل نفسه بالكفّ والمتاركة، لأنه لا شىء بيده فيؤخذ بردّه. والسادس: أن وزير التفويض يفتقر إلى كفاية بالسيف والقلم، لنهوضه بما أوجبهما، ووزارة التنفيذ غير مفتقرة إليهما لقصورها عنهما. ويعتبر فى وزير التنفيذ ستة أوصاف: وهى الأبّهة والمنّة والهمّة والعفّة والمروءة وجزالة الرأى. وهذه الأوصاف معتبرة فى كل مدبّر ذى رياسة. ذكر حقوق الوزارة وعهودها ووصايا الوزراء أما حقوق الوزارة- فهى أن تقلّد لمن اجتمعت فيه ثمانية أوصاف، وهى التى ذكرها الماوردىّ فى قوانين الوزارة، وبيّنها بالنص والتعيين لا بالتعريض والإشارة: فأحدها: أن يكون بأعباء الوزارة ناهضا، وفى مصالح المملكة راكضا؛ يقدّم حظّ الملك على حظ نفسه ويعلم أن صلاحه مقترن بصلاحه؛ فلن تستقيم أحوال الوزير مع اختلال أحوال الملك، لأن الفروع إنما تستمدّ من أصولها. والثانى: أن يكون على الكدّ والتعب قادرا، وفى السخط والرضا صابرا؛ لا ينفر ان أوحش، فإن نفوره عطب. وليتوصل إلى راحته بالتعب، والى دعته بالنصب. وقد قيل: علّة الراحة قلّة الاستراحة. وقال عبد الحميد: أتعب قدمك، فكم تعب قدّمك!. فإن تشاغل الوزير براحته، ومال إلى لذّته، سلبهما بالتنكّر، وعدمهما بالتغيّر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 129 والثالث: أن يكون لإحسان الملك شاكرا، ولإساءته عاذرا، يشكر على يسير الإحسان، ويعذر على كثير الإساءة، ليستمدّ بالشكر إحسانه، ويستدفع بالعذر إساءته. فإن عدل عنهما، كان منه على ضدّهما. فقد قيل: أحق الناس بالمنع الكفور، وبالصنيعة الشّكور. والرابع: أن يظهر محاسنه إن خفيت، ويستر مساويه إن ظهرت، لأنه بمحاسنه موسوم وبمساويه مقروف، يشاركه فى حمد محاسنه، ويؤاخذ بذمّ مساويه. وربما استرسل الملك لثقته بالاحتجاب، فارتكب بالهوى ما يصان عن إذا عته، فكان الوزير أحقّ بستره عليه، لأنه الباب المسلوك منه إليه. والخامس: أن تخلص نيّته فى طاعته، ويكون سرّه كعلانيته، فإن القلوب جاذبة تملك أعنة الأجساد؛ فإن اتفقا، وإلا فالقلب أغلب، وإلى مراده أجذب. والقلوب تنمّ على الضمائر فتهتك أستارها وتذيع أسرارها. وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «فى [1] ابن آدم مضغة إذا صلحت صلح الجسد وإذا فسدت فسد الجسد ألا وهى القلب» . والسادس: ألّا يعارض الملك فيمن قرّب واستبطن، ولا يماريه فيمن حطّ ورفع؛ فإنه يتحكّم بقدرته ويأنف من معارضته. فربما انقلب بسطوته إذا عورض، ومال بانتقامه إذا خولف. فبوادر الملك تسبق نذيرها، وتدحض أسيرها؛ فإن سلم من الخطر لم يسلم من الضجر.   [1] كذا فى الأصل وفى قوانين الوزارة. غير أن الأصل لم تذكر به كلمة «الجسد» فى الموضعين، ونصه فى البخارىّ من حديث طويل «ألا وإنّ فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهى القلب» وفى النهاية لابن الأثير «إنّ فى ابن آدم مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 130 والسابع: أن يتقاصر عن مشاكلة الملك فى رتبته، ويقبض نفسه عن مثل هيئته، فلا يلبس مثل ملابسه، ولا يركب مثل مراكبه، ولا يستخدم مثل خدمه؛ فإن الملك يأنف إن موثل، وينتقم إن شوكل، ويرى أن ذلك من أمواله المحتاجة، وحشمته المستباحة. وليقتصر على نظافة لباسه وجسده من غير تصنّع، فإن النظافة من المروءة، والتّصنّع للنساء؛ ليكون بالسلامة محفوظا، وبالحشمة ملحوظا. والثامن: أن يستوفى للملك ولا يستوفى عليه، ويتأوّل له ولا يتأول عليه؛ فإن الملك إذا أراد الإنصاف كان عليه أقدر، وإن لم يرده فيد الوزير معه أقصر؛ وإنما أراد الوزير عونا لنفسه ولم يرده عونا عليها. فإن وجد إلى مساعدته سبيلا سارع إليها، وإن خاف ضررها وانتشار الفساد بها تلطّف فى كفّه عنها إن قدر. فإن تعذّر عليه تلطّف فى الخلاص منها؛ ولا يجهر بالمخالفة. سئل بعض حكماء الروم عن أصلح ما عوشر به الملوك، فقال: قلة الخلاف وتخفيف المؤنة. والملوك لا يصحبون [1] إلا على اختيارهم، ولا يتمسّكون إلا بمن وافقهم على آرائهم. وإذا روعيت أحوال الناس وجدوا لا يأتلفون إلا بالموافقة، فكيف الملوك! قال شاعر: الناس إن وافقتهم عذبوا ... أو لا فإنّ جناهم مرّ كم من رياض لا أنيس بها ... تركت لأنّ طريقها وعر وأما عهودها ووصاياها- فلم أر فيما طالعته فى هذا المعنى أشمل ولا أكمل ولا أنفع ولا أجمع من كلام لأبى الحسن الماوردىّ؛ فلذلك أوردته بفصّه، وأتيت على أكثر نصّه.   [1] فى الأصل: «لا تصحب» وهو وإن صح الا أنه لا يتناسب مع الضمائر التى بعده. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 131 قال الماوردى: فأما العهود الموقظة فسأقول، وأرجو أن يقترن بالقبول: اجعل أيها الوزير لله تعالى على سرّك رقيبا يلاحظك من زيغ فى حقه، واجعل لسلطانك على خلوتك رقيبا يكفّك عن تقصير فى أمره؛ ليسلم دينك فى حقوق الله تعالى، وتسلم دنياك فى حقوق سلطانك، فتسعد فى عاجلتك وآجلتك. فإن تنافى اجتماعهما لك فقدّم حقّ الله تعالى على حق الملك. فلا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق. وقد روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحبّ دنياه أضرّ بآخرته ومن أحبّ آخرته أضرّ بدنياه [فآثروا [1] ما يبقى على ما يفنى] » وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من التمس رضا الله بسخط الناس رضى الله عنه وأرضى عنه الناس» . قال: حقّ [2] عليك أيها الوزير أن تكون بأمور الناس خبيرا، وإلى أحوالهم متطلّعا، وبهم على نفسك وعليهم مستظهرا، لأنهم من بين من تسوسه أو تستعين به، لتعلم ما فيهم من فضل ونقص وعلم وجهل وخير وشرّ، وتتحرّز من غرور المتشبه [3] وتدليس المتصنّع؛ فتعطى كل واحد حقّه، ولا تقصّر بذى فضل، ولا تعتمد على ذى جهل. فقد قيل: من الجهل صحبة ذوى الجهل، ومن المحال مجادلة ذوى المحال. وافرق بين الأخيار والأشرار، فإنّ ذا الخير يبنى، وذا الشرّ يهدم. واحذر الكذوب فلن ينصحك من غشّ نفسه؛ ولن ينفعك من ضرّها. ولا تستكفين عاجزا فيضيّع العمل، ولا شرها فيضرّك باحتجانه [4] . ولا تعبأ بمن لا يحافظ على المروءة، فقلما تجد فيه خيرا؛ لزهده فى صيانة النفس وميله إلى خمول القدر. وبعيد ممن أسقط حق   [1] تتمة الحديث عن قوانين الوزارة وعن الجامع الصغير. [2] كذا فى قوانين الوزارة، وفى الأصل «حقيق» وهو غير ملائم لما هنا. [3] كذا فى قوانين الوزارة، ولعل المتشبه: من يظهر بغير ما فطر عليه من صفات ومواهب، بأن يظهر مظهر ذى الكفاية والفضل وليس به. وفى الأصل: «المشيه» وهو تحريف. [4] احتجن المال: ضمه لنفسه واحتواه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 132 نفسه أن يقوم بحق غيره، وصعب على من ألف إسقاط التكلف أن يحول عنه. وقد قيل فى حكم الهند: ذو المروءة يرتفع بها، وتاركها يهبط؛ والارتقاء صعب والانحطاط هين، كالحجر الثقيل الذى رفعه عسير وحطّه يسير. وقال بعض البلغاء: أحسن رعاية ذوى الحرمات، وأقبل على أهل المروءات؛ فإن رعاية [ذوى [1]] الحرمة تدلّ على كرم الشيمة، والإقبال على ذوى المروءة يعرب عن شرف الهمة [2] . إختبر أحوال من استكفيته لتعلم عجزه من كفايته، وإحسانه من إساءته؛ فتعمل بما علمت من إقرار الكافى وصرف العاجز، وحمد المحسن وذمّ المسىء. فقد قيل: من استكفى الكفاة، كفى العداة. فإن التبست عليك [أمورهم [3]] أوهنت الكافى وسلّطت العاجز، وأضعت المحسن وأغريت المسىء. ولأن يكون العمل خاليا فتصرف إليه فكرك أولى من أن يباشره عاجز أو خائن فيقبح بهما أثرك. فاحذر العاجز فإنه مضيّع، وتوقّ الخائن فإنه يكدح لنفسه. قال شاعر: إذا أنت حمّلت الخؤون أمانة ... فإنك قد أسندتها شرّ مسند اقتصر فى أعوانك بحسب حاجتك إليهم. ولا تستكثر منهم لتكثر بهم. فلن يخلو الاستكثار من تنافر يقع به الخلل، أو اتّفاق يستأكل به العمل. وليكن أعوانك وفق أعمالك، فإنه أنظم للشّمل وأجمع للعمل وأبلغ فى الاجتهاد وأبعث على النصح. قال ابن الرومى: عدوّك من صديقك مستفاد ... فلا تستكثرنّ من الصّحاب فإنّ الداء أكثر ما تراه ... يكون من الطعام أو الشراب   [1] التكملة عن قوانين الوزارة. [2] كذا فى قوانين الوزارة، وفى الأصل: «والإقبال على ذوى المروءة يعرف من شرف المروءة» . [3] التكملة عن قوانين الوزارة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 133 فدع عنك الكثير فكم كثير ... يعاف وكم قليل مستطاب فما اللّجج الملاح بمرويات ... وتلقى الرّىّ فى النّطف العذاب هذّب نفسك من الدنس تتهذب جميع أتباعك. ونزّه نفسك عن الطمع تتنزه جميع خلفائك. وتوقّ الشره فلن يزيدك إلا حرصا إن أجديت، ونقصا إن أكديت [1] ، وهما معرّة ذى الفضل ومضرّة أولى الحزم. روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اقتربت [2] الساعة ولا يزداد الناس فى الدنيا إلا حرصا ولا تزداد منهم إلا بعدا» . رض نفسك عن الطمع يتنزه جميع عمّالك، وتنتظم بك جميع أعمالك [3] . ولا تكل إلى غيرك ما تختصّ بمباشرته [4] طلبا للدّعة، فتعزل عنه نفسك وتؤثر به غيرك؛ فتكون من وفائه على غدر، ومن نفسك على تقصير. قال بزرجمهر: إن يكن الشغل مجهدة، فإن الفراغ مفسدة. وقال عبد الحميد: ما زانك ما أضاع زمانك، ولا شانك ما أصلح شانك. اجعل زمان فراغك مصروفا إلى حالتين: إحداهما راحة جسدك وإجمام خاطرك، ليكونا عونا لك على نظرك. والثانية أن تفكر بعد راحة جسدك وإجمام خاطرك فيما قدّمته من أفعالك، وتصرّفت فيه من أعمالك: هل وافقت الصواب   [1] أجدى: أصاب الجدوى وظفر بما يريد. والجدوى: العطية. وأكدى: أخفق ولم يظفر بحاجته، أى ان الشره يزيد صاحبه مع الفوز حرصا، ومع الإخفاق نقصا. [2] نصه فى الجامع الصغير: «اقتربت الساعة ولا يزداد الناس على الدنيا إلا حرصا ولا يزدادون من الله إلا بعدا» . وفى مسند الفردوس للديلمىّ كرواية الاصل إلا أنه يتفق مع رواية الجامع الصغير فى «على الدنيا» بدل «فى الدنيا» . [3] كذا فى الاصل والذى فى قوانين الوزارة: «رض نفسك بمشارفة الأعمال يرهبك جميع عمالك وينتظم به جميع أعمالك» . [4] فى قوانين الوزارة: «ما يختص بمباشرتك ... » . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 134 فيه فتقوّيه وتجعله مثالا تحتذيه، أو نالك فيها زلل فتستدرك منه ما أمكن، وتنتهى عن مثله فى المستقبل. فقد قيل: من فكّر أبصر. وقال بعض البلغاء: من لم يكن له من نفسه واعظ، لم تنفعه المواعظ. اخفض جناحك لمن علا، ووطّئ كنفك لمن دنا، وتجاف [عن [1]] الكبر تملك من القلوب مودّتها، ومن النفوس مساعدتها. فقد قيل لحكيم الروم: من أضيق الناس طريقا، وأقلّهم صديقا؟ قال: من عاشر الناس بعبوس وجهه، واستطال عليهم بنفسه. ولذلك قيل: التواضع فى الشرف، أشرف من الشرف. كن شكورا فى النعمة، صبورا فى الشدّة، لا تبطرك السراء، ولا تدهشك الضراء؛ لنتكافأ أحوالك، وتعتدل خصالك؛ فتسلم من طيش البطر وحيرة الدّهش. فقد قال بعض الحكماء: اشتغل بشكر النعمة عن البطر بها. وقيل فى أمثال الهند: العاقل لا يبطر بمنزلة أصابها ولا شرف وإن عظم، كالجبل الذى لا يتزلزل وإن اشتدّت الرياح، والسخيف تبطره أدنى منزلة كالحشيش الذى تحرّكه أدنى ريح. استدم مودّة وليّك بالإحسان [إليه [2]] ، واستسلّ سخيمة عدوّك بعد الاحتراز منه، وداهن من يجاهرك بعداوتك. فقد قيل لبعض الحكماء: ما الحزم؟ قال: مداجاة الأعداء، ومؤاخاة الأكفاء. ولا تعوّل على التهم والظنون [واطّرح الشك باليقين [3]] . فقد قيل: لا يفسدك الظن على صديق قد أصلحك اليقين له. قال شاعر: إذا أنت لم تبرح تظنّ وتقتضى ... على الظن أردتك الظنون الكواذب واختبر من اشتبهت حاله عليك، لتعلم معتقده فيك، فتدرى أين تضعه منك؛ فإن الألسن لا تصدق عن القلوب؛ لما يتصنّعه المداجى ويتكلّفه المداهن. وشهادات   [1] زيادة عن «قوانين الوزارة» . [2] زيادة عن «قوانين الوزارة» . [3] زيادة عن «قوانين الوزارة» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 135 القلوب أصدق، ودلائل النفوس أوثق. فإن وقفت بك الحال على الارتياب، اعتقدت المودّة فى ظاهره، وأخذت بالحزم فى باطنه. وإذا أقنعك الإغضاء عن الاختبار فلا تتخطّه، فأكثر الأمور تمشى على التغافل والإغضاء. فقد قال أكثم بن صيفىّ: من تشدّد نفرّ، ومن تراخى تألّف، والسّرو [1] فى التغافل. ولقلما جوهر المغضى وقوطع المتغافل، مع انعطاف القلوب عليه، وميل النفوس إليه. وهذا من أسباب السعادة وحسن التوفيق. شاور فى أمورك من تثق منه بثلاث خصال: صواب الرأى، وخلوص النية، وكتمان السرّ. فلا عار عليك أن تستشير من هو دونك إذا كان بالشورى خبيرا؛ فإن لكل ذى عقل ذخيرة من الرأى وحظّا من الصواب، فتزداد برأى غيرك [وإن كان رأيك [2]] جزلا، كما يزداد البحر بموادّه من الأنهار وإن كان غزيرا. وقد يفضل المستشير على المشير؛ ويظفر المشير بالرأى، لأنها ضالّة يظفر بها من وجدها من فاضل ومفضول. وعوّل على استشارة من جرّب الأمور وخبرها، وتقلّب فيها وباشرها، حتى عرف مواردها ومصادرها، فلن يخفى عليه خيرها وشرها، ما لم يوهنه ضعف الهرم. واعدل عن استشارة من قصد موافقتك متابعة لهواك، أو اعتمد مخالفتك انحرافا عنك، وعوّل على من توخّى الحق لك وعليك. فقد قيل فى قديم الحكم: من التمس الرّخص من الإخوان فى الرأى، ومن الأطبّاء فى المرض، ومن الفقهاء فى الشّبه، أخطأ الرأى، وزاد فى المرض، واحتمل الوزر. ولا تؤاخذ من استشرت بدرك [3] الرأى   [1] فى الأصل «والسرور فى التغافل» وفى «كتاب التاج فى أخلاق الملوك» طبع المطبعة الأميرية ص 57 و 103: «السر والتغافل» فكلمة «السرور» فى الأصل محرفة عن السرو. والسرو: السخاء فى مروءة. [2] التكملة عن قوانين الوزارة. [3] الدرك: التبعة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 136 إن زلّ، فما عليه إلا الاجتهاد وإن حجزته الأقدار عن الظّفر. فقد قيل فى منثور الحكم: من كثر صوابه لم يطّرح لقليل الخطأ. اختر لأسرارك من تثق بدينه وكتمانه، وتسلم من إذاعته وإدلاله، ولو قدرت ألّا تودع سرك غيرك، كان أولى بك وأسلم لك؛ لأنك فيها بين خطر أو حذر. وقد قيل فى منثور الحكم: انفرد بسرك ولا تودعه حازما فيزلّ، ولا جاهلا فيخون. تثبّت فيما لا تقدر على استدراكه؛ فقلّما تعقب العجلة إلا ندما. روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من تأنّى أصاب أو كاد ومن عجل أخطأ أو كاد» . وقيل فى حكمة آل داود: من كان ذا تؤدة وصف بالحكمة. وقدّم ما قدرت عليه من المعروف، فقلما يعقب الريث إلا فواتا؛ فإن للقدرة غاية، ولنفوذ الأمر نهاية [1] ، فاغتنمها فى مكنتك تسعد بما قدّمته، ويسعد بك من أعنته. قال علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: انتهزوا الفرصة فإنها تمرّ مرّ السحاب. وقال بعض الحكماء: من أخّر الفرصة عن وقتها، فليكن على ثقة من فوتها. واحذر قبول المدح من المتملّقين، فإن النّفاق مركوز فى طباعهم، ويداجونك بهيّن عليهم [2] ؛ فإن نفّقوا عليك غششت نفسك، وداهنت حسّك؛ وأنت أعرف بنفسك من غيرك فيما تستحق به حمدا أو ذمّا. فناصح نفسك بما فيها، فإنك أعلم بمحاسنها ومساويها. فقد قيل فيما أنزل الله تعالى من الكتب السالفة: «عجب لمن قيل فيه الخير وليس فيه كيف يفرح! وعجب لمن قيل فيه الشر وهو فيه كيف   [1] كذا فى قوانين الوزارة، وفى الأصل: «ولنفوذ القدر ... » . [2] كذا فى قوانين الوزارة. ولعل المراد بالهين عليهم: المدح الذى لا يكلفهم شيئا. وفى الأصل: «ويد اخوتك تهون عليهم» وهو ظاهر التحريف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 137 يغضب!» . وقال بعض البلغاء: من أظهر شكرك فيما لم تأت إليه فاحذره أن يكفر نعمك فيما أسديت إليه. ففوّض مدحك إلى أفعالك، فإنها تمدحك بصدق إن أحسنت، وتذمّك بحقّ إن أسأت. ولا تغترّ بمخادعة اللسان الكذوب. فقد قيل: أبصر الناس من أحاط بذنوبه، ووقف على عيوبه. وكتب حكيم الروم إلى الإسكندر: لا ترغب فى الكرامة التى تنالها من الناس كرها، ولكن فى التى تستحقّها بحسن الأثر وصواب التدبير. اعتمد بنظرك إحماد سلطانك وشكر رعيتك، تكن أيّامك سعيدة، وأفعالك محمودة، والناس بك مسرورين، ولك أعوانا مساعدين؛ ويبقى بعدك [فى الدنيا [1]] جميل أثرك، وفى الآخرة جزيل أجرك. واستعذ بالله من صدّها فتعدل بك إلى ضدّها، فإن الولايات كالمحكّ تظهر جواهر أربابها، فمنهم نازل مرذول ومنهم صاعد مقبول. فقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أحسنوا جوار نعم الله فقلما زالت عن قوم فعادت إليهم» . وتعرّض رجل ليحيى بن خالد وهو على الجسر بكتاب وسأله أن يختمه؛ فقال: يا غلام اختم كتابه ما دام الطين رطبا، ثم أنشد: إذا هبّت رياحك فاغتنمها ... وجد فلكلّ [2] خافقة سكون ولا تغفل عن الإحسان فيها ... فما تدرى السكون متى يكون إذا نلت من سلطانك حظّا، وأوجبت عليه بخدمتك حقّا، فلا تستوفه، ودع لنفسك بقيّة يدّخرها لك ويراها حقا من حقوقك، ويكون كفيل أدائها إليك. فإن استوفيتها برئ وصرت إلى غاية ليس بعدها إلا النقصان. قال الشاعر: إذا تمّ أمر بدا نقصه ... توقّع زوالا إذا قيل تمّ   [1] زيادة من قوانين الوزارة. [2] فى قوانين الوزارة: «فإن لكل ... » . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 138 واعلم أنك مرصد لحوائج الناس، لأنّ بيدك أزمّة الأمور وإليك غاية الطلب، فكن عليها صبورا، تكن بقضائها مشكورا؛ ولا تضجر على طالبها وقد أمّلك، ولا تنفر عليه إذا راجعك؛ فما يجد الناس من سؤالك بدّا. ولخير دهرك أن ترى مرجوّا. قال أبو بكر بن دريد: لا تدخلنّك ضجرة من سائل ... فلخير دهرك أن ترى مسئولا لا تجهن بالردّ وجه مؤمّل ... فبقاء عزّك أن ترى مأمولا واعلم بأنك عن قليل صائر ... خبرا فكن خبرا يروق جميلا وقد قيل فى الصحف الأولى: القلب الضيق لا تحسن به الرياسة، والرجل اللئيم لا يحسن به الغنى. ولئن كانت الحوائج كالمغارم لمن استثقلها فهى مغانم لمن وفّق لها. روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما عظمت [1] نعمة الله على عبد إلا عظمت مؤنة الناس عليه فمن لم يحتمل مؤنة الناس عرّض تلك النعمة للزوال» . واذا جعلت الوزارة غايات الأمور إليك، وحوائج الناس واقفة عليك، والقدرة لك مساعدة، لانبساط يدك ونفوذ أمرك، صرت بالتوقّف والإعراض مخلّا بحقوق نظرك، وآسفا على فوات مكنتك. فقد قال بهرام جور فى عهده الى ملوك فارس: إنكم بمكان لا مصرف للناس عن حوائجهم إليكم، فلتتّسع صدوركم كاتّساع سلطانكم. قال علىّ بن الجهم: إذا جدّد الله لى نعمة ... شكرت ولم يرنى جاحدا   [1] كذا فى الأصل وقوانين الوزارة. ونصه فى الجامع الصغير: «ما عظمت نعمة الله على عبد إلا اشتدّت عليه مؤنة الناس فمن لم يحتمل تلك المؤنة للناس فقد عرض تلك النعمة للزوال» الجزء: 6 ¦ الصفحة: 139 ولم يزل الله بالعائدات ... على من يعود [1] بها عائدا أيا جامع المال وفّرته ... لغيرك إذ لم تكن خالدا! فإن قلت أجمعه للبنين ... فقد يسبق الولد الوالدا وإن قلت أخشى صروف الزمان ... فكن فى تصاريفه واحدا فاجعل يومك أسعد من أمسك، وصلاح الناس عندك كصلاح نفسك. ومل إلى اجتذاب القلوب بالاستعطاف، وإلى استمالة النفوس بالإنصاف، تجدهم كنزا فى شدائدك، وحرزا فى نوائبك. احذر دعوة المظلوم وتوقّها، ورقّ لها إن واجهك بها، ولا تبعثك العزّة على البطش فتزداد ببطشك ظلما، وبعزتك بغيا. وحسبك بمنصور عليك الله ناصره منك. كن عن الشهوات [2] عزوفا تنفكّ من أسرها، فإنّ من قهرته الشهوة كان لها عبدا، ومن استعبدته ذلّ بها. وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من اشتاق إلى الجنة سارع إلى الخيرات ومن أشفق من النار لها عن الشهوات» . وقيل لبعض حكماء الروم: ما الملك الأعظم؟ قال: أن يغلب الإنسان شهوته. وكن بالزمان خبيرا تسلم من عثرته؛ فإنّ الاغترار به مرد. وقدم لمعادك ليبقى عليك ما ذخرته، فلن تجد إلا ما قدّمته؛ وإنك لتجازى بما صنعت. واستقلّ الدنيا تجد فى نفسك عزّا، فترضى اذا سخطت، وتسرّ اذا حزنت؛ فلن يذلّ إلا طالبها، ولن يحزن إلا صاحبها. فقد قال بعض الحكماء: ليكن طلبك الدنيا اضطرارا،   [1] فى قوانين الوزارة: «على من يجود بها عائدا» . [2] فى الأصل وقوانين الوزارة: «كن للشهوات عزوفا» وعزف وما اشتق منه يتعدى الى المعمول بالحرف «عن» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 140 وفكرك فيها اعتبارا، وسعيك لمعادك ابتدارا. وقال عبد الحميد: طالب الدنيا عليل، ليس يروى له غليل. اجعل صالح عملك ذخرا لك عند ربك، وجميل سيرتك أثرا مشكورا فى الناس بعدك، ليقتدى بك الأخيار، ويزدجر بك الأشرار، تكن بالثواب حقيقا، وبالحمد جديرا. فقد قيل: الاغترار بالأعمار من شيم الأغمار. فلن يبقى بعدك إلا ذكرك فى الدنيا، وثوابك فى الآخرة؛ فاظفر بهما تكن سعيدا فيهما؛ فإنّ الدنيا كأحلام النائم يستحليها فى غفوته، ويلفظها بعد يقظته. وقد قيل فى بعض الصحف الأولى: احرص على العمل الصالح لأنه لا يصحبك غيره. انتهى كلام الماوردىّ. وقد بالغ- رحمه الله- فى عهده، وجاد بعظيم برّه وجزيل رفده؛ وأوضح ما إن استمسك به الوزير كفاه، وإن حذا على مثاله كان ذخيرة لدينه ومعونة لدنياه. فليتمسّك به من رفل من الوزارة فى حللها، وارتقى من الرياسة الى شواهقها المنيعة وقللها؛ وأفاضت عليه السياسة برودها، وطوّقته السعادة عقودها. وليأخذ نفسه به ويرضها عليه؛ وليجعله نصب عينه فيما فوّض من أمور العالم اليه؛ ليفوز بسعادة الدنيا وثواب الآخرة، ويلتحق غدا بذوى الوجوه الناضرة، التى هى إلى ربها ناظرة. وإن عدل عنه وعمل بضدّه فوا خيبة مسعاه، وسوء منقلبه ومثواه، وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ. ذكر ما قيل فى وصايا أصحاب السلطان وصفاتهم أما صفاتهم فقد ذكر «الحمدونىّ» فى «تذكرته» ما لا بدّ منه لصاحب السلطان وجليسه، ومحادثه وأنيسه؛ ولا يستغنى عنه وزراؤه وندماؤه، وخواصّه وأولياؤه؛ فقال: من صحب الملوك وقرب منهم فينبغى أن يكون جامعا للخلال المحمودة. فأوّلها العقل، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 141 فإنه رأس الفضائل. والعلم، فإنه من ثمار العقل ولا تليق صحبة الملوك بأهل الجهل. والودّ، فإنه خلق من أخلاق الناس يولّده العقل فى الإنسان لذوى ودّه. والنصيحة، وهى تابعة للودّ وهو الذى يبعث عليها. والوفاء، فلا تتم الصحبة إلا به. وحفظ السرّ، وهو من صدق الوفاء. والعفّة عن الشهوات والأموال. والصرامة، وهى شدّة القلب فإن الملوك لا يجوز أن يصحبهم أولو النّكول، ولا ينال الجسيم من الأمور إلا الشجاع النّدب [1] النجد. والصدق، فإنه من لا يصدق يكذب، ومضّرة الكذب لا تتلافى. وحسن الزىّ والهيئة، فإن ذلك يزيد فى بهاء الملك. والبشر فى اللقاء، فإنه يتألّف به قلب من يلاقيه، وفى الكلوح تنفير عن غير ريبة. والأمانة فيما يستحفظ. ورعاية الحق فيما يستودع. والعدل والإنصاف، فإن العدل يصلح السرائر ويجمّل الظواهر، وبه يخاصم الإنسان نفسه اذا دعته الى أمر لا يحسن ركوبه. وينبغى له أن يجانب أضداد هذه الخلال؛ وألّا يكون حسودا فإنّ الحسد يفسد ما بينه وبين الناس؛ وليفرّق بين الحسد والمنافسة فإنهما يشتبهان على من لا يعقل؛ وأن يخلو من اللّجاج والمحال فإن ذلك يضرّ بالأفعال اذا وقع فيها اشتراك؛ وألّا يكون بذّاخا ولا متكبرا، فإن البذخ من دلائل سقوط النفس، والكبر من دواعى المقت؛ وألّا يكون حريصا، فإن الحرص من ضيق النفس وشدّة البطش والبعد عن الصبر. وينبغى ألّا يكون فدما [2] وخما [3] ولا ثقيل الروح، فإنها صفة لا تليق بمن يلاقى الملوك، وأبدا تكون صفة للمقت من غير جرم. وينبغى لمن صحب السلطان أن يأخذ لعمله من جميع شغله، فيأخذ من طعامه وشرابه ونومه وحديثه ولهوه، لا كما يفعل الأعمار الجهّال بخدمة الملوك، فإن   [1] الندب: الخفيف فى الحاجة. والنجد (بفتح أوّله وتثليث ثانيه) الشجاع الماضى فيما يعجز غيره. [2] الفدم: الغنىّ عن الكلام فى ثقل ورخاوة وقلة فهم، أو الأحمق الجافى. [3] الوخم: الرجل الثقيل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 142 أحدهم كلما ازداد عملا نقص من ساعات نصبه [1] وعمله فزادها فى ساعات شهوته وعبثه. فهذه الصفات، فلنذكر الوصايا. وأما وصايا أصحاب السلطان- فهى متقاربة من وصايا الوزراء غير متفاوتة. وفيها ما يضطرّ الوزير إليه، على ما تقف إن شاء الله تعالى عليه. قالت الحكماء: إذا نزلت من الملك بمنزلة الثقة فاعزل عنه كلام الملق، ولا تكثر من الدعاء له فى كلّ كلمة، فإن ذلك يشبه حال الوحشة والغربة، إلا أن تكلّمه على رءوس الناس فلا تأل عما وقّره وعظّمه. وإذا أردت أن يقبل قولك فصحّح رأيك ولا تشوبنّه بشىء من الهوى، فإن الرأى يقبله منك العدوّ، والهوى يردّه عليك الصديق. وتبصّر ما فى الملك من الأخلاق التى يحبّ ويكره، ثم لا تكابره بالتحويل له عما يحبّ ويكره إلى ما تحب وتكره [2] ، فإنها رياضة صعبة قد تحمل على التنائى [3] والقلى. فقلما تقدر على ردّ رجل عن المكابرة والمناقضة وإن لم يكن جمع به عزّ السلطان، فكيف إذا جمح به! ولكن تعينه على أحسن رأيه وتزيّنه له وتقوّيه عليه؛ فإذا قويت المحاسن كانت هى التى تكفيك المساوى. وإذا استحكمت منه ناحية [4] من الصواب   [1] فى الأصل: «نصيبه» وما وضعناه هو المناسب للسياق. فلعل ما فى الأصل تحريف. [2] وردت هذه الجملة فى الأصل هكذا: «وتبصر فان فى الملك من الأخلاق التى يحب ويكره، ثم لا تكاثره بالتحول عما..» وفيها تحريف. وقد أثبتنا ما ترى استنادا الى ما فى الأدب الكبير. [3] كذا فى الأدب الكبير، وهو المناسب للسياق، وفى الأصل: « ... على الإباء ... » . [4] كذا فى الأدب الكبير، وفى الأصل «واذا استحكمت منه ما أحب من ... » . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 143 كان ذلك الصواب هو الذى يبصّره [مواقع الخطإ [1]] بألطف من تبصيرك وأعدل من حكمك فى نفسه؛ فإنّ الصواب يؤيّد بعضه بعضا ويدعو بعضه إلى بعض. وإذا كنت له مكابرا لحقك الخطر ولم تبلغ ما تريد. ولا يكونن طلبك ما عند السلطان بالمسألة! ولا تستبطئه وإن أبطأ، ولكن اطلب ما عنده بالاستحقاق له والاستيناء به وإن طالت الأناة، فإنك إذا استحققته أتاك من غير طلب، وإذا لم تستبطئه كان أعجل له. ولا تخبرنّ الملك أنّ لك عليه حقا، وأنك تعتدّ [2] عليه بلاء. وإن استطعت ألّا ينسى حقك وبلاءك فافعل. وليكن ما تذكّره به تجديدك له النصيحة والاجتهاد، وألّا يزال ينظر منك إلى آخر يذكره الأوّل؛ فإنّ السلطان إذا انقطع عنه الآخر نسى الأوّل؛ فإنّ أرحامهم منقطعة وحبالهم منصرمة إلا عمن رضوا عنه فى يومهم وساعتهم. واعلم أن أكثر الناس عدوّ لصاحب السلطان ووزيره وذوى المكانة عنده، لأنه منفوس عليه مكانه كما ينفس [3] على الملك ملكه، ومحسود كما يحسد عليه؛ غير أنه يجترأ عليه ولا يجترأ على الملك، لأن حسّاده أحباء [4] الملك الذين يشاركونه فى المنزلة والدخول، وهم حضور، وليسوا كعدوّ الملك النائى عنه الكاتم لعداوته؛ فهم لا يغفلون عن نصب الحبائل له. فالبس لهؤلاء الاعداء كلهم سلاح الصحّة والاستقامة ولزوم المحجّة [5] فيما تسرّ وتعلن. ثم روّح عن قلبك حتى كأنك لا عدوّ لك ولا حاسد. جانب   [1] زيادة عن الأدب الكبير. [2] كذا فى الأدب الكبير، وفى الأصل: «وأن تعتدّ عليه بلاء» . [3] نفس عليه مكانه من باب «فرح» لم يره أهلاله. [4] أحباء (جمع حبأ كسبب) : جلساء الملك وخاصته. [5] كذا فى بعض نسخ الأدب الكبير. والمحجة: جادّة الطريق أى معظمه ووسطه. وفى الأصل: «ولزوم الحجة» والسياق يعين ما اخترناه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 144 المسخوط عليه والمظنون به عند السلطان، ولا يجمعنك وإياه مجلس ولا منزل، ولا تظهرنّ له عذرا ولا تثنينّ عليه خيرا. فإذا رأيته قد بلغ فى الإعتاب مما [1] سخط عليه [فيه [2]] ما ترجو أن يلين له الملك، واستيقنت أن الملك قد تحقق مباعدتك إياه وشدّتك عليه، فضع عند ذلك عذره عند الملك، واعمل فى إرضائه بالرفق واللطف. وإذا أصبت الجاه عند الملك وكانت لك خاصة منزلة، فلا يحدثن لك ذلك تغيّرا على أهله وأعوانه واستغناء عنهم، فإنك لا تدرى متى [3] ترى أدنى جفوة فتذلّ لهم [4] . وإن استطعت أن يعرف صاحبك أنك تنحله صواب رأيك فضلا عن صوابه فتسند ذلك إليه وتزينه به، فإن الذى أنت بذلك آخذ أفضل من الذى أنت به معط. (واعلم أن السلطان يقبل من الوزراء التبخيل ويعدّه منهم شفقة ونظرا ويحمدهم عليه وإن كان جوادا. فإن كنت مبخّلا فقد غششت [5] صاحبك بفساد مروءته، وإن كنت مسخّيا لم تأمن إضرار ذلك بمنزلتك. فالرأى لك تصحيح النصيحة والتماس المخرج، بألا يعرف منك ميلا إلى شىء من هواك [6] ) . فهذه نبذة من وصايا أصحاب السلطان يكتفى بها اللبيب، ويتمسك بها الأريب. وقد قدّمنا فى شروط الوزارة ما يحتاج صاحب السلطان إلى استعما فى خدمته. فلنذكر ما يحتاج إليه نديم الملك ومؤاكله.   [1] كذا فى الأدب الكبير. والإعتاب: رجوع المعتوب عليه الى ما يرضى العاتب، كالعتبى، وفى الأصل: « ... فى الإعتاب فيما ... » . [2] زيادة من الأدب الكبير. [3] كذا فى الأدب الكبير. وفى الأصل: «فانك لا تدرى حتى ترى ... » . [4] كذا فى الأدب الكبير، وفى الأصل: «فتذل له» . [5] فى الأدب الكبير: «شنت صاحبك ... » . [6] وردت هذه الجملة التى بين القوسين فى صفحة 11 من هذا الجزء بتغيير يسير عما هنا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 145 ذكر ما يحتاج إليه نديم الملك، وما يأخذ به نفسه، وما يلزمه. قالوا: مما يزيد النديم فى المحلّ تقدّما، وعند ملكه تمكّنا، أن يكون عالما بكل ما يتنافس الملوك ويتغالون فيه، من الرقيق المثمّن، وقيمة الجوهر النفيس، والآلات المحكمة، وأنواع الطيب والفرش، إلى غير ذلك من معرفة الخيل والسلاح. ولذلك قال الواصف نفسه [1] للفضل بن يحيى بن خالد يرغّبه فى اختصاصه بمنادمته فى شعر طويل: لست بالناسك المشمّر ثوبي ... هـ ولا الفاتك الخليع الوقاح أبصر الناس بالجواهر [2] والخي ... ل وبالخرّد الحسان الملاح قالوا: ومن أبرد من النديم مجلسا وأكسف منه بالا إذا عرض على الملوك شىء من هذه الأعلاق فلم يحر جوابا ولا وجد عنده منه علما!. ويستظرف من نديم السلطان أن يصف اللون الغريب من الطعام، والصوت البديع من الشعر، واللحن الشجى من الغناء. وقالوا: من لم يدر عشرة أصوات من الغناء ويحسن من غرائب الطبيخ عشرة ألوان، لم يكن عندهم ظريفا [3] كاملا، ولا نديما جامعا [4] . وأما ما يأخذ به نفسه- فقد قالوا: ينبغى أن يكون نديم السلطان معتدل الأخلاق، سليم الجوارح، طيّب المفاكهة والمحادثة، عالما بأيام الناس ومكارم   [1] الواصف نفسه: هو أبان بن عبد الحميد اللاحقّى. [2] فى ديوان أبى نواس (طبع المطبعة العمومية بمصر سنة 1898 م) : «أبصر الناس بالجوارح ... » . [3] فى الأصل: «ظرفا» . [4] فى الأصل: «خائعا» وهو تحريف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 146 أخلاقهم، راوية للنادر من الشعر والمثل السائر، متصرّفا فى كل فنّ، قد أخذ من الخير والشر بنصيب؛ فإن مالت شهوة الملك إلى ضرب ما وجد عنده منه علما. ويلزمه أيضا أن يحضر فى الزىّ الظاهر الذى يعرف به، ويشهد فيه المجالس الحافلة من غير أن يتشهر [1] . فإن شاء الملك أن يغيّر حاله وزيّه ويكرمه بشىء من ثيابه، حسن أن يلبس ذلك من وقته حتى ينقضى المجلس، ولم يحسن أن يجلس فيه ظاهرا فى مجلس ثان؛ لأنه شىء اختاره الملك فى ساعة بعينها لا فى كل أوقاته. وأما العمامة والخفّ فلا يخلو منهما. والغرض من ذلك إجلال السلطان عن مشاركته فيما اتسع له من التبدّل والتخيّر فى الزىّ الذى لا ثقل عليه منه، والانفراد به عمن هو دونه. وهذه كانت عادة ملوك الأعاجم؛ لأنهم رسموا لكل طبقة من طبقات أهل مملكتهم برسم من الزىّ ليتميزوا به، ولا يتشبه سوقة بملك، ولا مشروف بذى الشرف، ولا تابع برئيس [2] . ومما يجب أن يأخذ به نفسه الإسراع فى الخطو إذا كان بحيث يراه الملك، ليكون مشيه إرقالا ولا يكون اختيالا. ومما يلزمه أن يتحفّظ منه ويروض به نفسه ألّا يصبّحه ولا يمسّيه ولا يشمّته ولا يستخبره. وإنما ترك ذلك كله لما فيه من تكلّف الجواب. وأوّل من سنّ ذلك وحمل الناس عليه الفضل بن الربيع.   [1] يتشهر: من الشهرة وهى ظهور لشىء فى شنعة. ولم نجد هذا الفعل الذى ورد بالأصل فى كتب اللغة التى بين أيدينا، فلعله تحريف عن «يشتهر» أو «يشهر» . [2] الذى فى الأصل: «ولا يتشبه سوقة بملك ولا مشروف بذى الشرف ولا تابع بدنىء الشرف ولا تابع برئيس» والذى ظهر لنا أن «ولا تابع بدنىء الشرف» زيادة وقعت سهوا من الناسخ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 147 وأما الآداب فى محادثة السلطان- فقد قالوا: من حق الملك إذا حضر سمّاره ومحدّثوه ألّا يبتدئه أحد حديثا. فإن بدأ هو بالحديث صرف من حضره ذهنه وفكره نحوه. فإن كان يعرف الحديث الذى حدّث به الملك استمعه استماع من لم يدره [1] ولم يعرفه، وأظهر السرور بفائدة الملك والاستبشار بحديثه؛ فإن فى ذلك أمرين: أحدهما ما يظهر من حسن أدبه. والآخر أن يعطى الملك حقه بحسن الاستماع. وإن كان لم يعرفه فالنفس إلى فوائد الملوك والحديث عنهم أتوق [2] منها إلى فوائد السّوقة ومن أشبهها. وقد كان روح بن زنباع يقول: إذا أردت أن يمكنك الملك من أذنه فأمكن أذنك من الإصغاء إليه إذا حدّث. وكان أسماء بن خارجة يقول: ما غلبنى أحد قطّ غلبة رجل يصغى إلى حديثى. ومن حق الملك إذا قرّب إنسانا أو أنس به حتى يهازله ويضاحكه، ثم دخل عليه، أن يدخل دخول من لم يجر بينهما أنس قط، وأن يظهر من الإجلال والتعظيم أكثر مما كان عليه؛ فإن أخلاق الملوك ليست على نظام. ومجالستهم ومحادثتهم تحتاج إلى سياسة وتحفّظ من [3] وضع الحديث والمثل والشعر فى موضعه. وإذا حدّث الملك بحديث وفرغ منه فنظر إلى بعض جلسائه، فقد أذن له أن يحدّثه بنظير ذلك الجنس من الحديث، وليس له أن يأخذ فى غير جنس حديثه. فإذا فرغ من ذلك الحديث فليس له أن يصله بحديث آخر وإن كان شبيها للحديث الأوّل. فإن رأى الملك قد   [1] الذى فى التاج (طبعة المطبعة الأميرية ص 53) : «استماع من لم يدر فى حاسة سمعه قط ولم يعرفه» . [2] فى «التاج» : «أقرم وأشهى منها ... » . [3] من وضع الحديث ... الخ: «من» بيانية، وليست متعلقة ب «تحفظ» فان ذلك يؤدى الى خطأ فى المعنى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 148 أقبل عليه بوجهه وأصغى إلى حديثه فليمض فيه حتى يكمله ويأتى على آخره. وليس له- إن قطع الملك استماع حديثه بشغل يعرض له- أن يمرّ على كلامه، ولكن ينصت مطرقا. فإن اتصل شغل الملك، ترك الحديث. فإن فرغ ونظر إليه، فقد أذن له فى إتمامه وإعادته، وإلّا فلا. ومن حق الملك ألّا يضحك بحضرته، لأن الضحك جرأة عليه؛ وألّا يعاد عليه الحديث مرتين وإن طال بينهما الدهر، إلا أن يذكره الملك، فإن ذكره فقد أذن له فى إعادته. وكان روح بن زنباع يقول: أقمت مع عبد الملك بن مروان سبع عشرة سنة من أيامه ما أعدت عليه حديثا. وكان الشّعبىّ يقول: ما حدّثت بحديث مرتين لرجل بعينه قط. وكان أبو العبّاس السفّاح يقول: ما رأيت رجلا أغزر علما من أبى بكر الهذلىّ لم يعد علىّ حديثا قط. وكان أبو بكر الهذلىّ يقول: حدّثت المنصور بأكثر من عشرة آلاف حديث، فقال لى ليلة- وقد حدّثته عن يوم ذى قار وقد اضطررت إلى التكرار-: أتعيد الحديث؟ فقلت: ما هذا مما مر يا أمير المؤمنين؛ فقال: أما تذكر ليلة الرعد والأمطار وأنت تحدّث بحديث يوم ذى قار فقلت لك: ما يوم ذى قار بأصعب من هذه الليلة؟ ومن حق المحادثة وواجب المؤانسة ترك المراء؛ هذا مع الأكفاء فكيف مع الملوك والرؤساء! وقالوا: المماراة تفسد الصداقة القديمة، وتحلّ العقدة الوثيقة وتكسب الإحنة والبغضاء. وقال الصاحب بن عبّاد: للمحدّث على السامع ثلاث: كتمان السر، وإصغاء الذهن، وترك التحفّظ. هذا ما يلزم نديم الملك. وأما مؤاكله، فقد اصطلح الناس على إجلال رؤسائهم وملوكهم عن غسل أيديهم بحضورهم، واستجازوا ذلك مع نظرائهم ومن يسقط التحفّظ بينهم وبينهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 149 وربما تجمّل الرئيس فقال لمؤاكله: اغسل يدك مكانك ولا تبرح. فالغبىّ يغتنم ذلك ويفعل، والفطن يأباه ويسلك سبيل الأدب، فيخفّ على القلب. هذا بعد الطعام. وأما قبله فجائز أن يغسل اليد بحضرة الرئيس. وأما الخلال فلا يستعمل بحضرته البتة. وأما آداب الأكل بين يدى الرئيس- ألّا يخلط طعاما بطعام، ولا يغمس اللقمة بالخل ثم يضعها فى الطعام، ونحو ذلك. هذا ما يلزم نديم الملك ومؤاكله. وقد ذكرنا مما يجب للملك على رعيته من المناصحة والأدب والتوقير والتعظيم فيما تقدّم ما يدخل فى هذا الباب، فلا فائدة فى تكراره. فلنذكر ما ورد فى النهى عن صحبة الملوك. ذكر ما ورد فى النهى عن صحبة الملوك والقرب منهم قد نهت الحكماء عن صحبة الملوك وقالوا: إن الملوك إذا خدمتهم ملّوك، وإن لم تخدمهم أذلّوك. وإنهم يستعظمون فى الثواب ردّ الجواب، ويستقلّون فى العقاب ضرب الرقاب. وإنهم ليعثرون على العثرة اليسيرة من خدمهم فيبنون لها منارا، ثم يوقدون لها نارا، ويعتقدونها ثارا. وقال ابن المقفّع: إن وجدت عن السلطان وصحبته غنى فصن عنه نفسك، واعتزله جهدك؛ فإنه من يأخذه السلطان بحقه يحل بينه وبين لذّة الدنيا وعمل الآخرة. وقال العتّابىّ وقد قيل له: لم لا تقصد الأمير فتخدمه؟ فقال: لأنى أراه يعطى الواحد لغير حسنة ولا يد، ويقتل الآخر بلا سيئة ولا ذنب، ولست أدرى أىّ الرجلين أكون، ولست [1] أرجو منه مقدار ما أخاطر به. وقال لامرأته:   [1] فى الأصل: «وليس» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 150 أسرّك أنى نلت ما نال جعفر ... من الملك أو ما نال يحيى بن خالد فقالت: بلى والله! فقال: وأن أمير المؤمنين أغصّنى ... مغصّهما بالمرهفات البوارد فقالت: لا والله! فقال: ذرينى تجئنى ميتتى مطمئنّة ... ولم أتجشّم هول تلك الموارد فإنّ جسيمات الأمور منوطة ... بمستودعات فى بطون الأساود الباب العاشر من القسم الخامس من الفن الثانى فى قادة الجيوش، والجهاد، ومكايد الحروب، ووصف الوقائع، والرباط، وما قيل فى أوصاف السلاح. ذكر ما قيل فى قادة الجيوش وشروطهم وأوصافهم ووصاياهم وما يلزمهم قال الشيخ الإمام أبو عبد الله الحسين بن الحسين بن محمد بن حليم الحليمىّ الجرجانىّ الشافعىّ فى كتابه المترجم ب «المنهاج» ما مختصره ومعناه: إذا أنفذ الإمام جيشا أو سريّة فينبغى أن يؤمّر عليهم رجلا صالحا أمينا محتسبا، لأن القوم إليه ينظرون. فإذا لم يكن خيّرا فى نفسه كانت أعماله بحسب سريرته وكانت أعمال القوم بحسبها مضاهية لها، فإن رأوا منه كسلا كسلوا، وإن رأوا منه فشلا فشلوا، وإن ثبت ثبتوا، وإن رجع رجعوا، وإن جنح إلى السلّم جنحوا، وإن جدّ جدّوا؛ فهم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 151 فى تبعه كالمأموم مع الإمام. والعدوّ إنما يفرق من رئيس القوم، فإذا سمع بذى ذكر كان ذلك أهيب له من أن يسمع بخامل لا صيت له. واذا سمع بشجاع غير فرّار كان آيس من مقاومته، منه إذا سمع بفشئل جبان. وإذا سمع بليّن يطمع فى خداع مثله كان أجرأ [1] على استقباله، منه إذا سمع بصلب فى الدّين شديد فى البأس. فيكون [2] ما يكون من العدوّ من الإقدام والإحجام بحسب ما يبلغه من حال رأس المسلمين. فلهذين السببين وجب أن يكون الرأس مستصلحا جامعا لأسباب الغناء والكفاية. والله تعالى أعلم. واما ما يلزم قائد الجيش- قال أبو الحسن الماوردىّ فى كتابه المترجم ب «الأحكام السلطانية» ما معناه: إن أمير الجيش يلزمه ستة أحكام: الأوّل منها- مسيره بالجيش. وعليه فى السير بهم سبعة حقوق: أحدها الرّفق بهم فى السير الذى يقدر عليه أضعفهم وتحفظ به قوّة أقواهم. ولا يجدّ السير فيهلك الضعيف ويستفرغ جلد القوىّ. فقد قال النبى صلى الله عليه وسلم: «إن هذا الدين متين فأوغلوا [3] فيه برفق فإنّ المنبتّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى» . والثانى أن يتفقّد خيلهم التى يجاهدون عليها وظهورهم التى يمتطونها، فلا يدخل فى خيل الجهاد قحما [4] كبيرا، ولا ضرعا [5] صغيرا، ولا حطما [6] كسيرا، ولا أعجف رازحا [7] هزيلا؛ لأنها لا تغنى، وربما   [1] فى الأصل: «أحرى» والمعنى يقتضى ما أثبتنا. [2] فى الأصل: «ليكون» باللام، ولكن الفاء هى المناسبة للسياق. [3] فى الجامع الصغير «فأوغل ... » وبقية الحديث كما هنا. [4] القحم (بالفتح) : الكبير السن جدا. [5] الضرع: المهر الذى لا يقوى على العدو. [6] الحطم: الفرس الذى تهدّم لطول عمره. [7] الرازح: الساقط من الإعياء. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 152 كان ضعفها وهنا. ويتفقّد ظهور المطايا والركوب، فيخرج منها ما لا يقدر على المسير ويمنع من أن تحمّل زيادة على طاقتها. والثالث أن يراعى من معه من المقاتلة. وهم صنفان: مسترزقة، وهم أصحاب الديوان من أهل الفىء بحسب الغناء والحاجة؛ ومتطوّعة، وهم الخارجون عن الديوان من البوادى والأعراب وسكّان القرى والأمصار الذين خرجوا فى النّفير الذى ندب الله اليه بقوله: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا قيل معناه: شبّانا وشيوخا، وقيل أغنياء وفقراء، وقيل ركبانا ومشاة، وقيل ذا عيال وغير [ذى [1]] عيال. وهؤلاء يعطون من الصدقات دون الفىء. والرابع أن يعرّف على الفريقين العرفاء وينقّب عليهم النقباء، ليعرف من عرفائهم ونقبائهم أحوالهم ويقربوا [2] عليه اذا دعاهم. وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فى مغازيه. والخامس أن يجعل لكل طائفة شعارا يتداعون به ليصيروا به مميّزين. فقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شعار المهاجرين: «يا بنى عبد الرحمن» وشعار الخزرج: «يا بنى عبد الله» وشعار الأوس: «يا بنى عبيد الله» وسمّى خيله: «خيل الله» . والسادس أن يتصفّح الجيش ومن فيه، فيخرج منهم من كان فيه تخذيل للمجاهدين وإرجاف بالمسلمين أو عينا عليهم للمشركين. فقد ردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبىّ بن سلول فى بعض غزواته لتخذيله المسلمين. قال الله تعالى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ أى لا يفتن بعضكم [3] بعضا. والسابع ألّا يمايل [4] من ناسبه   [1] التكملة عن الأحكام السلطانية. [2] فى الأصل والأحكام السلطانية «ويقربون» والظاهر أنه معطوف على «ليعرف ... » . [3] كذا فى الأحكام السلطانية، وهو المتعين، لأنه تفسير لقوله «وقاتلوا ... » وهو لمخاطب، فيكون مفسره كذلك. وفى الأصل «بعضهم» . [4] يمايل: يمالئ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 153 أو وافق رأيه ومذهبه على من باينه فى النسب أو خالفه فى رأى ومذهب، فيظهر من المباينة ما تفرّق به الكلمة الجامعة تشاغلا بالتقاطع والاختلاف. فقد أغضى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين وهم أضداد فى الدين، وأجرى عليهم حكم الظاهر حتى قويت بهم الشوكة وكثر بهم العدد وتكاملت بهم العدّة، ووكلهم فيما أضمروه من النفاق إلى الله تعالى. قال الله تعالى: وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ قيل فيه: الدولة، وقيل: القوّة. والثانى- تدبير الحرب. قال الماوردىّ: والمشركون فى دار الحرب صنفان، صنف منهم بلغتهم دعوة الإسلام فامتنعوا منها وتأبّوا [1] عليها. فأمير الجيش مخيّر فى قتالهم بين أن يبيّتهم ليلا ونهارا بالقتل والتحريق، وبين أن ينذرهم الحرب ويصافّهم فى القتال. والصنف الثانى لم تبلغهم دعوة الإسلام وهم قليل جدّا، إلا أن يكونوا وراء من يلى هذه البلاد الإسلامية من الترك والروم فى مبادئ بلاد المشرق وأقاصى المغرب، فيحرم عليه الإقدام على قتالهم غرّة وبياتا، وأن يبدأهم بالقتال قبل إظهار دعوة الإسلام لهم وإعلامهم من معجزات النبوّة وظهور الحجة ما يقودهم إلى الإجابة. فإن أقاموا على الكفر بعد ظهورها لهم، حاربهم وصاروا فيه كمن بلغتهم الدعوة. قال الله تعالى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ معناه إلى دين ربّك بالنبوّة والقرآن. فإن بدأ بقتالهم قبل دعائهم إلى الإسلام وإنذارهم بحججه وقتلهم غرّة وبياتا، ضمن ديات نفوسهم. وهى على الأصح من مذهب الشافعى كديات المسلمين. وقيل: بل تكون كديات الكفار على اختلافها. وإذا تقابلت الصفوف فى الحرب جاز لمن قاتل من المسلمين أن يعلّم بما   [1] كذا فى الاحكام السلطانية، وفى الأصل: «وقاتلوا عليها» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 154 يشتهر به فى الصفوف ويتميّز به من بين الجيش، وأن يركب الأبلق إن كانت خيول الناس دهما أو شقرا. روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم بدر: «سوّموا فإنّ الملائكة قد سوّمت [1] » . ويجوز أن يجيب إلى البراز إذا دعى إليه؛ فقد دعا أبىّ بن خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البراز يوم أحد فبرز اليه فقتله النبى صلى الله عليه وسلم. ويجوز أيضا للمقاتل من المسلمين أن يدعو إلى البراز [2] لما فيه من إظهار القوّة فى دين الله تعالى بعد أن يعلم من نفسه أن لن يعجز عن مقاومة خصمه ويقدر على دفع عدوّه. ولا يجوز ذلك لزعيم الجيش، فإنه إذا طلب البراز وفقد، أثّر ذلك فى المسلمين؛ وربما يفضى بهم عدمه إلى الهزيمة. ورسول الله صلى الله عليه وسلم إنما برز لثقته بنصر الله وإنجاز وعده، وليس ذلك لغيره. ويجوز لأمير الجيش إذا حضّ على الجهاد أن يعرّض للشهادة من الراغبين فيها من يعلم أنّ قتله فى المعركة مما يحرّض المسلمين على القتال حميّة له. حكى موسى بن إسحاق أن النبىّ صلى الله عليه وسلم خرج من العريش يوم بدر فحرّض الناس على الجهاد ونفّل كلّ امرئ [منهم [3]] ما أصاب، وقال: «والذى نفسى بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة» ؛ فقال عمير بن الحمام من بنى سلمة وفى يده تمرات يأكلهن: نج نج! ما بقى   [1] اعملوا لكم علامة يعرف بها بعضكم بعضا. وفى الأصل «تسوّموا ... » وما أثبتناه رواية النهاية لابن الأثير واللسان. [2] كذا فى الأحكام السلطانية، وفى الأصل: «إلى البراز يوم أحد لما فيه ... الخ» وظاهر أن كلمة «يوم أحد» زيدت هاهنا سهوا من الناسخ. [3] الزيادة عن الطبرى قسم أوّل ج 5 ص 1321 طبع أوربا. ونفل الإمام الجند: جعل لهم ما غنموا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 155 بينى وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلنى هؤلاء القوم، ثم قذف التمرات من يده وأخذ سيفه وتقدّم وقاتل القوم حتى قتل- رحمه الله- وهو يقول: ركضا إلى الله بغير زاد ... إلا [1] التّقى وعمل المعاد والصبر فى الله على الجهاد ... وكلّ زاد عرضة النّفاد غير التّقى والبرّ والرشاد ويجوز للمسلم أن يقتل من ظفر به من مقاتلة المشركين محاربا وغير محارب. واختلف فى قتل شيوخهم ورهبانهم من سكان الصوامع والديارات. فمن منع من قتلهم قال: إنهم موادعون. ومن قال بقتلهم وإن لم يقاتلوا [قال [2]] : لأنهم ربما أشاروا برأى يكون فيه إنكاء للمسلمين. وقد قتل دريد بن الصّمّة فى حرب هوازن- وهو يوم حنين- وقد جاوز مائة سنة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يراه فلم ينكر قتله؛ وكان يقول حين قتل: أمرتهم أمرى بمنعرج اللّوى ... فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد فلمّا عصونى كنت منهم وقد أرى ... غوايتهم لا أننى غير مهتدى [3] ولا يجوز قتل النساء والولدان فى حرب ولا غيرها ما لم يقاتلوا؛ لنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتلهم. وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل العسفاء والوصفاء- والعسفاء: المستخدمون، والوصفاء: المماليك-. فإن قاتل النساء والولدان قوتلوا مقبلين ولم يقتلوا مدبرين. وإذا تترّسوا فى الحرب بنسائهم وأطفالهم عمد قتلهم   [1] فى الأصل: «الى» والتصويب عن الأحكام السلطانية والطبرى. [2] زيادة يقتضيها سياق الكلام. [3] فى ديوان الحماسة لأبى تمام، شرح التبريزى طبع مدينة «بن» بأوربا: « ... وقد أرى غوايتهم وأننى غير مهتدى» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 156 وتوقّى قتل النساء والأطفال، [فان لم يوصل إلى قتلهم إلا بقتل النّساء والأطفال [1]] جاز، ولو تترّسوا بأسرى المسلمين ولم يوصل إلى قتلهم إلا بقتل الأسارى لم يجز قتلهم، فإن أفضى الكفّ عنهم إلى الإحاطة بالمسلمين، توصّلوا إلى الخلاص منهم كيف أمكنهم وتحرّزوا أن يعمدوا قتل مسلم؛ ويجوز عقر خيلهم من تحتهم إذا قاتلوا عليها؛ ومنع بعض الفقهاء من عقرها. وليس لأحد من المسلمين أن يعقر فرس نفسه، لأن الخيل من القوّة التى أمر الله تعالى بإعدادها فى جهاد عدوّه. قال الله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ. ولا احتجاج بعقر جعفر بن أبى طالب فرسه يوم مؤتة، فإنه اقتحم بفرس له شقراء حتى التحم القتال ثم نزل عنها وعقرها وقاتل حتى قتل رضى الله عنه، وهو أوّل رجل من المسلمين عقر فرسه فى الإسلام، وهو إنما عقر فرسه بعد أن أحيط به، فعقره لها خشية أن يتقوّى بها المشركون على المسلمين، فصار عقرها كعقر خيولهم. والثالث- ما يلزم أمير الجيش فى سياستهم. والذى يلزمه فيها عشرة أشياء: أحدها: حراستهم من غرّة يظفر بها العدوّ منهم، وذلك بأن يتتبّع المكامن فيحفظها عليهم ويحوط سوادهم بحرس يأمنون به على نفوسهم ورحالهم [2] ، ليسكنوا فى وقت الدّعة ويأمنوا ماوراءهم فى وقت المحاربة. والثانى: أن يتخيّر لهم موضع نزولهم لمحاربة العدوّ، وذلك أن يكون أوطأ الأرض مكانا وأكثرها مرعى وماء [3] وأحرسها أكنافا وأطرافا، ليكون أعون لهم على المنازلة وأقوى لهم على المرابطة. والثالث: إعداد ما يحتاج الجيش [إليه [4]] من زاد وعلوفة تفرّق عليهم فى وقت الحاجة، لتسكن نفوسهم   [1] التكملة من الأحكام السلطانية. [2] فى الأصل «رجالهم» والتصويب عن الأحكام السلطانية. [3] فى الأصل «ودماء» وهو تحريف، والتصحيح عن الأحكام السلطانية. [4] التكملة من الأحكام السلطانية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 157 إلى مادة يستغنون بها عن السعى فى تحصيلها، وتتوفّر دواعيهم على منازلة العدوّ. والرابع: أن يعرف أخبار عدوّه حتى يقف عليها، ويتصفّح أحوالهم [حتى يخبرها [1]] ليسلم من مكرهم ويلتمس الغرّة فى الهجوم عليهم. والخامس: ترتيب الجيش فى مصافّ الحرب، والتعويل فى كل جهة على من يراه كفئا [لها، ويتفقد الصفوف من الخلل فيها، ويراعى كل جهة [2]] يميل العدوّ عليها بمدد يكون عونا لها. والسادس: أن يقوّى نفوسهم بما يشعرهم من الظفر ويخيّل إليهم من أسباب النصر، ليقلّ العدوّ فى أعينهم فيكونوا عليه أجرأ. قال الله عز وجل: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ . والسابع: أن يعد أهل الصبر والبلاء منهم بثواب الله إن كانوا من أهل الآخرة، وبالجزاء والنّفل من الغنيمة إن كانوا من أهل الدنيا. والثامن: أن يشاور ذوى الرأى فيما أعضل، ويرجع إلى أهل الحزم فيما أشكل؛ ليأمن الخطأ ويسلم من الزلل. وقد تقدّم ذكر ما فى المشورة من البركة والخير. والتاسع: أن يأخذ جيشه بما أوجب الله تعالى من حقوقه وأمر به من حدوده، حتى لا يكون منهم تجوّز فى دين الله [ولا تحيف [3] فى حق] ، فإن من جاهد عن الدين كان أحق الناس بالتزام أحكامه. وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «انهوا جيوشكم عن الفساد فإنه ما فسد جيش قطّ إلا قذف الله فى قلوبهم الرّعب وانهوا جيوشكم عن الزنا فإنه ما زنى جيش قط إلا سلّط الله عليهم الموتان [4]   [1] الزيادة عن الأحكام السلطانية ص 41. [2] التكملة عن الأحكام السلطانية. [3] التكملة عن الأحكام السلطانية. [4] فى الأصل: « ... إلا سلط الله عليهم الوتان والموتان» ولعل كلمة «الوتان» زيدت سهوا من الناسخ، فإنها كلمة مهملة. وقد ورد الحديث فى الأحكام السلطانية خاليا منها كما أوردناه. والموتان (بالضم ويفتح) : الموت الكثير الوقوع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 158 وانهوا جيوشكم عن الغلول [1] فإنه ما غلّ جيش قطّ إلا قذف الله الرعب فى قلوبهم» . وقال أبو الدرداء: يأيها الناس، عمل صالح قبل الغزو فإنما تقاتلون بأعمالكم. والعاشر: ألّا يمكّن أحدا من جيشه أن يتشاغل بتجارة أو زراعة ليصرفه [2] الاهتمام بها عن مصابرة العدوّ وصدق الجهاد. روى عن نبىّ من أنبياء الله تعالى أنه قال: «لا يغزون معى من بنى بناء لم يكمله ولا رجل تزوّج امرأة لم يدخل بها ولا رجل زرع زرعا لم يحصده [3] » . والرابع- ما يلزم المجاهدين معه من حقوق الجهاد. وهو ضربان: أحدهما ما يلزمهم فى حق الله تعالى؛ والثانى ما يلزمهم فى حق الأمير عليهم. فأما اللازم لهم فى حق الله تعالى فأربعة أشياء. أحدها: مصابرة العدوّ عند التقاء الجمعين بألّا ينهزم عنه من مثليه فما دون ذلك. وقد كان الله عز وجل فرض فى أوّل الإسلام على كل مسلم أن يقاتل عشرة من المشركين، فقال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا . ثم خفّف الله عنهم عند قوّة الإسلام وكثرة أهله فأوجب على كل مسلم لاقى العدوّ أن يقاتل رجلين منهم، فقال تعالى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ فحرّم على كل مسلم أن ينهزم من مثليه إلا لإحدى حالتين: إما أن يتحرّف لقتال فيولّى لاستراحة أو لمكيدة ويعود الى قتالهم؛ وإما أن يتحيّز الى فئة أخرى يجتمع معها على قتالهم. قال الله تعالى:   [1] الغلول: الخيانة فى المغنم. [2] كذا بالأصل، ويظهر أن سياق الكلام يقتضى «فيصرفه» بالفاء. [3] كذا فى الأحكام السلطانية، وفى الأصل: «ولا رجل زرع زرعا ليحصده» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 159 وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ قال: وسواء قربت الفئة التى يتحيز إليها أو بعدت. فقد قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه لفلّ [1] القادسيّة حين انهزموا اليه: أنا فئة كل مسلم. ويجوز اذا زادوا على مثليه ولم يجد الى المصابرة سبيلا أن يولّى عنهم غير متحرّف لقتال ولا متحيّز الى فئة. هذا مذهب الإمام الشافعى رحمه الله. واختلف أصحابه فيمن عجز عن مقاومة مثليه وأشرف على القتل هل يجوز انهزامه، فقالت طائفة: لا يجوز انهزامه عنهم وإن قتل، للنص. وقالت طائفة أخرى: يجوز أن يولّى ناويا أن يتحرّف لقتال أو يتحيّز الى فئة ليسلم من القتل ومن إثم الخلاف؛ فإنه إن عجز عن المصابرة فلا يعجز عن هذه النية. وقال أبو حنيفة: لا اعتبار بهذا التفصيل، والنصّ فيه منسوخ، وعليه أن يقاتل ما أمكنه وينهزم إذا عجز وخاف القتل. والثانى من حقوق الله تعالى: أن يقصد بقتاله نصرة دين الله تعالى وإبطال ما خالفه من الأديان، ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. فيكون بهذا الاعتقاد حائزا لثواب الله تعالى ومطيعا له فى أوامره ونصرة دينه ومستنصرا على عدوّه [ليستسهل ما لاقى [2]] فيكون أكثر ثباتا وأبلغ نكاية. ولا يقصد بجهاده استفادة المغنم فيصير من المتكسّبين لا من المجاهدين. والثالث من حقوق الله تعالى: أن يؤدّى الأمانة فيما حازه من الغنائم ولا يغلّ منها شيئا حتى تقسم بين جميع الغانمين ممن شهد الوقعة وكانوا على العدوّ يدا، لأن لكل واحد منهم فيها حقا. قال الله تعالى: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ . والرابع من حقوق الله تعالى: ألّا يمايل من المشركين ذا قربى ولا يحابى فى نصرة الله تعالى [ذا مودّة [3]] ، فإن حق الله   [1] قوم فلّ: منهزمون. [2] زيادة من الأحكام السلطانية. [3] فى الأصل فى مكان التكملة غير واضح، وهى عن «الأحكام السلطانية» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 160 أوجب ونصرة دينه ألزم. قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِ . نزلت الآية فى حاطب بن أبى بلتعة وقد كتب كتابا إلى أهل مكة حين همّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بغزوهم يعلمهم فيه بالخبر وأنفذه مع سارّة- مولاة لبنى المطلب- فأطلع الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك، فأنفذ عليّا والزبير فى أثرها، فأدركاها وأخذا الكتاب من قرون رأسها، فدعا النبىّ صلى الله عليه وسلم حاطبا فقال: «ما حملك على ما صنعت» ؛ فقال: والله يا رسول الله إنى لمؤمن بالله ورسوله، ما كفرت ولا بدّلت ولكنى امرؤ ليس لى فى القوم أصل ولا عشيرة وكان لى بين أظهرهم أهل وولد فصانعتهم [1] عليهم؛ فعفا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه. على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى مبيّنا فى أثناء السيرة النبوية عند ذكرنا لغزوة الفتح، فتأمله هناك تجده. وأما ما يلزمهم فى حق الأمير عليهم فأربعة أشياء. أحدها: التزام طاعته والدخول فى ولايته؛ لأن ولايته عليهم انعقدت، وطاعته بالولاية وجبت. والثانى: أن يفوّضوا الأمر إلى رأيه ويكلوه إلى تدبيره، حتى لا تختلف آراؤهم فتختلف كلمتهم ويفترق جمعهم. قال الله تعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ فجعل تفويض الأمر إلى وليّه سببا إلى حصول العلم وسداد الأمر. فإن ظهر لهم صواب خفى عليه بيّنوه له وأشاروا به عليه. والثالث: أن يسارعوا إلى امتثال أمره، والوقوف عند نهيه وزجره، لأنهما من لوازم طاعته. فإن توقّفوا عما أمرهم به أو أقدموا على ما نهاهم عنه ورأى تأديبهم على المخالفة بحسب أفعالهم، فعل.   [1] فى الأصل «فطالعتهم بذلك» وما أثبتناه عن تاريخ الكامل لابن الأثير (ج 3 ص 184 طبع مدينة «ليدن» ) وعن الطبرى (القسم الأوّل ص 1627 طبع أوربا) وعن السيرة النبوية لابن هشام (ص 810 طبع أوربا) وعن شرح القسطلانى فانه بعد أن شرح رواية البخارى للحديث فى كتاب الجهاد قال «وفى رواية ابن إسحاق: وكان لى بين أظهرهم ولد وأهل فصانعتهم عليهم» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 161 ولا يغلّظ فينفّر. قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ . والرابع: ألّا ينازعوه فى الغنائم إذا قسمها فيهم، ويتراضوا به بعد القسمة. والخامس من أحكامها: مصابرة الأمير على قتال العدوّ ما صبر وإن تطاولت به المدّة. ولا يولّى عنهم وفيه قوّة. قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . قيل فى تأويل هذه الآية: اصبروا على الجهاد، وصابروا العدوّ، ورابطوا بملازمة [1] الثغر. فإذا كانت مصابرة القتال من حقوق الجهاد فهى لازمة حتى يظفر بخصلة من أربع خصال: إحداهن- أن يسلموا فيصير لهم بالإسلام مالنا وعليهم ما علينا، ويقرّوا على ما ملكوا من بلاد وأموال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقّها» . وتصير بلادهم إذا أسلموا دار إسلام يجرى عليها حكم الإسلام. ولو أسلم منهم فى معركة الحرب طائفة، قلّت أو كثرت، أحرزوا بالإسلام ما ملكوا فى دار الحرب من أرض ومال. فإن ظهر على دار الحرب لم تغنم أموال من أسلم. وقال أبو حنيفة: يغنم ما لا ينقل من أرض ودار، ولا يغنم ما ينقل من مال ومتاع. والخصلة الثانية- أن يظفّره [2] الله تعالى بهم مع مقامهم على شركهم، فيسبى دراريهم ويغنم أموالهم ويقتل من لم يحصل فى الأسر [3] منهم. ويكون مخيّرا فى الأسرى   [1] كذا فى الأحكام السلطانية، وفى الأصل: «ورابطوا ملازمة الثغر» . [2] كذا فى الأحكام السلطانية، وهو الذى يستقيم به الكلام. وفى الأصل: «ان ظفره الله ... » . [3] كذا فى الأحكام السلطانية، وهو الذى يلتئم مع ما بعده. وفى الأصل: «من لم يحصل فى القتل ... » . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 162 فى استعمال الأصلح من أربعة أمور. أحدها: أن يقتلهم صبرا بضرب العنق. والثانى: أن يسترقّهم ويجرى عليهم أحكام الرّقّ من بيع أو عتق. والثالث: أن يفادى بهم على مال أو أسرى. والرابع: أن يمنّ عليهم ويعفو عنهم. قال الله تعالى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ معناه الأسر [1] . ثم قال: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها. والخصلة الثالثة- أن يبذلوا مالا على المسالمة والموادعة، فيجوز أن يقبله منهم ويوادغهم عليه. وهو على ضربين. أحدهما: أن يبذلوه لوقتهم ولا يجعلوه خراجا مستمرّا. فهذا المال غنيمة لأنه مأخوذ بإيجاف خيل وركاب، فيقسم بين الغانمين، ويكون ذلك أمانا لهم فى الانكفاف [2] عن قتالهم فى هذا الجهاد، ولا يمنع من جهادهم فيما بعد. والضرب الثانى: أن يبذلوه فى كل عام، فيكون خراجا مستمرّا، ويكون الأمان به مستقرّا. والمأخوذ منهم فى العام الأوّل غنيمة تقسم بين الغانمين، وما يؤخذ فى الأعوام المستقبلة يقسم فى أهل الفىء. ولا يجوز أن يعاود جهادهم ما كانوا مقيمين على بذل المال، لاستقرار الموادعة عليه. وإذا دخل أحدهم إلى دار الإسلام، كان له بعقد الموادعة الأمان على نفسه وماله. فإن منعوا المال زالت الموادعة وارتفع الأمان ولزم [3] الجهاد كغيرهم من أهل الحرب. وقال أبو حنيفة: لا يكون منعهم من مال الجزية والصلح نقضا لأمانهم، لأنه حق عليهم فلا ينتقض العهد بمنعهم منه كالديون.   [1] فى الأصل: «معناه بالأسر، بزيادة الباء. [2] كذا فى الأحكام السلطانية. وفى الأصل: «فى الانكفاء ... » . [3] فى الأصل: «ولزوم الجهاد ... » وهو تحريف، والتصويب عن الأحكام السلطانية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 163 والخصلة الرابعة- أن يسألوا الأمان والمهادنة؛ فيجوز اذا تعذّر الظفر بهم وأخذ المال منهم أن يهادتهم على المسالمة فى مدّة مقدّرة تعقد الهدنة [عليها اذا كان الامام قد أذن له فى الهدنة [1]] أو فوّض اليه الأمر. فقد هادن رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا عام الحديبية عشر سنين. ويقتصر فى مدّة الهدنة على أقلّ ما يمكن، ولا يجاوز بأكثرها عشر سنين. فإن هادنهم أكثر منها بطلت الهدنة فيما زاد عليها، ولهم الأمان فيها الى انقضاء مدّتها لا يجاهدون فيها من غير إنذار. [فإن نقضوه صاروا حربا يجاهدون من غير إنذار [1]] فقد نقضت قريش صلح الحديبية، فسار اليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح محاربا. واذا نقضوا عهدهم فلا يجوز قتل من فى أيدينا من رهائنهم. وقد نقض الروم عهدهم فى زمان معاوية وفى يده رهائن فامتنع المسلمون جميعا من قتلهم وخلّوا سبيلهم وقالوا: وفاء بغدر خير من غدر بغدر. وإذا لم يجز قتل الرهائن لم يجب [2] إطلاقهم ما لم يحاربوا. فإن حاربونا وجب إطلاق رهائنهم وإبلاغ الرجل منهم مأمنهم وإيصال النساء والأطفال والذرارى الى أهليهم. ويجوز أن يشترط لهم فى عقد الهدنة ردّ من أسلم من رجالهم اليهم. فإذا أسلم أحدهم ردّ اليهم إن كانوا مأمونين على دمه، ولم يردّ إليهم [3] إن لم يؤمنوا عليه. ولا يشترط ردّ من أسلم من نسائهم، لأنهنّ ذوات فروج محرّمة. فإن شرط ردّهن لم يجز أن يرددن [4] ؛ ودفع الى أزواجهنّ مهورهنّ اذا طلبن. ولا تجوز المهادنة لغير ضرورة تدعو الى عقدها، وتجوز الموادعة أربعة أشهر فما دونها ولا يزيد عليها.   [1] التكملة من الأحكام السلطانية. [2] فى الأحكام السلطانية «لم يجز إطلاقهم ... » . [3] كذا فى الأحكام السلطانية. وفى الأصل: «ولم يردّ عليهم ... » . [4] فى الأصل: «لم يجز أن يردوا» ومرجع الضمير مؤنث. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 164 وأما الأمان الخاصّ فيصح أن يبذله كل مسلم من رجل وامرأة وحرّ وعبد؛ لقول النبىّ صلى الله عليه وسلم: «المسلمون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم يسعى بذمّتهم أدناهم» يعنى عبيدهم. وقال أبو حنيفة: لا يصحّ أمان العبد إلا أن يكون مأذونا له فى القتال. والسادس من أحكامها- السيرة فى نزال العدوّ وقتاله. يجوز لأمير الجيش فى حصار العدوّ أن ينصب عليهم العرّادات [1] والمجانيق. فقد نصب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الطائف منجنيقا. ويجوز أن يهدم عليهم منازلهم، ويضع عليهم البيات والتحريق. واذا رأى فى قطع نخلهم وشجرهم صلاحا ليظفر بهم عنوة أو يدخلوا فى السلم صلحا لما ينالهم من الضعف، فعل. ولا يفعل إن لم ير فيه صلاحا. فقد قطع النبى صلى الله عليه وسلم كروم أهل الطائف فكان سببا لإسلامهم، وأمر فى حرب بنى النّضير بقطع نوع من النخل يقال له الأصفر يرى نواه من وراء اللّحاء، وكانت النخلة منها أحبّ اليهم من الوصيف [2] ، فحزنوا لقطعها، وجاء المسلمون الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، هل لنا فيما قطعنا من أجر؟ وهل علينا فيما تركنا من وزر؟ فأنزل الله تعالى: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ [3] أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ . ويجوز أن يعوّر [4] عليهم المياه ويقطعها عنهم وإن كان فيهم النساء والأطفال؛ لأنه من أقوى أسباب ضعفهم والظفر بهم. واذا استسقى منهم عطشان فالأمير مخيّر فى سقيه أو منعه. ومن قتل منهم واراه عن الأبصار ولم يلزم [5] تكفينه. ولا يجوز أن يحرق بالنار منهم حيّا ولا ميتا. روى عن النبىّ صلى الله عليه   [1] العرادات: واحدها: عرّادة وهى أصغر من المنجنيق ترمى بالحجارة المرمى البعيد. [2] الوصيف: العبد. [3] اللينة: واحدة اللين وهو كل شىء من النخل سوى العجوة. [4] عوّر الماء: سدّه. [5] كذا فى الأحكام السلطانية. وفى الأصل «ولم يكره» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 165 وسلم أنه قال: «لا تعذّبوا عباد الله بعذاب الله» وقد أحرق أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه قوما من أهل الردّة. قال الماوردى: ولعل ذلك كان منه والخبر لم يبلغه. ومن قتل من شهداء المسلمين زمّل فى ثيابه ودفن ولم يغسّل ولم يصلّ عليه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى شهداء أحد: «زمّلوهم بكلومهم فإنهم يبعثون يوم القيامة وأوداجهم تشخب دما اللون لون الدّم والريح ريح المسك» . وإنما فعل ذلك بهم مكرمة لهم وإجراء لحكم الحياة عليهم. قال الله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ . ولا يمنع الجيش فى دار الحرب من أكل طعامهم وعلوفة دوابّهم غير محتسب به عليهم. ولا يتعدّوا القوت والعلوفة الى ما سواهما من ملبوس ومركوب. فإن دعتهم الضرورة الى ذلك، كان ما لبسوه أو ركبوه أو استعملوه، مسترجعا منهم فى المغنم إن كان باقيا، ومحتسبا عليهم من سهمهم إن كان مستهلكا. ولا يجوز لأحد منهم أن يطأ جارية من السّبى إلا بعد أن يعطاها بسهمه فيطأها بعد الاستبراء. فإن وطئها قبل القسمة عزّر ولا يحدّ، لأنّ له فيها سهما؛ ووجب عليه مهر مثلها يضاف الى الغنيمة. فإن أحبلها لحق به ولدها وصارت أمّ ولد له إن ملكها. وإن وطئ من لم تدخل فى السبى حدّ، لأن وطأها زنا؛ ولم يلحق به ولدها إن علقت. وإذا عقدت هذه الإمارة على غزاة واحدة، لم يكن لأميرها أن يغزو غيرها سواء غنم فيها أو لم يغنم. واذا عقدت عموما عاما بعد عام لزمه معاودة الغزو فى كل وقت يقدر على الغزو فيه، ولا يفتر عنه مع ارتفاع الموانع إلا قدر الاستراحة. و [أقل ما يجزيه أن [1]] لا يعطّل عاما من جهاد.   [1] زيادة من الأحكام السلطانية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 166 ولهذا الأمير، اذا فوّضت اليه الإمارة على المجاهدين، أن ينظر فى أحكامهم ويقيم الحدود عليهم وسواء من ارتزق منهم أو تطوّع. ولا ينظر فى أحكام غيرهم ما كان سائرا الى ثغره. فإذا استقرّ فى الثغر الذى تقلّده، جاز أن ينظر فى أحكام جميع أهله من مقاتلة ورعيّة. وإن كانت إمارته خاصة أجرى عليها حكم الخصوص. وأما وصايا أمير الجيش- قال الحليمىّ: ويوصى الإمام أمير السريّة والجند بتقوى الله وطاعته والاحتياط والتيقّظ، ويحذّرهم الشّتات والفرقة والإهمال والغفلة، ويأخذ على الجند أن يسمعوا ويطيعوا أميرهم ولا يختلفوا عليه وينصحوا له، ولا يخذل [1] بعضهم بعضا، وإن أظفرهم الله على العدوّ لا يغلّوا ولا يخونوا، ولا يعقروا من دوابّ المشركين التى لا تكون تحتهم، ولا يقتلوا امرأة لا تقاتلهم ولا وليدا، وأنهم إن وصلوا إلى قرية لا يدرون حالها، أمسكوا عنها وعن أهلها ولا يبيّتونهم ولا يشنّون الغارة عليهم حتى يعلموا حالهم؛ إلى غير ذلك من الآداب التى يحتاجون إلى معرفتها مما يلزم ويحلّ أو يحرم من أمر القتل والأسر والمغنم والقسم وعزل الخمس ومن يسهم له أولا يسهم ومن يرضخ [له [2]] ، والفرق بين الفارس والراجل ونحو ذلك. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الجرّاح أنه بلغنى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث جيشا أو سريّة قال: «باسم الله وفى سبيل الله تقاتلون من كفر بالله لا تغلّوا ولا تغدروا ولا تمثّلوا ولا تقتلوا امرأة ولا وليدا» . فإذا بعثت جيشا أو سريّة فمرهم بذلك.   [1] يخذل: يجوز أن يقرأ بتخفيف الذال فيكون من الخذلان، وبتشديدها فيكون من التخذيل. والخذلان: ترك النصرة. والتخذيل: التثبيط والحمل على ترك النصرة. [2] يقال: رضخ له من ماله اذا أعطاه عطية قليلة. فالزيادة التى وضعناها تقتضيها اللغة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 167 وقال أبو بكر الصّدّيق رضى الله عنه لخالد بن الوليد حين وجّهه لقتال أهل الرّدّة: سر على بركة الله، فإذا دخلت أرض العدوّ فكن بعيدا من الحملة فإنى لا آمن عليك الجولة، واستظهر بالزاد، وسر بالأدلّاء، ولا تقاتل بمجروح فإن بعضه ليس منه، واحترس من البيات فإنّ فى العرب غرّة، وأقلل من الكلام فإنما لك ماوعى عنك، واقبل من الناس علانيتهم وكلهم إلى الله فى سريرتهم؛ وأستودعك الله الذى لا تضيع ودائعه. وكان عمر بن الخطاب رضى الله عنه يقول عند عقد الألوية: باسم الله وبالله وعلى عون الله، امضوا بتأييد الله والنصر ولزوم الحق والصبر، فقاتلوا فى سبيل الله من كفر بالله، ولا تعتدوا إن الله لا يحبّ المعتدين. ولا تجبنوا عند اللّقاء، ولا تمثّلوا عند القدرة، ولا تسرفوا عند الظهور، ولا تقتلوا هرما ولا امرأة ولا وليدا، وتوقّوا قتلهم إذا التقى الزّحفان وعند شنّ الغارات. وكتب عمر الى سعد بن أبى وقّاص ومن معه من الأجناد: أما بعد فإنى آمرك ومن معك بتقوى الله على كلّ حال، فإن تقوى الله أفضل العدّة على العدوّ وأقوى المكيدة فى الحرب. وآمرك ومن معك أن تكونوا أشدّ احتراسا من المعاصى منكم من عدوّكم؛ فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوّهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوّهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا قوّة بهم؛ لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدّتنا كعدّتهم. فإن استوينا فى المعصية كان لهم الفضل علينا فى القوّة. وإلّا ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوّتنا. واعلموا أن عليكم فى مسيركم حفظة [من [1]] الله يعلمون ما تفعلون، فاستحيوا منهم. ولا تعملوا بمعاصى الله وأنتم فى سبيل الله. ولا تقولوا إن عدوّنا شرّ منا فلن يسلّط علينا وإن أسأنا؛ فرب قوم قد سلّط عليهم شرّ منهم كما سلّط على بنى   [1] زيادة من العقد الفريد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 168 إسرائيل لمّا عملوا بمساخط الله كفرة المجوس (فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا) . واسألوا الله العون على أنفسكم كما تسألونه النصر على عدوّكم. أسأل الله ذلك لنا ولكم. وترفّق بالمسلمين فى مسيرهم، ولا تجشّمهم مسيرا يتعبهم، ولا تقصّر بهم عن منزل يرفق بهم، حتى يبلغوا عدوّهم والسفر لم ينقص [1] قوّتهم؛ فإنهم سائرون الى عدوّ مقيم حامى الأنفس والكراع [2] . وأقم بمن معك فى كل جمعة يوما وليلة حتى تكون لهم راحة يجمّون [3] فيها أنفسهم ويرمّون [4] أسلحتهم وأمتعتهم. ونحّ منازلهم عن قرى أهل الصلح والذمّة، فلا يدخلها من أصحابك إلا من تثق بدينه ولا يرزأ [5] أحدا من أهلها شيئا، فإن لهم حرمة وذمّة ابتليتم بالوفاء بها كما ابتلوا بالصبر عليها؛ فما صبروا لكم ففوا لهم [6] . ولا تستنصروا على أهل الحرب بظلم أهل الصلح. وإذا وطئت أدنى أرض العدوّ فأذك [7] العيون بينك وبينهم، ولا يخف عليك أمرهم. وليكن عندك من العرب أو من أهل الأرض من تطمئن إلى نصحه وصدقه، فإن الكذوب لا ينفعك خبره وإن صدق فى بعضه، والغاشّ عين عليك وليس عينا لك. وليكن منك عند دنوّك من أرض العدوّ أن تكثر الطلائع وتبثّ السّرايا بينك وبينهم [فتقطع السرايا أمدادهم ومرافقهم، وتتبع الطلائع عوراتهم [8]] . وانتق للطلائع أهل الرأى والبأس من أصحابك،   [1] كذا فى العقد الفريد، وفى الأصل: «لا ينقص» . [2] الكراع: الخيل. [3] يجمون أنفسهم: يتركونها لترتاح وتقوى. [4] يرمون: يصلحون. [5] «ولا يرزأ» فى الأصل غير معجمة، وأثبتناها بالياء طبقا لما فى العقد الفريد، على أن تكون معطوفة على صلة الموصول قبلها. ويحتمل أن تكون بتاء الخطاب. [6] فى العقد الفريد: «فما صبروا لكم فتولوهم خيرا» . [7] إذكاء العيون والطلائع: بثها. [8]- هذه الجملة التى بين القوسين وردت فى الأصل هكذا: «فتنقطع للسرايا أمدادهم ومرافقهم وتتبع بالطلائع عوراتهم» وفى بعض هذه الكلمات تحريف جعل الجملة غير مستقيمة، فأثبتناها كما وردت فى العقد الفريد (ج 1 ص 50) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 169 وتخيّر لهم سوابق الخيل، فإن [1] لقوا عدوّا كان أوّل ما تلقاهم القوّة من رأيك. واجعل أمر [2] السّرايا الى أهل الجهاد والصبر على الجلاد، ولا تخصّ بها أحدا بهوى، فيضيع من رأيك وأمرك أكثر مما حابيت به أهل خاصّتك. ولا تبعث طليعة ولا سريّة فى وجه تتخوّف عليها فيه ضيعة ونكاية. فإذا عاينت العدوّ فاضمم اليك أقاصيك وطلائعك وسراياك، واجمع إليك مكيدتك وقوّتك، ثم لا تعاجلهم المناجزة، ما لم يستكرهك قتال [3] ، حتى تبصر عورة عدوّك ومقاتله، وتعرف الأرض كلها كمعرفة أهلها، فتصنع بعدوّك كصنيعه بك. ثم أذك أحراسك على عسكرك، وتحفّظ من البيات جهدك. ولا تؤتى بأسير ليس له عهد إلا ضربت عنقه، لترهب بذلك عدوّك وعدوّ الله. والله ولىّ أمرك ومن معك، وولىّ النصر لكم على عدوّكم؛ والله المستعان. وأوصى عبد الملك بن مروان أميرا سيّره الى أرض الروم فقال: أنت تاجر الله لعباده، فكن كالمضارب الكيّس الذى إن وجد ربحا تجر، وإلّا تحفّظ برأس المال؛ ولا تطلب الغنيمة حتى تحوز السلامة؛ وكن من احتيالك على عدوّك أشد حذرا من احتيال عدوّك عليك. وكان زياد بن أبيه يقول لقوّاده: تجنّبوا اثنتين لا تقاتلوا فيهما العدوّ: الشتاء، وبطون الأودية. وكان قتيبة بن مسلم يقول لأصحابه: اذا غزوتم فأطيلوا الأظفار، وقصّروا الشعور، والحظوا الناس شزرا، وكلّموهم رمزا، واطعنوهم وخزا.   [1] كذا فى العقد الفريد، وفى الأصل: «وإن لقوا ... » . [2] فى الأصل: «أهل السرايا ... » والتصويب عن العقد الفريد [3] كذا فى العقد الفريد، وفى الأصل: «ما لم يستكرهوك القتال» الجزء: 6 ¦ الصفحة: 170 وكان أبو مسلم الخراسانىّ صاحب الدعوة يقول لقوّاده: أشعروا قلوبكم الجرأة فإنها من أسباب الظّفر، وأكثروا ذكر الضغائن فإنها تبعث على الإقدام، والزموا الطاعة فإنها حصن المحارب. وقالت الحكماء: لا تستصغرنّ أمر عدوّك اذا حاربته، لأنك إن ظفرت به لم تحمد وإن ظفر بك لم تعذر؛ والضعيف المحترس من العدوّ القوىّ أقرب الى السلامة من القوىّ المغترّ بالضعيف. ذكر ما يقوله قائد الجيش وجنده من حين [1] يشاهد العدوّ الى انفصال الحرب والظفر بعدوّهم قال الشيخ أبو عبد الله الحسين الحليمىّ فى منهاجه: اذا مضى الجيش باسم الله فلقوا العدوّ فليتعوّذوا بالله تعالى، وليقولوا: اللهم إنا ندرأ بك [2] فى نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم. فإذا قاتلوا فليقولوا: اللهم بك نصول ونجول. وليقولوا: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ . وليقولوا: اللهم منزّل الكتاب وسريع الحساب هازم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم. وإن حصبوهم فليقولوا: «شاهت الوجوه» . وإن رموهم فليقولوا: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً. وإن بيّتهم العدوّ فليكن شعارهم (حم) * لا ينصرون (حم عسق) يفرّق أعداء الله، وبلغت حجة الله، ولا حول ولا قوّة إلا بالله. وليقولوا إذا دخل العدوّ ديارهم: ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا . وليقولوا اذا صافّوهم: قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ . وليقولوا:   [1] فى الأصل: «من حيث» وظاهر أن السياق يقتضى ما أثبتنا. [2] فى الأصل «انا ندروك ... » وهو تحريف. ومنه الحديث- كما فى نهاية ابن الأثير فى مادة (درأ) -: «اللهم إنى أدرأ بك فى نحورهم» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 171 فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ . وليقولوا: جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ . وليقولوا: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ . وليقولوا: فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ. وإن صبحوا دارهم فليقولوا: الله أكبر، هزم العسكر، إذا نزلنا ساحة قوم (فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ) . وإن بيّتوهم فليقولوا: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ . وإن جاءوهم نهارا فليقولوا: أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ . وليقولوا فى عامّة أحوالهم وأوقاتهم: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . وليقولوا: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً . إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً . وإن كان العدوّ يهودا فليقل المسلمون فى وجوههم: وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا . وليقولوا: فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ . وليقرءوا المعوّذتين غدوة وعشيّا. وإن وقعت هزيمة فتبعهم العدوّ فليتحصّنوا منهم بقراءة قوله تعالى: وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً . وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ. وإن هزموا العدوّ فليقولوا على آثارهم: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ . وليقولوا: ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ . وإن لجّ العدوّ وثبتوا فليقولوا: وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ . وليقولوا: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ . وليقولوا: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 172 الْبَعِيدُ . وليقولوا: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً . وليقولوا: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً وليقولوا: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً . وليقولوا: ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ . وليقولوا: وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ . وليقولوا إذا حملوا على العدوّ: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) . بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ . وليقولوا: ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً . وليقولوا: أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ . وليقولوا: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ . وليقولوا: فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا . وليقولوا: فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ . وإن حمل العدوّ عليهم فليقولوا لأنفسهم: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ . وليقولوا: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ . وإذا دنوا منهم فليقولوا: انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ . وليقولوا: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً . وليقولوا: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ . وليقولوا: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً . وإن لحق العدوّ مدد فليقل المسلمون: لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ . وليقولوا: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 173 وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ. وإن لحق المسلمين مدد فليقولوا: وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ . وإذا تحصّنوا من العدوّ بموضع فليقولوا إن قصدوهم: فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً . وليقولوا: فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً . وإن تحصّن العدوّ منهم بموضع فليقولوا إن قصدوه: فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا . وليقولوا: اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ* . وليقولوا إذا خافوهم: إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . وليقولوا: وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً . وليقولوا: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ . وليقولوا: فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ . وليقولوا: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . وليقولوا: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ . وإن حاصروا العدوّ وأحدقوا بهم فليقولوا: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً . وليقولوا: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ . وإن حاصرهم العدوّ وأحاط بهم فليقولوا: قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ . وليقولوا: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ . وليقولوا: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 174 كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ . وإن رماهم العدوّ بالنار فليقولوا: يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ . فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ . وليقولوا: الله أكبر، الله ربنا، ومحمد نبينا، وأنت يا نار لغيرنا. وليقولوا: كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ . وإن رموا العدوّ بالنار فليقولوا معها: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً. وليقولوا: ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ . وليقولوا: فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ . وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ* . وليقولوا: إِنَّها لَظى نَزَّاعَةً لِلشَّوى تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعى. وليقولوا: وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ . وإن رموا العدوّ بالمنجنيق فليقولوا: جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ . وإن رماهم العدوّ بالمنجنيق فليقولوا: إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا. وليقولوا: وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ . وليقولوا: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً . وإذا دخلوا أرض العدوّ فليقولوا: باسم الله لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً . وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً . ويقولوا إذا كانت الريح تصفّق فى وجوه العدوّ: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ. وإن كانت الريح تهبّ على وجوه المسلمين فليقولوا: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ . وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 175 ويقولوا: «اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا» ، ويقولوا: اللهم إنا نسألك من خير ما تأتى به الرياح، ونعوذ بك من شر المساء والصباح. وإن بارز مسلم مشركا فليقرأ عليه: فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ . وليقل: فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ. وليقل: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ . وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا . وإذا التقى الصفّان فليدع أمير السريّة ويسأل الله النصر والفتح ويؤمّن الناس على دعائه؛ فإنها من ساعات الإجابة. ذكر ما قيل فى المكيدة والخداع فى الحروب وغيرها روى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الحرب خدعة [1] » . وكان صلى الله عليه وسلم إذا غزا أخذ طريقا وهو يريد أخرى، ويقول: «الحرب خدعة» . وكان مالك بن عبد الله الخثعمىّ وهو على الصافّة [2] يقوم فى الناس، اذا أراد أن يرحل، فيحمد الله ويثنى عليه، ثم يقول: إنى دارب بالغداة درب كذا؛ فتتفرّق الجواسيس عنه بذلك، فإذا أصبح سلك بالناس طريقا غيرها. فكانت الروم تسميّه الثعلب. وقال المهلّب لبنيه: عليكم فى الحرب بالمكيدة، فإنها أبلغ من النجدة. وسئل بعض أهل التمرّس بالحروب: أىّ المكايد فيها أحزم؟ فقال: إذ كاء العيون [3] ، وإفشاء الغلبة، واستطلاع الأخبار، وإظهار السرور، وإماتة الفرق،   [1] فى النهاية لابن الأثير « ... يروى بفتح الخاء وضمها مع سكون الدال، وبضمها مع فتح الدال فالأول معناه أن الحرب ينقضى أمرها بخدعة واحدة من الخداع أى أن المقاتل اذا خدع مرة واحدة لم نكن لها إقالة، وهى أفصح الروايات وأصحها، ومعنى الثانى هو الاسم من الخداع، ومعنى الثالث أن الحرب تخدع الرجال وتمنيهم ولا تقى لهم كما يقال: فلان رجل لعبة وضحكة أى كثير اللعب والضحك» . [2] الصافة: الجماعة تقام وتصف للحرب. [3] إذكاء العيون: بث الجواسيس. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 176 والاحتراس من البطانة، من غير إقصاء [1] لمستنصح ولا استنصاح لمستغشّ، وإشغال [2] الناس عما هم فيه من الحرب بغيره. وقال حكيم: اللّطف فى الحيلة، أجدى للوسيلة. وقيل: من لم يتأمّل الأمر بعين عقله لم يقع سيف حيلته إلا على مقاتله، والتّثبّت يسهّل طريق الرأى إلى الإصابة، والعجلة تضمن العثرة. ويقال: إن سعيد بن العاص صالح أهل حصن من حصون فارس على ألّا يقتل منهم رجلا واحدا، فقتلهم كلّهم إلا رجلا واحدا. وقيل: لما أتى بالهرمزان أسيرا الى عمر بن الخطاب رضى الله عنه، قيل له: يا أمير المؤمنين، هذا زعيم العجم وصاحب رستم [3] ؛ فقال له عمر رضى الله عنه: أعرض عليك الإسلام نصحا لك فى عاجلك وآجلك؛ فقال: إنما أعتقد ما أنا عليه ولا أرغب فى الإسلام رهبة؛ فدعا عمر بالسيف، فلما همّ بقتله، قال: يا أمير المؤمنين، شربة من ماء هى أفضل من قتلى على الظمأ؛ فأمر له بشربة من ماء؛ فلما أخذها الهرمزان قال: يا أمير المؤمنين، أنا آمن حتى أشربها؟ قال: نعم؛ فرمى بها وقال: الوفاء يا أمير المؤمنين نور أبلج؛ قال: صدقت، لك التوقّف عنك والنظر فيك، ارفعا عنه السيف؛ فقال: يا أمير المؤمنين، الآن أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وما جاء به حق من عنده؛ فقال عمر: أسلمت خير إسلام، فما أخّرك؟ قال: كرهت أن يظنّ بى أنى إنما أسلمت خوفا من السيف؛ فقال عمر: ألا إنّ لأهل فارس عقولا استحقّوا بها ما كانوا فيه من الملك، ثم أمر ببرّه وإكرامه.   [1] فى الأصل: «من غير إفضاء..» . [2] فى الأصل: «واشتغال الناس ... » . [3] هو رستم بن فرخزاد، كان من أعظم رجال فارس وقائد جيوش يزدجرد ملك ساسان فى وقعة القادسية التى انتصر فيها المسلمون حينما أرسل سعد بن أبى وقاص لفتح ايران فى خلافة عمر رضى الله عنه. وقد قتل رستم فى هذه الوقعة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 177 ونظير هذه القصة ما فعل الأسير الذى أتى به الى معن بن زائدة فى جملة الأسرى فأمر بقتلهم؛ فقال: أتقتل الأسرى عطاشا يا معن؟ فأمر بهم فسقوا، فلما شربوا قال: أتقتل أضيافك يا معن؟ فخلّى عنهم. ومن المكايد المشهورة حكاية قصير مع الزّبّاء، وسنذكرها إن شاء الله فى التاريخ فى أخبار ملوك العرب، وواقعة ملك الهياطلة مع فيروز بن يزدجرد، ونذكرها أيضا فى أخبار ملوك الفرس. ومن المكايد خبر عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة مع معاوية بن أبى سفيان، وكان معاوية قد كتب اليهما واستقدم عمرا من مصر والمغيرة من الكوفة؛ فقال عمرو للمغيرة: ما جمعنا إلا ليعزلنا، فإذا دخلت عليه فاشك الضعف واستأذنه أن تأتى الطائف أو المدينة، وأنا اذا دخلت عليه سأسأله ذلك فإنه يظن أنّا نريد أن نفسد عليه. فدخل المغيرة على معاوية فسأله أن يعفيه فأذن له؛ ودخل عليه عمرو وسأله ذلك؛ فقال معاوية: قد تواطأتما على أمر وإنكما لتريدان شرّا، ارجعا الى عمليكما. وكتب المغيرة بن شعبة إلى معاوية حين كبر وخاف العزل: أما بعد، فإنه قد كبرت سنّى، ودقّ عظمى، وقرب أجلى، وسفّهنى رجال قريش، فرأى أمير المؤمنين فى عمله موفّق. فكتب اليه معاوية: أمّا ما ذكرت من كبر سنّك، فإن سنّك أكلت عمرك. وأما اقتراب أجلك، فإنى لو كنت أستطيع أن أدفع المنيّة عن أحد لدفعتها عن آل أبى سفيان. وأما ما ذكرت من العمل ف ضحّ قليلا يدرك الهيجا [1] حمل وأمّا ما ذكرت من سفهاء قريش، فإنّ حلماء قريش أنزلوك هذا المنزل. فاستأذن معاوية   [1] وكذا فى اللسان. وضح قليلا: تأنّ قليلا ولا تعجل. وهو شطر بيت ورد فى شرح القاموس هكذا: لبّث قليلا يلحق الهيجا حمل ... ما أحسن الموت اذا حان الأجل وقائل البيت حمل بن بدر، وقيل حمل بن سعدانة الصحابى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 178 فى القدوم فأذن له؛ فلما وصل اليه قال له معاوية: كبرت سنك، واقترب أجلك، ولم يبق منك شىء، ولا أظنّنى إلا مستبدلا بك. قال: فانصرف والكآبة تعرف فى وجهه؛ فقيل له: ما تريد أن تفعل [1] ؟ فقال: ستعلمون ذلك. ثم أتى معاوية فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ الأنفس يغدى عليها ويراح، ولست فى زمن أبى بكر ولا عمر، وقد اجترح الناس، ولو نصبت لنا علما من بعدك نصير اليه! مع أنى كنت قد دعوت أهل العراق الى يزيد فركنوا اليه حتى جاءنى كتابك؛ قال: يا أبا محمد، انصرف الى عملك فأحكم هذا الأمر لابن أخيك، وأعاده على البريد يركض. وقيل: جاء بازيار [2] لعبد الله بن طاهر فأعلمه أن بازيا له انحط على عقاب له فقتلها؛ فقال: اذهب فاقطف رأسه، فإنى لا أحبّ الشىء أن يجترئ على ما فوقه. وأراد أن يبلغ ذلك المأمون فيسكن الى جانبه. قال الشعبىّ: وجّهنى عبد الملك بن مروان الى ملك الروم، فلما قدمت عليه ودفعت اليه كتاب عبد الملك، جعل يسألنى عن أشياء فأخبره بها، فأقمت عنده أياما، ثم كتب جواب كتابى، فلما انصرفت دفعته الى عبد الملك، فجعل يقرؤه ويتغيّر لونه، ثم قال: يا شعبىّ، علمت ما كتب به إلىّ الطاغية؟ قلت: يا أمير المؤمنين، كانت الكتب مختومة ما قرأتها وهى اليك؛ فقال: إنه كتب إلىّ: إنّ العجب من قوم يكون فيهم مثل من أرسلت به إلىّ فيملّكون غيره؛ فقال: قلت يا أمير المؤمنين لأنه لم يرك؛ قال: فسرّى عنه، ثم قال: إنه حسدنى عليك فأراد أن أقتلك. قال: ولمّا ظفر الجنيد بن عبد الرحمن- وهو يلى خراسان فى أيام هشام- بصبيح الخارجىّ وبعدّة من أصحابه فقتلهم جميعا إلا رجلا أعمى [قال هذا الرجل [3]] أنا أدلّك   [1] تكررت فى الأصل جملة «فقيل له ما تريد أن تفعل» سهوا من الناسخ. [2] البازيار: القيم على البزاة أو المتجربها. [3] زيادة يقتضيها السياق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 179 على أصحاب صبيح وأجازيك على ما صنعت، وكتب له قوما؛ فأمر الجنيد بقتلهم حتى قتل مائة؛ فقال الأعمى عند ذلك: لعنك الله باجنيد! أتزعم أنه يحلّ لك دمى وأنّى ضالّ ثم تقبل قولى فى مائة قتلتهم! لا! والله ما كتبت لك من أصحاب صبيح رجلا، وما هم إلا منكم. فقدّمه الجنيد وقتله. وكان معاوية بن أبى سفيان من الدّهاة؛ وله أخبار فى الدّهاء تدلّ على بعد غوره وحدّة ذهنه. فمنها [1] أن يزيد ابنه سمع بجمال زينب بنت إسحاق زوج عبد الله بن سلّام القرشىّ، وكانت من أجمل النساء فى وقتها وأحسنهنّ أدبا وأكثرهنّ مالا، ففتن بها يزيد؛ فلما عيل صبره ذكر ذلك لبعض خصيان أبيه، وكان ذلك الخصىّ خاصّا بمعاوية واسمه رفيق، فذكر رفيق ذلك لمعاوية وقال له: إنّ يزيد قد ضاق ذرعه بها. فبعث معاوية الى يزيد فاستفسره عن أمره؛ فبثّ له شأنه؛ فقال: مهلا يا يزيد؛ فقال له: علام تأمرنى بالمهل وقد انقطع منها الأمل؟ فقال له معاوية: فأين مروءتك وحجاك [وتقاك] ؟ فقال: قد عيل الصبر، ولو كان أحد [ينتفع فيما يبتلى] به من الهوى [بتقاه، أو يدفع ما أقصده بحجاه] لكان أولى الناس به داود حين ابتلى به؛ فقال: اكتم يا بنىّ أمرك، فإن البوح به غير نافعك، والله بالغ أمره فيك، ولا بدّ مما هو كائن. وأخذ معاوية فى الاحتيال فى تبليغ يزيد مناه، فكتب الى زوجها عبد الله بن سلّام، وكان قد استعمله على العراق: أن أقبل حين تنظر كتابى لأمر [2] فيه حظّك إن شاء الله تعالى فلا تتأخر عنه. فأغذّ السير وقدم، فأنزله معاوية منزلا كان قد هيّىء له وأعدّ فيه نزله؛ وكان عند معاوية يومئذ بالشأم أبو هريرة وأبو الدّرداء، فقال لهما معاوية: إنّ الله قد قسم بين عباده قسما [ووهبهم نعما] أوجب عليهم فيها شكره وحتّم عليهم حفظها، فحبانى   [1] أورد صاحب «كتاب الإمامة والسياسة» هذه القصة بزيادات كثيرة واختلاف فى العبارات عما هنا. وقد أثبتنا من هذه الزيادات ما يستقيم به الكلام، وهو ما وضعناه بين القوسين. [2] فى الأصل: «والأمر ... » وما أثبتناه عن كتاب الامامة والسياسة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 180 منها عز وجل بأتمّ الشرف وأفضل الذكر، وأوسع علىّ الرزق، وجعلنى راعى خلقه، وأمينه فى بلاده، والحاكم فى أمر عباده، ليبلونى أأشكرأم أكفر. وأوّل ما ينبغى للمرء أن يتفقّد وينظر من استرعاه الله أمره، ومن لا غنى به عنه. وقد بلغت لى ابنة أريد إنكاحها والنظر فى اختيار من يباعلها، لعل من يكون بعدى يقتدى فيه بهديى ويتبع فيه أثرى. فإنه [1] قد يلى هذا الملك بعدى من يغلب عليه الشيطان ويرقيه الى تعضيل [2] بناتهم فلا يرون لهم كفؤا ولا نظيرا، وقد رضيت لها ابن سلّام القرشىّ، لدينه وشرفه وفضله ومروءته وأدبه؛ فقالا له: إن أولى الناس برعاية نعم الله وشكرها وطلب مرضاته فيما اختصّه منها لأنت؛ فقال لهما معاوية: فاذكرا له ذلك عنى، وقد كنت جعلت لها فى نفسها شورى، غير أنى أرجو ألّا تخرج من رأيى إن شاء الله. فخرجا من عنده وأتيا عبد الله بن سلّام وذكرا له القصة. ثم دخل معاوية على ابنته وقال لها: اذا دخل عليك أبو الدرداء وأبو هريرة فعرضا عليك أمر عبد الله بن سلّام وحضّاك على المسارعة الى اتباع رأيى فيه، فقولى لهما: إنه كفء كريم وقريب حميم، غير أنّ تحته زينب بنت إسحاق، وأخاف أن يعرض لى من الغيرة ما يعرض للنساء فأتناول منه ما يسخط الله تعالى فيه فيعذّبنى عليه، ولست بفاعلة حتى يفارقها. فلما اجتمع أبو هريرة وأبو الدرداء بعبد الله وأعلماه بقول معاوية، ردّهما اليه يخطبان له منه، فأتياه؛ فقال: قد علمتما رضائى به وحرصى عليه، وكنت قد أعلمتكما الذى جعلت لها فى نفسها من الشّورى، فادخلا عليها واعرضا عليها الذى رأيت لها. فدخلا عليها وأعلماها؛ فقالت لهما ما قاله معاوية لها. فرجعا الى ابن سلّام وأعلماه بما قالته. فلما ظن أنه لا يمنعها منه إلا فراق زينب أشهدهما بطلاقها وأعادهما الى ابنة معاوية.   [1] عبارة الإمامة والسياسة: «فانى قد تخوّفت أن يدعو من يلى هذا الأمر من بعدى زهو السلطان وسرفه الى عضل نسائهم ... الخ» . [2] تعضيل البنات: حبسهنّ عن الزواج ظلما. وفى الأصل: «الى تعطيل بناتهم» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 181 فأتيا معاوية وأعلماه بما كان من فراق عبد الله زوجته رغبة فى الاتصال با بنته؛ فأظهر معاوية كراهة فعله وفراقه لزينب وقال: ما استحسنت له طلاق امرأته ولا أحببته، فانصرفا فى عافية ثم عودا إليها وخذا رضاها. فقاما ثم عادا اليه، فأمرهما بالدخول على ابنته وسؤالها [1] عن رضاها تبرّيّا من الأمر، وقال: لم يكن لى أن أكرهها وقد جعلت لها الشورى فى نفسها. فدخلا عليها وأعلماها بطلاق عبد الله بن سلّام امرأته ليسرّها، وذكرا من فضله وكمال مروءته وكرم محتده؛ فقالت لهما: إنه فى قريش لرفيع القدر، وقد تعرفان أن الأناة فى الأمور أرفق لما يخاف من المحذور، وإنى سائلة عنه حتى أعرف دخلة أمره وأعلمكما بالذى يزيّنه الله لى، ولا قوّة إلا بالله؛ فقالا: وفّقك الله وخار لك. وانصرفا عنها، وأعلما عبد الله بقولها؛ فأنشد: فإن يك صدر هذا اليوم ولّى ... فإنّ غدا لناظره قريب وتحدّث الناس بما كان من طلاق عبد الله زينب وخطبته ابنة معاوية، ولا موه على مبادرته بالطلاق قبل إحكام أمره وإبرامه. ثم استحثّ عبد الله أبا هريرة وأبا الدرداء؛ فأتياها وقالا لها: اصنعى ما أنت صانعة واستخيرى الله، فإنه يهدى من استهداه؛ فقالت: أرجو، والحمد لله، أن يكون [2] الله قد خار [لى] ، وقد استبرأت [3] أمره وسألت عنه فوجدته غير ملائم ولا موافق لما أريد لنفسى، ولقد اختلف من استشرته فيه، فمنهم الناهى عنه و [منهم] الآمر به، واختلافهم أوّل ما كرهت. فلما بلّغاه كلامها علم أنه مخدوع، وقال: ليس لأمر الله رادّ، ولا لما لا بدّ [4] منه   [1] فى الأصل: « ... وسؤالهما ... » . [2] فى كتاب الامامة والسياسة: «الحمد لله أرجو أن يكون ... » . [3] فى الأساس: «استبرأت الشىء: طلبت آخره لأقطع الشبهة عنى» . والمعنى هنا أنها استقصت جميع أموره حتى عرفته كل المعرفة. [4] فى الأصل: «ولا لما لا يدنيه صاد» ولعله تحريف عما وضعناه، وأن الياء والدال من «يدنيه» محرّفتان عن «بد» وبقية الكلمة محرّفة عن «منه» . ويؤيد هذا أن عبارة «الامامة والسياسة» «ولا لما لا بد أن يكون منه صاد» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 182 صادّ؛ فإن المرء وإن كمل له حلمه واجتمع له عقله واستدّ رأيه ليس بدافع عن نفسه قدرا برأى ولا كيد. ولعل ما سرّوا به واستجذلوا [1] [له] لا يدوم لهم سروره، ولا يصرف عنهم محذوره. وذاع أمره وفشا فى الناس، وقالوا: خدعه معاوية حتى طلّق امرأته، وإنما أرادها لابنه، وقبّحوا فعله. فتمّت مكيدته هذه؛ لكن المقادير أتت بخلاف تدبيره وبضدّ تقديره. وذلك أنه لما انقضت أقراء زينب، وجّه معاوية أبا الدرداء الى العراق خاطبا لها على ابنه يزيد؛ فخرج حتى قدم الكوفة، وبها يومئذ الحسين بن علىّ رضى الله عنهما، فبدأ أبو الدرداء بزيارته، فسلم عليه الحسين وسأله عن سبب مقدمه؛ فقال: وجّهنى معاوية خاطبا على ابنه يزيد زينب بنت إسحاق؛ فقال له الحسين: لقد كنت أردت نكاحها وقصدت الإرسال اليها اذا انقضت أقراؤها، فلم يمنعنى من ذلك إلا تخيّر مثلك [2] ، فقد أتى الله بك، فاخطب- رحمك الله- علىّ وعليه، لتتخيّر من اختاره الله لها، وهى أمانة فى عنقك حتى تؤدّيها اليها، وأعطها من المهر مثل ما بذل معاوية عن ابنه؛ فقال: أفعل إن شاء الله. فلما دخل عليها أبو الدرداء قال: أيتها المرأة، إنّ الله خلق الأمور بقدرته، وكوّنها بعزته، فجعل لكل أمر قدرا، ولكل قدر سببا، فليس لأحد عن قدر الله مستحاص، ولا للخروج عن أمره مستناص؛ فكان مما [3] سبق لك وقدّر عليك الذى كان من فراق عبد الله بن سلّام إيّاك، ولعل ذلك لا يضرّك ويجعل الله فيه خيرا كثيرا؛ وقد خطبك أمير هذه الأمة وابن ملكها وولىّ عهده والخليفة من بعده   [1] كذا فى «كتاب الامامة والسياسة» وفى الأصل: «ما سوّلوا به واستخذلوا» . [2] فى الأصل وفى «كتاب الامامة والسياسة» : «فلم يمنعنى من ذلك الا تخيير مثلك ... » وظاهر أن الذى يلتئم مع السياق انما هو التخير وهو الانتقاء، اذ المراد هنا انتقاء الرسول الذى يحسن القيام بهذه السفارة. [3] كذا فى كتاب الامامة والسياسة. وفى الأصل: «فكان ما سبق لك ... » . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 183 يزيد بن معاوية، والحسين ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيّد شباب أهل الجنة، وقد بلغك شأنهما وسناؤهما وفضلهما، وقد جئتك خاطبا عليهما، فاختارى أيّهما شئت؛ فسكتت طويلا ثم قالت: يا أبا الدرداء، لو أن هذا الأمر جاءنى وأنت غائب لأشخصت فيه الرسل إليك واتّبعت فيه رأيك ولم أقتطعه دونك، فأمّا إذ كنت أنت المرسل فقد فوّضت أمرى بعد الله إليك وجعلته فى يديك، فاخترلى أرضاهما لديك، والله شاهد عليك، فاقض فى أمرى بالتحرّى ولا يصدّنّك عن ذلك اتباع هوى، فليس أمرهما عليك خفيّا، ولا أنت عما طوّقتك غبيّا؛ فقال: أيتها المرأة، إنما علىّ إعلامك وعليك الاختيار لنفسك؛ قالت: عفا الله عنك! إنما أنا ابنة أخيك، ولا غنى لى عنك، فلا تمنعك رهبة أحد عن قول الحق فيما طوّقتك، فقد وجب عليك أداء الأمانة فيما حمّلتك؛ والله خير من روعى وخيف، إنه بنا خبير لطيف. فلما لم يجد بدّا من القول والإشارة قال: أى بنيّة، إن ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبّ إلىّ وأرضى عندى، والله أعلم بخيرهما لك، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وضع شفتيه على شفتى حسين، فضعى شفتيك حيث وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم شفتيه؛ قالت: قد اخترته وأردته ورضيته. فتزوّجها الحسين وساق لها مهرا عظيما. فبلغ ذلك معاوية فتعاظمه ولام أبا الدرداء شديدا، وقال: من يرسل ذا بله وعمى يركب خلاف ما يهوى. وأما عبد الله ابن سلّام فإنّ معاوية اطّرحه وقطع عنه جميع روافده، لسوء قوله فيه وتهمته أنه خدعه، ولم يزل يجفوه حتى عيل صبره وقلّ ما فى يديه. فرجع الى العراق، وكان قد استودع زينب قبل طلاقه لها مالا عظيما ودرّا كثيرا، فظن أنها تجحده لسوء فعله بها وطلاقها من غير شىء كان منها، فلقى حسينا فسلّم عليه، ثم قال: قد علمت ما كان من خبرى وخبر زينب، وكنت قد استودعتها مالا ولم أقبضه، وأثنى عليها وقال له: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 184 ذاكرها أمرى واحضضها على ردّ مالى. فلما انصرف الحسين إليها قال لها: قد قدم عبد الله بن سلّام وهو يحسن الثناء عليك ويحمل النشر عنك فى حسن صحبتك وما آنسه قديما من أمانتك، فسرّنى ذلك وأعجبنى، وذكر أنه كان قد استودعك مالا، فأدّى إليه أمانته وردّى عليه ماله، فإنه لم يقل إلا صدقا ولم يطلب إلا حقا؛ فقالت: صدق، استودعنى مالا لا أدرى ما هو، فادفعه اليه بطابعه؛ فأثنى عليها حسين خيرا وقال: ألا أدخله عليك حتى تتبرّئى إليه منه كما دفعه اليك؟ ثم لقى عبد الله وقال: ما أنكرت مالك، وإنها زعمت أنه بطابعك، فادخل اليها وتسلّم مالك منها؛ فقال: أو ما تأمر من يدفعه إلىّ؟ قال: لا! بل تقبضه منها كما دفعته إليها. ودخل عليها حسين وقال: هذا عبد الله قد جاء يطلب وديعته؛ فأخرجت اليه البدر فوضعتها بين يديه وقالت: هذا مالك؛ فشكر وأثنى. وخرج حسين عنهما، وفضّ عبد الله ابن سلّام خواتم بدرة [1] وحثى لها من ذلك وقال: خذى فهو قليل منى؛ فاستعبرا جميعا حتى علت أصواتهما بالبكاء أسفا على ما ابتليا به؛ فدخل الحسين عليهما وقد رقّ لهما فقال: أشهد الله أنها طالق ثلاثا، اللهم قد تعلم أنى لم أستنكحها رغبة فى مالها ولا جمالها، ولكنى أردت إحلالها لبعلها. فسألها عبد الله أن تصرف الى حسين ما كان قد ساق إليها من مهر؛ فأجابته الى ذلك؛ فلم يقبله الحسين وقال: الذى أرجو إليه من الثواب خير لى. فلما انقضت أقراؤها تزوّجها عبد الله، وحرمها الله تعالى يزيد بن معاوية. ومن مكايد معاوية أن رجلا من قريش أسر فحمل الى صاحب القسطنطينية، فكلّمه ملك الروم، فجاو به القرشىّ بجواب لم يوافقه؛ فقام اليه رجل من بطارقة صاحب القسطنطينية فوكزه، فقال القرشىّ: وا معاوياه! لقد أغفلت أمورنا وأضعتنا. فوصل   [1] كذا فى كتاب الامامة والسياسة. وفى الأصل: « ... خواتم برده ... » وهو تحريف من الناسخ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 185 الخبر الى معاوية فطوى عليه واحتال فى فداء الرجل. فلما وصل اليه سأله عن أمره مع صاحب القسطنطينية وعن اسم البطريق الذى وكزه؛ فلما عرفه أرسل الى رجل من قوّاد صور [1] الذين كانوا قوّاد البحر ممن عرف بالنّجدة وغزو الروم، وقال له: أنشئ مركبا يكون له مجاديف فى جوفه، واستعمل السفر الى بلاد الروم، وأظهر أنك إنما تسافر لبلادهم على وجه السرّ والاستتار منا، وتوصّل إلى صاحب القسطنطينية ومكّنه من المال واحمل إليه الهدايا والى جميع أصحابه، ولا تعرض لفلان (يعنى الذى لطم الرجل القرشىّ) واعمل كأنك لا تعرفه، فإذا كلّمك وقال لك: لأىّ معنى تهادى أصحابى وتتركنى، فاعتذر إليه وقل له: أنا رجل أدخل الى هذه المواضع مستترا ولا أعرف [إلا [2]] من عرّفت به، فلو عرفت أنك من وزراء الملك لهاديتك كما هاديت أصحابك، ولكنى اذا انصرفت إليكم مرة أخرى سأعرف حقك. ففعل القائد ذلك. ولما انصرف إليهم ثانية هاداه وألطفه [3] وأربى فى هديته على أصحابه، ولم يزل حتى اطمأن إليه العلج. فلما كان فى إحدى سفراته قال له البطريق: كنت أحبّ أن تجلب إلىّ من بلاد المسلمين وطاء ديباج يكون على ألوان الزهر؛ قال: نعم. فلما انصرف أخبر معاوية بما طلبه البطريق؛ فأمر له ببساط على ما وصف، وقال: اذا دخلت وادى القسطنطينية فأخرجه وابسطه على ظهر المركب وتربّص فى الوادى حتى يصل الخبر الى ذلك العلج، وابعث له فى السرّ وتحيّن خروجه الى ضيعته التى له على ضفّة وادى القسطنطينية، فإذا وصلت الى حدّ ضيعته فابتدئ بها، لعلّ يحمله الشره على الدخول إليك؛ فاذا حصل عندك فى المركب فمر الرجال بإشارة تكون بينك   [1] صور: مدينة عظيمة وكانت ثغرا من ثغور بحر الشام. [2] تكملة نرى أن استقامة الكلام تتوقف عليها. [3] يقال: ألطفه بكذا اذا برّه به. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 186 وبينهم أن يستعملوا المجاديف التى فى جوف المركب، وكرّبه راجعا الى الشأم. ففعل ما أمره به معاوية. وصادف وصول ذلك القائد وجود البطريق [1] فى ضيعته، فبسط ذلك البساط على ظهر المركب ووصل الى عرض ضيعة العلج؛ فلما عاين البساط حمله الشّره والحرص الى أن دخل المركب، فلما صار فى المركب أشار [القائد] الى رجاله فرجعوا بالمركب بعد أن أوثق البطريق ومن معه، وسار بهم حتى قدم على معاوية. فأحضر معاوية البطريق ووقفه بين يديه، وأحضر القرشىّ وقال: هذا صاحبك؟ قال: نعم؛ قال: قم فاصنع به ما صنع بك ولا تزد؛ فقام القرشىّ فوكزه كما كان فعل به العلج. ثم قال معاوية للبطريق: ارجع الى ملكك وقل له: تركت ملك الإسلام يقتصّ من أصحاب بساطك، وقال للذى ساقه: انصرف به الى أوّل أرض الروم وأخرجه، واترك له البساط وكل ما سألك أن تحمله اليه من هديّة. فانصرف به الى فم وادى القسطنطينية، فوجد ملك الروم قد صنع سلسلة على فم الوادى ووكّل بها الرجال، فلا يدخل أحد الى الوادى إلا بإذنه؛ فأخرج العلج ومن معه وما معه. فلما وصل الى ملكه ووصف له ما صنع به معاوية قال: هذا ملك كبير الحيلة. فعظم معاوية فى أعينهم وفى نفوسهم فوق ما كان. وهذه الواقعة محاسنها تستر مساوى ما تقدّمها. وهذا الباب متّسع، ستقف إن شاء الله فى التاريخ الذى أوردناه فى كتابنا هذا [على [2]] ما تكتفى به وتطّلع منه على المكايد. وحيث انتهينا الى هذه الغاية فى أوصاف قادة الجيوش، فلنذكر الآن فضيلة الجهاد ووصف الجيوش والوقائع.   [1] فى الأصل: «وصادف وصول ذلك القائد والبطريق ... » . [2] زيادة يقتضيها الكلام. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 187 ذكر ما ورد فى الجهاد وفضله وترتيب الجيوش وأسمائها فى القلة والكثرة، وأسماء مواضع القتال، وما قيل فى الحروب والوقائع، وما وصفت به فأما ما ورد فى الجهاد وفضله. قال الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ . وقال تعالى: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ . وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ . وأثنى الله تعالى على المجاهدين ووعدهم الجنة فى آى كثير. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل جاءه فقال له يا رسول الله: دلّنى على عمل يعدل الجهاد قال: «لا أجده» . وقال أبو هريرة رضى الله عنه: إن فرس المجاهد ليستنّ فى طوله فيكتب له حسنات [1] . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن فى الجنة مائة درجة أعدّها الله للمجاهدين فى سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض» . وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لغدوة فى سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها» . وفى لفظة: «الرّوحة والغدوة فى سبيل الله أفضل من الدنيا وما فيها» . وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من عبد يموت له عند الله خير يسرّه أن يرجع الى الدنيا وأن له الدنيا وما فيها إلا الشهيد لما يرى من فضل الشهادة فإنه يسرّه أن يرجع   [1] يستر: يعدو من المرح والنشاط من غير أن يكون عليه أحد. والطول: حبل طويل جدا تشدّ به قائمة الدابة ويمسك صاحبه بطرفه ويرسلها ترعى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 188 الى الدنيا فيقتل مرة أخرى» . وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «والذى نفسى بيده لولا أنّ رجالا من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلّفوا عنى ولا أجد ما أحملهم عليه ما تخلّفت عن سريّة تغزو فى سبيل الله والذى نفسى بيده لوددت أنّى أقتل فى سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل» . وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما اغبرّتا [1] قدما عبد فى سبيل الله فتمسّه النار» . وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الجنّة تحت ظلال السيوف» . والأحاديث الصحيحة متضافرة بفضيلة الجهاد وما أعدّ الله للمجاهدين والشهداء. وقد ترجم على ذلك البخارىّ وغيره. وأما ما قيل فى أسماء العساكر فى القلة والكثرة وأسماء مواضع القتال- قالوا: الكتيبة: ما جمع فلم ينتشر. والحضيرة: العشرة فمن دونهم. والمقنب والمنسر من الثلاثين الى الأربعين. والهيضلة: جماعة غير كثيرة. والرّمّازة: التى تموج من نواحيها. والجحفل: الجيش الكثير. والمجر: أكثر ما يكون. وقال الثعالبىّ فى فقه اللغة عن أبى بكر الخوارزمىّ عن ابن خالويه: أقلّ العساكر الجريدة؛ ثم السريّة وهى من الأربعين الى الخمسين؛ ثم الكتيبة وهى من مائة الى ألف [2] ؛ ثم الجيش وهو من ألف إلى أربعة آلاف، وكذلك الفيلق والجحفل؛ ثم الخميس وهو من أربعة آلاف الى اثنى عشر ألفا؛ والعسكر يجمعها.   [1] كذا ورد بالأصل بعلامة التثنية فى الفعل وهى رواية أبى ذر عن الحموى والمستملى، وهى لغة. وفى صحيح البخارى: «ما اغبرت قدما عبد ... » بدون ألف التثنية فى الفعل وهى أفصح. أنظر شرح البخارى للقسطلانى ج 5 ص 58 طبع بولاق سنة 1293 هـ. [2] الذى فى فقه اللغة طبع بيروت سنة 1885: «أقل العساكر الجريدة وهى قطعة جردت من سائرها لوجه. ثم السرية وهى من خمسين الى أربعمائة. ثم الكتيبة وهى من أربعمائة الى الألف ... ) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 189 ولأسماء العساكر نعوت فى الكثرة وشدّة الشوكة. فأما نعوتها فى الكثرة- فانه يقال: كتيبة رجراجة؛ جيش لجب؛ عسكر جرّار؛ جحفل لهام؛ خميس عرمرم. وأما نعوتها فى شدّة الشوكة مع الكثرة- فإنه يقال: كتيبة شهباء اذا كانت بيضاء من الحديد؛ وخضراء إذا كانت سوداء من صدإ الحديد؛ وململمة إذا كانت مجتمعة؛ ورمّازة إذا كانت تموج من نواحيها؛ ورجراجة إذا كانت تتمخّض ولا تكاد تسير؛ [وجرّارة إذا كانت لا تقدر على السير [1]] إلا رويدا من كثرتها. وأما أسماء مواضع القتال- فمنها: الحومة؛ والمعركة؛ والمعترك؛ والمأقط؛ والمأزم، والمأزق. وأما أسماء غبار الحرب- النّقع والعكوب: هو الغبار الذى يثور من حوافر الخيل وأخفاف الإبل. الرّهج والقسطل: غبار الحرب. الخيضعة: غبار المعركة. وأما ما قيل فى الحروب والوقائع، وشىء مما وصفت به- قالوا: أبلغ ما قيل فى صفة الحرب قول الأوّل: كأنّ الأفق محفوف بنار ... وتحت النار آساد تزير وقول الآخر: ويوم كأنّ المصطلين بحرّه ... وإن لم يكن جمر وقوف على جمر صبرنا له حتّى تجلّى، وإنما ... تفرّج أيام الكريهة بالصبر   [1] التكملة من فقه اللغة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 190 وقال البحترىّ يصف جيشا اتّبع مقدّمه: حمر السيوف كأنما ضربت لهم ... أيدى القيون صفائحا من عسجد فى فتية طلبوا غبارك إنه ... رهج ترفّع عن طريق السّودد كالرمح فيه بضع عشرة فقرة ... منقادة خلف السّنان [1] الأصيد وقول النابغة الجعدىّ: تبدوكوا كبه والشمس طالعة ... لا النّور نور ولا الإظلام إظلام وقال أبو الفرج الببّغاء: وموشيّة بالبيض والزّغف والقنا ... محبّرة الأعطاف بالضّمّر القبّ بعيدة ما بين الجناحين فى السّرى ... قريبة ما بين الكمينين [2] فى الضرب من السالبات الشمس ثوب ضيائها ... بثوب تولّى نسجه عثير التّرب يعاتب نشوان القنا صاحى الظّبا ... إذا التقيا فيها على قلّة الشّرب أعادت علينا الليل بالنّقع فى الضّحى ... وردّت علينا الصبح فى الليل بالشهب تبلّج عن شمسى نزار ويعرب ... وتفترّ عن [3] طودى علا تغلب الغلب موقّرة يقتاد ثنى زمامها ... بصير بأدواء الكريهة فى الحرب أصحّ اعتزاما من خؤون على قلى ... وأنفذ حكما من غرام على صبّ وقال محمد بن أحمد بن عبد ربه: ومعترك تهزّ به المنايا ... ذكور الهند فى أيدى ذكور لوامع يبصر الأعمى سناها ... ويعمى دونها طرف البصير   [1] فى الأصل: «فرقة ... خلف اللسان» وهو تحريف. والتصويب من ديوان البحترى. [2] فى يتيمة الدهر: «ما بين الكميين ... » . [3] فى الأصل: «تبلح ... ويقتر ... » . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 191 وخافقة الذوائب قد أنافت ... على حمراء ذات شبا طرير [1] تحوّم حولها عقبان موت ... تخطّفت القلوب من الصدور بيوم راح فى سربال ليل ... فما عرف الأصيل من البكور وعين الشمس ترنو فى قتام ... رنوّ البكر من خلف الستور فكم قصّرت من عمر طويل ... وكم طوّلت من عمر قصير وقال أيضا: ومعترك ضنك تعاطت كماته ... كؤوس دماء من كلى ومفاصل يديرونها راحا من الرّوح بينهم ... ببيض رقاق أو بسمر ذوابل وتسمعهم أمّ المنيّة وسطها ... غناء صليل البيض تحت المناصل وقال التّنوخىّ شاعر اليتيمة: فى موقف وقف الحمام ولم يزغ ... عن ساحتيه وزاغت الأبصار فقنا تسيل من الدماء على قنا [2] ... بطوالهن تقصّر الأعمار ورءوس أبطال تطاير بالظّبا ... فكأنها تحت الغبار غبار وقال ابن الخيّاط الأندلسىّ: سيوف اذا اعتلّت جهات بغورة [3] ... فمنهنّ فى أعناقهن تمائم وكلّ خميس طبّق الجوّ نقعه ... وضيّق مسراه الجياد الصلادم   [1] المراد بالحمراء: القناة. والشبا: جمع شباة، وشباة كل شىء: حده. والطرير: المحدّد. [2] القنا الأولى: حفائر الماء. والقنا الثانية: الرماح. [3] كذا بالأصل: وفى كلمة «بغورة» تحريف لم نوفق الى تصحيحه. ولعله: جهات ثغوره، أو جهات بثورة، أو جهات بغارة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 192 كأنّ نهار النقع إثمد عينه ... وأشفار عينيه الشّفار الصوارم تعدّ عليه الوحش والطير قوتها ... اذا سار والتفّت عليه القشاعم والبيت الأوّل مأخوذ من قول المتنبى: وكان بها مثل الجنون فأصبحت ... ومن جثث القتلى عليها تمائم وقال الحمّانىّ: وإنا لتصبح أسيافنا ... إذا ما انتضين ليوم سفوك منا برهن بطون الأكفّ ... وأغمادهن رءوس الملوك وقال حسّان: إذا ما غضبنا بأسيافنا ... جعلنا الجماجم أغمادها قال رجل من بنى تميم لرجل عبادىّ: لم يكن لآل نصر بن ربيعة صولة فى الحرب. فقال: لقد قلت بطلا، ونطقت خطلا؛ كانوا والله إذا أطلقوا [1] عقل الحرب رأيت فرسانا تمور كرجل الجراد [2] ، وتدافع كتدافع الأمداد؛ فى فيلق حافتاه الأسل، يضطرب عليها الأجل؛ إذا هاجت لم تتناه دون إرادتها [3] ، ومنتهى غايات طلباتها؛ لا يدفعها دافع، ولا يقوم لها جمع جامع؛ وقد وثقت بالظفر لعزّ أنفسها، وأيقنت بالغلبة لضراوة عادتها؛ خصّت بذلك على العرب أجمعين. قال جرير: لقومى أحمى للحقيقة منكم ... وأضرب للجبّار والنقع ساطع وأوثق عند المردفات عشيّة ... لحاقا إذا ما جرّد السيف لامع [4]   [1] فى الأصل: «انطلقوا» . [2] رجل الجراد: الجماعة منه. [3] فى الأصل: «دون إدارتها» وظاهر أنه تحريف. [4] لامع: من لمع بالسيف: أشار به ولوّح. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 193 ومن رسالة للفقيه الوزير أبى حفص عمر بن الحسن الهوزنى [1] قال فيها: وكتابى على حالة يشيب [2] لشهودها مفرق الوليد، كما تغيّر [3] لورودها وجه الصعيد؛ بدؤها ينسف الطريف والتالد، ويستأصل الولد والوالد؛ تذر النساء أيامى، والأطفال يتامى؛ فلا أيّمة إذ لم تبق أنثى، ولا يتيم والأطفال فى قيد الأسرى؛ بل تعمّ الجميع جمّا جمّا فلا تخصّ، وتزدلف إليهم قدما قدما فلا تنكص؛ طمت حتى خيف على عروة الإيمان الانفضاض، وطمّت حتى خشى على عمود الإسلام الانقضاض، وسمت حتى توقّع لجناح الدين الانهياض. وفى فصل منها: وكأن الجمع فى رقدة أهل الكهف، أو على وعد صادق من الصّرف والكشف. ومنها: وإن هذا الأمر له ما بعده، إلا أن يسنّى [4] الله على يديك دفعه وصدّه. وكم مثلها شوهاء نهنهت فانثنت ... وناظرها من شدّة النّقع أرمد فمرّت تنادى: الويل للقادح الصّفا ... لبعض القلوب الصخر أو هى أجلد [5] !   [1] فى الذخيرة لابن بسام ج 2 ص 48 (نسخة خطية محفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم 2348 أدب) : «هو أبو حفص عمر بن الحسن بن عبد الرحمن أبى سعيد الداخل بجزيرة الأندلس وهو كان صاحب صلاة الجماعة بقرطبة على عهد عبد الرحمن بن معاوية وهشام الرضى ابنه، وهوزن الذى نسب اليه وغلب اسمه عليه بطن من ذى الكلاع الأصغر» . وفى الأصل «الهونى» وهو تحريف. [2] كذا فى الذخيرة، وفى الأصل شيب. [3] كذا فى الأصل: وفى الذخيرة: «كما يقت؟؟؟» . [4] كذا فى الذخيرة، ويسنى: يسهل. وفى الأصل: «ينشى» . [5] فى خامش الذخيرة «لعلها أصلد» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 194 وأبقت ثناء كاللطائم [1] نشّرت، ... تبيد الليالى وهو غضّ يجدّد [2] وفى فصل منها فى الحرب: والحرب فى اجتلائها حسناء عروس تطّبى [3] الأغمار بزّتها، وفى بنائها شمطاء عبوس تختلى الأعمار غرّتها [4] ؛ فالأقلّ للهبها وارد، والأكثر عن شهبها حائد؛ فأخلق بمجيد عن مكانها، وعزلة فى ميدانها؛ فوقودها شكّة السلاح، وقتارها متصاعد الأرواح؛ فإن عسعس ليلها مرّة لانصرام، أو انجبس وبلها ساعة لانسجام؛ فيومها غسق يردّ الطّرف كليلا، ونبلها صيّب [5] يزيد الخوف غليلا. وقال فيها: أعبّاد ضاق الذّرع واتّسع الخرق ... ولا غرب للدنيا إذا لم يكن شرق ودونك قولا طال وهو مقصّر ... وللعين معنى لا يعبّره النطق إليك انتهت آمالنا فارم مادهى ... بعزمك يدمغ هامة الباطل الحق [6] وما أخطأ السبيل من أتى البيوت من أبوابها، ولا أرجأ الدليل من ناط الأمور بأربابها؛ ولربّ أمل بين أثناء المحاذير مدمج، ومحبوب فى طىّ المكاره مدرج؛ فانتهز فرصتها فقد بان من غيرك العجز، وطبّق مضاربها فكأن قد أمكنك الحزّ؛ ولا غرو أن يستمطر الغمام فى الجدب، ويستصحب الحسام فى الحرب!.   [1] اللطائم: جمع لطيمة، وهى دعاء المسك. [2] كذا فى الذخيرة، وفى الأصل: «وهو غض مجرّد» وهو تحريف. [3] تطبى الأغمار: تستميلهم. [4] تختلى: تقطع. والغرة: الغرور. [5] كذا فى الذخيرة، وفى الأصل: «وليلها صب» [6] كذا ورد هذا البيت فى الذخيرة، وورد فى الأصل هكذا: اليك انتهت أيامنا فارم ما دهى ... بعزمك يدفع هامة الباطل الحق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 195 ومن إنشاء القاضى الفاضل عبد الرحيم البيسانىّ من جواب كتبه وصف فيه وقعة، كتب: ورد على المملوك كتاب المولى يذكر الرّجفة التى سرى منها الى أسماع الأولياء قبله ما سرى الى عيون الأولياء بحضرته؛ وتعاظمهم الفادح الذى هم راسبون فى غماره ساهون فى غمرته؛ ووصف عظم أثرها ورائع منظرها ومطعن هدّتها [1] ، ومزعج واقعتها وفظيع روعتها؛ واضطراب الجبال وخشوعها، وانشقاق الأبنية وصدوعها؛ وسجود الحصون الشّمّ، وخضوع الصخور الصّمّ؛ وجأر العباد إلى ربهم لما مسّهم من الضرّ، ولياذهم بقصده لما دهاهم من الأمر؛ فوصف عظيما بعظيم، ومثّل مقاما ما عليه صبر مقيم؛ وأنذر بانتقام قائم إلا أنه كريم، وجبّار إلا أنه حليم؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون نقولها واضعين الخدود تذلّلا، وإنا فى سبيل الله وإنا إليه نائبون تخلّصا ونضمّنها بالقلوب إخلاصا وتبتّلا؛ وعرف المملوك ما وسع الخلق من معروفه وإرفاقه، وجبر الحصون من عمارته منازل التوحيد وأوكاره، بأمواله التى وقفها فى سبيل الله وهانت عليه إذ كان على يد البرّ إخراجها، وكرمت لديه إذ طالبت بها خطرات الشهوات واعتلاجها؛ واستقرضها من الأرض خراجا ثم وفّاها ما اقترض بعمرانها، واستخرجها من بطنانها ثم أعادها الى ظهرانها؛ وأرساها للإسلام بقواعد حصونها، وأسناها فى يد المسلمين بوثائق رهونها؛ ولم يزل الله يختصّه بكل حسنة متوضحة، ويوفّقه لكل صالحة مصلحة؛ وينعم عليه بالنية الصادقة، وينعم منه بالموهبة السابغة السابقة؛ فإن نزلت نازلة من وقائع الأقدار، وإن [1] عرضت عارضة من عوارض الأيام، تلقّاها حامدا، وأسا جرحها جاهدا، وعوّل على ربه قاصدا، وأنفق فيما أصبح منه عادما ما أمسى له واجدا.   [1] كذا فى الأصل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 196 ذكر ما ورد فى الغزو فى البحر عن أنس بن مالك رضى الله عنه، قال: حدّثتنى أمّ حرام أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال يوما فى بيتها، فاستيقظ وهو يضحك؛ قالت: يا رسول الله، ما يضحكك؟ قال: «عجبت من قوم من أمتى يركبون البحر كالملوك على الأسرّة» ؛ فقلت: يا رسول الله، أدع الله أن يجعلنى منهم؛ قال: «أنت منهم» ، ثم نام فاستيقظ وهو يضحك فقال مثل ذلك مرتين أو ثلاثا؛ قالت: يا رسول الله، أدع الله أن يجعلنى منهم، فيقول: «أنت من الأوّلين» ، فتزوّج بها عبادة بن الصّامت فخرج بها الى الغزو، فلما رجعت قرّبت دابّة لتركبها فوقعت فاندقّت عنقها. وفى حديث آخر: «يركبون البحر الأخضر فى سبيل الله مثلهم كمثل الملوك على الأسرة» ، قالت: يا رسول الله، أدع الله أن يجعلنى منهم؛ فقال: «اللهم اجعلها منهم» وأنه قال مثل ذلك ثانية؛ فقالت: أدع الله أن يجعلنى منهم؛ قال: «أنت من الأوّلين ولست من الآخرين» . وساق نحوه. ومما قيل فى القتال فى البحر- قال العسكرى فى ديوان المعانى: لم يصف أحد من المتقدّمين والمتأخّرين القتال فى المراكب إلا البخترىّ، وعدّوا قصيدته هذه من عيون قصائده وفضّلوها على كثير من الشعر، وهى: غدوت على «الميمون» صبحا وإنما ... غدا المركب الميمون تحت المظفّر [أطلّ بعطفيه ومرّ كأنما ... تشرّف من هادى حصان مشهّر [1]] إذا زمجر النّوتىّ فوق علاته ... رأيت خطيبا فى ذؤابة منبر   [1] زيادة من ديوان البحترى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 197 إذا عصفت [1] فيه الجنوب اعتلى له ... جناحا عقاب فى السماء مهجّر إذا ما انكفا فى هبوة الماء خلته ... تلفّع فى أثناء برد محبّر وحولك ركّابون للهول عاقروا ... كؤوس الرّدى من دارعين وحسّر تميل المنايا حيث مالت أكفّهم ... إذا أصلتوا حدّ الحديد المذكّر إذا رشقوا بالنار لم يك رشقهم ... ليقلع إلا عن شواء مقتّر صدمت بهم صهب العثانين دونهم ... ضراب كإيقاد اللّظى المتسعّر [يسوقون أسطولا كأنّ سفينه ... سحائب صيف من جهام وممطر [2]] كأنّ ضجيج البحر بين رماحهم ... إذ اختلفت ترجيع عود مجرجر تقارب من زحفيهم فكأنما ... تؤلّف من أعناق وحش منفّر فما رمت [3] حتى أجلت الحرب عن طلى ... مقطّعة فيهم وهام مطيّر على حين لا نقع يطرّحه [4] الصّبا ... ولا أرض تلفى للصريع المقطّر وكنت ابن «كسرى» قبل ذاك وبعده ... مليئا [5] بأن توهى صفاة ابن «قيصر» جدحت له الموت الذّعاف فعافه ... وطار على ألواح شطب مسمّر [6] مضى وهو مولى الريح يشكر فضلها ... عليه ومن يول الصّنيعة يشكر وحيث ذكرنا الجهاد وفضله والوقائع والحروب، فلنذكر ما قيل فى المرابطة فى سبيل الله.   [1] كذا فى ديوان البحترى، وفى الأصل: «اذا ما علت» . [2] زيادة من الديوان. [3] فمارمت: لم تبرح مكانك. [4] رواية الديوان: « ... تطوحه الصبا» . [5] الملىء بالأمر: المضطلع به القدير عليه. [6] كذا فى الديوان. وفى الأصل: «مشمر» بالشين المعجمة وهو تحريف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 198 ذكر ما رود فى المرابطة قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . والمرابطة فى سبيل الله تعالى تنزل [1] من الجهاد والقتال منزلة الاعتكاف فى المساجد من الصلاة، لأنّ المرابط يقيم فى وجه العدوّ متأهّبا مستعدّا، حتى اذا أحسّ من العدوّ بحركة أو غفلة نهض فلا يفوته ولا يتعذّر عليه، كما أن المعتكف يكون فى موضع الصلاة مستعدّا، فإذا دخل الوقت وحضر الإمام قام الى الصلاة. قال الحليمىّ: ولا شك أن المرابطة أشقّ من الاعتكاف. على أن صرف الهمة إلى انتظار الصلاة قد سمّى رباطا لما جاء فى الحديث فيما يكفّر الخطايا «وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرّباط» . وقد ورد عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أحاديث تحثّ على الرباط، فمنها أنه قال صلى الله عليه وسلم: «من مات مرابطا فى سبيل الله أومن من عذاب القبر ونما له أجره الى يوم القيامة» . وعنه صلى الله عليه وسلم: «رباط يوم وليلة فى سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه فإن مات جرى عليه أجر المرابطة ويؤمن من الفتّان ويقطع له برزق الجنة» . وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من مات مرابطا فى سبيل الله مات شهيدا ووقاه الله فتانى القبر وأجرى عليه أحسن عمله وغدى عليه وريح برزق من الجنة» . وعنه صلى الله عليه وسلم: «إذا استشاط العدوّ فخير جهادكم الرباط» . وسنّة المرابطة فى سبيل الله أن يعدّ من الخيل والسلاح ما يحتاج إليه، إذا كان انتظار الوقعة من غير استعداد لها يعرّض للهلاك. قال الله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ . وجاء فى الحديث:   [1] فى الأصل «تتنزل» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 199 «إن القوّة الحصن ومن رباط الخيل الحجورة [1] » الإناث. وروى عقبة بن عامر أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «ألا هو الرمى [2] » ؛ وقد يجوز أن يكون اللفظ جامعا للحصن والرمى لأن كليهما قوّة. والله تعالى أعلم. ذكر ما قيل فى السلاح وأوصافه والسّلاح ما قوتل به. والجنّة اسم لما اتّقى به، كالدّرع والتّرس ونحوهما. وقال العتبىّ: بعث عمر بن الخطاب رضى الله عنه الى عمرو بن معديكرب أن يبعث إليه بسيفه المعروف «بالصّمصامة» فبعث اليه به؛ فلما ضرب به وجده دون ما بلغه عنه، فكتب اليه فى ذلك؛ فأجابه يقول: إنما بعثت الى أمير المؤمنين بالسيف ولم أبعث له بالساعد الذى يضرب به. وسأله عمر يوما عن السلاح فقال: ما تقول فى الرمح؟ قال: أخوك وربما خانك فانقصف؛ قال: فما تقول فى التّرس؟ قال: هو المجنّ وعليه تدور الدوائر؛ قال: فالنّبل؟ قال: منايا تخطئ وتصيب؛ قال: فما تقول فى الدّرع؟ قال: مثقلة للراجل مشغلة للراكب وإنها لحصن حصين؛ قال: فما تقول فى السيف؟   [1] الحجورة: جمع حجر بالكسر، وهى الأنثى من الخيل. فذكر «الإناث» تفسير من المؤلف أو ممن نقل عنه المؤلف. [2] كذا فى الأصل، وفى صحيح مسلم بإسناده الى عقبة بن عامر أنه كان يقول: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول وأعدوا لهم ما استطعتم من قوّة ألا إن القوة الرمى ألا إن القوة الرمى ألا إن القوة الرمى» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 200 قال: هنالك قارعتك أمك عن الثّكل [1] ؛ قال: [بل [2]] أمّك! [قال: [3]] بل أمك يا أمير المؤمنين! فعلاه أمير المؤمنين بالدّرّة. وقيل: بل قال له- لما قال عمر بل أمك- قال: أمى يا أمير المؤمنين «والحمّى أضرعتنى لك» أراد أن الإسلام قيدنى، ولو كنت فى الجاهليّة لم تكلمنى بهذا الكلام. وهو مثل تضربه العرب إذا اضطرّت للخضوع. ومثل ذلك قول الأغرّ النهشلىّ لابنه لما بعثه لحضور ما وقع بين قومه فقال: يا بنىّ، كن يدا لأصحابك على من قاتلهم، وإياك والسيف فإنه ظلّ الموت، واتّق الرمح فإنه رشاء المنيّة، ولا تقرب السهام فإنها رسل تعصى وتطيع. قال: فبم أقاتل؟ قال: بما قال الشاعر: جلاميد أملاء [4] الأكفّ كأنها ... رءوس رجال حلّقت فى المواسم فعليك بها وألصقها بالأعقاب والسّوق.   [1] رواية عيون الأخبار (المجلد الأول ص 130) كرواية الأصل، غير أن اسم الإشارة فيه «ثم» وفى الأغانى (ج 14 ص 137 طبع بولاق) : «قال: عنه قارعتك لأمك الهبل ... » . ولعله يريد- على رواية الأصل وعيون الأخبار- أن يصف السيف بأنه أقتك أنواع السلاح وأروعها، فسلك الى هذا سبيل الكناية فعبر بجملة لازمها يدل على ما يريد أبلغ دلالة إذ يقول: هنالك، أى اذا ذكر السيف أو تقارعت السيوف، قارعته أمه ودافعته عن الثكل والهلاك إشفاقا عليه، فان الاشفاق أعظم ما يكون على المنازل اذا كان السلاح السيف، لأن ضرباته صائبة وقاتلة. [2] زيادة عن عيون الأخبار طبع دار الكتب المصرية المجلد الأول ص 130 [3] زيادة يقتضيها سياق الكلام. [4] فى الأصل: «جلاميد ملء للأكف ... » وفيه تحريف. وما أثبتناه عن الكامل للمبرد طبع أوربا ص 333 وأساس البلاغة مادة «ملأ» وفيه يقال: «حجر ملء الكف وأحجار أملاء الأكف» ثم استشهد على ذلك بهذا البيت. وفى عيون الأخبار: «جلاميد يملأن الأكف ... » . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 201 ما قيل فى السيف من الأسماء والنعوت والأوصاف وقد أوردتها على حروف المعجم على ما أورده صاحب كتاب خزائن السلاح. فمن ذلك «إبريق» وهو الشديد البريق «أبيض» . «أذوذ» وهو القاطع. «إصليت» وهو الصقيل. «أغلف» إذا كان فى غلافه. «أنيث» وهو الذى يتّخذ من حديد غير ذكر. «باتر» أى قاطع. «بتّار» وهو اسم لسيف كان للنبىّ صلى الله عليه وسلم. «بصروىّ [1] » منسوب لبصرى. قال الشاعر: صفائح بصرى أخلصتها قيونها ... ومطّردا من نسج داود محكما «بوادر [2] » أى قواتل. «بارقة» وهى السيوف التى تبرق. «جنثىّ» ؛ قال الشاعر: ولكنها سوق يكون بياعها ... بجنثيّة قد أخلصتها الصّياقل «جراز» أى قاطع. «جمّاد» بمعناه؛ وفيه يقول الأزهرىّ: لسمعتم من حرّ وقع سيوفنا ... ضربا بكلّ مهنّد جمّاد «حسام» أى قاطع. «حدّاد» من الحديد. «حداد» من الحداد كأنه أشار الى لونه. «خشيب» أى صقيل، و [هو [3]] من أسماء الأضداد. «خشيف» أى ماض. «خذيم» أى قاطع. «خضعة» وهى السيوف القواطع. «ددان» أى لا يقطع [4] . «ذالق» أى سلس الخروج من غمده. «ذلوق» مثله. «ذكر» أى ذو ماء. «ذو الكريهة» وهو الماضى فى الضّريبة. «ذو الفقار» سيف رسول الله صلى الله   [1] يجوز فى النسبة لمثل «بصرى» قلب ألفها واوا، كما ورد بالأصل، وحذفها كما فى اللسان. ومن الحذف قول الشاعر: يفلون بالقلع البصرىّ هامهم [2] البوادر: جمع بادرة وهى شباة السيف. [3] زيادة يقتضيها حسن السياق. [4] ويطلق على القطاع أيضا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 202 عليه وسلم. «ذو هبّة» اى ذو هزّة ومضاء. «ذرب» أى محدّد. «ذو النّون» [سيف مالك بن زهير [1]] . «ذو ذكرة» وهو الصارم. «رسوب» وهو الذى يغيب فى الضّريبة «رداء [2] » . «سيف» وجمعه أسياف وسيوف وأسيف. قال الشاعر: كأنهم أسيف بيض يمانية ... عضب مضاربها باق [3] بها الأثر «سراط» و «سراطى» أى قاطع. «سقّاط» وهو الذى يسقط من وراء الضريبة. «سريجىّ» منسوب الى قين يقال له سريج. «شلحاء» . «صقيل» . «صارم» أى قاطع. «صفيحة» وهو العريض. «صمصام» وهو الذى لا ينثنى. «صمصامة» مثله، وهو سيف عمرو بن معديكرب؛ وفيه يقول [4] : خليل لم أخنه ولم يخنّى ... على الصّمصامة السيف السلام وقال أيضا: خليل لم أهبه على قلاه [5] ... ولكنّ المواهب للكرام   [1] الزيادة عن لسان العرب. [2] ومنه قول الشاعر: لقد كفن المنهال تحت ردائه ... فتى غير مبطان العشيات أروعا [3] كذا فى اللسان (مادة أثر) وغيره من كتب الأدب واللغة، وفى الأصل: بيض مضاربها يبقى بها الأثر [4] فى الأصل «وفيه يقول الشاعر» ولعل كلمة «الشاعر» زيدت سهوا من الناسخ، فان قائل هذا الشعر هو عمرو بن معديكرب الذى يرجع اليه الضمير فى «يقول» قاله حين وهب سيفه. قال فى اللسان مادة (صمم) بعد أن ذكر البيت الأول: قال ابن برى صواب إنشاده: على الصمصامة ام سيفى سلامى وبعده ... ثم ذكر البيتين. وعلى تصويب ابن برى لا يكون فى الشعر اقواء. والإقواء: اختلاف حركة الروىّ. [5] فى اللسان «لم أهبه من قلاه» وكتب بهامشه: «قوله من قلاه الذى فى التكملة عن قلاه ... » . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 203 حبوت به كريما من قريش ... فسرّ به وصين عن اللئام «صنيع» [مجرّب مجلوّ [1]] ؛ قال الشاعر [2] : بأبيض من أميّة مضرحىّ ... كأنّ جبينه سيف صنيع «طبع» وهو الصّدئ قال جرير: وإذا هززت قطعت كلّ ضريبة ... وخرجت لا طبعا ولا مبهوزا «عضب» أى قاطع. «عقيقة» أى صقيل؛ قال الشاعر [3] : حسام كالعقيقة فهو كمعى [4] ... سلاحى لا أفلّ ولا فطارا «عجوز» . «عراض» أى لدن المهزّة «عطاف» ؛ قال الشاعر: ولا مال لى إلا عطاف ومدرع ... لكم طرف منه حديد ولى طرف وجمعه عطف. «فطار» أى مشقق. «فلوع» أى قاطع. «فسفاس [5] » أى كهام. «قصّال» أى قطاع. «قاطع» . «قرن» . «قضيب» أى قاطع وجمعه قضب. «قاضب» مثله. «قرضاب» أى يقطع العظام. «قرضوب» مثله. «قشيب» قريب   [1] الزيادة عن لسان العرب. [2] هو عبد الرحمن بن الحكم بن أبى العاصى يمدح معاوية، كما فى لسان العرب. [3] هو عنترة، كما فى اللسان. [4] الكمع: الضجيع. والعقيقة: شعاع البرق أو البرق اذا رأيته وسط السحاب كأنه سيف مسلول. وقد تطلق على السيف تشبيها له بالبرق أو شعاعه. أما العقيقة فى البيت فلا يمكن أن يراد بها السيف لأن السيف مشيه بها. والأفل: وصف مدح لما ضرب به كثيرا، وذمّ لما به من الخلل وهو المراد هنا. والفطار: المتشقق الذى لا يقطع. [5] ومثل الفسفاس: القسقاس. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 204 عهد بالجلاء. «قلعىّ «منسوب الى قلعة [1] موضع بالبادية. «قساسى» منسوب الى معدن بأرمينية يقال له قساس. قال الشاعر: إنّ القساسىّ الذى يعصى [2] به ... يختضم الدارع فى أثوابه «قضم» وهو الذى طال عليه الدهر فتكسّر حدّه. «كهام» أى كليل. «كليل» أى كلّ حدّه. «لهذم» هو السيف الحادّ، ويسمى به السنان أيضا. «لخيف» وكان من أسياف [3] رسول الله صلى الله عليه وسلم «لجّ» . «مرهف» أى محدود رقيق. «مصمّم» وهو الذى يمرّ فى العظام. «مقطع» . «مخذم» أى قاطع «مجذر» . «مأثور» وهو الذى له أثر. «مذكّر» مثل ذكر. «محتفد» سريع القطع. «مخصل» . «مخضل» أى مصلت من غمده. «مقصل» أى قاطع. «مخفق» أى عريض. «مدجّل» المطلىّ بالذهب. «مهذم» قاطع. «معلوب» وهو سيف الحارث بن ظالم؛ وفيه يقول الكميت: وسيف الحارث المعلوب أردى ... حصينا فى الجبابرة الرّدينا «مشمل» أى صغير. «مغول» سيف رقيق يكون غمده كالسوط وهو الذى يتّخذ كالعكّاز. «مهو» . وهو الرقيق أيضا؛ قال صخر الغىّ:   [1] فى المخصص: «ابن دريد: قلعىّ منسوب الى حديد أو معدن، غيره: هو منسوب الى قلعة- وهو موضع» . وفى اللسان: «وفى الحديث وسيوفنا قلعية. قال ابن الأثير: منسوبة الى القلعة بفتح القاف واللام وهى موضع بالبادية تنسب السيوف إليه» . وقد ورد بالأصل «قلع» . [2] كذا فى اللسان فى مادتى «قسس» و «خضم» . وفى الأصل: « ... يقضى به» . [3] لم نجد فى مصدر آخر ما يؤيد ما هنا بل الذى فى البخارى وكتب اللغة أن «اللخيف» (كأمير وزبير) اسم فرس لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وعبارة ابن الأثير فى النهاية- ونقلها عنه صاحب اللسان وغيره- «كان اسم فرسه عليه الصلاة والسلام اللخيف، كذا رواه البخارى ولم يتحققه والمعروف بالحاء المهملة وروى بالجيم» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 205 وصارم أخلصت خشيبته ... أبيض مهو فى متنه ربد «مفقّر [1] » أى الذى فيه حزوز مطمئنّة عن متنه. «مهنّد» وهو الذى طبع من حديد الهند. «مشرفىّ» منسوب الى المشارف، وهى قرى من أرض العرب تدنو من الرّيف. «مطبّق» الذى يقطع المفاصل؛ قال الشاعر: يصمّم أحيانا وحينا يطبّق «منصل» . «مشطّب» أى الذى فى متنه طرائق. «مصلت» المسلول من غمده. «مفلع» أى قاطع. «معضد» هو الممتهن فى قطع الشجر وغيره. «معضاد» وهو الممتهن أيضا. «مذاهب» سيوف تموّه بالذهب. «نصل» . «نهيك» أى قاطع. «نون» هو اسم سيف بعض العرب؛ قال الشاعر: سأجعله مكان النّون منّى ... وما اعطيته عرق الخلال [2] معناه: سأجعل هذا السيف الذى استفدته مكان ذلك السيف، وما أعطيته عن مودّة بل أخذته عنوة. «نواحل» السيوف التى رقّت ظباتها قدما من كثرة المضاربة. «هذام» السيف القاطع. «هزهاز» هو الكثير الاهتزاز. «هندوانىّ» هو المطبوع من حديد الهند. «هندىّ» منسوب الى الهند. «وقيع» الذى شحذ بالحجر. «يمانى» منسوب الى اليمن.   [1] كذا فى المخصص وغيره من كتب اللغة. وفى الأصل «مفقم» . وهو تحريف. [2] الخلال: المصادقة والمودة مصدر خاله خلالا ومخالة. والعرق الجزاء. قال صاحب اللسان فى مادة (عرق) بعد كلام فى تفسير مفردات البيت ونسبته الى الحارث بن زهير: «والنون اسم سيف مالك بن زهير، وكان حمل بن بدر أخذه من مالك يوم قتله، وأخذه الحارث من حمل بن بدر يوم قتله، وظاهر بيت الحارث يقضى بأنه أخذ من مالك سيفا غير «النون» بدلالة قوله: «سأجعله مكان النون» أى سأجعل هذا السيف الذى استفدته مكان النون. والصحيح فى إنشاده: «ويخبرهم مكان النون منى» لأن قبله: سيخبر قومه حنش بن عمرو ... اذا لاقاهم وابنا بلال الجزء: 6 ¦ الصفحة: 206 ومن أسماء أجزاء السيف- «أثر» أثره: إفرنده وما يرى عليه مما يشبه الغبار أو مدبّ النمل؛ قال عيسى بن عمر [1] : جلاها الصّيقلون فأخلصوها ... خفافا كلّها يتقى بأثر «إفرند» وشيه وأثره. «جربّان» هو حدّه. «حرف» مثله. «ذباب» حدّ طرفه وقيل: حدّه مطلقا. «رئاس» قائمه؛ قال الشاعر: ومرفق كرئاس السيف إذ شسفا «ربد» ما تراه عليه شبه غبار أو مدب نمل؛ قال الشاعر: أبيض مهو فى متنه ربد «زرّ» قال مجرّس [2] بن كليب فى بعض كلامه: أما وسيفى وزرّيه، ورمحى ونصليه. والزرّ: الحدّ. «سطام» : حدّه. «سيلان» : هو ما يدخل منه فى النّصاب [3] . «سفن» : جلدة قائمه. «شطب» : طرائق فى إحدى متنيه. «شفرة» : حدّه، وشفرتاه: حدّاه. «صفح» : عرضه. «ظبة» : حدّه. وظبتاه: حدّاه. «عجوز» : نصل السيف؛ قال أبو المقدام: وعجوز رأيت فى فم كلب ... جعل الكلب للأمير جمالا والكلب من أجزاء السيف وهو البرجق [4] . «عير» هو الناشز فى وسط السيف. «غرار» : ما بين ظبتيه وبين العير من وجهى السيف جميعا، وجمعه: أغرّة. وقيل:   [1] فى اللسان أن هذا البيت لخفاف بن ندبة وأنشده عيسى، وفسره بقوله: أى كلها يستقبلك بفرنده. ويتقى مخفف من يتقى أى اذا نظر الناظر اليها اتصل شعاعها بعينه فلم يتمكن من النظر اليها. [2] فى الأصل: «قال هجرى ... » وهو تحريف. والتصويب من اللسان مادة «زر» . [3] نصاب السيف: مقبضه. [4] كذا بالأصل، ولم نوفق الى تفسيره أو صحته. وفى المخصص: «الكلب: المسمار فى قائم السيف الذى فيه الذؤابة» . وفى اللسان: «والكلب: مسمار مقبض السيف ومعه آخر يقال له العجوز» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 207 الغراران: شفرتا السيف. «غرب» غربه: حدّه. «فرند» : مثل «إفرند» . «فلول» الفلول فى حدّه، والواحد منها فلّ. «قيعة» هى التى على طرف قائمه من حديد أو فضة. «مضرب» : الذى يضرب به منه، وهو نحو شبر من طرفه. «مقبض» المقبض: حيث تقبض عليه الأكف. «نون» والنون: شفرة السيف. قال الشاعر: بذى نونين قصّال مقطّ «وشى» وهو فرنده وأثره، وقد تقدّم بيانه. ومما يضاف الى السيف- فأما اذا احتاج الى الشّحذ- يقال: «استوقع» واذا ضرب به فلم يعمل يقال: «أحاك» . واذا سلّ من قرابه يقال: «استلّ» . «اصلت» . «امتشن» . «امتعط» . «امتحط [1] » . «انتضى» . «اخترط» «جلط» . «جرّد» . «سلّ» . «شهر» «معط» . «نضى» . «شمت» : اذا سللت وأغمدت [2] . واذا خرج السيف من غير سلّ يقال: «اندلق» . واذا أغمض السيف من غير سلّ [3] يقال: «أغمدت» السيف. «أقربت» . «شمت» «قربت» . وأما اذا تقلّد به الرجل يقال: اعتطف؛ وفيه يقول الشاعر: من يعتطفه على مئزر ... فنعم الرّداء على المئزر ويقال: «تقلّد» .   [1] ومثل «امتحط» «امتخط» بالخاء المعجمة. [2] أى أنه يستعمل فى الضدّين. [3] كذا بالأصل، ويظهر أن فيه تحريفا وسهوا من الناسخ، ولعل صوابه: «وأما اذا أغمد السيف يقال ... الخ» فوقع تحريف فى «أغمد» وزيدت «من غير سل» سهوا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 208 ومن أسماء قرابه وآلته- يقال: «جفن» . «جربّان» . «جلبّان» «خلل» وهى بطائن كانت تغشّى بها أجفان السيوف. «غمد» . حمائله- يقال فيها «حمائل» واحدتها «حميلة» . «قراب» «محمل» . «نجاد» . حليته- يقال «رصائع» وهى حلق مستديرات تحلّى بها السيوف. «قبيعة» وقد تقدّم ذكرها. «نعل» وهو ما يكون أسفل القراب من فضّة أو حديد [1] . والنعل مؤنثة؛ قال الشاعر: ترى سيفه لا تنصف الساق نعله ... أجل لا وإن كانت طوالا محامله وأما ما وصفته به الشعراء- فمن ذلك ما قاله أبو عبادة البحترىّ: يتناول الرّوح [2] البعيد مناله ... عفوا، ويفنح فى القضاء المقفل ماض وإن لم تمضه يد فارس ... بطل، ومصقول وإن لم يصقل يغشى الوغى [3] فالتّرس ليس بجنّة ... من حدّه والدّرع ليس بمعقل مصغ الى حكم الرّدى، فاذا مضى ... لم يلتفت، واذا قضى لم يعدل متوقّد يبرى [4] بأوّل ضربة ... ما أدركت ولو انّها فى يذبل   [1] فى الأصل: «من فضة أو حرير» وقد أثبتنا ما فى كتب اللغة. [2] كذا فى ديوان البحترى (طبع مطبعة الجوائب بالقسطنطينية سنة 1300 هـ) وفى الأصل «تتناول الرمح ... » . [3] كذا فى الديوان، وفى الأصل: «يغشى الورى ... » . [4] فى الديوان: «متألق يفرى ... » . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 209 واذا أصاب فكلّ شىء مقتل ... واذا أصيب فما له من مقتل وقال أبو الهول: حسام غداة الرّوع ماض كانه ... من الله فى قبض النفوس رسول كأنّ جنود الذّرّ كسّرن فوقه ... عيون جراد بينهنّ ذحول كأنّ على إفرنده موج لجّة ... تقاصر فى صحصاحه وتطول اذا ما تمطّى الموت فى يقظاته ... فلا بدّ من نفس هناك تسيل وإن لا حظ الأبطال أو صافح الطّلى ... تشحّط يوما بينهن قتيل وقال عبد الله بن المعتزّ: ولى صارم فيه المنايا كوامن ... فما ينتضى إلا لسفك دماء ترى فوق متنيه الفرند كأنه ... بقيّة غيم رقّ دون سماء وقال أيضا: وسط الخميس بكفّه ذكر ... عضب كأنّ بمتنه نمشا ضافى الحديد كأنّ صيقله ... كتب الفرند عليه أو نقشا وقال ابن الرومىّ: خير ما استعصمت به الكفّ عضب ... ذكر هزّه أنيث المهزّ ما تأمّلته بعينك إلّا ... أرعدت صفحتاه من غير هزّ مثله أفزع الشّجاع الى الدّر ... ع فغالى بها على كلّ بزّ ما يبالى أصمّت شفرتاه ... فى محزّ أم حادتا عن محزّ وقال ابن المعتزّ: ولقد هززت مهنّدا ... عضب المضارب مرهفا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 210 واذا تولّج هامة ال ... جبّار سار فأوجفا عضب المضارب كالغدي ... ر نفى القذى حتّى صفا وقال أيضا: فى كفّه عضب اذا هزّه ... حسبته من خوفه يرتعد وقال آخر: جرّدوها فألبسوها المنايا ... عوضا عوّضت من الأغماد وكأنّ الآجال ممن أرادوا ... وظباها كانت على ميعاد وقال أحمد بن محمد بن عبد ربه: وذى شطب تقضى المنايا بحكمه ... وليس لما تقضى المنيّة دافع فرند اذا ما اعتنّ [1] للعين راكد ... وبرق اذا ما اهتزّ بالكفّ لامع يسلّل أرواح الكماة انسلاله ... ويرتاع منه الموت والموت رائع اذا ما التقت أمثاله [2] فى وقيعة ... هنالك ظنّ النفس بالنفس واقع وقال أيضا: بكلّ مأثور على متنه ... مثل مدبّ النمل فى القاع يرتدّ طرف العين عن حدّه ... عن كوكب للموت لمّاع وقال أبو مروان بن أبى الخصال: وصقيل مدارج النمل فيه ... وهو مذ كان ما درجن عليه أخلص القين صقله فهو ماء ... يتلظّى السعير فى صفحتيه   [1] اعتن: ظهر. [2] كذا فى العقد الفريد (ج 1 ص 68) وفى الأصل: «اذا ما التقت أرواحه ... » . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 211 وقال أحمد بن الأعمى الأندلسىّ: موتى فان خلعت أكفانها علمت ... أنّ الدروع على الأبطال أكفان نفسى فداؤك لا كفأ ولا ثمنا ... ولو غدا المشترى منها وكيوان والتّبر قد وزنوه بالحديد فما ... ساوى، ولكن مقادير وأوزان وقال عبد العزيز بن يوسف شاعر اليتيمة: بيض تصافح بالأيدى مقابضها ... وحدّها صافح الأعناق والقمما ضحكن من خلل الأغماد مصلتة ... حتى اذا اختلفت ضربا بكين دما وقال الشريف الموسوىّ شاعرها: ونصل السيف تسلم شفرتاه ... ويخلق كلّ أيام قرابا وقال مؤيّد الدين الطغرائى: وأبيض طاغى الحدّ يرعد متنه ... مخافة عزم منك أمضى من النّصل عليم بأسرار المنون كأنما ... على مضربيه أنزلت آية القتل تفيض نفوس الصّيد دون غراره ... وتطفح [1] عن متنيه فى مدرج النمل خلعت عليه نور وجهك فارتدى ... بنور كفاه أن يحادث [2] بالصّقل وقد أكثر الشعراء تشبيه الفرند بالنمل، وأصل ذلك من قول امرئ القيس: متوسّدا عضبا مضاربه ... فى متنه كمدبّة النمل وقال الطغرائى: وأبيض لولا الماء فى جنباته ... تلسّن من حدّيه نار الحباحب أضرّ به حبّ الجماجم والطّلى ... فغادره نضوا نحيل المضارب   [1] كذا فى ديوان الطغرائى (نسخة مخطوطة محفوظة بدار الكتب المصرية رقم 1528 أدب) وفى الأصل: «وتصفح ... » . [2] يحادث: يجلى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 212 وقال إسحاق بن خلف: ألقى بجانب خصره ... أمضى من الأجل المتاح وكأنما ذرّ الهبا ... ء عليه أنفاس الرياح وقال ابن المعتز: وجرّد من أغماده كلّ مرهف ... اذا ما انتضته الكفّ كاد يسيل ترى فوق متنيه الفرند كأنما ... تنفّس فيه القين وهو صقيل وقال منصور النمرىّ يصف سيفا: ذكر برونقه الفرند كأنما ... يعلو الرجال بأرجوان ناقع وترى مضارب شفرتيه كأنها ... ملح تناثر من وراء الدارع ولما صار الصّمصامة (سيف عمرو بن معديكرب) الى موسى الهادى أذن للشعراء أن يصفوه، فبدأهم ابن يامين [1] فقال: حاز صمصامة الزّبيدىّ من دو ... ن جميع الأنام موسى الامين سيف عمرو وكان فيما سمعنا ... خير ما أغمدت عليه الجفون أخضر المتن بين حدّيه نور ... من فرند تمتدّ فيه العيون أوقدت فوقه الصواعق نارا ... ثم شابت به الذّعاف القيون فاذا ما سللته بهر الشم ... س ضياء فلم تكد تستبين وكأنّ الفرند والرّونق الجا ... رى فى صفحتيه ماء معين وكأنّ المنون نيطت إليه ... فهو من كل جانبيه منون ما يبالى من انتضاه لضرب ... أشمال سطت به أم يمين فأمر له ببدرة، وأخرج الشعراء.   [1] فى العقد الفريد: «ابن أنيس» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 213 ومن الإفراط فى وصف السيف قول النابغة: يقدّ السّلوقىّ المضاعف نسجه ... ويوقد بالصّفّاح نار الحباحب فذكر أنه يقدّ الدرع المضاعف والفارس والفرس ويصل الى الأرض فيقدح النار. وقال النّمر بن تولب: تظلّ تحفر عنه إن ضربت به ... بعد الذّراعين والقيدين والهادى ومن رسالة لأبى محمد بن مالك القرطبىّ جاء منها فى وصف السيوف، قال: وكأنما باضت على رءوسهم نعائم الدّوّ، وبرقت فى أكفّهم بوارق الجوّ؛ ولكنها اذا ما هزّت فبوارق، واذا صبّت فصواعق؛ من كل ذى شطب كأنما قرى نمل، علون منه قرى نصل؛ فإذا أصاب فكلّ شىء مقتل، واذا حزّ فكلّ عضو مفصل؛ أمضى فى الأشباح، من الأجل المتاح؛ عضب المتن صقيل، يكاد اذا انتضى يسيل؛ ويكاد مبصره يغنى عن الورد، اذا اخترط من الغمد؛ ما لم يخله ريعان سراب، فى صحصحان يباب، لاشتباه فرنده بحباب فى شراب، أو حباب [1] فى سراب؛ فلما رأيت جفنه قد انطوى على جمر الغضى، وماء الأضى [2] ؛ وانتظم على خصره الجنح، ورونق الصّبح؛ قلت سبحان مكور الليل على النهار، والجامع بين الماء والنار. وأما ما قيل فى الرمح، من الحديث، والأسماء، والنعوت، والأوصاف. عن ابن عمر رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «جعل رزقى تحت ظلّ رمحى وجعل الذّلّة والصّغار على من خالف أمرى» . هذا ما ورد فيه من الحديث.   [1] الحباب (بالفتح) : الفقاقيع التى تعلو الماء، والحباب (بالضم) جمع حبابة، وهى دويبة سوداء مائية. [2] الأضى: جمع لأضاة، وهى مستنقع الماء. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 214 وأما الأسماء، والنعوت، والأوصاف- فمن ذلك: «أسمر» وهو الدقيق «ألّة» وهو أصغر من الحربة، وفى سنانها عرض. وجمعها الإلال. «أمّ اللواء» . «أزنىّ» منسوب الى ذى يزن. «أقصاد» وهو المكسر. «ثلب» وهو المثلّم. «حادر» أى غليظ. «حربة» . «خرصانة [1] » . «خرص» . «خطّار» أى ذو اهتزاز «خال» أى لواء الجيش. «خطّى» هو ما ينسب من الرماح الى الخطّ، وهو موضع باليمامة. «خطل» وهو المضطرب. «خوّار» وهو الخفيف. «رمح» «رعّاش» وهو الشديد الاضطراب. «ردينىّ» منسوب الى امرأة اسمها ردينة «راش» أى خوّار. «زاعبىّ [2] » وهو الذى اذا هزّ تدافع كلّه. «رواعف» . «زاعبيّة» منسوبة الى زاعب: رجل، وقيل بلد. «سمهريّة» هى القنا الصّلبة منسوبة الى سمهر، كان رجلا يقوّم الرماح. «شراعىّ» هو الرمح الطويل. «شطاط [3] » القناة المعتدلة. «صدق» هو الصّلب من الرماح. «صعدة» وهى القناة المستوية من أصل نبتها التى لا تحتاج الى تثقيف، والجمع صعاد. «صمع» هى الصلبة اللطيفة العقد. «ضلع» هو الرمح المعوّج. «ضليع» هو الرمح المائل. «ضب [4] » اعوجاج   [1] كذا بالأصل: ولم نجد فى المصادر التى بأيدينا ما يؤيده وانما الموجود «خرصان» جمع «خرص» . [2] فى الأصل «راعبىّ» ومقتصى وضعه قبل «رواعف» يدن على انه من حرف الراء. غير أنا لم نجد فى كتب اللغة ما يؤيده. وفى اللسان: «والزاعبىّ من الرماح الذى اذا هز تدافع كله كأن آخره يجرى فى مقدّمه، والزاعبية رماح منسوبة الى زاعب: رجل أو بلد ... الى أن قال: وقال الأصمعىّ: الزاعبى الذى اذا هز كأن كعو به يجرى بعضها فى بعض للينه وهو من قولك: مر يزعب بحمله اذا مر مرا سهلا ... » وفى الأساس: «رمح زاعبى ورماح زاعبية نسبت الى رجل من الخزرج كان يعمل الأسنة، عن المبرد؛ وقيل: هى العسالة التى اذا هزت تدافعت كالسيل الزاعب يزعب بعضه بعضا أى يدفعه، وياء النسبة للنسبة الى الزاعب لمعنى التشبيه به أو للتأكيد كياء الأحمرى» . كل هذا يدل على أن ما فى الأصل محرّف وأن موضعه بعد «رواعف» ليكون من حرف الزاى. [3] شطاط (وزان سحاب وقتال) : الطول واعتدال القامة أو حسن القوام، ويقال: امرأة شطّة وشاطّة بينة الشطاط. أما ما ذكره المؤلف من اطلاق المصدر على القناة فلم نجد فى كتب اللغة التى بأيدينا ما يؤيده. [4] كذا فى الأصل ولم نجد فى مصدر آخر ما يؤيده. والذى فى كتب اللغة «والطنب بفتحتين: اعوجاج فى الرمح» فلعل ما فى الأصل محرّف عنه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 215 فى الرمح. «عنزة» وهى أطول من العصا وأقصر من الرمح وفيها زجّ كزحّ الرمح. «عكّازة» نحوها. «عاسل» هو الرمح الشديد الاضطراب. «عسّال» . «عسول» . «عرّات» : مثل عاسل. «عشوزنة» القناة الصّلبة. «عرّاص» هو الرمح المضطرب. «عتلّ» هو الرمح الغليظ. «قناة» وجمعها قنى وقنوات وقنّى وقناء. «قصد» أى مكسّر. «لدن» اذا هو تدافع كله. «متثنّى» كان من رماح سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. «مدعس [1] » . «مطرد» أى صغير. «منجل» أى واسع الطعن. «مزجّ» هو صغير كالمزراق. «مزراق» هو أخفّ من العنزة. «متلّ» رمح قوىّ يصرع به؛ قال لبيد: أعطف الجون بمربوع متلّ «مسمّح» هو الذى ثقّف. «مخموس» هو الذى طوله خمسة أذرع؛ قال عبيد [يذكر ناقته [2]] : هاتيك تحملنى وأبيض صارما ... ومذرّبا فى مارن مخموس «مربوع» هو الذى طوله أربعة، وقيل الذى ليس بطويل ولا قصير. «معرّن» هو الرمح المسمّر السنان بالعران وهو المسمار. «مرّانة» . «مثقّفة» وهى الرماح التى ثقّفت أى سوّيت. «مدريّة» وهى التى كانت تركب فيها القرون [المحدّدة [3]] مكان الأسنة، وقيل: إنها نسبت الى قرية باليمن يقال لها مدر. «نيزك» وهو رمح قصير، يقال: إنه فارسىّ وعرّب. «هزع» أى مضطرب. «وشيج» وهى شجرة الرماح. وشج [4] » نوع منه ينبت فى الأرض معترضا. «يزنىّ» مثل «أزنىّ» .   [1] السنان المدعس: الغليظ الشديد الذى لا ينثنى. [2] الزيادة عن اللسان. [3] الزيادة عن اللسان. [4] لعل أصل العبارة: وشيج وهو شجر الرماح، أو الوشيج نوع منه ينبت فى الأرض معترضا. فوقع فيها حذف وتحريف، وإلا فان ما فى الأصل لا يتفق مع شىء مما فى كتب اللغة. قال فى القاموس وشرحه: «ومن المجاز تطاعنوا بالوشيج أى بالرماح، والوشيج شجر الرماح، وقيل هو ما نبت من القنا والقصب معترضا ... الخ» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 216 ومن أسماء السنان- «أعجف» وهو الرقيق. «أشهب» اذا جلى «أذلق» وهو الحادّ. «حرب [1] » يقال حرّبت السنان اذا حددته. «خرص» وهو اسم للسنان وللرمح أيضا. «خزق [2] » . و «خازق» يقال فى أمثال العرب: «أمضى من خازق» . «ذرب» يقال: ذربته أى حددته. «ذلق» مثله. «رغب [3] » . «زرق» . «سيحف» هى نصال قصار عراض؛ قال الشّنفرى: لها وفضة فيها ثلاثون سيحفا ... اذا آنست أولى العدىّ اقشعرّت [4] «سنان» وجمعه أسنّة. «صلّبىّ» سنان مسنون. «عامل» . «عذار» وعذار السنان شفرتاه «عير» الناتئ فى وسطه. «قارية» حدّ السنان. «لهذم» هو السنان الحادّ القاطع. «مصلّب» أى مسنون. و «مطحر [5] » و «محدّد» و «مطرور» مثله. «مذرّب» أى محدّد؛ قال كعب: بمذرّبات بالأكفّ نواهل ... وبكلّ أبيض كالغدير مهنّد «نصل» وجمعه نصول ونصال. «نحيض [6] » يقال: نحضته اذا رقّقته.   [1] كذا فى الأصل ولم نجد فى مصدر آخر «حربا» وصفا كما يقتضيه السياق هنا. [2] لم نجد فى كتب اللغة أسماء أو وصفا للرمح يقرب من هذه الصيغة، وإنما الموجود: «خزقة اذا طعنه طعنا خفيفا» فلعله من اطلاق المصدر على آلته. [3] كذا بالأصل، ولم نوفق اليها فى مصدر آخر. [4] كذا فى اللسان (مادة سحف) والمخصص، وفى الأصل: هى وصفة فيها ثمانون سيخفا ... اذا آنست أولى العدا اقشعرت ويكاد التحريف ينال- كما هو ظاهر- كل كلمات البيت. الوفضة: الجعبة من الأدم. وفد فى اللسان: «أولى العدىّ: أوّل من يحمل من الرجالة» . [5] سياق الكلام هنا يدل على أن «مطحر» : مسنون. وفى القاموس: «ونصل مطحر كمكرم: مطوّل» . [6] فى الأصل «نحض» وهو تحريف وانما هو فعيل بمعنى مفعول، كما فى القاموس. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 217 ومن أسماء ما يعقد عليها- «أمّ» الأمّ: العلم الذى يتبعه الجيش. «بند» هو العلم الكبير، وهو فارسىّ معرّب. «حقيقة» هى الراية؛ قال عامر بن الطّفيل: أنا الفارس الحامى حقيقة جعفر «خفق [1] » خفقت الراية اذا اضطربت. «علم» الراية، وقيل: الذى يعقد على الرمح. «عقاب» العقاب: العلم الضخم. «غاية» وهى الراية. «لواء» وهو دون الأعلام والبنود. «عذبة» خرقة تعقد على رأس الرمح. وأما اذا حمله الرجل وطعن به- يقال: «اعتقل الرمح» اذا جعله بين ركابه وساقه. «أقرن» اذا رفع رأس رمحه. «اقتلع» اذا أخذ الرمح ليحمل به. «امتعط» و «انتزع» مثل اقتلع. «أشرع» اذا قابل به خصمه «بوّأ» يقال: بوّأت الرمح اذا سدّدته «تيممّ» تيممه اذا قصده دون غيره؛ قال الخليل بن أحمد: يمّمته الرمح شزرا ثم قلت له: ... خذها حذيف فأنت السيّد الصّمد [2] ومثل «تميم» «جعب» . «جحل» «جحدل» . «جعفل» ؛ قال الشاعر: جعفلتها لما أبت أن تخضعا «جوّر» مثله «جدّل» يقال: طعنه فجدّله أى رماه الى الأرض. «جرجم» يقال: جرجمه اذا صرعه. «حفز» أى طعن. «خطّار» هو الطعّان بالرمح؛ قال الشاعر: مصاليت خطّارون بالرمح فى الوغى   [1] لعله أراد أن يذكر الفعل، فان الوصف منه «خفّاق» و «خافق» . [2] فى الأمالى لأبى على الفالى واللسان (مادة صمد) : علوته بحسام ثم قلت له ... ......... الح: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 218 «خار» يقال طعنه فخار، أى أصاب خورانه وهو مجرى الرّوث. «دعس» اذا طعن. «دسر» أى طعن طعنة قويّة. «رامح» أى ذو رمح، لا فعل له. «رصع» اذا طعن. «رمح» مثله. «ركز» اذا غرز رمحه فى الأرض. «زجّ» اذا طعن بالزّجّ «سلق» اذا طعنه فوقع على ظهره. «سرّ» اذا طعنه فى سرّته؛ قال الشاعر: نسرّهم إن همو أقبلوا ... وإن أدبروا فهمو من نسبّ أى نطعنهم فى سبّاتهم [1] . «شجر» اذا طعن. «شكّ» اذا طعنه فخرقه. «طعن» . «قرطب» اذا طعن فصرع. «قعف» اذا طعنه فقعفه. «قعر» مثله. «قطّر» أى طعنه فألقاه على قطريه وهما جانباه؛ قال الهذلىّ: مجدّلا يتسقّى جلده دمه ... كما يقطّر جذع الدّومة القطل والقطل المقطوع. «قدع» يقال: تقادعوا اذا تطاعنوا. «لهز» اذا طعنه فى صدره. «لزّه» اذا طعنه. «مداعسة» وهى المطاعنة. «مسامحة» وهى الملاينة والمساهلة. «منادسة» المنادسة: المطاعنة. و «رماح نوادس» ؛ قال الكميت: ونحن صبحنا آل نجران غارة ... تميم بن مرّ والرماح النّوادسا «مدعس» أى طعّان. «مداعس» مثله. «مزجوج» الذى طعن بالزّجّ. «مكوّر» هو الذى طعن بارمح؛ قال الفرزدق: حملت عليه حملة فطعنته ... فغادرته فوق الفراش مكوّرا «جائفة [2] » يقال طعنه طعنة جائفة اذا وصلت الى جوفه. «نجلاء» هى الطعنة الواسعة. «نكت» يقال: طعنه فنكته إذا وقع على رأسه. «هرّع» يقال: هرّع   [1] السبات: جمع سبة، وهى الدبر. [2] كذا فى المخصص وسائر كتب اللغة التى بين أيدينا. وفى الأصل: «مجيفة» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 219 القوم الرماح اذا شرعوها ومضوا بها. «وخض» يقال: وخضه إذا طعنه طعنا لا ينفذ؛ قال الشاعر: وخضا الى النّصف وطعنا أرصعا وأما ما وصفته به الشعراء- فمن ذلك ما قاله أبو تمّام حبيب بن أوس الطائىّ: أنهبت أرواحه الأرماح إذا شرعت ... فما تردّ لريب الدهر عنه يد كأنها وهى فى الأوداج [1] والغة ... وفى الكلى تجد الغيظ الذى تجد من كلّ أزرق نظّار بلا نظر ... الى المقاتل ما فى متنه أود كأنه كان خدن الحبّ مذ زمن ... فليس يعجزه قلب ولا كبد وقال مؤيّد الدين الطغرائى: وخفّاقة طوع الرياح كأنها ... كواسر دجن ألثقتها [2] الأهاضيب تميد بها نشوى القدود كأنها ... قدود العذارى يزدهيهنّ تطريب يرنّحها سقيا الدماء [3] كأنها ... مدام وآثار الطّعان أكاويب   [1] كذا فى ديوان أبى تمام (طبع الآستانة) وفى الأصل: «فى الأرواح» . [2] ألثقتها: بللتها وندتها. والأهاضيب: جمع أهضوبة وهى المطرة. قال الركاض الدبيرى يخاطب دارين: ولا زال يجرى السيل فى عرصتيكما ... اذا جف ندّته أهاضيب هيدب والهيدب: السحاب المتدلى الذى يدنو مثل هدب القطيفة. يريد الطغرائى أن يشبه الرايات فى خفوقها واضطرابها بانتقاض الكواسر فى يوم دجن وقد بالها القطر. [3] كذا فى ديوان الطغرائى، نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية تحت رقم 1528 أدب، وفى الأصل «سقيا الماء» وهو تحريف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 220 بها هزّة بين ارتياح ورهبة ... وللنصر مرتاح وللهول مرهوب لها العذبات الحمر تهفو كأنها ... ضرام بمستنّ العواصف مشبوب اذا نشرت فى الرّوع لاحت صحائف ... عليهن عنوان من النصر مكتوب طوالع، طرف الجوّ منهن خاسئ ... حسير وقلب الأرض منهن مرعوب وقال آخر: ومطّرد لدن الكعوب كأنما ... تغشّاه منباع [1] من الزيت سائل أصمّ اذا ما هزّ مارت سراته ... كما مار ثعبان الرمال الموائل [2] له رائد ماضى الغرار كأنه ... هلال را فى ظلمة الليل ناحل وقال حوبة [3] بن حويّة يصف السنان: فأعدّ أزرق فى القناة كأنه ... فى طخية الظلماء ضوء شهاب وقال دعبل: وأسمر فى رأسه أزرق ... مثل لسان الحيّة الصادى وقال آخر: جمعت ردينيّا كأنّ سنانه ... سنا لهب لم يستعر بدخان وقال أحمد بن محمد بن عبد ربه: بكلّ ردينىّ كأن سنانه ... شهاب بدا فى ظلمة الليل ساطع   [1] منباع: سائل. [2] رخ أصم: مكتنز. ومارت سراته: اضطرب أعلاه. وفى الأصل: «مالت سراته» وهو غير مناسب للسياق ولا للتشبيه فى الشطر الثانى؛ فلعله تحريف. الموائل: الطالب للنجاة خشية أن يصيبه مكروه. [3] كذا بالأصل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 221 تقاصرت الآجال فى طول متنه ... وعادت به الآمال وهى فجائع وساءت ظنون الحرب فى حسن ظنّه [1] ... فهن لحبّات القلوب قوارع وقال أبو محمد بن مالك القرطبىّ من رسالة جاء منها فى وصف الرمح: ومن كل مثقّف الكعوب، أصمّ الأنبوب؛ كأنما سلب من الروم زرقتها، واجتلب من العرب سمرتها؛ وأخذ من الذئب عسلانه، ومن قلب الجبان خفقانه، ومن رقراق السّراب لمعانه؛ واستعار من العاشق نحوله، ومن العليل ذبوله. قال أبو تمام: مثقّفات سلبن الروم زرفتها ... والعرب أدمتها والعاشق القضفا [2] واما ما قيل فى القوس العربية- روى أن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه دخل على النبىّ صلى الله عليه وسلم وهو متقلّد قوسا عربية، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: «هكذا جاءنى جبريل اللهم من استطعمك بها فأطعمه ومن استنصرك بها فانصره ومن استرزقك بها فارزقه» . وقال: «مامدّ الناس أيديهم الى شىء من السلاح إلا وللقوس عليه فضل» . والقوس [3] مؤنثة. وتصغيرها قويس. وجمعها أقوس وأقواس وقياس وقسىّ. ولها أجزاء وأسماء. فأما أجزاؤها- فكبدها: ما بين طرفى العلاقة. ويليه الكلية. ويلى الكلية: الأبهر. ثم الطائف، وهما طائفان: الأعلى والأسفل. والسّية: ما عطف من طرفيها.   [1] كذا فى العقد الفريد، وفى الأصل: « ... فى كل ظنة» . [2] القضف هنب: النحافة. [3] وقد تذكر، وسيأتى المؤلف ينص على هذا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 222 ويدها: أعلاها. ورجلها: أسفلها. والعجس والمعجس: مقبضها. وإنسيّها: ما أقبل على الرامى. ووحشيّها ما كان الى الصّيد. والفرض والفرضة: الحزّة التى يقع فيها طرف الوتر المعقود وهو السية [1] . وما فوق الفرضة: الظّفر والكظر. وأما أسماء القوس ونعوتها- فمنها: «بانية [2] » أى بانية على وترها اذا التصقت به. «جشو [3] » هى القوس الغليظة وقيل الخفيفة؛ قال أبو ذؤيب: ونميمة من قانص متلبّب ... فى كفه جشو أجشّ وأقطع «جلهق [4] » وجمعها جلاهق، وهى قسىّ البندق. «حنّانة» التى تحنّ عند الإنباض؛ قال الشاعر: وفى منكبى حنّانة عود نبعة ... تخيّرها لى سوق بكّة بائع [5] «حاشكة» وهى القوس البعيدة الرمى. «حنيرة» وهى القوس بغير وتر، وفى الحديث: «لو صلّيتم حتى تكونوا كالحنائر [ما نفعكم حتى تحبّوا آل رسول الله صلى الله عليه   [1] فى الأصل: «وهو السيسرة» وهو تحريف. قال فى أساس البلاغة: «وأوقع الوتر فى فرض قوسك وفرضتها، وهو الحز فى سيتها» . [2] فى اللسان (مادة بين) : «الجوهرى: البائنة القوس التى بانت عن وترها كثيرا، وأما التى قد قربت من وترها حتى كادت تلصق به فهى البانية بتقديم النون، قال: وكلاهما عيب ... » وظاهر من تفسير المؤلف هنا أن المراد «البانية» بتقديم النون. وفى الأصل: «بايتة» وهو تحريف. [3] الذى فى كتب اللغة «قوس جشء» بالهمز و «الجشو» بالواو لغة فيه. [4] ظاهر كلام المؤلف أن «جلهق» مفرد جمعه «جلاهق» والذى فى كتب اللغة: الجلاهق بضم الجيم: القوس، ولم يذكروا له هذا المفرد الذى ذكره. [5] ضبط هذا البيت فى اللسان (مادّة حنّ) باضافة «منكى» الى حنانة على أنه تثنية منكب وعلى أن المراد ب «عود نبعة» السهم. وإذ كنا لم نوفق الى القصيدة التى منها هذا البيت لنعرف موضعه من السياق، وإذ كان ضبطه على ما فى اللسان غير واضح. وإذ كان العود يطلق على القوس كما يطلق على السهم، رأينا أن نضبطه كما ترى، على أن يكون «عود نبعة» بدلا من حنانة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 223 وسلم [1]] » . «حدلاء» هى القوس التى تطامنت [2] [سيتها] . «حصوب» وهى التى اذا رمى عنها انقلب وترها. «رهيش» التى اذا رمى عنها اهتزّت وضرب وترها أبهرها. «زفيان [3] » هى السريعة الإرسال للسهم. «زوراء» سمّيت بذلك لميلها. «شسيب» وهو من أسمائها. «شريجة» . «شدفاء» سمّيت بذلك لاعوجاجها. «صفراء» . «صريع» «ضروح» وهى الشديدة الحفز والدفع للسهم. «طحور» البعيدة الرمى. «طروح» مثل ضروح. «طلاع الكف» اذا كان مقبضها يملأ الكفّ. «عاتك» هى القوس التى احمرّت من الفدم، ومثله العاتكة. «عاتق [4] » هى التى تغيّر لونها. «عطوى» هى المؤاتية السهلة؛ قال الشاعر: له نبعة عطوى كأنّ رنينها ... بألوى تعاطته [5] الأكفّ المواسح «عراضة» وهى العريضة. «عبهر» هى القوس الممتلئة العجس «عطافة» «عطيفة» . «عطفى» القوس المعطوفة؛ قال أسامة الهذلىّ: فمدّ ذراعيه وأجنأ [6] صلبه ... وفرّجها عطفى مرير ملاكد   [1] تتمة الحديث من نهاية ابن الأثير. [2] تطامنت سيتها: انحفضت أى مع ارتفاع السية الأخرى. والزيادة التى وضعناها ضرورية وسيذكرها المصنف فى تفسير «محدلة» التى معناها معنى «حدلاء» . فلعل هذه الزيادة التى أثبتناها سقطت هنا سهوا من الناسخ. ومثل محدلة وحدلاء أيضا حدال كغراب. [3] كذا فى المخصص وكتب اللغة. وفى الأصل «زفنان» وهو تحريف. [4] ومثل عاتق: عاتقة. [5] كذا فى اللسان (مادة عطا) وفى الأصل: «تعاطيه» ولعله تحريف من الناسخ. قال فى اللسان: «وأراد بالألوى الوتر» . وتعاطنه: تنازعته. [6] أجنأ صلبه: أحنى ظهره. ومرير: ذو مرة أى قوىّ. والملاكد: المعالج الملازم من قولهم: بات يلاكد الغل: أى يعالجه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 224 «عطوف» هى المعطوفة السّيتين إحداهما على الأخرى. «عتلة [1] » والعتلة: القوس الفارسية، وجمعها عتل. «عوجاء» وهو من أسمائها. «عثوث» وهى القوس المرنّة. قال كثيّر: هتوفا اذا ذاقها النّازعون ... سمعت لها بعد حبض عثاثا [2] «عطل» هى التى لا وتر عليها. «غلفاء» التى فى غلافها. «فرع» و «فرعة» وهما من جياد القسىّ. «فجّاء» توصف بذلك اذا بان وترها عن كبدها. «فجواء» مثلها. «فلق» اذا كانت مشقوقة [3] ولم تكن قضيبا. «فرج» اذا تنفّجت سياتها [4] . «قوس قعساء [5] » والقعس هو نتوء باطن القوس من وسطها ودخول ظاهرها. «قؤود» وهى السّلسة المنقادة. «كبداء [6] » هى التى يملأ كبدها الكفّ. «كزّة» وهى القصيرة. «مسحنة» وهى الحسنة المنظر. «مطحر» التى ترمى بسهمها صعدا. «محدلة» التى تطامنت سيتها مثل الحدلاء. «مروح» وهى القوس الحسنة التى يمرح من رآها عجبا بها. ويقال ممراح وممرح أى نشيط. «مهوك» القوس الليّنة. «مسيحة [7] » وهو من أسمائها. «معطّفة» هى القوس المعطوفة السّيتين. «مطعمة» ؛ قال الشاعر:   [1] كذا فى المخصص واللسان، ومنه قول أمية: يرمون عن عتل كأنها غبط ... بزمخر يعجل المرمىّ إعجالا وفى الأصل: «عتكة» بالكاف. وهو تحريف. [2] ذاق القوس: جذب وترها لينظر ما شدتها. والنازعون: الرماة. والحبض: الصوت الضعيف وعثاث: مصدر عاث فى غنائه اذا رجّع وترنّم. [3] مشقوقة: أى أن تكون أحد شقى قضيب. [4] تنفجت سياتها: ارتفعت. يريد سيتيها إذ ليس للقوس إلا سيتان. [5] فى الأصل: «قوس قعس» . [6] فى الأصل: «كبد» . [7] كذا فى المخصص واللسان (مادة مسح) وفى الأصل: «مسيح» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 225 وفى الشّمال من الشّريان مطعمة ... كبداء فى عجسها [1] عطف وتقويم وقيل سمّيت بذلك لأنها تطعم. «معطوفة» . «ما سخيّات» هى أقواس تنسب الى ما سخة [2] رجل من الأزد كان قوّاسا؛ قال الشّمّاخ بن ضرار: فقرّبت مبراة تخال ضلوعها ... من الماسخيّات القسىّ الموتّرا [3] «ناترة» وهى التى تقطع الوتر لصلابتها، وجمعها نواتر. «نفوح» هى الشديدة الدفع للسهم. «همزى [4] » مثلها. وأما الوتر- فمن أسمائه: «حبجر» وهو الوتر الغليظ، وكل غليظ كذلك؛ قال الشاعر: أرمى عليها وهى شىء بجر [5] ... والقوس فيها وتر حبجر وهى ثلاث أذرع وشبر «سرعان» وهو الوتر القوىّ؛ قال الشاعر: وعطّلت قوس اللهو من سرعانها ... وعادت سهامى بين أحنى وناصل [6] «شرعة» الشرعة: الوتر الرقيق، وقيل مادام مشدودا. «فرو [7] » . «هجار» . «وتر» .   [1] قال فى اللسان، بعد أن ذكر البيت وشرح «كبداء» ،: «وصواب إنشاده: فى عودها عطف يعنى موضع السيتين وسائره مقوّم» . يريد أن العطف والتقويم فى عود القوس لا فى عجسها، وأن المعطوف من عودها هو موضع السيتين. [2] كذا فى اللسان والقاموس وأساس البلاغة. وفى الأصل «ماسخ» . [3] المبراة: الناقة فى أنفها برة، وهى حلقة من فضة أو صفر تجعل فى أنفها. والموتر: المشدود الوتر. [4] كذا فى كتب اللغة، وفى الأصل: «همزاء» وهو تحريف. [5] بجر: عجب. [6] فى الأصل «بين أحنى ونواضل» وهو تحريف، والتصويب عن لسان العرب مادة «سرع» . والأحنى: الأحدب. والناصل: السهم ذو النصل، والذى خرج منه نصله، وهذا هو المراد هنا. [7] كذا بالأصل. ولم نجد فى المصادر التى بأيدينا ما يؤيده. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 226 وأما أصوات القوس- يقال: «أرنّت» اذا رمى عنها فصوّتت. «أنبض» . «أنضب [1] » . «حضب» وجمعه أحضاب. «رجّعت» . «زجوم» . الزّجوم التى ليست شديدة الإرنان. «سجعت» اذا مدّت حنينها على جهة واحدة. «عجّاجة» . «عزفت» . «عداد» هو صوت الوتر. «عوّلت [2] » مثل أرنّت. «كتوم» وهى التى لا ترنّ «مرنان» وهى التى اذا رمى عنها صوّتت؛ قال الشنفرى: اذا زلّ عنها السهم رنّت كأنها ... مرزّأة ثكلى تحنّ وتعول «نأمت» أى صوّتت. «هتفى» . «هتّافة» . «هزج» و «هزّجت» اذا صوّتت عند إنباض الرمى عنها؛ قال الكميت: لم يعب ربّها ولا الناس منها ... غير إنذارها عليها الحميرا بأهازيج من أغانيّها الجشّ [3] ... وإتباعها النحيب [4] الزفيرا وقال الشّماخ: اذا أنبض الرامون عنها ترنّمت ... ترنّم ثكلى أوجعتها الجنائز وقال آخر: وهى اذا أنبضت عنها تسجع ... ترنّم الثّكلى أبت لا تهجع وقال آخر: تسمع عند النّزع والتوتير [5] ... فى سيتيها رنّة الطّنبور   [1] أنبض القوس وأنضبها اذا جذبها لتصوّت. [2] فى الأصل: «عوّكت» وهو تحريف. [3] الجش: جمع جشاء من الجشة وهى غلظ الصوت. [4] فى أساس البلاغة: وإتباعها الحنين الزفيرا [5] النزع: رمى السهم عن القوس. والتوتير: شدّ وتر القوس. وفى الأصل: «عند النزع والوتير» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 227 واذا وتر القوس أو أخذ عنها وترها- يقال: «حظرب قوسه» اذا شدّ توتيرها. «طحمر» اذا وترها. «متّن» مثله. «وتر» . «عطّل» يقال: عطّل القوس اذا أخذ عنها الوتر. وأما اذا حمل القوس أو اتّكأ عليها- يقال: «تنكّب القوس» اذا ألقاها على منكبه. «تأتّب» يقال: تأتّب قوسه اذا جعلها على ظهره. «متقوّس» اذا كان معه قوس. «انكب» والأنكب الذى لا قوس معه. «ارتكز» إذا وضعها بالأرض واعتمد عليها. هذا ما قيل فى القوس من الأسماء والصفات اللغوية؛ فلنذكر تركيب القوس ومبدأ عملها. ذكر ما قيل فى تركيب القوس، ومبدإ عملها ومن رمى عنها، ومعنى الرمى أما تركيب القوس- فقد أجمع الرّماة أنها مبنية على طبائع الإنسان الأربع وهى: العظم، ونظيره فى القوس الخشب. واللحم، ونظيره فى القوس القرون. والعروق والعصب، ونظيرها فى القوس العقب. والدم، ونظيره فى القوس الغراء. وأما مبدأ عملها ومن رمى بها- اختلف الناس فى القوس ومبدإ عملها ومن رمى عنها، فقال بعض أهل العلم: إن القوس جاء بها جبريل الى آدم عليه السلام الجزء: 6 ¦ الصفحة: 228 وعلّمه الرمى عنها، وتوارثه ولده الى زمن نوح عليه السّلام. وذكرت الفرس فى كتاب الطبقات الأربع: أنّ أوّل من رمى عنها جمشيد الملك الفارسىّ، وقيل إنه كان فى زمن نوح عليه السّلام، وتوارثه بعده ولده طبقة بعد طبقة. وقال آخرون: إن أوّل من رمى عنها النّمرود، وخبره مشهور فى رميه نحو السماء وعود سهمه اليه وقد غمس من الدم. وسنذكر ذلك ان شاء الله تعالى مبيّنا فى قصة إبراهيم عليه السّلام. ورمى عنها بعد النمرود سامن اليمانى ثم كند بن سامن ثم رستم من المجوس ثم اسفنديار وغيرهم. وقيل إن أوّل من وضعها بهرام جور بن سابور ذى الأكتاف، وهو من الملوك الساسانيّة، وإنه عملها من الحديد والنّحاس والذهب، ولم يكن رآها قبل ذلك، فلم تطاوعه فى المدّ فعملها من القرون والخشب والعقب [1] . وهذا القول مردود على قائله، لأن الفرس الأول لم تزل تفتخر بالرمى فى الحروب والصيد، ولم ينقل أن الرمى انقطع فى دولة ملك منهم. والله تعالى أعلم. وأما معنى الرمى- ومعنى الرمى عند العرب هو القصد، وذلك أنهم يقولون: رميت ببصرى الشىء، أى قصدت اليه به؛ قال ابن الرومى: نظرت فأقصدت الفؤاد بسهمها ... ثم انثنت عنه فكاد يهيم ويلاه إن نظرت وإن هى أعرضت! ... وقع السّهام ونزعهن أليم وقال العبّاس بن الأحنف: قالت ظلوم سميّة الظلم ... مالى رأيتك ناحل الجسم يا من رمى قلبى فأقصده ... أنت العليم بموضع السهم   [1] العقب: عصب المتنين والساقين والوظيفين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 229 وأما معناه عند العجم، فقد حكى عن بهرام أنه قال: معنى رميت الشىء أى [1] رمته فوصلت اليه. وهو مقارب لمعناه عند العرب، لأنه إنما أراد بما رامه القصد له. هذا ما قيل فى القوس. فلنذكر ما قيل فى السهم، ثم نذكر بعد ذلك ما قيل فيهما من النظم والنثر. وأما ما قيل فى السهم- روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله عز وجل ليدخل بالسهم الواحد ثلاثة [نفر [2]] الجنة صانعه يحتسب فى صنعته الخير والرامى به والممدّ [3] به» . وقال صلى الله عليه وسلم: «ارموا واركبوا وأن ترموا أحبّ إلىّ من أن تركبوا» . وعنه صلى الله عليه وسلم وقد مرّ على نفر من أسلم [4] ينتضلون فقال: «ارموا بنى إسماعيل فإن أباكم كان راميا وأنا مع بنى فلان» ، فأمسك أحد الفريقين بأيديهم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما لكم لا ترمون» ؛ فقالوا: كيف نرمى وأنت معهم! قال: «ارموا وأنا معكم كلّكم» . وعن حمزة بن أبى أسيد عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر حين صففنا لقريش وصفّوا لنا: «اذا أكثبوكم [5] فعليكم بالنّبل» . وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من تعلّم الرمى ثم تركه فهو نعمة تركها» .   [1] كذا بالأصل، وظاهر أن الكلمة «أى» التفسيرية هاهنا لا معنى لها بل وجودها محل بالتركيب. [2] زيادة من هذا الجزء (صفحة 238 من خطبة القاضى شهاب الدين محمود الحلبى) ومن الجامع الصغير. [3] الممدبه: من أمده بالشىء: أعطاه إياه. وفيما يأتى فى خطبة الحلبى وفى الجامع الصغير. «ومنبله» بدل «الممدبه» والمنبل: من أنبله الشىء أعطاه إياه وناوله. [4] أسلم: قبيلة مشهورة. [5] أكثبوكم: قاربوكم ودنوا منكم فمكنوكم منهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 230 ومما يدلّ على تعظيم قدر الرامى ما روى عن عبد الله بن شدّاد قال: سمعت عليّا يقول: ما رأيت النبى صلى الله عليه وسلم يفدّى رجلا بعد سعد، سمعته يقول: «إرم فداك أبى وأمّى» . وسعد هذا هو سعد بن مالك. وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم له كان فى يوم أحد. وللسهم أسماء وصفات ونعوت نطقت بها العرب- منها: «أقذّ» ، والأقذ: الذى لا ريش عليه. «أهزع» وهو السهم الذى يبقى فى الكنانة وحده لأنه أردأ ما فيها، ويقال هو أجودها وأفضلها؛ ويقال: ما فى جفيره أهزع، قال العجّاج: لا تك كالرامى بغير أهزعا [1] وقال آخر: فأرسل سهما له أهزعا ... فشكّ نواهقه [2] والفما «أفوق» هو المكسور الفوق [3] . «أمرط» هو الذى سقط قذذه. «أغضف [4] » وهو الغليظ [الريش [5]] . «أصمع» وهو الرقيق. «ثجر» وهى سهام غلاظ. «ثلث» وهو سهم من ثلاثة، ومثله ثليث وثمين وسبيع وسديس وخميس. «جبّاع» وهو الذى بغير نصل. «جمّاع» سهم مدوّر الرأس يتعلم به الصبىّ الرمى. «حشر» يقال: سهم حشر، وسهام حشر أى دقاق. «حاب» وهو الذى يزحف فى [الأرض ثم يصيب [6]] الهدف. «حابض» وهو الذى يقع بين يدى راميه. «حظاء» هى سهام صغار، والواحدة: حظوة، وتجمع على حظوات، وتصغيرها: حظيّات. «حسبان» سهام   [1] فى المخصص: «يأيها الرامى بغير أهزعا» . [2] النواهق: مخارج النهاق من ذى الحافر، أو العظام الناتئة فى مجرى دمعه من الخدّ. [3] الفوق: موضع الوتر. [4] فى الأصل: «أعضف» وهو تحريف. [5] زيادة عن القاموس. [6] التكملة من كتب اللغة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 231 صغار يرمى بها عن القسىّ الفارسيّة، والواحدة حسبانة. «خازق» وهو السهم الذى يصيب القرطاس. «خشيب» وهو حين يبرى البرى الأوّل. «خلط» وهو السهم الذى ينبت عوده على عوج فلا يزال يتعوّج وإن قوّم. «دالف» وهو الذى يصيب ما دون الغرض ثم ينبو عن موضعه، والجمع دلّف. «دابر» وهو الذى يخرج من الهدف. «رقميّات» سهام تنسب الى موضع بالمدينة. «زالج» وهو الذى يتزلّج من القوس أى يسرع، وكلّ سريع زالج. «زاحف» وهو الذى يقع دون الغرض ثم يزحف اليه. «زمخر» وهو النّشّاب واحدته زمخرة، ويقال: هو الطويل منه. «سهم سندرىّ» نوع من السهام منسوب الى السّندرة وهى شجرة. «سروة» سهم صغير، والجمع سراء. «شارف» سهم طويل دقيق، وقيل الذى طال عهده. «شاخص» أى جاز الغرض من أعلاه. «شارم» وهو الذى يشرم جانب الغرض. «صادر» هو النافذ. «صنيع» . «عبر» هو الموفور الريش. «عموج» هو الذى يتلوّى فى ذهابه وهو الاعوجاج فى السير. «عصل» السهام المعوجّة. «عفر [1] » . «عائر» وهو السهم الذى لا يدرى من أين أقبل. «غرب» يقال: سهم غرب [2] ، وهو الذى يأتى ولا يعلم المصاب به من أين يأتى. «فالج» هو السهم الفائز. «قطع» هو السهم العريض. «قدح» قبل أن يراش ويركّب نصله. «قطبة» سهم صغير يرمى به. «قطيع» قبل أن يبرى حين يكون قضيبا، والجمع قطع. «قترة» سهم صغير لا حديد فيه. «كتّاب» سهم صغير مدوّر الرأس مثل «جمّاح» . «كثّاب» سهم صغير؛ قال الشاعر: رمت عن كثب قلبى ... ولم ترم بكثّاب   [1] كذا فى الأصل، ولم نوفق اليه فى مصدر آخر. [2] يصح فى «سهم غرب» الإضافة والوصفية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 232 «لأم» وهو السهم. «معبر» وهو السهم الموفور الريش. «منزع» هو السهم مطلقا، ويقال: المنزع: الذى يرمى أبعد ما يكون؛ قال الأعشى: فهو كالمنزع المريش من الشّو ... حط غالت به يمين المغالى «مريش» ذو الريش. «مخلّق» هو المصلح. «مصراد» هو النافذ. «مقتعل» هو الذى لم يبر بريا جيّدا؛ قال لبيد: فرميت القوم رشقا صائبا ... ليس بالعصل ولا بالمقتعل «مطحر» هو البعيد الذّهاب؛ قال أبو ذؤيب: فرمى فألحق [1] صاعديّا مطحرا ... بالكشح فاشتملت عليه الأضلع «مرماة» سهم صغير. «منجاب» هو الذى لا ريش عليه ولا نصل. «مغلق» اسم لكل سهم. «مرّيخ» سهم طويل له أربع قدذ. «منجوف» هو السهم العريض. «مراط [2] » التى تمرّط ريشها. «مقزّع» الذى ريش بريش صغار. «مرتدع» الذى اذا أصاب الهدف انفضخ [3] عوده. «معراض» ذو ريش يمشى عرضا، وقيل سهم طويل له أربع قذذ دقاق فاذا رمى به اعترض. «متصمّع» هو المنضمّ الريش من الدم، وقيل الملطّخ بالدم. «مشقص» سهم له نصل عريض. «معقص» الذى ينكسر نصله ويبقى سنخه فى السهم. «نكس» هو الذى انكسر فوقه فجعل أسفله أعلاه. «نواقر» هى السهام التى تصيب. «نشّاب» . «نجيف» هو العريض النصل، والجمع نجف؛ قال الهذلىّ: نجف بذلت لها خوافى ناهض ... حشر القوادم كاللّفاع الأطحل «هزاع» هو الذى يبقى فى الكنانة وحده مثل الأهزع.   [1] فى اللسان (مادة طحر) : «فأنفذ» . [2] هذا على أن «مراطا» جمع «مرط» بضمتين، ويقال أيضا: سهم مراط، كما يقال: سهم مرط. [3] انفضخ عوده: انكسر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 233 وأما أسماء النصل- فمنها: «رهب» وهو النصل الرقيق، والجمع رهاب. «رهيش» مثله. «قطع» هو النصل العريض، وجمعه أقطاع، وقيل: نصل صغير، وقيل: السهم القصير. «قطبة» نصل الهدف. «مرماة» هو النصل المدوّر. «معبلة» نصل طويل عريض، وقيل حديدة مصفّحة لا عير [1] لها. «نضىّ» هو نصل السهم. «وقيع» هو النصل المحدّد؛ قال عنترة: وآخر منهم أجررت رمحى ... وفى البجلىّ معبلة وقيع فهذه أسماء السهم والنصل. واذا أصاب السهم يقال- «ارتزّ السهم» اذا ثبت فى القرطاس «أصاب» . «أقصد» اذا قتل مكانه؛ قال الأخطل: فإن كنت قد أقصدتنى إذ رميتنى ... بسهميك فالرامى يصيب ولا يدرى [2] «بصّر» اذا طلى رأسه بالبصيرة وهى الدم. «تاز» يقال: تاز السهم اذا أصاب الرميّة فاهتزّ فيها. «خزق» اذا أصاب. «خسق» مثله. «خصل» اذا وقع بلزق القرطاس، وقيل: [الخصل] الإصابة [3] ؛ ويقال: تخاصل القوم اذا تراهنوا فى الرمى، وأحرز فلان خصل فلان اذا غلب. «دبر» اذا خرج عن الهدف. «زهق» اذا جاوز الهدف. «شظف» اذا دخل بين الجلد واللحم. «صرد» يقال: صرد السهم   [1] العير فى النصل: الناتئ منه فى وسطه. [2] فى الأصل: « ... أقصدتنى فرميتنى ... بسهمك ... » . وقد أثبتنا ما فى اللسان مادة «قصد» . ومعنى لا يدرى: لا يختل. يقال: درى الظباء وادّراها وتدرّاها اذا ختلها أى تخفى لها. [3] فى المخصص: «ومن قال: الخصل: الإصابة فقد أخطأ» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 234 من الرميّة اذا نفذ منها. «صاف» مثل «ضاف» [و [1]] «طاش» اذا لم يصب. «عصّل» اذا التوى فى الرمى. «عظعظ [2] » اذا لم يقصد الرميّة. «قحز» اذا وقع بين يدى الرامى. «مرق» اذا نفذ من الرميّة. «نصل» اذا ثبت نصله فى الشىء فلم يخرج. «نضا» بمعنى ذهب. «نفذ» أى من الرميّة. وأما ما يضاف الى الرامى- يقال: «أذلق» عبارة عن سرعة الرمى. «أشخص» اذا مرّ سهمه برأس الغرض. «انتضل» يقال: انتضل القوم وتناضلوا اذا تراموا للسّبق. «تيمّم» اذا قصد نحو جهة بالسهم. «تنعير» اذا أدار السهم على ظفره ليعرف قوامه من عوجه. «تنفيز» مثله. «رمى» معروف. «رشق» اذا رمى القوم بأجمعهم فى جهة واحدة. «زلخ» الزّلخ رفع اليد فى السهم الى أقصى ما يقدر عليه. «سعر» اذا رمى. «عقّى [3] » بالسهم اذا رمى به فى الهواء وارتفع فى طيرانه. «غلا» اذا رمى أقصى الغاية. «لعط» اذا رمى فأصاب. «لتأ» يقال: لتأ بالسهم اذا رمى به. «ناشب» والناشب هو الرامى. «ندب» اذا رمى فى جهة واحدة. «نجف» اذا برى السهم. وأما أوعية السهام- «جعبة» وجمعها جعاب. «جفير» وهو أوسع من «الكنانة» . «ظفرة [4] » اذا كانت ممتلئة. «عيبة» مثل جعبة. «قرن» . «نثل» يقال: نثلت كنانتى اذا استخرجت ما فيها.   [1] معنى «صاف» و «ضاف» لم يصب، فزدنا الواو العاطفة ليشركا «طاش» فى تفسيره. [2] فى الأصل: «غطغط» وهو تحريف. [3] ومثل عقى: عق. [4] كذا بالأصل، ولم نوفق اليها أو الى ما يقرب منها فى مصدر آخر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 235 وأما ما وصف به القوس والسهم من النظم والنثر- قال عتّاب بن ورقاء وحطّ عن منكبه شريانة ... مما اصطفى بارى القسىّ وانتقى أمّ بنات عدّها صانعها ... ستّين فى كتابه مما برى ذات رءوس كالمصابيح لها ... أسافل مثل عراقيب القطا إن حرّكت حنّت الى أولادها ... كحنّة الواله من فقد الطّلا حتى اذا ما قرنت ببعضها ... لانت ومال طرفاها وانثنى وقالوا: أجود ما شبّه به فوق السهم قول الشاعر: أفواقها حشو الجفير كأنها ... أفواه أفرخة من النّغران [1] ومن إنشاء المولى القاضى شهاب الدين محمود الحلبىّ الكاتب: خطبة عملها لرامى نشّاب، وهى: الحمد لله الذى جعل سهم الجهاد الى مقاتل أعداء دينه مسدّدا، وحكم الجلاد بإصابة الغرض فى سبيله مؤيّدا، وسيف الاجتهاد فى نكاية من كفر به وبرسوله على الأمد مجرّدا، وركن الإيمان بإعداد القوّة- وهى الرمى فيما ورد عن نبيّه- على كرّ الجديدين مجدّدا؛ الذى أعاد رداء الجهاد فى مواطن الصّبر بالنصر معلما، وأباد أهل الإلحاد بأن جعل لحماة دينه فى أرواحهم أقساما وفى مقاتلهم أسهما، وأزال بأيدى القسىّ من معاقل أهل الكفر [2] حكم كماتهم الذين ارتقوا منها خشية الموت سلّما، وأفاء على الإسلام من النصر ما فاء به كلّ دين له خاضعا وآل اليه مستسلما، وأبان حكم الأدب فى تجرّد العبد من القوّة إلا به بقوله عز من قائل:   [1] النغران: طير كالعصافير حمر المناقير. [2] فى الأصل «أهل الكف» وهو تحريف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 236 وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى . نحمده على نعمه التى لم يزل بها قدح الدين فائزا وسهمه مصيبا، ومننه التى ما برح بها جدّ الكفر [1] مدبرا فلا يجد له فى إصابة نصل أو نصر نصيبا، وآلائه التى لا تنفكّ بها سوام السّهام ترد من وريد [2] الشرك منهلا [3] عذبا وترود من حبّ القلوب مرعى خصيبا؛ ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تدنى النصر وإن بعد مداه، وتدمى النّصل الذى على راميه إرساله الى المقاتل وعلى الله هداه، وتسمى القدر لمن ناضل عليها فيفوز فى الدنيا والآخرة بما قدّمت يداه؛ ونشهد أن محمدا عبده الذى نصر بالرّعب على من كفر، ورسوله الذى رمى جيش الشّرك بقبضة من تراب فكان فيها الظّفر، ونبيّه الذى نفر الى أهل بدر بنفر من أصحابه فجمع الله النصر والفخر لأولئك النّفر؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين آمنوا بما أنزل عليه وجاهدوا بين يديه، واختصّوا بالذبّ عنه بمزايا القرب حتى سعد سعد بما جمع له، حين أمره بالرمى، فى التفدية بين أبويه، وخصّ بعموم الرّضوان عمّه العبّاس الذى أقرّ الله بإسلامه ناظريه، وبشّره رسول الله صلى الله عليه وسلم باستخلاف بنيه فى الأرض فيما أسرّ به اليه. وبعد، فإنّ الرّمى أفضل ما أعدّ للعدا، وأكمل ما أفيض به على أهل الكفر رداء الرّدى؛ وأبلغ ما يبعث الى المقاتل من رسل المنون، وأنفع ما يقتضى به فى الوغى [4] من أعداء الدّين الدّيون، وأسرع ما تبلّغ به المقاصد فيما يرى قريبا وهو أبعد ما يكون؛ وأنكى ما تقذف به عن الأهلّة شهب الحتوف، وأسبق ما تدرك به الأغراض قبل   [1] فى الأصل: «جد الفكر» وهو تحريف. [2] فى الأصل: «رويد الشرك» . [3] فى الأصل: «منها ... » وهو تحريف. [4] فى الأصل «من الوغى» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 237 أن تعرف بها الرماح أو تشعر [1] بمكانها السيوف؛ ما طلع فى سماء النّقع قوسه إلّا سحّ وبل النّبل، ولا استبقت الآجال وسهمه إلا كان له فى بلوغها السّبق من بعد والسّبق من قبل. ومن شرف قدره الذى دلّ عليه كلام النبوّة، أن النبىّ صلى الله عليه وسلم نبّه على أنه المراد بقوله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ . ومن أسباب فضله الذى أصبح بها قدره ساميا، وفخره ناميا، وقطره فى أفق النصر هاميا، ما ورد من قوله صلى الله عليه وسلم لفتية ممن أسلم من أسلم: «ارموا يا نبى اسماعيل فإنّ أباكم كان راميا» . ومما عظمت به على الأمة المنّة، وغدت فيه نفوس أرباب الجهاد بالفوز فى الدنيا والآخرة مطمئنّة، قوله صلى الله عليه وسلم: «تعلّموا الرمى فإنّ ما بين الغرضين روضة من رياض الجنّة» . ومن فضل الرمى الذى لا يعرف [2] التأويل، ما نقل من قوله صلى الله عليه وسلم: «من رمى بسهم فى سبيل الله أخطأ أو أصاب فكأنما أعتق رقبة من ولد إسماعيل» . ومما يرفع قدر السهم [ما روى عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: «إن الله يدخل بالسهم [3]] الواحد ثلاثة نفر الجنّة صانعه يحتسب فى صنعته الخير وراميه ومنبله» . ومما حضّهم به على الرمى ليجتهدوا فيه ويدأبوا: قوله صلى الله عليه وسلم: «ارموا واركبوا وأن ترموا أحبّ إلىّ من أن تركبوا» . ومن خصائص السّهم أنه ذو خطوة فى الهواء وحكم نافذ فى الماء، وتصرّف حتّى فى الوحش السانح فى الأرض والطير المحلّق فى السماء؛ يكلّم بلسان من حديد؛ ويبطش عن باع مديد؛ إن رام غرضا طار إليه بأجنحة النّسور، وإن حمى معلما أصاب الحدق وصان الثّغور؛ يوجد بصره حيث فقد، واذا انفصل عن أمّه لم يسر من كبد إلا الى كبد؛ أنجز [4] فعله على ما فيه من إخلاف الطباع، وشرفت   [1] فى الأصل: «أو ما تشعر ... » . [2] فى الأصل: «الذى لا يصرف» . [3] تكملة للكلام فلعلها، أو شيئا بمعناها، سقطت سهوا من الناسخ. [4] فى الأصل: «أنجد فعله» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 238 أجناسه بكونها أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع. ومن خصائص القوس أنها عقيم ذات بنين، صامتة وهى ظاهرة الأنين؛ لها كبد وهى غير مجوّفة، ويد لا تملك شيئا وهى فى الأرواح متصرّفة؛ ورجل ما نقلت قدما، وقبضة ما عرفت إثراء ولا عدما؛ فهى نون ما ألف الماء، وهلال ما سكن السماء، وقاتلة ما باشرت الدّماء. ولما كان أهل هذه الفضيلة يتفاوتون فى مواهبها، ويتباينون فى مذاهبها؛ ويبلغ أحدهم بصنعته ما يبلغه الآخر بقواه، ويصل بإتقانه إلى ما لا يدركه من وجود التساوى سواه؛ وكان فلان ممن له فى هذا الشأن الباع المديد والساعد الشديد، والإتقان الذى يتصرّف به فى الرمى كيف يشاء ويضع به السّهم حيث يريد؛ كأنما سهمه بذرع الفضاء موكّل، أو للجمع بين طرفى الأرض مؤهّل، أو لسبق البروق معدّ اذا لمعت فى حواشى السّحاب المفوّفة وخطرت فى هدّاب الدّمقس المفتّل. وله المواقف التى تشقّ سهامه فيها الشّعر، وتبلغ بها من الأغراض المتباعدة ما يشقّ إدراكه على النّظر؛ فمنها أنه لما كان فى اليوم الفلانى فعل كذا وكذا. ووصف ما فعله. هذا شىء مما قيل فى السلاح فلنذكر الجنن. ذكر ما قيل فى الجنّة والجنّة: ما اتّقى بها كالتّرس، والبيضة، والدّرع. فأما التّرس- فمن أسمائه: «بصيرة» . «ترس» . «جوب» . «جنّة» . «حجفة» وهى الترس الصغير، وجمعها حجف. «درقة» وجمعها درق. «عنبر [1] » وهو الترس. «فرض» وهو الخفيف؛ قال الهذلىّ:   [1] فى الأصل: «عنتر» وهو تحريف» الجزء: 6 ¦ الصفحة: 239 أرقت له مثل لمع البشير ... يقلّب بالكفّ فرضا خفيفا «قفع» والقفع جنن كالمكابّ تتّخذ من الخشب يدخل الرجال تحتها إذا زحفوا على الحصون، ويسمّونها فى زماننا الحنويّات. «قراّع [1] » وهو الترس الصّلب. «كنيف» وهو الساتر لأنه مشتقّ من الاكتناف. «لاى [2] » . «مجنّ» . «مجنأ» . «مجول» . «مطرق» . «مجنب» . «يلب» . قال الشاعر: عليهم كلّ سابغة دلاص ... وفى أيديهم اليلب المدار ويسمى مقبض الترس صنارة. وأما ما وصف به حامل الترس- يقال: «تارس» و «ترّاس» إذا كان معه التّرس. «ومحاجف» وهو صاحب الحجفة فى القتال. وأما البيضة- فمن أسمائها: «بيضة» وهى واحدة البيض من الحديد. «جمّاء غفير» وهو البيضة من الحديد والجماعة من الناس. «خيضعة» . قال لبيد: والضاربون الهام تحت الخيضعه «دومص [3] » . «ربيعة» . «عمامة» وجمعها عمائم وعمام. «عرمة» . «مغفر» وهو زرد على قدر الرأس.   [1] فى الأصل «فراع» وهو تحريف. [2] كذا بالأصل، ولم نوفق الى ما يؤيدها أو الى ما قد تكون محرّفة عنه. [3] كذا فى كتب اللغة، وفى الأصل: «دمص» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 240 ومن أسماء أجزائها- «سابغ» وهو الذى يستر العنق. «قونس» وهو أعلى البيضة من الحديد. قال حسين بن الضّحّاك [1] : بمطّرد لدن صحاح كعوبه ... وذى رونق عضب [2] يقدّ القوانسا وأمّا ما يوصف به لابسها- يقال: «مقنّع» والمقنّع هو الذى يلبس بيضة ومغفرا. هذا ما قاله صاحب كتاب خزائن السلاح. وقال غيره: من أسمائها «التّركة» وهى المستديرة، وجمعها التّرك والترائك [3] . وأما ما قيل فى الدرع- وهو يؤنّث ويذكّر. وله أسماء: منها «بصيرة» ، «جارن» وجمعه جوارن. «جوشن» . «حلقة» وهى الدروع. «خدباء» وهى الدرع الليّنة؛ قال الأصمعىّ: خدباء يحفزها نجاد مهنّد «درع» . «دلاص» . «دلامص» . وهو الدرع البّراق. «دخاس» أى متقاربة الحلق. «درمة» . «ذائلة» وهى الطويلة الذّيل، «زغفة» . «سلوقيّة» . «سابريّة»   [1] فى شرح القاموس واللسان (مادة قنس) ينسب هذا البيت الى حسيل بن سجيح الضبىّ، وقد ذكر اللسان قبله: وأرهبت أولى القوم حتى تنهنهوا ... كما ذدت يوم الورد هيما خوامسا [2] كذا فى اللسان، وفى الأصل: «عذب» [3] ظاهر كلام المؤلف أن الترك والترائك جمعان لتركة، وليس الأمر كذلك بل الترائك جمع لتريكة، وهى من أسماء البيضة أيضا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 241 وجمعها سابريّات، وهى الرقيقة النّسج. «سابغة» وهى الواسعة. «سكّ» ضيّقة الحلق، «سرد» اسم جامع للدروع. «سنوّر» ؛ قال لبيد يرثى قتلى هوازن: وجاءوا به فى هودج ووراءه ... كتائب خضر فى نسيج السّنوّر «صموت» التى إذا صبّت لم يسمع لها صوت. «فضفاضة» أى واسعة. «قضّاء» أى خشنة المس؛ قال النابغة: ونسج سليم كلّ قضّاء ذائل «لأمة» وجمعها لؤم. «لبوس» . «ماذيّة» . «مضاعفة» وهى التى نسجت حلقتين حلقتين. «موضونة» أى منسوجة. «مسرّدة» و «مسرودة» أى مثقوبة. «نثرة» وهى الواسعة. «نثلة» . «يلب» وهى الدرع اليمانية تتّخذ من الجلود؛ قال عمرو بن كلثوم: علينا البيض واليلب اليمانى ومن أسماء أجزاء الدرع- «الحرباء» وهى مسامير الدروع؛ قال لبيد: أحكم الجنثىّ من عوراتها ... كلّ حرباء إذا أكره صلّ «ريع» ريع الدرع: فضول كمّيها على أطراف الأنامل؛ قال قيس بن الخطيم الأنصارىّ: مضاعفة يغشى الأنامل ريعها ... كأنّ قتيرها عيون الجنادب «قتير» : رءوس المسامير فى الدروع. وأمّا ما يوصف به لابس الدرع- يقال: «خشخاش» : جماعة عليهم سلاح ودروع؛ قال الكميت: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 242 فى حومة الفيلق الجأواء إذ ركبت ... قيس وهيضلها الخشخاش إذ نزلوا [1] «خرساء» يقال: كتيبة خرساء، التى لا يسمع لها صوت من وقارهم [2] فى الحرب، وقيل التى صمتت من كثرة الدروع. «دارع» هو لابس الدرع، «كافر» ، يقال: قد كفر فوق درعه أى ستره إذا لبس فوقه [ثوبا [3]] . «مسبغ» يقال: رجل مسبغ: عليه درع سابغة. وأمّا اذا لم يكن عليه درع ولا مغفر- «نثر» أى نثر درعه عنه إذا ألقاها، ولا يقال: «نثلها» . ويقال: «أحمر» أى لا سلاح معه. «أعزل» . «حرض» . «عطل» وجمعه أعطال. وقد وصف الشعراء الدروع فى أشعارهم، فمن ذلك ما قاله امرؤ القيس: ومسرودة النّسج موضونة ... تضاءل فى الطّىّ كالمبرد تفيض على المرء أردانها ... كفيض الأتىّ على الجدجد [4] قال ثعلب: فنهنهته حتّى لبست مفاضة ... دلاصا كلون النّهى ريح وأمطرا وقال البحترىّ: يمشون فى زرد [5] كأنّ متونها ... فى كل معركة متون نهاء [6]   [1] الفيلق الجأواء: بينة الجأى، وهى التى يعلوها لون السواد لكثرة ما عليها من الدروع. والهيضل: الجيش العظيم. [2] ظاهر أن مرجع الضمير هاهنا الكتيبة مرادا بها الأفراد. [3] زيادة يقتضيها السياق. [4] الأتىّ: السيل. والجدجد: الأرض الصلبة المستوية. [5] فى ديوان البحترى: «يمشون فى زغف ... » . [6] نهاء: جمع نهى، والنهى: الغدير. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 243 بيض تسيل على الكماة فضولها ... سيل السّراب بقفرة بيداء وإذا الأسنّة خالطتها خلتها ... فبها خيال كواكب فى ماء قال محمد بن عبد الله السلامىّ: يا ربّ سابغة حبتنى نعمة ... كافأتها بالسّوء غير مفنّد أضحت تصون عن المنايا مهجتى ... وظللت أبذلها لكلّ مهنّد وقال عبد الله بن المعتزّ: كم بطل بارزنى فى الوغى ... عليه درع خلتها تطّرد كأنّها ماء عليه جرى ... حتى إذا ما غاب فيه جمد وقال آخر: وأرعن [1] ملموم الكتائب خيله ... مضرّجة أعرافها ونحورها عليها مذالات [2] القيون كأنّها ... عيون الأفاعى سردها وقتيرها وقال آخر: وزنت كتائبها الجبال وسربلت ... حلق الحديد فأظهرته عنادها فتخال موج ابحر فى جنباتها ... والبرق لمع قتيرها وسرادها وقال سلم الخاسر: كأنّ حباب الغدر ما مر عليهم [3] ... وما هو إلّا السابغات الموائر وقال ابن المعتز: بحيث لا غوث إلّا صارم ذكر ... وجنّة كحباب الماء تغشانى   [1] الأرعن: الجيش المضطرب لكثرته. [2] المذالات: الدروع الطويلة، من أذال الرجل ثوبه أو درعه أطال ذيلها. [3] الغدر: جمع غدير. مار عليهم: ماج واضطرب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 244 وقال محمد بن عبد الملك: نهنهت أولاها بضرب صادق ... هتن كما شقّ الرداء المعلم وعلىّ سابغة الذيول كأنها ... سلخ كسانيه الشجاع الأرقم وقال المتنبّى: تخطّ فيها العوالى ليس تنفذها ... كأنّ كلّ سنان فوقها قلم وقال كلثوم: كأن سنا الماذىّ فوق متونهم ... مواقد نار لم تشب بدخان ومن الرسائل الشاملة لأوصاف السلاح- فمن ذلك ما أجابنى به المولى الفاضل تاج الدين بن عبد المجيد اليمانى، وقد كتبت إليه ألتمس رسالة من كلامه فى أوصاف السلاح، وذلك فى شهور سنة سبع وسبعمائة. كتب: أمرتنى- أعزك الله، وأعلى فى مراتب السعود جدودك- أن أبعث اليك بشىء من كلامى يتضمّن وصف سلاح متنوّع الأجناس، مرهوب بالسطو [1] والباس؛ فامتثلت مرسومك وبادرت الى ذلك، لما يتّجه علىّ من حقوقك الواجبة، ومن مفترضات خدمك اللازبة؛ وأنشأت لك هذه النّبذة مرتجلا فيها، ورتّبتها على التهيّؤ لمراتب القتال، وقدّمت الدرع، وتلوته بالقوس وأعقبته بالرمح، وختمته بالسيف. فمن ذلك فى وصف درع: خليق بمثله أن يفاض عليه مثل هذه الفضفاضه، وأن يبلغ بها من نيل الأعداء أمانيه وأغراضه؛ وأن يتّخذها جنّة تقيه سوء المزاريق فى حومة القتال، وأن   [1] فى الأصل: «مرهوب بالسطا» . ولم نجد فى كتب اللغة التى بأيدينا أن سطوة تجمع على سطا، وانما تجمع على سطوات. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 245 يتدرّعها فتخال عليه غديرا صافحت صفحته يد الشّمال؛ إن نشرت على الجسد غطّت الكعبين، وإن طويت فكالمبرد فى يد القين؛ حميدة الملبس ميمونة المساعى، مسرودة النسج فى عيون الأفاعى؛ داووديّة النّسب تبّعيّة المعزى، قد تقاربت فى الحلق وتناسبت فى الأجزا. وأعددت للحرب فضفاضة ... تضاءل فى الطىّ كالمبرد دلاص ولكن كظهر النّون لا يستطيعها سنان، وموضونة ولكن يحيّر البصر فيها عند العيان: أموج بحر يتلاطم فى جوانبها أم حباب غدران. مشفوعة بقوس طلعت هلالا فى سماء المعارك، ومجرّة تنقضّ منها نجوم المهالك؛ ووكرا تسرح منه نسور المعاطب، وأمّا تفرّق أولادها لإحراز الغرض من كلّ جانب؛ تصرع بسهامها كلّ رامح ونابل، وتبكى ومن العجب أن يبكى القتيل القاتل؛ تطيعك فى أوّل النّزع وتعصيك فى آخره، وترسل سهما فلا يقنع من العدوّ إلا بسواد ناظره؛ إذا أنبض الرامون عنها ترنّمت ... ترنّم ثكلى قد أصيب وحيدها تهابها الأقران، وتتحاماها الشجعان، ويؤمن بمرسلها كلّ شيطان من الإنس والجان. ووصف الرمح فقال: وإنّ أولى ما اعتقل مولانا من الخطّىّ ما سلب الرّوم زرقتها، والعرب سمرتها؛ وأشبه العاشق ذبولا واصفرارا، وخالط الضّرغام فى غيله فهو يلقى من بأسه عند المطاعنة أخبارا؛ وهزّه الفارس فالتقى طرفاه، وخيّل لرائيه أنّ ثعلبه [1] قد فغرفاه؛ إن حمله الدارع قلت غصنا على غدير، وإن هزّه الفارس وألقاه قلت حيّة على وجه الأرض تسير؛ فهو كالرّشاء لكن لا يرضى قليبا غير القلب، أو كالعدوّ الذى لا يهوى إلّا إزالة ما فى شغف [2] القلوب من حبّ.   [1] الثعلب: طرف الرمح الداخل فى جبة السنان. والجبة: رأس الرمح فى أسفل السنان. [2] فى الأصل «شغوف القلوب» والشغاف، وهو سويداء القلب أو غشاؤه، انما يجمع على شغف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 246 له رائد ماضى الغرار كأنّه ... هلال بدا فى ظلمة الليل ناحل طالما رجع سوسنه عند المطاعنة شقيقا، ومزّق نجمه [1] جلا بيب ظلمة القسطل والعثير تمزيقا؛ له النّسب العالى فى المعالى والمرّان، لأن سنانه سنا لهب لم يتّصل بدخان؛ مقرونا بسيف ما تأمّله الرائى إلا وأرعدت صفحتاه من غير هزّ، أو صمّمت شفرتاه فى محزّ فلا ينبو حتى يفرى ذلك المحزّ؛ يرى فوق متنيه بقيّة غيم يستشفّ منها لون السماء، وفى صفحة فرنده نار تتأجّج فى خلال لجّة من الماء؛ كأنّ صيقله كتب على فرنده أو نقش، أو كأنّ القين تنفّس فيه وهو صقيل فألبسه حلّة من نمش؛ حلّت بساحته المنايا فهى فيه كوامن، وتبؤأت مقاعده الأمانى فلإدراكها من فعله قرائن؛ إذا توغّل [فى] هامة الجبّار سار وأوجف، ومتى استوطن جثة الجرم [2] أوهى مبانيها وأشرف. ماض وإن لم تمضه يد فارس ... بطل ومصقول وإن لم يصقل يغشى الوغى فالتّرس ليس بجنّة ... من حدّه والدّرع ليس بمعقل متوقّد يفرى بأوّل ضربة ... ما أدركت ولو انّها فى يذبل وإذا أصاب فكلّ شىء مقتل ... وإذا أصيب فماله من مقتل   [1] فى الأصل: «مجمه» . [2] كذا بالأصل. ولعلها جثة الجريم، والجريم: ذو الجرم الضخم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 247 الباب الحادى عشر من القسم الخامس من الفن الثانى فى القضاة والحكام وحيث ذكرنا الإمام وما يجب له وعليه وقواعد المملكة، فلنذكر القضاة والحكّام. قال الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً ، وقال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً . وقال تعالى: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِ . وقال: وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ، الى غير ذلك من الآى. ولا يجوز أن يقلّد القضاء إلا من اجتمع فيه ثمانية شروط، وهى: الذكوريّة، والبلوغ، والعقل، والحرّيّة، والإسلام، والعدالة، وسلامة السمع والبصر، والعلم بأحكام الشريعة. ولكل شرط من هذه الشروط فوائد نشرح ما تلخّص منها إن شاء الله. أما الذكورية- فلقوله عز وجل: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ قيل: المراد بالتفضيل هنا العقل والرأى، ولما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «النّساء ناقصات عقل ودين» ، ولنقص النساء عن [رتب [1]] الولايات. وقال أبو حنيفة: يجوز أن تقضى المرأة فيما تصحّ فيه شهادتها دون ما لا تصحّ فيه. وجوّز الطبرىّ قضاءها فى جميع الأحكام. والإجماع يردّ ذلك.   [1] الزيادة عن «الأحكام السلطانية» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 248 وأما البلوغ- فلأن غير البالغ لا يجرى عليه قلم، ولا يتعلّق بقوله على نفسه حكم، فكان أولى ألّا يتعلّق به على غيره. وأما العقل-[فهو مجمع على اعتباره، و [1]] لا يكتفى فيه بالعقل الذى يصحّ معه التكليف من العلم بالمدركات الضروريّة، حتى يكون صحيح التمييز جيّد الفطنة بعيدا من السهو والغفلة، ليتوصّل بذكائه الى وضوح ما أشكل، وحلّ ما أبهم وأعضل. وأما الحرّيّة- فنقص العبد عن ولاية نفسه يمنع من انعقاد ولايته على غيره، ولأن الرّقّ لمّا منع من قبول الشهادة كان أولى أن يمنع من نفوذ الحكم وانعقاد الولاية. وكذلك الحكم فيمن لم تكمل حرّيته كالمدبّر والمكاتب [2] ومن رقّ بعضه. ولا يمنع الرقّ من الفتيا والرواية. وأما الإسلام- فلقوله عز وجل: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا . وهو شرط فى قبول الشهادة. ولا يجوز أن يقلّد الكافر القضاء على المسلمين ولا على الكفار. ورأى أبو حنيفة جواز تقليده القضاء بين أهل دينه. وقد جرى العرف فى تقليد الكافر؛ وهو تقليد زعامة ورياسة لا تدخل تحته الأحكام والإلزام بقضائه، ولا يقبل الإمام قوله فيما حكم به بينهم. واذا امتنعوا من تحاكمهم إليه لم يجبروا عليه، وكان حكم الإسلام عليهم أنفذ. وأما العدالة- فهى معتبرة فى كل ولاية. ومعناها أن يكون الرجل صادق اللهجة، ظاهر الأمانة، عفيفا عن المحارم، متوقّيا للمآثم، بعيدا من الرّيب، مأمونا   [1] لم يظهر الخظ فى الأصل الفتوغرافى، وهذه التكملة من كتاب الأحكام السلطانية. [2] المدبر: العبد الذى يعلق سيده عتقه على موته بأن يقول له: أنت حر بعد موتى. والمكاتب: العبد الذى يكاتب على نفسه بثمنه فاذا أدّاه عتق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 249 فى حالتى الرضا والغضب، مستعملا لمروءة مثله فى دينه ودنياه. فإذا تكاملت هذه الأوصاف فيه، فهى العدالة التى تجوز بها شهادته وولايته. وإذا لم يكن كذلك فلا تسمع شهادته و [لا [1]] تنفّذ أحكامه. وأما سلامة السمع والبصر- فليصحّ بها إثبات الحقوق، ويفرّق بها بين الطالب والمطلوب، ويميّز المقرّ من المنكر، ليظهر له الحق من الباطل، والمحقّ من المبطل. وأما العلم بأحكام الشريعة- فالعلم بها يشتمل على معرفة أصولها وفروعها. وأصول الأحكام فى الشرع أربعة: أحدها- علمه بكتاب الله عز وجل على الوجه الذى يصح به معرفة ما تضمّنه من الأحكام ناسخا ومنسوخا، ومحكما ومتشابها، وعموما وخصوصا، ومجملا ومفسّرا. والثانى- علمه بسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة من أقواله وأفعاله، وطرق مجيئها فى التواتر والآحاد، والصّحة والفساد، وما كان على سبب أو إطلاق. والثالث- علمه بأقاويل السلف فيما أجمعوا عليه واختلفوا فيه، ليتّبع الإجماع ويجتهد رأيه مع الاختلاف. والرابع- علمه بالقياس الموجب لردّ الفروع المسكوت عنها الى الأصول المنطوق بها والمجمع عليها، حتى يجد طريقا الى العلم بأحكام النوازل ويميّز الحقّ من الباطل. فاذا أحاط علمه بهذه الأصول الأربعة فى أحكام الشريعة، صار بها من أهل الاجتهاد فى الدين، وجاز له أن يفتى ويقضى. وإن أخلّ بها أو بشىء منها، خرج من أن   [1] التكملة من الأحكام السلطانية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 250 يكون من أهل الاجتهاد، ولم يجز أن يفتى ولا أن يقضى. فان قلّد القضاء فحكم بصواب أو خطإ كان تقليده باطلا، وحكمه وإن وافق الصواب مردودا، وتوجّه الحرج عليه وعلى من قلّده. وجوّز أبو حنيفة تقليد القضاء من ليس من أهل الاجتهاد، ويستفتى فى أحكامه وقضاياه. هذا معنى ما قاله أقضى القضاة أبو الحسن على الماوردىّ. وقال الحسين الحليمىّ فى كتابه المترجم ب «المنهاج» : وينبغى للإمام ألّا يولّى الحكم بين الناس إلا من جمع إلى العلم السكينة والتثبّت، والى الفهم الصبر والحلم، وكان عدلا أمينا نزها عن المطاعم الدنيّة، ورعا عن المطامع الرديّة؛ شديدا قويّا فى ذات الله، متيقّظا متخوّفا من سخط الله؛ ليس بالنّكس الخوّار فلا يهاب، ولا المتعظّم الجبّار فلا ينتاب؛ لكن وسطا خيارا. ولا يدع الإمام مع ذلك أن يديم الفحص عن سيرته، والتعرّف بحالته وطريقته؛ ويقابل منه ما يجب تغييره بعاجل التغيير، وما يجب تقريره بأحسن التقرير؛ ويرزقه من بيت المال- إن لم يجد من يعمل بغير رزق- ما يعلم أنه يكفيه؛ ولا يقصّر به عن كفايته، فيتطّلع الى أموال الناس ويشتغل عن أمورهم بطرف من الاكتساب يجبر به ما نقصه الإمام من كفايته، فتختلّ بذلك القواعد. وإذا رزق [الإمام] القاضى فلا يصيب وراء ذلك من رعيّته شيئا، لقوله صلى الله عليه وسلم: «من استعملناه على عمل من أعمالنا ورزقناه شيئا فما أصاب بعد ذلك- أو مما سوى ذلك- فهو سحت» . وإن أهدى إليه شىء، لم يكن له قبوله. فإن كان للمهدى قبله خصومة فأهدى ليحكم له أو لئلّا يحكم عليه، فهذا هو الرّشوة، وهو سحت. وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرّاشى والمرتشى والرائش؛ وهو الذى يمشى بينهما. وإن أهدى اليه المحكوم له بعد الحكم تشكّرا، لا يقبله؛ لأنّ ما فعل كان واجبا عليه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 251 قال: ويقوّى الامام يده ويشدّ أزره، ويكفّ العمال وغيرهم عن معارضته ومزاحمته، ويأمرهم جميعا بطاعته، ولا يرخص لأحد منهم فى الامتناع عليه اذا دعاه، والخروج عن أحكامه إن أمره أو نهاه، فيما يتصل بالانقياد للحكم. ويتوقّى أن يقال فى مجلسه: هذا حكم الله، وهذا حكم الديوان؛ فإن هذا من قائله إشراك بالله؛ إذ لا حكم إلا لله. قال الله عز وجل: فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ. وقال تعالى: أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ . وقال تعالى: وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً . وقال: لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ. قال: وإن سمع بذلك واليه فأقرّه عليه كان مثله؛ قال الله عز وجل: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ . فاذا كان هذا فى العقود معهم فكيف بإقرارهم والاستحسان لهم. ذكر الألفاظ التى تنعقد بها ولاية القضاء، والشروط قال الماوردىّ: وولاية القضاء تنعقد بما تنعقد به الولايات: من انعقادها مع الحضور باللفظ مشافهة، ومع الغيبة بمراسلة أو مكاتبة. لكن لا بدّ مع المكاتبة أن يقترن بها من شواهد الحال ما يدلّ عليها عند المولّى وأهل عمله. والألفاظ التى تنعقد بها الولاية ضربان: صريح وكناية. فالصريح أربعة ألفاظ وهى: قد وليّتك، وقلّدتك، واستخلفتك، واستنبتك. فاذا أتى المولىّ بأحد هذه الألفاظ انعقدت الولاية بالقضاء وغيره من الولايات، ولا يحتاج مع هذا الصريح إلى قرينة أخرى، إلا أن يكون تأكيدا لا شرطا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 252 وأما الكناية فهى سبعة ألفاظ. وهى: قد اعتمدت عليك، وعوّلت عليك، ورددت إليك، وجعلت إليك، وفوّضت اليك، ووكلت اليك، وأسندت اليك. فهذه الألفاظ [لما تضمّنته من الاحتمال [1]] تضعف عن حكم الصريح حتى يقترن بها فى عقد الولاية ما ينفى عنها الاحتمال [2] وتصير فى حكم الصريح، مثل قوله: فانظر فيما وكلته اليك، واحكم فيما اعتمدت فيه عليك. فتصير الولاية بهذه القرينة مع ما تقدّم من الكناية منعقدة. ثم تمامها موقوف على قبول المولّى، فإن كان التقليد مشافهة فقبوله على الفور لفظا، وإن كان بمراسلة أو مكاتبة، جاز أن يكون على التراخى. واختلف فى صحة القبول بالشروع فى النظر، فجوّزه بعضهم وجعله كالنطق، ومنعه آخرون حتى يكون نطقا؛ لأن الشروع فى النظر فرع لعقد الولاية، فلم ينعقد قبولها به. فهذه الألفاظ التى تنعقد بها الولاية. وأما شروطها فأربعة أحدها- معرفة المولّى للمولّى أنه على الصفة التى [يجوز أن يولّى معها، فان لم يعلم أنه على الصفة التى [3]] تجوز معها تلك الولاية لم يصحّ تقليده؛ فلو عرفها بعد التقليد استأنفها، ولا يعوّل على ما تقدّمها. والثانى- معرفة المولّى بما عليه المولّى من استحقاق تلك الولاية بصفاته التى يصير بها مستحقّا لها، وأنه قد تقلّدها وصار مستحقّا للاستنابة فيها. إلا أنّ هذا الشرط معتبر فى قبول المولّى وجواز نظره، وليس بشرط فى عقد تقليده وولايته، بخلاف الشرط المتقدّم. وليس يراعى فى هذه المعرفة المشاهدة بالنظر، وانما يراعى انتشارها بالخبر الشائع.   [1] التكملة من الأحكام السلطانية. [2] كذا فى الأحكام السلطانية. وفى الأصل: «حتى يقترن بها عقد الولاية فينفى عنها الاحتمال» . [3] التكملة من الأحكام السلطانية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 253 والثالث- ذكر ما تضمّنه التقليد من ولاية القضاء بصريح التسمية. والرابع- ذكر تقليد البلد الذى عقدت الولاية عليه ليعرف به العمل الذى يستحقّ النظر فيه، ولا تصحّ الولاية مع الجهل به. فاذا انعقد التقليد تمّت الولاية بهذه الشروط والألفاظ. واحتاج المولّى الى شرط زائد على شروط العقد، وهو إشاعة تقليده فى أهل عمله ليدعنوا بطاعته وينقادوا الى حكمه. وهو شرط فى لزوم الطاعة وليس بشرط فى نفوذ الحكم. فاذا صحّت عقدا ولزوما بما وصفناه، صحّ فيها نظر المولّى والمولّى [كالوكالة، لأنهما معا استنابة. ولم يلزم المقام عليها من جهة المولّى ولا من جهة المولّى. وكان للمولّى عزله [1]] عنها متى شاء، وللمولّى عزل نفسه متى شاء؛ غير أنّ الأولى بالمولّى ألّا يعزله إلا بعذر، وألّا يعتزل المولّى إلا من عذر؛ لما فى الولاية من حقوق المسلمين. واذا عزل أو اعتزل وجب إظهار العزل كما وجب إظهار التقليد، حتى لا يقدم على إنفاذ حكم ولا يغترّ بالترافع اليه خصم. فإن حكم بعد العلم بعزله لم ينفذ حكمه، وإن حكم غير عالم بعزله كان فى نفوذ حكمه وجهان، كاختلافهما فى عقود التوكيل. وحيث ذكرنا ما تصح به الولاية وتنعقد به من الألفاظ والشروط، فلنذكر ما يشتمل عليه النظر فى الأحكام. ذكر ما يشتمل عليه نظر الحاكم المطلق التصرّف من الأحكام قال الماوردىّ: اذا كانت ولاية القاضى عامّة وهو مطلق التصرّف فى جميع ما تضمّنته، فنظره يشتمل على عشرة أحكام:   [1] التكملة من الأحكام السلطانية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 254 أحدها- فصل المنازعات وقطع التشاجر والخصومات، إمّا صلحا عن تراض يراعى فيه الجواز، أو إجبارا بحكم باتّ يعتبر فيه الوجوب. والثانى- استيفاء الحقوق ممن امتنع من القيام بها وإيصالها الى مستحقّها من أحد وجهين: إقرار أو بينة. واختلف فى جواز حكمه فيها بعلمه، فجوّزه مالك والشافعىّ فى أصحّ قوليه؛ وقال أبو حنيفة: يجوز أن يحكم بعلمه فيما علمه فى ولايته، ولا يحكم بما علمه قبلها. والثالث- ثبوت الولاية على من كان ممنوع التصرّف بجنون أو صغر، والحجر على من يرى الحجر عليه لسفه أو فلس، حفظا للأموال على مستحقّيها، وتصحيحا لأحكام العقود فيها. والرابع- النظر فى الوقوف بحفظ أصولها وتثمير فروعها وقبض غلّتها وصرفها فى سبلها. فإن كان عليها مستحقّ للنظر فيها راعاه، وإن لم يكن تولّاه. والخامس- تنفيذ الوصايا على شروط الموصى فيما أباحه الشرع ولم يحظره. فان كانت لمعيّنين كان تنفيذها بالإقباض، وإن كانت فى موصوفين كان تنفيذها أن يتعيّن مستحقّوها بالاجتهاد ويملكوا بالإقباض. فان كان فيها وصىّ راعاه، وإن لم يكن تولّاه. والسادس- تزويج الأيامى بالأكفاء اذا عدم الأولياء ودعين [1] الى النكاح. ولم يجعله أبو حنيفة- رحمه الله- من حقوق ولاية القاضى، لتجويزه تفرّد الأيّم بعقد النكاح.   [1] كذا فى الأحكام السلطانية طبع مدينة «بن» وهو الذى يناسب المقام. وفى الأصل «ودعون ... » . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 255 والسابع- إقامة الحدود على مستحقّيها، فإن كان من حقوق الله تعالى تفرّد باستيفائه من غير طالب اذا ثبت بإقرار أو بيّنة؛ وإن كان من حقوق الآدميين كان موقوفا على طلب مستحقّه. وقال أبو حنيفة: لا يستوفيهما معا إلا بخصم مطالب. والثامن- النظر فى مصالح عمله من الكفّ عن التّعدّى فى الطّرقات والأفنية، وإخراج ما لا يستحقّ من الأجنحة والأبنية؛ وله أن يتفرّد بالنظر فيها وإن لم يحضره خصم. وقال أبو حنيفة: لا يجوز له النظر فيها إلا بحضور خصم مستعد. وهى من حقوق الله تعالى التى يستوى فيها المستعدى والمستعدى إليه، فكان تفرّد الولاة بها أخصّ. التاسع- تصفّح شهوده وأمنائه، واختيار النائبين عنه من خلفائه فى إقرارهم والتعويل عليهم مع ظهور السّلامة والاستقامة، وصرفهم والاستبدال بهم مع ظهور الجرح والخيانة [1] . ومن ضعف منهم عمّا يعانيه، كان مولّيه بين خيارين يأتى أصلحهما: إما أن يستبدل به من هو أقوى منه وأكفى، وإما أن يضمّ اليه من يكون اجتماعهما عليه أنفذ وأمضى. والعاشر- التسوية فى الحكم بين القوىّ والضعيف، والعدل فى القضاء بين المشروف والشريف؛ ولا يتّبع هواه فى تقصير بحق أو ممايلة لمبطل. قال الله تعالى: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ.   [1] كذا فى الأحكام السلطانية. وفى الأصل: «والجناية» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 256 وقد استوفى عمر بن الخطّاب رضى الله عنه فى عهده الى أبى موسى الأشعرىّ شروط القضاء وبيّن أحكام التقليد حين ولّاه القضاء، قال: أما بعد، فإنّ القضاء فريضة محكمة وسنّة متّبعة. فافهم إذا أدلى اليك. [وأنفذ اذا تبيّن لك [1]] فإنه لا ينفع تكلّم بحقّ لا نفاذ له. وآس [2] بين الناس فى وجهك وعدلك ومجلسك، حتّى لا يطمع شريف فى حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك. البيّنة على من ادّعى، واليمين على من أنكر. والصّلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحلّ حراما أو حرّم حلالا. ولا يمنعك قضاء قضيته أمس فراجعت اليوم فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن لرجع الى الحق؛ فإنّ الحق قديم، ومراجعة الحقّ خير من التّمادى فى الباطل. الفهم الفهم فيما تلجلج فى صدرك مما ليس فى كتاب ولا سنّة. ثم اعرف الأمثال والأشباه، وقس الأمور بنظائرها. واجعل لمن ادّعى حقّا غائبا أو بيّنة أمدا ينتهى اليه؛ فإن أحضر بينة أخذت له بحقّه، وإلّا استحللت القضية عليه؛ فان ذلك أنفى للشكّ وأجلى للعمى. المسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مجلودا فى حد، أو مجرّبا عليه شهادة زور، أو ظنينا فى ولاء أو نسب. فإن الله قد تولّى منكم السرائر ودرأ بالبينات والأيمان [3] ؛ وإياك والغلق [4] والضّجر والتأففّ بالخصوم، فإنّ استقرار الحق فى مواطن الحق يعظم الله به الأجر ويحسن به الذكر. والسلام.   [1] التكملة من صبح الأعشى (ج 10 ص 193 طبع المطبعة الأميرية بالقاهرة) . [2] آس بين الناس: أى سوّ بينهم واجعل كل واحد منهم أسوة خصمه، أى حاله مثل حاله. [3] كذا فى صبح الأعشى. وفى الأصل «فإن الله سبحانه عفا عن الأيمان ورد البينات» . وفيه تحريف. وورد فى المصدر الذى نقل عنه الأصل وهو الأحكام السلطانية: «فإن الله عفا عن الأيمان ودرأ بالبينات» . وفى البيان والتبيين للجاحظ (ج 2 ص 24 طبع مطبعة الفتوح الأدبية بمصر) : «فإن الله قد تولى منكم السرائر ودرأ عنكم بالشبهات» . [4] الغلق: ضيق الصدر وقلة الصبر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 257 ذكر ما يأتيه القاضى ويذره فى حقّ نفسه اذا دعى الى الولاية أو خطبها، وما يلزم الناس من امتثال أمره وطاعته، وما يعتمده فى أمر كاتبه وبطانته وأعوانه وجلوسه لفصل المحاكمات والأقضية قال الحليمىّ: واذا دعا الإمام رجلا الى القضاء، فينبغى له أن ينظر فى حال نفسه وحال الناس الذين يدعى الى النظر فى مظالمهم. فإن وثق من نفسه بالاستقلال والكفاية والاقتدار على أداء الأمانة، وعلم أنه إن لم يقبل صار الأمر الى من لا يكون للمسلمين مثله، فأولى به أن يجيب الى ما يدعى اليه ويقبله ويحسن النية فى قبوله؛ ليكون عمله لوجه الله تعالى. وإن وجد من يقوم مقامه ويسدّ مسدّه فهو بالخيار؛ والتمسّك أفضل. فأمّا إن لم يعلم من نفسه الاستقلال، أو لم يأمن أن يكون منه سوء التمسّك وقلة التمالك، فلا ينبغى له أن يجيب. وهكذا إن كان هناك من هو خير منه علما وعقلا وخلقا. وإن عرض الأمر عليه فلا ينبغى له أن يتسارع الى ما يدعى اليه، لينظر ما الذى يكون من الآخر. قال: واذا دعا الإمام رجلا الى عمل من أعماله، قضاء أو غيره، والرجل ممن يصلح له، فأبى، فإن وجد الإمام من يقوم مقامه فى ذلك أعفاه، وإن لم يجد من يقوم مقامه أجبره عليه اقتداء بعمر بن الخطّاب رضى الله عنه؛ فإنه دعا سعيد بن عامر الجمحىّ فقال: إنى مستعملك على أرض كذا وكذا؛ فقال: لا تفتنّى؛ فقال عمر: والله لا أدعك، قلّدتموها [1] عنقى وتتركونى! قال: واذا كان عند الرجل أنه يصلح للقضاء فأراد أن يطلبه، أو دعاه الإمام إليه فأراد أن يجيبه، فلا ينبغى له أن يبادر بما فى نفسه من طلب أو إجابة حتى يسأل   [1] فى الأصل: «تقلدتموها» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 258 أهل العلم والفضل والأمانة ممن خبره وعلم حاله، ويقول: إنى أريد القضاء، فما ترون فى أمرى؟ وهل تعرفون صلاحى لذلك أولا؟ فإن ذلك من المشورة التى أمر الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم بها، فقال تعالى: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ. وقد قدّمنا فى باب المشورة من فضيلتها ما فيه غنية عن تكراره. قال: وإذا سأل عن نفسه فينبغى للمسئول أن ينصح له ويصدقه، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا إنّ الدّين النّصيحة» قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله ولرسوله ولأئمّة المسلمين وعامّتهم» ولأن المستشار مؤتمن، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «من غشّنا فليس منّا» . واذا أراد تقلّد القضاء فليستخر الله تعالى ويسأله التوفيق والتسديد. فإذا تقلّد فينبغى أن يوكّل المتميّزين الثّقات الأمناء من إخوانه وأهل العناية بنفسه، ويسألهم أن يتفقّدوا أحواله وأموره، فإن رأوامنه عثرة نبّهوه عليها ليتداركها. قال: وأيّما حاكم نصب بين ظهرانى قوم فينبغى لهم أن يسمعوا له ويطيعوا، ويترافعوا اليه اذا اختلفوا وتنازعوا، ليفصل بينهم؛ فإذا فصل انقادوا لفصله واستسلموا لحكمه. قال الله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً . وقال تعالى: إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ . وذمّ الله تعالى قوما امتنعوا من الحكم فقال: ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحقّ يأتوا إليه مذعنين الجزء: 6 ¦ الصفحة: 259 وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ... أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. قال: واذا ارتفع أحد الخصمين الى حاكم وسأله إحضار خصمه فدعاه الحاكم فعليه أن يجيبه؛ فإذا حضرا فلا يخرجا عن أمر الحاكم؛ فأيّهما خرج فهو عاص؛ فإنما يقضى الحاكم بحكم الله. وللحاكم أن يؤدّبه بما يؤدّيه اجتهاده. وأيّما حاكم أو وال دعا رجلا من رعيّته ولم يعلم لم يدعوه، فعليه إجابته؛ وإن علم أنه لدعوى رفعت عليه من مدّع، فإن كان ذلك المدّعى حضر مع رسول الحاكم فأرضاه، سقط عنه الذّهاب الى الحاكم، وإن كان لم يحضر [هو] ولا وكيل له، فليذهب ليجيب؛ ولا يسعه التخلّف مع ترك الدّفع إلا فى حالة واحدة وهى أن يكون المدّعى كاذبا وقد أعدّ شهودا زورا لا يقدر على دفع شهادتهم، فخشى إن حضر أقيمت الشهادة عليه فحبس وأخذ منه المال قهرا، أو يفرّق بينه وبين امرأته، فله أن يهرب أو يتوارى؛ فهذا موضع عذر وضرورة فلا يقاس عليه غيره. والله تعالى أعلم. وأما كاتب القاضى وبطانته- قال الحليمىّ: وإذا افتتح القاضى عمله واحتاج الى أعوان يعملون له من كاتب وأصحاب مسائل وقاسم، فلا يتّخذنّ إلا كاتبا مسلما عدلا أمينا فطنا متيقّظا؛ لأنه بطانته ولا يغيب عنه من أمره وأمر المترافعين اليه شىء، وأمينه وأمين المتخاصمين على ما يثبته ويخطّه. ولا يجوز أن يكون من غير أهل الدين، لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ. وكذلك القاسم ينبغى أن يكون أمينا بصيرا بالفرائض والحساب، لأنّ القاسم شعبة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 260 من شعب الحكم، فينبغى أن يكون من يتولّاه فى العدالة والأمانة والعلم الذى يحتاج اليه كمن يتولّى جميع شعبه. وكذلك أصحاب المسائل هم أمناء القاضى على الشهادات التى تتعلّق بها حقوق المسلمين، فلا ينبغى أن يأمن عليها إلا المستحقّ لأن يؤتمن، ولا يثق فيها إلا بمن يستوجب بحسن أحواله الثقة به. وينبغى للقاضى أن ينزّه نفسه ومن حوله ويشدّد عليهم ولا يرخّص لهم فى أمر ينقمه منهم أو يخشى أن يتطرّقوا به الى غيره ويرتقوا الى ما فوقه. وقد كان عمر بن الخطّاب رضى الله عنه إذا صعد المنبر فنهى الناس عن شىء، جمع أهله فقال: إنى نهيت الناس عن كذا وكذا، وإنّ الناس ينظرون اليكم نظر الطير الى اللحم النّىء، وأقسم بالله لا أجد أحدا منكم فعله إلا أضعفت عليه العقوبة. قال: ولا ينبغى للإمام ولا القاضى أن يقدّم أقاربه على عامّة المسلمين، ولا يسوّغهم ما لا يسوّغ غيرهم، ولا ينظر لهم بما لا ينظر به لغيرهم، ولا يستعملهم ويولّيهم. وأما ما يعتمده فى جلوسه- فقد قال الحليمىّ أيضا: واذا أراد الحاكم الجلوس للحكم فليجلس وهو فارغ القلب لا يهمّه إلا النظر فى أمور المتظلّمين. وإن تغيّرت حاله بغضب أو غمّ أو سرور مفرط أو وجع أو ملالة [1] أو اعتراء نوم أو جوع فليقم الى أن يزول ما به ويتمكّن من رأيه وعقله ثم يجلس. فقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يقضى [2] القاضى بين اثنين وهو غضبان» ؛ وعنه   [1] فى الأصل: «أو ملامة» . [2] فى صحيح البخارى: «لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 261 صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يقضى القاضى إلّا وهو شعبان ريّان» . هكذا نقل الحليمىّ فى «منهاجه» ، وهذه سنّة السلف. قال: والقاضى فى جلوسه بالخيار: إن شاء أن يخرج بالغداة اذا طلعت الشمس فيقضى حوائج الناس أوّلا فأوّلا حتى لا يزد حموا على بابه، فعل؛ وإن شاء أقام فى [1] بيته يتأهّب ويستعدّ بمطالعة بعض الكتب أو بالاجتهاد والتأمّل الى أن يجتمع الخصوم ثم يخرج، فعل. وينبغى أن يكون عند الحاكم من يحفظ نوب الناس فيقدّم الأوّل فالأوّل، ويجلسهم مجالسهم. وإن رأى القاضى أن يحضر مجلسه درّة تطرح على أعين الناس لينتهوا بها فإن استوجب أحد من الخصوم تعزيرا أقيم عليه بها، فعل. روى عن عمر بن الخطّاب رضى الله عنه أنّ درّته كانت تكون معه، وكذلك جماعة من قضاة السّلف رحمهم الله. وأمّا فى عصرنا هذا فقد كان شيخنا الإمام العلّامة القدوة مفتى الفرق بقيّة المجتهدين تقىّ الدّين أبو الفتح محمد ابن الشيخ الإمام مجد الدّين أبى الحسين علىّ بن وهب ابن مطيع القشيرىّ المعروف بابن دقيق العيد- رحمه الله- منع نوّابه من أن يضربوا بالدّرّة فى أثناء ولايته قاضى القضاة بالديار المصريّة، وقال: إنه عار يلحق ولد الولد. وكان سبب منعه- رحمه الله ورضى عنه- لذلك أن بعض نوّابه بالأعمال عزّر بعض أعيان البلاد التى هو ينوب بها بالدرّة فى المسجد الجامع وقال له عقيب ضربه وإسقاطه: قد ألحقتك بأبيك وجدّك، وكانت هذه الحادثة فى سنة سبع وتسعين وسمائة أو ما يقاربها، ففارق ذلك الرجل بلاده ووطنه؛ فلما اتّصل الخبر بقاضى القضاة شقّ عليه ومنع نوّابه من الضرب بها.   [1] كذا بالأصل، والمناسب «أن يقيم» بدل «أقام» ليست جواب الشرط بل هى متعلق المشيئة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 262 نعود الى حال القاضى. قال: وينبغى للقاضى أن يعدل بين الخصمين من حين يقدمان عليه الى أن تنقضى خصومتهما فى مدخلهما عليه وجلوسهما عنده وقيامهما بين يديه، سواء كانا فاضلين فى أنفسهما أو ناقصين، أو أحدهما فاضلا والآخر ناقصا؛ لقوله عز وجل: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما ، ولما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من ابتلى بالقضاء بين المسلمين [1] فليعدل بينهم فى لحظه ولفظه وإشارته ومقعده ولا يرفع صوته على أحد الخصمين ما لا يرفع على الآخر» . وفى رواية: «من ولى قضاء المسلمين فليعدل بينهم فى مجلسه وكلامه ولحظه» . وفى رواية: «اذا ابتلى أحدكم بالقضاء [بين المسلمين [2]] فليسوّ بينهم فى المجلس والإشارة والنظر ولا يرفع صوته على أحد الخصمين أكثر من الآخر» . قال: واذا اختصم اثنان الى القاضى فينبغى أن يأمرهما بالاصطلاح. وشروط القضاء كثيرة يعرفها العلماء، فلا حاجة الى الزيادة والإسهاب فى ذلك؛ وإنما أوردنا ما قدّمناه فى هذا الباب منها حتى لا يخلى كتابنا منه. ولنختم هذا الباب بما ورد من التزهيد فى القضاء. ذكر شىء مما ورد من التزهيد فى تقلد القضاء والترغيب عنه قد ورد فى تقلّد القضاء أحاديث وآثار تزهّد فيه، بل تكاد توجب الفرار منه: من ذلك ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من ولى القضاء فقد ذبح بغير سكّين» ؛ وعنه صلى الله عليه وسلم: «ما من أحد حكم بين الناس إلّا جىء به يوم القيامة وملك آخذ بقفاه حتى يقف به على شفير جهنّم فإن أمر به   [1] كذا فى الجامع الصغير. وفى الأصل: «من ابتلى بالقضاء بالمسلمين» . [2] سقطت هذه الكلمة فى الأصل سهوا من الناسخ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 263 هوى به فى النار سبعين خريفا» . وعن أبى ذرّ قال: قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم ستّة أيام: «اعقل أبا ذرّ ما أقول لك» فلما كان اليوم [1] السابع قال: «أوصيك بتقوى الله فى سرّ أمرك وعلانيته واذا أسأت فأحسن ولا تسأل أحدا شيئا وإن سقط سوطك [2] ولا تؤمّن أمانة ولا تولّين يتامى ولا تقضين بين اثنين» . وقال عثمان بن عفّان رضى الله عنه لابن عمر: اذهب فكن قاضيا؛ قال: أو يعفينى أمير المؤمنين؟ قال: فإنى أعزم عليك؛ قال: لا تعجل علىّ؛ [قال: [3]] هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من عاذ بالله فقد عاذ معاذا» . قال: نعم، قال: فما تكره من ذلك وقد كان أبوك يقضى؟ قال: إنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كان قاضيا يقضى بجور كان من أهل النار ومن كان قاضيا يقضى بجهل كان من أهل النار ومن كان قاضيا عالما يقضى بالعدل فبالحرى أن ينقلب كفافا» فما أصنع بهذا! وقال بعضهم: ذكرنا أمر القضاء عند عائشة رضى الله عنها، فقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يجاء بالقاضى العدل يوم القيامة فيلقى من شدّة الحساب ما يتمنّى أنه لم يقض بين اثنين فى تمرة قطّ» . وقال صعصعة بن صوحان: خطبنا علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه بذى قار وعليه عمامة سوداء فقال: يأيها الناس، إنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليس من وال ولا قاض إلّا يؤتى به يوم القيامة حتّى يوقف بين يدى الله تعالى على الصراط ثم ينشر الملك   [1] كذا «فى مسند أحمد» (ج 5 ص 181 طبعة المطبعة الميمنية بمصر) . وفى الأصل: «ثم كان فى اليوم ... » . [2] فى الأصل «وان سقط سقوطك» والتصويب عن «مسند أحمد» . ورواية آخر الحديث هنا تختلف عن رواية «مسند أحمد» بزيادة ونقص وتغيير فى بعض الكلمات. غير أن ما هنا من زيادة أو تغيير وارد متفرقا فى أحاديث أخرى لأبى ذر فى مسند أحمد. [3] زيادة ترى أن الكلام يتوقف عليها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 264 سيرته فيقرؤها على رءوس الأشهاد- الخلائق- فإن كان عادلا نجّاه الله بعدله وإن كان غير ذلك انتفض به الصراط انتفاضة صار بين كلّ عضو من أعضائه مسيرة مائة سنة ثم يتخرّق به الصراط فما يلتقى قعر جهنم إلّا بوجهه وحرّ جبينه» . وجاء فى الآثار عن الصحابة رضى الله عنهم مثل ذلك. وفيما ذكرنا مقنع وغنية عن بسط الكلام فيه. فلنذكر ولاية المظالم. الباب الثانى عشر من القسم الخامس من الفن الثانى فى ولاية المظالم وهى نيابة دار العدل وللناظر فيها شروط ذكرها الماوردىّ فقال: من شروط الناظر فى المظالم أن يكون جليل القدر، نافذ الأمر، عظيم الهيبة، ظاهر العفّة، قليل الطّمع، كثير الورع؛ لأنه يحتاج فى نظره الى سطوة الحماة، وتثبّت القضاة، فاحتاج الى الجمع بين صفتى الفريقين، وأن يكون بجلالة القدر نافذ الأمر فى الجهتين. فان كان ممن يملك الأمور العامّة، كالخلفاء أو ممن فوّض اليه الخلفاء النظر فى الأمور العامّة كالوزراء والأمراء، لم يحتج للنّظر فيها الى تقليد وتولية وكان له بعموم ولايته النظر فيها. وإن كان ممن لم يفوّض اليه عموم النظر، احتاج الى تقليد وتولية اذا اجتمعت فيه الشروط المتقدّمة. وهذا إنما يصحّ فيمن يجوز أن يختار لولاية العهد، أو لوزارة التفويض اذا كان نظره فى المصالح عامّا. فإن اقتصر على تنفيذ ما عجز القضاة عن تنفيذه، وإمضاء ما قصرت يدهم عن إمضائه، جاز أن يكون دون هذه الرّتبة فى القدر والخطر، بعد ألّا يأخذه فى الحقّ لومة لائم، ولا يستشفّه الطمع الى الرّشوة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 265 ذكر من نظر فى المظالم فى الجاهليّة والإسلام والنظر فى المظالم قديم، كان الفرس يرون ذلك من قواعد الملك وقوانين العدل الذى لا يعمّ الصّلاح إلا بمراعاته، ولا يتمّ التناصف إلا بمباشرته؛ وكانوا ينتصبون لذلك بأنفسهم فى أيّام معلومة لا يمنع عنهم من يقصدهم فيها من ذوى الحاجات وأرباب الضرورات. وسبب تمسكهم بذلك أنّ أصل قيام دولتهم ردّ المظالم. وذلك أن كيومرث أوّل ملوكهم- وقيل: إنه أوّل ملك ملّك من بنى آدم- كان سبب ملكه أنه لمّا كثر البغى فى الناس وأكل القوىّ الضعيف وفشا الظلم بينهم، اجتمع أكابرهم ورأوا أنه لا يقيم أمرهم إلا ملك يرجعون إليه، وملّكوه؛ على ما نورده- إن شاء الله- فى [فنّ] التاريخ فى أخبار ملوك الفرس. وكانت قريش فى الجاهلية، حين كثر فيهم الزعماء وانتشرت الرياسات وشاهدوا من التّغالب والتجاذب ما لم يكفّهم عنه سلطان قاهر، عقدوا بينهم حلفا على ردّ المظالم، وإنصاف المظلوم من الظالم. وكان سبب ذلك أنّ رجلا من اليمن من بنى زبيد قدم مكة معتمرا ومعه بضاعة، فاشتراها منه رجل من بنى سهم، قيل: إنه العاص بن وائل، فلواه بحقّه؛ فسأله ماله أو متاعه، فامتنع عليه؛ فقام على الحجر وأنشد بأعلى صوته: يال قصىّ لمظلوم بضاعته ... ببطن مكة نائى الدار والنّفر وأشعث محرم لم تقض حرمته ... بين المقام [1] وبين الحجر والحجر أقائم من بنى سهم بذمّتهم ... أو ذاهب فى ضلال مال معتمر   [1] كذا فى الأغانى (ج 16 ص 64 طبع بولاق) وفى الأصل: «بين الاله ... » . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 266 وأن قيس بن شيبة [1] السلمى باع متاعا من [2] أبىّ بن خلف فلواه وذهب بحقه، فاستجار برجل من بنى جمح فلم يجره؛ فقال قيس: يال قصىّ كيف هذا فى الحرم ... وحرمة البيت وأخلاق [3] الكرم أظلم لا يمنع منّى من ظلم فأجابه العبّاس بن مرداس: إن كان جارك لم تنفعك [4] ذمّته ... وقد شربت بكأس الذّلّ أنفاسا فأت البيوت وكن من أهلها صددا [5] ... لا تلق ناديهم فحشا ولا باسا وثمّ كن [6] بفناء البيت معتصما ... تلق ابن حرب وتلق المرء عبّاسا قرمى قريش وحلّا فى ذوائبها ... بالمجد والحزم ما عاشا وما ساسا ساقى الحجيج، وهذا ياسر فلج [7] ... والمجد يورث أخماسا وأسداسا فقام العبّاس وأبو سفيان حتى ردّا عليه ماله. واجتمعت بطون قريش فتحالفوا فى بيت عبد الله بن جدعان على ردّ المظالم بمكة، وألّا يظلم أحد إلا منعوه وأخذوا للمظلوم بحقه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ معهم قبل النبوّة وهو ابن خمس وعشرين سنة، فعقدوا حلف الفضول؛ فقال رسول الله صلى الله عليه   [1] كذا فى الأغانى والأحكام السلطانية، وفى الأصل. «قيس بن نشبة ... » . [2] فى الأصل: «على أبىّ ... » ولكن بقية الكلام تقتضى أن يكون كما أثبتناه نقلا عن الأغانى. [3] فى الأحكام السلطانية: «وأحلاف الكرم» . [4] فى الأغانى: «لم تنفك ذمته ... » . [5] صددا: قريبا. [6] كذا فى الأغانى وفى الأصل «ولا تكن ... » وهو لا يستقيم به المعنى، وفى الأحكام السلطانية: «ومن يكن ... » وآثرنا ما فى الأغانى، لمناسبة تاء الخطاب فى «تلق» كما ورد فى الأصل. [7] الفلج بالفتح كالفالج: الفائز، ولعله حرك هاهنا للضرورة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 267 وسلم ذاكرا للحال: «لقد شهدت فى دار عبد الله بن جدعان حلف الفضول أما لو دعيت اليه [فى الإسلام [1]] لأجبت وما أحبّ أنّ لى به حمر النّعم وأنّى نقضته وما يزيده الإسلام إلا شدّة» . وقال بعض قريش فى هذا الحلف: تيم بن مرة إن سألت وهاشم ... وزهرة الخير فى دار ابن جدعان متحالفين على النّدى ما غرّدت ... ورقاء فى فنن من الأفنان [2] فهذا كان أصل ذلك وسببه فى الجاهلية. وأمّا فى الإسلام- فقد نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المظالم فى الشّرب الذى تنازعه الزّبير بن العوّام ورجل من الأنصار فى شراج [3] الحرّة فحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، وقال: «اسق يا زبير ثم أرسل الى جارك» ، فقال له الأنصارىّ: أن كان ابن عمتك! فتلوّن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: «اسق ثم احتبس حتى يرجع [4] الماء الى الجدر» ، فقال الزّبير: والله إنّ هذه الآية   [1] زيادة من الكامل لابن الأثير ونهاية ابن الأثير وغيرهما، وفى الأغانى وكتاب «ما يعوّل عليه فى المضاف والمضاف اليه» (نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية رقم 78 أدب م) : «اليوم» . [2] فى الأغانى: «ورقاء فى فنن من جزع كتمان» وسياق الأغانى للبيتين يدل على أنهما موضوعان من غير خبير بالشعر. قال: «قال وحدّثنى محمد بن الحسن عن عيسى بن يزيد بن دأب قال: أهل حلف الفضول: هاشم وزهرة وتيم، قال فقيل له: فهل لذلك شاهد من الشعر؟ قال نعم، قال أنشدنى بعض أهل العلم قول بعض الشعراء- ثم ذكر البيتين على ما ذكرنا من روايته فى البيت الثانى، ثم قال- فقيل له وأين كتمان؟ فقال: واد بنجران. فجاء ببيتين مضطربين مختلفى النصفين ... » . [3] انشراج: جمع شرج بالفتح، وهو مسيل الماء من الحرة الى السهل. [4] فى اللسان (مادة شرج) : « ... فقال يا زبير احبس الماء حتى يبلغ الجدر» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 268 أنزلت فى ذلك (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) . وقد قيل فى هذا الحديث إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب الزبير أوّلا الى الاقتصار على بعض حقّه على طريق التوسّط والصّلح، فلمّا لم يرض الأنصارىّ بذلك وقال ما قال، استوفى النبىّ صلى الله عليه وسلم للزبير حقّه. ويصحّح هذا القول ما جاء فى آخر الحديث: «فاستوعى [1] له حقّه» يعنى للزبير. ثم لم ينتدب للمظالم من الخلفاء الأربعة رضى الله عنهم أحد، وإنما كانت المنازعات تجرى بين الناس فيفصلها حكم القضاء. فإن تجوّز من جفاة الأعراب متجوّز، ثناه الوعظ إن تدبّره، وقاده العنف إن أبى وامتنع، فاقتصروا على حكم القضاء، لانقياد الناس اليه والتزامهم بأحكامه. ثم انتشر الأمر بعد ذلك وتجاهر الناس بالظلم والتغالب، ولم يكفّهم زواجر المواعظ، فاحتاجوا فى ردع [2] المتغلّبين وإنصاف المظلومين من الظالمين الى النظر فى المظالم؛ فكان أوّل من انفرد للمظالم وجعل لها يوما مخصوصا يجلس فيه للناس وينظر فى قصصهم ويتأمّلها عبد الملك ابن مروان، فكان اذا وقف فيها على مشكل ردّه الى قاضيه أبى إدريس الأودىّ فنفّذ فيها أحكامه، فكان عبد الملك هو الآمر وأبو إدريس هو المباشر. ثم زاد جور الولاة وظلم العتاة واغتصاب الأموال فى دولة بنى أميّة، الى أن أفضت الخلافة الى عمر بن عبد العزيز- رحمه الله- فانتصب بنفسه للنظر فى المظالم، وراعى السنن العادلة، وردّ مظالم بنى أميّة على أهلها؛ فقيل له- وقد شدّد عليهم فيها وأغلظ-: إنا نخاف عليك، من ردّها، العواقب؛ فقال: كل ما أتقّيه وأخافه دون   [1] استوعى له حقه: استوفاه له كله. [2] كذا فى الأحكام السلطانية. وفى الاصل «الى ردّ المتغلبين» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 269 يوم القيامة لا وقيته. ثم جلس لها جماعة من خلفاء الدولة العبّاسيّة، فكان أوّل من جلس منهم المهدىّ، ثم الهادى، ثم الرشيد، ثم المأمون؛ وآخر من جلس لها منهم المهتدى. ثم انتصب لذلك جماعة من ملوك الإسلام أرباب الدول المشهورة بأنفسهم وأقاموا لها نوّابا، ومنهم من بنى لها مكانا مخصوصا بها سمّاه «دار العدل» على ما نورد ذلك- إن شاء الله- فى فنّ التاريخ. ذكر ما يحتاج اليه ولاة المظالم فى جلوسهم لها ومن يجتمع عندهم ويحضر مجلسهم، وما يختص بنظرهم وتشمله ولايتهم قال الماوردىّ: فإذا نظر فى المظالم من انتدب لها جعل لنظره يوما معروفا يقصده فيه المتظلّمون، ويراجعه فيه المتنازعون؛ ليكون ما سواه من الأيام لما هو موكول اليه من السياسة والتدبير؛ إلا أن يكون من عمّال المظالم المتفرّدين بها، فيكون مندوبا للنظر فى جميع الأيام. وليكن سهل الحجاب، نزه الأصحاب. ويستكمل مجلس نظره بحضور خمسة أصناف لا يستغنى عنهم، ولا ينتظم أمره إلا بهم؛ وهم الحماة والأعوان، لجذب القوىّ وتقويم الجرىء. والصنف الثّانى: القضاة والحكّام، لاستعلام ما يثبت عندهم من الحقوق، ومعرفة ما يجرى فى مجالسهم بين الخصوم. والصنف الثالث: الفقهاء، ليرجع إليهم فيما أشكل، ويسألهم عما اشتبه وأعضل. والصنف الرابع: الكتّاب، ليثبتوا ما جرى بين الخصوم وما توجّه لهم أو عليهم من الحقوق. والصنف الخامس: الشهود، ليشهدهم على ما أوجبه من حقّ وأمضاه من حكم. فاذا استكمل مجلس المظالم بهذه الأصناف الخمسة، شرع حينئذ فى نظره. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 270 وأما ما يختص بنظر متولى المظالم وتشتمل عليه ولايته فعشرة أقسام: الأوّل- النظر فى تعدّى الولاة على الرعيّة وأخذهم بالعسف فى السّيرة، فهذا من لوازم النظر فى المظالم، فيكون لسير الولاة متصفّحا، وعن أحوالهم مستكشفا، ليقوّيهم إن أنصفوا، ويكفّهم إن عسفوا. والثانى- جور العمال فيما يجبونه من الأموال؛ فيرجع فيه الى القوانين العادلة فى الدواوين، فيحمل الناس عليها ويأخذ العمال بها. وينظر فيما استزادوه، فإن رفعوه الى بيت المال أمر بردّه، وإن أخذوه لأنفسهم استرجعه منهم لأربابه. والثالث- كتّاب الدواوين، لأنهم أمناء المسلمين على بيوت أموالهم فيما يستوفونه ويوفونه منها؛ فيتصفّح أحوال ما وكل اليهم، فإن عدلوا عن حق فى دخل أو خرج الى زيادة أو نقصان، أعاده الى قوانينه، وقابل على تجاوزه. وهذه الأقسام الثلاثة لا يحتاج والى المظالم فى تصفّحها الى متظلّم. والرابع- تظلّم المسترزقة من نقص أرزاقهم أو تأخيرها عنهم وإجحاف النّظّار بهم؛ فيرجع الى ديوانه فى فرض العطاء العادل فيجريهم عليه. وينظر فيما نقصوه أو منعوه، فإن أخذه ولاة أمورهم استرجعه لهم، وإن لم يأخذوه قضاه من بيت المال. كتب بعض ولاة الأجناد الى المأمون أنّ الجند شغبوا ونهبوا. فكتب اليه: لو عدلت لم يشغبوا، ولو قويت لم ينهبوا. وعزله عنهم وأدرّ عليهم أرزاقهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 271 والخامس- ردّ الغصوبات. وهى على ضربين: أحدها غصوب سلطانية قد تغلّب عليها ولاة الجور، كالأملاك المقبوضة عن أربابها، إما لرغبة فيها أو غير ذلك. ويجوز أن يرجع فى ذلك عند تظلّمهم الى ديوان السلطنة، فإذا وجد فيه ذكر قبضها عن مالكها عمل بمقتضاه وأمر بردّها اليه، ولم يحتج فيه الى بيّنة تشهد به، وكان ما وجده فى الديوان كافيا، كالذى حكى عن عمر بن عبد العزيز أنّه خرج ذات يوم الى الصلاة فصادفه رجل ورد من اليمن متظلّما، فقال: تدعون حيران مظلوما ببابكم ... فقد أتاكم بعيد الدار مظلوم فقال له: وما ظلامتك؟ قال: غصبنى الوليد بن عبد الملك ضيعتى؛ فقال يا مزاحم ائتنى بدفتر الصّوافى؛ فوجد فيه: أصفى عبد الله الوليد بن عبد الملك ضيعة فلان؛ فقال: أخرجها من الدفتر، وليكتب بردّ ضيعته اليه ويطلق له ضعف نفقته. والضرب الثانى، ما تغلّب عليه ذوو الأيدى القويّة وتصرّفوا فيه تصرّف الملّاك بالقهر والغلبة؛ فهذا موقوف على تظلّم أربابه. ولا ينتزع من غصّابه إلا بأحد أربعة أمور: إما باعتراف الغاصب وإقراره؛ وإما بعلم والى المظالم، فيجوز أن يحكم عليه بعلمه؛ وإما ببينة تشهد على الغاصب بغصبه أو تشهد للمغصوب منه بملكه؛ وإما بتظاهر الأخبار التى ينتفى عنها التواطؤ ولا تختلج فيها الشكوك؛ لأنه لمّا جاز للشهود أن يشهدوا فى الأملاك بتظاهر الأخبار، كان حكم ولاة المظالم بذلك أحقّ. والسادس- مشارفة الوقوف. وهى ضربان: عامة وخاصة. فأما العامة فيبدأ بتصفّحها وإن لم يكن لها متظلّم، ليجريها على سبلها ويمضيها على شروطها واقفها اذا عرفها من أحد ثلاثة أوجه: إمّا من دواوين الحكّام المندوبين لحراستها، وإما من دواوين السّلطنة على ما جرى فيها من معاملة أو ثبت لها من ذكر وتسمية، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 272 وإما من كتب قديمة تقع فى النفس صحّتها وإن لم يشهد الشهوذ بها، لأنه ليس يتعيّن الخصم فيها، فكان الحكم فيها أوسع منه فى الوقوف الخاصّة. وأما الوقوف الخاصة، فإنّ نظره فيها موقوف على تظلّم أهلها عند التنازع فيها، لوقوفها على خصوم متعيّنين. فيعمل عند التشاجر فيها على ما تثبت به الحقوق عند الحاكم، ولا يجوز أن يرجع فيها الى ديوان السلطنة ولا إلى ما يثبت من ذكرها فى الكتب القديمة إذا لم يشهد بها شهود معدّلون. والسابع- تنفيذ ما وقف من أحكام القضاة، لضعفهم عن إنفاذه وعجزهم عن المحكوم عليه، لتعزّزه وقوّة يده أو علوّ قدره وعظم خطره، لكون [1] ناظر المظالم أقوى يدا وأنفذ أمرا، فينفّذ الحكم على ما يوجبه عليه الحاكم [2] بانتزاع ما فى يده، أو بإلزامه الخروج مما فى ذمّته. والثامن- النظر فيما عجز عنه الناظرون فى الحسبة من المصالح العامّة كالمجاهرة بمنكر ضعف عن دفعه، والتعدّى فى طريق عجز عن منعه، [والتّحيفّ فى حقّ لم يقدر على ردّه [3]] ، فيأخذهم بحق الله تعالى فى ذلك، ويأمر بحملهم على موجبه [4] . والتاسع- مراعاة العبادات الظاهرة كالجمع والأعياد والحجّ والجهاد من تقصير فيها أو إخلال بشروطها؛ فإنّ حقوق الله تعالى أولى أن تستوفى، وفروضه أحقّ أن تؤدّى.   [1] فى الأصل: «ليكون ... » وفى الأحكام السلطانية: «فيكون ... » ، وظاهر أن ما أثبتناه هو المناسب للسياق. [2] فى الأحكام السلطانية: «فينفذ الحكم على من توجه اليه بانتزاع ... » . [3] زيادة عن الأحكام السلطانية. [4] كذا فى الأحكام السلطانية، وفى الأصل. «على واجبه» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 273 والعاشر- النظر بين المتشاجرين، والحكم بين المتنازعين. ولا يخرج فى النظر بينهم عن موجب الحق ومقتضاه، ولا يسوغ أن يحكم بينهم بما لا يحكم به الحكّام والقضاة. ذكر الفرق بين نظر ولاة المظالم ونظر القضاة قال الماوردىّ: والفرق بين نظر المظالم ونظر القضاة من عشرة أوجه: أحدها- أنّ لناظر [1] المظالم من فضل الهيبة وقوّة اليد ما ليس للقضاة بكف الخصوم عن التجاحد ومنع الظّلمة من التغالب والتجاذب. والثانى- أنّ نظر المظالم يخرج من ضيق الوجوب الى سعة الجواز، فيكون الناظر فيه أفسح مجالا وأوسع مقالا. والثالث- أنّه يستعمل من فضل الإرهاب وكشف الأسباب، بالآثار الدالّة أو شواهد الحال اللّائحة ما يضيق على الحكّام، فيصل به الى ظهور الحقّ، ومعرفة المبطل من المحقّ. والرابع- أنه يقابل من ظهر ظلمه بالتأديب، ويأخذ من بان عدوانه [2] بالتقويم والتهذيب. والخامس- أنّ له من التأنّى فى ترداد الخصوم عند اشتباه أمورهم واستبهام حقوقهم، ليمعن فى الكشف عن أسبابهم وأحوالهم، ما ليس للحكّام، اذا سألهم أحد الخصمين فصل الحكم، فلا يسوغ أن يؤخّره الحاكم، ويسوغ أن يؤخّره متولّى المظالم.   [1] كذا فى الأحكام السلطانية. وفى الأصل: «لنظر المظالم ... » . [2] فى الأصل: «من بان عداوته» وهو تحريف، والتصويب عن الأحكام السلطانية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 274 والسادس- أنّ له ردّ الخصوم اذا أعضلوا [1] الى وساطة الأمناء، ليفصلوا التنازع بينهم صلحا عن تراض، وليس للقاضى ذلك إلا عن رضا الخصمين بالرّدّ. والسابع- أنه يفسح فى ملازمة الخصمين اذا وضحت أمارات التجاحد، ويأذن فى إلزام الكفالة فيما يسوغ فيه التكفيل، لتنقاد الخصوم الى التناصف ويعدلوا عن التجاحد والتكاذب. والثامن- أنه يسمع من شهادات المستورين ما يخرج عن عرف القضاة فى شهادة المعدّلين. والتاسع- أنه يجوز له إحلاف الشهود عند ارتيابه بهم اذا بذلوا أيمانهم طوعا، ويستكثر من عددهم، لتزول عنه الشّبهة وينتفى الارتياب، وليس ذلك للحاكم. والعاشر- أنه يجوز له أن يبتدئ باستدعاء الشهود ويسألهم عما عندهم فى تنازع الخصوم؛ وعادة القضاة تكليف المدّعى إحضار بيّنة ولا يسمعونها إلا بعد مسألته. فهذه عشرة أوجه يقع بها الفرق بين نظر المظالم ونظر القضاء فى التشاجر والتنازع؛ وهما فيما عداهما متساويان. ذكر ما ينبغى أن يعتمده ولاة المظالم عند رفعها إليهم، وما يسلكونه من الأحكام فيها، وما ورد فى مثل ذلك من أخبارهم وأحكامهم فيما سلف من الزمان قال الماوردىّ: لم تخل حال الدّعوى عند الترافع فيها إلى والى المظالم من ثلاثة أحوال: إمّا أن يقترن بها ما يقوّيها، أو يقترن بها ما يضعفها، أو تخلو من   [1] أعضلوا: ضاقت عليه الحيل فيهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 275 الأمرين. فإن اقترن بها ما يقوّيها، فلما يقترن بها من القوّة ستّة أحوال تختلف بها قوّة الدّعوى على التدريج. فأوّل أحوالها- أن يظهر معها كتاب فيه شهود معدّلون حضور. والذى يختص به نظر المظالم فى مثل هذه الدعوى شيئان. أحدهما: أن يبتدئ الناظر فيها باستدعاء الشهود للشهادة. والثانى: الإنكار على الجاحد بحسب حاله وشواهد أحواله. فاذا حضر الشهود، فإن كان الناظر فى المظالم ممن يجلّ قدره، كالخليفة أو وزير التفويض أو أمير الإقليم، راعى من أحوال المتنازعين ما تقتضيه السياسة: من مباشرته النّظر بينهما إن جلّ قدرهما، أو ردّ ذلك الى قاضيه بمشهد منه إن كانا متوسّطين، أو على بعد منه إن كانا خاملين. حكى أنّ المأمون كان يجلس للمظالم فى يوم الأحد، فنهض ذات يوم من مجلسه فتلقّته امرأة فى ثياب رثّة، فقالت: يا خير منتصف يهدى له الرّشد ... ويا إماما به قد أشرق البلد تشكو إليك عميد [1] الملك أرملة ... عدا عليها فما تقوى به أسد فابتزّ منها ضياعا بعد منعتها ... لمّا تفرّق عنها الأهل والولد فأطرق المأمون يسيرا ثم رفع رأسه وقال: من دون ما قلت عيل الصّبر والجلد ... وأقرح القلب هذا الحزن والكمد هذا أوان صلاة الظّهر فانصرفى ... وأحضرى الخصم فى اليوم الذى أعد المجلس السبت إن يقض الجلوس لنا ... أنصفك منه وإلّا المجلس الأحد   [1] كذا فى الأحكام السلطانية وفى الأصل: «عقيد الملك» وورد هذا البيت فى العقد الفريذ (ج 1 ص 12) هكذا: تشكو اليك عميد القوم أرملة ... عدا عليها فلم يترك لها سبد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 276 فانصرفت، وحضرت فى يوم الأحد أوّل الناس؛ فقال لها المأمون: من خصمك؟ فقالت: القائم على رأسك العبّاس بن أمير المؤمنين؛ فقال المأمون لقاضيه يحيى ابن أكثم، وقيل بل قال لوزيره أحمد بن أبى خالد: أجلسها معه وانظر بينهما؛ فأجلسها معه ونظر بينهما بحضرة المأمون، فجعل كلامها يعلو، فزجرها بعض حجّابه؛ فقال المأمون: دعها فإنّ الحقّ أنطقها والباطل أخرسه. وأمر بردّ ضياعها اليها. والحال الثانية فى قوّة الدعوى- أن يقترن بها كتاب فيه من الشهود المعدّلين من هو غائب. فالذى يختصّ بنظر المظالم فى مثل هذه الدّعوى أربعة أشياء [1] . أحدها: إرهاب المدّعى عليه [فر [2]] بّما يعجّل من إقراره بقوّة الهيبة ما يغنى عن سماع البيّنة. والثانى: التّقدّم [3] بإحضار الشّهود اذا عرف مكانهم ولم يدخل الضّرر الشاقّ عليهم. والثالث: التقدّم بملازمة المدّعى عليه ثلاثا، ويجتهد رأيه فى الزيادة عليها بحسب الحال من قوّة الأمارة ودلائل الصحّة. والرابع: أن ينظر فى الدعوى، فإن كانت مالا فى الذمة كلّفه إقامة كفيل، وإن كانت عينا قائمة كالعقار، حجر عليه فيها حجرا لا يرفع به حكم يده، وردّ استغلالها الى أمين [4] يحفظه على مستحقّه منهما. فإن تطاولت المدّة ووقع اليأس من حضور الشهود، جاز لمتولّى المظالم أن يسأل المدّعى عليه عن دخول يده مع تجديد إرهابه، فإن أجاب بما يقطع التنازع أمضاه، وإلّا فصل بينهما بموجب الشّرع ومقتضاه.   [1] وردت هذه الجملة فى الأصل هكذا: «فالدعوى تختص بنظر المظالم فى هذه الدعوى باربعة أشياء» وما أثبتناه عن الأحكام السلطانية. [2] التكملة عن الأحكام السلطانية. وتوجد من الأحكام السلطانية نسخة أخرى، يشير اليها هامش النسخة التى بين أيدينا، بها ما بالأصل، فلعل المؤلف نقل عنها. [3] تقدم إليه بكذا: أمره به. [4] كذا فى الأحكام السلطانية، وفى الأصل وفى نسخة أخرى من الأحكام السلطانية يشير اليها هامش النسخة التى بأيدينا «الى أمين الشهود» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 277 والحال الثالثة فى قوّة الدعوى- أن يكون فى الكتاب المقترن بها شهود حضور لكنهم غير معدّلين عند الحاكم، فيتقدّم ناظر المظالم بإحضارهم وسبر أحوالهم؛ فإن كانوا من ذوى الهيئات وأهل الصّيانات، فالثقة بشهادتهم أقوى؛ وإن كانوا أرذالا فلا يعوّل عليهم لكن يقوّى إرهاب الخصم بهم؛ وإن كانوا أوساطا فيجوز له أن يستظهر بإحلافهم، إن رأى ذلك، قبل الشهادة أو بعدها. ثم هو فى سماع شهادة هذين الصّنفين بين ثلاثة أمور: إما أن يسمعها بنفسه فيحكم بها، وإما أن يردّ [الى [1]] القاضى سماعها ويؤدّيها القاضى اليه، وإما أن يردّ سماعها الى الشهود المعدّلين وهم يخبرونه بما وضح عندهم. والحال الرابعة من قوّة الدعوى- أن يكون فى الكتاب المقترن بها شهود موتى معدّلون، فالذى يختصّ بنظر المظالم فيها ثلاثة أشياء. أحدها: إرهاب المدّعى عليه بما يضطرّه الى الصّدق والاعتراف [بالحق [2]] . والثانى: سؤاله عن دخول يده، لجواز أن يكون من جوابه ما يتّضح به الحقّ [3] . والثالث: أن يكشف عن الحال من جيران الملك ومن جيران المتنازعين فيه، ليتوصّل بهم الى وضوح الحقّ ومعرفة المحقّ. فإن لم يصل اليه بواحد من هذه الثلاثة، ردّها الى وساطة محتشم مطاع، له بهما معرفة وبما يتنازعانه خبرة. فإن حصل تصادقهما أو صلحهما بوساطته، وإلّا فصل الحكم بينهما على ما يوجبه حكم القضاء. والحال الخامسة فى قوّة الدعوى- أن يكون مع المدّعى خطّ المدّعى عليه [بما تضمّنته الدعوى، فنظر المظالم فيه يقتضى سؤال المدّعى عليه [4]] عن الخطّ وأن   [1] التكملة عن الأحكام السلطانية. [2] التكملة عن الأحكام السلطانية. [3] الجملة فى الأصل هكذا: «لجواز أن يكون جوابه بما يتضح به الحق» وعبارة الأحكام السلطانية التى أثبتناها أوضح. [4] التكملة عن الأحكام السلطانية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 278 يقال [1] له: هذا خطّك؟ فإن اعترف به، سئل بعد اعترافه به عن صحة ما تضمّنه، فإن اعترف بصحته، صار مقرّا وألزم حكم إقراره. وإن لم يعترف بصحته [فمن ولاة المظالم من حكم عليه بخطّه اذا اعترف به وإن لم يعترف بصحته [2]] ، وجعل ذلك من شواهد الحقوق اعتبارا بالعرف. والذى عليه محقّقوهم وما يراه الفقهاء أنه لا يجوز للناظر منهم أن يحكم بمجرّد الخطّ حتى يعترف بصحّة ما فيه؛ فإن قال: كتبته ليقرضنى وما أقرضنى، أو ليدفع إلىّ ثمن ما بعته وما دفع، فهذا مما قد يفعله الناس أحيانا. فنظر المظالم فى مثله أن يستعمل الإرهاب بحسب الحال ثم يردّ الى الوساطة؛ فإن أفضت الى الصلح، وإلا بتّ الحاكم [3] بينهما بالتحالف. وإن أنكر الخطّ، فمن ولاة المظالم من يختبر الخطّ بخطوطه التى يكتبها ويكلّفه من كثرة الكتابة ما يمنع من التصنّع فيها، ثم يجمع بين الخطين، فإذا تشابها حكم به عليه. والذى عليه المحقّقون منهم أنهم لا يفعلون ذلك للحكم به ولكن للإرهاب. [وتكون الشّبهة مع إنكاره للخط أضعف منها مع اعترافه به، وترتفع الشبهة إن كان الخط منافيا لخطه ويعود الإرهاب على المدّعى، ثم يردّان الى الوساطة [4]] فإن أفضت الى الصلح وإلّا بتّ القاضى [الحكم [5]] بينهما بالأيمان. والحال السادسة من قوّة الدعوى- إظهار الحساب بما تضمّنته الدعوى، وهذا يكون فى المعاملات. ولا يخلو حال الحساب من أحد أمرين:   [1] فى الأصل «يقول» وما أثبتناه عن الأحكام السلطانية. [2] التكملة عن الأحكام السلطانية. [3] فى الأحكام السلطانية: «وإلا بت القاضى الحكم بينهما بالتحالف» . [4] وردت هذه الجملة التى بين القوسين والتى نقلناها عن الأحكام السلطانية فى الأصل هكذا: «وترتفع الشبهة وإن كان منافيا فيعود الإرهاب على المدعى ثم يرد الى الوساطة» . [5] التكملة عن الأحكام السلطانية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 279 إمّا أن يكون حساب المدّعى أو المدّعى عليه. فإن كان حساب المدّعى فالشّبهة فيه أضعف. ونظر المظالم فى مثله أن يراعى نظم الحساب، فإن كان مخنلّا يحتمل فيه [1] الإدغال كان مطّرحا، وهو بضعف الدعوى أشبه منه بقوّتها. وإن كان نظمه متّسقا ونقله صحيحا، فالثقة به أقوى، فيقتضى من الإرهاب بحسب شواهده، ثم يردّان الى الوساطة، ثم الى الحكم الباتّ. وإن كان الحساب للمدّعى عليه، كانت الدعوى به أقوى، فلا يخلو أن يكون منسوبا الى خطه [أو خط كاتبه، فإن كان منسوبا الى خطه [2]] فلناظر المظالم أن يسأله عنه: أهو خطه؟ فإن اعترف به، قيل: أتعلم ما هو؟ فإن أقرّ بمعرفته، قيل: أتعلم صحته؟ فإن أقرّ بصحته، صار بهذه الثلاثة مقرّا بمضمون الحساب، فيؤخذ بما فيه. وإن اعترف أنه خطّه وأنه يعلم ما فيه ولم يعترف بصحته، وجعل الثقة بهذا أقوى من الثقة بالخط المرسل، لأن الحساب لا يثبت فيه قبض ما لم يقبض [3] ، وقد تكتب الخطوط المرسلة بقبض. والذى عليه المحققون منهم- وهو قول الفقهاء- أنه لا يحكم عليه بالحساب الذى لم يعترف بصحته، لكن يقتضى من فضل الإرهاب به أكثر مما اقتضاه الخط المرسل. ثم يردّان الى الوساطة ثم الى الحكم الباتّ. وإن كان الخط منسوبا الى كاتبه، سئل المدّعى عليه قبل سؤال كاتبه، فإن اعترف بما فيه أخذ به، وإن لم يعترف، سئل عنه كاتبه وأرهب، فإن أنكره ضعفت   [1] كذا فى الأحكام السلطانية. وفى الأصل «فان كان مما يحمل الإدغال ... » . والإدغال: من دغل فى الأمر: أدخل فيه ما يفسده ويخالفه. [2] التكملة عن الأحكام السلطانية. [3] كذا فى الأحكام السلطانية، وفى الأصل: «لأن الحساب لا يكتب قيض ولم يقبض» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 280 الشّبهة [1] ، وإن اعترف بصحته صار شهادة على المدّعى عليه، فيحكم عليه بشهادته إن كان عدلا، ويقضى بالشاهد واليمين. فهذه حال الدعوى إذا اقترن بها ما يقوّيها. وأما إن اقترن بالدعوى ما يضعفها- فلما اقترن بها من الضعف ستة أحوال تنافى أحوال القوّة، فينقل الإرهاب بها من جنبة المدّعى عليه الى جنبة المدّعى. فالحال الأولى- أن يقابل الدعوى بكتاب شهوده حضور معدّلون يشهدون بما يوجب بطلان الدعوى، وذلك من أربعة أوجه. أحدها: أن يشهدوا على المدّعى ببيع ما ادّعاه. والثانى: أن يشهدوا على إقرار الذى انتقل الملك عنه للمدّعى قبل إقراره له [2] . والثالث: أن يشهدوا على المدّعى [3] أنه لا حقّ له فيما ادّعاه. والرابع: أن يشهدوا للمدّعى عليه بأنه مالك لما ادّعاه عليه. فتبطل دعواه بهذه الشهادة، ويؤدّبه متولّى المظالم بحسب حاله. فإن ذكر أنّ الشهادة عليه بابتياع كانت على سبيل الرهن؛ فهذا قد يفعله الناس أحيانا ويسمّونه بينهم بيع الأمانة [4] ؛ ويقتضى ذلك الإرهاب   [1] عبارة الأحكام السلطانية فى هذه المسألة وردت هكذا: «وان لم يعترف يسأل عنه كاتبه، فان أنكره ضعفت الشبهة بإنكاره، وأرهب إن كان متهما ولم يرهب إن كان مأمونا. وإن اعترف به وبصحته ... » . [2] ما ذكره المؤلف هاهنا منقول عن نسخة من الأحكام السلطانية يشير اليها هامش النسخة المطبوعة فى مدينة «بن» وبين النسختين اختلاف فى الترتيب وبعض الكلمات. وقد ذكر الوجه الثانى هنا فى الأحكام السلطانية هكذا «والثالث أن يشهدوا على اقرار أبيه الذى ذكر انتقال الملك عنه أن لا حق له فيما ادعاه» . [3] فى الأحكام السلطانية: «أن يشهدوا على إقراره (المدعى) بأن لا حق له ... » . [4] اختصار المؤلف هنا جعل الكلام غير واضح الارتباط. وعبارة الأحكام السلطانية- على ما فيها من مخالفة فى بعض الكلمات لما فى الأصل، وقد يكون ما فى الأصل هو الصواب- وردت هكذا: «فان ذكر أن الشهادة عليه بالابتياع كانت على سبيل رهب وإلجاء، وهذا قد يفعله الناس أحيانا، فينظر فى كتاب الابتياع: فان ذكر فيه أنه من غير رهب ولا إلجاء ضعفت شبهة هذه الدعوى، وإن لم يذكر ذلك فيه قويت شبهة الدعوى، وكان الارهاب فى الجهتين بمقتضى شواهد الحالين» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 281 فى الجهتين. ويرجع الى الكشف من الجيرة؛ فإن ظهر له ما يوجب العدول عن ظاهر الكتاب عمل بمقتضاه، وإن لم يتبيّن وأبهم الأمر أمضى الحكم بما شهد به شهود الابتياع. فإن سأل [1] إحلاف المدّعى عليه أن ابتياعه كان حقّا ولم يكن على سبيل الرهن، فقد اختلف الفقهاء فى جواز إحلافه: فمنهم من أجازه ومنهم من منعه. ولوالى المظالم أن يعمل من القولين بما تقتضيه شواهد الحال. وكذلك لو كانت الدعوى بدين فى الذمّة فأظهر المدّعى [عليه [2]] كتاب براءة [منه، فذكر المدّعى أنه أشهد على نفسه [3]] قبل القبض ولم يقبض، كان إحلاف المدّعى عليه على ما تقدّم ذكره. والحال الثانية- أن يكون شهود الكتاب عدولا غيّبا، فهذا على ضربين: أحدهما: أن يتضمّن إنكاره اعترافا بالسبب كقوله: لا حقّ له فى هذا الملك، لأنى ابتعته منه ودفعت اليه الثمن، وهذا كتاب عهدتى بالإشهاد عليه. فيصير المدّعى عليه مدّعيا. وله [زيادة [4]] يد وتصرّف، فتكون الأمارة أقوى وشاهد الحال أظهر، [فإن لم يثبت بها الملك [5]] فيرهبهما والى المظالم بحسب ما تقتضيه شواهد أحوالهما. ويأمر بإحضار الشهود إن أمكن، ويضرب لحضورهم أجلا يردّهما فيه إلى الوساطة، فإن أفضت الى صلح عن تراض، استقرّ به الحكم وعدل عن سماع الشهادة إن حضرت. وإن لم ينبرم بينهما الصلح، أمعن فى الكشف من جيرانهما وجيران الملك. وكان لمتولّى نظر المظالم رأيه، فى زمن الكشف، فى خصلة من ثلاث، على ما يؤدّى اليه اجتهاده بحسب الأمارات وشواهد الأحوال: إمّا أن يرى انتزاع الضّيعة من يد المدّعى عليه ويسلّمها الى المدّعى الى أن تقوم البيّنة عليه بالبيع؛ وإما أن يسلّمها الى أمين تكون فى يده ويحفظ استغلالها على مستحقّه؛ وإما أن يقرّها فى يد المدّعى عليه   [1] ظاهر أن مرجع الضمير هاهنا المدعى. [2] التكملة عن الأحكام السلطانية. [3] التكملة عن الأحكام السلطانية. [4] التكملة عن الأحكام السلطانية. [5] التكملة عن الأحكام السلطانية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 282 ويحجر عليه فيها وينصب أمينا لحفظ استغلالها. فإن وقع الإياس من حضور الشهود وظهور الحقّ بالكشف، فصل الحكم بينهما على ما تقتضيه أحكام القضاء. فلو سأل المدّعى عليه إحلاف المدّعى، أحلفه له، وكان ذلك بتّا للحكم بينهما. والضرب الثانى: أن [لا [1]] يتضمّن إنكاره اعترافا بالسبب ويقول: هذا الملك أو الضيعة لا حق له فيها. وتكون شهادة الكتاب على المدّعى على أحد وجهين: إما على إقراره أنه لا حق له فيها، وإما على إقراره أنها ملك للمدّعى عليه؛ فالضّيعة مقرّة فى يد المدّعى عليه لا يجوز انتزاعها منه. فأمّا الحجر عليه فيها وحفظ استغلالها مدّة الكشف والوساطة فمعتبر بشواهد الحال واجتهاد والى المظالم فيما يراه بينهما، الى أن يثبت الحقّ لأحدهما. والحال الثالثة- أنّ شهود الكتاب المقابل لهذه الدعوى حضور غير معدّلين، فيراعى والى المظالم فيهم ما قدّمناه فى جنبة المدّعى من أحوالهم الثلاث، ويراعى حال إنكاره هل تضمّن اعترافا بالسبب أم لا؛ فيعمل [والى المظالم فى ذلك [2] ب] ما قدّمناه، تعويلا على اجتهاد رأيه فى شواهد الأحوال. والحال الرابعة- أن يكون شهود الكتاب موتى معدّلين، فليس يتعلّق به حكم إلا فى الإرهاب المجرّد، ثم يعمل فى بتّ الحكم على ما تضمّنه الإنكار من الاعتراف بالسبب أم لا. والحال الخامسة- أن يقابل المدّعى عليه بخط المدّعى بما يوجب [3] إكذابه فى الدعوى، فيعمل فيه بما قدّمناه فى ذلك. وكذلك أيضا فى الحال السادسة من إظهار الحساب، فالعمل فيه على ما قدّمناه.   [1] زيادة من الأحكام السلطانية. [2] زيادة من الأحكام السلطانية. [3] فى الأصل «بما وجب ... » وما أثبتناه عن الأحكام السلطانية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 283 وأما إن تجرّدت الدعوى من أسباب القوّة والضعف، فلم يقترن بها ما يقوّيها ولا ما يضعفها، فنظر والى المظالم فى ذلك أن يراعى أحوال المتنازعين فى غلبة الظن. ولا يخلو حالهما فيه من ثلاثة أحوال. أحدها: أن تكون غلبته فى جنبة المدّعى. والثانى: أن تكون فى جنبة المدّعى عليه. والثالث: أن يعتدلا فيه. فإن كانت غلبة الظن فى جنبة المدّعى وكانت الرّيبة متوجّهة الى المدّعى عليه، فقد تكون من ثلاثة أوجه. أحدها: أن يكون المدّعى مع خلوّه من حجّة مضعوف اليد مستلان الجانب والمدّعى عليه ذا بأس وقدرة. فاذا ادّعى عليه غصب ملك أو ضيعة، غلب فى الظنّ أنّ مثله مع لينه واستضعافه لا يتجوّز فى دعواه على من كان ذا بأس وسطوة. والثانى: أن يكون ممن اشتهر بالصدق والأمانة والمدّعى عليه ممن اشتهر بالكذب والخيانة، فيغلب [فى الظن [1]] صدق المدّعى فى دعواه. والثالث: أن تتساوى أحوالهما، غير أنه عرف للمدّعى يد متقدّمة وليس يعرف لدخول يد المدّعى عليه سبب، فالذى يقتضيه نظر المظالم فى هذه الأحوال شيئان. أحدهما: إرهاب المدّعى عليه لتوجّه الريبة. والثانى: سؤاله عن سبب دخول يده وحدوث ملكه. وأما إن كانت غلبة الظنّ فى جنبة المدّعى عليه بانعكاس ما قدّمناه وانتقاله من جانب المدّعى الى المدّعى عليه، فمذهب مالك- رحمه الله- أنه إن كانت دعواه فى مثل هذه الحال لعين قائمة، لم يسمعها إلا بعد ذكر السبب الموجب لها، وإن كانت فى مال فى الذمة، لم يسمعها إلا أن تقوم البيّنة للمدّعى أنه كان بينه وبين المدّعى عليه معاملة. والشافعىّ وأبو حنيفة- رحمهما الله- لا يريان ذلك [2] . ونظر المظالم   [1] التكملة من الأحكام السلطانية. [2] فى الأحكام السلطانية «والشافعىّ وأبو حنيفة رضى الله عنهما لا يريان ذلك فى حكم القضاة، فاما نظر الظالم الموضوع على الأصلح فعلى الجائز دون الواجب فيسوغ فيه مثل ... » . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 284 موضوع على فعل الجائز دون الواجب، فيسوغ فيه مثل هذا عند ظهور الريبة. فان وقف الأمر على التحالف فهو غاية الحكم الباتّ الذى لا يجوز دفع طالب عنه فى نظر القضاء ولا نظر المظالم. فإن فرّق المدّعى دعاويه وأراد أن يحلف المدّعى عليه فى كل مجلس على بعضها قصدا لإعناته وبذلته، فالذى يوجبه حكم القضاء ألّا يمنع من تبعيض الدعاوى وتفريق الأيمان، والذى ينتجه نظر المظالم أن يؤمر المدّعى بجمع دعاويه عند ظهور الإعنات منه وإحلاف الخصم على جميعها يمينا واحدة. فأمّا اذا اعتدلت حالة المتنازعين وتقابلت شبهة [1] المتشاجرين ولم يترجح أحدهما بأمارة ولا ظنّة، فينبغى أن يساوى بينهما فى العظة؛ وهذا مما يتّفق عليه القضاة وولاة المظالم. ثم يختصّ ولاة المظالم، بعد العظة، بالإرهاب لهما معا لتساويهما، ثم بالكشف عن أصل الدعوى وانتقال الملك. فإن ظهر بالكشف ما يعرف به المحقّ منهما من المبطل عمل بمقتضاه، وإن لم يظهر بالكشف ما ينفصل به تنازعهما ردّهما الى وساطة من وجوه الجيران وأكابر العشائر؛ فان تحرّر [2] ما بينهما، وإلا كان فصل القضاء بينهما هو خاتمة أمرهما. وربما ترافع [3] الى ولاة المظالم فى غوامض الأحكام ومشكلات الخصام ما يرشده اليه الجلساء ويفتحه [4] عليه العلماء، فلا ينكر عليهم الابتداء به؛ ولا بأس بردّ الحكم فيه الى من يعلمه منهم.   [1] فى الأحكام السلطانية: «بينة المتشاجرين ... » . [2] فى الأحكام السلطانية: «فإن نجز بها ما بينهما» . [3] كذا فى الأصل والأحكام السلطانية، ولعلها «رفع» . [4] كذا فى الأحكام السلطانية. وفى الأصل، «ويقبحه ... » وهو تحريف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 285 فقد حكى أنّ امرأة أتت عمر بن الخطّاب رضى الله عنه فقالت: يا أمير المؤمنين، إن زوجى يصوم النهار ويقوم الليل، وأنا أكره أن أشكوه وهو يعمل بطاعة الله؛ فقال لها عمر: نعم الزوج زوجك! فجعلت تكرّر عليه القول، وهو يكرّر عليها الجواب؛ فقال له كعب بن سور الأزدىّ [1] : يا أمير المؤمنين، هذه امرأة تشكو زوجها فى مباعدته إياها عن فراشه؛ فقال له عمر رضى الله عنه: كما فهمت كلامها فاقض بينهما؛ فقال كعب: علىّ بزوجها، فأتى به؛ فقال له: امرأتك هذه تشكوك؛ فقال الزوج: أفى طعام أو شراب؟ قال كعب: لا فى واحد منهما؛ فقالت المرأة: يأيّها القاضى الحكيم أرشده ... ألهى حليلى عن فراشى مسجده زهّده فى مضجعى تعبّده ... نهاره وليله ما يرقده فلست من أمر النّساء أحمده ... فاقض القضا يا كعب لا تردّده فقال الزوج: زهّدنى فى قربها وفى الحجل ... أنّى امرؤ أذهلنى ما قد نزل فى سورة النّحل وفى السّبع الطّول ... وفى كتاب الله تخويف جلل فقال كعب: إنّ لها حقّا عليك يا رجل ... نصيبها فى أربع لمن عقل فأعطها ذاك ودع عنك العلل ثم قال: إنّ الله سبحانه وتعالى قد أحلّ لك من النساء مثنى وثلاث ورباع، فلك ثلاثة أيّام ولياليهنّ تعبد فيهن ربّك، ولها يوم وليلة. فقال عمر رضى الله عنه   [1] كذا فى الكامل لابن الأثير (ج 2 ص 440 طبع مدينه ليدن) والطبرى فى غير موضع (طبع ليدن أيضا) والكامل للمبرد (طبع ليبسج) . وفى الأصل: «كعب بن سور الأسدى» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 286 لكعب: ما أدرى من أى أمريك أعجب! أمن فهمك أمرهما، أم من حكمك بينهما! [اذهب [1]] فقد ولّيتك القضاء بالبصرة. وهذا القضاء من كعب والإمضاء من عمر إنما كان حكما بالجائز دون الواجب؛ لأن الزوج لا يلزمه أن يقسم للزوجة الواحدة ولا يجيبها الى الفراش اذا أصابها دفعة واحدة. فدلّ هذا على أن لوالى المظالم أن يحكم بالجائز دون الواجب. ذكر توقيعات متولى المظالم وما يترتّب عليها من الأحكام قال الماوردىّ: اذا وقّع ناظر المظالم فى قصص المتظلّمين اليه بالنظر بينهم، لم يخل حال الموقّع اليه من أحد أمرين: إما أن يكون واليا على ما وقّع به اليه أو غير وال عليه. فان كان واليا عليه، كتوقيعه الى القاضى بالنظر بينهما، فلا يخلو حال ما تضمّنه التوقيع من أحد أمرين: إمّا أن يكون إذنا بالحكم، أو إذنا بالكشف والوساطة. فإن كان إذنا بالحكم، جاز له الحكم بينهما بأصل الولاية، ويكون التوقيع تأكيدا لا يؤثّر فيه قصور معانيه. وإن كان إذنا بالكشف للصّورة أو التوسّط بين الخصمين [فإن كان فى التوقيع بذلك نهيه عن الحكم فيه لم يكن له أن يحكم بينهما [2]] وكان هذا النهى عزلا عن الحكم بينهما، وكان على عموم ولايته فيمن عداهما [3] . وإن لم ينهه فى التوقيع عن الحكم بينهما غير أنّه أمره بالكشف، فقد قيل: يكون نظره [4] على عمومه فى جواز حكمه بينهما؛ لأن أمره ببعض ما اليه لا يكون منعا من غيره؛   [1] زيادة عن الأحكام السلطانية. [2] وردت هذه الجملة التى بين القوسين فى الأصل هكذا: «فقد نهاه عن الحكم فيه ولم يكن له أن يحكم بينهما» وهو لا يستقيم مع سياق الكلام. وما أثبتناه عن الأحكام السلطانية. [3] فى الأصل: «فيما عداهما» وما أثبتناه عن الأحكام السلطانية. [4] فى الأصل: «يكون وطره ... » وهو تحريف، والتصويب عن الأحكام السلطانية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 287 وقيل بل يكون ممنوعا من الحكم بينهما مقصورا على ما تضمّنه التوقيع من الكشف والوساطة؛ لأنّ فحوى التّوقيع دليل عليه. ثم ينظر، فإن كان التوقيع بالوساطة، لم يلزمه إنهاء الحال اليه بعد الوساطة، وإن كان بكشف الصورة، لزمه إنهاء حالها اليه؛ لأنه استخبار منه فيلزمه إجابته عنه. فهذا حكم توقيعه الى من اليه الولاية. وأما إن وقع الى من لا ولاية له، كتوقيعه الى فقيه أو شاهد، فلا يخلو حال توقيعه من ثلاثة أحوال: أحدها أن [يكون بكشف الصورة، والثانى أن يكون بالوساطة، والثالث أن يكون بالحكم. فإن كان التوقيع [1]] بكشف الصورة، فعليه أن يكشفها وينهى منها ما يصحّ أن يشهد به، ليجوز لناظر المظالم الحكم به. فإن أنهى ما يجوز أن يشهد به، كان خبرا لا يجوز أن يحكم به، ولكن يجعله ناظر المظالم من الأمارات التى يغلّب بها [حال [2]] أحد الخصمين فى الإرهاب وفضل الكشف. فإن كان التوقيع بالوساطة، توسّط بينهما. فإن أفضت الوساطة الى صلح الخصمين لم يلزمه إنهاؤها، وكان شاهدا فيها، متى استدعى للشهادة أدّاها. وإن لم تفص الوساطة الى صلحهما، كان شاهدا عليهما فيما اعترفا به عنده، يؤدّيه الى الناظر فى المظالم اذا طلب للشّهادة. وإن كان التوقيع بالحكم بينهما، فهذه ولاية يراعى فيها معانى التوقيع، ليكون نظره محمولا على موجبه. واذا كان كذلك فللتوقيع حالتان: إحداهما- أن يحال فيه الى إجابة الخصم الى ملتمسه، فيعتبر حينئذ فيه ما سأل الخصم فى قصّته ويصير النظر مقصورا عليه، فان سأل الوساطة أو كشف الصورة، كان التوقيع [موجبا له، وكان النظر مقصورا عليه. وسواء خرج التوقيع [3]]   [1] عن الأحكام السلطانية. [2] عن الأحكام السلطانية. [3] عن الأحكام السلطانية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 288 مخرج الأمر كقوله: «أجبه الى ملتمسه» ، أو خرج مخرج الحكاية كقوله: «رأيك فى إجابته الى ملتمسه موفّقا» ؛ لأنه لا يقتضى ولاية يلزم حكمها، فكان [1] أمرها أخف. وإن سأل المتظلّم فى قصته الحكم بينهما، فلا بدّ أن يكون الخصم فى القصّة مسمّى والخصومة مذكورة، لتصحّ الولاية عليها. فإن لم يسمّ الخصم ولم تذكر الخصومة، لم تصح [الولاية [2]] ، لأنها ليست ولاية عامّة فيحمل على عمومها [3] ، ولا خاصة للجهل بها. وإن سمّى رافع القصّة خصمه وذكر خصومته، نظر فى التوقيع بإجابته الى ملتمسه: فإن خرج مخرج الأمر فوقّع «أجبه الى ملتمسه واعمل بما التمسه» صحّت ولايته فى الحكم بينهما، وإن خرج مخرج الحكاية للحال فوقّع «رأيك فى إجابته الى ملتمسه موفّقا» ، فهذا التوقيع خارج فى الأعمال السّلطانية مخرج الأمر، والعرف باستعماله فيها معتاد. وأمّا فى الأحكام الدينيّة، فقد جوّزته طائفة من الفقهاء اعتبارا بالعرف، ومنعت طائفة أخرى من جوازه وانعقاد الولاية به حتى يقترن به أمر تنعقد ولايته به [4] ، اعتبارا بمعانى الألفاظ. فلو كان رافع القصّة سأل التوقيع بالحكم بينهما فوقّع بإجابته الى ملتمسه، فمن يعتبر العرف المعتاد، صحّت الولاية [عنده [5]] بهذا التوقيع، ومن اعتبر معانى الألفاظ لم تصحّ [عنده [6]] به. والحالة الثانية من التوقيعات- ألّا [7] يقتصر فيه على إجابة الخصم الى ما سأل، ويستأنف فيه الأمر بما تضمنه، فيصير ما تضمنه التوقيع هو المعتبر فى الولاية.   [1] فى الأصل: «وكان ... » ولكن حسن السياق يقتضى ما أثبتناه عن الأحكام السلطانية. [2] الزيادة عن الأحكام السلطانية. [3] فى الأصل «فيحتمل عمومها» وما أثبتناه عن الأحكام السلطانية. [4] كذا فى الأحكام السلطانية. وفى الأصل: «حتى يقترن به أمر ينعقد بولايته» . [5] زيادة وضعناها لاستقامة الكلام. [6] زيادة وضعناها لاستقامة الكلام. [7] فى الأصل: «ان لم ... » . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 289 وإذا كان كذلك، فله ثلاثة أحوال: حال كمال، وحال جواز، وحال يخرج عن الأمرين. فأما الحال التى يكون التوقيع فيها كاملا فى صحة الولاية، فهو أن يتضمّن شيئين: أحدهما الأمر بالنظر، والثانى الأمر بالحكم، فيذكر فيه: «انظر بين رافع هذه القصّة وبين خصمه، واحكم بينهما بالحقّ وموجب الشرع» . [فاذا كانت كذلك [1]] جاز، لأن الحكم لا يكون إلا بالحقّ الذى يوجبه حكم الشرع. وإنما يذكر ذلك فى التوقيعات وصفا لا شرطا. فإن كان التوقيع جامعا لهذين الأمرين من النظر والحكم، فهو النظر الكامل، ويصحّ به التقليد والولاية. وأمّا الحال التى يكون بها التوقيع جائزا مع قصوره عن حال الكمال، فهو أن يتضمّن الأمر بالحكم دون النّظر، فيذكر فى توقيعه: «احكم بين رافع هذه [القصّة [2]] وبين خصمه» ، أو يقول: «اقض بينهما» ، فتصحّ الولاية بذلك؛ لأن الحكم بينهما لا يكون الا بعد تقدّم النّظر، فصار الأمر به متضمّنا للنظر، لأنه لا يخلو منه. وأمّا الحال التى يكون التوقيع بها خاليا من كمال وجواز، فهو أن يذكر فيه: «انظر بينهما» ؛ فلا تنعقد بهذا التوقيع ولاية، لأن النظر بينهما قد يحتمل الوساطة الجائزة ويحتمل الحكم اللازم؛ وهما فى الاحتمال سواء، فلم تنعقد به مع الاحتمال ولاية. فإن ذكر فيه: «انظر بينهما بالحق» فقد قيل: إنّ الولاية به منعقدة، لأنّ الحق مالزم؛ وقيل لا تنعقد به، لأن الصلح والوساطة حقّ وإن لم يلزم. فهذه نبذة كافية فيما يتعلّق بنظر المظالم. وقد يقع لهم من الوقائع والمخاصمات والقرائن ما لم نذكره، فيجرى الحال فيها بحسب الوقائع والقرائن؛ وانما هذه أصول سياسية وقواعد فقهيّة فيحمل الأمر من أشباهها على منوالها، ويحذى فى أمثالها على مثالها. والله الموفّق.   [1] التكملة عن الأحكام السلطانية. [2] التكملة عن الأحكام السلطانية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 290 الباب الثالث عشر من القسم الخامس من الفن الثانى فى نظر الحسبة وأحكامها قال أبو الحسن الماوردىّ- رحمه الله-: والحسبة هى أمر بالمعروف اذا ظهر تركه، ونهى عن المنكر اذا ظهر فعله. قال الله عز وجل: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ. [ شروط ناظر الحسبة ] ومن شروط ناظر الحسبة أن يكون حرّا، عدلا، ذا رأى وصرامة وخشونة فى الدّين، وعلم [1] بالمنكرات الظاهرة. واختلف الفقهاء [من [2]] أصحاب الشافعىّ: هل يجوز له أن يحمل الناس، فيما ينكره من الأمور التى اختلف الفقهاء فيها، على رأيه واجتهاده، أم لا، على وجهين: أحدهما- وهو قول أبى سعيد الإصطخرىّ- أنّ له أن يحمل ذلك [3] على رايه واجتهاده؛ فعلى هذا يجب أن يكون المحتسب عالما من أهل الاجتهاد فى أحكام الدين، ليجتهد رأيه فيما اختلف فيه. والوجه الثانى- أنه ليس له أن يحمل الناس على رأيه ولا يقودهم الى مذهبه، لتسويغ [4] اجتهاد الكافّة فيما اختلف فيه. فعلى هذا يجوز أن يكون المحتسب من غير أهل الاجتهاد اذا كان عارفا بالمنكرات المتّفق عليها.   [1] كذا فى الأحكام السلطانية، وفى الأصل: «وعالم ... » . [2] زيادة عن الأحكام السلطانية. [3] المناسب أن يكون بدل «ذلك» «الناس» . [4] فى الأصل: «بتسويغ ... » وما أثبتناه عن الأحكام السلطانية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 291 ذكر الفرق بين المحتسب والمتطوّع قال: والفرق بين المحتسب والمتطوّع من تسعة أوجه: أحدها- أنّ فرضه متعيّن على المحتسب بحكم الولاية، وفرضه على غيره داخل فى فرض الكفاية. والثانى- أنّ قيام المحتسب به من حقوق تصرّفه الذى لا يجوز أن يتشاغل عنه بغيره؛ وقيام المتطوّع به من نوافل عمله الذى يجوز أن يتشاغل عنه بغيره. والثالث- أنه منسوب الى الاستعداء اليه فيما يجب إنكاره؛ وليس المتطوّع منسوبا الى الاستعداء. والرابع- أنّ على المحتسب إجابة من استعداه؛ وليس على المتطوّع إجابته. والخامس- أنّ عليه أن يبحث عن المنكرات الظاهرة ليصل الى إنكارها، ويفحص عما ترك من المعروف الظاهر ليأمر بإقامته؛ وليس على المتطوّع بحث ولا فحص. والسادس- أنّ له أنّ يتّخذ على الإنكار أعوانا، لأنه عمل هو له منصوب، واليه مندوب، ليكون له أقهر، وعليه أقدر؛ وليس للمتطوّع أن يندب لذلك عونا. والسابع- أنّ له أن يعزّر فى المنكرات الظاهرة ولا يتجاوز بها الحدود؛ وليس للمتطوّع أن يعزّر عليها. والثامن- أنّ له أن يرزق على حسبته من بيت المال؛ ولا يجوز للمتطوّع أن يرزق على إنكار منكر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 292 والتاسع- أنّ له اجتهاد رأيه فيما تعلّق بالعرف دون الشّرع، كالمقاعد فى الأسواق وإخراج الأجنحة، فيقرّ وينكر من ذلك ما أدّاه اليه اجتهاده؛ وليس هذا للمتطوّع. فهذا هو الفرق بين متولّى الحسبة وبين المتطوّعة، وإن اتّفقا على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. ذكر أوضاع الحسبة وموافقتها للقضاء وقصورها عنه وزيادتها عليه، وموافقتها لنظر المظالم وقصورها عنه قال: واعلم أنّ الحسبة واسطة بين أحكام القضاء وأحكام المظالم. فأمّا ما بينها وبين القضاء، فهى موافقة للقضاء من وجهين، ومقصّرة عنه من وجهين، وزائدة عليه من وجهين. أما الوجهان فى موافقتها أحكام القضاء- فأحدهما جواز الاستعداء اليه. وسماعه دعوى المستعدى على المستعدى عليه [1] من حقوق الآدميين، وليس فى عموم الدعاوى. وإنما يختصّ بثلاثة أنواع من الدعوى: أحدها: أن يكون فيما تعلّق ببخس وتطفيف فى كيل أو وزن. والثانى: فيما تعلّق بغشّ أو تدليس فى مبيع أو ثمن. والثالث: فيما تعلّق بمطل وتأخير لدين مستحقّ مع المكنة. وإنما جاز نظره فى هذه الأنواع الثلاثة من الدعاوى دون ما عداها، لتعلّقها بمنكر ظاهر هو منصوب لإزالته، واختصاصها بمعروف بيّن هو مندوب الى إقامته. وليس له أن يتجاوز ذلك الى الحكم الناجز والفصل الباتّ. فهذا أحد وجهى الموافقة.   [1] كذا فى الأحكام السلطانية. وفى الأصل: «وسماعه دعوى المستعدى عليه على المستعدى» وهو تحريف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 293 والوجه الثانى- أنّ له إلزام المدّعى عليه الخروج من الحقّ الذى عليه. وليس هذا على العموم فى كل الحقوق، وإنما هو خاصّ فى الحقوق التى جاز له سماع الدعوى فيها اذا وجبت باعتراف وإقرار مع الإمكان واليسار، فيلزم المقرّ الموسر الخروج منها ودفعها الى مستحقّها، لأنّ فى تأخيره لها منكرا هو منصوب لإزالته. وأما الوجهان فى قصورها عن أحكامه: فأحدهما- قصورها عن سماع الدعاوى الخارجة عن ظواهر المنكرات من الدعاوى فى العقود والمعاملات وسائر الحقوق والمطالبات، فلا يجوز أن ينتدب لسماع الدعوى ولا أن يتعرّض للحكم فيها لا فى كثير الحقوق ولا قليلها من درهم فما دونه، إلا أن يردّ ذلك اليه بنصّ صريح [يزيد على إطلاق الحسبة [1]] فيجوز له. ويصير بهذه الزيادة جامعا بين القضاء والحسبة، فيراعى فيه أن يكون من أهل الاجتهاد. وإن اقتصر به على مطلق الحسبة، فالقضاة والحكّام أحقّ بالنظر فى قليل ذلك وكثيره. والوجه الثانى- أنها مقصورة على الحقوق المعترف بها. فأمّا ما تداخله جحد وإنكار، فلا يجوز له النظر فيها، لأن الحكم فيها يقف على سماع بيّنة وإحلاف يمين، ولا يجوز للمحتسب أن يسمع بيّنة على إثبات حقّ، ولا أن يحلف يمينا على نفيه؛ والقضاة والحكّام لسماع البينات وإحلاف الخصوم أحقّ. وأما الوجهان فى زيادتها على أحكام القضاء- فأحدهما: أنه يجوز للناظر فيها أن يتعرّض لتصفّح ما يأمر به من المعروف وينهى عنه من المنكر، وإن لم يحضره خصم مستعد؛ وليس للقاضى أن يتعرّض لذلك إلا بعد حضور خصم   [1] التكملة من الأحكام السلطانية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 294 يجوز له سماع الدعوى منه. فإن تعرّض القاضى لذلك فقد خرج عن منصب ولايته وصار متجوّزا فى قاعدة نظره. والثانى- أنّ للناظر فى الحسبة من سلاطة السّلطنة واستطالة الحماة فيما تعلّق بالمنكرات ما ليس للقضاة؛ لأنّ الحسبة موضوعة على الرّهبة، فلا يكون خروج المحتسب إليها بالسّلاطة والغلظة تجوّزا فيها ولا خرقا. والقضاء موضوع للمناصفة فهو بالأناة والوقار أخصّ، وخروجه عنهما الى السّلاطة تجوّز وخرق، لأنّ موضوع كلّ واحد من المنصبين مختلف، فالتجاوز فيه خروج عن حدّه. وأمّا ما بين الحسبة والمظالم من موافقة ومخالفة وأمّا ما بين الحسبة والمظالم- فبينهما شبه مؤتلف، وفرق مختلف. فأما الشّبه الجامع بينهما فمن وجهين: أحدهما- أنّ موضوعهما على الرّهبة المختصّة بسلاطة السّلطنة وقوّة الصّرامة. والثانى- جواز التعرّض فيهما لأسباب المصالح والتّطلّع الى إنكار العدوان الظّاهر. وأمّا الفرق بينهما فمن وجهين: أحدهما- أنّ النّظر فى المظالم موضوع لما عجز عنه القضاة، والنظر فى الحسبة موضوع لما رفّه عنه القضاة؛ ولذلك كانت رتبة المظالم أعلى، ورتبة الحسبة أخفض، وجاز لوالى المظالم أن يوقّع الى القضاة والمحتسبة، ولم يجز للقاضى أن يوقّع الى والى المظالم وجاز له أن يوقّع الى المحتسب، ولم يجز للمحتسب أن يوقّع الى واحد منهما. فهذا فرق. والثانى- أنه يجوز لوالى المظالم أن يحكم، ولا يجوز ذلك للمحتسب. وحيث قدّمنا هذه المقدّمة فى أوضاع الحسبة، فلنذكر ما تشتمل عليه ولايتها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 295 ذكر ما تشتمل عليه ولاية نظر الحسبة وما يختص بها من الأحكام ونظر الحسبة يشتمل على فصلين: أحدهما أمر بمعروف، والثانى نهى عن منكر. فأمّا الأمر بالمعروف فينقسم الى ثلاثة أقسام: أحدها ما تعلّق بحقوق الله عز وجل. والثانى ما تعلّق بحقوق الآدمييّن. والثالث ما كان مشتركا بينهما، على ما سنوضح ذلك. فأما المتعلق بحقوق الله تعالى فضربان: أحدهما- ما يلزم الأمر به فى الجماعة دون الانفراد، كترك الجمعة فى وطن مسكون؛ فإن كانوا عددا قد اتّفق على انعقاد الجمعة بهم كالأربعين فما زاد، فواجب أن يأخذهم بإقامتها ويأمرهم بفعلها ويؤدّب على الإخلال بها. وإن كانوا عددا قد اختلف فى انعقاد الجمعة بهم، فله ولهم أربعة أحوال: إحداها- أن يتّفق رأيه ورأى القوم على انعقاد الجمعة بذلك العدد، فواجب عليه أن يأمرهم بإقامتها، وعليهم أن يسارعوا الى أمره بها، ويكون فى تأديبهم على تركها ألين منه فى تأديبهم على ترك ما انعقد الإجماع عليه. والحال الثانية- أن يتّفق رأيه ورأى القوم على أنّ الجمعة لا تنعقد بهم، فلا يجوز أن يأمرهم بإقامتها ولا بالنهى عنها لو أقيمت. والحال الثالثة- أن يرى القوم انعقاد الجمعة بهم ولا يراه المحتسب، فلا يجوز له أن يعارضهم فيها: فلا يأمر بإقامتها لأنه لا يراه، ولا ينهى عنها ويمنعهم مما يرونه فرضا عليهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 296 والحال الرابعة- أن يرى المحتسب انعقاد الجمعة بهم ولا يراه القوم، فهذا مما فى استمرار تركه تعطيل الجمعة مع تطاول الزمان وبعده وكثرة العدد وزيادته، فهل للمحتسب أن يأمرهم بإقامتها اعتبارا بهذا المعنى، أم لا؟ فقد اختلف الفقهاء فى ذلك على وجهين: أحدهما- وهو قول أبى سعيد الإصطخرىّ- أنه يجوز له أن يأمرهم بإقامتها اعتبارا بالمصلحة، لئلّا ينشأ الصغير على تركها فيظنّ أنها تسقط مع زيادة العدد كما تسقط بنقصانه؛ فقد راعى زياد بن أبيه مثل هذا فى صلاة الناس فى جامعى البصرة والكوفة، فإنهم كانوا اذا صلّوا فى صحبه فرفعوا من السّجود مسحوا جباههم من التّراب، فأمر بإلقاء الحصى فى صحن المسجد، وقال: لست آمن أن يطول الزمان فيظنّ الصغير اذا نشأ أنّ مسح الجبهة من أثر السجود سنّة فى الصلاة. والوجه الثانى- أنه لا يتعرّض لأمرهم بها، لأنه ليس له حمل الناس على اعتقاده [1] ، ولا أن يأخذهم فى الدين برأيه، مع تسويغ الاجتهاد فيه، وأنّهم يعتقدون أنّ نقصان العدد يمنع من إجزاء الجمعة. فأمّا أمرهم بصلاة العيد فله أن يأمرهم بها. وهل يكون الأمر بها من الحقوق اللازمة أو من الحقوق الجائزة؟ على وجهين من اختلاف أصحاب الشافعى فيها: هل هى مسنونة أو من فروض الكفاية. فإن قيل: إنها مسنونة، كان الأمر بها ندبا؛ وإن قيل: إنها من فروض الكفاية، كان الأمر بها حتما. فأمّا صلاة الجماعة فى المساجد وإقامة الأذان فيها للصلوات، فمن شعائر الإسلام وعلامات متعبّداته التى فرّق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين دار الإسلام ودار الشّرك. فإذا أجمع أهل محلّة أو بلد على تعطيل الجماعات فى مساجدهم وترك الأذان   [1] كذا فى الأحكام السلطانية. وفى الأصل «على انعقاده» وهو تحريف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 297 فى أوقات صلواتهم، كان المحتسب مندوبا الى أمرهم بالأذان والجماعة فى الصلوات. وهل ذلك واجب عليه يأثم بتركه، أو مستحبّ له يثاب على فعله. فأمّا من ترك صلاة الجماعة من آحاد الناس أو ترك الأذان والإقامة لصلاة، فلا اعتراض للمحتسب عليه اذا لم يجعله عادة وإلفا، لأنها من النّدب الذى يسقط بالأعذار، إلا أن يقترن به استرابة أو يجعله إلفا وعادة، ويخاف تعدّى ذلك الى غيره فى الاقتداء به، فيراعى حكم المصلحة فى زجره عمّا استهان به من سنن عبادته. ويكون وعيده على ترك الجماعة معتبرا بشواهد حاله، كالذى روى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لقد هممت أن آمر أصحابى أن يجمعوا حطبا وآمر بالصلاة فيؤذّن لها وتقام ثم أخالف الى منازل قوم لا يحضرون الصلاة فأحرقّها عليهم» . وأما ما يأمر به آحاد الناس وأفرادهم، فكتأخير الصلاة حتى يخرج وقتها، فيذكّر بها ويؤمر بفعلها [1] . ويراعى جواب المأمور عنها، فإن قال: تركتها لنسيان، حثّه على فعلها بعد ذكره ولم يؤدّبه. وإن تركها لتوان أدّبه زجرا وأخذه بفعلها جبرا. ولا اعتراض على من أخّرها والوقت باق، لاختلاف الفقهاء فى فضل التأخير. ولكن لو اتّفق أهل بلد على تأخير صلاة الجماعات الى آخر وقتها والمحتسب يرى فضل تعجيلها، فهل له أن يأمرهم بالتعجيل أولا. فمن رأى أنه يأمرهم بذلك، راعى أنّ اعتياد تأخيرها وإطباق جميع الناس عليه مفض الى أن الصغير ينشأ وهو يعتقد أن هذا هو الوقت دون ما قبله؛ ولو عجّلها بعضهم ترك من أخّرها منهم وما يراه من التأخير.   [1] مرجع الضمير «الفرد» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 298 فأمّا الأذان والقنوت فى الصّلوات اذا خالف فيه رأى المحتسب فلا اعتراض له فيه بأمر ولا نهى وإن كان يرى خلافه، اذا كان ما يفعل مسوّغا فى الاجتهاد. وكذلك الطهارة اذا فعلها على وجه سائغ يخالف فيه [1] رأى المحتسب: من إزالة النجاسة بالمائعات، والوضوء بماء تغيّر بالمذرورات الطاهرات، أو الاقتصار على مسح أقلّ الرأس، والعفو عن قدر الدرهم من النّجاسة، فلا اعتراض له فى شىء من ذلك بأمر ولا نهى. وفى اعتراضه عليهم فى الوضوء بالنبيذ عند عدم الماء وجهان، لما فيه من الإفضاء الى استباحته على كل الأحوال، وأنه ربما آل الى السكر من شربه. ثم على نظائر هذا المثال تكون أوامره بالعرف فى حقوق الله تعالى. وأما الأمر بالمعروف فى حقوق الآدميين فضربان: عام وخاص. فأمّا العام- فكالبلد اذا تعطّل شربه، أو استهدم سوره، أو كان يطرقه بنو السبيل من ذوى الحاجات فكفّوا عن معونتهم، فإن كان فى بيت المال مال، لم يتوجّه عليهم فيه أمر بإصلاح شربهم وبناء سورهم ولا بمعونة بنى السبيل فى الاجتياز بهم؛ لأنها حقوق تلزم بيت المال دونهم؛ وكذلك لو استهدمت مساجدهم وجوامعهم. فأما اذا أعوز بيت المال، كان الأمر ببناء سورهم، وإصلاح شربهم، وعمارة مساجدهم وجوامعهم، ومراعاة بنى السبيل فيهم متوجّها الى كافّة ذوى المكنة منهم ولا يتعيّن أحدهم فى الأمر به. فإن شرع ذوو المكنة فى عمله ومراعاة بنى السبيل، وباشروا القيام به، سقط عن المحتسب حقّ الأمر به. ولا يلزمهم الاستئذان فى مراعاة بنى السبيل، ولا فى بناء ما كان مهدوما. ولكن لو أرادوا هدم ما يريدون بناءه من   [1] فى الأصل: «على وجه سائغ مخالف فيها» وقد أثبتنا ما فى الأحكام السلطانية لوضوح استقامته. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 299 المسترمّ والمستهدم [1] ، لم يكن لهم الإقدام على هدمه إلا باستئذان ولىّ الأمر دون المحتسب، ليأذن لهم فى هدمه بعد تضمينهم القيام بعمارته. هذا فى السّور والجوامع. وأمّا المساجد المختصرة فلا يستأذنون فيها. وعلى المحتسب أن يأخذهم ببناء ما هدموه، وليس له أن يأخذهم بإتمام ما استأنفوه. فأمّا اذا كفّ ذوو المكنة عن بناء ما استهدم، فإن كان المقام فى البلد ممكنا وكان الشّرب وإن فسد مقنعا، تاركهم وإيّاه. وإن تعذّر المقام فيه، لتعطّل شربه واندحاض سوره، نظر: فإن كان البلد ثغرا يضرّ بدار الإسلام تعطيله، لم يجز لولىّ الأمر أن يفسح فى الانتقال عنه، [وكان حكمه حكم النوازل اذا حدثت: فى قيام كافّة ذوى المكنة به [2]] ، وكان تأثير المحتسب فى مثل هذا إعلام السلطان به وترغيب أهل المكنة فى عمله. وإن لم يكن البلد ثغرا مضرّا بدار الإسلام، كان أمره أيسر وحكمه أخفّ. ولم يكن للمحتسب أن يأخذ أهله جبرا بعمارته، لأن السلطان أحقّ أن يقوم بعمارته. وإن أعوزه المال، فيقول لهم المحتسب: ما دام عجز السلطان عنه أنتم مخيّرون بين الانتقال عنه أو التزام ما ينصرف فى مصالحه التى يمكن معها دوام استيطانه. فإن أجابوا الى التزام ذلك، كلّف جماعتهم ما تسمح به نفوسهم من غير إجبار، ويقول: ليخرج كلّ واحد منكم ما يسهل عليه وتطيب به نفسه، ومن أعوزه المال أعان بالعمل. حتى اذا اجتمعت كفاية المصلحة أو تعين [3] اجتماعها بضمان كل واحد من أهل المكنة قدرا طاب به نفسا، شرع حينئذ فى عمل المصلحة وأخذ كلّ واحد من الجماعة بما التزم به. وإن عمّت هذه المصلحة،   [1] المسترم: ما دعا الى رمّه وإصلاحه من البناء. والمستهدم: ما يريد أن يتهدم وينقض. [2] وردت هذه الجملة التى بين القوسين فى الأصل هكذا: «وان كان حكمه حكم النوازل اذا حدثت فى قيامه وكافة ذوى المكنة به» وقد اثبتنا ما ورد فى الأحكام السلطانية لاستقامته. [3] فى الأحكام السلطانية: «أو يلوح ... » . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 300 لم يكن للمحتسب أن يتقدّم بالقيام بها حتى يستأذن السلطان فيها، لئلا يصير بالتفرّد مفتاتا [عليه [1]] ، اذ ليست هذه المصلحة من معهود حسبته. فإن قلّت وشقّ استئذان السلطان فيها أو خيف زيادة الضّرر لبعد استئذانه، جاز شروعه فيها من غير استئذان. هذا أمر العامّ. فأمّا الخاص- فكالحقوق اذا مطلت والديون اذا أخّرت، فللمحتسب أن يأمر بالخروج منها مع المكنة اذا استعداه أصحاب الحقوق. وليس له أن يحبس عليها، لأن الحبس حكم. وله أن يلازم عليها، لأنّ لصاحب الحقّ أن يلازم. وليس له الأخذ بنفقات الأقارب، لافتقار ذلك الى اجتهاد شرعىّ فيمن يجب له وعليه، الا أن يكون الحاكم قد فرضها فيجوز أن يأخذ بأدائها؛ وكذلك كفالة من تجب كفالته من الصغار لا اعتراض له فيها حتى يحكم بها الحاكم؛ ويجوز حينئذ للمحتسب أن يأمر بالقيام بها على الشروط المستحقّة فيها. فأمّا قبول الوصايا والودائع، فليس له أن يأمر بها أعيان الناس وآحادهم، ويجوز أن يأمر بها على العموم، حثّا على التعاون بالبرّ والتقوى. ثم على هذا المثال تكون أوامره بالمعروف فى حقوق الآدميين. وأما الأمر بالمعروف- فيما كان مشتركا بين حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين كأخذ الأولياء بإنكاح الأيامى من أكفائهن اذا طلبن، وإلزام النساء أحكام العدد اذا فورقن. وله تأديب من خالف فى العدّة من النساء، وليس له تأديب من امتنع من الأولياء. ومن نفى ولدا قد ثبت فراش أمّه ولحوق نسبه، أخذه بأحكام الآباء جبرا   [1] زيادة عن الأحكام السلطانية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 301 وعزّره على النفى أدبا. ويأخذ السّادة بحقوق العبيد والإماء، وألّا يكلّفوا من الأعمال ما لا يطيقون. وكذلك أرباب البهائم يأخذهم بعلوفتها اذا قصّروا فيها، وألا يستعملوها فيما لا تطيق. ومن أخذ لقيطا فقصّر فى كفالته، أمره أن يقوم بحقوق التقاطه: من التزام كفالته أو تسليمه الى من يلتزمها ويقوم بها. وكذلك واجد الضّوالّ اذا قصّر فيها أخذه بمثل ذلك من القيام بها أو تسليمها الى من يقوم بها، ويكون ضامنا للضالّة بالتقصير ولا يكون به ضامنا للّقيط. واذا سلّم الضالّة الى غيره ضمنها، ولا يضمن اللقيط بالتسليم. ثم على نظائر هذا المثال يكون أمره بالمعروف فى الحقوق المشتركة. وأما النهى عن المنكرات- فينقسم الى ثلاثة أقسام: أحدها ما كان من حقوق الله تعالى. والثانى ما كان من حقوق الآدميين. والثالث ما كان مشتركا بين الحقّين. فأما النهى عنها فى حقوق الله تعالى- فعلى ثلاثة أقسام: أحدها ما تعلّق بالعبادات. والثانى ما تعلّق بالمحظورات. والثالث ما تعلّق بالمعاملات. فأما المتعلق بالعبادات- فكالقاصد مخالفة هيئتها المشروعة، والمتعمّد تغيير أوصافها المسنونة، مثل من يقصد الجهر فى صلاة الإسرار والإسرار فى صلاة الجهر، أو يزيد فى الصلاة أو فى الأذان أذكارا غير مسنونة، فللمحتسب إنكارها وتأديب المعاند فيها اذا لم يقل بما ارتكبه إمام متبوع. وكذلك اذا أخلّ بتطهير جسده أو ثوبه أو موضع صلاته، أنكره عليه اذا تحقّق ذلك منه، ولا يؤاخذه بالتّهم والظنون. وكذلك لو ظنّ برجل أنه يترك الغسل من الجنابة أو يترك الصلاة والصيام، لم يؤاخذه بالتّهم ولم يقابله بالإنكار. لكن يجوز له بالتهمة أن يعظ ويحذّر من عذاب الله تعالى على الجزء: 6 ¦ الصفحة: 302 إسقاط حقوقه والإخلال بمفروضاته. فإن رآه يأكل فى شهر رمضان لم يقدم على تأديبه إلا بعد سؤاله عن سبب أكله اذا التبست أحواله؛ فربما كان مريضا أو مسافرا. ويلزمه السؤال اذا ظهرت منه أمارات الرّيب. فإن ذكر من الأعذار ما تحتمله حاله، كفّ عن زجره وأمره بإخفاء أكله، لئلا يعرّض نفسه للتّهمة. ولا يلزمه إحلافه عند الاسترابة بقوله، لأنه موكول الى أمانته. وإن لم يذكر عذرا، جاهر بالإنكار عليه وأدّبه أدب زجر. واذا علم عذره فى الأكل، أنكر عليه المجاهرة به، لتعريض نفسه للتّهمة ولئلا يقتدى به من ذوى الجهالة من لا يميّز حال عذره من غيره. وأمّا الممتنع من إخراج زكاته، فإن كان من الأموال الظاهرة، فعامل الصّدقة بأخذها [1] منه جبرا أخصّ من المحتسب. وإن كان من الأموال الباطنة، فيحتمل أن يكون المحتسب أخصّ بالإنكار عليه من عامل الصدقة، لأنه لا اعتراض للعامل [2] فى الأموال الباطنة؛ ويحتمل أن يكون العامل بالإنكار عليه أخصّ، لأنه لو دفعها اليه أجزأه. ويكون تأديبه معتبرا بشواهد حاله فى الامتناع من إخراج زكاته. وإن ذكر أنه يخرجها، سرّا وكل الى أمانته فيها. وإن رأى رجلا يتعرّض لمسألة الناس وطلب الصّدقة وعلم أنه غنىّ إما بمال أو عمل، أنكره عليه وأدّبه. ولو رأى عليه آثار الغنى وهو يسأل الناس، أعلمه تحريمها على المستغنى عنها، ولم ينكر عليه، لجواز أن يكون فى الباطن فقيرا. واذا تعرّض للمسألة ذو جلد وقوّة على العمل، زجره وأمره أن يتعرّض للاحتراف بعمله؛ فإن أقام على المسألة عزّره حتى يقلع عنها. واذا دعت   [1] كذا فى الأحكام السلطانية. وفى الأصل «يأخذ منه» وهو تحريف. [2] فى الأصل: «فانه لا اعتراض على العامل ... » وما أثبتناه عن الأحكام السلطانية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 303 الحال، عند إلحاح من حرّمت عليه [المسألة [1]] بمال أو عمل، أن ينفق على ذى المال جزءا من ماله، ويؤاجر ذا العمل وينفق عليه من أجرته، لم يكن للمحتسب أن يفعل ذلك بنفسه؛ لأن هذا حكم، والحكّام به أحقّ، فيرفع أمره الى الحاكم ليتولّى ذلك أو يأذن فيه. واذا وجد فيمن يتصدّى للعلوم الشرعيّة من ليس من أهلها من فقيه أو واعظ ولم يأمن اغترار الناس به فى سوء تأويل أو تحريف، أنكر عليه التّصدّى لما ليس [هو [2]] من أهله، وأظهر أمره لئلا يغترّ به. وإن أشكل عليه أمره، لم يقدم عليه بالإنكار إلا بعد الاختبار. وكذلك لو ابتدع بعض المنتسبين الى العلم قولا خرق به الإجماع وخالف النصّ وردّ قوله [3] علماء عصره، أنكره عليه وزجره فإن أقلع وتاب، وإلّا فالسلطان بتهذيب الدّين أحقّ. وإذا تفرّد [4] بعض المفسرين لكتاب الله عز وجل بتأويل عدل فيه عن ظاهر التنزيل الى باطن بدعة بتكلّف له أغمض معانيه، أو انفرد بعض الرّواة بأحاديث مناكير تنفر منها النفوس أو يفسد بها التأويل، كان على المحتسب إنكار ذلك والمنع منه. وهذا إنما يصحّ منه إنكاره اذا تميّز عنده الصحيح من الفاسد والحقّ من الباطل. وذلك بأحد وجهين: إما أن يكون بقوّته فى العلم واجتهاده فيه، فلا يخفى ذلك عليه؛ وإمّا باتّفاق علماء الوقت على إنكاره وابتداعه، فيستعدونه فيه، فيعوّل فى الإنكار على أقاويلهم، وفى المنع منه على اتّفاقهم. وأمّا ما تعلّق بالمحظورات- فهو أن يمنع الناس من مواقف الرّيب ومظانّ لتّهم. فقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «دع ما يريبك الى   [1] زيادة عن الأحكام السلطانية. [2] زيادة عن الأحكام السلطانية. [3] فى الأصل: «وردّ قول علماء عصره أنكر ... » وما أثبتناه عن الأحكام السلطانية. [4] فى الأحكام السلطانية. «واذا تعرّض ... » . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 304 ما لا يريبك» . فيقدّم الإنكار، ولا يعجّل بالتأديب قبل الإنذار. وإذا رأى وقفة رجل مع امرأة فى طريق سابل لم تظهر منهما أمارات الرّيب، لم يعترض عليهما بزجر ولا إنكار، فما يجد الناس بدّا من هذا. وإن كانت الوقفة فى طريق خال، فخلوّ المكان ريبة، فينكرها؛ ولا يعجّل فى التأديب عليهما حذرا من أن تكون ذات محرم. وليقل: إن كانت ذات محرم فصنها عن مواقف الرّيب، وإن كانت أجنبيّة فخف الله تعالى من خلوة تؤدّيك الى معصية الله. وليكن زجره بحسب الأمارات. وليستخبر. فقد حكى أنّ عمر بن الخطّاب رضى الله عنه بينا هو يطوف بالبيت اذ رأى رجلا يطوف وعلى عنقه امرأة مثل المهاة حسناء جميلة، وهو يقول: عدت لهذى جملا ذلولا ... موطّا أتّبع السّهولا أعدلها بالكفّ أن تميلا ... أحذر أن تسقط أو تزولا أرجو بذاك نائلا جزيلا فقال له عمر: يا عبد الله، من هذه التى وهبت لها حجّك؟ فقال: امرأتى يا أمير المؤمنين! وإنها حمقاء مرغامه، أكول قامّه، لا يبقى لها خامّه [1] ؛ فقال له: مالك لا تطلّقها؟ فقال: إنها حسناء لا تفرك، وأمّ صبيان فلا تترك، قال: فشأنك بها. فلم يقدم عمر رضى الله عنه بالإنكار حتى استخبره، فلما انتفت عنه الرّيبة أقرّه على فعله. واذا جاهر رجل بإظهار الخمر، فإن كان من المسلمين، أراقها وأدّبه؛ وإن كان ذمّيّا أدّب على إظهارها، واختلف فى إراقتها عليه، فذهب أبو حنيفة الى   [1] المرغامة: المغضبة لبعلها. وقامّة: من قمّ ما على الخوان اذا لم يدع عليه شيئا. وخامّة: من خمّ اللحم وغيره اذا تغير وفسد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 305 أنها [لا [1]] تراق عليه، لأنها عنده من أموالهم المضمونة فى حقوقهم. وذهب الشافعىّ الى إراقتها عليهم، لأنها لا تضمن عنده فى حقّ المسلم ولا الكافر. وأمّا المجاهرة بإظهار النبيذ، فعند أبى حنيفة أنه من الأموال التى يقرّ المسلمون عليها، فمنع من إراقته [2] ومن التأديب على إظهاره. وعند الشافعىّ أنه ليس بمال كالخمر وليس فى إراقته غرم. فيعتبر ناظر الحسبة شواهد الحال فيه فينهى فيه [3] عن المجاهرة، ويزجر عليه إن كان لمعاقرة، ولا يريقه عليه، إلا أن يأمر بإراقته حاكم من أهل الاجتهاد، لئلا يتوجّه عليه غرم إن حوكم فيه. وأمّا السكران اذا تظاهر بسكره وسخف بهجره، ادّبه على السكر والهجر، تعزيرا لا حدّا، لقلة مراقبته وظهور سخفه. وأما المجاهرة بإظهار الملاهى المحرّمة، فعلى المحتسب أن يفصلها حتى تصير خشبا لتخرج [4] عن حكم الملاهى، ويؤدّب على المجاهرة بها، ولا يكسرها إن كان خشبها يصلح لغير الملاهى. وأمّا الّلعب فليس يقصد بها المعاصى، وإنما يقصد بها إلف البنات لتربية الأولاد، ففيها وجه من وجوه التدبير [تقارنه معصية، بتصوير ذوات الأزواج ومشابهة الأصنام؛ فللتمكين منها وجه، وللمنع منها وجه [1]] ؛ وبحسب ما تقتضيه   [1] التكملة عن الأحكام السلطانية. [2] فى الأصل «اراقتها» . [3] فى الأصل: «فينهى منه» وما أثبتناه عن الأحكام السلطانية. [4] فى الأصل: «تخرج ... » من غير لام، وقد أثبتناها استنادا على الأحكام السلطانية الذى فيه: «لتزول» بدل «تخرج» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 306 شواهد الأحوال يكون إنكاره وإقراره. وقد كانت عائشة رضى الله عنها فى صغرها تلعب بالبنات بمشهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينكره عليها. وأمّا ما لم يظهر من المحظورات [1] ، فليس للمحتسب أن يبحث عنها ولا أن يهتك الأستار فيها؛ فقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أتى من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله فإنه من يبد لنا صفحته نقم حدّ الله عليه» . فإن استتر أقوام لارتكاب محظور يخشى فواته مثل أن يخبره من يثق بصدقه أنّ رجلا خلا برجل ليقتله أو امرأة ليزنى بها، فيجوز له فى مثل هذه الحال أن يتجسّس ويقدم على الكشف والبحث، حذرا من فوات ما لا يستدرك من انتهاك المحارم وارتكاب المحظورات. وهكذا لو عرف ذلك قوم من المتطوّعة جاز لهم الإقدام على الكشف والإنكار. وأمّا ما هو دون هذه الرتبة، فلا يجوز التجسّس عليه ولا كشف الأستار عنه. وإن سمع أصوات ملاه منكرة من دار تظاهر أهلها بأصواتهم، أنكرها خارج الدار ولم يهجم عليها بالدخول. وأمّا ما تعلّق بالمعاملات المنكرة، كالرّبا والبيوع الفاسدة وما منع الشرع منه مع تراضى المتعاقدين به اذا كان متّفقا على حظره، فعلى والى الحسبة إنكاره والمنع منه والزجر عليه. وامره بالتأديب مختلف بحسب الأحوال وشدّة الحظر. فأما ما اختلف الفقهاء فى حظره وإباحته، فلا مدخل له فى إنكاره، إلا أن يكون مما يضعف الخلاف فيه وكان ذريعة [الى محظور متّفق عليه- كربا النّقدين: الخلاف فيه ضعيف، وهو ذريعة الى ربا النّساء المتّفق على تحريمه- فهل يدخل فى إنكاره، أم لا. وكذلك فى عقود الأنكحة ينكر منها ما اتّفق الفقهاء على حظرها،   [1] كذا فى الأحكام السلطانية، وفى الأصل: «وأما ما لم يظهر بالمحظورات» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 307 ولا يتعرّض لما اختلف فيه، إلا أن يكون مما ضعف الخلاف فيه وكان ذريعة الى محظور متفق عليه، كالمتعة فربما صارت ذريعة الى استباحة الزنا، ففى إنكاره لها وجهان. ومما يتعلّق بالمعاملات غشّ المبيعات وتدليس الأثمان، فينكره ويمنع منه ويؤدّب عليه بحسب الحال فيه؛ فقد روى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليس منّا من غشّ» وفى لفظ: «من غشّنا فليس منّا» . فإن كان هذا الغشّ تدليسا على المشترى وهو مما يخفى عليه، فهو أغلظ الغشوش تحريما وأعظمها مأثما، والإنكار عليه أغلظ والتأديب أشدّ. وإن كان مما لا يخفى على المشترى، كان أخفّ مأثما وألين إنكارا. وينظر فى المشترى: فإن كان اشتراه ليبيعه من [1] غيره، توجه الإنكار على البائع لغشّه، وعلى المشترى لابتياعه؛ لأنه قد يبيعه من لم [2] يعلم بغشه؛ وإن كان المشترى اشتراه ليستعمله، خرج من جملة الإنكار، واختص الإنكار بالبائع وحده. وكذلك فى تدليس الأثمان. ويمنع من تصرية [3] المواشى وتحفيل ضروعها عند البيع، للنّهى عنه وأنه نوع من التدليس. ومما هو عمدة نظره المنع من التطفيف والبخس فى المكاييل والموازين والصّنجات [4] ، لوعيد الله تعالى عليه بقوله: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ   [1] فى الأصل وفى نسخة من الأحكام السلطانية يشير اليها هامش التى بأيدينا: «ليبيعه على غيره» . وقد أثبتناه ما فى النسخة التى بأيدينا لأنه هو الذى يقتضيه المقام. [2] فى الأصل: «قد يبيعه على من ... » . [3] مصدر صرّى الناقة أو الشاة اذا حبس اللبن فى ضرعها ليكثر. [4] الصنجة والسنجة والسين أفصح: ما يوزن به كالأوقية والرطل، وجمعها صنجات كما أثبتنا استنادا الى ما فى الأحكام السلطانية وهو الوارد فى كتب اللغة، وفى الأصل: «الصنوج» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 308 يَسْتَوْفُونَ وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ . وليكن الأدب عليه أظهر، والمعاقبة فيه أكثر. ويجوز له اذا استراب بموازين السّوقة ومكاييلهم أن يختبرها ويعايرها [1] . ولو كان على ما عايره منها طابع معروف بين العامّة لا يتعاملون إلا به، كان أحوط وأسلم. فإن فعل ذلك وتعامل قوم بغير ما طبع عليه طابعه، توجّه الإنكار عليهم إن كان مبخوسا، من وجهين: أحدهما مخالفته فى العدول عن مطبوعه؛ وإنكاره لذلك من الحقوق السلطانية. والثانى للبخس والتطفيف؛ وإنكاره من الحقوق الشرعية. وإن كان ما تعاملوا به من غير المطبوع سليما من بخس ونقص، فإنكاره لمجرّد حق السلطنة للمخالفة. وإن زوّر قوم على طابعه، كالبهرج على طابع الدنانير والدراهم، فإن قرن التزوير بغشّ، كان التأديب مستحقّا من الوجهين، وهو أغلظ وأشدّ؛ وإن سلم من الغش كان الإنكار لحق السلطنة خاصّة. واذا اتّسع البلد حتى احتاج أهله الى عدّة من الكيّالين والوزّانين والنّقّاد، تخيّرهم ناظر الحسبة، ومنع أن ينتدب لذلك إلا من ارتضاه من الأمناء الثّقات. وكانت أجورهم من بيت المال إن اتّسع لها، فإن ضاق عنها قدّرها لهم، حتى لا تجرى [بينهم فيها [2]] استزادة أو نقصان، فيكون ذلك ذريعة الى الممايلة أو التّحيّف فى مكيل أو موزون. فإن ظهر من أحد ممن اختاره للكيل والوزن تحيّف فى تطفيف أو ممايلة فى زيادة، أدبّ وأخرج منهم ومنع من أن يتعرّض للوساطة بين الناس. وكذلك القول فى اختيار الدلّالين، يقرّ منهم الأمناء ويمنع الخونة. واذا وقع فى تطفيف تخاصم، جاز أن ينظر المحتسب فيه إن لم يقترن به تجاحد وتناكر، فإن أفضى الى تجاحد وتناكر، كان القضاة أحق بالنظر فيه من ولاة الحسبة،   [1] فى الأصل: «ويعتبرها» ، والتصويب عن الأحكام السلطانية. [2] زيادة عن الأحكام السلطانية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 309 لأنهم أحق بالأحكام، وكان التأديب فيه الى المحتسب. فإن ولّاه الحاكم جاز، لاتّصاله بحكمه. ومما ينكره المحتسب فى العموم ولا ينكره فى الخصوص والآحاد، التّبايع بما لم يألفه أهل البلد من المكاييل والأوزان التى لا تعرف فيه وإن كانت معروفة فى غيره. فإن تراضى بذلك اثنان، لم يعترض عليهما بالإنكار والمنع، ويمنع من عموم التعامل بها، لأنه قد يعاملهم فيها من لا يعرفها فيصير مغرورا. هذا ما يتعلّق بالنهى فى حقوق الله تعالى. وأما النهى فى حقوق الآدميين المحضة- مثل أن يتعدّى رجل فى حد لجاره، أو حريم لداره، أو وضع أجذاع على جداره، فلا اعتراض للمحتسب فيه ما لم يستعده الجار، لأنه حقّ يخصّه يصحّ منه العفو عنه والمطالبة به؛ فإن خاصمه فيه الى المحتسب، نظر فيه، ما لم يكن بينهما تنازع وتناكر، وأخذ المتعدّى بإزالة تعدّيه؛ وكان تأديبه عليه بحسب شواهد الحال. فإن تنازعا كان الحاكم بالنظر فيه أحقّ. ولو أقرّ الجار جاره على تعدّيه وعفا عن مطالبته بهدم ما تعدّى فيه ثم عاد وطالب بذلك، كان ذلك له، وأخذ المتعدّى بعد العفو عنه بهدم ما بناه. وإن كان قد ابتدأ البناء ووضع الأجذاع بإذن الجار ثم رجع الجار فى إذنه، لم يؤخذ البانى بهدمه. وإن انتشرت أغصان شجرة الى دار جاره، كان للجار أن يستعدى المحتسب حتى يعديه على صاحب الشجرة، ليأخذه بإزالة ما انتشر من أغصانها فى داره؛ ولا تأديب عليه لأن انتشارها ليس من فعله. ولو انتشرت عروق الشجرة تحت الارض حتى دخلت فى قرار أرض الجار، لم يؤخذ بقلعها ولم يمنع الجار من التصرّف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 310 فى قرار أرضه وإن قطعها. واذا نصب المالك تنّورا فى داره فتأذّى الجار بدخانه، لم يعترض عليه ولم يمنع منه. وكذلك لو نصب فى داره رحى أو وضع فيها حدّادين أو قصّارين، لم يمنع منه. واذا تعدّى مستأجر على أجير فى نقصان أجره أو زيادة عمل، كفّه عن تعدّيه؛ وكان الإنكار عليه معتبرا بشواهد حاله. ولو قصّر الأجير فى حق المستأجر فنقصه من العمل أو استزاده فى الأجرة، منعه منه وأنكره عليه اذا تخاصما اليه؛ فإن اختلفا وتناكرا، كان الحاكم بالنظر بينهما أحقّ. ومما يؤخذ ولاة الحسبة بمراعاته من أهل الصنائع فى الأسواق ثلاثة أصناف: منهم من يراعى عمله فى الوفور والتقصير، ومنهم من يراعى حاله فى الأمانة والخيانة، ومنهم من يراعى عمله فى الجودة والرّداءة. فأمّا من يراعى عمله فى الوفور والتقصير فكالطبّ والتعليم، لأن الطب إقدام على النفوس يفضى التقصير فيه الى تلف أو سقم. وللمعلمين من الطرائق التى ينشأ الصغار عليها ما يكون نقلهم عنه بعد الكبر عسيرا [1] ، فيقرّ منهم من توفّر علمه وحسنت طريقته، ويمنع من قصّر وأساء من التّصدّى لما تفسد به النفوس وتخبث به الآداب. وأما من يراعى حاله فى الأمانة والخيانة، فمثل الصّاغة والحاكة والقصّارين والصبّاغين، لأنهم ربما هربوا بأموال الناس، فيراعى أهل الثقة والأمانة منهم فيقرّهم ويبعد من ظهرت خيانته، ويشهر أمره، لئلا يغترّ به من لا يعرفه. وقد قيل: إن الحماة وولاة المعاون أخصّ بالنظر فى أحوال هؤلاء من ولاة الحسبة؛ وهو الأشبه، لأن الخيانة تابعة للسّرقة.   [1] عبارة الأصل: «والمعلمين من الطرائق التى ينشأ الصغار عليها فيكون نقلهم عنه ... » وفيها تحريف واضح. والتصويب عن الأحكام السلطانية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 311 وأمّا من يراعى عمله فى الجودة والرداءة فهو مما ينفرد بالنظر فيه ولاة الحسبة. ولهم أن ينكروا عليهم فى العموم فساد العمل ورداءته وان لم يكن فيه مستعد؛ وأما فى عمل مخصوص اعتمد الصانع فيه الفساد والتدليس، فاذا استعداه الخصم، قابل عليه بالإنكار والزجر، وإن تعلّق بذلك غرم روعى حال الغرم، فإن افتقر الى تقدير أو تقويم، لم يكن للمحتسب أن ينظر فيه، لافتقاره الى اجتهاد حكمىّ؛ وكان القاضى بالنظر فيه أحقّ. وإن لم يفتقر الى تقدير ولا تقويم واستحقّ فيه المثل الذى لا اجتهاد فيه ولا تنازع، فللمحتسب أن ينظر فيه بإلزام الغرم والتأديب. ولا يجوز أن يسعّر على الناس الأقوات ولا غيرها فى رخص ولا غلاء؛ وأجازه مالك- رحمه الله- فى الأقوات مع الغلاء. وأما النهى فى الحقوق المشتركة بين حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين، فكالمنع من الإشراف على منازل الناس. ولا يلزم من علىّ بناءه أن يستر سطحه، وإنما يلزمه ألّا يشرف على غيره. ويمنع أهل الذمة من تعلية أبنيتهم على أبنية المسلمين. فإن ملكوا أبنية عالية أقرّوا عليها ومنعوا من الإشراف منها على المسلمين وأهل الذمة. ويأخذ أهل الذمة بما شرط فى ذمتهم [1] من لبس الغيار والمخالفة فى الهيئة وترك المجاهرة بقولهم فى عزير والمسيح. ويمنع عنهم من تعرّض لهم من المسلمين بسبّ أو أذى، ويؤدّب عليه من خالف فيه.   [1] كذا فى الأحكام السلطانية، وفى الأصل: «من ذمتهم» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 312 وإذا كان فى أئمة المساجد السّابلة والجوامع الحافلة [1] من يطيل الصلاة حتى يعجز الضعفاء وينقطع بها ذوو الحاجات، أنكر ذلك؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين أطال الصلاة بقومه: «أفتّان أنت يا معاذ» . فإن أقام على الإطالة ولم يمتنع منها، لم يجز أن يؤدّبه عليها، ولكن يستبدل به من يخفّفها. وإذا كان فى القضاة من يحجب الخصوم اذا قصدوه، ويمتنع من النظر بينهم اذا تحاكموا اليه، حتى تقف الاحكام ويتضرّر الخصوم، فللمحتسب أن يأخذه، مع ارتفاع الأعذار، بما ندب له من النظر بين المتحاكمين وفصل القضاء بين المتنازعين، ولا يمنع علوّ رتبته من إنكار ما قصّر فيه. واذا كان فى سادة العبيد من يستعملهم فيما لا يطيقون الدوام عليه، كان منعهم والانكار عليهم موقوفا على استعداء العبيد، فاذا استعدوه منع حينئذ وزجر. وان كان فى أرباب المواشى من يستعملها فيما لا تطيق الدوام عليه، أنكره المحتسب عليهم ومنعهم منه وإن لم يكن فيه مستعد اليه. فإن ادّعى المالك احتمال البهيمة لما يستعملها فيه، جاز للمحتسب أن ينظر فيه، لأنه وإن افتقر الى اجتهاد فهو عرف يرجع فيه الى عرف الناس، وليس باجتهاد شرعىّ. وللمحتسب الاجتهاد فى العرف. واذا استعداه العبد من امتناع سيّده من كسوته ونفقته، جاز له أن يأمره بهما [2] ويأخذه بالتزامهما. ولو استعداه من تقصير سيّده فيهما، لم يكن له فى ذلك نظر ولا إلزام؛ [لأنه يحتاج فى التقدير الى اجتهاد شرعىّ، ولا يحتاج فى الزام [3]] الأصل الى اجتهاد شرعىّ، لأن التقدير غير منصوص عليه [ولزومه منصوص عليه [4]] .   [1] فى الأصل «والجوامع الحفلة» . [2] فى الأصل «بها» بضمير المفرد. [3] التكملة من الأحكام السلطانية. [4] التكملة من الأحكام السلطانية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 313 وللمحتسب أن يمنع أرباب السفن من حمل ما لا تسعه ويخاف منه غرقها. وكذلك يمنعهم من المسير عند اشتداد الريح. واذا حمل فيها الرجال والنساء، حجز بينهم بحائل. واذا اتّسعت السفن، نصب للنساء مخارج للبراز لئلا يتبرّجن عند الحاجة. واذا كان فى أهل الأسواق من يختصّ بمعاملة النساء، راعى المحتسب سيرته وأمانته، فإذا تحقّقها منه، أقرّه على معاملتهن. وإن ظهرت منه الرّيبة وبان عليه الفجور، منعه من معاملتهن، وأدّبه على التعرّض لهن. وقد قيل: إن الحماة وولاة المعاون أخصّ بإنكار هذا والمنع منه من ولاة الحسبة، لأنه من توابع الزنا. وينظر والى الحسبة فى مقاعد الأسواق، فيقرّ منها ما لا ضرر على المارّة فيه، ويمنع ما استضرّوا به. ولا يقف منعه على الاستعداء اليه. واذا بنى قوم فى طريق سابل، منع منه وإن اتّسع له الطريق، ويأخذهم بهدم ما بنوه ولو كان المبنىّ مسجدا؛ لأن مرافق الطّرق للسلوك لا للأبنية. واذا وضع الناس الأمتعة وآلات الأبنية فى مسالك الشوارع والأسواق ارتفاقا لينقلوه حالا بعد حال، مكّنوا منه إن لم يستضرّ به المارّة، ومنعوا منه إن استضرّوا به. وكذلك القول فى إخراج الأجنحة والسوابيط [1] ومجارى المياه وآبار الحشوش [2] ، يقرّ ما لم يضرّ، ويمنع ما ضرّ. ويجتهد المحتسب رأيه فيما ضرّ وما لم يضر، لأنه من الاجتهاد العرفىّ [دون الشرعىّ. والفرق بين الاجتهادين أنّ الاجتهاد الشرعىّ ما روعى فيه أصل ثبت حكمه بالشرع، والاجتهاد العرفىّ ما روعى فيه أصل ثبت حكمه بالعرف. ويوضح الفرق بينهما بتمييز ما يسوغ فيه اجتهاد المحتسب مما هو ممنوع من الاجتهاد [3] فيه] .   [1] السوابيط: جمع ساباط، والساباط: سقيفة بين دارين. [2] الحشوش: جمع حش مثلث الحاء، والحش: البستان. يطلق على بيت الخلاء كما هنا لما كان من عادتهم من التغوّط فى البساتين. [3] زيادة عن الأحكام السلطانية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 314 ولناظر الحسبة أن يمنع من ينقل الموتى من قبورهم إذا دفنوا فى ملك أو مباح، إلا من أرض مغصوبة، فيكون لمالكها أن يأخذ من دفنهم فيها بنقلهم منها. واختلف فى جواز نقلهم من أرض قد لحقها سيل أو ندى، فجوّزه الزّبيرىّ وأباه غيره. ويمنع من خصاء الآدميين وغيرهم. ويؤدّب عليه؛ وإن استحقّ فيه قود أو دية استوفاه لمستحقّه ما لم يكن فيه تناكر وتنازع. ويمنع من خضاب الشّيب بالسواد إلا لمجاهد فى سبيل الله تعالى. ويؤدّب من يصبغ [1] به [للنساء] . ولا يمنع من الخضاب بالحنّاء والكتم [2] . ويمنع من التكسّب بالكهانة، ويؤدّب عليه الآخذ والمعطى. وهذا فصل يطول شرحه، لأن المنكرات لا ينحصر عددها فتستوفى. وفيما تقدّم منها كفاية؛ والأحوال تؤخذ بنظائرها وأشباهها، فلا نطوّل بسردها. وفقنا الله وإياك لصالح العمل، وجنّبنا موارد الخطأ ومصادر الزلل؛ وأعان كلّ وال على ما ولّاه، وكلّ راع على ما استرعاه، بمنّه وكرمه ولطفه.   [1] فى الأصل: «تصنع به» وهو تحريف، والتصويب والزيادة عن الأحكام السلطانية. [2] الكتم بالتحريك: من نبات الجبال، ورقه كورق الآس يخضب به مدقوقا وله ثمر كثمر الفلفل. كمل الجزء السادس من كتاب «نهاية الأرب فى فنون الأدب» يتلوه- إن شاء الله تعالى- فى الجزء السابع الباب الرابع عشر من القسم الخامس من الفنّ الثانى فى الكتابة وما تفرّع منها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 315 [مقدمة الجزء السابع] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فقد تم بمعونة الله وحسن توفيقه تصحيح السفر السابع من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب. وقد بذلنا وسعنا، وغاية جهدنا، في سبيل إظهاره للقرّاء سليما من التحريف والتصحيف، اللذين ملئت بهما أصوله التي بين أيدينا، وهى نسخة واحدة، مأخوذة بالتصوير الشمسى محفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم 2570 تاريخ- فلم ندع فيه- بحسب الطاقة- لفظا محرّفا إلا أصلحناه، ولا كلاما ناقصا غير متصل الأجزاء إلا رجعنا اليه فى مظانه وأكملناه ولا علما من الأعلام إلا عنينا بتحقيقه وضبطه، ولا لفظا غريبا إلا فسرناه، ولا عبارة غامضة المعنى إلا أوضحنا الغرض منها، ولا بيتا يستغلق فهمه على القارئ إلا شرحناه ونسبناه إلى قائله، ولا اسم مكان أو بلد إلا نقلنا باختصار ما كتبه العلماء عنه، ولا لفظا يلتبس على القارئ إلا ضبطناه بما يزيل التباسه. ومما هو جدير بالذكر والشكر هذه العناية الكبيرة التى كان يبذلها عن طيب نفس ذلك المدير الحازم، والمربى الفاضل، حضرة صاحب العزة الأستاذ محمد أسعد بك برادة مدير دار الكتب المصرية، فقد كان حفظه الله يختلف إلينا الجزء: مقدمةج 7 ¦ الصفحة: 1 فى أكثر الأيام، ويبذل لنا من نصائحه الغالية وارشاداته القويمة ما يبعث فى نفوسنا الجدّ في العمل، والسعى فى إتقانه، ولا يفوتنا فى هذه الكلمة أن نشكر أيضا حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير السيد محمد على الببلاوى مراقب إحياء الآداب العربية بالدار لما كان يبذله لنا من الإعانة على عملنا بمعلوماته الثمينة عن البحوث ومراجعها، والكتب وأغراضها ومكان الفائدة منها، والله نسأل أن يجعل عملنا خالصا لوجهه إنه قريب مجيب. مصححه أحمد الزين. الجزء: مقدمةج 7 ¦ الصفحة: 2 فهرس الجزء السابع من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويرى يتضمن ما يشتمل عليه من الأبواب والفصول ورسائل الكتاب وخطب البلغاء .... صفحة الباب الرابع عشر من القسم الخامس من الفن الثانى فى الكتابة وما تفرّع من أصناف الكتاب أصل الكتابة 1 وأما شرفها 1 وأما فوائدها 2 ثم الكتابة بحسب من يحترفون بها على أقسام 4 ذكر كتابة الإنشاء وما اشتملت عليه من البلاغة والايجاز الخ 4 فأما البلاغة 4 وأما الفصاحة 6 ذكر صفة البلاغة 7 ومن أمثالهم فى البلاغة 9 فصول من البلاغة 10 جمل من بلاغات العجم وحكمها 11 صفة الكاتب وما ينبغى أن يأخذ به نفسه 12 وأما ما ينبغى للكاتب أن يأخذ به نفسه 13 الجزء: مقدمةج 7 ¦ الصفحة: 3 وأما ما قيل فى حسن الخط وجودة الكتابة ومدح الكتّاب والكتاب 14 ذكر شىء مما قيل فى آلات الكتابة 19 ذكر شىء مما قيل فى القلم 20 ذكر ما يحتاج الكاتب الى معرفته من الأمور الكلية 27 وأما الأمور الخاصة التى تزيد معرفتها قدره الخ 35 فأما علوم المعانى والبيان والبديع 35 وأما الحقيقة والمجاز 37 وأما التشبيه 38 وأما الاستعارة 49 فصل فيما تدخله الاستعارة وما لا تدخله 52 فصل فى أقسام الاستعارة 56 وأما الكناية 59 وأما التعريض 60 وأما التمثيل 60 وأما الخبر وأحكامه 61 وأما التقديم والتأخير 63 فصل فى مواضع التقديم والتأخير- أما التقديم 69 وأما التأخير 70 وأما الفصل والوصل 70 وأما الحذف والاضمار 75 فصل فى حذف المبتدا والخبر 77 فصل- الإضمار على شريطة التفسير الخ 79 وأما مباحث إن وإنما. أما إنّ 80 وأما إنما 83 الجزء: مقدمةج 7 ¦ الصفحة: 4 فصل- اذا دخل ما وإلا على الجملة المشتملة على المنصوب الخ 84 وأما النظم 87 وأما التجنيس- فمنه المستوفى التام 90 ومنه المختلف 91 ومنه المذيّل 91 ومنه المركّب 92 ومن أنواع المركب المرفق 92 ومنه المزدوج 93 ومن أجناس التجنيس المصحف 93 ومنه المضارع 94 ومنه المشوّش 94 ومنه تجنيس الاشتقاق 95 ومما يشبه المشتق 95 ومن أجناس التجنيس تجنيس التصريف 96 ومنها التجنيس المخالف 97 ومنها تجنيس المعنى 97 وأما الطباق 98 وأما المقابلة 101 وأما السجع 103 وأما الترصيع 104 وأما المتوازى 104 وأما المطرّف 105 وأما المتوازن 105 فصل فى الفقر المسجوعة ومقاديرها 107 الجزء: مقدمةج 7 ¦ الصفحة: 5 وأما رد العجز على الصدر 109 وأما الإعنات 113 وأما المذهب الكلاميّ 114 وأما حسن التعليل 115 وأما الالتفات 116 وأما التمام 118 وأما الاستطراد 119 وأما تأكيد المدح بما يشبه الذم 121 وأما تأكيد الذم بما يشبه المدح 122 وأما تجاهل العارف 123 وأما الهزل الذى يراد به الجدّ 124 وأما الكنايات 124 وأما المبالغة 124 وأما عتاب المرء نفسه 125 وأما حسن التضمين 126 وأما التلميح 127 وأما إرسال المثل 127 وأما ارسال مثلين 128 وأما الكلام الجامع 128 وأما اللف والنشر 129 وأما التفسير 129 وأما التعديد 130 وأما تنسيق الصفات 131 وأما الإيهام 131 الجزء: مقدمةج 7 ¦ الصفحة: 6 وأما حسن الابتداءات 133 وأما براعة التخليص 135 وأما براعة الطلب 135 وأما براعة المقطع 135 وأما السؤال والجواب 136 وأما صحة الأقسام 136 وأما التوشيح 137 وأما الإيغال 138 وأما الإشارة 140 وأما التذييل 140 وأما الترديد 141 وأما التفويف 141 وأما التسهيم 142 وأما الاستخدام 143 وأما العكس والتبديل 144 وأما الرجوع 144 وأما التغاير 145 وأما الطاعة والعصيان 146 وأما التسميط 147 وأما التشطير 147 وأما التطريز 148 وأما التوشيع 148 وأما الاغراق 149 وأما الغلوّ 149 الجزء: مقدمةج 7 ¦ الصفحة: 7 وأما القسم 150 وأما الاستدراك 151 وأما المؤتلفة والمختلفة 151 وأما التفريق المفرد 152 وأما الجمع مع التفريق 153 وأما التقسيم المفرد 153 وأما الجمع مع التقسيم 154 وأما التزاوج 154 وأما السلب والإيجاب 154 وأما الاطراد 155 وأما التجريد 156 وأما التكميل 157 وأما المناسبة 158 وأما التفريع 160 وأما نفى الشىء بإيجابه 163 وأما الإيداع 164 وأما الإدماج 164 وأما سلامة الاختراع 164 وأما حسن الاتباع 165 وأما الذم فى معرض المدح 166 وأما العنوان 166 وأما الإيضاح 169 وأما التشكيك 169 وأما القول بالموجب 170 الجزء: مقدمةج 7 ¦ الصفحة: 8 وأما القلب 171 وأما التندير 172 وأما الإسجال بعد المغالطة 173 وأما الافتنان 173 وأما الإبهام 174 وأما حصر الجزئىّ والحاقة بالكلىّ 174 وأما المقارنة 175 وأما الإبداع 175 وأما الانفصال 177 وأما التصرف 177 وأما الاشتراك 178 وأما التهكم 179 وأما التدبيج 180 وأما الموجّه 181 وأما تشابه الأطراف 181 وأما ما يتصل بذلك من خصائص الكتابة فالاقتباس الخ 182 وأما الاستشهاد بالآيات 183 وأما الحل 183 ذكر ما يتعين على الكاتب استعماله والمحافظة عليه والتمسك به وما يجوز فى الكتابة وما لا يجوز 185 واذا كتب فى التهانى بالفتوح 193 وأما التقاليد والمناشير والتواقيع وما يتعلق بذلك 201 ذكر شىء من الرسائل المنسوبة الى الصحابة رضى الله عنهم والتابعين وشىء من كلام الصدر الأوّل وبلاغتهم- فمن ذلك الرسالة المنسوبة الى أبى بكر الصديق رضى الله تعالى عنه إلى علىّ وما يتصل بها من كلام عمر بن الخطاب وجواب علىّ رضى الله عنهم 213 الجزء: مقدمةج 7 ¦ الصفحة: 9 ومن كلام عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها 230 ذكر شرح غريب رسالتها رضى الله عنها 232 ومن كلام على بن أبى طالب رضى الله عنه 233 ومن كلام الأحنف بن قيس 237 ومن كلام أم الخير بنت الحريش البارقية 241 خطبة الحجاج لما قدم البصرة 244 خطبته بعد وقعة دير الجماجم 245 ومن مكاتباته إلى المهلب بن أبى صفرة وأجوبة المهلب له 246 ومن كلام قطرى بن الفجاءة- خطبته فى ذم الدنيا 250 ومن كلام أبى مسلم الخراسانى 253 ومن كلام جماعة من أمراء الدولتين- خطبة ليوسف بن عمر 255 خطبة لخالد بن عبد الله القسرى 255 خطبة لأبى بكر بن عبد الله لما ولى المدينة 256 ذكر شىء من رسائل وفصول الكتاب والبلغاء المتقدمين والمتأخرين والمعاصرين من المشارقة والمغاربة 259 ذكر شىء من رسائل فضلاء المغاربة ووزرائهم وكتابهم- فمن ذلك رسالة ابن زيدون التى كتبها على لسان ولادة الى إنسان استمالها الى نفسه عنه 271 وقال أيضا فى رقعة خاطب بها ابن جهور 290 ومن كلام أبى عبد الله محمد بن أبى الخصال 303 ومن كلام الوزير الفقيه أبى القاسم محمد بن عبد الله بن الجد 304 ومن كلام أبى عبد الله محمد بن الخياط 306 ومن كلام أبى حفص عمر بن برد الأصغر الأندلسى 306 ومن كلام أبى الوليد بن طريف 308 ومن كلام ذى الوزارتين أبى المغيرة بن حزم 310 ومن كلام الوزير الكاتب أبى محمد بن عبد الغفور 311 الجزء: مقدمةج 7 ¦ الصفحة: 10 الكتب والمصادر التى رجعنا اليها فى تصحيح هذا الجزء وقد رتبناها على حروف المعجم إخبار العلماء بأخبار الحكماء للقفطىّ، أساس البلاغة للزمخشرى، الأمالى لأبى علىّ القالى، أقرب الموارد، أدب الكتاب للصولى، إرشاد السارى لشهاب الدين القسطلانى. البيان والتبيين للجاحظ. تحرير التحبير لابن أبى الإصبع، تاج العروس للسيد محمد مرتضى الزبيدى، تاريخ ابن جرير الطبرى، تاريخ أبى الفداء، تهذيب التهذيب فى أسماء الرجال للحافظ ابن حجر، تمام المتون فى شرح رسالة ابن زيدون للصفدى. الحماسة لأبى تمام، حسن التوسل إلى صناعة الترسل لشهاب الدين محمود الحلبي. خزانة الأدب لابن حجة الحموى، خلاصة تذهيب تهذيب الكمال فى أسماء الرجال للخزرجى. دلائل الإعجاز للجرجانىّ، ديوان أبى تمام، ديوان أبى الطيب المتنبى، ديوان أبى نواس، ديوان لبيد بن ربيعة، ديوان البحترى، ديوان امرئ القيس، ديوان أبى فراس الحمدانى، ديوان حسان بن ثابت رضى الله عنه. الذخيرة فى محاسن أهل الجزيرة لابن بسام. رسائل بديع الزمان الهمذانى. زهر الآداب للحصرى. سرح العيون فى شرح رسالة ابن زيدون لابن نباتة. الجزء: مقدمةج 7 ¦ الصفحة: 11 شذور العقود لابن الجوزى، شرح الباعونية، شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد، شرح رسائل بديع الزمان الهمذانى، شروح تلخيص المفتاح، شرح ديوان أبى تمام للخطيب التبريزى، شرح شواهد المبانى. الشفاء للقاضى عياض، الشعر والشعراء لابن قتيبة، شرح ديوان امرئ القيس للبطليوسى. صبح الأعشى للقلقشندى، الصحاح للجوهرى، الصناعتين لأبى هلال العسكرى. العقد الفريد لابن عبد ربه، العمدة لابن رشيق القيروانى. فهرست ابن النديم. القاموس المحيط للفيروزبادى. لسان العرب لابن منظور. المفضليات للضبى، المعجب فى تلخيص أخبار المغرب لعبد الواحد بن على التميمى، المثل السائر لابن الأثير الجزرى، مجمع الأمثال للميدانى، المحاسن والأضداد للجاحظ، المشتبه فى أسماء الرجال للحافظ الذهبى، المصباح المنير للفيومى، معاهد التنصيص فى شرح شواهد التلخيص لعبد الرحيم العباسى، معجم الأدباء لياقوت، مختار الصحاح مغنى اللبيب لابن هشام، المقتضب من جمهرة النسب لياقوت، المضاف والمنسوب للثعالبى، محاضرة الأبرار لابن العربى، معلّقات العرب. نقد الشعر لقدامة بن جعفر، النهاية فى غريب الحديث لابن الأثير، نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويرى. وفيات الأعيان لابن خلكان، الوافى بالوفيات للصفدى. يتيمة الدهر للثعالبى. الجزء: مقدمةج 7 ¦ الصفحة: 12 الجزء السابع من نهاية الأرب فى فنون الأدب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [ تتمة الفن الثاني في الإنسان وما يتعلق به ] [تتمة القسم الخامس في الملك وما يشترط فيه و ... ] الباب الرابع عشر من القسم الخامس من الفن الثانى فى الكتابة وما تفرّع من أصناف الكتّاب ولنبدأ باشتقاق الكتابة، ولم سمّيت الكتابة كتابة، ثم نذكر شرفها وفوائدها، ثم نذكر ما عدا ذلك من أخبار المحترفين بها، وما يحتاج كلّ منهم إليه، فنقول وبالله التوفيق والإعانة: أصل الكتابة مشتقّ من الكتب وهو الجمع، ومنه سمّى الكتاب كتابا، لأنه يجمع الحروف، وسمّيت الكتيبة كتيبة، لأنها تجمع الجيش، وقد ورد فى المعارف: أن حروف المعجم أنزلت على آدم عليه السلام فى إحدى وعشرين صحيفة، وسنذكر من ذلك طرفا عند ذكرنا لأخبار آدم عليه السلام فى فنّ التاريخ، فهذا اشتقاقها. وأما شرفها - فقد نص الكتاب العزيز عليه، فقال تعالى- وهو أوّل ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن بغار حراء «1» فى شهر رمضان المعظّم-: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) «2» وقال تعالى: (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ) وقال تعالى فى وصف الملائكة: (كِراماً كاتِبِينَ) ، الى غير ذلك من الآى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 1 ومن شرف الكتابة نزول الكتب المتقدّمة مسطورة فى الصّحف كما ورد فى الصحف المنزلة على شيث وإدريس ونوح وابراهيم وموسى وداود وغيرهم صلّى الله عليهم كما أخبر به القرآن، قال الله تعالى: (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) وقال تعالى: (وَأَلْقَى الْأَلْواحَ) ، وما ورد فى الأخبار الصحيحة والأحاديث الصريحة أنه مكتوب على العرش وعلى أبواب الجنة ما صورته: لا إله إلا الله محمد رسول الله. وكفى بذلك شرفا. وأمّا فوائدها: فمنها رسم المصحف الكريم الموجود بين الدّفّتين فى أيدى الناس، ولولا ذلك لاختلف فيه ودخل الغلط وتداخل الوهم قلوب الناس. ومنها رقم الأحاديث المرويّة عن النبي صلّى الله عليه وسلم التى عليها بنيت الأحكام، وتميّز الحلال من الحرام، وضبط كتب العلوم المنقولة عن أعلام الإسلام وتواريخ من انقرض من الأنام فيما سلف من الأيام. ومنها حفظ الحقوق، ومنع تمرّد ذوى العقوق؛ بما يقع عليهم من الشّهادات ويسطّر عليهم من السجلّات التى أمر الله تعالى بضبطها بقوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) . ومنها المكاتبة بين الناس بحوائجهم من المسافات البعيدة، إذ لا ينضبط مثل ذلك برسول «1» ، ولا تنال الحاجة «2» به بمشافهة قاصد، ولو كان على ما عساه عليه يكون من البلاغة والحفظ لوجود المشقّة، وبعد الشقّة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 2 ومنها ضبط أحوال الناس، كمناشير الجند، وتواقيع العمّال، وإدرارات أرباب الصّلات فى سائر الأعمال، إلى ما يجرى هذا المجرى، فكان وجودها فى سائر الناس فضيلة، وعدمها نقيصة إلا فى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فانها إحدى معجزاته لأنه صلّى الله عليه وسلم أمّىّ [أتى] «1» بما أعجز البلغاء، وأخرس الفصحاء، وفلّ حدّ المؤرّخين من غير مدارسة كتب ولا ممارسة تعليم، ولا مراجعة لمن عرف بذلك واشتهر به. والكتابة العربية أشرف الكتابات لأن الكتاب العزيز لم يرقم بغيرها خلافا لسائر الكتب المنزّلة. وهذه الكتابة العربية أوّل «2» من اخترعها على الوضع الكوفىّ سكّان مدينة الأنبار «3» ، ثم نقل هذا القلم إلى مكة فعرف بها، وتعلّمه من تعلّمه، وكثر فى الناس وتداولوه، ولم تزل الكتابة به على تلك الصورة الكوفيّة إلى أيام الوزير أبى «4» علىّ بن مقلة، فعرّبها تعريبا غير كاف، ونقلها نقلا غير شاف، فكانت كذلك إلى أن ظهر علىّ بن هلال الكاتب المعروف بابن «5» البوّاب، فكمّل تعريبها، وأحسن تبويبها؛ وأبدع نظامها، وأكمل التئامها؛ وحلّاها بهجة وجمالا، وأولاها بل أولى بها منّة وإفضالا؛ وألبسها من رقم أنامله حللا، وجلاها للعيون فكان أوّل من أحسن فى ترصيعها وترصيفها عملا؛ ولا زال يتنوّع فى محاسنها، و «6» يتنوّع فى ترصيع عقود الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3 ميامنها؛ حتى تقرّرت على أجمل قاعدة، وتحرّرت على أكمل فائدة؛ وسنزيد ما قدّمناه من هذه الفصول وضوحا وتبيانا، ونقيم على تفصيل مجملها وبسط مدمجها أدلّة وبرهانا. [ثم الكتابة «1» بحسب من] يحترفون بها على أقسام: وهى كتابة الإنشاء، وكتابة الديوان والتصرّف، وكتابة الحكم والشروط، وكتابة النّسخ، وكتابة التعليم؛ ومنهم من عدّ فى الكتابة كتابة الشرط «2» ، ولم نرد ذكرها تنزيها لكتابنا عنها، ولا حكمة فى إيرادها. ولنبدأ بذكر كتابة الإنشاء وما يتعلّق بها. ذكر كتابة الإنشاء وما اشتملت عليه من البلاغة والإيجاز والجمع فى المعنى الواحد بين الحقيقة والمجاز؛ والتلعب بالألفاظ والمعانى والتوصّل إلى بلوغ الأغراض والأمانى ولنبدأ من ذلك بوصف البلاغة وحدّها والفصاحة: فأما البلاغة - فهى أن يبلغ الرجل بعبارته كنه ما فى نفسه. ولا يسمّى البليغ بليغا إلا إذا جمع المعنى الكثير فى اللفظ القليل، وهو المسمّى إيجازا. وينقسم الإيجاز إلى قسمين: إيجاز حذف، وهو أن يحذف شىء من الكلام وتدلّ عليه القرينة، كقوله تعالى: (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) والمراد أهل القرية وكقوله تعالى: (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى) والمراد ولكن البرّ برّ من اتقى، وكقوله تعالى: (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا) والمراد من قومه، وقوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) والمراد لا يطيقونه؛ ونظائر هذا وأشباهه كثير. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4 وإيجاز قصر، وهو تكثير المعنى وتقليل الالفاظ، كقوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم مما جمع فيه شرائط الرسالة: (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) وسمع أعرابىّ رجلا يتلوها فسجد وقال: سجدت لفصاحته، ذكره أبو عبيد. وقوله تعالى مما جمع فيه مكارم الأخلاق: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) وقوله تعالى: (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) فجمع فى ثلاث كلمات بين العنوان والكتاب والحاجة؛ وقوله تعالى: (قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) فجمع فى هذا على لسان النملة بين النداء والتنبيه والأمر والنهى «1» والتحذير والتخصيص والعموم والإشارة والإعذار؛ ونظير ذلك ما حكى عن الأصمعىّ أنه سمع جارية تتكلّم فقال لها: قاتلك الله، ما أفصحك! فقالت: أو يعدّ هذا فصاحة بعد قول الله تعالى: (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) فجمع فى آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين. ولما سمع الوليد بن المغيرة من النبى صلّى الله عليه وسلم قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) قال: والله إنّ له لحلاوة «2» ، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق «3» ، وإن أعلاه لمثمر، ما يقول هذا بشر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 5 وسمع آخر رجلا يقرأ: (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا) فقال: أشهد أنّ مخلوقا لا يقدر على مثل هذا الكلام. وقال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ: البيان اسم جامع لكل ما كشف لك من قناع المعنى، وهتك الحجاب عن الضمير، حتى يفضى السامع إلى حقيقة اللفظ ويهجم على محصوله كائنا ما كان. وقيل لجعفر بن يحيى: ما البيان؟ فقال: أن يكون اللّفظ محيطا بمعناك كاشفا عن مغزاك، وتخرجه من الشركة، ولا تستعين عليه بطول الفكرة، ويكون سليما من التّكلّف، بعيدا من سوء الصنعة، بريئا من التعقيد، غنيّا عن التأمّل. وقال آخر: خير البيان ما كان مصرّحا عن المعنى ليسرع إلى الفهم تلقّيه، وموجزا ليخفّ على اللسان تعاهده. وقال أعرابىّ: البلاغة التقرّب من معنى البغية، والتّبعّد من وحشىّ الكلام وقرب المأخذ، وإيجاز فى صواب، وقصد إلى الحجة، وحسن الاستعارة. قال على رضى الله عنه: البلاغة الإفصاح عن حكمة مستغلقة «1» ، وإبانة علم مشكل. وقال الحسن بن على رضى الله عنهما: البلاغة إيضاح الملتبسات، وكشف عورات الجهالات، بأحسن ما يمكن من العبارات. وأما الفصاحة - فهى مأخوذة من قولهم: أفصح اللبن إذا أخذت عنه الرّغوة. وقالوا: لا يسمّى الفصيح فصيحا حتى تخلص لغته عن اللّكنة الأعجميّة ولا توجد الفصاحة إلا فى العرب. وعلماء العرب يزعمون أن الفصاحة فى الألفاظ، والبلاغة فى المعانى، ويستدلّون بقولهم: لفظ فصيح، ومعنى بليغ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 6 ومن الناس من استعمل الفصاحة والبلاغة بمعنى واحد فى الألفاظ والمعانى والأكثرون عليه. ذكر صفة البلاغة قيل لعمرو بن عبيد: ما البلاغة؟ قال: ما بلّغك الجنّة، وعدل بك عن النار؛ قال السائل «1» : ليس هذا أريد؛ قال: فما بصّرك مواقع رشدك وعواقب غيّك؛ قال: ليس هذا أريد؛ قال: من لم يحسن أن يسكت لم يحسن أن يسمع، ومن لم يحسن أن يسمع لم يحسن أن يسأل، ومن لم يحسن أن يسأل لم يحسن أن يقول؛ قال: ليس هذا أريد؛ قال: قال النبى صلّى الله عليه وسلم: «إنّا «2» معشر النبيّين بكاء» - أى قليلوا الكلام، وهو جمع بكىء- وكانوا يكرهون أن يزيد منطق الرجل على عقله؛ قال السائل: ليس هذا أريد؛ قال: فكأنك تريد تخيّر اللفظ فى حسن إفهام؛ قال: نعم؛ قال: إنّك إن أردت تقرير حجّة الله فى عقول المتكلمين، وتخفيف المؤونة على المستمعين، وتزيين المعانى فى قلوب المستفهمين بالألفاظ الحسنة رغبة فى سرعة استجابتهم، ونفى الشّواغل عن قلوبهم بالمواعظ الناطقة عن الكتاب والسّنة كنت قد أوتيت فصل الخطاب. وقيل لبعضهم: ما البلاغة؟ قال: معرفة الوصل من الفصل. وقيل لآخر: ما البلاغة؟ قال: ألّا يؤتى القائل من سوء فهم السامع، ولا يؤتى السامع من سوء بيان القائل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 7 وقيل للخليل بن أحمد: ما البلاغة؟ فقال: ما قرب طرفاه، وبعد منتهاه. وقيل لبعض البلغاء: من البليغ؟ قال: الذى إذا قال أسرع، وإذا أسرع أبدع وإذا أبدع حرّك كلّ نفس بما أودع. وقالوا: لا يستحقّ الكلام اسم البلاغة حتى يكون معناه الى قلبك أسبق من لفظه إلى سمعك. وسأل معاوية صحارا «1» العبدىّ: ما هذه البلاغة؟ قال: أن تجيب فلا تبطئ وتصيب فلا تخطئ «2» . وقال الفضل: قلت لأعرابىّ: ما البلاغة؟ قال: الإيجاز فى غير عجز والإطناب فى غير خطل. وقال قدامة: البلاغة ثلاثة مذاهب: المساواة وهو مطابقة اللفظ المعنى لا زائدا ولا ناقصا؛ والإشارة وهو أن يكون اللفظ كاللّمحة الدالّة؛ والدليل وهو إعادة الألفاظ المترادفة على المعنى الواحد، ليظهر لمن لم يفهمه، ويتأكد عند من فهمه. قال بعض الشعراء: يكفى قليل كلامه وكثيره ... بيت إذا طال النّضال مصيب وقال أحمد بن محمد بن عبد ربّه صاحب العقد: البلاغة تكون على أربعة أوجه: تكون باللفظ والخط والإشارة والدّلالة، وكل وجه منها له حظ من البلاغة والبيان، وموضع لا يجوز فيه غيره، وربّ إشارة أبلغ من لفظ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 8 وقال رجل للعتّابىّ: ما البلاغة؟ قال: كلّ ما أبلغك حاجتك، وأفهمك معناه بلا إعادة ولا حبسة ولا استعانة فهو بليغ؛ قالوا: قد فهمنا الإعادة والحبسة، فما معنى الاستعانة؟ قال: أن يقول عند مقاطع الكلام: إسمع منّى، وافهم عنّى، أو يمسح عثنونه «1» ، أو يفتل أصابعه، أو يكثر التفاته، أو يسعل من غير سعلة، أو ينبهر «2» فى كلامه قال بعض الشعراء: ملىء ببهر والتفات وسعلة ... ومسحة عثنون وفتل الأصابع ومن كلام أحمد بن اسماعيل الكاتب المعروف بنطاحة «3» ، قال: البليغ من عرف السقيم من المعتلّ، والمقيّد من المطلق، والمشترك من المفرد، والمنصوص من المتأوّل، والإيماء من الإيحاء، والفصل من الوصل، والتلويح من التصريح. ومن أمثالهم فى البلاغة قولهم: يقلّ الحزّ «4» ويطبّق المفصل. وذلك أنهم شبهوا البليغ الموجز الذى يقلّ الكلام ويصيب نصوص المعانى «5» بالجزّار الرفيق الذى يقلّ حزّ اللحم ويصيب مفاصله؛ وقولهم: يضع الهناء مواضع النّقب، أى لا يتكلّم إلا فيما يجب الكلام فيه. والهناء: القطران. والنّقب: الجرب. وقولهم: قرطس «6» فلان فأصاب الغرّة، وأصاب عين القرطاس «7» . كلّ هذه أمثال للمصيب فى كلامه الموجز فى لفظه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 9 فصول من البلاغة قيل: لما قدم قتيبة بن مسلم خراسان واليا عليها، قال: من كان فى يده شىء من مال عبد الله بن حازم فلينبذه، ومن كان فى فيه فليلفظه، ومن كان فى صدره فلينفثه. فعجب الناس من حسن ما فصّل. وكتب المعتصم إلى ملك الروم جوابا عن كتاب تهدّده فيه: الجواب ما ترى لا ما تسمع (وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ «1» لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) . وقيل لأبى «2» السّمّال الأسدىّ أيام معاوية: كيف تركت الناس؟ قال: تركتهم بين مظلوم لا ينتصف، وظالم لا ينتهى. وقيل لشبيب بن شبّة عند باب الرشيد: كيف رأيت الناس؟ قال: رأيت الداخل راجيا، والخارج راضيا. وقال حسّان بن ثابت فى عبد الله بن عباس رضى الله عنهم: إذا قال لم يترك مقالا لقائل ... بملتقطات لا ترى بينها فضلا «3» كفى وشفى ما فى النفوس فلم يدع ... لذى إربة فى القول جدّا ولا هزلا قال سهل بن هارون: البيان ترجمان العقول، وروض القلوب؛ البلاغة ما فهمته العامّة، ورضيته الخاصّة؛ أبلغ الكلام ما سابق معناه لفظه؛ خير الكلام ما قلّ وجلّ، ودلّ ولم يملّ؛ خير الكلام ما كان لفظه فحلا، ومعناه بكرا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 10 وقال ابن المعتزّ: البلاغة أن تبلغ المعنى ولم تطل سفر الكلام؛ خير الكلام ما أسفر عن الحاجة؛ أبلغ الكلام ما يؤنس مسمعه، ويوئس «1» مضيّعه؛ أبلغ الكلام ما حسن إيجازه، وقلّ مجازه، وكثر إعجازه، وتناسبت صدوره وأعجازه؛ البلاغة ما أشار اليه البحترىّ حيث قال: وركبن اللّفظ القريب فأدركن ... به غاية المراد البعيد جمل من بلاغات العجم وحكمها قال أبرويز لكاتبه: إذا فكّرت فلا تعجل، وإذا كتبت فلا تستعن بالفضول فإنها علاوة على الكفاية، ولا تقصّرن عن التحقيق فإنها هجنة فى المقالة، ولا تلبسن كلاما بكلام، ولا تباعدنّ معنى عن معنى، واجمع الكثير مما تريد فى القليل مما تقول. ووافق كلامه قول ابن المعتزّ: ما رأيت بليغا إلا رأيت له فى المعانى إطالة وفى الألفاظ تقصيرا. وهذا حثّ على الإيجاز. وقال أبرويز أيضا لكاتبه: اعلم أن دعائم المقالات أربع إن التمس إليها «2» خامسة لم توجد، وإن نقص منها واحدة لم تتمّ وهى: سؤالك الشىء، وسؤالك عن الشىء، وأمرك بالشىء، وخبرك عن الشىء؛ فإذا طلبت فأنجح، وإذا سألت فأوضح، وإذا أمرت فأحكم، وإذا أخبرت فحقّق. وقال بهرام جور: الحكم ميزان الله فى الأرض. ووافق ذلك قول الله تعالى: (وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ) وقال أنوشروان لابنه هرمز: لا يكون عندك لعمل البرغاية فى الكثرة، ولا لعمل الإثم غاية فى القلّة. ووافق من كلام العرب قول الأفوه: والخير تزداد منه ما لقيت به ... والشر يكفيك منه قلّما زاد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 11 وقال أزدشير بن بابك: من لم يرض بما قسم الله له طالت معتبته، وفحش حرصه، ومن فحش حرصه ذلّت نفسه، وغلب عليه الحسد، ومن غلب عليه الحسد لم يزل مغموما فيما لا ينفعه، حزينا على ما لا يناله. وقال: من شغل نفسه بالمنى لم يخل قلبه من الأسى. وقال بعضهم: الحقوق أربعة: حقّ لله، وقضاؤه الرضا بقضائه، والعمل بطاعته، وإكرام أوليائه؛ وحقّ لنفسك، وقضاؤه تعهّدها بما يصلحها ويصحّها ويحسم موادّ الأذى عنها؛ وحقّ للنّاس، وقضاؤه عمومهم بالمودّة، ثم تخصيص كلّ امرئ منهم بالتوقير والتفضيل والصّلة؛ وحقّ للسلطان، وقضاؤه تعريفه بما خفى عليه من منفعة رعيّة، وجهاد عدوّ، وعمارة بلد، وسدّ ثغر. وقال بزرجمهر: إلزام الجهول الحجّة يسير، وإقراره بها عسير. [صفة الكاتب «1» ] وما ينبغى أن يأخذ به نفسه قال إبراهيم بن محمد الشيبانىّ: من صفة الكاتب اعتدال القامة، وصغر الهامة وخفة اللهازم «2» ، وكافة اللحية، وصدق الحسّ، ولطف المذهب، وحلاوة الشمائل وخطف الإشارة، وملاحة الزّىّ. وقال: من كمال آلة الكاتب أن يكون بهىّ الملبس، نظيف المجلس، ظاهر المروءة، عطر الرائحة، دقيق الذهن، صادق الحسّ حسن البيان، رقيق حواشى اللسان، حلو الإشارة، مليح الاستعارة، لطيف المسلك مستفره «3» المركب، ولا يكون مع ذلك فضفاض الجثّة، متفاوت الأجزاء، طويل اللحية الجزء: 7 ¦ الصفحة: 12 عظيم الهامة؛ فإنهم زعموا أن هذه الصورة لا يليق بصاحبها الذكاء والفطنة. قال بعض الشعراء: وشمول كأنما اعتصروها ... من معانى شمائل الكتّاب هذا ما قيل فى صفة الكاتب. وأما ما ينبغى للكاتب أن يأخذ به نفسه، فقد قال إبراهيم الشيبانىّ: أوّل ذلك حسن الخط الذى هو لسان اليد، وبهجة الضمير، وسفير العقول، ووحى الفكر، وسلاح المعرفة، وأنس الإخوان عند الفرقة، ومحادثتهم «1» على بعد المسافة ومستودع السرّ، وديوان الأمور. وقد قيل فى قوله تعالى: (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) : إنه الخطّ الحسن. وقد اختلف الكتّاب فى نقط الخطّ وشكله، فمنهم من كرهه قال سعيد بن حميد الكاتب: لأن يشكل الحرف على القارئ أحبّ إلىّ من أن يعاب الكاتب بالشكل. وعرض خطّ على عبد الله بن طاهر فقال: ما أحسنه لولا أنه أكثر شونيزه «2» ونظر محمد بن عبّاد إلى أبى عبيد وهو يقيّد البسملة فقال: لو عرفته ما شكلته. ومنهم من حمده فقال: حلّوا عواطل الكتب بالتقييد، وحصّنوها من شبه التصحيف والتحريف. وقيل: إعجام الكتب يمنع من استعجامها «3» ، وشكلها يصونها عن إشكالها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 13 قال الشاعر «1» : وكأنّ أحرف خطّه شجر ... والشكل فى أغصانه «2» ثمره «3» . وأما ما قيل فى حسن الخطّ وجودة الكتابة ومدح الكتّاب والكتاب. قال علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: الخط الحسن يزيد الحقّ وضوحا. وقال: حسن الخطّ إحدى البلاغتين. وقال عبيد الله بن العباس: الخط لسان اليد. وقال جعفر بن يحيى: الخطّ سمط «4» الحكمة، به تفصّل شذورها، وينتظم منثورها؛ وقال أبو هلال العسكرىّ: الكتب عقل شوارد الكلم ... والخطّ خيط فى يد الحكم والخطّ نظّم كلّ منتثر ... منها وفصّل كلّ منتظم والسيف وهو بحيث تعرفه ... فرض عليه عبادة القلم. وقد اختلف الناس فى الخطّ واللفظ، فقال بعضهم: الخطّ أفضل من اللفظ لأن اللفظ يفهم الحاضر، والخطّ يفهم الحاضر والغائب. قالوا: ومن أعاجيب الخطّ كثرة اختلافه والأصل فيه واحد، كاختلاف صور الناس مع اجتماعهم فى الصبغة. قال الصّولى «5» : سئل بعض الكتاب عن الخطّ متى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 14 يستحقّ أن يوصف بالجودة؟ قال: اذا اعتدلت أقسامه، وطالت ألفه ولامه؛ واستقامت سطوره، وضاهى سعوده حدوره؛ وتفتّحت عيونه، ولم تشتبه راؤه ونونه؛ وأشرق قرطاسه، وأظلمت أنقاسه «1» ، ولم تختلف أجناسه؛ وأسرع الى العيون تصوّره، والى القلوب ثمره «2» ؛ وقدّرت فصوله، [واندمجت «3» وصوله، وتناسب دقيقه وجليله] ؛ وتساوت أطنابه، واستدارت أهدابه؛ وخرج عن [نمط «4» الورّاقين] ، وبعد عن تصنّع المحرّرين؛ [وقام لكاتبه «5» مقام النسبة والحلية] وكان حينئذ كما قلت فى صفة الخطّ: اذا ما تخلّل قرطاسه ... وساوره القلم الأرقش «6» تضمّن من خطّه حلّة ... كمثل الدنانير أو أنقش حروف تكون لعين الكليل ... نشاطا ويقرؤها الأخفش «7» وقال ابن المعتزّ: إذا أخذ القرطاس خلت يمينه ... تفتّح نورا أو تنظّم جوهرا وقيل لبعضهم: كيف رأيت ابراهيم الصّولىّ؟ فقال: يؤلّف اللّؤلؤ المنثور منطقه ... وينظم الدرّ بالأقلام فى الكتب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 15 وقال آخر «1» : أضحكت قرطاسك عن جنّة ... أشجارها من حكم مثمره مسودّة سطحا ومبيضّة ... أرضا «2» كمثل الليلة المقمره وقال آخر: كتبت فلولا أن هذا محلّل ... وذاك حرام قست خطّك بالسحر فو الله ما أدرى أزهر خميلة ... بطرسك أم درّ يلوح على نحر فان كان زهرا فهو صنع سحابة ... وإن كان درّا فهو من لجج البحر وقال آخر: وكاتب يرقم فى طرسه ... روضا به ترتع ألحاظه فالدرّ ما تنظم أقلامه ... والسحر ما تنثر ألفاظه وقال آخر: وشاذن من بنى الكتّاب مقتدر ... على البلاغة أحلى الناس إنشاء فلا يجاريه فى ميدانه أحد ... يريك سحبان فى الإنشاء إن شاء وقال آخر: إن هزّ أقلامه يوما ليعملها ... أنساك كلّ كمىّ هزّ عامله «3» وإن أمرّ على رقّ «4» أنامله ... أقرّ بالرّق كتّاب الأنام له الجزء: 7 ¦ الصفحة: 16 وقال أبو الفتح كشاجم: واذا نمنمت بنانك خطّا ... معربا عن بلاغة وسداد عجب الناس من بياض معان ... تجتنى من سواد ذاك المداد وقال الممشوق «1» الشامىّ شاعر اليتيمة: لا يخطر الفكر فى كتابته ... كأنّ أقلامه لها خاطر القول والفعل يجريان معا ... لا أوّل فيهما ولا آخر قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ: الكتاب نعم الذّخر والعقدة «2» ، ونعم الجليس والعمدة، ونعم النّشرة «3» والنّزهة، ونعم المستغلّ والحرفة، ونعم الأنيس ساعة الوحدة ونعم المعرفة ببلاد الغربة، ونعم القرين والدّخيل، والوزير والنّزيل؛ والكتاب وعاء ملئ علما، وظرف حشى ظرفا، وإناء شحن مزاحا وجدّا، إن شئت كان أبين من سحبان وائل، وإن شئت كان أعيا من باقل، وإن شئت ضحكت من نوادره وعجبت من غرائب فوائده، وإن شئت ألهتك نوادره، وإن شئت شجتك مواعظه ومن لك بواعظ مله، وبزاجر مغر، وبناسك فاتك، وناطق أخرس، وببارد حارّ ومن لك بطبيب أعرابىّ، وبرومىّ «4» هندىّ، وفارسىّ يونانىّ، وبقديم مولّد، وبميت ممتع، ومن لك بشىء يجمع لك الأوّل والآخر، والناقص والوافر، والشاهد والغائب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 17 والرفيع والوضيع، والغثّ والسمين، والشكل وخلافه، والجنس وضدّه؛ وبعد: فمتى رأيت بستانا يحمل فى ردن «1» ؟ وروضة تقلّب فى حجر؟ ينطق عن الموتى، ويترجم كلام الأحيا، ومن لك بمؤنس لا ينام إلّا بنومك، ولا ينطق إلّا بما تهوى، «آمن من الأرض» وأكتم للسر من صاحب السرّ، وأضبط لحفظ الوديعة من أرباب الوديعة، وأحضر لما استحفظ من الأمّيين، ومن الأعراب المعربين، بل من الصّبيان قبل اعتراض الأشغال، ومن العميان قبل التمتّع بتمييز الأشخاص، حين العناية تامة لم تنتقص والأذهان فارغة لم تقتسم، والإرادات وافرة لم تستعتب «2» ، والطينة لينة فهى أقبل ما تكون للطابع، والقضيب رطب فهو أقرب ما يكون للعلوق، حين هذه الخصال لم يلبس جديدها، ولم تتفرّق قواها، وكانت كقول الشاعر: أتانى هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبى فارغا فتمكّنا وقال ذو الرمّة لعيسى بن عمر: اكتب شعرى، فالكتاب أعجب إلى من الحفظ لأن الأعرابىّ ينسى الكلمة قد تعب فى طلبها يوما أو ليلة، فيضع موضعها كلمة فى وزنها «3» لم ينشدها الناس، والكتاب لا ينسى ولا يبدّل كلاما بكلام. قال: ولا أعلم جارا أبرّ، ولا خليطا أنصف، ولا رفيقا أطوع، ولا معلّما أخضع، ولا صاحبا أظهر كفاية، ولا أقلّ خيانة، ولا أقلّ إبراما وإملالا، ولا أقل خلافا وإجراما ولا أقلّ غيبة، ولا أكثر أعجوبة وتصرّفا، ولا أقلّ صلفا وتكلّفا، ولا أبعد من مراء، ولا أترك لشغب، ولا أزهد فى جدال، ولا أكفّ عن قتال من كتاب؛ ولا أعلم شجرة أطول عمرا، ولا أجمع «4» أمرا، ولا أطيب ثمرة، ولا أقرب مجتنى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 18 ولا أسرع إدراكا، ولا أوجد فى كل إبان «1» من كتاب؛ ولا أعلم نتاجا فى حداثة سنة وقرب ميلاده، وحضور ذهنه، وإمكان موجوده، يجمع من التدابير العجيبة، والعلوم الغريبة، ومن آثار العقول الصحيحة، ومحمود الأذهان اللطيفة، ومن الأخبار عن القرون الماضية، والبلاد المتراخية، والأمثال السائرة، والأمم البائدة ما يجمع الكتاب؛ وقد قال الله تبارك اسمه لنبيه صلّى الله عليه وسلم: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ فوصف نفسه تعالى جدّه بأن علّم بالقلم، كما وصف به نفسه بالكرم، واعتد بذلك من نعمه العظام، وفى أياديه الجسام. ذكر شىء مما قيل فى آلات الكتابة قال ابراهيم بن محمد الشّيبانىّ فيما يحتاج إليه الكاتب: من ذلك أن يصلح الكاتب آلته التى لا بدّ منها، وأداته التى لا تتمّ صناعته إلا بها، وهى دواته، فلينعم «2» ربّها وإصلاحها، ثم يتخير من أنابيب «3» القصب أقلّه عقدا وأكثفه لحما، وأصلبه قشرا، وأعدله استواءا، ويجعل لقرطاسه سكّينا حادّا لتكون عونا له على برى أقلامه، ويبريها من جهة نبات القصبة، فان محلّ القلم من الكاتب كمحلّ الرمح من الفارس. وقد خصّ الفضلاء القلم بأوصاف كثيرة، ومزايا خطيرة فلنذكر منها طرفا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 19 ذكر شىء مما قيل فى القلم قال الله تعالى: ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ وقال: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. وقال الحكماء: القلم أحد اللسانين، وهو المخاطب للعيون بسرّ القلوب. وقالوا: عقول الرجال تحت أسنّة أقلامها. بنوء «1» الأقلام يصوب غيث الحكمة. القلم صائغ الكلام، يفرغ ما يجمعه القلب، ويصوغ ما يسبكه «2» اللّب. وقال جعفر بن يحيى: لم أر باكيا أحسن تبسما من القلم. وقال المأمون: لله درّ القلم كيف يحوك وشى المملكة!. وقال ثمامة بن أشرس: ما أثّرته الأقلام، لم تطمع فى درسه الأيام. بالأقلام تدبّر الأقاليم. كتاب المرء عنوان عقله، ولسان فضله. عقل الكاتب فى قلمه. وقال ابن المعتزّ: القلم مجهّز لجيوش الكلام، يخدم الإرادة كأنه يقبّل بساط سلطان، أو يفتّح نوّار بستان. وقال الحسن بن وهب: يحتاج الكاتب إلى خلال: منها جودة برى القلم وإطالة جلفته «3» ، وتحريف قطّته، وحسن التأتّى لامتطاء الأنامل، وإرسال المدّة بعد إشباع الحروف، والتحرّز عند فراغها من الكسوف، وترك الشكل على الخطإ والإعجام على التصحيف. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 20 وقال العتّابىّ: سألنى الأصمعىّ فى دار الرشيد: أىّ الأنابيب للكتابة أصلح وعليها أصبر؟ فقلت له: ما نشف «1» بالهجير ماؤه، وستره من تلويحه غشاؤه؛ من التّبريّة القشور، الدّرّيّة الظهور، الفضّيّة الكسور؛ قال: فأى نوع من البرى أصوب وأكتب؟ فقلت: البرية المستوية القطّة التى عن يمين سنها برية تؤمن معها المحبّة عند المدة والمطّة، للهواء فى شقّها فتيق، والريح فى جوفها خريق «2» ، والمداد فى خرطومها رقيق. قال العتابىّ: فبقى الأصمعى شاخصا إلىّ ضاحكا، لا يحير مسألة ولا جوابا. وكتب على بن الأزهر إلى صديق له يستدعى منه أقلاما: أما بعد: فإنا على طول الممارسة لهذه الكتابة التى غلبت على الاسم، ولزمت لزوم الوسم «3» ؛ فحلّت محل الأنساب، وجرت مجرى الألقاب؛ وجدنا الأقلام الصّحريّة «4» أجرى فى الكواغد «5» وأمرّ فى الجلود، كما أنّ البحريّة منها أسلس فى القراطيس، وألين فى المعاطف وأشد لتعريف «6» الخط فيها، ونحن فى بلد قليل القصب رديئه، وقد أحببت فى أن تتقدّم فى اختيار «7» أقلام صحريّة، وتتنوّق «8» فى اقتنائها قبلك، وتطلبها من مظانّها ومنابتها من شطوط الأنهار، وأرجاء الكروم، وأن تتيمّن «9» باختيارك منها الشديدة الصّلبة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 21 النقيّة الجلود، القليلة الشحوم، الكثيرة اللحوم، الضيقة الأجواف «1» ، الرزينة المحمل فإنها أبقى على الكتابة، وأبعد من الحفا، وأن تقصد بانتقائك للرقاق القضبان المقوّمات المتون، الملس المعاقد «2» ، الصافية القشور، الطويلة الأنابيب، البعيدة ما بين الكعوب، الكريمة الجواهر، المعتدلة القوام، المستحكمة يبسا وهى قائمة على أصولها، لم تعجل عن إبّان ينعها، ولم تأخّر إلى الأوقات المخوفة عليها من خصر «3» الشتاء وعفن الأنداء؛ فإذا استجمعت عندك أمرت بقطعها ذراعا ذراعا قطعا رقيقا، ثم عبأت منها حزما فيما يصونها من الأوعية، «4» [ووجّهتها مع من يؤدّى الأمانة فى حراستها وحفظها وإيصالها] وتكتب معها بعدّتها وأصنافها بغير تأخير ولا توان، إن شاء الله تعالى. وأهدى ابن الحرون «5» إلى بعض إخوانه أقلاما وكتب إليه: إنه لما كانت الكتابة- أبقاك الله- أعظم الأمور، وقوام الخلافة، وعمود المملكة أتحفتك من آلتها بما يخفف حمله، وتثقل قيمته، ويعظم نفعه، ويجلّ خطره، وهى أقلام من القصب النابت فى الصحراء الذى نشف بحرّ الهجير [فى قشره «6» ] ماؤه، وستره من تلويحه غشاؤه؛ فهى كاللآلئ المكنونة فى الصدف، والأنوار المحجوبة فى السدف «7» ؛ تبريّة القشور، درّية الظهور، فضية الكسور؛ قد كستها الطبيعة جوهرا كالوشى المحبّر، ورونقا «8» كاالديباج «9» المنيّر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 22 ومن كتاب لأبى الخطاب الصابى- يصف فيه أقلاما أهداها فى جملة أصناف- جاء منه: وأضفت إليها أقلاما سليمة من المعايب، مبرّأة من المثالب؛ جمّة المحاسن بعيدة عن المطاعن؛ لم يربها طول ولا قصر، ولم ينقصها ضعف ولا خور؛ ولم يشنهالين ولا رخاوة، ولم يعبها كزازة «1» ولا قساوة؛ فهذه «2» آخذة بالفضائل من جميع جهاتها، مستوفية للمادح بسائر صفاتها؛ صلبة المعاجم، ليّنة المقاطع؛ موفية القدود والألوان، محمودة المخبر والعيان؛ قد استوى فى الملاسة خارجها وداخلها، وتناسب فى السلاسة عاليها وسافلها؛ نبتت بين الشمس والظلّ، واختلف عليها الحرّ والقر؛ فلفحها «3» وقدان الهواجر، وسفعتها [سمائم «4» ] شهر ناجر «5» ؛ ووقذها الشّفّان «6» بصرده، وقذفها الغمام ببرده؛ وصابتها الأنواء بصيّبها، واستهلّت عليها السحائب بشآبيبها «7» ؛ فاستمرّت مرائرها «8» على إحكام، واستحصد سحلها «9» بالإبرام؛ جاءت شتّى «10» الشيات، متغايرة الهيئات، متباينة المحالّ والبلدان؛ تختلف بتباعد ديارها، وتأتلف بكرم نجارها؛ فمن أنابيب ناسبت رماح الخط فى أجناسها، وشاكلت الذهب فى ألوانها، وضاهت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 23 الحرير فى لمعانها؛ بطيئة «1» الحفا، نمرة «2» القوى؛ لا يشظيها «3» القطّ، ولا يشعّث «4» بها الخط؛ ومن مصريّة بيض، كأنها [قباطىّ «5» مصر نقاء، وغرقئ البيض صفاء؛ غذاها الصعيد من ثراه بلبّه] وسقاها النيل من نميره وعذبه؛ فجاءت ملتئمة الأجزاء، سليمة من الالتواء؛ تستقيم شقوقها فى أطوالها، ولا تنكّب عن يمينها ولا شمالها؛ تقترن بها صفراء كأنها معها عقيان «6» قرن بلجين، أو ورق خلط بعين؛ تختال فى صفر ملاحفها، وتميس فى مذهب مطارفها «7» ؛ بلون غياب الشمس، وصبغ ثياب الورس «8» ، ومن منقوشة تروق العين، وتونق النّفس؛ ويهدى حسنها الأريحيّة إلى القلوب، ويحلّ الطرب لها حبوة الحكيم اللبيب؛ كأنها اختلاف الزهر اللامع، وأصناف الثمر اليانع؛ [ومن بحريّة موشيّة الليط «9» ] رائقة التخليط «10» ؛ كأنّ داخلها قطرة دم، أو حاشية رداء الجزء: 7 ¦ الصفحة: 24 معلم، وكأنّ خارجها أرقم، أو متن واد مفعم، نثرت ألوانا تزرى بورد الخدود، وأبدت قامات تفصح بأود القدود. وقد أكثر الشعراء القول فى وصف القلم، فمن ذلك قول أبى تمّام الطائىّ: لك القلم الأعلى الذى بشباته ... تصاب من الأمر الكلى والمفاصل لعاب الأفاعى القاتلات لعابه ... وأرى «1» الجنى اشتارته أيد عواسل له ريقة طلّ ولكنّ وقعها ... بآثاره فى الشرق والغرب وابل فصيح إذا استنطقته وهو راكب ... وأعجم إن خاطبته وهو راجل إذا ما امتطى الخمس الّلطاف وأفرغت ... عليه شعاب «2» الفكر وهى حوافل أطاعته أطراف القنا وتقوّضت ... لنجواه تقويض الخيام والجحافل إذا استغزر الذهن الجلىّ «3» وأقبلت ... أعاليه فى القرطاس وهى أسافل وقد رفدته الخنصران وسدّدت ... ثلاث نواحيه الثلاث الأنامل رأيت جليلا شأنه وهو مرهف ... ضنّى وسمينا خطبه وهو ناحل وقال آخر: قوم إذا أخذوا الأقلام من غضب ... ثم استمدّوا بها ماء المنيّات نالوا بها من أعاديهم وإن بعدوا ... ما لم ينالوا بحدّ المشرفيّات وقال ابن المعتزّ: قلم ما أراه أم فلك يجرى ... بما شاء قاسم ويسير «4» خاشع فى يديه يلثم قرطا ... سا كما قبّل البساط شكور الجزء: 7 ¦ الصفحة: 25 ولطيف المعنى جليل نحيف ... وكبير الأفعال وهو صغير كم منايا وكم عطايا وكم ... حتف وعيش تضم تلك السطور نقشت بالدجى نهارا فما أدرى ... أخطّ فيهن أم تصوير وقال محمد «1» بن علىّ: فى كفه صارم لانت مضاربه ... يسوسنا رغبا إن شاء أو رهبا السيف والرمح خدّام له أبدا ... لا يبلغان له جدّا ولا لعبا تجرى دماء الأعادى بين أسطره ... ولا يحس له صوت إذا ضربا فما رأيت مدادا قبل ذاك دما ... ولا رأيت حساما قبل ذا قصبا وقال ابن الرومىّ: لعمرك ما السيف سيف الكمىّ ... بأخوف من قلم الكاتب له شاهد إن تأمّلته ... ظهرت على سره الغائب أداة المنيّة فى جانبيه ... فمن مثله رهبة الراهب ألم تر فى صدره كالسنان ... وفى الردف كالمرهف القاضب؟ وقال الرفّاء «2» : أخرس ينبيك بإطراقه ... عن كل ما شئت من الأمر يذرى على قرطاسه دمعه ... يبدى لنا السرّ وما يدرى كعاشق أخفى هواه وقد ... نمّت عليه عبرة تجرى تبصره فى كل أحواله ... عريان يكسو الناس أو يعرى يرى أسيرا فى دواة وقد ... أطلق أقواما من الأسر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 26 وقال آخر: وذى عفاف راكع ساجد ... أخو صلاح دمعه جارى ملازم الخمس لأوقاتها ... مجتهد فى خدمة البارى وقال ابن الرومىّ: إن يخدم القلم «1» السيف الذى خضعت ... له الرقاب ودانت خوفه الأمم فالموت والموت لا شىء يغالبه ... ما زال يتبع ما يجرى به القلم كذا قضى الله للأقلام مذ بريت ... أن السيوف لها مذ أرهفت خدم وقال أبو الطيّب الأزدىّ: قلم قلّم أظفار العدى ... وهو كالإصبع مقصوص الظّفر أشبه الحيّة حتى أنه ... كلما عمّر فى الأيدى قصر وقال أبو الحسن بن عبد الملك بن صالح الهاشمىّ: وأسمر طاوى الكشح أخرس ناطق ... له زملان «2» فى بطون المهارق. [ «3» ذكر ما يحتاج الكاتب الى معرفته من الأمور الكلية [من كتاب حسن التوسل] قال شهاب الدين أبو الثناء محمود بن سليمان الحلبىّ فى كتابه «حسن التوسل» فأوّل ما يبدأ به من ذلك حفظ كتاب الله تعالى، ومداومة قراءته، وملازمة درسه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 27 وتدبّر معانيه حتى لا يزال مصوّرا فى فكره، دائرا على لسانه، ممثّلا فى قلبه، ذاكرا له فى كل ما يرد عليه من الوقائع التى يحتاج الى الاستشهاد به فيها، ويفتقر الى اقامة الأدلّة القاطعة به عليها؛ وكفى بذلك معينا له فى قصده، ومغنيا له عن غيره، قال الله تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ؛ وقد أخرج من الكتاب العزيز شواهد لكل ما يدور بين الناس فى محاوراتهم ومخاطباتهم مع قصور كل لفظ ومعنى عنه، وعجز الإنس والجنّ عن الاتيان بسورة من مثله؛ ومن ذلك أن سائلا قال لبعض العلماء: أين تجد فى كتاب الله تعالى قولهم: الجار قبل الدار؟ قال: فى قوله تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ فطلبت الجار قبل الدار، ونظائر ذلك كثيرة. وأين قول العرب: «القتل أنفى للقتل» لمن أراد الاستشهاد فى هذا المعنى من قوله عزّ وجلّ: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ . وأكثر الناس على جواز الاستشهاد بذلك ما لم يحوّل عن لفظه، ولم يغيّر معناه. فمن ذلك ما روى فى عهد أبى بكر رضى الله عنه: هذا ما عهد أبو بكر خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلم آخر عهده بالدنيا، وأوّل عهده بالآخرة، إنى استخلفت عليكم عمر بن الخطّاب، فإن برّ وعدل فذلك ظنّى به، وان جار وبدّل فلا علم لى بالغيب، والخير أردت بكم، ولكل امرئ ما اكتسب من الإثم وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ. وروى أن عليا رضى الله عنه قال للمغيرة بن شعبة لما أشار عليه بتولية معاوية: وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 28 وكتب فى آخر كتاب الى معاوية: وقد علمت مواقع سيوفنا فى جدّك وخالك وأخيك وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ. وقول الحسن بن على عليه السلام لمعاوية: وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ وروى مثل ذلك عن ابن عباس رضى الله عنهما.- وكتب الحسن الى معاوية: أما بعد، فان الله بعث محمدا صلّى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، ورسولا الى الناس أجمعين لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ. وكتب محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن على الى المنصور فى صدر كتاب لمّا حاربه: طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ الى قوله: مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ . ونقض عليه المنصور فى جوابه عن قوله: «إنه ابن رسول الله صلّى الله عليه وسلم» بقوله تعالى: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ. ونقل عن الحسن البصرىّ رحمه الله ما يدل على كراهية ذلك، فقال حين بلغه أن الحجاج أنكر على رجل استشهد بآية: أنسى نفسه حين كتب الى عبد الملك ابن مروان: بلغنى أن أمير المؤمنين عطس فشمّته من حضر فردّ عليهم يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً ؟ واذا صحت هذه الرواية عن الحسن فيمكن أن يكون انكاره على الحجاج لأنه أنكر على غيره ما فعله هو. وذهب بعضهم الى أن كل ما أراد الله به نفسه لا يجوز أن يستشهد به إلا فيما يضاف الى الله سبحانه وتعالى مثل قوله تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ . وقوله تعالى: بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ونحو ذلك مما يقتضيه الأدب مع الله سبحانه وتعالى. ومن شرف الاستشهاد بالكتاب العزيز إقامة الحجة، وقطع النزاع، وارغام الخصم كما روى أن الحجاج قال لبعض العلماء: أنت تزعم أن الحسين رضى الله عنه من ذرية الجزء: 7 ¦ الصفحة: 29 رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأتنى على ذلك بشاهد من كتاب الله عز وجل، وإلا قتلتك؛ فقرأ: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ الى قوله: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وعيسى هو ابن بنته؛ فأسكت الحجاج. وقد تقوم الآية الواحدة المستشهد بها فى بلوغ الغرض وتوفية المقاصد ما لا تقوم به الكتب المطوّلة، والأدلّة القاطعة؛ وأقرب ما اتفق من ذلك أن صلاح الدين رحمه الله كتب الى بغداد كتابا يعدّد فيه مواقفه فى إقامة دعوة بنى العباس بمصر، فكتب جوابه بهذه الآية: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ] وكتب أمير المسلمين يعقوب بن عبد المؤمن الى الأذفونش «1» ملك الفرنج جوابا عن كتابه اليه- وكان قد أبرق وأرعد فكتب فى أعلاه-: ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ ومما جوّزوا الاستشهاد به ما لا يقصد به إلا التلويح الى الآية دون اطّراد الكلام نحو قول القاضى الفاضل مما كتب به الى الخليفة عن الملك الناصر صلاح الدين فى الاستصراخ [وتهويل أمر «2» الفرنج] : رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وها هى فى سبيلك مبذوله، وأخى وقد هاجر اليك هجرة يرجوها مقبوله. وأما تغيير شىء من اللفظ أو إحالة معنى عما أريد به فلا يجوز، وينبغى العدل عنه ما أمكن. ويتلو ذلك الاستكثار من حفظ الأحاديث النبوية- صلوات الله وسلامه على قائلها - وخصوصا فى السير والمغازى والأحكام، والنظر فى معانيها وغريبها وفصاحتها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 30 وقفه ما لا بدّ من معرفته من أحكامها، ليحتج بها فى «1» مكان الحجة، ويستدل بموضع الدليل، فإن الدليل على المقصد إذا استند الى النص سلّم له، والفصاحة اذا طلبت غايتها فإنها بعد كتاب الله فى كلام من أوتى جوامع الكلم. وينبغى أن يراعى فى الحلّ لفظ الحديث ما أمكن، وإلا فمعناه. ويتلو ذلك قراءة ما يتفق من كتب النحو التى يحصل بها المقصود من معرفته العربية، فإنه لو أتى الكاتب من البلاغة بأتمّ ما يكون ولحن ذهبت محاسن ما أتى به وانهدمت طبقة كلامه، وألغى جميع [ما حسّنه «2» ] ، ووقف به عند ما جهله. ويتعلق بذلك [قراءة «3» ] ما يتهيأ من مختصرات اللغة، كالفصيح، وكفاية المتحفظ وغير ذلك من كتب الألفاظ ليتسع عليه مجال العبارة، وينفتح له باب الأوصاف فيما «4» يحتاج الى وصفه، ويضطر الى نعته. ويتصل بذلك حفظ خطب البلغاء من الصحابة وغيرهم، ومخاطباتهم ومحاوراتهم ومراجعاتهم ومكاتباتهم، وما ادّعاه كلّ منهم لنفسه أو لقومه، وما نقضه عليه خصمه، لما فى ذلك من معرفة الوقائع بنظائرها، وتلقّى الحوادث بما شاكلها والاقتداء بطريقة من فلج «5» على خصمه، واقتفاء آثار من اضطر الى عذر، أو إبطال دعوى أو اثباتها، والأجوبة الدامغة؛ فتأمله فى موضعه فإنك ستقف منه على ما استغنى به عن ذلك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 31 ثم النظر فى أيام العرب ووقائعهم وحروبهم، وتسمية الأيام التى كانت بينهم، ومعرفة يوم كل قبيلة على الأخرى، وما جرى بينهم فى ذلك من الأشعار والمنافسات، لما فى ذلك من العلم بما يستشهد به من واقعة قديمة، أو يرد عليه فى مكاتبة من ذكر يوما مشهورا، أو فارسا معيّنا. وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى فى فنّ التاريخ على ما ستقف عليه؛ فإن صاحب هذه الصناعة إذا لم يكن عارفا بأيام العرب، عالما بما جرى فيها لم يدر كيف يجيب عمّا «1» يرد عليه من مثلها، ولا ما يقول إذا سئل عنها، وحسبه ذلك نقصا فى صناعته وقصورا. ثم النظر فى التواريخ ومعرفة أخبار الدول، لما فى ذلك من الاطلاع على سير الملوك وسياساتهم، وذكر وقائعهم ومكايدهم فى حروبهم، وما اتفق لهم من التجارب؛ فإن الكاتب قد يضطرّ إلى السؤال عن أحوال من سلف، أو يرد عليه فى كتاب ذكر واقعة بعينها، أو يحتجّ عليه بصورة قديمة فلا يعرف حقيقتها من مجازها؛ وقد أوردنا فى فن التاريخ ما لا يحتاج الكاتب معه إلى غيره من هذا الفن. ثم حفظ أشعار العرب ومطالعة شروحها، واستكشاف غوامضها والتوفّر على ما اختاره العلماء بها «2» منها، كالحماسة، والمفضّليّات، والأصمعيّات، وديوان الهذليّين، وما أشبه ذلك، لما فى ذلك من غزارة الموادّ، وصحّة الاستشهاد، والاطلاع على أصول اللّغة، ونوادر العربيّة؛ وقد كان الصدر الأول يعتنون بذلك غاية الاعتناء، وقد حكى أن الإمام الشافعىّ رحمه الله كان يحفظ ديوان هذيل؛ فإذا أكثر المترشّح للكتابة من حفظ ذلك وتدبّر معانيه سهل عليه حلّه، وظهرت له مواضع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 32 الاستشهاد به، وساقه الكلام إلى إبراز ما فى ذخيرة حفظه منه، ووضعه فى مكانه ونقله فى الاستشهاد والتضمين الى ما كأنه وضع له، كما اتفق للقاضى أبى بكر «1» الأرّجانىّ فى تضمين أنصاف أبيات العرب فى بعض قصائده، فقال: وأهد الى الوزير المدح يجعل ... «لك المرباع «2» منها والصفايا» ورافق رفقة حلّوا إليه ... «فآبوا «3» بالنهاب وبالسبايا» وقل للراحلين الى ذراه ... «ألستم «4» خير من ركب المطايا» ولا تسلك سوى طرقى فإنّى ... «أنا «5» ابن جلا وطلّاع الثّنايا» وقال بديع الزمان الهمذانىّ: أنا لقرب دار مولاى «كما طرب التشوان مالت به الخمر» ومن الارتياح إلى لقائه كما انتفض العصفور بلله القطر» ومن الامتزاج بولائه «كما التقت الصهباء والبارد العذب» ومن الابتهاج بمزاره «كما اهتزّ تحت البارح «6» الغصن الرطب» . وكما قال ابن القرطبىّ وغيره فى رسائلهم على ما نذكره إن شاء الله تعالى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 33 وكذلك حفظ جانب جيّد من شعر المحدثين، كأبى تمّام ومسلم ابن الوليد والبحترىّ وابن الرومىّ والمتنبىّ، للطف مأخذهم، ودوران الصناعة فى كلامهم، ودقّة توليد المعانى فى أشعارهم، وقرب أسلوبهم من أسلوب الخطابة والكتابة. وكذلك النظر فى رسائل المتقدّمتين دون حفظها لما فى النظر فيها من تنقيح القريحة، وإرشاد الخاطر، وتسهيل الطرق، والنسج على منوال المجيد، والاقتداء بطريقة المحسن، واستدراك ما فات «1» القاصر، والاحتراز مما أظهره النقد، وردّ ما بهرجه السبك؛ فأمّا النهى عن حفظ ذلك فلئلا يتّكل الخاطر على ما فى حاصله، ويستند الفكر إلى ما فى مودعه، ويكتفى بما ليس له، ويتلبّس بما لم يعط «كلابس ثوبى زور» ؛ وأمّا من قصد المحاضرة بذلك دون الإنشاء فالأحسن به حفظ ذلك وأمثاله. وكذلك النّظر فى كتب الأمثال الواردة عن العرب نظما ونثرا كأمثال الميدانىّ والمفضّل بن سلمة الضبىّ وحمزة الأصبهانىّ وغيرهم، وأمثال المحدثين الواردة فى أشعارهم، كأبى العتاهية وأبى تمّام والمتنبىّ، وأمثال المولّدين؛ وقد أوردنا من ذلك فى باب الأمثال جملا. وكذلك النّظر فى الأحكام السّلطانيّة، فإنه قد يأمر بأمر فيعرف منها كيف يخلص قلمه على حكم الشريعة المطهّرة من تولية القضاء والحسبة وغير ذلك؛ وقد قدّمنا فى هذا الكتاب من ذلك طرفا جيّدا. قال: فهذه أمور كليّة لا بدّ للمترشّح لهذه الصناعة من التصدّى للاطلاع عليها، والإكباب على مطالعتها، والاستكثار منها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 34 لينفق من تلك الموادّ، وليسلك فى الوصول إلى صناعته تلك الجواد «1» ، وإلا فليعلم أنه فى واد والكتابة فى واد. قال: وأمّا الأمور الخاصّة التى تزيد معرفتها قدره، ويزين العلم بها نظمه ونثره، فإنّها من المكمّلات لهذا الفنّ وإن لم يضطرّ إليها ذو الذهن الثاقب، والطبع السليم، والقريحة المطاوعة، والفكرة المنقّحة، والبديهة المجيبة، والرويّة المتصرّفة، لكنّ العالم بها متمكّن من أزمّة المعانى، يقول عن علم، ويتصرّف عن معرفة، وينتقد بحجّة، ويتخيّر بدليل، ويستحسن ببرهان، ويصوغ الكلام بترتيب؛ فمن ذلك علم المعانى والبيان والبديع، والكتب المؤلّفة فى إعجاز الكتاب العزيز، ككتب الجرجانىّ والرمّانىّ والإمام فخر الدين السكّاكىّ والخفاجىّ وابن الاثير وغيرهم؛ وذكر فى كتابه جملا بهذه المعانى [وأورد أيضا أمورا أخرى تتصل بذلك «2» من خصائص] الكتابة وهى الاقتباس والاستشهاد والحلّ، وأتى على ذلك بشواهد وأمثلة، وسأذكر فى هذا الكتاب ملخّص ما اورده فى ذلك باختصار «3» وزيادة عليه. فأمّا علوم المعانى والبيان والبديع، فمنها: ذكر الفصاحة، والبلاغة والحقيقة والمجاز، والتشبيه، والاستعارة، والكناية، والخبر وأحكامه، والتقديم والتأخير، والفصل والوصل، والحذف والإضمار، ومباحث إنّ وإنّما، والنظم والتجنيس، والطباق، والمقابلة، والسجع، وردّ العجز على «4» الصدر، والإعنات «5» الجزء: 7 ¦ الصفحة: 35 والمذهب الكلامىّ، وحسن التعليل، والالتفات، والتمام، والاستطراد، وتأكيد المدح بما يشبه الذّم، وتأكيد الذّم بما يشبه المدح، وتجاهل العارف، والهزل الذى يراد به الجدّ، والكنايات، والمبالغة، وإعتاب المرء نفسه، وحسن التضمين والتلميح، وإرسال المثل، وإرسال مثلين، والكلام الجامع، واللّفّ والنشر والتفسير، والتعديد- ويسمّى سياقة الأعداد- وتنسيق الصفات، والإيهام- ويقال له: التورية- والتخييل، وحسن الأبتداءات، وبراعة التخليص، وبراعة الطلب وبراعة المقطع، والسؤال والجواب، وصحة الأقسام، والتوشيح، والإيغال، والإشارة والتذييل، والترديد، والتفويف، والتسهيم، والاستخدام، والعكس، والتبديل والرجوع، والتغاير، والطاعة والعصيان، والتسميط، والتشطير، والتطريز، والتوشيع والإغراق، والغلوّ، والقسم، والأستدراك، والمؤتلفة والمختلفة، والتفريق المفرد والجمع مع التفريق، والتقسيم المفرد، والجمع مع التقسيم، والتزاوج، والسّلب والإيجاب والاطّراد، والتجريد، والتكميل، والمناسبة، والتفريع، ونفى الشىء بإيجابه والإيداع «1» ، والإدماج، وسلامة الاختراع، وحسن الاتّباع، والذّمّ فى معرض المدح والعنوان، والإيضاح، والتشكيك، والقول بالموجب، والقلب، والتندير، والإسجال بعد المغالطة، والافتنان، والإبهام، وحصر الجزئى وإلحاقه بالكلّى، والمقارنة والإبداع، والانفصال، والتصرّف، والاشتراك، والتهكّم، والتدبيج، والموجّه وتشابه الأطراف. هذا مجموع ما أورده منها، واستشهد «2» عليه بأدلّة، وأورد أمثلة سنشرح منها ما يكتفى به اللّبيب، ويستغنى به اللّبيب «3» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 36 أما الفصاحة والبلاغة، فقد تقدّم الكلام فيهما فى أوّل الباب، فلا فائدة فى إعادته. وأما الحقيقة والمجاز- فالحقيقة فى اللّغة فعيلة بمعنى مفعولة، من حقّ الأمر يحقّه بمعنى أثبته، أو من حققته إذا كنت منه على يقين. والمجاز من جاز الشىء يجوزه إذا تعدّاه، فإذا عدل بالّلفظ عما يوجبه أصل اللّغة وصف بأنه مجاز على أنهم قد جازوا به موضعه الأصلىّ، أو جاز هو مكانه الذى وضع فيه أوّلا، لأنه ليس بموضع أصلىّ لهذا الّلفظ ولكنّه مجازه ومتعدّاه يقع فيه كالواقف بمكان غيره ثم يتعدّاه [إلى] مكانه الأصلىّ. ولهما حدود فى المفرد والجملة، فحدّهما فى لامفرد: أن كل كلمة أريد بها ما وضعت له فهى حقيقة، كالأسد للحيوان المفترس، ولايد للجارحة ونحو ذلك. وإن أريد بها غيره لمناسبة بينهما فهى مجاز، كالأسد للرّجل الشجاع واليد للنّعمة أو للقوّة، فإن النعمة تعطى باليد، والقوّة تظهر بكمالها فى اليد. وحدّهما فى الجملة: أن كلّ جملة كان الحكم الذى دلّت عليه كما هو فى العقل «1» فهى حقيقة كقولنا: خلق الله الخلق؛ وكلّ جملة أخرجت الحكم المفاد بها عن موضعه فى العقل بضرب من التأويل فهى مجاز، كما إذا أضيف الفعل إلى شىء يضاهى الفاعل، كالمفعول به فى قوله عزّ وجلّ: فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ* ومِنْ ماءٍ دافِقٍ ؛ أو المصدر، كقولهم: شعر شاعر؛ أو الزمان، كقول النعمان بن بشير لمعاوية: وليلك عمّا ناب قومك نائم؛ أو المكان، كقولك: طريق سائر؛ أو المسبّب، كقولهم: بنى الأمير المدينة؛ أو السبب، كقوله تعالى: وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً . فمجاز المفرد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 37 لغوىّ، ويسمّى مجازا فى المثبت، ومجاز الجملة عقلىّ، ويسمّى مجازا فى الإثبات. قال: فالمجاز قد يكون فى الإثبات وحده، وهو أن يضيف الفعل إلى غير الفاعل الحقيقىّ كما ذكرناه، وقد يكون فى المثبت وحده، كقوله تعالى: فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها جعل خضرة الأرض ونضرتها حياة، وقد يكون فيهما جميعا، كقولك: أحيتنى رؤيتك، تريد سرّتنى، فقد جعلت المسرّة حياة «1» وهو مجاز فى المثبت وأسندتها إلى الرؤية وهو مجاز فى الإثبات. قال: واعلم أنهم تعرّضوا فى اعتبار كون اللّفظ مجازا إلى اعتبار شيئين: الأوّل أن يكون منقولا عن معنى وضع اللّفظ بإزائه، وبهذا يتميّز عن اللّفظ المشترك. الثانى أن يكون هذا النقل لمناسبة بينهما، فلا توصف الأعلام المنقولة بأنّها مجاز إذ ليس نقلها لتعلّق نسبة [بين «2» ] المنقول عنه ومن له العلم، وإذا تحقّق الشرطان سمى مجازا، وذلك مثل تسمية النعمة والقوّة باليد، لما بين اليد وبينهما من التعلّق وكما قالوا: رعينا الغيث، يريدون النبت الذى الغيث سببه، وصابتنا السّماء، يريدون المطر، وأشباه ذلك ونظائره. وأما التشبيه - فهو الدّلالة على اشتراك شيئين فى وصف هو من أوصاف الشىء فى نفسه، كالشجاعة فى الأسد، والنّور فى الشمس. وهو ركن من أركان البلاغة لإخراجه الخفىّ الى الجلىّ، وإدنائه البعيد من القريب. وهو حكم إضافىّ لا يوجد إلا بين الشيئين بخلاف الاستعارة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 38 ثم التّشبيه على أربعة أقسام: تشبيه محسوس [بمحسوس «1» ] ، وتشبيه معقول [بمعقول «2» ] ، وتشبيه معقول بمحسوس، وتشبيه محسوس بمعقول. فأما تشبيه محسوس بمحسوس فلاشتراكهما إمّا فى المحسوسات الأولى: وهى مدركات السمع والبصر والذّوق والشمّ واللّمس، كتشبيه الخدّ بالورد والوجه بالنهار، [وأطيط الرّحل «3» بأصوات الفراريح] والفواكه الحلوة بالسكّر والعسل ورائحة بعض الرياحين بالمسك والكافور، والّليّن الناعم بالحرير، والخشن بالمسح» . أو فى المحسوسات الثانية «5» : وهى الأشكال المستقيمة والمستديرة، والمقادير، والحركات كتشبيه المستوى المنتصب بالرّمح، والقدّ اللّطيف بالغصن، والشّىء المستدير بالكرة والحلقة، والعظم بالجبل، والذاهب على الاستقامة بنفوذ السهم. أو فى الكيفيّات الجسمانيّة، كالصلابة والرخاوة. أو فى الكيفيّات النفسانيّة، كالغرائز والأخلاق. أو فى حالة إضافية، كقولك: هذه حجّة كالشّمس، وألفاظ كالماء فى السّلاسة وكالنّسييم فى الرقّة، وكالعسل فى الحلاوة. وربّما كان التشبيه بوجه عقلىّ، كقول فاطمة بنت الخرشب الأنماريّة حين وصفت بنيها الكملة فقالت: هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها. وأما تشبيه المعقول بالمعقول فهو كتشبيه الوجود العارى عن الفوائد بالعدم، وتشبيه الفوائد التى تبقى بعد عدم الشّىء بالوجود، كقول الشاعر: رب حىّ كميّت ليس فيه ... أمل يرتجى لنفع وضرّ وعظام تحت التراب وفوق ... الأرض منها آثار «6» حمد وشكر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 39 وأمّا تشبيه المعقول بالمحسوس فهو كقوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ. وأما تشبيه المحسوس بالمعقول فهو غير جائز، لأن العلوم العقليّة مستفادة من الحواسّ ومنتهية إليها، ولذلك قيل: من فقد حسّا فقد علما، فإذا كان المحسوس أصلا للمعقول فتشبيه به يكون جعلا للفرع أصلا والأصل فرعا ولذلك لو حاول محاول المبالغة فى وصف الشمس بالظهور والمسك بالثناء «1» فقال: الشمس كالحجّة فى الظّهور، والمسك كالثّناء فى الطّيب، كان ذلك سخفا من القول فأمّا ما جاء فى الشعر من تشبيه المحسوس بالمعقول فوجهه أن يقدّر المعقول محسوسا، ويجعل كالأصل «2» المحسوس على طريق المبالغة، فيصحّ التشبيه حينئذ وذلك كما قال الشاعر: وكأنّ النجوم بين دجاها ... سنن لاح بينهنّ ابتداع فإنّه لما شاع وصف السنّة بالبياض والإشراق، واشتهرت البدعة وكلّ ما ليس بحقّ بالظلمة «3» تخيّل الشاعر أن السنن كأنها من الأجناس التى لها إشراق ونور، وأن البدع نوع من الأنواع الّتى لها اختصاص بالسواد والظلمة، فصار ذلك كتشبيه محسوس بمحسوس، فجاز له التشبيه، وهو لا يتمّ إلا بتخييل ما ليس بمتلوّن [متلوّنا «4» ] ثم يتخيّله أصلا فيشبّه به، وهذا هو الّذى تؤوّل فى قول أبى طالب الرّقّىّ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 40 ولقد ذكرتك والظلام كانّه ... يوم النّوى وفؤاد من لم يعشق فإنّه لمّا كانت الأوقات التى تحدث فيها المكاره توصف بالسواد كما يقال: اسودّت الدنيا فى عينه، جعل يوم النوى كأنه أشهر بالسواد من الظلام، فعرّفه به وشبّه، ثم عطف عليه فؤاد من لم يعشق لأنّ من لم يعشق عندهم قاسى القلب والقلب القاسى يوصف بشدّة السواد، فأقامه أصلا، فقس على هذا المثال. قال: واعلم أنّ ما به المشابهة قد يكون مقيّدا بالانتساب إلى شىء، وذلك إما الى المفعول به كقولهم: «أخذ القوس باريها» وإلى ما يجرى مجرى المفعول به وهو الجارّ والمجرور كقولهم لمن يفعل ما لا يفيد: «كالراقم على الماء» وإمّا الى الحال، كقولهم: «كالحادى وليس له بعير» وإما الى المفعول والجارّ والمجرور معا، كقولهم: «هو كمن يجمع السيفين فى غمد» و «كمبتغى الصيد فى عرينة الأسد» ، ومن ذلك قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً فإنّ التشبيه لم يحصل من مجرد الحمل، بل لأمرين آخرين، لأن الغرض توجيه الذّم إلى من أتعب نفسه فى حمل ما يتضمّن المنافع العظيمة ثم لا ينتفع به لجهله، وكقول لبيد: وما النّاس إلا كالديار وأهلها ... بها يوم حلّوها وغدوا «1» بلاقع فإنّه لم يشبّه الناس بالديار، وإنّما شبّه وجودهم فى الدنيا وسرعة زوالهم بحلول أهل الدّيار فيها، ووشك رحيلهم منها. قال: وكلّما كانت التقييدات أكثر كان التشبيه أو غل فى كونه عقليّا، كقوله تعالى: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ . فإن التشبيه منتزع من مجموع هذه الجمل من غير أن يمكن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 41 فصل بعضها عن بعض، فإنّك لو حذفت منها جملة واحدة من أىّ موضع كان أخلّ ذلك بالمغزى من التشبيه. قال: ثم ما به المشابهة إن كان مركّبا فإنّه على قسمين: الأوّل ما لا يمكن إفراد أحد أجزائه بالذّكر، كقول القاضى التنوخىّ: كأنّما المرّيخ والمشترى ... قدّامه فى شامخ الرّفعه منصرف باللّيل من دعوة ... قد أسرجت قدّامه شمعه فإنّك لو اقتصرت على قوله: كأنّ المرّيخ منصرف من دعوة، أو كأن المشترى شمعة لم يحصل ما قصده الشاعر، فإنّه إنّما قصد الهيئة التى يلبسها المرّيخ من كون المشترى أمامه. الثانى ما يمكن إفراده بالذّكر ويكون إذا أزيل منه التركيب صحيح التشبيه فى طرفيه إلّا أن المعنى يتغيّر، كقول أبى طالب الرقىّ: وكأنّ أجرام النجوم لوامعا ... درر نثرن على بساط أزرق فلو قلت: كأن النجوم درر، وكأن السماء بساط أزرق، وجدت التشبيه مقبولا ولكن المقصود من الهيئة المشبّه بها قد زال. قال: وربّما كان التشبيه فى أمور كثيرة لا يتقيّد بعضها عنها ببعض، وإنّما يكون مضموما بعضها إلى بعض وكلّ واحد منها منفرد بنفسه، كقولك: زيد كالأسد بأسا، والبحر جودا، والسيف مضاء والبدر بهاء؛ وله خاصيتان: إحداهما أنه لا يجب فيه الترتيب، والثانية أنّه إذا سقط البعض لم يتغيّر حكم الباقى. ومن المتأخرين من ذكر فى التشبيه سبعة أنواع: الأوّل التشبيه المطلق، وهو أن يشبّه شيئا بشىء من غير عكس ولا تبديل كقوله تعالى: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ وقوله تعالى: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 42 وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ وقوله تعالى: كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ. وقول النّبى صلّى الله عليه وسلم: «الناس كأسنان المشط» . الثّانى التّشبيه المشروط، وهو أن يشبّه شيئا بشىء لو كان بصفة كذا، ولولا أنّه بصفة كذا، كقوله: اشبّه وجه ملوانا بالعيد المقبل لو كان العيد تبقى ميامنه وتدوم محاسنه، وكقوله: وجه هو كالشمس لولا كسوفها، والقمر لولا خسوفه وكقول البديع: قد كان يحكيك صوب الغيث منسكبا ... لو كان طلق المحيّا يمطر الذهبا والدهر لو لم يخن والشمس لو نطقت ... والليث لو لم يصد والبحر لو عذبا وكقول الآخر «1» : عزماته مثل النجوم ثواقبا ... لو لم يكن للثّاقبات أفول. الثالث تشبيه الكناية، وهو أن يشبّه شيئا بشىء من غير أداة التشبيه، كقول المتنبّى: بدت قمرا وماست خوط بان ... وفاحت عنبرا ورنت غزالا وقول الواوا «2» الدّمشقىّ: فأمطرت لؤلؤا من نرجس فسقت ... وردا وعضّت على العنّاب بالبرد. الرابع تشبيه التسوية، وهو أن يأخذ صفة من صفات نفسه، وصفة من الصفات المقصودة، ويشبّههما بشىء واحد، كقوله: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 43 صدغ الحبيب وحالى ... كلاهما كالّليالى و «1» ثغره فى صفاء ... وأدمعى كاللآلى. الخامس التشبيه المعكوس، وهو أن تشبّه شيئين كلّ واحد منهما بالآخر كقول الشاعر: الخمر تفاح جرى ذائبا ... كذلك التفاح خمر جمّد فاشرب على جامد ذوبه «2» ... ولا تبع لذّة يوم بغد وكقول الصّاحب بن عبّاد: رقّ الزّجاج وراقت الخمر ... فتشابها فتشاكل الأمر فكأنّه خمر ولا قدح ... وكأنّه قدح ولا خمر وكقول بعضهم فى النثر: كم من دم أهرقناه فى البرّ، وشخص أغرقناه فى البحر؛ فأصبح البرّ بحرا من دمائهم، والبحر برّا بأشلائهم. السادس تشبيه الإضمار، وهو أن يكون مقصوده التّشبيه بشىء فدلّ ظاهر لفظه أنّ مقصوده غيره، كقول المتنبّى: ومن كنت جارا له يا علىّ ... لم يقبل الدرّ إلّا كبارا فيدلّ ظاهره على أنّ مقصوده الدرّ، وإنّما غرضه تشبيه الممدوح بالبحر. السابع تشبيه التفضيل، وهو أن يشبّه شيئا بشىء ثمّ يرجع فيرجّح المشبّه على المشبّه به، كقوله: حسبت جماله بدرا مضيئا ... وأين البدر من ذاك الجمال الجزء: 7 ¦ الصفحة: 44 وكقول ابن هندو «1» : من قاس جدواك بالغمام فما ... أنصف فى الحكم بين شيئين أنت إذا جدت ضاحك أبدا ... وذاك إن «2» جاد دامع العين. قال: وقد تقدّم تشبيه شىء بشىء. فأمّا تشبيه شىء بشيئين فكقول امرئ القيس: وتعطو «3» برخص غير شثن كأنّه ... أساريع رمل «4» أو مساويك إسحل. وأمّا تشبيه شىء بثلاثة أشياء فكقول البحترىّ: كأنّما يبسم عن لؤلؤ ... منضّد أو برد أو أقاح. وأمّا تشبيه شىء بأربعة أشياء فكما قال المولى شهاب الدّين أبو الثناء محمود الحلبىّ الكاتب: يفترّ طرسك عن سطور جادها ال ... فكر السليم بصوب مسك أذفر فكأنّما هو روضة أو جدول ... أو سمط درّ أو قلادة عنبر. وأمّا تشبيه شىء بخمسة أشياء فكقول الحريرىّ: يفترّ عن لؤلؤ رطب وعن برد ... وعن أقاح وعن طلع وعن حبب. وأمّا تشبيه شيئين بشيئين فكقول امرئ القيس: كأنّ قلوب الطّير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العنّاب والحشف البالى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 45 وأمّا تشبيه ثلاثة بثلاثة فكقول الآخر: ليل وبدر وغصن ... شعر ووجه وقدّ خمر ودرّ وورد ... ريق وثغر وخد. وأمّا تشبيه أربعة بأربعة فكقول امرئ القيس: له أيطلا «1» ظبى وساقا نعامة ... وإرخاء سرحان وتقريب تتفل وكقول أبى نواس: تبكى فتذرى الدّر من نرجس ... وتلطم الورد بعناب، وأمّا تشبيه خمسة بخمسة فكقول أبى الفرج الواوا الدمشقى «2» : قالت متى البين يا هذا فقلت لها ... إمّا غدا زعموا أولا فبعد غد فأمطرت لؤلؤا من نرجس فسقت ... وردا وعضّت على العنّاب بالبرد وشبّه قاضى القضاة نجم الدين بن البارزىّ سبعة أشياء بسبعة أشياء وهى: يقطّع بالسّكين بطّيخة ضحى ... على طبق فى نجلس لان صاحبخ كشمس ببرق قدّ بدر أهلة ... لدى هالة فى الأفق شتّى كواكبه. قال: والغرض من التشبيه قد يكون بيان إمكان وجود الشىء عند ادعاء ما لا يكون إمكانه بيّنا، كقول ابن الرّومىّ: وكم أب قد علا بابن ذرى شرف ... كما علت برسول الله عدنان وكقول المتنبى: فإن تفق الأنام وأنت منهم ... فإن المسك بعض دم الغزال الجزء: 7 ¦ الصفحة: 46 أو بيان مقداره، كما إذا حاولت نفى الفائدة عن فعل إنسان قلت: هذا كالقابض على الماء، لأن لخلوّ الفعل عن الفائدة مراتب مختلفة فى الإفراط والتفريط والوسط، فإذا مثّل بالمحسوس عرفت مرتبته، ولذلك لو أردت الإشارة إلى تنافى الشيئين فأشرت إلى ماء ونار فقلت: هذا وذاك هل يجتمعان؟ كان تأثيره زائدا على قولك: هل يجتمع الماء والنار؟ وكذلك إذا قلت فى وصف طول يوم: كأطول ما يتوهّم، أو لا آخر له، أو أنشدت «1» قوله: فى ليل «2» صول تناهى العرض والطول ... كأنّما ليله بالليل موصول لم تجد فيه «3» من الأنس ما تجده فى قوله: ويوم كظلّ الرمح قصّر طوله ... دم الزقّ عنّا واصطفاق المزاهر وما ذاك إلّا للتشبيه بالمحسوس، وإلّا فالأوّل أبلغ، لأن طول الرمح متناه وفى الأوّل حكمت أنّ ليله موصول باللّيل، وكذلك لو قلت فى قصر اليوم: كأنّه ساعة، أو كلمح البصر، لوجدته دون قوله: ظللنا عند دار أبى أنيس ... بيوم مثل سالفة «4» الذّباب وقوله: ويوم كإبهام القطاة مزيّن ... إلىّ صباه غالب لى باطله. قال: وقد يكون غرض التشبيه عائدا على المشبه به، وذلك أن تقصد على عادة التخييل أن توهم فى الشىء القاصر عن نظيره أنه زائد، فتشبّه الزائد به، كقوله: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 47 وبدا «1» الصباح كأنّ غرّته ... وجه الخليفة حين يمتدح وهذا أبلغ وأحسن وأمدح من تشبيه الوجه بالصباح، لأن تشبيه الوجه بالصباح أصل متّفق عليه لا ينكر ولا يستكثر، وإنما الذى يستكثر تشبيه الصباح بالوجه. قال: ثم الغرض بالتشبيه إن كان الحاق الناقص بالزائد امتنع «2» عكسه مع بقاء هذا الغرض، وإن كان الجمع بين شيئين فى مطلق الصورة والشكل واللون صحّ العكس كتشبيه الصبح بغرّة الفرس الأدهم لا للمبالغة فى الضياء، بل لوقوع منير فى مظلم وحصول بياض قليل فى [سواد] كثير. قال: والتشبيه قد يجىء غريبا يحتاج فى إدراكه الى دقّة نظر، كقول ابن المعتزّ: والشمس كالمرآة فى كفّ الأشل والجامع الاستدارة والإشراق مع تواصل الحركة التى تراها للشمس إذا أنعمت التأمّل فى اضطراب نور الشمس، ويقرب منه قول الآخر: كأن شعاع الشمس فى كلّ غدوة ... على ورق الأشجار أوّل طالع دنانير فى كفّ الأشلّ يضمّها ... لقبض «3» وتهوى [من «4» ] فروج الأصابع وكقول المتنبىّ: الشمس من مشرقها قد بدت ... مشرقة ليس لها حاجب كأنها بودقة «5» أليت ... يجول فيها ذهب ذائب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 48 ومن لطيف ما جاء فى هذا المعنى من التشبيه قول الأخطل فى مصلوب: أو قائم من نعاس فيه لوثته «1» ... مواصل لتمطّيه من الكسل شبّهه بالمتمطّى «2» ، لأنّ المتمطّى يمدّ يديه وظهره ثم يعود إلى حالته الأولى، فزاد فيه أنّه مواصل لذلك، وعلّله بالقيام من النعاس لما فى ذلك من الّلوثة والكسل. قال: والتشبيه ليس من المجاز، لأنه معنى من المعانى، وله ألفاظ تدلّ عليه وضعا فليس فيه نقل اللفظ عن موضوعه، وإنّما هو توطئة لمن يسلك سبيل الاستعارة والتمثيل، لأنه كالأصل لهما وهما كالفرع له، والذى يقع منه فى حيّز المجاز عند أهل هذا الفنّ هو الذى يجىء على حدّ الاستعارة، كقولك لمن يتردّد فى الأمر [بين «3» ] أن يفعله أو يتركه: «أراك تقدّم رجلا وتؤخّر أخرى» والأصل فيه أراك فى تردّدك كمن يقدّم رجلا ويؤخر أخرى. وأما الاستعارة - فهى ادعاء معنى الحقيقة فى الشىء للمبالغة فى التشبيه مع طرح ذكر المشبّه من البيّن «4» لفظا وتقديرا. وإن شئت قلت: هو جعل الشّىء الشّىء [أو جعل «5» الشىء للشىء] لأجل المبالغة فى التشبيه. فالأوّل كقولك: لقيت أسدا وأنت تعنى الرجل الشجاع. والثانى كقول لبيد: إذ «6» أصبحت بيد الشمال زمامها أثبت اليد للشمال مبالغة فى تشبيهها بالقادر فى التصرف فيه على ما يأتى بيان ذلك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 49 وحدّ الرّمانىّ الاستعارة فقال: هى تعليق العبارة على غير ما وضعت له فى أصل الّلغة على سبيل النقل للإبانة. وقال ابن المعتزّ: هى استعارة الكلمة من شىء قد عرف بها إلى شىء لم يعرف بها. وذكر الخفاجىّ كلام الرّمانىّ وقال: وتفسير هذه الجملة أن قوله عز وجل: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً استعارة، لأن الاشتعال «1» للنار، ولم يوضع فى أصل اللغة للشيب فلما نقل اليه بان المعنى لما اكتسبه من التشبيه، لأن الشيب لما كان يأخذ فى الرأس شيئا فشيئا حتى يحيله إلى غير لونه الأوّل كان بمنزلة النار التى تسرى فى الخشب حتى تحيله إلى غير [حالته «2» ] المتقدّمة؛ فهذا هو نقل العبارة عن الحقيقة فى الوضع للبيان، ولا بدّ من أن تكون أوضح من الحقيقة لأجل التشبيه العارض فيها لأن الحقيقة لو قامت مقامها لكانت أولى بها «3» ، لأنها الأصل، وليس يخفى على المتأمّل أن قوله عزّ وجلّ: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً أبلغ من كثر شيب الرأس، وهو حقيقة هذا المعنى. ولا بدّ للاستعارة من حقيقة هى أصلها، وهى مستعار منه، ومستعار، ومستعار له، فالنار مستعار منها، والاشتعال مستعار، والشيب مستعار له. قال: وأمّا قولنا مع طرح ذكر المشبّه، فاعلم أننا اذا طرحناه كقولنا: رأيت أسدا، وأردنا الرجل الشجاع فهو استعارة بالاتفاق، وإن ذكرنا معه الصيغة الدالّة على المشابهة كقولنا: زيد كالأسد أو مثله أو شبهه فليس باستعارة؛ وإن لم نذكر الصيغة وقلنا: زيد أسد فالمختار أنه ليس باستعارة إذ فى اللفظ ما يدلّ على أنّه ليس بأسد فلم تحصل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 50 المبالغة، فاذا قلت: زيد الأسد فهو أبعد عن الاستعارة، فإنّ الأوّل خرج بالتنكير عن أن يحسن فيه كاف التشبيه، فإنّ قولك: زيد كأسد كلام نازل بخلاف الثانى. قال ضياء الدين بن الأثير: وهذا التشبيه المضمر الأداة قد خلطه قوم بالاستعارة ولم يفرّقوا بينهما، وذلك خطأ محض. قال: وسأوضح وجه الخطإ فيه وأحقق القول فى الفرق بينهما فأقول: أمّا التشبيه المظهر الأداة فلا حاجة بنا إلى ذكره لأنّه لا خلاف فيه، ولكن نذكر التشبيه المضمر الأداة فنقول: إذا ذكر المنقول والمنقول اليه على أنّه تشبيه مضمر الأداة قيل فيه: زيد أسد، أى كالأسد، فأداة التشبيه فيه مضمرة مقدرة، وإذا أظهرت حسن ظهورها، ولم تقدح فى الكلام الذى أظهرت فيه، ولم تزل عنه فصاحته؛ وهذا بخلاف ما إذا ذكر المنقول إليه «1» دون المنقول فإنه لا يحسن فيه ظهور أداة التشبيه، وإذا ظهرت زال عن ذلك الكلام ما كان متّصفا به من الحسن والفصاحة. قال: ولنضرب لذلك مثالا يوضحه فنقول: قد ورد هذا البيت لبعض الشعراء وهو: فرعاء «2» إن نهضت لحاجتها ... عجل القضيب وأبطأ الدعص وهذا لا يحسن تقدير أداة التشبيه فيه، فلا يقال: عجل [قدّ «3» ] كالقضيب وأبطأ [ردف] كالدّعص؛ فالفرق إذن بين التشبيه المضمر أداة التشبيه فيه وبين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 51 الاستعارة أن التشبيه المضمر الأداة يحسن إظهار أداة التشبيه فيه، والاستعارة لا يحسن ذلك فيها. والاستعارة أخصّ من المجاز إذ قصد المبالغة شرط فى الاستعارة دون المجاز، وأيضا فكلّ استعارة من البديع وليس كلّ مجاز منه. والحقّ أن المعنى يعار أوّلا ثم بواسطته يعار اللّفظ؛ ولا تحسن الاستعارة إلا حيث كان التشبيه مقرّرا بينهما ظاهرا، وإلا فلا بدّ من التصريح بالتشبيه، فلو قلت: رأيت نخلة أو خامة وأنت تريد مؤمنا إشارة إلى قول النّبى صلّى الله عليه وسلم: «مثل المؤمن كمثل النخلة «1» » أو «كمثل «2» الخامة» لكنت كالملغز التارك لما «3» يفهم. وكلّما زاد التشبيه خفاء زادت الاستعارة حسنا بحيث تكون ألطف من التصريح بالتشبيه، فإنّك لو رمت أن تظهر التشبيه فى قول ابن المعتزّ: أثمرت أغصان راحته ... لجناة الحسن عنّابا احتجت أن تقول: أثمرت أصابع راحته التى هى كالأغصان لطالب الحسن. شبه العنّاب من أطرافها المخضوبة، وهذا ممّا لا خفاء بغثاثته. وربّما جمع بين عدّة استعارات إلحاقا للشكل بالشكل لإتمام التشبيه فتريد الاستعارة به حسنا، كقول امرئ القيس فى صفة اللّيل: فقلت له لمّا تمطّى بصلبه ... وأردف أعجازا وناء بكلكل فصل فيما تدخله الاستعارة وما لا تدخله قال: الأعلام لا تدخلها الاستعارة لما تقدّم فى المجاز. وأما الفعل فالاستعارة تقع أوّلا فى المصدر، ثم تقع بواسطة ذلك فى الفعل، فإذا قلت: نطقت الحال بكذا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 52 فهذا إنّما يصحّ لأنّك وجدت الحال مشابهة للنطق فى الدلالة على الشىء، فلا جرم [أنك «1» ] استعرت النطق لتلك الحالة ثم نقلته إلى الفعل. والأسماء المشتقّة فى ذلك كالفعل؛ فظهر أنّ الاستعارة إنّما تقع وقوعا أوّليّا فى أسماء الأجناس. ثم الفعل إذا كان مستعارا فاستعارته إمّا من جهة فاعله، كقوله: نطقت الحال بكذا ولعبت بى الهموم، وقول جرير: تحيى الروامس «2» ربعها فتجدّه ... بعد البلى وتميته الأمطار وقول أبى حيّة: وليلة مرضت من كل ناحية ... فما تضىء لها شمس ولا قمر أو من جهة مفعوله، كقول ابن المعتز: جمع الحقّ لنا فى إمام ... قتل الجوع «3» وأحيى السماحا أو من جهة مفعوليه، كقول الحريرى: وأقرى المسامع إمّا نطقت ... بيانا يقود الحرون الشموسا أو من جهة أحد مفعوليه، كقول الشاعر «4» : نقريهم لهذميّات نقدّ بها ... ما كان خاط عليهم كلّ زرّاد أو من جهة الفاعل والمفعول، كقوله تعالى: يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 53 قال: ويتصل بهذا ترشيح الاستعارة وتجريدها، أما ترشيحها فهو أن ينظر فيها إلى المستعار، ويراعى جانبه، ويوليه ما يستدعيه، ويضمّ إليه ما يقتضيه، كقول كثير: رمتنى بسهم ريشه الهدب لم يصب ... بظاهر «1» جسمى وهو فى القلب جارح وكقول النابغة: وصدر أراح الليل عازب همّه ... تضاعف فيه الحزن من كلّ جانب فالمستعار فى كل واحد منهما وهو الرمى والإراحة منظور اليهما فى لفظ السهم والعازب، وكما أنشد صاحب الكشّاف «2» : ينازعنى ردائى عند عمرو ... رويدك يا أخا عمرو بن بكر لى الشطر الذى ملكت يمينى ... ودونك فاعتجر منه بشطر أراد بردائه سيفه، ثم نظر إلى المستعار فى لفظ الاعتجار. وأما تجريدها فهو أن يكون المستعار له منظورا إليه، كقوله تعالى: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ فإن الإذاقة لمّا وقعت عبارة عما يدرك من أثر الضرر «3» والألم تشبيها له بما يدرك من الطعم المرّ البشع، واللباس عبارة عما يغشى منهما ويلابس فكأنه قال: فأذاقها الله ما غشيها من ألم الجوع والخوف، وكقول زهير: لدى أسد شاكى «4» السلاح مقذّف ... له لبد أظفاره لم تقلّم فلو نظر الى المستعار لقال: أسد دامى المخالب أو دامى البراثن، ونظر زهير فى آخر البيت الى المستعار أيضا، ومنه قول كثّير: غمر الرداء اذا تبسّم ضاحكا ... غلقت لضحكته رقاب المال الجزء: 7 ¦ الصفحة: 54 استعار الرداء للمعروف لأنه يصون عرض صاحبه صون الرداء لما يلقى عليه ووصفه «1» بالغمر الذى هو وصف المعروف والنوال لا وصف الرداء. قال: ويقرب من ذلك الاستعارة بالكناية، وهى أن لا يصرّح بذكر المستعار بل بذكر بعض لوازمه تنبيها به عليه، كقولهم: شجاع يفترس أقرانه، وعالم يغترف منه الناس. وكقول أبى ذؤيب: وإذا المنيّة أنشبت أظفارها ... ألفيت كلّ تميمة لا تنفع تنبيها على أنّ الشجاع أسد، والمنيّة سبع، والعالم «2» بحر، وهذا وإن كان يشبه الاستعارة المجرّدة إلّا أنّه أغرب وأعجب، ويقرب منه قول زهير: ومن يعص أطراف الزجاج «3» فإنه ... يطيع العوالى ركّبت كلّ لهذم أراد أن يقول: من لم يرض بأحكام الصلح رضى بأحكام الحرب، وذلك أنهم كانوا اذا طلبوا الصلح قلبوا زجاج الرماح وجعلوها قدّامها مكان الأسنّة، واذا أرادوا الحرب أشرعوا الأسنّة؛ وقد يسمّى هذا النوع المماثلة أيضا. قال: وقد ينزلون الاستعارة منزلة الحقيقة، وذلك أنهم يستعيرون الوصف المحسوس للشىء المعقول ويجعلون كأنّ تلك الصفة ثابتة لذلك الشىء فى الحقيقة، وأنّ الاستعارة لم توجد أصلا، مثاله استعارتهم العلوّ لزيادة الرجل على غيره فى الفضل والقدر والسلطان ثم وضعهم الكلام وضع من يذكر علوّا مكانيّا «4» ، كقول أبى تمّام: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 55 ويصعد حتى يظنّ الحسود ... بأنّ له حاجة فى السماء وكقوله أيضا: مكارم لجت فى علوّ كأنّما ... تحاول ثأرا «1» عند بعض الكواكب ولذلك يستعيرون اسم شىء لشىء من نحو شمس أو بدر أو أسد ويبلغون الى حيث يعتقد أنه ليس هناك استعارة، كقول ابن العميد: قامت تظلّلنى من الشمس ... نفس أعزّ علىّ من نفسى قامت تظلّلنى ومن عجب ... شمس تظللنى من الشمس وكقول آخر: أيا شمعا يضىء بلا انطفاء ... ويا بدرا يلوح بلا محاق فأنت البدر ما معنى انتقاصى؟ ... وأنت الشمع ما معنى احتراقى «2» ؟ [ «3» فلولا أنه أنسى نفسه أن هاهنا استعارة لما كان لهذا التعجب معنى، ومدار هذا النوع على التعجب] وقد يجئ على عكسه، كقول الشاعر «4» : لا تعجبوا من بلى غلالته ... قد زرّ أزراره على القمر. فصل فى أقسام الاستعارة قال: وهى على نوعين: الأوّل أن تعتمد نفس التشبيه، وهو أن يشترك شيئان فى وصف وأحدهما أنقص من الآخر، فتعطى الناقص اسم الزائد مبالغة فى تحقّق ذلك الوصف له الجزء: 7 ¦ الصفحة: 56 كقولك: رأيت أسدا وأنت تعنى رجلا شجاعا، وعنّت لنا ظبية وأنت تريد امرأة. والثانى أن تعتمد لوازمه عند ما تكون جهة الاشتراك وصفا، وإنما ثبت كماله فى المستعار منه بواسطة شىء آخر فتثبت ذلك الشىء للمستعار له مبالغة فى إثبات المشترك، كقول لبيد: وغداة ريح قد كشفت وقرّة «1» ... إذ أصبحت بيد الشمال زمامها وليس هناك مشار اليه يمكن أن يجرى اسم اليد عليه كما جرى الأسد على الرجل لكنّه خيّل الى نفسه أن الشمال فى تصريف الغداة على حكم طبيعة الإنسان المتصرّف فيما زمامه ومقادته بيده، لأن تصرف الإنسان إنما يكون باليد فى أكثر الأمور فاليد كالآلة التى تكمل بها القوّة على التصرف، ولما كان الغرض إثبات التصرف- وذلك مما لا يكمل إلا عند ثبوت اليد- أثبت اليد «2» للشمال تحقيقا للغرض، وحكم الزمام فى استعارته للغداة حكم اليد فى استعارتها للشمال، وكذلك قول تأبّط شرّا: اذا هزّه فى عظم قرن تهلّلت ... نواجذ «3» أفواه المنايا الضواحك لمّا شبّه المنايا عند هزّة السيف بالمسرور- وكمال الفرح والسرور إنما يظهر بالضحك الذى تتهلّل فيه النواجذ- أثبته تحقيقا للوصف المقصود، وإلّا فليس للمنايا ما ينقل اليه اسم النواجذ، وهكذا الكلام فى قول الحماسىّ: سقاه الردى سيف إذا سلّ أو مضت ... إليه ثنايا الموت من كلّ مرقب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 57 ومن هذا الباب قولهم: فلان مرخى العنان، وملقى الزمام. قال: ويسمّى هذا النوع استعارة تخييليّة، وهو كإثبات الجناح للذلّ فى قوله تعالى: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ. قال: اذا عرف هذا فالنوع الأوّل على أربعة أقسام: الأوّل- أن يستعار المحسوس للمحسوس، وذلك إما بأن يشتركا فى الذات ويختلفا فى الصفات، كاستعارة الطيران لغير ذى جناح فى السرعة، فإن الطيران والعدو يشتركان فى [الحقيقة «1» وهى] الحركة الكائنة» إلّا أن الطيران أسرع. أو بأن يختلفا فى الذات ويشتركا فى صفة إما محسوسة كقولهم: رأيت شمسا ويريدون إنسانا يتهلّل وجهه، وكقوله تعالى: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً فالمستعار منه النار، والمستعار له الشيب، والجامع الانبساط، ولكنّه فى النار أقوى؛ وإمّا غير محسوسة كقوله تعالى: إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ المستعار له الريح، والمستعار منه المرء والجامع المنع من ظهور النتيجة. الثانى- أن يستعار شىء معقول لشىء معقول لاشتراكهما فى وصف عدمىّ أو ثبوتىّ وأحدهما أكمل فى ذلك الوصف، فيتنزّل الناقص منزلة الكامل كاستعارة اسم العدم للوجود إذا اشتركا فى عدم الفائدة، أو استعارة اسم الوجود للعدم اذا بقيت آثاره المطلوبة منه، كتشبيه الجهل بالموت لاشتراك الموصوف «3» بهما فى عدم الإدراك والعقل، وكقولهم: فلان لقى الموت اذا لقى الشدائد، لاشتراكهما فى المكروهيّة، وقوله تعالى: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ والسكوت والزوال أمران معقولان. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 58 الثالث- أن يستعار المحسوس للمعقول كاستعارة النور الذى هو محسوس للحجّة، واستعارة القسطاس للعدل، وكقوله تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فالقذف والدمغ مستعاران، وقوله تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ استعارة لبيانه عما أوحى اليه كظهور ما فى الزجاجة عند انصداعها، وكلّ خوض فى القرآن العزيز فهو مستعار من الخوض فى الماء، وقوله تعالى: قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ جعل لهما طاعة وقولا. الرابع- أن يستعار اسم المعقول للمحسوس على ما تقدّم ذكره فى التشبيه كقوله تعالى: إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ فالشهيق والغيظ مستعاران، وقوله تعالى: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها والأقوال فى الاستعارة كثيرة، وقد أوردنا فيها ما يستدلّ به عليها. وأما الكناية قال: اللفظة إذا أطلقت وكان الغرض الأصلىّ غير معناها فلا يخلو: إما أن يكون معناها مقصودا أيضا ليكون دالّا على ذلك الغرض الأصلىّ وإما أن لا يكون كذلك. فالأوّل هو الكناية، ويقال له: الإرداف أيضا. والثانى المجاز. فالكناية عند علماء البيان أن يريد المتكلّم إثبات معنى من المعانى لا يذكره باللفظ الموضوع له فى اللغة، ولكن يجىء الى معنى هو تاليه «1» وردفه فى الوجود فيومى به اليه، ويجعله دليلا عليه، مثال ذلك قولهم: طويل النجاد وكثير رماد القدر، يعنون به أنه طويل القامة، كثير القرى، ومن ذلك قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ كنى بنفى قبول التوبة عن الموت على الكفر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 59 وقول الشاعر «1» : بعيدة مهوى الفرط إما لنوفل ... أبوها وإمّا عبد شمس وهاشم أراد يذكر طول جيدها [فأتى بتابعه «2» وهو بعد مهوى القرط] ، وكقول ليلى الأخيليّة: ومخرّق عنه القميص تخاله ... وسط البيوت من الحياء سقيما كنت عن جوده بخرق القميص من جذب العفاة له عند ازدحامهم لأخذ العطاء، وأمثال ذلك. قال: والكناية تكون فى المثبت كما ذكرنا، وقد تكون فى الإثبات وهى ما إذا حاولوا إثبات معنى من المعانى لشىء فيتركون التصريح بإثباته له، ويثبتونه لما له به تعلّق، كقولهم: المجد بين ثوبيه، والكرم بين برديه، وقول الشاعر «3» : إن المروءة والسماحة والندى ... فى قبّة ضربت على ابن الحشرج. قال: واعلم أن الكناية ليست من المجاز لأنك تعتبر فى ألفاظ الكناية معانيها «4» الأصلية، وتفيد بمعناها معنى ثانيا هو المقصود، فتريد بقولك: كثير الرماد حقيقته «5» وتجعل ذلك دليلا على كونه جوادا، فالكناية ذكر الرديف وإرادة المردوف. وأما التعريض- فهو تضمين الكلام دلالة ليس لها ذكر، كقولك: ما أقبح البخل! لمن تعرّض ببخله، وكقول محمد بن عبد الله بن الحسن: لم يعرق فى أمّهات الأولاد، يعرّض بالمنصور بأنه ابن أمة، وأمثال ذلك. وأما التمثيل - فإنما يكون من باب المجاز اذا جاء على حدّ الاستعارة، مثاله قولك للمتحيّر «6» : فلان يقدّم رجلا ويؤخر أخرى، فلو قلت: إنه فى تحيّره كمن يقدّم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 60 رجلا ويؤخر أخرى لم يكن من باب المجاز، وكذلك قولك لمن أخذ فى عمل لا يتحصّل منه مقصود: أراك تنفخ فى غير ضرم، وتخطّ على الماء. قال: وأجمعوا على أن للكناية مزيّة على التصريح لأنك اذا أثبت كثرة القرى بإثبات شاهدها ودليلها فهو كالدعوى التى [معها «1» ] شاهد ودليل، وذلك أبلغ من إثباتها بنفسها. وأما الخبر وأحكامه - فقد قال: الخبر هو القول المقتضى تصريحه نسبة معلوم الى معلوم بالنفى أو الإثبات. وتسمية أحد جزئيه بالخبر مجازيّة. ثم المقصود من الخبر إن كان هو الإثبات المطلق فيكون بالاسم، كقوله تعالى: وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ وإن لم يتمّ ذلك إلا بإشعار زمانه فيكون بالفعل، كقوله تعالى: هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ فإن المقصود لا يتمّ بكونه معطيا للرزق [بل بكونه معطيا للرزق «2» ] فى كل حين وأوان، والإخبار بالفعل أخصّ من الإخبار بالاسم، واذا أنعمت النظر وجدت الاسم موضوعا على أن تثبت به المعنى للشىء من غير إشعار بتجدّده شيئا فشيئا، بل جعل الانطلاق أو البسط مثلا صفة ثابتة ثبوت «3» الطول أو القصر فى قولك: زيد طويل أو قصير، بخلاف ما إذا أخبرت بالفعل فإنه يشعر بالتجدّد وأنه يقع جزءا فجزءا، وإذا أردت شاهدا على ذلك فتأمّل هذا البيت: لا يألف «4» الدرهم المضروب صرّتنا ... إلا «5» يمرّ عليها وهو منطلق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 61 فجاء بالاسم، ولو أتى بالفعل لم يحسن هذا الحسن. والفعل المتعدى الى جميع مفعولاته خبر واحد، حتى اذا قلت: ضرب زيد عمرا يوم الجمعة خلف المسجد ضربا شديدا تأديبا له كان الخبر «1» شيئا واحدا وهو إسناد الضرب المقيّد بهذه القيود الى زيد، فظهر من ذلك [أن «2» ] قولك: جاءنى رجل مغاير لما دلّ عليه قولك: جاءنى رجل ظريف، وإنك لست فى ذلك [إلا «3» ] كمن يضمّ معنى الى معنى. وحكم المبتدإ «4» والخبر أيضا كذلك، فقول بشّار: كأن مثار النّقع فوق رءوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه خبر واحد. وإذا قلت: الرجل خير من المرأة فاللام فيه قد تكون للعموم أو للخصوص بأن ترجع الى معهود، أو لتعريف الحقيقة مع قطع النظر عن عمومها وخصوصها. واذا قلت: زيد المنطلق، أو زيد هو المنطلق أفاد انحصار المخبر به فى المخبر عنه، فان أمكن الحصر ترك على حقيقته، وإلّا فعلى المبالغة. واذا قلت: المنطلق زيد فهو إخبار عما عرف بما لم يعرف، فكأن المخاطب عرف أن انسانا انطلق ولم يعرف صاحبه، فقلت: الذى تعتقد انه منطلق زيد. وأما الذى «5» - فهو للإشارة الى مفرد عند محاولة تعريفه بقضية معلومة كقولك: ذهب الرجل الذى أبوه منطلق، وهو تحقيق قولهم: إنه يستعمل لوصف المعارف بالجمل. والتصديق والتكذيب يتوجهان الى خبر المبتدا لا إلى صفته، فاذا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 62 كذّبت القائل فى قوله: زيد بن عمرو كريم، فالتكذيب لم يتوجه الى كونه ابن عمرو بل الى كونه كريما. وأما التقديم والتأخير - قال: اذا قدّم الشىء على غيره فإما أن يكون فى نيّة التأخير، كما اذا قدّم الخبر على المبتدإ؛ وإما أن يكون فى نية التأخير ولكن انتقل الشىء من حكم الى آخر، كما اذا جئت الى اسمين جاز أن يكون كلّ واحد منهما مبتدأ فجعلت أحدهما مبتدأ، كقولك: زيد المنطلق، والمنطلق زيد. قال الجرجانىّ: قال صاحب الكتاب: كأنهم يقدّمون الذى بيانه أهمّ لهم وهم بشأنه أعنى، وإن كانا جميعا يهمّانهم ويعنيانهم، مثاله: أن الناس اذا تعلق غرضهم بقتل خارجىّ مفسد ولا يبالون من صدر القتل منه، وأراد مريد الإخبار بذلك فإنه يقدّم ذكر الخارجىّ [فيقول «1» ] قتل الخارجىّ زيد، ولا يقول: قتل زيد الخارجىّ لأنه يعلم أن قتل الخارجىّ هو الذى يعنيهم، وإن كان قد وقع قتل من رجل يبعد فى اعتقاد الناس وقوع القتل من مثله قدّم المخبر ذكر الفاعل فيقول: قتل زيد رجلا لاعتقاد الناس فى المذكور خلاف ذلك. انتهى كلام الجرجانىّ. قال: ولنذكر ثلاثة مواضع يعرف بها ما «2» لم يذكر: الأوّل الاستفهام - فإذا أدخلته على الفعل وقلت: أضربت زيدا؟ كان الشكّ فى وجود الفعل، وإذا أدخلته على الاسم وقلت: أأنت ضربت زيدا؟ كان الفعل محقّقا والشكّ فى تعيين الفاعل. وهكذا حكم النكرة، فإذا قلت: أجاءك رجل؟ كان المقصود: هل وجد المجىء من رجل؟ فإذا قلت: أرجل جاءك؟ كان ذلك سؤالا عن جنس من جاء بعد الحكم بوجود المجىء من إنسان؛ وقس عليه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 63 الخبر فى قولك: ضربت زيدا، وزيدا ضربت، وجاءنى رجل، ورجل جاءنى؛ ثم الاستفهام قد يجىء للانكار، فإن كان [فى «1» ] الكلام فعل ماض وأدخلت الاستفهام عليه كان لانكاره، كقوله تعالى: أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ وإن أدخلته على الاسم فإن لم يكن الفعل مترددا بينه وبين غيره كان لانكار أنه الفاعل، ويلزم منه نفى ذلك الفعل، كقوله تعالى: آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أى لو كان إذن لكان من الله، فلمّا لم يوجد منه دلّ على أن لا إذن، كما تقول: متى كان هذا، فى ليل أم «2» نهار؟ أى لو كان لكان فى ليل أو نهار، فلما لم يوجد فى واحد منهما لم يوجد أصلا، وعليه قوله تعالى: آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ* . وإن كان مردّدا بينه وبين غيره كان إما للتقرير والتوبيخ، وعليه قوله تعالى حكاية عن قول نمرود: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ . وإمّا لانكار أنه الفاعل مع تحقيق الفعل، كقولك لمن انتحل شعرا: أأنت قلت هذا؟. وان كان الفعل مضارعا، فإن أدخلت حرف الاستفهام عليه كان إمّا لانكار وجوده، كقوله تعالى: أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ . أو لانكار أنه يقدر على الفعل، كقول امرئ القيس: أيقتلنى والمشرفىّ مضاجعى ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال. أو لإزالة طمع من طمع فى أمر لا يكون، فيجهّله فى طمعه، كقولك: أيرضى عنك فلان وأنت على ما يكره؟. أو لتعنيف من يضيّع الحق، كقول الشاعر: أتترك «3» إن قلّت دراهم خالد ... زيارته إنى إذن للئيم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 64 أو لتنديم الفاعل، كما تقول لمن يركب الخطر: أتخرج فى هذا الوقت؟. وإن أدخلته على الاسم فهو لإنكار صدور الفعل من ذلك الفاعل إما للاستحقار كقولك: أأنت تمنعنى؟. أو للتعظيم كقولك: أهو يسأل الناس؟. أو للمبالغة إما فى كرمه، كقولك: أهو يمنع سائله؟؛ وإما فى خساسته، كقولك: أهو يسمح بمثل هذا؟. وقد يكون لبيان استحالة فعل ظنّ ممكنا، كقوله تعالى: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وكذلك إذا أدخلته على المفعول، كقوله تعالى: أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا وأَ غَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ وأَ بَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ. الثانى فى التقديم والتأخير فى النفى - إذا أدخلت النفى على الفعل فقلت: ما ضربت زيدا فقد نفيت عن نفسك ضربا واقعا بزيد، وهذا لا يقتضى كون زيد مضروبا. وإذا أدخلته على الاسم فقلت: ما أنا ضربت زيدا اقتضى من باب دليل الخطاب كون زيد مضروبا، وعليه قول المتنبى: وما أنا وحدى قلت ذا الشعر كلّه ... ولكن لشعرى فيك من نفسه شعر ولهذا يصح أن تقول: ما ضربت إلا زيدا، وما ضربت زيدا ولا ضربه أحد من الناس، ولا يصح أن تقول: ما أنا ضربت إلا زيدا، وما أنا ضربت زيدا ولا ضربه أحد من الناس. أما الأوّل فلأنّ نقض النفى بإلّا يقتضى أن تكون ضربته، [وتقديمك «1» ضميرك وإيلاءه حرف النفى يقتضى ألا «2» تكون ضربته] فيتدافعان.] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 65 وأما الثانى فلأن أوّل الكلام يقتضى أن يكون زيد مضروبا، وآخره يقتضى ألا يكون مضروبا فيتناقضان. إذا عرف هذا فى جانب الفاعل فإنه مثله فى جانب المفعول، فإذا قلت: ما ضربت زيدا لم يقتض أن تكون ضاربا لغيره، وإذا قلت: ما زيدا ضربت اقتضى ذلك، ولهذا صحّ ما ضربت زيدا ولا أحدا من الناس ولا يصح [ما «1» ] زيدا ضربت ولا أحدا من الناس. وحكم الجار والمجرور حكم المفعول، فإذا قلت: ما أمرتك بهذا لم يقتض أن تكون قد أمرته بشىء غير هذا، وإذا قلت: ما بهذا أمرتك اقتضاه. وإذا قدّمت صيغة العموم على السلب وقلت: كلّ ذا لم أفعله، برفع كلّ كان نفيا عامّا، ويناقضه الإثبات الخاصّ، فلو فعلت بعضه كنت كاذبا. وإن قدّمت السلب وقلت: لم أفعل كلّ ذا كان نفيا للعموم ولا ينافى الإثبات الخاصّ، فلو فعلت بعضه لم تكن كاذبا، ومن هذا ظهر الفرق بين رفع كلّ ونصبه فى قول أبى النجم: قد أصبحت أمّ الخيار تدّعى ... علىّ ذنبا كلّه لم أصنع فإن رفعته كان النفى عامّا، واستقام غرض الشاعر فى تبرئة نفسه من جملة الذنوب، وإن نصبته كان النفى نفيا للعموم، وهو لا ينافى إتيان بعض الذنب فلا يتم غرضه. الثالث فى التقديم والتأخير فى الخبر المثبت - ما تقدّم فى الاستفهام والنفى قائم هنا، فإذا قدّمت الاسم وقلت: زيد فعل وأنا فعلت فالقصد الى الفاعل، إما لتخصيص ذلك الفعل به، كقولك: أنا شفعت فى شأنه مدّعيا الانفراد بذلك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 66 أو لتأكيد إثبات الفعل له لا للحصر، كقولك: هو يعطى الجزيل، لتمكّن فى نفس السامع أن ذلك دأبه دون نفيه عن غيره، ومنه قوله تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ فإنه ليس المراد تخصيص المخلوقية بهم، وقوله تعالى: وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وكقول درنى بنت عبعبة «1» : هما يلبسان المجد أحسن لبسة ... شحيحان ما اسطاعا عليه كلاهما وقول الآخر: همو يفرشون اللّبد كلّ طمرّة «2» ... وأجرد سبّاح يبذ «3» المغالبا قال: والسبب فى هذا التأكيد أنك إذا قلت مثلا: زيد، فقد أشعرت بأنك تريد الحديث عنه فيحصل للسامعه تشوّق إلى معرفته، فإذا ذكرته قبلته النفس [قبول العاشق معشوقه «4» ] فيكون ذلك أبلغ فى التحقيق ونفى الشكّ والشبهة، ولهذا تقول لمن تعده: أنا أعطيك أنا أكفيك، أنا أقوم بهذا الأمر، وذلك إذا كان من شأن من يسبق له وعد أن يعترضه الشك فى وفائه، ولذلك يقال فى المدح: أنت تعطى الجزيل، أنت تجود حين لا يجود أحد، ومن هاهنا تعرف الفخامة فى الجمل التى فيها ضمير الشأن والقصّة كقوله تعالى: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ وقوله تعالى: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ* وأن فيها ما ليس فى قولك: فإن الأبصار لا تعمى، وإن الكافرين لا يفلحون؛ وهكذا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 67 فى الخبر المنفىّ، فإذا قلت: أنت لا تحسن هذا، كان أبلغ من قولك لا تحسن هذا، فالأوّل لمن هو أشدّ إعجابا بنفسه وأكثر دعوى بأنه يحسن. قال: واعلم أنه قد يكون تقديم الاسم كاللازم نحو قوله: يا عاذلى دعنى من عذلكا ... مثلى لا يقبل من مثلكا وقول المتنبى: مثلك يثنى الحزن عن صوبه ... ويستردّ الدمع عن غربه وقول الناس «1» : مثلك يرعى الحق والحرمة، وما أشبه ذلك مما لا يقصد فيه إلى إنسان سوى الذى أضيف اليه وجىء به للمبالغة، وقد عبّر المتنبى عن هذا المعنى فقال: ولم أقل مثلك أعنى به ... سواك يا فردا بلا مشبه. وكذلك حكم «غير» اذا سلك فيه هذا المسلك، كقول المتنبى: غيرى بأكثر هذا الناس ينخدع ... إن قاتلوا جبنوا أو حدّثوا شجعوا أى لست ممن ينخدع ويغترّ، ولو لم يقدّم «2» مثلا وغيرا فى هذه الصور لم يؤدّ هذا المعنى. قال: ويقرب من هذا المعنى تقديم بعض المفعولات على بعض فى نحو قوله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ فإن تقديم شركاء على الجن أفاد أنه ما ينبغى لله شركاء لا من الجنّ ولا من غيرهم، لأن شركاء مفعول ثان لجعلوا، ولله متعلّق به والجنّ مفعوله الأوّل، فقد جعل الإنكار على جعل الشريك لله على الإطلاق من غير اختصاص بشىء دون شىء، لأن الصفة إذا ذكرت مجرّدة عن مجراها على شىء كان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 68 الذى تعلق بها من المنفىّ «1» عاما فى كل ما يجوز أن تكون له تلك الصفة، فإذا قلت: ما فى الدار كريم، كنت نفيت الكينونة فى الدار عن كل شىء يكون الكرم صفة له، وحكم الإنكار «2» أبدا حكم النفى، فأما إذا أخرت شركاء فقلت: وجعلوا الجنّ شركاء [لله «3» فيكون جعل الشركاء مخصوصا غير مطلق فيحتمل أن يكون المقصود بالإنكار جعل الجنّ شركاء] لا جعل غيرهم، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا، فقدّم شركاء نفيا لهذا الاحتمال. فصل فى مواضع التقديم والتأخير قال: أما التقديم فيحسن فى مواضع: الأول أن تكون الحاجة إلى ذكره أشدّ، كقولك: قطع اللّصّ الأمير. الثانى: أن يكون ذلك أليق بما قبله من الكلام أو بما بعده، كقوله تعالى: وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ فإنه أشكل بما بعده وهو قوله: فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ* وبما قبله وهو: مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ*. الثالث: أن يكون من الحروف التى لها صدر الكلام، كحروف الاستفهام والنفى، فإنّ الاستفهام طلب فهم الشىء، وهو حالة إضافية فلا تستقلّ بالمفهومية فيشتدّ اتصاله بما بعده. الرابع: تقديم الكلىّ على جزئياته، فإن الشىء كلما كان أكثر عموما كان أعرف فإن الوجود لما كان «4» أعمّ الأمور كان أعرفها عند العقل. الخامس: تقديم الدليل على المدلول. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 69 وأما التأخير فيحسن «1» فى مواضع: الأوّل: تمام الاسم كالصلة والمضاف اليه. الثانى: توابع الأسماء. الثالث: الفاعل. الرابع: المضمر، وهو أن يكون متأخرا لفظا وتقديرا، كقولك: ضرب زيد غلامه أو مؤخرا فى اللفظ مقدّما فى المعنى كقوله تعالى: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ أو بالعكس كقولك: ضرب غلامه زيد؛ وإن تقدّم لفظا ومعنى لم يجز كقولك: ضرب غلامه زيدا. الخامس: ما يفضى إلى اللّبس، كقولك: ضرب موسى عيسى، أو أكرم هذا هذا، فيجيب فيه تقديم الفاعل. السادس: العامل الذى هو ضعيف عمله، كالصفة المشبّهة والتمييز وما عمل فيه حرف أو معنى، كقولك: هو حسن وجها، وكريم أبا، وتصبب عرقا، وخمسة وعشرون درهما، وإن زيدا قائم، وفى الدار سعد جالسا. ولا يجوز الفصل بين العامل والمعمول بما ليس منه، فلا تقول: كانت زيدا الحمّى تأخذ إذا رفعت اخمّى بكانت «2» للفصل بين العامل وما عمل فيه، فإن أضمرت الحمّى فى كانت صحت المسألة. وأما الفصل والوصل - فهو العلم بمواضع العطف والاستئناف، والتهدّى إلى كيفيّة إيقاع حروف العطف فى مواقعها، وهو من أعظم أركان البلاغة، حتى إن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 70 بعضهم حدّ البلاغة بأنها معرفة الفصل والوصل. وقال عبد القاهر: إنه لا يكمل لإحراز الفضيلة فيه أحد إلا كمل لسائر معانى البلاغة. قال: اعلم أن فائدة [العطف «1» ] التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه، ثم من الحروف العاطفة ما لا يفيد إلا هذا القدر وهو الواو، ومنها ما يفيد «2» فائدة زائدة كالفاء وثمّ وأو، وغرضنا هاهنا متعلق بما لا يفيد إلا الاشتراك فنقول: العطف إما أن يكون فى المفردات، وهو يقتضى التشريك فى الإعراب، وإما أن يكون فى الجمل، وتلك الجملة إن كانت فى قوّة المفرد كقولك: مررت برجل خلقه حسن وخلقه قبيح، فقد أشركت بينهما فى الإعراب [والمعنى «3» ] لاشتراكهما فى كون كل واحد منهما تقييدا للموصوف، ولا يتصور أن يكون اشتراك بين شيئين حتى يكون هناك معنى يقع ذلك الاشتراك فيه، وحتى يكونا كالنظيرين والشريكين، وبحيث إذا عرف السامع حاله الأوّل عساه يعرف حاله الثانى، يدلك على ذلك أنك اذا عطفت على الأول شيئا ليس منه بسبب ولا هو مما يذكر بذكره لم يستقم، فلو قلت: خرجت اليوم من دارى، وأحسن الذى [يقول «4» ] بيت كذا قلت ما يضحك منه، ومن هاهنا عابوا على أبى تمّام قوله: لا والذى هو عالم أن النوى ... صبر وأن أبا الحسين كريم. وإن لم تكن فى قوّة المفرد فهى على قسمين: الأوّل أن يكون معنى إحدى الجملتين لذاته متعلقا بمعنى الأخرى «5» كما إذا كانت كالتوكيد لها أو كالصفة، فلا يجوز إدخال العاطف عليه، لأنّ التوكيد والصفة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 71 متعلقان بالمؤكّد والموصوف لذاتهما، والتعلق الذاتىّ يغنى عن لفظ يدل على التعلق، فمثال التوكيد قوله تعالى: الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ فلا ريب فيه توكيد لقوله تعالى: ذلِكَ الْكِتابُ كأنه قال: هو ذلك الكتاب، وكذلك قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وقوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ تأكيد ثان أبلغ من الأوّل، وكذلك قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ ولم يقل: ويخادعون، لأن المخادعة ليست شيئا غير قولهم: آمنّا مع أنهم غير مؤمنين، وكذلك قوله تعالى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً ولم يقل تعالى: وكأن، وأمثال [ذلك] فى القرآن العزيز كثيرة. القسم الثانى ألا يكون بين الجملتين تعلق ذاتىّ، فإن لم يكن بينهما مناسبة فيجب ترك العاطف أيضا، لأن العطف للتشريك ولا تشريك، ومن هاهنا أيضا عابوا على أبى تمّام البيت المتقدّم، لا والذى هو عالم ... ، إذ لا مناسبة بين مرارة النوى وبين كرم أبى الحسين، ولذلك لم يحسن جواز العاطف. وإن كان بينهما مناسبة فيجب ذكر العاطف. ثم إن كان المحدّث عنه فى الجملتين شيئين فالمناسبة بينهما إما أن تكون بالذى أخبر بهما، أو بالذى أخبر عنهما، أو بهما كليهما؛ وهذا الأخير هو المعتبر فى العطف. قال: ونعنى بالمناسبة أن يكونا متشابهين، كقولك: زيد كاتب وعمرو [شاعر «1» ] [أو متضادّين تضادّا على الخصوص، كقولك زيد طويل وعمرو «2» ] قصير، وكقولك: العلم حسن والجهل قبيح، فلو قلت: زيد طويل والخليفة قصير لا اختل معنى عند الجزء: 7 ¦ الصفحة: 72 ما لا يكون لزيد تعلق بحديث الخليفة، ولو قلت: زيد طويل وعمرو شاعر لا اختل لفظا، إذ لا مناسبة بين الطويل القامة والشاعر. وإن كان المحدّث عنه فى الجملتين شيئا واحدا، كقولك: فلان يقول ويفعل ويضرّ وينفع، ويأمر وينهى، ويسىء ويحسن، فيجب إدخال العاطف فإن الغرض جعله فاعلا لأمرين، فلو قلت: يقول يفعل بلا عاطف لتوهّم أن الثانى رجوع عن الأوّل. وإذا أفاد العاطف الاجتماع ازداد الاشتراك «1» ، كقولك: العجب من أنك أحسنت وأسأت، والعجب من أنك تنهى عن شىء وتأتى مثله، وكقوله: لا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم ... وأن نكفّ الأذى عنكم وتؤذونا فإن المعنى جعل الفعلين فى حكم واحد، أى لا تطمعوا أن تروا إكرامنا إيّاكم يوجد مع إهانتكم إيّانا. قال: وقد يجب إسقاط العاطف فى بعض المواضع لاختلال المعنى عند إثباته كقوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ فقوله تعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ كلام مستأنف، وهو إخبار من الله تعالى، فلو أتى بالواو لكان إخبارا عن اليهود بأنهم وصفوا أنفسهم بأنهم يفسدون فيختل المعنى، وكذلك قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وأمثال ذلك كثيرة؛ واذا كان كذلك فلا حاجة الى العاطف بخلاف قوله تعالى: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ فإن كل واحدة من الجملتين خبر من الله تعالى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 73 قال: ومما يجب ذكره هاهنا الجملة اذا وقعت حالا فإنها تجىء مع الواو تارة وبدونها أخرى فنقول: الجملة اذا وقعت حالا فلا بدّ أن تكون خبريّة تحتمل الصدق والكذب، وهو «1» على قسمين: الأوّل وله أحوال: الأولى: أن يجمع لها بين الواو وضمير صاحب الحال، كقولك: جاء زيد ويده على غلامه، ولقيت زيدا وفرسه سابقه، وهذه الواو تسمّى واو الحال. الثانية: أن تجىء بالضمير من غير واو، كقولك: كلمته فوه الى فىّ، وهو فى معنى مشافها، والرابط الضمير، فلو قلت: كلّمته الى فىّ فوه، ولقيته عليه جبّة وشى لم يكن من باب وقوع الجملة حالا، لأنه يمكننا أن نرفع فوه وجبة بالجارّ والمجرور فيرجع الكلام الى وقوع المفرد حالا، والتقدير كلّمته كائنا الى فىّ فوه، ولقيته مستقرّة عليه جبّة وشى، وعليه قول بشّار: اذا أنكرتنى بلدة أو نكرتها ... غدوت مع البازى علىّ سواد. الثالثة: أن تجىء الواو من غير ضمير وهو كثير، كقولك: لقيتك والجيش قادم وزرتنا والشتاء خارج. ويجوز أن يجمع بين حالين مفرد وجملة اذا أجزنا وقوع حالين كقولك: لقيتك راكبا والجيش قادم، فالجملة حال من التاء أو من الكاف، والعامل فيها لقيت، أو من ضمير «راكبا» و «راكبا» هو العامل فيها. القسم الثانى الجملة الفعلية، ولا بدّ أن تكون ماضيا أو مضارعا أما الماضى فلا بدّ معه من الإتيان بالواو وقد أو بأحدهما، كقولك: تكلمت وقد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 74 عجلت، وجاء زيد قد ضرب عمرا، وجئت وأسرعت فى المجىء، قال الله تعالى: قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ ولم يجز البصريّون خلوّه عنهما، وقالوا فى قوله تعالى: أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ وفى قول أبى صخر الهذلىّ: وإنى لتعرونى لذكراك هزّة ... كما انتفض العصفور بلّله القطر: إن قد مقدّرة فيهما، فإنّ الشىء اذا عرف موضعه جاز حذفه. وأما المضارع فإن كان موجبا فلا يؤتى معه بالواو «1» ، فتقول: جاءنى زيد يضحك، ويجىء عمرو يسرع، واجلس تحدّثنا بالرفع أى محدّثا لنا، لأنه بتجرّده عما يغير معناه أشبه اسم الفاعل اذا وقع حالا. وإن كان منفيا جاز حذف الواو مراعاة لأصل الفعل الذى هو الإيجاب وجاز إثباتها، لأن الفعل ليس هو الحال، فإن معنى قولك: جلس زيد ولم يتكلّم جلس زيد غير متكلّم، فجرى مجرى الجملة الإسمية، فالحذف كقولك: جاء زيد ما يفوه ببنت شفة، قال الله تعالى: الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ فقوله: لا يمسّنا فى موضع نصب على الحال من ضمير المرفوع فى أحلّنا، والإثبات كقولك: جلس زيد ولم يتكلّم، قال الله تعالى: أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً . قال: وشبهوا به الفعل الماضى فقالوا: جاء زيد ما ضرب عمرا، وجاء زيد وما ضرب عمرا. وأما الحذف والإضمار - فقد قال: الأفعال المتعدّية التى ترك ذكر مفعولاتها على قسمين: الأوّل: ألا يكون له مفعول معيّن، فقد يترك مفعوله لفظا وتقديرا ويجعل حاله كحال غير المتعدّى، كقولهم: فلان يحلّ ويعقد، ويأمر وينهى، ويضرّ وينفع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 75 والمقصود إثبات المعنى فى نفسه للشىء من غير التعرّض لحديث المفعول، فكأنك قلت: بحيث يكون منه حلّ وعقد وأمر ونهى ونفع وضرّ، وعليه قوله تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ أى هل يستوى من له علم ومن لا علم له من غير أن ينص على معلوم، وكذلك قوله تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى الى قوله: وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى وبالجملة فمتى كان الغرض بيان حال الفاعل فقط فلا تعدّ الفعل، فإنّ تعديته تنقض الغرض. ألا ترى أنك اذا قلت: فلان يعطى الدنانير كان المقصود بيان جنس ما يتناوله الإعطاء لا بيان حال كونه معطيا؟. الثانى: أن يكون له مفعول معلوم إلا أنه يحذف فى اللفظ لأغراض: الأوّل: أن يكون المراد بيان حال الفاعل وأنّ ذلك الحال «1» دأبه لا بيان المفعول كقول طفيل: جزى الله عنا جعفرا حين أزلفت ... بنا نعلنا فى الواطئين فزلّت أبوا أن يملّونا ولو أنّ أمنا ... تلاقى الّذى لاقوه منّا لملّت هم خلطونا بالنفوس «2» وألجؤا ... الى حجرات أدفأت وأظلّت والأصل أن تقول: لملّتنا وألجؤونا وأدفأتنا وأظلّتنا، فحذف المفعول المعيّن من هذه المواضع الأربعة، وكأنه «3» قد أبهم ولم يقصد قصد شىء يقع عليه، كما تقول: قد ملّ فلان، تريد قد دخل عليه الملال من غير أن تخصّ شيئا بل لا تزيد على أن تجعل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 76 الملال من صفته، فلذلك الشاعر جعل هذه الأوصاف من دأبهم، ولو أضاف الى مفعول معيّن لبطل هذا الغرض، وعليه قوله تعالى: وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ الى قوله تعالى: فَسَقى لَهُما فقد حذف المفعول فى أربعة مواضع، فإن ذكره ربما يخلّ بالمقصود، فلو قال تعالى مثلا: تذودان غنمهما لتوهّم أنّ الإنكار إنما جاء من ذودهما الغنم لا من مطلق الذّود، كقولك: ما لك تمنع أخاك؟ فإنّ الإنكار من منع الأخ لا من مطلق المنع. الثانى: أن يكون المقصود ذكره إلا أنك لا تذكره إيهاما بأنك لا تقصد ذكره كقول البحترىّ: شجو حسّاده وغيظ عداه ... أن يرى مبصر ويسمع واع المعنى أن يرى مبصر محاسنه، أو يسمع واع المعنى أن يرى مبصر محاسنه، أو يسمع واع أخباره، ولكنه تغافل عن ذلك إيذانا بأن فضائله يكفى فيها أن يقع عليها بصر أو يعيها سمع حتى يعلم أنه المتفرّد بالفضائل، فليس لحسّاده وعداه أشجى من علم بأن هنا مبصرا وسامعا. الثالث: أن يحذف لكونه بيّنا، كقولهم: أصغيت اليك، أى أذنى، وأغضيت عليك، أى جفنى. فصل فى حذف المبتداء والخبر قال: قد يحسن حذف المبتدإ حيث يكون الغرض أنه قد بلغ فى استحقاق الوصف بما جعل وصفا له الى حيث يعلم بالضرورة أن ذلك الوصف ليس إلا له سواء كان فى نفسه كذلك، أم «1» بحسب دعوى الشاعر على طريق المبالغة، فذكره الجزء: 7 ¦ الصفحة: 77 يبطل هذا الغرض، ولهذا قال الإمام عبد القاهر: ما من اسم يحذف فى الحالة التى ينبغى أن يحذف فيها إلا وحذفه أحسن من ذكره، فمن حذف المبتدإ قوله تعالى: سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها أى هذه سورة، وقول الشاعر: لا يبعد الله التلبّب «1» والغارات ... إذ قال الخميس نعم أى هذه نعم، قال عبد القاهر: ومن المواضع التى يطّرد فيها حذف المبتدإ بالقطع «2» والاستئناف أنهم يبدعون بذكر الرجل ويقدّمون بعض أمره، ثم يدعون الكلام الأوّل ويستأنفون كلاما [آخر «3» ] واذا فعلوا ذلك «4» أتوا فى أكثر الأمر بخبر من غير مبتدإ، مثال ذلك قوله: وعلمت أنّى يوم ذاك ... منازل كعبا ونهدا قوم إذا لبسوا الحدي ... د تنمرّوا خلقا «5» وقدا وقال الحطيئة: هم حلوا من الشرف المعلّى ... ومن حسب العشيرة حيث شاءوا بناة مكارم وأساة كلم ... دماؤهم من الكلب «6» الشفاء وأمثلة ذلك كثيرة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 78 ومن حذف الخبر قوله تعالى: لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ أى لولا أنتم مضلونا وقول عمر بن الخطاب رضى الله عنه: لولا علىّ لهلك عمر، أى لولا علىّ حاضر أو مفت. فصل الإضمار على شريطة التفسير كقولهم: أكرمنى وأكرمت عبد الله أى أكرمنى عبد الله وأكرمت عبد الله، ومما يشبه ذلك مفعول المشيئة اذا جاءت بعد لو، فإن كان مفعولها أمرا عظيما أو غريبا فالأولى ذكره، كقوله: ولو «1» شئت أن أبكى دما لبكيته ... عليه ولكن ساحة الصبر أوسع فإن بكاء الإنسان دما عجيب، وإن لم يكن كذلك فالأولى حذفه، كقوله تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى والتقدير لو شاء الله أن يجمعهم على الهدى لجمعهم، وكذلك قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ وقوله تعالى: فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ ومَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. قال: واعلم أنه قد تترك الكناية الى التصريح لما فيه من زيادة الفخامة كقول البحترىّ: قد طلبنا فلم نجد لك فى السّو ... دد والمجد والمكارم مثلا المعنى قد طلبنا لك مثلا، ثم حذف، لأن هذا المدح إنما يتم بنفى المثل، فلو قال: قد طلبنا لك مثلا فى السّودد والمجد فلم نجده لكان قد أوقع نفى الوجود على ضمير المثل، فلم يكن فيه من المبالغة ما اذا أوقعه على صريح المثل، فإن الكناية لا تبلغ مبلغ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 79 الصريح، ولهذا لو قلت: وبالحق أنزلناه وبه نزل، وقل هو الله أحد وهو الصمد لا تجد من الفخامة ما تجده فى قوله تعالى: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ وعلى ذلك قول الشاعر: لا أرى الموت يسبق الموت شىء ... نغّص الموت ذا الغنى والفقيرا. وأما مباحث إنّ وإنما - فإنه قال: أما إنّ فلها فوائد: الأولى أن تربط الجملة الثانية بالأولى، وبسببها يحصل التأليف بينهما حتى كأن الكلامين أفرغا إفراغا واحدا، ولو أسقطتها كان الثانى نائيا عن الأوّل، كقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ وقوله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ . وقوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وقد تتكرر فى كلام واحد، كقوله تعالى: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ . ثم متى أسقطت «إنّ» من الجملة التى أدخلتها عليها، فإن كانت الجملة الثانية إنما تذكر لإظهار فائدة ما قبلها كما فى الآيات المذكورة احتجت إلى الفاء، وإلا فلا، كما فى قوله تعالى: إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ فلو قلت: فالمتقون لم يكن كلاما، وكذلك قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ فى موضع خبر إنّ، فدخول الفاء يوجب عطف الخبر على المبتدإ، وهو غير جائز عند أكثر النحويين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 80 الثانية: أنك ترى لضمير الشأن والقصة فى الجملة الشرطيّة مع «إنّ» من الحسن واللطف ما لا تراه إذا هى لم تدخل عليها، كقوله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وقوله تعالى: أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ وقوله تعالى: أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. الثالثة: أنها تهيّئ النكرة وتصلحها لأن يحدّث عنها، كقوله «1» : إنّ شواء ونشوة ... وخبب «2» البازل الأمون فلولا هى لم يكن كلاما؛ وإن كانت النكرة موصوفة جاز حذفها ولكن دخولها أصلح، كقول حسّان: إنّ دهرا يلفّ شملى بجمل ... لزمان يهمّ بالإحسان. الرابعة: أنها قد تغنى عن الخبر، كما اذا قيل لك: الناس «3» إلب عليكم فهل لكم أحد؟ فقلت: إنّ زيدا وإنّ عمرا، أى لنا، قال الأعشى» : إنّ محلّا وإنّ مرتحلا ... وإنّ فى السّفر «5» إذ مضوا مهلا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 81 الخامسة: قال المبرّد: اذا قلت عبد الله قائم، فهو إخبار عن قيامه، فاذا قلت: إنّ عبد الله قائم، فهو جواب عن إنكار منكر لقيامه، سواء كان المنكر هو السائل أو الحاضرين؛ والدليل على أنّ إنّ «1» إنما تذكر لجواب السائل أنهم ألزموها الجملة من المبتدإ والخبر، نحو: والله إنّ زيدا لمنطلق، فالحاجة إنما تدعو الى «إنّ» اذا كان للسامع ظنّ يخالف ذلك، ولذلك تراها تزداد حسنا اذا كان الخبر بأمر يبعد «2» ، كقول أبى نواس: عليك باليأس من الناس ... إنّ غنى نفسك فى الياس. ومن لطيف مواقعها أن يدّعى على المخاطب ظنّ لم يظنّه ولكن [صدر «3» ] منه فعل يقتضى ذلك الظنّ، فيقال له: حالك تقتضى أن تكون قد ظننت ذلك، كقول الشاعر «4» : جاء شقيق عارضا رمحه ... إنّ بنى عمّك فيهم رماح أى مجيئك هذا مدلّا بنفسك مجىء من يعتقد أنه ليس مع أحد رمح غيره. وقد تجىء اذا وجد أمر كان المتكلّم يظنّ أنه لا يوجد، كقولك للشىء الذى يراه المخاطب ويسمعه: إنه كان من الأمر ما ترى، إنه كان منى إليه «5» إحسان فقابلنى بالسوء كأنك تردّ على نفسك ظنّك الذى ظننت، وعليه قوله عز وجل حكاية عن أمّ مريم: قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وحكاية عن نوح: قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 82 وأما إنما - فتارة تجىء للحصر بمعنى أنّ هذا الحكم لا يوجد فى غير المذكور وهى بمنزلة ليس إلا، كقوله تعالى: إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وقوله: إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وقوله تعالى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها. وتارة تجىء لبيان أن هذا الأمر ظاهر عند كلّ حدّ، سواء كان كذلك أم «1» فى زعم المتكلّم، ومنه قول الشاعر «2» : إنما مصعب شهاب من الله ... تجلّت عن وجهه الظّلماء مدّعيا أن ذلك مما لا ينكره أحد من الناس. قال: واعلم أنه يستعمل للتخصيص ثلاث عبارات: الأولى: إنما جاء زيد؛ الثانية: جاءنى زيد لا عمرو، والفرق أنّ فى الأولى يفهم إيجاب الفعل من زيد ونفيه عن غيره دفعة واحدة، ومن الثانية دفعتين، ثم إنهما كلتيهما «3» يستعملان لإثبات التخصيص لا لنفى التشريك؛ وفيه نظر. الثالثة: ما جاءنى إلا زيد، وهى بأصل الوضع تفيد نفى التشريك، ولهذا لا يصحّ ما زيد إلّا قائم لا قاعد، لأنك بقولك: إلا قائم نفيت عنه كلّ صفة تنافى القيام، فيندرج فيه نفى القعود، فاذا قلت بعده: لا قاعد كان تكرارا لأن لفظة «لا» موضوعة لأن ينفى بها ما أوجب الأوّل لا لأن يعاد «4» بها نفى ما نفى أوّلا، ويصح إنما زيد قاعد لا قائم، لأن صيغة «إنما» بأصل وضعها تدلّ على تخصيص الحكم بالمذكور، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 83 وأما نفى الشّركة فهو لازم من لوازمها، فليس له من القوّة ما لما يدلّ عليه بوضعه، ولهذا يصحّ: زيد هو الجائى «1» لا عمرو، فثبت أنّ دلالة الأوّليّين على التخصيص أقوى، ودلالة الثالثة على نفى التشريك [أقوى «2» ] ، لكن الثالثة قد تقام مقام الأوّليّين فى إفادة التخصيص، كما اذا ادعى واحد أنك قلت قولا ثم قلت بخلافه، فقلت له: ما قلت الآن إلا ما قلته قبل، وعليه قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام: ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ ليس المعنى أنى لم أزد على ما أمرتنى به شيئا، ولكن المعنى أنّى لم أدع مما أمرتنى به [أن «3» ] أقوله شيئا. قال: وحكم «غير» حكم «إلّا» فاذا قلت: ما جاءنى غير زيد احتمل أن يكون المراد نفى أن يكون جاء معه إنسان آخر، وأن يكون المراد تخصيص الحكم بالمذكور لا نفيه عما عداه. فصل إذا دخل ما وإلّا على الجملة المشتملة على المنصوب كان المقصود بالذكر «4» ما اتصل بإلّا متأخّرا عنها، فاذا قلت: ما ضرب عمرا إلا زيد، فالمقصود المرفوع، واذا قلت: ما ضرب زيد إلا عمرا، فالمقصود المنصوب، واذا قلت: ما ضرب [إلا «5» ] زيد عمرا، فالاختصاص للضارب، واذا قلت: ما ضرب إلا زيدا عمرو، فالاختصاص للمضروب، فاذا قلت: لم أكس إلا زيدا جبّة، فالمعنى تخصيص الجزء: 7 ¦ الصفحة: 84 زيد من بين الناس بكسوة الجبّة، وإن قلت: لم أكس إلا جبّة زيدا، فالمعنى تختصّ كسوة الجبّة من بين الناس بزيد؛ وكذلك الحكم حيث يكون بدل أحد المفعولين جارّ ومجرور، كقول السيد الحميرىّ: لو خيّر المنبر فرسانه ... ما اختار إلّا منكم فارسا. وكذلك حكم المبتدإ والخبر والفعل والفاعل، كقولك: ما زيد إلا قائم، وما قام إلا زيد. وأما إنما فالاختصاص فيها يقع مع المتأخر، فاذا قلت: إنما ضرب زيدا عمرو فالاختصاص فى الضارب، وقوله تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ فالغرض بيان المرفوع وهو أن الخاشين هم العلماء، ولو قدّم المرفوع لصار المقصود بيان المخشىّ منه، والأوّل أتمّ، ومنه قول الفرزدق: أنا الذائد الحامى الذّمار وإنما ... يدافع عن أحسابكم أنا أو مثلى فإن غرضه أن يحصر المدافع بأنه هو لا المدافع عنه؛ ولو قال: إنما أنا أدافع عن أحسابكم، توجّه التخصيص الى المدافع عنه؛ [وحكم المبتدا والخبر «1» ] اذا أدخلت عليهما إنما، فإن قدّمت الخبر فالاختصاص للمبتدا، وإن لم تقدّمه فللخبر، فاذا قلت: إنما هذا لك فالاختصاص فى «لك «2» » ، بدليل أنك بعده تقول: لا لغيرك، فاذا قلت إنما لك هذا فالاختصاص فى «هذا» ، بدليل أنك بعده تقول: لا ذاك، وعليه قوله تعالى: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ وقوله تعالى: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ فالاختصاص فى الآية الأولى للبلاغ والحساب، وفى الثانية فى الخبر الذى هو على الذين دون المبتدإ الذى هو السبيل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 85 وإذا وقع بعدها الفعل فالمعنى أن ذلك الفعل لا يصح إلا من المذكور، كقوله تعالى: إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ* ؛ ثم قد يجتمع معه حرف النفى، إما متأخرا عنه كقولك، إنما يجىء زيد لا عمرو: قال تعالى: إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ وقال لبيد: فإذا جوزيت قرضا فاجزه ... إنما يجزى الفتى ليس الجمل «1» وإما مقدّما «2» عليه، كقولك: ما جاءنى زيد وإنما جاءنى عمرو، فها هنا لو لم تقل: إنما، وقلت: ما جاءنى زيد وجاءنى عمرو لكان الكلام مع من ظنّ أنهما جاءاك جميعا، وإذا أدخلتها فإن الكلام مع من غلط فى الجائى أنه زيد لا عمرو. قال: واعلم أنّ أقوى ما تكون «إنّما» اذا كان لا يراد بالكلام الذى بعدها نفس معناه، ولكن التعريض بأمر هو مقتضاه، فإنا نعلم أنه ليس الغرض من قوله تعالى: إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ* أن يعلم السامعون ظاهر معناه، ولكن أن يذمّ الكفّار ويقال لهم: إنهم من فرط العناد فى حكم من ليس بذى عقل، وقوله تعالى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها وإِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ والتقدير إنّ من لم تكن له هذه الخشية، فهو كمن لم تكن له أذن تسمع وقلب يعقل، فالإنذار معه كلا إنذار، وهذا الغرض لا يحصل دون «إنما» لأن من شأنها تضمين الكلام معنى النفى بعد الإثبات، فإذا أسقطت لم يبق إلا إثبات الحكم للمذكورين، فلا يدلّ على نفيه [عن «3» ] غيرهم إلا أن يذكر فى معرض مدح الإنسان بالتيقّظ والكرم وأمثالهما، كما يقال: كذلك يفعل العاقل، هكذا يفعل الكريم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 86 تنبيه قال: كاد تقرّب الفعل من الوقوع، فنفيها ينفى القرب، فإن لم يكن فى الكلام دليل على الوقوع فيفيد نفى الوقوع ونفى القرب منه، كقوله تعالى: لَمْ يَكَدْ يَراها [أى لم «1» يراها] ولم يقارب وأيتها، وكقول ذى الرمد: إذا عير النأى المحبين لم يكد «2» ... رسيس الهوى من حب مية يبرح المعنى أن براح حبّها «3» لم يقارب الكون فلا عن أن يكون. وأما النظم - فهو عبارة عن توخى معانى النحو فيما بين الكلم، وذلك أن تضع كلامك الوضع الذى يقتضيه علم النحو بأن تنظر فى كل باب إلى قوانينه والفروق التى بين معانى اختلاف صيغه «4» ، وتضع الحروف مواضعها وتراعى شرائط التقديم والتأخير، ومواضع الفصل والوصل، ومواضع حروف العطف على اختلاف معانيها، وتعتبر الإصابة فى طريق التشبيه والتمثيل. وقد أطبق العلماء على تعظيم شأن النظم، وأن لا فضل مع عدمه ولو بلغ الكلام فى غرابة معناه إلى ما بلغ، وأنّ سبب فساده [ترك «5» ] العمل بقوانين النحو واستعمال الشىء فى غير موضعه. ثم قال: الجمل الكثيرة إذا نظمت نظما واحدا فهى على قسمين: الأوّل: أن لا يتعلّق البعض بالبعض ولا يحتاج واضعه إلى فكر ورويّد فى استخراجه، بل هو كمن عمد إلى اللآلئ ينظمها فى سلك، ومثاله قول الجاحظ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 87 فى مصنّفاته: جنّبك الله الشبهة، وعصمك من الحيرة، وجعل بينك وبين المعروف نسبا، وبين الصدق سببا، وحبّب اليك التثبّت، وزيّن فى عينك الإنصاف وأذاقك حلاوة التقوى، وأشعر قلبك عزّ الحقّ، وأودع صدرك برد اليقين، وطرد عنك ذلّ الطمع، وعرّفك ما فى الباطل من الذّلة، وما فى الجهل من القلّة. وكقول النابغة للنّعمان وتفضيله إياه على ذى فائش يزيد «1» بن أبى جفنة، وكقول حسّان ابن ثابت للحارث الجفنّى يفضّله على النعمان بن المنذر، وكقول ضرار بن ضمرة لمعاوية فى وصف علىّ؛ وقد تقدّم شرح أقوالهم فى الباب الأوّل من القسم الثالث من هذا الفن فى المدح، وهو فى السفر الثالث فلا حاجة بنا الى إعادته. وهذا النظم لا يستحق الفضل إلا بسلامة معناه وسلامة «2» ألفاظه، إذ ليس فيه معنى دقيق لا يدرك إلا بثاقب الفكر. قال: وربما ظنّ بالكلام أنه من هذا الجنس ولا يكون منه، كقول الشاعر: سالت عليه شعاب الحىّ حين دعا ... أنصاره بوجوه كالدنانير فإن الحسن فيه ليس مجرّد الاستعارة، بل لما فى الكلام «3» من التقديم والتأخير، ولهذا لو أزلت ذلك وقلت: سالت شعاب الحىّ بوجوه كالدنانير عليه حين دعا أنصاره، فإنه يذهب بالحسن والحلاوة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 88 الثانى: أن تكون الجمل المذكورة يتعلّق بعضها ببعض، وهناك تظهر قوّة الطبع، وجودة القريحة، واستقامة الذّهن. ثم [ليس] «1» لهذا الباب قانون يحفظ، فإنه يجىء على وجوه شتّى: منها الإيجاز، وهو العبارة عن الغرض بأقلّ ما يمكن من الحروف، وهو على ضربين: إيجاز قصر، وإيجاز حذف، وقد تقدّم الكلام على ذلك وذكر أمثلته عند ذكر الفصاحة. ومنها التأكيد- وهو تقوية المعنى وتقريره، إما بإظهار البرهان، كقول قابوس: يا ذا الذى بصروف الدهر عيّرنا ... هل عاند الدهر إلا من له خطر أما ترى البحر تعلو فوقه جيف ... وتستقرّ بأقصى قعره الدّرر وفى السماء نجوم ما لها «2» عدد ... وليس يخسف إلا الشمس والقمر وإما بالعزيمة، كقوله تعالى: فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌ وقوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ وكقول الأشتر النّخعىّ: بقّيت وفرى وانحرفت عن العلا ... ولقيت أضيافى بوجه عبوس إن لم أشنّ على ابن حرب غارة ... لم تخل يوما من نهاب نفوس يريد معاوية بن أبى سفيان، وكقول أبى نواس. لا فرّج الله عنّى إن مددت يدى ... إليه أسأله من حبّك الفرجا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 89 وكقول أبى تمّام: حرمت مناى منك إن كان ذا الذى ... تقوّله الواشون حقّا كما قالوا. أو بالتّكرار، كقولهم: الله الله، والأسد الأسد، وكقول الحادرة «1» : أظاعنة وما تودّعنا هند ... وهند أتى من دونها النأى والبعد وهذا فى التنزيل كثير، والعلم فيه سورة الرحمن. وأما التجنيس - فهو يتشعّب منه شعب كثيرة: فمنه المستوفى التامّ- وهو أن يجىء المتكلّم بكلمتين متفقتين لفظا، مختلفتين معنى، لا تفاوت فى تركيبهما، ولا اختلاف فى حركاتهما، كقول الغزّىّ: لم يبق غيرك إنسان يلاذبه ... فلا برحت لعين الدهر إنسانا وقول عبد الله بن طاهر: وإنّى للثّغر المخوف لكالئ ... وللثغر يجرى ظلمه «2» لرشوف وكقول البستىّ: سما وحمى بنى سام وحام ... فليس كمثله سام وحامى وذكر التّبريزىّ أن التجنيس المستوفى كقول أبى تمّام: ما مات من كرم الزمان فإنه ... يحيا لدى يحيى بن عبد الله وقال: وإنما عدّ من هذا الباب لاختلاف المعنين، لأن احدهما فعل، والآخر اسم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 90 ومنه المختلف - ويسمّى التجنيس الناقص- وهو مثل الأوّل فى اتفاق حروف الكلمتين إلا أنه يخالفه: إما فى هيئة الحركة، كقوله صلّى الله عليه وسلم «اللهم كما حسّنت خلقى فحسّن خلقى» ؛ وكقول معاذ رضى الله عنه: الدّين يهدم الدّين؛ وكقولهم: جبّة البرد جنّة البرد؛ وكقولهم: الصديق الصدوق أوّل العقد وواسطة العقد؛ وكقول المعرّى: لغيرى زكاة من جمال فإن تكن ... زكاة جمال فاذكرى ابن سبيل أو بالحركة والسكون، كقولهم: البدعة شرك الشّرك. أو بالتخفيف والتشديد كقولهم: الجاهل إما مفرط وإما مفرّط. ومنه المذيّل - ويقال له: التجنيس الزائد والناقص أيضا- وهو أن تجىء بكلمتين متجانستى اللفظ متّفقتى الحركات، غير أنهما يختلفان بحرف، إما فى آخرهما كقولك: فلان حام حامل لأعباء الأمور، كاف كافل لمصالح الجمهور؛ وقولهم: أنا من زمانى فى زمانه، ومن إخوانى فى خيانه «1» ؛ وقولهم: فلان سال عن إخوانه «2» ، سالم من زمانه؛ ومن النظم قول أبى تمّام: يمدّون من أيد عواص عواصم ... تصول بأسياف قواض قواضب وقول البحترىّ: لئن صدفت عنّا فربّت أنفس ... صواد إلى تلك النفوس الصوادف وإما من أوّلهما، كقوله تعالى: (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) ومن النظم ما أنشده عبد القاهر: وكم سبقت منه إلىّ عوارف ... ثنائى من تلك العوارف وارف وكم غرر من برّه ولطائف ... لشكرى على تلك اللطائف طائف. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 91 ومنه المركب وهو على ضربين: الأوّل: ما هو متشابه لفظا وخطا، كقولهم: همّتك الهمّة الفاتره، وفى صميم قلبك ألفاتره، ومن النظم قول البستىّ: إذا ملك لم يكن ذاهبه ... فدعه فدولته ذاهبه وقول الآخر: عضّنا الدهر بنابه ... ليت ما حلّ بنابه وقول طاهر البصرى: ناظراه فيما جنى ناظراه ... أودعانى رهنا بما أودعانى. الثانى: ما هو متشابه لفظا لا خطا ويسمّى التجنيس [المفروق] «1» ، كقوله: كنت أطمع فى تجريبك، ومطايا الجهل تجرى بك؛ ومن النظم قول الشاعر: لا تعرضنّ على الرواة قصيدة ... ما لم تكن بالغت فى تهذيبها فإذا عرضت القول غير مهذّب ... عدّوه منك وساوسا تهذى بها وأمثال ذلك كثيرة. ومن أنواع المركّب المرفوّ، وهو أن تجمع بين كلمتين إحداهما أقصر من الأخرى، فتضمّ الى القصيرة حرفا من حروف المعانى أو من حروف الكلمة المجاورة لها حتى يعتدل ركنا التجنيس، كقولهم: يا مغرور أمسك، وقس يومك بأمسك؛ ويقرب منه قول الهمذانىّ: إن لم يكن لنا حظّ فى درك درّك، فخلّصنا من شرك شرّك؛ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 92 وقول الحريرىّ: إن أخليت منّا مبارك مبارّك، فخلّصنا من معارك معارّك؛ ومن النظم قول البستىّ: فهمت كتابك يا سيّدى ... فهمت ولا عجب أن أهيما ومنه قول الآخر: ذو راحة وكفت ندى وكفت ردى ... وقضت بهلك عداته وعداته كالغيث فى إروائه وروائه ... والليث فى وثباته وثباته. ومنه المزدوج - ويقال له التجنيس المردّد والمكرر أيضا- وهو أن يأتى فى أواخر الأسجاع وقوافى الأبيات بلفظتين متجانستين إحداهما نميمة الأخرى وبعضها، كقولهم: الشراب بغير النّغم غمّ، وبغير الدّسم سمّ؛ وقول البستىّ: أبا العباس لا تحسب لشينى «1» ... بأنّى من حلى الأشعار عارى فلى طبع كسلسال معين ... زلال من ذرى الأحجار جارى اذا ما أكبت الأدوار زندا ... فلى زند على الأدوار وارى. ومن أجناس التجنيس المصحّف - ويقال له تجنيس الخط أيضا- وهو أن تأتى بكلمتين متشابهتين خطّا لا لفظا، كقوله تعالى: وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ وقوله تعالى: وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وقوله صلّى الله عليه وسلم: «عليكم بالأبكار فإنهنّ أشدّ حبّا وأقلّ خبّا» وقول [النبىّ صلّى الله عليه «2» وسلم] لعلىّ رضى الله عنه: قصّر من ثيابك فإنه أبقى وأنقى وأتقى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 93 وكقول أبى فراس: من بحر شعرك أغترف ... وبفضل علمك أعترف. ومنه المضارع - ويسمّى المطمّع- وهو أن يجاء بالكلمة ويبدأ بأختها على مثل أكثر حروفها، فتطمع فى أنها مثلها، فتخالفها بحرف؛ ويسمى المطرّف وهو أن تجمع بين كلمتين متجانستين لا تفاوت بينهما إلا بحرف واحد من الحروف المتقاربة، سواء وقع آخرا أوحشوا، كقوله صلّى الله عليه وسلم: «الخيل معقود بنواصيها الخير» ومنه قول الحطيئة: مطاعين فى الهيجا مطاعيم فى الدّجى ... بنى لهم آباؤهم وبنى الجدّ وقول البحترىّ: ظللت أرجّم فيك الظنون ... أحاجمه أنت أم حاجبه؟ وإن كان التفاوت «1» بغير المتقاربة سمّى التجنيس اللاحق، كقوله تعالى: وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ وقوله تعالى: وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ وقول البحترىّ: هل لما فات من تلاق تلافى ... أم لشاك من الصبابة شافى. ومنه المشوّش - وهو كل تجنيس يتجاذبه طرفان من الصنعة «2» فلا يمكن إطلاق اسم أحدهما عليه، كقولهم: فلان مليح البلاغة، صحيح البراعة «3» الجزء: 7 ¦ الصفحة: 94 ومنه تجنيس الاشتقاق - ويسمّى الاقتضاب أيضا، ومنهم من عدّه أصلا برأسه، ومنهم من عدّه أصلا فى التجنيس- وهو أن يجىء بألفاظ يجمعها أصل واحد فى اللغة، كقوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ وقوله تعالى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وقوله تعالى: فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وقول النبى صلّى الله عليه وسلم: «ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيها» وقوله: «الظلم ظلمات يوم القيامة» ومن النظم قول أبى تمّام: عممت الخلق بالنّعماء حتى ... غدا الثقلان منها مثقلين وقول المطرّزى: وإنى لأستحيى من المجد أن أرى ... حليف غوان أو أليف أغانى «1» وقول الصاحب بن عبّاد: وقائلة لم عرتك الهموم ... وأمرك ممتثل فى الأمم فقلت ذرينى على غصّتى ... فإن الهموم بقدر الهمم وقول آخر: إن ترى الدنيا أغارت ... ونجوم السعد غارت فصروف الدهر شتّى ... كلّما جارت أجارت ومما يشبه المشتقّ «2» - ويسمّيه بعضهم المشابه «3» ، وبعضهم المغاير - قوله تعالى: وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ وقوله تعالى: لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 95 وقوله تعالى: وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ وقوله تعالى: أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ ومن النظم قول البحترىّ: واذا ما رياح «1» جودك هبّت ... صار قول العذّال فيها هباء. ومن أجناس التجنيس تجنيس التصريف - وهو ما كان كالمصحّف [إلا] «2» فى اتحاد الكتابة، ثم لا يخلو من أن تتقارب «3» فيه الحروف باعتبار المخارج أو لا تتقارب فإن تقاربت سمّى مضارعا، وإن لم تتقارب سمّى لاحقا. مثال الأوّل قوله تعالى: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وقوله تعالى: بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ وقول قسّ بن ساعدة الإيادىّ: «من مات فات» وقول الشاعر: فيالك من حزم وعزم طواهما ... جديد البلى تحت الصفا والصفائح وهذا البيت يشتمل على المضارع والمتمّم؛ ومثال الثانى قول على رضى الله عنه: الدنيا دار ممرّ، والآخرة دار مقرّ، وقول عبد الله بن صالح وقد وصف اليمن: ليس فيه إلا ناسج برد، أو سائس «4» قرد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 96 ومنها التجنيس المخالف - وهو أن تشتمل كلّ واحدة من الكلمتين على حروف الأخرى دون ترتيبها، كقول أبى تمّام: بيض الصفائح لا سود الصحائف فى ... متونهنّ جلاء الشك والريب وقول البحترىّ: شواجر أرماح تقطّع بينهم ... شواجر أرحام ملوم قطوعها وقول المتنبىّ: ممنّعة منعّمة رداح ... يكلّف لفظها الطير الوقوعا فإن اشتملت كل كلمة على حروف الأخرى، وكان بعض هذه قلب حروف هذه خصّ باسم جناس العكس، كقول النبى صلّى الله عليه وسلم: «يقال لصاحب القرآن يوم القيامة اقرأ وارق» وقول عبد الله بن رواحة يمدح [النبى «1» ] صلّى الله عليه وسلم: تحمله الناقة الأدماء معتجرا ... بالبرد كالبدر جلّى نوره الظّلما. ومنها تجنيس المعنى - وهو أن تكون إحدى الكلمتين دالّة على الجناس بمعناها دون لفظها، وسبب استعمال هذا النوع أن يقصد الشاعر المجانسة لفظا ولا يوافقه الوزن على الإتيان باللفظ المجانس فيعدل إلى مرادفه، كقول الشاعر يمدح المهلّب ويذكر فعله بقطرىّ بن الفجاءة، وكان قطرىّ يكنى أبا نعامة: حدا بأبى أم الرّئال فأجفلت ... نعامته من عارض متلّبب «2» أراد أن يقول: حدا بأبى نعامة فأجفلت نعامته أى روحه، فلم يستقم له فقال: بأبى أمّ الرّئال، وأمّ الرّئال هى النعامة، وكقول الشّماخ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 97 وما أروى وإن كرمت علينا ... بأدنى من موقّفة «1» حرون أروى: اسم امرأة. والموقّفة الحرون من الوحش: أروى، وبها سميت المرأة فلم يمكنه أن يأتى باسمها فأنى بصفتها، وقد صرح بذلك المعرّى فى قوله: أروى النّياق كأروى النّيق «2» يعصمها ... ضرب يظلّ له السّرحان مبهوتا وبعضهم لا يدخل هذا فى باب التجنيس. قال: وإنما يحسن التجنيس إذا قلّ، وأتى فى الكلام عفوا من غير كدّ «3» ولا استكراه، ولا بعد ولا ميل إلى جانب الرّكّة ولا يكون كقول الأعشى: وقد غدوت إلى الحانوت يتبعنى ... شاو «4» مشلّ شلول شلشل شول ولا كقول مسلم بن الوليد: سلّت وسلّت ثم سلّ سليلها ... فأتى سليل سليلها مسلولا ولا كقول المتنبىّ: فقلقلت بالهمّ الذى قلقل الحشا ... قلاقل عيش كلّهن قلاقل. وأما الطّباق - قال: المطابقة أن تجمع بين ضدّين مختلفين، كالإيراد والإصدار والليل والنهار، والسواد والبياض؛ قال الأخفش وقد سئل عنه: أجد قوما يختلفون الجزء: 7 ¦ الصفحة: 98 فيه، فطائفة- وهم الأكثر- يزعمون أنه الشىء وضدّه، وطائفة تزعم أنه اشتراك المعنيين فى لفظ واحد، كقول زياد الأعجم: ونبّئتهم يستنصرون بكاهل ... وللّؤم فيهم كاهل وسنام ثم قال: وهذا هو التجنيس بعينه، ومن ادعى أنه طباق فقد خالف الأصمعىّ والخليل، فقيل له: أو كانا يعرفان ذلك؟ فقال: سبحان الله! وهل أعلم منهما بالشعر وتمييز خبيثه من طيّبه؟. ويسمونه المطابقة والطّباق والتضادّ والتكافؤ وهو أن تجمع بين المتضادّين مع مراعاة التقابل، فلا تجىء باسم مع فعل ولا بفعل مع اسم، مثاله قوله تعالى: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً وقوله تعالى: وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وقوله تعالى: سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ وقوله تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ إلى قوله: بِغَيْرِ حِسابٍ* وقوله صلّى الله عليه وسلم للأنصار: «إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلّون عند الطمع» ومن النظم قول جرير: وباسط خير فيكم بيمينه ... وقابض شرّ عنكم بشماليا وقول البحترىّ: وأمّة كان قبح الجور يسخطها ... حينا فأصبح حسن العدل يرضيها وقوله أيضا: تبسّم وقطوب فى ندى ووغى ... كالبرق والرعد وسط العارض البرد وقول دعبل: لا تعجبى يا سلم من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكى وقول ابن المعتز: مها الوحش إلا أنّ هاتا أوانس ... قنا الخطّ إلا أنّ تلك ذوابل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 99 فإنّ هاتا للحاضر، وتلك للغائب، فكانتا متقابلتين؛ وقد تجىء المطابقة بالنفى [والإثبات «1» ] كقول البحترىّ: تقيّض «2» لى من حيث لا أعلم النوى ... ويسرى إلىّ الشوق من حيث أعلم. وقال الزكىّ بن أبى الإصبع المصرىّ فى الطباق: وهو على ضربين: ضرب يأتى بألفاظ الحقيقة، وضرب يأتى بألفاظ المجاز، فما كان بلفظ [الحقيقة «3» ] سمّى طباقا وما كان بلفظ المجاز سمّى تكافؤا، فمثال التكافؤ قول أبى الأشعث العبسىّ من إنشادات قدامة: حلو الشمائل وهو مرّ باسل ... يحمى الذّمار صبيحة الإرهاق لأن «4» قوله: حلو ومرّ خارج مخرج الاستعارة، إذ ليس الإنسان ولا شمائله مما يذاق بحاسّة الذوق. ومن أمثلة التكافؤ قول ابن رشيق: وقد أطفأوا شمس النهار وأوقدوا ... نجوم العوالى فى سماء عجاج وقد جمع دعبل فى بيته المتقدّم بين الطباق والتكافؤ، وهو: لا تعجبى يا سلم من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكى لأن ضحك المشيب مجاز، وبكاء الشاعر حقيقة. قال: هكذا قال ابن أبى الإصبع، وفيه نظر، لأنه إذا كان الطباق عنده هو التضادّ من حقيقتين، والتكافؤ التضادّ من مجازين، فليس فى البيت ما شرطه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 100 قال: ومما جمع بين طباقى السلب والإيجاب قول الفرزدق من إنشادات ابن المعتزّ: لعن الإله بنى كليب إنّهم ... لا يغدرون ولا يفون لجار يستيقظون إلى نهيق حميرهم ... وتنام أعينهم عن الأوتار. وذكر فى آخر الباب طباق الترديد، وهو أن يردّ آخر الكلام المطابق إلى أوّله فإن لم يكن الكلام مطابقا فهو ردّ الأعجاز على الصدور، ومثاله قول الأعشى: لا يرقع الناس ما أوهوا وإن جهدوا ... طول الحياة ولا يوهون ما رقعوا. وأما «1» المقابلة - وهى أعم من الطباق، وذكر بعضهم أنها أخص، وذلك أن تضع معانى تريد الموافقة بينها وبين غيرها أو المخالفة، فتأتى فى الموافق بما وافق، وفى المخالف بما خالف أو تشرط شروطا وتعدّ أحوالا فى أحد المعنيين فيجب أن تأتى فى الثانى بمثل ما شرطت وعددت [فى الأوّل «2» ] ، كقوله عزّ وجلّ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى وقوله تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ ومثاله من النظم قول الشاعر: فيا عجبا كيف اتفقنا فناصح ... وفىّ ومطوىّ على الغلّ غادر! وقول آخر: تقاصرن واحلولين لى ثم إنه ... أتت بعد أيام طوال أمرّت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 101 وقول زهير بن أبى سلمى: حلماء فى النادى إذا ما جئتهم ... جهلاء يوم عجاجة ولقاء. ومن فساد ذلك أن يقابل الشىء بما لا يوافقه ولا يخالفه، كقول أبى عدىّ القرشىّ: يا ابن خير الأخيار من عبد شمس ... أنت زين الدنيا وغيث لجود فليس قوله: غيث لجود موافقا لقوله: زين الدنيا ولا مخالفا له وكقول الكميت: وقد رأينا بها حورا منعّمة ... بيضا تكامل فيها الدّلّ والشّنب فالشنب لا يشاكل الدّلّ. وقول آخر: رحماء بذى الصلاح وضرّا ... بون قدما لهامة الصّنديد. قال: وقد ذكر بعض أئمة هذا الفن تفصيلا فى المقابلة فقال: فمن مقابلة اثنين باثنين قوله تعالى: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً ؛ وقول النابغة: فتى تمّ فيه ما يسرّ صديقه ... على أنّ فيه ما يسوء الأعاديا؛ ومن مقابلة ثلاثة بثلاثة قول الشاعر «1» : ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا ... وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل وقول أبى نواس: أنا استدعيت عفوك من قريب ... كما استعفيت سخطك من بعيد؛ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 102 ومن مقابلة أربع بأربعة قوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى المقابل بقوله تعالى: «اسْتَغْنَى» * قوله تعالى: «وَاتَّقى» * لأن معناه: زهد فيما عند الله واستغنى بشهوات الدنيا عن نعم الآخرة، وذلك يتضمّن عدم التقوى، ومنه قول النابغة: إذا وطئا سهلا أثارا عجاجة ... وإن وطئا حزنا تشظّى الجنادل؛ ومن مقابلة خمسة بخمسة قول المتنبّى: أزورهم وسواد الليل يشفع لى ... وأنثنى وبياض الصبح يغرى بى قابل أزور بأنثنى، وسواد ببياض، والليل بالصبح، ويشفع بيغرى، ولى بقوله: بى. وأما السجع - فهو أن كلمات الأسجاع موضوعة على أن تكون ساكنة «1» الأعجاز موقوفا عليها، لأن الغرض أن يجانس بين قرائن، ويزاوج بينها، ولا يتمّ ذلك إلا بالوقف، ألا ترى الى قولهم: «ما أبعد ما فات، وما أقرب ما هو آت» فلو ذهبت تصل لم يكن بدّ من إعطاء أواخر القرائن ما يقتضيه حكم الإعراب، فتختلف أواخر القرائن، ويفوت الساجع غرضه، واذ رأيناهم يخرجون الكلمة عن أوضاعها للازدواج فيقولون: أتيتك بالغدايا والعشايا، وهنأنى الطعام ومرأنى، وأخذه ما قدم وما حدث، «وانصرفن مأزورات غير مأجورات» ، يريد الغدوات، وأمرأنى وحدث، وموزورات، مع أن فيه ارتكابا لمخالفة اللّغة [فما الظنّ بأواخر «2» الكلم المشبّهة بالقوافى] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 103 قال: والسجع أربعة أنواع وهى: الترصيع والمتوازى والمطرّف والمتوازن. أما الترصيع - فهو أن تكون الألفاظ مستوية الأوزان متّفقة الأعجاز، كقوله تعالى: إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ وقوله تعالى: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ وقول النبى صلّى الله عليه وسلم: «اللهم اقبل توبتى، واغسل حوبتى» وقولهم: فلان يفتخر بالهمم العالية، لا بالرمم الباليه؛ وقولهم: عاد تعريضك تصريحا، وتمريضك تصحيحا؛ ومن النظم قول الخنساء: حامى الحقيقة محمود الخليقة مهدىّ ... الطريقة نفّاع وضرّار جوّاب قاصية جزّاز ناصية ... عقّاد ألوية للخيل جرّار وقد يجىء مع التجنيس، كقولهم: اذا قلّت الأنصار، كلّت الأبصار؛ وما وراء الخلق الدّميم، إلا الخلق الذميم؛ ومن النظم قول المطرّزى «1» : وزند ندى فواضله ورىّ ... ورند ربا فضائله نضير ودرّ جلاله أبدا ثمين ... ودرّ نواله أبدا غزير. وأما المتوازى - فهو أن يراعى فى الكلمتين الأخيرتين من القرينتين الوزن مع اتفاق الحرف الأخير منهما، كقوله عزّ وجلّ: فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 104 وقول الحريرىّ: ألجأنى حكم دهر قاسط، الى أن أنتجع أرض واسط «1» . وقوله: وأودى الناطق والصامت، ورثى لنا الحاسد والشامت. وأما المطرّف - فهو أن يراعى الحرف الأخير فى كلمتى قرينتيه من غير مراعاة الوزن، كقوله تعالى: ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً وقولهم: جنابه محطّ الرحال، ومخيّم الآمال. وأما المتوازن - فهو أن يراعى فى الكلمتين الأخيرتين من القرينتين الوزن مع اختلاف الحرف الأخير منهما، كقوله تعالى: وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ وقولهم: اصبر على حرّ القتال، ومضض النّزال «2» ، وشدّة المصاع، ومداومة المراس؛ فإن راعى الوزن فى جميع كلمات القرائن أو أكثرها، وقابل الكلمة منها بما يعادلها وزنا كان أحسن، كقوله تعالى: وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ، وقول الحريرىّ: اسودّ يومى الأبيض، وابيضّ فودى الأسود؛ ويسمّى هذا فى الشعر الموازنة، كقول البحترىّ: فقف مسعدا فيهنّ إن كنت عاذرا ... وسر مبعدا عنهنّ إن كنت عاذلا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 105 قال: ومما هو شرط الحسن فى هذا المحافظة على التشابه، وهو اسم جامع للملاءمة والتناسب. فالملاءمة: تأليف الألفاظ الموافية بعضها لبعض على ضرب من الاعتدال كقول لبيد: وما المرء إلا كالشهاب وضوئه ... يعود رمادا بعد إذ هو ساطع وما المال والأهلون إلا وديعة ... ولا بدّ يوما أن تردّ الودائع وبعضهم يعدّ التلفيق من باب الملاءمة، وهو أن تضمّ الى ذكر الشىء ما يليق به ويجرى مجراه، أى تجمع الأمور المناسبة، ويقال له: مراعاة النظير أيضا، كقول ابن سمعون للمهلّبىّ «1» : أنت أيها الوزير إبراهيمىّ الجود، إسماعيلىّ الوعد، شعيبىّ التوفيق، يوسفىّ العفو، محمدىّ الخلق. وكقول أبى الفوارس «2» الحمدانىّ: أأخا «3» الفوارس لو رأيت مواقفى ... والخيل من تحت الفوارس تنحط «4» لقرأت منها ما تخطّ يد الوغى ... والبيض تشكل والأسنّة تنقط الجزء: 7 ¦ الصفحة: 106 وكقول آخر: وكم سائل بالغيب عنك أجبته ... هناك الأيادى الشّفع والسّودد الوتر عطاء ولا منّ وحكم ولا هوى ... وحلم ولا عجز وعزّ ولا كبر وقول ابن حيّوس «1» : يقينك والتقوى وجودك والغنى ... ولفظك والمعنى وسيفك والنصر والتناسب: هو ترتيب المعانى المتآخية التى تتلاءم ولا تتنافر، كقول النابغة: والرفق «2» يمن والأناة سعادة ... فاستأن فى رزق تنال نجاحا واليأس عمّا فات يعقب راحة ... ولرب مطمعة تعود ذباحا ويسمّى التشابه أيضا، وقيل: التشابه أن تكون الألفاظ غير متباينة بل متقاربة فى الجزالة والرّقة والسّلاسة، وتكون المعانى مناسبة لألفاظها من غير أن يكسو «3» اللفظ الشريف المعنى السخيف، أو على الضدّ، بل يصاغان معا صياغة تناسب وتلائم. فصل فى الفقر المسجوعة ومقاديرها قال: قصر الفقرات يدلّ على قوّة التمكّن وإحكام الصناعة، وأقلّ ما تكون كلمتان، كقوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ وأمثال ذلك فى الكتاب العزيز كثيرة، لكن الزائد على ذلك هو الأكثر، وكان بديع الزمان يكثر من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 107 ذلك فى رسائله، كقوله: كميت «1» نهد، كأنّ راكبه فى مهد؛ يلطم الأرض بزبر وينزل من السماء بخبر. قالوا: لكن التذاذ السامع بما زاد على ذلك أكثر، لتشوقه الى ما يرد متزايدا على سمعه. فأما الفقر المختلفة فالأحسن أن تكون الثانية أزيد من الأولى ولكن لا بقدر كثير لئلا يبعد على السامع وجود القافية فيقلّ الالتذاذ بسماعها، فإن زادت القرائن على اثنين فلا يضرّ تساوى القرينتين الأوليين وزيادة الثالثة عليهما وإن زادت الثانية عن الأولى يسيرا، [والثالثة «2» على الثانية] فلا بأس، لكن لا يكون أكثر من المثل، ولا بدّ من الزيادة فى آخر القرائن، مثاله فى القرينتين: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً ومثاله فى الثالثة قوله تعالى: وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً وأقصر الطّوال ما كان من «3» إحدى عشرة لفظة وأكثرها غير مضبوط، مثاله من إحدى عشرة لفظة: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ والتى «4» بعدها من ثلاث عشرة كلمة؛ ومثاله من عشرين لفظة قوله تعالى: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 108 وأما ردّ العجز على الصدر - فهو كل كلام منثور أو منظوم يلاقى آخره أوّله بوجه من الوجوه، كقوله تعالى: وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ وقوله تعالى: لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى وقولهم: «القتل أنفى للقتل» و «الحيلة ترك الحيلة» وقولهم: طلب ملكهم فسلب ما طلب، ونهب ما لهم فوهب ما نهب. وهو فى النّظم على أربعة أنواع: الأوّل: أن يقعا طرفين، إما متفقين صورة ومعنى، كقوله: سريع إلى ابن العم يشتم عرضه ... وليس إلى داعى الندى بسريع وقوله: سكران سكر هوى وسكر مدامة ... أنّى يفيق فتى به سكران؛ أو متفقين صورة لا معنى، وهو أحسن من الأوّل، كقول السّرىّ: يسار من سجيّتها المنايا ... ويمنى من عطيّتها اليسار وقول الآخر: ذوائب سود كالعناقيد أرسلت ... فمن أجلها منّا النفوس ذوائب؛ أو معنى لا صورة «1» ، كقول عمر بن أبى ربيعة: واستبدّت مرّة واحدة ... إنما العاجز من لا يستبد وقول السّرىّ: ضرائب أبدعتها فى السّماح ... فلسنا نرى لك فيها ضريبا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 109 وقول الآخر: ثلبك أهل الفضل قد دلّنى ... أنك منقوص ومثلوب أولا صورة ولا معنى ولكن بينهما مشابهة اشتقاق، كقول الحريرى: ولاح يلحى على جرى العنان الى ... ملها فسحقا له من لائح لاحى الثانى: أن يقعا فى حشو المصراع الأوّل وعجز الثانى، إما متفقين صورة ومعنى كقول أبى تمّام: ولم يحفظ مضاع المجد شىء ... من الأشياء كالمال المضاع وقول آخر: أمّا القبور فإنهن أوانس ... بجوار قبرك والديار قبور أو صورة لا معنى، كقول الثعالبىّ: وإذا البلابل أفصحت بلغاتها ... فانف البلابل باحتساء بلابل فالأوّل جمع بلبل، والثانى جمع بلبلة وهى الهمّ [والثالث «1» جمع بلبلة الإبريق] وقول الزمخشرىّ: وأخّرنى دهرى وقدّم معشرا ... لأنهم «2» لا يعلمون وأعلم فمذ أفلح الجهّال أعلم «3» أننى ... أنا الميم والأيام أفلح «4» أعلم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 110 أو معنى لا صورة، كقول امرئ الفيس: إذا المرء لم يحزن عليه لسانه ... فليس على شىء سواه بخزّان وقول أبى تمّام: دمن ألّم بها فقال سلام ... كم حلّ عقدة صبره الإلمام وقول أبى فراس: وما إن شبت من كبر ولكن ... لقيت من الأحبّة ما أشابا؛ أو فى الاشتقاق فقط، كقول أبى فراس: منحناها الحرائب «1» غير أنا ... إذا جرنا منحناها الحرابا؛ الثالث: أن يقعا فى آخر المصراع الأوّل وعجز الثانى، إما متّفقين صورة ومعنى كقول أبى تمّام: ومن كان بالبيض الكواعب مغرما ... فما زلت بالبيض القواضب مغرما؛ أو صورة لا معنى، كقول الحريرىّ: فمشغوف بآيات المثانى ... ومفتون برنّات المثانى؛ أو معنى لا صورة، كقول البحترىّ: ففعلك إن سئلت لنا مطيع ... وقولك إن سألت لنا مطاع؛ الرابع: أن «2» يقعا فى أوّل المصراع الثانى والعجز، إما متّفقين صورة ومعنى كقول الحماسىّ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 111 فإلّا يكن إلا معلّل «1» ساعة ... قليلا فإنى نافع لى قليلها أو صورة لا معنى، كقول أبى دؤاد: عهدت «2» لها منزلا داثرا ... وآلا على الماء يحملن آلا فالأوّل الأتباع «3» ، والثانى أعمدة الخيام، وكقول آخر: رماك زمان السّوء من حيث لا ترى ... فرامى ولم يظفر بما هو راما أو معنى لا صورة، كقول أبى تمّام: ثوى فى الثرى من كان يحيا به الثرى ... ويغمر «4» صرف الدهر نائله الغمر وقد كانت البيض البواتر فى الوغى ... بواتر فهى الآن من بعده بتر قال: ومن نوادر هذا الباب بيتا الحريرىّ اللذان سمّاهما المطرّفين، وهما: سم سمة تحسن آثارها ... واشكر لمن أعطى ولو سمسمه والمكرمهما اسطعت لا تأته ... لتبتغى السّودد والمكرمه. قال: فإن لم يقع فى العجز فليس من هذا الباب، كقوله: ونبّئتهم يستنصرون بكاهل ... وللّؤم فيهم كاهل وسنام الجزء: 7 ¦ الصفحة: 112 وكقول الأفوه الأودىّ: وأقطع الهوجل مستأنسا ... بهوجل عيرانة «1» عنتريس فالهوجل الأوّل: الفلاة، والثانى: الناقة السريعة. وأما الإعنات - ويقال له التضييق والتشديد ولزوم ما لا يلزم- فهو أن يعنت نفسه فى التزام ردف أو دخيل أو حرف مخصوص قبل حرف الروىّ، أو حركة مخصوصة، كقوله تعالى: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ ، وقول النبىّ صلّى الله عليه وسلم: «اللهم بك أحاول، وبك أصاول» وقوله عليه الصلاة والسلام «شرّ ما فى المرء شحّ هالع، أو جبن خالع «2» » وقوله عليه الصلاة والسلام: «زرغبّا تزدد حبّا» وقول عمر رضى الله عنه: لا يكن حبّك كلفا، ولا بغضك تلفا؛ وقول المعرّى: ضحكنا وكان الضّحك منا سفاهة ... وحقّ لسكّان البسيطة أن يبكوا يحطّمنا صرف الزمان كأننا ... زجاج ولكن لا يعاد له السّبك وقول آخر: يقولون فى البستان للعين لذّة ... وفى الخمر والماء الذى غير آسن إذا شئت أن تلقى المحاسن كلّها ... ففى وجه من تهوى جميع المحاسن وقد التزم ابن الرومىّ الفتح قبل حرف الروىّ- وكان أولع الناس بذلك- فقال: لما تؤذن الدنيا به من صروفها ... يكون بكاء الطفل ساعة يولد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 113 وإلا فما يبكيه فيها «1» وإنّها ... لأوسع ممّا كان فيه وأرغد إذا أبصر الدنيا استهلّ كأنه ... بما سيلاقى من أذاها يهدّد وأمثال ذلك فى الشعر كثيرة. وأما المذهب الكلامى ّ - فهو إيراد حجة للمطلوب على طريقة أهل الكلام نحو قوله عز وجل: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا ومنه قول النابغة يعتذر إلى النّعمان: حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مذهب لئن كنت قد بلّغت عنّى جناية ... لمبلغك الواشى أغشّ وأكذب ولكنّنى كنت امرءا لى جانب ... من الأرض فيه مستراد ومذهب ملوك وإخوان اذا ما مدحتهم ... أحكّم فى أموالهم وأقرّب كفعلك فى قوم أراك اصطنعتهم ... فلم ترهم فى مدحهم لك أذنبوا يقول: أنت أحسنت إلى قوم فمدحوك، وأنا أحسن إلىّ قوم فمدحتهم، فكما أنّ مدح من أحسنت إليه لا يعدّ ذنبا فكذا مدحى لمن أحسن إلىّ لا يعدّ ذنبا. قال ابن أبى الإصبع، ومن شواهد هذا الباب قول الفرزدق: لكلّ امرئ نفسان نفس كريمة ... ونفس يعاصيها الفتى ويطيعها ونفسك من نفسيك تشفع للنّدى ... إذا قلّ من أحرارهنّ شفيعها يقول: لكلّ إنسان نفسان: نفس مطمئنة تأمره بالخير، ونفس أمّارة تأمره بالشرّ، والإنسان يعاصى الأمارة مرّة ويطيعها أخرى، وأنت إذا أمرتك الأمّارة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 114 بترك النّدى شفعت المطمئنة إليها فى النّدى فى الحالة التى يقلّ فيها الشفيع فى النّدى من النفوس، فأنت أكرم الناس. وأما حسن التعليل - فهو أن يدّعى لوصف علّة مناسبة له باعتبار لطيف وهو أربعة أضرب: لأنّ الصفة إمّا ثابتة قصد بيان علّتها، أو غير ثابتة أريد إثباتها فالأولى إمّا لا يظهر لها فى العادة علّة، كقوله: لم يحك نائلك السحاب وإنّما ... حمّت به فصبيبها الرّحضاء «1» أو يظهر لها علّة، كقوله: ما به قتل أعاديه ولكن ... يتّقى إخلاف ما ترجو الذئاب «2» فإنّ قتل الأعداء فى العادة لدفع مضرّتهم لا لما ذكره. والثانية إما ممكنة «3» ، كقوله: يا واشيا حسنت فينا إساءته ... نجّى حذارك «4» إنسانى من الغرق فإن استحسان إساءة الواشى ممكن، لكن لمّا خالف الناس فيه عقّبه بما ذكر. أو غير ممكنة، كقوله: لو لم تكن نيّة الجوزاء خدمته ... لما أتت وعليها عقد منتطق. «5» الجزء: 7 ¦ الصفحة: 115 قال: وألحق به ما بنى على الشكّ، كقول أبى تمّام: ربّا شفعت ريح الصّبا لرياضها ... إلى المزن حتى جادها وهو هامع كأنّ السحاب الغرّ غيّبن تحتها ... حبيبا فما ترقا لهنّ مدامع وقد أحسن ابن رشيق فى قوله: سألت الأرض لم كانت مصلّى ... ولم كانت لنا طهرا وطيبا فقالت غير ناطقة لأنى ... حويت لكلّ إنسان حبيبا. وأما الالتفات - فقد فسّره قدامة بأن قال: هو أن يكون المتكلّم «1» آخذا فى معنى فيعترضه إما شكّ فيه وإما ظنّ أنّ رادّا يردّه عليه، أو سائلا له عن سببه فيلتفت إليه بعد فراغه منه، فإما أن يجلّى الشكّ، أو يؤكّده، أو يذكر سببه، كقول الرمّاح بن ميّادة: فلا صرمه يبدو ففى اليأس راحة ... ولا وصله يصفو لنا فنكارمه كأنه توهّم أن فلانا يقول: ما تصنع بصرمه؟ فقال: لأن فى اليأس راحة. وأما ابن المعتزّ فقال: الالتفات انصراف المتكلّم عن الإخبار إلى المخاطبة، ومثاله فى القرآن العزيز الإخبار بأنّ الحمد لله رب العالمين، [ثم قال «2» ] : إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ومثاله فى الشعر قول جرير: متى كان الخيام بذى «3» طلوح ... سقيت الغيث أيّتها الخيام؛ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 116 أو انصراف المتكلّم عن المخاطبة [الى الإخبار «1» ] ، كقوله تعالى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ومثال ذلك فى الشعر قول عنترة: ولقد نزلت فلا تظنّى غيره ... منّى بمنزلة المحبّ المكرم ثم قال مخبرا عنها: كيف المزار وقد تربّع أهلها، بعنيزتين ... «2» وأهلنا بالغيلم؛ أو انصراف المتكلّم من الإخبار إلى التكلّم، كقوله تعالى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ ؛ أو انصراف المتكلّم من التكلّم إلى الإخبار، كقوله تعالى: إِنْ يَشَأْ «3» يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ* وقد جمع امرؤ لاقيس لاالتفاتات الثلاثة فى ثلاثة أبيات متواليات، وهى قوله: تطاول ليلك بالإثمد «4» ... ونام الخلىّ ولم ترقد وبات وباتت له ليلة ... كليلة ذى العائر «5» الأرمد وذلك من نبإ جاءنى ... وخبّرته عن أبى الأسود الجزء: 7 ¦ الصفحة: 117 يخاطب فى البيت الأوّل، وانصرف إلى الإخبار فى البيت الثانى، وانصرف عن الإخبار الى التكلّم فى البيت الثالث على الترتيب. وأما التمام - وهو الذى سماه الحاتمىّ التتميم، وسماه ابن المعتز اعتراض كلام فى كلام لم يتم معناه، ثم يعود المتكلم فيتمّمه، وشرح حدّه بأنه الكلمة التى إذا طرحت من الكلام نقص حسن معناه ومبالغته، مع أن لفظه يوهم بأنه تامّ؛ وهو على ضربين: ضرب فى المعانى وضرب فى الألفاظ، فالذى فى المعانى هو تتميم المعنى والذى فى الألفاظ هو تتميم الأوزان، والأوّل هو الذى قدّم حدّه، ومثاله قوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً فقوله تعالى: مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى * [تتميم، وقوله «1» : وَهُوَ مُؤْمِنٌ* ] تتميم ثان فى غاية البلاغة، ومن هذا القسم قول النبى صلّى الله عليه وسلم: «ما من عبد مسلم يصلى لله كل يوم اثنتى عشرة ركعة من غير الفريضة إلا ابتنى الله له بيتا فى الجنة» فوقع التتميم فى هذا الحديث فى ثلاثة مواضع: قوله عليه السلام: مسلم، ولله، ومن غير الفريضة، ومن أناشيد قدامة على هذا القسم قول الشاعر «2» : أناس إذا لم يقبل الحقّ منهم ... ويعطوه عادوا «3» بالسيوف القواضب. وأما الذى فى الألفاظ فهو الذى يؤتى به لإقامة الوزن بحيث لو طرحت الكلمة استقلّ معنى البيت بدونها؛ وهو على ضربين: أحدهما مجىء الكلمة لا تفيد غير إقامة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 118 الوزن فقط، والثانى: مجيئها تفيد مع إقامة الوزن نوعا من الحسن، فالأوّل من العيوب والثانى من المحاسن؛ قال: والكلام هنا فى الثانى، ومثاله قول المتنبىّ: وخفوق قلب لو رأيت لهيبه ... يا جنّتى لظننت فيه جهنّما فإنه جاء بقوله يا جنتى لإقامة الوزن، وقصد بها دون غيرها مما يسدّ مسدّها أن يكون بينها وبين قافية البيت مطابقة لا تحصل بغيرها. وأما الاستطراد - وهذه التسمية ذكر الحاتمىّ فى حلية المحاضرة أنه نقلها عن البحترىّ، وقيل: أن البحترىّ نقلها عن أبى تمّام، وسماه ابن المعتز: الخروج من معنى إلى معنى، وفسّره بأن قال: هو أن يكون المتكلّم فى معنى فيخرج منه بطريق التشبيه أو الشرط أو الإخبار أو غير ذلك إلى معنى آخر يتضمّن مدحا أو قدحا أو وصفا ما، وغالب وقوعه فى الهجاء، ولا بد من [ذكر «1» ] المستطرد به باسمه بشرط أن لا يكون تقدّم له ذكر. فمن أوّل «2» ما ورد فى ذلك من النظم قول السموءل بن عادياء: وإنّا لقوم ما نرى القتل سبّة ... إذا ما رأته عامر وسلول ومنه قول حسّان: إن كنت كاذبة الذى حدّثتنى ... فنجوت منجا الحارث بن هشام ترك الأحبّة لم يقاتل دونهم ... ونجا برأس طمرّة «3» ولجام الجزء: 7 ¦ الصفحة: 119 وقول أبى تمّام فى وصف حافر «1» الفرس بالصلابة: أيقنت «2» إن لم تثبّت أنّ حافره ... من صخر تدمر أو من وجه عثمان ومن أحسن ما قيل فى ذلك قول ابن الزّمكدم أربعة استطرادات متوالية: وليل كوجه البرقعيدىّ «3» ظلمة ... وبرد أغانيه وطول قرونه سريت ونومى فيه نوم مشرّد ... كعقل سليمان بن فهد «4» ودينه على أولق «5» فيه التفات «6» كأنه ... أبو صالح «7» فى خبطه وجنونه إلى أن بدا ضوء الصباح كأنه ... سنا وجه قرواش «8» وضوء جبينه وقول البحترىّ فى الفرس أيضا: ما إن يعاف قذّى ولو أوردته ... يوما خلائق حمدويه الأحول ومما جمع المدح والهجاء قول بكر بن النّطّاح: فتى شقيت أمواله بنواله ... كما شقيت بكر بأرماح تغلب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 120 ومما جاء «1» به على وجه المجون قول بعضهم: اكشفى وجهك الذى أوحلتنى ... فيه من قبل كشفه عيناك غلطى فى هواك يشبه عندى ... غلطى فى أبى علىّ بن زاكى ومما جاء فى النسيب «2» على وجه التشبيه قول امرئ القيس: عوجا على الطلل المحيل لعلّنا ... نبكى الديار كما بكى ابن حمام «3» . وأما تأكيد المدح بما يشبه الذم ّ - فهو ضربان: أفضلهما أن يستثنى من صفة ذمّ منفيّة عن الشىء صفة مدح «4» بتقدير دخولها فيها، نحو قوله تعالى: (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً) فالتأكيد فيه من جهة أنه كدعوى الشىء ببيّنة، وأن الأصل فى الاستثناء الاتصال، فذكر أداته قبل ذكر ما بعدها يوهم إخراج الشىء ممّا قبلها، فإذا وليها صفة مدح جاء التأكيد. والثانى: أن يثبت لشىء صفة مدح ويعقّب بأداة استثناء تليها صفة مدح أخرى له، كقوله صلّى الله عليه وسلم: «أنا أفصح العرب بيد أنّى من قريش» وأصل الاستثناء فى هذا الضرب أيضا أن يكون منقطعا، لكنه باق على حاله لم يقدّر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 121 متصلا فلا يفيد التأكيد إلا من الوجه الثانى من الوجهين المذكورين، ولهذا كان الأوّل أفضل. ومن أمثلة الأوّل قول النابغة الذّبيانى: ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم ... بهنّ فلول من قراع الكتائب ومن أحسن ما قيل فى ذلك قول حاتم الطائىّ: ولا تشتكينى جارتى غير أننى ... إذا غاب عنها بعلها لا أزورها ومن الثانى قول النابغة الجعدىّ: فتى كملت أخلاقه غير أنه ... جواد فما يبقى من المال باقيا ومن أحسن ما ورد فى هذا الباب قول بعضهم «1» : ولا عيب فينا غير أنّ سماحنا ... أضرّ بنا والبأس «2» من كلّ جانب فأفنى الردى أعمارنا غير ظالم ... وأفنى الندى أموالنا غير عاتب. وأما تأكيد الذمّ بما يشبه المدح - فهو ضربان: أحدهما أن يستثنى من صفة مدح منفيّة عن الشىء صفة ذمّ بتقدير دخولها فيها كقولك: فلان لا خير فيه إلّا أنه يسىء «3» إلى من أحسن اليه. والثانى: أن تثبت للشىء صفة ذمّ وتعقّب بأداة استثناء تليه صفة ذمّ له أخرى كقولك: فلان فاسق إلّا أنه جاهل، وتحقيق القول فيها على قياس ما تقدّم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 122 وأما تجاهل العارف - فهو سؤال المتكلّم عما يعلمه حقيقة تجاهلا منه ليخرج كلامه مخرج المدح أو الذمّ، أو ليدلّ على شدّة التدلّه فى الحبّ، أو لقصد التعجّب أو التوبيخ أو التقرير؛ وقال السكاكىّ: هو سوق المعلوم مساق غيره لنكتة «1» كالتوبيخ، كما فى قول الخارجيّة وهى ليلى بنت طريف: أيا شجر الخابور «2» مالك مورقا ... كأنك لم تجزع على ابن طريف والمبالغة فى المدح، كقول البحترىّ: ألمع برق سرى أم ضوء مصباح ... أم ابتسامتها بالمنظر الضاحى أو الذمّ، كما قال زهير: وما أدرى ولست «3» إخال أدرى ... أقوم آل حصن أم نساء أو التدلّه فى الحبّ، كقوله: بالله يا ظبيات القاع قلن لنا ... ليلاى منكنّ أم ليلى من البشر «4» وقول البحترىّ: بدا فراع فؤادى حسن صورته ... فقلت هل ملك ذا الشخص أم ملك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 123 وأما الهزل الذى يراد به الجد ّ - فهو أن يقصد المتكلّم ذمّ إنسان أو مدحه فيخرج ذلك مخرج المجون، كقول الشاعر «1» : إذا ما تميمىّ أتاك مفاخرا ... فقل عدّ عن ذا كيف أكلك للضبّ. وأما الكنايات - فهى أن يعبّر المتكلّم عن المعنى القبيح باللفظ الحسن وعن الفاحش بالطاهر، وقد تقدّم الكلام على ذلك فى باب الكناية والتعريض وهو الباب الرابع من القسم الثانى من هذا الفنّ، وهو فى السّفر الثالث من كتابنا هذا. وأما المبالغة - وتسمّى التبليغ والإفراط فى الصفة- فقد حدّها قدامة بأن قال: هى أن يذكر المتكلّم حالا من الأحوال لو وقف عندها لأجزأت فلا يقف حتى يزيد فى معنى ما ذكره ما يكون أبلغ فى معنى قصده، كقول عمير «2» بن كريم التغلبىّ: ونكرم جارنا ما دام فينا ... ونتبعه الكرامة حيث مالا ومن أمثلة المبالغة المقبولة قول امرئ القيس يصف فرسا: فعادى عداء «3» بين ثور ونعجة ... دراكا ولم ينضح بماء فيغسل يقول: إنه أدرك ثورا وبقرة فى مضمار واحد ولم يعرق. وقول المتنبى: وأصرع أىّ الوحش قفّيته به ... وأنزل عنه مثله حين أركب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 124 ولا يعاب فى المبالغة إلا ما خرج عن حدّ الإمكان، كقوله: وأخفت أهل الشرك حتى إنه ... لتخافك النّطف التى لم تخلق «1» وأما إذا كان كقول قيس بن الخطيم: طعنت ابن عبد القيس طعنة ثائر ... لها نفذ لولا الشّعاع أضاءها ملكت بها كفّى فأنهرت «2» فتقها ... يرى قائما من دونها ما وراءها فإنّ ذلك من جيّد المبالغة إذ لم يكن قد خرج مخرج الاستحالة مع كونه قد بلغ النهاية فى وصف الطعنة، ومن أحسن ذلك وأبلغه قول أحد شعراء الحماسة: رهنت يدى بالعجز عن شكر برّه ... وما بعد «3» شكرى للشكور مزيد ولو كان مما يستطاع استطعته ... ولكنّ ما لا يستطاع شديد. وأما عتاب المرء نفسه - فهو من أفراد ابن المعتزّ، ولم ينشد عليه سوى بيتين ذكر أن الآمدىّ «4» أنشدهما عن الجاحظ وهما: عصانى قومى فى الرشاد الذى به ... أمرت ومن يعص المجرّب يندم فصبرا بنى بكر على الموت إننى ... أرى عارضا ينهلّ بالموت والدم قال: ولا يصلح أن يكون شاهدا لهذا الباب إلا قول أحد شعراء الحماسة: أقول لنفسى فى الخلاء ألومها ... لك الويل ما هذا التجلّد والصبر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 125 وقول الآخر: فقدتك من نفس شعاع «1» فإننى ... نهيتك عن هذا وأنت جميع وما ناسب ذلك من الأمثلة. وأما حسن التضمين - فهو أن يضمّن المتكلّم كلامه كلمة من آية أو حديث أو مثل سائر أو بيت شعر؛ ومن إنشادات ابن المعتزّ عليه: عوّذ لما بتّ ضيفا له ... أقراصه منّى بياسين فبتّ والأرض فراشى وقد ... غنّت قفا نبك مصارينى فضمّن بيته الأوّل كلمة من السورة بتوطئة حسنة، وبيته الثانى مطلع قصيدة امرئ القيس. ومما ضمّن معنى حديث النبىّ صلّى الله عليه وسلم قول الآخر: وأخ «2» مسّه نزولى بقرح ... مثلما مسّنى من الجوع قرح بتّ ضيفا له كما حكم الدهر ... وفى حكمه على الحرّ قبح قال لى مذ نزلت وهو من السكرة ... بالهمّ طافح ليس يصحو: لم تغرّبت؟ قلت: قال رسول الل ... هـ والقول منه نصح ونجح: «سافروا تغنموا» فقال: وقد قال ... تمام الحديث: «صوموا تصحّوا» ومن تضمين الشعر قول بعضهم: وقفنا بأنضاء حكتنا «3» لواغب ... «على مثلها من أربع وملاعب» وهو مطلع قصيدة لأبى تمام، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 126 ومنه قول الغزّى: طول حياة ما لها طائل ... نغّص عندى كلّ ما يشتهى أصبحت مثل الطفل فى ضعفه ... تشابه المبدأ والمنتهى فلا تلم سمعى إذا خاننى ... «إنّ الثمانين وبلّغتها» المراد من التضمين هاهنا تمام البيت: ... قد أحوجت سمعى إلى ترجمان وإنما تركه لأن أوّل البيت يدلّ عليه لاشتهاره، وهذا قد أكثر المتأخرون من استعماله فى أشعارهم، وضمّنوا البيت الكامل بعد التوطئة له. وأما التلميح - وهو من التضمين، وإنما بعضهم أفرده- فهو أن يشير فى فحوى الكلام إلى مثل سائر، أو بيت مشهور، أو قضية معروفة من غير أن يذكره، كقول الشاعر: المستغيث بعمرو عند كربته ... كالمستغيث من الرمضاء بالنار أشار إلى قضيّة كليب حين استغاث بعمرو بن الحارث؛ ومنهم من يسمّى ذلك اقتباسا، وإيراد المثل كما هو تضمينا. وأما إرسال المثل - فهو كقول أبى فراس: تهون علينا فى المعالى نفوسنا ... ومن يخطب العلياء لم يغله «1» المهر وكقول المتنبىّ: تبكّى عليهنّ البطاريق فى الدجى ... وهنّ لدينا ملقيات كواسد بذا قضت الأيام ما بين أهلها ... مصائب قوم عند قوم فوائد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 127 وأما إرسال مثلين - فهو الجمع بين مثلين، كقول لبيد: ألا كلّ شىء ما خلا الله باطل ... وكلّ نعيم لا محالة زائل وابيات زهير بن أبى سلمى التى فيها ومن ومن، وقد تقدّم ذكر ذلك مستوفى فى باب الأمثال، وهو الباب الأوّل من القسم الثانى من هذا الفنّ، وهو فى السّفر الثالث. وأما الكلام الجامع فهو أن يكون البيت كلّه جار يا مجرى مثل واحد كقول زهير: ومن يك ذا فضل ويبخل بفضله ... على قومه يستغن عنه ويذمم ومن لا يصانع فى أمور كثيرة ... يضرّس بأنياب ويوطأ بمنسم «1» ومهما تكن عند امرئ من خليفة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم وكقول أبى فراس: إذا كان غير الله فى عدّة الفتى ... أتته الرزايا من وجوه الفوائد وكقول المتنبىّ: وكم من عائب قولا صحيحا ... وآفته من الفهم السقيم وقوله: ومن نكد الدنيا على الحرّ أن يرى ... عدوّا له ما من صداقته بدّ وقوله: ومن البليّة عذل من لا يرعوى ... عن جهله وخطاب من لا يفهم وقوله: إنا لفى زمن ترك القبيح به ... من أكثر الناس إحسان وإجمال. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 128 وأما الّلفّ والنشر - فهو أن يذكر اثنين فصاعدا ثم يأتى «1» بتفسير ذلك جملة مع رعاية الترتيب ثقة بأن السامع يردّ إلى كل واحد منها ما له، كقوله تعالى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ؛ ومن النظم قول الشاعر: ألست أنت الذى من ورد نعمته ... وورد راحته أجنى وأغترف وقد لا يراعى فيه الترتيب ثقة بأن السامع يردّ كل شىء إلى موضعه سواء تقدّم أو تأخر، كقول الشاعر: كيف أسلو وأنت حقف «2» وغصن ... وغزال لحظا وقدّا وردفا. وأما التفسير - وهو قريب منه- فهو أن يذكر لفظا ويتوهّم أنه يحتاج إلى بيانه فيعيده مع التفسير، كقول أبى مسهر: غيث وليث [فغيث «3» ] حين تسأله ... عرفا وليث لدى الهيجاء ضرغام ومنه قول الشاعر: يحيى ويردى بجدواه وصارمه ... يحيى العفاة ويردى كلّ من حسدا ومن ذلك أن يذكر معانى ويأتى بأحوالها من غير أن يزيد أو ينقص كقول الفرزدق: لقد جئت قوما لو لجأت إليهمو ... طريد دم أو حاملا ثقل مغرم لألفيت فيهم معطيا ومطاعنا ... وراءك شزرا بالوشيج «4» المقوّم لكنه لم يراع شرط اللّفّ والنشر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 129 وقول آخر: فوا حسرتا حتى متى القلب موجع ... بفقد حبيب أو تعذّر إفضال فراق حبيب مثله يورث الأسى ... وخلّة حرّ لا يقوم بها مالى «1» ومنه قول ابن شرف: سل عنه وانطق به وانظر إليه تجد ... ملء المسامع والأفواه والمقل ومن احسن ما فى هذا الباب قول ابن الرومىّ: آراؤكم ووجوهكم وسيوفكم ... فى الحادثات إذا دجون نجوم منها معالم للهدى ومصابح ... تجلو الدجى والأخريات رجوم وفساد ذلك أن يأتى بإزاء الشىء بما لا يكون مقابلا له، كقول الشاعر: فيأيها الحيران فى ظلم الدجى ... ومن خاف أن يلقاه بغى من العدا تعال إليه تلق من نور وجهه ... ضياء ومن كفّيه بحرا من الندى فأتى بالندى بإزاء بغى العدا، وكان يجب أن يأتى بإزائه بالنصر أو العصمة أو الوزر وما جانسه، أو يذكر فى موضع البغى الفقر والعدم وما جانس ذلك. وأما التعديد - ويسمّى سياقة الأعداد- فهو إيقاع أسماء مفردة على سياق واحد، فإن روعى فى ذلك ازدواج أو جناس أو تطبيق أو نحو ذلك كان غاية فى الحسن، كقولهم: وضع فى يده زمام الحلّ والعقد، والقبول والردّ، والأمر والنهى، والبسط والقبض، والإبرام والنقض، والإعطاء والمنع؛ ومن النظم قول المتنبىّ: الخيل والليل والبيداء تعرفنى ... والضرب والطعن والقرطاس والقلم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 130 وأما تنسيق الصفات - فهو أن يذكر الشىء بصفات متوالية، كقوله عزّ وجلّ: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ الآية، وقوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً* وقول النبى صلّى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأحبّكم إلىّ وأقربكم منّى مجالس يوم القيامة؟ أحاسنكم أخلاقا، الموطّئون أكنافا، الذين يألفون ويؤلفون» ؛ ومن النظم قول أبى طالب فى النبى صلّى الله عليه وسلم: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل وقول المتنبىّ: دان بعيد محبّ مبغض بهج ... أغرّ حلو ممرّ ليّن شرس. وأما الإيهام - ويقال له التورية والتخييل- فهو أن يذكر ألفاظا لها معان قريبة وبعيدة، فإذا سمعها الإنسان سبق إلى فهمه القريب، ومراد المتكلّم البعيد مثاله قول عمر بن أبى ربيعة: أيها المنكح الثريّا سهيلا ... عمرك الله كيف يلتقيان هى شاميّة إذا ما استقلّت ... وسهيل إذا استقلّ يمانى فذكر الثريا وسهيلا ليوهم السامع أنه يريد النجمين، ويقول: كيف يجتمعان والثريّا من منازل القمر الشاميّة، وسهيل من النجوم اليمانيّة؟ ومراده الثريّا التى كان يتغزّل بها لمّا زوّجت بسهيل؛ ومن ذلك قول المعرّى: إذا صدق الجدّ افترى العمّ للفتى ... مكارم لا تخفى وإن كذب الخال الجزء: 7 ¦ الصفحة: 131 فإنّ وهم السامع يذهب إلى الأقارب، ومراده بالجدّ: الحظّ، وبالعمّ: الجماعة من الناس، وبالخال: المخيلة، ومن ذلك قول الحريرىّ فى [وصف «1» الإبرة والميل فى] المقامة الثامنة: وقوله أيضا: يا قوم كم من عاتق «2» عانس ... ممدوحة الأوصاف فى الأنديه قتلتها لا أتقى وارثا ... يطلب منّى قودا أو ديه يريد بالعاتق العانس: الخمر، وبقتلها: مزجها، كما قال حسّان: إن التى عاطيتنى فرددتها ... قتلت قتلت فهاتها لم تقتل وأمثال ذلك كثيرة. وعند علماء البيان: التخييل تصوير حقيقة الشىء للتعظيم، كقوله تعالى: وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ والغرض منه تصوير عظمته والتوقيف «3» على كنه جلاله من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين إلى جهة حقيقة أو مجاز، وكذلك قوله صلّى الله عليه وسلم: «إنما نحن حفنة من حفنات ربّنا» قال الزمخشرى: ولا يرى باب فى علم البيان أدقّ ولا ألطف من هذا الباب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 132 وأما حسن الابتداءات - قال: هذه تسمية ابن المعتزّ، وأراد بها ابتداءات القصائد، وفرّع المتأخرون من هذه التسمية براعة الاستهلال، وهو أن يأتى الناظم أو الناثر فى ابتداء كلامه ببيت أو قرينة تدلّ على مراده فى القصيدة أو الرسالة أو معظم مراده؛ والكاتب أشدّ ضرورة إلى ذلك من غيره ليبتنى كلامه على نسق واحد دلّ عليه من أوّل علم بها مقصده «1» ، إما فى خطبة تقليد، أو دعاء كتاب، كما قيل لكاتب: اكتب إلى الأمير بأن بقرة ولدت حيوانا على شكل الإنسان، فكتب: أما بعد حمد الله خالق الإنسان فى بطون الأنعام وكقول أبى الطيّب فى الصلح الذى وقع بين كافور وبين ابن مولاه: حسم الصلح ما اشتهته الأعادى ... وأذاعته ألسن الحسّاد وأمثال ذلك. قال: وينبغى أن لا يبتدئ بشىء يتطيّر منه، كقول ذى الرّمّة: ما بال عينك منها الماء ينسكب وقول البحترى: لك الويل من ليل تقاصر آخره وكقول المتنبىّ: كفى بك داء أن ترى الموت شافيا ... وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا وكقوله: ملثّ «2» القطر أعطشها ربوعا ... وإلّا فاسقها السّمّ النقيعا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 133 قال: وينبغى أن يراعى فى الابتداءات ما يقرب من المعنى إذا لم تتأت له براعة الاستهلال، وتسهيل اللفظ وعذوبته وسلاسة ألفاظه، وقيل: إن أحسن ابتداء ابتدأت به العرب قول النابغة: كلينى لهمّ يا أميمة ناصب ... وليل أقاسيه بطىء الكواكب ومن أحسن ما ابتدأ به مولّد قول إسحاق بن إبراهيم الموصلىّ: هل إلى أن تنام عينى سبيل ... إنّ عهدى بالنوم عهد طويل ويحسن أن يبتدئ فى المديح بمثل قول أبزون العمانىّ: على منبر العلياء «1» جدّك يخطب ... وللبلدة العذراء سيفك يخطب وقول المتنبىّ: عدوّك مذموم بكلّ لسان ... وإن كان من أعدائك القمران وقول التّيفاشى: ما هزّ عطفيه بين البيض والأسل ... مثل الخليفة عبد المؤمن بن على وفى التشبيب كقول أبى تمّام: على مثلها من أربع وملاعب ... أذيلت مصونات الدموع السواكب وفى النسيب كقول المتنبىّ: أتراها لكثرة العشّاق ... تحسب الدمع خلقة فى المآقى وفى المراثى كقول أبى تمّام: كذا فليجلّ الخطب وليفدح الأمر ... وليس لعين لم يفض ماؤها عذر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 134 وأما براعة التخليص - فهو أن يكون التشبيب أو النسيب ممزوجا بما بعده من مدح وغيره غير منفصل عنه، كقول مسلم بن الوليد: أجدّك هل تدرين أن ربّ ليلة ... كأنّ دجاها من قرونك تنشر نصبت لها حتى تجلّت بغرّة ... كغرّة يحيى حين يذكر جعفر وكقول المتنبىّ: نودّعهم والبين فينا كأنه ... قنا ابن أبى الهيجاء فى قلب فيلق. وأما براعة الطلب - قال: وهو أن تكون ألفاظ الطلب مقترنة بتعظيم الممدوح، كقول أميّة بن أبى الصّلت: أأذكر حاجتى أم قد كفانى ... حياؤك إنّ شيمتك الحياء إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرّضه الثناء وكقول المتنبىّ: وفى النفس حاجات وفيك فطانة ... سكوتى بيان عندها وخطاب. وأما براعة المقطع - فهو أن يكون آخر الكلام الذى يقف عليه المترسّل أو الخطيب أو الشاعر مستعذبا حسنا، لتبقى لذّته فى الأسماع، كقول أبى تمام: أبقت بنى الأصفر المصفّر كاسمهم ... صفر الوجوه وجلّت أوجه العرب وكقول المتنبىّ: وأعطيت الذى لم يعط خلق ... عليك صلاة ربّك والسلام وكقول الغزّى: بقيت بقاء الدهر يا كهف أهله ... وهذا دعاء للبريّة شامل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 135 وأما السؤال والجواب - فهو كقول أبى فراس: لك جسمى تعلّه ... فدمى لم تطلّه «1» ؟ قال إن كنت مالكا ... فلى الأمر كلّه وأمثال ذلك. وقد أوردنا منه فى باب الغزل ما فيه كفاية. وأما صحة الأقسام - فهو عبارة عن استيفاء أقسام المعنى الذى هو آخذ فيه بحيث لا يغادر منه شيئا؛ ومثال ذلك قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وليس فى رؤية البرق إلا الخوف من الصواعق، والطمع فى المطر؛ وقوله تعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ فلم يبق قسما من أقسام الهيئات حتى أتى به؛ وقوله تعالى: يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً ، ومن ذلك قوله صلّى الله عليه وسلم: «ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدّقت فأمضيت» ولا رابع لهذه الأقسام؛ ووقف أعرابىّ على حلقة الحسن البصرىّ فقال: رحم الله من تصدّق من فضل، أو واسى من كفاف، أو آثر من قوت؛ فقال الحسن: ما ترك الأعرابىّ منكم أحدا حتى عمّه بالمسألة؛ ومن أمثلة هذا الباب فى الشعر قول بشّار: فراح فريق فى الإسار ومثله ... قتيل ومثل لاذ بالبحر هاربه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 136 وأصله قول عمرو بن الأهتم: إشربا ما شربتما فهذيل ... من قتيل وهارب وأسير ومن جيد صحة الأقسام قول الحماسىّ: وهبها كشىء لم يكن أو كنازح ... به الدار أو من غيّبته المقابر فاستوفى جميع أقسام المعدوم؛ وقول أبى تمّام فى الأفشين لما احترق بالنار: صلّى لها حيّا وكان وقودها ... ميتا ويدخلها مع الفجّار ومن قديم ما فى ذلك من الشعر قول زهير: وأعلم ما فى اليوم والأمس قبله ... ولكننى عن علم ما فى غد عمى ومن النادر فى صحة الأقسام قول عمر بن أبى ربيعة: تهيم إلى نعم فلا الشّمل جامع ... ولا الحبل موصول ولا أنت مقصر ولا قرب نعم إن دنت لك نافع ... ولا بعدها يسلى ولا أنت تصبر. وأما التوشيح - فهو أن يكون معنى الكلام يدلّ على لفظ آخره، فيتنزل المعنى منزلة الوشاح، ويتنزّل أوّل الكلام وآخره منزلة العاتق والكشح اللذين يجول عليهما الوشاح. وقال قدامة: هو أن يكون فى أوّل البيت معنى إذا علم علمت منه قافية البيت بشرط أن يكون المعنى المقدّم بلفظه من جنس معنى القافية بلفظه «1» ، كقول الراعى النّميرىّ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 137 فإن وزن الحصى فوزنت قومى ... وجدت حصى ضريبتهم «1» رزينا فإن السامع إذا فهم أن الشاعر أراد المفاخرة برزانة الحصى، وعرف القافية والروىّ، علم آخر البيت؛ ومن أمثلته ما حكى عن عمر بن أبى ربيعة أنه أنشد عبد الله ابن عباس رضى الله عنهما: تشطّ غدا دار أحبابنا فقال له عبد الله: وللدار بعد غد أبعد فقال له عمر: هكذا والله قلت، فقال له عبد الله: وهكذا يكون. وأما الإيغال - فمعناه أن المتكلّم أو الشاعر إذا انتهى إلى آخر القرينة أو البيت استخرج سجعة أو قافية تفيد معنى زائدا على معنى الكلام، وأصله من أوغل فى السير إذا بلغ غاية قصده بسرعة. وفسّره قدامة بأن قال: هو أن يستكمل الشاعر معنى بيته بتمامه قبل أن يأتى بقافيته، فإذا أراد الإتيان بها أفاد معنى زائدا على معنى البيت، كقول ذى الرّمّة: قف العيس فى آثار ميّة واسأل ... رسوما كأخلاق الرداء المسلسل «2» فتمّم كلامه قبل القافية، فلما احتاج إليها أفاد بها معنى زائدا، وكذلك صنع فى البيت الثانى فقال: أظنّ الذى يجدى عليك سؤالها ... دموعا كتبذير الجمان المفصّل فإنه تمّم كلامه بقوله: كتبذير الجمان، واحتاج إلى القافية، فأتى بها تفيد معنى زائدا لو لم يؤت بها لم يحصل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 138 وحكى عن الأصمعىّ أنه سئل عن أشعر الناس فقال: الذى يأتى إلى المعنى الخسيس فيجعله بلفظه كثيرا، وينقضى كلامه قبل القافية، فإن احتاج إليها أفاد بها معنى، فقيل له: نحو من؟ فقال: نحو الفاتح لأبواب المعانى امرئ القيس حيث قال: كأنّ عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع «1» الذى لم يثقّب ونحو زهير حيث يقول: كأنّ فتات العهن فى كلّ منزل ... نزلن به حبّ الفنا «2» لم يحطّم ومن أبلغ ما وقع فى هذا الباب قول الخنساء: وإنّ صخرا لتأتمّ العفاة «3» به ... كأنه علم فى رأسه نار ومنه قول ابن المعتزّ لابن طباطبا العلوى: فأنتم «4» بنو بنته دوننا ... ونحن بنو عمّه المسلم ومن أمثلة ذلك من شعر المتأخرين قول الباخرزىّ: أنا فى فؤادك فارم طرفك نحوه ... ترنى فقلت لها وأين فؤادى وقول آخر: تعجّبت من ضنى جسمى فقلت لها ... على هواك فقالت عندى الخبر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 139 وأما الإشارة - فهى أن يشتمل اللفظ القليل على معان كثيرة بإيماء إليها، وذكر لمحة تدلّ عليها كقوله تعالى: (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) ، (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ) . وكقول امرئ القيس: فإن تهلك شنوءة «1» أو تبدّل ... فسيرى إنّ فى غسّان خالا بعزّهمو عززت وإن يذلّوا ... فذلّهمو أنا لك ما أنالا وكقوله أيضا: فظلّ لنا يوم لذيذ بنعمة ... فقل فى نعيم نحسه متغيّب. وأما التذييل - وهو ضدّ الإشارة- فهو إعادة الألفاظ المترادفة على المعنى الواحد حتى يظهر لمن لم يفهمه، ويتوكّد عند من فهمه، كقوله: إذا ما عقدنا له ذمّة ... شددنا العناج «2» وعقد الكرب وقول آخر: ودعوا نزال فكنت أوّل نازل ... وعلام أركبه إذا لم أنزل ويقرب منه التكرار، كقول عبيد: هل لا سألت جموع كن ... دة يوم ولّوا أين أينا؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 140 وكقول آخر: وكانت فزارة تصلى بنا ... فأولى فزارة أولى فزارا. وأما الترديد - فهو أن تعلّق لفظة فى البيت بمعنى، ثم تردّها فيه بعينها وتعلّقها بمعنى آخر، كما قال زهير: من يلق يوما على علّاته هرما ... يلقى السماحة منه والندى خلقا وكقول آخر: وأحفظ مالى فى الحقوق وإنه ... لجمّ وإنّ الدهر جمّ عجائبه وكقول أبى نواس: صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها ... لو مسّها حجر مسّته سرّاء. وأما التفويف - فهو مشتقّ من الثوب المفوّف، وهو الذى فيه خطوط بيض، وهو فى الصناعة عبارة عن إتيان المتكلم بمعان شتّى من المدح أو الغزل أو غير ذلك من الأغراض، كلّ فنّ فى سجعة منفصلة عن أختها مع تساوى الجمل فى الوزنيّة، وتكون فى الجمل الطويلة والمتوسّطة والقصيرة؛ فمثال ما جاء منه فى الجمل الطويلة قول النابغة الذّبيانىّ: فلله عينا من رأى أهل قبّة ... أضرّ لمن عادى وأكثر نافعا وأعظم أحلاما وأكبر سيّدا ... وأفضل مشفوعا إليه وشافعا ومثال ما جاء منه بالجمل المتوسطة قول أبى الوليد بن زيدون: ته أحتمل، واستطل أصبر، وعزّ أهنّ ... وولّ أقبل، وقل أسمع، ومر أطع ومثال ما جاء منه بالجمل القصيرة قول المتنبىّ: أقل أنل أقطع آعل علّ سلّ أعد ... زد هشّ بشّ تفضّل أدن سرّ صل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 141 وأما التسهيم - فهو مأخوذ من البرد المسهّم، وهو المخطّط الذى لا يتفاوت ولا يختلف، ومنهم من يجعل التسهيم والتوشيح شيئا واحدا، ويشرك بينهما بالتسوية، والفرق بينهما أنّ التوشيح لا يدلّك أوّله إلا على القافية فحسب، والتسهيم تارة يدلّ على عجز البيت، وتارة على ما دون العجز؛ وتعريفه أن يتقدّم من الكلام ما يدلّ على ما يتأخر، تارة بالمعنى، وتارة باللفظ، كأبيات جنوب أخت عمرو ذى الكلب، فإن الحذّاق بمعنى الشعر وتأليفه يعلمون أن معنى قولها: فأقسم يا عمرو لو نبّهاك يقتضى أن يكون تمامه: إذن نبّها منك داء عضالا دون غيره من القوافى، كما لو قالت مكان «داء عضالا» : ليثا غضوبا، أو أفعى قتولا، أو سمّا وحيّا، أو ما يناسب ذلك، لأن الداء العضال أبلغ من جميع هذه الأشياء وأشد، إذ كلّ منها يمكن مغالبته أو التوقّى منه، والداء العضال لا دواء له، فهذا مما يعرف بالمعنى؛ وأما ما يدلّ فيه الأوّل على الثانى دلالة لفظيّة فهو قولها «1» بعده: إذن نبّها ليث عرّيسة ... حفيتا حفيدا نفوسا ومالا فإن الحاذق بصناعة الكلام إذا سمع قولها: «حفيتا مفيدا» تحقّق أن هذا اللفظ يقتضى أن يكون تمامه: «نفوسا ومالا» ؛ وكذلك قولها: فكنت النهار به شمسه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 142 يقتضى أن يكون [بعده «1» ] : وكنت دجى اللّيل فيه الهلالا ومن ذلك قول البحترىّ: وإذا حاربوا أذلّوا عزيزا يحكم السامع بأن تمامه: وإذا «2» سالموا أعزّوا ذليلا وكذلك قوله: احلّت دمى من غير جرم وحرّمت ... بلا سبب يوم اللقاء كلامى فليس الذى حلّلته بمحلّل يعرف السامع أن تمامه: وليس الذى حرّمته بحرام. وأما الاستخدام - فهو أن يأتى المتكلّم بلفظة لها معنيان، ثم يأتى بلفظتين يستخدم كلّ لفظة منهما فى معنى من معنى تلك «3» اللفظة المتقدّمة، وربما التبس الاستخدام بالتورية من كون كل واحد من البابين «4» مفتقرا إلى لفظة لها معنيان، والفرق بينهما أن التورية استعمال أحد المعنيين من اللفظة، وإهمال الآخر، والاستخدام استعمالها معا، ومن أمثلته قول البحترىّ: فسقى الغضى والسّاكنيه وإن همو ... شبّوه بين جوانح وقلوب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 143 فإن لفظة الغضى محتملة للموضع والشجر، والسّقيا صالحة لهما، فلّما قال: «والساكنيه» استعمل أحد معنى اللفظ، وهو دلالته بالقرينة على الموضع، ولمّا قال: «شبّوه» استعمل المعنى الآخر، وهو دلالته بالقرينة على الشجر؛ ومن ذلك قول الشاعر «1» : إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا أراد بالسماء الغيث، وبضميره النّبت. وأما العكس والتبديل - فهو أن يقدّم فى الكلام أحد جزئيه ثم يؤخّر؛ ويقع على وجوه: منها أن يقع بين طرفى الجملة، كقول بعضهم: عادات السادات، سادات العادات؛ ومنها أن يقع بين متعلّقى فعلين فى جملتين، كقوله تعالى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ* ومنه بيت الحماسة: فردّ شعورهن السود بيضا ... وردّ وجوههن البيض سودا؛ ومنها أن يقع بين كلمتين فى طرفى جملتين، كقوله تعالى: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ وقوله تعالى: لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ وقول أبى الطيّب: ولا مجد فى الدنيا لمن قلّ ماله ... ولا مال فى الدنيا لمن قلّ مجده. وأما الرجوع - فهو أن يعود المتكلّم على «2» كلامه السابق بالنقض لنكتة كقول زهير: قف بالديار التى لم يعفها القدم ... بلى وغيّرها الأرواح والدّيم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 144 كأنه لمّا وقف على الديار عرته روعة ذهل بها عن رؤية ما حصل لها من التغيّر فقال: «لم يعفها القدم» ثم تاب إليه عقله وتحقّق ما هى عليه من الدروس، فقال: بلى عفت وغيّرها الأرواح والدّيم؛ ومنه بيت الحماسة: أليس «1» قليلا نظرة إن نظرتها ... إليك وكلّا ليس منك قليل. وأما التغاير - فهو أن يغاير المتكلّم الناس فيما عادتهم أن يمدحوه فيذمّه أو يذمّوه فيمدحه؛ فمن ذلك قول أبى تمّام يغاير جميع الناس فى تفضيل التكرّم على الكرم: قد بلونا أبا سعيد حديثا ... وبلونا أبا سعيد قديما فوردناه سائحا وقليبا ... ورعيناه بارضا وجميعا «2» فعلمنا أن ليس إلا بشقّ النفس ... صار الكريم [يدعى «3» ] كريما وهو مغاير لقوله على العادة المألوفة: لا يتعب النائل المبذول همّته ... وكيف يتعب عين الناظر النظر ومنه قول ابن الرومىّ فى تفضيل القلم على السيف: إن يخدم القلم السيف الذى خضعت ... له الرقاب ودانت خوفه الأمم فالموت والموت لا شىء يعادله ... ما زال يتبع ما يجرى به القلم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 145 كذا قضى الله للأقلام مذ بريت ... أن السيوف لها مذ أرهفت خدم وغايره المتنبىّ على الطريق المألوف فقال: حتى رجعت وأقلامى قوائل لى ... المجد للسيف ليس المجد للقلم اكتب بها أبدا قبل الكتاب بنا ... فإنما نحن للأسياف كالخدم. وأما الطاعة والعصيان - فإنه قال: هذا النوع استنبطه أبو العلاء المعرّى عند نظره فى شعر أبى الطيّب، وسمّاه بهذه التسمية، وقال: هو أن يريد المتكلّم معنى من المعانى «1» التى للبديع فيستعصى عليه لتعذّر دخوله فى الوزن الذى هو آخذ فيه فيأتى موضعه بكلام غيره يتضمّن معنى كلامه، ويقوم به وزنه، ويحصل به معنى من البديع غير «2» الذى قصده، كقول المتنبىّ: يردّ يدا عن ثوبها وهو قادر ... ويعصى الهوى فى طيفها وهو راقد فإنه أراد «3» أن يقول: يردّ يدا عن ثوبها وهو مستيقظ، حتى إذا قال: ويعصى الهوى فى طيفها وهو راقد يكون فى البيت مطابقة، فلم يطعه الوزن، فأتى بقادر فى موضع مستيقظ لتضمّنه معناه، فإن القادر لا يكون إلا مستيقظا وزيادة، فقد عصاه فى البيت الطباق وأطاعه الجناس بين قادر وراقد، وهو جناس العكس؛ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 146 وأنكر ابن أبى الإصبع أن يكون هذا الشاهد من باب الطاعة والعصيان، لأنه كان يمكنه أن يقول عوض قادر: ساهر، وإنما المتنبىّ قصد أن يكون فى بيته طباق معنوىّ، لأن القادر ساهر وزيادة، إذ ليس كلّ ساهر قادرا، وأن يكون فيه جناس العكس. وقال: إن شاهد الطاعة والعصيان عنده أن تعصيه إقامة الوزن مع إظهار مراده، فتطيعه لفظة من البديع يتمّم بها المعنى وتزيده حسنا، كقول عوف بن محلّم: إن الثمانين وبلّغتها ... قد أحوجت سمعى إلى ترحمان فإنه أراد أن يقول: إن الثمانين قد أحوجت سمعى إلى ترجمان، فعصاه الوزن وأطاعه لفظة من البديع وهى التتميم، فزادته حسنا وكمّلت مراده، وكلّ التتميم من هذا النوع. وأما التسميط - فهو أن يجعل المتكلّم مقاطيع أجزاء البيت أو القرينة على سجع يخالف قافية البيت أو آخر القرينة، كقول مروان بن أبى حفصة: هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا ... أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا فإن أجزاء البيت مسجّعة على خلاف قافيته فتكون القافية بمنزلة السمط، والأجزاء المسجّعة بمنزلة حبّ العقد. وأما التشطير - فهو أن يقسم الشاعر بيته شطرين، ثم يصرّع كلّ شطر من الشطرين، ولكنه يأتى بكلّ شطر من بيته مخالفا لقافية الآخر، كقول مسلم ابن الوليد: موف على مهج فى يوم ذى رهج ... كأنّه أجل يسعى إلى أمل وكقول أبى تمّام: تدبير معتصم بالله منتقم ... لله مرتقب فى الله مرتغب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 147 وأما التطريز - فهو أن يبتدئ الشاعر بذكر جمل من الذوات غير مفصّلة ثم يخبر عنها بصفة واحدة من الصفات مكررة بحسب تعداد جمل تلك الذوات تعداد تكرار واتحاد، لا تعداد تغاير، كقول ابن الرومىّ: أمور كمو [بنى «1» ] خاقان عندى ... عجاب فى عجاب فى عجاب قرون فى رءوس فى وجوه ... صلاب فى صلاب فى صلاب وكقوله: وتسقينى وتشرب من رحيق ... خليق أن يشبّه بالخلوق كأنّ الكأس فى يدها وفيها ... عقيق فى عقيق فى عقيق. وأما التوشيع - فهو مشتقّ من الوشيعة، وهى الطريقة فى البرد، وكأنّ الشاعر أهمل البيت كلّه إلا آخره، فأتى فيه بطريقة تعدّ من المحاسن؛ وهو عند أهل هذه الصناعة أن يأتى المتكلّم أو الشاعر باسم مثنّى فى حشو العجز، ثم يأتى بعده باسمين مفردين هما عين ذلك المثنّى، يكون الآخر منهما قافية بيته، أو سجعة كلامه كأنهما تفسير لما ثنّاه «2» ، كقول النبى صلّى الله عليه وسلّم: «يشيب ابن آدم وتشبّ فيه خصلتان: الحرص وطول الأمل» ومن أمثلة ذلك فى النظم قول الشاعر: أمسى وأصبح من تذكاركم وصبا ... يرثى لى المشفقان الأهل والولد قد خدّد الدمع خدّى من تذكّركم ... واعتادنى المضنيان الوجد والكمد وغاب عن مقلتى نومى لغيبتكم ... وخاننى المسعدان الصبر والجلد لم يبق غير خفىّ الرّوح فى جسدى ... فدى لك الباقيان الرّوح والجسد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 148 قال ابن أبى الإصبع: وما بما قلته فى هذا الباب من بأس، وهو: بى «1» محنتان ملام فى هوى بهما ... رثى لى القاسيان الحبّ والحجر لولا الشفيقان من أمنيّة وأسا «2» ... أودى بى المرديان الشوق والفكر قال: ويحسن أن يسمى ما فى بيته مطرّف التوشيع، إذ وقع المثنّى فى أوّل كلّ بيت وآخره. وأما الإغراق - وهو فوق المبالغة ودون الغلوّ، ومن أمثلته قول ابن المعتزّ: صببنا عليها ظالمين سياطنا ... فطارت بها أيد سراع وأرجل فموضع الإغراق من البيت قوله: ظالمين، يعنى أنها استفرغت جهدها فى العدو فما ضربناها إلا ظلما، فمن أجل ذلك خرجت من الوحشيّة إلى الطّيريّة؛ ولو لم يقل: «ظالمين» لما حسن قوله: «فطارت» ولكنه بذكر الظلم صارت الاستعارة كأنها حقيقة، وقد عدّ من الإغراق لا المبالغة قول امرئ القيس: تنوّرتها من أذرعات «3» وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظر عالى. وأما الغلو ّ - فمنهم من يجعله هو والإغراق شيئا واحدا، ومن شواهده قول مهلهل: فلولا الريح أسمع من بحجر ... صليل البيض تقرع بالذّكور «4» الجزء: 7 ¦ الصفحة: 149 ومثله قول المتنبىّ فى وصف الأسد: ورد «1» إذا ورد البحيرة شاربا ... بلغ الفرات زئيره والنّيلا قالوا: ومن أمثلة الغلوّ قول النّمر بن تولب فى صفة السيف: تظلّ تحفر عنه إن ضربت به ... بعد الذّراعين والساقين والهادى. وأما القسم - فهو أن يريد الشاعر الحلف على شىء فيأتى فى الحلف بما يكون مدحا [له «2» ] وما يكسبه فخرا، أو يكون هجاء لغيره، أو وعيدا، أو جاريا مجرى التغزل والترقق؛ فمثال الأوّل قول «3» مالك بن الأشتر النّخعىّ: ... بقّيت وفرى وانحرفت عن العلا وقد تقدّم الاستشهاد بهما فى النظم، فإنها تضمّنت فخرا له، ووعيدا لغيره؛ وكقول أبى علىّ البصير يعرّض بعلىّ بن الجهم: أكذبت أحسن ما يظنّ مؤملى ... وعدمت ما شادته لى أسلافى وعدمت عاداتى التى عوّدتها ... قدما من الإخلاف والإتلاف وغضضت من نارى ليخفى ضوءها ... وقريت عذرا كاذبا أضيافى إن لم أشنّ على علىّ (غارة «4» ) ... تضحى قذى فى أعين الأشراف وقد يقسم الشاعر بما يزيد الممدوح مدحا، كقول القائل: إن كان لى أمل سواك أعده ... فكفرت نعمتك التى لا تكفر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 150 ومما جاء من القسم فى النسيب قول الشاعر: فإن لم تكن عندى كعينى ومسمعى ... فلا نظرت عينى ولا سمعت أذنى ومما جاء فى الغزل قول الآخر: لا والذى سلّ من جفنيه سيف ردى ... قدّت له من عذاريه حمائله ما صارمت مقلتى دمعا ولا وصلت ... غمضا ولا سالمت قلبى بلابله. وأما الاستدراك - فهو على قسمين: قسم يتقدّم الاستدراك فيه تقرير لما أخبر به المتكلّم وتوكيد، وقسم لا يتقدّمه ذلك؛ فمن أمثلة الأوّل قول القائل: وإخوان تخذتهمو دروعا ... فكانوها ولكن للاعادى وخلتهمو سهاما صائبات ... فكانوها ولكن فى فؤادى وقالوا قد صفت منّا قلوب ... لقد صدقوا ولكن من ودادى وقول الأرّجانىّ: غالطتنى إذ كست جسمى ضنى ... كسوة أعرت من الجلد العظاما ثم قالت أنت عندى فى الهوى ... مثل عينى صدقت لكن سقاما وأما القسم الثانى الذى لا يتقدّم الاستدراك فيه تقرير ولا توكيد فكقول زهير: أخو ثقة لا يهلك الخمر ماله ... ولكنه قد يهلك المال نائله. وأما المؤتلفة والمختلفة - فهو أن يريد الشاعر التسوية بين ممدوحين فيأتى بمعان مؤتلفة فى مدحهما، ويروم بعد ذلك ترجيح أحدهما على الآخر بزيادة لا ينقص بها الآخر، فيأتى لأجل الترجيح بمعان تخالف التسوية، كقول الخنساء فى أخيها وأبيها- وراعت حقّ الوالد بما لم ينقص الولد- الجزء: 7 ¦ الصفحة: 151 جارى أباه فأقبلا وهما ... يتعاقبان ملاءة الحضر «1» وهما وقد برزا كأنهما ... صقران [قد «2» ] حطّا الى وكر حتى اذا نزت القلوب وقد ... لزّت هناك العذر «3» بالعذر وعلا هتاف الناس: أيّهما ... قال المجيب هناك: لا أدرى برقت صحيفة وجه والده ... ومضى على غلوائه يجرى أولى فأولى أن يساويه ... لولا جلال السنّ والكبر وأوّل من سبق الى هذا المعنى زهير «4» حيث قال: هو الجواد فإن يلحق بشأوهما ... على تكاليفه فمثله لحقا أو يسبقاه على ما كان من مهل ... فمثل ما قدّما من صالح سبقا وتداوله الناس، فقال أبو نواس: ثم جرى الفضل فانثنى قدما ... دون مداه بغير ترهيق فقيل راشا سهما تراد به ال ... غاية والنّصل سابق الفوق «5» . وأما التفريق المفرد - فهو كقول الشاعر: ما نوال الغمام يوم ربيع ... كنوال الأمير يوم سخاء فنوال الأمير بدرة عين ... ونوال الغمام قطرة ماء. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 152 وأما الجمع مع «1» التفريق - فهو أن يشبّه شيئين بشىء ثم يفرّق بين وجهى الاشتباه، كقول الشاعر: فوجهك كالنار فى ضوئها ... وقلبى كالنار فى حرّها. وأما التقسيم المفرد «2» - فهو أن يذكر قسمة ذات جز أين أو أكثر، ثم يضمّ الى كلّ واحد من الأقسام ما يليق به، كقول ربيعة الرّقىّ: يزيد سليم سالم المال والفتى ... فتى الأزد للأموال غير مسالم لشتّان ما بين اليزيدين فى الندى ... يزيد سليم والأغرّ بن حاتم فهمّ الفتى الأزدى إتلاف ماله ... وهمّ الفتى القيسىّ جمع الدارهم فلا يحسب التمتام «3» أنّى هجوته ... ولكننى فضّلت أهل المكارم وكقول ابن حيّوس: ثمانية لم تفترق إذ جمعتها ... فلا افترقت ما ذبّ عن ناظر شفر يقينك «4» والتقوى، وجودك والغنى ... ولفظك والمعنى، وسيفك والنصر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 153 وقول آخر: لملتمسى الحاجات جمع ببابه ... فهذا له فن وهذا له فن فللخامل العليا، وللمعدم الغنى ... وللمذنب الرّحمى، وللخائف الأمن ويجوز أن يعدّ هذا من الجمع مع التقسيم. وأما الجمع مع التقسيم - فهو أن يجمع أمورا كثيرة تحت حكم، ثم يقسّم بعد ذلك، أو يقسّم «1» ثم يجمع، مثال الأوّل قول المتنبىّ: حتى أقام على أرباض خرشنة «2» ... تشقى به الروم والصّلبان والبيع للسّبى ما نكحوا، والقتل ما ولدوا ... والنهب ما جمعوا، والنار ما زرعوا فجمع فى البيت الأوّل أرض العدوّ وما فيها من معنى الشقاوة، وذكر التقسيم فى البيت الثانى. ومثال الثانى قول حسّان: قوم إذا حاربوا ضرّوا عدوّهمو ... أو حاولوا النفع فى أشياعهم نفعوا سجيّة تلك منهم غير محدثة ... إنّ الحوادث فاعلم شرّها البدع. وأما التزويج - فهو أن يزاوج بين معنين فى الشرط والجزاء، كقول البحترىّ: إذا ما نهى الناهى ولجّ بى الهوى ... أصاخت إلى الواشى فلجّ بها الهجر. وأما السلب والإيجاب - فهو أن يوقع [الكلام «3» ] على نفى شىء وإثباته فى بيت واحد، كقوله: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 154 وننكر إن شئنا على الناس قولهم ... ولا ينكرون القول حين نقول وكقول الشّمّاخ: هضيم الحشى لا يملأ الكفّ خصرها ... ويملأ منها كلّ حجل «1» ودملج. وأما الاطّراد - فهو أن يطرد الشاعر أسماء متتالية يزيد الممدوح بها تعريفا، لأنها لا تكون إلا أسماء آبائه تأتى منسوقة غير منقطعة من غير ظهور كلفة على النّظم كاطّراد الماء وانسجامه «2» ، وذلك كقول الأعشى: أقيس بن مسعود بن قيس بن خالد ... وأنت الذى ترجو حباءك وائل وكقول دريد: قتلنا بعبد الله خير لداته ... ذؤاب بن أسماء بن زيد بن قارب وهذا أحسن من الأوّل، لاطّراد الأسماء فى عجز البيت. وقال ابن أبى الإصبع: وقد أربى على هؤلاء بعض القائلين حيث قال: من يكن رام حاجة بعدت عنه ... وأعيت عليه كلّ العياء فلها أحمد المرجّى ابن يحيى بن ... معاذ بن مسلم بن رجاء لو لم يقع فيه الفصل بين الأسماء بلفظة المرجّى. ومنه ما كتب الشيخ مجد الدين بن الظّهير الحنفىّ على إجازة: أجاز ما قد سألوا ... بشرط أهل السّند محمد بن أحمد بن ... عمر بن أحمد فلم يفصل «3» بين الأسماء فى البيت بلفظة أجنبيّة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 155 وأما التجريد- فهو أن ينتزع الشاعر أو المتكلّم من أمر ذى صفة أمرا آخر مثله فى تلك الصفة مبالغة فى كمالها فيه؛ وهو أقسام: منها نحو قولهم: لى [من «1» ] فلان صديق حميم، أى بلغ من الصداقة حدّا صحّ معه أن يستخلص منه صديق آخر؛ ومنها نحو قولهم: لئن سألت لتسألنّ به البحر، ومنه قول الشاعر: وشوهاء تعدو بى إلى صارخ الوغى ... بمستلئم مثل الفنيق المرحّل أى تعدو بى ومعى من استعدادى للحرب لابس لأمة؛ ومنها نحو قوله تعالى: لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ لأن جهنم- أعاذنا الله منها- هى دار الخلد، لكن انتزع منها مثلها وجعل فيها معدّا للكفار تهويا لأمرها؛ ومنها نحو قول الحماسىّ: فلئن بقيت لأرحلنّ بغزوة ... نحو الغنائم أو يموت كريم وعليه قراءة من قرأ: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ بالرفع، بمعنى فحصلت سماء وردة، وقيل: تقدير الأوّل أو يموت منّى كريم، والثانى: فكانت منها وردة، وقيل: تقدير الأوّل أو يموت منّى كريم، والثانى: فكانت منها وردة كالدّهان، وفيه نظر؛ ومنها نحو قوله: يا خير من يركب المطىّ ولا ... يشرب كأسا بكف من بخلا ونحو قول الآخر: إن تلقنى- لا ترى غيرى يناظره- ... تنس «2» السلاح وتعرف جبهة الأسد ومنها مخاطبة الإنسان غيره وهو يريد نفسه، كقول الأعشى: ودّع هريرة إنّ الرّكب مرتحل ... وهل تطيق وداعا أيها الرجل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 156 وقول المتنبىّ: لا خيل عندك تهديها ولا مال ... فليسعد النّطق إن لم تسعد الحال ومنه قول الحيص بيص: إلام يراك المجد فى زىّ شاعر ... وقد نحلت شوقا فروع المنابر كتمت بصيت الشّعر علما وحكمة ... ببعضهما ينقاد صعب المفاخر أما وأبيك الخير إنك فارس ال ... كلام ومحيى الدّراسات الغوابر. وأما التكميل- فهو أن يأتى المتكلّم أو الشاعر بمعنى من مدح أو غيره من فنون الكلم وأغراضه، ثم يرى مدحه بالاقتصار على ذلك المعنى فقط غير كامل، كمن أراد مدح إنسان بالشجاعة، ثم رأى الاقتصار عليها دون مدحه بالكرم مثلا غير كامل أو بالبأس دون الحلم، ومثال ذلك قول كعب بن سعد الغنوىّ: حليم إذا ما الحلم زيّن أهله ... مع الحلم فى عين العدوّ مهيب قوله: «إذا ما الحلم زيّن أهله» احتراس لولاه لكان المدح مدخولا، إذ بعض التغاضى قد يكون عن عجز، وإنما يزين الحلم أهله اذا كان عن قدرة، ثم رأى أن يكون «1» مدحه بالحلم وحده غير كامل، لأنه اذا لم يعرف منه إلا الحلم طمع فيه عدوّه فقال: «فى عين العدوّ مهيب» ؛ ومنه قول السّموءل بن عادياء: وما مات منّا سيّد فى فراشه ... ولا طلّ منّا حيث كان قتيل لأنّ صدر البيت [وإن «2» ] تضمّن وصفهم بالإقدام والصبر ربّما أوهم العجز «3» الجزء: 7 ¦ الصفحة: 157 [لأن «1» ] قتل الجميع يدلّ على الوهن والقلّة فكملّه بأخذهم للثأر، وكمّل حسنه بقوله: «حيث كان» فإنه أبلغ فى الشجاعة؛ ومن ذلك فى النسيب قول كثيّر: لو أن عزة حاكمت شمس الضحى ... فى الحسن عند موفّق لقضى لها لأن قوله: «عند موفق» تكميل للمعنى، إذ ليس كلّ من يحاكم إليه موفقا؛ ومنه قول المتنبىّ: أشدّ من الرياح الهوج بطشا ... وأسرع فى الندى منها هبوبا. وأما المناسبة- فهى على ضربين: مناسبة فى المعنى، ومناسبة فى الألفاظ فالمعنويّة أن يبتدئ المتكلّم بمعنى، ثم يتمّم كلامه بما يناسبه معنى دون لفظ، كقوله تعالى: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ فقال تعالى فى صدر الآية التى الموعظة فيها سمعيّة: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ ، وقال بعد ذكر الموعظة: أَفَلا يَسْمَعُونَ وقال فى صدر الآية التى موعظتها مرئية: أَوَلَمْ يَرَوْا* وقال بعد الموعظة: أَفَلا يُبْصِرُونَ. ومن أمثلة المناسبة المعنويّة قول المتنبىّ: على سابح موج المنايا بنحره ... غداة كأنّ النّبل فى صدره وبل فإنّ بين لفظة السّباحة ولفظتى الموج والوبل تناسبا صار البيت به متلاحما؛ وقول ابن رشيق: أصحّ وأقوى ما رويناه فى الندى ... من الخبر المأثور منذ قديم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 158 أحاديث ترويها السيول عن الحيا ... عن البحر عن جود الأمير تميم فإنه وفّى المناسبة حقّها فى صحة العنعنة برواية السيول عن الحيى عن البحر، وجعل الغاية فيها جود الممدوح. والمناسبة اللفظيّة: توخّى الإتيان بكلمات متزنات، وهى على ضربين: تامّة وغير تامّة فالتامّة: أن تكون الكلمات مع الاتّزان مقفّاة، فمن شواهد التامّة قوله تعالى: ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ ومن الحديث النبوىّ- صلاة الله وسلامه على قائله- قول النبى صلّى الله عليه وسلم للمحسن والحسين- رضى الله عنهما-: «أعيذكما بكلمات الله التامّة، من كل شيطان وهامّه، ومن كل عين لامّه» ولم يقل: «ملمّه» وهى القياس لمكان المناسبة اللفظيّة التامّة؛ ومن شواهد الناقصة قوله صلّى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأحبّكم إلىّ وأقربكم منّى مجالس يوم القيامة؟ أحاسنكم أخلاقا، الموطّئون أكنافا» ومما جمع بين المناسبتين قوله صلّى الله عليه وسلم: «اللهم إنى أسألك رحمة تهدى بها قلبى، وتجمع بها أمرى، وتلمّ بها شعثى، وتصلح بها غايتى، وترفع بها شاهدى، وتزكىّ بها عملى، وتلهمنى بها رشدى، وتردّ بها ألفتى، وتعصمنى بها من كلّ سوء، اللهم إنى أسألك العون فى القضاء، ونزل الشهداء، وعيش السعداء، والنصر على الأعداء» فناسب صلّى الله عليه وسلم بين قلبى وأمرى، وغايتى وشاهدى مناسبة غير تامّة، لأنها فى الزّنة دون التقفية، وناسب بين القضاء والشهداء والسعداء والأعداء مناسبة تامّة فى الزّنة والتقفية؛ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 159 ومن أمثلة المناسبتين قول أبى تمّام: مها الوحش إلّا أنّ هاتا أوانس ... قنا الخطّ «1» إلا أنّ تلك ذوابل فناسب بين مها وقنا مناسبة تامّة، وناسب بين الوحش والخطّ، وأوانس وذوابل مناسبة غير تامّة. وأما التفريع - فهو أن يصدّر المتكلّم أو الشاعر كلامه باسم منفىّ ب «ما» خاصّة، ثم يصف الاسم المنفىّ بمعظم أوصافه اللائقة به فى الحسن أو القبح، ثم يجعله أصلا يفرّع منه جملة من جارّ ومجرور متعلّقة [به «2» ] تعلّق مدح أو هجاء أو فخر أو نسيب أو غير ذلك، يفهم من ذلك مساواة المذكور بالاسم المنفىّ الموصوف كقول الأعشى: ما روضة من رياض الحزن معشبة ... خضراء جاد عليها مسبل هطل يضاحك الشمس منها كوكب «3» شرق ... مؤزّر بعميم النبت مكتهل يوما بأطيب منها طيب رائحة ... ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل وقول عاتكة المرّية: وما طعم ماء أىّ ماء تقوله «4» ... تحدّر من غرّ طوال الذوائب بمنعرج من بطن واد تقابلت ... عليه رياح الصيف من كل جانب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 160 نفت جرية الماء القذى عن متونه ... فليس به عيب تراه لعائب بأطيب ممن يقصر الطرف دونه ... تقى الله واستحياء بعض العواقب وقد وقع الأصل والفرع لأبى تمّام فى بيت واحد، وهو: ما ربع ميّة معمورا يطيف به ... غيلان أبهى ربا من ربعها الخرب ولا الخدود وإن أدمين من خجل ... أشهى إلى ناظرى من خدّها الترب ومما ورد فى النثر رسالة ابن القمّىّ التى كتبها إلى سبإ بن أحمد صاحب صنعاء: وأمّا حال عبده بعد فراقه فى الجلد، فما أمّ تسعة من الولد؛ ذكور، كأنهم عقبان وكور؛ اخترم منهم ثمانيه، فهى على التاسع حانيه، فنادى النذير فى البادية، ياللعادية ياللعادية؛ فلما سمعت الداعى «1» ، ورأت الخيل سواعى؛ أقبلت تنادى ولدها: الأناة الأناه، وهو يناديها: القناة القناه بطل كأنّ ثيابه فى سرحة «2» ... يحذى نعال السّبت «3» ليس بتوأم فلما رمقته يختال فى غضون الزّرد الموضون «4» أنشأت تقول: أسد أضبط يمشى ... بين طرفاء «5» وغيل لبسه من نسج داود ... كضحضاح «6» المسيل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 161 عرض له فى البادية أسد هصور، كأنّ ذراعه مسد معصور فتطاعنا وتواقفت خيلاهما ... وكلاهما بطل اللقاء مقنّع فلما سمعت الرّعيل، برزت من الصّرم «1» بصبر قد عيل؛ فسألت عن الواحد فقيل: لحده اللّاحد «2» فكرّت تبتغيه فصادفته ... على دمه ومصرعه السباعا عبثن به فلم يتركن إلا ... أديما قد تمزق أو كراعا بأشدّ من عبده تأسّفا، ولا أعظم كمدا وتلهّفا. قال: وذكر ابن أبى الإصبع فى التفريع قسما ذكره فى صدر الباب، وقال: إنه هو الذى استخرجه، وهو أن يبتدئ الشاعر بلفظة هى إما اسم أو صفة، ثم يكرّرها فى البيت مضافة إلى أسماء وصفات تتفرع عليها جملة من المعانى فى المدح وغيره، كقول المتنبىّ: أنا ابن اللقاء أنا ابن السخاء ... أنا ابن الضّراب أنا ابن الطّعان أنا ابن الفيافى أنا ابن القوافى ... أنا ابن السّروج أنا ابن الرّعان «3» طويل النّجاد طويل العماد ... طويل القناة طويل السّنان حديد اللّحاظ حديد الحفاظ ... حديد الحسام حديد الجنان. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 162 وأما نفى الشىء بإيجابه- فهو أن يثبت المتكلّم شيئا فى ظاهر كلامه وينفى ما هو [من «1» ] سببه مجازا، والمنفىّ فى باطن الكلام حقيقة هو الذى أثبته كقول امرئ القيس: على لا حب لا يهتدى بمناره ... إذا سافه «2» العود النّباطىّ جرجرا فظاهر هذا الكلام يقتضى إثبات منار لهذه الطريق، ونفى الهداية «3» به مجازا وباطنه فى الحقيقة يقتضى نفى المنار جملة، والمعنى أن هذه الطريق لو كان لها منار ما اهتدى به، فكيف ولا منار لها، كما تقول لمن تريد أن تسلبه الخير: ما أقلّ خيرك! فظاهر كلامك يدلّ على إثبات خير قليل، وباطنه نفى الخير كثيره وقليله. وقول الزبير بن عبد المطلب يمدح عميلة بن عبد الدار «4» - وكان نديما له-: صحبت بهم طلقا يراح الى الندى ... اذا ما انتشى لم تحتضره مفاقره ضعيف بحثّ الكأس قبض «5» بنانه ... كليل على وجه النديم أظافره فظاهر هذا أنّ للممدوح مفاقر لم تحتضره إذا انتشى، وأنّ له أظافر يخمش بها وجه نديمه خمشا ضعيفا، وباطن الكلام فى الحقيقة نفى المفاقر جملة، والأظافر بتّة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 163 وأما الإيداع - قال: وأكثر الناس يجعلونه من باب التضمين، وهو منه إلّا أنه مخصوص بالنثر، وبأن يكون المودع نصف بيت، إما صدرا أو عجزا فمنه قول علىّ رضى الله عنه فى جواب كتاب لمعاوية: ثم زعمت أنّى لكلّ الخلفاء حسدت، وعلى كلّهم بغيت، فإن يكن ذلك كذلك فلم تكن الجناية عليك، حتى تكون المعذرة إليك وتلك شكاة ظاهر عنك عارها وأما الإدماج - فهو أن يدمج المتكلم غرضا له فى جملة معنى من المعانى قد نحاه ليوهم السامع أنه لم يقصده، وإنما عرض فى كلامه لتتمّة معناه الذى قصده، كقول عبيد الله بن عبد الله لعبد الله بن سليمان بن وهب حين وزر للمعتضد- وكان ابن عبيد الله «1» قد اختلّت حاله- فكتب الى ابن سليمان: أبى دهرنا إسعافنا فى نفوسنا ... وأسعفنا فيمن نحبّ ونكرم فقلت له نعماك فيهم أتمّها ... ودع أمرنا إن المهمّ المقدّم فأدمج شكوى الزمان فى ضمن التهنئة، وتلطّف فى المسألة مع صيانة نفسه عن التصريح بالسؤال. وأما سلامة الاختراع- فهو أن يخترع الشاعر معنى لم يسبق اليه ولم يتبعه أحد فيه، كقول عنترة فى الذباب: هزجا يحكّ ذراعه بذراعه ... قدح «2» المكبّ على الزناد الأجذم وكقول عدى بن الرّقاع فى تشبيه ولد الظبية: تزجى أغنّ كأن إبرة روقه ... قلم أصاب من الدواة مدادها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 164 وكقول النابغة فى وصف النسور: تراهنّ خلف القوم زورا «1» عيونها ... جلوس الشيوخ فى مسوك «2» الأرانب وكقول أبى تمّام: لا تنكرى عطل الكريم من الغنى ... فالسّيل حرب للمكان العالى وقوله: ليس الحجاب بمقص عنك لى أملا ... إنّ السماء ترجّى حين تحتجب وقول ابن حجاج: وإنّى «3» والمولى الذى أنا عبده ... طريفان «4» فى أمر له طرفان بعيدا ترانى منه أقرب ما ترى ... كأنى يوم العيد فى رمضان. وأما حسن الاتباع- فهو أن يأتى المتكلّم إلى معنى قد اخترعه غيره فيتّبعه فيه اتباعا يوجب له استحقاقه، إما باختصار لفظه، أو قصر وزنه أو عذوبة نظمه، أو سهولة سبكه «5» ، أو إيضاح معناه، أو تتميم نقصه، أو تحليته بما توجبه الصناعة، أو بغير ذلك من وجوه الاستحقاقات؛ كقول شاعر جاهلىّ فى صفة جمل: وعود قليل الذنب عاودت ضربه ... إذا هاج شوقى من معاهدها ذكر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 165 وقلت له ذلفاء ويحك سبّبت ... لك الضرب فاصبر إنّ عادتك الصبر فأحسن ابن المعتز اتّباعه حيث قال يصف خيله: وخيل طواها القود «1» حتى كأنها ... أنابيب سمر من قنا الخطّ ذبّل صببنا عليها ظالمين سياطنا ... فطارت بها أيد سراع وأرجل واتّبع أبو نواس جريرا فى قوله: إذا غضبت عليك بنو تميم ... حسبت الناس كلّهمو غضابا فقال أبو نواس- ونقل المعنى من الفخر إلى المدح-: وليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم فى واحد وقول النّميرىّ فى أخت الحجّاج: فهنّ اللواتى إن برزن قتلننى ... وإن غبن قطّعن الحشى حسرات فاتّبعه ابن الرومىّ فقال: ويلاه إن نظرت وإن هى أعرضت ... وقع السهام ونزعهنّ أليم. وأما الذمّ فى معرض المدح - فهو أن يقصد المتكلّم ذمّ إنسان فيأتى بألفاظ موجّهة، ظاهرها المدح، وباطنها القدح، فيوهم أنه يمدحه وهو يهجوه كقول بعضهم فى الشريف بن الشّجرىّ: يا سيّدى والذى يعيذك من ... نظم قريض يصدا به الفكر ما فيك من جدّك النبىّ سوى ... أنك لا ينبغى لك الشعر. وأما العنوان - فهو أن يأخذ المتكلّم فى غرض له من وصف أو فخر أو مدح أو هجاء أو غير ذلك، ثم يأتى لقصد تكميله بألفاظ تكون عنوانا لأخبار متقدّمة، وقصص سالفة؛ كقول أبى نواس: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 166 يا هاشم بن حديج ليس فخركمو ... بقتل صهر رسول الله بالسّدد أدرجتمو فى إهاب العير جثّته ... لبئس ما قدّمت أيديكمو لغد إن تقتلوا ابن أبى بكر فقد قتلت ... حجرا بدارة ملحوب «1» بنو أسد ويوم قلتم لعمرو وهو يقتلكم ... قتل الكلاب لقد أبرحت من ولد وربّ كنديّة قالت لجارتها ... والدمع ينهلّ من مثنى «2» ومن وحد ألهى امرأ القيس تشبيب بغانية ... عن ثأره وصفات النّؤى والوتد فقد أتى أبو نواس فى هذه الأبيات بعدّة عنوانات: منها قصة قتل محمد بن أبى بكر، وقتل حجر أبى امرئ القيس، وقتل عمرو بن هند كندة فى ضمن هجو من أراد هجوه، وعيّر «3» المهجوّ بما أشار اليه من الأخبار الدالّة على هجاء قبيلته؛ ومثل ذلك قول أبى تمام فى استعطاف مالك بن طوق على قومه: رفدوك فى يوم الكلاب «4» وشقّقوا ... فيه المزاد بجحفل غلّاب «5» وهمو بعين أباغ «6» راشوا للعدا ... سهميك عند الحارث الحرّاب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 167 وليالى الثّرثار «1» والحشّاك قد ... جلبوا الجياد لواحق الأقراب «2» فمضت كهولهمو ودبّر أمرهم ... أحداثهم تدبير غير صواب وقال بعد ذلك: لك فى رسول الله أعظم أسوة ... وأجلّها فى سنّة وكتاب أعطى المؤلّفة القلوب رضاهمو ... [كملا] وردّ أخائذ الأحزاب «3» والجعفريّون استقلّت ظعنهم ... عن قومهم وهمو نجوم كلاب حتى إذا أخذ الفراق بقسطه ... منهم وشطّ بهم عن الأحباب ورأوا بلاد الله قد لفظتهمو ... أكنافها رجعوا إلى جوّاب فأتوا كريم الخيم مثلك صافحا ... عن ذكر أحقاد وذكر «4» ضباب فانظر الى ما أتى به أبو تمّام فى هذه الأبيات من العنونات من السيرة النبوية وأيام العرب، وأخبار بنى جعفر بن كلاب، ورجوعهم الى ابن عمهم جوّاب؛ وكقوله أيضا لأحمد بن أبى دؤاد: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 168 تثبّت إنّ قولا كان زورا ... أتى النعمان قبلك عن زياد وأرّث «1» بين حىّ بنى جلاح ... لظى حرب وحىّ بنى مصاد وغادر فى صدور الدهر قتلى ... بنى بدر على ذات الإصاد «2» فأتى بعنوان يشير به الى قصة النابغة حين وشى به الى النعمان، فجرّ ذلك من الحروب ما تضمّنت أبياته. وأما الإيضاح- وهو أن يذكر المتكلّم كلاما فى ظاهره لبس، ثم يوضحه فى بقيّة كلامه، كقول الشاعر: يذكّرنيك الخير والشّرّ كلّه ... وقيل الخنا والعلم والحلم والجهل فإن الشاعر لو اقتصر على هذا البيت لأشكل مراده على السامع بجمعه بين ألفاظ المدح والهجاء، فلما قال بعد: فألقاك عن مكروهها متنزّها ... وألقاك فى «3» محبوبها ولك الفضل أوضح المعنى المراد، وأزال اللّبس، ورفع الإشكال والشك. وأما التشكيك- فهو أن يأتى المتكلّم فى كلامه بلفظة تشكّك المخاطب هل هى فضلة أو أصليّة لا غنى للكلام عنها؟ مثل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ فإن لفظة بدين تشكّك السامع هل هى فضلة أو أصليّة؟ فالضعيف النظر يظنّها فضلة لأن لفظة تداينتم تغنى عنها، والناظر فى علم البيان يعلم أنها أصليّة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 169 لأن لفظة الدّين لها محامل، تقول: داينت فلانا المودّة، يعنى جازيته، ومنه: «كما تدين تدان» ومنه قول رؤبة: داينت أروى والدّيون تقضى ... فمطلت بعضا وأدّت بعضا وكلّ هذا هو الدّين المجازىّ الذى لا يكتب ولا يشهد عليه، ولمّا كان المراد من الأية تمييط الدّين المالىّ الذى يكتب ويشهد عليه، وتيسير «1» ، أحكامه، أوجبت البلاغة أن يقول: «بدين» ليعلم حكمه. وأما القول بالموجب- فهو ضربان: أحدهما أن تقع صفة فى كلام مدّع شيئا يعنى به نفسه، فثبتت تلك الصفة لغيره من غير تصريح بثبوتها له، ولا نفيها «2» عنه، كقوله تعالى: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ فإنهم كنوا بالأعزّ عن فريقهم، وبالأذلّ عن فريق المؤمنين، فأثبت الله عزّ وجلّ صفة العزّة لله ولرسوله وللمؤمنين من غير تعرّض لثبوت حكم الإخراج بصفة العزّة ولا لنفيه. والثانى حمل كلام المتكلّم مع تقريره على خلاف مراده مما يحتمله بذكر متعلّقه كقول الشاعر «3» : الجزء: 7 ¦ الصفحة: 170 قلت: ثقّلت إذ أتيت مرارا ... قال «1» : ثقّلت كاهلى بالأيادى قلت: طوّلت قال: «2» [لى] بل تطوّلت: ... وأبرمت قال: حبل الوداد ومنه قول الأرّجانى: غالطتنى إذ كست جسمى ضنى البيتين، وقد تقدّم الاستشهاد بهما فى الاستدراك. وللمولى شهاب الدين محمود الحلبىّ الكاتب فى ذلك: رأتنى وقد نال منّى النّحول ... وفاضت دموعى على الخدّ فيضا فقالت: بعينىّ هذا السّقام ... فقلت: صدقت، وبالخصر أيضا وقول محاسن الشّوّاء: ولما أتانى العاذلون عدمتهم ... وما فيهمو إلا للحمى قارض وقد بهتوا لمّا رأونى شاحبا ... وقالوا: به عين فقلت: وعارض. وأما القلب- فهو أن يكون الكلام أو البيت كيفما انقلبت حروفه كان بحاله لا يتغيّر، ومنه فى التنزيل قوله تعالى: كُلٌّ فِي فَلَكٍ* وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وقولهم: ساكب كاس؛ ومنه قول العماد الأصفهانىّ للقاضى الفاضل: سر فلا كبابك الفرس، وجواب القاضى الفاضل له: دام علا العماد، وهى أوّل قصيدة للأرّجانىّ، مطلعها: «دام علا العماد» ، ومن ذلك قول الأرّجانىّ: مودّته تدوم لكلّ هول ... وهل كلّ مودّته تدوم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 171 وأما التندير- فهو أن يأتى المتكلّم بنادرة حلوة، أو نكتة مستظرفة يعرّض فيها بمن يريد ذمّه بأمر، وغالب ما يقع فى الهزل، فمنه قول أبى تمام فيمن» سرق له شعرا: من بنو بحدل، من ابن الحباب «2» ... من بنو تغلب غداة الكلاب من طفيل، من عامر، أم من الحا ... رث، أم من عتيبة بن شهاب إنما الضّيغم الهصور أبو الأش ... بال هتّاك كلّ خيس «3» وغاب من عدت خيله على سرح شعرى ... وهو للحين راتع فى كتاب يا عذارى الكلام صرتنّ من بع ... دى سبايا تبعن فى الأعراب لو ترى منطقى أسيرا لأصبح ... ت أسيرا ذا عبرة واكتئاب طال رغبى إليك مما أقاسي ... هـ ورهبى يا ربّ فاحفظ ثيابى ومن ذلك ما قاله شهاب الدين بن الخيمىّ يعرّض بنجم الدين بن اسرائيل لمّا تنازعا فى القصيدة المعروفة لابن «4» الخيمىّ التى أوّلها: يا مطلبا ليس لى من غيره أرب فقال من قطعة منها: هم العريب بنجد مذ عرفتهمو ... لم يبق لى معهم مال ولا نشب فما ألمّوا بحىّ أو ألمّ بهم ... إلا أغاروا على الأبيات وانتهبوا لم يبق منطقه قولا يروق لنا ... لقد شكت ظلمه الأشعار والخطب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 172 وأما الإسجال بعد المغالطة- فهو أن يقصد الشاعر غرضا من ممدوح فيشترط لحصوله شرطا، ثم يقدّر وقوع ذلك الشرط مغالطة ليسجّل به استحقاق مقصوده، كقول بعضهم: جاء الشتاء وما عندى لقرّته ... إلا ارتعادى وتصفيقى بأسنانى فإن هلكت فمولانا يكفّننى ... هبنى هلكت فهبنى بعض أكفانى. وأما الافتنان- فهو أن يأتى الشاعر بفنّين متضادّين من فنون الشعر فى بيت واحد، مثل التشبيب والحماسة، [والمديح «1» ] والهجاء، والهناء والعزاء فأما ما جمع فيه بين التشبيب والحماسة فكقول عنترة: إن تغد فى دونى القناع فإننى ... طبّ «2» بأخذ الفارس المستلئم وكقول أبى دلف- ويروى لعبد الله بن طاهر-: أحبّك يا جنان وأنت منّى ... محلّ الرّوح من جسد الجبان ولو أنى أقول محلّ روحى ... لخفت عليك بادرة الطّعان. وأما ما جمع فيه بين تهنئة وتعزية فقد تقدّم ذكر ذلك فى بابى التهانى والتعازى ومنه فيما لم نورده هناك ما كتب به المولى شهاب الدين محمود الكاتب تهنئة وتعزية لمن رزق ولدا ذكرا فى يوم ماتت له فيه بنت: ولا عتب على الدهر فيما اقترف، فقد أحسن الخلف؛ واعتذر بما وهب عما سلب، فعفا الله عمّا سلف. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 173 وأما الإبهام - بباء موحّدة فهو أن يقول المتكلّم كلاما مبهما يحتمل معنيين متضادّين، كقول بعضهم فى الحسن بن سهل لما تزوّج المأمون ببنته بوران: بارك الله للحسن ... ولبوران فى الختن يا إمام الهدى ظفر ... ت ولكن ببنت من فلم يعرف مراده «ببنت من» هل أراد به الرفعة أو الضعة؟ ومنه قول بشّار فى خياط أعور اسمه عمرو: خاط عمرو لى قباء ... ليت عينيه سواء فأبهم المعنى فى الدعاء له بالدعاء عليه. وأما حصر الجزئىّ وإلحاقه بالكلىّ - فهو كقول السّلامىّ: إليك طوى عرض البسيطة جاعل ... قصارى المطايا أن يلوح لها القصر فكنت وعزمى فى الظلام وصارمى ... ثلاثة أشباه «1» كما اجتمع النّسر وبشّرت آمالى بملك هو الورى ... ودار هى الدنيا، ويوم هو الدهر. فأما حصر أقسام الجزئىّ فإن العالم عبارة عن أجسام وظروف زمان وظروف مكان، وقد حصر ذلك؛ وأما جعله الجزئىّ كلّيّا فإن الممدوح جزء من الورى، والدار جزء من الدنيا، واليوم جزء من الدهر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 174 وأما المقارنة - فهى أن يقرن الشاعر الاستعارة بالتشبيه أو المبالغة أو غير ذلك بوصل يخفى أثره إلّا على مدمن النظر فى هذه الصناعة، وأكثر ما يقع ذلك بالجمل الشرطيّة، كقول بعض «1» شعراء المغرب: وكنت إذا استنزلت من جانب الرضى ... نزلت نزول الغيث فى البلد المحل وإن هيّج الأعداء منك حفيظة ... وقعت وقوع النار فى الحطب الجزل فإنه لاءم بين الاستعارة والتشبيه المنزوع الأداة «2» فى صدرى بيتيه وعجزيهما. وأما ما قرنت به الاستعارة من المبالغة فمثاله قول النابغة الذّبيانىّ: وأنت ربيع ينعش الناس سيبه ... وسيف أعيرته المنيّة قاطع فإن فى كل من صدر البيت وعجزه استعارة ومبالغة، وإنما التى فى العجز أبلغ. ومما اقترن فيه الإرداف بالاستعارة قول تميم بن مقبل: لدن غدوة حتى نزعنا عشيّة ... وقد مات شطر الشمس والشّطر مدنف فإنه عبّر بموت شطر الشمس عن الغروب، واستعار الدّنف للشطر الثانى. وأما الإبداع - فهو أن يأتى فى البيت الواحد من الشّعر، أو القرينة الواحدة من النثر بعدّة ضروب من البديع بحسب عدد كلماته أو جمله، وربما كان فى الكلمة الواحدة المفردة ضربان من البديع، ومتى لم تكن كلّ كلمة بهذه المثابة فليس بإبداع قال ابن أبى الإصبع: وما رأيت فيما استقريت من الكلام كآية استخرجت منها أحدا وعشرين ضربا من المحاسن، وهى قوله تعالى: وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 175 وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ : وهى المناسبة التامّة فى «ابلعى» و «أقلعى» ؛ والمطابقة بذكر الأرض والسماء؛ والمجاز فى قوله: «يا سماء» ، فإن المراد- والله أعلم- يا مطر السماء؛ والاستعارة فى قوله تعالى: «أَقْلِعِي» ؛ والإشارة فى قوله تعالى: «وَغِيضَ الْماءُ» فإنه عبّر بهاتين اللفظتين عن معان كثيرة؛ والتمثيل فى قوله تعالى: «وَقُضِيَ الْأَمْرُ» * فإنه عبّر عن هلاك الهالكين ونجاة الناجين بغير لفظ المعنى الموضوع له؛ والإرداف فى قوله: «وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ» فإنه عبّر عن استقرارها بهذا المكان استقرارا متمكّنا بلفظ قريب من لفظ المعنى؛ والتعليل، لأن غيض الماء علّة الاستواء؛ وصحة التقسيم إذ استوعب الله تعالى أقسام أحوال الماء حالة نقصه، إذ ليس إلا احتباس ماء السماء، واحتقان الماء الذى ينبع من الأرض، وغيض الماء الحاصل على ظهرها؛ والاحتراس فى قوله تعالى: «وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» إذ الدعاء عليهم يشعر أنهم مستحقّو الهلاك احتراسا من ضعيف العقل يتوهّم أن العذاب شمل من يستحقّ ومن لا يستحقّ، فتأكّد بالدعاء كونهم مستحقّين؛ والإيضاح فى قوله: «لِلْقَوْمِ» * ليبيّن أن القوم الذين سبق ذكرهم فى الآية المتقدّمة حيث قال: (وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ) هم الذين وصفهم بالظلم ليعلم أن لفظة القوم ليست فضلة وأنه يحصل بسقوطها لبس فى الكلام؛ والمساواة لأن لفظ الآية لا يزيد على معناها؛ وحسن النّسق، لأنه تعالى عطف القضايا بعضها على بعض بحسن ترتيب؛ وائتلاف اللفظ مع المعنى، لأن كلّ لفظة لا يصلح موضعها غيرها؛ والإيجاز، لأنه سبحانه وتعالى اقتصّ القصّة بلفظها مستوعبة بحيث لم يخلّ منها بشىء فى أقصر عبارة؛ والتسهيم، لأن أوّل الآية الى قوله: «أَقْلِعِي» الجزء: 7 ¦ الصفحة: 176 يقتضى «1» آخرها؛ والتهذيب، لأنّ مفردات الألفاظ موصوفة بصفات الحسن، عليها رونق الفصاحة، سليمة من التعقيد والتقديم والتأخير؛ والتمكّن، لأن الفاصلة مستقرّة فى قرارها، مطمئنّة فى مكانها؛ والانسجام، وهو تحدّر الكلام بسهولة كما ينسجم الماء؛ وما فى [مجموع «2» ] الآية من الإبداع، وهو الذى سمّى به هذا الباب. فهذه سبع عشرة لفظة تضمّنت أحدا وعشرين ضربا من البديع غير ما تكرر من أنواعه فيها. وأما الانفصال- فهو أن يقول المتكلّم كلاما يتوجّه عليه فيه دخل لو اقتصر عليه، فيأتى بما يفصله عن ذلك الدّخل، كقول أبى فراس: ولقد نبّيت إبليس ... إذا راك يصدّ ليس من تقوى ولكن ... ثقل فيك وبرد والفرق بين هذا وبين الاحتراس خلوّ «3» الاحتراس من الدّخل عليه من كلّ وجه. وأما التصرف- فهو أن يتصرّف المتكلّم فى المعنى الذى يقصده، فيبرزه فى عدّة صور: تارة بلفظ الاستعارة، وطورا بلفظ التشبيه، وآونة بلفظ الإرداف وحينا بلفظ الحقيقة، كقول امرئ القيس يصف الليل: وليل كموج البحر مرخ سدوله ... علىّ بأنواع الهموم ليبتلى فقلت له لمّا تمطّى بصلبه ... وأردف أعجازا وناء بكلكل فإنه أبرز المعنى بلفظ الاستعارة، ثم تصرّف فيه فأتى بلفظ التشبيه فقال: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 177 فيالك من ليل كأنّ نجومه ... بكلّ مغار الفتل شدّت بيذبل «1» ثم تصرّف فيه فأخرجه بلفظ الإرداف فقال: ألا أيها الليل الطويل ألا انجل ... بصبح وما الإصباح منك «2» بأمثل. وأما الاشتراك - فمنه ما ليس بحسن ولا قبيح، وهو الاشتراك فى الألفاظ مثل اشتراك الأبيرد وأبى نواس فى لفظة الاستعفاء، فإن الأبيرد قال فى مرثية أخيه: وقد كنت أستعفى الإله إذا اشتكى ... من الأجر لى فيه وإن عظم الأجر وقال أبو نواس: ترى العين تستعفيك من لمعانها ... وتحسر «3» حتى ما تقلّ جفونها ومنه الحسن، وهو الاشتراك فى المعنى، كقول امرئ القيس: كبكر المقاناة البياض بصفرة ... غذاها نمير الماء غير المحلّل «4» وقول ذى الرّمّة: كحلاء فى برج صفراء فى دعج «5» ... كأنها فضّة قد مسّها ذهب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 178 فوقع «1» الاشتراك بينهما فى وصف المرأة بالصّفرة، غير أنّ الأوّل شبّه الصفرة بيضة النعامة، والآخر وصفها بالفضّة المموّهة؛ ومن الاشتراك المعنوىّ ما ليس بحسن ولا معيب، كقول كثير: وأنت التى حببت كلّ قصيرة ... إلىّ وما تدرى بذاك القصائر عنيت قصيرات الحجال ولم أرد ... قصار الخطا، شرّ النساء البحاتر «2» فإن لفظة قصيرة مشتركة، فلو اقتصر على البيت الأوّل لكان الاشتراك معيبا لكنه لما أتى بالبيت الثانى زال العيب، ولم يبلغ رتبة الحسن لما فيه من التضمين. وأما التهكّم- فالفرق بينه وبين الهزل الذى يراد به الجدّ أن التهكّم ظاهره جدّ وباطنه هزل، والهزل الذى يراد به الجدّ على العكس منه، فمن التهكّم قول الوجيه الذروىّ فى ابن أبى حصينة من أبيات: لا تظنّن حدبة الظّهر عيبا ... فهى فى الحسن من صفات الهلال وكذاك القسىّ محدودبات ... وهى أنكى من الظّبا والعوالى وإذا ما علا السّنام ففيه ... لقروم الجمال أىّ جمال وأرى الانحناء فى مخلب البازى ... ولم يعد مخلب الرئبال كوّن الله حدبة فيك إن شئت ... من الفضل أو من الإفضال فأتت ربوة على طود علم ... وأتت موجة ببحر نوال ما رأتها النساء إلا تمنّت ... أنها حلية لكلّ الرجال الجزء: 7 ¦ الصفحة: 179 ثم ختمها بقوله: وإذا لم يكن من الهجر بدّ ... فعسى أن تزورنا «1» فى الخيال وكقول ابن الرومىّ: فيا له من عمل صالح ... يرفعه الله إلى أسفل. وأما التدبيج - وهو أن يذكر الشاعر أو الناثر ألوانا يقصد بها الكناية أو التورية بذكرها عن أشياء من وصف أو مدح أو هجاء أو نسيب أو غير ذلك من الفنون، فمن ذلك قول الحريرىّ فى بعض مقاماته: فمذ ازورّ المحبوب الأصفر واغبرّ العيش الأخضر، اسودّ يومى الأبيض، وابيضّ فودى «2» الأسود، حتى رثى لى العدوّ الأزرق، فحبّذا الموت الأحمر. وهذا التدبيج بطريق التورية. وقال بعض المتأخّرين يصف موقف السلطان الملك الناصر بمصاف شقحب «3» الكائن بينه وبين التتار فى شهر رمضان سنة اثنتين وسبعمائة: وما زال بوجهه الأبيض، تحت علمه الأصفر، يكابد الموت الأحمر، تجاه العدوّ الأزرق، الى أن حال بينهما الليل الأسود، وبكّر فى غرّة نهار الأحد الأشعل وامتطى السبيل الأحوى الى أن حلّ بالأبلق. يريد بالأبلق: القصر الظاهرىّ الذى بالميدان الأخضر بظاهر مدينة دمشق؛ ومن أمثلة هذا الباب «4» قول ابن حيّوس الدّمشقى: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 180 إن ترد علم حالهم عن يقين ... فالقهم يوم نائل أو قتال تلق بيض الوجوه سود مثار النّقع ... خضر الأكناف حمر النّصال. وأما الموجّه- فهو الذى «1» يمدح بشىء يقتضى المدح بشىء آخر، كقول المتنبىّ: نهبت من الأعمار ما لو حويته ... لهنّئت الدنيا بأنك خالد وكقوله أيضا: عمر العدوّ إذا لاقاه فى رهج ... أقلّ من عمر ما يحوى إذا وهبا فأوّل البيتين وصف بفرط الشجاعة، وآخر الأوّل بعلوّ الدرجة، وآخر الثانى بفرط الجود. وأما تشابه الأطراف- فهو أن يجعل الشاعر [قافية «2» ] بيته الأوّل أوّل البيت الثانى، وقافية الثانى أوّل الثالث، وهكذا إلى انتهاء كلامه، ومن أحسن ما قيل فيه قول ليلى الأخيليّة تمدح الحجّاج: إذا نزل الحجّاج أرضا مريضة ... تتبّع أقصى دائها فشفاها شفاها من الداء العضال الذى بها ... غلام اذا هزّ القناة سقاها سقاها فروّاها بشرب سجالها ... دماء رجال يحلبون صراها «3» . هذا ما أورده فى حسن التوسّل من علوم المعانى والبيان والبديع، وقد أتينا على أكثره بنصّه لما رأيناه من حسن تأليفه، وبديع ترصيفه، وأنّ اختصاره لا يمكن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 181 إلا عند الإخلال بفائدة لا يستغنى [عنها «1» ] فلم نحذف منه إلا ما تكرر من الأمثلة والشواهد، لاستغنائنا بما أوردناه عمّا حذفناه، فالنسبة فيه إلى فضائله وفضله والعمدة على شواهده ونقله؛ فلقد أحسن التأليف، وأجاد التعريف، واحتمل التوقيف؛ وحرّر الشواهد، وأوضح السّبيل حتى صار الغائب عن هذه الصناعة إذا طالع كتابه كالشاهد؛ وأبدع فى صناعة البديع، وبيّن علم البيان بحسن الترصيف والترصيع؛ واعتنى بألفاظ المعانى فصرّف أعنّتها ببنانه، وأبان مشكلها فأحسن فى بيانه؛ وحلّ من التعقيد عقالها الذى عجز غيره عن حلّه، وسهّل للأفهام مقالها فأبرزته الألسنة من محرّم اللفظ إلى حلّه؛ فله المنّة فيما ألّف، والفضل بما صنّف. وأما ما يتصل بذلك من خصائص الكتابة- فالاقتباس والاستشهاد والحل: [فالاقتباس «2» ] هو أن يضمن الكلام «3» شيئا من القرآن أو الحديث، ولا ينبّه عليه للعلم به، كما فى خطب ابن نباتة، كقوله: فيا أيها الغفلة المطرقون، أما أنتم بهذا الحديث مصدّقون؟ ما لكم لا تشفقون؟ فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ . وكقوله أيضا: يوم يبعث الله العالمين خلقا جديدا، ويجعل الظالمين لجهنّم وقودا، يوم تكونون «شهداء على النّاس ويكون الرّسول عليكم شهيدا» يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً. ومن ذلك ما أورد المولى شهاب الدين محمود فى تقليد عن الإمام الحاكم بأمر الله أبى العباس أحمد بالسلطنة، جاء منه: وجمع بك شمل الأمة بعد أن «كاد يزيغ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 182 قلوب فريق منهم» ، وعضّدك لإقامة إمامته بأولياء دولتك الذين رضى الله عنهم؛ وخصّك بأنصار دينه الذين نهضوا بما أمروا به من طاعتك وهم فارهون، وأظهرك على الذين «ابتغوا الفتنة من قبل وقلّبوا لك الأمور حتّى جاء الحقّ وظهر أمر الله وهم كارهون» وأمثال ذلك. وأما الاستشهاد بالآيات- فهو أن ينبّه عليها، كقول الحريرىّ: فقلت وأنت أصدق القائلين: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ ونحو ذلك. وفى الأحاديث بالتنبيه عليها أيضا، كقول المولى شهاب الدين محمود فى خطبة تقليد حاكمىّ: ونصلى على سيدنا محمد الذى استخرجه الله من عنصر أهله وذويه، وشرّف قدر جدّه بقوله فيه: «إنّ عمّ الرجل صنو أبيه» وسرّه بما أسرّ إليه من أنّ هذا الأمر فتح به ويختم ببنيه. وأمثال ذلك [لا تحصر «1» ] . [وأما الحلّ «2» ]- وهو باب متّسع المجال، وملاك أمر المتصدّى له أن يكون كثير الحفظ [للأحاديث «3» النّبويّة والآثار والأمثال والأشعار لينفق منها وقت الاحتياج اليها] . قال: وكيفيّة الحلّ أن يتوخّى هدم البيت المنظوم، وحلّ فرائده من سلكه، ثم يرتّب تلك الفرائد وما شابهها ترتيب متمكّن لم يحصره الوزن، ويبرزها فى أحسن سلك، وأجمل قالب، وأصحّ سبك، ويكمّلها بما يناسبها من أنواع البديع إن أمكن ذلك من غير كلفة، ويتخيّر لها القرائن، واذا تم معه المعنى المحلول فى قرينة واحدة يغرم له من حاصل فكره، أو من ذخيرة حفظه ما يناسبه، وله أن ينقل المعنى إذا لم يفسده إلى ما شاء، فإن كان نسيبا وتأتّى له أن يجعله مديحا فليفعل، وكذلك غيره الجزء: 7 ¦ الصفحة: 183 من الأنواع؛ واذا أراد الحلّ بالمعنى فلتكن ألفاظه مناسبة لألفاظ البيت المحلول غير قاصرة عنها، فمتى قصرت عنها ولو بلفظة واحدة فسد ذلك الحلّ وعدّ معيبا؛ واذا حلّ باللفظ فلا يتصرّف بتقديم ولا تأخير ولا تبديل إلا مع مراعاة نظام الفصاحة فى ذلك، واجتناب ما ينقص المعنى ويحطّ رتبته؛ وهذا الباب لا تنحصر المقاصد فيه، ولا حجر على المتصرّف فيه. قال: ومما وقع التصرّف فيه بزيادة على المعنى قول ضياء الدين بن الأثير الجزرىّ فى ذكر العصا التى يتوكّأ عليها الشيخ الكبير: وهذه لمبتدا ضعفى خبر، ولقوس ظهرى وتر، واذا كان إلقاؤها دليلا على الإقامة فإنّ حملها دليل على السّفر. والمحلول فى ذلك قول بعضهم: كأنّنى قوس رام وهى لى وتر وقول الآخر: فألقت عصاها واستقرّت بها النوى ... كما قرّ عينا بالإياب المسافر. وأما ما يحتاج فيه الى مؤاخاة القرينة المحلولة بمثلها أو ما يناسبها فكما قال المولى شهاب الدين محمود فى تقليد: فكم ملّ ضوء الصبح مما يغيره، وظلام النّقع مما يثيره؛ وحديد الهند مما يلاطمه والأجل مما يسابقه الى قبض الأرواح ويزاحمه. والقرينتان الأوليان نصفا بيتين للمتنبّى، فأضاف الى كل قرينة ما يناسبها، وهذا من أكثر ما يستعمل فى الكتابة، ولا ينبغى للكاتب أن يعتمد فى جميع كتابته على الحلّ، فيتّكل خاطره على ذلك، ويذهب رونق الطبع السليم، وتقلّ مادّة الانسجام بل يكون استعمال ذلك كاستعمال البديع اذا أتى عفوا من غير تكلّف ليكون كالشاهد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 184 على صحة الكلام، والدالّ على الاطلاع، وكالرّقم فى الثوب، والشّذرة فى القلادة والواسطة فى العقد، إذ لا ينبغى للكاتب أن يخلى كلامه من نوع من أنواع المحاسن. ويقرب من هذا النوع التلميح، وقد تقدّم ذكره فى بعض أبواب البديع، والذى يقع فى بعض استعماله فى مثل ذلك مثل قول الحريرىّ: وإنّى والله لطالما لقيت الشتاء بكافاته، وأعددت الأهبة له قبل موافاته. يشير الى بيتى ابن سكّرة: جاء الشتاء وعندى من حوائجه وهى مشهورة. فإذا عرف الكاتب هذه العلوم، وأتى الصناعة من هذه الأبواب تعيّن عليه أمور أخر نذكرها الآن. ذكر ما يتعين على الكاتب استعماله والمحافظة عليه والتمسّك به وما يجوز فى الكتابة وما لا يجوز قال إبراهيم بن محمد الشّيبانىّ: فإن احتجت الى مخاطبة الملوك والوزراء والعلماء والكتّاب والأدباء والخطباء والشعراء وأوساط الناس وسوقتهم، فخاطب كلّا على قدر أبّهته وجلالته، وعلوّه وارتفاعه، وفطنته وانتباهه، ولكلّ طبقة من هذه الطّباق معان ومذاهب يجب عليك أن ترعاها فى مراسلتك إيّاهم فى كتبك، وتزن كلامك فى مخاطبتهم بميزانه، وتعطيه قسمته، وتوفيه نصيبه، فإنك متى أهملت ذلك وأضعته لم آمن عليك أن تعدل بهم عن طريقهم، وتسلك بهم غير مسلكهم، وتجرى شعاع بلاغتك فى غير مجراه، وتنظم جوهر كلامك فى غير سلكه، فلا تعتدّ بالمعنى الجزل ما لم تلبسه لفظا [لائقا بمن «1» كاتبته، وملامسا لمن راسلته] ، فإن إلباسك المعنى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 185 - وإن صحّ وشرف- لفظا مختلفا عن قدر المكتوب اليه لم تجربه عادته تهجين للمعنى وإخلال بقدره، وظلم يلحق «1» المكتوب اليه، ونقص ما يجب له «2» ، كما أنّ فى اتباع تعارفهم، وما انتشرت به عادتهم، وجرت به سنّتهم، قطعا لعذرهم، وخروجا من حقوقهم، وبلوغا إلى غاية مرادهم، وإسقاطا لحجّة أدبهم. وقال أحمد بن محمد بن عبد ربّه: فامتثل هذه المذاهب، واجر [على هذا «3» ] القوام، وتحفّظ فى صدور «4» كتبك وفصولها وافتتاحها وخواتمها، وضع كل معنى فى موضع يليق به، وتخيّر لكلّ لفظة معنى يشاكلها، وليكن ما تختم به فصولك فى موضع ذكر البلوى بمثل: «نسأل الله دفع المحذور، وصرف المكروه» وأشباه ذلك؛ وفى موضع ذكر المصيبة: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ؛ وفى موضع ذكر النعمة: «الحمد لله خالصا، والشكر لله واجبا» وما يشاكل ذلك، فإن هذه المواضع مما يتعيّن على الكاتب أن يتفقّده ويتحفّظ منه، فإن الكاتب إنما يصير كاتبا بأن يضع كلّ معنى فى موضعه، ويعلّق كلّ لفظة على طبقتها فى المعنى. قال: واعلم أنه لا يجوز فى الرسائل استعمال ما أتت به آى القرآن من الاختصار والحذف، ومخاطبة الخاصّ [بالعامّ «5» ] والعامّ بالخاصّ، لأن الله تعالى إنما خاطب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 186 بالقرآن قوما فصحاء فهموا عنه- جلّ ثناؤه- أمره ونهيه ومراده، والرسائل إنما يخاطب بها قوم دخلاء «1» على اللغة لا علم لهم بلسان العرب؛ وكذلك ينبغى للكاتب أن يتجنّب اللفظ المشترك، والمعنى الملتبس، فإنه إن ذهب ليكاتب على معنى قول الله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وكقوله تعالى: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ احتاج أن يبيّن أن معناه: اسأل أهل القرية، وأهل العير، وبل مكركم باليل والنهار؛ قال: وكذلك لا يجوز أيضا فى الرسائل والبلاغات المنثورة ما يجوز فى الأشعار الموزونة، لأن الشاعر مضطرّ، والشعر مقصور مقيّد بالوزن والقوافى، فلذلك أجازوا لهم صرف ما لا ينصرف من الأسماء، وحذف ما لا يحذف منها، واغتفروا «2» فيه سوء النّظم، وأجازوا فيه التقديم والتأخير، والإضمار فى موضع الإظهار، وذلك كله غير سائغ فى الرسائل، ولا جائز فى البلاغات؛ فمما أجيز فى الشعر من الحذف قول الشاعر: قواطنا مكّة من ورق الحما يريد الحمام، وكقول الآخر: صفر الوشاحين صموت الخلخل يريد الخلخال، وكقول الحطيئة: فيها الرماح وفيها كلّ سابغة ... جدلاء مسرودة من فعل «3» سلّام يريد سليمان، وكقول الآخر: وسائلة بثعلبة بن سير ... وقد علقت بثعلبة العلوق «4» الجزء: 7 ¦ الصفحة: 187 يريد ثعلبة بن سيّار «1» ، وكقول الآخر: فلست بآتيه ولا أستطيعه ... ولاك اسقنى إن كان ماؤك ذا فضل [أراد ولكن «2» ] قال: وكذلك لا ينبغى فى الرسائل أن يصغّر الاسم فى موضع التعظيم وإن كان ذلك جائزا، مثل قولهم: دويهية تصغير داهية، وجذيل وعذيق، تصغير جذل وعذق «3» . قال لبيد: وكلّ أناس سوف تدخل بينهم ... دويهية تصفّر منها الأنامل قال: فتخيّر فى الألفاظ أرجحها وزنا، وأجزلها معنى، وأشرفها جوهرا وأكرمها حسبا، وأليقها فى مكانها، وأدر الكلام فى أماكنه، وقلّبه على جميع وجوهه، ولا تجعل اللفظة قلقة فى موضعها، نافرة عن مكانها، فإنك متى فعلت ذلك هجّنت الموضع الذى حاولت تحسينه، وأفسدت المكان الذى أردت إصلاحه فإنّ وضع الألفاظ فى غير أماكنها، والقصد بها إلى غير مظانّها، إنما هو كترقيع الثوب الذى إن لم تتشابه رقاعه، ولم تتقارب أجزاؤه، خرج عن حدّ الجدّة، وتغيّر حسنه، كما قال الشاعر: إنّ الجديد إذا ما زيد فى خلق ... يبين للناس أنّ الثوب مرقوع انتهى ما أورده ابن عبد ربّه. وقال المولى الفاضل شهاب الدين محمود الحلبىّ: ومما يتعيّن على الكاتب استعماله، والمحافظة عليه، والتمسّك به، إعطاء كلّ مقام حقّه، فإذا كتب فى أوقات الجزء: 7 ¦ الصفحة: 188 الحروب إلى نوّاب الملك عنه، وإلى مقدّمى الجيوش والسّرايا، فليتوخّ الإيجاز والألفاظ البليغة الدالّة على القصد من غير تطويل ولا بسط يضيّع المقصد، ويفصل الكلام بعضه من بعض، ولا تهويل لأمر العدو يضعف به القلوب، ولا تهوين لأمر يحصل به الاغترار. وذكر لذلك أمثلة من إنشائه. قال: فمن ذلك صورة كتاب أنشأته الى مقدّم سريّة كشف- ولم أكتب به- وهو: لا زال أخفّ فى مقاصده من وطأة ضيف، وأخفى فى مطالبه من زورة طيف، وأسرع فى تنقّله من سحابة صيف، وأروع للعدا فى تطلّعه من سلّة سيف، حتى يعجب عدوّ الدّين فى الاطّلاع على عوراته من أين دهى وكيف؟ ويعلم [أنّ «1» ] من أوّل قسمته الّلقاء حصل عليه فى مقاصده الحيف «2» ؛ أصدرناها إليه نحثّه على الركوب بطائفة أعجل من السّيل، وأهول من الليل، وأيمن من نواصى الخيل؛ وأقدم من النّمر، وأوقع على المقاصد من الغيث المنهمر، وأروغ فى مخاتلة العدا من الذئب الحذر؛ على خيل تجرى ما وجدت فلاه، وتطيع راكبها مهما أراد منها سرعة أو أناه؛ تتسنّم الجبال الصّمّ كالوعل «3» ، وإذا جارتها البروق غدت وراءها تمشى الهوينا كما يمشى الوجى «4» الوجل ... وليكن كالنجم فى سراه، وبعد ذراه؛ إن جرى فكسهم، وإن خطر فكوهم؛ وإن طلب فكالليل الذى هو مدرك، وإن طلب فكالجنّة التى لا يجد ريحها مشرك؛ حتى يأتى على عدوّ الدّين من كل شرف، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 189 ويرى جمعه من كل طرف، ولا يسرف فى الإقامة عليه إلا إذا علم أن الخير فى السّرف؛ وليحرز جمعهم، ويسبق إلى التحرّز منهم بصرهم وسمعهم؛ وينظرهم بعين منعها الحزم أن ترى العدد الكثير قليلا، وصدّها العزم أن ترى العدوّ الحقير جليلا؛ بل ترى الأمر على فصّه، وتروى الخبر على نصّه؛ وإن وجد مغرّرا فليأخذ خبره، إن قدر على الإتيان بعينه وإلّا فليذهب أثره؛ ولا يهيج فيما لديه نار حرب إلا بعد الثقة بإطفائها، ولا يوقظ [عليه «1» ] عين عدوّ مهما «2» ظهر له أن [المصلحة «3» فى إغفائها] ؛ وليكشف من أمورهم ما يبدى عند الملتقى عورتهم، ويخمد فى حالة الزّحف فورتهم؛ وليجعل قلبه فى ذلك ربيئة طرفه، وطليعة طرفه، وسريّة كشفه والله تعالى يمدّه بلطفه، ويحفظه بمعقّبات من بين يديه ومن خلفه. واذا كتب عن الملك فى أوقات حركات العدوّ الى أهل الثغور يعلمهم بالحركة للقاء العدوّ، فليبسط القول فى وصف العزائم، وقوّة الهمم، وشدّة الحميّة للدين، وكثرة العساكر والجيوش، وسرعة الحركة، وطىّ المراحل، ومعالجة العدوّ، وتخييل أسباب النصر، والوثوق بعوائد الله فى الظّفر، وتقوية القلوب منهم، وبسط آمالهم، وحثّهم على التيقظ، وحضّهم على حفظ ما بأيديهم، وما أشبه ذلك، ويبرزه فى أمتن «4» كلام وأجلّه وأمكنه، وأقربه من القوّة والبسالة، وأبعده من اللّين والرقّة، ويبالغ فى وصف الإنابة إلى الله تعالى، واستنزال نصره وتأييده، والرجوع إليه فى تثبيت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 190 الأقدام، والاعتصام به فى الصبر، والاستعانة به على العدوّ، والرغبة إليه فى خذلانهم، وزلزلة أقدامهم، وجعل الدائرة عليهم، دون التصريح بسؤال بطلان حركتهم، ورجاء تأخّرهم، وانتظار العرضيّات فى خلفهم، لما فى ذلك من إيهام الضّعف عن لقائهم واستشعار الوهن والخوف منهم، وليسلك فى مثل ذلك كما سلك المولى شهاب الدين محمود فى نحو ما كتب فى صدر كتاب سلطانىّ إلى بعض نوّاب الثغور عند حركة العدوّ، فإنه قال: أصدرناها ومنادى النّفير قد أعلن: يا خيل «1» الله اركبى، ويا «2» ملائكة الرحمن اصحبى ويا وفود الظّفر والتأييد اقربى؛ والعزائم قد ركضت على سوابق الرّعب إلى العدا والهمم قد نهضت إلى عدوّ الإسلام فلو كان فى مطلع الشمس لاستقربت ما بينها وبينه من المدى؛ والسيوف قد أنفت من الغمود فكادت تنفر من قربها، والأسنة قد ظمئت الى موارد القلوب فتشوقت الى الارتواء من قلبها «3» ؛ والكماة قد زأرت كالليوث إذا دنت من «4» فرائسها، والجياد قد مرحت لما عودتها من الانتعال بجماجم الأبطال فوارسها؛ والجيوش قد كاثرت النجوم أعدادها، وسايرتها للهجوم على أعداء الله من ملائكته الكرام أمدادها؛ والنفوس قد أضرمت الحميّة نار غضبها، وعداها «5» حرّ الإشفاق على ثغور المسلمين عن برد الثغور وطيب شنبها؛ والنصر قد أشرقت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 191 فى الوجود دلائله، والتأييد قد ظهرت على الوجوه مخايله، وحسن اليقين بالله فى إعزاز دينه قد أنبأت بحسن المآل أوائله؛ والألسن باستنزال نصر الله لهجه والأرجاء بأرواح القبول أرجه، والقلوب بعوائد لطف الله بهذه الأمّة مبتهجه والحماة وما منهم إلا من استظهر بإمكان قوّته وقوّة إمكانه، والأبطال وليس فيهم من يسأل عن عدد عدوّ بل عن مكانه؛ والنّيات على طلب عدوّ الله حيث كان مجتمعه والخواطر مطمئنّة بكونها مع الله بصدقها، ومن كان مع الله كان الله معه؛ وما بقى إلا طىّ المراحل، والنزول على أطراف الثغور نزول الغيث على البلد الماحل؛ والإحاطة بعدوّ الله من كل جانب، وإنزال نفوسهم على حكم الأمرين الأمرّين: من عذاب واصب، وهمّ ناصب؛ وإحالة وجودهم إلى العدم، وإجالة السيوف التى [إن «1» ] أنكرتها أعناقهم فما بالعهد من قدم؛ واصطلامهم «2» على أيدى العصابة المؤيّدة بنصر الله فى حربها، وابتلاؤهم من حملاتها بريح عاد التى تدمّر كل شىء بأمر ربها؛ فليكن مرتقبا لطلوع طلائعها عليه، متيقّنا من كرم الله استئصال عدوّه الذى إن فرّ أدركته من ورئه، وإن ثبت أخذته من بين يديه؛ وليجتهد فى حفظ ما قبله من الأطراف وضمّها، وجمع سوام الرعايا من الأماكن المتخوّفة ولمّها، وإصلاح ما يحتاج إلى إصلاحه من مسالك الأرباض المتطرّفة ورمّها، فإنّ الاحتياط على كل حال من آكد المصالح الإسلاميّة وأهمّها؛ فكأنه بالعدوّ وقد زال طمعه، وزاد ظلعه؛ وذمّ عقبى مسيره، وتحقّق سوء منقلبه ومصيره، وتبرّأ منه الشيطان الذى دلّاه بغروره، وأصبح لحمه موزعا بين ذئاب للفلا وضباعها، وبين عقّبان الجوّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 192 ونسوره؛ ثقة من وعد الله الذى تمسّكنا منه باليقين، وتحقّقنا أن الله ينصر من ينصره وأن العاقبة للمتقين. قال: وزيادة البسط فى ذلك ونقصها بحسب المكتوب إليه. وإذا كتب فى التهانى بالفتوح، فليس إلّا بسط الكلام، والإطناب فى شكر نعم الله، والتبرّؤ من الحول والقوّة إلّا به، ووصف ما أعطى من النصر، وذكر ما منح من الثّبات، وتعظيم ما يسّر من الفتح؛ ثم ما وصف بعد ذلك من عزم وإقدام وصبر وجلد عن الملك وعن جيشه حسن وصفه، ولاق ذكره، وراق التوسيع فيه، وعذب بسط الكلام فيه؛ ثم كلّما اتسع مجال الكلام فى ذكر الواقعة ووصفها كان أحسن [وأدلّ على البلاغة، وأدعى لسرور المكتوب إليه، وأحسن «1» ] لموقع المنّة عنده، وأشهى إلى سمعه، وأشفى لغليل تشوّقه إلى معرفة الحال على جليّته، ولا بأس «2» بتهويل [أمر «3» ] العدوّ، ووصف جمعه وإقدامه، فإن تصغير أمره تحقير للظّفر به؛ وقد ذكرنا فى باب التهانى من ذلك ما تقدّم شرحه، فلنذكر فى هذا الموضع من كلامه فيه ما لم نورده فى باب التهانى؛ قال: وإن كان المكتوب إليه ملكا صاحب مملكة منفردة تعيّن أن يكون البسط أكثر، والإطناب أمدّ، والتهويل أبلغ، والشرح أتمّ؛ فمن ذلك فصل كتبته فى جواب ابن الأحمر صاحب غرناطة من جزيرة الأندلس، قال: أما بعد حمد الله الذى أيّدنا بجنوده، وأنجز لنا من نصر الأمّة صادق وعوده وخصّنا من استدامة الفتوح بمزايا مزيده، وأيّدنا بنصره، ونصرنا بتأييده، والصّلاة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 193 والسلام على سيدنا محمد أشرف رسله، وخاتم أنبيائه، وأكرم عبيده، وأعزّ من دعا الأمم وقد أنكرت خالقها الى الإقرار بتوحيده، وعلى آله وصحبه الذين أشرق أفق الدين منهم بكواكب سعوده؛ فإنا أصدرناها ونعم الله تعالى بنا مطيفه، ومواقع نصره عندنا لطيفه، وجنود تأييده لممالك الأعداء الى ممالكنا الشريفة مضيفه، وثغور الإسلام بذبّنا عن دين الله منيره، وبإعلائنا منار الهدى منيفه؛ ونحن نحمد الله على ذلك حمدا نستدرّ به أخلاف الظّفر، ونستديم به موادّ التأييد على من كفر؛ ونستمدّ به عوائد النصر التى كم أقدمها علينا إقدام، وأسفر لنا عنها وجه سفر؛ ونهدى إليه ثناء تعبق بنشر الرياض خمائله، وتنطق بمحض الوداد مخايله، وتشرق على أفق مفاخره غدواته وأصائله؛ يشافه مجده بمصونه «1» ، ويصارح فخره بمكنونه، ويجلو على حضرته العليّة عقائل الشّرف من أبكار الهناء وعونه؛ ونبدى لعلمه الكريم ورود كتابه الجليل مسفرا عن لوامع صفائه، منبئا بجوامع ودّه ووفائه؛ مشرقا بلآلئ فرائده، محدقا بروض كرمه الذى سعد رأى رائده؛ محتويا على سروره بما بلغه من أنباء النّصرة التى سارت بها إليه سرعان الرّكبان، وذلّت بعزّ ما تلى منها عليه عبّاد الصلبان؛ وطبّق ذكرها المشارق والمغارب، ومزّقت مواكب أعداء الله التّتار وهم فى رأى العين أعداد الكواكب، وخلطت التراب بدمائهم حتى لم يبح بها التيمّم، ومزجت بها الفرات حتى ما تحلّ لشارب؛ وهى النّصرة التى لا يدرك الوصف كنهها، ولا تعرف لها البلاغة مشبها فتذكر شبهها؛ ولا يتّسع نطاق النطق لذكرها، ولا تنهض الألسنة على طول الأبد بشكرها؛ فإنّ التّتار المخذولين اقبلوا كالرّمال، واصطفوا كالجبال؛ وتدفّقوا كالبحار الزّواخر، وتوالوا كالأمواج التى لا يعرف لها الأوّل من الآخر؛ فصدمتهم جيوشنا المنصورة صدمة بدّدت شملهم، وعلّمت الطير أكلهم؛ وحصرتهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 194 فى الفضاء، وطالبت أرواحهم الكافرة بدين دينها وأسرفت فى الاقتضاء؛ وحصدت منهم سيوفنا المنصورة ما يخرج عن وصف الواصف، ومزّقت بقيّتهم فى الفلوات فكانوا كرماد اشتدّت به الرّيح فى يوم عاصف؛ وأحاطت بهم كتائبنا المنصورة فلم ينج إلا من لا يؤبه له من فريقهم، وقسمتهم جيوشنا المؤيّدة من الفلوات الى الفرات بين القتل والأسر، فلم يخرج عن تلك القسمة غير غريقهم؛ وأعقبتهم تلك الكسرة أن هلك طاغيتهم أسفا وحسره، وحزنا على من قتل من تلك المقاتلة، وأسر من تلك الأسره، وأماته الرّعب من جيوشنا المنصورة فجاءه، واستولى عليه الوجل فجاءه من أمر الله ما جاءه؛ وقعد أخوه بعده مكانه، والخوف من عساكرنا يضعضع أركانه، والفرق من جيوشنا يفرّق أعوانه، ويمزّق إخوانه، ويوهى سلطانه ويبرّئ منه شيطانه؛ فلاذ بالالتجاء الى سلمنا، وعاذ بإسناد الرجاء الى كفّنا عنه وحلمنا؛ فكرّر رسله ورسائله مستعطفا، ووالى كتبه ووسائله مستعفيا من حربنا ومستسعفا؛ وهاهو الآن وجنوده يتوسّلون بالخضوع الى مراحمنا، ويتوصّلون ببذل الطاعة الى مكارمنا؛ ويسألون صفح الصّفاح الإسلاميّة عن رقابهم، ويبدون ما أظهره الله عليهم من الذلّ الذى جعلته تلك النّصرة خالدا فى أعقابهم؛ وسيوفنا تأبى قبول وسائلهم، وتصرّ على نهز سائلهم، وتمنع من الكفّ عن مقاتلهم، وتأنف أن تغمد إلّا فى قمم محاربهم ومقاتلهم؛ ونحن على ما نحن من الأهبة لغزوهم فى عقر دارهم، وانتزاع مواطن الخلافة وغيرها من ممالك الإسلام من بين نيوبهم وأظفارهم؛ مستنصرين بالله على من بقى فى خطّ «1» المشرق منهم، قائمين فيهم بفرض الجهاد الذى لولا دفاع الله به لم يمتنع خطّ المغرب عنهم؛ «ولينصرنّ الله من ينصره» ، ولو عددنا نعم الله علينا حاولنا عدّ ما لا نحصيه ولا نحصره. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 195 وإن اضطرّ أن يكتب بمثل ذلك الى ملك غير مسلم لكنّه غير محارب، فالحكم فى ذلك أن يذكر من أسباب المودّة ما يقتضى المشاركة فى المسارّ، وأنّ أمر هذا العدد مع كثرته أخذ بأطراف الأنامل، وآل أمره الى ما آل، ويعظّم ذكر ما جرى عليه من القتل والأسر، وتلك عوائد نصر الله، وانتقامه «1» ممّن عادانا؛ فمن ذلك ما أنشأه المشار اليه لبعض ملوك البحر- ولم يكتب به- وهو: صدرت هذه المكاتبة مبشّرة له بما منحنا الله من نصرة أجزل الصفاء منها سهمه، وأكمل الوفاء من التهنئة بها قسمه؛ وخصّه الوداد بأجلّ أجزائها، وأجلسه الاتحاد على أسرّة مسرّتها إذا أجلس العناد غيره على بساط عزائها؛ علما بأنه الصديق الذى تبهجه مسارّ صديقه، والصاحب الذى يرى مساهمة صاحبه فى بشرى الظّفر بأعدائه أدنى حقوقه؛ وذلك أنه قد علم ما كان من أمر هؤلاء التّتار فى حركاتهم الذميمة، وعزماتهم التى ما احتفلوا لها إلا وكان أحدّ سلاحهم فيها الهزيمة، وغاراتهم التى ما حشدوا لها إلّا وقنعوا فها بالإياب من الغنيمه؛ وأنهم ما أقدموا علينا إلا وعدموا، ولا سلكوا الينا إلّا وهلكوا؛ حتى إنّ الأرض الى الآن لم تجفّ من دمائهم، وإنّ الفرات يكاد يشفّ «2» للمتأمّل عن أشلائهم؛ وأن الشيطان بعد ذلك جدّد طمعهم، وسكّن هلعهم؛ وأنساهم مصارع إخوانهم، وأسلاهم بما زيّن لهم من بلوغ أوطارهم عن أوطانهم؛ وقال لهم: لا غالب لكم اليوم من الناس، وتلك الوقائع التى أصبتم فيها قد لا يجرى الأمر فيها على القياس؛ وحسّن لهم المحال وغرّهم وجرّأهم على قصد البلاد المحروسة، وفى الحقيقة استجرّهم؛ فحشدوا جموعهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 196 وجمعوا حشودهم، واستفرغوا فى الاستنفار والاستظهار طاقتهم ومجهودهم؛ ومالأهم على ذلك من المجاورين من أبطن شقاقه، وكنتم نفاقه، وأنساه الشيطان ما سلف من تنفيسنا عنه وقد لازم الحتف خناقه؛ ونحن فى ذلك نوسعهم إمهالا؛ ونبسط لهم فى التّوغل آمالا، ونأخذا أمرهم بالأناة استدرجا لهم لا إهمالا؛ الى أن بعدوا عن مواطن الهرب، وحصل من استدراجهم الأرب؛ فوثبنا عليهم وثوب الليث إذا ظفر بصيده، ونهضنا نحوهم نهوض الحازم إذا وقع [عدوّه «1» ] فى أحبولة كيده؛ وصدمتهم جيوشنا المنصورة صدمة فللت غربهم، وأبطلت طعنهم وضربهم، وصبغت بدمائهم تربهم؛ وحكّمت السيوف فى مقاتلهم، [ومكّنت الحتوف من صاحب رأيهم ومقاتلهم «2» ] ؛ وسلّطت العدم على وجودهم، وحطّتهم عن سروجهم الى مصارعهم أو قيودهم؛ «فغلبوا هنا لك وانقلبوا صاغرين» ، وعادوا على عادتهم خاسئين، ورجعوا على أعقابهم خاسرين؛ وما أغنى عنهم جمعهم، وما أفادهم بصرهم فيما شاهدوه من قبل ولا سمعهم؛ فركن من بقى منهم الى الفرار، وعاذ ببرد الهرب من لهب تلك السيوف الحرار وظنّ من انهزم منهم أنه فات الرماح، فتناولته بأرماح من العطش القفار؛ فولّوا والرعب يزلزل أقدامهم، والذّعر يقلّل إقدامهم؛ والصّفاح تتخطّفهم من ورائهم والجراح تطمع الطّير فى أكلهم حتى تقع على أحيائهم؛ حتى أصبحوا هشيما تلعب «3» بهم الصّبا والدّبور، أو أحياء يئس منهم أهلهم «كما يئس الكفّار من أصحاب القبور» وصفحنا عمّن نافقنا ووافقهم ولولا ذلك لما نجا، ورجا عواطفنا فى الإبقاء على نفسه، فأجابه حلمنا- وعلمنا أنه فى القبضة- الى ما رجا؛ فليأخذ الملك حظّه من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 197 هذه البشرى التى تسرّ قلب الولىّ المحبّ بوادرها، وتشرح صدر الحفىّ «1» المحقّ مواردها ومصادرها؛ والله تعالى يبهجه عنا بسماع أمثالها، ويديم سروره بما جلوناه عليه من مثالها «2» . قال: فإن كان المكتوب إليه متّهما بممالأة العدوّ كتب اليه بما يدلّ على التقريع والتهكّم، وإبراز التهديد فى معرض الإخبار، كما كتب المشار اليه عن السلطان الى متملّك سيس «3» - وكان قد شهد الوقعة مع العدوّ- قال منه: بصّره الله برشده، وأراه مواقع غيّه فى الإصرار على مخالفته ونقض عهده وأسلاه بسلامة نفسه عمّن روّعته السيوف الإسلاميّة بفقده؛ صدرت تعرّفه أنه قد تحقّق ما كان من أمر العدوّ الذى دلّاه بغروره، وحمله التمسّك بخداعه على مجانبة الصواب فى أموره؛ وأنهم استنجدوا بكلّ طائفه، وأقدموا على البلاد الإسلاميّة بنفوس طامعة وقلوب خائفه؛ وذلك بعد أن أقاموا مدّة يشترون «4» المخادعة بالموادعه، ويسرّون المصارمة فى المسالمه؛ ويظهرون فى الظاهر أمورا، ويدبّرون فى الباطن أمورا، ويعدون كل طائفة من أعداء الدين مثله ويمنّونهم «وما يعدهم الشّيطان إلّا غرورا» ؛ وكنّا بمكرهم عالمين، وعلى معالجتهم عاملين؛ وحين تبيّن مرادهم وتكمّل احتشادهم؛ استدرجناهم الى مصارعهم، واستجريناهم «5» ليقربوا فى القتل من مضاجعهم، ويبعدوا فى الهرب عن مواضعهم؛ وصدمناهم بقوّة أو صدمة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 198 لم يكن لهم بها قبل، وحملنا عليهم حملة ألجأهم طوفانها الى ذلك الجبل، وهل تعصم من أمر الله حيل؟ فحصرناهم فى ذلك الفضاء المتّسع، وضايقناهم كما قد رأى ومزّقناهم كما قد سمع، وأنزلناهم على حكم السيف الذى نهل من دمائهم حتى روى وأكل من لحومهم حتى شبع، وتبعتهم جيوشنا المنصورة تتخطّفهم رماحها، وتتلقّفهم صفاحها، ويبدّدهم فى الفلوات رعبها، ويفرّقهم فى القفار طعنها المتدارك وضربها؛ ويقتل من فات السيوف منهم العطش والجوع، ويخيّل للحىّ منهم أنّ وطنه كالدنيا التى ليس للميت اليها رجوع؛ ولعله قد رأى ذلك فوق ما وصف عيانا، وتحقّق من كل ما لا يحتاج أن نزيده به علما ولا نقيم له عليه برهانا؛ وقد علم أنّ أمر هذا العدوّ المخذول ما زال معنا على هذه الوتيره، وأنهم ما أقدموا إلا ونصر الله عليهم فى مواطن كثيره؛ وما ساقتهم الأطماع فى وقت إلا الى حتوفهم، ولا عاد منهم قطّ فى وقعة إلا آحاد تخبر عن مصارع ألوفهم؛ ولقد أضاع الحزم من حيث لم يستدم نعم الله عليه بطاعتنا التى كان فى مهاد أمنها، ووهاد يمنها؛ وحماية عفوها، وبرد رأفتها التى كدّرها بالمخالفة بعد صفوها؛ يصون رعاياه بالطاعة عن القتل والإسار، ويحمى أهل ملّته بالحذر من الحركات التى ما نهضوا اليها إلا وجرّوا ذيول الخسار؛ ولقد عرّض نفسه وأصحابه لسيوفنا التى كان من سطواتها فى أمان، ووثق بما ضمن له التّتار من نصره وقد رأى ما آل اليه أمر ذلك الضّمان؛ وجرّ لنفسه بموالاة التتار عناء كان عنه فى غنى، وأوقع روحه بمظافرة المغول فى حومة السيوف التى تخطّفت أولياءه من هنا ومن هنا؛ واقتحم بنفسه موارد هلاك سلبت رداء الأمن عن منكبيه واغترّ هو وقومه بما زيّن لهم الشيطان من غروره «فلمّا تراءت الفئتان نكص على عقبيه» وما هو والوقوف فى هذه المواطن التى تتزلزل فيها أقدام الملوك الأكاسره وأنّى لضعاف النّقاد قدرة على الثّبات لوثبات الأسود الضارية واللّيوث الكاسره؛ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 199 لقد اعترض بين السهم والهدف بنحره، وتعرّض للوقوف بين ناب الأسد وظفره؛ وهو يعلم أننا مع ذلك نرعى له حقوق أسلافه التى ماتوا عليها، ونحفظ له خدمة آبائه التى بذلوا نفوسهم ونفائسهم فى الوصول اليها؛ ونجريه وأهل بلاده مجرى أهل ذمّتنا الذين لا نؤيسهم من عفونا مهما «1» استقاموا، ونسلك بهم حكم من فى أطراف البلاد من رعايانا الذين هم فى قبضتنا نزحوا أو أقاموا؛ ونحن نتحقّق أنه ما بقى ينسى ملازمة ربقة الحتف خناقه، ولا يرجع يهوّر «2» نفسه فى موارد الهلاك، وهل يرجع الى الموت «3» [من] ذاقه؟ فيستدرك باب الإنابة قبل أن يغلق دونه، ويصون نفسه وأهله قبل أن تبذل السيوف الإسلاميّة مصونه، ويبادر الى الطاعة قبل أن يبذلها فلا تقبل، ويتمسّك بأذيال العفو قبل أن ترفع دونه فلا تسبل؛ ويعجّل بحمل أموال القطيعة وإلّا كان أهله وأولاده فى جملة ما يحمل منها الينا، ويسلّم مفاتح ما عدا عليه من فتوحنا، وإلّا فهو يعلم أنها وجميع ما تأخّر فى بلاده بين يدينا؛ ويكون هو السبب فى تمزّق شمله، وتفرّق أهله، وقلع «4» بيته من أصله؛ وهدم كنائسه، وابتذال نفسه ونفائسه؛ واسترقاق حرمه، واستخدام أولاده قبل خدمه؛ واقتلاع «5» قلاعه، وإحراق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 200 ربوعه ورباعه «1» ، وتعجيل رؤية ما أوعد «2» به قبل سماعه، ومن لقازان بأن يجاب الى مثل ذلك، أو يسمح له مع الأمن من سيوفنا ببعض ما فى يده من الممالك؛ ليقنع بما أبقت جيوشنا المؤيّدة فى يده من الخيل والخول، ويعيش فى الأمن ببعض ما نسمح له به، ومن للعور «3» بالحول؛ والسيوف الآن مصغية الى جوابه لتكفّ إن أبصر سبل الرشاد، أو تتعوّض برءوس حماته وكماته عن الأغماد إن أصرّ على العناد، والخير يكون. وأما التقاليد والمناشير والتواقيع وما يتعلّق بذلك- فالأحسن فيها بسط الكلام، وتعتبر كثرته وقلّته بحسب الرتب، ويجب أن يراعى فيها أمور: منها براعة الاستهلال بذكر الرتبة أو الحال، أو قدر النعمة، أو لقب صاحب التقليد أو اسمه بحيث لا يكون المطلع أجنبيّا من هذه الأحوال، ولا بعيدا منها، ولا مباينا لها، ثم يستصحب ما يناسب الغرض ويوافق المقصد من أوّل الخطبة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 201 الى آخرها؛ قال: ويحسن أن يكون الكلام فى التقليد منقسما إلى أربعة أقسام متقاربة المقادير، فالرّبع الأوّل الخطبة، والثانى ذكر موقع الإنعام فى حقّ المقلّد، وذكر الرتبة وتفخيم أمرها، والثالث فى أوصاف المقلّد وذكر ما يناسب تلك الرتبة ويناسب حاله من عدل وسياسة ومهابة وبعد صيت، وسمعة وشجاعة إن كان نائبا، ووصف العدل والرأى وحسن التدبير، والمعرفة بوجوه الأموال، وعمارة البلاد، وصلاح الأحوال، وما يناسب ذلك إن كان وزيرا؛ وكذلك فى كلّ رتبة بحسبها، والرابع فى الوصايا؛ ومنها [أن يراعى «1» ] المناسبة وما تقضيه الحال، فلا يعطى أحدا فوق حقّه، ولا يصفه بأكثر مما يراد من مثله، ويراعى أيضا مقدار النعمة والرتبة، فيكون وصف المنّة على مقدار ذلك. ومنها أن لا يصف المتولّى بما يكون فيه تعريض بالمعزول وتنقّص له، فإنّ ذلك مما يوغر الصدور، ويؤرّث الضغائن فى القلوب، ويدلّ على ضعف الآراء فى اختيار الأوّل، وله أن يصف الثانى بما يحصل به المقصود من غير تعريض بالأوّل؛ ومنها أن يتخيّر الكلام والمعانى، فإنه مما يشيع ويذيع، ولا يعذر «2» المقصّر فى ذلك بعجلة ولا ضيق وقت، فإنّ مجال الكلام عليه متّسع، والبلاغة تظهر فى القليل والكثير، والأمر الجارى فى ذلك على العادة معروف، لكن تقع أشياء خارجة عن العادة، نادرة الوقوع، فيحتاج الكاتب فيها الى حسن التصرّف على ما تقتضيه الحال؛ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 202 فمن ذلك تقليد [من «1» ] إنشاء المولى الفاضل شهاب الدين محمود الحلبىّ كتبه لمتملّك سيس بإقراره على ما قاطع النهر من بلاده، وهو: الحمد لله الذى خصّ أيامنا الزاهرة باصطناع ملوك الملل، وفضّل دولتنا القاهرة بإجابة من سأل بعض ما أحرزته لها البيض والأسل، وجعل من خصائص ملكنا إطلاق الممالك وإعطاء الدّول، والمنّ بالنفوس التى جعلها النصر لنا من جملة الخول، وأغرى عواطفنا بتحقيق رجاء من مدّ إلى عوارفنا كفّ الأمل، وأفاض بمواهب نعمائنا على من أناب الى الطاعة حلل الأمن بعد الوجل، وانتزع بآلائنا [لمن تمسّك «2» بولائنا] أرواح رعاياه من قبضة الأجل، وجعل برد العفو عنه وعنهم بالطاعة نتيجة ما أذاقهم العصيان من حرارة الغضب، إذ ربما صحّت الأجسام بالعلل؛ نحمده على نعمه التى جعلت عفونا ممن رجاه قريبا، وكرمنا لمن دعاه بإخلاص الطاعة مجيبا، وبرّنا لمن أقبل اليه منيبا بوجه الأمل مثيبا، وبأسنا مصيبا لمن لم يجعل الله له فى التمسّك بمراحمنا نصيبا؛ ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تعصم دم من تمسّك بذمامها، وتحسم موادّ من عاندها بانتقام حسامها، وتفصم عرا الأعناق ممن أطمعه الغرور فى انفصال أحكامها وانفصامها، وتقصم من قصد إطفاء ما أظهره الله من نورها، وانقطاع ما قضاه من دوامها، وتجعل كلمة حملتها هى العليا، فلا تزال أعناق جاحديها فى قبضة أوليائها وتحت أقدامها؛ ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله المبعوث بالهدى ودين الحق الى كلّ أمّه، المنعوت فى الكتب المنزّلة بالرأفة والرحمه، المخصوص مع عموم المعجزات بخمس منهنّ الرعب الذى كان يتقدّمه الى من قصده، ويسبقه مسيرة شهر الى [من «3» ] أمّه، المنصوص الجزء: 7 ¦ الصفحة: 203 فى الصحف المحكمة على جهاد أمته، الذى لا حياة لمن لم يتمسّك من طاعته بذمته؛ صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين فتحوا بدعوته الممالك، وأوضحوا بشرعته الى الله المسالك، وجلوا بنور سنّته عن وجه الزمن كلّ حال حالك، وأوردوا من كفر بربهم ورسله موارد المهالك، ووثقوا بما وعد الله نبيّه حين زوى له مشارق الأرض ومغاربها من أنّ ملكهم سيبلغ ما زوى الله له من ذلك؛ صلاة لا تزال الأرض لها مسجدا، ولا يبرح ذكرها مغيرا فى الآفاق ومنجدا؛ ما استفتحت ألسنة الأسنّة النصر بإقامتها، وأبادت أعداءها باستدامتها، وسلم تسليما كثيرا؛ وبعد، فإنه لمّا آتانا الله ملك البسيطه، وجعل دعوتنا بأعنّة ممالك الأقطار محيطه؛ ومكّن لنا فى الآفاق «1» ، وأنهضنا من الجهاد فى سبيله بالسنّة والفرض، وجعل كلّ يوم تعرض [فيه «2» ] جيوشنا من أمثلة يوم العرض؛ وأظلّتنا بوادر الفتوح، وأظلّت على الأعداء سيوفنا التى هى على من كفر بالله وكفر النعمة دعوة نوح وأيّدنا بالملائكة والرّوح، على من جعل الواحد سبحانه ثلاثة فانتصر بالأب والابن والرّوح؛ وألقت إلينا ملوك الأقطار السّلم، وبذلت كرائم بلادها رغبة فى الالتجاء من عفونا الى ظل أعلى من علم؛ وتوسّل من كان منهم يظهر الغلظة بالذلّة والخضوع وتوصّل من كان منهم يبدى القوّة بالإخلاص الذى رأوه لهم أقوى الجنن وأوقى الدروع؛ عاهدنا الله تعالى ألّا نردّ منهم آملا، ولا نصدّ عن مشارع كرمنا ناهلا؛ ولا نخيّب من إحساننا راجيا، ولا نجلى عن ظلّ برّنا لاجيا؛ علما أنّ ذلك شكر للقدرة التى جعلها الله لنا على ذلك الآمل، ووثوقا بأنه حيث كان فى قبضتنا كما نشاء الجزء: 7 ¦ الصفحة: 204 نجمع عليه الأنامل؛ اللهمّ إلّا أن يكون ذلك اللّاجئ للغلّ مسرّا، وعلى عداوة الإسلام مصرّا؛ فيكون هو الجانى على نفسه، والجانى على موضع رمسه؛ ولمّا كان من تقدّم بالمملكة الفلانية قد زيّن له الشيطان أعماله، وعقد بحبال الغرور آماله؛ وحسّن له التمسّك بالتّتار الذين هم بمهابتنا محصورون فى ديارهم، مأسورون فى حبائل إدبارهم؛ عاجزون عن حفظ ما لديهم، قاصرون عن ضبط ما استلبته سرايانا المنصورة من يديهم؛ ليس منهم إلا من له عند سيوفنا ثار، ومن يعلم أنه لا بدّله عندنا من خطّتى خسف: إما القتل أو الإسار؛ وحين تمادى المذكور فى غيّه، وحمله الغرور على ركوب جواد بغيه؛ أمرنا جيوشنا المنصورة فجاست خلال تلك الممالك وداست حوافر خيلها ما هنالك، وساوت فى عموم القتل والأسر بين العبد والحرّ والمملوك والمالك؛ وألحقت رواسى جبالهم بالصّعيد، وجعلت حماتهم كزروع فلاتهم منها قائم وحصيد؛ فأسلمهم الشيطان ومرّ، وتركهم وفرّ، وماكرهم وما كرّ وأعلمهم أن الساعة موعدهم «والسّاعة أدهى وأمرّ» وأخلقهم ما ضمن لهم من العون وقال لهم: «إنّى برىء منكم إنّى أرى ما لا ترون» ؛ وكان الملك فلان ممّن يريد طرق النجاة فلم ير إليها بسوى الطاعة سبيلا، ويأمل أسباب النجاح فلم يجد عليها غير صدق الانتماء دليلا؛ فأبصر بالخدمة موضع رشده، وأدرك بسعيه نافر سعده؛ وأراه الإقبال كيف تثبت قدمه فى الملك الذى زلّت عنه قدم من سلف، وأظهر له الإشفاق على رعاياه مصارع من أورده سوء تدبير أخيه موارد التّلف، وعرّفه التمسّك بإحساننا كيف احتوت يده على ما لم يبق غضبنا فى يد أخيه منه إلا الأسى والأسف؛ وحسّنت له الثقة بكرمنا كيف يجمل الطلب، وعلّمته الطاعة كيف تستنزل عوارفنا عن بعض ما غلبت عليه سيوفنا وإنما الدنيا لمن غلب؛ وانتمى إلينا فصار من خدم أيّامنا، وصنائع إنعامنا، وقطع علائقه من غيرنا؛ فلجأ منا الى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 205 ركن شديد، وظلّ مديد، ونصر عتيد؛ وحرم يأوى آمله إليه، وكرم تقرّ نضارته ناظريه، وإحسان يمتّعه بما أقرّه عطاؤنا فى يديه، وامتنان يضع عنه إصره والأغلال التى كانت عليه؛ اقتضى إحساننا أن نغضى له عن بعض ما حلّت جيوشنا ذراه وحلّت سطوات عساكرنا عراه؛ وأضعفت عزمات سرايانا قواه، ونشرت طلائع جنودنا ما كان ستره صفحنا عنهم من عورات بلادهم وطواه؛ وأن نخوّله بعض ما وردت خيولنا مناهله، ووطئت جيادنا غاربه وكاهله؛ وسلكت كماتنا فملكت دارسه واهله؛ وأن نبقى مملكة البيت الذى مضى سلفه فى الطاعة عليه، ويستمرّ ملك الأرمن الذى أهمل «1» السعى فى مصالحه بيديه؛ ليتيمّن رعاياه به، ويعلموا أنهم أمنوا على أرواحهم وأولادهم بسببه؛ ويتحقّقوا أنّ أثقالهم بحسن توصّله الى طاعتنا قد خفّت، وأنّ بوادر الأمن بلطف توسّله الى مراضينا قد أطافت بهم وحفّت وأنّ سيوفنا التى كانت مجرّدة على مقاتلهم بجميل استعطافه قد كفتهم بأسنا وكفّت وأنّ سطواتنا الحاكمة على أرواحهم قد عفت [عنهم بملاطفته «2» وعفت] ؛ فرسم أن يقلّد كيت وكيت من المملكة الفلانية، ويستقرّ بيده استقرار لا ينازع فى استحقاقه ولا يعارض فيما سبق من إعطائه وإطلاقه؛ ولا يطالب عنه بقطيعه «3» ، [ولا يطلب منه بسببه غير طويّة مخلصة ونفس مطيعه] ؛ ولا يخشى عليه يدا جائره، ولا سريّة فى طلب الغرّة سائره؛ ولا يطرق كناسه أسد جيوش مفترسه، ولا سباع نهاب مختلسه؛ بل تستمرّ بلاده المذكورة فى ذمام رعايتنا، وحصانة عنايتنا؛ وكنف إحساننا، ووديعة برّنا وامتناننا؛ لا تطمح اليها عين معاند، ولا يمتدّ اليها إلّا ساعد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 206 مساعد، وعضد معاضد؛ فليقابل هذه النعمة بشكر الله الذى هداه الى الطاعه وصان بإخلاص ولائه نفسه ونفائس بلاده من الإضاعه؛ وليقرن ذلك بإصفاء موارد المودّه، وإضفاء ملابس الطاعة التى لا تزداد بحسن الوفاء إلا جدّه؛ واستمرار المناصحة فى السّرّ والعلن، واجتناب المخادعة ما ظهر منها وما بطن، وأداء الأمانة فيما استقرّ معه الحلف «1» عليه، ومباينة ما يخشى أن يتوجّه بسببه وجه عتب إليه؛ واستدامة هذه النعمة بحفظ أسبابها، واستقامة أحوال هذه المنّة برفض موجبات الكدر واجتنابها، وإخلاص النيّة التى لا تعتبر ظواهر الأحوال الصالحة إلّا بها. ومن تقليد كتبه المشار اليه أيضا لسلامش بمملكة الروم حين ورود كتابه يسأل ذلك قبل حضوره، أوّله: الحمد لله الذى أيّدنا بنصره، وأمدّنا من جنود الظّفر بما لم يؤت ملك فى عصره، وجعل مهابتنا قائمة فى جهاد عدوّ الدين، إن قرب مقام كسره، وإن بعد مقام حصره، ونشر دعوة ملكنا فى الأقطار كلّها اذا اقتصرت دعوة غيرنا من ملوك الأمصار على مصره، وأنجد من نادانا بلسان الإخلاص من جنود الله وجنودنا بالجيش الذى لم تزل أرواح العدا بأسرها فى أسره، وعضد من تمسّك بطاعة الله وطاعتنا من إجابة عساكرنا بما هو أقرب الى مقاتل عدوّه من بيضه المرهفة وسمره، وأعاد بنا من حقوق الدّين كلّ ضالّة ملك ظنّ العدوّ أنّ أمره غالب عليها والله غالب على أمره؛ فجنودنا إلى نصرة من دعاها بالإيمان أقرب من رجع نفسه اليه، وأسرع من ردّ «2» الصدى جوابه عليه؛ وأسبق الى عدوّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 207 الدين من مواقع عيانه، وأقدر على التصرّف فى أرواح أهل الشّرك من تصرّف الكمىّ فى عنانه؛ وأذب عن حمى الدين من الجفون عن نواظرها، وأضرى على نفوس المعتدين من أسود عنت الفرائس «1» لكواسرها؛ قد عوّدها النصر الإلهىّ ألّا تسلّ ظباها فتغمد حتى تستباح ممالك، وضمن لها الوعد المحمّدىّ أنها الطائفة الذين لا يزالون ظاهرين الى يوم القيامة حتى يأتى أمر الله وهم على ذلك؛ نحمده على نعمه التى لم نزل نصون بها حمى الدين ونصول، ونقلّد بيمنها من لجأ إلينا سيف نصر يصدع به ليل العدا ولو أن النجوم نصول، ونورد بآسمها من انتصر بنا مورد عزّ يحرّمه «2» لمع الأسنّة فوقه، فليس لظمآن من العدا إليه وصول؛ وبعد، فإن أولى من أصغت عزائمنا الشريفة إلى نداء إخلاصه، وأجابت مكارمنا العميمة دعاء تميّزه بالولاء واختصاصه، وقابلت مراسمنا انتصاره فى الدين بالنّفير لإعانته على ما ظفر باقتلاعه من يد الكفر واقتناصه، وتكفلت له مهابتنا بالأمن على ملك مذ وسمه باسمنا الشريف يئس العدوّ من استخلاصه؛ وأجيبت كتبه فى الاستنجاد بسرعان «3» الكتائب، ولمعان القواضب، وتتابع أمداد جيوشنا التى تنوء بحملها كواهل المشارق والمغارب، وتدفّق أمواج عساكرنا التى تنشد طلائعها ملوك العدا: «أين الفرار ولا مفرّ لهارب» وتألّق بروق النصر من خفق ألويتنا الشاهدة بأن قبيلنا «إذا ما التقى الجمعان أوّل غالب» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 208 ومنه: وفوّضت إليه مراسمنا الحكم فى الرعايا بالعدل والإحسان، وقلّدته «1» أوامرنا من عقود النظر فى تلك الممالك [ما تودّ جباه الملوك «2» ] لو حلّت «3» بدرّها معاقد التيجان، وعلّقت «4» به من الأوامر ما بنا تنفذ مواقعه، وكذا الأمور المعتبرة لا تنفذ إلا بسلطان؛ من ألقى الله الإيمان فى قلبه، وهداه إلى دين الإسلام فأصبح فيه على بيّنة من ربّه، وأراد به خيرا فنقله من حزب الشيطان إلى حزبه، وأنقذه بطاعته من موارد الهلاك بعد أن كان قد أذن بحرب من الله ورسوله، ولقد خسر الدين «5» والدنيا والآخرة من أذن من الله بحربه؛ وأيقظه من طاعتنا التى أوجبها على الأمم لما أبصر به رشده، ورأى قصده، وعلم به أن الذى كان فيه كسراب بقيعة «6» لم يجده شيئا، وأنّ الذى انتقل إليه وجد الله عنده؛ وأنهضه من موالاتنا بما حتّم به النّهوض على كل من كان مسلما، وأخرجه بنور الهدى من عداد أعدائه الذين تركهم خوفنا «كأنّما أغشيت وجوههم قطعا من اليّل مظلما» ؛ وأراه الرشد ما علم به أن الله تعالى أورثنا ملك الإسلام فبطاعتنا يتمّ الانتماء إليه، وأعطانا مقاليد البسيطة فمن اغتصب منها شيئا انتزعه الله لنا بجنوده المسوّمة من يديه؛ فلجأ من أبوابنا العالية الى الظلّ الذى يلجأ اليه كلّ ذى منبر وسرير، ورجا من كرمنا الاعتصام بجيوشنا التى ما رمينا بها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 209 عدوّا إلا ظنّ أن الرمال تسيل والجبال تسير؛ وتحيز منّا إلى فئة الإسلام، وانتصر بسيوفنا التى هو يعلم كيف تسلّها على العدا الأحلام؛ ومتّ إلينا بذمّة الإسلام وهى عندنا أبرّ الذمم، وطلب تقليده الحكم منا من عرف «1» بإعاذته «2» النظرات الصادقة أنه كان يحسب الشحم فيمن شحمه ورم؛ وعقد بنا بناء رجائه، وهل لمسلم عن ملك الإسلام من معدل؟ وأنزل بنا ركائب آماله، وهل بعد رامة لمرام «3» من منزل؟ فتلقّت نعمنا كرائم قصده بالترحيب، وأحلّت وفادة انتمائه «4» بالحرم الذى شأوه بعيد ونصره قريب؛ وتسارعت إلى نصرته جنودنا التى أيّامها مشهورة فى عدوّها، وآثارها مشكورة فى رواحها وغدوّها، وأعلامها منصورة فى انتزاحها ودنوّها؛ وتتابعت يتلو بعضها بعضا تتابع الغمام المتراكم، والموج المتلاطم؛ تقدم عليه بالنصر القريب من الأمد البعيد، وتعلم بوادرها أنّ طلائعها عنده وساقتها بالصعيد؛ ولما كان فلان هو الذى أراد الله به من الخير ما أراد، ووطّد له بعنايته أركان الرشاد؛ وجعل له بعد الجهل به علما، وتداركه برحمته، فما أمسى للإسلام عدوّا حتى أصبح هو ومن معه له سلما؛ «قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا» ، وبكرمه العميم فليفسحوا صدورهم ويشرحوا، وبإرشاده الجلىّ وهدايته فليدعوا قومهم الى ذلك وينصحوا؛ وحين وضحت له هذه الطرق أرشدته من خدمتنا الشريفة الى الطاعة، ودلّته على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 210 موالاة ملك الإسلام التى من لم يتمسّك [بها «1» ] فقد فارق الجماعة؛ فإن الله تعالى قرن طاعته وطاعة رسوله صلّى الله عليه وسلم بطاعة أولى الأمر، وحثّ على ملازمة الجماعة فى وقت يكون المتمسّك فيه بدينه كالقابض على الجمر؛ وهذا فعل من أراد الله به خيرا، وسعى من يحسن فى دين الله سيرة وسيرا؛ ولذلك اقتضت آراؤنا الشريفة إمضاء عزمه على الجهاد بالإمجاد، وإنفاذ سهمه فى أهل العناد بالإسعاف والإسعاد؛ وأرسلنا الجيوش الإسلاميّة كما تقدّم شرحه يطئون الصّحاصح، ويستقربون المدى النازح، ويأخذون كلّ كمىّ فلو استطاع السّماك لم يتسمّ بالرامح، ويحتسبون الشّقّة فى طلب عدوّ الإسلام علما أنهم لا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم به عمل صالح؛ فرسم بالأمر الشريف- لا زال يهب الدّول، ويقلّد أجياد العظماء ما تودّ لو تحلّت ببعض فرائده تيجان الملوك الأوّل- أن تفوّض إليه نيابة الممالك الفلانيّة تفويضا يصون به قلاعها، [ويصول «2» بمهابته على من حاول انتزاعها من يده واقتلاعها] ؛ ويجريها على [ما «3» ] ألفت مما لكنا من أمن لا يروّع سربه، ولا يكدّر شربه؛ ولا يوجد فيه باغ تخاف السبيل بسببه، ولا من يجرّد سيف بغى وطن جرّده قتل به؛ وليحفظ من الأطراف ما استودعه الله وهذا التقليد الشريف حفظه، وليعمل فى قتال محاربيه من العدا بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 211 ومنه: وليعلم أن جيوشنا فى المسير إليه متى قصدت عدوّا سابقت خيولها خيالها، وجارت جيادها ظلالها، وأنفت سنابكها أن تجعل غير جماجم الأعداء نعالها؛ وها هى قد تقدّمت ونهضت لإنجاده، فلو سامها أن تخوض البحار فى سبيل الله لخاضت، أو تصدم الجبال لصدمت. ومنه: والشرع الشريف مهمّه المقدّم، وأمره السابق على كلّ ما تقدّم؛ فليعل مناره، ويستشفّ من أموره أنواره؛ وينفّذ أحكامه، ويعاضد حكّامه؛ ومن عدل عن حكمه معاندا، أو ترك شيئا من أحكامه جاحدا؛ فقد برئت الذمّة من دمه حتى يفىء الى أمر الله، ويرجع عن عناده وينيب إلى الله؛ فإن الله يهدى إليه من أناب «وهو الّذى يقبل التّوبة عن عباده» . وأما الرسائل التى تتضمّن أوصاف السلاح وآلات الحرب وأوصاف الخيل والجوارح وأنواع الرياضات وما أشبه ذلك، فالكاتب فيه مطلق العنان، مخلّى بينه وبين فصاحته، موكول إلى اطّلاعه وبلاغته؛ وقد تقدّم من أوصاف السلاح ما فيه كفاية لمن يريد ذلك. وأما الخيل والجوارح وما يلتحق «1» بذلك من الفهود والضّوارى فلا غنية للكاتب عن معرفته جيادها، والأمارات الدالّة على فراهتها، وكلّ طير من الجارح وأفعاله واستطالته، وكيفيّة فعله، وتمكّنه من الطير والوحش؛ وسنورد إن شاء الله تعالى فى فنّ الحيوان الصامت- وهو الفنّ الثالث من هذا الكتاب- ما يقتدى الكاتب بمثاله، وينسج على منواله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 212 وأما الرسائل التى تعمل رياضة للخواطر وتجربة للقرائح، كالمفاخرات بين الفواكه والأزهار، ووصف الرياحين والأنهار والغدران والسّواقى والجداول والبحار والمراكب وأمثال ذلك، فقد تقدّم منها فى الفنّ الأوّل من هذا الكتاب ما وقفت أو تقف عليه، وسنورد منها إن شاء الله تعالى فى الفن الرابع فى النبات ما تجده هناك. وأما الرسائل الإخوانيّة وما يتجدّده من الأمور ويطرأ من الحوادث وغير ذلك، فسنورد إن شاء الله تعالى منها فى هذا الباب ما انتجبناه من رسائل الكتّاب والبلغاء المشارقة والمغاربة على ما تقف عليه؛ ولنبدأ من ذلك بذكر شىء من كلام الصحابة والصدر الأوّل. ذكر شىء من الرسائل المنسوبة إلى الصحابة رضى الله عنهم والتابعين وشىء من كلام الصدر الأوّل وبلاغتهم قدّمنا أنّ الكاتب يحتاج فى صناعته إلى حفظ مخاطبات الصحابة رضى الله عنهم، ومحاوراتهم ومراجعاتهم، فأحببنا أن نورد من ذلك فى هذا الموضع ما ستقف إن شاء الله عليه؛ فمن ذلك الرسالة المنسوبة إلى أبى بكر الصّدّيق إلى علىّ، وما يتّصل بها من كلام عمر بن الخطاب وجواب علىّ رضى الله عنهم، وهذه الرسالة قد اعتنى الناس بها وأوردها [فى] المجاميع، ومنهم من أفردها فى جزء، وقطع بأنها من كلامهم رضى الله عنهم، ومنهم من أنكرها ونفاها عنهم، وقال: إنها موضوعة، واختلف القائلون بوضعها، فمنهم من زعم أنّ فضلاء الشّيعة وضعوها، وأرادوا بذلك الاستناد إلى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 213 [أن «1» ] عليّا بن أبى طالب رضى الله عنه إنما بايع أبا بكر الصّدّيق بسبب ما تضمّنته؛ وهذا الاستناد ضعيف، وحجّة واهية، والصحيح أن عليّا بن أبى طالب رضى الله عنه بايع بيعة رضى باطنه فيها كظاهره، والدليل على ذلك أنه وطئ من السّبى الذى سبى فى خلافة أبى بكر، واستولد منه محمد بن الحنفيّة، ولا جواب لهم عن هذا؛ ومنهم من زعم أن فضلاء السنّة وضعوها، والله أعلم؛ وعلى الجملة فهذه الرسالة لم نوردها فى هذا الكتاب إثباتا لها أنها من كلامهم رضى الله عنهم ولا نفيا، وإنما أوردناها لما فيها من البلاغة، واتّساق الكلام، وجودة الألفاظ، وها نحن نوردها على نص ما وقفنا عليه قال أبو حيّان علىّ بن محمد التوحيدىّ البغدادىّ: سمرنا ليلة عند القاضى أبى حامد بن بشر المرورّوذىّ ببغداد، فتصرّف فى الحديث كلّ متصرّف- وكان غزير «2» الروايه، لطيف الدرايه- فجرى حديث السّقيفة، فركب كلّ مركبا، وقال قولا، وعرّض بشىء، ونزع إلى فنّ؛ فقال: هل فيكم من يحفظ رسالة لأبى بكر الصّدّيق إلى علىّ بن أبى طالب رضى الله عنهما وجواب علىّ عنها، ومبايعته إياه عقب تلك المناظرة؟ فقال الجماعة: لا والله، فقال: هى والله من بنات الحقائق، ومخبّآت الصنادق، ومنذ حفظتها ما رويتها إلا لأبى محمد المهلّبىّ فى وزارته، فكتبها عنّى بيده، وقال: لا أعرف رسالة أعقل منها ولا أبين، وإنها لتدلّ على علم وحلم وفصاحة ونباهة، وبعد غور، وشدّة غوص؛ فقال له الجزء: 7 ¦ الصفحة: 214 العبّادانىّ «1» : أيها القاضى، لو أتممت المنّة علينا بروايتها سمعناها «2» ، فنحن أوعى لها عنك من المهلّبىّ، وأوجب ذماما عليك؛ فاندفع وقال: حدّثنا الخزاعىّ بمكّة، عن أبى «3» ميسرة قال: حدّثنا محمد بن فليح «4» عن عيسى بن دأب «5» [نبّأ «6» صالح بن كيسان ويزيد بن رومان، قالا: حدّثنا هشام بن عروة، نبّأ] أبو النفّاح «7» قال: سمعت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 215 مولاى أبا عبيدة يقول: لما استقامت الخلافة لأبى بكر رضى الله عنه بين المهاجرين والأنصار بعد فتنة كاد الشيطان بها، فدفع الله شرّها، ويسّر خيرها؛ بلغ أبا بكر عن علىّ تلكّؤ وشماس، وتهمّم «1» ونفاس، وتهمّم ونفاس، فكره أن يتمادى الحال فتبدو العوره، وتشتعل الجمره، وتفرّق ذات البين، فدعانى، فحضرته فى خلوة، وكان عنده عمر بن الخطّاب رضى الله عنه وحده، فقال: يا أبا عبيدة، ما أيمن ناصيتك، وأبين الخير بين عينيك، وطالما أعزّ الله بك الإسلام، وأصلح شأنه على يديك، ولقد كنت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمكان المحوط، والمحلّ المغبوط، ولقد قال فيك فى يوم مشهود: «لكلّ أمّة أمين، وأمين هذه الأمّة أبو عبيدة» ولم [تزل «2» ] للدّين ملتجا، وللمؤمنين مرتجى، ولأهلك ركنا، ولإخوانك ردءا؛ قد أردتك لأمر له خطر مخوف، وإصلاحه من أعظم المعروف؛ ولئن لم يندمل جرحه بيسارك «3» ورفقك، ولم تجبّ حيّته برقيتك، فقد وقع اليأس، وأعضل البأس؛ واحتيج بعد ذلك إلى ما هو أمرّ منه وأعلق، وأعسر منه وأغلق؛ والله أسأل تمامه بك، ونظامه على يديك، فتأتّ له يا أبا عبيدة، وتلطّف فيه، وانصح لله عزّ وجلّ، ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم، ولهذه العصابة غير آل جهدا، و [لا] قال حمدا؛ والله كالئك وناصرك، وهاديك ومبصّرك، إن شاء الله؛ امض إلى علىّ واخفض له جناحك، واغضض الجزء: 7 ¦ الصفحة: 216 عنده صوتك، واعلم أنه سلالة أبى طالب، ومكانه ممّن فقدناه بالأمس صلّى الله عليه وسلّم مكانه، وقل له: البحر مغرقه، والبرّ مفرقه؛ والجوّ أكلف، والليل أغذف «1» ؛ والسماء جلواء، والأرض صلعاء؛ والصّعود متعذّر، والهبوط متعسّر؛ والحقّ عطوف رءوف، والباطل عنوف «2» عسوف، والعجب قدّاحة «3» الشرّ، والضّغن رائد البوار، والتعريض سجال «4» الفتنة، والقحة ثقوب «5» العداوة، وهذا الشيطان متّكئ على شماله، متحبّل «6» بيمينه، نافخ حضنيه «7» لأهله، ينتظر الشّتات والفرقة، ويدبّ بين الأمّة بالشّحناء والعداوة، عنادا لله عز وجلّ أوّلا، ولآدم ثانيا، ولنبيّه صلّى الله عليه وسلّم ودينه ثالثا، يوسوس بالفجور، ويدلى بالغرور، ويمنّى أهل الشرور، يوحى إلى أوليائه زخرف القول غرورا بالباطل، دأبا له منذ كان على عهد أبينا آدم صلّى الله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 217 عليه، وعادّة له منذ أهانه الله تعالى فى سالف الدهر، لا منجى منه إلا بعضّ الناجذ على الحقّ، وغضّ الطرف عن الباطل، ووطء هامة عدوّ الله بالأشدّ فالأشدّ، والآكد فالآكد، وإسلام النفس لله عزّ وجلّ فى ابتغاء رضاه؛ ولا بدّ الآن من قول ينفع اذا ضرّ السكوت وخيف غبّه، ولقد أرشدك من أفاء ضالّتك، وصافاك من أحيا مودّته بعتابك، وأراد لك الخير من آثر البقاء معك، ما هذا الذى تسوّل لك نفسك، ويدوى «1» به قلبك، ويلتوى عليه رأيك، ويتخاوص «2» دونه طرفك، ويسرى فيه ظعنك، ويترادف معه نفسك، وتكثر عنده صعداؤك، ولا يفيض به لسانك؟ أعجمة بعد إفصاح؟ أتلبيس بعد إيضاح؟ أدين غير دين الله؟ أخلق غير خلق القرآن؟ أهدى غير هدى النبى صلّى الله عليه وسلّم؟ أمثلى تمشى إليه الضّراء وتدبّ له الخمر «3» ؟ أو مثلك ينقبض عليه الفضاء ويكسف «4» فى عينه القمر؟ ما هذه القعقعة «5» بالشّنان؟ وما هذه الوعوعة باللسان؟ إنك والله جدّ عارف باستجابتنا إلى الله عزّ وجلّ ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم، وبخروجنا عن أوطاننا وأموالنا وأولادنا وأحبّتنا لله «6» عزّ وجلّ ولرسوله ونصرة لدينه، فى زمان أنت فيه فى كن الصّبا، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 218 وخدر الغرارة، وعنفوان الشّبيبة [غافلا «1» عما] يشيب ويريب «2» ، لا تعى ما يراد ويشاد، ولا تحصّل ما يساق ويقاد، سوى ما أنت جار عليه إلى غايتك التى إليها عدل بك، وعندها حطّ رحلك، غير مجهول القدر، ولا مجحود الفضل، ونحن فى أثناء ذلك نعانى أحوالا تزيل الرواسى، ونقاسى أهوالا تشيب النّواصى؛ خائضين غمارها، راكبين تيّارها؛ نتجرّع صابها، ونشرج «3» عيابها؛ ونحكم أساسها، ونبرم أمراسها؛ والعيون تحدّج «4» بالحسد، والأنوف تعطس بالكبر، والصدور تستعر بالغيظ، والأعناق تتطاول بالفخر، والشّفار تشحذ بالمكر، والأرض تميد بالخوف، لا تنتظر عند المساء صباحا، ولا عند الصباح مساء، و [لا «5» ] ندفع فى نحر أمر إلّا بعد أن نحسو الموت دونه، ولا نبلغ مرادا إلى شىء إلّا بعد جرع العذاب معه، ولا نقيم منارا إلا بعد الإياس من الحياة عنده، فادين فى جميع ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالأب والأمّ، والخال والعمّ، والمال والنّشب، والسّبد واللّبد «6» ، والهلّة والبلّة «7» ، بطيب أنفس، وقرّة أعين، ورحب أعطان، وثبات عزائم، وصحّة عقول، وطلاقه أوجه، وذلاقة ألسن؛ هذا مع خفيّات أسرار، ومكنونات أخبار كنت عنها غافلا، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 219 ولولا سنّك لم تكن عن شىء منها ناكلا؛ كيف وفؤادك مشهوم «1» ، وعودك معجوم! والآن قد بلغ الله بك، وأنهض الخير لك، وجعل مرادك بين يديك، وعن علم أقول ما تسمع؛ فارتقب زمانك، وقلّص «2» أردانك؛ ودع التقعّس «3» والتجسّس لمن لا يظلع لك إذا خطا، ولا يتزحزح عنك إذا عطا؛ فالأمر غضّ، والنفوس فيها مضّ «4» ؛ وإنك أديم هذه الأمّة فلا تحلم «5» لجاجا، وسيفها العضب فلا تنب اعوجاجا، وماؤها العذب فلا تحل أجاجا؛ والله لقد سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن هذا الأمر فقال لى: «يا أبا بكر، هو لمن يرغب عنه لا لمن يحاحش «6» عليه، ولمن يتضاءل عنه لا لمن ينتفج «7» إليه، هو لمن يقال: هو لك، لا لمن يقول: هو لى» ولقد شاورنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى الصّهر، فذكر فتيانا من قريش، فقلت: أين أنت من علىّ؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: إنى لأكره لفاطمة ميعة شبابه، وحداثة سنّه، فقلت له: متى كنفته يدك، ورعته عينك، حفّت بهما البركة، وأسبغت عليهما النعمة، مع كلام كثير خاطبته به رغبة فيك، وما كنت عرفت منك فى ذلك حوجاء ولا للوجاء، فقلت ما قلت وأنا أرى مكان غيرك، وأجد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 220 رائحة سواك، وكنت إذ ذاك خيرا لك منك الآن لى؛ ولئن كان عرّض بك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى هذا الأمر فلم يكن معرضا عن غيرك، وإن كان قال فيك فما سكت عن سواك، وإن تلجلج فى نفسك شىء فهلمّ فالحكم مرضىّ، والصواب مسموع، والحقّ مطاع؛ ولقد نقل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى ما عند الله عزّ وجلّ وهو عن هذه العصابة راض، وعليها حدب، يسرّه ما يسرّها، ويسوءه ما يسوءها «1» ، ويكيده ما كادها، ويرضيه ما أرضاها، ويسخطه ما أسخطها، أما تعلم أنه لم يدع أحدا من أصحابه وأقاربه وسجرائه «2» إلا أبانه بفضيلة، وخصّه بمزيّة، وأفرده بحالة؟ أتظنه صلّى الله عليه وسلّم ترك الأمة سدى بددا، عباهل مباهل «3» ، طلاحى «4» ، مفتونة بالباطل، معنونة «5» عن الحقّ، لا ذائد ولا رائد، ولا ضابط ولا حائط ولا رابط، ولا ساقى ولا واقى، ولا هادى ولا حادى «6» ؛ كلا، والله ما اشتاق الى ربه تعالى، ولا سأله المصير الى رضوانه وقربه إلّا بعد أن ضرب المدى «7» ، وأوضح الجزء: 7 ¦ الصفحة: 221 الهدى، وأبان الصّوى «1» ؛ وأمّن المسالك والمطارح، وسهّل المبارك والمهايع «2» ، وإلا بعد أن شدخ يافوخ الشّرك بإذن الله تعالى، وشرم وجه النفاق لوجه الله سبحانه، وجدع أنف الفتنة فى ذات الله، وتفل فى عين الشيطان بعون الله، وصدع بملء فيه ويده بأمر الله عزّ وجلّ؛ وبعد، فهؤلاء المهاجرون والأنصار عندك ومعك فى بقعة واحدة، ودار جامعة، إن استقالونى «3» لك، وأشاروا عندى بك، فأنا واضع يدى فى يدك، وصائر الى رأيهم فيك، وإن تكن الأخرى فادخل فى صالح ما دخل فيه المسلمون، وكن العون على مصالحهم، والفاتح لمغالقهم «4» ، والمرشد لضالّتهم، والرادع لغوابتهم، فقد أمر الله تعالى بالتعاون على البرّ والتقوى، والتناصر على الحق، ودعنا نقض هذه الحياة بصدور بريئة من الغلّ، سليمة من الضغائن «5» والحقد، ونلق الله تعالى بقلوب سليمة من الضغن؛ وبعد، فالناس ثمامة «6» فارفق بهم، واحن عليهم، ولن لهم، ولا تشق «7» نفسك بنا خاصّة منهم، واترك ناجم الحقد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 222 حصيدا، وطائر الشرّ واقعا، وباب الفتنة مغلقا، فلا قال ولا قيل، ولا لوم ولا تعنيف «1» ، والله على ما نقول شهيد، وبما نحن عليه بصير. قال أبو عبيدة: فلما تأهّبت للنهوض قال عمر رضى الله عنه: كن لدى الباب هنيهة فلى معك دور من القول، فوقفت وما أدرى ما كان بعدى إلّا أنه لحقنى بوجه يبدى تهلّلا، وقال لى: قل لعلىّ: الرّقاد محلمه، والهوى مقحمه؛ وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ ، وحقّ مشاع أو مقسوم، ونبأ ظاهر أو مكتوم؛ وإنّ أكيس الكيسى من منح الشارد تألّفا، وقارب البعيد تلطّفا؛ ووزن كلّ شىء بميزانه، ولم يخلط خبره بعيانه؛ ولم يجعل فتره مكان شبره دينا كان أو دنيا، ضلالا كان أو هدى، ولا خير فى علم مستعمل فى جهل، ولا خير فى معرفة مشوبة بنكر، ولسنا كجلدة رفغ «2» البعير بين العجان «3» والذّنب، وكلّ صال فبناره، وكلّ سيل فإلى قراره؛ وما كان سكوت هذه العصابة إلى هذه الغاية لعىّ «4» وشىّ، ولا كلامها اليوم لفرق أو رفق، وقد جدع الله بمحمد صلّى الله عليه وسلّم أنف كلّ ذى كبر، وقصم ظهر كلّ جبّار، وقطع لسان كلّ كذوب «فماذا بعد الحقّ إلّا الضّلال» ما هذه الخنزوانة «5» [التى «6» ] فى فراش «7» الجزء: 7 ¦ الصفحة: 223 رأسك؟ ما هذا الشجا المعترض فى مدارج أنفاسك؟ ما هذه القذاة التى تغشّت ناظرك؟ وما هذه الوحرة «1» التى أكلت شرا سيفك؟ وما هذا الذى لبست بسببه جلد النّمر، واشتملت عليه بالشّحناء والنّكر، ولسنا فى كسرويّة كسرى، ولا فى قيصريّة قيصر، تأمّل لإخوان فارس وأبناء الأصفر؛ قد جعلهم الله جزرا لسيوفنا، ودريئة لرماحنا، ومرعى لطعاننا، وتبعا لسلطاننا؛ بل نحن نور نبوّة، وضياء رسالة، وثمرة حكمة، وأثرة رحمه، وعنوان نعمه، وظلّ عصمه؛ بين أمّة مهديّة بالحق والصدق، مأمونة على الرّتق والفتق، لها من الله إباء أبىّ، وساعد قوىّ؛ ويد ناصره، وعين ناظره؛ أتظن ظنّا يا علىّ أن أبا بكر وثب على هذا الأمر مفتاتا على الأمّة، خادعا لها، أو متسلّطا [عليها] ؟ أتراه حلّ عقودها [وأحال عقولها «2» ] ؟ أتراه جعل نهارها ليلا، ووزنها كيلا؛ ويقظتها رقادا، وصلاحها فسادا؟ لا والله، سلا عنها فولهت له، وتطامن لها فلصقت به، ومال عنها فمالت إليه، واشمأزّ دونها فاشتملت عليه، حبوة حباه الله بها، وعاقبة بلّغه الله إليها، ونعمة سربله جمالها، ويدا أوجب عليه شكرها وأمّة نظر الله به لها، والله تعالى أعلم بخلقه، وأرأف بعباده، يختار ما كان لهم الخيرة، وإنك بحيث لا يجهل موضعك من بيت النبوّة، ومعدن الرسالة، ولا يجحد حقّك فيما أتاك الله، ولكن لك من يزاحمك بمنكب أضخم من منكبك، وقرب أمسّ من قرابتك، وسنّ أعلى من سنّك، وشيبة أروع من شيبتك، وسيادة لها أصل فى الجاهليّة وفرع فى الإسلام، ومواقف ليس لك فيها جمل ولا ناقه، ولا تذكر فيها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 224 فى مقدّمة ولا ساقه؛ ولا تضرب فيها بذراع ولا إصبع، ولا تخرج منها ببازل ولا هبع «1» ؛ ولم يزل أبو بكر حبة قلب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعلاقة نفسه وعيبة سرّه، ومفزع رأيه، وراحة كفّه، ومرمق طرفه؛ وذلك كلّه بمحضر الصادر والوارد من المهاجرين والأنصار شهرة مغنية عن الدليل عليه، ولعمزى إنك أقرب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرابة، ولكنه أقرب منك قربة «2» ، والقرابة لحم ودم، والقربة نفس وروح، وهذا فرق عرفه المؤمنون، ولذلك صاروا إليه أجمعون؛ ومهما شككت فى ذلك فلا تشكّ أن يد الله مع الجماعة، ورضوانه لأهل الطاعه، فادخل فيما هو خير لك اليوم وأنفع غدا، والفظ من فيك ما يعلق بلهاتك، وانفث سخيمة صدرك عن تقاتك، فإن يك فى الأمل طول، وفى الأجل فسحة، فستأكله مريئا «3» أو غير مرىء، وستشر به هنيئا أو غير هنىء، حين لا رادّ لقولك إلا من كان منك، ولا تابع لك إلّا من كان طامعا فيك، يمصّ إهابك، ويعرك أديمك، ويزرى على هديك، هنالك تقرع السنّ من ندم، وتجرع الماء ممزوجا بدم، وحينئذ تأسى على ما مضى من عمرك، ودارج قوّتك، فتودّ أن لو سقيت بالكأس التى أبيتها، ورددت إلى حالتك التى استغويتها، ولله تعالى فينا وفيك أمر هو بالغه، وغيب هو شاهده، وعاقبة هو المرجوّ لسرّائها وضرّائها، وهو الولىّ الحميد، الغفور الودود. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 225 قال أبو عبيدة: فمشيت متزمّلا «1» أنوء كأنما أخطو على رأسى فرقا من الفرقة، وشفقا على الأمّة، حتى وصلت إلى علىّ رضى الله عنه فى خلاء، فأبثثته «2» بثّى كلّه، وبرئت إليه منه، ورفقت به؛ فلمّا سمعها ووعاها، وسرت فى مفاصله حميّاها؛ قال: حلّت معلوطة «3» ، وولت مخروّطة «4» ، وأنشأ يقول: إحدى لياليك فهيسى هيسى ... لا تنعمى الليلة بالتعريس نعم يا أبا عبيدة، أكلّ هذا فى أنفس القوم يحسّون به، ويضطبعون «5» عليه؟ قال أبو عبيدة: فقلت: لا جواب لك عندى، إنما أنا قاض حقّ الدّين، وراتق فتق المسلمين، وسادّ ثلمة الأمّة، يعلم الله ذلك من جلجلان «6» قلبى، وقرارة نفسى؛ فقال علىّ رضى الله عنه: والله ما كان قعودى فى كسر هذا البيت قصدا للخلاف، ولا إنكارا للمعروف، ولا زراية على مسلم، بل لما وقذنى «7» به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من فراقه، وأودعنى من الحزن لفقده، وذلك أننى لم أشهد بعده مشهدا إلا جدّد علىّ حزنا، وذكّرنى شجنا، وإن الشوق [إلى] اللّحاق به كاف عن الطمع فى غيره، وقد عكفت على عهد الله أنظر فيه، وأجمع ما تفرّق [منه] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 226 رجاء ثواب معدّ لمن أخلص لله عمله، وسلّم لعلمه ومشيئته، وأمره ونهيه؛ على أنى ما علمت أن التظاهر علىّ واقع، ولى عن الحقّ الذى سبق لى دافع، وإذ قد أفعم الوادى بى، وحشد النادى من أجلى، فلا مرحبا بما ساء أحدا من المسلمين وسرّنى، وفى النفس كلام لولا سابق عقد، وسالف عهد، لشفيت نفسى بخنصرى وبنصرى، وخضت لجته بأخمصى ومفرقى، ولكنى ملجم الى أن ألقى ربّى، وعنده أحتسب ما نزل «1» بى، وإنى غاد إلى جماعتكم، مبايع لصاحبكم، صابر على ما ساءنى وسرّكم، «ليقضى الله أمرا كان مفعولا» . قال أبو عبيدة: فعدت الى أبى بكر رضى الله عنه، فقصصت القول على غرّه «2» ، ولم أختزل شيئا من حلوه ومرّه، وبكّرت غدوة إلى المسجد، فلما كان صباح يومئذ إذا علىّ يخترق الجماعة إلى أبى بكر رضى الله عنهما، فبايعه، وقال خيرا، ووصف جميلا، وجلس زميّتا «3» ، واستأذن للقيام فمضى، وتبعه عمر مكرما له، مستثيرا لما عنده، فقال علىّ رضى الله عنه: ما قعدت عن صاحبكم كارها له، ولا أتيته فرقا، ولا أقول ما أقول تعلّة، وإنّى لأعرف منتهى طرفى، ومحطّ قدمى، ومنزع قوسى، وموقع سهمى، ولكن قد أزمت على فأسى «4» ثقة بربّى فى الدنيا والآخرة. فقال له عمر رضى الله عنهما: كفكف غربك، واستوقف سربك؛ ودع العصا بلحائها، والدّلاء على رشائها، فإنّا من خلفها وورائها؛ إن قدحنا أورينا، وإن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 227 متحنا أروينا، وإن قرحنا أدمينا، ولقد سمعت أماثيلك التى لغّزت» فيها عن صدر أكل بالجوى، ولو شئت لقلت [على «2» ] مقالتك ما إن سمعته ندمت على ما قلت؛ وزعمت أنك قعدت فى كسر بيتك لما وقذك به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من فقده، فهو وقذك ولم يقذ غيرك؟ بل مصابه أعمّ وأعظم من ذلك، وإنّ من حقّ مصابه ألا تصدع شمل الجماعة بفرقة لا عصام لها، ولا يؤمن كيد الشيطان فى بقائها، هذه العرب حولنا، والله لو تداعت علينا فى صبح نهار لم نلتق فى مسائه؛ وزعمت أن الشوق الى اللّحاق به كاف عن الطمع فى غيره، فمن علامة الشوق إليه نصرة دينه، ومؤازرة أوليائه ومعاونتهم؛ وزعمت أنك عكفت على عهد الله تجمع ما تفرّق منه، فمن العكوف على عهد الله النصيحة لعباد الله، والرأفة على خلق الله، وبذل ما يصلحون به، ويرشدون عليه؛ وزعمت أنك لم تعلم أن التظاهر وقع عليك، وأىّ حقّ لطّ دونك؟ قد سمعت وعلمت ما قالت الأنصار بالأمس سرّا وجهرا، وتقلّبت عليه بطنا وظهرا، فهل ذكرتك، أو أشارت بك، أو وجدت رضاهم عنك؟ هل قال أحد منهم بلسانه: إنك تصلح لهذا الأمر، أو أومأ بعينه، أو همهم «3» فى نفسه؟ أتظنّ أن الناس ضلّوا من أجلك، وعادوا كفّارا زهدا فيك وباعوا الله تعالى تحاملا عليك؟ لا والله، لقد جاءنى عقيل بن زياد الخزرجىّ [فى نفر من أصحابه ومعهم شرحبيل بن يعقوب الخزرجىّ «4» ] وقالوا: إن عليّا ينتظر الإمامة، ويزعم أنه أولى بها من غيره، وينكر على من يعقد الخلافة، فأنكرت عليهم، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 228 ورددت القول فى نحورهم حين قالوا: إنه ينتظر الوحى، ويتوكّف «1» مناجاة الملك، فقلت: ذلك أمر طواه الله تعالى بعد نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم، أكان الأمر معقودا بأنشوطة «2» ، أو مشدودا بأطراف ليطة «3» ؟ كلّا والله، لا عجماء بحمد الله إلا وقد أفصحت، ولا شوكاء إلّا وقد تفتّحت؛ ومن أعجب شأنك قولك: لولا سالف عهد، وسابق عقد، لشفيت غيظى، وهل ترك الدّين لأهله أن يشفوا غيظهم بيد أو لسان؟ تلك جاهليّة قد استأصل الله شأفتها، واقتلع جرثومتها؛ وهوّر «4» ليلها، وغوّر سيلها؛ وأبدل منها الرّوح والرّيحان، والهدى والبرهان؛ وزعمت أنك ملجم، ولعمرى إنّ من اتقى الله، وآثر رضاه، وطلب ما عنده، أمسك لسانه، وأطبق فاه، وجعل سعيه لما وراه. فقال علىّ رضى الله عنه: مهلا مهلا يا أبا حفص، والله ما بذلت ما بذلت وأنا أريد نكثه، ولا أقررت ما أقررت وأنا أبتغى حولا عنه؛ وإن أخسر الناس صفقة عند الله من آثر النفاق، واحتضن الشّقاق؛ وفى الله سلوة عن كل حادث، وعليه التوكّل فى كلّ الحوادث؛ ارجع يا أبا حفص إلى مجلسك ناقع القلب، مبرود الغليل، فسيح اللّبان «5» ، فصيح اللسان. فليس وراء ما سمعت وقلت إلا ما يشدّ الأزر، ويحط الوزر، ويضع الإصر، ويجمع الألفة بمشيئة الله وتوفيقه. قال أبو عبيدة رضى الله عنه: فانصرف علىّ وعمر رضى الله عنهما، وهذا أصعب ما مرّ علىّ بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 229 ومن كلام عائشة أمّ المؤمنين بنت أبى بكر الصّدّيق رضى الله عنهما، وهو مما اتصل إلينا بالرواية الصحيحة، والأسانيد الصريحة، عن محمد بن أحمد ابن [أبى «1» ] المثنّى، عن جعفر بن عون، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضى الله عنها: أنه بلغها أنّ أقواما يتناولون أبا بكر رضى الله عنه، فأرسلت الى أزفلة من الناس، فلمّا حضروا أسدلت أستارها، وعلت وسادها، ثم قالت: أبى وما أبيه! أبى والله لا تعطوه الأيدى، ذاك طود منيف، وظلّ مديد؛ هيهات، كذبت الظّنون، أنجح «2» إذ أكديتم، وسبق إذ ونيتم «سبق الجواد إذا استولى على الأمد» فتى قريش ناشئا، وكهفها كهلا، يفكّ عانيها، ويريش مملقها، ويرأب شعبها، ويلمّ شعثها، حتى حليته «3» قلوبها، ثم استشرى فى دين الله، فما برحت شكيمته فى ذات الله عزّ وجلّ حتى اتّخذ بفنائه مسجدا يحيى فيه ما أمات المبطلون، وكان رحمه الله غزير الدّمعة، وقيد الجوانح، شجىّ النّشيج، فانعطفت اليه نسوان مكّة وولدانها يسخرون منه، ويستهزئون به، اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ فأكبرت ذلك رجالات قريش، فحنت قسيّها، وفوّقت سهامها، وامتثلوه «4» غرضا فما فلّوا له صفاة، ولا قصفوا له قناة، ومرّ على سيسائه، حتى اذا ضرب الدّين بجرانه، وألقى بركه، ورست أوتاده، ودخل الناس فيه أفواجا، ومن كلّ فرقة أرسالا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 230 وأشتاتا، اختار الله لنبيّه ما عنده، فلمّا قبض الله نبيّه صلّى الله عليه وسلّم نصب «1» الشيطان رواقه، ومدّ طنبه، ونصب حبائله، وأجلب بخيله ورجله، واضطرب حبل الإسلام، ومرج عهده، وماج أهله، وبغى الغوائل، وظنّت رجال أن قد أكثب «2» نهزها، ولات حين الذى يرجون، وأنّى والصّدّيق بين أظهرهم؟ فقام حاسرا مشمّرا، فجمع حاشيتيه، ورفع قطريه، فردّ رسن الإسلام على غربه، ولم شعثه بطبّه، وأقام أوده بثقافه، فابذعرّ النفاق بوطئه، وانتاش الدّين فنعشه، فلمّا أراح الحقّ على أهله، وقرّر الرءوس على كواهلها، وحقن الدماء فى أهبها، أتته منيّته، فسدّ ثلمته بنظيره فى الرحمة، وشقيقه فى السّيرة والمعدلة، ذاك ابن الخطّاب، لله درّ أمّ حفلت «3» له، ودرّت عليه! لقد أوحدت به، ففنّخ الكفرة وديّخها، وشرّد الشّرك شذر مذر، وبعج الأرض وبخعها، فقاءت أكلها، ولفظت جنينها «4» ، ترأمه ويصدف عنها، وتصدّى له ويأباها، ثم وزّع فيها فيئها، وودّعها كما صحبها؛ فأرونى ما ترتابون؟ وأىّ يومى أبى تنقمون؟ أيوم إقامته إذ عدل فيكم، أم يوم ظعنه وقد نظر لكم؟ أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم. ثم أقبلت على الناس بوجهها فقالت: أنشدكم الله، هل أنكرتم مما قلت شيئا؟ قالوا: اللهمّ لا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 231 ذكر شرح غريب رسالتها رضى الله عنها الأزفلة: الجماعة. وتعطوه: تناوله. والطّود: الجبل. والمنيف: المشرف. وأكديتم: خبتم ويئس من خيركم. وونيتم: فترتم وضعفتم. والأمد: الغاية. ويريش: يعطى ويفضل. والمملق: الفقير. ويرأب: يجمع. والشّعب: المتفرّق. ويلمّ: يضمّ. واستشرى: جدّ وانكمش. والشّكيمة: الأنفة والحميّة. والوقيذ: العليل. والجوانح: الضلوع القصار التى تقرب من الفؤاد. والشجىّ: الحزين. والنّشيج: صوت البكاء. وانعطفت: انثنت. وامتثلوه: مثلوه «1» . والغرض: الذى يقصد للرّمى. وفلّوا: كسروا. والصّفاة: الصخرة الملساء. وقصفوا: كسروا. وسيساؤه: شدّته، والسّيساء: عظم الظهر، والعرب تضربه مثلا لشدّة الأمر، قال الشاعر «2» : لقد حملت قيس بن عيلان حربنا «3» ... على يابس السّيساء محدودب الظّهر والجران: الصّدر. ورست: ثبتت. ومرج: اختلط. وماج أهله: اضطربوا وتنازعوا. وبغى الغوائل، معناه وطلب البلايا. وأكثب: قرب. والنّهز: اختلاس الشىء والظفر به مبادرة. ولات حين الذى يطلبون «4» ، معناه: وليست الساعة «5» حين ظفرهم. وقولها: فجمع «6» حاشيتيه ورفع قطريه، معناه تحزم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 232 للأمر وتأهّب له. والقطر: الناحية. والطبّ: الدواء. والأود: العوج. والثّقاف: تقويم الرماح وغيرها. وابذعرّ: تفرّق. وانتاش الدّين، أى أزال عنه ما يخاف عليه. ونعشه: رفعه. وأراح الحقّ على أهله، أى أعاد الزكاة التى منعتها العرب فقاتل عليها حتى ردّت الى حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقرّر الرءوس على كواهلها، معناه وقى المسلمين القتل. والكاهل: أعلى الظهر وما يتصل به. وحقن الدماء فى أهبها، معناه أنه حقن دماء المسلمين فى أجسادهم. والأهب: جمع إهاب، وأصل الإهاب الجلد، فكنت به عن الجسد. وقولها: لله درّ أمّ حفلت له، أى جمعت له اللبن. وقولها: أوحدت به، معناه جاءت به منفردا لا نظير له. وقولها: ففنّخ الكفرة، معناه أذلّها. وديّخها: صغّر بها «1» . وبعج الأرض وبخعها، معناه شقّها واستقصى غلّتها «2» . وشذر مذر، معناه تفريقا، يقال: شذر مذر، وشغر بغر، بمعنى واحد. وقولها: حتى قاءت أكلها، معناه أخرجت خبزها. وترأمه: تعطف عليه. وتصدّى له: تعرّض له. ومن كلام على بن أبى طالب رضى الله عنه ما كتب به إلى معاوية بن أبى سفيان جوابا عن كتابه- وهو من محاسن الكتب- كتب رضى الله عنه: أما بعد، فقد أتانى كتابك تذكر فيه اصطفاء الله تعالى محمدا صلّى الله عليه وسلّم لدينه، وتأييده إيّاه بمن أيّده به من أصحابه، فلقد خبأ «3» لنا الدهر منك عجبا، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 233 أفطفقت تخبرنا بآلاء الله عندنا؟ فكنت فى ذلك كناقل التمر الى هجر، أو داعى مدره الى النّضال؛ وزعمت أنّ أفضل الناس فى الإسلام فلان وفلان، فذكرت أمرا إن تمّ اعتزلك كلّه، وإن نقص «1» لم يلحقك قلّه؛ وما أنت والفاضل والمفضول، والسائل والمسئول؟ وما الطّلقاء وأبناء الطّلقاء والتمييز «2» بين المهاجرين الأوّلين، وترتيب درجاتهم، وتعريف طبقاتهم؟ هيهات لقد «حنّ «3» قدح ليس منها» ، وطفق يحكم فيها من عليه الحكم لها، ألا تربع على ظلعك، وتعرف قصور ذرعك، وتتأخّر حيث أخّرك القدر، فما عليك غلبة المغلوب، ولا لك ظفر الظافر، وإنك لذهاب فى التّيه، روّاغ عن الفضل «4» ، ألا ترى- غير مخبر لك، ولكن بنعمة الله أحدّث- أن قوما استشهدوا فى سبيل الله من المهاجرين- ولكلّ فضل- حتى إذا استشهد شهيدنا (هو حمزة) قيل: سيّد الشهداء، وخصّه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بسبعين تكبيرة عند صلاته عليه؛ ألا ترى أن قوما قطّعت أيديهم فى سبيل الله- ولكلّ فضل- حتى إذا فعل بأحدنا ما فعل بواحدهم قيل: الطيّار فى الجنة، وذو الجناحين (هو جعفر) ولولا [ما «5» ] نهى الله عنه من تزكية المرء نفسه لذكر ذاكر فضائل جمّة تعرفها قلوب المؤمنين، ولا تمجّها آذان السامعين، فدع عنك من مالت به الدّنية «6» فإنا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 234 صنائع ربنا، والناس بعد صنائع لنا، لم يمنعنا قديم عزّنا، وعادىّ» طولنا على قومك أن خلطناهم بأنفسنا، فنكحنا وأنكحنا فعل الأكفاء ولستم هناك، وأنّى يكون ذلك كذلك؟ ومنّا النبىّ ومنكم المكذّب «2» ، ومنّا «3» أسد الله، ومنكم أسد «4» الأحلاف، ومنا سيدا «5» شباب أهل الجنة، ومنكم صبية «6» النار، ومنا خير نساء «7» العالمين، ومنكم حمّالة «8» الحطب؛ فإسلامنا قد سمع، وجاهليّتنا لا تدفع، كتاب الله يجمع لنا ما شذّ عنّا و [هو «9» ] قوله سبحانه: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ* وقوله تعالى: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ فنحن مرّة أولى بالقرابة، وتارة أولى بالطاعة؛ ولما احتجّ المهاجرون على الأنصار يوم السّقيفة برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلجوا عليهم، فإن يكن الفلج به فالحقّ لنا دونكم، وإن يكن بغيره فالأنصار على دعواهم؛ وزعمت أنّى لكلّ الخلفاء حسدت، وعلى كلّهم بغيت، فإن يكن ذلك كذلك فليست الجناية عليك، فتكون المعذرة إليك. «وتلك شكاة ظاهر «10» عنك عارها» الجزء: 7 ¦ الصفحة: 235 وقلت: إنى كنت أقاد كما يقاد الجمل المخشوش «1» حتى أبايع، ولعمر الله [لقد «2» ] أردت أن تذمّ فحمدت، وأن تفضح فافتضحت، وما على المسلم من غضاضة فى ان يكون مظلوما ما لم يكن شاكّا فى دينه، ولا مرتابا فى يقينه، وهذه حجّتى إلى غيرك قصدها، ولكنى أطلقت لك منها بقدر ما سنح من ذكرها؛ ثم ذكرت ما كان من أمرى وأمر عثمان، [فلك «3» ] أن تجاب عن هذه لرحمه «4» منك، فأيّنا كان أعدى له، وأهدى الى مقاتله؟ أمن بذل له نصرته فاستقعده واستكفّه، أمن استنصره فتراخى عنه، وبثّ المنون إليه، حتى [أتى «5» ] قدره عليه؟ كلّا والله قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا وما كنت أعتذر من أنّى كنت أنقم عليه أحداثا، فإن كان الذنب إليه إرشادى وهدايتى له «فربّ ملوم لا ذنب له» وقد يستفيد الظّنّة «6» المتنصّح وما أردت إلا الإصلاح ما استطعت «وما توفيقى إلّا بالله عليه توكّلت» ؛ وذكرت أنه ليس لى ولأصحابى إلا السيف، فلقد أضحكت بعد استعبار، متى ألفيت بنى عبد المطّلب عن الأعداء ناكلين، وبالسيوف مخوّفين؟ «لبث «7» قليلا يلحق الهيجا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 236 حمل» فسيطلبك من تطلب، ويقرب منك ما تستبعد، وأنا مرقل نحوك فى جحفل من المهاجرين والأنصار، والتابعين لهم بإحسان، شديد زحامهم، ساطع قتامهم، متسربلين سرابيل الموت، أحبّ اللقاء إليهم لقاء ربّهم، قد صحبتهم ذرّية بدرية، وسيوف هاشميّة، قد عرفت مواقع نصالها فى أخيك وخالك وجدك «1» وأهلك «وما هى من الظّالمين ببعيد» . ومن كلام الأحنف بن قيس حين وبّخه معاوية بن أبى سفيان بتخذيله عائشة رضى الله عنها، وأنه شهد صفّين، وقال له: فعلت وفعلت؛ فقال: يا أمير المؤمنين، لم تردّ الأمور على أعقابها؟ أما والله إنّ القلوب النى أبغضناك بها لبين جوانحنا، والسيوف التى قاتلناك بها لعلى عواتقنا، ولئن مددت بشبر من غدر، لنمدّنّ باعا من ختر «2» ، ولئن شئت لتسصفين كدر قلوبنا بصفو حلمك؛ قال معاوية: أفعل. وجلس معاوية يوما وعنده وجوه الناس، وفيهم الأحنف، فدخل رجل من أهل الشام، فقام خطيبا، فكان آخر كلامه أن لعن عليّا رضى الله عنه، فأطرق الناس، وتكلّم الأحنف فقال: يا أمير المؤمنين، إن هذا القائل آنفا ما قال لو علم أن رضاك فى لعن المرسلين للعنهم، فاتّق الله، ودع عليّا فقد لقى الله، وأفرد فى حفرته، وخلا بعمله، وكان والله- ما علمنا- المبرّز بسبقه، الطاهر فى خلقه؛ الميمون النّقيبه، العظيم المصيبة. قال معاوية: يا أحنف، لقد أغضيت العين على القذى، وقلت بغير ما ترى، وايم الله لتصعدنّ المنبر فلتلعننّه طائعا أو كارها؛ فقال الأحنف: إن تعفنى فهو خير، وإن تجبرنى على ذلك فو الله لا تجرى به شفتاى؛ فقال معاوية: قم فاصعد؛ قال: أما والله لأنصفنّك فى القول والفعل؛ قال معاوية: وما أنت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 237 قائل إن أنصفتنى؟ قال: أصعد فأحمد الله وأثنى عليه وأصلّى على نبيّه، ثم أقول: أيها الناس، إنّ معاوية أمرنى أن ألعن عليّا، ألا وإنّ عليّا ومعاوية اختلفا واقتتلا، وادّعى كلّ واحد منهما أنه مبغىّ عليه وعلى فئته، فإذا دعوت فأمّنوا رحمكم الله؛ ثم أقول: اللهم العن أنت وملائكتك وأنبياؤك ورسلك وجميع خلقك الباغى منهما على صاحبه، والفئة الباغية على المبغىّ عليها، آمين يا ربّ العالمين؛ فقال معاوية: إذن نعفيك يا أبا بحر. وأتى الأحنف مصعب بن الزبير يكلّمه فى قوم حبسهم فقال: أصلح الله الأمير، إن كانوا حبسوا فى باطل فالحقّ يخرجهم، وإن كانوا حبسوا فى حقّ فالعفو يسعهم؛ فحلّاهم. ولما قدم وفد العراق على معاوية وفيهم الأحنف، خرج الآذن فقال: إنّ أمير المؤمنين يعزم عليكم الّا يتكلّم أحد إلّا لنفسه، فلما وصلوا اليه قال الأحنف: لولا عزمة أمير المؤمنين لأخبرته «1» أن دافّة (أى الجماعة) دفّت «2» ، ونازلة نزلت، ونائبة نابت، وكلّهم بهم الحاجة إلى معروف أمير المؤمنين وبرّه؛ فقال: حسبك يا أبا بحر، فقد كفيت الغائب والشاهد. ولما خطب زياد بن أبيه بالبصرة قام الأحنف فقال: لله الأمير! قد قلت فأسمعت، ووعظت «3» فأبلغت؛ أيها الأمير، إنما السّيف بحدّه، والقوس بشدّه، والرجل بمجده؛ وإنما الثناء بعد البلاء، والحمد بعد العطاء؛ ولن نثنى حتى نبتلى، ولا نحمد حتّى نعطى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 238 ولما حكّم أبو موسى الأشعرىّ أتاه الأحنف فقال له: يا أبا موسى، إنّ هذا مسير له ما بعده من عزّ الدنيا أو ذلّها آخر الدهر، ادع القوم إلى طاعة علىّ، فإن أبوا فادعهم أن يختار أهل الشام من قريش العراق من أحبّوا، ويختار أهل العراق من قريش الشام من أحبّوا، وإياك إذا لقيت ابن العاص أن تصافحه بنيّة، وأن يقعدك على صدر المجلس، فإنها خديعة، وأن يضمّك وإيّاه بيت فيكمن لك فيه الرجال، ودعه فليتكلّم لتكون عليه بالخيار، فالبادئ مستغلق «1» ، والمجيب ناطق؛ فما عمل أبو موسى إلّا بخلاف ما قال الأحنف وأشار به، فكان من الأمر ما كان؛ فلقيه الأحنف بعد ذلك فقال له: أدخل والله قدميك فى خفّ واحدة. وقال بخراسان: يا بنى تميم، تحابّوا [تجتمع «2» كلمتكم] وتباذلوا «3» تعتدل أموركم، وابدءوا بجهاد بطونكم وفروجكم يصلح دينكم، ولا تغلّوا «4» يسلم لكم جهادكم. ولمّا قدمت الوفود على عمر بن الخطاب رضى الله عنه، قام هلال بن بشر «5» فقال: يا أمير المؤمنين: إنا غرّة من خلفنا من قومنا، وسادة من وراءنا من أهل مصرنا؛ وإنك إن تصرفنا بالزيادة فى أعطياتنا، والفرائض لعيالاتنا، يزدد بذلك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 239 الشريف تأميلا، وتكن «1» لهم أبا وصولا؛ وإن تكن مع ما نمت «2» [به «3» ] من وسائلك، وندلى [به «4» ] من أسبابك كالجدل «5» لا يحلّ ولا يرتحل، نرجع بأنوف مصلومة» ، وجدود عاثرة، فمحنا «7» وأهالينا بسجل مترع (أى الدّلو الملآنة) من سجالك المترعة. وقام زيد بن جبلة فقال: يا أمير المؤمنين، سوّد الشريف، وأكرم الحسيب، وازرع عندنا من أياديك ما تسدّ به الخصاصة، وتطرد به الفاقة؛ فإنا بقفّ «8» من الأرض يابس «9» الأكناف، مقشعرّ الذّروة، لا متّجر «10» ولا زرع، وإنا من العرب اليوم إذ أتيناك بمرأى ومسمع. فقام الأحنف فقال: يا أمير المؤمنين، إن مفاتيح الخير بيد الله، والحرص قائد الحرمان، فاتق الله فيما لا يغنى عنك يوم القيامة قيلا ولا قالا، واجعل بينك وبين رعيّتك من العدل والإنصاف شيئا يكفيك وفادة الوفود، واستماحة الممتاح، فإنّ كلّ امرئ إنما يجمع فى وعائه إلا الأقلّ ممن عسى أن تقتحمه الأعين فلا يوفد إليك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 240 ومن كلام أمّ الخير بنت الحريش البارقيّة،- وكانت من الفصحاء- حكى أنها لما وفدت على معاوية قال لها كيف كان كلامك يوم قتل عمّار بن ياسر؟ قالت: لم أكن والله زوّرته «1» قبل ولا رويته بعد، وإنما كانت كلمات نفثهن لسانى حين الصدمة، فإن شئت أن أحدث لك مقالا غير ذلك فعلت، قال: لا أشاء ذلك، ثم التفت إلى أصحابه فقال: أيّكم حفظ كلام أمّ الخير؟ فقال رجل من القوم: أنا أحفظه يا أمير المؤمنين كحفظى سورة الحمد، قال: هاته، قال: نعم، كأنّى بها يا أمير المؤمنين عليها برد زبيدىّ، كثيف الحاشية، وهى على جمل أرمك «2» ، وقد أحيط حولها وبيدها سوط منتشر الضّفر «3» ، وهى كالفحل يهدر فى شقشقته تقول: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ إن الله قد أوضح الحقّ، وأبان الدليل، ونوّر السبيل، ورفع العلم، فلم يدعكم فى عمياء مبهمة، ولا سوداء مدلهمّة؛ فأنّى «4» تريدون رحمكم الله؟ أفرارا عن أمير المؤمنين، أم فرارا من الزّحف، أم رغبة عن الإسلام، أم ارتدادا عن الحق؟ أما سمعتم الله عزّ وجلّ يقول: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ ثم رفعت رأسها إلى السماء وهى تقول: اللهمّ قد عيل الصبر، وضعف اليقين، وانتشرت الرغبة، وبيدك يا رب أزمّة القلوب، فاجمع الكلمة على التقوى، وألّف القلوب على الهدى، وردّ الحقّ إلى أهله؛ هلمّوا رحمكم الله إلى الإمام العادل، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 241 والوصىّ الوفىّ، والصّدّيق الأكبر؛ إنها إحن بدريّة، وأحقاد جاهلية، وضغائن أحديّه، وثب بها معاوية حين الغفلة ليدرك بها ثارات بنى عبد شمس؛ ثم قالت: قاتلوا أئمّة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون؛ صبرا معشر المهاجرين والأنصار، قاتلوا على بصيرة من ربّكم، وثبات من دينكم، وكأنّى بكم غدا قد لقيتم أهل الشام كحمر مستنفرة، فرّت من قسورة، لا تدرى أين يسلك بها من فجاج الأرض، باعوا الآخرة بالدنيا، واشتروا الضّلالة بالهدى، وباعوا البصيرة بالعمى، و «عمّا قليل ليصبحنّ نادمين» ، حين تحلّ بهم الندامة، فيطلبون الإقالة، إنه والله من ضلّ عن الحقّ وقع فى الباطل، ومن لم يسكن الجنّة نزل النار؛ أيها الناس، إنّ الأكياس استقصروا عمر الدنيا فرفضوها، واستبطئوا «1» مدّة الآخرة فسعوا لها؛ والله أيها الناس، لولا أن تبطل الحقوق، وتعطّل الحدود، ويظهر الظالمون، وتقوى كلمة الشيطان، لما «2» اخترنا ورود المنايا على خفض العيش وطيبه، فإلى أين تريدون- رحمكم الله-؟ عن ابن عمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وزوج ابنته، وأبى ابنيه، خلق من طينته، وتفرّع عن نبعته، وخصّه بسرّه، وجعله باب مدينته، وأعلم بحبّه المسلمين، وأبان ببغضه المنافقين؛ فلم يزل كذلك يؤيّده الله بمعونته، ويمضى على سنن استقامته، لا يعرّج لراحة اللذّات؛ وهو مفلّق الهام، ومكسّر الأصنام؛ إذ صلّى والناس مشركون، وأطاع والناس مرتابون؛ فلم يزل كذلك حتى قتل مبارزى بدر، وأفنى أهل أحد، وفرّق جمع هوازن، فيا لها وقائع زرعت فى قلوب قوم نفاقا، وردّة وشقاقا! وقد اجتهدت فى القول، وبالغت فى النصيحة، وبالله التوفيق؛ وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 242 فقال معاوية: والله يا أمّ الخير ما أردت بهذا إلا قتلى، والله لو «1» قتلتك ما حرجت فى ذلك؛ قالت: والله ما يسوءنى يا ابن هند أن يجرى الله ذلك على يدى من يسعدنى الله بشقائه؛ قال: هيهات يا كثيرة الفضول، ما تقولين فى عثمان بن عفّان؟ قالت: وما عسيت أن أقول فيه؟ استخلفه الناس «2» وهم كارهون، وقتلوه وهم راضون؛ فقال: إيها «3» يا أمّ الخير، هذا والله أصلك الذى تبنين عليه؛ قالت: لكن الله يشهد «وكفى بالله شهيدا» ما أردت بعثمان نقصا، ولقد كان سبّاقا الى الخيرات، وإنه لرفيع الدّرجات؛ قال: فما تقولين فى طلحة بن عبيد الله؟ قالت: وما عسى أن أقول فى طلحة؟ اغتيل من مأمنه، وأتى من حيث لم يحذر، وقد وعده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الجنّة؛ قال: فما تقولين فى الزّبير؟ قالت: يا هذا لا تدعنى كرجيع الضّبع يعرك فلى المركن «4» ؛ قال: حقا لتقولنّ ذلك، وقد عزمت عليك؛ قالت: وما عسيت أن أقول فى الزّبير ابن عمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحواريّه، وقد شهد له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالجنّة، ولقد كان سبّاقا الى كلّ مكرمة فى الإسلام؛ وإنى أسألك بحق الله يا معاوية- فإن قريشا تحدّث أنك من أحلمها- أن تسعنى بفضل حلمك، وأن تعفينى من هذه المسائل، وامض الى ما شئت من غيرها؛ قال: نعم وكرامة، قد أعفيتك، وردّها مكرّمة الى بلدها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 243 وممن اشتهر بالفصاحة والبلاغة زياد بن أبيه، والحجّاج بن يوسف الثّقفى، وسنذكر نبذة من كلامهما فى التاريخ عند ذكرنا لأخبارهما لمّا ولى كلّ منهما العراق، وما خطب الناس به، ولنذكر فى هذا الموضع من كلام الحجّاج ما لم نورده هناك قيل: لما قدم الحجّاج البصرة خطب فقال: أيها الناس، من أعياه داؤه، فعندى دواؤه؛ ومن استطال أجله، فعلىّ أن أعجّله، ومن ثقل عليه رأسه وضعت عنه ثقله؛ ومن استطال ماضى عمره قصّرت عليه باقيه؛ إن للشّيطان طيفا. وللسّلطان سيفا؛ فمن سقمت سريرته، صحّت عقوبته؛ ومن وضعه ذنبه. رفعه صلبه، ومن لم تسعه العافية، لم تضق عنه الهلكة؛ ومن سبقته بادرة فمه، سبق بدنه بسفك دمه؛ إنى أنذر ثم [لا] أنظر، وأحذّر ثم لا أعذر، وأتوعّد ثم لا أعفو، إنما أفسدكم ترنيق «1» ولاتكم، ومن استرخى لببه «2» ساء أدبه، إنّ الحزم والعزم سلبانى سوطى، وأبدلانى [به] سيفى، فقائمه فى يدى، ونجاده فى عنقى، وذبابه قلادة لمن عصانى، والله لا آمر أحدكم أن يخرج من باب من أبواب المسجد فيحرج من الباب الذى يليه إلا ضربت عنقه. قال مالك بن دينار: ربّما سمعت الحجّاج يذكر ما صنع فيه أهل العراق وما صنع بهم، فيقع فى نفسى أنهم يظلمونه لبيانه وحسن تخليصه للحجج. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 244 وخطب الحجّاج بعد وقعة دير الجماجم «1» فقال: يا أهل العراق، إنّ الشيطان قد استبطنكم فخالط اللحم والدّم والعصب والمسامع والأطراف والأعضاء «2» والشّغاف «3» ، ثم أفضى الى المخاخ والأصماخ «4» ، ثم ارتفع فعشّش، ثم باض ففرّخ، فحشاكم نفاقا وشقاقا، وأشعركم خلافا، واتخذتموه دليلا تتّبعونه، وقائدا تطيعونه، ومؤامرا «5» تستشيرونه؛ فكيف تنفعكم تجربة، أو تعظكم وقعة؛ أو يحجزكم إسلام، أو ينفعكم بيان؟ ألستم أصحابى بالأهواز؟ حيث رمتم المكر «6» ، وسعيتم بالغدر، واستجمعتم للكفر «7» ، وظننتم أنّ الله خذل «8» دينه وخلافته، وأنا أرميكم بطرفى، تتسلّلون لو اذا، وتنهزمون سراعا، ثم يوم الزاوية [وما يوم «9» الزاوية] ! بها كان «10» فشلكم وتنازعكم وتخاذلكم وبراءة الله منكم، ونكوص وليّكم «11» عنكم إذ ولّيتم كالإبل الشوارد إلى أوطانها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 245 [النوازع «1» إلى أعطانها] ؛ لا يسأل المرء عن أخيه، ولا يلوى الشيخ على بنيه؛ حتى عظّكم «2» السلاح، وقصمتكم الرماح، ثم دير الجماجم، وما دير الجماجم! بها كانت المعارك والملاحم؛ بضرب يزيل الهام عن مقيله، ويصرف الخليل عن خليله؛ يا أهل العراق، والكفرات بعد الفجرات، والغدرات بعد الخترات، والثّورة بعد الثّورات؛ إن بعثتكم إلى ثغوركم غللتم «3» وجبنتم، وإن أمنتم أرجفتم، وإن خفتم نافقتم؛ لا تذكرون حسنة، ولا تشكرون نعمة؛ [يا أهل العراق «4» ] هل استخفّكم ناكث، أو استغواكم غاو، أو استفزّكم عاص، أو استنصركم ظالم، أو استعضدكم خالع، إلا اتّبعتموه وآويتموه ونصرتموه وزكّيتموه؟ يا أهل العراق، قلّما شغب شاغب، أو نعب ناعب، أو زفر كاذب «5» إلا كنتم أتباعه وأنصاره؛ يا أهل العراق، ألم تنهكم المواعظ، ولم تزجركم الوقائع. ثم التفت الى أهل الشام فقال: يا أهل الشام، أنا لكم كالظّليم «6» الرامح عن فراخه «7» ، ينفى عنها المدر، ويباعد عنها الفجر، ويكنّها من المطر؛ ويحميها من الضّباب، ويحرسها من الذئاب؛ يا أهل الشام، أنتم الجنّة والرّداء، وأنتم العدّة والحذاء. ومن مكاتباته الى المهلّب بن أبى صفرة وأجوبة المهلّب له كتب الحجاج إليه وهو فى وجه الخوارج: أما بعد، فإنه بلغنى أنك قد أقبلت على جباية الخراج، وتركت قتال العدوّ، وإنى ولّيتك وأنا أرى مكان عبد الله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 246 ابن حكيم المجاشعىّ، وعبّاد بن حصين الحبطىّ، واخترتك وأنت رجل من الأزد، وأنا أقسم إن لم تلقهم فى يوم كذا أشرعت «1» إليك صدر الرمح. فأجابه المهلّب: ورد علىّ كتابك تزعم أنى أقبلت على جباية الخراج، وتركت قتال العدوّ لعجز؛ وزعمت أنك ولّيتنى وأنت ترى مكان عبد الله بن حكيم وعبّاد بن حصين، ولو ولّيتهما لكانا مستحقّين لذلك فى فضلهما وغنائهما؛ وأنك اخترتنى وأنا رجل من الأزد، ولعمرى إنّ شرّا من الأزد لقبيلة تنازعها ثلاث قبائل لم تستقرّ فى واحدة منهنّ؛ وزعمت أنّى إن لم ألقهم فى يوم كذا أشرعت إلىّ صدر الرمح، فلو فعلت لقلبت إليك ظهر المجنّ «2» . ووجّه إليه الحجّاج يستبطه فى مناجزة القوم، وكتب إليه: أما بعد، فإنك جبيت الخراج بالعلل، وتحصّنت بالخنادق، وطاولت القوم وأنت أعزّ ناصرا وأكثر عددا، وما أظنّ بك مع هذا معصية ولا جبنا، ولكنك اتخذتهم أكلا، ولإبقاؤهم أيسر عليك من قتالهم، فناجزهم وإلّا أنكرتنى، والسلام. فقال المهلّب للجرّاح: يا أبا عقبة، والله ما تركت حيلة إلّا احتلتها، ولا مكيدة إلّا عملتها، وليس «3» العجب من إبطاء النصر، وتراخى الظّفر، ولكن العجب أن يكون الرأى لمن يملكه دون من يبصره «4» ؛ ثم ناهضهم ثلاثة أيّام يغاديهم، ولا يزالون كذلك الى العصر حتى قال الجرّاح: قد اعتذرت؛ وكتب الى الحجّاج: أتانى كتابك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 247 يستبطئ لقاء القوم، على أنك لا تظنّ بى معصية ولا جبنا، وقد عاتبتنى معاتبة الجبان، وأوعدتنى وعيد العاصى، فسل الجرّاح والسلام. فكتب إليه الحجّاج: أما بعد، فإنك تتراخى عن الحرب حتى تأتيك رسلى ويرجعون بعذرك، وذاك أنك تمسك حتى تبرأ الجراح وتنسى القتلى «1» ، ويجمّ الناس، ثم تلقاهم فتحمل منهم مثل ما يحملون منك من وحشة القتل وألم الجراح، ولو كنت تلقاهم بذلك الجدّ لكان الداء قد حسم، والقرن قد قصم، ولعمرى ما أنت والقوم سواء، لأنّ من ورائك رجالا، وأمامك أموالا، وليس للقوم إلّا ما معهم، ولا يدرك الوجيف بالدّبيب، ولا الظّفر بالتعذير «2» . فكتب إليه المهلّب: أمّا بعد، فإنى لم أعط رسلك على قول الحق أجرا، ولم أحتج منهم مع المشاهدة الى تلقين؛ وذكرت أنّى أجمّ القوم، ولا بدّ من راحة يستريح فيها الغالب ويحتال المغلوب؛ وذكرت أن فى الإجمام «3» ما ينسى القتلى، ويبرئ الجراح، وهيهات أن ينسى ما بيننا وبينهم، يأبى ذلك قتل من لم يجن، وقروح لم تتقرّف «4» ؛ ونحن والقوم على حالة، وهم يرقبون حالات، إن طمعوا حاربوا، وإن ملّوا وقفوا، ونطلب اذا هربوا، فإن تركتنى فالداء «5» بإذن الله محسوم، وإن أعجلتنى لم أطعك ولم أعص، وجعلت وجهى الى بابك، وأنا أعوذ بالله من سخط الله ومقت الناس. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 248 وقال المهلّب لبنيه: يا بنىّ تباذلوا «1» تحابّوا، فإن بنى الأمّ يختلفون، فكيف بنى العلّات «2» ؛ إنّ البرّ ينسأ فى الأجل، ويزيد فى العدد، وإنّ القطيعة تورث القلّة، وتعقب النار بعد الذّلّة؛ واتقوا زلّة اللسان، فإنّ الرجل تزلّ رجله فينتعش، ويزلّ لسانه فيهلك؛ وعليكم فى الحرب بالمكيدة، فإنّها أبلغ من النّجدة. ولمّا استخلف ابنه المغيرة على حرب الخوارج، وعاد هو الى عند «3» مصعب ابن الزّبير، جمع الناس فقال لهم: إنى قد استخلفت عليكم المغيرة، وهو أبو صغيركم رقّة ورحمة، وابن كبيركم طاعة وتبجيلا وبرّا، وأخو مثله مواساة ومناصحة، فلتحسن له طاعتكم، وليلن له جانبكم، فو الله ما أردت صوابا قطّ إلا سبقنى إليه. وخطب عبد الملك بن مروان، فلما بلغ الغلظة قام إليه رجل من آل صوحان فقال: مهلا مهلا يا بنى مروان، تأمرون ولا تأتمرون، وتنهون ولا تنهون، وتعظون ولا تتعظون؛ أفنقتدى بسيرتكم فى أنفسكم، أم نطيع أمركم بألسنتكم؟ فإن قلتم: اقتدوا بسيرتنا، فأنّى وكيف، وما الحجّة، وما المصير من الله؟ أنقتدى بسيرة الظّلمة الفسقة الجورة الخونة، الذين اتخذوا مال الله دولا، وعبيده خولا؟ وإن قلتم: اسمعوا نصيحتنا، وأطيعوا أمرنا، فكيف ينصح لغيره من يغشّ نفسه؟ أم كيف تجب الطاعة لمن لم تثبت عند الله عدالته؟ وإن قلتم: خذوا الحكمة من حيث وجدتموها، واقبلوا العظة ممّن سمعتموها، فعلام وليّناكم أمرنا، وحكّمناكم فى دمائنا وأموالنا؟ أما علمتم أنّ فينا من هو أنطق منكم باللغات، وأفصح بالعظات؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 249 فتخلّوا عنها، وأطلقوا عقالها، وخلّوا سبيلها، ينتدب إليها آل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذين شرّدتموهم فى البلاد، ومزّقتموهم فى كل واد، بل تثبت فى أيديكم لانقضاء المدّة، وبلوغ المهلة، وعظم المحنة؛ إنّ لكلّ قائم قدرا «1» لا يعدوه، ويوما لا يخطوه، وكتابا بعده يتلوه، «لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها» «وسيعلم الّذين ظلموا أىّ منقلب ينقلبون» . ثم التمس الرجل فلم يوجد. ومن كلام قطرىّ بن الفجاءة- وكان من البلغاء الأبطال، فمن ذلك خطبته المشهورة التى قال فيها: أما بعد، فإنى أحذّركم الدنيا فإنها حلوة خضرة، حفّت بالشهوات، وراقت بالقليل، وتحببت بالعاجلة، وحليت بالآمال، وتزيّنت بالغرور؛ لا تقوم «2» نضرتها، ولا تؤمن فجيعتها؛ غرّارة ضرّارة، وحائلة زائلة، ونافدة بائدة «3» ، أكّالة غوّالة؛ لا تعدو اذا تناهت الى أمنيّة أهل الرغبة فيها والرضا عنها أن تكون كما قال الله تعالى: كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً مع أن امرا لم يكن معها «4» فى حبرة (أى السرور) ، إلا أعقبته بعدها حسرة، ولم يلق من سرّائها بطنا إلا منحته من ضرّائها ظهرا، ولم تصله «5» غيثة رخاء، إلّا هطلت عليه مزنة بلاء؛ وحريّة اذا أصبحت له منتصرة، أن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 250 تمسى [له «1» ] خاذلة متنكّره؛ وإن جانب منها اعذوذب واحلولى، أمرّ عليه منها جانب وأوبا «2» ، فإن أتت امرأ من غصونها «3» ورقا أرهقته من نوائبها تعبا، ولم يمس منها امرؤ فى جناح أمن إلا أصبح منها «4» فى قوادم خوف، غرّارة غرور ما فيها، فانية فان من عليها؛ لا خير من شىء من زادها إلا التقوى، من أقلّ منها استكثر مما يؤمّنه ومن استكثر منها استكثر مما يوبقه ويطيل حزنه، ويبكى عينه؛ كم واثق بها قد فجعته، وذى حلم تنبّه إليها قد صرعته، وذى احتيال فيها قد خدعته؛ وكم ذى أبّهة فيها قد صيّرته حقيرا، وذى نحوة قد ردّته ذليلا، ومن «5» ذى تاج قد كبّته لليدين والفم؛ سلطانها دول، وعيشها رنق (أى الماء الكدر) وعذبها أجاج، وحلوها صبر، وغذاؤها سمام، وأسبابها «6» رمام، وقطافها «7» سلع؛ حيّها بعرض موت، وصحيحها «8» بعرض سقم، ومنيعها بعرض اهتضام؛ وملكها مسلوب، وعزيزها مغلوب، وسليمها منكوب وجارها محروب؛ مع أنّ وراء ذلك سكرات الموت، وهول المطّلع، والوقوف بين يدى الحكم العدل «ليجزى الّذين أساؤا بما عملوا ويجزى الّذين أحسنوا بالحسنى» الجزء: 7 ¦ الصفحة: 251 ألستم فى مساكن من كان قبلكم أطول منكم أعمارا، وأوضح منكم آثارا؛ وأعد عديدا، وأكثف جنودا، وأشدّ عقودا، تعبّدوا «1» للدنيا أىّ تعبّد، وآثروها أىّ إيثار، وظعنوا «2» بالكره والصّغار، فهل بلغكم أنّ الدنيا سمحت لهم نفسا بفدية، أو أغنت عنهم فيما قد أهلكتهم بخطب «3» ؟ بل قد أرهقتهم بالفوادح، وضعضعتهم بالنوائب، وعقرتهم بالفجائع؛ وقد رأيتم تنكّرها لمن رادها وآثرها وأخلد إليها، حين ظعنوا عنها لفراق الأبد، الى آخر المسند «4» ؛ هل زوّدتهم إلا السّغب، وأحلّتهم إلا الضّنك، أو نوّرت لهم إلا الظّلمة، أو أعقبتهم إلّا الندامة؟ أفهذه تؤثرون، أم على هذه تحرصون، أم إليها تطمئنون؟ يقول الله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ فبئست الدار لمن أقام فيها، فاعلموا إذ أنتم تعلمون أنكم تاركوها لا بدّ، فإنما هى كما وصفها الله باللعب واللهو، وقد قال الله [تعالى] : أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ. وذكر الذين قالوا: من أشد منا قوّة ثم قال: لموا الى قبورهم فلا يدعون ركبانا، وأنزلوا فلا يرعون «5» ضيفانا، وجعل الله لهم من الضريح أكنانا «6» ، ومن الوحشة ألوانا، ومن الرّفات جيرانا «7» ؛ وهم فى جيرة لا يجيبون داعيا، ولا يمنعون ضيما، إن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 252 أخصبوا «1» لم يفرحوا، وإن قحطوا لم يقنطوا؛ [جمع «2» ] وهم آحاد، جيرة وهم أبعاد؛ متناءون «3» ، لا يزورون ولا يزارون؛ حلماء قد ذهبت أضغانهم، وجهلاء قد ماتت أحقادهم؛ لا يرجى نفعهم، ولا يخشى دفعهم؛ وكما قال الله تعالى: فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ فاستبدلوا بظهر الأرض بطنا، وبالسّعة ضيقا، وبالأهل غربة، وبالنّور ظلمة، ففارقوها كما دخلوها، حفاة عراة فرادى، غير أن ظعنوا بأعمالهم الى الحياة الدائمة، وإلى خلود الأبد، يقول الله تعالى: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ فاحذروا ما حدّركم الله، وانتفعوا بمواعظه، واعتصموا بحبله، عصمنا الله وإيّاكم بطاعته، ورزقنا وإيّاكم أداء حقّه. ومن كلام أبى مسلم الخراسانى صاحب الدولة «4» ، قيل له: ما كان سبب خروج الدولة عن بنى أميّة؟ فقال: لأنهم أبعدوا أولياءهم ثقة بهم، وأدنوا أعداءهم تألّفا لهم، فلم يصر العدوّ بالدّنوّ صديقا، وصار الصديق بالبعاد عدوّا. وقيل له فى حداثته: إنا نراك تأرق كثيرا ولا تنام، كأنك موكّل برعى الكواكب، أو متوقع الوحى فى «5» السماء، فقال: والله ما هو ذاك، ولكن لى رأى جوّال، وغريزة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 253 تامّة، وذهن صاف، وهمّة بعيدة، ونفس تتوق الى معالى الأمور، مع عيش كعيش الهمج والرّعاع، وحال متناهية من الاتّضاع، وإنى لأرى بعض هذا مصيبة لا تجبر بسهر، ولا تتلافى بأرق؛ قيل له: فما الذى يبرد غليلك، ويشفى إجاج «1» صدرك؟ قال: الظّفر بالملك؛ قيل له: فاطلب؛ قال: إن الملك لا يدرك إلا بركوب الأهوال؛ قيل: فاركب الأهوال؛ قال: هيهات، العقل مانع من ركوب الأهوال؛ قيل: فما تصنع وأنت تبلى حسرة، وتذوب كمدا؟ قال: سأجعل من عقلى بعضه جهلا، وأحاول به خطرا، لأنال بالجهل ما لا ينال إلّا به، وأدبّر بالعقل ما لا يحفظ إلا بقوّته، وأعيش عيشا يبين مكان حياتى فيه من مكان موتى عليه، فإن الخمول أخو العدم، والشهرة أبو الكون. وكتب إليه عبد الحميد بن يحيى كتابا عن مروان بن محمد، وقال لمروان: قد كتبت كتابا إن نجع فذاك، وإلّا فالهلاك، وكان لكبر حجمه يحمل على جمل، نفث فيه حواشى صدره، وضمّنه غرائب عجره وبجره «2» ، فلمّا ورد على أبى مسلم دعا بنار فطرحه فيها إلّا قدر ذراع فإنه كتب عليه: محا السيف أسطار البلاغة وانتحى ... ليوث الوغى يقدمن من كلّ جانب فإن يقدموا نعمل سيوفا شحيذة ... يهون عليها العتب من كلّ عاتب وردّه، فأيس الناس من معالجته. وقيل: إنه شجر بينه وبين صاحب مرو كلام أربى فيه صاحب مرو عليه، فاحتمله أبو مسلم وقال: مه، لسان سبق، ووهم أخطأ، والغضب شيطان، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 254 وأنا جرّأتك علىّ باحتمالك، فإن كنت للذنب متعمّدا فقد شاركتك فيه، وإن كنت مغلوبا فالعفو يسعك؛ فقال له صاحب مرو: عظم ذنبى يمنع قلبى من الهدوء؛ فقال ابو مسلم: يا عجبا، أقابلك بإحسان وأنت تسىء، ثم أقابلك بإساءة وأنت تحسن! فقال صاحب مرو: الآن وثقت بعفوك. ومن كلام جماعة من أمراء الدولتين خطب يوسف بن عمر فقال: اتقوا الله عباد الله، فكم من مؤمّل أملا لا يبلغه، وجامع مالا لا يأكله، ومانع ما سوف يتركه؛ ولعلّه من باطل جمعه، ومن حقّ منعه؛ أصابه حراما، وورّثه عدوّا؛ واحتمل إصره، وباء بوزره، وورد على ربّه آسفا لاهفا «خسر الدّنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين» . وقام خالد بن عبد الله القسرىّ «1» على المنبر خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، وصلّى على النبى صلّى الله عليه وسلّم، ثم قال: أيها الناس، نافسوا فى المكارم، وسارعوا الى المغانم، واشتروا الحمد بالجود، ولا تكسبوا بالمطل ذمّا، ولا تعتدّوا «2» بالمعروف ما لم تعجّلوه، ومهما يكن لأحدكم عند أحد نعمة فلم يبلغ شكرها فالله أحسن لها جزاء، وأجزل عليها عطاء؛ واعلموا أنّ حوائج الناس إليكم نعمة من الله عليكم؛ فلا تملّوا النعم فتحوّل نقما؛ واعلموا أنّ أفضل المال ما أكسب أجرا، وأورث ذكرا؛ ولو رأيتم المعروف رجلا رأيتموه حسنا جميلا يسرّ الناظرين، ولو رأيتم البخل رجلا رأيتموه مشوّها قبيحا، تنفر عنه القلوب، وتغضّ عنه الأبصار؛ أيها الناس، إنّ أجود الناس من أعطى من لا يرجوه، وأعظم الناس عفوا من عفا عن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 255 قدرة، وأوصل الناس من وصل من قطعه، ومن لم يطب حرثه لم يزك نبته؛ والأصول عن مغارسها تنمو، وبأصولها تسمو؛ أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم. قيل لما ولى أبو بكر بن عبد الله «1» المدينة وطال مكثه عليها كان يبلغه عن قوم من أهلها أنهم ينالون من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإسعاف من آخرين لهم على ذلك، فأمر أهل البيوتات ووجوه الناس فى يوم جمعة أن يقربوا من المنبر، فلما فرغ من خطبة الجمعة قال: أيها الناس، إنى قائل قولا، فمن وعاه وأدّاه فعلى الله جزاؤه، ومن لم يعه فلا يعدو «2» من ذمامها، إن قصرتم عن تفصيله «3» ، فلن تعجزوا عن تحصيله، فأرعوه أبصاركم، وأوعوه أسماعكم، وأشعروه قلوبكم؛ فالموعظة حياة، والمؤمنون إخوة «وعلى الله قصد السّبيل» «ولو شاء لهداكم أجمعين» فأتوا الهدى تهتدوا، واجتنبوا الغى ترشدوا، «وتوبوا إلى الله جميعا أيّه المؤمنون لعلّكم تفلحون» والله جلّ ثناؤه، وتقدّست أسماؤه، أمركم بالجماعة ورضيها لكم، ونهاكم عن الفرقة وسخطها منكم، ف «اتّقوا الله حقّ تقاته ولا تموتنّ إلّا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرّقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النّار فأنقذكم منها» جعلنا الله وإيّاكم ممّن تبع رضوانه، وتجنب سخطه، فإنما نحن به وله؛ وإنّ الله بعث محمدا صلّى الله عليه وسلّم بالدّين، واختاره على العالمين، واختار له أصحابا على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 256 الحقّ، ووزراء دون الخلق، اختصّهم به، وانتخبهم له، فصدّقوه ونصروه، وعزّروه ووقّروه، فلم يقدموا إلّا بأمره، ولم يحجموا إلّا عن رأيه، وكانوا أعوانه بعهده، وخلفاءه من بعده، فوصفهم فأحسن صفتهم، وذكرهم فأثنى عليهم، فقال- وقوله الحقّ-: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ الى قوله: مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً* فمن غاظوه «1» كفر وخاب، وفجر وخسر، وقال الله عزّ وجلّ: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً الى قوله: رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ فمن خالف شريطة الله عليه لهم، وأمره إيّاه فيهم، فلا حقّ له فى الفىء، ولا سهم له فى الإسلام فى آى كثيرة من القرآن؛ فمرقت مارقة من الدّين، وفارقوا المسلمين، وجعلوهم عضين «2» ؛ وتشعّبوا أحزابا، أشابات وأوشابا «3» ؛ فخالفوا كتاب الله فيهم، وثناءه عليهم، وآذوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيهم، فخابوا وخسروا الدنيا والآخرة ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ* أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ ؛ ما لى أرى عيونا خزرا «4» ، ورقابا صعرا، وبطونا بجرا «5» ؟ شجى لا يسيغه الماء، وداء لا يشرب فيه الدواء؛ أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ كلّا والله، بل هو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 257 الهناء «1» والطّلاء حتى يظهر العذر «2» ، ويبوح السرّ، ويضح الغيب، ويسوّس «3» الجنب؛ فإنكم لم تخلقوا عبثا، ولم تتركوا سدى؛ ويحكم، إنى لست أتاويّا «4» أعلم، ولا بدويّا أفهّم؛ قد حلبتكم أشطرا، وقلبتكم أبطنا وأظهرا؛ فعرفت أنحاءكم وأهواءكم، وعلمت أنّ قوما أظهروا الإسلام بألسنتهم، وأسرّوا الكفر فى قلوبهم، فضربوا بعض أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [ببعض «5» ] ، وولّدوا الروايات فيهم، وضربوا الأمثال، ووجدوا على ذلك من أهل الجهل من أبنائهم أعوانا يأذنون لهم، ويصغون إليهم؛ مهلا مهلا قبل وقوع القوارع، وطول الروائع، هذا لهذا ومع هذا «6» ، فلست أعتنش «7» آئبا ولا تائبا، عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ فأسروا خيرا وأظهروه، واجهروا به وأخلصوا، فطالما مشيتم القهقرى ناكصين، وليعلم من أدبر وأصرّ أنها موعظة بين يدى نقمة؛ ولست أدعوكم الى أهواء تتبع، ولا الى رأى يبتدع؛ إنما أدعوكم إلى الطريقة المثلى، التى فيها خير الآخرة والأولى؛ فمن أجاب فإلى رشده، ومن عمى فعن قصده؛ فهلمّ إلى الشرائع الجدائع «8» ، ولا تولّوا عن سبيل المؤمنين، ولا تستبدلوا الذى هو أدنى بالذى هو خير، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 258 «بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا» إيّاكم وبنيّات «1» الطريق، فعندها الترنيق والرّهق «2» ، وعليكم بالجادّة، فهى أسدّ وأورد، ودعوا الأمانىّ فقد أردت من كان قبلكم، وليس للإنسان إلا ما سعى، ولله الآخرة والأولى، و «لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى» رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ. هذا ما اتفق إيراده من رسائل وخطب بلغاء الصحابة- رضى الله عنهم- وكلام التابعين وغيرهم مما يحتاج الكاتب الى حفظه. وأما رسائل المتقدّمين والمعاصرين التى يحتاج الى النظر اليها دون حفظها- فهى كثيرة جدا، سنورد من جيّدها ما تقف عليه إن شاء الله. ذكر شىء من رسائل وفصول الكتاب والبلغاء المتقدّمين والمتأخّرين والمعاصرين من المشارقة والمغاربة وهذه الرسائل والفصول كثيرة جدّا، وقد قدّمنا منها فيما مرّ من كتابنا هذا ما حلا ذكره، وفاح نشره؛ وأنس به سامعه، وأيس من الإتيان بمثله صانعه، وأوردنا فى كل باب وفصل منه ما يناسبه، وسنورد إن شاء الله فى فنّى الحيوان والنبات عند ذكر كلّ حيوان أو نبات يستحقّ الوصف ما سمعناه وطالعناه من وصفه نظما ونثرا، مع ما يندرج فى فنّ التاريخ من الرسائل والفصول والأجوبة والمحاورات الجزء: 7 ¦ الصفحة: 259 عند ذكر الوقائع، وإنما نورده ثمّ وإن كان هذا موضعه ليكون الكلام فيه سياقة، وترد الوقائع يتلو بعضها بعضا، فلا ينقطع الكلام على ما تقف إن شاء الله تعالى عليه فى مواضعه، فلنورد فى هذا الموضع ما هو خارج عن ذلك النّمط من كلامهم، ولنبدأ بذكر شىء من المكاتبات البليغة الموجزة؛ من ذلك ما كتب به عبد الحميد بن يحيى بالوصاة على إنسان فقال: حقّ موصل هذا الكتاب عليك كحقّه علىّ إذ رآك موضعا لأمله، ورآنى أهلا لحاجته، وقد أنجزت حاجته، فحقّق أمله. ومنه ما حكى أن المأمون قال لعمرو بن مسعدة: اكتب الى فلان كتاب عناية بفلان فى سطر واحد، فكتب: هذا كتاب واثق بمن كتب اليه، معتن بمن كتب له «1» ، ولن يضيع بين الثقة والعناية حامله. وكتب عمرو بن مسعدة الى المأمون يستعطفه على الجند: كتابى الى أمير المؤمنين ومن قبلى من أجناده وقوّاده فى الطاعة على أفضل ما تكون عليه طاعة جند تأخّرت أرزاقهم، واختلّت أحوالهم. فأمر بإعطائهم رزق ثمانية أشهر. وكتب أحمد بن يوسف الى المأمون يذكّره بمن على بابه من الوفود فقال: إنّ داعى نداك، ومنادى جدواك، جمعا ببابك الوفود، يرجون نائلك العتيد؛ فمنهم من يمتّ بحرمة، ومنهم من يدلى» بخدمة؛ وقد أجحف بهم المقام، وطالت عليهم الأيام؛ فإن رأى أمير المؤمنين أن ينعشهم بسيبه «3» ، ويحتوش ظنونهم بطوله فعل. فوقّع المأمون فى كتابه: الخير متّبع، وأبواب الملوك مواطن لذوى الحاجات، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 260 فأحص أسماءهم، واجل موائنهم «1» ، ليصير الى كلّ امرئ منهم قدر استحقاقه، ولا تكدّر معروفا بالمطل والحجاب، فإنّ الأوّل يقول: فإنك لن ترى طردا لحرّ ... كإلصاق به طرف الهوان ولم يجلب مودّة ذى وفاء ... كمثل البذل أو بسط اللسان. وكتب محمد «2» إلى يحيى بن هرمة «3» - وكان عامله على أصفهان، وقد تظلّم منه أهلها-: يا يحيى «4» ، قد كثر شاكوك، وقلّ شاكروك؛ فإمّا عدلت، وإمّا اعتزلت. وكتب أبو بكر الخوارزمىّ جوابا عن هديّة: وصلت التّحفة، ولم يكن لها عيب إلّا أنّ باذلها «5» مسرف فى البرّ، وقابلها مقتصد فى الشكر؛ والسّرف مذموم إلّا فى المجد، والاقتصاد محمود إلّا فى الشكر والحمد. وكتب ملك الروم إلى المعتصم يتوعّده ويتهدّده، فأمر الكتّاب أن يكتبوا جوابه، فكتبوا فلم يعجبه مما كتبوا شىء، فقال لبعضهم: اكتب: بسم الله الرّحمن الرّحيم، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 261 أمّا بعد، فقد قرأت كتابك، وفهمت خطابك، والجواب ما ترى لا ما تسمع، «وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ «1» لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ» . ومن كلام بديع الزّمان أبى الفضل أحمد بن الحسين الهمذانىّ- قيل: ذكر الهمذانىّ فى مجلس أبى الحسين بن فارس فقال ما معناه: إنّ البديع قد نسى حقّ تعليمنا إيّاه، وعقّنا وشمخ بأنفه عنّا، فالحمد لله على فساد الزمان، وتغيّر نوع الإنسان؛ فبلغ ذلك البديع، فكتب الى أبى الحسين: نعم أطال الله بقاء الشيخ الإمام، إنّه «2» الحمأ المسنون، وإن ظنّت الظنون؛ والناس لآدم، وإن كان العهد قد تقادم؛ وارتبكت «3» الأضداد، واختلط الميلاد؛ والشيخ يقول: فسد الزمان، أفلا يقول: متى كان صالحا؟ أفى الدّولة العبّاسيّة وقد رأينا آخرها وسمعنا أوّلها؛ أم المدّة المروانيّة وفى أخبارها «لا تكسع الشّول بأغبارها «4» » ؛ أم السنين الحربيّة «5» الجزء: 7 ¦ الصفحة: 262 والسيف يعمل «1» فى الطّلى ... والرّمح يركز فى الكلى ومبيت حجر «2» فى الفلا والحرّتان «3» وكربلا «4» أم البيعة الهاشميّة [وعلىّ يقول «5» : ليت] العشرة [منكم «6» ] براس، من بنى فراس؛ أم الأيّام الأمويّة «7» والنّفير إلى الحجاز، [والعيون إلى «8» الأعجاز] ؛ أم الإمارة العدويّة «9» وصاحبها يقول: هلمّوا «10» إلى النزول؛ أم الخلافة التّيميّة «11» وهو «12» يقول: طوبى لمن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 263 مات فى نأنأة «1» الإسلام؛ [أم «2» ] على عهد الرسالة ويوم الفتح قيل: اسكنى «3» يا فلانة، فقد ذهبت الأمانة؛ أم فى الجاهليّة ولبيد يقول: [وبقيت «4» فى خلف «5» كجلد الأجرب أم قبل ذلك وأخو عاد يقول] : بلاد بها كنا وكنا نحبّها ... إذ الناس ناس والزمان زمان أم قبل ذلك ويروى لآدم عليه السلام: تغيّرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبر قبيح أم قبل ذلك والملائكة تقول لبارئها: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ ما فسد الناس، ولكن اطّرد القياس؛ ولا أظلمت الأيام، إنما امتدّ الإظلام؛ وهل يفسد الشىء إلّا عن صلاح؛ ويمسى المرء إلّا عن صباح؟ ولعمرى إن كان كرم العهد كتابا يرد، وجوابا يصدر، إنّه لقريب المنال، وإنّى على توبيخه لى لفقير إلى لقائه، شفيق على بقائه، منتسب إلى ولائه، شاكر لالائه. وكتب بديع الزمان يستعطفه: إنّى خدمت مولاى، والخدمة رقّ بغير إشهاد، وناصحته، والمناصحة للودّ أوثق عماد؛ ونادمته، والمنادمة رضاع ثان؛ وطاعمته، والمطاعمة [نسب «6» ] دان، وسافرت معه، والسّفر والأخوّة رضيعا لبان، وقمت بين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 264 يديه، والقيام والصلاة شريكا عنان «1» ؛ وأثنيت عليه، والثناء عند الله بمكان؛ وأخلصت له، والإخلاص مشكور بكلّ لسان. ومن كلام أبى الفضل محمد بن الحسين بن العميد - وكان وزيرا كاتبا- كتب عن ركن الدّولة بن بويه كتابا لمن عصى عليه: كتابى وأنا مترجّح بين طمع فيك، وإياس منك، وإقبال عليك، وإعراض عنك» ؛ فإنك تدلى بسابق خدمة، وتمتّ بسالف حرمة؛ أيسرها يوجب رعاية، ويقتضى محافظة وعناية؛ ثم تشفعهما بحادث غلول وخيانة، وتتبعهما بآنف خلاف ومعصية؛ وأدنى ذلك يحبط أعمالك، ويمحق كلّ ما يرعى لك؛ لا جرم أنّى وقفت بين ميل إليك، وميل عليك؛ أقدّم رجلا لصمدك «3» ، [وأؤخّر «4» ] أخرى عن قصدك؛ وأبسط يدا لاصطلامك واجتياحك، وأثنى ثانية نحو «5» استبقائك واستصلاحك؛ وأتوقّف عن امتثال بعض المأمور فيك ضنا بالنعمة عندك، ومنافسة فى الصّنيعة لديك؛ وتأميلا [لفيئتك «6» ] وانصرافك، ورجاء لمراجعتك وانعطافك؛ فقد يعزب العقل ثم يؤوب، ويغرب اللّبّ ثم يثوب، ويذهب العزم ثم يعود، ويفسد الحزم ثم يصلح، ويضاع الرأى ثم يستدرك، ويسكر المرء ثم يصحو، ويكدر الماء ثمّ يصفو؛ وكلّ ضيقة فإلى رخاء، وكلّ غمرة فإلى انجلاء؛ وكما أنك أتيت من إساءتك ما لم تحتسبه أولياؤك، فلا تدع «7» أن تأتى من إحسانك ما لم ترتقبه أعداؤك؛ وكما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 265 استمرّت بك الغفلة حتى ركبت ما ركبت، واخترت ما اخترت، فلا عجب أن تنتبه انتباهة تبصر فيها قبيح ما صنعت، وسوء ما آثرت؛ وسأقيم على رسمى فى الإبقاء والمماطلة ما صلح، وعلى الاستيناء والمطاولة ما أمكن، طمعا فى إنابتك، وتحكيما «1» لحسن الظنّ بك؛ فلست أعدم فيما أظاهره من إعذارك، وأرادفه من إنذارك، احتجاجا عليك، واستدراجا لك؛ وإن يشإ الله يرشدك، ويأخذ بك الى حظّك ويسدّدك؛ فإنه على كلّ شىء قدير. وفى فصل منه: وزعمت أنك فى طرف من الطاعة بعد أن كنت متوسّطها، وإن كنت كذلك فقد عرفت حالتيها، وحلبت شطريها، فناشدتك الله لما صدقت عما أسألك: كيف وجدت ما زلت عنه، وتجد ما صرت إليه؟ ألم تكن من الأوّل فى ظلّ ظليل، ونسيم عليل، وريح بليل؛ وهواء ندىّ «2» ، وماء روىّ، ومهاد وطىّ؛ وكنّ كنين، ومكان مكين، وحصن حصين؛ يقيك المتالف، ويؤمنك «3» المخاوف؛ ويكنفك من نوائب الزمان، ويحفظك من طوارق الحدثان؛ عززت «4» به بعد الذّلّة، وكثرت بعد القلّة؛ وارتفعت بعد الضّعة، وأيسرت بعد العسر، وأثريت بعد المتربة، واتّسعت بعد الضيق، وأطافت «5» بك الولايات، وخفقت فوقك الرايات؛ ووطئ عقبك الرجال، وتعلّقت بك الآمال؛ وصرت تكاثر ويكاثر بك، وتشير ويشار اليك؛ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 266 ويذكر على المنابر اسمك، وفى المحاضر ذكرك؛ ففيم أنت الآن من الأمر؟ وما العوض مما ذكرت وعددت، والخلف عمّا وصفت؟ وما استفدت حين أخرجت من الطاعة نفسك، ونفضت منها كفّك، وغمست فى خلافها يدك؟ وما الذى أظلّك بعد انحسار ظلّها عنك؟ أظلّ ذو ثلاث شعب، لا ظليل ولا يغنى من الّلهب؟ قل: نعم، فذاك والله أكنف ظلالك فى العاجلة، وأروحها فى الآجلة؛ إن أقمت على المحادّة والعنود «1» ، ووقفت على المشاقّة والجحود. ومنه: تأمّل حالك وقد بلغت هذا الفصل من كلامى فستنكرها «2» ، والمس جسدك فانظر هل يحسّ، واجسس عرقك هل ينبض، وفتّش ما حنى عليه اضلاعك هل تجد فى عرضها قلبك؟ وهل حلا بصدرك أن تظفر بفوت مزيح «3» أو موت مريح؟ ثمّ قس غائب أمرك بشاهده، وآخر شأنك بأوّله. وكتب الصاحب أبو القاسم كافى الكفاة فى وصف كتاب: ومن هو الذى لا يحبّه وهو علم الفضل، وواسطة الدهر؛ وقرارة الأدب والعلم، ومجمع الدّراية والفهم؛ أمن يرغب عن مكاثرة بمن «4» ينسب الربيع الى خلقه، ويكتسب محاسنه من طبعه، ويتوشّح بأنواره، ويتوضّح بآثار لسانه ويده؟ وصل كتابه، فارتحت لعنوانه قبل عيانه، حتى اذا فضضت ختامه أقبلت الفقر تتكاثر، والدّرر تتناثر؛ والغرر تتراكم، والنّكت تتزاحم؛ فإذا حكمت للفظة بالسّبق أتت أختها تتنافس «5» ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 267 واقبلت لديها تتفاخر؛ حتى استعفيت من الحكومة، ونفضت يدى من غبار الخصومة؛ وأخذت أقول: كلّكنّ صوادر عن أصل واحد فتسالمن، وأرفاد عن معدن رافد «1» فتصالحن، وقد ولّيت النظر بينهما من كمل لنسج برودهما، ووفّى بنظم عقودهما؛ على أننى يا مولاى أنشأت هذه الأحرف وحولى أعمال وأشغال لا يسلم معهما فكر، ولا يسلم بينهما طبع؛ وتناولت قلما كالابن العاقّ، بل العدوّ المشاقّ؛ اذا أردته استقال، واذا قوّمته مال؛ واذا حثثته وقف، واذا وقفته انحرف؛ أحدل «2» الشّقّ؛ متفاوت البرى، معدوم الجرى؛ محرّف القطّ، مثبّج «3» الخطّ؛ ثم رأيت العدول عنه ضربا من الانقياد لأمره، والانخراط فى سلكه، فجهدته على رغمه، وكددته على صعره؛ لا جرم أنّ جناية اللّجاج بادية على صفحات الحروف لا تخفى، وعادية المحك «4» لائحة على وجوه السطور تتجلّى. وكتب: والله يعلم أنى أخبرت بورود كتابه واستفزّنى الفرح قبل رؤيته، وهزّ عطفى المرح أمام مشاهدته؛ فما أدرى، أسمعت بورود كتاب، أم ظفرت برجوع شباب؟ ثم وصل بعد انتظار له شديد، وتطلّع الى وصوله طويل عريض؛ فتأمّلته فلم أدر ما تأمّلت، أخطّا مسطورا، أم روضا ممطورا، أم كلاما منثورا، أم وشيا منشورا؟ ولم أدر ما أبصرت فى أثنائه، أأبيات شعر، أم عقود درّ؟ ولم أدر ما جملته، أغيث حلّ بوادى ظمآن، أم غوث سبق إلى لهفان؟. وكتب: وصل كتاب القاضى فأعظمت قدر النعمة فى مطلعه، وأجللت محلّ الموهبة بموقعه؛ وفضضته عن السحر حلالا، والماء زلالا؛ وسرّحت الطّرف منه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 268 فى رياض رقّت حواشيها، وحلل تأنق واشيها؛ فلم أتجاوز فصلا إلّا إلى أخطر «1» منه فضلا، ولم أتخطّ «2» سطرا إلا الى أحسن منه نظما ونثرا. وكتب أيضا: وصل كتابك فجعلت وصوله عيدا أؤرّخ به أيّام بهجتى، وأفتتح به مواقيت غبطتى؛ وعرفت من خبر سلامتك ما سألت الله الكريم أن يصله بالدوام، ويرفعه على أيدى الأيام. وكتب أيضا: وصل كتابه- أيّده الله- يضحك عن أخلاقه الأرجة، ويتهلّل عن عشرته العطرة؛ ويخبر عن عافية الله لمن «3» رأيت شمل الحرّيّة به منتظما، وشعب المروءة له ملتئما؛ ويحمل من أنواع برّه ما أقصر عن ذكره، ولا أطمع فى شكره؛ ويؤدّى من لطيف اعتذاره فى أثناء عتبه، ما تزداد أسباب المودّة تمهيدا به؛ وفهمته، ورغبت إلى الله بأخلص طويّة، وأمحض نيّة «4» . وقال أبو الفرج الببغاء من رسالة إلى عدّة الدّولة أبى تغلب جاء منها: أصحّ دلائل الإقبال، وأصدق براهين السعادة- أطال الله بقاء سيّدنا- ما شهدت العقول بصحّته، ونطقت البصائر بحقيقته، ونعمة الله على الدّنيا والدّين بما أولاهما من اختيار سيّدنا لحراستهما بناظر فضله، وسترهما بظلّ عدله؛ مفصحة بتكامل الإقبال، مبشّرة بتصديق الامال محروسة ضمن الشكر الوفىّ لها ... على الزيادة نيل السّؤل والدّرك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 269 تحقّق العصر أنّ الملك منذ نشا ... له أبو تغلب اسم غير مشترك واستخلف الفلك الدوّار همّته ... فلوونى أغنت الدنيا عن الفلك مأمون الهفوات، متناصر «1» الصفات؛ ربعىّ «2» النّفاسة، حمدانىّ السياسة، ناصرىّ الرياسة؛ عطاردى الذّكاء، موفّق الآراء؛ شمسىّ التأثير، قمرىّ التصوير، فلكىّ التدبير؛ للصّدق كلامه، وللعدل أحكامه، وللوفاء ذمامه؛ وللحسام غناؤه، وللقدر مضاؤه، وللسحاب عطاؤه دعوته فأجابتنى مكارمه ... ولو دعوت سوى نعماه لم تجب وجدته الغيث مشغوفا «3» بعادته ... والروض يحيا بما فى عادة السّحب لوفاته النسب الوضّاح كان له ... من فضله نسب يغنى عن النسب إذا دعته ملوك الأرض سيّدها ... طرّا دعته المعالى سيّد العرب. وكتب أبو الحسن «4» علىّ بن القاسم القاشانىّ: ما أرتضى نفسى لمخاطبة مولاى إذا كنت منفىّ الشواغل، فارغ الخواطر، مخلى الجوارح، مطلق الإسار، سليم الأفكار، فكيف مع كلال الحدّة، وانغلاق الفهم، واستبهام القريحة، واستعجام الطبيعة؛ والمعوّل على النيّة، وهى لمولاى بظهر الغيب مكشوفة، والمرجع إلى العقيدة، وهى بالولاء المحض معروفة؛ ولا مجال للعتب عن هذه الأحوال، للعذر وراء هذه الخلال. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 270 وقال محمد بن العباس الخوارزمىّ: الحمد لله الذى جعل الشيخ يضرب فى المحاسن بالقدح المعلّى، ويسمو منها إلى الشرف الأعلى، ولم يجعل فيه موضعا للولا، ولا مجالا لإلّا؛ فإن الاستثناء إذا اعترض فى المدح انصب ماؤه، وكدّر صفاؤه، وانطلق فيه حسّاده وأعداؤه؛ ولذلك قالوا: ما أحسن الظّبى لولا خنس «1» أنفه! وما أحسن البدر لولا كلف وجهه! وما أطيب الخمر لولا الخمار! وما أشرف الجود لولا الإقتار! وما أحمد مغبة الصبر لولا فناء العمر! وما أطيب الدنيا لو دامت ما أعلم الناس أنّ الجود مكسبة ... للحمد لكنّه يأتى على النّشب. ذكر شىء من رسائل فضلاء المغاربة ووزرائهم وكتابهم ممن ذكرهم ابن بسام فى كتابه المترجم بالذخيرة فى محاسن أهل الجزيرة منهم ذو الوزارتين أبو الوليد بن زيدون، فمن كلامه رسالة كتبها على لسان محبوبته ولّادة بنت محمد بن عبد الرحمن الناصرىّ الى إنسان استمالها إلى نفسه عنه، وهى: أما بعد، أيها المصاب بعقله، المورّط بجهله؛ البيّن سقطه، الفاحش غلطه؛ العاثر فى ذيل اغتراره، الأعمى عن شمس نهاره؛ الساقط سقوط الذباب على الشراب، المتهافت تهافت الفراش فى «2» الشهاب؛ فإنّ العجب أكذب، ومعرفة المرء نفسه أصوب؛ وإنك راسلتنى مستهديا من صلتى ما صفرت منه أيدى أمثالك، متصدّيا من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 271 خلّتى لما قرعت فيه «1» أنوف أشكالك؛ مرسلا خليلتك مرتادة، مستعملا عشيقتك فوّادة؛ كاذبا نفسك [أنك «2» ] ستنزل عنها إلىّ، وتخلف بعدها علىّ ولست» بأوّل ذى همّة ... دعته لما ليس بالنائل ولا شكّ فى أنها قلتك إذ لم تضنّ بك، وملّتك إذ لم تغر عليك، فإنها أعذرت فى السّفارة لك، وما قصرت فى النيابة عنك؛ زاعمة أنّ المروءة لفظ أنت معناه، والإنسانيّة اسم أنت جسمه وهيولاه؛ قاطعة أنّك انفردت بالجمال، واستأثرت بالكمال، واستعليت فى مراتب الجلال، واستوليت «4» على محاسن الخلال؛ حتى خيّلت أنّ يوسف عليه السلام حاسنك فغضضت منه، وأنّ امرأة العزيز رأتك فسلت عنه؛ وأنّ قارون أصاب بعض ما كنزت، والنّطف «5» عثر على فضل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 272 ما ركزت «1» ؛ وكسرى حمل غاشيتك «2» ، وقيصر رعى ماشيتك؛ والإسكندر قتل دارا «3» فى طاعتك، وأردشير «4» جاهد ملوك الطوائف لخروجهم عن جماعتك؛ والضّحّاك «5» استدعى مسالمتك، وجذيمة «6» الأبرش تمنّى منادمتك؛ وشيرين «7» نافست بوران «8» فيك؛ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 273 وبلقيس «1» غايرت الزّباء «2» عليك؛ وأنّ مالك «3» بن نويرة إنما ردف لك؛ وعروة «4» بن جعفر إنما رحل إليك؛ وكليب «5» بن ربيعة إنما حمى المرعى بعزّتك؛ وجسّاسا «6» إنما قتله بأنفتك؛ ومهلهلا «7» إنما طلب ثأره بهمّتك؛ والسموءل «8» إنما وفى عن عهدك، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 274 والأحنف «1» إنما احتبى فى بردك؛ وحاتما «2» إنما جاد بوفرك، ولقى الأضياف ببشرك؛ وزيد «3» بن مهلهل إنما ركب بفخذيك، والسّليك «4» بن السّلكة إنّما عدا على رجليك، وعامر «5» بن مالك [إنما لاعب الألسنة بيديك «6» ؛ وقيس بن زهير] إنما استعان بدهائك «7» ، وإياس «8» بن معاوية إنما استضاء بمصباح ذكائك؛ وسحبان «9» إنما تكلّم بلسانك، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 275 وعمر «1» بن الأهتم إنما سحر ببيانك؛ وأنّ الصلح بين بكر وتغلب «2» تمّ برسالتك، والحمالات فى دماء عبس وذبيان أسندت إلى كفالتك «3» ؛ وأن احتيال هرم «4» لعامر وعلقمة حتى رضيا كان عن رأيك؛ وجوابه لعمر وقد سأله عن أيّهما كان ينفّر «5» وقع بعد مشورتك؛ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 276 وأنّ الحجّاج «1» تقلّد ولاية العراق بجدّك، وقتيبة «2» فتح ماوراء النهر بسعدك؛ والمهلّب «3» أو هى شوكة الأزارقة بأيدك، وأفسد ذات بينهم بكيدك؛ وأنّ هرمس «4» أعطى بلينوس ما أخذ منك، وأفلاطون «5» أورد على أرسطوطاليس ما حدّث عنك؛ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 277 وبطلميوس «1» سوّى الأسطرلاب بتدبيرك، وصوّر الكرة على تقديرك؛ وأبقراط «2» علم العلل والأمراض بلطف حسّك، وجالينوس «3» عرف طبائع الحشائش بدقة نظرك «4» ؛ وكلاهما قلّدك فى العلاج، وسألك عن المزاج؛ واستوصفك تركيب الاعضاء، واستشارك فى الداء والدواء؛ وأنك نهجت لأبى معشر «5» طريق القضاء، وأظهرت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 278 جابر «1» بن حيّان على سرّ الكيمياء؛ وأعطيت النظّام «2» أصلا أدرك به الحقائق، وجعلت للكندىّ «3» رسما استخرج به الدقائق؛ وأن صناعة الألحان اختراعك، وتأليف الأوتار توليدك وابتداعك؛ وأن عبد الحميد «4» بن يحيى بارى أقلامك، وسهل «5» بن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 279 هارون مدوّن كلامك؛ وعمر «1» بن بحر مستمليك، ومالك «2» بن أنس مستفتيك؛ وأنك الذى أقام البراهين، ووضع القوانين؛ وحدّ الماهيّة، وبيّن الكيفيّة والكميّة؛ وناظر فى الجوهر والعرض، وبيّن الصحّة من المرض؛ وفكّ المعمّى، وفصل بين الاسم والمسمّى؛ وضرب وقسّم، وعدل وقوّم؛ وصنّف الأسماء والأفعال، وبوّب الظّرف والحال؛ وبنى وأعرب، ونفى وتعجّب؛ ووصل وقطع، وثنّى وجمع؛ وأظهر وأضمر، وابتدأ وأخبر؛ واستفهم وأهمل وقيّد، وأرسل وأسند، وبحث ونظر، وتصفّح الأديان، ورجّح بين مذهبى مانى وغيلان «3» ؛ وأشار بذبح الجعد «4» ، وقتل بشار «5» الجزء: 7 ¦ الصفحة: 280 ابن برد؛ وأنك لو شئت خرقت العادات، وخالفت المعهودات؛ فأحلت البحار عذبة، وأعدت السّلام «1» رطبة؛ ونقلت غدا فصار أمسا، وزدت فى العناصر فكانت خمسا؛ وأنك المقول فيه: «كلّ الصيد «2» فى جوف الفرا» و: ليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم فى واحد «3» والمعنىّ بقول أبى تمّام: فلو صوّرت نفسك لم تزدها ... على ما فيك من كرم الطباع والمراد بقول أبى الطيّب: ذكر الأنام لنا فكان قصيدة ... كنت البديع الفرد من أبياتها ف «كدمت غير «4» مكدم» ونفخت فى غير فحم؛ ولم تجد لرمح مهزّا، ولا لشفرة محزّا؛ بل رضيت من الغنيمة بالإياب، وتمنّيت الرجوع بخفىّ حنين، لأنى قلت لها: «لقد هان من بالت عليه الثعالب «5» » وأنشدت: على «6» أنها الأيام قد صرن كلّها ... عجائب حتى ليس فيها عجائب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 281 ونخرت «1» وكفرت، وعبست وبسرت «2» ؛ وأبدأت وأعدت، [وأبرقت وأرعدت «3» ] و «هممت ولم أفعل وكدت [وليتنى «4» ] » ولولا [أنّ] للجوار ذمّة، وللضيافة حرمة؛ لكان الجواب فى قذال الدّمستق «5» ، ولكنّ النعل حاضرة إن عادت العقرب، والعقوبة ممكنة إن أصرّ المذنب؛ وهبها لم تلاحظك بعين كليلة عن عيوبك، ملؤها حبيبها، وحسن فيها من تودّ، وكانت إنما حلّتك بحلاك «6» ، ووسمتك بسيامك؛ ولم تعرك شهاده، ولا تكلّفت لك زياده؛ بل صدقتك سنّ بكرها «7» فيما ذكرته عنك، ووضعت الهناء «8» مواضع النّقب فيما نسبته إليك؛ ولم تكن (كاذبة فيما أثنت «9» به عليك) ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 282 فالمعيدىّ «1» تسمع به لا أن تراه، هجين «2» القذال، أرعن السّبال؛ طويل العنق والعلاوة «3» ، مفرط الحمق والغباوة؛ جافى الطبع، سيّئ الجابة «4» والسّمع؛ بغيض الهيئة، سخيف الذّهاب والجيئة؛ ظاهر الوسواس، منتن الأنفاس؛ كثير المعايب، مشهور المثالب؛ كلامك تمتمة، وحديثك وغمغمة؛ وبيانك فهفهة، وضحكك قهقهة؛ ومشيك هرولة، وغناك مسألة؛ ودينك زندقة، وعلمك مخرقة مساو «5» لو قسمن على الغوانى ... لما أمهرن إلا بالطّلاق حتى إنّ باقلا «6» موصوف بالبلاغة إذا قرن بك، وهبنّقة «7» مستحقّ لاسم العقل إذا نسب منك «8» ، وأبا غبشان «9» محمود منه سداد الفعل إذا أضيف إليك، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 283 وطويسا «1» مأثور عنه يمن الطائر إذا قيس عليك؛ فوجودك عدم، والاغتباط بك ندم؛ والخيبة منك ظفر، والجنّة معك سقر؛ كيف رأيت لؤمك لكرمى كفاء، وضعتك لشرفى وفاء؟ وأنّى جهلت أن الأشياء إنما تنجذب إلى أشكالها، والطير إنّما تقع على ألّافها؟ وهلّا علمت أن الشرق والغرب لا يجتمعان، وشعرت أن نادى المؤمن والكافر لا يتراءيان، وقلت: الخبيث والطيّب لا يستويان «2» ، وتمثلت: أيها «3» المنكح الثريّا سهيلا ... عمرك الله كيف يلتقيان وذكرت أنّى علق لا يباع ممن زاد، وطائر لا يصيده من أراد، وغرض لا يصيبه إلا من أجاد؛ ما أحسبك إلا كنت قد تهيّأت للتهنئة، وترشّحت للترفئة؛ أولى لك، لولا أنّ جرح العجماء «4» جبار، للقيت ما لقى من الكواعب يسار «5» ؛ فما همّ إلا بدون الجزء: 7 ¦ الصفحة: 284 ما هممت به، ولا تعرّض «1» إلا لأيسر ما تعرّضت له؛ أين ادّعاؤك رواية الأشعار، وتعاطيك حفظ السّير والأخبار؟ بنو دارم أكفاؤهم آل مسمع ... وتنكح فى أكفائها الحبطات «2» وهلّا عشّيت «3» ولم تغترّ، وما أمّنك «4» أن تكون وافد البراجم، أو ترجع بصحيفة المتلمّس «5» ، وأفعل بك ما فعله عقيل بن علفة «6» بالجهنىّ إذ جاءه خاطبا فدهن اسنته بزيت وأدناه من قرية «7» النمل؟ ومتى كتر تلاقينا، واتصل ترائينا؛ فيدعونى اليك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 285 ما دعا ابنة «1» الخسّ الى عبدها من طول السواد، وقرب الوساد؟ وهل فقدت الأراقم «2» فأنكح فى جنب «3» ، أو عضلنى «4» همّام بن مرّة فأقول: «زوج من عود، خير من قعود» ؟ ولعمرى لو بلغت هذا المبلغ لارتفعت عن» هذه الحطّة، وما رضيت بهذه الخطّة؛ ف «النار ولا العار» و «المنيّة ولا الدّنيّة» والحرّة تجوع ولا تأكل بثدييها: فكيف وفى أبناء قومى منكح ... وفتيان هزّان «6» الطوال الغرانقة ما كنت لأتخطّى المسك الى الرّماد، ولا لأمتطى الثّور دون الجواد؛ فإنما يتيمّم من لا يجد ماء، ويرعى الهشيم من عدم الجميم «7» ، ويركب الصّعب من لا ذلول الجزء: 7 ¦ الصفحة: 286 له؛ ولعلك «1» إنما غرّك من علمت صبوتى اليه، وشهدت مساعفتى له، من أقمار العصر، ورياحين المصر؛ الذين هم الكواكب علوّ همم، والرياض طيب شيم من تلق منهم تقل: لاقيت سيّدهم ... مثل النجوم التى يسرى بها السارى «2» فيحنّ «3» قدح ليس منها؛ ما أنت وهم؟ وأين تقع منهم؟ وهل أنت إلّا واو عمرو فيهم، وكالوشيظة «4» فى العظم بينهم؟ وان كنت إنما بلغت قعر تابوتك «5» ، وتجافيت لقميصك عن بعض قوتك؛ وعطّرت أردانك، وجررت هميانك؛ واختلت فى مشيتك، وحذفت فضول لحيتك؛ وأصلحت شاربك، ومططت حاجبك؛ ودققت خطّ عذارك، واستأنفت عقد إزارك؛ رجاء الا كتتاب «6» فيهم، وطمعا فى الاعتداد منهم؛ فظننت عجزا، وأخطأت استك الحفرة؛ والله لو كساك محرّق «7» الجزء: 7 ¦ الصفحة: 287 البردين، وحلّتك مارية «1» بالقرطين؛ وقلّدك عمرو «2» بالصّمصامة، وحملك الحارث «3» على النّعامة؛ ما شككت فيك، ولا تكلمت بملء فيك؛ ولا سترت أباك، ولا كنت إلا ذاك؛ وهبك ساميتهم فى ذروة المجد والحسب، وجاريتهم فى غاية الظرف والأدب؛ ألست تأوى الى بيت قعيدته لكاع؟ اذ كلّهم عزب خالى الذراع؛ وأين من أنفرد به، ممن لا أغلب إلا على الأقلّ الأخسّ منه؟ وكم بين من يعتمدنى بالقوّة الظاهرة، والشهوة الوافرة؛ والنفس المصروفة الىّ، واللذة الموقوفة علىّ؛ وبين آخر قد نزحت بيره، ونضب غديره؛ وذهب نشاطه، ولم يبق إلا ضراطه؛ وهل كان يجمع لى فيك إلا الحشف «4» وسوء الكيلة. ويقترن علىّ بك إلا الغدّة والموت فى بيت سلوليّة «5» ؟ تعالى الله يا سلم بن عمرو ... أذلّ الحرص أعناق الرجال (وهذا الشعر لأبى العتاهية يخاطب به سلم بن عمرو، ويلومه على حصرصه، ويتلوه) : هب الدنيا تصير اليك عفوا ... أليس مصير ذاك الى زوال ما كان أحقّك بأن تقدر بذرعك، وتربع على ظلعك؛ ولا تكون براقش «6» الدالّة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 288 على أهلها «1» ، وعنز السوء المستثيرة لحتفها؛ فما أراك إلا قد سقط العشاء بك على السّرحان «2» ، وبك لا بظبى أعفر «3» ، قد أعذرت إن أغنيت شيّا، وأسمعت لو ناديت حيّا؛ وقرعت عصا العتاب، وحذّرت سوء العقاب. «إنّ العصا قرعت لذى الحلم» «والشىء «4» تحقره وقد ينمى» . فإن بادرت بالندامة، ورجعت على نفسك بالملامة؛ [كنت «5» ] قد اشتريت العافية لك بالعافية منك؛ وإن قلت: «جعجعة ولا طحنا» و «ربّ صلف تحت الراعدة «6» » وأنشدت: لا يؤيسنّك من مخبّأة ... قول تغلّظه وإن جرحا فعدت لما نهيت عنه، وراجعت ما استعفيت منه؛ بعثت من يزعجك إلى الخضراء «7» دفعا، ويستحثّك نحوها وكزا وصفعا؛ فاذا صرت «8» بها عبث أكّاروها «9» الجزء: 7 ¦ الصفحة: 289 بك، وتسلّط نواطيرها «1» عليك؛ فمن قرعة معوجّة تقوّم فى قفاك، وفجلة منتنة يرمى بها تحت خصاك؛ لكى تذوق وبال أمرك، وترى ميزان قدرك. فمن جهلت نفسه قدره ... رأى غيره منه ما لا يرى «2» . وقال أيضا فى رقعة خاطب بها ابن جهور- وهى من رسائله المشهورة- أوّلها: يا مولاى وسيّدى الذى ودادى له، واعتدادى به، واعتمادى عليه- أبقاك الله ماضى حدّ العزم، وارى زند الأمل، ثابت عهد النعمة- إن سلبتنى أعزّك الله لباس إنعامك، وعطّلتنى من حلى إيناسك، وغضضت عنى طرف حمايتك؛ بعد أن نظر الأعمى الى تأميلى لك، وسمع الأصمّ ثنائى «3» عليك، وأحسّ الجماد باستنادى اليك؛ فلا غرو قد يغصّ بالماء شاربه، ويقتل الدواء المستشفى به، ويؤتى الحذر من مأمنه، وتكون منيّة المتمنّى فى أمنيّته «والحين «4» قد يسبق جهد الحريص» وإنّى لأتجلّد، وأرى الشامتين أنّى لا أتضعضع «5» ، وأقول: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 290 هل أنا إلّا يد أدماها سوارها، وجبين عضّه «1» إكليله، ومشرفىّ «2» الصقه بالأرض صاقله، وسمهرى «3» عرضه على النار مثقّفه، وعبد ذهب «4» سيّده مذهب الذى يقول: فقسا ليزدجروا «5» ومن يك حازما ... فليقس أحيانا على من يرحم والعتب «6» محمود عواقبه، والنّبوة «7» غمرة ثم تنجلى، والنكبة «سحابة صيف عن قريب تقشّع «8» » وسيّدى إن أبطأ معذور «9» . فإن يكن الفعل الذى ساء واحدا ... فأفعاله اللاتى سررن ألوف «10» فليت شعرى ما الذنب الذى أذنبت ولم يسعه العفو؟ ولا أخلو من أن أكون بريئا فأين العدل؟ أو مسيئا فأين الفضل؟ وما أرانى إلا لو أمرت بالسجود لآدم فأبيت واستكبرت، وقال لى نوح: «اركب معنا» فقلت: «سآوى إلى جبل يعصمنى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 291 من الماء» وتعاطيت فعقرت «1» ، وأمرت ببناء صرح لعلّى أطّلع إلى إله موسى «2» ، وعكفت على العجل «3» ، واعتديت فى السّبت «4» ، وشربت من النهر الذى ابتلى به جنود طالوت «5» ، وقدت الفيل لأبرهة «6» ، وعاهدت قريشا على ما فى الصحيفة «7» ، وتأوّلت فى بيعة العقبة «8» ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 292 ونفرت الى العير ببدر «1» ، وانخذلت «2» بثلث الناس يوم أحد، وتخلّفت عن صلاة العصر فى بنى قريظة «3» ، وجئت بالإفك على عائشة «4» ، وأبيت «5» من إمارة أسامة، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 293 وزعمت أن خلافة أبى بكر كانت فلتة «1» ... وروّيت رمحى من كتيبة خالد «2» ومزّقت الأديم الذى باركت يد الله فيه «3» ، وضحّيت بالأشمط الذى عنوان السجود به «4» ، وكتبت الى عمر بن سعد [أن] جعجع «5» بالحسين، وبذلت لقطام. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 294 ثلاثة آلاف وعبدا وقينة ... وضرب علىّ بالحسام المخذّم «1» وتمثّلت عند ما بلغنى من وقعة الحرّة «2» : ليت أشياخى ببدر شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسل «3» قد قتلنا القرن «4» من أشياخهم ... وعدلناه ببدر فاعتدل «5» ورجمت الكعبة «6» ، وصلبت العائذ بها على الثنيّة؛ لكان فيما جرى علىّ ما يحتمل أن يسمّى نكالا، ويدعى ولو على المجز عقابا. وحسبك من حادث بامرئ ... يرى حاسديه له راحمينا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 295 فكيف ولا ذنب إلا نميمة أهداها كاشح، ونبأ جاء به فاسق؛ والله ما غششتك بعد النصيحة، ولا انحرفت عنك بعد الصاغية «1» ، ولا نصبت «2» لك بعد التشيّع فيك، ففيم عبث الجفاء بأذمّتى، وعاث فى مودّتى «3» ؟ وأنّى غلبنى المغلّب، وفخر علىّ الضعيف «4» ، ولطمتنى غير ذات سوار «5» ؟ وما لك لم تمنع منى قبل أن أفترس، وتدركنى ولمّا أمزّق «6» ، [أم كيف لا تتضرّم «7» جوانح الأكفاء حسدا لى على الخصوص بك، وتتقطّع أنفاس الجزء: 7 ¦ الصفحة: 296 النّظراء منافسة فى الكرامة عليك] وقد زاننى اسم خدمتك، [وزهانى وسم نعمتك «1» ] وأبليت [البلاء «2» ] الجميل فى «3» سماطك، وقمت المقام المحمود على بساطك. ألست الموالى فيك نظم قصائد ... هى الأنجم اقتادت مع الليل أنجما «4» وهل لبس الصباح إلا بردا طرّزته بمحامدك، وتقلّدت الجوزاء إلا عقدا فصّلته بمآثرك، وبثّ المسك إلا حديثا أذعته «5» بمفاخرك؛ «ما يوم حليمة «6» بسرّ» وحاش لله أن أعدّ من العاملة الناصبة، وأكون كالذّبالة المنصوبة تضىء للناس وهى تحترق. وفى فصل منه: ولعمرى ما جهلت [أن] «7» الرأى فى أن أتحوّل إذا بلغتنى الشمس، ونبا بى المنزل، وأضرب عن المطامع التى تقطع أعناق الرجال، ولا أستوطئ العجز فيضرب بى المثل: «خامرى «8» أمّ عامر» وإنى مع المعرفة بأن الجلاء الجزء: 7 ¦ الصفحة: 297 سباء، «1» والنّقلة مثلة، لعارف أن الأدب الوطن الذى لا يخشى «2» فراقه، والخليط الذى لا يتوقّع زواله «3» ؛ والنّسب «4» الذى لا يخفى، [والجمال [الذى] لا يخفى؛ ثم ما قران السّعد للكواكب أبهى أثرا، ولا أسنى خطرا، من اقتران غنى النفس به، وانتظامها نسقا معه؛ فإنّ الحائز لهما، الضارب بسهم فيهما- وقليل ما هم «5» -] أينما توجّه ورد منهل برّ، وحطّ «6» فى جناب قبول، وضوحك قبل إنزال رحله «7» ، وأعطى حكم الصبىّ على أهله وقيل له: أهلا وسهلا ومرحبا ... فهذا مبيت صالح وصديق غير أنّ الموطن محبوب، والمنشأ مألوف؛ واللبيب يحنّ إلى وطنه، [حنين النجيب «8» إلى عطنه] ؛ والكريم لا يجفو أرضا فيها قوابله، ولا ينسى بلدا فيه مراضعه؛ وأنشد قول الأوّل: أحبّ بلاد الله ما بين منعج «9» ... إلىّ وسلمى «10» أن يصوب سحابها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 298 بلاد بها «1» عقّ الشّباب تمائمى ... وأوّل أرض مسّ جلدى ترابها هذا إلى مغالاتى فى تعلّق «2» جوارك، ومنافستى فى الحظّ من قربك، واعتقادى أنّ الطمع فى غيرك طبع «3» ، والغنى من سواك عناء، والبدل منك أعور «4» ، والعوض لفاء «5» . وإذا نظرت إلى أميرى زادنى ... ضنّا به نظرى إلى الأمراء «6» «كلّ الصّيد فى جوف الفرا» و «فى كلّ شجر نار، واستمجد المرخ «7» والغفار» ؛ فما هذه البراءة ممن تولّاك، والميل عمّن يميل إليك؟ وهلّا كان هواك فيمن هواه فيك، ورضاك لمن رضاه لك؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 299 يا من «1» يعزّ علينا أن نفارقهم ... وجداننا كلّ شىء بعدكم عدم أعيذك ونفسى من أن «2» أشيم خلّبا، واستمطر جهاما «3» ، وأكدم غير مكدم، وأشكو شكوى الجريح إلى العقبان والرّخم؛ وإنما أبسست «4» لك لتدرّ، وحرّكت لك الحوار «5» لتحنّ؛ وسريت لك «6» ليحمد المسرى «7» إليك؛ بعد اليقين من أنك إن شئت عقد أمرى تيسّر، ومتى أعذرت فى فكّ أسرى «8» لم يتعذّر؛ وعلمك يحيط بأنّ المعروف ثمرة النعمة، والشفاعة زكاة المروءة، وفضل الجاه تعود به صدقة. واذا امرؤ «9» أسدى إليك صنيعة ... من جاهه فكأنّها من ماله لعلّى ألقى العصا بذراك «10» ، وتستقرّ بى النوى فى ظلّك، فتستلذّ جنى شكرى من غرس عارفتك، وتستطيب عرف ثنائى من روض صنيعتك؛ وأستأنف التأدّب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 300 بأدبك «1» ، والاحتمال على مذهبك؛ فلا أوجد للحاسد مجال لحظة، ولا أدع للقادح مساغ لفظة؛ والله ميسّرك «2» من إطلابى هذه الطّلبة «3» ، وإشكائى «4» من هذه الشكوى لصنيعة تصيب بها طريق المصنع، ويد تستودعها أحفظ مستودع؛ حسبما أنت خليق له، وأنا منك حرىّ به؛ فذلك بيده، وهيّن «5» عليه. وشفعها بأبيات فقال: الهوى فى طلوع تلك النجوم ... والمعنى فى هبوب ذاك النسيم سرّنا عيشنا الرقيق الحواشى ... لو يدوم السرور للمستديم وطر ما انقضى إلى أن تقضّى ... زمن ما ذمامه بالذّميم زار مستخفيا وهيهات أن يخ ... تفى البدر فى الظلام البهيم فوشى الحلى إذ مشى وهفا الطّي ... ب إلى حيث كاشح بالنّميم أيها المؤذنى بظلم الليالى ... ليس يومى بواحد «6» من ظلوم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 301 ما ترى البدر إن تأمّلت والشم ... س هما «1» يكفان دون النجوم وهو الدهر ليس ينفك ينحو ... بالمصاب العظيم نحو العظيم بوّأ الله جهورا أشرف السّؤد ... د فى السّرّ «2» واللّباب الصميم واحد سلّم الجميع له الفض ... ل وكان الخصوص وفق العموم قلّد الغمر ذا التجارب «3» فيه ... واكتفى جاهل بعلم عليم ومنها فى ذكر اعتقاله: سقم لا أعاد منه وفى الع ... ائد أنس يفى ببرء السقيم نار بغى سرت إلى جنّة الأر ... ض بياتا فأصبحت كالصريم بأبى أنت إن «4» تشأتك بردا ... وسلاما كنار إبراهيم للشفيع الثناء «5» ، والحمد فى صو ... ب الحيا للرياح لا للغيوم ثم قال: هاكها أعزّك الله يبسطها الأمل، ويقبضها الخجل؛ لها ذنب التقصير، وحرمة الإخلاص، فهب ذنبا لحرمة، واشفع نعمة بنعمة؛ لتأتى الإحسان من جهاته، وتسلك الفضل من طرقاته؛ إن شاء الله تعالى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 302 ومن كلام أبى عبد الله محمد بن أبى الخصال من جواب لابن بسّام - وكان قد كتب إليه يسأله إنفاذ بعض رسائله ليضمّنها كتابه الذى ترجمه بالذخيرة، فكتب: وصل من السيّد المسترقّ، والمالك المستحقّ- وصل الله أنعمه لديه، كما قصر الفضل عليه- كتابه البليغ، واستدراجه المريغ «1» ؛ فلولا أن يصلد «2» زند اقتداحه، ويردّ طرف افتتاحه؛ وتقبض يد انبساطه، وتغبن صفقة اغتباطه؛ للزمت معه قدرى، وظنّ بسرّه صدرى؛ لكنه بنفثة سحره يستنزل العصم فتجنب «3» ، ويقتاد الصّعب فيصحب، ويستدرّ الصخور فتحلب؛ ولما جاءنى كتاب ابتداه، وقرع سمعى نداه؛ فزعت «4» إلى الفكر، وخفق القلب بين الأمن والحذر؛ فطاردت من الفقر أو ابد قفر، وشوارد عفر، تغبر «5» فى وجه سائقها، ولا يتوجّه اللّحاق إلى وجيهها ولاحقها «6» ؛ فعلمت أنها الإهابة والمهابة، والإجابة والاسترابة؛ حتى أيأستنى الخواطر، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 303 وأخلفتنى المواطر، إلا زبرجا «1» يعقب جوادا، وبهرجا لا يحتمل انتقادا؛ [وأنى لمثلى والقريحة مرجاة «2» ] والبضاعة مزجاة؛ ببراعة الخطاب، ويراعة الكتاب، ولولا دروس معالم البيان، واستيلاء العفاء على هذا اللسان؛ ما فاز لمثلى فيه قدح، ولا تحصّل لى فى سوقه ربح؛ ولكنه جوّ خال، ومضمار جهّال؛ وأنا أعزك الله أربأ بقدر الذخيرة، عن هذه النّتف الأخيرة؛ وأرى أنها قد بلغت مداها، واستوفت حلالها؛ وإنما أخشى القدح فى اختيارك، والإخلال «3» بمختارك؛ وعذرا اليك- أيدك الله- فإنى خطّطت والنوم مغازل، والقرّ نازل؛ والريح تلعب بالسراج، وتصول عليه صولة الحجّاج. ثم أخذ فى وصف السراج كما ذكرناه فى الباب الرابع من القسم الثانى من الفن الأوّل فى السّفر الأوّل من هذا الكتاب. ومن كلام الوزير الفقيه أبى القاسم محمد بن عبد الله بن الجدّ «4» ، من رسالة خاطب بها ذا الوزارتين أبا بكر المعروف بابن القصيرة- وقد قربت بينهما المسافة ولم يتفق اجتماعهما-: لم أزل- أعزك الله- استنزل قربك براحة الوهم، عن ساحة النجم؛ وأنصب لك شرك المنى، فى خلس الكرى «5» ، وأعلّل فيه نفس الأمل، بضرب سابق المثل: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 304 ما أقدر الله أن يدنى على شحط ... من داره الحزن ممن داره صول «1» فما ظنّك به وقد نزل على مسافة يوم [وطالما نفر عن حبالة نوم «2» ] ، ودنا حتى همّ بالسلام، وقد كان من خدع الأحلام، وناهيك «3» من ظمئى وقد حمت حول المورد الخصر، وذممت الرّشاء «4» بالقصر، ووقف بى ناهض القدر، وقفة العير بين الورد والصّدر؛ فهلّا وصل ذلك الأمل بباع، وسمح الزمن باجتماع؛ وطويت بيننا رقعة الأميال، كما زويت مراحل «5» أيّام وليال؛ وما كان على الأيّام لو غفلت قليلا، حتى أشفى بلقائك غليلا، وأتنسّم من روح مشاهدتك نفسا بليلا؛ ولئن أقعدتنى بعوائقها عن لقاء حرّ، وقضاء برّ؛ وسفر قريب، وظفر غريب؛ فما تحيّفت «6» ودادى، ولا ارتشفت مدادى؛ ولا غاضت كلامى، ولا أحفت أقلامى «7» ؛ وحسبى بلسان النّبل «8» رسولا، وكفى بوصوله أملا وسولا؛ ففى الكتاب بلغة الوطر، ويستدلّ على العين بالأثر؛ على أنى إنما وحيت «9» وحى المشير باليسير، وأحلت فهمك على المسطور فى الضمير؛ وإن فرغت للمراجعة ولو بحرف، أو لمحة طرف؛ وصلت صديقا، وبللت ريقا؛ وأسديت يدا، وشفيت صدى؛ لا زالت أياديك بيضا، وجاهك عريضا؛ ولياليك أسحارا، ومساعيك أنوارا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 305 ومن كلام أبى عبد الله محمد بن الخيّاط من رقعة طويلة الى الحاجب المظفّر، أوّلها: حجب الله عن الحاجب المظفّر أعين النائبات، وقبض دونه أيدى الحادثات. وجاء منها: ورد له كتاب كريم جعلته عوض يده البيضاء فقبلته، ولمحته بدل غرّته الغرّاء فأجللته؛ كتاب ألقى عليه الحبر «1» حبره، وأهدى اليه السحر فقره؛ أنذر «2» ببلوغ المنى، وبشّر بحصول الغنى؛ تخيّر له البيان فطبّق مفصله، ورماه البنان «3» فصادف مقتله؛ ووصل معه المملوك والمملوكة اللذان سمّاهما هديّة، وتنزّه كرما أن يقول عطيّة؛ همّة ترجم السّماكين، ونعمة تملأ الأذن والعين؛ وما حرّك- أيده الله- بكتابه ساكنا بحمده، ولا نبّه نائما عن قصده؛ كيف وقد طلعت الشمس التى صار بها المغرب شرقا، وهبّت الريح التى صار بها الحرمان رزقا؛ صاحب لواء الحمد، وفارس ميدان المجد. وهى رقعة طويلة قد ذكرنا منها فى المديح فصلا لا فائدة فى إعادته. ومن كلام أبى حفص عمر بن برد الأصغر الأندلسى، فمن ذلك أمان كتبه لمن عصى وعاود الطاعة: أما بعد، فإن الغلبة لنا والظهور عليك جلباك «4» إلينا على قدمك، دون عهد ولا عقد يمنعان من إراقة دمك؛ ولكنا بما وهب الله لنا من الإشراف على سرائر «5» الجزء: 7 ¦ الصفحة: 306 الرّياسة، والحفظ لشرائع السياسة؛ تأمّلنا من ساس جهتك قبلنا فوجدنا يد سياسته خرقاء، وعين حراسته عوراء، وقدم مداراته شلّاء، لأنه غاب عن ترغيبك فلم ترجه، وعن ترهيبك فلم تخشه؛ فأدتك حاجتك إلى طلاب المطامع الدنيّة، وقلّة مهابتك الى التهالك على المعاصى الوبيّة؛ وقد رأينا أن تظهر فضل سيرتنا فيك، وتعتبر بالنظر فى أمرك، فمهّدنا لك الترغيب لتأنس إليه، وظلّلنا لك الترهيب لتفرق منه، فإن سوّت الحالتان طبعك، وداوى الثّقاف والنار عودك، فذلك بفضل الله عليك، وبإظهاره حسن السياسة فيك؛ وأمان الله تعالى مبسوط منّا، ومواثيقه بالوفاء معقودة علينا؛ وأنت الى جهتك مصروف، وبعفونا والعافية منا مكنوف، إلّا أن تطيش الصّنيعة عندك فتخلع الرّبقة، وتمرق من الطاعة، فلسنا بأوّل من بغى عليه، ولست بأوّل من تراءت لنا مقاتله من أشكالك إن بغيت، وانفتحت لنا أبواب استئصاله من أمثالك إن طلبت. ومن كلامه يعاتب بعض إخوانه: أظلم لى جوّ صفائك، وتوعّرت علىّ طرق إخائك؛ وأراك جلد الضمير على العتاب، غير ناقع الغلّة من الجفاء؛ فليت شعرى ما الذى أقصى بهجة ذلك الودّ، وأذبل زهرة ذلك العهد؛ عهدى بك وصلتنا تفرق من اسم القطيعة، ومودّتنا تسأل عن صفة العتاب ونسبة الجفاء، واليوم هى آنس بذلك من الرضيع بالثدى، والخليع بالكأس؛ وهذه ثغرة إن لم تحرسها المراجعة، وتذك فيها عيون الاستبصار «1» توجّهت منها الحيل على هدم ما بنينا، ونقض ما اقتنينا؛ وتلك نائحة الصفاء، والصارخة «2» بموت الإخاء؛ لا أستند «3» أعزك الله من الكتاب إليك- وان رغم أنف الجزء: 7 ¦ الصفحة: 307 القلم، وانزوت أحشاء القرطاس، وأجرّ «1» فم الفكر، فلم يبق فى أحدها إسعاد لى على مكاتبتك، ولا بشاشة عند محاولة مخاطبتك- لقوارص «2» عتابك، وقوارع ملامك [التى أكلت أقلامك «3» ] ، وأغصّت «4» كتبك، وأضجرت رسلك، وضميرى طاو لم يطعم تجنيا عليك، ونفسى وادعة لم تحرّك ذنبا إليك، وعقدى مستحكم «5» لم يمسسه وهن فيك؛ وأنا الآن على طرف الإخاء معك، فإما أن تبهرنى بحجّة فأتنصّل «6» عندك، وإما أن تفى بحقيقة فأستديم خلّتك «7» ، وإما أن تأزم «8» على يأسك فأقطع حبلى منك؛ كثيرا ما يكون عتاب المتصافين حيلة تسبر المودّة بها، وتستثار دفائن «9» الأخوة عنها، كما يعرض الذهب على اللهب، ويصفّى المدام بالفدام «10» ، وقد يخلص الودّ على العتب خلوص الذهب على السبك، فأما إذا أعيد وأبدى وردّد وتوالى فإنه يفسد غرس الإخاء، كما يفسد الزرع توالى الماء. ومن كلام أبى الوليد بن طريف من جواب عن المعتمد الى ذى الوزارتين ابن يحفور صاحب شاطبة بسبب أبى بكر بن عمّار: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 308 وقفت «1» على «2» الإشارة الموضوعة من قبلك على إخلاص دلّ «3» على وجوه السلامة، المستنام فيها الى شرف محتدك وصفاء معتقدك أكرم استنامة؛ بالشفاعة فيمن أساء لنفسه حظّ الاختيار، وسبّب لها سبب النكبة والعثار؛ بغمطه لعظيم النعمة؛ وقطعه لعلائق العصمة؛ وتخبّطه فى سنن غيّه واستهدافه، وتجاوزه فى «4» ارتكاب الجرائم وإسرافه؛ حتى لم يدع للصلح موضعا، وخرق ستر الإبقاء بينه وبين مولى النعمة عنده فلم يترك فيه مرقعا؛ وقد كان قبل استشراء رأيه، وكشفه لصفحة المعاندة، وإبدائه غدره فى جميع جناياته مقبولا، وجانب الصفح له معرّضا مبذولا؛ لكن عدته جوانب الغواية، عن طرق الهداية؛ فاستمرّ على ضلاله، وزاغ عن سنن اعتداله؛ وأظهر المناقضة، وتعرّض بزعمه الى المساورة والمعارضة؛ فلم يزل يريغ «5» الغوائل، وينصب الحبائل؛ ويركب فى العناد أصعب المراكب، ويذهب منه فى أوعر المذاهب؛ حتى علقته تلك الأشراك التى نصبها، وتشبّثت به مساوى المقدّمات التى جرّها وسبّبها؛ فذاق وبال فعله، «ولا يحيق المكر السّىّء إلّا بأهله» ولم يحصل فى الأنشوطة التى تورّطها، والمحنة التى اشتملت عليه وتوسّطها؛ إلا ووجه العفو له قد أظلم، وباب الشفاعة فيه قد ابهم «6» ؛ ومن تأمّل أفعاله الذميمة، ومذاهبه اللئيمة؛ رأى أنّ الصفح عنه بعيد، والإبقاء عليه داء حاضر عتيد. وفى فصل منه: ففوّق لمناضلة الدولة نباله، وأعمل فى مكايدها جهده واحتياله؛ ثم لم يقتصر على ذلك بل تجاوزه الى إطلاق لسانه بالذمّ الذى صدر عن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 309 لؤم نجاره، والطعن الشاهد بخبث طويّته وإضماره؛ ومن فسد هذا الفساد كيف يرجى استصلاحه، ومن استبطن مثل غلّه كيف يؤمّل فلاحه؛ ومن لك بسلامة الأديم «1» النّغل، وصفاء القلب الدّغل؛ وعلى ذلك فلا أعتقد عليك فيما عرضت به من وجه الشفاعة غير الجميل، ولا أتعدّى فيه حسن التأويل؛ ولو وفدت شفاعتك فى غير هذا الأمر الذى سبق فيه السيف العذل، وأبطل عاقل «2» الأقدار فيه الإلطاف والحيل؛ لتلقّيت بالإجلال، وقوبلت ببالغ المبرّة والاهتبال «3» . ومن كلام ذى الوزارتين أبى «4» المغيرة بن حزم من رسالة. لم أزل أزجر للقاء سيّدى السانح، وأستمطر الغادى والرائح «5» ؛ وأروم اقتناصه ولو بشرك المنام، وأحاول اختلاسه ولو بأيدى الأوهام؛ وأعاتب الأيّام فيه فلا تعتب، وأقودها اليه فلا تصحب؛ حتى إذا غلب الياس، وشمت الناس؛ وضربت بى الأمثال، فقيل: أكثر الآمال ضلال؛ تنبّه الدهر من رقدته، وحلّ من عقدته؛ وقبل منّى، وأظهر الرضى عنّى؛ وقال: دونك ما طمح «6» فقد سمح «7» ، وإليك فقد دنا ما قد جمح؛ فطرت بجناح الارتياح، وركبت الى الغمام كواهل الرّياح؛ وقلت: فرصة تغتنم، وركن يستلم؛ وطرقت روضة [العلم «8» ] عميمة الأزهار، فصيحة الأطيار؛ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 310 ريّا الجداول، باردة الضحى والأصائل؛ وطفت بكعبة الفضل مصونة الحبر «1» ، ملثومة الحجر؛ عزيزة المقام، معمورة المشعر الحرام؛ فما شئنا من محاضرة، تجمع بين الدنيا والآخرة؛ بين يدى نثر يدنى الإعجاز، ونظم ما أشبه الصدور بالأعجاز؛ وحديث تثقّف العقول بآرائه «2» ، وتروّى بصافى مائه؛ فحين شمخ بالظّفر أنفى، واهتزّ لنيل الأمل عطفى- والدهر يضحك سرّا، ويتأبّط شرّا؛ وقد أذهلنى الجذل عن سوء ظنّى به، وأوهمنى نزوعه «3» عن ذميم مذهبه- أتت ألوانه، وفسا «4» ظربانه؛ ونادى: ليقم من قعد، وينتبه من رقد؛ إنما فترت تلك الفترة، ليكون ما رأيت عليك حسرة؛ وسمحت لك مرّة، لتذوق من الأسف عليها كأسامرّة؛ فرأيت وقد غطّى على بصرى، وعقلت وكنت فى عمياء من خبرى؛ وقلت: هو الذى أعهده من لؤمه، وأعرفه من شؤمه؛ فما وهب، إلا وسلب؛ ولا أعطى، إلا ساعات كإبهام القطا؛ فيا له من قادر ما ألأم قدرته، وذابح ما أحدّ شفرته! ولو تسلّط علينا، من يظهر شخصه إلينا، لأدركته رماحنا، [وعصفت به رياحنا «5» ] ؛ لكنه أمير من وراء سجف، يسعى بلا رجل ويصول بلا كفّ. ومن كلام الوزير الكاتب أبى محمد بن عبد الغفور الى بعض إخوانه- وكان قد وصف له امرأة ومدحها وحضّه على زواجها، وكان لذلك الصديق امرأة سوداء- فأجابه ابن عبد الغفور: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 311 بينما كنت ناظرا من المرآة فى شعر أحمّ «1» ، ورأس أجمّ، لا أخاف معه الذم؛ إذ تقدّم رسولك إلىّ، يخطب بنت فلان علىّ؛ ويرغّب منها فى سعة مال، وبراعة جمال؛ ويقسم إنها لبرة بالزوج بريكة، لا تحوجه عند النوم الى أريكة؛ ولو يسّرت- وعياذا بالله- لهذا النكاح، لرزقت قبل الولد منها آلة النّطاح «2» ؛ ولا حاجة لى بعد الدّعة والسكون، [الى حرب زبون، وقراع بالقرون «3» ] ، ولو حملت الىّ تاج كسرى وكنوز قارون؛ فاطلب لهذه السّلعة المباركة مشتريا غيرى، ولا تسقها ولو فى النوم الى ... «4» ؛ وابتعها ولو بأرفع الأثمان إلى نفسك، وأضف عاجها النفيس الى أبنوس «5» عرسك؛ ولا عذر لها فى النّشوز والإعراض، فإنما يحسن السواد الحالك بالبياض؛ والله يمدّك بقرنين قبل الحين، ويضع لك صنعتين «6» وبيلين، فيسقطك بهذا النكاح الثانى للفم كما أسقطت بالأوّل لليدين. كمل السفر السابع من كتاب «نهاية الأرب فى فنون الأدب» للنويرى رحمه الله تعالى- ويليه الجزء الثامن منه، وأوّله: ذكر نبذة من كلام القاضى الفاضل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 312 فهرس الجزء الثامن من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويري .... صفحة ذكر نبذة من كلام القاضى الفاضل محيى الدين أبى على عبد الرحيم البيسانى 1 ذكر شىء من رسائل الإمام الفاضل ضياء الدين أبى العباس أحمد بن أبى عبد الله محمد بن عمر بن يوسف بن عمر بن عبد المنعم الأنصارى القرطبىّ 51 ذكر شىء من إنشاء المولى القاضى الفاضل محيى الدين عبد الله بن عبد الظاهر 101 ذكر شىء من إنشاء المولى الماجد علاء الدين علىّ بن فتح الدين محمد بن محيى الدين عبد الله بن عبد الظاهر 126 ذكر شىء من إنشاء المولى الفاضل تاج الدين عبد الباقى بن عبد المجيد اليمانى 149 ذكر شىء من الأبيات الداخلة فى هذا الباب 163 ومما يتصل بهذا الباب ويلتحق به ويحتاج الكاتب الى معرفته والاطلاع عليه الحجة البالغة والأجوبة الدامغة 166 هفوات الأمجاد وكبوات الجياد 175 ذكر شىء من الحكم 181 ومن الأبيات المناسبة لهذا الفصل 189 ذكر كتابة الديوان وقلم التصرف وما يتصل بذلك 191 ذكر اشتقاق تسمية الديوان ولم سمى ديوانا ومن سمّاه بذلك 195 ذكر ما تفرّع عن كتابة الديوان من أنواع الكتابات 195 الجزء: مقدمةج 8 ¦ الصفحة: 1 ... صفحة ذكر مباشرة ديوان الجيش وسبب وضع الدواوين وأوّل من وضعها فى الإسلام 196 وأما دواوين الأموال 198 ذكر ما يحتاج اليه كاتب الجيش 200 وأما مباشرة الخزانة 213 وأما مباشر بيت المال 217 وأما مباشر أهراء الغلال 219 ذكر مباشرة البيوت السلطانية:- فيحتاج مباشر الحوائج خاناه الى أمور 221 وأما الشراب خاناه 224 وأما الطشت خاناه 225 وأما الفراش خاناه 226 وأما السلاح خاناه 227 ذكر جهات أموال الهلالىّ ووجوهها وما يحتاج اليه مباشروها 228 ذكر الجزية الواجبة على أهل الذمة وما ورد فيها من الأحكام الشرعية الخ:- أما الأحكام الشرعية 234 وأما ما اصطلح عليه كتّاب التصرّف فى زماننا هذا من استخراجها وموضع إيرادها فى حسباناتهم 241 وأما نسبتها فى الإقطاعات الجيشية 241 وأما ما يلزم مباشر الجوالى وما يحتاج إلى عمله 242 ذكر جهات الخراجىّ وأنواعه وما يحتاج اليه مباشره 245 أما الديار المصرية وأوضاعها وقوانينها وما جرت عليه قواعدها الخ 246 وأما جهات الخراجىّ بالشأم وكيفيتها وما يعتمد عليه مباشروها 255 ومن أبواب الخراجىّ الخ 261 الجزء: مقدمةج 8 ¦ الصفحة: 2 وأما ما يشترك فيه الهلالىّ والخراجىّ ويختلف باختلاف أحواله:- أما المراعى 262 وأما المصايد 262 وأما الأحكار 264 وأما أقصاب السكّر ومعاصرها:- قاعدتها الكلية التى لا تكاد تختلف فى الديار المصرية 264 ذكر كيفية الاعتصار والطبخ وتقدير المتحصّل 267 وأما أقصاب الشأم 271 ذكر أوضاع الحساب وما يسلكه المباشر ويعتمده فيها:- تعليق اليوميّة 273 ذكر ما ينتج عن التعليق من الحسبانات بعد المخازيم:- فأما الختم 275 وأما التوالى:- توالى الغلال 276 ولهم أيضا توال يسمونها توالى الارتفاع 277 ولهم أيضا توالى الاعتصار 278 وأما الأعمال 278 فأما أعمال الغلال والتقاوى 278 وأما عمل الاعتصار 278 وأما عمل المبيع 280 وأما عمل المبتاع 281 وأما عمل الجوالى 281 وأما عمل الخدم والجنايات والتأديبات 282 وأما السياقات 282 فأما سياقة الأسرى والمعتقلين 283 وأما سياقة الكراع 283 وأما سياقة العلوفات 284 الجزء: مقدمةج 8 ¦ الصفحة: 3 ... صفحة وأما سياقات الأصناف والزرد خاناه والعدد والآلات والخزائن والبيمارستانات 284 وأما الارتفاع 285 ومن أبواب المضاف ما يضاف بالقلم 287 ومن وجوه المضاف الغريبة الخ 287 وأما الحواصل المعدومة المساقة بالأقلام 290 وان انفصل الكاتب أثناء السنة الخ 292 ومما يلزم الكاتب رفعه المحاسبات-: محاسبة أرباب النقود الجيشية والمكيلات الخ 293 ومنها محاسبات أرباب الأجر والاستعمالات 294 ومما يلزم الكاتب رفعه ضريبة أصول الأموال ومضافاتها الخ 294 ويلزمه رفع المؤامرات 296 ويلزمه رفع ضريبة ما يستأدى من الحقوق 296 ومما يلزمه رفعه فى كل سنة تقدير الارتفاع 297 ويلزمه فى كل ثلاث سنين رفع الكشوف الجيشية 297 وأما المقترحات 297 ذكر أرباب الوظائف وما يلزم كلا منهم مع حضور رفقته ومع غيبتهم وما يسترفعه كل مباشر عند مباشرته وما يلزمه عمله-: اما المشدّ أو المتولّى 298 وأما الناظر على ذلك 299 وأما صاحب الديوان 300 وأما مقابل الاستيفاء 300 وأما المستوفى 301 وأما المشارف 304 وأما الشاهد 304 وأما العامل 304 الجزء: مقدمةج 8 ¦ الصفحة: 4 بيان ليس لدينا من نسخ هذا الجزء غير نسخة واحدة مأخوذة بالتصوير الشمسى ومحفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم 2570 تاريخ، وهى المشار اليها فى بعض حواشى هذا الجزء بحرف (ا) ، وقطعتين من نسختين أخريين أخذتا بالتصوير الشمسى وحفظتا بدار الكتب المصرية: إحداهما تحت رقم 416 (معارف عامة) ؛ وهى المشار اليها فى بعض حواشى الجزء بحرف (ب) وتنتهى فى السطر التاسع من صفحة 69 من هذا الجزء؛ وقد نبّهنا الى موضع انتهائها فى حواشيه؛ والثانية تحت رقم 551 (معارف عامة) ، وهى المشار اليها فى بعض الحواشى بحرف (ج) وتبتدئ من السطر السادس من صفحة 101 وتنتهى فى السطر السادس من صفحة 113 وقد نبهنا على موضع انتهائها فى الحواشى أيضا. وليس التحريف فى هاتين القطعتين بأقلّ منه فى النسخة الأولى، فإن التحريف فى جميع هذه الأصول يكاد يكون متفقا، كما يتبين ذلك مما كتبناه فى بعض الحواشى إذ نقول: «فى كلا الأصلين» أو «فى كلتا النسختين كذا؛ وهو تحريف» أو «تصحيف» . وعلى كل حال فقد بذلنا ما نستطيع فى إصلاح المحرّف والمصحّف من كلماته، وتكميل الناقص من جمله؛ وتحقيق أعلامه وضبطها، وضبط الملتبس من ألفاظه، وتفسير غريبه، وإيضاح الغامض من عباراته، وشرح ما أشكل من أبياته ونسبتها الى قائليها، وشرح ما فيه من أسماء البلاد والأمكنة، والتنبيه على ما فى هذا الجزء- ولا سيّما فى كتابة الديوان- من الكلمات العاميّة، والألفاظ الاصطلاحية التى لم ترد فيما لدينا من كتب اللغة، وبيان المراد منها؛ فإن المؤلف قد استعمل بعض الجزء: مقدمةج 8 ¦ الصفحة: 5 هذه الكلمات جريا على مصطلح كتّاب الدواوين فى استعمالها؛ كما أننا لم ندع التنبيه أيضا على ما استعمله المؤلف فى هذا الباب (أى كتابة الديوان) من مخالفات لغويّة فى صيغ الجموع وتعدية الأفعال، كأن يعدّى الفعل بنفسه ومقتضى اللغة أن يتعدّى بالحرف، أو العكس، أو أن يعدّيه بحرف واللغة تقتضى تعديته بحرف آخر؛ وغير ذلك مما استعمله المؤلف متّبعا فيه اصطلاح كتّاب الدواوين فى ذلك العهد ولم نجده فى كتب اللغة التى بين أيدينا؛ ولم نغيّر بعض هذه الاستعمالات، بل أبقينا الأصل فيها على حاله لعلمنا أنها ترد كثيرا فى عبارات كتّاب الدواوين، وأوّلنا ما يستطاع تأويله منها. أمّا الصعوبات التى صادفناها فى تصحيح هذا الجزء فإننا لم نكد نجد صفحة من أصوله التى بين أيدينا خالية من عدّة كلمات وعبارات محرّفة أو مصحّفة غير مستقيمة المعنى ولا واضحة الغرض، يحتاج إصلاحها إلى زمن طويل، وبحث غير قليل، وتحفّظ من الخطإ، وحسن اختيار فى المحو والإثبات، وتفهّم لما يقتضيه السياق من المعانى والأغراض، ومعرفة بأساليب الكتّاب ومصطلحاتهم فى كل عصر، ليكون المحو والإثبات تابعين لما تقتضيه هذه الأساليب وتلك المصطلحات وخبرة بالكتب وأغراضها، ومكان الفائدة منها، لئلا يضيع الزمن فى البحث عنها وتصفّح جملتها. أمّا طريقتنا فى التصحيح فقد كنّا نقف بالكلمة المحرّفة أو العبارة المغلقة فنحملها على ما يستطاع حملها عليه من المعانى، ونقلّبها على ما تحتمله من الوجوه، ونقرأ مادّة الكلمة فيما لدينا من كتب اللغة، ونرجع إلى ما نعرفه من مظانّها، فاذا لم يستقم المعنى بعد ذلك قلّبنا حروفها بين التحوير والتغيير، والتقديم والتأخير، والحذف والزيادة، الجزء: مقدمةج 8 ¦ الصفحة: 6 والإعجام والإهمال، حتى يستقيم المعنى ويظهر الغرض، منبهين فى الحواشى على ما كان فى الأصل من حروف هذا اللفظ ووجه اختيار غيره وإثباته مكانه. وقد تمّ طبع هذا الجزء فى عهد المدير الحازم، والمربىّ الفاضل، الأستاذ «محمد أسعد براده بك» مدير دار الكتب المصرية. فلا يسعنا فى هذا المقام إلا أن نشكره الشكر الجزيل على ما بذله ويبذله من العناية الصادقة بهذه الكتب، وما يسديه إلى مصححيها من الإرشادات القوية، والاراء السديدة. كما لا يفوتنا أن نثنى الثناء الجميل على حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ «السيد محمد الببلاوى» مراقب إحياء الاداب العربيّة على حسن معاونته بما لديه من المعلومات الواسعة عن الكتب وأغراضها، والبحوث ومظانّها. ونسأل الله سبحانه حسن المعونة والتوفيق فى العمل. مصحّحه أحمد الزين الجزء: مقدمةج 8 ¦ الصفحة: 7 أسماء أهمّ الكتب والمصادر التى رجعنا اليها فى تصحيح هذا الجزء وهى مرتبة على حروف المعجم ومبين فيها ما هو مطبوع فى غير مصر وما هو مخطوط أو مأخوذ بالتصوير الشمسى، ورقمه فى دار الكتب المصرية. أساس البلاغة، لجار الله أبى القاسم محمود بن عمر الزمخشرى. الأغانى، لأبى الفرج على بن الحسين الأصفهانى. إرشاد الأريب الى معرفة الأديب، وهو معجم الأدباء لأبى عبد الله ياقوت الرومى الحموى. أعيان العصر وأعوان النصر، لصلاح الدين خليل بن أيبك الصفدى المأخوذ منه بالتصوير الشمسى بعض أجزاء محفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم 1091 تاريخ. الأمالى، لأبى علىّ القالى. الإرشاد الشافى على متن الكافى فى العروض والقوافى، وهو الحاشية الكبرى للسيد محمد الدمنهورى. أقرب الموارد فى فصح العربية والشوارد، لسعيد الخورى الشرتونى اللّبنانى. إرشاد السارى لشرح صحيح البخارى، لشهاب الدين أحمد بن محمد الخطيب القسطلانى. إخبار العلماء بأخبار الحكماء، للوزير جمال الدين أبى الحسن على بن يوسف القفطى، طبع أوربا. الجزء: مقدمةج 8 ¦ الصفحة: 8 الأحكام السلطانية، لأبى الحسن على بن محمد بن حبيب المعروف بالماوردى طبع أوربا ومصر. الأوائل، لأبى هلال العسكرى، المحفوظ منه نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية تحت رقم 2705 تاريخ. الأطعمة المعتادة، المأخوذ منه بالتصوير الشمسى نسخة محفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم 51 علوم معاشية؛ ولم يعلم مؤلّفه. بدائع الزهور فى وقائع الدهور، المشهور بتاريخ مصر، لمحمد بن أحمد المعروف بابن إياس المصرى. تاريخ العينى، المسمى بعقد الجمان فى تاريخ أهل الزمان، للحافظ بدر الدين محمود، المعروف بالعينى المأخوذ منه بالتصوير الشمسى نسخة محفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم 1584 تاريخ. تاج العروس، وهو شرح القاموس، لمحب الدين السيد محمد مرتضى الحسينى الواسطى الزبيدى. تاج اللغة وصحاح العربية، لأبى نصر اسماعيل بن حمّاد الجوهرىّ الفارابى. التذكرة الصفدية، لصلاح الدين خليل بن أيبك الصفدى، المحفوظ منها بدار الكتب المصرية بعض أجزاء مخطوطة تحت رقم 420 أدب. تاريخ أبى الفداء، وهو المختصر فى أخبار البشر، للملك المؤيد أبى الفداء، المعروف بصاحب حماة. تاريخ ابن الأثير، وهو المسمى بالكامل، لعز الدين على بن أبى الكرم المعروف بابن الأثير الجزرىّ، طبع ليدن. تاريخ الأمم والملوك، لأبى جعفر محمد بن جرير الطبرى، طبع أوربا. الجزء: مقدمةج 8 ¦ الصفحة: 9 تمام المتون شرح رسالة ابن زيدون، لصلاح الدين خليل بن أيبك الصفدى، طبع بغداد. التحفة السنية فى أسماء البلاد المصرية، لشرف الدين يحيى المعروف بابن الجيعان. الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير، لجلال الدين عبد الرحمن بن أبى بكر السيوطى. الجامع لديوان الأدب، فى اللغة، المحفوظ منه نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية تحت رقم 25 لغة تأليف أبى ابراهيم اسحاق بن ابراهيم الفارابى. حاشية الخضرى، على شرح ابن عقيل على الفية ابن مالك. حاشية الصبّان، على شرح الأشمونى على ألفية ابن مالك. الحاوى الكبير، فى الفقه، لأبى الحسن على بن محمد بن حبيب البصرى المعروف بالماوردى، المحفوظ منه نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية تحت رقم 82 فقه شافعى. خريدة القصر وجريدة أهل العصر، للوزير أبى عبد الله محمد بن محمد بن أبى الرجاء الكاتب الأصبهانى. وهذا الكتاب مأخوذ منه بالتصوير الشمسى بعض أجزاء محفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم 4255 أدب. الخراج، ليحيى بن آدم بن سليمان القرشى. الخراج، لأبى يوسف يعقوب صاحب الإمام أبى حنيفة. خطط المقريزى، وهو المسمى بالمواعظ والاعتبار فى ذكر الخطط والآثار. ديوان الشريف الرضىّ. ديوان جرير. ديوان الحماسة، لأبى تمّام حبيب بن أوس الطائى. الجزء: مقدمةج 8 ¦ الصفحة: 10 ديوان أبى الطيّب المتنبىّ. دائرة المعارف، للبستانى. درّة الغوّاص فى أوهام الخواصّ، تأليف أبى محمد القاسم بن على الحريرى. الروضتين فى أخبار الدولتين، لشهاب الدين أبى شامة المقدسى. روح المعانى فى تفسير القرآن العظيم والسبع المثانى، للسيد محمود بن عبد الله الألوسى البغدادى. زهر الآداب وثمر الألباب، لأبى اسحاق ابراهيم بن على المعروف بالحصرى القيروانى. سقط الزند، لأبى العلاء المعرّى. سيرة ابن هشام، وهو عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميرىّ. سرح العيون، شرح رسالة ابن زيدون، لجمال الدين أبى بكر محمد بن محمد المعروف بابن نباتة المصرىّ. شرح التنوير على سقط الزند، لأبى يعقوب يوسف بن طاهر النحوىّ. شرح ديوان أبى تمّام حبيب بن أوس الطائى، لأبى زكريا يحيى بن على المعروف بالخطيب التبريزى؛ وهذا الكتاب محفوظة منه نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية تحت رقم 50 أدب ش. شرح حماسة أبى تمّام، لأبى زكريا يحيى بن على المعروف بالخطيب التبريزى. شرح ديوان أبى الطيّب المتنبىّ، وهو المسمى بالتبيان لأبى البقاء عبد الله بن الحسين المعروف بالعكبرى. شفاء الغليل فيما فى كلام العرب من الدخيل، لشهاب الدين الخفاجى. الجزء: مقدمةج 8 ¦ الصفحة: 11 شرح كافية ابن الحاجب فى النحو، لرضىّ الدين محمد بن الحسن الإسترابادى النحوىّ. صبح الأعشى فى كتابة الإنشا، لشهاب الدين القلقشندى. صحيح البخارى. الطالع السعيد الجامع لأسماء الفضلاء والرواة بأعلى الصعيد، لكمال الدين أبى الفضل الإدفوى. طبقات الشعراء، تأليف أبى عبد الله محمد بن سلّام الجمحىّ البصرىّ، طبع أوربا. الطبقات الكبرى، لأبى محمد بن عبد الله بن مسلم المعروف بابن قتيبة الدينورى. عيون الأخبار، لأبى محمد عبد الله بن مسلم المعروف بابن قتيبة الدينورى. العقد الفريد، لأحمد بن محمد بن عبد ربه القرطبىّ. الفاضل من كلام القاضى الفاضل، اختيار جمال الدين أبى بكر المعروف بابن نباتة المصرىّ، وهذا الكتاب مأخوذة منه نسخة بالتصوير الشمسى محفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم 3882 أدب. القاموس، لمجد الدين الفيروزابادى. قوانين الدواوين، للأسعد بن مماتى. لسان العرب، لأبى الفضل جمال الدين المعروف بابن منظور الإفريقىّ المصرىّ. لزوم ما لا يلزم، لأبى العلاء المعرّى. مسالك الأبصار فى ممالك الأمصار، لشهاب الدين المعروف بابن فضل الله العمرى القرشى؛ وهذا الكتاب مأخوذة منه نسخة بالتصوير الشمسى محفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم 2568 تاريخ. مغنى اللبيب، لجمال الدين بن هشام الأنصارى. الجزء: مقدمةج 8 ¦ الصفحة: 12 ملخّص تاريخ الخوارج، للشيخ محمد شريف سليم. المنهل الصافى والمستوفى بعد الوافى، لأبى المحاسن جمال الدين المعروف بابن تغرى بردى وهذا الكتاب محفوظة منه نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية تحت رقم 1113 تاريخ. المصباح المنير، لأحمد بن محمد المقرى الفيومى. المغرب فى ترتيب المعرب، لأبى الفتح ناصر بن عبد السيد المطرّزى. محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء، لأبى القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهانى. المستطرف فى كل فن مستطرف، لشهاب الدين أحمد الأبشيهى. معاهد التنصيص على شواهد التلخيص، لأبى الفتح عبد الرحيم العباسى. معيد النعم ومبيد النقم، لتاج الدين عبد الوهاب بن تقى الدين السبكى، طبع أوربا. المعرّب والدخيل، للشيخ مصطفى المدنى، المحفوظ منه نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية تحت رقم 64 لغة. المعرّب من الكلام الأعجمى، لأبى منصور موهوب المشهور بالجواليقى، طبع أوربا. معجم البلدان، لياقوت، طبع أوربا. مقدّمة ابن خلدون. المعجم الفارسى الإنجليزى، تأليف ستاين جاس. مفاتيح العلوم، لأبى عبد الله محمد بن أحمد الخوارزمىّ، طبع أوربا. الجزء: مقدمةج 8 ¦ الصفحة: 13 مناقب الليث بن سعد، للحافظ أبى الفضل شهاب الدين أحمد الشهير بابن حجر العسقلانى. المخصّص، فى اللغة، لأبى الحسن على بن اسماعيل المعروف بابن سيده. مفردات الأدوية والأغذية، لضياء الدين أبى محمد عبد الله بن أحمد الأندلسى المعروف بابن البيطار. نهاية الأرب فى فنون الأدب، للنويرى. النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة، للأمير أبى المحاسن جمال الدين المعروف بابن تغرى بردى المأخوذ منه نسخة بالتصوير الشمسى محفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم 1343 تاريخ. وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، لشمس الدين المعروف بابن خلّكان. يتيمة الدهر فى شعراء أهل العصر، لأبى منصور عبد الملك بن محمد الثعالبى النيسابورى. الجزء: مقدمةج 8 ¦ الصفحة: 14 الجزء الثامن [ تتمة الفن الثاني في الإنسان وما يتعلق به ] [تتمة القسم الخامس في الملك وما يشترط فيه و ... ] [ تتمة الباب الرابع عشر في الكتابة وما تفرع من أصناف الكتاب ] [ تتمة ثم الكتابة بحسب من يحترفون بها على أقسام ] [ تتمة ذكر كتابة الإنشاء وما اشتملت عليه ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ذكر نبذة من كلام القاضى الفاضل الأسعد محيى الدين أبى علىّ عبد الرحيم ابن القاضى الأشرف [أبى المجد «1» علىّ] بن «2» الحسن بن الحسين ابن أحمد بن اللّخمىّ الكاتب المعروف بالبيسانىّ- رحمه الله تعالى- إليه انتهت صناعة الإنشاء ووقفت، وبفضله أقرّت أبناء البيان واعترفت، ومن بحر علمه رويت ذو والفضائل واغترفت؛ وأمام فضله ألقت البلاغة عصاها «3» ، وبين يديه استقرّت «4» بها نواها؛ فهو كاتب الشرق والغرب فى زمانه وعصره، وناشر ألوية الفضل فى مصره وغير مصره؛ ورافع علم البيان لا محاله، والفاصل بغير إطاله؛ وقد أنصف بعض الكتّاب فيه، ونطق من تفضيله بملء فيه؛ حيث قال: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 1 كلّ فاضل بعد الفاضل فضله، وكلّ قد عرف له فضله؛ وستقف إن شاء الله من كلامه على السحر الحلال، فتروى صداك من ألفاظه بالعذب الزّلال؛ فمن ذلك قوله: وافينا «1» قلعة نجم [وهى «2» نجم] فى سحاب، وعقاب فى عقاب «3» ؛ وهامة لها الغمامة عمامه، وأنملة اذا خضبها الأصيل كان الهلال لها «4» قلامه. ومن رسائله ما كتب به الى النظام أمير حلب: ورد كتاب المجلس السامى- حرس الله به نظام المجد [وأطلق فيه «5» لسان الحمد] ، ودامت مساعيه مصافحة ليد السعد، وأحسن له التدبير فى اليومين: من قبل ومن بعد- فمرحبا بمقدمه، وأهلا بمنجمه؛ والشوق تختلف وفود «6» صروفه، وتتنوّع صنوف ضيوفه؛ فلا بد أن تتبعّض اذا تبعّضت المسافات، وتبرد وتخمد اذا عبّدت «7» ودنت الطّرقات؛ ولو بمقدار ما يدنو اللقاء على الرسول السائر، بالكتاب الصادر، والخيال الزائر، بالحبيب العاذر، والنسيم الخاطر، من رسائل الخواطر؛ وقد وجدت عندى أنسا لا أعهده؛ وعددت نقص البعد أحد اللقاءين، كما كنت أعدّ زيادة البعد أحد النأيين؛ فزاده الله من القلوب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 2 حظوه، ولا أخلاه من بسط يد وقدم فى حظّ وحظوه «1» ؛ ووقفت على هذا الكتاب المشار اليه وما وقفت عنه لسانا شاكرا، ولا صرفت عنه طرفا ناظرا، وبلغت من ذلك جهدى وإن كان قاصرا، واستفرغت له خاطرى وما أعدّه اليوم خاطرا؛ ومما أسرّ به أن يكون فى الخدمة السلطانية- أعلاها الله ورفعها، ووصلها ولا قطعها، وألّف عليها القلوب وجمعها، واستجاب فيها الأدعية وسمعها- من يكثّر قليلى، ويشفى فى تقبيل الأرض غليلى، فإن تقبيل سيدنا كتقبيلى؛ فلو شرب صديق وأنا عطشان لأروانى، ولو استضاء بلمعة فى الشرق وأنا فى الغرب لأرانى؛ كما أنّ الصّديق اذا مسّته نعمة وجب عنها شكرى، واذا وصلت اليه يد منعم وصلتنى وتغلغلت الىّ ولو كنت فى قبرى. ومنها: وأعود الى جواب الكتاب، الأخبار لا تزال غامضة إلى أن يشرحها، ومقفلة إلى أن يفتحها؛ بخلاف حالى مع الناس، فإن القلوب لا تزال سالمة إلا أن يجرحها، والهموم خفيفة إلا أن يرجّحها؛ والحقّ من جهته ما تحقّق، وما استنطق بشكر من أنطق؛ وفى الخواطر فى هذا الوقت موجود يجعلها [فى «2» ] العدم، ويخرجها من الألم الى اللّم «3» ، ويعادى بين الألسنة والأسماع وبين العيون والقلم؛ وكلّما قلّت الحيلة المشكوك فى نجحها، فتح الله باب الحيلة المطموع فى فتحها؛ وهى من فضل الله سبحانه والاستجارة بالاستخاره، فتلك تجارة رابحة وكلّ تجارة لا تخلو من خساره؛ والله تعالى يجمع كلمة المسلمين على يد سلطاننا، ولا يخلينا منه ومن [بنيه «4» ] حلّى زماننا، وشنوف إيماننا، ويسعدنا من أكابرهم بتيجان رءوسنا، ومن أصاغرهم بخواتم أيماننا؛ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3 ولو تفرّغت العزمة الفلانية لهذا الكلب العدوّ فترجم كلبه، وتكفّ غربه؛ وتذيقه وبال أمره، وتطفئ شرار شرّه، وتعجّل له عاقبة خسره؛ فقد غاظ المسلمين وعضّهم، وفلّ جموعهم وفضّهم؛ وما وجد من يكفى فيه ويكفّه، ويشفى الغليل منه بما يشفّه «1» ؛ ولو جعل السلطان- عزّ نصره- غزو هذا الطاغية مغزاه «2» ، وبلاده مستقرّ عسكره ومثواه، لأخذ الله الكافر بطغواه؛ ولأبقى ذكرا، وأجرى فى الصحيفة أجرا؛ ولأطفأ الحقد الواقد، بالحديد البارد، وغنم المغنم البارد، وسدّد الله ذلك العزم الصادر والسهم الصارد «3» ؛ فلا بدّ أن يجرى سيّدنا هذا الذكر، ولو لما أحتسبه أنا من الأجر؛ وما أورده المجلس عن فلان من صفو شربه، وأمن سربه؛ واستقراره تحت الظلّ الظليل السلطانى- جعله الله ساكنا، وأحلّه منه حرما آمنا- ومن معافاته فى نفسه وولده وجماعته، وأهل ولائه وولايته، فقد شكرت له هذه البشرى، وفرحت بما يسّر الله ذلك المولى له من اليسرى؛ غير أنى أريد أن أسمع أخباره منه لا عنه وبمباشرته لا باستنابته، فلا عرفت مودّته من المودّات الكسالى، ولا أقلامه إلا بلبس السواد- على أنها مسرورة سارّة لا ثكالى؛ واذا قنع صديقه منه بفريضة حجيّة، لا تؤدّى إلا فى ساعة حوليّه، فإن يبخل بها ذلك الكريم فقد انتحل الاسم الآخر- أعاذه الله منه، وصرف عنه لفظه كما صرف معناه عنه؛ وللمودّة عين لا يكحلها اذا رمدت إلا إثمد مداد الصديق، وما فى الصبر وسع لصحبة أيام العقوق بعد صحبة أيام العقيق؛ وقد بلغنى أنّ ولد المذكور نزع «4» وترعرع، ونفع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4 وأينع؛ وخدم فى المجلس السلطانىّ، فسررت بأن تجمع فى خدمته الأعقاب والذّرارى؛ والله تعالى يحفظ علينا تلك الخدمة جميعا، ولا يعدمنا من يدها سحابا ولا من جنابها ربيعا؛ وقد فتح سيّدنا بابا من الأنس ونهجه، وأوثر ألّا يرتجه؛ بمكاتباته التى يده فيها بيضاء، ويد الأيام عندى خضراء؛ بحيث لا يستوفى على الحساب، فى كل جواب؛ وأنا فى هذه الأحوال أوثر العزلة وأبدأ فيها بلسانى وقلمى، وأتوخّى أن أشبّه حالة وجودى بعدمى؛ فإنى أرى من تحتها أروح ممن فوقها، ومن خرج منها أحظى ممن أقام بها؛ وللمودّات مقرّ ما هو إلا الألسنه، والقلوب قضاة لا تحتاج الى بيّنه. وكتب [جوابا «1» ] أيضا الى آخر وهو: وقفت على كتاب الحضرة- يسر الله مطالبها وجمّل عواقبها، وصفّى من الأكدار مشاربها، وحاط من غير الأيّام جوانبها، ووسّع فى الخيرات سبلها ومذاهبها؛ ووقاها ووقى ولدها، وأسعدها وأسعد يومها وغدها؛ وجمع الشمل بها قريبا، وأحدث لها فى كلّ حادثة صنعا غريبا- من يد الحضرة الفلانيّة- لا عدمت يدها ومدّها، وأدام الله سعدها- وشكرت الله على [ما «2» ] دلّ عليه هذا الكتاب من سلامة حوزتها «3» ، ودوام نعمتها؛ وسبوغ كفايتها؛ وسألته سبحانه أن يصحّ جسمها، ويميط همّى وهمّها؛ فهما همان لا يتعلّقان إلا بخدمة المخدوم- أجارنا الله فيه من كلّ هم، وأجرى بتخصيصه السعد الأعمّ، واللّطف الأتمّ- وعرفت ما أنعمت بذكره من المتجدّدات بحضرته، ومن الأمور الدالّة على سعادته وقوّته؛ وللأمور أوائل وأواخر، وموارد ومصادر؛ فنسأل الله سبحانه أن يجعل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5 العواقب لكم، والمصادر إليكم، والنعمة عندكم، والنّصرة خاصّة بسلطانكم، والكفاية مكتنفة بجماعتكم «1» ؛ وقد قاربت الأمور بمشيئة الله أن تسفر وجوهها، والخواطر أن يستروح مشدوها «2» ، «إنّ الله لذو فضل على النّاس» وفى كلّ أقدار الله الخيرة، وفى حكمته أنه جعل الخيرة محجوبة تحت أستار الأقدار؛ وقد علم الله تقسّم فكرى لما هى عليه من المشقّات المحمولة بالقلب والجسد، والأمور الحاضرة فى اليوم والمستقبلة فى غد؛ وهى فى جانب الخير، والخير يعمّ الوكيل لصاحبه، ومن أصلح جانبه مع الله كان الله جديرا بإصلاح جانبه. ومنه: وعليه السلام الطيّب الذى لو مرّ بالبهيم لأشرق، أو بالهشيم لأورق؛ وكتبها الكريمة إن تأخّرت فمأموله، وان وصلت فمقبوله؛ وان أنبأت بسارّ فمشهوره وان أنبأت بشرّ فمستوره؛ وخادمها فلان يخدم مجلسها خدمة الخادم لمخدومه، ويكرر التسليم على وجهه الكريم المحفوف من كلّ قلب بحبّه، ومن كلّ سلام بتسليمه. وكتب أيضا: وصل كتاب الحضرة- وصل الله أيّامها بحميد العواقب، وبلوغ المآرب، وصحبت الدهر [على خير «3» ما صحبه صاحب] ، وأنهضنا بواجب طاعته، فإنه بالحقيقة الواجب- وكلّ واجب غيره غير واجب- من يد فلان، فرجوت أن يكون طليعة للاقتراب، ومبشّرا بالإياب، ومخبرا بعودها الذى هو كعود الشباب لو يعود الشباب؛ وأعلمنى من سلامة جسمها، وقلبها من همّها؛ ما شكرت الله عليه، واستدمت العادة الجميلة منه، وسألته أن يوزعها «4» شكر النعمة فيه؛ وعرفت الأحوال جملة من كتابها، وكلّها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 6 تشهد بتوفيق سلطاننا، وبأيّامه التى تعود بمشيئة الله بإصلاح شانه وشاننا؛ والذى مدّه ظلّا، يمدّه فضلا؛ فالفضل الذى فى يديه، فى يخلق الله الذى أحالهم فى الرزق عليه؛ فكيفما دعونا لأنفسنا، وكيفما كانت أسنّة رماحه فهى نجوم حرسنا، فلا عدمت أيامه التى هى أيام أعيادنا، ولا لياليه التى هى ليالى أعراسنا. ومن أجوبته: ورد على الخادم- أدام الله أيام المجلس وصفّاها من الأكدار، وأبقى بها من تأثيراته أحسن الآثار، وأسمع منه وعنه أطيب الأخبار وجعل التوفيق مقيما حيث أقام، وسائرا أينما سار- كتابه الكريم، الصادر عن القلب السليم، والطبع الكريم، والباطن الذى هو كالظاهر كلاهما المستقيم؛ ولا تزال الأخبار عنّا محجمه، والأحاديث مستعجمه؛ والظنون مترجّحه «1» ، والأقوال مسقمة ومصحّحه؛ الى أن يرد كتابه فيحقّ الحقّ ويبطل الباطل، ويتّضح الحالى ويفتضح العاطل؛ ويعرف الفرق ما بين تحرير قائل، وتحوير ناقل «2» ؛ فتدعو له الألسنة والقلوب وتستغفر بحسناته الأيام من الذنوب؛ والشجاعة شجاعتان: شجاعة فى القلب وشجاعة فى اللسان؛ وكلتاهما لديه مجموع، ومنه وعنه مروىّ ومسموع؛ وذخائر الملوك هم الرجال، وآراء الحزماء هى النصال، ومودّات القلوب هى الأموال، ومجالس آرائهم هى المعركة الأولى التى هى ربما أغنت عن معارك القتال؛ والله تعالى يمدّ المسلمين به حال تجمّعهم على جهاد الكفّار، ويلهمهم أن يبذلوا فى سبيله النفس والسيف والدّرهم والدينار؛ ويزيل ما فى طريق المصالح من الموانع، ويفطم السيوف عن الدّماء الإسلاميّة ويحرّم عليها المراضع؛ ويجعل للمجلس فى ذلك اليد العليا، والطريقة المثلى، ويجمع له بين خيرى الآخرة والأولى؛ والأحوال هاهنا بمصر مع بعد سلطانها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 7 وتمادى غيبته عن مباشرة شانها؛ على ما لم يشهد مثله فى أوقات السكون فكيف فى أوقات القلق، على من يحفظ الله به من فى البلاد من الجموع ومن فى الطّرقات ومن الرّفق؛ والأمير الولد صحيح فى جسمه وعزمه، متصرّف فى مصالحه على عادته ورسمه؛ جعله الله نعم الخلف المسعود، وأمتعه بظلّ المجلس الممدود، فى العمر الممدود؛ وعرف الخادم أن المجلس ناب عنه مرّة بمجلس فلان ويشكر على ما سلف من ذلك المناب، ويستزيد ما يستأنفه من الخطاب؛ والبيت الكريم أنا فى ولائه وخدمته كما قيل: إنّ قلبى لكم لكالكبد الحرّى ... وقلبى لغيركم كالقلوب يسرّنى أن يمدّ الله ظلّهم، وأن يجمع شملهم؛ كما يسوءنى أن تختلف آراؤهم ولا تنتظم أهواؤهم؛ وهذا المولى يبلغنى أنه سدّ وساد، وجدّ وجاد، وخلف من سلف من كرام هذا البيت من الآباء والأجداد؛ واشتهرت حسن رعايته لمن جعله الله من الرعايا وديعه، وحسن «1» عنايته بمن جعله الله له من الأجناد شيعه؛ وإذ بلغنى ذلك سررت له ولابنه ولجدّه، وعلمت أنه لم يمت من خلّفه لإحياء مجده؛ ومن استعمله بحسن فقد أراد الله به حسنا، ومن أحسن إلى خلق الله كان الله له محسنا؛ إن الله أكرم الأكرمين، وأعدل العادلين؛ وكتب المجلس السامى ينعم بها متى خفّ أمرها، وتيسّر حملها، وتفرّغ وقته لها؛ والثقة حاصلة بالحاصل من قلبه، وعاذرة وشاكرة فى المبطئ «2» والمسرع من كتبه؛ ورأيه الموفّق إن شاء الله تعالى. وكتب: ورد كتاب الحضرة السامية- أحسن الله لها المعونه، ويسّر لها العواقب المأمونه، وأنجدها على حرب الفئة الكافرة الملعونه- بخبر خروج الخارج الجزء: 8 ¦ الصفحة: 8 من قلعة كذا، وما صرّح به من الخوف الذى ملأ الصدور، والاستحثاث فى مسير العسكر المنصور؛ وكلّ ضيقة «1» وردت على القلوب ففزعت فيها إلى ربّها فرجت فرجه وأذكى لها اليقين سرجه؛ ولم تشرك معه غيره مستعانا، ولم تدع معه من خلقه إنسانا؛ فما الضّيقة وإن كانت منذرة إلا مبشّره، والخطة وإن كانت وعرة إلا ميسّره؛ لا جرم أن هذا الكتاب أعقبه وصول خبر نهضة فلان- نصر الله نهضاته، وأدّى عنه مفترضاته- فاستنهض العساكر، وقوتل العدوّ الكافر؛ فنفّس ذلك الخناق، وتماسكت الأرماق؛ وما أحسب أنّ الأمر يتمادى مع القوم، بل أقول: لا كرب على الإسلام بعد اليوم؛ تتوافى بمشيئة الله ولاة الأطراف، ويزول من نفس العدوّ وسمعه ما استشعره بين المسلمين من الخلاف؛ ويجتمعون إن شاء الله على عدوّهم، ويذهب الله بأهل دينه ما كان [من فساد «2» ] أعدائه فى أرضه وعلوّهم؛ وقد شممنا رائحة الهدنة بطلب الرسول، وبخبر هلاك ملك الألمان الذى هو بسيف الله مقتول، والموت سيف الله على الرقاب مسلول. ومنها: فأما ما أشار إليه من القلاع التى شحنها «3» ، والحصون التى حصّنها؛ والأسلحة التى نقلها إليها، والأفوات التى ملأ بها عيون مقاتلتها وأيديها؛ فإن الله يمنّ عليه بأن يسّره لهذه الطاعه، ورزقه لها الاستطاعه؛ فكم رزق الله عبدا رزقا حرمه منه وفتح عليه بابا من الخير وصرفه عنه؛ لا جرم أنه وفّى قوما أجرهم بغير حساب، ووقف الجزء: 8 ¦ الصفحة: 9 قوما بموقف مناقشة الحساب، الذى المصرف عنه إلى ما بعده من العذاب؛ الآن والله ملّك الملك العادل ماله الذى أنفقه، وأودعه لخير مستودع من الذى رزقه؛ وشتّان بين الهمم: همّة ملك ذخر ماله فى رءوس القلاع لتحصين الأموال، وهمّة ملك أودع ماله فى أيدى المقاتلة لتحصين القلاع يبنى الرجال وغيره يبنى القرى ... شتّان بين مزارع ورجال والحمد لله الذى جعل ماله له مسرّه، يوم يرى الذين يكنزون الذهب والفضّة المال عليهم حسره؛ ما أحسب أحدا من هذه الأمّة إن كان عند «1» الله من أهل الشهادات بين يديه، وإن كان كريم الوفادة لديه؛ إلا تلقّاه شاكرا لهذا السلطان شاهدا بما يولى هذه الأمّة من الإحسان، «وفى ذلك فليتنافس المتنافسون» سيحصد الزارعون ما زرعوا، والله يزيده توفيقا إلى توفيقه، ويلهم كلّ مسلم [القيام «2» ] بمفترض برّه ويعيذه من محذور عقوقه؛ وأنا أعلم أنّ الحضرة تفرد لى شطرا من [زمانها المهم، لكتاب تلقيه «3» الىّ، وخبر سارّ تورده علىّ؛ وأنا أفرد شطرا من] زمانى لشكرها، وأسرّ والله لها بتوفيق الله فى جميع أمرها، فإن الذّاكر لها بالخير كثير، فزاد الله طيب ذكرها؛ ورأيه الموفّق فى أن يجرينى على كنف العادة، و [لا «4» ] يقطع عنى هذه المادّة؛ إن شاء الله تعالى. وكتب: ورد كتاب المجلس السامى- نصر الله عزائمه، وأمضى فى رءوس الأعداء صوارمه، وشدّ به بنيان الإسلام ودعائمه، واستردّ به حقوق الإسلام من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 10 الكفر ومظالمه، وأخلف نفقاته فى سبيل الله ومغارمه، وجعلها مغانمه- وكان العهد به قد تطاول، والقلب فى المطالبة ما تساهل، ولمحت أشغاله بالطاعة التى هو فيها وما كلّ من تشاغل تشاغل؛ فهنّأه الله بما رزقه، وتقبّل فى سبيل الله ما أنفقه وعافى الجسم الذى أنضاه فى جهاد عدوّه وأخلقه، وقد وفق من أتعب نفسا فى طاعة من خلقها، وجسما فى طاعة من خلقه؛ فهذه الأوقات التى أنتم فيها أعراس الأعمار، وهذه النفقات التى تجرى على أيديكم مهور الحور فى دار القرار؛ قال الله سبحانه فى كتابه الكريم: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ وأما فلان وما يسّره الله له، وهوّنه عليه، من بذل نفسه وماله، وصبره على المشقّات واحتماله، وإقدامه فى موقف الحقائق قبل رجاله؛ فتلك نعمة الله عليه، وتوفيقه الذى ما كلّ من طلبه وصل اليه؛ وسواد العجاج فى تلك المواقف، بياض ما سوّدته الذنوب من الصحائف «يا ليتنى كنت معهم فأفوز فوزا عظيما» فما أسعد تلك الوقفات، وما أعود بالطّمأنينة تلك المرجفات «1» ؛ وقد علم الله سبحانه وتعالى منّى ما علم من غيرى من المسلمين من الدعاء الصالح فى الليل إذا يغشى، ومن الذكر الجميل لكم فى النهار إذا تجلّى؛ والله تعالى يؤيّد بكم إيمانكم، وينصركم وينصر سلطانكم، ويصلحكم ويصلح بكم زمانكم، ويشكر هجرتكم التى لم تؤثروا عليها أهليكم ولا أموالكم ولا أوطانكم؛ ويعيدكم إليها سالمين سالبين، غانمين غالبين؛ إنه على كل شىء قدير. وكتب: وصل كتاب الحضرة السامية- أيد الله عزمها، وسدّد سهمها وجعل فى الله همّها، ووفّر فى الخيرات قسمها- مبشّرا بالحركة الميمونة السلطانيّة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 11 إلى العدوّ خذله الله، ومسير المسلمين- نصرهم الله- تحت أعلامه أعلاها الله؛ ومباشرة العدوّ واستبشار المسلمين بما أسعدهم الله من الجراءة عليه، ومن إضمار العود اليه؛ وهذه مقدّمة لها ما بعدها، وهى وان كانت نصرة من الله فما نقنع بها وحدها فالهمّة العالية [السلطانيّة] للحرب التى تسلب الأجسام رءوسها، والسيوف حدّها؛ فإن الجنّة غالية الثمن، والخطاب بالجهاد متوجّه الى الملك العادل دون ملوك الأرض وإلا فمن؟ فهذه تشترى بالمشقّات، كما أن الأخرى- أعاذنا الله منها- رخيصة الثمن وتشترى بالشهوات؛ والحضرة السامية نعم القرين ونعم المعين، وفرض ذى اللهجة المبين، أن يستجيش ذا القوة المتين، وكلمة واحدة فى سبيل الله أنمى من ألوف المقاتلة والمئين؛ والله تعالى يوسّع إلى الخيرات طرقها، ويطلق بها منطلقها، ويمتع الإخوان بخلقها الكريم فما منهم إلا من يشكر خلقها؛ ورأيها الموفّق فى إجرائى على العادة المشكورة من كتبها، وإمطارى من خواطرها، لا عدمت صوب سحبها. ومن كتاب كتبه الى القاضى محيى الدين بن الزكىّ: بعد أن أصدرت هذه الخدمة الى المجلس- لا عدمت عواطفه وعوارفه، ولطائفه ومعارفه؛ وأمتع الله الأمة عموما بفضائله وفواضله، ونفعهم بحاضره كما نفعهم بسلفه الصالح وأوائله، وعادى الله عدوّه ودلّ سهامه على مقاتله-[ورد كتاب «1» منه فى كذا وما بقيت أذكر الإغباب، فإن سيّدنا يقابله] بمثله، ولا العتاب فإن سيدنا يساجله بأفيض من سجله؛ ولا ألقى عليه من قولى قولا ثقيلا، ولا أقابل به من قوله قولا جليّا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 12 جليلا؛ فقد شبّ «1» عمرو عن الطّوق، وشرف البراق عن السّوق؛ وذلك العمرو «2» ما برح محتنكا «3» والطّوق للصّبىّ، وذلك البراق حمى لا يقدّم إلا للنّبىّ؛ ومع هذا فلا تقلّص عنّى هذه الوظيفه، واعتقدها من قرب الصحيفه؛ فإنك تسكّن بها قلبا أنت ساكنه وتسرّبها وجها أنت على النوى معاينه. وكتب إلى العماد: كانت كتب المجلس- لا غيّر الله ما به من نعمه ولا قطع عنه موادّ فضله وكرمه، ولا عدمت الدنيا خطّ قلمه وخطو قدمه؛ وأعاذنا الله بنعمة وجوده من شقوة عدمه- تأخّرت وشقّ علىّ تأخّرها، وتغيّرت علىّ عوائدها والله يعيذها مما يغيّرها؛ ثم جاءت ببيت ابن حجاج: غاب ما غاب ووافا ... نى على ما كنت أعهد «4» وأجبته ببيت الرّضىّ: ومتى تدن النوى بهم ... يجدوا قلبى كما عهدوا كتابة لا ينبغى ملكها إلا لخاطره السليمانىّ، وفيض لا يسند إلا عن «5» نوح قلمه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 13 الطّوفانىّ، أوجبت على كل بليغ أن يتلو، «ومنهم أمّيّون لا يعلمون الكتاب إلّا أمانىّ» وبالجملة فالواجب على كلّ عاقل ألّا يتعاطى ما لم يعطه، وأن يدخل باب مجلس سيّدنا ويقول حطّه؛ فأما ما أفاض فيه من سكون الأحوال بتلك البلاغة فقد كدت أسكر لما استخرجته من تلك المحاسن التى لو أن الزمان الأصم يسمع لأسمعته، ولو أن الحظّ الأشم يخضع لأخضعته؛ وبالجملة فإنه لا يشنأ زمن أبقى من سيّدنا نعمة البقيّة التى مهما وجدت فالخير كلّه موجود، والمجد بحفيظته مشهود؛ وكما تيسّرت راحة جسمه، فينبغى أن يقتدى به قلبه فى راحة من همّه؛ وأعراض الدنيا متاع المتاعب، وقد رفع الله قدره، وإلا فهذه الدنيا وهدة إليها مصاب المصائب؛ والحال التى هو الآن عليها عاكف [إلا «1» ] من علم يدرسه، وأدب يقتبسه، وحريم عقائل يذبّ عنه ويحرسه؛ هى خير الأحوال، فالواجب الشكر لواهبها، والمسرّة بالإفضاء إلى عواقبها؛ وما ينقص شىء من المقسوم، وإن زاد عند المجلس فليس من حظّه، ولكن من حظّ السائل والمحروم؛ فلا يسمح المجلس بكتاب من كتبه على يد من الأيدى التى لا تؤدّى، ولا يؤمن أن تكون أناملها حروف التعدّى، وهى إحدى ما تعلّقت به الشهوات من اللذّات، وهو ينعم بها على عادته فى كفّ ضراوة القلب ودفع عاديته؛ موفّقا إن شاء الله تعالى. وكتب إلى القاضى محى الدين بن الزكىّ أيضا: كان كتابى تقدّم الى المجلس السامى- أدام الله نفاذ أمره، وعلو قدره، وراحة سرّه ونعمة يسره؛ وأجراه على أفضل ما عوّده، وأسعد جدّه وأصعده، وأحضره أمثال العام المقبل وأشهده؛ ولا زال يلبس الأيّام ويخلعها، ويستقبل الأهلّة ويودّعها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 14 وهو محروس فى دنياه ودينه، مستلئم من نوب الدهر بدرع يقينه، كاشف لليل الخطب بنور جبينه، وليوم الجدب بفيض يمينه؛ وأعماله مقبوله، ودعواته على ظهر الغمام محموله؛ والدنيا ترعاه وهى تأتى «1» برغمها، والآخرة تدّخر له وهو يسعى لها سعيها- من أيدى عدّة من المسافرين، ولثقتى بهم ما قدّرت «2» أسماءهم، ولضيق صدرى بتأخير كتب المجلس ما حفظتها. وجاء منها: وما كأنا إلا أن دعونا الله سبحانه دعوة الأوّلين أن يباعد بين أسفارنا، وأردنا أن يقطع بيننا وبين أخبارنا؛ فأجيبت الدّعوه، ولا أقول لسابق الشّقوه، ولكن للاحق الحظوه؛ فإن مكابدة الأشواق الى الأبرار، تسوق الى الجنّة ولا تسوق إلى النار، وأقسم اننى بالاجتماع به فى تلك الدار، أبهج منى بالاجتماع به لو أتيح فى هذه الدار؛ فعليه وعلىّ من العمل ما يجمع هنا لك سلك الشمل ويصل جديد الحبل؛ فثمّ لا يلقى العصا إلا من ألقى هنا «3» العصيان، وهناك لا تقرّ العين إلا ممن سهرت منه هاهنا العينان؛ فلا وجه لجمع اسمى مع اسمه فى هذه الوصيّة مع علمى بسوء تقصيرى، وخوفى من سوء مصيرى، ولكن ليزيد سيّدنا من وظائفه وعوارفه،- فكلّ فعله تفضّل من فضله- ما يخلّصنى بإخلاصه فإننى أستحق شفاعته لشفعة جوار قلبى لقلبه، وهذا معنى ما بعث على شغل الكتّاب به، مع علمى باستقرار نفسه النفيسة، إلا أنه- أبقاه الله- قد أبعد عهدى من كتبه ما يقع التفاوض فيه، والمراجعة عنه؛ والخواطر فى هذا الوقت منقبضه، والشواغل لها معترضه، وأيام العمر فى غير ما يفرض من الدنيا للآخرة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 15 منقرضه؛ ومتجدّد نوبة بيروت قد غمّت كلّ قلب، وهاجت المسلمين أشواقا الى الملك الناصر، وذكرى بما ينفعه الله به من كلّ ذاكر، وأخذ الناس فى الترحّم على أوّل هذا البيت والدعاء للحاضر والآخر- وليس إن شاء الله بآخر، فما ادّخر المولى لهذه الحرب مجهودا، ولا فلّلت عسكرا مجرورا ولا مالا ممدودا فإن كان ذنبى أنّ أحسن مطلبى ... إساة ففى سوء القضاء لى العذر ومنه: وسيّدنا يستوصى «1» بالدار بدمشق فقد خلت، وإنما الناس نفوس الديار؛ وأنا أعلم أن سيّدنا فى هذا الوقت مشدوه الخاطر عن الوصايا، ومشغول اللسان بتنفيذ ما ينفّذه مما هو منتصب له من القضايا؛ فما فى وقته فضلة ولكن فضل، وسيّدنا يحسن فى كلّ قضيّة من بعد كما أحسن من قبل؛ فهو الذى جعل بينى وبين الشام نسبا [وأنشأنى فيه الى أن ادّخرت «2» عقارا ونشبا] فعليه أن يرعى ما أقناه «3» ، وينفى الشّوك عن طريق اليد إلى جناه؛ والجار إلى هذا التاريخ ما اندفع جوره، ولا أدرك غوره؛ يعد لسانه ما تخلف يده، ويدّعى يومه ما يكذّبه فيه غده؛ وأنا على انتظار عواقب الجائرين، وقد عرف الغيظ منّى ألفاظا مجهولة ما كنت أسمح بأن أعرفها، وكشف مستورا من أسباب الحرج ما يسرّنى أن أكشفها لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وأسوأ خلقا من السيّىء الخلق من أحوجه إلى سوء الخلق؛ وما ذكرت هذا ليذكر، ولا طويت الكتاب عليه لينشر، والسرّ عند سيّدنا ميت وهو يقضى حقّه بأن يقبر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 16 وكتب: أدام الله أيام المجلس وخصه من لطفه بأوفر نصيب، ومنحه من السعادة كلّ عجيب وغريب، وأراه ما يكون عنه بعيدا مما يؤمّله أقرب من كلّ قريب- الخادم يخدم وينهى وصول كتاب كريم تفجّرت فيه ينابيع البلاغه، وتبرّعت [له «1» ] بالحكم أيدى البراعه؛ وجاد منه بسماء مزينة بزينة الكواكب، وهطل منها لأوليائه كلّ صوب ولأعدائه كلّ شهاب واصب «2» ، وتجلّى فما الغيد الكواعب؛ وما العقود فى التّرائب، وتفرّق منه جيش الهمّ فانظر ما تفعل الكتب فى الكتائب؛ وما ورد إلا والقلب إلى مورده شديد الظما، وما كحل به إلا ناظره الذى عشى عن الهدى وقرب من العمى؛ وما نار إبراهيم بأعظم من نوره، ولا سروره- صلّى الله عليه وسلّم- حين نجا أعظم يوم وصوله من سروره؛ فحيّا الله هذه اليد الكريمة التى تنهلّ بالأنواء وتجزل سوابغ النعماء؛ وتعطى أفضل عطاء يسرّها فى القيامه، وتحوز به أفضل أنواع الكرامه؛ فأما شوقه لعبده فالمولى- أبقاه الله- قد أوتى فصاحة لسان، وسحب ذيل العىّ على سحبان؛ ولو أنّ للخادم لسانا موات «3» ، وقلبا يقال له هى «4» هات؛ لقال الجزء: 8 ¦ الصفحة: 17 ما عنده، وأذكر عهده وودّه؛ وباح بأشواقه، وذمّ الزمن على اعتياقه؛ وأما تفضّله بكذا فالخادم ما يقوم بشكره، ولا يقدّره حقّ قدره؛ وقد أحال «1» مكافأة المجلس على ملىء «2» قادر، ومسرّة خاطرة عليه يوم تبلى السرائر؛ والله تعالى يصله برزق سنىّ يملأ إناه، ويوضح هداه؛ ولا يخلى المجلس من جميل عوائده، ويمنحه أفضل وأجزل فوائده إن شاء الله تعالى. ومن مكاتباته يتشوّق الى إخوانه وأودّائه، ومحبّيه وأوليائه- كتب إلى بعضهم: أأحبابنا هل تسمعون على النوى ... تحيّة عان أو شكيّة عاتب ولو حملت ريح الشّمال إليكم ... كلاما طلبنا مثله فى الجنائب أصدر العبد هذه الخدمة وعنده شوق يغور به وينجد، ويستغيث من ناره بماء الدمع فيجيب وينجد؛ ويتعلّل بالنسيم فيغرى ناره بالإحراق، ويرفع النواظر إلى السّلوان فيعيدها الوجد فى قبضة الإطراق؛ أسفا على زمن تصرّم، ولم يبق إلا وجدا تضرّم، وقلبا فى يد البين المشتّ يتظلّم ليالى نحن فى غفلات عيش ... كأنّ الدّهر عنّا فى وثاق فلا تنفّس خادمه نفسا إلا وصله بذكره، ولا أجرى كلاما إلا قيّده بشكره، ولا سار فى قفر إلا شبّه برحيب صدره، ولا أطلّ على جبل إلا احتقره بعلىّ قدره، ولا مرّ بروضة إلا خالها تفتّحت أزهارها عن كريم خلقه ونسيم عطره، ولا أوقد المصطلون نارا إلا ظنّهم اقتبسوها من جمره، ولا نزل على نهر إلا كاثر دمعه ببحره الجزء: 8 ¦ الصفحة: 18 سقى الله تلك الدار عودة أهلها ... فذلك أجدى من سحاب وقطره لئن جمع الشّمل المشتّت شمله ... فما بعدها ذنب يعدّ لدهره فكيف ترى أشواقه بعد عامه ... اذا «1» كان هذا شوقه بعد شهره بعيد قريب منكم بضميره ... يراكم «2» اذا ما لم تروه بفكره ترحّل عنكم جسمه دون قلبه ... وفارقكم فى جهره دون سرّه اذا ما خلت منكم مجالس ودّه ... فقد عمرت منكم مجالس شكره فيا ليل لا تجلب عليهم بظلمة ... وطلعة بدر الدين طلعة بدره ونسأل الله تعالى أن يمنّ بقربه ورحاب الآمال فسائح، وركاب الهموم طلائح والزمن المناظر «3» بالقرب «4» مسامح؛ هنالك تطلق أعنّة الآمال الحوابس، ويهتزّ مخضرّا من السعود عود يابس وما أنا من أن يجمع الله شملنا ... بأحسن ما كنا عليه بآيس وقد كان الواجب تقديم عتبه، على تأخير كتبه؛ ولكنه خاف أن يجنى ذنبا عظيما ويؤلم قلبا كريما ولست براض من خليل بنائل ... قليل ولا راض له بقليل «5» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 19 وحاشى «1» جلاله من الإخلال بعهود الوفاء، ومن انحلال عقود الصفاء، وما عهدت عزمه القوىّ فى حلبة الشوق إلا من الضعفاء، وحاشية خلقه إلا أرقّ من مدامع غرماء الجفاء من لم يبت والبين يصدع قلبه ... لم يدر كيف تقلقل الأحشاء وكتب أيضا فى مثل ذلك: كتب مملوك المولى الأجلّ عن شوق قدح الدمع من الجفون شرارا، وأجرى من سيل الماء نارا، واستطال واستطار فما توارى أوارا، ووجد على تذكّر الأيام التى عذبت «2» قصارا، والليالى التى طابت فكأنما خلقت جميعها أسحارا وبى غمرة للشوق من بعد غمرة ... أخوض بها ماء الجفون غمارا وما هى إلا سكرة بعد سكرة ... اذا هى زالت لا تزال خمارا رحلتم وصبرى والشباب وموطنى ... لقد رحلت أحبابنا تتبارى ومن لم تصافح عينه نور شمسه ... فليس يرى حتى يراه نهارا سقى الله أرض الغوطتين «3» مدامعى ... وحسبك سحبا قد بعثت غزارا وما خدعتنى مصر عن طيب دارها ... ولا عوضتنى بعد جارى جارا أدار الصّبا لا مثل ربعك مربع ... أرى غيرك الربع الأنيس قفارا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 20 فما اعتضت أهلا بعد أهلك جيرة ... ولا خلت دار الملك بعدك دارا وما ضرّ اليد الكريمة التى أياديها بيض فى ظلمات الأيّام، وأفعالها لا يقوم بمدحها إلا ألسنة الأسنّة والأقلام؛ لو قامت للمودّة بشرطها، ومحت «1» خطّ الأسى بخطّها؛ وكتبت ولو شطر سطر ففرّغت قلبا من الهمّ مشحونا، وأطلقت صبرا فى يد الكمد مسجونا؛ ونزّهت ناظر المملوك فى رياض منثورة الحلى، وحلّت عهوده بمكارم مأثورة العلا وما كنت أرضى من علاك بذا الجفا ... ولكنه من غاب غاب نصيبه ولو غيركم يرمى الفؤاد بسهمه ... لما كان ممن قد أصاب يصيبه وما لى فيمن فرق الدهر أسوة ... كأن محبّا ما نآه حبيبه والمملوك مذ حطّت مصر أثقاله، وجهّز الشام رحاله؛ وألقت النوى عصاها وحلّت الأوبة عراها؛ يكتب فلا يجاب، ويستكشف «2» الهمّ بالجواب فلا ينجاب يا غائبا بلقائه وكتابه ... هل يرتجى من غيبتيك إياب ومتى يصفّى الله ورد الحياة من التكدير، ويتحقّق بلقائه أحسن التقدير «وهو على جمعهم إذا يشاء قدير» . وزمان مضى فما عرف الأوّل ... إلا بما جناه الأخير أين أيّامنا بظلّك والشّم ... ل جميع والعيش غضّ نضير الجزء: 8 ¦ الصفحة: 21 وحوشى المولى أن يكون عونا على قلبه، وأن يرحل إثره الرّى على «1» سربه، وأن ينسيه بإغباب الكتب ساعات قربه، وأن يحوجه الى إطلاق لسانه بما يصون السمع الكريم عنه من عتبه «2» ؛ الأخ فلان مخصوص بسلام كما تفتّحت عن الورد كمائمه، وكما توضّحت عن القطر غمائمه اذا سار فى ترب «3» تعرّف تربها ... بريّاه والتفّت عليها لطائمه «4» وقد تبع الخلق الكريم فى الإغباب والجفوه، وأعدت عزائمه قلبه فاستويا فى الغلظة والقسوه ان كنت أنت مفارقى ... من أين لى فى الناس أسوه وهب أن المولى اشتغل- لا زال شغله بمسارّه، وزمنه مقصورا على أوطاره- فما الذى شغله عن خليله، وأغفله عن تدارك غليله؟ هذا وعلائقه قد تقطّعت وعوائقه قد ارتفعت؛ وروضة هواه قد صارت بعد الغضارة هشيما، وعهوده قد عادت بعد الغضاضة رميما إن عهدا لو تعلمان ذميما ... أن تناما عن مقلتى أو تنيما وما أولى المولى أن يواصل بكتبه عبده، ويجعل ذكره عقده، ولا ينساه ويألف بعده، ويستبدل غيره بعده. وكتب أيضا: أكذا كلّ غائب ... غاب عمّن يحبّه غاب عنه بشخصه ... وسلا عنه قلبه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 22 ولو أن لى يدا تكتب، او لسانا يسهب؛ أو خاطرا يستهلّ، أو فؤادا يستدلّ؛ لوصفت إليه شوقا إن استمسك بالجفون نثر عقدها، أو نزل بالجوانح أسعر وقدها؛ أو تنفّس مشتاق أعان على نفسه، وظنّه استعاره من قبسه؛ أو ذكر محبّ حبيبا خاله خطر فى خلده، وتفادى من أن يخطر به ذكر جلده حتى كأنّ حبيبا قبل فرقته ... لا عن أحبّته ينأى ولا بلده بالله لا ترحموا قلبى وإن بلغت ... به الهموم فهذا ما جنى بيده ولولا رجاؤه أنّ أوقات الفراق سحابة صيف تقشعها الرياح، وزيارة طيف يخلعها الصباح؛ لاستطار فؤاده كمدا، ولم يجد ليوم مسرّته أمدا؛ ولكنه يتعلّل بميعاد لقياه، ويدافع ما أعلّه بلعلّه أو عساه غنى فى يد الأحلام لا أستفيده ... ودين على الأيّام لا أتقاضاه ومن غرائب هذه الفرقه، وعوارض هذه الشّقة؛ أنّ مولاى قد بخل بكتابه وهو الذى يداوى به أخوه غليل اكتئابه، ويستعديه على طارق الهمّ إذا لجّ فى انتيابه كمثل يعقوب ضلّ يوسفه ... فاعتاض عنه بشم أثوابه وهب أنّ فلانا عاقه عن الكتب عائق، واختدع ناظره كمن هو فى ناضر عيش رائق؛ فما الذى عرض لمولانا حتى صار جوهر ودّه عرضا، وجعل قلبى لسهام إعراضه غرضا؟ بى منه ما لو بدا للشمس ما طلعت ... من المكاره أو للبرق ما ومضا «1» وما عهدته- أدام الله سعادته- إلا وقد استراحت عواذله، وعرّى «2» به أفراس الجزء: 8 ¦ الصفحة: 23 الصّبا ورواحله؛ إلا أن يكون قد عاد إلى تلك اللّجج، ومرض قلبه فما على المريض حرج؛ وأيّا «1» ما كان ففى فؤادى اليه سريرة شوق لا أذيعها ولا أضيعها، ونفسى أسيرة غلّة لا أطيقها بل أطيعها وانى لمشتاق اليك وعاتب ... عليك ولكن عتبة لا أذيعها والأخ النّظام- أدام الله انتظام السعد ببقائه، وأعدانى على الوجد بلقائه- مخصوص بالتحية إثر التحيّه، ووالهفى على تلك السجيّة السخيّة؛ وردت منها البابلىّ معتّقا، وظلت من أسر الهموم بلقائها معتقا خلائق إما ماء مزن بشهدة ... أغادى بها أو ماء كرم مصفّقا «2» وقد اجتمعت آراء الجماعة على هجرانى، ونسوا كلّ عهد غير عهد نسيانى وما كنتم تعرفون الجفا ... فبالله ممّن تعلّمتم. وكتب أيضا: إن أخذ العبد- أطال الله بقاء المجلس وثبت رفعته وبسط بسطته، ومكن قدرته، وكبت حسدته- فى وصف أشواقه إلى الأيام التى كانت قصارا وأعادت الأيام بعدها طوالا، والليالى التى جمعت من أنوار وجهه شموسا ومن رغد العيش فى داره ظلالا وجدت اصطبارى بعدهنّ سفاهة ... وأبصرت رشدى بعدهنّ ضلالا وإن أخذ فى ذكر ما ينطق به لسانه من ولاء صريح، ويعتقده جنانه من من ثناء فصيح «3» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 24 تعاطى منالا لا ينال بعزمه ... وكلّ اعتزام عن مداه طليح ولكنه يعدل عن هذين إلى الدعاء بأن يبقيه الله للإسلام صدرا، وفى سماء الملّة بدرا، وفى ظلمات الحوادث فجرا؛ وأن يجمع الشّمل بمجلسه وعراص الآمال مطلوله «1» وسهام القرب على نحور البعد مدلوله، وعقود النوى بيد اللّقاء محلوله؛ «وما ذلك على الله بعزيز» . فقد «2» يجمع الله الشّتيتين بعد ما ... يظنّان كلّ الظنّ أن لا تلاقيا وما رمت به النوى مراميها، ولا سلكت به الغربة مواميها «3» ؛ إلا استنجد شوقه من الجفون هاميا، واستدعى من الزّفرة ما يعيد مسلكه من الجوانح داميا، وصدر عن منهل الماء العذب النمير ظاميا، وتعلّل بالأمانى فى الاجتماع «وآخر «4» ما يبقى الإياس الأمانيا «5» » والسلوة أن الطريق بحمد الله أسفرت «6» عن فضل اجتهاده، وفضيلة جهاده؛ ونصرة الإسلام، وإعلاء الأعلام؛ وخدمة المجلس الفلانى- أعزّ الله نصره، وأسعد بها جدّه، وبلغ بها قصده، وأمضى فى الكفر حدّه؛ وأورى بها للإسلام قدحا، وشرفت حديثا وشرحا، وأجهدت الأعداء إثخانا «7» وجرحا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 25 وأبقى بها فى جبهة الدهر أسطرا ... اذا ما انمحى خطّ الكواكب لا تمحى اذا جاء نصر الله فالفتح بعده، وقد جاء نصر الله فليرقب الفتحا فأما الخادم فيودّ ألّا يزال لشرف محصّلا، ولتلك اليد الكريمة مقبّلا، وللغرّة المتهلّلة كالصباح مستقبلا محيّا اذا حيّاك منه بنظرة ... فتحت به بابا من اللطف مقفلا ويرى أن خير أوقاته ما كان فيه بالحاشية الفلانيّة مكاثرا، وتحت ظلال ألويتها سائرا فثمّ ترى معنى السعادة ظاهرا ... وثمّ ترى حزب الهداية ظاهرا والخادم يؤثر من المجلس المواصلة بالمراسم «1» [التى يعدّ أيامها «2» من المواسم] ، ويقابل بها أوجه المسارّ طلقة المباسم؛ ويرتقبها ارتقاب الصّوّام للأهلّه، والرّوّاد لمواقع السحائب المنهلّة. وكتب عن الملك الناصر صلاح الدين الى تقى الدين بن عبد الملك: سقى الله أرض الغوطتين وأهلها ... فلى بجنوب الغوطتين جنون وما ذكرتها النفس إلا استفزّنى ... الى طيب ماء النّير بين «3» حنين وقد كان شكّى فى الفراق مروّعى ... فكيف أكون اليوم وهو يقين الجزء: 8 ¦ الصفحة: 26 كم جهد ما تسلّى القلوب، وتسرّى «1» الكروب؛ لا سيّما إذا كان الذى فارقته أعلق بالأكباد من خلبها «2» ، وأقرب الى القلوب من حجبها؛ وهل يستروح إلا أن يفضّ ختام الدمع، ويخترق حجاب السمع، ويستغيث بسماء العيون ذات الرّجع «3» ، لتجود أرض الخواطر ذات الصدع؛ وهنا لك أوفى ما يكون الشوق جندا، وأورى ما يورى الوجد زندا إلى زفرة أو عبرة مستباحة ... لهذى مراح عنده ولذى مغدى وقد علم الله أنّى مذ فارقته ما دعانى الذكر إلا لبّيته بجواب من ماء الغليل غير قليل ولا ذكرت خلقه الجميل إلا ورأيت الصبر الجميل غير جميل وغير كثير فيه وجد كثير ... ولوعة قيس والتياح «4» جميل أهيم برسم فيك للمجد واضح ... وهاموا برسم للغرام محيل «5» وقد كتبت اليه حتى كاد يشيب له المداد، لو لم يخلع عليه الناظر حلّة السواد وحبّة الفؤاد، فما ردّ، وجار عن خلقه الكريم فإنه قطّ ما ودّ «6» وصدّ؛ وأوثر منه ألّا يحكم الفراق علىّ فيشتطّ، ولا يمكن اللوعة من مهجتى فتخبط «7» فجد لى بدرّ من بحارك إننى ... من الدمع فى بحر وليس له شطّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 27 بكفّ بها للحرب والسلم آية ... فيحيى لديها الخطّ أو يقتل «1» الخطّ ونسأل الله الرغبة فى اجتماع لا يكدر ورده، ولا ينثر عقده، ولا يعزب عن آفاق الوفاق سعده وما كان حكمى أن أفارق أرضكم ... ولكنّ حكم الله لسنا نردّه وكتب عنه أيضا إلى عز الدين فرّوخ شاه «2» : أحبابنا لو رزقت الصبر بعدكم ... لما رضيت به عن قربكم عوضا إنى لأعجب أنّى بعد فرقتكم ... ما صحّ جسمى إلا زادنى مرضا أنبيكم عن يقين أنّ قلبى لو ... أضحى مكان جناحى طائر نهضا هذا ولو أنه بالعهد فيك وفى ... لكان حين قضى الله الفراق قضى كتبت- أطال الله بقاء المولى الولد- عن قريحة قريحه «3» ، وإنسان مقلة جريح فى جريحه، ولوعة صريحه، وذكرة اذا ذكر الصبر كانت طريحه وليل بطىء طلوع الصبا ... ح شوقا الى القسمات «4» الصّبيحه أبحت فؤادى وأنت المباح «5» ... وما كان من حقّه أن تبيحه وما أصحبت «6» فى قتال العذول ... أعنّة قلب عليهم جموحه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 28 معنّى بريح شمال الشآم ... لقد عذّب الله بالريح روحه فلا روّح الله من قربكم ... فؤادى بخطرة يأس مريحه ولولا التعلّل بأبنية المنى الخادعه، والنزول بأفنية الاسا «1» الواسعه؛ لتصدّعت أكباد وتفطّرت، وتجدّلت «2» أفراس دموع وتقطّرت «3» يا صاحبى إنّ الدموع تنفّست ... فدع الدموع تبيح ما قد أضمرت قد كنت أكتم عن وشاتى سرّها ... ولقد جرى طرف الحديث كما جرت لله ليلات قرنّ نجومها ... بل بدرها بوجوه عيش أقمرت أغلت على السّلوان شوقكم فما ... باعت كما أمر الغرام من اشترت ومذ فارقت تلك الغرّة البدريّه، والطلعة العزيزة العزّيّه؛ ما ظفرت بشخصه نوما ولا بكتابه يوما فوا عجبا حتى ولا الطيف طارقا! ... وأعجب له «4» فى الحرب نثر كتائب بكفّ أبت «5» فى السّلم نظم كتاب ... يحاسبنى فى لفظة بعد لفظة ومعروفه يأتى بغير حساب ولو رضيت- وكلّا- بأن أحمل من هذا الجفاء كلّا؛ لما رضى به لخلقه الرّضى، ولأخذ بقول الرّضىّ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 29 هبونى «1» أرضى فى الإياس بهجركم ... أترضى لمن يرجوك ما دون وصله والرغبة مصروفة العنان إلى الله أن يبيح من اللقاء منيعا، وينتج من اللّطف صنيعا لو تأخذون بساعة ... من وصلكم عمرى جميعا لرغبت فى أن تشترى ... ان كنت ترضى أن تبيعا ومفارقين مع الصّبا ... عزما «2» فهل أرجو الطلوعا «3» أقسمت لو رجعوا لأع ... قبنى الصّبا معهم رجوعا هبكم منعتم [قربكم «4» ] ... ولبستم بعدا منوعا أفتمنعون بكم ضلو ... عاقد شفين بكم ولوعا «5» ما غايتى إلا الدمو ... ع وأستقلّ لك الدموعا وكتب [أيضا رحمه «6» الله تعالى] يتشوق: فيا رب إن البين أنحت صروفه ... علىّ وما لى من معين فكن معى على قرب عدّالى وبعد أحبّتى ... وأمواه أجفانى ونيران أضلعى هذه تحيّة القلب المعذّب، وسريرة الصبر المذبذب، وظلامة عزم السلو المكذّب؛ أصدرتها الى المجلس وقد وقدت فى الحشى نارها، الزّفير أوارها، والدموع شرارها، والشوق أثارها وفى الفؤاد ثارها: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 30 لو زارنى منكم خيال هاجر ... لهدته فى ظلماته أنوارها أسفا على أيّام الاجتماع التى كانت مواسم لسرور الأسرار، ومباسم لثغور الأوطار؛ وتذكّرا لأوقات عذب مذاقها، وعذّب فراقها «1» ؛ وروّحت بكرها، وزوّعت ذكرها والله ما نسيت نفسى حلاوتها ... فكيف أذكر أنّى اليوم أذكرها ومذ فارقت الجناب النّورىّ- لا زال جنى جنابه نضيرا، وسنا سنائه «2» مستطيرا؛ وملكه فى الخافقين خافق الأعلام، وعزّه على الجديدين جديد الأيام؛ لم أقف منه على كتاب يخلف سواد سطوره ما غسل الدمع من سواد ناظرى، ويقدم «3» ببياض منظومه ومنثوره ما وزعه البين من سواد «4» خاطرى ولم يبق فى الأحشاء إلا صبابة «5» ... من الصبر تجرى فى الدموع البوادر وأسأله المناب «6» بشريف الجناب، وأداء فرض، تقبيل الأرض؛ حيث تلتقى وفود الجزء: 8 ¦ الصفحة: 31 الدنيا والآخره، وتغمر البيوت العامرة المنن الغامره؛ ويظلّ الظلّ غير منسوخ بهجيره، وينشر المجد بشخص لا تسمح الدنيا بنظيره تظاهر فى الدنيا بأشرف ظاهر ... فلم ير أنقى منه غير ضميره كفانى عزّا أن أسمّى بعبده ... وحسبى هديا أن أسير بنوره فأىّ أمير ليس يشرف قدره ... إذا ما دعاه صادقا بأميره وإننى فى السؤال بكتبه أن يوصلها ليوصل بها لدى تهانئ تملأ يدى، ويودع بها عندى مسرّة تقتدح فى الشكر زندى عهدتك ذا عهد هو الورد نضرة ... وما هو مثل الورد فى قصر العهد وأنا أرتقب كتابه ارتقاب الهلال لتفطر عين عن الكرى صائمه، وترد نفس على موارد الماء حائمه. وكتب أيضا يتشوّق: لا عتب أخشاه لقطع كتابكم ... واسمع فعذرى بعده لا يعتب مهما وجدتك فى الضمير ممثّلا ... أبدا تناجينى إلى من أكتب كتب عبد حضرة مولاه- حرس الله سمّوه، وأدام مزيد علائه ونموّه «1» ، وقرن بالمسارّ رواحه وغدوّه، وكبت حاسده وأهلك عدوّه- عن سلامة ما استثنى فيها الدهر إلا ألم فراقه، وعافية موصولة بمرض قلب لا أرجو موعد إفراقه «2» لو لم يكن إنسان عينى سابحا ... لخشيت حين بكيت من إغراقه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 32 وعندى اليه «1» وجد يكلم الضلوع، ويتكلّم بألسنة الدموع؛ والنفس قريبة استعبار، لذكر أوقات السرور القصار، وأنوارها التى يكاد سنا برقها يخطف الأبصار «2» . شهور ينقضين وما شعرنا ... بأنصاف لهنّ ولا سرار «3» إذ العيش غضّ وريق، والمهج لم يتقسّمها التفريق، ولا سار منها إلى بلد فريق وبقى فى بلد فريق، ولا سقاها كؤوس وجد للجفون المترعة تريق ثملت منها ومالى ... سوى الغرام رحيق وإلى الله الشكوى من شوق فى الصّميم، وصبر راحل وغرام لا يريم، كأنه غريم زعموا أنّ من تباعد يسلو ... لا ومحيى العظام وهى رميم ولقد استغرب وصول الرفاق وقد صفرت من كتابه الكريم عيابهم، ولو زاره لعدّه تحفة الخصيص «4» بالتخصيص، وأدرك به بغية الحريص، ورأى للدّهر المذنب مزيّة التمحيص، وصال به على نوائب الأيام المنتابه صولة لا يجد عنها من محيص وحسبتنى لوصوله ... يعقوب بشّر بالقميص الجزء: 8 ¦ الصفحة: 33 هنالك يرتع فى تلك الرّياض التى غصونها أسطارها، وشكلها أطيارها، وألفاظها نوّارها، ومعانيها ثمارها، وبلاغتها أنهارها، وجزالتها تيارها إن أظلمت للنفس فيها ليلة ... قمر المعانى عندنا سمسارها «1» ويتلقّاه قبل يده بقلبه، ويكاد يسبق ضميره إلى أكله وشربه ويظنّه والطرف معقود به ... شخص الرقيب «2» بدا لعين محبّه وإذا ضنّ مولاه بمأثوره، جاد عليه بميسوره؛ ... «3» فكأنّنى أهديت للشمس السّنا ... وطرحت ما بين المصاحف دفترا وعلى كلّ حال فيسأله أن يواصله من مراسمه بما ينتظره ناظره ليجد نورا، وقلبه ليستشعر به سرورا، وخاطره ليجعله بينه وبين الهمّ سورا؛ وألّا يخلى رفقة من كتاب ولو بالقلائد القلائل من درر أقلامه، ودرارىّ كلامه. وكتب: لو استعار الخادم- أدام الله نعمة المجلس- أنفاس البشر كلاما، وأغصان الشجر أقلاما؛ وبياض النهار أطراسا، وسواد الليل أنفاسا «4» ؛ ما عبّر عن الوجد الذى عبّرت عنه عبراته، ولا عن الشوق الذى لا يستثير مثله معبدا «5» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 34 إذا هزجت «1» فى الثقيل الأوّل نبراته «2» ؛ أسفا على ما عدمه فى هذه الطريق، من ذلك المحيّا الطّليق، والخلق الذى هو بكل مكرمة خليق، والصفات التى يحسن بها كلّ حسن ويليق، ويعذر كلّ جفن يسفح ذخيرته شوقا إليها ويريق قفا أو خذا فى العذل أىّ طريق ... فما أنا من سكر الهوى بمفيق أما والهوى إنّ الهوى لأليّة ... يعظّمها فى الحبّ كلّ مشوق لو أنّ الهوى مما تصحّ هباته ... لقاسمت منه قلب كلّ صديق وما زار ناظر خادمه الكرى إلا تمثّل له مولاه طيفا يهمّ أن يتعلّق بأذياله، وقبل تمويه ناظره على قلبه فى وصاله وودّ أن سواد الليل مدّ له ... وزاد فيه سواد القلب «3» والبصر ولقد وجد طعم الحياة لبعده مرّا، وقال بعده للذّتى العين والقلب: مرّا وها هو يرجو فى غد [وعد «4» ] يومه ... لعلّ غدا يأبى «5» لمنتظر عذرا وإلى الله سبحانه وتعالى يرغب أن يجعله بالسلامة مكنوفا، وصرف الحدثان عن ساحته مكفوفا «6» ، وعنان الصّروف عن فنائه مصروفا، ووفود الرجاء على أرجائه عكوفا؛ وأن يمتع الوجه «7» بوصفه الذى هو أشرف من كلّ وجه موصوفا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 35 من كان يشرك فى علاك فإنّنى ... وجّهت وجهى نحوهنّ حنيفا وقد «1» كان ينتظر كتابا يشرّفه ويشنفه، ويستخدمه على الأوامر ويصرّفه؛ ويجتنى ثمر السرور غضّ المكاسر ويقتطفه؛ فتأخّر ولم يحدث له التأخير ظنّا، ولا صرفه [عن] أن يعتقد أنّ مولاه لا تحدث له الأيام بخلا بفضله ولا ضنّا ولو تصرف السحب الغزاز عن الثّرى ... لما انصرفت عن طبعك الشّيم الحسنى وهو ينتظر من الأمر والنهى ما يكون عمله بحسبه، ويثبت له عهد الخدّام بنسبه ومن عجب أنّى أحنّ إليهم ... وأسأل عنهم من أرى وهم معى وتطلبهم عينى وهم فى سوادها ... ويشتاقهم قلبى وهم بين أضلعى. وكتب أيضا: كتبت والعبرات تمحو السطور، ويوقد ماؤها نار الصدور ويهتك «2» وجدا كان تحت السّتور، ويرسل من بين أضلعى نفس الموتور قد ذكرنا عهودكم بعد ما طالت ... ليال من بعدها وشهور عجبا للقلوب كيف أطاقت ... بعدكم! ما القلوب إلّا صخور وما وردت الماء إلّا وجدت له على كبدى وقدا لا بردا، ولا تعرّضت لنفحات النسيم إلا أهدى إلىّ جهدا، ولا زارنى طيف الخيال إلا وجدنى قد قطعت طريقه سهدا، ولا خطف «3» لى البارق الشّامىّ إلا باراه قلبى خفوقا ووقدا وأيسر ما نال منّى الغليل ... ألا أحسّ من الماء بردا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 36 فسقى الله داره ما شربت [من «1» ] الغمام، وأيّامنا بها وبدور ليالى تلك الأيّام تمام ذمّ اللّيالى «2» بعد منزلة اللّوى ... والعيش بعد أولئك الأقوام «3» وكان قد وصل منه كتاب كالطّيف أو أقصر زورا، وكالحبّ أو أظهر جورا، والربيع أو أبهر نورا، والنجم أو أعلى طورا، والماء الزلال أو أبعد غورا؛ فنثرت عليه قبلى، وجعلت سطوره قبلى «4» بل قبلى «5» ، ووردت منه موردا أهلا به وعلى الإظماء «6» أنشده ... لو بلّ من غللى أبللت من عللى إلا أنه- أبقاه الله- ما عزّزه «7» بثان، ... ولا آنس غريبه، وإنى وإيّاه غريبان وكم ظلّ أو كم بات عندى كتابه ... سمير ضمير أو جنان جنان وأرغب إليه- لا زالت الرّغبات اليه-، وأسأله- لا خيّم السؤال إلا لديه-؛ أن يلاطف بكتابه قلبى، ويمثّل لى بمثاله أيّام قربى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 37 والله لولا أنّنى ... أرجو اللّقا لقضيت نحبى هذا وما فارقتكم «1» ... لكنّنى فارقت قلبى. وكتب جواب كتاب ورد عليه: شكرت لدهرى جمعه الدار مرّة ... وتلك يد عندى له لا أضيعها وطلعة مولانا يطالع عبده ... وكلّ ربوع كان فيها ربوعها فؤاد سقاه لا يعود غليله ... وعين رأته لا تفيض دموعها ورد على الخادم كتاب المجلس- أعلى الله سلطانه وأثبته، وأرغم أنف عدوّه وكبته، وأصماه بسهام أسقامه وأصمته؛ ولا أخلى الدنيا من وجوده، كما لم يخل أهلها من جوده، ولا عطّل سماء المجد من صعوده، كما لم يعطّل أرضها من سعوده- وهو كتاب ثان يثنى إليه عنان الثناء، ويصف لى حسن العهد على التّناء، ويستنهض الأدعية الصالحة فى الأطراف والآناء، ويبشّر الخادم بأنه وإن كان بعيد الدار فإنه بمثابة المقيم فى ذلك الفناء، وأن هذه الخدمة التى أنعم الله عليه بها وثيقة الأساس على الدهر شامخة البناء؛ فقام له قائما على قدمه، وسجد فى الطّرس ممثّلا سجود قلمه، واسترعى الله العهد على أنه تعالى قد رعى ما أودعه فى ذمّة كرمه؛ وصارت له نجران «2» علاقة خير صرف إليها وجهه فكأنها قبله، ودعا بنى الآمال إلى اعتقاد فضل مالكها فكأنّما يدعوهم إلى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 38 ملّه؛ والله يوزعه شكر هذا الافتقاد «1» على البعاد، ولا يخله من هذا الرأى الجميل الذى هو ملجأ الاستناد؛ وعقد الاعتقاد؛ والخادم لا ينفكّ متطلّعا لأخبار المولى فترده مفضلة ومجمله، ومفصّلة ومجمله؛ ويعرف منها ما يعرف به موقع اللطف بالمولى فى أحواله، ومكان النجح فى آماله؛ وأنّه بحمد الله فى نعمة منه- لا غيّر الله ما به منها، ولا صرفها عنه ولا صرفه عنها- فيجدّد لله الشكر والحمد، ويبلّغه ما يبلغه منها المراد والقصد؛ ونسأل الله ألّا يخلى الدولة الناصريّة منه ناصرا لسلطانها، وعينا لأعيانها؛ وسيفا فى يد الإسلام يناضل عن حقّه، وفرعا شريفا يشهد مرآه بشرف عرقه؛ والرأى أعلى فى إجرائه على ما عوّد من هذا الإنعام، وزيادته شرفا بالاستنهاض- إن صلح له- والاستخدام. ومن جواب آخر: ورد كتاب المجلس- أدام الله واردات الإقبال على آماله، و [لا] سلبت «2» الأيام نعمتى جميله وإجماله، ولا انحطّ قدر بدره عن درجتى تمامه وكماله، وأحسن جزاءه عن ميثاق «3» الفضل الذى نهض باحتماله- ووقفت منه على ما لا يجد الشكر عنه محيدا، وآنست «4» به القلب الذى كان وحيدا، وعددت يوم وصوله السعيد عيدا، ووردت منه بئرا معطّلة «5» وحللت قصرا مشيدا؛ ولا يكلّف الله نفسا إلّا وسعها، وتلك الغاية ليست فى وسعى، ولا تعلم نفس إلا ما طرق سمعها، وتلك المحاسن ما طرق مثلها سمعى، ولا تتناول يد إلّا ما وسعه ذرعها، وهذه الأوابد الأباعد ما طالها ذراعى ولا استقلّ بها ذرعى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 39 ومن آخر: خلّد الله أيّام المجلس، وعضّد الملّة الحنيفيّة منه بحاميها، والأركان الإسلاميّة من سيفه بشائدها وبانيها، وأمتع الدولة المحمديّة بعزمته التى حسنت الكفاية بها، فلا غرو أن تحسن الكفاية فيها؛ ولا عدمت الدنيا نضرة بأيّامه النّضيره، والدين نصرة بأعلامه النصيره؛ المملوك يقبّل التراب الذى يوما يستقرّ بحوافر «1» سيله، ويوما يستقرّ بحوافر خيله- فلا زال فى يوم السلم جوده سحابا صائبا، ويوم الحرب شهابا ثاقبا- وينهى أنه وردت عليه المكاتبة التى استيقظت بها آماله من وسنها، وأفادته معنى من الجنّة فإنها أذهبت ما بالنفوس من حزنها، وتلقّى المملوك قبلها «2» بالسجود والتقبيل، وتحلّى بعقود سطورها فهيهات بعد هذا شكوى التعطيل؛ واكتحل من داء السهد بإثمدها «3» ، وأدار على الايّام كأس مرقدها «4» ، وأسمعته نغم النّعم التى هى أعجب إلى النفس من نغمات معبدها، وأطالت الوقوف عليها ركاب طرفه [فما وقوف ركاب «5» طرفة] ببرقة «6» ثهمدها؛ وضرع إلى من يشفّع وسائل المتضرّعين، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 40 ويملأ مواقع آمال المتوقّعين؛ أن يغلّ عنه كلّ يد للخطوب بسيطه، ويفكّ به كلّ ربقة «1» للأيّام بأعناق بنيها «2» محيطه. ومن آخر: رفع الله عماد الإسلام ببقاء المجلس، وبسط ظلّه على الخلق، وملّك يده الكريمة قصب السّبق، وجمع بتدبيره بين ناصيتى الغرب والشرق؛ وألّف لقدرته طاعتى الجهر والسرّ، وصرّف بعزمته زمامى النّهى والأمر، وأحرز لجدّه مسّرّتى الأجر والنصر، وقطّ «3» بفتكته شوكتى النفاق والكفر- وردت على المملوك مكاتبة كريمة رفعها حيث ترفع العمائم، ومدّ اليد اليها كما تمدّ إلى الغمائم؛ وفضّها، بعد أن قضى باللّثم فرضها، واستمطرت نفسه سماءها فأرضت أرضها؛ وكاد المملوك يتأمّلها لولا أنّ دمع الناظر إلى العين سبقه، على أنه دمع قد تلوّن بتلوّن الأيّام فى فراقه، فلو فاض لعصفر «4» الكتاب وخلّقه «5» ؛ فلا أعدمه الله المولى حاضرا وغائبا، ومشافها ومكاتبا، وأحلّه» فى جانب السعادة ويعزّ على المملوك أن يحلّ من مولاه جانبا. ومن آخر: ورد كتابه ووقفت على ما أودعه من فضل خطّ وفصل خطاب، وعقائل عقول ما كنا لها من الأكفاء وإن كنا «7» من الخطّاب، وآثار أقلام الجزء: 8 ¦ الصفحة: 41 تناضل عن الملّة نضال النّصال، وكأنها فضل سبق «1» لما تحوزه من حقّ السّبق وخصل «2» الخصال؛ فأعيذ الإسلام من عدمه، ولا عدم بسطة تلمه، وثبوت قدمه؛ فإنه الآن عين الآثار، وأثر الأعيان، وخاطر الحفظ إلا أنّ الخطوب تصحب فيه خواطر النّسيان؛ وليّن اهتصر الدهر سطوا «3» ، واختصر خطوا «4» ؛ وإنه سيف يمان إن قدم عهدا، فقد حسن فرندا «5» ، وخشن حدّا؛ وأجرى نهرا، وأورى شررا؛ واخضرّ خميله، وقطع الأيّام جميله؛ وضارب الأيّام فأجفلت «6» عن مضاربه ضرائبها «7» ، وشردت عن عزمه غرائبها؛ ولبسها حتى أنهجت «8» بواليا، ثم اختار منها أياما وأبى أن يلبسها لياليا؛ لا جرم أن صحيفته البيضاء شعار شعره، وروضة علمه الغنّاء «9» قد جلت أنوار نوره، وزواهر زهره؛ فالزمان لا يعدو عليه بزمانة تعدو، ولا يتجاوز أوقاته إلّا موسومة بمحاسنه ولا يعدو؛ حتى يمتّ إليه «10» عدوّ يلتفت «11» أمس، ويروى اليوم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 42 أنّ قرابته من فضله أمسّ؛ والله يعلم أنّنى لأرى له ولا أرى فيه، وأسدّ عنه كلّ خرق تعجز عنه يد رافيه؛ ضنّا بالصدور أن تخلو من صدر كقلبها، ومحاماة عن حقوق تقدمته التى أوجبها أن تعارض بسلبها. ومن آخر: وصل كتاب الحضرة فجعل مستقرّه النّعمة فى الصدور، وأخرجتنى ظلمات خطّه إلى نور السرور؛ ووقفت وكأنّى واقف على طلل من الأحبّة قد بكى عليه السحاب بطلّه، وابتسم له الروض عن أخبار أهله وآثار منهلّه؛ فلم أزل أرشف مسك سطوره ولماها، وأنزّه العين والقلب بين حسنها وجناها؛ وأطلق عنان شوق جعلت الأقلام له لجما، وحسبت النّقس ليلا، والكتاب طيفا، والوقوف عليه حلما؛ إلى أن قضت النفوس وطرا، وحملت الخواطر خطرا، وقرنت «1» بما ظنّه سحابا ما ظنّه مطرا؛ هذا على أنه قريب العهد بيد النّعماء، فإن هرب فمن ماء إلى ماء. ومن آخر: فلمّا وقف على الكتاب جدّد العهد بلثمه ما لم يصل إلى اليد [التى «2» ] بعثته، وشفى القلب بضمّه عوضا عن الجوانح التى نفثته وأين المطامع من وصله ... ولكن أعلّل قلبا عليلا. ومن آخر: وصل كتابه، وكان من لقائه طيفا إلا أنه أنس بالضّحى، وأثار حرب الشوق وكان قطب الرّحى تخطّى إلىّ الهول والقفر دونه ... وأخطاره لا أصغر الله ممشاه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 43 ومن كلامه رحمه الله يصف بلاغة كتاب، قال: كتاب إلى نحرى ضممته، وذكرت به الزمن الذى ما ذممته، وأكبرت قدره فحين تسلّمته [استلمته «1» ] والتقطت زهره فحين لمحته استملحته، وامتزج بأجزاء نفسى فحين لحظته حفظته؛ وجمعت بينه وبين مستقرّه من صدرى، واستطلت به مع قصره على حادثات دهرى، وجعلت سحره بين سحرى «2» ونحرى، واستضأت به ورشفته فهو نهارى وهو نهرى؛ فإن أردت العطر بلا أثر أمسكت مسكه بيدى، وإن أردت السكر بلا إثم أدرت كأسه فى خلدى؛ فلله أنامل رقمته، ما أشرف آثارها! وخواطر أملته، ما أشرق أنوارها! ولم أزل متنقلا منه بين روضة فيها غدير، وليلة فيها سمير؛ وإمارة لها سرير، ومسرّة أنالها طليق أسير، ونعمة أنا لها عبد بل بها أمير؛ حتى أدبرت عنى جيوش الأسى مفلوله، وقصرت عنّى يد الهمّ مغلوله؛ وملئت منّى مسامع المكارم حمدا، وخواطر الصنائع ودّا؛ وحطّ الأمل بربعى رحله، وأنبت الربيع بفنائى بقله؛ ولبست من الإقبال أشرف خلعه، ووردت من القبول أغزر شرعه، وانتجعت من رياض الرجاء أرجى نجعه. وقال أيضا من آخر: هذا من عفو الخواطر، فكيف إذا استدعى المجلس خطّيّة «3» خطّه فجاءت تعسل «4» ، وحشد حشود بلاغته فأتت من كل حدب «5» تنسل!. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 44 ومن آخر: ورتع فى رياض بلاغته التى لم يقتطفهنّ من قبله غارس ولا جان، واجتلى الحور المقصورات فى الطروس التى لم يطمثهنّ «1» إنس قبله ولا جانّ؛ وغنى بتلك المحاسن غنى خيرا من المال، واعتقد «2» فيها كنوزا إذا شاء أنفق منها الجمل، وإذا شاء أمسك منها الجمال. وقال أيضا: كتاب اشتمل على بديع المعانى وباهرها، وزخرت بحار الفضل إلا أننى ما تعبت فى استخراج جواهرها؛ بل سبحت حتى تناولتها، وجنحت إلىّ فما حاولتها؛ واقتبست من محاسن أوصافه، وبدائع أصنافه؛ نكتا استقلت أجسادها بالارواح، وزهيت جيادها بما فيها من الغرر والأوضاح؛ فيا لله من بدائع وروائع، ولطائف وطرائف! فيها ما تشتهى الأنفس وتلذّ الأعين، وما يقرّط الأسماع ويقرّط «3» الألسن؛ فكأنه طرف طرف «4» صوبه مدرار، وعلم علم منصوب فى رأسه نار؛ صحّح السحر وإن كان ظنّا، وفضح الدّرّ إذ كان أبرع معنى، وأسنى حسنا، وأدنى مجنى، وأغنى مغنى؛ فما ضره تأخير زمانه، مع تقدّم بيانه؛ ولا من سبقه فى عصره، مع أنه قد سبق فى شعره. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 45 ومن آخر: ولله هو من كتاب لمّا وقفت عليه الغلّة شفاها، ورأت وردها كلّ ماء غيره سفاها «1» ، ووطّأ مضاجع أنسها بعد أن كان الشوق يقلّب «2» الجنوب على سفاها «3» ؛ فلا عدم ودّها الذى به عن كلّ مودّة سلوة، ولا برحت كفاية الله تحلّها فى الذّرا وتعلى قدرها فى الذّروه، ولا فقد مما ينعم به أىّ نعمه، ولا مما ينشيه أىّ نشوه. ومن آخر: كتاب كريم تبسّم إلىّ ضاحكا، وظنّ مداده أنه قد جلا سطره علىّ حالكا؛ فما هو إلّا سواد الحدقة منه انبعثت الأنوار، وما هو إلا سويداء «4» ليلة الوصل اشتملت على دجى تحته نهار، فلله هو من كتاب استغفر الدهر ذنب المشيب بسواده، واستدرك الزمان غلطه بسداده. ومن آخر: كتاب تقارعت الجوارح عليه فكادت تتساهم، فقالت اليد: أنا أولى به، شددت على مولاه ومولاى عقد خنصرى، ورفعت اسمه فوق منبرى؛ وقبضت عليه قبضتى، وبسطت فى بسط راحته وقت الدّعاء راحتى؛ وقالت العين: أنا أولى به، أنا وعاء شخصه، والىّ يرجع القلب فى تمثيله ونصّه «5» ؛ وأنا سهرت بعد رحيله وحشة، وأنا إذا ذكر هجير القلب عللته «6» رشّة بعد رشّة؛ فقال القلب: طمعتها فى حقّى لأنى غائب، وهل أنت لى يايد إلّا خادم؟ وهل أنت لى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 46 يا عين إلا حاجب؟ أنا مستقرّه ومستودعه، ومرتعه ومشرعه، وأنا أذكره وبه أذكركما، وأحضره ولخدمته أحضركما؛ فاليد استخدمها مرّة فى الكتابة إليه، ومرّة فى شدّ الخنصر عليه؛ ومرّة فى الإشارة الى فضله، ومرّة فى الدعاء بكلّ صالح هو من أهله؛ والعين استخدمتها فى ملاحظة وجهه آئبا، وفى توقع لقائه غائبا «1» ؛ وفى السهد شوقا الى قربه، والمطالعة لما يخرج أمرى بكتبه من كتبه؛ فهنالك سلّمتا واستجرّتا «2» ، وألقتا واستأخرتا؛ وكدت أرشف نقسه «3» لأنقله الى سويداه، لولا أنّ سواد العين قال: أنا أحوج الى الاستمداد من هداه. ومن كلامه رحمه الله تعالى ما ركّب نصف قرائنه على نصف بيت نحو قوله: وصل كتاب مولاى بعد ما ... أصات «4» المنادى للصلاة «5» فأعتما فلما استقرّ لدىّ، «تجلّى الذى من جانب البدر أظلما» فقرأته، «بعين اذا استمطرتها أمطرت دما» وساءلته، «فساءلت مصروفا عن النطق أعجما» ولم يردّ جوابا، «وماذا عليه لو أجاب المتيّما» وردّدته قراءة، «فعوجلت دون الحلم أن أتحلما» وحفظته، «كما يحفظ الحرّ الحديث المكتّما» وكرّرته، «فمن حيثما واجهته قد تبسّما» وقبّلته، «فقبّلت درّا فى العقود منظّما» وقمت له، «فكنت بمفروض الجزء: 8 ¦ الصفحة: 47 المحبّة قيّما» وأخلصت لكاتبه، «وليس «1» على حكم الحوادث محكما» ولم أصدّفه «2» ، «ولكنّه قد خالط اللحم والدما» وأرّخت وصوله، «فكان لأيام المواسم موسما» وداويت عليل «حشا ضرّ ما فيه من النار ضرّما» وشفيت غليل «فؤاد أمنّيه وقد بلغ الظما» فأما تلك الأيام التى «حماها من «3» اللوم المقام على الحمى» والليالى العذاب التى «ملأن نحور الليل بيضا «4» وأنجما» [فإنّى «5» لأذكرها، «بصبر كما قد صرّمت قد تصرّما» ] وأرسل «6» الزفره «فلو «7» صافحت رضوى لرضّ «8» وهدّما» وأرسل العبره، «كما أنشأ «9» الأفق السحاب المديّما «10» » وأخطب السلوه، «فأسأل معدوما وأقفل «11» معدما» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 48 فأما الشكر فإنما «أفضّ به مسكا عليك مختما» وأقوم منه بفرض «أرانى به دون البريّة أقوما» وأوفّى واجب قرض، «وكيف توفّى الأرض قرضا من السما» . وقال أيضا: وصل «1» كتاب الحضرة بعد أن عددت الليالى لطلوع صديعه «2» «وقد عشت دهرا لا أعدّ اللياليا» ، وبعد أن انتظرت القيظ والشتاء لفصل ربيعه «فما للنوى ترمى بليلى المراميا» ! واستروحت إلى نسيم سحره، «إذا الصيف ألقى فى الديار المراسيا» ومددت يدى لاقتطاف ثمره، «فلله ما أحلى وأحمى المجانيا «3» !» ووقفت على شكواه من زمانه، «فبث لشكواه من الدهر شاكيا» وعجبت لعمى الحظّ عن مكانه «وقد جمع الرحمن فيه المعانيا» وتوقّعت له دولة يعلو بها الفضل «إذا هزّ من تلك اليراع عواليا» ورتبة يرتقى صهوتها بحكم العدل «فربّ مراق يعتددن مهاويا» وإلى الله أرغب فى إطلاع سعوده، «زواهر فى أفق المعالى زواهيا» وفى إنهاض عثرات جدوده، «فقد أعثرت بعد النهوض المعاليا» . وقال أيضا: وصل من الحضرة كتاب به ماء الحياة ونقعة ال ... حيا فكأنى إذ ظفرت به الخضر ووقف عبدها منه على عقود هى الدرّ الذى أنت بحره ... وذلك ما لا يدّعى مثله البحر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 49 ورتعت منه فى رياض [يد «1» ] تجنى وعين وخاطر ... تسابق فيها النّور والزهر والثّمر «2» وكرعت منه فى حياض تسرّ مجانيها اذا ما جنى الظما ... وتروى مجاريها اذا بخل القطر وما زلت منه أنشد كانّى سار فى سريرة ليلة ... فلمّا بدا كبّرت إذ طلع الفجر ووافى على ما كنت أعهد ف خلت بأنّ العين من سحب كفّه ... فمن ذى ومن ذى [فيه «3» ] ينثر الدرّ وأسترجع فائت الدنيا من مورده وما كان عندى بعد ذنب فراقه ... بأنّى أرى يوما به يعد الدهر ونفّس عن النفس بأبيض ثماده «4» ، ... وعن العين بأسود إثمده به لهما سبح طويل فهذه ... على خاطر برد وفى خطر «5» بدر وجدّد اليه أشواقا جديدها يمرّ به ثوب الجديدين دائما ... فيبلى ولا تبلى وإن بلى الدهر وذكّر أياما لا يزال يستعيدها وهيهات أن يأتى من الدهر فائت ... فدع عنك هذا الأمر قد قضى الأمر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 50 وكلام «1» القاضى الفاضل- رحمه الله- كثير، بأيدى الناس منه عدّة مجلّدات، أخبرنى من أثق بقوله من القضاة الحكام الأعيان أنه يزيد على خمسين مجلّدا قد جمعت، أما ما لم يجمعه الناس فكثير جدا؛ وقد نقل بعض من أرّخ، أنه وجد للقاضى الفاضل مسوّدات كتب صدرت عنه وأجوبة تزيد اذا جمعت على مائة مجلّد، ولا يحتمل الحال أن نورد له أكثر مما أوردناه، ورسائله المختارة كثيرة قد يكون فيها أجود مما اخترناه ونحوه، وإنما أوردنا له ما حضر فى هذا الوقت، إذ لم يمكن البحث عن كلامه والاستقصاء، وإن كان كلّ رسائله مختارة رحمه الله. ذكر شىء من رسائل الشيخ الإمام الفاضل ضياء الدين أبى العباس أحمد ابن الشيخ الإمام العابد القدوة أبى عبد الله محمد بن عمر بن يوسف بن عمر «2» بن عبد المنعم الأنصارىّ القرطبىّ رحمه الله،- وكانت وفاته بقنا من أعمال قوص فى سنة اثنتين وسبعين وستمائة- كتب إلى شيخنا الإمام العلّامة تقىّ الدين محمد ابن الشيخ الإمام الحبر مجد الدين أبى الحسن علىّ بن وهب بن مطيع القشيرىّ المعروف بابن دقيق العيد رحمهم الله تعالى: تخدم المجلس العالى صفات يقف الفضل عندها، ويقفو الشرف مجدها، وتلتزم المعالى حمدها؛ وسمات يبتسم ثغر الرياسة منها، وتروى أحاديث السيادة عنها؛ الصدرىّ الرئيسىّ المفيدىّ؛ معان استحقّها بالتمييز، واستوجبها بالتبريز، وسبكته الإمامة لها فألفته خالص الإبريز؛ ومعال أقرّته فى سويدائها، وأطلعته فى سمائها، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 51 وألبسته أفضل صفاتها وأشرف أسمائها؛ العلّامىّ الفاضلىّ التقوىّ؛ نسب اختص به اختصاص التشريف، لا تعريفا «1» فالشمس تستغنى عن التعريف؛ لا زالت إمامته كافلة بصون الشرائع، واردة من دين الله وكفالة أمّة رسول الله أشرف الموارد وأعذب الشرائع «2» ، آخذة بآفاق سماء الشرف فلها قمراها والنجوم الطّوالع «3» ، قاطعة أطماع الآمال عن إدراك فضله وما زالت تقطّع أعناق الرجال المطامع «4» ، صارفة عن جلاله مكاره الأيام صرفا لا تعتوره القواطع، ولا تعترضه الموانع؛ وينهى ورود عذرائه التى «لها الشمس خدن «5» والنجوم ولائد» وحسنائه التى «لها الدرّ لفظ والدّرارى «6» قلائد» ومشرّفته التى «لها من براهين البيان شواهد» وكريمته التى «لها الفضل ورد والمعالى موائد «7» ووديعته التى «لها بين أحشائى وقلبى معاهد» وآيته الكبرى التى دلّ فضلها ... على أن من لم يشهد الفضل جاحد وأنك سيف سلّه الله للهدى ... وليس لسيف سلّه الله غامد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 52 فلمثلها يحسن صوغ السوار، ولفضلها يقال: «أناة أيها الفلك المدار» وإنها فى العلم أصل فرع نابت، والأصل علّة النشأة والقرار، وفرع أصل «1» ثابت، والفرع فيه الورق والثمار؛ هذه التى وقفت قرائح الفضلاء على استحسانها، وأوقفتنى «2» على قدم التعبّد لإحسانها، وأيقنت أنّ مفترق الفضائل مجتمع فى إنسانها، وكنت أعلم علمها بالأحكام الشرعية فاذا هى فى النثر ابن مقفّعها، وفى القصائد أخو حسّانها؛ هذه وأبيك أمّ الرسائل المبتكره، وبنت الأفكار التى هذّبتها الآداب فهى فى سهل الإيجاز البرزة «3» وفى صون الإعجاز المخدّره، والمليئة ببدائع البدائه، فمتى تقاضاها متقاض لم تقل: «فنظرة الى ميسرة» ؛ والبديعة التى لم توجّه اليها الآمال فكرها لاستحالة غير مسبوق بالشعور، ولم تسم اليها مقل الخواطر لعدم الإحاطة بغيب الصدور قبل الصدور، والبديهة التى فصّل البيان كلماتها تفصيل الدرر بالشذور؛ إنّ كلمها ليميس فى صدورها وإعجازها، ويختال فى سطورها وإعجازها، وتنثال «4» عليها أغراض المعانى بين إسهابها وإيجازها؛ فهى فرائد ائتلفت من أفكار الوائلىّ والإيادىّ، وقلائد انتظمت انتظام الدرارىّ، ولطائم «5» فضّت عن العنبر الشّحرىّ «6» والمسك الدارىّ «7» ؛ لا جرم أن غوّاصى الفضائل ظلوا فى غمراتها خائضين، وفرسان الجزء: 8 ¦ الصفحة: 53 الكلام أضحوا فى حلباتها راكضين، وأبناء البيان تليت عليهم آياتها «فظلّت أعناقهم لها خاضعين» . ما إن لها فى الفضل مثل كائن ... وبيانها أحلى البيان وأمثل فالعجز عنها معجز «1» متيقّن ... ونبيّها بالفضل فينا مرسل ما ذاك إلا أنّ ما يأتى به ... وحى الكلام على اليراعة ينزل بزغت شمسا لا ترضى غير صدره فلكا، وانقادت معانيها طاعة لا تختار سواه ملكا، وانتبذت بالعراء فلا تخشى إدراك الإنكار ولا تخاف دركا، وندّت شواردها فلا تقتنصها الخواطر ولو نصبت هدب الجفون شركا فللأصائل «2» فى عليائها سمر ... إن الحديث عن العلياء أسمار «3» وللبصائر هاد من فضائلها ... يهدى أولى الفضل إن ضلّوا وإن جاروا بادى الإبانة لا يخفى على أحد ... «كأنه علم فى رأسه نار» أعجب بها من كلم جاءت كغمام الظّلال على سماء الأنهار! وسرت كعليل النسيم عن أندية الأسحار، وجليت محاسنها كلؤلؤ الطلّ على خدود الأزهار، وتجلّت كوجنة الحسناء فى فلك الأزرار، وأهدت نفحة الروض متأوّد الغصن بليل الإزار، فأحيتنا بذلك النفس المعطار، وحيّتنا بأحسن [من «4» ] كأسى لمى وعقار، وآسى ريحان وعذار؛ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 54 ولؤلؤى حبب وثغر، وعقيقى شفة وخمر، وربيعى زهر ونهر، وبديعى نظم ونثر؛ ولم أدر ما هى أثغور ولائد؟ أم شذور قلائد؛ أم توريد خدود، أم هيف قدود؛ أم نهود صدور، أم عقود نحور؛ أم بدور ائتلفت فى أضوائها، أم شموس أشرقت فى سمائها؟ جمعن شتيت الحسن من كلّ وجهة ... فحيّرن أفكارى وشيّبن مفرقى وغازلها قلبى بودّ محقّق ... وواصلها ذكرى بحمد مصدّق وما كنت عشّاقا لذات محاسن ... ولكن من يبصر جفونك يعشق ولم أدر والألفاظ منها شريفة ... الى البدر تسمو أم إلى الشمس ترتقى إنما هى جملة إحسان يلقى الله الرّوح من أمره على قلبها، أو روضة بيان «تؤتى أكلها كلّ حين بإذن ربّها» ؛ أو ذات فضل اشتملت على ذوات الفضائل، وجنت ثمر العلوم فأجنتها بالضحى والأصائل؛ أو نفس زكت فى صنيعها، ونفث روح القدس فى روعها؛ فسلكت سبل البيان ذللا، وعدمت مماثلا فأضحت فى أبناء المعالى مثلا؛ وسرت الى حوز الأمانى والأنام نيام، فوهب لها واهب النعم أشرف الأقسام؛ فجادت فى الإنفاق، ولم تمسك خشية إملاق، وقيّدت نفسها فى طلق «1» الطاعة فجاءها توقيع التفضيل على الإطلاق أبن لى معزاها أخا الفهم إنها ... الى الفضل تعزى أم الى المجد تنسب هى الشمس إلّا أنّ فكرك مشرق ... لإبدائها عندى وصدرى مغرب وقد أبدعت فى فضلها وبديعها ... فجاءت الينا وهى عنقاء مغرب «2» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 55 فأعرب عن كلّ المعانى فصيحها ... بما عجزت عنه نزار ويعرب ومذ أشرقت قبل التناهى بأوجها ... عفا فى سناها بدر تمّ وكوكب تناهت علاء والشباب رداؤها ... فما ظنكم بالفضل والرأس أشيب لئن كان ثغرى بالفصاحة باسما ... فثغرك بسّام الفصاحة أشنب وإن ناسبتنى بالمجاز بلاغة ... فأنت إليها بالحقيقة أنسب ومذ وردت سمعى وقلبى فإنها ... لتؤكل حسنا بالضمير وتشرب وإنى لأشدو فى الورى بثنائها ... كما ناح فى الغصن الحمام المطرّب وتشهد أبناء البيان إذا انتدوا ... بأنى من قسّ الإيادى أخطب وإنّى لتدنينى الى المجد عصبة ... كرام حوتهم «1» أوّل الدهر يثرب وانّى إذا خان الزمان وفاءه ... وفىّ على الضراء حرّ مجرّب إباء أبت نفسى سواه وشيمة ... قضى لى بها فى المجد أصل مهذّب ونفس أبت الا اهتزازا إلى العلا ... كما اهتزّ يوم الرّوع رمح ومقضب «2» ولى نسب فى الأكرمين تعرّفت ... إليه المعالى فهو ريّان «3» مخصب «4» نمته أصول فى العلاء أصيلة ... لها المجد خدن والسيادة مركب تلاقى عليه المطعمون تكرّما ... اذا احمرّ «5» أفق بالمجرّة «6» مجدب من اليمنيّين الذين سما بهم ... الى العزّ بيت فى المعالى مطنّب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 56 قروا تبّعا بيض المواضى ضحاءه «1» ... وكوم «2» عشار بالعشيّات تضهب «3» فرحّله الجود العميم ومنصل «4» ... له الغمد شرق والذوائب مغرب وهم «5» نصروا والدين عزّ نصيره ... وآووا وقد كادت يد الدين تقضب وخاضوا غمار الموت فى حومة الوغى ... فعاد نهارا بالهدى وهو غيهب أولئك قومى حسبى الله مثنيا ... عليهم وآى الله تتلى وتكتب هذه اليتيمة أيدك الله ملحتها الإحماض «6» ، وتحليتها «7» الألفاظ فى أبعاض الاعتراض لتسرح مقل «8» الخواطر فى مختلفات الأنواع، ويتنوع «9» الوارد على القلوب والأسماع، وإلا فلا تماثل فى الأدوات، وان وقع التماثل فى الذوات، كالجمع بين النّوريّة فى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 57 السراج والشمس، واشتمال الإنسانيّة على «1» القلامة والنفس، والتوارد الإدراكىّ بين كلّىّ بالعقل، وجزئىّ بالحسّ «2» ؛ وكالعناصر فى افتقار الذوات اليها، وان تميّزت الحرارة عليها؛ وكالمشاركة الحيوانيّة فى البضعة اللسانيّة، واختصاص الناطقيّة بالذات الإنسانيّة؛ فسيّدنا ثمر الروض ونسيمه، وسواه ثراه وهشيمه، وزهره وأنداؤه، وغيره شوكه وغثاؤه؛ والبدر وإشراقه، وسواه هلاليّته ومحاقه؛ اشتراك فى الأشخاص، وامتياز فى الخواصّ؛ ومشابهة فى الأنواع والأجناس، ومغايرة فى العقول والحواسّ؛ كالورد والشّقيق، والقهرمان «3» والعقيق؛ تماثلا فى الجواهر والأعراض، وتغايرا فى تمييز الأغراض؛ فسيّدنا من كلّ جنس رئيسه، ومن كلّ جوهر نفيسه؛ وأما حسناء المملوك على مذهبهم فى تسمية القبيح بالحسن، والحسن بالقبيح، والضرير بالبصير والأخرس بالفصيح؛ فما صدّت ولا صدّت يمنى» كاسها. ولا شذّت فى مذهب ولائه عن اطّراد قياسها، ولا زوت عن وجه جلالته وجه إيناسها، ولا جهلت أنه فى العلوم الشرعيّة ابن أنسها، وفى المعانى الأدبيّة أبو نواسها؛ ولا خفى عنها أن سيّدنا مجرى اليمين «5» ، وفى وجه السيادة إنسان المقلة وغرّة الجبين، والدرّة فى تاج الجلالة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 58 والشّذرة فى العقد الثمين؛ وأنه الصدر الذى يأرز «1» العلم إلى صدره، وتقترح «2» عقائل المعانى من فكره، وتأتمّ الهداة ببدره، وتنتمى «3» الهداية الى سرّه، وانّها فى الإيمان بمحمديّته أمّ عمارة «4» لا أمّ عمره؛ وانّه غاية فخارها؛ ونهاية إيثارها، [وآية نهارها «5» ] ومستوطن إفادتها بين شموس فضائله وأقمارها؛ فكيف تصدّ وفيه كلّيّة أغراضها، ومنه علّيّة جملتها وأبعاضها، وفى محلّه قامت حقائق جواهرها وأعراضها؛ لكنّها توارت بالحجاب، ولاذت بالاحتجاب؛ وقرب بالمجلس الكمالى ليكمّل ما بها من نقص كمال وكمال عيب، وتجمع بين حقيقتى إيمان الشهادة والغيب، وتعرض على الرأى التقوىّ سليمة الصدر نقيّة الجيب، وأشهد أنها جاءت تمشى على استحياء وليست كبنت شعيب «6» ؛ هذا ولم تشاهد وجه حسنائه، ولا عاينت سكينة «7» حسينه وهند «8» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 59 أسمائه، ولا قابلت نيّر فضله وبدر سمائه؛ أقسم لقد كان يصرفها الوجل، ويقيّدها الخجل؛ عالمة أنّ البحر لا يساجل، والشمس لا تماثل؛ والسيف لا يخاشن، والبدر لا يحاسن؛ والأسد لا يكعم «1» ، والطّود لا يزحم؛ والسحاب لا يبارى، والسيل لا يجارى؛ وأنّى تبلغ الفلك هامة المتطاول، «وأين الثريّا من يد المتناول» ؛ تلك عوارف استولت على المعالى استيلاءها على المعالم، وشهدت لها الفضائل بالسيادة شهادة النبوّة بسيادة قيس بن عاصم «2» ؛ ولا خفاء بواضح هذا الصواب، عند مقابلة البداية بالجواب؛ فالشمس أوضح من ضياء الأنجم ... ما البيّن الأعلى كداج مظلم يا مثريا من كلّ علم نافع ... أيقاس مثر فى العلوم بمعدم أو كفت «3» فضلك فى رذاذ غمائمى ... ما للرذاذ يد بنوء المرزم «4» وانصبّ بحرك فى ربيع «5» خواطرى ... ما للربيع وفيض بحر أعظم وسللت سيف العلم أبيض مخذما ... كالبرق يلمع فى غمام مثجم «6» فللت حدّى معضد «7» فى راحتى ... ما للكهام وحدّ أبيض مخذم «8» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 60 يا سابقا جهدى «1» مصلّى عفوه ... ما للسّكيت «2» يد بعفو مظهم «3» بذّ السوابق فى العلوم وحازها ... بالكسب منه والتراث الأعظم العلم علم محمد وكفى به ... وعلىّ الباب المبلّغ فاعلم ما كنت أوّل محجم عن مورد ... عذبت موارده لقرن مجحم «4» سابقت سبّاقا شأوت «5» بيانهم ... ببديع نثر أو بليغ منظّم وسقيت بالكأس الكبيرة منهما ... لما سقوا بالأصغر المتثلّم حتى اذا سابقته وهو «6» ابن بح ... رأو أبو بحر إليه ينتمى طارت فضائله إلى عليائها ... بجناح فتخاء «7» ونسر قشعم وسما به العلم الأجلّ محلّه ... حتى توقّل «8» فى المحلّ الأعظم ومشى حضارا «9» فانثنيت مقصّرا ... أتجول خيلى فى مقرّ الهيثم «10» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 61 لا عار إن عضلت بدائه فكرتى ... بابن المقفّع أو بنجل الأهتم «1» يا أعلم الفضلاء لست مقاولا ... فصحى بناتك «2» باللسان الأعجم لو حاولت فكرى مساواة لها ... يوما لجاءت بالغراب الأعصم «3» أقتصر فللبيان فى بحر فضائله سبح طويل، وللسعى فى غاياته معرّس ومقيل، وللمحامد ببثينة محاسنه صبابة جميل، وإنّى وإن كنت كثّير عزّة ودّه، إلا أنّى فى حلبة الفضل لست من فرسان ذلك الرّعيل؛ لا سيّما وقد وردت مشرع ألفاظه التى راقت معانيها، ورقّت حواشيها، وأدنت ثمرات الفضل من يمين جانيها؛ فجاءت كالنسيم العليل، والشذا من نفحة الأصيل، والشراب البارد والظلّ الظليل طبع تدفّق رقّة وسلاسة ... كالماء عن متن الصفاة يسيل كالمقلة الحسناء زان جفونها ... كحل وأخرى زانها التكحيل والروضة الغناء يحسن عرفها ... وتزاد حسنا والنسيم عليل والخاطر التقوىّ كمّل ذاته ... علما وليس لكامل تكميل والله تعالى يبقيه جامعا للعلوم جمع الراحة بنانها، رافعا له رفع القناة سنانها، حافظا له حفظ العقائد أديانها، والقلوب إيمانها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 62 ليضحى نديما للمعالى كأنه ... نديما صفاء مالك وعقيل «1» ويصبح ظلّ الفضل من فىء ظلّه ... على كنف الإسلام وهو ظليل وينشأ أبناء العلوم وكلّهم ... بحسنائه فى العاشقين جميل دلالته فى الفضل من ذات نفسه ... وليس على شمس النهار دليل وكتب- رحمه الله تعالى- رسالة الى الصاحب شرف الدين الفائزىّ «2» عند ما ورد عليه كتاب يذكر أن رسول الخليفة وصل يلتمس إجابة الملك المعزّ «3» أوّل ملوك الترك إلى صلح الملك الناصر صلاح الدين يوسف «4» - وقد كان الناس يذكرون أن الملك الناصر يريد أن يهجم بعساكره على الديار المصرية، وأنه لا يجيب إلى الصلح، [فلما «5» ] جاء الرسول بذلك ظهر للناس خلاف ما ظنّوه-: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 63 لأمرك أمر الله بالنجح عاضد ... فصل آمرا فالدهر سيف وساعد وقل ما اقتضت علياك فالعزّ قائم ... بأمرك والمجد المؤثّل «1» قاعد ونم وادعا فالجدّ يقظان حارس ... لمجدك والعادى لبأسك راقد فما تبرم الأيّام ما الله ناقض ... ولا تنقض الأيّام ما الله عاقد وقد برزت بكر المكارم والعلا ... وفى جيدها من راحتيك قلائد فحفّت بها الأملاك وهى مواهب ... وسارت بها الرّكبان وهى محامد وزفّت لها النعماء وهى مصادر ... رفعنا لها الأمداح «2» وهى موارد فنثّرها الإحسان وهى لآلئ ... ونظّمها الإفضال وهى فرائد فلا زلت محروس العلا يا ابن صاعد ... وجدّك فى أفق السيادة صاعد تسرّ بك الدنيا ويبتهج الورى ... وتستوكف النّعمى وتحوى المقاصد ورد كتاب كريم، ونبأ عظيم؛ لم تجر ينبوعه جياد الأقلام، ولم تجد بنوئه عهاد الأيام، ولم تظفر بمثله أعياد الإسلام؛ فتلى على عذبات «3» المنابر، وجلى على آماق الأبصار وأحداق البصائر؛ وكانت بشراه البكر العوان «4» ، لما ابتدأت «5» به من البشارة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 64 ولما تلده من البشائر، وطليعة المسارّ التى واجهت الآمال ووجه السعد سافر، ومقدّمة الأمن التى لا يسرّ بها إلا مؤمن ولا يساء بها إلّا كافر؛ وتحيّة الله التى أحيت قلوب العباد، ومنّة «1» الله التى سكنت لها السيوف فى الأغماد، ونعمة الله التى عمّت كلّ حاضر وباد؛ ورحمة الله التى رحم بها هذه الأمّة وما زال بالمؤمنين رحيما، وفضل الله على هذه الملّة «2» وكان فضل الله عليها عظيما؛ وسعادة سارت بها الأيام الى المقام المعزّىّ بين الخبب والتقريب، ومركب عزّ قدّمته عناية الله تقدمة الجنيب، وكتابا عنايته «3» هذا عطاء الله، وعنوانه «نصر من الله وفتح قريب» ، وسلّم «4» جلّل وجه الإسلام برد لباسه القشيب، وسلامة جنت يمين الإيمان ثمر غصنها الرطيب، وعزّ ألبس الملك خلع شبابه بعد ما خلع غبار الوقائع [عليه «5» ] رداء المشيب، وشمس سعادة منذ طلعت فى أفقها لم تجنح للمغيب، ولطف خفىّ قعد له كلّ حمد وقام به كلّ خطيب، ومملكة تسمعها الأيّام: قفا نضحك بمسارّ الإنعام لا قفا نبك من ذكرى حبيب، وغنيمة باردة حازتها يد الملك ولسان السنان غير ناطق وكفّ السيف غير خضيب بتسديد «6» رأى لو رأته أميّة ... لما احتفلت «7» يوما بقتل شبيب «8» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 65 الى غير ذلك من فكرة صاحبيّة شرفيّة سكن الملك تحت ظلالها ونام، وقعد بأمرها وقام؛ وتحرّكت لها العزائم، وسكنت لها الصوارم، واستنزلت العصم وذعرت العواصم، وهمم إذا سمت سامت السماء واذا همّت أهمت الغمائم، وعزّ تحت ظل ظلاله الشرف مقيم وفى خدمته المجد قائم، وعزم استيقظ له جفن النصر والسيف فى جفنه نائم، وسيف حزم على عاتق الملك منه نجاد وفى يد جبّار السموات منه قائم؛ وآراء استفتح عقائلها فأنجبت «1» ، ورمى غرض إصابتها فأكثبت، (أى أصابت «2» ) وأعمل رائدها فاستيقظت له الهمم والأنام نيام، وجلس فى صدور رياستها والعالمون قيام، وتدبير أحكم بإبرام النقض ونقض الإبرام، وذعر به رابض الأسد وأنس به نافر الآرام؛ وأجال به خيله فى مسارى الأرقم، ومقرّ الهيثم، وأمضاه فى مضايق خطبه فأغناه عن سنّ السّنان وشفة اللهذم؛ هذا ولما «3» صدقت عزائم المملكة التى نظم الله قلادة ملكها فليس لها انتثار، ولمعت كواكب أسلها «4» فى ليل الرّهج وسماء الغبار، وبنت حوافر خيلها سورا من متراكم النّقع المثار، وحصّنتها يد الله بما أظهرته من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 66 كامن الغيب وأخفته «1» من طلائع الأقدار، وحضنتها «2» رعاية الله وله من القدر أعوان ومن الملائكة أنصار فعمّت عموم اللّيل واللّيل مظلم ... وجاءت مجىء الصبح والصبح مشرق ومدّت غماما من سنابك خيلها ... بسلّ المواضى المشرفيّات يبرق فى كتائب إذا سارت سوابقها ملأت عرض الغبراء، واذا نشرت خوافقها سترت وجه الخضراء؛ وكادت تذعر الآساد بمواضى حتوفها، وتسكن المنايا تحت ظلال سيوفها؛ لا سيما إذا أنجمت «3» أنجم عواليها، ولمعت بروق مواضيها؛ وجاءت خيلها كالصخر الأصمّ والطود الأشم أعجازها وهواديها؛ من كلّ كميت «4» حلو فى الإزار، بين الشّقرة والاحمرار، كأنه ورديّة العقار يحسّ وقع الرزايا وهى نازلة ... فينهب الجرى نفس الحادث «5» المكر وكلّ أشقر «6» كأنما قدّ أديمه من لهب النار، معار رداء الحسن، وأحقّ الخيل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 67 بالركض المعار «1» ، لا تعلق به المذاكى «2» يوم رهان ولا تشقّ له الحوادث وجه غبار كأنما لبس ثوبا من خالص النّضار عتاق لو جرت والريح شأوا ... لفاتته وأوثقه «3» إسار غدت ولها حجول من لجين ... وراحت وهى من علق نضار وكلّ أدهم كريم النّجار، غذىّ اللّبان «4» الغزار، كأنما فصّلت ثيابه من سواد الليل وصيغت حجوله من بياض النهار بأغرّ يبتسم الصباح بوجهه ... حسنا ويسفر عن محيّا مسفر خلع الظلام عليه فضل ردائه ... وثنى من التحجيل ثوب مقصّر وكلّ أشهب أفرغ فى قالب الكمال، وجيهىّ» الأب أعوجىّ «6» الخال، إن مشى ضاق بزهوه فسيح المجال، وإن سعى رأيت البرق ملجما بالثريّا مسرجا بالهلال، كأنّما انتعل خدّ الجنوب واشتمل بثوب «7» الشّمال الجزء: 8 ¦ الصفحة: 68 من الجياد التى لم تبد فى رهج ... إلّا أرتك بياض الصبح فى غسق ولا جرين مع النّكباء «1» فى طلق «2» ... إلّا احتقرت التماع البرق فى الأفق وكلّ مطهّم إن ركض قلق السماط لركضه، وخلت بعضه منفصلا عن بعضه وإن مشى رأيت الطود فى سمائه والرياح فى أرضه؛ وإن خطا ظننته يرتع فى روض المجرّة ويكرع فى حوض الغمام، وخلته الأشمّ من ابنى شمام «3» ، همّه جهة الأمام وصوته حركة اللجام، كأنه قطعة من سماء أو ظلّة من غمام جرى «4» والريح فى طلقى رهان ... فقامت دونه ومضى أماما ومدّ من السنابك ثوب غيم ... ولم أر قبلها ثوبا غماما عليها كلّ كمىّ لابس الحرب ولابسته «5» ، ومارسها ومارسته؛ وكتبت عليه المواضى فى صدره كتابا أعجمته أطراف الأسل، وجنى ثمر الحديد أحلى عنده من العسل وسار إلى مهج الأبطال كسيف القضاء وحثّ «6» الأجل؛ له حنكة الأشيب ونجدة الغلام، وصنعة الضرب الفدّ والطعن التّؤام، والفتكات التى تطلع صبح الصوارم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 69 فى ليل القتام، والفعلات التى لها فتكات الأورق «1» فى النّقد وصولات الأسد فى السّوام يمشى الى الموت عالى الكعب معتقلا ... أظمى «2» الكعوب كمشى الكاعب الفضل «3» يحسن فى بحار الدروع سبح «4» الفوارس، بين بدور اليلب «5» ونجوم القوانس «6» ؛ من كلّ سابغة لا تصل إليها ألسنة الحداد، كأنها أثواب الأراقم خيطت بأعين الجراد؛ كفيلة بحماية الأنفس وصيانة المهج، تنير مسالك لابسها فى دياجى الرّهج، إنما هى البحر ولا حرج «7» اذا ما مشوا فى السابغات حسبتهم ... سيولا وقد سالت بهنّ الأباطح وكلّ أبيض هندىّ تألّفت من الملح أبعاضه، البرد جسمه والبرق إياضه؛ المفارق مغاربه والأجفان مطالعه، والأنفس موارده والمنايا منابعه؛ لو أثمر لأنبت رءوسا ولو تفجّر لسال نفوسا، ولو تكشّف صافى حديده لرأيت فيه عبوسا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 70 سليل «1» النار دقّ ورقّ حتى ... كأنّ أباه أورثه السّلالا ودبّت فوقه حمر المنايا ... ولكن بعد ما مسخت نمالا وكل أسمر اذا انتحى فهو صاح واذا انثنى فهو نشوان، واذا ورد دم القلب فهو ظمآن القناة ريّان السنان؛ اذا خطب النواصى وخط «2» ، واذا كتبت المواضى نقط؛ واذا قصرت يد القرن طال، واذا صليت نار الحرب العوالى صال توهّم كلّ سابغة غديرا ... فرنّق «3» يشرب الحلق الدّخالا «4» وكلّ صفراء رقشاء «5» الأديم، كانها أرقم الصّريم «6» ؛ لها فلك بالرزيّة دائر، وسهم بالمنيّة طائر، إن ركب فهو مقيم وإن نزل فهو سائر؛ مع عزائم بنت على «7» الدولة سورا، وجعلت بينها وبين الذين لا يؤمنون بالدولة المعزّيّة حجابا مستورا؛ على أنها غنيمة لم تحتج إلى الإيجاف والإيضاع، وطلبة ألفاها على طرف الثمام «8» وحبل الذراع «9» ؛ وعناية جاءت على اختيار المراد ومراد الاختيار، ونعمة كرّت هى والتوفيق فى قرن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 71 وجرت والسعادة فى مضمار، ومنحة ركضت بها الى المقام المعزّىّ سوابق الأقدار ومعنى خفى من نعم الله لم تلجه عقائل الأفكار؛ واذا سبقت عناية الله فليس لأمر حتمه الله رافع، واذا لحظت السعادة امرأ وقفت دونه آمال المطالب وتقطّعت خلفه أعناق المطامع، واستولت يمينه على آفاق سماء «1» الشرف فلها قمراها والنجوم الطوالع، وهذه مواهب لا تدركها دقائق الأسطرلاب «2» ولا درج الشمس ولا رصد الطوالع لعمرك ما تدرى الضّوارب بالحصا ... ولا زاجرات الطير ما الله صانع. وينهى «3» أنّ حاملها من عقدت عليه الملوك خناصرها، واختصّ منها بالصحبة ناصرها؛ وله فضل لا يذاد عن منهل العلم سوامه، ولا تجهل فى مسالك الشرف الجزء: 8 ¦ الصفحة: 72 أعلامه؛ وله نفس سمت حتى أخذت سماء السيادة بيمينها، وهمّة اذا رأيت ذاتها الكريمة توسّمت الرّياسة فى جبينها، وأبوّة لا تتّجر من المعالى إلّا فى ثمينها؛ وقد أكلته السنة بل السنوات، وترادفت عليه الملمّات بل المؤلمات؛ وقد صيّر الجناب الزينىّ لما يحاوله ذريعه، وورد المنهل الرّحب وإنه لعذب الشريعه، وقد أصاب به مولانا طريق المصنع فألبسه ثياب الصنيعه؛ ومولانا أولى من أولاه شرف جلاله ونظر اليه بعين كريمة يقابل بها ما يقابله من كرم خلاله؛ فالإبريز قد يشتبه إلّا على نقّاده، والغيث قد يخلف إلا «1» على روّاده، والماء قد يأجن إلا على ورّاده؛ وسيّدنا مصعبىّ الهمم وهذا ابن قيس «2» رقيّاته، ومهلبىّ الشّيم وهذا حبيب أبنائه «3» ، وواثقىّ الإحسان وهذا فى الجلالة ابن [أبى «4» ] دواده وفى الأدب ابن زيّاته «5» ؛ فليضعه حيث الجزء: 8 ¦ الصفحة: 73 وضعته السيادة صدرا، وليطلعه كما أطلعته الفضائل بدرا؛ وليصرف اليه عناية تعلّق بها الحمد علاقة غيلان «1» بميّه، والحكم «2» بأميّه؛ وهو يعلم- أدام الله أيامه- أن المناصب عرائس، والصنائع قلائدها، والولايات مآدب، والمكارم موائدها، والليالى- كما علمت- حبالى، والسيّئات والحسنات ولائدها؛ وخير من لبس ثوب نعمة كاهل هذا الإمام، وإن الحسنة اليه لأشرف مواهب الأيام، فاغتنمها فإنّها غاية الأغتنام؛ وأعيذ مولانا بالله أن يجعل نظره إليه لمحا، أو يضرب عنه الذكر صفحا، أو يكون مولانا روضة ثم لا يجد هذا الصدر منها نفحا، ومطلع آفاق الشرف ثم لا يستوضح هذا الملتمس من أفقها صبحا. ومثل صدر هذه الرسالة لبعض الكتاب المتقدّمين «3» : الحمد لله مقلّب القلوب، وعالم الغيوب؛ الجاعل بعد عسر يسرا، وبعد عداوة ودّا، وبعد تحارب اجتماعا، وبعد تباين اقترابا؛ رأفة منه بعباده ولطفا، وتحنّنا عليهم وعطفا؛ لئلا يستتمّهم «4» التتايع، فى التدابر والتقاطع؛ وليكونوا بررة إخوانا، وعلى الحقّ أعوانا؛ لا يتنكّبون منهجا، ولا يركبون من الشبهة ثبجا؛ بغير دليل يهديهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 74 قصد المسالك، ولا مرشد يذودهم عن درك المهالك؛ أحمده على نعمه التى لا يحصى الواصفون إحصاءها، ومننه التى لا تحمل الخلق أعباءها؛ حمدا يتجدّد على ممرّ الأزمان والدهور، ويزيد على فناء الأحقاب والعصور؛ وإنّ أحقّ ما استعمله العاملون ولحق به التالون، وآثره المؤمنون، وتعاطى بينهم المسلمون؛ فيما ساء وسرّ، ونفع وضرّ؛ ما أصبح به الشّمل ملتئما، والأمر منتظما؛ والفتق مرتتقا؛ والسيف مغمودا ورواق الأمن ممدودا؛ فحقنت به الدماء، وسكنت معه الدهماء، وانقمع به «1» الأعداء؛ واتصل به السرور، وأمنت معه الشرور؛ وليس بذلك أولى، والى إحراز الثواب به أدنى من الصلح الذى أمر الله تبارك وتعالى به، وخصّ وعمّ ورغّب «2» . ولنعد الى كلام الشيخ ضياء الدين بن القرطبى فمن ذلك ما كتب به أيضا الى الصاحب شرف الدين الفائزىّ جوابا عن كتاب شفاعة يوصى على أخيه نجم الدين، فأجابه الشيخ: يخدم الجناب الشرفىّ- رفع الله قدره بين أوليائه، وأطاب ذكره فى مقام عليائه؛ وأطال عمره مقترنا بعزّه، وأقرّه فى كنف سلامته وكهف حرزه- وردت الأوامر المطاعه، المقابلة بالسمع والطاعه؛ فى حق أخى المملوك مولانا نجم الدين، فتلقّى راية طاعتها بيمينه، وأقرّها من تعظيمه فى أسرّة جبينه، وأحلّها من شرف الامتثال فى مستودع دينه؛ وقابل حاملها بأوفر ترحيبه، وأقرب تقريبه؛ وواجهه بإجلال الأخوّه، وخلال «3» البنوّه؛ وأحلّه كنف قلبه، وأودعه بين شغاف «4» القلب وخلبه «5» ، وأعاده الى معهود ولائه وحسبه؛ وقرّر له الجزء: 8 ¦ الصفحة: 75 فى كلّ شهر عشرة دنانير وهى نهاية قدرته، وأعلمه أنّها أعود نفعا من ولايته وأقرب عونا من إمرته؛ وعاهد الله ألا يتعرّض لجنديّة أبدا، ولا يمدّ لطلب ولاية يدا؛ ولا يقف بين يدى الأمراء بعدها، ولا يتجاوز بجلالة أبويه حدّها، ولا يهمل شرف نسبته التى لم تصاعر «1» [لها «2» ] الأيّام خدّها؛ وأخذ عليه عهود الله والمملوك فى الوفاء مهما عهدها؛ وقد توجّه الى المشارع الصاحبيّة التى استعذب وردها والمكارم الشرفيّة التى ألف حمدها، والصنائع الإحسانيّة التى وجد فى مرارة الفقر حلوها وفى حرارة الغربة بردها؛ وعاود عشّ الفضل الذى منه درج، وبيت الكرم الذى اليه دخل ومنه «3» خرج، وسماء الإحسان التى أطلعت نجم إمامته فعرّج عليها وإليها عرج، وبحر المعروف الذى اذا أطنب لسان ثنائه قالت شواهد بيانه: «حدّث عن البحر ولا حرج» ؛ ومولانا يضعه تحت كنفه، ويرفعه لله ولسلفه، ويقابله الجناب الشرفىّ بما عرفه من شرفه؛ ويعينه على جاريه الذى هو مادّة رفقه، وأوّل ما أجراه الله على يد مولانا من رزقه؛ بكتاب يجزل له العزمات وينميها «4» ، ويسكن روح الحياة فى جسد فاقته ويبقيها؛ فهو ذو ضرّاء لا تسدّها إلا القناعه، وذو فاقة لا ترفعها إلا السّعة التى تمدّ باعه؛ والله يجعل مولانا وقاية لمن لجأ إليه، وإعانة لمن اعتمد عليه؛ إن شاء الله تعالى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 76 وكتب إليه أيضا شفاعة فى بعض الأعيان فقال: وينهى أنّ الله تعالى متولّى سرائر عباده، ومجازيهم على مخالفة أمره وإن كان على وفق مراده؛ أعدّ دارى ثوابه وعقابه، وحذّر أولى العقوبة من أليم عذابه؛ ثم عمّت رحمته فشفّع فى العصاه، وعفا عن الجناه؛ فقال: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ ثم بذلت عوارف الإحسان، وعواطف الحنان؛ حتى شفع الى خلقه، فى العفو عن حقّهم وحقّه؛ صفة كرم رحمانيّه، وصلة عفو إحسانيّه، وصنائع الطاف ربانيّه، فشفع إلى الصدّيق فى مسطح، فقال: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا فقدّم موجبات العطف بما قدّم من القرابة والمسكنة والمهاجرة، ثم تلقّاها من أجر الآخرة بكرم المجازاة وربح المعاملة، وحسن جزاء المنعم، تعريفا بمواقع الإحسان، وتكريما لنوع الإنسان؛ ومملوك مولانا فلان الذى أنزل حاجته بعبدك «1» ، وقصده قبل قصدك؛ وأسكن حريمه مجاورا لحريمه وتشفّع به إلى صدر الزمن وكريمه، واستوهبه الذنب وإن كان معترفا بعظيمه؛ والصنع الجميل ثمرة الأيام، والفضل أثبتته ألسن الأقلام؛ ولله لحظات تلحظ عباده ويرحم الراحمين، ويجزى المتصدّقين، ولا يضيع أجر المحسنين؛ وإن مولانا «2» عقال الشرف وذو الفضل الانف «3» ، والعارف فى صنائع الإحسان كيف تؤكل الكتف؛ وقد أحلته الجزء: 8 ¦ الصفحة: 77 على ملاءة «1» أياديك، وألبسته ملاءة معاليك، وأحللته بضمان الله كنف ناديك؛ وأنت الكريم أخلاقا ونسبا، والطّيّب أعراقا وأبا، والصّدر الذى إذا سامته الأيّام خطّة ضيم ابى، وإذا أوطأته مهانة «2» وخسفا نبا؛ وأحقّ من قبل هذه الشفاعة كرمك «3» وأولى من رعاها شيمك، والمعالى جنود الشرف وأحقّ علم رفع «4» عليها علمك؛ والله تعالى يبقيه للأنام ملاذا، وللأمل معاذا، ويهب عزمه مضاء وقلمه نفاذا؛ إن شاء الله تعالى. وكتب الى «5» قاضى القضاة تاج الدين بن خلف: يخدم الجناب التاجىّ- أدام الله شرف الملّة ببقائه، وأعلى كلمة الأمّة بعلائه وأجرى ألسنة الأقلام بثنائه، ورفع ألوية أوليائه بولائه- وينهى ورود مشرّفته الّتى تجلّت فى سماء السيادة حسنا، وسهلت لفظا وجزلت معنى، وغدا لسان الإحسان عليها يثنى، وعنان الفضائل اليها يثنى؛ وقد أخذت برقاب المعانى، وأطربت إطراب المثانى، وبعثت روح الحياة الى روح الأمانى، وثنت إلى فضلها الأوّل عنان الثانى فحىّ «6» هلا بالمكرمات وبالعلا ... وحىّ هلا بالفضل والسّؤدد المحض الجزء: 8 ¦ الصفحة: 78 لا جرم أنّ المملوك سجد لله ثم لجلالة «1» ذلك الاستغفار، وقبول كلمات الاعتذار؛ وعلم أنّ مولانا لبس حلّة التواضع لتمام شرف الاصطناع، وليحوز أقسام السيادة بالصدر الرّحب والخلق الوساع «2» سجيّة «3» نفس شرّف الله مجدها ... بما شاء من فضل لديها ومن حلم وسؤدد آباء وكسب سيادة ... تضمّ إلى عزّ العلا شرف العلم هذا مع إساءتنا التى تسوّد وجوه الأمل، ويقضى كفرها- لولا إيمان مولانا- بإحباط العمل، على أنها ملازمة المعلولات للعلل وما كنت جانى فتنة غير أنّها ... إذا وقعت أردت مسيئا ومحسنا ولو رشقتنى مصميات سهامها ... لألفت لها حكما من الله بيّنا وإن جلال الله يشهد أنّنى ... بذلت من الوسع الذى كان ممكنا وحذّرت حتى لم أجد متحرّزا «4» ... وأسمعت لكن لم أجد ثمّ أذّنا «5» وكانت صعاب «6» تقتضيها مشيئة ... وهل لقضاء الله ردّ إذا دنا وأما إشارة مولانا إلى الحاجب الذى هو لمولانا أشرف من حاجب بن زراره بما «7» أودعه أثناء تلك الكلم من لطيف الإشارة وشريف العباره؛ فجزاء مولانا على الله فى جبره لقلب المملوك المنصدع، وصلة أمله المنقطع. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 79 وكتب إلى الصاحب قاضى القضاة بدر الدين السنجارى- وهو يوم ذلك متولى الحكم والوزارة بالديار المصرية: لا زال الإسلام يستضىء ببدره، والإيمان يأرز «1» إلى صدره، والشرف يتضاءل عند قدر جلالته وجلالة قدره، والآمال والآجال مصرّفة بين بسطة نعمته وسطوة قهره، هذه على ذكره وهذه على شكره، والمكارم والمحامد تتعلّق وتتألّق هذه بنشره وهذه ببشره، والعزم والرأى إذا فلّ أو فال «2» استغاث واستضاء هذا بنصره وهذا بفكره ولا غرو أن تثنى الوزارة جيدها ... إلى ناظم فى جيدها عقد فخره الى أحوذىّ «3» الرأى إن ناب معضل ... أراك جلىّ الأمر إيحاء سرّه إذا استغزر الذهن «4» الذكىّ تضاءلت ... له فكرتا قيس «5» الذكاء وعمره «6» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 80 فيطلع رأيا واضحا من سداده ... كما انشقّ برد الليل عن ضوء فجره إلى سؤدد أجرت معاليه خيله ... سوابق غرّا «1» فى بهيمات دهره وكم سابق أجرى إلى غاية العلا ... ولكن طوى سبقا ملاءة حضره بحلم تجلّى فى أسرّة وجهه ... وجود تجلّى من طلاقة بشره يمينا لقد أضحت جلالة قدرها ... على شرف المقدار من دون قدره سطّرها المملوك بعد ما لبست الوزارة حلّة فخرها، وسحبت ذيل افتخارها، وبدا معصم شرفها فى حلية سوارها، وتجلت معانيها بين شموس فضلها وأقمارها، وجنينا الغضّ من زهرها، والطيّب من ثمرها، وحمدنا جميل تأثيرها وحميد آثارها وحيّت على بعد المدى نفثاتها ... بأطيب من رند «2» الرّبا وعرارها «3» واجتلى المملوك حسناء إحسانها فما ضارعتها البدور مذ فارقت سرارها، ولا الأنجم ولو نظم الفلك أنوارها، ولا الروضة وقد عقدت الغمائم إزارها «4» ، ولا أطلال ميّة وقد دبجت يد الأنواء «5» أزهارها، ولا أردان عزّة «وقد أوقدت بالمندل «6» الرطب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 81 نارها» ؛ صلة جاءت كبرد الشباب «1» ، وبرد الشراب؛ اقتضابا قبل السؤال، وابتداء الآمال؛ والمملوك يحضر عقيبها ليجتلى وجه المنعم قريبا، ويجتنى غصن النّعم رطيبا ومتى لم أقم بشكرك للنا ... س خطيبا فلا وقيت الخطوبا وكتب الى الصاحب تاج الدين محمد بن الصاحب بهاء «2» الدين على بن محمد المعروف بابن حنّاء «3» : رفع الله قدر الجناب الصاحبىّ التاجىّ فى شرف الأقدار، وأجرى بإرادته وسعادته سوابق الأقدار، وألبسه حلية الشرف التى هى على رأس رياسته تاج وفى معصم سيادته سوار، وحلّة النعم التى ينكمش «4» لأجلها ردن المساءة وينسحب بمثلها ذيل المسار، وأمضى عزائم آرائه التى اذا سطت يوم البأس نفذت نفوذ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 82 السهم ومضت مضاء الغرار «1» ، واذا سرت فى ليل الخطب هدت هداية النجم ووضحت وضوح النهار، وأرضى همّته التى اذا همّت أغنت عن الأبيض المرهف والأسمر الخطّار، واذا أمّت شأت «2» ناصية الحنفاء «3» وبذّت قاصية الخطّار «4» ؛ وأرهف أقلامه التى اذا أجراها أثبتت خال النّقس، فى وجنة الطرس، وطرّزت بالظلماء أردية الشمس؛ واذا هزّها أنست هزّ العوامل، وأصابت من الأمر الكلى والمفاصل، وإذا أمضاها لنعمة أو لنقمة فللجانى لعاب الأفاعى القواتل، وللعافى أرى «5» الجنى اشتارته أيد عواسل؛ ولا زال ربعه مربعا للجلال ومصيفا، ومرتعا لسوام الآمال وخريفا، ومشرعا وارد الظلال وريفا؛ وحرما آمنا تجبى اليه ثمرات الحمد وتجنى منه ثمرات الرّفد، وتقف المعالى عليه «وقوف مطايا الشوق بالعلم «6» الفرد» ؛ فإنه الربع الذى وقفت به الآمال وقوف غيلان «7» بدارميّه، وعكفت [عليه «8» ] المحامد «9» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 83 عكوف توبة على حبّ الأخيليّة «1» ؛ والجناب [الذى «2» ] فاءت ظلاله وفاضت مواهبه وجاءت مذانبه «3» ، وجادت سحائبه، وجلّت شيمه وتجلّت غياهبه؛ فى روض المعالى الذى فاحت سائمه، وناحت حمائمه، ومنشإ المجد حيث شاب فأرخيت ذوائبه وشبّ فقطّعت تمائمه، وبيت الرياسة الذى اذا دنوت حباك بإكرامه واذا نأيت حيّتك مكارمه، وصدر السيادة الذى خضعت له الأعناق هيبة «لأبلج لا تيجان إلا عمائمه» ولا زال بدرا فى سماء سيادة ... يشار إليه فى الورى بالأنامل بسيط مساعى المجد يركب نجده ... من الشرف الأعلى وبذل الفواضل إذا سيل «4» أغنى السامعين جوابه ... وان قال لم يترك مقالا لقائل محدّد أيام الحياة فكلّها ... لطالب علم أو لقاصد نائل وينهى ولاء مخبوءا بسويداء قلبه، موضوعا بين شغافه وخلبه؛ وثناء مسموعا فى محافل الأنام، معلنا «5» فى صحائف الحمد بألسنة الأقلام، جديدا على ذهاب الليالى واختلاف الأيام؛ ودعاء سابق أراعيل «6» الرياح، ووضحت أنوار إجابته وضوح الجزء: 8 ¦ الصفحة: 84 الصباح، وطار الى ملإ القبول بقادمة كقادمة الجناح؛ وتحية اذا واجهت وجه الجهام أمطر، واذا هزّت أعطاف الكهام» أثّر؛ أرقّ من النسيم السّحرى، وأعطر من العنبر الشّحرىّ؛ وأصفى من ماء المناقع «2» ، وأحلى من «جنى النحل ممزوجا بماء الوقائع «3» » يرى ذلك فى شرع المروءة واضحا واجبا «4» ... ؛ تحيّة من أولى النعمة فشكرها وعرف العارفة وما أنكرها، وآمن بيده البيضاء من غير سوء ومذ آمن بها ما كفرها؛ كيف لا وقد امتزج بحبها لحمه ودمه، وسبّح بحمدها قلمه وفمه، وجرت شيم حمده على أعرق جيادها والخيّر من سبقت به إلى شكر المنعم شيمه؛ لا سيّما وقد جنى الطّيب من ثمارها، وورد العذب من أنهارها «5» ؛ فلا أعدم الله مولانا صنائع الإحسان الذى انعقدت عليه كلمة الإجماع، وأنشده لسان المحامد عن شرف الاصطناع فلو صوّرت نفسك لم تزدها ... على ما فيك من كرم الطباع «6» ولا زال اللطف صدى صوته إذا دعا، والنجح قرين مساعيه أنّى سعى، وحاكم الفضل يصدّق دعواه حوز كلّ فضيلة كيف ادّعى؛ حضر المملوك مهنّئا نفسه بهنائه، ساعيا فى خدمته سعى الأجدل «7» فى هوائه، والنجم فى سمائه؛ من ملازمة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 85 وجهه الذى ألقى الله عليه محبّة منه فاستنار، واكتسى حلّة الحياء فألبسته حلّة الوقار؛ واجتلته المقل فرأت رونق الخفر عليه باديا، وائتمت به الهداة فألفته نجما فى سماء السيادة هاديا؛ وقالت الأمانى فى ظلّه فأنشأ جوده قائلا: نزلت على آل المهلّب شاتيا «1» ورأيته والناس مؤمنون من ليث «2» عليه مهابة فكانوا الكروان «3» أبصرن بازيا «4» ؛ أبّهة الجلاله، وجلالة الأصاله؛ وأصالة الشرف، وشرف الفضل الأنف، ورياسة ورّثها خير سلف لخير خلف، وشيم علّمته فى المعالى كيف تؤكل الكتف؛ فصادف ركابه العالى قد استقلّ، وحلّ من دارة العزّ حيث حلّ؛ فأقام رجاء أن يعاين أسرّة جبينه، ويقبّله كتقبيل الندى فى يمينه؛ وحين جنحت الشمس الى مستقرّ الأنوار وطوى الفلك بيد القدرة رداء النهار، وأشرف اليوم من خشية «5» طيّه على شفا جرف هار؛ وثوّب «6» داعى العصر وحيعل، وعاين نيّر الفلك فى وجه السماء كعين الأقبل «7» ؛ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 86 ثنى عنانه إلى مثوى قراره، وانثنى يسابق أدهم ليله بأشهب نهاره؛ وعلى الرغم أخفق مسعاه، ولم يقل «1» قلبه الشوق الذى دعاه؛ لكن سار وأقام خالص ولائه وعاد بعد ما أودع الحفظة مرفوع دعائه؛ فعرّف الله مولانا بركات هذا الشهر الذى سارت به إلى إحسانه مطايا أيامه، وجعله مثبتا لحسناته ممحّيا «2» لآثامه، وحلّاه بالمقبول «3» من صيامه والمشهور من قيامه؛ وأراه صدر برّه أثلج، ووجه بدره أبلج، وثغر ابتسامه عن رضوان القبول أفلج؛ ورقّاه درج تضاعف حسناته، ولقّاه من كرم الله مذخور إحسانه وموعود هباته؛ وأراه الأمل فى بنيه، وأرانا فيهم ما رأينا فيه؛ فهو غاب «4» العلم وهم أغصانه وشجره، ومطهّم السابقين وهم حجوله وغرره؛ وانى لألمح «5» من مخايل شرفهم وشرف مخايلهم، وشمائل شيمهم وشيم شمائلهم؛ نجابة «6» تضعهم من الرّياسة فى أنفها، ومن السيادة بمكان شنفها؛ فهم جذوة فضل مبرقه، ودوحة علم مورقه ونبعة سيادة معرقه، وشموس معال فى أفق كلّ شرف مشرقه؛ سمت بهم أصالة النسب، وفضيلة الأدب المكتسب، وجمعوا بين شرف العمومة والخؤولة فى كرم المنتسب؛ فللعلا ألسن تثنى محامدها على الحميد من فعلهم وشيمهم، وللندى مواهب عزيت مذاهبها «7» الى العليّين من كرمهم وهممهم؛ لا زالت محاسنهم قلائد الأجياد وأيّامهم مواسم الأعياد، وحرمهم المخصب بالمكارم سواء العاكف فيه والباد؛ إن شاء الله تعالى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 87 وكتب الى القاضى شمس الدين الأصفهانى الحاكم- وكان بالأعمال القوصيّة- رحمهما الله تعالى-: أوضح الله صنائع المجلس فى بهيم الآمال غررا، ونظم أياديه فى أجياد الأيّام دررا، وصفّى مشارع أمانيّه إن كان مشرع الأمانىّ كدرا، ولا زال الإسلام يشدو بحمده مفتخرا، والأيّام تتلو مجده سورا، والشرع المحمدىّ يكون بمضائه فى ذات الله منتصرا فقد نشرت يمناك أردية العلا ... تحلّى بلاد الله بالدين «1» والعلم وأمضيت أمر الله فى شرع أحمد ... وقيّدت شكر الله فى مطلق الحكم وترضى كلا الخصمين فى السّخط والرضا ... كأنك تعطى الخصم ما كان للخصيم الى غير ذلك من محاسن وضحت وضوح النجم فى الليل البهيم، وسرت الى الحمد سرى المجدّ الى الشرف الصميم، وحدّثت عن مساعيه فجاءت بالنثر البديع والدرّ النظيم، وأثنت عليه ثناء وارف الروض على واكف الوبل بألسنة النسيم وهزّت جناحى فضله وجلاله ... الى درك العلياء من غاية المجد وقالت معاليه لى المجد كلّه ... فما ابنة ذى «2» البردين والفرس الورد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 88 فلا عدمه الإسلام إماما فاضلا، وحكما فاصلا، وساعيا الى غايات الفضائل واصلا، وفاعل حسنات صيّر الحاصل من ثنائه باقيا والباقى من عمله الصالح حاصلا؛ المجلس- أدام الله أيامه- يعلم أن الأيام مسّتنى بحدّ شباتها، ورمتنى عن قوس أذاتها، وجنتنى الحنظل من شجراتها، والمرّ من ثمراتها، وأضرمت من نار ألمى ما لم تطفئه مقلتى بفيض عبراتها كأنى لم أطلع بأفق سمائها ... ولم أتقلّب فى ثياب سماتها ولم أك منها فى سويداء قلبها ... مخايل من هدى العلا وهداتها - أستغفر الله- فإنها استرجعت ما لم يكن مستحقّا، وأبقت إن شاء الله لمجلسه السامى ما كان حقّا، وأسكنته «1» - أدام الله نعمته- وفلك السعادة شرقا ومطلع الشمس أفقا، وأحلّته «2» من كنف السيادة قلبا ومن رأس الرّياسة فرقا وتطلعه الآمال خير غمامة ... فتلمعه برقا وتوكفه ودقا وتبقيه للدين الحنيفىّ عصمة ... وللهدى والإضلال إن أبهما فرقا وتبرزه فى صدر كلّ فضيلة ... كما بذّ شأو الفاضلين بها سبقا حضر مملوك مولانا الولد [وقد «3» ] رفع من المحامد الشمسيّة لواء، والتزم العبوديّة والإخلاص ولاء، وعمر الأفنية ودادا والأندية ثناء؛ وقال: أحسن مولانا حين أساءت الأيام، وأولى نعمة حاتمية وإنها أشرف الإنعام الجزء: 8 ¦ الصفحة: 89 وما لى لا أثنى عليه بصالح ... وأشكره والشكر بعض حقوقه وأملأ من حسن الثنا كلّ مسمع ... وإنّى لأخشى بعد إثم عقوقه ثم سار وقلبى يتبعه، ودمعى يشيعه، ولسانى يستحفظه الله ويستودعه؛ وعليه من الديون ما أحاط به إحاطة الجفون بمقلها، والأغماد بمنصلها «1» ؛ لتوالى هذه المغارم التى طمّ جداها «2» ، والمظالم التى عم رداها، والمحنة التى ملكتنى يداها؛ من خراج طمى بحر ظلمه، وزاد على حدّ «3» الجور رسمه وخصصت من بين هذا العالم بوسمه «4» ؛ للزوم قام بوصفى فتبعه لازمه، ومعنى وجب لذاتى فاستحال عدمه؛ وقد كان المملوك وولده فيما سلف يجودان بما يجدان لقانع ومعترّ، وغنىّ ومضطرّ؛ صيانة للأعراض من أعراض اللّوم، ورغبة فى صلة حمد الأمس بفائد «5» اليوم؛ وسجيّة نفس تأنف من علاقة الذم؛ وإن كان هذا فيما لا يجب فالقياس فيما يجب انبعاث النفس اليه من حتم المروءة أمضى» ، والدّين بأداء الواجب أقضى؛ لانه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 90 مؤيّد بإبرام الشرع، وقد صحّ هذا القياس بجامعيّة الأصل والفرع؛ لكن ضاقت «1» يد القدرة عن نفاذها، واعتاضت من وابل الثروة برذاذها؛ واذا توافرت القرائن أفادت فوق ما تفيد غلبات الظنون من مدار الشرعيّات عليها، وانتهاء غالب الأحكام إليها؛ وقد كان المملوك حرّك عزائم سيّدنا قاضى القضاة- شرّف الله قدره، وأدام على الإسلام أمره- إلى تحرّيها «2» العلوم الكريمة بما هى عالمه، وحكمها بما هى حاكمه؛ ليكون «3» له مستند يدفع أقوال المتعرّضين، ويصرف اعتراض المعترضين؛ ولئلّا يقف له واقف فيجرى قلمه الشريف بأمر جازم يجب الوقوف على مثاله، والمسارعة إلى امتثاله؛ فيعزّ استدراك الأمر بعد إحكامه، ويكون السعى فى معارضته كالنقض لأحكامه؛ فكتب بما يقف مولانا عليه، وتشير مروءته وديانته اليه؛ ويقرّر مع نائبه «4» ما يقف عنده، ولا يتجاوز حدّه؛ غير ذاكر عن مولانا منعا ينفّر عنه الرّواه «5» ، ولا مشنّع «6» بكتّاب سيّدنا قاضى القضاه؛ بل يكون كالشافع، اذا صمّم الخصم اعتذر بما هو لهذه المصالح كالجامع؛ ليكون المملّك «7» فى إرضائه بحسب الإمكان ويرى الخصم ما أخذه بعد اليأس نوعا من الإحسان؛ فالنفوس اذا منعت كلّ المنع طلبت كلّ الطلب، وتعلّقت فى درك أغراضها بكل سبب؛ وإذا أخذت بالكلام الجزء: 8 ¦ الصفحة: 91 البيّن «1» ، وعوملت بالسهل «2» الليّن؛ بعد درء سورتها «3» بالمنع، ودفع شهوتها بالدفع؛ اتّسق حكم الأشياء وانتظم، وانشعب صدع هذا الجرح والتأم؛ وجرى الأمر على سداد بحفظ النظام وحفظ الحرمة والحفظ للشارع، ولذلك قال: «أقيلوا ذوى الهيئات عثراتهم» لا سيما مع شهادات ضروراتهم؛ بسط الله يمين سيدنا فى المعالى كما بسط لسانه فى المعالم، وقيّد عليه لسان المحامد كما أطلق يده بالمكارم «4» ؛ وعليه تحية الله التى توالى عليه نفحاتها، وتهدى إلى آماله العالى [من «5» ] مقترحاتها. وكتب إلى شهاب الدين محمود متولى سمهود «6» من عمل قوص- وكان بينهما مودّة، فاستدعاه للسلام عليه- فكتب: إلينا فإنا قد حللنا بأرضكم ... على فرط شوق لابن عثمان دائم وزرناك محمودا كما زار أحنف «7» ... لنيل الأمانى ربع قيس بن عاصم «8» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 92 ولسنا بغاة للندى والتماسه ... وان كنت معروف الندى والمكارم ولكن وفاء بالإخاء لمن وفى ... وقد خان حتى حدّ سيفى وقائمى وجدتك ذخرى والزمان محاربى ... كما كنت عونى والزمان مسالمى فلا غرو أن أثنى اليك أعنّتى ... كما قد ثنت يمناى خنصر خاتمى يهدى الى المجلس السامى الشرفىّ تحيّة الله التى تحملها أنفاس النسيم معطّرة بعرف الرياض، مكلّلة بأندية الكرم الفيّاض؛ تغاديه فى السحر والمقيل، وتراوحه فى الطّفل والأصيل، وتشاهد محاسنه «1» المقل أحسن من محاسن بثينة فى وجه جميل؛ وأثنيته «2» التى تنتظم فى الأجياد انتظام القلائد، وترد على الأسماع ورود الهيم «3» على عذاب الموارد؛ ويوليه «4» من حبّه مزيّة الاختصاص، ومن موالاته السوانح التى لا تمتد إليها يد الاقتناص؛ فهو نسيم الأنس، ومسرّة النفس، وذخر اليوم والأمس؛ مصعبىّ الهمم، مهلّبى الشيم «5» ، حاتمىّ الكرم؛ فاق أخلاقا، وراق أعراقا؛ وسما نفسا، وطلع فى سماء الشرف شمسا وألفيته فى نفسه وولائه ... وحسن معانيه كما انتظم الدرّ وضاع شذا أنفاسه فانتشقته ... على النأى منه مثلما ابتسم الزهر ولاحت معاليه بآفاق مجده ... كما لاح فى ليل التّمام لنا بدر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 93 لا حرم إتيانى «1» اليه، وإيثار تسليمى عليه؛ مع أنى كنت أعهد له خلوة حلوة مع الله ووقفة على بابه، والتجاءه فى جنح الليل إلى جنابه، ودمعة يرسلها إذا استرسل فى محرابه؛ وضراعة يتابعها خشوعه، وزفرة يشتمل عليها قلبه وتفرّق عنها ضلوعه فيا ليت شعرى هل أقامت بثينة ... على عهدها أم قد ثنتها الشواغل وهل ذلك الودّ الذى كان بيننا ... بوادى الخزامى مثل ما كان أوّل «2» وكتب اليه- رحمهما الله- يستدعى منه ثلاثة أسهم ومليات «3» - وقد أوردنا بعض هذه الرسالة فى الفن الأوّل فى السواقى، ونوردها فى هذا الموضع بجملتها لتكون متتابعة يتلو بعضها بعضا-: والسيف يندب فى الوغى فيهزّه ... ندب الكمىّ الى مضاء غراره والحرّ أولى بانتداب خلاله ... لمؤمّل فيه قضا أوطاره فلذلك حرّكت العزائم العالية المولويّة الشرفيّة- أدام الله علاها، ورفع لواها وأودع أسماع الأنام ثناها؛ ولا زالت مرفّهة السرائر، منوّرة الضمائر، سائرة فى قطب المعالى سير الفلك الدائر، آخذة بحظها من شرف المفاخر، جامعة بين درك إحسان الجزء: 8 ¦ الصفحة: 94 الله فى اليوم الأوّل واليوم الآخر- تحريك الطّسميّة «1» عزائم الأسود بن عفار «2» وبعثتها إلى إنالة الأمل انبعاث الهمم العربيّة يوم ذى قار «3» ، واستجشت عزائمها استجاشة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عزائم الأنصار، واستنجدتها استنجاد العثمانيّة بالهاشميّة يوم الدار «4» ، واستحثثتها سرعة الإجابة استحثاث أدهم الليل أشهب النهار؛ فإنها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 95 للتى ثنيت عليها خنصر الاعتماد، وصرفت اليها عقيدة الاعتداد «1» ، وجعلتها من القلب فى سويدائه ومن المقلة فى السواد، واعتمدت عليها اعتماد بكر على الحارث بن عباد «2» ؛ لا جرم أنها والحمد لله تعالى ساعية لآمالى متى استسعيتها، وصدى صوتى متى دعوتها وفاتحة كتاب المحامد متى تلوتها؛ وأعيذها بالله أن تنكب عن قضائها «3» ، أو تقف دون غاية انقضائها؛ وإنها لأورق «4» فرعا من أفنان السّلمه «5» ، وأعراق أصلا فى الوفاء من أصل السّلمه «6» ، وأرشق سهما فى كنانة سلمه «7» وأوثق فى حفاظ المودّة من ابن شبرمه «8» ؛ يقين الجزء: 8 ¦ الصفحة: 96 أحطت بأنبائه، إحاطة رسول ابن داود «1» يوم إنبائه؛ فلا أشكّ فى «2» شرف نفسها وسموّ نجمها ووضوح شمسها، وزيادة يومها فى الوفاء على أمسها «3» ، كما لا تشكّ الإياديّة فى فصاحة قسّها، ولا العامريّة فى علاقة قيسها؛ وقد توجّه اليه حاملها لحمل السهام التى أسهمت له من الموالاة «4» أوفر أقسامها، ونشرت رداء ذكره على أفئدة قلوبها وألسنة أقلامها؛ عند اشتداد الحاجة إليها، وجرّ ثقل السواقى عليها؛ وحركة الحرّ التى حلّت شمسه برج حملها «5» ، وتوالت جيوش جنوده بين صدور ظباها وأطراف أسلها؛ تجفّف أنداء الثرى، وتعيد عنبر «6» الأرض عثيرا، وتشيب مفارق نباتها، وتذيق الممات «7» أكباد حبّاتها؛ فاستنصر العزائم العالية المولوية الشرفيّة فى إطفاء لهبه واقتضينا إعانته قبل انتضاء «8» قضبه، وبعثنا لمحلّ الهمة الشرفيّة قبل سطوته على قضبه «9» وقصبه؛ لتجرى جداولها على صفحة الثرى مستفيضه، وتجنى ثمرات رياضها من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 97 أنداء همّته أريضه «1» ؛ وتغازل مقل النفوس لحظات أزهارها، وتفتن أفنان «2» فنونها بنوح بلبلها وهزارها، ويبوح شذا الروض عن «3» سرّها وآثارها «4» ؛ هذا مع أنّها خطبت حسن إحسانه، وتقلّدت جميل برّه وجزيل امتنانه؛ والربيع منمنم العذار، موشّى الإزار؛ قد لبس رداء شبابه، وماس فى خضر ترابه وخضل ربابه «5» ؛ يهزّ أعطاف سنائه «6» ، ويخطر فى برد هوائه وبرد مائه، فكلّل وجنات نوره ببرد أندائه؛ والثرى عنبرىّ الأديم، سحرىّ النسيم، رندىّ الشميم؛ موشّح بقلائد غدرانه، مغازل بعيون نرجسه بسّام بثغر أقحوانه؛ لا يغرّد «7» ذبابه ولا يطرّب، ولا يصرّ «8» بسحراته الجندب؛ تطلع شمسه محتجبة فى ضبابها «9» ، مقنّعة من سحابها؛ جارية فى أثناء حبكها «10» ، جائلة فى أدنى فلكها؛ تسعى فتسرع، وتكاد أن تغرب حين تطلع؛ والجوّ معقود الأزرار، فاختىّ «11» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 98 الإزار؛ غيمه منسكب، ونوره منسحب؛ وليله يضمّ أطراف نهاره، ويلفّ وجهه فى حاشية إزاره؛ ينفى القذاة «1» عن مائه، ويجمع الحواسّ على جلوائه «2» ، ويعشى المقل من ضوء سنائه فلو أن ليلى زارنى طيف أنسها ... وماء شبابى قاطر فى ذوائبى ضممت عليها البرد ضمّة آلف ... وألصقت أحشائى بها وترائبى ولكن أتتنى بعد ما شاب مفرقى ... وودّعت أحبابى له وحبائبى والحاجة داعية إلى ثلاثة أسهم، كأنها هقعة «3» الأنجم؛ ممتدّة امتداد الرمح، مقوّمة تقويم القدح؛ غير مشعثة الأطراف، ولا معقّدة الأعطاف، ولا مسوّسة الأجواف؛ تحاسن الغصون بقوامها، والقدود بتمامها؛ وتخالف هيفها بامتلاء خصورها، وتساوى [بين «4» ] هواديها وصدورها؛ معتدلة القدود، ناعمة الخدود؛ مع مليات «5» أخذت النار فيها مأخذها فاسودّت، وتطاولت عليها مدّة الجفاف فاشتدّت؛ وترامت بها مدّة القدم، كأنها فى حيّز العدم؛ صلاب المكاسر، غلاظ المآزر؛ تشبه أخلاقه فى هيجاء السّلم، وتحكى «6» صلابة آرائه فى نفاذ الرأى ومضاء العزم؛ تكظم على الماء بقبضها «7» ، فتجود على الأرض بفيضها؛ تمدّ يد أيدها «8» فى اقتضاء إرادتها، وتطلع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 99 طلوع الأنجم فى فلك إدارتها؛ وتعانق أخواتها معانقة التشييع، فآخر التسليم أوّل التوديع؛ على أنها تؤذن بحقائق الاعتبار، وتجرى جرى الفلك المدار فى فناء الأعمار تمرّ كأنفاس الفتى فى حياته ... وتسعى كسعى المرء أثناء عمره يفارق خلّ خلّه وهو سائر ... على مثل حال الخلّ فى إثر سيره ويعلمه التّدوار لو يعقل الفتى ... بأن مرور العمر فيه كمرّه فمن أدركت أفكاره سرّ أمرها ... فقد أدركت أفكاره سرّ أمره ومن فاته الإدراك أدركه الردى ... إذا جرّعت أنفاسه كأس مرّه هذه آخر خطوات القلم، ومنتهى خطرات الكلم؛ فقم فى سرعة وصولها وتعجيل رسولها بعزم [غدا] ينسى لمروان عزمه ... براهط «1» إذ جاشت عليه القبائل غير معتمد عليه، ولا مفوّض أمرا اليه؛ فلم أعتمد عليه اعتماد الصّوفه «2» ، وإنما هو العماد عند أهل الكوفة «3» ؛ وإنما هو حمار سير، وذنب طير؛ يحمل ورقة مطويّة عن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 100 علمه، مزويّة عن فهمه؛ «كما يحمل الزّند الشرار إلى العظم» والله تعالى يحلّه من السعادة أشرف آفاقها، ويحرسه فى طفل الشمس وإشراقها ويجريه من ألطافه نحو غاية ... تبلّغه الألطاف حلو مذاقها ويلبسه فخر السيادة والعلا ... كما لبست أسماء «1» فخر نطاقها إن شاء الله تعالى. ذكر شىء من إنشاء المولى [القاضى «2» الفاضل البارع الأصيل] الأجل محيى الدين عبد الله [بن عبد «3» الظاهر] رحمه الله تعالى كان رحمه الله من أجلّ كتاب العصر، وفضلاء المصر؛ وأكابر أعيان الدّول والذى افتخر بوجوده أبناء عصره على الأول؛ له من النظم الفائق ما راق صناعة وحسنا، ومن النثر الرائق ما فاق بلاغة ومعنى؛ فقصائده مدوّنة «4» مشهوره، ورسائله بأيدى الفضلاء ودفاترهم مسطوره؛ وكلامه كاد يكون «5» لأهل هذه الصناعة وعليهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 101 حجّه، وطريقه فى البلاغة أسهل طريق وفى الفصاحة أوضح محجّه؛ وهو رحمه الله ممن عاصرته «1» ولسوء الحظ لم أشاهد محيّاه الوسيم، ولم أفز بالنظر إلى طلاقة وجهه الكريم؛ والذى أورده من كلامه هو ممّا نقلته من خطّه، وتلقّيته ممّن سمعه من لفظه؛ فمن كلامه- رحمة الله عليه- ما كتبه عن السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس الصالحىّ- رحمه الله- إلى ملك الغرب، كتب: تحيّات الله التى تتابع وفودها وتتوالى، وتشرق نجومها وتتلالا، وتنفق إسرافا ولا تخاف من ذى العرش إقلالا؛ تخصّ الحضرة السنيّة السّريّة، العالميّة العادليّة المستنصريّه؛ ذخيرة أمير المؤمنين، وعصمة الدنيا والدين، وعدّة الموحّدين؛ لا زالت سماؤها بالعدل مغدقة الأنواء مشرقة الأنوار، ورياضها بالفضل مورقة الأغصان مونقة الثمار؛ ولا برحت ضوالّ الأمانى فى أبوابها تنشد، وقصائد القصود «2» فى اتصافها تنشد؛ وسرى الآمال عند صباح أمرها يحمد، وأحاديث الكرم عن جودها ترسل والى وجودها تسند؛ وسلامه الذى يكاثر نسيم الروض الأنيق، ويفاخر جديده عتيق «3» المسك وأين الجديد من العتيق؛ يغاديان تلك الأنداء «4» المباركة مغاداة الغوادى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 102 من «1» وابل المطر، ويراوحانها مراوحة الرّقّة للأصل والبكر؛ حيث العزّة القعساء يمتدّ رواقها، والنعمة الغرّاء تخصف «2» أوراقها، والدّيمة الوطفاء «3» يتوالى إغداقها، ويتتالى إغراقها؛ وحيث العدل منشور الجناح، والحقّ مشهور السلاح، والإنصاف مبرور الأقسام لطالبه باق لا يزاح؛ سجيّة تتوارث توارث الفخار، ومزيّة تستأثر بالهداية استئثار النجوم بالأنوار، وشيم تستصحب استصحاب الأهلّة للإبدار؛ فلذلك يتلفّت الأمل اليها تلفّت السارى الى تبلّج الصباح، ويرتاح الى تلقّى إحسانها ارتياح الظامئ إلى ارتشاف الماء القراح؛ ويحتمى بها فى المطالب احتماء الليث بالغابه، ويستمدّ إسعافها استمداد الحديقة من السحابة؛ ويهزّ عدلها كما هزّ الكمىّ المرهف، وينبّه فضلها تنبيه النسيم جفن الزهر الأوطف «4» ؛ فيناجى بالجؤور «5» ، ويلتمس لها حسن الصنع الذى لا يزال مبتسم الثغور؛ فمما قصّ عليه من مناجاته، وطوى عليه طويّة مفاوضاته؛ أنّ القاضى زين الدين بن حباسة من بيت أسلف سلفه جميلا، وغدا هو على مكارمه دليلا؛ وكان له غلام قد سيّر معه جملة «6» ... والاحتفال الحفىّ «7» مسئول الجزء: 8 ¦ الصفحة: 103 فى تقدّم يجيب النجاح داعيه، ويغدو الفلاح مراوحه ومغاديه؛ واعتناء يستخلص حقّه ممن عليه اعتدى، ويرى من قبسه نورا يجد به هدى؛ فببارقة يضىء لديه الحالك، وبلمحة يهتدى «بحيث اهتدت أمّ النجوم الشوابك «1» » ؛ وما هو إلا رسم يرسم به وقد قرب البعيد، وآب الشريد؛ وخاف الخائف، وكفّ الجانف «2» ؛ وجمعت الضّوالّ، وضاق على المختزل «3» واسع المجال؛ مهابة قد سكنت القلوب، وسياسة قوى الطالب بها وضعف المطلوب، وعزّة لا يزال الرجاء ينيب إليها فيما ينوب؛ وأىّ مطلب تناجى فيه الآلاء المباركة فلا يصحب قياده، ويستسقى له مزن ولا تعاهد عهاده «4» ؛ وأىّ ذاهب لا يسترجع به ولو أنه عشيّات «5» الحمى، وأى فائت لا يردّ ولو أنه زمن الشبيبة المعسول اللّمى؛ وحسب العانى أن يحطّ برحابها رحاله، أو أن يوفد إلى أبوابها آماله؛ وقد تبادرت إليه المناجح متسابقه، وانتظمت لديه المصالح متناسقه؛ فحينئذ يفعم إناء تأميله، ويستوعب الإحسان لجملة «6» قصده وتفصيله؛ ويناديه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 104 السعد من تلك البقعة المباركه، فيوافيه التوفيق بصحائف القبول تحملها الملائكه؛ أمتع الله ببركاتها التى امتدّ رواقها، وأنار الحالك إشراقها؛ ولا زالت يراوحها تسليم عطر النفحه، وتصافحها تحيّات جميلة الصفحة؛ بمنّه وكرمه. وكتب رسالة صيديّة عن «1» السلطان الملك الظاهر إلى الأمير عز الدين الحلّىّ «2» نائب السلطنة بالقلعة: هذه المكاتبة إلى المجلس لا توارت شموس أنسه، ولا أذبلت ثمار غرسه ولا برح غده فى السعد مربيا على يومه ويومه على أمسه؛ تتضمّن إعلامه بأنا خرجنا إلى الصيد المبارك بجنود تملا السهل والجبل، وتستحيى الشمس منها فتستتر فى سحابها من كثرة الخجل؛ تسير على الأرض منها جبال، وتأوى الرمال منها الى أورف ظلال؛ وتوجّهنا إلى جهة الطّرّانة «3» وإذا بحشود «4» الوحوش قد توافدت، وعلى مناهل المناهج قد تواردت؛ والأجل يسوقهم، والبيد تعقّهم» ، والمنايا تعوقهم؛ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 105 ولم تزل أيدى الخيل تجمعهم فى صعيد، وتطوى بهم سطورا فى طروس البيد؛ حتى أحاطت بهم إحاطة الفلك بالنجوم الزواهر، والأجفان بالعيون النواظر؛ وجرّدت السيوف فظنّتها غدرا، ورميت النبال فحسبتها شررا؛ وعزلت «1» الرماح بالسهام وحيّتها السّلام «2» بالسّلام، وسكنت نهارا من العجاج فى ظلام؛ وضاقت عليها الأرض بما ربحت، وأدركت المنيّة منها ما طلبت؛ وراسلتها المنايا، وأهدت اليها رياحين تحايا؛ فمن صريع وصديع وطريح وطريد، وجريح ومقبل وشريد، وقائم وحصيد؛ ولم تسلم فى هذا اليوم غير غزالة السماء فإنها استترت بالغيوم، وخافت أن يكون الهلال قد نصب فخّا لصيدها وصيد غيرها من النجوم؛ والموت «3» أسر كلّ مهاة مهابه، ونال الحتف من كل طلا «4» طلابه؛ وفتكت الظّبا بالظّبى، وقالت السهام لأجيادها: مرحبا؛ وثنينا الأعنّة والشفار قد أنهلت، والظهور قد أثقلت؛ والكنس «5» خاوية على عروشها، والبيد قد أوحشت من وحوشها؛ وما نشتمل عليه من محبّة المجلس وإيثاره، ونجده من الوحشة له مع دنوّ داره؛ وسروره بما عساه لنا يتجدّد، وحبوره بما يرد من جهتنا وهذا لا نشكّ فيه ولا نتردّد؛ أوجب أن نخصّه به ونتحفه، ونصفه له على جليّته إذ كنّا بالتخصيص به لن ننصفه؛ وقد بعثنا إليه منه قسما، ولم تنس عند ذكرنا أنفسنا له اسما. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 106 وكتب عن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون إلى صاحب اليمن جواب كتاب عزّى فيه السلطان عن ولده الملك الصالح علاء «1» الدّين علىّ- وكان الكتاب الذى ورد فى ورق أزرق، وسيّره فى كيس اطلس أزرق، والعادة أن يكون فى كيس أطلس أصفر-: أعزّ الله نصرته وأحسن بتسليته الصبر على كل فادح، والأجر على كلّ مصاب قرح القرائح، وجرح الجوارح، وأوفد من تعازيه كلّ مسكّن طاحت «2» به من تلقاء صنعاء اليمن الطوائح، وكتب له جزاء المصبّر عن جار من دمع طافح، على جار لسويداء القلب صالح «3» ؛ المملوك يخدم خدمة لا يذود المواصلة بها حادث، ولا يؤخّرها عن وقتها أمر كارث، ولا تنقصها عن تحسينها «4» وترتيبها بواعث الاختلاف ولا اختلاف البواعث؛ ويطلع العلم الكريم على ورود مثال كريم لولا زرقة طرسه؛ وزرقة لبسه، لقال: «وابيضّت عيناه من الحزن فهو كظيم» ؛ يتضمّن ما كان حدث من رزء تلافاه الله بناسيه، وتوافى هو والصبر فتولّى التسليم تبيين عاسيه «5» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 107 وتمرين قاسيه؛ فشكرنا الله على ما أعطى وحمدناه على ما أخذ، وما قلنا: هذا جزع قد انتبه إلا وقلنا: هذا تثبّت قد انتبذ «1» ، ولا توهمنا أن فلذة كبد قد اختطفت إلّا وشاهدنا حولنا من ذرّيّتنا- والحمد لله- فلذ؛ وأحسنّا الاحتساب، ودخلت الملائكة علينا من كلّ باب، ووفّانا الله أجر الصابرين بغير حساب؛ ولنا- والشكر لله- صبر جميل لا نأسف معه على فائت ولا نأسى على مفقود، وإذا علم الله حسن الاستنامة إلى قضائه والاستكانة إلى عطائه عوّض كلّ يوم ما يقول المبشّر به: هذا مولى مولود؛ وليست الإبل بأغلظ أكبادا ممن له قلب لا يبالى بالصدمات كثرت أو قلّت، ولا بالتباريح حقرت أو جلّت، ولا بالأزمات إن هى توالت أو تولّت، ولا بالجفون إن ألقت ما فيها من الدّموع والهجوع وتخلّت؛ ويخاف من الدهر من لم يحلب أشطره، ويأسف على الفائت من لا تنتابه الخطوب الخطره؛ على أن الفادح بموت الولد الملك الصالح- رضى الله عنه- وإن كان منكيا «2» والنائج بشجوه وإن كان مبكيا، والنائج «3» بذلك الأسف وإن كان لنار الأسى مذكيا؛ فإن وراء ذلك من تثبيت الله ما ينسفه نسفا، ومن إلهامه الصبر ما يجدّد لتمزيق القلوب أحسن ما به يرفا؛ وبكتاب الله وبسنة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم عندنا حسن اقتداء نضرب به عن كلّ رثاء صفحا، وما كنّا مع الله- والمنّة لله- نعطى لمن يؤنّب ويؤبّن «4» أذنا ولا نعيرها لمن يلحى؛ إذ الولد الذاهب مرّ فى رضوان الله تعالى سالكا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 108 طريقا لا عوج فيها ولا أمتا «1» ، وانتقل سارّا بارّا صالحا وما هكذا كلّ الموتى نعيا ولا نعتا؛ وان كان نفعنا «2» فى الدنيا فها نحن بالصدقات والترحّم عليه ننفعه، وان كان الولد عمل أبيه- وقد رفع الله روح ولدنا فى أعلى علّيّين تحقّق أنه العمل الصالح «والعمل الصّالح يرفعه» ؛ وفيما نحن بصدده من اشتغال بالحروب، [ما «3» ] يهوّن ما يهول من الكروب؛ وفيما نحن عاكفون عليه من مكافحات الأعداء [ما «4» ] بين المرء وبين قلبه يحول، ومله عن تخيّل أسف فى الخاطر يجول اذا اعتاد الفتى خوض المنايا ... فأهون ما يمرّ به الوحول «5» ولنا بحمد الله ذرّيّة درّيّة «6» ، وعقود والشكر لله كلّها درّيّة اذا سيّد منهم خلا قام سيّد ... قؤول لما قال الكرام فعول «7» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 109 ما منهم الا من نظر سعده ومن سعده ينتظر، ومن يحسن أن يكون المبتدا وأن تسدّ حاله بكفالته وكفايته مسدّ «1» الخبر «والشمس طالعة إن غيّب القمر» لا سيّما من الدين به إذ هو صلاحه أعرف، ومن إذا قيل لبناء ملك هذا عليه قد وهى قيل: هذا خير منه من أعلى بناء سعد أشرف «2» ؛ وعلى كلّ حال لا عدم إحسان المولى الذى يتنوّع فى برّه، ويعاجل قضاء الحقوق فتساعف مرسومه فى توصيله طاعة بحره وبرّه؛ وله الشكر على مساهمة المولى فى الفرح والترح، ومشاركته فى الهناء إذا سنح، وفى الدمع اذا سفح؛ وما مثل مكارم المولى من يعزب مثل ذلك عن علمها، ولا يعزى الى غير حكمها وحلمها؛ وهو- أعزه الله- ذو التجارب التى مخضت له من هذه وهذه الزّبده، وعرضت عليه منهما الهضبة والوهده؛ والرغبة الى الله تعالى فى أن يجعل تلك المصيبة للرزايا خاتمه وكما لم يجعلها للظهور قاصمة فلا يجعلها لعرا الشكر فاصمه «3» ، وان يجعلها بعد حمل هذا الهمّ وفصاله على عليه فاطمه؛ وأن يحبّب الينا كلّ ما يلهى عن الأموال والأولاد من غزو وجهاد، وأن يجعلنا ليس يحدّ لدينا على مفقود تأدّبا مع الله غير السيوف فإنها تعرف بالحداد، وألّا تقصف رماحنا إلا فى فود أو فى فؤاد، ولا تحوّل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 110 سروج خيلنا من ظهر جواد فى السّرايا إلّا إلى ظهر جواد، وألا تشقّ لدينا إلا أكباد أكناد «1» ، ولا تجزّ «2» غير شعور ملوك التتار تتوّج «3» بها رءوس الرماح ويصعد بها على قمم الصّعاد «4» ؛ والله يشكر للمولى سعى مراثيه التى لولا لطف الله بما صبّرنا «5» به لأقامت الجنائز، واستخفّت «6» النحائز، ولهوت بالنفوس فى استعمال الجائز من الأسف وغير الجائز، ولا شغل الله لبّ المولى [بفادحه] ، ولا خاطره بسانحة من الحزن ولا بارحه ولا أسمعه بغير المسرّات من هواتف الإبهاج صادحه؛ بمنّه وكرمه. ومن إنشائه رحمه الله تقليد السلطان الملك الأشرف صلاح الدين خليل بولاية عهد السلطنة من أبيه السلطان الملك المنصور- سقى الله عهدهما صوب الرحمة- وهو: الحمد لله الذى لم يزل له السمع «7» والطاعة فيما أمر، والرضا والشكر فيما هدم من الأعمار وما عمر، والتفويض فى التعويض «8» إن غابت الشمس وبقى القمر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 111 نحمده على أن جعل سلطاننا ثابت الاركان، نابت الأغصان، كلّ روضة من رياضه ذات أفنان؛ لا تزعزعه ريح عقيم «1» ، ولا يخرجه رزء عظيم عن الرضا والتسليم، ولا يعتبط «2» من جملته كريم إلا ويغتبط من أسرته بكريم؛ ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تزيد قائلها لله تفويضا، وتجزل له تعويضا وتحسن له على «3» الصبر الجميل فى كل خطب جليل تحريضا؛ ونشهد أن محمدا عبده الذى أنزل فى التسلية به: «وما محمّد إلّا رسول قد خلت من قبله الرّسل» والنبىّ الذى أوضح الله به المناهج وبيّن السّبل؛ صلّى الله عليه وعلى آله ما تجاوبت المحابر والمنابر فى «4» البكر والأصل؛ وما بدّدت عقود ونظّمت، ونسخت آيات وأحكمت ونقضت أمور وأبرمت، وما عزمت «5» آراء فتوكّلت وتوكلت فعزمت؛ ورضى الله عن أصحابه الذين منهم من كان للخليقة نعم الخليفة، ومنهم من لم يدرك أحد فى تسويد النفس الحصيفة «6» ولا فى تبييض الصحيفة مدّه ولا نصيفه «7» ، ومنهم من يسرّه الله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 112 لتجهيز جيش العسرة «1» فعرف الله ورسوله معروفه، ومنهم من عمل صالحا أرضى ربه فأصلح فى ذريّته الشريفه؛ وبعد، فإن من الطاف الله بعباده، واكتناف عواطفه ببلاده «2» ؛ أن جعلنا كلّما وهى للملك ركن شديد شيّدنا ركنا عوضه، وكلّما اعترضت للمقادير جملة بدّلنا آية مكان آية وتناسينا تجلّدا تلك الجملة المعترضه؛ فلم نحوج اليوم لأمسه وإن كان حميدا، ولا الغارس لغرسه وإن كان ثمره يانعا وظلّه مديدا؛ فأطلعنا فى أفق السلطنة كوكب سعد «3» كان لحسن الاستخلاف معدّا، ومن لقبيل المسلمين خير ثوابا وخير مردّا، ومن بشّر الله به الأولياء المتقين وينذر به من الأعداء قوما لدّا، ومن لم يبق [إلّا به «4» ] أنسنا بعد ذهاب الذين نحبّهم [وبقى «5» ] كالسيف الجزء: 8 ¦ الصفحة: 113 فردا، والذى ما أمضى حدّه [فى «1» ] ضريبة إلا قدّ البيض «2» والأبدان قدّا، ولا جهّز «3» راية كتيبة إلا أغنى «4» غناء الذاهبين ... وعدّ «5» للأعداء عدّا ولا بعثه جزع فقال: «كم من أخ لى صالح» إلا لقيه ورع فقال: «وخلقت يوم خلقت «6» جلدا» ؛ وهو الذى بقواعد السلطنة الأدرى وقوانينها الأعرف، وعلى الأولياء الأعطف وبالرعايا الأرأف، والذى ما قيل لبناء ملك: هذا عليه قد وهى إلا وقيل: هذا بناء مثله منه أسمى ملكا وأشرف، والذى ما برح النصر يتنسّم من مهابّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 114 تأميله والفلاح، ويتبسّم ثغره فتتوسّم الثغور من تبسّمه النجاح، وينقسم نوره على البسيطة فلا مصر من الأمصار إلا وهو يشرئبّ الى ملاحظة جبين عهده الوضّاح ويتّفق اشتقاق النعوت فيقول التسلّى للتملّى سواء الصالح والصلاح؛ والذى ما برح لشعار السلطنة الى توقّله «1» وتنقّله أتمّ حنين، وكأنّما كوشفت الإمامة العبّاسيّة بشرف مسمّاه فيما تقدّم من زمن من سلف من حين «2» ، فسمّت ووسمت باسمه أكابر الملوك [وأخاير «3» السلاطين] فخوطب كلّ منهم مجازا لا كهذه الحقيقة ب «خليل» أمير المؤمنين؛ والذى كم جلا بهاء جبينه من بهيم، وكم غدا الملك بحسن رأيه «4» ويمن آرائه يهيم وكم أبرأ مورده العذب هيم عطاش ولا ينكر الخليل اذا قيل عنه: إنه إبراهيم «5» ؛ ومن تشخص الأبصار لكماله يوم ركوبه حسيره، وتلقى البنان سلاحها ذهلا وهى لا تدرى لكثرة الإيماء إلى جلاله إذا يبدو مسيره؛ والذى ألهم الله الأمّة بجوده ووجوده صبرا جميلا، وآتاهم من نفاسة كرمه وحراسة سيفه وقلمه تأمينا وتأميلا، وعظم فى القلوب والعيون، بما من برّه سيكون، فسمّته الأبوّة الشريفة ولدا «6» وسمّاه الله: خليلا؛ ولمّا تحتّم من تفويض أمر الملك اليه ما كان الى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 115 وقته المعلوم قد تأخّر، وتحيّن «1» حينه فكمل بزيادة «2» كزيادة الهلال حين بادر تمامه فأبدر؛ اقتضى حسن المناسبة لنصائح الجمهور، والمراقبة لمصالح الأمور، والمصاقبة «3» لمناحج البلاد والثغور، والمقاربة «4» من فواتح كل أمر ميسور؛ أن نفوّض اليه ولاية العهد الشريف بالسلطنة الشريفة المعظّمه، المكّرمة المفخّمة المنظّمة؛ وأن تبسط يده المنيفة لمصافتحها بالعهود، وتحكيمها فى العساكر والجنود، وفى البحور والثغور وفى التّهائم والنجود؛ وأن يعقد بسيفها وقلمها كلّ قطع ووصل، وكلّ فرع وأصل وكلّ نصر ونصل؛ وكلّ ما يحمى سرحا، ويهمى منحا، وفى المثيرات فى الإعداء «5» على الأعداء نقعا وفى المغيرات صبحا؛ وفى المنع والإطلاق، وفى الإرفاد «6» والإرفاق وفى الخميس إذا ساق «7» ، وفى الخمس «8» اذا انساق، وفى السيوف «إذا بلغت التّراقى وقيل: من راق» ، وفى الرماح إذا التفّت الساق منها بالساق؛ وفى المعاهدات والهدن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 116 وفى الفداء بما عرض من عرض وبالبدن للبدن «1» ، وفيما ظهر من أمور الملك وما بطن، وفى جميع ما تستدعيه بواعثه فى السرّ والعلن، وتسترعيه «2» نوافثه من كبت وكتب متفرّقين أو فى قرن؛ عهدا مباركة عوذه «3» وتمائمه، وفواتحه وخواتمه، ومناسمه «4» ومواسمه، وشروطه ولوازمه [على «5» عاتق الملك الأغرّ نجاده ... وفى يد جبّار السموات قائمه] لا رادّ لحكمه، ولا ناقض لبرمه «6» ، ولا داحض لما أثبتته الأقلام من مكنون علمه. ويزيده «7» مرّ الليالى جدّة ... وتقادم الأيام حسن شباب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 117 وتلزم السنون والأحقاب، استيداعه حتى «1» الذّرارىّ والأعقاب؛ فلا سلطان ذا قدر وقدره، وذا أمر وإمره؛ ولا نائب فى مملكة قربت أو بعدت، ولا مقدّم جيوش أتهمت أو أنجدت؛ ولا راعى ولا رعيّه، ولا ذا حكم فى الأمور الشرعيّه؛ ولا قلم إنشاء ولا قلم حساب، ولا ذوى أنساب ولا ذوى أسباب؛ إلا وكلّ داخل «2» فى قبول عقد هذا العهد الميمون، ومتمسّك بمحكم آيات كتابه المكنون والتسليم لنصّه الذى شهدته من الملائكة الكرام الكاتبون؛ وأمست بيعته بالرضوان محفوفه، والأعداء يدعونها تضرّعا وخيفه، فليشكروا الصنع الذى بعد أن كانت الخلفاء تسلطن الملوك قد صار سلطانهم يقيم لهم من ولاة العهد خليفة بعد خليفه؛ وأمّا الوصايا فأنت يا ولدنا الملك الأشرف- أعزّك الله- بها الدّرب ولسماع شدوها وحدوها الطّرب، الذى للّغو لا يضطرب؛ فعليك بتقوى الله فإنها ملاك سدادك، وهلاك أضدادك؛ وبها يراش جناح نجاحك، ويحسن اقتداء اقتداحك؛ فاجعلها دفين جوانح تأمّلك ووعيك، ونصب عينى أمرك ونهيك؛ والشرع الشريف فهو قانون الحقّ المتّبع، وناموس «3» الأمر المستمع؛ وعليه مدار إيعاء كلّ إيعاز «4» ، وبه يتمسّك من أشار «5» وامتاز، وهو جنّة والباطل نار الجزء: 8 ¦ الصفحة: 118 فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ ؛ فلا تخرج فى كلّ حال عن لوازمه وشروطه ولا تنكب عن معلّقه ومنوطه؛ والعدل، فهو مثمّر غروس الأموال، ومعمر بيوت الرجاء والرجال، وبه تزكو الأعمار والأعمال؛ فاجعله جامع أطراف مراسمك، وأفضل أيّام مواسمك؛ وسم به فعلك، وسمّ به فرضك ونفلك؛ ولا تفرد به فلانا دون فلان ولا مكانا دون مكان، واقرنه «1» بالفضل، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ ؛ وأحسن التخويل، وأجمل «2» التنويل، وكثّر لمن حولك التموين والتمويل؛ وضاعف الخير فى كلّ مضاف لمقامك، ومستضيف «3» بإنعامك، حتى لا تعدم فى كلّ مكان وكلّ زمان من النعماء ضيافة الخليل «4» ؛ والثغور، فهى للممالك مباسمها فاجعل نواجذها تفترّ عن أحسن ثنايا الصّون، ومراشفها شنبة «5» الشّفاه «6» بحسن العون؛ ومنها بما يحمى السّرح منها، وأعنها بما يدفع المكاره عنها؛ فإنها للنصر مقاعد، وبها حفظ البلاد من كلّ مارّ من الأعداء مارد؛ وأمراء الجيوش، فهم السّور الواقى بين يدى كلّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 119 سور، وما منهم إلّا بطل بالنصر مشهور كما سيفه مشهور؛ وهم ذخائر الملوك وجواهر السلوك، وأخاير الأكابر الذين خلصوا من الشكوك؛ وما منهم إلا من له حرمات «1» سلفت، وحقوق عرفت، وموات على استلزام «2» الرعاية للعهود وقفت؛ فكن لجنودهم «3» متحبّبا، ولمرابعهم مخصبا، ولمصالحهم مرتّبا، ولآرائهم مستصوبا وللاعتضاد بهم مستصحبا، وفى حمدهم مطنبا، وفى شكرهم مسهبا؛ والأولياء المنصوريّين الذين هم كالأولاد، ولهم سوابق أمتّ من سوابق الإيجاد «4» ؛ وهم من عملت استكانة «5» من «6» قربنا، ومكانة من قلبنا، وهم المساهمون فيما ناب، وما برحوا للدولة الظفر والناب؛ فأسهم لكلّ منهم من احترامك نصيبا، وأدم لهم ارتياحك، وألن «7» جماحك وقوّ بهم سلاحك، تجد منهم ضروبا، وتر كلّا منهم فى أعدائك ضروبا؛ وكما أنّا نوصيك بجيوش الإسلام، كذلك نوصيك بالجيش الذى له المنشآت فى البحر كالأعلام؛ فهو جيش الأمواه والأمواج، المضاف الى الأفواج من جيش الفجاج؛ وهو الجيش السّليمانىّ فى إسراع السّير، وما سمّيت شوانيه «8» غربانا إلا ليجمع بها لنا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 120 ما اجتمع لسليمان صلّى الله عليه وسلّم من تسخير الريح والطير؛ وهى من الديار المصريّة على ثبج البحر الأسوار، فإن قذفت قذفت الرعب فى قلوب الأعداء وإن أقلعت «1» قلعت منهم الآثار؛ فلا تخله من تجهيز جيشه، وسكّن طيش البحر بطيشه؛ فيصبح لك جيشان كلّ منهما ذو كرّ وفرّ، هذا فى برّ بحر وهذا ببحر برّ؛ وبيوت العبادات فهى التى الى مصلّى سميّك خليل الله تنتهى محاريبها، وبها لنا ولك وللمسلمين سرى الدعوات وتأويبها «2» ؛ فوفّها نصيبها المفروض غير منقوص، ومر برفعها وذكر اسم الله فيها حسب الأمر المنصوص؛ وأخواتها من بيوت الأموال الواجدات» الواجبات من حيث أنها كلّها بيوت لله هذه للصّلاة وهذه للصلات؛ وهذه كهذه فى رفع المنار، وجمع المبارّ، واذا كانت تلك مما أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، فهذه ترفع ويذكر فيها اسمه حتى على الدرهم والدينار؛ فاصرف اليها اجتهادك فيما يعود [عليها] بالتثمير، كما يعود على تلك بالتنوير؛ وعلى هذه بإشحانها «4» بأنواع الصروف، كإشحان «5» تلك باستواء الصفوف؛ فإنها إذا أصبحت مصونه، احتملت بحمد الله المعونه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 121 وكفلت بالمؤونة وبالزيادة على المؤونه، فتكمّل هذه لكلّ ولىّ دنياه كما كمّلت تلك لكل ولىّ دينه؛ وحدود الله، فلا يتعدّاها أحد، ولا يرأف فيها ولد بوالد ولا والد بولد؛ فأقمها وقم فى أمرها حتى تنضبط أتم الضبط، ولا تجعل يد القتل مغلولة إلى عنقها ولا تبسطها كلّ البسط، فلكلّ من الجنايات والقصاص شرط شرطه الله وحدّ حدّه فلا يتجاوز أحد ذلك الحدّ ولا يخرج عن ذلك الشرط؛ والجهاد فهو الدّيدن المألوف من حين نشأتنا ونشأتك فى بطون الأرض وعلى ظهور الخيل فمل على الأعداء كل الميل، وصبّحهم من فتكاتك بالويل بعد الويل، وارمهم بكلّ شمّرىّ «1» قد شمّر من يده عن الساعد ومن رمحه عن الساق ومن جواده الذّيل «2» ؛ واذهب بهم فى ذلك كلّ مذهب، وأبن «3» بنجوم الخرصان «4» كلّ غىّ وغيهب وتكثّر «5» فى غزوهم من الليل بكلّ أدهم ومن الشّفق بكلّ أحمر وأشقر [ومن الأصيل بكلّ أصفر «6» ] ومن الصبح بكلّ أشهب، وانتهب «7» أعمارهم واجعلها آخر ما يسلب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 122 وأوّل ما ينهب؛ ونرجو أن يكون الله قد خبأ لك من الفتوحات ما يستنجزها لك صادق وعده، وأن ينصر بك جيوش الإسلام فى كلّ إنجاد وإتهام وما النصر إلا من عنده؛ وبيت الله المحجوج من كلّ فجّ، المقصود من كل نهج؛ يسّر سبيله، ووسّع الخير وأحسن تسبيله «1» ، وأوصل من برّك لكلّ من الحرمين ما هو «2» له، لتصبح ربوعه بذلك مأهوله؛ واحمه ممّن يرد فيه بإلحاد بظلم، وطهّره من كلّ مكس «3» وغرم؛ ليعود نفعك على البادى والعاكف، ويصبح واديه وناديه مستغنيين بذلك عن السحاب الواكف؛ والرّعايا، فهم للعدل زروع، وللاستثمار فروع، ولاستلزام «4» العمارة شروع «5» ؛ فمتى جادهم غيث أعجب الزّرّاع نباتهم، ونمت بالصلاح أقواتهم، وصلحت بالنّماء أوقاتهم، وكثرت للجنود مستغلّاتهم، وتوافرت زكواتهم، وتنوّرت مشكاتهم «والله يضاعف لمن يشاء» ؛ هذا عهدنا للسيّد الأجلّ الولد الملك الأشرف صلاح الدنيا والدّين، فخر الملوك والسلاطين، خليل أمير المؤمنين- أعزّنا الله ببقائه- فليكن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 123 بعروته متمسّكا، وبنفحته متمسّكا «1» ؛ وليتقلّد سيف هذا التقليد، ويفتح مغلق كلّ فتح منه بخير إقليد «2» ، وها نحن قد كثّرنا لديه جواهره فدونه ما يشاء تحليته: من تتويج مفرّق وتختيم أنامل وتسوير زند وتطويق جيد، ففى كلّ ذلك تبجيل وتمجيد؛ والله تعالى يجعل استخلافه للمتقين إماما، وللدين قواما، وللمجاهدين اعتصاما، وللمعتدين انقصاما، ويطفئ بمياه سيوفه نار كلّ خطب حتى تصبح كما أصبحت نار سميّه صلّى الله عليه وسلّم بردا وسلاما؛ إن شاء الله تعالى. وكلامه رحمه الله كثير ورسائله مشهورة، وبيد الناس من إنشائه ما لو استقصيناه لطال وانبسط، وقد قدّمنا فى كتابنا هذا من كلامه فى باب التهانى بالفتوح ما تجده فى موضعه ونختم كلامه بشىء من أدعية الملوك، وهى: ومكّن الله له فى الأرض، وجعل طاعته واجبة وجوب الفرض، وأيّد آراءه بالملائكة فى الحلّ والعقد والإبرام والنقض. آخر: وأنجز له من النصر صادق وعده، وجعل الملوك من عبيده والملائكة من جنده، ومتّعه بما وهبه من الملك الذى لا ينبغى لأحد من بعده. آخر: وحفظه بمعقّبات من أمره، وحمى حمى الدين بقصار بيضه وطوال سمره، وجعل قدر مملكته فى الدهر كليالى قدره، وألبس أولياءه من طاعته ما يجرّون أذيال فخره. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 124 آخر: ولا زالت الدنيا بعدله مخضرّة الوهاد والرّبا، والامال بفضله قائلا لها النجح: مرحبا، والأقدار لنصره مسدّدة السهام مرهفة الظّبا، والأيّام لا تعدم من جميل أثره وجليل تأثيره فعلا مطربا، ووصفا مطيّبا. وجعلت ملكه موصولا بحبل لا يحلّ عقده، وحرمه محروسا بسيف التوفيق لا يفلّ حدّه. ولا زالت راياته ألسنة تنذر أعداءه بالفرار، وتبشّر أولياءه بالقرار، وآراؤه أعلاما عالية المنار واضحة الأنوار. وأنجز له عداته فى عداته، وجعل النصر والتوفيق مصاحبين لآرائه وراياته. وأناله النصر الذى يغنيه عن الحيلة والحول، وعقد السعد بعرا «1» ما يمضيه من الفعل والقول، وبوّأ أولياءه جنّة من النصر ما فيها غائلة وجنّة من العزّ ما فيها غول. وقصم بمهابته كلّ جبّار عنيد، وعصم كلّ من يأوى من رجائه إلى ركن شديد. وآتاه من التأييد سلطانا نصيرا، وجعل جيشه أكثر قوى وأقوى نفيرا. ولا زالت الآمال بسحابه مخضرّة الرّبا والوهاد، والتأييد بتمكينه مناديا فى كلّ ناد، والدنيا بملكه مسرورة الأسرار «2» حالية الأجياد، والأقدار لأمره متكفّلة بالنفاد «3» . وطرّز بأيامه ملابس السّير، وأحلّ أمره أعلى هضبات النصر والظّفر، وحلّى أجياد الممالك من عدله وبذله بأشرف الدّرر، ولا برح القدر يوافق قصوده «4» فيقول للقدر: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 125 «لقد جئت على قدر» . وأتمّ نعمته عليه كما أتمّها «1» ، وعمر بعدله الآفاق وعمّها، وأوضح مناهج كرمه لمن قصدها وأمّها، وأنجز عداته فى عداته فأصماها وأصمّها. وأتمّ نعمته عليه كما أتمها على أبويه من قبله، وحمى حمى الدين بنصره وفضله، وكسا الدنيا بملكه حلّة فخار معلمة بإحسانه وعدله، وجعل أقاليم الأرض معمورة بسلطانه مغمورة بعطائه وبذله. ذكر شىء من إنشاء المولى الماجد السالك من طريقى الفضل والفضائل أوضح الطرق وأنهج المسالك، المفصح بلسان براعته والموضح بأنوار بلاغته ما أبهم واستبهم من ليل العىّ الحالك، المتصرّف بقلمه وكلمه لوثوق «2» ملوك الإسلام بديانته وأمانته وأصالته ونزاهته فى الأقاليم والثغور والحصون والممالك، العامر بفضله وفضائله والغامر بجوده ونائله باطن وظاهر من أمّله وأمّ له من زائر وقاطن ومارّ وسالك؛ فينفصل هذا عن بابه وهو بجوده مغمور، وهذا عن مجلسه وقلبه بولائه لما أولاه من إحسانه معمور؛ وهذا وهو ينفق الجمل من ماله، وذاك وهو يجود على المعدم من فضل نواله؛ والآخر وقد امتلأ صدره سرورا، وأشرق وجهه بهجة ونورا؛ وانطلق لسانه من عقاله بعد تقييده، وانبسط أمله لطلب الفضائل لمّا ظفر بمعدنها بعد تعقيده «3» ؛ فتجده وقد اعتلق «4» منه جملا واعتنق جمالا، وأنفق الدّرر بعد ضنّه بالأصداف فهو لا يخشى عدما ولا يخاف إقلالا؛ والمولى المعنىّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 126 بهذه المعالى التى ابتسمت ثغورها، وتحلّت نحورها؛ والمكارم التى جادت سحائبها وامتدّت مذانبها «1» ، وترادفت مواهبها، واتّسعت مذاهبها؛ والفضائل التى لجنابه الكريم تعزى ولفضله العميم تنتسب، والسيادة التى شادها لنفسه لاستغنائه عمّا مهدته له آباؤه النّجب، والمراد بهذه الأوصاف التى خلّيت والحسن تأخذه ... تنتقى منه وتنتخب «2» هو لسان الدولة ويمينها، وسفير المملكة وأمينها؛ وجامع أشتات الفضائل، وناظم أخبار الأواخر وسير الأوائل؛ وسيّد الرؤساء وجليس الملوك، ومؤلّف كتاب نظم السلوك؛ المولى المالك علاء الدين علىّ ابن المولى المرحوم فتح الدين محمد ابن المولى المرحوم محيى الدين عبد الله بن عبد الظاهر، ذو الفضائل والمآثر، والنسب العريق والأصل الطاهر، والسبب الوثيق والفضل الباهر؛ فهذه نبذة من أوصافه أثبتناها، ولمعة من محاسنه أوردناها، أسام لم تزده معرفة وإنما لذّة ذكرناها؛ وله- أعزّه الله وأوفر نعمه لديه، وأتمّ نعمته عليه كما أتمها على أبويه؛ وأرانا فى نجله الكريم ما رأيناه فى سلفه وفيه، وأنطق الواصف لمحاسنهم بملء فيه- من الرسائل البليغه، والتّقاليد البديعه؛ والعهود التى عاهدتها البلاغة ألا تتعدّاها فوفت بعهدها، وأقسمت معانيها أنها لم تقصد سواه من قبل لعلمها أنّ غيره لا يوفّيها حقّ قصدها؛ وسنورد إن شاء الله من كلامه ما هو بالنسبة الى مجموعه نبذة يسيره، ونرصّع فى كتابنا هذا من فضائله لمعة خطيره؛ ونرفع بما نضعه فيه من كلامه قدر هذا التصنيف، ونطرّز به الجزء: 8 ¦ الصفحة: 127 أردان هذا التأليف، ولا نحتاج إلى التعريف بمكانه وتمكّنه من هذه الصناعة فالشمس تستغنى عن التعريف؛ ونحن الآن نعتذر من التقصير فى الانتهاء إلى وصف محاسنه، ونعترف بالعجز عن إدراك كنه مناقبه الشريفة وميامنه؛ ونأخذ فى ذكر كلامه لنمحو ذنب التقصير بحسن الإخبار «1» ، ونسأل الصفح عن اختصارنا واجب حقّه ونرجو قبول كلمات الاعتذار فمن إنشائه ما كتبه عن الخليفة المستكفى بالله أبى الربيع سليمان- جمّل الله به الدين، وأيّد ببقائه الإسلام والمسلمين- للسلطان الملك المظفّر ركن الدين بيبرس المنصورىّ فى شوّال سنة ثمان وسبعمائة، ابتدأه بأن قال: هذا عقد شريف انتظمت به عقود مصالح الممالك، وابتسمت ثغور الثغور ببيعته التى شهدت بصحّتها الكرام الملائك؛ وتمسّكت النفوس بمحكم عقده النّضيد ومبرم عهده «2» النظيم، ووثقت الآمال ببركة ميثاقه فتقرأه الألسنة مستفتحة فيه بقول الله الكريم: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الحمد لله الذى جعل الملّة الإسلاميّة تأوى من سلطانها الى ركن شديد، وتحوى من مبايعة «3» مظفّرها كلّ ما كانت ترومه من تأييد التأييد، وتروى أحاديث النصر عن ملك لا يملّ من نصرة الدّين الحنيفىّ وإن ملّ الحديد من الحديد؛ مؤتى ملكه من يشاء من عباده وملقى مقاليده للولىّ الملىّ «4» بقمع أهل عناده؛ ومانحه من لم يزل بعزائمه ومكارمه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 128 مرهوبا مرغوبا، وموليه [ومولّيه «1» ] من غدا محبوّا من الأنام بواجب الطاعة محبوبا وباسط أيدى الرغبات لمن حكم له كمال وصفه ووصف كماله بأن يكون مسئولا مخطوبا ومفوّض «2» أمره ونهيه إلى من طالما صرف خطّيّه عن حمى الدين أخطارا وخطوبا؛ والحمد لله مجرى الأقدار برفع الأقدار، ومظهر سرّ الملك فيمن أضحى عند الإمامة العباسيّة بحسن الاختبار من المصطفين الأخيار، جامع أشتات الفخار، ورافع لواء الاستظهار «3» ، ودافع لاواء «4» الأضرار، بجميل الالتجاء الى ركن أمسى بقوّة الله تعالى عالى المنار وافى المبارّ، بادى الآثار الجميلة فى «5» الإيثار؛ والحمد لله على أن قلّد أمور السلطنة الشريفة لكافلها وكافيها، وأسند عقدها وحلّها لمن يدرك بكريم فطنته وسليم فطرته عواقب الأمور من مباديها، وأيّد الكتائب الإيمانيّة بمن لم تزل عواليه تبلّغها من ذرا الأمانىّ معاليها؛ يحمده أمير المؤمنين على إعلاء كلمة الإيمان بأعيان أعوانها، وإعزاز نصرها بأركان تشييدها وتشييد أركانها؛ ويشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة [لا] تبرح الألسن ترويها، والقلوب تنويها، والمواهب تجزل لقائلها تنويلا وتنويها؛ ويشهد أنّ محمدا عبده ورسوله أكمل نبىّ وأفضل مبعوث، وأشرف مورّث لأجلّ موروث؛ صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاة تنمو بركاتها وتنمّ «6» ، وتخصّ حسناتها وتعمّ؛ ورضى الله عن عمّه العباس بن عبد المطلب جدّ أمير المؤمنين، وعن أبنائه الأئمّة المهديّين؛ الذين ورثوا الخلافة كابرا عن كابر، وسمت ووسمت بأسمائهم ونعوتهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 129 ذرا المنابر؛ أما بعد، فإن الله تعالى لمّا عدق «1» لمولانا أمير المؤمنين مصالح الجمهور وعقد له البيعة فى أعناق أهل الإيمان فزادتهم نورا على نور؛ وأورثه عن أسلافه الطاهرين إمامة خير أمّه، وكشف بمصابرته من بأس العدا غمام كلّ غمّه؛ وأنزل عليه السكينة فى مواطن النصر والفتح المبين، وثبّته عند تزلزل الأقدام وثبّت به قلوب المؤمنين؛ وأفاض عليه من مهابة الخلافة ومواهبها ما هو من أهله، وأتمّ نعمته عليه كما أتمّها على أبويه من قبله؛ بايع الله تعالى على أن يختار للتمليك على البرايا، والتحكيم فى الممالك والرّعايا؛ من أسّس بنيانه على التقوى، وتمسّك من خشية الله سبحانه بالسبب الأقوى؛ ووقف عند أوامر الشرع الشريف فى قضائه وحكمه، ونهض لأداء فرض الجهاد بمعالى عزمه وحزمه؛ وكان المقام الأشرف العالى المولوىّ السلطانىّ الملكىّ المظفّرىّ الركنىّ، سلطان الإسلام والمسلمين، سيّد الملوك والسلاطين؛ ناصر الملّة المحمّديّه، محيى الدولة العباسيّه (أبو الفتح بيبرس) قسيم أمير المؤمنين- أعزّ الله تعالى ببقائه حمى الخلافة وقد فعل، وبلغ فى دوام دولته الأمل- هو الملك الذى انعقد الإجماع على تفضيله، وشهدت مناقبه الطاهرة باستحقاقه لتحويل الملك [اليه «2» ] وتخويله؛ وحكم التوفيق والاتفاق بترقّيه إلى كرسىّ السلطنة وصعوده، وقضت الأقدار بأن يلقى اليه أمير المؤمنين أزمّة عهوده؛ والذى كم خفقت قلوب الأعادى عند رؤية رايات نصره، ونطقت ألسنة الأقدار بأن سيكون مليك عصره وعزيز مصره؛ واهتزّت أعطاف المنابر شوقا للافتخار باسمه، واعتزّت الممالك بمن زاده الله بسطة فى علمه وجسمه؛ وهو الذى ما برح الجزء: 8 ¦ الصفحة: 130 مذ نشأ يجاهد فى الله حقّ جهاده، ويساعد فى كل معركة بمرهفات سيوفه ومتلفات صعاده، ويبدى فى الهيجاء صفحته للصّفاح فيقيه الله ويبقيه ليجعله ظلّه فى الأرض على عباده وبلاده، فيردى الأعداء فى مواقف تأييده فكم عفّر من خدّ لملوك الكفر تحت سنابك جياده؛ ويشفى بصدور سيوفه صدور قوم مؤمنين، ويسقى ظماء أسنّته فيرويها من مورد ورود «1» المشركين؛ ويطلع فى «2» سماء الملك من غرر رأيه نيّرات لا تأفل ولا تغور، ويظهر من مواهبه ومهابته ما تحسّن به انمالك وتحصّن به الثغور؛ فما من حصن أغلقه «3» الكفر إلا وسيفه مفتاحه، ولا ليل خطب دجا إلا وغرّته الميمونة صباحه، ولا عزّ أمل لأهل الإسلام إلّا وكان فى رأيه المسدّد نجاحه، ولا حصل خلل فى قطر «4» من الممالك إلّا وكان بمشيئة الله تعالى وبسداد تدبيره صلاحه؛ ولا اتّفق مشهد غزو إلا والملائكة بمضافرته فيه أعدل شهود، ولا تجدّد فتوح للإسلام إلا جاد فيه بنفسه وأجاد، «والجود بالنفس أقصى غاية الجود» كم أسلف فى غزو الأعداء من يوم أغرّ محجّل، وأنفق ماله ابتغاء مرضات الله فحاز النصر المعجّل والأجر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 131 المؤجّل؛ وأحيا من معالم العلوم ودوارس المدارس كلّ داثر، وحثّه إيمانه على عمارة بيوت الله تعالى الجامعة لكلّ تال وذاكر، «إنّما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر» ؛ وهو الذى ما زالت الأولياء تتخيّل مخايل السلطنة فى أعطافه معنى وصوره، والأعداء يرومون إطفاء ما أفاضه الله عليه من أشعّة أنواره «ويأبى الله إلّا أن يتمّ نوره» ؛ طالما تطاولت إليه أعناق الممالك فأعرض عنها جانبا، وتطفّلت «1» عليه «2» فغدا لها رعاية لذمّة الوفاء مجانبا؛ حتى أذن الله سبحانه لكلمة سلطانه أن ترفع وحكم له بالصعود فى درج الملك الى المحلّ الأعلى والمكان الأرفع، وأدّى له من المواهب ما هو على اسمه فى ذخائر الغيوب مستودع؛ فعند ذلك استخار الله تعالى سيّدنا ومولانا أمير المؤمنين (المستكفى بالله) جعل الله الخلافة [كلمة «3» ] باقية فى عقبه، وأمتع الإسلام والمسلمين بشريفى حسبه ونسبه- وعهد إلى المقام العالى السلطانىّ بكلّ ما وراء سرير خلافته، وقلّده جميع ما هو متقلّده من أحكام إمامته؛ وبسط يده فى السلطنة المعظّمه، وجعل أوامره هى النافذة وأحكامه [هى «4» ] المحكّمه؛ وذلك بالدّيار المصريّة والممالك الشاميّه، والفراتيّة والحلبيّة «5» والساحليّه، والقلاع والثغور المحروسة والبلاد الحجازيّة واليمانيّه؛ وكلّ ما هو من الممالك الإسلاميّة الى خلافة أمير المؤمنين منسوب، وفى أقطار إمامته محسوب؛ وألقى إلى أوامره أزمّة البسط والقبض الجزء: 8 ¦ الصفحة: 132 والإبرام والنقض، والرفع والخفض، وما جعله الله فى يده من حكم الأرض، ومن إقامة سنّة وفرض؛ وفى كلّ هبة وتمليك، وتصرّف فى ولاية أمير «1» المؤمنين من غير شريك؛ وفى تولية القضاة والحكام، وفصل القضايا والأحكام؛ وفى سائر التّحكّم فى الوجود، وعقد الألوية والبنود، وتجنيد الكتائب والجنود، وتجهيز الجيوش الإسلامية فى التأييد لكلّ مقام محمود؛ وفى قهر الأعداء الذين نرجو بقوّة الله تعالى أن يمكّنه من نواصيهم، ويحكّم قواضبه فى استنزالهم من صياصيهم، واستئصال شأفة عاصيهم؛ حتى يمحو الله بمصابيح سيوفه سواد خطوب الشّرك المدلهمّه، وتغدو سراياه فى اقتلاع قلاع الكفر مستهمّه «2» ؛ وترهبهم خيل بعوثه وخيالها فى اليقظة والمنام، ويدخل فى أيّامه أهل الإسلام مدينة السلام بسلام؛ تفويضا تامّا عامّا منضّدا منظّما، محكما محكّما؛ أقامه مولانا أمير المؤمنين فى ذلك مقام نفسه الشريفه، واستشهد الكرام الكاتبين فى ثبوت هذه البيعة المنيفه؛ فليتقلّد المقام الأشرف السلطانىّ- أعزّ الله نصره- عقد هذا العهد الذى لا تطمح لمثله الآمال، وليستمسك منه بالعروة الوثقى التى لا انفصام لها ولا انفصال؛ فقد عوّل أمير المؤمنين على يمن أرائك «3» التى ما برحت الأمّة بها فى المعضلات تستشفى، واستكفى بكفايتك وكفالتك فى حياطة الملك فأضحى وهو بذلك (المستكفى) ؛ وهو يقصّ عليك من أنباء الوصايا أحسن القصص، وينصّ لديك ما أنت آخذ منه بالعزائم اذا أخذ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 133 غيرك فيه بالرّخص؛ فإن نبّهت على التقوى فطالما تمسّكت منها بأوثق عروه، وإن هديت الى سبيل الرشاد فما زلت ترقى منه أشرف ذروه؛ وإن استرهفنا «1» عزمك الماضى الغرار، واستدعينا حزمك الذى أضاء به دهرك وأنار «2» واستنار؛ فى إقامة منار الشرع الشريف، والوقوف عند أمره ونهيه فى كل حكم وتصريف؛ فما زلت- خلّد الله سلطانك- قائما بسننه وفرضه، دائبا فى رضى الله تعالى بإصلاح عقائد عباده فى أرضه؛ وما برح سيفك المظفّر للأحكام الشرعيّة خادما، ولموادّ الباطل حاسما، ولأنوف ذوى الزّيغ والبدع مرغما؛ وكلّ ما نوصيك به من الخير فقد جبلت عليه طباعك، ولم يزل مشتدّا فيه ساعدك ممتدّا إليه باعك؛ غير أننا نورد لمعة اقتضاها أمر الله تعالى فى الاقتداء بالتذكرة فى كتابه المبين، وأوجبها نصّ قوله تعالى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ، ويندرج تحت أصولها فروع يستغنى بدقيق ذهنه الشريف عن نصّها، وبفكره الثاقب عن قصّها؛ فأعظمها للملّة نفعا، وأكثرها للباطل دفعا؛ الشرع الشريف، فليكن- أعزّ الله نصره- عاملا على تشييد قواعد أحكامه، وتنفيذ أوامر حكّامه؛ فالسعيد من قرن أمره بأمره، ورضى فيه بحلو الحق ومرّه؛ والعدل، فلينشر لواءه حتى يأوى اليه الخائف وينكفّ بردعه حيف كلّ حائف؛ ويتساوى فى ظلّه الغنىّ والفقير، والمأمور والأمير؛ ويمسى الظلم فى أيامك وقد خمدت ناره، وعفت آثاره؛ وأهمّ ما احتفلت به العزائم، واشتملت عليه همم الملوك العظائم «3» ، وأشرعت له الأسنّة وأرهفت من أجله الصوارم؛ أمر الجهاد الذى جعله الله سبحانه حصنا للإسلام وجنّه، واشترى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 134 فيه من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنّة؛ فجنّد له الجنود وجمّع له الكتائب واقض فى مواقفه على الأعداء من بأسك بالقواضى القواضب؛ واغزهم فى عقر الدار، وأرهف سيفك البتّار، لتأخذ منهم للمسلمين بالثار؛ والثغور والحصون، فهى سرّ الملك المصون، وهى معاقل النفوس «اذا دارت رحى الحرب الزّبون «1» » ؛ فلتقلّد أمرها لكفاتها، وتحصّن حماها بحماتها، وتضاعف لمن بها أسباب قوّتها ومادّة أقواتها؛ وأمراء الإسلام، وجنود الإيمان، فهم أولياء نصرك، وحفظة شامك ومصرك؛ وحزبك الغالب، وفريقك الذى تفرق منه قلوب العدوّ فى المشارق والمغارب؛ فليكن المقام العالى السلطانىّ- نصره الله تعالى- لأحوالهم متفقّدا وببسط وجهه لهم متودّدا؛ حتى تتأكّد لمقامه العالى طاعتهم، وتتجدّد لسلطانه العزيز ضراعتهم؛ وأما غير ذلك من المصالح فما برح تدبيره الجميل لها ينفّذ ورأيه الأصيل بها يشير، ولا يحتاج مع علمه بغوامضها الى إيضاحها «ولا ينبئّك مثل خبير» والله تعالى يخصّ دولته من العدل والإحسان بأوفر نصيب، ويمنح سلطانه ما يرجوه من النصر المعجّل والفتح القريب؛ بمنّه وكرمه. وكتب تقليدا مظفّريّا للأمير سيف الدين سلار المنصورىّ بنبابة السلطنة الشريفة فى سنة ثمان وسبعمائة، وهو: الحمد لله الذى شيّد ركن الإسلام بسيفه المنتضى، وجدّد للملك مزيد التأييد بكافله الذى ما برح وفاؤه للملوك الأواخر والأوائل مرتضى، وأنجز من وعوده الاتفاق والتوفيق ما كان من ذمّة الدهر مقتضى، جامع شمل الأوامر والنواهى بتفويضها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 135 الى من تبيت العدا من مهابته على جمر الغضى، ومنيل المنى بمواهبه التى تحوز موادّ الاختيار وتجوز أمد الرضا، وملقى مقاليد التدبير الى من أضحى جميل التأثير اذا تصرّف فى الرفع والخفض حكم القضا، ومصرّف أزمّة الأمور فى يد من غدا ثابت العزمات فى الأزمات، فما أظلم خطب إلا انجلى بمصابيح آرائه وأضا؛ نحمده على أن عضّد دولتنا بالكافل الكافى الذى اختاره الله لنا على علم، ومنح أيّامنا موالاة الولىّ الذى جمعت فيه خلّتان يحبّهما الله ورسوله: وهما الأناة والحلم؛ ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة مشرقة الأنوار، مغدقة سحبها بأنواء المنن الغزاز؛ ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذى بعثه الله لإقامة شعائر الإيمان، وخصّ ملّته فى الدنيا والآخرة باليمن والأمان؛ صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين منهم من أضحى بفضل السّبق للإيمان به صدّيقه وصديقه، وأمسى لفرط الألفة أنيسه فى الغار ورفيقه؛ ومنهم من ضافره فى إظهار النبوّة ووازره «1» ، وظاهره على إقامة منارها بإطفاء كل تائرة وإخماد كلّ نائره «2» ؛ ومنهم من ساعد وساعف فى تجهيز جيش العسره «3» ، وأحسن وحسّن مع إخوانه المؤمنين الصحبة والعشره؛ ومنهم من كان سيفه الماضى الحدّ، ومهنّده الذى كم فلّ بين يديه الجموع فما اعترض إلا قطّ «4» ولا اعتلى إلا قدّ؛ وسلّم تسليما كثيرا؛ أما بعد، فان الله تعالى لما هنّأ لنا مواهب الظّفر، وهيّأ لنا من الملك موادّ إدراك المنى وبلوغ الوطر، وأيدنا من أنصارنا بكلّ ذى فعل أبرّ ووجه أغرّ؛ وشدّ أزرنا بمضافرة سيف يزهى الملك بتقليده، وأمدّنا بمؤازر تتصرّف المنى والمنون الجزء: 8 ¦ الصفحة: 136 بين وعده ووعيده؛ وجب علينا أن نحوط دولتنا بمن لم تزل حقوق مودّته بحسن الثناء حقيقه، وعهود محبّته فى ذمام الوفاء متمكّنة وثيقه، وطريقته المثلى فى المحاسن والإحسان مشهورة ولا نرى مثلا لتلك الطريقه؛ وتقلّد كفالة ممالكنا للولىّ الذى ما برح يتلقّى أمورنا بفسيح صدره، ويتوقّى حدوث كلّ ما نكرهه فينهض فى دفعه بصائب رأيه وثاقب فكره؛ وكان الجناب الكريم العالى الأميرىّ الكبيرىّ العالمىّ العادلىّ الكافلىّ المؤيّدىّ الزعيمىّ الغياثىّ «1» المسندىّ الممهّدىّ المثاغرىّ المظفّرىّ المنصورىّ السّيفىّ، معزّ الإسلام والمسلمين، سيّد أمراء العالمين؛ سند الممالك، مدبّر الدّول، مقدّم العساكر، أمير الجيوش، كهف الله، حصن الأمّة، نصرة الملوك والسلاطين، (سلار المنصورىّ) نائب السلطنة المعظّمة، وكافل الممالك الاسلامية،- أعز الله نصره- هو واسطة عقد الأولياء، وسيف الدولة الفاتك بالأعداء، والذى أسلف فى نصرة الإسلام حقوقا غدت مرقومة فى صحف الفخار، واستأنف فى مصالح الأمّة المحمديّة تدبيرات أظهر بها أسباب التأييد على الأعداء والاستظهار؛ كم أصلح بيمن سياسته ذات البين، وكم أبهج ببركة تأتّيه «2» وتأنّيه كلّ قلب وأقرّ كلّ عين؛ وكم ساس من ملك فأضحى ثابت الأساس، وجعل شعاره دفعا للباس ونفعا للناس؛ ما عوهد إلا وأوفى، ولا عوند إلا وعفّ وعفا، ولا استشفى فى طبّ معضلة إلا وشفى، ولا استدرك تدبيره فارط «3» أمر كان على شفا؛ فما يومه فى الفضل بواحد، ولا أحد لمثل محاسنه الجميلة بواجد؛ لعزماته فى مواقف الجهاد السوابق الجزء: 8 ¦ الصفحة: 137 الغرّ المحجّله، ولتدبيراته فى مصالح العباد والبلاد المنافع المعجّلة والمؤجّله؛ وهو الذى خافت مهابته الكتائب، وأمّلت مواهبه الرغائب «1» ، ولعبت «2» سطواته للعدا خيالا فى المراقد وخيلا فى المراقب، وامتطى من الشهامة كاهلها فأحجم عنه لمّا أقدم كلّ محارب، وصدق من نعته بالسيف، فلو لم ينعت به لقيل: هذا سيف يفتك بالضّريبة ولا تفلّ له مضارب؛ وكم لقى بصدره الألوف من التتار- خذلهم الله- والمنايا قد بلغت من النفوس المنى، وأمضى سيفه فى الحروب وما شكا الضنى؛ وحمل حملة فرّق بها كلّ شمل للكفّار اجتمع، وقطع أعناق العدافى رضى الله تعالى ولا ينكر السيف إذا قطع؛ ووصل من العلياء إلى غاية تزاحم الكواكب بالمناكب، وتفرّد بأمر الجيوش فأضحى بدر الكتائب وصدر المواكب؛ إذا جاش الجيش ثبت عند مشتجر الرماح، وإذا أظلم ليل النّقع وضحت أسارير جبينه وضوح الصباح، وإذا أقدم فى كتيبة «رأيت البرّ بحرا من سلاح» واذا رفعت راياته يوم الوغى كبّرت بالظّفر على ألسنة الرماح، وإذا كان فى جحفل كانت عزائمه للقلب قلبا وصوارمه جناحا للجناح، وإذا قدر فى السلم عفا لكنه فى الحرب قليل الصفح بيّن الصّفاح؛ وهو الذى ما برحت أيدى انتقامه تهدم من أهل الشرك العمائر والأعمار، وبروق سيوفه تذهب بالنفوس لا بالأبصار، ويمن يمينه وصبح جبينة هذا يستهلّ بالأنواء وذا بالأنوار؛ اقتضى حسن الرأى الشريف أن نوفى حقوق مودّته التى أسلفها لنا فى كل نعمى وبوسى، وأن نضاعف علوّ مكانه من أخوّتنا ليكون منا كهرون الجزء: 8 ¦ الصفحة: 138 من موسى؛ فلذلك رسم بالأمر الشريف العالى المولوىّ السلطانىّ الملكىّ المظفّرىّ الركنى- لا برح يوفى بعهود الأولياء ويفى، ويمنح من أخلص النّية فى ولائه البرّ الخفىّ والفضل الحفى- أن تكون كلمة الجناب الكريم العالى الأميرىّ السيفىّ المشار إليه- أعزّ الله نصره- نافذة فى كفالة الممالك الإسلاميّة، متحكّمة فى نيابة السلطنة المعظّمة، وأوامره المطاعة فى إمرة الجيوش وحياطة الثغور التى غدت بدوام كفالته متبسّمة؛ على أجمل عوائده «1» ، وأكمل قواعده؛ نيابة ثابتة الأساس، نامية الغراس؛ لا يضاهى فيها ولا يشارك، ولا يخرج شىء من أحوالها عن رأيه المبارك؛ فليبسط نهيه وأمره فى التدبير والإحكام، وليضبط الممالك حتى لا تسامى ولا تسام؛ وليطلع من آرائه فى سماء الملك نجوما بها فى المصالح يهتدى، وليرفع من قواعده ما يخفض به قدر العدا؛ وليضاعف ما ألفته الأمّة من عدله، وليجر على أكرم عاداته من نشر إنصافه وشمول فضله، وليعضّد جانب الشرع المطهّر فى عقده وحلّه، وتحريمه وحلّه؛ ولينفذ كلمته على ما هو من ديانته مألوف، وليستكثر من الافتداء بأحكامه فى النهى عن المنكر والأمر بالمعروف؛ وأمراء الإسلام وجنوده، فهم ودائع سرّه، وصنائع شكره، وطلائع نصره، وما منهم إلا من غذى بلبان «2» درّه، وغدا [من «3» ] ثناء «4» عصره متقلدا لعقود درّه؛ فليستخدم حنوّه عليهم وإشفاقه، وليوال إليهم برّه وإرفاده وإرفاقه؛ والوصايا كثيرة لكنها منه تستملى، والتنبيهات على المصالح منه تستفاد نقلا وعقلا، وما زلنا نستضئ فى المهمّات بيمن آرائه التى جمعت للمصالح شملا؛ فمثله لا يدلّ على صواب وهو المتفرّد بالسداد، والخبير بتفريج كرب الخطوب والسيوف الجزء: 8 ¦ الصفحة: 139 غامضة الجفون فى الأغماد؛ والله تعالى يمتعنا من بركة كفالته بالخلّ الموافى «1» والأخ المواسى، ويشدّ أزر سلطاننا من مضافرته بمن أمسى جبل الحلوم «2» الرواسى؛ إن شاء الله تعالى. ومن انشائه أيضا أعزه الله تعالى مقامة عملها فى سنة اثنتين وسبعمائة، على لسان من التمسها منه، فقال: حكى أليف الغرام، وحليف السّقام؛ وقتيل العيون، وصريع الجفون؛ وفريسة الأسود، والمصاب بنبال الحدق السود؛ عن قصّته فى هواه، وقضيته التى كان فى أوّلها غناه، وفى آخرها عناه «3» ؛ قال: لم أزل فى مدّة العمر أترقّب حبيبا أتلذّذ بحبّه، وأتنعّم بقربه؛ وأحيا بانعطافه، وأسكر من ريقه بسلافه؛ وأستعذب العذاب فيه، وأرشف خمر الرضاب من فيه، وأقتطف ورد السرور من وجنتيه وأجتنيه؛ وأكتسى به لطفا، وأكتسب بمصاحبته ظرفا؛ حتى ظفرت يداى بمن رقّ وراق، ولطفت حدائق معانيه حتى كادت تخفى عن الأحداق لطفت معانيه فهبّ مع الصّبا ... ورقيبه بهبوبه لا يعرف قد جمع أوصاف المحاسن والمعانى، وفاق كلّ مليح فليس له فى الحسن ثانى؛ أما قوامه، فقد ملك الفؤاد فأضحى ملكا عادلا، واستباح النفوس من اعتداله فلا غرو إن أضحى لها قاتلا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 140 عجبا لقدّك ما ترنّح مائلا ... إلا وقد سلب الغصون شمائلا وأما لحاظه فقد غنيت عن الكحل بالكحل، وأذابت حبّات القلوب فى حبّ تلك المقل وإذا رأيت الطرف يعمل فى الحشا ... عمل الأسنّة فالقوام مثقّف إلى غير ذلك من وجه كالبدر فى تمامه، يعلوه من شعره ما يصير به كالبدر تحت غمامه قمر تبلّج وجهه فى حندس ... من شعره فأضاء منه الحندس ومقبّل أشهى من الراح، وأعطر من زهر الربا تفتّحت أكمامه عند الصباح ومقبّل عذب كأنّ ... رضابه برد وراح وخدّ أمسى شقيق الشّقيق «1» ، ومبسم يرشف من شفاهه العقيق الرحيق شفة كمحمرّ العقيق ... ومبسم مثل الأقاح «2» وصدغ سال على خدّه القانى، وامتدّ كدمع محبّه الأسير العانى صبّ له دمع كصدغك سائل ... فعساك يا مثرى الجمال تواسى وخصر لطف ودقّ، وعلاه كثيب ردف فأثقله حتى ضنى ورقّ يا ردفه رفقا على خصره ... بينكما حرمة جيران الى غير ذلك من أنواع حسن قصر عن وصفها قلمى، وعجز عن حصرها كلمى؛ وأشفقت من شرحها خوفا أن أنمّ عليه، أو أذكر ما تفرّد به من الحسن فأكون الجزء: 8 ¦ الصفحة: 141 قد أشرت اليه؛ وأنا قد تدرّعت ثوب الكتمان، وتستّرت حتى غاض من الدمع وأغضى الطرف وسكت اللسان يقولون من هذا الذى متّ فى الهوى ... به كلفا يا ربّ لا علموا الذى غير أنّى قد متعت بذكر ملاحته فؤادى، ولا بدّ أن أوردها مجملة لأكمد «1» بلفظها «2» المعادى حكاه من الغصن الرطيب وريقه ... وما الخمر إلّا وجنتاه وريقه هلال ولكن أفق قلبى محلّه ... غزال ولكن سفح عينى عقيقه بديع التثنّى راح قلبى أسيره ... على أن دمعى فى الغرام طليقه أقرّ له من كل حسن جليله ... ووافقه من كل معنى دقيقه من التّرك لا يصبيه وجد إلى الحمى ... ولا ذكر بانات الغوير «3» يشوقه ولا حلّ فى حىّ تلوح قبابه ... ولا ساق فى ركب يساق وسيقه «4» ولا بات صبّا للفريق «5» وأهله ... ولكن إلى خاقان يعزى فريقه يهدّد منه الطرف من ليس خصمه ... ويسكر منه الريق من لا يذوقه على خدّه جمر من الحسن مضرم ... يشبّ ولكن فى فؤادى حريقه له مبسم ينسى المدام بريقه ... ويخجل نوّار الأقاحى بريقه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 142 قال الراوى: فأعلمته ما خامر قلبى من هواه، وبذلت نفسى ابتغاء لرضاه بثثت له سرّى ونحن بروضة ... فمالت لتصغى للحديث غصون فتلقّى ضراعتى بالرّحب والإقبال، وسفر عن وجه الرضا فبشّرت نفسى ببلوغ الآمال؛ وقلت «1» : تذلّلت فى الشكوى إليه فرقّ لى ... حنوّا لدمعى فى الهوى وتذلّلى غزال لبست السّقم خلعة جفنه ... على أننى فيه خلعت تجمّلى تعدّل بالأعذار حتى خدعته ... بسحر الرّقى أفديه من متعلّل فراقب إغفاء الرقيب وهجعة السّمير ... وراعى حين غفلة عذّلى ووافى أخا الأشواق حلف صبابة ... أسير هوى من وجده فى تململ فلم أر روضا كان أحسن بهجة ... - لعمر الهوى- من وجهه المتهلّل فأعظمت مسراه وقبّلت خاضعا ... ثرى خطوه شكرا الفضل التطوّل وانعطف علىّ انعطاف الغصن الرطيب، وتمازجت قلوبنا حتى أشكل علىّ أينا «2» الحبيب؛ وفزت منه ببديع جمال تلذّ به النفوس، ورشفت من رضابه أحلى ما ترشفه الأفواه من شفاه الكؤوس تعلّقته صائدا للقلوب ... بألحاظه سالبا للنّهى بديع الجمال إذا ما بدا ... ترى فيه للعين مستنزها «3» فكم فيه للعين من روضة ... وكم فيه للنفس من مشتهى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 143 يا حسنه لمّا أتى بوعد وعلى غير وعد، ويا لذاذة قربه ويا حرارة ما ذقناه بعدها من هجر وصدّ؛ فلم نزل على ذلك مدّة أغفى الدهر عنّا فيها، أقضّى حياة طابت تلذّذا وترفيها رعى الله محبوبا نعمت بوصله ... وقد بعدت عنّا الغداة عيون حتى شعر بنا الدهر الخؤون، ورمانى بسهم فرقة أبعدت المنى وجلبت المنون؛ وعلم بما كتمناه الرقيب، وعجز عن داء قلبى الطبيب لو كان للعشاق حظّ فى الهوى ... ما كان يخلق فى الزمان فراق فتجرّعت بعد الشّهد علقما، ولم أستطع أفتح «1» من الحزن فما؛ وهمت فى ساحة الشوق والالتياح «2» ، وفضحتنى الأدمع التى طال بها على المحبّين الافتضاح لا جزى الله دمع عينىّ خيرا ... وجزى الله كلّ خير لسانى نمّ دمعى فليس يكتم شيئا ... ووجدت اللسان ذا كتمان كنت مثل الكتاب أخفاه طىّ ... فاستدلّوا عليه بالعنوان فاذا هو مرّ المذاق، وأمنع الدمع فيقول: وهل خبأتنى لأعظم من يوم الفراق أبى الوجد أن يخفيه قلب متيّم ... يكابده والدمع يبديه والضّنى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 144 وكم ذاب القلب حسره، وتفتّتت الكبد فى تلك الفتره؛ على خلوة أبثّ فيها حزنى، وأفسح فيها المجال الذى ضاق به عطنى؛ فلم أظفر بخلوة فى لمحة بصر، ولا فزت بذكر كلمة أفرّج بها ما عرض من حصر تعرّضت من شوق إليه فأعرضا ... ولولا الهوى لم أمنح الحبّ مبغضا وبحت إليه أنّ عندى رياضة «1» ... عليه وما تلك الرّياضة عن رضا قضى حبّه أنّى إذا عزّ فى الهوى ... أذلّ وإنى قد رضيت بما قضى لقلبى من عينيه سقم وصحّة ... فكم مرّة فى الحبّ داوى وأمرضا مضى لى به عيش بكيت لفقده ... وهيهات أن يرتدّ عيش إذا مضى وبليت «2» برقيب قد سلب الله من قلبه الإيمان، وسلّطه علىّ بغلظ الطباع وفظاظة اللسان؛ كأنه شيطان لا بل هو بعينه، لكنّه أربى عليه فى بهتانه ومينه؛ يحاقّ «3» على الكلمة الواحده، ولا يسمح بأن طرفى يمتدّ إلى تلك المحاسن التى غدت القلوب بها واجده؛ يودّ لو غطّى على بصرى، ويبدلنى مغيبى من محضرى؛ لا يفتر عن اللّوم والعذل، ولا يرى أن يقضى ساعاته إلّا فى بذل الحيل؛ يرغب فى شتات شملى، وانقطاع وصلى؛ وليس لى فى دفعه حيله، ولا فى الانتقام منه وسيله؛ وما زال حتى أحال الحبيب عن وداده، وكدر ما صفا من حسن ظنّه واعتقاده؛ وأنا أروض نفسا كادت تذوب، وأتسلّى بأيام وصاله وأقول: لعلها ترجع وتؤوب لئن ذقت مرّ الصبر أو ملح أدمعى ... لقد أعذبت تلك المذاقات منهلى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 145 فلم يقنع الدهر لى بذلك، ولا رضى بالصدّ والعذل والهجر الذى هو أعظم المهالك؛ حتى قضى بالفرقة والبعاد، ورمتنى النوى بسهم فلم يخطئ الفؤاد؛ وكنت أتعلّل بالنظر، وأقول: مشاهدة هذا الوجه القمرىّ عندى أكبر وطر؛ حتى منعت الوصال والمشاهده، وندبت قلبى القريح بأدمع عينى الجامده أحباب قلبى لقد قاسيت بعدكم ... نوائبا صيرتنى فى الهوى مثلا وقد تعجّبت أنّى بعد فرقتكم ... أحيا وأيسر ما لاقيت «1» ما قتلا وانقطعت عنّى الرسائل، وذهبت لذاذة ما اعتدته من تلك الوسائل هل مخبر عنكم يعيش بقربه ... ميت الرجا والصبر بعد إياس أحبابنا قسما بساعة وصلنا ... لم أكتحل من بعدكم بنعاس غبتم فعندى بالفراق مآتم ... فمتى تعود بعودكم أعراسى وذوى غصن السرور بعد أن كان رطيبا، وفقدت لنداء ألمى مجيبا؛ وأغلقت باب الدّعه، وأسبلت هواطل أدمعى قائلا للأجفان: لا تخشى فأنت متفقة من سعه؛ ولولا التعلّل بالذكرى، والتأمّل «2» فى حسنه «3» الذى تشكّل فى مرآة القلب فسرّ سرّا؛ لقلت: كأنّك قد ختمت على ضميرى ... فغيرك لا يمر على لسانى ولى عين تراك وأنت تنآى ... كما ترنو إليك وأنت دانى وأقرب ما يكون هواك منّى ... إذا ما غاب شخصك عن عيانى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 146 شغلت عن الورى بصرى وسمعى ... كأنهما بحبّك مفردان فهأنا لا أعاين ما بدا لى ... سواك ولا أصيخ لمن دعانى ثم إنّى فارقت الحياه، وبذلتها راغبا فى هواه؛ ولم أزل كذلك الى أن ظهرت آثار قربه، وسرى النسيم عطرا فعلمت قرب ركبه وأذكرنى ذاك الصّبا «1» زمن الصّبا ... وما الشوق إلا ما تجدّد بالذكر فكاد قلبى يطير للقائه، ولولا تستّره بحجب الفؤاد لخرج من قوّة برحائه؛ وتذكرت كيف يكون اللقاء والاجتماع، والرقباء قد أزمعوا على المنع والدّفاع، وقلت: فارقنى على غير رضا، وجفانى من غير ذنب، ونآى عنّى من غير وداع؛ وهأنا فى غيابه وحضوره، وسخطه وسروره؛ لا أحول عن ودّه، ولا أرى إلا الوفاء بعهده هيهات ما وجدى عليك بزائل ... فإلام يطنب فى الملامة عاذلى ناشدتك العهد القديم ومنا ... بلوى الصّريم وبانه المتمايل «2» هل تعلمنّ سوى هواك وسيلة ... تدنى رضاك وقد جهلت وسائلى أدنيتنى حتى إذا تيّمتنى ... بمحاسن ومعاطف «3» وشمائل وبحسن وجه لو تجلّى فى الدجى ... سجد الصباح لضوئه المتكامل ونواظر سحّارة لجفونها ... فضل الصناعة «4» لا لساكن بابل «5» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 147 ووقعت من قلبى بودّ قد جرى «1» ... مجرى دمى بجوانحى ومفاصلى قاطعتنى وسمعت قول حواسدى ... وصرمت من بعد الوصال حبائلى «2» ولرب ليل بتّ فيه مسهّدا ... فردا أسامر لوعتى وبلابلى أطوى على حرّ الغرام أضالعا ... يطوين فيه «3» على قداح «4» النابل «5» وهأنا أترقّب وصله، وأتوقّع عدله. أتراه من جور الصبابة ينصف ... ويرقّ للعانى عليه ويعطف صبّ يرى السّلوان عنه محرّما ... فله إليه تولّه وتلهّف يا أهل كاظمة «6» وحقّ هواكم ... قسما بكم وبغيركم لا يحلف مشتاقكم ألف الصبابة فيكم ... فكأنه لسواكم لا يعرف فعدوه منكم بالوصال تعلّة ... ولكم بأن تعدوا الوصال ولا تفوا وحياتكم «7» يرعاكم فى بعدكم ... ولقربكم فى بعدكم «8» يتشوّف الجزء: 8 ¦ الصفحة: 148 وليس لى ما أمت به إلا صدق الغرام، والإقدام فى حبّه «1» على ارتكاب «2» الحمام جدّد عهود تواصل وتلاق ... واستبق لى رمقا فليس بباق واشفع إلى ما رقّ من ترف الصّبا ... من وجنتيك برقّة الأخلاق ما حقّ ذى قلب صفا لك ودّه ... تقطيعه بقطيعه وفراق مع ذا وذا كيف استهنت فكن أنا ال ... موثوق «3» بى مولاى فى الميثاق قال الراوى: فسمع شكواى وما أشكى «4» ، وقابل رقّتى بجفوة بها القلب أنكى «5» والطرف أبكى؛ ولفق أعذارا، وأقسمت عليه أن يزور فلم ير لقسمى إبرارا هذا ما اتّفق إيراده من كلامه- أدام الله علوّه- فى هذا الموضع، وسنورد إن شاء الله من كلامه أيضا ما تقف عليه فى آخر فن الحيوان فى السفر الذى يليه إن شاء الله تعالى. ذكر شىء من إنشاء المولى الفاضل الصدر الكبير الكامل؛ البارع الأصيل، الأوحد النبيل؛ تاج الدين عبد الباقى بن عبد المجيد اليمانى هو الذى أتقن صناعة الأدب فى غرّة شبابه، وبرزّ على من اكتهل فى طلبها وشاب فى الترقّى الى رتبها، فما ظنّك بأترابه؛ وجارى «6» ذوى الفضل فى «7» الأقطار اليمنيّة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 149 فطلع مجلّى «1» الحلبة، وبارى نجباء الأفاضل بالمملكة التّعزّيّة «2» وكان المؤمّل «3» منهم بالنسبة إليه أرفعهم رتبه؛ وسما إلى سماء البلاغة فكان نجمها الزاهر، وارتقى إلى أفلاك البراعة فكان نيّرها الباهر، ورام من سواه الارتقاء إلى محلّه والمناوأة «4» لفضله فغدا وهو فى ذيول حيرته عاثر؛ فعند ذلك علموا عجزهم عن إدراك غاياته، واعترفوا بالتقصير عن مجاراته ومباراته؛ وحين لم يجد لفضله مجاريا، ولا عاين لفضائله مباريا؛ صار بها كالغريب وإن كان فى أهله ووطنه، والفريد «5» مع كثرة أبنائه وإخوان زمنه؛ فسمت «6» به نفسه إلى طلب العلوم من مظانّها، والاحتواء عليها فى إبّانها؛ واللّحاق بأعيان أهلها، والاختلاط بمن ارتدى بأردية فضلها؛ ورؤية من توشّح بقلائدها، وترشّح لبذل فوائدها ونظم فرائدها؛ ففارق الأقطار اليمنيّة وهى تسأله التأنّى، وتبذل لرضاه الرغبة والتمنّى؛ وهو لا يجيب مناديها ولا يعرّج على ناديها، ولا يميل الى حاضرها ولا ينظر الى باديها؛ وصرف وجهه عنها، ونفض يده منها؛ والتحق «7» بالديار الجزء: 8 ¦ الصفحة: 150 المصريّه، وانبتّ «1» فى طلب العلوم بأجمل سريرة وأحسن سيرة وأخلص نيّه؛ فبلغ فيها «2» مناه، وأدرك بها ما تمنّاه؛ وغدا وثغر فصاحته بالعلوم أشنب، وبرد بلاغته بالآداب مذهب تناهى علاء والشباب رداؤه ... فما ظنّكم بالفضل والرأس أشيب ولما عاينه أعيان أهل هذا الوادى، وشاهدوه يبكّر فى طلب العلوم ويغادى؛ تلقّوه بالإكرام والترحيب، وقابلوه بالتبجيل والتقريب، وأنزلوه بالمحلّ الأرفع والفناء الخصيب؛ وعاملوه بمحض الوداد، وساواه شبابهم بالإخوة ومشايخهم بالأولاد؛ وخلطوه بالنفس والمال، وظهر له فى ابتداء أمره بقرائن الأحوال حسن المآل؛ فأصبح من عدول المصر، وأمسى وهو من أعيان العصر؛ فشكر عاقبة مسيره وحمد صباح سراه، وأجابه لسان الفضائل بالتّلبية لمّا دعاه؛ ثم ارتحل الى الشأم فجعل دمشق مقرّ وطنه، وموطن سكنه؛ ومحلّ استفادته وإفادته، ونهاية رحلته وغاية إرادته؛ فعامله أهلها بفوق «3» ما فى نفسه، فحمد يومه بها على أمسه؛ وغدا لأهل المصرين شاكرا، ولمناقبهم تاليا ولمحاسنهم ذاكرا؛ وله من النظم ما رقّت حواشيه، وراقت معانيه؛ ومن النثر ما عذب وصفا، وكمل بلاغة ولطفا؛ وحسن إعجازا، وتناسب صدورا وأعجازا؛ وقد قدّمنا من كلامه فى هذا الكتاب ما باسمه ترجمناه، ولفضائله نسبناه؛ مما تقف عليه فى مواضعه، وتغتذى بلبان مراضعه؛ فلنورد له الجزء: 8 ¦ الصفحة: 151 فى هذا الباب غير ما تقدّم إيراده وما تأخّر، ونأخذ لتصنيفنا من بلاغته بالنصيب الأوفى والحظّ الأوفر. فمن إنشائه كتاب عن الخليفة المستكفى بالله أمير المؤمنين أبى الربيع سليمان لملك «1» اليمن- عمله تجربة لخاطره عند ما رسم بمكاتبته، ابتدأه بأن قال: أما بعد حمد الله مانح القلوب السليمة هداها، ومرشد العقول إلى أمر معادها ومبتداها؛ وموفّق من اختاره الى محجّة صواب لا يضلّ سالكها، ولا تظلم عند اختلاف الأمور العظام مسالكها؛ وملهم من اصطفاه اقتفاء آثار السنن النبويّه، والعمل بموجب القواعد الشرعيّه؛ والانتظام فى سلك من طوّقته الخلافة عقودها، وأفاضت على سدّته الجليلة برودها؛ وملّكته أقاصى البلاد، وناطت بأحكامه السديدة أمور العباد؛ وسارت تحت خوافق أعلامه الملوك الأكاسره، وسرت «2» بأحكامه النيّرة مناجح الدنيا ومصالح الآخره؛ وتبختر «3» كلّ منبر من ذكره فى ثوب من السيادة معلم، وتهلّلت من ألقابه الشريفة أسارير كلّ دينار ودرهم؛ يحمده أمير المؤمنين على أن جعل أمور الخلافة ببنى العباس منوطه، وجعلها كلمة باقية فى عقبه الى يوم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 152 القيامة محوطه؛ ويصلّى على ابن عمه محمد الذى أحمد الله بمبعثه ما ثار من الفتن، وأطفأ برسالته ما اضطرم من نار الإحن؛ صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين حموا حمى الخلافة فذادوا عن مواردها، وتجهّزوا «1» لتشييد المعالم الدينيّة فأقاموها على قواعدها؛ صلاة دائمة الغدوّ والرواح، متصلا أوّلها بطرّة الليل وآخرها بجبين الصباح؛ هذا وإن الذين الذى فرض الله على الكافّة الانضمام الى شعبه، وأطلع فيه شموس هداية تشرق من مشرقه ولا تغرب فى غربه؛ جعل الله حكمه بأمرنا منوطا، وفى سلك أحكامنا مخروطا «2» ؛ وقلّدنا من أمر الخلافة سيفا طال نجاده، وكثر أعوانه وأنجاده «3» ؛ وفوّض إلينا أمر الممالك الإسلاميّة فإلى حرمنا تجبى ممراتها، ويرفع الى ديواننا العزيز نفيها وإثباتها؛ يخلّف الأسد إن مضى فى غابه شبله، ويلفى فى الخبر والخبر مثله؛ ولما أفاض الله علينا حلّة الخلافة، وجعل حرمنا الشريف محلّ الرحمة والرافه؛ وأقعدنا على سدة خلافة طالما أشرقت بالخلائف من آبائنا، وابتهجت بالسادة الغطاريف» من أسلافنا؛ وألبسنا خلعة هى من سواد السؤدد مصبوغه، ومن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 153 سواد العيون وسويداوات القلوب مصوغه؛ وأمضينا على سدّتنا أمور الخاصّ والعامّ، وقلّدنا أرباب الكفاية كلّ إقليم من عملنا ممن تصلح سياسته على الدوام؛ واستكفينا بالكفاة من عمّالنا على أعمالنا، واتخذنا مصر دار مقامنا، وبها سدة مقامنا لما كانت فى هذا العصر قبّة الإسلام، وفيئة «1» الإمام، وثانية دار السلام؛ تعيّن علينا أن نتصفّح جرائد عمّالنا، ونتأمّل نظام أعمالنا؛ مكانا فمكانا، وزمانا فزمانا؛ فتصفّحناها فوجدنا «2» قطر اليمن، خاليا من ولايتنا فى هذا الزمن، والعادة مستمرّة بأن لم تزل نوّابنا فى بلاد اليمن «3» ؛ عرّفنا هذا الامر من اتخذناه للممالك الإسلاميّة عينا وقلبا، وصدرا ولبّا؛ وفوّضنا اليه أمر الممالك الإسلامية فقام فيها قياما أقعد الأضداد، وأحسن فى ترتيب ممالكنا نهاية الإصدار وغاية الإيراد؛ وهو السلطان الأجلّ السيّد الملك الناصر، لا زالت أسباب المصالح على يديه جاريه، وسحائب الإحسان من أفق راحته ساريه؛ فلم يعدّ جوابا لما رسمناه، ولا عذرا عما ذكرناه؛ إلا تجهيز شرذمة من حجافله المنصوره، وتعيين أناس من فوارسه المذكوره؛ يقتحمون الأهوال، ولا يعبأون الجزء: 8 ¦ الصفحة: 154 بتغيّرات الأحوال؛ يرون الموت مغنما إن صادفوه، وشبا المرهف مكسبا إن صافحوه؛ لا يشربون سوى الدماء مدامه، ولا يلبسون غير التّرائك «1» عمامه؛ ولا يعرفون طربا إلا ما أصدره «2» صليل الحسام من غنا، ولا ينزلون قفرا إلا وأنبت ساعة نزولهم عن صهوات خيلهم قنا؛ ولما وثقنا منه بإنفاذهم راجعنا رأينا الشريف فاقتضى أن نكاتب من بسط يده فى ممالكها، وملك جميع مسالكها؛ واتخذ أهلها خولا، وأبدى فى خلال ديارها من عدم سياسته خللا؛ فبرز مرسومنا الشريف النبوىّ أن نكاتب من قعد على تخت مملكتها، وتصرّف فى جميع أمور دولتها؛ فطولع بأنه ولد السلطان الملك المظفّر يوسف بن عمر الذى له شبهة «3» تمسّك بأذيال المواقف المستعصميّة «4» ، وهو مستصحب الحال على زعمه، أو ما علم الفرق بين الأحياء والأموات؟ أو ما تحقّق الحال بين النفى والإثبات؟ أصدرناها إلى الرّحاب التّعزّيّه «5» ، والمعالم اليمنيّه؛ تشعر من تولّى فيها فاستبدّ، وتولّى كبره فلم يعرّج على أحد؛ أنّ أمر اليمن ما برحت حكّامنا ونوّابنا تحكم فيه بالولاية الصحيحه، والتفويضات التى هى غير جريحه «6» ؛ وما زالت تحمل إلى بيت المال المعمور ما تمشى به الجمال وئيدا «7» ، وتقذفه بطون الجوارى «8» الى ظهور الجزء: 8 ¦ الصفحة: 155 اليعملات «1» وليدا؛ وتطالعنا بأمر مصالحه ومفاسده، وبحال معاهده ومقاصده «2» ؛ ولك أسوة بوالدك السلطان الملك المظفّر، هلّا اقتفيت ما سنّه من آثاره، ونقلت ما دوّنته أيدى الزمن من أخباره؛ واتصل بمواقفنا الشريفة أمور صدرت منك: منها «3» - وهى العظمى التى ترتّب عليها ما ترتّب- قطع الميرة عن البيت الحرام، وقد علمت أنه واد غير ذى زرع، ولا يحلّ لأحد أن يتطرّق إليه بمنع؛ وكفتك الآية «4» دليلا على ما صنعت، وبرهانا على ما فعلت؛ ومنها انصبابك «5» على تفريغ مال بيت المال فى شراء «6» لهو الحديث، ونقض العهود القديمة بما تبديه من حديث؛ ومنها تعطيل أجياد المنابر من عقود اسمنا، وخلوّ تلك الأماكن من أمر عقدنا وحلّنا؛ ولو أوضحنا لك ما اتصل بنا من أمرك لطال، ولا اتسعت فيه [دائرة «7» ] المقال؛ رسمنا بها والسيف يودّ لو سبق القلم حدّه، والعلم المنصور يحب لو فات القلم واهتزّ بتلك الروابى قدّه؛ والكتائب المنصورة تختار لو بدرت «8» عنوان الكتاب و [أهل «9» ] العزم والحزم يودّون اليك إعمال الرّكاب؛ والجوارى المنشآت قد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 156 تكوّنت من ليل ونهار، وبرزت كصور الفيلة «1» لكنها على وجه الماء كالأطيار، وما عمدنا «2» الى مكاتبتك إلا للإنذار، وما جنحنا لمخاطبتك الا للإعذار؛ فأقلع عما أنت بصدده من الخيلاء والإعجاب، وانتظم فى سلك من استخلفناه على أعمالنا فأخذ بيمينه ما أعطى من كتاب؛ وصن بالطاعة نفوس من زعمت أنهم مقيمون تحت لواء علمك، ومنتظمون فى سلك أوامر كلمك، وداخلون تحت طاعة قلمك؛ فلسنا نشنّ الغارات على من نطق بالشهادتين لسانه وقلبه، وامتثل أوامر الله المطاعة عقله ولبّه؛ ودان الله «3» بما يجب من الدّيانه، وتقلّد عقود الصلاح والتحف بمطارف «4» الأمانه؛ ولسنا ممن يأمر بتجريد سيف الا على من علمنا أنه خرج عن طاعتنا، ورفض كتاب الله ونزع عن مبايعتنا؛ [فأصدرنا «5» ] مرسومنا هذا اليه يقصّ عليه من أنباء حلمنا ما أطال مدّة دولته، وشيّد قواعد صولته؛ ويستدعى منه رسولا إلى مواقفنا الشريفه، ورحاب ممالكنا المنيفه؛ لينوب عنه فى قبول الولاية مناب نفسه، وليجنى بعد ذلك ثمار شفقاتنا إن غرس شجر طاعتنا ومن سعادة المرء أن يجنى ثمار غرسه؛ بعد أن يصحبه من ذخائر الأموال ما كثر قيمة وخفّ حملا، وتغالى «6» فى القيمة «7» رتبة وحسن مثلا؛ واشرط على نفسك فى كل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 157 سنة قطيعة «1» ترفعها الى بيت المال، وإيّاك ثم إيّاك أن تكون عن هذا الأمر ممن مال؛ ورتّب جيشا مقيما تحت لواء علم السلطان الأجلّ الملك الناصر للقاء العدوّ المخذول التتار، ألحق الله أوّلهم بالهلاك وآخرهم بالبوار؛ وقد علمت تفاصيل أحوالهم المشهوره، وتواريخ سيرهم المذكوره؛ واحترص «2» على أن يخصك من هذا المشرب السائغ أوفى نصيب، و [أن تكون «3» ] ممن جهّز جيشا فى سبيل الله فرمى بسهم فله أجر كان مصيبا أو غير مصيب؛ ليعود رسولك من دار الخلافة بتقاليدها وتشاريفها حاملا أهلّة أعلامنا المنصوره، شاكرا برّ موافقنا المبروره؛ وإن أبى حالك «4» إلا أن استمررت على غيّك، واستمرأت مرعى بغيك؛ فقد منعناك التصرّف فى البلاد، والنظر فى أحكام العباد؛ حتى تطأ خيلنا العتاق مشمخرّات حصونك، وتعجّل حينئذ ساعة منونك؛ وتمسى لهوادى قلاعك عقودا، ولعرائس حصونك نهودا؛ وما علّمناك غير ما علمه قلبك، ولا فهّمناك غير ما حدسه «5» لبّك؛ فلا تكن كالصغير تزيده كثرة التحريك نوما، ولا ممن غرّه الإمهال يوما فيوما؛ وقد أعلمناك ذلك فاعمل بمقتضاه، موفّقا إن شاء الله تعالى؛ والحمد لله وحده. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 158 ومن إنشائه تقليد السلطان الملك الناصر لما ترك الديار المصرية وأقام بالكرك «1» - وكتب له بذلك من ديوان الإنشاء عن الملك المظفّر ركن الدين، فلم يمكن الكاتب الإطناب، ولا وسعه «2» غير الاختصار، فلم يرضه الكتاب، وعمل جماعة منهم فى ذلك تجربة لخواطرهم ولم يكتب بشىء منها فعمل هو-: الحمد لله مدبّر الأمر على ما يشاء فى عباده، ومنقّل الحال على حكم اختياره ووفق مراده، ومجرى أسباب الممالك على يد من اختاره من عباده لإصدار الأمر وإيراده، ومجيب من أصبح قاصدا بابه الشريف والزهادة فيما حوله من اعتقاده، ومعزّ من أضحى له من حقونا «3» ركن استند إليه الدهر فى استناده، يلبّى دعوة مرامه حيث كان من بلاده؛ ويجيب داعى نداه وإن بعد فيكون أقرب من سرّه الى فؤاده؛ يذبّ عن حوزة نسائه ببيض مرهفاته وسمر صعاده، ويحمى بيضة جاهه بالغلب من أشياعه والجرد من جياده؛ نحمده على أن جعل موالاتنا لهذا البيت الشريف المنصورىّ تستديم عهوده، وتلتحف من المحافظة على مراضيه الشريفة فى كلّ حال بروده؛ وترد من القيام بواجب حقّه أعذب منهل شرعه الصفاء وسنّه، وأكّد موالاته الوفاء وحسن الوفاء من شعار أهل السّنّة؛ ونشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له شهادة ترفع أعلام الهدى بكلمها، وتخمد نار الشرك بنور هداية الجزء: 8 ¦ الصفحة: 159 علمها وعلمها، وتطهّر أديم البسيطة من أرجاس الكفرة بالحدّين من غربى «1» صمصامها وقلمها، وتروى كلّ قطر أصبح ما حلا من قطرى عدلها ونعمها؛ ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذى كانت الزهادة ملاك أمره و [الملوك «2» ] تحت وطأة أقدامه، والملائكة يحفّونه من حوله «3» ومن أمامه، ومعادن الذهب تعرض عليه فيساوى لديه لزهادته بين نضاره ورغامه؛ صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة تحاكى أرج الصّبا وقد سرى عن خزامه «4» ، وتضاهى فتيق «5» المسلك وقد تنفّس عن ختامه، مشفوعة إلى يوم القيامة برضوانه وسلامه؛ وبعد، فإنه لما كان المقام العالى الملكىّ الفلانىّ هو الذى ربّته الممالك فى حجرها وليدا، وخوّلته السلطنة الشريفة من نفائس ذخائرها طارفا وتليدا؛ وبوّأته من مراتب العز أقصى غاية لا ترام، وأبادت بمرهفه البتّار جمع التتار الطّغام؛ واستخدمت لطاعته جيشين: جيش نهار بكّر فيه مواليه على أعدائه بسابق خيله ومرهف حسامه، وجيش ليل تبسط أولياء دولته أكفّهم للدعاء ببقائه فى جنح ظلامه؛ طالما هزّت المنابر أعطافها طربا عند ذكر اسمه، وازدادت وسامة الدّينار حسنا لمّا شرّفها بحسن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 160 وسمه ورسمه؛ وتلت أوصاف بأسه ألسنة خرصانه «1» ، ورجعت سوابق الهمم عن التطاول للمطاولة فى ميدانه، وقالت فوارس الحروب لمّا رأت كرّه: هذا سباق لسنا من رهانه؛ كم فرّق بجيشه اللهام «2» جيشا أرمد جفن الشمس بقتامه، ونصر الأحزاب يوم الكريهة بالعاديات من خيله والمرسلات من سهامه، فالدهر يشكر مواقف إقدامه، والعدل ينشر منشور فضله وسديد أحكامه؛ والممالك تثنى على عليائه بالسداد، والمسالك تهدى لسالكها ما خصّها به من أمنها المعتاد؛ والناس فى ظلّ عدل لياليه [خلقت «3» ] كما شاءوا أسحارا، والوحش والغنم كلّ منهما قد جعل صاحبه جارا؛ ومواطن العلوم أمست تطرّز بمحاسن أوصافه، وحكّام الشرع الجليل أضحت تميس فى حلل عدله وإنصافه؛ والأماكن التى تشدّ لها الرحال يفترّ ثغرها عن عدله، والمشاعر المعظّمة قد حمى حوزتها بالسهم من نصله والشهم من رجله «4» ؛ تنقّل فى مراتب الملك صغيرا الى أن اشتدّ بالعزم القوىّ كاهله، واستوطن ربع العزّ مذ كان يجتلى بدوره وتجتليه عقائله؛ فلم تبق له مأربة إلا قضاها، ولا حالة إلا ابتلاها، ولا غمّة إلا جلاها، ولا آية شكر إلا تلاها؛ الى أن قمع بحدّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 161 سيفه كلّ مجترى، وقال للسحابة كما قيل: امطرى «1» ؛ رأى «2» أن الموارد الدنيويّة لا بدّ لها من مصادر، وأن أوائل الأمور تستدعى الأواخر، وأن للزهادة فى الدنيا وإن عظم قدرها الشأن الكبير، وأن الانقطاع الى الله تعالى منهل صفو لا يقبل شوائب التكدير؛ وقوى عزمه فى الرّحلة عن مقرّ ملكه الى أعزّ حصونه المنيعه، بل الى أجلّ معاقله الشامخة الرفيعه؛ قاصدا بها الانفراد، عالما بأن الله يطلع على خفيّات الفؤاد؛ فرحل ركابه العالى ونظام المملكة من حسن الهيئة قائم على ساق، وقلوب كفّال الممالك الشريفة متّفقة على الاتفاق؛ واثقا بأن للملك من أولياء بيته الشريف كلّ ولىّ عهد لا تخفر لديه الذمم، وكلّ سلطان أفق «3» تضؤل دون عزمه الهمم؛ يحمى بيضة خدره من كلّ متطاول إليها، ويقصّر أسباب الحرص من كلّ شأن «4» عليها؛ واختار الانفراد، وتيقّن أنّا لا نعدل عمّا أراد؛ ونصب عمد خيامه الشريفة على سفح روض الكرك النّضر، وحلّ منه رأس شاهقة نبتها خضر؛ ورغب فى الزهادة وشعارها، واستوت «5» عنده الدنيا فى حالتى إقبالها وإدبارها؛ فاقتضى اعتناؤنا الشريف أن نبلّغه من مآربه الشريفة أقصى المرام، وأن نساعده فى كلّ أمر يعرف منه الموافقة منّا على الدوام؛ وأن ننظم الأمر فى سلك الإرادة على مراده، وأن نبادر إلى راحة سرّه الشريف وفؤاده؛ ولسوف نعامل مقامه العالى بكلّ احترام يصل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 162 إليه تفصيلا وإجمالا، ونراعى معه أدب أسلافه الكرام حالا فحالا، وإنّا لا نخليه من تجهيز مثال يتضمّن من محاسنه سيرا وأمثالا، ولولا عرف السلطنة ونظام المملكة يقتضيان ذلك ما جهّزنا إلى بابه الشريف مثالا، فلذلك خرج الأمر الشريف بكذا وكذا. هذا ما اتفق إيراده فى هذا الفصل من رسائل الكتّاب، وكتّاب العصر- أعزّهم الله تعالى- كثير، وكلامهم مشهور، ومدوّن بأيدى الناس ومحفوظ فى صدورهم، ولم نشترط أن نورد لجميعهم فنلتزم الشرط، ولو فعلنا ذلك لطال الكتاب وخرج عن شرطه، وانما خصصنا هؤلاء بالذكر لتعلّقنا بهم، واتصال سببنا فى الوداد بسببهم. ذكر شىء من الأبيات الداخلة فى هذا الباب «1» فمن ذلك قول بعض الشعراء: إنّى لعظم تشوّقى ... وشديد وجدى واكتئابى أصبحت أحسد من يفو ... ز بقربكم حتى كتابى وقال آخر: وما تأخّر كتبى عنك من ملل ... طوبى «2» لودّك يا بن السادة النّجب لكن حسدت كتابى أن يراك وما ... أراك فاخترت إمساكى عن الكتب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 163 [وقال «1» آخر] : عقت الرسائل طامعا أن نلتقى ... فأبى الزمان يتيح لى ما أطلب وتأخّرت كتبى فقلت أعاتب ... فى ذاك أنت علىّ أم متعتّب «2» فإذا «3» وجدتك فى الضمير ممثّلا ... أبدا تناجينى إلى من أكتب وقال آخر: الكتب تكتب للبعي ... د وانت من قلبى قريب فإذا وجدتك فى الفؤا ... د فمن أكاتب أو أجيب وقال آخر: لو أنّ كتبى بقدر الشوق واصلة ... كانت إليك مع الأنفاس تتّصل لكنّنى والذى يبقيك لى أبدا ... على جميل اعتقادى فيك أتّكل وقال آخر: وفى الكتب نجوى من يعزّ لقاؤه ... وتقريب من لم يدن منه مزار فلم تخلنى «4» منها وتعلم أنّها «5» ... لعينى وقلبى قرّة وقرار وقال آخر: سألتك عوّذنى بكتبك إنّ لى ... شياطين شوق لا تفارق مضجعى إذا استرقت أسرار فكرى تمرّدا ... بعثت إليها فى الدجى شهب أدمعى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 164 وقال آخر: أتبخل بالقرطاس والخط عن أخ ... وكفّاك أندى بالعطايا من المزن لعمرى لقد قوّى جفاؤك ظنّتى ... وأوهن تأميلى وما كان ذا وهن وقال آخر: أظنّ القراطيس فى مصركم ... تخوّنها ريب دهر خؤون فلو أنها صفحات الخدو ... د يكتب فيها بماء الجفون لما أعوزتك ولكن جفوت ... فألقيت شأنى خلال الشؤون وقال المتنبّى فى جواب كتاب ورد عليه: بكتب الأنام كتاب «1» ورد ... فدت يد كاتبه كلّ يد يعبّر عما له عندنا ... ويذكر من شوقه ما نجد وقال أبو الفتح البستىّ: لمّا أتانى كتاب منك مبتسم ... عن كل فضل وبرّ غير محدود حكت معانيه فى أثناء أسطره ... آثارك البيض فى أحوالى السود وقال آخر: طلع الفجر من كتابك عندى ... فمتى باللقاء يبدو الصباح وقال آخر: ولمّا أتانى بعد هجر كتابكم ... وفيه شفاء الواله الدنف المضنى سررت به حتى توهّمت أنه ... كتابى وقد أعطيته بيدى اليمنى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 165 وقال آخر: نفسى الفداء لغائب عن ناظرى ... ومحلّه فى القلب دون حجابه لولا تمتّع مقلتى بلقائه ... لوهبتها لمبشّرى بكتابه وقال آخر: ورد الكتاب مبشّرا ... نفسى بأوقات «1» السرور وفضضته فوجدته ... ليلا على صفحات نور مثل السوالف والخدو «2» ... د البيض زينت بالشعور أنزلته منّى بمنزلة ... القلوب من الصدور وقال آخر فى كتاب عدم فلم يصل إليه: نبّئت أنّ كتابا ... أرسلته مع رسول ملأته منك طيبا ... فضاع قبل الوصول ومما يتصل بهذا الباب ويلتحق «3» به، ويحتاج الكاتب إلى معرفته والاطلاع عليه الحجّة البالغة والأجوبة الدامغة. فمن ذلك فى التنزيل قوله عزّ وجل: وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ* قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ. وقوله تعالى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً* أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى * ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى* فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى * أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 166 وقوله تعالى حكاية عن إبراهيم: وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ. وقوله تعالى: قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا. وقوله تعالى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ. وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ. وقوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ. وقال تعالى فى الدّلالة على إثبات نبوّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ* أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ، فإنه صلّى الله عليه وسلّم كان يعرف فى قريش بالصادق الأمين وقوله تعالى: قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ولمّا بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يا معشر قريش لو قلت لكم إنّ خيلا تطلّع عليكم من هذا الجبل كنتم تصدّقونى «1» ؟ قالوا: نعم؛ قال: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 167 فإنّى «نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ» فلمّا أقرّوا بصدقه خاطبهم بالإنذار، ودعاهم إلى الإسلام. فهذه حجج من الكتاب والسنّة لا جواب عنها ولمّا انتهى إلى علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه يوم السّقيفة أنّ الأنصار قالت: منّا أمير ومنكم أمير؛ قال علىّ: فهلّا احتججتم عليهم بأنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أوصى بأن يحسن إلى محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم؛ قالوا: وما فى هذا من الحجة عليهم؟ قال: لو كانت الإمارة فيهم لم تكن الوصيّة بهم. ولمّا قال الحباب بن المنذر فى يوم السّقيفة أيضا: أنا جذيلها «1» المحكّك وعذيقها «2» المرجّب، إن شئتم كررناها جذعة «3» ، منّا أمير ومنكم أمير، فإن عمل المهاجرىّ شيئا فى الأنصارىّ ردّه عليه الأنصارىّ، وإن عمل الأنصارىّ شيئا فى المهاجرىّ ردّه عليه المهاجرىّ؛ أراد عمر الكلام، فقال أبو بكر رضى الله عنه: على رسلك «4» ، نحن المهاجرين أوّل الناس إسلاما، وأوسطهم دارا، وأكرم الناس حسبا، وأحسنهم وجوها، وأكثر الناس ولادة «5» فى العرب، وأمسّهم رحما بالرسول صلّى الله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 168 عليه وسلّم، أسلمنا قبلكم، وقدّمنا فى القرآن عليكم، وأنتم إخواننا فى الدّين، وشركاؤنا فى الفىء، وأنصارنا على «1» على العدوّ، آويتم وواسيتم، فجزاكم الله خيرا، نحن الأمراء وأنتم الوزراء، لا تدين العرب الا لهذا الحىّ من قريش. قالوا: قد رضينا وسلّمنا. قال بعض اليهود لعلى رضى الله عنه: ما دفنتم «2» نبيّكم حتى اختلفتم؛ فقال: انما اختلفنا عليه «3» لا فيه، ولكنكم ما جفّت أرجلكم من البحر حتى قلتم لنبيّكم: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ. وقال حاطب بن أبى بلتعة: لما بعثنى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم الى المقوقس ملك الإسكندريّة بكتابه، أتيته وأبلغته الرسالة، فضحك ثم قال: كتب إلىّ صاحبك يسألنى أن أتّبعه على دينه، فما يمنعه إن كان نبيا أن يدعو الله فيسلّط علىّ البحر فيغرقنى فيكتفى مؤنتى، ويأخذ ملكى؟ قلت: ما منع عيسى عليه السلام إذ أخذته اليهود فربطوه فى حبل، وحلقوا وسط رأسه، وجعلوا عليه إكليلا من شوك، وحملوا خشبته التى صلبوه عليها على عاتقه، ثم أخرجوه وهو يبكى حتى نصبوه على الخشبة ثم طعنوه حيّا بحربة حتى مات- على زعمكم- فما منعه أن يدعو الله فينجيه ويهلكهم، ويكتفى مؤنتهم، ويظهر هو وأصحابه عليهم؟ وما منع يحيى بن زكريّا حين سألت امرأة الملك الملك أن يقتله فقتله وبعث برأسه اليها حتى وضع بين يديها أن يسأل الله أن يحميه ويهلكهم؟ فأقبل على جلسائه وقال: والله إنه لحكيم، وما تخرج الحكم إلّا من عند الحكماء. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 169 وخطب معاوية بن أبى سفيان ذات يوم وقال: إن الله تعالى يقول: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) فما نلام نحن؛ فقام اليه الأحنف بن قيس فقال له: يا معاوية، إنا والله ما نلومك على ما فى خزائن الله، وإنّما نلومك على ما آثرك الله [به «1» ] «2» علينا من خزائنه فأغلقت بابك دونه. وقال معاوية لرجل من اليمن: ما كان أحمق قومك حين ملّكوا عليهم امرأة! قال: قومك أشدّ حماقة إذ قالوا: «اللهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السّماء أو ائتنا بعذاب أليم» أفلا قالوا: اهدنا له. وقيل: مرّت امرأة من العرب بمجلس من مجالس بنى نمير، فرماها جماعة منهم بأبصارهم، فوقفت ثم قالت: يا بنى نمير، لا أمر الله تعالى أطعتم، ولا قول الشاعر سمعتم، قال الله تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) وقال الشاعر «3» : فغضّ الطرف إنّك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا فما اجتمع منهم بعد ذلك اثنان فى مجلس. وقيل: استعمل عتبة بن أبى سفيان رجلا من أهله على الطائف، فظلم رجلا من أزد شنوءة، فأتى الأزدىّ عتبة فقال: أمرت من كان مظلوما ليأتيكم ... فقد أتاكم غريب الدار مظلوم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 170 ثم ذكر ظلامته، فقال عتبة: إنّى أرى أعرابيّا جافيا، والله ما أحسبك تدرى كم تصلّى فى اليوم والليلة؛ فقال: إن أنبأتك ذلك تجعل لى عليك مسألة؟ قال: نعم؛ فقال الأعرابىّ: إنّ الصلاة أربع وأربع ... ثم ثلاث بعدهنّ أربع ثم صلاة الفجر لا تضيّع قال: صدقت فاسأل؛ فقال: كم فقار ظهرك؟ فقال: لا أدرى؛ قال: أفتحكم بين الناس وأنت تجهل هذا من نفسك؟ فأمر بردّ ظلامته عليه. وقال الحجّاج بن يوسف ليحيى بن سعيد بن العاصى «1» : بلغنى أنّك تشبه إبليس فى قبح وجهك؛ قال: وما ينكر الأمير من أن يكون سيّد الإنس يشبه سيّد الجنّ؟. وقال لسعيد بن جبير: اختر لنفسك أىّ قتلة شئت؛ قال: اختر أنت فإنّ القصاص أمامك. وحكى أن حويطب «2» بن عبد العزّى بلغ عشرين ومائة سنة، ستين فى الجاهليّة وستين فى الإسلام، فلما ولى مروان بن الحكم المدينة دخل عليه حويطب، فقال له مروان: لقد تأخّر إسلامك أيها الشيخ حتى سبقك «3» الاحداث؛ فقال: والله لقد «4» هممت الجزء: 8 ¦ الصفحة: 171 بالإسلام غير مرّة كلّ ذلك يعوقنى أبوك عنه «1» وينهانى، ويقول: أتدع دين آبائك «2» [لدين «3» محدث] ؟! أما أخبرك عثمان ما كان قد لقى من أبيك حين أسلم. وقيل: لمّا ظفر الحجّاج بابن الأشعث وأصحابه أمر بضرب أعناقهم، حتى أتى على رجل من تميم، فقال التميمىّ: أيها الأمير، والله لئن «4» أسأنا فى الذنب ما «5» أحسنت فى العقوبة؛ فقال الحجاج: وكيف ذاك؟ قال: لأنّ الله تعالى يقول: (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) فو الله ما مننت ولا فاديت «6» ؛ فقال الحجّاج: أفّ «7» لهذه الجيف، أما كان منهم من يحسن مثل هذا؟ وأمر بإطلاق من بقى وعفا عنهم. وحكى أن الرشيد سأل موسى بن جعفر فقال: لم قلتم إنّا ذرّيّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وجوّزتم للناس أن ينسبوكم اليه ويقولوا: يا [بنى «8» ] نبىّ الله وأنتم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 172 بنو علىّ، وانما ينسب الرجل إلى أبيه دون جدّه؛ فقرأ «1» : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ) وليس لعيسى أب، وانما لحق بذرّيّة الأنبياء من قبل أمّه؛ وكذلك ألحقنا بذرّيّة الرسول صلّى الله عليه وسلّم من قبل أمّنا فاطمة- عليها السلام- وأزيدك يا أمير المؤمنين، قال الله تعالى: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) ولم يدع صلّى الله عليه وسلّم فى مباهلة «2» النصارى غير فاطمة والحسن والحسين «3» ، وهما «4» الأبناء. قيل: لما ولّى يحيى بن أكثم قضاء البصرة استصغر الناس سنّه، فقال له رجل: كم سنّ القاضى- أعزّه الله-؟ فقال: سنّ عتّاب «5» بن أسيد حين ولّاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قضاء مكّة. فجعل جوابه احتجاجا. قال يزيد بن عروة: لمّا مات كثير لم تتخلّف بالمدينة امرأة ولا رجل عن جنازته، وغلب النساء عليها، وجعلن يبكينه ويذكرن عزّة فى ندبهنّ له؛ فقال الجزء: 8 ¦ الصفحة: 173 أبو جعفر محمد بن علىّ الباقر: أفرجوا «1» لى عن جنازة كثيّر لأرفعها، فجعلنا ندفع النساء عنها ومحمد بن علىّ يقول: تنحّين يا صويحبات يوسف؛ فانتدبت له امرأة منهن فقالت: يا بن رسول الله، لقد صدقت، إنّا لصويحباته، ولقد كنّا له خيرا منكم له؛ فقال أبو جعفر [لبعض مواليه «2» ] : احتفظ بها حتى تجيئنى «3» بها إذا انصرفت؛ قال: فلما انصرف أتى بها وكأنّها شررة النار؛ فقال لها محمد بن علىّ: إيه «4» ، أنت القائلة: إنّكنّ ليوسف خير منّا؟ قالت: نعم، تؤمّننى غضبك يا بن رسول الله؟ فقال: أنت آمنة من غضبى فأنبئينى؛ فقالت: نحن دعوناه إلى اللّدّات من المطعم والمشرب والتمتّع والتنعّم، وأنتم معاشر الرجال ألقيتموه فى الجبّ وبعتموه بأنجس الأثمان، وحبستموه فى السجن؛ فأيّنا كان عليه أحنى، وبه أرأف؟ فقال محمد: لله درّك! لن تغالب امرأة إلّا غلبت؛ ثم قال لها: ألك بعل؟ فقالت: لى من الرجال من أنا بعله؛ فقال أبو جعفر: ما أصدقك! مثلك من تملك الرجل «5» ولا يملكها؛ فلمّا انصرفت قال رجل من القوم: هذه فلانة «6» بنت معقب «7» . وقال المأمون ليحيى بن أكثم: من الذى يقول: قاض يرى الحدّ فى الزناء ولا ... يرى على من يلوط من باس الجزء: 8 ¦ الصفحة: 174 فقال: يا أمير المؤمنين، هو «1» الذى يقول: شاهدنا «2» يرتشى وحاكمنا ... يلوط والراس شرّ ما راس لا أحسب الجور ينقضى و «3» على الأمّة ... وال من آل عبّاس قال ومن هو؟ قال: أحمد بن [أبى «4» ] نعيم؛ فأمر بنفيه إلى السّند «5» . وحكى أنّ أهل الكوفة تظلّموا إلى المأمون من عامل ولّاه عليهم؛ فقال: ما علمت فى عدد عمّالى أعدل ولا أقوم بأمر الرعيّة ولا أعود بالرفق عليهم منه؛ فقام رجل من القوم فقال: يا أمير المؤمنين، ما أحد أولى بالعدل والإنصاف منك، فاذا كان الأمر على هذه الصفة فينبغى أن تعدل فى ولايته بين أهل البلدان، وتسوّى بنا «6» أهل الأمصار، حتى يلحق أهل كلّ بلد من عدله وإنصافه مثل الذى لحقنا، فاذا فعل أمير المؤمنين ذلك فلا يخصّنا منه أكثر من ثلاث سنين؛ فضحك المأمون وعزل العامل عنهم. ولنصل هذا الفصل بذكر هفوات الأمجاد وكبوات الجياد «7» وقد رأيت بعض أهل الأدب ممن يستحقّ الأدب تعرّض فى هذا الفصل الى ذكر قصص الجزء: 8 ¦ الصفحة: 175 الأنبياء- صلوات الله عليهم- كآدم ويوسف وداود وسليمان فكرهت ذلك منه، ونزّهت كتابى عنه- قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ فكانت هذه هفوة من المسلمين غفرها الله وعفا عنها. وقال الأحنف بن قيس: الشريف من عدّت سقطاته. وقال النابغة: ولست بمستبق أخا لا تلمه ... على شعث «1» أىّ الرجال المهذّب وقالوا: كلّ صارم ينبو، وكلّ جواد يكبو. وكان الأحنف بن قيس حليما سيّدا يضرب به المثل، وقد عدّت له سقطات فمن ذلك أنه نظر الى خيل لبنى مازن فقال: هذه خيل ما أدركت بالثار، ولا نقصت الأوتار «2» ؛ فقال له سعيد بن القاسم المازنىّ: أمّا يوم قتلت أباك فقد أدركت بثارها؛ فقال الأحنف: لشىء ما قيل: «دع الكلام حذر الجواب» - وكانت بنو مازن قتلت [أبا «3» ] الأحنف فى الجاهليّة. ومنها أنه لمّا خرج مع مصعب بن الزبير أرسل اليه مائة ألف درهم، ولم يرسل الى زبراء «4» جاريته بشىء، فجاءت حتى وقفت بين يدى الأحنف، ثم أرسلت عينيها؛ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 176 فقال لها: ما يبكيك؟ فقالت: ما لى لا أبكى عليك إذ لم تبك على نفسك، أقعدتها وتذر مرو الرّوذ «1» تجمع بين غارين «2» من المسلمين؛ فقال: نصحتنى والله فى دينى إذ لم أتنبّه لذلك؛ ثم أمر بفسطاطه فقوّض، فبلغ ذلك مصعبا فقال: ويحكم، من دهانى فى الأحنف؟ فقيل: زبراء، فبعث إليها بثلاثين ألف درهم، فجاءت حتى أرخت عينيها بين يديه؛ فقال: ما لك يا زبراء؟ قالت: عجبت لأحوالك فى «3» أهل البصرة، تزفّهم كما تزفّ العروس، حتى اذا ضربت بهم فى نحور أعدائهم أردت أن تفتّ فى أعضادهم؛ قال: صدقت والله، يا غلام دع الفساطيط؛ فاضطرب العسكر بمجىء «4» زبراء مرّتين. ومن سقطاته التى عدّت عليه أن عمرو بن الأهتم «5» دسّ إليه رجلا ليسفّهه، فقال له: يا أبا بحر، من كان أبوك فى قومه؟ قال: كان من أوسطهم، لم يسدهم ولم يتخلّف عنهم؛ فرجع إليه ثانية، ففطن الأحنف إلى أنه من قبل عمرو، فقال: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 177 ما كان مال أبيك؟ قال: كانت له صرمة «1» يمنح منها ويقرى، ولم يكن أهتم سلّاحا. وقيل: إن الحسن «2» سئل عن قوله تعالى: (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) فقال: إن كان لسريّا، وإن كان لكريما؛ فقيل له: من هو؟ قال: المسيح؛ فقال له حميد «3» بن عبد الرحمن: أعد نظرا، إنما السرىّ: الجدول؛ فأنعم «4» له، وقال: يا حميد، غلبنا عليك الأمراء. ومات ولد طفل لسليمان «5» بن علىّ، فأتاه الناس بالبصرة يعزّونه وفيهم شبيب بن شيبة وبكر «6» بن حبيب السّهمىّ؛ فقال شبيب: أليس يقال: إنّ الطفل لا يزال الجزء: 8 ¦ الصفحة: 178 محبنظئا «1» بباب الجنّة حتى يدخل أبواه؟ فجاء بظاء معجمة؛ فقال له بكر «2» بن حبيب: محبنطئا، بطاء مهملة؛ فقال شبيب: إلّا أنّ من بين لابتيها يعلم أنّ القول كما أقول «3» ؛ فقال بكر: وخطأ ثان، ما للبصرة لابتان «4» ، أذهبت إليه «5» بالمدينة؟. (من بين لابتيها: أى «6» حرتيها) . قيل: جلس محمد بن عبد الملك» يوما للمظالم، وحضر فى جملة الناس رجل زيّه زىّ الكتّاب، فجلس بإزاء محمد، ومحمد ينقد الأمور وهو لا يتكلّم، ومحمد يتأمّله؛ فلما خفّ المجلس قال له: ما حاجتك؟ قال: جئتك- أصلحك الله- متظلّما؛ قال: ممّن؟ قال: منك، ضيعة لى فى يد وكيلك يحمل إليك غلّتها، ويحول بينى وبينها؛ قال: فما تريد؟ قال: تكتب بتسليمها إلىّ؛ قال: هذا يحتاج فيه إلى شهود وبيّنة وأشياء كثيرة؛ فقال له الرجل: الشهود هم البيّنة، وأشياء كثيرة عىّ منك؛ فخجل محمد وهاب الرجل، وكتب له بما أراد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 179 ووصف ذو «1» الرّمّة لعبد «2» الملك بن مروان بالذكاء وحسن الشعر، فأمر بإحضاره، فلما دخل عليه أنشده قصيدة أفتتحها بقوله: «ما بال عينك منها الماء ينسكب» وكانت عينا عبد الملك تدمعان دائما، فظنّ أنه عرّض به، فغضب وقال: مالك ولهذا السؤال يا بن اللّخناء؟ وقطع إنشاده، وأمر بإخراجه. ودخل أبو النجم «3» على هشام بن عبد الملك وأنشده أرجوزته التى أوّلها: «الحمد لله الوهوب المجزل «4» » حتى انتهى إلى قوله يصف الشمس عند الغروب: «وهى على الأفق كعين الأحول» ، واستدرك سقطة لسانه، وقطع إنشاده، وعلم أنها زلّة، لأنّ هشاما كان أحول، فقال له هشام كمّل إنشادك ويلك وأتمم البيت، وأمر بوجء «5» عنقه وإخراجه من الرّصافة «6» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 180 قال المدائنىّ: كان رجل من ولد عبد الرحمن بن سمرة أراد الوثوب بالشام فى زمن المهدىّ، فأخذ وحمل إليه، فلمّا مثل بين يديه اعتذر، فرأى منه المهدىّ نبلا وفضلا، فعفا عنه وخلطه بجلسائه؛ ثم قال له يوما: أنشدنى شيئا من شعر زهير، فأنشده قصيدته التى أوّلها: «لمن الديار بقنّة «1» الحجر» حتى أتى على آخرها؛ فقال المهدىّ: مضى من يقول مثل هذا؛ فقال السّمرىّ: وذهب والله من يقال «2» فيه مثله؛ فاستشاط «3» المهدىّ غضبا، وأمر أن يجرّ برجله، وألّا يؤذن له بعدها. ولنختم ما ذكرناه من أمر كتابة الإنشاء بشىء من الحكم. ذكر شىء من الحكم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الحكمة ضالّة المؤمن» . وقال علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: لكلّ جواد كبوه، ولكلّ حكيم هفوه؛ ولكلّ نفس ملّة «4» ، فاطلبوا لها طرائف الحكمة. ومن الحديث النبوىّ- صلوات الله تعالى وسلامه على قائله- ممّا يدخل فى هذا الفصل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «كرم الرجل دينه، ومروءته عقله، وحسبه عمله» . «خير الأمور أوسطها» «5» . «كلّ ميسّر لما خلق له» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 181 «زر غبّا تزدد حبّا» . «الوحدة خير من قرين السوء» . «البركة فى الحركة» . «صلوا أرحامكم ولو بالسلام» . «من كثر سواد قوم فهو منهم» . «ما قلّ وكفى خير مما كثر وألهى» . «ليس الغنى عن كثرة العرض، إنّما الغنى غنى النفس» . وقال أبو بكر الصّدّيق- رضى الله عنه-: صنائع المعروف تقى مصارع السوء. وقال علىّ بن أبى طالب: استغن عمّن شئت فأنت نظيره، واحتج إلى من شئت فأنت أسيره، وأفضل على من شئت فأنت «1» أميره. قال بعض الشعراء: وإذا ما الرجاء أسقط بين الناس ... فالناس كلّهم أكفاء وقال لقمان لابنه: ثلاثة لا يعرفون إلّا فى ثلاثة مواضع: لا يعرف الحليم إلّا وقت الغضب، ولا الشجاع إلا فى الحرب اذا لاقى الأقران، ولا أخوك إلا عند حاجتك. وقال عمر بن الخطّاب رضى الله تعالى عنه: أحبّكم إلينا قبل أن نختبركم «2» أحسنكم صمتا، فإذا تكلّم فأبينكم منطقا، فإذا اختبرناكم فأحسنكم فعلا. وفى رواية: أحبّكم إلينا أحسنكم اسما، فإذا رأيناكم فأجملكم منظرا، فإذا اختبرناكم فأحسنكم مخبرا. وخطب علىّ رضى الله عنه يوما فقال فى خطبته: وأعجب ما فى الإنسان قلبه، له أمداد «3» من الحكمة، وأضداد من خلافها، فإذا سنح له الرجاء هاج به الجزء: 8 ¦ الصفحة: 182 الطمع، وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص، وإن ملكه اليأس قتله الأسف، وإن عرض له الغضب اشتدّ به الغيظ، وإن أسعد بالرضا نسى التحفّظ، وإن ناله الخوف شغله الحزن، وإن أصابته مصيبة قصمه الجزع، وإن أفاد ما لا أطغاه الغنى، وإن عضّته فاقة شغله البلاء، وإن جهده الجوع أقعده الضعف، فكلّ تقصير به مضرّ، وكلّ إفراط له مفسد. ومن كلامه- رضى الله عنه-: فرض الله تعالى الإيمان تطهيرا من الشّرك، والصّلاة تنزيها عن الكبر، والزكاة سببا للرزق، والصيام ابتلاء لإخلاص الخلق، والحجّ تقوية للبدن، والجهاد عزّ للإسلام، والأمر بالمعروف مصلحة للعوامّ «1» ، والنهى عن المنكر ردعا للسفهاء، وصلة الرحم منماة للعدد، والقصاص حقنا للدماء، وإقامة الحدود إعظاما للمحارم، وترك شرب الخمر تحصينا للعقل، ومجانبة السرقة إيجادا «2» للعفّة، وترك الزنى تصحيحا للنّسب، وترك اللواط تكثيرا للنسل، والشهادات استظهارا على المجاحدات، وترك الكذب تشريفا للصدق، والسلام أمانا من المخاوف، والإمامة نظاما للأمّة، والطاعة تعظيما للإمامة «3» . وقال فرفوريوس «4» : لو تميزت الأشياء بأشكالها لكان الكذب مع الجبن، والصدق مع الشجاعة، والراحة مع اليأس، والتعب مع الطمع، والحرمان مع الحرص، والعزّ مع القناعة، والأمن «5» مع العفاف، والسلامة مع الوحدة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 183 وقال آخر: الشكر محتاج إلى القبول، والحسب محتاج إلى الأدب، والسرور محتاج إلى الأمن «1» ، والقرابة محتاجة إلى المودّة، والمعرفة محتاجة إلى التجارب، والشرف محتاج إلى التواضع، والنّجدة محتاجة إلى الجدّ. وقال حكيم يونانىّ: السعادات كلّها فى سبعة أشياء: حسن الصورة، وصحّة الجسم، وطول العمر، وكثرة العلم، وسعة ذات اليد، وطيب الذكر، والتمكّن من الصديق والعدوّ. وقال بعض الأدباء- وقد سئل عن العيش- فقال: فى الغنى فإنى رأيت الفقير لا يلتذّ بعيش أبدا؛ فقال له السائل: زدنى، قال: فى الصحّة، فإنى رأيت المريض لا يلتذّ بعيش أبدا؛ فقال له: زدنى، قال: فى الأمن، فإنى رأيت الخائف لا يلتذّ بعيش أبدا؛ قال: زدنى؛ قال: لا أجد مزيدا. وهذا الكلام مأخوذ من قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أصبح آمنا فى سربه «2» ، معافى فى بدنه، عنده «3» قوت يومه، فكأنّما حيزت له الدنيا بحذافيرها» . وقال فيلسوف: كثير من الأمور لا تصلح إلّا بقرنائها: لا ينفع العلم بغير ورع، ولا الحفظ بغير عقل، ولا الجمال بغير حلاوة، ولا الحسب بغير أدب، ولا السرور بغير أمن، ولا الغنى بغير كفاية، ولا الاجتهاد بغير توفيق. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 184 وقالوا: المنظر يحتاج إلى القبول، والحسب إلى الأدب، والسرور إلى الأمن، والقربى إلى المودّة، والمعرفة إلى التجارب، والشرف إلى التواضع، والنجدة إلى الجدّ «1» . وقال علىّ رضى الله عنه: يغلب المقدار على التقدير، حتى تكون الآفة فى التدبير. أخذه ابن الرومىّ فقال: غلط الطبيب علىّ غلطة مورد ... عجزت موارده «2» عن الإصدار والناس يلحون الطبيب وإنّما ... غلط الطبيب إصابة المقدار وقال: اذا انقضت المدّه، كان الهلاك فى العدّة. وقال القدماء: لا خير فى القول إلّا مع الفعل، ولا فى المنظر إلّا مع المخبر، ولا فى المال إلّا مع الجود، ولا فى الصديق إلّا مع الوفاء، ولا فى الفقه إلّا مع الورع، ولا فى الصدقة إلّا مع حسن النيّة، ولا فى الحياة إلّا مع الصحّة، ولا فى السرور إلّا مع الأمن. قال بعض بنى تميم: حضرت مجلس الأحنف بن قيس وعنده قوم مجتمعون، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الكرم، منع الحرم؛ ما أقرب النّقمة من أهل البغى! لا خير فى لذّة تعقب ندما؛ لن يهلك من قصد، ولن يفتقر من زهد؛ ربّ هزل قد عاد جدّا؛ من أمن الزمان خانه، ومن تعظّم عليه أهانه؛ دعوا المزاح فإنه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 185 يؤرّث «1» الضغائن؛ وخير القول ما صدّقه الفعل؛ احتملوا من أدلّ عليكم، واقبلوا عذر من اعتذر إليكم؛ أطع أخاك وإن عصاك، وصله وإن جفاك؛ أنصف من نفسك قبل أن ينتصف منك؛ وإيّاكم ومشاورة النساء؛ واعلم أنّ كفر النعمة لؤم، وصحبة الجاهل شؤم؛ ومن الكرم، الوفاء بالذمم؛ ما أقبح القطيعة بعد الصّلة؛ والجفاء بعد اللّطف، والعداوة بعد الودّ! لا تكوننّ على الإساءة أقوى منك على الإحسان، ولا إلى البخل أسرع منك إلى البذل؛ واعلم أنّ لك من دنياك، ما أصلحت به مثواك، فأنفق فى حقّ ولا تكوننّ خازنا لغيرك؛ واذا كان الغدر موجودا فى الناس فالثقة بكلّ أحد عجز؛ اعرف الحقّ لمن عرفه لك؛ واعلم أنّ قطيعة الجاهل، تعدل صلة العاقل، قال: فما رأيت كلاما أبلغ منه، فقمت وقد حفظته. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. ومن كلام علىّ رضى الله عنه: من أبصر عيب نفسه شغل عن عيب غيره؛ ومن سلّ سيف البغى قتل به؛ ومن حفر لأخيه بئرا وقع فيها؛ ومن هتك حجاب أخيه انهتكت عورات بيته «2» ؛ ومن نسى خطيئته استعظم خطيئة غيره، ومن تكبّر على الناس زلّ؛ ومن سفه على الناس شتم؛ ومن خالط العلماء وقّر، ومن خالط الأنذال حقر؛ ومن أكثر من شىء عرف به؛ والسعيد من وعظ بغيره؛ وليس مع قطيعة الرحم تقى، ولا مع الفجور غنى؛ رأس العلم الرفق، وآفته الخرق؛ كثرة الزيارة تورث الملالة. وقال موسى بن جعفر: ما تسابّ «3» اثنان إلّا انحطّ الأعلى إلى مرتبة الأسفل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 186 وقال آخر: ما تسابّ اثنان إلا غلب ألأمهما. وقال الحسن بن علىّ بن موسى الرّضا: اعلم أن للحباء «1» مقدار فإن زاد عليه فهو سرف، وللحزم مقدارا فإن زاد عليه فهو جبن، وللاقتصاد مقدارا فإن زاد عليه فهو بخل. قال مهدىّ بن أبان: قلت لولّادة العبديّة- وكانت من أعقل النساء-: إنّى أريد الحج فأوصينى، قالت: أوجز فأبلغ، أم أطيل فأحكم؟ فقلت: ما شئت؛ فقالت: جد تسد، واصبر تفز؛ قلت: أيضا؛ قالت: لا يبعد غضبك حلمك، ولا هواك علمك؛ وق دينك بدنياك، وق عرضك بعرضك؛ وتفضّل تخدم، واحلم تقدّم؛ قلت: فبمن أستعين؟ قالت: بالله؛ قلت: من الناس؛ قالت: الجلد النشيط، والصالح الأمين؛ قلت: فمن أستشير؟ قالت: المجرّب الكيّس، أو الأديب الأريب؛ قلت: فمن أستصحب؟ قالت: الصديق المسلّم، أو المؤاخى «2» المتكرّم؛ ثم قالت: يا بناه، إنك تفد إلى ملك الملوك فانظر كيف يكون مقامك بين يديه. وقال حكيم: من الذى بلغ جسيما فلم يبطر «3» ، واتّبع الهوى فلم يعطب؛ وجاور النساء فلم يفتتن، وطلب إلى اللئام فلم يهن، وواصل الأشرار فلم يندم، وصحب السلطان فدامت سلامته. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 187 وقال: الاعتبار يفيدك «1» الرشاد، وكفاك أدبا لنفسك ما كرهت من غيرك. وكان يقال: عليكم بالأدب فإنه صاحب فى السّفر، ومؤنس فى الوحدة، وجمال فى المحفل، وسبب إلى طلب الحاجة. وقال بعضهم: احذر كلّ الحذر من أن يخدعك «2» الشيطان فيمثّل لك التوانى فى صورة التوكّل، ويورثك الهوينى «3» بالإحالة على القدر، فإن الله تعالى أمر بالتوكّل عند انقطاع الحيل، وبالتسليم للقضاء بعد الإعذار، فقال تعالى: «خُذُوا حِذْرَكُمْ» * «وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» . وقال آخر: لا تجاهد الطلب جهاد الغالب، ولا تتّكل على القدر اتّكال المستسلم، فإنّ ابتغاء الفضل «4» من السنّة، والإجمال فى الطلب من العفّة، وليست العفّة بدافعة رزقا، ولا الحرص بجالب فضلا. وقالوا: عشر خصال فى عشرة أصناف أقبح منها فى غيرهم: الضيق فى الملوك، والغدر فى الأشراف، والكذب فى القضاة، والخديعة فى العلماء، والغضب فى الأبرار، «5» والحرص فى الأغنياء، والسّفه «6» فى الشيوخ، والمرض فى الأطبّاء، والزّهو فى الفقراء، والفجور فى القرّاء «7» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 188 وقالوا: ثمانية إذا أهينوا «1» فلا يلوموا إلّا أنفسهم: الآتى طعاما لم يدع إليه، والمتأمّر على ربّ البيت فى بيته، وطالب المعروف «2» من غير أهله، وراج منن الفضل من اللئام، والداخل بين اثنين لم يدخلاه، والمستخفّ بالسلطان، والجالس مجلسا ليس له بأهل، والمقبل بحديثه على من لا يسمعه. ومن الأبيات المناسبة لهذا الفصل قول الأضبط بن قريع: لكلّ ضيق من الهموم سعه ... والمسى والصبح لا بقاء معه فصل حبال البعيد إن وصل ال ... حبل وأقص القريب إن قطعه وخذ من الدهر ما أتاك به ... من قرّ عينا بعيشه نفعه لا تحقرنّ «3» الفقير علّك أن ... تركع «4» يوما والدهر قد رفعه قد يجمع المال غير آكله ... ويأكل المال غير من جمعه وقال أحيحة: فما يدرى الفقير متى غناه ... ولا يدرى الغنىّ متى يعيل «5» ولا تدرى إذا أزمعت أمرا ... بأىّ الأرض يأتيك المقيل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 189 وقال الصّلتان العبدىّ «1» : أشاب الصغير وأفنى الكبير ... كرّ «2» الغداة ومرّ العشى إذا ليلة هرّمت «3» يومها ... أتى بعد ذلك يوم فتى نروح ونغدو لحاجتنا ... وحاجة من عاش لا تنقضى تموت مع المرء حاجاته ... وتبقى له حاجة ما بقى وقال المتنبّى: ذكر الفتى عمره الثانى وحاجته ... ما قاته وفضول العيش أشغال وقد جمع من شعر أبى الطيّب فى ذلك ما وافق كلام أرسطوطاليس فى الحكمة؛ فمن ذلك قول أرسطوطاليس: إذا كانت الشهوة فوق القدرة كان هلاك الجسم «4» دون بلوغ الشهوة. قال المتنبّى: وإذا كانت النفوس كبارا ... تعبت فى مرادها الأجسام وقال أرسطوطاليس: قد يفسد العضو لصلاح أعضاء، كالكىّ والفصد اللّذين يفسدان الأعضاء لصلاح غيرها. نقله المتنبّى إلى شعره فقال: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 190 لعلّ عتبك محمود عواقبه ... فربّما صحّت الأجساد بالعلل وقال أرسطوطاليس: الظلم من طبع النفوس، وإنما يصدّها عن ذلك إحدى علّتين: إمّا علّة دينيّة خوف معاد، أو علّة سياسيّة خوف سيف قال المتنبّى: والظلم من شيم النفوس فإن تجد ... ذا عفّة فلعلّة لا يظلم هذا ما اتفق إيراده فى هذا الباب من أمر كتابة الإنشاء، وكلام الصحابة والخلفاء، وذوى الفصاحة من الأمراء، وبلاغات الخطباء والفصحاء، ورسائل الفضلاء والبلغاء، وفقر الكتّاب والأدباء، وحكم أوائل الحكماء؛ وهو ممّا يضطرّ الكاتب إليه، ويعتمد فى الاطلاع على ما خفى من أمر هذه الصناعة عليه؛ وهى إشارات إلى مجموعها، ورشفات من ينبوعها؛ وباب يتوصّل منه إلى رحابها، وسلّم يرتقى عليه إلى هضابها، ومسيل عذب يتّصل بعبابها؛ فقد وضح لك أيّها الطالب السبيل، وظهر لك أيّها الراغب قيام الدليل؛ وفيما أوردناه كفاية لمن تمسّك بهذه الصناعة ورغب فيها، وغنية لمن تأمّل مقاصدها وتدبّر معانيها؛ فلنذكر كتابة الديوان والتصرّف. ذكر كتابة الديوان وقلم التصرف وما يتصل بذلك قد ذكرنا فى أوّل هذا الباب فى السفر السابع من هذا الكتاب اشتقاق الكتابة، ولم سمّيت بذلك، وذكرنا أيضا أصلها وشرفها وفوائدها، فلا حاجة إلى إعادته فى هذا الموضع، فلنذكر الآن ما يتعلّق بقلم الديوان والتصرّف والحساب؛ وإن كنا قدّمنا ذكر كتّاب الإنشاء لما هم بصدده من الصدارة والوجاهه، والنبالة والنباهه؛ والفصاحة والصباحه، والنزاهة والسماحه؛ والأمانة والديانه، والسيادة والصيانه؛ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 191 ولما تصدّوا له من كتم أسرار الدّول، وتردّوا به من محاسن الأواخر ومآثر الأول، والتحفوا به من مطارف الفضائل والمكارم، وتحلّوا به من صفات الأفاضل والأكارم؛ الى غير ذلك من مناقبهم الجمّه، وأياديهم التى وضحت غررا فى ليالى الخطوب المدلهمّه؛ فكتّاب الحساب أكثر تحقيقا، وأقرب إلى ضبط الأموال طريقا، وأدلّ برهانا، وأوضح بيانا، قال الله تعالى فى كتابه العزيز: لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا وذهب بعض المفسرين لكتاب الله تعالى فى قوله تعالى إخبارا عن يوسف عليه السلام: قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ، أى كاتب حاسب. وروى البخارىّ عن أبى حميد الساعدىّ قال: «استعمل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلا من الأسد «1» على صدقات بنى سليم يدعى ابن اللّتبيّة «2» فلمّا جاء حاسبه» فقد صحّ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حاسب؛ وبكتّاب الحساب تحفظ الأموال وتضبط الغلال؛ وتحدّ قوانين البلاد؛ وتميّز الطوارف من التّلاد؛ لم يفخر كتّاب الإنشاء بمنقبة إلا فخروا بمناقب، ولا سموا إلى مرتبة إلّا وقد رقوا إلى مراتب؛ ولا تميّزوا برسالة «3» إلّا ولهؤلاء فيها القدح المعلّى، ولا نسبوا إلى نباهة إلّا ومحلّهم فيها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 192 المحلّ الأرفع ومقامهم المقام الأعلى؛ ولا اتصفوا بكتمان سرّ إلّا اتصف هؤلاء بمثله، ولا شهروا ببذل برّ إلا وهؤلاء هم أعيان أهله؛ ثم اختصّ كتّاب التصرف بأمور منع أولئك منها، وأطلقت أقلامهم فى أقلام «1» حبست أقلام أولئك عنها؛ وارتقوا إلى قلل مراتب كبت جيادهم عن إدراك غايتها، وتسنّموا ذرا مناصب لا تمتدّ الآمال «2» إلى أكثر من نهايتها؛ ولسنا نقيمهم فى محلّ المناظره، ولا نوقفهم فى موقف المكاثرة والمفاخره؛ بل لكلّ طائفة فضل لا ينكر، وفضائل هى أشهر من أن تملى وتسطّر؛ ولمّا انتهيت فى كتابى هذا إلى باب الكتابة، أردت أن أضرب عن ذكر كتابة التصرّف صفحا، ولا أعيرها من النظر لمحا، وأقتصر على كتابة الإنشاء جريا على عادة من صنّف، وقاعدة من ألف؛ فسألنى بعض إخوانى أن أضع فى ذلك ملخّصا يعلم منه المباشر كيف المباشره، ويستضىء به فيما يسترفعه «3» أو يرفعه من ضريبة وموافره «4» ؛ فأوردت «5» هذه النّبذة إزالة «6» لسؤاله، وتحقيقا لآماله؛ وذكرت من صناعة الكتابة ما هو بالنسبة الى مجموعها قطرة من بحرها، وشذرة من عقود درّها؛ ممّا «7» لا بدّ للمبتدى من الإحاطة بعلمه، والوقوف عند رسمه؛ وحين وضعت ما وضعت من هذه الصناعة لم أقف قبل ذلك على كتاب فى فنّها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 193 مصنّف، ولا انتهيت إلى فصل «1» مترجم بها أو مؤلّف؛ ولا لمحت فى ذلك إشاره، ولا سمعت من لخّص فيها عباره؛ ولا من تفوّه فيها ببنت شفة ولسان، ولا من صرّف ببنان «2» بلاغته فى ميادينها العنان؛ حتى أقتدى بمثاله، وأنسج «3» على منواله؛ وأسلك طريقه فى الإجاده، وأحذو حذوه فى الإفاده؛ بل وجدتها مقفلة الباب، مسبلة الحجاب؛ قد اكتفى كلّ كاتب فيها بعلمه، واقتصر على حسب فهمه؛ فراجعت فيها الفكره، وعطفت بالكرّة بعد الفرّه؛ ثم قرعت بابها ففتح بعد غلقه «4» ، ورفعت حجابها ففتق بعد رتقه؛ وامتطيت صهوتها «5» فلانت بعد جماحها، وارتقيت ذروتها فظهر للفكرة طريق نجاحها؛ فشرعت عند ذلك فى تأليف ما وضعته «6» ، وترصيف «7» ما صنّفته؛ وبدأت باشتقاق تسمية الديوان، ولم سمّى ديوانا، ثم ذكرت ما تفرّع من كتابة الديوان من أنواع الكتابات، وأوّل ديوان وضع فى الإسلام، وسبب وضعه، ثم ذكرت ما يحتاج اليه كلّ مباشر من كيفيّة المباشرة وأوضاعها، وما استقرّت عليه القواعد العرفيّة، والقوانين الاصطلاحيّة، وما يرفعه كلّ مباشر ويسترفعه «8» ، والأوضاع الحسابية، على ما ستقف إن شاء الله تعالى عليه، وترجع فيما أشكل من أمورها إليه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 194 ذكر اشتقاق تسمية الديوان ولم سمّى ديوانا ومن سمّاه بذلك قد اختلف فى تسمية الديوان ديوانا على وجهين: أحدهما أنّ كسرى اطّلع ذات يوم على كتّاب ديوانه، فرآهم يحسبون مع أنفسهم، فقال: ديوانه: أى مجانين؛ فسمّى موضعهم بهذا الاسم، ثم حذفت الهاء لكثرة الاستعمال تخفيفا للاسم، فقيل: ديوان. والثانى أن الديوان بالفارسيّة اسم للشياطين، فسمّى الكتّاب باسمهم لحذقهم بالأمور «1» ، ووقوفهم على الجلىّ والخفىّ، وجمعهم لما شذّ «2» وتفرّق، واطلاعهم على ما قرب وبعد، ثم سمّى مكان جلوسهم باسمهم، فقيل: ديوان. هذا ما قيل فى تسميته «3» على ما حكاه الماوردىّ فى الأحكام السلطانيّة؛ والله أعلم. ذكر ما تفرّع عن كتابة الديوان من أنواع الكتابات هذه الكتابة تنقسم إلى أقسام ووظائف: أصول وفروع، وهى: مباشرة الجيوش، ومباشرة الخزانة، وبيت المال، وأهراء «4» الغلال، ومباشرة البيوت، ومباشرة الهلالىّ «5» ، ومباشرة الخراجىّ، ومباشرة الأقصاب والمعاصر ومطابخ السكّر؛ ويحتاج مباشر كلّ وظيفة من هذه الوظائف إلى معرفة قواعد يأتى ذكرها إن شاء الله تعالى؛ ولنبدأ بذكر مباشرة الجيوش. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 195 ذكر مباشرة ديوان الجيش وسبب وضع الدواوين وأول من وضعها فى الإسلام وديوان الجيش هو أوّل ديوان وضع فى الإسلام «1» ، وضعه عمر بن الخطّاب- رضى الله عنه- فى خلافته؛ وقيل: بل وضع فى عهد النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، ويدلّ على ذلك أن البخارىّ- رحمه الله- ترجم على هذا بقوله: باب كتابة الإمام الناس، قال: حدّثنا محمد بن يوسف، قال: حدّثنا سفيان عن الأعمش عن أبى وائل عن حذيفة: قال النبى صلّى الله عليه وسلّم: «اكتبوا لى من تلفّظ بالإسلام من الناس، فكتبنا له ألفا وخمسمائة رجل» وقد روى البخارىّ أيضا بسنده عن ابن عبّاس- رضى الله عنهما- قال: «جاء رجل إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، إنّى اكتتبت «2» فى غزوة كذا وكذا، وامرأتى حاجّة؛ قال: ارجع فاحجج مع امرأتك» واختلف الناس فى سبب وضعه فى أيّام عمر، قال قوم: سببه أنّ أبا هريرة- رضى الله عنه- قدم بمال من البحرين، فقال له عمر رضى الله عنه: ماذا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 196 جئت به؟ قال خمسمائة ألف درهم، فاستكثره عمر وقال: أتدرى ما تقول؟ قال: نعم، مائة ألف خمس مرات؛ فقال عمر: أطيّب «1» هو؟ فقال: لا أدرى؛ فصعد عمر رضى الله عنه المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيّها الناس، قد جاءنا مال كثير، فإن شئتم كلنا لكم كيلا، وإن شئتم عددنا [لكم عدّا «2» ] ؛ فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، قد رأيت الأعاجم يدوّنون ديوانا لهم، فدوّن أنت [لنا «3» ] ديوانا. وقال آخرون: بل سببه أنّ عمر- رضى الله عنه- بعث بعثا وعنده الهرمزان «4» ، فقال لعمر: هذا بعث قد أعطيت أهله الأموال، فإن تخلّف رجل منهم وأخلّ «5» بمكانه فمن أين يعلم صاحبك «6» ؟ فأثبت لهم ديوانا؛ فسأله عن الديوان حتى فسّره له. وروى [عابد بن يحيى] عن [الحارث «7» ] بن نفيل أن عمر رضى الله عنه استشار المسلمين فى تدوين الدواوين، فقال علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: تقسم فى كلّ سنة ما اجتمع إليك من المال ولا تمسك منه شيئا؛ وقال عثمان بن عفّان- رضى الله عنه-: أرى مالا كثيرا يسع الناس، وإن لم يحصوا حتى يعرف من أخذ ممن لم يأخذ خشيت أن ينتشر الأمر؛ فقال خالد بن الوليد: قد كنت بالشأم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 197 فرأيت ملوكها دوّنوا ديوانا، وجنّدوا جنودا، [فدوّن «1» ديوانا، وجنّد جنودا] فأخذ بقوله، ودعا عقيل بن أبى طالب ومخرمة «2» بن نوفل وجبير بن مطعم- وكانوا من كتّاب قريش- فقال: اكتبوا الناس على منازلهم، فبدءوا ببنى هاشم فكتبوهم، ثم أتبعوهم قوم أبى بكر، ثم عمر وقومه، وكتبوا القبائل ووضعوها على الخلافة «3» ، ثم رفعوا ذلك إلى عمر رضى الله عنه، فلمّا نظر فيه قال: لا، [ما «4» ] وددت أنّه كان هكذا، ولكن ابدءوا بقرابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الأقرب فالأقرب، حتى تضعوا عمر حيث وضعه الله؛ فشكره العباس رضى الله عنه على ذلك؛ وكان ذلك فى المحرّم سنة عشرين من الهجرة، وقيل فى سنة خمس عشرة،- والله أعلم-؛ فلما استقرّ ترتيب الناس فى الدواوين على قدر «5» النسب المتصل برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فضّل بينهم فى العطاء على قدر السابقة فى الإسلام. وسنذكر إن شاء الله فى خلافة عمر رضى الله عنه ما فرضه من العطاء لكلّ طائفة على ما ستقف عليه- إن شاء الله تعالى- فى موضعه من فنّ التاريخ؛ وهو فى السفر السابع عشر من كتابنا هذا؛ فهذا كان سبب وضع ديوان الجيش. وأما دواوين الأموال - فإنها كانت بعد ظهور الإسلام بالشام والعراق على ما كانت عليه قبل الإسلام، فكان ديوان الشأم بالروميّة لأنه كان من ممالك الجزء: 8 ¦ الصفحة: 198 الروم؛ وكان ديوان العراق بالفارسيّة لأنه كان من ممالك الفرس؛ فلم يزل أمرهما جاريا على ذلك إلى زمن عبد الملك بن مروان، فنقل ديوان الشأم إلى العربيّة فى سنة إحدى وثمانين من الهجرة؛ وكان سبب نقله- على ما حكاه المدائنىّ- أن بعض كتّاب الروم فى ديوانه أراد ماء لدواته، فبال فى الدواة، فبلغه ذلك فأدّبه، وأمر سليمان بن سعد أن ينقل الديوان إلى العربيّة، فسأله أن يعينه بخراج الأردن «1» سنة، ففعل وولّاه الأردنّ، وكان خراجه مائة ألف وثمانين ألف دينار، فلم تنقض السنة حتى فرغ من الديوان ونقله، وأتى به عبد الملك فدعى سرجون «2» كاتبه فعرضه عليه فغمّه وخرج كئيبا، فلقيه قوم من كتّاب الروم، فقال لهم: اطلبوا المعيشة من غير هذه الصناعة فقد قطعها الله عنكم. وأما ديوان العراق- فكان سبب نقله إلى العربيّة أنّ كاتب الحجّاج بن يوسف كان زاذان فرّوخ، وكان معه صالح بن عبد الرحمن يكتب بين يديه بالعربيّة والفارسيّة، فأوصله زاذان فرّوخ إلى الحجّاج، فخفّ على قلبه، فقال صالح لزاذان فرّوخ «3» إنّ الحجّاج قد قرّبنى ولا آمن أن يقدّمنى عليك؛ فقال: لا تظنّ ذلك فهو إلىّ أحوج منّى إليه، لأنه لا يجد من يكفيه حسابه غيرى؛ فقال له صالح: والله لو شئت أن أحوّل الحساب إلى العربيّة لفعلت؛ فقال: فحوّل منه ورقة أوسطرا حتى أرى، ففعل؛ ثم قتل زاذان فرّوخ فى حرب عبد الرحمن بن الأشعث، فاستخلف الجزء: 8 ¦ الصفحة: 199 الحجّاج صالحا مكانه، فذكر له ما جرى بينه وبين زاذان فرّوخ فأمره أن ينقله، فأجابه إلى ذلك وأجله فيه أجلا حتى نقله إلى العربيّة، فلمّا عرف مردانشاه بن زاذان فرّوخ ذلك بذل له مائة ألف درهم ليظهر للحجّاج العجز عنه، فلم يفعل؛ فقال له: قطع الله أصلك من الدنيا كما قطعت أصل الفارسيّة. وكان عبد الحميد بن يحيى كاتب مروان يقول: لله درّ صالح ما أعظم منّته على الكتّاب!. هذا ما حكى فى ابتداء نقل الدواوين، فلنرجع إلى الجيش وما يحتاج إليه مباشره. ذكر ما يحتاج اليه كاتب الجيش على ما استقر فى زماننا «1» هذا من المصطلح يحتاج كاتب الجيش إلى أن يرصّع «2» أسماء أرباب الإقطاعات والنقود والمكيلات من الأمراء على اختلاف طبقاتهم، والمماليك السلطانيّة، وأجناد الحلقة، وأمراء التّركمان والعربان؛ ويضع لذلك جريدة مقفّاة على حروف المعجم يثبت فيها أسماءهم، ويذكر الاسم وابتداء إمرته أو جنديّته فى أىّ سنة كانت من السنين الهلاليّة لاستقبال ما يكتب من مغلّ السنة الخراجيّة، وعمن انتقل إليه الإقطاع؛ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 200 ويرمز قبالة كلّ اسم إلى عبرة «1» إقطاعه رمزا لا تصريحا، ويشير فى جندىّ الحلقة إلى مقدّمه، ويعيّن فى اسم التّركمانىّ أو البدوىّ ما قدّمه إلى الإصطبلات السلطانيّة والمناخات من الخيل والجمال، وفى عربان مصر المقرّر عليهم فى مقابلة الإقطاعات من التّقادم «2» وإقامة خيل البريد فى المراكز، وغير ذلك من نقل الغلال، وما هو مقرّر عليهم فى ابتداء أمرهم عند خروج الإقطاعات بأسمائهم، وغير ذلك على جارى العادة، فإن انتقل أحد منهم من إقطاع إلى غيره فى ذلك العمل بعينه وضع تحت إقطاعه الأوّل ما صورته: ثم انتقل إلى غيره بمقتضى منشور تاريخه كذا عن فلان المنتقل إلى غيره، أو المتوفّى، أو المفارق، أو غير ذلك؛ فإن كان على سياقته فى إقطاعه الأوّل قال: على سياقته؛ وضبط تاريخ الأوّل؛ وإن كان لاستقبال مغلّ أو شىء من مغلّ ميّزه، واحتاج إلى محاسبة ربّ الإقطاع على إقطاعه الأوّل؛ والمحاسبات غالبا إنما تقع بعد وفاة الأمير أو الجندىّ، أو انفصاله بوجه من وجوه الانفصالات، وأما ما دام فى الخدمة فهى يتلو بعضها بعضا؛ وصورة المحاسبة أن يقيم تاريخ منشوره إلى تاريخ انفصاله أو نقلته، ويعقد على ذلك جملة، ويوجب له عن نظير خدمته استحقاقا، وينظر إلى ما قبضه من المغلّات فيجمعها، فإن كان قبضه نظير خدمته فلا شىء له ولا عليه، وإن زاد قبضه على مدّة خدمته استعاد منه ما زاد بنسبته، وإن كانت خدمته أكثر من قبضه أفرج له عن نظير ما فضل له؛ ومن العادة فى غالب الأوقات أن يسقط من استحقاق أرباب الإقطاعات فى كل سنة أحد عشر يوما وربع يوم، وهى التفاوت بين السنة الشمسيّة والقمريّة، ويبرز له ما بقى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 201 ويعطيه المثل من نسبة البارز، وقد سومح بذلك فى بعض الأوقات دون بعض؛ وهذه الجريدة تسمّى الجريدة الجيشيّة. ويحتاج إلى بسط جريدة إقطاع صورتها: أنه يرصّع «1» الأعمال كلّ عمل وبلاده وضياعه وكفوره وقراه وجزائره وجروفه وجهات الهلالىّ والجوالى، وغير ذلك من معالمه وحدوده «2» والجهات المستظهر بها والبذول «3» ، وسائر ما هو متعلّق بذلك المكان؛ ويذكر عبرة «4» البلد الجيشيّة، وما استقرّ عليه حال متحصّلها أخيرا، وإن كان بالشأم ذكر العبرة الجيشيّة ومتحصّل البلد لثلاث سنين: مبقلة «5» ومتوسّطة ومجدبة، ثم يشطب «6» قبالة كلّ جهة أسماء مقطعيها، وما هو باسم كلّ واحد منهم، ليتحرّر «7» له بذلك هل استوعب الإقطاع جملة النواحى والجهات، ويتميّز له ما بقى من المحلولات؛ وإن انتقل ربّ إقطاع من إقطاع إلى غيره بادر بشطبه لوقته فى موضعه لئلا يدخل عليه الوهم «8» والاختلاف. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 202 ويحتاج إلى أن يتعاهد مباشرى المعاملات والبرور «1» بطلب الكشوف الجيشيّة فى كل ثلاث سنين ويشطبها «2» على ما عنده لتتحرّر «3» عنده العبر «4» ، ويتميّز له ما تعيّن من الزيادة والنقص. ويحتاج أيضا إلى بسط جريدة ثالثة بأسماء أرباب النقود والمكيلات خاصّة، لأنه يحتاج أن يفرج لكلّ منهم فى كلّ سنة عن نقده ومكيله بمقتضى ما شهد به منشوره، وعادة قبضه وجهته، أو ممّا تعيّن بقلم الاستيفاء إن كان، فإذا أفرج لكلّ منهم شطب «5» تاريخ إفراجه قبالة اسمه لتنضبط له بذلك تواريخ قبوضهم ويأمن من التّكرار والغلط؛ وهذه الجريدة هى فرع من الجريدة الجيشيّة، فإنه يبسطها منها. ويحتاج فى أجناد «6» الحلقة السلطانيّة إلى أن يضيف كل جماعة منهم إلى مقدّم مشهور من أعيانهم ممن هو متميّز الإقطاع، ويقيم عليهم نقيبا يعرف مساكنهم ومظانّهم، فإذا طلبوا جمعهم، أو طلب أحد منهم أحضره، ويسمّى هذا المقدّم: مقدّم الحلقة؛ ويضيف كلّ جماعة من أمراء الطّبلخاناه «7» وأمراء العشرات، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 203 ومقدّمى الحلقة، ومضافيهم إلى مقدّم كبير من أمراء المائة، ويسمّى هذا الأمير: مقدّم الألف؛ ويحتاج إلى أن يضع لهاتين الطائفتين «1» جريدة عدّة، يضع فيها اسم مقدّم الألف وعدّته من غير تفصيل لأسمائهم وقبالة اسمه عبرة «2» إقطاعه، ما هو لخاصّه، وما هو لأصحابه؛ ثم أمراء الطّبلخاناه كلّ أمير وعدّته، وعبرة إقطاعه، على ما تقدّم فى مقدّم الألف، ويرتّبهم فى التقديم والتأخير على مراتبهم؛ ثم أمراء العشرات كذلك؛ ثم يذكر مقدّمى الحلقة فيعيّن اسم المقدّم ونسبته وأتباعه إن كان له أتباع، وعبرة إقطاعه، ثم يذكر مضافيه من الحلقة على هذا الحكم، ويرتّبهم بحسب مراتبهم، يبدأ فى كلّ تقدمه باسم المقدّم، ويختم باسم النقيب، ليسهل عليه طلب كلّ جندىّ من مقدّمه، ويطلبه مقدّمه من نقيبه؛ وإن انتقل أمير أو جندىّ من مقدّم ألف أو مقدّم حلقة وانضاف إلى مقدّم آخر نقله لوقته لئلّا يضطرب عليه حالهم، ويلتبس أمرهم؛ وكذلك أيضا يفعل فى المماليك السلطانيّة من إضافة كلّ جماعة منهم إلى مقدّم من أعيانهم، ويميّز أرباب الوظائف منهم: من السلاحداريّة «3» والحربداريّة والرّمحداريّة والجمقداريّة «4» والزّردكاشيّة «5» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 204 والبندقداريّة «1» ومن السّقاة «2» والجمداريّة «3» والخزنداريّة «4» والحرّاس «5» والبشمقداريّة «6» وغيرهم؛ ويضيف كلّ جماعة من كلّ طائفة منهم إلى متعيّن من جملتهم، ويجمع عدّة كلّ طائفة ويقدّم عليهم أمثلهم؛ وأمّا المماليك الكتابيّة «7» أرباب الجامكيّات «8» فينسب كلّ جماعة منهم إلى طبقة مقدّمها من الطواشيّة، وينسب المماليك البرجيّة «9» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 205 الى مساكنهم ومقدّمهم، والبحريّة «1» إلى مراكزهم ومقدّمهم، والأوشاقيّة الّذين إقامتهم بالإسطبل إلى المقدّم عليهم من الطواشيّة، ويرجع سائر المماليك السلطانيّة إلى مقدّمهم الكبير، ولا يكون فى الغالب إلّا من الطواشيّة الأمراء. ويحتاج أيضا الى أوراق أخر تتضمن أسماء أمراء الميمنة وأمراء الميسرة، والجالس - وهو المقدّم- أمام قلب الجيش، وهذه الأوراق تكون جمليّة يستغنى فيها بذكر مقدّمى الألوف دون مضافيهم. ويتلو هذه الأوراق أوراق أخر- تتضمّن أسماء الأمراء الذين جرت عادتهم بصحبة ركاب السلطان فى الصّيد والركوب للمتنزّهات وفى الميادين للّعب بالكرة، وفى غير ذلك؛ هذا ما يحتاج إليه فى الأمراء والمماليك السلطانيّة ورجال الحلقة. وأما أجناد الأمراء فإنّ مباشر الجيش يسترفع «2» من دواوينهم أوراقا بعدّة أجناد كلّ أمير منهم، يصدرها كاتب عدّة «3» الأمير على عدّة نسخ بحسب المباشرين للجيش، ويقول فى صدرها ما مثاله: عرض رفعه «4» المملوك فلان الفلانىّ على ما استقرّ عليه الحال إلى آخر كذا، والعدّة خاصّته، وكذا كذا طواشيّا؛ ويشرح أسماء الجزء: 8 ¦ الصفحة: 206 الجند، وما أقطع باسم كلّ منهم من إقطاع ونقد ومكيل، مبتدئا برأس المدرّج ومن يليه فى الجند، ثم مماليك الأمير وألزامه، ويختمهم بالنقيب، ثم يعيّن فى آخر المدرّج ما بقى الخاصّ الأمير من النواحى والجهات، وما عليه منه لأصحابه من نقد ومكيل إن كان؛ ويلزمه عمل مسير على نواحى الإقطاع يشطب «1» كلّ جهة بأسماء من أقطعت لهم، وما بقى منها للخاصّ إن كان فإن كان منشور الأمير قد عيّن فيه ما هو لخاصّه وما هو لأصحابه فليس له أن يقتطع من المعيّن لجنده ما يضيفه لخاصّه، ولا يمنع أن يقطع من خاصّه زيادة لأصحابه؛ وهذه القاعدة لاحقة بقواعد الفقه، فإنّ له التصرّف فى ماله دون مال غيره، وله أن يميّز بعضهم على بعض بحسب أحوالهم ومراتبهم؛ فإذا رفعت إليه هذه الأوراق عرض جند كلّ أمير فى مجلس ولىّ الأمر بمشهد من الأمراء وغيرهم، فمن أجاز ولىّ الأمر عرضه حلّاه «2» قبالة اسمه، ويعيّن فى حلاه سنّه ولونه وقامته، ثم يذكر حلية وجهه، ويصف ما يتميّز به عن غيره من أثر فى وجهه أو غير ذلك؛ ومن ردّه ولىّ الأمر من العرض طولب الأمير بإقامة غيره، فإذا أقامه وعرضه وأجاز ولىّ الأمر عرضه حلّاه عند ذلك، وعيّن تاريخ عرضه إن كان عرضه بعد يوم العرض الشامل؛ ويرقم المباشر بقلمه على رأس أوراق العرض تاريخ عرض الجند؛ وتستحقّ هؤلاء الجند الإقطاعات والنقود والهلالىّ من تاريخ عرضهم وتدوينهم فى الديوان، والأمير من تاريخ منشوره؛ فإن مات جندىّ منهم أو فارق الخدمة أقام الأمير عوضه، وعرضه على ولىّ الأمر، وأثبت اسمه بالديوان؛ وإن قطعه الأمير فلا يخلو قطعه: إمّا أن يكون لسبب كالعجز ونحوه فله ذلك، وإما أن يكون بغير سبب فلا يخلو: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 207 إما أن يكون قطعه له فى قرب زمن إدراك المغلّ فلولىّ الأمر منعه من ذلك، أو فى غير وقت المغلّ، فإن عرض من هو أكفى منه وأقدر على الجنديّة أجيز، وإن عرض من هو دونه منع أميره من ذلك، وألزم باستمرار الكافى أو إقامة من يماثله فى الكفاية والقدرة؛ وإذا عرض الأمير أصحابه فى السنة الثانية جدّد كاتبه أوراقا بالعرض نظير الأولى، وشطب «1» كاتب الجيش حلى «2» الجند من العرض الأوّل، ثم يقابلها بالصورة الجديدة «3» فى وقت العرض الثانى، فإن وافقت وطابقت أجازه، وإن اختلفت الحلى وتباينت ردّه وطالع ولىّ الأمر به ليقع الإنكار على من تجاسر على فعل ذلك لما فيه من التلبيس؛ فهذه هى القواعد التى استقرّت فى زماننا والله أعلم. ويحتاج الكاتب إلى تحرير شواهده وحفظها، فإن كان بين يدى السلطان ورسم له بإقطاع أمير أو جندىّ كتب مثالا بالإقطاع، وكتب السلطان أو نائبه بقلمه أعلى المثال ما مثاله: يكتب؛ وعيّن ناظر الجيش بقلمه تحت خطّ السلطان أو نائبه ما مثاله: رسم أن يكتب باسم فلان لاستقبال مغلّ سنة كذا، ولاستقبال كذا من مغلّ سنة كذا؛ وخلّد الكاتب هذا الشاهد عنده، وكتب مثالا ثانيا مربّعا بما مثاله: رسم بالأمر الشريف العالى المولوىّ السلطانىّ الملكىّ الفلانىّ- ويدعو للسلطان- أن يقطع ويقرّر باسم فلان الفلانىّ- وينعته بما يستحقّ- ما رسم له به الآن من الإقطاع والنقد والمكيل إن كان فيه نقد أو مكيل فى السنة، خارجا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 208 عن الجوالى «1» والمواريث الحشريّة «2» والرّزق «3» الإحباسيّة، إن كان الإقطاع بالديار المصريّة؛ وإن كان بالشام قال: خارجا عن الملك والوقف، ثم يقول: خبز «4» فلان الفلانىّ، إن كان عن أحد؛ وإن كان من الخاصّ أو مستجدّا أو مستظهرا به عيّنه، ويذكر خاصّته وعدّته وأتباعه، أو بمفرده، ثم يعيّن جهات إقطاعه، ويثبت هذا المثال الثانى فى الديوان، وتشمله علامة السلطان ونائبه، ثم يخلّد بديوان الإنشاء، وهو شاهد الموقّع، ويكتب منشوره بمقتضى ذلك المثال، وتشمله علامة السلطان وخطّ نائبه ووزيره بالامتثال، ويثبت بديوان الجيش ثم بالدواوين؛ وإن كان الكاتب فى جهة خارجة عن باب الملك من الممالك الشاميّة وأمره النائب بإقطاع أحد كتب مثالا بالإقطاع، وكتب النائب بأعلاه: يكتب، ثم يكتب عليه الناظر نحو ما تقدّم، وهو شاهد الكاتب، ثم يكتب المثال الثانى فى ورقة مربّعة بما مثاله: رسم بالأمر الشريف العالى المولوىّ السلطانىّ الملكىّ الفلانىّ أن يقطع ويقرّر باسم فلان ما رسم له به الآن من الإقطاع، ويعيّن خبز «5» من كان وسبب حلّه عنه، إما بوفاة، أو بمفارقة، أو بانتقال إلى غيره، أو غير ذلك من الأسباب الموجبة لإخراج الإقطاع عنه، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 209 ويكتب نائب السلطنة عليه بالتّرجمة، ويترجم عليه الناظر بقلمه تحت خطّ النائب بما مثاله: المملوك فلان يقبّل الأرض وينهى أن هذا مثال كريم باسم فلان المرسوم إثباته فى جملة الأمراء والمماليك السلطانيّة، أو البحريّة، أو رجال الحلقة المنصورة، أو رجال التّركمان، أو العربان، أو الجبليّة بالمملكة الفلانيّة، أو بالجهة الفلانيّة «1» بما رسم له به الآن من الإقطاع عن فلان، والعدّة خاصّته «2» ، وكذا كذا طواشيا، أو بحسب ما يكون لاستقبال ما عيّن فيه على ما شرح باطنه، والأمر فى ذلك معذوق «3» بإمضائه أو بما يؤمر به من الأبواب. ثم يثبت بديوان الجيش، ويجهّز إلى باب السلطان، فإذا وصل إلى الباب كتب عليه الناظر ومن معه من الرّفاق بالمقابلة، وقوبل به، ثم تشمله علامة السلطان أو نائبه بالكتابة، ويخلّده كاتب الجيش بالباب عنده، ويكتب مثالا من جهته على ما تقدم، فإذا خرج المنشور الشريف ووصل الى تلك المملكة شمل خطّ نائبها بالامتثال، وكتب عليه ناظر الجيش ورفقته بالثبوت تحت خط ناظر الجيش بالباب ورفاقه، ثم يثبت بالدواوين، ويفرج لربّ الإقطاع على حكمه، ويثبت إفراجه، ويسلّم اليه إقطاعه؛ فهذه شواهد المناشير والأمثلة. وأما غيرها من شواهد الكشوف فعلى حسب الوقائع؛ والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. ويحتاج إلى ضبط أسماء من توجّه بدستور «4» إلى جهة من الجهات، ويراعى انقضاء مدّة الدّستور، ثم يكشف عنه، ويطالب مقدّمه به، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 210 وكذلك من توجّه إلى الحجاز وغيره، وكذلك من تخلّف عن العود مع الجيش المجرّد فى المهمّات، فيراعى ذلك حسب الطاقة والإمكان، وإن تعذّرت عليه معرفة من تأخّر بعينه يستعلم «1» أخبارهم مجملة من مقدّميهم ونقبائهم. ويحتاج إلى أنه مهما انحلّ من الإقطاعات، أو تعيّن من تفاوت المدد عمّن درج «2» وفارق «3» وانتقل «4» ، أو ما تعيّن فى خلال المدد بين منفصل ومتّصل يحرّر ذلك، ويكتب به حوطة «5» جيشيّة يضمّنها اسم ربّ الإقطاع المتّصل ونواحى إقطاعه ونقده ومكيله إن كان، ويعيّن استقبال الحوطة، ويميّز ما استحقّه الديوان من المغلّ، وتصدر الى ديوان التصرّف بعد شمولها بالعلامة وثبوتها، ويطالب المستوفى «6» بكتابة رجعة بوصول ذلك إليه ليبرأ من عهدته، ويلزم المثبتون التعريف بذلك وإضافة ما يتحصّل منه، فإن أخّر كاتب الجيش إصدار الحوطات الى ديوان التصرّف حتى يفوت الزمن الذى يمكن فيه تحصيل ما فيها، كان تحت دركه «7» وتبعته؛ والله أعلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 211 ويحتاج مباشر الجيش إلى مراجعة جرائده: الجيشيّة والإقطاعيّة وأوراق العدّة فى كلّ وقت من غير احتياج إلى كشف، لتكون على خاطره أسماء الجند ونواحى إقطاعهم، فإنه بصدد أن يسأل عن شىء من ذلك بين يدى ملك أو نائب، فإن أخّر الجواب بالجملة «1» إلى أن يكشف عنه ربّما ينسب إلى عجز فيتعيّن أن يكون على خاطره من جليّات الأحوال ما يجيب به فى المجلس على الفور، ولا يتأتّى له ذلك إلا بمراجعة حسابه ومداومة النظر فيه، والناظر إلى ذلك أحوج من غيره من المباشرين، لأنه المسؤول والمخاطب فى غالب الأوقات؛ والله أعلم بالصواب. ويحتاج أيضا إلى معرفة الحلى «2» واختلافها على ما نذكره فى فصل الوراقة «3» ، ولا بدّ له من معرفة الأوضاع التى اصطلح عليها كتّاب الجيوش فى كتابة الحلىّ من الاختصار؛ فهذه أمور كليّة لا بدّ لمباشر الجيش من معرفتها وإتقانها. ويتجنّب «4» مباشر الجيش أن يرقم بقلمه عدّة جيش تصريحا، لما يتعيّن من إخفاء عدّته وذكر تكثيره، فإنه إن وضع ذلك بقلمه لا يأمن من الاطّلاع عليه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 212 فيشيع «1» ويذيع، وقد يتّصل بالعدوّ والمعاند «2» والمناوئ فيترتّب عليه من الفساد ما يترتّب وهذا باب يجب على كاتب الجيش الاحتفال «3» به، والاحتراز من الوقوع فيه، وكتمانه عن سائر الناس؛ وإن دعته الضرورة الى تسطير ذلك خشية «4» أن يسأله ولىّ الأمر عن شىء منه، فليكن وضعه لذلك رمزا خفيّا يصطلح عليه مع نفسه لا يعرفه إلا هو، أو من له دربة بمباشرة الجيش. ويتجنّب أن يكشف عبرة «5» إقطاع أو متحصّله، أو يذكر ذلك لأحد إلا بمرسوم ولىّ الأمر، ثم يذكره باللفظ دون الخط، ووجوه الاحتراز كثيرة، وهى بحسب الوقائع، فيتعيّن على مباشر الجيش ملاحظة ذلك والاحتراز من الوقوع فيما ينتقد عليه، أو يصل سبب ضرر منه إليه؛ هذا ما أمكن إيراده مما يحتاج مباشر الجيش إلى اعتماده؛ والله أعلم. وأما مباشرة الخزانة - فالعمدة فيها على العدالة والأمانة، لأن خزائن الملوك فى هذا العصر لسعتها، وكثرة حواصلها، وعظم ذخائرها لا تنضبط بسياقه، فإنه لو طولب كاتب الخزانة بعمل سياقه لحواصلها عن سنة احتاج إلى أن ينتصب لكتابتها سنة كاملة لا يشتغل فيها بغيرها، فإذا تحرّرت سياقه السنة فى آخر السنة الثانية وكشفها مباشر الأصل وحرّرها فى مدّة أخرى من السنة الثالثة فاتت المصلحة المستقبلة، وتعطّل على المباشر ما بعد تلك السنة، لاشتغاله بنظر «6» تلك السّياقة، فإذا تقرّر عجز الجزء: 8 ¦ الصفحة: 213 الكاتب عن عمل السّياقة بهذه المقدّمة فقد تعيّن أنّ «1» العمدة فى مباشرتها على الأمانة والعدالة؛ ومع ذلك فيحتاج كاتبها إلى أمور: منها ضبط ما يصل «2» إليه من حمول الأموال والأصناف، ويقابل ما يصل منها على رسائله، ويحرّره بالوزن والذّرع والعدد والأحمال على اختلاف أجناسه وأنواعه وأوصافه، ويميّز ما يصل إليه من الأقاليم والثغور والأعمال والممالك، وما يصل من الهدايا والتّقادم «3» على اختلافها، فيضيف كلّ نوع إلى نوعه، وصنف إلى صنفه؛ وكذلك يحرّر ما يبتاعه من الأصناف التى تدعو الضرورة اليها وجرت العادة بابتياعها. ومنها معرفة عوائد «4» أرباب الصّلات والإنعام، ومصاريف «5» أرباب المناصب عند ولاياتهم، وما جرت عليه عوائدهم «6» من الإنعام فى خلال مباشراتهم بالأسباب الموجبة لذلك وغير الأسباب، وعوائد أرباب التّقادم والصنّاع وغيرهم. ومنها ضبط ما يصل إلى الخزانة من تقادم الملوك والنوّاب، ويقابل ما يصل منها فى الوقت الحاضر على ما تقدّم، ويحرّر زيادته من نقصه، ويكون ذلك على خاطره، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 214 فإن سأله ولىّ الأمر عنه أجابه، وإلّا فلا يبدؤه؛ ويضبط عادات مهاداة الملوك وما جهّز إلى كلّ منهم فى السنين الخالية، وما كان قد وصل من هداياهم، وما جرت عليه عادات رسلهم وقصّادهم «1» من التشاريف والإنعام. ومنها ضبط ما جرت به العادة من كسا أرباب العوائد «2» المقرّرة فى كلّ سنة على اختلاف طبقاتهم من أرباب الرتب والمناصب والمماليك السلطانيّة وغيرهم، وتواريخ صرف الكسوة اليهم. ومنها تجهيز ما جرت العادة بأن يجهّز فى خزائن الصحبة عند استقلال ركاب السلطان من مقرّ ملكه، إما إلى الصيد والنزهة، وإما لكشف ممالكه «3» عند انتقاله من مملكة إلى أخرى، أو فى حروبه عند ملاقاة الأعداء، فيجهّز ما جرت به العادة فى ذلك، ولا يزيد عليه إلا بمرسوم ولىّ الأمر، ولا يستكثر من استصحاب صنف من الأصناف عند توجّهه إلى معدن ذلك الصنف ومظنته، ولا إلى الخزانة منه بحمله «4» ، بل يستصحب منه ما يكون معه ذخيرة واحتياطا، إذ لو طلب الملك ذلك الصنف فى مسيره قبل وصوله إلى معدن ذلك الصنف كان معه منه ما يسدّ به الضرورة، ولا يعتذر بأنه ما استصحبه معه بحكم توجّهه إلى معدنه، وأنه فعل ذلك للمصلحة الظاهرة، فإن الملوك لا تحتمل مثل ذلك، ولا تصبر على أن يفقد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 215 من ذخائرها ما تطلبه؛ ويستكثر من استصحاب الصنف المعدوم فى ذلك الوجه الذى يتوجّه إليه، ويحمل منه ما يعلم أنه يكفيه فى مسيره وعوده؛ والله أعلم. ومنها «1» ضبط ما يتسلّمه الصّنّاع من مزركش وخيّاط وفرّاء ونجّاد «2» وسرّاج وخردفوشى «3» وغيرهم بالوزن والذّرع والعدد، ويحرزه عند استعادته من صانعه. ومنها تحرير ما يصل إليه من الأقمشة من دار الأعمال وما جرت به العادة أن يحمل منها فى كلّ مدّة ليطالب به إن تأخّر عن وقته؛ وإن قلّ صنف من الأصناف عنده يبادر بمطالعة وزير المملكة أو مدبّرها بذلك ليخلص من عهدته، وعلى وزير المملكة ومدبّرها طلب ذلك الصنف من مظانّه وحمله إلى الخزانة. وأما ملبوس الملك المختصّ بنفسه وعادته فى التفصيل والحبس «4» والطّول والسّعة فهو أمر متعلّق برأس نوبة الجمداريّة «5» ، وهو المقدّم عليهم، فعليه أن يحضر إلى الخزانة ويختار من الأقمشة ما يعلم أنه ملائم لخاطر السلطان وموافق لغرضه، فيفصّل منه ما يراه على ما يراه من أنواع التفصيل، وعلى معلّم الخيّاطين الدّرك فى طوله وسعته وهندامه، ولا يستغنى المباشر عن معرفة ذلك، ولا يستغنى أيضا عن معرفة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 216 قيم الأشياء على اختلافها وعادة التفصيل والتّرفئة «1» والجندرة «2» والحشو ليشارك ربّ كل صنعة فى صناعته بنظره ولسانه، ولا يكون فى ذلك مقلّدا جملة، بل يشاركهم فيما هم فيه، وعليهم الدّرك دونه فيما لعلّه يعرض فى ذلك من خلل إن وقع، لأن هذه الصناعات زائدة على وظيفته ولازمة لأولئك؛ فأيّما رجل اجتمعت فيه هذه الأوصاف تعيّن على ولىّ الأمر ندبه لمباشرة الخزانة، وقرّر له كفايته، وألزمه إن امتنع. وأما مباشر بيت المال - فعمدته على ضبط ما يدخل إليه وما يخرج منه، ويحتاج فى ضبط ما يصل إليه من الأموال إلى أن يقيم لكلّ عمل من الأعمال وجهة من الجهات أوراقا مترجمة باسم العمل أو الجهة، ووجوه أموالها، فإذا وصل إليه المال وضع الرسالة الواصلة قريبة من ذلك العمل «3» ، ثم شطبها «4» بما يصحّ عنده من الواصل إليه، وذلك بعد وضعه فى تعليق المياومة، فإن صحّ الواصل صحبة الرسالة كتب لمباشر ذلك العمل رجعة بصحّته، وإن نقص ضمّن رجعته: من جملة كذا؛ واستثنى بالعجز والردّ، وبرز بما صحّ، وأعاد الردّ على مباشر ذلك العمل وأثبت فى بيت المال ما صحّ فيه، فإن كان العجز عن اختلاف الصّنج «5» عيّنه فى رجعته الجزء: 8 ¦ الصفحة: 217 ولا شىء على مباشر العمل، وإن كان مع اتفاقها فلا يعتدّ لمباشر العمل أو الجهة إلا بما صحّ فى بيت المال. ويحتاج كاتب بيت المال إذا عمل جامعة لسنة إلى أن يضمّ كلّ مال وصل إليه إلى ما هو مثله، من الخراج والجوالى والأخماس وغير ذلك بحسب ما يصل اليه، ويفصّل جملة كلّ مال بنواحيه التى وصل منها، ويستشهد فيه برسائل الحمول، ويضيف إلى جملة ما انعقد عليه صدر الجامعة من الأموال ما انساق عنده من الحاصل إلى آخر السنة التى قبلها، ويفذلك «1» [بعد «2» ذلك] ، ويعرف ما لعلّه صرفه من نقد بنقد فى تواريخه، ويستقرّ بالجملة بعد ذلك؛ ثم يشرع فى الخصم، فيبدأ منه بما حمله إلى المقام على يد من حمل على يده وتسلّمه، من الخزنداريّة «3» والجمداريّة وغيرهم إن كان، ثم يذكر ما نقله إلى الخزانة ويستشهد فيه برجعاته، وما نقله إلى الحوائج خاناه والبيوت والعمائر وغيرها بمقتضى استدعاءات «4» هذه الجهات ووصولات مباشريها، وفى أرباب الجامكيّات «5» والرواتب والصّلات بمقتضى الاستئمارات «6» والتواقيع السلطانيّة؛ فإذا تكامل الحمل والمصروف عقد عليهما جملة وساق ما بقى إلى الحاصل؛ والله أعلم. وطريق مباشر بيت المال فى ضبط المصروف أن يبسط جريدة على ما يصل إليه من الاستدعاءات «7» والوصولات من الجهات، وأسماء أرباب الاستحقاقات الجزء: 8 ¦ الصفحة: 218 والجامكيّات والرواتب والصّلات، وما هو مقرّر لكلّ منهم فى كلّ شهر بمقتضى تواقيعهم أو ما شهدت به الاستثمارات القديمة المخلّدة فى بيت المال، ويشطب «1» قبالة كل اسم ما صرفه له على مقتضى عادته إما نقدا من بيت المال، أو حوالة تفرّع «2» على جهة تكون مقرّرة له فى توقيعه، ويوصل إلى تلك الجهة ما فرّعه عليها، وكذلك إذا أحال ربّ استحقاق غير ثمن مبيع «3» أو غيره على جهة عادتها تحمل إلى بيت المال سوّغ «4» ذلك المال فى بيت المال، وأوصله إلى تلك الجهة، والتسويغ «5» فى بيت المال هو نظير المجرى «6» ؛ وإذا وصل إليه استدعاء من جهة من الجهات أو وصول وضعه فى جريدته، وخصمه بما يقبضه لربّه، ويشهد عليه بما يقبضه، ويورد جميع ذلك فى تعليق المياومة. وأما مباشر أهراء «7» الغلال - فمبنىّ أمره أيضا على ضبط ما يصل إليه، وما يصرف من حاصله؛ ويحتاج فى مبدإ مباشرته إلى تحرير ما انساق من حواصل الغلال بأصنافها، وإن أمكنه تمييز ذلك بيّنه، ويكون أتقن لعمله؛ ثم يبسط جريدة يرصّع «8» فيها أسماء نواحى الخاصّ السلطانىّ التى تصل الغلال منها إلى الأهراء الجزء: 8 ¦ الصفحة: 219 فإذا جاءته رسالة من جهة «1» من تلك الجهات وضعها تحت اسم الجهة وعبر «2» ما وصل قرينها، فإن صحّ صحّتها كتب لتلك الجهة رجعة بالصّحة، وإن نقص فلا يخلو: إما أن يكون المركب أو الظهر الذى حمل ذلك الصنف قد سفّر من ديوان الأصل، أو سفّره مباشر العمل من جهته، فإن كان قد سفّر من ديوان التسفيرات طالب مباشر الأهراء مقدّم رجال المركب والأمين المسفّر عليه بالعجز، وألزمهما بحمله، فإن كان قد سفّر من الأعمال كان درك ذلك على من سفّره، ومباشر الأهراء بالخيار بين أن يطالب محضر الغلّة بالعجز، أو يرجع على مباشر العمل به، ويكون مباشر العمل هو المطالب لمن سفّره، والأولى طلب محضر الغلّة، فإنه إذا أطلقه ورجع إلى المباشر الذى سفّره فقد يعود إلى العمل وقد لا يعود، فإن لم يعد كان مباشر الأهراء قد أضرّ بمباشر العمل، لأنه ألزمه الغرم «3» مع قدرته وتمكّنه من استرجاعه ممن عدا عليه، ويكون هو أيضا ممن شارك فى التفريط؛ وإن وصلت إليه الغلّة متغيّرة تغيّرا ظهر له منها أنها خلطت بغيرها، إما بوصول عين تلك الغلّة اليه، أو بقرينة الحال التى يعلم منها أن تلك الغلة لا يوجد مثلها من فلّاح، ولا يعتدّ بها من خراج السلطنة لظهور غلثها «4» ، أو وصلت إليه الغلّة مبلولة بللا ظاهر التزيد عند الكيل وتتميّز «5» نظير ما أخذ منها، فله أن يعمل لذلك معدّلا، وهو أن يكيل منها جزءا معلوما ويغربله حتى يصير مثل العين التى عنده، أو بتخفيف ذلك حتى يعود إلى حالته الجزء: 8 ¦ الصفحة: 220 الأولى، ويحرّر العجز على هذا الحكم، ويطالب به محضر الغلّة؛ وينبغى له أن يبدأ بصرف ما وصل إليه من الغلال المبلولة ولا يخلطها بغيرها، فإنها بعد بللها لا تحمل طول البقاء؛ هذا ما يعتمده فى القبض. وأما فى المصروف، فإن كان لصاحب جراية أو صلة أو إنعام أو تقا «1» لفلّاح صرف ذلك من عرض حاصله، ويراعى فى صرف التّقاوى أن «2» تكون من أطيب الغلال وأفضلها، لأنه يجنى ثمرة ذلك عند استيفاء الخراج؛ وإن كان ما يصرفه مما ينقله إلى الطواحين برسم المخابز، أو للاسطبلات والمناخات برسم العليق غربله، وحرّر نقصه، وأورده فى جامعته من الفذلكة «3» واستقرار الجملة؛ ومباشرة الأهراء مناسبة فى أوضاعها لمباشرة بيت المال. ذكر مباشرة البيوت السلطانية وهى الحوائج خاناه، والشراب خاناه، والطشت خاناه، [والفراش خاناه «4» ] ، والسلاح خاناه؛ وأمر «5» البيوت معذوق «6» بأستاذ الدار. فيحتاج مباشر الحوائج خاناه إلى أمور: منها ما يحتاج إليه من راتب السّماط العامّ والطارئ- وهو الطعام الثانى الذى يمدّ بعد قيام السلطان من المجلس العامّ، ويأكله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 221 خواصّ الملك ومن يحضره بين يدى السلطان، وهو أخصّ من السّماط الأوّل- وطارئ الطارئ وهو الطعام الثالث الذى يمدّ بعد رفع الطارئ، ومنه يأكل الملك وخواصّه، وقد يأكل السلطان من الطارئ الذى قبله؛ فيحرّر ما يحتاج إليه من لحوم وتوابل وخضراوات وأبازير «1» وتحال وقلوب «2» وطيب وبخور وأحطاب وغير ذلك؛ ولذلك عندهم معدّل قد عرفوه فلا يتجاوزه، فإنه إن صرف زيادة عنه بغير سبب ظاهر خرج عنه «3» وكان تحت دركه. ومنها معرفة مقادير الأسمطة فى أوقات المهمّات والأعياد ليجرى الأمر فيها على العادة، ولا يتجاوزها إلا بمرسوم. ومنها تعاهد أسماء الحوائج خاناه، فيستدعى ما يراه قد قلّ عنده منها قبل نفاده بوقت يمكن فيه تحصيله، فإن أخّر طلب ذلك إلى أن ينفد، أو طلبه فى وقت ولم يبق عنده منه ما يكفيه إلى أن يأتيه ذلك الصنف من بلد آخر كان المباشر تحت درك إهماله «4» ، ومتى طلب ذلك فى وقته وطالع ولىّ الأمر به فقد خلص من عهدته. ويحتاج إلى بسط أسماء من يعامل «5» بالحوائج خاناه من قصّاب وحيوانىّ وطيورىّ وغيرهم، ويحصر «6» لكلّ منهم ما أحضره فى كلّ يوم، فإذا اجتمع له من ذلك الجزء: 8 ¦ الصفحة: 222 ما يقتضى محاسبته جرّد له محاسبة ضمّ فيها كلّ صنف إلى صنفه وثمّنه، إما بتعريف الحسبة، أو بعادة استقرّت له، وأحاله بمبلغ ما وجب له على بيت المال، أو استدعى من بيت المال ما ينفق منه «1» وأشهد عليه بقبض ذلك. ويحتاج أيضا إلى بسط أسماء أرباب الرواتب السلطانيّة وأرباب الصّلات، وما لكلّ منهم فى كلّ يوم، وخصمه بقبوضهم مياومة أو مشاهرة، صنفا أو حوالة؛ ويراعى حال من مرض من المماليك السلطانيّة ونقل من اللّحم إلى المزاوير «2» أو المساليق «3» فيقطع مرتّبه من اللحم فى مدّة مرضه، ونظير ذلك من التوابل فى مدّة مرضه. ويحتاج إلى معرفة عادات الرّسل الواردين، والأضياف «4» المتردّدين، ومرتّب الصدقة فى شهر رمضان، وعادات الأضاحى والصّلات فى عيد النحر، فيجرى الأمر على حكم العادة؛ ويضبط جميع ما يصل إليه من ديوان المتجر ومطابخ السكّر وغيرها، ويكتب لهم بما يحملونه إليه من الأصناف؛ ويضبط أيضا ما استقرّ فى كلّ ليلة من الوقود من شمع وزيت، ويصرف على ما استقرّ عنده، وإذا سلّم شمع الوقود إلى الطّشتداريّة وزنه عليهم، وعبره «5» عند إعادته فى بكرة النهار ليتميّز له النقص؛ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 223 ويضبط غير ذلك مما يصل إليه وينزل عنده من عادات من قنع «1» وتبتّل، وغير ذلك من جميع ما يرد وما يرتّب ويزاد ويقطع. وأما الشراب خاناه - وهى بيت يشتمل على أنواع المشروب من المياه على اختلافها، والسكّر والأشربة والدّرياقات «2» والسّفوفات والمعاجين والأقراص والأقسما «3» والفقّاع «4» والبلح والأبقال والحلويّات «5» والجوارشات «6» والفواكه، وما يجرى هذا المجرى؛ وأمر هذا البيت الخاصّ «7» معذوق «8» بأمير مجلس، والعامّ بأستاذ الدار؛ فيحتاج مباشر هذه الوظيفة الى ضبط ما يصل إليه من جميع هذه الأصناف، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 224 وما يستعمله من ذلك فى عقد الأشربة والحلويّات، وما يعقده للمشروب وما يصرفه من ذلك، ومعرفة عادات الأسمطة والطّوارئ والرواتب المقرّرة فى كلّ يوم، فيجرى الأمر فيها على العادة المستقرّة، وما يستدعيه السلطان على حسب الاتفاق، وما يصرف للمرضى من المماليك السلطانيّة من أنواع الأشربة والمعاجين وغيرها بمقتضى أوراق الأطبّاء؛ هذا ما يعتمد عليه مباشرها والله أعلم. وأما الطّشت «1» خاناه - فهى بيت تكون فيه آلة الغسل والوضوء، وقماش «2» السلطان البياض «3» الذى لا بدّ له من الغسل، وآلة الحمّام، وآلات الوقود؛ فيكون فى هذا البيت من الآلات: الطّشوت والأباريق والسخّانات والطاسات والكراسىّ والستائر واللّبابيد «4» المختصّة بالحمّامات والسّجادات والنّمرقات «5» والمناشف وفوط الخدمة ومقاعد الجلوس من الجوخ والبسط، وغير ذلك، والمباخر وأنواع البخورات والطّيب والغوالى «6» وماء الورد والممسّك، وغير ذلك من الأصناف التى تلائم هذا البيت؛ ويستدعى ما يحتاج اليه برسم هذا البيت من الحوائج خاناه والخزانة؛ والله أعلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 225 وأما الفراش خاناه - فيكون فيها أنواع الفرش والخيام والخركاهات «1» والتّخوت وقصور الخشب التى تنصب فى الدهاليز، وحمّامات الخشب التى تنقل على الظّهر فى الأسفار، وما يتعلّق بذلك من اللّبابيد «2» وشلائت «3» النوم وغير ذلك؛ وهو بيت متّسع فيه حواصل كثيرة لها قيم جليلة تحتاج الى ضبط ومعرفة، فإن «4» مباشر هذا البيت يحتاج الى معرفة ما يحتاج الى استصحابه فى أسفار السلطان لخاصّته «5» ولمماليكه على اختلاف طبقاتهم ووظائفهم، وما ينصب برسم آدر «6» السلطان ومن يتبعها من الخدّام وما ينصب برسم البيوت السلطانيّة الخزائن فما دونها، وما ينصب لأرباب الوظائف من المباشرين الذين يكونون فى صحبة الرّكاب السلطانىّ، ومن غير المباشرين الذين يكونون فى صحبة الرّكاب السلطانىّ، ومن غير المباشرين حتى الكلاب السلطانيّة والكلابزيّة «7» والجوارى؛ ويميّز بين خيام «8» الصيد والنّزه والأسفار والحروب، وغير ذلك من الحركات التى يحتاج فيها إلى استصحاب الخيام الجزء: 8 ¦ الصفحة: 226 ولكلّ حركة منها ما جرت به العادة من خيام المقام والسّفر «1» ؛ ويعرض ما يسلّمه للفرّاشين عليهم، ويضبط صفاته عند السّفر، ويستعيده منهم عند العود بعرض ثان، وكذلك ما يسلّمه لأرباب الوظائف؛ ويضبط أيضا ما يتسلّمه الصّنّاع الذين يفصّلون الخام الجديد وغيره من آلات الفراش خاناه: من قماش بياض «2» ومصبوغ وغزل وجلود ومشمّعات وشعر وأخشاب، وغير ذلك، ويعرف عوائدهم «3» فى الأجر، ويحاسبهم على ما يستحقّونه من الأجر بحسب أعمالهم فيحيلهم بمبلغه. وأما السلاح خاناه - فهى من أعظم البيوت وأهمّها، وأمرها راجع الى أمير سلاح؛ وعلى المباشر فيها «4» حفظ ما يدخل إليها، وضبط ما يخرج منها مما يتسلّمه السلاح داريّة والزّردكشيّة «5» والحرب داريّة والرّمح داريّة من أنواع السلاح وأصنافه إذا ركب السلطان أو جلس فى المجلس العامّ، واستعادته منهم، وإعادته لهم، والاعتداد لهم بما أنعم به السلطان وذهّبه مما كان بأيديهم؛ ويوصل ما يصل إلى السلاح خاناه من خزائن السلاح وغيرها، وما يصل اليه من سيوف الأمراء الذين يرسم باعتقالهم، وما يحمل اليه من سلاح من توفّى من الأمراء على جارى العادة. «ويميّز «6» ذلك من غيره» وعليه أن ينبّه أمير سلاح على ما عنده من العدد التى يخشى عليها التلف الجزء: 8 ¦ الصفحة: 227 بتطاول المدّة ليأمر بكشفها وإصلاحها: من مسح ودهان وصقل وجلاء وشحذ «1» وتثقيف وخرز، وغير ذلك. وجميع ما قدّمنا ذكره من البيوت ليس بشىء من صناعة الكتابة العلميّة، بل العمليّة خاصّة، فإن علوم الكتابة إنما تظهر فى نظم الحسبانات، ولا نظم فيما قدّمناه؛ والعمدة فى صناعة الكتابة على مباشرة الهلالىّ والخراجىّ على ما يأتى بيان ذلك إن شاء الله تعالى. ذكر جهات أموال الهلالىّ ووجوهها «2» وما يحتاج إليه مباشرها والهلالىّ عبارة عمّا تستأدى أجوره مشاهرة، كأجر الأملاك المسقّفة من الآدر «3» والحوانيت والحمّامات والأفران وأرحية «4» الطواحين الدّائرة بالعوامل «5» ، والراكبة على المياه المستمرّة الجريان، لا الطواحين التى تدور بالمياه الشّتويّة فى بعض نواحى الشام، فإنها تجرى مجرى الخراجىّ، وسنذكر ذلك إن شاء الله فى موضعه؛ ومما نورد فى أبواب الهلالىّ عداد الأغنام والمواشى، ومن الهوائىّ «6» الجهات الهلاليّة المضمونة والمحلولة؛ والذى يعتمد عليه مباشره أن يتخيّر لكلّ جهة من يستأجرها بقيمتها، وما لعلّه يتعيّن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 228 من الحيطة «1» ، ويلزم المستأجر بكتابة إجارة شرعيّة لمدّة معلومة بأجرة معيّنة؛ ويخلّدها فى ديوانه؛ وإن كانت الجهة هوائيّة ألزم ضامنها بكتابة حجّة بمبلغ الضّمان، وطالبه بمن يكفله من الضّمّان الأملئاء «2» القادرين بالمال «3» فى الذمّة، فإن تعذّر فبالوجه «4» ؛ فإذا خلّدت الحجّة عنده كتب له من ديوانه تقريرا عيّن له فيه استقبال مدّة ضمانه، ومبلغ الضمان وأقساطه مبسوطة «5» أو منجّمة «6» ، ويذكر فيه ما يستأديه من رسوم تلك الجهة على ما تشهد به الضرائب المخلّدة فى الدّيوان، وسلّم اليه؛ فإذا تكاملت عنده إجارات الأملاك وحجج الضّمان بسط على ذلك جريدة يشرح فيها الجهة، واسم مستأجرها أو ضامنها، واستقبال مدة إيجاره «7» أو ضمانه، ومبلغ الأجرة أو الضّمان فى السنة والشهر واليوم؛ وإنما ذكرنا اليوم لما يتحصّل من أقساط أيّام سلوخ «8» الشهور الناقصة، ولما كانت العادة جارية به من استخراج قسط يوم التعديل من سائر ضمّان الجهات الجزء: 8 ¦ الصفحة: 229 الهوائيّة، وهو قسط يوم واحد فى سلخ ثلاث سنين يؤخذ من الضّمان خالصا للديوان زيادة على الأقساط، وهذا يستأدى فى بعض أقاليم الشأم؛ وإنما أوردناه خشية الإخلال به؛ ويكون بسطه لذلك فى يمنة القائمة إلى الشطر المكسور المعتاد الذى يتخلّله خيط الجريدة؛ فإن اتّفق فى جهة زيادة فى أثناء السنة قرّرها فى تعليق المياومة، ووضعها فى الجريدة بما صورته: ثم استقرّت باسم فلان لاستقبال التاريخ الفلانىّ بكذا وكذا، العبرة «1» كذا، والزيادة كذا؛ ويحاسب المستأجر أو الضامن المنفصل عمّا استحقّ عليه إلى حين انفصاله، ويلزمه بالقيام به، وذلك بعد أن يعرض على الضامن المستقرّ ما زاد عليه، فإن اختار قبول الزيادة على نفسه قبل ذلك منه، وكان ذلك له، فإن زيدت عليه فى الوقت زيادة ثانية لم يكن له الاستمرار فى الجهة إلا بزيادة على تلك الزيادة الثانية؛ وإذا انقضت مدّة مستأجر وضامن وأراد الخروج من تلك الجهة، فإن كان قد غلّق «2» ما عليه من الأجرة أو الضّمان لم يكن للمباشر إلزامه بالاستمرار بها، وإن انطرد «3» عليه باق كثيرا كان أو قليلا لزمه استئناف عقد جديد نظير العقد الأوّل؛ هذا اصطلاحهم فى الديوان، ولهم اصطلاحات أيضا نحن نذكر ما تيسّر منها، إذ لا تمكن الإحاطة بجميعها لاختلاف أحوال المباشرات، ولو استقصينا ذلك لطال؛ فمن اصطلاحاتهم أن المباشر يسلّم للمستأجر الطاحون عند أذان المغرب من اليوم الذى حصل فيه الإيجار أو الزيادة لاستقبال الجزء: 8 ¦ الصفحة: 230 اليوم الثانى، ويسلّم الحمّام من وقت التسبيح، ويسلّم بقيّة الجهات لاستقبال غرّة النهار؛ وإذا دخل ضامن نيلة «1» قوّم للمنفصل ماله بالخوابى من مياه الأصباغ المختلفة بالقيمة العادلة، ولا يمكّن من أخذ ذلك من المصبغة لما فيه من الإضرار بهما، أما ضرر المنفصل فلفساد المياه، وأما ضرر المتصل فلأنه يتعطّل مدّة إلى أن تختمر له مياه غيرها، ولا يمكّن ضامن المصبغة المنفصل من أخذ خابية وإن كانت ملكه، بل القيمة عنها؛ هذا اصطلاحهم؛ وليحترز مباشر الجهات الهلاليّة من قبول زيادة بسطا فى جهة منجّمة قد مضت أقساطها الخفيفة «2» وبقيت الأقساط الكبار، لما يحصل فى ذلك من التّفاوت والنقص على الدّيوان مع وجود الزيادة الظاهرة، مثال ذلك أن تكون جهة مضمونة فى كلّ سنة بأربعة آلاف درهم منجّمة، قسط ستة شهور ألف درهم، وقسط الستة شهور الثانية ثلاثة آلاف، فانقضت الستّة الأول، وحصلت زيادة فى الجهة فى أوّل الستّة «3» الثانية مبلغ خمسمائة درهم فى السنة على أن تكون قسطين، فيصير بمقتضى البسط قسط الستّة شهور الثانية ألفين ومائتين وخمسين درهما، وهى على الضامن المنفصل بثلاثة آلاف، فتكون هذه الزيادة على هذا الحكم نقصا؛ فيراعى المباشر ذلك، فإنه متى وقع فيه خرج عليه وكان مخرجا لازما؛ ومهما استخرجه المباشر من مستأجر أو ضامن أو أجراه بوصول «4» لربّ استحقاق أو ثمن صنف، أو غير ذلك من وجوه المصارف أورده فى تعليق المياومة، وصورة وضعه لذلك أن يرصّع «5» المحضر أو المجرى عن يمنة القائمة، ويخصم عن يسرتها قبالة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 231 المجرى، فيقول فى يمنتها: من جهة فلان كذا، وفى مقابلته: ينصرف فى كذا؛ ثم يشطب «1» المحضر والمجرى من تلك الجهة فى يسرة قائمة الجريدة التى بسطها قبالة كلّ اسم استخرج منه أو أجرى عليه، يفعل ذلك فى مدّة السنة، ويرمز على تعليقه إشارة الخدمة على الجريدة، وصورته [له «2» ] ؛ وكذلك اذا كتب وصولا رمز عليه إشارة الكتابة، وصورته له؛ فإذا انقضت السّنة عمل محاسبة كلّ جهة بما استخرجه من مستأجرها أو ضامنها وأجراه عليه، وعقد على ذلك جملة، فان كان المستخرج والمجرى نظير الأجرة أو الضّمان فقد تغلّقت «3» تلك الجهة عن تلك السنة، وإن زاد المستخرج على الأجرة أورده فى حسابه مضافا، ويسمّيه: زائد مستخرج، على ما يأتى بيانه فى كيفيّة الأوضاع الحسابيّة، واعتدّ «4» له بذلك فى السنة المستقبلة؛ وإن تعيّن للضامن أو المستأجر اعتداد بما يجب الاعتداد به كباطلة الحمّامات من انقطاع المياه عنها أو وقوفها فيها، وإصلاح القدور، وعطل العمائر، وبطالة الطواحين لانقطاع المياه وانكسار الأحجار أو السهام أو العدد، أو حصول جائحة «5» أرضيّة أو سمائيّة كانقطاع الأجلاب «6» عن الجهات الهوائيّة بسبب مداومة الأمطار، أو سقوط الثلوج، أو طروق عدوّ للبلاد، أو حادثة عطّلت تلك الجهة بسببها اعتدّ له بقسط تلك المدّة محسوبا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 232 «هذا «1» إذا شرط ذلك فى تقريره «2» » على ما يأتى شرح ذلك؛ هذا ما يعتمد عليه المباشر للجهات الهلاليّة فى أصولها. وأما مضافاتها فلا فرق بينها وبين سائر الأموال، وسيرد الكلام إن شاء الله على ذلك مفصّلا؛ وقد اصطلح بعض مباشرى الجهات على إيراد أحكار البيوت والحوانيت، وريع البساتين التى تستخرج أجورها «3» مشاهرة، ومصايد السمك، ومعاصر الشّيرج «4» والزيت فى مال الهلالىّ؛ ومنهم من يوردها فى أبواب الخراجىّ، وهو الأليق، وإنما نبّهنا عليه لبيان الاختلاف فيه، ولا أرى فى إيراد ريع البساتين فى مال الهلالىّ وجها، بل يتعيّن ألّا يرد إلا فى أبواب الخراجىّ؛ وإن قال قائل منهم: قد يكون فى أرض البستان مسكن يستحقّ أجرة، قلنا: إن أمكن إفراد ذلك المسكن بأجرة معيّنة تقيّد أمواله فى أموال الهلالىّ دون البستان، وان تعذّر إفراده وأوجرا بعقد واحد فالمسكن هنا فرع البستان، والفرع يتبع الأصل ولا ينعكس، هذا ما خلّصناه من حال مال الهلالىّ «5» ، فلنذكر الجوالى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 233 ذكر الجزية الواجبة على أهل الذمّة و ... ما ورد فيها من الأحكام الشرعيّة وأوّل من ضربها وقرّرها على الرءوس وما اصطلح عليه كتّاب التصرّف فى زماننا من استخراجها وموضع إيرادها فى الحساب ونسبتها فى الإقطاعات الجيشيّة وما يلزم مباشرها من الأعمال وما يحتاج إليه والله أعلم أما الأحكام الشرعيّة فالأصل فى وجوبها قوله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ وقد ورد فى هذه الآية تأويلات ذكرها أقضى القضاة أبو الحسن علىّ بن محمد بن حبيب الماوردىّ- رحمه الله- فى الأحكام السلطانيّة، نحن نذكرها على ما أورده، قال: أما قوله: «الّذين لا يؤمنون بالله» فأهل الكتاب [وإن «1» ] كانوا معترفين بأن الله سبحانه واحد، فيحتمل [نفى «2» ] هذا الإيمان بالله تأويلين، أحدهما: لا يؤمنون بكتاب الله سبحانه وهو القرآن، والثانى: لا يؤمنون برسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم، لأن تصديق الرّسل إيمان بالمرسل؛ وقوله: «وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ» * يحتمل تأويلين، أحدهما: لا يخافون وعيد اليوم الآخر وإن كانوا معترفين بالثواب والعقاب، والثانى: لا يصدّقون بما وصفه الله تعالى من أنواع العذاب؛ وقوله تعالى: «وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ» يحتمل تأويلين، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 234 أحدهما: ما أمر الله سبحانه بنسخه من شرائعهم، والثانى: ما أحلّه لهم وحرّمه عليهم؛ «ولا يدينون دين الحقّ» فيه تأويلان، أحدهما: ما فى التوراة والإنجيل من اتّباع الرسول- وهو قول الكلبىّ-، والثانى: الدخول فى دين الإسلام- وهو قول الجمهور-، وقوله: «مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ» * فيه تأويلان، أحدهما: من أتباع «1» الذين أوتوا الكتاب، والثانى: من الّذين ملّتهم الكتاب، لأنهم فى اتّباعه كإيتائه «2» ؛ وقوله: «حتّى يعطوا الجزية» فيه تأويلان، أحدهما: حتى يدفعوا الجزية، والثانى حتى يضمنوها، لأنه بضمانها يحب الكفّ عنهم؛ وفى الجزية تأويلان، أحدهما: أنها من الأسماء المجملة التى لا يعرف منها ما أريد بها إلا أن يرد بيان «3» ، والثانى: أنها من الأسماء العامّة التى يجب إجراؤها على عمومها إلا ما خصصه دليل؛ واسمها مشتق من الجزاء، وهو إما جزاء على كفرهم، أو جزاء على أماننا لهم؛ وفى قوله: «عن يد» [تأويلان، أحدهما: عن غنى «4» وقدرة، والثانى: أن يعتقدوا أن لنا فى أخذها منهم يدا وقدرة عليهم؛ وفى قوله] : «وهم صاغرون» تأويلان، أحدهما: أذلّاء مساكين «5» ، والثانى: أن تجرى عليهم أحكام الإسلام. وقال غيره: الصّغار أن يضرب على فكّ الذمىّ برءوس الأنامل عند قيامه بالجزية ضربا لطيفا غير مؤلم. وقال الماوردىّ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 235 فيجب على ولىّ الأمر أن يضرب الجزية على رقاب من دخل فى الذمّة من أهل الكتاب ليقرّوا بها فى دار الإسلام؛ ويلتزم لهم ببذلها حقّين: أحدهما الكفّ عنهم، والثانى الحماية لهم، ليكونوا بالكفّ آمنين، وبالحماية محروسين؛ روى نافع عن ابن عمر رضى الله عنهم قال: آخر ما تكلّم به النبىّ صلّى الله عليه وسلّم: «احفظونى فى ذمّتى «1» » قال الماوردىّ: ولا تؤخذ من مرتدّ ولا دهرىّ ولا عابد وثن، وأخذها أبو حنيفة من عبدة الأوثان من العجم، ولم يأخذها منهم إذا كانوا عربا «2» ؛ وأهل الكتاب هم اليهود والنصارى، وكتابهم التوراة والإنجيل، وتجرى المجوس مجراهم فى أخذ الجزية منهم؛ وتؤخذ من الصابئين «3» والسامرة» اذا وافقوا اليهود والنصارى فى أصل معتقدهم وان خالفوهم فى فروعه، ولا تؤخذ منهم إن خالفوا اليهود والنصارى فى أصل معتقدهم؛ ومن جهلت حاله أخذت جزيته، ولا تؤكل ذبيحته؛ والجزية تجب على الرجال الأحرار «5» العقلاء، ولا تجب على صبىّ ولا امرأة ولا مجنون ولا عبد، لأنهم أتباع وذرارىّ؛ ولو تفرّدت امرأة منهم [عن «6» ] أن تكون تبعا لزوج أو نسيب لم تؤخذ منها الجزية، لأنها تبع لرجال قومها وإن كانوا أجانب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 236 منها؛ ولو تفرّدت امرأة فى دار الحرب فبذلت الجزية للمقام فى دار الإسلام لم يلزمها ما بذلته، وكان ذلك منها كالهبة لا يؤخذ منها إن امتنعت؛ ولا تؤخذ الجزية من خنثى مشكل، فإن زال «1» إشكاله وبان رجلا أخذت منه فى مستقبل أمره وماضيه؛ واختلف الفقهاء فى قدر الجزية، فذهب أبو حنيفة إلى تصنيفهم ثلاثة أصناف: أغنياء يؤخذ منهم ثمانية وأربعون درهما، وأوساط يؤخذ منهم أربعة وعشرون درهما وضرب «2» يؤخذ منه اثنا عشر درهما، [فجعلها مقدّرة الأقلّ والأكثر «3» ] ومنع من اجتهاد الولاة فيها. وقال مالك: لا يقدّر أقلّها ولا أكثرها، وهى موكولة إلى اجتهاد الإمام فى الطرفين. وذهب الشافعىّ إلى أنها مقدّرة الأقلّ بدينار لا يجوز الاقتصار على أقلّ منه، وعنده أنها غير مقدّرة الأكثر، يرجع فيه إلى اجتهاد الولاة، ويجتهد رأيه فى التسوية بين جميعهم، أو التفضيل «4» بحسب أحوالهم، فإذا اجتهد رأيه فى عقد الجزية معهم على مراضاة أولى الأمر منهم صارت لازمة لجميعهم ولأعقابهم قرنا بعد قرن، ولا يجوز لوال بعده أن يغيّره «5» الى زيادة عليه أو نقصان منه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 237 ويشترط عليهم فى عقد الجزية شرطان: مستحقّ ومستحبّ، أما المستحقّ فستة «1» أشياء: أحدها ألّا يذكروا كتاب الله تعالى بطعن فيه ولا تحريف له، والثانى ألّا يذكروا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بتكذيب له ولا ازدراء به، والثالث ألّا يذكروا دين الإسلام بذمّ له ولا قدح فيه، والرابع ألّا يصيبوا مسلمة بزنى ولا باسم نكاح، والخامس ألّا يفتنوا «2» مسلما عن دينه ولا يتعرّضوا لماله ولا دمه «3» ، والسادس ألّا يعينوا أهل الحرب ولا يؤووا أغنياءهم؛ فهذه الستة حقوق ملتزمة بغير شرط، وإنما تشترط إشعارا لهم، وتأكيدا لتغليظ العهد عليهم، فيكون انتهاكها بعد الشرط نقضا لعهدهم. وأما المستحبّ فستة أشياء: أحدها تغيير هيآتهم بلبس الغيار «4» وشدّ الزّنّار «5» ، والثانى ألّا يعلموا على المسلمين فى الأبنية، ويكونوا إن لم ينقصوا مساوين لهم، والثالث ألّا يسمعوهم أصوات نواقيسهم، ولا تلاوة كتبهم، ولا قولهم فى عزير والمسيح، والرابع ألّا يجاهروهم بشرب خمورهم، ولا بإظهار صلبانهم وخنازيرهم، والخامس أن يخفوا «6» دفن موتاهم ولا يجهروا بندب عليهم ولا نياحة، والسادس أن يمنعوا من ركوب الخيل عتاقا وهجنا، ولا يمنعوا من ركوب البغال والحمير؛ قال: فهذه الستة المستحبّة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 238 لا تلزم بعقد الذّمّة حتى تشترط فتصير بالشرط ملتزمة، ولا يكون ارتكابها بعد الشرط نقضا للعهد، لكن يؤخذون «1» بها إجبارا «2» ، ويؤدّبون «3» عليها زجرا، ولا يؤدّبون إن لم يشترط ذلك عليهم، ويحتاط «4» به. [وتجب الجزية عليهم «5» ] فى كل سنة مرّة واحدة بعد انقضائها «6» بالشهور الهلاليّة، ومن مات منهم فى أثناء السنة أخذ من تركته بقدر ما مضى منها، ومن أسلم كان ما لزم من جزيته دينا فى ذمّته يؤخذ منه؛ وأسقطها أبو حنيفة بإسلامه وموته؛ ومن بلغ من صغارهم، أو أفاق من مجانينهم استقبل به حول [ثم أخذ «7» ] بالجزية ويؤخذ الفقير بها إذا أيسر، وينتظر بها إذا أعسر؛ ولا تسقط عن شيخ ولا زمن، وقيل: تسقط عنهما وعن الفقير؛ ولأهل العهد إذا دخلوا دار الإسلام الأمان على نفوسهم وأموالهم، ولهم أن يقيموا فيها أربعة أشهر بغير جزية، ولا يقيموا سنة إلا بجزية، وفيما بين «8» الزمانين خلاف؛ ويلزم الكفّ عنهم كأهل الذمّة، ولا يلزم الدفع عنهم؛ واذا أمّن بالغ عاقل من المسلمين حربيّا لزم أمانه كافّة المسلمين، والمرأة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 239 فى بذل الأمان كالرجل، والعبد فيه كالحرّ؛ وقال أبو حنيفة: لا يصحّ أمان العبد إلا أن يكون مأذونا له فى القتال؛ وإذا «1» تظاهر أهل الذّمّة والعهد بقتال المسلمين كانوا حربا لوقتهم، يقتل مقاتلهم، ويعتبر حال من عدا المقاتلة منهم بالرضا بفعلهم والإنكار له؛ وإذا امتنع أهل الذمّة من أداء الجزية كان نقضا لعهدهم؛ وقال أبو حنيفة: لا ينتقض به عهدهم إلّا أن يلحقوا بدار الحرب، وتؤخذ منهم جبرا كالدّيون؛ وإذا نقض أهل الذمّة عهدهم لم يستبح بذلك قتلهم، ولا غنم أموالهم، ولا سبى «2» ذراريّهم ما لم يقاتلوا، ووجب إخراجهم من بلاد المسلمين آمنين حتى يلحقوا مأمنهم من أدنى بلاد الشّرك، فإن لم يخرجوا طوعا أخرجوا كرها؛ فهذه هى الأحكام الشرعيّة فى أمر الجزية. وأوّل ما ضربت الجزية وجعلت على الرءوس فى خلافة عمر «3» بن الخطّاب - رضى الله عنه- وكانت قبل ذلك تحمل قطائع؛ واختلف: هل استأداها سلفا أو عند انقضاء الحول. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 240 وأما ما اصطلح عليه كتّاب التصرّف فى زماننا هذا من استخراجها وموضع إيرادها فى حسباناتهم، فهم يستخرجونها سلفا وتعجيلا فى غرّة السنة، وفى بعض الأقاليم تستخرج قبل دخول السنة بشهر أو شهرين؛ وتورد فى الحسبانات قلما مستقلّا بذاته، بعد الهلالىّ وقبل الخراجىّ، وسبب تأخيرها عن الهلالىّ أنها تستأدى مسانهة، وسبب تقدّمها على الخراجىّ ما ورد من وجوبها مشاهرة على الأشهر من أقوال الفقهاء؛ وقد تقدّم ذكر الحكم فيمن أسلم أو مات فى أثناء الحول، وأنه لا يلزمه منها إلا بقدر ما مضى من السنة قبل إسلامه أو وفاته، فلذلك وردت بين الهلالىّ والخراجىّ. وأما نسبتها فى الإقطاعات الجيشيّة عند خروج إقطاع ودخول آخر «1» فإنها تجرى مجرى المال الهلالىّ، لأنها تستخرج على حكم شهور السنة الهلاليّة دون الشمسيّة؛ فإن تعجّلها مقطع فى غرّة السنة على العادة وخرج الإقطاع عنه فى أثنائها بوفاة أو نقلة إلى غيره استحقّ منها نظير ما مضى من شهور السنة إلى حين انتقاله، لا على حكم ما استحقّ من المغلّ؛ ويستحقّ المتّصل من «2» استقبال تاريخ منشوره كعادة النقود «3» ؛ وإن تخلّل بين المنفصل والمتّصل مدّة كان قسطها للديوان، يرد فى جملة المحلولات من الإقطاعات. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 241 وأما ما يلزم مباشر الجوالى وما يحتاج الى عمله، فالذى يلزمه أن يبسط جريدة على أسماء الذمّة «1» بمقتضى الضريبة المرفوعة إليه، أو الكشف الذى كشفه إن كان العمل «2» مفتوحا «3» أو مستجدّا، يبدأ فيها بذكر أسماء اليهود، ويثنّى بالسامرة» لأنّهم شعب منهم، ويثلّث بالنصارى، وإن كان فى عمله طائفة من الصابئة والمجوس ذكرهم بعد النصارى؛ وفى بعض بلاد الشأم تؤخذ الجزية من طائفة تعرف بالشّمسيّة، يوحّدون الله تعالى وينكرون نبوّة النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، ومنهم من يقول بنبوّة عيسى عليه السّلام وأن لا نبىّ بعده؛ ويكون بسط الكاتب لهذه الجريدة على التقفية إذا كانت الأسماء كثيرة، ليسهل عليه بذلك الكشف والشطب، وإذا استخرج جالية أوردها فى تعليق المياومة؛ وكتب له بها وصولا «5» ، وشطبها عن اسم من استخرجت منه فى جريدته، ويرمز فى تعليقه إشارة الكتابة والخدمة على ما تقدّم بيانه فى الهلالىّ. ويحتاج مباشر الجوالى فى كلّ سنة إلى إلزام رئيس اليهود ورئيس السامرة وقسّيس النصارى أو أسقفّهم «6» بكتابة أوراق يسمّونها: الرّقاع بمن عند كلّ منهم من الرواتب «7» ، وما لعلّه استجدّ «8» من الطّوارئ «9» والنّوابت، ويعيّن فى آخر الرّقاع من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 242 اهتدى بالإسلام، ومن هلك بالموت، ومن تسحّب «1» من العمل، وإلى أىّ جهة توجّه، ويجعل تلك الرّقاع شاهدا عنده بعد الإشهاد فيها على «2» الصادرة عنه بأنه لم يخلّ بشىء من الأسماء، ويلزمه بكتب مشاريح بمن ضمّن رقاعه أنه اهتدى أو هلك أو تسحّب كلّ اسم بمشروح، ويخلّد المشاريح عنده ويشطبها «3» على جريدته؛ والكتّاب فى إيراد من اهتدى ونزح وهلك مختلفون: فمنهم من يوصل العدّة المستقرّة عنده عن يمنة العمل «4» ، ويستثنى بالتعدية عمّن اهتدى وهلك وتسحّب، كلّ اسم بمقتضى مشروحه المشهود فيه، ويبرز بما تحرّر بعد ذلك؛ ومنهم من يوصل الجميع على ما استقرّت عليه الحال الى آخر السنة الماضية، ويستخرج ممّن استخرج منه، ويعتدّ «5» بما يجب على المهتدى والهالك والمتسحّب محسوبا فى باب المحسوب قبل فذلكة الواصل فى الرّقاع- على ما نبيّنه إن شاء الله فى الأوضاع الحسابيّة- ويكون ما على النازحين موقوفا الى أن يتحرّى أمرهم؛ فإن عاد أحد منهم الى ذلك الإقليم ولم يكن قد قام بالجزية فى بلد آخر استخرجت منه، ووردت فى باب المضاف فى حساب السنة، وإن كان قد قام بالجزية فى بلد آخر وأحضر وصول مباشر تلك الجهة بما اعتدّ له الجزء: 8 ¦ الصفحة: 243 به عن تلك السنة، نقل «1» مبلغ الوصول على تلك الجهة التى حضر وصولها قربت أو بعدت، واستشهد فى حسابه بمقتضى الوصول؛ وكلتا الطريقتين سائغة عند الكتّاب؛ وأما النّوابت «2» والطّوارئ فإنها ترد فى باب المضاف باتفاق الكتّاب فى أوّل سنة، وتستقرّ أصلا فى السنة التى تليها وما بعدها؛ ويحتاج المباشر الى تفقّد أحوال النوابت فى كلّ مدّة لاحتمال بلوغ صبىّ فى أثناء الحول، واختبار ذلك بأمور شرعيّة واصطلاحيّة: أما الشرعية فبإنبات «3» الشّعر الخشن «4» ، أو بكمال خمس «5» عشرة سنة؛ وأما اصطلاحيّة فبانفراق رأس الأنف، وغلظ الصوت، وبظهور شىء «6» على حلمة الثّدى من باطنه كالتّرمسة، وبأن يدار خيط على عنق الصبىّ مرّتين تحريرا، ثم يوضع طرف الخيط بين أسنانه وتدخل أنشوطة «7» فى رأسه، فإن دخلت دلّ ذلك على بلوغه، وإلا فلا؛ واصطلح بعض مباشرى الجوالى فى بعض الأقاليم على إلزام عرفاء الذمّة «8» بالمطالعة بكل صبىّ يولد لوقته، وبمن هلك منهم، ويرصّع «9» أسماءهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 244 فى جريدة مفردة بهم، فمن بلغ عمره ثلاث عشرة سنة استخرج منه الجزية سواء ظهرت أمارات بلوغه أم لا، ويلازم المباشر الكشف والتنقيب عمّن لعلّه أخفى من الرواتب، أو استجدّ من الطّوارئ والنّوابت ولم يرد الدفع، فمن ظهر له أمره استخرج الجالية منه لاستقبال وجوبها عليه، ويقابل من أخفاه بالإهانة والنكال؛ والمباشرة تظهر ما لا تحيط به الكتب؛ هذا ما يتعلّق بالجوالى، فلنذكر الخراجىّ- إن شاء الله تعالى-. ذكر جهات الخراجىّ وأنواعه وما يحتاج اليه مباشره والخراجىّ عبارة عما يستأدى مسانهة مما «1» هو مقرّر على الأراضى المرصدة للزراعة والنخل والبساتين والكروم والطواحين السنويّة التى تدور أحجارها بمياه السيول فى الجهات «2» الشاميّة، وما يستأدى من خدم الفلّاحين، ويسمّى ذلك بمصر: الضّيافة، وبالشأم: رسم الأعياد والخميس، وهو أغنام ودجاج وكشك «3» وبيض- على ما استقرّ على كلّ جهة- وهو إنما يكون على النواحى الإقطاعيّة غالبا، وأما فى نواحى الخاصّ فلا يستأدى، لما هو مقرر على الأراضى بمصر من الحقوق التى تستخرج دراهم، وبالشأم من التّضييف «4» المقرّر عليهم فى أيّام الفتح «5» عن مدّة ثلاثة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 245 أيّام؛ ومن أبواب الخراجىّ ما يستأدى بالشأم فى خدمة رؤساء الضّياع فى مقابلة ما لهم من المطلق والولاة والوكلاء والنّقباء والصّيارفة والكيّالين والضّوئيّة «1» فى مقابلة ما يستأدونه من الرسم، وذلك يرد فى أبواب المضاف؛ والخراجىّ تختلف أحكامه وقواعده بمصر والشام؛ والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. أما الديار المصريّة وأوضاعها وقوانينها وما جرت عليه قواعدها على ما استقرّ فى زماننا هذا وتداوله الكتّاب، فقانون الديار المصريّة مبنىّ على ما يشمله الرّى من أراضيها ويعلوه النيل؛ وقد ذكرنا فى باب الأنهار فى الفن الأوّل من كتابنا هذا نيل مصر، ومبدأه، والاختلاف فيه، وما يمرّ عليه من البلاد، وكيفيّة الانتفاع به من حفر التّرع، وضبط الجسور، وتصريف المياه عن الأراضى بعد ريّها؛ ونيل مصر هو من أعاجيب الدنيا، وقد روى عن ذى القرنين أنه كتب كتابا عمّا شاهده من عجائب الوجود فذكر فيه كلّ عجيبة، ثم قال فى آخره: وذلك ليس بعجب، ولكنّ العجب نيل مصر، ولولا ما جعل الله تعالى فيه من حكمة هذه الزيادة فى زمن الصيف على التدريج حتى يتكامل رىّ البلاد، وهبوط الماء عنها عند بدء وقت الزراعة لفسد أمر هذا الإقليم، وتعذّرت سكناه، إذ ليس به أمطار كافية ولا عيون سارحة «2» تعمّ أراضيه، وليس ذلك إلا فى بعض إقليم الفيّوم؛ فسبحان من بيده الخلق والأمر القادر على كلّ شىء، والمدبّر لكلّ شىء، سبحانه وتعالى لا إله إلّا هو. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 246 والذى يحتاج إليه مباشر الخراج بمصر ويعتمد عليه فى مباشرته أنه اذا شمل الرّىّ أرض الجهة التى يباشرها أن يبدأ بإلزام خولة «1» البلاد برفع قوانين الرّىّ، وصورتها أن يكتب فى صدر القانون ما مثاله: قانون رفعه كلّ واحد من فلان وفلان الخولة والمشايخ بالناحية الفلانيّة، بما شمله الرّىّ وعلاه النّيل المبارك من أراضى الناحية لسنة كذا وكذا الخراجيّة، وهو من الفدن «2» ؛ ويذكرون جملة قانون البلد، ويفصّلونه بالرّىّ والشّراقى، فالرّىّ: ما شمله النيل. والشراقى: ما لم يشمله؛ وللرّى تفصيل: منه ما هو نقاء «3» ، ومنه ما هو مزروع، وخرس، وغالب، ومستبحر؛ ويفصّل بقبائله «4» ، ويشرح فى كل قبالة هذا التفصيل؛ والنقاء: هو الطين السواد «5» الذى يصلح للزراعة وينبت فيه اذا لم يزرع الكلأ الصالح للرّعى «6» ، ويسمّى نباته بصعيد مصر: الكتّيح «7» ، وهو نبات تستغنى به الخيل والدوابّ والماشية عن البرسيم «8» . وأما المزروع: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 247 فهو ما عادته أن يزرع فى كلّ سنة. وأما الخرس: فهو الأرض التى تنبت فيها الحلفاء «1» ، فلا تزرع إلا بعد قلعها منها وتنظيفها، وقطيعته «2» دون قطيعة النّقاء. وأما الغالب: فهو ما غلبت على أرضه الحلفاء وتكاثفت فلا تقلع إلّا بكلفة، وقطيعته دون قطيعة الخرس، وقلّما يزرع، وأكثر ما يكون الخرس والغالب ببلاد الصعيد الأعلى «3» لسعتها، وكثرة أرضها، وتعطيلها من الزراعة سنة بعد أخرى. وأما المستبحر: فهو أراضى الخلجان المشتغلة التى تستمرّ المياه فيها إلى أن يفوت زمن الزراعة، فمنها ما يبوّر، ومنها ما يزرع مقاثئ «4» ، وقطيعته متوسّطة، وتكون غالبا بالدراهم دون الغلّة. وعندهم أيضا الترطيب «5» : وهو الذى تخلّلت المياه باطن أرضه شبه النّزّ «6» ولم تعلها، ولا تصلح لغير المقاثئ؛ فاذا رفع الى المباشر قانون الرّى أشهد فيه على رافعيه «7» بأن الأمر على ما تضمّنه؛ ثم ينظر المباشر إلى سنة يكون نيلها نظير نيل تلك السنة، ويبرز الكشوف، ويحضّر البلد «8» البلد على الفلّاحين القراريّة نظير ما حضّروه فى السنة الموافق نيلها لنيل تلك السنة الحاضرة «9» ، ويشهد على كلّ مزارع بما يسجّله من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 248 أراضى كلّ قبالة «1» وقطيعتها المستقرّة، ويعيّن منها ما هو بحقوق وما هو بغير حقوق، والحقوق: دراهم يقوم بها المزارع عن كلّ فدّان غير الغلّة، وتكون من أربعة دراهم إلى درهمين، والغلّة بحسب قطيعة الأرض وعادتها، وأكثر ما عرف من الخراج عن كلّ فدّان- وهو أربعمائة قصبة بالقصبة الحاكميّة «2» ، والقصبة ستة أذرع وثلثا ذراع بذراع القماش- ثلاثة «3» أردابّ، وهذه الأرض جزيرة بالأقصر من أعمال قوص، وأقلّ ما علمناه من القطيعة عن كل فدان سدس إردبّ، وهى فى الأراضى التى غلبت عليها الأخراس وقلّ الانتفاع بها، فهى تسجّل بهذه القطيعة عليها، وتنصلح فى المستقبل؛ وأما الأراضى التى تسجّل بالدراهم فأكثر ما علمناه بأراضى الجيزيّة «4» قبالة فسطاط مصر عن كلّ فدّان مائتان وخمسون درهما، وهو كثير فى أراضيها وسجّل فى بعض السنين ثلاثة أفدنة بألف درهم، ولم تستقرّ هذه القطيعة، وهذه الأراضى تزرع غالبا كتّانا؛ فاذا تكامل تحضير «5» البلد على المزارعين القراريّة والطّوارئ نظم المباشر أوراقا بجملة ما اشتمل عليه التحضير، مفصّلة بالأسماء والقبائل «6» والجزائر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 249 والجروف، وتكتب عليها الشهود الذين حضّر «1» البلد بحضورهم، ثم يصرف لكلّ مزارع ما جرت العادة به من التّقاوى «2» بحسب ما يسجّله، ويكون ما يصرفه من التقاوى من أطيب الغلال وأفضلها وأنصعها، ثم يبسط جريدة على أوراق السجلّات يشرح فيها اسم كلّ فلّاح وما يسجّله من الفدن «3» ، ويفصّل ذلك بقبائله وجهاته وقطائعه؛ فاذا نبت الزرع واستوى على سوقه ندب عند ذلك من يباشر مساحة الأراضى: من شادّ وعدول ذوى خبرة بعلم المساحة، وكاتب عارف خبير أمين، وقصّابين: وهم الذين يقيسون الأراضى بالأحكام «4» الحاكميّة المحرّرة؛ فيمسحون الأراضى المزروعة بأسماء أربابها وقبائلها، ويعيّنون أصناف المزروعات بها، ويكون مباشر والمساحة قد بسطوا أيضا سجلّات التحضير، فإذا تكاملت المساحة نظم مباشروها أوراقا يسمّونها: المكلّفة، يترجم صدرها بما مثاله مكلّفة تأريج «5» : هو الأوراق التى يبسطها مباشر المساحة بما فى السّجلّات ويختمها «6» بما انتهت اليه المساحة. والفنداق: هو عبارة عن التعليق، وهو الذى تكتب فيه المساحات حال قياسها. فإذا انتهت ترجمة صدر المكلّفة عقد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 250 جملة فدنها «1» فى صدرها وفصّلها بأصناف المزروعات وأسماء المزارعين، فإن طابقت المساحة السّجلّات من غير زيادة ولا نقص قال: وذلك بمقتضى السّجلّات، وإن تميّزت قال: ما تضمّنته السّجلّات كذا، زائد المساحة كذا، وان نقصت ذكر ما صحّ بمقتضى مساحته، وكمّله بالقلم تتمّة «2» ؛ وإن نقص مزارع عن سجلّه فى قبالة وزاد على سجلّه فى قبالة أخرى كمّل عليه «3» ما نقص بمقتضى سجلّه، وأورد ما زاد فى القبالة الأخرى زيادة، ولا ينقل الزائد إلى الناقص، ويلزمه المباشر بالقيام بخراج ما نقص من تلك القبالة وما زاد فى الأخرى؛ هذا مصطلحهم، وليس هو منافيا للشرع، إلا أنّنى أرى فى هذا النقص تفصيلا هو طريق العدل والحقّ، وهو إن كان النقص مع وجود أرض بائرة «4» بتلك القبالة لزمه القيام بخراج النقص، لأنه عطّلها مع قدرته على الانتفاع بها وزراعتها؛ ويسلّم إليه من الأراضى البائرة التى شملها الرّىّ بتلك القبالة نظير ما نقص عنده لينتفع بما لعلّه نبت فى تلك الأرض من الكلإ؛ وإن كان النقص مع تغليق «5» أرض تلك القبالة بالزراعة فلا شىء عليه لأنه لم يتسلّم ما بسجلّه، ويعتدّ له بما لعلّه زاد على تسجيل غيره بتلك القبالة، فإنه يعلم بالضرورة القطعيّة أن الذى زرع بها أكثر مما بسجلّه أخذ من جملة سجلّ غيره؛ وإن صحّت تلك القبالة فى «6» جميع المزارعين بمقتضى سجلّاتهم بغير زيادة، ونقص عند واحد بعينه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 251 جميع ما اشتملت عليه المساحة بها، فإن وافق جملة قانونها تعيّن أن الخلل إنما جاء من قبل المباشر، لأنه سجّل فى قبالة أكثر من قانونها، فلا يلزم المزارع بالنقص؛ هذا هو العدل والإنصاف، فمن خرج عنه فقد ظلم وحاف؛ فاذا تكمّلت تكملة المساحة وضع المباشر زائد مساحة كلّ اسم تحت اسمه، وضمّه إلى سجلّه، ورفع «1» الجملة بالعين والغلّة، وأضاف [إلى «2» ] كلّ اسم ما لعلّه قد تسلّمه من تقاو وقروض، وما عليه من عشر ووفر ورسوم، وما لعلّه انساق من الباقى الى آخر السنة الماضية إن كان؛ وهم «3» يضيفون عشر التقاوى، وهو حرام لا شبهة «4» فى أخذه، وهو الرّبا بعينه، فإنه يقرض الرجل عشرة فيأخذها أحد عشر؛ ويضيفون أيضا فى بعض البلاد عشر العشر فيقبض كلّ مائة إزدب مائة إدربّ واحد عشر إردبا؛ وإنما اشتدّت هذه المظالم وأحدثت من قبل أرباب البذول «5» الذين يقترفون «6» المظالم ولا يجدون من يردعهم ويردّهم عنها فتستمرّ، وهى من السنن السيئة التى عليهم وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 252 ثم يعقد المباشر على جميع ذلك جملة ويشطبها «1» بما يستخرجه منه ويحصّله، والذى تنعقد عليه الجملة هو ما تعيّن عليه للديوان أنجب زرعه أو لم ينجب؛ ومهما استخرجه منه وحصّله وأحال به كتب به وصولا؛ فإذا غلّق «2» كلّ اسم ما عليه أجاز عليه إشارة التغليق، وإن بقى عليه شىء ممّا تعيّن عليه طرده للباقى؛ هذا حكم الأرض التى تسجّل بالغلّة؛ وأما ما يسجّل بالنقد فإنه تتساوى عليه ثلاثة أقساط أو قسطان: قسط من ثمن البرسيم الأخضر عند إدراكه وبيعه لربيع الخيل، وقسط من الكتّان عند قلعه إن كان، وقسط عند إدراك المغلّ والمقاثئ، ومنهم من يسجّل بالنقد الحاضر جملة واحدة فى وقت السجلّ؛ هذا حكم خراج الزراعة. وأما الخراج الراتب، فهو لا يكون إلا بالنقد عينا «3» أو فضّة؛ وهو خراج السواقى والبساتين والنّخيل؛ وذلك أن أربابه يقاطعون «4» الديوان على فدن «5» معيّنة بمبلغ معيّن عن كلّ فدان فى كلّ سنة يقومون به فى أوقات معلومة، رويت الأرض أو شرّقت «6» ؛ وهم يحفرون فى تلك الأراضى آبارا بقدر ما يعلمون أن المياه التى تطلع منها تروى تلك الأراضى، ويركّبون على أفواه الآبار السواقى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 253 المتّخذة من أخشاب السنط وما ناسبه، المشهورة بالخرير «1» التى تعين على رفع الماء ويسمّونها بديار مصر: المحال «2» ، وبحماة: النواعير، إلا أن النواعير تدور بالماء، وهذه تدور بالأبقار؛ ويزرعون عليها بتلك الأراضى ما أحبّوه واختاروه من أصناف المزروعات والغروس لا يطالبون عليها بغير الخراج المقرّر، إلا أن ينصبوا «3» القصب فلا يقتصر منهم عند ذلك على الخراج، بل للديوان على الأقصاب مقرّر يستأديه عن كلّ فدّان؛ ويستأدى خراج الراتب على أقساط فى زمن الثمار والأعناب والفواكه وعند ضرب الوسمة «4» - وهى النّيل الذى يصبغ به اللون الأزرق- وخراج الراتب يستأدى ممن هو عليه، زرع أرضه أو عطّلها، وهو لا يبطل بوفاة المقاطع «5» على الأرض، بل ينتقل على ورثته، ويطالبون به أبدا ما تعاقبوا وتناسلوا، ولا يوضع عنهم إلا إن ابتلع البحر الأرض المقاطع عليها بعد أن يعملوا بذلك مشاريح «6» تثبت عند حاكم البلد أن البحر ابتلع «7» تلك الأراضى بكمالها أو بعضها، ولا ينهض مباشر الناحية أو ناظر العمل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 254 بوضعه مع وجود المحضر «1» الثابت «2» ، بل يحضر المقاطع على الأرض أو من انتقلت اليه بالإرث أو الابتياع الى باب السلطان، ويرفع قصّة الى الوزير بصورة الحال، ويوقّع عليها بقلمه أن «3» يوضع عنه من خراج الراتب بقدر ما ابتلعه البحر بمقتضى المحضر، ويستمرّ حكم ما بقى، ويكتب على ظهر قصّته: توقيع شريف سلطانىّ؛ ويثبت بدواوين الباب السلطانىّ، ثم يثبت بديوان العمل الجامع، ثم ينزل فى ديوان البلد التى بها تلك الأرض، وبوضع عند ذلك من الضريبة الديوانية؛ هذا حكم الخراج بالديار المصريّة وقاعدته والعادة فيه. وأما جهات الخراجىّ بالشام وكيفيّتها وما يعتمد عليه مباشروها - فإن قانون البلاد الشاميّة مبنىّ على نزول الغيث، ووقوع الأمطار فى إبّانها وأوقات «4» الاحتياج اليها، فمن ذلك المطر المسمّى: الوسمىّ، وهو الذى يقع فى فصل الخريف، وعند وقوع هذا المطر يخدّ «5» شقّ الأراضى المكروبة «6» بالسّكك «7» ، ثم يبذر الحبّ فيها، ويعاد شقّ الأرض عليه ليخفى عن الطير «8» خشية التقاطه، فإذا نزل عليه المطر الثانى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 255 بعد ذلك نبت وبرز إلى وجه الأرض، وهو عند ذلك يسمّى: الأحوى «1» ، ثم لا تزال الأمطار تسقيه والأنواء تغذيه حتى يصير غثاء، ثم يقع عليه بعد ذلك المطر المسمّى بالمطر الفاطم، وهو غالبا يكون فى شهر نيسان، ثم يعقد فيه الحبّ بعد ذلك، وينتهى على عادة الزرع؛ هذا حكم ما يزرع على الوسمىّ. ومن أراضى الشأم [نواح «2» ] يغبّها «3» الوسمىّ فيزرع سكّانها «4» الحبّ عفيرا، ومعنى ذلك أنهم يزرعون فى الأرض الحبّ قبل إبّان الزرع وينتظرون وقوع الأمطار عليه؛ ومن غريب ما اتّفق فى بعض السنين أنهم أودعوا الحبّ الأرض على عادتهم فلم تسقط عليه الأمطار فى تلك السنة، فاستمرّ فى الأرض إلى العام القابل، وأيس أهل البلاد منه، وزرعوا فى السنة الثانية شطر الأراضى التى كانت كرابا غير مزروعة- فإن عادتهم بسائر بلاد الشأم أن كلّ فلّاح يقسم الأراضى التى بيده شطرين، فيزرع شطرا، ويريح شطرا، ويتعاهده بالحرث لتقرع الشمس باطن الأرض، ثم يزرعه فى القابل ويريح الشطر الذى كان به الزرع؛ هذا دأبهم، خلافا لأراضى الديار المصريّة، فإنها تزرع فى كلّ سنة- فلما وقعت الأمطار نبت الشطران معا، وأقبلت الزراعات فى تلك السنة، فتضاعف المغلّ، وهذا غريب نادر الوقوع. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 256 ومن أراضى الشأم ما يسقى بالمياه السارحة من الأنهار والعيون، وتكون مقاسمة أرضه أوفر من مقاسمة ما يسقى بالأمطار، وقيمة الأملاك بها أرفع «1» وأغلى من تلك، ويكون غالبا فى الأراضى المستفلة «2» ؛ والله تعالى أعلم. والذى يعتمده مباشر الخراج ببلاد الشأم أنه يبدأ بإلزام رؤساء البلاد بتغليق «3» أراضيها بالزراعة والكراب «4» ؛ ومصطلحهم فى ذلك أن يقولوا: أحمر وأخضر، يعنون بالأحمر: الكراب، وبالأخضر: الزرع شتويّا «5» أو صيفيّا، ويعنون بالشّتوىّ: القمح والشعير والشّوفان «6» والفول والحمّص والعدس والكرسنّة «7» والجلبّان «8» والبستيلية الجزء: 8 ¦ الصفحة: 257 وهى التى تسمّى بمصر: البسلّى «1» ، وبالساحل الطرابلسىّ: الحالبة؛ ويعنون بالصيفىّ: الذّرة والدّخن والسّمسم والأرزّ والحبّة السوداء والكسبرة والمقاثئ «2» والوسمة «3» والقرطم «4» والقطن والقنّب «5» ؛ ويكتب عليهم بذلك مشاريح أنهم لا يبوّرون شيئا من الأراضى ومن بوّر شضيئا منها كان عليه القيام بريع «6» الغامر من «7» نسبة العامر؛ فإذا زرعت الأراضى وبدا صلاح الزرع، وأخذ الفول فى العقد خرج الوكلاء على الزراعة إلى النواحى يحفظون الزراعة من التّطرّق إلى شىء منها، ويلازمونها إلى أن تحصد وتنقل إلى البيادر «8» ؛ فعند ذلك يخرج الأمر بحفظ ما يصل إلى البيادر، ويأخذون فى الدّراس؛ فإذا تكامل وطابت البيادر ولم يبق إلا التّذرية أخرج مذرّيا- ووظيفة المذرّى أنه يلزمهم بتخليص الغلال من الأقصال وتنظيفها؛ فإذا فعلوا ذلك وخلصت الغلال من الأتبان والأقصال وصارت بيادر صافية خرج والى العمل ومباشروه إلى تلك الجهة، وتقدّموا «9» بتوزيع بيادرها على ضريبة الناحية وعادتها فى المقاسمة، مناصفة- وذلك فى أراضى السّقى-، ومثالثة ومرابعة- وهو فى غالب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 258 البلاد-، ومخامسة ومسادسة- وذلك فى المزارع والنواحى الخالية من السكّان التى يزرعها المستكرون «1» -، ومسابعة ومثامنة- وذلك فى النواحى المجاورة لسواحل البحر والمتاخمة لأطراف بلاد العدوّ؛ فإذا فرغ توزيعها أخذ المباشرون ما يخصّ الديوان من التوازيع، ثم يحزر «2» ما لعلّه تأخّر من الغلال فى عرصات البيادر والأقصال وأعقاب التّبّانات والعفائر، ويؤخذ منه ما يخصّ الديوان من «3» نسبة المقاسمة، ويكمّل على الفلّاح على حكم ضريبة ذلك العمل؛ وفى بعض النواحى يكون من المواسطة «4» ، فتفرد لها توزيعه بمفردها، ثم يؤخذ من حاصل الفلّاح بعد الرسوم عشر ما بقى له؛ وهذا غير مطّرد فى جميع البلاد، فإنّ فى جهات الأوقاف والبرّ وما يناسبها لا يؤخذ العشر إلا من النصاب الشرعىّ؛ وفى نواحى الخواصّ والإقطاعات يؤخذ ممّا بقى للفلّاح من كلّ عشرة أجزاء جزءا ممّا قلّ أو كثر بحسابه؛ وفى بعض الأقاليم لا يؤخذ العشر من المزارعين الذّمّيّة؛ وأما النواحى الإقطاعيّة والأملاك التى أعشارها ديوانيّة فمنها ما عليه ضريبة مقرّرة تؤخذ فى كلّ سنة زاد المغلّ أو نقص، ومنها ما يندب له من يقف على النواحى ويحزر «5» ما بها من الغلال ويقدّر العشر عنها، ويكون هذا الحزر والزرع قائم أو حصيد قبل دراسه، ثم يستعاد بعد ذلك من الفلّاحين ما لعلّه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 259 عليهم من التقاوى «1» والقروض، وتكون بمفردها مرصدة لتقاوى، السنة الآتية؛ ثم يعتبر ما يتحصّل من الغلال على اختلاف أصنافها بالكيل المتعامل به فى ذلك الإقليم، وتعمل بذلك مخازيم «2» على العادة مفصّلة بالأسماء وأصل المقاسمة والرسوم والعشر وما لعلّه استعيد من التقاوى والقروض؛ وعند تكامل قسم نواحى كلّ عمل ينظم على المخازيم عمل «3» بالمتحصّل على ما نشرحه إن شاء الله تعالى فى الأوضاع الحسابيّة؛ هذا ما يعتمده فى الغلال. وأما الخرّوب والزيتون والقطن والسّمّاق «4» والفستق والجوز واللّوز والأرزّ فإنّ الوكلاء تستمرّ على حفظ ذلك إلى أن يصير فى بيادره، ويقسم على حكم الضريبة ويحصّل ويورد على المتحصّل؛ وفى بعض الأعمال الشاميّة نواح مفصولة «5» ومضمّنة «6» على أربابها بشىء معلوم يؤخذ منهم عند إدراك المغلّ من غير توكيل ولا مقاسمة، وهى نظير المتأجرات «7» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 260 بالديار المصريّة؛ ولفظ الفصل «1» بالشأم كلّه كلمة فرنجيّة، واستمرّ استعمالها فى البلاد الساحليّة التى ارتجعت من أيدى الفرنج جريا على عادتهم. وأما خراج العين فهو مقرّر على البساتين والشجريّات والكروم والمقاثئ ويستخرج على حكم الضريبة عند إدراك كلّ صنف. ومن أبواب «2» الخراجىّ الخدم التى تقدّم «3» ذكرها، ومقرّر القصب والبريد «4» والبسط، وعشر العرق «5» ، وغير ذلك مما يطول شرحه، الّا أن جميع ما يستخرج من الأراضى منسوب الى الخراج. ومن أبواب الخراجىّ الأحكار على ما فيها من الاختلاف؛ ومهما استخرجه المباشر وحصّله من ذلك يعتمد فى إيراده نحو ما شرحناه فى الهلالىّ: من إيراده فى تعليق المياومة، وشطبه على الجريدة المبسوطة على أبوابه؛ هذا حكم الهلالىّ والجوالى والخراجىّ؛ والله سبحانه وتعالى أعلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 261 وأما ما يشترك فيه الهلالىّ والخراجىّ ويختلف باختلاف أحواله فجهات، وهى المراعى والمصايد والأحكار؛ أما المراعى «1» - فالذى يرد منها فى أبواب الهلالىّ ما استقرّ حكمه بجهة، وتقرّر فى كل سنة، وصار ضريبة مقرّرة؛ فمن المباشرين من يقبضه على شهور السنة، ويستخرجه أقساطا، ويورده فى جملة أبواب الهلالىّ؛ والذى يرد منه فى أبواب الخراجىّ هو ما يستخرج من أرباب المواشى فى كلّ سنة عند هبوط نيل مصر ونبات الكلإ، فى مقابلة ما رعته مواشيهم من نبات الأرض، وهو يزيد وينقص بحسب كثرة المواشى وقلّتها؛ وعادتهم فيه أن يندب لمباشرة ذلك مشدّ «2» وشهود وكاتب، ويعدّوا الأغنام وغيرها، ويستخرجوا من أربابها عن كلّ رأس شيئا معلوما بحسب ضريبة تلك الجهة وعادتها؛ وهو على هذا الوجه لا ينبغى إيراده إلا فى أبواب الخراجىّ؛ ومن الكتاب من «3» يورده فى أبواب الهلالىّ، وهو غلط. وأما المصايد «4» - فمنها أيضا ما يورد فى أبواب الهلالىّ كالنواحى التى تصاد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 262 بها الأسماك على الدوام، مثل ثغر دمياط والبرلّس «1» وجنادل «2» ثغر أسوان وأشباه ذلك بالديار المصريّة، وبالشأم مثل نهر العاصى «3» وبحيرة طبريّة، وغيرهما من الأنهار والبرك؛ ومنها ما يرد فى أبواب الخراجىّ، وهو ما يصاد من الأسماك عند هبوط نيل مصر ورجوع الماء من المزارع الى بحر النيل؛ والعادة فى ذلك اذا انتهت زيادة النيل وشرع الماء فى مبادئ النقص سكروا «4» أفواه التّرع، وسدّوا أبواب القناطر التى عليها حتى يرجع الماء (ويتكاثف «5» مما يلى المزارع) ثم ينصبون الشّباك، ويصرفون المياه، فيأتى السمك وقد اندفع مع الماء الجارى، فيجد الشباك تحول بينه وبين الانحدار مع الماء، فيجتمع فيها، ثم يخرج منها الى البرّ، فيوضع على نخاخ «6» ويملّح ويودع فى الأمطار، وأكثر ما يكون ذلك فى طول الإصبع ونحوه «7» ؛ وله أسماء: منها البلطىّ «8» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 263 والرّاى «1» والبنّىّ «2» وغير ذلك، وما يؤكل منه طريّا بعد قليه يسمّونه الإبسارية «3» ؛ ومنها ما يكون بقدر الفتر، ويسمّى الشال «4» ، وهو يملّح أيضا «5» ؛ فهذا الذى يتعيّن إيراده فى أقلام الخراجىّ، ومنهم من يورده فى الهلالىّ، ومن الكتاب من يورد المصايد والمراعى قلما مستقلّا بعد الجوالى وقبل الخراجىّ. وأما الأحكار - فقد تقدّم الكلام عليها عند ذكرنا للهلالىّ. وهذه الاختلافات بين الكتّاب هى بحسب آرائهم وعادات النواحى وما استقرّت عليه قواعدها؛ وإنما أوردنا ذلك على سبيل التنبيه عليه، وذكر مصطلح الكتّاب فيه. وأما أقصاب السكّر ومعاصرها - فهى «6» تختلف بحسب الأماكن والبقاع والنواحى والديار المصريّة والشأم، وتختلف أيضا فى الديار المصريّة بحسب الأعمال والنواحى والأراضى؛ وقاعدتها الكليّة التى لا تكاد تختلف فى الديار المصريّة أن تختار لها الأراضى الجيّدة الدّمثة «7» التى شملها الرّىّ وعلاها النيل، ويقلع ما بها من الحلفاء وتنظّف؛ ثم تبرش بالمقلقلات- وهى محاريث كبار- ستة وجوه، وتجرّف الجزء: 8 ¦ الصفحة: 264 حتى تمهّد، ثم تبرش ستة وجوه أخرى وتجرّف- ومعنى البرش الحرث «1» -؛ فإذا صلحت وطابت ونعمت وصارت ترابا ناعما وتساوت بالتجريف تشقّ عند ذلك بالمقلقلات، ويرمى القصب فيها قطعتين: [قطعة «2» ] مثنّاة «3» ، وقطعة مفردة؛ وذلك بعد أن تجعل أحواضا وتفرز لها جداول يصل الماء منها الى تلك الأحواض، ويكون طول كلّ؟؟؟ منها ثلاثة أنابيب كوامل وبعض أنبوبة من أعلى القطعة وبعض أخرى من أسفلها؛ و؟؟؟ برسم النّصب من الأقصاب ما قصرت أنابيبها، وكثرت عيونها؛ فإذا تكامل النّصب أعيد التراب عليه؛ وصورة النصب أن تكون القطعة ملقاة لا قائمة؛ ثم يسقى من حال نصبه فى أوّل فصل الربيع فى كلّ أسبوع مرّة؛ فإذا نبت القصب وصار أوراقا ظاهرة على وجه الأرض نبتت معه الحلفاء والبقلة «4» الحمقاء، فعند ذلك تعزق أرضه- ومعنى العزق أن تنكش الأرض وينظّف ما نبت مع القصب- ويتعاهد «5» بذلك «6» مرّة بعد أخرى إلى أن يغزر القصب ويقوى ويتكاثف، فلا يتمكّن العزّاق من الأرض، فيقال فيه عند ذلك: طرد القصب عزّاقه، وذلك عند بروز الأنبوب منه؛ ومجموع ما يسقى بالقادوس ثمانية وعشرون ماء. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 265 والعادة أن الذى ينصب من الأقصاب على كلّ محال «1» بحرانىّ «2» - أى «3» مجاور للبحر- إذا كان مزاح «4» العلّة «5» بالأبقار «6» الجياد مع قرب أرشية الآبار ثمانية أفدنة؛ ويحتاج إلى ثمانية أرؤس بقرا؛ فإذا» كانت الآبار بعيدة عن مجرى النيل لا يقوم المحال بأكثر من ستة أفدنة الى أربعة أفدنة؛ فإذا طلع النيل وارتفع سقى القصب عند ذلك ماء الراحة؛ وصفة ذلك أنه يقطع عليه من جانب جسر يكون قد أدير عليه ليقيه من الغرق عند ارتفاع الماء بالزيادة، فيدخل الماء من تلك الثّلمة التى فرضت من الجسر، ويعلو على وجه أرضه نحوا من شبر، فتسدّ «8» عند ذلك، ويمنع الماء من الوصول اليه، ويترك ذلك الماء عليه مقدار ساعتين أو ثلاث الى أن يسخن، ثم يصرف عنه من جانب آخر إلى أن ينضب، ثم يجدّد عيه الماء مرّة أخرى؛ يتعاهد بذلك مرارا فى أيّام متفرّقة بقدر معلوم، ثم يفطم بعد ذلك؛ هذا هو القصب الذى يوفّى حقّه فى أيّام متفرّقه بقدر معلوم، ثم يفطم بعد ذلك؛ هذا هو القصب الذى يوفّى حقّه فى حرثه ونصبه «9» وسقيه وعزقه وغير ذلك؛ فما نقص من ذلك كان المباشر قد أخلّ به إلا النصب على الرّىّ وسقى ماء الراحة فإنه أمر ربّانىّ لا قدرة للمباشر على استجلابه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 266 ولا غنية للقصب عن القطران قبل أن يحلو، فإنه يمنع السوس من الوصول إليه؛ وصفة ذلك أنهم يجعلون القطران فى قادوس مبخوش «1» من أسفله، ويسدّ ذلك البخش «2» بشىء من الحلفاء، ويعلّق القادوس على جدول الماء، ويمزج القطران بالماء فيقطر من خلال ذلك البخش المسدود، ويمتزج قطره بالماء الذى يصل الى القصب، ويحصل به المقصود. وإن خشى المباشر على القصب من فساد الفأر أدار حوله حيطانا رقيقة مقلوبة الرأس إلى خارج أرض القصب تسمّى حيطان الفأر، وتصنع من الطين المخلوط بالتبن فتمنع الفأر من الوصول إلى القصب، فإنه إذا تسلّق فى «3» الحائط وانتهى إلى آخرها منعته تلك الحافة المقلوبة وأصابت رأسه فيسقط إلى الأرض. هذا ما يلزم المباشر الاحتفال به واعتماده فى أمر القصب. فإذا كان فى أوّل كيهك من شهور القبط كسرت الأقصاب وقشرت، ونقلت إلى المعاصر؛ وإذا كان فى أوان نصب القصب من السنة الثانية حرقت آثار الأقصاب وسقيت وعزقت كما تقدّم، فتنبت أرضها القصب؛ ويسمّونه بمصر: الحلفة، ويسمّون الأوّل: الرأس؛ وقنود «4» الخلفة فى الغالب أجود من قنود الرأس. ذكر كيفية الاعتصار والطبخ وتقدير المتحصّل الذى جرت عليه العادة بالديار المصرية أن الأقصاب إذا نقلت من المكسر إلى المعصرة على ظهور الجمال أو الحمير وضعت فى مكان برسمها يسمّى دار القصب، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 267 بها وترات وحطب ورجال مرصدون لإصلاح القصب بالسكاكين الكبار التى «1» مقدار حديدها ثلثا ذراع، فى عرض سدس ذراع فى سمك إبهام، فينظّفون عيدان القصب، ويقطعون من أعلاه ما ليس فيه حلاوة، ويسمّونه اللّكلوك «2» ، وينظّفون اسفل العود ممّا لعلّه به من عروق وطين؛ ويسمّى هذا الإصلاح التطهير؛ ثم ينقل من تلك الوترات الى وترات أخر مؤبّدة بأعلى حائط عريض مرتفع عن الأرض، أحد جانبى الحائط مما يلى دار القصب، والوجه الآخر إلى بيت آخر يسمّى بيت النّوب «3» ؛ وعلى ذلك الحائط رجال جالسون فى مقاعد أعدّت لهم، وبأيديهم السكاكين التى ينظّف بها القصب، والوترات المؤبّدة أمامهم، فيجمع الرجل منهم عدّة عيدان من القصب، ويضعها على الوترة، ويقطّعها قطعا صغارا فتسقط فى بيت النّوب؛ ثم تنقل من بيت النّوب الى الحجر فى أفراد «4» تسمّى العيارات «5» متساوية المقادير؛ فيوضع ذلك القصب المقطّع تحت الحجر؛ ويدوّر الحجر عليه الأبقار الجياد فيعصره؛ وينزل ما يخرج منه من الماء فى أبخاش «6» فى القاعدة التى تحت الحجر إلى مكان ضنك «7» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 268 معدّ له؛ فإذا انتهى ذلك القصب من العصر تحت الحجر نقل إلى مكان آخر، ثم يجعل فى قفاف متّخذة من الحلفاء مشّبكة الأسافل والجوانب، ويلقى تحت دولاب التّخت «1» ، ويدور الدولاب عليه بالأعواد حتى يأخذ حدّه، ويخرج ما بقى فيه من الماء؛ ويجتمع ما تحصّل من ماء القصب من الحجر والتّخت فى مكان واحد؛ ثم ينقل ذلك الماء فيصفّى من منخل موضوع فى قفص معدّ له، وينزل ما يخرج الى مكان متصل يسمّونه البهو «2» ، له عيار معلوم محرّر؛ فإذا امتلأ من ذلك الماء المصفّى نقل إلى المطبخ، وصفّى تصفية ثانية فى قدر كبيرة يسمّونها الخابية يصبّ فيها بعد التصفية جميع ما كان فى البهو، وهو ستون مطرا «3» من ماء القصب ضريبة كلّ مطر نصف «4» قنطار باللّيثىّ على التحرير- والرطل اللّيثىّ مائتا درهم- فيكون ما فى الخابية ثلاثة آلاف رطل وهو ما كان فى البهو؛ ثم يوقد عليها من خارج المعصرة إلى أن يغلى الماء غليانا كثيرا، وينقص نقصا معلوما، فعند ذلك يبطل الوقيد «5» عنها؛ فإذا سكن غليانها نقل ما فيها من الماء المسلوق فى يقاطين كبار، فى كلّ قرعة منها خشبة منجورة طويلة كالساعد نافذة فى جانبى القرعة، ويصبّ فى أكسية من الصوف الجزء: 8 ¦ الصفحة: 269 تحتها دنان كبار فيصفّى الماء منها تصفية ثالثة، ويستقرّ فى تلك الدّنان؛ ثم ينقل من الدنان فى دسوت «1» إلى القدور، فيطبخ فيها إلى أن يأخذ حدّه من الطبخ؛ ويحتاج كلّ حجر الى خابية وثمانى قدور لطبخ ما يعتصر تحت الحجر والتّخت؛ ثم ينقل بعد طبخه فى دسوت من النّحاس، لكلّ دست منها قبضتان من الخشب مسمورتان فى أعلاه يقبض الرجل عليهما ليقياه حرارة الدّست؛ ويصبّ ذلك المطبوخ- ويسمّى إذ ذاك المحلب- فى أباليج من الفخّار ضيّقة «2» الأسافل، متسعة الأعالى، مبخوش فى أسفل كلّ أبلوجة منها ثلاثة أبخاش «3» مسدودة بقشّ القصب، وهذه الأباليج موضوعة فى مكان يسمّى بيت الصبّ، فيه مصاطب مبنيّة مستطيلة تشبه المذاود «4» ، ويجعل تحت كلّ أبلوجة من تلك الأباليج قادوس يقطر فيه ما يتخلّص من رقيق ذلك المحلب «5» - وهو العسل القطر- ثم يخدمها الرجال بالكرانيب «6» مرّة بعد أخرى حتى تمتلئ تلك الأباليج، وهى تختلف، فمنها ما يسع أكثر من قنطار، وأقلّ منه؛ فإذا امتلأت وتكاملت خدمتها وأخذت فى الجفاف نقلت من بيت الصبّ الى بيت الدفن «7» ؛ فتعلّق فيه على قواديس يقطر فيها ما بقى من أعسالها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 270 وأما أوساخ الأقصاب التى تنظّف منها فى دار القصب فإنها تعتصر على انفرادها، وتطبخ بمفردها، وتسمّى الخابية، وهى أردأ من عسل القصب. ولما يتحصّل من الاعتصار أسماء وعبر «1» : منها الضريبة، ومنها الوضعة «2» ، ومنها اليد؛ فالضريبة عبارة عن ثمانى أياد؛ واليد ملء خابية؛ والخابية ثلاثة آلاف رطل من عصير القصب بالرطل اللّيثىّ كما تقدّم؛ فتكون الضربية أربعة وعشرين ألف رطل من الماء، يجمد منها مع جودة القصب وصلاحه من القند خمسة وعشرون قنطارا إلى خمسة عشر قنطارا، ومن الأعسال اثنا عشر قنطارا إلى ثمانية قناطير؛ ونهاية ما يتحصّل من الفدان القصب ثلاث ضرائب: منها قند وقطر ضريبتان ونصف وعسل خابية نصف ضريبة مقدارها أربعة وعشرون قنطارا بالمصرىّ؛ ومن الأقصاب ما يفسد فلا يجمد طبيخ مائه ولا يصير قندا، فيطبخ عسلا، ويسمّونه المرسل؛ وهذا الذى ذكرناه من الوضع «3» والمتحصّل والتسمية اصطلاح بلاد قوص من الصعيد الأعلى بالديار المصريّة، وهو وإن اختلف فى غيرها من البلاد فلا يبعد من هذا الترتيب. وأما أقصاب الشأم - فهى تختلف أوضاعها بحسب البقاع والنواحى والأعمال، فمنها ما هو بالسواحل الطّرابلسيّة والبيروتيّة والعكّاويّة؛ ولهم اصطلاح فى نصب الأقصاب واعتصارها: فمنها ما يعتصر بحجارة الماء، ومنها ما يعتصر بالأبقار، ومنها ما يعتصر بالسّهام «4» ؛ وليس ذكرها وبسط القول فيها من المهمّات التى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 271 تقتضى الانصباب «1» اليها؛ والذى قدّمنا ذكره أيضا من أمر أقصاب مصر هو على الحقيقة فلاحة ودولبة «2» ، وليس هو كتابة، وهو للمباشر زيادة على صناعته، على أنه لا يستغنى عن معرفته والاطلاع عليه. وعمدة المباشر فى الاعتصار ضبط ما يتحصّل، وحراسته من السارق والخائن والمفرّط؛ ويلزم مباشر الاعتصار أن ينظم فى كلّ يوم وليلة مخزومة» بما اعتصر وبما تحصّل؛ فإذا انتهى الاعتصار نظم عملا «4» شاملا لجميعه على ما نشرحه فى الأوضاع الحسابيّة. والقند إذا جفّ وأخذ حدّه من البياض نقل إلى مطابخ السكّر، فيحلّ بالماء وشىء من اللبن الحليب، ويطبخ فيصير منه السكّر البياض «5» والقطارة؛ ويتحصّل من كلّ «6» قنطار من القند ربعه وسدسه سكّرا، وثلثه وربعه قطارة؛ ومنه ما يكرّر ثانيا فيصير فى غاية البياض والنقاء، وقطارته تقارب قطر النبات؛ ومنه أيضا ما يطبخ نباتا؛ وهذه أمور جمليّة يستدلّ منها على المقاصد، والمباشرة تشمل ما لا يمكن إيراده فى كتاب، وتظهر ما لا يكاد ينحصر بخطاب، فلنذكر الأوضاع الحسابيّة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 272 ذكر أوضاع الحساب وما يسلكه المباشر ويعتمده فيها أوّل ما يحتاج اليه كلّ مباشر أن يضع له تعليقا ليوميّته، يذكر فيه تاريخ اليوم والشهر من السنة الهلاليّة، ويذكر فيه جميع ما يتجدّد ويقع فى ذلك اليوم فى ديوانه: من محضر ومستخرج ومجرى ومبتاع «1» ومباع ومبيع ومصروف، وما يتجدّد من زيادات فى الأجر والضمانات، وعطل، وتقرير أجائر، وترتيب أرباب استحقاقات على جهات، وتنزيل «2» من يستخدمه، وصرّف من يصرفه من أرباب الخدم، وغير ذلك بحيث لا يخلّ بشىء مما وقع له فى مباشرته قلّ أو جلّ؛ وهذا التعليق هو أصل المباشرة، فمن ضبط اليوم انضبط ما بعده «3» ؛ وكلّ المباشرين فى وضعه سواء، يضع الشاهد «4» فيه ما يضعه العامل «5» فإذا كان فى آخر النهار قوبل على مجموعه بين المباشرين، ويساق ما يحتاج إلى سياقته من العين والغلّة والأصناف. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 273 ثم يكتب العامل مخزومة يورد فيها المستخرج والمحضر والمجرى والمصروف «1» ، ويرفعها على عدّة نسخ بحسب المسترفعين؛ وإن شاحّه «2» المسترفع لزمه أن يوردها فيما أورده فى مياومته من سائر المتجدّدات والأحوال، فيصير بها المسترفع الغائب كالمباشر الحاضر، وتشمل المخزومة خطّ من هو مباشر: من ناظر مباشرة فمن دونه؛ وقد قدّمنا ذكر بسط الجرائد على الأموال والغلال، وكيفيّة خدمتها فى الأصول؛ ونظير ذلك أن يبسط أسماء أرباب الاستحقاقات وأرباب المصاريف تلو أصول الأموال ومضافاتها، ويضع لكلّ اسم ما يستحقّه مشاهرة ومسانهة عينا وغلّة، أو ثمن صنف أو غير ذلك؛ ثم يشطب قبالة كلّ اسم ما قبضه مفصّلا بتواريخه من جهة قبضه، لتسهل عليه بذلك محاسبة كلّ نفر «3» عند الاحتياج الى محاسبته كما شرحناه فى الأصول؛ ولا بدّ لكلّ مباشر من جريدة على هذه الصفة تشتمل على الأصل والخصم؛ والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 274 ذكر ما ينتج عن التعليق من الحسبانات بعد المخازيم «1» وهى الختم والتّوالى والأعمال والسياقات التى «2» تلك كلّها شواهد الارتفاع: فأما الختم - فتختصّ بجهات العين من سائر الأموال؛ وكيفيّتها أنه إذا مضت على المباشر مدّة لا تتجاوز أحد عشر شهرا فما دون الشهر إلى عشرة أيام- وما دون «3» الشهر لا يقع إلا عند انفصال كاتب فى أثناء الشهر أو اقتراح مقترح- نظم «4» حسابا سمّاه الكتّاب فى مصالحهم: الختمة، يشرح فى صدرها ما مثاله بعد البسملة: ختمة بمبلغ المستخرج والمجرى من أموال الجهات، أو المعاملة الفلانيّة لاستقبال كذا، والى آخر كذا؛ ويذكر أسماء المباشرين فيقول: بولاية فلان، ونظر فلان، ومشارفة فلان، وكتابة فلان؛ ويعقد فى صدرها جملة على ما استخرجه فى تلك المدّة وأجراه من أصول الأموال، يفصّل ذلك بسنيه، ويشرحه بجهاته وأسماء أربابه وتواريخ محضره ومجراه، إلى نهاية ذلك؛ ثم يقول: وأضيف إلى ذلك ما وجبت إضافته؛ يبدأ بالحاصل المساق إلى آخر المدّة التى قبلها، ثم يذكر ما لعلّه استخرجه من الجهات التى ترد فى باب المضاف، وما ورد من أثمان المبيعات والمصالحات والخدم، وما لعلّه اقترضه، وما لعلّه حصّل من المواريث «5» الحشريّة والمجتذبات والتأديبات، وما لعله اعتدّ به لمعاملة أخرى ونقل عليه «6» ، إلى غير ذلك من أبواب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 275 المضاف على اختلافها. مما يطول شرحه لو استقصى؛ ثم يفذلك «1» على الأصل والإضافة؛ وإن صرف نقدا بنقد ذكره بعد الفذلكة، واستقرّ بالجملة بعده وإلّا فالفذلكة بمفردها؛ ثم يخصم تلك الجملة بما لعلّه حمله أو نقله على «2» معاملة أخرى أو صرفه، ويذكر الحمل بتواريخه ورسائله، واسم من حمل على يده، والمنقول كذلك والمصروف بأسماء أربابه وتواريخه، ثم يسوق إلى التحصيل «3» إن انطرد «4» له حاصل وإلّا فيقول فى آخرها: ولم يبق حاصل فنذكره. وقد اقترح فى بعض الممالك الشاميّة فى بعض السنين على المباشرين أن يضمّنوا ختمهم ما يوردونه فى الأصل من جهات الأصول- كلّ جهة من المستخرج والمجرى- الأصل مختوما والخصم مفصّلا بجهاته؛ مثال ذلك أن يقول فى الأصل: الجهة الفلانيّة فى التاريخ الفلانىّ كذا [و] كذا درهما؛ ويذكر تحت ذلك التاريخ خصم تلك الجملة؛ وفى الخصم إذا ذكر اسم ربّ استحقاق وما وصل اليه فى كل تاريخ يقول: التاريخ الفلانىّ؛ ويعيّن جهاته؛ ويشطب المسترفع الأصل على الخصم؛ وفى هذا تضييق كثير على المباشر، ولم يستقرّ ذلك، وعادت الأوضاع على ما بيّنّاه؛ هذا مصطلحهم فى الختم؛ والله أعلم. وأما التوالى - فهى إذا أطلقت أريد بها توالى الغلال؛ وكيفيتها أنه إذا مضت مدّة على ما قدّمناه فى شرح الختم نظم كاتب الجهة حسابا للغلّة اسمه التالى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 276 يشرح فى صدره بعد البسملة: قال بما انساق حاصلا من الغلال بالجهة الفلانيّة إلى آخر المدّة الفلانيّة، مضافا مخصوما إلى آخر كذا؛ ويذكر أسماء المباشرين على ما تقدّم، ثم يوصل فى صدره ما انساق إلى آخر المدّة التى قبلها من الغلال على اختلافها، ويفسّر «1» الغلال بسنيها، ويضيف اليه ما لعلّه انضاف «2» من متحصّل ومبتاع وقرض وغير ذلك؛ ثم يفذلك عليه، ويذكر بعد الفذلكة ما لعلّه وقع من تبديل صنف بصنف لوجود ذلك الصنف وعدم غيره، إما فيما قبضه أو فيما صرفه، وما لعلّه أبيع «3» وثمّن، وما لعلّه ينقل من كيل إلى كيل؛ ويستقرّ بالجملة بعد ذلك على ثمن ما أبيع وما استقرّ من الغلال بعد التبديل والتنقيل، ويستخرج ثمن البيع بمقتضى ختمة تلك المدّة، وهى شاهده؛ ويخصم بالمحمول والمنقول والمصروف على اختلافه؛ ويفصّل ذلك بتواريخه على ما شرحناه فى الختمة، ويسوق الحاصل من الغلّة إن كان؛ هذا مصطلحهم فى توالى الغلال. ولهم أيضا توال يسمّونها توالى الارتفاع - تشتمل على العين والغلّة والأصناف، ولا تعمل إلّا عند اقتراحها؛ وصورتها أن يوصل فى صدر تالى الارتفاع ما انساق آخر الارتفاع الذى قبله من الحاصل والباقى عينا وغلّة؛ ويفصّله بسنيه؛ ثم يضيف اليه ما استحقّ فى تلك السنة أصلا ومضافا، ويخصم بالخصم السائغ المقبول، ويطرده بعد ذلك إلى حاصل وباق. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 277 ولهم أيضا توالى الاعتصار - وصورتها أن يوصل ما انساق حاصلا آخر [المدّة «1» ] على الاعتصار أو تاليه «2» ، ويضيف ما لعلّه تحصّل من قطر وغيره، ويفذلك عليه، ويكرّر منه ويبيع، ويستقرّ بالجملة، ويخصم، ويسوق إلى الحاصل. وأما الأعمال - وهى تختلف-: فمنها أعمال متحصّل الغلال والتقاوى، وأعمال الاعتصار، وأعمال المبيع، وأعمال المبتاع، وأعمال الجوالى، وأعمال الخدم والتأديبات والجنايات «3» . فأما أعمال الغلال والتقاوى - فكيفيّتها أن يشرح فى صدر العمل بعد البسملة ما مثاله: عمل بما تحصّل من الغلال بالناحية الفلانيّة لمغلّ سنة كذا وكذا الخراجيّة، المدرك فى شهور سنة كذا وكذا الهلاليّة، مضافا إلى ذلك ما «4» وجبت إضافته، ويوصل فى صدره ما تحصّل من الغلال على اختلافها وأكيالها مفصّلا بأسماء الفلّاحين؛ ويضيف إليه ما لعلّه استعاده من التّقاوى والفروض أو حصّله من رسوم أو غير ذلك؛ ويفذلك عليه؛ فمن الكتّاب من يسوقه بجملته حاصلا، ويخصم بمقتضى التالى؛ ومنهم من يخصم بما حمله وصرفه فى مدّة تحصيله للمغلّ، ويسوق ما بقى إلى الحاصل، ويستغنى بذلك عن تال لتلك المدّة. وأما عمل الاعتصار - فصورته أن يترجم فى صدره بعد البسملة بما مثاله: عمل بما تحصّل من اعتصار الأقصاب بالجهة الفلانيّة لاعتصار أفصاب سنة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 278 كذا وكذا الخراجيّة؛ ويقول فى يمنة العمل: عن كذا وكذا فدانا أو منظرة «1» إن كان بالأغوار، أو قسما إن كان بالسواحل؛ ويفصّل الفدن بما فيها رأسا «2» وما فيها خلفة إن كان بمصر، ومقنطرا «3» أو قائما «4» إن كان بالشأم، ويبرز عن يسرته بكميّة ما تحصّل فيقول: من أصناف الحلو كذا وكذا قنطارا، ويفصّل ذلك بالقند والأعسال على اختلافها: من المرسل وانقطر والحر والأسطروس «5» والمردودة؛ والمرسل هو من القصب الذى لا يجمد ولا يصير قندا. والقطر هو ما يتحصّل من قطر أباليج القند. والحرّ هو ما يتحصّل من أطراف الأقصاب، وهذه الأطراف يسمّونها بالشأم: العيكون «6» ، ولا يعتصرونها ألبتّة، بل ترصد للنّصب «7» ، فإنّهم يستغنون الجزء: 8 ¦ الصفحة: 279 بها عن العيدان «1» ، ومنهم من يسمّى الحرّ المردودة. وأما الأسطروش «2» : فهو ما يعمل من جرادة وجوه الأباليج حال الطبخ، وما يتأخّر على البوارىّ «3» عند خلعه بالشأم. وأما الخابية «4» فهى ما يتحصّل من الأوساخ والرّيم «5» . والمرسل والحرّ والخابية لا تعرف بالشأم ألبتّة، وإنما يعرفون القطر والأسطروش «6» ؛ ثم يذكر بعد ذلك تفصيل المتحصّل بجهاته إن كان بمصر- يفصّل كلّ ساقية وفدنها وما يحصّل منها من الضرائب- وتفصيل الأقصاب الرأس والخلفة، ويذكر اسم الطبّاخ؛ ثم يبيع من عرض ذلك ويثمّن، ويستقرّ بالجملة، ويحمل ويصرف ويسوق إلى الحاصل. وأما عمل المبيع - فصورته أن يقول فى صدره بعد البسملة: [عمل «7» ] بما بيع من الغلال والأصناف بالجهة الفلانيّة لمدّة كذا وكذا؛ ويعقد على الثمن جملة، ثم يفصّلها بأصنافها، يذكر عن يمنة القائمة الصنف، وفى الوسط السعر إن كان سعرا واحدا، وإلّا فيقول مكانه: بأسعار تذكر، وفى اليسرة الثمن، ثم يفصّله بأسماء مبتاعيه؛ فإذا كمّل ذلك أضاف ما انساق له آخر العمل الذى قبله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 280 من أثمان المبيعات؛ ويفصّل ذلك بأسماء من تأخّر عليه منها شىء إن كان؛ ثم يفذلك على الجملة، ويستخرج من عرضه بمقتضى ختم المدّة، ويسوق إلى الباقى دون الحاصل. وأما عمل المبتاع - فيقول فى صدره: عمل بالمبتاع بالجهة الفلانيّة من الأصناف التى نذكر لمدّة كذا وكذا؛ ويعقد على ثمن المبتاع جملة يجعلها عن يمنة نصف القائمة، ويبرز بالأصناف المبتاعة إن أمكن، وإلّا فيقول: ما يذكر؛ ويشرح ما ابتاعه صنفا صنفا بتواريخه، وأسماء من ابتاع منهم، وأسعاره، ويضيف إلى جملة الثمن ما لعلّه تأخّر عليه من ثمن ما ابتاعه فى العمل الذى قبله، ويفصّله بأسماء أربابه؛ ويفذلك على ذلك، ويخصم بما صرفه من عرضه بمقتضى ختم المدّة، ويسوق إلى متأخّر أو فائض «1» إن كان قد سلف عليه [شىء «2» ] . وأما عمل الجوالى - فيقول فى صدره ما مثاله بعد البسملة: عمل بما وجب من مال الجوالى بالمعاملة «3» الفلانيّة لسنة كذا وكذا الهلاليّة مخصوما مساقا إلى آخر المدّة؛ ويوصل ما كان قد استقرّ من الأنفار «4» على ما تقدّم «5» ؛ ويضيف النوابت والطوارئ «6» بأسمائها ومللها، وما لعلّه انساق باقيا إن كان، وقلّما يكون، ويفذلك الجزء: 8 ¦ الصفحة: 281 على ذلك؛ ثم يذكر بعد الفذلكة من اهتدى بالإسلام، أو هلك بالموت، أو تسحّب «1» إلى عمل آخر على ما قدّمناه «2» من الاختلاف فى ايراد ذلك فى هذا الموضع، والاستثناء به فى الصدر بالتعدية «3» أو إيراده فى باب المحسوب؛ وكلّ ذلك سائغ فى الوضع؛ ثم يستقرّ بالجملة بعد ذلك، ويستخرج بمقتضى الختم، ويسوق ما لعلّه انساق إلى الباقى؛ وإن عاد اليه متسحّب «4» أو نازح وبيده وصول «5» من مباشر عمل آخر اعتدّ له به، وأورده فى باب المحسوب، وفذلكه على الجملة. وأما عمل الخدم والجنايات والتأديبات - فصورته أن يوصل فى صدر العمل بعد الترجمة عليه ما تعيّن من أموال الخدم أو ما تقرّر من الجنايات والتأديبات، يذكر فيه الأسماء والجرائم؛ ويضيف إلى ذلك ما لعلّه انساق قبل تقرير هذا المال آخر العمل الذى قبله؛ ويفذلك عليه؛ ويستخرج من عرضه بمقتضى ختم المدّة، ويعتدّ بما لعلّه رسم بالمسامحة به مما كان قرّر، ويسوق ما ينطرد بعد ذلك إلى الباقى؛ فهذه هى الأعمال. وأما السياقات - فهى مختلفة: فمنها «6» سياقة الأسرى والمعتقلين، وسياقة الكراع «7» ، وسياقة العلوفات، وسياقات الأصناف والعدد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 282 فأما سياقة الأسرى والمعتقلين - فصورتها أن يوصل فى صدرها عدّة من انساق عنده الى آخر المدّة التى قبلها، ويفصّلها بالمعتقلين وأسمائهم وجرائمهم، والأسرى ومللهم وأجناسهم؛ ويضيف اليها ما لعلّه تجدّد عنده من معتقل أو أسير، ويفذلك عليها، ثم يذكر من أفرج عنه: إما بمقتضى المراسيم «فيذكر تواريخها وأسماء من حضرت على يده، ومن تسلّم المعتقل» وإما بالهداية الى دين الإسلام من الأسرى «فيذكر اسم المهتدى وجنسه، ومن أىّ الملل كان، وتاريخ إسلامه والإفراج عنه، أو من فودى به، أو من تسحّب «1» ، أو من هلك بالموت بعد اعتبار ما يجب اعتباره فى الهالك؛ ويستقرّ بالجملة بعد ذلك؛ واستقرار الجملة هو الحاصل. وأما سياقة الكراع «2» - فهى سياقة تشتمل على الخيل والجمال والدوابّ والأبقار والأغنام؛ وصورتها أن يوصل الكاتب ما انساق عنده حاصلا آخر السياقة التى قبلها؛ ويضيف «3» [الى] ذلك ما لعلّه ابتاعه بتواريخه وأسماء من ابتيع منهم، وما لعلّه نتج، وما لعلّه اجتذب؛ ويفذلك على ذلك؛ ثم يذكر بعد ذلك ما باعه من عرض الجملة وما نفق «4» وتنبّل «5» وذكّى «6» ؛ ويستقرّ بالجملة على ما استقرّ من حيوان وجلود وثمن، ويصرف وينقل ما لعلّه صرفه أو نقله، ويسوق الى الحاصل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 283 ويحتاج المباشر لذلك الى ملاحظة أحوال الأغنام، ومعرفة أوقات نتاجها وما يكون منها توأما، واستقبال النّتاج لينضبط له نتاج النّتاج. وأما سياقة العلوفات -[فصورتها «1» ] أن يوصل فى صدرها ما صرفه على الكراع فى المدّة التى نظم لها السّياقة، ثم يفصّل ذلك كلّ صنف من الكراع وعدده فى الزيادة والنقص، وما صرفه على ذلك النوع فى كلّ مدّة، فى اليوم كذا فى المدّة كذا، والزيادة والنقص على حسب الاتفاق، ويراعى فى ذلك ما تضمّنته سياقة الكراع؛ وإن صرف علوفة لطارئ لا يستقرّ عنده ميّزه فى التفصيل من المستقرّ فيقول: المستقرّ كذا والطارئ كذا إضافة إلى هذه السياقة؛ ولا فذلكة، ويتجنّب أن يصرف علوفة عن أيّام نقص «2» الشهور الهلاليّة، وهى ستة أيام فى السنة فإن ذلك من المخرّج اللازم، وكذلك أيّام الربيع. وأما سياقات الأصناف والزّردخاناه «3» والعدد والآلات والخزائن والبيمارستانات «4» - فإنه لا يمكن استيعابها لمؤلّف كتاب، وقلّما عملت فيما كثر، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 284 وإنما تعمل فيما قلّ من الأصناف؛ وصفتها إذا أمكن عملها أن يوصل ما عنده من الأصناف مفصّلة، ويضيف إليها ما ابتاعه أو ما وصل اليه، ويفذلك على ذلك ثم يذكر بين الفذلكة واستقرار الجملة ما يرد من الأبواب: من المنتقل «1» والمستهلك وغير ذلك على كثرته؛ وإذا استقصى ما يرد بين الفذلكة واستقرار الجملة زاد على مائة باب لا يعرفها إلا أفاضل الكتّاب ومن له حذق بهذه الصناعة، واختلفت مباشراته وتكررت؛ فاذا ذكر ما وقع عنده استقرّ حينئذ بالجملة على ما قام عليه ميزان عمله؛ ثم يخصم بما يسوغ الخصم به، ويسوق إلى حاصله. فهذه هى الختم والتّوالى والأعمال والسياقات، وهى شواهد الارتفاع. وأما الارتفاع - فهو العمل الجامع الشامل لكلّ عمل؛ وصورة وضعه أن يشرح الكاتب فى صدره بعد البسملة ما مثاله: عمل بما اشتمل عليه ارتفاع المعاملة «2» الفلانيّة لمدّة سنة كاملة، أوّلها المحرّم سنة كذا وكذا، وآخرها سلخ ذى الحجّة منها، ممّا اعتمد فى إيراد ذلك الهلالىّ والجوالى للسنة المذكورة، والخراجىّ والأقصاب لسنة كذا وكذا الخراجيّة، مضافا إلى ذلك ما وجبت إضافته، مفذلكا عليه، وما استقرّت عليه الجملة، مخصوما «3» مساقا إلى حاصل، وما اعتدّ به محسوبا إن كان، وما اشتملت عليه فذلكة الواصل، وما انساق إلى الباقى والموقوف فى المدّة؛ ويذكر أسماء المباشرين كما قدّمناه فى الختمة؛ وإن انفصل أحد من المباشرين الجزء: 8 ¦ الصفحة: 285 فى أثناء تلك السنة وباشر آخر بعده قال: بمباشرة فلان الى آخر المدّة الفلانيّة وفلان بعده الى آخر المدّة؛ ويقول فى صدره عن يسرة نصف القائمة: ما مبلغه من الذهب كذا، ومن الدراهم كذا، ومن الغلات كذا، ومن الأقصاب كذا، ومن الأصناف كذا، ومن الكراع كذا؛ يفصّل ذلك بسنيه، ثم يأخذ فى تفصيل كلّ مال بجهاته، فيبدأ بمال الهلالىّ، يذكر كلّ جهة، واسم مستأجرها أو ضامنها، واستقبال عقد إجارته أو تقريره، ويوجب عليه فى الشهر وفى السنة، الى أن يستوعب أبواب الهلالىّ، ويشطب فى مسوّدته التى ينظمها لنفسه قبالة كلّ جهة ما استخرجه بمقتضى ختمات المستخرج ليقوم له ميزان كلّ جهة فى الباقى والفائض «1» ؛ ولا يلزمه هذا العمل فى الحساب المرفوع منه؛ فاذا انتهت أبواب الهلالىّ ذكر الجوالى واعتمد فيها كذلك؛ ثم يذكر الخراجىّ، ويفصّله بأقلامه وجهاته مستقصى واضحا جليّا، ويعتمد من الشطب قبالة كلّ جهة ما تقدّم شرحه؛ فاذا تحرّرت له جهات الأصول قال: وأضيف الى ذلك ما وجبت إضافته؛ ويعقد على المضاف جملة، ويذكر أبوابه يبدأ فيها بالحاصل والباقى المساقين «2» آخر العمل الذى قبله، ويعقد عليهما جملة، ثم يقول: الحاصل كذا، والباقى كذا؛ ويفصّل ما أمكن تفصيله من الحاصل بسنيه ويفصّل الباقى بجهاته وأسماء أربابه وسنيه وأسماء مباشريه إن أمكن، ويشطب فى مسوّدته قبالة كلّ اسم ما لعلّه استخرجه من عرض ما هو عليه كما تقدّم؛ ثم يذكر جهات مضاف السنة الحاضرة، يبدأ بما هو مستقرّ من الأموال التى ترد [فى] جهات المضاف، ويشطب قبالة كلّ اسم ما تقدّم بيانه؛ ثم يذكر بعد ذلك ما لعلّه وصل اليه أو اعتدّ به: من الأموال والغلال على اختلافها، وأثمان المبيعات الجزء: 8 ¦ الصفحة: 286 والمواريث «1» الحشريّة والمجتذبات والجنايات والتأديبات والقروض والأصناف المبتاعة، يستقصى أبواب المضاف على حسب ما ورد عنده منها فى طول السنة بمقتضى ما ورد فى الشواهد التى ذكرناها بحيث لا يخلّ منها بشىء. ومن أبواب المضاف ما يضاف بالقلم - ولا أصل له، بل يكلّمه الكاتب على نفسه فى حسابه لينطرد نظيره الى الباقى، ويقوم به الميزان، وهو نظير التقاوى «2» والقروض؛ وكتّاب الشأم يفعلون ذلك دون كتّاب الديار المصريّة، وهم على الصواب فى إيراده، لأن الكاتب إذا أورد نظير التقاوى والقروض انطرد له الى الباقى نظير ذلك، وصحّ ميزان العمل، فإنه لا يمكن أن ينطرد الى الباقى إلا بإضافة نظيره، فاذا انطرد الى الباقى وجب إيراده [فى] المضاف فى السنة الثانية وما بعدها الى أن يستخرج ويحصّل؛ وكتّاب مصر يقتصرون فى ذلك على أعمال التقاوى والقروض؛ والتحرير ما يورد كتّاب الشأم فى ذلك. ومن وجوه المضاف الغريبة: المستعاد نظير المعاد، مثال ذلك أن يكون المباشر أحال ربّ استحقاق على ضامن جهة بمبلغ بمقتضى وصول «3» أجراه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 287 واعتدّ به لضامن تلك الجهة، واعتدّ على ربّ الاستحقاق بمبلغه، وقطع الباقى والمتأخّر بعده، وصدر حسابه بذلك، فأعيد «1» عليه وصوله فى أثناء السنة الثانية فمثل هذا تجب إضافته وإضافة نظيره، فيكون خصم إضافته الأولى المعاد على الضامن، وخصم الثانية الباقى المساق، ويكمّل لربّ الاستحقاق نظير ذلك المبلغ فى محاسبته- على ما يأتى بيانه فى المحاسبات؛ فاذا استوعب ما ورد عنده من أبواب المضاف فذلك على ذلك فيقول: فذلك الأصل وما أضيف اليه؛ ويعقد على الفذلكة جملة، ومعناها أن يضمّ ما عقد عليه الجملة فى صدر الارتفاع الى ما عقد عليه جملة المصاريف، فتشتمل الفذلكة على الجملتين، ويفصّل ذلك عينا وغلّة وأصنافا وكراعا على ما تقدّم، ويفصّل ما هو متميّز بسنيه؛ وما لم يتميّز كالحواصل من العين والكراع وغير ذلك يقول فيه: ما لم يتميّز بسنة؛ ويشرحه؛ ثم يذكر الأبواب التى ترد بين الفذلكة واستقرار الجملة على اختلافها بحسب ما وقع عنده منها، يبدأ بالصرف من نقد إلى نقد، والمبدّل من صنف إلى صنف، والمنتقل من سنة إلى سنة، ومن كيل إلى كيل ومن وزن إلى وزن، ومن عدد إلى وزن، ومن وزن إلى عدد، ومن صفة إلى صفة وما وقع من مبيع ومثمّن ونافق «2» ومستهلك، وغير ذلك؛ وقد جمع بعض فضلاء الكتّاب جميع ذلك واختصره فى لفظتين فقال: هو عبارة عن منقول ومعدوم؛ وإذا نظرت إلى حقيقة هاتين اللفظتين وجدت جميع هذه الأبواب وإن كثرت مندرجة فيها «3» ، كما أن جميع الكلام لا يتعدّى أن يكون اسما أو فعلا أو حرفا؛ فإذا انتهت هذه الأبواب قال: واستقرّت الجملة بعد ذلك على ... ويذكر ما استقرّت عليه الجملة بمقتضى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 288 قيام ميزانه، ويفصّله بسنيه، ثم يقول: استخرج من ذلك وتحصّل ... ويذكر المستخرج بمقتضى الختم، فيشرح ما استقرّت عليه جملة الختمة الأولى، وما اشتملت عليه فذلكتها بعد وضع الحاصل من الجهة «1» الثانية وما بعدها لئلا يتكرّر عليه؛ ويحصّل بمقتضى الأعمال والتّوالى والسّياقات على هذا الحكم؛ ويفصّل المستخرج والمتحصّل بسنيه، ثم يختصم ما استخرجه وحصّله، فيبدأ فى الخصم بالحمل من الأموال، والحمول من الغلال والأصناف، والمساق من الكراع؛ ويتلوه ما لعلّه نقله على «2» معاملة أخرى مفصّلا بأبوابه ومعقود الجملة على كل باب فيها؛ فإذا تكامل له الخصم فى العين والغلّة والمواشى والأصناف ساق ما تأخّر من جملة ما استخرجه وحصّله إلى حاصل، ويفصّله بالعين والغلّة والصنف وغيره، فيكون ما حمله ونقله وصرفه وساقه إلى الحاصل خصم ما استخرجه وحصّله؛ ثم يذكر بعد سياقة الحاصل ما لعلّه ورد عنده «3» من المحسوب على اختلافه: من عطلة، ويذكر أسبابها، وما لعلّه ثبت من الجوائح الأرضيّة «4» والسمائيّة «5» بمقتضى المحاضر «6» الشرعيّة إذا برزت المراسيم بالحمل على حكمها؛ فيذكر كلّ جهة واسم مستأجرها أو ضامنها، وتاريخ محضر الجائحة، وتاريخ المرسوم بحمل الأمر على حكمه، وجملة المبلغ المتروك بسبب ذلك، وما لعلّه سومح به من البواقى المساقة، وغير ذلك ممّا هو داخل فى باب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 289 المحسوب؛ وسائر المسامحات ترد بعد سياقة الحاصل، وترد فى أماكن نذكرها بعد إن شاء الله تعالى؛ فإذا استوعب الكاتب جملة ما عنده من المحسوب فى بابه قال بعد ذلك: فتلك جملة المستخرج والمتحصّل والمحسوب؛ ويعقد عليه جملة يفصّلها بسنيها وأقلامها؛ ويسمّون هذه الفذلكة فذلكة الواصل؛ وما بقى بعد ذلك مما استقرّت عليه الجملة بعد هذه الفذلكة تعيّنت سياقته إلى الباقى والموقوف، فيطرده باقيا وموقوفا، أو باقيا بغير موقوف، معقود الجملة، مفصّلا بالسنين والجهات والأسماء والمباشرات، ويميّز ما يرجى استخلاصه وتحصيله منه وما لا يرجى؛ وما انعقد عليه الباقى والموقوف واشتملت عليه فذلكة الواصل هو خصم ما استقرّت عليه جملة الارتفاع. وأما الحواصل المعدومة المساقة بالأقلام - ولا حقيقة لوجودها، وإنما يوردها الكتّاب حفظا لذكرها، كالحواصل المسروقة والمنهوبة- فإنه إذا رسم بالمسامحة بها فقد اختلفت آراء الكتّاب فى إيرادها على وجوه كثيرة: منها ما يسوغ، ومنها ما لا يجوز فعله، ونحن نذكر أقوالهم وطرقهم فى ذلك، ونوضح ما يجوز منها وما لا يجوز، ونذكر ما ينبغى أن يسلك فيها: فمن الكتّاب من يرى أن ينقل هذا الحاصل بين الفذلكة واستقرار الجملة من الحاصل الى الباقى، ولا يورده فى باب المستخرج، ويطرده إلى الباقى، ويورده فى باب المسموح بعد سياقته الحاصل؛ وهذا لا يجوز، وفى إيراده على هذا الوجه غلط وسوء صناعة، لأن الحاصل لا يجوز نقله إلى الباقى، والباقى أيضا، فلا بدّ أن يكون باسم إنسان أو أناس، فإن ساقه باقيا باسم مباشره فقد أتى بغير الواقع، وعرّض المباشر الى الغرامة، ولا يفيده، إذ «1» مرسوم المسامحة يتضمّن المسامحة بحاصل معدوم، وقد انتقل هذا من تسمية الحاصل إلى الباقى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 290 ومن الكتّاب من يرى استثناءه من جملة المستخرج، ثم يورده أيضا [فى] باب «1» المسموح؛ وفى هذا أيضا ما فيه من نقله من الحاصل إلى غيره تسمية، فإنه لا عبرة عند ذلك بتسميته ولا بنسبته إلى الباقى والموقوف؛ وإن نقل فلا يجوز، لأن الحواصل لا يجوز نقلها إلى تسمية أخرى ألبتّة؛ فهذه الوجوه لا تجوز فى صناعة الكتابة. وأما الذى يجوز فى هذا فوجوه «2» : منها أن يكمّله الكاتب فى باب المستخرج من ذلك، ويخصم إلى نهاية المصروف، ويقول قبل سياقة الحاصل: ما نقل رسم بالمسامحة به عن الحاصل المعدوم المساق بالقلم حفظا لذكره، بمقتضى مرسوم «3» تاريخه كذا؛ ويشرح مقاصد المرسوم، وسبب عدم الحاصل، وجملته؛ ويكتفى بذلك عن إيراده فى باب المسموح؛ ويعقد جملة الخصم على الحمل والمصروف «4» والمسموح به. ومنها أنه إذا ساق الحاصل بعد الحمل والمصروف يقول: من جملة كذا بعد مأمنه ما سومح به عن الحاصل المعدوم والمساق بالقلم؛ ويشرح ما تقدّم، ويبرز بالحاصل بعد ذلك. ومنها أن يستثنيه عند «5» ذكر المضاف، فيقول عند إضافة الحاصل ما صورته! الحاصل المساق إلى آخر السنة الحاليّة من جملة كذا بعد مأمنه ما عدم فى تاريخ كذا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 291 وورد فى سياقات الحاصل حفظا لذكره، ورسم بالمسامحة به بمقتضى مرسوم شريف تاريخه كذا؛ ويعيّن جملة المسموح به، وهى جملة المعدوم، ويبرز بما بقى، ويستثنيه أيضا من المستخرج عند ما يستشهد بالختم والتّوالى والأعمال. فهذه صورة نظم الارتفاع وشواهده التى قدّمناها قبله؛ والارتفاع هو جلّ العمل، وقاعدة الكتابة، والجامع لسائر ما يرد فى المعاملة. وإن انفصل الكاتب أثناء السنة لزمه أن ينظم لما مضى من السنة فى مباشرته حسابا يسمّونه بالشأم الملخّص، وبمصر التالى، وهو نظير الارتفاع فى نظمه، إلا أنه يكون لما دون السنة، والملخّص عند المصريّين هو الارتفاع، ويلزم الكاتب المباشر بعده عمل ملخّص أو تال يتلوه لما بقى من المدّة، ثم يعمل جامعة على الملخّصين أو «1» التاليين، وهما شاهداها «2» ؛ ويستغنى الكاتب فى إيراد المستخرج والمتحصّل والمصروف عن الاستشهاد بالختم والتّوالى والأعمال، ويستشهد بهذين الملخّصين فيقول: ما تضمّنه ملخّص مدة كذا وكذا [كذا «3» ] وما تضمّنه ملخّص مدّة كذا وكذا كذا؛ وقد تكون الملخصات أكثر من اثنين بحسب الاستبدال «4» بالأعمال. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 292 ومما يلزم الكاتب رفعه المحاسبات - وتختلف: فمنها محاسبة أرباب النقود الجيشيّة والمكيلات والجامكيّات «1» والجرايات، وأرباب الوظائف والرواتب والصّلات عما هو مستقرّ مشاهرة أو مسانهة؛ وهذه المحاسبة تنظم من الجريدة المبسوطة على أسمائهم، المشتملة على كمّيّة استحقاقاتهم، المشطوبة بقبوضهم؛ وصورة عملها أن يقول الكاتب: محاسبة لأرباب النقد والمكيل والقرارات «2» والجامكيّات والرواتب والصّلات بالمعاملة الفلانيّة الاستقبال مدّة كذا، والى آخر كذا؛ ويعقد جملة صدرها على ما يستحقّ لهم فى تلك المدّة المعيّنة من عين وغلّة وأصناف، ويضيف الى تلك الجملة ما تأخّر لهم الى آخر المدّة التى قبلها، ويفذلك على ذلك، ويقبضهم ما صرفه لهم بمقتضى ختم المدّة وأعمالها وتواليها، ويعتدّ عليهم بما لعلّه انساق فائضا «3» على من قبض منهم زيادة على استحقاقه فى المدّة التى قبلها، ثم يطرد ما انساق لهم الى متأخّر، وما انساق عليهم الى فائض، ثم يفصّل ذلك بالأسماء، فيضع الاسم ويذكره واستحقاقه فى الشهر وعن المدّة، ويضيف اليه ما لعلّه تأخّر له إن كان، ويفذلك عليه، ويخصم بقبضه، ويسوق إلى متأخّر إن بقى له، أو فائض إن زاد قبضه على استحقاقه؛ ومن كان منهم قد تعجّل قبل تلك المدّة زيادة على استحقاقه استحقّ له ما وجب له فى المدّة، واعتدّ عليه بما انساق فائضا «4» ؛ وما لعلّه صرفه له فى تلك المدّة يسوقه «5» إلى متأخّر أو فائض «6» ، يفعل ذلك فى جميع الأسماء. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 293 وهذه المحاسبة إذا كان الكاتب مستمرّ المباشرة عملها لسنة، وان انفصل قبل استكمال السنة أو اقترحها مقترح عليه لزمه عملها؛ والله أعلم. ومنها محاسبات أرباب «1» الأجر والاستعمالات «2» ، ويعتمد الكاتب فيها نظير تلك، إلا أنه لا يستحقّ لكلّ نفر «3» إلّا بمقدار عمله، ويضيف إليه ما لعلّه تأخّر له ويفذلك عليه، ويخصمه بالقبض والاعتداد بالمسلف ان كان؛ وهذه المحاسبة على منوال تلك، إلا أنها تعمل بمفردها. ومما يلزم الكاتب رفعه ضريبة أصول الأموال ومضافاتها عن كلّ سنة كاملة، يذكر فيها كلّ جهة من جهات الهلالىّ، واسم مستأجرها أو ضامنها، ومبلغ إجارتها أو تقرير ضمانها مشاهرة ومسانهة، واستقبال العقد، وتاريخ الحجّة المكتتبة به، ويشطب «4» قبالتهاأسماء كفلاء «5» ضامن الجهة؛ ويذكر الجوالى ويفصّلها بالأسماء والملل، ويفصّل الخراجىّ بجهاته وأقلامه، والأحكار بأسماء أربابها؛ وإن كان بتلك المعاملة «6» شىء من نواحى الخاصّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 294 ذكر كلّ ناحية، واسم رئيسها، وحدودها وعدّة فدنها «1» الرومية «2» والكادية «3» والعاطلة، وأسماء من بها من الفلّاحين القراريّة «4» ، وما يبذره كلّ فدان من الشّتوىّ والصيفىّ، وريعه فى الثلاث سنين المقبلة «5» والمتوسّطة والمجدبة، وشروط المقاسمة، وما على كلّ فدان من الحقوق والرسوم، وما بها من المطلق، وما فيها من جهات العين وما عليها من الخدم «6» والضيافات، وغير ذلك من معالمها بحيث لا يخلّ بشىء من جميع أحوال القرية، بل يوضحها إيضاحا شافيا كافيا حتى يعلم الغائب عنها جليّة أمرها كالحاضر فيها. فإذا تكامل ذكر جهات الأصل «7» فى هذه الضريبة ذكر جهات المضاف الراتبة كالخدم وما يناسبها، وذكر فى آخرها ما تتعيّن إضافته من المتوفّر من العين والغلّة على اختلاف ضرائبه؛ وهذه القواعد تكون فى ضياع الشأم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 295 ويلزمه رفع المؤامرات - وتسمّى ضرائب المستقرّ إطلاقه- وهى تشتمل على أسماء من هو مرتّب على تلك المعاملة: من ربّ نقد ومكيل ومقرّر «1» وصدقة، يذكر اسم كلّ واحد واستحقاقه مشاهرة ومسانهة، ويعقد على ذلك جملة فى صدر المؤامرة مشاهرة ومسانهة؛ فإن كان فى حصن ذكر فى صدر الأوراق عدّة أرباب الاستحقاقات، ثم يفصّلهم بوظائفهم وأسمائهم من الخرجيّة «2» والأقجيّة «3» وغيرهم. ويلزمه رفع ضريبة ما يستأدى من الحقوق، يذكر فيها ما يستأديه ضامن كلّ جهة من رسومها وحقوقها، وما لعلّه يستأدى بالدّروب من الخفر «4» ، وغير ذلك من سائر ما يستأدى من حقوق تلك المعاملة، وما لعلّه يقتطع من أرباب النقود والمكيلات وغيرهم من الوفر والمقتطع على اختلاف الضرائب، بحيث لا يخلّ بشىء منها، لتعلم بذلك أحوال تلك الجهة، فلا يمكن للضّمّان أن يستأدوا زيادة على ذلك، لما فيه من تجديد الحوادث على الرعيّة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 296 ومما يلزمه رفعه فى كلّ سنة تقدير الارتفاع - وهو الارتفاع بعينه إلا أنه لا يضيف فيه حاصلا ولا باقيا، ولا يفصّل فيه الجوالى بالأسماء، بل يعقد الجملة فى صدره على ما يستحقّ بتلك المعاملة من جهات الأصول والمضاف، ويخصم بالمرتّب عليها عن سنة كاملة، ويسوقه إلى خالص أو فائض «1» ، ليظهر بذلك ميزان تلك الجهة. هذا ما يلزم المباشر رفعه مشاهرة ومسانهة. ويلزمه فى كل ثلاث سنين رفع الكشوف الجيشيّة، يذكر فيها أسماء النواحى العامرة والغامرة، والفدن الكادية «2» والعاطلة وما تقدّم شرحه فى الضريبة: من ذكر البذار والرّيع والشروط والمطلق وغيره؛ ثم يذكر المتحصّل منها فى ثلاث سنين لثلاث مغلّات، يعقد على ذلك جملة، ويفصّله بسنيه وأقلامه، ولا يخلّ بشىء مما بكلّ ناحية من الحقوق الديوانيّة والإقطاعيّة، ويعقد فى صدر الكشف جملة على عدّة النواحى وعدّة الفدن، وجملة جهات العين والغلّة، مفصّلا بالمعاملات «3» ؛ هذه هى الحسابات اللازمة. وأما المقترحات- فلا يمكن ضبطها، إلّا أنه مهما اقترح مما يكون سائغ الاقتراح ممكن العمل لزم الكاتب عمله. وحيث انتهينا إلى هذه الغاية فلنذكر أرباب الوظائف. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 297 ذكر أرباب الوظائف وما يلزم كلا منهم مع حضور رفقته ومع غيبتهم وما يسترفعه كل مباشر عند مباشرته وما يلزمه عمله أما المشدّ «1» أو المتولّى - فالذى يحتاج إلى استرفاعه عند مباشرته ضرائب أصول الأموال والمرتّب عليها ليعلم حال المعاملة، وما بها من الخالص، أو عليها من الفائض؛ ويسترفع أوراقا بالحاصل والباقى والفائض والمتأخّر «2» ، ليعلم أحوال الناس ومحاسباتهم، ويعلم ممّن يطلب وإلى من يصرف؛ والذى يلزمه عمارة البلاد، واستجلاب من نزح منها، وإقامة السطوة، وإظهار المهابة والحرمة، وتسهيل السّبل، وإقامة الخفراء عليها، وتشييد منار الشرع الشريف، والتسوية بين القوىّ والضعيف؛ ويلزمه استخراج الأموال من سائر جهاتها ووجوهها المستحقّة «3» فى مباشرته، والبواقى التى رفعت إليه بعد تحقيقها بحيث لا ينطرد إلى الباقى الدرهم الفرد؛ ومتى انساق فى مباشرته شىء لزمه؛ ويلزمه تقرير الجنايات «4» والتأديبات على أرباب الجرائم لتنحسم بذلك موادّ المفسدين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 298 وأما الناظر على ذلك - فيحتاج عند مباشرته الى استرفاع ضرائب أصول الأموال ومضافاتها، والمستأدى من الحقوق، وضرائب «1» بما استقرّ إطلاقه، وأوراق الحاصل والباقى، وأوراق الفائض والمتأخّر، وتقدير الارتفاع، والكشوف الجيشيّة، ويطالب بمخازيم «2» المياومة لاستقبال مباشرته، والختم والتّوالى عند مضىّ المدّة، والأعمال وسائر الحسبانات المتقدّم ذكرها فى أوقاتها، وما لعلّه يقترحه ممّا يسوغ اقتراحه ويمكن عمله؛ والذى يلزمه الاجتهاد فى عمارة نواحى الخاصّ، وتمييز الجهات ونموّها «3» ، والنظر فى أحوال المعاملات «4» ، وإزاحة أعذارها، وتقرير قواعدها، واختبار من بها من المباشرين، والكشف عن أحوالهم، وكتب «5» كلّ واحد منهم بما يلزمه مباشرة وعملا، ويتصفّح ما يرد عليه من الحسبانات الصادرة عنهم؛ وينظر فيما يتجدّد من أحوال المعاملات «6» وما يطرأ من الحوادث على اختلافها مما لا يحصره ضبط، بل هو بحسب ما يقع؛ وإنما جعلنا هذه الإشارات أنموذجا يستدلّ بها على ما بعدها؛ ويقيّد بخطّه الاستدعاءات والإفراجات والمراسيم والتواقيع وغير ذلك مما جرت به العادة: من الكتابة بالمقابلة والثبوت والتّمحية «7» والاعتماد وغير ذلك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 299 وأما صاحب الديوان - فإنه يسترفع ما يسترفعه الناظر من المعالم خاصّة، وليس [له] أن يسترفع الارتفاعات ولا شواهدها؛ فإن استرفعها لزمه من دركها «1» ما يلزم المستوفى؛ وهو يكتب على ما يكتب عليه الناظر، وله زيادة على ذلك: وهى الترجمة على التذاكر والاستدعاءات، والكتابة على تواقيع المباشرين بأخذ خطوطهم عند استخدامهم، والكتابة على محرّراتهم بالتخليد، والكتابة على تذاكر المخرّج والمردود الصادرة عن مستوفى العمل بأن يجيب المباشرون عنها بما يسوغ قبوله، والكتابة بقبول الجواب عند عوده إن كان سائغا، والكتابة على الحساب الصادر عن المباشرين بتخليده [فى] ديوان الاستيفاء بعد أن يتصفّحه وتظهر له سياقة «2» أوضاعه؛ وكلّ عمل لا يكون له صاحب ديوان قام الناظر بهذه الوظيفة إلّا الكتابة بقبول الحساب. وأما مقابل الاستيفاء - وهو بمنزلة الشاهد فى ديوان الأصل- فله أن يسترفع المعالم لنفسه فى كلّ سنة، ويسترفع نتيجة الحسبانات اللازمة التى تصدّر الى الديوان العالى بالباب الشريف، ويضبط «3» مياومة المجلس، ويكتب على ما يكتب عليه المستوفى، ويكتب على الحسبانات الواصلة من جهة المباشرين بتاريخ حضورها إلى الديوان قبل تخليدها [فى] ديوان الاستيفاء، ويسدّ «4» بقلمه تواريخ التذاكر والمراسيم، ويتصفّح ما يصدر عن المستوفى من المخرج والمردود الجزء: 8 ¦ الصفحة: 300 ويطالب بحمل ما ثبت منه، ويطالب أرباب الخطوط والبذول «1» بما يستحقّ عليهم وينيب شاد «2» الدواوين عنه «3» ، ويكتب فى كلّ يوم بما يطالب به؛ واذا لم يكن للديوان مقابل قام المستوفى بوظيفته. وأما المستوفى - فله أن يسترفع سائر الحسبانات اللازمة، وما تدعو إليه حاجته من المقترحات فى المدد الماضية والحاضرة مما يمكن عمله، فاذا صار الحساب إليه مشمولا بخطّ صاحب الديوان بتخليده ومؤرّخا حضوره بخطّ المقابل تصفّحه واستوفى تفاصيله على جمله أصلا وخصما، وشطب ما يحتاج إلى شطبه- كلّ عمل على شواهده- وخرّج وردّ ما يتعيّن تخريجه وردّه، وكتب بذلك مطالعة تعرض على المقابل، فإذا وافقه عليها عرضت على صاحب الديوان وكتب بالإجابة عنها، ثم يطالب المباشر بالإجابة عمّا تجب الإجابة عنه، وإضافة ما تجب إضافته [الى «4» ] حساب المدّة التالية لتلك المدّة، وحمل ما يجب حمله؛ وتكون إضافته فى الحساب منسوبة إلى قلم مستدركه؛ فإن أخّر استيفاء الحسبانات وشطبها وتخريج «5» ما يلوح فيها ومضت عليها مدّة يمكن فيها العمل، كان الجزء: 8 ¦ الصفحة: 301 ما يتعيّن فيها لازما له إذا عنّت «1» ، وإلا فتلزمه إعادة ما تناوله من الجامكيّة «2» عن تلك المدّة، ويطالب من صدر عنه الحساب بما يلزمه؛ ويتعيّن على المستوفى أنه إذا رفع اليه حساب معاملة تأمّل «3» خطوط المباشرين على عاداتهم، [و] «4» نظر فيه «5» بعد ذلك، فإن تغيّرت عن العادة، فإن كان بزيادة تأكيد فلا بأس، وإن كان بإخلال مثل أن يكتب الشاهد على الحساب بالمقابلة، وعادته أن يكتب: «الأمر على ما شرح» يلزمه الكشف عن موجب ذلك؛ ويلزم المستوفى ضبط مياومة المجلس، وكتابة الكشوف بخطّه والتذاكر ونسخ المحرّرات، وتعيين الجهات لأربابها بعد كتابة الناظر بتعيين الجهة، وعليه نظم جوامع التقدير بعد عمل موازينها وتحريرها وشطبها على التقادير الصادرة عن المباشرين وجوامع الحواصل: من العين والغلال والكراع «6» والأصناف المعدودة والموزونة والمذروعة «7» والسلاح خاناه والعدد والآلات وغير ذلك، يسدّ على ما أمكن سدّه جملة، وما لا يمكن نثره أقلاما يستشهد فيها بما رفع اليه من جهة المباشرين؛ وكذلك يعتمد فى جامعة البواقى، يعقد عليها جملة، ويفصّلها بمعاملاتها وجهاتها وسنيها وأسماء الجزء: 8 ¦ الصفحة: 302 مباشريها، وما يرجى منها وما لا يرجى بمقتضى أوراق المباشرين؛ وكذلك يعتمد فى جامعة الفائض والمتأخّر وغير ذلك من الجوامع؛ وعليه عمل ما يطلب من الأبواب من المقترحات والمطاولات؛ ويلزمه عمل المقايسات وفوائد المتأخّر، وغير ذلك من لوازم قلم الاستيفاء؛ ويلزمه محاسبات أرباب النّقد والكيل المرتّبين على ما تعيّن بقلم الاستيفاء، فيحاسبهم على استحقاقاتهم، ويعتدّ «1» عليهم بما ثبت مما عيّنه لهم بقلمه؛ ويلزمه التنبيه على خوالص المعاملات وطلبها: حملا «2» الى بيت المال، أو حوالة على ما يعيّنه بقلمه؛ ويلزمه تخريج تفاوت «3» المدد والمحلولات «4» وغير ذلك؛ ويلزمه التفريع «5» بما يصل اليه من الحوطات الجيشيّة لوقته على ما جرت به العادة. ووظيفة الاستيفاء كبيرة، كثيرة الأعمال، لا تنحصر لوازمها فى كتاب، وانما هى بحسب الوقائع. فاذا انفصل المستوفى من المباشرة فليس له أن يأخذ ورقة من حسابه الذى استرفعه أو وضعه بقلمه، ويتلقّاه المباشر بعده. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 303 وأما المشارف - فله أن يسترفع عند مباشرته معالم الجهة ليستعين بها على المباشرة: من ضرائب وتقادير «1» وحاصل وباق وفائض ومتأخّر وغير ذلك؛ وهو مطلوب بتحقيق الحواصل، وله الختم عليها؛ وهو مطلوب بنظم سائر الحسبانات اللازمة والمقترحة إن تسحّب «2» العامل أو مات، ومع وجود العامل إن كان قد التزم عند مباشرته العمل؛ وتلزمه المقابلة مع العامل على الحساب الصادر عنهما، وسياقة التعليق معه، والكتابة على الوصولات «3» والحسبانات؛ وهو مطلوب بجميع ما يطلب به العامل من المخرّج وغيره. وأما الشاهد - فيلزمه ضبط تعليق المياومة، والكتابة على الوصولات والحسبانات؛ ومتى فقد العامل والمشارف لزمه رفع الحساب اللازم دون المقترحات؛ ولا بدّ له من جريدة مبسوطة على الأصل والخصم. وأما العامل - فقد قدّمنا ذكر ما يحتاج إليه كلّ مباشر من ضبط تعليق المياومة «4» وبسط الجريدة وخدمتها فى الأصل والخصم أوّلا فأوّلا، والتيقّظ لذلك وأنّ من أهمله فقد قصّر فى مباشرته وأخلّ بوظيفته؛ والعامل أحرى بجميع ذلك ممن سواه من سائر المستخدمين، لما هو مطلوب به من نظم الحسبانات وموقعه «5» من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 304 عمل المقترحات والأجوبة عن المخرّج والمردود، وأنه هو الملتزم لذلك «1» دون غيره وأنه لا يلزم من سواه شىء من الأعمال مع وجوده. وقد ذكرنا تلخيص قواعد هذه الكتابة والمباشرين وأوضاعهم ولوازمهم والأوضاع الحسابيّة وغير ذلك من معالم المباشرات، مجملا غير مفصّل، وبعضا من كلّ، وقليلا من كثير، إذ لو استقصينا ذلك لطال ولتعذّر لاختلاف المباشرات والوقائع والأوضاع والآراء؛ ولقد حصل الاجتماع لجماعة من مشايخ أهل هذه الصناعة ممّن اتّخذها حرفة من مبادئ عمره إلى أن طعن فى سنّه، وما منهم إلا من يخبر أنه يستجدّ «2» له فى كلّ وقت من أحوال المباشرات ما لم يسمع به قبل، ولا طرأ «3» له فيما سلف من عمره؛ فكيف يمكن حصر ما هو بهذه السبيل؟! وفيما نبّهنا عليه مقنع لطالب هذه الصناعة، والعمدة فيها على الدّربة والمباشرة، وقد قيل: ولا بدّ من شيخ يريك شخوصها ... وإلّا فنصّ العلم عندك «4» ضائع كمل الجزء الثامن من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويرى- رحمه الله تعالى- ويليه الجزء التاسع وأوّله: ذكر كتابة الحكم والشروط الجزء: 8 ¦ الصفحة: 305 استدراك راجعنا هذا الجزء بعد طبعه فبدت لنا فى تفسير بعض ألفاظه معان أخرى نرجّحها على ما كتبناه أوّلا فى حواشيه فرأينا أن نستدركها فى آخره خدمة للعلم وتتميما للفائدة. ص س 60 9 «بنوء المرزم» وكتبنا على قوله: «المرزم» ما نصه: المرزم: «من أرزم الرعد اذا اشتدّ صوته» اهـ ومع صحة هذا الضبط واحتمال اللفظ لذلك التفسير المتقدّم فإننا نرجّح أن يضبط: «المرزم» بكسر الميم وفتح الزاى، وهو من نجوم المطر قال فى اللسان: «المرزمان، نجمان من نجوم المطر، وقد يفرد» . 193 11 «من ضريبة وموافرة» وكتبنا على قوله: «وموافرة» ما نصه: «فى الأصل: «وموامرة» بالميم؛ وهو تحريف» اهـ وقد بدا لنا بعد أنّ للفظ «المؤامرة» معنى مصطلحا عليه بين كتاب الدواوين، وتصح إرادته فى هذا الموضع؛ فقد ورد فى مفاتيح العلوم ص 56 طبع أوربا ما نصه: «المؤامرة عمل تجمع فيه الأوامر الخارجة فى مدّة أيام الطمع، ويوقّع السلطان فى آخره بإجازة ذلك؛ وقد تعمل المؤامرة فى كل ديوان تجمع ما يحتاج اليه من استثمار واستدعاء توقيع» اهـ وانظر صفحة 296 من هذا الجزء. 202 5 «والبذول» ؛ وكتبنا على هذه الكلمة ما نصه: «كذا فى الأصل؛ ولم نجد من معانى هذه الكلمة ما يناسب سياق ما هنا» اهـ ويظهر لنا أن البذول فى هذا الموضع جمع بذل؛ والمراد ما يبذله السلطان من الإقطاعات لخواصّه وأجناده؛ وقد نبهنا على هذا المعنى فى الحاشية رقم 1 من صفحة 301، فانظره. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 306 ص س 202 8 «مبقلة» وكتبنا على هذه الكلمة ما نصه: «فى الأصل: «مقبلة» ، وفيه قلب صوابه ما أثبتنا كما يرشد اليه عطف المتوسطة والمجدبة عليه الخ» . ومع جواز ما اخترناه واستقامة الكلام به فقد بدا لنا أنه يصح أن يراد بقوله: «مقبلة» ، السنة التى تقبل بالنبات، أى تجىء به. وقد ذكرنا هذا المعنى فى الحاشية رقم 5 من صفحة 295، فانظره. 203 1 «ويحتاج الى أن يتعاهد مباشرى المعاملات» ولم نفسّر لفظ المعاملات فى هذا الموضع، وقد فسرناه فى الحاشية رقم 3 من صفحة 281، فانظره. 204 13 كلمة «الزردكشية» وكتبنا عن هذه الكلمة ما نصه: «الزردكشية» هم لابسو الدروع؛ وكش باللغة الفارسية معناه لابس انظر المعجم الفارسى الإنجليزى تأليف ستاين جاس مادة (كشيدن) . هذا ما كتبناه فى تفسير هذا اللفظ؛ وقد وقفنا بعد ذلك على أنهم يريدون بالزردكاشية: صانعو الزرد والأسلحة انظر صبح الأعشى ج 4 ص 12 ونحن نرجّح هذا المعنى ونؤثره على الأوّل. 229 3 قوله: «فإن تعذر فبالوجه» وكتبنا فى تفسير هذه العبارة ما نصه: «الظاهر أنه يريد بالوجه هنا: الجاه، أى إن تعذر الكفيل ذو المال والغنى قبلت الكفالة بذى الجاه وإن لم يكن غنيا» اهـ وقد بدا لنا بعد ذلك فى تفسير هذه العبارة معنى آخر نرجّحه على الأوّل، وهو أن الكفالة بالوجه هى أن يضمن الكافل إحضار المكفول بوجهه، أى بذاته، اذا طلب منه أن يحضره؛ فمعنى العبارة إذن أنه إن تعذّر الكفيل بالمال قبلت الكفالة بأن يحضر الكافل شخص المكفول. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 307 [مقدمة الجزء التاسع] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ بيان عن الجزء التاسع من نهاية الأرب فى دار الكتب من نسخ هذا الجزء نسخة واحدة كاملة مأخوذة بالتصوير الشمسىّ، وقطعة من نسخة أخرى مأخوذة بالتصوير الشمسىّ أيضا، تبتدئ من (الفنّ الثالث فى الحيوان الصامت) فى صفحة 224، وقد شمل التحريف والتصحيف ألفاظ هذا الجزء فى كلتا النسختين بظلمة كثيفة لا يكاد يبدو فيها الصواب إلا بالتفكير الطويل والبحث المستقصى، فما زلنا نستخرج الصحيح من المعتلّ، ونتعرّف الصواب من الخطإ بما يجاوره ويتصل به من الألفاظ الصحيحة التى لم يمسّها مسخ ولا تحريف، مراعين فى ذلك سياق الكلام وما تقتضيه أساليب الكتّاب والشعراء فى مختلف العصور والبيئات، مستعينين بعد ذلك بالمصادر الكثيرة التى بين أيدينا، من دواوين الشعراء ورسائل الكتّاب وكتب المحاضرات والمنتخبات الأدبية ومصنّفات اللغة وغيرها من علوم العربية، والمعجمات المختصّة بأسماء الرواة وأنسابهم، وما ألّفه العلماء فى الأمكنة والبلاد وضبط أسمائها وتعيين مواقعها، وغير ذلك من أنواع المؤلّفات التى تراها مفصّلة بعد فى بيان الكتب والمصادر التى رجعنا اليها فى تصحيح هذا الجزء، كلّ نوع منها فيما يتعلّق به من أغراضه وأبوابه، غير مكتفين من كلّ كتاب بنسخة واحدة، بل جمعنا ما استطعنا جمعه من نسخه لنتخيّر أصحّها رواية وأقومها لفظا؛ منبّهين فى الحواشى على اختلاف الجزء: مقدمةج 9 ¦ الصفحة: 1 هذه النّسخ فى رواياتها وعلى ما نرجّحه منها؛ وعسى أن نكون قد وفّقنا فى هذا الجزء الى ما نقصد إليه فى جميع أجزاء هذا الكتاب من إصلاح المحرّف من ألفاظها، وتكميل ما نقص من عباراتها، وتفسير غريبها، وشرح ما أشكل من جملها وأبياتها، وضبط ما التبس من ألفاظها، وتحقيق ما اشتملت عليه من أسماء الأمكنة والبلاد والقبائل والأشخاص وضبطها على الوجه الصحيح، والتنبيه على كثير مما ورد فيها من الألفاظ والصّيغ والعبارات الدّخيلة والعامّيّة، وغير ذلك من الأغراض. ومما ينبغى التنبيه عليه فى هذا الموضع أننا لم نضع لفظا مكان لفظ آخر فى الأصل إلا إذا كان التحريف فى لفظ الأصل ظاهرا لا يستقيم به المعنى على وجه من الوجوه، بشرط أن يتقارب اللفظان فى رسم الحروف تقاربا يجعلهما كالمتّفقين، ليكون الظنّ أرجح فى اشتباه اللّفظين على الناسخ، والاحتمال أقرب فى تحريف أحدهما عن الآخر، مؤثرين فى ذلك النقل عن المصادر الموثوق بمؤلّفيها، منبّهين فى الحواشى على ما كان فى الأصل من حروف هذا اللّفظ ووجه اختيار غيره والمصدر الذى أخذناه عنه؛ سواء أكان هذا اللفظ منقولا عن كتاب، أم كان من عندنا؛ فاذا أفاد لفظ الأصل معنى يستقيم به الكلام على وجه من الوجوه ولو كان ضعيفا أبقيناه على حاله لم نغيّر منه حرفا، وإن بدا لنا من الألفاظ ما هو أفضل منه وأقرب إلى السياق أثبتناه فى الحواشى، كما أننا لم نضبط علما من الأعلام المشتمل عليها هذا الجزء إلا إذا ورد بضبطه نصّ صريح لا يحتمل التأويل فيما لدينا من الكتب الموثوق بمؤلّفيها ومصحّحيها، فاذا ورد هذا الاسم فى الكتب مضبوطا بالقلم ولم نجد من النصوص الدالّة على ضبطه ما نطمئن إليه، نبّهنا على ذلك فى الحواشى، فنقول: «كذا ضبط هذا الاسم بالقلم لا بالعبارة فى كتاب كذا» . الجزء: مقدمةج 9 ¦ الصفحة: 2 وإنّ من النعم الكبرى على العلم والأدب التى لا يفى بحقّها شكر، ولا يقوم بحمدها نثر ولا شعر، تلك العناية العظيمة والرعاية الكبرى من مولانا مليك البلاد، وشبل إسماعيل (صاحب الجلالة فؤاد الأوّل) أيّد الله ملكه، وأدام ظلّه، وحرس للبلاد ولىّ عهده (سموّ الأمير فاروق) فقد تمّ فى عهده السعيد طبع كثير من الكتب النافعة فى مختلف الفنون، والكشف عن ثروة علميّة واسعة مما تركه السلف تذكرة للخلف. ولا يفوتنا فى هذا المقام أن نذكر بالشكر والثناء هذا الجهد العظيم الذى بذله ويبذله المدير الحازم والمربّى الفاضل الأستاذ (محمد أسعد برّادة بك) مدير دار الكتب المصريّة، واهتمامه الصادق باخراج هذه الكتب فى أقرب وقت ممكن على أحسن وجه وأكمله، تحقيقا لما تتوق إليه الأمّة العربيّة جمعاء من إحياء لغتها وآدابها بنشر الكتب الثمينة فى الدين واللغة والأدب والتاريخ، وغيرها من أنواع العلوم. كما لا يفوتنا أن نثنى الثناء الجميل على حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ (السيد محمد الببلاوى) مراقب إحياء الآداب العربية على ما يسديه الى مصحّحى هذه الكتب من الإرشادات القويمة، والآراء السديدة؛ ونسأل الله سبحانه التسديد فى القول، والتوفيق فى العمل مصحّحه أحمد الزين تحريرا بالقاهرة فى يوم الأربعاء 15 محرّم سنة 1352 10 مايو سنة 1933 الجزء: مقدمةج 9 ¦ الصفحة: 3 فهرس الجزء التاسع من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويرى ذكر كتابة الحكم والشروط وما يتّصف به الكاتب ويحتاج اليه 1 أما اشتراط العدالة والديانة والأمانة 2 وأما طلاقة العبارة وذلاقة اللسان 3 وأما حسن الخط 3 وأما معرفة العربية 4 وأما معرفة الفقه 4 وأما علم الحساب والفرائص 5 وأما معرفة صناعة الوراقة 6 ذكر صورة ما اصطلح عليه الكتّاب من أوضاع الوراقة 6 ذكر كيفية ما يصنعه الكاتب فى كلّ واقعة 9 أما الإقرارات وما يتّصل بها من الرهن والضمان 10 وأما الحوالة 17 فصل وأما الشركة 17 وأما القراض 19 الجزء: مقدمةج 9 ¦ الصفحة: 4 وأما العارية 20 وأما الهبة والنحلة 20 وأما الصدقة والرجوع 22 وأما التمليك 23 وأما البيوع 24 وأما الرد بالعيب والفسخ 73 فى مقايلة تكتب على ظهر المبايعة 73 وأما الشفعة 74 وأما السلم والمقايلة فيه 84 وأما القسمة والمناصفة 85 وأما الأجائر 88 وأما المساقاة 103 وأما الوصايا والشهادة على الكوافل بالقبوض 104 وأما العتق والتدبير وتعليق العتق 110 وأما الكتابة 113 وأما النكاح وما يتعلق به 115 وأما أقرار الزوجين بالزوجية واعتراف الزوج بمبلغ الصداق وما يتصل بذلك من فرض الزوجة والإشهاد عليها بقبض الكسوة 124 وأما الطلاق وما يتصل به من الفروض الواجبة 126 وأما تعليق الطلاق وفسخ النكاح 131 وأما نفى ولد الجارية والإقرار باستيلاد الأمة 134 الجزء: مقدمةج 9 ¦ الصفحة: 5 وأما الوكالات 135 وأما المحاضر على اختلافها 137 وأما الإسجالات 145 وأما الكتب الحكمية 152 وأما التقاليد الحكمية 155 وأما الأوقاف والتحبيسات 156 المؤتلف والمختلف من أسماء نقلة الحديث 160 المؤتلف والمختلف من نسب رجال الحديث 179 وأما من ينسخ العلوم 214 وأما من ينسخ التاريخ 214 وأما من ينسخ الشعر 217 ذكر كتابة التعليم وما يحتاج من تصدّى لها إلى معرفته- فأما تعليم الابتداء 218 وأما تعليم الانتهاء 220 الفن الثالث فى الحيوان الصامت 224 القسم الأوّل من هذا الفن فى السباع وما يتصل بها من جنسها، وفيه ثلاثة أبواب الباب الأوّل فى الأسد والببر والنمر أما أسماء الأسد 226 وأما أصناف الآساد وأجناسها 227 الجزء: مقدمةج 9 ¦ الصفحة: 6 وأما عاداتها فى حملها ووضعها وحضانتها 228 وأما عادتها فى وثباتها وثباتها وأفعالها وصبرها وسرعة مشيها وأكلها 229 وأما ما فى الآساد من الجراءة والجبن 230 ذكر شىء مما وصف به الأسد نظما ونثرا 234 وأما الببر وما قيل فيه 242 ذكر ما قيل فى النمر 243 ما قاله الشعراء فى وصف النمر 245 الباب الثانى من القسم الأوّل من الفن الثالث فيما قيل فى الفهد والكلب والذئب والضبع والنمس- ذكر ما قيل فى الفهد ما قيل فى وصف الفهود من النظم والنثر 248 ذكر ما قيل فى الكلاب 254 (فصل) قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ 255 ذكر دلائل النجابة والفراهة فى كلاب الصيد 260 ذكر شىء مما وصفت به كلاب الصيد نظما ونثرا 261 ذكر ما قيل فى الذئب 270 ذكر ما وصف به الذئب 272 ذكر ما قيل فى الضبع 274 ذكر ما قيل فى النمس 276 الجزء: مقدمةج 9 ¦ الصفحة: 7 الباب الثالث من القسم الأوّل من الفنّ الثالث فيما قيل فى السنجاب والثعلب والدب والهرّ والخنزير فأما السنجاب ذكر ما وصف به السنجاب 278 ذكر ما قيل فى الثعلب 279 ذكر ما وصف به الثعلب 281 ذكر ما قيل فى الدبّ 282 ذكر ما قيل فى الهرّ 283 ذكر ما وصف به الهرّ 285 ذكر ما قيل فى الخنزير 299 ذكر ما وصف به الخنزير 301 القسم الثانى من الفن الثالث فى الوحوش والظباء وما يتصل بها من جنسها وفيه ثلاثة أبواب الباب الأوّل من هذا القسم فيما قيل فى الفيل والكركدّن والزرافة والمها والإيّل ذكر ما قيل فى الفيل 302 ذكر شىء مما وصف به الفيل نظما 308 ذكر ما قيل فى الكركدّن 315 ذكر ما قيل فى الزرافة 317 الجزء: مقدمةج 9 ¦ الصفحة: 8 ذكر ما وصفت به الزرافة 318 ذكر ما قيل فى البقر الوحشية- وهى المها، والأيّل- أما سنّها 322 وأما ما قيل فى المها 322 ذكر ما وصفت به المها 322 وأما ما قيل فى الأيّل 324 ذكر ما قيل فى امتناعه عن شرب الماء مع حاجته إليه 325 الباب الثانى من القسم الثانى من الفن الثالث فيما قيل فى الحمر الوحشية والوعل واللمط ذكر ما قيل فى الحمر الوحشية 326 ذكر ما وصفت به الحمر الوحشية من النثر والنظم 327 ذكر ما قيل فى الوعل 329 ذكر ما وصف به الوعل 330 ذكر ما قيل فى اللمط 331 الباب الثالث من القسم الثانى من الفن الثالث فى الظبى والأرنب والقرد والنعام ذكر ما قيل فى الظبى 332 فصل وممّا يلتحق بهذا النوع غزال المسك 333 ذكر ما وصف به الغزال من الشعر 333 ذكر ما قيل فى الأرنب 334 منافع الأرنب 335 الجزء: مقدمةج 9 ¦ الصفحة: 9 ذكر ما وصف به الأرنب 336 ذكر ما قيل فى القرد 336 ذكر ما قيل فى النعام 339 ذكر ما وصفت به النعامة 340 القسم الثالث من الفن الثالث فى الدواب والأنعام؛ وفيه ثلاثة أبواب الباب الأوّل من هذا القسم فى الخيل ذكر ما ورد فى ابتداء خلق الخيل 343 ذكر ما ورد فى فضل الخيل وبركتها وفضل الإنفاق عليها 346 ذكر ما جاء فى فضل الطّرق 353 ذكر ما جاء من دعاء الفرس لصاحبه 354 ذكر ما ورد من أن الشيطان لا يخبل من فى داره فرس عتيق ولا يدخل دارا فيها فرس عتيق 355 ذكر ما جاء فى التماس نسل الخيل والنهى عن خصائها والرخصة فيه والنهى عن هلبها وجزّ أعرافها ونواصيها 356 ذكر ما قيل فى أكل لحوم الخيل من الإباحة والكراهة 358 ذكر ما جاء فى النهى عن عسب الفحل وبيع مائه 360 ذكر ما جاء فى إكرام الخيل ومنع إذالتها 360 ذكر ما ورد من الأمر بارتباط الخيل وما يستحبّ من ألوانها وشياتها وذكورها وإناثها 361 الجزء: مقدمةج 9 ¦ الصفحة: 10 ذكر ترجيح إناث الخيل على فحولها وترجيح فحولها على إناثها وما جاء فى ذلك 365 ذكر ما ورد فى شؤم الفرس وما يذمّ من عصمها ورجلها 366 ذكر ما جاء فى سباق الخيل وما يحلّ منه وما يحرم 368 وأما أسماء السوابق فى الحلبة 373 ومما يتصل بهذا الفصل ترتيب عدو الفرس 375 كيفية تضمير الخيل 375 ذكر ما يقسم لصاحب الفرس من سهام الغنيمة والفرق فى ذلك بين العراب والهجن والبراذين 375 ذكر سقوط الزكاة فى الخيل 378 تمّ الفهرس الجزء: مقدمةج 9 ¦ الصفحة: 11 بيان اهمّ الكتب والمصادر التى رجعنا إليها فى تصحيح هذا الجزء مرتبة على حروف المعجم (إرشاد السارى لشرح صحيح البخارى) لشهاب الدين القسطلّانى. (الإرشاد الشافى على متن الكافى فى علمى العروض والقوافى) للدمنهورى. (أساس البلاغة) للزمخشرى. (أسماء الوحوش) للاصمعى. (الإصابة فى تمييز الصحابة) لابن حجر العسقلانى. (الأغانى) لأبى الفرج الأصفهانى. (أقرب الموارد) لسعيد الخورى الشرتونى اللبنانى. (الإكمال فى رفع الارتياب عن المؤتلف والمختلف من الأسماء والكنى والانساب) لابن ماكولا. (الأنساب) للسمعانى. (الأموال) لأبى عبيدة. (بدائع الزهور فى وقائع الدهور) وهو تاريخ مصر لابن إياس. (تاج العروس) وهو شرح القاموس للزبيدى. (تاج اللغة وصحاح العربية) للجوهرى. (تاريخ ابن الأثير) . (تاريخ الأدب او حياة اللغة العربية) للمرحوم حفنى بك ناصف. (تاريخ بغداد) للخطيب. الجزء: مقدمةج 9 ¦ الصفحة: 12 (تاريخ الطبرى) . (تبصير المنتبه بتحرير المشتبه) لابن حجر العسقلانى. (تقريب التهذيب فى أسماء الرجال) له أيضا. (التبيان) وهو شرح ديوان أبى الطيب المتنبّى، للعكبرىّ. (تحفة ذوى الأرب فى مشكل الأسماء والنسب) لابن خطيب الدهشة. (تقويم البلدان) لأبى الفداء. (تكملة القواميس العربية) لدوزى. (تهذيب الكمال فى أسماء الرجال) لأبى الحجاج المزّى. (جواهر العقود ومعين القضاة والموقّعين والشهود) لأبى عبد الله الأسيوطىّ. (حاشية الصبّان) على شرح الأشمونى. (الحيوان) للجاحظ. (حياة الحيوان) للدميرى. (الخطط) للمقريزى. (خلاصة تذهيب تهذيب الكمال فى أسماء الرجال) لصفىّ الدين الخزرجىّ. ديوان أبى نواس. ديوان ابن حمديس. ديوان الحيوان، للسيوطى. ديوان ابن هانئ الأندلسىّ. ديوان عروة بن الورد. ديوان الأخطل. ديوان الأرّجانى. الجزء: مقدمةج 9 ¦ الصفحة: 13 ديوان ابن خفاجة. ديوان ابن المعتزّ. (ديوان المعانى) لأبى هلال العسكرى. (الذخيرة فى محاسن أهل الجزيرة) لابن بسام. (رشحات المداد فيما يتعلّق بالصافنات الجياد) للبخشىّ الحلبىّ. (شذرات الذهب فى أخبار من ذهب) لابن العماد الحنبلى. (شرح الأشمونى) على ألفية ابن مالك. (شرح الرضى) على الكافية. (شرح ابن هشام) على قصيدة بانت سعاد. (شرح المنهج) لشيخ الإسلام زكريا الأنصارى. (شرح مقامات بديع الزمان الهمذانى) للأستاذ المرحوم الشيخ محمد عبده. (شرفنامه- وهو كتاب باللغة الفارسية فى تاريخ الأكراد) - للأمير شرفخان البدليسى. (شفاء الغليل فيما فى كلام العرب من الدخيل) لشهاب الدين الخفاجىّ. (شرح النووى) على صحيح مسلم. (صبح الأعشى فى صناعة الإنشاء) للقلقشندى. صحيح البخارى. (طبقات الشافعية الكبرى) لابن السبكىّ. (الطبقات الكبرى) لابن سعد. (عقد الأجياد فى الصافنات الجياد) للسيد محمد الجزائرى الحسنى. (العقد الفريد) لابن عبد ربه. الجزء: مقدمةج 9 ¦ الصفحة: 14 (عقد الجمان فى تاريخ أهل الزمان) لبدر الدين العينى. (العمدة فى صناعة الشعر ونقده) لابن رشيق القيروانى. (فتح العزيز وهو الشرح الكبير للرافعىّ على كتاب الوجيز) للغزالى. (الفتاوى الهندية) لجماعة من أفاضل الهند رئيسهم الشيخ نظام الدين. (فهرست ابن النديم) . (فضل الخيل) للحافظ شرف الدين الدمياطى. (القاموس المحيط) لمجد الدين الفيروزابادى. (قوانين الدواوين) للأسعد بن مماتى. (القانون) لابن سينا. (قلائد العقيان) للفتح بن خاقان. (كشف الظنون عن أسماء الكتب والفنون) لحاجى خليفة. (الكوكب المشرق فيما يحتاج اليه الموثّق) لمحمد بن عبد الله الحسن الجروانى. (الكامل للمبرّد) . (لب اللباب فى تحرير الأنساب) للجلال السيوطى. (لسان العرب) لابن منظور. (المصباح المنير) للفيومى. (معجم ما استعجم) للبكرى. (معجم البلدان) لياقوت الحموى. (المشترك وضعا والمختلف صقعا) له أيضا. (مختصر أخبار مصر) لعبد اللطيف البغدادى. (محيط المحيط) لبطرس البستانى. الجزء: مقدمةج 9 ¦ الصفحة: 15 (مبادئ اللغة) لأبى عبد الله الخطيب الإسكافى. (المخصّص) لابن سيده. (المغرب فى ترتيب المعرب) للمطرّزى. (المعرّب والدخيل) للشيخ مصطفى المدنى. (المعرّب من الكلام الأعجمى) لأبى منصور الجواليقى. (المعجم الفارسى الإنجليزى) لستاينجاس. (المؤتلف والمختلف من أسماء نقلة الحديث) للحافظ عبد الغنى بن سعيد المصرى. (مشتبه النسبة) له أيضا. (المشتبه فى أسماء الرجال) لشمس الدين الذهبىّ. (المكتبة الأندلسية) طبع أسبانيا، وهى تشتمل على عدّة كتب، وهى (الصلة) لابن بشكوال، (والتكملة لكتاب الصلة) للقضاعى، (والمعجم) لابن الأبار، (وبغية الملتمس فى تاريخ رجال أهل الأندلس) للضبى، (وتاريخ علماء الأندلس) لابن الفرضى. (المكتبة الجغرافية) طبع ليدن، وهى تشتمل على عدّة كتب، وهى (مسالك الممالك) للإصطخرى، (والمسالك والممالك) لابن حوقل، (وأحسن التقاسيم فى معرفة الأقاليم) للبشّارى المقدسى، (ومختصر كتاب البلدان) لابن الفقيه، (والمسالك والممالك) لابن خرداذبة، (والتنبيه والإشراف) للمسعودىّ. (ما خالف فيه الإنسان البهيمة) لقطرب. (المرصّع فى الآباء والأمهات والأبناء والبنات والأدواء والذوات) لابن الأثير. (مباهج الفكر ومناهج العبر) لجمال الدين الوطواط الورّاق. (محاضرات الأدباء) للراغب الأصبهانى. الجزء: مقدمةج 9 ¦ الصفحة: 16 (مروج الذهب) للمسعودى. (ما يعوّل عليه فى المضاف والمضاف إليه) للمحبّى الحموى. (مجمع الأمثال) للميدانى. (المعجب فى تلخيص أخبار المغرب) لمحيى الدين عبد الواحد التميمى المراكشى. (مطمح الأنفس ومسرح التأنّس فى ملح أهل الأندلس) للفتح بن خاقان. (مسند الإمام أحمد) . (نهاية الأرب) لشهاب الدين النويرىّ. (النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية وهى سيرة السلطان يوسف صلاح الدين الأيوبى) للقاضى ابن شدّاد. (نسب عدنان وقحطان) لأبى العباس المبرّد. (نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب) للمقرّى. (نكت الهميان فى نكت العميان) لصلاح الدين الصفدى. (الوافى بالوفيات) له أيضا. (النهاية فى غريب الحديث) لابن الأثير. (وفيات الأعيان) لابن خلّكان. (الوجيز) للغزالى. (يتيمة الدهر) للثعالبى. الجزء: مقدمةج 9 ¦ الصفحة: 17 الجزء التاسع بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [ تتمة الفن الثاني في الإنسان وما يتعلق به ] [ تتمة القسم الخامس في الملك وما يشترط فيه و.. ] تتمة باب الرابع عشر في ذكر الكتاب والبلغاء والكتابة و.. تتمة ثم الكتابة بحسب من يحترفون بها على أقسام ذكر كتابة الحكم والشروط وما يتّصف به الكاتب ويحتاج اليه ينبغى أن يكون كاتب الحكم والشروط عدلا، ديّنا، أمينا، طلق العبارة فصيح اللسان، حسن الخطّ؛ ويحتاج مع ذلك إلى معرفة علوم وقواعد تعينه على هذه الصناعة، لا بدّ له منها، ولا غنية عنها: وهى أن يكون عارفا العربيّة والفقه متقنا علم الحساب، محرّرا القسم والفرائض، دربا بالوقائع، خبيرا بما يصدر عنه من المكاتبات الشرعيّة، والإسجالات الحكميّة على اختلاف أوضاعها، وأن يكون قد أتقن صناعة الوراقة «1» وعلم قواعدها، وعرف كيفيّة ما يكتب فى كلّ واقعة وحادثة: من الدّيون على اختلافها، والحوالات، والشّركات، والقراض، والعارية، والهبة والنّحلة، والصدقة والرجوع، والتمليك، والبيوع، والردّ بالعيب والفسخ، والشّفعة والسّلم، والمقايلة «2» ، والقسمة والمناصفة «3» ، والأجائر على اختلافها، والمساقاة، والوصايا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1 والشهادة على الكوافل بالقبوض «1» ، والعتق، والتدبير، وتعليق العتق، والكتابة «2» ، والنكاح وما يتعلّق به، وإقرار الزّوجين بالزوجيّة عند عدم كتاب الصّداق، واعتراف الزوج بمبلغ الصّداق، والطلاق، وتعليق الطلاق «3» ، وفسخ النكاح، ونفى ولد الجارية والإقرار باستيلاد الأمة، والوكالات، والمحاضر، والإسجالات، والكتب الحكميّة والتقاليد، والأوقاف، وغير ذلك، على ما نوضّحه ونبيّنه ان شاء الله تعالى. فنقول وبالله التوفيق: أما اشتراط العدالة والديانة والأمانة - فلأنّه يتصرّف بشهادته فى الأموال والدّماء والفروج، فإذا لم يكن فيه من الدّيانة والعدالة والأمانة ما يستمسك به، ويقف عند أوامر الشرع الشريف ونواهيه بسببه؛ تولّاه- والعياذ بالله تعالى- الشيطان بالغرور، وأوقعه فى محظور يتوقّع فى الدار الآخرة منه وقوع المحذور؛ وربّما انكشفت فى الدّنيا عورته، وبدت سريرته؛ وإذن هو المعنىّ والمشار اليه بقولهم: «شاهد الزور قتل ثلاثة: نفسه والمشهود له والمشهود عليه» فلم يفز ممّا ارتكبه بطائل، بل جمع لنفسه بين نكال عاجل وعقاب آجل، خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 2 وأما طلاقة «1» العبارة وذلاقة اللسان - فلأنه يجلس بين يدى الحاكم فى مجلسه العامّ، ويحضره من يحضره: من العلماء والفقهاء، وذوى المناصب، وأصحاب الضرورات، وخصوم المحاكمات على اختلاف طبقاتهم وأديانهم؛ وهو المتصدّى لقراءة ما يحضر فى المجلس: من إسجالات حكميّة، ومكاتيب شرعيّه؛ وكتب مبايعات، ووثائق إقرارات؛ وقصص وفتاوى، وغير ذلك مما يتّفق فى المجلس؛ فمتى لم يكن الكاتب طلق العبارة فصيح اللّسان، جيّد القراءة حسن البيان؛ تعذّرت قراءة ذلك عليه ولكن فى المجلس، فرمقته العيون شزرا، وتلمّظت «2» به الألسن سرّا؛ ونظر بعض القوم بسببه بعضا، وكان عندهم فى الرتبة سماء فغدا أرضا؛ ثم تتعدّى هذه المفسدة الى إفساد المكتوب، والتباس المعنى المراد والأمر المطلوب؛ وذلك لأنّه إذا توقّف فى القراءة احتاج إلى إعادة اللّفظة وتكريرها، وترديد الكلمة وتدويرها؛ فتشكل قراءته على سامعه ومستكتبه، ويكون قد أخلّ برتبته ومنصبه. وأما حسن الخط ّ - فلأنه مندوب إليه فى مثل ذلك، وله من الفوائد ما لا يحصى، ولأنّ المكتوب إذا كان حسن الخطّ قبلته النفوس، وانشرحت له ومالت إليه؛ وإذا كان على خلاف ذلك كرهته وملته وسئمته؛ وقد ذكرنا ما قيل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 3 فى حسن الخطّ وما وصفت به الكتابة عند ذكرنا لكتابة الإنشاء «1» ، فلا فائدة فى إعادته هنا. وأما معرفة العربيّة - فلأنّه إنّما يكتب عن حاكم المسلمين فى الأمور الشرعيّة، فلا يجوز أن يصدر عنه لحن بلفظه، فكيف إذا سطّره بقلمه!؟ فإن وقع ذلك كان من أقبح العيوب وأشنعها، وربّما أخلّ بالمقصود، وحرّف المعنى المراد وأخرجه عن وضعه، ونقله إلى غير ما أريد به، سيّما «2» فى شروط الأوقاف. وأما معرفة الفقه - فلأنه يجلس بين يدى حاكم عالم، لا يكاد يخلو مجلسه غالبا من الفقهاء والعلماء، فيوردون المسائل أو تورد عليهم، فيحصل البحث فيها فيتكلّم كلّ من القوم بما علمه بقدر اشتغاله ونقله، فإذا كان الكاتب عاريا من الفقه والمدارسة ومطالعة كتب العلوم الشرعيّة اقتضى ذلك عدم مشاركته لهم فيما هم فيه فيصير بمثابة الأجنبىّ من المجلس، وهو فى ذلك بين أمرين: إمّا أن يسكت، فلا فرق بينه وبين جماد شغلت به تلك البقعة التى جلس فيها؛ أو يتكلّم بما لا يعلم، فيردّ عليه قوله، فيحصل له الخجل فى ذلك المجلس الحفل، ويستزريه القوم؛ هذا من هذا الوجه؛ ثم هو فيما يكتبه عن الحاكم أو فى أصل «3» المكتوب بين أمرين: إمّا أن يجيد ويبرز المكتوب وهو محرّر على مقتضى قواعد الفقه، فلا بدّ له فيه من الاستعانة بالغير وتقليده، بحيث إنه لو سئل عن معنى أجاد فيه وأحسن لعجز عن الجواب؛ وإمّا أن يستقلّ بنفسه فيكتب غير الواجب، فيكون قد أفسد المكتوب على أهله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 4 ولزمه غرم ما أفسد من القراطيس والرّقوق «1» ، وكلتاهما خطّة خسف ما فيهما «2» حظّ لمختار؛ وربّما اغترّ جاهل ممن تلبّس بالكتابة لوثوقه من نفسه بمعرفة مصطلح الوراقة دون الفقه، فيظنّ أنه استغنى بذلك عنه، وهذا غلط وجهل، لأنه قد يقع له من الوقائع ما لم يعلمه، فلا يخلّصه منه إلا تصريفه على القواعد الشرعيّة؛ ولا يعتمد الكاتب على اطّراد قاعدة الأشباه والنظائر، فيقيس الشىء على ما يظنّ أنّه شبهه أو نظيره، وقد لا يكون كذلك، فإنّ الفقه أمر نقلّى لا عقلىّ، فلا بدّ للكاتب من معرفته؛ والله أعلم. وأما علم الحساب والفرائض - فلأنه لو وقع فى المجلس قسمة شرعيّة بين ورثة أو شركة «3» ، ولم تكن له معرفة «4» بهذا العلم، كان ذلك عجزا منه وتقصيرا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5 ونقصا فى صناعته؛ ويقبح به أن يعتمد على غيره فيه ويقلّده، ويرجع اليه فى المجلس الذى هو ممّن يشار اليه فيه، فيصير فى ذلك المجلس تابعا بعد أن كان متبوعا، ومقلّدا لغيره، ومسطّرا بقلمه ما لم يعرفه وما هو أجنبىّ عنه؛ هذا إن اتّفق أن يحضر المجلس من له معرفة بهذا العلم؛ فأمّا إن خلا المجلس ممن يعلم ذلك جملة كان أشدّ لتوقيف «1» الأمر وتعطيله، ودفعه من وقت الى آخر، وفى هذا من النقص والتقصير والإخلال برتبته، وعدم الاتصاف بالكمال فى صناعته، ما لا يخفى على متأمّل. وأما معرفة صناعة الوراقة فى الأمور التى ذكرناها - فلذلك من الفوائد ما لا يخفى على ذى لبّ، لأنّ الكاتب إذا أخرج المكتوب من يده بعد إتقانه وتحرير ألفاظه على ما استقرّ عليه الاصطلاح: من التقديم والتأخير ومتابعة الكلام وسياقته، وترصيعه وترصيفه، حسن موقعه، وعذبت ألفاظه، واشرأبّت له النفوس، ولو بلغ الكاتب فى الفقه والعربيّة واللغة ما عساه أن يبلغ ولم يدر المصطلح، وخرج الكتاب من يده وقد حرّره على قواعد الفقه والعربيّة من غير أن يسلك فيه طريق الكتّاب واصطلاحهم، مجّته الأسماع، ولم تقبله النفوس كلّ القبول، وثقل على قارئه وسامعه؛ والله أعلم. فهذه لمعة كافية من فوائد ما قدّمناه ممّا يحتاج الكاتب الشّروطىّ الى معرفته؛ [ ذكر ما اصطلح عليه الكتاب من أوضاع الوراقة ] فلنذكر الآن صورة ما اصطلح عليه الكتّاب من أوضاع الوراقة فى الأمور التى قدّمنا ذكرها على ما استقرّ عليه الحال فى زماننا هذا، ممّا يضطرّ إليه المبتدئ، ولا يكاد يستغنى عنه المنتهى؛ فنقول: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 6 أوّل ما ينبغى أن يبدأ به الكاتب فيما يصدر عنه من جميع المكاتيب الشرعيّة حين ابتدائه بكتابة شىء منها أن يكتب: (بسم الله الرّحمن الرّحيم) ثمّ يصلّى على النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، ثمّ يكتب لقب المشهود عليه وكنيته واسمه، ولقب أبيه وجدّه وكنيتيهما واسميهما، إن كانوا ممّن يلقّبون ويكنّون، وإلّا فأسماؤهم كافية؛ وينسب المشهود عليه إلى قبيلته، أو صناعته وحرفته أو مجموع ذلك؛ وذلك بحسب ما تقتضيه رتبته وحاله فى علوّ القدر والرفعة؛ فإن كان من ذوى الأقدار المشهورين ذكر ألقابه وكناه، ونسبه إلى قبيلته وحرفته، إن كانت ممّا تزيده رفعة وتعريفا؛ وإن كان غير مشهور برتبة أو منصب لكنّه ممّن يعرفه الشهود بالحلية والنّسب قال: «وشهود هذا المكتوب به عارفون» واستغنى بذلك عن وصف حليته «1» ؛ وإن كان ممّن عرفه بعضهم ولم يعرفه البعض قال: «وبعض شهوده به عارفون» وذكر حليته؛ وإن كان ممّن لا يعرفه الشهود جملة ذكر حلاه وضبطها على ما نشرحه عند ذكرنا للحلى؛ ثم يذكر المشهود له ويسلك فى ألقابه ونعوته وكناه وتعريفه نحو ما تقدّم فى المشهود عليه بحسب ما تقتضيه حاله أيضا ويذكر بعد ذلك ما اتفقا عليه. فاذا انتهى الى آخر الكلام فيه أرّخ المكتوب باليوم من الشهر، وبما مضى من سنين الهجرة النبويّة؛ ولا بأس بأن يؤرّخه بالساعة من اليوم، لاحتمال تعارض مكتوب آخر فى ذلك اليوم يناقض هذا المكتوب، مثال ذلك أنّ امرأة طلّقت فى يوم قبل دخول الزوج المطلّق بها، فتزوّجت فى يومها، وتمادى الأمر على ذلك، ثم ادّعى مدّع أنها تزوّجت قبل وقوع الطلاق الجزء: 9 ¦ الصفحة: 7 ولم يكن فى الكتاب ما يمنع دعواه؛ فانه يحتاج فى مثل هذا ونحوه إلى تحديد الطلاق والزواج بالساعات، فإنّ فيه إزالة للشكّ، وحسما لمادّة الالتباس؛ فاذا كملت كتابة المكتوب استوعبه الكاتب قراءة، فإن كان على السّداد والتحرير أشهد فى ذيله عليهما بما اتّفقا عليه، أو على المقرّ بما أقرّ به، وذلك بحسب ما تقتضيه الحال. وإن احتاج المكتوب إلى إصلاح: من كشط أو ضرب أو إلحاق حرّره، واعتذر فى ذيل المكتوب تلو التاريخ قبل وضع رسم الشهادة عمّا أصلحه فيقول فيه: «مصلح على «1» كشط كذا وكذا، وفيه ضرب ما بين كلمة كذا الى كلمة كذا» إن كان الضرب قد أخفى ما كان تحته؛ وإن كانت الأحرف المضروب عليها ظاهرة قال: «فيه ضرب على كذا وكذا، وفيه ملحق بين سطوره أو بهامشه كذا وكذا» ويشرح ذلك، ثم يقول: «وهو صحيح فى موضعه، معمول به، معتذر عنه بخطّ كاتبه» . وإن كان المكتوب فى درج «2» موصول بالإلصاق، أو رقّ «3» مخروز الأوصال أشار على فواصل الأوصال بقلمه إشارة له يعرفها وتعرف عنه: إمّا علامته أو اسمه؛ ويكتب فى آخر أسطره عدد أوصال المكتوب، وعدّة أسطره؛ وقد أهمل الكتّاب ذلك فى غالب مكاتيبهم، وهو زيادة حسنة فى التحرير؛ والله أعلم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 8 وإن كان المكتوب نسخا متعدّدة ككتب الأوقاف كتب عند رسم شهادته فى كلّ نسخة عدد النّسخ؛ والقاعدة عندهم فى هذه الصناعة أنّ الكاتب كلّما زادها عرفانا «1» زادته بيانا؛ فيكون هذا دأبه فى كلّ ما يكتبه أو غالبه؛ والله أعلم بالصواب. *** ولنذكر كيفيّة ما يصنعه الكاتب فى كلّ واقعة على معنى ما أورده «أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن المخزومىّ «2» ، المعروف بابن الصّيرفىّ فى مختصره الذى ترجمه «بمختصر المكاتبات البديعة فيما يكتب من أمور الشريعة» الذى قال فيه إنه اختصره من كتابه المترجم «بجامع العقود فى علم المواثيق والعهود» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 9 أما الإقرارات وما يتصل بها من الرهن والضمان - فسبيل الكاتب فيها أنّه إذا أقرّ رجل لرجل بدين كتب: أقرّ فلان عند شهوده طوعا إقرارا صحيحا شرعيّا بأن فى ذمته بحقّ صحيح شرعىّ لفلان من الذهب المسكوك «1» ، أو من الدراهم النّقرة «2» المتعامل بها يومئذ كذا وكذا، إن كان نقدا. وإن كان غلّة «أو صنفا «3» من الأصناف الموزونة أو المعدودة أو غير ذلك» قال: من الغلال الطيّبة النقيّة السالمة من العيوب والغلث «4» ؛ ويعيّن الغلّة، وينسبها الى جهتها فيقول إن كان بالدّيار المصريّة: الصعيديّة، أو البحريّة، أو الفيّوميّة؛ وإن كان بالشأم أو بغيره نسبها الى جهتها فيقول: البلقاويّة «5» ، أو «الحورانيّة» «6» أو السواديّة «7» ، أو الجبليّة «8» ، أو المرجيّة «9» ، أو غير ذلك من النواحى؛ يعيّنها بناحيتها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 10 وبأصنافها، وبأكيالها؛ ويذكر الجملة وينصّفها فيقول: «النصف من ذلك تحقيقا لأصله وتصحيحا لجملته كذا وكذا» ؛ ثم يقول: «يقوم له بذلك على حكم الحلول وسبيله، أو التنجيم» «1» ؛ أو يقول: «على ما يأتى ذكره وبيانه، فمن ذلك ما يقوم به على حكم الحلول كذا، وما يقوم به فى التاريخ الفلانىّ كذا» على حسب ما يقع عليه الاتّفاق؛ ثم يقول: «وأقرّ المقرّ المذكور بأنه ملىء بالدّين المعيّن، قادر عليه وأنّه قبض العوض عنه» ؛ فإن كان ذلك على حكم الحلول اكتفى فيه بالشهادة على المقرّ دون المقرّ له؛ وإن كان لأجل فلا غنية عن الشهادة على المقرّ له بأنّه صدّقه على ذلك فإنه لو ادّعى الحلول فيما وقعت الشهادة فيه على المقرّ بمفرده بأنّه إلى أجل، كان القول قوله مع يمينه؛ «2» وكذلك فى الشهادة بالغلّة أو الصنف، هل ذلك محمول إلى منزل المقرّ له، أو هو موضوع بمكان آخر، فإنّ «3» فى الشهادة عليهما معا قطعا للنزاع والاختلاف؛ والله سبحانه وتعالى أعلم. ولا يجوز أن يشهد فى الإقرار إلا على حرّ بالغ عاقل، أو مريض مع حضور حسّه وفهمه، ويجوز أن يكتب على العبد البالغ وتتبع به ذمّته بعد عتقه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 11 وان كان الدّين المقرّ به ثمن مبيع كتب فى آخر المكتوب: وهذا الدّين هو ثمن ما ابتاعه المقرّ من المقرّ له، وتسلّمه، وهو جميع الشىء الفلانىّ، أو جميع الحصّة التى مبلغها كذا وكذا، الجارى ذلك فى يد البائع وملكه وتصرّفه على ما ذكرا «1» -- ويذكر المبيع ويصفه- وذلك بعد النظر والمعرفة، والمعاقدة الشرعيّة، والتفرّق «2» بالأبدان عن تراض، وضمان الدّرك «3» فى صحّة البيع «4» حيث يجب شرعا. ويؤرّخ المكتوب، ويشهد عليهما معا. وإن كان الدّين لرجل واحد [أو اثنين «5» أو جماعة] على اثنين أو على جماعة قال: أقرّ كلّ واحد من فلان وفلان وفلان إقرارا صحيحا شرعيا بأن فى ذمّتهم بحقّ صحيح شرعىّ بالسويّة بينهم أو على مقتضى ما وجب عليهم، لكلّ واحد من فلان وفلان؛ ويعيّن المقرّ به نقدا كان أو صنفا على حكمه فى الحلول والأجل والمدد، ويعيّن لكلّ واحد من المقرّ لهم ما يخصّه، إن كان بينهم تفاوت، أو بالسويّة بينهم؛ ويشهد على من أقرّ بالملاءة «6» وقبض العوض على ما تقدّم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 12 وإن تضامنوا وتكافلوا قال: وكلّ واحد منهم ضامن فى ذمّته ما فى ذمّة الآخر من ذلك للمقرّ لهم بإذن كلّ واحد منهم للآخر فى الضمان والأداء والرجوع؛ وأقرّوا بأنهم مليئون بما ضمنوه؛ ويؤرّخ. وإن كان كلّ واحد من المقرّين يقوم بما عليه من الدّين من غير ضمان ولا كفالة لغيره فلا بأس بأن يبرهن الكاتب على ذلك بأن يقول: «من غير ضمان ولا كفالة» . فصل وان حضر من يضمن فى الذمّة كتب بعد تمام الإقرار: «وحضر بحضور المقرّ المذكور فلان، وأشهد عليه طوعا منه أنّه ضمن ما فى ذمّة المقرّ المذكور من الدّين المعيّن للمقرّ له على حكمه» . وإن كان الدّين على حكم الحلول فحضر من يضمنه فى ذمّته إلى أجل، عيّنه فى حقّ الضامن إلى الأجل، وأشهد عليه بالملاءة بما ضمنه؛ فان كان بإذن المضمون قال: «بإذنه له فى الضمان والأداء والرجوع عليه» ، وإن تبرّع الضامن بالضمان صحّ ضمانه، ويقول الكاتب: «إنّه ضمن الدّين المعيّن تبرّعا واختيارا، من غير إذن صادر من المضمون، وليس للضامن أن يرجع على ذمّة المضمون بما يقوم به عنه» . وإن حضر من يضمن الوجه والبدن دون المال فلا يجوز إلّا بإذن المضمون؛ ومثال ما يكتب فى ذلك أن يقول: وحضر بحضوره فلان، وضمن وكفل إحضار وجه وبدن المقرّ المذكور للمقرّ له المذكور، متى التمس إحضاره منه فى ليل أو نهار، أو فى مدّة معلومة أحضره له؛ وذلك بإذنه له فى ذلك. وينحلّ هذا الضمان عن الضامن بموت «1» المضمون دون سفره وغيبته؛ والله أعلم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 13 وإن رهن المقرّ عند المقرّ له رهنا على دينه كتب ما مثاله: وبعد تمام ذلك ولزومه رهن المقرّ المذكور عند المقرّ له توثقة «1» على الدّين المذكور، وعلى كلّ جزء منه ما ذكر أنّه فى يده وملكه وتصرّفه، وهو جميع الشىء الفلانىّ- ويوصف ويحدّد إن كان له حدود- رهنا صحيحا، شرعيّا، مقبوضا، مسلّما ليد «2» المقرّ له من المقرّ الراهن بإذنه له فى ذلك، بعد النّظر والمعرفة، والمعاقدة الشرعيّة، والإيجاب والقبول الشرعيّين، والتسلّم والتّسليم «3» . فإذا استعار الرهن بعد ذلك كتب ما مثاله: ثمّ بعد ذلك استعار الراهن من المرتهن المذكور الرهن المذكور لينتفع به، مع بقاء حكم الرّهن، استعارة شرعيّة، من غير فسخ شىء من أحكامه، وصار ذلك بيد الراهن المذكور وقبضه وحوزه. فإن استقرّ الرهن تحت يد المرتهن كتب: واعترف المرتهن بأنّ الرهن المذكور باق تحت يده وحوزه، وعليه إحضاره عند وفاء الدّين؛ ويؤرّخ. فصل وإن حضر من أعار المقرّ شيئا ليرهنه على ما فى ذمّته كتب فى ذيل المسطور: وحضر بحضور المقرّ المذكور فلان، وأشهد عليه طائعا مختارا أنّه أعار المقرّ المذكور جميع الشىء الفلانىّ- ويوصف ويحدّد إن كان له حدود- ليرهن ذلك عند المقرّ له على ما فى ذمّته له من الدّين المعيّن أعلاه؛ ويعيده «4» بسؤاله فى ذلك، عارية الجزء: 9 ¦ الصفحة: 14 صحيحة شرعيّة مسلّمة مقبوضة، وذلك بعد النظر، والمعاقدة الشرعيّة، والإيجاب والقبول؛ وأذن المعير للمستعير أن يرهن ذلك عند المقرّ له على الدّين المذكور، ويسلّمه له التسليم الشرعىّ، ثم يستعيد ذلك منه ليعيده إلى المعير المالك لينتفع به، مع بقاء عينه على حكم الرهن. وإن كان المستعير الراهن ينتفع بالرهن كتب: وأن يستعيد المستعير الرهن لينتفع به دون المعير، مع بقائه «1» على حكم الرهن. وان كان الرهن تحت يد المرتهن كتب: وهذا الرهن المذكور تحت يد المرتهن حفظا لما له، وصيانة لدينه، وعليه أن يعيده عند وفاء الدّين للمستعير ليسلّمه للمعير. فإن وكّل الراهن وكيلا فى بيع الرهن عند استحقاق الدّين ووفاء ما عليه كتب: ثمّ بعد تمام ذلك ولزومه وكّل المقرّ المذكور فلان بن فلان فى قبض الرهن المذكور ممّن هو تحت يده برضا المرتهن، وبيعه «2» ممّن يرغب فى ابتياعه بما يراه من الأثمان وقبض الثمن، وتسليم المبيع لمبتاعه؛ وكتب ما يجب اكتتابه، وقضاء ما عليه من الدّين المعيّن فيه للمقرّ له وأخذ الحجّة منه، والإشهاد على المقرّ له بقبض الدّين المذكور منه «3» على «4» المقرّ؛ وكالة صحيحة شرعيّة، قبلها منه قبولا سائغا «5» ، أقامه فى ذلك مقام نفسه، ورضيه «6» واختاره. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 15 وإن أراد المرتهن أن ينزل عن الرهن كتب خلف المسطور: أقرّ فلان وهو المقرّ له بالدّين باطنه، اقرارا صحيحا شرعيّا بأنّه نزل عن رهنيّة العين المعيّنة باطنه، المرتهنة عنده على دينه المعيّن باطنه، نزولا صحيحا شرعيّا، وأبطل حقّه فى وثيقة الرهن المذكور، وسلم الرهن للراهن المذكور وهو على صفته الأولى فتسلّمه منه بغير حادث غيّره عن صفته؛ وذلك بعد النظر والمعرفة، والإحاطة بذلك علما وخبرة. فصل اذا أقرّ ربّ الدّين أنّ الدّين المقرّ له به كان من مال غيره كتب: أقرّ فلان وهو المقرّ له باطنه، عند شهوده طوعا إقرارا صحيحا شرعيّا بأنّه لمّا داين فلانا المقرّ المذكور «1» باطنه بالدّين المعيّن باطنه- وهو كذا وكذا- كان ذلك من مال فلان دون ماله، وأنّ اسم المقرّ له باطنه كان على سبيل النيابة والوكالة، وأنّه كان أذن له فى معاملة المقرّ المذكور باطنه بالدّين المذكور على حكمه، ومداينته؛ وصدّقه المقرّ له «2» على ذلك تصديقا شرعيّا؛ وبمقتضى ذلك وجبت له مطالبة المقرّ باطنه بالدّين المعيّن فيه واستخلاص حقّه منه، وقبضه على الوجه الشرعىّ. فصل فان أقرّ المقرّ له بأنّ الدّين أو ما بقى منه صار لغيره كتب على ظهر المكتوب: أقرّ فلان- وهو المقرّ له باطنه- إقرارا صحيحا شرعيّا بأنّ الدّين المعيّن باطنه، أو أنّ الذى بقى من الدّين المعيّن باطنه- وهو كذا وكذا- صار ووجب من وجه صحيح الجزء: 9 ¦ الصفحة: 16 شرعى لا شبهة فيه لفلان، وصدّقه على ذلك، وقبل منه هذا الاقرار لنفسه قبولا سائغا؛ وبحكم ذلك وجبت له مطالبة المقرّ باطنه بالدّين المعيّن على الوجه الشرعىّ. وأما الحوالة- فسبيل الكاتب فيما يكتب فيها أنه اذا كان لرجل داين على آخر وأحال به كتب على ظهر مسطور الدّين ما مثاله: أقرّ فلان- وهو المقرّ له باطنه- عند شهوده إقرارا صحيحا شرعيّا بأنّه أحال فلانا على ذمّة فلان المقرّ المذكور باطنه بما له فى ذمّته من الدّين المعيّن باطنه، وهو كذا وكذا، على الحكم المشروح باطنه، وذلك نظير ما لفلان المحال فى ذمّة فلان المحيل من الدّين الذى اعترف به عند شهوده، وهو نظير المبلغ المحال به فى القدر والجنس والصفة والاستحقاق حوالة صحيحة شرعيّة، قبلها منه قبولا سائغا، ورضى ذمّة المحال عليه؛ تعاقدا على ذلك معاقدة صحيحة شرعيّة، وافترقا عن تراض؛ وبحكم ذلك برئت ذمّة المحيل المبدإ «1» بذكره من الدّين الذى كان فى ذمّته، براءة صحيحة شرعيّة، وقبل كلّ منهما ذلك من الآخر لنفسه قبولا شرعيّا، وبه شهد عليهما؛ ويؤرّخ. (فصل) «2» وأمّا الشّركة - فهى تصحّ فى الذّهب والفضّة؛ وسبيل الكاتب فيها أنّه اذا اتّفق اثنان على الشّركة، فأخرج كلّ واحد منهما مالا وخلطاه، وأرادا المكاتبة بينهما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 17 كتب ما مثاله: أقرّ كلّ واحد من فلان وفلان عند شهوده «1» إقرارا صحيحا شرعيّا بأنّهما اشتركا على تقوى الله تعالى، وإيثار طاعته، وخوفه ومراقبته، والنصيحة من كلّ منهما لصاحبه، والعمل بما يرضى الله تعالى فى الأخذ والعطاء؛ وهو «2» أنّ كلّا منهما أخرج من ماله كذا وكذا، وخلطا ذلك حتى صار شيئا واحدا، لا يتميّز بعضه من بعض وجملته كذا وكذا، ووضعا أيديهما عليه، وتراضيا على أنّهما يبتاعان به من المكان الفلانىّ أو المدينة الفلانيّة ما أحبّا واختارا من أصناف البضائع وأنواع المتاجر ويجلسان به فى حانوت بالبلد الفلانىّ، إن كان اتّفاقهما على ذلك؛ وإن كانا يسافران به كتب: ويسافران به الى البلاد الفلانيّة» فى البرّ والبحر العذب والملح أو أحدهما دون الآخر على حسب اتّفاقهما، ويتولّيان معا ذلك بأنفسهما ومن يختارانه من وكلائهما ونوّابهما، على ما يريان فى ذلك من الحظّ والمصلحة ويبيعان ذلك بالنّقد دون النّسيئة «3» ، ويسلّمان المبيع، ويتعوّضان بالثمن ما أحبّا واختارا، ويديران هذا المال فى أيديهما على ذلك حالا بعد حال، وفعلا بعد فعل، ومهما فتح الله فى ذلك من ربح وفائدة بعد إخراج رأس المال والمؤن والكلف وحقّ الله تعالى إن وجب، كان الربح بينهما مقسوما نصفين بالسويّة؛ تعاقدا على ذلك معاقدة صحيحة شرعيّة شفاها بالإيجاب والقبول؛ وأذن كلّ واحد منهما لصاحبه فى البيع والشراء، والأخذ والعطاء، فى غيبة صاحبه وحضوره، إذنا شرعيّا؛ وعلى كلّ منهما أداء الأمانة، وتجنّب الخيانة، وتقوى الله فى السرّ والعلانية والنصيحة لصاحبه، ومعاملة شريكه بالمعروف والإنصاف. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 18 وإن تسلّم أحدهما المال دون الآخر كتب بعد ذكر جملته: تسلّمه جميعه فلان، وصار بيده وقبضه وحوزه، ليبتاع به ما أراد من البلاد الفلانيّة من أصناف البضائع، وأنواع المتاجر، ويجلس به فى حانوت أو يسافر به؛ ويكمّله على ما تقدّم. وأما القراض «1» - فاذا دفع رجل لرجل مالا يعمل فيه، أو لجماعة من الناس كتب ما مثاله: أقرّ فلان عند شهوده إقرارا صحيحا شرعيّا بأنّه قبض وتسلّم من فلان من الذهب العين كذا وكذا، أو من الدراهم الجيّدة المتعامل بها كذا وكذا- ولا يجوز فى الدراهم المغشوشة- وصار ذلك نقده وقبضه وحوزه، على سبيل القراض الشرعىّ الجائز بين المسلمين؛ وأذن ربّ المال له أن يشترى بذلك ما أحبّه واختاره من المدينة الفلانيّة من أصناف البضائع، وأنواع المتاجر على اختلافها، وتباين أجناسها ويسافر به أين شاء من بلاد المسلمين فى الطّرق المأمونة، أو فى البحر العذب والملح ويبيع ذلك بالنّقد دون النسيئة، ويتعوّض بقيمته ما أراد من أنواع المتاجر، ويعود به الى البلد الفلانىّ، ويبيعه بالنّقد دون النسيئة، ويدير هذا المال فى يده على ذلك حالا بعد حال، وفعلا بعد فعل، ومهما أطلعه الله فى ذلك من ربح وفائدة بعد إخراج رأس المال والوزن «2» والكلف وحقّ الله تعالى إن وجب، كان الربح مقسوما بينهما نصفين، أو أثلاثا: لربّ المال الثلثان، وللعامل بحقّ عمله الثلث؛ تعاقدا على ذلك معاقدة صحيحة شرعيّة بالإيجاب والقبول؛ والتفرّق بالأبدان عن تراض وقبل كلّ منهما ذلك لنفسه قبولا شرعيّا، وعلى هذا العامل المذكور الأمانة وتجنّب الخيانة، وتقوى الله فى السرّ والعلانية فى بيعه وابتياعه وجميع أفعاله، وحفظه هذا المال على عادة مثله، وإيصاله عند وجوب ردّه؛ ويؤرّخ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 19 وإن كان القراض بيد جماعة فلا يصحّ أن يتكافلوا فى الذمّة، ويصحّ ضمان الوجه «1» . وأما العارية - فإنّ الرجل إذا أعار لابنته شورة «2» تتجمّل بها، أو أعار لرجل دارا أو عبدا أو غير ذلك كتب الكاتب ما مثاله: أقرّ فلان بأنه أعار لابنته لصلبه فلانة البكر البالغ، التى اعترف برشدها عند شهوده، ما ذكر أنّه له وفى ملكه ويده وتصرّفه، وصدّقته على ذلك، وهو جميع الشّورة الآتى ذكرها فيه، وهى كذا وكذا- وتوصف وتذكر الأوزان والقيم، وإن كان المعار دارا حدّها ووصفها- عارية صحيحة شرعيّة مسلّمة مقبوضة بيد المستعيرة من المعير، بإذنه لها فى ذلك وذلك بعد النظر والمعرفة والمعاقدة الشرعيّة، وعلى هذه المستعيرة حفظ ذلك والانتفاع به فى منزلها بالموضع الفلانىّ، والتجمّل به، وألّا تخرج ذلك من يدها إلى أن تعيده الى المعير على الصفة المذكورة، وعلمت مقدار العارية وما يلزم فيها؛ ويؤرّخ. وأما الهبة والنّحلة - فإنّ الرجل اذا وهب لأجنبىّ دارا أو غير ذلك أو وهب لولده «3» لصلبه فلان «4» الرجل الرشيد مالا أو غيره كتب الكاتب: أقرّ فلان الجزء: 9 ¦ الصفحة: 20 بأنّه وهب لولده لصلبه فلان الرجل الرشيد، الذى اعترف بأنّه لا حجر له عليه ما ذكر أنّه له وفى ملكه ويده وتصرّفه، وهو جميع الدّار التى بالموضع الفلانىّ- وتوصف وتحدّد- هبة صحيحة شرعيّة جائزة ماضية، بغير عوض عنها ولا قيمة قبلها منه قبولا شرعيّا، وتسلّم الموهوب له من الواهب «1» ما وهب له فيه «2» التسلّم الشرعىّ، وصار بيده وقبضه وحوزه، فبحكم ذلك وجب له التصرّف فيها تصرّف الملّاك فى أملاكهم، وذوى الحقوق فى حقوقهم، وأقرّا بأنّهما عارفان بذلك المعرفة الشرعيّة النافذة «3» . فإن وهب الرجل دارا لولده الطفل أو لولده البالغ الذى هو تحت حجره كتب موضع القبول ما مثاله: قبل الواهب ذلك من نفسه لولده المذكور، بحكم أنّه تحت حجره وولاية نظره قبولا صحيحا شرعيّا، وتسلّم من نفسه لولده المذكور ما وهب فيه «4» التسلّم الشرعىّ، ورفع عنه يد ملكيّته، ووضع عليه يد نظره وولايته، وأقرّ بأنه عارف بذلك المعرفة الشرعيّة. فإن نحل الرجل ولده الطفل مالا أو غير ذلك كتب ما مثاله: أقرّ فلان بأنه نحل (أى دفع) لولده لصلبه فلان الطفل، أو المراهق، الذى تحت حجره وولاية نظره ما ذكر أنّه له وفى يده وملكه وتصرّفه، وهو جميع الشىء الفلانىّ- ويوصف بما يليق به- نحلة صحيحة شرعيّة، جائزة مرضيّة، قبلها له من نفسه، وصار ذلك بيده ملكا لولده المذكور، وأقرّ بأنّه عارف بما نحله. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 21 وإن نحل ولده البالغ أو الأجنبىّ كتب نحو ما تقدّم الّا القبول والتسلّم فإنه يقول: قبل ذلك لنفسه قبولا صحيحا شرعيّا، وتسلّم منه ما نحله إيّاه فيه بإذنه وصار بيده وقبضه وحوزه، ومالا من جملة أمواله، وأقرّا بأنهما عارفان بذلك المعرفة الصحيحة الشرعيّة النافية للجهالة. وأما الصدقة والرجوع - فإنّ الرجل إذا تصدّق على ولده الطفل أو البالغ أو على أجنبىّ، كتب ما مثاله: أقرّ فلان بأنه تصدّق على ولده الطفل الذى تحت حجره وولاية نظره فلان؛ وان كان بالغا كتب: «البالغ الرشيد باعتراف والده» برّا به، وحنوّا عليه، وابتغاء بذلك وجه الله الكريم، وطلبا لثوابه الجسيم بما ذكر أنه له وفى يده وتصرّفه، وهو جميع الدار الفلانيّة التى بالموضع الفلانىّ- وتوصف وتحدّد- صدقة صحيحة شرعيّة جائزة ماضية نافذة، قبلها من نفسه لولده، أو قبلها الولد البالغ الرشيد لنفسه، على نحو ما تقدّم فى الهبة والنّحلة من القبول والتسلّم. واذا أراد الأب أو الجدّ وإن علا، والأمّ والجدّة وإن علت الرجوع عن الصدقة والهبة والتمليك اذا كان بغير عوض، كتب الكاتب على ظهر المكتوب ما مثاله: أشهد فلان على نفسه طائعا مختارا أنّه رجع فى الدّار المذكورة الموصوفة المحدودة باطنه، التى كان تصدّق بها على ولده المذكور باطنه فلان، رجوعا صحيحا شرعيّا، وأعادها الى ملكه ويده وتصرّفه، وأبطل حكمها، ونقض شرطها، وتسلّمها تسلّم مثله لمثلها، وأقرّ بأنّه عارف بها المعرفة الشرعيّة؛ ويؤرّخ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 22 وأما التمليك- فمنه ما هو بعوض، وما هو بغير عوض، فأما ما كان بعوض «1» فيكتب «2» [فيه] «3» ما مثاله: ملّك فلان لفلان جميع الدار الفلانيّة الجارية فى يده وملكه وتصرّفه التى بالموضع الفلانىّ- وتوصف وتحدّد- تمليكا صحيحا شرعيّا، بثمن مبلغه كذا وكذا؛ قبض الفقير المملّك ذلك من المملّك له بإذنه، وصار بيده وحوزه ومالا من جملة أمواله، عوضا عما ملّكه فيه فتسلّمه منه، وصار بيده وقبضه وحوزه، وذلك بعد النظر والمعرفة، والمعاقدة الشرعيّة، والتفرّق بالأبدان عن تراض، وضمان الدّرك «4» فى ذلك. وأما ما كان بغير عوض، فيكتب [فيه] «5» : ملّك فلان لفلان جميع الدار- وتوصف وتحدّد نحو ما تقدّم- تمليكا صحيحا شرعيّا، جائزا نافذا مرضيّا، بغير عوض عن ذلك ولا قيمة، قبلها منه قبولا صحيحا شرعيّا، وسلم هذا المملّك لفلان المملّك ما ملّكه إيّاه، فتسلّمه منه، وصار بيده وحوزه، ملكا من جملة أملاكه؛ وأقرّا بأنّهما عارفان بها المعرفة الشرعيّة النافية للجهالة، وأنّهما نظراها وأحاطا بها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 23 علما وخبرة، تعاقدا على ذلك معاقدة شرعيّة بالإيجاب والقبول، ثم تفرّقا بالأبدان عن تراض؛ ويؤرّخ. وإذا أقرّ رجل بأنّ داره ملك لغيره [كتب «1» ] : أقرّ فلان عند شهوده طوعا إقرارا صحيحا شرعيّا بأنّ جميع الدّار التى بيده وتصرّفه- وتوصف وتحدّد- ملك فلان ملكا صحيحا شرعيّا دونه ودون كلّ أحد بسببه «2» ، وأنّ ملكه لهذه الدّار سابق على هذا الإقرار ومقدّم عليه؛ وصدّقه المقرّ له على ذلك تصديقا شرعيّا وقبل منه هذا الإقرار لنفسه قبولا شرعيّا، وأقرّا بأنّهما عارفان بذلك المعرفة الشرعيّة النافية للجهالة، وسلم المقرّ المذكور للمقرّ له جميع الدار المذكورة، فتسلّمها منه وصارت بيده وقبضه وحوزه، وأقرّ المقرّ المذكور بأنّه لا حقّ له فى هذه الدار ولا طلب بسبب ولا ملك ولا استحقاق منفعة بوجه من الوجوه الشرعيّة كلّها على اختلافها، وتصادقا على ذلك. وأما البيوع - فإنّه إذا ابتاع رجل دارا أو حصّة من دار أو غير ذلك كتب الكاتب ما مثاله: هذا ما اشترى فلان بماله لنفسه من فلان جميع الدّار الكاملة أرضا وبناء، الآتى ذكرها ووصفها وتحديدها فيه، التى ذكر البائع أنّها له وفى ملكه ويده وتصرّفه؛ وإن كان عمرها كتب: «ومعروفة بإنشائه وعمارته» . وإن كان المبيع حصّة من دار كتب: جميع الحصّة التى مبلغها كذا وكذا سهما من أربعة وعشرين سهما شائعا غير مقسوم من «3» جميع الدار التى ذكر البائع أنّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 24 هذه الحصّة المذكورة له وفى يده وملكه وتصرّفه بجميع حقوقها ومرافقها وما يعرف بها وينسب إليها. فإن استثنى البائع مكانا منها غير داخل فى البيع كتب بعد ذلك: خلا الموضع الفلانىّ، فإنّه خارج عن هذا العقد، غير داخل فى هذا البيع، وعلم به المشترى ورضى به. ثمّ يقول: شراء صحيحا شرعيّا قاطعا ماضيا جائزا نافذا، بثمن مبلغه كذا وكذا؛ تقابضا وتفرّقا بالأبدان عن تراض، بعد النظر والمعرفة والمعاقدة الشرعيّة، وضمان الدّرك «1» فى المبيع حيث يجب شرعا. وإن أراد الكاتب تحسين ألفاظه وتنميقها وتكثيرها فيما لا يضرّ بالعقد ولا يفسد البيع كتب بعد تنصيف الثمن: دفعه المشترى المذكور للبائع المذكور من خالص ماله وصلب حاله، تامّا وافيا، وأقبضه له بعد وزنه ونقده، فقبضه البائع المذكور منه وتسلّمه بتمامه وكماله موزونا منتقدا، وصار بيده وقبضه وحوزه مالا من جملة أمواله؛ وبحكم ذلك برئت ذمّة المشترى المقبوض منه من الثمن المذكور براءة صحيحة [شرعيّة] «2» براءة قبض واستيفاء؛ وسلم البائع المذكور للمشترى المذكور ما باعه إيّاه، فتسلّمه منه خاليا لا شاغل له، ولا مانع له منه، ولا دافع [له عنه] «3» ، وصار بيده وقبضه وحوزه، ملكا من أملاكه، يتصرّف فيه تصرّف الملّاك فى أملاكهم، وذوى الحقوق فى حقوقهم من غير مانع ولا معترض، ولا رافع ليد بوجه ولا سبب، وذلك بعد نظرهما لجميع «4» ذلك، ومعرفتهما إيّاه، وإحاطتهما به علما وخبرة نافيين للجهالة، وتعاقدهما على ذلك كلّه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 25 المعاقدة الصحيحة الشرعيّة المعتبرة شفاها بالإيجاب والقبول، ثم تفرّقا بالأبدان من مجلس العقد التفرّق الشرعىّ عن تراض منهما، وضمان الدّرك «1» فى صحّة البيع «2» حيث يوجبه الشرع الشريف وتقتضيه أحكامه. وإن اشترط أحدهما الخيار لنفسه ثلاثة أيّام كتب بعد قوله: «عَنْ تَراضٍ» * : وانقضاء مدّة الخيار الشرعىّ الذى اشترطه البائع لنفسه خاصّة، أو المشترى، أو الذى اشترطاه لأنفسهما، وهو ثلاثة أيّام من تاريخ العقد. وإن كانا لم يتفرّقا من مجلس العقد كتب عوض التفرّق بعد الإيجاب والقبول: واختار كلّ من المتعاقدين المذكورين إمضاء البيع المذكور بينهما فى المبيع المعيّن وإلزامه وإبرامه وتمام إحكامه ونفوذه على الوجه الشرعىّ، والقانون المرضىّ، وضمان «3» الدّرك على ما تقدّم. وإن أحضر البائع «4» من يده كتابا يشهد له بصحّة ملكه للمبيع كتب: وأحضر هذا البائع «5» من يده كتابا يتضمّن ابتياعه الدّار المذكورة، وأصولا «6» له، وسطّر «7» عليها فصولا بهذه المبايعة، وتسلّم المشترى ذلك توثقة «8» له، وحجّة لليوم ولما بعده. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 26 وإن كان البائع «قد استعاد الحكم «1» على ما بقى» على ملكه منها أو من غيرها كتب عوض «وتسلّم المشترى ذلك» : ثمّ بعد ذلك استعادها البائع بحكم ما بقى على ملكه منها أو من غيرها» . وإن كان فى ملك المشترى حصّة متقدّمة ثمّ ابتاع حصّة أخرى كتب: وقد كمل للمشترى المذكور بما فى ملكه متقدّما وبهذه المبايعة ملك جميع كذا وكذا سهما أو ملك جميع الدار المذكورة، وصدّقه البائع على ذلك. وإن كان فى المبيع عيب واشترطه البائع كتب بعد تمام العقد ولزومه: أعلم البائع المشترى أنّ الدّار المبيعة واقعة «2» الجدران، مختلّة «3» البنيان، سبخة الأرض والحيطان مائلة الجدر والزّروب «4» ، مكسورة القوائم والأعراق «5» ، مسوّسة الأخشاب؛ الى غير ذلك ممّا لعلّه يكون فيها من عيب؛ ورضى المشترى بذلك. وإن كان وكيلا فى الشراء كتب: وعلم المشترى أنّ الدار المذكورة معيبة «6» - أو على ما يصفها به من العيوب- وقال: إنه أعلم موكّله بذلك ورضى به. وإن كان البيع بناء دون الأرض كتب: جميع البناء القائم على الأرض المحتكرة «7» دارا أو طاحونة أو غير ذلك، الجارى هذا البناء فى يد البائع وملكه وتصرّفه على الجزء: 9 ¦ الصفحة: 27 ما ذكر؛ ويكمّل المبايعة على ما تقدّم شرحه وبيانه؛ ويكتب فى آخرها: وعلم المشترى المذكور أنّ الأرض الحاملة لهذا البناء المذكور محتكرة، ومبلغ الحكر «1» عنها فى كلّ سنة أو فى كلّ شهر كذا وكذا، ورضى بذلك. وإن كان المشترى وكيلا كتب: وقال: إنّه أعلم موكّله بذلك، ورضى به. وإن كان المبيع أرضا دون البناء أو أرضا كشفا «2» كتب: جميع قطعة الأرض الحاملة لبناء البائع؛ أو جميع الساحة الكشف «3» التى لا بناء عليها، الجارية فى يد البائع وملكه وتصرّفه؛ ويذرع ويحدّد، ويكمّل المبايعة على ما تقدّم. فصل وان كان المبيع بئرا كتب: جميع بناء البئر المعينة «4» ومكانها من «5» الأرض، المبنيّة بالطوب الآجرّ والطين والجير. وإن كانت نقرا كتب: جميع البئر المنقورة للماء «6» المعين. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 28 وإن كان صهريجا كتب: جميع الصّهريج المبنىّ بالطوب الآجرّ والطين والجير المتلّص «1» المبيّض بالخافقىّ «2» الذى برسم خزن الماء العذب. وإن كان بئرا همّاليّة كتب: جميع بناء الهمّاليّة «3» ومكانها من الأرض، المبنيّة بالطوب الآجرّ والطين والجير، الجارى ذلك فى يد البائع وملكه وتصرّفه، وهى فى الموضع الفلانىّ؛ ويذرع ويحدّد ذلك، إن أمكن ذلك. وإن كان المبيع نخلا دون الأرض كتب: جميع النخل القائم فى الأرض الوقف على الشىء الفلانىّ، الخارجة عن هذا البيع، ومكان «4» كلّ نخلة من الأرض، الجارى النخل المذكور فى يد البائع وملكه وتصرّفه على ما ذكر، الذى ذلك فى الموضع الفلانىّ؛ ويذكر عددها. وإن كانت الأرض مملوكة للبائع وأراد أن يبيع النخل بمغارسها «5» كتب: جميع النخل النابت فى الأرض الآتى «6» ذكرها فيه، وجميع أماكنها من الأرض، الجارى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 29 النخل والأرض بكمالهما فى يد البائع المذكور وملكه وتصرّفه على ما ذكر، باع من ذلك النخل المذكور ومواضع مغارسها، وتبقّى على ملكه بقيّة الأرض فإنها غير داخلة فى هذا البيع؛ وهذه الأرض بالموضع الفلانىّ؛ وعدّة النخل كذا وكذا. ويحدّد الأرض، ويكمّل المبايعة؛ ويكتب فى آخر المكتوب: ولهذا المشترى العبور فى الأرض المذكورة والاستطراق «1» فيها الى النخل المذكور بحقّ شرعىّ. وان كان المبيع ثمرا ونخلا كتب: جميع ثمر النخل الجارى ذلك فى ملكه ويده وتصرّفه على ما ذكر، الذى ذلك بالموضع الفلانىّ؛ وعدّتها كذا كذا نخلة، إن أمكن؛ ويحدّد الأرض، ثم يقول: التى بدا صلاحها، وطاب أكلها، واحمرت واصفرّت، وجاز بيعها بشرط القطع؛ وإن شرط التّبقية كتب: بشرط التّبقية إلى أوان الجذاذ، «2» شراء صحيحا شرعيّا؛ ويكمّل «3» المبايعة. فصل وان كان المبيع مركبا كتب: جميع المركب العشارىّ «4» الجزء: 9 ¦ الصفحة: 30 أو الخضارىّ «1» ، أو الدّرمونة «2» ، أو الناريّة «3» ، أو الشّختور «4» ، أو الحرّاقة «5» الجزء: 9 ¦ الصفحة: 31 أو الشلودة «1» ، أو الدلاج «2» ، أو الكبكة «3» ، أو غير ذلك، وجميع عدّتها المتّخذة برسمها، الآتى ذكر ذلك ووصفه، الجارى ذلك فى يد البائع وملكه وتصرّفه على ما ذكر؛ وصفة المركب أنّها طول كذا كذا ذراعا بالذراع «4» النّجّارىّ «5» ، ومحملها كذا وكذا إردبا بالكيل المصرىّ؛ وصفة العدّة أنها صار قطعة واحدة، وبرأسه جامور «6» ، وقريّة «7» ثلاث قطع الجزء: 9 ¦ الصفحة: 32 وقوسان، وقلع مزوّى «1» من قماش القطن، أو الملحم «2» ، أو غيره، عدّته كذا وكذا بيلمانا «3» أو قلع ستارة مكمّلة حبال «4» القنّب أو القطن، ورجل «5» طويلة قطعة أو قطعتان، وفراش «6» ، وكذا وكذا مجذافا «7» ، وإسقالة «8» برّ أو أكثر من ذلك الجزء: 9 ¦ الصفحة: 33 ومذراة «1» أو أكثر، وعروس «2» ، وقلوس «3» ، وقرايا «4» ، وغير ذلك من آلات المركب وعدده؛ فما زاد عن ذلك ذكره، وما نقص وصفه؛ ثم يقال «5» : «وهذا المركب مدسور «6» السّفل والعلو، مسدود الشوبين «7» ، مغطّى الخنّين» «8» ؛ وإن كان له مرساة «9» من حديد وصفها وذكر زنتها؛ ويكمّل المبايعة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 34 وإن كان المبيع بالغا عبدا أو أمة «أو كانا غير بالغين «1» » كتب: جميع العبد، أو الغلام، أو الوصيف «2» ، أو المملوك، أو الجارية، أو الأمة، أو الوصيفة، الجارى، أو الجارية فى يد البائع وملكه، المقرّ «3» له بالرّقّ والعبوديّة، المدعوّ فلانا؛ ويذكر جنسه ودينه، ثم يقول: وحليته: ... ويذكرها. وإن كان «4» دون البلوغ كتب: جميع الغلام الذى بيده وملكه وتصرّفه على ما ذكر، المراهق، أو المعصر «5» ، إن كانت جارية؛ ويعيّن البكارة إن كانت؛ ثمّ يقول: «شراء صحيحا شرعيّا بثمن مبلغه كذا وكذا» ؛ ويكمّل المبايعة. وإن كان بالمبيع عيب ذكره، فيكتب: وعلم المشترى أنّ به أو بها المرض الفلانىّ- ويعيّنه، ويعدّد الأمراض والعيوب وآثار الكىّ وغير ذلك إن كان- ورضى به، ودخل «6» عليه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 35 وإن كان المبيع عبدا بجارية أو العكس كتب: جميع العبد الذى بيد البائع- على نحو ما تقدّم- بجميع الجارية الفلانيّة الجنس، المسلمة؛ تقابضا «1» وتفرّقا بالأبدان، بعد النظر والمعرفة، والمعاقدة الشرعيّة، وضمان الدّرك «2» فى ذلك حيث يجب شرعا؛ وإن كان فى أحدهما عيب ذكره. فصل وإن كانت الدار المبيعة فى بلد والمتبايعان فى بلد آخر كتب التخلية عوض التسليم، فيقول: وخلّى البائع المذكور بين المشترى وبين ما باعه إيّاه فيه «3» تخلية شرعيّة، ووجب «4» له بذلك قبض المبيع وتسلّمه بمقتضى هذا الابتياع الشرعىّ؛ وأقرّا أنهما «5» عارفان بذلك المعرفة الشرعيّة قبل تاريخه، ونظراه النظر الشرعىّ، تعاقدا هذه «6» المبايعة بينهما معاقدة شرعيّة مشافهة بالإيجاب والقبول. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 36 واذا دفع المشترى للبائع من الثمن جوهرة، أو سيفا، أو خاتما بفصّ «1» ثمين، أو غير ذلك ممّا «2» تجهل قيمته، كتب: شراء صحيحا شرعيّا، بثمن مبلغه من الذهب، أو من الدراهم كذا وكذا، وبجوهرة نفيسة، أو لؤلؤة نقيّة، مجهولة القيمة، مرئيّة «3» حال العقد؛ تقابضا وافترقا؛ ويكمّل المبايعة. وإن حضر من يضمن درك «4» البائع فيما باعه وقبض ثمنه كتب: وحضر بحضور البائع المذكور فلان، وضمن فى ذمّته درك البائع فيما باعه وقبض الثمن بسببه «5» ، ضمانا شرعيّا فى ماله، بإذنه له فى ذلك، وأقرّ أنه «6» ملىء «7» بما فى ضمانه. فصل وإن أبرأ البائع ذمّة المشترى من الثمن كتب: بثمن مبلغه كذا وكذا، أبرأ البائع المذكور ذمّة المشترى منه براءة صحيحة شرعيّة، براءة إسقاط، قبلها منه قبولا شرعيّا، ولم تبق للبائع المذكور قبل المشترى المذكور مطالبة بسبب الثمن ولا شىء منه، ولا عوض عنه ولا عن شىء منه، وسلم البائع المذكور للمشترى المذكور ما باعه إيّاه، فتسلّمه بعد النظر والرضا والمعرفة والمعاقدة الشرعيّة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 37 وان كان البيع بثمن مؤجّل أو منجّم «1» كتب: بثمن مبلغه كذا وكذا يقوم له بذلك جملة واحدة فى التاريخ الفلانىّ، أو فى كلّ شهر يمضى كذا وكذا، على حسب ما يقع عليه الاتّفاق. فصل وإن اشترى رجل من رجل دارا بماله فى ذمّته من الدّين كتب ما مثاله: شراء صحيحا شرعيّا، بما للمشترى فى ذمّة البائع من الدّين الحالّ الذى اعترف به البائع عند شهوده، وهو كذا وكذا، وصدّقه المشترى على ذلك، وسلم البائع للمشترى ما باعه إيّاه، فتسلّمه منه، وصار بيده وقبضه وحوزه، وذلك بعد النظر والرضا والمعرفة والمعاقدة الشرعيّة، والتفرّق بالأبدان عن تراض، وضمان الدّرك فى ذلك وبحكم ذلك برئت ذمّة البائع من الدّين الذى كان قبله للمشترى، ولم تبق للمشترى عنده مطالبة بسبب ذلك، وتصادقا على ذلك. فصل وإن كان لرجل على رجل دين فباعه دارا بثمن معلوم، ثم قاصّه «2» بماله فى ذمّته من الدّين، أو امرأة اشترت من زوجها دارا بثمن حالّ وقاصّته بصداقها، كتب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 38 ما مثاله: اشترى فلان بن فلان من فلان جميع الدار الفلانيّة- كما تقدّم شرحه- شراء «1» صحيحا شرعيّا، بثمن مبلغه كذا وكذا حالّ «2» ، وسلم البائع للمشترى ما باعه إيّاه فتسلّمه منه، وصار بيده وقبضه وحوزه، [ومالا] «3» من جملة أمواله، وذلك بعد النظر والمعرفة، والمعاقدة الشرعيّة، والتفرّق بالأبدان عن تراض؛ وضمان الدّرك «4» فى ذلك؛ ثمّ بعد [تمام] «5» ذلك ولزومه قاصّ «6» المشترى المذكور البائع المذكور الثمن المذكور بماله فى ذمّة البائع من الدّين الذى اعترف به عند شهوده، وهو نظير الثمن المذكور فى القدر والجنس والصفة والاستحقاق، مقاصّة «7» صحيحة شرعيّة، قبل كلّ منهما ذلك لنفسه قبولا شرعيّا، ولم تبق لكلّ منهما مطالبة قبل الآخر بسبب ثمن، ولا مثمّن ولا دين، ولا غيره، ولا حجّة، ولا مسطور، ولا ذهب، ولا فضّة، ولا حقّ من الحقوق الشرعيّة على اختلافها لما مضى من الزمان وإلى يوم تاريخه، وتصادقا على ذلك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 39 وإذا اشترى جماعة من جماعة دارا ورثوها كتب ما مثاله: هذا ما اشترى فلان وفلان وفلان بما لهم لأنفسهم بالسويّة بينهم أثلاثا؛ وإن كانوا متفاوتين فى الابتياع كتب: «فمن ذلك ما اشتراه فلان المبدأ «1» بذكره بماله لنفسه كذا، وما اشتراه فلان بماله لنفسه كذا، وما اشتراه فلان بماله لنفسه كذا» ؛ وإن كان منهم من اشترى حصّة لموكّله قال: «وما اشتراه فلان لموكّله بإذنه وأمره وتوكيله وماله كذا حسب ما وكّله فى ابتياع ما يذكر فيه «2» ، وفى التسليم والتسلّم اللّذين يشرحان فيه «3» ، على ما يشهد به من يعيّنه فى رسم شهادته آخره، أو على ما ذكر الوكيل المشترى» من فلان وفلان وفلان الإخوة الأشقّاء، أو لأب، أولاد فلان بن فلان الفلانىّ، جميع الدار «4» الكاملة الجارية فى أيدى البائعين وملكهم وتصرّفهم بالسويّة بينهم أثلاثا، المنتقلة إليهم بالإرث الشرعىّ عن والدهم فلان المذكور، بحكم أنّه توفّى إلى رحمة الله تعالى قبل تاريخه، وخلّف من الورثة المستحقّين لميراثه المستوعبين جميعه شرعا أولاده لصلبه الإخوة الأشقّاء، وهم البائعون المذكورون أعلاه الذين رزقهم من زوجته التى كانت فى عصمته وعقد نكاحه فلانة، بغير شريك لهم فى ميراثه، ولا حاجب يحجبهم عن استكماله بوجه ولا سبب، وترك من جملة ما خلّفه هذه الدار المذكورة، قسمت بينهم بالفريضة الشرعيّة أثلاثا بالسويّة بينهم؛ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 40 وإن كانت وفاة والدهم ثابتة عند حاكم ذكرها، ثم يقول: وهذه الدار بالبلد الفلانىّ، بالحارة الفلانيّة، بالخطّ الفلانىّ- وتوصف وتحدّد- شراء صحيحا شرعيّا بثمن مبلغه من الذهب أو من الدراهم كذا وكذا بين «1» البائعين بالسويّة، من مال المشترين المذكورين على قدر ما ابتاعه كلّ منهم فيه «2» ، تقابضوا، وتفرّقوا بالأبدان، بعد النظر والمعرفة والمعاقدة الشرعيّة، وضمان الدّرك فى ذلك. وإن ضمن كلّ من البائعين درك الآخر كتب: «وكلّ واحد من البائعين ضامن فى ماله وذمّته درك الآخرين المذكورين فيما باعاه وقبضا الثمن بسببه ضمانا شرعيّا فى ماله وذمّته، بإذن كلّ منهم للآخرين فى الضمان والأداء والرجوع، وأقرّ كلّ واحد منهم أنّه «3» ملىء بما ضمنه، وقادر عليه» . وإن صدّق كلّ منهم الآخر على صحّة ملكه لما باعه كتب: «وصدّق كلّ واحد منهم الآخر على صحّة ملكه لما باعه فيه وقبض الثمن بسببه تصديقا شرعيّا» . وإن حضر من يضمن فى الذمّة كتب: «وحضر بحضورهم فلان، أو كلّ واحد من فلان وفلان، وضمن كلّ منهم وكفل فى ذمّته درك البائعين المذكورين فيما باعوه وقبضوا الثمن بسببه، ضمانا شرعيّا، بإذن كلّ منهم للآخر فى ذلك، وأقرّ كلّ منهم أنّه «4» ملىء بما ضمنه، قادر عليه» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 41 وإذا ابتاع رجل لموكّله حجر طاحون «1» أو غيرها «2» كتب ما مثاله: هذا ما اشترى فلان لموكّله فلان بماله وإذنه وتوكيله إيّاه فى ابتياع ما يذكر فيه «3» ، وفى التسليم والتسلّم اللّذين يشرحان فيه «4» ، بشهادة من يعيّنه فى رسم شهادته آخره؛ أو يقول: «على ما ذكر» ؛ وإن كان بيده وكالة كتب: «حسب ما تشهد به الوكالة التى بيده، الثابته بمجلس الحكم العزيز بالمكان الفلانىّ» ، من فلان، جميع حجر الطاحون «5» الفارسىّ «6» وعدّتها «7» ، الداخل ذلك فى عقد هذا البيع، الجارى ذلك فى يد البائع المذكور وملكه وتصرّفه على ما ذكر، وهى بالمكان الفلانىّ؛ ويصف الطاحون «8» والعدّة التى بها، وهى التوابيت «9» والحجارة النجديّة وقواعد الصّوّان، ويصف جميع العدّة، ويحدّد الطاحون «10» ، ويذكر الثمن، ويكتب: دفعه المشترى المذكور من مال موكّله للبائع المذكور، فتسلّمه منه، وصار بيده وقبضه وحوزه، وبحكم ذلك برئت ذمّة المشترى المذكور والمشترى له فيه «11» من الثمن المذكور ومن وزنه ونقده، براءة صحيحة شرعيّة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 42 براءة قبض واستيفاء، وسلم البائع للمشترى ما باعه إيّاه، فتسلّمه منه لموكّله المذكور، وصار بيده وقبضه وحوزه ملكا لموكّله، وذلك بعد النظر والمعرفة الشرعيّة والمعاقدة والتفرّق بالأبدان عن تراض، وضمان الدّرك «1» حيث يوجبه الشرع الشريف. فصل إذا باع الوكيل عن موكّله حمّاما كتب: هذا ما اشترى فلان بماله لنفسه من فلان القائم فى بيع ما يذكر فيه «2» بالثمن الذى تعيّن فيه «3» ، وقبض الثمن، وتسليم المبيع لمبتاعه، عن موكّله فلان، حسب ما يشهد على موكّله بذلك من يعيّنه فى رسم شهادته آخره؛ وإن كان بيده وكالة كتب: «حسب ما يشهد بذلك كتاب الوكالة «4» الذى بيده، الثابت حكمه بمجلس الحكم العزيز بالمكان الفلانىّ» ؛ ويشرح مقاصد الثّبوت، ثم يكتب: جميع الحمّام المعروفة «5» بدخول الرجال والنساء، وقدورها الرّصاص الأربع، وميازيبها «6» النّحاس والرّصاص، ومستوقدها، وبيت نارها، الآتى ذكر جميع ذلك فيه «7» ، الجارى جميع ذلك فى يد البائع ملكا لموكّله المبيع عنه، على ما ذكر الوكيل البائع، وذلك بالبلد الفلانىّ، بالموضع الفلانىّ- ويوصف ويحدّد- شراء صحيحا شرعيّا، بثمن مبلغه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 43 كذا وكذا، ودفع المشترى الثمن من ماله للبائع المذكور، فتسلّمه منه لموكّله المذكور وصار بيده وقبضه وحوزه، وسلم «1» البائع المذكور للمشترى ما باعه إيّاه عن موكّله فتسلّمه منه، وصار بيده وملكه وحوزه، وذلك بعد النظر ... ؛ ويكمّل على ما تقدّم. واذا ابتاع الأخرس الأصمّ دارا، كتب: اشترى فلان الأخرس اللسان، الأصمّ الأذنين، الصحيح البصر والعقل والبدن، العارف بما يلزمه شرعا الخبير بالبيع والشراء والأخذ والعطاء، كلّ ذلك بالإشارة المفهومة عنه، المعلومة عند البائع وعند شهود هذا المكتوب، القائمة مقام النطق، التى لا تجهل ولا تنكر من فلان الفلانىّ جميع الدار الفلانيّة ... ؛ ويكمل نحو ما تقدّم. واذا ابتاع رجل من آخر دارا بثمن معيّن مقبوض وكتب بينهما مكتوب على ما تقدّم، ثم حضر المشترى وادّعى أنه كان ابتاع الدار لموكّله كتب على ظهر المكتوب: أقرّ فلان- وهو المشترى المذكور باطنه- أنه «2» لمّا ابتاع الدار الموصوفة الحدود فى باطنه فى التاريخ الفلانىّ من فلان «3» بالثمن المعيّن وهو كذا وكذا، كان وكيلا فى ابتياعها عن فلان بإذنه وأمره وتوكيله إيّاه فى ذلك وأنّ اسمه على سبيل النيابة «4» والوكالة، وأنّ الثمن المعيّن باطنه من مال هذا المقرّ له الجزء: 9 ¦ الصفحة: 44 فيه «1» وصلب حاله، وصدّقه على ذلك تصديقا شرعيّا، وقبل منه هذا الإقرار لنفسه وسلم له الدار المذكورة، فتسلّمها منه، وصارت بيده وقبضه وحوزه، ملكا له وأقرّ المقرّ له أنه كان قد أذن له فى ذلك ووكّله فى ابتياعها الوكالة الشرعيّة، وصدّقه المقرّ، وأقرّا أنّهما عارفان بالدار المذكورة المعرفة الشرعيّة النافية للجهالة، وبحكم هذا الإقرار صارت هذه الدار المذكورة ملكا للمقرّ له دون المقرّ، ودون كلّ احد بسببه «2» ولم يبق للمقرّ فيها حقّ ولا طلب، وتصادقا على ذلك تصادقا «3» شرعيّا، ويؤرّخ. وإذا ابتاع رجل من آخر دارا، ومات البائع ولم يكن بينهما مكاتبة فأراد ورثته مكاتبة ببراءة ذمّة مورّثهم والإشهاد له بذلك، كتب ما مثاله: أقرّ كلّ واحد من فلان وفلان [وفلان] «4» الإخوة الأشقّاء، أو غير الأشقّاء، أولاد فلان عند شهوده «5» طوعا إقرارا شرعيّا، أنّ «6» والدهم المذكور توفّى إلى رحمة الله تعالى فى التاريخ الفلانىّ، وأنه كان قبل تاريخ وفاته فى تاريخ كذا وكذا باع لفلان جميع الدار الفلانيّة، الجارية فى يده وملكه وتصرّفه- وتوصف وتحدّد- بما مبلغه كذا وكذا، بيعا صحيحا شرعيّا قاطعا ماضيا جائزا نافذا، وأنّ المشترى المذكور الجزء: 9 ¦ الصفحة: 45 دفع إليه جميع الثمن من ماله، وصلب حاله، بتمامه وكماله، وسلم والدهم البائع هذا المشترى المذكور الدار المذكورة، فتسلّمها منه، وصارت بيده وقبضه وحوزه وذلك بعد النظر والمعرفة، والمعاقدة الشرعيّة، والتفرّق بالأبدان عن تراض وصدّقهم المشترى المقرّ له على ذلك، واعترف كلّ من المقرّين والمشترى أنهم «1» عارفون بالدار المذكورة المعرفة الشرعيّة النافية للجهالة، وأقرّوا أنّ البائع المذكور كان عارفا بها، وتصادقوا على ذلك، واعترف المشترى المذكور أنّ الدار المذكورة بيده وتصرّفه، وجارية فى ملكه، وأنّه سأل الورثة المذكورين الإشهاد على أنفسهم بذلك، فأجابوا سؤاله، وأشهدوا على أنفسهم براءة لذمّة أبيهم، ومراعاة لحقه عليهم وأقرّ المقرّون أنّهم «2» لا يستحقّون فى هذه الدار ملكا، ولا يدا، ولا إرثا، ولا موروثا ولا حقّا من الحقوق الشرعيّة، وأنّ المشترى المذكور المقرّ له مالك لهذه الدار دونهم ودون كلّ أحد بسببهم «3» ، وتصادقوا على ذلك، وقبل منهم المشترى هذا الإقرار قبولا شرعيّا؛ ويؤرّخ. اذا «4» ابتاع رجل من بائع قد ثبت رشده بعد الحجر عليه كتب ما مثاله: هذا ما اشترى فلان من فلان البالغ الرشيد، الثابت رشده فى مجلس الحكم العزيز بالبلد الفلانىّ، عند القاضى فلان ... «5» الجزء: 9 ¦ الصفحة: 46 «1» ... من نفقة ومؤونة وكسوة ولوازم شرعيّة، ولكونه ليس له موجود غير ما يذكر فيه «2» ، وأنّ والده لا تلزمه نفقته بحكم ماله من هذا الموجود، اشترى من نفسه بقضيّة ذلك وحكمه جميع الحصّة التى مبلغها كذا وكذا سهما من أربعة وعشرين سهما شائعا «3» فى جميع الدار الفلانيّة التى بالمكان الفلانىّ، أو الدار الكاملة- وتوصف وتحدّد- شراء صحيحا شرعيّا، بثمن مبلغه كذا وكذا، وقبضه المشترى من نفسه لولده المذكور المبيع عليه «4» ، من مال أخيه فلان الطفل المشترى له فيه «5» ، الذى تحت يده وحوطه، وصار ذلك فى حوزه لولده فلان المبيع عليه «6» وتسلّم من نفسه الدار المذكورة لولده المشترى له، وذلك بعد مشاهدته لها ونظره إيّاها، ومعرفته بها المعرفة الشرعيّة، كلّ ذلك بالمعاقدة الشرعيّة الجائزة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 47 باع على ولده فلان المثنّى باسمه المذكور، واشترى لولده فلان المبدإ «1» باسمه فيه من نفسه على ما شرح أعلاه، واعترف أنّ «2» الثمن المذكور هو ثمن المثل يومئذ لا حيف فيه ولا شطط، ولا غبينة» ولا فرط «4» ولا بخس ولا وكس، ولا تفاوت «5» فيه بوجه ولا سبب، وقبل ذلك من نفسه لولده المشترى له فيه قبولا صحيحا شرعيّا وضمن الدّرك «6» حيث يوجبه الشرع الشريف. اذا ابتاع رجل دارا من نفسه لنفسه- وهو أن يكون له ولد تحت حجره، ولولده دار، فأراد أن يشتريها لنفسه من ولده - كتب ما مثاله: اشترى فلان من ماله لنفسه من نفسه جميع الدار الكاملة، الجارية فى يده ملكا لولده لصلبه فلان الطفل الذى تحت حجره وكفالته وولاية نظره، لما رأى له فى ذلك من الحظّ والمصلحة، والغبطة «7» الزائدة على ثمن المثل، أو لمصلحة اقتضت ذلك، وهذه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 48 الدار بالبلد الفلانىّ، بالخطّ الفلانىّ- وتوصف وتحدّد- شراء صحيحا شرعيّا بثمن مبلغه كذا وكذا، قبض الثمن من نفسه لولده عن داره التى ابتاعها منه لنفسه وصار بيده وقبضه وحوزه، ويصرفه فى مصالح ولده المذكور، وتسلّم من نفسه لنفسه الدار المذكورة، وصارت بيده ملكا له، ورفع عنها يد نظره وولايته، ووضع عليها يد ملكه وحيازته، وأقرّ أنه «1» عارف بالدار المذكورة، وأنّه نظرها النظر الشرعىّ وأحاط بها علما وخبرة نافية للجهالة؛ ويؤرّخ. اذا أراد أمين الحكم- وهو الناظر على الأيتام من قبل الحاكم- أن يبيع دارا على «2» يتيم محجور عليه كتب محضرا بالقيمة، وأثبته عند الحاكم بشهادة شهود القيمة والمهندسين، وأشهر «3» الدار بحضرة عدلين؛ وصفة المحضر فى فصل المحاضر؛ فإذا ثبت المحضر وأراد البيع وكتب كتاب المبايعة، فسبيل الكاتب أن يكتب: هذا ما اشترى فلان من القاضى فلان أمين الحكم العزيز بالبلد الفلانىّ، القائم فى بيع ما يذكر فيه على فلان بن فلان المحجور عليه من قبل الحكم العزيز، لما دعت حاجته إليه: من نفقة ومؤونة وكسوة ولوازم شرعيّة، وذلك بإذن سيّدنا قاضى القضاة فلان الحاكم المشار اليه فى بيع الدار التى تذكر فيه، بالثمن الذى تعيّن فيه وقبضه، وفى تسليم الدار لمبتاعها، الإذن الشرعىّ، يشهد عليه بذلك من يعيّنه فى رسم شهادته آخر هذا المكتوب؛ اشترى منه بقضيّة ذلك وحكمه جميع الدار الفلانيّة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 49 الجارية فى يده ملكا لفلان المحجور عليه- وتعيّن فيه- وله بيعها، وقبض ثمنها وتسليمها لمبتاعها بطريق شرعىّ؛ وإن صدّقه المشترى قال: «وصدّقه المشترى على ذلك تصديقا شرعيّا» وهى الدار التى بالبلد الفلانىّ، بالخطّ الفلانى- وتوصف وتحدّد- شراء صحيحا شرعيّا، بثمن مبلغه كذا وكذا، دفعه المشترى من ماله لأمين الحكم العزيز، فتسلّمه منه وصار بيده وقبضه لفلان المذكور المحجور عليه، وسلّم أمين الحكم العزيز المذكور للمشترى المذكور ما باعه إيّاه، فتسلّمه منه، وصار بيده وقبضه وملكه وحوزه وتصرّفه، وذلك بعد النظر والرضا والمعرفة والمعاقدة الشرعيّة والتفرّق بالأبدان عن تراض. وإن شرط أمين الحكم الخيار كتب: «وانقضاء مدّة الخيار الشرعىّ الذى اشترطه أمين الحكم البائع لنفسه ثلاثة أيّام» ، والسبب فى هذه المبايعة احتياج المبيع عليه إلى نفقة ومؤونة وكسوة ولوازم شرعيّة، وثبوت ذلك عند الحاكم المذكور وثبت عنده أيضا- أيّد الله أحكامه- أنّ قيمة الدّار المذكورة كذا وكذا وهو الثمن المعيّن أعلاه، ثبوتا صحيحا شرعيّا، بشهادة ذوى عدل: هما فلان وفلان ومهندسين: هما فلان وفلان؛ فحينئذ تقدّم إذن الحاكم المذكور بالنّداء على الدّار المذكورة، وإشهارها «1» بصقعها وغيره فى مظانّ الرغبة فيها مدّة ثلاثة أيّام، آخرها اليوم الفلانيّ، فلم يسمعا «2» من بذل زيادة على ذلك، وقد أقام كلّ من شاهدى القيمة والمهندسين الجزء: 9 ¦ الصفحة: 50 وشاهدى النّداء شهادته بما يشهد به فيه «1» عند الحاكم المذكور، وأعلم تحت رسم شهادتهم علامة الأداء على الرسم المعهود حسب ما تضمّنه المحضر الشرعىّ المؤرّخ بكذا وكذا، وبأعلاه علامة الثّبوت، ومثالها كذا وكذا، فلمّا تكامل ذلك عند الحاكم المذكور، وسأله «2» من جازت مسألته، وسوّغت الشريعة المطهّرة إجابته «3» الإذن لأمين الحكم المذكور فى بيع الدار المذكورة بالثمن المذكور؛ والإشهاد عليه بما ثبت عنده فأجاب الحاكم المذكور سؤاله، وأشهد عليه بثبوت ذلك عنده على الوجه الشرعىّ وأذن لأمين الحكم فى بيع ذلك على ما شرح أعلاه، فشهد على الحاكم المذكور بذلك من يعيّنه فى رسم شهادته آخره، فامتثل أمين الحكم ذلك، وعاقد المشترى المذكور على ذلك كذلك «4» على ما شرح أعلاه، وبمضمونه شهد على المتعاقدين بتاريخ كذا وكذا. اذا مات رجل وترك دارا وفى ذمّته لزوجته صداق وأثبتته، واشترت الدار من أمين الحكم بمبلغ صداقها، فالذى يفعل فى ذلك أنّ الزوجة تحضر عدلين [يشهدان] «5» بشخصه وهو ميت، ويكتبان لها فى ذيل صداقها «6» أنّهما عايناه ميتا؛ وإن كانا شاهدى الصداق كان ذلك أجود، وإن لم يكونا عايناه شهدا بالاستفاضة؛ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 51 ثم يؤدّى «1» شهود العقد والتشخيص عند الحاكم، ثم تحلّف الزوجة، ويكتب الحلف، وصورة ما يكتب: أحلفت المشهود لها أعلاه، أو باطنه، فلانة المرأة الكاملة ابنة فلان بالله الذى لا إله إلّا هو، يمينا شرعيّة، مؤكّدة مستوفاة جامعة لمعانى الحلف، إنّها مستحقّة فى تركة المصدق المسمّى باطنه فلان مبلغ صداقها عليه وإنّ الشاهدين بذلك صادقان فيما شهدا لها [به] «2» من ذلك، وإنّ ذمّته لم تبرأ من الصداق المذكور ولا من شىء منه، وإنّها ما قبضته ولا شيئا منه ولا تعوّضت عنه ولا عن شىء منه، ولا أبرأته منه ولا من شىء منه، ولا أحالت به ولا بشىء منه، ولا اختلعت «3» به ولا بشىء منه، ولا برئ «4» إليها منه، ولا من شىء منه بقول ولا فعل، وإنّها تستحقّ قبض ذلك من تركته حال حلفها، وإنّ من يشهد لها به صادق فيما يشهد لها به من ذلك، فحلفت كما أحلفت بالتماسها لذلك، وحضور من يعتبر حضوره [على] «5» الأوضاع الشرعيّة، بعد تقدّم الدّعوى المسموعة وما ترتّب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 52 عليها بتاريخ كذا وكذا. ويشهد شهود الحلف فى آخره بما صورته: «حضرت الحلف المذكور وشهدت به» . وإن كان صداقها لم يثبت إلا بشهادة عدل واحد أحلفت على ذلك، ويكتب حلفها، وهو: أحلفت الزوجة، المشهود لها فيه، فلانة المشخّصة لمستحلفها بالله الذى لا إله إلّا هو يمينين شرعيّتين «1» مؤكّدتين مستوفاتين جامعتين لمعانى الحلف معتبرتين شرعا: إحداهما أنّها محقّة فيما ادّعت به على زوجها المصدق المذكور فلان، وهو مبلغ صداقها عليه، الشاهد به كتابها، وهو كذا وكذا، وأنّ شاهدها بذلك صادق فيما شهد لها به من ذلك، واليمين «2» الثانية أنّها تستحقّ قبض المبلغ المذكور من تركته، وأنّها ما قبضت ذلك ولا شيئا منه، كما تقدّم ذكره فى الحلف الأوّل إلى التاريخ. ثمّ يكتب بعد ذلك إسجال الحاكم، ومثاله: هذا ما أشهد عليه سيّدنا ومولانا العبد الفقير إلى الله تعالى قاضى القضاة، أو أقضى القضاة فلان، الحاكم بالمكان الفلانىّ، «3» من حضر مجلس حكمه ومحلّ قضائه وولايته، فى اليوم الفلانىّ من الشهر الفلانىّ، من السّنة الفلانيّة «4» ... بعد صدور دعوى محرّرة، مقابلة بالإنكار الجزء: 9 ¦ الصفحة: 53 على الوجه المعتبر الشرعىّ، بشهادة العدول الذين أعلم تحت رسم شهادتهم بالأداء فى باطنه، ويمين المشهود لها فيه «1» فلانة على استحقاقها فى ذمّة المصدق المسمّى باطنه فلان «2» مبلغ صداقها عليه، وهو كذا وكذا، على ما تضمّنه الصداق باطنه، أو على ما تضمّنه فصل الاسترجاع «3» المسطّر باطنه، المؤرّخ بكذا، [وقال «4» كلّ منهم: إنّه عارف بالمصدق والزوجة المذكورين، وما علم مغيّرا لشهادته إلى أن أقامها عنده] بشروط الأداء المعتبرة شرعا، وشخّص له الشهود المشهود لها تشخيصا معتبرا، وقبل ذلك منهم القبول السائغ فيه، وسطّر ما جرت العادة به من علامة الأداء والتشخيص على الرسم المعهود فى مثله، وذلك بعد ثبوت وفاة المصدق المذكور الثّبوت الشرعىّ وأحلفت الزوجة المشهود لها المذكورة على استحقاقها ذلك بالله العظيم الذى لا إله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 54 إلّا هو، اليمين الثابتة «1» الشرعيّة المسطّرة فى فصل الحلف باطنه على ما نصّ وشرح فيه، فحلفت كما أحلفت بالتماسها لذلك، وحضور من يعتبر حضوره على الأوضاع الشرعيّة فى تاريخ الحلف المذكور؛ ولما تكامل ذلك كلّه عنده وصحّ لديه- أحسن الله إليه- سأله من جاز سؤاله الإشهاد على نفسه بثبوت ذلك عنده، فأجابه إلى سؤاله، وتقدّم بكتابة هذا الإسجال، فكتب عن إذنه الكريم، وأشهد على نفسه بثبوت ذلك لديه، وأبقى كلّ ذى حجّة معتبرة على حجّته إن كانت، وهو فى ذلك نافذ القضاء والحكم ماضيهما، بعد تقدّم الدّعوى الموصوفة «2» وما ترتّب عليها، وحضر سماع الدّعوى وإقامة البيّنة القاضى فلان أمين الحكم العزيز، واعترف بأنّه لا مطعن له فى ذلك، فحينئذ أذن الحاكم فى إيصال الحقّ لمستحقّه «3» شرعا، ووقع الإشهاد فيه بتاريخ كذا وكذا. ثمّ يكتب ابتياعها من أمين الحكم فى ذيل الإسجال «4» ... : هذا ما اشترت فلانة المرأة الكاملة ابنة فلان- وهى المشهود لها باطنه المستحلفة فيه- الجزء: 9 ¦ الصفحة: 55 لنفسها من القاضى فلان أمين الحكم العزيز بالجهة الفلانيّة، القائم فى بيع ما يذكر فيه على المصدق المسمّى المحلّى «1» باطنه فلان، فيما «2» ثبت عليه من صداق زوجته المشترية المذكورة بمجلس الحكم العزيز بالجهة الفلانيّة، وهو كذا وكذا، وفى المقاصّة «3» الشرعيّة على الأوضاع الشرعيّة المعتبرة، بإذن صحيح شرعىّ من يد قاضى القضاة فلان الحاكم بالجهة الفلانيّة لأمين الحكم المذكور فى ذلك، اشترت منه بقضيّة ذلك وحكمه جميع الدّار الكاملة الجارية فى يده وتصرّفه منسوبة لملك فلان المتوفّى إلى رحمة الله تعالى، وهى «4» بالمكان الفلانىّ- وتوصف وتحدّد- شراء صحيحا شرعيّا بثمن مبلغه كذا وكذا حالّ «5» ، وسلم البائع أمين الحكم المذكور للمشترية المذكورة ما ابتاعته منه فيه، فتسلّمته منه، وصار بيدها وقبضها وملكها وحوزها، ومالا من جملة أموالها، وذلك بعد النظر والرضا والمعرفة والتفرّق بالأبدان عن تراض وأقرّت المشترية المذكورة أنّ «6» الدّار المذكورة جارية فى ملك زوجها المذكور، ثمّ بعد تمام ذلك ولزومه قاصّ القاضى فلان أمين الحكم العزيز البائع المذكور المشترية بما فى ذمّتها من الثمن المذكور ما ثبت لها على المبيع عليه من الصداق المذكور، وهو كذا وكذا، وهو قدر الثمن المذكور وصفته وجنسه وحلوله «7» ، مقاصّة «8» شرعيّة برّأت الجزء: 9 ¦ الصفحة: 56 ما فى «1» ذمّة المبيع عليه من الصداق، وبرّأت ما فى «2» ذمّة المشترية من الثمن براءة صحيحة شرعيّة، براءة إسقاط، وذلك بعد أن ثبت عند سيّدنا قاضى القضاة فلان بشهادة من يضع خطّه آخره، من العدول والمهندسين المندوبين لتقويم الأملاك أهل الخبرة بذلك، أنّ قيمة الدار المذكورة جميع الثمن المذكور، وأنّه قيمة المثل يومئذ، لا حيف فيه ولا شطط، ولا غبينة «3» ولا فرط «4» ، وأنّ الحطّ والمصلحة فى البيع بذلك؛ ويؤرّخ. ثمّ يكتب شهود القيمة والمهندسين خطوطهم أنّ الثمن المذكور هو ثمن المثل يومئذ، ويؤدّون «5» عند الحاكم، ويعلم تحت رسم شهادتهم، ثم يكتب شهود المعاقدة الشهادة عليهما «6» بالابتياع [وأنّه] قد تمّ ذلك. وإن كانت الزوجة لم تشتر بل اشترى غيرها لنفسه كتب ما مثاله: هذا ما اشترى فلان من القاضى فلان أمين الحكم العزيز، القائم فى بيع ما يذكر فيه على فلان المصدق فيما «7» ثبت عليه من صداق زوجته فلانة بمجلس الحكم العزيز الجزء: 9 ¦ الصفحة: 57 - وهو كذا وكذا- وفى «1» وفاء الصّداق المذكور للزوجة المذكورة، وذلك بإذن صحيح شرعىّ من سيّدنا العبد الفقير إلى الله تعالى قاضى القضاة فلان الحاكم بالجهة الفلانيّة وشهد عليه بذلك من يعيّنه فى رسم شهادته آخره؛ اشترى منه بقضيّة ذلك وحكمه جميع الدّار الكاملة «2» الجارية فى يده وتصرّفه ملكا لفلان المتوفّى المبيع عليه. وتوصف وتحدّد، ويذكر الثمن، ويقال: قبضه أمين الحكم من المشترى المذكور، وصار بيده وحوزه، وسلم البائع للمشترى المذكور ما باعه إيّاه، فتسلّمه منه، وصار بيده وقبضه ومالا من جملة أمواله، بعد النظر والمعرفة والمعاقدة الشرعيّة، والتفرّق بالأبدان عن تراض؛ والسبب فى هذه المبايعة أنّ فلانة زوجة فلان المتوفّى المذكور أثبتت صداقها فى مجلس الحكم العزيز عند الحاكم المذكور على زوجها المذكور، بشهادة العدول المشار إليهم فى الإسجال المذكور، الذين أعلم تحت رسم شهادتهم علامة الأداء آخره، وقال كلّ منهم: إنّه عارف بالمصدق والزوجة المذكورين، وما علم مغيّرا لشهادته إلى أن أقامها عنده بشروط الأداء. وشخّص الزوجة المذكورة، وقبله «3» فى ذلك، وأعلم تحت رسم شهادته علامة الأداء والتعريف بالتشخيص على الرسم المعهود فى مثله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 58 وأحلف الزوجة المذكورة بالله الذى لا إله إلّا هو اليمينين «1» الشرعيّتين، الجامعتين لمعانى الحلف، المشروحتين فى مسطور الحلف بكذا وكذا، وذلك بحضور من يعتبر حضوره؛ فلما تكامل ذلك عند الحاكم المذكور سألت الزوجة الحاكم المذكور إيصالها إلى «2» مبلغ صداقها المشهود لها به من موجود زوجها المذكور، فأذن الحاكم لأمين الحكم العزيز فى بيع ذلك، وقبض ثمنه، وإيصال الزوجة المذكورة إلى «3» ما ثبت لها فى ذمّة زوجها من الصّداق المذكور، والإشهاد عليها بقبض ذلك، إذنا شرعيّا، فشهد عليه بذلك من يضع خطّه آخره، وذلك بعد أن ثبت عند الحاكم المذكور أنّ هذه القيمة المبيع بها قيمة المثل يومئذ، وأنّ الحظّ والمصلحة فى البيع بذلك، يشهد به المحضر المؤرّخ بكذا وكذا، وفيه خطّ جماعة من العدول والمهندسين أرباب الخبرة بالعقار وتقويمه وذلك بعد أن شهد أمين الحكم المذكور أنّ الدار المذكورة أقامت «4» بيد الدلّالين على العقار ليشهروها فى الشوارع والأسواق الجارية بها العادة أيّاما متوالية بحضرة عدلين: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 59 هما فلان وفلان، فكان الذى انتهى [إليه] «1» البذل فيها من هذا المشترى كذا وكذا، وهو الثمن المذكور؛ فلمّا تكامل ذلك كلّه وقع الإشهاد على الحاكم المذكور وأمين الحكم والمشترى بما نسب الى كلّ منهم فيه بتاريخ كذا وكذا. ثمّ يكتب خلف الصداق قبض الزوجة، ومثال ذلك: أقرّت فلانة المرأة الكاملة عند شهوده طوعا أنّها قبضت وتسلّمت من القاضى فلان أمين الحكم العزيز جميع مبلغ صداقها الذى فى ذمة زوجها فلان المتوفّى المذكور، وهو كذا وكذا، وصار بيدها وقبضها وحوزها، وهو ثمن الدّار التى باعها أمين الحكم العزيز على زوجها فلان لأجل وفاء صداقها المذكور، فبحكم ذلك برئت ذمّة المصدق من الصداق المذكور براءة صحيحة شرعيّة، براءة قبض واستيفاء؛ ويؤرّخ. إذا باع الوصىّ دارا بالغبطة «2» الزائدة على ثمن المثل بغير حاجة لمن هو تحت الحجر فالطريق فى ذلك أن يكتب محضرا بالقيمة يشهد فيه شهود القيمة والمهندسون وينادى عليها بحضرة عدلين، ويثبت ذلك عند الحاكم؛ وصورة المحضر فى باب المحاضر؛ ثم يكتب المبايعة، وصورة ما يكتب: هذا ما اشترى فلان لنفسه من فلان القائم فى بيع ما يذكر فيه على فلان بن فلان الذى هو تحت ولاية نظره بمقتضى الوصيّة المفوّضة اليه من والده، الثابتة بمجلس الحكم العزيز وعدالته، ونسختها ... وأرخها «3» ... وأسماء شهودها ... والحاكم الذى ثبتت عنده ... وصورة علامته ... - الجزء: 9 ¦ الصفحة: 60 وإن اختصر ولم يذكر نسختها فذلك كاف- لما رأى له فى ذلك من الحظّ والمصلحة، وحسن النظر، والغبطة «1» الزائدة على ثمن المثل، حسب ما يشهد بذلك محضر القيمة والغبطة «2» المشروح آخره، الثابت بمجلس الحكم العزيز الثبوت الشرعىّ يشهد على الحاكم بذلك من يعيّنه فى رسم شهادته آخره؛ اشترى منه بقضيّة ذلك وحكمه جميع الدّار الفلانيّة- وتوصف وتحدّد- شراء صحيحا شرعيّا بثمن مبلغه كذا وكذا، تقابضا وتفرّقا بالأبدان عن تراض، بعد النظر والمعرفة والمعاقدة الشرعيّة؛ والسبب فى هذه المبايعة أنّ الوصىّ البائع المذكور نجّز محضرا يتضمّن مسير أرباب الخبرة بالعقار وتقويمه والعدول والمهندسين المندوبين من مجلس الحكم العزيز لذلك- وهم فلان وفلان شاهدا القيمة، وفلان وفلان المهندسان- الى الدّار «3» المذكورة، وشاهدوها، وأحاطوا بها علما وخبرة، وذكروا أنّ القيمة عنها كذا وكذا، وأنّها قيمة المثل يومئذ، لا حيف فيها ولا شطط، ولا غبينة «4» ولا فرط «5» ، وأنّ الحظّ والمصلحة فى بيع الدار المذكورة بزيادة كذا وكذا لتتمّة كذا وكذا، وهو الثمن المعاقد عليه، وأقام كلّ منهم شهادته عند القاضى فلان بذلك، وأعلم تحت شهادتهم ما جرت العادة به من علامة الأداء والقبول، ثم أشهرت «6» الدار المذكورة بحضرة عدلين: هما فلان وفلان، فى صقعها وغيره من الأصقاع ومظانّ الرّغبة مدّة ثلاثة أيّام فلم يحضر من بذل زيادة على ذلك، وقد أقام كلّ من شاهدى النداء شهادته عند الحاكم المذكور بذلك، وأعلم تحت رسم شهادته علامة الأداء حسب ما تضمّنه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 61 المحضر المذكور المؤرّخ بكذا وكذا، الذى بأعلاه علامة الثبوت، ومثالها كذا وكذا وشهد على الحاكم بثبوت ذلك عنده من يعيّنه فى رسم شهادته آخر هذا المكتوب؛ فلمّا تكامل ذلك كلّه وقع الإشهاد «1» على الوصىّ البائع والمشترى بما نسب إلى كلّ منهما بعاليه بتاريخ كذا وكذا. وإن كان الوصىّ باع بإذن الحاكم كتب ذلك كما تقدّم فى حقّ أمين الحكم؛ ويجوز أن يبيع «2» الوصىّ بغير محضر، وإنّما المحضر أقطع للتنازع، وأدفع للطاعن. اذا باع الوصىّ دارا على يتيم للحاجة من غير أن يثبت الحاجة ولا القيمة فذلك جائز، وإنّما يخاف من التنازع؛ فإذا أراد ذلك كتب ما مثاله: هذا ما اشترى فلان بماله لنفسه من فلان وصىّ فلان بن فلان على ولده لصلبه فلان الطفل الذى هو تحت حجره وولاية نظره، متصرّفا فيما له وعليه بمقتضى الوصيّة التى بيده، الثابتة فى مجلس الحكم العزيز بالجهة الفلانيّة، القائم فى بيع ما يذكر فيه على فلان الطفل الذى تحت حجره وولاية نظره، لما دعت اليه الحاجة من نفقته وكسوته ولوازمه الشرعيّة، وأنّه ليس له موجود غير هذه الدار المذكورة، وليس منها أجرة تكفيه، ولما رأى له فى ذلك من الحظّ والمصلحة وحسن النظر؛ اشترى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 62 منه بقضيّة ذلك وحكمه جميع الدّار الفلانيّة، الجارية فى يده وتصرّفه ملكا لفلان المبيع عليه- وتوصف وتحدّد- شراء صحيحا شرعيّا، بثمن مبلغه كذا وكذا، دفعه المشترى المذكور من ماله للبائع المذكور، فقبضه منه وتسلّمه، وصار بيده وقبضه وحوزه لفلان المبيع عليه، وسلم الوصىّ البائع المذكور للمشترى المذكور ما باعه إيّاه، فتسلّمه وصار بيده وملكه وحوزه، ومالا من أمواله، وذلك بعد النظر والمعرفة والمعاقدة الشرعيّة، والتفرّق بالأبدان عن تراض، وضمان الدّرك فى صحّة البيع «1» ، وبعد أن اعترف الوصىّ البائع أنّ الثمن المذكور هو قيمة المثل يومئذ، لا حيف فيه ولا شطط ولا غبينة «2» فيه ولا فرط «3» ، وصدّقه المشترى على ذلك؛ ويؤرّخ. إذا ابتاع الوصىّ دارا ليتيم على يده كتب ما مثاله: هذا ما اشترى فلان لفلان بن فلان الطفل الذى فى حجره وكفالته وولاية نظره، بماله الذى تحت يده، المنتقل إليه بالإرث عن والده المذكور، الذى كان فى حال حياته وصّاه عليه، وجعله ناظرا فى مصلحته، وذلك بمقتضى الوصيّة التى بيده، الثابتة بمجلس الحكم الشريف وعدالته، لما رأى له فى ذلك من الحظّ والمصلحة وحسن النظر؛ اشترى له بقضيّة ذلك وحكمه من فلان جميع الدار الفلانيّة- وتوصف وتحدّد، ويكمّل المبايعة على ما تقدّم- وذلك بعد أن اعترف الوصىّ بأن الثمن المذكور هو ثمن المثل، لا حيف فيه ولا شطط، وصدّقه البائع على ذلك؛ ويؤرّخ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 63 إذا عوّض الرجل ابنته الطفلة دارا بدار «1» لها كتب ما مثاله: حضر الى شهوده فى يوم تاريخه فلان، وأشهد على نفسه طوعا أنه عوّض ابنته لصلبه فلانة الطفلة، التى تحت حجره وكفالته وولاية نظره- لما رأى لها فى ذلك من الحظّ والمصلحة وحسن النظر- جميع الدّار التى بيده وملكه وتصرّفه- على ما ذكر- بجميع «2» الدّار التى بيده وتصرّفه ملكا لابنته المذكورة- وتوصف وتحدّد- لما رأى لها فى ذلك من الحظّ والمصلحة والغبطة، ولعلمه أنّ الدّار التى عوّض ابنته بها «3» - وهى المبتدأ بذكرها- أجود من الدّار التى تعوّضت منها وأعمر، وأكثر أجرة وقيمة، معاوضة صحيحة جائزة، قبلها من نفسه لابنته، وسلّمها من نفسه لنفسه لابنته المذكورة، ورفع عنها يد ملكه، ووضع عليها يد ولايته ونظره، وأخرج الدّار الفلانيّة المثنّى بذكرها من ملك ابنته المذكورة إلى ملكه، وسلّمها من نفسه لنفسه وصارت بيده وقبضه وحوزه، ومالا من جملة أمواله، ورفع عنها يد نظره وولايته ووضع عليها يد ملكه، كلّ ذلك بحقّ هذا التعويض، وبحكم ذلك صارت الدار المبتدأ بذكرها ملكا لابنته المذكورة دونه ودون كلّ أحد بسببه «4» ، وصارت الدّار الجزء: 9 ¦ الصفحة: 64 المثنّى بذكرها ملكا له دون ابنته المذكورة ودون كلّ أحد بسببها، وأقرّ بأنه عارف بذلك المعرفة الشرعيّة النافية للجهالة، وأنّه رآها الرؤية المعتبرة، وأحاط بها علما وخبرة؛ ويؤرّخ. [اذا] «1» اعترف رجل بأنه كان من مدّة باع لرجل دارا كتب ما مثاله: أقرّ فلان بأنه كان بتاريخ كذا وكذا باع لفلان جميع الدّار الكاملة، التى كانت يوم تعاقدهما عليها فى يده وملكه وتصرّفه، على ما ذكر- وتوصف وتحدّد- بيعا صحيحا شرعيّا، بثمن مبلغه كذا وكذا، وأنّه قبض الثمن منه لنفسه، وتسلّمه وصار بيده وقبضه وحوزه، وأنّه «2» من التاريخ المذكور اشتراها منه بالثمن المعيّن أعلاه وسلّمه له، وتسلّم منه الدار المذكورة أعلاه، وصارت بيده وقبضه وحوزه، ومالا من جملة أمواله؛ وأقرّا بأنّهما كانا تعاقدا على ذلك كذلك من التاريخ المذكور معاقدة صحيحة شرعيّة شفاها بينهما بالإيجاب والقبول، ثم تفرّقا عن تراض؛ وأقرّا بأنّهما عارفان بها، وأنّهما نظراها قبل ذلك، وأحاطا بها علما وخبرة نافية للجهالة، وضمن البائع المذكور درك «3» ما باعه فيه وقبض ثمنه بسببه ضمانا شرعيّا، ولم تبق لكلّ منهما مطالبة قبل الآخر بسبب من الأسباب، ولا حقّ من الحقوق الشرعيّة، وأنّ الدّار صارت ووجبت بطريق الابتياع المذكور ملكا لفلان المقرّ له ملكا صحيحا شرعيّا دون البائع ودون كلّ أحد بسببه؛ ويؤرّخ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 65 إذا كان البائع هو السلطان كتب ما مثاله: هذا كتاب مبايعة شرعيّة، جائزة مرضيّة؛ أمر بكتبه وتسطيره، وإنشائه وتحريره؛ واستيفاء مقاصده، واستكمال معانيه وفوائده، المولى السيّد الأجلّ السلطان المالك الملك الفلانىّ أبو فلان- وتذكر ألقابه ونعوته الملوكيّة وسلطنته على العادة، ويدعى له بما يدعى للملوك من النصر والاقتدار وغير ذلك- وأشهد على نفسه الشريفة من حضر مقامه الشريف من العدول الواضعى خطوطهم آخره أنه باع لفلان جميع كذا؛ ويكمّل المبايعة. إذا اشترى للسلطان وكيله قدّم اسم السلطان، وهو أن يكتب: هذا ما اشترى للمولى السيّد الأجلّ السّلطان المالك الملك الفلانىّ، وكيله فلان، بماله المبارك النّامى، وتوكيله إيّاه فى ابتياع ما يذكر فيه بالثمن الذى تعيّن فيه، والتسليم والتسلّم اللّذين يشرحان «1» فيه، يشهد عليه- خلّد الله ملكه- بذلك من يعيّنه فى رسم شهادته آخره؛ من فلان «2» جميع الشىء الفلانىّ؛ ويكمّل. وان كان البائع وكيل بيت المال كتب مشروح على العادة بالشهادة على بعض المهندسين، مثاله: مشروح رفعه كلّ واحد من فلان وفلان المهندسين على العقار بالبلد الفلانىّ، بقضيّة حال الدّار الكاملة، الجارية فى ديوان المواريث الحشريّة «3» الجزء: 9 ¦ الصفحة: 66 التى بالمكان الفلانىّ- وتوصف وتحدّد- شاهدا «1» الدار المذكورة على الصفة المشروحة أعلاه، وأحاطا بها علما وخبرة، وكتب هذا المشروح ليثبت علمه بالديوان المعمور؛ ويؤرّخ. ثمّ يكتب مكتوب على المهندسين، ويشهد فى آخره شهود القيمة، مثاله: يقول كلّ واحد من فلان وفلان المهندسين على العقار بالبلد الفلانىّ: إنّهما سارا «2» صحبة فلان وكيل بيت المال المعمور الى حيث الدار الآتى ذكرها ووصفها وتحديدها فيه، الجارية فى ديوان المواريث الحشريّة «3» ، وهى بالمكان الفلانىّ- وتوصف وتحدّد- وأحاطا بها علما وخبرة، وقوّماها بما مبلغه كذا وكذا، وقالا: إنّ ذلك قيمة المثل التى لا حيف فيها ولا شطط، ولا غبينة «4» ولا فرط «5» ، وأنّ الحظّ والمصلحة فى البيع بذلك؛ ويؤرّخ. وتكتب على ظهره «6» حجّة على سماسرة العقار، صورتها: يقول كلّ واحد من فلان وفلان المناديين على العقار: إنّهما أشهرا «7» ما ذكر «8» باطنه فى مظانّ الرّغبات، ومواطن الطلبات، فى صقعها وغيره من الأصقاع دفعات متفرّقة، وأوقات متعدّدة، فلم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 67 يسمعا من بذل زيادة على ما قوّم باطنه؛ ويؤرّخ، ويشهد عليهما فيه. ثمّ تكتب قصّة باسم المشترى للمقام الشريف السلطانىّ، ويكتب عليها صاحب الدّيوان ويجاوب وكيل بيت المال المعمور، ويخرج الحال على ظهرها، ثم يوقّع «1» صاحب الدّيوان بحمل المبلغ إلى بيت المال المعمور، فاذا حمل وقّع صاحب الدّيوان وتلصق الحجّة على القصّة، فاذا كمل ذلك عاقد «2» وكيل بيت المال، وصورة المكاتبة: هذا ما اشترى فلان بماله لنفسه من القاضى فلان، وكيل بيت المال المعمور والقائم فى بيع ما يذكر فيه بأحكام الوكالة التى بيده، المفوّضة إليه من المقام الشريف السلطانىّ الملكىّ الفلانىّ الذى جعل له فيها بيع ما هو جار فى أملاك بيت المال المعمور، وغير ذلك على ما نصّ وشرح فيها، وما مآله الى بيت المال المعمور بالقضايا الشرعيّة، الثابتة وكالته فى مجلس الحكم العزيز الثبوت الشرعىّ، المتوّجة بالعلامة الشريفة، ومثالها كذا وكذا؛ اشترى منه بقضيّة ذلك وحكمه جميع الدّار الفلانيّة، الجارية فى رباع المواريث «3» الحشريّة، الموروثة عن فلان المتوفّى إلى رحمة الله تعالى، أو التى أظهرها الكشف- وتوصف وتحدّد- شراء صحيحا شرعيّا بثمن مبلغه كذا وكذا دينارا أو درهما حالّة، وذلك محمول الى بيت المال المعمور [على ما شهد «4» به وصول بيت المال المعمور] المشروح فى آخره؛ وتسلّم المشترى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 68 المذكور ما ابتاعه بعد النظر والمعرفة والمعاقدة الشرعيّة، والتفرّق بالأبدان عن تراض، وانقضاء أمد الخيار الشرعىّ الذى اشترطه البائع على المشترى المذكور، وهو ثلاثة أيّام؛ وأقرّ المشترى المذكور أنّ ذلك صائر فى أملاك بيت المال المعمور؛ والسبب فى هذه المبايعة أنّ المشترى المذكور رفع قصّة باسمه أنهى فيها: ... - وتنقل الى آخرها- فوقّع على ظهرها من جهة متولّى الدّيوان المعمور ما مثاله: «ليذكر ما بذل «1» عليه «2» للدّيوان المعمور» ؛ ... «3» ومثاله: ... - وينقل إلى عند «4» الصفات المحدودة، ويكتب تاريخه- ثمّ تلاه توقيع كريم، ومثاله: ليتقدّم المجلس ... - وينقل جميع ما فيه- ثمّ تلاه جواب متولّى الوكالة الشريفة بما مثاله: «المملوك فلان الوكيل» ... - وينقل- ثم نجّز المشترى المذكور وصولا» من بيت المال المعمور شاهدا له بحمل الثمن المذكور، ونسخته بعد البسملة ... - وينقل ما فيه- ثمّ تلاه توقيع كريم، إذا كان- وينقل جميع ما فيه- وذلك كلّه بعد أن أخذت الحجّة الملصقة بأعلى التوقيع الدّيوانىّ، المتضمّنة الإشهاد على كلّ واحد من فلان وفلان المهندسين على العقار أنّ القيمة المعيّنة فيها- وهى كذا وكذا- قيمة المثل يومئذ- وتشرح الى آخر التاريخ- بشهادة فلان وفلان سماسرة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 69 العقار، بأنّهما أشهرا «1» ذلك على ما تضمّنته «2» ؛ فلمّا تكامل ذلك كلّه وقع «3» الإشهاد على القاضى فلان وكيل بيت المال المعمور والمشترى بما نسب إلى كلّ منهما؛ ويؤرّخ. وان باع وكيل بيت المال بغير توكيل بيع بل بحجّة قيمة كتب: هذا ما اشترى فلان من فلان وكيل بيت المال المعمور- كما تقدّم- جميع قطعة الأرض الحاملة لبناء المشترى، الآتى ذكرها وذرعها «4» وتحديدها فيه، الجارية فى أملاك بيت المال المعمور، مضافة الى ديوان المواريث «5» الحشريّة، أو ديوان الأحكار، وهى بالمكان الفلانىّ- وتذرع وتحدّد- شراء صحيحا شرعيّا، بثمن مبلغه كذا وكذا الجميع حالّ محمول إلى بيت المال المعمور، على ما شهد به وصول «6» بيت المال المعمور المشروح فى آخره، وتسلّم المشترى المذكور ما ابتاعه بعد النّظر والرّضا والمعرفة والمعاقدة الشرعيّة، والتفرّق بالأبدان عن تراض، وانقضاء أمد الخيار الذى اشترطه البائع على المشترى، وهو ثلاثة أيّام؛ وأقرّ المشترى المذكور أنّ الأرض المذكورة جارية فى ديوان المواريث؛ وذلك بعد اكتتاب حجّة تتضمّن الإشهاد على كلّ واحد من فلان وفلان المهندسين على العقار- وتشرح كما تقدّم- والشهادة على الجزء: 9 ¦ الصفحة: 70 السماسرة؛ فحينئذ استظهر «1» القاضى فلان البائع على المشترى بكذا وكذا، فتكون جملة ما تقرّر من القيمة «2» والاستظهار ورسم الوكالة جميع الثمن المذكور أعلاه؛ ثم بعد ذلك حضر وصول «3» من بيت المال المعمور شاهد له بحمل الثمن المذكور، نسخته كذا وكذا، وعلى ظهره توقيع كريم، مثاله كذا وكذا «4» ... ؛ فلمّا تكامل ذلك كلّه «5» وقع الإشهاد؛ ويؤرّخ. وان كان المشترى أجرى باسمه «6» الثمن من بيت المال وأنعم عليه به كتب ما مثاله: هذا ما اشترى فلان بن فلان؛ ويذكر الثمن، ويقول: «وهو مجرى من بيت المال المعمور» ؛ ويكمّل المبايعة نحو ما تقدّم، ويكتب: «ثمّ أحضر المشترى توقيعا شريفا سلطانيّا بالإنعام عليه بالثّمن» ؛ وينقل إلى آخره؛ والله أعلم بالصواب. إذا اشترت امرأة من وكيل بيت المال دارا جارية فى رباع المواريث «7» الحشريّة بما لها فى ذمّته «8» ، ثم قاصّت «9» بما لها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 71 فى رباع ديوان المواريث، يكتب: [هذا «1» ] ما اشترت [فلانة «2» ] من وكيل بيت المال- كما تقدّم- جميع الدار الكاملة الجارية فى ديوان المواريث الحشريّة- على ما ذكرت المشترية- المقبوضة عن فلان المتوفّى إلى رحمة الله تعالى، وهى بالمكان الفلانىّ- وتوصف وتحدّد- شراء صحيحا شرعيّا بثمن مبلغه من الدراهم كذا وكذا، الجميع حالّ، وتسلّمت «3» المشترية ما ابتاعته بعد النظر والرّضا والمعرفة والمعاقدة- نحو ما تقدّم- ثم بعد ذلك قاصّ «4» القاضى فلان المشترية المذكورة بالذى توجّه على الديوان المعمور إيفاؤه من تركة زوج المشترية المذكورة فلان وهو مبلغ صداقها عليه، الثابت لها بمجلس الحكم العزيز، ومبلغه كذا وكذا، وهو نظير الثمن المذكور فى قدره وجنسه وحلوله، مقاصّة «5» صحيحة شرعيّة، برئت بها ذمّة المشترية من الثمن، وذمّة زوجها من نظير ذلك الصداق؛ والسبب فى هذه المبايعة والمقاصّة «6» أنّ المشترية المذكورة أثبتت صداقها على زوجها فلان فى مجلس الحكم العزيز، ومبلغه كذا وكذا، المؤرّخ الصداق بكذا وكذا، وأسجل لها الحاكم على نفسه- وهو القاضى فلان- بثبوت ذلك عنده، والحكم به، وأشهد لها على نفسه بذلك، وذلك بعد استحلافها اليمين الشرعيّة، المؤرّخ الحلف بكذا وكذا؛ ثم بعد ذلك رفعت المشترية قصّة مترجمة باسمها، مثالها: المملوكة ... ؛ ويشرح ما فيها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 72 وما تضمّنه التوقيع «1» كما تقدّم، ويشرح مسطور القيمة نحو ما تقدّم. هذا ما اتّفق «2» إيراده فى البيوع على اختلاف «3» الوقائع؛ والله أعلم. وأما الردّ بالعيب والفسخ - فإنه اذا اشترى رجل من آخر دارا أو عبدا أو أمة أو دابّة، واطّلع على عيب يوجب الردّ بالعيب، وأراد الإشهاد بذلك، كتب ما مثاله: حضر إلى شهوده فى يوم تاريخه فلان، وأشهد عليه أنه ابتاع «4» قبل تاريخه من فلان جميع الشىء الفلانىّ، وأنّه اطّلع فى يوم تاريخه على أنّ به عيبا قديما مزمنا يوجب الردّ، وهو الشىء الفلانىّ- ويذكر العيب- وأنه حين اطّلاعه على العيب حضر إلى شهوده على الفور، واختار فسخ البيع وردّ المبيع على بائعه بالعيب المذكور، وأنّه باق على طلب الردّ، واستعادة الثمن الذى أقبضه له، ورفع يده عن التصرّف فى الشىء الفلانىّ رفعا تامّا؛ ويؤرّخ. فى مقايلة «5» تكتب على ظهر المبايعة، ومثالها: أقرّ كلّ واحد من فلان- وهو المشترى باطنه- وفلان- وهو البائع باطنه- بأنّهما تقايلا أحكام الجزء: 9 ¦ الصفحة: 73 المبايعة المشروحة باطنه، وهى [فى «1» ] جميع الدّار الموصوفة المحدودة، التى كان فلان المبدأ «2» باسمه ابتاعها من فلان المثنّى باسمه بالثمن المعيّن فى باطنه، وهو كذا وكذا مقايلة صحيحة شرعيّة؛ ودفع البائع المذكور للمشترى المذكور جميع الثمن بتمامه وكماله فقبضه منه، وتسلّمه، وصار بيده وقبضه وحوزه؛ ورفع المشترى يده عن الدّار المذكورة، وسلّمها للبائع على صفتها الأولى، فتسلّمها منه، وذلك بعد النظر والمعرفة والتفرّق بالأبدان عن تراض. وأما الشّفعة «3» - فالذى يكتب فيها أنّه اذا اشترى رجل حصّة من دار وحضر مالك بقيّة الدار فطلب الحصّة بالشّفعة، وصدّقه المشترى على ذلك، كتب ما مثاله: حضر الى شهوده فى يوم تاريخه كلّ واحد من فلان بن فلان، وفلان بن فلان- وهو المشترى المذكور باطنه- وأعلم فلان المبتدأ بذكره فلانا المشترى باطنه- أنّ فى ملكه من الدّار الموصوفة المحدودة باطنه كذا وكذا سهما من أربعة وعشرين سهما شائعا فى «4» جميع الدّار المذكورة، وأنّه يستحقّ أخذ الحصّة التى ابتاعها منها بالشّفعة الشرعيّة، وأنّه قام على الفور «5» عند سماعه بابتياع الحصّة المذكورة باطنه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 74 من غير إمهال، واجتمع بالمشترى المذكور، وأعلمه بما ذكر؛ فحينئذ صدّقه المشترى على صحّة ذلك جميعه تصديقا شرعيّا، والتمس منه القيام له بنظير الثمن الذى دفعه المشترى «1» المذكور باطنه عن الحصّة المذكورة باطنه؛ فأحضره إليه بكماله، وهو كذا وكذا، وأقبضه له، فقبضه منه، وتسلّمه، وصار بيده وقبضه وحوزه؛ وسلم المشترى المذكور باطنه لفلان المبتدإ بذكره المستشفع «2» المذكور الحصّة المذكورة، ومبلغها كذا وكذا سهما من أربعة وعشرين سهما شائعا فى جميع الدّار الموصوفة المحدودة باطنه، فتسلّمها منه، وصارت بيده وقبضه وحوزه عن هذه «3» الشفعة؛ وأقرّا بأنّهما عارفان بها المعرفة الشرعيّة، وبحكم ذلك كمل لفلان المستشفع «4» بما فى ملكه متقدّما وبهذه الحصّة ملك جميع الدّار المذكورة بالشّفعة المذكورة، ولم يبق لفلان المشترى المذكور باطنه فى الدّار المذكورة حقّ ولا طلب بسبب ملك، ولا يد، ولا ابتياع، ولا حقّ من الحقوق الشرعيّة؛ وبمضمونه شهد؛ ويؤرّخ. إذا ادّعى رجل على رجل أنّ الحصّة التى ابتاعها من شريكه يستحقّها بالشّفعة ولم يصدّقه على ذلك، وكلّفه إثبات الملك وقبول «5» القسمة- فالذى يفعل فى ذلك أن يثبت المدّعى ابتياعه عند الحاكم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 75 ثم يثبت محضرا بقبول القسمة؛ فإن لم يكن معه كتاب ابتياع كتب محضرا بأنّه مالك لحصّته من الدّار، وصيغة المحضر: شهد الشهود الواضعون خطوطهم آخره- وهم من أهل الخبرة الباطنة «1» فيما شهدوا به فيه «2» - أنّهم يعرفون فلانا معرفة صحيحة شرعيّة، ويشهدون أنّه مالك لجميع الحصّة التى مبلغها كذا وكذا سهما من أربعة وعشرين سهما شائعا غير مقسوم من جميع الدّار الفلانيّة، التى بالمكان الفلانىّ- وتوصف وتحدّد- ملكا صحيحا شرعيّا، من وجه صحيح شرعىّ، وأنّه متصرّف فى الحصّة المذكورة بالسكن والإسكان والإجارة والعمارة، وأنّها باقية فى ملكه ويده وتصرّفه إلى الآن، ولم تخرج عنه بتمليك «3» ، ولا بيع، ولا هبة، ولا إقرار، ولا صدقة، ولا غيرها ولا بوجه من وجوه الانتقالات كلّها، وهم بالدّار فى مكانها عارفون، وأنّ تلك «4» الحصّة التى مبلغها كذا وكذا سهما من أربعة وعشرين سهما شائعا فى الدّار المذكورة ابتاعها «5» فلان بن فلان من فلان بن فلان شريك فلان متنجّز «6» هذا «7» المحضر، وأنّ متنجّزه قام فى طلب الحصّة المبيعة وأخذها من المشترى المذكور بالشّفعة الشرعيّة بحكم أنّه مالك للحصّة المشهود بها ملكا شرعيّا متقدّما على ابتياع المشترى المدّعى عليه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 76 وأنّه قام على الفور «1» فى طلب الحصّة المبيعة من المشترى من غير تأخير ولا عاقة «2» ؛ يعلمون ذلك ويشهدون به بسؤال «3» من جازت مسألته، وسوّغت الشريعة المطهّرة إجابته؛ ويؤرّخ؛ ثم يشهد فيه الشهود عند الحاكم. ثمّ يكتب تحته محضرا بأنّ الدّار المذكورة قابلة للقسمة «4» ، وصيغته: شهد الشهود الواضعون خطوطهم آخره- وهم من أهل الخبرة بالعقار وتقويمه وقسمته- أنّهم ساروا بإذن صحيح شرعىّ من القاضى فلان الحاكم بالجهة الفلانيّة إلى حيث الدّار الآتى ذكرها فيه، الجارية منها حصّة مبلغها كذا وكذا سهما فى ملك فلان متنجّز المحضر الأوّل المستشفع «5» فيه «6» ، وحصّة مبلغها كذا وكذا سهما فى ملك المشترى المدّعى عليه الشفيع «7» المذكور، منتقلة إليه بالابتياع الشرعىّ [من شريك «8» ] المستشفع «9» المذكور، لكشف حالها، ومعرفة جملتها وتفصيلها، وسبب طلب الشّفعة من متنجّز هذا المحضر فيها «10» ، بحكم ابتياع المشترى الشفيع «11» لحصّته «12» فيها ودخوله على المستشفع «13» ، وأنّها هل تتهيّأ فيها قسمة التعديل بالأجزاء الجزء: 9 ¦ الصفحة: 77 المقتضية «1» لخير الشّريك؟ فألفوها فى البلد الفلانىّ- وتوصف وتحدّد- وتأمّلوها وأحاطوا بها علما وخبرة، فوجدوها قابلة لقسمة التعديل الموجبة لخير الشّريك وشهدوا أنّها تمكن قسمتها جزأين، أو تمكن قسمتها ثلاثة أجزاء، ومهما كان، على قدر ملك كلّ واحد من الشركاء، كلّ جزء مساو للجزء الآخر فى القيمة والانتفاع به؛ شهدوا بذلك بسؤال من جاز سؤاله، وسوّغت «2» الشريعة المطهّرة إجابته؛ ويؤرّخ، ويشهد فيه عند الحاكم. ثمّ يكتب إسجال الحاكم، وصورته: هذا ما أشهد على نفسه سيّدنا ومولانا قاضى القضاة فلان من حضر مجلس حكمه ومحلّ ولايته- وهو يومئذ نافذ القضايا والأحكام، ماضى النقض والإبرام- أنّه ثبت عنده وصحّ لديه بمحضر من متكلّم جائز كلامه، مسموعة دعواه على الوجه الشرعىّ، مضمون المحضرين المسطّرين باطنه: أحدهما- وهو الأوّل- مضمونه: أنّ فلان بن فلان المستشفع المدّعى مالك لجميع الحصّة التى مبلغها كذا وكذا سهما شائعا غير مقسوم فى «3» جميع الدّار الموصوفة المحدودة ملكا صحيحا شرعيّا، من وجه صحيح شرعىّ، وأنه متصرّف فى الحصّة المذكورة بالسكن والإسكان والإجارة والعمارة، وأنّها باقية على ملكه وفى يده وتصرّفه إلى الآن، لم تخرج عنه بتمليك «4» ، ولا بيع، ولا هبة، ولا إقرار، ولا صدقة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 78 ولا بوجه من وجوه الانتقالات كلّها، وأنّ الشهود الواضعى رسم شهادتهم آخر المحضر المذكور بالدّار المذكورة عارفون «1» فى صقعها ومكانها، وأنّ ملكه للحصّة سابق على ابتياع فلان المدّعى عليه الشراء المذكور للحصّة التى ابتاعها من شريك فلان المستشفع المشروح فى المحضر الأوّل، وأنّ متنجّز «2» المحضر قام فى طلب الحصّة المبيعة وأخذها من المشترى بالشّفعة على الفور، بحكم «3» أنّه مالك للحصّة المشهود له بها، وأنّ ملكه متقدّم على ابتياع الشفيع «4» المشترى؛ وقد أقام كلّ من الشهود شهادته بذلك عند الحاكم المذكور، على ما تضمّنه المحضر الأوّل المؤرّخ بكذا وكذا، وقبل ذلك منه القبول السائغ، وأعلم تحت رسم شهادته علامة الأداء والقبول على الرسم المعهود؛ والمحضر الثانى يتضمّن أنّ الدّار المذكورة قابلة للقسمة الموجبة لخير الشريك وأنّ القسمة تتهيّأ فيها على ما شرح فى «5» المحضر الثانى؛ وأقام كلّ من الشهود شهادته بذلك عند الحاكم المذكور، على ما تضمّنه المحضر الثانى المؤرّخ بكذا وكذا، وقبل ذلك منه القبول السائغ الشرعىّ، وسطّر ما جرت العادة به تحت رسم شهادته من علامة الأداء والقبول على الرسم المعهود فى مثله؛ فلمّا تكامل ذلك عنده وصحّ لديه- أحسن الله إليه- أشهد عليه بثبوت المحضرين المذكورين لديه على الوجه الشرعىّ؛ وحينئذ سأل فلان متنجّز «6» المحضرين المدّعى الحاكم المذكور الحكم بمقتضى ما ثبت الجزء: 9 ¦ الصفحة: 79 عنده، فأجابه إلى سؤاله، وأوجب الشّفعة المذكورة، وألزم الحاكم المشار اليه المدّعى بالقيام للمشترى «1» المدّعى عليه بالثمن الذى ابتاع به الحصّة من شريك المدّعى المذكور، وهو كذا وكذا، وحكم على فلان المشترى «2» المدّعى عليه بتسليم الحصّة التى ابتاعها من شريك المستشفع «3» - وهى كذا وكذا سهما- لفلان المدّعى متنجّز المحضرين المذكورين، بحكم ثبوتهما عنده؛ فحينئذ أشهد فلان المشترى الشفيع «4» عليه أنّه قبض من المستشفع «5» نظير الثمن الذى قام به للبائع «6» - وهو كذا وكذا- عن الحصّة التى ابتاعها، وصار بيده وقبضه وحوزه، وسلم للمدّعى المستشفع «7» المذكور الحصّة الثابت أخذها منه بالشّفعة- وهى كذا وكذا سهما- فتسلّمها منه، وصارت بيده وملكه وحوزه، ملكا من جملة أملاكه، ومالا من جملة أمواله، وأضافها الى ما يملكه من الدّار المذكورة من الحصّة المشهود له بها، فقد كمل له جميع الدّار المذكورة؛ وأقرّا بأنّهما عارفان بها المعرفة الشرعيّة؛ فلمّا تكامل ذلك كلّه سأله من جاز سؤاله الإشهاد على نفسه بذلك ... «8» ... وأبقى كلّ ذى حجّة على حجّته، وهو الجزء: 9 ¦ الصفحة: 80 فى ذلك كلّه نافذ القضاء والحكم ماضيهما، بعد تقدّم الدعوى المسموعة وما ترتّب عليها، وتقدّم «1» - أدام الله أيّامه- بكتابة هذا الإسجال، فكتب عن إذنه متضمّنا لذلك، وذلك بعد قراءة ما تضمّنه باطنا وظاهرا، وأشهد الشفيع «2» والمستشفع «3» عليهما بما نسب الى كلّ منهما فيه، وذلك بتاريخ كذا وكذا. وان كان بعض الثمن عروضا «4» ، والمشترى يعترف بأنّ المستشفع له حصّة فى الدّار، وأنّ الدّار قابلة للقسمة، ولم يعترف بقيمة العروض «5» ، وطلب منه الثّمن وتحليفه على ذلك، فردّ عليه الثّمن «6» وأخذ الحصّة بالشّفعة بعد التّرافع إلى الحاكم- فسبيل الكاتب أن يكتب ما مثاله: حضر الى شهوده فى يوم تاريخه من ذكر أنّه حضر الى مجلس الحكم العزيز بالجهة الفلانيّة عند سيّدنا القاضى فلان الحاكم بها، كلّ «7» واحد من فلان ابن فلان، وفلان بن فلان، وهو المشترى باطنه، وذكر فلان المبتدأ بذكره أنه يستحقّ أخذ الحصّة المبيعة بما طلب باطنه- ومبلغها كذا وكذا سهما من أربعة وعشرين سهما شائعا فى «8» جميع الدّار الموصوفة المحدودة باطنه، التى ابتاعها المثنّى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 81 بذكره من شريك المبتدإ بذكره فلان البائع باطنه- بحكم ما يجرى فى ملكه من الدّار المذكورة؛ وأنّه حين علم بابتياع المشترى للحصّة المعيّنة قام على الفور «1» فى طلب الشّفعة، وأحضر المشترى المذكور للحاكم المذكور، وادّعى عليه هذه الدّعوى وأنّ الدّار قابلة للقسمة، وأنّ قيمة العروض التى أخذها البائع باطنه كذا وكذا درهما وأنّه لم يكتم «2» قيمتها إلّا تحيّلا منه فى إقصاء «3» حقّه عن الشّفعة، وسأل سؤاله عن ذلك؛ فسأله الحاكم عن ذلك، فصدّق المدّعى [فى] «4» صحّة ما ادّعاه، وفى كلّ العروض «5» التى سلّمها للبائع المذكور باطنه، وأنّه ما يعلم قيمتها؛ فطلب يمينه على ذلك، فأبى أن يحلف، وردّ عليه اليمين، فأحلف الحاكم المدّعى على قيمة العروض، فحلف أنّ قيمتها كذا وكذا درهما، اليمين الشرعيّة المستوفاة، بمحضر من خصمه المذكور، وسأل المدّعى الحاكم المذكور الحكم له على خصمه بما يوجبه الشرع الشريف، فأجابه الى سؤاله وحكم له بوجوب الشّفعة على خصمه حكما صحيحا شرعيّا، وأوجب عليه القيام بنظير الثّمن، وهو كذا وكذا، وقيمة العروض، وهى كذا وكذا، وأوجب على المشترى تسليم الحصّة؛ فحينئذ أشهد المشترى المذكور على نفسه أنّه تسلّم نظير الثّمن، وهو كذا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 82 وكذا «1» ... وصار بيده وقبضه وحوزه؛ وأشهد المدّعى المستشفع «2» أنّه تسلّم من المشترى الشفيع «3» جميع الحصّة المعيّنة باطنه تسلّما شرعيّا، وصارت بيده وقبضه وحوزه وملكه، وذلك بعد النظر والمعرفة؛ فقد كمل للمدّعى المستشفع «4» بما فى ملكه متقدّما وبهذه الحصّة ملك جميع الدّار المذكورة؛ ويؤرّخ. فى استشفاع الأب لابنه «5» المحجور عليه، وكذلك الوصىّ وأمين الحكم، مع تصديق المشترى له على دعواه، يكتب ما مثاله: أقرّ كلّ واحد من فلان- وهو كافل ولده فلان المراهق، أو الطفل الذى تحت حجره وكفالته وولاية نظره-، وفلان- وهو المشترى المذكور باطنه- عند شهوده طوعا بأنّ فلانا المبتدأ بذكره كافل ولده المذكور اجتمع بفلان المثنّى بذكره، وأعلمه بأنّ فى ملك ولده لصلبه فلان المذكور جميع الحصّة التى مبلغها كذا وكذا سهما من أربعة وعشرين سهما شائعا فى جميع الدّار المذكورة ... «6» بحكم تقدّم ملك ولده الجزء: 9 ¦ الصفحة: 83 للحصّة المذكورة التى فى يد والده المذكور، وبحكم أنّ الدّار قابلة للقسمة وأنّ الثّمن الذى قام به المشترى المذكور للبائع المذكور «1» هو ثمن المثل يومئذ، وقيمة العدل، وأنّه قام فى طلبها على الفور، لما رأى لولده فى ذلك من الحظّ والمصلحة وأنّ المشترى صدّقه على جميع ذلك تصديقا شرعيّا، والتمس منه القيام بنظير ما كان دفعه ثمنا عن الحصّة، وهو كذا وكذا، وأنّه أجابه الى ذلك، وسلم له من مال ولده فلان نظير الثّمن المذكور، وهو كذا وكذا، فقبض ذلك منه، وتسلّمه، وسلم المشترى المذكور له الحصّة المذكورة بحقّ الاستشفاع «2» ، فتسلّمها منه، وصارت بيده وقبضه وحوزه، ملكا لولده فلان، وأضافها الى ما فى يده من الحصّة الجارية فى ملك ولده؛ وبحكم ذلك كمل لولده المذكور جميع الدّار المذكورة باطنه؛ وأقرّا بأنّهما عارفان بها المعرفة الشرعيّة؛ [ويؤرّخ] . وأما السّلم «3» والمقايلة «4» فيه - فاذا أسلم رجل لرجل ثمنا فى قمح أو حبوب «5» أو غير ذلك كتب ما مثاله: أقرّ فلان عند شهوده بأنّه أسلم الى فلان من الدراهم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 84 كذا وكذا، وسلّمها له، فتسلّمها منه فى مجلس العقد، وصارت بيده وقبضه وحوزه على حكم السّلم الشرعىّ فى كذا وكذا- ويعيّن ذلك ويصفه- يقوم له بذلك فى التاريخ الفلانىّ، محمولا الى المكان الفلانىّ، أو موضوعا بالمكان الفلانىّ؛ تعاقدا أحكام هذا السّلم بينهما معاقدة صحيحة شرعيّة بالإيجاب والقبول، ثم تفرّقا من مجلس العقد بالأبدان عن تراض؛ ويؤرّخ. فإن تقايلا فى السّلم كتب ما مثاله: أقرّ كلّ واحد من فلان [المسلم] «1» وفلان المسلم اليه بأنّهما تقايلا أحكام السّلم الذى كانا تعاقدا عليه بينهما باطنه مقايلة صحيحة شرعيّة، وفسخا أحكامه فسخا شرعيّا، وسلم فلان المسلم اليه لفلان المسلم المبلغ المذكور باطنه، وهو كذا وكذا، فتسلّمه منه، وصار بيده وقبضه وحوزه، ولم يبق لكلّ منهما قبل الآخر حقّ من الحقوق الشرعيّة بسبب السّلم المذكور، ولا بسبب شىء منه، وتصادقا على ذلك؛ ويؤرّخ. وأما القسمة والمناصفة «2» - فاذا كان بين شريكين دار، وحصل الاتّفاق بينهما على قسمتها، فالذى يكتب فى ذلك: أقرّ كلّ واحد من فلان وفلان بأنّ لهما وفى ملكهما وتصرّفهما بالسوية بينهما- لا مزيّة لأحدهما على الآخر- جميع الدّار الفلانيّة- وتوصف وتحدّد- ملكا صحيحا شرعيّا؛ وأنّ ملكهما لذلك سابق لهذا الإقرار ومتقدّم عليه؛ وأنهما عارفان بها المعرفة الشرعيّة، وأنّ يديهما فيها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 85 متصرّفتان تصرّف الملّاك فى أملاكهم، وذوى الحقوق فى حقوقهم، من غير مانع ولا معترض، ولا رافع ليد بسبب من الأسباب، وتصادقا على ذلك كلّه تصادقا «1» شرعيّا؛ وأنّهما فى يوم تاريخه اتّفقا وتراضيا على قسمة ذلك جزءين: قبليّا، وبحريّا، صفة القبلىّ كذا- ويحدّد- وصفة البحرىّ كذا- ويحدّد-؛ ثم بعد تمام ذلك اشترى فلان من شريكه فلان جميع النّصف الشائع فى جميع الجزء القبلىّ، وكمّل لفلان جميع الجزء البحرىّ؛ وتصادقا على ذلك تصادقا «2» شرعيّا؛ ويؤرّخ. وإن كانا أحضرا رجلين من المهندسين كتب فى ذيل المكاتبة: وذلك كلّه بعد أن أحضرا رجلين من أهل الهندسة والخبرة بمساحة الأراضى وذرعها وقسمتها، والآدر «3» وقيمتها- وهما فلان وفلان- الى الموضع المذكور وشاهداه، وأحاطا به علما وخبرة، وقسماه بينهما جزأين، لا مزيّة لأحدهما على الآخر؛ وأنّهما اتّفقا وتراضيا على ذلك، ورضيا قولهما، وأمضيا فعلهما. وإن كان بينهما قرعة كتب ما مثاله: وذلك كلّه بعد قرعة شرعيّة رضيا بها وحصل الاتّفاق على ما ذكر أعلاه. وإن كان بينهما حوانيت واقتسماها بالتعديل على القرعة كتب ما مثاله: أقرّ كلّ واحد من فلان وفلان بأنّ لهما بالسويّة بينهما جميع الحوانيت- ويذكر عددها وصفتها وتحديدها نحو ما تقدّم- وأنّهما فى يوم تاريخه رغبا فى قسمتها بينهما بالتعديل والقرعة الشرعيّة، وأحضرا رجلين من أهل الهندسة والخبرة بالأراضى وذرعها وقيمة العقار وقسمته- وهما فلان وفلان- الى الحوانيت الجزء: 9 ¦ الصفحة: 86 المذكورة، وشاهداها، وأحاطا بها علما وخبرة، وقسماها بينهما قسمة عادلة شرعيّة بالذّرع والقيمة والمنفعة، وأقرعا «1» بينهما فى ذلك قرعة شرعيّة، جائزة مرضيّة؛ فكان الذى حصل لفلان المبتدإ بذكره جميع الحوانيت- وتعدّ وتوصف وتحدّد- التى قيمتها كذا وكذا، الجميع حقّه وحصّته من جملة الحوانيت المذكورة؛ والذى حصل لفلان المثنّى بذكره جميع الحوانيت- ويذكر فيها ما تقدّم-؛ وسلم كلّ واحد منهما للآخر ما وجب عليه تسليمه، وصار بيده وقبضه وحوزه؛ وأقرّا بأنّهما عارفان بذلك المعرفة الشرعيّة؛ تعاقدا «2» أحكام هذه القسمة بينهما معاقدة صحيحة شرعيّة شفاها بالإيجاب والقبول، ثم تفرّقا بالأبدان عن تراض؛ وأقرّ كلّ واحد منهما بأنّه لا حقّ له ولا طلب فيما صار لصاحبه مما ذكر أعلاه بوجه من الوجوه الشرعيّة على اختلافها؛ وتصادقا على ذلك، ورضى كلّ منهما بهذه القسمة واعترفا بأنّ الذى قوّم به كلّ موضع قيمة المثل يومئذ لا حيف فيها ولا شطط. فى صفة ميراث «3» - يكتب ما مثاله: أقرّ كلّ واحد من فلان وفلان وفلان الإخوة أولاد فلان بأنّ والدهم المذكور توفّى ولم يخلّف من الورثة سواهم، وأنهم مستحقّون لميراثه، مستوعبون لجميعه، بغير شريك لهم فى ميراثه، ولا حاجب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 87 يحجبهم عنه [بوجه] «1» ولا سبب، وترك لهم موروثا عنه جميع الدّار الفلانيّة- وتوصف وتحدّد-؛ فلمّا كان فى يوم تاريخه تداعوا إلى قسمة ذلك، فقسم بينهم على الوجه الشرعىّ، فتميّز لكلّ واحد منهم الثلث شائعا فيها، ووضع كلّ واحد منهم يده على ما تميّز له منها بهذا الإرث وضعا تامّا، وعرفه وعرف مقداره، وصار بيده وتصرّفه وملكه وحوزه بالإرث الشرعىّ المشروح أعلاه، يتصرّف كلّ منهم فيما صار إليه تصرّف الملّاك فى أملاكهم، وذوى الحقوق فى حقوقهم، من غير مانع، ولا دافع، ولا رافع ليد، ولا معترض بوجه ولا سبب؛ وأقرّوا بأنّهم عارفون بالدّار المذكورة المعرفة الشرعيّة، ونظروها، وأحاطوا بها علما وخبرة، وتصادقوا على ذلك كلّه، وقبل كلّ منهم هذا الإقرار لنفسه من «2» الآخر قبولا شرعيّا؛ والله مع المتّقين. وأما الأجائر - فإذا استأجر رجل من رجل دارا كتب ما مثاله: استأجر فلان من فلان جميع الدّار الجارية فى يده وملكه وتصرّفه، على ما ذكر وصدّقه المستأجر على ذلك، إن صدّقه. وإن كانت الدار وقفا عليه كتب: الجارية فى يده وتصرّفه وقفا عليه تناهت «3» منافعها إليه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 88 وإن كانت فى عقد إجارته نبّه على ذلك، فيكتب: الجارية فى يده وتصرّفه وعقد إجارته بالإيجار الشرعىّ من فلان. وإن كان يؤجر عن موكّله كتب: الجارية فى يده وتصرّفه ملكا لموكّله فلان، وله إيجارها، وقبض أجرتها عنه بطريق الوكالة الشرعيّة التى بيده. وإن كانت حصّة من دار كتب: جميع الحصّة التى مبلغها كذا وكذا من جميع الدّار وهى بالمكان الفلانىّ- وتوصف وتحدّد- لينتفع بها فى السكن والإسكان، ووقود النيران- إن أذن له فى ذلك- لمدّة كذا وكذا، أوّل ذلك يوم تاريخه، أو اليوم الفلانىّ من الأشهر الماضية «1» ، بأجرة مبلغها فى كلّ شهر من شهورها كذا وكذا قسط كلّ شهر فى سلخه، أو مستهلّه؛ وتسلّم ما استأجره بعد النظر والمعرفة والمعاقدة الشرعية، والتفرّق بالأبدان عن تراض؛ ويؤرّخ. وإن استأجر مدّة كلّ يوم بعض النهار بأجرة حالّة مقبوضة أو أبرأه منها كتب ما مثاله: استأجر فلان من فلان جميع الحانوت- ويوصف ويحدّد كما تقدّم- لمدّة سنة كاملة، أو أقلّ أو أكثر، لينتفع بذلك فى السكن والإسكان طول المدّة فى كلّ يوم من أوّل النهار إلى الوقت الفلانىّ منه، خلا بقيّة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 89 النّهار واللّيل، فإنّ منفعته باقية فى يد الآجر وتصرّفه، ينتفع بذلك كيف شاء، بأجرة مبلغها عن جميع هذه المدّة كذا وكذا حالّة، قبضها الآجر من المستأجر، وتسلّمها. وإن كان أبرأه منها كتب: حالّة، أبرأه الآجر منها براءة صحيحة شرعيّة، براءة إسقاط، قبلها منه؛ وتسلم ما استأجره بعد النّظر والرّضا والمعرفة والمعاقدة الشرعيّة. ان استأجر من رجل بماله فى ذمّته من الدّين كتب: ... لمدّة سنة كاملة، أوّلها يوم تاريخه، بما للمستأجر فى ذمّة الآجر من الدّين الحالّ الذى اعترف به عند شهوده، وهو كذا وكذا؛ وتسلّم ما استأجره؛ ويكمّل. فصل وإن استأجر من رجل دارا لمدّة، ثم استأجر مدّة ثانية قبل انقضاء المدّة الأولى كتب: ... لمدّة سنة كاملة مستأنفة «1» على مدّته الأولى، أوّلها اليوم الفلانىّ من الشهر الفلانىّ، بحكم أنّ الدّار مستأجرة معه على «2» [مدّة] «3» معلومة آخرها اليوم الفلانىّ، وقد استؤنفت هذه المدّة الثانية زيادة على تلك المدّة الأولى إجارة صحيحة شرعيّة، بأجرة مبلغها كذا وكذا؛ [تعاقدا على ذلك] «4» معاقدة شرعيّة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 90 شفاها بالإيجاب والقبول؛ واعترف المستأجر بأنّ الدّار المذكورة فى يده وتصرّفه وأنّه عارف بها المعرفة الشرعيّة. فصل وإن استأجر بأجرة حالّة ثم قاصّه «1» المستأجر بماله فى ذمّته كتب: ... بأجرة مبلغها عن جميع المدّة كذا وكذا حالّة- ويكمّل الإجارة-؛ ثمّ بعد ذلك قاصّ «2» المستأجر المذكور الآجر المذكور بماله فى ذمّته من الدّين الذى اعترف به عند شهوده- وهو نظير الأجرة المذكورة فى القدر والجنس والصّفة والحلول- مقاصّة «3» شرعيّة، قبل كلّ منهما ذلك لنفسه قبولا شرعيّا؛ ولم تبق لكلّ منهما مطالبة قبل الآخر بسبب دين ولا أجرة ولا حقّ من الحقوق الشرعيّة كلّها. وإن استأجر جماعة من رجل أرضا لبناء «4» وغيره كتب ما مثاله: استأجر فلان وفلان وفلان من فلان جميع قطعة الأرض الطين السواد، الجارية فى يد المؤجر «5» وملكه، وهى بالمكان الفلانىّ، ومساحتها كذا وكذا قصبة بالقصبة الحاكميّة «6» ، وذرعها كذا وكذا ذراعا بذراع العمل «7» ، ليبنوا عليها ما أرادوا بناءه، ويحفروا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 91 فيها ما أرادوا حفره: من الآبار المعينة «1» وآبار السّراب «2» والقنىّ والمجارى، ويعلّوا ما أرادوا تعليته، ويزرعوا ويغرسوا ما أحبّوا زراعته وغرسه، وينتفعوا بها كيف شاءوا على الوجه الشرعىّ، لمدّة ثلاثين سنة كوامل، أوّلها يوم تاريخه؛ ويكمل. وإن كان كلّ منهم يقوم بما عليه برهن على «3» ذلك، وكذلك إن تضامنوا. وإن استأجر وكيل دارا لموكله [من جماعة] «4» كتب: استأجر فلان لموكّله فلان بإذنه وتوكيله إيّاه فى استئجار ما يذكر فيه بالأجرة التى تعيّن فيه للمدّة التى تذكر فيه، وفى تسلّم ما استأجره له، التوكيل الشرعىّ، على ما ذكر، أو على ما تشهد به الوكالة التى بيده؛ من فلان وفلان وفلان جميع الدّار الكاملة، الجارية فى ملكهم ويهم وتصرّفهم بالسويّة، أو بقدر حصصهم- وتوصف وتحدّد وتذكر المدّة والأجرة- ما هو لفلان عن أجرة حصّته كذا، وما هو لفلان كذا، [وما هو لفلان «5» كذا] ؛ وتسلّم ما استأجره لموكّله بعد النظر والمعرفة والمعاقدة الشرعيّة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 92 وإن آجر رجل دارا عن موكّله كتب: استأجر [فلان] «1» من فلان القائم فى إيجار ما يذكر فيه عن موكّله فلان، بالأجرة التى تعيّن فيه، للمدّة التى تذكر فيه؛ وفى تسليم ما يؤجر لمستأجره، حسب ما تشهد به الوكالة التى بيده؛ استأجر منه بقضيّة ذلك وحكمه جميع ... ويكمّل؛ والله أعلم بالصواب. فصل فى معاقدة حمولة «2» عاقد فلان بن فلان السّيروان «3» فلانا على حمله وحمل محارمه وزاده «4» - وهو كذا وكذا رطلا- من البلد الفلانىّ الى البلد الفلانىّ، على ظهر جماله التى بيده وتصرّفه، بما مبلغه كذا وكذا، قبضه منه؛ تعاقدا معاقدة شرعيّة بعد النظر والمعرفة والإحاطة بذلك علما وخبرة، وعليه الشروع فى ذلك من يوم كذا وكذا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 93 فصل وإن استأجر دارا بدار كتب: استأجر فلان من فلان جميع الدار الفلانيّة الجارية فى يد الآجر، لمدّة كذا وكذا، بجميع الدّار الجارية فى يد المستأجر- ويحدّد كلّا منهما- وتسلّم كلّ منهما ما وجب له تسلّمه من الآخر «1» تسلّما شرعيّا وصار بيده، وذلك بعد النظر والمعرفة والمعاقدة الشرعيّة؛ ويؤرّخ. فصل وإن استأجر مركبا كتب طولها ومحملها وعدّتها ... «2» لينتفع بها فى حمل الغلال والرّكبان، فى البحر الفلانىّ؛ وإن كان فى بحر النيل قال: «مصعدا «3» ومنحدرا» ؛ ويكمّل كما تقدّم. فصل وإن استأجر بغلا أو حمارا كتب: ... «4» جميع «5» الحمار، لينتفع به فى حمله وحمل قماشه «6» من المكان الفلانىّ الى المكان الفلانىّ، أو فى حمل ما يختاره من القماش «7» والأثاث، ونقل الحواصل على ظهره على قدر طاقته، لمدّة كذا وكذا؛ ويكمّل. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 94 فصل إذا أجر رجل عبده أو ولده كتب: أجر فلان ولده لصلبه فلانا المراهق الذى تحت حجره وولاية نظره، لفلان، ليعمل عنده فى صناعة كذا فى حانوته بالمكان الفلانىّ، لمدّة كذا، بأجرة مبلغها فى كلّ يوم كذا من استقبال تاريخه؛ تعاقدا [على] ذلك معاقدة شرعيّة بالإيجاب والقبول والتسليم الشرعىّ. وان أجر نفسه كتب: أجر فلان نفسه لفلان، ليعمل عنده فى صناعة كذا؛ ويكمّل. فصل وإن أجرت امرأة نفسها لمطلّقها كتب: أجرت فلانة نفسها لمطلّقها الطلقة الأولى- أو مهما كان من عدد الطلاق- فلان، فى رضاع «1» ابنها منه وحضانته وغسل خرقه، وتسريح رأسه، والقيام بمصالحه فى منزلها بالمكان الفلانىّ لمدّة كذا؛ ويكمّل؛ والله أعلم بالصواب. وإذا أجر رجل دارا على ولده الطفل أو أجر الوصىّ أو أمين الحكم كتب: استأجر فلان من فلان القائم فى إيجار ما يذكر فيه على ولده لصلبه فلان الطفل الذى هو تحت حجره وكفالته، لما رأى له فى ذلك من الحظّ والمصلحة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 95 وإن كان الاجر الوصىّ كتب: القائم فى إيجار ذلك على فلان المحجور «1» عليه بطريق الوصيّة الشرعية التى بيده، وقبض الأجرة، وتسليم ما يأجره لمستأجره. وإن كان أمين الحكم هو الآجر كتب: القائم فى إيجار ما يذكر فيه على فلان المحجور عليه من قبل الحكم العزيز؛ فإن كان الحاكم أذن كتب: «وذلك بإذن من سيّدنا القاضى فلان الدّين له فى ذلك» ؛ جميع «2» الدّار؛ ويكمّل. وإن شهد بقيمة الأجرة شرحه «3» فى ذيل الإجارة. فصل وإن استأجر رجل لولده دارا أو الوصىّ أو أمين الحكم كتب ما مثاله: استأجر فلان لولده الذى تحت حجره وولاية نظره، لما رأى له فى ذلك من الحظّ والمصلحة. وإن كان الوصىّ فكما تقدّم؛ أو أمين الحكم فنحوه؛ ويذكر إذن الحاكم؛ والله أعلم. إذا استأجر الوصىّ من يحجّ عن الميّت كتب ما مثاله: أقرّ فلان ابن فلان بأنّه أجر نفسه لفلان وصىّ فلان المتوفّى الى رحمة الله تعالى، القائم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 96 فى معاقدته بالوصيّة الشرعيّة التى بيده، الثابتة بمجلس الحكم العزيز، لأن يحجّ بنفسه عن فلان الموصى المذكور حجّة الإسلام الواجبة عليه؛ وإن كانت غير واجبة كتب: «لأن يحجّ عنه حجّة تطوّع» على أن يتوجّه من المكان الفلانىّ فى عام تاريخه قاصدا لأداء حجّة الإسلام وعمرته فى «1» البحرين العذب والملح، أو فى «2» البحر الملح، أو فى «3» البرّ، ويحرم من الميقات «4» الذى يجب على مثله، فينوى حجّة مفردة كاملة، أو يدخل الى الحرم الشريف بمكّة- شرّفها الله تعالى- فينوى عنه الحجّة المذكورة كاملة بأركانها وواجباتها وشروطها وسننها ثمّ يعتمر عنه عمرة من ميقاتها مكمّلة فروضها على الأوضاع الشرعيّة؛ وهو بالخيار الجزء: 9 ¦ الصفحة: 97 إن شاء أفرد، وإن شاء أقرن «1» ؛ وينوى فى جميع أفعاله وقوع ذلك عن المتوفّى الموصى المذكور، وأجر ثوابه «2» له؛ ومتى وقع منه إخلال يلزمه فيه فداء، أو وجب عليه دم كان ذلك متعلّقا به وبماله، دون مال الموصى المتوفّى؛ المشروح جميع ذلك فى كتاب الوصيّة المذكورة؛ عاقده على ذلك معاقدة صحيحة شرعيّة بالأجرة المعيّنة أعلاه «3» وهى كذا وكذا، قبضها منه وتسلّمها، وصارت بيده وقبضه وحوزه، من مال الموصى المذكور الذى فرضه فى ذلك، وأذن فى تسليمه؛ وذلك بعد أن تبيّن أنّ الآجر المذكور حجّ عن نفسه الحجّة الواجبة عليه؛ ويؤرّخ. إذا استأجر رجل من وكيل بيت المال أرضا ليبنى عليها أو جدرا يعمد «4» عليها أو سطحا أو غير ذلك، كتب مشروحا، وأخذ فيه خطّ شهود القيمة والمهندسين، ثم يكتب الإجارة، ويشرح فى ذيلها المشروح؛ وإن كانت بتوقيع مثل توقيع المبايعة كتب فى آخر الإجارة مثل ما يكتب فى المبايعة وهو أن يقول: والسبب فى هذه الإجارة أنّ المستأجر المذكور رفع قصّة ... وتشرح. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 98 وصيغة المشروح: مشروح رفعه كلّ واحد من فلان وفلان المهندسين على العقار بقضيّة حال قطعة الأرض الآتى ذكرها وذرعها وتحديدها فيه، الجارية فى ديوان المواريث «1» الحشريّة- وتذرع وتحدّد- تأمّلاها «2» بالنظر، وأحاطا بها علما وخبرة؛ وقالا: إنّ الأجرة عنها لمن يرغب فى استئجارها لينتفع بها كيف شاء وأحبّ واختار على الوجه الشرعىّ، ويبنى عليها ما أحبّ بناءه، ويعلّى ما أراد تعليته ويحفر الآبار المعينة «3» وآبار السراب «4» والقنىّ، ويشقّ الأساسات «5» ، ويخرج الرّواشن «6» . وإن كان المؤجر سطوحا أو جدرا أو عقودا «7» كتب زنة ما يبنيه، وهو أن يقول: «فتكون زنة ما يبنيه ويعلّيه عليها كذا وكذا قنطارا» لمدّة ثلاثين سنة كوامل ما مبلغه «8» كذا وكذا، الحالّ من ذلك كذا، وباقى ذلك- وهو كذا- يقوم به منجّما فى سلخ كلّ سنة تمضى من تاريخه كذا؛ وقالا: إنّ ذلك أجرة المثل يومئذ، لا حيف فيها ولا شطط، ولا غبينة «9» ولا فرط «10» ، وإنّ الحظّ والمصلحة فى إيجار ذلك بهذه الأجرة، ويؤرّخ. ومن الكتّاب من يكتب أوّل المشروح ما صورته: لمّا رسم بعمل مشروح بقضيّة حال الموضع الآتى ذكره فيه، الجارى فى ديوان المواريث الحشريّة «11» ، امتثل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 99 المرسوم كلّ واحد من فلان وفلان المهندسين على العقار، وسارا الى الموضع المذكور، فألفياه بالمكان الفلانىّ؛ ويوصف ويحدّد؛ ويكمّل المشروح نحو ما تقدّم. ثمّ يكتب الإجارة، وصيغتها: استأجر فلان من القاضى فلان وكيل بيت المال المعمور، القائم فى إيجار ما يذكر فيه بأحكام الوكالة التى بيده، المفوّضة اليه من المقام الشريف، التى جعل له فيها إيجار ما هو جار فى أملاك بيت المال المعمور وغير ذلك، على ما نصّ وشرح فيها، وما مآله الى بيت المال المعمور بالقضايا الشرعيّة، الثابتة وكالته بمجلس الحكم، المتوجّة وكالته بالعلامة الشريفة، ومثالها كذا وكذا؛ استأجر منه بقضيّة ذلك وحكمه جميع قطعة الأرض التى لا بناء بها، أو الحاملة لبناء المستأجر، الآتى ذكرها وذرعها وتحديدها فيه، الجارية فى ديوان المواريث الحشريّة «1» ؛ أو جميع السّطح، أو الجدر، ليبنى على ذلك ما أحبّ وأراد بالطوب والطين والجير والجبس وآلة العمارة ما زنته كذا وكذا قنطارا- هذا يكون فى السّطح أو فى الجدار؛ وأمّا الأرض فلا- لمدّة كذا وكذا سنة، أوّلها يوم تاريخه، بأجرة مبلغها عن جميع هذه المدّة كذا وكذا، الحالّ من ذلك كذا وكذا بما فيه من المستظهر «2» [به] «3» وباقى ذلك- وهو كذا وكذا- يقوم به منجّما، فى سلخ كلّ سنة من استقبال تاريخه كذا وكذا؛ وتسلّم ما استأجره بعد النظر والمعرفة والمعاقدة الشرعيّة؛ وأقرّ المستأجر الجزء: 9 ¦ الصفحة: 100 بأنّ الأرض جارية فى ديوان المواريث «1» الحشريّة؛ وذلك بعد أن تنجّز «2» المستأجر المذكور مشروحا يتضمّن الإشهاد على كلّ واحد من فلان وفلان المهندسين على العقار بأنّهما سارا إلى ما ذكر أعلاه، وذكرا من الذّرع والتحديد ما وافق أعلاه، وقالا: «إنّ الأجرة فى ذلك عن كلّ سنة كذا وكذا» ؛ ويذكر ما تضمّنه المشروح، ورسم شهادة العدل فلان والعدل فلان بأنّ الأجرة المعيّنة فيه أجرة المثل يومئذ؛ ثم بعد تمام ذلك أحضر المستأجر من يده وصولات «3» بيت المال شاهدة له بحمل المال المذكور ونسخها كذا وكذا؛ فلمّا تكامل ذلك كلّه وقع «4» الإشهاد على القاضى فلان الآجر والمستأجر بما نسب الى كلّ واحد منهما فيه؛ ويؤرّخ «5» . وإن أجر نائب وكيل بيت المال المعمور أرضا فى ديوان الأحباس كتب ما مثاله: استأجر فلان من القاضى فلان النائب عن القاضى فلان وكيل بيت المال المعمور، القائم فى إيجار ما يذكر فيه عن مستنيبه المذكور بأحكام الوكالة التى بيد مستنيبه، المفوّضة اليه من المقام الشريف، التى لمستنيبه فيها إيجار ما هو جار فى أملاك بيت المال المعمور وأوقاف الأحباس المعمورة، وغير ذلك، على ما نصّ وشرح فيها، وما مآله الى بيت المال المعمور بالقضايا الشرعيّة، وأن يستنيب عنه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 101 فى ذلك من يراه، الثابتة وكالته فى مجلس الحكم العزيز الثبوت الصحيح الشرعىّ؛ ويشهد على وكيل بيت المال المعمور بالإذن لنائبه المذكور فى ذلك من يعيّنه فى رسم شهادته آخره؛ استأجر منه بقضيّة ذلك وحكمه جميع قطعة الأرض الآتى ذكرها وذرعها وتحديدها فيه، الجارية فى ديوان الأحباس المعمور، الذى صاحب الدّيوان «1» به يومئذ فلان، ومشارف «2» الأحكار به فلان، الاذن كلّ منهما للآجر فى الإيجار المذكور، يشهد عليهما بذلك شهوده؛ وهى بالمكان الفلانىّ؛ وتوصف وتحدّد ويكمّل الإجارة كما تقدّم. إذا كان بستانا فأجر الأرض وساقى «3» على الأنشاب «4» كتب ما مثاله: استأجر فلان من فلان جميع قطعة الأرض السواد، المتخلّلة بالأنشاب «5» الآتى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 102 ذكرها فيه، ومساحتها كذا وكذا فدانا بالقصبة الحاكميّة «1» ؛ الجارية الأرض المذكورة فى يده وعقد إجارته، أو فى ملكه، وجميع بناء البئر المعينة «2» والساقية المركّبة على فوّهتها، المكمّلة العدّة والآلة، الذى ذلك بالموضع الفلانىّ؛ وصفة الأنشاب «3» أنّها النخل والكرم والتين «4» والزيتون والرمّان، وغير ذلك، بحدود ذلك وحقوقه، خلا الأنشاب «5» ومواضع مغارسها، فإنّها خارجة عن عقد هذه الإجارة، لمدّة ... ؛ ويكمّل كما تقدّم. وأما المساقاة - فإنّه إن كتبها فى ذيل الإجارة كتب ما مثاله: ثمّ بعد ذلك ساقى الآجر المستأجر ... ويكمّل. وإن لم يكتبها فى ذيلها كتب ما مثاله: ساقى فلان مالك الأنشاب «6» الآتى ذكرها فيه فلان بن فلان على الأنشاب «7» القائمة فى الأرض الآتى ذكرها فيه، الجارى ذلك فى يد فلان المبتدإ بذكره، وهى الأرض التى بالموضع الفلانىّ، ومساحتها كذا وكذا فدانا بالقصبة الحاكميّة «8» ؛ وصفة الأنشاب «9» المساقى عليها أنّها النخل والكرم وكذا وكذا، بحسب ما يكون؛ ويحيط بذلك حدود أربعة- وتذكر- مساقاة صحيحة شرعيّة جائزة نافذة، لمدّة سنة كاملة، أوّلها يوم تاريخه، على أن يتولّى سقى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 103 ذلك وتنظيفه وتأبيره «1» وغرسه وإصلاحه بنفسه، وبمن يستعين به؛ ومهما أطلعه الله تعالى من ثمر كان مقسوما بينهما على ألف جزء، جزء واحد لفلان «2» المبتدإ بذكره مالك الأنشاب، وباقى «الأجزاء» «3» لفلان المثنّى بذكره المساقى؛ وذلك بعد إخراج المؤن والكلف وحقّ الله تعالى إن وجب؛ تعاقدا على ذلك معاقدة شرعيّة، وسلم فلان المالك لفلان المساقى جميع الأنشاب المذكورة، فتسلّمها منه للعمل عليها، وصارت بيده وحوزه، وذلك بعد النظر والمعرفة، والإحاطة بجميع ذلك علما وخبرة. وفى المساقاة على اللّيف والسّعف والكرناف «4» خلاف: فإن كان يعدّ من الثمرة جاز «5» ، وإن لم يعدّ منها لم يجز. وأما الوصايا والشهادة على الكوافل بالقبوض «6» وما يلتحق «7» بذلك فاذا أوصى رجل رجلا كتب ما مثاله: هذا كتاب وصيّة اكتتبه فلان، حذرا من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 104 هجوم الموت عليه» ، وعملا بالسنّة النبويّة، وامتثالا لأمر «2» رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الندب إلى الوصيّة؛ وأشهد على نفسه فى حال عقله، وتوعّك «3» جسمه، وحضور حسّه، وثبوت فهمه، وجواز أمره؛ وهو عالم بأركان الإسلام، عارف بالحلال والحرام؛ متمسّك بكتاب الله وسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ عالم بالموت وحقيقته والقبر ومسألته؛ متيقّن بالبعث والنشور، والصّراط والعبور؛ والجنّة والنّار، والخلود والاستقرار، غير محتاج الى تعليم ولا تكرار؛ أنّ الذين له من الورثة المستحقّين لميراثه «4» المستوعبين لجميعه: زوجته فلانة بنة فلان، التى لم تزل فى عصمته وعقد نكاحه إلى الآن؛ وأولاده منها، وهم فلان وفلان [وفلان] ، بغير شريك لهم فى ميراثه ولا حاجب يحجبهم عن استكماله؛ وأشهد على نفسه أنّ الذى عليه لزوجته كذا وكذا ولفلان كذا وكذا، وأنّ ذلك باق فى ذمّته إلى الآن؛ وأنّ الذى له من الدّين على فلان كذا وكذا، وعلى فلان كذا وكذا، وأنّ ذلك باق فى ذمّتهما إلى الآن، وأنّ الجارى فى ملكه كذا وكذا- ويعيّن ماله إن كان-؛ وأشهد على نفسه أنّه دبّر «5» مملوكه فلانا تدبيرا «6» صحيحا شرعيّا، وقال له: «أنت حرّ بعد موتى، تخرج من ثلث مالى المفسوح لى فى إخراجه» ؛ وأشهد على نفسه أنّه أوصى فلان بن فلان، وجعل له أنه اذا نزل به حادث الموت الذى كتبه الله على خلقه، وساوى فيه بين بريّته، يحتاط على جميع موجوده، ويقبضه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 105 ويحرزه تحت يده، ثم يبدأ من ثلث ماله بتجهيزه وتغسيله وتكفينه ومواراته فى قبره بمن «1» يراه أهلا لذلك على الأوضاع الشرعيّة، والسنّة النبويّة؛ ثم يسارع الى قضاء ديونه الواجبة عليه، وإبراء ذمّته؛ ثم يفرز من ثلث ماله كذا وكذا، ليستأجر به رجلا مشهورا بالخير والصلاح، عارفا بأداء الحجّ، ممن حجّ عن نفسه، ليحجّ عنه، على أن ينشئ السفر من البلد الفلانىّ فى البرّ والبحر على ما يراه، بنيّة الحجّ عن هذا الموصى المذكور، فيحرم من الميقات «2» الواجب عليه فى طريقه، ويؤدّى عنه حجّة الإسلام وعمرته الواجبتين عليه شرعا، مكمّلتين بأركانهما وشروطهما وواجباتهما وسننهما على الأوضاع الشرعيّة، والسّنن المرضيّة، وينوى فى جميع أفعاله وقوع ذلك عن الموصى المذكور؛ وللوصىّ الناظر أن يسلّم اليه المبلغ المذكور فى ابتداء سفره، ليكون عونا له على هذه العبادة؛ وعلى المؤجر أن يشهد على نفسه بأداء ذلك عن الموصى ليثبت علمه عند الوصىّ المذكور؛ كلّ ذلك من رأس ماله؛ ثم يبيع ما يرى بيعه، ويقبض ثمنه، ويستخلص ماله من دين على أربابه، ويحرّر جميع ذلك؛ ثم يعود فيفرّق من ثلث ماله المفسوح له فى إخراجه، فيقوّم العبد المذكور ويخرج قيمته من ثلث ماله ويثبت عتقه؛ وإن تصدّق بشىء يذكره فى هذا الموضع، وهو أن يقول: «ثمّ يخرج لفلان كذا، ولفلان كذا، ويقف عنه الموضع الفلانىّ» - كلّ ذلك على ما يعيّنه «3» -؛ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 106 ثم يقسم ثلثى المال وما يفضل من الثلث المفسوح له فى إخراجه على ورثته بالفريضة الشرعيّة، فيسلّم البالغ الرشيد حصّته، ويبقى تحت يده للمحجور عليهم ما يتعيّن لهم من نقد وعروض «1» وعقار وغير ذلك، فيصرف لهم وعليهم على النظر والاحتياط إلى حين بلوغهم وإيناس رشدهم، وينفق عليهم بالمعروف، ويصرف عليهم ما تدعو الحاجة إلى صرفه؛ فمن بلغ منهم أشدّه، وآنس الناظر عليه منه صلاحه ورشده، سلّم إليه ما عساه يبقى له تحت يده من ذلك، ويشهد عليه بقبضه؛ أوصى بجميع ذلك وصيّة صحيحة شرعيّة ثابتة فى حياته، معمولا بها بعد وفاته، أقامه فيها مقام نفسه، لعلمه بدينه وعدالته وأمانته، وله أن يستنيب عنه فى ذلك من يراه؛ فإن تعذّر تصرّف فلان الوصىّ كان الوصىّ فى ذلك فلانا، فإن تعذّر كان لحاكم «2» المسلمين بالمكان الفلانىّ. اذا عزل الموصى وصيّه بغيره كتب: هذا ما أشهد عليه فلان أنّه عزل وصيّه فلانا عن وصيّته التى كان وصّاه بها عزلا شرعيّا، ورجع عنها؛ وأشهد عليه أنّه أسند وصيّته إلى فلان، وجعله وصيّا، وأقامه مقام نفسه؛ ويؤرّخ. فصل اذا كلّف الحاكم الوصىّ بإثبات أهليّته كتب على ظهر الوصيّة ما مثاله: شهد الشهود الواضعو خطوطهم آخر هذا المحضر- وهم من أهل الخبرة الباطنة «3» بما شهدوا به- أنّهم يعرفون فلانا الوصىّ المذكور باطنه معرفة صحيحة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 107 شرعيّة؛ ويشهدون أنّه أهل لما فوّضه إليه فلان الموصى باطنه المتوفّى الى رحمة الله تعالى من الوصيّة المشروحة باطنه، وأنّه كاف «1» للتصرّف، عدل لهم وعليهم؛ يعلمون ذلك ويشهدون به بسؤال من جاز سؤاله. فصل فى إسجال الوصيّة ومحضر الوصىّ يكتب على ظهر الوصيّة: هذا ما أشهد عليه سيّدنا القاضى فلان الحاكم بالعمل «2» الفلانىّ على نفسه الكريمة من حضر مجلس حكمه وقضائه [أنه ثبت عنده «3» وصحّ لديه] بعد صدور دعوى محرّرة، مقابلة بالإنكار على الوضع الشرعىّ، بشهادة من أعلم تحت رسم شهادته علامة الأداء، مضمون الوصيّة- ويذكر تاريخها- وبآخرها رسم شهادة العدلين المذكورين؛ وقال كلّ واحد من هذين العدلين: إنه شهد على الموصى والوصىّ بما نسب الى كلّ منهما فيه، وهو بهما عارف، وإنّ الموصى توفّى الى رحمة الله تعالى فى اليوم الفلانىّ، وما علم مغيّرا لشهادته الى أن أقامها عند الحاكم بشروط الأداء المعتبرة؛ وأعلم تحت رسم شهادة «4» كل منهما علامة الأداء والتعريف الجزء: 9 ¦ الصفحة: 108 على الرسم المعهود بما رأى معه قبول شهادتهما؛ وأشهد عليه أيضا أنّه ثبت عنده وصحّ لديه، بعد صدور دعوى محرّرة، مقابلة بالإنكار على الوضع المعتبر الشرعىّ بشهادة عدلين، هما فلان وفلان- عرفهما فقبل شهادتهما بما رأى معه قبولها- جميع ما تضمّنه المحضر المكتتب فى ذيل هذه الوصيّة- ويذكر مضمونه وتاريخه- وبآخره رسم شهادة الشاهدين المذكورين؛ وقال كلّ منهما: إنه بما شهد عالم وبفلان الوصىّ المذكور عارف، وما علم مغيّرا لشهادته إلى أن أقامها بشروط الأداء؛ وأعلم تحت رسم شهادة كلّ منهما علامة الأداء والتعريف على الرسم المعهود فى مثله؛ فلمّا تكامل ذلك كلّه سأله من جازت مسألته، وسوّغت الشريعة إجابته الإشهاد على نفسه الكريمة بثبوت ذلك لديه، والحكم به، فأجابه إلى سؤاله، وأشهد عليه بثبوت ذلك عنده على الوجه الشرعىّ، وأطلق يد الوصىّ فى تنفيذ الوصيّة المذكورة باطنه على الوجه المشروح فيها، وحكم بذلك وأمضاه، ونفّذه وارتضاه وهو فى ذلك كلّه نافذ القضاء والحكم ماضيهما، وأبقى كلّ ذى حجّة معتبرة فيه على حجّته، وذلك بعد تقدّم الدعوى المسموعة وما ترتّب عليها بتاريخ كذا وكذا. فصل إذا قبضت الكافلة نفقة ولدها كتب: أقرّت فلانة المرأة الكاملة ابنة فلان، كافلة ولدها فلان بن فلان الطفل، عند شهوده، بأنها قبضت وتسلّمت من فلان وصىّ زوجها فلان المذكور والد ولدها كذا وكذا، وذلك عوضا عن نفقة ولدها لبطنها المذكور، لمدّة كذا وكذا شهرا، آخرها يوم تاريخه؛ وصار ذلك بيدها وقبضها وحوزها، من مال الموصى المذكور؛ ويؤرّخ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 109 فصل إذا خلف الموصى زوجة مشتملة على حمل، فوضعت وأراد الوصىّ إثبات ذلك كتب: شهد من أثبت اسمه آخره من الرجال الأحرار المسلمين، شهدوا شهادة لا يشكّون فيها ولا يرتابون، أنّ فلانة وضعت الحمل الذى كانت مشتملة عليه من زوجها فلان المتوفّى الى رحمة الله تعالى ولدا ذكرا- واسمه فلان- فى اليوم الفلانىّ، وهو فى قيد الحياة الى الآن، وهم بها وبولدها عارفون؛ ولمّا سألهم من جاز سؤاله أجابوا سؤاله. وأما العتق والتدبير وتعليق العتق - فإذا أعتق السيّد عبده كتب: هذا ما أشهد عليه فلان أنّه أعتق فى يوم تاريخه أو قبل تاريخه مملوكه فلانا المقرّ له بالرّقّ والعبودية، المدعوّ «1» فلانا، الفلانىّ الجنس، المسلم؛ وإن كان دون البلوغ كتب: «مملوكه المراهق، الماسك بيده عند شهوده المدعوّ فلانا» - ويذكر حلاه- عتقا صحيحا شرعيّا منجّزا، لوجه الله الكريم وطلب ثوابه العميم، يوم يجزى الله المتصدّقين، ولا يضيع أجر المحسنين، ولقول النبى صلى الله عليه وسلم: «من أعتق رقبة «2» مؤمنة أعتق الله بكلّ عضو منها عضوا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 110 منه «1» حتى الفرج بالفرج» صار [به] «2» فلان حرّا من أحرار المسلمين، لا سبيل لاحد عليه إلّا سبيل الولاء الشرعىّ، فإنه لمعتقه، ولمن يستحقّه من بعده. فإن أعتق نصف عبد وهو موسر كتب: أعتق جميع النصف من جميع العبد المقرّ له بالرّقّ والعبوديّة؛ ويكمّل العتق، ثم يكتب: «وأقرّ المعتق بأنه فى يوم تاريخه موسر بقيمة النصف الثانى» ؛ ويؤرّخ. ثمّ يكتب خلف العتق تقويم حصّة الشريك وتكملة العتق، ومثال ما يكتب: أقرّ فلان بأن شريكه فلانا أعتق ما يملكه من العبد المذكور باطنه، وهو النصف وهو موسر، وأنّهما أحضرا رجلين خبيرين بقيمة الرقيق، وهما فلان وفلان، وقوّما النصف من العبد المذكور يوم العتق بكذا وكذا، وأنّهما رضيا قولهما، وعلما أنّها قيمة المثل يوم ذاك، وأنّ فلانا المعتق دفع ذلك لشريكه، فقبضه منه وتسلّمه؛ وبحكم ذلك عتق النصف الثانى من العبد على فلان عتقا شرعيّا، وصار العبد بكماله حرّا من أحرار المسلمين، لا سبيل لأحد عليه إلّا سبيل الولاء الشرعىّ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 111 فصل اذا علّق رجل عتق عبده على موته ليخرج من رأس ماله كتب: أقرّ فلان بأنّه علّق عتق عبده فلان على موته فى آخر يوم من أيام حياته «1» المتقدّم على وفاته، لاستكمال عتق عبده المذكور من رأس ماله؛ تلفّظ بذلك بتاريخ كذا. فصل اذا دبّر «2» رجل عبده كتب ما مثاله: دبّر «3» فلان مملوكه فلانا، الفلانىّ الجنس، المقرّ له بالرّقّ والعبوديّة، تدبيرا «4» صحيحا شرعيّا، وقال له: «متى متّ فأنت حرّ بعد موتى، تخرج من ثلث مالى المفسوح لى فى إخراجه» ؛ فبحكم ذلك صار حكمه حكم المدبّر؛ ويؤرّخ. فإن أقرّ الورثة بخروج المدبّر من ثلث المال الموروث، أو أقرّ الوصىّ بذلك كتب ما مثاله: أقرّ فلان وفلان [وفلان] «5» أولاد فلان بأنّ العبد المسمّى باطنه الذى كان والدهم دبّره تدبيرا شرعيّا، قوّمه أهل الخبرة والمعرفة بقيمة الرقيق، فكانت قيمته كذا وكذا، وأنّها قيمة عادلة يكمل خروجها من ثلث مال متوفّاهم؛ وبحكم ذلك صار العبد حرّا من أحرار المسلمين، لا سبيل لأحد عليه إلّا سبيل الولاء الشرعىّ؛ ويؤرّخ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 112 وأما الكتابة «1» - فإذا كاتب رجل عبده كتب ما مثاله: كاتب فلان مملوكه الذى بيده وملكه، المقرّ له بالرّقّ، المدعوّ فلانا، الفلانىّ الجنس، المسلم لما علم فيه من الخير والديانه، والعفّة والأمانة؛ ولقوله تعالى: (فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) ، على مال جملته كذا وكذا، يقوم به منجّما، فى سلخ كلّ شهر كذا وكذا من استقبال تاريخه، وأسقط عنه السيّد من ذلك قسط النّجم «2» الأخير، وهو كذا وكذا وأبرأه منه، لقول الله عزّ وجلّ: (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ) ؛ مكاتبة صحيحة شرعيّة؛ وأذن له سيّده فى التكسّب والبيع والشراء؛ فمتى أوفى ذلك كان حرّا من أحرار المسلمين، له مالهم، وعليه ما عليهم، لا سبيل لأحد عليه إلّا سبيل الولاء الشرعىّ؛ ومتى ما عجز ولو عن الدرهم الفرد كان باقيا على حكم العبوديّة، لقوله صلى الله عليه وسلم: «المكاتب قنّ «3» ما بقى عليه درهم» ؛ وبمضمونه شهد بتاريخ كذا وكذا. فإن وفّى العبد مال الكتابة كتب ما مثاله: أقرّ فلان بأنّه قبض وتسلّم من مملوكه فلان المسمّى باطنه جميع المبلغ المعيّن باطنه، وهو كذا وكذا، على حكم التنجيم باطنه، وصار ذلك بيده وقبضه وحوزه، فبحكم ذلك صار فلان حرّا من أحرار المسلمين، على ما تقدّم؛ ويؤرّخ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 113 فصل وإن عجز المكاتب عن أداء ما كوتب عليه كتب ما مثاله: حضر الى شهوده فى يوم تاريخه فلان، وأشهدهم على نفسه أنه كان كاتب عبده المذكور باطنه [المكاتبة] «1» المشروحة باطنه الى المدّة المعيّنة [باطنه] «2» ، وزادت مدّة ثانية، واستحقّ عليه كذا وكذا عن قسط كذا وكذا شهرا، ولم يقم له بها، وصدّقه العبد على ذلك واعترف بأنّه عاجز عن القيام بما حصل عليه، وأنّه سأله بعد الاستحقاق الصبر عليه إلى يوم تاريخه ليسعى فى تحصيل ما بقى عليه ... «3» ... لقوله صلى الله عليه وسلم: «المكاتب قنّ ما بقى عليه درهم» ؛ وتصادقا على ذلك؛ ويؤرّخ. وان كانا تحاكما عند حاكم كتب ما مثاله: حضر إلى شهوده فى يوم تاريخه من ذكر أنّه حضر الى مجلس الحكم عند سيّدنا الفقير الى الله تعالى فلان الحاكم بالعمل الفلانىّ، كلّ «4» واحد من فلان بن فلان ومملوكه، وادّعى فلان المبتدأ باسمه على مملوكه عند الحاكم المذكور أنّه كاتبه على مال جملته كذا وكذا؛ فمتى أوفى ذلك كان حرّا من أحرار المسلمين؛ ومتى عجز عن أدائه ووفائه ولو عن درهم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 114 واحد كان قنّا باقيا على العبوديّة، وأنّ المدّة المذكورة «1» انقضت، فاستحقّ عليه كذا وكذا درهما، ولم يقم له بها؛ وأنه صبر عليه مدّة ثانية، آخرها يوم تاريخه، ولم يقم له بشىء منها؛ فسأل الحاكم المملوك عن ذلك، فصدّق سيّده فى دعواه، واعترف بأنه عاجز عن الوفاء، وأنّه لم يقدر على تحصيل ما بقى؛ فحينئذ سألا الحاكم المذكور الحكم لهما بما يوجبه الشرع الشريف، فأذن له «2» الحاكم المذكور فى فسخ المكاتبة المذكورة، لقول النبىّ صلى الله عليه وسلم: «المكاتب قنّ ما بقى عليه درهم» ؛ فحينئذ فسخ السيّد المكاتبة المذكورة فسخا شرعيّا، وأبطل حكمها، وأشهد عليهما بذلك بتاريخ كذا وكذا. وأما النكاح وما يتعلّق به فاذا زوّج الوالد ابنته بإذنها أو زوّجها وهى غير بالغ كتب ما مثاله: هذا ما أصدق فلان فلانة البكر البالغ ابنة فلان، صداقا تزوّجها به، على بركة الله تعالى وعونه، وحسن توفيقه ومنّه ملك به عصمتها، واستدام به- إن شاء الله- صحبتها؛ مبلغه كذا وكذا، الحالّ من ذلك كذا وكذا، قبضته الزوجة وتسلّمته، أو قبضه والد الزوجة لها بإذنها- وإن كانت تحت حجره كتب: «قبضه للزوجة والدها، ليصرفه فى مصالحها» - وباقى ذلك- وهو كذا وكذا- يقوم به منجّما، فى سلخ كلّ سنة من استقبال تاريخه كذا وكذا- وإن كان الصداق بكماله على حكم الحلول كتب: «عجّل لها الزوج من ذلك كذا وكذا، وباقى ذلك فى ذمّته على حكم الحلول» - وولى تزويجها إيّاه بذلك والدها المذكور- ويحلّى «3» فى هذا الموضع إن كان ممّن لا يعرف- الجزء: 9 ¦ الصفحة: 115 بحقّ ولايته عليها شرعا، وبإذنها له فى ذلك ورضاها، بشهادة من يعيّنه فى رسم شهادته، أو على ما ذكر- وإن كانت دون البلوغ كتب: «بحقّ ولايته عليها شرعا، لما رأى لها فى ذلك من الحظّ والمصلحة وحسن النّظر» - بعد أن وضح للقاضى فلان عاقد الأنكحة بالمكان الفلانىّ بالتولية الشرعيّة عن القاضى فلان أن الزوجة المذكورة بكر بالغ، خالية من موانع النّكاح الشرعيّة، وأنّها ممّن يجوز العقد عليها شرعا، وأنّ أباها المذكور مستحقّ الولاية عليها شرعا بشهادة جماعة «1» من المسلمين وهم فلان وفلان؛ فتقدّم «2» حينئذ بكتابته، وزوّجها والدها المذكور من الزوج المذكور على الصّداق المعيّن، وقبله الزوج لنفسه ورضيه؛ والله تعالى مع المتّقين؛ ويؤرّخ. وان اعترف الأب برشدها كتب: واعترف والد الزوجة المذكورة بأنّ ابنته رشيدة، جائزة التصرّف، لا حجر عليها. وان كان العقد لم يحضره كاشف «3» حاكم كتب إلى «4» عند «و «5» بإذنها له فى ذلك ورضاها» وباشر والدها المذكور عقد النكاح بنفسه، وزوّجها من خاطبها المصدق على الصداق المذكور، وقبله الزوج لنفسه؛ ويؤرّخ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 116 وان زوّجها العاقد بإذنها وإذن أبيها، أو بإذنها خاصّة إذا لم يكن لها ولىّ كتب: وولى تزويجها إيّاه بذلك القاضى فلان عاقد الأنكحة الشرعيّة بالتولية الشرعيّة عن فلان «1» ، بإذنها وإذن والدها له فى ذلك ورضاهما، بعد أن وضح عند فلان العاقد أنّها بكر بالغ، كما تقدّم. وإن كان الزوج ممّن مسّه الرّقّ وعتق كتب: وعلمت الزوجة المذكورة ووالدها أنّ الزوج المذكور مسّه الرقّ وعتق، ورضيا بذلك. وإن كانت الزوجة بكرا وزوّجها من له الولاية عليها شرعا، كالأب أو الجدّ الأعلى، أو الأخ، أو ابن الأخ، أو العمّ، أو ابن العمّ، أو المعتق، أو ابنه أو وليّه، كتب: وولى نزويجها بذلك فلان- ويذكر نسبته منها «2» - بحقّ ولايته [عليها] شرعا، وبإذنها له فى ذلك ورضاها. وإن كانوا جماعة إخوة كتب اسم أمثلهم «3» ، بإذنها له، وإذن بقيّة إخوتها الأشقاء- وهم فلان وفلان- له، وإذنها لإخوتها فى هذا الإذن. وإن زوّجها الحاكم بإذنها وإذن أوليائها أو أحدهم ذكر «4» ، بشهادة من يعيّنه فى رسم شهادته آخره. وان كانت الزوجة ثيّبا كتب كما تقدّم، ويكتب: بعد أن حضر الى العاقد المذكور من عرّفها عنده، وهما فلان وفلان، شهدا «5» أنّهما يعرفان هذه الزوجة معرفة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 117 شرعيّة، وأنّها خالية من جميع موانع النكاح الشرعيّة، ومنذ طلّقها زوجها فلان الذى دخل بها وأصابها، الطلقة الأولى الخلع «1» ، أو الثانية، أو الثلاث، أو الرجعيّة التى انقضت عدّتها ولم يراجعها، المسطّرة على ظهر صداقها أو حاشيته، المؤرّخة بكذا وكذا، لم تتّصل بزوج غيره الى يوم تاريخه. وإن طلّقها قبل الدخول والاصابة كتب ونبّه عليه. وان كان زوجها توفّى عنها كتب: ومنذ توفّى عنها زوجها فلان من مدّة تزيد على أربعة أشهر وعشرة أيام لم تتّصل بعده بزوج إلى الآن. وان طلقها ومات عنها وهى حامل ووضعت كتب: وإنّ زوجها [طلّقها، و «2» ] توفّى عنها، وهى مشتملة منه على حمل، ووضعته، وانقضت عدّتها بحكم وضعها. وان كان عن فسخ «3» كتب: ومنذ فسخ الحاكم فلان نكاحها من زوجها فلان فى التاريخ الفلانىّ [و] انقضت «4» عدّتها، لم تتّصل بزوج إلى يوم تاريخه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 118 وإن راجع رجل امرأته من طلقة أو طلقتين كتب: هذا ما أصدق فلان مطلّقته الطلقة الأولى الخلع، أو الثانية، المؤرّخة قرينته «1» أو باطنه، أو المكتتبة فى براءة محرّرة تاريخها كذا وكذا. وان زوّجها الحاكم عند غيبة وليّها نبّه عليها «2» بأن يكتب: وولى تزويجها إيّاه فلان «3» ، بعد أن وضح عنده بشهادة فلان وفلان خلوّها من الموانع الشرعيّة؛ وأنّه لا ولىّ لها حاضر سوى الحاكم العزيز، بحكم غيبة وليّها فلان- ويعيّن نسبته «4» منها- فى مسافة تقصر فيها الصلاة، وأنّ هذا الزوج كفء لها الكفاءة الشرعيّة فى الدّين والنّسب والحرّيّة؛ فحينئذ زوّجها الحاكم المذكور من الزوج المذكور على الصداق المعيّن، وقبله الزوج لنفسه ورضيه؛ ويؤرّخ. وان زوّج الحاكم امرأة عضلها «5» وليّها وقد دعيت الى كفء كتب: وولى تزويجها إيّاه بذلك القاضى فلان، بإذنها له فى ذلك ورضاها وبحكم أنّ والدها المذكور حضر إلى القاضى فلان، وسألته ابنته المذكورة أن يزوّجها من الزوج المذكور لمّا ثبتت كفاءته عند الحاكم، فامتنع، فوعظه القاضى فلان وأعلمه بماله من الأجر فى تزويجها، وما عليه من الإثم فى المنع، فلم يرجع إلى عظته وأصرّ على الامتناع، وعضلها «6» العضل الشرعىّ؛ وقال بمحضر من شهوده: «عضلتها «7» فلا أزوّجها» ؛ وبعد أن حضر إلى الحاكم المذكور كلّ واحد من فلان وفلان الجزء: 9 ¦ الصفحة: 119 وشهدا عنده أنّ الزوجة المذكورة خالية من جميع موانع النكاح الشرعيّة، وأنّ أباها المذكور عضلها العضل الشرعىّ، وأنّ هذا كفء لها الكفاءة الشرعيّة فى النّسب والدّين والصناعة «1» والحرّيّة؛ فلمّا وضح له ذلك من أمرها أذن بكتبه فكتب وزوّجها من الزوج المذكور على الصداق المعيّن، وقبله الزوج لنفسه ورضيه. فصل إذا زوّج الصغير أو المراهق للصغيرة [أو «2» ] المعصرة «3» كتب ما مثاله: هذا ما أصدق فلان عن ولده لصلبه فلان- ويذكر سنّه- الذى تحت حجره وكفالته وولاية نظره، لما رأى له فى ذلك من الحظّ والمصلحة فى دينه ودنياه فلانة البكر- ويعيّن سنّها- ابنة فلان التى تحت حجر والدها المذكور وكفالته وولاية نظره، لما رأى لها فى ذلك من الحظّ والمصلحة، صداقا مبلغه كذا وكذا عجّل لها من ذلك من ماله عن ولده المذكور كذا وكذا، قبضه منه والدها لابنته المذكورة ليصرفه فى مصالحها- وإن كان من مال ولده [كتب «4» : «من مال ولده المذكور] الذى تحت يده وحوطه «5» » - وباقى ذلك- وهو كذا وكذا- يقوم به الجزء: 9 ¦ الصفحة: 120 الولىّ من ماله عن ولده، فى سلخ كلّ سنة من استقبال العقد بينهما كذا وكذا؛ أو من «1» مال ولده المذكور الذى تحت يده وحوزه؛ وولى تزويجها إيّاه بذلك والدها المذكور، بحقّ ولايته عليها شرعا، بعد أن وضح للقاضى فلان أنّها بكر معصر «2» لم يعقد عليها عقد إلى يوم تاريخه؛ أو يكتب: «خالية من جميع موانع النكاح الشرعيّة» ؛ وأنّ أباها مستحقّ الولاية عليها شرعا، بشهادة فلان وفلان؛ فلمّا وضح ذلك عنده أذن بكتبه فكتب، وزوّجها والدها من الزوج المذكور على الصداق المعيّن، وقبله والد الزوج لولده قبولا شرعيّا. وإن كان من مال الصغير كتب فى آخر الكتاب: «وشهدت البيّنة أنّ المهر المذكور مهر مثلها على مثله «3» ، لا حيف فى ذلك ولا شطط» ويؤرّخ. فصل فى صداق المحجور عليه من قبل الحاكم يكتب ما مثاله: هذا ما أصدق فلان المحجور عليه من قبل الحكم العزيز عند ما دعت حاجته إلى النكاح، وتاقت نفسه إليه، وذكر ذلك للقاضى فلان أمين الحكم بمحضر من شهوده، وسأله الإذن له فى ذلك، فأذن له فيه بالصداق الآتى ذكره الإذن الصحيح الشرعىّ، فلانة «4» بنة فلان، وتزوّجها به «5» ؛ أصدقها على بركة الله تعالى صداقا مبلغه كذا وكذا، الحالّ من ذلك كذا وكذا، قبضته الزوجة المذكورة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 121 من القاضى فلان أمين الحكم العزيز، من مال هذا الزوج الذى له تحت يده وصار بيدها وقبضها وحوزها، وباقى الصداق- وهو كذا وكذا- مقسّط فى سلخ كلّ سنة كذا وكذا، وولى تزويجها إيّاه بذلك ... ويكمّل؛ ويكتب فى آخره: وشهدت البيّنة أنّ الصداق المذكور مهر مثلها «1» على مثله. وإن تزوّج رجل امرأة محجورا عليها كتب فى القبض: «بيد الوصىّ أو أمين الحكم، ليصرفه فى مصالحها» . ويكتب فى آخره: «وشهدت البيّنة أنّ هذا المهر مهر المثل» . فصل اذا أصدق رجل عن موكّله كتب ما مثاله: هذا ما أصدق فلان عن موكّله فلان بإذنه له فى ذلك وتوكيله- ويشرح الوكالة إن كانت مفوّضة أو مقيّدة على الزوجة بعينها- يشهد بذلك على الموكّل من يعيّنه فى رسم شهادته من شهود هذا العقد، فلانة البكر البالغ؛ أو المرأة الكاملة؛ ويكمّل. ويكتب فى القبول: «وقبل هذا الوكيل المذكور عقد هذا النكاح لموكّله فلان على الصداق المعيّن قبولا شرعيّا» ويؤرّخ. فصل اذا تزوّج الحرّ أمة كتب: هذا ما أصدق فلان فلانة مملوكة فلان المقرّة لسيّدها بالرقّ والعبوديّة، عند ما خشى على نفسه العنت «2» ، وخاف الوقوع فى المحظور لعدم الطّول، وأنّه ليس فى عصمته زوجة، ولا يقدر على صداق حرّة على ما شهد له به من يعيّنه فى رسم شهادته، صداقا تزوّجها به، مبلغه كذا وكذا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 122 وولى تزويجها إيّاه بذلك سيّدها المذكور بحقّ ولايته عليها شرعا- ولا يفتقر إلى إذنها- ويكمّل الصداق. ويكتب: «وشهدت البيّنة أنّ الزوج المذكور فقير ليس له موجود ظاهر، ولا مال باطن، ولا له قدرة على نكاح حرّة، ولا فى عصمته زوجة، وأنّه عادم للطّول» . وان تزوّج العبد حرّة كتب: هذا ما أصدق فلان مملوك فلان، المقرّ لسيّده بالرقّ والعبوديّة، بسؤال منه لسيّده، وإذن سيّده له فى ذلك الإذن الصحيح الشرعىّ، وشهد عليه بذلك شهود هذا الكتاب، فلانة بنة فلان، صداقا تزوّجها به، جملته كذا وكذا، الحالّ من ذلك كذا وكذا، قبضته الزوجة من مال سيّده الذى بيده بإذن سيّده له فى ذلك، وباقى ذلك- وهو كذا وكذا- يقوم به سيّده لها عن عبده من ماله، فى سلخ كلّ سنة تمضى من تاريخ العقد كذا وكذا- وان كان من مال العبد من كسبه ذكره- وأذن له سيّده فى السعى والتكسّب والبيع والشراء، والأخذ والعطاء، وولى تزويجها ... ويكمّل. ويكتب فى آخره: «وعلمت الزوجة المذكورة أنّ الزوج مملوك، ورضيت بذلك» . وان كان لهما أولياء كتب رضاهم. فصل وان زوّج السيّد جاريته لعبده كتب ما مثاله: هذا كتاب تزويج اكتتبه فلان لعبده فلان من أمته «1» فلانة، المقرّ له كلّ منهما بالرقّ والعبوديّة، وهو أنّه أشهد على نفسه أنّه زوّج عبده المذكور لأمته المذكورة تزويجا صحيحا شرعيّا بسؤال كلّ منهما لسيّده المذكور فى ذلك، وقبل الزوج المذكور من سيّده عقد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 123 هذا النكاح لنفسه قبولا شرعيّا. ولا يعيّن الصداق؛ ولا اعتبار بإذنها؛ وإن كشفه «1» عاقد كتب كما تقدّم «2» . فصل وان تزوّج رجل أخرس بامرأة ناطقة كتب: هذا ما أصدق فلان الأخرس اللّسان، الأصمّ الاذان «3» ، العاقل، الذى يفهم ما يجب عليه شرعا، كلّ ذلك بالإشارة المفهومة عنه، يعلمها منه شهوده، ولا ينكرها منه من يعلمها عنه فلانة بنة فلان، ويكمّل على ما تقدّم. ويكتب عند القبول: «وقبل الزوج لنفسه هذا العقد بالإشارة المفهومة عنه» . وان كانا أخرسين كتب: هذا ما أصدق فلان فلانة، وكلّ منهما أخرس لا ينطق بلسانه، أصمّ لا يسمع بآذانه «4» ، صحيح العقل والبصر، عالم بما يجب عليه شرعا، كلّ ذلك بالإشارة المفهومة عنه، يفهمها من كلّ منهما شهود هذا العقد صداقا تزوّجها به؛ ويكمّل كما تقدّم. وان كان الزوج مجبوبا كتب فى آخر الكتاب: «وعلمت الزوجة أنّ الزوج مجبوب، لا قدرة له على النكاح، ورضيت به» . وأمّا إقرار الزوجين بالزوجيّة واعتراف الزوج بمبلغ الصداق وما يتصل بذلك من فرض الزوجة والإشهاد عليها بقبض الكسوة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 124 فيحتاج فى إقرار الزوجين بالزوجيّة الى تسطير محضر بأنّهما زوجان متناكحان ويشهد فيه جماعة من المسلمين الذين يعلمون ذلك، ثم يكتب كتاب الإقرار وصورته: أقرّ فلان وفلانة بأنّهما زوجان متناكحان بنكاح صحيح شرعىّ، وأنّ الزوج منهما دخل بالزوجة وأصابها، وأولدها «1» على فراشه ولدا ذكرا يسمّى فلانا- إن كان- وأنّ الزوجة المذكورة لم تبن من الزوج المذكور بطلاق بائن ولا رجعىّ «2» ولا فسخ ولا غيره؛ ومنذ تزوّجها إلى الآن أحكام الزوجيّة قائمة بينهما، وتصادقا على ذلك، واعترف الزوج بأنّ فى ذمّته مبلغ صداقها عليه الذى عدم «3» ، وهو كذا وكذا. وإن «4» كشفه عاقد كتب: وذلك بعد أن وضح للعاقد فلان بشهادة فلان وفلان مضمون ما أقرّا به فيه؛ فحينئذ أذن فى كتبه؛ ويؤرّخ. فصل فى فرض زوجة إن فرض الرجل على نفسه كتب: فرض قرّره على نفسه فلان لزوجته فلانة التى دخل بها وأصابها، واستولدها على فراشه- إن كان ذلك- لما تحتاج إليه من طعام وإدام وماء وزيت وصابون حمّام «5» ، فى غرّة كلّ يوم كذا وكذا حسب ما اتّفقا على ذلك وتراضيا عليه، وذلك خارج عمّا يوجبه الشرع الشريف لها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 125 وإن قرّره حاكم كتب: هذا ما أشهد على نفسه القاضى فلان أنّه فرض على فلان لزوجته فلانة لما تحتاج إليه من نفقة ومؤونة وماء وزيت وصابون حمّام فى كلّ يوم كذا وكذا، وذلك خارج عمّا يلزمه لها من اللوازم الشرعيّة غير ذلك؛ قرّر ذلك الحاكم عليه، وأوجبه فى ماله، ورضيت الزوجة به. فصل وإن قبضت المرأة كسوتها كتب: أقرّت فلانة بأنّها قبضت وتسلّمت من زوجها فلان كسوتها الواجبة عليه شرعا، وهى ثوب وسراويل ومقنعة «1» ، وذلك عن فصل واحد، أوّله يوم تاريخه، وصار ذلك بيدها وقبضها وحوزها. وكذلك إن قبضت كسوة ولدها الطفل. وأما الطلاق وما يتصل به من الفروض الواجبة - فإذا طلّق الرجل زوجته قبل الدخول كتب: طلّق الزوج المسمّى باطنه فلان زوجته المسمّاة باطنه فلانة قبل الدخول بها والإصابة، طلقة واحدة بانت منه بذلك، بحكم أنّه لم يدخل بها ولم يصبها، وبحكم ذلك تشطّر الصداق المعقود عليه باطنه نصفين سقط عنه النصف، وبقى النصف الثانى. فإن طلّق الزوج الزوجة قبل الدخول بها على ما يتشطّر لها من الصداق كتب ما مثاله: سألت الزوجة المسمّاة «2» باطنه فلانة زوجها فلانا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 126 الذى لم يدخل بها ولم يصبها- وتصادقا على ذلك- أن يخلعها من عصمته وعقد نكاحه على ما يتشطّر «1» من الصداق باطنه، أو على ما يتّفقان عليه، فأجابها إلى سؤالها وقبل منها العوض المذكور، وطلّقها عليه الطلقة المسئولة، بانت منه بذلك وملكت نفسها عليه، وبحكم ذلك تشطّر «2» الصداق المعقود عليه باطنه نصفين سقط عنه النصف، وبرئت ذمّته من النصف الثانى بحكم هذا. وإن سأل الأب «3» أو غيره الزوج أن يطلّق زوجته على نظير ما بذله له فى ذمّته «4» ، ثم أحال المطلّق مطلّقته بذلك كتب: سأل فلان فلانا- وهو الزوج المسمّى باطنه- أن يخلع زوجته فلانة المسمّاة باطنه التى لم يدخل بها ولم يصبها؛ أو التى دخل بها وأصابها، بطلقة واحدة: أولى أو ثانية، أو ثالثة، على «5» ما بذله فى ذمّته، وهو كذا وكذا، من ذلك ما هو حالّ كذا وكذا، وما هو مؤجّل كذا وكذا؛ فأجابه الى سؤاله، وقبل منه العوض المذكور وطلّق زوجته طلقة واحدة أولى خلعا «6» بانت بها منه، وملكت نفسها عليه، وبحكم هذا الطلاق تشطّر «7» الصداق المذكور نصفين، سقط عنه النصف، وبقى فى ذمّته النصف الثانى، وأقرّ المطلّق بأنّه قبض من السائل مبلغ الحالّ الذى اختلع له به الجزء: 9 ¦ الصفحة: 127 واعترف أيضا بأنّه قبض نصف المعجّل باطنه، وصار بيده وقبضه وحوزه؛ ثم بعد تمام ذلك ولزومه أحال المطلّق المذكور مطلّقته المذكورة على أبيها بالمبلغ المؤجّل وهو نظير نصف مؤخّر الصداق المعيّن باطنه فى قدره وجنسه وصفته واستحقاقه حوالة شرعيّة، قبلها منه لها والدها، بحكم أنّها تحت حجره وولاية نظره، قبولا شرعيّا، وبحكم ذلك وجبت لها مطالبة أبيها. فإن طلّق طلقة رجعيّة بعد الدخول كتب: طلّق الزوج المسمّى باطنه فلان زوجته المسمّاة باطنه فلانة، التى دخل بها وأصابها، طلقة واحدة أو ثانية رجعيّة، يملك بها رجعتها ما لم تنقض عدّتها، فاذا انقضت فلا سبيل له عليها ولا رجعة إلّا بأمرها ورضاها وعقد جديد لها عليه، على ما يوجبه الشرع الشريف. وإن استرجعها «1» منها «2» كتب: ثمّ بعد ذلك استرجع «3» المطلّق المذكور مطلّقته؛ أو أقرّ بأنه استرجع «4» مطلّقته من الطلقة الأولى، أو الثانية، استرجاعا «5» شرعيّا، وردّها، وأمسكها، وصار حكمها حكم الزوجات؛ ويؤرّخ. فإن طلّقها ثلاثا كتب: طلّق فلان زوجته فلانة التى دخل بها وأصابها طلاقا ثلاثا، حرمت عليه بذلك، (فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) . فإن اختلعت المرأة من «6» زوجها على أن يطلّقها كتب: سألت فلانة زوجها فلانا الذى دخل بها وأصابها أن يخلعها من عصمته وعقد نكاحه على الجزء: 9 ¦ الصفحة: 128 مؤخّر صداقها عليه، الشاهد به كتابه «1» المتعذّر حضوره، وهو كذا وكذا، فأجابها الى سؤالها، وقبل منها العوض المذكور، وطلّقها عليه طلقة واحدة أولى خلعا، أو ثانية خلعا، أو ثالثة، بانت منه بذلك، وملكت نفسها عليه، وأقرّت بأنّها لا تستحقّ عليه صداقا، ولا بقيّة من صداق، ولا نفقة ولا كسوة ولا حقّا من حقوق الزوجيّة كلّها. والعبد لا يملك إلّا طلقتين. وإذا طلّق المجبوب لا يكتب فى طلاقه إصابة. وإن وكّل رجلا أن يطلّق عنه كتب: سألت فلانة فلان بن فلان الوكيل عن زوجها فلان، القائم عنه فى طلاقها بالوكالة التى جعل له فيها أن يطلّق عنه زوجته المذكورة طلقة واحدة أولى خلعا على مؤخّر صداقها عليه، وهو كذا وكذا، المشروح ذلك فى الوكالة المؤرّخة بكذا وكذا، أن يطلّقها عن موكّله فلان المذكور بطلقة واحدة أولى خلعا على جميع مؤخّر صداقها، وهو كذا وكذا؛ فأجابها الى سؤالها، وقبل منها العوض المذكور، وطلّقها عن موكّله طلقة واحدة أولى خلعا، بانت منه بها، وملكت نفسها عليه، فلا تحلّ له إلّا بعد عقد جديد وأقرّت بأنّها لا تستحقّ عليه صداقا، كما تقدّم. فصل فى فرض امرأة مطلّقة ظهرت حاملا يكتب ما مثاله: فرض قرّره على نفسه فلان لمطلّقته [الطلقة «2» ] الأولى أو الثانية، أو الثلاث، فلانة المرأة الكاملة، المشتملة منه على حمل، وتصادقا على الجزء: 9 ¦ الصفحة: 129 ذلك، عوضا عما تحتاج اليه من طعام وإدام وماء، فى كلّ يوم من الأيّام كذا وكذا قسط كلّ يوم فى أوّله من استقبال تاريخه، حسب ما اتّفقا على ذلك وتراضيا عليه وذلك خارج عمّا يوجبه الشرع الشريف لها، وأذن لها أن تقترض على ذمّته بقدر ما قرّر لها عند تعذّر وصول ذلك اليها، وتنفقه عليها، وترجع به عليه، إذنا شرعيّا قبلته منه. فإن قرّر على نفسه لولده كتب: فرض قرّره على نفسه فلان لولده الطفل، الذى فى كفالة والدته مطلّقته فلانة، لما يحتاج اليه من طعام وادام وماء وزيت وصابون حمّام، فى كلّ يوم من الأيّام كذا وكذا من استقبال تاريخه، حسب ما اتّفقا وتراضيا عليه، وذلك خارج عمّا يوجبه الشرع الشريف، وأذن لها أن تقترض على ذمّته، وتنفق على ولدها، وترجع به عليه، إذنا شرعيّا. فان قرّر لوالده أو والدته كتب ما مثاله: فرض قرّره على نفسه فلان لوالدته «1» فلانة، بحكم عجزها وفقرها وحاجتها، لما تحتاج اليه من طعام وإدام وزيت وصابون، فى كلّ يوم كذا وكذا؛ ويكمّل. فصل إذا قرّر القاضى للمحجور عليه من ماله له ولزوجته كتب: هذا ما أشهد على نفسه القاضى فلان الفارض أنّه قرّر لفلان المحجور عليه بيد الحكم العزيز ولزوجته فيما له من أجرة العقار المنسوب إليه، الّذى تحت نظر الحكم العزيز، لما يحتاجان إليه من طعام وإدام وماء وزيت، فى كلّ يوم كذا وكذا من استقبال تاريخه، قسط كلّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 130 يوم فى أوّله، وقرّر له ولزوجته وللخادم عوضا عن كسوتهم لفصل الصيف كذا وكذا ولفصل الشتاء كذا وكذا؛ وبذلك شهد عليه؛ ويؤرّخ. وأما تعليق الطلاق وفسخ النكاح - فإذا علّق الزوج طلاق زوجته على سفره، أو أنّه يسافر «1» بها، كتب على ظهر كتابه ما مثاله: قال الزوج المسمّى باطنه فلان لزوجته فلانة، التى دخل بها وأصابها: «متى سافرت عنك من البلد الفلانىّ، واستمرّت غيبتى عنك شهرا واحدا ابتداؤه من حين سفرى، أو متى سفّرتك إلى بلد من البلاد بنفسى أو وكيلى، أو متى تسرّيت عليك بأمة فأنت طالق ثلاثا» ؛ تلفّظ بذلك عند شهوده؛ ويؤرّخ. فصل إذا سافر الزوج عن زوجته وتركها بغير نفقة ولا كسوة، وأرادت فسخ نكاحها منه ، كتب محضر بالغيبة، مثاله: شهد الشهود الواضعون خطوطهم آخر هذا المحضر- وهم من أهل الخبرة الباطنة «2» فيما شهدوا به فيه «3» - أنّهم يعرفون كلّ واحد من فلان وفلانة معرفة صحيحة شرعيّة، ويشهدون أنّهما زوجان متناكحان بنكاح صحيح شرعىّ دخل الزوج منهما بالزوجة، وأولدها «4» على فراشه ولدا ذكرا، أو أولادا- إن كان ذلك؛ وان كان لم يدخل بها كتب: «وانّ الزوج لم يدخل بها، ولم يصبها، وأنّها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 131 عرضت نفسها عليه ليدخل بها فامتنع من ذلك، وأخّره الى وقت آخر» - وأنّه سافر عنها بعد ذلك من البلد الفلانىّ، وتوجّه الى البلاد الفلانيّة، من مدّة تزيد على أشهر سنة تتقدّم على تاريخه، وهى مطاوعة له؛ وأنّه تركها معوزة عاجزة عن الوصول إلى ما يجب لها عليه، من النفقة والكسوة واللّوازم الشرعيّة، بحكم أنّه ليس له موجود حاضر، ولا مال متعيّن، وقد تضرّرت «1» بسبب غيبته عنها، وتعذّر وصول ما يجب لها عليه شرعا من جهته ومن جهة أحد بسببه «2» ، وأنّها لم تجد من يقرضها على ذمّته، ولا من يتبرّع بالإنفاق عليها عنه، وأنّه مستمرّ الغيبة عنها الى الآن، وأنّها مستمرّة على الطاعة له؛ يعلمون ذلك ويشهدون به بسؤال من جازت مسألته، وسوّغت الشريعة المطهّرة إجابته؛ ويؤرّخ. فاذا وضع الشهود رسم شهادتهم، وأدّوا «3» عند الحاكم، كتب على ظهره الحلف بعد حلفها «4» ، وصورته: أحلفت المشهود لها باطنه فلانة بالله العظيم الذى لا إله إلّا هو، اليمين الشرعيّة المستوفاة، الجامعة لمعانى الحلف، المعتبرة شرعا، أنّ الزوج المذكور معها باطنه فلانا سافر عنها من البلد الفلانىّ، متوجّها إلى البلد الفلانىّ من مدّة تزيد على سنة كاملة تتقدّم على تاريخه، وهى مطاوعة له، وانّه تركها معوزة عاجزة عن الوصول إلى ما يجب لها عليه، من النفقة والكسوة واللّوازم الشرعيّة، بحكم أنّه ليس له موجود- ويصف كلّ ما فى المحضر الى عند «5» «وأنّها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 132 مستمرّة على الطاعة له» - وأنّ من شهد لها باطنه صادق فيما شهد لها به؛ فحلفت كما أحلفت، بالتماسها لذلك على الأوضاع الشرعيّة، وبحضور من يعتبر حضوره شرعا، بعد تقدّم الدّعوى وما ترتّب عليها؛ ويؤرّخ. ثمّ يكتب الإسجال قرين الحلف أو تحته، وهو: هذا ما أشهد على نفسه الكريمة سيّدنا العبد الفقير الى الله تعالى فلان الحاكم، من حضر مجلسه من العدول الواضعى خطوطهم آخره، أنّه ثبت عنده وصحّ لديه فى اليوم الفلانىّ، بعد دعوى محرّرة مقابلة بالإنكار على الوجه الشرعىّ، بشهادة «1» من أعلم تحت رسم شهادته باطنه وزكّى لديه التزكية الشرعيّة على الوجه المعتبر الشرعىّ، مضمون «2» المحضر المسطّر باطنه «على ما نصّ «3» وشرح فيه بكذا وكذا» ثبوتا صحيحا شرعيّا؛ وقد أقام كلّ من الشهود به «4» شهادته عنده بذلك، وأعلم تحت رسم شهادة كلّ منهم ما جرت به العادة، وأحلفت الزوجة المذكورة الحلف المشروح فيه؛ فلمّا تكامل ذلك عنده وصحّ لديه وعظها، وأعلمها بمالها من الأجر فى الصبر على البقاء فى عصمة زوجها المذكور، فأبت الصبر، وذكرت أنّ ضرورتها تمنعها من ذلك، وسألت الحاكم المذكور الإذن لها فى فسخ نكاحها من زوجها المذكور؛ فحين زالت الأعذار من إجابتها «5» أذن لها الحاكم المذكور فى فسخ نكاحها من زوجها المذكور؛ وأشهدت الجزء: 9 ¦ الصفحة: 133 على نفسها شهود هذا الإسجال أنّها فسخت نكاحها من زوجها المذكور، واختارت فراقه- وإن كان الحاكم هو الفاسخ كتب: «فحينئذ سألت برّ «1» الحاكم فسخ نكاحها من زوجها المذكور، وأصرّت على ذلك؛ فحين زالت الأعذار من إجابتها قدّم خيرة الله تعالى، وأجابها الى ما التمسته، وفسخ نكاحها من زوجها المذكور الفسخ الصحيح الشرعىّ، وفرّق بينهما» - فلمّا تكامل ذلك كلّه سأله من جازت مسألته وسوّغت الشريعة المطهّرة إجابته، التقدّم بكتابة هذا الإسجال، والإشهاد عليه بذلك، فأجابه الى سؤاله، وتقدّم بكتابته «2» ، فكتب عن إذنه، وأشهد على نفسه بذلك فى مجلس حكمه وقضائه- وهو فى ذلك كلّه نافذ القضاء والحكم ماضيهما- وأبقى كلّ ذى حجّة معتبرة فيه على حجّته ان كانت، وذلك بعد تقدّم الدعوى الموصوفة وما ترتّب عليها. ويشهد على الزوجة أيضا بما نسب اليها. وأما نفى ولد الجارية والإقرار باستيلاد الأمة - فإنّه اذا أراد السيّد نفى ولد جاريته بعد الوطء والاستبراء على قول من قال «3» به كتب ما مثاله: أقرّ فلان بأنّه كان قبل تاريخه وطئ مملوكته فلانة- ويذكر جنسها- المسلمة المقرّة له بالرقّ والعبوديّة، ثم استبرأها بعد الوطء استبراء صحيحا شرعيّا، وأنّه لم يطأها بعد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 134 الاستبراء، وأنّها بعد ذلك أتت بولد، وسمّته فلانا، وأنّه الان فى قيد الحياة، وأنّ هذا الولد ليس منه ولا من صلبه، ولا نسب بينه وبينه؛ وحلف على ذلك بالله العظيم اليمين الشرعيّة، وأشهد عليه بحضورها بتاريخ كذا وكذا. وان أقرّ بأنّه استولد جاريته كتب: أقرّ فلان بأنّه كان قبل تاريخه وطئ مملوكته التى بيده وملكه، المقرّة له بالرقّ والعبوديّة، المدعوة فلانة، الفلانيّة الجنس؛ الوطء الصحيح الشرعىّ، فى حال مملكته «1» لها على فراشه، واستولدها عليه ولدا ذكرا يسمّى فلانا، الطفل يومئذ، وهو الآن فى قيد الحياة، وأنّه من صلبه ونسله، ونسبه [لاحق «2» ] بنسبه، وصدّقته على ذلك. واما الوكالات - فاذا وكّل رجل رجلا وكالة مطلقة كتب: وكّل فلان فلانا فى المطالبة بحقوقه كلّها، وديونه بأسرها، من غرمائه وخصومه قبل من كانت وحيث تكون، والمحاكمة بسببها عند القضاة والحكّام وخلفائهم وولاة أمور الإسلام، والدّعوى على غرمائه وخصومه، واستماع الدّعوى عليه وردّ الأجوبة عنها بما يسوغ شرعا، والحبس «3» والإطلاق والترسيم «4» والملازمة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 135 والإفراج، وأخذ الكفلاء والضّمناء بالوجه «1» والمال، وقبول الحوالات على الأملئاء «2» وإثبات حججه ومساطيره، وإقامة بيّناته، وقبض كلّ حقّ متوجّه له قبضه بكلّ طريق شرعىّ، والإشهاد على الحكّام والقضاة بما يثبت له شرعا، وطلب الحكم من الحكّام، وفى إيجار ما يجرى فى ملكه من العقار الكامل «3» والمشاع «4» لمن يرغب فى استئجاره بما يراه من الأجر: حالّها ومنجّمها ومؤجّلها ومعجّلها، لما يراه من المدد: قليلها وكثيرها، وقبض الأجرة، واكتتاب ما يجب اكتتابه فى ذلك، وتسليم ما يؤجره- ومهما وكّله فيه كتبه وعيّنه بما يليق تعيينه «5» -؛ وكّله فى ذلك كلّه وكالة شرعيّة قبلها منه قبولا شرعيّا، وأذن له أن يوكّل عنه فى ذلك كلّه وفيما شاء منه من شاء، ويعزله متى شاء، ويعيده متى أراد. فإن وكّله وأراد ألّا يعزله كتب فى ذيل الوكالة: ثمّ بعد تمام ذلك ولزومه قال الموكّل لوكيله: «متى عزلتك فأنت وكيل متصرّف لا منصرف» . فاذا أراد عزله كتب على ظهر الوكالة: قال الموكّل لوكيله: «متى عدت وكيلى فأنت معزول» ؛ وبحكم ذلك العزل بطل تصرّفه فى الوكالة المشروحة باطنه؛ ويؤرّخ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 136 واذا وكّل ذمّىّ مسلما قدّم اسم الوكيل، فيكتب: هذا كتاب وكالة اكتتبه لفلان فلان الذّمّىّ، وأشهد على نفسه أنّه وكّله فى كيت وكيت؛ ويكمّل كما تقدّم. وأما المحاضر على اختلافها فسنذكرها، اذا أراد أمين الحكم أن يبيع على يتيم للحاجة كتب محضرا بالقيمة، مثاله: شهد الشهود الواضعون خطوطهم آخره- وهم من أهل الخبرة بالعقار وتقويمه- أنهم ساروا بإذن شرعىّ الى حيث الدّار الكاملة الآتى ذكرها ووصفها وتحديدها فيه، المقوّمة بكمالها، أو المقوّم منها حصّة مبلغها كذا وكذا سهما، ملك فلان المحجور عليه، لتباع عليه فى نفقته ومؤونته ولوازمه الشرعيّة، وهى بالمكان الفلانىّ- وتوصف وتحدّد- وتأمّلوا ذلك بالنظر، وأحاطوا به علما وخبرة، وقوّموا الحصّة المذكورة بما مبلغه كذا وكذا وقالوا: «إنّ ذلك قيمة المثل يومئذ، لا حيف فيها ولا شطط، ولا غبينة «1» ولا فرط «2» وإنّ الحظّ والمصلحة فى البيع بذلك» . فإن كان بالغبطة على القيمة «3» كتب كما تقدّم الى قوله: «لتباع عليه» لما له فى ذلك من الحظّ والمصلحة والغبطة «4» الزائدة على قيمة المثل، وهى الدّار [التى] «5» بالموضع الفلانىّ- وتوصف وتحدّد- وتأمّلوا ذلك بالنظر، وأحاطوا به الجزء: 9 ¦ الصفحة: 137 علما وخبرة، وقوّموا الحصّة بكذا وكذا درهما، وقالوا: «إنّ ذلك قيمة المثل- نحو ما تقدّم- وإنّ الحظّ والمصلحة والغبطة فى بيع الحصّة المذكورة بزيادة كذا وكذا» ؛ وبذلك وضعوا خطوطهم؛ ويؤرّخ. فان قوّمت لتباع فيما ثبت على المتوفّى من صداق زوجته، أو من دين ، كتب أوّل المحضر كما تقدّم، وقيل: المنسوبة لفلان المتوفّى الى رحمة الله تعالى، لتباع عليه فيما ثبت فى ذمّته من صداق زوجته فلانة، الثبوت الصحيح الشرعىّ؛ أو فيما ثبت عليه من دين شرعىّ لفلان، حسب ما يشهد بذلك مسطوره الذى بيده، الذى ثبت بمجلس الحكم العزيز؛ ويكمّل كما تقدّم. فصل فى محضر وفاة وحصر ورثة يكتب: شهد الشهود الواضعون خطوطهم آخر هذا المحضر- وهم من أهل الخبرة الباطنة فيما شهدوا به- أنّهم يعرفون فلان بن فلان، وورثته الاتى ذكرهم فيه، معرفة صحيحة شرعيّة؛ ويشهدون أنّه توفّى الى رحمة الله تعالى بالبلد الفلانىّ من مدّة كذا وكذا، وخلّف من الورثة المستحقّين لميراثه المستوعبين لجميعه زوجته فلانة التى لم تزل فى عصمته وعقد نكاحه الى حين وفاته، وأولاده منها أو من غيرها- ويذكر أبويه إن كانا أو أحدهما- بغير شريك لهم فى ميراثه، ولا حاجب يحجبهم عنه بوجه ولا سبب؛ يعلمون ذلك ويشهدون «1» به بسؤال من جازت مسألته وسوّغت الشريعة المطهّرة إجابته؛ ويؤرّخ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 138 فصل اذا مات رجل وخلّف أبوين وأخوين كتب ما مثاله: شهد الشهود أنهم يعرفون فلانا ووالديه الآتى ذكرهما فيه، ويشهدون بالخبرة الباطنة أنّه خلّف وارثيه: والده فلانا، ووالدته فلانة، بغير شريك لهما فى ميراثه، ولا حاجب يحجبهما حجب حرمان عن استكماله؛ ويشهدون أنّ المتوفّى له أخوان، وهما فلان وفلان؛ وبحكم ذلك يكون للأب من ميراثه النصف والثلث، وللأمّ السدس، بحكم أنّ الأخوين حجباها عن الثلث الى السدس حجب تنقيص «1» للفريضة «2» الشرعيّة، لا حجب حرمان؛ يعلمون ذلك ويشهدون به. وان مات رجل فى بلد بعيدة واستفاض موته وشهد به بالاستفاضة كتب كما تقدّم «3» ، [و «4» ] : أنّهم يعرفون فلانا، ويشهدون بالاستفاضة الشرعيّة بالشائع الذائع، والنقل الصحيح المتواتر، أنّه مات الى رحمة الله تعالى من مدّة كذا وكذا بالمدينة الفلانيّة؛ ويشهدون أنّه خلّف من الورثة ... ويكمّل. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 139 فصل إذا مات قوم بعد قوم يكتب: ... «1» أنّهم يعرفون فلان بن فلان وورثته الآتى ذكرهم، ومن توفّى منهم على الترتيب الآتى ذكره فيه، معرفة صحيحة شرعيّة؛ ويشهدون أنّ فلانا المبتدأ بذكره توفّى إلى رحمة الله تعالى بالبلد الفلانىّ، وخلّف من الورثة المستحقّين لميراثه المستوعبين لجميعه زوجته فلانة التى لم تزل فى عصمته وعقد نكاحه إلى حين وفاته، وأولاده «2» منها، وهم فلان وفلان، ثم توفّيت الزوجة بعده فى تاريخ كذا وكذا، وخلّفت من الورثة المستحقّين لميراثه أولاده لصلبه، وهم- ويسمّيهم- يعلمون ذلك ويشهدون به؛ ويكمّل، ويؤرّخ. وهذا مثال فقس عليه. فصل إذا مات العبد وخلّف سيّده كتب: شهد «3» من أثبتوا أسماءهم «4» آخره- وهم من أهل الخبرة الباطنة فيما شهدوا به- أنّهم يعرفون كلّ واحد من فلان ومملوكه [فلان] «5» ، الفلانىّ الجنس، المسلم، ويشهدون أنّ فلانا المثنّى باسمه توفّى إلى رحمة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 140 الله تعالى، وخلّف سيّده المذكور، الذى لم يزل فى ملكه إلى حين موته؛ وأنّه مستحقّ لجميع ما يخلّفه بغير شريك له فى ميراثه، ولا حاجب يحجبه عنه. وإن كان قد أعتقه ومات كتب كما تقدّم «1» ، [و] : أنّهم يعرفون فلان ابن فلان، وعتيقه فلان بن فلان، معرفة صحيحة شرعيّة، ويشهدون أنّه مات الى رحمة الله تعالى، وأنّه كان مملوكا لفلان، وأنّه أعتقه عتقا منجّزا قبل موته، ولم يخلّف من الورثة سواه، بغير شريك له فى ميراثه؛ ويكمّل. فصل إذا أراد إثبات ملكه لدار كتب ما مثاله: ... «2» ... أنّهم يعرفون فلان بن فلان، ويشهدون أنّه مالك لجميع الدّار الفلانيّة- وتوصف وتحدّد- ملكا صحيحا شرعيّا، وأنّه متصرّف فيها بالسكن والإسكان والإجارة والعمارة وقبض الأجرة، وأنّها باقية فى يده وملكه وتصرّفه الى الآن، لم تخرج عنه بتمليك «3» ولا بيع ولا إقرار ولا صدقة، ولا بوجه من الوجوه الشرعيّة كلّها على اختلافها، وأنّها باقية على ملكه وتصرّفه وحيازته الى يوم تاريخه؛ وهم بالدّار المذكورة فى مكانها عارفون؛ يعلمون ذلك ويشهدون به. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 141 فصل إذا أثبت رجل أنّه باع بالإجبار والإكراه كتب: ... أنّهم يعرفون كلّ واحد من فلان وفلان، ويشهدون أنّ فلانا المبتدأ باسمه جبر فلانا المثنّى باسمه وخوّفه واعتقله وضربه وأوجعه، وطلب منه بيع داره التى بالموضع الفلانىّ- وتوصف وتحدّد- بغير ثمن، وأن يشهد عليه بالبيع وقبض الثمن، وأنّه امتنع من ذلك، فأعاد عليه الضرب، وهدّده بالقتل، وسجنه، ولم يزل على ذلك حتى جبره وأكرهه، وابتاعها منه بكذا وكذا، واعترف بقبضها، وأنّه وضع يده عليها، وتسلّمها من مدّة كذا وكذا، وهم بالدّار عارفون؛ يعلمون ذلك ويشهدون به. وان كان جبره حتّى باعه بدون القيمة كتب صدر المحضر كما تقدّم؛ وطلب منه بيع الدّار بكذا وكذا، وأنّ قيمتها أزيد من ذلك، وأنّه امتنع من ذلك، فضربه وسجنه، وأعاد عليه العقوبة، وأكرهه وجبره إلى أن باعه الدّار المذكورة بالثمن المذكور، وقبضه منه، وأنّه دون قيمتها، وأنّ قيمتها أضعاف ذلك، وأنّه وضع يده عليها، وتسلّمها من مدّة كذا وكذا؛ يعلمون ذلك .... فصل فيما يكتب بعيب فى جارية شهد الشهود المسمّون آخره- وهم من أهل الخبرة الباطنة «1» بالرقيق وعيبه «2» - أنّهم نظروا الجارية المدعوّة فلانة، الفلانيّة الجنس، التى بيد فلان متنجّز «3» هذا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 142 المحضر، الذى ذكر أنّه ابتاعها من فلان، نظر مثلهم لمثلها، بمحضر من الخصمين المذكورين، فوجدوا بها من العيوب المرض الفلانىّ، وأنّ ذلك مرض مزمن متقدّم على تاريخ العهدة «1» التى أظهرها المشترى من يده، المؤرّخة بكذا وكذا؛ وأنّ ذلك عيب منقص «2» للثمن؛ يعلمون ذلك ويشهدون به. فصل إذا شهد لإنسان أنه من أهل الخير كتب: ... ويشهدون أنّه من أهل الخير والصلاح، والعفّة والفلاح؛ والصّيانة والأمانه، والثّقة والدّيانه؛ محافظ على صلاته، أهل لأن يجلس بين أطهر المسلمين، وأنّه [محقّ] «3» فى جميع أفعاله، صادق فى جميع أقواله؛ يعلمون ذلك .... فصل اذا شهد برشد إنسان كتب: ... ويشهدون أنّه رشيد، صالح فى دينه، مصلح لماله، مستحقّ لفكّ الحجر عنه، غير مبذّر ولا مفرّط، حسن «4» التصرّف؛ يعلمون ذلك .... الجزء: 9 ¦ الصفحة: 143 فصل فى نسب رجل شريف ... ويشهدون بالاستفاضة الشرعيّة، بالشائع الذائع، والنقل الصحيح المتواتر، [أنّه «1» ] شريف النّسب، صحيح الحسب، من ذريّة الحسين بن علىّ- رضى الله عنهما- من أولاد الصلب، أبا عن أب، إلى أن يرجع نسبه إليه، ويدلى «2» بأصله إلى أصل الحسين؛ يعلمون ذلك ويشهدون به. فصل فى عدالة رجل ... ويشهدون شهادة علموا صحّتها، وتيقّنوا معرفتها، لا يشكّون فيها ولا يرتابون، أنّه من أهل الصدق والوفاء، والعفّة والصّفاء؛ صادق فى أقواله، محقّ فى أفعاله؛ حسن السيره، طاهر السريره؛ متيقّظ فى أموره، سالك شروط العدالة وأفعالها؛ صالح لأن يكون من العدول المبرّرين «3» ، والأعيان المعتبرين، مستحقّ أن يضع خطّه فى مساطير المسلمين، عدل رضىّ لهم وعليهم؛ يعلمون ذلك ويشهدون به. فصل فى إعسار رجل ... ويشهدون أنّه فقير لا مال له، معسر لا حال له، عاجز عن وفاء ما عليه من الدّيون، أو عن شىء منها؛ يعلمون ذلك .... الجزء: 9 ¦ الصفحة: 144 فصل فى إسلام ذمّىّ يكتب: حضر الى شهوده فى يوم تاريخه من ذكر أنّه حضر الى مجلس فلان- أدام الله أيّامه- فلان «1» بن فلان الفلانىّ، وأشهدهم على نفسه أنّه تلفّظ بالشهادتين المعظّمتين، وهما شهادة أن لا إله الّا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، أرسله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدّين كلّه ولو كره المشركون، وأنّ عيسى عبد الله ونبيّه، ومريم أمة الله، وأنّ محمدا صلّى الله عليه وسلم خاتم النبيّين، وأفضل المرسلين، وأنّ شريعته أفضل الشرائع وملّته أفضل الملل، وأنّ ما جاء به عن الله حقّ؛ وقال: «أنا برئت من كلّ دين يخالف دين الإسلام» ، ودخل فى ذلك طالبا «2» مختارا؛ وأشهد عليه بذلك، وتلفّظ به بتاريخ كذا وكذا. فإن أسلم يهودىّ كتب موضع عيسى: وأنّ موسى عبد الله ونبيّه، وأنّ محمدا صلّى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء، وشريعته أفضل الشرائع، وأنّ شريعة محمد صلى الله عليه وسلم نسخت شريعة موسى وجميع الشرائع؛ وقال: «أنا مسلم برئت من كلّ دين يخالف دين الإسلام، ومن كلّ ملّة تخالف ملّة محمد صلى الله عليه وسلم» ؛ وأشهد على نفسه بتاريخ ... «3» . وأما الإسجالات - فهى بحسب الوقائع، وقد ذكرنا منها فى أثناء ما قدّمناه ما هو وارد فى مواضعه، فلنذكر ما لم نورده هناك؛ فمن ذلك إسجال بثبوت العدالة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 145 قد استقرّت القاعدة بين الناس فى إسجالات العدالة ان يبتدئ الكاتب بخطبة يذكر فيها شرف العدالة وعلوّها، وارتفاع رتبتها وسموّها؛ ويصف المعدّل بأوصاف تليق به بحسب حاله ورتبته، وأصالته وأبوّته؛ ولا حجر على الكاتب فيما يأتى به من القرائن والفقر والكلام المسجوع ما لم يتعدّ به حقّ المنعوت، أو يخرج به عن طوره ورتبته، ويراعى مع ذلك قيود الشرع وضوابطه؛ والكاتب فيها بحسب «1» قدرته وتصرّفه فى أساليب الكلام وبراعة الاستهلال واختيار المعانى؛ فاذا انتهى إلى آخر الخطبة وذكر أوصاف المعدّل قال: فلذلك استخار الله تعالى سيّدنا ومولانا العبد الفقير إلى الله تعالى قاضى القضاة، حاكم الحكّام؛ وينعته بنعوته، ويذكر مذهبه وولايته للدّولة القاهرة السلطانيّة الملكيّة الفلانيّة، بالولاية الصحيحة الشرعيّة، المتّصلة بالمواقف الشريفة النبويّة، الإماميّة العبّاسيّة، (المستكفى) أمير المؤمنين- أعزّ الله به الدّين، وأمتع ببقائه الإسلام والمسلمين- وأشهد على نفسه من حضر مجلس حكمه وقضائه، وهو يومئذ نافذ القضايا والأحكام ماضى النقض والإبرام، وذلك فى اليوم المبارك؛ ويكتب الحاكم التاريخ بخطّه؛ ثمّ يكتب الكاتب: أنّه ثبت عنده وصحّ لديه بالبيّنة العادلة المرضيّة، التى ثبتت بمثلها الحقوق الشرعيّة، عدالة فلان- وينعته بما يستحقّه- ثبوتا ماضيا شرعيّا معتبرا تامّا مرضيّا؛ وحكم بعدالته، وقبول قوله فى شهادته؛ وأجاز ذلك وأمضاه واختاره وارتضاه، وألزم ما اقتضاه مقتضاه؛ وأذن سيّدنا قاضى القضاة فلان لفلان المحكوم بعدالته فى تحمّل الشهادات وأدائها، لتحفظ الحقوق على أربابها وأوليائها؛ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 146 وسمع شهادته فقبلها وأجازها، وأمره أن يرقم على حلل «1» الطروس طرازها؛ وبسط قلمه بسطا كلّيّا، ونصبه بين الناس عدلا مبرّرا «2» مرضيّا، وأجراه مجرى أمثاله من العدول المبرّرين «3» ، وسلك به مسلك الشهداء المتميّزين؛ وتقدّم- أدام الله تعالى أيّامه- بكتابة هذا الإسجال، فكتب عن إذنه الكريم فى التاريخ المقدّم ذكره أعلاه المكتب بخطّه الكريم، شرّفه الله تعالى. والكاتب فى ذلك بحسب ما توصله إليه عباراته. فصل فى ثبوت إقرار متبايعين يكتب: هذا ما أشهد على نفسه الكريمة سيّدنا ومولانا العبد الفقير إلى الله تعالى قاضى القضاة، حاكم الحكّام فلان- وتستوفى ألقابه ونعوته وولايته، ويدعى له- من حضر مجلس حكمه وقضائه، وهو نافذ القضاء والحكم ماضيهما، أنه ثبت عنده وصحّ لديه- أحسن الله اليه- فى المجلس المذكور، بمحضر من متكلّم جائز كلامه، مسموعة دعواه على الوجه المعتبر الشرعىّ، بشهادة العدول الثلاثة- أو بحسب ما يكونون- الّذين أعلم تحت رسم شهادتهم بالأداء فى باطنه، إقرار «4» فلان وفلان بما نسب إلى كلّ منهما فى كتاب الإقرار باطنه على ما شرح فيه، وهو مؤرّخ بكذا وكذا، وبآخره رسم شهادتهم، وقد أرّخ شاهدان منهم شهادتهما بتاريخ الكتاب، والثالث أرّخ شهادته بكذا وكذا [و «5» ] جميع ما تضمّنه كتاب الابتياع المشروح باطنه- ويذكر جميع ما فيه- الجزء: 9 ¦ الصفحة: 147 وقد أقاموها بذلك عند سيّدنا قاضى القضاة فلان الحاكم المذكور بشروط الأداء المعتبرة فيما عيّنه كلّ منهم فى خطّه باطنه فى التاريخ [المذكور «1» ] ، وقبل ذلك «2» منهم القبول السائغ فيه، وأعلم تحت رسم شهادتهم فى باطنه علامة الأداء والقبول على الرسم المعهود فى مثله، وثبت ذلك عنده ثبوتا شرعيّا؛ فلمّا تكامل ذلك عند سيّدنا قاضى القضاة فلان الحاكم المذكور سأله من جازت مسألته، وسوّغت الشريعة المطهّرة إجابته، الإشهاد على نفسه بثبوت ذلك عنده، والحكم بموجبه على الوجه «3» المشروح فيه، ... «4» ... وأبقى كلّ ذى حجّة على حجّته، وهو فى ذلك كلّه نافذ القضاء والحكم ماضيهما، بعد تقدّم الدعوى المسموعة وما ترتّب عليها، وتقدّم- أدام الله أيّامه، وأعزّ أحكامه- بكتابة هذا الإسجال، فكتب عن إذنه متضمنا لذلك وذلك بعد قراءة ما يحتاج الى قراءته فى كتاب الإقرار، ووقع الإشهاد بذلك بتاريخ كذا وكذا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 148 مثال إسجال بثبوت مبايعة بشهود الأصل «1» وشهود الفرع «2» على نائب الحكم هذا ما أشهد على نفسه العبد الفقير الى الله تعالى أقضى «3» القضاة فلان، خليفة الحكم العزيز بالمكان الفلانىّ عن سيّدنا العبد الفقير الى الله تعالى قاضى «4» القضاة فلان، من حضره من العدول، أنّه ثبت عنده فى مجلس حكمه ومحلّ نيابته فى اليوم الفلانىّ، بعد صدور دعوى محرّرة مقابلة بالإنكار على الوضع الشرعىّ بشهادة عدول الأصل الثلاثة، وهم- ويسمّيهم- وشاهدى الفرع، وهما فلان وفلان، وهم الذين أعلم الحاكم المذكور تحت رسم شهادتهم بالأداء آخر «5» الابتياع المذكور باطنه، إقرار «6» المتبايعين المسمّيين باطنه بما نسب اليهما فيه، على ما نصّ وشرح فيه، المؤرّخ بكذا وكذا، وبآخره رسم شهادة العدول الثلاثة المشار إليهم؛ [وقد أقام شهود الأصل «7» ] شهادتهم بذلك عند الحاكم المذكور بشروط الأداء الجزء: 9 ¦ الصفحة: 149 وقبل ذلك منهم القبول السائغ فيه؛ وقد أقام شاهدا الفرع المذكوران شهادتهما على أصلهما العدل فلان بما تحمّلاه عنه، وهو أنّه شهد على المتعاقدين المذكورين باطنه بما نسب الى كلّ منهما فيه، وأنّه ذكر لهما ذلك، وأشهدهما على شهادته به، على ما تضمّنه رسم شهادتهما آخر الابتياع باطنه، فى حال سوغ سماع شهادة الفرع على أصله، عند سيّدنا القاضى فلان الحاكم المذكور، وقبلها منهما القبول السائغ فيه وسطّر تحت رسم شهادة كلّ منهما ما جرت العادة به من علامة الأداء والقبول على الرسم المعهود فى مثله؛ وانّه ثبت عنده- أعزّ الله أحكامه- فى المجلس المذكور على الوضع الشرعىّ، بشهادة عدلين من العدول الثلاثة الأصول، وهما فلان وفلان أنّ البائع المذكور لم تزل يده متصرّفة فيما باعه الى حين انتقاله من يده الى يد هذا المشترى المسمّى باطنه؛ وقد أقام كلّ منهما شهادته بذلك عنده، وقبلها منه القبول السائغ فيه، وسطّر ما جرت العادة به من علامة الأداء والقبول على الرسم المعهود فى مثله- وان كانت المبايعة ثبتت بعدلين وشهد أنّ البائع مالك لما باعه كتب: «أنّه ثبت عنده فى المجلس المذكور بمحضر من متكلّم جائز كلامه، مسموعة دعواه على الوضع الشرعىّ المعتبر، بشهادة عدلين، هما فلان وفلان، إقرار المتبايعين باطنه، وهو أنّ فلانا اشترى من فلان جميع كذا وكذا- ويشرح ما فى المبايعة- وبآخرها رسم شهادتهما، وقد أقاماها عند الحاكم على المشترى والبائع بما نسب الى كلّ منهما باطنه وأنّ البائع المذكور مالك لما باعه فيه، وشخّصاه له، فقبل ذلك منهما القبول السائغ فيه، وسطّر ما جرت العادة به من علامة الأداء والتشخيص على الرسم المعهود» - فلمّا تكامل ذلك عنده وصحّ لديه سأله من جاز سؤاله التقدّم بكتابة هذا الفصل وتضمينه الإشهاد عليه بثبوت ذلك لديه، والحكم على المتبايعين المذكورين بما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 150 نسب إليهما بأعاليه، وتضمينه ملك البائع المذكور لما باعه فيه «1» ؛ فأعذر- أعزّ الله أحكامه- إلى البائع المذكور: هل له مطعن فيما شهد [به «2» ] عليه فيه «3» ، أو فى من شهد؟ فأقرّ فى المجلس المذكور بأنّه لا مطعن له فى ذلك ولا فى شىء منه؛ فعند ذلك أجاب السائل الى سؤاله، فكتب عن إذنه، وحكم على المتبايعين المذكورين بما نسب إليهما بأعاليه، وبصحّة ملك البائع المذكور لما باعه بعد قراءة ما تضمّنه باطنه «4» على شهود هذا الإسجال، وأبقى كلّ ذى حجّة معتبرة فيه على حجّته، وهو فى ذلك كلّه نافذ القضاء والحكم ماضيهما، وذلك بعد تقدّم الدعوى المحرّرة وما ترتّب عليها؛ ووقع الإشهاد بذلك بتاريخ كذا وكذا. فصل فى ثبوت إسجال حاكم على حاكم هذا ما أشهد عليه سيّدنا العبد الفقير الى الله تعالى قاضى القضاة فلان من حضره من العدول، أنّه ثبت عنده وصحّ لديه فى مجلس حكمه ومحلّ ولايته، بعد صدور دعوى محرّرة مقابلة بالإنكار على الوضع الشرعىّ، بشهادة العدول الذين أعلم تحت رسم شهادة كلّ منهم بالأداء فى باطنه، إشهاد قاضى القضاة فلان الحاكم بالعمل الفلانىّ بما نسب إليه فى إسجاله المسطّر أعلاه، على ما نصّ وشرح فيه، وهو مؤرّخ بكذا وكذا؛ وقد أقام كلّ من الشهود شهادته بذلك عند القاضى فلان الحاكم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 151 المبتدإ باسمه بشروط الأداء على الرسم المعهود عنده فى مثله؛ فلمّا تكامل ذلك عنده وصحّ لديه- أحسن الله إليه- سأله من جاز سؤاله الإشهاد على نفسه بثبوت ذلك لديه، وتنفيذه وإمضاءه والحكم به، فأجابه الى سؤاله، وتقدّم بكتابته فكتب عن إذنه الكريم، وأشهد على نفسه بثبوت ذلك لديه، وتنفيذه وإمضائه وأنّه حكم به وارتضاه، وأبقى كلّ ذى حجّة معتبرة فيه على حجّته، وهو فى ذلك نافذ الحكم والقضاء ماضيهما، بعد تقدّم الدّعوى المسموعة وما ترتّب عليها- وإن حضر من أشهد عليه أنّه لا مطعن له فى ذلك كتب: «وحضر إقامة البيّنة فلان، واعترف بأنّه لا مطعن له فى ذلك ولا فى من شهد به» - ووقع الإشهاد به بتاريخ ... «1» . فهذه أمثلة ذكرناها؛ والكاتب المجيد المتصرّف يكتب بقدر الوقائع، ويتصرّف فى الألفاظ، ما لم يخلّ بالمقاصد، ولا يدخل عليها من الألفاظ ما يفسدها. وأما الكتب الحكميّة- فاذا ثبت عند حاكم من الحكّام أمر وسأله المحكوم له كتابا حكميّا لجميع القضاة كتب ما مثاله بعد البسملة: هذه المكاتبة الحكميّة الى كلّ من تصل اليه من قضاة المسلمين وحكامهم- ويدعو لهم- من مجلس الحكم العزيز بالعمل الفلانىّ عن سيّدنا قاضى القضاة فلان، الحاكم بالعمل الفلانىّ- ويدعى له- أنّه ثبت عنده وصحّ لديه فى مجلس حكمه وقضائه بمحضر من متكلّم جائز كلامه، مسموعة دعواه على الوضع الشرعىّ، بشهادة عدلين، وهما فلان وفلان، جميع «2» ما تضمّنه مسطور الدّين المتّصل أوّله بآخر كتابى هذا، الذى مضمونه- وينقل الى آخره- وبآخره رسم شهادة العدلين المشار اليهما؛ وقد أقام كلّ منهما شهادته عنده أنّه بالمقرّ المذكور عارف؛ وقبل ذلك منهما القبول الجزء: 9 ¦ الصفحة: 152 السائغ، وسطّر تحت رسم شهادتهما ما جرت العادة به من علامة الأداء والقبول على الرسم المعهود فى مثله، وذلك بعد أن ثبتت عنده على الوضع الشرعىّ بشهادة عدلين- هما فلان وفلان الواضعا «1» رسم شهادتهما فى مسطور الدّين المذكور- الغيبة الشرعيّة وأقام كلّ منهما شهادته عنده بغيبة المقرّ المذكور، وقالا: «إنّهما به عارفان» ، وقبل ذلك منهما القبول الشرعىّ، وسطّر تحت رسم شهادتهما ما جرت العادة به من علامة الأداء والقبول على الرسم المعهود فى مثله، وأحلف المقرّ له بالله العظيم، اليمين الشرعيّة المتوجّهة عليه، المؤرّخة فى مسطور الحلف المكتتب على ظهر المسطور أو الملصق بذيل مسطور الدين، بالتماسه لذلك على الأوضاع الشرعيّة، ثبوتا «2» شرعيّا معتبرا؛ وأنّه حكم بذلك وأمضاه، وألزم بمقتضاه، على الوجه الشرعىّ، مع إبقاء كلّ ذى حجّة معتبرة على حجّته، وهو فى ذلك كلّه نافذ القضاء والحكم ماضيهما بعد تقدّم الدعوى المسموعة وما ترتّب عليها؛ ولمّا تكامل ذلك كلّه عنده وصحّ لديه- أحسن الله اليه- سأله من جازت مسألته، وسوّغت الشريعة المطهّرة أجابته، المكاتبة عنه بذلك، فأجابه الى سؤاله، وتقدّم بكتابة هذا الكتاب الحكمىّ فكتب عن إذنه؛ فمن وقف عليه من قضاة المسلمين وحكّامهم واعتمد تنفيذه وإمضاءه حاز الأجر والثواب، والرضا «3» وحسن المآب؛ وفّقه الله وإيّانا لما «4» يحبّه ويرضاه؛ وكتب عن مجلس الحكم العزيز بالعمل الفلانىّ فى اليوم الفلانىّ- ويؤرّخ- مثال العلامة بعد البسملة كذا وكذا، وعدد أوصاله كذا وكذا؛ ويختم الكتاب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 153 ثم يكتب عنوانه، ومثال ما يكتب: «من فلان بن فلان الحاكم بالعمل الفلانىّ» ويشهد عليه بثبوت ذلك عنده. ويكتب أيضا فى مثل ذلك- وهو أبلغ- ما صورته: هذا كتاب حكمىّ محرّر مرضىّ؛ تقدّم بكتابته وتسطيره، وتنجيزه وتحريره، العبد الفقير الى الله تعالى قاضى القضاة فلان- ويدعى له- الحاكم بالدّيار المصريّة، أو غيرها، للدّولة الفلانيّة، بالولاية المتّصلة بالمواقف الشريفة- نحو ما تقدّم فى إسجال العدالة- الى كلّ من يصل اليه من قضاة المسلمين وحكّامهم ونوّابهم وخلفائهم- ويدعو لهم- متضمّنا «1» أنّه ثبت عنده وصحّ لديه؛ ويكمّل كما تقدّم. فصل اذا ورد مثل هذا الكتاب من قاض الى قاض- مثاله من قاضى القضاة بدمشق الى قاضى القضاة بمصر - كتب على ظهره ما مثاله: هذا ما أشهد على نفسه سيّدنا ومولانا قاضى القضاة فلان، الحاكم بالقاهرة ومصر المحروستين وسائر الدّيار المصريّة- ويدعى له- أنّه ورد عليه الكتاب الحكمىّ الصادر عن مصدره قاضى القضاة فلان الحاكم بدمشق- وهو الكتاب المشروح باطنه- ورودا صحيحا شرعيّا، موثوقا به، مسكونا اليه؛ وشهد بوروده عن مصدره قاضى القضاة فلان الحاكم بدمشق المحروسة كلّ واحد من العدول المستورين، أو المزكّين «2» وهم- ويسمّيهم- عند سيّدنا قاضى القضاة فلان، وقالا: «إنّ الحاكم المذكور الجزء: 9 ¦ الصفحة: 154 أشهدهما على نفسه بما تضمّنه الكتاب الحكمىّ المسطّر باطنه، بعد قراءته على مصدره بحضرتهما وحضور من يعتبر حضوره» وانّ قاضى القضاة فلانا سمع شهادتهما فقبلها القبول السائغ؛ ولمّا تكامل ذلك كلّه سأله من جازت مسألته، وسوّغت الشريعة المطهّرة إجابته، الإشهاد على نفسه بثبوت ذلك لديه، وأنّه قبله قبول أمثاله من الكتب الحكمية قبولا شرعيّا، وحكم به وأمضاه، وألزم بمقتضاه؛ فأجاب السائل الى سؤاله، وأشهد على نفسه بذلك، وذلك كلّه بعد تقدّم الدعوى المسموعة فى ذلك وما ترتّب عليها، وأبقى كلّ ذى حجّة معتبرة فيه على حجّته، وهو فى ذلك كلّه نافذ القضاء والحكم ماضيهما؛ وذلك بتاريخ .... وأما التقاليد الحكميّة - فيبتدئ الكاتب فى صدرها بعد البسملة بخطبة يورد فيها ما تؤدّيه إليه عبارته، وتبلّغه إيّاه فصاحته وبلاغته؛ ثم يكتب: ولمّا كنت «1» أيّها القاضى فلان- وينعته بما يستحقّه- ممّن اتّصف بكذا وكذا واشتغل بكذا وكذا، واستحقّ كذا وكذا، استخرت الله تعالى، واستنبتك عنّى فى القضاء والحكم فى العمل الفلانىّ، فى جميع أعماله وبلاده وسائر أقطاره؛ فتولّ ما ولّيتك، وباشر ما عذقته «2» بك، وصن أموال الناس عن الضّياع، وزوّج من لا ولىّ له عند «3» الشروط المعتبرة الأوضاع؛ واضبط الأحكام بشهادة الثّقاة العدول وميّز بين المردود منهم والمقبول؛ وراع أحوال النوّاب فى البلاد، وأرهم يقظة تردع الجزء: 9 ¦ الصفحة: 155 بها المفسد عن الفساد- ويذكر غير ذلك من الوصايا، ويوصيه فى آخرها بتقوى الله تعالى- وكتب عن مجلس الحكم العزيز بالعمل الفلانىّ؛ ويؤرّخ. وأمّا تقاليد قضاة القضاة فتتعلّق بكتّاب الإنشاء؛ وهذا مثال، والكاتب يتصرّف بحسب نباهته ومعرفته وعلمه. وأما الأوقاف والتحبيسات - فهى بحسب آراء أربابها فيما يوقفونه «1» ويحبسونه على أبواب القربات، وأنواع الأجر والمثوبات؛ وسنذكر منها قواعد يقاس عليها- إن شاء الله تعالى- فمن ذلك ما إذا كان لرجل دار وأراد أن يوقفها «2» عليه «3» وعلى أولاده من بعده ونسلهم وعقبهم، فسبيله فى ذلك أن يملّك الدّار لغيره «4» ، ويكتب التمليك على ما تقدّم «5» ؛ ثم يقول: وبعد تمام ذلك ولزومه أشهد عليه فلان المقرّ له فيه شهود هذا المكتوب طوعا منه واختيارا، أنّه وقف وحبّس وسبّل وحرّم «6» وأبّد، وتصدّق الجزء: 9 ¦ الصفحة: 156 بما هو له وفى يده وملكه وتصرّفه، ورآه وعرفه، وأحاط به علما وخبرة؛ وهو جميع الدّار الموصوفة المحدودة أعلاه، على فلان بن فلان المقرّ المملّك المذكور أعلاه أيّام حياته، ثمّ من بعده على أولاده، وأولاد أولاده، وأولاد أولاد أولاده أبدا ما تناسلوا دائما، وما تعاقبوا، للذّكر مثل حظّ الأنثيين، يتناقلونه بينهم كذلك الى حين انقراضهم، يحجب الآباء منهم والأمّهات أولادهم وأولاد أولادهم وإن سفلوا؛ فإن لم يكن له «1» ولد ولا ولد ولد ولا أسفل من ذلك، كان نصيبه لإخوته الموجودين حين موته، للذّكر مثل حظّ الأنثيين، يحجب الآباء منهم والأمّهات أولادهم وأولاد أولادهم؛ فإن لم يوجد من أولاد الموقوف عليه وأولاد أولاده أحد كان ذلك وقفا مصروفا ريعه على مصالح المسجد الذى بالموضع الفلانىّ- ويوصف ويحدّد- برسم عمارته ومرمّته وفرشه ووقود مصابيحه وشراء ما يحتاج اليه من الزّجاج والنّحاس والحديد، ومن يقوم بخدمته والأذان فيه، ومن يؤمّ فيه بالمسلمين فى الصلوات الخمس المكتوبة المفروضة على سائر المسلمين، على ما يراه الناظر فى ذلك؛ فإن تعذّر الصرف عليه بوجه من الوجوه كان ذلك وقفا على الفقراء والمساكين أينما كانوا وحيثما وجدوا من الديار المصريّة أو الشأم، أو عمل من الأعمال، أو بلد من البلاد، على ما يراه الناظر فى ذلك من مساواة وتفضيل، وإعطاء وحرمان؛ ومتى أمكن الصرف الى ما ذكر من مصالح المسجد كان الوقف عليها والصرف إليها، يجرى الحال فى ذلك كذلك الى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين؛ على أنّ للنّاظر فى هذا الوقف والمتولّى عليه أن يؤجره لمن شاء الجزء: 9 ¦ الصفحة: 157 ما شاء من المدد: طوالها وقصارها، بما يراه من الأجر: المعجّلة أو المؤجّلة أو المنجّمة؛ أو يكتب: «وعلى الناظر فى هذا الوقف أن يؤجره لسنة كاملة فما دونها، بأجرة المثل فما فوقها» ولا يتعجّل أجرة، ولا يدخل عقدا على عقد إلّا أن يجد فى مخالفة ذلك مصلحة ظاهرة، أو غبطة ظاهرة «1» ، فيؤجره لمدّة كذا وكذا ولمن شاء، ويستغلّ أجره بوجوه الاستغلال الشرعيّة، فما حصل من ريعه بدأ منه بعمارته ومرمّته وإصلاحه وما فيه بقاء عينه ودوام منفعته، ثم ما فضل بعد صرفه لمستحقّه على ما شرح أعلاه؛ وجعل الواقف النّظر فى هذا الوقف والولاية عليه لفلان الموقوف عليه أوّلا، ثم من بعده لأولاده وأولاد أولاده، ينظّر كلّ منهم على حصّته فى حال استحقاقه وعلى حصّة من تعذّر نظره من المستحقّين لصغر أو سفه أو غيبة أو عدم أهليّة، أو سبب من الأسباب، الى حين تمكّنه من النظر، فيعود حكمه حكم باقى المستحقّين فى النظر على حصّته وحصّة غيره؛ فإن تعذّر النظر من أحدهم أو من جميعهم بسبب من الأسباب، أو انقرضوا ولم يوجد منهم أحد، كان النظر فى ذلك لحاكم المسلمين؛ وان عاد إمكان النظر الى مستحقّى الوقف أو إلى أحد منهم قدّم فى النظر على غيره؛ ومن عدمت منهم أهليّته وكان له ولىّ ينظر فى ماله كان النظر له على حصّته فى هذا الوقف دون غيره من المستحقّين ومن الحاكم؛ يجرى الحال فى ذلك كذلك وجودا وعدما، الى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين؛ ولكلّ ناظر فى هذا الوقف أن يستنيب عنه فى ذلك من هو أهل له؛ وعلى كلّ ناظر فى هذا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 158 الوقف أن يتعهّد إثباته عند الحاكم بحفظه بتواتر الشّهادات واتّصال الأحكام، وله أن يصرف فى كلفة إثباته ما جرت العادة به من ريع هذا الوقف؛ وقف فلان المبتدأ باسمه جميع ذلك على الجهات المعيّنة، بالشروط المبيّنة، على ما شرح أعلاه؛ وقفا صحيحا شرعيّا مؤبّدا، وحبسا دائما سرمدا، وصدقة موقوفة، لاتباع ولا توهب، ولا تملّك، ولا ترهن، ولا تتلف بوجه تلف، قائمة على أصولها محفوظة على شروطها، الى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين؛ وقبل هذا الموقوف عليه ذلك لنفسه قبولا شرعيّا، وتسلّم الموقوف عليه الدّار المذكورة وصارت بيده وقبضه وحوزه؛ وذلك بعد النظر والمعرفة، والإحاطة به علما وخبرة؛ فلا يحلّ لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر إخراجه عن أهله، وحرام على من غيّره أو بدّله (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) . فصل اذا وقف رجل دارا على أولاده وعلى من يحدثه الله من الأولاد، ثمّ على المسجونين ثمّ على فكّ الأسرى، ثمّ على الفقراء والمساكين، كتب ما مثاله: هذا كتاب وقف صحيح شرعىّ، وحبس صحيح «1» مرضىّ، تقرّب به واقفه الى الله تعالى رغبة فيما لديه وذخيرة له يوم العرض عليه؛ يوم يجزى الله المتصدّقين، ولا يضيع أجر المحسنين؛ اكتتبه فلان، وأشهد على نفسه أنّه وقف وحبّس وسبّل وحرّم وأبّد وتصدّق الجزء: 9 ¦ الصفحة: 159 بما هو له وفى يده وملكه وتصرّفه، وعرفه ورآه، وأحاط به علما و [خبرة «1» ] . «2» ... ... [ المؤتلف والمختلف من أسماء نقلة الحديث ] [عقّار «3» بالعين والقاف والراء: عقّار «4» بن] المغيرة بن شعبة، وغيره؛ وغفار، هو أبو غفار «5» ، عن «6» أبى تميمة، وأبو غفار «7» غالب التّمّار. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 160 (وعبيس) (وعنبس) عبيس، هو ابن ميمون أبو عبيدة، وأمّ عبيس، امرأة كانت تعدّب فى الله أعتقها «1» أبو بكر الصدّيق- رضى الله عنه-؛ وعنبس، هو ابن عقبة، وعنبس ابن إسماعيل القزّاز، وغيرهما. (وعبّاد) (وعباد) (وعياذ) (وعباد) فأمّا عبّاد، فكثير؛ وعباد بضمّ العين، هو قيس بن عباد، تابعىّ كبير؛ وعياذ بكسر العين وياء مثنّاة وذال معجمة، هو عياذ بن عمرو «2» ، له صحبة، وأهبان بن عياذ مكلّم «3» الجزء: 9 ¦ الصفحة: 161 الذئب، وعياذ بن أبى العيذ، وعياذ بن مغراء؛ وعباد «1» بكسر العين وباء موحّدة: ربيعة بن عباد، له صحبة، وعباد العبدىّ. (وعمارة) (وعمارة) عمارة بالضم، كثير؛ وبكسر العين: واحد، هو أبىّ بن عمارة، له صحبة. (وعابس) (وعائش) عابس، كثير؛ وعائش، هو ابن أنس، وعبد الرحمن بن عائش الحضرمىّ. (وعدثان) (وعدنان) أمّا عدثان، فهو فى نسب غافق «2» بن «3» العتيك بن عكّ «4» بن عدثان؛ وعدنان، هو عدنان بن أحمد بن طولون. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 162 (وعلىّ) (وعلىّ) ... «1» ... علىّ بضم العين وتشديد الياء، هو علىّ بن رباح، والأصبغ بن علقمة بن علىّ. (وعيشون) (وعيسون) (وعبسون) أمّا عيشون، فهو عبد الله بن عيشون «2» الحرّانىّ، ومحمد بن عيشون؛ وأمّا عيسون، فهو عبد الحميد بن أحمد بن عيسى، هذا «3» يعرف بعيسون، ومحمّد بن عيسون الأنماطىّ؛ وأمّا عبسون، فهو محمد بن أحمد بن عبسون البغدادىّ. (وعتيق) (وعتيق) الأوّل بالفتح، كثير؛ وعتيق بالضم، هو عتيق بن محمّد. (وعتبة) (وعنبة) (وغنيّة) (وعبية «4» ) أما عتبة بضم العين، فكثير؛ وأمّا عنبة بكسر العين وبعدها نون، فهو أبو عنبة الخولانىّ، أدرك الجاهليّة والإسلام، والحارث بن عنبة الكوفىّ؛ وأمّا غنيّة بالغين الجزء: 9 ¦ الصفحة: 163 المعجمة ونون وياء، فعبد الملك بن حميد بن أبى غنية والد يحيى؛ وأمّا عبيّة، فاسم مشهور «1» . (وعبّاس) (وعيّاش) (وعيّاس) (وعنّاس) فأمّا عبّاس، فكثير؛ وأمّا عيّاش، فجماعة، منهم عيّاش بن أبى ربيعة؛ وأمّا عيّاس بالياء المثنّاة من تحت والسين المهملة، فهو أبو العيّاس، يروى عن سعيد بن المسيّب؛ وأمّا عنّاس بالنون والسين المهملة، فهو عنّاس بن «2» خليفة. (وعبدان) (وعيدان) (وعيدان) فعبدان، اسم مشهور؛ وعيدان بفتح العين، هو ربيعة بن عيدان «3» ؛ وأمّا عيدان «4» بكسر العين، فهو واحد من المحدّثين. (وعقيل) (وعقيل) اسمان مشهوران. (وعتّاب) (وغياث) كذلك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 164 (وعليم) (وعلثم) أمّا عليم، فهو الذى يروى عن سلمان الفارسىّ؛ وأمّا علثم، فهو والد عمار ابن علثم. (وعيسى) (وعبسىّ) أمّا الأوّل، فاسم مشهور معروف؛ والثانى بفتح العين وتسكين الباء الموحّدة وكسر السين، فهو عبسىّ «1» بن قاشىّ «2» ، اجتمع بأحمد بن حنبل. (وعثيم) (وغنيم) الأوّل: اسم جماعة، منهم عثيم بن نسطاس، روى عن سعيد المقبرىّ؛ وغنيم بالغين المعجمة والنون: غنيم بن قيس، أبو العنبر، أدرك النّبىّ صلى الله عليه وسلم ورآه. (وعتيبة) (وعيينة) الأوّل: الحكم بن عتيبة، وعتيبة «3» عن بريد «4» بن أصرم عن علىّ؛ وأمّا عيينة، فكثير. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 165 (وعديس) (وعدبّس) عبد الرحمن «1» بن عديس، له صحبة؛ وعدبّس بالباء الموحّدة، هو جدّ عبد الله ابن أحمد بن وهيب بن عدبّس، وأبو العدبّس منيع بن سليمان. (وعفير) (وغفير) الأوّل بالعين المهملة: جماعة؛ والثانى بالإعجام، هو الحسن بن غفير. (وعدىّ) (وعدىّ) الأوّل بالفتح، كثير؛ والثانى بالضم، هو زياد بن عدىّ. (وعائذ) (وعابد) الأوّل بالياء المثنّاة من تحت والذال المعجمة، كثير؛ والثانى بالباء الموحّدة والدال المهملة: حبيس «2» بن عابد، وعابد بن عمر «3» بن مخزوم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 166 (وغزوان) (وعزوان) الأوّل بالإعجام، كثير؛ والثانى بالعين المهملة، هو عزوان بن زيد «1» الرّقاشى روى عن «2» الحسن البصرىّ. (وغنّام) (وعثّام) الأوّل: غنّام، بدرىّ، وتسمّى به غيره؛ والثانى: عثّام بن علىّ. (وغرير) (وعزيز) و (عزيز) (وعزير) الأوّل بالغين معجمة وراء مهملة مكرّرة، هو غرير بن حميد «3» بن عبد الرحمن ابن عوف؛ والثانى عزيز بالعين «4» المهملة مضمومة وزاى مكررة معجمة، هو محمّد ابن عزيز الأيلىّ، ومحمّد بن عزيز «5» السّجستانىّ صاحب غريب القرآن؛ والثالث عزيز بفتح العين المهملة وكسر الزاى الأولى المعجمة، هو والد خيثمة؛ قال خيثمة بن عبد الرحمن: «كان اسم أبى فى الجاهليّة عزيزا، فسمّاه النبىّ صلى الله عليه وسلم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 167 عبد الرحمن» . والرابع عزير بالزاى والياء المثنّاة «1» تحت: أحمد بن عبيد الله حمار العزير. (وغرّون «2» ) (وعزّون «3» ) الأوّل: من شيوخ الموصل؛ والثانى: بالعين المهملة، هو جدّ علىّ بن الحسين ابن عزّون «4» . (وغنىّ) (وعتىّ) الأوّل: عطيّة بن غنىّ؛ والثانى: عتىّ بن ضمرة، عن أبىّ بن كعب. (وفضيل) (وفصيل) الأوّل، كثير؛ والثانى بالفاء والصاد المهملة مكسورة: الحكم بن فصيل يروى عن خالد الحذّاء، عن نافع، عن ابن عمر. (وفريس) (وقريش) الأوّل بفاء مفتوحة وسين مهملة، هو فريس بن صعصعة؛ والثانى، كثير. (وفرج) (وفرح) (وفرخ) الأوّل بالجيم: جماعة؛ والثانى بالحاء المهملة: قليل، منهم فرح بن رواحة؛ والثالث بالخاء المعجمة والراء الساكنة، هو جدّ عبد الله بن محمّد بن فرخ «5» الواسطىّ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 168 (وفتح) (وفنّج) الأوّل اسم مشهور؛ والثانى بالفاء والنون والجيم: واحد، روى [عبد الله «1» ابن] وهب بن منبّه عن أبيه، قال: «حدّثنى فنّج» ... «2» . (وقهم) (وفهم) الأوّل بالقاف، هو النّهّاس بن القهم «3» ؛ والثانى بالفاء، هو فهم بن عبد الرحمن، وغيره. (وكثير) (وكنيز) (وكثيّر «4» ) (وكبير) (وكنيز «5» ) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 169 الأوّل بالفتح والثاء المثلّثة: اسم مشهور؛ والثانى بالفتح والنون والزاى معجمة، هو بحر بن كنيز السّقّاء؛ والثالث كثير بضم الكاف وتشديد الياء، هو كثيّر بن عبد الرحمن؛ والرابع كبير بالفتح والباء الموحّدة والياء الساكنة، هو أبو أميّة كبير والد جنادة الأزدىّ؛ والخامس كنيز بضم الكاف وفتح النون، هو كنيز الخادم كان يحدّث بمصر. (وكبشة) (وكيّسة) الأوّل، كثير؛ والثانى بالياء والسين، هو أبو كيّسة «1» البراء بن قيس، وكيّسة بنت أبى بكرة «2» الثّقفى. (ومسلم) (ومسلّم) ... «3» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 170 (ومخلد) (ومخلّد) الأوّل بتسكين الخاء، كثير؛ والثانى بضم الميم وفتح الخاء وتشديد اللام: مسلمة «1» ابن مخلّد، له صحبة، والحارث بن مخلّد، عن أبى هريرة رضى الله عنه. (ومعاوية) (ومغوية) الأوّل، معروف؛ والثانى بالغين المعجمة، هو أبو راشد الأزدىّ، وفد على النّبىّ صلى الله عليه وسلم، فقال له: «ما اسمك» ؟ فقال: «عبد العزّى» ، قال: «أبو من» ؟ قال: «أبو مغوية» ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلّا، ولكنّك عبد الرحمن أبو راشد» . (ومبشّر) (وميسّر) الأوّل، اسم مشهور؛ والثانى، هو ميسّر بن عمران بن عمير، مولى عبد الله بن مسعود، وعلىّ بن ميسّر، كوفىّ. (ومعمر) (ومعمّر) اسمان مشهوران. (ومعبد) (ومعيد) الأوّل، كثير؛ والثانى، هو أبو معيد حفص بن غيلان. (ومسور) (ومسوّر) الأوّل بكسر الميم وتسكين السين المهملة، كثير؛ والثانى، هو بضم الميم وفتح السين وتشديد الواو، وهو مسوّر «2» بن يزيد المالكىّ الكاهلىّ؛ له صحبة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 171 (ومرثد) (ومزيد) (ومريد) (ومزبّد «1» ) الأوّل بفتح الميم وسكون الراء المهملة والثاء المثلّثة، كثير؛ والثانى مزيد بالزاى والياء، هو الوليد بن مزيد [صاحب «2» ] الأوزاعىّ، ومزيد بن هلال، «ووالد يزيد «3» ابن مزيد، [ومزيد «4» ] بن عبد الله» ؛ والثالث مريد بضم الميم والراء المهملة والياء المثنّاة من تحت، هو مريد، روى عن أيّوب السّختيانىّ؛ والرابع مزبّد «5» ، هو [صاحب «6» النوادر، بالزاى والباء المعجمة بواحدة] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 172 (ومحرز) (ومحرّر) (ومجزّز) الأوّل: محرز بن زهير، له صحبة؛ والثانى محرّر بالحاء والراءين المهملتين هو محرّر «1» بن أبى هريرة، ومحرّر بن قعنب؛ والثالث مجزّز بالجيم وزايين معجمتين هو مجزّز المدلجىّ القائف، وهو فى الصحابة. (ومغيث) (ومعتّب) (ومعتب) الأوّل: مغيث بن بديل، ومغيث بن أبى بردة، ومغيث «2» زوج بريرة، له صحبة وغيرهم؛ والثانى معتّب، هو ابن قشير، ومعتّب بن أبى معتّب، وغيرهما؛ والثالث معتب، نسمّى به جماعة «3» . (ومزاحم) (ومراجم) الأوّل، مشهور؛ والثانى مراجم بالراء المهملة والجيم: عوّام بن مراجم. (ومسهر) (ومشهّر) الأوّل، فيه جماعة؛ والثانى [وبربن «4» ] مشهّر «5» ، له صحبة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 173 (ومشكان) (ومسكان) ... «1» ... (ومشرح) (ومسرّح) ... «2» ... (ومسبّح) (ومسيح) (ومسيح) (ومشنّج) الأوّل، هو مسبّح بن حاتم العكلىّ، وغيره؛ والثانى مسيح بفتح السين المهملة وسكون الياء، هو تميم بن مسيح؛ وبكسر السين المهملة، هو عبد العزيز بن مسيح «3» ؛ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 174 والرابع مشنّج بالشين المعجمة والنون والجيم، هو سمعان بن مشنّج «1» ، روى عن سمرة ابن جندب. (ومثنّى) (وميثاء) الأوّل، مشهور كثير؛ والثانى ميثاء بالياء المثنّاة من تحت والثاء المثلّثة، هو أبو الميثاء المستظلّ «2» بن حصين، وأبو الميثاء أيّوب بن قسطنطين، مصرىّ وأبو الميثاء، عن أبى ذرّ. (ومنبّه) (ومنية) الأوّل، كثير؛ والثانى، قليل، منهم يعلى بن منية، وهو ابن أميّة، ومنية بنت عبيد بن أبى برزة. (ونافع) (ويافع) الأوّل بالنون، كثير؛ والثانى بالياء، هو يافع بن عامر. (ونصر) (ونضر) اسمان معروفان. (ونميل) (وثميل) الأوّل بالنون: اسماعيل بن نميل؛ والثانى بالثاء المثلّثة: ثميل الأشعرىّ، عن أبى الدّرداء. (ونعيم) (ويغنم) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 175 الأوّل بالنون، كثير؛ والثانى بالياء وغين معجمة، هو يغنم بن سالم بن قنبر ضعيف جدّا. (ونزار) (وبراز) الأوّل بالنون، جماعة؛ والثانى بالباء، هو أشعث «1» بن براز، من أهل البصرة، له مناكير. (ونصير «2» ) (ونضير) (ونضير) (وبصير «3» ) الأوّل: نصير بن الفرج، وغيره؛ والثانى: نضير بنون مضمومة وضاد معجمة هو نضير بن زياد؛ والثالث نضير بنون مفتوحة وضاد معجمة مكسورة، هو نضير ابن قيس؛ والرابع: [أبو «4» ] بصير، روى عنه أبو إسحاق «5» السّبيعىّ، وأبو بصير عتبة بن أسيد. (والنّجّار) (والنّحّاز) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 176 الأوّل بالجيم والراء: أيّوب بن النّجّار، والنّجّار «1» جدّ الأنصار؛ والثانى النّحّاز بالحاء والزاى، هو النّحّاز «2» بن جدىّ «3» . (ونجبة) (وتحية) الأوّل بالنون والجيم والباء، هو نجبة بن صبيغ «4» ، عن أبى هريرة، والمسيّب ابن نجبة؛ والثانى تحية بالتاء والحاء والياء، هو الحكم بن أبى تحية «5» . (ونائل) (ونابل) (وناتل) الأوّل بالياء: نائل بن نجيح، ونائل بن مطرّف؛ والثانى بالباء الموحّدة هو نابل صاحب العباء «6» ، عن ابن عمر، وأيمن بن نابل؛ والثالث ناتل بالتاء المثنّاة هو ناتل الشامىّ، وهو ناتل بن قيس، عن أبى هريرة. (ونجيب) (ونجيت) الأوّل بالنون والجيم، هو أبو النّجيب، عن أبى سعيد الخدرىّ- رضى الله عنه- واسمه ظليم، والنّجيب بن السّرىّ؛ والثانى نجيت، هو أبو بكر بن نجيت «7» البغدادىّ الدّقّاق. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 177 (وواقد) (ووافد) الأوّل بالقاف، كثير؛ والثانى وافد بالفاء، قليل، منهم وافد بن سلامة، ووافد ابن موسى. (ووقاء «1» ) (ووفاء) فأمّا وقاء «2» بالقاف، فهو وقاء «3» بن إياس؛ وأمّا وفاء بالفاء، فهو ابن شريح، ووفاء بن سهيل. (وهدبة) (وهديّة) هدبة بالباء الموحّدة، هو ابن المهال، وهدبة بن خالد أخو أميّة؛ وأمّا هديّة بالياء المثنّاة، فهو هديّة بن عبد الوهّاب، ومحمد بن هديّة الصّدفىّ، ويقال: «ابن هديّة» ، ويزيد بن هديّة. (ويسرة) (وبسرة) الأوّل: يسرة بن صفوان؛ والثانى بسرة بالباء الموحّدة، هو أبو بسرة، عن البراء «4» ، وبسرة بنت صفوان، لها صحبة. (وياسر) (وباشر) (وناشر) الأوّل ياسر، كثير؛ وباشر، هو أبو «5» حازم باشر؛ وناشر بالنون، هو والد أبى ثعلبة الخشنىّ جرثوم؛ وقيل فيه: «ناشب» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 178 هذا ما اتفق إيراده من مؤتلف الأسماء ومختلفها على سبيل الاختصار ممّا ألّفه الشيخ عبد الغنىّ بن سعيد بن علىّ بن سعيد بن بشر بن مروان الأزدىّ «1» ، الحافظ المصرىّ- رحمه الله تعالى-؛ وقد ألّف أيضا كتابا آخر فى المنسوب من رجال الحديث الى قبيلة أو بلدة أو صنعة، ممّا يأتلف فى صورة الخطّ ويختلف فى المعنى «2» ، لا بأس أن نورد منه نبذة. [ المؤتلف والمختلف من نسب رجال الحديث ] فمن ذلك الأبلّىّ: نسبة إلى الأبلّة «3» ؛ واليها ينسب نهر الأبلّة الذى هو أحد متنزّهات الدنيا الأربعة «4» . والأيلىّ: نسبة إلى أيلة، وأيلة على شاطئ «5» البحر، يمرّ عليها الحاجّ المصرىّ فى مسيره الى مكّة وعوده، وإليها تنسب العقبة، وهى على عشر مراحل من القاهرة. ولهم «6» أيضا (الأبلىّ «7» ) : نسبة الى (أبلة «8» ) بالأندلس. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 179 ومنه «1» (الأسيدىّ) والأسيّدىّ) فالأولى بالفتح: نسبة الى آل أسيد بن أبى العيص؛ والأسيّدىّ بالضم وتشديد «2» الياء: نسبة الى بطن من تميم، منهم حنظلة بن الرّبيع، وأخوه رياح «3» ، لهما صحبة. ومنه «4» (البصرىّ) (والنّصرىّ) ... «5» ... (والبكرىّ) (والنّكرىّ) فالبكرىّ: نسبة الى أبى بكر الصّدّيق رضى الله عنه، وإلى بكر؛ والنّكرىّ بالنون، يقال: إنّهم «6» من عبد القيس، منهم عمرو بن مالك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 180 (والبحرانىّ) (والنّجرانىّ) ... «1» ... (والبشيرىّ) (والتّسترىّ) ... «2» ... (والبستىّ) (والبشتىّ) الأوّل: نسبة الى بست، من سجستان؛ والثانى: الى بشت، قرية من قرى نيسابور. (والبلخىّ) (والثّلجىّ) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 181 البلخىّ: نسبة الى بلخ «1» ؛ والثّلجىّ: محمّد بن شجاع الثّلجىّ. (والبزّاز) (والبزّار) ... «2» (والتّيمىّ) (والتّيمىّ) فالتّيمىّ بتسكين الياء: نسبة الى تيم «3» بن مرّة بن كعب، وتيم الرّباب؛ وأمّا التّيمىّ بتحريك الياء، فهم «4» بطن من بنى غافق. (والثّاتىّ) (والبانى) (والبابىّ) أمّا الثّاتىّ، فهو إبراهيم بن يزيد أبو «5» خزيمة الثّاتىّ قاضى مصر، وثات: قبيلة من حمير؛ وأمّا البانى، فهو محمّد بن إسحاق؛ وأمّا البابىّ، فمنهم زهير بن نعيم البابىّ وغيره، ولعلّها نسبة إلى الباب: قرية «6» من قرى حلب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 182 (والثّورىّ) (والتّوّزىّ) (والبورىّ) (والنّورىّ) فالثّورىّ: نسبة إلى ثور بن عبد مناة بن أدّ بن طابخة؛ وأمّا التّوّزىّ [بالزاى «1» بعد تاء معجمة من فوقها بنقطتين، فأبو يعلى محمّد بن الصّلت التّوّزىّ؛ وأمّا البورىّ بالباء المعجمة بواحدة، فمحمّد بن عمر بن حفص البورىّ البصرىّ العنزىّ، كان بمصر ... ؛ وأمّا النّورىّ] ، فأبو الحسن النّورىّ الصوفىّ البغدادىّ. (والجريرىّ) (والحريرىّ) [والجريرىّ «2» ] (والحزيزىّ) . أمّا الجريرىّ «3» بالجيم مضمومة، فجماعة، منهم سعيد «4» بن إياس، وأبان «5» بن تغلب وعبّاس «6» بن فرّوخ «7» ؛ وأمّا الحريرىّ بالحاء المهملة، فكثير؛ وأمّا الجريرىّ بالجيم المفتوحة، فجماعة ينسبون الى جرير بن عبد الله البجلىّ؛ وأما الحزيزىّ بالحاء المهملة وزايين، فنسبة إلى قرية اسمها حزيز «8» . (والجندعىّ) (والخبذعىّ) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 183 فالجندعىّ: نسبة إلى جندع، من ليث، وليث من مضر بن نزار؛ وأمّا الخبذعىّ فهم بطن من همدان. (والجبيرىّ) (والحبترىّ) (والخيبرىّ) فالجبيرىّ جماعة، منهم سعيد بن عبد الله بن زياد بن جبير، وغيره؛ وأمّا الحبترىّ، فنسبة إلى حبتر، وحبتر من كعب، ثمّ من خزاعة؛ وأمّا الخيبرىّ، فأظنّها نسبة إلى خيبر «1» . (والحنّاط) (والخيّاط) (والخبّاط) جماعة من المحدّثين. (والحبرىّ «2» ) (والحيرىّ) (والجيزىّ) (والخبرىّ) (والحترىّ) فأمّا الحبرىّ «3» ، فهو الحسين بن الحكم الحبرىّ «4» ؛ وأمّا الحيرىّ، فنسبة إلى الحيرة محلّة بنيسابور؛ وأمّا الجيزىّ، فنسبة إلى جيزة فسطاط مصر؛ وأما الخبرىّ، فنسبة الى قرية من قرى شيراز، منها الفضل بن حمّاد الخبرىّ؛ وأمّا الحترىّ، فهو أبو عبد الله الحترىّ. (والحرّانىّ) (والحرابىّ) فالحرّانىّ: نسبة الى حرّان، من مدن الجزيرة «5» ؛ والحرابىّ، هو أحمد بن محمّد شيخ البغداديّين. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 184 (والحنّائىّ) (والجبإىّ) (والجبائىّ) (والجنّابىّ «1» ) أمّا الحنّائىّ بالحاء المهملة والنون، فإبراهيم بن علىّ الحنّائىّ؛ وأمّا الجبإىّ بالجيم والباء، فهو شعيب الجبإىّ، منسوب إلى جبل «2» باليمن؛ وأمّا الجبّائىّ بالجيم المضمومة والباء الموحّدة، فهو أبو علىّ الجبّائىّ «3» المتكلّم؛ وأمّا الجنّابىّ بالجيم والنون والباء الموحّدة، فهو محمّد بن علىّ بن عمران الجنّابىّ» . (والخزّاز) (والخرّاز) (والجرّار) (والجزّار) أمّا الخزّاز بالخاء والزايين المعجمات، فعدد كثير، منهم النّضر بن عبد الرحمن «5» وأحمد بن «6» علىّ، وغيرهما؛ وأمّا الخرّاز بالخاء والراء والزاى، فجماعة، منهم عبد الله ابن عون الخرّاز، وغيره؛ وأما الجرّار بالجيم والراء المكرّرة المهملة، فعبد الأعلى بن أبى المساور الجرّار، وعيسى بن يونس الرّملىّ الجرّار، وهو الفاخورىّ؛ وأما الجزّار فنسبة إلى صنعة الجزارة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 185 (والخضرمىّ) (والحضرمىّ) فأمّا الخضرمىّ بالخاء المعجمة المجرورة، فهم عدّة يسكنون بأرض الجزيرة «1» ؛ وأمّا الحضرمىّ بالحاء المهملة، فخلق كثير؛ يرجعون إلى حضرموت «2» . (والحمصىّ) (والحمّصىّ) فالحمصىّ: منسوب إلى حمص «3» ؛ والحمّصىّ قليل، وهو إبراهيم بن الحجّاج بن منير الحمّصىّ، كان يقلى الحمص. (والخضرىّ) (والحصرىّ) (والخضرىّ «4» ) فأمّا الخضرىّ بالخاء والضاد، [فأبو «5» ] شيبة الخضرىّ «6» ؛ وأمّا الحصرىّ فسعيد بن محمّد الحصرىّ، وغيره؛ وأمّا الخضرىّ، فهو فقيه أهل مرو أبو عبد الله محمد بن أحمد. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 186 (والخوزىّ) (والجورىّ) (والجوزىّ) ... «1» (والحسنىّ) (والخشنىّ) (والحبشىّ) (والخيشىّ) ... «2» (والختّلىّ) (والجبّلىّ) (والحبلىّ) (والختلّىّ) (والجبلىّ) فأمّا الختّلىّ بضم الخاء وتشديد التاء المثنّاة، فنسبة الى ختّل «من بلاد «3» الدّيلم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 187 وإليها تنسب الدّولة الدّيلميّة الختّليّة» ؛ وأمّا الجبّلىّ بالجيم المفتوحة «1» والباء الموحّدة المشدّدة «2» ، فنسبة الى جبّل: قرية بين «3» بغداد «4» وواسط؛ وأمّا الحبلىّ بالحاء المهملة والباء الموحّدة، فهو أبو عبد الرحمن عبد الله بن يزيد الحملىّ «5» ، صاحب عبد الله ابن عمرو «6» ، رضى الله عنهما؛ وأمّا الختلّى «بضم «7» الخاء وضم التاء المثنّاة وتشديد اللام» فنسبة الى ختلّ «8» ؛ وأمّا الجبلىّ، فنسبة إلى جبلة «9» الشأم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 188 (والخصيبىّ) والحصينىّ ... «1» ... (والخرقىّ) (والحرقىّ) ... «2» ... الثانى: نسبة الى الحرقة بنت النّعمان «3» . (والدّهنىّ) (والذّهبىّ) الدّهنىّ بضم الدال المهملة وكسر النون: نسبة إلى حىّ «4» من بجيلة ... «5» ... (والرّهاوىّ) (والرّهاوىّ) بالفتح «6» : منسوب إلى قبيلة «7» ، منهم مالك بن مرارة الرّهاوىّ، له صحبة؛ وبالضم: نسبة الى بلد الرّها، من أرض الجزيرة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 189 (والرّياحىّ) (والرّباحىّ) فالرّياحىّ بكسر الراء المهملة وفتح الياء المثنّاة من تحت: إلى بطن «1» من تميم بن مرّة؛ والرّباحىّ بفتح الراء والباء الموحّدة: منسوب الى قلعة رباح بالأندلس. (والرّبذىّ) (والزّيدىّ) فالرّبذىّ بالراء المهملة والباء الموحّدة المفتوحة والذال المعجمة: نسبة إلى الرّبذة «2» ؛ والزّيدىّ بالزاى المعجمة: نسبة إلى زيد العلوى، وإلى مذهبه. (والرّفاعىّ) (والرّقاعىّ) ... «3» ... (والزّمّانىّ» ) (والرّمّانىّ «5» ) فالزّمّانى بكسر الزاى المعجمة: عبد الله بن معبد؛ والرّمّانىّ بالراء المهملة: جماعة، منهم علىّ بن عيسى النحوىّ المتكلّم، وغيره. (والزّينبىّ) (والزّبيبىّ) ... «6» ... الجزء: 9 ¦ الصفحة: 190 (والزّبيدىّ) والزّبيدىّ) بالضم: نسبة الى قبيلة «1» ، منهم عمرو بن معديكرب؛ وبالفتح: نسبة إلى زبيد؛ من أرض اليمن. (والزّبادىّ) (والزّيادىّ) فالزّبادىّ بفتح الزاى المعجمة، جماعة، منهم خالد بن عامر «2» الزّبادىّ «3» ؛ والزّيادىّ بكسر الزاى المعجمة: نسبة إلى زياد. (والسّلمىّ) (والسّلمىّ) بضم السين المهملة وفتحها ... «4» ... (والسّذابىّ «5» ) (والشّذائىّ «6» ) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 191 فالسّذابىّ بالسين المهملة، هو عمر بن محمّد السذابىّ؛ وبالشين المعجمة والياء المثنّاة من تحت، هو أبو الطّيّب الشّذائىّ الكاتب، واسمه محمد بن أحمد. (والسّبإىّ «1» ) (والشّنإىّ) (والسّنائىّ) فأما السّبإى «2» بالسين المهملة والباء الموحّدة، فنسبة ترجع إلى سبإ بن يشجب ابن يعرب بن قحطان؛ وأمّا الشّنإىّ بالشين المعجمة والنون، فنسبة إلى أزد شنوءه؛ وأمّا السّنائى، فرجل نعرفه، كان يلقّب «3» عزّ الدّين السّنائىّ؛ وقد أورد «4» فى هذا الموضع النّسائىّ بتقديم النون على السين، نسبة إلى نسا «5» من خراسان؛ والأفصح فيها النسوى. (والسامرّىّ) (والسامرىّ) الأوّل: نسبة إلى سامرّا «6» ؛ والثانى: نسبة معروفة إلى السامرىّ وفى المحدّثين إبراهيم بن [أبى «7» ] العبّاس السّامرىّ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 192 (والسّبيىّ «1» ) (والشّيبىّ) (والسّيبىّ) (والسّبنىّ) (والسّينىّ) (والسّبتىّ) أمّا السّبيىّ بالسين المهملة والباء الموحّدة والياء باثنتين من تحتها، فهو أبو طالب السّبيىّ «2» ، ينسب إلى قرية من قرى الرّملة، تسمّى سبية «3» ؛ وأمّا الشّيبىّ، فنسبة إلى شيبة بن عثمان، من بنى عبد الدّار بن قصىّ، من سدنة «4» الكعبة؛ وأمّا السّيبىّ «5» بالسين مهملة، تليها ياء مثنّاة من تحتها، بعدها باء موحّدة، فهو صبّاح ابن هارون أبو مروان؛ وأمّا السّبنىّ، بالسين المهملة والنون بعد الباء الموحّدة فهو أحمد بن إسماعيل السّبنىّ «6» ؛ وأمّا السّينىّ، فقبيل من الأكراد يعرفون بالسّينيّة؛ وأمّا السّبتىّ «7» ، فشيخ صالح متأخّر، مدفون بقرافة مصر؛ والسّينىّ، والسّبتىّ لم يذكرهما عبد الغنىّ. (والشّامىّ) (والسّامىّ) فالشّامىّ بالشين المعجمة: نسبة إلى الشأم؛ والسّامىّ بالسين المهملة: قوم ينسبون إلى سامة بن لؤىّ بن غالب، منهم إبراهيم بن الحجّاج [صاحب الحمّادين «8» : الجزء: 9 ¦ الصفحة: 193 حمّاد بن سلمة] وحمّاد بن زيد؛ وعلىّ «1» بن الحسن «2» السّامىّ، وعمر بن موسى السّامىّ ومحمّد بن عبد الرحمن السّامىّ الهروىّ، ويحيى بن حجر، وبشر «3» بن حجر. (والسّجزىّ) (والسّحرىّ) (والشّجرىّ) فأمّا السّجزىّ بفتح «4» السين المهملة، وبالجيم والزاى المعجمة، فعدد كبير ينسبون إلى سجستان «5» ؛ وأمّا السّحرىّ بكسر السين، وبالحاء والراء المهملات، فهو عبد الله بن محمّد السّحرىّ «6» ؛ وأمّا الشّجرىّ بالشين المعجمة والجيم والراء المهملة فإبراهيم بن يحيى الشّجرىّ «7» . (والشّيبانىّ) (والسّيبانىّ) (والسّينانىّ) أمّا الشّيبانىّ، فنسب معروف؛ وأمّا السّيبانىّ بالسين المهملة، تليها ياء مثنّاة من تحتها وباء موحّدة، فهو يحيى بن أبى عمرو السّيبانىّ «8» ، وأيّوب بن سويد الرّملىّ؛ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 194 وأمّا السّينانىّ بكسر السين المهملة، تليها ياء مثنّاة من تحتها ونون، فهو الفضل بن موسى السّينانىّ، ينسب إلى قرية من قرى مرو. (والسّبخىّ) (والسّنجىّ) (والسّبحىّ) (والشّيخىّ «1» ) أمّا السّبخىّ بالباء الموحّدة والخاء المعجمة، فهو فرقد بن يعقوب السّبخىّ «2» العابد؛ وأمّا السّنجىّ بالنون والجيم، فهو أبو داود سليمان بن معبد السّنجىّ «3» ، خراسانىّ؛ وأمّا السّبحىّ بضم السين المهملة، وبالحاء المهملة، قبلها باء موحّدة، فهو أبو بكر السّبحىّ «4» ؛ وأمّا الشّيخىّ، فجماعة نعرفهم من الأمراء يقال لهم: الشّيخيّة؛ ويصلح أن يضاف إلى هذه الترجمة السّيحىّ «5» والشّيحىّ «6» . (والشّعبىّ) (والشّعبىّ) [والشّغبىّ «7» ] فالشّعبىّ بفتح الشين المعجمة، هو عامر بن شراحيل الشّعبىّ «8» ؛ وأمّا الشّعبىّ بضمّها، فهو معاوية بن حفص الشّعبىّ «9» ؛ وأمّا الشّغبىّ بالشين والغين المعجمة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 195 فهو زكريّا بن عيسى الشّغبىّ، منسوب إلى شغب: منهل «1» بين طريق مصر والشأم. (والشّعيثىّ) (والشّعيبىّ) فالشّعيثىّ: نسبة إلى شعيث بلعنبر «2» من بنى تميم؛ وأمّا الشّعيبىّ، فنسبة إلى من اسمه شعيب. (والشّنّىّ) (والشّبّىّ) (والسّنّىّ) (والبسّىّ) [فأمّا «3» الشّنّىّ بالشين المعجمة والنون، فعدّة، منهم عقبة بن خالد الشّنّىّ البصرىّ، عن الحسن البصرىّ، روى عنه مسلم بن ابراهيم؛ والعبّاس بن جعفر ابن زيد بن طلق العبدىّ الشّنّىّ؛ وأمّا الشّبّىّ] ، فهو محمّد بن هلال بن بلال «4» الشّبّىّ «5» ؛ وأمّا السّنّىّ بالنون، فهو الحافظ ابن السّنّىّ «6» الدّينورىّ؛ وأمّا البسّىّ، فهو أبو محجن توبة بن نمر قاضى مصر، بطن «7» من حمير يقال لهم: «البسّيّون» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 196 (والضّبّىّ) (والضّنّىّ) فالضّبّىّ: نسبة إلى «ضبّة» «1» ؛ وأمّا الضّنّىّ بالنون وكسر الضاد، فهو أبو يزيد الضّنّىّ «2» ، يروى عن ميمونة مولاة النبىّ صلى الله عليه وسلم. (والصّرارىّ) (والضّرارىّ) (والصّرّارىّ «3» ) فأمّا الصّرارىّ، فهو محمد بن عبد الله الصّرارىّ «4» ، يروى عن عطاء بن أبى رباح؛ وأمّا الضّرارىّ بكسر الضاد المعجمة، فهو محمد بن إسماعيل الضّرارىّ «5» ؛ وأمّا الصّرّارىّ بفتح الصاد المهملة والراء المهملة المشدّدة، فأبو القاسم بكر بن الفضل بن موسى النّعالىّ الصّرّارىّ: نسبة إلى صنعة النّعال الصّرّارة «6» . (والصّائغ) (والضّائع) فالصائغ: نسبة إلى صنعة الصّياغة؛ والضّائع، هو عثمان بن بلج «7» الضّائع. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 197 (والصّعدىّ) (والصّغدىّ) فالصّعدىّ، هو محمد بن إبراهيم بن مسلم الصّعدىّ «1» ؛ وأمّا الصّغدىّ بضم الصاد المهملة وتسكين الغين المعجمة، فهو أيّوب بن سليمان الصّغدىّ، وإسحاق «2» بن إبراهيم بن منصور الصّغدىّ؛ أراها نسبة إلى الصّغد «3» بسمرقند، وهو أحد متنزّهات الدنيا الأربعة «4» . (والصّباحىّ) (والصّباحىّ) فالصّباحىّ بضم الصاد، هو أبو خيرة «5» الصّباحىّ «6» ، له صحبة؛ وأمّا الصّبّاحىّ بفتح الصاد وتشديد الباء الموحّدة، فهو يزيد بن سعيد الصّبّاحىّ «7» ، يروى عن مالك ابن أنس حديثين. (والطّيبىّ) (والطّينىّ) (والطّبنىّ) (والطّيّبىّ) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 198 فالطّيبىّ بالطاء والياء المعجمة باثنتين من تحتها وباء موحّدة، هو أحمد بن إسحاق بن نيخاب «1» الطّيبىّ «2» ؛ وأمّا الطّينىّ بالياء المثنّاة من أسفل والنون، فهو عبد الله ابن الهيثمّ الطّينىّ «3» ؛ وأمّا الطّبنىّ بالباء الموحّدة والنون، فنسبة إلى مدينة «4» بالمغرب منها علىّ بن منصور الطّبنىّ، وغيره؛ وأمّا الطّيّبىّ، فنسبة إلى الطّيّبة: بلد بإقليم الغربيّة بمصر، وبلد بالشرقيّة «5» ، وقرية بالسوداء «6» من الشأم تسمّى «طيّبة «7» الاسم» وهذه النسبة إلى الطّيّبة لم يذكرها عبد الغنىّ. (والعابدىّ) (والعائدىّ «8» ) (والعائذىّ) فالعابدىّ بالباء الموحّدة والدال المهملة: نسبة إلى عابد بن عمر بن مخزوم منهم عبد الله بن المسيّب القرشىّ العابدىّ، وعبد الله بن عمران العابدىّ صاحب سفيان بن عيينة؛ «وأمّا العائدىّ «9» ، فهم من ولد عائد بن عمرو بن مخزوم، فقد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 199 اجتمع فى مخزوم عابد وعائد» ؛ وأمّا العائذيّون بالذال المعجمة، فهم من ولد عمران ابن مخزوم أيضا. (والقينىّ) (والقتبىّ) فأمّا القينىّ بالياء المثنّاة من تحتها والنون، فجماعة، منهم عبد الله بن نعيم القينىّ «1» وغيره؛ وأمّا القتبىّ بضم القاف وفتح التاء المثنّاة من فوقها وبالباء الموحّدة، فهلال «2» ابن العلاء، وعبد الله بن مسلم بن قتيبة؛ وأضاف عبد الغنىّ إلى هذه الترجمة العتبىّ «3» ، وهو محمد بن عبيد الله العتبىّ «4» الأخبارىّ. (والعوقىّ) (والعوفىّ) أمّا بالقاف، فهو أبو نضرة منذر بن مالك العوقىّ «5» صاحب أبى سعيد الخدرىّ، ومحمد بن سنان العوقىّ؛ وأمّا العوفىّ «6» بالفاء، فهو عطيّة العوفىّ، وأحمد ابن إبراهيم العوفىّ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 200 (والعتقىّ) (والغيفىّ) فالعتقىّ بضم العين المهملة وفتح التاء المثنّاة من فوقها وبالقاف، هو الحارث ابن سعيد العتقىّ «1» ، وأبو عبد الرحمن محمد بن عبد «2» الله العتقىّ «3» المقرئ، له تاريخ فى المغاربة؛ وأما الغيفىّ بالغين المعجمة والياء المثنّاة من تحتها والفاء، فالنسبة فيها إلى (غيفة) : قرية من قرى مصر بقرب بلبيس مدينة الشرقيّة، منها الحسين «4» بن إدريس بن عبد الكبير الغيفىّ. (والعودىّ) (والعوذىّ) ... «5» ... (والعمرىّ) (والعمرىّ) (والغمرىّ) ... «6» ... الجزء: 9 ¦ الصفحة: 201 (والعبادىّ) (والعبادىّ) (والعبّادىّ) ... «1» ... (والعبدىّ) (والعيذىّ) ... «2» ... (والعبسىّ) (والعنسىّ) (والعيشىّ) فأمّا العبسىّ، فنسبة إلى عبس، منهم جماعة من الصحابة؛ وأمّا العنسى «3» بالنون فجماعة، منهم عمّار بن ياسر؛ وأمّا العيشىّ «4» ، فجماعة كثيرة، منهم أميّة بن بسطام وحمّاد بن عيسى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 202 (والقيسىّ «1» ) (والفيشىّ «2» ) فالقيسىّ: نسبة إلى قيس «3» ؛ والفيشىّ بالفاء والشين: نسبة إلى قرية من قرى مصر يقال لها: فيشة. (والعرفىّ «4» ) (والعرقىّ) (والعرقىّ «5» ) فالعرفىّ، هو أبو عبد الله العرفىّ «6» الحجازىّ؛ والعرقىّ، هو عروة بن مروان الرّقّىّ «7» العرقىّ «والعرقىّ «8» : نسبة الى (عرقة) ، من عمل طرابلس الشأم، لم يذكرها عبد الغنىّ» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 203 (والغبرىّ) (والعنزىّ) (والعترى) (والعنزى «1» ) فأمّا الغبرىّ بالغين المعجمة المضمومة والباء المفتوحة بواحدة والراء المهملة فهم كثير، من بنى غبر «2» ، منهم عبّاد بن شرحبيل، وعبّاد بن قبيصة؛ وأمّا العنزىّ بالعين المهملة والنون والزاى، فنسبة إلى عنزة: حىّ من ربيعة؛ وأمّا العترىّ «3» فجماعة، منهم بكّار بن سلام العترىّ؛ وأمّا العنزىّ بفتح العين وسكون النون وكسر الزاى، فمنهم عامر بن ربيعة العنزى؛ وعنز من ربيعة بن نزار. (والفزارىّ) (والقرارىّ) فالفزارىّ: نسبة إلى بنى فزارة؛ والقرارىّ بالقاف والراء المهملة المكرّرة، قليل منهم أبو الأسد سهل القرارىّ؛ وقرار: قبيلة «4» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 204 (والفلّاس) (والقلّاس «1» ) فالفلّاس بالفاء، هو أبو حفص عمرو بن علىّ الصيرفىّ الفلّاس؛ والقلّاس بالقاف والسين المهملة «2» ، هو أبو بكر محمد بن هارون القلّاس. (والقتبانىّ) (والفتيانىّ) فالقتبانىّ بالقاف: جماعة، منهم عيّاش بن عبّاس القتبانىّ «3» ، وأبو معاوية المفضّل بن فضالة بن عبيد القتبانىّ قاضى مصر؛ وأمّا الفتيانىّ بالفاء، فبطن «4» من بجيلة الكوفة، منهم رفاعة بن «5» عاصم. (والقبائىّ) (والقنّائىّ) (والقيانىّ) (والقبّانىّ) (والقنائىّ) (والقبّانىّ «6» ) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 205 فالقبائىّ بضم القاف: نسبة لمن «1» سكن قباء «2» ؛ وأمّا القنّائىّ بضم القاف أيضا وبالنون، فهو [أبو «3» ] إسحاق [إبراهيم بن «4» أحمد] بن علىّ القنّائىّ «5» الكاتب «6» ؛ وأمّا القيانىّ بكسر «7» القاف وبالياء المثنّاة من تحتها والنون «8» ، فهو عبدوس بن المعلّى القيانىّ والقيانة، بطن من غافق؛ وأمّا القبّانىّ بفتح «9» القاف وبالباء الموحّدة والنون، فهو علىّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 206 ابن الحسين القبّانىّ؛ وأمّا القنائىّ، فنسبة لمن «1» يكون من قنى من أعمال الدّيار المصريّة، على مرحلة من مدينة قوص؛ وأمّا القبّانىّ «2» ، فنسبة لمن «3» يزن بالقبّان والقنائىّ «4» والقبّانىّ لم يذكرهما «5» عبد الغنىّ رحمه الله. (والفريابىّ) (والقرنانىّ) فأمّا الفريابىّ، فنسبة إلى فرياب «6» من خراسان؛ وأمّا القرنانىّ بالقاف والنونين فهو شريك بن سويد التّجيبىّ ثمّ القرنانىّ، من بنى القرنان «7» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 207 (والقرنىّ) (والقربىّ) فأمّا القرنىّ، فنسبة إلى بطن من مراد، منهم أويس القرنىّ؛ وأمّا القربىّ فالحكم بن سنان. (والغزّىّ «1» ) (والغرّىّ «2» ) فالغزّىّ: نسبة إلى مدينة غزّة بالشأم؛ «والغرّىّ «3» : طائفة من الأكراد يسمّون الغرّية» ، لم يذكرهم عبد الغنىّ. (والقروىّ) (والفروىّ) فالقروىّ بالقاف: نسبة إلى القيروان من المغرب؛ والفروىّ بالفاء: هم رهط أبى علقمة عبد الله بن محمد الفروىّ «4» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 208 (والقبّاب) (والقتّات) فالقبّاب بباءين موحّدتين، هو عبد الله بن محمد بن محمد بن فورك «1» القبّاب الأصبهانىّ، وقيل فيه: «القتّات» ؛ والقتّات بتاءين مثنّاتين من فوقهما، هو أبو يحيى زاذان، روى عن مجاهد، وأبو عمرو محمد بن جعفر القتّات. (والقطرىّ «2» ) (والفطرىّ» ) فالقطرىّ بالقاف، هو محمد بن [عبد «4» ] الحكم؛ والفطرىّ بالفاء، هو محمد بن موسى، روى عن سعيد المقبرىّ. (والقوصىّ) (والقوصىّ) فالقوصىّ بضم القاف وتسكين الواو: نسبة لمن يكون من أهل مدينة (قوص) من الدّيار المصريّة؛ والقوصىّ بفتح القاف والواو: نسبة لمن يكون من قرية (القوصة) من إقليم مصر، من مرج بنى هميم، لم يذكرهما عبد الغنىّ رحمه الله. (والكسائىّ) (والكشانىّ) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 209 الأوّل بكسر الكاف وفتح السين المهملة، هو علىّ بن حمزة الكسائىّ النحوىّ أحد القرّاء السبعة؛ وأمّا الكشانىّ بضم «1» الكاف وبالشين المعجمة والنون، فهو محمد بن حاتم الكشانىّ «2» النحوىّ. (والكليبىّ) (والكلينىّ) الأوّل: نسبة معروفة إلى كليب؛ والكلينىّ بالنون، هو محمد بن يعقوب الكلينىّ «3» ؛ من الشّيعة. (والكنانىّ) (والكتّانىّ) فالأوّل: نسبة إلى كنانة «4» ؛ والثانى بالتاء المشدّدة، هو محمد بن الحسين الكتّانىّ وأحمد بن عبد الواحد الكتّانىّ، وغيرهما. (والكرجىّ) (والكرخىّ) (والكرجىّ) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 210 فالكرجىّ: نسبة إلى الكرج «1» ؛ [والكرخىّ «2» : نسبة إلى الكرخ] محلّة ببغداد؛ والكرجىّ: إلى الكرج، طائفة من الأكراد «3» أتراك. (واللهبىّ) (واللهبىّ) فاللهبىّ بفتح اللام: نسبة إلى أبى لهب؛ وأمّا اللهبىّ بكسر اللام وسكون الهاء فنسبة إلى قبيلة من الأزد. (والمازنىّ) (والمأربىّ) فالمازنىّ: نسبة إلى مازن أخى سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة «4» بن قيس عيلان بن مضر، وغيره؛ وأمّا المأربىّ بالراء المهملة والباء الموحّدة، فهم جماعة من مأرب باليمن، إليها ينسب سدّ مأرب الذى كان بنى بسبب سيل العرم، وسيأتى ذكره إن شاء الله تعالى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 211 (والنّجّارىّ) (والبخارىّ) فالنّجّارى: نسبة إلى بنى النّجّار من الأنصار؛ والبخارىّ: نسبة إلى مدينة بخارى بما وراء النّهر. (والنّاجىّ) (والباجىّ) (والتّاجىّ) فالنّاجىّ بالنون: نسبة إلى بنى ناجية من سامة بن لؤىّ؛ وأمّا الباجىّ بالباء الموحّدة، فنسبة إلى (باجة) من مدن المغرب «1» ؛ وأمّا التّاجىّ، فجماعة من الأتراك ينسبون إلى مواليهم ممّن لقبه تاج الدّين. (والنّحّاس) (والنّخّاس) فالنّحّاس بالحاء: الذى يصنع أوانى النّحاس؛ والنّخّاس بالخاء، هو دلّال «2» الرقيق. (والبجلىّ) (والبجلىّ) (والنّخلىّ «3» ) فالبجلىّ بالجيم المفتوحة: من بجيلة؛ وأمّا البجلىّ بسكون الجيم، فهم رهط من سليم بن منصور، يقال لهم: بنو بجلة، نسبوا إلى أمّهم «4» بجلة بنت هنأة بن مالك الجزء: 9 ¦ الصفحة: 212 ابن فهم الأزدىّ؛ وأمّا النّخلىّ بالخاء المعجمة والنون قبلها، فعمران النّخلىّ «1» روى عنه شريك بن عبد الله القاضى، وإبراهيم بن محمد أبو «2» عبد الله النّخلىّ «3» صاحب التاريخ. (والهمدانىّ) (والهمذانىّ) فالأوّل: منسوب إلى همدان، قبيلة مشهورة من اليمن؛ والثانى: نسبة إلى مدينة همذان «4» . (واليزنىّ) (والبرتىّ) فأمّا اليزنىّ، فنسبة إلى سيف بن ذى يزن الحميرىّ؛ وأمّا البرتىّ بالباء الموحّدة والراء المهملة والتاء المثنّاة من فوقها، فمنهم أحمد بن محمد بن عيسى البرتىّ «5» . وذكر عبد الغنىّ فى هذا الموضع (البزّىّ) (والبرّىّ) (والبرّىّ) فقال: أمّا البزّىّ بالباء المعجمة بواحدة والزاى المعجمة، فهو أحمد بن محمد بن عبد الله بن القاسم بن أبى بزّة، صاحب القراءة، يروى عن ابن كثير؛ وأمّا البرّىّ بالباء المضمومة الموحّدة والراء المهملة، فمنهم عثمان بن مقسم البرّىّ «6» أبو سلمة «7» ؛ وأمّا البرّىّ بباء مفتوحة موحّدة فهو علىّ بن بحر [بن «8» ] برّىّ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 213 هذا مختصر ما ألّفه عبد الغنىّ- رحمه الله تعالى- وفيه زيادة فى مواضع نبّهنا عليها؛ ولم يكن الغرض بإيراد ما أوردناه من المؤتلف والمختلف استيعابه وحصره وإنّما كان الغرض التنبيه على ذلك، وأنّ الناسخ يحتاج إلى ضبط ما يرد عليه من هذه الأسماء وأمثالها، وتقييدها والإشارة عليها؛ وقد أخذ هذا الفصل حقّه، فلنذكر غير ذلك من شروط الناسخ وما يحتاج إلى معرفته. وأمّا من ينسخ العلوم ، كالفقه واللّغة العربيّة والأصول وغير ذلك، فالأولى له والأشبه به ألّا يتقدّم إلى كتابة شىء منها إلّا بعد اطّلاعه على ذلك الفنّ وقراءته وتكراره، ليسلم من الغلط والتحريف، والتبديل والتصحيف؛ ويعلم مكان الانتقال من باب إلى باب، ومن سؤال إلى جواب؛ ومن فصل إلى فصل، وأصل إلى فرع أو فرع إلى أصل؛ ومن تنبيه إلى فائده، واستطراد لم يجر الأمر فيه على قاعده؛ ومن قول قائل، وسؤال سائل؛ ومعارضة معارض، ومناقضة مناقض؛ فيعلم آخر كلامه، ومنتهى مرامه؛ فيفصل بين كلّ كلام وكلام بفاصلة تدلّ على إنجازه، ويبرز قول الآخر بإشارة يستدلّ بها على إبرازه؛ وإلّا فهو حاطب ليل لا يدرى أين يفجأه الصباح، وراكب سيل لا يعرف الغدوّ من الرواح. وأمّا من ينسخ التاريخ- فإنه يحتاج إلى معرفة أسماء الملوك وألقابهم ونعوتهم وكناهم، خصوصا ملوك العجم والتّرك والخوارزميّة والتّتار فإنّ غالب أسمائهم أعجميّة لا تفهم إلّا بالنقل، ويحتاج الناسخ إذا كتبها إلى تقييدها بضوابط وإشارات وتنبيهات تدلّ عليها؛ وكذلك أسماء المدن والبلاد والقرى والقلاع والرّساتيق «1» والكور الجزء: 9 ¦ الصفحة: 214 والأقاليم، فينبّه على ما تشابه منها خطّا واختلف لفظا، وما تشابه خطّا ولفظا واختلف نسبة، نحو (مرو) ، (ومرو) ؛ إحداهما (مرو الرّوذ «1» ) ، والأخرى (مرو الشّاهجان «2» ) ؛ (والقاهرة) ، (والقاهرة) ؛ إحداهما (القاهرة المعزّيّة «3» ) ، والأخرى (القلعة القاهرة «4» ) التى هى (بزوزن «5» ) التى أنشأها مؤيّد الملك صاحب (كرمان «6» ) ، فإنّ الناسخ متى أطلق اسم القاهرة ولم يميّز هذه بمكانها ونسبتها تبادر ذهن السامع إلى القاهرة المعزّية لشهرتها دون غيرها؛ وأمّا فى أسماء الرجال، فمثل عبيد الله بن زياد، وعبيد الله بن زياد، فالأوّل عبيد الله بن زياد بن أبيه، وزياد هذا، هو ابن سميّة الذى ألحقه معاوية بن أبى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 215 سفيان بأبيه، واعترف بأخوّته، وكان عبيد الله هذا يتولّى أمر العراق بعد أبيه إلى أيّام مروان بن الحكم؛ والثانى عبيد الله بن زياد بن ظبيان؛ وخبرهما يشبه مسائل الدّور، فإنّ عبيد الله بن زياد بن أبيه قتله المختار «1» [بن] أبى عبيد الثّقفىّ والمختار بن أبى عبيد قتله مصعب «2» بن الزّبير، ومصعب بن الزّبير قتله عبيد «3» الله بن زياد بن ظبيان؛ فإذا لم يميّز كلّ واحد منهما بجدّه ونسبه أشكل «4» ذلك على السامع وأنكره ما لم تكن له معرفة بالوقائع، واطّلاع على الأخبار؛ فأمثال ذلك وما شاكله يتعيّن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 216 على الناسخ تبيينه؛ وكذلك أسماء أيّام العرب، نحو أيّام الكلاب «1» بضمّ الكاف، وأيّام الفجار «2» بكسر «3» الفاء وبالجيم، وغير ذلك، فينبّه على ذلك كلّه، ويشير إليه بما يدلّ عليه. وأمّا من ينسخ الشّعر - فإنّه لا يستغنى عن معرفة أوزانه، فإنّ ذلك يعينه على وضعه على أصله الذى وضع عليه؛ ويحتاج إلى معرفة العربيّة والعروض ليقيم وزن البيت إذا أشكل عليه بالتفعيل، فيعلم هل هو على أصله وصفته الجزء: 9 ¦ الصفحة: 217 أو حصل فيه زحاف «1» من نقص به أو زيادة «2» ، فيثبته بعد تحريره، ويضع الضبط فى مواضعه، فإنّ تغييره يخلّ بالمعنى ويفسده، ويحيله عن صفته المقصودة؛ فإذا عرف الناسخ هذه الفوائد وأتقنها، وحرّر هذه القواعد وفنّنها «3» ، وأوضح هذه الأسماء «4» وبيّنها، وسلسل هذه الأنساب وعنعنها؛ ... «5» ... والمرغوب فى علمه وكتابته، فليبسط قلمه عند ذلك فى العلوم، ويضع به المنثور والمنظوم؛ ولنذكر كتابة التعليم. ذكر كتابة التعليم وما يحتاج من تصدّى لها إلى معرفته وكتابة التعليم تنقسم إلى قسمين: تعليم ابتداء، وتعليم انتهاء فأمّا تعليم الابتداء - فهو ما يعلّمه الصبيان فى ابتداء أمرهم؛ وأوّل ما يبدأ به المؤدّب من تعليم الصبىّ أن يكتّبه حروف المعجم المفردات؛ فإذا علمها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 218 الصبىّ وعرف كيف يضعها، وميّز بين المعجم والمهمل منها امتحنه «1» المؤدّب بتقطيعها وسؤاله عنها على غير وضعها «2» ، مثل أن يسأله عن النون، ثمّ الجيم، والضاد ونحو ذلك؛ فإذا أجابه عمّا فرّقه وعكسه عليه علم من ذلك أنّه أتقن هذه الحروف فيهجّيه الحروف بعد ذلك حرفا حرفا، كلّ حرف وهجاءه فى المنصوب والمجرور والمرفوع والمجزوم، فإذا عرف هجاء هذه الحروف وأتقنه، وامتحنه نحو ما تقدّم جمع له بعد ذلك كلّ حرف إلى آخر كتابة، من الباء والجيم والدال والراء والسين والصاد والطاء والعين والفاء والكاف واللام والميم، يبدأ بالباء مع الألف وما بعدها ثم يكتّبه البسملة، ويأخذ فى تدريجه فى الكتابة، وتدريبه فى استخراج الحروف بالهجاء وما يتولّد منها إذا «3» اجتمعت، إلى أن يقوى فيها لسانه ويده «4» ، ويقرأ ما يكتب له، ويكتب ما يقترح عليه من غير منبّه له ولا مساعد؛ فهذه كتابة الابتداء؛ ولا ينبغى أن يتصدّى لها إلّا من اشتهرت ديانته وحسن اعتقاده والتزامه طريق السنّة، ومن كان بخلاف ذلك، أو ممّن طعن فيه بوجه من وجوه المطاعن وجب على ناظر الحسبة «5» منعه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 219 وأمّا تعليم الانتهاء - فهو كتابة التجويد، وهى أصل جميع ما قدّمناه من الكتابات، ويحتاج من تصدّى لها إلى إتقان أقلام الكتابة، ومعرفة أوضاعها على ما وضعه الوزير أبو علىّ بن مقلة «1» حين عرّب الخطّ ونقله من الكوفيّة «2» إلى التوليد، ثم عمدته على طريق علىّ بن هلال الكاتب المعروف بابن البوّاب «3» وما وضعه من أقلام الكتابة، ومعرفة الأقلام الأصول الخمسة، وهى قلم المحقّق، وقلم النسخ وقلم الرّقاع، وقلم التّواقيع، وقلم الثّلث؛ فهذه الأقلام الخمسة هى الأصول؛ ثم تتفرّع عنها أقلام أخر نذكرها بعد إن شاء الله تعالى؛ وقد ذكر لهذه التسمية أسباب واشتقاقات، فقالوا: إنّ قلم المحقّق إنّما سمّى بذلك لأنّه أصل الكتابة، وهو يحتاج الجزء: 9 ¦ الصفحة: 220 إلى التحقيق فى وضع الحروف وتركيبها؛ وقلم النّسخ، لأنه تنسخ به الكتب ولذلك وضع بحيث أنّ الكتب لا تحسن كتابتها بغيره، لاعتدال أسطره، ودقّة حروفه والتئام أجزائه؛ وقلم الرّقاع لأنه وضع لكتابة الرّقاع المرفوعة فى الحوائج؛ ألا ترى ما على الرّقاع به «1» من البهجة؟ ولو كتبت بغيره ما حسن موقعها من النّفوس؛ وقلم التواقيع «2» لأنّه وضع لتكتب به التواقيع «3» الصادرة عن الخلفاء والملوك؛ وقلم الثّلث لكتابة المناشير التى تكتب فى قطع الثّلث «4» ؛ هذا ما قيل فى سبب تسمية هذه الأقلام بهذه الأسماء. وأمّا ما يتفرّع عن هذه الأقلام الخمسة التى ذكرناها فلكلّ قلم منها غليظ وخفيف ومتوسّط، فقلم المحقّق يتفرّع عنه خفيفه، ويتفرّع الجزء: 9 ¦ الصفحة: 221 عنه أيضا قلم الرّيحان «1» ؛ وقلم النّسخ يتفرّع عنه قلم المتن، وهو غليظه، وقلم الحواشى وهو خفيفه، وقلم المنثور، وهو الذى يفصل بين كلّ كلمة وكلمة ببياض؛ وقلم الرّقاع يتفرّع عنه قلم الغبار «2» ، وهو خفيفه، وينزل منه بمنزلة الحواشى من النّسخ، وهو الذى تكتب به الملطّفات «3» والبطائق «4» ، ويتفرّع عنه أيضا قلم المقترن، وهو ما يكتب سطرين مزدوجين، وقد يكتب بغير قلم الرّقاع، لكن لم تجر عليه هذه التسمية، وفى الرّقاع مسلسل؛ وقلم التّواقيع منه ما هو مسلسل، وهو ما يتّصل بعض حروفه ببعض بتشعيرات رقيقة تلتفّ على الحروف؛ وقلم الثّلث يتفرّع عنه وعن المحقّق جميعا قلم يسمّى قلم الأشعار «5» ؛ ولهم أيضا قلم الذّهب «6» ، وهو قد يكون تارة ثلثا وتارة تواقيع إلّا أنه يكون خاليا من التشعير بسبب ترميكه باللّون المغاير للون الذّهب، والترميك هو أن يحبس الحرف بلون غير لونه بقلم رقيق جدّا؛ ولهم أيضا قلم الطّومار «7» الجزء: 9 ¦ الصفحة: 222 ومنه كامل وغير كامل، فالكامل: الذى إذا جمعت الأقلام كلّها كانت فى غلظه وهو الذى يكتب به على رءوس الدّروج؛ وغير الكامل، هو الطّومار المعتاد؛ فهذه هى الأصول وما يتفرّع عنها. ولهم أيضا أسماء أخر، منها قلم الطور «1» وقلم المنهج، وقلم الطّمغاوات «2» ، وأسماء غير هذه اصطلح عليها الكتّاب؛ فإذا أتقن الكاتب ما ذكرناه من هذه الأقلام وحرّرها، وعرف أوضاعها وقواعدها، وكيفيّة وضع الحروف، وموضع ترقيقها وتغليظها، والمكان الذى تكتب فيه بسنّ القلم وبصدره، وأين يضع الحرف الآخر منه، إلى غير ذلك من شروطها وقواعدها، واتّصف بما قدّمناه فى المؤدّب من الدّيانة والخير والعفّة وحسن الطريقة وصحّة الاعتقاد والتزام السّنّة، فقد استحقّ أن يتصدّى للتعليم والإفادة، ويتعيّن على الطالب الرجوع إليه، والاقتداء بطريقته، والكتابه على خطّه والتزام توقيفه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 223 [الفنّ الثالث «1» فى الحيوان الصامت] قد جمعت فى هذا الفنّ- أعزّك الله تعالى- من أجناس الحيوان بين الكاسر والكاشر «2» ، والنافر «3» والطائر؛ والصائد والصائل، والناهق والصاهل؛ والحامل والحالب، والّلادغ واللّاسب «4» ؛ والكانس والسانح «5» ، والراسخ والسائح «6» ؛ فمن أسد انفرد عظما بنفسه، وترفّع عن الإلمام بما سواه من جنسه؛ إن وطئ أرضا مالت الوحوش عن آثاره، أو قصد جهة نفرت من جواره؛ وإن فغرفاه «7» أبرز المدى وإن مدّ خطاه قرّب المدى؛ ونمر حديد النّاب، موشّى الإهاب؛ وفهد سريع الوثوب والاختطاف، وكلب إن طفئت النّيران فهو الجالب للأضياف؛ وضبع إن رأت قتيلا طافت به ومالت إليه، وذئب ما رأى بصاحبه دما إلّا أغار عليه؛ إلى غير ذلك من أنواع الوحوش والآرام، والخيل والبغال والأنعام؛ وذوات السّموم القواتل منها وغير القواتل، وأصناف الطّير التى تكون تارة محمولة وتارة حوامل؛ وآونة تختطف من الهواء، وحالة تقتنص الوحش من البيداء؛ وما شاكل منها الكلب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 224 والبهيمه، وما حبس لسماع صوته فعلت قيمته كلّ قيمه؛ وما ينوح ويغرّد، وما يتلو ويردّد؛ وميّزت كلّ حيوان منها بمحاسنه ومناقبه، ونبذته بمعايبه ومثالبه؛ ولولا خشية الإطاله، لوصفت كلّ حيوان منها برساله؛ لكنّى استغنيت بما ألّفته من منقولى، عمّا أصنّفه من مقولى؛ وعلمت أنّنى أقصر عن حقّ هذه الرتبة فأحجمت وأقف دون بلوغ هذه الحلبة فأمسكت؛ وقد تقدّمنى من بالغ [فى] هذا وأطنب ووجد المقال [فبسط «1» ] القول وأسهب «2» ، وحاز المعانى فما ترك لسواه مذهب «3» ؛ فاختصرت عند ذلك المقال، واقتصرت على هذه النّبذة التى أشبهت طيف الخيال؛ ووضعته على أحسن ترتيب، ورتّبته على أجمل تقسيم وتبويب؛ وهو يشتمل على خمسة أقسام. القسم الأوّل من هذا الفنّ فى السباع وما يتّصل بها من جنسها، وفيه ثلاثة [أبواب «4» ] الباب الأوّل فى الأسد والببر والنّمر [ ذكر ما قيل في الأسد ] ولنبدأ بذكر أسماء الأسد، ثم نذكر ما قيل فى أصناف الآساد وأجناسها وعاداتها فى افتراسها، وما فيها من الجراءة والجبن، وما وصف به الأسد نظما ونثرا ثم نذكر ما سواه، فنقول- وبالله التوفيق-: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 225 أمّا أسماء الأسد - فقد بسط الناس فيها القول وزادوا، فمنهم من عدّ له ألف اسم فما دون ذلك، وقد اقتصرنا منها على أشهرها. فمن أسمائه: الأسد، والأنثى أسدة ولبؤة؛ والشّبل والحفص: جروه؛ والشّبلة «1» والحفصة «2» : الأنثى؛ وكناه: أبو الأشبال، وأبو الحارث؛ ومن أسمائه الأعلام: بيهس «3» ، وأسامة، وهرثمة، وكهمس؛ ومن صفاته: الصّمّ، والصّمّة، والمصدّر والصّمصامة «4» ، والهزبر، والقسورة، والدّلهمس، والضّيغم، والغضنفر، والهمام والدّوكس «5» ، والدّوسك، والعلندس «6» ، والعنابس «7» ، والسّيد، والدّرباس، والفرافر الجزء: 9 ¦ الصفحة: 226 [والقصاقص «1» ] ، والقضاقض، والرّئبال، والضّيثم؛ والخنابس، وعثمثم، والخنابش «2» : اللّبؤة إذا استبان حملها، وكذلك الآفل؛ والهرس «3» : الشديد المراس «4» . وأمّا أصناف الآساد وأجناسها - فالذى يعرفها الناس منها صنفان: أحدهما مستدير الجثّة، والآخر طويلها، كثير الشّعر؛ وعدّ أرسطو من هذا النوع ضروبا كثيرة، حكى عن بعض من تكلم فى طبائع الحيوان قبله أنّ فى أرض الهند سبعا- سمّاه باليونانيّة «5» - فى عظم الأسد وخلقته، ما خلا وجهه فإنّه شبيه بوجه الإنسان ولونه شديد الحمرة، وذنبه شبيه بذنب العقرب، وفى طرفه «6» حمة «7» ، وله صوت يشبه صوت الزّمّارة [وهو قوىّ «8» ] ، ويأكل الناس؛ وذكر أنّ من السباع ما يكون فى عظم الثور وفى خلقته، له قرون سود، طويلها، فى قدر الشّبر، إلّا أنّه [لا «9» ] يحرّك الجزء: 9 ¦ الصفحة: 227 الفكّ الأعلى كما يحرّكه «1» الثّور، ولرجليه أظلاف مشقوقة، وهو قصير الذّنب بالنسبة إلى نوعه، ويحفر الأرض بخرطومه، ويستفّ التراب، وإذا جرح هرب، فإن طلب رمح «2» برجليه، ورمى برجيعه على بعد. وأما عاداتها فى حملها ووضعها وحضانتها «3» - فقد قال صاحب كتاب مباهج الفكر ومناهج العبر: إنّ أصحاب الكلام فى طبائع الحيوان يقولون: إنّ اللّبؤة لا تضع إلّا جروا واحدا، وتضعه بضعة «4» لحم ليس فيها حسّ ولا حركة، فتحرسه من غير حضانة «5» ثلاثة أيّام، ثم يأتى أبوه بعد ذلك فينفخ فى تلك البضعة المرّة بعد المرّة حتّى تتحرّك وتتنفّس وتنفرج الأعضاء وتشكّل الصورة، ثم تأتيه أمّه فترضعه ولا يفتح عينيه إلّا بعد سبعة أيّام من تخليقه» ؛ واللّبؤة ما دامت ترضع لا يقربها الدّكر ألبتّة؛ فإذا مضى على الجر وستّة أشهر كلّف الاكتساب لنفسه بالتعليم والتدريج وطارد الذّكر الأنثى، فإن كانت صارفا «7» أمكنته من نفسها، وإن لم تكن كذلك منعته الجزء: 9 ¦ الصفحة: 228 ودفعته عن نفسها، وبقيت مع جروها بقيّة الحول وستّة أشهر من الثانى، وحينئذ تألف الذّكر وتمكّنه من نفسها؛ والله أعلم. وأمّا عادتها [فى] وثباتها وثباتها وأفعالها وصبرها وسرعة مشيها وأكلها - فإنّ للأسد [من] بعد الوثبة، واللّصوق بالأرض، والإسراع فى الحضر اذا هرب، والصبر على الجوع، وقلّة الحاجة إلى الماء، ما ليس لغيره من السّباع؛ قالوا: وربّما سار فى طلب القوت ثلاثين فرسخا، وهو لا يأكل فريسة غيره من السباع، وإذا شبع من فريسته تركها، ولم يعد إليها ولو جهده الجوع، وإذا أكل أكلة يقيم يومين وليلتين بلا طعام لكثرة امتلائه، ويلقيه بعد ذلك شيئا يابسا مثل جعر «1» الكلب، وإذا بال رفع إحدى رجليه كالكلب، وإذا فقد أكله صعب خلقه، وإذا امتلأ بالطعام فهو وادع، وأكل الجيف أحبّ إليه من أكل اللّحم [الغريض «2» الغضّ] ، وهو لا يفترس الإنسان للعداوة ولكن للطّعم، فإنّه لو مرّ به وهو شعبان لم يتعرّض له، وهو ينهس «3» ولا يمضغ، ويوصف بالبخر «4» ، ولحم الكلب أحبّ اللّحمان إليه، ويقال: إنّ ذلك لحنقه عليه، فإنه إذا أراد التّطواف فى جنبات القرى ألحّ «5» الكلب فى النّباح عليه والإنذار به، فينهض الناس ويتحرّزون منه، فيرجع الجزء: 9 ¦ الصفحة: 229 بالخيبة، فهو إذا أراد ذلك بدأ بالكلب ليأمن إنذاره؛ ومن شأنه أنّه إذا أكثر من أكل اللّحم وحسو الدّم وحلت نفسه منهما، طلب الملح ولو كان بينه «1» وبين عرّيسته «2» خمسون ميلا. وأمّا [ما «3» ] فى الآساد من الجراءة والجبن فجرأته معروفة مشهوره، غير منكوره، فمنها أنّه يقبل على الجمع الكثير من غير فزع ولا اكتراث بأحد ولا مهابة له، وقد شاهدت أنا ذلك عيانا، وهو أنّنى ركبت ليلة فى شوّال سنة اثنتين وسبعمائة من (بيسان «4» الغور) إلى (قراوى «5» ) فى نحو خمسة عشر فارسا وجماعة من الرجال بالقسىّ والتّراكيش «6» - وكانت ليلة مقمرة- فعارضنا أسد، ثمّ بارانا وسايرنا على يمنة طريقنا عن غير بعد، بل أقرب من رشقة حجر، لا أقول: من كفّ قوىّ فكان كذلك مقدار ربع ليلة، فلمّا أيس من الظّفر بأحد منّا لتيقّظنا قصّر عنّا، ثم تركنا إلى جهة أخرى. قالوا: والأسد الأسود أكثر جراءة وجهالة وكلبا على الناس؛ قالوا: وإن ألجئ الأسد إلى الهرب أو أحسّ بالصيّادين تولّى وهو يمشى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 230 مشيا رفيقا، وهو مع ذلك متلّفت «1» يظهر عدم الاكتراث، فإن تمكّن منه الخوف هرب عجلا حتى يبلغ مكانا يأمن فيه، فإذا علم أنّه أمن مشى متّئدا، وإن كان فى سهل وألجئ إلى الهرب جرى جريا شديدا كالكلب، وإن رماه أحد ولم يصبه شدّ عليه، فإن أخذه لم يضرّه، وإنّما يخدشه ثمّ يخلّيه، كأنّه منّ عليه بعد الظّفر به وهو إذا شمّ أثر الصيّادين عفا أثره بذنبه. وأمّا جبنه - فمنه أنّه يذعر من صوت الدّيك، ومن نقر الطّست وحسّ الطّنبور «2» ، ويفزع من رؤية الحبل الأسود والديك الأبيض والسّنّور والفأرة، ويدهش لضوء النار، ويعتريه ما يعترى الظّباء والوحوش من الحيرة عند رؤيتها وإدمان النظر اليها والتعجّب منها، حتى يشغله ذلك عن التحفّظ والتيقّظ. قالوا: والأسد لا يألف شيئا من السّباع، لأنّه لا يرى له فيها كفؤا فيصحبه، ولا يطأ شىء منها على أثر مشيه، ومتى وضع جلد الأسد مع سائر جلودها تساقطت شعورها؛ والأسد لا يدنو من المرأة الطامث «3» ، وهو إذا مسّ بقوائمه شجر البلّوط «4» خدر «5» ولم يتحرّك من مكانه، وإذا غمره الماء ضعف وبطلت قواه، فربّما ركب الصبىّ على ظهره وقبض على أذنيه ولا يستطيع عن نفسه دفاعا؛ وأخبرنى بعض من سكن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 231 غور «1» الشأم أنّ بعض الغوارنة «2» رأى أسدا فى بعض الأيام وهو رابض على حافة نهر الأردنّ «3» ، وظهره إلى الماء، وذنبه فيه، وهو يرشّ على ظهره وجنبيه بذنبه وكان الغورىّ من جانب الشّريعة «4» [الآخر «5» ] فبادر بعبور الماء، وعدّى الى جهة الأسد برفق وسكون حتّى صار وراءه، ثم قبض الغورىّ على مرقّى فخذى الأسد وجذبه إلى الماء، فهمّ الأسد بالوثوب وضرب الأرض بيديه، فانسحل «6» الرمل من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 232 تحتهما، ولم يستطع إثباتهما عليه، فانحدر إلى الماء، وركبه الغورىّ، وقبض على أذنيه، وضربه بسكّين معه فقتله؛ والغوارنة «1» تتحيّل على قتل السباع بأمور كثيرة مواجهة، والذى وقع لهذا الرجل نادر الوقوع لم أسمع أنّه وقع لغيره، وهو أمر مستفاض «2» عند الغوارنة «3» . قالوا: والأسد لا تفارقه الحمّى، ولذلك الأطبّاء يسمّونها داء الأسد، وعظامه عاسية «4» جدّا، وإن دلك بعضها ببعض خرجت منها النّار كما تخرج من الحجارة وكذلك فى جلده من القوّة والصّلابة ما لا يعمل فيه السلاح إلّا من مراقّ «5» بطنه؛ والأسد طويل العمر؛ وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: إنّ شحم الأسد يحلّل الأورام الصّلبة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 233 ذكر شىء مما وصف به الأسد نثرا ونظما قال أبو زبيد الطائىّ يصفه لعثمان بن عفّان- رضى الله عنه- وكان قد لقيه: أقبل يتضالع «1» من بغيه، ولصدره نحيط «2» ، ولبلاعيمه غطيط «3» ؛ ولطرفه وميض ولأرساغه نقيض «4» ؛ كأنّما يخبط هشيما، أو يطأ صريما «5» ؛ وإذا «6» هامة كالمجنّ «7» ، وخدّ كالمسنّ؛ وعينان سجراوان «8» ، كأنّهما سراجان؛ وقصرة «9» ربله «10» ، ولهزمة «11» رهله؛ وساعد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 234 مجدول، وعضد مفتول؛ وكفّ شثنة «1» البراثن، ومخالب كالمحاجن «2» ؛ وفم أشدق «3» كالغار الأخرق «4» ؛ يفترّ عن معاول مصقوله، غير مفلوله؛ فهجهجنا «5» به ففرفر «6» وبربر «7» ، ثمّ زأر فجرجر؛ ثم لحظ فخلت البرق يتطاير من جفونه، عن شماله ويمينه؛ فأرعشت الأيدى، واصطكّت الأرجل؛ وحجظت «8» العيون، وساءت الظنون، ولحقت الظهور بالبطون. ووصفه بعض الأعراب «9» فقال: له عينان حمراوان مثل وهج الشّرر، كأنّما نقرتا بالمناقير فى عرض حجر؛ لونه ورد، وزئيره رعد؛ هامته عظيمه، وجبهته الجزء: 9 ¦ الصفحة: 235 شتيمه «1» ؛ نابه شديد، وشره عتيد «2» ؛ إذا استقبلته قلت: أقرع، وإذا استدبرته قلت: أفرع «3» ؛ لا يهاب إذ اللّيل عسعس «4» ، ولا يجبن إذا الصبح تنفّس؛ ثم أنشد: عبوس شموس مصلخدّ «5» مكابر «6» ... جرىء على الأقران للقرن قاهر براثنه شثن «7» وعيناه فى الدّجى ... كجمر الغضى فى وجهه الشرّ طائر يدلّ بأنياب حداد كأنّها ... إذا قلّص الأشداق عنها خناجر ومن التهويلات فى وصف الأسد قول الشاعر: إيّاك لا تستوش «8» ليثا مخدرا «9» ... للهول فى غسق الدّجى دوّاسا مرسا «10» كأمراس «11» القليب جدوله «12» ... لا يستطيع له الأنام مراسا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 236 شثن البراثن كالمحاجن عطّفت ... أظفاره فتخالها أقواسا لان الحديد لجلده فإهابه ... يكفيه من دون الحديد لباسا مصطكّة أرساغه بعظامه ... فكأنّ بين فصولها «1» أجراسا وإذا نظرت إلى وميض جفونه ... أبصرت بين شفورها «2» مقباسا وقال آخر: توقّ- وقاك «3» ربّ الناس- ليثا ... حديد النّاب والأظفار وردا كأنّ بملتقى اللّحيين منه ... مذرّبة «4» الأسنّة أو أحدا وتحسب لمح عينيه هدوءا «5» ... ورجع زئيره برقا ورعدا تهاب الأسد حين تراه منه «6» ... اذا لاقينه «7» فى الغاب فردا تصدّ عن الفرائس حين يبدو ... وكانت قبل تانف أن تصدّا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 237 وقال أبو الطّيّب المتنبّى- رحمه الله-: ورد إذا ورد البحيرة «1» واردا «2» ... ورد الفرات زئيره والنّيلا متخضّب بدم الفوارس لابس ... فى غيله «3» من لبدتيه غيلا فى وحدة الرّهبان إلّا أنّه ... لا يعرف التحريم والتّحليلا وقعت على الأردنّ «4» منه بليّة ... نظمت «5» بها هام الرفاق تلولا يطأ البرى «6» مترفّقا «7» من تيهه ... فكأنّه آس يجسّ عليلا ويردّ غفرته «8» إلى يافوخه ... حتّى تصير لرأسه إكليلا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 238 قصرت مخافته الخطا فكأنّما ... ركب الكمىّ جواده مشكولا وقال عبد الجبّار بن حمديس: وليث مقيم فى غياض منيعة ... أمير على الوحش المقيمة فى القفر يوسّد شبليه لحوم فوارس ... ويقطع كاللّصّ السبيل على السّفر هزبرله فى فيه نار وشفرة ... فما يشتوى لحم القتيل على الجمر سراجاه عيناه إذا أظلم الدّجى ... فإن بات يسرى باتت الوحش لا تسرى له جبهة مثل المجنّ ومعطس ... كأنّ على أرجائه صبغة الحبر «1» يصلصل «2» رعد من عظيم زئيره ... ويلمع برق من حماليقه «3» الحمر له ذنب مستنبط منه سوطه ... ترى الأرض منه وهى مضروبة الظهر ويضرب جنبيه به فكأنّما ... له فيهما طبل يحضّ على الكرّ ويضحك فى التّعبيس فكّيه عن مدى ... نيوب «4» صلاب ليس تهتمّ بالفهر «5» يصول بكفّ عرض شبرين عرضها ... خناجرها أمضى من القضب البتر يجرّد منها كلّ ظفر كأنّه ... هلال بدا للعين فى أوّل الشهر. وقال بشر بن عوانة الفقعسىّ «6» يصف ملاقاته الأسد وما كان بينهما: أفاطم لو شهدت ببطن خبت ... وقد لاقى الهزبر أخاك بشرا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 239 إذا لرأيت ليثا رام ليثا ... هزبرا أغلبا لاقى هزبرا تبهنس «1» إذ تقاعس «2» عنه مهرى ... محاذرة فقلت: عقرت مهرا أنل قدمىّ ظهر الأرض إنّى ... وجدت الأرض أثبت منك ظهرا وقلت له وقد أبدى نصالا ... مذرّبة «3» ووجها مكفهرّا يدلّ بمخلب وبحدّ ناب ... وباللّحظات تحسبهنّ جمرا وفى يمناى ماضى الحدّ أبقى ... بمضربه قراع الموت أثرا «4» ألم يبلغك ما فعلت ظباه ... بكاظمة «5» غداة لقيت عمرا وقلبى مثل قلبك لست «6» أخشى ... مصاولة ولست «7» أخاف ذعرا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 240 وأنت تروم للأشبال قوتا ... وأطلب «1» لابنة الأعمام مهرا ففيم تروم مثلى أن يولّى ... ويترك فى يديك النفس قسرا «2» ؟! نصحتك فالتمس يا ليث غيرى ... طعاما إنّ لحمى كان مرّا ولمّا ظنّ أنّ الغشّ نصحى ... وخالفنى كأنّى قلت هجرا دنا «3» ودنوت من أسدين «4» راما ... مراما كان إذ طلباه وعرا يكفكف غيلة إحدى يديه ... ويبسط للوثوب علىّ أخرى هززت له الحسام فخلت أنّى ... شققت «5» به من الظلماء فجرا حساما لو رميت به المنايا ... لجاءت نحوه تعطيه عذرا وجدت له بجائفة» رآها ... بمن كذبته ما منّته غدرا «7» الجزء: 9 ¦ الصفحة: 241 بضربة فيصل تركته شفعا ... وكان كأنّه الجلمود وترا فخرّ مضرّجا بدم كأنّى ... هدمت به بناء مشمخرّا وقلت له: يعزّ علىّ أنّى ... قتلت مناسبى جلدا وقهرا ولكن رمت شيئا لم يرمه ... سواك فلم أطق يا ليث صبرا تحاول أن تعلّمنى فرارا ... لعمر أبيك قد حاولت نكرا فلا تبعد لقد لاقاك حرّ ... يحاذر أن يعاب فمتّ حرّا وأمّا الببر [وما قيل «1» فيه] فهو سبع هندىّ، ويقال: حبشىّ؛ وهو فى صورة أسد كبير، أزبّ «2» ملمّع بصفرة وسواد، ويقال: إنّه متولّد بين الزّبرقان «3» واللّبؤة؛ وفى طبعه أنّه يسالم النّمر وغيره من السباع ما لم يستكلب، فاذا استكلب خافه كلّ شىء كان يسالمه، وهو والأسد متوادّان أبدا، ومودّته معه كمودّة الخنافس والعقارب والحيّات والوزغ؛ ويقال: إنّ الأنثى منه تلقح بالريح، ولهذا يقال: إنّ عدوه يشبه الرّيح سرعة، ولا يقدر أحد على صيده؛ وإنّما تسرق جراؤه فتحمل فى مثل القوارير من زجاج، ويركض بها على الخيول السوابق، فإن أدركهم أبوها رمى اليه بقارورة منها، فيشتغل بالنظر إليها والفكرة «4» الجزء: 9 ¦ الصفحة: 242 فى إخراج جروه منها، فيفوته الآخذ لها؛ وزعم قوم أنه إذا استكلب ورآه الأسد رقد له حتّى يبول فى أذنه خوفا منه ورهبة له؛ هكذا نقل صاحب مباهج الفكر ومناهج العبر، ولم أقف على شعر فى وصف الببر ولا رسالة فأوردها. ذكر ما قيل فى النّمر والنّمر له أسماء، منها السّبندى والسّبنتى، والطرح «1» : [ولده «2» ] ، وجمعه طروح؛ والتلوة «3» والختعة: [الأنثى «4» ] . وزعم أهل البحث عن طبائع الحيوان والاطّلاع على أسراره أنّ النّمرة لا تضع ولدها إلّا وهو مطوّق بأفعى، وهى تعيّث «5» وتنهش «6» إلّا أنّها لا تقتل؛ وفى طبع النّمر وعادته أنّه يشبع لثلاثة أيّام، ويقطعها بالنوم، ثمّ يخرج فى اليوم الرابع، ومتى لم يصد لم يأكل، ولا يأكل من صيد غيره كالأسد، وينزّه نفسه عن أكل الجيف ولو مات جوعا؛ وهو لا يأكل لحوم الناس إلّا للتداوى من داء يصيبه؛ وفيه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 243 زعارّة «1» خلق، وحدّة نفس، وتجهّم وجه، وشدّة غيظ، ولهذا يقال فى الرجل إذا اشتدّ غضبه وكثر غيظه على عدوّه: «لبس له جلد النّمر» ، أى «2» تخلّق بأخلاقه؛ والنّمر بعيد الوثبة، وربّما وثب أربعين ذراعا صعودا إلى مجثمه الذى يأوى اليه، وقد شوهد وهو يثب فى اللّيل فيصير فى داخل زريبة الغنم فيأخذ الشاة فيحذفها إلى خارج الزّريبة، ثمّ يثب فيسبقها إلى الأرض، ويتناولها من الهواء قبل أن تسقط على الأرض؛ ومن خصائصه الغريبة أنّ المعضوض منه يطلبه الفأر حيث كان، ويقصده ليبول عليه، فإن ظفر به وبال عليه مات؛ والناس يحترزون على من يجرحه النّمر غاية الاحتراز، والفأر يطلب المجروح كلّ الطلب، ومن أعجب ما سمعت أنّ إنسانا جرحه النّمر فاحترز على نفسه من الفأر، فركب فى مركب، ووقف به فى الماء وقد وثق بذلك، وظنّ أنّ الفأر لا يصل إليه، فاتّفق لنفوذ القضاء المقدّر الذى لا حيلة فى دفعه أنّ حدأة اختطفت فأرا من الأرض، وطارت فخاذت المجروح فلمّا سامته الفأر بال عليه فمات. وقد وجد فى بعض الكتب القديمة: أنّ النّمر إذا عضّ إنسانا أخذ زهر السّمّاق «3» ودلك به الجرح، فإنّ الفأر لا يقاربه، ويكون فى ذلك شفاؤه؛ وأخبرنى من عاين ذلك عند التّجربة؛ والنّمر يحبّ شرب الخمر، وبها يصاد، فإنه اذا سكر نام؛ وزعموا أنّه يتولّد بينه وبين اللّبؤة سبع يسمّى الذراع «4» على قدر الذئب العظيم، كثير الجراءة، لا يأوى معه شىء من السباع والوحوش. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 244 ووصف كشاجم النّمر من طرديّة «1» فقال: وكالح كالمغضب المهيج ... جهم المحيّا ظاهر النّشيج «2» يكشر عن مثل مدى العلوج «3» ... أو كشبا أسنّة الوشيج مدبّج الجلد بلا تدبيج ... كأنّه من نمط «4» منسوج تريك فيه لمع التدريج ... كواكبا لم تك فى بروج ولم أقف فى وصف النّمر على غير ذلك فأذكره. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 245 الباب الثانى من القسم الأوّل من الفنّ الثالث فيما قيل فى الفهد والكلب والذئب والضبع والنّمس ذكر ما قيل فى الفهد يقال للذّكر: الفهد، وللأنثى: فهدة «وهما البنّة، ولذلك يكنى أبابنّة «1» » ، وجروه الهوبر، والأنثى هبيرة «2» ؛ قال أرسطو: إنّ الفهد متولّد بين أسد ونمرة، أو لبؤة ونمر؛ ويقال: إنّ الفهدة إذا حملت وثقل حملها حنا عليها كلّ ذكر يراها من الفهود، ويواسيها من صيده، فاذا أرادت الولادة هربت إلى موضع قد أعدّته لنفسها، حتى اذا علّمت أولادها الصيد تركتها؛ وبالفهد يضرب المثل فى شدّة النوم؛ قال بعض الشعراء: رقدت مقلتى وقلبى يقظا ... ن يحسّ الأمور حسّا شديدا يحمد النّوم فى الجواد كمالا ... يمنع الفهد «3» نومه أن يصيدا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 246 وقال الجاحظ: قال صاحب «1» المنطق: والفهد إذا اعتراه الداء الذى يقال له: (خانقة الفهود) أكل العذرة فبرأ منه؛ قال: والسباع تشتهى رائحة الفهود، والفهد يتغيّب عنها «2» ، وربّما قرب بعضها من بعض فيطمع الفهد فى نفسه، فإذا أراده الفهد «3» وثب عليه السبع «4» فأكله؛ قالوا: وليس شىء فى الحيوان فى جرم الفهد إلّا والفهد أثقل منه وأحطم لظهر الدابّة؛ والإناث أصعب خلقا وأكثر جراءة وإقداما من الذكور؛ ومن خلق الفهد الحياء، وذلك أنّ الرّجل يمرّ بيده على سائر جسده فيسكن لذلك، فإذا وصلت يده إلى مكان الثّفر «5» قلق حينئذ وغضب؛ ويقال: أوّل من صاد بالفهد كليب وائل، وقيل: همّام بن مرّة، وكان صاحب لهو وطرب؛ وأوّل من حمله على الخيل يزيد بن معاوية بن أبى سفيان، وأكثر من اشتهر باللّعب بها أبو مسلم الخراسانىّ صاحب الدّعوة العبّاسيّة، وأوّل من استسنّ حلقة «6» الصيد المعتضد بالله؛ والمواضع التى توجد فيها الفهود ما يلى بلاد الحجاز إلى اليمن، وما يلى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 247 الحجاز إلى العراق، وما يلى بلاد الهند الى تبّت «1» ، وتوجد أيضا فى برّيّة عيذاب من أعمال قوص من الدّيار المصريّة. وقد ولع الشعراء والفضلاء بوصف الفهود نظما ونثرا؛ فمن ذلك قول أبى إسحاق الصابى فى رسالة طرديّة «2» جاء منها: ومعنا فهود أخطف من البروق، وأسرع من السهم حين المروق؛ وأثقف «3» من اللّيوث، وأجرى من الغيوث؛ وأمكر من الثعالب وأدبّ من العقارب؛ خمص الخصور قبّ «4» البطون، رقش «5» المتون؛ حمر الآماق خزر «6» الأحداق، هرت «7» الأشداق؛ عراض الجباه غلب «8» الرّقاب، كاشرة عن أنياب كالحراب؛ تلحظ الظّباء من أبعد غاياتها، وتعرف حسّها من أقصى نهاياتها؛ تتبع مرابضها وآثارها، وتشمّ روائحها وأبشارها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 248 ومن رسالة طرديّة لضياء الدّين نصر الله بن الأثير الجزرىّ يصف فهدا بعد ان ذكر ظبيا، قال: فأرسلنا عليه فهدا سلس الضّريبه «1» ، ميمون النقيبه، منتسبا إلى نجيب من الفهود ونجيبه؛ كأنما ينظر من جمره، ويسمع من صخره، ويطأ من كلّ برثن على شفره؛ وله إهاب قد جبل «2» من ضدّين: بياض وسواد، وصوّر على أشكال العيون فتطلّعت إلى انتزاع الأرواح من الأجساد؛ وهو يبلغ المدى الأقصى فى أدنى وثباته، ويسبق الفريسة ولا يقبضها إلّا عند التفاته. وقال أحمد بن زياد بن أبى كريمة يصفها بعد أن وصف الكلب من ابيات: بذلك أبغى الصيد طورا وتارة ... بمخطفة الأكفال «3» رحب التّرائب مرقّقة الأذناب نمر «4» ظهورها ... مخطّطة الاذان غلب «5» الغوارب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 249 مدنّرة «1» ورق «2» كأنّ عيونها ... حواجل «3» تستوعى «4» متون الرّواكب اذا قلّبتها فى الحجاج «5» حسبتها ... سنا ضرم فى ظلمة الليل ثاقب مولّعة «6» فطس «7» الأنوف عوابس ... تخال على أشداقها خطّ كاتب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 250 نواصب للآذان حتّى كأنّها «1» ... مداهن، للإجراس «2» من كلّ جانب ذوات «3» أشاف «4» ركّبت فى أكفّها ... نوافذ فى صمّ الصخور نواشب ذراب «5» بلا ترهيف قين «6» كأنّها ... تعقرب أصداغ الملاح الكواعب فوارس ما لم تلق حربا، ورجلة «7» ... إذا آنست بالبيد شهب «8» الكتائب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 251 تروّ وتسكين يكون دريئة ... لهنّ «بذى الأسراب «1» » فى كلّ لاحب «2» تضاءل حتّى ما تكاد تبينها ... عيون لدى الضّبرات «3» غير كواذب حراص يفوت البرق أمكث «4» جريها ... ضراء «5» مبلّات «6» بطول التّجارب توسّد أجياد الفرائس «7» أذرعا ... مرمّلة «8» تحكى عناق الحبائب وقال ابن المعتزّ: ولا صيد إلّا بوثّابة ... تطير على أربع كالعذب «9» ملمّعة «10» من نتاج الرّياح ... تريك على الأرض شيئا عجب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 252 تضمّ الطريد إلى نحرها ... كضمّ المحبّة من لا يحب إذا ما رآى عدوها خلفه ... تناجت ضمائره بالعطب لها مجلس فى مكان الرّديف ... كتركيّة قد سبتها العرب ومقلتها سائل كحلها ... وقد حلّيت سبحا من ذهب متى أطلقت من قلاداتها ... وطار الغبار وجدّ الطلب غدت وهى واثقة أنّها ... تقوم بزاد الخميس اللّجب وقال محمد بن أحمد السّرّاج يصفه: وأهرت «1» الشّدق فى فيه وفى يده ... ما فى الصوارم والخطّيّة الذّبل تساهم اللّيل فيه والنهار معا ... فقمّصاه «2» بجلباب من المقل والشمس مذ لقّبوها بالغزالة لم ... تطلع لناظره إلّا على وجل وقال آخر: وأهرت «3» الشّدق بادى السّخط مطّرح الحياء ... جهم المحيّا سيئ الخلق والشمس مذ لقّبوها بالغزالة أعطته ... الرّشاء «4» جدا «5» من ثوبها اليقق «6» الجزء: 9 ¦ الصفحة: 253 ونقّطته حباء «1» كى يسالمها ... على «2» المنايا نعاج «3» الرمل بالحدق وقال آخر: تغاير اللّيل فيه والنهار معا ... فحليّاه بجلباب من الحدق والشمس مذ لقّبوها بالغزالة لم ... تطلع على وجهه من شدّة الحنق «4» ذكر ما قيل فى الكلاب يقال: إن بين الكلب والضّبع عداوة شديدة، وذلك أنه إذا كان فى مكان مرتفع ووطئت الضّبعة «5» ظلّه فى القمر رمى نفسه إليها مخذولا فأكلته؛ ويقال: إنّ الإنسان متى حمل لسان ضبع لم ينبح عليه كلب؛ ومتى دهن كلب بشحمها جنّ؛ وفى طبع الكلب أنه يحمى ربّه، ويحمى حريمه شاهدا وغائبا، ونائما ويقظان؛ والكلب أيقظ الحيوان عينا فى وقت حاجته «6» الى النوم، وأنومها نهارا عند استغنائهم عن حراسته؛ ومن عجيب أمره أنه يكرم الجلّة من الناس وأهل الوجاهة؛ فلا ينبح على أحد منهم، وربّما حاد عن طريقهم [وينبح «7» ] على الأسود والوسخ الثوب والزّرىّ الحال والصغير. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 254 وأمّا ما فى الكلب من المنافع الطيّبة - فقد قال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: إنّ بول الكلب يستعمل على الثآليل «1» ، ودم الكلب لنهوشه «2» ولسمّ السهام «3» الأرمنيّة «4» ؛ وقال إبراهيم بن هرمة- رحمة الله تعالى عليه-: أوصيك خيرا به فإنّ له ... سجيّة لا أزال أحمدها يدلّ ضيفى علىّ فى غسق الليل ... إذا النار نام موقدها وقال أيضا: يكاد إذا ما أبصر الضيف مقبلا ... يكلّمه من حبّه وهو أعجم فصل قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ فى كتاب الحيوان: وزعموا أنّ ولد الذئب [من الكلبة «5» ] يقال له: الدّيسم، وروى لبشّار بن برد فى ديسم العنزىّ أنه قال: أديسم يا ابن الذئب من نسل زارع ... أتروى هجائى سادرا غير مقصر قال: وزارع، اسم الكلب، يقال للكلاب: أولاد زارع؛ قال: وزعم صاحب «6» المنطق أنّ أصنافا أخر من السباع المتزاوجات المتلاقحات مع اختلاف الجنس والصورة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 255 معروفة النّتاج مثل الذئاب التى تسفد الكلاب فى أرض رومية «1» ؛ قال: وتتولّد أيضا كلاب سلوقيّة بين ثعالب وكلاب؛ قال: وبين الحيوان الذى يسمّى باليونانيّة «طاغريس «2» » والكلب تحدث هذه الكلاب الهنديّة؛ قال: وليس يكون ذلك من الولادة الأولى؛ هذا ما حكاه الجاحظ عن صاحب المنطق. وحكى الجاحظ عن بعض البصريّين عن بعض أصحابه، قال: وزعموا أنّ النّتاج الأوّل يخرج صعبا وحشيّا لا يلقّن ولا يؤلّف؛ وزعم لى بعضهم عن رجل من أهل الكوفة من بنى تميم أنّ الكلبة تعرض لهذا السبع حتى تلقح، ثم تعرض لمثله مرارا حتى يكون جرو البطن الثالث قليل الصعوبة يقبل التلقين، وأنّهم يأخذون إناث الكلاب ويربطونها فى تلك البرارىّ، فتجىء هذه السباع فتسفدها، قال: وليس فى الأرض أنثى يجتمع على حبّ سفادها، ولا ذكر يجتمع له من النّزاع «3» إلى سفاد الأجناس المختلفة أكثر فى ذلك من الكلب والكلبة؛ وقال: اذا ربطوا هذه الكلاب الإناث فى تلك البرارىّ، فإن كانت هذه السباع هائجة سفدتها، وإن لم تكن السباع هائجة فالكلبة مأكولة؛ قال الجاحظ: ولو تمّ للكلب معنى السّبع وطباعه ما ألف الإنسان واستوحش «4» من السّبع، وكره الغياض، وألف الدّور، واستوحش من البرارىّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 256 وجانب القفار، وألف المجالس والدّيار؛ ولو تمّ له معنى البهيميّة فى الطبع والخلق والغذاء ما أكل الحيوان، وكلب «1» على الناس، نعم حتّى ربّما وثب على صاحبه؛ وذكر من معايب الكلب وذمّه، فقال: إنّه حارس محترس منه، ومؤنس شديد الإيحاش من نفسه، وأليف كثير الجناية «2» على إلفه، وانما قبلوه «3» حين قبلوه على أن ينذرهم بموضع السارق، وتركوا طرده لينبّههم على مكان المبيّت «4» ، وهو أسرق من كلّ سارق، وأدوم جناية من ذلك المبيّت» ، فهو سرّاق وصاحب بيات، وأكّال للحوم الناس إلّا أنّه يجمع «6» سرقة الليل مع سرقة النهار، ثم لا تجده أبدا يمشى فى خزانة «7» أو مطبخ أو فى عرصة دار أو فى طريق أو برارىّ، أو على ظهر جبل أو فى بطن واد إلّا وخطمه «8» أبدا فى الأرض يشمّم ويستروح؛ وإن كانت الأرض بيضاء حصّاء «9» ، أو دوّيّة «10» ملساء، أو صخرة خلقاء «11» ، حرصا وجشعا، وشرّها وطمعا، نعم حتّى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 257 تجده أيضا لا يرى كلبا إلّا شمّ استه، ولا يشمّ غيرها منه، ولا تراه يرمى بحجر أبدا إلّا رجع إليه فعضّ عليه، لأنه لمّا كان لا يكاد يأكل إلّا شيئا رموا به اليه صار ينسى لفرط شرهه وغلبة الجشع على طبعه أنّ الرامى إنما «1» أراد عقره أو قتله، فيظنّ لذلك أنه إنّما أراد إطعامه والإحسان اليه، كذلك يخيّل اليه فرط النّهم، وتوهمه غلبة الشّره، ولكنّه رمى «2» بنفسه على الناس عجزا ولؤما، وفسولة «3» ونقصا، وخاف السباع واستوحش من الصّحارى؛ وسمعوا بعض المفسّرين يقول فى قوله عزّ وجلّ: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) : إنّ المحروم هو الكلب؛ وسمعوا فى المثل: «اصنع المعروف ولو إلى كلب» ، فلذلك عطفوا عليه، واتّخذوه فى الدّور، على أنّ ذلك لا يكون إلّا من سفلتهم وأغبيائهم، ومن قلّ تقزّزه «4» ، وكثر جهله، وردّ الآثار إمّا جهلا وإمّا معاندة؛ ووصف «5» فى ذمّه ومعايبه ما ذكره صاحب الدّيك من ذمّ الكلاب، وتعداد أصناف معايبها ومثالبها، من لؤمها وخبثها «6» وضعفها وشرهها وغدرها وبذائها وجهلها وتسرّعها ونتنها وقذرها، وما جاء فى الآثار من النّهى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 258 عن اتّخاذها وإمساكها، ومن الأمر بقتلها وإطرادها «1» ، ومن كثرة جناياتها وقلّة ودّها «2» ، وضرب المثل بلؤمها ونذالتها وقبحها وسماجة نباحها وكثرة أذاها وتقذّر «3» المسلمين من دنوّها «4» ، وأنّها تأكل لحوم الناس، وأنّها مطايا الجنّ، ونوع من المسخ، وأنّها تنبش القبور، وتأكل الموتى، وأنّها يعتريها الكلب من أكل لحوم الناس، إلى غير ذلك من مساويها، ثم ذكر قول من عدّد محاسنها وصنّف مناقبها وأخذ فى ذكر أسمائها وأنسابها وأعراقها وتفدية الرجال لها، وذكر كسبها وحراستها ووفائها وإلفها وجميع منافعها، والمرافق التى فيها، وما أودعت من المعرفة الصحيحة والفطنة العجيبة، والحسّ اللّطيف، والأدب المحمود، وصدق الاسترواح، وجودة الشّمّ، وذكر حفظها وإتقانها واهتدائها، وإثباتها لصور أربابها وجيرانها، ومعرفتها بحقوق الكرام، وإهانتها اللّئام، وصبرها على الجفاء، واحتمالها للجوع، وشدّة منّتها «5» وكثرة يقظتها، وعدم «6» غفلتها، وبعد أصواتها، وكثرة نسلها، وسرعة قبولها ولقاحها مع «7» اختلاف طبائع ذكورتها «8» والذّكورة «9» من غير جنسها، وكثرة أعمامها وأخوالها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 259 وتردّدها فى أصناف السّباع، وسلامتها من أعراق البهائم، وغير ذلك من محاسنها؛ وأورد ذلك بألفاظ طويلة، وأدلّة كثيرة، واستطرادات يطول الشرح فى ذكرها فأضربنا عن ذلك رغبة فى الاختصار؛ فلنذكر ما يحتاج الكاتب الى الاطّلاع عليه ويدور فى ألفاظ الكتّاب من وصف كلاب الصّيد، التى لا بدّ للكاتب من معرفة جيّدها وأفعالها، ليضمّنه ما يصدر عنه من الرسائل الطّرديّة، فنقول: دلائل النّجابة والفراهة «1» فيها تعرف من خلقتها وألوانها ومولدها. أمّا فى الخلقة - فقد قالوا: طول ما بين اليدين والرجلين، وقصر الظّهر وصغر الرأس، وطول العنق، وغضف «2» الأذنين، وبعد ما بينهما، وزرقة «3» العينين ونتوء الجبهة وعرضها، وقصر اليدين. وأمّا فى الألوان ، فإنه يقال: السّود أقلّ صبرا على الحرّ والبرد، والبيض أفره اذا كنّ سود العيون؛ وقد قال قوم: إنّ السّود أصبر على البرد وأقوى. وأمّا فى ولادتها - فإنه يقال: إذا ولدت الكلبة جروا واحدا كان أفره «4» من أبويه، وإن ولدت ذكرا وأنثى كان الذكر أفره «5» ، وإن ولدت ثلاثة فيها أنثى شبه الأمّ كانت أفره «6» الثلاثة، وإن كان فى الثلاثة ذكر واحد فهو أفره «7» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 260 ذكر شىء ممّا وصفت به كلاب الصيد نثرا ونظما قال أبو إسحاق الصّابى يصفها من رسالة طرديّة: ومعنا كلّ كلب عريق المناسب، نجيح المكاسب؛ حلو الشمائل، نجيب المخايل؛ حديد الناظرين، أغضف «1» الأذنين، أسيل الخدّين، مخطف «2» الجنبين؛ عريض الزّور «3» ، متين الظّهر؛ أبىّ النفس، ملهب الشدّ؛ لا يمسّ الأرض إلّا تحليلا «4» وإيماء، ولا يطؤها إلّا إشارة وإيحاء. وقال بعض الشعراء: أبعث كلبا يكسر اليحمورا «5» ... مجرّبا مدرّبا صبورا يأنف أن يشاكل الصّقورا ... منفردا بصيده مغيرا ذا شية تحسبها حريرا ... قد حبّرت نقوشها تحبيرا إذا جرى حسبته المقدورا ... يكاد للسرعة أن يطيرا حتفا «6» لما عنّ له مبيرا «7» ... أعجز أن أرى له نظيرا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 261 وقال أبو نواس: هجنا بكلب طالما هجنا به ... ينتسف «1» المقود من جذابه «2» كأنّ متنيه لدى انسلابه «3» ... متنا شجاع «4» لجّ فى انسيابه كأنّما الأظفور فى قنابه «5» ... موسى صناع ردّ فى نصابه «6» تراه فى الحضر «7» إذا هاهى «8» به ... يكاد أن يخرج من إهابه ترى سوام الوحش إذ تحوى به ... يرحن أسرى ظفره ونابه وقال أيضا: كأنّ لحييه «9» لدى افتراره «10» ... شكّ «11» مسامير على طواره «12» الجزء: 9 ¦ الصفحة: 262 سمع «1» إذا استروح «2» لم تماره ... إلّا بأن يطلق من عذاره فانصاع «3» كالكوكب فى انحداره ... لفت المشير موهنا «4» بناره شدّا «5» إذا أخصف «6» فى إحضاره ... خرّق أذنيه شبا أظفاره. وقال بعض الأندلسيّين «7» : [وأغضف «8» تلقى أنفه فكأنّما ... يقود به نور من الصبح أنور] إذا ألهبته شهوة الصّيد طامعا ... رأيت عقيم الرّيح عنه تقصّر الجزء: 9 ¦ الصفحة: 263 وقال أبو إسحاق إبراهيم بن خفاجة: ومورّس «1» السربال يخلع قدّه «2» ... عن نجم رجم فى سماء غبار يستنّ فى سنن الطريق وقد عفا ... قدما فيقرأ أحرف الآثار عطف الضّمور سراته «3» فكأنّه ... والنّقع يحجبه هلال سرار «4» يفترّ عن مثل النّصال وإنّما ... يمشى على مثل القنا الخطّار وقال آخر: ومؤدّب الآساد يمسك صيده ... متوقّفا «5» عن أكله كالصائم صبّ «6» اذا ما صاد عانق صيده ... طرب المقيم إلى لقاء القادم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 264 وقال آخر: وما الظّبى منه فى حشاشة «1» نفسه ... ولكنّه كالطفل فى حجر أمّه يلازمه دون اخترام «2» كأنّما ... تعلّق خصم عند قاض بخصمه وقال ابن المرغرىّ «3» النصرانىّ الأندلسىّ منشدا: لم أر ملهّى لذى اقتناص ... ومكسبا مقنع الحريص كمثل خطلاء «4» ذات جيد ... أتلع «5» مصفرّة القميص كالقوس فى شكلها ولكن ... تنفذ كالسهم للقنيص لو أنّها تستثير برقا ... لم يجد البرق من محيص محبولة «6» الظهر لم يخنه ... لحوق بطن به خميص اتّخذت أنفها دليلا ... قاد إلى الكانس العويص الجزء: 9 ¦ الصفحة: 265 وكلبة «1» تاهت على الكلاب ... بجلدة صفراء كالزّرياب «2» تنساب مثل الحيّة المنساب «3» ... كأنّها تنظر من شهاب «4» وقال أحمد بن زياد بن أبى كريمة يصف كلب صيد من قصيدة طويلة، أوّلها: وغبّ غمام مزّقت عن سمائه ... شآمية «5» حصّاء جون السحائب «6» مواجه «7» طلق لم يردّد جهامه ... تذاؤب «8» أرواح الصّبا والجنائب بعثت وأثواب الدّجى قد تقلّصت ... بغرّة مشهور من الصبح ثاقب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 266 وقد لاح ناعى الليل حتّى كأنّه ... لسارى الدجى فى الفجر قنديل راهب بها ليل «1» لا يثنيهم عن عزيمة ... وإن كان جمّ الرّشد لوم «2» الأقارب لتجنيب «3» غضف كالقداح لطيفة ... مشرّطة «4» آذانها بالمخالب تخال سياطا فى صلاها «5» منوطة ... طوال الهوادى «6» كالقداح الشوازب «7» اذا افترشت خبتا «8» أثارت بمتنه ... عجاجا وبالكذّان «9» نار الحباحب «10» الجزء: 9 ¦ الصفحة: 267 تفوت خطاها الطّرف سبقا كأنّها ... سهام مغال «1» أو رجوم الكواكب طراد الهوادى «2» لاحها «3» كلّ شتوة ... بطامسة الأرجاء مرت «4» المسارب تكاد من الأحراج «5» تنسلّ كلّما ... رأت شبحا لولا اعتراض المناكب تسوف «6» وتوفى كلّ نشز «7» وفدفد «8» ... مرابض «9» أبناء النّفاق «10» الأرانب كأنّ بها ذعرا يطير قلوبها ... أنين المكاكى «11» أو صرير الجنادب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 268 تدير عيونا ركّبت فى براطل «1» ... كجمر الغضى خزرا «2» ، ذراب الأنايب «3» إذا ما استحثّت لم يجن «4» طريدها ... لهنّ ضراء «5» أو مجارى المذانب «6» وإن باصها «7» صلتا «8» مدى الطّرف أمسكت ... عليه بدون الجهد سبل المذاهب تكاد تفرّى «9» الأهب عنها إذا انتحت ... لنبأة «10» شخت «11» الجرم عارى الرواجب «12» الجزء: 9 ¦ الصفحة: 269 كأنّ غصون الخيزران متونها ... إذا هى جالت فى طراد الثّعالب كواشر عن أنيابهنّ كوالح ... مذلّقة «1» الآذان شوس «2» الحواجب كأنّ بنات القفر «3» حين تفرّقت ... غدون عليها بالمنايا الشواعب ذكر ما قيل فى الذئب والذئب له أسماء نطقت بها العرب، ذكره ذئب، والأنثى ذئبة وسلقة وسيدانة «4» ، ويكنى أبا جعدة، ومن أسمائه: نهشل، وأويس، وذؤالة، وأشبة، ونشبة، وكساب، وكسيب «5» ، والعسعاس، والعسّاس، والخيعل، والعملّس، والطّملّ «6» ، والشّيذمان «7» ، والشّيمذان، والخيتعور، والقلّيب، والعلّوش، ورئبال، والسّرحان الجزء: 9 ¦ الصفحة: 270 ومصدّر، والعسول، والنّسول، والخاطف، والأزلّ، والأرسح: القليل لحم الوركين، والعمرّد. ويقال لولد الذئب: جرموز، والأنثى: جعدة «1» . ويقال: إن الذئب إذا لم يجد ما يأكله استعان بإدخال النسيم فى فيه، فيقتات به؛ وجوفه يذيب العظم، ولا يذيب نوى التمر؛ وقال بعض من اعتنى بسرّ طبائع الحيوان: إنه لا يلتحم عند السّفاد إلا الذئب والكلب، وهو يسفد مضطجعا على الأرض، وذكره عظم؛ والذئب موصوف بالانفراد والوحدة وشدّة التوحّش؛ وإذا خفى عليه موضع الغنم عوى ليؤذنهم بمكانه، ويعلمهم بقربه، فاذا حضرت الكلاب إلى الناحية التى هو فيها راغ عنها الى جهة الغنم التى ليس فيها كلب؛ وهو لا يعود إلى فريسة بعد أن يشبع منها؛ وهو ينام بإحدى عينيه ويفتح الأخرى، فإذا اكتفت النائمة وأخذت حقّها من النوم فتحها ونام بالأخرى؛ فهذا أبدا دأبه فى نومه؛ وهو قوىّ حاسّة الشّمّ، قيل: إنّه يشمّ من فرسخ؛ وأكثر ما يعترض الغنم وقت الصبح عند توقّعه فترة الكلاب ونومها؛ ومن عادة الذئاب أنّه إذا افترس ذئبان شاة قسماها على شطرين بينهما بالسويّة؛ والذئب إذا وطئ ورق العنصل «2» مات لوقته؛ وبينه وبين الغنم معاداة عظيمة، فمنها أنّه إذا جمع بين وتر عمل من أمعاء ذئب وبين أوتار عملت من أمعاء الغنم وضرب بها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 271 لا يسمع لها صوت؛ واذا اجتمع جلد شاة مع جلد ذئب تمعّط «1» جلد الشاة؛ والذئب إذا كدّه الجوع عوى، فتجتمع له الذئاب، ويقف بعضها إلى بعض، فمن ولّى منها وثب الباقون عليه فأكلوه، وهو إذا تعرّض لإنسان وخاف العجز عنه عوى، فيسمعه غيره من الذئاب، فتقبل على الإنسان، فإذا أدمى الإنسان منها واحدا وثب الباقون على المدمى فمزّقوه وتركوا الإنسان، ولذلك قال بعض الشعراء «2» يعاتب صديقا له أعان عليه فى مصيبة نزلت به: وكنت كذئب السوء لمّا رأى دما ... بصاحبه يوما أعان على الدّم والذئب لا يواجه الإنسان، وإنما يأتيه من ورائه، فإن وجد الإنسان ما يسند ظهره إليه عجز الذئب عن افتراسه. وقد وصف الشعراء الذئب بما ذكرناه من عادته وطبعه، فقال حميد بن ثور: ونمت كنوم الذئب عن ذى حفيظة ... أكلت طعاما دونه وهو جائع ترى طرفيه يعسلان «3» كليهما «4» ... كما اهتزّ عود النّبعة المتتابع ينام بإحدى مقلتيه ويتّقى ... بأخرى المنايا فهو يقظان هاجع وقال إبراهيم بن خفاجة: ولربّ روّاغ هنالك أنبط «5» ... ذلق «6» المسامع أطلس «7» الأطمار الجزء: 9 ¦ الصفحة: 272 يجرى على حذر فيجمع بسطه «1» ... يهوى فينعطف انعطاف سوار والعرب تقول فى أمثالها: «أحمق من جهيزة» قالوا: وجهيزة عرس الذئب، لأنّها تدع ولدها وترضع ولد الضّبع «2» ، وهو معنى قول ابن جذل «3» الطّعان: كمرضعة أولاد أخرى وضيّعت ... بنيها ولم ترقع بذلك مرقعا وقول الآخر: كانوا كتاركة بنيها جانبا ... سفها وغيرهم تربّ وترضع ويقولون: إنّ الضّبع إذا قتلت أو صيدت فإنّ الذئب يأتى أولادها باللّحم وأنشدوا قول الكميت: كما خامرت فى حضنها «4» أمّ عامر ... لدى الحبل «5» حتّى عال «6» أوس عيالها وأوس، هو الذئب كما تقدّم «7» فى أسمائه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 273 ذكر ما قيل فى الضبع يقال: إنّ الضّبع كالأرنب، تكون مرّة «1» ذكرا ومرّة «2» أنثى، وهم يسمّون الذكر والأنثى: الضبع «3» والذّيخ «4» ، ومن أسمائها: حضاجر، وجيأل، وجعار، وقثام، ونقاث، والعرفاء، لطول عرفها، والعثواء لنفول «5» شعرها، والعرجاء، والخامعة، وأمّ عامر وأمّ هنبر «6» ، وأمّ خنّور؛ وولدها الفرعل؛ وحجرها الوجار. والضبعة «7» مولعة بنبش القبور، وإنّما ذلك لشهوتها فى لحوم الناس؛ ومن عاداتها إذا كان القتيل بالعراء وورم وانتفخ ذكره تأتيه فتركبه وتقضى حاجتها منه، ثم تأكله؛ وهى متى رأت إنسانا نائما حفرت تحت رأسه، فاذا مال رأسه وظهر حلقه ذبحته بأسنانها، وشربت دمه؛ وهى فاسقة، لا يمرّ بها حيوان من نوعها إلّا تعرّضت له حتّى يعلوها؛ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 274 والعرب تضرب المثل بها فى الفساد، فإنّها إذا وقعت فى الغنم عاثت، ولم تكتف بما يكتفى به الذئب؛ وإذا اجتمع الذئب والضّبع فى الغنم سلمت، فإنّ كلّ واحد منهما يمنع صاحبه، ولذلك تقول العرب فى دعائها للغنم: «اللهمّ ضبعا وذئبا» ؛ والضبع إذا وطئت ظلّ الكلب فى القمر وهو على سطح وقع فتأكله؛ وإذا دخل الرجل وجارها ولم يسدّ منافذ الضوء، ثمّ صار إليها من الضياء ولو بقدر سمّ الخياط، وثبت إليه فقتلته؛ وان أخذ معه حنظلا أمن سطوتها؛ وتوصف بالحمق والموق «1» ، وذلك لأنّ من يريدون صيدها يقفون على باب وجارها ويقولون: «أطرقى أمّ طريق «2» ، خامرى «3» أمّ عامر» فاذا سمعت كلامهم انقبضت، فيقولون: «ابشرى بكمر «4» الرّجال، ابشرى بشاء هزلى وجراد عظلى «5» » وهم مع ذلك يشدّون يديها ورجليها وهى ساكنة لا تتحرّك، ولو شاءت لأجهزت عليهم وقتلتهم وخلّصت نفسها؛ وهذا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 275 القول فيما أظنّ من خرافات العرب؛ والضبع تلد من الذئب جروا «1» يسمّى العسبار، ويكون منفردا بنفسه، لا يألف السّباع، ويثب على الناس والدوابّ؛ وهى توصف بالعرج، وفيها يقول بعض الأعراب «2» : من العثو «3» لا يدرى أرجل شمالها ... بها الظّلع «4» لمّا هرولت أم يمينها ذكر ما قيل فى النّمس والعرب تسمّى النّمس الظّربان، وسمّاه أبو عبيد «5» الظّرباء «6» ؛ وهو على قدر الهرّ، وفى قدر الكلب القلطىّ «7» ؛ وهو منتن الرّيح ظاهرا وباطنا، ولونه إلى الشّبهة، طويل الخطم «8» جدّا، وليس له أذنان إلّا صماخان، قصير اليدين، وفيهما براثن حداد، طويل الذّنب، ليس لظهره فقار، ولا فيه مفصل، بل عظم واحد من مفصل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 276 الرأس إلى مفصل الذّنب، وربّما ضربه من ظفر به من الناس بالسيف فلا يعمل فيه حتى يصيب طرف أنفه، لأنّ جلده فى قوّته كالقدّ؛ ولفسوه ريح كريهة حتّى إنّه يصيب الثوب فلا تذهب رائحته منه حتّى يبلى، وهو يفسو فى الهجمة «1» من الإبل فتتفرّق ولا تجتمع لراعيها إلّا بعد تعب؛ والعرب تضرب المثل فى تفريق الجماعات به، فيقولون: «فسا بينهم الظّربان» ؛ وهو لأهل مصر كالقنافذ لأهل سجستان فى قتله الثعابين؛ قالوا: ولو لاه لأكلتهم؛ ومن عادته أنّه إذا رأى الثعبان دنا منه ووثب عليه، فاذا أخذه تضاءل فى الطول حتّى يبقى شبيها بقطعة حبل، فينطوى الثعبان عليه، فاذا انطوى نفخ الظّربان بطنه ثمّ زفر زفرة فيتقطّع الثعبان قطعا؛ قال الجاحظ: وفسو الظّربان أحدّ أسلحته، لأنّه يدخل على الضّبّ فى حجره وفيه حسوله «2» وبيضه، فيأتى أضيق موضع فى الحجر فيسدّه بيده، ويحوّل دبره فلا يفسو ثلاث فسوات حتّى يخرّ الضّبّ سكران مغشيّا عليه، فيأكله؛ وله جراءة على تسلّق الحيطان فى طلب الطير، فان هو سقط نفخ بطنه حتّى يمتلئ جلده، فلا يضرّه السقوط؛ قالوا: وهو يشبه السّمّور «3» ، وذهب بعضهم إلى أنّه هو، وإنّما البقعة التى هو فيها غيّرت وبره. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 277 الباب الثالث من القسم الأوّل من الفنّ الثالث فيما قيل فى السّنجاب والثعلب والدّبّ والهرّ والخنزير فأما السّنجاب - فهو حيوان معروف، حسن الوبر، ظهره أزرق اللّون، وبطنه أبيض، ومنه ما يكون ظهره أحمر، وهو ردىء الجنس؛ مبخوس الثّمن؛ وهذا الحيوان سريع الحركة، فاذا أبصر الانسان صعد الشجرة العالية، وهى مأواه؛ وهو كثير ببلاد الصّقالبة والخزر، «ومزاجه بارد رطب، وقيل «1» : حارّ رطب لسرعة حركته» ؛ قال أبو الفرج الببغاء: قد بلونا الذّكاء فى كلّ ناب «2» ... فوجدناه صنعة السّنجاب حركات تأبى السكون وألحا ... ظ حداد كالنار فى الالتهاب خفّ جدّا على النفوس فلوشا ... ء ترامى «3» مجاورا للتصابى واشتهت قربه العيون إلى أن ... خلته عندها أخا للشباب لابس جلدة إذا لاح خلنا ... بها فى مزرّة «4» من سحاب لو غدا كلّ ذى ذكاء نطوقا ... ردّ فى ساعة الخطاب جوابى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 278 ذكر ما قيل فى الثعلب هو ذو مكر وخديعة وتحيّل فى طلب الرزق، فمن تحيّله أنّه يتماوت وينفخ بطنه ويرفع قوائمه، حتّى يظنّ به أنه قد مات، فاذا قرب منه حيوان وثب عليه فصاده؛ ومنه أنه إذا دخل برج الحمام وكان شبعان قتلها ورمى بها، فاذا جاع عاد «1» إليها فأكلها، وكذلك يفعل مع الدّجاج؛ وهو أيضا من الحيوان الذى سلاحه سلاحه، وهو أنتن من سلاح الحبارى «2» ، فاذا تعرّض للقنفذ لقيه القنفذ بشوكه واستدار كالكرة، فيسلح الثعلب عليه، فلا يتمالك القنفذ أن ينسدخ «3» ، فيقبض الثعلب على مراقّ «4» بطنه؛ ومن ظريف ما يحكى عنه أنّ البراغيث إذا كثرت فى فروته تناول صوفة بفمه، ثم يدخل النهر برفق وتدريج، والبراغيث تصعد إذا قاربها الماء حتّى تجتمع فى تلك الصوفة التى فى فيه، فعند ذلك يلقيها فى الماء ويخرج منه؛ والذئب يطلب أولاد الثعلب، فإذا ولد له وضع ورق العنصل «5» على باب وجاره فلا يصل الذئب إليه، لأنّه متى وطئ العنصل «6» مات لوقته؛ ويقال: إنّ قضيب الثعلب فى خلقة الأنبوب، وأحد شطريه عظم، والآخر عصب ولحم؛ وربّما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 279 يسفد الثعلب الكلبة فتأتى منه بولد فى خلقة السّلوقىّ الذى لا يقدر على مثله؛ وفرو الثعلب من أجود الأوبار وأفضلها، ومنه الأسود والأبيض والخلنجىّ «1» ، وأدونه الأعرابىّ لقلّة وبره، وما كان منه ببلاد الترك يسمّى البرطاسىّ «2» لكثافة وبره وحسن لونه، ووبره أنواع، منها السار سينا «3» [والبرطاسىّ «4» والغبب «5» والنيفق «6» ؛ قال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا «7» ] : والثعلب فيه تحليل، وفراؤه أسخن الفراء، تنفع المرطوبين لتحليلها [آلات المفاصل «8» ] ؛ قال: واذا طبخ الثعلب فى الماء وطليت به المفاصل الوجعة نفع نفعا جيّدا، وكذلك الزيت الذى يطبخ فيه حيّا أو مذبوحا فإنّه يحلّل ما فى المفاصل، وشحمه يسكّن وجع الأذن إذا قطر فيها؛ ورئته المجفّفة نافعة لصاحب الرّبو جدّا، والشّربة منها وزن درهمين «9» [والله أعلم بالصواب «10» ، وإليه المرجع] [والمآب] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 280 قال أبو الفرج الببغاء يصفه: وأعفر المسك تلقاه فتحسبه ... من أدكن «1» الخزّ مخبوء بخيفان «2» كأنّ أذنيه فى حسن انتصابهما ... إذا هما انتصبا للحسّ «3» زجّان «4» يسرى ويتبعه من خلفه ذنب ... كأنّه حين يبدو ثعلب ثانى فلا يشكّ الذى بالبعد يبصره ... فردا بأنّهما فى الخلقة اثنان وقال آخر: جاؤا بصيد عجب من العجب ... أزيرق العينين طوّال «5» الذنب تبرق عيناه إلى ضوء الشّهب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 281 ذكر ما قيل فى الدّبّ والدّبّ مختلف الطبائع، يأكل ما تأكله السّباع، ويرعى ما ترعاه الدوابّ، ويتناول ما يأكله الناس؛ وفى طبعه أنّه إذا كان أوان السّفاد خلا كلّ ذكر بأنثاه، والذكر يسفد أنثاه مضطجعة على الأرض، وهى تضع جروها فدرة لحم غير مميّز الجوارح، فتهرب به من موضع إلى آخر خوفا عليه من النّمل، وهى مع ذلك تلحسه حتى تنفرج أعضاؤه ويتنفّس، وفى ولادتها صعوبة، فيزعم بعض من فحص عن طبائع الحيوان أنّ الدّبّة تلد من فيها، وأنّها إنّما تلده ناقص الخلق شوقا إلى الذّكر وحرصا على السّفاد، وهى لشدّة شهوتها تدعو الآدمىّ الى وطئها؛ وفيما حكى لى أنّ إنسانا كان سائرا فى بعض الغياض لمقصده، فصادف دبّة، فأخذته وأومأت إليه بالإشارة أن يواقعها، ففهم عنها وفعل، فلمّا فرغ عمدت الى أقدامه فلحست مواطئها حتّى نعمت «1» ، ولم تزل تكرّر لحسها وتمرّ بلسانها عليها حتّى بقى الرجل يعجز عن الوطء بها على الأرض، فعند ذلك أمنت هربه وتركته، فكانت تغدو وتتكسّب وترجع إليه بما يأكله وهو يواقعها، وهى تتعاهد «2» لحس رجليه، فلم يزل كذلك حتّى مرّ عليه جماعة من السّفر، فناداهم، فأتوه وحملوه على دوابّهم وساروا به. قالوا: والأنثى اذا هربت من الصيّادين جعلت جراءها بين يديها، فإذا اشتدّ خوفها عليهم بأن أدركها من يطلبها صعدت بأولادها إلى الأشجار؛ وفى الدّبّ من القوّة والشدّة ما يقطع العود الضخم من الشجرة العاديّة «3» التى لا تقطعها الفأس إلّا بعد تعب، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 282 ثم يأخذه بيديه، ويقف على قدميه كالإنسان، ويشدّ به على الفارس، فلا يصيب شيئا إلا أهلكه «1» ؛ وفى طبع هذا الحيوان من الفطنة العجيبة لقبول التأديب والتعليم ما هو مشاهد لا يحتاج إلى إقامة دليل عليه، هذا مع عظم جثّته، وثقل جسمه، لكن لا يطيع معلّمه إلّا بعنف وضرب شديد وتعمية لذكوره؛ وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: إنّ دم الدّبّ ينضج الأورام الحارّة سريعا؛ والله أعلم بالصواب. ذكر ما قيل فى الهر ّ والهرّ ضربان: وحشىّ وأهلىّ، وهو يشبه الأسد فى الصورة والأعضاء والوثوب والافتراس والعدو، إلّا أنّه أقلّ جراءة من الأسد وأكثرها من سائر الحيوان؛ وهو يناسب الانسان فى أحوال، منها: أنّه يعطس ويتثاءب ويتمطّى، ويتناول الشىء بيده، ويغسل وجهه وعينيه بلعابه؛ وفيه «2» أنّ الأنثى تحدث لها قوّة وشجاعة عند السّفاد، ولهذا فإنّ الذكر يهرب منها عند فراغه، وتكون هذه الشجاعة فى الذّكر قبل السّفاد، فاذا سفد انتقلت إلى الأنثى، والذّكر إذا هاج صرخ صراخا منكرا يؤذى به من يسمعه لبشاعته؛ والأنثى تحمل فى السنة مرتين، ومدّة حملها خمسون يوما، وفى أخلاق بعضها أنّها اذا ولدت تأكل أولادها، ويقال: إنّها إنّما تأكلهم لفرط حبّها لهم؛ وقيل: بل من جنون يعرض لها عند الولادة وجوع؛ والله أعلم؛ وفى هذا الحيوان من الأخلاق الحميدة أنّه يرعى حقّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 283 التربية والإحسان إليه، ويقبل التأديب، وربّما ربّى فى حانوت السّمّان «1» والجزّار وفى الدّور بين الدّجاج والحمام وغير ذلك من المطاعم التى يحبّها الهرّ ويأكلها فلا يتعرّض لها بفساد، ولا يأكل منها ما لم يطعمه، وربّما حفظها من غيره، وقاتل دونها، مع ما فيه من الافتراس والاختلاس؛ وفى طبع الهرّ وعادته أنّه إذا أطعم شيئا أكله فى موضعه ولم يهرب، واذا خطفه أو سرقه هرب به، ولا يقف إلّا أن يأمن على نفسه؛ وفى بعضها من الجراءة ما يقتل الثعبان والعقرب؛ وإذا أرادت الهرّة ما يريد صاحب الغائط أتت موضع تراب فى زاوية من زوايا الدّار، فتبحث حتّى تجعل لها حفرة، ثم تدفن فيها ما تلقيه، وتغطّيه من ذلك التراب، ثم تشمّ أعلى التراب، فإن وجدت رائحة زادت عليه ترابا حتى تعلم أنّها أخفت المرئىّ والمشموم، فإذا لم تجد ترابا خمشت وجه الأرض، وزعم بعض الأطبّاء أنّ ستر الهرّة لذلك لحدّة رائحته، فإنّ الفأرة إذا شمّته نفرت منه الى منقطع تلك الرائحة؛ وهو يقبل التعليم ويؤدّب حتى يألف الفأر مع ما بينهما من شدّة العداوة، فيحصل بينهما من المؤالفة الظاهرة والملاءمة ما إنّ الفأر يصعد على ظهر الهرّ، وربّما عضّ أذنه، فيصرخ الهرّ ولا يأكله، ولا يخدشه لخوفه من مؤدّبه، فإذا أشار إليه مؤدّبه بأكله وثب عليه على عادته وأكله، وهذا أمر مشاهد غير منكور يفعله الطّرقيّة «2» ويفرّجون «3» الناس عليه «4» ؛ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 284 وفى طبع الهرّ أنّه لا يأكل السّخن ولا الحامض، ومتى دهن أنفه بدهن الورد مات سريعا؛ وهو إذا قاتل الثعبان يضع يده على أنفه، ويقاتل بيده الأخرى، وإنّما يفعل ذلك حذرا على نفسه، فإنّ الثعبان متى ضربه فى أنفه مات، ويضربه فى سائر جسده فلا يضرّه ذلك، بل يلحس مكان نهش الثّعبان بلسانه وهو يقاتله. وقد وصفه الشعراء والأدباء برسائل وأبيات. فمن ذلك رسالة أنشأها أبو [جعفر» ] عمر الأوسىّ الأندلسىّ المعروف بابن صاحب الصّلاة «2» - ونسبت هذه الرسالة لأبى [نصر «3» ] الفتح بن خاقان صاحب قلائد العقيان- يخاطب بها بعض اخوانه ويوصيه على «4» كتبه، وهى: وفى علمك- أعزّك الله- ما استودعته ديانتك، واستحفظته أمانتك؛ من كتبى التى هى أنفس ذخائرى وأسراها «5» ، وأحقّها بالصيانة وأحراها؛ وما كنت أرتضى فيها بالتّغريب، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 285 لولا التّرجّى لمعاودة الطلب عن قريب؛ ولا شكّ أنّها منك ببال، وبمكان تهمّم «1» واهتبال؛ لكن ربّما طرقها من مردة الفئرة طارق، وعاث فيها كما يعيث الفاسق المارق؛ فينزل «2» فيها قرضا، ويفسدها طولا وعرضا؛ إلّا أن يطوف عليها هرّ نبيل، ينتمى من القطاط إلى أنجب قبيل؛ له رأس كجمع «3» الكفّ، وأذنان قد قامتا «4» على صفّ؛ ذواتا لطافة ودقّه، وسباطة ورقّه؛ يقيمهما عند التشوّف، ويضجعهما عند التخوّف؛ ومقلة مقتطعة من الزجاج المجزّع «5» ، وكأنّ ناظرها من العيون البابليّة منتزع؛ قد استطال الشعر حول أشداقه، وفوق آماقه؛ كإبر مغروزة على العيون، كما أحكمت «6» برد أطرافها القيون «7» ؛ له ناب كحدّ المطرد «8» ، ولسان كظهر المبرد؛ وأنف أخنس «9» وعنق أوقص «10» ، وخلق سوىّ غير منتقص، أهرت «11» الشّدقين، موشّى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 286 الساعدين والساقين [ململم «1» اليدين] والرجلين؛ يرجّل بها «2» وبره «3» ترجيل ذوى الهمم، لما شعث «4» من اللّمم؛ فينفض ما لصق به من الغبار، وعلق من الأوبار، ثم يجلوه بلسانه جلاء الصّيقل للحسام، والحمّام للأجسام؛ فينفى قذاه، ويوارى أذاه؛ ويقعى إقعاء الأسد إذا جلس، ويثب وثبة النّمر «5» إذا اختلس؛ له ظهر شديد، وذنب مديد؛ يهزّه هزّ السّمهرىّ المثقّف، وتارة يلويه لىّ الصّولج المعقّف؛ تجول يداه فى الخشب والأرائك، كما تجول فى الكسايد حائك «6» ؛ يكبّ على الماء حين يلغه «7» ، ويدنى منه فاه ولا يبلغه؛ ويتّخذ من لسانه رشاء ودلوا، ويعلم به إن كان الماء ملحا أو حلوا؛ فتسمع للماء خضخضة من قرعه، وترى للّسان نضنضة «8» من جرعه؛ يحمى داره حماية النّقيب، ويحرسها حراسة الرقيب؛ فإن رأى فيها كلبا، صار عليه إلبا «9» ؛ وصعّر خدّه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 287 وعظّم قدّه، حتّى يصير ندّه «1» ؛ أنفة من جنابه «2» أن يطرق، وغيرة على حجابه أن يخرق؛ وإن رأى فيها هرّا، وجف «3» اليه مكفهرّا؛ فدافعه بالساعد الأشدّ، ونازعه منازعة الخصم الألدّ؛ فإذا أطال مفاوضته، وأدام مراوضته؛ أبرز برثنه لمبادرته، وجوشنه «4» لمصادرته؛ ثمّ تسلّل إليه لواذا، واستحوذ عليه استحواذا؛ وشدّ عليه شدّه، وضمّه من غير مودّه؛ فأنسل وبره إنسالا «5» ، وأرسل دمه إرسالا؛ بأنياب عصل «6» ، أمضى من نصل؛ ومخلب كمنقار «7» الصّخر، درب بالاقتناص والعقر؛ فيصيّر «8» قرنه ممزّق الإهاب، مستبصرا «9» فى الذّهاب، قد أفلت من بين أظفار وأنياب، ورضى من الغنيمة بالإياب؛ هذا وهو يخاتله دون جنّه، ويقاتله بلا سيوف ولا أسنّه؛ وإنّما جنّته، منّته «10» ؛ وشفاره، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 288 أظفاره؛ وسنانه، أسنانه؛ إذا سمعت الفئرة منه مغاء «1» ، لم تستطع له إصغاء؛ وتصدّعت «2» قلوبها من الحدر، وتفرّقت جموعها شذر مذر؛ تهجع العيون وهو ساهر، وتستتر الشخوص وهو ظاهر؛ يسرى من عينيه بنيّرين وضّاحين، تخالهما فى الظلام مصباحين؛ يسوف «3» الأركان، ويطوف بكلّ مكان؛ ويحكى فى ضجعته السوار تحنّيا، وقضيب الخيزران تثنّيا؛ ثم يغطّ إذا نام، ويتمطّى إذا قام؛ ولا يكون بالنار مستدفئا، ولا للقدر مكفئا؛ ولا فى الرّماد مضطجعا، ولا للجار منتجعا؛ بل يدبّر بكيده، وينتصر على صيده؛ قد تمرّن «4» على قتل الخشاش «5» ، وافترس الطير فى المسارح والأعشاش؛ يستقبل الرياح بشمّه، ويجعل الاستدلال أكبر همّه؛ ثم يكمن للفأر حيث «6» يسمع لها خبيبا «7» ، أو يلمح من شيطانها «8» دبيبا؛ فيلصق بالأرض، وينطوى بعضه فى بعض، حتى يستوى «9» منه الطّول والعرض؛ فاذا تشوّفت الفأرة من حجرها، وأشرفت بصدرها ونحرها؛ دبّ اليها دبيب الصّلّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 289 وامتدّ إليها امتداد الظّلّ؛ ثم وثب فى الحين عليها [وجلب «1» الحين اليها] ؛ فأثخنها جراحا، ولم يعطها براحا؛ فصاحت من شدّة أسره، وقوّة كسره؛ وكلّما كانت صيحتها أمدّ، كانت قبضته عليها أشدّ، حتّى يستأصل أوداجها فريا، وعظامها بريا، ثم يدعها مخرجة الذّماء «2» ، مضرّجة بالدّماء؛ وان كان جرذا مسنّا، لم يضع عليه سنّا؛ وإن كان درصا «3» صغيرا فغر عليه فاه، وقبض مترفّقا على قفاه؛ ليزداد منه تشهّيا وبه تلهّيا؛ ثم تلاعب به تلاعب الفرسان بالأعنّه، والأبطال بالأسنّه؛ فإذا أوجعه عضّا، وأوعبه «4» رضّا؛ أجهز فى الفور عليه، وعمد بالأكل اليه؛ فازدرد منه أطيب طعمه، واعتدّه أهنأ نعمه؛ ثم أظهر بالالتعاق «5» شكره، وأعمل فى غيره فكره؛ فرجع إلى حيث أثاره، ويتبع «6» فيه آثاره؛ راجيا أن يجد فى رباعه، ثانيا من أتباعه، فيلحقه بصاحبه فى الردى، حتّى يفنى جميع العدى؛ وربّما انحرف عن هذه العوائد «7» ، والتقط فتات الموائد «8» ، بلاغا «9» فى الاحتماء، وبرّا بالنّعماء، فماله على خصاله ثمن «10» ، ولا جاء الجزء: 9 ¦ الصفحة: 290 بمثاله زمن؛ وقد أوردت- أعزّك الله- من وصفه فصلا مغربا، وهزلا مطربا؛ إخلاصا من الطويّة واسترسالا، وتسريحا للسجيّة وإرسالا، على أنّى لو استعرت فى وصفه لسان أبى «1» عبيد، وأظهرت فى نعته بيان أبى زبيد «2» ؛ ما انتهيت فى النطق إلى خطابك، ولا احتويت فى السّبق على أقصابك؛ والله يبقيك لثمر النّبل جانيا، ولدرج الفضل بانيا. وقال ابن طباطبا يصف هرّة بلقاء: فتنتنى بظلمة وضياء ... إذ تبدّت بالعاج والآبنوس تتلقّى الظلام من مقلتيها ... بشعاع يحكى شعاع الشّموس ذات دلّ قصيرة كلّما قا ... مت تهادت، طويلة فى الجلوس لم تزل تسبغ الوضوء وتنقى ... كلّ عضو لها من التنجيس دأبها ساعة الطهارة دفن ال ... عنبر الرّطب فى الحنوط اليبيس «3» الجزء: 9 ¦ الصفحة: 291 وقال أبو بكر الصّنوبرىّ من أبيات- وذكر الجرذان «1» -: ذاد همّى بهنّ «2» أورق «3» تركىّ «4» ... السّبالين أنمر «5» الجلباب ليث غاب خلقا وخلقا فمن عا ... ينه قال: إنّه ليث غاب قنفذ فى ازبراره «6» وهو ذئب ... فى اغترار «7» وحيّة فى انسياب ناصب طرفه إزاء الزّوايا ... وإزاء السّقوف والأبواب ينتضى الظّفر حين يظفر فى الحر ... ب وإلا فظفره فى قراب يسحب الصّيد فى أقلّ من اللّم ... ح ولو كان صيده فى السحاب ومنها «8» : قرّطوه «9» وقلّدوه وعالو «10» ... هـ أخيرا وأوّلا بالخضاب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 292 فهو طورا يبدو بنحر عروس ... وهو طورا يمشى على عنّاب حبّذا ذاك صاحبا فهو فى الصحة ... أو فى من سائر الأحباب وقال أبو بكر بن العلّاف يرثى هرّا-، وقد قيل: إنما رثى بها ابنه، لأنّه تعرّض إلى حريم بعض الأكابر فاغتالوه وقتلوه؛ وقيل: بل رثى بها عبد الله بن المعتزّ، وورّى بهرّ خوفا من المقتدر «1» بالله، فقال: يا هرّ فارقتنا ولم تعد ... وكنت منّا بمنزل الولد وكيف ننفكّ عن هواك وقد ... كنت لنا عدّة من العدد تمنع عنّا الأذى وتحرسنا ... بالغيب من خنفس «2» ومن جرد «3» وتخرج الفأر من مكامنها ... ما بين مفتوحها إلى السّدد «4» يلقاك فى البيت منهم عدد «5» ... وأنت تلقاهم بلا عدد «6» وكان يجرى- ولا سداد لهم- ... أمرك فى بيتنا على سدد حتى اعتقدت الأذى لجيرتنا ... ولم تكن للأذى بمعتقد وحمت حول الرّدى بظلمهم ... ومن يحم حول حوضه يرد وكان قلبى عليك مرتعدا ... وأنت تنساب غير مرتعد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 293 تدخل برج الحمام متّئدا ... وتخرج الفرخ غير متّئمد وتطرح الرّيش فى الطريق لهم ... وتبلع اللّحم بلع مزدرد أطعمك الغىّ لحمها فرأى ... قتلك أربابها من الرّشد كادوك دهرا فما وقعت وكم ... أفلتّ من كيدهم ولم تكد «1» حتّى إذا خاتلوك واجتهدوا ... وساعد النفس «2» كيد مجتهد صادوك غيظا عليك وانتقموا ... منك وزادوا ومن يصد يصد ثمّ شفوا بالحديد أنفسهم ... منك ولم يربعوا «3» على أحد لم يرحموا صوتك الضعيف كما ... لم ترث منها لصوتها الغرد فحين كاشفت «4» وانتهكت وجا ... هرت وأسرفت غير مقتصد أذاقك الموت من أذاق «5» كما ... أذقت أطياره يدا بيد كأنّهم يقتلون طاغية ... كان لطاغوته «6» من العبد «7» الجزء: 9 ¦ الصفحة: 294 فلو أكبّوا على القرامط «1» أو ... مالوا على زكرويه «2» لم يزد يا من لذيذ الفراخ أوقعه ... ويحك هلّا قنعت بالقدد «3» ما كان أغناك عن تسوّرك ال ... برج ولو كان جنّة الخلد لا بارك الله فى الطعام إذا ... كان هلاك النّفوس فى المعد كم أكلة داخلت حشاشره ... فأخرجت روحه من الجسد أردت أن تأكل الفراخ ولا ... يأكلك الدهر أكل مضطهد هذا بعيد من القياس وما ... أعزّه «4» فى الدّنوّ والبعد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 295 ولم تكن لى بمن دهاك يد ... تقوى على دفعه يد الأبد «1» ولا تبيّن حشو جلدك عن «2» ... د الذّبح من طاقة ومن جلد كأنّ حبلا حوى- بحوزته «3» - ... جيدك للذّبح «4» كان من مسد كأنّ عينى تراك مضطربا ... فيه وفى فيك رغوة الزّبد وقد طلبت الخلاص منه فلم ... تقدر على حيلة ولم تجد فجدت بالنفس والبخيل بها ... كنت ومن لم يجد بها يجد «5» عشت حريصا يقوده طمع ... ومتّ ذا قاتل بلا قود فما سمعنا بمثل موتك إذ ... متّ ولا مثل عيشك النّكد عشنا بخير وكنت تكلؤنا ... ومات جيراننا من الحسد ثمّ تقلّبت فى فراخهم ... وانقلب «6» الحاسدون بالكمد قد انفردنا بمأتم ولهم ... بعدك بالعرس أىّ منفرد قد كنت فى نعمة وفى سعة ... من المليك المهيمن الصّمد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 296 تأكل من فأر بيتنا رغدا ... وأين بالشاكرين «1» للرغد قد كنت بدّدت شملهم زمنا ... فاجتمعوا بعد ذلك البدد وفتّنوا الخبز فى السّلال «2» فكم ... تفتّتت للعيال من كبد فلم يبقّوا لنا على سبد ... فى جوف أبياتنا «3» ولا لبد وفرّغوا قعرها وما تركوا ... ما علّقته يد على وتد ومزّقوا من ثيابنا جددا ... فكلّنا فى مصائب جدد فاذهب من البيت خير مفتقد ... واذهب من البرج شرّ مفتقد ألم تخف وثبة الزمان وقد ... وثبت فى البرج وثبة الأسد؟ أخنى على الدار فيه بالأمس «4» ... ومن قبلها على لبد «5» الجزء: 9 ¦ الصفحة: 297 ولم يدع فى عراصها أحدا ... ما بين عليائها إلى السّند «1» عاقبة البغى لا تنام وإن ... تأخّرت مدّة من المدد من لم يمت يومه يمت غده ... أو لا يمت فى غد فبعد غد والحمد لله لا شريك له ... فكلّ شىء يرى إلى أمد وفيه «2» أيضا: يا هرّ بعت الحقّ بالباطل ... وصرت لا تصغى إلى عاذل إذا أتيت البرج من خارج ... طارت قلوب الطّير من داخل علما بما تصنع فى برجها ... فهى على خوف من الفاعل قد كنت لا تغفل عن أكلها ... ولم يكن ربّك بالغافل فانظر إلى ما صنعت بعد ذا ... عقوبة المأكول بالآكل ما زلت يا مسكين مستقتلا ... حتّى لقد منّيت «3» للقاتل قد كنت للرحمة مستأهلا ... إذ لم أكن منك بمستاهل وقال أيضا: يا ربّ بيت ربّه ... فيه تضايق مستقرّه لمّا تكاثر فأره ... وجفاه بعد الوصل هرّه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 298 وسعى إلى برج امرئ ... فيه الفراخ كما يسرّه ظنّ المنافع أكلها ... فإذا منافعها تضرّه ذكر ما قيل فى الخنزير والخنزير مشترك بين السبعيّة والبهيميّة، فالذى فيه من السبعيّة الناب، وأكل الجيف؛ والذى فيه من البهيميّة الظّلف، وأكله العشب والعلف؛ والخنزير موصوف بالشّبق وكثرة السّفاد، حتى إنّ الأنثى يركبها الذّكر وهى ترجع «1» ، فربّما قطعت أميالا وهو على ظهرها، ويرى الرائى أثر ستّة أرجل ممّن لا يعرف ذلك، فيظنّ أنّ فى الدّوابّ ماله ستّة أرجل؛ والخنزيرة تضع عشرين خنّوصا «2» ، وتحمل من ماء «3» واحد، وتضع لمضىّ ستّة [أشهر «4» ] من حملها؛ وقال الجاحظ: إنّها تضع فى أربعة أشهر؛ والخنزير ينز وإذا تمّت له ثمانية أشهر، والخنزيرة إذا تمّت لها ستّة أشهر اشتهت السّفاد، ولكن لا تجىء أولادها كما يريدون «5» ؛ وأجود النزو أن يكون ذلك منه وهو ابن عشرة أشهر إلى ثلاث سنين؛ وإذا كانت الخنزيرة بكرا ولدت جراء ضعافا «6» الجزء: 9 ¦ الصفحة: 299 وكذلك البكر من كلّ شىء، وإذا بلغت الخنزيرة خمسة عشر سنة لا تلد بعدها، وهى أنسل الحيوان، والذّكر أقوى الفحول على السّفاد، وأطولها مكثا فيه؛ ويقال: إنه ليس شىء من ذوات الأنياب ما للخنزير من القوّة فى نابه، وربّما طال ناباه «1» حتّى يلتقيا، فيموت عند ذلك جوعا، لأنّهما يمنعانه من الأكل، وهو متى عضّ كلبا سقط شعر الكلب، وإذا أراد محاربة الأسد جرّب نفسه قبل الإقدام عليه بأن يضرب شجرة بنابه، فإن قطعها حارب الأسد، وإلا هرب منه ولم يقاتله؛ وأخبرنى من رآه وقد جرّب نفسه فى شجرة وضربها بأنيابه، فتمكّنت أنيابه منها وثبتت فيها، فأراد الخلاص فعجز، فجاء الأسد إليه وهو على تلك الحالة فافترسه؛ قالوا: ويعترى ذكوره داء الحلاق «2» واللّواط، فربّما يرى الخنزير وقد ألجأه أكثر من عشرين خنزيرا إلى مضيق، ثم ينزو عليه الأمثل فالأمثل، إلى أن يبلغ آخرهم؛ والخنزير إذا قلعت إحدى عينيه هلك عاجلا؛ ويقول الأطبّاء: إنه متى فسد من عظام الإنسان عظم ووضع فى مكانه عظم من عظام الخنزير قبلته الطبيعة ونبت عليه اللّحم؛ وحكى أرسطو أنّ عمر الخنزير من خمسة عشر سنة إلى عشرين سنة؛ وقلّما ذكر الفضلاء والشعراء الخنزير فى رسائلهم وأشعارهم، وسأثبت فى هذا الموضع ما وقفت عليه فى هذا المعنى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 300 فمن ذلك ما كتب به عطاء بن يعقوب الغزنوىّ يعرّض فيها بقاض، قال منها: وما مثل فلان فى استنابته «1» إلا كمثل رجل رأى فى المنام أنّه يضاجع خنزيرا، فبكر إلى المعبّر ليعبّر منامه تعبيرا؛ فقال المعبّر: يا برذعة الحمير، ما غرّك بالخنزير؟ ألين ملمسه، أم «2» حسن معطسه؛ أم شكاه الرّشيق، أم طرفه العشيق «3» ؛ أم لقاؤه البهج، أم قباعه «4» الغنج؛ أم شعره الرّجل، أم ثغره الرّتل «5» ؟. وقال القاضى [محيى الدّين بن] عبد الظاهر فى الخنزير: وخنزير له ناب تراه ... اذا عنّ افتراس غير نابى كمثل الكلب لا بل منه أجرا «6» ... ويحقر أن يشبّه بالكلاب فذاك لنخوة يعزى وهذا ... يقلّل نخوة الرجل المهاب بنصّ للكتاب غدا حراما ... وحلّل أكله أهل الكتاب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 301 القسم الثانى من الفنّ الثالث فى الوحوش والظّباء وما يتّصل بها من جنسها ، وفيه ثلاثة أبواب الباب الأوّل من هذا القسم فيما قيل فى الفيل والكركدّن والزّرافة والمها والأيّل ذكر ما قيل فى الفيل يقال: إنّ الفيل مولّد بين الجاموس والخنزير، ولذلك يزعم بعض من بحث عن طبائع الحيوان أنّ الفيلة مائيّة الطباع بالجاموسيّة والخنزيريّة اللّتين فيها، وبعضها يسكن الماء، وبعضها لا يسكنه؛ ويقال: إنّ الفيلة صنفان: فيل، وزندبيل «1» ، وهما كالبخت والعراب، والبقر والجاموس، والخيل والبراذين، والفأر والجرذان، والنمل والذّرّ؛ وبعضهم يقول: إنّ الفيل الذّكر، والزّندبيل «2» الأنثى؛ وقال بعضهم: إنّ الزّندبيل «3» هو عظيم الفيلة والمقدّم عليها فى الحرب، وفيه يقول بعض الشعراء: ذاك الذى مشفره طويل ... وهو من الأفيال زندبيل «4» وقال آخر: وفيله كالطّود زندبيل «5» وقال آخر: من بين أفيال وزندبيل «6» الجزء: 9 ¦ الصفحة: 302 وخرطوم الفيل أنفه، وبه يوصل الطعام والشراب إلى فيه، وبه يقاتل وبه يصيح، وليس صوت الفيل على مقدار جثّته؛ ولسانه مقلوب، طرفه إلى داخل فيه، وأصله خارج، وهو على العكس من سائر الحيوانات؛ والهند تزعم أنّه لولا ذلك لتكلّم، وهم يعظّمون الفيلة ويشرّفونها على سائر الحيوانات؛ والفيل يتولّد فى أرض الهند والسّند والزّنج، وبجزيرة سرنديب «1» ؛ وهو أعظمها خلقا، وينتهى فى عظم الخلق الى أن يبلغ فى الارتفاع عشرة «2» أذرع؛ وفى ألوانها الأسود والأبيض والأبلق والأزرق؛ وهو اذا اغتلم أشبه الجمل «3» فى ترك الماء والعلف حتى ينضمّ «4» إبطاه، ويتورّم رأسه، وربّما استوحش لذلك بعد استئناسه، والفيل ينزو إذا مضى له من العمر خمس سنين، والأنثى تحمل سنتين، وإذا حملت لا يقربها الذّكر، ولا ينزو عليها إذا وضعت إلّا بعد ثلاث سنين، ولا ينزو إلّا على فيلة واحدة، وله عليها غيرة شديدة؛ وإذا أرادت الفيلة أن تضع دخلت النهر فتضع ولدها فى الماء، لأنّها تلد قائمة؛ والذكر يحرسها ويحرس ولدها من الحيّات، وذلك لعداوة بينهما؛ قالوا: وأنثيا الفيل داخل بدنه قريبا من كليتيه، ولذلك هو يسفد سريعا كالطير، لأنهما قريبتان من القلب فتنضحان المنىّ بسرعة؛ ويقال: إنّ الفيل يحقد كالجمل؛ والهند يجعلون نابى الفيل قرنيه، وفيها الأعقف والمستقيم؛ قال المسعودىّ فى مروج الذهب: وربّما بلغ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 303 الناب الواحد منها خمسين ومائة منّ «1» ؛ ورأيت أنا من أنياب الفيلة ما طوله يزيد على أربعة «2» أذرع ونصف، وهو معقّف، شاهدت ذلك بمدينة قوص فى سنة سبع وتسعين وستّمائة، ورأيت فيها نابين أظنّهما أخوين بهذه الصفة، وهما معقّفان، وغلظهما مناسب لطولهما؛ والفيل يحمل بنابيه على الجدار الوثيق فيهدمه؛ ولم تزل ملوك غزنة «3» إلى سبكتكين ومن بعدهم من الملوك الغزنويّة تفتتح بالفيلة المدن، وتهدم بصدماتها الحصون، وأشهرهم بذلك يمين الدّولة محمود بن سبكتكين، على ما ستقف- إن شاء الله تعالى- عليه فى تاريخ الدّولة الغزنويّة؛ والفيل سريع الاستئناس بالناس؛ وفى طبعه أنّه إذا سمع صوت الخنزير ارتاع ونفر واعتراه الفزع؛ وقال المسعودىّ: إنّه لا يثبت للهرّ، وإذا رآه فرّ منه؛ وقال: إنّ رجلا كان بالمولتان «4» من أرض الهند «5» يدعى هارون بن موسى مولى الأزد «6» ، وكان شاعرا شجاعا ذا رياسة فى قومه ومتعة بأرض السّند مما يلى بلاد المولتان «7» [وكان «8» ] فى حصن له هناك، فالتقى مع بعض ملوك الهند، وقد قدّمت الهند أمامها الفيلة، فبرز هارون أمام الصفّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 304 وقصد عظيم الفيلة، وقد خبأ سنّورا تحت ثيابه؛ فلمّا دنا فى حملته من الفيل أبرز الهرّ له، فانهزم الفيل وولّى عند مشاهدته للهرّ، فانهزم الجيش وقتل الملك الهندىّ، ولهارون بن موسى قصيدة فى ذلك نذكرها- إن شاء الله تعالى- عند ذكر وصف الفيل؛ والفيل إذا ورد الماء الصافى كدّره قبل أن يشربه كعادة الخيل، وهو قليل الاحتمال للبرد، واذا عام فى الماء استتر كلّه إلّا خرطومه؛ ويقال: إنّه يصاد باللهو والطرب والزّينة وروائح الطّيب؛ والزّنوج تصيده بحيلة غير ذلك، وهى أنّهم يعمدون إلى نوع من الأشجار، فيأخذون ورقه ولحاءه ويجعلونه فى الماء الذى تشربه الفيلة، فاذا وردته وشربت منه سكرت، فتسقط إلى الأرض، ولا تستطيع القيام، فتقتلها الزّنوج بالحراب، ويأخذون أنيابها ويحملونها إلى بلاد عمان، وتنقل منها إلى البلاد؛ وأمّا أهل النّوبة فإنّهم اذا أرادوا صيدها للبقاء عمدوا إلى طرقها التى ترد الماء منها، فيحفرون هناك أخاديد ويسقّفونها بالخشب الضعيف، ويسترونها بالنبات والتراب، فاذا مرّ الفيل عليها انكسرت به تلك الأخشاب الضعيفة، فيسقط فى الأخدود، فعند ذلك يتبادر اليه جماعة من الرجال بأيديهم العصىّ الرّقاق، فيضربونه الضرب الوجيع، فاذا بلغ به الألم خرج اليهم رجل منهم مغاير للباسهم، فيضربهم، ويصرفهم عنه، فينصرفون، ويقف هو بالقرب من الفيل ساعة، ثمّ ينصرف، فإذا أبعد وغاب عن الفيل رجع أولئك القوم وعاودوا ضربه حتى يؤلموه، فيعود ذلك الرجل فيريه أنّه ضربهم، فيتفرّقوا عنه، يفعلون ذلك به أياما والرجل يؤانس الفيل، ويأتيه بالمأكل والماء حتّى يألفه ويقرب منه، فيقال: إنّه ينام بالقرب منه، ويخرج أولئك، فإذا رآهم الفيل قد أقبلوا أيقظه بخرطومه برفق، وأشار اليه أن يردّهم عنه، فيفعل على عادته، فاذا علم أنّ الفيل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 305 استأنس وزال استيحاشه وألف ذلك الرجل، حفروا أمامه بتدريج وتوطئة، فيطلع وقد سلس قياده، وزال عناده، ثمّ يحملونه فى المركب إلى الديار المصريّة فى جملة التّقادم «1» الموظّفة عليهم؛ وبأرض الهند فيلة غير وحشيّة تستأنس إلى الناس، وتتناتج بينهم، ويقاتلون عليها فى حروبهم، فيجتمع للملك الواحد من ملوك الهند منها عدّة كثيرة، وأكثرها يأوى المروج والغياض كالبقر والجاموس فى بلادنا؛ قال المسعودىّ: وهى تهرب من المكان الذى فيه الكركدّن، فلا ترعى فى موضع تشمّ فيه رائحته؛ وللفيلة بأرض الهند آفة عظيمة من الحيوان، وهو الذى يعرف بالزبرق «2» أصغر من الفهد، أحمر اللّون برّاق العينين، سريع الوثبة، يبلغ فى وثبته الى خمسين ذراعا وأكثر، فإذا أشرف على الفيلة رشّ عليها ببوله، فيحرقها، وربّما لحق الإنسان فمات؛ وهذا الوحش إذا أشرف على أحد من أهل الهند التجأ إلى أكبر شجر السّاج، وارتقى الى أعلاها، فيأتى هذا الوحش اليها ويثب، فإن أدركه رشّ عليه ببوله، فأحرقه وإن عجز عنه وضع رأسه بالأرض وصاح صياحا عجيبا، فتخرج من فمه قطع من الدّم، ويموت من ساعته، ويحترق من الشجرة ما يقع بوله عليه؛ قالوا: وللهند طيب يجمعونه من جباه الفيلة ورءوسها، فإنّها إذا اغتلمت عرفت «3» هذه الأماكن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 306 منها عرفا كالمسك، فهم يستعملونه لظهور الشّبق فى الرجال والنساء، وهو يقوّى النّفس، ويشجّع القلب؛ قالوا: والفيل يشبّ إلى تمام ستّين سنة، ويعمّر مائتى سنة؛ [وأكثر «1» ؛ وحكى أرسطو أنّ فيلا ظهر عمره أربعمائة سنة؛ وحكى بعض المؤرّخين أنّ فيلا سجد لأبرويز، ثمّ سجد للمعتضد، وبينهما الزمان الذى ذكره أرسطو] واعتبر ذلك بالوسم؛ ووقفت على حكاية تناسب ما نحن فيه، أحببت أن أثبتها فى هذا الباب، وهى: حكى الامام الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهانىّ فى كتابه الموسوم (بحلية الأولياء) ، قال: حدّثنا محمد بن الحسن، قال: حدّثنا عبد الوارث ابن بكير: أنّ أبا عبد الله القلانسىّ ركب البحر، فعصفت عليهم الرّيح فى مركبهم، فدعا أهل المركب وتضرّعوا، ونذروا النّذور، فقالوا: أى عبد الله؛ كلّنا قد عاهد الله ونذر نذرا إن أنجانا الله، فانذر أنت نذرا، وعاهده عهدا؛ فقلت: أنا مجرّد من الدنيا، ما لى وللنّذر؛ فألّحوا علىّ فيه؛ فقلت: لله علىّ إن خلّصنى ممّا أنا فيه لا آكل لحم الفيل؛ فقالوا: ما هذا النّذر؟ وهل يأكل لحم الفيل أحد؟ فقلت: كذا وقع فى سرّى، وأجراه الله على لسانى؛ فانكسرت السفينة، ووقعت فى جماعة من أهلها الى الساحل، فبقينا أيّاما لم نذق ذواقا، فبينا نحن قعود إذا نحن بولد فيل، فأخذوه فذبحوه وأكلوا من لحمه، وعرضوا علىّ أكله، فقلت: أنا نذرت وعاهدت الله أن لا آكل لحم الفيل، فاعتلّوا علىّ بأنّى مضطر، ولى فسخ العهد لاضطرارى، فأبيت عليهم، وثبتّ على العهد، فأكلوا وامتلأوا وناموا، فبينما هم نيام إذ جاءت الفيلة تطلب ولدها، وتتبع أثره، فلم تزل تشمّ الرائحة حتّى انتهت إلى عظام ولدها، فشمّتها، ثمّ جاءت وأنا أنظر اليها، فلم تزل تشمّ واحدا واحدا، فكلّما شمّت من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 307 واحد رائحة اللّحم داسته برجلها أو بيدها فقتلته، حتّى قتلتهم كلّهم، ثمّ أقبلت الىّ، فلم تزل تشمّنى فلم تجد منّى رائحة اللحم، فأدارت مؤخّرها وأومأت إلىّ بخرطومها أن اركب؛ فلم أقف على ما أومأت به، فرفعت ذنبها ورجلها، فعلمت أنّها تريد منّى ركوبها، فركبتها واستويت عليها، وأومأت إلىّ أن استو، فاستويت على شىء وطىء، فسارت سيرا عنيفا إلى أن جاءت بى فى ليلتى الى موضع زرع وسواد، فأومأت الىّ أن انزل، وبركت برجلها حتّى نزلت عنها، فسارت سيرا أشدّ من سيرها بى، فلمّا أصبحت رأيت زرعا وسوادا «1» وناسا، فحملونى إلى ملكهم، وسألنى ترجمانه، فأخبرته بالقصّة وبما جرى على القوم، فقال لى: أتدرى كم المسير الذى سارت بك اللّيلة؟ فقلت: لا، فقال: مسيرة ثمانية أيّام سارت بك فى ليلة، فلبثت عندهم إلى أن حملت ورجعت؛ والله أعلم بالصواب. ذكر شىء مما وصف به الفيل نظما من ذلك ما قاله الأرّجانىّ من أبيات وصف فيها مجلس ممدوحه، فقال: والفيل فى ذيل السّماط «2» له ... زجل «3» يهال له الفتى ذعرا فى موقف الحجّاب يؤمر أو ... ينهى فيمضى النهى والأمرا أذنان كالتّرسين تحتهما ... نابان كالرّمحين إن كرّا يعلو له فيّاله ظهرا «4» ... فيظلّ مثل من اعتلى قصرا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 308 وقال عبد الكريم النّهشلىّ يصفه: وأضخم هندىّ النّجار تعدّه ... ملوك بنى ساسان إن نابها دهر يجىء كطود جائل فوق أربع ... مضبّرة «1» لمّت كما لمّت الصّخر له فخذان كالكثيبين لبّدا ... وصدر كما أوفى من الهضبة الصدر ووجه به أنف كراووق «2» خمرة ... ينال به ما تدرك الأنمل العشر وجبّان «3» لا يروى القليب صداهما ... ولو أنّه بالقاع منهرت «4» حفر «5» وأذن كنصف البرد تسمعه النّدا ... خفيّا وطرف ينفض العيب مزورّ ونابان شقّا لا يريد سواهما ... قناتين سمراوين طعنهما بتر له لون ما بين الصباح وليله ... إذا نطق العصفور أو صوّت الصقر وقال ابن طباطبا: أعجب بفيل آنس وحشىّ ... بهيمة فى فطنة الإنسىّ يفهم عن سائسه «6» الهندىّ ... غيب معانى رمزه الخفىّ مثل السدى «7» الموثّق المبنىّ ... منزّه فى خلقه السّوىّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 309 عن لين مشى ركب المطىّ ... ذى ذنب مطوّل ثورىّ فى مثل ردف الجمل البختىّ «1» ... منخفض الصوت طويل العىّ يطوف كالمزدجر المنهىّ ... يرنو بطرف منه شادنىّ «2» فى قبح وجه منه خنزيرىّ ... خرطومه كجعبة التّركىّ حكى فما من سمك بحرىّ ... تبصره فى فيه ذا هوىّ كالدّلو إذ تهوى إلى القرىّ «3» ... يصبّ فى مصهرج مطوىّ ناباه فى هولهما المخشىّ ... كمثل قرنى ناطح طورىّ «4» أذناه فى صبغهما الفضّىّ ... كطيلسانى ولدى ذمّىّ ساسه عليه ذو رقىّ ... منتصب منه على كرسىّ يطيعه فى أمره المأبىّ ... كطاعة القرقور «5» للنّوتىّ «6» وقال آخر منشدا: من يركب الفيل فهذا الفيل ... إنّ الذى يحمله «7» محمول على تهاويل لها تهويل ... كالطّود إلّا أنّه يجول الجزء: 9 ¦ الصفحة: 310 وقال ابن الرومىّ: يقلّب جثمانا عظيما موثّقا ... يهدّ بركنيه الجبال إذا زحم ويسطو بخرطوم يطاوع أمره ... ومشتبهات «1» ما أصاب بها غنم «2» ولست ترى بأسا يقوم لبأسه ... إذا أعمل النابين فى البأس أو صدم وقال هارون بن موسى مولى الأزد يصفه ويذكر خوفه من الهرّ: أليس عجيبا بأن خلقة «3» ... لها فطن الإنس فى جرم فيل وأظرف من مشيه زوله «4» ... بحلم يجلّ عن الخنشليل «5» وأوقص «6» مختلف خلقه ... طويل النّيوب قصير النّصيل «7» ويلقى العدوّ بناب عظيم ... وجوف رحيب وصوت ضئيل وأشبه شىء إذا قسته ... بخنزير برّ وجاموس غيل ينازعه كلّ ذى أربع ... فما فى الأنام له من عديل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 311 ويعصف «1» بالببر بعد النّمور «2» ... كما تعصف «3» الريح بالعندبيل «4» وشخص ترى يده أنفه ... فإن وصفوه «5» فسيف صقيل وأقبل كالطّود هادى الخميس ... بهول شديد أمام الرّعيل ومرّ يسيل «6» كسيل الأتىّ ... بوطء خفيف وجسم ثقيل فإن شمته زاد فى هوله ... بشاعة أذنين فى رأس غول وقد كنت أعددت هرّا له «7» ... قليل التّهيّب «8» للزّندبيل «9» فلمّا أحسّ به فى العجاج ... أتانا الإله بفتح جليل فسبحان خالقه وحده ... إله الأنام وربّ الفيول وقال أبو الحسن الجوهرىّ يصف الفيل من قصيدته التى أوّلها: قل للوزير «10» وقد تبدّى ... يستعرض الكرم المعدّا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 312 أفنيت أسباب العلا ... حتّى أبت أن تستجدّا لو مسّ راحتك السحا ... ب لأمطرت كرما ومجدا لم ترض بالخيل التى ... شدّت إلى العلياء شدّا وصرائم الرأى التى ... كانت على الأعداء جندا حتّى دعوت إلى العدى «1» ... ما لا يلام إذا تعدّى متقمّصا تيه العلو ... ج وفطنة أعيت معدّا متعسّفا طرق العوا «2» ... لى حين لا يستاق «3» قصدا فيلا كرضوى «4» حين يل ... بس من رقاق الغيم بردا مثل الغمامة ملّئت ... أكنافها برقا ورعدا رأس «5» كقلّة شاهق ... كسيت من الخيلاء جلدا فتراه من فرط الدّلا ... ل مصعّرا فى الناس خدّا يزهى «6» بخرطوم كمث ... ل الصّولجان يردّ ردّا متمدّد كالأفعوا ... ن تمدّه الرّمضاء مدّا أو كمّ راقصة تشي ... ر به إلى النّدمان «7» وجدا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 313 أو كالمصلّب شدّ جن ... باه إلى جذعين شدّا وكأنّه بوق يحرّ ... كه لينفخ فيه جدّا يسطو بساريتى لجي ... ن يحطمان الصّخر هدّا أذناه مروحتان أس ... ندتا الى الفودين عقدا عيناه غائرتان ضيّ ... قتا لجمع الضوء عمدا فكّ كفوّهة الخلي ... ج يلوك طول الدهر حقدا تلقاه من بعد فتح ... سبه غماما قد تبدّى متنا «1» كبنيان الخور «2» ... نق ما يلاقى الدّهر كدّا ردفا كدكّة عنبر ... متمايل الأوراك نهدا ذنبا كمثل السوط يض ... رب حوله ساقا وزندا يخطو على أمثال أع ... مدة الخباء إذا تصدّى أو مثل أميال «3» نضد ... ن من الصخور الصّمّ نضدا متورّد «4» حوض المنيّ ... ة حين لا يشتاق وردا متملّق «5» فكأنّه ... متطلّب ما لن يودّا «6» الجزء: 9 ¦ الصفحة: 314 متلفّع بالكبريا ... ء كأنّه ملك مفدّى أدنى إلى الشىء البعي ... د يراد من وهم وأهدى أذكى من الإنسان حتّ ... ى لو رأى خلا لسدّا لو أنّه ذو لهجة ... وفّى كتاب الله سردا عقّته أرض الهند حت ... ى حلّ من زهو هرندا «1» قل للوزير: عبدت حت ... ى قد أتاك الفيل عبدا سبحان من جمع المحا ... سن عنده قربا وبعدا ذكر ما قيل فى الكركدّن والكركدّن من الحيوان الشديد القوّة، القليل العدد؛ وهو شبيه بالجاموس إلا أنه أغلظ «2» وأعتى وأنبل «3» منه، وله قرن غليظ غير طويل فى جبهته، وقرن آخر ألطف منه؛ وقد ذكره صاحب المنطق فى كتاب الحيوان وسمّاه الحمار الهندىّ؛ وقال الجاحظ فى كتاب الحيوان: وإنّما قلّ عدد هذا الجنس لأنّ الأنثى منه منها ما تكون نزورا «4» ، وأيّام حملها ليست أقلّ من أيّام حمل الفيلة؛ وهذا الحيوان يكون بأرض الهند وبلاد الحبشة؛ وتزعم الهند أنّه اذا كان ببلاد لم يرع شىء من الحيوان شيئا فى أكناف تلك البلاد هيبة له وخضوعا وهربا منه، وليس هو ببلاد الحبشة كذلك، بل يختلط به غيره من الحيوان؛ قال الجاحظ: وقد قالوا فى ولدها وهو الجزء: 9 ¦ الصفحة: 315 فى بطنها قولا لولا أنّه ظاهر على ألسنة الهند لكان اكثر الناس بل كثير من العلماء يدخلونه فى الخرافة، وذلك أنّهم يزعمون أنّ أيّام حملها اذا كادت أن تتمّ ونضجت «1» وسخنت وجاء وقت الولادة فربّما أخرج الولد رأسه من ظبيتها «2» فأكل من أطراف الشجر، فاذا شبع أدخل رأسه، حتى اذا تمّت أيّامه، وضاق به مكانه، وأنكرته الرحم، وضعته مطيقا قويّا على الكسب والحضر، لا يعرض له شىء من السباع؛ وهذا القول أيضا ذكره المسعودىّ؛ قال: واذا اغتلم الفيل فى بلاد الهند لا يقوم له شىء من الوحوش إلّا الكركدن، فإنه يقتحم عليه، فيحجم عنه ويذهب عنه سكر الاغتلام؛ وقيل: إنّه يطعن الفيل بقرنه فيموتا جميعا، فمنهم من يقول: إنّه يثقل عليه فلا يستطيع أن يخرج قرنه من جوفه، فيكون ذلك سبب حتفهما؛ ومنهم من يقول: إنّ قرنه من السّموم التى تقتل الفيل، ودم الفيل من السّموم التى إذا وقعت على قرن الكركدّن مات؛ وحكى لى من يرجع إلى قوله، ويعتمد على نقله من الحبوش «3» أنّ الكركدّن ببلاد الحبشة إذا رأى الرجل قصده ليقتله، فيعمد الرجل إلى شجرة فيتعلّق بها، فيحاوله الكركدّن، فربّما كسر تلك الشجرة وأهلكه، فان بال الرجل على أذن الكركدّن هرب وأسرع الحضر فلا يقف ولا يعود اليه، فيسلم منه؛ والله أعلم بالصواب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 316 ذكر ما قيل فى الزّرافة والزّرافة فى كلام العرب: الجماعة، وإنّما سمّيت الزّرافة زرافة لاجتماع صفات عدّة من الحيوان فيها، وهى عنق الجمل، وجلد النّمر، وقرن الظّبى، وأسنان البقر، ورأس الإيّل «1» ؛ وزعم بعض من تكلّم فى طبائع الحيوان أنّها متولّدة من حيوانات، ويقال: إنّ السبب فى ذلك اجتماع الوحوش والدوابّ فى القيظ فى شرائع «2» المياه، فتسافد، فيلقح منها ما يلقح، ويمتنع ما يمتنع، فربّما سفد الأنثى من الحيوان ذكور كثيرة، فتختلط مياهها، فيجىء فيها خلق مختلف الصّور والألوان والأشكال؛ والفرس تسمّى الزّرافة (اشتركا و پلنك) وتفسير (اشتر) : بعير؛ وتفسير (كاو «3» ) : بقرة؛ وتفسير (پلنك) : الضبع «4» ؛ وهذا موافق لما ذهبت إليه العرب من كونها مركّبة الخلق من حيوانات شتّى؛ والجاحظ ينكر هذا القول، ويقول: هو جهل شديد، لا يصدر عمّن لديه تحصيل، لأنّ الله عزّ وجلّ يخلق ما يشاء على ما يشاء، وهو نوع من الحيوان قائم بنفسه كقيام الخيل والحمر، وما يحقّق ذلك أنه يلد مثله؛ وهذا غير منكور، فإنّا نحن رأينا زرافة بالقاهرة ولدت زرافة أخرى شبهها، وعاشت إلى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 317 الآن؛ وصفة الزّرافة أنّها طويلة اليدين والعنق جدّا، منها ما يزيد طوله على عشرة «1» أذرع، قصيرة الرجلين جدّا، وليس لرجليها ركب «2» ، وإنّما الرّكب «3» ليديها كسائر البهائم؛ وهى تجترّ وتبعر، وفى طبع هذا الحيوان التودّد للناس والتآلف بهم. وقد وصفها الشعراء وشبّهوها فى أشعارهم، فمن ذلك ما قاله عبد الجبّار بن حمديس الصّقلّىّ: ونوبيّة فى الخلق فيها خلائق ... متى ما ترقّ العين فيها تسفّل اذا ما اسمها ألقاه فى السمع ذاكر «4» ... رأى الطّرف منها ما «5» عناه بمقول لها فخذا قرم «6» وأظلاف قرهب «7» ... وناظرتا رئم وهامة أيّل «8» كأنّ الخطوط البيض والصفر أشبهت ... على جسمها ترصيع عاج بصندل ودائمة الإقعاء فى أصل خلقها ... اذا قابلت أدبارها عين مقبل تلفّت أحيانا بعين كحيلة ... وجيد على طول اللّواء المظلّل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 318 وتنفض رأسا فى الزّمام كأنّما ... تريك [ «1» له فى الجوّ نفضة أجدل «2» اذا طلع النّطح «3» استجادت نطاحه ... برأس] له هاد «4» على السّحب معتلى وعرف «5» رقيق الشعر تحسب نبته ... اذا الريح هزّته ذوائب سنبل وتحسبها من مشيها إن تبخترت ... تزفّ الى بعل عروسا وتنجلى فكم منشد قول امرئ القيس عندها ... (أفاطم مهلا بعض هذا التدلّل) وقال عمارة اليمنىّ- وقد وصف تصاوير دار منها زرافة-: وبها زرافات كأنّ رقابها ... فى الطول ألوية تؤمّ العسكرا نوبيّة المنشا تريك من المها ... روقا ومن بزل المهارى مشفرا جبلت على الإقعاء من إعجابها ... فتخالها للتيّه تمشى القهقرى وقال أبو علىّ بن رشيق منشدا: ومجنونة أبدا لم تكن ... مذلّلة الظهر للراكب قد اتصل الجيد من ظهرها ... بمثل السّنام بلا غارب ملمّعة مثلما لمّعت ... بحنّاء وشى يد الكاعب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 319 كأنّ الجوارى كنّفنها «1» ... تخلّج «2» من كلّ ما جانب وقال أيضا: وأتتك «3» من كسب الملوك زرافة ... شتّى الصفات للونها «4» أثناء «5» جمعت محاسن ما حكت فتناسبت ... فى خلقها وتنافت الأعضاء تحتثّها «6» بين الخوافق مشية ... باد عليها الكبر والخيلاء وتمدّ جيدا فى الهواء يزينها ... فكأنّه تحت اللّواء لواء حطّت مآخرها وأشرف صدرها ... حتّى كأنّ وقوفها إقعاء وكأن فهر الطّيب «7» ما رجمت به ... وجه الثّرى لو لمّت «8» الأجزاء وتخيّرت دون الملابس حلّة ... عيّت بصنعة مثلها صنعاء الجزء: 9 ¦ الصفحة: 320 لونا كلون الذّبل «1» إلّا أنّه ... حلّى وجزّع بعضه الجلّاء أو كالسحاب المكفهرّة خطّطت «2» ... فيها البروق وميضها إيماء أو مثلما صدئت صفائح جوشن «3» ... وجرى على حافاتهنّ جلاء نعم التجافيف «4» التى قد درّعت «5» ... من جلدها لو كان فيه وقاء وقال محمد بن شرف القيروانىّ: غريبة أشكال غريبة دار ... لها لون خطّى فضّة ونضار فلون لها لون البياض وصفرة ... كما مزجت بالماء كأس عقار وآخر ما بين اسوداد وحمرة ... كما احمرّ مسودّ الدخان بنار أعيرت شخوصا وهى فى شخص واحد ... تحيّر فى نشز لها وقفار تقوم على ما بين ظلف وحافر ... له جسم جلمود وصبغة قار وأربعة تحكى سبائك عسجد ... تطير بها فى الأرض كلّ مطار لها عنق قد خالط الجوّ تحته ... طوال لها تخطو أمام قصار وذات قرى وعر الركوب وإنّما ... أجلّت بذا «6» عن ذلّة وصغار لها عجبة «7» التّيّاه عجبا بنفسها ... ولكنّ ذاك العجب تحت وقار الجزء: 9 ¦ الصفحة: 321 ذكر ما قيل فى البقر الوحشية- وهى المها- والأيّل» ولنبدأ بذكر ترتيب سنّها، ثم نذكر ما قيل فيها؛ أمّا سنّها- فقد قالت العرب: ولد البقرة الوحشيّة ما دام يرضع فهو فزّ وفرقد وفرير؛ فإذا ارتفع عن ذلك فهو يعفور وجؤذر، وبحزج «2» ؛ فإذا شبّ فهو مهاة فإذا أسنّ فهو قرهب؛ هذا ما قيل فى سنّها. وأمّا ما قيل فى المها - فذكر من بحث عن طبائع الحيوان أنّ من طباعها الشبق والشهوة؛ وأنّ الأنثى إذا حملت هربت من الذّكر خوفا من عبثه بها فى الحمل؛ والذكر لفرط شهوته يركب الذكر؛ واذا ركب واحد منها شمّ الباقى روائح الماء منه، فيثبن «3» عليه، ولا يمنع ما يثب عليه بعد ذلك؛ ولم أقف من أحواله على غير هذا الذى أوردته، فلنذكر ما وصف به. فمن ذلك ما قاله كاتب أندلسىّ من رسالة طرديّة، جاء منها: وعنّ لنا سرب نعاج يمشين رهوا «4» كمشى العذارى، ويتثنّين زهوا تثنّى السّكارى؛ كأنّما تجلّل «5» بالكافور جلودها، وتضمّخ بالمسك قوائمها وخدودها «6» ؛ وكأنّما لبسن الدّمقس سربالا، واتّخذن السّندس سروالا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 322 من كلّ مهضمة الحشا وحشيّة ... تحمى مداريها «1» دماء جلودها وكأنّما أقلام حبر كتّبت ... بمداد عينيها طروس خدودها فأرسلنا أولى الخيل على أخراها «2» ، وخلّيناها وإيّاها «3» ؛ فمضت مضىّ السّهام، وهوت هوىّ السّمام «4» ؛ فجالت فى أسرابها يمينا وشمالا؛ فكأنّما أهدت لآجالها «5» آجالا؛ فمن متّق بروقه «6» ، وكاب أتاه حتفه من فوقه. وقال الأخطل يصف ثورا: فما به «7» غير موشىّ أكارعه ... إذا أحسّ بشخص ماثل «8» مثلا «9» كأنّ عطّارة باتت تطيف به ... حتّى تسربل ماء الورس وانتعلا كأنّه ساجد من نضح ديمته ... مقدّس «10» قام تحت اللّيل فابتهلا ينفى التراب بروقيه وكلكله ... كما استماز رئيس المقنب «11» النّفلا «12» الجزء: 9 ¦ الصفحة: 323 وقال عدىّ بن الرّقاع يصف ثورين يعدوان: يتعاوران من الغبار ملاءة ... بيضاء محكمة هما نسجاها تطوى إذا وردا مكانا جاسيا «1» ... وإذا السنابك أسهلت نشراها وقال الطّرمّاح يصف عدوه بسرعة: يبدو وتضمره البلاد كأنّه ... سيف على شرف يسلّ ويغمد وأما ما قيل فى الأيّل «2» - فهو من أصناف البقر الوحشيّة، وهذا الحيوان يسمن كثيرا، واذا سمن اختفى خوفا أن يصاد لسمنه؛ وهو مولع بأكل الحيّات، يطلبها فى كلّ موضع، فإن انجحرت أخذ الماء بفمه، ونفخه فى الحجر، فتخرج له ذنبها فيأكلها، حتّى اذا انتهى إلى رأسها تركه خوفا من السّم، وربّما لسعته فتسيل دموعه إلى نقرتين تحت محاجر عينيه تدخل فى كلّ واحدة منهما الإصبع، فتجمد تلك الدموع فتصير كالشّمع، تتّخذ درياقا لسمّ الحيّات، وهو البازهر «3» الحيوانىّ؛ قالوا: واذا لسعته الحيّات أكل السّراطين «4» فيبرأ ويبرئه أكل التفّاح أيضا وورق شجره؛ وهو لا تنبت له قرون إلّا بعد أن تمضى له سنتان من عمره، فاذا نبت قرناه نبتا مستقيمين كالوتدين، وفى الثالثة يتشعّبان، ولا يزال التشعّب فى زيادة الى تمام ستّ سنين، وحينئذ يكونان كالشجرتين على رأسه، ثم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 324 بعد ذلك يلقى قرونه فى كلّ سنة، ثم تنبت، واذا نبتا عرّضهما للشمس حتى يصلبا، وهما اذا كبرا على رأسه منعاه من الجرى؛ ولا يكاد يفلت اذا طلبته الخيل؛ وإذا ألقى قرونه علم أنّه ألقى سلاحه، فهو لا يظهر؛ قال الجاحظ: قال صاحب المنطق «1» : إنّ أنثى الأيّل اذا وضعت ولدا أكلت مشيمتها فتظنّ أنّه شىء تتداوى به من علّة النّفاس؛ وزعم أرسطو أنّ هذا النوع يصاد بالصفير والغناء، وهو لا ينام ما دام يسمع ذلك، ومن أراد صيده من الصيّادين شغله «2» بعضهم بالتّطريب، ويأتيه البعض من خلفه، فاذا رأوه مسترخية أذناه وثبوا عليه؛ واذا اشتدّ عليه العطش من أكل الحيّات أتى غدير الماء واشتمّه، ثم انصرف عنه، يفعل ذلك أربعة أيّام، ثم يشرب فى اليوم الخامس، وإنّما يمتنع من شرب الماء خوفا على نفسه من سريان السّم فى جسده مع الماء؛ والله أعلم. قال بعض الشعراء: هجرتك لا قلى منّى ولكن ... رأيت بقاء ودّك فى الصّدود كهجر الظامئات الماء لمّا ... تيقّنّ المنايا فى الورود تذوب نفوسها ظمأ وتخشى ... هلاكا فهى تنظر من بعيد وقال آخر فى مثل ذلك: وما ظامئات طال فى القيظ ظمئها «3» ... فجاءت وفى الأحشاء غلى المراجل فلمّا رأين الماء عذبا وقد أتت ... إليه رأين الموت دون المناهل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 325 فولّت ولم تشفى «1» صداها وقد طوت ... حشاها على وخز الأفاعى القواتل بأعظم من شوقى إليك وحسرتى ... عليك ولم ألتذّ منك بطائل الباب الثانى من القسم الثانى من الفن الثالث فيما قيل فى الحمر الوحشيّة والوعل واللّمط «2» ذكر ما قيل فى الحمر الوحشيّة والحمار الوحشىّ يسمّى العير والفرأ؛ وبه «3» ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل «4» ، فقال: «كلّ الصّيد فى جوف الفرإ» ؛ ويقال: إنّه ينزو إذا بلغ ثلاثين شهرا من عمره؛ وهو يوصف بشدّة الغيرة؛ ويقال: إنّ الأنثى إذا ولدت الجزء: 9 ¦ الصفحة: 326 جحشا كدم «1» الذكر قضيبه، فالإناث تعمل الحيلة فى إبقائه، قتهرب به من أبيه، وتكسر رجله ليستقرّ بذلك المكان، وهى تتعهده وترضعه، فاذا انجبرت رجله وقويت وصحّت، وأمكنه المشى عليها، يكون قد حصل فيه من القوّة والجرى ما يدفع به عن نفسه، ويهرب إذا أبوه أو من هو أقوى منه أراد خصاءه؛ ويقال: إنّ الحمار الوحشىّ يعمّر مائتى سنة وأكثر من ذلك، وكلّما بلغ مائة سنة صارت له مبولة «2» ثانية؛ قالوا: وشوهد منها ماله ثلاث مباول وأربع؛ ومعادنه بلاد النّوبة وزغاوة، ويوجد منه ما تكون شيته معمّدة ببياض وسواد فى الطول من أعضائه المستطيلة، ومستديرة فيما استدار منها بأصحّ قسمة؛ ومنها صنف يسمّى الأخدرىّ وهو أطولها أعمارا. وقد وصفها أبو الفرج الببغاء من رسالة ذكر فيها أتانا معمّدة ببياض وسواد كانت قد أهديت لعزّ الدولة بختيار بن بويه من جهة صاحب اليمن، قال: وأما الأتان، الناطقة فى كمال الصنعة بأفصح لسان؛ فإنّ الزمان لاطف مولانا- أيّده الله- منها بأنفس مذخور، وأحسن منظور؛ وأعجب مرئىّ، وأغرب موشىّ؛ وأفخر مركوب، وأشرف مجنوب؛ وأعزّ موجود، وأبهى مخدود «3» ؛ كأنّما وسمها الكمال بنهايته، أو لحظها الفلك بعنايته؛ فصاغها من ليله ونهاره، وحلّاها بنجومه وأقماره، ونقشها ببدائع آثاره؛ ورمقها بنواظر سعوده، وجعلها أحد «4» جدوده؛ ذات إهاب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 327 مسيّر «1» ، وقرب «2» محبّر، وذنب مشجّر، وشوى «3» مسوّر «4» ؛ ووجه مزجّج «5» ، ورأس متوّج؛ تكنفه أذنان، كأنهما زجّان «6» ؛ سبجيّة «7» الأنصاف، بلّوريّة الأطراف، جامعة شيتها بالترتيب، بين زمنى الشبيبة والمشيب؛ فهى قيد الأبصار، وأمد الأفكار، ونهاية الاعتبار؛ غنىّ عن الحلى عطلها، مزرية بالزّهر حللها؛ واحدة جنسها، وعالم نفسها صنعة المنشئ الحكيم، وتقدير العزيز العليم. وقال ابن المعتزّ: شغلته «8» لواقح ملأته ... غيرة فهو خلفهنّ كمىّ قابض جمعها إليه كما يج ... مع أيتامه إليه الوصىّ كلّما شمّ لاقحا شمّ منها «9» ... رأس فحل برجلها مفلىّ «10» الجزء: 9 ¦ الصفحة: 328 خارج من ظلال نقع كما فرّ ... ق جلبابه الخليع الغوىّ قد طواها التسويق «1» والشدّ حتّى ... هى قبّ «2» كأنّهنّ القسىّ هربت من رءوسهنّ عيون ... غائرات كأنّهنّ الرّكىّ ذكر ما قيل فى الوعل الوعل، هو التيس الجبلىّ، والأنثى تسمّى أرويّة؛ وهى شاة الوحش؛ وفى طباع هذا الحيوان أنّه يأوى الأماكن الوعرة والخشنة من الجبال؛ ولا يزال مجتمعا، فإذا كان فى وقت الولادة تفرّق؛ وإذا اجتمع فى ضرع الأنثى لبن امتصّته؛ والذكر إذا ضعف عن النّزو أكل البلّوط فتقوى شهوته، ومتى فقد الأنثى انتزع منيّه بفيه بالامتصاص، وذلك لشدّة الشّبق؛ وهو إذا جرح عمد إلى الخضرة التى تكون على الحجارة، فيمضغها ويجعلها على الجرح فيبرأ؛ واذا أحسّ بقنّاص وهو فى مكانه المرتفع استلقى على ظهره، ثمّ يزجّ بنفسه فينحدر من أعلى الجبل إلى أسفله، وقرناه يقيانه ألم الحجارة، ويسرعان هبوطه لملاستهما فإنّهما [من رأسه «3» ] إلى عجزه؛ وفى طبع هذا الحيوان الحنوّ على ولده والبرّ بوالديه؛ أمّا حنوّه على ولده فإنّه إذا صيد منها شىء تبعته أمّه واختارت أن تكون معه فى الشّرك؛ وأمّا برّه بوالديه، فانّهما إذا عجزا عن الكسب لأنفسهما أتاهما بما يأكلانه، وواساهما من كسبه، فإن عجزا [عن الأكل «4» ] مضغ لهما وأطعمهما؛ ويقال: إنّ فى قرنيه ثقبين يتنفس منهما، فمتى سدّا جميعا هلك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 329 وقد وصفه الشعراء، فمن ذلك ما قاله الصاحب بن عبّاد: وأعين «1» كالذّرّىّ «2» فى سفلاته ... سواد وأعلى ظاهر اللّون واضح موقّف «3» أنصاف اليدين كأنّه ... إذا راح يجرى بالصريمة «4» رامح «5» وقال أبو الطيّب المتنبّى: وأوفت «6» الفدر «7» من الأوعال ... مرتديات بقسىّ الضّال «8» نواخس الأطراف «9» للأكفال ... يكدن ينفذن من الآطال «10» لها لحى سود بلا سبال ... يصلحن «11» للإضحاك لا الإجلال «12» كلّ أثيث «13» نبته متفال «14» ... لم يغذ «15» بالمسك ولا الغوالى يرضى من الأدهان بالأبوال الجزء: 9 ¦ الصفحة: 330 ذكر ما قيل فى اللّمط «1» واللّمط «2» حيوان وحشىّ يكون ببلاد الغرب الجوّانىّ «3» ، فى قدر المهر اللّطيف، له قرون غير متشعّبة، ولا مفاصل لركبه، فهو لا يستطيع النوم إلّا مستندا الى شجرة أو جدار، فاذا أريد صيده عمد من يريد ذلك الى تلك الشجرة التى هى فى محلّ مظانّ نومه، فينشر أكثرها، ويترك منها يسيرا لا يحمله، فاذا استند اليها سقطت وسقط بسقوطها، فيؤخذ ويذبح وتتّخذ من جلده درق تباع بالأثمان الغالية، تردّ طعنة الرّمح ورشقة السّهم، ومهما أصابها من الحديد انطوى، فان تمكّن منها ونزع وبقى أثره التحم فى اليوم الثانى وخفى أثره؛ أخبرنى بذلك من أثق بقوله. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 331 الباب الثالث من القسم الثانى من الفن الثالث فى الظّبى والأرنب والقرد والنّعام ذكر ما قيل فى الظّبى للظّباء أسماء نطقت بها العرب، واحدها ظبى، والأنثى ظبية، وولدها طلا وغزال؛ فاذا تحرّك ومشى فهو رشأ؛ فاذا نبت قرناه فهو شادن وخشف؛ فاذا قوى فهو شصر، والأنثى شصرة، ثم هو جذع، ثم ثنىّ، ولا يزال ثنيّا حتّى يموت. والظّباء أنواع تختلف بحسب مواضعها؛ فصنف منها يسمّى الآرام، وهى الخالصة البياض، ومساكنها الرمل، وهى أشدّها حضرا؛ وصنف يسمّى العفر، وألوانها بيض تعلوها حمرة؛ وصنف يسمّى الأدم، وألوانها أيضا كذلك «1» ، ومساكنها الجبال؛ ومن طبع هذا الحيوان أنّه اذا فقد الماء استنشق النسيم فاعتاض به عنه؛ وهو إذا طلب لم يجهد نفسه فى الحضر لأوّل وهلة، ولكنّه يرفق بنفسه، فاذا رأى طالبه قد قرب منه زاد فى حضره حتّى يفوت الطالب؛ وهو يخضم «2» الحنظل حتّى يرى ماؤه يسيل من شدقيه؛ ويرد الماء الملح الأجاج فيغمس لحيته فيه كما تفعل الشّاة فى الماء العذب، يطلب النّوى «3» المنقع فيه؛ وهو لا يدخل كناسه إلّا مستدبرا، يستقبل بعينيه ما يخافه على نفسه؛ وله نومتان فى مكنسين: مكنس الضّحى، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 332 ومكنس العشىّ؛ وهو يصاد بالنّار، فإنّه إذا رآها ذهل لها ودهش، سيّما «1» إذا أضيف الى إشعال النار تحريك الجرس، فإنّه ينخذل ولا يبقى به حراك ألبتّة؛ وبين الظّبى والحجل ألفة ومحبّة؛ وهو يوصف بحدّة النظر. فصل ومما يلتحق «2» بهذا النوع غزال المسك، ولونه أسود، وله نابان خفيفان أبيضان خارجان من فيه فى فكّه الأسفل، قائمان فى وجهه كنابى الخنزير، كلّ واحد منهما دون الفتر، على هيئة ناب الفيل؛ ويكون هذا الغزال ببلاد التّبّت «3» وبالهند؛ ويقال إنه يسافر من التّبّت «4» الى الهند بعد أن يرعى من حشيش التّبّت «5» - وهو غير طيّب- فيلقى ذلك المسك بالهند، فيكون رديئا لأنه يحصل عن ذلك المرعى، ثمّ يرعى حشيش الهند الطّيّب ويعقد منه مسكا، ويأتى بلاد التّبّت «6» فيلقيه فيها، فيكون أجود ممّا يلقيه فى بلاد الهند؛ وسنذكر إن شاء الله تعالى خبر المسك فى بابه فى آخر فنّ النبات فى القسم المذيّل به مستوفى، فلا فائدة فى تكراره؛ فلنذكر ما وصف به الغزال من الشعر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 333 قال ذو الرّمّة- وذكر محبوبته-: ذكرتك أن مرّت بنا أمّ شادن ... أمام المطايا تشرئبّ وتسنح من المؤلفات الرمل أدماء حرّة ... شعاع الضّحى فى متنها يتوضّح هى الشّبه أعطافا وجيدا ومقلة ... وميّة «1» أبهى بعد منها وأملح وقال آخر: وحالية بالحسن والجيد عاطل ... ومكحولة العينين لم تكتحل قطّ على رأسها من قرنها «2» الجعد وفرة ... وفى خدّها من صدغها شاهد «3» سبط «4» وقد أدمجت بالشّحم حتّى كأنّما ... ملاءتها من فرط ما اندمجت قمط «5» ذكر ما قيل فى الأرنب قال أصحاب الكلام فى طبائع الحيوان: إنّ قضيب الأرنب كذكر الثعلب، أحد شطريه عظم، والآخر عصب؛ وربّما ركبت الأنثى الذكر حين السّفاد لما فيها من الشّبق، وتسفد وهى حبلى؛ وهى قليلة الإدرار على ولدها؛ ويزعمون أنّه يكون شهرين ذكرا، وشهرين أنثى؛ وحكى ابن الأثير فى تاريخه (الكامل) فى حوادث الجزء: 9 ¦ الصفحة: 334 سنة ثلاث وعشرين وستّمائة، قال: وفيها اصطاد صديق لنا أرنبا، فرآها لها أنثيان وذكر وفرج أنثى، فلما شقّوا بطنها رأوا فيه خريقين «1» . والأرنب تنام مفتوحة العينين، وسبب ذلك أنّ حجاجى «2» عينيها لا يلتقيان؛ ويقال: إنّ الأرنب اذا رأت البحر ماتت، ولذلك لا توجد بالسواحل؛ وتزعم العرب أنّ الجنّ تهرب منها اذا حاضت؛ ويقال: إنّها تحيض كالمرأة، وتأكل اللّحم وغيره، وتجتر وتبعر، وفى باطن أشداقها شعر، وكذلك تحت رجليها، وليس شىء قصير اليدين أسرع منها حضرا، ولقصرهما يخفّ عليهما الصعود؛ وهى تطأ الأرض على مؤخّر قوائمها تعمية لأثرها حتّى لا يعرفه الطالب لها، واذا قربت من المكان الذى تريد أن تجثم فيه وثبت إليه. وفى الأرنب منافع طيّبة ذكرها الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا، قال: إنّ انفحة الأرنب حارّة يابسة ناريّة، تحلّل كلّ جامد من دم ولبن متجبّن وخلط غليظ، وتجمّد كلّ ذائب، وتمنع كلّ سيلان ونزف من النساء؛ قال: ولا شكّ أنّها مع ذلك مجفّفة، واذا شربت منعت من الصّرع، وكذلك سائر الأنافح، وهى رديئة للمعدة وإذا حملت «3» بعد الطّهر ثلاثة أيّام بالخلّ منعت الحبل ونفت الرطوبة السائلة من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 335 الرّحم، وتنفع من اختناق الرّحم؛ قال: ودم الأرنب ينفى الكلف «1» ؛ ورماد رأسه جيّد لداء الثعلب؛ واذا أخذ بطن الأرنب كما هو بأحشائه وأحرق قليا على مقلى كان دواء منبتا للشعر اذا سحق واستعمل بدهن الورد؛ ودماغه مشويّا ينفع من الرّعشة الحادثة عقيب المرض؛ وإذا حلّ دماغ الأرنب بسمن أو زبد أو عسل أسرع إنبات الأسنان، وسهل بغير وجع؛ ودم الأرنب مقلوّا ينفع من السّحج «2» وورم الأمعاء والإسهال المزمن، وينفع من السّهام الأرمنيّة؛ هذا ما قاله الشيخ الرئيس فى الأرنب. وقد وصف بعض كتّاب الأندلس عدّة من الأرانب، فقال: أفراد إخوان «3» كأنّهنّ أولاد غزلان؛ بين روّاغ ينعطف انعطاف البره «4» ، ووثّاب يجتمع اجتماع الكره؛ حاك القصب إزاره، وصاغ التبرطوقه وسواره؛ قد غلّل بالعنبر بطنه، وجلّل بالكافور متنه؛ كأنّما تضمّخ بعبير، وتلفّع فى حرير؛ ينام بعينى ساهر، ويفوت بجناحى طائر؛ قصير اليدين، طويل السّاقين؛ هاتان فى الصعود تنجدانه، وتانك عند الوثوب تؤيّدانه؛ والله أعلم. ذكر ما قيل فى القرد القرد عند المتكلّمين فى الطبائع مركّب من إنسان وبهيمة؛ وهو إذا سقط فى الماء غرق مثل الإنسان الذى لا يحسن السّباحة؛ وهو يأخذ نفسه بالزواج والغيرة على الأنثى؛ وهو يقمل، واذا قمل تفلّى، ويأكل ما ينتزعه من بدنه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 336 من القمل؛ وهو كثير الشّبق، واذا اشتدّ به الشّبق استمنى بفيه؛ والأنثى تلد عدّة نحو العشرة وأكثر، كما تلد الخنزيرة؛ وهى تحمل بعض أولادها كما تحمل المرأة؛ ويقال: إن الطائفة من القرود اذا أرادت النوم ينام الواحد فى جنب الآخر حتى يكونوا سطرا واحدا، فاذا تمكّن النوم منها نهض أوّلها من الطّرف الأيمن، فيمشى وراء ظهورها حتى يقعد من وراء الأقصى من الطّرف الأيسر، فاذا قعد صاح؛ فينهض الذى يليه، ويفعل مثل فعله، فهذا دأبهم طول اللّيل؛ فهم يبيتون فى أرض ويصبحون فى أخرى؛ وفى القرد من قبول التأديب والتعليم [ما لا خفاء به عن أحد «1» ] حتى إنه درّب قرد ليزيد بن معاوية على ركوب الحمير والمسابقة عليها؛ وحكى المسعودىّ فى كتابه المترجم بمروج الذهب: أن القردة فى أماكن كثيرة من المعمور، منها (وادى نخلة) بين (الجند «2» ) وبلاد (زبيد) ، وهو بين جبلين، وفى كلّ جبل منهما طائفة من القرود يسوقها هزر «3» ، وهو القرد العظيم المقدّم فيها؛ قال: ولها مجالس يجتمع فيها خلق كثير منها؛ فيسمع لها حديث والاناث بمعزل عن الذكور، والرئيس متميّز عن المرءوس؛ وباليمن قرود كثيرة فى نواح متعدّدة؛ منها فى ذمار «4» من بلاد صنعاء فى برارىّ وجبال كأنّها السحب؛ وتكون القرود الجزء: 9 ¦ الصفحة: 337 أيضا بأرض النّوبة وأعلى بلاد الحبشة، وهذا الصّنف من القرود حسن الصورة، خفيف الروح، مدوّر الوجه، مستطيل الذّنب، سريع الفهم، ويسمّونه النّسناس؛ ومنها أيضا بخلجان الرّانج «1» فى «2» بحر الصين وبلاد المهراج «3» وفى ناحية الشّمال نحو أرض الصّقالبة ضرب من القرود منتصب القامات، مستدير الوجوه، والأغلب عليهم صور الناس وأشكالهم، ولهم شعور، وربّما صيد منها القرد فى النادر بالحيلة، فيكون فى نهاية الفهم والدّراية، إلّا أنّه لا لسان له يعبّر به عمّا فى نفسه، لكنّه يفهم كلّ ما يخاطب به بالإشارة؛ ومن النّواحى التى بها القرود جبل موسى، وهو الجبل المطلّ على مدينة سبتة «4» من بلاد المغرب، والقرود التى فيها قباح الصور جدّا، عظام الجثث، تشبه وجوهها وجوه الكلاب، لها خرطوم، وليس لها أذناب، وأخلاقها صعبة لا يكاد ينطبع فيها تعليم إلّا بعد جهد؛ وحكى لى بعض المغاربة أنهم اذا أرادوا صيد هذه القرود يتحيّلون عليها بأن يصنعوا لها زرابين بقدر أرجلها، ويلطّخوا نعالها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 338 بالصابون، ويأتوا إلى مكان هذه القرود فيقعدوا حيث تراهم، ويلبسوا زرابينهم «1» ويمشوا بها، ويتركوا تلك الزّرابين «2» الصغار، فتأتى القرود وتلبس الزّرابين «3» ، فتخرج عليها الرجال، فتعدو القرود بتلك الزّرابين «4» ، فلا تثبت أرجلها على الأرض، وتزلق، فتدركها الرجال ويأخذوها. ولم أقف على شعر يتعلّق بوصف القرد فأثبته؛ والله أعلم. ذكر ما قيل فى النّعام والنعامة تسمّى بالفارسية: أشترمرغ «5» ، ومعنى أشتر: جمل، ومرغ «6» : طائر، فكأنّهم قالوا: جمل طائر؛ ومن أعاجيبها أنّها تضع بيضها عند الحضان، وتعطى كلّ بيضة منها نصيبها من الحضن، لأنّ بدنها لا يشمل جميع ما تحضنه، فانّها تحضن أربعين بيضة أو ثلاثين، وتخرج لطلب الطّعم، فتمرّ فى طريقها ببيض نعامة أخرى فتحضنه وتنسى بيضها؛ قال ابن هرمة: وإنّى وتركى ندى الأكرمين ... وقدحى بكفّىّ زندا شحاحا «7» كتاركة بيضها بالعراء ... وملبسة بيض أخرى جناحا «8» ويقال: إنها تقسم بيضها أثلاثا، منه ما تحضنه، ومنه ما تجعل صفاره «9» غذاء، ومنه ما تفتحه وتتركه فى الهواء حتى يعفن، وتتولّد من عفونته دوابّ «10» ، فتغذى بها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 339 فراخها اذا خرجت؛ وكلّ ذى رجلين اذا انكسرت إحداهما استعان فى نهوضه وحركته بالثانية إلّا النّعامة، فانّها تبقى فى مكانها جاثمة حتى تهلك جوعا؛ قال الشاعر: إذا انكسرت رجل النّعامة لم تجد ... على أختها نهضا ولا بآستها حبوا «1» والعرب تزعم أنّ الظّليم أصلم «2» ، وأنّه عوّض عن السّمع بالشّمّ، فهو يعرف بأنفه ما لا يحتاج معه الى سمع، والعرب تقول فى أمثالها: «أحمق من نعامة» ، قالوا: لأنّها إذا أدركها القانص أدخلت رأسها فى كثيب رمل وتقدّر فى نفسها أنّها قد استخفت منه؛ والنّعام قوىّ الصبر على العطش، شديد العدو، وأشدّ ما يكون عدوه اذا استقبل الريح، وهو فى عدوه يضع عنقه على ظهره، ثم يخترق الريح؛ والنّعامة تبتلع العظم والحجر والحديد فيصير فى جوفها كالماء، وتبتلع الجمر؛ وهو يصاد بالنار كسائر الوحش، فإنه إذا رأى النار دهش ووقف فيتمكّن منه الصائد. وقد وصفها إبراهيم بن خفاجة الأندلسىّ فقال: ولربّ طيّار خفيف قد جرى ... فشلا «3» بجار خلفه طيّار من كلّ فاجرة «4» الخطا مختالة ... مشى الفتاة تجرّ فضل إزار مخضوبة المنقار تحسب أنّها ... كرعت على ظمإ بكاس عقار الجزء: 9 ¦ الصفحة: 340 لا تستقرّ بها الأداحى «1» خشية ... من ليل ويل أو نهار بوار [وقال «2» الحمّانىّ] : قد ألبس الليل حتى ينثنى خلقا ... وأركب الهول بالغرّ الغرانيق «3» وانتحى لنعام الدّو «4» ملهبة «5» ... كأنّها بعض أحجار المجانيق تسدى الرياح بها ثوبا وتلحمه ... كما تلبّس من نسج الخداريق «6» كأنّما ريشها والريح تفرقه ... أسمال راهبة شيبت بتشقيق كأنّها حين مدّت رؤسها «7» فرقا ... سود الرجل تعادى «8» بالمزاريق كأنّ أعناقها وهنا اذا خفقت «9» ... بها البلاقع أدقال «10» الزواريق فما استلذّ بلحظ العين ناظرها ... حتّى تغصّص أعلاهنّ بالرّيق «11» الجزء: 9 ¦ الصفحة: 341 القسم الثالث من الفن الثالث فى الدوابّ والأنعام، وفيه ثلاثة أبواب الباب الأوّل من هذا القسم فى الخيل وابتداء خلقها، وأوّل من ذلّلها وركبها، وما ورد فى فضلها وبركتها من الآثار الصحيحه، والأحاديث النبويّة الثابتة الصريحه، وما ورد فى فضل الإنفاق عليها، وما جاء فى التماس نسلها، والنهى عن خصائها والرّخصة فيه؛ وما قيل فى أكل لحومها من الكراهة، وما ورد من النهى عن عسب «1» الفرس وبيع ماء الفحل، وما ندب إليه من إكرام الخيل ومنع إذالتها «2» ، والأمر بارتباطها، وما يستحبّ من ألوانها وشياتها وذكورها وإناثها، وما ورد فى شؤم الفرس، وما يذمّ من عصمه «3» ورجله، وما جاء فى سباق الخيل، وما يحلّ منه وما يحرم، وكيفيّة التّضمير «4» عند السّباق، وأسماء السوابق فى الحلبة، وما يقسم لصاحب الفرس من سهام الغنيمة، والفرق فى ذلك بين العراب والهجن والبراذين، والعفو عن سقوط الزّكاة فى الخيل، وما وصفت الجزء: 9 ¦ الصفحة: 342 العرب به الخيل من ترتيبها فى السنّ، وتسمية أعضائها وأبعاضها وألوانها وشياتها، والمحمود من صفاتها ومحاسنها، وعدّ عيوبها التى تكون فى خلقتها وجريها، والعيوب التى تطرأ عليها وتحدث فيها، وذكر خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدّتها وأسمائها، وكرام الخيل المشهورة عند العرب، وما وصفت به الخيل فى أشعار الشعراء ورسائل الفضلاء التى تتضمّن مدح جيّدها وذمّ رديئها، وغير ذلك على ما نوضحه- إن شاء الله تعالى- ونبيّنه، ونأتى به على الترتيب والتحقيق، فنقول وبالله التوفيق، [وإليه المآب «1» ] . ذكر ما ورد فى ابتداء خلق الخيل وأوّل من ذلّلها وركبها قال أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم النّيسابورىّ المعروف بالثّعلبىّ فى تفسيره: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمّد بن أحمد بن عقيل الأنصارىّ، وأبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ، قالا: أخبرنا أبو منصور محمد بن القاسم العتكىّ، قال: حدّثنا محمد بن الأشرس، قال: حدّثنا أبو جعفر المدينىّ، قال: حدّثنا القاسم ابن الحسن بن زيد، عن أبيه، عن الحسين بن علىّ رضى الله عنهما، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لمّا أراد الله أن يخلق الخيل قال للريح الجنوب: إنّى خالق منك خلقا فأجعله عزّا لأوليائى، ومذلّة على أعدائى، وجمالا لأهل طاعتى؛ فقالت الريح: اخلق، فقبض منها قبضة فخلق فرسا، فقال له: خلقتك عربيّا وجعلت الخير معقودا بناصيتك، والغنائم مجموعة على ظهرك، وعطفت عليك صاحبك، وجعلتك تطير بلا جناح، فأنت للطّلب، وأنت للهرب، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 343 وسأجعل على ظهرك رجالا يسبّحونى «1» ويحمدونى «2» ويهلّلونى «3» ، تسبّحن «4» اذا سبّحوا، وتهلّلن «5» اذا هلّلوا، وتكبّرن «6» اذا كبّروا؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من تسبيحة وتحميدة وتكبيرة يكبّرها صاحبها فتسمعه «7» إلّا فتجيبه بمثلها، ثم قال: لمّا سمعت الملائكة صفة الفرس وعاينت خلقها، قالت: ربّ، نحن ملائكتك نسبّحك ونحمدك، فماذا لنا؟ فخلق الله لها خيلا بلقا، أعناقها كأعناق البخت «8» ، فلمّا أرسل الله الفرس الى الأرض، واستوت قدماه على الأرض صهل، فقيل: بوركت من دابّة، أذلّ بصهيلك المشركين، أذلّ به أعناقهم، وأملأ به آذانهم، وأرعب به قلوبهم؛ فلمّا عرض الله على آدم من كلّ شىء قال له: اختر من خلقى ما شئت، فاختار الفرس، فقال له: اخترت عزّك وعزّ ولدك خالدا ما خلدوا، وباقيا ما بقوا، بركتى عليك وعليهم، ما خلقت خلقا أحبّ إلىّ منك ومنهم «9» » . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 344 وروى المسعودىّ فى كتابه المترجم بمروج الذهب بسنده إلى ابن عبّاس- رضى الله عنهما-، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لمّا أراد أن يخلق الخيل أوحى الى الرّيح الجنوب أنّى خالق منك خلقا فاجتمعى، فاجتمعت، فأمر جبريل عليه السلام فأخذ منها قبضة، قال: ثمّ خلق الله تعالى منها فرسا كميتا «1» ، ثم قال الله تعالى: خلقتك فرسا، وجعلتك عربيّا، وفضّلتك على سائر ما خلقت من البهائم بسعة الرزق، والغنائم تقاد على ظهرك، والخير معقود بناصيتك؛ ثم أرسله فصهل، فقال له: باركت فيك، فصهيلك أرعب به المشركين وأملأ مسامعهم، وأزلزل أقدامهم؛ ثم وسمه بغرّة وتحجيل، فلمّا خلق الله تعالى آدم، قال: يا آدم، أخبرنى أىّ الدّابّتين أحببت؟ - يعنى الفرس والبراق، قال «2» : وصورة البراق على صورة البغل لا ذكر ولا أنثى- فقال آدم: يا ربّ اخترت أحسنهما وجها، فاختار الفرس، فقال الله له: يا آدم، اخترت أحسنهما، اخترت عزّك وعزّ ولدك باقيا ما بقوا، وخالدا ما خلدوا» . هذا ما ورد فى ابتداء خلق الفرس؛ والله أعلم بالصواب؛ واليه المرجع والمآب. وأما أوّل من ذلّل الخيل وركبها- فإسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، ودليل ذلك ما رواه الزّبير بن بكّار فى أوّل كتابه فى أنساب قريش من حديث داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عبّاس- رضى الله عنهما- قال: كانت الخيل وحوشا لا تركب، فأوّل من ركبها إسماعيل، فلذلك سمّيت الجزء: 9 ¦ الصفحة: 345 العراب. وما رواه أحمد بن سليمان النّجّاد فى بعض فوائده «1» من حديث ابن جريج، عن ابن أبى مليكة، عن ابن عبّاس- رضى الله عنهما- قال: كانت الخيل وحشا كسائر الوحوش، فلمّا أذن الله عزّ وجلّ لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام برفع القواعد من البيت، قال الله عزّ وجلّ: إنّى معطيكما كنزا ذخرته لكما؛ ثم أوحى الله تعالى إلى إسماعيل أن اخرج فادع بذلك الكنز، فخرج إسماعيل إلى (أجياد «2» ) - وكان موطنا له- وما يدرى ما الدّعاء ولا الكنز، فألهمه الله عزّ وجلّ الدعاء، فلم تبق على وجه الأرض فرس بأرض العرب إلّا أجابته، فأمكنته من نواصيها، وذلّلها له؛ فاركبوها واعتقدوها، فإنّها ميامين، وإنّها ميراث عن أبيكم إسماعيل عليه السلام. والله أعلم. ذكر ما ورد فى فضل الخيل وبركتها، وفضل الإنفاق عليها قال الله عزّ وجلّ: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) قال ابن عبّاس- رضى الله عنهما-: «نزلت فى علف الدّوابّ» . وروى عن أبى أمامة الباهلىّ أنّه قال: «هى النّفقة على الخيل فى سبيل الله» ، قال الواحدىّ: «هذا قول أبى الدّرداء ومكحول والأوزاعىّ» ؛ ومن فضل الخيل وشرفها أنّ الله أقسم بها فى كتابه العزيز، فقال: (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً فَالْمُورِياتِ قَدْحاً فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) ؛ وسمّاها الله تعالى الخير فى قوله عزّ وجلّ إخبارا عن سليمان عليه السلام: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 346 (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) ؛ وفى الحديث الصحيح عن مالك بن أنس، عن نافع، عن عبد الله بن عمر- رضى الله عنهم- عن النّبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الخيل فى نواصيها الخير إلى يوم القيامة» رواه البخارىّ؛ وفى لفظ آخر: «معقود فى نواصيها الخير إلى يوم القيامة» ؛ ومن طريق آخر عن الشّعبىّ، عن عروة- هو ابن أبى الجعد «1» الأزدىّ البارقىّ- قيل يا رسول الله: وما ذلك الخير؟ قال: «الأجر والغنيمة» رواه مسلم. وعن عروة رضى الله عنه، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى فرسا أشقر فى سوق المدينة مع أعرابىّ، فلوى ناصيتها بإصبعيه وقال: «الخيل معقود فى نواصيها الخير إلى يوم القيامة» . وعن جرير بن عبد الله- رضى الله عنه،- قال: رأيت النّبىّ صلى الله عليه وسلم يلوى ناصية فرسه بإصبعه ويقول: «الخير معقود بنواصى الخيل إلى يوم القيامة» ؛ رواه مسلم والنّسائىّ؛ وفى لفظ النّسائىّ: «يفتل ناصية فرس بين إصبعيه» ؛ وفى حديث آخر موضع «معقود» : «معقوص» ، وهو بمعناه، أى ملوىّ بها ومضفور فيها، والعقصة: الضّفيرة. وفى حديث آخر عن نعيم بن زياد، عن أبى كبشة- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الخيل معقود فى نواصيها الخير إلى يوم القيامة، وأهلها معانون عليها، والمنفق عليها كالباسط يده بالصدقة» ؛ وفى لفظ آخر: «فامسحوا نواصيها، وادعوا لها بالبركة» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 347 وعن أسماء بنت يزيد- رضى الله عنها- أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الخيل فى نواصيها الخير معقود أبدا إلى يوم القيامة، فمن ربطها عدّة فى سبيل الله فانّ «1» شبعها وجوعها وريّها وظمأها وأرواثها وأبو الها فلاح فى موازينه «2» يوم القيامة «3» » ؛ رواه الامام أحمد فى مسنده. وعن جابر- رضى الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الخيل معقود فى نواصيها الخير إلى يوم القيامة وأهلها معانون عليها، فخذوا بنواصيها، وادعوا بالبركة، وقلّدوها ولا تقلّدوها الأوتار» ؛ وفى لفظ: «فى نواصيها الخير والنّيل» ؛ وكانوا يقلّدون الخيل أوتار القسىّ لئلّا تصيبها العين، فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وأعلمهم أنّ الأوتار لا تردّ من قضاء الله تعالى شيئا؛ وقيل: نهاهم عن ذلك خوفا على الخيل من الاختناق بها؛ وقيل: المراد بالأوتار الذّحول التى وترتم بها فى الجاهلية؛ وقد اختلف الناس فى تقليد الدوابّ والإنسان أيضا ما ليس بتعاويذ قرآنية مخافة العين؛ فمنهم من نهى عنه ومنعه قبل الحاجة إليه، وأجازه بعد الحاجة إليه، لدفع ما أصابه من ضرر العين وشبهه؛ ومنهم من أجازه قبل الحاجة وبعدها، كما يجوز الاستظهار «4» بالتّداوى قبل حلول المرض؛ وقصر بعضهم النهى على الوتر خاصّة، وأجازه بغير الوتر؛ وقال بعضهم فيمن قلّد فرسه شيئا ملوّنا فيه خرز: إن كان للجمال فلا بأس به. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 348 وعن أبى هريرة- رضى الله عنه- عن النّبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الخيل لثلاثة: لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر؛ فأمّا الذى هى له أجر فرجل ربطها فى سبيل الله فأطال لها فى مرج أو روضة، فما أصابت فى طيلها ذلك من المرج أو الروضة كانت له حسنات، ولو أنّها قطعت طيلها فاستنّت شرفا أو شرفين كانت آثارها وأرواثها حسنات له، ولو أنّها مرّت بنهر فشربت منه ولم يرد «1» أن يسقيها كان ذلك حسنات له، فهى لذلك أجر؛ ورجل ربطها تغنيّا «2» وتعفّفا، ثم لم ينس حقّ الله فى رقابها ولا ظهورها، فهى لذلك ستر؛ ورجل ربطها فخرا ورياء ونواء لأهل الإسلام، فهى على ذلك وزر» . وفى حديث آخر: «الخيل لثلاثة، هى لرجل أجر، ولرجل ستر؛ وعلى رجل وزر؛ فأمّا الذى هى له أجر فالّذى يتّخذها فى سبيل الله ويعدّها له، فلا تغيّب شيئا فى بطونها إلّا كتب له به أجر، ولو رعاها فى مرج فما أكلت شيئا إلا كتب له به أجر؛ ولو سقاها من نهر كان له بكلّ قطرة تغيّبها فى بطونها «3» - حتّى ذكر الأجر فى أبو الها وأرواثها- ولو استنّت شرفا أو شرفين كتب له بكلّ خطوة تخطوها أجر؛ وأمّا الذى هى له ستر فالّذى يتّخذها تعفّفا وتكرّما وتجمّلا، ولم ينس حقّ ظهورها وبطونها فى عسرها ويسرها؛ وأمّا الذى هى عليه وزر فالّذى يتّخذها أشرا وبطرا وبذخا ورئاء الناس، فذلك الذى هى عليه وزر» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 349 (شرح غريب هذين الحديثين) الطّول والطّيل بالواو والياء: الحبل، وكذلك الطّويلة. وقوله: «استنّت» ، أى عدت لمرحها ونشاطها ولا راكب عليها. والشّرف: ما يعلو من الأرض، وقيل: الطّلق، فكأنّه صلى الله عليه وسلم يقول: جرت طلقا أو طلقين، بمعنى شوط أو شوطين. والأشر «1» والبطر: شدّة المرح. والبذخ بفتح الذال وبالخاء المعجمتين: الكبر. ونواء لأهل الإسلام: معاداة لهم، من ناوأه نواء ومناوأة، وأصله من ناء إليك ونؤت إليه، أى نهضت. وعن زياد بن مسلم «2» الغفارىّ- رضى الله عنه- أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «الخيل ثلاثة، فمن ارتبطها فى سبيل الله وجهاد عدوّه كان شبعها وجوعها وريّها وعطشها وجريها وعرقها وأرواثها وأبو الها أجرا فى ميزانه يوم القيامة؛ ومن ارتبطها للجمال فليس له إلّا ذاك؛ ومن ارتبطها فخرا ورياء كان مثل ما قصّ فى الأوّل وزرا فى ميزانه يوم القيامة» . وعن حباب- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الخيل ثلاثة: فرس للرّحمن، وفرس للإنسان، وفرس للشيطان؛ فأمّا فرس الرحمن فما أعدّ فى سبيل الله، وقوتل عليه أعداء الله؛ وأمّا فرس الإنسان فما استبطن وتجمّل «3» عليه، وأما فرس الشيطان فما قومر عليه» ؛ رواه الآجرّىّ «4» فى (النصيحة) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 350 والقمار فى السّباق: أن يكون الزّهان بين فرسين لا محلّل «1» معهما. والاستبطان: طلب ما فى البطن والنّتاج. وعن عبد الله بن مسعود- رضى الله عنهما- عن النّبىّ صلى الله عليه وسلم، قال: «الخيل ثلاثة، ففرس للرحمن، وفرس للإنسان، وفرس للشيطان؛ فأمّا فرس الرحمن فالّذى يرتبط «2» فى سبيل الله، فعلفه وروثه وبوله «3» - وذكر ما شاء الله-؛ وأمّا فرس الشيطان فالذى يقامر «4» ويراهن عليه؛ وأمّا فرس الإنسان فالفرس يرتبطها الإنسان يلتمس بطنها، فهى ستر «5» من فقر» رواه الإمام أحمد فى مسنده. وروى ابن أبى شيبة فى مسنده أنّ النّبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «الخيل ثلاثة: فرس يرتبطه الرجل فى سبيل الله، فثمنه أجر، وركوبه أجر، ورعايته أجر، وعلفه أجر؛ وفرس يغالق «6» عليه الرجل ويراهن عليه، فثمنه وزر، وعلفه وركوبه وزر؛ وفرس للبطنة فعسى أن يكون سدادا من فقر إن شاء الله» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 351 وعن أنس بن مالك- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البركة فى نواصى الخيل» رواه البخارىّ ومسلم والنّسائىّ. والناصية: الشعر المسترسل على الجبهة، وقد يكنى بها عن النّفس، نحو قولهم: «فلان مبارك النّاصية» ، أى النّفس؛ قال شيخنا الشيخ الإمام المحدّث النّسّابة القدوة شرف الدّين أبو محمّد عبد المؤمن بن خلف الدّمياطىّ فى كتاب الخيل، قال أبو الفضل: واذا كان الخير والبركة فى نواصيها فبعيد أن يكون فيها شؤم على ما جاء فى الحديث؛ وقد تأوّل العلماء ذلك أنّ معناه على اعتقاد الناس فى ذلك، لا أنّه خبر من النبىّ صلّى الله عليه وسلم عن إثبات الشّؤم. وعن مكحول، قال: قيل لعائشة- رضى الله عنها-: إنّ أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الشؤم فى ثلاثة: فى الدّار والمرأة والفرس» ؛ فقالت: لم يحفظ أبو هريرة، لأنّه دخل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قاتل الله اليهود، يقولون: الشؤم فى ثلاثة: فى الدّار والمرأة والفرس» ؛ فسمع آخر الحديث ولم يسمع أوّله. وسنذكر الحديث والكلام عليه- إن شاء الله تعالى- فى موضعه. وعن أنس- رضى الله عنه- قال: لم يكن شىء أحبّ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد النّساء من الخيل. وعن معقل بن يسار- رضى الله عنه- قال: ما كان شىء أحبّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخيل، ثمّ قال: اللهمّ غفرا إلّا النّساء. وعن زيد بن ثابت- رضى الله عنه-[قال] : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من حبّس فرسا فى سبيل الله كان ستره من النّار» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 352 وعن محمد بن عقبة، عن أبيه، عن جدّه، قال: أتينا تميما الدّارىّ وهو يعالج عليق فرسه بيده، فقلنا له: يا أبا رقيّة، أما لك من يكفيك؟ قال: بلى، ولكنّنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من ارتبط فرسا فى سبيل الله فعالج عليقه بيده كان له بكلّ حبّة حسنة» . وروى أنّ روح بن زنباع الجذامىّ زار تميما الدارىّ فوجده ينقّى لفرسه شعيرا، ثمّ يعلفه عليه وحوله أهله؛ فقال له روح: أما كان لك من هؤلاء من يكفيك؟ قال تميم: بلى، ولكنّنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من امرئ مسلم ينقّى لفرسه شعيرا ثمّ يعلفه عليه إلّا كتب الله له بكلّ حبّة حسنة» رواه الإمام أحمد فى مسنده. وروى أنّ معاوية بن أبى سفيان قال لابن الحنظليّة: حدّثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، [قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم «1» ] يقول: «من ارتبط فرسا فى سبيل الله كانت النفقة عليه كالمادّ يده بصدقة لا يقطعها» ؛ وفى حديث آخر عنه: [ «لا يقبضها» «2» ] . ذكر ما جاء فى فضل الطّرق روى عن أبى عامر الهوزنىّ، عن أبى كبشة الأنمارىّ، أنه أتى رجلا «3» فقال: أطرقنى من فرسك، فإنّى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أطرق مسلما فرسا فأعقب له الفرس كتب الله له أجر سبعين فرسا يحمل عليها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 353 فى سبيل الله، وإن لم يعقب «1» كان له كأجر فرس حمل عليه فى سبيل الله عزّ وجلّ» رواه الطّبرانىّ فى المعجم الكبير. وعن ابن عمر- رضى الله عنهما- قال: ما تعاطى الناس بينهم شيئا قطّ أفضل من الطّرق، يطرق الرجل فرسه فيجرى له أجره، ويطرق الرجل فحله فيجرى له أجره، ويطرق الرجل كبشه فيجرى له أجره. [والله الموفّق للصواب، وإليه المرجع والمآب، وحسبنا الله وكفى] . ذكر ما جاء من دعاء الفرس لصاحبه حكى الأبيوردىّ فى رسالته، قال: حكى عبد الرحمن بن زياد أنّه لمّا نزل المسلمون مصر كانت لهم مراغة للخيل، فمرّ حديج «2» بن صومى «3» بأبى ذرّ- رضى الله عنه- وهو يمرّغ فرسه الأجدل؛ فقال: ما هذا الفرس يا أبا ذرّ؟ قال: هذا فرس لى، لا أراه إلّا مستجابا، قال: وهل تدعو الخيل فتجاب؟ قال: نعم، ما من ليلة إلّا والفرس يدعو فيها ربّه يقول: اللهم إنّك سخّرتنى لابن آدم، وجعلت الجزء: 9 ¦ الصفحة: 354 رزقى بيده، فاجعلنى احبّ اليه من أهله وماله، اللهمّ ارزقه منّى، وارزقنى على يده. وروى أن هذا الخبر عن معاوية بن حديج، عن أبى ذرّ، وكلاهما روى عن عبد الله بن عمرو؛ ومعاوية هذا يعدّ من الصحابة الّذين سكنوا مصر؛ وفى حديثه عن أبى ذرّ «أحبّ إليه من أهله وولده» الحديث، وزاد فيه: «فمنها المستجاب، ومنها غير المستجاب، ولا أرى فرسى هذا إلّا مستجابا» . ورواه النّسائىّ فى كتاب الخيل من سننه؛ ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من فرس عربىّ إلّا يؤذن له عند [كلّ «1» ] سحر- وفى رواية: عند كلّ فجر- بدعوتين: اللهمّ خوّلتنى من خوّلتنى من بنى آدم، وجعلتنى له، فاجعلنى أحبّ أهله وماله؛ أو من أحبّ أهله وماله اليه» ؛ [والله أعلم] . ذكر ما ورد من أنّ الشيطان لا يخبل «2» من فى داره فرس عتيق، ولا يدخل دارا فيها فرس عتيق عن عبد الله بن عريب المليكىّ، عن أبيه- رضى الله عنهما- أنّ النّبىّ صلّى الله عليه وسلم قال: «لن يخبل «3» الشيطان أحدا فى داره فرس عتيق» . وفى لفظ آخر: «الجنّ لا تخبل «4» أحدا فى بيته عتيق من الخيل» . ورواه ابن قانع أيضا فى معجمه من حديث عريب المليكىّ، عن النبىّ صلى الله عليه وسلم فى قوله تعالى: (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ) قال: «الجنّ» ، ثم قال رسول الله صلى الله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 355 عليه وسلم: «إنّ الشيطان لا يخبل أحدا فى دار فيها فرس عتيق» وقيل: [المراد «1» ] [أنّ «2» ] الشيطان لا يدخل دارا فيها فرس عتيق. وروى أنّ رجلا أتى النبىّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إنّى أرجم باللّيل، فقال النّبىّ صلى الله عليه وسلم: «ارتبط فرسا عتيقا» قال: فلم يرجم بعد ذلك؛ رواه محمد بن يعقوب الخيلىّ فى (كتاب الفروسيّة وعلاجات الدوابّ) . ذكر ما جاء فى التماس نسل الخيل والنهى عن خصائها والرخصة [فيه «3» ] والنهى عن هلبها «4» وجزّ أعرافها «5» ونواصيها روى عن عبد الله [بن] عمرو بن العاص- رضى الله عنهما- قال: أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا من جدس «6» ، (حىّ باليمن) ، فأعطاه رجلا من الأنصار، وقال: «إذا نزلت فانزل قريبا منّى فإنى أتسارّ «7» إلى صهيله» ففقده «8» ليلة، فسأل عنه، فقال يا رسول الله: إنا خصيناه، فقال: «مثلّت به» ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 356 يقولها ثلاثا، «الخيل معقود فى نواصيها الخير إلى يوم القيامة، أعرافها أدفاؤها، وأذنابها مذابّها، التمسوا نسلها، وباهوا بصهيلها المشركين» . وعن مكحول- رضى الله عنه- قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جزّ أذناب الخيل وأعرافها ونواصيها، وقال: «أمّا أذنابها فمذابّها، وأمّا أعرافها فأدفاؤها، وأمّا نواصيها ففيها الخير» . وعن أنس بن مالك- رضى الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «لا تهلبوا «1» أذناب الخيل، ولا تجزّوا أعرافها ونواصيها، فإنّ البركة فى نواصيها، ودفاؤها فى أعرافها، وأذنابها مذابّها» . وعن عائشة أمّ المؤمنين- رضى الله عنها- قالت: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خصاء الخيل. [عن عبد «2» الله بن عمر-، قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن خصاء الخيل] والإبل والغنم؛ قال ابن عمر- رضى الله عنهما-: «فيها نشأة الخلق، ولا تصلح الإناث إلّا بالذكور» . وروى عكرمة «3» عن ابن عبّاس- رضى الله عنهم- أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا خصاء فى الإسلام ولا بنيان كنيسة» . وكتب عمر بن الخطّاب- رضى الله عنه- الى سعد بن أبى وقّاص- رضى الله عنه- ينهى عن حذف أذناب الخيل وأعرافها وخصائها. ومن العلماء من رأى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 357 الخصاء، وذكر أنّ عروة بن الزّبير خصى بغلا له؛ وأنّ عمر بن عبد العزيز خصى بغلا له فى زمن خلافته، وأنّ الحسن سئل عن الخصاء فقال: «لا بأس به» ، وأنّ ابن سيرين قال: «لا بأس بخصاء الخيل، لو تركت الفحول لأكل بعضها بعضا» ، وأن عطاء قال: «ما خيف عضاضه وسوء خلقه فلا بأس» . قال البيهقىّ: ومتابعة قول ابن عمر وابن عبّاس- رضى الله عنهم- مع ما فيه من السنّة المرويّة أولى، ويحتمل جواز ذلك اذا اتّصل به غرض صحيح. ذكر ما قيل فى أكل لحوم الخيل من الإباحة والكراهة قد أباح أكلها جماعة، منهم شريح والحسن وعطاء وسعيد بن جبير وحمّاد بن أبى سليمان والثّورىّ وأبو يوسف ومحمد بن الحسن وابن المبارك والشافعىّ وأحمد وإسحاق وأبو ثور فى جماعة من السّلف؛ ودليلهم على ذلك ما اتفق عليه البخارىّ ومسلم من حديث أسماء بنت أبى بكر الصدّيق وجابر بن عبد الله- رضى الله عنهم-؛ فأمّا حديث أسماء فقالت: «نحرنا فرسا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناه» . وأمّا حديث جابر- رضى الله عنه- فقال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر، ورخّص- أو أذن- فى لحوم الخيل» . وذهب مالك وأبو حنيفة والأوزاعىّ إلى أنّها مكروهة، إلّا أنّ كراهيتها عند مالك كراهية تنزيه، لا تحريم فى إحدى الروايتين عنه؛ ودليلهم ما رواه أبو داود والنّسائىّ وابن ماجة من حديث بقيّة بن الوليد الحمصىّ، عن ثور بن يزيد، عن صالح بن يحيى بن المقدام بن معديكرب، عن أبيه، عن جدّه، عن خالد بن الوليد- رضى الله عنه- أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير. وما تضمّنته الآية من قوله تعالى: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 358 وَزِينَةً) * . قال صاحب الهداية الحنفىّ: خرجت- أى الآية-[مخرج «1» ] الامتنان، والأكل من أعلى منافعها، والحكيم لا يترك الامتنان بأعلى النّعم ويمتنّ بأدناها؛ ولأنّها آلة إرهاب العدوّ، فيكره أكله احتراما له، ولهذا يضرب له بسهم فى الغنيمة؛ ولأنّ فى إباحته تقليل آلة الجهاد، وحديث جابر معارض بحديث خالد ابن الوليد، والترجيح للمحرّم؛ ثم قيل: الكراهية عنده كراهية تحريم؛ وقيل: كراهية تنزيه؛ والأوّل أصحّ؛ وأمّا لبنه- فقد قيل: لا بأس به، إذ ليس فى شربه تقليل آلة الجهاد؛ انتهى كلام صاحب الهداية. وقد عورض فى أدلّته بأقوال؛ أمّا الآية، فقد قيل: الغالب فى الانتفاع بهذه الدوابّ ما أشار الله تعالى اليه فيها من الركوب والزينة، فأمّا أكلها فنادر، فخرجت الآية مخرج الغالب؛ وقالوا: ألا ترى أنّ الأنعام لمّا كانت متقاربة الحال عند العرب فى الانتفاع بها أكلا ونجمّلا وركوبا وتحميلا، منّ الله عليهم بتفصيل أحوالها المألوفة والمعتادة عندهم المعروفة فى الآية قبلها، فقال تعالى: (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) وقوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ) ؛ وأما حديث خالد فإنّه وإن كان أحوط من حديث جابر وأسماء [فإنّ حديث جابر «2» وأسماء] أسند وأصحّ؛ وحديث خالد لا يعرف إلّا من رواية بقيّة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 359 ابن الوليد الحمصىّ، وفيه مقال، حتّى إنّ بعضهم قال: «إنّ أحاديث بقيّة غير نقيّه، فكن منها على تقيّه» ؛ وصالح بن يحيى بن المقدام بن معديكرب الكندىّ الحمصىّ، قال البخارىّ: «فيه نظر» ؛ وقال موسى بن هارون: «لا يعرف صالح ولا أبوه إلّا بجدّه» ؛ وقال أبو داود فى سننه: «وحديث خالد هذا منسوخ، قد أكله «1» جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم» ؛ وهذا الاعتراض على الحنفيّة أورده شيخنا الشيخ شرف الدّين الدّمياطىّ عليهم فى (كتاب الخيل) له؛ هذا ما قيل فى أكل لحومها. ذكر ما جاء فى النّهى عن عسب الفحل وبيع مائه روى عن عبد الله بن عمر- رضى الله عنهما- قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عسب الفحل» . وعن أنس بن مالك- رضى الله عنه- أنّ رجلا من كلاب سأل النبىّ صلى الله عليه وسلم عن عسب الفحل، فنهاه، فقال: يا رسول الله، إنّا نطرق الفحل فنكرم، فرخّص له فى الكرامة؛ رواه الترمذىّ، وقال: «حسن غريب» . والعسب: الضّراب؛ والنهى عنه، أى [عن] كرائه؛ وقيل: العسب، ماء الفحل. ذكر ما جاء فى إكرام الخيل ومنع إذالتها روى أبو داود فى المراسيل، عن نعيم بن أبى هند- رضى الله عنه- أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلم أتى بفرس، فقام إليه يمسح وجهه وعينيه ومنخريه بكمّ قميصه، فقيل: يا رسول الله، تمسح بكّم قميصك؟ فقال: «إنّ جبريل عاتبنى فى الخيل» . وفى حديث آخر: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح بطرف ردائه وجه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 360 فرسه، وقال: «إنّى عوتبت اللّيلة فى إذالة الخيل» . وعن الوضين بن عطاء- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقودوا الخيل بنواصيها فتذلّوها» . وعن مكحول- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكرموا الخيل وجلّلوها» . وعن مجاهد- رضى الله عنه- قال: «أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إنسانا ضرب وجه فرسه ولعنه، فقال: «هذه مع تلك؟ لتمسّنّك النار إلّا أن تقاتل عليه فى سبيل الله» ، فجعل الرجل يقاتل عليه إلى أن كبر وضعف، وجعل يقول: اشهدوا اشهدوا. وعن زيد بن ثابت- رضى الله عنه- أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فى عين الفرس ربع ثمنه. وعن عروة البارقىّ قال: كانت لى أفراس فيها فحل شراؤه عشرون ألف درهم، ففقأ عينه دهقان «1» ، فأتيت عمر- رضى الله عنه- فكتب إلى سعد بن أبى وقّاص أنّ خيّر الدّهقان بين أن يعطيه عشرين ألفا ويأخذ الفرس، وبين أن يغرم ربع الثمن؛ فقال الدهقان: ما أصنع بالفرس؟ فغرّم ربع الثمن. وعن أبى هريرة- رضى الله عنه- قال: ما من ليلة إلّا ينزل ملك من السماء يحسّ «2» عن دوابّ الغزاة الكلال إلّا دابّة فى عنقها جرس. ذكر ما ورد من الأمر بارتباط الخيل وما يستحبّ من ألوانها وشياتها وذكورها وإناثها قال الله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا) ؛ قال الزمخشرىّ فى تفسيره: اصبروا على الدّين وتكاليفه؛ وصابروا أعداء الله فى الجهاد، أى غالبوهم فى الصبر على شدائد الحرب لا تكونوا أقلّ صبرا منهم وثباتا؛ ورابطوا: أقيموا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 361 فى الثغور رابطين خيلكم مترصّدين مستعدّين للغزو. وقال تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) . وعن قيس بن باباه، قال: سمعت سلمان- رضى الله عنه- يقول: [سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «1» ] : «ما من رجل مسلم إلّا حقّ عليه أن يرتبط فرسا إذا أطاق ذلك» . وعن [أبى] وهب الجشمىّ- وكانت له صحبة، رضى الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تسمّوا بأسماء الأنبياء، وأحبّ الأسماء إلى الله عزّ وجلّ عبد الله وعبد الرحمن، وارتبطوا الخيل، وامسحوا بنواصيها وأكفالها وقلّدوها ولا تقلّدوها الأوتار، وعليكم بكلّ كميت أغرّ محجّل، أو أشقر أغرّ محجّل، أو أدهم أغرّ محجّل» . هكذا ساقه النّسائىّ فى سننه. وعن عقبة بن عامر- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أردت أن تغزو فاشتر فرسا أدهم «2» محجّلا مطلق اليمنى فإنّك تغنم وتسلم» رواه الدّمياطىّ بسنده فى (كتاب الخيل) له. وعن ابن عبّاس- رضى الله عنهما- عن النّبىّ صلى الله عليه وسلم، قال: «يمن الخيل فى شقرها» . واليمن: البركة. رواه أبو داود والترمذىّ؛ ولفظ الترمذىّ: «يمن الخيل فى الشّقر» . وروى الواقدىّ، عن سعيد بن خالد، عن داود بن علىّ بن عبد الله بن عبّاس عن أبيه، عن جدّه- رضى الله عنهم- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خير الخيل الشّقر» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 362 وعن عبد الله بن عمرو بن العاص- رضى الله عنهما- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «خير الخيل الشّقر وإلّا فأدهم أغرّ محجّل ثلاث، مطلق اليمنى» . وذكر سليمان بن بنين النحوىّ المصرىّ فى كتاب (آلات الجهاد، وأدوات الصافنات الجياد) ، عن ابن عبّاس- رضى الله عنهما- قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم بطريق تبوك، وقد قلّ الماء، فبعث الخيل فى كلّ وجه يطلبون الماء، فكان أوّل من طلع بالماء صاحب فرس أشقر، والثانى صاحب أشقر، وكذلك الثالث، فقال صلى الله عليه وسلم: «اللهمّ بارك للشّقر» . وعن عمرو بن الحارث الأنصارىّ، عن أشياخ أهل مصر، قالوا: قال النّبىّ صلّى الله عليه وسلم: «لو أنّ خيل العرب جمعت فى صعيد واحد ما سبقها إلّا أشقر» . وكان صلى الله عليه وسلم يحبّ الشّقر. وعن أبى قتادة الأنصارىّ- رضى الله عنه- عن النّبىّ صلى الله عليه وسلم، قال: «خير الخيل الأدهم الأقرح «1» الأرثم «2» ، ثمّ الأقرح «3» المحجّل طلق «4» اليمين، فإن لم يكن أدهم فكميت على هذه الشّية «5» » هكذا ساقه الترمذىّ؛ ورواه أيضا ابن ماجة، ولفظه: «خير الخيل الأدهم الأقرح «6» الأرثم «7» المحجّل طلق «8» اليد اليمنى، فإن لم يكن أدهم فكميت الجزء: 9 ¦ الصفحة: 363 على هذه الشّية» . وفى بعض ألفاظه عن يزيد «1» بن أبى حبيب، قال: قال النّبىّ صلّى الله عليه وسلم: «الخير فى الأدهم الأقرح «2» الأرثم «3» محجّل ثلاث، طلق «4» اليمنى ثمّ أغرّ بهيم -[وفى لفظ «5» : الأدهم [البهيم «6» ] ، أو أغرّ بهيم]- ويسلم «7» ان شاء الله، فإن لم يكن أدهم فكميت فى هذه الشية» وروى أبو عبيدة من حديث ابن شبرمة، قال: حدّثنى الشّعبىّ فى حديث رفعه، أنّه قال: «التمسوا الحوائج على الفرس الكميت الأدهم المحجّل الثلاث، المطلق اليد اليمنى» . وعن عقبة بن عامر- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أردت أن تغزو فاشتر فرسا أغرّ «8» محجّلا مطلق اليمنى، فإنك تسلم وتغنم» . وعن موسى بن علىّ بن رباح عن أبيه- رضى الله عنهما- قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنّى أريد أن أبتاع فرسا، أو أفنّد «9» فرسا؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليك به كميتا أو أدهم أقرح «10» أرثم «11» محجّل ثلاث، طلق «12» اليمنى» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 364 وعن عطاء- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ خير الخيل الحوّ» . الحوّ: جمع أحوى «1» . وسيأتى شرح لونه فى ذكر الألوان والشّيات. وعن نافع بن جبير، عن النّبىّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «اليمن فى الخيل فى كلّ أحوى «2» أحمّ» . ذكر ترجيح إناث الخيل على فحولها وترجيح فحولها على إناثها وما جاء فى ذلك عن يحيى بن كثير- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بإناث الخيل، فإنّ ظهورها عزّ، وبطونها كنز» . وفى لفظ: «ظهورها حرز» . وروى أنّ خالد بن الوليد- رضى الله عنه- كان لا يقاتل إلّا على أنثى، [لأنّها «3» ] تدفع البول وهى تجرى، والفحل يحبس البول فى جوفه حتّى ينفتق «4» ، و [لأن «5» ] الأنثى أقلّ صهيلا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 365 وروى عن عبادة بن نسىّ «1» ، أو ابن محيريز «2» أنّهم كانوا يستحبّون إناث الخيل فى الغارات والبيات «3» ولما خفى من أمور الحرب، وكانوا يستحبّون فحول الخيل فى الصّفوف والحصون والسّير والعسكر ولما ظهر من أمور الحرب «4» ، وكانوا يستحبّون خصيان الخيل فى الكمين والطلائع، لأنّها أصبر وأبقى فى الجهد. وعن أنس بن مالك- رضى الله عنه- قال: كان السلف يستحبّون الفحولة من الخيل، ويقولون: هى أجسر «5» وأجرأ. وحكاه البخارىّ فى جامعه عن راشد بن سعد قال: كان السلف يستحبّون الفحول من الخيل، لأنّها أجرأ وأجسر. ذكر ما ورد فى شؤم الفرس وما يذمّ من عصمها ورجلها روى عن عبد الله بن عمر- رضى الله عنهما- أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الشؤم فى الدّار والمرأة والفرس» . وفى لفظ عنه صلى الله عليه وسلم: «الشؤم فى ثلاثة: فى الفرس والمرأة والدّار» . وقد قيل فى هذا الحديث: إنّ المراد بالشؤم: شؤم المرأة اذا كانت غير ولود، وشؤم الفرس اذا لم يغز عليها وشؤم الدار جار السوء؛ قاله معمر. وقد صحّ عن النّبىّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «البركة فى ثلاث: فى الفرس والمرأة والدّار» . وسئل سالم بن عبد الله- وهو راوى هذا الحديث عن رسول الله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 366 صلّى الله عليه وسلم- ما معناه؟ فقال: قال النّبىّ صلى الله عليه وسلم: «اذا كان الفرس ضروبا فهو مشئوم، واذا كانت المرأة قد عرفت زوجا قبل زوجها فحنّت إلى الزوج الأوّل فهى مشئومة، واذا كانت الدار بعيدة من المسجد لا يسمع منها الأذان والإقامة فهى مشئومة، واذا كنّ بغير هذا الوصف فهنّ مباركات» . وعن أبى هريرة- رضى الله عنه- قال: كان النّبىّ صلى الله عليه وسلم يكره الشّكال من الخيل. والشّكال: أن يكون للفرس فى رجله اليمنى بياض وفى يده اليسرى، أو فى يده اليمنى وفى رجله اليسرى؛ قال أبو داود: أى مخالف؛ رواه مسلم وأبو داود وابن ماجة؛ ورواه الترمذىّ والنّسائىّ، ولفظهما: أنّه كان يكره الشّكال فى الخيل؛ وزاد النّسائىّ: والشّكال من الخيل: أن تكون ثلاث قوائم محجّلة وواحدة مطلقة، أو تكون الثلاث مطلقة وواحدة محجّلة. وقال شيخنا شرف الدّين الدّمياطىّ- رحمه الله-: وليس يكون الشّكال إلّا فى الرّجل، ولا يكون فى اليد. وهذا الذى زاده النّسائىّ هو قول أبى عبيدة. وقال ابن دريد: الشّكال: أن يكون الحجل «1» فى يد ورجل من شقّ واحد، فان كان مخالفا قيل: شكال مخالف. وقال أبو عمر المطرّز: وقيل، الشّكال: بياض الرّجل اليمنى واليد اليمنى؛ وقيل: بياض اليد اليسرى والرّجل اليسرى؛ وقيل: بياض الرجلين ويد واحدة. قال الشيخ: والصحيح من صفة الشّكال ما ذكره أبو عبيدة معمر بن المثنّى وغيره: أنه البياض الذى يكون بيد ورجل من خلاف قلّ أو كثر، وهو الذى ورد فى صحيح مسلم وسنن أبى داود؛ قال الشيخ: وكراهته تحتمل وجهين: إما تفاؤلا، لشبهه المشكول المقيّد الذى لا نهوض فيه، وإمّا لجواز أن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 367 يكون هذا النوع قد جرّب فلم توجد فيه نجابة؛ وقيل: إذا كان مع ذلك أغرّ زالت الكراهة لزوال شبهه الشّكال. والرّجل: إذا كان البياض بإحدى رجليه فهو أرجل، ويكره إلّا أن يكون به وضح غيره؛ وقيل: لا يكره إلا إذا كان البياض فى رجله اليسرى خاصّة؛ وقيل: الأرجل، هو الذى لا يكون فيه بياض سوى قطعة فى رجله غير دائرة حوالى الإكليل «1» ؛ يقال: رجل الفرس، إذا ابيضّت إحدى رجليه؛ وسيأتى بيان التحجيل والعصم وغيرهما عند ذكرنا للشّيات؛ والله أعلم. ذكر ما جاء فى سباق الخيل وما يحلّ منه وما يحرم وكيفيّة «2» التضمير عند السّباق، وأسماء السّوابق فى الحلبة روى عن أبى هريرة- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا سبق «3» إلّا فى خفّ أو حافر أو نصل» رواه أبو داود والترمذىّ والنّسائىّ. وفى رواية أخرى للنّسائىّ: «لا يحلّ سبق «4» إلّا على خفّ أو حافر» ، وسئل «5» ابن عمر- رضى الله عنهما- أكنتم تراهنون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لقد راهن رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرس له. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 368 وعنه- رضى الله عنه- أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التى قد ضمّرت «1» من (الحفياء «2» ) ، وكان أمدها (ثنيّة الوداع) ، وسابق بين الخيل التى لم تضمّر «3» من (الثّنيّة) إلى (مسجد بنى زريق «4» ) ، وأنّ ابن عمر كان ممّن سابق بها. قال سفيان الثّورىّ: بين الحفياء «5» إلى (ثنيّة الوداع) خمسة أميال أو ستّة، ومن (الثّنيّة) إلى (مسجد بنى زريق «6» ) ميل. وقال موسى بن عقبة: بين (الحفياء «7» ) (وثنيّة الوداع) ستّة أميال أو سبعة، وبين (الثّنيّة) (والمسجد) ميل أو نحوه؛ رواه البخارىّ وغيره. وفى لفظ آخر، عن ابن عمر- رضى الله عنهما- أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سبّق بين الخيل، فجعل غاية المضمّرة «8» من (الحفياء «9» ) الى (ثنيّة الوداع) ، وما لم يضمّر «10» من (ثنيّة الوداع) إلى (مسجد بنى زريق «11» ) ؛ قال ابن عمر: فجئت سابقا فطفر بى الفرس المسجد. وذكر ابن بنين فى كتابه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل على حلل أتته من اليمن، فأعطى السابق ثلاث حلل، والمصلّى حلّتين، والثالث حلّة، والرابع دينارا، والخامس درهما، والسادس قصبة، وقال: «بارك الله فيك وفى كلّكم وفى السابق والفسكل «12» » . وروى البلاذرىّ عن ابن سعد عن الواقدىّ، عن سليمان بن الحارث، عن عبد المهيمن بن عبّاس بن سهل بن سعد عن أبيه عن جدّه، قال: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 369 أجرى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخيل، فسبقت على فرس رسول الله صلى الله عليه وسلم (الظّرب «1» ) ، فكسانى بردا يمانيّا. وعن الواقدىّ، عن سليمان بن الحارث، عن الزبير بن المنذر بن أبى أسيد، قال: سبق أبو أسيد الساعدىّ على فرس رسول الله صلى الله عليه وسلم (لزاز «2» ) ، فأعطاه حلّة يمانيّة. وعن مكحول- رضى الله عنه- قال: طلعت الخيل وقد تقدّمها فرس للنبى صلى الله عليه وسلم، فبرك على ركبتيه، وأطلع رأسه من الصفّ، وقال: «كأنّه بحر» . وفى لفظ عن مكحول: فجاء فرس له أدهم سابقا، وأشرف على الناس، فقالوا: الأدهم الأدهم، وجثا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتيه ومرّ به وقد انتشر ذنبه وكان معقودا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البحر» . وأوّل مسابقة كانت فى الإسلام سنة ستّ من الهجرة، سابق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الخيل، فسبق فرس لأبى بكر الصّدّيق- رضى الله عنه- فأخذ السّبق «3» . والمسابقة ممّا كان فى الجاهليّة فأقرّه الإسلام؛ وليس هو من باب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 370 تعذيب البهائم «1» ، بل من تدريبها بالجرى وإعدادها لحاجتها للطّلب والكرّ؛ واختلف فيه، هل هو من باب المباح، أو من باب المرغّب فيه والسّنن. وعن سعيد بن المسيّب أنه قال: ليس برهان الخيل بأس اذا أدخلوا فيها محلّلا «2» ليس دونها، إن سبق أخذ السّبق «3» ، وإن سبق لم يكن عليه شىء. وعن أبى هريرة- رضى الله عنه- عن النّبىّ صلى الله عليه وسلم، قال: «من أدخل فرسا بين فرسين- يعنى وهو لا يؤمن أن يسبق- فليس بقمار، ومن أدخل فرسا بين فرسين وقد أمن أن يسبق فهو قمار» ؛ رواه أبو داود فى الجهاد فى باب المحلّل، ورواه ابن ماجة. قال الشيخ شرف الدّين الدّمياطىّ- رحمه الله تعالى- قوله: «من أدخل فرسا» ، هو فرس المحلّل اذا كان كفؤا يخافان أن يسبقهما فيحرز السّبق «4» ، فهو جائز؛ وان كان بليدا مأمونا أن يسبق فيحرز السّبق «5» لم يحصل به معنى التحليل، وصار إدخاله بينهما لغوا لا معنى له، وحصل الأمر على رهان من فرسين لا محلّل بينهما، وهو عين القمار. وقال القاضى أبو الفضل: لا خلاف فى جواز المراهنة فيها- يعنى المسابقة- وأنّها خارجة من باب القمار، لكن لذلك صور: إحداها متّفق على جوازها، والثانية متّفق على منعها، وفى الوجوه الأخر خلاف؛ فأمّا المتّفق على جوازه فأن يخرج الوالى سبقا «6» يجعله للسابق من المتسابقين ولا فرس له الجزء: 9 ¦ الصفحة: 371 فى الحلبة، فمن سبق فهو له؛ وكذلك لو أخرج أسباقا أحدها للسابق، والثانى للمصلّى، والثالث للثالث، وهكذا، فهو جائز، ويأخذونه على شروطهم؛ وكذلك لو فعل متطوّعا رجل من الناس ممّن لا فرس له فى الحلبة، لأنّ هذا قد خرج من معنى القمار الى باب المكارمة والتفضّل على السابق، وقد أخرجه عن يده بكلّ حال؛ وأمّا المتّفق على منعه فأن يخرج كلّ واحد من المتسابقين سبقا، فمن سبق منهما أخذ سبق صاحبه وأمسك متاعه، فهذا قمار عند مالك والشافعىّ وجميع العلماء ما لم يكن بينهما محلّل [فان كان بينهما «1» محلّل] فجعلا له السّبق إن سبق ولا شىء عليه إن سبق فأجازه ابن المسيّب، وقاله مالك مرّة، والمشهور عنه أنّه لا يجوز؛ وقال الشافعىّ مثل قول ابن المسيّب؛ فإن سبق أحد المتسابقين أحرز سبقه وسبق صاحبه، وإن تساويا كان لكلّ واحد منهما ما أخرج، وإن سبق المحلّل حاز السّبقين، وان سبق أحدهما مع المحلّل أحرزا سبق المتأخّر؛ وسمّى المحلّل محلّلا لتحليله السبق بدخوله، لأنّه علم أنّ المقصد بدخوله السّبق لا المال، وان لم يكن بينهما محلّل فمقصدهما المال والمخاطرة فيه؛ وقال محمد بن الحسن نحوه والأوزاعىّ وأحمد وإسحاق؛ ومن الوجوه المختلف فيها أن يكون الوالى أو غيره ممّن أخرج السّبق له فرس فى الحلبة، فيخرج سبقا على أنّه إن سبق هو حبس سبقه، وإن سبق أخذه السابق، فأكثر العلماء يجيزون هذا الشرط، وهو أحد أقوال مالك وبعض أصحابه، وهو قول الشافعىّ واللّيث والثّورىّ وأبى حنيفة قالوا: «الأسباق على ملك أربابها، وهم فيها على شروطهم» ؛ وأبى ذلك مالك فى الرواية الأخرى وبعض أصحابه وربيعة والأوزاعىّ، وقالوا: «لا يرجع اليه سبقه» ؛ قال الجزء: 9 ¦ الصفحة: 372 مالك: وإنما يأكله من حضر إن سبق مخرجه إن لم يكن مع المتسابقين ثالث، فإن كان معهما ثالث فللّذى يلى مخرجه إن سبق، فإن سبق غيره فهو له بغير خلاف، فخرج هذا عندهم عن معنى القمار جملة؛ ولحق بالأوّل، لأن صاحبه قد أخرجه عن ملكه جملة، وتفضّل بدفعه؛ وفى الوجوه الأخر معنى من القمار والخطر، لأنها مرّة ترجع الأسباق لمخرج أحدها، ومرّة تخرج عنه إلى غيره. ومن شرط وضع الرّهان فى المسابقة أن تكون الخيل متقاربة الحال فى سبق بعضها بعضا، فمتى تحقّق حال أحدها فى السّبق كان الرّهان فى ذلك قمارا لا يجوز، وإدخال المحلّل لغوا لا معنى له؛ وكذلك إن كانت متقاربة الحال ممّا يقطع غالبا بسبق جنسها، كالمضمّرة مع غير المضمّرة، والعراب مع غيرها، فلا تجوز المراهنة فى مثل هذا؛ وقد ميّز النّبىّ صلى الله عليه وسلم ما ضمّر فى السّباق، وأفرده عن ما لم يضمّر، وتجوز فيها المسابقة بغير رهان، وإنّما يدخل التحليل والتحريم مع الرّهان. [ومن شرطها «1» أيضا] الأمد لسباقها؛ وحكى عبد الله بن المبارك عن سفيان قال: اذا سبق الفرس بأذنه فهو سابق، هذا إذا تساوت أعناق الخيل فى الطّول، فإن اختلفت أعناقها بالطّول والقصر كان السّبق بالكاهل. وأمّا أسماء السوابق فى الحلبة- فالسوابق عند أبى عبيدة عشرة: أوّلها السابق، ثم المصلّى، ثم الثالث والرابع كذلك إلى التاسع، والعاشر السّكيت، ويقال بالتشديد. وقال ابن قتيبة: «فما جاء بعد ذلك لم يعتدّ به» ؛ والفسكل: الذى يجىء فى الحلبة آخر الخيل. وأمّا الأصمعىّ فإنّه يقول: أوّلها المجلّى، وهو المقصّب، أى محرز قصب السّبق، ثم المصلّى، ثم المسلّى، ثم التالى، ثم المؤمّل، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 373 ثم المرتاح، ثم العاطف، ثم الحظىّ، ثم اللّطيم، ثم السّكيت. وقال ابن الأنبارىّ فى (الزاهر) : الأوّل المجلّى، الثانى المصلّى، الثالث المسلّى، الرابع التالى، الخامس المرتاح، السادس العاطف، السابع الحظىّ، الثامن المؤمّل، التاسع اللّطيم، العاشر السّكيت، والكاف منه تخفّف وتشدّد، قال الشاعر: جاء المجلّى والمصلّى بعده ... ثمّ المسلّى بعده والتالى نسقا وقاد حظيّها مرتاحها ... من قبل عاطفها بلا إشكال وقال أبو الغوث: أوّلها المجلّى، وهو السابق، ثم المصلّى، ثم المسلّى، ثمّ التّالى، ثم العاطف، ثم المرتاح، ثم المؤمّل، ثم الحظىّ، ثم اللّطيم، ثم السّكيت؛ وأنشد بعضهم فى العشرة: أتانا المجلّى والمصلّى بعده ... مسلّ وتال بعده عاطف يجرى ومرتاحها ثمّ الحظى ومؤمّل ... وجاء اللّطيم والسكيت له يبرى «1» وقال الجاحظ: كانت العرب تعدّ السوابق ثمانية، ولا تجعل لما جاوزها حظّا، فأوّلها السابق، ثم المصلّى، ثم المقفّى، ثم التالى، ثم العاطف، ثم المذمّر، ثمّ البارع «2» ، ثم اللّطيم؛ وكانت العرب تلطم وجه الآخر وان كان له حظّ. وقال ابن الأجدابىّ: المحفوظ عن العرب السابق والمصلّى والسكيت الذى هو العاشر، وأمّا باقى الأسماء فأراها محدثة، والفسكل: الذى يأتى آخر الخيل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 374 فى الحلبة. وقال غيره: وما يجىء بعد هذه- يعنى العشرة- فهو المقردح؛ وأنشد على ذلك: قد سبق الخيل الهجان الأقرح «1» ... وأقبلت من بعده تقردح والفسكل: الذى يجىء فى أخريات الخيل، والذى يجىء بعده القاشور، وما جاء بعد ذلك لا حظّ له ولا اعتداد به؛ وقيل: السكيت والفسكل والقاشور بمعنى واحد. وممّا يتّصل بهذا الفصل ترتيب عدو الفرس- وأوّله الخبب، ثم التقريب، ثم الإمجاج، ثم الإحضار، ثم الإرخاء، ثم الإهذاب، ثم الإهماج. كيفية تضمير الخيل قد حكى ابن بنين أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بإضمار خيله بالحشيش اليابس شيئا بعد شىء، وطيّا بعد طىّ، ويقول: «أرووها من الماء، واسقوها غدوة وعشيّا، وألزموها الجلال «2» ... «3» فتصفو ألوانها، وتتّسع جلودها» . وأمر صلّى الله عليه وسلم أن يقودوها فى كلّ يوم مرّتين، ويؤخذ منها من الجرى الشّوط والشّوطان، ولا تركض حتّى تنطوى. قال الشيخ- رحمه الله-: والتضمير: تقليل علفها مدّة، وادخالها بيتا كنينا، وتجليلها فيه لتعرق ويجفّ عرقها، فيصلب لحمها ويخفّ، وتقوى على الجرى؛ يقال: «ضمّرت الفرس وأضمرته» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 375 ذكر ما يقسم لصاحب الفرس من سهام الغنيمة والفرق فى ذلك بين العراب والهجن والبراذين عن عبد الله بن عمر- رضى الله عنهما- أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل للفرس سهمين، ولصاحبه سهما. وفى لفظ: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر للفرس سهمين، وللرجل سهما؛ رواه البخارىّ ومسلم وأبو داود والترمذىّ وابن ماجة. وفى لفظ أبى داود: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم لرجل ولفرسه ثلاثة أسهم: سهما له، وسهمين لفرسه؛ ولفظ ابن ماجة: أنّ النّبىّ صلى الله عليه وسلم أسهم يوم خيبر للفارس ثلاثة أسهم: للفرس سهمان، وللرّجل سهم. وعن مكحول- رضى الله عنه- أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هجّن الهجين يوم خيبر، وعرّب العرب، للعربىّ سهمان، وللهجين سهم. وعن خالد ابن معدان- رضى الله عنه- قال: أسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للعربىّ سهمين، وللهجين سهما. وعن أبى موسى أنّه كتب الى عمر بن الخطّاب- رضى الله عنهما- «إنا وجدنا بالعراق خيلا عراضا دكّا «1» ، فما يرى أمير المؤمنين فى سهامها» ؟ فكتب: «تلك البراذين، فما قارب العتاق فاجعل له سهما واحدا، وألغ ما سوى ذلك» . وعن أبى الأقمر قال: أغارت الخيل على الشأم، فأدركت العراب من يومها، وأدركت الكوادن ضحى الغد، وعلى الخيل رجل من همدان يقال له المنذر بن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 376 أبى حمضة «1» ، فقال: «لا أجعل التى أدركت من يومها مثل التى لم تدرك» ، ففضّل الخيل، فكتب فى ذلك الى عمر بن الخطّاب- رضى الله عنه- فقال: «هبلت الوادعىّ «2» أمّه، لقد أذكرنى أمرا كنت أنسيته، امضوها على ما قال» . والكوادن: جمع كودن، وهو البرذون؛ ومذهب مالك والشافعىّ وأبى حنيفة التسوية بين العربىّ وغيره، إلّا أنّهم جعلوا «3» لكلّ واحد منهما سهما واحدا؛ قال مالك: ولا أرى البراذين والهجن إلّا من الخيل لأنّ الله تعالى قال فى كتابه: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها) ، وقال: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) قال: «فأنا أرى البراذين والهجن من الخيل اذا أجازها الوالى» . قال ابن حبيب: البراذين هى العظام، يريد الجافية الخلقة، العظيمة الأعضاء، وليست العراب كذلك، فإنّها أضمر وأرقّ أعضاء وأعلى خلقة؛ وأمّا الهجن فهى التى أبوها عربىّ وأمّها من البراذين. قال الشيخ- رحمه الله تعالى-: ومذهب جمهور العلماء أنه يقسم للفرس سهمان، ولصاحبه سهم على ما فرضه النّبىّ صلى الله عليه وسلم، لأنّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 377 مؤونة الفرس أكثر من مؤونة فارسه، وغناءه أكثر من غناء الفارس، فاستحقّ الزيادة فى القسم من أجل ذلك؛ قال: وذهب أبو حنيفة إلى أنّه يقسم للفرس كما يقسم للرجل؛ وقال: «لا يكون أعظم منه حرمة» ؛ ولم يتابعه أحد على ذلك إلّا شىء يروى عن علىّ وأبى موسى؛ وذهب مالك وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن والشافعىّ إلى أنّه لا يقسم إلّا لفرس واحد، ودليلهم ما رواه ابن سعد فى طبقاته: أنّ النّبىّ صلى الله عليه وسلم أمر زيد بن ثابت يوم حنين بإحصاء الناس والغنائم فكان السّبى ستّة آلاف رأس، والإبل أربعة وعشرين ألف بعير، والغنم أكثر من أربعين ألف شاة، وأربعة آلاف أوقيّة فضّة، فأخذ من ذلك الخمس، ثم فضّ الباقى على الناس، فكانت سهامهم لكلّ رجل أربع من الإبل وأربعون شاة، وإن كان فارسا أخذ اثنى عشر من الإبل وعشرين ومائة شاة، وان كان معه أكثر من فرس لم يسهم له. وذهب الأوزاعىّ والثّورىّ واللّيث بن سعد وأبو يوسف وأحمد ابن حنبل- رحمهم الله- الى أنه يسهم لفرسين، وروى مثله عن مكحول ويحيى ابن سعيد وابن وهب ومحمد بن الجهم «1» من المالكيّة، وحكاه محمد بن جرير الطبرىّ فى تاريخه، فقال: «ولم يكن يسهم للخيل اذا كانت مع الرجل إلّا لفرسين» ودليلهم ما ذكره ابن مندة فى ترجمة البراء بن أوس بن خالد أنّه قاد مع النّبىّ صلى الله عليه وسلم فرسين، فضرب له النّبىّ صلى الله عليه وسلم خمسة أسهم؛ ولم يقل أحد إنه يسهم لأكثر من فرسين إلّا شيئا يروى عن سليمان بن موسى أنه يسهم لمن غزا بأفراس لكلّ فرس سهمان؛ واختلفوا فى الإسهام للفرس المريض الذى يرجى برؤه على قولين، أحدهما: يسهم له نظرا إلى الجنس؛ والثانى: لا يسهم له، لأنه لا غناء فيه كالبغل والحمار؛ والله الموفّق للصواب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 378 ذكر سقوط الزكاة فى الخيل روى عن أبى هريرة- رضى الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليس على المرء المسلم فى فرسه ولا مملوكه صدقة» متّفق عليه. وفى لفظ عنه: «ليس على المسلم فى عبده ولا فى فرسه صدقة» . وفى لفظ: «ليس فى الخيل والرّقيق زكاة إلّا زكاة الفطر فى الرّقيق» . وعن عائشة- رضى الله عنها- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله وضع الصدقات فليس على الخيل صدقة، وليس على الحمر صدقة، وليس على البغال صدقة، وليس على الإبل التى يسقى عليها الماء للنّواضح صدقة» . وعن أبى عمرو عبد الله بن يزيد الحرّانىّ، قال: حدّثنى سليمان بن أرقم، عن الحسن، عن عبد الرحمن بن سمرة أنّ النّبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا صدقة فى الكسعة والجبهة والنّخّة» ؛ فسّره أبو عمرو، الكسعة: الحمير. والجبهة: الخيل. والنّخّة: العبيد. ويقال: النّخّة، البقر العوامل؛ قال ثعلب: هذا هو الصواب، لأنّه من النّخّ، وهو السّوق الشديد؛ وقال الكسائىّ: إنما هو النّخّة بالضمّ، قال: وهو البقر العوامل؛ وقال الفرّاء: النّخّة بالفتح، أن يأخذ المصدّق دينارا لنفسه بعد فراغه من أخذ الصدقة، وأنشد: عمّى الذى منع الدّينار صاحبه ... دينار نخّة كلب وهو مشهود وعن علىّ- رضى الله عنه- قال: قال النّبىّ صلى الله عليه وسلم: «عفوت لكم عن الخيل والرّقيق» . وعنه- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد عفوت لكم عن الخيل والرّقيق فهاتوا صدقة الرقة من كلّ أربعين درهما درهما، وليس فى تسعين ومائة شىء، فإذا بلغت مائتين ففيها خمسة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 379 دراهم» . وفى لفظ آخر عنه، عن النّبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «فإذا كانت لك مائتا درهم وحال عليها الحول، ففيها خمسة دراهم، وليس عليك شىء- يعنى فى الذهب- حتّى يكون لك عشرون دينارا وحال عليها الحول، ففيها نصف دينار، فما زاد فبحساب ذلك» . قال الجوهرىّ: الورق، الدراهم المضروبة، وكذلك الرّقة، والهاء عوض من الواو؛ وفى الورق ثلاث لغات حكاهنّ الفرّاء: ورق، وورق، وورق. وعن جابر بن عبد الله- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله عزّ وجلّ تجوّز لكم عن صدقة الخيل والرّقيق» . وعن عبد الله بن دينار قال: سألت سعيد بن المسيّب، فقلت: أفى البراذين صدقة؟ فقال: أفى الخيل صدقة؟. وعن حارثة بن مضرّب قال: جاء ناس من أهل الشأم إلى عمر فقالوا: إنا قد أصبنا أموالا خيلا ورقيقا نحبّ أن يكون لنا فيها زكاة وطهور؛ فقال: ما فعله صاحباى فأفعله، فاستشار أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم وفيهم علىّ- رضى الله عنه- فقال علىّ: «هو حسن إن لم تكن جزية يؤخذون بها بعدك «1» » . وعن مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن سليمان بن يسار أنّ أهل الشأم قالوا لأبى عبيدة: خذ من خيلنا ورقيقنا صدقة، فأبى؛ ثم كتب إلى عمر بن الخطّاب، فأبى، فكلّموه أيضا، فكتب إلى عمر، فكتب إليه أيضا عمر: إن أحبّوا فخذها منهم وارددها، يعنى فى فقرائهم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 380 فدلّت هذه الأحاديث والأخبار على أن لا صدقة فى الخيل السائمة ولا فى الرّقيق إذا كانوا للخدمة، إلّا أن يكونوا للتجارة، فان كانوا للتجارة ففى أثمانهم أو قيمهم الزكاة إذا حال عليها الحول، وعلى هذا مذهب الجمهور؛ وذهب أبو حنيفة- رحمه الله- دون صاحبيه إلى وجوب الزّكاة فى الخيل السائمة إذا كانت إناثا، أو إناثا وذكورا، وقال: هو مخيّر بين أن تقوّم وتؤخذ الزكاة من القيمة، وبين أن يخرج عن كلّ فرس دينارا؛ واحتجّوا له بقوله عليه السلام: «ثم لم ينس حقّ الله فى رقابها وظهورها» ؛ قال المخالف لهم: وليس فيه دليل من وجهين: أحدهما أنّه صلى الله عليه وسلم لمّا ذكر الإبل السائمة وقال: «فيها حقّ» سئل عن ذلك الحقّ ما هو؟ فقال: «إطراق فحلها، وإعارة دلوها، ومنحة لبنها أو سمنها، وحلبها على الماء، وحمل عليها فى سبيل الله» ؛ فلمّا كانت الإبل فيها حقّ سوى الزكاة احتمل أن يكون فى الخيل أيضا حقّ سوى الزكاة؛ وقد روى التّرمذىّ» وابن ماجة حديث فاطمة بنت قيس، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ فى المال حقّا سوى الزّكاة» وتلا هذه الآية (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) الخ الآية؛ فيجوز أن يحمل الحقّ فى رقابها وظهورها على هذا الوجه. الثانى أن يحمل الحقّ فيها على التأكيد لا على الوجوب، كقوله «2» صلّى الله عليه وسلم فى حديث معاذ: «وحقّ العباد «3» على الله عزّ وجلّ أن لا يعذّبهم اذا فعلوا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 381 ذلك» ، فهذا محمل قوله عليه السلام: «ثم لم ينس حقّ الله فى رقابها» وتأويله. قال شيخنا شرف الدّين عبد المؤمن بن خلف الدّمياطىّ- رحمه الله-: ولنا أن نقول فيه أيضا: هو مجمل، والأحاديث المتقدّمة مفسّرة تقضى «1» عليه، وظواهرها حجج متضافرة على ترك الزكاة فى الخيل؛ قال: فهذا وجهه من طريق السنّة والأثر؛ وأمّا وجهه من طريق النظر فمن وجهين: أحدهما أن السّوم فى الخيل نادر عند العرب، فلا زكاة فيها كالبغال والحمير، الثانى أنّ الزكاة لو وجبت فى الخيل لتعدّى ذلك إلى ذكورها قياسا على المواشى من الإبل والبقر والغنم. وقال الطّبرىّ والطّحاوىّ: والنظر أنّ الخيل فى معنى البغال والحمير التى قد أجمع الجميع على أن لا صدقة فيها، وردّ المختلف [فيه] إلى المتّفق «2» عليه إذا اتّفقا فى المعنى أولى. وقال أبو عبيد: وكان بعض الكوفيّين يرى فى الخيل صدقة اذا كانت سائمة يبتغى منها النسل، فقال: إن شاء أدّى عن كلّ فرس دينارا، وإن شاء قوّمها ثم زكّاها؛ قال: وإن كانت للتجارة كانت كسائر أموال التجارة يزكّيها؛ قال أبو عبيد: أمّا قوله فى التّجارة فعلى ما قال؛ وأمّا إيجابه الصدقة فى السائمة فليس هذا على اتباع السنّة، ولا على طريق النظر، لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عفا عن صدقتها، ولم يستثن سائمة ولا غيرها؛ وأمّا فى النظر، فكان يلزمه اذا رأى فيها صدقة أن يجعلها كالماشية تشبيها بها، لأنّها سائمة مثلها، فلم يصر إلى واحد من الأمرين؛ وقد جاء عن غير واحد من التابعين إسقاط الزكاة من سائمتها، فروى عن الحسن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 382 أنّه قال: «ليس فى الخيل السائمة صدقة» ؛ وعن عمر بن عبد العزيز قال: «ليس فى الخيل السائمة زكاة» ؛ وقال أبو عبيد: وقد قال مع هذا بعض من يقول بالحديث ويذهب اليه: إنه لا صدقة فى سائمتها ولا فيما كان منها للتجارة أيضا؛ يذهب الى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قد عفونا لكم عن صدقة الخيل والرّقيق» ؛ فجعله عامّا، فلا زكاة فى شىء منها؛ قال أبو عبيد: فأوجب ذلك الأوّل الصدقة عليها فى الحالين جميعا، وأسقطها هذا منهما كلتيهما؛ وأحد القولين عندى غلوّ، والآخر تقصير، والقصد «1» فيما بينهما هو أن تجب الصدقة فيما كان منها للتجارة، وتسقط من السائمة؛ على هذا وجدنا مذهب العلماء، وهم أعلم بتأويل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قول سفيان بن سعيد ومالك وأهل العراق وأهل الحجاز والشأم، لا أعلم بينهم فى هذا اختلافا؛ والله أعلم بالصواب. كمل الجزء التاسع «2» من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويرىّ- رحمه الله تعالى- ويليه الجزء العاشر، وأوّله: ذكر ما وصفت به العرب الخيل من ترتيبها فى السنّ وتسمية أعضائها وأبعاضها وألوانها وشياتها الخ والحمد لله رب العالمين الجزء: 9 ¦ الصفحة: 383 فهرس الجزء العاشر من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويري .... صفحة ذكر ما وصفت به العرب الخيل من ترتيبها فى السن، وتسمية أعضائها، وأبعاضها، وألوانها، وشياتها، وغررها، وحجولها الخ أما ترتيبها فى السن 1 وأما ما قيل فى تسميتها، وتسمية أعضائها وأبعاضها 1 وأما الوجه وما فيه مما لم يذكر فى خلق الانسان 2 وأما العنق وما فيه 3 وأما الظهر وما اتصل به من الوركين 4 وأما الصدر وما اتصل به من البطن 5 وأما الذراعان وما دونهما 5 وأما ألوانها وشياتها وغررها وحجولها وعصمها وما فيها من الدوائر 5 وأما الشية 12 وأما ما فى الفرس من الدوائر 16 وأما ما قيل فى طبائعها، وعاداتها، والمحمود من صفاتها ومحاسنها والعلامات الدالة على جودة الفرس ونجابته 19 الجزء: مقدمةج 10 ¦ الصفحة: 1 ومما يستحب من أوصافها فى الخلق 22 وأما عيوبها التى تكون فى خلقتها وفى جريها والتى تطرأ عليها وتحدث فيها 27 فأما التى فى خلقتها 27 وأما العيوب التى فى جريها 30 وأما العيوب التى تطرأ عليها وتحدث فيها 31 ذكر أسماء خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم 33 ذكر أسماء كرام الخيل المشهورة عند العرب 39 ذكر ما قيل فى أوصاف الخيل وتشبيهها نظما ونثرا 48 طرئف فى ذم الخيل بالهزال والعجز عن الحركة 65 ذكر ما وصفت به فى الرسائل المنثورة 67 الباب الثانى من القسم الثالث من الفن الثالث فى البغال والحمير ذكر ما قيل فى البغال 79 ذكر بغلات رسول الله صلى الله عليه وسلم 80 ذكر شىء مما وصفت به البغال 85 ذكر ما قيل فى الحمر الأهلية 93 ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر الحمار 95 ذكر شىء مما وصفت به الحمير على طريقى المدح والذم 97 الباب الثالث من القسم الثالث من الفن الثالث فى الإبل والبقر والغنم ذكر ما قيل فى الإبل 103 أما تسميتها من حين تولد الى أن تتناهى سنها 104 وأما أسماء ما يركب منها ويحمل عليه 105 الجزء: مقدمةج 10 ¦ الصفحة: 2 وأما ما اختصت به النوق من الأسماء والصفات 106 ومن أوصافها فى السير 107 وأما ألوان الإبل 108 وأما ترتيب سيرها 108 وأما ما قيل فى المسير عليها والنزول للراحة والإراحة 109 ذكر أصناف الإبل وعاداتها وما قيل فى طبائعها 109 ذكر ما ملكه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإبل 111 ذكر شىء مما وصفت به الإبل نظما ونثرا 115 ذكر ما قيل فى البقر الأهلية 120 ذكر ما قيل فى الجاموس 124 ذكر ما قيل فى الغنم الضأن والمعز 125 ذكر ترتيب سنّ الغنم 127 القسم الرابع من الفن الثالث فى ذوات السموم، وفيه بابان الباب الأوّل ويشتمل على ما قيل فى الحيات والعقارب ذكر ما قيل فى الحيات 133 ذكر ما فى لحوم الحيات من المنافع والأدوية 140 ذكر شىء مما وصفت به الأفاعى 143 ذكر ما قيل فى العقارب 147 الجزء: مقدمةج 10 ¦ الصفحة: 3 ... صفحة الباب الثانى من القسم الرابع من الفن الثالث فيما هو ليس قاتلا بفعله من ذوات السموم ويشتمل على ما قيل فى الخنافس والوزغ والضب وابن عرس والحرباء والقنافذ والفئران والقراد والنمل والذر والقمل والصؤاب فأما الخنافس وما قيل فيها 152 وأما الوزغ وما قيل فيه 154 وأما الضب وما قيل فيه 155 وأما الحرباء وما قيل فيها 159 وأما ابن عرس وما قيل فيه 161 وأما القنافذ وما قيل فيها 162 وأما الفئران وما قيل فيها وأنواعها 166 فأما الجرذ والفأر 166 وأما الزباب 170 وأما الخلد 170 وأما اليربوع 170 وأما فأرة المسك 171 وأما فأرة الإبل 172 وأما القراد وما قيل فيه 172 وأما النمل والذرّ وما قيل فيهما 173 وأما القمل والصؤاب وما قيل فيهما 177 الجزء: مقدمةج 10 ¦ الصفحة: 4 القسم الخامس فى أجناس الطير وأنواع السمك وفيه سبعة أبواب: ستة منها فى الطير وباب فى السمك وذيل لذكر شىء مما قيل فى آلات صيد البر والبحر وهو باب ثامن الباب الأوّل من القسم الخامس من الفن الثالث فى سباع الطير، ويشتمل على ما قيل فى العقاب والبزاة والصقور والشواهين وأصناف ذلك ذكر ما قيل فى العقاب 181 وأما الزمج وهو الصنف الثانى من العقاب 184 ذكر ما قيل فى البازى وأصنافه 186 فأما البازى 186 وأما الزرّق 191 وأما الباشق 191 وأما العفصىّ 193 وأما البيدق 194 ذكر ما قيل فى الصقر وأصنافه 195 فأما الصقر 195 وأما الكونج وهو الصنف الثانى من الصقر 198 وأما اليؤيؤ وهو الصنف الثالث من الصقر 199 ذكر ما قيل فى الشاهين وأصنافه 200 فأما الشاهين 200 وأما الأنيقى وهو الصنف الثانى من الشاهين 203 وأما القطامى وهو الصنف الثالث من الشاهين 204 فصل فى ذكر ما ناسب الجوارح فى الافتراس وأكل اللحم الحىّ 204 الجزء: مقدمةج 10 ¦ الصفحة: 5 الباب الثانى من القسم الخامس من الفن الثالث فى كلاب الطير، ويشتمل على ما قيل فى النسر والرخم والحدأة والغراب ذكر ما قيل فى النسر 206 ذكر ما قيل فى الرخم 207 ذكر ما قيل فى الحدأة 209 ذكر ما قيل فى الغراب وأصنافه 209 الباب الثالث من القسم الخامس من الفن الثالث فى بهائم الطير، ويشتمل على ما قيل فى الدراج والحبارى والطاوس والديك والدجاج والحجل والكركى والإوز والبط والنحام والأنيس والقاوند والخطاف والقيق والزرزور والسمانى والهدهد والعقعق والعصافير فأما الدراج وما قيل فيه 214 وأما الحبارى وما قيل فيه 215 وأما الطاوس وما قيل فيه 216 وأما الديك والدجاج وما قيل فيهما 217 ذكر ما جاء فى الديكة من الأحاديث وما عدّ من فضائلها وعاداتها ومنافعها 219 ذكر شىء مما وصفت به الشعراء البيضة والدجاجة والديك 226 ومما قيل فى الدجاجة والديك 227 وأما الحجل وما قيل فيه 233 وأما الكركىّ وما قيل فيه 234 وأما الإوز وما قيل فيه وأصنافه 235 وأما البط وما قيل فيه وأصنافه 236 الجزء: مقدمةج 10 ¦ الصفحة: 6 وأما النحام وما قيل فيه 237 وأما الأنيس وما قيل فيه 238 وأما القاوند وما قيل فيه 238 وأما الخطاف وما قيل فيه 238 وأما القيق والزرزور وما قيل فيهما 241 ما قيل فى القيق 241 وأما الزرزور 242 وأما السمانى وما قيل فيه 245 وأما الهدهد وما قيل فيه 246 وأما العقعق وما قيل فيه 248 وأما العصافير وما قيل فيها وأنواعها 249 فأما العصافير البيوتى 249 وأما عصفور الشوك 250 وأما عصفور النيلوفر 250 وأما القبرة 251 وأما حسون 251 وأما البلبل 252 الباب الرابع من القسم الخامس من الفن الثالث فى بغاث الطير ويشتمل على ما قيل فى القمرىّ والدبسىّ والورشان والفواخت والشفنين واليعتبط والنوّاح والقطا واليمام وأصنافه والببغاء أما القمرى وما قيل فيه 258 وأما الدبسىّ وما قيل فيه 258 وأما الورشان وما قيل فيه 259 الجزء: مقدمةج 10 ¦ الصفحة: 7 وأما الفواخت وما قيل فيها 259 وأما الشفنين وما قيل فيه 260 وأما اليعتبط وما قيل فيه 261 وأما النوّاح وما قيل فيه 261 وأما القطا وما قيل فيه 261 ذكر شىء من الأوصاف والتشبيهات الشعرية الجامعة لمجموع هذا النوع 265 وأما اليمام وأصنافه وما وصف به وما قيل فيه 268 فأما الرواعب 268 وأما المراعيش 268 وأما العدّاد 269 وأما الميساق 269 وأما الشدّاد 269 وأما القلّاب 269 وأما المنسوب 269 ذكر ما قيل فى طوق الحمامة 277 ذكر شىء مما وصفت به هذا النوع نظما ونثرا 279 وأما الببغاء وما قيل فيها 280 الباب الخامس من القسم الخامس من الفن الثالث فى الطير الليلى ويشتمل على ما قيل فى الخفاش والكروان والبوم والصدى فأما الخفاش وما قيل فيه 283 وأما الكروان وما قيل فيه 285 الجزء: مقدمةج 10 ¦ الصفحة: 8 وأما البوم وما قيل فيه 285 وأما الصدى وما قيل فيه 286 الباب السادس من القسم الخامس من الفن الثالث فى الهمج وهو مما يطير كالنحل والزنبور والعنكبوت والجراد ودود القز والذباب والبعوض والبراغيث والحرقوص فأما النحل وما قيل فيه 287 وأما الزنبور وما قيل فيه 289 وأما العنكبوت وما قيل فيه 290 وأما الجراد وما قيل فيه 292 وأما دود القز وما قيل فيه 297 وأما الذباب وما قيل فيه 298 وأما البعوض وما قيل فيه 301 وأما البراغيث وما قيل فيها 303 وأما الحرقوص وما قيل فيه 305 الباب السابع من القسم الخامس من الفن الثالث فى أنواع الأسماك ذكر شىء من أنواع الأسماك 312 فأما الدلفين 313 وأما الرعاد 313 وأما التمساح 314 وأما السقنقور 315 الجزء: مقدمةج 10 ¦ الصفحة: 9 وأما السلحفاة واللجأة 316 وأما الفرس النهرى 317 وأما الجند بيدستر 318 وأما حيوان القندس والفاقم 319 وأما الضفادع 319 وأما السرطان وما قيل فيه 321 ذكر شىء من عجائب الحيوان المائى 322 الباب الثامن وهو الذيل على القسم الخامس من الفن الثالث ويشتمل على ذكر شىء مما وصفت به آلات الصيد فى البر والبحر ووصف رماة البندق وما يجرى هذا المجرى ذكر شىء مما قيل فى رماة البندق 324 ومما ورد فى وصف الجلاهق نظما 348 ذكر شىء مما قيل فى سبطانة 350 ذكر شىء مما قيل فى عيدان الدبق 351 الجزء: مقدمةج 10 ¦ الصفحة: 10 الجزء العاشر [ تتمة الفن الثالث في الحيوان الصامت ] [ تتمة القسم الثالث من الفن الثالث في الدواب والأنعام ] [ تتمة الباب الأول من هذا القسم في الخيل ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ذكر ما وصفت به العرب الخيل: «1» من ترتيبها فى السنّ، وتسمية أعضائها، وأبعاضها، وألوانها، وشياتها، وغررها، وحجولها، وعصمها، ودوائرها، وما قيل فى طبائعها وعاداتها، والمحمود من صفاتها ومحاسنها، والعلامات الدالّة على جودتها ونجابتها، وعدّ عيوبها التى تكون فى خلقها وجريها، والعيوب التى تطرأ عليها وتحدث فيها أما ترتيبها فى السن ّ - فالعرب تقول: سنّ الفرس إذا وضعته أمه فهو «مهر» . ثمّ هو «فلوّ» «2» . فإذا استكمل سنة فهو «حولىّ» . ثمّ هو فى الثانية «جذع» . ثم فى الثالثة «ثنىّ» . ثم فى الرابعة «رباع» . ثم فى الخامسة «قارح» . ثم هو الى نهاية عمره «مذكّ» . وأما ما قيل فى تسميتها ، وتسمية أعضائها وأبعاضها- فقد قالوا: الخيل مؤنّثة، ولا واحد لها من جنسها، وجمعها خيول. ويقال فى صفاتها: «أذن مؤلّلة» و «مرهفة» ، أى محدّدة الطرف. قال عدىّ بن الرّقاع: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 1 تخوض «1» فى فرجات النّقع دامية ... كأنّ آذانها أطراف أقلام و «حشرة» : صغيرة مستديرة. و «مقدودة» : مدوّرة. وأذن «غضنفرة» أى غليظة. و «زبعراة» أى غليظة شعراء. و «خذاويّة» أى خفيفة السمع. قال عدىّ بن زيد: له أذنان خذاويّتا ... ن والعين «2» تبصر ما فى الظّلم ثم «الناصية» وهى الشعر السائل على الجبهة، يقال: «واردة» وهى الطويلة. و «جثلة» وهى الكثيرة الملتفّة. و «الفاشغة» و «الغمّاء» «3» وهى الكثيرة المنتشرة. و «السّفواء» «4» وهى القليلة. و «عصفورها» : أصل منبت شعرها. و «قونسها» «5» : العظم الناتئ «6» بين الأذنين. وأما الوجه وما فيه مما لم يذكر فى خلق الإنسان - «النّواهق» «7» » وهما عظمان شاخصان فى وجهه من الجبهة الى المنخرين. و «اللهزمتان» : ما اجتمع من اللحم فى معظم الجبين. و «عين مغربة» أى بيضاء الحماليق وما حولها. و «خيفاء» : إذا كانت إحداهما سوداء والأخرى زرقاء. و «المحملقة» : التى حول مقلتيها بياض لم يخالف السّواد. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 2 و «أنف مصفّح» أى معتدل القصبة. و «السّمّ» : ثقبه «1» ، قال «2» : ومنخرا واسعة سمومه وقال مزاحم بن طفيل الغنوىّ، وقيل: العبّاس بن مرداس السّلمىّ،: ملء «3» الحزامين وملء العين ... ينفش عند الرّبو «4» منخرين كنفش كيرين بكفّى قين «5» و «الجحفلة» : الشّفة. و «الفيد» : الشّعر النابت عليها. و «الشّدقان» : مشقّ الفم إلى حدّ اللجام. وأما العنق وما فيه «فالمعرفة» : موضع العرف. و «العرف» : شعر أعلى العنق. و «العذرة» : ما على المنسج يقبض عليه الفارس اذا ركب. و «العرشان» : اللحمان من جانبى العرف. و «الجران» «6» : جلد أسفل العنق. و «الدّسيع» : مركّب العنق فى الكاهل. قال سلامة [بن جندل «7» ] : يرقى الدّسيع الى هاد له بتع «8» ... فى جؤجؤ «9» كمداك الطّيب مخضوب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 3 و «اللّبان» : ما جرى عليه اللّبب. ويقال: «عنق قوداء» أى طويلة. و «سطعاء» أى طويلة منتصبة غليظة. و «تلعاء» : منتصبة غليظة الأصل مجدولة الأعلى. و «دنّاء» أى مطمئنّة من أصلها. و «هنعاء» : مطمئنّة من وسطها. و «وقصاء» : قصيرة. و «مرهفة» : رقيقة «1» . وأما الظهر وما اتصل به من الوركين - فمنه: «المتنان» وهما لحمان يكتنفان الظهر من مركّب العنق الى علوة ظهر الذّنب. و «الحارك» : عظم مشرف من بين فرعى الكتفين. و «القردودة» : حدّ الفقار. و «الفقار» : المنتظمة فى الصّلب. و «الصّهوة» : مقعد الفارس. و «القطاة» : مقعد الرّدف خلفه. و «المعدّان» : موضع السّرج من جنبيه. قال شاعر «2» : فإمّا زال سرجى «3» عن معدّ ... وأجدر «4» بالحوادث أن تكونا و «الصّرد» : بياض «5» على الظهر. و «الغرابان» : ملتقى أعالى الوركين فى ناحية الصّلب. و «الصّلوان» : ما أسهل من جانبى الوركين. و «العجب» : ما ارتفع من أصل الذّنب. و «العلوة» : أصله. و «العسيب» : عظم الذّنب. والأعوج العسيب: «أعزل» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 4 وأما الصدر وما اتصل به من البطن - فمنه: «الكلكل» : ما مسّ الأرض من فهدتيه. و «الفهدتان» : اللّحمتان الناتئتان فى الصدر. و «المحزم» : ما شدّ عليه الحزام. «والناحران» «1» : عرقان يودج منهما. وأما الذّراعان وما دونهما- «المرفقان» : مآخير رءوس الذّراع. و «الخصيلة» «2» : لحمة الذراع مع العصب. و «الصّافن» : عرق الذراع. و «الحبال» : عصبها. و «الرّقمتان» : لحمتان «3» فى باطنهما لا تنبتان شعرا. و «الرّكبة» «4» : موصل ما بين الذّراع والوظيف. و «الوظيفان» : العظمان تحت الركبتين والعرقوبين. و «الرّضفتان» : «5» عظمان مستديران على الرّكبة. و «السّنبك» : طرف مقدّم الحافر. و «النّسر» : ما يتطاير من أسفله كالنّوى. و «المنقل» : مجتمع الحافر من باطنه. و «ألية الحافر» : مؤخّره. ويقال: حافر أرحّ «6» : منبطح السّنابك. و «فرشاح» أى منبطح. و «وأب» : مقعّب. و «مضرور» : مضموم صغير. و «مكنب» «7» أى كثيف. والله أعلم بالصواب. *** و أما ألوانها وشياتها وغررها وحجولها وعصمها وما فيها من الدوائر [أما ألوانها] من ألوانها: «البهيم والمصمت» : كلّ ذى لون واحد لاشية فيه، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5 إلا الأشهب فإنه لا يقال له بهيم. يقال: فرس مصمت، والأنثى مصمته، والجمع مصامت. وكذلك يقال فى قوائم الفرس اذا لم يكن بهنّ تحجيل. قال أبو «1» حاتم: مبهمة مصمته القوائم ومن ألوان الخيل: «الدّهم» ، وهى ستة: «أدهم غيهب» وهو أشدّها سوادا، والأنثى غيهبة. والغيهب: الظلمة، والجمع غياهب. وكذلك «الغربيب» . و «الحالك» . و «أدهم دجوجىّ» : صافى السّواد؛ وقيل: هو مأخوذ من الدّجّة، وهى شدّة السواد والظّلمة. و «أدهم يحموم وأدهم أحمّ» وهو الذى أشربت سراته «2» وحجزته حمرة. قال أبو تمام: أو «3» أدهم فيه كمتة أمم ... كأنه قطعة من الغلس ثم «أدهم أكهب» وهو إلى الكدرة. ثم «أحوى» والجمع حوّ؛ وهو أهون سوادا من الجون، ومناخره محمّرة، وشاكلته مصفرّة. والأحوى أربعة ألوان: «أحوى أحمّ» وهو المشاكل للدّهمة والخضرة؛ ولا فرق بينه وبين الأخضر الأحمر إلا باحمرار مناخره واصفرار شاكلته. و «أحوى أصبح» وهو الذى تقلّ حمرة مناخره فتصير الى السواد ويكون البياض فيه غالبا على أطراف المنخرين. و «أحوى أطحل» وهو الذى تعتريه صفرة وخضرة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6 مخالطتان لكدرة. و «أحوى أكهب» . والكهب: قلّة ماء اللّون وكدرته فى موضع المنخرين فى حمرتهما وفى سواد السّراة فى بياض الأقراب. ومنها الخضر «1» - وهى أربعة: «أخضر أحمّ» وهو أدناها إلى الدّهمة. قال الشاعر: خضراء حمّاء كلون العوهق وهو اللّازورد. و «أخضر أدغم» وهو الأخطب لون وجهه وأذنيه ومناخره. وهذا اللّون يسمّى بالفارسيّة «ديزجا» «2» . و «أخضر أطحل» وهو الذى تعلو خضرته صفرة. و «أخضر أورق» وهو الذى كلون الرّماد. ومنها الكميت - والجمع كمت، والذكر والأنثى فيه كميت، وهى تسعة. قالوا: وكميت من الأسماء المصغّرة المرخّمة التى لا تكبير لها، من أكمت بمنزلة حميد من أحمد، غير أن أكمت لم يستعمل. والكميت بين الأحوى والأصدأ، وهو أقرب من الشّقر والوراد الى السواد وأشدّ منها حمرة. والفرق ما بين الكميت والأشقر بالعرف والذّنب، فإن كانا أحمرين فهو أشقر، وإن كانا أسودين فهو كميت؛ والورد بينهما. والكميت أحبّ الألوان الى العرب. ومن ألوانه: «كميت أحمّ» وهو الذى يشاكل الأحوى، غير أنه تفصل بينهما حمرة أقرابه ومراقّه ومربطائه. والمريطاء: الجلدة التى بين العانة والسّرّة. والأقراب: من الشاكلة التى هى الخاصرة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 7 الى مراقّ البطن، واحدها: قرب وقرب. قال الأصمعىّ: أشدّ الخيل جلودا وحوافر الكمت الحمّ. و «كميت أصحم» «1» وهو الأسود الذى يضرب الى الصّفرة. و «كميت أطخم» والطّخمة: سواد فى مقدّم الأنف. و «كميت مدمّى» وهو الشديد الحمرة وكلّما انحدر الى مراقّ البطن يزداد صفاء. و «كميت أحمر» وهو أشدّ حمرة من المدمّى، وهو أحسن الكميت. و «كميت مذهب» وهو الذى تعلو حمرته صفرة. و «كميت محلف» وهو أدنى الكمت الى الشّقرة وظاهر شعر ذنبه وعرفه كلون جسده وباطنه أسود، والأنثى محلفة. وأنشدوا «2» : كميت غير محلفة «3» ولكن ... كلون الصّرف «4» علّ به الأديم قال أبو خيرة: المحلف بين الأصهب والأحمر، وهو من الإبل الأصحر. و «كميت أكلف» وهو الذى لم تصف حمرته ويرى فى أطراف شعره سواد. و «كميت أصدأ» وهو الذى فيه صدأة أى كدرة بصفرة قليلة، شبّهت بلون صدأ الحديد. ومنها الوراد - وهى جمع ورد وهى ثلاثة- والورد هو الذى تعلوه حمرة الى الشّقرة الخلوقيّة «5» وجلده وأصول شعره سود. وقيل: الوردة: حمرة تضرب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 8 الى الصّفرة. وتحقيقه أنه بين الكميت الأحمر وبين الأشقر- منها: «ورد خالص» و «ورد مصامص» وهو الخالص أيضا، والأنثى مصامصة. و «ورد أغبس» «1» تدعوه العجم «السّمند» وهو الذى لونه كلون الرّماد. ومنها الشّقر - وهى تسعة- والأشقر: أشدّ حمرة من الورد- يقال: «أشقر أدبس» وهو الذى لونه بين السواد والحمرة. و «أشقر خلوقىّ» . و «أشقر أصبح» وهو قريب من الأصهب. والصّهبة: الشّقرة فى شعر الرأس. و «أشقر سلّغد» وهو الذى خلصت شقرته، والأنثى سلّغدة، والجمع سلّغدات. قال شاعر: أشقر سلّغد وأحوى أدعج ... أصكّ أظمى «2» وحيفس «3» أفلج «4» و «أشقر قرف» والأنثى قرفة، والجمع قروف وقراف وأقراف وهو كالسّلغد. و «أشقر مدمّى» وهو الشديد الحمرة. و «أشقر أقهب» . والقهبة: غبرة إلى سواد. وقال ابن الأعرابىّ: الأقهب: الذى فيه حمرة فيها غبرة. و «أشقر أمغر» ، وهو الذى تعلو شقرته مغرة، أى كدرة. و «أشقر أفضح» : بيّن الفضحة، وهى البياض ليس بالشديد. ومنها الصّفر - وهى أربعة: «أصفر فاقع» . و «أصفر أعفر» وهو بياض تعلوه حمرة. و «أصفر ناصع» . و «أصفر ذهبىّ» وهو الذى يضرب إلى البياض، وهو السّوسنىّ «5» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 9 ومنها الشّهب - وهى خمسة. والأشهب: كلّ فرس تكون شعرته على لونين ثم تفترق شعراته «1» فلا تجمع واحدا من اللّونين شعرات تخلص بلون كقدر «2» النّكتة فما فوقها. وقيل: الأشهب الأبيض الشّعرة ليس بالبياض الصّافى القرطاسىّ وجلده أسود يقال له «أشهب أبيض» . والشّهبة فى الألوان: البياض الذى يغلب على السّواد. ويقال للأشهب أيضا: أضحى، والأنثى ضحياء. وأسماء ألوانه: «أشهب ناصع» . و «أشهب أحمّ» «3» وهو أسود تنفذه شعرات بيض. و «أشهب زرزورىّ» وهو الذى اعتدل فيه السواد والبياض. و «أشهب مفلّس» وهو الذى خالط بياضه سواد أو حمرة. و «أشهب سامرىّ» وهو الذى شهبته بسواد أورق. ومنها الجون «4» - وهو اختلاط بياض بحمرة الأشقر أو الكميت. ومنها الصّنابىّ - وهو دهمة فيها شهبة، أو كمتة فيها شهبة أقلّ من بياض الأشهب. نسب الى الصّناب وهو الخردل بالزبيب. ومنها الأغبر - وهو أشقر شملت شقرته شهبة. ومنها الأبرش - وهو الذى فيه لمع «5» بياض كالرّقط «6» ، وقيل: هو الذى يكون فى شعره نكت صغار تخالف سائر لونه، وإنما يكون ذلك فى الدّهم والشّقر خاصّة، وربما أصابها ذلك من شدّة العطش. فإذا عظمت النّكت فهو «مدنّر» . واذا كان فى جسده بقع متفرّقة مخالفة للونه فهو «ملمّع» و «أبقع» و «أشيم» . وقيل: الأشيم: أن تكون الجزء: 10 ¦ الصفحة: 10 فيه شامة بيضاء؛ وقيل: قد تكون الشّامة غير بيضاء. واذا كان فى الشامة استطالة فهو «مولّع» . وقال ابن بنين «1» : إذا كان فى الدابّة عدّة ألوان من غير بلق فذلك التوليع، يقال: برذون مولّع. واذا كانت الشامة فى مؤخّره أو شقّه الأيمن كرهت. ومنها العرسى ّ - وهو الذى يشبه لون ابن عرس. ومنها الأنمر - وهو الذى يكون فيه بقعة بيضاء وبقعة أخرى من أىّ لون كان. ومنها الأبلق - وهو ما يكون نصف لونه أو ما قارب النصف أبيض، والنصف الآخر أسود أو أحمر. ومنها الأغشى (بالغين المعجمة) - وهو ما ابيضّ رأسه دون جسده مثل الأرخم «2» . ومنها الأبيض - وهو الذى ابيضّ شعره بياضا مثل بياض الأوضاح أشدّ ما يكون من البياض وأصفاه لا يخالطه شىء من الألوان فيقال، فيه: أبيض قرطاسىّ. وربما كان أزرق العين أو أسود «3» أو أكحل. ويدعى بما فى عينيه من زرقة وسواد وكحل؛ ولا يكون أكحل حتى تسودّ أشفار عينيه وجفونه. قال الشيخ «4» رحمه الله تعالى فى كتابه « [فضل] الخيل» : «وألوان الخيل أدهم، وأخضر، وأحوى، وكميت، وأشقر، وأصفر، وأشهب، وأبرش، وملمّع، ومولّع، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 11 وأشيم. هذا قول أبى عبيدة. وقال الأبيوردىّ فى رسالته: الدّهمة، ثم الحوّة، ثم الصّدأة، ثم الخضرة، ثم الكمتة، ثم الوردة، ثم الشّقرة، ثم الصّفرة، ثم العفرة، ثم الشّهبة» . هذا ما وقفنا عليه من ألوانها. والله أعلم. *** وأما الشّية وجمعها شيات- فقالوا: كلّ لون يخالف معظم لون الفرس فهو «شية» . فإذا لم يكن فيه شية فهو «أصمّ» و «بهيم» من أىّ الألوان كان، والأنثى أيضا بهيم. وكذلك فرس «مصمت» بمنزلة البهيم من أىّ لون كان، والأنثى مصمتة، والجمع مصامت. وقد تقدّم ذكر ذلك. فلنذكر الشّيات. من الشّية-: الغرّة، والقرحة، والرّثمة، والتّحجيل، والسّعف، والنّبط، والصّبغ، والشّعل، واللّمظ، واليعسوب، والتعميم، والبلق. فالغرّة -: البياض فى الوجه؛ وهى أنواع: لطيم، وشادخة، وسائلة، وشمراخ، ومتقطّعة» ، وشهباء. ف «اللّطيم» : الذى يصيب البياض عينيه أو إحداهما أو خدّيه أو أحدهما، والأنثى أيضا لطيم. فإذا فشت فى الوجه ولم تصب العين فهى «شادخة» . فإذا اعتدلت على قصبة الأنف وإن عرضت فى الجبهة فهى «سائلة» . واذا دقّت وسالت فى الجبهة وعلى قصبة الأنف ولم تبلغ الجحفلة فهى «شمراخ» . وكلّ بياض فى جبهة [الفرس «2» ] فشا أوقلّ ينحدر حتى يبلغ المرسن «3» ثم ينقطع فهى غرّة «متقطعة» . واذا كان البياض فى منخريه ثم ارتفع مصعدا حتى يبلغ بين عينيه ما لم يبلغ جبهته فهى أيضا غرّة متقطعة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 12 وإذا كان فى الغرّة شعر يخالف البياض فهى غرّة «شهباء» . وقال ابن قتيبة: «إن سالت غرّته ودقّت فلم تجاوز العينين فهى «العصفور» . وإن أخذت جميع وجهه غير أنه ينظر فى سواد فهى «المبرقعة» . فإن فشت حتى تأخذ العينين فتبيضّ أشفارهما فهو «مغرب» . فإن كانت إحدى عينيه زرقاء والأخرى كحلاء فهو «أخيف» . وأما القرحة - وهى دون الغرّة؛ فقال ابن قتيبة: الغرّة: ما فوق الدّرهم، والقرحة: قدر الدرهم فما دونه. قالوا: والقرح: كلّ بياض كان فى جبهة الفرس ثم انقطع قبل أن يبلغ المرسن. وتنسب القرحة الى خلفتها فى الاستدارة والتثليث والتربيع والاستطالة والقلّة؛ فإذا قلّت قيل: «خفيّة» . وإذا كان فى القرحة شعر يخالف البياض فهى «قرحة شهباء» . وأما الرّثمة (بالثاء المثلثة) - فكلّ بياض أصاب الجحفلة العليا قلّ أو كثر فهو «رثم» إلى أن يبلغ المرسن. وتنسب الرّثمة إذا هى فشت الى الشّدوخ. وإذا لم تجاوز المنخرين نسبت الى الاعتدال. وإذا قلّت واشتدّ بياضها نسبت الى الاستنارة. وإذا لم يظهر بياضها للناظر حتى يدنو نسبت الى الخفية. واللّمظة - كلّ بياض أصاب الجحفلة السّفلى قلّ أو كثر فهو «لمظ» والفرس ألمظ. واليعسوب -: كلّ بياض يكون على قصبة الأنف قلّ أو كثر ما لم يبلغ العينين. وإذا شاب الناصية بياض فهو «أسعف» . فإذا خلص البياض فى الناصية فهو «أصبغ» . فإذا انحدر البياض الى منبت الناصية فهو «المعمّم» . وإذا كان فى عرض الذّنب بياض فهو «أشعل» . والعرب تكره شعلة الذّنب. وإذا كان فى قمعة الذّنب، وهى طرفه، بياض فهو «أصبغ» . وإذا ارتفع البياض حتى يبلغ البطن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 13 فهو «أنبط» . وإذا ظهر البياض وزاد فهو «أبلق» . وقال ابن قتيبة «1» وابن الأجدابى «2» : إذا كان الفرس أبيض الظّهر فهو «أرحل» ، وإن كان أبيض البطن فهو «أنبط» . وقال غيرهما: «الأدرع» من الخيل والشاء: الذى اسودّ رأسه ولون سائره أبيض، والأنثى «درعاء» ، من الدّرعة «3» . و «الأخصف» من الخيل والغنم: الأبيض الخاصرتين الذى ارتفع البلق من بطنه الى جنبيه، ولونه كلون الرّماد فيه سواد وبياض. وقيل: كلّ ذى لونين مجتمعين فهو خصيف وأخصف؛ وأكثر ذلك السواد والبياض. ويقال: فرس «آزر» إذا كان أبيض العجز. *** ومن الشّية التحجيل - وهو البياض فى قوائم الفرس الأربع، أو فى ثلاث منها، أو فى رجليه قلّ أو كثر إذا استدار حتى يطيف بها. وأصل الحجلة من الحجل (بفتح الحاء وكسرها) وهو القيد والخلخال. قال ابن الأجدابىّ: فإن كانت قوائمه الأربع بيضاء لا يبلغ البياض منها الركبتين «4» فهو «محجّل» . وطليق اليد وطلق اليد (بفتح الطاء وإسكان اللام وبضمهما أيضا) : إذا كانت على لون البدن ولم يكن بها بياض. فإذا أصاب البياض القوائم كلها فهو «محجّل أربع» . وإن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 14 كان فى ثلاث قوائم فهو «محجّل ثلاث» مطلق يد أو رجل يمنى أو يسرى. وكلّ قائمة بها بياض فهى «ممسكة» . وكلّ قائمة ليس بها وضح فهى «مطلقة» . فإن كان البياض فى الرجلين جميعا فهو «محجّل الرجلين» . وإن كان فى إحداهما فهو «الأرجل» ؛ وقد ذكرناه. ولا يكون التّحجيل واقعا بيد ما لم يكن معها رجل أو رجلان، ولا بيدين ما لم يكن معهما رجل أو رجلان أو وضح بالوجه. فإن كان التحجيل فى يد ورجل من شقّ واحد فهو ممسك الأيامن مطلق الأياسر، أو ممسك الأياسر مطلق الأيامن، ويقال: الأيمنين والأيسرين. وإن كان من خلاف قلّ أو كثر فهو «مشكول» ؛ وهو مكروه فى الحديث. «1» وقد تقدّم ذكره. ومنها العصم - وهو إذا كان البياض بإحدى يديه قلّ أو كثر فهو «أعصم» اليمنى أو اليسرى. واسم العصمة مأخوذ من المعصم وهو موضع السّوار من الساعد. فإن كان البياض فى يده اليسرى قيل: «منكوس» ؛ وهو مكروه. وإن كان البياض بيديه جميعا فهو أعصم اليدين، إلا أن يكون بوجهه وضح فهو «محجّل» ذهب عنه العصم. فإن كان بوجهه وضح وبإحدى يديه بياض فهو أعصم، لا يوقع عليه وضح الوجه اسم التّحجيل اذا كان البياض بيد واحدة. ووضح القوائم: الخاتم، والإنعال، والتّخديم، والصّبغ، والتّجبيب، والمسرول، والأخرج، والتّسريح، فأقلّ وضح القوائم «الخاتم» وهو شعرات بيض. فإذا جاوز ذلك حتى يكون البياض واضحا فهو «إنعال» ما دام فى مؤخّر رسغه مما يلى الحافر. فإذا جاوز الأرساغ فهو «تخديم» . وإذا ابيضّت الثّنّة «2» كلّها ولم يتّصل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 15 بياضها ببياض التحجيل فهو «أصبغ» . وإذا ارتفع البياض فى القوائم الى الجبب «1» فما فوق ذلك ما لم يبلغ الركبتين والعرقوبين فهو «التّجبيب» . فإذا بلغ التجبيب الركبتين والعرقوبين فهو «مسرول» حتى يخرج من الذراعين والسّاقين. فإذا خرج من الذراعين والساقين فهو «أخرج» . وكلّ بياض فى التحجيل مستطيل فهو «تسريح» . والله أعلم. *** وأما ما فى الفرس من الدوائر - فمنها: «دائرة المحيا» وهى اللّاصقة بأسفل الناصية. و «دائرة اللّطمة» فى وسط الجبهة، فإن كانت دائرتان فى الجبهة قيل: فرس نطيح «2» . و «دائرة اللّاهز» : التى تكون فى اللهزمة. و «دائرة العمود» وتسمّى المعوّذ أيضا وهى فى موضع القلادة. و «دائرة السّمامة» فى وسط العنق. و «دائرتا البنيقين «3» » وهما اللّتان فى نحر الفرس. و «دائرة النّاحر» «4» : التى فى الجران إلى أسفل من ذلك. و «دائرة القالع» : التى تكون تحت اللّبد. و «دائرة الهقعة» فى الشّقّين «5» ، وتدعى النافذة أيضا، وقيل: هى التى تكون فى عرض زوره. و «دائرة النّافذة» وهى دائرة الحزام. و «دائرتا الصّقرين» فى الحجبتين والقصريين- الجزء: 10 ¦ الصفحة: 16 والحجبة: رأس الورك. والقصرى: الضّلع التى تلى الشاكلة- و «دائرة الخرب» تكون تحت الصّقرين. و «دائرة الناخس» تكون تحت الجاعرتين الى الفائلين. وهما عرقان فى الفخذ. والجاعرتان: حرفا الوركين المشرفان على الفخذين، وهما مضرب الفرس بذنبه على فخذيه، وهما موضع الرّقمتين من است الحمار. وكانت العرب تستحبّ من هذه الدوائر: المعوّذ، والسّمامة، والهقعة. وقيل: استحبّوا الهقعة ثم كرهوها. يقال: إن المهقوع لا يسبق أبدا. وكانوا يكرهون النّطيح، واللّاهز، والقالع، وقيل: الناخس أيضا. وما سوى هذه الدوائر فغير مكروه. *** وقال ابن «1» قتيبة: «والدوائر ثمانى عشرة دائرة. تكره منها «الهقعة» وهى التى تكون فى عرض زوره، ويقال: إنّ أبقى الخيل المهقوع. و «دائرة القالع» هى التى تكون تحت اللّبد. و «دائرة النّاخس» هى التى تكون تحت الجاعرتين الى الفائلين. و «دائرة اللّطاة» فى وسط الجبهة، وليست تكره إذا كانت واحدة؛ فإذا كانت هناك دائرتان قالوا: فرس نطيح؛ وذلك مكروه. وما سوى هذه الدوائر غير مكروهة» . ومن الدوائر التى ذكرتها الهند فى البركة والشؤم- قالوا: إذا كان فى موضع حكمته دائرة أو على جحفلته العليا دائرة كان ممّا يرتبط. وما كان منها ليس فى وجهه ولا فى صدره دارة «2» فمكروه ارتباطه. وما كان فى صدره دارة الى التّربيع، أو كان فى رأسه دارتان، أو على خاصرته أو على مذبحه دارة، أو فى عنقه أو على خطمه أو على أذنه شعر نابت كزهرة النبات، كان ذلك مما يرتبط وتقضى عليه الحوائج، ويكون صاحبه مظفّرا فى الحروب ولا يرى فى أموره إلّا خيرا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 17 وذكروا أيضا: أنه لا ينبغى أن يرتبط من الدّوابّ ما كان منها فى مقدّم يده دارة، وما كان أسفل من عينيه دارة، أو فى أصل أذنيه من الجانبين دارتان، أو على مأبضه «1» دارة، أو على محجره «2» دارة، أو فى خدّه أو فى جحفلته السّفلى أو على ملتقى لحييه دارة، أو فى بطنه شعر منتشر، أو على سرّته دارة، أو كانت أسنانه طالعة على جحفلته، أو له سنّان ناتئان بمنزلة أنياب الخنزير، أو فى لسبانه خطط سود لا خضر، وما كان منها أدبس «3» أو أبيض أو أصفر أو أشهب تعلوه حمرة وداخل حجافله ولهواته «4» وخارج لحييه سواد، وما كان منها أدهم وداخل جحافله أبيض، أو فى لهواته وداخل شدقه نقط سود وجحفلته خارجها منقّط كحبّ السمسم، أو على منسجه دارتان، أو على خصييه وبر أسود مخالف للونه، أو كان فى جبهته شعرات [مخالفة للونه «5» ] ، أو ما كان منها حين ينتج يرى خصياه ظاهرين «6» - فهذه العلامات زعم حنّة «7» الهندىّ أنه لا ينبغى لأحد أن يرتبط دابّة بها شىء منها. وزعم أنه يستحبّ أن يرتبط ما كان فى صدره أربع نقط فى أربعة مواضع، أو شعر ملتفّ عرضا وطولا، أو شعر ملتو. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 18 وأما ما قيل فى طبائعها، وعاداتها، والمحمود من صفاتها، ومحاسنها، والعلامات الدالّة على جودة الفرس ونجابته: قالت العرب: والخيل نوعان: عتيق وهو المسمى فرسا، وهجين وهو المسمّى برذونا. والفرق بينهما أنّ عظم البرذون أغلظ من عظم الفرس؛ وعظم الفرس أصلب وأثقل من عظم البرذون؛ والبرذون أحمل من الفرس، والفرس أسرع من البرذون؛ والعتيق بمنزلة الغزال، والبرذون بمنزلة الشاة. وفى طبع الفرس: الزّهو، والخيلاء، والعجب، والسرور بنفسه، والمحبّة لصاحبه. وفى طبعه: أنه لا يشرب الماء إلا كدرا؛ حتى إنه يرد الماء وهو صاف فيضرب بيده فيه حتى يكدّره ويعكّره. وربما ورد الماء الصافى وهو عطشان فيرى خياله فيه فيتحاماه ويأباه، وذلك لفزعه من الخيال الذى يراه فى الماء. وهو يوصف بحدّة البصر. وفى طبعه: أنه متى وطئ أثر الذئب خدرت قوائمه حتى لا يكاد يتحرّك، ويخرج الدّخان من جلده؛ وإذا وطئته الأنثى وهى حامل أزلقت. «1» والأنثى من الخيل تحمل سنة كاملة؛ هذا هو المعروف من عادتها. وأخبرنى بعض من أثق الى قوله أنه كان يملك حجرا «2» تحمل ثلاثة عشر شهرا. وسمعت أن عند التّتر «3» جنسا من خيلها تحمل الفرس منها تسعة أشهر وتضع. وقال لى الناقل: إنّ هذا أمر مشهور عندهم معروف مألوف لا ينكرونه ولا يتعجبون. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 19 فصل - والعلامات الجامعة لنجابة الفرس الدالّة على جودته، ما ذكره أيّوب «1» ابن القرّيّة وقد سأله الحجّاج عن صفة الجواد من الخيل فقال: القصير الثلاث، الطويل الثلاث، الرّحب الثلاث، الصافى الثلاث. فقال: صفهنّ؛ فقال: أما الثّلاث الطّوال فالأذن «2» والعنق والذّراع. وأما الثلاث القصار فالظّهر والسّاق والعسيب. وأما الثلاث الرّحبة فالجبهة والمنخر والجوف. وأما الثلاث الصافية فالأديم والعينان والحافر. وقد جمع بعض الشعراء ذلك فى بيت واحد فقال: وقد أغتدى قبل ضوء الصّباح ... وورد القطا فى الغطاط «3» الحثاث بصافى الثّلاث عريض الثلاث ... قصير الثلاث طويل الثلاث وهذه الحكاية أيضا نقلت عن صعصعة بن صوحان وقد سأله معاوية: أىّ الخيل أفضل؟ فقال: الطويل الثلاث، العريض الثلاث، القصير الثلاث، الصافى الثلاث. قال معاوية: فسّر لنا؛ قال: أما الطويل الثلاث فالأذن والعنق والحزام. وأما القصير الثلاث فالصّلب والعسيب والقضيب. وأما العريض الثلاث فالجبهة والمنخر والورك. وأما الصافى الثلاث فالأديم والعين وال؟؟؟ افر. وقال عمر بن الخطّاب رضى الله عنه لعمرو بن معد يكرب: كيف معرفتك بعراب الخيل؟ قال: معرفة الإنسان بنفسه وأهله وولده؛ فأمر بأفراس فعرضت الجزء: 10 ¦ الصفحة: 20 عليه؛ فقال: قدّموا اليها الماء فى التّراس «1» ، فمن شرب ولم يكتف «2» فهو من العراب، وما ثنى سنبكه فليس «3» منها. وقيل: أهدى عمرو بن العاص لمعاوية بن أبى سفيان ثلاثين فرسا من خيل مصر؛ فعرضت عليه وعنده عتبة بن سفيان بن يزيد الحارثى؛ فقال له معاوية: كيف ترى هذه يا أبا سفيان؟ فإن عمرا قد أطنب فى وصفها؛ فقال: أراها يا أمير المؤمنين كما وصف؛ وإنها لسامية العيون، لاحقة البطون؛ مصغية الآذان، قبّاء «4» الأسنان؛ ضحام الرّكبات، مشرفات الحجبات؛ رحاب المناخر، صلاب الحوافر؛ وضعها تحليل «5» ، ورفعها تقليل؛ فهى إن طلبت سبقت، وان طلبت لحقت. فقال معاوية: اصرفها الى دارك، فإن بنا عنها غنى، وبفتيانك اليها حاجة. وقال أبو عبيدة: يستدلّ على عتق الفرس برقّة جحافله وأرنبته، وسعة منخريه، وعرى نواهقه، ودقّة حقويه وما ظهر من أعالى أذنيه، ورقّة سالفتيه وأديمه، ولين شعره؛ وأبين من ذلك كلّه لين شكير «6» ناصيته وعرفه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 21 وكانوا يقولون: إذا اشتدّ نفسه، ورحب متنفّسه، وطال عنقه، واشتدّ حقوه، وانهرت شدقه، وعظمت فخذاه، وانشنجت «1» أنساؤه، وعظمت فصوصه، وصلبت حوافره ووقحت «2» ، لحق بجياد الخيل. والله أعلم. ومما يستحبّ من أوصافها فى الخلق - الأذن المؤلّلة، والناصية المعتدلة التى ليست بسفواء ولا غمّاء، والجبهة الواسعة، والعين الطامحة السامية، والخدّ الأسيل، ورحب المنخرين، وهرت الشّدقين- قال الشاعر «3» : هريت «4» قصير عذار اللّجام ... أسيل طويل عذار الرّسن قوله «5» : «قصير عذار اللجام» : لم يرد به قصر خدّه، وإنما أراد طول شقّ الفم. ويدلّ على ذلك قوله فى البيت: أسيل طويل عذار الرّسن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 22 يريد طول خدّه- وقود العنق (لينها حتى لا تكون جاسئة «1» ) ، ورقّة الجحفلتين، وارتفاع الكتفين والحارك والكاهل. قالوا: ويستحبّ أن يشتدّ مركّب عنقه فى كاهله لأنه يتساند إليه اذا أحضر، وعرض الصدر، وضيق الزّور، وارتفاع اللسان، وأن يشتدّ حقوه لأنه معلّق وركيه ورجليه فى صلبه، وعظم جوفه وجنبيه، وانطواء كشحه، وإشراف القطاة، وقصر العسيب، وطول الذنب، وشنج النّسا، واستواء الكفل حتى لا يكون أقرن، وملاسة الكفل، وقصر الساقين، وطول الفخذين، وتوتير الرّجلين حتى لا يكون أقسط «2» ، وتأنيف العرقوبين «3» حتى لا يكون أقمع، وغلظ الرّسغ، وأن تكون الحوافر صلابا سودا أو خضرا. وحكى أن هارون الرشيد ركب فى سنة خمس وثمانين ومائة الى الميدان لشهود الحلبة، قال الأصمعىّ: فدخلت الميدان لشهودها «4» ، فجاء فرس أدهم لهارون الرشيد سابقا يقال له «الرّبد» «5» ؛ فسرّ به الرشيد وابتهج وقال: علىّ بالأصمعىّ، فنوديت من كل جانب، فأقبلت سريعا حتى مثلت بين يديه؛ فقال: يا أصمعىّ، خذ بناصية «الرّبد» ثم صفه من قونسه الى سنبكه، فإنه يقال: إن فيه عشرين اسما من أسماء الطير؛ فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، وأنشدك شعرا جامعا لها من قول أبى حزرة «6» ؛ قال: فأنشدنا لله أبوك!؛ فأنشدته: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 23 وأقبّ «1» كالسّرحان تمّ له ... ما بين هامته الى النّسر الهامة: أعلى الرأس. والنّسر: ما ارتفع من بطن الحافر من أعلاه. وهما من أسماء الطير. رحبت «2» نعامته ووفّر فرخه ... وتمكّن الصّردان فى النّحر النعامة: جلدة الرأس التى تغطّى الدّماغ. والفرخ: الدّماغ. والصّردان: عرقان فى أصل اللسان، ويقال: إنهما عرقان يكتنفان باطن اللسان. وفى الظهر أيضا صرد يكون فى موضع السّرج من أثر الدّبر. والنعامة والفرخ والصّردان من أسماء الطير. وأناف «3» بالعصفور فى سعف ... هام أشمّ موثّق الجذر «4» العصفور: أصل منبت شعر الناصية، وهو أيضا عظم ناتئ فى كل جبين، وهو أيضا من الغزر. والسّعف: يقال: فرس أسعف اذا سالت ناصيته. وهام أى سائل. والشّمم: ارتفاع قصبة الأنف. وموثق الجذر أى شديد. والجذر: الأصل من كل شىء. وازدان بالدّيكين صلصله ... ونبت دجاجته عن «5» الصّدر الديكان: واحدهما ديك وهو العظم الناتئ خلف الأذن، وهو الذى يقال له الخشّاء والخششاء. والصلصل: بياض فى طرف الناصية، ويقال: هو أصل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 24 الناصية. والدّجاجة: اللّحم الذى على زوره بين يديه. والدّيك والصّلصل والدّجاجة من الطير. والنّاهضان أمرّ جلزهما ... فكأنما عثما على كسر الناهضان: واحدهما ناهض، وهو لحم المنكبين، ويقال: هو اللحم الذى يلى العضدين من أعلاهما. والناهض: فرخ العقاب. وقوله: «أمرّ جلزهما» أى فتل وأحكم، يقال: أمررت الحبل أى فتلته. والجلز: الشدّ. وقوله: فكأنما عثما على كسر أى كأنهما كسرا ثم جبرا. والعثم: الجبر على عقدة وعوج. مسحنفر الجنبين ملتئم ... ما بين شميته الى الغرّ قوله: «مسحنفر الجنبين» أى منتفخهما. ملتئم أى معتدل. والشيمة «1» : من قولك: فرس أشيم: بيّن الشامة. والغرّ «2» فى الطير الأغلب الذى يسمّى الرّخمة. وهى من الفرس عضلة السّاق. وصفت سماناه وحافره ... وأديمه ومنابت الشعر السّمانى: طائر «3» وهو موضع من الفرس ربما أراد به السّمامة، وهى دائرة تكون فى سالفة الفرس. والسّمامة «4» أيضا من الطير. وأيمه: جلده. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 25 وسما الغراب لموقعيه معا ... فأبين بينهما على قدر الغراب: رأس الورك، ويقال للصّلوين الغرابان، وهما مكتنفا عجم «1» الذنب، ويقال: هما ملتقى أعلى الوركين. والموقعان: ما فى أعالى الخاصرتين. وقوله: فأبين بينهما على قدر أى فرّق بينهما على استواء واعتدال. واكتنّ دون قبيحه خطّافه ... ونأت سمامته على الصّقر قوله: واكتّن أى استتر. والقبيح: ملتقى الساقين، ويقال: إنه مركّب الذراعين فى العضدين. والخطّاف: هو حيث أدركت عقب «2» الفارس اذا حرّك رجليه؛ ويقال لهذين الموضعين من الفرس المركلان. ونأت أى بعدت. والسّمامة: دائرة تكون فى عنق الفرس. والصقر «3» : دائرة فى الرأس. والخطّاف والسّمامة والصقر من أسماء الطير. وتقدّمت عنه القطاة له ... فنأت بموقعها عن الحرّ القطاة: مقعد الردف. والحرّ: سواد فى ظاهر أذنى الفرس. وهما من الطير. يقال: إن الحرّ ذكر الحمام. وسما على نقويه دون حداته ... خربان بينهما مدى الشّبر النّقوان: واحدهما نقو والجمع أنقاء، وهو عظم ذو مخّ. وعنى هاهنا عظام الوركين، لأن الخرب هو الذى تراه مثل «4» المدهن فى ورك الفرس. وهو من الطير ذكر الحبارى. والحدأة: سالفة الفرس. وهى من الطير. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 26 يدع الرّضيم اذا جرى فلقا ... بتوائم كمواسم سمر الرّضيم: الحجارة، يفلقها بتوائم أى بحوافره. والمواسم: جمع ميسم الحديد؛ أى أنها كمواسم الحديد فى صلابتها. وقوله: سمر أى لون الحافر. والحافر الأسمر هو الصّلب. ركّبن فى محض الشّوى سبط ... كفت الوثوب مشدّد الأسر الشوى هاهنا: القوائم، يقال: فرس محض الشّوى إذا كانت قوائمه معصوبة. سبط: سهل. كفت الوثوب أى مجتمع. مشدّد الأسر أى الخلق. قال الأصمعىّ: فأمر لى بعشرة آلاف درهم. فهذه جمل من أوصاف محاسنها. وسنذكر إن شاء الله تعالى ما وصفها به الشعراء فى أشعارها والفضلاء فى رسائلها، على ما تقف على ذلك فى موضعه. فلنذكر عيوب الخيل: *** وأما عيوبها التى تكون فى خلقتها، وفى جريها، والتى تطرأ عليها وتحدث فيها - فهى مائة نذكرها: فأما التى فى خلقتها - فهى أن يكون الفرس «أخذى» وهو المسترخى أصول الأذنين. و «أمعر» «1» وهو الذى ذهب شعر ناصيته. و «أسفى» وهو الخفيف الناصية، وهو محمود فى البغال. و «أغمّ» وهو الذى غطّت ناصيته عينيه. و «أسعف» وهو الذى فى ناصيته بياض. و «أحول» وهو الذى ابيضّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 27 مؤخر عينه وغار السواد من قبل مآقيه. و «أزرق» وهو الذى فى إحدى عينيه بياض أو زرقة. و «أقنى» وهو الذى فى أنفسه أحد يداب. و «مغربا» وهو الذى أشفار عينيه بيض مع زرقتها. و «أدنّ» «1» وهو الذى اطمأنّ عنقه «2» من أصله. و «أهنع» وهو الذى اطمأنت عنقه من وسطها. و «أوقص» وهو الذى فى عنقه قصر ويبس معطف. و «أكتف» وهو الذى فى أعالى كتفيه انفراج. و «أزور» وهو الذى تدخل إحدى فهدتى «3» صدره وتخرج الأخرى. و «أقعص» وهو المطمئن الصّلب من الصهوة المرتفع القطاة. و «مخطفا» وهو الذى لحق ما خلف محزمه من بطنه. و «أهضم» «4» وهو المستقيم الضلوع الذى دخلت أعاليه. و «صقلا» وهو الطويل الصّقلة «5» . و «أثجل» «6» وهو الذى خرجت خاصرته ورقّ صفاقه. «7» و «أفرق» وهو الذى قد أشرفت إحدى وركيه على الأخرى. و «أرسح» «8» وهو قليل لحم الصّلا. و «أعزل» وهو الملتوى عسيب الذّنب حتى يبرز بعض باطنه. و «أكشف» وهو الذى التوى عسيب ذنبه. و «أصبغ» وهو المبيضّ الذّنب. و «أشعل» وهو الذى فى عرض ذنبه بياض. و «أشرج» «9» وهو الذى ببيضة واحدة. و «أفحج» وهو الذى تباعد كعباه. و «أبدّ» وهو الذى تباعدت الجزء: 10 ¦ الصفحة: 28 يداه. و «أصكّ» وهو الذى تصكّ كعباه اذا مشى. و «أحلّ» وهو متمسّح «1» النّسا رخو الكعب. و «أقفد» وهو المنتصب الرّسغ المقبل على الحافر ويكون فى الرّجل خاصّة. و «أصدف» وهو الذى تدانى ذراعاه وتباعد حافراه. و «موجّها» وهو الذى به صدف يسير. و «أقسط» وهو الذى رجلاه منتصبتان غير منحنيتين. و «أمدش» وهو المصطكّ بواطن الرّسغين. و «أحنف» «2» وهو الملتوى الحافرين يقبل «3» كلّ منهما على صاحبه. و «متلقّفا» وهو الذى يخبط بيده. و «أرجز» «4» وهو المضطرب الرّجل والكفل فإذا قام اضطربت فخذه. و «شختا» وهو القليل اللحم الحميش «5» العظام. و «رطلا» وهو الضعيف الخفيف. و «مكبونا» وهو القصير الدّوارج «6» القريب من الأرض الرحيب الجوف. و «عشّا» وهو الضاحى العظام لقلّة لحمه. و «سغلا» وهو الصغير الجرم. قال الواسانىّ «7» رحمه الله: ليس بأسفى ولا أحقّ «8» ولا ... أهضم طاوى الحشا ولا سغل و «جأبا» وهو القصير الغليظ. و «ملوحا» وهو السريع العطش. و «صلودا» وهو البطىء العرق. و «ضاويّا» وهو الذى أضواه أبواه. و «مقرفا» وهو الذى أمّه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 29 عتيقة وأبوه غير عتيق. و «هجينا» وهو الذى أبوه عتيق وأمه برذونة. و «محمقا» وهو الذى لا ينتج منه [إلا أحمق «1» ] . و «كوسيّا» «2» وهو الذى اذا جرى نكّس كالحمار. و «جاسئا» «3» وهو الذى ترى معاقده وفقار ظهره وعنقه جاسئة «4» غير ليّنة. والله أعلم. *** وأما العيوب التى فى جريها - فمنها: «الطّموح» وهو السامى ببصره صعدا. «والمنكّس» وهو الذى يطاطئ رأسه إذا جرى. و «المعتزم» وهو الذى يجمح أحيانا. و «الجموح» : الصّلب الرأس. و «الغرب» : المدّاد المرامى. و «الشّموس» : الذى يمنع السرج والمسّ. و «الحرون» : الذى اذا أدرّ جريه قام لا عن كلال. «5» و «البالح» «6» إذا قطع جريه ضعفا. و «الضّغن» هو الذى يتلكأ [فى «7» ] الحضر ويقصر عن الحران. و «الحفاش» «8» هو الذى يشبّ «9» حضرا ثم يرجع القهقرى. و «الرّوّاغ» «10» هو الذى يحيد فى حضره يمينا وشمالا. و «الفيوش» هو الذى يظنّ به الجرى وليس عنده شىء منه. و «الحيوص» وهو الذى يعدل يمينا وشمالا فى استقامة «11» حضره. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 30 و «المشتقّ» هو الذى يدع طريقه ويعدل ثم يمضى على عدوله لا يروغ. و «الشّبوب» : الذى يقوم على رجليه ويرفع يديه. و «العاجر» و «المعاجر» : الذى يعجر برجليه كقماص الحمار. و «العدوم» و «العضوض» : الذى يعضّ ما سايره. و «الشّادخ» : يعدل عن طريقه ولا يبالى ما ركب. و «الجرور» : البطىء. و «المنعثل» : الذى يفرّق بين قوائمه فإذا رفعها فكأنما ينزعها من وحل يخفق برأسه ولا تتبعه رجلاه. و «المجربذ» «1» : الذى يقارب الخطو يقرّب سنابكه من الأرض ولا يرفعها رفعا شديدا. و «المساعر» «2» : الذى يطيح قوائمه جميعا متفرّقة ولا ضبر «3» له. و «المترادّ» : الذى ينقص حضره من ابتداء جريه. و «الفاتر» إذا فتر «4» فى حضره ولم تساعده قوائمه على ما تطالبه به نفسه. و «المواكل» : الذى لا يسير إلا بسير غيره. «والخروط» : الذى يخرط رسنه عن رأسه. و «الرّموح» : الذى يرمح «5» بإحدى رجليه. و «الضّروح» : الذى يرمح بكلتيهما. قال: وهذه الزيادة على الأربعة والعشرين إنما هى من سوء العادة وفساد الرياضة. *** وأما العيوب التى تطرأ عليها وتحدث فيها - فمنها: «الانتشار» وهو انتفاخ العصب. و «الشّظى» : تحرّك «6» العظم اللّاصق بالرّكبة. و «الفتوق» : الجزء: 10 ¦ الصفحة: 31 انفتاق من العصب على الأرضفة «1» . و «الدّخس» : ورم فى [أطرة] «2» الحافر. و «الزوائد» : أطراف عصب تفرّق عند العجاية «3» [وتنقطع «4» عندها وتلصق بها] . و «العرن» : «5» جسوء فى رسغ الرّجل خاصّة لشقاق أو مشقة. [ «والشقاق» : يصيبه «6» فى أرساغه] وربما ارتفع الى أوظفته، [وهو تشقق يصيبها «7» ] ، وتسمى الحلامة «8» . «والجرد» «9» ، ما حدث فى عرض عرقوبيه ظاهرا وباطنا من تزيّد وانتفاخ عصب ويكون مع المفصل طولا كالموزة. و «الملح» «10» : انفتاق من العصب أسفل العرقوب لمادّة تنصبّ إليه كالبلّوطة «11» . و «القمع» هو عظم قمعة العرقوب. و «المشش» : كلّ ما شخص فى الوظيف وله حجم وليست له صلابة العظم. و «الارتهاش» : أن يصكّ بعرض حافره عرض عجايته من اليد الأخرى. و «الرّهصة» «12» : ما يصير فى الحافر. و «الوجا» : ما يصيب الحافر من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 32 الخشونة. و «الرّقق» : ضعف ورقّة فى الحافر. و «النّملة» : شقّ فى الحافر من الأشعر «1» إلى طرف السّنبك. و «السّرطان» : داء يأخذ فى الرّسغ فييبّس عروقه حتى يقلب حافره. و «العزل» : أن يعزل ذنبه فى شقّ عادة «2» . و «الخقاق» : صوت من ظبية «3» الأنثى. و «البجر» : أن تكون الرّهابة «4» غير ملتئمة فيعظم ما والاها من جلد السّرّة. وحيث ذكرنا العيوب فلنذكر الخيل النبويّة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام. ذكر أسماء خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم أوّل فرس ملكه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرس ابتاعه بالمدينة من رجل من بنى فزارة بعشر أواق «5» ، وكان اسمه عند الأعرابىّ «الضّرس» فسمّاه النبىّ صلى الله عليه وسلم «السّكب» . فكان أوّل ما غزا عليه أحدا، ليس مع المسلمين فرس غيره وفرس الجزء: 10 ¦ الصفحة: 33 لأبى بردة بن نيار يقال له ملاوح. وكان السّكب كميتا أغرّ محجّلا مطلق اليمنى، وقيل: إنه أدهم. رواه الطّبرانى «1» فى المعجم الكبير. وعن عمارة بن خزيمة الأنصارىّ أن عمّه حدّثه- وهو من أصحاب النبىّ صلى الله عليه وسلم-: أن النبىّ صلى الله عليه وسلم ابتاع فرسا من أعرابىّ «2» ، فاستتبعه النبىّ صلى الله عليه وسلم ليقبضه ثمن فرسه، فأسرع النبىّ صلى الله عليه وسلم المشى وأبطأ الأعرابىّ؛ فطفق رجال يعترضون الأعرابىّ فيساومونه بالفرس ولا يشعرون أن النبىّ صلى الله عليه وسلم ابتاعه، حتى زاد بعضهم الأعرابىّ فى السّوم على ثمن الفرس الذى ابتاعه به النبىّ صلى الله عليه وسلم؛ فنادى الأعرابىّ النبىّ صلى الله عليه وسلم فقال: إن كنت مبتاعا هذا الفرس فابتعه وإلا بعته؛ فقال النبىّ صلى الله عليه وسلم: «بلى قد ابتعته» ؛ فطفق الناس يلوذون بالنبىّ صلى الله عليه وسلم وبالأعرابىّ وهما يتراجعان «3» ، وطفق الأعرابىّ يقول: هلمّ شهيدا يشهد أنى قد بايعتك. فمن جاء من الناس قال للأعرابىّ: ويلك! إن النبىّ صلى الله عليه وسلم لم يكن ليقول إلا حقّا! حتى جاء خزيمة بن ثابت فاستمع لمراجعة النبىّ صلى الله عليه وسلم ومراجعة الأعرابىّ؛ فطفق الأعرابىّ يقول: هلمّ شهيدا يشهد أنى قد بايعتك؛ فقال خزيمة بن ثابت: أنا أشهد أنك قد بايعته. فأقبل النبىّ صلى الله عليه وسلم على خزيمة فقال: «بم تشهد» ؟ فقال: بتصديقك يا رسول الله؛ فجعل النبىّ صلى الله عليه وسلم يقول: «شهادة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 34 خزيمة بن ثابت بشهادة رجلين» . وفى لفظ: فقال خزيمة بن ثابت: أنا أشهد أنه قد باعك الفرس يا رسول الله؛ فقال النبىّ صلى الله عليه وسلم: «وهل حضرتنا يا خزيمة» ؟ فقال: [لا؛ فقال: «1» ] «فكيف شهدت بذلك» ؛ فقال خزيمة: بأبى أنت وأمّى! يا رسول الله، أصدّقك على أخبار السماء وما يكون فى غد ولا أصدّقك فى ابتياعك هذا الفرس!. فقال النبىّ صلى الله عليه وسلم: «إنك لذو الشهادتين يا خزيمة» . وقد اختلف فى اسم هذا الفرس، فقال محمد بن يحيى بن سهل بن أبى حثمة: هو «المرتجز» «2» ؛ وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنه المرتجز. قال ابن الأثير: وكان أبيض. وقال ابن قتيبة فى المعارف: المرتجز، وفى أخرى: «الطّرف» «3» ، وفى أخرى: «النّجيب» . ومنها «البحر» ، وهو الذى سبق الخيل لمّا سابق به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فسمّاه البحر فى ذلك اليوم. وكان النبىّ صلى الله عليه وسلم قد اشتراه من تجر قدموا من اليمن، فسبق عليه مرّات. قال ابن الأثير: وكان كميتا، وقيل: كان أدهم. ومنها «سبحة» ، ذكرها ابن بنين فقال: وكانت فرسا شقراء ابتاعها النبىّ صلى الله عليه وسلم من أعرابىّ من جهينة بعشر من الإبل، وسابق عليها يوم خميس الجزء: 10 ¦ الصفحة: 35 ومدّ الحبل بيده ثم خلّى عنها وسبح عليها؛ فأقبلت الشقراء حتى أخذ صاحبها العلم وهى تنبّر «1» فى وجوه الخيل؛ فسمّيت سبحة. وسبحة من قولهم: فرس سابح إذا كان حسن مدّ اليدين فى الجرى. وسبح الفرس: جريه. ومنها «ذو اللّمة» ، ذكره ابن حبيب فى أفراس النبىّ صلى الله عليه وسلم. ومنها «ذو العقّال» ، قال بعض العلماء: كان للنبىّ صلى الله عليه وسلم فرس يقال له ذو العقّال. وكان له صلى الله عليه وسلم فرس يقال له «اللّحيف «2» » وقيل: «اللّخيف» بالخاء، وقيل فيه: «النّحيف» . أهداه له فروة «3» بن عمرو من أرض البلقاء، وقيل: أهداه له ابن أبى «4» البراء، وكان صلى الله عليه وسلم يركبه فى مذاهبه. وسمّى اللّحيف لطول ذنبه. وروى ابن منده من حديث عبد المهيمن بن عباس بن سهل عن أبيه عن جدّه قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أفراس يسميهنّ: «اللّزاز» و «اللّحيف» و «الظّرب» . فأمّا لزاز فأهداه له المقوقس. وأما اللّحيف فأهداه له ربيعة بن أبى البراء، فأثابه عليه فرائض «5» من نعم بنى كلب. وأما الظّرب فأهداه له فروة بن عمرو بن النافرة الجذامىّ. الظّرب واحد الظّرب وهى الرّوابى «6» [الصغار] . سمّى به لكبره وسمنه، وقيل: لقوّته وصلابة حافره. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 36 وأهدى تميم الدّارىّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا يقال له «الورد» ؛ فأعطاه عمر؛ فحمل عليه عمر رضى الله عنه فى سبيل الله. وذكر علىّ بن محمد بن حنين «1» بن عبدوس الكوفىّ فى أسماء خيل النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: وكانت له أربعة أفراس: أحدها يقال له «السّكب» و «المرتجز» و «السّجل» » و «البحر» . وقال ابن الأثير: وكان له أفراس: «المرتجز» و «ذو العقّال» و «السّكب» و «اللّحيف» و «اللّزاز» و «الظّرب» و «سبحة» و «البحر» و «الشّحاء» «3» (بالشين المعجمة والحاء المهملة) . وحكى ابن بنين عن ابن خالويه قال: كان للنبىّ صلى الله عليه وسلم من الخيل: «سبحة» و «اللّحيف» و «لزاز» و «الظّرب» و «السّكب» و «ذو اللّمّة» و «السّرحان» و «المرتجل» و «الأدهم» و «المرتجز» . وذكر فى موضع آخر: و «ملاوح» و «الورد» و «اليعسوب» . وذكر قاسم بن ثابت فى كتاب الدلائل: «اليعسوب» و «اليعبوب» فرسين لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وذكر ابن سعد فى وفادات العرب عن محمد بن عمر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 37 قال: حدّثنى أسامة بن زيد عن زيد بن طلحة التّيمىّ قال: قدم خمسة عشر رجلا من الرّهاويين (وهم حىّ من مذحج) على رسول الله صلى الله عليه وسلم، [فنزلوا «1» دار رملة بنت الحارث؛ فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم] فتحدّث عندهم طويلا؛ فأهدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم هدايا، منها فرس يقال له «المرواح» ؛ فأمر به فشوّر «2» بين يديه فأعجبه؛ فأسلموا وتعلّموا القرآن والفرائض؛ وأجازهم كما يجيز الوفد: أرفعهم «3» ثنتى عشرة أوقيّة ونشّا «4» وأخفضهم «5» خمس أواق. فقد ظهر من مجموع هذه الروايات أن خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تسعة عشر فرسا، وهى: «السّكب» و «المرتجز» و «البحر» و «سبحة» و «ذو اللّمّة» و «ذو المقّال» و «اللّحيف» - وقيل فيه بالخاء المعجمة، وقيل: «النحيف» بالنون- و «اللّزاز» و «الظّرب» و «الورد» و «السّجل» و «الشّحاء» و «السّرحان» و «المرتجل» و «الأدهم» و «ملاوح» و «اليعسوب» و «اليعبوب» و «المرواح» . وقد يكون الأدهم هو السكب أو البحر، فتكون ثمانية عشر فرسا. والله عز وجل أعلم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 38 ذكر أسماء كرام الخيل المشهورة عند العرب من أقدم خيل العرب «زاد الرّاكب» «1» ؛ وكان من خيل سليمان بن داود عليهما السلام. حكى محمد بن السائب «2» الكلبيّ: أن الصافنات الجياد المعروضة على سليمان ابن داود صلى الله عليهما وسلم كانت ألف فرس ورثها عن أبيه؛ فلما عرضت عليه ألهته عن صلاة العصر حتى توارت الشمس بالحجاب، فردّها وعرقبها إلّا أفراسا لم تعرض عليه؛ فوفد عليه قوم من الأزد، وكانوا أصهاره، فلما فرغوا من حوائجهم قالوا: يا نبىّ الله، إنّ أرضنا شاسعة فزوّدنا زادا يبلّغنا؛ فأعطاهم فرسا من تلك الخيل وقال: اذا نزلتم منزلا فاحملوا عليه غلاما واحتطبوا، فإنكم لا تورون ناركم حتى يأتيكم بطعام؛ فساروا بالفرس، فكانوا لا ينزلون منزلا إلا ركبه أحدهم للقنص، فلا يفلت شىء تقع عينه عليه من ظبى أو بقرة أو حمار، إلى أن قدموا بلادهم؛ فقالوا: ما لفرسنا هذا اسم إلا «زاد الراكب» فسمّوه به. فأصل فحول العرب من نتاجه. ويقال: إن «أعوج» منها. قال امرؤ القيس: إذا ما ركبنا قال ولدان أهلنا ... تعالوا إلى أن يأتى الصيد نحطب «3» وقال عمارة: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 39 وأرى «1» الوحش عن يمينى اذا ما ... كان يوما عنانه فى شمالى ومن خيل العرب المشهورة ما حكاه أبو علىّ الحسن بن رشيق الأزدىّ فى كتابه المترجم بالعمدة عن ابن حبيب عن أبى عبيدة قال: «الغراب» و «الوجيه» و «لاحق» و «المذهب» و «مكتوم» كانت كلّها لغنىّ. وقال أحمد بن سعد الكاتب: كان «أعوج» أوّلا لكندة، ثم أخذته سليم، وصار لبنى [عامر «2» ] ثم لبنى هلال. قال ابن حبيب: ركب رطبا فاعوجّت قوائمه، وكان من أجود خيل العرب. وأمّه «سبل» لغنىّ. وأمّ سبل [ «سوادة» . وأم سوادة «3» ] «القسامة» «4» ، وكانت لجعدة. وحكى أحمد بن محمد بن عبد ربّه صاحب العقد فى كتابه: أنه لما انتجته أمّه ببعض بيوت الحىّ نظروا الى طرف يضع جحفلته على كاذتها (على الفخذ مما يلى الحياء) ؛ فقالوا: أدركوا ذلك الفرس لا ينزو فرسكم؛ لعظم «أعوج» وطول قوائمه؛ فقاموا إليه فإذا هم بالمهر؛ فسمّوه «أعوج» . ولهم أيضا «الفيّاض» . قال ابن سعد: «الوجيه» و «لاحق» لبنى أسد، «وقيد» «وحلّاب «5» » لبنى تغلب، «والصّريح» لبنى نهشل- وزعم غيره أنه كان لآل المنذر- الجزء: 10 ¦ الصفحة: 40 و «جلوى» لبنى ثعلبة بن يربوع، و «ذو العقّال» «1» لبنى رياح بن يربوع، وهو أبو «داحس» . وكان «داحس «2» » و «الغبراء» لبنى زهير. والغبراء خالة داحس وأخته من أبيه. و «ذو العقّال» و «قرزل» و «الخطّار» و «الحنفاء «3» » لحذيفة بن بدر. والحنفاء هى أخت داحس من أبيه وأمه. و «قرزل» آخر للطّفيل «4» بن مالك. و «حذفة» «5» لخالد بن جعفر بن كلاب. و «حذفة» أيضا لصخر بن عمرو بن الشّريد. و «الشّقراء» لزهير بن جذيمة العبسىّ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 41 و «الزّعفران» لبسطام بن قيس. و «الوريعة «1» » و «نصاب» و «ذو الخمار «2» » لمالك بن نويرة. و «الشّقراء» أخرى لأسيد بن حنّاءة «3» . و «الشّيّط «4» » لأنيف بن جبلة «5» الضّبّىّ. و «الوحيف» «6» لعامر بن الطّفيل. و «الكلب» و «المزنوق» «7» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 42 و «الورد» «1» له أيضا. و «الخنثى» «2» لعمرو بن عمرو بن عدس. و «الهدّاج» «3» فرس الرّيب «4» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 43 ابن شريق السّعدى و «وجزة» «1» فرس يزيد «2» بن سنان المرّى فارس غطفان. و «النّعامة» «3» للحارث بن عباد. «4» و «ابن النّعامة» لعنترة. و «النّحّام» «5» فرس للسّليك ابن السّلكة السّعدىّ. و «العصا» «6» فرس جذيمة بن مالك الأزدىّ. و «الهراوة» «7» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 44 لعبد القيس بن أفصى. و «اليحموم» «1» فرس النّعمان بن المنذر. و «كامل» «2» فرس زيد الخيل. و «الزّبد» «3» فرس الحوفزان وهو أبو «الزّعفران» فرس بسطام. و «الحمالة» «4» فرس الكلحبة اليربوعى. هذا ما أورده أحمد بن سعد. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 45 وقال ابن دريد: «القطيب» «1» و «البطين» «2» فرسان كانا للعرب. و «اللّعّاب» «3» و «العباية» «4» فرسا حرّىّ «5» بن ضمرة. و «المدعاس» «6» فرس النّوّاس «7» بن عامر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 46 المجاشعى. و «صهبى» «1» فرس النّمر بن تولب. و «حافل» فرس «2» مشهور. و «العسجدى» «3» لبنى أسد. و «الشّموس» «4» فرس يزيد بن خذّاق «5» العبدىّ. و «الضّيف» «6» لبنى تغلب. و «هراوة العزّاب» «7» فرس الرّيّان بن حويص العبدىّ «8» ، يقال إنها جاءت سابقة طول أربع عشرة سنة، فتصدّق بها على العزّاب يتكسّبون عليها فى السّباق الجزء: 10 ¦ الصفحة: 47 والغارات. و «الحرون» «1» فرس تنسب اليه الخيل، وكان لمسلم بن عمرو بن أسد الباهلىّ. و «الزائد» فرس مشهور وهو من نسل الحرون. «ومناهب» فرس تنسب اليه الخيل أيضا، قال الشّمردل «2» : [تلقى «3» الجياد المقربات «4» فينا] ... لأفحل ثلاثة ينمينا «مناهبا» و «الضّيف» و «الحرونا» و «العلهان» «5» فرس أبى مليل «6» عبد الله بن الحارث اليربوعى. هذا ما اتفق إيراده من أسماء كرام الخيل ومشهورها. فلنذكر ما ورد فى أوصافها وتشبيهها. ذكر ما قيل فى أوصاف الخيل وتشبيهها نظما ونثرا أوّل من شبّه الفرس بالظبى والسّرحان والنّعامة، ثم اتّبعه الشعراء وحذوا مثاله واقتدوا به، هو امرؤ القيس بن حجر حيث قال: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 48 له أيطلا «1» ظبى وساقا نعامة ... وإرخاء «2» سرحان وتقريب تتفل «3» كأنّ على المتنين «4» منه اذا انتحى ... مداك عروس أو صراية حنظل مكّر مفرّ مقبل مدبر معا ... كجلمود صخر حطّه السّيل من عل درير «5» كخذروف «6» الوليد أمرّه «7» ... تقلّب كفّيه بخيط موصّل كميت يزلّ اللّبد عن حال «8» متنه ... كما زلّت الصّفواء «9» بالمتنزّل «10» وقال أيضا: وأركب فى الرّوع خيفانة «11» ... كسا وجهها سعف «12» منتشر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 49 لها حافر مثل قعب «1» الولي ... د ركّب فيه وظيف «2» عجر «3» لها عجز كصفاة «4» المسي ... ل أبرز «5» عنها «6» حجاف «7» مضرّ لها ذنب مثل ذيل العرو ... س تسدّ به فرجها من دبر لها جبهة كسراة «8» المجنّ ... حذّفه «9» الصانع المقتدر إذا أقبلت قلت دبّاءة «10» ... من الخضر مغموسة فى الغدر وإن أعرضت قلت سرعوفة «11» ... لها ذنب خلفها مسبطرّ «12» وإن أدبرت قلت أثفيّة ... ململمة ليس فيها أثر «13» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 50 وقال أبو داود «1» الإيادى [يصف فرسا «2» ] : له ساقا ظليم خا «3» ... ضب فوجئ بالرّعب حديد الطّرف والمنك ... ب والعرقوب والقلب وقال آخر: له صدر طاوس وفخذ نعامة ... ووثبة نمر والتفات غزال وأعجب من ذا كلما حطّ حافرا ... يخطّ هلالا من وراء هلال وقال البحترىّ وكان وصّافا للخيل: وأغرّ فى الزمن البهيم محجّل ... قد رحت منه على أغرّ محجّل كالهيكل المبنىّ إلا أنه ... فى الحسن جاء كصورة فى هيكل ذنب كما سحب الرّداء يذبّ عن ... عرف، وعرف كالقناع المسبل جذلان ينفض عذرة «4» فى غرّة ... يقق «5» تسيل حجولها فى جندل كالرائح النّشوان أكثر مشيه ... عرضا «6» على السّنن البعيد الأطول تتوّهم الجوزاء فى أرساغه ... والبدر «7» غرّة وجهه المتهلّل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 51 صافى الأديم كأنّما عنيت «1» به ... لصفاء نقبته «2» مداوس «3» صيقل وكأنما نفضت عليه صبغها ... صهباء للبردان «4» أو قطر بلّ «5» وتخاله «6» كسى الخدود نواعما ... مهما تواصلها بلحظ تخجل وتراه يسطع فى الغبار لهيبه ... لونا وشدّا «7» كالحريق المشعل هزج الصّهيل كأنّ فى نغماته ... ن؟؟؟ رات معبد «8» فى الثّقيل الأوّل ملك العيون فإن بدا أعطينه ... نظر [المحبّ «9» ] إلى الحبيب المقبل وكتب إلى محمد «10» بن حميد [بن عبد «11» الحميد] الطّوسىّ يستهديه فرسا، ووصف له أنواعا من الخيل؛ فقال من أبيات: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 52 فأعن على غزو العدوّ بمنطو ... أحشاؤه طىّ «1» الرّداء المدرج إمّا بأشقر ساطع أغشى الوغى ... منه بمثل الكوكب المتأجّج متسربل شية طلت أعطافه ... بدم فما تلقاه غير مضرّج أو أدهم صافى الأديم «2» كأنه ... تحت الكمىّ مظهّر بيرندج «3» ضرم يهيج السّوط من شؤبوبه «4» ... هيج الجنائب «5» من حريق العرفج «6» خفّت مواقع وطئه فلو أنّه ... يجرى برملة عالج «7» لم يرهج «8» أو أشهب يقق يضىء وراءه ... متن كمتن اللّجّة المترجرج تخفى الحجول ولو بلغن لبانه «9» ... فى أبيض متألّق كالدّملج «10» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 53 أوفى بعرف أسود متفرّد» ... فيما يليه وحافر فيروزجى أو أبلق ملأ العيون إذا بدا ... من كلّ لون معجب بنموذج جذلان تحسده الجياد إذا مشى ... عنقا «2» بأحسن حلّة لم تنسج وعريض أعلى المتن لو علّيته ... بالزّئبق المنهال لم يتدحرج «3» خاضت قوائمه الوثيق «4» بناؤها ... أمواج تحنيب «5» بهنّ مدرّج ولأنت أبعد فى السماحة «6» همّة ... من أن تضنّ بملجم «7» أو مسرج وقال أيضا يصف فرسا أدهم: بأدهم «8» كالظلام أغرّيجلو ... بغرّته دياجير الظلام ترى أحجاله يصعدن فيه ... صعود البرق فى جون «9» الغمام الجزء: 10 ¦ الصفحة: 54 وقال أيضا فى أدهم: أمّا الجواد فقد بلونا يومه ... وكفى بيوم مخبرا عن عامه جارى الجياد فطار عن أوهامها ... سبقا وكاد يطير عن أوهامه جذلان تلطمه «1» جوانب غرّة ... جاءت مجىء البدر عند تمامه واسودّ ثم صفت لعينى ناظر ... جنباته فأضاء فى إظلامه مالت نواحى عرفه فكأنّها ... عذبات أثل مال تحت حمامه ومقدّم الأذنين تحسب أنّه ... بهما يرى الشخص الذى لأمامه وكأنّ فارسه وراء قذاله ... ردف فلست تراه من قدّامه لانت معاطفه فخيّل أنه ... للخيزران مناسب لعظامه فى شعلة كالشّيب مرّ بمفرقى ... غزل لها «2» عن شيبه بغرامه وكأن صهلته إذا استعلى بها ... رعد يقعقع فى ازدحام غمامه مثل الغراب غدا «3» يبارى صحبه ... بسواد صبغته وحسن قوامه والطّرف أجلب زائر لمؤونة ... ما لم تزره بسرجه ولجامه وقال علىّ بن الجهم: فوق طرف «4» كالطّرف فى سرعة الطّر ... ف وكالقلب قلبه فى الذكاء لا تراه العيون إلّا خيالا ... وهو مثل الخيال فى الانطواء الجزء: 10 ¦ الصفحة: 55 وقال العباس بن مرداس: جاء كلمع البرق سام «1» ناظره ... تسبح أولاه ويطفو آخره فما يمسّ الأرض منه حافره وقال أبو الطيّب المتنّبى: وجردا «2» مددنا بين آذانها القنا ... فبتن خفافا يتّبعن العواليا تماشى بأبد كلّما وافت الصّفا «3» ... نقشن به صدر البزاة حوافيا وينظرن من سود «4» صوادق فى الدّجى ... يرين بعيدات الشّخوص كما هيا وتنصب للجرس «5» الخفىّ سوامعا ... يخلن مناجاة الضمير تناديا تجاذب فرسان الصّباح «6» أعنّة «7» ... كأن على الأعناق منها أفاعيا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 56 وقال أيضا: وجياد «1» يدخلن فى الحرب أعرا «2» ... ء ويخرجن من دم فى جلال واستعار الحديد لونا وألقى ... لونه فى ذوائب الأطفال «3» وقال أبو الطيّب أيضا: ويوم «4» كليل العاشقين كمنته ... أراقب فيه الشمس أيّان تغرب وعينى على «5» أذنى أغرّ كأنه ... من الليل باق بين عينيه كوكب له فضلة عن جسمه فى إهابه «6» ... تجىء على صدر رحيب وتذهب شققت به الظّلماء أدنى عنانه ... فيطغى «7» وأرخيه مرارا فيلعب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 57 وأصرع أىّ الوحش قفّيته «1» به ... وأنزل عنه مثله حين أركب وقال أيضا يصف فرسا: إن أدبرت قلت لا تليل «2» لها ... أو أقبلت قلت ما لها كفل وقال أبو الفرج الببغّاء: إن لاح قلت أدمية أم هيكل ... أو عنّ قلت أسابح أم أجدل «3» تتخاذل الألحاظ فى إدراكه ... ويحار فيه الناظر المتأمّل فكأنه فى اللطف فهم ثاقب ... وكأنه فى الحسن حظّ مقبل «4» وقال أيضا من أبيات: رماهم بألحاظ الجياد ولم تكن ... لينأى عليها المنزل المتباعد من اللّاء يهجرن المياه لدى السّرى ... ويعتضن شمّ الجوّ والجوّ راكد مرنّ على لذع» القنا فكأنما ... عليهن من صبغ الدّماء مجاسد «6» نسجن ملاء النّقع ثم خرقنه «7» ... بكرّ لها منه إلى النصر قائد عليهنّ من نسج الغبار غلائل ... رقاق ومن نضح الدماء قلائد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 58 وقال أبو الفتح كشاجم: ماء تدفّق طاعة وسلاسة ... فإذا استدرّ الحضر منه فنار وإذا عطفت به على ناورده «1» ... لتديره «2» فكأنه بركار «3» قصرت قلادة نحره وعذاره ... والرّسغ، وهى من العتيق قصار يرد الضّحاضح «4» غير ثان سنبكا «5» ... ويرود طرفك خلفه فيحار لو لم تكن للخيل نسبة خلقه ... خالته من أشكالها الأطيار وقال آخر: وأقبّ «6» تحمله رياح أربع ... لولا اللّجام لطار فى الميدان من جملة العقبان «7» إلّا أنّه ... من حسنه فى طلعة الغزلان يمشى إلى ميدانه متبخترا ... من تيهه كتبختر النّشوان وقال ابن المعتزّ: وخيل طواها القود «8» حتى كأنّها ... أنابيب سمر من قنا الخطّ ذبل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 59 صببنا عليها ظالمين سياطنا ... فطارت بها أيد سراع وأرجل «1» وقال أبو بكر الصّنوبرىّ: طرف نأت سماؤه عن أرضه ... وما نأى كاهله عن الكفل ذو أربع من أربع من القبو ... ل والدّبور والجنوب والشّمل وهو إذا أعملها ألفى لها «2» ... فوق الذى يطلبه من العمل كالبرق إن أومض أو كالرّعد إن ... أجلب «3» أو صوب الحيا «4» إذا احتمل وقال آخر: يجرى فيبعد من مدّى متقارب ... أبدا ويدنو من مدى متباعد إن سار فهو غدير ماء مائج ... أو قام «5» فهو غدير ماء جامد وقال أبو الفضل الميكالى: خير ما استطرف الفوارس طرف ... كلّ طرف بحسنه مبهوت هو فوق الجبال وعل وفى السه ... ل نعام وفى المعابر حوت وقال آخر: وطرف إذا ما جرى خلته ... عقابا من الوكر يبغى المزارا ترى فى الجبين له سوسنا «6» ... وتلمح فى لونه الجلّنارا «7» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 60 ويمشى على الماء من خفّة ... ويقدح فى الجلمد الصخر نارا فلو كان يبغى به راكب «1» ... إلى مطلع الشمس سيرا لطارا وقال عبد الجبّار بن حمديس: ومجرّر فى الأرض ذيل عسيبه ... حمل الزبرجد منه جسم عقيق يجرى ولمع «2» البرق فى آثاره ... من كثرة الكبوات غير مفيق ويكاد يخرج سرعة من ظلّه ... لو كان يرغب فى فراق رفيق «3» وقال ابن طباطبا: عجبا لشمس أشرقت فى وجهه ... لم تمح منه دجى الظلام المطبق وإذا تمطّر «4» فى الرّهان رأيته ... يجرى أمام الريح مثل مطرّق «5» وقال تاج الملوك بن أيّوب: وخيل كأمثال السّعالى «6» شوازب «7» ... تكاد بنا قبل المجال تجول سوابق تكبو الريح قبل لحاقها ... لها مرح «8» من تحتنا وصهيل وقال إبراهيم بن خفاجة يصف فرسا أشهب: ربّ طرف كالطّرف ساعة عدو ... ليس يسرى سراه طيف الخيال الجزء: 10 ¦ الصفحة: 61 إن سرى فى الدّجى فبعض الدّرارى ... أو سعى فى الفلا فإحدى السّعالى لست أدرى إن قيد ليلة أسرى ... أو تمطّيته غداة قتال أجنوب تقتاد لى أم جنيب «1» ... أم شمال عنانها بشمالى أشهب اللّون أثقلته جلىّ ... خبّ «2» فيهن وهو ملقى الجلال «3» فبدا الصبح ملجما بالثّريّا ... وجرى البرق مسرجا بالهلال وقال أيضا فى أشهب: وظلام ليل لا شهاب بأفقه ... إلّا لنصل مهنّد أو لهذم لا طمت لجّته بموجة أشهب ... يرمى بها بحر الظلام فيرتمى قد سال فى وجه الدّجنّة غرّة ... فالليل فى شبه الأغرّ الأدهم أطلعت منه ومن سنان أزرق ... ومهنّد عضب ثلاثة أنجم وقال أبو الصّلت يصف فرسا أشهب: وأشهب كالشّهاب أضحى ... يجول فى مذهب الجلال قال حسودى وقد رآه ... يجنب خلفى إلى القتال من ألجم الصبح بالثريّا ... وأسرج البرق بالهلال وقال ابن خفاجة وقد أهدى مهرا بهيما: تقبّل المهر من أخى ثقة ... أرسل ريحا به الى المطر مشتملا بالظلام من شية ... لم يشتمل ليلها على سحر منتسبا لونه وغرّته ... الى سواد الفؤاد والبصر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 62 تحسبه من علاك مسترقا ... بهجة مرأى وحسن مختبر حنّ إلى راحة نهيض ندى ... فمال ظلّ به على نهر ترى به والنشاط يحفزه ... ما شئت من فحمة ومن شرر لو «1» حمل الليل حسن دهمته ... أمتع طرف المحبّ بالسّهر أحمى من النجم يوم معركة ... ظهرا وأجرى به من القدر اسودّ، وابيضّ فعله كرما ... فالتفت الحسن فيه عن حور فازدد سنا بهجة بدهمته ... فاللّيل أذكى لغرّة القمر ومثل شكرى على تقبّله ... يجمع بين النسيم والزّهر وقال فى فرس أشقر: ومطهّم شرق الأديم كأنما ... ألفت معاطفه النجيع «2» خضابا طرب إذا غنّى الحسام، ممزّق ... ثوب العجاجة جيئة وذهابا قدحت يد الهيجاء منه بارقا ... متلهّبا يزجى القتام سحابا [ورمى الحفاظ به شياطين العدا ... فانقضّ فى ليل الغبار شهابا «3» ] بسّام ثغر الحلى تحسب أنّه ... كأس أثار بها المزاج حبابا و «4» قال فى أدهم أغرّ محجّل: وكأنما لطم الصباح جبينه ... فاقتصّ منه فخاض فى أحشائه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 63 وقال ابن نباتة «1» السّعدىّ فى أدهم: وأدهم يستمدّ الليل منه ... وتطلع بين عينيه الثريّا سرى خلف الصباح يطير مشيا ... ويطوى خلفه الأفلاك طيّا فلمّا خاف وشك الفوت منه «2» ... تعلّق بالقوائم والمحيّا وقال فى فرس أدهم أغرّ محجّل أهدى له: قد جاءنا الطّرف الذى أهديته ... هاديه يعقد أرضه بسمائه «3» أولاية ولّيتنا فبعثته ... رمحا سبيب العرف عقد لوائه تختال منه على أغرّ محجّل ... ماء الدّياجى قطرة من مائه وكأنما لطم الصباح جبينه ... فاقتصّ منه فخاض فى أحشائه متمهّلا والبرق من أسمائه ... متبرقعا والحسن من أكفائه ما كانت النيران يكمن حرّها ... لو أن للنيران بعض ذكائه لا تعلق الألحاظ فى أعطافه ... إلا إذا كفكفت من غلوائه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 64 وقال محمد بن الحسين «1» الفارسىّ النحوىّ أحد شعراء اليتيمة فى فرس أدهم أغرّ: ومطهّم ما كنت أحسب قبله ... أنّ السروج على «2» البوارق توضع وكأنما الجوزاء حين تصوّبت ... لبب عليه والثريّا برقع طرائف فى ذم الخيل بالهزال والعجز عن الحركة كتب بعضهم إلى صديق له: ما فعلت حجرك «3» تلك التى ... أفضل من فارسها الرّاجل عهدى بها تبكى وتشكو الضّنى ... لما احتشاه البدن الناحل وهى تغنّينى غنا صبّة ... غايتها وجدان ما تاكل: يا ربّ لا أقوى على كلّ ذا ... موت وإلّا فرج عاجل وقال آخر: يا نصر حجرك أبلى الجوع جدّتها ... وأصبحت شبحا تشكو تجافيكا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 65 إذا رأت تبنة قالت مجاهرة ... يا تبن لى حسرة ما تنقضى فيكا ترجوه طورا وتبكى منه آيسة ... حتى إذا عرضت باتت تغنّيكا: هذى- فديتك- حالى قد علمت بها ... فلم يكون الجفا أفديك أفديكا وقال آخر: أعطيتنى شهباء مهلوبة «1» ... تذكر نمروذ «2» بن كنعان سفينة الحشر إلى عدوها ... أسبق من أشقر «3» مروان كأننى منها على زورق ... بلا مجاديف وسكّان «4» فانظر إلى حجرى ترى شهرة ... أخبارها جامع «5» سفيان وقال آخر: حملتنى فوق مقرف زمن ... ليس لذى رحلة بنفّاع جلد على أعظم محلّلة ... فليس يمشى إلّا بدفّاع كأننى إذ علوت صهوته ... ركبت منه سرير فقّاع «6» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 66 وكتب زهير بن «1» محمد الكاتب: وفرس على المسا ... وى كلّها محتويه راكبها فى خجلة ... كأنه فى مخزيه مستقبحا ركوبها ... مثل ركوب المعصية فما مساويها لمن ... عدّدها مستويه يا قبحها مقبلة ... وقبحها مولّيه وقال برهان الدين ابن الفقيه نصر: لصاحب الديوان برذونة «2» ... بعيدة العهد من القرط «3» إذا رأت خيلا على مربط ... تقول سبحانك يا معطى تمشى إلى خلف إذا ما مشت ... كأنها تكتب بالقبطى *** هذا ما اتّفق إيراده مما قيل فى أوصاف الخيل من النظم. فلنذكر ما وصفت به فى الرسائل المنثورة، والفقر المسجوعة، والألفاظ المزدوجة؛ مع ما يتصل بذلك من الأبيات فى ضمنها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 67 فمن ذلك ما حكى أن المهدىّ سأل مطر بن درّاج عن أىّ الخيل أفضل؛ فقال: الذى إذا استقبلته قلت نافر، وإذا استدبرته قلت زاخر «1» ، وإذا استعرضته قلت زافر «2» . قال: فأىّ هذه أفضل؟ قال: الذى طرفه إمامه، وسوطه عنانه. ومن هذا أخذ المتنبى وعلىّ بن جبلة والعسكرىّ. فقال المتنبى: إن أدبرت «3» قلت لا تليل لها وقد تقدّم. وقال علىّ بن جبلة: تحسبه أقعد فى استقباله ... حتى إذا استدبرته قلت أكبّ وقال أبو هلال العسكرىّ: طرف إذا استقبلته قلت حبا ... حتى إذا استدبرته قلت كبا ووصف أعرابىّ فرسا أجرى فى حلبة فقال لما أرسلت الخيل: جاءوا بشيطان، فى أشطان «4» ؛ فأرسلوه فلمع لمع البرق، واستهلّ استهلال الودق «5» ؛ فكان أقرب الخيل إليه، تقع عينه من بعد عليه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 68 ووصف محمد بن الحسين بن الحرون فرسا فقال: هو حسن القميص، جيّد الفصوص «1» ؛ وثيق القصب، نقىّ العصب؛ يبصر بأذنيه، ويتبوّع «2» بيديه، ويداخل رجليه. ووصف أخر فرسا فقال: الريح أسيرة يديه، والظّليم «3» فريسة رجليه؛ إن حرّ «4» استعر فى التهابه، وإن جدّ مرق من إهابه. وكتب عبد الله بن طاهر إلى المأمون مع فرس أهداه اليه: قد بعثت إلى أمير المؤمنين فرسا يلحق الأرنب فى الصّعداء، «5» ويجاوز الظباء فى الاستواء، ويسبق فى الحدور جرى الماء؛ إن عطف حار، وإن أرسل طار؛ وإن حبس صفن «6» ، وإن استوقف فطن؛ فهو كما قال تأبّط شرّا: ويسبق وفد الريح من حيث ينتحى ... بمنخرق من شدّه المتتابع ووصف آخر فرسا فقال: كأنه إذا علا دعاء، وإذا هبط قضاء. كأنه محلول من قول الشاعر فى صفة فرس: مثل دعاء مستجاب إن علا ... أو كقضاء نازل إذا هبط ووصف أيّوب بن القرّيّة فرسا فقال: أسيل الخدّ، حسن القدّ؛ يسبق الطّرف، ويستغرق الوصف. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 69 وقال محمد بن عبد الملك لصديق له: ابغ لى فرسا برذونا، وثيق اليدين، قائم الأذنين، ذكر العينين، يأنف من تحريك الرجلين. ومن الكلام الجيّد فى وصف الخيل ما أنشأه الشيخ ضياء الدين بن القرطبىّ من رسالته التى كتبها إلى الصاحب الوزير شرف الدين الفائزىّ، وقد تقدّم ذكرها فى باب الكتّاب فى الرسائل، فلا فائدة فى إعادتها؛ وإنما أوردنا ذكر الخيل هناك لأن الرسالة تشتمل على أوصاف الخيل والعساكر والسلاح وغير ذلك، فأردنا بإيرادها بجملتها ثم أن يكون الكلام فيها سياقه يتلو بعضه بعضا. وهذه الرسالة فى السّفر السابع «1» من هذه النسخة. *** ومن إنشاء المولى الفاضل العالم الأديب البليغ شهاب الدين أبى الثّناء محمود ابن سليمان الحلبى الكاتب رسالة «2» فى الخيل عملها تجربة ورياضة لخاطره، ولم يكتب بها «3» ؛ سمعتها من لفظه، ونقلتها من خطّه؛ وهى: أدام الله إحسان الجناب الفلانى، ولا زالت الآمال فى أمواله محكّمه، والأمانى كالمحامد فى أبوابه مخيّمه، والمعالى كالعوالى إليه دون غيره مسلّمه، والمكارم تغريه فى الندى حتى يبذل ما حبّب إليه من الخيل المسوّمه. المملوك يقبّل اليد التى ما زالت بسطتها فى الكرم عليّه، وقبضتها بتصريف أعنّة الزمن مليّه؛ ومواهبها تتنوّع فى الندى، ومذاهبها فى الكرم تهب الأولياء ما تهابه العدا. وينهى وصول الجزء: 10 ¦ الصفحة: 70 ما أنعم به من الخيل التى وجد الخير فى نواصيها، وادّخرت صهواتها حصونا «1» يعتصم فى الوغى بصياصيها: فمن أشهب غطّاه النهار بحلّته، وأوطأه الليل على أهلّته؛ كأنّ أذنه جلفة «2» قلم، أو شقّة جلم؛ يدرك بها الوهم، ويحقّق فى الليل البهيم مواقع السهم؛ يتموّج أديمه ريّا؛ ويتأرّج ريّا، ويقول من استقبله فى حلى لجامه: هذا الفجر قد طلع بالثريّا؛ إن التفّت المضايق انساب انسياب الأيم، وإن انفرجت المسالك مرّ مرور الغيم؛ كم أبصر فارسه يوما أبيض بطلعته، وكم عاين [طرف «3» السّنان] مقاتل العدا فى ظلام النّقع بنور أشعّته؛ لا يستنّ داحس «4» فى مضماره، ولا تطمع الغبراء فى شقّ غباره، ولا يظفر لاحق من لحاقه بسوى آثاره؛ تسابق يداه مرامى طرفه، ويدرك شوارد البروق ثانيا من عطفه. ومن أدهم حالى الشّكيم، حالك الأديم، له مقلة غانية وسالفة ريم؛ قد ألبسه الليل برده، وأطلع بين عينيه سعده؛ يظنّ من نظر إلى سواد طرّته، وبياض حجوله وغرّته؛ أنه توهّم النهار نهرا فخاضه، وألقى بين عينيه نقطة من رشاش تلك المخاضه؛ ليّن الأعطاف، سريع الانعطاف؛ يقبل كالليل، ويكرّ كجلمود صخر حطّه السّيل؛ يكاد يسبق ظلّه، وإذا جارى السهم إلى غرض بلغه قبله. ومن أشقر غشّاه البرق بلهبه، ووشّاه الأصيل بذهبه؛ يتوجّس مالديه برقيقتين، وينفض وفرتيه عن عقيقتين، وينزل عذار لجامه من سالفتيه على الجزء: 10 ¦ الصفحة: 71 شقيقتين؛ له من الرّاح لونها، ومن الرياح لينها؛ إن جرى فبرق خفق، وإن أسرع «1» فهلال على شفق؛ لو أدرك أوائل حرب ابنى وائل لم يكن للنّعامة «2» نباهه، ولا للوجيه وجاهه، ولكان «3» ترك إعارة سكاب «4» لؤما وتحريم بيعها سفاهه؛ يركض ما وجد أرضا، ولو اعترض [به «5» ] راكبه بحرا وثبه عرضا. ومن كميت نهد، كأنّ راكبه فى مهد؛ عندمىّ الإهاب، شمالىّ الذّهاب؛ «يزلّ الغلام «6» الخفّ عن صهواته» ، وكأنّ نغم الغريض ومعبد فى لهواته؛ قصير المطا «7» ، فسيح الخطا؛ إن ركب لصيد قيّد الأوابد، وأعجل عن الوثوب الوحش اللّوابد؛ وإن جنب إلى حرب لم يزورّ من وقع القنا بلبانه، ولم يشك لو علّم الكلام بلسانه، ولم يردون بلوغ الغاية- وهى ظفر راكبه- ثانيا من عنانه؛ وإن سار فى سهل اختال براكبه كالثّمل، وإن أصعد فى جبل طار فى عقابه كالعقاب وانحطّ فى مجاريه كالوعل؛ متى ما ترقّ العين فيه تسهّل، ومتى أراد البرق مجاراته قال له الوقوف عند قدره: ما أنت هناك فتمهّل. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 72 ومن حبشىّ أصفر يروق العين، ويشوق القلب بمشابهته العين «1» ؛ كأنّ الشمس ألقت عليه من أشعّتها جلالا، وكأنه نفر من الدّجى فاعتنق منه عرفا واعتلق أحجالا؛ ذى كفل يزين سرجه، وذيل يسدّ إذا استدبرته منه فرجه؛ قد أطلعته الرياضة على مراد فارسه، وأغناه نضار لونه ونضارته عن ترصيع قلائده وتوشيع ملابسه؛ له من البرق خفّة وطئه وخطفه؛ ومن النسيم لين طروقه «2» ولطفه، ومن الريح هزيزها إذا ما جرى شأوين وابتلّ عطفه؛ يطير بالغمز، ويدرك بالرّياضة مواقع الرّمز، ويغدو كألف الوصل فى استغنائه مثلها عن الهمز. ومن أخضر له من الروض تفويفه، ومن الوشى تقسيمه وتأليفه؛ قد كساه الليل والنهار حلّتى وقار وسنا، واجتمع فيه من البياض والسواد ضدّان لمّا استجمعا حسنا؛ ومنحه البازى حلّة وشيه، وأعطته «3» نفوح الرياح ونسماتها قوّة ركضه وخفّة مشيه؛ يعطيك أفانين الجرى قبل سؤاله، ولمّا لم يسابقه شىء من الخيل أغراه حبّ الظّفر بمسابقة خياله؛ كأنه تفاريق شيب فى سواد عذار، أو طلائع فجر خالط بياضه الدّجى، فما سجى، ومازج ظلامه النهار، فما أنار؛ يختال لمشاركة اسم الجرى بينه وبين الماء فى شدّة السّير كالسيل، ويدلّ بسبقه على المعنى المشترك بين البروق اللّوامع وبين البرقيّة من الخيل، ويكذّب المانويّة «4» لتولّد اليمن فيه بين إضاءة النهار وظلمة الليل. ومن أبلق ظهره حرم، وجريه ضرم؛ إن قصد غاية فوجود الفضاء بينه وبينها عدم، وإن صرّف فى حرب فعمله ما يشاء البنان والعنان وفعله ما تريد الكفّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 73 والقدم؛ قد طابق الحسن البديع بين ضدّى لونه، ودلّت على اجتماع النّقيضين علّة كونه؛ وأشبه زمن الرّبيع باعتدال الليل فيه والنهار، وأخذ وصف حلّتى الدّجى فى حالتى الإبدار والسّرار؛ «1» لا تكلّ مناكبه، ولا يضلّ فى حجرات «2» الجيوش راكبه، ولا يحتاج ليلة المشرق بمجاورة نهاره إلى أن تسترشد فيه كواكبه؛ ولا يجاريه الخيال فضلا عن الخيل، ولا يملّ السّرى إلّا إذا ملّ مشبهاه: النهار والليل، ولا تتمسّك البروق اللوامع من لحاقه بسوى الأثر فإن جهدت فبالذّيل؛ فهو الأبلق الفرد، والجواد الذى لمجاريه العكس وله الطّرد؛ قد أغنته شهرة نوعه فى جنسه عن الأوصاف، وعدل بالرياح عن مباراته سلوكها «3» له فى الاعتراف جادّة الإنصاف. فترقّى المملوك إلى رتب العزّ من ظهورها، وأعدّها لخطبة الجنان إذ الجهاد على «4» مثلها من أنفس مهورها؛ وكلف بركوبها فكلّما أكمله عاد، وكلّما أمّله شره إليه فلو أنه زيد «5» الخيل لما زاد؛ ورأى من آدابها ما دل على أنها من أكرم الأصائل، وعلم أنها ليومى سلمه وحربه حنيّة «6» الصائد وجّنة الصائل؛ وقابل إحسان مهديها بثنائه ودعائه، وأعدّها [فى الجهاد «7» ] لمقارعة أعداء الله تعالى عليها وأعدائه؛ والله تعالى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 74 يشكر برّه الذى أفرده فى الندى بمذاهبه، وجعل الصّافنات الجياد من بعض مواهبه. والله أعلم بالصواب. *** ومن إنشاء المولى الفاضل تاج الدين عبد الباقى «1» بن عبد المجيد اليمانى رسالة فى مثل ذلك أنشأها فى سنة ستّ أو خمس وسبعمائة. وسمعتها من لفظه، ونقلتها من إملائه؛ وهى: يقبّل اليد العالية الفلانيّة، لا زالت ترسل إلى الأولياء سحائب كرمها، وتقلّد الأودّاء قلائد نعمها، ولا برح المرهفان طرازى حاشيتها وخدمها، حتى ينوب القلم عن صليل مرهفها والصّمصام عن صرير قلمها، لتتساوى فى الإنفاذ مواقع كلمها ومراسم كلمها؛ ولا فتئ ظاهرها قبلة القبل وغاية الآمال، وباطنها مورد الكرم ومصدر الأموال. وينهى أنه لما كانت العزائم الفلانيّة طامحة إلى أسنى المعالى، مطلعة من مناقبها أهلّة تخجل بدور الليالى؛ متيّمة باكتساب المفاخر، عميدة بتشييد المآثر؛ مائلة الى ما يزيّن المقانب «2» ، ويطرّز الكتائب؛ مصغية إلى ما يرد جنابها من جنايتها لا غير «3» ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 75 وكيف لا تكون كذلك وحبّ الخيل من الخير؛ ناظرة إلى ما يصل من كرائمها، مهتدية بنجوم غررها مشغوفة بتحجيل قوائمها؛ عاشقة لاتساع صدورها، ورقّة نحورها. خدم المملوك الرّكاب العالى بإنفاذ خيل اتّحدت فى الصفات، وتباينت فى الشّيات؛ وصدرت كروضة تفتّحت أزهارها، وزها نوّارها، وأشرقت أنوارها؛ بل كعرائس تختال فى برودها، أو كجواهر تنافست فى عقودها؛ ملكتها يمين المملوك فكانت كعدد أصابعها، وأحرزتها همّته فنزعت فى الحزم إلى منازعها؛ لها من الظباء أعناقها، ومن النعام أسواقها «1» ؛ ومن البأس قوة جنانها، ومن الظفر مثنى عنانها؛ ومن الإقبال غرر نواصيها، ومن إدراك الغرض جلّ أمانيها؛ ذوات ضبح «2» ، وموريات «3» قدح؛ تكبو الريح فى غاياتها، ويقرّ البرق بمعجزاتها؛ مداخلة الخلق رحبة اللّبان «4» ، مستغنية عن الهمز بتحريك العنان؛ تقارب ما بين قطاها «5» ومطاها «6» ، وتباعد ما بين قذالها «7» وصلاها؛ «8» سما عنقها وأطرق جبينها «9» ، وتنزّهت عن المعايب فلا صكك «10» يشينها؛ يا حبّذا أشهبها وقد تجلّلت بالشّهب ذاته، وادّرعت أشهب الصبح شياته؛ زبرجدىّ الحافر لؤلؤىّ الأديم، له أيطلا ظبى وساقا ظليم «11» ؛ كغمامة بارقها قدح سنابكه، أو كسيل طمّ مفعمه واسع مسالكه؛ استغنى بجوهر شياته عن كل مذهب، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 76 فما لمذهب فى الانتساب عنه مدهب؛ إن امتطى الفارس قطاته طار بنسر حافره، وإن أشار إلى غرض أدركه بمجرّد الوهم لا بالنظر إلى ناظره؛ أميال البيداء كميل بين عينيه، وترادف رمالها كذرور بين جفنيه؛ استولى على السّبق «1» وأحرز خصله، وكيف لا وقد حاز اثنتى عشرة خصله. يتلوها أشقرها وقد نجّد «2» عقيقا، أو التحف شقيقا «3» ؛ أو كوجنة قد احمرّت من الخجل، أو كوردة ناظرت بخفرها نرجس المقل؛ تناسبت أجزاؤه فى الملاحه، وتساوت مراتبه فى الصّباحه؛ وجاهة الوجيه ناطقة من المحيّا، ومسيل غرّته كتصويب الثريّا؛ حجّل بالجوزاء وأسرج بالهلال، وألجم بالمجرّة فما لابن ذكاء «4» فى الإشراق عليه مجال؛ إن أطلق والريح فى سنن ميدان، رأيت الريح ككميت خلّفته الجياد يوم الرّهان؛ تنهب الفلاة حوافره، وتحرز قصب السبق بوادره. يتبعه كميت كقطعة جمر، أو ككأس خمر؛ اسودّ ذنبه وعرفه، واختال كالنّشوان فكأنما أسكره وصفه؛ حكت أذناه قادمتى حمامه، أو المحرّف من أقلام قدامه؛ قصرت عن سعيه الخيول فسابق الظّلال، ونشأ مع النّعام فلا يألف غير الرّئال؛ كأنّ الصّبا ألقت إليه عنانها قسرا، فتخبّ بسرجه مرّة وتناقل أخرى. مقرونا بأصفر كالدّينار، قد أفرغت عليه حلّة نور لا نار؛ طال منه الذيل واتّسع اللّبان، فكأنما هو نار على يفاع شبّت للضّيفان؛ جلّلته الشمس بأنوارها، وأهدت إليه الرّياض اصفرار أزهارها؛ تشهدك عند رؤيته يوم العرض، فروج قوائمه سماء على أرض؛ إن هملج لاذت الريح بالشّجر، وإن عدا قصر عن إدراكه رؤية الجزء: 10 ¦ الصفحة: 77 البصر؛ نجاشىّ النّجار «1» ، وحليف الوجار «2» ؛ كأنما خلق من الحزم شطره، ومن العزّ ظهره؛ ومن الإقبال غرّته، ومن كنوز المفاخر سرّته؛ يقرّ أعوج «3» بنى هلال بفضله، ويقفو حرون «4» مسلم أثر ظلّه. مختوما بأدهم كصخرة سيل، أو كقطعة ليل؛ خاض فى أحشاء الصّباح فلطم جبينه، وسابق الفلك فقيّد بالجوزاء رجليه ويساره وأطلق يمينه؛ عريض الكفل والمنخرين، دقيق القوائم والساقين؛ كأنما أشرب لونه سواد القلب والبصر، وكأنما النصر قيس «5» وهو ليلى يحضره حيث حضر؛ لو كتب اسمه على راية لم تزل تقدم فتوحا، أو لمعت بوارق سنابكه رأيت زنجيّا جريحا؛ طابقت أخباره لمخبره، وسبقت رجلاه فى العدو مواقع نظره؛ لا يعلق غراب «6» بغباره، ولا تستنّ «7» النّعامة فى مضماره. ولنختم هذا الباب بذكر فائدة، وهى دواء للخلد «8» : يؤخذ خمسون طائرا من الدّراريج تسحق بحجر ولا تمسّ باليد، وتجعل فى قدر صغيرة جديدة، ويصبّ عليها من الماء والزيت ما يغمره، ويغلى عليه حتّى ينعقد، ويضاف إليه يسير من القطران الأسود، ويوضع على النار؛ فإذا فتر فتلفّ مشاقة على عود ويدهن به أمّ الخلد قبل قطعه بالنار، ثم يدهن بعد ثلاثة أيام بالشّيرج والصّيلقون وماء الورد؛ فإنه مجرّب. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 78 الباب الثانى من القسم الثالث من الفن الثالث فى البغال والحمير ذكر ما قيل فى البغال قال أصحاب الكلام فى طبائع الحيوان: إنّ البغل لا يعيش له ولد، وليس بعقيم؛ ولا يبقى للبغلة ولد، وليست بعاقر. وهو أطول عمرا من أبويه وأصبر. ويقال: إنّ أوّل من نتج «1» البغال «قارون» ، وقيل: «أفريدون» «2» أحد ملوك الفرس الأول. والبغل يوصف برداءة الأخلاق والنلوّن. ومن أخلاق البغال الإلف لكل دابّة. ويقال: إنّ أبوال الإناث تنقية لأجسادها. والإناث أجمل من الذكور. قال بعض الشعراء «3» : عليك بالبغلة دون البغل ... فإنها جامعة للشّمل مركب قاض وإمام عدل ... وعالم وسيّد وكهل تصلح للرّحل وغير الرحل والبغال من مراكب الرؤساء، والسادة النجباء، والقضاة والعلماء. وهم يرجّحون إناثها على ذكورها؛ حتى إن المغاربة لا يركبون البغال الذكور البتة وإنما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 79 يجعلونها برسم حمل الزّبل. أخبرنى قاضى القضاة جمال الدين أبو محمد بن سليمان بذلك، وقال: وإذا طلب ولىّ الأمر البغل لأحد كان ذلك دلالة على إشهاره «1» وتجريسه «2» عليه. قال: فلا يركب البغل الذكر عندنا إلا زبّال أو مجرّس. وأعظم ما تفضّل به إناث البغال على ذكورها أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ركبها وملكها؛ وما ورد أنه ملك بغلا ولا ركبه. ولن ذكر بغلات رسول الله صلى الله عليه وسلم تفضيلا لهذا الحيوان وتشريفا، وتنويها بذكره وتعريفا؛ والله أعلم. ذكر بغلات رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم بغلة شهباء يقال لها «دلدل» ، أهداها له المقوقس. ذكر ذلك ابن قتيبة وابن سعد؛ فقال ابن سعد ما هذا نصه: «وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطب بن أبى بلتعة اللّخمى، وهو أحد الستة «3» ، إلى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 80 المقوقس صاحب الإسكندريّة عظيم القبط يدعوه إلى الإسلام، وكتب معه كتابا «1» ؛ فأوصل إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأه وقال له خيرا؛ وأخذ الكتاب فجعله فى حقّ من عاج وختم عليه ودفعه إلى جاريته؛ وكتب إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم: «قد علمت أن نبيّا قد بقى، وكنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان فى القبط عظيم، وقد أهديت إليك كسوة وبغلة تركبها» . ولم يزد على هذا ولم يسلم. فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم هديّته، وأخذ الجاريتين: مارية أمّ إبراهيم ابن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأختها سيرين، وبغلة بيضاء لم يكن فى العرب يومئذ غيرها وهى «دلدل» . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ضنّ الخبيث بملكه ولا بقاء لملكه» . وذكر ابن سعد أيضا قال: كانت «دلدل» بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أوّل بغلة رئيت فى الإسلام، أهداها له المقوقس وأهدى معها حمارا يقال له «عفير» ؛ فكانت البغلة قد بقيت حتى كان زمن معاوية. وفى لفظ: وكانت الجزء: 10 ¦ الصفحة: 81 شهباء، وكانت بينبع حتى ماتت ثمّ. وفى لفظ: وكانت قد كبرت حتى زالت أستانها، وكان يجشّ لها الشعير. وروى ابن سعد أيضا عن محمد بن عمر الأسلمىّ قال: حدّثنا أبو بكر بن عبد الله ابن أبى سبرة عن زامل بن عمرو قال: أهدى فروة بن عمرو إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم بغلة يقال لها «فضّة» فوهبها لأبى بكر. وكذلك قال البلاذرىّ. وقد يقال: إن «دلدل» من هديّة فروة، وإن «فضّة» من هدية المقوقس. وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: أهدى للنبىّ صلى الله عليه وسلم بغلة أهداها له كسرى؛ فركبها بجلّ «1» من شعر ثم أردفنى خلفه. رواه الثّعالبىّ فى تفسيره فى قوله تعالى: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) * . قال الشيخ شرف الدين عبد المؤمن الدّمياطى رحمه الله: قوله «أهداها له كسرى» بعيد؛ لأنه مزّق كتاب النبىّ صلى الله عليه وسلم وأمر عامله باليمن بقتله وبعث رأسه إليه؛ فأهلكه [الله] بكفره وطغيانه. وروى مسلم بن الحجّاج رحمه الله من حديث أبى حميد الساعدىّ قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك؛ فذكر الحديث؛ وقال فيه: وجاء رسول ابن العلماء صاحب أيلة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب وأهدى له بغلة بيضاء؛ فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهدى له بردا. رواه البخارىّ فى كتاب الجزية والموادعة بعد الجهاد؛ ورواه أبو نعيم فى المستخرج. ولفظهما: «وأهدى ملك أيلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلة بيضاء فكساه بردا» ؛ وقال أبو نعيم: بردة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 82 وقال ابن سعد: وبعث صاحب «1» دومة الجندل «2» لرسول الله صلى الله عليه وسلم ببغلة وجبّة من سندس. وروى إبراهيم الحربىّ فى كتاب الهدايا عن علىّ رضى الله عنه قال: وأهدى يحنّة «3» بن روبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلته البيضاء. وروى يوسف بن صهيب عن ابن «4» بريدة عن أبيه قال: انكشف الناس عن النبىّ صلى الله عليه وسلم يوم حنين ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته الشّهباء التى أهداها له النّجاشىّ وزيد آخذ بركاب بغلته. وذكر علىّ بن محمد بن حنين «5» بن عبدوس الكوفىّ فى أسماء خيله وسلاحه وأثاثه: وكان اسم بغلته «دلدل» أهداها إليه المقوقس صاحب الإسكندريّة وكانت شهباء؛ وهى التى قال لها يوم حنين: «اربضى» فربضت. ويقال: إن عليّا ركبها بعد النبىّ صلّى الله عليه وسلم ثم ركبها الحسن ثم ركبها الحسين ثم ركبها محمد بن الحنفيّة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 83 رضى الله عنهم؛ ثم كبرت وعميت، فوقعت فى مبطخة «1» لبعض بنى مدلج فخبطت «2» فيها، فرماها بسهم فقتلها. وكانت له بغلة يقال لها «الأيليّة» ؛ أهداها إليه ملك أيلة، وكانت طويلة مخندفة» كأنما تقوم على رمال حسنة السير؛ فأعجبته ووقعت منه. وهى التى قال له فيها علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه حين خرج عليها: كأنّ هذه البغلة قد أعجبتك يا رسول الله؟ قال: «نعم» قال: لو شئنا لكان لك مثلها؛ قال: «وكيف» ؛ قال: هذه أمّها فرس عربيّة وأبوها حمار، ولو أنزينا حمارا على فرس لجاءت بمثل هذه؛ فقال: «إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون» . وعن دحية بن خليفة الكلبىّ رضى الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، ألا أحمل لك حمارا على فرس فتنتج لك بغلة؟ فقال: «إنما يفعل ذلك الذين لا يعقلون» . رواه ابن منده فى كتاب الصحابة. وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدا مأمورا، ما اختصّنا دون الناس بشىء إلا بثلاث: أمرنا أن نسبغ الوضوء، وألّا نأكل الصّدقة، وألا ننزى حمارا على فرس. رواه التّرمذىّ فى الجهاد. وفى لفظ آخر عنه رضى الله عنه: كان عبدا مأمورا بلّغ ما أرسل به، وما اختصّنا دون الناس بشىء إلا بثلاث خصال: أمرنا أن نسبغ الوضوء، وألّا نأكل الصّدقة، وألا ننزى الحمار على الفرس. وهذا على هذين الحديثين يختصّ بآل النبىّ صلى الله عليه وسلم دون غيرهم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 84 والذى يظهر من مجموع هذه الأحاديث المرويّة التى أوردناها أن بغلات رسول الله صلّى الله عليه وسلم كانت سبعا، وهى: «الدّلدل» التى أهداها له المقوقس، و «فضّة» التى أهداها له فروة بن عمرو، وبغلة أهداها له كسرى، وبغلته الأيليّة التى أهداها له ابن العلماء صاحب أيلة، وبغلة بعثها له صاحب دومة الجندل، وبغلة أهداها له يحنّة ابن روبة، وبغلة أهداها له النّجاشىّ صاحب الحبشة. والله تعالى أعلم بالصواب. ذكر شىء مما وصفت به البغال قد ألّف الجاحظ كتابا فى البغال مفردا عن كتاب الحيوان، قال فيه ما نصه: «نبدأ إن شاء الله بما وصف الأشراف من شأن البغلة فى حسن سيرتها، وتمام خلقتها، والأمور الدالّة على السرّ فى جوهرها، وعلى وجوه الارتفاق بها، وعلى تصرّفها فى منافعها، وعلى خفّة مؤونتها فى التنقّل فى أمكنتها وأزمنتها، ولم كلف الأشراف بارتباطها مع كثرة ما يزعمون من عيوبها، ولم آثروها على ما هو أدوم طهارة خلق منها، وكيف ظهر فضلها مع النقص الذى هو فيها، وكيف اغتفروا مكروه ما فيها لما وجدوا من خصال المحبوب فيها. قال: ولقد كلف بارتباطها الأشراف حتى لقّب بعضهم من أجل اشتهاره بها ب «روّاض البغال» ؛ ولقّبوا آخر ب «عاشق البغل» . فبسط القول فى الترجمة ثم لم يأت من أخبار البغال بطائل، بل اقتصر على حكايات واستطرد منها إلى منها إلى غيرها، على عادته فى مصنّفاته. فكان مما حكاه من ذلك: قال مسلمة بن عبد الملك: ما ركب الناس مثل بغلة طويلة العنان، قصيرة العذار، سفواء «1» العرف، حصّاء «2» الذّنب. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 85 قال: وكتب روح بن عبد الملك إلى وكيل له: ابغنى بغلة حصّاء الذنب، عظيمة المحزم، طويلة العنق، سوطها عنانها، وهواها إمامها. قال: وعاتب صفوان بن عبد الله بن الأهتم عبد الرحمن بن عبّاس بن ربيعة ابن الحارث بن عبد المطّلب فى ركوب البغال، وكان ركّابا للبغلة، فقال له: مالك ولهذا المركب الذى لا يدرك عليه الثار، ولا ينجّيك يوم الفرار؟! فقال: إنها نزلت عن خيلاء الخيل، وارتفعت عن ذلّة «1» العير، وخير الأمور أوساطها. فقال صفوان: إنا نعلّمكم، فإذا علمتم تعلّمنا منكم. وهو الذى يلقّب «روّاض البغال» ، لحذقه بركوبها، ولشغفه بها، وحسن قيامه عليها. وكان يقول: أريدها واسعة الجفرة «2» ، مندحّة «3» السّرّة، شديدة الغلوة «4» ، بعيدة الخطوة، ليّنة الظهر، ملويّة الرّسغ، سفواء جرداء عنقاء، طويلة الأنقاء «5» . قال: وقال ابن كتامة: سمعت رجلا يقول: إذا اشتريت بغلة، فاشترها طويلة العنق، تجده «6» فى نجائها؛ مشرفة الهادى، تجده «7» فى طباعها؛ ضخمة الجوف، تجده «8» فى صبرها. قال: ولما خرج قطرىّ بن الفجاءة أحبّ أن يجمع إلى رأيه رأى غيره؛ فدسّ إلى الأحنف بن قيس رجلا يجرى ذكره فى مجلسه ويحفظ عنه ما يقول؛ فلمّا قعد قال الأحنف: أما إنهم إن جنبوا بنات الصّهّال، وركبوا بنات النّهّاق «9» ، وأمسوا بأرض وأصبحوا بأرض، طال أمرهم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 86 قال الجاحظ: فلا ترى صاحب الحرب يستغنى عن البغال، كما لا ترى صاحب السّلم يستغنى عنها، وترى صاحب السفر كصاحب الحضر. انتهى كلام الجاحظ. وحكى أنّ عبد الحميد الكاتب ساير مروان بن محمد الجعدىّ على بغلة؛ فقال له: لقد طالت صحبة هذه الدابّة لك!؛ فقال: يا أمير المؤمنين، من بركة الدابّة طول صحبتها. فقال: صفها؛ فقال: همّها إمامها، وسوطها زمامها، وما ضربت قطّ إلّا ظلما. وقال بعض الكتّاب من رسالة: «قد اخترت لسيّدى بغلة وثيقة الخلق، لطيفة الخرط، رشيقة القدّ، موصوفة «1» السير، ميمونة الطير، مشرفة العنق، كريمة النّجار، حميدة الآثار. إن أدبرت قلت لا تليل لها ... أو أقبلت قلت ما لها كفل قد جمعت إلى حسن القميص، سلامة الفصوص «2» ؛ فسمّيت قيد الأوابد، وقرّة عين الساهد؛ تزرى فى انطلاقها، بالبروق فى ائتلاقها» . قال البحترىّ يصف بغلا: وأقبّ نهد للصّواهل «3» شطره ... يوم الفخار وشطره للشّحّج خرق يتيه «4» على أبيه ويدّعى ... عصبيّة لبنى الضّبيب «5» وأعوج الجزء: 10 ¦ الصفحة: 87 مثل المذرّع «1» جاء بين عمومة ... فى غافق «2» وخؤولة للخزرج وقال أبو الفرج الوأواء من قصيدة يشكر بعض أصحابه وقد أهدى له بغلة: قد جاءت البغلة السّفواء يجنبها ... للبرق غيث بدا ينهلّ ماطره عريقة ناسبت أخوالها «3» فلها ... بالعتق «4» من أكرم الجنسين فاخره ملء الحزام وملء العين مسفرة ... يريك غائبها فى الحسن حاضره أهدى لها الرّوض من أوصافه شية ... خضراء ناضرة إن زال ناضره ليست بأوّل حملان «5» شريت به ... حمدى ولا هى يا ذا الجود آخره كم قد تقدّمها من سابح بيدى ... عنانه وعلى الجوزا حوافره وقال أبو المكارم بن عبد السّلام: كأنها النار فى الحلفاء إن ركضت ... كأنها السيل إن وافتك من جبل كأنها الأرض إن قامت لمعتلف ... كأنها الريح إن مرّت على القلل ما يعرف الفكر منها منتهى حضر ... ما صوّر الوهم فيها وصمة الكسل إذا اقتعدت مطاها وهى ماشية ... ثهلان تبصره فى زىّ منتقل هذا ما اتّفق إيراده من صفات البغال التى تقتضى المدح. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 88 فأمّا ما جاء فى ذمها فالمثل المضروب فى بغلة أبى دلامة. وقال أبو دلامة فى بغلته: أبعد الخيل أركبها ورادا ... وشقرا فى الرّعيل «1» إلى القتال رزقت بغيلة فيها وكال «2» ... وخير خصالها فرط الوكال رأيت عيوبها كثرت وعالت ... ولو أفنيت مجتهدا مقالى تقوم فما تريم «3» إذا استحثّت ... وترمح باليمين وبالشّمال رياضة جاهل وعليج سوء ... من الأكراد أحبن «4» ذى سعال شتيم «5» الوجه هلباج «6» هدان «7» ... نعوس يوم حلّ وارتحال فأدّبها بأخلاق سماج ... جزاه الله شرّا عن عيالى فلمّا هدّنى ونفى رقادى ... وطال لذاك همّى واشتغالى أتيت بها الكناسة «8» مستغيثا ... أفكّر دائبا كيف احتيالى بعهدة سلعة ردّت «9» قديما ... أطمّ بها على الداء العضال الجزء: 10 ¦ الصفحة: 89 فبينا فكرتى فى القوم تسدى ... إذا ما سمت أرخص أم أغالى أتانى خائب حمق شقّى ... قديم فى الخسارة والضّلال «1» وراوغنى ليخلوبى خداعا ... ولا يدرى الشّقىّ بمن يخالى فقلت بأربعين فقال أحسن ... فإن البيع مرتخص وغالى فلما ابتاعها منّى وبتّت ... له فى البيع غير المستقال أخذت بثوبه وبرئت مما ... أعدّ عليك من شنع الخصال برئت إليك من مشش «2» قديم ... ومن جرد «3» وتخريق الجلال ومن فرط الحران ومن جماح ... ومن ضعف الأسافل والأعالى ومن عقر اللسان ومن بياض ... بناظرها ومن حلّ الحبال وعقّال «4» يلازمها شديد ... ومن هدم المعالف والرّكال «5» تقطّع جلدها جربا وحكّا ... إذا هزلت وفى غير الهزال ومن شدّ العضاض «6» ومن شباب «7» ... إذا ما همّ صحبك بالرّقال الجزء: 10 ¦ الصفحة: 90 وأقطف «1» من دبيب الذّرّ مشيا ... وتنحط «2» من متابعة السّعال وتكسر سرجها أبدا شماسا «3» ... وتسقط فى الوحول وفى الرمال ويهزلها الجمام «4» إذا خصبنا ... ويدبر ظهرها مسّ الجلال تظلّ لركبة منها وقيدا «5» ... يخاف عليك من ورم الطّحال وتضرط أربعين إذا وقفنا ... على أهل المجالس للسؤال فتخرس منطقى وتحول بينى ... وبين كلامهم ممّا توالى وقد أعيت سياستها المكارى ... وبيطارا يعقّل بالشّكال حرون حين تركبها لحضر ... جموح حين تعزم للنّزال وذئب حين تدنيها لسرج ... وليث عند خشخشة المخالى وفيل إن أردت بها بكورا ... خذول عند حاجات الرّجال وألف عصا وسوط أصبحىّ «6» ... ألذّ لها من الشّرب الزّلال وتصعق من صياح الدّيك شهرا ... وتذعر للصّفير وللخيال إذا استعجلتها راثت وبالت ... وقامت ساعة عند المبال «7» ومثفار «8» تقدّم كلّ سرج ... تصيّر دفّتيه على القذال «9» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 91 وتحفى فى الوقوف إذا أقمنا ... كما تحفى البغال من الكلال ولو جمّعت من هنّا وهنّا ... من الأتبان أمثال الجبال فإنك لست عالفها ثلاثا ... وعندك منه عود للخلال وكانت قارحا «1» أيّام كسرى ... وتذكر تبعا قبل الفصال «2» وقد قرحت ولقمان فطيم ... وذو الأكتاف «3» فى الحجج الخوالى وقد أبلى بها قرن وقرن ... وآخر يومها لهلاك مالى فأبدلنى بها يا ربّ بغلا ... يزين جمال مركبه جمالى كريم حين ينسب والداه ... إلى كرم المناسب فى البغال وقال القاضى بهاء الدين زهير الكاتب: لك يا صديقى بغلة ... ليست تساوى خردله مقدار خطوتها الطوي ... لة حين تسرع أنمله وتخال مدبرة إذا ... ما أقبلت مستعجله تمشى فتحسبها العيو ... ن على الطريق مشكّله تهتزّ وهى مكانها ... فكأنما هى زلزله الجزء: 10 ¦ الصفحة: 92 ذكر ما قيل فى الحمر الأهلية قال المتكلمون فى طبائع الحيوان: إنّ الحمار لا يولد له قبل أن تتمّ له ثلاث سنين ونصف. قالوا: والحمار إذا شمّ رائحة الأسد رمى بنفسه عليه لشدّة خوفه منه. ولذلك قال أبو تمّام [يخاطب عبد الصمد «1» بن المعذّل وقد هجاه] : أقدمت ويلك من هجوى على خطر ... والعير يقدم من خوف على الأسد والحمار يوصف بحدّة حاسّة السمع. وهو إذا نهق أضرّ بالكلب؛ قالوا: حتى إنّه يحدث له مغسا «2» ؛ فلذلك يطول نباحه. والبرد يضرّ الحمار ويؤذيه؛ ولهذا لا يوجد فى بلاد الصّقالبة. وقال الجاحظ: وحلف أحمد بن العزيز أن الحمار ما ينام. فقيل له: ولم ذلك؟ قال: لأنّى أجد صياحه ليس بصياح من نام وانتبه فى تلك الساعة، ولا هو صياح من يريد أن ينام بعد انقضاء صياحه. وأجود الحمير المصريّة. وأهل مصر يعتنون بتربيتها، ويحتفلون بأمرها ويسابقون عليها، ويسمّون مكان سباقها «الطابق» . والجيّد منها يباع بالثمن الكثير. نقل صاحب كتاب مباهج الفكر ومناهج العبر فى كتابه قال: لقد بيع منها حمار بمائة دينار وعشرة دنانير. وأمّا الذى رأيناه نحن منها فأبيع «3» بألف درهم، وربما زاد بعضها على ألف. وكثير من أهل مصر يركبونها ويتركون الخيل والبغال. فمن ركبها من الأعيان مع وجود القدرة والإمكان على ركوب الخيل والبغال، يقصد بذلك التواضع وعدم الكبرياء. ومن إركبها من ذوى الأموال وترك الخيل والبغال الجزء: 10 ¦ الصفحة: 93 ربما يفعل ذلك توفيرا لماله وضنّة به. ومن ركبها من الشباب والسّوقة يقصد بذلك التنزّه عليها لفراهتها وسرعة مشيتها. وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم حمار من حمير مصر اسمه «يعفور» وقيل: «عفير» ؛ أهداه له المقوقس صاحب الإسكندريّة مع ما أهدى. وقد ورد أيضا فى الحديث أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم حماران: «يعفور» و «عفير» . فأمّا «عفير» فأهداه له المقوقس. وأمّا «يعفور» فأهداه له فروة ابن عمرو الجذامىّ. ويقال: إنّ حمار المقوقس «يعفور» وحمار فروة «عفير» . قال الواقدىّ: مات «يعفور» عند منصرف النبىّ صلى الله عليه وسلم من حجّة الوداع. وذكر السّهيلىّ «1» : أن «يعفورا» طرح نفسه فى بئر يوم مات النبىّ صلى الله عليه وسلم فمات. وذكر ابن فورك «2» [فى كتاب «3» الفصول] أنه كان فى مغانم خيبر، وأنّه كلّم «4» النبىّ صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله، أنا زياد «5» بن شهاب، وقد كان الجزء: 10 ¦ الصفحة: 94 فى آبائى ستّون حمارا كلّهم «1» ركبهم نبىّ، فاركبنى أنت. وزاد الجوينىّ «2» فى كتاب الشامل: أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أحدا من أصحابه أرسل هذا الحمار إليه؛ فيذهب حتى يضرب برأسه الباب؛ فيخرج ذلك الرجل، فيعلم أنه أرسل اليه، فيأتى النبىّ صلى الله عليه وسلم. وفى الحمار منافع طبيّة «3» ذكرها الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا، قال: رماد كبد الحمار بالزّيت ينفع من الخنازير «4» ؛ قال: ويبرئ من الجذام. وهذا دواء رخيص إن صحّ. قال: وكبده مشويّة على الرّيق تنفع من علّة الصّرع. قال: والمكزوز» من اليبوسة يجلس فى مرقة لحمه. وقيل: إنّ بوله نافع من وجع الكلى. قال: وبول الحمار الوحشىّ يفتّت الحصاة فى المثانة. ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر الحمار تقول العرب: «العير أوقى لدمه «6» » . وقالوا: «نجّى «7» عيرا سمنه» . وقالوا: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 95 «الجحش «1» إذا فاتك الأعيار» . وقالوا: «أصحّ «2» من عير أبى سيّارة» ؛ لأنه كان دفع بأهل الموسم على ذلك العير أربعين عاما. وقالوا: «إن ذهب عير فعير فى الرّباط «3» » . وقالوا: «العير يضرط «4» والمكواة فى النار» . وقالوا: «حمار يحمل سفرا» . ومن أنصاف الأبيات: وقد حيل «5» بين العير والنّزوان الجزء: 10 ¦ الصفحة: 96 ذكر شىء مما وصفت به الحمير على طريقى المدح والذم [ أما ما جاء فيها على سبيل المدح ] قال أبو العيناء «1» لبعض سماسرة الحمير: اشتر لى حمارا لا بالطويل اللّاحق، ولا بالقصير اللاصق؛ إن خلا الطريق تدفّق، وإن كثر الزّحام ترفّق؛ لا يصادم بى السّوارى، ولا يدخل تحت البوارى «2» ؛ إن كثّرت علفه شكر، وإن قلّلته صبر؛ وإن ركبته هام، وإن ركبه غيرى قام «3» . فقال له السمسار: إن مسخ الله بعض قضاتنا حمارا أصبت حاجتك، وإلّا فليست موجودة. قيل للفضل الرّقاشىّ: إنك لتؤثر الحمير على جميع الدوابّ؛ قال: لأنها أرفق وأوفق؛ قيل: ولم ذاك؟ قال: لأنها لا تستبدل بالمكان، على طول الزمان؛ ثم قال: هى أقلّ داء، وأيسر دواء، وأخفض مهوى، وأسلم صرعا «4» ؛ وأقلّ جماحا، وأشهر فرها، وأقلّ بطرا؛ يزهى راكبه وقد تواضع بركوبه؛ ويعدّ مقتصدا وقد أسرف فى ثمنه. وقال أحمد بن طاهر يصف حمارا: شية كأنّ الشمس فيها أشرقت ... وأضاء فيها البدر عند تمامه وكأنّه من تحت راكبه إذا ... ما لاح، برق لاح تحت غمامه ظهر كجرى الماء لين ركوبه ... فى حالتى إتعابه وجمامه سفهت يداه على الثّرى فتلاعبت ... فى جريه بسهوله وإكامه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 97 عن حافر كالصّخر إلّا أنّه ... أقوى وأصلب منه فى استحكامه ما الخيزران إذا انثنت أعطافه ... فى لين معطفه ولين عظامه عنق يطول بها فضول عنانه ... ومحزّم يغتال فضل حزامه وكأنّه بالرّيح منتعل، وما ... جرى الرياح كجريه ودوامه أخذ المحاسن آمنا من عيبه «1» ... وحوى الكمال مبرّأ من ذامه «2» وقال آخر: لا تنظرنّ إلى هزال حمارى ... وانظر إلى مجراه فى الأخطار «3» متوقّد جعل الذكاء إمامه ... فكأنما هو شعلة من نار عادت عليه الريح عند هبوبها ... فكأنه ريح الدّبور يبارى هذا ما ورد فى مدحها. *** وأمّا ما جاء فيها على سبيل الذم - فمن ذلك قولهم: «أضلّ من حمار أهله» . وقولهم: أخزى «4» الله الحمار مالا، لا يزكّى ولا يذكّى. ومنه قول جرير «5» بن عبد الله: لا تركب حمارا، فإنه إن كان حديدا «6» أتعب يديك، «7» ، وإن كان بليدا أتعب رجليك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 98 والمثل مضروب فى الحمير المهزولة بحمار طيّاب «1» ، كما يضرب المثل ببغلة أبى دلامة. قال شاعر: وحمار بكت عليه الحمير ... دقّ حتى به الرياح تطير كان فيما مضى يسير بضعف ... وهو اليوم واقف لا يسير كيف «2» يمشى وليس شىء يراه ... وهو شيخ من الحمير كبير لمح القتّ «3» مرّة فتغنّى ... بحنين وفى الفؤاد زفير: «ليس لى منك يا ظلوم نصيب ... أنا عبد الهوى وأنت أمير» وقال خالد «4» الكاتب: وقائل إنّ حمارى غدا ... يمشى إذا صوّب أو أصعدا فقلت لكنّ حمارى إذا ... أحثثته لا يلحق المقعدا يستعذب الضرب فإن زدته ... كاد من اللّذّة أن يرقدا وقال أبو الحسين «5» الجزّار: هذا حمارى فى الحمير حمار ... فى كلّ خطو كبوة وعثار الجزء: 10 ¦ الصفحة: 99 قنطارتبن فى حشاه شعيرة ... وشعيرة فى ظهره قنطار ولمّا مات حمار هذا الشاعر داعبه شعراء عصره بمراث وهزليّات؛ فقال بعضهم: مات حمار الأديب قلت قضى ... وفات من أمره الذى فاتا مات وقد خلف الأديب ومن ... خلّف مثل الأديب ما ماتا ونحو هذين البيتين قول الآخر: قال حمار الحكيم توما «1» ... لو أنصفونى لكنت أركب لأننى جاهل بسيط ... وصاحبى جاهل «2» مركّب وكتب «3» أبو الحسن بن نصر الكاتب إلى صديق له اشترى حمارا، يداعبه. قال من رسالة: «قد عرفت- أبقاك الله- حين وجدت من سكرة الأيّام إفاقه، وآنست من وجهها العبوس طلاقه؛ [كيف «4» ] أجبت داعى همّتك، وأطعت أمر مروءتك؛ فسررت بكمون هذه المنقبة التى أضمرها الإعدام، ونمّ على كريم سرّها الإمكان؛ واستدللت «5» منها على خبايا فضل، وتنبّهت منها على مزايا نبل؛ كانت مأسورة فى قبضة الإعسار، وكاسفة عن سدفة «6» الإقتار؛ وقلت: أىّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 100 قدم أحقّ بولوج الرّكب من قدميه، وحاذ «1» أولى ببطون القبّ «2» من حاذيه؛ وأىّ أنامل أبهى من أنامله إذا تصرّفت فى الأعنّة يسراها، وتحتّمت «3» بالمخاصر يمناها؛ وكيف يكون ذلك الخلق العظيم، والوجه الوسيم؛ وقد بهر جالسا، إذا طلع فارسا!. ثم اتّهمت «4» آمالى بالغلوّ فيك، واستبعدت مناقضة الزمان بإنصاف معاليك؛ فقبضت ما انبسط من عنانها، وأخمدت ما اشتعل من نيرانها؛ حتى وقفت على صحيحة الشك. أرجو علوّ همّتك بحسن اختيارك، وأخشى منافسة الأيّام فى درك أوطارك؛ فإنها كالظّانّة فى ولدها، والمجاذبة بالسّوء فى واحدها؛ يدنى الأمل مسارّها، ويرجئ القلق حذارها؛ حتى أتتنا الأنباء تنعى رأيك الفائل «5» ، وتفلّ «6» عزمك الآفل؛ بوقوع اختيارك على فاضح «7» صاحبه، ومسلم راكبه؛ الجامد فى حلبة الجياد، والحاذق بالحران «8» والكياد «9» ؛ السّوم «10» دينه ودأبه، والبلادة طبيعته وشأنه؛ لا يصلحه التأديب، ولا تقرع له الظّنابيب؛ «11» إن لحظ عيرا نهق، أو لمح أتانا شبق، أو وجد روثا شمّ وانتشق؛ فكم هشم سنّا لصاحبه، وكم سعط أنف راكبه؛ وكم استردّه خائفا فلم يرده، وكم رامه خاطبا فلم يسعده؛ يعجل إن أحبّ الأناة والإبطاء، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 101 ويرسخ إن حاول الحثّ «1» والنّجاء؛ مطبوع على الكيد والخلاف، موضوع للضّعة والاستخفاف؛ عزيز حتى تهينه السّياط، كسول ولو أبطره «2» النّشاط؛ ما عرف فى النّجابة أبا، ولا أفاد من الوعى أدبا؛ الطالب به محصور، والهارب عليه مأسور؛ والممتطى له راجل، والمستعلى بذروته نازل؛ له من الأخلاق أسوؤها، ومن الأسماء أشنؤها، ومن الأذهان أصدؤها، ومن القدود أحقرها؛ تجحده المراكب، وتجهله المواكب؛ وتعرفه ظهور السوابك «3» ، وتألفه سباطات «4» المبارك. والله الموفّق. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 102 الباب الثالث من القسم الثالث من الفنّ الثالث فى الإبل والبقر والغنم ذكر ما قيل فى الإبل الإبل جمع لا واحد لها من لفظها. والذّكر منها جمل، والأنثى ناقة. والبعير يقع عليهما. ودليل ذلك قول بعض الشعراء: لا نشتهى لبن البعير وعندنا ... عرق الزّجاجة «3» واكف المعصار والإبل من منن الله الجسيمة على خلقه، ومما منحهم به من إرفاقه ورزقه. قال الله تعالى: (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ. وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) . وقال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ. وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ. وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ) . ولنذكر ما جاء من لغة العرب فى الإبل من تسميتها «4» من حين تولد إلى أن تتناهى سنّها، وأسماء ما يركب منها ويحمل عليه، وما اختصّت به النوق من الأسماء والصّفات؛ ونذكر ألوان الإبل وما قالوه فى ترتيب سيرها، وفى المسير عليها والنزول؛ ثم نذكر بعد ذلك الجزء: 10 ¦ الصفحة: 103 أصناف الإبل وما قيل فى عاداتها وطبائعها. فإذا [أوردنا «1» ] ذلك، ذكرنا ما ملكه رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، وما جاء فى أوصاف الإبل من الشعر؛ فنقول وبالله التوفيق. *** أمّا تسميتها من حين «2» تولد إلى أن تتناهى سنّها - فقد قالت العرب: ولدها حين يسلّ من أمّه «سليل» «3» ثم «سقب» و «حوار» «4» إلى سنة، وجمعه أحورة وحيران. وهو «فصيل» إذا فصل عن أمّه. وهو فى السنة الثانية «ابن مخاض» - لأن أمّه تلقح فتلحق بالمخاض وهى الحوامل، وواحدتها من غير لفظها «خلفة» - والأنثى «بنت مخاض» . فإذا دخل فى الثالثة فهو «ابن لبون» ، والأنثى «بنت لبون» ؛ لأن أمّه صارت ذات لبن. وهو فى الرابعة «حقّ» ؛ لأنه استحقّ أن يحمل عليه. وهو فى السنة الخامسة «جذع» . وفى السادسة [ «ثنىّ» لأنّه يلقى ثنيّته؛ والأنثى «5» «ثنيّة» ] . و [هو فى «6» ] السابعة «رباع» . وفى السنة الثامنة «سديس» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 104 و «سدس» للذكر والأنثى «1» . وهو فى التاسعة «بازل» إذا فطرنا به، أى طلع. قال الشاعر «2» : وابن اللّبون إذا ما لزّفى قرن «3» ... لم يستطع صولة البزل القناعيس «4» ثم هو بعدها بسنة «مخلف عام» و «بازل عام» ثم «مخلف عامين» و «بازل عامين» ؛ ثم يعوّد، أى يصير عودا وهرما وماجّا «5» . قالوا: والقلوص «6» منها كالجارية من الناس، والقعود كالغلام، والجمع قلائص وقعدان «7» . والبكر: الفتىّ، والبكارة جمع، والأنثى بكرة. ويقال: جمل راش «8» وناقة راشة «9» إذا كثر الشّعر فى آذانهما. *** وأمّا أسماء ما يركب منها ويحمل عليه - فقد قالوا: المطيّة اسم جامع لكل ما يمتطى من الإبل. فإذا اختارها الرجل لمركبه لتمام خلقتها ونجابتها فهى راحلة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 105 وفى الحديث النبوىّ صلوات الله تعالى وسلامه على قائله: «الناس كإبل «1» مائة لا يكاد يوجد فيها راحلة» . فإذا استظهر «2» صاحبها بها وحمل عليها فهى «زاملة» - والناس يقولون فى الرجل العاقل الثابت فى أموره: رجل زاملة، يريدون بذلك مدحه. ووصف ابن بشير رجل فقال: ليس ذلك من الرّواحل إنما هو من الزّوامل- فإذا وجّهها مع قوم ليمتاروا عليها فهى «عليقة» . *** وأمّا ما اختصّت به النوق من الاسماء والصّفات - فإنهم يقولون فيها: «كهاة» و «جلالة» وهى العظيمة، و «عطموس» و «دعبلة» «3» وهى الحسنة الخلقة التامّة الجسم، و «كوماء» وهى الطويلة السّنام، و «وجناء» وهى الشديدة القويّة اللحم. واشتقاقه من الوجين، وهى الحجارة. فإن ازدادت شدّتها فهى «عرمس» «4» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 106 و «عيرانة» . فإذا كانت شديدة كثيرة اللحم فهى «عنتريس» و «عرندس» و «متلاحكة» . فإذا كانت ضخمة شديدة فهى «دوسرة» و «عذافرة» . فإذا كانت حسنة جميلة فهى «شمردلة» . فإذا كانت عظيمة الجوف فهى «مجفرة» . فإذا كانت قليلة اللحم فهى «حرجوج» «1» و «حرف» و «رهب» . *** ومن أوصافها فى السّير - إذا كانت ليّنة اليدين فى سيرها فهى «خنوف» . فإذا كان بها هوج من سرعتها فهى «هوجاء» و «هوجل» . فإذا كانت تقارب الخطو فهى «حاتكة» . فإذا كانت تمشى وكأنها مقيّدة الرّجل وهى تضرب بيديها فهى «راتكة» . فإذا كانت سريعة فهى «عصوف» و «مشمعلة» و «عيهل» و «شملال» و «يعملة» و «همرجلة» «2» و «شمذر» «3» و «شملّة» و «شمردلة» . فإذا كانت تجرّ رجليها فى المشى فهى «مزحاف» «4» و «زحوف» . فإذا كانت لا تقصد فى سيرها من نشاطها فهى «عجرفيّة» . قال الأعشى: وفيها إذا ما هجّرت «5» عجرفية ... إذا خلت حرباء الظّهيرة أصيدا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 107 وأمّا ألوان الإبل - فإنهم قالوا: إذا لم يخالط حمرة البعير شىء فهو «أحمر» . فإن خالطها السواد فهو «أرمك» . فإذا كان أسود يخالط سواده بياض كدخان الرّمث «1» فهو «أورق» «2» . فإذا اشتدّ سواده فهو «جون» . فإن كان [أبيض «3» ] فهو «آدم» . فإن خالط بياضه حمرة فهو «أصهب» . فإن خالطته شقرة فهو «أعيس» «4» . فإن خالطت خضرته «5» صفرة وسواد فهو «أحوى» . فإذا كان أحمر يخالط حمرته سواد فهو «أكلف» . *** وأمّا ترتيب سيرها - «فالعنق» وهو السير المسبطرّ «6» . فإذا ارتفع عنه قليلا فهو «التّزيد» . فإذا ارتفع عن ذلك فهو «الذّميل» . فإذا ارتفع فهو «الرّسيم» . فإذا دارك المشى وفيه قرمطة «7» فهو «الحفد» . فإذا ارتفع عن ذلك وضرب بقوائمه كلّها فذاك «الارتباع» و «الالتباط» . فإذا لم يدع جهدا فذاك «الادرنفاق» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 108 وأما ما قيل فى المسير عليها والنزول للرّاحة والإراحة - فقد قالوا: إذا سار القوم نهارا ونزلوا ليلا فذاك «التّأويب» . فإذا ساروا ليلا ونهارا فذاك «الإساد» . فإذا ساروا من أوّل الليل فهو «الإدلاج» . فإذا ساروا من آخر الليل فهو «الادّلاج» . فإذا ساروا مع الصبح فهو «التّغليس» . فإذا نزلوا للاستراحة فى نصف النهار فهو «التّغوير» . فإذا نزلوا فى نصف الليل فهو «التّعريس» . ذكر أصناف الإبل وعاداتها وما قيل فى طبائعها والإبل ثلاثة أصناف: يمانىّ، وعرابىّ، وبختىّ. فاليمانىّ هو النّجيب، وينزّل بمنزلة العتيق من الخيل. والعرابىّ كالبرذون. والبختىّ «1» كالبغل. ويقال: البخت «2» ضأن الإبل. وهى متولّدة عن فساد منىّ العراب. وحكى الجاحظ أنّ منهم من يزعم أنّ فى الإبل ما هو وحشىّ وأنها تسكن أرض وبار «3» ، وهى غير مسكونة بالناس. وقالوا: ربما ندّ الجمل منها فى الهياج «4» فيحمله ما يعرض له منه على أن يأتى أرض الجزء: 10 ¦ الصفحة: 109 عمان، فيضرب فى أدنى هجمة «1» من الإبل؛ فالإبل المهريّة من ذلك النّتاج. وتسمّى الإبل الوحشيّة «الحوش» «2» . ويقولون: إنها بقايا إبل عاد وثمود ومن أهلكه الله من العرب. والمهريّة منسوبة إلى مهرة «3» (قبيلة باليمن) ؛ وهى سريعة العدو. ويعلفونها من قديد سمك يصاد من بحر عمان. وأمّا البخت- فمنها ما يرهوك «4» مثل البراذين؛ ومنها ما يجمز «5» جمزا ويرقل «6» إرقالا. وفى البخت ماله سنامان فى طول ظهره كالسّرج، ولبعضها سنامان فى العرض عن اليمين وعن الشمال، وتسمّى «الخراسانية» . قالوا: والجمل لا ينزو إلّا مرّة واحدة يقيم فيها النهار أجمع وينزل فيها مرارا كثيرة، فيجىء منها ولد واحد. وهو يخلو فى البرارى حالة النّزو، ولا يدنو منه أحد من الناس إلا راعيه الملازم له. وذكره صلب جدّا؛ لأنه من عصب. والأنثى تحمل سنة كاملة؛ وتلقح لمضىّ ثلاث سنين، وكذلك الذكر ينزو فى هذه المدّة، ولا ينزو عليها إلا بعد سنة من يوم وضعها. وفيه من كرم الطّباع أنه لا ينزو على أمّهاته ولا أخواته. ومتى حمل على أن يفعل حقد على من ألزمه؛ وربما قتله. وليس فى الحيوان من يحقد حقده. وقد قالوا: إنّ العرب إنما اكتسبت الأحقاد لأكلها لحوم الجمال ومداومتها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 110 وفى طبع الجمل الاهتداء بالنّجم، ومعرفة الطّرق، والغيرة، والصولة، والصبر على الحمل الثقيل وعلى العطش. والإبل تميل إلى شرب المياه الكدرة الغليظة؛ وهى إذا وردت ماء الأنهار حرّكته بأرجلها حتى يتكدّر. وهى من عشّاق الشمس. وهى تتعرّف النبات المسموم بالشّمّ من مرّة واحدة فتتجنّبه عند رعيه ولا تغلط إلا فى اليبيس «1» خاصّة. وزعم أرسطو: أنها تعيش ثلاثين سنة فى الغالب. وقال صاحب كتاب مباهج الفكر ومناهج العبر ينقل عن غيره: وقد رئى منها ما عاش مائة سنة. وكانت للعرب عوائد فى إبلها أنها اذا أصاب إبلهم العرّ «2» كووا السليم ليذهب العرّ عن السقيم. وكانوا إذا كثرت إبلهم فبلغت الألف فقئوا عين الفحل؛ فإن زادت على الألف فقئوا عينه الأخرى. وقد ذكرنا ذلك فى أوابد العرب، وهو فى الباب الثانى من الفن الثانى من هذا الكتاب فى السفر الثالث من هذه النسخة. والله أعلم بالصواب. ذكر ما ملكه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإبل كانت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال لها «القصواء» . ذكر ابن سعد عن محمد بن عمر قال حدثنى موسى بن محمد بن إبراهيم التّيمىّ عن أبيه قال: كانت القصواء من نعم بنى الحريش، ابتاعها أبو بكر رضى الله عنه وأخرى معها بثمانمائة درهم فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم منه بأربعمائة؛ فكانت عنده حتى نفقت «3» . وهى التى هاجر عليها صلى الله عليه وسلم. وكانت حين قدم المدينة رباعية، وكان اسمها «القصواء» و «الجدعاء» و «العضباء» ، وكان فى طرف أذنها جدع «4» ، وكانت لا تسبق الجزء: 10 ¦ الصفحة: 111 كلما دفعت فى سباق. فلما كان فى سنة ستّ من الهجرة سابق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الرّواحل، فسبق قعود لأعرابىّ «القصواء» ، ولم تكن تسبق قبلها؛ فشقّ ذلك على المسلمين؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حقّ على الله ألّا يرفع شيئا من الدنيا إلّا وضعه» . وعن قدامة بن عبد الله قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حجّته يرمى على ناقة صهباء. وعن سلمة بن نبيط عن أبيه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حجّته بعرفة على جمل أحمر. وذكر أبو إسحاق أحمد ابن محمد بن إبراهيم الثّعلبىّ فى تفسيره: أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم بعث يوم الحديبية خراش بن أميّة الخزاعىّ قبل عثمان «1» إلى قريش بمكة، وحمله على جمل له يقال له «الثّعلب» ؛ ليبلّغ أشرافهم عنه ما جاء له؛ فعقروا جمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرادوا قتله؛ فمنعته الأحابيش،» فخلّوا سبيله. وكان للنبىّ صلى الله عليه وسلم عشرون لقحة «3» بالغابة (وهى على بريد من المدينة من طريق الشام) وكان فيها أبو ذرّ، وكان فيها لقائح غزر «4» : الحنّاء» و «السّمراء» و «العريس» «5» و «السّعديّة» و «البغوم» «6» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 112 و «اليسيرة» «1» و «الرّيّا» «2» . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فرّقها على نسائه؛ فكانت «السّمراء» لقحة غزيرة لعائشة؛ وكانت العريّس لأمّ «سلمة» ؛ فأغار عليها عيينة بن حصن فى أربعين فارسا فاستاقوها وقتلوا ابن «3» أبى ذرّ؛ ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى انتهوا إلى ذى قرد «4» فاستنقذوا منها عشرا وأفلت القوم بما بقى؛ وقيل: بل استنقذها كلّها منهم سلمة بن «5» الأكوع حين يقول: ما خلق الله شيئا من ظهر «6» النبىّ صلى الله عليه وسلم إلا خلّفته وراء ظهرى واستنقذته منهم؛ وذلك فى شهر ربيع الأوّل سنة ستّ. وكانت لقاحه صلى الله عليه وسلم، التى كان يرعاها يسار مولاه بذى الجدر ناحية قباء قريبا من عير «7» على ستة أميال من المدينة، خمس عشرة لقحة غزارا استاقها الجزء: 10 ¦ الصفحة: 113 العرنيّون «1» وقتلوا يسارا وقطعوا يده ورجله وغرزوا الشوك فى لسانه وعينيه حتى مات. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فى إثرهم كرز «2» بن جابر الفهرىّ فى عشرين فارسا؛ فأدركوهم وربطوهم وأردفوهم على الخيل حتى قدموا بهم المدينة، فقطّعت أيديهم وأرجلهم وسملت «3» أعينهم وصلبوا. وفيهم نزل: (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) الآية؛ وذلك فى شوّال سنة ستّ. وفقد النبىّ صلى الله عليه وسلم منها لقحة تدعى «الحنّاء» ؛ فسأل عنها فقيل: نحروها. وقيل: كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم سبع «4» لقائح تكون بذى الجدر؛ وتكون بالجمّاء «5» : لقحة تدعى «مهرة» وكانت غزيرة، أرسل بها سعد بن عبادة من نعم بنى عقيل، ولقحة تدعى «بردة» تحلب كما تحلب لقحتان غزيرتان، أهداها له الضحّاك بن سفيان الكلابىّ، «والشّقراء» و «الرّيّا» «والسّمراء» «والعريّس» «واليسيرة» «والحنّاء» يحلبن ويراح إليه بلبنهنّ كلّ ليلة. وفى غزاة بدر غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم جمل «6» أبى جهل وكان مهريّا يغزو عليه ويضرب فى لقاحه. ذكره الطبرىّ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 114 وعن ابن عباس رضى الله عنهما: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى عام الحديبية فى هداياه «1» جملا لأبى جهل فى رأسه برة «2» من فضّة؛ ليغيظ بذلك المشركين. ذكره ابن إسحاق. وقيل: كانت للنبى صلى الله عليه وسلم لقحة اسمها «مروة» . وقال ابن الكلبىّ: إن عياض بن حماد أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم نجيبة، وكان صديقا له إذا قدم عليه مكة لا يطوف إلا فى ثيابه؛ فقال له: «أسلمت» ؟ قال: لا؛ قال: «إن الله نهانى عن زبد «3» المشركين» . فأسلم؛ فقبلها. ذكر شىء مما وصفت به الإبل نظما ونثرا قال بعض من عظّم شأن الإبل: إن الله تعالى لم يخلق نعما خيرا من الإبل؛ إن حملت أثقلت، وإن سارت أبعدت، وإن حلبت أروت، وإن نحرت أشبعت. وقال بشامة «4» يصف ناقة: كأنّ يديها إذا أرقلت ... وقد حرن ثم اهتدين السّبيلا يدا سابح خرّ فى غمرة ... وقد شارف الموت إلا قليلا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 115 إذا أقبلت قلت مشحونة ... أطاعت لها الرّيح قلعا جفولا وإن أدبرت قلت مذعورة ... من الرّبد تتبع هيقا ذمولا «1» وقال أبو تمّام: وبدّلها السّرى بالجهل حلما ... وقدّ أديمها قدّ الأديم بدت كالبدر فى ليل بهيم ... وآبت مثل عرجون «2» قديم وقال الخطيم «3» الخزرجىّ: وقد ضمرت حتى كأن وضينها «4» ... وشاح عروس جال منها على خصر وقال ابن دريد: خوص كأشباح الحنايا ضمّر ... يرعفن بالأمشاج من جذب البرى «5» يرسبن فى بحر الدّجى، وفى الضّحى ... يطفون فى الآل إذا الآل طفا «6» وقال عبد الجبّار بن حمديس: ومن سفن البرّ سبّاحة ... من الآل بحرا إذا ما اعترض الجزء: 10 ¦ الصفحة: 116 لها شرّة «1» لا تبالى بها ... أطال بها سبسب «2» أم عرض إذا خفق البرد «3» خلتنى ... على كورها طائرا ينتفض وإن يعرض البعض «4» من سيرها ... ترى العيس من خلفها تنقرض «5» هى القوس إنّى لسهم لها ... أصيب بكل فلاة عرض وقال الشريف البياضىّ: نوق تراها كالسّفي ... ن إذا رأيت الآل بحرا كتب الوجا «6» بدمائها «7» ... فى مهرق «8» البيداء سطرا لا تستكين من اللّغو ... ب إذا ولا يعرفن زجرا وكأن أرجلهن تط ... لب عند أيديهنّ وترا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 117 وقال أبو عبادة البحترىّ: وخدان «1» القلاص حولا إذا قا ... بلن حولا من أنجم الأسحار يترقرقن كالسّراب «2» وقد خض ... ن غمارا من السّراب الجارى كالقسىّ المعطّفات بل الأس ... هم مبريّة بل الأوتار وقال ذو الرّمّة يصف ناقة: رجيعة «3» أسفار كأن زمامها ... شجاع على «4» يسرى الذّراعين مطرق ومنه اخذ المتنبى فقال: كأنّ على الأعناق منها الأفاعيا وقال أبو نواس يصفها بالسرعة: وتجشّمت بى هول كلّ تنوفة «5» ... هو جاء فيها جرأة «6» إقدام تذر المطىّ وراءها «7» وكأنها ... صفّ تقدّمهنّ وهى إمام الجزء: 10 ¦ الصفحة: 118 وقال الفرزدق منشدا: تنفى يداها الحصى فى كلّ «1» هاحرة ... نفى الدّراهيم «2» تنقاد الصّياريف «3» وقال آخر: تطير مناسمها بالحصى ... كما نقد الدرهم الصّيرف وقال الغطمّش «4» : كأن يديها حين جدّ نجاؤها ... يدا سابح فى غمرة يتبوّع «5» وقال آخر فى نوق: خوص نواج إذا حثّ الحداة بها ... حسبت أرجلها قدّام أيديها وقال القطامىّ: يمشين رهوا «6» فلا الأعجاز خاذلة ... ولا الصدور على الأعجاز تتّكل فهنّ معترضات «7» والحصى رمض «8» ... والرّيح ساكنة والظلّ معتدل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 119 وقال أبو نواس: ولقد تجوب بى الفلاة إذا ... صام «1» النّهار وقالت العفر «2» شدنيّة «3» رعت الحمى فأتت ... مثل الجبال كأنها قصر وقال الأحمر «4» : حمراء من نسل المهارى نسلها ... إذا ترامت يدها ورجلها حسبتها غيرى استفزّ عقلها ... أتى «5» التى كانت تخاف بعلها ذكر ما قيل فى البقر الأهلية عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «بينا رجل يسوق بقرة إذ ركبها فضربها فقالت إنّا لم نخلق لهذا إنما خلقنا للحرث» ؛ فقال الناس: سبحان الله بقرة تكلّم! قال: «فإنى أو من بهذا أنا وأبو بكر وعمر» وما «6» هما ثمّ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 120 وقال أصحاب الكلام فى طبائع الحيوان: إنّ الفحل من البقر ينزو إذا تمّت له سنة من عمره؛ وقد ينز ولعشرة أشهر. والبقرة إذا ولدت تحدّر لبنها من يومها، ولا يوجد لها لبن قبل أن تضع. وهى تحمل تسعة أشهر وتضع فى العاشر؛ فإن وضعت قبل ذلك لا يعيش ولدها. وربما وضعت اثنين، وهو نادر. وهم يتشاءمون بها إذا وضعت اثنين. وإذا مات ولدها أو ذبح لا يسكن خوارها ولا يدرّ لبنها؛ ولذلك الرّعاء يسلخون جلد ولدها ويحشونه لتدرّ له وتسكن، ويسمونه «البوّ» . والبقر يحبّ الماء الصافى، بضدّ الخيل والجمال. وقال المسعودىّ فى كتابه المترجم بمروج الذهب: رأيت بالرّىّ نوعا من البقر تبرك كما تبرك الإبل وتحمل فتثور بحملها، والغالب عليها حمرة الحدق. وحكى أسامة «1» بن منقذ فى كتابه «2» أن فى «3» بعض البلدان بقرا لها أعراف كالخيل. ولعلّها الأبقار التى توجد فيها البراجم. والبراجم فى أطراف أذنابها وفى أكتافها. ويقال: إنّ أبقار البراجم تخرج من بحر الصّين الجزء: 10 ¦ الصفحة: 121 وهى تلد وترضع «1» ؛ ولذلك يقال البراجم البحريّة. وبأرض مصر بناحيتى دمياط وتنّيس بقر تسمى بقر الخيس «2» ، ضخام حسان الصّور والشّيات، ولها قرون كالأهلّة، وفيها نفور وتوحّش، لا ينتفع بها فى العمل وإنما ينتفع بألبانها. وهى لا تعلف الحبّ، ومأواها حيث يكون العشب والماء الدائم؛ ولها أسماء يدعونها بها إذا أرادوا حلبها، فتقدّم إليهم. وقد وصف الشعراء البقر فى أشعارها؛ فمن ذلك قول أحمد «3» بن علوّيه الأصبهانىّ: يا حبّذا محضها «4» ورائبها ... وحبّذا فى الرّجال صاحبها عجّولة «5» سمحة مباركة ... ميمونة طفّح محالبها تقبل للحلب كلما دعيت ... ورامها للحلاب حالبها فتيّة سنّها، مهذّبة ... معنّف فى النّدىّ «6» عائبها الجزء: 10 ¦ الصفحة: 122 كانها لعبة مزيّنة ... يطير عجبا بها ملاعبها كأنّ ألبانها جنى عسل ... يلذّها فى الإناء شاربها عروس باقورة «1» إذا برزت ... من بين أحبالها ترائبها كأنها هضبة إذا انتسبت «2» أو بكرة قد أناف «3» غاربها تزهى بروقين كاللّجين إذا ... مسّهما بالبنان طالبها لو أنها مهرة لما عدمت ... من أن يضمّ السرور راكبها وأنشدنى شمس الدين بن دانيال لنفسه: لله عجلة خيس ... صفراء ذات دلال تريك عينى مهاة ... من تحت قرنى غزال قد سربلت بأصيل ... وتوّجت بهلال وقال شاعر «4» يصف صوت الحلب: كأنّ صوت شخبها «5» المرفضّ ... كشيش «6» أفعى أجمعت لعضّ وهى تحكّ بعضها ببعض وقال: كأن صوت شخبها غديّه ... هفيف ريح أو كشيش حيّه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 123 ذكر ما قيل فى الجاموس قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ: والجواميس هى ضأن البقر. والجاموس أجزع الحيوان من البعوض وأشدّها هربا منه إلى الماء؛ وهو يمشى إلى الأسد رخىّ البال، رابط الجأش، ثابت الجنان. وقد حكى عن المعتصم بالله العباسىّ أنه أبرز للاسد جاموستين فغلبتاه، ثم أبرز له جاموسة ومعها ولدها فغلبته وحمت ولدها، ثم أبرز له جاموسا مفردا فواثبه ثم أدبر عنه. هذا على ما فى الأسد من القوّة فى فمه وكفّه والجرأة العظيمة والوثبة وشدّة البطش والصبر والحضر والطّلب والهرب؛ وليس ذلك فى الجاموس، ولا يستطيل بغير قرنه، وليس فى قرنه حدّة قرن بقر الوحش؛ فإذا قوى الجاموس مع ذلك حتى يقاوم الأسد دلّ على قوّة عظيمة. ولذلك قدّم الجاحظ الجاموس على الأسد، وعلّل تقديمه عليه بهذه العلّة. وليس ما حكى عن المعتصم فى أمر الجاموس وغلبته للأسد بعجيب؛ فإنّ الجواميس بالأغوار تقاتل الأسد وتمانعه وتدفعه فلا يقدر على قهرها. وأصحاب الجواميس هناك منهم من يغلّف قرونها بالنّحاس ويحدّدون أطرافه، يقصدون «1» بذلك إعانته على حرب الأسد وقتاله. والجاموس عندنا بالديار المصرية يقاتل التّمساح الذى هو أسد البحر ويتمكّن منه ويقهره فى الماء؛ فهو قد جمع بين قتال أسد البرّ وأسد البحر. وله قدرة عظيمة على طول المكث فى قعر البحر. والتماسيح لا تكاد تأوى موارد الجواميس من بحر النيل وتتجنّب أماكنها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 124 والجواميس فى أرض الشأم من الأغوار والسواحل والأماكن الحارّة الكثيرة المياه ينتفع بها فى الحرث والحمولة وجرّ العجل وحلب ألبانها. وأمّا [فى «1» ] الدّيار المصرية فلا يستعملونها «2» البتّة ولا ينتفعون بها إلا بما يتحصّل من ألبانها ونتاجها. وفحول الجواميس يكون بينها قتال شديد ومحاربة؛ فأيّما فحل غلب وقهره خصمه، لا يأوى ذلك المراح، بل ينفرد بنفسه فى الجزائر الكثيرة العشب شهورا وهو يأكل من تلك الأعشاب ويشرب من ماء النيل، وينفرد خصمه بالإناث؛ فإذا علم الهارب من نفسه القوّة والجلد، رجع إلى المراح وقد توحّش واستطال، ويكون خصمه قد ضعفت قواه فلا يقوم «3» بمحاربته؛ ولكنه لا يولّى عنه إلا بعد محاربته. فإذا قهره ترك الآخر المراح وتوجّه إلى جزيرة وفعل كما فعل الأوّل وعاد إلى خصمه. ولبن الجاموس من ألذّ الألبان وأدسمها. والرّعاء يسمّون كلّ جاموسة باسم تعرفه إذا دعيت به إلى الحلب، فتجيب وتأتيه وتقف حتى يحلبها. ذكر ما قيل فى الغنم الضّأن والمعز روى عن أنس بن مالك وعطاء رضى الله عنهما: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الغنم بركة موضوعة» . وعن أبى سعيد الخدرىّ رضى الله عنه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 125 قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوشك أن يكون خير مال المسلم «1» غنما يتبع بها شعف «2» الجبال ومواقع القطر يفرّ بدينه من الفتن» . وعن أبى هريرة رضى الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رأس الكفر نحو المشرق والفخز والخيلاء فى أهل الخيل والإبل والفدّادين «3» أهل الوبر والسكينة فى أهل الغنم» . ومن فضل الغنم ما رواه أبو هريرة رضى الله عنه: أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «ما بعث الله نبيّا إلا ورعى الغنم» . فقال له أصحابه: وأنت يا رسول الله؟ قال: «نعم [كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة «4» ] » . وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الغنم مائة شاة لا يريد أن تزيد كلّما ولّد الراعى بهمة ذبح مكانها شاة. وقال ابن الأثير فى تاريخه: وكان له شاة تسمى «غوثة «5» » ، وقيل «غيثة» ، وعنز الجزء: 10 ¦ الصفحة: 126 تسمى «اليمن» . وذكر بعض المتأخّرين من أهل الحديث أنّ مكحولا سئل عن جلد الميتة، فقال: كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة تسمى «قمر» ؛ ففقدها فقال: «ما فعلت قمر» ؟ فقالوا: ماتت يا رسول الله؛ قال: «ما فعلتم بإهابها» ؟ قالوا: ميتة؛ قال: «دباغها طهورها» . قال الشيخ شرف الدين عبد المؤمن بن خلف الدّمياطى رحمه الله تعالى فى كتاب [فضل] الخيل: وكانت منائح رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغنم سبعا: «عجرة» و «زمزم «1» » و «سقيا» و «بركة» و «ورشة» و «أطلال» و «أطراف «2» » . وعن ابن عبّاس رضى الله عنهما قال: كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم سبع أعنز منائح ترعاهنّ أمّ أيمن. قال: والمنيحة: الناقة والشاة تعطيها غيرك فيحلبها ثم يردّها عليك. قال أبو عبيد: للعرب أربعة أسماء تضعها مواضع العارية، وهى: المنيحة، والعريّة، والإفقار «3» ، والإخبال «4» . ذكر ترتيب سنّ الغنم ولد الشاة حين تضعه ذكرا كان أو أنثى «سخلة» و «بهمة» . فإذا فصل عن أمّه فهو «حمل» و «خروف» . فإذا أكل واجترّ فهو «بذج» «5» و «فرفور» . فإذا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 127 بلغ النّزو فهو «عمروس» . وكلّ أولاد الضأن والمعز فى السنة الثانية «جذع» ؛ وفى الثالثة «ثنىّ» ؛ وفى الرابعة «رباع» ؛ وفى الخامسة «سديس» ؛ وفى السادسة «سالغ «1» » . وليس له بعد هذا اسم. ويقال لولد المعز: «جفر» ثم «عريض» «وعتود» و «عناق» . والغنم، الضأن والمعز، تضع حملها فى خمسة أشهر. وتلد النعجة رأسا إلى ثلاثة، والعنز من الرأس إلى أربعة. وينزو الذكر بعد مضىّ ستة شهور من ميلاده. وتحمل الأنثى بعد مضىّ خمسة أشهر من يوم ولدت. ويجزّ صوف الضأن عنها فى كل سنة. ولحوم الضأن من أطيب اللّحمان؛ وكذلك ألبانها. وقد أطنب الجاحظ فى المفاخرة بين الضأن والمعز وأطال وأتى بالغثّ والسّمين. وكتب أبو الخطّاب الصابى إلى الحسين بن صبرة جوابا عن رقعة أرسلها إليه فى وصف حمل أهداه إليه، جاء منها: «وصلت رقعتك؛ ففضضتها عن خطّ مشرق، ولفظ مؤنق؛ وعبارة مصيبة، ومعان غريبة؛ واتّساع فى البلاغة يعجز عنه عبد الحميد فى كتابته، وسحبان فى خطابته. وذكرت فيها حملا، جعلته بصفتك جملا؛ وكان كالمعيدىّ أسمع به ولا أراه «2» . وحضر، فرأيت كبشا متقام الميلاد، من نتاج قوم عاد؛ قد أفنته الدهور، وتعاقبت عليه العصور؛ فظننته أحد الزوجين «3» اللذين حملهما نوح فى سفينته، وحفظ بهما جنس الغنم لذريّته. صغر عن الكبر، ولطف فى القدر؛ فبانت دمامته، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 128 وتقاصرت قامته؛ وعاد نحيفا ضئيلا، باليا هزيلا؛ بادى السّقام، عارى العظام؛ جامعا للمعايب، مشتملا على المثالب؛ يعجب العاقل من حلول الروح فيه؛ لأنه عظم مجلّد، وصوف ملبّد؛ لا تجد فوق عظامه سلبا «1» ، ولا تلقى اليد منه إلا خشبا؛ لو ألقى للسّبع لأباه، أو طرح للذئب لعافه وقلاه؛ وقد طال للكلأ فقده، وبعد بالمرعى عهده؛ لم ير القتّ «2» إلّا نائما، ولا الشعير إلا حالما. وقد خيّرتنى بين أن أقتنيه فيكون فيه غنى الدهر، أو أذبحه فيكون فيه خصب الشّهر؛ فملت إلى استبقائه؛ لما تعلمه من محبّتى فى التوفير، ورغبتى فى التّثمير؛ وجمعى للولد، وادّخارى لغد؛ فلم أجد فيه مستمتعا للبقاء، ولا مدفعا للفناء؛ لأنه ليس بأنثى فيحمل، ولا بفتىّ فينسل، ولا بصحيح فيرعى «3» ، ولا بسليم فيبقى؛ فملت إلى الثانى من رأييك، وعملت بالآخر من قوليك؛ وقلت: أذبحه فيكون وظيفة للعيال، وأقيمة رطبا مقام قديد الغزال؛ فأنشدنى وقد أضرمت النار، وحدّدت الشّفار، وشمّر الجزّار: أعيذها نظرات منك صادقة ... أن تحسب الشّحم فيمن شحمه ورم وما الفائدة لك فى ذبحى! وإنما أنا كما قيل: لم يبق إلّا نفس خافت ... ومقلة إنسانها باهت ليس لى لحم يصلح» للأكل، فإنّ الدهر أكل لحمى؛ ولا جلد يصلح للدّبغ، فإن الأيام مزّقت أديمى؛ ولا صوف يصلح للغزل، فإن الحوادث حصّت «5» وبرى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 129 وإن أردتنى للوقود فكفّ بعر أدفأ من نارى، ولم تف حرارة جمرى برائحة قتارى «1» . ولم يبق إلّا أن تطالبنى بذحل «2» أو بينى وبينك دم. فوجدته صادقا فى مقالته، ناصحا فى مشورته. ولم أعلم من أىّ أموره أعجب: أمن مماطلته الدّهر على البقاء، أم من صبره على الضّر والبلاء، أم من قدرتك عليه مع عوز مثله، أم من إتحافك الصديق به على خساسة قدره. ويا ليت شعرى إذا «3» كنت والى سوق الأغنام، وأمرك ينفذ فى المعز والضأن؛ وكلّ حمل سمين، وكبش بطين؛ مجلوب «4» إليك، وموقوف عليك، تقول فيه فلا تردّ، وتريد فلا تصدّ؛ وكانت هديّتك هذا الذى [كأنه «5» ] انشر من القبور، أو أقيم عند النّفخ فى الصّور؛ فما كنت مهديا لو أنك رجل من عرض الكتّاب، كأبى علىّ وأبى الخطّاب! ما تهدى إلّا كلبا أجرب، أو قردا أحدب. وقال شاعر فى هذا المعنى: ليت شعرى عن الخروف الهزيل ... ألك الذّنب فيه أم للوكيل لم أجد فيه غير جلد وعظم ... وذنيب له دقيق طويل ما أرانى أراه يصلح إذ أص ... بح رسما على رسوم الطّلول لا لشيّ ولا لطبخ ولا بي ... ع ولا برّ صاحب وخليل أعجف لو مطفّل نال منه ... لغدا تائبا عن التّطفيل «6» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 130 وقال شرف الدّين بن عين وقد أهدى له بعض أصدقائه خروفا بعد ما مطله به: أتانى خروف ما تشكّكت أنّه ... حليف جوى قد شفّه الهجر والمطل إذا قام فى شمس الظهيرة خلته ... خيالا سرى فى ظلمة ماله ظلّ فناشدته: ما تشتهى؟ قال: قتة ... وقاسمته «1» : ما شفّه؟ قال لى: الأكل فأحضرتها خضراء مجّاجة الثرى ... منعّمة ما خصّ أطرافها فتل وظلّ يراعيها بعين ضعيفة ... وينشدها والدّمع فى الخدّ منهلّ: «أتت وحياض الموت بينى وبينها ... وجادت بوصل حين لا ينفع الوصل» وقال الحمدونىّ فى المعزى: أبا سعيد لنا فى شاتك العبر ... جاءت وما إن بها بول ولا بعر وكيف تبعر شاة عندكم مكثت ... طعامها الأبيضان: الشمس والقمر لو أنّها أبصرت فى نومها علفا ... غنّت له ودموع العين تنحدر: «يا مانعى لذّة الدنيا بما رحبت ... إنى ليقنعنى من وجهك النظر» وقال أيضا: ما أرى إن ذبحت شاة سعيد ... حاصلا فى يدىّ غير الإهاب ليس إلّا عظامها، لو تراها ... قلت هذى أرازن «2» فى جراب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 131 وقال فيها: لسعيد شويهة ... سلّها الضّرّ والعجف قد تغنّت وأبصرت ... رجلا حاملا علف: بأبى من بكفّه ... برء دائى من الدّنف فأتاها مطمّعا ... فأتته لتعتلف فتولّى وأقبلت ... تتغنّى من الأسف: ليته لم يكن وقف ... عذّب القلب وانصرف الجزء: 10 ¦ الصفحة: 132 القسم الرابع من الفن الثالث فى ذوات السموم ، وفيه بابان الباب الأوّل من هذا القسم فى ذوات السموم القواتل. ويشتمل هذا الباب على ما قيل فى الحيّات والعقارب. ذكر ما قيل فى الحيّات الحيّات مختلفات الجهات جدّا. وهى من الأمم التى يكثر اختلاف أجناسها فى الصّور والشّيم، والصّغر والعظم، وفى التعرّض للناس وفى الهرب منهم. فمنها «1» ما لا يؤذى إلا أن تطأها. ومنها ما يؤذى إذا وطئت فى حماها. ومنها ما لا يؤذى فى تلك الحال إلا أن تكون على بيضها أو فراخها. ومنها ما لا يؤذى إلّا أن يكون الناس قد آذوها مرّة. فأمّا «الأسود» فإنه يحقد ويطالب ويكمن فى المتاع حتى يدرك؛ وله زمان يقتل فيه كلّ شىء نهشه. وأما «الأفعى» فليس ذلك عندها، ولكنها تظهر فى الصيف مع أوائل الليل إذا سكن وهج الرّمل أو ظاهر الأرض، فتأتى قارعة الطريق حتى تستدير كالرّحى وتشخص رأسها؛ فمن وطئ عليها أو مسّها نهشته. وهى من الحيّات التى ترصد؛ وهى تقتل فى كل زمان وعلى كل حال. و «الشّجاع» يواثب ويقوم على ذنبه. والحيّات أصناف كثيرة سنذكر ما أمكن ذكره منها إن شاء الله. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 133 والعرب تضرب المثل فى الظلم بالحيّة فيقولون: «أظلم من حيّة» ، لأنها لا تتخذ لنفسها بيتا، وكل بيت قصدت نحوه هرب أهله منه وأخلوه لها. والحيّة مشقوقة اللسان، ولسانها أسود. وزعم بعض المفسرين لكتاب الله عز وجل أنّ الله تعالى عاقب الحيّة، حين أدخلت إبليس فى فمها حتى خاطب آدم وحواء وخدعهما، بعشرة أشياء: منها شقّ لسانها؛ فلذلك ترى الحيّة إذا ضربت لتقتل كيف تخرج لسانها لترى الضارب لها عقوبة الله تعالى، كأنها تسترحم. ويقال: إن من خصائص الحيّة أنّ عينها إذا قلعت عادت، وكذلك نابها إذا قلع أو قطع بالكاز «1» عاد بعد ثلاث ليال؛ وكذلك ذنبها إذا قطع عاد. وفى طباعها أنها تهرب من الرجل العريان، وتفرح بالنار وتطلبها وتعجب بها، وباللبن والبطيخ واللّفّاح «2» والخردل. وهى لا تضبط نفسها عن الشّراب إذا شمّته؛ وإذا وجدته شربت منه حتى تسكر؛ فربما كان السّكر سبب حتفها؛ لأنها إذا سكرت خدرت. وتكره الحيّة ريح السّذاب «3» ولا تملك نفسها [معه «4» ] ، وربما اصطيدت به؛ وتكره ريح الشّيح. والحيّة تذبح حتى تفرى أوداجها فتبقى أياما لا تموت. ومتى ضربت بالقصب الفارسىّ ماتت، وإن ضربت بسوط قد مسّه عرق الخيل ماتت. ويقال: إنها لا تموت حتف أنفها إلا أن تقتل. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 134 ومن أعجب ما شاهدته أنا من الأفاعى أنها قطّعت بحضورى بالبيمارستان «1» المنصورى بالقاهرة المعزّيّة فى شهور سنة ستّ وسبعمائة بسبب عمل الدّرياق الفاروق «2» ؛ وقطع من رأسها وذنبها ما جرت العادة بقطعه، وسلخت وشقّ بطنها ونظّفت وهى تختلج، ثم سلقت وجرّد لحمها عن العظم، فنظرت إليه فإذا هو يختلج؛ فعجبت لذلك؛ وذكرته لرئيس الأطبّاء علم الدّين «3» المعروف بابن أبى حليقة وهو حاضر فى المجلس، فقال: ليس هذا بأعجب مما تراه الان، وقال لى: استدع أقراص الأفاعى التى عملت من أكثر من سنة؛ فاستدعيتها، فأحضرها الخازن وهى فى العسل وقد دقّ لحم الأفاعى بعد سلقه وعجن بالسّميذ وجعل أقراصا ووضع فى العسل من أكثر من سنة؛ فقال لى: تأمّل الأقراص؛ فتأملتها فإذا هى تضطرب اضطرابا خفيفا «4» . وقال الجاحظ: وزعم صاحب المنطق أنّ الحيّات تنسلخ عن جلودها فى كل عام فى أوّل فصل الربيع أو الخريف؛ وتبتدئ بالسّلخ من عيونها ويتمّ سلخها فى يوم وليلة، ويصير داخل الجلد هو الخارج. وإذا هرمت وعجزت عن السلخ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 135 وارتخى جسمها أدخلت جسمها بين عودين أو فى صدع ضيق حتى تنسلخ، ثم تأتى إلى عين ماء فتنغمس فيها فيشتدّ لحمها ويعود إلى قوّته وشدّته. قال الجاحظ: وليس فى الأرض مثل جسم الحيّة إلا والحيّة أقوى بدنا منه أضعافا. ومن قوّتها أنها إذا أدخلت صدرها فى حجر أو صدع لم يستطع أقوى الناس وقد قبض على ذنبها بكلتا يديه أن يخرجها، لشدّة اعتمادها وتعاون أجزائها؛ وربما انقطعت فى يد الجاذب لها. فإذا أراد أن يخرجها أرسلها بعض إرسال ثم يجذبها كالمختطف لها. قال: ومن أصناف الحيّات ما هو أزعر، وما هو أزبّ (ذو شعر) ، ومنها ذوات قرون. ومنها ما يسمى الأسود وهو ما إذا كان مع الأفاعى فى جونة «1» وجاع ابتلعها من قبل رءوسها، ومتى رام ذلك من غير جهة الرأس عضّته فقتلته. ومن أصنافها ما يسمى «الأصلة» ، وهو ثعبان عظيم جدّا، وله وجه كوجه الإنسان؛ ويقال: إنه يصير كذلك إذا مرّت عليه ألوف من السنين. وهو يقتل بالنظر وبالنفخ. ومنهم من يسمّى هذا النوع الصّلّ، ويقول: إنّ أصل خلقته على هذه الصفة. قال: وفى البادية حيّة يقال لها «الحفّاث» تأكل الفأر وأشباهه. وهى عظيمة، ولها وعيد منكر ونفخ وإظهار للصولة، وليس وراء ذلك شىء؛ والجاهل ربما مات من الفزع منها. قالوا: والثعبان «2» والأفعى فإنه يقتل بما يحدثه من الفزع؛ لأن الرجل إذا فزع تفتّحت مسامّه ومنافسه، فيتوغّل السمّ فى موضع الصّميم «3» وأعماق البدن. فإن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 136 نهشت «1» النائم والمغمى عليه والمجنون والطفل الصغير لم تقتله «2» البتّة. وزعم صاحب المنطق أنّ بالحبشة حيّات لها أجنحة. وأخبرنى المولى شرف الدين أحمد بن اليزدىّ قال: كنت بمدينة الرّملة «3» فى شهور سنة اثنتين وسبعمائة صحبة الصاحب شرف الدين بن الخليل ومعه القاضى الحاكم وجماعة كثيرة من الناس وفيهم عدولى «4» وغيرهم؛ فنظرنا نحو السماء فإذا نحن بحيّتين عظيمتين طائرتين فى الهواء قاصدتين صوب البحر، كلّ منهما فى غلظ الثنيانة «5» ، وإن إحداهما مستقيمة فى طيرانها والأخرى تتعوّج من قبل رأسها ووسطها وذنبها، وكانتا من الأرض بحيث لا يبلغهما السهم، قال: فسطّرنا بذلك محضرا على عدّة نسخ. وحكى بعض المؤرّخين: أنه وجد فى خزائن المستنصر بالله «6» العبيدى أحد خلفاء مصر بيضة محلّاة بالذّهب ظنّوا أنها بيضة نعامة؛ فجعل الناس يتعجّبون من تحليتها الجزء: 10 ¦ الصفحة: 137 بالذّهب؛ فذكروا ذلك للمستكفى، فقال: إنها بيضة حيّة كان بعض الملوك أهداها لجدّى القائم «1» بأمر الله. ومن كتاب نشوار المحاضرة قال حدّثنا أبو إسحاق إبرهيم بن الورّاق قال حدّثنى عمى أبو الحسين «2» : أن الحصينىّ حدّثه عن أبى العبّاس بن الفرات قال حدّثنى أبى قال: قال لى جعفر «3» الخيّاط: أمرنى المأمون ونحن بالروم أن أقتصّ» الطريق لئلا يكون به جواسيس للعدوّ؛ فأخذت معى جماعة من أصحابى فرسانا ورجّالة وسلكت الطريق، فعنّ لى شعب فقصدته لئلا يكون فيه كمين من الجواسيس، وتقدّمنى الرّجّالة فرأيتهم قد وقفوا؛ فأسرعت اليهم وسألتهم عن خبرهم، فقالوا: انظر؛ فنظرت فإذا رجل من الرجّالة قد قعد لقضاء حاجته، ومشى أصحابه، فقصدته حيّة من وراء ظهره فابتلعته من رجليه إلى صدره وهو يستغيث ويصيح؛ فلم يكن لنا فيه حيلة وخفت أن آمر الرّجالة برمى الحيّة بالنّشّاب فيصيب الرجل فأكون أنا قتلته. فبسط الرجل يديه وانتهى بلع الحيّة إلى إبطيه، فرأيتها وقد انضمّت على الجزء: 10 ¦ الصفحة: 138 ما ابتلعته منه ضمّة سمعنا تكسير عظامه فى جوفها، فمات وسقطت يداه فابتلعته حينئذ بأسره. فقلت: الآن أقصدوها بالنّشّاب؛ فرشقناها جميعا فأثبتناها فى موضعها حتى قتلناها؛ فأمرت بشق بطنها لأعاين جسم الرّجل، فلم نجد فى بطنها من جلد ولا عظم ولا غيرهما إلا شيئا كالخيط الأسود، فإذا هى قد أحرقته فى لحظة واحدة. ويقال: إن بجزائر الصين حيات تبتلع الإبل والبقر وشبهها. قال الجاحظ: حدّثنى أبو جعفر المكفوف النحوىّ العنبرىّ وأخوه روح الكاتب ورجال من بنى العنبر: أنّ عندهم فى رمال بلعنبر حيّة تصيد العصافير وصغار الطير بأعجب حيلة؛ وزعموا أنها إذا انتصف النهار واشتدّ الحرّ فى رمال بلعنبر وامتنعت الأرض على الحافى والمنتعل، غمست هذه الحيّة ذنبها فى الأرض ثم انتصبت كأنها عود مركوز أو عود نابت «1» ، فيجىء الطائر الصغير والجرادة، فإذا رأى عودا قائما وكره الوقوع على الرّمل لشدّة حرّه وقع على رأس الحيّة على أنها عود، فإذا وقع على رأسها قبضت عليه. فإن كان جرادة أو جعلا أو بعض ما لا يشبعها ابتلعته وبقيت على انتصابها؛ وإن كان طائرا يشبعها أكلته وانصرفت؛ وإن ذلك دأبها ما منع الرمل جانبه فى الصيف والقيظ. قال: وزعم لى رجال من الصّقالبة خصيان وفحول أنّ الحيّة فى بلادهم تأتى البقرة المحفّلة «2» فتنطوى على فخذيها وركبتيها إلى عراقيبها ثم تشخص صدرها نحو أخلاف ضرعها حتى تلتقم الخلف، فلا تستطيع البقرة مع قوّتها أن تترمرم «3» ؛ فلا تزال الحيّة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 139 تمصّ اللبن، وكلما مصّت استرخت؛ فإذا كادت تتلف أرساتها. وزعموا أنّ تلك البقرة إما أن تتلف، وإما أن يصيبها داء فى ضرعها وفساد شديد يعسر دواؤه. وهذا الباب طويل؛ وقد أوردنا منه ما فيه غنية. فلنذكر ما قيل فى أصناف الحيّات وأوصافها. ذكر أسماء الحيّات وأوصافها - يقال: «الجانّ» «1» و «الشيطان» هى الحيّة الخبيثة. و «الحنش» : ما يصاد من الحيّات. و «الحيّوت» : الذكر منها. و «الحفّاث» و «الحضب» «2» : الضخم منها. و «الأسود» : العظيم وفيه سواد؛ ويقال: الأسود هو الداهية؛ وله خصيتان كخصيتى الجدى، وشعر أسود، وعرف طويل، وصنان كصنان التّيس. و «الشّجاع» : أسود أملس يضرب إلى البياض، خبيث؛ ويقال: إنه دقيق لطيف. و «الأعيرج» : حيّة صمّاء لا تقبل الرّقى وتطفر كما تطفر الأفعى. ويقال: الأعيرج: حيّة أريقط نحو من ذراع، وهو أخبث من الأسود. وقال ابن الأعرابىّ: الأعيرج أخبث الحيّات، يقفز على الفارس حتى يصير معه فى سرجه. وقال الليث عن الخليل: الأفعى التى لا تنفع معها رقية ولا درياق، وهى دقيقة العنق عريضة الرأس. وقال غيره: هى التى إذا مشت منثنية جرشت بعض أسنانها ببعض. وقال غيره: هى التى لها رأس عريض ولها قرنان. والأفعوان» : الذكر من الأفاعى. و «العربدّ» و «العسودّ» حية تنفخ ولا تؤذى. و «الأرقم» : الذى فيه سواد وبياض، و «الأرقش» نحوه. و «ذو الطّفيتين» : الذى له خطّان أسودان. و «الأبتر» : القصير الذنب. و «الخشخاش» : الحيّة الخفيفة. و «الثعبان» : العظيم منها، وكذلك «الأيم» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 140 و «الأين» . و «ابن قترة» : حيّة شبيهة بالقضيب من الفضّة فى قدر الشّبر والفتر، وهى أخبث الحيّات، فإذا قرب من الانسان تراءى فى الهواء فوقع عليه من أعلاه. و «ابن طبق» : حيّة صفراء؛ ومن طبعها أن تنام ستة أيام ثم تنتبه فى اليوم السابع. ولا تنفخ شيئا إلا أهلكته قبل أن يتحرّك. وربما مرّ بها الرجل وهى نائمة فيأخذها كأنها سوار من ذهب، فإن استيقظت وهى فى كفّه خرّ ميتا. ومن أمثال العرب «أصابته إحدى بنات طبق» . قال الليث: «السّفّ» «1» : الحيّة التى تطير فى الهواء. وأنشد: وحتى لو انّ السّفّ ذا الريش عضّنى ... لما ضرّنى من فيه ناب ولا ثعر «2» و «النّضناض» «3» : الذى لا يسكن فى مكان. ومن أسمائها «القزة» «4» و «الهلال» و «الرّعّاصة» «5» . ذكر ما فى لحوم الحيّات من المنافع والأدوية قال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: والحيّة يستعمل مطبوخها بالماء والملح والشّبث، وقد يزاد عليها الزّيت. قال: وأجود لحمه لحم الأنثى؛ وأجود سلخه «6» سلخ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 141 الذّكر. وطبع «1» الحيّة إلى التجفيف فى لحمها قوىّ؛ وأما التسخين فليس بشديد؛ وسلخه شديد التجفيف أيضا. وخاصيّة لحمه أنه ينفذ الفضول إلى الجلد، سيّما إذا كان الإنسان غير نقىّ. قال: ولحمه إذا استعمل أطال العمر، وقوّى القوّة، وحفظ الحواسّ «2» والشباب- أمّا قوله: «أطال العمر» فيردّ هذا القول ما ورد فى الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «فرغ ربّك من أربع خلق وخلق ورزق وأجل» «3» . وأما ما عدا ذلك فغير مردود عليه-. قال: وأكله ينفع من الجذام نفعا عظيما؛ وإذا استعمل على داء الثعلب «4» نفع نفعا عظيما. ولحمها ومرقها بعد إسقاط طرفها يمنع تزيّد الخنازير «5» ، وكذلك سلخها. ومرقتها إذا تحسّيت «6» وأكل لحمها نفع من أوجاع العصب، وكذلك سلخها. قال: وسلخها إذا طبخ فى شراب وقطّر منه فى الأذن سكن وجعها؛ ويتمضمض بخلّ طبخ فيه السّلخ لوجع السّن. قال: وزعم جالينوس أنه إذا أخذت خيوط كثيرة، وخصوصا المصبوغة بالأرجوان، وخنق بها أفعى ولفّ واحد منها على عنق صاحب أورام اللهاة والحلق ظهر نفع عجيب. ومرقته ولحمه يقوّيان البصر. قال: واتفقوا على أنّ شحم الأفعى يمنع نزول الماء إلى العين، ولكنّ الإنسان لا يجسر على ذلك. وإذا شقّت الحيّة ووضعت على نهش الأفاعى سكن الوجع. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 142 ذكر شىء مما وصفت به الأفاعى قال بعض الشعراء يصف حيّة: لا ينبت العشب فى واد تكون به ... ولا يجاورها وحش ولا شجر جرداء شابكة الأنياب «1» ذابلة ... ينبو من اليبس عن يافوخها «2» الحجر لو شرّحت بالمدى ما مسّها بلل ... ولو تكنّفها «3» الحاوون ما قدروا قد جاهدوها فما قام الرّقاة «4» لها ... وخاتلوها «5» فما نالوا «6» ولا ظفروا يكبو لها الورل «7» العادى إذا نفخت ... جبنا «8» ويهرب منها الحيّة الذّكر وقال خلف الأحمر: وكأنّما لبست بأعلى جسمها ... بردا من الأثواب أنهجه «9» البلى فى عينها قبل «10» وفى خيشومها ... فطس وفى أنيابها مثل المدى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 143 وقال آخر: أرقم كالدّرع فيه وشم ... منمنم الظّهر واللّبان «1» يزحف كالسّيل من تلاع ... كأن عينيه كوكبان يهشم ما مسّ من نبات ... ويجذب النّفس بالعنان وقال ابن المعتزّ: أنعت رقشاء لا تحيا لديغتها ... لو قدّها السيف لم يعلق به بلل تلقى إذا انسلخت فى الأرض جلدتها ... كأنها كمّ درع قدّه بطل وقال الظاهر «2» البصرىّ شاعر اليتيمة: سرت وصحبى وسط قاع صفصف ... إذ أشرفت من فوق «3» طود مشرف رقشاء ترنو من قليب أجوف ... تومى «4» برأس مثل رأس المجرف وذنب مندمج «5» معقّف ... حتى إذا أبصرتها لا تنكفى «6» علوتها بحدّ سيف مرهف ... [فظلّ «7» يجرى دمها كالقرقف «8» ] أتلفتها لما أرادت تلفى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 144 وقال خلف الأحمر: له عنق مخضّرة مدّ ظهره ... وشوم كتحبير اليمانى المرقّم إلى هامة مثل الرّحى مستديرة ... بها نقط سود وعينان كالدّم وقال آخر «1» : وحنش كحلقة السّوار ... غايته شبر من الأشبار كأنه قضيب ماء جارى ... يفترّ عن مثل تلظّى النّار وقال خلف الأحمر «2» : صلّ صفّا لا تنطوى من القصر ... طويلة الإطراف من غير حسر «3» داهية «4» قد صغرت من الكبر ... مهروتة الشّدقين حولاء النّظر تفترّ عن عوج حداد كالإبر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 145 وقال أبو هلال العسكرىّ: وخفيفة الحركات تفترع الرّبى ... كالبرق يلمع فى الغمام الرّائح منقوطة تحكى صدور صحائف ... إبّان تبدو من بطون صفائح ترضى من الدنيا بظلّ صخيرة ... ومن المعيشة باشتمام روائح «1» وقال ابن المعتز: كأننى ساورتنى يوم بينهم ... رقشاء مجدولة فى لونها برق [كأنها حين تبدو من مكامنها ... غصن تفتح فيه النّور والورق «2» ] ينسل منها لسان تستغيث به ... كما تعوّذ بالسبّابة الفرق «3» وقال الهذلىّ فى مزاحف الحيّات: كأنّ مزاحف الحيّات وهنا «4» ... قبيل الصبح آثار السّياط وقال آخر: كأنّ مزاحفه أنسع «5» ... جررن فرادى ومنها ثنى «6» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 146 ذكر ما قيل فى العقارب قال الجاحظ: والعقارب أصناف: منها الجرّارة، والطيّارة، وماله ذنب كالحربة، وماله ذنب معقّف؛ وفيها السّود، والخضر، والصّفر. وهى من ذوات الذّرو «1» . ويقال: إنّ الأنثى من هذا النوع إذا حملت يكون حتفها فى ولادتها؛ لأن أولادها إذا استوى خلقها أكلت بطون الأمّهات حتى تنقبها، وتكون الولادة من ذلك النّقب، فتخرج والأمهات ميتة. وفى ذلك يقول الشاعر: وحاملة لا تحمل الدّهر حملها ... تموت ويحيا «2» حملها حين تعطب وقال أيضا: إنها تلد من فيها مرّتين، وتحمل أولادها على ظهرها وهى فى قدر القمل كثيرة العدد. قال: والعقرب شرّ ما تكون إذا كانت حبلى؛ ولها ثمان أرجل لها أظلاف مثل أظلاف الثور، وعيناها فى ظهرها. ومن عجيب أمرها أنها لا تضرب الميت ولا المغشىّ عليه ولا النائم، إلا أن يتحرّك شىء من بدنه؛ فإنها عند ذلك تضربه؛ وضربها له إنما هو من خوفها منه. وهى تأوى إلى الخنافس وتسالمها، وتصادق من الحيّات كلّ أسود سالخ. وربما لسعت الأفعى فتموت. وفيها ما يلسع بعضه بعضا فيموت الملسوع. ويقال: إنها تستخرج من بيوتها بالجراد؛ لأنها تحرص على أكله. ومتى أدخل الكّرّاث فى حجرها وأخرج تبعته وما معها من نوعها. وهى إذا خرجت من جحرها تضرب كلّ ما لقيته من حيوان أو نبات أو جماد. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 147 وقيل لبعض الأطبّاء: إنّ فلانا يقول: إنما أنا مثل العقرب أضرّ ولا أنفع؛ فقال: ما أقلّ علمه بها! إنها تنفع إذا شقّ بطنها ووضعت على مكان اللّسعة. وقد تجعل فى جوف فخّار مسدود الرأس مطيّن الجوانب، ثم توضع الفخّارة فى تنّور؛ فإذا صارت العقرب رمادا سقى من ذلك الرماد من به حصاة نصف دانق فتفتّتها من غير أن تضرّ شيئا من الأعضاء. وقد تلسع من به حمّى عتيقة فتقلع عنه. وقد تلسع المفلوج فيذهب عنه الفالج. وقد تلقى العقرب فى الدّهن وتترك فيه حتى يأخذ منها ويجتذب قواها، فيكون ذلك الدّهن مصرّفا للأورام الغليظة. وقال الشيخ الرئيس: زيت العقارب نافع من أوجاع الأذن. فهذه منافعها. وقال الجاحظ: ومن أعاجيب العقرب أنها لا تسبح ولا تتحرّك إذا ألقيت فى الماء، كان الماء جاريا أو ساكنا. قال: وهى تطلب الإنسان وتقصده؛ فإذا قصدها فرّت منه. وهى إذا ضربت الإنسان هربت هرب من قد أساء. قال: ومن أعاجيب ما فى العقرب أنا وجدنا عقارب القاطول «1» يموت بعضها من لسع بعض، ثم لا يموت عن لسعتها شىء [غير العقارب «2» ] ، ونجد العقرب تلسع إنسانا فيموت وتلسع آخر فتموت هى؛ فدلّ ذلك على أنها كما تعطى تأخذ. ويقال: إن الذى تموت هى إذا لسعته تكون أمّه قد لسعت وهى حامل به. قال: ومن أعاجيبها أنها تضرب الطّست والقمقم النّحاس فتخرقه، وربما ضربته فثبتت إبرتها فيه. قال: والعقارب القاتلة تكون فى موضعين: بشهرزور من بلاد الجبل، وعسكر مكرم «3» من بلاد الأهواز، وهى جرّارات؛ وإذا لسعت قتلت؛ وربما تناثر لحم من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 148 لسعته أو تعفّن ويسترخى حتى لا يدنو منه أحد إلا وهو يمسك أنفه مخافة إعدائه. وهى فى غاية الصغر؛ فإن أكبر ما يوجد منها تكون زنته دانقا واحدا؛ والذى يوجد منها كبيرا تكون زنته ثلاث حبّات أرز؛ فإن وزنت بشعيرة رجحت الشعيرة عنها. وهى مع نزارتها تقتل الفيل والبعير بلسعتها. قال: وبنصيبين عقارب قتّالة يقال: إن أصلها من شهرزور، وإن بعض الملوك حاصر نصيبين فأتى بالعقارب من شهرزور ورمى بها فى كيزان بالمجانيق إلى البلد، فأعطى القوم بأيديهم «1» . وقد وصف الشعراء العقرب وشبّهوها فى أشعارهم ؛ فمن ذلك قول السّرىّ الرفّاء: سارية فى الظّلام مهدية ... إلى النفوس الرّدى بلا حرج شائلة «2» ، فى ذنيبها حمة ... كأنها سبجة من السّبج «3» وقال آخر: ونضوة «4» تعرف باسم ولقب ... ما بين عينيها هلال منتصب موجودة معدومة عند الطلب ... تطعن من لاقته من غير سبب بخنجر تسلّه عند الغضب ... كأنه شعلة نار تلتهب وقال آخر: تحمل رمحا ذا كعوب مشتهر ... فيه سنان بالحريق مستعر أنّف «5» تأنيفا على حين قدر ... تأنيف أنف القوس شدّت بالوتر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 149 وقال عبد الصمد بن المعذّل: [يدعو بها على عدوّ له «1» ] . يا ربّ ذى إفك كثير خدعه «2» ... مستجهل الحلم «3» خبيث مرتعه [يسرى إلى عرض الصديق قذعه ... صبّت عليه حين جمّت بدعه «4» ] ذات ذنابى متلف من يلسعه ... تخفضه طورا وطورا ترفعه أسود كالسّبجة فيه مبضعه ... ينطف منه سمّه وسلمعه «5» تسرع فيه الحتف حين [تشرعه ... يبرز كالقرنين حين «6» ] تطلعه فى مثل صدر السّبت «7» حين تقطعه ... لا تصنع الرقشاء ما قد تصنعه وقال ابن حمديس: ومشرعة بالموت للطعن صعدة «8» ... فلا قرن إن نادته يوما يجيبها تذيقك حرّ السّمّ من وخز إبرة ... إذا لسبت «9» ماذا يلاقى لسيبها إذا لم يكن لون البهارة لونها ... فمن يرقان «10» دبّ فيها شحوبها لها سورة خصّت بمنكر صورة ... ترى العين فيها كلّ شىء يريبها لها طعنة لا تستبين لناظر ... ولا يرسل المسبار «11» فيها طبيبها الجزء: 10 ¦ الصفحة: 150 نسيت بها قيسا «1» وذكرى طعينه «2» ... وقد دقّ معناها وجلّ ندوبها «3» تجىء كأمّ الشّبل غضبى توقّدت ... وقد توّج اليأفوخ «4» منها عسيبها «5» عدوّ مع الإنسان يعمر بيته ... فكيف يوالى رقدة يستطيبها ولولا دفاع الله عنّا بلطفه ... لصبّت من الدنيا علينا خطوبها الجزء: 10 ¦ الصفحة: 151 الباب الثانى من القسم الرابع من الفن الثالث فيما هو ليس قاتلا بفعله من ذوات السموم ويشتمل هذا الباب على ما قيل فى الخنافس، والوزغ، والضبّ، وابن عرس، والحرباء، والقنافذ، والفيران، والقراد، والنمل، والذرّ، والقمل، والصّؤاب. *** فأمّا الخنافس وما قيل فيها - قالوا: والخنافس تتولّد من عفونة الأرض. وهى أصناف، منها الخنفس المعروف؛ ومنها «الجعل» ويسمّى «الكبرتل» . وهو يتولّد من أخثاء البقر، وهو يموت إذا شمّ رائحة الطّيب، وإذا دفن فى الورد مات، وإذا أخرج منه ودفن فى الرّوث عاش. والغالب أنه لا يموت حقيقة وإنما يخدر وتبطل حركته؛ فإذا عولج بما نشأ منه قوى. والله أعلم. وله ستّ أرجل، وسنام مرتفع. وهو لا يصير كبرتلا حتى يصير له جناحان. وجناحاه يظهران إذا أراد الطيران ويخفيان إذا مشى. ومن عادة الجعل أن يحرس النّيام؛ فمن قام منهم لقضاء الحاجة تبعه طمعا أنه إنما يريد الغائط؛ والغائط قوت الجعل. وقال أبو عثمان عمرو بن بحر: وزعم الأعراب أنّ بين ذكور الخنافس وإناث الجعلان تسافدا، وأنهما ينتجان خلقا ينزع إليهما جميعا. قال: وأنشد سيويه لبعض الأعراب يهجو عدوّا له: عاديتنا يا خنفسا أمّ الجعل ... عداوة الأوعال حيّات الجبل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 152 ويقال: إنّ الجعل يظلّ دهرا لا جناح له، ثم ينبت له جناحان. والعرب تقول فى أمثالها: «ألجّ من خنفساء» و «أفحش من فاسية» وهى الخنفساء. وفى لجاجة الخنفساء يقول الأحمر «1» : لنا صاحب مولع بالخلاف ... كثير الخطاء «2» قليل الصواب ألجّ لجاجا من الخنفساء ... وأزهى إذا ما مشى من غراب ومن أصناف الخنافس صنف يقال له «حمار قبّان» . وهو يتولّد فى «3» الأماكن النديّة [على ظهره شبه المجنّ. ومنها صنف يسمّى «بنات وردان» . وهى أيضا تتولّد فى الأماكن النديّة «4» ] ، وأكثر ما تكون فى الحمّامات والسّقايات. وفيها من الألوان الأسود، والأصهب، والأبيض. قال بعض الشعراء يصف بنات وردان: بنات وردان جنس ليس ينعته ... خلق كنعتى فى وصفى وتشبيهى كمثل أنصاف بسر أحمر تركت ... من بعد تشقيقه أقماعه فيه *** ومنها «الصّراصر والجنادب» «5» . ولها صوت لا يفتر بالليل، فإذا طلع الفجر فقد. وفيه من الألوان الأسود وهو جندب «6» الجبال والآكام السّود؛ والأبرق «7» وهو جندب الطلح والسّمر والغضا؛ والأبيض وهو جندب الصحارى. قال السّرىّ الرّفّاء يصف جندبة: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 153 وجندبة تمشى بساق كأنّها ... على فخذ كالعود «1» منشار عرعر ممسّكة «2» تجلو الجناح «3» كأنّها ... عروس تجلّت فى عطاف «4» معنبر *** وأمّا الوزغ وما قيل فيه- والوزغ يسمّى «سامّ أبرص» . وزعموا أنه أصمّ، وأنّ السبب فى صممه وبرصه أن الدوابّ كلّها حين ألقى إبراهيم عليه السلام فى نار النّمرود كانت تطفئ عنه، وأنّ هذا كان ينفخ عليه، فصمّ وبرص. وروى عن عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها أنّها قالت: دخل علىّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم وفى يدى عكّاز فيه زجّ «5» ، فقال: «يا عائشة ما تصنعين بهذا» ؟ قلت: أقتل به الوزغ فى بيتى؛ قال: «إن تفعلى فإنّ الدوابّ كلّها حين ألقى إبراهيم فى النار كانت تطفئ عنه وإنّ هذا كان ينفخ عليه فصمّ وبرص» . وفى حديث آخر عنها رضى الله عنها: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للوزغ الفويسق. قالوا: وفى طبع الوزغ أنه لا يدخل إلى بيت فيه زعفران. والحيّات تألف الوزغ، كما تألف العقارب الحنافس. وهو يطاعم الحيّات ويزاقّها. وهو يقبل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 154 اللّقاح بفيه، ويبيض كما تبيض الحيّة. وقيل: إنّ نصيبه من السّم نصيب متوسّط، لا يكمل أن يقتل، ومتى دبر «1» جاء منه سمّ قاتل. ومتى قتل ووضع على جحر حيّة هربت منه. وهو يقيم فى حجره أربعة أشهر الشتاء. وقال الشيخ الرئيس: إذا ضمد به على الشوك والسّلّاء «2» جذبه، وعلى الثآليل «3» يقلعها. قال: وقيل: إنّ المجفّف منه إذا خلط بالزيت أنبت الشعر على القرع. وبوله ودمه عجيب النّفع من فتق الصّبيان إذا جلسوا «4» فى طبيخه. وقد يجعل فى بوله أو دمه شىء من المسك ويجعل فى إحليل الصبىّ فيكون بالغ النفع فى الفتق. وقيل: إنّ كبده تسكّن وجع الضّرس، وتشقّ وتوضع على لسع العقرب فيسكن. *** وأمّا الضبّ وما قيل فيه - قال الجاحظ فى كتاب الحيوان: إنّ من أعاجيب الضبّ أنّ له أيرين وللضبّة حرين؛ قال: وهذا شىء لا يعرف إلّا لهما. هذا قول الأعراب فى تخصيصهما بذلك. وقالت الحكماء: إنّ السّقنقور «5» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 155 له أيران، والحرذون «1» كذلك. قال: وقال جالينوس: الضب الذى له لسانان يصلح لحمه لكذا وكذا. ومما يستدلّ به على أنّ للضبّ أيرين قول الفزارىّ: سبحل «2» له نزكان كانا فضيلة ... على كل حاف فى البلاد وناعل واسم أير الضبّ: النّزك. وسئل أبو حيّة النّميرىّ عن ذلك، فزعم «3» أنّ أير الضبّ كلسان الحيّة، الأصل واحد والفرع اثنان. وللأنثى مدخلان. وعلى ذلك أنشد الكسائىّ رحمه الله تعالى: تفرّقتم لا زلتم قرن واحد ... تفرّق أير الضبّ والأصل واحد ويقال: إنّ الضبّة إذا أرادت أن تبيض حفرت فى الأرض حفرة ثم رمت بالبيض فيها وطمّته بالتراب، وتتعاهده كل يوم حتى يخرج، وذلك فى أربعين يوما. وهى تبيض سبعين بيضة وأكثر. وبيضها يشبه بيض الحمام. ويخرج الحسل وهو مطيق للكسب. قالوا: والضبّ يخرج من جحره كليل البصر، فيجلوه بالتحدّق فى الشمس. وهو يغتذى بالنسيم، ويعيش ببرد الهواء، وذلك عند الهرم. قال الجاحظ: وزعم عمرو بن مسافر: أنّ الضبّة تبيض ستين بيضة وتسدّ عليهنّ باب الحجر ثم تدعهنّ أربعين يوما، فيتفقّص «4» البيض ويظهر ما فيه، فتحفر عنهن عند ذلك. فإذا كشفت عنهن أحضرن «5» وأحضرت فى أثرهنّ، فتأكل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 156 ما أدركت منهنّ. ويحفر المنفلت منها لنفسه حجرا، ويرعى من البقل. فلذلك توصف بالعقوق. ويضرب به المثل فى أكل حسوله. وفى ذلك يقول الشاعر: أكلت بنيك أكل الضبّ حتى ... تركت بنيك ليس لهم عديد قالوا: وفى ذنب الضبّ من القوّة ما يضرب به الحيّة فربما قطعها. والضبّ طويل العمر. وفى طبعه أنه يرجع فى قيئه. وهو شديد الإعجاب بالتمر. ويقال: إنه يمكث ليلة بعد الذّبح ثم يقرّب إلى النار فيتحرّك. قال الجاحظ: وزعمت العرب أنّ الضبّ يعدّ العقرب فى جحره؛ فإذا سمع صوت الحرش «1» استثفرها «2» فألزقها بأصل عجب «3» ذنبه وضمّه عليها، فإذا أدخل الحارش يده ليقبض على أصل ذنبه لسعته. وقيل: بل العقارب تألف الضّباب وتسالمها وتأوى إليها. قال التّميمىّ: أتأنس بى ونجرك غير نجرى ... كما أنس «4» العقارب والضّباب والضبّ من الحيوان المأكول؛ إلّا أنّ العرب تعيّر بنى تميم بأكل لحم الضبّ. والدليل على إباحته ما جاء فى الحديث الصحيح: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فى بيت ميمونة «5» رضى الله عنها، فقدّمت له مائدة وعليها ضبّ مشوىّ، فأهوى بيده ليأكل منه؛ فقيل له: يا رسول الله، إنه ضبّ؛ فرفع يده. فقال له الجزء: 10 ¦ الصفحة: 157 خالد بن الوليد: يا رسول الله، أحرام هو؟ قال: «لا ولكنه ليس فى بلاد قومى فأنا لا آكله» ؛ فأكله خالد بن الوليد بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينهه؛ ولو كان حراما لنهاه صلى الله عليه وسلم عن أكله ولأخبر بتحريمه لمّا سئل عنه. وقال أبو نواس يعيّر بأكل الضبّ: إذا ما تميمىّ أتاك مفاخرا ... فقل عدّ عن ذا «1» كيف أكلك للضّبّ وقال عمرو «2» بن الأهتم من أبيات: ورددناهم إلى حرّتيهم «3» ... حيث لا يأكلون غير الضّباب وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: زبل الضبّ نافع لبياض العين، وينفع من نزول الماء. وقد وصفه الحمّانىّ فقال وذكر أرضا: ترى ضبّها مطلعا رأسه ... كما مدّ ساعده الأقطع له ظاهر مثل برد موشّى «4» ... وبطن كما حسر الأصلع هو الضبّ ما مدّ سكّانه ... وإن ضمّه فهو الضّفدع الجزء: 10 ¦ الصفحة: 158 وأما الحرباء وما قيل فيها - والحرباء لها أصابع، وأظنها لنبش التراب. ولونها أسود وأصفر ومختلط الألوان كالفهد. وهذه التسمية تقع على ذكورها وإناثها «1» . والحرباء إذا كان فى الشمس كان كثير التلوّن، فإذا انتقل إلى الظل كان أقل تلوّنا. وإذا قارب الموت أو مات أصفرّ. وهو أبدا يطلب الشمس، فإذا طلعت وجّه وجهه نحوها. فمتى غاب عنه جرمها فلا يراها أصابه نوع من الجنون. وإذا غابت الشمس ذهب ليطلب معاشه ليله كلّه حتى يصبح. ولسانه طويل جدّا، يقال: إنه مقدار ذراع، فهو يبلغ به ما بعد عنه من الذّباب. والأنثى منه تكنى أمّ حبين. وهو يوصف بالحزم لأنه حيث ينظر إلى الشمس يقبض بيده على خوط «2» ، فإذا تقلّب نحو الشمس حيث ما مالت [لا «3» ] يرسل ذلك الخوط من يده حتى يقبض بيده الأخرى خوطا آخر. وفيه يقول الشاعر «4» : أنّى أتيح له «5» حرباء تنضبة «6» ... لا يرسل السّاق إلا ممسكا ساقا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 159 وكتب بعض الفضلاء إلى بعض أصدقائه يلومه على مقامه بوطنه حين «1» نبابه؛ فقال من رسالة: «أعجزت فى الإباء، عن خلق الحرباء؛ أدلى لسانا كالرّشاء، يبلغ به ما يشاء؛ وناط همّته بالشمس، مع بعدها عن اللمس؛ وأنف من ضيق الوجار، ففرّخ فى الأشجار؛ وسئم العيش المسخوط، فاستبدل خوطا بخوط؛ فهو كالخطيب، على الغصن الرّطيب. وإنّ صواب الرّأى والحزم لامرئ ... إذا بلغته الشمس أن يتحوّلا وقال ذو الرّمّة: كأنّ يدى حربائها متشمّسا ... يدا مذنب «2» يستغفر الله تائب وقال فيه أيضا: وقد جعل الحرباء يصفرّ «3» لونه ... وتخضرّ من لفح الهجير غباغبه «4» ويشبح «5» بالكفّين شبحا كأنه ... أخو فجرة عالى به الجذع صالبه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 160 وقال فيه أيضا: يصلّى «1» بها الحرباء للشمس ماثلا ... على الجذع إلّا أنّه لا يكبّر إذا حوّل «2» الظّلّ العشىّ رأيته ... حنيفا وفى وقت «3» الضّحى يتنصّر *** وأمّا ابن عرس وما قيل فيه - وابن عرس من حيوان البيوت، وهو حديد النفس شجيع فطن. وأكثر ما يكون بمصر فى المنازل. وله صوت قوىّ يدلّ على شجاعته. وقيل: إنه الحيوان المسّمى «بالدّلق» «4» ، وإنما يختلف وبره ولونه بحسب البلاد. وفى طبعه أنه يسرق ما يظفر به من الذّهب، والفضّة، وأنه متى وجد حبوبا متفرّقة خلطها. وهو عدوّ الفأر يصيده ويقتله، والفأر يخافه. وقال الجاحظ: وابن عرس يقاتل الحيّة؛ وإذا قاتلها بدأ بأكل السّذاب؛ لأنّ الحيّة تؤلمها رائحة السّذاب؛ كما قدّمنا. وابن عرس يفعل فى الطير ما يفعل الذئب فى الغنم من الذّبح. وهو إذا عجز عن الوصول إليها استدار بعجزه وفسا إلى جهتها، فربما قتل الفراريج رائحة فسائه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 161 ومن ذكائه وفطنته ما حكى: أنّ رجلا صاد فرخا منها فجعله فى قفص؛ فرأته أمّه فذهبت وعادت بدينار فى فمها فألقته بين يدى الرجل كأنها تريد فداء ولدها منه به، فتركه ولم يتناوله، فذهبت وأتت بدينار آخر فلم يأخذه، فلم تزل تذهب وتعود فى كل مرّة بدينار إلى خمسة دنانير وهو لا يمسك الذهب، فذهبت وعادت بصرّ فارغة وألقتها بين يديه كأنها تقول: إنه لم يبق شىء؛ فلم يطلق ولدها ولا ضمّ الدنانير. فلمّا رأته على ذلك عمدت إلى دينار منها فأخذته وعادت به إلى جحرها؛ فخشى أن تفعل ذلك ببقيّة الدنانير، فأخذها وأطلق فرخها؛ فأعادت إليه الدينار. وقالت الحكماء: لحم ابن عرس نافع من الصّرع. والله أعلم «1» . *** وأمّا القنافذ وما قيل فيها - وواحدها قنفذ. وهى صنفان: قنفذ ودلدل. فالقنفذ يكون بأرض مصر فى قدر الفأر. والدلدل يكون بالشأم والعراق وخراسان فى قدر الكلب القلطىّ «2» . ويقال: إنه يسفد «3» قائما وبطن الأنثى لاصق ببطن الذكر. والأنثى تبيض خمس بيضات؛ وليس هو كالبيض الذى له قشر يابس بل هو شبيه باللّحم. وتصرّف القنافذ بالليل أكثر من تصرّفها بالنهار. قال أيمن بن خريم: كقنفذ الرّمل لا تخفى مدارجه ... حتى إذا نام عنه الناس لم ينم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 162 والقنفذ يستأنس فى البيوت، ويختفى أياما ثم يظهر. وهو إذا جاع صعد إلى الكروم وقطع العناقيد ورمى بها ثم ينزل فيأكل منها ما أطاق؛ فإن كان له فراخ تمرّغ على ما بقى فيشتبك فى شوكه، وذلك بعد تفريطه من عمشوشه «1» ، ويذهب به إلى فراخه. وهو مولع بأكل الأفاعى، ولا يبالى قبض على رأسها أو غيره من بدنها، فإنه إن قبض على رأسها أكلها بغير كلفة عليه ولا مشقّة؛ وإن قبض على وسطها أو ذنبها استدار وتجمّع ونفخ بدنه، فمتى ضربته أصابها شوكه، فهى تهرب منه؛ وطلبه لها بقدر هربها منه. والدّلدل إذا رأى ما يكرهه انقبض فيخرج منه شوك كالمدارى فى طول الشّبر، فيجرح ما يصيبه من الحيوان. ويقال: إنّ شوكه شعر، وإنما لمّا غلظ وغلب عليه اليبس صار شوكا. وقال ابن سينا: فى رماد القنفذ جلاء وتحليل. وملحه ينفع «2» من داء الفيل. ولحمه ينفع من الجذام؛ لشدّة تحليله وتجفيفه. ولحمه المملّح ينفع من الفالج والتّشنّج وأمراض العصب كلّها وداء الفيل، وينفع من السّلّ ومن سوء المزاج. ومملوحه مع السّكبينج «3» جيّد للاستسقاء ووجع الكلى، وينفع من يبول من الصبيان فى الفراش؛ حتى إنّ إدمان أكله ربما عسّر البول. ولحمه ينفع من الحمّيات المزمنة ومن نهش الهوامّ. والله أعلم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 163 وقد وصفه البلغاء والشعراء فى رسائلها وأشعارها - فمن ذلك ما قاله الأمير شمس المعالى «1» من رسالة كتبها إلى بعض أصدقائه وقد أهدى له دلدلا: «قد أتحفتك يا سيّدى بعلق نفيس، وتحفة رئيس؛ يتعجّب المتأمّل من أحواله، ويحار الناعت فى أوصافه وأعماله؛ ويتبلّد المعتبر فى آياته، ويكلّ الناظر فى معجزاته؛ فما يدرى ببديهة النظر والفؤاد، أمن الحيوان هو أم من الجماد؛ حتى إذا أعطى متدبّره النّظر أوفى حقوقه، والفحص أكمل شروطه، علم أنه كمّى سلاحه فى حضنه، ورام سهامه فى ضمنه؛ ومقاتل رماحه على ظهره، ومخاتل سرّه خلاف جهره، ومحارب حصنه من نفسه؛ يلقاك بأخشن من حدّ السيف، ويستتر بألين من وبر الخيف «2» . متى جمّع أطرافه، وضمّ إليه أصوافه؛ حسبته رابية ناتيه، أو تلعة باديه. وهو أمضى من الأجل، وأرمى من بنى ثعل «3» . إن رأته الأراقم رأت حتف نفسها، أو عاينته الأساود أيقنت بفناء جنسها؛ صعلوك ليل لا يحجم عن دامسه، وفارس ظلام لا يخاف من حنادسه؛ فيه من الضّبّ مثل، ومن الفأر شكل؛ ومن الورل نسب، ومن الدّلدل سبب. ومن أوابده أنه يسودّ إذا هرم وشاب، ويصير كأكبر ما يكون من الكلاب. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 164 وقال أبو محمد اليزيدىّ «1» [يذكر قنفذا «2» رآه، فأطعمه وسقاه] : وطارق ليل جاءنا بعد هجعة ... من الليل إلّا ما تحدّث سامر قريناه صفو الزاد حين رأيته ... وقد جاء خفّاق الحشى وهو سادر «3» جميل المحيّا فى الرّضا فاذا أبى «4» ... حمته من الضيم الرّماح الشّواجر ولست تراه واضعا لسلاحه ... مدى الدّهر موتورا ولا هو واتر وقال [آخر «5» ] من أبيات يرثيه فيها ويصفه: عجبت له من شيهم «6» متحصّن ... بنبل من السّرد «7» المضاعف تبرق وأنّى اهتدى سهم المنيّة نحوه ... وفى كلّ عضو منه سهم مفوّق ولو كان كفّ الدهر تستخشن الرّدى ... لكان بكفّ الدّهر لا يتعلّق وقال أبو «8» بكر الخوارزمىّ يصفه: ومدجّج وسلاحه من نفسه ... شاكى الدّوابر أعزل الأقبال الجزء: 10 ¦ الصفحة: 165 يمسى ويصبح لم يفارق بيته ... ولقد سرى عددا من الأميال وتراه يكمن بعضه فى بعضه ... فتطيش عنه أسهم الأهوال عيناه مثل النقطتين وخطمه ... يحكى ثدىّ رضاعة الأطفال وكأنّ أقلاما غرزن بظهره ... مسّ المداد رءوسها ببلال تتهارب الحيّات حين يرينه ... هرب اللصوص رأت سواد الوالى وكأنّه الخنزير إلّا جلده ... وصياحه وتقارب الأوصال *** وأمّا الفئران وما قيل فيها - قد سمّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم الفويسقة. والفأر ضروب تقع على جميعها هذه التّسمية وهى «الجرذ» و «الفأر» معروفان- وهما كالجواميس والبقر- و «الزّباب» و «الخلد» و «اليربوع» و «فأرة البيش» «1» و «فأرة المسك» و «فأرة الإبل» . فأمّا الجرذ والفأر - وهما من حيوان البيوت والبرّ. قال المتكلمون فى طبائع الحيوان: إنّ الفأر مما جمع له بين حاسّة السمع والبصر. وليس فى الحيوان أفسد منه. ومن فساده أنه يجد قارورة الدّهن وهى ضيّقة الفم فيدخل ذنبه فيها الجزء: 10 ¦ الصفحة: 166 ويمتصّه. فإن قصر ذنبه عن بلوغ الدّهن عمد إلى النّوى والأحجار الصّغار فيلقيهما فيها، فيطفو ما فيها فيمتصّه بذنبه، ولا يزال يتعاهد ذلك حتى ينفد جميع ما فيها. وهو إذا سرق البيض يعجز عن كسره بسنّه، فيدحرج البيضة إلى أن تسقط من مكان مرتفع إلى مستفل فتنكسر؛ فإن عجّزه ذلك استعان بفأر آخر فيعتنقها أحدهما بيديه ورجليه وينقلب على قفاه؛ ويقبض الآخر على ذنبه ويتسلّق به فى حائط؛ فإذا ارتفع به عن الأرض ألقاها الحامل لها فتنكسر فيأكلانها جميعا. أخبرنى بذلك من شاهده. والمثل يضرب به فى الفساد والسّرقة والنسيان والحذر. وفى طبع الجرذ البرّىّ وعادته أنه لا يحفر بيته على قارعة الطريق خوفا من الحافر «1» [أن يهدم عليه «2» بيته] . ويقال: إنه يخلق من الطّين، وإنه يتولّد بأرض مصر إذا نضب ماء النيل عنها «3» . وقال صاحب كتاب مباهج الفكر: إنه رأى ذلك عيانا «4» فى سفط «5» ميدوم من جيزة مصر. وقال الجاحظ: لعمرى إن جرذان أنطاكية لتساجل السّنانير فى الحرب، ولا تقوم لها ولا تقوى عليها إلا الواحد بعد الواحد. قال: وهى بخراسان قويّة جدّا، وربما قطعت أذن النائم. قال: ومن الفأر ما إذا عضّ قتل. قال: ومن الأعاجيب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 167 فى قرض الفأر أنّ قوما من أهل الفراسة ينظرون إلى قرضه ويتفرّسون منه أحوالا. ويزعمون أنّ أبا جعفر المنصور نزل فى بعض القرى فقرض الفأر مسحا له كان يجلس عليه، فبعث به ليرفأ؛ فقال لهم الرّفّاء: إنّ هاهنا أهل بيت يعرفون بقرض الفأر ما ينال صاحب المتاع من خير وشرّ، فما عليكم أن تعرضوه عليهم قبل إصلاحه؟ فبعث المنصور إلى شيخهم؛ فلما نظر إلى موضع القرض وثب قائما ثم قال: من صاحب هذا المسح؟ فقال المنصور: أنا؛ فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته؛ والله لتلينّ الخلافة أو أكون جاهلا أو كذّابا. وفى الفأر منافع ذكرها الشيخ الرئيس ابن سينا، فقال: دم الفأر يقلع الثآليل، وزبله نافع على داء الثعلب وخصوصا لطخا بالعسل، وخصوصا المحرق. قال: وإذا شوى الفأر وجفّف وأطعم الصبىّ انقطع سيلان اللّعاب من فمه. قال: واتّفق الناس أنّ الفأر إذا شقّ ووضع على لدغ العقرب نفع. والله أعلم. وقد وصف الشعراء الفأر وشبّهوه فى أشعارهم وذكروا سوء فعله. فمن ذلك قول أعرابىّ [وقد دخل البصرة فاشترى خبزا فأكله الفأر «1» ] : عجّل ربّ الناس بالعقاب ... لعامرات البيت بالخراب حتى يعجّلن إلى التّباب ... كحل العيون وقص «2» الرّقاب مجرّرات فضل الأذناب ... مثل مدارى «3» الطّفلة الكعاب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 168 كيف لها بأنمر وثّاب «1» ... منهرت الشّدق حديد النّاب كأنما يكشر عن حراب ... يفرسها كالأسد الوثّاب وقال أبو بكر «2» الصّنوبرىّ: يالحدب الظّهور قعس «3» الرّقاب ... لدقاق الخرطوم والأذناب للطاف آذانها «4» والخراطي ... م حداد الأظفار والأنياب خلقت للفساد مذخلق الخل ... ق وللعيث والأذى والخراب ناقبات فى الأرض والسقف والحا ... ئط نقبا أعيا على النّقّاب آكلات كلّ المآكل لا تس ... أمها شاربات كلّ الشّراب آلفات قرض الثياب وقد يع ... دل قرض القلوب قرض الثياب وقال فى فأرة بيضاء: وفأرة بيضاء لم تبتذل ... يوما لإطعام السّنانير إذ فأرة المسك سمعنا بها ... وهذه فأرة كافور الجزء: 10 ¦ الصفحة: 169 وأمّا الزّباب - فإنه فأر أصمّ، يكون فى الرمل. والعرب تضرب به المثل فى السرقة. يقولون: «أسرق من زبابة» . وأمّا الخلد - فهو أعمى لا يدرك شيئا إلّا بالشّمّ «1» ، [إلا أن «2» ] عينيه كاملتان، لكن الجفن ملتحم على الناظر لا ينشقّ. وهو ترابىّ مستقرّ فى باطن الأرض؛ وهى له كالماء للسمك. وليس له على ظهر الأرض قوّة ولا نشاط؛ بل يبقى مطروحا كالميّت فتخطفه الجوارح أو يموت. وهو حديد حاسّة الشمّ. ومتى شمّ رائحة طيّبة هرب. وهو يحبّ رائحة الكرّاث والبصل؛ وربما صيد بهما. ومن دأبه طول الكدّ ودوام الحفر. وفى تركيبه أنه لا يفرط فى الطّلب ولا يقصّر عنه. وله وقت يظهر فيه لا يخطئه ولا يغلط «3» فى المقدار. ويضرب به المثل فى حدّة السمع؛ فيقال: «أسمع من خلد» . *** وأما اليربوع - فهو حيوان طويل الرّجلين، قصير اليدين جدّا. وله ذنب كذنب الجرذ، يرفعه صعدا، فى طرفه شبه التّوارة. ولونه لون الغزال. ويقال لولده «درص» ، والجمع أدراص. قال أصحاب الكلام فى طبائع الحيوان: كلّ دابة حشاها الله خبثا فهى قصيرة اليدين. وهو يسكن بطن الأرض لتقوم رطوبتها الجزء: 10 ¦ الصفحة: 170 له مقام الماء. وهو يؤثر النسيم ويكره البخار «1» . وهو يتّخذ حجره على نشز من الأرض ويحفره، ويفتح له أبوابا على مهبّ الرياح وتسمّى «النّافقاء» «2» و «القاصعاء» و «الدّامّاء» و «الرّاهطاء» . فإذا طلب من أحد هذه الأبواب خرج من الآخر. وهو يجترّ ويبعر. وله كرش وأسنان وأضراس. وهو من الحيوان الذى ينقاد إلى رئيس منه. والرئيس منها إذا كان فيها يرتفع عنها فيكون فى مكان مشرف أو على صخرة ينظر منه إلى الطريق. فإن رأى ما يخافه عليها صرّ بأسنانه وصوّت، فتسمعه فتنصرف إلى حجرتها؛ وإن أغفل ذلك ورأت ما تخافه قبل أن يراه قتلته، لتضييعه الحزم وغفلته، ونصبت غيره لرياستها. وإذا أرادت اليرابيع الخروج من حجرتها لطلب المعاش خرج الرئيس قبلها وأشرف؛ فإذا لم ير ما يخافه عليها صرّ لها وصوّت فتخرج. قالوا: ويتولّد من اليربوع والفأرة ولد يسمى «القرنب» . *** وأما فأرة المسك - فقال الجاحظ: إنها دويبّة تكون فى بلاد تبّت «3» تصاد لنوافجها وسررها. فإذا اصطيدت عصبت سرّتها بعصاب وهى مدلّاة فيجتمع فيها دمها؛ فإذا اجتمع ذبحت، ثم تقوّر السّرّة المعصوبة وتدفن فى الشّعير حينا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 171 فيستحيل ذلك الدّم المختنق الجامد مسكا ذكيّا بعد أن كان منتنا. ويقال: إن هذه الفأرة توجد فى بلاد الزّابج «1» وتحمل إلى السّند، وإن المسك يخرج من خصيتى ذكورها بالعصر، ومن ضروع إناثها بالحلب. ويقال: إن الفأر الفارسىّ أطيب ريحا من كل طيب، وربما ضاهى ريح المسك. وهو أجرد أشقر، شعره إلى الصّفرة، شديد كحل العينين، طويل الأذنين، قصير الذّنب. *** وأما فأرة الإبل - فليست بحيوان، وإنما هى رائحة تسطع من الإبل عند صدورها من الورد ينتجها طيب الرّعى. قال الشاعر «2» : لها فأرة ذفراء «3» كلّ عشيّة ... كما فتق الكافور بالمسك فاتقه *** وأمّا القراد وما قيل فيه - فقد قالوا: أوّل ما يكون «قمقامة» «4» وهو الذى لا يكاد يرى من صغره، ثم يصير «حمنانة» ثم يصير «قرادا» ثم يصير «حلما» . ويقال للقراد: «العلّ» و «الطّلح» و «القتين» و «البرام» و «القرشام» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 172 والقراد يخلق من عرق البعير ومن الوسخ والتّلطّخ بالثّلط «1» والأبوال؛ كما يخلق القمل من عرق الإنسان. وفى طبع القراد أنه يسمع رغاء الإبل من فراسخ فيقصدها؛ حتى إنّ أصحاب الإبل يبعثون إلى الماء من يصلح لإبلهم الأرشية «2» وآلات السّقى، فتبيت الرجال عند البئر تنتظر مجىء الإبل، فيعرفون قربها من القراد بانبعاثه فى جوف الليل وسرعة حركته ومروره، فإذا رأوا ذلك منه تهيّئوا للعمل. ويقول من اعتنى بالحيوان وتكلّم فى طبائعه: إنّ لكل حيوان قرادا يناسب مزاجه. وهم يضربون المثل بالقراد فى أشياء، فيقولون: «أسمع من قراد» ، و «ألزق «3» من قراد» ، وما هو إلا قراد ثفر «4» . وأنشد الجاحظ لبعض الشعراء فى القراد: ألا يا عباد الله هل لقبيلة ... إذا ظهرت فى الأرض شدّ مغيرها فلا الدّين ينهاها ولا هى تتهى ... ولا ذو سلاح من معدّ يضيرها *** وأمّا النّمل والذّرّ وما قيل فيهما - قال الله عزّ وجلّ: (وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ. حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) . وجاء فى الحديث أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل منزلا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 173 فانطلق لحاجة فجاء من حاجته وقد أوقد رجل على قرية نمل إمّا فى شجرة وإمّا فى الأرض؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من فعل هذا أطفئها أطفئها أطفئها» . وعن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «نزل نبىّ من الأنبياء تحت شجرة فعضّته نملة فقام إلى نمل كثير تحت الشجرة فقتلهنّ فقيل له: أفلا نملة واحدة» . وعنه رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «نزل نبىّ من الأنبياء تحت شجرة فقرصته نملة فأمر بجهازه فأخرج من تحتها ثم أمر بقرية النّمل فأحرقت فأوحى الله إليه أن قرصتك نملة أهلكت أمّة من الأمم يسبّحن الله فهلّا نملة واحدة» . وجاء فى الأثر: أنّ سليمان بن داود عليهما السلام خرج يستسقى، فرأى نملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها إلى السماء وهى تقول: اللهم إنّا خلق من خلقك، ليس لنا غنى عن سقيك؛ فإما أن تسقينا وترزقنا، وإما أن تميتنا وتهلكنا. فقال للناس: ارجعوا، فقد سقيتم بدعاء غيركم. وقال الجاحظ: وكان ثمامة يزعم أنّ النمل ضأن الذّرّ. قال: والذى عندى أنّ النمل والذرّ مثل الفأر والجرذ، والبقر والجواميس. قال: والذّرّ أجود فهما وأصغر جثّة. وزعم ابن أبى الأشعث أنّ النمل لا يتزاوج ولا يتوالد ولا يتلاقح، وإنما يسقط منه شىء حقير فى الأرض فينمو حتى يصير بيظا «1» فيتكوّن منه. والنمل من الحيوان المحتال فى طلب المعاش يتفرّق لذلك؛ فإذا وجد شيئا أنذر الباقين فيأتين إليه ويأخذن منه. وكلّ واحد مجتهد فى إصلاح شأن العامّة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 174 غير مختلس لشىء من الرزق دون صحبه. ويقال: إنما يفعل ذلك منها رؤساؤها ومن تحيّله فى طلب الرزق أنه ربما وضع بينه وبين ما يخاف عليه منه ما يمنعه من الوصول إليه من ماء أو شعر، فيتسلّق فى الحائط ويمشى على جذع من السّقف حتى يسامت ما حفظ منه ثم يلقى نفسه عليه. وفى طبعه وعادته أن يحتكر فى زمن الصيف لزمن الشتاء. وهو إذا خاف على ما يدّخره من الحبوب من العفن والسّوس أو التّندّى من مجاورة بطن الأرض، أخرجها إلى ظاهر الأرض حتى تيبس ثم يعيدها. وإن خاف على الحبّ أن ينبت من نداوة الأرض نقر فى موضع القطمير من وسط الحبّة (وهو الموضع الذى يبتدئ منه النّبات) ؛ ويفلق جميع الحبّ أنصافا؛ فإن كان من حبّ الكزبرة فلقه أرباعا، لأن أنصاف حبّ الكزبرة تنبت. فالنمل من هذا الوجه فى غاية الحزم. فسبحان الملهم لا إله غيره. وليس شىء من الحيوان يقوى على حمل ما يكون ضعف وزنه مرارا غير النملة. والنّمل يشمّ ما ليس له ريح ممّا لو وضعه الإنسان عند أنفه لما وجد له ريحا. ومن أسباب هلاك النملة نبات الأجنحة لها؛ فإذا صار النمل كذلك صادته العصافير وأكلته. وفى ذلك يقول أبو العتاهية: وإذا استوت للنّمل أجنحة ... حتّى يطير فقد دنا عطبه ومن أصناف النّمل صنف يسمّى «نمل الأسد» ؛ سمّى بذلك لأن مقدّم النملة يشبه وجه الأسد ومؤخّرها كالنّمل. وزعم بعض من تكلّم فى طبائع الحيوان أنه متولّد، وأن أباه أكل لحما، وأمّه أكلت نباتا، فنتج بينهما على هذه الصفة. وقد وصفه الشعراء؛ فمن ذلك قول شاعر «1» : غزاة يولّى الليث عنهنّ هاربا ... وليست لها نبل حداد ولا عمد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 175 قصار الخطا حمش القوائم ضمّر ... مشمّرة لا تشتكى الأين والحرد «1» وتعدو على الأقران فى حومة الوغى ... نشاطا كما يعدو على صيده الأسد إذا ذكرت طيب الهياج تنّفست ... تنفّس ثكلى قد أصيب لها ولد كأكراد زنجان «2» تريد قضاضة ... وتلك الصّعاليك الغرائب فى البلد «3» وفيهنّ أجناس تشابهن صورة ... وباينّ فى الهمّات واللون والجسد «4» فمنهنّ كمت كالعناكيب أرجلا ... وساع الخطا قد زان أجيادها الغيد إذا انتهرت طارت وإن هى خلّدت ... رأت ورد أحواض المنايا من الرّشد وسود خفاف الجسم لو عضّت الصّفا ... رأيت الصّفا من وقع أسنانها قدد «5» يفدن علينا مفسدات جفاننا ... وأزوادنا أبغض إلينا بما وفد وقال أبو هلال العسكرىّ: وحىّ أناخوا فى المنازل باللّوى ... فصاروا به بعد القطين قطينا إذا اختلفوا فى الدار ظلّت كأنها ... تبدّد فيها الريح بزر قطونا إذا طرقوا قدرى مع الليل أصبحت ... بواطنها مثل الظواهر جونا لهم نظرة يسرى ويمنى إذا مشوا «6» ... كما مرّ مرعوب يخاف كمينا ويمشون صفّا فى الديار كأنما ... يجرّون خيطا فى التراب منينا «7» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 176 وفى كل بيت من بيوتى قرية ... تضمّ صنوفا منهم وفنونا فيا من رأى بيتا يضيق بخمسة ... وفيه قريّات يسعن مئينا *** وأمّا القمل والصّؤاب وما قيل فيهما - قال الجاحظ: ذكروا عن إياس بن معاوية أنه يزعم أنّ الصّئبان ذكورة القمل، وأنّ القمل من الشكل الذى تكون إناثه أعظم من ذكورته. قال الجاحظ: والقمل يعترى من العرق والوسخ إذا علاهما ثوب أو ريش أو شعر، حتى يكون لذلك المكان عفن وخموم. والقملة يكون لونها بحسب لون الشعر فى السّواد والبياض والشّمط وفى لون الحضاب، وينصل إذا نصل. قال: والقمل يعرض لثياب كل إنسان إذا عرض لها الوسخ أو العرق أو الخموم، إلا ثياب المجذّمين فإنهم لا يقملون. وإذا قمل إنسان وأفرط عليه القمل زأبق رأسه فيتناثر القمل. قال: وربما كان الإنسان قمل الطّباع وإن تنظّف وتعطّر وبدّل أثوابه؛ كما عرض لعبد الرحمن بن عوف والزّبير بن العوّام رضى الله عنهما، حتى استأذنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى لباس الحرير؛ فأذن لهما فيه لهذه الضرورة ولدفع هذا الضرر. وقد وصف الشعراء القمل فى أشعارهم؛ فمن ذلك قول بعض العقيليّين وقد مرّ بأبى العلاء العقيلىّ وهو يتفلّى، فقال: وإذا مررت به مررت بقانص ... متصيّد فى شرقة «1» مقرور للقمل حول أبى العلاء مصارع ... ما بين مقتول وبين عقير «2» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 177 فكأنهنّ إذا علون قميصه ... فذّ وتوءم سمسم مقشور ضرج الأنامل من دماء قتيلها ... حنق على أخرى بعدو «1» مغير وقال الحسن بن هانئ فى رجل اسمه أيّوب: من ينأ عنه مصاده ... فمصاد أيّوب ثيابه «2» يكفيه منها نظرة ... فتعلّ من علق «3» حرابه يا ربّ «4» محترز بجي ... ب الرّدن تكنفه صؤابه فاشى النّكاية «5» غير مع ... لوم إذا دبّ انسيابه أو طامرىّ «6» واثب ... لم ينجه عنه وثابه أهوى له بمزلّق ال ... عرنين إصبعه نصابه «7» لله درّك من أخى ... قنص أصابعه كلابه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 178 القسم الخامس من الفن الثالث فى أجناس الطير وأنواع السمك وفيه سبعة أبواب: ستة منها فى الطير، وباب فى السمك. وذيّلت عليه بباب ثامن أوردت فيه ذكر شىء مما قيل فى آلات صيد البرّ والبحر. قال الجاحظ فى كتاب الحيوان: إنّ الحيوان على أربعة أقسام: شىء يطير، وشىء يعوم، وشىء ينساح، وشىء يمشى؛ إلّا أنّ كل طائر يمشى، وليس كلّ شىء يمشى طائرا. قال: واسم طائر يقع على ثلاثة أشياء: صورة، وطبيعة، وجناح؛ وليس بالرّيش والفوادم والأباهر «1» والخوافى يسمى طائرا ولا بعدمه يسقط ذلك عنه. ألا ترى أنّ الخفّاش والوطواط من الطير وإن كانا أمرطين ليس لهما ريش ولا زغب ولا شكير. قال: والطير كلّه سبع وبهيمة وهمج. والسّباع من الطير على ضربين: فمنها العتاق، والأحرار، والجوارح. ومنها البغاث، وهو كلّ ما عظم من الطير سبعا كان أو بهيمة إذا لم يكن من ذوات السّلاح والمخالب المعقّفة كالنّسور والرّخم والغربان وما أشبهها من لئام السّباع. ثم الخشاش وهو ما لطف جرمه وصغر شخصه وكان عديم السلاح. وقال: إذا باض الطائر بيضا لم تخرج البيضة من حدّ التحديد والتلطيف بل يكون الجانب الذى يبدأ بالخروج الجانب الأعظم. وما كان من البيض مستطيلا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 179 محدّد الأطراف فهو للإناث، وما كان مستديرا عريض الأطراف فهو للذكور. والبيضة عند خروجها تكون ليّنة القشر غير جاسئة ولا يابسة ولا جامدة. قال: والبيض الذى يتولّد من الريح والتراب أصغر وألطف، وهو فى الطّيب دون الآخر. ويكون بيض الريح من الدّجاج والقبج «1» والحمام والطاوس والإوزّ. قال: وحضن الطائر وجثومه على البيض يكون صلاحا لبدن الطائر كما يكون صلاحا لبدن البيض. قال: وزعم ناس أنّ بيض الرّيح إنما يكون عن سفاد متقدّم. وذلك خطأ من وجهين: أمّا أحدهما، فإن ذلك قد عرف من فراريج لم ترديكا قطّ. والآخر أن بيض الرّيح لم يكن منه فروخ قطّ. وبيض الصّيف المحضون أسرع خروجا منه فى الشتاء. فهذه جمل من أحوال الطير فرّقها الجاحظ فى كتابه فى عدّة مواضع جمعناها وألّفنا بعضها إلى بعض. فلنذكر كلّ جنس من الطير، ونشرح ما يخصّه من الكلام وما قيل فيه. وغير الجاحظ قسّم الطير إلى أقسام، فجعل منها سباعا، وكلابا، وبهائم، وبغاثا، وليليّا، وهمجا؛ وعلى ذلك بوّبنا هذا القسم؛ على ما تقف عليه إن شاء الله تعالى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 180 الباب الأوّل من القسم الخامس من الفن الثالث فى سباع الطير ويشتمل هذا الباب على ما قيل فى العقاب والبزاة والصقور والشّواهين، وأصناف ذلك، وما يتصف به كلّ طير منها وما فيه من الطبائع والعادة، وما يصيد، وما فيه من الأمارات الدّالّة على نجابته وفراهته، وغير ذلك مما تقف عليه إن شاء الله تعالى. ذكر ما قيل فى العقاب يقال: إنّ العقاب جميعه أنثى وليس فيه ذكر. ويسمى عند أهل اللغة «العنقاء» . وهى «عقاب» و «زمّج» . فأما العقاب فيقال: إنّ ذكورها من طير آخر لطيف الجرم. وهى تبيض فى الغالب ثلاث بيضات فيخرج لها فرخان. قال الجاحظ: ثم اختلفوا، فقال بعضهم: لأنها لا تحضن إلّا بيضتين؛ وقال آخرون: قد تحضن ويخرج لها ثلاثة أفراخ ولكنها ترمى بالواحد استثقالا للتكليف على ثلاثة؛ وقال آخرون: ليس ذلك إلّا لما يعتريها من الضعف عند الصيد، كما يعترى النّفساء من الوهن والضعف. وهى تحضن ثلاثين يوما. وما عداها من الجوارح تبيض بيضتين فى كل سنة وتحضن عشرين يوما. قالوا: وفى طبع الذكر أنه يمتحن أنثاه هل هى محافظة له أو مؤاتية لغيره من غير جنسه، بأن يصوّب نظر فرخيه إلى شعاع الشمس، فإن ثبت عليه تحقّق أنها فراخه وأمسكها، وإن نبا بصره عن شعاع الشمس ضرب الأنثى كما يضرب الرجل المرأة الزانية وطردها من وكره ورمى بالفرخين. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 181 والعقاب خفيفة الجناح، سريعة الطيران، فهى إن شاءت ارتفعت على كل شىء وإن شاءت كانت بقربه. يقال: إنها تتغدّى بالعراق وتتعشّى باليمن. وربما صادت حمر الوحش، وذلك أنها إذا نظرت الحمار رمت نفسها فى الماء حتى يبتلّ جناحاها، ثم تتمرّغ فى التراب وتطير حتى تقع على هامة الحمار، ثم تصفّق على عينيه بجناحيها فتملؤهما ترابا، فلا يرى الحمار أين يذهب فيؤخذ. وهى مولعة بصيد الحيّات. وفى طبعها قبل أن تتدرّب أنها لا تراوغ صيدا ولا تعنى فى طلبه، ولا تزال موفية على شرف عال؛ فإذا رأت سباع الطير قد صادت شيئا انقضّت عليه، فتتركه لها وتنجو بنفسها. ومتى جاعت لم يمتنع عليها الذئب. وهى شديدة الخوف من الإنسان. ويقال: إنها إذا هرمت وثقل جناحها وأظلم بصرها التمست غديرا؛ فإذا وجدته حلّقت طائرة فى الهواء ثم تقع من حالق فى ذلك الغدير فتنغمس فيه مرارا، فيصحّ جسمها ويقوى بصرها ويعود ريشها ناشئا إلى حالته الأولى. وهى متى ثقلت عن النهوض أو عميت حملتها الفراخ على ظهورها ونقلتها من مكان إلى آخر لطلب الصيد وتعولها إلى أن تموت. ومن عجيب ما ألهمت أنها إذا اشتكت كبدها رفعت «1» الأرانب والثعالب فى الهواء وأكلت أكبادها فتبرأ. وهى تأكل الحيّات إلّا رءوسها، والطير إلا قلوبها. قال امرؤ القيس: كأنّ قلوب الطير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العنّاب والحشف البالى ومنسرها الأعلى يعظم ويتعقّف حتى يكون ذلك سبب هلاكها؛ لأنها لا تنال به الطّعم إذا كان كذلك. وأوّل من صاد بها أهل المغرب. وحكى أنّ قيصر أهدى إلى كسرى عقابا، وكتب إليه: علّمها فإنها تعمل عملا أكثر من الصقور الجزء: 10 ¦ الصفحة: 182 التى أعجبتك. فأمر بها فأرسلت على ظبى عرض لها فقدّته، فأعجبه ما رأى منها؛ ثم جوّعها ليصيد بها، فوثبت على صبىّ من حاشيته فقتلته؛ فقال كسرى: غزانا قيصر فى بلادنا بغير جيش. ثم أهدى له نمرا وكتب إليه: قد بعثت إليك بما تقتل به الظّباء «1» وما قرب منها من الوحش؛ وكتم عنه ما صنعت العقاب. فأعجب به قيصر. فغفل عنه يوما فافترس بعض فتيانه؛ فقال: صادنا كسرى؛ فإن كنّا صدناه فلا بأس. فلمّا اتّصل ذلك بكسرى قال: أنا أبو ساسان. وأجود العقاب ما جلب من سرت «2» وبلاد المغرب. وقد وصفها الشعراء فمن ذلك ما قاله أبو الفرج الببّغاء: ما كلّ ذات مخلب وناب ... من سائر الجارح والكلاب بمدرك فى الجدّ «3» والطّلاب ... أيسر ما يدرك بالعقاب شريفة الصّبغة والأنساب ... تطير من جناحها فى غاب وتستر الأرض عن السّحاب ... وتحجب الشمس بلا حجاب يظلّ منها الجوّ فى اغتراب ... مستوحشا للطير كالمرتاب ذكيّة تنظر من شهاب ... ذات جران «4» واسع الجلباب ومنكب ضخم أثيث «5» رابى ... ومنسر موثّق النّصاب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 183 راحتى ليث شرى غلّاب ... نيطت إلى براثن صلاب [مرهفة أمضى من الحراب ... وكلّ ما حلّق فى الضّباب «1» ] لملكها خاضعة الرّقاب *** وأمّا الزّمّج - فهو الصّنف الثانى من العقاب، ويعدّ من خفاف الجوارح. وهو سريع الحركة شديد الوثبة. ويوصف بالغدر. ومن عادته أنه يتلقّف الطائر كما يتلّقفه البازى، ويصيد على وجه الأرض كما تصيد العقاب. ويحمد من خلقه أن يكون أحمر اللون، ولا يحمد ما قرنص «2» منه وحشيّا. وقد وصفه أبو الفرج الببّغاء فقال: يا ربّ سرب آمن لم يزعج ... غاديته قبل الصّباح الأبلج بزمّج أدلق «3» حوش «4» أهوج ... مضبّر «5» المنكب صلب المنسج «6» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 184 ذى قصب عبل «1» أصمّ مدمج ... وجؤجؤ «2» كالجوشن «3» المدرّج وعنق سام طويل أعوج ... ومنسر أقنى فسيح مسرج منخرق المدخل رحب المخرج ... ومقلة تشفّ عن فيروزج ناظرة من لهب مؤجّج ... وهامة كالحجر المدملج ومخلب كالمعول المعوّج الجزء: 10 ¦ الصفحة: 185 ذكر ما قيل فى البازى قالوا: والبازى خمسة أصناف، وهى البازى، والزّرّق، والباشق، والعفصىّ، والبيدق. فأمّا البازى - فهو الثانى من الجوارح، وهو أحرّ هذه الأصناف الخمسة مزاجا، لأنه قليل الصبر على العطش. ومأواه مساقط الشجر العاديّة الملتفّة والظلّ الظّليل ومطّرد المياه. وهو لا يتّخذ وكرا إلّا فى شجرة لها شوك. وإذا أراد أن يفرّخ بنى لنفسه بيتا وسقّفه تسقيفا جيّدا يقيه من المطر ويدفع عنه وهج الحرّ. وسبيله «1» فى البرد أن يدفأ بالنار ويجعل تحت كفّيه وبر الثعالب واللّبود؛ وفى الصيف أن يجعل فى بيت كنين «2» بارد النّسيم ويفرش له الرّيحان والخلاف «3» . وهو خفيف الجناح، سريع الطيران، يلفّ طيرانه كالتفاف الفواخت؛ «4» ويسهل عليه أن يزجّ بنفسه «5» صاعدا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 186 وهابطا وينقلب على ظهره حتى يلتقف فريسته. والإناث منه أجرأ على عظام الطير من الذّكور. ويقال: إن الإناث إذا كان وقت سفادها يغشاها جميع أنواع الضّوارى: الزّرّق والشاهين والصّقر، وإنها تبيض من كل طائر يغشاها؛ ولهذا تجىء مختلفة الأخلاق «1» . والبازى يصيد ما بين العصفور والكركىّ «2» . ومن عادته أنه إذا أخطأ صيده رفاته وكان فى برّيّة لا شجر فيها ولّى ممعنا حتى يجد كهفا أو جدارا يأوى اليه؛ ولهذا علّق عليه الجرس ليدلّ على مكانه إذا خفى. وصفة الجيّد منه المحمود فى فعله أن يكون قليل الريش، أحمر العينين حادّهما، وأن تكونا مقبلتين على منسره وحجاجاهما «3» مطلّين عليهما، ولا يكون وضعهما فى جنبى رأسه كوضع عينى الحمام. والأزرق منه دون الأحمر العين؛ والأصفر دونهما. وسعة أشداقه تدلّ على قوّة الافتراس. ومن صفاته المحمودة أن يكون طويل العنق، عريض الصدر، بعيد ما بين المنكبين، شديد الانخراط الى ذنبه، وأن تكون فخذاه طويلتين مسرولتين بريش، وذراعاه قصيرتين غليظتين، وأشاجع «4» كفّيه عارية، وأصابعه متفرّقة [ولا تكون مجتمعة ككفّ الغراب «5» ] ، ومخلبه أسود، ويكون طويل المنسر دقيقه. وأفخر ألوانه الأبيض ثم الأشهب، وهما لونان يدلّان على الفراهة والكرم. وأما الأسود الظهر المنقّش الصدر بالبياض والسواد فهو يدلّ على الشدّة والصّلابة. وإن اتّفق أن يكون هذا أحمر العين كان نهاية. وهذا اللون فى البزاة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 187 كالكميت فى الخيل. والأحمر فى البزاة أخبثها. وبعض الناس يقول: أشرف البزاة الطّغرل، ثم البازى التامّ وهو الذى وصفناه آنفا. والطّغرل: طائر عزيز نادر الوقوع لا يعرفه غير التّرك، لأنه يكون فى بلاد الخزر وما والاها وما بين خوارزم إلى إرمينية، وهو يجمع صيد البازى والشاهين. وقيل: إنه لا يعقر شيئا بمخلبه إلّا سمّه. وأوّل من صاد البازى «لذريق» أحد ملوك الروم الأوّل؛ وذلك أنه رأى بازيا إذا علا كتف «1» ، وإذا سفل خفق، وإذا أراد أن يسمو درق «2» ؛ فاتّبعه حتى اقتحم شجرة ملتفّة كثيرة الدّغل؛ فأعجبته صورته، فقال: هذا طائر له سلاح تتزيّن بمثله الملوك؛ فأمر بجمع عدّة من البزاة فجمعت وجعلت فى مجلسه. فعرض لبعضها أيم «3» فوثب عليه؛ فقال: ملك يغضب كما تغضب الملوك. ثم أمر به فنصب على كندرة «4» بين يديه؛ وكان هناك ثعلب فمرّ به مجتازا، فوثب عليه فما أفلت منه إلّا جريحا؛ فقال لذريق: هذا جبّار يمنع حماه. ثم أمر به فضرّى على الصيد؛ واتخذته الملوك بعده. وقد وصفته الشعراء والأدباء؛ فمن ذلك قول الناشى: لما تعرّى الليل عن أنساجه ... وارتاح ضوء الصبح لانبلاجه غدوت أبغى الصيد من منهاجه ... بأقمر أبدع فى نتاجه ألبسه الخالق من ديباجه ... ثوبا كفى الصانع من نساجه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 188 حال من الساق إلى أوداجه «1» ... وشيا يحار الطّرف فى اندراجه فى نسق منه وفى انعراجه ... وزان فوديه إلى حجاجه «2» بزينة كفته عزّ تاجه ... منسره يثنى على خلاجه وظفره يخبر عن علاجه ... لو استضاء المرء فى إدلاجه بعينه كفته عن سراجه وقال ابن المعتزّ يصف عين البازى: ومقلة تصدقه إذا رمق «3» ... كأنها نرجسة بلا ورق وقال أيضا فيه: وفتيان غدوا والليل داج ... وضوء الصبح متّهم الطلوع كأن بزاتهم أمراء جيش ... على أكتافها صدأ الدّروع وقال أيضا: ومنسر عضب الشباة دامى ... كعقدك الخمسين بالإبهام «4» وخافق للصّيد ذى اصطلام ... ينشره للنّهض والإقدام كنشرك البرد على المستام الجزء: 10 ¦ الصفحة: 189 ووصفه أبو إسحاق إبراهيم بن خفاجة الأندلسىّ فقال من رسالة: «طائر يستدلّ بظاهر صفاته، على كرم ذاته؛ طورا ينظر نظر الخيلاء فى عطفه كأنما يزهى جبّار، وتارة يرمى نحو السماء بطرفه «1» كأنما له هناك اعتبار. وأخلق به أن ينقضّ على قنيصه شهابا، ويلوى به ذهابا، ويحرقه توقّدا والتهابا. وقد أقيم له سابغ الذّنابى والجناح، كفيلين فى مطالبه بالنّجاح. جيّد العين والأثر، حديد السمع والبصر. يكاد يحسّ بما يجرى ببال، ويسرى من خيال. قد جمع بين عزّة مليك، وطاعة مملوك. فهو بما يشتمل عليه من علوّ الهمه، ويرجع إليه بمقتضى الحدمه؛ مؤهّل لإحراز ما تقتضيه شمائله، وإنجاز ما تعدبه مخايله. وخليق بمحكم تأديبه، وجودة تركيبه؛ أن لو مثل له النجم قنصا، أو جرى [بذكره «2» ] البرق قصصا؛ لاختطفه أسرع من لحظه، وأطوع من لفظه؛ وانتسفه «3» أمضى من سهم، وأجرى من وهم. وقد أقسم بشرف جوهره، وكريم عنصره؛ لا يوجّه مسفّرا، إلا غادر قنيصه معفّرا، وآب إلى يد من أرسله مظفّرا؛ مورّد المخلب والمنقار، كأنما اختضب بحنّاء أو كرع فى عقار» . [وله من أبيات يمدح «4» بها] : طرد القنيص بكلّ «5» قيد طريدة ... زجل «6» الجناح مورّد الأظفار الجزء: 10 ¦ الصفحة: 190 علتفّة أعطافه بحبيرة «1» ... مكحولة أجفانه بنضار يرمى به الأمد البعيد فينثنى ... مخضوب راء الظّفر والمنقار *** وأما الزّرّق - وهو الصّنف الثانى من البازى. هو باز لطيف، إلا أن مزاجه أحرّ وأيبس، وهو لذلك أشدّ جناحا وأسرع طيرانا وأقوى إقداما. وفيه ختل وخبث؛ وذلك أنه إذا أرسل على طائر طار فى غير مطاره ثم عطف عليه وأظهر الشدّة بعد اللين. وخير ألوانه الأسود الظهر الأبيض الصدر الأحمر العين. ووصفه المحمود منه أن يكون أعدلها خلقا، وأقلّها ريشا، وأثقلها محملا، وأملأها فخذا، وأرحبها شدقا، وأوسعها عينا، وأصغرها رأسا، وأصفاها حدقة، وأطولها عنقا، وأقصرها خافية، وأشدّها لحما، وأن يكون أخضر الرجلين، وسيع المخالب، متعرّيا «2» من اللحم. والله أعلم. *** وأمّا الباشق - وهو الصنف الثالث من البازى. وهو أحرّ وأيبس من الزّرّق، وهو هلع قلق ذعر، يأنس وقتا ويستوحش وقتا. ونفسه قويّة جافية «3» . فإذا أنس منه الصغير بلغ منه كلّ المراد. وأجود الباشق ما أخذ فرخا لم يلق من قوادمه ريشة. وهو متى تمّ تأنيسه وجد منه باز خفيف المحمل ظريف الشمائل. ومن صفاته المحمودة أن يكون صغير المنظر، ثقيل المحمل، طويل الساقين والفخذين، عظيم السّلاح بالنسبة إلى جسمه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 191 وقال بعض الشعراء يصفه: إذا بارك الله فى طائر ... فخصّ من الطير إسبهرقى له هامة كلّلت باللّجين ... فسال اللّجين على المفرق يقلّب عينين فى رأسه ... كأنهما نقطتا زئبق واشرب لونا له مذهبا ... كلون الغزالة فى المشرق حمام الحمام وحتف القطا ... وصاعقة القبج والعقعق وأحنى عليك إلى أن يعود ... إليك من الوالد «1» المشفق فأكرم به وبكفّ الأمير ... وبالدّستبان «2» إذا يلتقى وقال أبو الفتح كشاجم: يسمو فيخفى فى الهواء وينكفى ... عجلا فينقضّ انقضاض الطارق وكأن جؤجؤه وريش جناحه ... خضبا «3» بنقش يد الفتاة العاتق «4» وكأنما سكن الهوى أعضاءه ... فأعارهنّ نحول جسم العاشق ذا مقلة ذهبيّة فى هامة ... محفوفة من ريشها بحدائق ومخالب مثل الأهلّة طالما ... أدمين كفّ البازيار الحاذق وإذا انبرى نحو الطريدة خلته ... كالرّيح فى الأسماع أو كالبارق الجزء: 10 ¦ الصفحة: 192 وإذا دعاه البازيار رأيته ... أدنى وأطوع من محبّ وامق وإذا القطاة تخلّفت من خوفه ... لم يعد أن يهوى بها من حالق ومن رسالة لبعض فضلاء الأندلس، جاء منها: «كأنما اكتحل بلهب، أو انتعل بذهب. ملتفّ فى سبره «1» ، وملتحف بحبره. من سيوفه منقاره، ومن رماحه أظفاره. ومن اللواتى تتنافس الملوك فيها، تمسكها عجبا بها وتيها. فهى على أيديها آية باديه، ونعمة من الله ناميه. تبذل لك الجهد صراحا، وتعيرك فى نيل بغيتك جناحا. وتتّفق معك فى طلب الأرزاق، وتأتلف بك على اختلاف الخلق والأخلاق. ثم تلوذ بك لياذ من يرجوك، وتفى لك وفاء لا يلتزمه لك ابنك ولا أخوك» . ثم ذكر حمامة صادها، فقال: «اختطفها أسرع من اللّحظ، ولا محيد لها عنه، وانحدر بها أعجل من اللّفظ، وكأنها هى منه؛ ثم جعل يتناولها بعقد السبعين، ويدخلها فى أضيق من التسعين «2» . وكان لها موتا عاجلا، وكانت له قوتا حاصلا» . والله الهادى للصواب. *** وأمّا العفصىّ - وهو الصنف الرابع من البازى. وهو من الباشق كالزّرّق من البازى، إلا أنه أصغر الجوارح نفسا، وأضعفها حيلة، وأشدّها ذعرا، وأيبسها مزاجا. وربما صاد العصفور وتركه لخوفه وحذره. ومن عادته أنه يرصد الطير الجزء: 10 ¦ الصفحة: 193 أيام حضانه «1» ، فإذا طار عن وكره خلفه فيه وكسر بيضه ورماه وباض مكانه وطار عنه فيحضنه صاحب الوكر؛ فهو أبدا لا يحضن ولا يربّى. *** وأمّا البيدق - وهو الصنف الخامس من البازى، وهو لا يصيد غير العصافير. وقد وصفه كشاجم فقال: حسبى من البزاة والزّرارق «2» ... ببيدق يصيد صيد الباشق مؤدّب مدرّب الخلائق ... أصيد من معشوقة لعاشق يسبق فى السّرعة كلّ سابق ... ليس له عن «3» صيده من عائق ربّيته وكنت عين الواثق «4» ... أنّ الفرازين «5» من البيادق الجزء: 10 ¦ الصفحة: 194 ذكر ما قيل فى الصقر والصقر ثلاثة أصناف، وهى صقر، وكونج، ويؤيؤ. فأمّا الصقر - فهو النوع الثالث من الجوارح. والعرب تسمّى كل طائر يصيد صقرا، ما خلا النّسر والعقاب، وتسمّيه «الأكدر» و «الأجدل» . وهو من الجوارح بمنزلة البغال من الدّوابّ، لأنه أصبر على الشدّة وأشدّ إقداما على جلّة الطير كالكراكىّ والحبارج «1» . قالوا: ومزاجه أبرد من سائر ما تقدّم ذكره من الجوارح وأرطب. وهو يضرّى على الغزال والأرنب ولا يضرّى على الطير لأنها تفوته. وفعله فى صيده الانقضاض «2» والصّدم. وهو غير صافّ «3» بجناحه ولا خافق به. ومتى خفق بجناحه كانت حركته بطيئة بخلاف البازى. ويقال: إنه أهدأ نفسا من البازى، وأسرع أنسا بالناس «4» ، وأكثر رضا وقناعة. وهو يغتذى بلحوم ذوات الأربع. وهو يعاف المياه ولا يقربها، وذلك لبرد مزاجه. وفى طبعه أنه لا يركب الأشجار ولا الشوامخ من الجبال، ولا يأوى إلّا المقابر والكهوف وصدوع الجبال. وهو ينقى بالتّمعّك «5» فى الرّمل والتراب. ومن صفاته المحمودة الدّالّة على نجابته وفراهته: أن يكون أحمر اللّون، عظيم الهامة، واسع العينين، تامّ المنسر، طويل العنق والجناحين، رحب الصدر، ممتلئ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 195 الزّور، عريض الوسط، جليل الفخذين، قصير الساقين والذّنب، قريب القفدة «1» من الفقار، سبط الكفّ، غليظ الأصابع فيروزجها، أسود اللسان. والله الموفّق. وأوّل من صاد بالصقر وضرّاه الحارث بن معاوية بن ثور بن كندة. وسبب ذلك أنه وقف فى بعض الأيّام على صيّاد قد نصب شبكة للعصافير؛ فانقضّ أكدر على عصفور قد علق فى الشبكة فجعل يأكله وقد علق الأكدر واندقّ جناحاه، والحارث ينظر إليه ويعجب من فعله؛ فأمر به فحمل فرمى به فى كسر بيت ووكّل به من يطعمه؛ وأنس الصقر بالموكّل به، حتى صار إذا جاءه باللحم ودعاه أجاب؛ ثم صار يطعمه على يده وصار يحمله. فبينما هو يوما حامله إذ رأى حمامة، فطار عن يده إليها فأخذها وأكلها. فأمر الحارث عند ذلك باتّخاذها وتدريبها والتصيّد بها. فبينا هو يسير يوما إذ لاحت أرنب فطار الصقر إليها وأخذها؛ فلما رآه يصيد الطير والأرانب ازداد به إعجابا واغتباطا. واتخذته العرب بعده. ووصفه الشعراء؛ فمن ذلك ما قاله كشاجم يصفه: غدونا وطرف النجم وسنان غائر ... وقد نزل الإصباح والليل سائر «2» بأجدل من حمر الصقور مؤدّب ... وأكرم ما قرّبت منها «3» الأحامر «4» جرىء على قتل الظّباء وإنّنى ... ليعجبنى أن يكسر الوحش طائر قصير الذّنابى والقدامى كأنّها ... قوادم نسر أو سيوف بواتر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 196 ورقّش منه جؤجؤ فكأنّه ... أعارته إعجام الحروف الدّفاتر فما زلت بالإضمار حتى صنعته ... وليس يحوز السبق إلّا الضّوامر وتحمله منّا أكفّ كريمة ... كما زهيت «1» بالخاطبين المنابر وعنّ لنا من جانب السّفح ربرب ... على سنن تستنّ منه الجاذر فجلّى «2» وحلّت عقدة السير فانتحى «3» ... لأوّلها إذ أمكنته الأواخر يحثّ جناحيه على حرّ وجهها «4» ... كما فصّلت فوق الخدود المعاجر «5» وما تمّ رجع الطّرف حتى رأيتها ... مصرّعة تهوى إليها الخناجر وقال عبد الله بن المعتزّ: وأجدل يفهم نطق الناطق ... ململم «6» الهامة فخم العاتق أقنى المخاليب طلوب مارق ... كأنها نونات كفّ ماشق ذى جؤجؤ لابس وشى رائق ... كمبتدا اللّامات فى المهارق «7» أو كامتداد الكحل فى الحمالق ... ونجّمت باللّحظ عين الرامق عشرا من الإوزّ فى غلافق «8» ... فمرّ كالرّيح بعزم صادق الجزء: 10 ¦ الصفحة: 197 حتى دنا منهنّ مثل السارق ... ثم علاها بجناح خافق فطفقت من هالك أو فائق «1» وقال أيضا: وأجدل لم يخل من تأديب ... يرى بعيد الشىء كالقريب يهوى هوىّ الدّلو فى القليب ... بناظر مستعجم مقلوب كناظر الأقبل «2» ذى التّقطيب ... رأى إوزّا فى ثرى رطيب «3» فطار كالمستوهل المرعوب ... ينفذ فى الشمال والجنوب *** وأمّا الكونج - وهو الصنف الثانى من الصقر. ويسمّى بمصر والشأم السّقاوية «4» . ونسبته من الصقر كنسبة الزّرّق من البازى، إلا أنه أحرّ منه؛ ولذلك هو أخفّ منه جناحا. وهو يصيد الأرنب، ويعجز عن الغزال لصغره؛ ويصيد أشياء من طير الماء. وشدّة نفسه أقلّ من شدّة بدنه؛ ولأجل ذلك هو أطول فى البيوت لبثا، وأصبر على مقاساة الشقاء من الصقر. وفى وصفه يقول بعض الشعراء: إن لم يكن صقر فعندى كونج ... كأنّ نقش ريشه المدرّج برد من الموشىّ أو مدبّج ... فكم به للطير قلب مزعج ممزّق بدمه مضرّج ... بمثله عنّا الهموم تفرج الجزء: 10 ¦ الصفحة: 198 وأمّا اليؤيؤ - وهو الصّنف الثالث من الصقر. ويسمّيه أهل مصر والشأم «الجلم» لخفّة جناحيه وسرعتهما. وهو طائر قصير الذّنب. ومزاجه بالإضافة الى الباشق بارد رطب، لأنه أصبر منه نفسا وأثقل حركة. ويشرب الماء شربا ضروريّا كما يشربه الباشق. ومزاجه بالنسبة الى الصقر حارّ يابس، ولذلك هو أشجع منه، لأنه يتعلّق بما يفترسه، ويصيد ما هو أجلّ منه كالدّرّاج. ويقال: إنّ أوّل من صاد به واتّخذه للّعب بهرام «1» جور؛ وذلك أنه شاهد يؤيؤا يطارد قبّرة ويراوغها ويرتفع معها إلى أن صادها؛ فأعجبه واتخذه وصاد به. وقال عبد الله النّاشى يصفه: ويؤيؤ مهذّب رشيق ... كأنّ عينيه «2» على التحقيق فصّان مخروطان من عقيق وقال أبو نواس: قد «3» أغتدى والصبح فى دجاه ... كطرّة البرد «4» على مثناه بيؤيؤ يعجب من رآه ... ما فى اليآيى يؤيؤ شرواه «5» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 199 أزرق لا تكذبه عيناه ... فلو يرى القانص ما يراه [فدّاه بالأمّ وقد فدّاه «1» ] وقال أبو اسحاق الصّابى يصفه من رسالة: «وكم من قبّر «2» أطلقنا عليه يؤيؤا «3» لنا فعرج إلى السماء عروجا، ولجّج فى أثره تلجيجا؛ فكان «4» ذلك يعتصم منه بالخلّاق، وهذا يستطعمه من الرّزّاق؛ حتى غابا عن النّظّار، واحتجبا عن الأبصار؛ وصارا كالغيب «5» المرجّم، والظنّ المتوهّم؛ ثم خطفه ووقع «6» به وهما كهيئة الطائر الواحد؛ فأعجبنا أمرهما، وأطربنا منظرهما» . ذكر ما قيل فى الشاهين والشاهين ثلاثة أصناف، وهى شاهين، وأنيقى، وقطامىّ. فأما الشاهين - واسمه بالفارسية شوذانه، فعرّبته العرب على ألفاظ شتّى منها: شوذانق وشوذق وشوذنيق وشيذنوق «7» . ويقال: إنه من جنس الصقر إلا أنه أبرد منه وأيبس؛ ولذلك تكون حركته من العلو إلى السّفل شديدة. وليس يحلّق الجزء: 10 ¦ الصفحة: 200 فى طلب الصّيد على خطّ مستقيم إنما يحوم لثقل «1» جناحه، حتى إذا سامت الفريسة انقضّ عليها هاويا من علو فضربها وفارقها صاعدا؛ فإن سقطت على الأرض أخذها، وإن لم تسقط أعاد ضربها [لتسقط «2» ] ؛ وذلك دليل على جبنه وفتور نفسه وبرد مزاج قلبه. ومع ذلك كلّه فهو أسرع الجوارح وأخفّها وأشدّها ضراوة على الصيد. إلّا أنهم عابوه بالإباق وبما يعتريه من الحرص؛ حتى إنه ربما ضرب بنفسه الأرض فمات. ويزعمون أنّ عظامه أصلب من عظام سائر الجوارح؛ ولذلك هو يضرب بصدره ويعلق بكفّه. وقال بعض من تكلّم فى هذا النوع: الشاهين كاسمه. يريد [شاهين «3» ] الميزان؛ [لأنه «4» ] لا يحتمل أدنى حال من الشّبع ولا أيسر حال من الجوع. والمحمود من صفاته: أن يكون عظيم الهامة، واسع العينين حادّهما، تامّ المنسر، طويل العنق، رحب الصدر، ممتلئ الزّور، عريض الوسط، جليل «5» الفخذين، قصير الساقين، قريب القفدة «6» من الظهر، قليل الرّيش ليّنه، تامّ الخوافى، دقيق الذّنب، إذا صلّب عليه «7» جناحيه لم يفضل عنهما شىء منه. فإذا كان كذلك فهو يقتل الكركىّ [ولا يفوته «8» ] . وزعم بعضهم «9» أنّ السّود من الشواهين هى المحمودة؛ وأن السواد أصل لونها، وإنما أحالته التّربة. ويكون فى الشواهين الملمّع. والله أعلم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 201 وأوّل من صاد بالشّواهين قسطنطين [ملك عمّوريّة «1» ] . حكى أنه خرج يوما يتصيّد، حتى إذا أتى إلى مرج فسيح نظر إلى شاهين ينكفئ على طير الماء؛ فأعجبه ما رأى من سرعته وضراوته وإلحاحه على صيده، فأخذه وضرّاه؛ ثم ريضت له الشّواهين بعد ذلك وعلّمت أن تحوم على رأسه إذا ركب فتظلّه من الشمس؛ فكانت تنحدر مرّة وترتفع أخرى، فإذا نزل وقعت حوله. وقد وصف الشعراء الشواهين وشبّهوها؛ فمن ذلك قول النّاشى: هل لك يا قنّاص فى شاهين ... شوذانق مؤدّب أمين جاء به السائس من رزين «2» ... ضرّاه بالتّخشين والتّليين حتى لأغناه عن التلقين ... يكاد للتثقيف والتّمرين يعرف معنى الوحى بالجفون ... يظلّ من جناحه المزين فى قرطق «3» من خزّه الثمين ... يشبه من طرازه المصون برد أنوشروان أو شيرين «4» ... أحوى مجارى الدّمع والشؤون ذى منسر مؤلّل مسنون ... واف كشطر الحاجب المقرون منعطف مثل انعطاف النون ... يبدى اسمه معناه للعيون وقال أبو الفتح كشاجم وبدأ بالكركىّ: يا ربّ أسراب من الكراكى ... مطمعة السكون فى الحراك بعيدة المنال والإدراك ... كدر وبيض اللّون كالأفناك «5» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 202 تقصر عنها أسهم الأتراك ... ذعرن «1» قبل لغط المكاكى «2» وقبل تغريد الحمام الباكى ... بفاتك يربى على الفتّاك مؤدّب الإطلاق والإمساك ... ململم الهامة كالمداك «3» مثل الكمىّ فى السّلاح الشّاكى ... ذى منسر ضخم له شكّاك ومخلب بحدّه بتّاك «4» ... للحجب عن قلوبها هتّاك حتى إذا قلت له دراك ... وحلّقت تسمو إلى الأفلاك ممتدّة الأعناق والأوراك ... موقنة بعاجل الهلاك غادرها تهوى على الدّكاك «5» ... أسرى بكفّيه بلا فكاك يا غدوات الصيد ما أحلاك ... ومنّة الشاهين ما أقواك لم تكذبى فراسة الأملاك ... إيّاك أعنى مادحا إيّاك *** وأمّا الأنيقىّ - وهو الصّنف الثانى من الشاهين. وتسميه أهل العراق الكرّك. وهو دون الشاهين فى القوّة، إلا أنّ فيه سرعة. وهو يصيد العصافير. وفيه يقول الشاعر: غنيت عن الجوارح بالأنيقى ... بمثل الرّيح أو لمع البروق أصبّ به على العصفور حتفا ... فأرميه بصخرة منجنيق الجزء: 10 ¦ الصفحة: 203 وأمّا القطامىّ - وهو الصّنف الثالث من الشاهين، وتسميه أهل العراق «البهرجة» . يقال: إنه فى طبع الشاهين، والعرب تخالف ذلك، وتسمّى بعض الصقور القطامىّ؛ والمعتنون بالجوارح يخالفونهم فى ذلك. فصل وممّا ناسب الجوارح فى الافتراس وأكل اللحم الحىّ «الصّرد» ، ويسمّى «الشّقرّاق» «1» و «الأخطب» و «الأخيل» . وقيل: إنّ من أسمائه «الواق» «2» وبعضهم يسمّيه «بازى العصافير» . [وهو طائر مولّع بسواد وبياض، ضخم المنقار «3» ] . وفى طبعه شره وشراسة وسرقة لفراخ غيره ونفور من الناس. وهو [يصيد الحيّات «4» و] يغتذى باللّحم، ويأوى الأشجار ذوات الشّوك وفى رءوس التّلاع، حذرا على نفسه [ممن يصيده «5» ] . وهو يتحيّل فى صيد ما دونه من الطير كالعصفور «6» . هذا ما ظفرت به فى أثناء المطالعة من سباع الطير ممّا تكلّم عليه أرباب هذا الفن. وقد أهملوا أصنافا ، منها ما هو أجلّ من جميع ما ذكرناه، وه و «السّنقر» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 204 والسّنقر - طائر شريف، حسن الشّكل، أبيض اللّون بنقط سود. والملوك تتغالى فيه وتشتريه بالثمن الكثير. وكان فيما مضى من السنين القريبة يشترى من التّجار بألف دينار؛ ثم تناقص ثمنه حتى استقرّ الآن بخمسة آلاف درهم. ولهم عادة: أنّ التّجار إذا حملوه وأتوا به من بلاد الفرنج فمات منهم فى الطريق قبل وصولهم أحضروا ريشه إلى أبواب الملوك، فيعطون نصف ثمنه إذا أتوا به حيّا؛ كل ذلك ترغيبا لهم فى حملها ونقلها إلى الديار المصريّة. وهذا الطير لا يشتريه غير السلطان ولا يلعب به غيره من الأمراء إلا من أنعم السلطان عليه به. والله أعلم. وممّا أهملوا الكلام فيه «الكوهيّة» و «الصيفيّة» و «الزغزغى» ، وهو يعدّ من أصناف الصقر. ولم أجد من أثق بنقله وعلمه بهذه الأصناف فأنقل عنه أخلاقها وطبائعها وعاداتها. وقال أبو إسحاق الصابى فى وصف الجوارح من رسالة طرديّة جاء منها: «وعلى أيدينا جوارح مؤلّلة المخالب والمناسر، مذرّبة «1» النّصال والخناجر، طامحة الألحاظ والمناظر؛ بعيدة المرامى والمطارح؛ ذكيّة القلوب والنفوس، قليلة القطوب والعبوس؛ سابغة الأذناب، كريمة الأنساب؛ صلبة «2» الأعواد، قويّة الأوصال؛ تزيد إذا ألحمت «3» شرها وقرما، وتتضاعف إذا أشبعت كلبا ونهما. ثم خرج إلى وصف الحمام فقال: «فلما أوفينا عليها، أرسلنا الجوارح إليها؛ كأنها رسل المنايا، أو سهام القضايا؛ فلم نسمع إلا مسمّيا، ولم نر إلا مذكّيا» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 205 الباب الثانى من القسم الخامس من الفن الثالث فى كلاب الطّير ويشتمل هذا الباب على ما قيل فى النّسر، والرّخم، والحدأة، والغراب. وإنما سمّيت هذه الأصناف بالكلاب لأنها تأكل الميتة والجيف وتقصدها وتقع عليها، فهى فى ذلك شبيهة بالكلاب. ذكر ما قيل فى النّسر والنّسر ذو منسر وليس بذى محلب، وإنما له أظفار حداد [كالمخالب. وهو يسفد كما يسفد الديك «1» ] . وزعم من تكلّم فى طبائع الحيوان أنّ الأنثى من هذا النوع تبيض من نظر الذّكر إليها، وأنها لا تحضن [بيضها «2» ] وإنما تبيض فى الأماكن العالية التى يقرعها حرّ الشمس وهجيرها، فيقوم ذلك للبيض مقام الحضن. والنّسر يوصف بحدّة حاسّة البصر؛ حتى إنه يقال: إنه يرى الجيفة عن مسافة أربعمائة فرسخ. وكذلك حاسّة الشّمّ؛ إلا أنّه إذا شمّ الطّيب مات. وهو أشدّ الطير طيرانا وأقواها جناحا؛ حتى زعموا أنه يطير ما بين المشرق والمغرب فى يوم واحد. وهذا القول أراه من التّغالى فيه. وسائر الجوارح تخافه. وهو [شره نهم رغيب «3» ] ؛ إذا سقط على الجيفة وامتلأ منها لم يستطع عند ذلك الطيران الجزء: 10 ¦ الصفحة: 206 حتى يثب عدّة وثبات يرفع فيها نفسه فى الهواء طبقة بعد طبقة حتى تدخل تحته الرّيح. ومن أصابه بعد امتلائه وأعجله عن الوثوب أمكنه ضربه إن شاء «1» بعصا وإن شاء بغيرها. قالوا: والأنثى تخاف على بيضها وفراخها من الخفّاش فتفرش فى وكرها ورق الدّلب «2» ليفرّ منه. والنّسر أشدّ الطير حزنا على [فراق «3» ] إلفه؛ يقال: إن الأنثى إذا فقدت الذّكر امتنعت عن الطّعم أياما ولزمت الوكر؛ وربما قتلها الحزن. وهو طويل العمر؛ يقال: إنه يعمّر ألف سنة. وفيه ألوان: منها الأسود البهيم، والأربد وهو لون الرّماد، والأكدر مثله. وهو يتبع الجيوش طمعا فى الوقوع على جيف القتلى والدّوابّ. ذكر ما قيل فى الرخم يقال: إنّ لئام الطير ثلاثة: الغربان، والبوم، والرّخم. والرخمة تلتمس لبيضها المواضع البعيدة والأماكن الوحشية والجبال الشامخة وصدوع الصخر؛ ولذلك يضرب المثل ببيض الأنوق. قال الشاعر: طلب الأبلق «4» العقوق فلمّا ... لم ينله أراد بيض الانوق والرّخم من أحبّ الحيوان فى العذرة، لا شىء يحبّها كحبّه إلّا الجعل. وقال المفضّل لمحمد بن سهل: إنّا لا نعرف طائرا ألأم لؤما ولا أقذر طعمة ولا أظهر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 207 موقا من الزّحمة. فقال محمد بن سهل: وما حمقها وهى تحضن بيضها، وتحمى فراخها، وتحبّ ولدها، ولا تمكّن إلّا زوجها، وتقطع فى أوّل القواطع «1» ، وترجع فى أوّل الرّواجع، ولا تطير فى التّحسير «2» ، ولا تغترّ بالشّكير، ولا تربّ «3» بالوكور، ولا تسقط على الجفير!. قال الجاحظ: أمّا قوله: «تقطع فى أوّل القواطع وترجع فى أوّل الرّواجع» ، فإنّ الرّماة وأصحاب الحبائل والقنّاص إنما يطلبون الطير بعد أن يعلموا أنّ القواطع قد قطعت، فبقطع الرخمة يستدلّون، فلا بدّ للرّخمة من أن تنجو سالمة إذ كانت أوّل طالع عليهم. وأمّا قوله: «ولا تطير فى التّحسير ولا تغترّ بالشّكير» ؛ فإنها تدع الطيران أيام التحسير، فإذا نبت الشّكير وهو أوّل ما ينبت من الريش فإنها لا تنهض حتى يصير الشكير قصبا. وأما قوله: «ولا تربّ بالوكور» ، فإن الوكور لا تكون إلا فى عرض الجبل، وهى لا ترضى إلا بأعالى الهضاب ثم بمواضع الصّدوع وخلال الصخور حيث يمتنع على جميع الخلق المصير إلى أفراخها؛ ولذلك قال الكميت: ولا تجعلونى فى رجائى ودّكم ... كراج على بيض الأنوق احتبالها «4» وأمّا قوله: «ولا تسقط على الجفير» ، فإنما يعنى جعبة السهام. يقول: إذا رأته علمت أنّ هناك سهاما فلا تسقط فى موضع تخاف فيه وقع السّهام. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 208 قال: والرّخم من الطير التى تتبع الجيوش والحجّاج لما يسقط من كسرى «1» الدّوابّ. وإذا فقدت الميتة عمدت إلى العظم فحملته وارتفعت به فى الهواء ثم تلقيه فيقع على الصخور فينكسر فتأكل ما فيه. والله أعلم بالصواب. ذكر ما قيل فى الحدأة قالوا: والحدأة تبيض بيضتين، وربما باضت ثلاثا وخرج منها ثلاثة أفرخ. وهى تحضن عشرين يوما. ومن ألوانها الأسود والأربد. ويقال: إنها لا تصيد وإنما تخطف. وهى تقف فى الطيران، وليس ذلك لغيرها من الكواسر، وزعم ابن وحشيّة: أنّ العقاب والحدأة يتبدّلان، فتصير الحدأة عقابا والعقاب حدأة. وهذا أراه من الخرافات. ويقال: إنّ الحدأة من جوارح سليمان عليه السلام وإنها امتنعت من أن تؤلّف أو تملك لغيره، لأنها من الملك الذى لا ينبغى لأحد من بعده. وهى لا تختطف إلا من يمين من تختطف منه دون شماله. وليس فيها لحم، وإنما عظام وعصب وجلد وريش. ولم أقف على شعر فيها فأضعه. ذكر ما قيل فى الغراب قالوا: والغراب أصناف، وهى «الغداف» و «الزّاغ الأكحل» و «الزاغ الأورق» . والغراب يحكى جميع ما يسمعه، وهو فى ذلك أعجب من الببّغاء. ويقال: إنّ متولّى ثغر الإسكندريّة أهدى إلى السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس غرابا أبيض؛ وهو غريب نادر الوقوع. ويقال فى صوت الغراب: نغق ينغق نغيقا، ونعب ينعب نعيبا. فإذا مرّت عليه السنون الكثيرة وغلظ صوته الجزء: 10 ¦ الصفحة: 209 قيل فيه: شحج يشحج شحيجا. وفى طبعه الاستتار عند السّفاد وهو يسفد مواجهة «1» ، ولا يعود إلى الأنثى إذا سفدها أبدا، وذلك لقلّة وفائه. قال الجاحظ: واذا خرج الفرخ حضنته الأنثى دون الذكر، ويأتيها الذّكر بالطّعم. قال: والغراب من لئام الطير وليس من كرامها، ومن بغاثها وليس من أحرارها، ومن ذوات المخالب المعقّفة والأظفار الجارحة، ومن ذوات المناقير وليس من ذوات المناسر؛ وهو مع ذلك قوىّ البدن، لا يتعاطى الصيد، وربما راوغ العصفور. ولا يصيد الجرادة إلا أن يلقاها فى سدّ «2» من جراد. وهو إن أصاب جيفة نال منها وإلا مات هزالا. ويتقمّم كما تتقمّم بهائم الطير وضعافها. وليس ببهيمة لمكان أكله الجيف؛ وليس بسبع لعجزه عن الصيد. قال: وهو إمّا أن يكون حالك السواد شديد الاحتراق، ويكون مثله من الناس الزّنج لأنهم شرار الناس وأردأ الخلق تركيبا ومزاجا، فلا تكون له معرفة ولا جمال؛ وإما أن يكون أبقع فيكون اختلاف تركيبه وتضادّ أعضائه دليلا على فساد أمره. والبقع ألأم من السّود وأضعف. قال: ومن الغربان غراب الليل، وهو الذى ترك أخلاق الغربان وتشبّه بأخلاق البوم. وقد رأيت أنا ببلنياس «3» - وهى على ساحل البحر الرومىّ- غربانا كثيرة جدّا، فإذا كان وقت الفجر صاحت كلّها صياحا عظيما مزعجا؛ فهم يعرفون طلوع الفجر بصياحها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 210 قال: ومنها غراب البين؛ وهو نوعان: أحدهما غربان صغار معروفة بالضّعف واللؤم. والآحر إنما لزمه هذا الاسم لأنّ الغراب إذا بان أهل الدار للنّجعة وقع فى مواضع بيوتهم يتلمّس ويتقمّم، فتشاءموا به وتطيّروا منه، إذ كان لا يلمّ بمنازلهم إلا إذا بانوا منها؛ فسمّوه غراب البين. ثم كرهوا إطلاق ذلك الاسم مخافة الزّجر والطّيرة، وعلموا أنه نافذ البصر صافى العين، فسمّوه الأعور؛ من أسماء الأضداد. قال: والغدفان جنس من الغربان؛ وهى لئام جدّا. ومن أجل تشاؤمهم بالغراب اشتقّوا من اسمه الغربة والاغتراب والغريب. والعرب يتعايرون بأكل لحوم الغربان. وفى ذلك يقول وعلة الجرمىّ «1» : فما بالعار ما عيّرتمونا ... شواء النّاهضات مع الخبيص «2» فما لحم الغراب لنا بزاد ... ولا سرطان «3» أنهار البريص «4» والغربان من الأجناس التى تقتل فى الحلّ والحرم، وسمّيت بالفسق. قال الجاحظ: وبالبصرة من شأن الغربان ضروب من العجب، لو كان ذلك بمصر أو ببعض الشامات كان عندهم من أجود الطّلّسمات؛ وذلك أنّ الغربان تقطع إلينا فى الخريف فترى النخيل وبعضها مصروم وعلى كل نخلة عدد كثير من الغربان؛ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 211 وليس فيها شىء يقرب نخلة واحدة من النخيل التى لم تصرم ولو لم يبق عليها إلا عذق واحد. قال: فلو أنّ الله تعالى أذن للغراب أن يسقط على النخلة وعليها التمر لذهب جميعه. فإذا صرموا ما على النخلة تسابق الغربان إلى ما سقط من التمر فى جوف القلب «1» وأصول الكرب «2» تستخرجه وتأكله. ومما يتمثّل به فى الغراب: يقولون: «أحذر من غراب» . و «أصحّ من غراب» . و «أصفى نظرا من غراب» . و «أسود من غراب» . ومما وصفت به الغربان- فمن ذلك قول عنترة: حرق «3» الجناح كأن لحيى رأسه ... جلمان بالأخبار هشّ مولع وقال الطّرمّاح بن حكيم: وجرى ببينهم غداة تحمّلوا ... من ذى الأثارب شاحج يتعبّد «4» شنج «5» النّسا أدفى «6» الجناح كأنه ... فى الدار إثر الظاعنين مقيّد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 212 وقال أبو يوسف بن هارون الزّيادىّ الأندلسىّ: أبا حاتم ما أنت حاتم طيّئ ... وما أنت إلا حاتم الحدثان خطبت ففرّقت الجميع بلكنة ... فما الظنّ لو تعطى بيان لسان كأنّهم من سرعة البين أودعوا ... جناحيك واستحثثت «1» للطيران وقال أحمد بن فرج الجبّائى: أمّا الغراب فمؤذن بتغرّب ... وشكا «2» فصدّق بالنّوى أو كذّب داجى القناع كأن فى إظلامه ... إظلام يوم تفرّق وتغرّب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 213 الباب الثالث من القسم الخامس من الفن الثالث فى بهائم الطير ويشتمل هذا الباب على ما قيل فى «الدّرّاج» و «الحبارى» و «الطاوس» و «الدّيك» و «الدّجاج» و «الحجل» و «الكركىّ» و «الإوزّ» و «البطّ» و «النّحام» «1» و «الأنيس» و «القاوند» و «الخطّاف» و «القيق» و «الزّرزور» و «السّمانى» و «الهدهد» و «العقعق» و «العصافير» . قال الجاحظ: والبهيمة من الطير ما أكل الحبّ خالصا. فأمّا الدّرّاج وما قيل فيه - قال الجاحظ: إنه يبيض بين العشب، ولا سيما فيما طال منه والتوى. وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: لحم الدّرّاج أفضل من الفواخت وأعدل وألطف وأيبس. قال: وهو يزيد فى الدّماغ والفهم، ويزيد فى المنىّ. وقال أبو طالب المأمونىّ: قد بعثنا بذات حسن بديع ... كنبات الرّبيع بل هى أحسن فى رداء من جلّنار وآس ... وقميص من ياسمين وسوسن وقال آخر: صدور من الدّرّاج نمّق وشيها ... وصلن بأطراف اللّجين السّواذج وأحداق تبر فى خدود شقائق ... تلألأ حسنا كاشتعال المسارج الجزء: 10 ¦ الصفحة: 214 وأذناب طلع فى ظهور ملاعق ... مجزّعة الأعطاف صهب الدّمالج فإن فخر الطاوس يوما بحسنه ... فلا حسن إلّا دون حسن الدّرارج *** وأمّا الحبارى وما قيل فيه - وتسمّيه أهل مصر الحبرج «1» . قال الجاحظ: والحبارى أشدّ الطير طيرانا وأبعدها «2» سقطا وأطولها شوطا وأقلّها عرجة «3» ؛ وذلك أنه يصاد بالبصرة فيشقّ عن حوصلته بعد الذّبح فتوجد فيها الحبّة الخضراء لم تتغيّر ولم تفسد؛ والحبّة الخضراء من شجر البطم «4» ومنابتها جبال الثغور الشاميّة. والحبارى له خزانة بين دبره وأمعائه، لا يزال فيها سلح رقيق لزج؛ فمتى ألحّ عليه جارح ذرق عليه فتمعّط «5» ريشه. ولذلك يقال: الحبارى سلاحه سلاحه. قال الشاعر: وهم تركوك أسلح من حبارى ... رأى صقرا وأشرد من نعام وهو يغتذى بسلحه إذا جاع. ويقال: الحبارى دجاجة البرّ تأكل كل ما دبّ حتى الخنافس؛ فلذلك يعاف أكله. ووصف أبو نواس الحباريات فقال: يخطرن فى برانس قشوب ... من حبر ظوهرن بالتّذهيب فهنّ أمثال النّصارى الشّيب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 215 وأما الطاوس وما قيل فيه - فهو ألوان منها الأخضر، والأرقط، والأبيض؛ ويوجد فى كلها الخيلاء. ولا تعرف هذه الألوان إلا فى بلاد الزّابج. وفى طبع الطاوس الخيلاء والإعجاب بريشه. والأنثى تبيض بعد أن يمضى من عمرها ثلاث سنين. ولا يحصل التلوّن فى ريش الذّكر إلا بعد مضىّ هذه المدّة. وتبيض الأنثى «1» مرتين فى السنة، فى كل مرّة اثنتى عشرة بيضة. وقال الجاحظ: أوّل ما تبيض ثمانى بيضات، وتبيض أيضا بيض الرّيح. ويسفد الذّكر فى أوان الربيع. ويلقى ريشه فى فصل الخريف، كما يلقى الشجر ورقه فيه؛ فإذا بدأت الأشجار تكتسى الأوراق بدأ الطاوس فاكتسى ريشا. والذكر كثير العبث بالأنثى. والفرخ يخرج من البيضة [كاسيا «2» ] كاسبا. وزعم أرسطو أن الطاوس يعمّر خمسا وعشرين سنة. وقال أبو الصّلت [امية بن عبد «3» العزيز الأندلسىّ] يصفه: أبدى لنا الطاوس عن منظر ... لم ترعينى مثله منظرا متوّج المفرق إلّا يكن ... كسرى بن ساسان يكن قيصرا فى كل عضو ذهب مفرغ ... فى سندس من ريشه أخضرا نزهة من أبصر، فى طيّها ... عبرة من فكّر واستبصرا تبارك الخالق فى كلّ ما ... أبدعه منه وما صوّرا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 216 وقال فيه أيضا: أهلا به لمّا بدا فى مشيه ... يختال فى حلل من الخيلاء كالرّوضة الغنّاء أشرف فوقه ... ذنب له كالدّوحة الغنّاء ناديته لو كان يفهم منطقى ... أو يستطيع إجابة لندائى يا رافعا قوس السماء ولابسا ... للحسن روض الحزن غبّ سماء أيقنت أنك فى الطيور مملّك ... لمّا رأيتك منه تحت لواء وقال أبو الفتح كشاجم من قصيدة ذكر فيها طاوسا: [وأىّ عذر لمقلة بعد الطّ ... اوس عنها إن لم تفض بدم «1» ] رزئته روضة تروق ولم ... أسمع بروض سعى على قدم متوّجا خلعة «2» حباه بها ... ذو الفطر المعجزات والحكم كأنه يزدجرد منتصبا ... يبنى فيعلى مآثر العجم يطبق أجفانه ويحسر عن ... فصّين يستصحبان «3» فى الظّلم أدلّ بالحسن فاستذال له ... ذيلا من الكبر غير محتشم ثم مشى مشية العروس فمن ... مستظرف معجب ومبتسم *** وأما الدّيك والدّجاج وما قيل فيهما - قالوا: والدّجاج ثلاثة أصناف: «نبطىّ» وهو ما يتّخذ فى القرى والبيوت، و «هندىّ» وهو عظم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 217 الخلق يتّخذ لحسن شكله، و «حبشىّ» وهو نوع بديع الحسن أرقط: نقطة سوداء ونقطة بيضاء، وله قرطان أخضران. قالوا: والدّجاجة تجمع البيض بعد السّفاد فى أحد عشر يوما؛ وهى تبيض فى السنة كلها ما خلا شهرين شتويين. والذى عرّفناه نحن بديار مصر أنّ البيض لا ينقطع أبدا فى الفصول الأربعة، فيدلّ على أنها تبيض دائما. ومن الدّجاج ما يبيض فى اليوم مرّتين. والبيضة تكون عند خروجها ليّنة القشر جدّا؛ فإذا أصابها الهواء يبست. وربما وجد فى البيضة محّان. وقال أرسطو: باضت دجاجة فيما مضى ثمانى عشرة بيضة لكل بيضة محّان، ثم حضنت البيض فخرج من كل بيضة فرخان، أحدهما أعظم جثة من الآخر. والدّجاجة تحضن عشرين يوما. وخلق الفرّوج يتبيّن إذا مضت عليه ثلاثة أيام. ويعرف الذّكر من الأنثى بأن يعلّق الفرّوج برأسه «1» فان تحرّك فذكر، وإن سكن فأنثى. قال الجاحظ: والفرخ يخلق من البياض ويغتذى بالصّفرة ويتمّ خلقه لعشرة أيام؛ والرأس وحده يكون أكبر من سائر جسده. والدّجاجة إذا هرمت لم يكن لبيضها محّ، وإذا لم يكن له محّ لا يخلق منه فرّوج. والدّجاجة تخشى ابن آوى دون سائر السّباع؛ وذلك أنه يمرّ عليها فى القرى ما يمرّ من السباع وغيرها فلا تخشاه؛ فإذا مرّ عليها ابن آوى وهى على سطح نالها الجزء: 10 ¦ الصفحة: 218 من الفزع منه ما تلقى [به «1» ] نفسها إليه. وهى إذا قابلت الدّيك تشهّته «2» ورامت السّفاد. والدّجاجة توصف بقلّة النوم. والفرّوج يخرج من البيضة كاسيا كاسبا، سريع الحركة، يدعى فيجيب ويتبع من يطعمه؛ ثم هو كلّما كبر ماق وحمق وزال كيسه. وهو مشترك الطبيعة: يأكل اللّحم، ويحسو الدّم، ويصيد الذّباب، وذلك من طباع الجوارح؛ ويلقط الحبوب، ويأكل البقول، وذلك من طباع بهائم الطير. والله أعلم بالصواب. ذكر ما جاء فى الدّيكة من الأحاديث وما عدّ من فضائلها وعاداتها ومنافعها جاء فى الحديث عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: أنّ ديكا صرخ عند النبىّ صلى الله عليه وسلم، فسبّه بعض أصحابه، فقال: «لا تسبّه فإنّه يدعو إلى الصلاة» . وعن زيد بن خالد الجعفىّ: أن النبىّ صلى الله عليه وسلم نهى عن سبّ الدّيك وقال: «إنّه يؤذّن للصلاة» . وعن سالم بن أبى الجعد يرفعه: أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ ممّا خلق الله لديكا عرفه تحت العرش وبراثنه فى الأرض السّفلى وجناحاه فى الهواء فإذا ذهب ثلثا الليل وبقى ثلث ضرب بجناحيه ثم قال سبّحوا الملك القدّوس سبّوح قدّوس لا شريك له فعند ذلك تضرب الطير بأجنحتها وتصيح الدّيكة» . وعن كعب: «إنّ لله ديكا عنقه تحت العرش وبراثنه فى أسفل الأرض فإذا صاح صاحت الدّيكة يقول سبحان القدّوس الملك الرحمن لا إله غيره» . وروى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّ الدّيك الأبيض صديقى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 219 وعدوّ عدوّ الله يحرس دار صاحبه وسبع دور» . وكان النبىّ صلى الله عليه وسلم يبيّته معه فى البيت. وروى أنّ أصحاب النبىّ صلى الله عليه وسلم كانوا يسافرون بالدّيكة. قال الجاحظ: وزعم أصحاب التّجربة أن كثيرا ما يرون الرجل إذا ذبح الدّيك الأبيض الأفرق «1» إنه لا يزال ينكب فى أهله وماله. وقال فى كتاب الحيوان فى المناظرة بين الدّيك والكلب: وفى الديك الشّجاعة والصبر والجولان والثّقافة والتّسديد؛ وذلك أنه يقدّر إيقاع صيصيته «2» بعين الديك الآخر أو مذبحه فلا يخطئ. قال: ثم معرفته بالليل وساعاته وارتفاق بنى آدم بمعرفته وصوته، يتعرّف آناء الليل وعدد الساعات ومقادير الأوقات ثم يقسّط أصواته على ذلك تقسيطا موزونا لا يغادر منه شيئا. فليعلم الحكماء أنه فوق الإسطرلاب وفوق مقدار الجزر» والمدّ على منازل القمر، حتى كأن طبعه فلك [على حدته «4» ] . ومن عجيب أحوال الدّيكة أنها إذا كانت فى مكان ثم دخل عليها ديك غريب سفدته جميعا. والدّيك يضرب به المثل فى السخاء، وذلك أنه ينقر الحبّ ويحمله بطرفى منقاره إلى الدّجاج، فإذا ظفر بشىء من الحبّ والدّجاج غيب دعاهنّ إليه وقنع منه بدون حاجته توفيرا «5» عليهنّ. قالوا: والدّيكة تعظم بدبيل «6» السّند حتى تكون مثل النّعام. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 220 وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: إنّ مرقة الديوك العتق لها خاصّيّات، سنذكرها. قال: والوجه الذى ذكره جالينوس فى طبخها أن تذبح بعد علفها وبعد إعدائها إلى أن تنبتّ «1» فتسقط فتذبح، ثم يخرج ما فى بطنها ويملأ بطنها ملحا ويخاط ويطبخ بعشرين قسطا ماء حتى ينتهى إلى الثّلث ويشرب. قال: ثم يزاد فى ذلك ما نذكره. قال: وأجود الدّيكة ما لم يصقع «2» بعد. وأجود الدّجاج ما لم يبض، والعتيق ردىء. قال: ولحم الفراريج أحرّ من لحم الدّجاج الكبير. وخصىّ الدّيوك محمود سريع الهضم. ومرقة الدّيوك المذكورة توافق الرّعشة ووجع المفاصل. ولحم الدّجاج الفتىّ يزيد فى العقل، ودماغها يمنع النّزف الرّعافىّ العارض من حجب الدّماغ. ومرقة الدّيوك المذكورة نافعة من الرّبور. ولحم الدّجاج يصفّى الصوت. ومرقة الدّيك الهرم المعمولة بالقرطم والشّبث تنفع من جميع ذلك. ومرقة الديوك نافعة لوجع المعدة من الرّيح، وتنفع القولنج جدّا. ولحم الدّجاج الفتىّ يزيد فى المنىّ؛ والمرقة المذكورة [مع البسفايج «3» ] تسهّل السّوداء، ومع القرطم تسهّل البلغم. وقد تطبخ بالأدوية القابضة للسّحج «4» ، وباللّبن لقروح المثانة. والمرقة نافعة من الحميّات المزمنة. قال: والدّجاج المشقوق عن قلبه أو الديك يوضع على نهش الهوامّ ويبدّل كلّ ساعة فيمنع من فشوّ السمّ. وفى السموم المشروبة يتحسّى طبيخه «5» بالشّبث والملح ويتقيّأ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 221 ومن الحكايات التى تعدّ من خرافات العرب ما حكاه بعضهم عن الرّياشىّ «1» قال: كنّا عند الأصمعىّ، فوقف عليه أعرابىّ فقال: أنت الأصمعى؟ قال: نعم؛ قال: أنت أعلم أهل الحضر بكلام العرب؟ قال: يزعمون؛ قال: ما معنى قول أميّة بن أبى الصلت: وما ذاك إلّا الدّيك شارب خمرة ... نديم غراب لا يملّ الحوانيا «2» فلما استقلّ الصبح نادى بصوته ... ألا يا غراب هل رددت ردائيا فقال الأصمعىّ: إنّ العرب كانت تزعم أنّ الدّيك كان ذا جناح يطير به فى الجوّ وأنّ الغراب كان ذا جناح كجناح الدّيك لا يطير به وأنهما تنادما ليلة فى حانة يشربان فنفد شرابهما؛ فقال الغراب للدّيك: لو أعرتنى جناحك لأتيتك بشراب؛ فأعاره جناحه، فطار ولم يرجع إليه؛ فزعموا أنّ الديك إنما يصيح عند الفجر استدعاء لجناحه من الغراب؛ فضحك الأعرابىّ وقال: ما أنت إلا شيطان. وهذه الحكاية ذكرها الجاحظ فى كتاب الحيوان بنحو ما حكى عن الأصمعىّ، وساق أبيات أميّة بن أبى الصّلت، وهى: ولا «3» غرو إلّا الديك مدمن خمرة ... نديم غراب لا يملّ الحوانيا ومرهنه عند الغراب جبينه ... فأوفيت مرهونا وخان مسابيا «4» أدلّ علىّ الدّيك أنّى كما ترى ... فأقبل على شأنى وهاك ردائيا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 222 أمنتك «1» لا تلبث من الدهر ساعة ... ولا نصفها حتى تؤوب مآبيا ولا تدركنك الشمس عند طلوعها ... فأغلق «2» فيهم أو يطول ثوائيا فردّ الغراب والرداء يحوزه ... إلى الدّيك وعدا كاذبا وأمانيا بأيّة ذنب أو بأيّة حجّة ... أدعك فلا تدعو علىّ ولاليا «3» فإنى نذرت حجّة لن أعوقها ... فلا تدعونّى دعوة من ورائيا تطيّرت منها والدّعاء يعوقنى ... وأزمعت حجّا أن أطير أماميا فلا تيأسن إنى مع الصبح باكرا ... أوافى غدا نحو الحجيج الغواديا كحب امرئ فاكهته قبل حجّتى ... وآثرت عمدا شأنه قبل شانيا هنا لك ظنّ الدّيك أن زال زوله ... وطال عليه الليل أن لا مفاديا فلما أضاء الصبح طرّب صرخة ... ألا يا غراب هل سمعت ندائيا على ودّه لو كان ثم يجيبه ... وكان له ندمان صدق مواتيا وأمسى الغراب يضرب الأرض كلّها ... عتيقا «4» وأضحى الدّيك فى القدّ عانيا فذلك مما أسهت الخمر لبّه ... ونادم ندمانا من الطير عاديا «5» ومن الحكايات التى لا بأس بإيرادها فى هذا الموضع ما حكاه الجاحظ قال: قال أبو الحسن: حدّثنى أعرابىّ كان نزل البصرة قال: قدم علىّ أعرابىّ من البادية فأنزلته، وكان عندى دجاج كثير ولى امرأة وابنان وابنتان منها؛ فقلت لامرأتى: بادرى واشوى لنا دجاجة وقدّميها إلينا نتغدّها. فلما حضر الغداء جلسنا جميعا أنا وامرأتى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 223 وابناى وابنتاى والأعرابىّ. قال: فدفعنا إليه الدجاجة فقلنا له: اقسمها بيننا، نريد بذلك أن نضحك منه؛ فقال: لا أحسن القسمة، فإن رضيتم بقسمتى قسمتها بينكم؛ قلنا: فإنّا نرضى. فأخذ رأس الدجاجة فقطعه وناولنيه وقال: الرأس للرئيس، وقطع الجناحين وقال: الجناحان للابنين، ثم قطع الساقين وقال: الساقان للابنتين، ثم قطع الزّمكّى «1» وقال: العجز للعجوز، وقال: الزّور «2» للزائر؛ قال: فأخذ الدجاجة بأسرها وسخر بنا. قال: فلمّا كان من الغد قلت لامرأتى: اشوى لنا خمس دجاجات، فلما حضر الغداء قلنا له: اقسم بيننا؛ فقال: إنى أظن أنكم وجدتم فى أنفسكم؛ قلنا: لم نجد فاقسم بيننا؛ قال: أقسم شفعا أو وترا؟ قلنا: اقسم وترا؛ قال: أنت وامرأتك ودجاجة ثلاثة، ثم رمى إلينا بدجاجة؛ ثم قال: وابناك ودجاجة ثلاثة، ورمى إليهما بدجاجة؛ ثم قال: وابنتاك ودجاجة ثلاثة، ورمى إليهما بدجاجة؛ ثم قال: وأنا ودجاجتان ثلاثة وأخذ دجاجتين وسخر بنا. فرآنا ننظر إلى دجاجتيه فقال: ما تنظرون! لعلكم كرهتم قسمتى! الوتر لا يجىء إلّا هكذا، فهل لكم فى قسمة الشّفع؟ قلنا نعم؛ فضمّهنّ «3» إليه ثم قال: أنت وابناك ودجاجة أربعة، ورمى إلينا بدجاجة؛ ثم قال: والعجوز وابنتاها ودجاجة أربعة، ورمى إليهنّ بدجاجة؛ ثم قال: وأنا وثلاث دجاجات أربعة وضمّ إليه الثلاث، ورفع يديه إلى السماء فقال: اللهمّ لك الحمد، أنت فهّمتنيها. هكذا ساقها أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ. وحكى غيره هذه الحكاية عن الأصمعىّ وفيها زيادة، قال: حكى الأصمعىّ: بينا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 224 أنا فى البادية إذا أنا بأعرابىّ على ناقة وهى ترقص به فى الآل؛ فلمّا دنا منّى سلّم علىّ، فسلّمت عليه وقلت: يا أخا العرب قوم بخفّان «1» عهدناهم ... سقاهم الله من النّو ما النّو؟ فقال: نوء السّماكين وريّاهما ... نور تلالا بعد إيماضه ضو «2» فقلت: ما الضّو يا أخا العرب؟ فقال: ضوء تلالا فى دجى ليلة ... مقمرة مسفرة لو فقلت: لو إيش يا أخا العرب؟ فقال: لو مرّ فيها سائر راكب ... على نجيب الأرض منطو فقلت: منطو إيش يا أخا العرب؟ فقال: منطوى الكشح هضيم الحشى ... كالباز ينقضّ من الجوّ فقلت: ما الجوّ يا أخا العرب؟ فقال: جوّ السما والريح تعلو به ... فاشتمّ ريح الأرض فاعلوّ فقلت: فاعلو إيش يا أخا العرب؟ فقال: فاعلو لما قد فات من صيده ... لا بدّ أن تلقى ويلقوا فقلت: ماذا يلقوا يا أخا العرب؟ فقال: يلقوا بأسياف يمانيّة ... وعن قليل سوف يفنوا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 225 فقلت: ما يفنوا يا أخا العرب؟ فقال: إن كنت تنكر «1» ما قلته ... فأنت عندى رجل بوّ فقلت: وما البوّ يا أخا العرب؟ فقال: البوّ من يفقد عن أمّه ... يا أحمق الناس فرح أو قلت: أو إيش؟ فقال: تندفع الكفّ بصفع القفا ... تسمع ما بينهما قوّ فقلت: يا أخا العرب، هل لك فى الضيافة؟ فقال: لا يأبى الكرامة إلّا لئيم؛ فأتيت به منزلى. ثم ساق الحكاية بنحو ما تقدّم، إلا أنه قال: فأتيته فى اليوم الثانى بثلاث دجاجات، وقلت: نحن كما علمت، اقسمها بيننا أزواجا؛ فقال: أنت وابناك ودجاجة زوج، وامرأتك وابنتاها ودجاجة زوج، وأنا ودجاجة زوج. وساق خبر الخمسة فى اليوم الثالث كما تقدّم. *** ذكر شىء مما وصفت به الشعراء البيضة والدّجاجة والدّيك فمن ذلك ما وصفوا به البيضة. قال أبو الفرج الأصبهانىّ من أبيات: فيها بدائع صنعة ولطائف ... ألّفن بالتّقدير والتلفيق خلطان مائيّان ما اختلطا على ... شكل ومختلف المزاج رقيق فبياضها ورق وزئبق محّها ... فى حقّ عاج بطّنت بدبيقى «2» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 226 وقال شاعر: وصفراء فى بيضاء رقّت غلالة ... لها وصفا ما فوقها من ثيابها جماد ولكن بعد عشرين ليلة «1» ... ترى نفسها معمورة من خرابها وقال كشاجم من أبيات يذكر فيها جونة «2» أهديت إليه وفيها بيض مسلوق مصبوغ أحمر: وجاءنا فيها بيض أحمر ... كأنه العقيق ما لم يقشر حتى إذا قدّمه مقشّرا ... أبرز من تحت عقيق دررا حتى إذا ما قطّع البيض فلق ... رأيت منه ذهبا تحت ورق يخال أنّ الشطر منه من لمح ... أعاره تلوينه قوس قزح ومما قيل فى الدّجاجة والدّيك قال الشاعر: غدوت بشربة من ذات عرق «3» ... أبا الدّهناء من حلب العصير وأخرى بالعقنقل «4» ثم رحنا ... نرى العصفور أعظم من بعير كأن الديك ديك بنى نمير ... أمير المؤمنين على السّرير كأن دجاجهم فى الدار رقطا ... وفود الروم فى قمص الحرير الجزء: 10 ¦ الصفحة: 227 فبتّ أرى الكواكب دانيات ... ينلن أنامل الرجل القصير أدافعهنّ بالكفّين عنّى ... وأمسح جانب القمر المنير وقال أبو بكر الصّنوبرىّ من أبيات يصف ديكا: مغرّد الليل ما يألوك تغريدا ... ملّ الكرى فهو يدعو الصبح مجهودا لما تطرّب هزّ العطف من طرب ... ومدّ للصوت لمّا مدّه الجيدا كلابس مطرفا مرخ جوانبه «1» ... تضاحك البيض من أطرافه السّودا حالى المقلّد لو قيست قلادته ... بالورد قصّر عنها الورد توريدا ران بفصّى عقيق يدركان له ... من حدّة فيهما ما ليس محدودا تقول هذا عقيد «2» الملك منتسبا ... فى آل كسرى عليه التاج معقودا أو فارس شدّ مهمازيه حين رأى ... لواء قائده للحرب معقودا وقال أبو هلال العسكرىّ: متوّج بعقيق ... مقرّط بلجين عليه قرطق وشى ... مشمّر الكمّين «3» قد زيّن النّحر منه ... ثنتان كالوردتين حتى إذا الصبح يبدو ... مطرّز الطّرّتين دعا فأسمع منّا ... من كان ذا أذنين يزهى بطوق وتاج ... كأنه ذو رعين» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 228 وقال الأسعد بن بلّيطة «1» : وقام لنا ينعى الدّجى ذو شقيقة «2» ... يدير لنا من بين أجفانه سقطا «3» إذا صاح أصغى سمعه لندائه ... وبادر ضربا من قوادمه الإبطا ومهما اطمأنت نفسه قام صارخا ... على خيزران «4» نيط من ظفره خرطا كأنّ أنوشروان أعلاه تاجه ... وناطت عليه كفّ مارية «5» القرطا [سبى حلّة الطاوس «6» حسن لباسها ... ولم يكفه حتى سبى المشية البطّا] وقال أبو عبد الله المالكىّ: رعى الله ذا صوت أنسنا بصوته ... وقد بان فى وجه الظلام شحوب دعا من بعيد صاحبا فأجابه ... يخبّرنا أنّ الصباح قريب وقال ابن المعتزّ: بشّر بالصبح هاتف هتفا ... صاح «7» من اللّيل بعد ما انتصفا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 229 مذكّر بالصّبوح صاح لنا ... كأنّه فوق منبر وقفا صفّق إمّا ارتياحة لسنا ال ... فجر وإمّا على الدّجى أسفا وقال أيضا فيه: وقام فوق الجدار مشترف ... كمثل طرف علاه أسوار «1» رافع رأس طورا وخافضه ... كأنما العرف منه منشار وقال السّرىّ الرّفّاء: كشف الصباح قناعه فتألّقا ... وسطا على اللّيل البهيم وأبرقا «2» وعلا فلاح على الجدار موشّح ... بالوشى توّج بالعقيق وطوّقا مرخ فضول التاج من لبّاته ... ومشمّر وشيا عليه منمّقا وقال أبو الفرج علىّ بن الحسين الأصفهانىّ يرثى ديكا ويصفه: أبنىّ منزلنا ونشو محلّنا ... وغذىّ أيدينا نداء مشوق لهفى عليك أبا النّذير «3» لو انّه ... دفع المنايا عنك لهف شفيق وعلى شمائلك اللّواتى ما نمت ... حتى ذوت من بعد حسن سموق لما بقعت «4» وصرت علق مضنّة «5» ... ونشأت نشو المقبل الموموق وتكاملت جمل الجمال بأسرها ... لك من جليل خالص ودقيق الجزء: 10 ¦ الصفحة: 230 وكسيت «1» كالطاوس ريشا لامعا ... متلألئا ذا رونق وبريق من صفرة مع خضرة فى حمرة ... تخييلها يخفى على التّحقيق «2» عرض يجلّ عن القياس وجوهر ... لطفت معانيه عن التّدقيق وكأنّ سالفتيك تبر سائل ... وعلى المفارق منك تاج عقيق وكأنّ مجرى الصوت منك، إذا نبت ... وجفت «3» عن الأسماع بحّ حلوق، ناى رقيق «4» ناعم قرنت به ... نغم مؤلّفة من الموسيقى تزقو وتصفق بالجناح كمنتش ... وصلت يداه الصوت بالتّصفيق وخطرت «5» ملتحفا بمرط حبّرت ... فيه بديع الوشى كفّ أنيق كالجلّنارة أو ضياء «6» عقيقة ... أو لمع نار أو وميض بروق أو قهوة تختال فى بلّورة ... بتألّق اللّمعان والتّزويق «7» وكأنما الجادىّ جاد بصبغه ... لك أو غدوت مضمّخا بخلوق وقال شاعر أندلسىّ: وكائن نفى النوم من عين فان ... بديع الملاحة حلو المعانى بأجفان عينيه ياقوتتان ... كأنّ وميضهما جمرتان الجزء: 10 ¦ الصفحة: 231 على رأسه التاج مستشرفا ... كتاج ابن هرمز فى المهرجان وقرطان من جوهر أحمر ... يزينانه زين قرط الحصان له عنق حولها رونق ... كما حوت الخمر إحدى القنانى ودار برائله «1» حولها ... لها ثوب شعر من الزعفران ودارت بجؤجئه حلّة ... تروق كما راقك الخسروانى وقام له ذنب معجب ... كباقة زهر بدت من بنان وقاس جناحا على ساقه ... كما قيس ستر على خيزران وصفّق تصفيق مستهتر ... بمحمّرة من بنات الدّنان وغرّد تغريد ذى لوعة ... يبوح بأشواقه للغوانى وقال أبو علىّ بن رشيق حيث مزّق عنه جلباب الممادح، وتركه من شمل الذمّ فى الرأى الفاضح: قام بلا عقل ولا دين ... يخلط تصفيقا بتأذين فنبّه الأحباب من نومهم ... ليخرجوا من غير ما حين بصرخة تبعث موتى البكرى ... قد أذكرت نفخ سرافين «2» كأنّها فى حلقه غصّة ... أغصّه الله بسكّين الجزء: 10 ¦ الصفحة: 232 وأما الحجل وما قيل فيه - والحجل طائر يسمّى: «دجاج البرّ» وهو صنفان: نجدىّ، وتهامىّ. فالنجدىّ أخضر أحمر الرجلين. والتّهامىّ فيه بياض وخضرة. وسمّى الذكر «يعقوب» ، والفرخ الذّكر «السّلك» ، والأنثى «السّلكة» . وهو من الطير الذى يخرج فرخه كاسيا كاسبا. ويقال: إنّ الحجلة إذا لم تلقح تمرّغت فى التراب ورشّته على أصول ريشها فتلقح. ويقال: إنها تبيض بسماع صوت الذّكر وبريح تهبّ من ناحيته. قال أبو عثمان الجاحظ: وإذا باضت الحجلة ميّز الذكر الذكور منها فيحضنها، وميّزت الأنثى الإناث فتحضنها، وكذلك هما فى التربية. قال: وكلّ واحد منهما يعيش خمسا وعشرين سنة. ولا تلقح الأنثى بالبيض، ولا يلقح الذكر إلّا بعد مضىّ ثلاث سنين. والذكر شديد الغيرة على الأنثى. فإذا اجتمع ذكران اقتتلا، فأيّهما غلب ذلّ له الآخر؛ وذهبت الأنثى مع الغالب. والأنثى إذا أصيب بيضها قصدت عشّ أخرى وغلبتها على بيضها. وقد وصف «1» أبو علىّ بن رشيق القيراوانىّ الحجل فقال: ما أغربت فى زيّها «2» ... إلّا يعاقيب الحجل جاءتك مثقلة التّرا ... ئب بالحلىّ وبالحلل صفر الجفون كأنما ... باتت بتبر تكتحل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 233 مشقوقة شقّ الزّ ... جاج لمن تأمّل أو عقل وصلت مذابحها الرءو ... س بحمرة فيها شعل لولا اختلاف الجنس وال ... تركيب جاءت فى المثل كلحى الثمانين التى ... خضبت ومنها ما نصل أو كاللّثام أزاله ... فرط التّلفّت والعجل وتخالهنّ جواريا ... لا يزدرين من العطل رمت الثّياب الى ورا ... ء عن المناكب تتجدل وبدت سراويلاتها ... يسحبن وشيا من قبل حمر من الرّكبات فى ... لون الشقائق أو أجلّ عقّدنها فوق الصدو ... ر مخالسات للقبل وشددن بالأعضاد من ... حذر عليها أن تحلّ وكأنما باتت أصا ... بعها بحنّاء تعلّ «1» من يستحلّ لصيدها ... فأنا امرؤ لا أستحلّ *** وأمّا الكركىّ وما قيل فيه - ويقال: إنه «الغرنيق» ؛ ويقال: إن الغرنيق صنف منه. وهو طائر أخضر طويل المنقار والرجلين. وسفاده فى السّرعة كالعصفور. وله مشات ومصايف. وفى طبعه التّناصر؛ ولهذا أنّه لا يطير متقطّعا ولا متباعدا بل صفّا واحدا، يقدمها واحد منها كالرئيس لها المقدّم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 234 عليها وهى تتبعه، يكون كذلك حينا، ثم يخلفه آخر منها. وفى طبع الكركىّ وعادته أنّ أبويه إذا كبرا عالهما. وقال أرسطو: إن الغرانيق من الطير القواطع وليست من الأوابد، وإنها إذا أحسّت بتغيّر الزمان اعتزمت على الرجوع إلى بلادها. وكلّ منها ينام على إحدى رجليه قائما. ويقال: إن الكراكىّ إذا كبرت اسودّ ريشها وهو فى شيبتها رمادىّ. وقد ظهر بالديار المصريّة فى شهور سنة خمس عشرة وسبعمائة صنف من الكراكىّ أبيض اللون ناصع البياض حسن الصورة، وهو أكبر جثّة من الكركىّ المعتاد. وقال النّاشى فى وصف الكراكىّ: ومورد يجذل قلب الوامق ... منظّم بالغرّ والغرانق وكلّ طير صافر أو ناعق ... مكتهل وبالغ ولاحق موشيّة الصدور والعواتق ... بكل وشى فاخر وفائق تختال فى أجنحة خوافق ... كأنما تختال فى قراطق يرفلن فى قمص وفى يلامق «1» ... كأنّهنّ زهر الحدائق حمر الحداق كحل الحمالق ... كأنما يجلن فى مخانق «2» *** وأمّا الإوزّ وما قيل فيه - والإوزّ ثلاثة أصناف: بطائحىّ وهو الطويل الأسود [بزرقة «3» ] ، وتركىّ وهو المدوّر المائل إلى البياض، وخبىّ «4» وهو الجزء: 10 ¦ الصفحة: 235 الضخم الكبير منها. ويقال: إن الإوز إذا فرغ من السّفاد وسبح فى الماء فإنما يفعل ذلك لتمام اللّذة. والأنثى تحضن بيضها ثلاثين يوما. والذكور تحنو على الفراخ. ولكلّ منها قضيب يسفد به كالبطّ. والإوزّ البطائحىّ، وهو المعروف بمصر بالعراقىّ، يخالف الحبىّ فى الصياح؛ لأن الخبىّ تصيح ذكورها ولا تصيح إناثها، والبطائحىّ بخلاف ذلك. والخبىّ من الطير الأوابد التى لا تبرح من الأماكن التى تربّى فيها لثقل أجسامها، وإذا نهضت فلا ترتفع من الأرض إلّا يسيرا. والعراقيّات من الطير القواطع التى تنتقل من مكان إلى آخر، وترى فى وقت دون وقت. وقال ابن رشيق يصف فحل إوزّ: نظرت إلى فحل الإوزّ فخلته ... من الثّقل فى وحل وما هو فى وحل ينقّل رجليه على حين فترة ... كمنتعل لا يحسن المشى فى النّعل له عنق كالصّولجان ومخطم ... حكى طرف العرجون من يانع النّخل يداخله زهو فيلحظ من عل «1» ... جوانبه ألحاظ متّهم العقل يضمّ جناحيه إليه كما ارتدى ... رداء جديدا من بنى البدو ذو جهل *** وأمّا البطّ وما قيل فيه - وهو أصناف: منها الوحشىّ، والأهلىّ. ومن الوحشىّ «اللّقلق» » ؛ ومن الأهلىّ «الصّينىّ» . وفراخه تخرج كاسية كاسبة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 236 وقيل: إن بالزّابج بطّا بيضا وحمرا ورقطا طوال الأعناق قصار الأرجل. والبطّ يطير على وجه الماء، وليس من طير الماء، لأنه لا يأويه دائما ولا يغتذى بالسمك. وهو يأكل النبات والبذور؛ وله قضيب يخرج من دبره كذكر الكلب عظيم جدّا بالنسبة إليه؛ فى رأسه زرّ كالفلكة «1» ؛ فإذا سفد لم يخرجه حتى ينقلب لجنبه؛ ويحصل له عند السّفاد من الالتحام ما يحصل للكلب. وقال أبو علىّ بن سينا: وطبع البطّ حارّ أسخن من جميع الطيور الأهلية. قال قال بعضهم: هو يسخّن المبرود ويورث المحرور «2» حمّى. قال: وشحمه عظيم فى تسكين الوجع وتسكين اللذع من عمق البدن؛ وهو أفضل شحوم الطير. ولحمه يكثر الرّياح، وقانصته كثيرة الغذاء، ولحمه يسمّن، وهو بطىء فى المعدة ثقيل، وإذا انهضم كان أغذى من جميع لحوم الطير؛ وهو يزيد فى الباه ويكثر المنىّ. *** وأمّا النّحام «3» وما قيل فيه - قالوا: والنّحام يكون أفرادا وأزواجا. وإذا أراد المبيت اجتمع رفوفا «4» فنام ذكوره ولا تنام إناثه. وتعدّ لها مباتات، إذا ذعرت فى واحد منها طارت إلى آخر. ويقال: إنه لا يسفد ولا يخرج فراخه بالحضن وإنما تبيض الأنثى من زقّ الذكر. وإذا باضت تغرّبت وبقى الذّكر عند البيض يذرق عليه ليس إلّا، فيقوم ذرقه مقام الحضن. فإذا تمّت مدّة ذلك خرجت الجزء: 10 ¦ الصفحة: 237 الفراخ لا حراك بها؛ فتجىء الأنثى فتنفخ فى مناقيرها حتى يجرى ذلك النفخ فيها روحا، ثم يتعاون الذّكر والأنثى جميعا على التربية. وإذا قويت الفراخ على الطّعم وأمكنها التكسّب لنفسها طردها الذّكر. *** وأمّا الأنيس وما قيل فيه - فقال أرسطو: إنّه حادّ البصر، وصوته يشبه صوت الجمل ويحاكيه. ومأواه فى قرب الأنهار وفى الأماكن الكثيرة المياه الملتفّة الشجر. وله لون حسن وتدبير فى معاشه. والناس يتغالون به إذا وقع لهم ويجعلونه فى بيوتهم. *** وأمّا القاوند وما قيل فيه - قال صاحب كتاب مباهج الفكر ومناهج العبر فى كتابه: كنت أسمع بشحم القاوند ولم أدر ما هو: حيوان هوائىّ أم مائىّ أم أرضىّ، حتى وقفت على كتاب موضوع فى طبائع الحيوان وخواصّه ليس عليه اسم المصنّف، فرأيته قد قال: «القاوند طائر يتّخذ وكره على ساحل البحر ويحضن بيضه سبعة أيّام، وفى اليوم السابع يخرج فراخه ثم يزقّها سبعة أيام. والمسافرون فى البحر يتيمّنون بهذه الأيام ويوقنون بطيب الرّيح وحلول أيام السفر» . *** وأمّا الخطّاف وما قيل فيه - والخطّاف يسمّى «زوّار الهند» . وهو من الطيور القواطع التى تقطع البلاد البعيدة إلى الناس رغبة فى القرب منهم والإلف بهم، وهو مع ذلك لا يبنى بيته إلّا فى أبعد المواضع حيث لا تناله أيديهم. ومن عجيب حاله أنّ عينه تقلع فترجع؛ وهو لا يرى أبدا يقف على شىء يأكله، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 238 ولا يرى يسافد ولا يجتمع بأنثاه. والأنثى تبيض مرّة واحدة فى السنة، وقيل: مرتين؛ وكلاهما قاله الجاحظ. والخفّاش عدوّ الخطّاف؛ فهو إذا فرّخ وضع فى أعشاشه قضبان الكرفس، فلا يؤذى فراخه إذا شمّ رائحة الكرفس. وهو لا يفرّخ فى عشّ عتيق حتى يطيّنه بطين جديد. وهو يبنى عشّه بالطين والتّبن. فإذا لم يجد طينا مهيّأ ألقى نفسه فى الماء ثم تمرّغ فى التّراب حتى يمتلئ جناحاه ثم يجمعه بمنقاره. وهو يسوّى فى الطّعم بين فراخه. ولا يترك فى عشّه زبلا بل يلقيه خارجا. وأصحاب اليرقان يلطّخون فراخ الخطّاف بالزعفران؛ فإذا رآها صفرا ظنّ أنّ اليرقان أصابها من شدّة الحرّ، فيذهب ويأتيها بحجر اليرقان فيطرحه على الفراخ، وهو حجر أصفر، فيأخذه المحتال فيعلّقه على نفسه أو يحكّه ويشرب من مائه [يسيرا «1» ] فيبرأ. والخطّاف متى سمع صوت الرّعد مات. وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: قال ديسقوريدس: إنّ أوّل بطن للخطّاف إذا شقّ وجد فيه حصاتان، إحداهما ذات لون واحد والأخرى ذات ألوان كثيرة، إذا جعلتا فى جلد عجل قبل أن يصيبه تراب وربط على عضد المصروع ورقبته انتفع به، قال: وقد جرّبت ذلك وأبرأ المصروع. قال: وأكل الخطّاف يحدّ البصر، وقد يجفّف ويسقى. والشربة منه مثقال. وقيل: إنّ دماغه بعسل نافع من ابتداء الماء، وكذلك دماغ الخفّاش. قال: وإن ملّح الخطّاف وجفّف وشرب منه درهمان نفع من الخناق. قال بعض الأطباء: المشهور عند الأطباء أن عشّ الخطاطيف إذا حلّ فى ماء وصفّى وشرب سهّل الولادة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 239 وقد ألمّ الشعراء فى أشعارهم بوصف الخطّاف؛ فمن ذلك ما قاله أبو إسحاق الصّابى: وهنديّة الأوطان زنجيّة الخلق ... مسوّدة الأثواب محمرّة الحدق كأنّ بها حزنا وقد لبست له ... حدادا وأذرت من مدامعها العلق «1» إذا صرصرت صرّت بآخر صوتها ... كما صرّ ملوى العود بالوتر الحزق «2» تصيف لدينا ثم تشتو بأرضها ... ففى كلّ عام نلتقى ثم نفترق وقال السّرىّ الرّفّاء يصفها من أبيات ويذكر غرفة: وغرفتنا بين السحائب تلتقى ... لهنّ عليها «3» كلّة ورواق تقسّم زوّار من الهند سقفها ... خفاف على قلب النديم رشاق أعاجم تلتذّ الخصام كأنها ... كواعب زنج راعهنّ طلاق أنسن بنا أنس الإماء تحبّبت ... وشميتها غدر بنا وإباق مواصلة والورد فى شجراته ... مفارقة إن حان منه فراق وقال أيضا: وغرفتنا الحسناء قد زاد حسنها ... بزائرة فى كلّ عام تزورها مبيّضة الأحشاء حمر بطونها ... مزبرجة الأذناب سود ظهورها لهنّ لغات معجمات كأنها ... صرير نعال «4» السّبت عال صريرها الجزء: 10 ¦ الصفحة: 240 وقال أبو هلال العسكرىّ: وزائرة فى كلّ عام تزورنا ... فيخبر عن طيب الزمان مزارها تخبّر أنّ الجوّ رقّ قميصه ... وأنّ رياضا قد توشّى إزارها وأنّ وجوه الغدر راق بياضها ... وأنّ متون الأرض راع اخضرارها تحنّ إلينا وهى من غير شكلنا ... فتدنو على بعد من الشكل دارها ويعجبنا وسط العراص وقوعها «1» ... ويؤنسنا بين الدّيار مطارها أغار على ضوء الصباح قميصها ... وفاز بألوان الليالى خمارها تصيح كما صرّت نعال عرائس ... تمشت إلينا هندها ونوارها وقال آخر: أهلا بخطّاف أتانا زائرا ... غردا يذكّر بالزمان الباسم لبست سرابيل الصباح بطونه ... وظهوره ثوب الظلام العاتم وقال أبو نواس: كأن أصواتها فى الجوّ طائرة ... صوت الجلام «2» إذا ما قصّت الشّعرا *** وأمّا القيق والزّرزور وما قيل فيهما - والقيق: طائر فى قدر الحمام اللّطيف؛ وأهل الشأم يسمّونه «أبا زريق «3» » . وفى طبعه كثرة الإلف بالناس، وقبول التعليم، وسرعة الإدراك لما يلقّن من الكلام مبيّنا حتى لا يشك سامعه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 241 إذا لم يره أنه إنسان؛ وربما زاد على الببّغاء. وله حكايات وأخبار فى الذكاء والفطنة يطول شرحها، وهو طائر مشهور بذلك. *** وأمّا الزّرزور - فيقال: إنّه ضرب من الغراب يسمّى «الغداف» ؛ ويقال: إنّه «الزّاغ» . وهو يقبل التعليم، ولا يرى إلّا فى أيام الربيع. ولونه أرقط لكن السواد أغلب. وقد يوجد فى لونه الأبيض، وهو قليل جدّا. وقال بعض شعراء الأندلس: يا ربّ أعجم صامت لقّنته ... طرف الحديث فصار أفصح ناطق جون الإهاب أعير قوّة صفرة ... كاللّيل طرّزه وميض البارق حكم من التّدبير أعجزت الورى ... ورأى بها المخلوق لطف الخالق وقال آخر: أمنبر ذاك أم قضيب ... يقرعه مصقع خطيب يختال فى بردتى شباب ... لم يتوضّح بها مشيب أخرس لكنّه فصيح ... أبله لكنّه لبيب وقال الوزير أبو القاسم بن الجدّ «1» الأندلسىّ من رسالة «2» كتبها إلى الوزير أبى الحسن ابن سراج جوابا عن رقعة وصلت منه إليه، يشفع لرجل يعرف بالزّريزير؛ ابتدأها بأن قال: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 242 حسنت لك أبا الحسن ضرائب الأيام، وتشوّفت نحوك غرائب الكلام، واهتزّت لمكاتبتك «1» أعطاف الأقلام، وجادت على محلك «2» ألطاف الغمام، وأشادت «3» بفضلك ونبلك أصناف الأنام. فإن «4» كان روض العهد أعزّك الله لم يصبه من تعهّدنا «5» طلّ ولا وابل، ولا سجعت «6» على أيكه ورق ولا بلابل؛ فإن «7» أزهاره على شرب الصّفاء نابته، وأشجاره فى ترب الوفاء راسخة ثابته. وقد آن الآن لعقم «8» شجره أن تطلع من الثمر ألوانا، ولعجم طيره أن تسجع من النّغم ألحانا؛ بما سقط لدىّ ووقع علىّ من طائر شهىّ الصفير، مبنىّ الاسم على التصغير؛ فإنه رجّع باسمك حينا، وابتدع فى نوبة شكرك تلحينا، وحرّك من شوقى إليك سكونا، ودمّث «9» فى قلبى لودّك وكونا «10» . ثم أسمعنى أثناء ترنّمه كلاما وصف به نفسه، لو تغنّت به الورقاء، لأذنت «11» له العنقاء؛ أو ناح بمثله الحمام، لبكى لشجوه الغمام؛ أو سمعه قيس ابن عاصم فى ناديه، وبين أعاديه، لحلّ الزّمع «12» حباه، واستردّ الطّرب صباه: كلاما «13» لو ان البقل يزهى بمثله ... زها البقل واخضرّ الغضا بمصيف فتلقّيت فضل صاحبه بالتّسليم، واعترفت بسبقه اعتراف الخبير العليم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 243 وبعد، فإنى أعود إلى ذكر [ذلك «1» ] الحيوان الغريد، والشيطان المريد؛ فأقول: لئن سمّى بالزّريزير، لقد صغّر للتكبير «2» ؛ كما قيل: حريقيص وسقطه «3» يحرق الحرج، ودويهية وهى تلتهم الأرواح والمهج. ومعلوم أنّ هذا الطائر الصافر يفوق جميع الطيور فى فهم التلقين، وحسن اليقين. فإذا علّم الكلام لهج بالتسبيح، ولم ينطق لسانه بالقبيح، وتراه يقوم كالنصيح، ويدعو للخير بلسان فصيح. فمن أحبّ الاتّعاظ، لقى منه قسّ «4» إياد بعكاظ؛ أو مال إلى سماع البسيط والنشيد، وجد عنده نخب الموصلىّ للرشيد. فطورا يبكيك بأشجى من مراثى أربد» ، وحينا يسلّيك بأحلى من أغانى معبد «6» . فسبحان من جعله هاديا خطيبا، وشاديا مطربا مطيبا. ولما طار ببلاد الغرب ووقع، ورقى فى أكنافها وصقع؛ وعاين ما اتّفق «7» فيها فى هذا العام من عدم الزيتون، فى تلك البطون والمتون؛ أزمع عنها فرارا، ولم يجد بها قرارا؛ لأن هذا الثمر «8» بهذا الأفق هو قوام معاشه، وملاك انتعاشه؛ إليه يقطع، وعليه يقع؛ كما يقع على العسل الذّباب، وتقطع إلى العراد «9» الضّباب؛ فاستخفّه هائج التذكار، نحو تلك الجزء: 10 ¦ الصفحة: 244 الأوكار؛ حيث يكتسى ريشه حريرا، ويحتشى جوفه «1» بريرا، ويحتسى قراحا «2» نميرا، ويغتدى على رهطه «3» أميرا. فخذه إليك، نازلا لديك، ماثلا بين يديك؛ يترنّم بالثّناء، ترنّم الذباب فى الرّوضة الغنّاء؛ وقد هزّ قوادم الجناح، لعادة الاستمناح؛ وحبّر من لمع الأسجاع، ما يصلح للانتجاع؛ واثقا بأن ذلك القطر الناضر ستنفحه «4» حدائقه، ولا تلفحه «5» ودائقه؛ لا سيما وفضلك دليله إلى ترع رياضه، وفرض حياضه؛ مع أنه لا يعدم فى جنابك حبّا نثيرا، وخصبا كثيرا، وعشّا وثيرا.. فإذا ما أراد كنت رشاء ... وإذا ما أراد كنت قليبا والله تعالى يكفيه فيما ينوبه شرّ الجوارح، ويقيه شؤم السانح والبارح؛ بمنّه وكرمه. *** وأمّا السمانى وما قيل فيه - يقال: إن السّمانى هو السّلوى. وهو من الطيور القواطع التى لا يعلم من أين تأتى. ويقال: إنه يخرج من البحر المالح؛ فإنه يرى وهو يطير عليه أوان ظهوره وأحد جناحيه منغمس فى الماء والآخر منتشر كالقلع. وأكثر من يعتنى بتربيته أهل مصر ويتغالون فى ثمنه ويحتفلون بأمره، حتى ينتهى ثمن جيّده إلى ألف درهم بعد أن يباع كلّ عشرة منها بدرهم وأرخص. وهو صنفان: ربيعىّ وطرماهىّ؛ فالرّبيعىّ القادم الراحل. والطّرماهىّ القاطن فى الأرض والبلاد الخصيبة، ويبيض ويفرّح فيها كالحجل. وسبب مغالاتهم فى أثمانها لأجل كثرة صياحها وعدد أصواتها. وقد وجد فيها ما صاح فى الليلة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 245 الواحدة إلى الثانية من النهار أربعة آلاف وستمائة صوت. والصوت عندهم أن يفصل بينه وبين الصوت الثانى بسكتة. وهم فى تربيته يبدءون بإطعامه دقاق القمح (وهو القمح الصغير الذى لا يمسكه الغربال لصغره) مدّة شهر؛ وتكون ذلك الوقت مجتمعة فى قفص كبير يسمّونه «المرح» ؛ ثم يفرد بعد ذلك كلّ سمانى بمفرده فى قفص ويطعم الدّخن والشّادانق «1» . ويصيح فى مبتدأ أمره مقدار شهر ثم يسكت مدّة شهرين. وينقل إلى أقفاص أخر يعتنون بجودتها ويرفعونها على البراريد (والبراريد عصىّ تعلّق عليها الأقفاص) فيصيح بعد تلك السكتة أربعة أشهر. فإذا دخل فصل الخريف وهبط الماء سكت مدّة شهرين وتقرنص، ثم يصيح أحيانا ويسكت أحيانا. وهو لا يطول عمره أكثر من سنة ونصف. وأوّل ما يصيح قبل أن يتفصّح بالوعوعة، وحكاية صوته: «وع وع» ؛ ثم يصيح بعد ذلك: «شقشلق» . وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا فى كتاب الأدوية المفردة: إنه يخاف من أكل لحوم السّمانى من التمدّد والتّشنّج. *** وأمّا الهدهد وما قيل فيه - والهدهد طائر معروف. وقال الجاحظ فيه: والعرب كانوا يزعمون أن القنزعة التى على رأسه ثواب من الله عزّ وجلّ على ما كان من برّه لأمّه، لمّا ماتت جعل قبرها فى رأسه؛ فهذه القنزعة عوض عن تلك الوهدة. وهو طائر منتن البدن من جوهره وذاته. والأعراب يجعلون ذلك الجزء: 10 ¦ الصفحة: 246 النّتن شيئا خامره بسبب تلك الجيفة التى كانت على رأسه. ويستدلّون على ذلك بقول أميّة بن أبى الصّلت حيث يقول من أبيات: غيم وظلماء وغيث سحابة ... أزمان كفّن واستراد الهدهد يبغى الفرار لأمّه ليجنّها ... فبنى عليها فى قفاه يمهد مهدا وطيئا فاستقلّ بحمله ... فى الطير يحملها ولا يتأوّد من أمّه فجزى بصالح حملها ... ولدا وكلّف ظهره ما يعقد فتراه يدلج ماشيا بجنازة ... بقفاه ما اختلف الجديد المسند وزعم صاحب الفراسة: أن سبب نتنه أنّه يطلب الزّبل؛ فإذا وجده نقل منه وابتنى بيتا منه؛ فإذا طال مكثه فى ذلك البيت، وفى مثله ولد، اختلط ريشه وبدنه بتلك الرائحة فورث ابنه النّتن، كما ورثه هو من أبيه، وكما ورثه أبوه من جدّه. قال شاعر: وأنتن من هدهد ميّت ... أصيب فكفّن فى جورب ويقال عنه: إنه يرى الماء فى باطن الأرض كما يراه الإنسان فى باطن الزّجاج. وزعموا: أنه كان دليل سليمان عليه السلام على الماء ولذلك تفقّده، على أحد أقوال المفسر بن لكتاب الله تعالى. وقال الجاحظ فيه: إنه وفىّ حفوظ؛ وذلك أن الذكر إذا غابت عنه أنثاه لم يأكل ولم يشرب، ولا يزال يصيح حتى تعود إليه، فإن لم تعد لا يسفد بعدها أنثى أبدا، ولا يزال يصيح عليها ما عاش، ولم ينل بعدها من طعم بل ينال منه ما يمسك رمقه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 247 ووصفه أبو الشّيص «1» فقال: لا تأمننّ على سرّى وسرّكم ... غيرى وغيرك أوطىّ القراطيس أو طائر سأجلّيه وأنعته ... ما زال صاحب تنقير وتدسيس سود براثنه ميل ذوائبه ... صفر حمالقه فى الحسن مغموس قد كان همّ سليمان ليذبحه ... لولا سعايته فى ملك بلقيس وقال آخر من أبيات: كأنّه إذ أتاه من قرى سبإ ... مبشّرا قد كساه تاج بلقيس يبدو له فوق ظهر الأرض باطنها ... كما تبدّت لنا الأقذاء فى الكوس «2» *** وأمّا العقعق وما قيل فيه - ويسمى العقعق أيضا «كندشا» . وهو طائر لا يأوى تحت سقف ولا يستظل به، بل يهيّئ وكره فى المواضع المشرفة الفسيحة. وفى طبعه الزّنا والخيانة والسرقة والخبث؛ والعرب تضرب به المثل فى ذلك كلّه. وإذا باضت الأنثى أخفت بيضها بورق الدّلب خوفا عليه من الخفّاش، فإنه متى قرب منه مذر «3» وفسد وتغيّر من ساعته. وتقول العرب فى أمثالها: «أموق من عقعق» . وهو شديد الاستلاب والاختطاف لما يراه من الحلى الثمين. قال إبراهيم الموصلىّ فيه: إذا بارك الله فى طائر ... فلا بارك الله فى العقعق الجزء: 10 ¦ الصفحة: 248 قصير الذّنابى طويل الجناح ... متى ما يجد غفلة يسرق يقلّب عينين فى رأسه ... كأنهما قطرتا زئبق وكان سبب قوله لهذا الشعر فيه ما حكاه إسحاق بن إبراهيم قال: كان لى عقعق وأنا صبىّ قد ربّيته، وكان يتكلّم بكلّ شىء يسمعه؛ فسرق خاتم ياقوت كان أبى قد نزعه من إصبعه ودخل الخلاء ثم خرج فلم يجده، فضرب الغلام الذى كان واقفا، فلم يقف له على خبر. فبينا أنا ذات يوم فى دارنا إذ أبصرت العقعق قد نبش ترابا وأخرج الخاتم منه، فلعب به طويلا ثم دفنه؛ فأخذته وجئت به الى أبى، فسرّ به وقال هذا الشعر. *** وأمّا العصافير وما قيل فيها - والعصافير ضروب كثيرة: منها «العصفور البيوتىّ» و «عصفور الشّوك» و «عصفور النّوفر» «1» . ومن ضروبها «القبّرة» و «حسّون» و «البلبل» . فأمّا العصفور البيوتىّ - ففى طباعه اختلاف: ففيه من طبائع سباع الطير أنه يلقم فراخه ولا يزقّها، ويصيد أجناسا من الحيوان كالنّمل إذا طار والجراد، ويأكل اللّحم. والذى فيه من طباع بهائم الطير أنه ليس بذى مخلب ولا منسر؛ وهو إذا سقط على عود قدم أصابعه الثلاث وأخّر الدّابرة؛ وسباع الطير تقدّم إصبعين وتؤخّر إصبعين؛ ويأكل الحبّ والبقول. ويتميّز الذكر منها من الأنثى بلحية سوداء. وهو لا يعرف المشى وإنما يرفع رجليه ويثب. وهو كثير السّفاد، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 249 وربما سفد فى الساعة الواحدة خمسين مرّة، ولذلك عمره قصير فإنّه لا يعمّر غالبا أكثر من سنة؛ وإناثها تعمّر أكثر من ذكورها. والمثل يضرب فى التحقير والتصغير بأحلام العصافير. قال دريد بن الصّمّة: يا آل سفيان ما بالى وبالكم ... أنتم كبير وفى الأحلام عصفور «1» وقال حسّان بن ثابت: لا بأس بالقوم من طول ومن عظم ... جسم البغال وأحلام العصافير *** وأما عصفور الشّوك - فزعم أرسطو أنّ بينه وبين الحمار عداوة، لأن الحمار إذا كان به دبر حكّه بالشّوك الذى يأوى إليه هذا العصفور فيقتله؛ وربما نهق الحمار فتسقط فراخه أو بيضه خوفا منه؛ فلذلك هذا العصفور إذا رأى الحمار رفرف «2» فوق رأسه وعلى عنقه وآذاه ونقره فى عقره أنّى كان. *** وأما عصفور النّيلوفر - وهو لا يوجد غالبا إلا بثغر دمياط، وشأنه غريب؛ وذلك أنه عصفور صغير جدّا، فإذا كان قبل غروب الشمس جاء إلى برك النّوفر «3» فيجد النّوفرة وهى طافحة على وجه الماء مفتوحة فيقعد فى وسطها، فإذا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 250 حصل فيها انطبقت عليه وانغمست فى الماء طول الليل؛ فإذا طلعت الشمس طفت النّوفرة على وجه الماء وانفتحت، فيخرج منها ويطير الى غروب الشمس، فيأتى ويفعل كفعله. *** وأما القبّرة - فقد عدّوها من أنواع العصافير. وهى غبراء كبيرة المنقار على رأسها قبّرة. وهذا الضرب قاسى القلب. وفى طبعه أنّه لا يهوله صوت صائح به، وربمّا رمى بالحجر فاستخف بالرامى ولطئ إلى الأرض حتى يتجاوزه الحجر. وهو يضع وكره على الجادّة رغبة فى الأنس بالناس. *** وأما حسّون - وتسميه أهل الأندلس «أمّ الحسن» والمصريون «السقاية» لأنه إذا كان فى القفص استقى الماء من إناء «1» بآلة لطيفة يوضع له فيها خيط، فتراه يرفع الخيط بإحدى رجليه ويضعه تحت رجله الأخرى حتى يصل إليه ذلك الإناء اللطيف فيشرب منه. وهو ذو ألوان حسنة التركيب والتأليف من الحمرة والصفرة والسواد والبياض والخضرة والزّرقة. وله صوت حسن مطرب. ووصفه أبو هلال العسكرىّ فقال: ومفتنّة الألوان بيض وجوهها ... ونمر تراقيها «2» وصفر جنوبها كأنّ دراريعا «3» عليها قصيرة ... مرقّعة أعطافها وجيوبها الجزء: 10 ¦ الصفحة: 251 وأما البلبل - وهو «العندليب» ، وتسميه أهل المدينة «النغر» . وهو طائر أغبر الرأس لطيف القدّ، مأواه الشجر. قال الجاحظ: البلبل موصوف بحسن الصوت والحنجرة. ومن شأنه «1» إذا كان غير حاذق أن يطارحه إنسان بشكل صوته، فيتدرّب ويتعلّم ويحسن صوته. وقد وصف أبو هلال العسكرىّ البلابل فقال: مررت بدكن القمص سود العمائم ... تغنّى على أطراف غيد نواعم زهين بأصداغ تروق كأنّها ... نجوم على أعضاد أسود فاحم ترى ذهبا منهنّ تحت مآخر ... لها ولجينا نطنه بالقوادم وقال آخر: كيف ألحى وقد خلعت على الله ... وعذارى وقد هتكت قناعى وتعشّقت بلبلا أنا منه ... فى انزعاج إلى الصّبا والتياع «2» أنا من ريشه المدبّج فى زه ... ر ومن شجو صوته فى سماع ومن رسالة ذكرها العماد الأصفهانىّ الكاتب فى الخريدة، وهى لبعض فضلاء أصبهان، ذكر فيها وصف الرّياض ومفاخرة الرّياحين، وفضّل فيها الورد، وانتهى بعد ذكر الورد إلى وصف البلابل، فقال: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 252 «فلما ارتفع صدر النّهار، وانقطع جدال الأزهار؛ سمع من خلل «1» الحديقة زقزقة «2» عندليب، قد اتخذ وكرا على حاشية قليب «3» ؛ كان يستتر به عن الجمع، ويجعله دريئة لاستراق السّمع. وحين أتقن ما وعاه، وأودعه سمعه وأرعاه «4» ؛ انتحى غصنا رطيبا، فأوفى عليه خطيبا؛ ثم قال: يا فتنة الخليقه، لقد جئت بالشّنعاء الفليقه «5» ؛ وربّ بسم استحال احتداما، ولن تعدم الحسناء ذاما. إلام ترفل فى دلال زهوك، وتغفل عن رذائل سهوك! وحتّام تتيه على الأكفاء والأقران، كأنّك أنت صاحب القرآن! ألست من عجبك بنفسك، واسترابتك بأبناء جنسك؛ لا تزال مشتملا شوك الغصون، معتصما منها بأشباه المعاقل والحصون!. لكنك متى انقضى مهبّ الشّمال، وعدل عن اليمين إلى الشّمال؛ خيف عليك نفح الإحراق، وتعّريت من حلل الأوراق؛ وأصبحت للأرض فراشا، وتلعّب بك الهواء فعدت فراشا. ثم ما قدر جورتك حتى تجور! وهل ينتج حضوره «6» إلا الفجور!. هذا إذا كنتم على الأصل الثابت، وعرفتم فى أكرم المغارس والمنابت؛ فكيف وأنتم بين رملّى وجبلىّ، ونهبورىّ «7» أو تيهورىّ. وهب أنك ورهطك تفرّدتم بممايلة القدود، وتوحّدتم «8» بمشابهة الخدود؛ وصرتم درر البحور، وعلّقتم على الجباه والنّحور؛ وتحوّلتم جمانا ومرجانا، وحلّيتم مناطق وتيجانا؛ أقدرتم على الجزء: 10 ¦ الصفحة: 253 مباراة الشّحارير» ، ومجاراة القمارى النّحارير! أم ملكتم تهييج البلابل «2» ، قبل أصوات البلابل! أم وجدتم سبيلا إلى ولوج القلوب والأسماع، واتّخاذ «3» الطّرب والسّماع؟! هيهات هيهات، بعد عنكم ما فات! بل نحن ذوات الأطواق، وبنات الغصون والأوراق؛ إنما يكمل صيتكم بنغمات أصواتنا، ويزهو غناؤكم بصحة غنائنا؛ ويحسن تمايل دو حكم بترنّمنا ونوحنا، ويروق غديركم بهديرنا، ويشوق تهديلكم «4» بهديلنا. لم تزالوا حملة أثقالنا، رمهود أطفالنا؛ وجياد شجعاننا، ومنابر خطبائنا. فروعكم محطّ أرحلنا، ورءوسكم مساقط أرجلنا. إذا أوفى مطربنا على عوده، وعبث بملوى عوده؛ وشدّ المثالث والمثانى، شدّ الثّقلين الأوّل والثانى؛ فقد أحيا باللحن الأيكىّ، وبذّ يحيى «5» المكّىّ؛ وأعاد إبراهيم «6» ، كحاطب الليل البهيم؛ وخرق له «7» أثواب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 254 مخارق «1» طربا وحسدا، ولم يسلم منه سليم «2» غيظا وكمدا؛ وأخذ قلب ابن جامع «3» بمجامعه، وطوّقه من الإقرار غلّا بمجامعه؛ حتى كأنّه بصحّة ضربه وإتقان أوتاره، يطلب عندهم قديم أحقاده وأوتاره. فهى تصبى «4» الأبصار لونا قريبا ... وتسرّ الأسماع ضربا بعيدا خضب الكفّ من دم القلب وابت ... زّ سويداءه فطوّق جيدا أعجمىّ اللّسان مستعرب اللح ... ن يعيد الخلّى صبّا عميدا كلّ وقت تراه من فرط شجو ... مظهرا فى الغناء لحنا جديدا تارة يجعل النّشيد بسيطا ... ويعيد البسيط طورا نشيدا معبد لو رآه أصبح عبدا ... ولبيد «5» أمسى لديه بليدا ضلّ عن إلفه وأقلقه الوج ... د فأمسى بكاؤه تغريدا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 255 لو عارض الخليل «1» فى عروضه لبكّته، أو ناظر ابن السّكّيت «2» فى إصلاحه لسكّته؛ أو جادل الفارسىّ «3» لفرسه وجذله، أو نازل الكوفىّ «4» لأكفأه عن رتبته وأنزله» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 256 الباب الرابع من القسم الخامس من الفن الثالث فى بغاث الطير ويشتمل هذا الباب على ما قيل فى القمرىّ، والدّبسىّ، والورشان، والفواخت والشّفنين، واليعتبط، والنّوّاح، والقطا، واليمام وأصنافه، والببّغاء. وهذه الأصناف قد عدّها أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ أو أكثرها فى الحمام، فقال: الحمام وحشى، وأهلىّ، وبيوتىّ، وطورانىّ. وكلّ طائر يعرف بالنّواح وحسن الصّوت والدّعاء والتّرجيع فهو حمام وإن خالف بعضه بعضا فى الصّورة واللون وفى بعض النّوح ولحن الهديل. قال: وزعم أفليمون «1» صاحب الفراسة أنّ الحمام يتّخذ لضروب، منها ما يتّخذ للأنس والنّساء «2» والبيوت، ومنها ما يتّخذ للفراخ، ومنها ما يتخذ للزّجال والسّباق. والزّجال: إرسال الحمام الهوادى. ثم ذكر من أوصاف الحمام وما فيه من ضروب المعرفة والمنافع ما نورده عند ذكرنا للحمام المشتهر بهذه التّسمية، وهو الذى أشار الجاحظ إليه. فلنذكر تفصيل ما قدّمناه من هذه الأصناف، فنقول وبالله التوفيق: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 257 *** أمّا القمرىّ وما قيل فيه - فقد قالوا: إنما سمّى القمرىّ بهذه التسمية لبياضه، والأقمر: الأبيض. وحكاية صوته تشبه ضحك الإنسان. وهو شديد المودّة والرحمة. أما مودّته فإنه يفرّخ على فنن من أفنان شجرة عليها أعشاش لأبناء جنسه، فيصابحها فى كلّ يوم. وأمّا رحمته فإنه يربّى ولده ويعفّ عن أنثاه ما دام ولده صغيرا. ومن عادته أنه يعمل عشّه فى طرف فنن دائم الاهتزاز، احترازا على فرخه لئلا يسعى إليه من الحيوان الماشى ما يقتله. وقال أبو الفتح كشاجم [يصفه من أبيات رثاه بها أوّلها «1» ] : ومطوّق من حسن صنعة «2» ربه ... طوقين خلتهما من النّوّار [منها «3» :] لهفى على القمرىّ لهفا دائما ... يكوى الحشا بجوى كلذع النار لون الغمامة لونه ومناسب ... فى خلقه الأقلام بالمنقار *** وأمّا الدّبسىّ وما قيل فيه - وإنما سمّى الدّبسىّ بذلك للونه، لأنّ الدّبسة حمرة فى سواد. قالوا: والدّبسىّ أصناف، منها المصرىّ، والحجازىّ، والعراقىّ. وأفخر هذه الأصناف المصرىّ [ولونه الدكنة «4» ] . وهو لا يرى ساقطا على وجه الأرض، بل له فى الشتاء مشتى، وفى الصيف مصيف. ولا يعرف له وكر «5» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 258 وأمّا الورشان وما قيل فيه - والورشان أصناف منها النّوبىّ وهو ورشان أسود؛ ومنها الحجازىّ. والنوبىّ أشجاها صوتا. وهذا الطائر يوصف بالحنوّ على أولاده، حتى إنه ربما قتل نفسه إذا رآها فى يد القانص «1» . وقال أبو بكر الصّنوبرىّ فيه: أنا فى نزهتين من بستانى «2» ... حين أخلوبه ومن ورشان طائر قلب من يغنّيه أولى ... منه عند الغناء بالطّيران مسمع «3» يودع المسامع ما شا ... ءت وما لم تشأ من الألحان فى رداء من سوسن وقميص ... زرّرته عليه تشرينان «4» قد تغشّى لون السماء قراه «5» ... وتراءى فى جيده الفرقدان وأمّا الفواخت وما قيل فيها - والفواخت عراقيّة ليست حجازيّة. وفيها فصاحة وحسن صوت. وفى طبعها أنها تأنس بالناس، وتعشّش فى الدّور. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 259 والعرب تضرب بها فى الكذب المثل، فيقولون: «أكذب من فاختة» ؛ فإنّ حكاية صوتها عندهم: «هذا أوان الرّطب» . قال شاعر: أكذب من فاختة ... تقول وسط الكرب والطّلع لم يبدلنا ... هذا أوان الرّطب وهو يعمّر. وحكى أرسطو أن منه ما عاش أربعين سنة. وقال أبو هلال العسكرىّ: مررت بمطراب الغداة كأنها ... تعلّ من الإشراق راحا مفلفلا منمّرة كدراء تحسب أنها ... تجلّل من جلد السّحاب «1» مفصّلا بدت تجتلى للعين طوقا ممّسكا ... وطرفا كما ترنو الغزالة أكحلا لها ذنب وافى الجوانب مثلما ... تقشّر «2» طلعا أو تجرّد منصلا إذا حلّقت فى الجوّ خلت جناحها «3» ... يردّ صفيرا أو يحرّك جلجلا وأمّا الشّفنين وما قيل فيه - والشفنين من الطير التى تترنّم؛ وصوته فى ترنّمه يشبه صوت الرّباب. وفى طبعه أنه إذا فقد أنثاه لم يزل أعزب «4» ، يأوى الى بعض فراخه حتى يموت؛ وكذلك الأنثى إذا فقدت الذّكر. وهو متى سمن سقط ريشه وامتنع من السّفاد؛ فهو لذلك لا يشبع. وهو طائر يؤثر «5» العزلة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 260 وأمّا اليعتبط وما قيل فيه - وإنما سمّى اليعتبط بهذه التسمية لصوته، وهو شريف فى طيور الحجاز. وحاله حال القمرىّ، ولكنه أحرّ منه مزاجا وأعلى صوتا. قال كشاجم: وناطق لم يخش فى النطق غلط ... ما قال شيئا قطّ إلا يعتبط وأمّا النّوّاح وما قيل فيه - والنوّاح: طائر كالقمرىّ، وحاله كحاله؛ إلّا أنّه أحرّ منه مزاجا وأرطب وأدمث وأشرف «1» . قالوا: يكاد النّوّاح يكون للأطيار الدّمثة ملكا، وهو يهيجها إلى التّصويت لأنه أشجاها صوتا؛ وجميعها تهوى استماع صوته. وهو أيضا يسرّه استماع صوت نفسه. والله أعلم بالصواب. *** وأمّا القطا وما قيل فيه - والقطا نوعان: «كدرىّ» و «جونىّ» . والكدريّة غبر الألوان، رقش الظهور والبطون، صفر الحلوق، قصار الأذناب؛ وهى ألطف من الجون. والجونيّة سود بطون الأجنحة والقوادم بيض اللّبان «2» وفيه طوقان أسود وأصفر؛ وظهورها غبر رقط تعلوها صفرة. وتسمّى الجونيّة غتما «3» ؛ لأنها لا تفصح بصوتها إذا صوّتت إنما تغرغر بصوت فى حلقها. والكدريّة فصيحة تنادى باسمها تقول: قطاقطا؛ ولهذا يضرب بها المثل فى الصدق. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 261 وتوصف القطا بحسن المشى لتقارب خطاها. والعرب تشبّه مشى النّساء الخفرات بمشيها إذا أرادوا مدحهنّ. قال شاعر يصف القطاة- واختلف فى الشاعر من هو، فقيل: هو [أوس بن «1» ] غلفاء الهجيمىّ، وقيل: مزاحم العقيلى، وقيل: العباس بن يزيد بن الأسود الكندىّ، وقيل: العجير السّلولىّ، وقيل: عمرو بن عقيل بن الحجّاج الهجيمىّ؛ قال أبو الفرج الأصفهانىّ: وهو أصحّ الأقوال-: أمّا القطاة فإنّى سوف أنعتها ... نعتا يوافق نعتى بعض ما فيها سكّاء «2» مخطوبة «3» فى ريشها طرق «4» ... سود قوادمها صهب خوافيها منقارها كنواة القسب «5» قلّمها ... بمبرد حاذق الكفّين باريها تمشى كمشى فتاة الحىّ مسرعة ... حذار قوم إلى ستر يواريها تسقى الفراخ بأفواه مرقّقة ... مثل القوارير سدّت من أعاليها كأن هيدبة «6» من فوق جؤجئها ... أو جرو «7» حنظلة لم يعد راميها «8» وقال إبراهيم بن خفاجة الأندلسىّ: ولربّ طيّار خفيف قد جرى ... فشلا بجار خلفه طيّار الجزء: 10 ¦ الصفحة: 262 من كلّ قاصرة الخطا مختالة ... مشى الفتاة تجرّ فضل إزار مخضوبة المنقار تحسب أنها ... كرعت على ظمإ بكأس عقار لا تستقرّ بها الأيادى «1» خشية ... من ليل ويل أو نهار بوار وقال المرّار أو العكبّ «2» التغلبىّ- وهى أجود قصيدة قيلت فى القطا-: بلاد مروراة «3» يحاربها القطا ... ترى الفرخ فى حافاتها يتحرّق يظلّ بها فرخ القطاة كأنّه ... يتيم جفا عنه «4» مواليه مطرق بديمومة «5» قد بات فيها وعينه ... على مره «6» تغضى مرارا وترمق شبيه بلا شىء هنا لك شخصه ... يواريه قيض «7» حوله متفلّق له محجر «8» ناب وعين مريضة ... وشدق بمثل الزعفران مخلّق تعاجيه «9» كحلاء المدامع حرّة ... لها ذنب ساج وجيد مطوّق الجزء: 10 ¦ الصفحة: 263 سماكيّة «1» كدريّة عرعريّة «2» ... سكاكيّة «3» عفراء سمراء عسلق «4» إذا غادرته تبتغى ما يعيشه ... كفاها رذاياها الرّقيع «5» الهبنّق غدت تستقى من منهل ليس دونه ... مسيرة شهر للقطا متعلّق لأزغب مطروح بجوز تنوفة ... تلظّى سموما قيظه فهو أورق «6» تراه إذا أمسى وقد كاد جلده ... من الحرّ عن أوصاله يتمزّق غدت فاستقلّت ثم ولّت مغيرة ... بها حين يزهاها الجناحان أولق «7» تيمّم ضحضاحا من الماء قد بدت ... دعا ميصه «8» فالماء أطحل «9» أطرق «10» فلما أتته مقدحرّا «11» تغوّثت «12» ... تغوّث مخنوق فتطفو وتغرق الجزء: 10 ¦ الصفحة: 264 تجرّ «1» وتلقى فى سقاء كأنّه ... من الحنظل العامىّ جر ومعلّق فلمّا ارتوت من مائها لم يكن لها ... أناة وقد كادت من الرّىّ تبصق طمت «2» طموة صعدا ومدّت جرانها ... وطارت كما طار الشّهاب «3» المحلّق ذكر شىء من الأوصاف والتشبيهات الشعريّة الجامعة لمجموع هذا النوع الذى ذكرناه من ذلك قول بعض الشعراء: وقبلى أبكى كلّ من كان ذا هوى ... هتوف البواكى والدّيار البلاقع وهنّ على الأفلاق «4» من كلّ جانب ... نوائح ما تخضلّ منها المدامع مزبرجة الأعناق نمر ظهورها ... مخطّمة بالدّرّ خضر روائع ترى طررا بين الخوافى كأنّها ... حواشى برود زينّتها الوشائع ومن قطع الياقوت صيغت عيونها ... خواضب بالحنّاء منها الأصابع وقال أبو الأسود الدؤلىّ من أبيات: وساجع فى فروع الأيك هيّجنى ... لم أدر لم ناح ممّا بى ولم سجعا أباكيا إلفه من بعد فرقته ... أم جازعا للنّوى من قبل أن تقعا يدعو حمامته والطير هاجعة ... فما هجعت له ليلا ولا هجعا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 265 موشّح «1» سندسا خضر مناكبه ... ترى من المسك فى أذياله لمعا له من الآس طوق فوق لبّته ... من البنفسج والخيرىّ «2» قد جمعا كأنما عبّ «3» فى مسودّ غالية ... وحلّ من تحته الكافور فانتقعا «4» كأنّ عينيه من حسن اصفرارهما ... فصّان من حجر الياقوت قد قطعا كأنّ رجليه من حسن احمرارهما ... ما رقّ من شعب المرجان فاتّسعا شكا النّوى فبكى خوف الأسى فرمى ... بين الجوانح من أوجاعه وجعا والريح تخفضه طورا وترفعه ... طورا فمنخفضا يدعو ومرتفعا كأنه راهب فى رأس صومعة ... يتلو الزّبور ونجم الصبح قد طلعا وقال ابن «5» اللّبانة الأندلسىّ: وعلى فروع الأيك شاد يحتوى ... طرفى لآخر تحتويه الأضلع يندى له رطب الهواء فيغتدى ... ويظلّه ورق الغصون فيهجع تخذ الأراك أريكة لمنامه ... فله إلى الأسحار فيها موضع حتى إذا ما هزّه نفس الصّبا ... والصبح، هزّك منه شدو مبدع فكأنما تلك الأراكة منبر ... وكأنه فيها خطيب مصقع الجزء: 10 ¦ الصفحة: 266 وقال بعض الأعراب [يصف مطوّقة «1» ] : دعت فوق ساق دعوة لو تناولت ... بها الصّخر من أعلى أبان «2» تحدّرا تبكّى بعين ليس تذرى دموعها ... ولكنّها تذرى الدموع تذكّرا محلّاة طوق ليس تخشى انفصامه ... إذا همّ أن يبلى تجدّد آخرا لها «3» وشح دون التّراقى وفوقها ... وصدر كمقطوف البنفسج أخضرا تنازعها الألوان «4» شتّى صقالها ... بدا لتلالى الشمس فيه تحيرا «5» وقال شاعر أندلسىّ: وما شاقنى إلا ابن ورقاء هاتف ... على فنن بين الجزيرة والجسر مفتّق طوق لازوردىّ كلكل ... موشّى الطّلى أحوى القوادم والظهر أدار على الياقوت أجفان لؤلؤ ... وصاغ على الأجفان طوقا من التّبر حديد شبا المنقار داج كأنه ... شبا قلم من فضّة مدّ من حبر توسّد من فرع الأراك أريكة ... ومال على طىّ الجناح مع النّحر ولمّا رأى دمعى مراقا أرابه ... بكائى فاستولى على الغصن النّضر وحثّ جناحيه وصفّق طائرا ... فطار بقلبى حيث طار وما يدرى وقال آخر: كأنّ بنحرها والجيد منها ... إذا ما أمكنت للنّاظرينا مخطّا كان من قلم لطيف ... فخطّ بجيدها والنحر نونا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 267 وقال ابن الرّومى: مطوّقة تبكى ولم أر باكيا ... بدا ما بدا من شجوها لم يسلّب «1» وقد أوردنا فى باب الغزل والنّسيب من هذا المعنى فيما قيل على لسان الورقاء ما يستغنى عن تكراره. وأمّا اليمام وأصنافه وما وصف به وما قيل فيه - فالعرب تقول: إن هذه التسمية واقعة على النوع الذى تسمّيه عامّة الناس الحمام؛ وهو أصناف مختلفة الأشكال والألوان والأفعال، منها «الرّواعب» و «المراعيش» و «العدّاد» و «الميساق» و «الشّدّاد» و «القلّاب» و «الشّقّاق» و «المنسوب» . فأمّا الرّواعب - وهو ألوان كثيرة. وزعم الجاحظ أنه تولّد بين ورشان ذكر وحمام أنثى، فأخذ من الأب الجثّة ومن الأمّ الصوت، وفاته سرعة الطيران فلم يشبههما فيه؛ وله من عظم البدن وكثرة الفراخ والهديل والقرقرة ما ليس لأبويه، حتى صار ذلك سببا للزيادة فى ثمنه والحرص على اتّخاذه. وأمّا المراعيش - وهى تطير مرتفعة حتى تغيب عن النظر فترى فى الجوّ كالنّجم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 268 وأمّا العدّاد - فهو طير ضخم، قليل الطيران [كثير الفراخ «1» ] . وأمّا المسياق - وهو أضخم من العدّاد وأنبل، ثقيل الجسم لا يستطيع الطيران إلّا قليلا. وأمّا الشدّاد - فهو لا يلزم الطيران فى الجوّ، وله قوّة فى جناحه [حتى يقال إنّه ربما يكسر الجوزبه، ولا يأتى من الغاية لبله فيه «2» ] . وأصحاب الرّغبات فى تربية هذا الصّنف يلقونه على البصريّات فيخرج من بينهما حمام يسمّى «المضرّب» يجتمع فيه هداية البصرىّ وشدّة الشّدّاد. والشدّاد يطير صعدا حتى يرى كالنّجم. وفى ذنبه إحدى وثلاثون ريشة. وأمّا القلّاب - فتسميّه العراقيون «الملّاح» ؛ وسمّى بذلك لتقلّبه فى طيرانه. والشّقّاق «3» - وطيرانه تحويم. وأمّا المنسوب «4» - ويسمّيه العراقيّون «الهوادى» ، والمصريون «5» يسمونه «البصارى» [يعنون «6» البصرية] ، وهو بالنسبة إلى ما تقدّم ذكره كالعتاق من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 269 الخيل، وما عداه فيها كالبراذين. وفيها «العلوىّ» وهو ألطف جرما وأسرع طيرانا؛ وهو يطلب وكره ولو أرسل من مسافة ألف فرسخ، ويحمل البطائق ويأتى بها من المسافة البعيدة فى المدّة القريبة. قالوا: وفيه ما يقطع ثلاثة آلاف فرسخ فى يوم واحد. وسباع الطير تطلبه أشدّ طلب. وخوفه من الشاهين أشدّ من خوفه من غيره. وهو أطير منه ومن سباع الطير كلّها؛ لكنه يذعر فيجهل باب المخلص. والمحمود منه ما وصفه الجاحظ عن أفليمون صاحب الفراسة أنه قال: جميع الفراسة لا تخرج عن «1» أربعة أوجه: أوّلها التقطيع، والثانى المجسّة، والثالث الشمائل، والرابع الحركة. فأمّا التقطيع- فانتصاب العنق والخلقة، واستدارة الرأس من غير عظم ولا صغر، وعظم القرطمتين «2» ونقاؤهما، واتّساع المنخرين، وانهرات الشّدقين، وسعة الجوف، ثم حسن خلقة العينين مع توقّدهما، وقصر المنقار فى غير دقّة، ثمّ اتّساع الصدر، وامتلاء الجؤجؤ، وطول العنق، وإشراف المنكبين، وانكماش الجناحين، وطول القوادم فى غير إفراط، ولحوق بعض الخوافى ببعض، وصلابة القصب فى غير انتفاخ ولا يبس، واجتماع الخلق فى غير الجعودة والكزازة «3» ، وعظم الفخذين «4» ، وقصر السّاقين والوظيفين، وافتراق الأصابع، وقصر الذّنب وخفّته من غير تفنين «5» وتفريق، ثم توقّد الحدقتين وصفاء اللّون. فهذه علامة الفراسة فى التقطيع. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 270 وأمّا علامة المجسّة- فوثاقة الخلق، وشدّة اللّحم، ومتانة العصب، وصلابة القصب، ولين الرّيش فى غير رقّة، وصلابة المنقار فى غير دقّة. وأمّا علامة الشمائل- فقلّة الاختيال، وصفاء البصر، وثبات النظر، وشدّة الحذر، وحسن التّلفّت، وقلّة الرّعدة عند الفزع، وخفّة النهوض إذا طار، وترك المبادرة إذا لقط. وأمّا علامة الحركة- فالطيران فى علوّ، ومدّ العنق فى سموّ، وقلّة الاضطراب فى جوّ السماء، وضمّ الجناحين فى الهواء، وتتابع الرّكض فى غير اختلاط، وحسن القصد فى غير دوران، وشدّة المدّ فى الطيران. فإذا أصبته جامعا لهذه الصفات فهو الطائر الكامل. وقد وصف الجاحظ الحمام فى كتاب الحيوان وبسط فيه القول ووسّع المجال. ونحن الآن نورد ملخّص ما قاله فيه، قال: ومن مناقب الحمام حبّه للناس وأنس الناس به، وهو من الطير الميامين. وهو إذا علم الذكر منه أنّه قد أودع رحم الأنثى ما يكون منه الولد، تقدّما فى إعداد العشّ، ونقل القصب وشقق «1» الخوص، وأشباه ذلك من العيدان الخوّارة «2» الدّقاق، حتى يعملا أفحوصة وينسجاها نسجا متداخلا فى الموضع الذى اتّخذاه واصطنعاه عشّا بقدر جثمان الحمامة؛ ثم أشخصا لتلك الأفحوصة حروفا غير مرتفعة لتحفظ البيض وتمنعه من التّدحرج، ولتلزم كتفى الجؤجؤ، ولتكون رفدا لصاحب الحضن، وسندا للبيض؛ ثم يتعاوران ذلك المكان ويتعاقبان تلك الأفحوصة يسخّنانها الجزء: 10 ¦ الصفحة: 271 ويدفئانها ويطيّبانها «1» وينفيان عنها طباعها الأول ويحدثان لها طبيعة أخرى مشتقّة من طبائعهما ومستخرجة من رائحة أبدانهما وقواهما، لكى تقع البيضة إذا وقعت فى موضع يكون أشبه المواضع طباعا بأرحام الحمام مع الحضانة [والوثارة «2» ] ، كى لا تنكسر البيضة بيبس الموضع، ولئلا تنكر طباعها طباع المكان، وليكون على مقدار من البرد والسّخونة والرّخاوة والصّلابة. ثم إن ضربها المخاض وطرّقت ببيضها، بدرت إلى الموضع الذى قد أعدّته وتحاملت إليه، إلّا أن يقرعها رعد قاصف أو ريح عاصف فإنها ربما رمت بها دون الأفحوصة. والرّعد ربّما أفسد البيض. فإذا وضعت البيض فى ذلك المكان الذى أعدّاه لا يزالان يتعاقبان الحضن ويتعاورانه حتى تنتهى أيّامه ويتمّ ميقاته؛ فعند ذلك ينصدع البيض عن الفرخ، فيخرج عارى الجلد صغير الجناح مستدّ الحلقوم؛ فيعلمان أنّه لا يتّسع حلقه وحوصلته للغذاء، فلا يكون لهما همّ إلّا أن ينفخا فى حلق الفرخ الرّيح لتتّسع الحوصلة بعد التحامها. ثم يعلمان أنه وإن اتّسعت الحوصلة لا يحمل فى أوّل اغتذائه أن يزقّ بالطّعم، فيزقّ باللّعاب المختلط بقواهما وقوى الطّعم. ثم يعلمان أنّ الحوصلة تضعف عن استمراء الغذاء وهضم الطّعم فيأكلان من شروج «3» أصول الحيطان- وهو شىء من الملح المحض والتراب الخالص، وهذا هو السّبخ- فيزقّانه به. حتى إذا علما أنه قد اندبغ «4» واشتدّ زقّاه بالحبّ الذى قد غبّ فى حواصلهما؛ ثم يزقّانه بعد ذلك بالحبّ والماء. حتى إذا علما أنه قد أطاق الجزء: 10 ¦ الصفحة: 272 اللّقط معناه بعض المنع ليحتاج إلى اللّقط فيتعوّده. فإذا علما أنّ إرادته قد تمّت وأنه قد قوى على اللّقط وبلغ بنفسه منتهى حاجته، ضرباه إذا سألهما الكفاية، ونفياه متى رجع إليهما، وتنتزع تلك الرحمة العجيبة منهما وينسيان ذلك التعطّف. ثم يبتدئان العمل ثانيا على ذلك النظام وتلك المقدّمات. فسبحان الهادى الملهم. قال: ثم يبتدئ الذّكر بالدّعاء والطّراد؛ وتبتدئ الأنثى بالتّأتّى والاستدعاء، ثم تزيف «1» وتشكل «2» ، وتمكّن وتمنع، وتجيب وتصدف بوجهها؛ ثم يتعاشقان ويتطاوعان ويكون بينهما قبل وارتشاف وإدخال فمها فى فمه؛ وذلك هو التّطاعم والمطاعمة. قال الشاعر: لم أعطها «3» بيدى إذ بتّ أرشفها ... إلّا تطاول غصن الجيد بالجيد كما تطاعم فى خضراء ناعمة ... مطوّقان أصاخا بعد تغريد قال أبو عثمان: ومما أشبه فيه الحمام الناس أن ساعات الحضن على البيض أكثرها على الأنثى، وإنما يحضن الذكر حضنا يسيرا. والأنثى كالمرأة فى كفالة الصبىّ، حتى إذا ذهب الحضن وصار البيض؟؟؟ صراخا كالأطفال فى البيت يحتاجون إلى الطعام والشّراب صار أكثر ساعات الزّقّ على الذكر. وقال: قال مثنّى بن زهير- وهو إمام الناس فى البصرة بالحمام-: لم أر شيئا قطّ فى رجل ولا امرأة إلّا وقد رأيت مثله فى الذكر والأنثى من الحمام. رأيت حمامة لا تريد إلّا ذكرها، كالمرأة لا تريد إلّا زوجها أو سيّدها. ورأيت حمامة لا تمنع شيئا من الذّكورة؛ ورأيت امرأة لا تمنع يد لامس. ورأيت الجزء: 10 ¦ الصفحة: 273 حمامة لا تزيف إلّا بعد طراد شديد وشدّة طلب، ورأيتها تزيف لأوّل ذكر يريدها، ورأيت من النساء كذلك. ورأيت حمامة لها زوج وهى تمكّن ذكرا آخر لا تعدوه، ورأيت مثل ذلك فى النساء. ورأيتها تزيف لغير ذكرها وذكرها يراها، ورأيتها لا تفعل ذلك إلّا وذكرها يطير أو يحضن. ورأيت الحمامة تقمط الحمامة، ورأيت الحمام الذكر يقمط الذكر. ورأيت أنثى كانت لا تقمط إلّا الإناث، ورأيت أخرى تقمط الإناث فقط ولا تدع أنثى تقمطها، ورأيت ذكرا يقمطها ويدعها حتى تقمطه. ورأيت ذكرا يقمط الذكور وتقمطه؛ ورأيت ذكرا يقمط الذكور ولا يدعها تقمطه؛ ورأيت أنثى تزيف للذكور ولا تدع شيئا منها يقمطها؛ ورأيت هذه الأصناف كلّها فى السّحّاقات واللّاطة. قال: وامتنعت علىّ خصلة فو الله لقد رأيتها؛ لأنى رأيت من النساء من تزنى أبدا وتساحق أبدا ولا تتزوّج؛ ومن الرجال من يلوط أبدا ويزنى أبدا ولا يتزوّج، ورأيت حماما ذكرا يقمط ما لقى ولا يزاوج، ورأيت حمامة تمكّن كلّ حمام أرادها من ذكر أو أنثى وتقمط الذكورة والإناث ولا تزاوج، ورأيتها تزاوج ولا تبيض، وتبيض فيفسد بيضها، كالمرأة. قال: ورأيت ذكرا له أنثيان وقد باضتا منه، وهو يحضن مع هذه ومع تلك ويزقّ مع هذه ومع تلك، ورأيت أنثى تبيض بيضة، ورأيت أنثى تبيض فى أكثر حالاتها ثلاث بيضات. قال: ورأيت حمامة تزاوج هذا الحمام ثم تتحوّل منه إلى آخر، ورأيت ذكرا فعل مثل ذلك فى الإناث، ورأيت الذكر كثير النّسل قويّا على القمط. قال الجاحظ: والحمام يبيض عشرة أشهر من السنة؛ فإذا صانوه وحفظوه وأقاموا له الكفاية وأحسنوا تعهّده باض فى جميع السنة. والفواخت والأطرغلّات «1» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 274 والحمام البرّىّ تبيض مرّتين فى السنة. قال: ويتمّ خلق الحمام فى أقلّ من عشرة أيام. والحمامة فى أكثر أمرها يكون «1» أحد فرخيها ذكرا والآخر أنثى؛ وهى تبيض أوّلا البيضة التى فيها الذكر ثم تقيم يوما وليلة وتبيض الأخرى. وتحضن ما بين السبعة عشر يوما إلى العشرين. والأنثى أبرّ بالبيض، والذكر أبرّ بالفراخ. ولقد أطنب أبو عثمان الجاحظ وأوغل وبسط القول فى ذكر الحمام وأوصافه ومناقبه والمغالاة فى ثمنه والحرص على اقتنائه، حتى إنه قال: وللحمام من الفضيلة والفخر أنّ الحمام الواحد يباع بخمسمائة دينار؛ ولم يبلغ ذلك باز ولا شاهين ولا عقاب. قال: وأنت إذا أردت أن تتعرّف مبلغ ثمن الحمام الذى جاء من الغاية ثم دخلت بغداد والبصرة، وجدت ذلك بلا معاناة. وهذا يدلّ على أنّ قوله فيه كان مشهورا عندهم فى وقته. ثم قال: والحمام إذا جاء من الغاية بيع الذّكر من فراخه بعشرين دينارا وأكثر، وبيعت الأنثى بعشرة دنانير وأكثر [وبيعت البيضة «2» بخمسة دنانير] ؛ فيقوم الزوج منها من الغلّة مقام ضيعة، حتى ينهض بمؤونة العيال وبقضاء الدّين، وتبنى من غلّاته «3» وأثمان رقابه الدّور والجنان وتبتاع الحوانيت. ثم وصف حجر الحمام ومقاصيرها المبنيّة فى ذلك الزمان وما يعانيه أهلها من حديثها «4» والاحتفال بها فى المسابقة وغيرها. وأطال فى ذلك. وقال: وللحمام من حسن الاهتداء، وجودة الاستدلال، وثبات الحفظ والذّكر، وقوّة النزاع إلى أربابه، والإلف لوطنه، أن يكون طائرا من بهائم الطير يجىء من مسافة كذا إلى مسافة كذا. قال: ولن ترى جماعة طير أكثر طيرانا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 275 إذا كثرن من الحمام؛ فإنّهنّ كلما التففن «1» وضاق موضعهنّ كان أشدّ لطيرانهنّ. قال النابغة: واحكم كحكم فتاة «2» الحىّ إذ نظرت ... إلى حمام شراع «3» وارد الثّمد يحفّه «4» جانبا نيق «5» وتتبعه ... مثل الزّجاجة لم تكحل من الرّمد قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا ... إلى حمامتنا ونصفه فقد فحسبوه فألفوه كما حسبت ... تسعا وتسعين لم تنقص ولم تزد فأكملت مائة فيها حمامتها ... وأسرعت حسبة فى ذلك العدد قال الأصمعىّ: لما أراد أن يمدح الحاسب وسرعة إصابته شدّد الأمر وضيّقه عليه ليكون أحمد له إذا أصاب؛ فجعله حزر طيرا والطير أخفّ من غيره؛ ثم جعله الجزء: 10 ¦ الصفحة: 276 حماما والحمام أسرع الطير وأكثر اجتهادا فى السرعة إذا كثر عددهنّ، وذلك أنه يشتدّ طيرانه عند المسابقة والمنافسة. وقال: «يحفّه جانبا نيق وتتبعه» ، فأراد أن الحمام إذا كان فى مضيق من الهواء كان أسرع من أن يتسع عليه الفضاء. والله أعلم بالصواب. ذكر ما قيل فى طوق الحمامة يقال: إنّ نوحا صلى الله عليه وسلم لما كان فى السفينة بعث الغراب ليكشف له هل ظهر من الأرض موضع، فوقع على جيفة فلم يرجع إليه؛ فبعث بالحمامة، فاستجعلت على نوح الطّوق الذى فى عنقها فجعل لها ذلك جعلا. وفى ذلك يقول أميّة بن أبى الصّلت: وأرسلت الحمامة بعد سبع ... تدلّ على المهالك لا تهاب تلمّس هل ترى فى الأرض عينا ... وعاينه من الماء العباب «1» فجاءت بعد ما ركضت بقطف ... عليه «2» الثّأط «3» والطّين الكباب «4» فلمّا فرّسوا الآيات صاغوا ... لها طوقا كما عقد السّخاب «5» إذا ماتت تورّثه بنيها ... وإن تقتل فليس لها «6» استلاب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 277 وقال أيضا فيها: سمع الله لابن آدم نوح ... ربّنا ذو الجلال والإفضال حين أوفى بذى الحمامة والنا ... س جميعا فى فلكه كالعيال حابسا خوفه عليه رسولا ... من خفاف الحمام كالتّمثال فرشاها على الرّسالة طوقا ... وخضابا علامة غير بال فأتته بالصّدق لمّا رشاها ... وبقطف لمّا بدا عثكال «1» قوله: «فرشاها» أى جعل لها جعلا. وقال فيها: وما كان أصحاب الحمامة خيفة ... غداة غدت منهم تضمّ الخوافيا رسولا لهم والله يحكم أمره ... يبين لهم هل برنس التّرب باديا فجاءت بقطف آية مستبينة ... فأصبح منها موضع الطين جاديا «2» على خطمها واستوهبت ثم طوقها ... وقالت ألا لا تجعل الطوق حاليا ولا ذهبا إنى أخاف نبالهم ... يخالونه مالى وليس بماليا وزدنى على طوقى من الحلى زينة ... تصيب إذا أتبعت طوقى خضابيا وزدنى لطرف الطين منك بنعمة ... وورّث إذا ما متّ طوقى حماميا يكون لأولادى جمالا وزينة ... وعنوان زينى زينة من ترابيا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 278 ذكر شىء مما وصف به هذا النوع نظما ونثرا قال عبد الواحد بن فتوح الأندلسىّ يصف حماما بسرعة الطيران والسّبق: يجتاب أودية السّحاب بخافق ... كالبرق أومض فى السّحاب فأبرقا لو سابق الريح الجنوب لغاية ... يوما لجاءك مثلها أو أسبقا يستقرب الأرض البسيطة مذهبا ... والأفق ذا السّقف الرفيعة مرتقى ويظلّ يسترقى السماء بخافق ... فى الجوّ تحسبه الشّهاب المحرقا يبدو فيعجب من رآه لحسنه ... وتكاد آية عنقه أن تنطقا مترقرقا من حيث درت كأنما ... لبس الزجاجة أو تجلب زئبقا وقال أبو هلال العسكرىّ فى حمام أبلق: ومتّفقات الشكل مختلفاته ... لبسن ظلاما بالصباح مرقّعا أخذن من الكافور أنفا ومنسرا «1» ... وخضّبن بالحنّاء كفّا وإصبعا وترنو بأبصار إذا ما أدرنها ... جلون عقيقا للعيون مرصّعا تطير بأمثال الجلام كأنّها ... جنادل تدحوها ثلاثا وأربعا تبوع «2» بها فى الجوّ من غير فترة ... كأنّ مجاديفا تبوع بها معا إذا هى عبّت فى الغدير حسبتها ... تزقّ فراخا فى المغاور جوّعا وقال القاضى الفاضل عبد الرحيم البيسانىّ من رسالة يصف طائرا جاء من غاية: «وكان هذا الطائر أحد الرسل المسيّرة بل المبشّره، والجنود المجرّدة بل المسخّره؛ فإنها لا تزال أجنحتها تحمل من البطائق أجنحه، وتجهّز من جيوش المقاصد والاقلام الجزء: 10 ¦ الصفحة: 279 أسلحه؛ وتحمل من الأخبار ما تحمل الضمائر، وتطوى الأرض إذا نشرت الجناح الطائر؛ وتزوى لها حتى ترى ما سيبلغه ملك هذه الأمّة، وتقرب بها السماء حتى ترى ما لا يبلغه وهم ولا همّه؛ وتكون مراكب للأغراض لمّا كانت الأجنحة قلوعا، وتركب الجوّ بحرا يصفّق فيه هبوب الرياح موجا مرفوعا؛ وتعلّق الحاجات على أعجازها، فلا تعرف الإرادات غير إنجازها. ومن بلاغات البطائق استعارت ما هى به مشهورة من السّجع، ومن رياض كتبها ألفت الرياض فهى إليها دائمة الرّجع. وقد سكنت البروج فهى أنجم، وأعدّت فى كنائنها فهى للحاجات أسهم. وقد كادت تكون ملائكة فإذا نيطت بالرّقاع، صارت أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع. وقد باعد الله بين أسفارها وقرّبها، وجعلها طيف اليقظة الذى صدق العين وما كذبها. وقد أخذت عهود الأمانة فهى فى أعناقها أطواقا، فأدّتها من أذنابها أوراقا؛ فصارت خوافى وراء الخوافى، وغطّت سرّها المودع بكتمان سحبت عليه ذيول ريشها الضوافى «1» ؛ ترغم النّوى بتقريب العهود، وتكاد العيون تلاحظها تلاحظ أنجم السعود؛ فهى أنبياء «2» الطير لكثرة ما تأتى به من الأنباء، وخطباؤها لأنها تقوم على منابر الأغصان مقام الخطباء» . والله أعلم بالصواب. وأما الببّغاء وما قيل فيها - والببّغاء طائر هندىّ، وحبشىّ. حسن الخلق، دمث الخلق، ثاقب الفهم، له قوّة على حكاية الأصوات بالتلقين والتعليم؛ تتخذه الملوك وأكابر الناس فى منازلهم. وفى لونه الأخضر والأغير والأسود والأحمر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 280 والأصفر والأبيض. وهذه الألوان كلّها قليلة نادرة الوجود إلّا الأخضر والأغبر. وقد شاهدت أنا بالقاهرة المعزّيّة درّة «1» بيضاء. وحكى أنه أهدى إلى معزّ الدولة «2» ابن بويه ببغداد هديّة من اليمن كان فيها ببّغاء بيضاء، سوداء المنقار والرجلين، وعلى رأسها ذؤابة فستقيّة. وهذا الطائر يتناول الطّعم برجله. وله منقار معقّف قصير يكسر به ما صلب وينقب به ما تعسّر نقبه. وهو فى مأكله ومشربه كالإنسان التّرف الظريف. والناس يحتالون على تلقينه بأن ينصبوا تجاهه مرآة يرى خياله فيها ويتكلّم الإنسان من ورائها، فيتوهّم الطائر أنّ خياله فى المرآة هو المتكلّم فيأخذ نفسه بحكاية ما يسمعه من ذلك الصوت. وقال المولى تاج الدين عبد الباقى اليمانىّ رحمه الله فيها ملغزا: يا سيّدا أبدع فى المقال ... ويا رئيسا فاق فى المعالى ما حيوان مشبه الإنسان ... مرتّل الآيات فى القرآن ذو مبسم صيغ من النّضار ... ومقلة قد ركّبت من قار ومخلب يكسّر الصّليبا ... ومنطق يفاخر الخطيبا ذو حلّة بنديّة البرود ... منسوجة من أخضر البنود كروضة قد أينعت أزهارها ... وأدهشتنا بالغنا أطيارها الجزء: 10 ¦ الصفحة: 281 قد جمعت فى ذاته ألوان ... كأنّه فى خلقه بستان فذاته من ناصع الزّبرجد ... ونوره مركّب من عسجد وتارة يبصر من أقاحى ... خلقته «1» فى سائر النواحى وعرفه من خالص المداد ... ونطقه مستحكم الإيراد يأكل بالكفّ خلاف الطير ... ويغتدى وهو قدير السّير إن لقط الحبّ لدى تفريقه ... رأيت درّا جال فى عقيقه يحفظ بيت المرء فى المغيب ... ويغتدى كالحارس المرهوب سميّه فى أسفل البحار ... مستودع فى آخر التيّار إليه يعزى الشاعر المجيد ... والكاتب النّحرير والمجيد فاكشف معمّى ما لغزت يا إمام ... واسلم على مرّ الدهور فى الدّوام الجزء: 10 ¦ الصفحة: 282 الباب الخامس من القسم الخامس من الفن الثالث فى الطير الليلى ّ ويشتمل هذا الباب على ذكر ما قيل فى الخفّاش، والكروان، والبوم، والصّدى. فأمّا الخفّاش وما قيل فيه - فالخفّاش ليس من الطير فى شىء؛ فإنه ذو أذنين ظاهرتين وأسنان وخطم وخصيتين بارزتين، ويبول كما تبول ذوات الأربع، ويحيض، ويلد، ويرضع، ولا ريش له. قال بعض المفسّرين لكتاب الله عزّ وجلّ: إنّ الخفّاش هو الطائر الذى خلقه عيسى بن مريم عليه السلام بإذن الله تعالى؛ ولذلك هو مباين لصنعة الخالق؛ ولهذا سائر الطير تقهره وتبغضه؛ فما كان منها يأكل اللحم أكله، وما لا يأكل اللحم قتله؛ فلذلك لا يطير إلّا ليلا. وطعامه البعوض والفراش يصيدهما وقت طيرانه، ولا يبلغ ذلك إلا بما فيه من سرعة الاختطاف وشدّة الطيران ولين الأعطاف. وهو مع ذلك ليس بذى ريش وإنما هو لحم مغشّى بجلد صلب كأنّه جلد ضفدع، وهو يطير بغير ريش؛ وهذا من العجب. وهو لا يطير فى ضوء ولا ظلمة. وسبب ذلك أنه ضعيف حاسّة البصر، قليل شعاع العين؛ فالشمس تضعف بصره عن التحديق فى شعاعها، والظلمة تغمر ضياء بصره؛ فهو يجعل طيرانه لطلب قوته وقت غروب الشمس وظهور الشّفق. [وذلك وقت هيج البعوض وانتشاره «1» ] . ومنازله تكون فى الجبال وصدوع الصخور وبسيط الجزء: 10 ¦ الصفحة: 283 الفيافى وجزائر البحر والأماكن الخربة المهجورة. وهو يطلب قرب الناس؛ فإذا كان فى بيوتهم قصد أرفع مكان وأحصنه فيكون فيه. ويذكر بطول العمر، ويكبر حتى يكون فى قدر الحدأة وأكبر. وهو يلد ما بين الثلاثة إلى التسعة. ويسفد غالبا وهو طائر فى الهواء. وهو يحمل ولده تحت جناحه، وربما قبض عليه بفيه لإشفاقه عليه. وربّما أرضعت الأنثى ولدها وهى طائرة. أخبرنى من شاهد ذلك ممن يعتمد على نقله. وهو متى أصابه شجر الدّلب خدر. قال الجاحظ: والخفّاش يأتى الرّمّانة وهى على شجرتها فينقب عنها ويأكل جميع ما فيها حتى لا يدع إلا القشر وحده. قال: ولحوم الخفافيش موافقة للشواهين والصّقور والبوازى ولكثير من جوارح الطير، وهى تسمن عنها وتصحّ أبدانها عليها، ولها فى ذلك عمل محمود ناجع عظيم النفع بيّن الأثر. وقال بعض الشعراء فى الخفّاش ملغزا: وطائر جناحه فى رجله ... أبعد شىء فصّه من وصله» لم يوصف «2» الله بخلق مثله ... وهو على تآلف فى شكله لو بيع فى سوق له لم أغله وقال آخر: أبى علماء الناس أن يخبروننى ... وقد ذهبوا فى العلم فى كلّ مذهب بجلدة إنسان وصورة طائر ... وأظفار يربوع وأنياب ثعلب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 284 وأمّا الكروان وما قيل فيه - والكروان طائر من طبعه وعادته الطيران فى الليل، والإدلاج والصّياح بالأسحار، والإشراف على مواضع العساكر. ويوصف بالحمق؛ ومن حمقه أنه يقال له: أطرق كرا، فيلصق بالأرض حتى يرمى. وتقول العرب: «أطرق كرا أطرق كرا إنّ النّعامة فى القرى «1» » . وأمّا البوم وما قيل فيه - ويقال: إنه الصّدى، ويقال: بل الصّدى ذكر البوم، وللبوم ذكر له منه. ويقال: إنه خمسة أصناف: منه ما يصيد الأرنب. ومنه صنف له لونان يأوى الاكام والبرّيّة. ومنه المدبّج بالصّفرة، وله حواجب وقرون من ريش، ويسكن الجدران. ومنه الهام ويسمّى «الغبشيّة «2» » . ومنه «القن» وهو يصيح كالهام لكنّ صوته أدقّ. وكل هذه الأصناف تحب الخلوة بنفسها. وهى تبغض الغربان، وسائر أصناف الطير تبغضها؛ فإنّ الطيور إذا رأينها يطرن حولها وينتفن ريشها؛ فلذلك صيّاد والطيور يجعلونها فى مصايدهم؛ لأن الطيور إذا رأوها اجتمعوا عليها، فتصاد عند ذلك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 285 وأما الصّدى وما قيل فيه - فالعرب تزعم أن الإنسان إذا مات أو قتل تتصوّر نفسه فى صورة طائر تصرخ على قبره مستوحشة لجسدها. وفى ذلك يقول توبة: ولو أنّ ليلى الأخيليّة سلّمت ... علىّ ودونى جندل وصفائح لسلّمت تسليم البشاشة أوزقا ... إليها صدى من جانب القبر صائح ويحكون على ذلك حكاية «1» . وتقول العرب: إنّ هذا الطائر يكون صغيرا ثم يكبر حتى يصير فى قدر البوم، ويسمّونه الهام، واحده هامة. وهو يتوحّش ويصيح ويوجد فى الدّيار المعطّلة والنّواويس «2» وحيث مصارع القتلى وأجداث الأموات. ويقولون: إنه لا يزال عند ولد الميّت ومخلفيه ليعلم ما يكون بعده فيخبره. وهذا كلّه أراه من خرافات العرب وأكاذيبها. وما زالوا على ذلك حتى جاء الإسلام فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فقال: «لا عدوى ولا طيرة ولا هامة» الحديث. والله أعلم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 286 الباب السادس من القسم الخامس من الفن الثالث فى الهمج وقد قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ فيه: إنه ليس من الطير، ولكنّه مما يطير كالحشرات مما يمشى. والذى أطلق عليه اسم الهمج هو مما يشتمل عليه هذا الباب، وهو النّحل، والزّنبور، والعنكبوت، والجراد، ودود القزّ، والذّباب، والبعوض، والبراغيث، والحرقوص. فأمّا النحل وما قيل فيه - قال الله عزّ وجلّ: (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ. ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) . وعن أبى سعيد الخدرىّ رضى الله عنه: أنّ رجلا أتى النبىّ صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخى يشتكى بطنه يا رسول الله؛ فقال النبىّ صلى الله عليه وسلم: «اسقه عسلا» . ثم أتاه فقال: قد فعلت؛ فقال: «اسقه عسلا» . ثم أتاه فقال: قد فعلت؛ فقال: «اسقه عسلا» . ثم أتاه فى الرابعة؛ فقال: «صدق الله وكذب بطن أخيك اسقه عسلا» ؛ فسقاه فبرئ الرجل. وقال أرسطو: النحل تسعة أصناف: ستّة منها يأوى بعضها إلى بعض، وذكر أسماءها باليونانيّة. وغذاء «1» النحل من الفضول «2» الحلوة والرّطوبات. والنحل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 287 لا تقعد على أزهار مختلفة بل على زهر واحد؛ وإن قعدت على زهر آخر فإنما تقعد عليه بعد أن تنصرف إلى الخليّة. وبيوتها من أعجب المبانى؛ لأنها مبنيّة على الشكل الذى لا ينتهك ولا ينخرق، كأنه حرّر بآلة وقياس هندسىّ. وإذا هلك شىء من النحل فى باطن الخلايا أخرجته الأحياء إلى خارجها. وهو يعمل فى فصل الربيع والخريف. والرّبيعى أجود من الخريفىّ. والصغير منه أعمل من الكبير. وهو يشرب من الماء النقىّ العذب الصّافى، ويطلبه حيث كان. وهو يسلخ جلده كالحيّات. وتوافقه الأصوات المطربة. ويجتمع للتصفيق بالأيدى والرّقص. والسوس يضرّه. ودواؤه أن يطرح فى كل خليّة كفّ من الملح، وأن تفتح فى كلّ شهر مرّة وتدخّن بأخثاء البقر. وقد وصف الشعراء الشّهد والعسل فى أشعارها؛ فمن ذلك قول إبراهيم بن خفاجة الأندلسىّ يصف شهدة بعث بها إليه بعض أصدقائه: لله ريقة نحل ... رعى الرّبى والشّعابا وجاب أرضا فأرضا ... يغشى مصابا مصابا «1» حتّى ارتوى من شفاء ... يمجّ منه رضابا إن شئت كان طعاما ... أو شئت كان شرابا وكتب مع هذه الأبيات رسالة، جاء منها: «وكفى النّحلة فضيلة ذات، وجلالة صفات؛ أنّها أوحى إليها، وأثنى فى الكتاب عليها؛ تعلم مساقط الأنداء، وراء البيداء؛ فتقع هناك على نوّارة عبقه، وبهارة «2» أنقه؛ ثم تصدر عنها [بما تطبعه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 288 شمعه، وتبدعه صنعه؛ وترتشف منها «1» ] ما تحفظه رضابا، وتلفظه شرابا؛ وتتجافى بعد منه عن أكرم مجتنى، وأحكم مبتنى. وأمّا الزّنبور وما قيل فيه - والزنبور يسمّى «الدّبر» . وهو جبلىّ وسهلىّ. فالجبلىّ يأوى الجبال والأماكن الخشنة، وقد يعشّش على الشّجر، ولونه إلى السواد. والسّهلىّ أحمر اللون ويتّخذ عشّه تحت الأرض ويخرج التراب منه كما يفعل النّمل، وهو يختفى فى الشتاء فلا يظهر، وأكثره يهلك. ومن السّهلىّ صنف مختلف الألوان مستطيل؛ وفى طبعه الشّره يطلب المطابخ ويأكل اللحم، ويطير مفردا ويسكن بطن الأرض. وصنف الزنبور جميعه مقسوم فى وسطه؛ وهو لذلك لا يتنفّس من جوفه البتّة. ومتى غمس فى الدّهن سكنت حركاته وذلك لضيق منافذه. وقد وصفه الشعراء. فمن ذلك قول السّلامىّ: ولابس لون واحد وهو طائر ... ملوّنة أبراده وهو واقع أغرّ تردّى طيلسانا مدبّجا ... وسود المنايا فى حشاه ودائع إذا حكّ «2» أعلى رأسه فكأنما ... بسالفتيه من يديه جوامع «3» يخاف إذا ولّى ويؤمن مقبلا ... ويخفى عن الأقران ما هو صانع بدا فارسىّ الزّىّ يعقد خصره ... عليه قباء زيّنته الوشائع «4» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 289 فمعجره «1» الوردىّ أحمر ناصع ... ومئزره التّبرىّ أصغر فاقع يرجّع ألحان الغريض ومعبد ... ويسقى كؤوسا ملؤها السمّ ناقع وقال السّرىّ الرّفّاء يصفه: ومخطف «2» الخصر برده حبر «3» ... نحذره وهو خائف حذر مجنّح طار فى مجنّحة ... تصعد طورا به وتنحدر كأنّها والرياح تنثرها ... غرائب الزّهر حين تنتثر «4» لها حمات كأنها شعر ... تظهر مسودّة وتستتر قد أذهبت فى الجبين «5» غرّته ... إذ فضّضت فى جيادنا الغرر سلاحه الدّهر فى مؤخّره ... يطعن طورا به وينتصر كأنّ شطر الذى يجرّده ... من بين فكّيه حيّة ذكر وأمّا العنكبوت وما قيل فيه - قد ضرب الله عزّ وجلّ المثل فى الوهن بالعنكبوت؛ فقال تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) . والعنكبوت أصناف: منها صنف يسمّى «الرّتيلا» «6» من ذوات السموم القواتل، وهو عنكبوت الجزء: 10 ¦ الصفحة: 290 صغير. ومنه صنف طويل الأرجل. ومنه صنف يسمّى «اللّيث» يصيد الذّباب، وله ست عيون وثمانى أرجل؛ وقال الجاحظ: ولد العنكبوت يقوى على النّسج ساعة يولد، وذلك من غير تلقين ولا تعليم. وأوّل ما يولد دودا صغارا، ثم يتغيّر ويصير عنكبوتا. وهو يطاول فى السّفاد «1» . ومنه ما هو كبير ونسجه ردىء، ومنه ما هو دقيق. وهو فى نسجه يمدّ السّدى ثم يعمل اللّحمة، ويبتدئ من الوسط؛ ويهيّئ موضعا لما يصيده يكون له كالخزانة. والأنثى منه هى التى تنسج، والذكر يحلّ وينقض. والتى تنسجه لا تخرجه من جوفها بل من خارج جسدها. وفم العنكبوت مشقوق بالطول. وهو إذا صاد الذّباب يثب عليه وثوب الفهد. وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: إنّ نسج العنكبوت يقطع نزف الدّم إذا جعل على الجراحة، وإذا وضع نسجه على القروح منعها أن ترم وعلى الجراحات «2» . وإذا طبخ العنكبوت الذى هو غليظ النّسج أبيضه بدهن الورد وقطّر فى الأذن سكّن وجعها. قال: وقال بعضهم: إنّ نسج العنكبوت إذا خلط ببعض المراهم ووضع على الجبهة والصّدغين أبرأ حمّى الغبّ. قال: وزعم بعضهم أنّ نسج الصّنف الذى يكون نسجه كثيفا أبيض إذا شدّ فى خيط وعلّق على العنق والعضد أبرأ حمّى الغبّ. وقال ابن الرومىّ يصف فهد العنكبوب: أعجب مستفاد ... أفادنى زمانى من الفهود فهد ... فى الاسم والعيان الجزء: 10 ¦ الصفحة: 291 تلك ذوات أربع ... وذاك ذو ثمان كأنما ارجله ... مخالب النّغران «1» سيفاه سيفا بطل ... والدرع درع جان مستأنس ما إن بنى ... والإنس فى مكان وصائد وهو من ال ... مصيد «2» فى أمان ذبابه فى كفّه ال ... طائر مثل الو؟؟؟ وليس يبغى بدلا ... بطائر الخوان إذا دنا فلم يكن ... بينهما عقدان عانقه أسرع من ... تعانق الأجفان بخفّة الوثوب بل ... بجرأة الجنان فهو عزيز عزّة ... فى غاية الهوان وقال خلف الأحمر فى الرّتيلاء: ابعث له يا ربّ ذات أرجل ... فى فمها أحجن «3» مثل المنجل دهماء مثل العنكبوت المحول ... تأخذه من تحته ومن عل وأمّا الجراد وما قيل فيه - فالجراد أحد جند الله الذى عذّب الله به قوم فرعون؛ قال الله تعالى: (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 292 وَالضَّفادِعَ) . والعرب تقول: سرأ؟؟؟ الجرادة إذا باضت. فإذا خرج من بيضه فهو «دبى» ، ويخرج دودا أصهب إلى البياض. فإذا تلوّنت فيه خطوط صفر وسود وبيض فهو «المسيّح» . فإذا ضمّ جناحيه فذاك «الكتفان» ؛ لأنه حينئذ يكتف [فى «1» ] المشى. فإذا ظهرت أجنحته وصار أحمر إلى الغبرة فهو «الغوغاء» والواحدة غوغاءة؛ وذلك حين يستقلّ فيموج بعضه فى بعض و [لا «2» ] يتوجّه إلى جهة. فإذا بدت فى لونه الحمرة والصفرة واختلف فى ألوانه فهو «الخيفان» . فإذا اصفرّت الذكور واسودّت الإناث سمّى حينئذ «جرادا» . [وهو إذا أراد أن يبيض التمس لبيضه المواضع الصّلدة والصخور الصّلبة التى لا تعمل فيها المعاول فيضربها بذنبه فتنفرج له، ثم يلقى بيضه فى ذلك الصّدع فيكون له كالأفحوص ويكون حاضنا له ومربّيا «3» ] . والجرادة لها ستّ أرجل: يدان فى صدرها، وقائمتان فى وسطها، ورجلان فى مؤخّر جسدها. وطرفا رجليها منشاران. والجراد من الحيوان الذى ينقاد إلى رئيس [يجتمع إليه كالعسكر، إن ظعن أوّله تتابع كلّه ظاعنا؛ وإذا نزل أوّله نزل جميعه «4» ] . ولعابه سمّ على الأشجار، لا يقع على شىء منها إلا أهلكه. والجرادة فيها شبه من عشرة من جبابرة الحيوان، وهى: وجه فرس، وعينا فيل، وعنق ثور، وقرنا إيّل، وصدر أسد، وبطن عقرب، وجناحا نسر، وفخذا جمل ورجلا نعامة، وذنب حيّة. قال شاعر «5» : لها فخذا بكر وساقا نعامة ... وقادمتا نسر وجؤجؤ ضيغم حبتها أفاعى الرمل بطنا وأنعمت ... عليها جياد الخيل بالرأس والفم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 293 وقال أبو علىّ بن سينا: أجود الجراد السمين الذى لا جناح له؛ وأرجل الجراد تقلع الثآليل فيما يقال. قال: يؤخذ من مستديراتها اثنتا عشرة وتنزع رءوسها وأطرافها ويجعل معها قليل آس يابس وتشرب للاستسقاء كما هى. قال: والجراد نافع لتقطير البول؛ وإذا تبخّر به نفع عسره وخصوصا فى النساء. ويتبخّر به من البواسير. والذى لا أجنحة له يشوى ويؤكل للسع العقرب. وقال بعض الأعراب وذكر فساده: «باكرنا وسمىّ «1» ، ثم خلفه ولىّ؛ حتى كأنّ الأرض وشى منشور، عليه لؤلؤ منثور؛ ثم أتتنا غيوم جراد، بمناجل حداد، فأخربت البلاد، وأهلكت العباد. فسبحان من يهلك القوىّ الأكول، بالضعيف المأكول» . وقال العسكرىّ يصف جرادة: أجنحة كأنّها ... أردية من قصب لكنّها منقوطة ... مثل صدور الكتب بأرجل كأنّها ... مناشر من ذهب وقال أيضا: وأعرابيّة ترتاد «2» زادا ... فتمرق من بلاد فى بلاد غدت تمشى بمنشار كليل ... تبوع «3» به قرارة كلّ واد وتنشر فى الهواء رداء «4» شرى ... على أطرافه نقط المداد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 294 وقال يعلى بن إبراهيم الأندلسىّ: وخيفانة صفراء مسودّة القرا «1» ... أتتك بلون أسود فوق أصفر وأجنحة قد ألحقتها لرؤية «2» ... تقاصر عن أثناء برد محبّر وقال آخر: جرادة حنّت «3» القلوب لها ... حين أشارت بناظرى ربرب صفراء جسم يشوبها رقط ... فى نقط من عبيرها الأشهب كأنها والجناح حلّتها ... راقصة فى ممسّك مذهب ووقفت على حكاية عجيبة فى أمر الجراد، نقلها ابن حلب «4» راغب فى تاريخه فى حوادث سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة، قال: قال القاضى الفاضل عبد الرحيم البيسانىّ: حدّثنا القاضى بهاء الدّين بن شدّاد قاضى حلب فى يوم الثلاثاء من عشر [شهر] ربيع الأول سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة، وقدم علينا فى صفر منها، قال: كان الجراد بالشأم قد زاد أمره وعظم خطبه وأمحلت السّنة بعد السّنة ولم يسلم من الزرع إلا أقلّه؛ فأعلم الملك الظاهر «5» غازى صاحب حلب عن طائر يسمى «السّمندل» ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 295 إذا ظهر الجراد ببلاد أحضر إليها ماء من مكان مخصوص فتبعه ذلك الطائر ووقع على الجراد فأتلفه واستخرج بيضه من التراب ونظّف البلاد منه. قال: فندب ثلاثة نفر من العجم ذوى قوّة فى أبدانهم وصبر على مشقّة المشى فى أسفارهم، وأزاح علّتهم بنفقة وسّعها عليهم، وساروا على خوزستان، واستدلّوا على الضّيعة التى هى من عملها وفيها هذا الماء، فوصلوا إليها وحملوا من الماء، ووجدوا هذه العين على وجه الأرض لا تبلغ إلى أن تفيض فتسيح ولا إلى أن تغيض فتستقى. ومن تدبير هذا الماء إلى أن يتمّ به المراد ان يحمله الماشى ولا يركب، وإذا نزل بمنزلة علّقه ولا يضعه على الأرض؛ وكان الملك الظاهر قد سيّر معهم دوابّ يركبها من لم يحمل الماء بالنّوبة ويمشى من يحمله؛ ومن عادة من يحمله ألّا ينفرد بنفسه وألّا يسير إلّا فى قافلة وأن يعلم أهلها بما معه ويشهدهم أنه ما ركب ظهر دابّة فى حال حمله، وأنه مشى والماء فى إنائه فى يده؛ وكلّما وصلت قافلة إلى بلد أدّى شهود القافلة ما شهدوا به عند الحاكم؛ ويتنجّز حامل الماء كتبا حكميّة من قضاة البلاد فى أمر الماء بصحّة نسبه وكيفيّة حمله. قال: ولم يزالوا على ذلك إلى أن وصلوا إلى حلب، فعلّق ذلك الماء ووصل ذلك الطائر فى جمع كجمع الجراد وأكثر، وهو يشبه السّمانى فى قدره ولونه، ووقع على الجراد فأتلفه واستأصله. قيل: إنّه كان يأكل الجرادة واثنتين والثلاث والأربع فى دفعة ويرميها فى الحال من بطنه، وإنه يتتبّع مكان بيضه فى الأرض فيبحث عنه بمناقيره وأخرجه، حتى صارت الأرض كالغربال من أثر نقره، وإنّ الجراد ارتفع من الشأم وكشفت به البلوى. قال: وأمر هذا الماء مشهور معلوم مستفيض. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 296 وأمّا دود القزّ وما قيل فيه - ودود القزّ وإن لم يكن من الهمج الذى له جناح، فمآل أمره أن يصير له جناح؛ ولذلك أوردناه فى هذا الباب وألحقناه بهذا النّوع. ودود القزّ أوّل ما يكون بزرا فى قدر حبّ التين، وهو البيض الذى يتكوّن فيه الدّود. ويكون خروجه منه فى أوّل فصل الربيع. ويخرج أصغر من الذّرّ، وفى لونه. وإذا تأخّر خروجه وضعه النساء تحت ثديّهنّ فى صرر. فإذا خرج غذّى بورق التوت. ويأخذ فى النّمو إلى أن تصير الدودة منه فى قدر الإصبع وينتقل من السواد إلى البياض [أوّلا فأوّلا «1» ] ، وذلك فى مدّة ستين يوما فما دونها. وله فى غضون هذه المدّة نومات لا يأكل فيها شيئا البتّة، كلّ نومة يومان؛ فإذا استيقظ أكل أضعاف ما كان يأكل قبل النوم. فإذا أكمل المدّة امتلأ حريرا فلا يبقى فيه مساغ لمأكل، فيقطع الأكل عند ذلك ويهيج للنّسج؛ فأىّ شىء تعلّق به نسج عليه. وهو ينسج على نفسه بما يخرجه من فيه إلى أن يخرج ما فى جوفه، وهو أرقّ من العنكبوت «2» ، ويكمل عليه ما يبنيه، فيكون كهيئة اللّوزة «3» . ويبقى محبوسا فى غزله قريبا من عشرين يوما، ثم ينقب عن نفسه ويخرج فراشا أبيض ذا جناحين لا يسكنان عن الاضطراب وقرنين وعينين. وهو إذا نقب عن نفسه وخرج لا ينتفع من نسجه بحرير لأنه يقطع طاقاته. وعند خروجه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 297 يهيج للسفاد فيلصق الذكر ذنبه بذنب الأنثى ويلتحمان ساعة زمانيّة ثم يفترقان، وتنثر الأنثى البزر على الصفة التى ذكرناها على خرق بيض تكون قد فرشت له. فإذا نفد ما فيهما من السفاد والبزر ماتا. هذا إذا أريد من الدود البزر. وإذا أريد منه الحرير ترك ذلك النسج فى الشمس بعض يوم فيموت. وقد جعله بعض الشعراء مثلا للحريص على جمع المال، فقال: يفنى الحريص لجمع المال مدّته ... وللحوادث والورّاث ما يدع كدودة القزّ ما تبنيه يهلكها ... وغيرها بالذى تبنيه ينتفع وهو كثير العوارض. وأكثر ما يعرض له الفساد إذا اطعم ورق التّوت الحامض. ويهلك من صوت الرعد وضرب الطّست والهاون، ومن رائحة الخلّ والدّخان. وكثرة الحرّ تهلكه وتذيبه؛ وكذلك البرد الشديد فإنه يبطئ به. ويؤذيه مسّ الجنب والحائض، ويخشى عليه من الفأر والعصفور والنمل والوزغ. وأمّا الذّباب وما قيل فيه - فقد ضرب الله عزّ وجلّ به المثل فقال تعالى: (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) . فهذا مثل ضربه الله تعالى لضعف الناس وعجزهم عن الإتيان بمخلوق. وجاء فى الحديث: «إذا سقط الذّباب فى طعام أحدكم أو شرابه فليغمسه فإنّ فى أحد جناحيه داء وفى الآخر شفاء» . ويقال: إنه يغمس جناح الداء ويرفع جناح الشفاء، فلهذا ندب إلى غمسه. والعرب تجعل النحل والفراش والدّبر من الذّباب. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 298 قال الجاحظ: «والذباب ضروب سوى ما ذكروا «1» من الفراش والنحل والزّنابير» ؛ فمنها الشّعراء «2» . قال الراجز «3» : ذباب شعراء ونبت مائل «4» وللكلاب ذباب على حدة يتخلّق منها فلا يريد سواها. ومنها ذباب الكلأ والرّياض؛ وكلّ نوع منها يألف ما خلق منه» . ومنها الذّباب الذى يقتل الإبل وهو أزرق. والذّباب الذى يسقط على الدّوابّ وهو أصفر. ويقال: إنّ الذّباب يكثر إذا هاجت ريح الجنوب وإنّه يخلق فى تلك الساعة؛ وإذا هبّت ريح الشمال خفّ وتلاشى. وهو من ذوات الخراطيم، وكذلك البعوض. ويقال: إنّ الذّباب لا يعمّر أكثر من أربعين يوما. قال الجاحظ: «وليس بعد أرض الهند أكثر ذبابا من واسط «5» ، وربّما رأيت الحائط وكأنّ عليه مسحا شديد السواد من كثرة [ما عليه من «6» ] » الذباب. ويقال: إن اللّبن إذا ضرب بالكندس «7» ونضح به بيت لم يدخله ذباب. ومن عجيب أمر الذباب أنّه يلقى رجيعه على الشىء الأبيض أسود وعلى الأسود الجزء: 10 ¦ الصفحة: 299 أبيض. ويقال: إنه لا يظهر إلّا فى «1» مواضع العفونات والقاذورات، ومبتدأ خلقه منها، ثم يكون من السّفاد. قال الجاحظ: ويقال: إنّ الذّباب لا يقرب قدرا فيه كمأة. والذّباب بطئ فى سفاده، وربّما بقى الذّكر على ظهر الأنثى عامّة النّهار؛ فهو يتجاوز فى ذلك البعير والخنزير. وهو من الحيوان الشّمسى لأنه يخفى فى الشتاء ويظهر فى الصيف. وللذّباب يدان زائدتان فى مقدّم يديه يتّقى بهما الأذى عن عينيه فإنهما بغير أجفان. والعرب تضرب به المثل فى الزّهو فتقول: «أزهى من ذباب» . قالوا: لأنّه يسقط على أنف الملك الجبّار وعلى موق عينيه ويطرده فلا ينطرد. ويضرب به المثل فى القذر واستطابة النّتن. فإذا عجز الذّباب عن شمّ شىء فلا شىء أنتن منه. وقال ابن عبدل فى محمد بن حسّان بن سعد ورماه بالبخر: وما يدنو إلى فيه ذباب ... ولو طليت مشافره بقند «2» يرين حلاوة ويخفن موتا ... ذعافا إن هممن له بورد ويقال لكلّ أبخر: أبو ذبّان؛ وكانت من كنى عبد الملك بن مروان. وقد وصف الشعراء الذّباب؛ فمن ذلك قول عنترة: جادت عليها كلّ عين ثرّة ... فتركن كلّ حديقة «3» كالدّرهم فترى الذّباب بها يغنّى وحده ... هزجا كفعل الشارب المترنّم غردا يحكّ ذراعه بذراعه ... فعل المكبّ على الزّناد الأجذم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 300 وقال العسكرىّ وجمع بين البراغيث والبعوض والذّباب: وبدا فغنّانى البعوض تطرّبا ... فهرقت كأس النوم إذ غنّانى ثم انبرى البرغوث ينقط أضلعى ... نقط المعلّم مشكل القرآن حتى إذا كشف الصباح قناعه ... قرأت لى الذّبّان بالألحان وأمّا البعوض وما قيل فيه - والبعوض صنفان: صنف يشبه القراد، لكن أرجله خفيّة ورطوبته ظاهرة، يسمّى بالعراق والشأم «الجرجس» و «الفسافس» ، وبمصر «البقّ» . ويشمّ رائحة الإنسان ويتعلّق به. وله لسع شديد. ولدمه إذا قتل رائحة كريهة. ويقال: إنّه يتولّد من النّفس الحارّ [ولشدّة رغبته فى الإنسان لا يتمالك إذا شمّ رائحته، فإذا كان فى السقف رمى بنفسه عليه فلا يخطئه «1» ] . وهذا الصنف ليس من الطير. والصنف الثانى طائر ويسمّيه أهل العراق «البقّ» و «البعوض» . ويسمّيه أهل مصر «الناموس» . وهو يتولّد من الماء الراكد، فإذا صار الماء رقراقا استحال دعاميص «2» ، ثم تستحيل الدعاميص فراشا. والبعوض فى خلقة الفيل إلّا أنّه أكثر منه أعضاء، فإنّ للفيل أربع أرجل وخرطوما وذنبا، وله مع هذه الأعضاء يدان زائدتان وأربعة أجنحة. وخرطوم البعوض [أجوف «3» ] نافذ الخرق؛ فإذا طعن به جلد الإنسان استقى به الدّم وقذف به إلى جوفه. وفيه من الشّره أن يمتصّ من دم الإنسان إلى أن ينشقّ ويموت، أو يمتصّ إلى أن يعجز عن الطيران. ومن عجيب أمره أنه ربّما قتل البعير وغيره من ذوات الأربع، فيبقى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 301 طريحا فى الصحراء فيجتمع حوله السّباع والطير التى تأكل الجيف، فمن أكل منها منه مات لوقته فى موضعه. ويقال: إنّ بعض جبابرة الولاة بالعراق كان يقتل بالبعوض، فيأمر بمن يريد قتله أن يجرّد من ثيابه ويربط ويخرج إلى بعض الآجام التى بالبطائح فيوجد فى أسرع وقت عظاما عارية من جلد ولحم. وقال الجاحظ: بعوض البطائح كجرّارات «1» الأهواز وعقارب شهرزور. وربّما ظفر بالسكران النائم فلا يبقى فيه إلّا العظام العارية. وقد أكثر الشعراء فى وصف البعوض؛ فمن ذلك قول فرج بن خلف الأندلسىّ: بعوض جعلن دمى قهوة ... وغنّيننى بصنوف الأغان «2» كأنّ عروقى أو تارهنّ ... وجسمى الرّباب وهنّ القيان «3» وقال آخر: إذا البعوض زجلت أصواتها ... وأخذ اللّحن مغنّياتها لم تطرب السامع خافضاتها ... وأرّق العينين رافعاتها صغيرة كبيرة أذاتها ... تنفضّ عن بغيتها بغاتها ولا يصيب أبدا رماتها ... رامحة خرطومها قناتها وقال أبو هلال العسكرىّ: غناء يسخن العين ... وينفى فرح القلب ولا يأتى على الزّمر ... ولا يجرى مع الضرب غناء البقّ باللّيل ... ينافى طرب الشّرب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 302 إذا ما طرق المرء ... جرى فى طلق الكرب إذا ما نقب الجلد ... ة أخفى أثر النّقب سوى حمر خفيّات ... تحاكى نقط الكتب وأمّا البراغيث وما قيل فيها - والبرغوث أسود أحدب. وهو من الحيوان الذى لا يمشى؛ وإنما أوردناه مع ذى الجناح لأنه ذو وثب لا يقصر عن الطيران؛ ومنه أيضا ما يمشى ولا يثب. وقالوا: إنه يطيل السّفاد، ويبيض ويفرّخ. وأصله متولّد من التراب فى المواضع المظلمة. وهو يكثر ويستطيل ويؤذى فى أواخر الشتاء وفصل الربيع. وإذا اشتدّ عليه الحرّ هلك. ومن جناس الكلام فيه قولهم: أذى البراغيث إذا البرى غيث. يعنون بالبرى التراب إذا نزل عليه المطر. والبرغوث يكمن بالنهار ويظهر بالليل. ويشتدّ أذاه للإنسان إذا أخذ مضجعه. وهو يطول لبثه بمصر؛ ولا يوجد فى البلاد الحارّة مثل صعيد مصر ولا فى البلاد الشديدة البرد. وقد أكثر الشعراء فى وصف البراغيث وأفعالها؛ فمن ذلك قول أبى الرّمّاح الأسدىّ وكان قد سكن مصر: تطاول بالفسطاط ليلى ولم أكن ... بحنو الغضى ليلى علىّ يطول يؤرّقنى حدب صغار أذلّة ... وإنّ الذى يوقظنه لذليل إذا ما قتلناهنّ أضعفن كثرة ... علينا ولا ينعى لهنّ قتيل ألا ليت شعرى هل أبيتنّ ليلة ... وليس لبرغوث إلىّ سبيل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 303 وقال العسكرىّ من أبيات: ومن براغيث تنفى النوم عن بصرى ... كأنّ جفنىّ عن عينى قصيران يطلبن منّى ثأرا لست أعرفه ... إلّا عداوة سودان لبيضان وقال أبو [الحسن أحمد بن «1» ] أيّوب البصرى المعروف بالناهى: لا أعذل الليل فى تطاوله ... لو كان يدرى ما نحن فيه نقص لى فى البراغيث والبعوض إذا ... يلحفنا حندس الظلام قصص إذا تغنّى بعوضه طربا ... ساعد برغوثه الغنا فرقص وقال عبد المؤمن بن هبة الله الأصبهانىّ: بات البراغيث فى الفراش معى ... تقسمنى قسمة المواريث أكلننى بعد ما شربن دمى ... فمن مغيثى من البراغيث وقال أيضا فيها: إنّ البراغيث إذا ساورت ... من كنّها ترقص أو تقرص وكلّما غنّت بعوض لها ... فهى على شرب دمى أحرص تقفز من ثم إلى هاهنا ... كأنها زنجيّة ترقص وقال عبد الله بن عبد الرحمن الدّينورىّ: وحمش القوائم حدب الظهور ... طرقن فراشى على غرّة وينقطننى بخراطيمهنّ ... كنقط المصاحف بالحمرة وقال ابن المعتزّ: وبراغيث إن ظفرن بجسمى ... خلت فى كلّ موضع منه خالا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 304 وأمّا الحرقوص وما قيل فيه - فقد ذكره الجاحظ فى كتاب الحيوان فقال: وزعموا أنه دويبّة أكبر من البرغوث؛ وأكثر ما ينبت لها جناحان بعد حين. وعضّة الحرقوص أشدّ من عضّة البرغوث. قالوا: والحرقوص يسمّى النّهيك. وأكثر ما يعضّ أحراح النساء وخصى الرجال. قال أعرابى وقد عضّ الحرقوص خصيتيه: لقد منع الحراقيص القرارا ... فلا ليلا نقرّ ولا نهارا يغالبن الرجال على خصاهم ... وفى الأحراح دسّا وانجحارا وقالت امرأة تشير إلى زوجها: يغار من الحرقوص إن عضّ عضّة ... بفخذىّ منها ما يجذّ غيور «1» لقد وقع الحرقوص منّى موقعا ... أرى لذّة الدّنيا إليه تصير الجزء: 10 ¦ الصفحة: 305 الباب السابع من القسم الخامس من الفن الثالث فى أنواع الأسماك قال ابن أبى الأشعث: السمك يستنشق الماء بأصداغه فيقوم له مقام الهواء للإنسان. والسمك كلّه شره كثير الأكل، وحاسّة السمع والشمّ فيه أقوى منها فى الإنسان. واستدلّ على ذلك بأدلّة يطول شرحها. وحاسّة البصر فيه ليست كالسمع والشمّ وإنما أضعف. ولسانه غليظ قصير شبيه باللسان وليس لسانا. وله أضراس ليست للمضغ عليها وإنما لقتل ما يفترسه من حيوان الماء، ويفرغ فيه سمّا يكون سببا لقتله. وصغار السمك تحترز من كباره بأن تطلب الماء القليل. الذى لا يحمل الكبار. واختلف الناس فى سفاد السمك، فالأكثر على أنه يسفد مثل الحيّة. وقال الجاحظ: وفى السمك القواطع والأوابد كالطير. ومن أصناف السمك ما هو فى شكل الحيّات. قال: وهى إما أن تكون كانت برّيّة أو جبليّة فاكتسحتها السيول وألقتها فى الماء الدائم فتوالدت فيه؛ وإما أن تكون أمهاتها وآباؤها من دوابّ الماء. وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا فى الأدوية المفردة: أفضل السمك فى جثّته ما كان ليس بكبير جدّا ولا صلب اللحم ولا يابسه، لا دسومة فيه كأنه يتفتّت، والذى لا مخاطيّة ولا سهوكة فيه وطعمه لذيذ، فإن اللذيذ مناسب، وما هو دسم دسومة غير مفرطة ولا غليظة ولا شحميّة ولا حرّيفة، والذى لا يسرع إليه النّتن إذا فصل عن الماء. ويختار من السمك الصّلب اللحم ما هو أصغر، ومن الرّخص الجزء: 10 ¦ الصفحة: 306 اللحم ما هو أكبر إلى حدّ ما. وصلب اللحم مملوحا خير منه طريّا. وأمّا فى الأجناس فالشبابيط أفضلها، ثم البنّىّ، والبياح «1» البحرىّ لا بأس به. وأما فى مأواه «2» فالذى يأوى الأماكن الصخريّة ثم الرمليّة والمياه العذبة الجارية التى لا قذر فيها ولا حمأة وليست بطيحيّة «3» ولا نزّيّة ولا من البحيرات الصغار التى لا تسقيها الأنهار ولا فيها عيون. قال: والسمك البحرىّ محمود لطيف؛ وأفضل أصنافه الذى لا يكون إلا فى البحر واللّجة. والذى يأوى ماء مكشوفا ترفرف الرّياح عليه أجود من الذى بخلافه. والذى يأوى ماء كثير الاضطراب والتموّج أجود من الذى يأوى الماء الراكد. والسمك البحرىّ لطيف اللحم لا سيما إذا كان مأواه فى الشطوط صخرا أو رملا؛ والذى يصير من البحر الى أنهار عذبة يعارض جرية الماء بالطبع لطيف كثير الرّياضة. وأمّا غذاؤه، فالذى يغتذى بالحشيش وأصول النبات خير من الذى يغتذى الأقذار التى تطرح من البلاد إلى المستنقعات. وأفضل ما يؤكل السمك اسفيدباجا «4» ثم المشوىّ على الطّابق. وأما المقلىّ. فيصلح لأصحاب المعد القويّة ومعه الأبازير «5» . والمشوىّ أغذى وأبطأ نزولا، والمطبوخ بالضدّ. وأفضل طبيخه أن يطبخ الماء حتى يغلى ثم يلقى فيه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 307 وأمّا المالح، فخيره ما كان طريّا قريب العهد بالتمليح. وأحمده الممقور «1» بالخلّ والتّوابل. وأمّا طبعه، فجميع السمك بارد رطب، لكن بعضه أسخن بالقياس إلى مزاج السمك مثل الكوسج «2» والمارماهيج «3» . وأمّا أفعاله وخواصّه، فالطّرىّ منه يولّد البلغم المائىّ مرخ للأعصاب، غير موافق إلا للمعدة الحارّة جدّا. قال: وجلد السمك المعروف «بسيفيانوس» «4» فى ناحية بيت المقدس إن ذرّ رماد جلده فى عيون «5» المواشى أذهب بياضها. والمالح من أصناف السمك يخرج السّلّاء «6» من المناشب «7» . قال: ورأس «سماريس» «8» محرقا يقلع اللحم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 308 الزائد فى القروح ويمنع سعتها ويقلع الثآليل «1» واليوث «2» . وماء السمك المالح ينفع من القروح العفنة ويغسلها. قال: واذا احتقن بسلاقة المالح مرارا نفع من وجع الورك. والسمك الصغار الذى تسمّيه أهل الشام «3» ومصر «الصّير» إذا تمضمض صاحب القلاع «4» الخبيث بالمرّىّ «5» الذى يتّخذ منه نفعه. و «الرّعّاد» الحىّ إذا قرّب من رأس المصدوع أخدره [عن الحسّ «6» بالصداع] . قال: وجلد «سيفيانوس» تحكّ به الأجفان الجربة فينفع، وجلده المحرق أيضا يدخل فى أدوية العين؛ ويذهب «7» الاكتحال به مع الملح الظّفرة «8» ، وأكله مقليّا «9» يورث غشاوة العين بل جميع السمك؛ ورءوس الجزء: 10 ¦ الصفحة: 309 السّمكات المملوحة المجفّفة تنفع اللهاة «1» الوارمة، وعلاج جيّد من شقاق المقعدة «2» . وغراء السمك يلقى فى الأحساء فينفع نفث الدّم. قال: وحوصلة سيفيانوس تليّن البطن مع صعوبة انهضامها. قال: ورأس المالح [من «3» ] سماريس محرقا يجعل على عضّة الكلب الكلب ولسعة العقرب فينفع ذلك، وكذلك كلّ سمكة. ومرقة كلّ سمك تنفع من السموم المشروبة والنّهوش. قال: [والسمك «4» ينفع من عسر النّفس والرّبو واليرقان ويسهّل البلغم وينفع من خناق الرّحم] . وقد وصف الشعراء السمك فى أشعارها؛ فمن ذلك قول ابن الرّومى يخاطب رئيسا «5» ويستدعى منه سمكا: عسرت علينا دعوة «6» السّمك ... أنّى وجودك ضامن الدّرك اعلم وقيت الجهل أنك فى ... قصر تلته مطارح الشّبك وبنات «7» دجلة فى فنائكم ... مأسورة فى كلّ معترك الجزء: 10 ¦ الصفحة: 310 بيض كأمثال السبائك بل ... مشحونة بالشحم كالعكك «1» حسنت مناظرها وساعدها ... طعم كحلّ معاقد التّكك فليصطد الصيّاد حاجتنا ... يصطد مودّتنا بلا شرك وقال أبو الفتح كشاجم: ومحجوبة بالماء عن كل ناظر ... ولكنها فى حجبها تتخطّف أخذنا عليهنّ السبيل بأعين ... رواصد إلّا انّها ليس تطرف فجئنا «2» بها بيض المتون كأنّها ... خناجر فى أيماننا تتعطّف وقال أبو عبادة البحترىّ وذكر بركة: لا يبلغ السمك المقصور «3» غايتها ... لبعد ما بين قاصيها ودانيها يعمن فيها بأوساط مجنّحة ... كالطير تنفض فى جوّ خوافيها وقال أبو طالب المأمونىّ فى المقلىّ منه: ماويّة فضيّة لحمها ... ألذّ ما يأكله الآكل يضمّها من جلدها جوشن «4» ... مذيّل «5» فهو لها شامل لوّنت من فضّتها عسجدا ... بالقلى لما ضافنى نازل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 311 وقال أيضا: مائيّة فى النار مصليّة» ... يصبغ من فضّتها عسجد كأنّما جلدتها جوشن ... مزرفن «2» الصّنعة أو مبرد وقال عطاء بن يعقوب يصف سمكة من رسالة يستدعى بها صديقا، جاء منها: «قد أهدى لنا صديق سمكه، قد لبست من جلدها شبكه؛ تشبه حملا شكلا وقدّا، أو جرابا قد امتلأ زبدا؛ كأنها أرادت أن تحارب نجم السّماك، أو حوت الأفلاك؛ فلبست من جلدها جوشنا مزرّدا «3» . وسلّت من ذنها سيفا مجرّدا» . وقال خالد بن صفوان ليزيد بن المهلّب يصف سمكا: «أتيت ببنات بيض البطون، زرق العيون، سود المتون، حدب الظهور، معقّفات الأذناب، صغار الرءوس، غلاظ القصر «4» ، عراض السّرر» . هذا ما اتفق إيراده فى السمك المطلق. فلنذكر أصنافا من أنواع الأسماك. ذكر شىء من أنواع الأسماك وأنواع الأسماك كثيرة جدّا، منها ما يعرفه الناس، ومنها ما لم يعرفوه، ومنها ما يكون فى أماكن من البحار دون غيرها. وقد ذهب بعضهم أنّ كلّ حيوان الجزء: 10 ¦ الصفحة: 312 فى البرّ يكون مثله فى البحر. فلنورد فى هذا الفصل ما أمكن إيراده، وهو الدّلفين، والرّعّاد، والتّمساح، والسّقنقور، والسّلحفاة، واللّجأة، والفرس النهرىّ، والجند بيدستر والقندس «1» ، والقاقم، والضّفادع، والسّرطان، وشىء من عجائب الحيوان المائىّ، على حكم الاختصار حيث تعذّر الاستيعاب. فأمّا الدّلفين - وهو كالزّق المنفوخ، وله رأس صغير جدّا. وهو يوجد فى بحر النيل يقذفه البحر الملح إليه. ويقال: ليس فى دوابّ البحر ماله رئة «2» غيره؛ فلذلك يسمع له التنفّس والنّفخ، وهو إذا ظفر بالغريق كان أقوى الأسباب فى نجاته؛ فإنه لا يزال يدفعه الى البرّ [حتى ينجيه «3» ] . وهو من أقوى الدوابّ المائيّة. ولا يؤذى ولا يأكل غير السمك. وربما ظهر على وجه الماء وهو نائم كالميّت. وهو يلد ويرضع. وأولاده تتبعه حيث ذهب؛ ولا يلد إلّا فى الصيف. وفى طبعه الأنس بالناس وخصوصا الصبيان. وإذا صيد جاءت الدّلافين لقتال صائده، فإذا أطلقه لها انصرفت. وأهل المراكب فى البحر الفارسىّ اذا رأوه استبشروا به وأيقنوا ببلوغ الأرب سيّما الغزاة. وأمّا الرّعّاد - ويكون فى نيل مصر، ولم أسمع به فى غيره. وفيه من الخاصيّة أنه لا يستطيع أحد من الناس أن يمسّه. ومتى وضع الانسان يده عليه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 313 نزعها بحركته وصاح صيحة منكرة ربما دهش الإنسان لها؛ ويجد الرجل فى فؤاده خفقانا من ذلك. وهو متى وقع فى شبكة الصيّاد ارتعدت يداه عند إخراج الشبكة من الماء أو جذب الحبل، فيعلم أنه قد وقع له السمك الرّعّاد. وأمّا التّمساح - وهو أيضا لا يكون إلا فى نيل مصر؛ وزعم قوم أنه يوجد فى مهران «1» السّند، لزعمهم أنه من النيل. وهو شديد البطش فى الماء. وهو يعظم إلى أن ينتهى فى الطول إلى عشرين ذراعا فى عرض ذراعين. ويفترس الفرس والإنسان. ولا يقوى على قتاله من الحيوان إلّا الجاموس. وله يدان ورجلان وذنب طويل يضرب به ويلفّ. وهو لا يصاد إلّا أن يضرب فى إبطيه، ومنهما مقتله. ويقال: إنه إذا أراد السّفاد خرج هو والأنثى إلى البرّ فيقلبها على ظهرها ويستبطنها؛ فإذا فرغ قلبها لأنها لا تتمكّن من الانقلاب لقصر يديها ورجليها ويبس ظهرها. وهى تبيض فى البرّ، فما وقع فى الماء صار تمساحا وما بقى فى البرّ صار سقنقورا. والتّمساح يحرّك فكّه الأعلى دون الأسفل، ولسانه معلّق به. ويقال: إنه ليس له مخرج، وإنّ جوفه إذا امتلأ خرج إلى البرّ وفتح فمه فيجىء طائر صغير أرقط فينقر بمنقاره ما فى جوفه ويخرجه، وذلك غذاء الطائر وراحة للتمساح. وفى رأس هذا الطائر شوكة فإذا غلّق «2» التمساح فمه عليه نخسه بها فيفتحه. ويقال: إن للتمساح ستين سنّا وستين عرقا، ويسفد ستين مرّة، ويبيض ستين بيضة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 314 ويوجد فى جلده ممّا يلى بطنه سلعة «1» كالبيضة فيها رطوبة لها رائحة كالمسك، وتنقطع رائحتها بعد أشهر. ووصفه شاعر فقال: وذى هامة كالتّرس يفغر عن فم ... يضمّ على مثل الحسام المثلّم ويفترّ عن مثل المناشير ركّبت ... على مشفر مثل القليب المهدّم مشى فى شواة من فقارة غيلم ... وسقّف «2» لحيا عن مناكب شيهم وأمّا السّقنقور - ويسمى الحرذون البحرىّ. ويقال: إنه ورل مائىّ. ومنه ما هو مصرىّ، وما هو هندىّ، وما يتولّد فى بحر القلزم وببلاد الحبشة. وهو يغتذى فى الماء بالسمك وفى البرّ بالقطا. وأنثاه تبيض عشرين بيضة وتدفنها فى الرّمل، فيكون ذلك حضنها. وجلده خشن مدبّج بالسواد والصفرة. وهو إذا عضّ إنسانا وسبقه الإنسان إلى الماء فاغتسل منه مات السقنقور؛ وإن سبق السقنقور الإنسان إلى الماء مات الإنسان. وبين السقنقور وبين الحيّة عداوة عظيمة، متى ظفر أحدهما بصاحبه قتله. وقال الشيخ الرئيس: أجود السقنقور ما صيد فى الرّبيع وقت هيجانه. وأجود أعضائه السّرّة. وهو ينفع من العلل الباردة فى العصب. وملحه يهيج الباه فكيف لحمه، وخصوصا لحم سرّته وما يلى كليتيه وخصوصا شحمها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 315 وأمّا السّلحفاة واللّجأة - يقال: إنّ اللّجأة تبيض فى البرّ، فما أقام به سمّى سلحفاة، وما وقع فى البحر سمّى لجأة. فأمّا ما يبقى فى البرّ فإنه يعظم حتى لا يكاد الرجل الشديد يحمله. وقد رأيت فى سنة سبع وسبعمائة بالقاهرة المعزّيّة سلحفاة تحمل الرجل وتمشى به وهو قائم على ظهرها. وما ينزل البحر يعظم حتى لا يكاد الحمار يحمله؛ وربما وجد منها ما زنته أربعمائة رطل. وتبيض أنثاه أربعمائة بيضة. وهى تحضن بيضها بالنظر إليه والرّصد له لا غير. وللذّكر نزكان وللأنثى فرجان. والذكر يطيل المكث فى السّفاد. والعرب تكنيها «أمّ طبق» . ويزعمون أنها تبيض تسعا وتسعين بيضة، وتبيض تمام المائة بيضة يخرج منها أسود (أى ثعبان) . وهو مولع بأكل الحيّات؛ وإذا أكل الأفعى أكل صعترا جبليّا؛ فإذا أكثر من أكل الحيّات والصّعتر هلك. وله تحيّل فيما يصيده من الطائر، وهو أنه يصعد من الماء ويتمرّغ فى التراب ويأتى موضعا قد سقط الطير عليه ليشرب، فيخفى على الطير بكدرة لونه التى اكتسبها من الماء والتراب، فيصيد منها ما يكون له قوتا ويدخل به الماء فيموت الطائر فيأكله. ووصفها شاعر فقال: وسلحفاة سمج ... سكونها والحركه شبّهتها بديلم ... ىّ ساقط فى معركه مستتر بترسه «1» ... عمّن عسى أن يهلكه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 316 وقال أبو بكر الخوارزمىّ يصف لجأة: بنت ماء بدت لنا من بعيد ... مثل ما قد طوى البحارىّ؟؟؟ «1» سفره رأسها رأس حيّة وقراها «2» ... ظهر ترس وجلدها جلد صخره مثل فهر «3» العطّار دقّ به العط ... ر فحلّت «4» طرائق الطّيب ظهره يقطع الخوف رأسها فإذا ما ... أمنته فرأسها مستقرّه وقال آخر: لحى الله ذات فم أخرس ... تطيل من العىّ وسواسها تكبّ على ظهرها ترسها ... وتظهر من جلّها فاسها «5» إذا الحذر أقلق أحشاءها ... وضيّق بالخوف أنفاسها تضمّ الى نحرها كفّها ... وتدخل فى جوفها راسها وأمّا الفرس النّهرىّ - وهو عظيم الجثة، وخلقه خلق الفرس، إلا أنّ وجهه أوسع؛ وله أظلاف كالبقرة؛ وذنبه مثل ذنب الخنزير؛ وصوته يشبه صوت الفرس. وهو لا يوجد إلّا فى نيل مصر. وهو يخرج من الماء الى البرّ، ويرعى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 317 الزرع. واذا قصد الزرع لا يبتدئ من أوّله، ولكنه يجوز منه قطعة بقدر ما يأكل ويبتدئ منها بحيث يكون وجهه إلى البحر. وهو يقتل التمساح ويقهره. وأهل الديار المصريّة إذا رأوا أثر حافره فى البرّ تباشروا بزيادة النيل وكثرة الخصب. وفى سنة اثنتين وسبعمائة طلع الفرس النهرىّ إلى البرّ بالجيزة وأبعد عن البحر، فتحيّل عليه وقتل. وأهل النّوبة يصيدونه كثيرا، ويتّخذون من جلده سياطا يسوقون بها الإبل. وأمّا الجند بيدستر - وهو السّمّور، ويسمى «كلب الماء» . ولا يوجد إلا ببلاد القفجاق «1» وما يليها. وهو على هيئة الثعلب، أحمر اللّون، لا يدان له، وله رجلان وذنب طويل، ورأسه كرأس الإنسان، ووجهه مستدير. وهو يمشى متّكئا على صدره كانه يمشى على أربع، وله أربع خصى: ثنتان ظاهرتان وثنتان باطنتان. وهو إذا رأى الصيّادين يجدون فى طلبه لأجل الجند بيدستر، وهو خصيتاه الظاهرتان، قطعهما بفيه ورمى بهما إليهم؛ إذ لا حاجة لهم إلا بهما. فإن لم يرهما الصيّادون وداموا فى الجدّ فى طلبه استلقى على ظهره ليريهم الدّم، فيعلمون أنه قطعهما فينصرفون عنه. وهو إذا قطع الظاهرتين ظهر الباطنتان وعوّض عنهما غيرهما. وفى داخل الخصية شبه الدّم أو العسل زهم الرائحة سريع التّفرّك إذا جفّ. ويقال: إنه يوكّر «2» على الأرض ويولد «3» عليها ويرعى فيها، ويهرب إلى الماء ويعتصم به؛ ويمكنه أن يلبث فى قعره حابسا لنفسه زمانا ثم يخرج [الى الهواء «4» ] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 318 وأمّا حيوان القندس «1» والقاقم - فالقندس يغتذى بالسمك والنّبات. ويقال: إنّ فيه سادة وعبيدا؛ وإنه يتّخذ مساكن مرتّبة على ترتيب مساكن الناس. والسادة يتّخذون فى بيوتهم صففا «2» مرتفعة يكونون عليها، وفى أسفلها مواضع للعبيد، ولبيوتهم أنفاقا إلى البرّ وأبوابا إلى النهر. وبعض هذا الحيوان يغير على بعض. والسادة لا تتكسّب، وإنما يتكسّب لها العبيد. ويعرف جلد السيّد من جلد العبد بحسن لونه وبصيصه «3» . وأهل تلك البلاد يسلخون خراطيم القندس والسّمّور ويتعاملون بها كما يتعامل بالدّنانير والدراهم بحيث يكون عليها ختم الملك. وجلد هذا الحيوان هو الذى يعمل شرابيش «4» الأمراء وأطواق التّشاريف ودوائرها. والقاقم: حيوان يشبه السّنجاب إلّا أنه أبرد منه وأرطب؛ ولهذا هو أبيض يقق. وهو يجلب من بحر الخزر. وجلده يشبه جلد الفنك «5» . وأما الضفادع - وهى أصناف كثيرة، تكون من سفاد وغير سفاد. وهى تبيض فى البرّ وتعيش فى الماء. والذى من غير سفاد يتولّد من المياه الضعيفة، ومن العفونات، وغبّ الأمطار الغزيرة، حتى يتوهّم المتوهّم أنه يسقط من السّحاب لكثرة ما يرى منه على الأسطحة عقيب المطر. ويقال: إنه يخلق فى تلك الساعة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 319 والضّفدع من الحيوان الذى لا عظم له. وفيه ما ينقّ. وما ليس ينقّ. وليس صوت ما ينقّ من فيه ولكنه من جلود رقاق تكون إلى جانب أذنيه؛ فإذا أراد النقيق انفتحت فيخرج الصوت منها. وهى تنطبق فى زمن الشتاء فلا تنفتح حتى يعتدل الجوّ. قال الجاحظ: والضّفدع لا يصيح ولا يمكنه الصياح حتى يدخل حنكه الأسفل الماء، فإذا صار فى فيه بعض الماء صاح؛ ولذلك لا تسمع للضفادع نقيقا إذا كنّ خارجات من الماء. قال: والضفادع تنقّ، فإذا أبصرت النار أمسكت. وتوصف بحدّة السمع إذا كانت خارج الماء. ويضرب بها المثل فى السمع والحذر، فيقال: «أحذر من ضفدع» و «أسمع من ضفدع» . وقال شاعر يصف الضفادع: ومقعدات زانهنّ أرجل ... كقعدة الناكح حين ينزل يكسين وشيا وعيون تكحل وقال آخر: دعتك فى فاضة «1» مدنّرة ... ليس لها طرّة ولا هدب قد نسجت من زبرجد فجرى ... بين تضاعيف نسجها الذّهب يظلّ صمتا نهاره فإذا ... أدركه الليل بات يصطخب وهو وإن لم يغطّ مقلته ... جفن ولا امتدّ خلفه ذنب يعجبنى ما أراه منه ففى ... خلقته واختلافها عجب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 320 وأمّا السّرطان وما قيل فيه - وهو ذو فكّين ومخالب وأظفار حداد، كثير الأسنان، صلب الظّهر، سريع العدو، وعيناه على كتفيه، وفمه فى صدره، وفكّاه مشقوقان من جانبين. وله ثمانى أرجل. وهو يمشى على جانب واحد؛ ويستنشق الماء والهواء معا. وهو يسلخ جلده فى السنة ستّ مرات. ويتّخذ بجحره بابين، أحدهما إلى الماء والثانى إلى البرّ. فإذا سلخ جلده سدّ عليه ما يلى الماء خوفا من السمك وترك ما يلى البرّ مفتوحا؛ فإذا جفّت رطوبته واشتدّ، فتح ما يلى الماء وطلب معاشه. قال شاعر يصفه: فى سرطان الماء أعجوبة ... ظاهرة للخلق لا تخفى مستضعف المنّة لكنّه ... أبطش من حاربته كفّا يسفر للناظر عن جملة ... متى مشى قدّرها نصفا وقال أبو عبيد «1» البكرىّ فى كتابه المترجم بالمسالك والممالك: إنّ ببحر الصين سرطانات تخرج كالذراع والشبر، فإذا صارت الى البرّ عادت حجارة وانقلبت عن الحيوانيّة؛ والأطباء يتخذون منها كحلا يجلو البياض. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 321 ذكر شىء من عجائب الحيوان المائى ّ وعجائب البحر كثيرة جدّا لا يستغرب ما نذكر منها؛ ولذلك قيل: «حدّث عن البحر ولا حرج» . وقد حكى صاحب كتاب مباهج الفكر ومناهج العبر فى كتابه، قال: رأيت فى بعض المجاميع المجهولة أنّ فى بعض البحار شاة شعراء تكون فى البرّ مع البهائم حين الرّعى؛ فإذا فرغت من رعيها عادت إلى الماء، وتأكل السمك. قال: وذكر لها خواصّ. قال: وذكر بعضهم دابّة سمّاها «خزّ الماء» ولم يسمّ المكان الذى تكون فيه، وقال: إنها مثال ابن عرس أو أكبر قليلا، سباحتها فى الماء كجريها فى البرّ، لها وبر ناعم تعمل منه ثياب الخزّ، وهذا الوبر موجود تأتى به التّجّار من البحر الرومىّ يباع بالقاهرة، ويسمّونه صوف السمك؛ وهو أخضر اللّون؛ ويقال: إنه إذا طلع من البحر يكون أبيض يققا، فإذا صار إلى البرّ وأصابه النسيم انقلب إلى الخضرة. وهم يغزلونه ويلحمون به الثياب المسداة بالحرير، وقيمته لا تقصر عن قيمة الحرير وربما يزيد عليه. وأرخص ما ابتعته أنا حسابا عن وزن كلّ مائة درهم أربعين درهما. وبه تخنق الأفاعى بمصر، تفتل منه خيوط تسمّى إذا خنق بها الأفاعى حبال الخناق، لها نفع فى تحليل مرض الخناق. ويقال: إن ببحر الرّوم- وربما بغيره أيضا- حيوانا يسمّونه «بنات الماء» يشبهن «1» النساء، لهنّ شعور سباط «2» ، ألوانهنّ إلى السّمرة، ذوات فروج عظام وثدىّ، ولهنّ قهقهة وضحك وكلام لا يفهم؛ وربما يقعن لأصحاب المراكب وغيرهم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 322 فينكحونهنّ فيجدون لنكاحهنّ لذّة عظيمة ثم يعيدونهنّ إلى البحر. وفى البحر أيضا أمثال الرجال، يقال: إنّهم يظهرون [بالإسكندريّة «1» و] بالبرلس ورشيد فى صورة الإنسان بجلود لزجة، لهم بكاء وعويل إذا وقعوا فى أيدى الناس؛ [وذلك أنهم ربما برزوا عن البحر إلى البرّ يتشمّسون فيقع بهم الصيّادون «2» ] ؛ فإذا سمع الناس بكاءهم أطلقوهم رحمة لهم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 323 الباب الثامن وهو الذيل على القسم الخامس من الفن الثالث [ويشتمل «1» هذا الباب] على ذكر شىء مما وصفت به آلات الصيد فى البرّ والبحر ووصف رماة البندق، وما يجرى هذا المجرى. ذكر شىء مما قيل فى رماة البندق - ومما وصفت به الجلاهق «2» وهو قسىّ البندق. من ذلك ما كتب به أبو إسحاق الصّابى من رسالة إلى [أبى الفرج «3» ] محمد بن العباس [بن فسابخش «4» ] ، جاء منها: «أقبلت رفقة الرّماة قد برزت قبل الذّرور «5» والشروق، وشمّرت عن الأذرع والسّوق؛ مقلّدين خرائط شاكلت السيوف بحمائلها ونياطاتها «6» ، وناسبتها فى آثارها ونكاياتها؛ تحمل من البندق الملموم، ما هو فى الصحّة والاستدارة كاللؤلؤ المنظوم؛ كأنما خرط بالجهر «7» ، فجاء الجزء: 10 ¦ الصفحة: 324 كبنات الفهر؛ قد اختير طينه، وملك «1» عجينه؛ فهو كالكافور «2» المصّاعد فى اللّمس والمنظر، وكالعنبر الأذفر فى الشمّ والمخبر؛ مأخوذ من خير مواطنه، مجلوب من أطيب معادنه؛ كافل بمطاعم حامليه، محقّق لآمال آمليه؛ ضامن لحمام الحمام، متناول لها من أبعد مرام؛ يعرج إليها وهو سمّ ناقع، ويهبط بها وهى رزق نافع» . ومنها فى وصف القسىّ: «وبأيديهم قسىّ مكسوّة بأغشية السّندس، مشتملة منها «3» بأحسن ملبس؛ مثل الكماة فى جواشنها ودروعها، والجياد فى جلالها «4» وقطوعها؛ حتى إذا جرّدت من تلك المطارف، وانتضيت «5» من تلك الملاحف؛ رأيت منها قدودا مخطفة «6» رشيقه، وألوانا معجبة أنيقه؛ صلبة المكاسر «7» والمعاجم، نجيبة المنابت والمناجم؛ خطّيّة الأسماء والمناسب، سمهريّة الأعراق والمناصب؛ ركّبت من شظايا الرّماح الداعسه، وقرون الأوعال الناخسه «8» ؛ فحازت الشرف من طرفيها، واستولت عليه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 325 بكلتا يديها؛ قد انحنت انحناء المشيخة النّسّاك، وصالت صيال الفتية الفتّاك؛ واستبدلت من قديمها فى عزّ «1» الفوارس، بحديثها من نفيس الملابس؛ وانتقلت من جدّها فى طراد المغارات «2» ، إلى هزلها فى طرد المسهرات «3» ؛ ظواهرها صفر وارسه «4» ، ودواخلها سود دامسه؛ كأنّ شمس أصيل طلعت على متونها، أو جنح ليل اعتكر فى بطونها؛ أو زعفرانا جرى فوق مناكبها، أو غالية جمدت على ترائبها «5» ؛ أو قضبان فضة أذهب شطرها وأحرق شطر، أو حبّات رمل اعتنق «6» السود منها صفر» . وجاء منها فى وصف الوتر: «فلمّا توسّطوا تلك الروضه، وانشروا فى أكناف «7» تلك الغيضه؛ وثبتت للرّمى أقدامهم، وشخصت للطير أبصارهم؛ وتروها «8» بكل وتر فوق «9» سهمه منه، وهو مفارق للسهم وخارج عنه؛ مضاعف عليها من وترين، كأنّه شخص ذو جسدين، أو عناق «10» ضمّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 326 ضجيعين؛ فى وسطه عين كشرجة كيس مختوم، أو سرّة بطن خميص مهضوم؛ تروع قلب الطير بالإنباض، وتصيب منها مواقع الأغراض» . وقال ضياء الدين بن الأثير الجزرىّ من رسالة فى وصف القسىّ. وذكر الرّماة، جاء منها: «وإذا تناولوها بأيديهم قلت: أهلّة طالعة فى أكفّ أقمار، وإذا مثّل غناؤها وغناؤهم قلت: منايا مسوقة «1» فى أيدى أقدار؛ وتلك قسىّ وضعت للّعب لا للنّضال، ولردى الطير لا لردى الرجال. فإذا نعتها ناعت قال: إنها جمعت بين وصفى اللين والصلابه، وصيغت من نوعين «2» غريبين فحازت معنى الغرابه؛ فهى مركّبة من حيوان ونبات، مؤلّفة منهما [على «3» ] بعد الشّتات؛ هذا من سكان البحر وسواحله، وهذا من سكان البرّ ومجاهله. ومن صفاتها أنها لا تتمكّن من البطش إلا حين تشدّ، ولا تنطلق فى شأنها إلا حين تعطف وتردّ. ولها بنات أحكم تصويرها، وصحّح تدويرها؛ فهى فى لونها صندليّة الإهاب، وكأنها صيغت لقوّتها من حجر لا من تراب؛ فإذا «4» حذفها نحو الأطيار [أحد «5» ] ، قيل: وتصعد من الأرض من جبال فيها من برد، فلا ترى حينئذ إلا قتيلا بالمقتل الذى لا يجب فى مثله من قود؛ فهى كافلة من تلك الأطيار بقبض نفوسها، ومنزلة لها من السماء على أمّ رءوسها» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 327 ومن إنشاء المولى الفاضل شهاب الدين محمود بن سليمان الحلبى الكاتب- أمتع الله ببقائه، وزاد فى علوّه وارتقائه- رسالة فى رمى البندق، وصف فيها الرّماة، ومواضع الرّمى ووقته، والقسىّ، وأفعال الرّماة، وجميع طير الواجب «1» ، لم أقف فيما طالعته لمتقدّم ولا متأخّر [على «2» ] أجمع لهذا الفن منها؛ وهى مما يستعين بها الكاتب على إنشاء ما يقصده من قدم «3» البندق فى أى نوع أراد من طير الواجب. وقد أوردتها بجملتها؛ لحسن التئامها، واتّساق نظامها؛ وجودة ترتيبها، وبديع تهذيبها. وهى: «الرّياضة- أطال الله بقاء الجناب الفلانىّ، وجعل حبّه كقلب عدوّه واجبا، وسعده كوصف عبده للمسارّ جالبا وللمضارّ حاجبا- تبعث النفس على مجانبة الدّعة والسكون، وتصونها عن مشابهة الحمائم فى الرّكون إلى الوكون «4» ؛ وتحضّها على أخذ حظّها من كلّ فنّ حسن، وتحثّها على إضافة الأدوات الكاملة إلى فصاحة اللّسن؛ وتأخذ بها طورا فى الجدّ وطورا فى اللّعب، وتصرّفها فى ملاذّ السموّ فى المشاقّ التى يستروح إليها التّعب؛ فتارة تحمل الأكابر والعظماء فى طلب الصيد على مواصلة السّرى، ومقاطعة الكرى؛ ومهاجرة الأوطار، ومهاجمة الأخطار؛ ومكابدة الهواجر «5» ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 328 ومبادرة الأوابد التى لا تدرك حتى تبلغ القلوب الحناجر؛ وذلك من محاسن أوصافهم التى يذمّ المعرض عنها، وإذا كان المقصود من مثلهم جدّ الحرب فهذه صورة لعب يخرج إليها منها؛ وتارة تدعوهم إلى البروز إلى الملق «1» ، وتحدوهم فى سلوك طريقها مع من هو دونهم على ملازمة الصدق ومجانبة الملق؛ فيعتسفون إليها الدّجى، إذا سجى؛ ويقتحمون فى بلوغها حرق «2» النهار، إذا انهار؛ ويتنعّمون بوعثاء السفر، فى بلوغ الظّفر؛ ويستصغرون ركوب الخطر، فى إدراك الوطر؛ ويؤثرون السهر على النوم، والليلة على اليوم؛ والبندق على السهام، والوحدة على الالتئام. ولمّا عدنا من الصيد الذى اتّصل بعلمه حديثه، وشرح له قديم أمره وحديثه؛ تقنا إلى أن نشفع صيد السّوانح برمى الصوادح، وأن نفعل فى الطير الجوانح بأهلّة القسىّ ما تفعل الجوارح؛ تفضيلا لملازمة الارتحال، على الإقامة فى الرّحال «3» ؛ وأخذا بقولهم: لا يصلح النفس إذ كانت مدبّرة ... إلّا التّنقّل من حال إلى حال فبرزنا وشمس الأصيل تجود بنفسها، وتسير من الأفق الغربىّ إلى جانب رمسها؛ وتغازل عيون النّوّار بمقلة أرمد، وتنظر إلى صفحات الورد نظر المريض الى وجوه العوّد؛ فكأنها كئيب أضحى من الفراق على فرق، أو عليل يقضى بين صحبه بقايا مدّة الرّمق؛ وقد اخضلّت عيون النّور لوداعها، وهمّ الروض بخلع «4» حلّته المموّهة بذهب شعاعها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 329 والطلّ فى أعين النّوّار تحسبه ... دمعا تحيّر لم يرقأ ولم يكف كلؤلؤ ظلّ عطف الغصن متّشحا ... بعقده وتبدّى منه فى شنف «1» يضمّ من سندس الأوراق فى صرر ... خضر ويخبا من الأزهار فى صدف والشمس فى طفل الإمساء تنظر من ... طرف غدا وهو من خوف الفراق خفى كعاشق سار عن أحبابه وهفا ... به الهوى فتراءاهم على شرف إلى أن نضا المغرب عن الأفق ذهب قلائدها، وعوّضه عنها من النجوم بخدمها وولائدها «2» ؛ فلبثنا بعد أداء الفرض لبث الأهلّه، ومنعنا جفوننا أن ترد النوم إلّا تحلّه؛ ونهضنا وبرد الليل موشّع «3» ، وعقده مرصّع؛ وإكليله مجوهر، وأديمه معنبر «4» ؛ وبدره فى خدر سراره مستكنّ، وفجره فى حشى مطالعه مستجنّ؛ كأنّ امتزاج لونه بشفق الكواكب خليطا مسك وصندل، وكأنّ ثريّاه لامتداده معلقة بأمراس كتّان إلى صمّ جندل. ولاحت نجوم الليل زهرا كأنّها ... عقود على خود «5» من الزّنج تنظم محلّقة فى الجوّ تحسب أنها ... طيور على نهر المجرّة حوّم إذا لاح بازى الصبح ولّت يؤمّها «6» ... إلى الغرب خوفا منه نسر ومرزم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 330 إلى حدائق ملتفّه، وجداول محتفّه؛ إذا جمّش النسيم غصونها اعتنقت اعتناق الأحباب، وإذا فرك من المياه متونها انسابت فى الجداول انسياب الحباب «1» ، ورقصت فى المناهل رقص الحباب «2» ؛ وإن لثم ثغور نورها حيّته بأنفاس المعشوق، وإن أيقظ نواعس ورقها غنّته بألحان المشوق؛ فنسيمها وان، وشميمها لعرف الجنان عنوان، ووردها من سهر نرجسها غيران، وطلّها فى خدود الورد منبثّ «3» وفى طرر الريحان حيران؛ وطائرها غرد، وماؤها مطّرد؛ وغصنها تارة يعطفه النسيم اليه فينعطف، وتارة يعتدل تحت ورقائه فتحسب أنها همزة على ألف؛ مع ما فى تلك الرياض من توافق المحاسن وتباين الترتيب؛ إذ كلّما اعتلّ النسيم صحّ الأرج وكلّما خرّ الماء شمخ القضيب. فكأنّما تلك الغصون إذا ثنت ... أعطافها رسل «4» الصّبا أحباب فلها إذا افترقت من استعطافها ... صلح ومن سجع الحمام عتاب وكأنّها حول العيون موائسا ... شرب وهاتيك المياه شراب فغديرها كأس وعذب نطافها «5» ... راح وأضواء النجوم حباب تحيط بملق نطافها صاف، وظلال دوحها ضاف، وحصاها لصفاء مائها فى نفس الأمر راكد وفى رأى العين طاف؛ إذا دغدغها «6» النسيم حسبت ماءها بتمايل الظّلال فيه يتبرّج ويميل؛ وإذا اطّردت عليه أنفاس الصّبا ظننت أفياء تلك الغصون الجزء: 10 ¦ الصفحة: 331 فيه تارة تتموّج وتارة تسيل؛ فكأنّه محبّ هام بالغصون هوى فمثّلها فى قلبه، وكأنّ النسيم كلف بها غار من دنوّها إليه فميّلها عن قربه. والسّرو مثل عرائس ... لفّت عليهنّ الملاء شمّرن فضل الأزر عن ... سوق خلاخلهنّ ماء والنهر كالمرآة تب ... صر وجهها فيه السماء وكأنّ صوافّ «1» الطير المبيضة بتلك الملق خيام، أو ظباء بأعلى الرّقمتين قيام، أو أباريق فضّة رءوسها لها فدام «2» ، ومناقيرها المحمّرة أوائل ما انسكب من المدام؛ وكأنّ رقابها «3» رماح أسنّتها من ذهب، أو شموع أسود رءوسها ما انطفأ وأحمره ما التهب. وكنّا كالطير الجليل عدّه، وكطراز العمر الأوّل جدّه. من كلّ أبلج كالنّسيم لطافة ... عفّ الضّمير مهذّب الأخلاق مثل البدور ملاحة وكعمرها ... عددّا ومثل الشّمس فى الإشراق ومعهم قسىّ كالغصون فى لطافتها ولينها، والأهلّة فى نحافتها وتكوينها، والأزاهر فى ترافتها وتلوينها؛ بطونها مدبّجه، ومتونها مدرّجه؛ كأنّها الشّولّة «4» فى انعطافها، أو أرواق الظّباء «5» فى التفافها؛ لأوتارها عند القوادم أوتار «6» ، ولبنادقها الجزء: 10 ¦ الصفحة: 332 فى الحواصل أوكار؛ إذا انتصبت لطير ذهب من الحياة نصيبه، وإن أنبضت «1» لرمى بدا «2» لها أنها أحقّ به ممّن يصيبه. ولعل ذاك الصّوت زجر لبندقها أن يبطئ فى سيره، أو يتخطّى الغرض إلى غيره؛ أو وحشة لمفارقة أفلاذ «3» كبدها، أو أسف على خروج بنيها عن يدها؛ على أنها طالما نبذت بنيها بالعراء، وشفعت لخصمها التحذير بالإغراء. مثل العقارب أذنابا معقّدة ... لمن تأمّلها أو حقّق النّظرا إن مدّها قمر منهم وعاينه ... مسافر الطير فيها أو نوى «4» سفرا فهو المسىء اختيارا إذ نوى سفرا ... وقد رأى طالعا فى العقرب القمرا ومن البنادق كرات متّفقة السّرد، متّحدة العكس والطّرد؛ كأنّما خرطت من المندل «5» الرّطب أو عجنت من العنبر الورد؛ تسرى كالشّهب فى الظلام، وتسبق إلى مقاتل الطير مسدّدات السّهام. مثل النجوم إذا ما سرن فى أفق ... عن الأهلّة لكن نونها راء «6» ما فاتها من نجوم اللّيل إن رمقت ... إلّا ثبات «7» يرى فيها وأضواء الجزء: 10 ¦ الصفحة: 333 تسرى ولا يشعر الليل البهيم بها ... كأنّها فى جفون الليل إغفاء وتسمع الطير إذ تهفو قوادمه ... خوافقا فى الدّياجى وهى صمّاء تصونها جرأوة «1» كأنّها جرج «2» درر، أو درج غرر، أو كمامة ثمر؛ أو كنانة نبل، أو غمامة وبل؛ حالكة الأديم، كأنّما رقمت بالشّفق حلّة ليلها البهيم. كأنّها فى وصفها مشرق ... تنبثّ منه «3» فى الدّجى الأنجم أو ديمة قد أطلعت قوسها ... ملوّنا وانبثقت تسجم فاتخذ كلّ له مركزا، وتقاضى من الإصابة وعدا منجزا، وضمن له السعد أن يصبح لمراده محرزا. كأنّهم فى يمن أفعالهم ... فى نظر المنصف والجاحد قد ولدوا فى طالع واحد ... وأشرقوا فى مطلع واحد فسرت علينا من الطير عصابه، أظلّتنا من أجنحتها سحابه؛ من كلّ طائر أقلع يرتاد مرتعا، فوجد ولكن مصرعا، وأسفّ «4» يبغى ماء جماما فورد ولكن السمّ منقعا، وحلّق فى الفضاء يبتغى ملعبا فبات هو وأشياعه سجّدا للقسىّ وركّعا؛ فتبرّكنا بذلك الوجه الجميل، وتداركنا أوائل ذلك القبيل. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 334 فاستقبل أوّلنا «تمّا» «1» تمّ بدره، وعظم فى نوعه قدره؛ كأنه برق كرع فى غسق؛ أو صبح عطف على بقيّة الدّجى «2» عطف النّسق؛ تحسبه فى أسداف المنى غرّة نجح، وتخاله تحت أذيال الدّجى طرّة صبح؛ عليه من البياض حلّة وقار، وله كرة من عنبر فوق منقار من قار. له عنق ظليم، والتفاتة ريم، وسرى غيم يصرّفه نسيم. كلون المشيب وعصر الشّباب ... ووقت الوصال ويوم الظّفر كأنّ الدّجى غار من لونه ... فأمسك منقاره ثم فرّ فأرسل إليه عن الهلال نجما، فسقط منه ما كبر بما صغر حجما؛ فاستبشر بنجاحه، وكبّر عند صياحه، وحصّله من وسط الماء بجناحه. وتلاه «كىّ «3» » نقىّ اللّباس، مشتعل شيب الراس، كأنّه فى عرانين شيبه لاوبله كبير أناس «4» ؛ إن أسفّ فى طيرانه فغمام، وإن خفق بجناحه فقلع له بيد النّسيم زمام؛ ذو غببة «5» كالجراب ومنقار كالحراب، ولون يغرّ فى الدّجى كالنّجم ويخدع فى الضّحى كالسّراب؛ ظاهر الهرم، كأنّما يخبر عن عاد ويحدّث عن إرم. إن عام فى زرق الغدير حسبته ... مبيضّ غيم فى أديم سماء الجزء: 10 ¦ الصفحة: 335 أوطار فى أفق السماء ظننته ... فى الجوّ شيخا عائما فى ماء متناقض الأوصاف فيه خفّة ال ... جهّال تحت رزانة العلماء فثنى الثانى إليه عنان بندقه، وتوخّاه فيما بين رأسه وعنقه، فخرّ كمارد انقضّ عليه نجم من أفقه؛ فتلقّاه الكبير بالتكبير، واختطفه قبل مصافحته الماء من وجه الغدير. وقارنته «إوزّة» حلّتها دكناء، وحليتها حسناء؛ لها فى الفضاء مجال، وعلى طيرانها خفّة ذوات التبرّج وخفر ربّات الحجال؛ كأنّما عبّت فى ذهب، أو خاضت فى لهب؛ تختال فى مشيتها كالكاعب، وتتأنّى فى خطوها كاللّاعب «1» ؛ وتعطو بجيدها كالظّبى الغرير، وتتدافع فى سيرها مشى القطاة إلى الغدير. إذا أقبلت تمشى فخطرة كاعب ... رداح «2» وإن صاحت فصولة حازم «3» وإن أقلعت قالت لها الريح ليت لى ... خفا ذى الخوافى أو قوى ذى القوادم فأنعم بها فى البعد زاد مسافر ... وأحسن بها فى القرب تحفة قادم فلوى الثالث جيده إليها، وعطف بوجه قوسه عليها؛ فلجّت فى ترفّعها ممعنه، ثم نزلت على حكمه مذعنه؛ فأعجلها عن استكمال الهبوط، واستولى عليها بعد استمرار القنوط. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 336 وحاذتها «لغلغة» تحكى لون وشيها، وتصف حسن مشيها؛ وتربى عليها بغرّتها، وتنافسها فى المحاسن كضرّتها؛ كأنّها مدامة قطبت «1» بمائها، أو غمامة شفّت عن بعض نجوم سمائها. بغرّة بيضاء ميمونة ... تشرق فى اللّيل كبدر التّمام وإن تبدّت فى الضّحى خلتها ... فى الحلّة الدّكناء برق الغمام فنهض الرابع لاستقبالها، ورماها عن فلك سعده بنجم وبالها؛ فجدّت فى العلوّ مغذّه «2» ، وتطاردت أمام بندقه ولولا طراد الصّيد لم تك لذّه؛ وانقضّ عليها من يده شهاب حتفها، وأدركها الأجل لخفّة «3» طيرانها من خلفها؛ فوقعت من الأفق فى كفّه، ونفر «4» ما فى بقايا صفّها عن صفّه. وأتت فى أثرها «أنيسة» آنسه، كأنها العذراء العانسه، أو الأدماء الكانسه «5» ؛ عليها خفر الأبكار، [وخفّة ذوات الأوكار «6» ] وحلاوة المعانى التى تجلى على الأفكار؛ ولها أنس الرّبيب، وإدلال الحبيب، وتلفّت الزائر المريب، من خوف الرّقيب؛ ذات عنق كالإبريق، أو الغصن الوريق، قد جمع صفرة البهار إلى حمرة الشّقيق؛ وصدر بهىّ الملبوس، شهىّ إلى النّفوس، كأنّما رقم فيه النّهار بالليل أو نقش فيه العاج بالآبنوس «7» ؛ وجناح ينجيها من العطب، يحكى لونه المندل الرّطب إلّا «8» أنّه حطب. مدبّجة الصدر تفويفه ... أضاف إلى اللّيل ضوء النهار لها عنق خاله من رآه ... شقائق قد سيّجت «9» بالبهار الجزء: 10 ¦ الصفحة: 337 فوثب الخامس منها «1» إلى الغنيمه، ونظم فى سلك رميه تلك الدّرّة اليتيمة «2» ؛ وحصل بتحصيلها بين الرّماة على الرتبة الجسيمه. وأتى على صوتها «حبرج» تسبق همّته جناحه، ويغلب خفق قوادمه صياحه؛ مدبّج المطا، كأنما خلع حلّة منكبيه على القطا؛ ينظر من لهب، ويخطو على رجلين من ذهب. يزور الرّياض ويجفو الحياض ... ويشبه فى اللّون كدر القطا ويهوى الزّروع ويلهو بها ... ولا يرد الماء إلا خطا فبدره السادس قبل ارتفاعه، وأعان قوسه بامتداد باعه؛ فخرّ على الألاءة «3» كبسطام بن قيس «4» ، وانقضّ عليه راميه فخصله «5» بحذق وحمله بكيس. وتعذّر على السابع مرامه، ونبا به عن بلوغ الأرب مقامه؛ فصعد هو وترب له إلى جبل، وثبت فى موقفه من لم يكن له بمرافقتهما قبل. فعنّ له «نسر» ذو قوادم شداد، ومناسر حداد، كأنه من نسور لقمان بن عاد؛ تحسبه فى السماء ثالث أخويه، وتخاله فى الفضاء قبّته المنسوبة إليه؛ قد حلق كالفقراء راسه، وجعل ممّا قصر من الدّلوق الدّكن لباسه؛ واشتمل من الرّياش العسلىّ إزارا، واختار الجزء: 10 ¦ الصفحة: 338 العزلة فلا يجد له إلّا فى قنن الجبال الشواهق مزارا؛ قد شابت نواصى الليالى وهو لم يشب، ومضت الدهور وهو من الحوادث فى معقل أشب. مليك طيور الأرض شرقا ومغربا ... وفى الأفق الأعلى له أخوان له حال فتّاك وحلية ناسك ... وإسراع مقدام وفترة وان فدنا من مطاره، وتوخّى ببندقه عنقه فوقع فى منقاره؛ فكأنما هدّ منه صخرا، أو هدم بناء مشمخرّا؛ ونظر إلى رفيقه، مبشرا له بما امتاز به عن فريقه. وإذا به قد أظلّته «عقاب» كاسر، كأنما أضلّت صيدا أفلت من المناسر؛ إن حطّت فسحاب انكشف، وإن قامت «1» فكأنّ قلوب الطير رطبا ويابسا لدى وكرها العنّاب والحشف؛ بعيدة ما بين المناكب، إذا أقلعت لجّت فى علوّ كأنّما تحاول ثأرا عند بعض الكواكب. ترى الطير والوحش فى كفّها ... ومنقارها ذا عظام مزاله فلو أمكن الشمس من خوفها ... إذا طلعت ما تسمّت غزاله فوثب إليها الثامن وثبة ليث قد وثق من حركاته بنجاحها، ورماها بأوّل بندقة فما أخطأ قادمة جناحها؛ فأهوت كعود صرع، أو طود صدع؛ قد ذهب باسها، وتذهّب بدمها لباسها؛ وكذلك القدر يخادع الجوّ عن عقابه، ويستنزل الأعصم «2» من عقابه؛ فحملها بجناحها المهيض «3» ، ورفعها بعد الترفّع فى أوج جوّها من الحضيض؛ ونزلا إلى الرّفقه، جذلين بربح الصّفقه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 339 فوجد التاسع قد مرّ به «كركىّ» طويل السّفار، سريع التّفار؛ شهىّ الفراق» ، كثير الاغتراب يشتو بمصر ويصيف بالعراق؛ لقوادمه فى الجوّ هفيف «2» ، ولأديمه لون سماء طرأ عليها غيم خفيف؛ تحنّ إلى صوته الجوارح، وتعجب من قوّته الرّياح البوارح؛ له أثر حمرة فى رأسه كوميض جمر تحت رماد، أو بقيّة جرح تحت ضماد؛ أو فصّ عقيق شفّت عنه بقايا ثماد؛ ذو منقار كسنان، وعنق كعنان «3» ؛ كأنّما ينوس، على عودين من آبنوس «4» . إذا بدا فى أفق مقلعا ... والجوّ كالماء تفاويفه حسبته فى لجّة مركبا ... رجلاه فى الأفق مجاديفه فصبر له حتى جازه «5» مجليّا، وعطف عليه مصلّيا؛ فخرّ مضرّجا بدمه، وسقط مشرفا على عدمه. وطالما أفلت لدى الكواسر من أظفار المنون، وأصابه القدر بحبة من حمأ مسنون؛ فكثر «6» التكبير من أجله، وحمله راميه من على وجه الأرض برجله. وحاذاه «غرنوق» حكاه فى زيّه وقدره، وامتاز عنه بسواد رأسه وصدره؛ له ريشتان ممدودتان من رأسه إلى خلفه، معقودتان من أذنيه مكان شنفه. له من الكركىّ أوصافه ... سوى سواد الصدر والرّاس إن شال رجلا وانبرى قائما ... ألفيته هيئة برجاس الجزء: 10 ¦ الصفحة: 340 فأصغى العاشر له منصتا، ورماه ملتفتا؛ فخرّ كأنّه صريع الألحان، أو نزيف «1» بنت الحان؛ فأهوى إلى رجله بيده وأيده «2» ، وانقضّ عليه انقضاض الكاسر على صيده. وتبعه فى المطار «صوغ «3» » ، كأنّه من النّضار مصوغ؛ تحسبه عاشقا قد مدّ صفحته، أو بارقا قد بثّ لفحته. طويلة رجلاه مسودّة ... كأنّما منقاره خنجر مثل عجوز رأسها أشمط ... جاءت وفى قمّتها «4» معجر «5» فاستقبله الحادى عشر ووثب، ورماه حين حاذاه من كثب؛ فسقط كفارس تقطّر عن جواده، أو وامق أصيبت حبّة فؤاده؛ فحمله بساقه، وعدل به إلى رفاقه. واقترن به «مرزم» له فى السماء سمىّ معروف، ذو منقار كصدغ «6» معطوف؛ كأنّ رياشه فلق «7» اتّصل به شفق، أو ماء صاف علق بأطرافه علق. له جسم من الثّلج ... على رجلين من نار إذا أقلع ليلا قل ... ت برق فى الدّجى سارى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 341 فانتحاه الثانى عشر ميمّما، ورماه مصمّما؛ فأصابه فى زوره، وحصّله من فوره، وحصل له من السرور ما خرج به عن طوره. والتحق به «شبيطر «1» » كأنه مدية مبيطر «2» ؛ ينحطّ كالسيل ويكرّ على الكواسر كالخيل، ويجمع من لونه بين ضدّين يقبل منهما بالنهار ويدبر بالليل؛ يتلوّى فى منقاره الأيم «3» ، تلوّى التّنّين فى الغيم. تراه فى الجوّ ممتدّا وفى فمه ... من الأفاعى شجاع أرقم ذكر كأنه قوس رام عنقه يدها ... ورأسه رأسها والحيّة الوتر فصوّب الثالث عشر إليه ببندقه، فقطع لحيه «4» وعنقه؛ فوقع كالصّرح الممرّد، أو الطّراف «5» الممدّد. واتّبعه «عنّاز «6» » أصبح فى اللّون ضدّه، وفى الشكل ندّه؛ كأنه ليل ضمّ الصبح إلى صدره، أو انطوى على هالة بدره. تراه فى الجوّ عند الصبح حين بدا ... مسودّ أجنحة مبيضّ حيزوم كأسود حبشىّ عام فى نهر ... وضمّ فى صدره طفلا من الرّوم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 342 فنهض تمام القوم إلى التّتمّه، وأسفرت عن نجح الجماعة تلك الليلة المدلهمّه؛ وغدا ذلك الطير الواجب واجبا «1» ، وكمل العدد به قبل أن تطلع الشمس عينا أو تبرز حاجبا؛ فيالها ليلة حصرنا بها الصوادح فى الفضاء المتّسع، ولقيت فيها الطير ما طارت به من قبل على كلّ شمل مجتمع؛ وأضحت أشلاؤها على وجه الأرض كفرائد خانها النّظام، أو شرب كأنّ رقابهم من اللّين لم يخلق لهنّ عظام؛ وأصبحنا مثنين على مقامنا، منثنين بالظّفر إلى مستقرّنا ومقامنا؛ داعين للمولى جهدنا، مذعنين له قبلنا أو ردّنا؛ حاملين ما صرعنا الى بين يديه، عاملين على التشرّف بخدمته والانتماء إليه. فأنت الذى لم يلف من لا يودّه ... ويدعو له فى السرّ أو يدّعى له فإن كان رمى أنت توضح طرقه ... وإن كان جيش أنت تحمى رعيله «2» والله تعالى يجعل الآمال منوطة به وقد فعل، ويجعله كهفا للأولياء وقد جعل. ومن إنشاء المولى علاء «3» الدّين علىّ بن عبد الظاهر [فى] قدمة بندق. ابتدأها بأن قال: «الحمد لله مهيّئ أسباب الارتياح، ومهنّئ أوقات الانشراح، ومطلق الأيدى فى الاقتناص فليس عليها فى صيد ذوات الجناح جناح؛ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 343 ومزيّن السماء بمصابيح «1» أنوارها، وموشّى الأرض بروضها ونوّارها؛ ومنوّر الأيام بشموسها والليالى بأقمارها، ومطرّز مطارف الآفاق بمطار أطيارها. والصلاة والسلام على سيّدنا محمد وآله وصحبه الذين أنجدهم الله من ملائكته بأولى أجنحه، وأهوى بصرائعهم «2» وأوهى قوى ممانعهم بعزائمهم المنجحه. وبعد، فإنّ القنص شغفت به قلوب ذوى العزائم؛ وصيّرته عنوانا للحرب إذ حمام الحمام فيه على الفرائس حوائم؛ تلتذّ نفوسهم بالمطاردة فيه وترتاح، وتهواه فلو تمكنت لركبت اليه أعناق الرياح؛ ترد منه مورد الظّفر، وتتمتّع فيه بنزه تقسّم الحسن فيهن بين السمع والبصر، وتتملّى عند السرور إليه برياض دبّجها صوب من المطر لا صوب من الفكر، ويطوى من الأرض ما نشرت أيدى السماء به برودا أبهى من الحبر «3» ؛ فتارة تستنزل من العواصم الظباء العواصى، وآونة تقتنص الطير وقد تحصّنت من بروج السّحب فى الصّياصى «4» ببعوثها الدّانية من كلّ قاصى. وأحسن أنواعه الذى جمع لمعاينه بين روضة ورياضه، وغدر مفاضه؛ ومغازلة عيون النّور وهى تدمع حين طرفها بذيله نسيم الصباح، ومباكرة اللذّات من قبل أن ترشف شمس الضحى ريق الغوادى من ثغور الأقاح؛ رمى البندق الذى هو عقلة المستوفز «5» ، وانتهاز غفلة الطائر المتحرّز؛ ونزهة القلوب التى إن طالت لا تملّ؛ وإن اجتاز المتنزّه بموطنها لم يؤجر «6» . أحلى من صيد الظباء، وأشهى من لمح ملح الحسناء؛ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 344 لا يحتاج إلى ركض جواد، ولا يجتاح فيه خفض العيش جواد «1» ، ولا يهاجر متعاطيه إلى الهواجر، ولا يحجر على نفسه فى الإفضاء إلى المحاجر «2» ؛ أربابه يرتاضون فى الروضة الغنّاء، ويسمعون من نغمات الأوتار وشدو الأطيار مختلف الألحان والغناء؛ ويمتطون الليل طرفا، ويستنيرون من النجوم شموعا لا تقطّ ولا تطفا؛ قد اتخذ كل منهم مقاما أكرم به من مقام، وهام باللذة فترك كرائم كراه وكذا عادة المستهام؛ وسبح فى لجج الليل وكرع فى نهر النهار، وتجلّى فى حلل الصدق وتخلى عن خلل العار. يهوون لذّة القنص فى الليل إذا عسعس، والصبح إذا تنفّس، ويرسلون رسل المنايا إلى صرائعهم فما تتنفّس. إذا برزوا عند الغروب توارت شمس الأصيل حياء، وذهبت فى حلّتها الذهبيّة حين بهروها سنا وسناء؛ تراهم كالزّهر أو الأزهار، أو عقد نظم باللّجين والزّمرّد والنّضار؛ أوجههم فى أفلاك قسيّهم أقمار، كولدان جنان، وأعطاف أغصان؛ قد طاف بهم سياج المسرّة وأحدق، وحلّوا بثياب سندس خضر وإستبرق؛ كأنّ الأرض ضاهت بهم السماء، فصيّرت قسيّهم أفلاكها، وغررهم نجومها، وعزائمهم صواعقها وبنادقهم رجومها؛ يخفق منهم قلب كلّ خافقه، وتقدم بعوثهم على ذوات القوادم فبينا هى مترافقة إذا بها متفارقه، وكأن صوافّ الطير لديهم فى جوّ السماء، سطور فى صفيحة زرقاء؛ أو كأنها فى التئامها، عقود درّ فى نظامها؛ يفرطون سلكها، ويقرّبون هلكها، ويغدرون بها فى الغدر، ويجسرون عليها فى الجسور، وتقايض بنادقهم صرائعهم فيصير وكر الطير الجراوة وجراوة البنادق حواصل الطيور. وإذا أسفروا وجه صباح، سمعت للطير صياحا والطرب كلّه فى ذلك الصياح؛ وإن عشوا مقاماتهم وجه عشاء رأيت الطير وهى لدى محاريب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 345 قسيّهم وهى سجود وركّع، طرائح من بيض وسود كأنّ أديم الأرض منهنّ أبقع. وإن تعلّقوا بأذيال الليل وسجفه، وباتوا فى عطفه؛ احتمى منهم بشهبه، وتستّر فى حجبه؛ وتوارى عنهم البدر بذيل الغمام، وهال هالته أن تبدو لقسيّهم الموتّرة بالحمام. إلى غير ذلك مما التزموه من محاسن أوصاف وأوصاف محاسن، ووردوه من مناهل مصافاة ماؤها غير آسن، ووجدوه من طيب عيش ما لانوا معه ولا استكانوا إلى المساكن؛ وحفظوه من صناعتهم من شروط وأوضاع، ووقفوا فى مقاماتهم من مطيع ومطاع؛ يرعون قدر كبيرهم، ولا يراع بينهم قلب صغيرهم؛ ويتناصفون فى أحكامهم، فالحكم واحد على آمرهم ومأمورهم. إن تفرّقوا فهم على قلب رجل واحد، وإن اختلفت منهم المقاعد فقد اتفقت منهم المقاصد. ما خلا جوّهم من واجب الطاعه، ولا علا بينهم كبير إلّا بذلوا فى خدمته جهد الاستطاعة؛ وأضحوا وأمرهم عليهم محتوم، وأمسوا وما فيهم إلا من له مقام معلوم؛ بأيديهم قسىّ قاسيه، قضبانها قاضيه؛ منعطفة جافيه، بعوثها فى الخوافى خافيه؛ تمثّلها الأفكار فى ساحة الفضاء، كزوارق مبثوثة فى لجّة الماء. وكيف لا! وهى تحمل المنايا إلى الطير، وإن لم تكن سائرة فلها بعوث سريعة السير؛ كأنّ صانعها قصد وضعها كالأهلّة واقترح، أو حكى بمدبّج أثوابها قوس قزح؛ وكأن ظهرها «1» وقد تنوّعت به من الغروز مدارجه، مدر سحيق ورس دبّ عليه من النمل دارجه؛ إذا حطّت عنها أوتارها كانت عصا لربّها فيها مآرب ومغانم، يوجس الطير فى نفسه منها خيفة وكيف لا! وهى فى شكل الأراقم؛ متضادّة تجفو وتلين، موتورة وغيرها حزين؛ تضمّها أنامل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 346 من يسراهم هى أيمن من يمين عرابة «1» بن أوس، ويطلع كلّ منهم فى فلكها والطّالع القمر فى القوس؛ لا تعتصم منها الطّرائد بالخباء فى وكر الدّجنّه، ولا يخفيها اتخاذها الظّلماء جنّه؛ ولا يوقّيها نزقها، ولا ينقيها «2» ملقها ولا تنجح بخفق الجناح، ولا تستروح بمساعدة الرياح؛ لها بنادق كأنها حبات القلوب لونا، وأشكال العقود كونا؛ كأنما صبغت من ليل وصيغت من شهب، أو صنعت من أديم للسّحب؛ تفرد من الطير التّؤام، وتجمع بين روحها والحمام؛ قد تحاماها النّسران فاتخذا السماء وكرا، واتفقا أن يصبحا شفعا ويمسيا وترا؛ تقبض منها الأيدى عند إطلاقها رائحة رابحه، جارحة من الطير كلّ جارحه، لا ترى صادحة إلا صيّرتها صائحه. قلب كلّ طير منها طائر، وكيف لا وهى للسّهام ضرائر؛ تضرم النار لإشواء الطّريدة قبل مفارقتها للأوتار، وتقتنص من الجوارح كلّ مستخف بالليل وسارب بالنّهار؛ تهيج كامن الغنيمة وتستثير، وتبدو كأنما عجنت من صندل وعبير. ولما كان من هو واسطة عقد هذه الأوصاف، والرافل فى برودها الموشيّة للأطراف؛ والمبدع فى فنّه، والجامع بين فضيلة الرمى وحسنه؛ والمستنطق لسان قومه بالإحسان، والحافظ شروطه فى طهارة العرض وصدق اللسان؛ والرامى الذى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 347 بلغ بهمّته غاية المرام، وضاهى ببندقه السّهام؛ وكان يوم كذا وكذا خرج إلى برزته المباركة وصرع طيرين فى وجه واحد، وأبان عن حسن الرمى وسداد الساعد؛ وأضحى بينهما كثيرا بين قومه، وجعلهما لهم وليمة فى يومه؛ وهما «تمّ» كأنما صيغ «1» من فضّه، أو تدرّع من النهار حلّة مبيضّه؛ أو غاير بياضه الليل فلطم وجهه بيد ظلمائه، فاقتصّ منه وخاض فى أحشائه؛ لجناحه هفيف فى المطار، تسمع منه نغمة الأوتار. و «لغلغة» كأنها كوّنت من شقيق وغمام، أو مزج لونها بماء ومدام؛ لها غرّة لو بدت فى الليل خلتها بدرا، وإن أسفرت عند الصباح حسبتها فجرا؛ وحملها فلان وفلان، وقطع شبقه «2» فلان وادّعى لفلان؛ وعاد الرامى قرير العين، مملوء اليدين؛ إذا فخر غيره بواحدة فخر بآثنتين؛ معظّما بين أترابه، مكرّما لدى أحبابه؛ ألبسه الله من السرور أزهى أثوابه. بمنّه وكرمه. ومما ورد فى وصف الجلاهق نظما - قال أبو الفرج الببغّاء يصفها: ومرنان «3» معبّسة ضحوك ... مهذّبة الطبائع والكيان مغالبة وليس بها حراك ... وباطشة وليس لها يدان لها فى الجارح النّسب المعلّى ... وإن هى خالفته فى المعانى تطير مع البزاة بلا جناح ... فتسبقها إلى قصب الرّهان وتدرك ما تشاء بغير رجل ... ولا باع يطول ولا بنان وتلحظ ما يكلّ الطرف عنه ... بلا نظر يصحّ ولا عيان لها عضوان من عصب ولحم «4» ... وسائر جسمها من خيزران الجزء: 10 ¦ الصفحة: 348 يخاطب فى الهواء الطير منها ... بلفظ ليس يصدر عن لسان فإن لم تصغ أردتها بطعن ... ينوب الطين فيه عن السّنان مقرطقة ممنطقة خلوب ... مهفهفة مخفّفة الجران مذكّرة مؤنّثة تهادى ... من الأصباغ فى حلل القيان معمّرة تزايد كلّ يوم ... شبيبتها على مرّ الزمان كأنّ الله ضمّنها فبانت ... لنا فى الرّزق عن أوفى ضمان أعزّ على العيون من المآقى ... وأحلى فى النفوس من الأمانى إذا ما استوطنت يوما مكانا ... تولّى الجدب عن ذاك المكان وقال أبو الفتح كشاجم: وثيقة مدمجة الأوصل ... محنّية عوجاء كالهلال تعود إن شئت إلى اعتدال ... باطنها «1» لعاقل الأوعال والظهر منها لقنا الأبطال ... يجمعها أسمر ذو انفتال فى وسطه من صنعة المحتال ... مثال عين غير ذى احولال تقذى «2» بصدفات من الصّلصال ... أمضى من السّهام والنّبال قذى يقرّ أعين الآمال ... فاقعة الصّفرة كالجريال «3» رخيصة تغنم كلّ غال ... تؤمن منها ونية الكلال تعول فى الجدب وفى الإمحال ... وقد يكون الصّقر كالعيال الجزء: 10 ¦ الصفحة: 349 مطيّها عواتق «1» الرجال ... فى غلف ممدودة طوال كم أفضلت على ذوى إفضال ... وكم أنالت من أخى نوال وقرّبت للطّير من آجال وقال أيضا فيها من أبيات: وفى يسارى من الخطّىّ محكمة ... متى طلبت بها أدركت مطلوبى للوعل باطن شطريها ومعظمها ... من عود شجراء ظمياء الأنابيب تأنّق القين «2» فى تزيينها فغدت ... تومى بأحسن تفضيض وتذهيب فى وسطها مقلة منها تبيّن ما ... يرمى فما مقتل «3» عنها بمحجوب فقمت والطير قد حمّ الحمام لها ... على سبيلى فى عادى وتجويبى «4» حتى إذا اكتحلت بالطين مقلتها ... صبّت عليهنّ حتفا جدّ مصبوب فرحت جذلان لم تكدر مشارب ل ... ذّاتى ولم تلق آمالى بتخييب ذكر شىء مما قيل فى سبطانة «5» قال أبو الفرج الببّغاء: وجوفاء حاملة تهتدى ... إلى كل قلب بمقروحه مقوّمة القدّ ممشوقة ... مهفهفة الجسم ممسوحه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 350 مثقّفة فمها عينها ... تبشّر قلبى بتصحيحه فإن هى والجارح استنهضا ... الى الصّيد عاقته عن ريحه إذا المرء أودعها سرّه ... لتخفيه باحت بتصريحه موات تعيش إذا ما أعاد ... لها النافخ الرّوح من روحه هى السّبطانة فى شكلها ... ففى القلب جدّ تباريحه تحطّ أبا الفرخ عن وكره ... وتستنزل الطير من لوحه «1» وقال أبو طالب المأمونىّ: مثقّفة جوفاء تحسب زانة «2» ... ولكنها لا زجّ فيها ولا نصل تسدّد نحو الطير وهو محلّق ... فينفذ عنها للردى نحوه الرّسل يطير إلى الطير الرّدى فى ضميرها ... فيجرى كما يجرى ويعلو كما يعلو فيعقل ما تنجو به فكأنّما ... يمدّ إليه «3» من بنادقها حبل ذكر شىء مما قيل فى عيدان الدّبق «4» قال عبد الله بن المعتز فيها ملغزا: وما رماح غير جارحات ... ولسن «5» فى الدّماء والغات ولسن «6» للطّراد والغارات ... يخضبن لا من علق الكماة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 351 بريق حتف منجز العدات ... مكتمن ليس بذى إفلات «1» ينشب فى الصدور واللّبّات ... فعل إسار «2» فلّق السّيات على عواليها مركّبات ... أسنّة لسن موقّعات «3» من قصب الريش مجرّدات ... يحسبن فى الهواء شائلات أذناب جرذان منكّسات وقال أبو الفتح كشاجم: وآسرات مثل مأسورات ... ممكّنات غير ممكنات مؤمّلات غير مكذبات ... صوادق التعجيل للعدات نواظر الأشكال ذاهبات ... كواسر ولسن ضاريات ولا بما يصدن عالمات ... بمثل ريق النحل مطليّات أقتل من سمائم الحيّات ... لو صلحت شيئا من الآلات ووصلت بالزّجّ والشّباة ... كانت مكان النّبل للرّماة حوامل للطير ممسكات ... تعلّق الأحباب بالحبّات كأنها فى النعت والصفات ... أذناب ما دقّ من الحيّات أغدر بالورق المغرّدات ... فيها من الفتيان بالقينات فهنّ من قتلى ومن عناة ... بلا فكاك وبلا ديات الجزء: 10 ¦ الصفحة: 352 ذكر شى مما قيل فى الشّباك قال السّرىّ الرّفّاء يصف شبكة: وجدول بين حديقتين ... مطّرد مثل حسام القين كسوته واسعة القطرين ... تنظر فى الماء بألف عين راصدة كلّ قريب الحين ... تبرزه مجنّح الجنبين كمدية مصقولة المتنين ... كأنما صيغ من اللّجين وقال أبو الفرج الببّغاء يصف شبكة العصافير: رقراقة فى السّراب تحسبها ... على الثّرى حلّة من الزّرد كالدّرع لكنها معوّضة ... عن المسامير كثرة العقد سائرها أعين مفتّحة ... لا ترتضى نسبة إلى جسد ذكر ما قيل فى الشّصّ، وهو الصّنانير - قال كاتب أندلسىّ يصفه من رسالة: «صنانير، كأظفار السّنانير؛ قد عطفها القين كالراء، وصيّرها الصّقل كالماء؛ فجاءت أحدّ من الإبر، وأرقّ من الشّعر؛ كأنها مخلب صرد «1» ، أو نصف حلقة من زرد» . وقال أبو الفتح كشاجم: من كان يحوى صيده الفضاء ... وللبزاة عنده ثواء وطال بالكلب له العناء ... فإن صيدى ما حواه الماء بمخلب ساعده رشاء ... يظلّ والماء له غطاء الجزء: 10 ¦ الصفحة: 353 كما طوت هلالها السماء ... كأنه من الحروف راء فهو ونصف خاتم سواء ... يحمل سمّا اسمه غذاء وعطبا فيه لنا إحياء ... تدمى به القلوب والأحشاء عاد إذا ساعده القضاء ... أمتعنا القريس «1» والشّواء وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم كمل الجزء التاسع «2» من كتاب «نهاية الأرب فى فنون الأدب» للشيخ العلامة شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب بن محمد بن عبد الوهاب البكرى التّيمىّ القرشىّ نسبا المعروف بالنّويرى رحمه الله. ويليه الجزء العاشر «3» المتعلق بالنباتات، على يد كاتبه، فقير رحمة ربه المعين، الفقير نور الدين بن شرف الدين بن أحمد العاملىّ بلدا، الشافعىّ مذهبا، وذلك فى مستهلّ شهر رمضان المعظم قدره سنة 966 هـ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 354 [مقدمة الجزء الحادي عشر] بيان عن أصول الجزء الحادى عشر من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب فى دار الكتب المصرية من نسخ هذا السفر نسختان كاملتان مأخوذتان بالتصوير الشمسىّ، كتبت إحداهما في شوّال سنة 966 هجرية بخط نور الدين العاملىّ، وهى المشار اليها فى الحواشى بحرف (ا) ، ونسبت الأخرى الى خط المؤلّف فى جمادى الأولى سنة 922 هجرية، وهى المشار اليها فى الحواشى بحرف (ب) وقطعة من نسخة أخرى مأخوذة بالتصوير الشمسىّ تبتدئ من الفنّ الرابع فى النبات صفحة 1 وتنتهى فى السطر الثامن من صفحة 138 فى الكلام على الخوخ، وقد نبهنا على ذلك فى موضعه، ولم يكتب عليها اسم كاتبها، ولا تاريخ نسخها، وهذه القطعة هى المشار اليها فى الحواشى بحرف (ج) ، وليس التحريف والطمس والنقص في إحدى هذه النسخ الثلاث بأقلَّ من الأخريين، بل إن هذه النسخ تكاد تكون متفقة فى ذلك بالرغم من اختلافها فى الخط ونسبة إحداها الى خط المؤلّف، كما يتبين ذلك من مراجعة الحواشى الكثيرة التى ذيلنا بها صفحات هذا السفر. وعسى أن نكون قد وفّقنا فى تصحيحه الى ما نقصد اليه فى جميع الكتاب، من إصلاح التحريف، وتكميل الناقص، وضبط الملتبس، وتفسير الغريب، وغير ذلك من الأغراض التى بيّنّاها فى الأجزاء السابقة. الجزء: مقدمةج 11 ¦ الصفحة: 1 وقد تم طبع هذا السفر فى عهد من يفتخر العلم والأدب بعنايته الوافية الوافره ورعايته السامية الساهرة؛ وأياديه الجسيمه، ونعمه العظيمه، التى لا يحيط بها عدّ ولا إحصاء، ولا يقوم بحقها حمد ولا ثناء: «مولانا صاحب الجلالة الملك فؤاد الأوّل» أدام الله ظلّه، وأيّد ملكه، وأقرّ عينه وعين شعبه بحراسة ولىّ عهده: «أمير الصعيد صاحب السموّ الأمير فاروق» وفى هذا المقام نرى- عرفانا بالجميل، وتقديرا الجهود المخلصين- أننا مدينون بجزيل الثناء وعظيم الحمد لتلك العناية المشكوره، والجهود الموفّقة المبروره؛ التى بذلها ويبذلها حضرة صاحب العزة المربّى الكبير (الأستاذ محمد أسعد برادة بك) مدير دار الكتب المصرية، فقد خطت هذه الدار فى عهده الميمون خطوات واسعة فى سبيل التقدّم والرقىّ، حتى أصبح منهلها العذب أقرب موردا، والانتفاع بما فيها من الذخائر أيسر على الطالب. كما أنه من الحقّ علينا أن نقدّم عظيم الشكر ووافر الثناء الى العالم الجليل حضرة صاحب الفضيلة (السيد محمد الببلاوى) مراقب إحياء الآداب العربية. وإلى حضرة الأديب الفاضل (الأستاذ أحمد زكى العدوى) رئيس القسم الأدبى، على ما أسدياه الينا فى هذا العمل من الآراء القيّمة، والإرشادات السديدة. والله نسأل أن يجعل عملنا خالصا لوجهه، وأن يلهمنا السداد فيما نقول ونعمل. مصحّحه أحمد الزين الجزء: مقدمةج 11 ¦ الصفحة: 2 فهرس الجزء الحادي عشر من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويرى .... صفحة الفن الرابع- فى النبات 1 القسم الأوّل- فى أصل النبات وما تختص به أرض دون 4 أرض، وتتصل به الأقوات والخضراوات والبقولات الباب الأوّل- فى أصل النبات وترتيبه فى ترتيبه من ابتدائه الى انتهائه 5 - فى ترتيب أحوال الزرع 6 الباب الثانى- فيما تختص به أرض دون أرض، وما يستأصل 7 شأفة النبات الشاغل للأرض عن الغراسة والزراعة ما تختص به أرض دون أرض 7 - ما يستأصل النبات الشاغل للأرض عن الغراسة والزراعة 11 الباب الثالث- فى الأقوات والخضراوات: 11 الحنطة وما قيل فيها 13 - الشعير 15 - ما وصف به الشعراء الزرع وشبهوه به 16 - الحمص 17 - الباقلى 18 - أفعاله وخواصه 19 - ما وصفه به الشعراء وشبهوه به 20 - الأرز 23 - الخشخاش وما ينتج عنه من عصارته 23 - ما وصف به من الشعر 25 - الكتان وما قيل فى بزره وتشبيهه 26 - ما وصف به من الشعر 27 - الشهدانج 28 - ما قاله الشعراء فى وصف ورقه وهو المعروف بالحشيش 29 - البطيخ وما قيل فيه 30 - البرى منه وهو الحنظل 30 - البستانى 30 - ما جاء فى وصفه وتشبيهه 32 - ما قيل فى الأصفر 33 - ما قيل فى الدستنبويه 36 - القثاء والخيار وما قيل فيهما 38 - ما جاء فى وصفهما وتشبيهما من الشعر 38 - القرع وما قيل فيه 41 - الباذنجان وما قيل فيه 43 - ما وصف به من الشعر 44 - ما قيل فى السلق 45 - القنبيط والكرنب 48 - السلجم- وهو اللفت- 51 ما وصف به السلجم من الشعر 51 - ما قيل فى الفجل 52 - ما وصف به الفجل من الجزء: مقدمةج 11 ¦ الصفحة: 3 الشعر 55 - الجزر وما قيل فيه 55 - الشقاقل- وهو الجزر البرّىّ- 56 ما وصف به الجزر من الشعر 57 - البصل وما قيل فيه 57 - ما وصف به البصل من الشعر 59 - الثوم وما قيل فيه 59 - ما وصف به الثوم من الشعر 61 - الكراث وما قيل فيه 61 - الريباس وما قيل فيه 64 - ما وصف به الريباس من الشعر 64 - الهليون وما قيل فيه 65 - ما وصف به الهليون من الشعر 67 - الهندبا وما قيل فيها 67 - النعنع وما قيل فيه 69 - ما قيل فى وصف نبات النمام من الشعر 71 - الجرجير وما قيل فيه 72 - السذاب وما قيل فيه 73 - الطرخون وما قيل فيه 76 - الاسفاناخ وما قيل فيه 77 - طبعه وأفعاله 77 - البقلة الحمقاء 78 - توليدها 78 - طبعها وفعلها 78 - الحماض وما قيل فيه 79 - الرازيانج وما قيل فيه 81 - النبطى 81 - الرومى 82 - ما وصف به الرازيانج من الشعر 83 - الكرفس وما قيل فيه 83 القسم الثانى- فى الأشجار الباب الأوّل- فيما لثمره قشر لا يؤكل: 86 اللوز وما قيل فيه 86 - ما وصفه به الشعراء وشبهوه 88 - الجوز وما قيل فيه 89 - أفعاله وخواصه 89 - ما وصفه به الشعراء وشبهوه 90 - الجلوز وما قيل فيه 91 - ما وصفه به الشعراء وشبهوه 91 - الفستق وما قيل فيه 92 - ما وصفه به الشعراء وشبهوه 93 - الشاهبلوط وما قيل فيه 95 - قال شاعر يصفه 95 - شجر الصنوبر وما قيل فيه 96 - ما وصف به الصنوبر وشبه به من الشعر 98 - الرمان والجلنار 100 - ما قيل فيهما من الشعر- فمن ذلك ما وصف به الرمان وشبه به 101 - ما وصف به الجلنار 104 - الموز وما قيل فيه 105 - ما وصف به وشبه من الشعر 106 - ما وصف به وشبه النارنج 111 - ما وصف به وشبه (الليمو) (الليمون) 116 الباب الثانى- فيما لثمره نوى لا يؤكل: 117 النخل وما قيل فيه 117 - أسماء النخلة من حين تبدو صغيرة الى أن تكبر وكذلك الرطب من حين يكون طلعا الى أن يصير رطبا 118 - فصل فى نعوتها 118 - ما وصف به النخل من الشعر 119 - الجمار وما قيل فيه 124 - ما وصف به الجمار والطلع من الشعر 124 - ما وصف به الطلع 124 - البلح والبسر والتمر 126 - ما قيل فى وصف البلح والبسر من الشعر 126 - ووصفوا الرطب والتمر 128 - النارجيل 129 - ما قيل فى وصف النارجيل من الشعر 130 - الفوفل 130 - الكاذى 131 - الخزم 131 - الزيتون وما قيل فيه 131 - ما وصف به الزيتون من الشعر 132 - الخرنوب وما قيل فيه 132 - ما وصف به الخرنوب من الجزء: مقدمةج 11 ¦ الصفحة: 4 الشعر 133 - الإجاص وما قيل فيه 134 - ما وصف به الإجاص من الشعر 135 - ومما وصف به القراسيا 136 - الزعرور وما قيل فيه 137 - ما وصف به الزعرور من الشعر 137 - الخوخ وما قيل فيه 138 - ما وصف به من الشعر 138 - المشمش وما قيل فيه 140 - ما وصف به المشمش من الشعر 141 - العناب وما قيل فيه 142 - ما وصف به العناب من الشعر 142 - النبق وما قيل فيه 144 - ما وصف به النبق من الشعر 144 الباب الثالث- فيما ليس لثمره قشر ولا نوى: 146 العنب وما قيل فيه 146 - طبعه 147 - ما وصفت به الكروم والأعناب نظما ونثرا 148 - التين وما قيل فيه 153 - المختار من التين وما قيل فى طبعه وخواصه 154 - ما وصفه به الشعراء وشبهوه 158 - ما وصف به على سبيل الذم 160 - التوت وما قيل فيه 160 - ما وصفه به الشعراء 162 - التفاح وما قيل فيه 162 - ما وصفه به الشعراء 164 - السفرجل وما قيل فيه 168 - ما وصف به نظما ونثرا 169 - الكمثرى وما قيل فيها 172 - ما وصفها به الشعراء 173 - اللفاح وما قيل فيه 175 - ما وصفه به الشعراء 177 - الأترج وما قيل فيه 178 - أفعاله وخواصه 179 - ما وصفه به الشعراء 180 القسم الثالث- فى الفواكه المشمومة الباب الأوّل- فيما يشم رطبا ويستقطر: 184 الورد وما قيل فيه 184 - ما جاء فى وصف الورد نظما ونثرا 189 - ومما قيل فى ذم الورد ومدحه 192 - ما وصف به الورد الأبيض 193 - ما وصف به الورد الأصفر 194 - ما وصف به الورد الأزرق 195 - ما قيل فى الورد الأسود 195 - ما جاء فيه نثرا 196 - النسرين وما قيل فيه 214 - ما جاء فى وصفه 214 - البان وما قيل فيه- وهو شجر الخلاف- 215 ما جاء فى باكورة خلاف 217 - النيلوفر وما قيل فيه 219 - ما جاء فى وصفه 221 الباب الثانى- فيما يشم رطبا ولا يستقطر: 226 البنفسج وما قيل فيه 226 - أفعاله وخواصه 226 - ما جاء فى وصفه 226 - النرجس وما قيل فيه 229 - ما جاء فى وصفه 230 - الياسمين وما قيل فيه 236 - ما جاء فى وصفه 236 - الآس وما قيل فيه 239 - طبعه 240 - أفعاله وخواصه 240 - ما جاء فى وصفه 241 - الزعفران وما قيل فيه 242 - ما جاء فى وصفه 244 - الحبق وما قيل فيه 247 - كلام لابن سينا فى طبع الباذروج وخواصه 250 - المرماحوز 251 - المرزنجوش 251 - الفلنجمشك 252 - ما وصفت به الرياحين 252 الجزء: مقدمةج 11 ¦ الصفحة: 5 ... صفحة القسم الرابع- فى الرياض والأزهار ويتصل به الصموغ والأمنان والعصائر 256 الباب الأوّل- فى الرياض وما وصفت به نظما ونثرا: 256 متنزهات الدنيا الأربع فمنها صغد سمرقند 257 - شعب بوان 257 - نهر الأبلة 260 - غوطة دمشق 261 - ما وصفت به الرياض نثرا ونظما 262 - قد أكثر الشعراء فى وصف الرياض والغصون 263 الباب الثانى- فى الأزهار: 271 الخيرى وما قيل فيه 271 - ما وصف به من الشعر 271 - السوسن وما قيل فيه 273 - ما جاء فى وصفه 275 - الآذريون وما قيل فيه 277 - ما جاء فى وصفه 277 - الخرم وما قيل فيه 279 - ما وصف به الخرم من الشعر 280 - الشقيق وما قيل فيه 281 - ما جاء فى وصفه 282 - ما وصف به البهار 285 - الأقحوان وما قيل فيه 286 - ما وصفه به الشعراء 289 الباب الثالث- فى الصموغ: 291 الكافور وما قيل فيه 292 - الكهربا وما قيل فيه 295 - علك الأنباط 297 - علك الروم 297 - علك البطم 298 - صمغ الينبوت (صوابه التنوب) 299 - صمغ قوفى 299 - الكثيراء 299 - الكندر 299 - الفربيون 301 - الصبر 304 - المر 307 - الكمكام 309 - الضجاج 309 - الأشق 310 - تراب القىء 311 - القنة 312 - الحلتيت 313 - الأنزروت 315 - السكبينج 315 - السادوران 317 - دم الأخوين 317 - الميعة 318 - صمغ قبعرين 320 - المقل الأزرق 321 - الصمغ العربى 322 - القطران 323 - الزفت 325 الباب الرابع- فى الأمنان: 225 العسل والشمع 325 - اللك 326 - القرمز 326 - اللاذن 326 - الافتيمون 327 - القنبيل 328 - الورس 328 - الترنجبين 328 - الشير خشك 329 - المنّ 329 - الكشوث 329 - سكر العشر 330 الجزء: مقدمةج 11 ¦ الصفحة: 6 بيان أهمّ الكتب والمصادر التى رجعنا اليها فى تصحيح هذا الجزء مرتّبة على حروف المعجم إخبار العلماء بأخبار الحكماء- للقفطى. إرشاد السارى لشرح صحيح البخارى- لشهاب الدين القسطلّانى. أزهار الأفكار فى جواهر الأحجار- للتيفاشى. الأسباب والعلامات- لنجيب الدين السمرقندى. الأغانى- لأبى الفرج الأصبهانى. أقرب الموارد فى فصح العربية والشوارد- لسعيد الخورى الشرتونى اللّبنانى. الألفاظ الفارسية المعرّبة- للسيد أدّى شير. بحر الجواهر- لمحمد بن يوسف الطبيب المعروف بالهروى. بدائع البدائه- للوزير جمال الدين أبى الحسن على بن ظافر الأزدى المصرى. البرهان القاطع- وهو معجم فارسى تأليف محمد حسين بن خلف التبريزى. بغية الوعاة فى طبقات اللغوييّن والنحاة- للجلال السيوطى. تاج العروس من جواهر القاموس- لمحب الدين أبى الفيض السيد محمد مرتضى الزبيدى الحنفى. تاج اللغة وصحاح العربية- لأبى نصر إسماعيل بن حماد الجوهرىّ الفارابى. تذكرة داود. تقويم البلدان- لأبى الفداء. التهذيب فى اللغة- للأزهرى. حسن المحاضرة- للجلال السيوطى. الحشائش- لديسقور يدوس. حياة الحيوان- للدميرى. الجزء: مقدمةج 11 ¦ الصفحة: 7 خاص الخاص- للثعالبى. خريدة القصر وجريدة أهل العصر- للوزير أبى عبد الله محمد بن محمد بن أبى الرجاء الكاتب الأصبهانى. دائرة المعارف- للبستانى. الدرر الكامنة فى أعيان المائة الثامنة- لابن حجر. دستور العلماء، ويعرف بجامع العلوم- للأحمد نكرى. ديوان البحترى. ديوان ابن الرومى. ديوان ابن زيدون. ديوان الحيوان- للسيوطى. ديوان السرىّ الرفّاء. ديوان ابن الساعاتى، المعروف بمقطّعات النيل. ديوان المتنبىّ. ديوان ابن المعتز. ديوان مؤيّد الدين الطّغرائىّ. ديوان المعانى- لأبى هلال العسكرى. ديوان أبى الفتح كشاجم. رسالة الحسين بن نوح القمرى فى تفسير المصطلحات الطبية. رسائل الصاحب بن عباد. رسالة فى تفسير بعض المصطلحات الطبية لم يعرف مؤلّفها، وهى ضمن مجموعة مخطوطة ومحفوظة بمكتبة تيمور تحت رقم 667 طب. زهر الاداب وثمر الألباب- للحصرى القيروانى. سحر البلاغة وسر البراعة- للثعالبى. سرح العيون شرح رسالة ابن زيدون- لابن نباتة. الجزء: مقدمةج 11 ¦ الصفحة: 8 الشذور الذهبية فى الاصطلاحات الطبية- لمحمد بن عمر بن سليمان التونسى. شرح الأدوية المفردة من قانون ابن سينا- للكازرونى. شرح الرضى على الشافية. شرح الرضى على الكافية. شرح ديوان أبى تمام- للخطيب التبريزى. شرح العكبرىّ على ديوان المتنبى. الشعر والشعراء- لابن قتيبة الدينورى. شفاء الغليل فيما فى كلام العرب من الدخيل- لشهاب الدين أحمد الخفاجى. صبح الأعشى فى صناعة الإنشاء- للقلقشندى. عبث الوليد- لأبى العلاء المعرّى. عمدة المحتاج فى علمى الأدوية والعلاج، ويعرف بالمادة الطبية- للسيد أحمد افندى الرشيدى. عيون الأنباء فى طبقات الأطباء- لابن أبى أصيبعة. فقه اللغة- للثعالبى. الفلاحة النبطية- لأبى بكر بن وحشية. فوات الوفيات- لابن شاكر الكتبى. قلائد العقيان- للفتح بن خاقان. قاموس الأطباء وناموس الألبّاء- للشيخ مدين بن عبد الرحمن الطبيب الشهير بالقيصونى. قاموس المحيط- لمجد الدين الفير وزابادى. القانون فى الطب- للشيخ الرئيس أبى على بن سينا. كشاف اصطلاحات الفنون- للتهانوى. كوكب الروضة- للسيوطى. لسان العرب- لابن منظور. مباهج الفكر ومناهج العبر- للورّاق الكتبى. مجموع الأصمعيّات. محاضرات الأدباء- للراغب الأصبهانى. الجزء: مقدمةج 11 ¦ الصفحة: 9 المخصص- لابن سيده. المصباح المنير- للفيومى. مطالع البدور فى منازل السرور- لعلاء الدين على بن عبد الله البهائى. معجم البلدان- لأبى عبد الله ياقوت الحموى. معجم ما استعجم- للبكرى. معجم أسماء النبات- للدكتور أحمد عيسى. مفاتيح العلوم- للخوارزمى. معجم الأدباء- ويعرف بارشاد الأريب لمعرفة الأديب- لياقوت. المشتبه فى أسماء الرجال- للحافظ الذهبى. ما يعوّل عليه فى المضاف والمضاف اليه- للمحبّى. أسماء الملابس عند العرب- لدوزى. المغرب فى ترتيب المعرب- للمطرّزى. المعرّب والدخيل- للشيخ مصطفى المدنى. المعرّب من الكلام الأعجمى- لأبى منصور الجواليقى. مسالك الأبصار فى ممالك الأمصار- لابن فضل الله العمرى. من غاب عنه المطرب- للثعالبى. المعجم الفارسى الانجليزى- لاستاين جاس. مفتاح الطب- لأبى الفرج بن هندو. مفردات ابن البيطار. المنهج المنير فى معرفة أسماء العقاقير- لم يعلم اسم مؤلّفه. المنهاج- لابن جزلة. النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة- لابن تغرى بردى. نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب- للمقرى. نهاية الأرب فى فنون الأدب- للنويرى. وفيات الأعيان- لابن خلّكان. يتيمة الدهر- للثعالبىّ. الجزء: مقدمةج 11 ¦ الصفحة: 10 الجزء الحادي عشر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وبه التوفيق «1» [والإعانة، وصلّى الله على سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما «2» ] الفنّ الرابع «3» فى النّبات وهذا الفنّ وإن جلّ مقداره، وحسنت آثاره، وأشرقت أنواره، وزها نوّاره؛ وتفيّأت خامات «4» زروعه، ونبتت أصوله تحت فروعه؛ وتدبّجت «5» خمائله، وتأرّجت بكره وطابت أصائله؛ وابتهج إغريضه «6» ، واتّسق نضيده؛ وتسلسلت غدران مائه وزهت «7» أرضه على سمائه؛ وتعدّدت منافعه، وعذبت منابعه؛ وكان منه ما هو للنفس الجزء: 11 ¦ الصفحة: 1 قوتا، وما حكت ألوانه زمرّدا وياقوتا؛ وما أشبه اللّجين والعقيان، وما غازل بعيونه مقل الحسان؛ وما نسبت إليه الوجنات فى احمرارها، وألوان العشّاق فى اصفرارها؛ وأشبهته القدود عند تمامها، والثغور فى انتظامها؛ والنّهود فى بروزها وارتفاعها والخصور فى هيفها والسّرر فى اتّساعها؛ وما اختلفت ألوانه وطعوم ثماره وإن ائتلفت أراضى مغارسه ومجارى أنهاره؛ وما تضوّع عرفه وفاح نشره، وحسن وصفه ولاح بشره؛ وبقيت آثاره بعد ذبوله أحسن منها يوم زفافه «1» ، وحصل الانتفاع به فى حالتى غضاضته وجفافه؛ ووصفه الطبيب فى دوائه وعلاجه، ونصّ عليه الحكيم فى أقراباذينه «2» ومنهاجه؛ وكان هذا الفنّ أحد شطرى النّامى، وقسيم النوع الحيوانىّ؛ فإنّا «3» لم نقصد بإيراده استيعاب نوعه، واستكمال جنسه، واستيفاء منافعه والإحاطة بمجموعه، ولا تصدّينا لذلك، ولا تعرّضنا لخوض هذه اللّجج وطروق هذه المهالك، لأمور: منها تعذّر الإمكان، وضيق الزّمان؛ ولأنّ هذا الفنّ عجز عن حصره فلاسفة الحكماء، ومشاهير «4» الأطبّاء؛ وسكّان البوادى، ومن جمعتهم الرّحاب الجزء: 11 ¦ الصفحة: 2 وضمّتهم النّوادى «1» ، ومن لا زموا النبات من حين استهلّت عليه الأنواء وباكرته الغوادى؛ فاطلع كلّ منهم على ما لم يطّلع الآخر عليه، وشاهد ما لم تنته فكرة غيره اليه؛ وعلم التّركمانىّ منه ما لم يعلمه البدوىّ، وعرف الجبلىّ ما لم يعرفه النّبطىّ؛ وصنّف فيه الحكماء الكتب المطوّله، وأظهروا من منافعه ومضارّه كلّ فائدة خفيّة وخاصّيّة مهمله؛ وتعدّدت فيه تصانيفهم، وتواردت واشتهرت تآليفهم؛ ومع ذلك فما قدروا على حصره، ولعلّهم لم يقفوا إلّا على جزء يسير من شطره؛ بل قصدنا بإيراده أن نذكر منه ما عليه وصف للشّعراء، ورسائل للبلغاء والفضلاء؛ لأنّ ذلك ممّا لا يستغنى عنه المحاضر، ويضطرّ اليه الجليس والمسامر؛ وينتفع به الكاتب فى كتابته، ويتّسع به على المنشئ مجال بلاغته؛ فأوردنا منه ما هو بهذه السبيل، واستقصينا ما هو من هذا القبيل؛ وان كنّا زدنا فى بعضه على هذا الشّرط، وخرجنا عن هذا الخطّ؛ وتعدّينا من وصفه الى ذكر منافعه ومضارّه، وانتهينا إلى إيراد بارده وحارّه؛ ورطبه ومعتدله ومحرقه وقابضه ومليّنه ومطلقه؛ ونبّهنا على توليده وأصله، وخساسته وفضله؛ فهذه الزيادة إنّما وردت على سبيل الاستطراد، لا على حكم الالتزام والاستعداد، وهى مما تزيد هذا الفنّ إلى حسنه حسنا، وتبدو بها فضائله فرادى ومثنى؛ ووصلنا فنّ النّبات بالصّموغ والأمنان «2» ، لأنّهما من توابعه وفروعه، وحلبنا ألبان «3» التكملة «4» له بهما من ضروعه؛ وألحقنا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 3 ذلك بقسم يشتمل على أصناف الطّيب والبخورات، والغوالى والمستقطرات؛ فختمنا الفنّ منه «1» بمسك، ونظمناه معه فى سلك؛ وحصرنا هذا الفنّ وما يتعلّق به فى خمسة أقسام تندرج تحتها أبواب، ولخّصناه من أكرم أصول وأعرق أنساب وأوثق أسباب. القسم الأوّل من هذا الفنّ فى أصل النّبات وما تختصّ به أرض دون أرض وتتّصل به الأقوات والخضراوات «2» والبقولات، وفيه ثلاثة أبواب: الباب الأوّل من هذا القسم من هذا الفنّ فى أصل النّبات وترتيبه [أما أصل النّبات] قال المسعودىّ فى كتابه المترجم (بمروج الذهب ومعادن الجوهر) : إنّ آدم عليه السّلام لمّا أهبطه الله تعالى الى الأرض خرج من الجنّة ومعه ثلاثون قضيبا مودعة أصناف الثمرة، منها عشرة لها قشر، وهى الجوز واللّوز والجلّوز والفستق والبلّوط والشّاهبلّوط والصّنوبر والنّارنج والرّمّان والخشخاش. ومنها عشرة لثمرها نوى، وهى الزّيتون والرّطب والمشمش والخوخ والإجّاص والغبيراء والنّبق والعنّاب والمخَّيط «3» والزُّعرور؛ ومنها عشرة ليس لها قشر ولا نوى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 4 وهى التّفّاح والسّفرجل والكمّثرى والعنب والتّين والأترجّ والخرنوب والتّوت والقثّاء والبطّيخ؛ وقال أبو عبيد البكرىّ فى كتابه المترجم (بالمسالك والممالك) : إنّ إسحاق بن العبّاس بن محمّد الهاشمىّ حكى عن أبيه أنّه تصيّد يوما بناحية (صنعاء) «1» فأصابته السماء فمال الى أحوية «2» أعراب فمكث عندهم يوما وليلة والغيث منسجم، لا ينحسم، فلمّا أصبح قال: لقد أنزل الله الليلة خيرا كثيرا؛ فقام ربّ البيت الى كساء كان قد نصبه بين أربع أخشاب يصيبه المطر، فلمسه بيده، فقال؛ ما أنزل الله الليلة خيرا؛ ثمّ ليلة أخرى كذلك، وليلة أخرى؛ فلمّا كان فى اليوم الثالث قال: نعم قد أنزل الله خيرا فى هذه اللّيلة؛ فسأله العبّاس بن محمّد عن ذلك، فأتاه بكفّ من البزور تناولها من جوف ذلك الكساء، وقال: إنّ حبّ البقل والعشب والكلإ إنّما ينزل من السماء. هذا ما ورد فى أصل النّبات. وأمّا ترتيبه من ابتدائه إلى انتهائه - فقد حكى الثّعالبىّ فى (فقه اللغة) قال: أوّل ما يبدأ النّبت فهو بارض، فاذا تحرّك قليلا فهو جميم؛ [فاذا «3» عمّ الأرض فهو عميم] فاذا اهتزّ وأمكن أن يقبض عليه قيل: «اجثألّ» ، فاذا اصفرّ ويبس فهو هائج، فاذا كان الرّطب تحت اليابس فهو غميم، فاذا كان بعضه هائجا وبعضه أخضر الجزء: 11 ¦ الصفحة: 5 فهو شميط، فاذا تهشّم وتحطّم فهو هشيم وحطيم «1» ، فاذا اسودّ من القدم فهو الدّندن «2» فاذا يبس ثم أصابه المطر فآخضّر فذاك النّشر. وقيل فى مثله: اذا طلع أوّل النّبت قيل: «أوشم، وطرّ» ، فاذا زاد قليلا قيل: «طفّر» فاذا غطّى الأرض قيل: «استحلس» ؛ واذا صار بعضه أطول من بعض قيل: «تناتل» ، فإذا تهيّأ لليبس قيل: «اقطارّ» فاذا يبس وانشقّ قيل: «تصوّح» ، فاذا تمّ يبسه قيل: هاجت الأرض هياجا؛ والله أعلم بالصواب. فصل فى ترتيب أحوال الزرع هو ما دام فى البذر فهو الحبّ، فاذا انشق الحبّ عن الورقة فهو الفرخ والشّطء، فاذا طلع رأسه فهو الحقل، فاذا صار أربع ورقات أو خمسا قيل: كوّث «3» تكويثا، فاذا طال وغلظ قيل «استأسد» ، فاذا ظهرت قصبته قيل «قصّب» ، فاذا ظهرت فيه السّنبلة قيل: «سنبل» ثم اكتهل. وأحسن من جميع ذلك وأبلغ قوله عزّ وجلّ: كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ ، قال الزّجّاج: «آزر الصّغار الكبار حتّى استوى بعضه ببعض» . وقال غيره: «فساوى الفراخ الطّوال فاستوى طولهما» وقال ابن الأعرابىّ: أشطأ الزرع، اذا فرّخ (وأخرج شطئه) فراخه، (فآزره) ، أى أعانه؛ والله أعلم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6 الباب الثانى من القسم الأوّل من الفنّ الرابع فيما تختصّ به أرض دون أرض وما يستأصل شأفة النّبات الشاغل للأرض عن الزراعة أمّا ما تختصّ به أرض دون أرض - فقد حكى أبو بكر بن وحشيّة أنواعا من النّبات توجد فى أرض ولا توجد فى غيرها، فقال: إنّ فى بلاد سجلماسة «1» شجرة ترتفع نصف قامة أو أرجح؛ ورقها كورق الغار، إذا عمل منها إكليل ولبسه الرجل على رأسه ومشى أو عدا أو عمل عملا لم ينم ما دام ذلك الإكليل على رأسه، ولا يناله من ضرر السهر وضعف القوّة ما ينال من سهر وعمل؛ وقال: وفى بلاد الإفرنجة «2» شجرة إذا قعد إنسان تحتها نصف ساعة من النّهار مات، وإن مسّها ماسّ أو قطع منها غصنا أو ورقة أو هزّها مات؛ وفى جزيرة «3» من جزائر الصّقالبة نبات فى قدر البقل «4» ، ورقه يشبه ورق السّذاب، إذا ألقى الأصل منه بورقه وأغصانه بعد غسله من التراب الذى فيه، وجعل فى الماء البارد، وترك فيه ساعة من نهار، سخن ذلك الماء كسخونته إذا أو قدت تحته النار، وكلّما دام فيه اشتدّت حرارته حتى لا يمكن أن يمسّ، وإذا خرج من الماء برد الماء لوقته؛ وقال: فى بلاد رومية شجرة لطيفة تنبت على شاطىء نهر «5» هناك، ورقها كورق الحمّص الجزء: 11 ¦ الصفحة: 7 طولها ذراعان، إذا جمع شىء من ورقها وأغصانها ودقّ واعتصر ماؤه، وجفّفت العصارة، فإن شرب منها رجل مقدار دانق ونصف بخمر «1» أنعظ إنعاظا شديدا ويجامع ما شاء من غير كلال ولا ضعف، فاذا أحبّ أن يزول ذلك الإنعاظ عنه قام فى ماء بارد إلى نصف صدره ساعة، فإنّ ذلك يزول عنه، ويرجع إلى حالته الأولى؛ قال: وفى بلد من بلاد الرّوم يقال له: (سفانطس) «2» نبات يرتفع عن الأرض نحو الذراع له ورق كورق السّلق، الورقة نحو ذراع، وليس له ساق يقوم عليها، إذا أخذ أصل هذا النّبات- وهو أصل كبير مستدير الى الطّول- وقشر وطبخ، وأكله الّذى يحمّ زالت عنه الحمّى بعد أكلة أو أكلتين أىّ حمّى كانت، وكذلك إن بخّر بورقه بعد تجفيفه مرّة أو مرّتين؛ قال: وببلاد الهند نبات لا تحرقه النار؛ وفيها شجرة إذا قطع شىء الجزء: 11 ¦ الصفحة: 8 من أغصانها وألقى على الأرض تحرّك، وربّما سعى كما تسعى الحيّات ودبّ «1» ؛ وفيما يلى مهبّ الشّمال شجرة تسمع منها فى فصلى الربيع والخريف «2» همهمة إنسان يريد أن يتكلّم وربّما نطقت بلغة الهند كلمة بعد كلمة، وتسمّى هذه الشجرة الشّمس، وصورتها على صورة الإنسان؛ وفى بلاد التّاكيان «3» شجرة تضىء باللّيل كالسّراج، بحيث إنّ النّاس إذا سلكوا بقربها باللّيل استغنوا بضوئها عن مصباح، ويسمّونها شجرة القمر. ومن الشجر والنّبات المشهور الّذى لا يوجد إلّا ببقاع مخصوصة: البلسان، وهو فى أرض المطريّة على ساعة من القاهرة المعزّيّة، فى بقعة مخصوصة معروفة، تسقى من بئر مخصوص هناك؛ والفلفل، يقال: إنه لا ينبت الّا بالمنيبارات «4» من بلاد الهند والمراد بالنّبات هنا: كماله وتحصيل مغلّه، وإلّا فقد رأيته أنا وقد زرع ببستان بأرض (أشموم طناح «5» ) من الدّيار المصريّة فى سنة أربع وتسعين وستّمائة، ونبت وصار نباته بقدر الذّراع، وكاد يعقد الحبّ؛ وأخبرنى من اختبره فى غير هذه السنة المذكورة أنّه لا يتمّ عقد حبّه ولا يتكوّن، وأنّهم يستعملون فروعه فى الطّعام فتقوم مقام الفلفل؛ وشجر الكافور لا ينبت إلّا فى بقاع مخصوصة يأتى ذكرها إن شاء الله الجزء: 11 ¦ الصفحة: 9 فى موضعها من هذا الكتاب فى هذا الجزء، وكذلك اليبروح «1» الصّنمىّ لا يوجد إلّا فى بلد بعينه، والباب فى هذا متّسع، وليس فى استقصائه فائدة توجب البحث عنه أو إيراده. وممّا يناسب هذا الفصل ما حكى عن أبى بكر بن وحشيّة أيضا أنّه إذا خلط بزر الكرنب ببزر السّلجم- والسّلجم، هو اللّفت- وتركا ثلاثة أشهر ثمّ زرعا خرج البزر كلّه سلجما، فاذا أخذ من بزر هذا السّلجم وزرع خرج كرنبا. وحكى عنه أيضا أنّه اذا أحرق النّعنع والجرجير فى موضع ند بقرب شجرة أو زرع، وخلط الرّماد بالتّراب، وأضيف إليهما قشر بيض الحمام، ودفن ذلك فى الأرض على مقدار دون الشّبر، وصبّ عليه الماء أربعة أيّام، ثمّ يسقى على عادة النّعنع والجرجير، أخرج شجر الدّلب «2» ، فاذا نبت فليحوّل ويغرس فى موضع آخر، فإنّه يثبت، وزعم أنّ ذلك لا يتمّ إلّا أن يكون فى نيسان إذا قارب القمر الشّمس فى برج الحمل أو الثّور؛ والله أعلم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 10 وأمّا ما يستأصل النّبات الشاغل للأرض عن الغراسة «1» والزّراعة - فقد ذكر أبو بكر بن وحشيّة من ذلك أشياء كثيرة، ثم قال: وأجود ذلك أن يزرع البنج «2» فى الأرض الّتى تنبت فيها هذه الحشائش، ويسقى الماء، فاذا كبر وأزهر يقلع، ويؤخذ التّرمس وورق الخلاف «3» فيلقيان على البنج وهو رطب، ويدقّ الجميع جملة حتّى يختلط، وينثر منه فى تلك الأرض، فإنه يحرق الثّيل «4» والشّوك وجميع الحشائش الّتى هى أعداء الزّرع؛ قال: أو يسحق التّرمس وثمر الطّرفاء وورق الخلاف مع أغصانه سحقا ناعما، ويعتصر ماء البنج الرّطب وماء ورق الآس ويخلط الماءان، ويبلّ بهما المسحوق يوما وليلة، ثمّ يصبّ على الثّيل وعلى أصول الشّوك وغير ذلك من الحشائش الدّغلة، فإنّه يأكلها ويجفّفها؛ قال: أو يعمل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 11 معول من نحاس، ويحمى بالنّار حتّى يصير كالجمر، ثم يغمس فى دم تيس كما يسقى الحديد، يصنع به ذلك مرارا، ثمّ يقطع به الثّيل والشّوك والعوسج والقصب وغير ذلك من الحشائش الكبار الغلاظ المضرّة بالزرع؛ فإنّ كلّ نبات قطع به لا ينبت بعد ذلك أبدا، لكنّه متى أصاب المعول شيئا من كرم أو نبات فإنّه يؤذيه؛ قال: أو تقلع أصول النّبات المضرّة بالزّراعة والغراسة «1» ، ويؤخذ الماء العذب فيغلى فى قدر نحاس غليانا جيّدا مرارا، يوقد عليه بخشب الصّنوبر، ويدقّ الحلتيت «2» والخردل والخربق «3» دقّا ناعما، وتضاف الى الماء، ويصبّ منه وهو حارّ فى الأصول «4» الّتى قلعت، فإنّ نباتها لا يعود أبدا؛ أو يلقى الزّفت والخمر فى ماء عذب، ويغلى فى قدر نحاس حتّى يذوب الزّفت، ويصبّ وهو حارّ فى تلك الأصول المقلوعة، ومقدار ما يصبّ منه فى كلّ أصل ربع رطل؛ قال: وأمّا ما يقلع الحلفاء فهو أن يزرع التّرمس والخربق فى الأرض التى تظهر فيها، فاذا انتهيا فى بلوغ غايتهما يقلعان الجزء: 11 ¦ الصفحة: 12 بأصولهما، ويلقيان على الأرض، ويضربان بالخشب حتى يتهرّأ، ويجرى عليهما الماء، ويتركان حتّى يعفنا، فإنّهما يأكلان أصول الحلفاء وما عداها من الحشائش المضرّة؛ قال: ومن أراد قلع شجرة عظيمة لا يمكن الأكرة «1» قلعها، فليحفر حول أصلها، فإذا انكشف صبّ فيه خلّا قد أغلى فيه الزّفت، ثم يطمر «2» بالتّراب فإنه يهرّىء ذلك الأصل ويفتّته وييبّسه، وإن كان يابسا سقط بنفسه؛ والله أعلم. الباب الثّالث من القسم الأوّل من الفنّ الرابع فى الأقوات والخضراوات ويشتمل هذا الباب على الحنطة والشّعير والحمّص والباقلّى والأرزّ، وما قيل فى الخشخاش والكتّان والشّهدانج «3» والبطّيخ والقثّاء والخيار والقرع والباذنجان والسّلق والقنّيط والكرنب والسّلجم والفجل والجزر والبصل والثّوم والكرّاث والريباس والهليون والهندبا والنعنع والجرجير والسّذاب والطّرخون والإسفاناخ والبقلة الحمقاء والحمّاض والرّازيانج والكرفس. فأمّا الحنطة وما قيل فيها - فقد حكى الشيخ أبو الحسن الكسائىّ- رحمه الله- فى بدء الدنيا؛ أنّ الحبّة أوّل ما خرجت من الجنّة كانت قدر بيض النّعام، ألين من الزّبد، وأحلى من العسل، ولم تزل زاكية زمن آدم وشيث الجزء: 11 ¦ الصفحة: 13 - عليهما السلام- الى زمن إدريس- عليه السّلام- فلمّا كثر الناس نقص الحبّ عن مقداره إلى مقداره إلى أصغر منه، ثمّ كان كذلك إلى أيام فرعون، فنقص عن مقداره إلى أيّام إلياس- عليه السلام-، ثمّ نقص حتّى صار قدر بيض الدّجاج الى أيّام عيسى بن مريم- عليه السلام- فنقص فى زمنه حتّى صار مثل بيض الحمام، الى أن قتل يحيى بن زكريّا- عليهما السلام- فصار قدر البندق، فكان كذلك الى أيّام عزير، فلمّا قالت اليهود: (عزير بن الله) نقص إلى ما ترى، وقيل: بل صار قدر الحمّص، ثمّ صار إلى هذه الغاية. وقال وهب بن منبّه: وكان الزرع فى زمن آدم- عليه السّلام- على طول النخل. وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: أجود الحنطة المتوسّطة فى الصّلابة العظيمة السّمينة الملساء «1» ، الّتى بين الحمراء والبيضاء؛ والحنطة السوداء رديئة الغذاء؛ وطبع الحنطة حارّ معتدل فى الرّطوبة واليبوسة، وسويقها «2» الى اليبس، وهو بطىء الانحدار، كثير النّفخ، لابدّ من حلاوة تحدره بسرعة، وغسل بالماء الحارّ حتّى يزيل نفخه؛ وقال فى الأفعال والخواصّ: الحنطة الكبيرة والحمراء أكثر غذاء، والحنطة المسلوقة بطيئة الهضم نفّاخة، لكنّ غذاءها إذا استمرئت كثير؛ والحوّارى «3» قريب من النّشا، لكنّه أسخن؛ والنّشا بارد رطب لزج؛ قال: والحنطة تنقّى الوجه، ودقيقها والنّشا خاصة بالزّعفران دواء للكلف «4» ؛ قال: والحنطة النّيئة والمطبوخة المسلوقة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 14 من غير طحن ولا تهرئة كالهريسة، والهريسة إن أكلت ولّدت الدّود، قال: والحنطة مدقوقة مذرورة على عضّة [الكلب الكلب «1» ] نافعة. وأمّا الشّعير - فقد قال الشيخ الرئيس: طبع الشّعير بارد يابس فى الأولى وهو جلاء، وغذاؤه أقلّ من غذاء الحنطة، وماء الشّعير أغذى «2» من سويقه، وكلاهما يكسر حدّة الأخلاط؛ وهو نافخ «3» ، قال: واذا طبخ بخلّ «4» ثقيف ووضع ضمادا على الجرب المتقرّح أبرأه، ويضمد به مع السّفرجل والخلّ على النّقرس «5» ؛ ويمنع سيلان الفضول الى المفاصل؛ قال: وماؤه ينفع من أمراض الصدر؛ واذا شرب ببزر الرازيانج «6» أغزر اللّبن؛ ويضمد بدقيقه وإكليل الملك «7» وقشر الخشخاش لوجع الجنب؛ قال: وماؤه ردىء للمعدة، وسويقه يمسك البطن؛ وماؤه مبرّد يرطّب الحمّيات: أمّا للحارّة فساذجا، وأمّا للباردة فمع الكرفس والرّازيانج؛ والله أعلم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 15 وأمّا ما وصف به الشعراء الزّرع وشبّهوه به - فمنه قول القاضى عياض: انظر إلى الزرع وخاماته «1» ... تحكى وقد مالت أمام الرّياح كتائبا تجفل مهزومة ... شقائق «2» النّعمان فيها جراح وقال ظافر الحدّاد الإسكندرىّ: كأنّ سنابل حبّ الحصيد ... وقد شارفت وقت إبّانها مكانس «3» مضفورة ربّعت ... وأرخى فاضل خيطانها وقال ابن رافع: انظر الى سنبل الزّروع وقد ... مرّت عليه الجنوب والشّمل «4» كأنّه البحر فى تموّجه ... يعلو مرارا به ويستفل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 16 وقال آخر: يا حبّذا سنبلة ... تبدو لعين المبصر كأنّها سلسلة ... مضفورة من عنبر [وأمّا الحمّص «1» ] - فقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا فى (كتاب «2» الأدوية المفردة) : الحمّص أبيض وأحمر وأسود وكرسنّىّ «3» ؛ ومن الأصناف بستانىّ وبرّىّ والبرّىّ أحدّ وأمرّ وأشدّ تسخينا، ويفعل أفعال البستانىّ فى القوّة، ولكنّ غذاء البستانىّ أجود من غذاء البرّىّ، وقال فى طبعه: الأبيض حارّ يابس فى الأولى، والأسود أقوى؛ وقال فى خواصّه: كلاهما مفتّح «4» مليّن، وفيه تقطيع، ولا شىء فى أشكاله أغذى منه للرّئة؛ ورطبه أكثر توليدا للفضول من يابسه؛ قال: والحمّص يجلو النّمش» ، ويحسّن الّلون طلاء وأكلا، وينفع من الأورام الحارّة والصّلبة وسائر الأورام و [ما كان «6» منها فى] الغدد، ودهنه ينفع من القوباء؛ ودقيقه للقروح الخبيثة والسّرطانيّة والحكّة؛ قال: وينفع من وجع الظهر، ومن البثور الرّطبة فى الرأس؛ ونقيعه ينفع من وجع الضّرس وأورام اللّثة الحارّة والصّلبة، والأورام الّتى تحت الجزء: 11 ¦ الصفحة: 17 الأذنين؛ قال: وهو يصفّى الصّوت؛ قال: وطبيخه نافع للاستسقاء واليرقان «1» ويفتّح سدد الكبد والطّحال، خصوصا الكرسنّىّ والأسود، قال: ويجب ألّا يؤكل الحمّص فى أوّل الطعام ولا فى آخره؛ بل فى وسطه؛ قال: وطبيخ الأسود يفتّت الحصاة فى المثانة والكلى بدهن اللّوز والفجل والكرفس؛ وجميع أصناف الحمّص تخرج الجنين؛ وهو ردىء لقروح المثانة؛ ويزيد فى الباه جدّا؛ ونقيعه اذا شرب على الرّيق أنعظ بقوّة؛ وكلّه مليّن للبطن؛ وقال بعضهم: إنّه إن نقع فى الخلّ وأكل منه على الرّيق، وصبر عليه نصف يوم قتل الدّود. وأمّا الباقلّى «2» - فقد قال فيه الشيخ الرئيس: منه مصرىّ، ومنه نبطىّ «3» والنّبطىّ أشدّ قبضا، والمصرىّ أرطب وأقلّ غذاء، والرّطب أكثر فضولا؛ قال: ولولا بطء هضمه وكثرة نفخه ما قصر فى التغذية عن كشك الشّعير، بل دمه «4» أغلظ وأقوى؛ قال: وأجوده السّمين الأبيض السالم من السّوس؛ وأردأه الطرىّ؛ وإصلاحه إطالة نقعه وإجادة طبخه وأكله بالفلفل والملح والحلتيت «5» والصّعتر «6» الجزء: 11 ¦ الصفحة: 18 وطبعه قريب من الاعتدال، وميله الى البرد واليبس أكثر؛ وفيه رطوبة فضليّة خصوصا فى الرّطب منه؛ قال والقوم الّذين يجعلون برد الباقلّى فى الدرجة الثانية «1» يفرطون. وأمّا أفعاله وخواصّه - فإنّه يجلو قليلا، وينفخ، والمقلىّ منه قليل النّفخ، ولكنّه أبطأ انهضاما؛ والمطبوخ فى قشره كثير النّفخ، والنّبطىّ أشدّ قبضا ولا يجلو؛ قال: والباقلّى يولّد أخلاطا غليظة، وقد قضى إبّقراط «2» بجودة غذائه واذا قشر وشقّ نصفين ووضع على نزف قطعه؛ ومن خواصّه أنّه يقطع بيض الدّجاج اذا علفت منه، وأنّه يرى أحلاما مشوّشة «3» ، وأنّه يحدث الحكّة، خصوصا طريّه؛ ومن خواصّه أنّه اذا نمدت به عانة الصّبىّ منع نبات الشّعر، وكذلك اذا كرّر على الموضع المحلوق، ويجلو البهق من الوجه والكلف والنّمش، ويحسّن اللّون لا سيّما مع قشوره، واذا ضمد به بالشّراب على الخصية نفع ورمها؛ وينفع من تشنّج المفصل؛ ويضمد بمطبوخه النّقرس مع شحم الخنزير، وان خلط مع عسل ودقيق الحلبة «4» نفع من أو رام الحلق؛ وضماده جيّد لورم الثّدى وتجبّن اللّبن فيه؛ والمطبوخ منه بخلّ وماء ينفع من الإسهال المزمن، وخصوصا اذا كان بقشره الجزء: 11 ¦ الصفحة: 19 وينفع من السّحج «1» ، ولا سيّما النّبطىّ، وسويقه أيضا ينفع من ذلك حسوا وضمادا هذا [ما قاله «2» فيه. وأمّا ما وصفه به الشعراء وشبّهوه به - فمن ذلك قول الصّنوبرىّ] : فصوص زمرّد فى غلف درّ ... بأقماع حكت تقليم ظفر وقد خاط الرّبيع لها ثيابا ... بديع «3» اللّون من خضر وصفر وقال أيضا فيه: ونبات باقلّاء «4» يشبه نورها ... بلق الحمام مشيلة «5» أذنابها وقال العسكرىّ: ويزهى ورد باقلّى ... كأطواق الشّفانين «6» الجزء: 11 ¦ الصفحة: 20 وقال أبو الفتح كشاجم: وباقلاء حسن المجرّد ... مسك الثّرى شهد الجنى «1» غضّ ندى كالعقد إلّا أنّه لم يعقد ... أو الفصوص فى أكفّ الخرّد أو كبنات «2» الّلؤلؤ المنضّد ... فى طىّ أصداف من الزّبرجد وقال فيه «3» أيضا: وكأنّ ورد الباقلاء دراهم ... قد ضمّخت أوساطها بالعنبر وكأنّه من فوق متن «4» غصونه ... يرنو بمقلة أقبل «5» أو أحور وقال أيضا «6» : ولاح ورد الباقلاء ناظرا ... عن مقلة تفتح جفنا عن حور وقال أبو طالب المأمونىّ: وباقلاء أزهر ... مثل سموط الجوهر تضمّه أوعية ... مثل الحرير الأخضر أوساطه مخطفة «7» ... مثل خصور ضمّر الجزء: 11 ¦ الصفحة: 21 أطرافه مذروبة «1» ... مسروقة من أنسر فطرف كمخلب ... وطرف كمنسر «2» وقال ابن وكيع التّنّيسىّ «3» : كأنّ ورد الباقلاء إذ بدا ... لناظريه أعين فيها حور كمثل [ألحاظ] «4» اليعافير «5» إذا ... روّعها من قانص فرط الحذر كأنّه مداهن من فضّة ... أوساطها بها من المسك أثر وقال أيضا فيه: كأنّ أوراق ورد ... للباقلاء بهيّه خواتم من لجين ... فصوصها حبشيّه وقال آخر: لى نحو ورد الباقلا «6» ... إدمان لهو ولهج كأنّما مبيضّه ... يلوح من ذاك الدّعج «7» الجزء: 11 ¦ الصفحة: 22 خواتم من فضّة ... فيها فصوص من سبج «1» وأما الأرز ّ - فقال الشيخ: هو حارّ يابس، ويبسه أظهر من حرّه؛ وقالوا: إنّه أحرّ من الحنطة؛ وهو يغذو غذاء صالحا؛ واذا طبخ باللّبن ودهن اللّوز كان غذاؤه أكثر وأجود، وسقط تجفيفه وعقله، وخصوصا اذا نقع ليلة فى ماء النّخالة؛ قال: وفيه جلاء؛ ومطبوخه بالماء يعقل؛ والمطبوخ باللّبن يزيد فى الباه ولا يعقل. ولم أقف على شىء من الشّعر فيه فأورده. وأمّا الخشخاش وما ينتج عنه من عصارته - فقال الشيخ الرئيس «2» : وعصارة الخشخاش المصرىّ الأسود هى الأفيون؛ قال: والمختار منه الرّزين الحادّ الرائحة الهشّ السّهل الانحلال فى الماء، لا ينعقد فى الذّوب وينحلّ فى الشّمس والأصفر منه الصّافى اللّون الضعيف الرائحة مغشوش، وغشّه بالماميثا «3» ؛ وهو يغشّ بلبن الخسّ البّرىّ؛ ويغشّ بالصّمغ فيكون برّاقا صافيا جدّا؛ وطبعه بارد يابس فى الرابعة؛ وأفعاله وخواصّه، هو مخدّر مسكّن لكلّ وجع سواء شرب أم طلى به والشّربة منه مقدار عدسة كبيرة، ولا تزاد شربته على دانقين «4» ؛ ويمنع الأورام الجزء: 11 ¦ الصفحة: 23 الحارّة؛ وفيه تجفيف للقروح، «واذا طلى «1» به باللّبن سكّن وجع النّقرس «2» » ؛ قال: وامّا أفعاله فى الرأس، فهو منوّم؛ واذا أذيب بدهن الورد وقطر منه فى الأذن سكّن وجعها إذا أضيف إليه المرّ والزّعفران، ويسكّن الصّداع المزمن؛ ويسكّن السّعال المبرّح؛ وهو يحبس الإسهال، وينفع من السّحج «3» وقروح الأمعاء؛ وإذا عدم كان بدله ثلاثة أضعافه من بزر البنج وضعفه من بزر اللّفّاح «4» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 24 وأمّا ما وصف به من الشّعر - فمن ذلك قول الشّمشاطىّ «1» : وخضراء قد نيطت على حسن حالها ... بإكليلها لمّا استطالت قناتها مضمّنة حبّات درّ كأنّها ... لهم خير ما أمّ وهنّ بناتها وقال الحصكفىّ «2» : وغادة زاد فيها اللّحظ تكريرا ... قدّ يضيف «3» إلى التأنيث تذكيرا لها على الرأس إكليل يحيط به ... أو جمّة «4» قصّ أعلاها شوابيرا «5» كانّها قبّة من فوقها شرف ... جوفاء قسّمها البانى مقاصيرا حبلى بعدّة أولاد وما افترعت ... عذراء تحكى لنا العذراء تطهيرا تضمّ شمل أطيفال اذا درجوا ... رأيت شملهم المنظوم منثورا عهدى بها فوق ساق ترجحنّ «6» بها ... زمرّذا ثم عادت بعد كافورا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 25 وقال ابن وكيع: وخشخاش كأنّا منه نفرى ... قميص زبرجد عن جسم درّ كأقداح من البلّور صينت ... بأغشية من الدّيباج خضر وأمّا الكتّان وما قيل فى بزره وتشبيهه - فقال الشيخ الرئيس: بزر الكتّان حارّ فى الأولى، معتدل فى الرّطوبة واليبوسة، وإنّه مع النّطرون والتّين ضماد للكلف «1» والبثور اللّبنيّة «2» ؛ وينفع من تشنّج «3» الأظفار وتشقّقها وتقشّرها اذا خلط بشمع وعسل؛ ودخانه ينفع من الزّكام، وكذلك دخان الكتّان؛ وينفع من السّعال البلغمّى، وخصوصا المحمّص منه؛ وهو ردىء للمعدة، عسر الهضم، ومقليّه يعقل البطن؛ واذا طبخ وجلس فيه نفع من لذع يكون فى الرّحم وأورام؛ وكذلك الأمعاء؛ وينفع من قروح المثانة والكلية؛ قال: وطبيخ بزر الكتّان اذا حقن به مع دهن الورد عظمت منفعته فى قروح الأمعاء. «ونبات الكتّان فى غاية ما يكون من البهجة والنّضارة وحسن الألوان «4» » . وقد وصفه الشعراء بأوصاف وشبّهوه بأشياء؛ فمن ذلك قول ابن الرّومىّ: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 26 وحلس «1» من الكتّان أخضر ناضر «2» ... يباكره «3» دانى الرّباب «4» مطير اذا درجت فيه الرّياح «5» تتابعت ... ذوائبه حتّى يقال غدير وقال أبو الفتح كشاجم: كأنّما الكتّان فيه إذ عقد ... ونشر الأوراق زرقا فى المدد «6» آثار قرص من محبّ فى جسد وقال ابن وكيع: ذوائب كتّان تمايل فى الضّحى ... على خضر أغصان من الرّىّ ميّد كأنّ اصفرار الزّهر فوق اخضرارها ... مداهن تبر ركّبت فى زبرجد وقال آخر فى الأزرق. كأنّه حين يبدو ... مداهن اللّازورد اذا السماء رأته ... تقول هذا فرندى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 27 وأمّا الشّهدانج «1» - ويقال فيه: الشاهدانق «2» فورقه الحشيش «3» ، وهو بزر شجرة القنّب؛ قال الشيخ الرئيس: ومن الشّهدانج بستانى معروف، ومنه برّىّ، قال حنين: إن البرّىّ شجرة تخرج فى القفار على قدر ذراع، ورقها يغلب عليه البياض، وثمرها كالفلفل، ويشبه حبّها حبّ السّمنة «4» ، وهو حبّ ينعصر منه الدّهن؛ قال: وطبعه حارّ يابس فى الثالثة؛ وهو يطرد الرّياح، ويجفّف، وهو عسر الانهضام، ردىء الخلط، قوىّ الإسخان، ومقلوّه أقلّ ضررا؛ قال: واذا طبخت أصول القنّب البرّىّ وضمدت بها الأورام الحارّة فى المواضع الصّلبة الّتى فيها كيموسات «5» لاحجة «6» سكّنت الحارّة وحلّلت الصّلبة، وهو مصدّع بحرارته، وعصارته تقطر لوجع الأذن السّددىّ «7» ، ولرطوبة الأذن، وكذلك ورقه ودهنه قلّاع للحزاز «8» فى الرأس الجزء: 11 ¦ الصفحة: 28 وهو يظلم البصر، ويضعف المعدة، ويجفّف المنىّ، ولبن الشّهدانج البرّىّ يسهل برفق، ونصف رطل من عصيره يحلّ الاعتقال، ويطلق البلغم والصّفراء، ويذهب مذهب القرطم «1» ؛ هذا ما قاله فيه. وقال بعض الشّعراء فى ورقه: عاطيت من أهوى وقد زارنى ... كالبدر وافى ليلة البدر والنّهر قد مدّ على متنه ... شعاعه جسرا من التّبر خضراء كافوريّة رنّحت ... أعطافه من شدّة السّكر يفعل منها درهم فوق ما ... تفعل أرطال من الخمر فراح نشوان بها غافلا ... لا يعرف الحلو من المرّ قال وقد لان بها أمره ... فبات مردودا إلى أمرى قتلتنى، قلت: نعم سيّدى ... قتلين بالسّكر وبالنّجر «2» وقال آخر: يا ساقى القوم أدر بينهم ... خضراء تغنيهم عن الخمر حشيشة تجعل كلّ امرئ ... منهم حشيشيّا ولا يدرى وقال آخر: ربّ ليل قطعته ونديمى ... شاهدى وهو مسمعى وسميرى مجلسى مسجد وشربى من خضراء ... تزهى حسنا بلون نضير الجزء: 11 ¦ الصفحة: 29 قال لى صاحبى وقد لاح «1» منها ... نشرها مزريا بنشر العبير أمن المسك؟ قلت: ليست من المسك ... ولكنها من الكافور وأمّا البطّيخ وما قيل فيه - فقال الثّعالبىّ فى فقه اللغة: أوّل ما يخرج البطّيخ يكون قعسرا، ثمّ خضفا، وهو أكبر من ذلك، ثم يكون قحّا، ثم يكون بطّيخا. وهو نوعان : برّىّ وبستانىّ؛ فالبّرىّ ، هو الحنظل، ومنه ذكر ومنه أنثى؛ فالذّكر ليفىّ، والأنثى رخو أبيض سلس؛ والمختار منه الأبيض منه الأبيض الشديد البياض الّلّين، فإنّ الأسود منه ردىء، والصّلب ردىء؛ وذكر فيه الشيخ الرئيس خواصّ ومنافع يطول شرحها؛ قال: وطبعه حارّ فى الثالثة «2» ؛ زعم الكندىّ أنّه بارد رطب؛ قال: وقد بعد عن الحقّ بعدا شديدا. وأما البستانى ّ - فهو ثلاثة أصناف: هندىّ «3» وصينىّ وخراسانىّ؛ فالهندىّ هو الذى يسمّى بمصر: الأخضر، وبالمغرب: الدّلّاع، وبالحجاز: الحبحب، وبالشأم: الزّبش «4» ؛ والصّينىّ هو الّذى يسمّى بمصر والشأم: الأصفر «5» ؛ والجيّد منه الثقيل الخشن الأصفر؛ وفيه يقول بعض الشّعراء: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 30 ثلاث هنّ فى البطّيخ زين ... وفى الإنسان منقصة وذلّه خشونة جسمه والثّقل فيه ... وصفرة لونه من غير علّه اذا شقّقته يوما تراه ... بدورا أشرقت منها أهلّه والخراسانىّ هو الّذى له رقبة مستطيلة معوجّة، ويسمّى بمصر: العبدلىّ نسبة الى عبد الله بن طاهر، فإنّه الّذى نقله من خراسان اليها؛ وقد عدّ بعض الأطبّاء فى البطّيخ صنفا آخر، وهو لطيف الشكل، عطر الرائحة، منقوش بالحمرة والصفرة والسّواد؛ منه ما يكون بقدر الكفّ، وأكبر من ذلك، ومنه المستطيل، ويسمّى بالعراق: الدّستنبوى «1» ، واحدته دستنبويه؛ وفى الشأم «2» : الشّمّام، واحدته شمّامة؛ وفى الصّعيد الأعلى يسمّونه: اللّفّاح، وهو خطأ، لأنّ اللّفّاح صنف آخر؛ ولهم فى بعض بلاد الصّعيد الأعلى من الدّيار المصريّة صنف آخر من أصناف البطّيخ الأصفر يسمّونه: الشّتوىّ، وهو مستطيل الشّكل، غير جافّ، يشبه القثّاء، رقيق الجلد جدّا، وهم غالبا لا يقطعونه بالسّكّين، وإنّما يمتصّون البطّيخة فيخرج ما فيها، ويبقى جلدها شبه الظّرف؛ وأكثر ما رأيت هذا الصنف بإسنى من عمل مدينة قوص. قال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا فى البطّيخ- ولم يميّزه بأصنافه، بل أطلق اسم البطّيخ، فقال: طبعه بارد فى أوّل الثانية، رطب فى آخرها؛ وإذا جفّف بزره لم يكن مرطّبا، بل يجفّف فى الأولى، وأصله مجفف، وقال فى أفعاله وخواصّه: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 31 النّضيج منه لطيف، والنّىء كثيف، وغير النّضيج فى طبع القثّاء، وفيه تفتيح كيفما كان؛ قال: والنّضيج منه وغير النّضيج جاليان؛ وبزره أقوى جلاء؛ ويستحيل إلى أىّ خلط وافق فى المعدة؛ وهو إلى البلغم أشدّ ميلا منه إلى الصّفراء، فكيف إلى السوداء! وهو ينقّى الجلد، وينفع من الكلف «1» والبهق والحزاز «2» ، وخصوصا إذا عجن جوفه كما هو بدقيق «3» الحنطة وجفّف فى الشمس؛ وإذا ألصق قشره بالجبهة منع من النوازل إلى العين؛ قال: وإذا أكل وجب أن يتبع طعاما آخر، فإنه اذا لم يتبع شيئا آخر غثّى وقيّأ، وليشرب عليه المحرور سكنجبينا «4» ، والمرطوب كندرا «5» أو زنجبيلا: مربّى أو شرابا؛ قال: وهو يدرّ البول نضيجه ونيئه؛ وينفع من الحصاة فى الكلية؛ قال: وإذا فسد البطّيخ فى المعدة استحال الى طبيعة سميّة، فيجب إخراجه بسرعة إذا ثقل؛ هذا ما قاله الشيخ. وأمّا ما جاء فى وصفه وتشبيهه - فقد وصفه الشعراء وشبّهوه؛ فمن ذلك ما قيل فى الأخضر منه، قال أبو طالب المأمونىّ: ومبيضّة فيها طرائق خضرة ... كما اخضرّ مجرى السيل من صيّب المزن كحقّة عاج ضبّبت بزبرجد ... حوت قطع الياقوت فى عطب «6» القطن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 32 وقال آخر: رأيتها فى كفّ جلّابها ... وقد بدت فى غاية الحسن كسلّة خضراء مختومة ... على الفصوص الحمر فى القطن وقال محمد بن شرف القيروانىّ: ما أطفأت جمر الوقيد ... لمشتك «1» وقدا ووهجا كإداوة «2» أكريّة «3» ... مملوءة ماء وثلجا رتقاء لم يسلك بها ... غرز الأشافى «4» قطّ نهجا تزهو بلونى خضرة ... هذا انتهى وأخوه لجّا كزمرّد وزبرجد ... رصّعن للكافور درجا أو وجه ذى خجل تبر ... قع بالمصبّغ أو تسجّى «5» وقال آخر: ومال إلى بطيخة ثمّ شقّها ... وفرّقها ما بين كلّ صديق صفائح بلّور بدت فى زبرجد ... مرصّعة فيها فصوص عقيق ومنه ما قيل فى الأصفر- قال أبو طالب المأمونىّ: وبطّيخة «6» مسكيّة عسليّة ... لها ثوب ديباج وعرف مدام الجزء: 11 ¦ الصفحة: 33 محقّقة ملء الأكفّ كأنّها ... من الجزع «1» كبرى لم ترض بنظام لها حلّة من جلّنار «2» وسوسن «3» ... معمّدة بالآس «4» غبّ غمام تمازج فيها لون حبّ وعاشق ... كساه الهوى والبين لون سقام وأبدى لنا التحزيز تخضيب كاعب ... غلاميّة ذات اعتدال قوام إذا فصّلت للأكل كانت أهلّة ... وإن لم تفصّل فهى بدر تمام وقال آخر: أتانا الغلام ببطّيخة ... وسكّينة جمّلوها «5» صقالا فقطّع بالبرق شمس الضّحى ... وناول كلّ هلال هلالا وقال آخر: خلناه لمّا حزّز البطّيخ فى ... أطباقه بصقيلة الصّفحات الجزء: 11 ¦ الصفحة: 34 بدرا يقدّ من الشموس أهلّة ... بالبرق بين الشّهب فى هالات وقال قاضى القضاة نجم الدّين بن البارزىّ: [يقطّع «1» بالسّكّين بطّيخة ضحى ... على طبق فى مجلس لان صاحبه كشمس ببرق قدّ بدرا أهلّة ... لدى هالة فى الأفق شتّى «2» كواكبه وقد تقدّم «3» إيرادهما فى تشبيه سبعة أشياء بسبعة أشياء. وقال أبو هلال العسكرىّ] : وجامعة لأصناف «4» المعانى ... صلحن «5» لوقت إكثار وقلّه فإحداهنّ تبرز فى عباء ... وأخراهنّ فى حبر وحلّه ومنها ما تشبّهه بدورا ... فإن قطّعتها رجعت أهلّه وقال أيضا: ولون واحد يلقى ... فيأتينا بألوان الجزء: 11 ¦ الصفحة: 35 بسمران وسودان ... وحمران وصفران كوشى فى يدى واش ... وشهد فى يدى جانى فمن أدم ومن بقل ... وريحان وأشنان وقال آخر: بطّيخة تعطيك من لونها ... حظّين من ريح ومن طعم كأنّها فى ذوقها شهدة ... أو جونة «1» العطّار فى الشّمّ وقال أبو الفتح كشاجم: وزائر زار وقد تعطّرا ... أسرّ شهدا وأذاع عنبرا وأودعت منه اللهاة سكّرا ... ينفث فى الأنوف مسكا أذفرا ملتحفا للحرّ ثوبا أصفرا ... معمّدا من الحرير أخضرا يظنّه الناظر إن تصوّرا ... دبّ الدّبى بمتنه فأثّرا وقال أيضا فيه: يا جانى البطّيخ من غرسه ... جنيت منه ثمر الحمد لم يأتنا حتّى أتتنا له ... روائح أذكى من النّدّ بظاهر أخشن من قنفذ ... وباطن أنعم من زبد كأنّما تكشف منه المدى ... عن زعفران شيب بالشّهد ومنه ما قيل فى الدّستنبويه- فمن ذلك ما قاله مؤيّد الدّين الطّغرائىّ: كرات دستنبوية نضّدت ... مختلفات الشّكل والمنظر فمستدير الشّكل ذو سمرة ... كأنّه جمجمة العنبر الجزء: 11 ¦ الصفحة: 36 ولا بس للنّور ذو نمرة ... والحسن كلّ الحسن فى الأنمر «1» وعسجدىّ اللّون ذو صفرة ... ضمّ إلى ترب له أحمر كأنّه المرّيخ فى لونه ... قارنه فى برجه المشترى وقال آخر «2» : يا حبّذا «3» تحيّة ... رحت بها مسرورا مخزنة «4» من ذهب ... قد ملئت كافورا وقال السرىّ: وأغنّ كالّرشإ «5» الرّبيب «6» ... نشا خلال الرّبرب «7» فى خدّه ورد حما ... هـ من القطاف بعقرب «8» الجزء: 11 ¦ الصفحة: 37 حيّا بدستنبوية ... مثل السّنان المذهب وقال فيها: صفراء «1» ما عنّت لعينى ناظر ... إلّا توهّمها سنانا مذهبا وأمّا القثّاء والخيار وما قيل فيهما - فقد قال الشيخ الرئيس: طبع القثّاء بارد رطب فى «2» الثانية؛ وهو يسكّن «3» الحرارة والصّفراء، ولكنّ كيموسه «4» ردىء مستعدّ للعفونة، ومهيّج لحميّات صعبة؛ وبزره خير من بزر الخيار، قال: واذا وضع ورقه «5» مع العسل على الشّرى «6» البلغمىّ نفع منه؛ واذا شمّه صاحب الغشى «7» الحارّ انتفع به وانتعش؛ وهو مسكّن للعطش، جيّد للمعدة، وفيه إدرار وتليين، وينفع من أوجاع المذاكير؛ وهو يوافق المثانة؛ قال: وورقه ينفع من عضة الكلب الكلب. وأمّا ما جاء فى وصفهما وتشبيههما من الشّعر - فمن ذلك ما قيل فى القثّاء، قال عبد الرّحيم بن رافع القيروانىّ «8» : أحبب بقثّاء أتانا ... فوق أطباق منضّد الجزء: 11 ¦ الصفحة: 38 كمضارب قد حدّدت ... أجرامهنّ من الزّبرجد نعم الدّواء إذا الهواء ... من الهواجر قد توقّد وقال السّرىّ الرّفّاء: وعقفاء مثل هلال السماء ... ولكنّها لبست سندسا عراقيّة لم يذب جسمها ... هزالا ولم تجس «1» فيما جسا زبرجدة حسنت منظرا ... وكافورة بردت ملمسا على رأسها زهرة غضّة ... كنجم الظلام اذا عسعسا حبانا بها مغرس طيّب ... من الأرض أكرم به مغرسا لها أخوات لطاف القدود ... اذا ما تبرّجن خضر الكسا محجّبة عن شموس النهار ... وبارزة لنسيم المسا تقوّس فى حين ميلاده ... ولم أر ذا صغر قوّسا يطول اللّسان بإطرائها ... ويصبح عن ذمّها أخرسا وقال أبو بكر الخوارزمىّ: يا ربّ قثّاء قريب «2» المورد ... درّ الحشا زمرّد المجرّد الجزء: 11 ¦ الصفحة: 39 شخت «1» الرّءوس أصور «2» المقلّد ... مثل ذنابى ريش ديك أعقد «3» قد التوى فوق الثّرى الرّطب النّدى ... كما يلوذ «4» أسود بأسود «5» ذى زغب وفيه لين الأجرد ... كالخدّ بين الملتحى والأمرد كأنّه فى اللّون والتأوّد ... صوالج ركّبن من زبرجد يكاد للّين وللتقصّد «6» ... تجنيه ألحاظ الفتى قبل اليد لمّا حصدناه قريب المحصد «7» ... هشّا وجدنا منه ما لم يوجد ماء كطعم السّكّر الطّبرزد «8» ... وذوب شهد سائلا فى جمد «9» وقال شاعر فى الخيار: انظر إلى عرف الخيار ولونه ... كروائح الرّيحان للمخمور الجزء: 11 ¦ الصفحة: 40 فكأنّ ظاهره زبرجد «1» أخضر ... وكأنّ باطنه من البلّور وقال آخر: خيار حين تنسبه خيار ... وريحان السرور به اخضرار كأنّ نسيمه أنفاس حبّ ... فليس لمغرم عنه اصطبار وقال أبو هلال العسكرىّ: زبرجدة فيها قراضة فضّة ... فإن رجعت تبرا فقد خسّ أمرها تلمّ بنا طورين فى كلّ حجّة ... فيكثر فينا خيرها ثمّ شرّها فعند المصيف ليس يفقد نفعها ... وعند الخريف ليس يعدم «2» ضرّها وأمّا القرع وما قيل فيه - فقال الشيخ الرئيس: القرع بارد رطب فى الثانية؛ والمسلوق منه يغذو غذاء يسيرا؛ وهو سريع الانحدار؛ وإن لم يفسد قبل الهضم بسبب لم يتولّد منه خلط ردىء؛ ويفسد فى المعدة بمخالطة خلط ردىء أو إبطاء مقام كسائر الفواكه؛ والخلط الّذى يتولّد منه تفه إلّا أن يغلب عليه شىء يخالطه؛ وان خلط بالسّفرجل كان خلطه محمودا للصّفراويّين؛ وكذلك ماء الحصرم وماء الرّمّان، لكن ضرره بالقولون «3» يتضاعف، قال: ومن خاصّيّته أنّه يتولّد منه غذاء الجزء: 11 ¦ الصفحة: 41 مجانس لما يصحبه؛ فاذا أكل بالخردل تولّد منه خلط حرّيف، أو بالملح تولّد منه خلط مالح، أو مع القابض تولّد منه خلط قابض؛ وهو بالجملة ضارّ لأصحاب السّوداء والبلغم، جيّد للصّفراويّين؛ قال: والمربّى منه لا يدخل فى الأدوية، ولا يؤثّر شيئا من تبريد ولا تسخين، ولكن يستعمل للّذة؛ وعصارته تسكّن وجع الأذن الحارّ، وخصوصا مع دهن الورد؛ وينفع الأورام الدّماغيّة» والسّرسام «2» ، وهو نافع لوجع الحلق؛ قال: وسويق القرع «3» مانع من السّعال ووجع الصّدر الكائنين [من حرارة «4» ] ؛ وطبيخه ينفع من الفضول الحارة فى المعدة ويزلقها؛ وكذلك شراب صبّ فى تجويفه ثمّ استعمل، ويسعط بعصارته لوجع الأسنان؛ وهو ممّا يولّد بلّة المعدة جدّا، ويقطع العطش؛ والنّىء منه ضارّ بالمعدة جدّا حتّى للصّبيان «5» والفتيان؛ واذا طبخ ماؤه بالعسل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 42 وجعل فيه نطرون ليّن البطن، فهو ينفع من الحميّات. ولم أقف فيه على شىء من الشّعر فأورده «1» . وأما الباذنجان «2» وما قيل فيه - فقد قال ابن وحشيّة فى كتاب (أسرار القمر) فى توليده: وإن أردتم الباذنجان فخذوا خصيتى التّيس وعروقا من عروق الباذنجان فألقوها على الخصيتين بعد أن تجعلوا الخصيتين فى الأرض، وخذوا إحدى كليتيه واجعلوها فوق العروق، واطمروا «3» ذلك فى الأرض، فإنّه بعد أربعة أسابيع تنبت منه شجرة [الباذنجان «4» ] ، فاذا نبتت فحوّلوها إلى موضع آخر فإنّها تنمو؛ هذا ما قيل فى توليده، والله أعلم بالصّواب. وقال الشيخ الرئيس: إنّ العتيق منه ردىء، والحديث أسلم. كأنّه أراد بالعتيق: الّذى طال مكثه فى الأرض؛ والحديث: الّذى قرب عهده بالغراسة «5» . وقال فى طبعه: الصحيح أنّ قوّته الغالبة عليه الحرارة واليبوسة «6» . وردّ بهذا القول الجزء: 11 ¦ الصفحة: 43 على من زعم أنّه بارد؛ وقال فى أفعاله وخواصّه: إنّه يولّد السّوداء، ويولّد السّدد، وإنّه يفسد اللّون ويصفّره، ويسوّد البشرة، ويورث الكلف، ويولّد السّرطانات والصّلابات، والجذام والصّداع فى الرأس، وينتّن «1» الفم، ويولّد سدد الكبد والطّحال، إلّا المطبوخ منه بالخلّ فانّه ربّما فتّح سدد الكبد؛ قال: والباذنجان يولّد البواسير، لكنّ سحيق أقماعه المجفّفة فى الظّلّ طلاء نافع للبواسير، قال: وليس للباذنجان نسبة الى عقل أو إطلاق، ولكنّها «2» اذا طبخت فى الدّهن أطلقت «3» ، أو فى الخلّ حبست «4» ؛ هذا ما قاله الشيخ فيه. وأمّا ما وصف به من الشّعر - فقال بعض الشعراء يصف المدوّر منه: أهدت لنا الأرض من عجائبها ... ما سوف يزهو بمثله وقتى اذا أجاد الّذى يشبّهه ... وأحكم الوصف منه فى النّعت قال: كرات الأديم قد حشيت «5» ... بسمسم قمّعت بكيمخت «6» الجزء: 11 ¦ الصفحة: 44 وقال آخر «1» : وابذنج «2» بستان أنيق رأيته ... على طبق يحكى لمقلة رامق قلوب ظباء أفردت عن جسومها ... على كلّ قلب منهم كفّ باشق «3» وقال آخر: ومستحسن عند الطّعام مدحرج ... غذاه نمير الماء فى كلّ بستان تطلّع من أقماعه فكأنّه ... قلوب نعاج فى مخالب عقبان وقال آخر: وكأنّما الابذنج سود حمائم ... أو كارها روض الرّبيع المبكر لقطت مناقرها الزبرجد سمسما ... فاستودعته حواصلا من عنبر وأمّا ما قيل فى السّلق - فقال أبو بكر بن وحشيّة فى توليده: وإن أردتم السّلق فخذوا من ورق الخسّ وورق الخطمىّ فدقّوهما حتّى يختلطا، وليكونا «4» رطبين، ثمّ خذوا عروقا من عروق التّيس فألبسوها ذلك المخلوط، ثمّ اطمروها «5» فى الأرض، فإنّه يخرج من ذلك السّلق. قال الشيخ الرئيس: والسّلق صنفان: أسود لشدّة الخضرة «6» ، وهو المعروف الجزء: 11 ¦ الصفحة: 45 [وأبيض «1» ] ؛ وطبعه عند بعضهم حارّ يابس فى الأولى؛ وفى الحقيقة أنّه مركّب القوّة، وعند بعضهم هو بارد؛ قال: ولا شكّ أنّ فى أصله رطوبة؛ قال: ولا شكّ أنّ فى أصله رطوبة؛ قال: وفيه بورقيّة «2» ملطّفة؛ وفيه تحليل وتجفيف «3» وتليين؛ وفى الأسود قبض، وخاصّة مع العدس «4» ؛ قال: وجميع السّلق ردىء الكيموس «5» ، وجميعه قليل الغذاء كسائر البقول؛ وعصارته وطبيخ ورقه ينفعان من شقاق «6» البرد، ومن داء الثّعلب «7» ، ومن الكلف إذا استعمل ورقه ضمادا بعد غسل الموضع بنطرون؛ ويقلع الثّآليل «8» ، وعصيره يقتل القمل، وتضمد به الأورام مسلوقا فيحلّلها وينضجها، وينفع من التّوث «9» ضمادا يحلّلها؛ وورقه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 46 جيّد مطبوخا لحرق النّار، وينفع من القوابى «1» طلاء بالعسل، ويسعط ماؤه مع مرارة الكركىّ فيذهب اللّقوة «2» ، وينفع من قروح الأنف؛ وماؤه فاترا يقطر فى الأذن فيسكّن الوجع؛ ويغسل بمائه الرأس فيذهب النّخالة «3» ؛ وأصله ردىء للمعدة، مغث «4» ، وأكثر ذلك لبورقيّته؛ قال: وتفتيحه لسدد الكبد أشدّ من تفتيح الملوخيّا «5» ، خاصّة مع الخردل والخلّ، وكذلك الطّحال، ويجب أن يؤكل بالمرّىّ «6» والتّوابل؛ قال: وجميعه يولّد النّفخ والقراقر «7» ويمغص؛ وهو جيّد للقولنج «8» إذا أخذ بالّتوابل والمرّىّ. ولم أقف على شىء من الشّعر فيه فأورده. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 47 وأمّا القنّبيط والكرنب - فقال ابن وحشيّة: وإن أردتم توليد القنّبيط فخذوا منه رأسا بعد موته، فاغمسوه فى عكر الخلّ غمستين بينهما ساعة، ثمّ اتركوه فى الأرض، ودقّوا كفّا من جبن عتيق، واجعلوه فوقه، واطمروه بالتراب، فإنّه بعد أربعة أسابيع يخرج القنّبيط. ومن خصائص هذا النبات أنّه إذا وقع عليه خلّ العنب قبل طبخه لم ينضج؛ وكذلك إذا سلق وعمل عليه الخلّ فإنّه يصلب؛ ومتى زرع تحت كرم فسد الكرم؛ ويقال: إنّ بزره إذا قدم على أربع سنين وزرع بعد ذلك تحوّل سلجما، فإن زرع ذلك السّلجم تحوّل كرنبا «1» . وقال فى توليد الكرنب: وإن أردتم الكرنب فخذوا أظلاف التّيس الأربعة فانقعوها فى السّمن ثلاثا؛ ثمّ اجعلوها فى الأرض، وغطّوها بشعر لحية التيس ثمّ اطمروا ذلك فى رمل، واطرحوا فوقه التراب، فإنه ينبت منه الكرنب. وقال الشيخ الرئيس فى طبع الكرنب: الأصل «2» أرطب من الورق؛ والبرّىّ أسخن وأيبس، وجملته حارّ فى الأولى، يابس فى الثانية؛ قال: والكرنب منه بستانىّ «ومنه بحرىّ «3» » ومنه برّىّ، ومنه كرنب الماء، والبرّىّ أمرّ وأحدّ وأبعد من أن يكون غذاء؛ وطبيخ أصل الكرنب بماء الرّمّان طيّب؛ والقنّبيط غليظ الغذاء، مغلّظ للدّم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 48 إذا لم ينحلّ رسخ إلى نواحى الثّندؤة «1» والجنب وأوجع، ولا يكون منتقلا كالرّيحىّ «2» ؛ قال: وأمّا أفعاله وخواصّه، فهو منضج مليّن مجفّف، خصوصا إذا طبخ وصبّ عنه الماء الأوّل؛ ورماد قضبانه قوىّ التجفيف، وله خاصّيّة فى تسكين الأوجاع؛ وغذاؤه يسير؛ ودمه ردىء؛ وإذا طبخ بلحم سمين أو دجاج جاد قليلا؛ قال: والبرّىّ والبحرىّ والبستانىّ ينضج الفلغمونيات «3» ، وهو يدمل «4» ، ويمنع سعى الخبيثة «5» ويجعل ببياض البيض على الحرق؛ قال: وهو ينفع من الرّعشة؛ ومع الحلبة قد الجزء: 11 ¦ الصفحة: 49 يجعل على النّقرس «1» ؛ قال: وطبيخه وبزره يبطىء «2» بالسّكر؛ وإذا استعطت عصارته «3» نقّى الرأس، ومن خواصّه تجفيف اللّسان، وهو منوّم، وهو مظلم للبصر مع أنّه يقع فى الأكحال؛ قال: ويتغرغر بعصيره أو طبيخه مع دهن الخلّ من الخوانق «4» ؛ وأكله يصفّى الصّوت؛ وهو ردىء للمعدة؛ وعصيره بالنّبيذ نافع من الطّحال واليرقان «5» ؛ وبيضه «6» بطىء الهضم؛ وهو يدرّ البول والطّمث: «وإذا احتمل «7» هو أو عصارته مع دقيق الشّيلم «8» » أو زهره «9» قتل الجنين، وإذا احتمل بزره بعد الجماع أفسد المنىّ؛ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 50 قال: ورماد أصله يفتّت الحصاة؛ وعصارته مع الشّراب للنّهوش «1» ؛ وهو نافع من عضّة الكلب الكلب. ولم أقف على شعر [فيهما «2» ] فأذكره؛ والله الموفّق. وأمّا السّلجم - وهو اللّفت- فقال ابن وحشيّة فى توليده: وإن أردتم السّلجم فخذوا عرق الشّوك المعقّد فخزّوا من عقده ثلاثا كبارا، ثم خذوا رأس عنز بعد موتها فأدخلوا الثلاث عقد فيه، ثمّ اطمروه فى الأرض، واجعلوا فوقه كيله «3» من الماء، فإنّه بعد أربعين يوما ينبت الورق ظاهرا، ويعمل الأصل بعد ذلك وأكثروا من سقيه الماء فإنّه ينمى «4» ...... وقال شاعر «5» يصفه: كأنّما السّلجم لمّا بدا ... فى حسنه الرائق من غير مين قطائع «6» الكافور ملمومة ... لمبصريها أو كرات اللّجين الجزء: 11 ¦ الصفحة: 51 وقال آخر: يا حبّذا السّلجم من مأكل ... بنفعه فاق جميع البقول كم فيه من منفعة جمّة ... إحصاؤها من غير مين يطول وأمّا ما قيل فى الفجل - فقال ابن وحشيّة فى توليده: وإن أردتم الفجل فخذوا من قرون المعز قرنين فانقعو هما فى بول النّاس سبعة أيّام، ثم اغرسوهما فى الأرض، وذرّوا عليهما شيئا يسيرا من حلتيت «1» ، واسقوهما ماء المطر يوما بعد يوم فإنّ ذلك ينبت لكم الفجل بعد أحد وعشرين يوما. وقال الشيخ الرئيس: أقوى ما فى الفجل بزره، ثمّ قشره، ثمّ ورقه، ثمّ لحمه؛ ودهنه فى قوّة دهن الخروع، إلّا أنّه أشدّ حرارة منه. وقال فى طبعه: الرّطب «2» منه حارّ فى الأولى؛ وبزره حارّ فى الثالثة؛ وهو يولّد الرياح، لكنّ بزره يحلّلها؛ وفيه تلطيف؛ وغذاؤه بلغمىّ؛ وهو قليل مع ذلك؛ وفيه جوهر سريع إلى التّعفّن؛ قال: وإن خلط معه دقيق الشّيلم «3» أنبت الشعر فى داء الثعلب «4» ؛ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 52 وإذا ضمد به مع عسل قلع الآثار العارضة تحت العين والقروح الخبيثة واللّبنيّة «1» ؛ وبزره مع الخلّ يقلع قرحة غنغرانا «2» قلعا تامّا، وكذلك على القوباء؛ وبزره ينفع من النّمش الكائن فى الأعضاء وسائر الألوان الغريبة وآثار الضّرب والكلف؛ وهو مع الكندس «3» [بخلّ «4» ] طلاء يذهب البهق الأسود، وخصوصا فى الحمّام؛ وهو يكثر القمل فى الجسد؛ قال: وبزره يدفع الضّربان الّذى فى المفاصل؛ وهو جيّد لوجع المفاصل جدّا؛ وهو يضرّ الرأس والأسنان والحنك؛ وعصارته ودهنه نافعان من الرّيح فى الأذن جدّا؛ وهو ضارّ بالعين، إلّا أنّه يجلو اذا قطر ماؤه فيها، ويذهب الآثار الّتى تحت المأق؛ وقال ابن ماسويه: إنّ ورقه يحدّ البصر؛ قال: والمطبوخ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 53 منه صالح للسّعال العتيق والكيموس «1» الغليظ المتولّد فى الصّدر؛ قال: وإن طبخ بسكنجبين «2» وتغرغر به نفع من الخناق «3» ، وفيه مع ذلك مضرّة بالحلق؛ قال: وهو ردىء للمعدة مجشّىء، وبعد الطعام مليّن للبطن، منفذ للغذاء؛ وقبل الطعام يطفى الطّعام ولا يدعه يستقرّ؛ وهو يسهّل القىء، وخصوصا قشره بالسّكنجبين؛ ويوافق الجنب والطّحال ضمادا؛ وبزره بالخلّ يقىّء «4» جدّا، ويحلّل ورم الطّحال؛ قال ابن ماسويه: وإن أكل بعد الطعام هضم، وخاصّة ورقه؛ وماء ورقه يفتّح سدد الكبد، ويزيل اليرقان «5» ؛ وقال بعضهم: ورقه يهضم؛ وبزره وجرمه «6» محلّلان للنّفخ فى البطن، ويسهّلان خروج الطّعام، ويشهّيان، ويذهبان وجع الكبد؛ وماؤه جيّد للاستسقاء؛ قال: وهو ينفع من نهش الأفاعى، وبالشراب من لسع العقرب؛ وبزره ينفع من السّموم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 54 والهوامّ؛ وإن وضعت شدخة منه على العقرب ماتت، وجرّب ماؤه فى ذلك فكان أقوى؛ وإن لدغت العقرب من أكل فجلا لم تضرّه؛ هذا ما ورد من منافعه ومضارّه. وقال بعض الشعراء يصفه: احبب بفجل قد أتتنى به ... عند مسائى ذات أوقار «1» كأنّه فى يدها إذ بدا ... مقشّرا فى وقت إفطارى قضبان بلّور وإلّا فما ... يجمد «2» من قطر النّدى الجارى وقال آخر: احبب بفجل قد أتانا به ... طبّاخنا من بعد تقشير منضّد فى طبق خلته ... من حسنه قضبان بلّور وأمّا الجزر وما قيل فيه - فقال ابن وحشيّة فى توليده: إن أخذتم نابى الخنزير فدهنتمو هما بالزّيت، وجعلتم فى كلّ جانب من جانبى النابين الحادّين بعرة جمل، وطمرتموهما فى الأرض خرج عن ذلك الجزر الحلو الجيّد؛ وإن طمرتم قرنين من كبشين من كلّ واحد قرنا مدهونا بالّزيت خرج من ذلك الجزر. وقال أيضا: وأن أردتم الجزر فخذوا أصل السّلجم فشقّوه نصفين، واجعلوا فى جوفه من البصل فى كلّ رأس بصلتين، واحدة فى أعلاه، وأخرى فى أسفله، وليكونا أصلين، ثمّ ادهنو هما بالزّيت، واطمروهما «3» بالتراب، فانّ ذلك يعمل أصلا هو الجزر، ويظهر ورقه على وجه الأرض. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 55 وقال الشيخ الرئيس: قال ديسقور يدوس: من الجزر صنف ورقه أصغر من ورق الرّازيانج وفى صورته، وساقه إلى شبر، وفقّاحه «1» أصفر، وله كصومعة «2» الكزبرة والشّبث «3» ، وله ثمر أبيض حادّ طيّب الرائحة والمضغ؛ والثانى «4» يشبه الكرفس الرّومىّ حرّيف محرق طيّب الرّائحة؛ والثالث ورقه كورق الكزبرة، أبيض الفقّاح، شبثىّ الصّومعة والثمرة، وله كأقماع الجوز محشوّة بزرا كمّونيّا فى هيئته وحدّته؛ قال: وطبع الجزر حارّ فى آخر الثانية، رطب فى الأولى؛ وينفع بزره، وورقه اذا دقّ وجعل على القروح المتأكّلة نفع منها؛ والجزر ينفع من ذات الجنب، ومن السّعال [المزمن «5» ] ؛ وهو عسر الهضم؛ والمربّى «6» أسهل هضما، وينفع من الاستسقاء؛ ويسكّن المغص، ويدرّ، خصوصا البرّىّ، وخصوصا بزره، وكذلك ورقه؛ ويهيج الباه، وخاصّة البستانىّ «7» ، فإنه أشدّ نفخا، وليس يفعل ذلك بزر البرّىّ. وأمّا الشّقاقل «8» - وهو الجزر البرّىّ إن عدّ فى الجزر- فهو أهيج للباه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 56 من البستانىّ؛ ويدرّ الطّمث والبول. ورايت على حاشية (كتاب الأدوية المفردة) للشيخ الرئيس فى النسخة التى نقلت منها بخطّ من لعلّه استدرك على الشيخ ما صورته: الجزر نوعان: بستانىّ وبرّىّ؛ والمحلّى «1» عند ديسقوريدوس هاهنا هو (دوقو) ؛ وله ثلاثة أصناف، وليس هو من الجزر، ولمّا خلط الشيخ فى الماهيّة خلط فى المنافع. ودوقو، هو الجزر «2» البرّىّ؛ هذا ما رأيته فى الجزر. وقال شاعر يصفه ويشبّهه: انظر إلى الجزر الّذى ... يحكى لنا لهب الحريق كمديّة من سندس ... فيها نصاب من عقيق وقال ابن رافع: انظر الى الجزر البديع كأنّه ... فى حسنه قضب من المرجان أو راقه كزبرجد فى لونها ... وقلوبه صيغت من العقيان وأمّا البصل وما قيل فيه - فقال الشيخ الرئيس أبو علّى بن سينا: إنّه حارّ فى الثالثة، وفيه رطوبة فضليّة؛ وأمّا أفعاله، فهو ملطّف مقطّع، وفيه مع قبضه جلاء وتفتيح قوىّ، وفيه نفخ وجذب للدّم إلى خارج، ولا يتولّد من غير المطبوخ منه غذاء يعتدّ به، وغذاء الذى طبخ أيضا خلط غليظ؛ قال: وللبصل المأكول خاصيّة، ينفع من ضرر المياه، وهو يحمّر الوجه، وبزره يذهب البهق الجزء: 11 ¦ الصفحة: 57 ويدلك به حول موضع داء الثّعلب «1» فينفع جدّا؛ وهو بالملح يقلع الثّآليل «2» ؛ وماؤه ينفع القروح الوسخة، وينفع مع شحم الدّجاج لسحج «3» الخفّ؛ واذا سعط ماؤه نقىّ الرأس؛ ويقطر فى الأذن لثقل الرأس والطّنين والقيح فى الأذنين؛ والإكثار منه يسبت «4» ؛ وهو ممّا يضرّ العقل لتوليده الخلط الرّدىء؛ وهو يكثر اللّعاب، وعصارته تنفع من الماء النازل فى العين، وتجلو البصر؛ ويكتحل ببزره «5» بالعسل لبياض العين؛ وماؤه مع العسل ينفع من الخناق؛ قال: والبصل يفتّح أفواه البواسير؛ وجميع أنواع البصل تهيّج الباه؛ وماؤه مدرّ للبول» ومليّن للطّبيعة، وينفع من عضّة الكلب الكلب اذا نطل عليها ماؤه بملح وسذاب؛ قال: والبصل المأكول يدفع ضرر السّموم «7» ؛ قال بعضهم: لأنّه يولّد فى المعدة خلطا رطبا كثيرا يكسر عادية السّموم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 58 قال شاعر يصفه: يكثرن من لبس الثّياب تستّرا ... كتم الحسود ليطمئنّ «1» الحارس فاذا نظرت الى الثّياب وجدتها ... أثواب زور ليس فيها لا بس وقال ابن وكيع يصفه من أرجوزة: فاعمد الى مدوّر من البصل ... فإنّه أكثر أعوان العمل يحكى لعينيك احمرار قشره ... إذا رماه ناظر بفكره غلائلا حمرا على جسوم ... بيض رطاب من جسوم الرّوم وأمّا الثّوم وما قيل فيه - فقال الشيخ: منه البستانىّ المعروف، ومنه الثّوم الكّراثىّ، والثّوم البرّىّ؛ وفى البرّىّ مرارة وقبض، وهو المسمّى ثوم الحيّة؛ والكرّاثىّ مركّب القوّة من الثّوم والكرّاث؛ مسخّن ومجفّف فى الثالثة إلى الرابعة، والبرّىّ أكثر من ذلك؛ والثّوم مليّن يحلّ النفخ جدّا، مقرّح للجلد، ينفع من تغيّر البلاد «2» ؛ واذا شرب بطبيخ الفوتنح «3» الجبلىّ قتل القمل والصّئبان؛ ورماده اذا طلى بالعسل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 59 على البهق نفع؛ وينفع من داء الثعلب الكائن من الموادّ العفنة؛ والثّوم البرّىّ يلصق الجراحات الخبيثة إذا وضع عليها طريّا؛ واذا احتقن بالثّوم نفع من عرق النّسا «1» ، لأنّه يسهل دما وأخلاطا، قال: والثّوم مصدّع للرأس، وطبيخه ومشويّه يسكّن «2» وجع الأسنان، وكذلك المضمضة بطبيخه، وخصوصا اذا خلط بالكندر «3» ؛ قال: والثّوم مضعف للبصر، ويجلب بثورا فى العين، ويصفّى الحلق مطبوخا؛ وينفع من السّعال المزمن، ومن أوجاع الصّدر من البرد؛ ويخرج العلق من الحلق؛ واذا جلس فى طبيخ ورق الثّوم وساقه أدرّ البول والطّمث وأخرج المشيمة، وكذلك إذا احتمل أو شرب؛ واذا دقّ منه مقدار درهمين «4» مع ماء العسل أخرج البلغم؛ وهو يخرج الدّود؛ وفيه إطلاق للطّبع؛ وأمّا فعله فى الباه فإنّه لشدّة تجفيفه وتحليله قد يضرّ، فإن طبخ فى الماء حتّى انحلّت فيه حدّته لم يبعد أن يكون ما يبقى منه فى مسلوقه قليل الحرارة لا يجفّف، وتتولّد منه مادّة المنىّ؛ قال: والثّوم نافع للسع الجزء: 11 ¦ الصفحة: 60 الهوامّ ونهش الحيّات إذا سقى بشراب «1» ؛ قال: وقد جرّبنا ذلك؛ وكذلك من عضّة الكلب الكلب؛ واذا ضمد بالثّوم وبورق التّين وبالكّمون على عضّة موغالى «2» نفع؛ هذا ما أورده الشيخ فيه. وقال شاعر يصفه «3» : يا حبّذا ثومة فى كفّ طاهية ... بديعة الحسن تسبى كلّ من نظرا أبصرتها وهى من عجب تقلّبها ... كصرّة من دبيقىّ «4» حوت دررا وقال آخر: الثّوم مثل الّلوز إن قشّرته ... لولا روائحه وطعم مذاقه كالنّذل غرّك منظرا فإذا ادّعى ... لفضيلة ينمى إلى أعراقه وأمّا الكرّاث وما قيل فيه - فمنه الشّامىّ والنّبطىّ، ولكلّ منهما توليد ذكره أبو بكر بن وحشيّة فى كتاب (أسرار القمر) فقال: وان أردتم الكرّاث الشّامىّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 61 فخذوا مقلة «1» واحدة فاغمسوها فى سكبينج «2» محلول ببول أىّ بول اتّفق، ثمّ اطمروها فى التراب، واسقوها الماء، فإنها تنبت بعد ثلاثين يوما، وتعمل أصولا جيادا. وإن أردتم الكرّاث النّبطىّ فخذوا قشر الجوز فألقوه على قير «3» مغلىّ، واتركوه قليلا بقدر ما يعلق به من القير شىء يسير على أطرافه وجوانبه، وما لم يعلق به شىء فردّوه الى أن يعلق، ثمّ اجمعوا ذلك القشر وادفنوه فى التّراب، وألقوا عليه قبل التراب شيئا من خردل مسحوق، ثمّ اسقوه الماء، فإنّه ينبت فى أحد وعشرين يوما كرّاثا نبطيّا. قال الشيخ الرئيس: الكرّاث منه شامىّ، ومنه نبطىّ، ومنه الّذى يقال له: كرّاث برّىّ، وهو بين الكرّاث والثّوم، وهو أشبه بالدّواء منه بالطعام؛ والنّبطىّ أدخل فى المعالجات من الشّامىّ؛ وطبع النّبطىّ حارّ فى الثالثة، يابس فى الثانية؛ والبرّىّ أحرّ وأيبس، ولذلك هو أردأ؛ والشّامىّ مع السّمّاق «4» للثّآليل «5» ، ويذهب الشّرى «6» الجزء: 11 ¦ الصفحة: 62 ومع الملح للقروح الخبيثة؛ والبرّىّ لقرح «1» الثّدى؛ قال: وهو يقطع الرّعاف. وقال غيره: ماء الكرّاث النّبطىّ يقطع الرّعاف وسيلان الدّم اذا خلط به شىء من كندر «2» مسحوق. قال الشيخ: ويبخّر ببزره مع القطران للسّنّ الّتى فيها دود؛ وأكله مصدّع، يخيّل أحلاما رديئة؛ ورماده مع [دهن «3» ] ورد وخلّ خمر لوجع الأذن وطنينها؛ وهو ممّا يفسد اللّثة والأسنان، وخصوصا [الشامىّ؛ وهو يضرّ البصر؛ وهو مع ماء الشّعير للرّبو الكائن من مادّة غليظة، وخصوصا النّبطىّ، وخصوصا «4» ] مع العسل؛ وينفع من أورام الرّئة وينضجها، ويعطى من بزره درهمان مع مثله حبّ الآس لنفث الدّم؛ والبرّىّ منه ردىء للمعدة، أردأ من الشّامىّ «5» ؛ والكرّاث كلّه نفّاخ؛ وقال روفس: إنّه يقطع الجشاء الحامض؛ قال الشيخ: وهو بالجملة بطىء الهضم؛ وهو يدرّ البول والطّمث، لا سيّما النّبطىّ والبرّى؛ ويضرّان المثانة والكلية «6» ؛ ومسلوقه ينفع البواسير مأكولا وضمادا، ويحرّك الباه، وكذلك بزره مقلوّا؛ قال: وبزره مقلوّا مع حبّ الآس للزّحير «7» ودم المقعدة؛ ويجلس فى طبيخ ورقه بماء؛ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 63 وهو نافع من انضمام الرّحم والصّلابة فيها؛ وطبيخ أصوله إسفيد باجة «1» بدهن القرطم أو دهن اللّوز أو شيرج «2» نافع للقولنج «3» ؛ ولم أقف فيه على شعر فأورده. وأمّا الرّيباس «4» وما قيل فيه - فقال الشيخ: الرّيباس له قوّة حمّاض «5» الأترجّ والحصرم؛ وهو بارد يابس فى الثانية؛ وهو مطفىء، قاطع للدم، يسكّن الحرارة، وينفع من الطاعون، ويحدّ البصر إذا اكتحل بعصارته؛ وينفع من الإسهال الصّفراوىّ؛ وينفع من الحصبة والجدرىّ والوباء «6» . قال أبو بكر الخوارزمىّ يصفه: ولعبة عاج فى قميص مورّد ... أسافله خضر وأزراره حمر كأنّ يديها والأنامل خضّبت ... وشدّت على أطرافها خرق خضر الجزء: 11 ¦ الصفحة: 64 وقال آخر: ونبات لم يكتس «1» الورق الخض ... ر ولم يغذه نسيم الهواء لا ولا كان فى الثّرى فتغذّيه ... بتسكابها يد الأنواء جاء مثل السّياط «2» أو ... كالمساويك وبعض يحكى عصىّ الرّعاء لذّ طعما وعمّ نفعا فأىّ النّقل «3» ... منه نلقى وأىّ الدّواء قوله: «لا ولا كان فى الثّرى» ، يشير إلى أنّه لا ينبت إلّا فى الثّلج. وقال آخر: ومكنونة من بنات الثّرى ... تجمّع بالباب خطّابها تمدّ يدا أبرزت كفّها ... يجرّ الزّمرّد عنّابها وأمّا الهليون «4» وما قيل فيه - فقال ابن وحشيّة فى توليده: متى دفنت أطراف قرون الكباش مع ورق السّلق، وسقيا «5» بالماء، نبت من ذلك الهليون؛ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 65 قال: وإن أخذ من الهليون قضيب واحد وطلى بالعسل، ومرّغ فى رماد البلّوط «1» وألبس طينا، وطمر فى الأرض، خرجت منه عدّة عيدان كثيرة القضبان، بيض فى غاية البياض، وربّما كان فى بعضها حمرة حولها صفرة، وربّما كان فى بعضها حمرة حولها صفرة، وربمّا خالطها خضرة وتوريد. وقال الشيخ الرئيس فيه: طبعه معتدل عند جالينوس؛ قال: إنّه ليس فيه إسخان ولا تبريد إلّا الصّخرىّ «2» ؛ قال الشيخ: أقول: لا يبعد عن الحرارة، وكلّما أخذ يصلب اشتدّ حرّه؛ وقال فى أفعاله وخواصّه: قوّته جالية، تفتّح سدد الأحشاء كلّها، خصوصا الكبد والكلية؛ وفيه تحليل، خصوصا الصّخرىّ؛ قال: ويشرب طبيخه لوجع الظّهر وعرق النّسا «3» ؛ واذا طبخ أصله بالخلّ وكذلك بزره «4» فهو جيّد لوجع الضّرس؛ وينفع من اليرقان «5» ؛ قال: والأغلب يقولون فيه: إنّه ينفع من القولنج «6» البلغمىّ؛ وطبيخ أصوله يدرّ البول وينفع عسره، ويزيد فى الباه؛ وبزره إذا احتمل «7» أدرّ الطّمث، ويفتّح سدد الكلى؛ قال: واذا طبخ بالشّراب نفع من نهشة الرّتيلاء «8» ؛ وطبيخه يقتل- فيما يقال- الكلاب. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 66 وقال شاعر يصفه: وباقة هليون أتت وهى غضّة ... فشبّهتها تشبيه ذى اللّبّ والفضل برشق نبال جمعت من زبرجد ... مشنّفة الأعلى مفضّضة الأصل وقال أبو الفتح كشاجم: لنا رماح فى أعاليها أود «1» ... مثقّفات الجسم فتل كالمسد «2» منتصبات فى انفراج كالعمد ... مكسوّة من صبغة «3» الفرد الصّمد ثوبا من السّندس من فوق جسد ... قد أشربت حمرة لون تتّقد «4» وأمّا الهندبا وما قيل فيها - فقال ابن وحشيّة: إن أردتم الهندبا فخذوا من أصول الأشنان «5» فدقّوه واخلطوا به ورق الهندبا مدقوقا، وصبّوا عليه اليسير من الزّيت، وخمّروه فى إناء ثلاثة أيّام، ثم اجعلوه فى الأرض، واطمروه بالتراب فإنّه يخرج بعد أربعة عشر يوما هندبا؛ قال: وان أردتموه أيضا فخذوا رجل ديك فآنقعوها فى خلّ ممزوج بماء يوما وليلة، ثمّ انقعوها فى بول البقر ثلاثة أيّام، ثم اطمروها فى الأرض، فإنّه يخرج من ذلك نوع آخر من الهندبا؛ والّذى ينبت من أصول الأشنان أشدّ مرارة وأغلظ ورقا، لكنّه أنفع للكبد. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 67 قال الشيخ الرئيس: الهندبا منه برّىّ ومنه بستانىّ؛ وهو صنفان: عريض الورق، ودقيقه؛ وأنفعه للكبد أمرّه؛ وقال فى طبعه: إنّه بارد فى [آخر «1» ] الأولى ويابسه يابس فى الأولى، ورطبه رطب فى آخر الأولى؛ والبستانىّ أبرد وأرطب؛ قال: وقد تشتدّ مرارته فى الصّيف فيميل الى حرارة لا تؤثّر؛ والبرّىّ أقلّ رطوبة وهو الطّر خشقوق «2» ؛ وقال فى أفعاله وخواصّه: انّه يفتّح سدد الأحشاء والعروق، وفيه قبض صالح وليس بشديد، وماؤه مع الإسفيدّاج «3» والخلّ عجيب فى تبريد ما يراد تبريده طلاء؛ قال: ويضمد به النّقرس «4» ، وينفع من الرّمد الحارّ؛ ولبن الهندبا البرّىّ يجلو بياض العين؛ ويضمد به مع دقيق الشعير للخفقان، ويقوّى القلب؛ واذا حلّ خيار «5» شنبر فى مائه وتغرغر به نفع من أورام الحلق؛ وهو يسكّن الغثى، ويقوّى المعدة، وهو خير «6» الأدوية لمعدة بها مزاج حارّ؛ والبرّىّ أجود للمعدة من البستانىّ؛ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 68 وقيل: إنّه موافق لمزاج الكبد كيف كان؛ أمّا الحارّ فشديد الموافقة له، وليس يضرّ البارد ضرر سائر أصناف البقول الباردة؛ قال: واذا أكل مع الخلّ عقل البطن؛ وهو نافع لحمّى الرّبع «1» والحمّيات الباردة؛ وإذا جعل ضمادا مع أصوله للسع العقرب والهوامّ والزّنابير والحيّة وسامّ أبرص نفع، وكذلك مع السّويق. وأمّا النّعنع وما قيل فيه - فقال ابن وحشيّة: هو أحد منابت «2» أنواع تحت جنس واحد يسمّى الفودنج «3» ؛ والفودنج خمسة ضروب: جبلىّ «4» وصخرىّ، وبرّىّ «5» ، ونهرىّ «6» ، وبستانىّ؛ فالجبلىّ والصّخرىّ والبرّىّ واحد؛ وأمّا النّهرىّ فالنّمّام «7» ؛ والبستانىّ: النّعنع، وكلاهما نوع واحد، وذلك أنّ النّمّام لمّا نقل من شطوط الأنهار إلى البساتين صار نعنعا، ونقصت ريحه، وكبر ورقه وطال لكثرة ريّه وشربه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 69 وقال فى توليده: وإن أردتم فودنجا بستانيّا فخذوا رجلى دجاجة وادهنوهما بعكر الزّيت، وادفنوهما فى التراب ثلاثة أيّام، ثمّ اغرسوهما فى الأرض واجعلوا الأصابع إلى فوق، ثمّ اجعلوا فوقها «1» عود سذاب عرضا، ثمّ نقّطوا عليه زيتا، ثم ألقوا عليه التراب، واتركوه ثلاثا، ثمّ صبّوا عليه زيتا فى اليوم الرابع مقدار ما تعلمون أنّ شيئا من الزّيت قد وصل إليه، فإنّه يخرج بعد أحد وعشرين يوما نعنعا ذكىّ الرائحة. وقال الشيخ الرئيس فى النّمّام: النّمّام، هو السّيسنبر؛ وطبعه حارّ فى الثالثة يابس إليها؛ وهو يقاوم العفونات، ويقتل القمل، وينفع من الأورام الباردة «2» ؛ وإذا طبخ بالخلّ وخلط بدهن الورد [ولطخ «3» به الرأس نفع من النّسيان ومن اختلاط الذّهن] ؛ ويتضمّد بورق البرّىّ منه على الجبهة للصّداع؛ وهو نافع للفواق «4» إذا شرب بشراب «5» ، وبزره أقوى، وينفع من أورام الكبد الباردة، ويخرج الجنين الميّت؛ والبرّىّ منه اذا شرب بشراب منع من تقطير البول، وأخرج الحصاة وينفع من المغص، ويضمد به لسع الزّنابير، ويشرب للسعها منه وزن درهمين فى سكنجبين «6» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 70 وقال فى النّعناع: هو حارّ يابس فى الثانية، وفيه رطوبة فضليّة، وقوّة مسخّنة قابضة؛ وهو ألطف البقول المأكولة جوهرا، واذا تركت طاقات منه فى اللّبن لم يتجبّن، واذا شربت عصارته بالخلّ قطعت سيلان الدم من الباطن؛ وهو مع السّويق ضماد للدّبيلات «1» ؛ وتضمد به الجبهة للصّداع، وخصوصا مع سويق الشّعير، وتدلك به خشونة اللّسان فتزول، ويمنع قذف الدّم ونزفه، ويعقد اللّبن فى الثّدى ضمادا، ويسكّن ورمه؛ وهو يقوّى المعدة ويسخّنها، ويسكّن الفواق ويهضم، ويمنع القىء البلغمىّ والدّموىّ، وينفع من اليرقان «2» ، وخصوصا شرابه؛ وهو يعين على الباه لنفخ فيه، ويقتل الدّيدان؛ واذا احتمل قبل الجماع منع الحبل؛ وهو نافع لعضّة الكلب الكلب. قال أبو إسحاق الحضرمىّ فى النّمّام: أرى النّمّام بالصّوت الفصيح ... ينادى الشّرب «3» حىّ على الصّبوح بدا لك فى مطارفه وأبدى ... روائح تستقلّ بكلّ ريح فقم واعص النّصيح وكن مطيعا ... لنا فالعيش عصيان النّصيح وقال آخر: حيّيتها بتحيّة فى مجلس ... بقضيب نمّام من الرّيحان فتطيّرت منه وقالت: ألقه ... لا تقربنّ مضيّع الكتمان الجزء: 11 ¦ الصفحة: 71 وقال آخر: لا بارك الله فى النّمّام إنّ له ... اسما قبيحا من الأسماء مهجورا لو لم ينمّ على العشّاق سرّهم ... ما كان فيهم بهذا الاسم مشهورا وقال ابن رشيق- وخالف الأوّل «1» فيه-: لم كره النّمّام أهل الهوى ... أساء إخوانى وما أحسنوا إن كان نمّاما فتنكيسه ... من غير تكذيب لهم مأمن «2» وأمّا الجرجير وما قيل فيه - فقال ابن وحشيّة: وان أردتم جرجيرا فخذوا خنفساء كبيرة، ومن ورق الباذرنبويه «3» ثلاثة قضبان، واسحقوه مع الخنفساء، ثم خذوا سبع حبّات حمّص أسود، واقلوها، وألبسوها الذى سحقتم، واطمروه «4» الجزء: 11 ¦ الصفحة: 72 فى الأرض، ولا تسقوه الماء، ولتكن أرضا نديّة بالقرب من نبات يسقى دائما فإنّه يخرج من ذلك الجرجير. وقال الشيخ الرئيس: الجرجير منه برّىّ ومنه بستانىّ؛ وبزر الجرجير هو الّذى يستعمل فى الطّبيخ بدل الخردل؛ وهو حارّ فى الثالثة، يابس فى الأولى، وفى رطبه رطوبة فى الأولى، وهو مليّن منفّخ، وماؤه بمرارة البقر ينفع لآثار القروح؛ وهو مصدّع؛ خصوصا اذا أكل وحده، والخسّ يمنع هذا الضرر منه، وكذلك الهندبا والرّجلة؛ وهو مدرّ للّبن، وفيه هضم للغذاء؛ والبرّىّ منه مدرّ للبول محرّك للباه والإنعاظ، خصوصا بزره؛ واذا أكل وشرب عليه الشّراب «1» الرّيحانىّ فهو درياق لعضّة ابن عرس. وأمّا السّذاب وما قيل فيه - فقال ابن وحشيّة: ان أردتم سذابا فخذوا رجلى ديك فانقعوهما فى عصارة الفودنج «2» البرّىّ أربعة أيّام، ثم اغمسوهما فى الزّيت واغرزوهما فى الأرض، واجعلوا فوق أصابع كلّ رجل حجرين «3» من الكندر أكبر ما تقدرون عليه، ثمّ طاقة من سذاب يابس عرضا، واطمروه فى التراب، فإنّه بعد أحد وعشرين يوما يخرج منه السّذاب، فحوّلوه من منبته الى بقعة أخرى، فانّه يشتدّ ويقوى؛ ومن خاصّيّة السّذاب أنّ الحائض اذا مسّته بيدها جفّ؛ وهو اذا زرع فى أصل شجرة التين نقصت حرارته وحرافته لما بينهما من الموافقة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 73 وقال الشيخ الرئيس: أوفق السّذاب البستانىّ ما ينبت عند شجرة التّين؛ وطبع السّذاب الرّطب منه حارّ يابس فى الثانية، واليابس حارّ يابس فى الثالثة: واليابس البرّىّ حارّ يابس فى الرابعة؛ وهو مقطّع محلّل مفشّ «1» جدّا، منقّ للعروق مقرّح قابض؛ وهو مع النّطرون على البهق الأبيض وعلى الثآليل «2» والتّوث «3» نافع ويذهب رائحة الثّوم والبصل، وينفع من داء الثّعلب «4» ؛ واذا دقّ «5» وضمد به مع الملح عضو أحدث عليه ورما حارّا؛ واذا جعل على خنازير «6» الحلق والإبط حلّلها الجزء: 11 ¦ الصفحة: 74 والصّمغ أقوى فى جميع ذلك؛ واذا جعل مع السّمن «1» والعسل على القوابى «2» ومع الخلّ والإسفيداج «3» على النّملة «4» والحمرة «5» [نفع «6» ] وينفع من الفالج وعرق النّسا وأوجاع المفاصل شربا وضمادا بالعسل، ويضمد به مع السّويق للصّداع المزمن؛ وعصارته المسخّنة فى قشور الرّمّان تقطر فى الأذن فتنفعها «7» ، وتسكّن الوجع والطّنين والدّوىّ، وتقتل الدّود، وتطلى بها قروح الرأس؛ وهو يحدّ البصر، وخصوصا عصارته مع عصارة الرازيانج والعسل كحلا وأكلا، وقد يضمد به مع السّويق على ضربان العين، وطبيخ الرّطب منه مع الشّبث «8» اليابس نافع لوجع الصّدر وعسر النّفس على ما شهد به روفس الجزء: 11 ¦ الصفحة: 75 ويضمد به مع التّين للاستسقاء اللّحمىّ «1» ، ويسقى شراب طبخ فيه السّذاب، واذا شرب من بزره من درهم إلى درهمين للفواق البلغمىّ سكّنه؛ وهو يمرئ ويشهّى ويقوّى المعدة، وينفع من الطّحال؛ وهو مجفّف للمنىّ ويقطعه، ويسقط شهوة الباه ويحقن به مع الزّيت لأوجاع القولنج، ويوضع بالعسل على قروح المقعدة، ويغلى فى الزّيت ويشرب للدّيدان؛ قال: والنوعان يستفرغان فضول البدن بالإدرار؛ ويضمد به وبورق الغار» على الأنثيين لأورامهما، وأكله ينفع من الحمّى النافض «3» والتمريخ بدهنه؛ وهو يقاوم السّموم، والإكثار من أكل البرّىّ قاتل «4» . ولم أقف على وصف فيه فأورده. وأمّا الطّرخون «5» وما قيل فيه - فهو صنفان: بابلىّ، وهو طويل الورق؛ ورومىّ، وهو مدوّر، قال ابن وحشيّة فى توليده: وان أردتم الطّرخون فخذوا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 76 من عروق العشر «1» وورقه فدقّوا ذلك دقّا يسيرا بلاسحق، ثمّ صرّوه فى صرّة واحدة أو صرر فى ورق الفجل الكبار، واطمروه فى الأرض، فإنه يخرج لكم منه الطّرخون. وقال الشيخ الرئيس: قالوا: إن العاقر قرحا هو أصل الطّرخون الجبلىّ؛ قال: وطبعه الظاهر أنّه حارّ يابس الى الثانية، وإن كانت فيه قوّة مخدّرة؛ قال: وقال بعض من لا يعتمد عليه: إنّه بارد يابس. قال الشيخ: وهو مجفّف للرّطوبات، وفيه تبريد ما، واذا مضغ وأمسك فى الفم نفع القلاع «2» ؛ وهو يحدث وجع الحلق؛ وهو عسر الهضم؛ وهو يقطع شهوة الباه. وأمّا الإسفاناخ وما قيل فيه - أمّا توليده فقال ابن وحشيّة فيه: خذوا عروق الخطمىّ «3» ولفّوا عليها من ورق الخسّ الرّطب، وانقعوها فى الشّيرج يوما ثمّ اطمروها فى التراب، فإنّها تنبت بعد سبعة أيّام إسفاناخا. وأمّا طبعه وأفعاله - فقال الشيخ: هو بارد رطب فى آخر الأولى، وهو مليّن، وفيه قوّة جالية غسّالة، ويقمع الصّفراء، وينفع من أوجاع الظّهر الدّمويّة ونافع من وجع الصّدر والرّئة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 77 وأمّا البقلة الحمقاء «1» - وهى اليرسا «2» ، وتسمّى الرّجلة «3» والفرفحين «4» -. أمّا توليدها - فقد قال «5» : وان أردتم يرسا- وهى البقلة الحمقاء- فخذوا عروق القطن وورقه رطبين فدقّوهما دقّا يسيرا وغرّقوهما باللّبن الّذى قد أنبذ «6» فيه الحمّص، ثمّ اطمروه فى الأرض، فإنّه بعد أسبوع تنبت منه هذه البقلة. والذى نعرفه نحن من أمرها أنّها تنبت فى أرض قصب السكّر من غير معالجة. وأمّا طبعها وفعلها - فقال الشيخ الرئيس: إنّ طبعها بارد فى الثانية «7» رطب فى آخرها، وإنّ فيها قبضا يمنع النّزف والسّيلانات المزمنة، وغذاؤها قليل غير الجزء: 11 ¦ الصفحة: 78 مذموم «1» ؛ وهى قامعة للصّفراء جدا؛ قال: ومن خاصّيّتها أنّها تحكّ بها الثّآليل «2» فتقلعها؛ وهى ضماد للأورام الحارّة الّتى يتخوّف عليها الفساد، وللحمرة «3» ، وتنفع البثور فى الرأس غسلا بها، وتسكّن الصّداع الحارّ الضّربانىّ؛ وتنفع من الرّمد، وتدخل فى الأكحال والإكثار منها يحدث الغشاوة؛ وتنفع التهاب المعدة شربا وضمادا؛ وتنفع الكبد الملتهبة، وتمنع القىء، وتنفع من أوجاع الكلى والمثانة وقروحهما، وتقطع شهوة الباه؛ وزعم ما سرجويه أنّها تزيد فى الباه. قال الشيخ: ويشبه أن يكون ذلك فى الأمزجة الحارّة اليابسة؛ وهى تحبس نزف الدّم من الحيض؛ وينفع ماؤها من البواسير الدّامية، ومن الحمّيات الحارّة؛ قال: وإن شويت وأكلت قطعت الإسهال. وأمّا الحمّاض وما قيل فيه - فقال ابن وحشيّة: وإن أردتم الحمّاض فخذوا من اليرسا «4» ثلاثا أو أربعا فانقعوها فى ماء وخلّ ثلاثة أيّام، ثمّ خذوا عرقا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 79 من عروقها أو عرقين فآجعلو هما فى الأرض، واجعلوا الطاقات المنقوعة فوقهما ثم صبّوا عليها ذلك الخلّ الممزوج، واطمروها، فإنّها تنبت لكم الحمّاض. وقال الشيخ الرئيس: الحمّاض منه بستانىّ «1» ومنه برّىّ «يقال له: السّلق البرّىّ، وليس فى البرّىّ كلّه كما يقال حموضة، بل لعلّ فى بعضه حموضة؛ والبرّىّ أقوى فى كلّ شىء؛ وطبعه بارد يابس فى الثانية، وبزره بارد فى الأولى، يابس فى الثانية، وفيه قبض، وفى التّفه منه تحليل يسير، والحامض أقبض؛ والذى ليس شديد الحموضة أغذى، وهذا هو الشبيه بالهندبا؛ وكلّه يقمع الصّفراء؛ وخلطه محمود؛ وأصله بالخلّ ينفع لتقشير الأظفار؛ واذا طبخ بالشّراب نفع ضماده من البرص والقوباء؛ وقيل: إنّ أصله إذا علّق فى عنق صاحب الخنازير «2» انتفع به؛ وأصله بالخلّ للجرب المتقرّح والقوابى «3» ؛ وطبيخه بالماء الحارّ ينفع من الحكّة، وكذلك هو نفسه فى الحمّام؛ واذا تمضمض بعصارته نفع من وجع السّنّ، وكذلك بمطبوخه فى الشّراب؛ وينفع من الأورام الّتى تحت الأذن؛ وينفع من اليرقان الأسود بالشّراب؛ ويسكّن الغثيان؛ ويؤكل لشهوة الطّين؛ وبزره يعقل البطن؛ وقد الجزء: 11 ¦ الصفحة: 80 قيل: إنّ فى ورقه تليينا ما، وفى بزره عقل مطلق؛ وقال بعضهم: إنّ بزر الحمّاض غير مقلوّ فيه إزلاق وتليين؛ وأصله مدقوقا لسيلان الرّحم وتفتيت حصاة الكلية إذا شرب فى شراب، واللزّوجة الّتى فيه تنفع من السّحج العارض من يبس الثّفل «1» ؛ وهو ينفع من لسع العقرب، وخصوصا البرّىّ؛ وإن استعمل بزره قبل لسع العقرب لم يضرّ لسعها. وأمّا الرّازيانج «2» وما قيل فيه - فقال ابن وحشيّة: ان أخذتم أخثاء «3» الخنزير فخلطتموها بدمه، ولففتموها فى شىء من جلده، ثم طمرتموها بالتراب الّذى له نزّ وفيه رطوبة، خرج عن ذلك الرّازيانج. قال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: «والرّازيانج نبطىّ ورومىّ. فأمّا النّبطىّ - فمنه برّىّ، ومنه بستانى «4» » ؛ والبرّىّ أشدّ حرارة ويبسا، وأولى بالثالثة؛ وأمّا البستانىّ فتكون حرارته فى الثانية؛ قال: والرّازيانج يفتّح السّدد الجزء: 11 ¦ الصفحة: 81 ويحدّ البصر، خصوصا صمغه؛ وينفع من ابتداء الماء، وزعم إبّقراطيس «1» أنّ الهوامّ ترعى بزر الرّازيانج الطّرىّ ليقوّى بصرها، والأفاعى والحيّات تحكّ أعيانها عليه إذا خرجت من مآويها بعد الشتاء استضاءة للعين، ورطبه يغزر اللّبن، وخصوصا البستانىّ، ويدرّ البول والطّمث؛ والبرّىّ خاصّة يفتّت الحصاة؛ وفيهما «2» منفعة للكلية والمثانة؛ والبرّىّ ينفع من تقطير البول، وينقّى النّفساء؛ واذا أكل بزره مع أصله عقل؛ وينفع من الحميّات المزمنة؛ وطبيخه بالشّراب «3» ينفع من نهش الهوامّ؛ ويدقّ أصله ويجعل طلاء من عضّة الكلب الكلب. «وأمّا الرّومىّ «4» - وهو الّذى بزره الأنيسون» - فقال جالينوس: هو حارّ فى الثانية، يابس فى الثالثة. وقال الشيخ: هو مفتّح مع قبض يسير؛ وهو مسكّن للأوجاع، محلّل للرّياح، وخصوصا إن قلى، وفيه حدّة يقارب بها الأدوية المحرقة وينفع من التهيّج فى الوجه، وورم الأطراف؛ واذا بخّر به واستنشق برائحته «5» سكّن الصّداع؛ وإن سحق وخلط به دهن الورد وقطر فى الأذن أبرأ ممّا يعرض فى باطنها الجزء: 11 ¦ الصفحة: 82 من صدع عن صدمة أو ضربة، وينفع من السّبل «1» المزمن، «ويسهّل النّفس «2» » ويدرّ اللّبن، ويقطع العطش الكائن عن الرّطوبات البورقيّة؛ وينفع من سدد الكبد والطّحال، ومن الرّطوبات؛ ويدرّ البول والطّمث الأبيض، وينقّى الرّحم من سيلان الرّطوبات البيض؛ ويحرّك الباه، وربّما عقل البطن؛ وهو يفتّح سدد الكلى ويدفع ضرر السّموم والهوامّ، والله أعلم. وقال ابن وكيع فى الرّازيانج: أخذت من كفّ الغزال الأحور ... غصنا من البسباس «3» ممطورا طرى «4» كأنّه فى عين كلّ مبصر ... مذبّة من الحرير الأخضر وأمّا الكرفس وما قيل فيه - فقال الشيخ الرئيس: الكرفس منه جبلىّ ومنه برّىّ، ومنه بستانىّ، ومنه ما ينبت فى الماء وبقربه؛ وهو أعظم من البستانى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 83 وقوّته كقوّته «ومنه «1» نوع يسمّى سمرنيون «2» » أعظم من البستانىّ أجوف السّاق إلى البياض، وقد يختلف بالبلاد، فمنه رومىّ، ومنه غيره؛ قال: وأقواه الرومىّ ثمّ «3» الجبلىّ؛ وطبعه فى أولى الحرارة، وثانية اليبوسة. وقال روفس: البستانىّ رطب إلّا أصله، فهو يابس اتّفاقا؛ قال: وهو محلّل للنّفخ، مفتّح للسّدد، مسكّن للأوجاع؛ ومربّاه أوفق للمحرور؛ والبرّىّ ينفع لداء الثّعلب «4» ، ولتشقيق الأظفار والثآليل «5» وشقاق «6» البرد؛ والبستانىّ مطيّب للنّكهة جدّا؛ والبرّىّ مقرّح إذا ضمد به ولذلك ينفع من الجرب والقوباء، ومن الجراحات الى أن تنختم، خصوصا سمرنيون «7» وسمرنيون يوافق جميع أجزائه عرق النّسا؛ والكرفس البستانىّ يدخل فى أضمدة «8» أوجاع العين؛ وينفع من السّعال، وخصوصا سمرنيون؛ وكذلك ضيق النّفس الجزء: 11 ¦ الصفحة: 84 وعسره؛ وهو من أدوية «1» أو رام الثّدى الحارّة؛ وينفع الكبد والطّحال؛ ويحرّك الجشاء لتحليله؛ وليس سريع الانهضام والانحدار؛ وفى بزر الكرفس تغثية وتقيىء إلّا أن يقلى؛ قال: وقال بعضهم: إنّ جميع أصله نافع للمعدة. ويقول روفس: لا، بل قد يجلب إليها رطوبات رديئة حادّة؛ وقال جالينوس: إنّه ممّا يصلح أن يؤكل مع الخسّ، فإنّه يعدل برد الخسّ؛ وبزره ينفع من الاستسقاء، وينقّى الكبد ويسخّنها؛ وهو يدرّ البول والطّمث؛ وهو ردىء للحوامل؛ وهو ينقّى الكلية والمثانة والرّحم، وينفع من عسر البول، ويخرج المشيمة، خصوصا سمرنيون ويملأ الرّحم رطوبة حرّيفة إذا أدمن أكله. قال: وقال بعضهم: الكرفس يهيّج الباه، حتى قال: يجب أن تمنع المرضعة من تناوله لئلّا يفسد لبنها لهيجان شهوة الباه؛ والرّومىّ جيّد لقولون «2» والمثانة والكلية؛ وطبيخه مع العدس يتقيّأ به بعد شرب السّمّ؛ واذا لسعت العقرب من أكله اشتدّ به الأمر. انتهى القسم الأوّل. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 85 القسم الثانى من الفنّ الرابع فى الأشجار وفيه ثلاثة أبواب الباب الأوّل من هذا القسم من هذا الفنّ فيما لثمره قشر لا يؤكل ويشتمل هذا الباب على اللّوز والجوز والجلّوز والفستق والشّاه بلّوط والصّنوبر والرّمّان والموز والنّارنج واللّيمون. فأمّا اللّوز وما قيل فيه - فقال الشيخ الرئيس فى طبيعته: الحلو معتدل إلى رطوبة، والمرّ حارّ يابس فى الثانية؛ وقال فى أفعاله وخواصّه: فى جميع أصناف اللّوز جلاء وتنقية وتفتيح، لكن الحلو أضعف من المرّ فى تفتيحه، لأنّه ملطّف، ودهنه أخفّ من جرمه؛ والمرّ ينفع من الكلف والنّمش والاثار، ويبسط تشنّج الوجه؛ وأصل المرّ اذا طبخ وجعل على الكلف كان دواء قويّا؛ وأكل اللّوز الحلو يسمّن؛ والمربّى بالشّراب جيّد للشّرى «1» ، ويطلى به بالعسل الساعية «2» والنّملة ويطلى به بالخلّ أو بالشّراب على القوابى «3» ، والمرّ أبلغ فى ذلك؛ وهو جيّد لوجع الجزء: 11 ¦ الصفحة: 86 الأذن والّدوىّ فيها، وخصوصا المرّ دهنا ومسحوقا [بحاله «1» ] وممسوحا «2» ؛ واذا غسل الرأس به وبالشراب نقىّ الرّطوبة والحزاز «3» ونوّم؛ واذا شرب المرّ قبل الشراب منع السّكر، وخصوصا خمسين عددا؛ وشجر اللّوز المرّ إذا دقّ ناعما وخلط بالخلّ ودهن الورد وضمد به الجبين نفع الصّداع، وكذلك دهن اللّوز المرّ ينفع منه؛ وهو يقوّى البصر؛ واللّوز المرّ مع نشا «4» الحنطة جيّد لنفث الدّم؛ وينفع من السّعال المزمن والرّبو وذات الجنب، وخصوصا دهن الحلو؛ وسويق اللّوز نافع من السّعال ونفث الدّم؛ وهو يفتّح سدد الكبد والطّحال، وخصوصا المرّ، فإنّه يفتّح السّدد العارضة فى أطراف العروق؛ واذا أكل الطرىّ بقشره نقىّ بلّة المعدة؛ وهو عسر الهضم، جيّد الخلط، قليل الغذاء؛ واذا كان بالسّكّر انحدر سريعا؛ ودهن المرّ ينقّى الكلية والمثانة ويفتّت الحصاة، خصوصا مع الإيرساء «5» شربا، وربّما نفع ضمادا معه ومع دهن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 87 الورد «1» ؛ وينفع لأوجاع الرّحم وأورامها الحارّة وصلابتها وعسر البول ووجع الكلّى؛ ويحتمل «2» فيدرّ الطّمث؛ والحلو نافع من القولنج لجلائه؛ والمرّ أنفع؛ ودهنه أخفّ من جرمه «3» . قال: وينفع من عضّة الكلب الكلب. وأمّا ما وصفه به الشعراء وشبّهوه - فمن ذلك قول ابن المعتزّ: ثلاثة أثواب على جسد رطب ... مخالفة الأشكال من صنعة الرّبّ تقيه الرّدى فى ليله ونهاره ... وان كان كالمسجون فيها بلا ذنب وقال آخر: أما ترى اللّوز حين ترجله «4» ... عن الأفانين كفّ مقتطف وقشره قد جلا القلوب لنا ... كأنّها الدّرّ داخل الصّدف وقال آخر «5» : جاء بلوز أخضر ... أصغره ملء اليد كأنّما زئبره ... نبت عذار الأمرد كأنّما قلوبه ... من توأم ومفرد جواهر لكنّما ال ... أصداف من زبرجد الجزء: 11 ¦ الصفحة: 88 وقال أبو طالب المأمونىّ: ومستجنّ عن الجانين ممتنع ... بحلّة لم تحكها كفّ نسّاج درّ تكوّن من عاج تضمّنه ... فى البرّ لا البحر أصداف من السّاج وقال آخر فى لوزة بقلبين: ومهد إلينا لوزة قد تضمّنت ... لمبصرها قلبين فيها تلاصقا كأنّهما حبّان فازا بخلوة ... على رقبة فى مجلس فتعانقا وأمّا الجوز وما قيل فيه - فقال الشيخ: هو حارّ، ودرياقه للمحرورين السّكنجبين، ولضعفاء المعدة المربّى بالخلّ، وهو حارّ فى الثانية «1» يابس فى أوّلها ويبسه أقلّ من حرّه، وفيه رطوبة غليظة تذهب إذا عتق. وأمّا أفعاله وخواصّه - ففى مقلّوه قبض؛ وورقه وقشره كلّه قابض للنّزف؛ وقشره المحرق مجفّف بلا لذع؛ ودهن العتيق منه كالزّيت العتيق، وجلاء العتيق قوىّ، ولبّه الممضوغ يجعل على الورم السّوداوىّ المتقرّح فينفع؛ وصمغه نافع للقروح الحارّة منثورا عليها وفى المراهم؛ وهو مع عسل وسذاب ينفع التواء العصب؛ وعصارة ورقه تفتّر وتقطر فى الأذن فتنفع من المدّة. وقيل: إنّه مثقّل للّسان مبثّر للفم، وعصارة قشره وربّه «2» يمنع «3» الخناق، ويضرّ بالسّعال؛ وهو عسر الهضم ردىء للمعدة، والمربّى والرّطب أجود للمعدة وأقلّ ضررا؛ والمربّى بالعسل نافع للمعدة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 89 الباردة؛ وقشره يحبس نزف الطّمث؛ والمربّى نافع للكلية الباردة؛ ورماد قشره يمنع الطّمث شربا بالشراب وحملا «1» ؛ والجوز مع التّين والسّذاب دواء لجميع السّموم ومع البصل والملح ضماد على عضّة الكلب الكلب وغيره. وأمّا ما وصفه به الشعراء وشبّهوه - فمن ذلك قول شاعر: جاء «2» بجوز أخضر ... مكسّر «3» مقشّر كأنّما أرباعه ... مضغة علك الكندر» وقال آخر: والجوز مقشور يروق كأنّه ... لونا وشكلا مصطكى ممضوغ وقال أبو طالب المأمونىّ: ومحقّق التدوير يبعد نفعه ... من كفّ من يجنيه ما لم يكسر درّ يسوغ لآكليه يضمّه ... صدف تكوّن جسمه من عرعر «5» متدرّع فى السّلم فوق غلالة «6» ... درعا مظاهرة بثوب أخضر الجزء: 11 ¦ الصفحة: 90 وأمّا الجلّوز وما قيل فيه - فالجلّوز، هو البندق؛ وقد سمّى ابن سينا الصّنوبر بالجلّوز، وقال فى البندق: هو إلى حرارة ما ويبوسة قليلة «1» ، وفيه من القبض أكثر ممّا فى الجوز؛ وفيه نفخ، ويولّد الرّياح فى البطن؛ واذا قلى وأكل مع فلفل قليل أنضج الزّكام؛ وقال إبّقراط «2» : البندق يزيد فى الدّماغ، وإذا أكل بماء العسل نفع من السّعال المزمن، وهو بطىء الهضم، ويهيّج القىء، وينفع من النّهوش وخصوصا مع التّين والسّذاب «3» للدغ العقرب. وأمّا ما وصفه به الشعراء وشبّهوه - فمن ذلك قول شاعر: ولقد شربت مع الغزال مدامة ... صفراء صافية بغير مزاج فتفضّل الظّبى الغرير ببندق ... شبّهته ببنادق من ساج وكسرته فرأيت صوفا أحمرا ... قد لفّ فيه بنادق من عاج وقال ابن رافع: جلّوزة من كفّ ظبى غزل ... رمى بها نحوى كمثل جلجل أو كرة قد ثلّثت من صندل ... تكسر عن حريرة لم تغزل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 91 محمرّة فوق بياض يعتلى ... من حسنها «1» المستظرف المستكمل فى مطعم الشّهد وعرف المندل وأمّا الفستق وما قيل فيه - فقال ابن وحشيّة فى توليده: وإن أردتم فستقا فخذوا كبد الماعز فشقّوها، وادفنوا فيها عظم صلب الطّاووس، وأهرقوا فوقها عصارة الشّاهترج «2» ، واطمروها «3» فى الأرض، فإنه بعد سبعة وعشرين يوما تخرج منها شجرة الفستق. وقال الشيخ الرئيس: طبعه أشدّ حرارة من الجوز؛ وهو حارّ يابس «4» فى آخر الثانية؛ وفيه رطوبة؛ وزعم بعضهم أنّه بارد، وقد أخطأ؛ وهو يفتّح سدد الكبد لمرارته وعطريّته؛ وفيه عفوصة؛ وغذاؤه يسير جدّا؛ وهو جيّد للمعدة، خصوصا الشامىّ الشبيه بحبّ الصّنوبر؛ وهو يفتّح منافذ الغذاء، ودهنه ينفع من وجع الكبد الحادث من الرطوبة والغلظ. قال [فإن «5» ] قال قائل: «لم أجد له فى المعدة كبير الجزء: 11 ¦ الصفحة: 92 مضرّة ولا منفعة» أقول: بل يمنع الغثيان، وتقلّب المعدة، ويقوّى فمها؛ وهو ينفع من نهش الهوامّ، خصوصا اذا طبخ بالشّراب. وأمّا ما وصفه به الشعراء وشبّهوه - فمن ذلك ما قاله أبو إسحاق الصّابى: والنّقل «1» من فستق حديث ... رطب تبدّى به الجفاف لى فيه تشبيه فيلسوف ... ألفاظه عذبة خفاف زمرّد صانه حرير ... فى حقّ عاج له غلاف وقال آخر: زمرّدة «2» ملفوفة فى حريرة ... لها حقّ عاج فى غلاف أديم وقال أبو بكر الصّنوبرىّ: وحظّى من نقل اذا ما نعتّه ... نعتّ لعمرى منه أحسن منعوت من الفستق الشامىّ كلّ مصونة ... تصان عن الأحداق فى بطن تابوت زبرجدة ملفوفة فى حريرة ... مضمّنة درّا مغشّى بياقوت وقال آخر: وفستق مستلذّ ... من بعد شرب الرّحيق كأنه حين ترنو ... إليه عين الرّموق حقّ من العاج يحوى ... زبرجدا فى عقيق الجزء: 11 ¦ الصفحة: 93 وقال آخر يصف الضّاحك: ومهد إلينا فستقا غير مطبق ... به زاد إحسانا على كلّ محسن كأنّ انفتاحا منه دلّ على الّذى ... به من كمين فى حشاه مضمّن ظماء من الأطيار حامت ففتّحت ... مناقيرها ثم استعانت بألسن وقال آخر: انظر الى الفستق المجلوب حين أتى ... مشقّقا فى لطيفات الطّوامير «1» والقلب ما بين قشريه يلوح لنا ... كألسن الطّير من بين المناقير وقال آخر: كأنّما الفستق المملوح حين بدا ... مفتّح القشر موضوعا على طبق وقد بدا لبّه للعين، ألسنة ... للطّير عطشى بها شىء من الرّمق وقال آخر «2» : وضاحك أجفانه ... لم تكتحل بالوسن لم أدر عن أفئدة ... تبسم أم عن ألسن كعاشق كلّفه الغرام ... ما كلّفنى إذا أخذت قلبه ... لم ينتفع بالبدن وقال أبو بكر بن القرطبيّة: صدف أبيض نقى ... ذو بهاء ورونق الجزء: 11 ¦ الصفحة: 94 مسفر «1» عن جوهر ... أخضر فيه مطبق كلّ صيغ يعزى الى ... لونه قيل فستقى وأمّا الشّاه «2» بلّوط وما قيل فيه - فالشّاه بلّوط هو القسطل؛ قال ابن وحشيّة: وان أردتم الشّاه بلّوط فخذوا كليتى الخنزير وقرنى غزال، فاغرزوا فى طرفى القرنين الكليتين، وادفنوا ذلك فى الأرض، واسقوه من الماء بقدر وصوله إليه، فإنّه ينبت فى أربعة وعشرين يوما شجرة تحمل الشّاه «3» بلّوط ...... «4» . قال شاعر يصفه: يا حبّذا القسطل المجرّد عن ... قشريه بعد الجفاف فى الشجر كأنّه أوجه الصّقالبة ال ... بيض وفيها تكرمش «5» الكبر الجزء: 11 ¦ الصفحة: 95 وأمّا شجر الصّنوبر وما قيل فيه - فشجر الصّنوبر صنفان، ذكر وأنثى؛ فالذّكر هو الأرز، وهو لا يثمر، ومنه القطران؛ والأنثى صنفان، صنف كبيرا لحبّ، وصنف صغيره، يسمّى قضم «1» قريش وقال أبو بكر بن وحشيّة فى توليده: خذوا من شجرة الخرنوب الشامىّ من عروقها الطّوال، فلفّوها على قرنى ثور، وانقعوها فى الزّيت سبعة أيّام، ثمّ اجعلوها فى الأرض، واسحقوا الكندر «2» وذرّوه عليها اذا غرست، فانّها تنبت شجر الصّنوبر. وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا فيه «3» - وسمّاه الجلّوز وقال: هو حبّ الصّنوبر الكبار، وهو أفضل «4» غذاء من الجوز، لكنّه أبطأ انهضاما؛ وهو مركّب من جوهر مائىّ وأرضىّ، والهوائيّة فيه قليلة؛ قال: وفى لحاء شجره قبض كثير؛ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 96 والدّود الّذى فيه فى قوّة الذّراريح «1» ؛ ولحاؤه «2» ينفع من إحراق الماء الحارّ، «ويلصق «3» الجراحات ذرورا» ومن القروح «4» الحرقيّة «5» ؛ وفيه قوّة مدملة «6» ؛ وفى لحائه من القبض ما يبلغ أن يشفى السّحج «7» إذا وضع عليه ضمادا أو ذرورا؛ ويصلح لمواقع الضربة ويدمل؛ وورقه أصلح لذلك لأنّه أرطب؛ والغرغرة بطبيخ قشره تجلب بلغما كثيرا؛ واذا سلق لحاؤه بالخلّ وتمضمض به نفع وجع الأسنان؛ ودخانه نافع من انتثار الأشفار. قال: ويغذو غذاء قويّا غليظا غير ردىء؛ ويصلح للرّطوبات الفاسدة فى الأمعاء؛ وهو بطىء الهضم، ويصلح هضمه: أمّا للمبرودين فالعسل وللمحرورين فالطّبرزذ» ، ويزداد بذلك جودة غذاء؛ والمنقوع منه فى الماء تذهب الجزء: 11 ¦ الصفحة: 97 حدّته وحرافته ولذعه؛ ويبرىء من أوجاع العصب والظّهر وعرق النّسا؛ وهو نافع للاسترخاء، وينقّى الرّثة ويخرج ما فيها من القيح والخلط الغليظ، ويهيّج الباه، وخصوصا المربّى منه؛ وينفع من القيح والحصاة فى المثانة؛ وهو مع التّمر والتّين ينفع من لدغ العقرب. وقال فى قضم «1» قريش: إنّه جيّد لقروح الكلى والمثانة. وأمّا ما وصف به الصّنوبر وشبّه به من الشعر - فمن ذلك قول بعض الشعراء: صنوبر أطيب موجود ... نلت به غاية مقصودى كأنّه حين حبانى به ... من خصّ بالإنعام والجود حبّ لآل مشرق لونه ... فى جوف أدراج من العود ونحوه قول الشاعر: صنوبر ظلت به مولعا ... لأنّه أطيب موجود كأنّه الكافور فى لونه ... تحويه أدراج من العود وقال أبو بكر الصّنوبرىّ- وذكر انتسابه إليه-: وإذ عزينا إلى الصّنوبر لم ... نعز إلى خامل من الخشب الجزء: 11 ¦ الصفحة: 98 لا بل «1» الى باسق الفروع علا ... مناسبا فى أرومة الحسب مثل خيام الحرير تحملها ... أعمدة تحتها من الذّهب كأنّ ما فى ذراه من ثمر ... طير وقوع على ذرا القضب باق على الصّيف والشّتاء إذا ... شابت رءوس النّبات لم يشب محصّن الحبّ فى جواشن «2» قد ... أمنّ «3» فى لبسها من الحرب حبّ حكى الحبّ صين فى قرب «4» ال ... أصداف حتّى بدا من القرب ذو نثّة «5» ما ينال من عنب ... ما نيل من طيبها ولا رطب يا شجرا حبّه حدانى أن ... أفدى بأمّى محبّة وأبى فالحمد لله إنّ ذا لقب ... يزيد فى حسنه على النّسب وقال ابن رافع القيروانىّ: يا حسنة فى العين من صنوبر ... يحكى لنا جماجما من عنبر يفلق عن حبّ إذا لم يكسر ... مصندل إن شئت أو معصفر كمثل أصداف نفيس الجوهر الجزء: 11 ¦ الصفحة: 99 وأمّا الرّمّان والجلّنار «1» - فقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: الرمّان الحلومنه بارد إلى الأولى رطب فيها؛ والحامض يابس «2» فى الثانية؛ والحامض يقمع الصّفراء، ويمنع سيلان الفضول إلى الأحشاء، وخصوصا شرابه؛ وهو جلّاء مع القبض؛ وحبّ الرّمّان مع العسل طلاء للدّاحس «3» والقروح الخبيثة؛ وأقماعه للجراحات، ولا سيّما المحرقة. قال: والحلو مليّن؛ وجميعه قليل الغذاء جيّده؛ والمزّ «4» منه ربّما كان أنفع للمعدة من التّفّاح والسّفرجل، لكنّ حبّه ردىء؛ وأقبض أجزائه الأقماع. قال: وحبّ الرّمّان بالعسل ينفع من وجع الأذن؛ وهو طلاء لباطن الأنف؛ وينفع حبّه مسحوقا مخلوطا بالعسل من القلاع «5» طلاء؛ وان طبخت الرّمّانة الحلوة بالشراب ثم دقّت كما هى وضمدت بها الأذن نفع من ورمها منفعة جيّدة؛ وشراب الرّمّان وربّه نافعان من الخمار؛ وعصارة الحامض تنفع من الظّفرة «6» ؛ وهو يخشّن الصّدر والحلق؛ والحلو يليّنهما ويقوّى الصّدر؛ واذا سقى حبّ الرّمّان فى ماء المطر منع نفث الدّم؛ وجميعه ينفع من الخفقان، ويجلو الفؤاد؛ والمرّ ينفع الجزء: 11 ¦ الصفحة: 100 من التهاب المعدة؛ والحلو يوافق المعدة؛ والحامض يضرّها، ومع ذلك فحبّ الرّمّان يضرّ المعدة؛ وسويقه مصلح لشهوة الحبالى، وكذلك ربّه؛ خصوصا الحامض؛ ويمصّه المحموم بعد غذائه فإنّه يمنع صعود البخار. قال: والحامض أكثر إدرارا للبول من الحلو؛ وكلاهما مدرّ؛ وسويق الرّمّان ينفع من الإسهال الصّفراوىّ؛ وقشور أصل الرّمّان بالنّبيذ تخرج الدّيدان. قال: والحلو يضرّ أصحاب الحمّيات الحارّة. وقال فى الجلّنار «1» : هو زهر رمّان برّىّ، فارسىّ او مصرىّ، قد يكون أحمر وقد يكون أبيض، وقد يكون مورّدا، وعصارته فى طبعها كعصارة لحية التّيس «2» ؛ قوّته قوّة شحم الرّمّان؛ وطبعه بارد فى آخر الأولى، يابس فى الثانية؛ وأفعاله وخواصّه، هو مغرّ، حابس لكلّ سيلان، ويولّد السّوداء؛ وهو جيّد للّثة الدّامية ويدمل الجراحات والقروح والعقور والشّجوج ذرورا؛ وهو يقوّى الأسنان المتحرّكة؛ وهو يعقل، وينفع من قروح الأمعاء وسيلان الرّحم ونزفها. وأمّا ما قيل فيهما من الشعر - فمن ذلك ما وصف به الرّمّان وشبّه به، قال أبو هلال العسكريّ: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 101 حكى الرّمّان أوّل ما تبدّى ... حقاق زبرجد يحشون درّا فجاء الصيف يحشوه عقيقا ... ويكسوه مرور القيظ تبرا ويحكى فى الغصون ثدىّ حور ... شققن غلائلا عنهنّ خضرا وقال آخر: خذوا صفة الرّمّان عنّى فإنّ لى ... بيانا عن الأوصاف غير قصير حقاق كأمثال الكراة تضمّنت ... فصوص بلخش «1» فى غشاء حرير وقال آخر: لله رمّانة من فوق دوحتها ... مثالها ببديع الحسن منعوت فالقشر حقّ نضار ضمّ داخله ... والشّحم قطن له والحبّ ياقوت وقال آخر: رمّانة صبغ الزّمان أديمها ... فتبسّمت فى خضرة «2» الأغصان فكأنّما هى حقّة من صندل «3» ... قد أودعت خرزا من المرجان «4» وقال ابن قسيم الحموىّ: ومحمرّة من بنات الغصو ... ن يمنعها ثقلها أن تميدا منكّسة التّاج فى دستها ... تفوق الخدود وتحكى النّهودا تفضّ فتفترّ عن مبسم ... كأنّ به من عقيق عقودا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 102 كأنّ المقابل «1» من حسنها ... ثغور تقبّل منها خدودا وقال آخر: رمّانة مثل نهد الكاعب الرّيم ... تزهى بشكل ولون غير مذموم كأنّها حقّة من عسجد ملئت ... من اليواقيت نثرا غير منظوم وقال محمّد بن «2» عمر المقرئ «3» الكاتب: ورمّان رقيق القشر يحكى ... ثدىّ «4» الغيد فى أثواب لاذ «5» إذا قشّرته طلعت علينا ... فصوص من عقيق أو بجاذى «6» وقال آخر: ولاح رمّاننا فأبهجنا ... بين صحيح وبين مفتوت من كلّ مصفرّة مزعفرة ... تفوق فى الحسن كلّ منعوت كأنّها حقّة فإن فتحت ... فصرّة من فصوص ياقوت وقال آخر: ولابسة صدفا أصفرا ... أتتك وقد ملئت جوهرا حبوبا كمثل لثات الحبيب ... رضابا إذا شئت أو منظرا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 103 وقال آخر: طعم الوصال «1» يصونه طعم النّوى ... سبحان خالق ذا وذا من عود فكأنّها والخضر من أوراقها ... خضر الثّياب على نهود الغيد وأنشدنى الشيخ شهاب الدّين أحمد بن الجبّاس «2» الدّمياطىّ لنفسه فى ذى الحجّة سنة ثلاث عشرة وسبعمائة فى رمّانة مشقوقة يتساقط منها الحبّ: كتمت هوى قد لجّ فى أشجانها ... وحشت حشاها من لظى نيرانها فتشقّقت من حبّها عن حبّها ... وجدا وقد أبدت خفا كتمانها رمّانة ترمى «3» بها أيدى النّوى ... من بعد ما رمّت «4» على أغصانها فاعجب وقد بكت «5» الدّموع عقائقا ... لا من مآقيها ولا أجفانها ومنه ما وصف به الجلّنار- قال أبو فراس الحمدانىّ: وجلّنار مشرق ... على أعالى الشجره كأنّ فى أغصانه ... أحمره وأصفره الجزء: 11 ¦ الصفحة: 104 قراضة من ذهب ... فى خرقة معصفره وقال ابن وكيع: وجلّنار بهىّ ... ضرامه يتوقّد بدا لنا فى غصون ... خضر من الرّىّ ميد يحكى فصوص عقيق ... فى قبّة من زبرجد وقال آخر: كأنّما الجلّنار لمّا ... أظهره العرض للعيون أنامل كلّها خضيب ... تنشر لاذا «1» على الغصون وقال أبو الحسن «2» الشّمشاطىّ: وبدا الجلّنار مثل خدود ... قد كساها الحياء لون عقار صبغة الله كالعقيق تراه ... أحمرا ناصعا «3» لدى الاخضرار وأمّا الموز وما قيل فيه - فقال أبو بكر بن وحشيّة فى توليده: وان خلطتم باليبروح «4» مثل وزنه من التّمر، وعجنتموهما عجنا جيّدا، ثمّ زرعتموهما الجزء: 11 ¦ الصفحة: 105 وتعاهدتم ذلك بالسقى الكثير، خرج منه شجر الموز؛ وكذلك إن لجن القلقاس بالتّمر خرج منهما الموز، إلّا أنّ ما ينبت عن اليبروح أكبر موزا، وأشدّ حلاوة. وقال الشيخ الرئيس: الموز مليّن؛ والإكثار منه يورث السّدد، ويزيد فى الصّفراء والبلغم بحسب المزاج؛ وهو نافع للخلق «1» والصّدر؛ وهو ثقيل على المعدة؛ ويجب أن يتناول المحرور بعده سكنجبينا «2» بزوريّا، والمبرود عسلا. قال: وهو يزيد فى المنىّ، ويوافق الكلى، ويدرّ البول. وأمّا ما وصف به وشبّه من الشّعر - فمن ذلك قول ابن الرّومىّ: إنّما الموز إذ تمكّن منه ... كاسمه مبدلا من الميم فاءا وكذا فقده العزيز علينا ... كاسمه مبدلا من الزاى تاءا فهو الفوز مثلما فقده المو ... ت لقد عمّ فضله الأحياءا ولهذا التأويل سمّاه موزا ... من أفاد المعانى الأسماءا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 106 نكهة عذبة وطعم لذيذ ... فنعيم متابع نعماءا لو تكون القلوب مأوى طعام ... نازعته قلوبنا الأحشاءا وقال فيه أيضا: للموز إحسان بلا ذنوب ... ليس بمعدود ولا محسوب يكاد من موقعه المحبوب ... يسلمه البلع إلى القلوب وقال الصّاحب جمال الدّين علىّ بن ظافر: كأنّما الموز إذا ... ما جاءنا بالعجب أنياب أفيال صغا ... ر طلّيت بالذّهب ونحوه قول الآخر- وكأنّه مأخوذ منه-: موز حلا فكأنّه ... عسل ولكن غير جارى ذو باطن مثل الأقاح «1» ... وظاهر مثل النّضار يحكى إذا قشّرته ... أنياب أفيال صغار وحكى صاحب (بدائع البدائه) أنّ الحسن بن رشيق ومحمّد بن شرف القيروانىّ اجتمعا فى مجلس المعزّ بن باديس وبين يديه موز، فاقترح على كلّ واحد منهما أن يعمل فيه شيئا، فقال ابن شرف: يا حبّذا الموز وإسعاده ... من قبل أن يمضغه الماضغ لان إلى أن لا محسّ له ... فالفم ملآن به فارغ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 107 سيّان قلنا مأكل طيّب ... فيه وإلّا مشرب سائغ إن قيل فيما قد حلا طيّب ... فالموز حلو طيّب بالغ أحلى مذاقا من دماء العدا ... أمكن منها أسد والغ وقال ابن رشيق- وتواردا فى المعنى والقافية-: موز سريع سوغه ... من قبل مضغ الماضغ مأكلة لاكل ... ومشرب لسائغ فالفم من لين به ... ملان مثل فارغ يخال وهو بالغ ... للحلق غير بالغ ثمّ سألهما فى مثل ذلك، فقال محمد بن شرف: هل لك فى موز إذا ... ذقناه قلنا حبّذا فيه شراب وغذا ... يزيل كالماء القذى لو مات من تلذّذا ... به لقلنا: ذا بذا وقال ابن رشيق: لله موز لذيذ ... يعيذه المستعيذ فواكه وشراب ... به يفيق «1» الوقيذ «2» ترى القذى العين فيه ... كما يريها النّبيذ فانظر إلى هذا التّوارد العجيب المرّة بعد المرّة. وقال نجم الدّين بن إسرائيل يصفه: أنعت لى موزا شهىّ المنظر ... مستحكم النّضج لذيذ المخبر الجزء: 11 ¦ الصفحة: 108 كأنّه فى جلده المعصفر ... لفّات زبد عجنت بسكّر وأنشدنى الشيخ الفاضل شهاب الدّين أحمد بن منصور الدّمياطىّ- عرف بابن الجبّاس- فى ذى الحجّة سنة ثلاث عشرة وسبعمائة لنفسه وأجاد: كأنّما الموز فى عراجنه «1» ... وقد بدا يانعا على شجره فروع شعر برأس غانية ... عقّص من بعد ضمّ منتشره كأنّ من ضمّه وعقّصه ... أرسل شرّابة «2» على أثره كأنّ أمشاطه مكاحل من ... زمرّد نظّمت على قدره كأنّما زهره الأنيق وقد ... شقّق عنه كمام مستتره نظام ثغر يزينه شنب «3» ... ممتزج شهده بمعتصره كأنّ قامات سوقه عمد ... حنت «4» أواوينها على جدره كأنّ أشجاره وقد نشرت ... ظلال أوراقها على ثمره حاملة طفلها على يدها ... تقيه حرّ الهجير فى خمره كأنّما ساقه الصّقيل وقد ... بدت عليه رقوم معتبره «5» الجزء: 11 ¦ الصفحة: 109 ساق عروس أميط مئزرها ... فبان وشى الخضاب فى حبره «1» تصاغ من جوهر «2» خلاخلها ... فتنجلى والنّثار من زهره حدائق خفّفت «3» سناجقها «4» ... كأنّها الجيش أمّ فى زمره وكلّ آياته فباهرة ... تبين فى ورده وفى صدره كأنّما عمره القصير حكى ... زمان وصل الحبيب فى قصره كأنّ عرجونه المشيب أتى ... يخبر أن حانه «5» انقضا عمره كأنّه البدر فى الكمال وقد ... أصيب بالخسف فى سنا قمره كأنّه بعد قطعه وقد اصفرّ ... لما نال من أذى حجره «6» متيّم قد أذابه كمد ... يبيت من وجده على خطره معلّق بالرّجاء، ظاهره ... يخبر عمّا أجنّ من خبره يطيب ريحا ويستلذّ جنى ... على أذى زاد فوق مصطبره كأنّه الحرّ حال محنته ... يزيد صبرا على أذى ضرره الجزء: 11 ¦ الصفحة: 110 وأمّا ما وصف به وشبّه النّارنج «1» - فمن ذلك قول شاعر: لله أنجم نارنج توقّدها ... يكاد ينجاب عن لألائه الغسق تبدو لعينيك فى لألائها ولها ... من الغصون بروج دوحها الأفق تجنى به اليد جمرا ليس يطفئه ... غيث ولا اليد إذ تجنيه تحترق كأنّه مستعار الشّبه من سفن «2» ... مذهّب أو حباه لونه الشّفق وقال آخر: تأمّلها كرات من عقيق ... تروقك فى ذرا دوح وريق صوالج من غصون ناعمات ... غذتها درّة العيش الأنيق تخال غصونها فيها نشاوى ... بأيديهم كئوس من رحيق عجبت لها شربن الماء ريّا ... وفى لبّاتها لهب الحريق وقال آخر يصف نارنجة: يا ربّ نارنجة يلهو النديم بها ... كأنّها كرة من أحمر الذّهب أو جذوة حملتها كفّ قابسها ... لكنّها جذوة معدومة اللهب وقال آخر: ومورقة فى صيفها وشتائها ... يحار النّهى فى أرضها وسمائها اذا ما زهى الكانون يوما بجمره ... نظرت إليه تحت فضل ردائها أرى الماء يطفى كلّ نار ونارها ... تزيد حياة ما تغذّت بمائها الجزء: 11 ¦ الصفحة: 111 كرات عقيق أم خدود كواعب ... بدت وهى حمر من صباغ «1» حيائها وقال آخر: انظر إلى منظر يلهيك منظره ... بمثله فى البرايا يضرب المثل نار تلوح على الأغصان فى شجر ... لا الماء يطفى ولا النّيران تشتعل وقال آخر يصف نارنجة نصفها أحمر ونصفها أخضر: وبنت أيك دنا من لمسها قزح «2» ... فلاح منها على أرجائها أثر يبدو لعينيك منها منظر عجب ... زبرجد ونضار صاغه المطر كأنّ موسى كليم الله أقبسها ... نارا وجرّ عليها كفّه الخضر وقال الصّاحب بن عبّاد: بعثنا من النارنج ما طاب عرفه ... ونمّت على الأغصان منه نوافج «3» كرات من العقيان أحكم خرطها ... وأيدى النّدامى حولهنّ صوالج وقال أبو الحسن الصّقلىّ: تنعّم بنارنجك المجتنى ... فقد حضر السعد لمّا حضر فيا مرحبا بقدود الغصون ... ويا مرحبا بخدود الشجر كأنّ السماء همت بالنّضار ... فصاغت لها الأرض منه أكر الجزء: 11 ¦ الصفحة: 112 وقال ابن المعتزّ: كأنّما النّارنج لمّا بدت ... صفرته فى حمرة كاللهيب وجنة معشوق رأى عاشقا ... فاصفرّ ثمّ احمرّ خوف الرّقيب وقال السّرىّ الرّفّاء: وبديعة أضحى الجمال شعارها ... صبغ الحيا «1» صبغ الحياء إزارها حلّت عقال نسيمها وتوشّحت ... وبالأرجوان وشدّدت أزرارها فالعين تحسر إن رأت إشراقها ... والنفس تنعم إن رأت «2» أخبارها فكأنّها فى الكفّ وجنة عاشق ... عبث الحياء بها فأضرم نارها محمولة حملت عجاجة عنبر ... فإذا سرى ركب النّسيم أثارها أمنت على أسرارها ريح الصّبا ... وهنا «3» فضيّعت الصّبا أسرارها وكأنّما صافحت منها جمرة ... أمنت يمينك حرّها وشرارها ما أحسب النّارنج إلّا فتنة ... هتك الزّمان لناظر أستارها عشقت محاسنه العيون فلو رنت ... أبدا اليه ما قضت أو طارها وقال آخر «4» : سقيا لأيّامنا ونحن على ... رءوسنا نعقد الأكاليلا فى جنّة ذلّلت لقاطفها ... قطوفها الدّانيات تذليلا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 113 كأنّ نارنجها «1» يلوح على ... أغصانها حاملا ومحمولا سلاسل من زبرجد حملت ... من ذهب أحمر قناديلا وقال آخر «2» : وأشجار نارنج كأنّ ثمارها ... حقاق عقيق قد ملئن من الدّرّ تطالعنا بين الغصون كأنّها ... خدود غوان «3» فى ملاحفها الخضر أتت كلّ مشتاق بريّا حبيبه ... فهاجت له الأحزان من حيث لا يدرى وقال آخر: حدائق أشجار كإقبال دولة ... عليك أو البشرى أتت لقعيد أنارت بنارنج لريّاه «4» فى الحشا ... مواقع وصل من فؤاد عميد اذا ما حنى أغصانه فكأنّه ... صوالجة الأصداغ فوق خدود وقال آخر: وأغصان مقوّمة حسان ... ومنها ما يرى كالصّولجان كأنّ بها ثديّا ناهدات ... غلائلها صبغن بزعفران وقال آخر «5» يصف نارنجا مختلف الألوان: رياض من النّارنج كالأمن والمنى ... جمعن ومثل النّوم بعد التسهّد الجزء: 11 ¦ الصفحة: 114 تجلّى العشا عن ناظرى كلّ ناظر ... وتجلو الصّدى عن قلب ذى اللّوعة الصّدى فمن أخضر غضّ النّبات كأنّه ... مشارب مينا «1» أو حقاق زمرّد ومن أحمر كالأرجوان إذا بدا ... وكالرّاح صرفا أو كخدّ مورّد ومن أصفر كالصّبّ، يبدو كأنّه ... كرات أديرت من خلاصة عسجد اذا لاح فى أشجاره «2» فكأنّه ... شموس «3» عقيق فى «4» قباب زبرجد وقال آخر: أهدى لنا النّارنج عند قطافه ... أكرا تروق بمنظر وبمنخبر ببواطن من ياسمين أبيض ... وظواهر من جلّنار أحمر وقال آخر: كانت هديّته لنا نارنجة ... كالفهر «5» لفّت فى حرير أصفر صفراء تحسب أنّها قد جدّرت ... فترى ببهجتها «6» انتثار مجدّر «7» فسألتها عمّا يغيّر لونها ... قالت سألت فخذ جواب مخبّر كنّا حبائب فوق غصن ناعم ... أوراقه مثل الفرند الأخضر الجزء: 11 ¦ الصفحة: 115 فرمى الزّمان وصالنا بتفرّق ... فلذاك صفرة وجنتى وتغيّرى وقال ابن وكيع التّنّيسىّ: انظر إلى النّارنج فى بهجاته ... يلوح فى أفنان هاتيك الشّجر مثل دبابيس «1» نضار أحمر ... أو كعقيق خرطت منه أكر وقال أبو الحسن الصّقلّىّ: ونارنجة بين الرياض نظرتها ... على غصن رطب كقامة أغيد اذا ميّلتها الرّيح مالت كأكرة ... بدت ذهبا فى صولجان زمرّد وأمّا ما وصف وشبّه به اللّيمو «2» - فمن ذلك قول الشاعر: انظر إلى اللّيمون فى شكله ... وحسنه لمّا بدا للعيان كأنّه بيض دجاج وقد ... لطّخه العابث بالزّعفران وقال السرىّ الرّفّاء: واصطبحناها على نهر ... بصفو الماء يجرى ظلّلته شجرات ... عطرها أطيب عطر فلك أنجمه اللّيمو ... فمن بيض وصفر أكر من فضّة قد ... شابها تلويح تبر وقال آخر: يا ربّ ليمونة حيّا بها قمر ... حلو المقبّل ألمى بارد الشّنب «3» كأنّها كرة من فضّة خرطت ... فاستودعوها غلافا صيغ من ذهب الجزء: 11 ¦ الصفحة: 116 الباب الثانى من القسم الثّانى من الفنّ الرابع فيما لثمره نوى لا يؤكل ويشتمل هذا الباب على عشرة «1» أصناف، وهى النّخل وما يشبهه، وهو النّارجيل، والفوفل والكاذىّ «2» والخزم، ثمّ الزّيتون والخرنوب والإجّاص والقراسيا «3» والزّعرور والخوخ والمشمش والعنّاب والنّبق. فأمّا النّخل وما قيل فيه - فقال الله تعالى: وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقاً لِلْعِبادِ ؛ وقال عبد الله بن عمر- رضى الله عنهما-: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنّها مثل المسلم؛ فحدّثونى ما هى» ؟ فوقع الناس فى شجر البوادى؛ قال عبد الله: ووقع فى نفسى أنّها النّخلة، فاستحييت؛ ثمّ قالوا: حدّثنا ما هى يا رسول الله؟ قال: «هى النخلة» ؛ قال عبد الله: فحدّثت أبى بما وقع فى نفسى؛ فقال: لأن تكون قلتها أحبّ إلىّ من كذا وكذا. وفى لفظ عنه، قال: كنّا عند النّبىّ صلّى الله عليه وسلّم فأتى بجمّار، فقال: «إنّ من الشجر شجرة مثلها كمثل المسلم» الحديث. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 117 وفى لفظ عنه- رضى الله عنه- أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ من الشجر لما بركته كبركة المسلم» وساق الحديث. وللنّخلة أسماء نطقت بها العرب من حين تبدو صغيرة إلى أن تكبر، وكذلك الرّطب من حين يكون طلعا إلى أن يصير رطبا؛ تقول العرب لصغار النخل: الجثيث والهراء والودىّ والفسيل والأشاء «1» . وقال الثّعالبىّ فى (فقه اللّغة) : إذا كانت النخلة صغيرة فهى الفسيلة والوديّة. فاذا كانت قصيرة تناولها اليد فهى القاعد؛ «وفى «2» (غريب المصنّف) : العضيد، والجمع: عضدان» . فإذا صار لها جذع [لا «3» ] يتناول منه المتناول فهى جبّارة. فإذا ارتفعت عن ذلك فهى الرّقلة والعيدانة. فاذا زادت فهى باسقة. فاذا تناهت فى الطّول مع انجراد فهى سحوق. فصل فى نعوتها اذا كانت النخلة على الماء فهى كارعة ومكرعة. فاذا حملت فى صغرها فهى مهتجنة. فاذا كانت تدرك فى أوّل النخل فهى بكور. فاذا كانت تحمل سنة وسنة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 118 لا تحمل فهى سنهاء. فاذا كان بسرها ينتثر وهو أخضر فهى خضيرة. فاذا دقّت من أسفلها وانجرد كربها فهى صنبور. فاذا مالت فبنى تحتها دكّان تعتمد عليه فهى رجبيّة «1» . فاذا كانت منفردة عن أخواتها فهى عوانة. ويقال للطّلع «2» : الكافور، والضّحك «3» ، والإغريض. فإذا انعقد سمّته «4» السّياب «5» . فاذا اخضرّ قبل أن يشتدّ سمّته الجدال. فإذا عظم فهو البسر. فإذا صارت فيه طرائق فهو المخطّم. فاذا تغيّرت البسرة إلى الحمرة فهى شقحة. فاذا ظهرت الحمرة فهو الزّهو «6» ، وقد أزهى. فاذا بدت فيه نقط «7» من الإرطاب نصفها فهى المجزّع «8» . فإذا بلغ ثلثيها فهى حلقانة. فإذا جرى الإرطاب فيها فهى منسبتة. وللشّعراء فى النّخل أوصاف، فمن ذلك ما أنشده الأصمعىّ «9» : غدت سلمى تعاتبنى وقالت ... رأيتك لا تريغ «10» لنا معاشا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 119 فقلت لها: أما يكفيك دهم ... اذا أمحلت «1» كنّ لنا رياشا «2» بوارك ما يبالين اللّيالى ... ضربن «3» لنا وللأيّام جاشا «4» اذا ما الغاديات ظلمن «5» مدّت ... بأسباب ننال بها انتعاشا ترى أمطاءها «6» بالبسر هدلا «7» ... من الألوان ترتعش ارتعاشا وعن الشّعبىّ قال: كتب قيصر إلى عمر بن الخطّاب- رضى الله عنه- إنّ «8» رسلى أخبرونى أنّ بأرضك شجرة كالرجل القائم تفلّق عن مثل آذان الحمر، ثمّ يصير مثل اللّؤلؤ، ثم يعود كالزّمرّد الأخضر، ثمّ يصير كالياقوت الأحمر والأصفر الجزء: 11 ¦ الصفحة: 120 ثمّ يرطب فيكون كأطيب فالوذ «1» اتّخذ، ثمّ يجفّ فيكون عصمة «2» للمقيم، وزادا للمسافر فإن كان رسلى صدقونى فهى الشجرة الّتى نبتت على مريم بنت عمران. فكتب اليه عمر- رضى الله عنه-: إنّ رسلك صدقوك، وهى الشجرة الّتى نبتت على مريم، فاتق الله، ولا تتّخذ عيسى إنّ رسلك صدقوك، وهى الشجرة الّتى نبتت على مريم، فاتق الله، ولا تتخذ عيسى إلها من دون الله. أخذ عبد الصّمد بن المعدّل هذه التشبيهات، فقال يصف النّخل فى أرجوزة أوّلها: حدائق ملتفّة الجنان ... رست بشاطى ترع ريّان تمتار «3» بالأعجاز للأذقان ... لا ترهب المحل من الأزمان إن هى أبدت زينة المردان «4» ... لا حت بكافور على إهان «5» يطلع منها كيد الإنسان ... إذا بدت ملمومة البنان علّت بورس «6» أو بزعفران ... حتّى اذا شبّه بالآذان الجزء: 11 ¦ الصفحة: 121 من حمر الوحش لدى العيان ... شقّقه علجان ماهران عن لؤلؤ صيغ على قضبان ... مصوغة «1» من ذهب خلصان ثمّ يرى للسّبع والثّمانى ... قد حال مثل الشّذر «2» فى الجمان يضحك عن مشتبه الأقران ... كأنّه فى ناضر الأغصان زمرّد لاح على تيجان ... حتّى إذا تمّ له شهران وانسدلت عثاكل القنوان ... كأنّها قضب من العقيان فصّلن بالياقوت والمرجان ... رأيته مختلف الألوان من قانىء أحمر أرجوانى ... وفاقع أصفر كالنّيران مثل الأكاليل على الغوانى «3» ونحوه قول أبى هلال العسكرىّ: ونخيل وقفن فى معطف الرّم ... ل وقوف الحبشان فى التّيجان شربت بالأعجاز حتّى تروّت ... وتراءت بزينة الرّحمن طلع الطّلع فى الجماجم منها ... كأكفّ خرجن من أردان فتراها كأنّها كمت «4» الخي ... ل توافت مصرّة «5» الآذان الجزء: 11 ¦ الصفحة: 122 أهو الطّلع أم سلاسل عاج ... حملت فى سفائن العقيان ثمّ عادت شبائها تتباهى ... بأعل شبائه أقران خرزات من الزّبرجد خضر ... وهبتها السّلوك للقضبان ثمّ حال النّجار واختلف الشّكل ... فلاحت بجوهر ألوان بين صفر فواقع تتباهى ... فى شماريخها وحمر قوانى وقال النّمر بن تولب: ضربن العرق فى ينبوع عين ... طلبن معينه حتّى روينا بنات الدّهر لا يخشين محلا ... اذا لم تبق سائمة بقينا كأنّ فروعهنّ بكلّ ريح ... عذارى بالذوائب ينتضينا «1» وقال النابغة: صغار النّوى مكنوزة ليس قشرها ... اذا طار قشر التّمر عنها بطائر من الواردات الماء بالقاع تستقى ... بأعجازها قبل استقاء الحناجر وقال السّرىّ الرّفّاء: وكأنّ ظلّ النّخل حول قبابها ... ظلّ الغمام إذا الهجير توقّدا من كلّ خضراء الذّوائب زيّنت ... بثمارها جيدا لها ومقلّدا خرقت أسافلهنّ أعماق الثّرى ... حتّى اتّخذن البحر فيه «2» موردا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 123 شجر إذا ما الصّبح أسفر لم ينح ... للأمن طائره ولكن غرّدا وقال شهاب الدّين الشّطنوفىّ: كأنّ النّخيل الباسقات وقد بدت ... لناظرها حسنا قباب زبرجد وقد علّقت من حولها [زينة لها] ... قناديل ياقوت بأمراس عسجد وأمّا الجمّار وما قيل فيه- فالجمّار، هو رأس النّخل، واذا قطعت الجمّارة لا تعيش النخلة بعدها أبدا. وقال الشيخ الرئيس: طبعه بارد فى الثانية، يابس فى الأولى؛ وهو قابض؛ وينفع من خشونة الحلق؛ ويقبض الإسهال والنّزف؛ وينفع من لسع الزّنبور ضمادا. وقال شاعر يصفه: جمّارة كالماء تبدو لنا ... ما بين أطمار من اللّيف جسم رطيب اللّمس لكنّه ... قد لفّ فى ثوب من الصّوف وأمّا ما وصف به الطّلع- فمن ذلك قول كشاجم: أفدى الّذى أهدى إلينا طلعة ... أهدت إلى قلب المشوق بلابلا فكأنّما هى زورق من صندل ... قد أو دعوه من اللّجين سلاسلا وقال ابن وكيع: طلع هتكنا عنه أستاره ... من بعد ما قد كان مستورا كأنّه لمّا بدا ضاحكا ... فى العين تشبيها وتقديرا [درج «1» من الصّندل قد أودعت ... فيه يد العطّار كافورا] الجزء: 11 ¦ الصفحة: 124 وقال محمّد بن القاسم العلوىّ: وطلع هتكنا عنه جيب قميصه ... فيا حسنه فى لونه حين هتّكا حكى صدر خود من بنى الرّوم هزّها ... سماع فشقّت عنه ثوبا ممسّكا وقال كشاجم «1» : ولا بس ثوبا من الحرير ... مضمّخ الظاهر بالعبير مضمّن الباطن ثوب «2» نور ... يفترّ عن مكنونة الثّغور كأنّما فتّ من الكافور وقال أيضا: قد أتانا الّذى بعثت إلينا ... وهو شىء فى وقتنا معدوم طلعة غضّة أتتنا تحاكى ... سفطا فيه لؤلؤ منظوم وقال الرّبيع «3» بن أبى الحقيق اليهودىّ يرثى كعب بن الأشرف: ذو «4» نخيل فى تلاع جمّة ... تخرج الطّلع كأمثال الأكف الجزء: 11 ¦ الصفحة: 125 وأمّا البلح والبسر والتّمر - فروى عن عامر بن سعد عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من تصبّح كلّ يوم سبع تمرات- يعنى «1» عجوة- لم يضرّه فى ذلك اليوم سمّ ولا سحر» خرّجه البخارىّ فى صحيحه. وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: إنّ طبعهما «2» بارد يابس فى الثانية؛ والبسر أقبض من القسب «3» ؛ واذا أكل وشرب الماء على أثره نفخ، وان كان أوّل ما يحلو قرقر أكثر، ويحدثان السّدد فى الأحشاء؛ وطبيخ البسر يسكّن اللهيب مع حفظ الحرارة الغريزيّة؛ والإكثار منهما يولّد فى البدن أخلاطا غليظة؛ والبسر يصدّع، وكثيره يسكر؛ وهما رديئان للصّدر والرّئة، ويحدثان السّدد فى الكبد، وهضمهما بطىء؛ والهشّ أقلّ هضما؛ وغذاؤهما يسير، وكلّ واحد منهما يعقل البطن. قال: والبلح يغزر البول؛ واذا شرب بخلّ عفص منع سيلان الرّحم ونزف البواسير؛ وكثرة استعمالهما توقع فى القشعريرة «4» . وقد وصف الشعراء البلح والبسر فى أشعارهم - فمن ذلك ما قاله ابن وكيع التّنّيسىّ فى البلح: أما ترى النّخل طارحا «5» بلحا ... جاء بشيرا بدولة الرّطب الجزء: 11 ¦ الصفحة: 126 كأنّه والعيون تنظره ... إذا بدا زهره على القضب مكاحل من زمرّد خرطت ... مقمّعات الرءوس بالذّهب وقال عبد الصمد: كأنّه فى ناضر الأغصان ... زمرّد لاح على تيجان وقال كمال الدّين بن بشائر الإخميمىّ- وهو عصرىّ-: حيّا بها رائحة ... كالمسك للمستنشق وقال شبّهها لنا ... فقلت غير مطرق مكحلة مخروطة ... من دهنج «1» موثّق سدادها من ذهب ... وميلها من ورق «2» وقال شاعر يصف البسر الأحمر: أما ترى النّخل حاملات ... بسرا حكى لونه الشّقيقا كأنّما خوصه عليه ... زمرّد مثمر عقيقا [وقال ابن «3» المعتزّ] : كقطع الياقوت يانعات ... بخالص التّبر مقمّعات [وقال فى «4» الأصفر] : أما ترى البسر الّذى ... قد حاز كلّ العجب كيف غدا فى لونه ... كعاشق مكتئب مكاحل من فضّة ... قد طليت بالذّهب الجزء: 11 ¦ الصفحة: 127 ووصفوا الرّطب والتّمر- فمن ذلك ما قاله محمد بن شرف القيروانىّ: ومطبوخ بغير عقيد «1» نار ... عزمت على جناه بآبتكار توابيت تبدّت من عقيق ... مقمّعة بمسبوك النّضار ترى لصفاء جوهرها نواها ... كألسنة العصافير الصّغار وقال ابن الرّومىّ: بعثت ببرنىّ «2» جنىّ كأنّه ... مخازن تبر قد ملئن من الشّهد مختّمة الأطراف تنقدّ قمصها ... عن العسل الماذىّ «3» والعنبر الهندى تنقّل من خضر الثياب وصفرها ... الى حمرها ما بين وشى الى برد فكم لبثت فى شاهق لا ترى به ... ولا تجتنى باللّحظ إلّا من البعد ألّذ من السّلوى وأحلى من المنى ... وأعذب من وصل الحبيب على الصّمدّ وقال محمد بن شرف القيروانىّ [فى التّمر «4» ] : أما ترى التّمر يحكى ... فى الحسن للنّظّار مخازنا من عقيق ... قد قمّعت بنضار كأنّما زعفران ... فيه مع الشّهد جارى يشفّ مثل كئوس ... مملوءة من عقار الجزء: 11 ¦ الصفحة: 128 [وحيث «1» ] انتهينا من وصف النخل وثمرته على اختلافها إلى ما وصفناه فلنذكر أعجوبة نقلها محمّد بن علىّ «2» بن يوسف بن جلب راغب فى تاريخ مصر فى حوادث سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة فقال: اتّفق يوم النّوروز «3» فى هذه السنة لسبع خلون من شهر ربيع الأوّل، فأكل الناس الرّطب قبل النّوروز، ولم يبق فى النّخل شىء من الرّطب، ثمّ حمل النّخل حملا ثانيا، فأكل الناس البلح والبسر مرّة ثانية؛ ولم يتّفق مثل هذا فى سنة من السّنين، ولا سمع فى تاريخ إلى وقتنا هذا. ولنصل ذكر النخل بما يشبهه، وهو النّارجيل والفوفل والكاذىّ والخزم. فأمّا النّارجيل - ويسمّى الرّانج، وسمّاه ابن سينا الجوز الهندىّ، وهو المشهور من أسمائه على ألسنة العوامّ- فهى نخلة طويلة تميل بمرتقيها حتّى تدنيه من الأرض للينها، ولها أقناء، يكون فى القنو الكريم ثلاثون نارجيلة، ولها لبن يسمّى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 129 الأطواق «1» ، يشرب، حلو، يسكر سكرا معتدلا؛ وأهل الهند يصنعون من النّارجيل الرّطب سكّرا، إلّا أنّه لا ييبس ويكون كالرّمل «2» . وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا فيه: جيّده الطرىّ الشديد البياض؛ ويجب أن يؤخذ عنه قشر لبّه. قال: وطبعه حارّ فى أوّل الثانية، يابس فى الأولى، وفيه رطوبة فضليّة؛ والرّطب منه رطب فى الأولى. وقال فى أفعاله وخواصّه: هو ثقيل، غير ردىء الغذاء؛ وقشر لبّه لا ينهضم. قال: ويجب ألّا يتناول عليه الطعام إلّا بعد ساعة؛ ودهنه الطرىّ أفضل كيموسا من السّمن، ولا يلزج المعدة؛ ودهنه للبواسير، وخصوصا دهن العتيق منه، لا سيّما مع دهن المشمش مشروبا من كلّ واحد مثقال. وقال كشاجم يصفه: وذات قشر أسود حشوها ... كافورة موموقة المنظر قد نشرت فى رأسها وفرة ... تسترها عن ناظر المبصر كأنّها جمجمة ألبست ... ذوائبا من خالص العنبر وأمّا الفوفل - فقال أبو حنيفة: هى نخلة مثل نخلة النّارجيل، تحمل كبائس فيها الفوفل مثل التّمر، فمنه أسود، ومنه أحمر. وقال الشيخ الرئيس: قوّة الفوفل قريبة من قوّة الصّندل؛ وهو مبرد بقوّة، قابض؛ وهو جيّد للأورام الحارّة الغليظة؛ وموافق لمن به التهاب فى عينه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 130 وأمّا الكاذىّ «1» - فقال «2» : هى نخلة، إلّا أنّها لا تطول طول النّخل، فاذا أطلعت الطّلعة قطعت قبل أن تنشقّ، ثمّ تلقى فى الدّهن، وتترك حتّى يأخذ الدّهن رائحتها، فيتطيّب به، فإن تركت الطّلعة حتّى تنشقّ صار بلحا، ويتناثر ولم توجد له رائحة. وأمّا الخزم «3» - فقال «4» : هو شجرة كالدّوم، له أقناء وبسر أسود إذا أينع إلّا أنّه مرّ عفص لا يأكله الناس؛ وتتّخذ من خوصه وعسبه «5» الحبال، فلا يكون شىء أقوى منها. وأمّا الزّيتون وما قيل فيه - فقال الشيخ الرئيس: الزّيتون يغذو قليلا؛ وورق البرّىّ جيّد للدّاحس «6» ، ويمنع العرق مسحا؛ وصمغ البرّىّ ينفع من الجزء: 11 ¦ الصفحة: 131 الجرب المتقرّح والقوابى «1» ، وينفع الغشاوة والبياض، ويجلو العين ووسخ قروحها ويخرج الجنين. وماء الزّيتون المملّح يحقن به لعرق النّسا؛ وورقه يطبخ بماء الحصرم حتّى يصير كالعسل، وتطلى به الأسنان المتأكّلة فينفعها «2» ؛ وعصارة ورقه للجحوظ. قال: والزّيتون الأسود مع نواه من جملة البخورات للرّبو وأمراض الرئة؛ والزّيتون الغليظ المملوح يثير الشهوة، ويقوّى المعدة، ويولّد كيموسا قابضا؛ والمخلّل أقبل الجميع للهضم وأسرعه. وقال ابن وكيع يصفه: انظر إلى زيتوننا ... فيه شفاء المهج بدا لنا كأعين ... شهل «3» وذات دعج مخضرّه زبرجد ... مسودّه من سبج «4» وأمّا الخرنوب وما قيل فيه - فقال الشيخ الرئيس: أصلحه الخرنوب الشامىّ المجفّف؛ وهو قابض، والرّطب منه مطلق. قال: واذا دلكت الثآليل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 132 بالخرنوب النّبطىّ الفجّ دلكا شديدا أذهبها ألبتّة؛ والمضمضة بطبيخه جيّدة لوجع الأسنان؛ والرّطب من الشامىّ ردىء «1» للمعدة لا ينهضم؛ واليابس أبطأ انهضاما. قال: والجلوس فى طبيخه يقوّى المعدة «2» ؛ وفيه إدرار؛ والنّبطىّ نافع من سيلان الطّمث المفرط أكلا واحتمالا «3» . وقال جالينوس: ليت «4» هذه الشجرة لم تجلب إلى بلاد «5» أخرى. وحكى أنّ سليمان عليه السّلام كان من عادته أن يعتكف فى البيت المقدّس المدد الطّوال، وكانت تخرج له فى كلّ يوم من محرابه شجرة، فيسألها عن اسمها فتخبره، فخرجت له شجرة الخرنوب، فسألها عن اسمها، فأخبرته، فبكى، وقال: نعيت إلىّ نفسى؛ فقيل له فى ذلك، فقال: الخرنوب خراب؛ ومات بعد ذلك بقليل؛ وقال شاعر فيه: لمّا أتى الخرنوب فى طبق ... حنّت اليه النّفوس والمهج كأنّه فى كمال حالته ... حبّ عقيق أصدافها سبج الجزء: 11 ¦ الصفحة: 133 وأمّا الإجّاص «1» وما قيل فيه - فقال أبو بكر بن وحشيّة فى توليده: إن خلطتم اليبروح «2» بورق العنّاب ومثل نصف وزن اليبروح كندسا «3» ، وزرعتموه فى أىّ البلاد، خرج عن ذلك شجر الإجّاص الحامض؛ وإن أردتموه حلوا فاخلطوا مع اليبروح خمير دقيق الشعير والحنطة مختلطين، وقد طال اختمارهما حتى حمضا، فإنّه يخرج عنه شجر الإجّاص الحلو، وذلك بعد أن يخلط بما تقدّم، ومن الخمر الحديث برطل. وقال الشيخ الرئيس فى الإجّاص: البستى منه أقوى من الأسود، والأصفر أقوى من الأحمر، والأبيض الكبير «4» ثقيل قليل الإسهال، والأرمنىّ أحلى الجميع الجزء: 11 ¦ الصفحة: 134 وأشدّه إسهالا، وأجوده الكبار السّمينة؛ وطبعه بارد فى أوّل الثانية رطب فى آخرها. وقال فى أفعاله وخواصّه: صمغه ملطّف قطّاع مغرّ؛ وفى الدّمشقىّ عقل وقبض عند ديسقوريدس؛ وقال «1» جالينوس: والذى لم ينضج فيه قبض وغذاؤه قليل، وليؤكل قبل الطعام، ويشرب المرطوب بعده ماء العسل والنّبيذ وصمغه ملحم للقروح، وبالخلّ يقلع القوباء. وخاصّة إن كان معه عسل أو سكّر وخصوصا فى الصّبيان؛ وورقه اذا تمضمض بمائه منع من النوازل الى اللّوزتين «2» واللهاة؛ واذا اكتحل بصمغه قوّى البصر؛ والمزّ «3» منه يسكّن التهاب القلب، وهو أشدّ قمعا للصّفراء؛ والحلو منه يرخى المعدة بترطيبه ويبردها؛ وبالجملة لا يلائمها؛ والحلو منه أشدّ إسهالا للصّفراء؛ والرّطب أشدّ إسهالا من اليابس؛ والدّمشقىّ يعقل البطن عند بعضهم؛ والبرّىّ ما دام لم ينضج جدّا «4» ففيه قبض إجماعا. وقال جالينوس: إنّ ديسقوريدس أخطأ فى قوله: إنّ الدّمشقىّ يقبض، بل هو مسهل وصمغه يفتّت الحصاة، وماؤه يدرّ الطّمث، وكلّما صغر كان أقلّ إسهالا. وقال سليمان «5» بن بطّال الأندلسىّ يصفه: بعثت ما يندر لكنّه ... فى وصفه النّاعت لم يبرر «6» الجزء: 11 ¦ الصفحة: 135 جيشا من الزّنج ولكنّه ... جيش متى يلقى العدا يقهر ينفى لك الصّفراء مهزومة ... والزّنج أعداء بنى الأصفر وقال آخر: كأنّما الإجّاص فى صبغه ... مسترق فى اللّون صبغ المهج لم يخط «1» فى لون وفى منظر ... مستحسن الوصف وعرف «2» أرج قطائع «3» العنبر ملمومة ... أو خرزات خرطت من سبج «4» وممّا وصف به القراسيا «5» - قال شاعر: وحبوب كأنّها حدق الأع ... ين سود دموعهنّ دماء مائلات «6» مثل النّجوم علينا ... فى بروج لها الغصون سماء واذا ما نثرتها ففصوص ... صبغتها بمائها الظّلماء من يذقها يذق رضاب غزال ... فهى والخمر فى المذاق سواء الجزء: 11 ¦ الصفحة: 136 وأمّا الزّعرور وما قيل فيه - فقال الشيخ الرئيس: الزّعرور يسمّى مثلّث العجم «1» ، ومنه نوع تسمّيه اليونانيّون هيقيليمون «2» ، وربّما سمّوه التّفاح البرّىّ؛ وشجره يشبه شجر التّفاح حتّى فى ورقه، إلّا أنّه أصغر منه، عفص الطّعم؛ وهو قابض، يقمع الصّفراء، ويحبس السيلانات أكثر من كلّ ثمرة. وفى وصفه يقول ابن رافع: كأنّما الزّعرور لمّا بدا ... فى حسن تقدير ومرأى أنيق جلاجل مخضوبة عندما «3» ... أو خرزات خرطت من عقيق يضوع من ريّاه إمّا هفا ... به نسيم الرّيح مسك فتيق الجزء: 11 ¦ الصفحة: 137 وقال أيضا فيه: انظر إلى زعرورنا المنعوت ... نكهته كالعنبر المفتوت كأنّه فى الوصف والنّعوت ... بنادق من أحمر الياقوت وأمّا الخوخ وما قيل فيه - فالشاميّون يسمّونه الدّراقن-؛ قال الشيخ الرئيس: طبع الخوخ بارد فى أوّل الثانية، رطب فى الأولى دون آخرها، ورطوبته سريعة العفونة؛ وهو مليّن، وفيه قبض ما، وأقبضه المقدّد، وفيه منع للسّيلان؛ والفجّ منه قابض أيضا؛ واذا قطر ماء ورقه فى الأذن قتل الدّيدان؛ ودهنه ينفع من الشّقيقة «1» وأوجاع الأذن الحارّة والباردة؛ والنّضيج منه جيّد للمعدة «2» ، وفيه تشهية للطّعام؛ ويجب ألّا يؤكل على غيره فيفسد عليه ويفسده، بل يقدّم على الطّعام؛ وقديده بطىء الهضم ليس بجيّد الغذاء. قال: واذا ضمدت بورقه السّرّة قتل ديدان البطن، وكذلك إن شربت عصارة فقّاحه «3» وورقه؛ والنّضيج منه يليّن البطن؛ والفجّ عاقل. قال: وقد قال بعضهم: إنّه يزيد فى الباه، ويشبه أن يكون ذلك للأبدان الحارّة «4» . وأمّا ما وصف به من الشّعر - فمن ذلك قول شاعر: فى الخوخ أعجوبة لناظره ... ما مثلها جاء فى الأحاديث الجزء: 11 ¦ الصفحة: 138 كأنّه وجنة الحبيب وقد ... أثّر فيها قرص البراغيث وقال أبو بكر الصّنوبرىّ: أهدى الينا الزمان خوخا ... منظره منظر أنيق من كلّ مخصوصة بحسن ... معناه فى مثلها دقيق صفراء حمراء مستفيد ... بهجتها «1» التّبر والعقيق ذات أديمين ذا بهار «2» ... لمجتنيه، وذا شقيق «3» كوجنة ألبست خلوقا «4» ... فزال عن بعضها الخلوق الجزء: 11 ¦ الصفحة: 139 وقال أبو بكر بن القرطبيّة: وطيّب الرّيق عذب آب فى آب «1» ... وزار مشتملا فى زىّ أعراب فى مخمل الثّوب لم تخمل رآسته ... بين الفواكه من نقص ولا عاب خالسته نظرى فآحمرّ من خجل ... ثمّ انثنى معرضا عنّى كمرتاب من اسمه فيه مقلوبا ومبتدأ ... أربى على اللّوز فى تطريز جلباب وقال أيضا: وبنت ندى مخطّطة الأعالى ... بمجمرّ كلون الأرجوان كوجنة غادة خافت رقيبا ... فغطّتها بمجمرّ البنان وقال أبو هلال العسكرىّ: وخوخة ملء يد الجانية ... تملك لحظ الأعين الرّانيه مصفرّة الوجنة محمرّة ... كأنّها عاشقة ساليه وأمّا المشمش وما قيل فيه - فقال الشيخ الرئيس: أجود المشمش الأرمنىّ، فإنّه لا يسرع إليه الفساد ولا الحموضة؛ واذا أكل المشمش فيجب أن يؤخذ من المصطكا والأنيسون بالسويّة وزن درهم أو درهمين فى خمر صرف أو نبيذ زبيب أو نبيذ عسل. قال: وطبعه بارد رطب فى الثانية، ودهن نواه حارّ يابس فى الثانية «2» ، وخلطه سريع العفونة؛ وهو «3» يسكّن العطش؛ ودهن نواه ينفع الجزء: 11 ¦ الصفحة: 140 من البواسير؛ وهو يولّد الحمّيات لسرعة تعفّنه؛ ونقيع المقدّد منه ينفع من الحمّيات الحارّة. وقد وصفه الشعراء وشبّهوه - فمن ذلك قول بعض الشعراء: افدى حبيبا جاءنى متحفا ... بمشمش أحلى من السّكّر فخلته حين تأمّلته ... بنادقا من ذهب أحمر وقال ابن وكيع: بدا مشمش الأشجار يذكو شهابه ... على خضر أغصان من الرّىّ ميّد حكى وحكت أشجاره فى اخضرارها ... جلاجل تبر فى قباب زبرجد وقال ابن رشيق: كأنّما المشمش لمّا بدت ... أشجاره وهو بها يلتهب خضر قباب الملك حفّت بها ... جلاجل مصقولة من ذهب وقال ابن المعتزّ: ومشمش بان منه أعجب العجب ... يدعو النفوس الى اللّذّات والطّرب كأنّه فى غصون الّدوح حين بدا ... بنادق خرطت من خالص الذّهب وقال ابن الرّومىّ: قشر من الذّهب المصفّى حشوه ... شهد لذيذ طعمه للجانى ظلنا لديه ندير فى كاساتنا ... خمرا تشعشع «1» كالعقيق القانى وكأنّما الأفلاك من طرب بنا ... نثرت كواكبها على الأغصان الجزء: 11 ¦ الصفحة: 141 وقال أيضا يذمّه: اذا ما رأيت الدّهر بستان مشمش ... فأيقن يقينا أنّه لطبيب يغلّ له ما لا يغلّ لربّه ... يغلّ مريضا حمل كلّ قضيب وأمّا العنّاب وما قيل فيه - فقال أبو بكر بن وحشيّة فى توليده: وإن أردتم العنّاب الكبار فخذوا بطّيخة هنديّة فقوّروا رأسها من جهة الرأس، واحشوا اليبروح «1» فيها، وأعيدوا القوارة فى موضعها، وصبّوا اللّبن الحامض بزبده عليها وازرعوها فى الأرض، وعمّقوا لها الحفر قليلا، واسقوها فى أوّل زرعها، فإنّها تخرج شجرة تحمل عنّابا كبارا كأمثال الإجاص اللّطيف. وقال الشيخ: أجود العنّاب أعظمه؛ وطبعه بارد إلى الأولى معتدل فى اليبوسة والرطوبة، وهو إلى قليل رطوبة؛ وينفع حدّة الدّم الحارّ. قال: أظنّ ذلك لتغليظه «2» الدّم، وتلزيجه إيّاه. قال: والّذى يظنّ من أنّه يصفّى الدّم ويغسله ظنّ لست أميل اليه؛ وغذاؤه يسير، وهضمه عسير. قال: والقول الجيّد فيه ما قاله جالينوس: «ما وجدت للعنّاب فى حفظ الصّحّة ولا إزالة المرض أثرا، لكن وجدته عسير الهضم، قليل الغذاء» . قال الشيخ: والعنّاب ينفع الصّدر والرّئة، وهو ردىء للمعدة. وقيل: إنّه نافع لوجع الكلية والمثانة؛ وقد وصفه الشعراء وشبّهوه - فمن ذلك قول ابن القرطبيّة: أما ترى شجر العنّاب موقرة ... بكلّ أحمر لمّاع من الخرز الجزء: 11 ¦ الصفحة: 142 وقد تدلّت به الأغصان مائلة ... مثل العثا كيل من صدر إلى عجز وقد حمته عن الأيدى أسنّتها ... حذار مفترس أو خوف منتهز وقال أبو طالب المأمونىّ: يروقنى العنّاب ... فبى اليه انصباب «1» اذ لاح لى منه أطرا ... ف من أحبّ الرّطاب يحكى فرائد درّ ... لها العقيق إهاب وقال ابن رافع: أحبب بعنّاب بدا أنيق ... كمثل لون وجنة المعشوق أو خرز لمّت من العقيق ... أو كقلوب الطّير فى التحقيق جاءت بها شغواء «2» رأس نبق «3» ... كأنّما اشتقّ من الشّقيق أو كان يسقى بجنى الرّحيق ... أحلى من السّكّر فى الحلوق فى نكهة العنبر والمخلوق وقال أيضا فيه: كأنّما العنّاب لمّا بدا ... يلوح فى أعطاف غصن أنيق تطريف من تطريفها من دمى ... أو خرزات خرطت من عقيق أو كقلوب الطّير جاءت بها ... أفراخها شغواء فى رأس نيق وقال فيه: كأنّما العنّاب فى دوحه ... لمّا تناهى حسنه واستتم أقراط ياقوت تبدّت لنا ... أو انمل قد طرّفت بالعنم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 143 وأمّا النّبق وما قيل فيه - فقال الشيخ الرئيس: الرّطب من النّبق واليابس فيهما تجفيف وتلطيف؛ ودخان السّدر شديد القبض؛ والنّبق قابض وخصوصا سويقه «1» ، ويمنع تساقط الشّعر، ويطوّله، ويقوّيه، ويليّنه؛ وورق السّدر يليّن الورم الحارّ ويحلّله؛ وينفع من الرّبو وأمراض الرّئة؛ وهو مقوّ للمعدة عاقل للطبيعة؛ وينفع من نزف الحيض والطّمث، ومن قروح الأمعاء، خصوصا سويقه؛ وينفع من الإسهال الكائن بسبب ضعف المعدة. قال: والسّدر يحتقن بطبيخه، ويشرب لهذه العلل، ولسيلان الرّحم. وقد وصفه الشعراء وشبّهوه - فمن ذلك قول شاعر: وأشجار نبق قد تكامل حسنها ... أتت بغريب فى الثّمار بديع فمن أحمر قان وأصفر فاقع ... ويانع مخضرّ كزهر ربيع [وقال آخر] : وسدرة كل يوم ... من حسنها فى فنون كأنّما النّبق فيها ... وقد بدا للعيون جلاجل من نضار ... قد علّقت فى الغصون وقال كشاجم من أبيات: فى ظلّ سدر مثمر دانى العذب ... فيه لأنواع من الطّير صخب اذا الرّياح زعزعت تلك الشّعب ... أهدى لنا بنادقا من الذّهب الجزء: 11 ¦ الصفحة: 144 وقال عبد الله بن المعتزّ: انظر إلى النّبق الّذى ... فيه الشّفاء لكلّ ذائق فكأنّه فى دوحه ... واللّيل ممدود السّرادق ذهب تبهرجه الصّيارف ... صار حبّا للمخانق «1» وقال أبو الفرج الببغاء: انظر إلى النّبق البديع المنظر ... الطّيّب الرّيح اللّذيذ المخبر أحلى مذاقا من مذاق السّكّر ... كخرز من كهرباء أصفر الجزء: 11 ¦ الصفحة: 145 الباب الثالث من القسم الثانى من الفنّ الرابع فيما ليس لثمره قشر ولا نوى ويشتمل هذا الباب على ثمانية أصناف، وهى العنب والتّين والتّوت والتّفّاح والسّفرجل والكمّثرى واللّفّاح والأترجّ فأمّا العنب وما قيل فيه - فشجرة العنب: الكرمة، والجمع كرم وكروم. والجفنة: الكرمة؛ ويقال فيها: الجفنة بفتحتين «1» . ويقال للقضيب منها: الحبلة وقيل: الحبلة، أصل الكرمة: والقضيب: السّرغ بغين معجمة، والجمع سروغ، رواه أبو عمرو عن ثعلب؛ وقال أبو بكر: السّرغ بعين غير معجمة: قضيب من قضبان الكرم. وفى القضيب الأبنة، والجمع أبن، وهى العقد التى تكون فيه. فاذا أخرج القضيب ورقه قيل: قد أطلع. فاذا ظهر حمله قيل: قد أحثر «2» وحثر. فاذا صار حصرما قيل: حصرم؛ ويقال للحصرم: الكحب، الواحدة كحبة؛ ولما تساقط من العنب: الهرور. فاذا اسودّ نصف حبّه «3» قيل: شطّر تشطيرا. فإذا اسودّت الحبّة إلّا دون نصفها قيل: قد حلقم يحلقم. فاذا اسودّ بعض حبّه قيل: قد أوشم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 146 إيشاما؛ ولا يقال للعنب الأبيض: أوشم. فاذا فشا فيه الإيشام قيل: قد أطعم. فاذا أدرك غاية الإدراك قيل: ينع وأينع وطاب. والعنقود معروف ما دام عليه حبّه. فاذا أكل فهو شمراخ. ويقال لمعلق الحبّ من الشّمراخ: القمع؛ ويقال اذا جنى: قد قطف قطافا. فاذا يبس، فهو الزّبيب والعنجد «1» . والقطف: العنقود؛ وفى التنزيل: (قطوفها دانية) . قال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: الأبيض أحمد من الأسود اذا تساويا فى سائر الصّفات من المائيّة والرّقّة والحلاوة وغير ذلك؛ والمتروك بعد القطف يومين أو ثلاثة خير من المقطوف فى يومه. وأمّا طبعه - فإنّ قشره بارد يابس بطىء الهضم؛ وحشوه حارّ رطب؛ وحبّه بارد يابس؛ والمقطوف منه فى الوقت ينفخ؛ والمعلّق حتّى يضمر قشره جيّد الغذاء، مقوّ للبدن؛ وغذاؤه شبيه بغذاء التّين فى قلّة الرّداءة وكثرة الغذاء، وان كان أقلّ من غذاء التّين؛ والنّضيج أقلّ ضررا من غير النّضيج؛ واذا لم ينهضم العنب كان غذاؤه فجّا نيئا؛ وغذاء العنب بحاله أكثر من غذاء عصيره، ولكنّ عصيره أسرع نفوذا وانحدارا. قال: والزّبيب صديق الكبد والمعدة؛ والعنب والزّبيب بعجمهما جيّد «2» لأوجاع المعى؛ والزّبيب ينفع الكلى والمثانة؛ والعنب المقطوف فى الوقت يحرّك البطن وينفخ؛ وكلّ عنب فإنّه مضرّ للمثانة؛ والله أعلم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 147 وأمّا ما وصفت به الكروم والأعناب نظما ونثرا - فمن ذلك ما قاله مؤيّد الدّين الطّغرائىّ: وكرمة أعراقها فى الثّرى ... بعيدة المنزع والمضرب كريمة تلتفّ أغصانها الغضّة ... بالأقرب فالأقرب تمتاح من قعر الثّرى ريّها ... أشطانها «1» عفوا «2» ولم تجذب «3» ألقحها الرّيح وصوب الحيا ... والشمس فى المشرق والمغرب فأعقبت حائلها «4» بعد ما ... عاشت زمانا وهى لم تعقب ووضعتها «5» نخبا تنتمى ... الى أب أكرم به من أب وألحفتها خضر أوراقها ... مغذوّة بالحلب الأعذب وأسلمتها الشمس من صبغة ... التلويح للأغرب «6» فالأغرب فمهرت فيها «7» وجاءت بما ... يبهر من مستحسن معجب الجزء: 11 ¦ الصفحة: 148 وبدّلت خضر عناقيدها ... بالأدهم اليحموم «1» والأشهب واستسلفت ماء وجاءت به ... مدامة كالقبس الملهب ولم تزل بالرّفق حتّى اكتسى ... لجينها من صبغها المذهب فالأشقر المنتوج من نسلها ... سليل ذاك الأشهب المنجب ترى الثّريّا من عناقيدها ... تلوح فى أخضر كالغيهب ألقابها شتّى وألوانها «2» ... متّفقات النّجر والمنصب كم درّة فيها وكم جزعة «3» ... صحيحة التّدوير لم تثقب كأنّما الحالك منها لدى ... أبيضها اللامع كالكوكب جيلان «4» من زنج وروم غدت ... فى جنن خضر لها تختبى «5» كأنّما تحمل حبّاتها ... أكارع النّغران «6» بالمخلب أطيب بها حلّا «7» ومحظورة ... فى كرمها أو كأسها أطيب الجزء: 11 ¦ الصفحة: 149 وقال آخر «1» : رحنا إلى حديقة ... بكلّ حسن محدقه كأنّما عنقودها ... زنج جنوا فى سرقه فأصبحت رءوسهم ... على الذّرا معلّقه وقال ابن المعتزّ: ظلّت عنا قيدها يخرجن من ورق ... كما احتبى الزّنج فى خضر من الأزر وقال النّاجم: معرّش للكروم منتشر ... أوراقه الخضر دون مرآها فكلّ كرم هو السماء دجى ... وكلّ عنقوده «2» ثريّاها وقال الرّفّاء: يحملن «3» أوعية المدام كأنّما ... يحملنها بأكارع النّغران «4» وقال الصّاحب بن عبّاد: وحبّة من عنب قطفتها ... تحسدها العقود فى التّرائب كأنّها من بعد تمييزى لها ... لؤلؤة قد ثقبت من جانب وقال ابن المعتزّ: وحبّة من عنب ... من المنى متّخذه كأنّها لؤلؤة ... فى بطنها زمرّذه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 150 وقال البادنىّ «1» : وعناقيد تراها ... اذ تمايلن مميلا ركّبت فيها لآل ... لم تثقّب فتزولا وقال عبد المحسن الصورىّ يصف عنبا أهدى إليه وهو مغطّى بورقه: جاءنا منك تحفة أنا «2» منها ... أبدا فى تضاعف السّرّاء عنب أسود كأنّ عليه ... حللا من حنادس الظّلماء خلته فى خلال أوراقه الخض ... ر ولون اسوداده والصّفاء كقموع «3» على أنامل خود ... لحن من كمّ لاذة «4» خضراء وقال ابن الرومىّ يصف العنب الرّازقىّ «5» : كأنّ الرازقىّ وقد تباهى ... وتاهت بالعناقيد الكروم قوارير بماء الورد ملآى ... تشفّ ولؤلؤ فيها يعوم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 151 وتحسبه من العسل المصفّى ... اذا اختلفت عليك به الطّعوم فكلّ مجمّع منه ثريّا ... وكلّ مفرّق منه نجوم وقال فيه أيضا: ورازقىّ مخطف «1» الخصور ... كأنّه مخازن البلّور قد ضمّنت مسكا إلى الشّطور ... وفى الأعالى ماء ورد جورى «2» لم يبق منه وهج الحرور ... إلّا ضياء فى ظروف نور له مذاق العسل المشور «3» ... ورقّة الماء على الصّدور ونفحة «4» المسك مع الكافور ... لو أنّه يبقى على الدّهور قرّط آذان الحسان الحور ... بلا فريد وبلا شذور وقال أبو الوليد بن زيدون وقد أهداه: قد بعثناه ينفع الأعضاء ... حين يجلو بلطفه السّخناء «5» جاء يزهى بمستشفّ رقيق ... خدع العين رقّة وصفاء تنفذ العين منه فى ظرف نور ... ملأته أيدى الشّموس ضياء اكسبته الأيّام برد هواء ... فهو جسم قد صيغ نارا وماء «6» منظر يبهج القلوب وطعم ... يسكر النفس شهده استمراء الجزء: 11 ¦ الصفحة: 152 فضل السابق المقدّم فى السّنخ «1» ... فأزرى بطعمه إزراء غير أنّى بعثت هذا غذاء ... يشتهيه الفتى وذاك دواء ملطف يبرد المزاج اذا جا ... ش بحرّ ويقمع الصفراء ومعين لواصل الصّوم يسرى ... برده فى الحشا ويروى الظّماء فاقبل النّزر شافعا لأياديك ... الّتى بعضها يفوت الثّناء وقال أبو طالب المأمونىّ يصف الزّبيب الطّائفىّ: وطائفىّ من الزّبيب به ... ينتقل الشّرب «2» حين ينتقل كأنّه فى الإناء أوعية ... من النّواجيد «3» ملؤها عسل وأمّا التّين وما قيل فيه - فقال ابن وحشيّة فى توليده: وإن خلطتم من اليبروح «4» الرّطب أصلا وفرعا، ومثل وزنه من العسل والشّمع، وزرعتموه فى الأرض كما تزرعون سائر الأشياء، وصببتم عليه وقت زرعه من الماء ما تعلمون أنه قد وصل اليه، ثمّ تركتموه ولم تزيدوه، خرج من ذلك التين الأصفر الشديد الحلاوة؛ وإن خلطتم باليبروح أربع ثومات وبصلة، وسحقتم الجميع، وزرعتموه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 153 خرج عن ذلك التّين الأسود المتوسّط بين السواد الشديد، والأحمر، وهو الّذى ينفط «1» الفم. وأخبرنى من يرجع إلى قوله ويوثق بنقله من حكّام المسلمين أنّ بثغر الإسكندريّة صنفا من التّين أسود يسمّى الغرابىّ، اذا نضج يكتب بالبياض فربّما وجد فى بعضه مكتوبا اسم الله تعالى؛ وأخبرنى أيضا أنّه رأى ذلك كثيرا؛ وأخبرنى أنّه أخبر من ثقات أنّه فيه ما يوجد مكتوبا عليه: (لا إله إلّا الله محمد رسول الله) ؛ وسألته: هل يتحيّل على ذلك بشىء؟ فقال: لا، وأنّه خلقة من الله تعالى؛ فسبحان القادر على كلّ شىء. وأمّا المختار من التّين وما قيل فى طبعه وخواصّه - فقد قال الشيخ الرئيس: أجود التّين الأبيض ثمّ الأحمر ثمّ الأسود؛ والشديد النّضج منه خيره، وقريب من ألّا يضرّ؛ واليابس محمود فى أفعاله، إلّا أنّ الّدم المتولّد منه غير جيّد إلّا أن يكون مع الجوز فيجود كيموسه، وبعد الجوز اللّوز؛ وأخفّ الجميع الأبيض. وطبعه: الرّطب منه حارّ قليلا؛ ورطبه كثير المائيّة، قليل الدّوائيّة؛ والفجّ منه جلّاء إلى البرد ما هو إلّا لبنه؛ واليابس منه حارّ فى الأولى فى آخرها لطيف. قال: واليابس منه قوىّ الجلاء، منضج محلّل؛ واللّحيم أكثر إنضاجا؛ وفيه تغرية وتقطيع وتلطيف. قال: والتين أغذى من سائر الفواكه؛ وعصارة ورقه قويّة التسخين والجلاء؛ وفيه تليين نافع «2» يدفع العفونات إلى الجلد. قال: وفى تناوله تسكين للحرارة؛ ولبنه يجمد الذوائب من الدّماء والألبان، ويذيب الجامد؛ والرّطب منه سريع الغور والنّفوذ فى المعدة وفى البدن. قال: وشراب التّين لطيف الجزء: 11 ¦ الصفحة: 154 ردىء الخلط. قال: ولقضبان التّين من اللّطافة ما يهرّئ اللّحم إذا طبخ بها؛ وفى الجمّيز قوّة جاذبة من عمق البدن وتحليل لما جذب. قال: والفجّ منه يطلى به، ويضمد به على الخيلان «1» والثّآليل «2» وأصنافها والبهق، وكذلك ورقه؛ وتناوله يصلح اللّون الفاسد، وينضج الدّماميل. قال: ولبن الجمّيز وعصارة ورقه يقلعان آثار الوشم وبقيروطىّ «3» على شقاق «4» البرد. قال: وتضمد به الأورام الصّلبة، وبالجميّز مطبوخا مع دقيق الشّعير؛ والفجّ منه على البهق؛ وينضج الدّماميل، ويجذب رطبه الحصف «5» ؛ وطبيخه ينفع لأورام الحلق وأورام أصول الأذنين غرغرة كذلك مع قشور الرّمّان، وللدّاحس «6» مع الفانيذ «7» ، ويضرّ اليابس أورام الكبد والطّحال بحلاوته؛ وأمّا اذا كان الورم صلبا لم يضرّ ولم ينفع، إلّا أن يخلط بالملطّفات المحلّلات فينفع جدّا؛ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 155 والجمّيز شديد التحليل للأورام العسرة. قال: وطبيخ التّين برغوة الخردل يطلى به على الحكّة: وورقه ينفع من القوباء؛ وإن استعمل مع قشور الرّمّان أبرأ الدّاحس «1» ، ومع القلقند «2» لقروح الساقين الخبيثة؛ ولبن الجمّيز ملزق للجراحات. قال ورطب التّين ويابسه ينفع الصّرع «3» ؛ ويقطر طبيخه مع رغوة الخردل فى الأذن التى بها طنين؛ وينفع لبنه أو عصارة قضبانه قبل أن تورق اذا جعل فى السّنّ المتأكّلة؛ وينفع استعماله على أورام ما تحت الأذن ضمادا؛ والفجّ منه يبرئ قروح الرأس ذرورا؛ ولبنه مع العسل ينفع الغشاوة الرّطبة فى العين وابتداء الماء وغلظ الطّبقات؛ وتدلك بورقه خشونة الأجفان وجربها؛ والرّطب واليابس ينفعان من خشونة الحلق ويوافقان الصّدر وقصبة الرئة، وشراب التّين يدرّ اللّبن؛ وينفع من السّعال المزمن وأوجاع الصّدر؛ وينفع من أورام القصبة والرّئة. قال والتّين يفتّح سدد الكبد الجزء: 11 ¦ الصفحة: 156 والطّحال. وقال جالينوس: رطبه ردىء للمعدة، ويابسه ليس بردىء، فإن أكل بالمرّىّ «1» نقىّ فضول المعدة؛ وهو ممّا يقطع العطش الّذى يكون من بلغم مالح؛ و [يابسه «2» ] يهيج العطش، وينفع من الاستسقاء، خصوصا بالأفسنتين «3» ؛ وربّ «4» شرابه نافع للمعدة، ويقطع شهوة الطعام. قال: والتّين سريع النّفوذ بجلائه، واليابس يضرّ بالكبد والطّحال الورمين بجلائه فقط، فإن كان الورم صلبا لم يضرّ ولم ينفع. قال: ولاستعماله على الرّيق منفعة عجيبة فى تفتيحه مجارى الغذاء، وخصوصا مع الجوز واللّوز. قال: وجميع أصناف التّين غير موافق لسيلان الموادّ إلى المعدة؛ ورطبه ويابسه ينفع «5» الكلى والمثانة؛ وعصارة ورقه تفتّح أفواه عروق المقعدة؛ ورطبه يليّن ويسهل قليلا، خصوصا اذا أكل منه بلوز مدقوق، وكذلك لصلابة «6» الجزء: 11 ¦ الصفحة: 157 الرّحم، وكذلك إن خلط بالنّطرون والقرطم وأخذ قبل الطعام؛ ويحتمل لبنه بصفرة البيض فينقّى الرّحم ويدرّ الطّمث؛ ويتّخذ فى ضماد الأرحام مع الحلبة، وفى حقن المغص مع السّذاب؛ ويسقى من ماء رماد خشبه المكرّر لمن به إسهال ودوسنطاريا «1» أوقيّة ونصف. قال: ولبنه ينفع من لسعة العقرب مروخا «2» ، وكذلك الرّتيلاء «3» ؛ ويجعل الفجّ منه أو الورق الطّرىّ على عضّة الكلب الكلب فينفع؛ ويضمد به مع الكرسنّة على عضّة ابن عرس فينفع، هذا ملخّص ما أورده الشيخ فى أفعاله وخواصّه؛ والله أعلم بالصّواب. وأمّا ما وصفه به الشعراء وشبّهوه - فمن ذلك قول أسامة بن مرشد «4» ابن منقذ: أما ترى التّين فى الغصون بدا ... ممزّق «5» الجلد مائل العنق كأنّه ربّ نعمة سلبت ... أصبح بعد الجديد فى خلق الجزء: 11 ¦ الصفحة: 158 أو كأخى شرّة أغيظ وقد ... مزّق جلبابه من الحنق مثل نهود الأبكار صورته ... لو لم يناد عليه فى الطّرق قد عقدته يد السّموم لنا ... فالوذج الدّوح غير محترق فالشّهد والزّعفران مع عرق الورد ... وحبّ الخشخاش فى نسق فقم بنا نحوه «1» نباكره ... قبل جفاف النّدى عن الورق ولا تمل بى إلى سواه فلا ... أميل عنه ما دمت ذا رمق وقال إبراهيم بن خفاجة: وسود الوجوه كلون الصّدود ... تبسّمن تحت عبوس الغبش «2» اذا ما تجلّى بياض الضّحى ... تطلّعن فى وجهه كالنّمش كأنّى أقطّف منها ضحى ... ثدىّ صغار بنات الحبش وقال أبو الفتح كشاجم يصف تينا أصفر وأسود: أهلا بتين جاءنا ... منضّدا على طبق يحكى الصّباح بعضه ... وبعضه يحكى الغسق كسفرة «3» مضمومة ... قد جمّعت بلا حلق وقال أيضا فى تين أصفر: قم قد أتى ضوء الصّباح المسفر ... يا صاح نغتنم الحياة وبكّر نلمم بتين لذّ طعما واكتسى ... حسنا وقارب منظرا من مخبر لطفت معانيه لطافة عاشق ... فى لون مشتاق حليف تفكّر الجزء: 11 ¦ الصفحة: 159 كالثّلج بردا فى صفاء التّبر فى ... ريح العبير وفوق طعم السّكّر يحكى لنا ما صفّ فى أطباقه ... خيما تلوح من الحرير الأخضر [وقال آخر «1» ] : ما التّين إلّا سيّد الثّمار ... بلا امتراء وبلا ممارى كأنّه إذ لاح فى الأشجار ... أطراف أثداء من الجوارى أو أكر صيغت من النّضار وأمّا ما وصف به على سبيل الذّم- فمنه قول محمد بن شرف القيروانىّ: لا مرحبا بالتّين لمّا أتى ... يسحب كاللّيل عليه وشاح «2» ممزّق الجلباب يحكى لنا ... هامة زنجىّ عليها جراح [وقال آخر] : لا أشتهى ما عشت تينا فما ... أقبحه مذكنت فى عينى لأنّه بين ومن ذا الّذى ... يحبّ أن يسمع بالبين وأمّا التّوت وما قيل فيه - فقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: التّوت صنفان: أحدهما هو الفرصاد الحلو، وهو يجرى مجرى التّين فى الإنضاج الجزء: 11 ¦ الصفحة: 160 إلّا أنّه «أردأ غذاء «1» » وأفسد دما، وأقلّ، وأردأ للمعدة؛ وله سائر أحوال التّين ولكنّه دونه؛ وأمّا المزّ الّذى يعرف بالتّوت الشّامىّ فليكن أكثر كلامنا فيه؛ وطبعه الحلو حارّ رطب؛ والحامض الشامىّ هو الى البرد والرّطوبة؛ وفى التّوت قبض وتبريد؛ وعصارته قابضة؛ وخصوصا إذا طبخت فى إناء نحاس؛ ويمنع سيلان الموادّ إلى الأعضاء، وخصوصا الفجّ منه. قال: واذا طبخ ورقه وورق الكرم وورق التّين الأسود بماء المطر سوّد الشّعر؛ والحامض يحبس أورام الفم والحلق وورقه ينفع للذّبحة والخوانق؛ والحامض ينفع القروح الخبيثة مجفّفه وعصارته؛ وربّ «2» الحامض نافع لبثور الفم؛ والتّمضمض بعصارة ورق الحامض جيّد للسّنّ الوجعة؛ والتّوت ردىء للمعدة يفسد فيها، وخصوصا الفرصاد؛ واذا لم يفسد الفرصاد فى المعدة بسرعة لم يضرّ؛ ويجب أن تؤكل جميع أصنافه قبل الطعام وعلى معدة لا فساد فيها؛ وأمّا الشامىّ فلا يضرّ معدة صفراويّة؛ وليس فيه من رداءة الموافقة للمعدة ما فى الفرصاد؛ وهو يشهّى الطعام ويزلقه، ويخرجه بسرعة؛ والعفص المجفّف المملّح من التّوت يحبس البول شديدا، وينفع من الدّوسنطاريا؛ ودمعة التّوت تسهل؛ وفى لحائه تنقية وإسهال؛ وفى الحلو سرعة انحدار؛ وفى جميع أصناف التّوت إدرار للبول؛ واذا شرب من عصارة ورقه أوقيّة ونصف نفع من لسع الرّتيلاء «3» ، وليّن الطبيعة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 161 وأمّا ما وصفه به الشّعراء - فمن ذلك قول محمد بن شرف القيروانىّ: انظر إلى توت الجنان الّذى ... وافى به النّاطور «1» فى جام يحكى جراحا دمها سائل ... لدى جسوم من بنى حام وقال بعض الأندلسيّين وقد أهداه: تفاءلت بالتّوت التأتّى لزورة ... وذلك فأل ما علمت صدوق فأهديته غضّا حكى حدق المها ... له منظر بالحسن منه يروق فذا سبج لمّا يرى باسوداده ... وذا لاحمرار اللّون منه عقيق وقال ابن الرّومىّ «2» : ومختضبات من نجيع دمائها ... اذا جنيت فى بكرة الغدوات تكاد بأن «3» تفطا «4» إذا ما لمستها ... فأرحمها من سائر الثّمرات وأمّا التّفّاح وما قيل فيه - فقال الشيخ: أعدل التّفّاح الشامىّ؛ والتّفه منه ردىء قليل المنافع، وكذلك الفجّ؛ وطبعه، العفص والقابض والحامض بارد غليظ؛ والحلومائىّ أميل إلى الحرارة من غيره، وان كان الغالب البرد، فهى «5» مختلفة؛ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 162 وكذلك أوراقها وأشجارها مختلفة؛ وبالجملة فإنّ الغالب فى جوهره رطوبة فضليّة باردة. قال: وفيه منع للفضول، وخصوصا فى ورقه؛ وفى التّفّاح نفخ فيما ليس بحلو؛ والحامض والفجّ مولّد «1» للعفونات والحميّات لخاميّة «2» خلطهما وفجاجتهما؛ وخلط الحامض ألطف من خلط القابض؛ وشراب التّفّاح عتيقه خير من طريّه، لتحليل البخارات الرديئة؛ وورقه ولحاؤه يدملان، وكذلك عصارة القابض منه؛ وإدمان أكل التّفّاح يحدث وجع العصب؛ والتّفّاح يقوّى القلب، خصوصا العطر الشّامىّ؛ والمشوىّ فى العجين نافع لقلّة الشّهوة؛ وينفع من الدّود ومن الدّوسنطاريا «3» وأوفقه للدّوسنطاريا العفص «4» ؛ وسويق «5» التّفّاح يقوّى المعدة، ويمنع القىء؛ والحلو والحامض إذا صادف «6» فى المعدة خلطا غليظا ربّما حدره فى البراز، وان كانت خالية حبس؛ والتّفّاح نافع من السّموم، وكذلك عصارة ورقه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 163 وأمّا ما وصفه به الشّعراء - فمن ذلك قول ابن المعتزّ: وتفّاحة حمراء خضراء غضّة ... مضمّخة بالطّيب من كلّ جانب تكامل فيها الحسن حتّى كأنّها ... تورّد خدّ فوق خضرة شارب وقال العسكرىّ: وتفّاحة صفراء حمراء غضّة ... كخدّ محبّ فوق خدّ حبيب أحيّا بها طورا وأشرب مثلها ... من الراح من كفّى أغنّ ربيب وقال الرّقّىّ: وتفّاحة غضّة ... عقيقيّة الجوهر تندّت بماء الرّبي ... ع فى روضها الأخضر فجاءت كمثل العرو ... س فى لاذها «1» الأحمر ذكرت بها الجلّنار ... فى خدّك الأزهر فملت سرورا بها ... إلى القدح الأكبر وأنت لنا حاضر ... وان كنت لم تحضر وقال آخر: تفّاحة تذكر صفو الودّ ... وتبعث النفس لحفظ العهد كأنّها مقطوفة من خدّ ... نسيمها يحكى نسيم الورد وقال أبو بكر بن دريد: وتفّاحة من سوسن صيغ نصفها ... ومن جلّنار نصفها وشقائق كأنّ النّوى قد ضمّ من بعد فرقة ... بها خدّ معشوق الى خدّ عاشق الجزء: 11 ¦ الصفحة: 164 وقال أبو الوليد بن زيدون وقد أهدى تفّاحا: أتتك بلون الحبيب الخجل ... تخالط لون المحبّ الوجل ثمار تضمّن إدراكها ... هواء أحاط بها معتدل تأتّى لتدريج تلطيفها ... فمن حرّ شمس إلى برد ظل إلى أن تناهت شفاء العليل ... وأنس الخليل ولهو «1» الغزل فلو يجمد الراح لم يعدها ... وان هى ذابت فراح يحل قبولكها نعمة غضّة ... وفضل بما جئته متّصل وقال أبو نواس- ومنه أخذ ابن زيدون-: الخمر تفّاح جرى ذائبا ... كذلك التّفّاح خمر جمد فاشرب على جامدها ذوبها ... ولا تدع لذّة يوم لغد وقال ابن المعتزّ: تفّاحة معضوضة ... كانت «2» رسول القبل كأنّ فيها وجنة ... تنقّبت بالخجل تناولت كفّى بها ... ناحية من أملى لست أرجّى غير ذا ... يا ليت هذا دام لى وقال آخر: فدّيت من حيّا بتفّاحة ... فى خلع التّوريد من وجنته نسيمها يخبرنى أنّها ... تسترق الأنفاس من ريقته لمّا حكت نوعين من حسنة ... قبّلتها شوقا إلى نكهته الجزء: 11 ¦ الصفحة: 165 وقال الصّنوبرىّ: فتناولت منه صادقة الرّي ... ح تسمّى صديقة الأرواح وشّحتها يداه من خالص التّب ... ر بسطر يجول جول الوشاح كسيت صبغة الملاحة لمّا ... صبغت صبغة الخدود الملاح وقال آخر: تخال تفّاحتها ... فى لونها وقدّها تناولتها كفّها ... من صدرها وخدّها وقال ابن رشيق: وتفّاحة من كفّ ظبى أخذتها ... جناها من الغصن الّذى مثل قدّه حكت لمس نهديه وطيب نسيمه ... وطعم ثناياه وحمرة خدّه وقال ابن عبّاد: ولمّا بدا التّفّاح أحمر مشرقا ... دعوت بكأسى وهى ملآى من الشّفق وقلت لساقينا أدرها فإنّها ... خدود عذارى قد جمعن على طبق وقال محمّد بن سعيد: بديعة اللّون من نور السّرور بها ... فى كلّ حسن وطيب يضرب المثل جاءتك فى حلّة بيضاء مشرقة ... فى حمرة كاتّقاد النار تشتعل أو قهوة مزجت أو نصف لؤلؤة ... بنصف ياقوتة حمراء تتّصل وقال آخر: قال جالينوس فى حكمته ... لك فى التّفّاح فكر وعجب هو روح «1» النّفس، من جوهرها ... وبها شوق اليه وطرب الجزء: 11 ¦ الصفحة: 166 ومزاج «1» القلب ينفى همّه ... ويجلّى الحزن عنه والكرب وقال ابن الرّومىّ- وهو ممّا يكتب على تفّاحة-: أرسلنى عاشق بحاجته ... فجئت بين الرّجاء والوجل «2» لا تخجلنّى بالردّ حسبك ما ... ترى بخدّى من حمرة الخجل وقال أبو الفتح البستىّ: فتى جمع العلياء علما وعفّة ... وبأسا وجودا لا يفيق فواقا «3» كما جمع التّفّاح حسنا ونضرة ... ورائحة محبوبة ومذاقا [وقال آخر «4» ] : أكلت تفّاحة فعاتبنى ... خلّ رآها كخدّ معشوقه وقال خدّ الحبيب تأكله ... فقلت لا، بل أمصّ من ريقه وقال آخر: لا آكل التّفّاح دهرى ولو ... جنته كفّى من جنان الخلود تالله لا أتركه عن قلى ... لكنّنى أتركه للخدود الجزء: 11 ¦ الصفحة: 167 وأمّا السّفرجل وما قيل فيه - فقال الشيخ الرئيس: السّفرجل إذا غسل برماد أغصانه وورقه كان كالتّوتياء «1» ؛ والمشوىّ منه أخفّ وأنفع؛ وصورة شيّه أن يقوّر ويخرج حبّه ويجعل فيه العسل، ويطيّن خرمه، ويودع الرّماد؛ قال: وطبع السّفرجل بارد فى آخر الأولى، يابس فى أوّل الثانية؛ وهو قابض مقوّ، وزهره قابض، وكذلك دهنه؛ والحلو أقلّ قبضا، وحبّه مليّن بلا قبض؛ وهو يمنع سيلان الفضول إلى الأحشاء، ويحبس العرق؛ ودهنه ينفع من شقاق «2» البرد، ومن النّملة «3» والقروح الجربة «4» . قال: وكثرة أكله تولّد وجع العصب، ومشويّه يوضع على أورام العين الحارّة؛ وعصارته نافعة من انتصاب «5» النّفس والرّبو، وتمنع نفث الدّم؛ وحبّه ينفع من خشونة الحلق، ويليّن قصبة الرئة؛ ولعابه «6» أيضا يرطب يبس القصبة؛ والسفر جل ينفع من القىء والخمار؛ ويسكّن العطش، ويقوّى المعدة القابلة للفضول شرابه ونقيعه ومطبوخه؛ وشرابه مقوّ للشهوة الساقطة جدّا، ونيئه «7» يقوّى المعدة، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 168 ويمنع القىء البلغمىّ؛ والسفرجل مدرّ؛ والمطبوخ بالعسل أشدّ إدرارا، وربّما أطلق ولم يعقل؛ ويولّد القولنج والمغس، وينفع من الدّوسنطاريا؛ ويحبس نزف الطّمث؛ وينفع من حرقة البول اذا قطرت عصارته ودهنه فى الإحليل؛ ودهنه ينفع الكلى والمثانة؛ واذا أكل من السفرجل على الطّعام أطلق، حتّى إنّه إذا استكثر منه أخرج الطعام قبل الانهضام؛ ويحقن بطبيخه لنتوء المقعدة والرحم؛ هذا ما قاله الشيخ فى السفرجل. وأمّا ما وصف به نظما ونثرا - فمن ذلك ما قاله السّرىّ الرّفّاء «1» : لك فى السفرجل منظر تحظى به ... وتفوز منه بشمّه ومذاقه هو كالحبيب سعدت منه بحسنه ... متأمّلا وبلثمه وعناقه يحكى لك الذّهب المصفّى لونه ... وتزيد بهجته على إشراقه فالشّكل من أعلاه يحكى شكله «2» ... ثدى الكعاب الى مدار نطاقه والشّكل من سفلاه يحكى سرّة ... من شادن يزهى على عشّاقه وقال آخر: سفرجلات خرطها ... مثل الثّدىّ النّهّد زهر «3» حكت بلونها ... صبغة ماء العسجد وقال أبو محمد الدّاودىّ: غصون السفرجل ملتفّة ... فمعتدل القدّ أو منثنى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 169 وقد لاح فى زئبر شامل ... كصفراء فى معجر «1» أدكن «2» وقال مؤيّد الدّين الطّغرائىّ: وسفرجل عنى المصيف بحفظه ... فكساه قبل البرد خزّا أغبرا «3» صوغ من الذّهب المصفّى، نشره ... مسك اذا حضر النّدىّ تعطّرا يحكى نهود الغانيات وتحتها ... سرر لهنّ حشين مسكا أذفرا يزهى بملمسه وطيب مذاقه ... ومشمّه ويروق عينك منظرا وقال شاعر أندلسىّ: سفر جلة جمعت أربعا ... نظمن لها كلّ معنى عجيب صفاء النّضار وطعم العقار ... ولون المحبّ وريح الحبيب وقال آخر: ومصفرّة تختال فى ثوب سندس ... وتعبق عن مسك ذكىّ التنفّس لها ريح محبوب وقسوة قلبه ... ولون محبّ حلّة السّقم قد كسى وقال آخر: متحفى بالسفرجل ... لا أحبّ السفرجلا اسمه لو عقلته ... سفر جلّ واعتلى [وقال آخر «4» ] : أتحفتنا بهديّة ... نقضت وصالك أوّلا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 170 أرأيت من يهدى إلى ... من يصطفيه سفرجلا أو ما علمت بأنّه ... سفر وآخره جلا ومن رسالة لأبى عبد الله محمّد بن أبى الخصال الأندلسىّ، جاء منها فى السفرجل: وقد بعثت منه [ما يقوم «1» ] مقام الشاهد، وينوب عن ثدى الناهد؛ فدونكها مخلّفة «2» البدر، محلّقة «3» الصّدر، قد لبست الحسن باطنا وظاهرا، واستوفت الطّيب أوّلا وآخرا؛ كأنّها من طباعك طبعت، أو من فضائلك ألّفت وجمعت؛ كلّا إنها بذكرك غذيت، وعلى غاياتك «4» حذيت. ومنها: من كلّ ساهرة الشّذا، نائمة عن الأذى؛ دوحها لدن، وفوحها عدن؛ من وسائط السلوك، وندامى الملوك؛ لو ألفاها جذيمة «5» لاستغنى عن مالك الجزء: 11 ¦ الصفحة: 171 وعقيل، أو ظفر بها بلال لسلا عن شامة «1» وطفيل، ولم يعبأ بإذخر «2» وجليل، أما إنها لو حلّت نديّا، وتمثّلت بشرا سويّا، لنطقت بالصّواب، وأتت بالحكمة وفصل الخطاب؛ ونثرت فى الطبّ دقائق، ووضعت فى الزهد رقائق؛ ولم لا! وهى تهدى للإيمان، وتدلّ على الجنان؛ وتحكى طوبى طيبا «3» ؛ وحسبك بها أولى ما سمت بها النّفس، وواحدة ميّز بها الجنس، وهاكها قد تعرّضت لقبولك، وانفردت كما انفردت بتأميلك. [والله أعلم «4» ] . وأمّا الكمّثرى وما قيل فيها - فقال الشيخ الرئيس: وفى بلادنا «5» نوع يقال له: شاه أمرود كثير اللحم، شديد الاستدارة، رقيق القشرة، حسن اللون؛ كأنه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 172 ماء سكّر معقود، طيّب الرائحة جدّا، اذا سقط من شجرته إلى الأرض اضمحلّ، وهذا لا مضرّة فيه من أصناف الكمّثرى. وقال فى طبعه «1» : الكمثرى المعروف «2» بالصّينىّ بارد فى الأولى، يابس فى الثانية، والشاه أمرود معتدل رطب؛ وقال فى أفعاله «3» وخواصه: جميع أصنافه قابض [يدخل «4» ] فى ضمادات حبس الموادّ، وقد يجلو يسيرا؛ وأما المعروف بشاه أمرود فى بلاد خراسان دون غيرها فهو مليّن للطّبيعة، حسن الكيموس «5» جدّا. قال: وهو يدمل الجراحات، خصوصا البرّىّ المجفّف، وهو يدبغ المعدة؛ والصّينىّ خاصّة يقوّى المعدة، ويقطع العطش، ويسكّن الصفراء. قال: وهو يعقل البطن، خصوصا المجفّف منه، قال: وفى الكثمرى خاصّيّة إحداث القولنج «6» ، فيجب أن يشرب بعده ماء العسل بالأفاويه «7» . وأمّا ما وصفه به الشّعراء - فمن ذلك قول ظافر الحدّاد الإسكندرىّ: لله وافد كمّثرى ذكرت به ... ما كنت أعهد فى أيّامى الاول الجزء: 11 ¦ الصفحة: 173 لم أدنه من فمى إلا وأحسبه ... من النهود لذيذ العضّ والقبل فذقت من طعمه ما كاد يبلغ بى ... ما ذقت من رشف محبوب على عجل أكرم بزورته لو أنها اتصلت ... أو أنه كان فيها غير منفصل لو كنت أملك حكم الأرض ما حملت ... نبتا سواه على سهل ولا جبل وقال أبو الفتح كشاجم «1» : أحضرنا النّاطور من بستانه ... فى طبق ينطق عن إحسانه لونا من الرائع فى أوانه ... أهدى له «2» الجوهر من ألوانه ما احمرّ أو ما اصفرّ من مرجانه ... مثل تروك «3» الجيش فى ميدانه مذهبة فى الهام من فرسانه ... شيب بريق الشّهد فى أغصانه أنور فى الناظر من إنسانه وقال آخر- وقد أهداه-: بعثت بها ولا آلوك حمدا ... تحيّة «4» ذى اصطناع واعتلاق خدود أحبة راءين صبّا ... وعدن على ارتماض واحتراق الجزء: 11 ¦ الصفحة: 174 فحمّر بعضها خجل التّلاقى ... وصفّر بعضها وجل الفراق وأمّا اللّفّاح وما قيل فيه - فاللفاح هو ثمر نبات يسمّى اليبروح «1» الصّنمىّ، وليس هو اللفّاح المعدود فى صنف البطيخ الّذى يقال له الدّستنبو؛ ويقال: إنّها شجرة سليمان بن داود- عليهما السلام- التى كان منها تحت فص خاتمه؛ ومنبت قضبها وورقها الظاهر وسط رأس الصنم؛ وتكون منابتها فى الجبال والكروم؛ وقال التّميمىّ: اليباريح سبعة، وسيّدها الصنمىّ. وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا فى كتاب الأدوية المفردة من القانون فى اليبروح: هو أصل اللّفّاح البرّىّ، وهو أصل كلّ لفّاح، «كبير» «2» شبيه بصورة الناس، فلهذا سمّى باليبروح، فإنّ اليبروح اسم الصنم الطبيعى «3» . قال: وطبعه بارد فى الثانية «4» يابس اليها؛ وفيه قليل حرارة على ما ظن بعضهم. قال: وأما الأصل فقوىّ مجفّف، وقشر الأصل ضعيف، والورق يستعمل مجفّفا ورطبا فينفع الفالج «5» . وقال فى خواصه: هو مخدّر، وله دمعة وعصارة؛ وعصارته أقوى من دمعته، ومن أراد أن يقطع له عضو سقى ثلاثة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 175 أوبولوسات «1» فى شراب فيسبت «2» . وقيل: إنّ الأصل منه اذا طبخ به العاج ستّ ساعات ليّنه وأسلس قياده. قال: واذا دلك بورقه البرش أسبوعا ذهب من غير تقريح، وخصوصا إن وجد رطبا، ولبن اللفاح يقلع النّمش والكلف بلا لذع؛ قال: ويستعمل على الأورام الصّلبة [والخنازير «3» ] فينفع؛ واذا دقّ الأصل ناعما وجعل بالخلّ على الحمرة أبرأها؛ وأصله بالسّويق «4» ضماد لأوجاع المفاصل؛ والإكثار من شمّ اللفاح يورث السّكتة؛ وخصوصا الأبيض الورق؛ وقد يتّخذ منه شراب يزيل السّهر، وهو أن يجعل من قشور أصله ثلاثة أمناء «5» فى مطريطوس «6» شرابه حلو، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 176 ويسقى منه ثلاثة قواثوسات «1» ؛ وقد تطبخ القشور ايضا فى الشراب طبخا يأخذ الشراب قواها؛ ويستعمل للإسبات منه شىء كثير؛ وللإنامة «2» أقلّ؛ وقوم من الأطباء يجلسون صاحبه فى الماء الشديد البرد حتّى يفيق. قال: ودمعته من أدوية العين، تسكّن الوجع المفرط؛ ويضمد بورقه أيضا؛ واذا احتمل نصف أو بولوس «3» من دمعته أخرج الجنين؛ وبزره ينقّى الرّحم إذا شرب؛ واذا احتملته المرأة قطع نزف الرّحم؛ ولبن اللفّاح يسهل البلغم والمرّة؛ وإذا تناول الصبىّ الطفل اللفّاح بالغلط حصل له قىء وإسهال. وأمّا ما وصفه به الشعراء - فمن ذلك قول بعض الشعراء: أتانا المصيف بلفّاحه ... فطاب ولو فاته لم يطب نجوم بلا فلك دائر ... ولكنّ أوراقه كالقطب روائحه من شذا مسكة ... وأجسامه أكر من ذهب وقال أبو هلال العسكرىّ: انظر إلى اللفّاح تنظر معجبا ... يجلو عليك مفضّضا فى مذهب الجزء: 11 ¦ الصفحة: 177 تعلو مفارقه قلانس أخفيت ... من تحتهنّ دراهم لم تضرب [وقال آخر «1» ] : للعين والعرنين فى يبروحة ... لون المحبّ وعبقة «2» المعشوق صفراء طيّبة النّسيم كأنها ... بلّورة محشوّة بخلوق «3» وأمّا الأترجّ وما قيل فيه - فقال أبو بكر بن وحشيّة فى كتاب (أسرار القمر) : وإن خلطتم بأصل اليبروح وفروعه أصل الجزر وورقه أجزاء سواء وطمرتموه فى الأرض، خرج عن ذلك شجر الأترجّ، وإن أضفتم اليهما «4» البطّيخ الفجّ «5» خرجت عنه الشجرة الحاملة للأترجّ الكبير الطيّب الرائحة؛ وإن أردتم أترجّا إلى البياض شديد الرّيح فاخلطوا باليبروح والجزر أصلا وورقا [عرق «6» ] شجرة التّين الأصفر. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 178 وقال الشيخ الرئيس فى طبع الأترجّ: قشره حارّ فى الأولى، يابس فى آخر الثانية؛ ولحمه حارّ فى الأولى؛ رطب فيها؛ وقال قوم: بل هو بارد رطب فى الأولى، وبرده أكثر؛ وهو الأصحّ؛ وحمّاضه «1» بارد يابس فى الثالثة؛ وبزره حارّ فى الأولى، مجفّف فى الثالثة. وأمّا أفعاله وخواصّه - فإنّ لحمه ينفخ، وورقه يسكّن النّفخ، وفقّاحه ألطف، وحمّاضه قابض كاسر للصّفراء، وبزره وقشره محلّل «2» ؛ واذا جعل قشره فى الثياب منع السّوس؛ ورائحته تصلح فساد الهواء والوباء؛ وحمّاضه يجلو اللّون ويذهب الكلف؛ وحراقة قشره طلاء جيّدة للبرص؛ وطبيخه يطيّب النّكهة؛ وهو مسمّن؛ وقشره يطيّب النّكهة أيضا إمساكا فى الفم؛ وحمّاضه نافع من القوباء طلاء؛ ودهنه نافع من استرخاء العصب والفالج «3» . وحمّاضه ردىء للعصب، واذا اكتحل بحمّاضه ازال يرقان العين؛ وحمّاضه يسكّن الخفقان الحارّ، والمربّى جيّد للحلق والرّئة، لكن حمّاضه ردىء للصدر؛ ولبّ الأترجّ اذا طبخ بالخلّ وسقى منه نصف أسكرّجة «4» قتل العلقة المبلوعة وأخرجها؛ ولحمه ردىء للمعدة، ينفخ، بطىء الجزء: 11 ¦ الصفحة: 179 الهضم، لكن ورقه مقوّ للمعدة والأحشاء؛ وقشره اذا جعل فى الأطعمة كالأبازير «1» أعان على الهضم؛ ونفس قشره لا ينهضم لصلابته؛ وطبيخه يسكّن القىء؛ وربّه- وهو ربّ الحمّاض- نافع «2» للمعدة؛ قال: ويجب أن يؤكل الأترجّ مفردا لا يخلط بطعام لا قبله ولا بعده؛ ولحمه يورث القولنج؛ وحمّاضه يحبس البطن، ويمنع «3» من الإسهال الصفراوىّ؛ وبزره ينفع من البواسير؛ وفى بزره قوّة مسهلة؛ وعصارة حمّاضة تسكّن غلمة النساء؛ ووزن درهمين من بزره بالشراب والطّلاء والماء الحارّ مقاوم للسّموم كلّها، وخصوصا سمّ العقرب شربا وطلاء؛ وقشره قريب من ذلك؛ وعصارة قشره تنفع من نهش الأفاعى شربا؛ و [قشره «4» ] ضمادا. وأمّا ما وصفه به الشعراء - فمن ذلك قول ابن الرومىّ: كلّ الخلال الّتى فيكم محاسنكم ... تشابهت منكم الأخلاق والخلق كأنكم شجر الأترجّ طاب معا ... حملا ونورا وطاب الأصل «5» والورق وقال حجظة: أترجّة كالمسك فى طيبه ... والتّبر فى بهجة إشراقه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 180 كأنّها فى كفّ أستاذنا ... مخلوقة من طيب أخلاقه وقال علىّ بن سعيد الأندلسىّ: ومصفرّة اللّون لا من هوى ... تكابد منه علاقات هم ولكن كساها سموم الهجير ... جلابيب تبر بتضريج دم وأكسبها طيب نشر العبير ... وريح الحبيب إذا ما يشم عروس تزفّ إلى شاهها «1» ... على كفّ أغيد مثل الصّنم وقال علىّ بن رشيق فى المعزّ بن باديس: أترجّه سبطة الأطراف ناعمة ... تلقى النفوس بحظّ غير منحوس كأنّها بسطت كفّا لخالقها ... تدعو بطول بقاء لابن باديس وقال آخر: كأنّما الأترجّ فى لونه ... وشكله المستظرف المنظر أبارق تسقط عنها العرا ... مسبوكة من ذهب أحمر وقال آخر «2» : يا حبّذا أترجّة ... تحدث فى النفس الطّرب كأنّها كافورة ... لها غشاء من ذهب وقال السرىّ الرّفّاء: وقريبة من كلّ قلب إن بدت ... للمرء أدناها إليه وقرّبا أروى القلوب نسيمها وتلهّبت ... حسنا فأذكت فى القلوب تلهّبا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 181 فكأنّها ذهب حوى كافورة ... فغدا بريّاها وراح مطيّبا صفراء «1» ما عنّت لعينى ناظر ... إلّا توهّمها سنانا مذهبا وقال فيه: يا حبّذا «2» أترجّة ... رحت بها مسرورا اذ جاءنى يحملها ... ظبى يباهى الحورا شبّهتها فى كفّه ... وقد كساها النّورا مخزنة «3» من ذهب ... قد ملئت كافورا وقال الزاهى: وذات جسم من الكافور فى ذهب ... دارت عليه حواشيه بمقدار كأنّها وهى قدّامى ممثّلة ... فى رأس دوحتها تاج من النّار وقال ابن دريد: جسم لجين قميصه ذهب ... زرّ على لعبة من الطّيب فيه لمن شمّه وأبصره ... لون محبّ وريح محبوب الجزء: 11 ¦ الصفحة: 182 وقال أبو الفتح كشاجم: يا حبّذا «1» يومنا ونحن على ... رءوسنا نعقد الأكاليلا فى جنّة ذلّلت لقاطفها ... قطوفها الدّانيات تذليلا كأنّ أترجّها تميس به ... أغصانها حاملا ومحمولا سلاسل من زبرجد حملت ... من ذهب أصفر قناديلا وقال أبو بكر بن القرطبيّة: جسم من النور فى ثوب من النّار ... كأنّه ذهب من فوق بلّار «2» وابيضّ باطنه واصفرّ ظاهره ... كأنّه درهم من تحت دينار وقالت عليّة بنت المهدىّ متطيّرة به: أترجّة قد أتتك لطفا ... لا تقبلنها وإن سررت لا تهو أترجّة فإنّى ... رأيت مقلوبها هجرت وقال العباس بن الأحنف: أهدى له أحبابه أترجّة ... فبكى وأشفق من عيافة زاجر خاف التلوّن إذ أتته لأنّها ... لونان باطنها خلاف الظاهر وقال آخر: أمات إذ حيّا بأترجّة ... فهمت منها كنه تأويله لمّا تطيّرت بمنكوسها «3» ... ضمّ بنانا لى بتقليله الجزء: 11 ¦ الصفحة: 183 ومن الأترجّ صنف صغير مخطّط بخضرة وصفرة، وفيه طول، يسمّى شمّام «1» الأترجّ، وفيه يقول ابن طباطبا: ومخطفات كأنّ الحبّ أخطفها ... هيف الخصور ثقيلات المآخير صفر الثياب كأنّ الدهر ألبسها ... بناضر «2» النبت ألوان الدنانير «3» القسم الثالث من الفنّ الرابع فى الفواكه المشمومة ، وفيه بابان الباب الأول من هذا القسم من هذا الفنّ فيما يشمّ رطبا ويستقطر ويشتمل هذا الباب على أربعة أنواع، وهى الورد والنّسرين والخلاف «4» والنّيلوفر. فأمّا الورد وما قيل فيه - فالورد ألوان، أشهرها الأحمر والأبيض؛ وقال صاحب كتاب (نشوار المحاضرة) : إنه رأى وردا أصفر، ووردا أسود حالك الجزء: 11 ¦ الصفحة: 184 السواد، له رائحة ذكية، ورأى بالبصرة وردة نصفها أحمر قانئ، ونصفها أبيض ناصع، وكأنّها مقسومة بقلم؛ وفيه ماله وجهان: أحمر وأبيض؛ ويقال: إنه ربما وجد ورد أحد وجهى الورقة منه أحمر قانئ، والآخر أصفر، ومن ألوان الورد الأزرق، وهذا اللون يقال إنّه يتحيّل فيه، بأن تسقى شجرة الورد الأبيض الماء المخلوط بالنيل «1» ، فيصير الورد أزرق، وقد يتحيّل على الأسود بمثل ذلك؛ والله تعالى أعلم. ومما يدلّ على وجود هذه الألوان وأنّها غير منكورة أن الشعراء وصفوها فى أشعارهم فذكروا الأصفر والأزرق والأسود على مانورده ان شاء الله [تعالى «2» ] بعد ذكر منافع الورد وخواصّه. قال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: والورد مركّب من جوهر مائىّ وأرضىّ وفيه حرارة «3» وقبض، ومرارة مع قبض، وقليل حلاوة، وفى مائيّته انكسار حرافة «4» بسبب الشىء الذى لأجله [حلا «5» ] ومرّ، وفيه لطافة تنفذ «6» قبضه، فكثيرا ما يحدث الزّكام. قال: والقوّة المرّة تثبت فيه مادام طريّا، فاذا يبس قلّت مرارته، ورطبه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 185 يسهل اذا شرب منه وزن عشرة دراهم؛ والمسمّى منه بالورد المنتن حارّ، وأصله كالعاقر «1» قرحا محرق؛ وقال فى طبعه: ذكر جالينوس أن الورد ليس بشديد البرد بالقياس [إلينا «2» ] ، ويقول: يجب أن يكون باردا فى الأولى؛ قال الشيخ، أقول: ويبسه فى أوّل الثانية، لا سيّما فى الجافّ؛ وقال فى أفعاله وخواصّه: تجفيفه أقوى من قبضه، لأنّ مرارته أقوى من قبض طعمه؛ وهو مفتّح جلّاء، ويسكّن حركة الصفراء؛ وبزره أقوى ما فيه قبضا، وكذلك الزّغب الّذى فى وسطه؛ وفى جميعه تقوية للأعضاء الباطنة، ولا يجاوز قبضه منع التحليل؛ واليابس أقبض وأبرد. قال: واذا استعمل الورد فى الحمّام أصلح نتن العرق؛ ويتّخذ منه غسول على هذه الصفة، وهى أن يؤخذ من الورد الّذى لم تصبه نداوة- ويترك حتى يضمر- أربعون مثقالا، ومن سنبل «3» الجزء: 11 ¦ الصفحة: 186 الطّيب خمسة مثاقيل، ومن المرّ ستّة مثاقيل، تعمل أقراصا صغارا. قال: وربّما زادوا فيها من القسط «1» والسّوسن درهمين درهمين، فربّما جعلها النساء فى المخانق علاجا من ذفر العرق. قال قوم: إنّه يقطع الثّآليل «2» كلّها اذا استعمل مسحوقا، وهو ينفع من القروح، ولا سيّما السّحج «3» بين الأفخاذ وفى المغابن «4» ، وينبت اللحم فى القروح العميقة «5» الجزء: 11 ¦ الصفحة: 187 وادّعى قوم أنه يخرج السّلّاء «1» والشّوك مسحوقا؛ وهو مسكّن للصّداع رطبه وطبيخ مائه، ودهنه معطّس بل شمّه نفسه؛ وقال قوم: تعطيسه لحبسه البخار، ولعلّ ذلك لتضادّ قوّتيه: الجالية «2» والمانعة فى الأدمغة الرقيقة الفضول؛ وشمّه نفسه معطّس لمن هو حارّ الدماغ؛ وبزره يشدّ اللّثة؛ وهو يسكّن وجع العين من الحرارة، وكذلك طبيخ يابسه صالح لغلظ الجفون اذا اكتحل به، وكذلك دهنه وعصارته؛ قال: وإنما ينفع من الرّمد اذا قطعت منه زوائده البيض «3» . قال: واذا تجرّع ماء الورد نفع من الغشى؛ قال: والورد جيّد للكبد والمعدة؛ ومربّاه بالعسل يقوّى المعدة، وهو الجلنجبين «4» ، ويعين على الهضم؛ ودهن الورد يطفئ التهاب المعدة، وكذلك طلاء المعدة بالورد نفسه؛ وشرابه نافع لمن فى معدته استرخاء؛ قال: وهو يسكّن وجع المقعدة طليا عليها بريشة، ووجع الرحم من الحرارة، وكذلك طبيخ يابسه «5» ؛ وهو نافع لأوجاع المعى «6» ، ويحتقن بطبيخه لقروح المعى «7» ، وشرابه يشرب لذلك؛ قال: والنّوم على المفروش منه يقطع الشّهوة؛ هذا ما قاله الشيخ فى الورد، والذى جرّبته أنا منه أنّ زهر الورد الأصفر يجفّف ويسحق بالملح فيكون دواء جيّدا للجراح يلحمها بسرعة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 188 وأمّا ما جاء فى وصف الورد نظما ونثرا - فقال أبو العلاء صاعد الأندلسىّ: ودونك يا سيّدى وردة ... يذكّرك المسك أنفاسها كعذراء أبصرها مبصر ... فغطّت بأكمامها راسها وقال أبو عبادة البحترىّ: أتاك الربيع الطّلق يختال ضاحكا ... من الحسن حتى كاد أن يتكلّما وقد نبّه النّوروز «1» فى غسق الدّجى ... أوائل ورد كنّ بالأمس نوّما يفتّحه برد النّدى فكأنّما ... يبثّ حديثا بينهنّ مكتّما وقال محمد بن عبد الله بن طاهر- ويروى لعلّى بن الجهم-: أما ترى شجرات الورد مظهرة ... لنا بدائع قد ركّبن فى قضب كأنّهنّ يواقيت يطيف بها ... زبرجد وسطه شذر من الذهب وقال الناشى: قضب الزبرجد قد حملن شقائقا ... أثمارهنّ قراضة العقيان وكأنّ قطر الطّلّ فى أهدابه ... دمع مرته فواتر الأجفان وقال ابن طاهر- ويروى لابن بسام: أما ترى الورد يدعو للورود الى ... خمر معتّقة فى لونها صهب مداهن من يواقيت مركّبة ... على الزّبرجد فى أجوافها ذهب الجزء: 11 ¦ الصفحة: 189 كأنّه حين يبدو من مطالعه ... صبّ يقبّل حبّا وهو يرتقب خاف «1» الملال اذا طالت إقامته ... فظلّ يظهر أحيانا ويحتجب [وقال العماد الأصفهانىّ «2» ] : قلت للورد ما لشوكك يدمى ... كلّ ما قد أسوته من جراح قال لى هذه الرياحين جند ... أنا سلطانها وشوكى سلاحى وقال آخر: الورد أحسن منظر ... تستمتع الألحاظ منه فاذا انقضت أيّامه ... أتت الخدود تنوب عنه وقال أبو طالب الرّقّىّ: ووردة فى بنان معطار ... حيّت بها فى بديع أسرار كأنّها وجنة الحبيب وقد ... نقّطها عاشق بدينار وقال أبو هلال العسكرىّ: مرّ بنا يهتزّ فى خطوه ... كالغصن «3» غبّ العارض السارى شممت «4» فى وجنته وردة ... جاءت من المسك بأخبار الجزء: 11 ¦ الصفحة: 190 تلوح فى حمرتها صفرة ... كالخدّ منقوطا بدينار وقال آخر: كأنّما الوردة لمّا بدت ... فى كفّ من أهوى ويهوانى حمرة خدّيه وفى وسطها ... صفرة لونى حين يلقانى وقال آخر: جمع الورد خصالا ... لم تكن فى نظرائه حسن لون جعل الزّه «1» ... رة من تحت لوائه ونسيما عطّر المجلس من فرط ذكائه ... فاذا غاب وولىّ عوّض الناس بمائه وقال آخر: وذى لونين لون المسك فيه ... يروق بحمرة فوق اصفرار كمعشوقين ضمّهما اعتناق ... على حدثان عهد بالمزار وقال الطّغرائىّ: ألم تر أنّ جند الورد وافى ... بصفر «2» فى مطارده وحمر أتى مستلئما بالشوك فيه ... نصال زمرّد وتراس تبر فجلّى بالسرور هموم قلبى ... وطارد بالنشاط بنات صدرى فما عذرى إذا أنا لم أقابل ... أياديه بسكر أو بشكر الجزء: 11 ¦ الصفحة: 191 ومما قيل فى ذم الورد ومدحه - قال ابن الرّومى: يا مادح الورد لا تنفكّ عن غلط ... ألست تنظره فى كف ملتقطه كأنّه سرم بغل حين يخرجه ... عند البراز وباقى الرّوث فى وسطه وقال ابن المعتزّ فى الردّ عليه: يا هاجى الورد لا حيّيت من رجل ... غلطت والمرء قد يؤتى «1» على غلطه هل تنبت الأرض شيئا من أزاهرها ... اذا تحلّت يحاكى الوشى «2» فى نمطه أحلى وأشهر من ورد له أرج ... كأنّما المسك مذرور على وسطه كأنّه خدّ حبّى حين ملّكنى ... حلّ السراويل بعد الطّول من سخطه وقال العسكرىّ: أفضّل الورد على النرجس ... لا أجعل الأنجم كالأشمس ليس الذى يقعد فى مجلس ... مثل الّذى يمثل فى المجلس وكتب أبو دلف الى عبد الله بن طاهر. أرى ودّكم كالورد ليس بدائم ... ولا خير فيمن لا يدوم له عهد وحبّى لكم كالآس «3» حسنا ونضرة ... له زهرة تبقى اذا فنى الورد الجزء: 11 ¦ الصفحة: 192 فأجابه ابن طاهر [يقول «1» ] وشبّهت ودّى الورد وهو شبيهه ... وهل زهرة إلّا وسيّدها الورد وودّك كالآس المرير مذاقه ... وليس له فى الطّيب قبل ولا بعد وممّا وصف به الورد الأبيض [قول «2» ] محمد بن قيس: جاءت بورد أبيض ... شبّهته عند العيان بمداهن من فضّة ... فيها بقايا زعفران وقال السّرىّ الرفّاء: وروض كساه الغيث اذ جاد «3» دمعه ... مجاسد وشى من بهار «4» ومنثور «5» بدا أبيض الورد الجنىّ كأنّما ... تنسّم «6» للنّاشى «7» بمسك وكافور كأنّ اصفرارا منه تحت ابيضاضه ... برادة تبر فى مداهن بلّور الجزء: 11 ¦ الصفحة: 193 وقال ابن المعتزّ: أتاك الورد مبيضّا مصونا ... كمعشوق تكنّفه صدود كأنّ وجوهه لمّا توافت ... بدور فى مطالعها سعود بياض فى جوانبه احمرار ... كما احمرّت من الخجل الخدود وممّا وصف به الأصفر قول شاعر: رعى الله وردا غدا أصفرا ... بهيّا نضيرا يحاكى النّضارا وسقّى غصونا به أثمرت ... وحمّلن منه شموسا صغارا وقال الطّغرائىّ: شجرات ورد أصفر بعثت «1» ... فى قلب كلّ متيّم طربا سبكت «2» يد الغيم اللّجين لها ... وكسته صبغا مونقا عجبا من «3» ذا رأى من قبلها شجرا ... سقى اللّجين فاثمر الذّهبا خرطت «4» نهود زبرجد حملت ... أجوافها من عسجد لعبا فاذا الصّبا فتقت كمائمها ... سحرا وماد الغصن وانتصبا شبهتها بخريدة طرحت ... فى الخضر من أثوابها لهبا «5» الجزء: 11 ¦ الصفحة: 194 وممّا وصف به الورد الأزرق - قال بعض الشعراء وقد وصف بستانا: وبه وارد من الورد قد أينع ... فى رقّة الهواء اللّطيف شبّهوه بدمعة العاشق الآ ... لف نالته جفوة من أليف فهو يحكيه رقّة ومثال ال ... قرص «1» لونا فى خدّ ظبى تريف «2» ورق أزرق كزرق يواقيت ... تطلّعن من لجين مشوف «3» ومما قيل فى الورد الأسود قول «4» مؤيّد الدّين الطّغرائىّ «5» : لله أسود ورد ظلّ يلحظنا ... من الرّياض بأحداق اليعافير «6» كأنّها وجنات الزّنج نقّطها ... كفّ الإمام «7» بأنصاف الدّنانير الجزء: 11 ¦ الصفحة: 195 وقال آخر فيه: وورد أسود خلناه لمّا ... تنشّق نشره ملك الزّمان مداهن عنبر غضّ وفيها ... بقايا من سحيق الزعفران وأما ما جاء فيه نثرا - فقال أبو حفص عمر بن برد الأصغر رسالة قدّم فيها الورد على سائر الرّياحين، وهى رقعة خاطب بها ابن جهور: أمّا بعد يا سيّدى ومن أنا أفديه، فإنّه ذكر بعض أهل الأدب المتقدّمين فيه، وذوى الظّرف المعتنين بملح معانيه؛ أنّ صنوفا من الرّياحين، وأجناسا من نوار البساتين، جمعها فى بعض الأزمنة خاطر خطر بنفوسها، وهاجس هجس فى ضمائرها، لم يكن لها «1» بدّ من التفاوض فيه والتّحاور، والتحاكم من أجله والتناصف؛ وأجمعت على أنّ ما ثبت فى ذلك من العهد، ونفذ من الحلف؛ ماض على من غاب شخصه، ولم يئن «2» منها «3» وقته؛ فقام قائمها فقال: يا معشر الشّجر، وعامّة الزّهر؛ إن اللّطيف الخبير الّذى خلق المخلوقات، وذرأ «4» البريّات؛ باين بين أشكالها وصفاتها، وباعد بين منحها وأعطياتها، فجعل عبدا وملكا، وخلق قبيحا وحسنا؛ فضّل على بعض بعضا حتى اعتدل بعدله الكلّ، واتّسق على لطف قدرته الجميع؛ وانّ لكلّ واحد منها جمالا فى صورته، ورقّة فى محاسنه، واعتدالا فى قدّه، وعبقا فى نسيمه، ومائيّة فى ديباجته؛ قد عطفت علينا الأعين، وثنيت إلينا الأنفس، وزهت بمحاضرتنا المجالس؛ حتّى سفرنا بين الأحبّة، ووصلنا أسباب القلوب، وتحمّلنا لطائف الجزء: 11 ¦ الصفحة: 196 الرّسائل، وصيغ فينا القريض، وركّبت فى محاسننا الأعاريض، فطمح بنا العجب، وازدهانا الكبر، وحملنا تفضيل من فضّلنا، وإيثار من آثرنا، على أن نسينا الفكر فى أمرنا، والتمهيد لعواقبنا، والتّطييب لأخبارنا؛ وادّعينا الفضل بأسره، والكمال بأجمعه؛ ولم نعلم أنّ فينا من له المزيّة علينا، ومن هو أولى بالرآسة منّا؛ وهو الورد الذى إن بذلنا الإنصاف من أنفسنا، ولم نسبح فى بحر عمانا، ولم نمل مع هوانا؛ دنّا له، ودعونا اليه؛ فمن لقيه منّا حيّاه بالملك؛ ومن لم يدرك زمن سلطانه، ودولة أوانه؛ اعتقد ما عقد عليه، ولبّى الى مادعى اليه؛ فهو الأكرم حسبا، والأشرف زمنا؛ إن فقد عينه لم يفقد أثره، أو غاب شخصه لم يغب عرفه؛ وهو أحمر والحمرة لون الدّم، والدّم صديق الرّوح؛ وهو كالياقوت المنضّد، فى أطباق الزّبرجد، عليها فريد العسجد؛ وأمّا الأشعار فبمحاسنه حسنت، وباعتدال زمانه وزنت. وفى فصل منها: وكان ممّن حضر هذا المجلس من رؤساء النّوّار والأزهار، النّرجس الأصفر والبنفسج والبهار؛ والخيرىّ- وهو «1» النّمّام- فقال النرجس الجزء: 11 ¦ الصفحة: 197 الأصفر: والذى مهّد لى فى حجر الثّرى، وأرضعنى ثدى الحيا؛ لقد جئت «1» بها أوضح من لبّة الصّباح، وأسطع من لسان المصباح؛ ولقد كنت أستر «2» من التعبّد له، والشغف به، والأسف على تعاقب «3» الموت دون لقائه؛ ما أنحل جسمى ومكّن سقمى؛ وإذ قد أمكن البوح بالشّكوى، فقد خفّ ثقل البلوى؛ ثمّ قام البنفسج فقال: على الخبير والله [سقطت، أنا والله «4» ] المتعبّد له، والداعى اليه والمشغوف به، وكفى ما بوجهى من ندب «5» ؛ ولكن فى التأسّى بك أنس؛ ثم قام البهار فقال: لا تنظرنّ الى غضارة نبتى «6» ، ونضارة ورقى؛ وانظر إلىّ وقد صرت حدقة باهتة «7» تشير اليه، وعينا شاخصة تندى بكاء عليه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 198 ولولا كثرة الباكين حولى ... على إخوانهم لقتلت نفسى ثمّ قام الخيرىّ فقال: والّذى أعطاه الفضل دونى، ومدّ له بالبيعة يمينى؛ ما اجترأت قطّ إجلالا له، واستحياء منه، على أن أتنفّس «1» نهارا، أو أساعد فى لذّة صديقا أو جارا، فلذلك جعلت اللّيل سترا، واتّخذت جوانحه كنّا. فلمّا استوت آراؤها قالت: إنّ لنا أصحابا، وأشكالا وأترابا؛ لا نلتقى بها فى زمن، ولا نجاورها فى وطن؛ فهلم فلنكتب بذلك عقدا ينفذ على الأقاصى والأدانى؛ فكتبوا رقعة نسختها: هذا ما تحالف عليه أصناف الشجر، وضروب «2» الزّهر؛ وسميّها «3» وشتويّها، وربعيّها وقيظيّها؛ حيث ما نجمت من تلعة «4» أو ربوة، وتفتّحت فى قرارة «5» أو حديقة؛ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 199 عند ما راجعت من بصائرها، وألهمت من رشادها، واعترفت بما أسلفت من هفواتها؛ وأعطت للورد قيادها، وملّكته أمرها؛ وعرفت أنّه أميرها المقدّم بخصاله فيها، والمؤمّر بسوابقه «1» عليها؛ واعتقدت له السمع والطاعة، والتزمت له الرّقّ والعبوديّة، وبرئت من كلّ زهر نازعته نفسه المباهاة له، والانتزاء «2» عليه؛ فى كلّ وطن، ومع كلّ زمان؛ فأيّة زهرة قصّ عليها لسان الأيّام هذا الحلف، فلتتعرّف إرشادها منه «3» ، وقوام أمرها به؛ [والله أعلم «4» ] . ومن رسالة لبعض فضلاء أصبهان ممّن ذكرهم العماد الأصبهانىّ فى الخريدة «5» وصف فيها الرياض والرّياحين، وفضّل الورد على جميعها، وهى رسالة مطوّلة فى هذا النوع وغيره، جاء منها: فى يوم استعار نضارته من عصر الصّبا، واكتسى صحّته من عليل الصّبا؛ ونجمت فيه نجوم الرّبيع، خالية من المقابلة «6» والتّربيع؛ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 200 وتقابل «1» إشراق زهره ونهاره، فراق يجرى «2» جداوله وأنهاره؛ وأقبل فيه جيشه بفوارسه وجياده، وعساكره وأجناده، بين رافع لواء زبرجدىّ، وحامل مطرد «3» عسجدىّ، وصاحب رداء لازوردىّ «4» ؛ ومعلم «5» قد أطلق عنانه، ورامح قد خضب سنانه؛ وأخذت الأرض زينتها وزخارفها، ولبست حليتها ومطارفها «6» ؛ ومادت كثبانها الجزء: 11 ¦ الصفحة: 201 بخمائلها، وماست قضبانها فى غلائلها؛ فبرزت بين جبين متوّج، وخدّ مضرّج؛ وصدغ مخلّق «1» ، وخصر ممنطق؛ ونادت الشمس بلسان الجذل: يا بعد ما بين برج الجدى «2» والحمل ... وفصّل فصل الرّبيع الرياض عقودا ورصّع منها حليّا ... وفاخر بالأرض أفق السّماء فحلّى الثّرى بنجوم الثّريّا ونثر منثوره «3» ياقوتا ودرّا وزمرّذا، وجمع بين ضدّين: من برد برد وتوقّد جذا؛ فشمخ بالمناكب، على الكواكب؛ وتاه بالضّوج «4» ، على الأوج؛ وطاول بالاكام علا الرّكام «5» ؛ فهنالك برز النرجس من بين الرّياحين، وقال: الصمت لا يحمد الجزء: 11 ¦ الصفحة: 202 فى كلّ حين؛ ومن لم يفصح بتعريف نفسه، وتفضيل يومه على أمسه، فهو مغبون فى جنسه، أنا حدق الحدائق، ونزهة الرّامق؛ أخطر بين جسد زبرجدىّ، وفرع كافورىّ وعسجدىّ؛ إلىّ ينسب حسن العيون، وعندى يوجد ضعف الجفون: تنافس فىّ نفوس الكرام ... اذا ما أديرت كئوس المدام فأسبى الجليس اذا ما حضرت ... بلحظ الفتاة وقدّ الغلام فأيقظ لمباهلته الأقحوان، وقال: الآن آن ظهورى وحان؛ ما هذه العجرفة والتّباهى! لقد نطقت بعجائب النّواهى؛ وتالله ما صدقت سنّ بكرك «1» ، ولا امتاز عرفك من نكرك؛ فبم تتيه على أقرانك، وتتكبّر على سجرائك «2» وأخدانك؟! أنسيت تنكيس رأسك بين النّدماء، وإمساك رمقك ببلّة من الماء، وأنّك لا تبيت إلّا موثقا محبوسا، ولا تشمّ إلا صاغرا منكوسا، ولا تستخدم إلّا قائما، ويا سوء يومك اذا أصبحت نائما؟! ألا عطفت علىّ جيد الالتفات، وأشرت إلىّ بأحسن الصّفات، فقلت: لله درّك من زهر كملت محاسنه، وصفا من غديره آسنه، وتبسّم عن مؤشّر «3» الثغور، وجمع فرعه بين لونى التبر والكافور؛ فتتوّج بالتيجان المشرقه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 203 المرصّعة بخلاصة النّضار والرّقه «1» ؛ ألم تعلم أنّى فوز المغانى، ونزهة الرانى، ومباسم الغوانى؟ لا يحكم لشاعر بالإحسان، أو ينسب إلىّ حسن ثغور الحسان. أنا زهر الرّبا ونور الرياض ... وعيون ترنو بغير اغتماض لن ترانى إلّا بشاطى غدير ... باسما أو مضاحكا لحياض فشقّ الشقيق عن زفير ووجيب، ولدغه بحمة لسان مجيب، وقال: لقد تجاوزت بنفسك مدى الحدّ، وضربت فى افتخارك بكهام فليل الحدّ؛ أليس ندى الطّلّ يزينك، وإغبابه يشينك؟ ومتى نضب غديرك، بدا تغييرك؛ ما أراك بغير مضاهاة الثغور تفتخر، فهل هى على الحقيقة إلّا عظم نخر؟ بل أنا نزهة الناظر، وبغية الحاضر «2» ؛ جسدى من قضبان الياقوت، وفرعى من المسك المفتوت. أفوق اذا مست بين الريا ... ض زهوا على مائسات القدود وأفضل لونا وحسنا اذا ... حضرت على حسن لون الخدود فمالت اليه الخزامى «3» ، وكادت تميل به جذابا والتزاما؛ وقالت: «أسمع جعجعة» ولا أرى طحنا» وقعقعة «5» ولا أنظر إلّا شنّا، لقد ارتكبت جللا، واستغزرت «6» غللا؛ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 204 ما أقبح عاقبة العجل، وأقرب الواثق «1» من الخجل! حتّام تنبض «2» ولا تزمى، وإلام تومض ولا تهمى؟ أبكتمة لونك تفتخر، وبعظم كونك تشمخرّ، ألست الخشن الجلده، الدموىّ البرده، البعيد عن محلّ التقريب والشّمّ، الطريد عن رتبة التقبيل والضّمّ؟ لكن أنا الملبس «3» المشار اليه، والعطر المنصوص عليه، مدحت بالطّيب واللّون، وتخيّرت للتسربل والصّون؛ وجمّعت منّى الحلل، وتوّجت منّى الكلل. واللّون، وتخيّرت للتسربل والصّون؛ وجمّعت منّى الحلل، وتوّجت منّى الكلل. فضلت على زهر الربيع برتبة ... بها صدق الراوون للشعر إذ قالوا كأنّ الخزامى جمّعت لك حلّة ... عليك بها فى الطّيب واللّون سربال فأنهضت لمعارضتها البنفسج، وألجم جواد مناضلتها وأسرج، وقال: يا ساكنة الشّهباء «4» ، لقد جئت بالداهية الدّهياء، أضبح «5» الثعالب، وإرسال «6» الأرانب، ما يغنى عنك وصف الشعراء، وأنت منبوذة بالعراء؛ بعدت عن محاسن أخلاق البريّة وقربت من مراتع البهائم البرّيّة؛ وحرمت برد نسيم العراق؛ وضعفت «7» ساقك عن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 205 حمل ساق؛ إنما أنا نزهة الأمصار، ومسرّة الأبصار؛ وطيب النّفوس، وربيب الكئوس، المحمول على الرءوس، المحبوب الى الرئيس والمرءوس؛ ذو العرق الذكىّ والعرف المسكىّ: رئيس الرّياحين المضيف بلونه ... جمالا الى ورد الخدود المضرّج اذا ما جنان الأرض بالنّور «1» زخرفت ... فتعريفها من طيب زهر البنفسج فغضب لذلك جورىّ «2» الورد، ووثب لو استطاع وثبة الورد «3» ؛ ثم قال: أركزا «4» كأحاديث الضّبع «5» . وزمجرة كرمجرة السّبع. ذهب بك الشتاء وبرده. وشغل عنك الرّبيع وورده. أطعت هوى النفس الأمّاره، ونطقت بحضرة الإماره؛ وأنت لا تنقضى ساعتك حتّى تربدّ، ولا ينصرم يومك حتى تذبل وتسودّ؛ ثم تستحيل أوراقك، ويفارقك وراقك «6» . وتشعث قمّتك. وتنزر قيمتك. أتراك لولا قرص الخدود، هل كنت فى الألوان «7» بمعدود؟. أما علمت أنّى مدعوّ بالأمير المقدّم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 206 والميمون المقدام. أنا الزائر فى كلّ عام، القادم بمسرّة الخاصّ والعامّ. لا تشرف الأيّام إلّا باسمى؛ ولا تفتخر الأجسام إلّا بمشابهة جسمى؛ فبى يفتن «1» النظر، وأنا السيّد المنتظر. واذا انقضت مدّتى، وقضيت عدّتى. أقصدتنى حنيّة «2» الفرقة بسهام الفرق، واستولى علىّ والى «3» الحرق. فولّد تلهّبى رشحا من العرق، قام لهم مقامى. وساوى عندهم بين رحلتى ومقامى؛ يعرّض كلّ وقت بذكرى، ويعرّف لديهم نكرى، ويجدّد عندهم شكرى. أخلّف نفسى عندهم بعد رحلتى ... فسيّان قربى ان تأمّلت والبعد وقد فضّل الكندىّ «4» بى عند قوله ... فإنّك «5» ماء الورد إن ذهب الورد ومن انشاء المولى الفاضل تاج الدين عبد الباقى بن عبد المجيد اليمانىّ فى شهور سنة ستّ وسبعمائة، رسالة ترجمها (بأنوار السعد، ونوّار المجد، فى المفاخرة بين النّرجس والورد) ، قال: الحمد لله الذى أضحك ثغور الأزهار، بكاء عيون الأمطار، وأنطق خطباء الأطيار، على منابر الاشجار؛ وعقد عليها من النّوّار إكليلا، وأمر الغزالة أن تسلّ عليها عند بروزها من الإبريز سيفا صقيلا؛ حمى حدائقها بأحداق نرجسها، فنمّ لسان النسيم بطيب نفسها؛ أبدع فى تركيب حلّها وعقدها، فثغور الجزء: 11 ¦ الصفحة: 207 الأقحوان تقبّل خدود وردها؛ خلخلت سوقها فضلات الجداول، واطّردت أنهارها كالأيم «1» وقد حثّ بأطراف العوامل «2» ، فحكت المبارد متونا، والحيّات بطونا؛ أحمده على نعمه التى تأرّج نشرها، وبدا على جبين الدهر بشرها؛ حمدا تخضلّ من ترادف سيبها «3» أغصانه، وتثمر بأنواع السعادة أفنانه؛ وأصلّى على سيّدنا محمد الذى عطّر الكون مسكىّ رسالته، ووطّد القواعد الشرعيّة مرهف بسالته؛ صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه ما توّجت الغمائم رءوس الرّبا، وسحب ذيل الصّبا على أزهار روضها مهبّ الصّبا؛ وبعد، فإنّ أولى ما وقعت المفاخرة بين غصنين نشآ فى جنّه، وبارقتين تألّقتا فى دجنّه؛ وزهرتين تفتّحتا فى كمامه، وقطرتين صدرتا من غمامه؛ ولمّا كان النرجس والورد قريعى هذه الصّفات، وقارعى هذه الصّفاة، تطاول كلّ منهما الى انه النديم، والخلّ الّذى لا يملّه الحميم؛ طالما عطّر بنشره الأكوان، وغازل بعيونه الغزلان؛ وأنارت شموس سعوده، وقبّلت حمرة خدوده؛ أحببت أن أقيمهما فى موقف المناضلة، وأشخّصهما «4» فى معرض المفاضلة؛ ليبرهن كلّ منهما على ما ادّعى أنّه فى وطابه، ويبدى شعائر ما تقلّده وتحلّى به؛ فبالامتحان يظهر الزّيف، ولا يقبل الحيف؛ فعندها حدّق النرجس بأحداقه، وقام على قصبة ساقه؛ وتهيأ لمناضلة خصمه، وشرع يبدى شرائع حكمه؛ وقال: أشبهت العيون وأشبهت الخدود فلا فرق، ولقد علمت ما بينهما مثل ما بين القدم والفرق «5» ؛ فأنا حارس مجلس الجزء: 11 ¦ الصفحة: 208 الشراب، والنديم المعوّل عليه بين الأحباب؛ تسمّيت بأحسن الأسامى، فلست لى بمسامى؛ تسمّت بى الحسان، ومست فى حلل مصبّغات الألوان؛ ولو اعتبرت بحمرة خجلك، وتشقيق جيوب حللك؛ ما قمت فى موقف المفاخر، ولا فهت ببنت شفة فى معرض المفاخر؛ فتضرّج خدّ الورد حمره، وأوقد من الغيظ لمناضلته جمره؛ وقال: مت بداء الحسد فقد علاك اصفراره، وأين منك الطّرف كما ادّعيت ولم يبد عليك احوراره؛ صدقت، ولكن أنت أشبه بالعين المخصوصة باليرقان والصفرة المنوطة بالأيهقان «1» ؛ فلقد عشت عيونك السقيمة من أشعّة شموسى ووقفت على قصب ساقك حيث استقرّ كرسىّ جلوسى؛ فأنا دائرة الجمال، المشتملة على قطب الكمال، ربّتنى الدرارىّ «2» بدرّها، وقلّدتنى نفيس درّها؛ فنشرت أعلامى العقيانيّة على زهرتها، وأشبهت شكلها وحسن زهرتها؛ فهزّ النرجس رماحه الزبرجديّه، فتلقّاها الورد بحجفته «3» الذهبيّة، وقال «4» : اردد هذه العقود النفيسة الى هواديها، فقد علم كذبك حاضرها وباديها؛ والطم خدودك حزنا على فوات مقامى وقصورك عن بلوغ مرامى؛ من أين لك مداهن درّ حشوهنّ عسجد؛ لست أبالى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 209 بنفسك تصوّب أم تصعّد؛ أما ترانى قد نشرت على رماح من زبرجد طالما حرست حمى الرياض، ولبست أحسن اللّباس وهو البياض، وقمت خطيبا على منبر الصّين «1» حمى الرياض، ولبست أحسن اللّباس وهو البياض، وقمت خطيبا على منبر الصّين وقلّدت إمرة الرياحين؟ فأنا ناطر «2» هذا الفضل، وناظر هذا الفصل؛ سبقتك الى الوجود مكانا «3» أعدم مكانك، ولم يرض زمانى يجاور زمانك، لبثك «4» على وجه البسيطة قليل، وحالك- كما علمت- ليس بالجليل؛ تتلوّن كما يتلوّن الغول، من أحمرك وأصفرك وأبيضك المملول «5» ؛ فلقد رماك ابن الرومىّ بسهام هجائه، وجعلك عرضة لنوائب الدهر ولأوائه «6» ؛ حيث قال: كأنه سرم بغل حين يخرجه ... الى البراز وباقى الرّوث فى وسطه وحيث مدحنى وقال: أين العيون من الخدود نفاسة ... ورآسة لولا القياس الفاسد فمثل هذه المسبّة لا يضمحلّ أثرها، ولا ينقطع خبرها؛ ولله درّ القائل: النرجس الغضّ له رتبة ... أشبه شىء بالعيون المراض قام على قضبانه مبديا ... فخاره المشهود بين الرياض الجزء: 11 ¦ الصفحة: 210 ولو لم أغمض عن مساويك عينى، وأترك للصلح [موضعا «1» ] بينك وبينى، لكنت أبديت أضعاف مساويك، لأننى فى الرتبة غير مساويك؛ فعندها اشتعل الورد من كلامه، وظهر على جسده أثر كلامه؛ وقال: لقد تعدّيت طورك وستعرف جورك وكورك «2» ؛ لكن قحة العيون مخصوصة بالأنذال، والتجرّى على الملوك من شعائر الجهّال؛ فأنا سلطان الرياحين، وبذلك وقّع لى فى سائر الدواوين؛ كأننى وجنة حبّ وقد نقّطت بدينار، أو أنامل خود عندميّة ضمّت على قراضة نضار؛ أشبهت الشموس شكلا، وفقت البدور مثلا؛ أنظم كما تنظم العقود، وأصل كما يصل الحبيب بعد الصدود، وأمّا افتخارك بالحراسة فهى محلّ الأسقاط، والوظيفة المنوطة بالأنباط؛ وأمّا كونك سبقتنى فهو على حكم الحجبه، والمبشّر بوصولى وإن كان أضمر بغضه لا حبّه؛ فلمّا علم أوان حطّ رحالى حثّ رحاله، وأشاع فى أصحابه ارتحاله؛ وقال: قد أظلّنا وصول ملك لا يجارى، ورئيس لا يبارى؛ وأين زمانك من زمانى، ومكانك من مكانى؟ لا أظهر إلا والثّرى قد اكتسى سندسىّ أديمه وفاح مسكىّ نسيمه؛ وخطبت أطياره، واخضلّت أزهاره؛ وصدحت بلابله، وتأرّجت خمائله؛ واطّردت أنهاره، وتعانقت أغصانه وأشجاره؛ بزغت شموسى فى فلك غياضه، وتكلّل خدّى عرقا من أنداء رياضه؛ فأنا بينها الطّراز المذهّب، والملك المعظّم المهذّب؛ اذا برزت فى لياليك المعتمه، وظهرت فى أراضيك المقتمه؛ وسهرت عيونك فى ليل شتائك «3» ، وقاسيت برد مائك وطول عنائك؛ ولكم بين الشتاء والربيع، كما بين الرئيس والوضيع؛ يا جبلىّ الطباع، لقد صرّتك «4» رياحى، وصفّرت الجزء: 11 ¦ الصفحة: 211 عينك حمرة خمرة ارتياحى؛ وأمّا ثلبك بقصر مدّتى، وسرعة بلى جدّتى؛ فدليل على عدم عقلك؛ وسقوط معقولك ونقلك؛ أما علمت أنّ المكثر للزيارة مملول، وعقد ودّه محلول؛ لو بقيت الشمس على الدوام، لملّتها أنفس الأنام؛ ولك بذلك عبره، وأنت فى هذا الموطن من أهل الخبره؛ لمّا أقمت ملّك الناشق، ولم يعرّج عليك العاشق؛ ولقد عجبت من رقاعة عصّبت رأسك بالحماقه، وادّعيت شبه العيون وأنت أشبه شىء بصفرة بيض على رقاقه؛ إن ذهبت عينك لم يبق لك أثر، كلّا ولا يوجد لمجدك خبر؛ لكن أنا ان ذهبت عينى فأثرى على أردان الأماجد يفوح، وعلى ممرّ الأعصر يغدو ويروح؛ فأنا أثر بعد عين، فدع عنك التحلّى بالمين؛ ولله درّ القائل: يا حبّذا الورد مذ حيّا بطلعته ... وعطّر الأفق منه نشره العبق كالشمس شكلا ونشر المسك رائحة ... واللؤلؤ الرّطب فى تضريجه عرق فعميت عيون النرجس من بزوغ أنواره، ونكّست أعلامه الزبرجديّة لنضارة نوّاره؛ فعندها قال الورد: هذه الشقراء «1» والميدان، ان كانت لك خبرة بمبارزة الأقران؛ فلمّا أورده لظى الحرب، ولم يكن من رجال الطّعن والضرب، وألزمه الحجّة، وعرّفه المحجّه؛ وبان بهرجه من إبريزه، وتحقّق موادّ تبريزه؛ دمعت عينه أسفا، على ما أبداه من الجفا؛ ثم قال: ما أنا أوّل من بحث بظلفه عن حتفه وجدع مارن أنفه بكفّه؛ لقد قيل: عادات السادات، سادات العادات؛ وعادة الملك- أدام الله انهمار السّحب على خمائله الذهبيه، وأطلع فى فلك الاعتلاء أنواره الشمسية- الصفح عمّن كثر ندمه، وزلّت قدمه؛ ومن نشر أعلام الجزء: 11 ¦ الصفحة: 212 الاستغفار، خليق أن يقبل منه ما يبديه من الاعتذار؛ وما أنا أوّل من هفا ولا أنت أوّل من عفا؛ ليت شعرى، أين حياؤه من وقاحتى، وأين رشاقته من كثافتى؛ الخفارة لائحة عليه، وأمور الرياحين تساق اليه؛ فعندها قال الورد: من شأننا الصفح عما أتيته، فقد جنيت ثمار الندم بما جنيته؛ فكن قرير العين، ولا تعد لمثلها فالمؤمن لا يلدغ «1» من جحر مرتين؛ واحذر أن تطاول من هو أعلى منك محلّه وأبهج فى ارتداء السيادة حلّه؛ والآن فقد تولّد من بياضك وحمرتى اجتماع «2» ، والتأم شعث أمرنا بعد أن طار شعاع «3» ؛ أما علمت أنّ الامتحان، يظهر رتبة الإنسان؛ ومن سعادة جدّك، وقوفك عند حدّك؛ فكن لما قلته بالمرصاد، وان عدت لمثلها فترقّب أوّل «4» النحل وآخر صاد؛ ونسأل الله تعالى أن يهدينا الى الرّشد، وأن يذهب عنا ضغائن الحسد؛ بمنّه وكرمه؛ [انه على ما يشاء قدير، وبالإجابة «5» جدير] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 213 وأما النّسرين «1» وما قيل فيه - فقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: طبع النسرين حار يابس فى الثالثة «2» ؛ وهو منقّ ملطّف، وزهره أخصّ بذلك، وينفع من برد العصب، ويقتل الديدان فى الأذن؛ وينفع من الطّنين والدّوىّ؛ وينفع من وجع الأسنان؛ والبرّىّ تلطخ به الجبهة فيسكّن الصّداع؛ وهو يفتّح سدد المنخرين؛ واذا شرب مع أربع درخميات «3» سكّن القىء، ويسكّن الفؤاق وخصوصا البرّىّ منه؛ والله أعلم. وأما ما جاء فى وصفه - فقال شاعر [منشدا «4» ] : أكرم بنسرين تذيع الصّبا ... من نشره مسكا وكافورا ما إن رأينا قطّ من قبله ... زبرجدا يثمر بلوّرا وقال آخر: انظر لنسرين يلوح ... على قضيب أملد كمداهن من فضّة ... فيها برادة عسجد حيّتك من أيدى الغصو ... ن بها أكفّ زبرجد الجزء: 11 ¦ الصفحة: 214 وقال عبد الرحمن «1» بن علىّ النحوىّ: زان حسن الحدائق النّسرين ... فالحجا فى رياضه مفتون قد جرى فوقه اللّجين وإلّا ... فهو من ماء فضّة مدهون أشبهته طلى الحسان بياضا ... وحوته شبه القدود غصون وقال آخر فيه ملغزا: ومشموم له عرف ذكىّ ... وفى تصحيفه بعض الشّهور «2» اذا أسقطت خمسيه تراه ... عيانا فى السماء «3» وفى الطّيور وأوّله «4» وآخره سواء ... وباقيه يشحّ به ضميرى وأما البان «5» وما قيل فيه - فقال أبو على بن سينا فى ماهية البان: حبّه أكبر من الحمّص، الى البياض، وله لبّ ليّن دهنىّ؛ وطبعه حارّ فى الثالثة، يابس الجزء: 11 ¦ الصفحة: 215 فى الثانية. وقال: إنه منقّ، خصوصا لبّه، يقطع الأخلاط الغليظة، ويفتّح مع الخلّ والماء سدد الأحشاء. قال: وقشره قابض، ولا يخلو دهنه من قبض وفى جميعه جلاء وتقطيع؛ وحبّه ينفع من البرش والنّمش والكلف والبهق وآثار القروح وكذلك دهنه. [قال «1» : وينفع من الأورام الصّلبة كلّها إذا وقع فى المراهم، ومن الثّآليل «2» ، وهو بالخلّ ينفع من التقشّر والجرب المتقرّح والبثور اللّبنيّة «3» ؛ وهو يسخّن العصب، ويليّن التشنّج وصلابات العصب، وخصوصا دهنه] . قال: وينفع من الرّعاف لقبضه، ودهنه يوافق وجع الأذن والدوىّ فيها، خصوصا مع شحم البطّ؛ وطبيخ أصله ينفع من وجع الأسنان مضمضة؛ وهو ينفع من صلابة الطّحال والكبد اذا شرب بخلّ ممزوج وزن درهمين منه؛ والمثقال من حبّه يسهل بلغما خاما «4» اذا شرب بالعسل، وكذلك دهنه اذا احتملت فتيلة مغموسة فيه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 216 وأما ما جاء فى باكورة الخلاف - قال شاعر: أوّل ثغر الربيع مبتسما ... نور خلاف درّ مضاحكه قضبانه القانئات فى لمع ... من لؤلؤ وضح «1» مسالكه بشير صدق جاء الربيع به ... يخبر أن زيّنت ممالكه وقال آخر: عود خلاف أتى وفاقا ... من الملاهى بلا خلاف مرصّع قشره بنور ... ألّف من لؤلؤ ولاف «2» وقال أبو عبادة البحترىّ «3» : هذا الربيع كأنما أنواره ... أولاد فارس فى ثياب الروم وترى الخلاف كشارب من قهوة ... ثمل الى شرب المدامة يومى بسط البسيطة سندسا وتبرقعت ... قلل المياه «4» بلؤلؤ منظوم وقال مؤيّد الدّين الطّغرائىّ: غصون الخلاف اكتست فانبرت ... لها الطير دارسة شدوها مقدّمة لورود الربي ... ع تشخص أبصارنا نحوها أحسّت برحلة فصل الشتا ... فجاءت وقد قلبت فروها الجزء: 11 ¦ الصفحة: 217 وقال [آخر، وهو شهاب الدين أحمد، عرف بأبى «1» ] جلنك «2» الحلبىّ: لله «3» بستان حللنا دوحه ... فى لذة «4» قد فتّحت أبوابها والبان تحسبه سنانير رأت ... بعض «5» الكلاب فنفّشت أذنابها وكتب الصاحب بن عبّاد- وقد أهدى باكورة خلاف- قد نوّرت «6» لتنوير الخلاف فضائل لا تحصى، ومحاسن يطول أن تستقصى؛ منها أنه أوّل ثغر يتبسم عند الربيع ويضحك، ودرّ يعقد على القضبان ويسلك؛ ولتمايله ادّكار لقدود «7» الأحباب، وتهييج لسواكن الاضطراب؛ وحمل الىّ قضيب منه ذاته متعادله، ولذّاته متقابله؛ فأنفذته مع رقعتى هذه اليك، وسألت الله أن يعيده ألف حول عليك. قال، وقلت «8» : الجزء: 11 ¦ الصفحة: 218 وقضيب من الخلاف بديع ... مستخصّ بأحسن الترصيع قد نعى شرّة الشتاء الينا ... وسعى فى جلاء وجه الربيع وحكى من أحبّ عرفا وظرفا ... واهتزازا يثير نار الضلوع وأمّا النّيلوفر «1» وما قيل فيه - فقال ابن التلميذ: النّيلوفر اسم فارسىّ معناه النيلىّ الأجنحة، والنيلىّ الأرياش. وربما سمى بالفارسية «2» اسما معناه كرنب الماء؛ وسماه جالينوس: كرنب الماء؛ وحبّه يسمّى حبّ العروس، وفيه حلاوة. وقال أبو بكر بن وحشيّة فى توليده: ان أخذتم ظلفى الغزال من يديه، وقرنيه جميعا، وطمرتم ذلك فى التراب الندىّ، خرج من ذلك النبات الذى يسمّى شاكريا «3» ، وهو النّيلوفر، وقال أيضا: وان أخذتم عينى الغزال وقرنيه وظلفا واحدا من يديه، وطمرتم ذلك فى التراب، خرج منه الشاكريا الأزرق؛ فان طمرتم ظلفيه من رجليه وقرنه الأيسر مع كفّ من بعره، خرج منه الشاكريا الأحمر؛ فان نقصتم من هذا أحد ظلفى رجليه، خرج الشاكريا الأصفر. قال: والهند الجزء: 11 ¦ الصفحة: 219 تسّميه نينوفر، والنّبط تسمّيه نيلوفريا، والعرب تسميه نيلوفه، والفرس تسميه نيلوفر «1» . وقال الشيخ الرئيس أبو على بن سينا: والنّيلوفر «2» الهندىّ فى حكم اليبروح «3» ؛ وأقواه الأبيض الأصل؛ وبزره أقوى من حبّه «4» . قال: وطبعه بارد رطب فى الثانية «5» ؛ وشرابه شديد التطفئة، ملطّف جدّا، وأصله بالماء على البهق نافع خصوصا الأسود، وأصله مع الزفت على داء الثعلب «6» ، وخصوصا الأسود؛ وشرابه جيّد للسّعال والشّوصة «7» . قال: وأصله ينفع من الأورام الحارّة؛ وأصله وبزره للقروح؛ وأصله ينفع أورام الطّحال شربا وضمادا، وينفع «8» الاحتلام، ويكسر شهوة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 220 الباه اذا شرب منه درهم بشراب الخشخاش؛ وهو يجمد المنىّ بخاصيّة فيه، وخصوصا أصله؛ وهو منوّم، مسكّن للصّداع الحارّ الصفراوىّ، لكنّه يضعف؛ وأصله ينفع من الإسهال المزمن وقروح المعى وأوجاع المثانة ضمادا؛ وبزره أقوى فى كل شىء، حتى إنه يمنع نزف الحيض؛ وأصل الأصفر منه وبزره اذا شربا «1» نفعا سيلان الرطوبة المزمنة من الرحم؛ وشرابه مليّن للبطن، نافع من الحمّيات الحارّة، شديد التطفئة «2» ؛ [والله المستعان «3» ] . وأمّا ما جاء فى وصفه - فقال أبو بكر الزّبيدىّ «4» الأندلسىّ: وبركة «5» أحيا بها ماؤها ... من زهرها كلّ نبات عجيب كأنّ نيلوفرها عاشق ... نهاره يرقب وجه الحبيب حتى اذا الليل بدا نجمه ... وانصرف المحبوب خوف الرقيب الجزء: 11 ¦ الصفحة: 221 أطبق جفنيه عسى فى الكرى ... يبصر من فارقه عن قريب وقال آخر «1» : يا حبّذا بركة نيلوفر ... قد جمّعت من كلّ فنّ عجيب أزرق فى أحمر فى أبيض ... كقرصة فى صحن خدّ الحبيب كأنه يعشق شمس الضحى ... فانظره فى الصبح وعند المغيب اذا تجلّت يتجلّى لها ... حتى اذا غاب سناها يغيب يرنو اليها مبصرا يومه ... ولا يحاشى نظرات الرقيب لا يبتغى وجها سوى وجهها ... فعل محبّ مخلص فى حبيب وقال التّنوخىّ «2» : فكأنّه فى الماء صاحب مذهب ... أغراه وسواس بأن لم يطهر وقال آخر «3» : كلّنا باسط اليد ... نحو نيلوفر ندى كدبابيس عسجد ... نصبها من زبرجد وقال آخر «4» : اشرب على بركة نيلوفر ... محمرّة الأوراق خضراء كأنّما أزهارها أخرجت ... ألسنة النار من الماء الجزء: 11 ¦ الصفحة: 222 وقال آخر: ونيلوفر صافحته الرياح ... وعانقه الماء صفوا ورنقا تخيّل أوراقه فى الغدي ... ر ألسنة النار حمرا وزرقا وقال آخر: صفر الدّرارى «1» تضمّها شرف ... مفتضح عند نشرها العطر تحملها خيزرانة ذبلت ... ذبول صبّ أذابه الهجر وقال ابن الرومىّ» : يرتاح للنّيلوفر القلب الذى ... لا يستفيق من الغرام وجهده والورد أصبح فى الروائح عبده ... والنرجس المسكىّ «3» خادم عبده يا حسنه فى بركة قد أصبحت ... محشوّة مسكا يشاب بندّه وكأنّه فيها وقد لحظ الصّبا ... ورمى المنام ببعده وبصدّه مهجور حبّ ظلّ يرفع رأسه ... كالمستجير بربّه من ضدّه وكأنّه إذ غاب عند مسائه ... فى الماء فانحجبت نضارة قدّه صبّ يهدّده الحبيب بهجره ... ظلما فغرّق نفسه من وجده وقال مؤيّد الدّين الطّغرائىّ: ونيلوفر أعناقه أبدا صفر ... كأنّ به سكرا وليس به سكر الجزء: 11 ¦ الصفحة: 223 اذا انفتحت أوراقه فكأنّها ... وقد ظهرت ألوانها البيض والصّفر أنامل صبّاغ صبغن بنيله ... وراحتها بيضاء فى وسطها تبر وقال السّرىّ الرّفّاء: وبركة حفّت بنيلوفر ... ألوانه بالحسن منعوته نهاره ينظر عن مقلة ... ساجية الألحاظ مبهوته وإن بدا الليل فأجفانه ... فى لجّة البركة مسبوته كأنّما كلّ قضيب له ... يحمل فى أعلاه ياقوته وقال آخر «1» : وبركة تزهو بنيلوفر ... نسيمه يشبه نشر الحبيب مفتّح الأجفان فى يومه «2» ... حتى اذا الشمس دنت للمغيب أطبق جفنيه على حبّه ... وغاض فى البركة خوف الرقيب وقال آخر «3» : تحبّ «4» الشمس لا تبغى سواها ... وتلحظها بمقلة مستهام اذا غابت تكنّفها اشتياق ... فنامت كى تراها فى المنام وقال الرّفّاء: يا حسن نيلوفر شغفت به ... يمنحه الماء صفو مشروبه كأنّه عاشق به ظمأ ... توهّم الماء ريق محبوبه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 224 وقال آخر: وشاخص نحو عين الشمس يرمقها ... حتى اذا غربت أغضى بتنكيس تراه من قطع المرجان فى قضب ... زرق الشوابير «1» أمثال الدّبابيس كأنّه ودروع الماء تشمله ... تحت الشّعاع أكاليل الطّواويس وقال آخر: ونيلوفر قد لاح فى زىّ فاقد ... حبيبا فمنه يستعير لباسه يظلّ نهارا شاخص الطّرف لاحظا ... ويغمس جنح الليل فى الماء راسه كأنّ عليه للظّلام مراقبا ... فيهرب منه أو يخاف اختلاسه وقال مؤيّد الدّين الطّغرائىّ: نيلوفر يسبح فى لجّة ... عليه ألوان من اللّبس مظاهر ثوب حداد على ... ثوب بياض علّ بالورس فالشّطر من أعلاه فى مأتم ... وشطره الأسفل فى عرس مغمّض طول الدّجى ناعس ... جفونه تفتح فى الشمس الجزء: 11 ¦ الصفحة: 225 الباب الثانى من القسم الثالث من الفنّ الرابع فيما يشمّ [رطبا «1» ] ولا يستقطر ويشتمل هذا الباب على ما قيل فى البنفسج والنرجس والياسمين والآس والزعفران والحبق فأما البنفسج وما قيل فيه - فقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: طبع البنفسج بارد رطب فى الأولى. وقال قوم: انه حارّ فى الأولى. قال: ولا شكّ فى برودته. وأمّا أفعاله وخواصّه ، فقيل: انه يولّد دما معتدلا؛ وهو يسكّن الأورام الحارّة ضمادا مع سويق الشعير؛ وكذلك ورقه. قال: ودهن البنفسج طلاء جيّد للجرب؛ وهو يسكّن الصّداع الدّموىّ شمّا وطلاء. قال: وينفع من الرمد الحارّ «2» ومن السّعال الحارّ؛ ويليّن الصدر، خصوصا المربّى منه بالسكّر؛ وشرابه نافع من ذات الجنب والرّئة والتهاب المعدة؛ وشرابه ينفع من وجع الكلى؛ ويابسه يسهل الصفراء؛ و [شرابه أيضا «3» ] يليّن الطبيعة برفق. وأما ما جاء فى وصفه - فقال أبو القاسم بن هذيل الأندلسىّ- ويروى لابن المعتزّ-: بنفسج جمّعت أوراقه فحكت «4» ... كحلا تشرّب دمعا يوم تشتيت الجزء: 11 ¦ الصفحة: 226 أو لا زورديّة أوفت «1» بزرقتها ... وسط الرياض على زرق اليواقيت كأنّه وضعاف القضب تحمله ... أوائل النار فى أطراف كبريت وقال آخر فى معناه: بنفسج بذكىّ الريح مخصوص ... ما فى زمانك إذ وافاك تنغيص كأنّما شعل الكبريت منظره ... أو خدّ أغيد بالتخميش مقروص وقال أبو الحسن العقيلىّ: اشرب على زهر البنفسج قهوة ... تنفى الأسى عن كلّ قلب مكمد فكأنه قرص بخدّ خريدة ... أو أعين زرق كحلن بإثمد وقال آخر: ماس البنفسج فى أغصانه فحكى ... زرق الفصوص على بيض القراطيس كأنّه وهبوب الريح يعطفه ... بين الحدائق أعراف الطّواويس وقال آخر: أهدت إلىّ بنفسجا ... أحبب بمهدية البنفسج فكأنّه هى فى اللّطا ... فة والذّكاء إذا تأرّج أوراقه اللهب «2» المطلّ ... على الذّبالة حين تسرج أو إثر «3» قرص مؤلم ... فى وجنة الخدّ المضرّج الجزء: 11 ¦ الصفحة: 227 وقال آخر فى الأبيض منه- وذكر ممدوحا-: كأنّ البنفسج فيما حكى ... من الطّيب أخلاقك المونقه يلوح فتحسب طاقاته ... فصوصا من الفضّة المحرقه وقال أبو الحسن الشاطبىّ- ويروى لابن الرومىّ-: اشرب على زهر البنف ... سج قبل تأنيب الحسود فكأنّما أوراقه ... آثار قرص فى الخدود [وقال آخر «1» ] : وكأنّ البنفسج الغضّ يحكى ... أثر اللّطم فى خدود الغيد وقال أبو هلال العسكرىّ: وبحافاتها البنفسج يحكى ... أثر القرص فى خدود العذارى وقال الميكالىّ فيه متفائلا به: يا مهديا لى بنفسجا أرجا ... يرتاح قلبى له وينشرح بشّرنى عاجلا مصحّفه ... بأنّ ضيق الأمور ينفسح وتطيّر آخر به فقال: يا مهديا لى بنفسجا سمجا ... أودّ لو أنّ أرضه سبخ أنذرنى عاجلا مصحّفه ... بأنّ عقد الحبيب ينفسخ وقال صالح بن يونس: بنفسج جاء فى حداد ... ووردنا فى معصفرات فاشرب على مأتم وعرس ... جلّا جميعا عن الصّفات الجزء: 11 ¦ الصفحة: 228 ومن رسالة لأبى العلاء عطاء بن يوسف السّندىّ يصف طاقة بنفسج، قال: سماويّة اللّباس، مسكيّة الأنفاس؛ واضعة رأسها على ركبتها كعاشق مهجور ينطوى على قلب مسجور؛ كبقايا النّقش فى بنان الكاعب، أو النّقس فى أصابع الكاتب؛ أو الكحل فى ألحاظ الملاح، المراض الصّحاح؛ الفاترات الفاتنات، المحييات القاتلات؛ لازورديّة أوفت زرقتها على زرق اليواقيت، كأوائل النار فى أطراف كبريت؛ أو كأثر القرص فى خدود العذارى أو عذار خلعت فيه العذارا وأمّا النّرجس وما قيل فيه - فقال أبو بكر بن وحشيّة فى توليده: ان أردتم النرجس فخذوا قرنى الغزال، فاقطعوا كلّ قرن نصفين، وانقعوهما فى بول البقر سبعة أيّام، ثم اقلعوا عينى الغزال، واجعلوهما فوق رءوس القرون، واطمروهما فى الأرض فى أوّل ساعة من يوم الجمعة، فإنّه بعد خمسة عشر يوما ينعقد نرجسا مفتّحا. وإن أردتموه مضعّفا فخذوا الثّوم، ثم شقّوا البصل، واجعلوا الثّومة فى وسطها، ولتكن سنّا واحدة، ثم ضمّوا على الثّومة نصفى بصلة النرجس، واغرسوها فى الأرض، فإنّه ينبت النرجس المضاعف؛ وان أردتم المضاعف الذى بعض ورقه أخضر وبعضه أصفر، فخذوا سنّا من الثّوم، وخذوا عصارة ورق بصل النرجس، وانقعوا السّنّ فى العصارة ثلاثة أيام، ثمّ أدخلوها فى البصلة، واغرسوها فى الأرض، فإنّها تنبت بعد أيّام قلائل. وقال أبو علىّ بن سينا: انّ أصل النرجس يخرج الشّوك والسّلّاء «1» ، وخصوصا مع دقيق الشّيلم «2» والعسل. قال: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 229 والنرجس يجلو الكلف والبهق، وخصوصا أصله بالخلّ، وينفع أصله من داء الثّعلب «1» ؛ ويعجن أصله مع العسل والكرسنّة فيفجّر الدّماميل «2» العسرة النّضج؛ ويضمد بأصله على أورام العصب. قال: والنرجس يجفّف الجراحات، ويلزقها إلزاقا شديدا؛ ودهنه ينفع للعصب. قال: وينفع من الصّداع الرّطب السّوداوىّ «3» وكذلك دهنه، وهو أوفق؛ ويصدّع الرءوس الحارّة؛ واذا أكل أصله هيّج القىء؛ واذا شرب منه أربعة دراهم بماء العسل أسقط الأجنّة الأحياء والأموات؛ ودهنه يفتّح انضمام الرّحم، وينفع من أوجاعها. وأمّا ما جاء فى وصفه - فقال أبو نواس الحسن بن هانئ: لدى نرجس غضّ القطاف كأنّه ... اذا ما منحناه العيون عيون مخالفة فى شكلهنّ بصفرة ... مكان سواد والبياض جفون وقال أبو الفتح محمود «4» كشاجم: كأنّما نرجسنا ... وقد تبدّى من كثب أنامل من فضّة ... يحملن كأسا من ذهب الجزء: 11 ¦ الصفحة: 230 وقال أبو بكر الصّنوبرىّ «1» : أضعف قلبى النرجس المضعف ... ولا عجيب إن صبا مدنف كأنّه بين رياحيننا ... أعشار آى ضمّها مصحف وقال آخر «2» : ونرجس الى حدا ... ئق الرياض محدق كأنّما صفرته ... على بياض يقق أعشار جزء ذهّبت ... من ورق فى ورق وقال أبو بكر بن حازم: ونرجس ككئوس التّبر لائحة ... من الزّبرجد قد قامت بها ساق كأنهنّ عيون هدبها ورق ... لهنّ من خالص العقيان أحداق وقال الصّنوبرىّ: ونرجس مضعف تضاعف من ... هـ الحسن فى أبيض وفى أصفر الدّرّ والتّبر فيه قد خلطا ... للعين والمسك فيه والعنبر وقال أيضا يصفه فى منابته: أرأيت أحسن من عيون النرجس ... أو من تلاحظهنّ وسط المجلس درّ تشقّق عن يواقيت على ... قضب الزبرجد فوق بسط السّندس أجفان كافور حشين بأعين ... من زعفران ناعمات الملمس مغرورقات «3» فى ترقرق طلّها ... ترنو بعين الناظر المتفرّس الجزء: 11 ¦ الصفحة: 231 فاذا تنشّقها تنفّس ناشق ... عن مثل ريح المسك أىّ تنفّس وحكى تدانى بعضها من بعضها ... يوما تدانى مؤنس من مؤنس واذا نعست من المدام رأيتها ... ترنو اليك بأعين لم تنعس وقال ابن الرّومىّ «1» : ونرجس كالثّغور مبتسم ... له دموع المحدّق الشّاكى أبكاه قطر النّدى وأضحكه ... فهو من القطر ضاحك باكى [وقال آخر «2» ] : قد عكفنا على عيون من النّرجس ... بيض مصفرّة الأحداق ذابلات الأجفان كالعاشق الوا ... قف يشكو الهوى على فرد ساق وقال شاعر أندلسىّ: انظر الى نرجس فى روضة أنف ... غنّاء «3» قد جمعت شتّى من الزّهر كأنّ ياقوتة صفراء قد طبعت ... فى غصنه حولها ستّ من الدّرر [وقال آخر «4» ] : أبصرت باقة «5» نرجس ... فى كفّ من أهواه غضّه فكأنّها قضب الزّبر ... جد قمّعت ذهبا وفضّه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 232 [وقال ابن عبّاد «1» ] : عمرى لقد راق طرفى حسن زاهرة ... تميس فى سندسيّات من الورق أبدت لنا عجبا منها حديقتها ... عينا من التّبر فى جفن من الورق «2» وقال أبو الفضل الميكالىّ: أهلا بنرجس روض ... يزهى بحسن وطيب يرنو بعينى غزال ... على قضيب رطيب وفيه معنى خفىّ ... يزينه فى القلوب تصحيفه إن نسقت ال ... حروف برّ حبيب [وقال آخر «3» ] : لمّا أطلنا عنه تغميضا ... أهدى لنا النّرجس تعريضا فدلّنا ذاك على أنّه ... قد اقتضانا الصّفر والبيضا وقال أبو هلال العسكرىّ: ونرجس مثل أكفّ خرّد ... درن علينا بكئوس الذهب ناولنيه مثله فى حسنه ... فحلّ من قلبى عقد الكرب مبتسم عنه وناظر به ... هذا لعمرى عجب فى عجب وقال أيضا فيه «4» : ونرجس قام فوق منبره ... مثل عروس تجلى وتشتهر الجزء: 11 ¦ الصفحة: 233 نام النّدى فى عيونه سحرا ... فاعتاده فى منامه سهر لم يغتمض والظلام حلّ به ... كأنّما فى جفونه قصر تحيّر الطّلّ فى مدامعه ... فليس يرقا وليس ينحدر كدمعة الصّبّ كاد يسكبها ... فردّها فى جفونه الحذر وقال ابن المعتزّ: وعجنا الى الرّوض الذى طلّه النّدى ... وللصّبح فى ثوب الظّلام حريق كأنّ عيون النرجس الغضّ بينه ... مداهن درّ حشوهنّ عقيق اذا بلّهنّ القطر خلت دموعها ... بكاء جفون كحلهنّ خلوق وقال ابن الرومىّ يفضّله على الورد: خجلت خدود الورد من تفضيله ... خجلا تورّدها عليه شاهد لم يخجل الورد المورّد لونه ... إلا وناحله. الفضيلة عاند للنرجس الفضل المبين وإن أبى ... آب وحاد عن الطريقة حائد فصل القضيّة أنّ هذا قائد ... زهر الرّبيع وأنّ هذا طارد شتّان بين اثنين هذا موعد ... بتسلّب الدنيا وهذا واعد واذا احتفظت به فأمتع صاحب ... بحياته لو أنّ حيّا خالد يحكى مصابيح السماء وتارة ... يحكى مصابيح الوجوه تراصد ينهى النديم عن القبيح بلحظه ... وعلى المدامة والسّماع يساعد إن كنت تطلب فى الملاح سميّه ... يوما فإنك لا محالة واجد والورد إن فتّشت فرد فى اسمه ... ما فى الملاح له سمّى واحد هذى النجوم هى التى ربّينها ... بحيا السحاب كما يربّى الوالد فانظر الى الولدين من أوفاهما ... شبها بوالده فذاك الماجد الجزء: 11 ¦ الصفحة: 234 أين العيون من الخدود نفاسة ... ورآسة لولا القياس الفاسد وقال أيضا فيه: وأحسن ما فى الوجوه العيون ... وأشبه شىء بها النّرجس «1» [وقال أيضا «2» ] : وزعفرانيّة فى اللّون تحسبها ... اذا تأمّلتها فى ثوب كافور كأنّ حبّ سقيط الطّلّ بينهما ... دمع تحيّر فى أجفان مهجور وقال عبد الله بن المعتزّ: عيون اذا عاينتها فكأنّما ... مدامعها من فوق أجفانها درّ محاجرها بيض وأحداقها صفر ... وأجسامها خضر وأنفاسها عطر [وقال محمد بن يزيد المبرّد «3» ] : نرجسة لا حظنى طرفها ... تشبه دينارا على درهم وقال عبيد الله بن عبد الله: ترنو بأحداقها اليك كما ... ترنو اذا خافت اليعافير مثل اليواقيت قد نظمن على ... زبرجد بينهنّ كافور كأنّها والعيون ترمقها ... دراهم وسطها دنانير الجزء: 11 ¦ الصفحة: 235 وأمّا الياسمين وما قيل فيه - فالياسمين والياسمون اسم «1» فارسىّ؛ وهو نوعان: برّىّ، ويسمّى بهرامج «2» ، وتسمّيه العرب الظّيّان «3» ؛ وبستانىّ، وهو أصفر وأبيض، والأبيض أطيب رائحة. قال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: طبع الأبيض أسخن من الأصفر، والأصفر من «4» الأرجوانىّ؛ وهو بالجملة حارّ يابس فى الثانية. قال: وهو يلطّف الرّطوبات؛ ودهنه ينفع المشايخ. قال: وهو يذهب الكلف رطبه ويابسه، وكثرة شمّه تورث الصّفار «5» ؛ ودهنه نافع للأمراض الباردة فى العصب؛ ورائحته مصدّعة، لكنّها مع ذلك تحلّ «6» الصّداع الكائن عن البلغم اللّزج اذا شمّت؛ والخالص من دهنه يرعف المحرور اذا شمّه لوقته. وأما ما جاء فى وصفه - فقال أبو إسحاق الحضرمىّ يصفه قبل تفتّحه: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 236 خليلىّ هبّا وانفضا عنكما الكرى ... وقوما الى روض وكأس «1» رحيق فقد لاح رأس الياسمين منوّرا ... كأقراط درّ قمّعت بعقيق يميل على ضعفى الغصون كأنّما ... له حالتا ذى غشية ومفيق اذا الرّيح أدّته الى الأنف خلته ... نسيم جنوب ضمّخت بخلوق وقال آخر: وروضة نورها يرفّ ... مثل عروس اذا تزف كأنّما الياسمين فيها ... أنامل مالها أكفّ [وقال آخر «2» ] : كأنّ الياسمين الغضّ لمّا ... أدرت عليه وسط الرّوض عينى سماء للزبرجد قد تبدّت ... لنا فيها نجوم من لجين وقال آخر: وياسمين عبق النّشر ... يزرى بريح العنبر الشّحرى «3» يلوح من بين غصون له ... كمثل أقراط من الدّرّ وقال المعتمد بن عبّاد: كأنّما ياسميننا الغضّ ... كواكب فى السماء تبيضّ والطّرق الحمر فى بواطنه ... كخدّ عذراء مسّه عضّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 237 وقال الشّمشاطىّ فى دوحة «1» جمعت بين الأبيض والأصفر: وياسمين قد بدا لونين ... قراضة من ورق «2» وعين ركّب فى زبرجد نوعين ... فالبيض منه فى عيان العين مثل ثغور البيض غير مين ... والصّفر لون عاشق ذى بين وقال أحمد بن عبد الرحمن القرطبىّ: ولفّاء خلناها سماء زبرجد ... لها أنجم زهر من الزّهر الغضّ تناولها الجانى من الأرض قاعدا ... ولم أر من يجنى النجوم من الأرض وقال شاعر يتطيّر به: أصبحت أذكر بالرّيحان رائحة ... منكم وللنفس بالرّيحان إيناس وأهجر الياسمين الغضّ من حذر ال ... ياس إذ قيل فى شطر اسمه ياس وقال آخر: لا مرحبا بالياسمين ... وان غدا للرّوض زينا صحّفته فوجدته ... متقابلا ياسا ومينا ونظيره قول الآخر: وياسمين إن تأمّلته ... حقيقة أبصرته شينا لأنّه ياس ومين ومن ... أحبّ قطّ الياس والمين الجزء: 11 ¦ الصفحة: 238 وقال [ابن] «1» الحدّاد فى عكس ذلك: بعثت بالياسمين الغضّ مبتسما ... وحسنه فاتن للنّفس والعين بعثته منبئا عن صدق معتقدى ... فانظر تجد لفظه ياسا من المين وأمّا الآس وما قيل فيه - فالآس نوعان: برّىّ وبستانىّ؛ فالبرّىّ هو الّذى يسمّى بدمشق: قف انظر «2» ، سمّى بذلك لحسنه؛ وورقه يشبه ورق البستانىّ، إلا أنّه أعرض منه؛ وطرفه محدّد، يشبه سنان الرّمح؛ واليونان تسمّى الآس: مرسينى؛ وتسمّيه العامّة: مرسينا «3» . وقال ابن وحشيّة فى توليده: وان خلطتم بأصل اليبروح عيدان الشّبث وورق الجرجير وسحقتم ذلك سحقا جيّدا وزرعتموه فى الأرض، وهو كهيئة الكبّة، وصببتم فوق الكبّة الماء، وطمرتموه فى التراب، خرجت عن ذلك شجرة الآس الطويل الورق. وان أردتم المدوّر الورق فاخلطوا مع أصل اليبروح ورق الآس الطويل، ونصف وزن أصل اليبروح من ورق النّبق، فانه يخرج الآس المدوّر الورق. قال: وان أردتم الآس الأزرق اللّون، فاخلطوا بأصل اليبروح ورق النّيل، واعجنوا معهما من أصل الزيتون وعروقه، واطمروه «4» فإنّه يخرج عنه الآس الأزرق. وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا فى الآس: أقواه الذى يضرب الى السواد، لا سيّما الخسروانىّ «5» المستدير الورق، لا سيّما الجبلىّ «6» ؛ وأجود زهره الأبيض؛ وعصارة ثمرته أجود. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 239 وأمّا طبعه ففيه حرارة لطيفة، والغالب عليه البرد، ويشبه أن يكون برده فى الأولى، ويبسه فى حدود الثانية. وأمّا أفعاله وخواصّه ، فإنّه يحبس الإسهال والعرق وكلّ نزف وكلّ سيلان الى عضو؛ واذا تدلّك به فى الحمّام قوّى البدن، ونشّف الرطوبات التى تحت الجلد؛ وهو ينفع من كل نزف لطوخا وضمادا ومشروبا، وكذلك ربّه وربّ ثمرته؛ وقبضه أقوى من تبريده؛ وهو يسرع جبر العظام؛ وليس فى الأشربة ما يعقل وينفع أوجاع الرئة والسّعال غير شرابه؛ ودهنه وعصارته [وطبيخه «1» ] تقوّى أصول الشّعر؛ وورقه اليابس يمنع صنان الآباط؛ ورماده ينقّى الكلف، ويجلو البهق. قال: والآس يسكّن الأورام والحمرة «2» والنّملة «3» والبثور والقروح والشّرى «4» وحرق النار «5» ؛ وورقه يضمد به بعد تخبيصه بزيت وخمر؛ ويابسه اذا ذرّ على الدّاحس «6» نفعه؛ واذا طبخت الجزء: 11 ¦ الصفحة: 240 ثمرته بالشراب واتّخذت ضمادا أبرأت القروح الّتى فى الكفّين والقدمين وحرق النار وتمنعه عن التنفّط، ومن «1» استرخاء المفاصل. قال: والآس يحبس الرّعاف ويجلو الحزاز «2» ، ويجفّف قروح الرأس، وقروح الأذن؛ وينفع شرابه من استرخاء اللّثة؛ وورقه اذا طبخ بالشراب وضمد به سكّن الصّداع الشديد؛ واذا شرب شرابه قبل الشراب منع الخمار؛ والآس يسكّن الرمد والجحوظ؛ واذا طبخ مع سويق الشّعير أبرأ أورام العين؛ والآس يقوّى القلب، ويذهب الخفقان؛ وثمرته تنفع من السّعال؛ وهو يقوّى المعدة، خصوصا ربّه؛ وحبّه يمنع سيلان الفضول الى المعدة؛ وهو جيّد فى منع درور الحيض؛ وماؤه يعقل الطبيعة، ويحبس الإسهال؛ وطبيخ ثمرته ينفع من سيلان رطوبات الرّحم؛ وينفع تضميده للبواسير؛ وينفع من ورم الخصية؛ وطبيخه ينفع من خروج المقعدة والرّحم؛ وهو ينفع من عضّ الرّتيلاء «3» ، وكذلك ثمرته اذا شربت بشراب، وكذلك من العقرب. وأما ما جاء فى وصفه - فقال الأخيطل الأهوازىّ: للآس فضل بقائه ووفائه ... ودوام نضرته على الأوقات الجزء: 11 ¦ الصفحة: 241 الجوّ أغبر وهو أخضر والثرى ... يبس ويبدو ناضر الورقات قامت على قضبانه ورقاته ... كنصال نبل جدّ مؤتلقات وقال آخر: وغادة أهدت الى إلفها ... قضيب آس زاد فى ظرفها كأنّما خضرة أوراقه ... بقيّة الحنّا على كفّها وقال آخر «1» فى باقة «2» آس: ومشمومة مخضرّة اللّون غضّة ... حوت منظرا للناظرين أنيقا اذا شمّها المعشوق خلت اخضرارها ... ووجنته فيروزجا وعقيقا وقال ابن وكيع: خليلىّ ما للآس يعبق نشره ... اذا هبّ أنفاس الرّياح العواطر حكى لونه أصداغ ريم معذّر ... وصورته آذان خيل نوافر وأمّا الزّعفران وما قيل فيه - فالزّعفران يسمّى الجادىّ «3» بالدالين المهملة والمعجمة، والجساد، والرّيهقان، والكركم. وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: جيّده الطرىّ، الحسن اللون، الذكىّ الرائحة، على شعره قليل بياض غير كثير، ممتلئ صحيح سريع «4» الصّبغ، غير متكرّج «5» الجزء: 11 ¦ الصفحة: 242 ولا متفتّت؛ وطبعه حارّ فى الثانية، يابس فى الأولى. وقال فى أفعاله وخواصّه: هو قابض محلّل منضج مفتّح. قال: وقال الخوزىّ: إنّه لا يغيّر «1» خلطا ألبتّة بل يحفظها «2» على السويّة «3» ، ويصلح العفونة، ويقوّى الأحشاء؛ وشربه يحسّن اللّون؛ وهو محلّل للأورام، وتطلى به الحمرة. قال: وهو مصدّع، يضرّ الرأس؛ وهو منوّم، واذا سقى فى الشّراب أسكر؛ وينفع من الورم الحارّ فى الأذن؛ وهو يجلو البصر، ويمنع النوازل اليه، وينفع من الغشاوة، ويكتحل به للزّرقة المكتسبة من الأمراض؛ وهو مقوّ للقلب، مفرّح يشمّه المبرسم «4» وصاحب الشّوصة «5» للتنويم، وخصوصا دهنه، ويسهّل النّفس، ويقوّى «6» النفس. قال: وهو مغث يسقط الجزء: 11 ¦ الصفحة: 243 الشهوة بمضادّته «1» الحموضة التى فى المعدة وبها «2» الشّهوة، لكنّه يقوّى المعدة لما فيه من الحرارة والدّبغ والقبض. وقال قوم: الزعفران جيّد للطّحال. قال: وهو يهيج الباه، ويدرّ البول، وينفع من صلابة الرّحم وانضمامها والقروح الخبيثة فيها اذا استعمل بموم «3» أو محّ مع ضعفه زيتا. وزعم بعضهم أنّه سقاه للطّلق المتطاول فولدت للساعة. قال: وثلاثة مثاقيل منه تقتل بالتفريح؛ واذا عدم فبدله وزنه قسط «4» ، وربع وزنه قشور السّليخة «5» . وأما ما جاء فى وصفه - فقال مؤيّد الدّين الطّغرائىّ: وحديقة للزعفران تأرّجت ... وتبرّجت فى نسج وشى مونق شكت الحيال «6» فألقحتها «7» نطفة ... من صوب غادية الغمام المغدق حتى اذا ما حان وقت ولادها ... فتق الصّبا منها الذى لم يفتق عذراء حبلى قمّطت أولادها ... حمرا وصفرا فى الحرير الأزرق الجزء: 11 ¦ الصفحة: 244 وكأنّما اقتتلوا فأصفر خائف ... بحذاء قان بالدّماء مغرّق وقال آخر: وكأنّ ورد الزعفران مضاحك ... قد جمّعت لعس «1» المقبّل واللّمى «2» أو أنصل فوق التراب سديدة ... قد فارقت بعد الرّماية أسهما وقال آخر: للزعفران اذا ما قاسه فطن ... فضل على كلّ ورد زاهر أنق «3» كأنه ألسن الحيّات قد شدخت ... رءوسها فاكتست من حمرة العلق من لابس حمرة من وجه ذى خجل ... ولابس صفرة من وجه ذى فرق لا شىء أعجب من لونيهما وهما ... نشوان «4» تربان «5» فى مهد وفى خرق فرعان مختلف معناهما وهما ... نتيجتا جوهر فى الأصل متّفق. وقال آخر «6» : طلع الزعفران مثل زجاج «7» ... قد تنضّلن «8» من سهام غلاء «9» الجزء: 11 ¦ الصفحة: 245 وتراءى كأنّه شعل الكبريت ... ليلا ضياؤها فى غطاء ورق فيه زرقة تجلب الله ... وو يسى عيانه كلّ رائى يتفرّى عن قانئات حسان ... مثل هدب معصفر من رداء قائمات كأنّها ألفات ... خطّطت فى الطّراز ذات استواء يتنقّبن للرّجال غدوّا ... ثم يسفرن ضحوة للنّساء يتبرّجن فى ثياب الثّكالى ... ويعرّين منه بعد اكتساء زىّ عرس ومأتم ذا لدى خ ... ير عشاء وذا لشرّ «1» عشاء مثل غمّ قد انجلى عن سرور ... ونعيم قد انتضى عن بلاء وقال أبو بكر الخوارزمىّ: أما ترى الزعفران الغضّ تحسبه ... جمرا بدا فى رماد الفحم مضطرما كأنّه بين أطراف تحف به ... طرائق الدّم فى خدّين قد لطما دم عيانا ومسك نشر رائحة ... فى طيبه وكذاك المسك كان دما [وقال آخر «2» ] : شبّهت روض الزّعفران بشاطر «3» ... سلب النّصارى واليهود شعارها كصحيفة من سندس عنيت «4» بها ... كفّ صناع قوّمت أسطارها الجزء: 11 ¦ الصفحة: 246 وكأنّما ألفاتها قد توّجت ... بمجامر تذكى النسائم «1» نارها من كلّ فاقعة تلفّع دائما ... بدخان كبريت تجرّ إزارها متقنّعات فى الدّجى فاذا بدا ... للصّبح إسفار سفرن خمارها والشمس طالعة على أخواتها ... واذا توارت أسبلت أستارها وأمّا الحبق وما قيل فيه - فالحبق أنواع، تطلق عليها العامّة الرّيحان؛ ومن «2» أسمائه الباذروج، وهو «3» الحماحم. ويسمّى «4» الباذر نجبويه والباذر نبويه، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 247 واسمه «1» بالفارسية: المرماحوز «2» ، ومنه ما سمّى الفرنجمشك «3» بالفاء والباء؛ ورائحته كرائحة القرنفل؛ ويقال فيه فلنجمشك، وأفلنجمشك؛ وكلّها فارسيّة. ومنه ما يسمّى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 248 بالفارسيّة: الشاهسفرم «1» ، ومعناه ملك الرّياحين «2» ؛ والعرب تسمّيه: الضّيمران «3» والضّومران؛ ومنه حبق الفتى «4» : المرزجوش والمرزنجوش «5» والمردقوش «6» والعبقر «7» . ومنه ما يسمّى المرو والزّغبر والزّبغر، وهو المرو الدقيق الورق. والصّعترىّ «8» ، وريحان «9» الجزء: 11 ¦ الصفحة: 249 الكافور، ويسمّى «1» بالفارسيّة (سوسن) واناه «2» ، وشكله شكل المنثور، ورائحته رائحة الكافور الرّياحىّ «3» . وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا فى طبائع الرّياحين: الباذروج «4» طبعه حارّ فى الأولى الى الثانية، يابس فى أوّل الأولى، وفيه رطوبة فضليّة. قال: وفيه قبض وإسهال، فإنّه يقبض، إلّا أن يصادف فضلا مستعدّا، فاذا صادف خلطا أسهله؛ وفيه تحليل وإنضاج ونفخ، ويسرع الى التعفّن؛ ويولّد خلطا رديئا سوداويّا؛ وبزره ينفع من تتولّد فيه السّوداء؛ واذا طلى بالخلّ ودهن الورد على الأورام الحارّة نفع؛ وعصارته قطورا تنفع الرّعاف، لا سيّما بخلّ خمر وكافور؛ وهو مما يسكّن العطاس من مزاج، ويحرّكه من مزاج؛ وهو ينفع من ضربان العين ضمادا: ويحدث ظلمة البصر مأكولا لتخليط رطوبته وتبخيرها؛ وعصارته تقوّى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 250 البصر كحلا؛ وهو يقوّى القلب جدّا، ويجفّف الرئة والصدر، وسكرّجة «1» من مائه تنفع من سوء التنفّس؛ وماؤه يدرّ اللّبن؛ وبزره ينفع من عسر البول؛ واذا وضع على لسع الزّنابير والعقارب سكّنه. وأمّا المرماحوز «2» - فهو حارّ فى الثالثة، يابس فى الثانية؛ وهو لطيف محلّل مسكّن للرّياح، مفتّح للسّدد البلغميّة حيث كانت؛ والإكباب على نطوله يحلّل البخار والصّداع البارد؛ وهو يقوّى المعدة وينشّف رطوبتها، ويقوّى الأمعاء. وأمّا المرزنجوش «3» - فهو حارّ يابس فى الثالثة «4» ؛ وهو لطيف محلّل مفتّح؛ وهو طلاء جيّد على الأورام البلغميّة؛ ودهنه ضماد للفالج المميل العنق الى خلف ولغيره من الفالج؛ ويفتّح سدد الدّماغ؛ وينفع من الشّقيقة «5» والصّداع والرّطوبة والرياح الغليظة، ومن وجع الأذن نطولا «6» وقطورا؛ وتجعل فيها قطنة مغموسة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 251 فى دهن المرزنجوش فتنفع من انسدادها؛ وطبيخه ينفع من الاستسقاء، ومن عسر البول، والمغص؛ ودهنه ينفع من انضمام الرّحم المؤدّى إلى احتقانها «1» ؛ وهو مع الخلّ ضماد للسع العقرب. وأمّا الفلنجمشك «2» - فهو أعدل من المرزنجوش والنّمام، وأقلّ يبسا؛ وهو يفتّح السّدد العارضة فى الدّماغ والمنخرين شمّا وطلاء وأكلا؛ وينفع الخفقان العارض من البلغم والسّوداء فى القلب «3» ؛ وهو جيّد للبواسير. وأمّا ما وصفت به الرّياحين - فقال السّرىّ الرّفّاء: وبساط ريحان كماء زبرجد ... عبثت «4» بصفحته الجنوب فأرعدا يشتاقه الشّرب «5» الكرام وكلّما ... مرض النّسيم سروا «6» اليه عوّدا وقال أبو الفضل الميكالىّ: أعددت محتفلا ليوم فراغى ... روضا غدا إنسان عين الباغ «7» الجزء: 11 ¦ الصفحة: 252 روضا يروض هموم قلبى حسنه ... فيه لكأس اللهو أىّ مساغ فاذا انثنت قضبان ريحان به ... حيّت «1» بمثل سلاسل الأصداغ وقال أبو هلال العسكرىّ: وخضر تجمع الأعجاز منها ... مناطق مثل أطواق الحمام لها حسن العوارض حين تبدو ... وفيها لين أعطاف الغلام وقال مؤيّد الدّين الطّغرائىّ: مراضيع من الرّيحان تسقى ... سقيط الطّلّ أو درّ العهاد ملابسهنّ خضر مشبعات «2» ... تشير بزيّهنّ الى السواد اذا ذرّت عليها المسك ريح ... وجاد بفيضهنّ يد الغوادى تخلّلها الرياح فسرّحتها ... صنيع المشط فى اللّمم الجعاد جرت وهنا بها وسرت عليها ... فطاب نسيمها فى كلّ وادى وقال ابن أفلح الأندلسىّ: وحماحم «3» كأسنّة ... فى كل معتدل قويم أو أنجم نزعت «4» لتح ... رق كلّ شيطان رجيم أو مثل أعراف الدّيو ... ك لدى مبارزة الخصوم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 253 أو كالشّقيق تحرّشت ... بفروعه أيدى النسيم أو ثاكل صبغت بنا ... نا من دم الخدّ اللّطيم وقال آخر: وريحان تميس به غصون ... يطيب بشمّه شرب الكئوس كسودان لبسن ثياب خزّ ... وقد تركوا «1» مكاشيف الرّءوس وقال آخر: أما ترى الرّيحان أهدى لنا ... حماحما منه فأحيانا تحسبه فى طلّه والنّدى ... زمرّدا يحمل مرجانا وقال آخر فى الشاهسفرم «2» : وقامة «3» ريحان أنيق نباتها ... غذاها نمير الماء سقيا على قدر تكلّل أعلاها بنظم محبّر ... وضاق عليها الزّىّ بالورق الخضر وفاحت بنشر طيّب الشّمّ عاطر ... له نشوات المسك فى سائر العطر فأصبح شاها للرّياحين كلّها ... فليس لها ما دام شىء من الأمر وقال أبو سعيد الأصفهانىّ: [وشمّامة مخضرّة اللّون غضّة ... حوت منظرا للناظرين أنيقا «4» الجزء: 11 ¦ الصفحة: 254 اذا شمّها المعشوق خلت اخضرارها ... ووجنته فيروزجا وعقيقا] وقال ابن وكيع فى الصّعترىّ «1» : صعترىّ أدقّ من أرجل النّم ... ل وأذكى من نفحة الزّعفران كسطور كسين نقطا وشكلا ... من يدى كاتب ظريف البنان وقال أبو بكر الخوارزمىّ: وصفت ريحانا اذا ما وصفه ... واصفه قيل له: زد فى الصّفه دقّقه صانعه ولطّفه ... كأنّه وشم يد مطرّفه أو خطّ ورّاق أدقّ أحرفه ... أو زغبات طائر مصفّفه أو حلّة مخضرّة مفوّفه وقال صاعد الأندلسىّ فى الأترنجانىّ «2» : لم أدر قبل ترنجان مررت به ... أنّ الزمرد أغصان وأوراق من طيبه سرق الأترجّ نكهته ... يا قوم حتّى من الأشجار سرّاق وقال آخر وأجاد: ذكىّ العرف مشكور الأيادى ... كريم عرقه «3» يسلى الحزينا أغار على التّرنج وقد حكاه ... وزاد على اسمه ألفا ونونا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 255 القسم الرابع من الفنّ الرابع فى الرّياض والأزهار، ويتّصل به الصّموغ والأمنان والعصائر «1» ، وفيه أربعة أبواب الباب الأوّل من هذا القسم من هذا الفن فى الرياض وما وصفت به نظما ونثرا اتّفق جوّابو الأقطار أنّ مستنزهات «2» الدنيا أربعة مواضع ؛ وهى صغد سمرقند «3» ، وشعب بوّان، ونهر الأبلّة، وغوطة دمشق؛ وقد رأيت أن أصف هذه المستنزهات بصفاتها التى شاهدتها ونقلت إلىّ؛ وأخبارها التى عاينتها وقصّت أنباؤها علىّ؛ فقلت فى ذلك: ألذّ ما تمتّعت بحسنه النواظر، وأبهى ما ارتاحت النفوس الى أزهاره النّواضر؛ وصف رياض تاهت الأرض على السماء بأزهارها؛ وباهت أنوار الكواكب بنورها ونوّارها. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 256 فمنها صغد سمرقند - الذى تحفّ به بساتين كست زهرتها من الأرض عاريها «1» ، وأصبح للسماء بكاء فى جوانبها وللرّوض ابتسام فى نواحيها؛ تتخلّلها قصور يتضاءل سنا النّجم فى آفاقها، وتحتجب الغزالة عند طلوعها حياء من بهجتها وإشراقها. ومنها شعب بوّان «2» - الذى غدت مغانيه «3» مغانى للزّمان، وقصرت الألسن عن وصف محاسنه وطالت إلى اقتطاف ثمره البنان؛ تكاد شمسه تغرب عند الإشراق، ولا تتخلل أشجاره إلا والحياء يعيدها فى قبضة الإطراق؛ يستغنى بغدرانه عن صوب الصّيّب، ولقد أبدع فى وصفه أبو الطّيّب: مغانى الشّعب طيبا «4» فى المغانى «5» ... بمنزلة الرّبيع من الزمان الجزء: 11 ¦ الصفحة: 257 ولكنّ الفتى العربىّ فيها ... غريب الوجه واليد واللسان ملاعب جنّة لو سار فيها ... سليمان لسار بترجمان [طبت فرساننا والخيل حتّى ... خشيت وان كرمن من الحران] «1» غدونا تنفض الأغصان فيه ... على أعرافها مثل الجمان «2» فسرت وقد حجبن الشمس عنّى ... وجئن من الضّياء بما كفانى وألقى الشرق «3» منها فى ثيابى ... دنانيرا تفرّ من البنان لها ثمر تشير اليك منه ... بأشربة وقفن بلا أوانى «4» وأمواه يصلّ «5» بها حصاها ... صليل الحلى فى أيدى الغوانى اذا غنّى الحمام الورق فيها ... أجابتها أغانىّ القيان ومن بالشّعب أحوج من حمام ... اذا غنّى وناح الى بيان «6» الجزء: 11 ¦ الصفحة: 258 وقد يتقارب «1» الوصفان جدّا ... وموصوفاهما متباعدان يقول بشعب «2» بوّان حصانى ... أعن هذا تسير الى الطّعان أبوكم آدم سنّ المعاصى ... وعلّمكم مفارقة الجنان وأجاد السّلامىّ حيث قال: اشرب على الشّعب واحلل روضة أنفا «3» ... قد زاد فى حسنه فازدد به شغفا إذ ألبس الهيف من أغصانه حللا ... ولقّن العجم من أطياره نتفا ونمّرت «4» حسنه الأغصان مثمرة ... من نازع قرطا أو لابس شنفا «5» والماء يثنى على أعطافها أزرا ... والريح تعقد من أطرافها شرفا والشمس تخرق من أشجارها «6» طرفا ... بنورها فترينا تحتها طرفا من قائل نسجت درعا مفضّضة ... أو قائل ذهّبت أو فضّضت صحفا ظلّت تزفّ الى الدنيا محاسنها ... وتستعيد لها الألطاف والتّحفا من عارض وكفا «7» أو بارق خطفا ... أو طائر هتفا أو سائر وقفا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 259 ولست أحصى حصى الياقوت فيه ولا ... درّا أصادفه فى مائه صدفا بظنّ من وقفت فيه الشجون به ... أنّ الصّبابة شابت والهوى «1» خرفا تعسّف «2» الشوق فيه كلّ ذى شجن ... والشوق ألطفه ما كان معتسفا فاحلل عرا الهمّ واشربها معتّقة ... رقّ النسيم مباراة لها وصفا ومنها نهر الأبلّة «3» - الّذى طوله أربع فراسخ، ورءوس نخله على وجه الأرض شوارف وأصولها فى الثّرى رواسخ؛ بجانبيه بساتين إن هبّ النسيم بأغصانها تعانقت وتمايلت، وإن لعب بأفنانها تناظرت وتماثلت؛ كأنّما غرست فى يوم واحد شجراته، وقامت على خطّ الاستواء نخلاته؛ وفيه يقول التّنوخىّ شاعر اليتيمة: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 260 واذا نظرت إلى الأبلّة خلتها ... من جنّة الفردوس حين تخيّل كم منزل فى نهرها الى السّرور ... بأنّه فى غيره لا ينزل فكأنّما تلك القصور عرائس ... والزهر وشى فهى فيه ترفل غنّت قيان الطّير فى أرجائه ... هزجا يقلّ له الثقيل الأوّل وتعانقت تلك الغصون فأذكرت ... يوم الوداع وعيرهم تترحّل ربع الربيع بها فحاكت كفّه ... حللا بها عقد الهموم تحلّل فمدبّج وموشّح ومدّنر ... ومعمّد ومحبّر ومهلّل «1» فتخال ذا عينا وذا ثغرا وذا ... خدّا يعضّض تارة ويقبّل ومنها غوطة «2» دمشق - الّتى هى شرك العقول وقيد الخواطر، وعقال النفوس ونزهة النواظر، خلخلت الأنهار أسؤق أشجارها، وجاست المياه خلال ديارها؛ وصافحت أيدى النسيم أكفّ غدرانها، ومثّلت فى باطنها موائس أغصانها؛ يخال سالكها أن الشمس قد نثرت على أثوابه دنانير لا يستطيع أن يقبضها ببنان «3» ، ويتوهّم المتأمّل لثمراتها أنّها أشربة قد وقفت بغير أوان «4» فى كلّ أوان؛ فيالها الجزء: 11 ¦ الصفحة: 261 من رياض من لم يطف بزهرها من قبل أن يحلّق «1» فقد قصّر، ومن غياض من لم يشاهدها فى إبّانها فقد فاته من عمره الأكثر. وهذه الأربعة الأماكن أجمع جوّابوا الأقطار على تفضيلها على ما عداها، وتمييزها على ما سواها. وللناس فى وصف الرياض محاسن سنذكر منها النّزر اليسير، ونقتصر على لمعة ليس لنضارتها نظير. فمن ذلك قول الثّعالبىّ فى (سحر البلاغة وسرّ البراعة) : روضة رقّت حواشيها وتأنّق واشيها؛ أشجارها كالعرائس فى حللها وزخارفها، والقيان فى وشيها ومطارفها؛ باسطة زرابيّها «2» وأنماطها، ناشرة حبرها ورياطها؛ كأنّما احتفلت لوفد، أو هى من. حبيب على وعد. ومن كلامه «3» أيضا: روضة قد تضوّعت بالأرج الطّيب أرجاؤها، وتبرّجت فى ظلل الغمام صحراؤها؛ وتنافحت بنوافج «4» المسك أنوارها، وتفاوضت «5» بغرائب المنطق أطيارها؛ بها أشجار كأنّ الخرّد أعارتها قدودها، وكستها برودها، وحلّتها عقودها. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 262 ومن كلام الفتح بن خاقان فى (قلائد العقيان) : حتى استقرّوا «1» بالرّوض فحلّوا منه ذرا أيك ربيع مفوّفة بالأزهار، ومطرّزة بالجداول والأنهار؛ والغصون تختال فى أدواحها، وتنثنى فى أكفّ أرواحها. ومن كلامه أيضا: روض مفترّ المباسم، معطّر الرياح النّواسم؛ قد صقل الربيع حوذانه «2» ، وأنطق بلبله وورشانه «3» ، وألحف غصونه برودا مخضرّه، وجعل إشراقه للشمس ضرّه، وأزاهيره تنير على الكواكب، وتختال فى خلع الغمائم السّواكب. ومن كلامه: روضة لم يجل فى مثلها ناظر، ولم تدّع حسنها الخدود النّواضر؛ غصون تثنّيها الرياح، ومياه لها انسياح؛ وحدائق تهدى الأرج والعرف، وتبهج النفس وتمتع الطّرف. ومن كلامه: روضة قد تأرّجت نفحاتها، وتدبّجت ساحاتها، وتفتّحت كمائمها، وأفصحت حمائمها؛ وتجرّدت جداولها كالبواتر، ورمقت أزهارها بعيون الجآذر «4» . وقد أكثر الشعراء فى وصف الرّياض والغصون- فمن ذلك قول ابن الرّومىّ: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 263 حيّتك عنّا شمال طاف طائفها ... فى جنّة قد حوت روحا وريحانا هبّت سحيرا فناجى الغصن صاحبه ... سرّا بها وتداعى الطير إعلانا ورق تغنّى على خضر مهدّلة ... تسمو بها وتشمّ «1» الأرض أحيانا تخال طائرها نشوان من طرب ... والغصن من هزّه عطفيه نشوانا وقال أبو إسحاق إبراهيم بن خفاجة: سقيا لها من بطاح أنس ... ودوح حسن بها مطلّ فما ترى غير وجه شمس ... أطلّ فيه عذار ظلّ وقال أيضا من أبيات: والرّوض محنىّ المعاطف خلته ... نشوان تعطفه الصّبا فيميل ريّان فضّضه النّدى ثم انجلى ... عنه فذهّب صفحتيه أصيل وقال الأخيطل الأهوازىّ [منشدا] : الروض ينشر رفرفا «2» وحريرا ... ومطارفا من سندس وحبيرا حلّ الربيع نقاب كلّ خميلة ... فأراك من صور النبات سفورا غيد القوام اذا النسيم أمالها ... ألقين عند صدورهنّ نحورا ينحلّ عنهنّ النّدى فتخال ما ... ينحلّ عنها لؤلؤا منثورا كسل النعيم يدبّ فى حركاتها ... فيريك فى أعطافهنّ فتورا وقال أبو عبادة البحترىّ: هذى الرياض بدا لطرفك نورها ... فأرتك أحسن من رباط السّندس الجزء: 11 ¦ الصفحة: 264 ينشرن وشيا مذهبا ومدبّجا ... ومطارفا نسجت لغير الملبس وأرتك كافورا وتبرا مشرقا ... فى قائم مثل الزّمرد أملس متمايل الأعطاف فى حركاته ... كسل النعيم وفترة المتنفّس متحلّيا من كلّ حسن مونق ... متنفّسا بالمسك أىّ تنفّس وقال التّنوخىّ: أما ترى الروض قد وافاك مبتسما ... ومدّ نحو النّدامى للسّلام يدا فأخضر ناضر فى أبيض يقق ... وأصفر فاقع فى أحمر نضدا مثل الرّقيب بدا للعاشقين ضحى ... فاحمرّ خجلا واصفرّ ذا كمدا وقال أبو بكر الصّنوبرىّ: تشبّه الرّوض بالحبائب قد ... زاد المحبّين فى محبّتها كم من قدود هناك من قضب ... تميل من لينها ونعمتها كم وجنة خالها يلوح لنا ... سواده فى صفاء حمرتها وكم ثنايا تسبى بنكهتها ... وكم عيون تصبى بلحظتها تسارق «1» الغمز غمز خائفة ... رقيبها من خفاء نظرتها وقال أبو طاهر [بن] «2» الخبزأرزىّ: وروضة راضها النّدى فغدا ... لها من الزّهر أنجم زهر تنشر فيها أيدى الرّبيع لنا ... ثوبا من الوشى حاكه الفطر الجزء: 11 ¦ الصفحة: 265 وقال منصور بن الحاكم: روضة غضّة علاها ضباب ... قد تجلّت خلالها الأنوار فهى تحكى مجامرا مذكيات ... قد علاها من البخور بخار وقال سعيد بن حميد مقسما: لا وزهر الرياض تجرى عليها ... باكيات «1» ضواحك النّوّار صافحتها الرياح فاعتنق الرو ... ض ومالت طواله للقصار لائذا بعضه ببعض كقوم ... فى عتاب مكّرر واعتذار ما خلفناك بالقبيح ولا الذمّ ... على البعد واقتراب المزار وقال أبو هلال العسكرىّ: وروضة حالية الصدور ... كاسية البطون والظهور محمودة المخبور والمنظور ... مونقة المطوىّ والمنشور معجبة الظاهر والمستور ... ضاحكة كالوافد المحبور باكية كالعاشق المهجور ... شذّرها الغيث بلا شذور شقائق كناظر المخمور ... وأقحوان كثغور الحور ونرجس كأنجم الدّيجور ... والطّلّ منثور على المنثور يرصّع الياقوت بالبلّور وقال أيضا: لبس الماء والهواء صفاء ... واكتسى الروض بهجة وبهاء فكأنّ النّهاء «2» صرن رياضا ... وكأنّ الرياض عدن نهاء الجزء: 11 ¦ الصفحة: 266 وكأنّ الهواء صار رحيقا ... وكأنّ الرحيق صار هواء وتخال السماء بالليل أرضا ... وترى الأرض بالنهار سماء جلّلتها الأنوار زهرا وصفرا ... يوم ظلّت تنادم «1» الأنواء فتراها ما بين نور ونوء ... تتكافا تبسّما وبكاء وتظلّ الأشجار تتّخذ الحسن ... قميصا أو الجمال رداء وترى السّرو كالمنابر تزهى ... وترى الطير فوقها خطباء وقال كشاجم: أرتك يد الغيث آثارها ... وأعلنت الأرض أسرارها وكانت أكنّت لكانونها ... خبيئا فأعطته آذارها فما تقع العين إلّا على ... رياض تصنّف أنوارها يفتّح فيها نسيم الصّبا ... خباها ويهتك أستارها ويسفح فيها دماء الشّقيق ... ندّى ظلّ يفتضّ أبكارها ويدنى إلى بعضها بعضها ... كضمّ الأحبّة زوّارها كأنّ تفتّحها بالضّحى «2» ... عذارى تحلّل أزرارها تغضّ لنرجسها أعينا ... وطورا تحدّق أبصارها اذا مزنة سكبت ماءها ... على بقعة أشعلت نارها وقال البسّامىّ «3» : أما ترى الأرض قد أعطتك زهرتها ... مخضرّة واكتسى بالنّور عاريها الجزء: 11 ¦ الصفحة: 267 فالسماء بكاء فى جوانبها ... وللربيع ابتسام فى نواحيها وقال آخر: قهقه زهر الربيع فاستبشر ... واكتست الأرض مطرفا أخضر ترى ربيعا نوّاره ذهب ... ماء لجين حصباؤه جوهر عطّل صبّاغه الخدود بما ... ورّد من صبغها وما عصفر لابس قمص من العقيق على ... غلائل من زبرجد أخضر وقال المعوّج: حقاق من النّوّار مزرورة العرا ... على قطع الياقوت واللؤلؤ الغضّ فهنّ على الأغصان أحقاق فضّة ... وبالأمس كانت مطبقات على الغمض وقال ابن الساعاتىّ: لله ما شقّ من جيب الرياض بها «1» ... وحبّذا من ذيول السّحب ما سحبا يا ضاحك الومض والأنواء باكية ... أشبهت لمياء إلّا الظّلم «2» والشّنبا وقال أيضا: يا حبّذا زمن الربيع ودوحه ... قيد النواظر بل عقال الأنفس وافاك يبسم والغمام معبّس ... فاعجب لطلعة باسم ومعبّس جليت عرائسه فهمّ قلوبنا ... واللهو بين مقوّض ومعرّس «3» الجزء: 11 ¦ الصفحة: 268 أنفاسه من عنبر وسماؤه ... من لؤلؤ وبساطه من سندس وقال أبو عبادة البحترىّ: ولا زال مخضرّ من الروض يانع ... عليه بمحمرّ من النّور جاسد يذكّرنى ريّا الأحبّة كلّما ... تنفّس فى جنح من الليل بارد وقال السّروىّ «1» : غدونا على الرّوض الّذى طلّه النّدى ... سحيرا وأوداج الأباريق تسفك فلم أر شيئا كان أحسن منظرا ... من النّور يجرى دمعه وهو يضحك وقال آخر: حظّ عين وحظّ سمع ربيعا ... ن وتغريد بلبل وهزار فى جلاء من الزمان ووجه الأرض ... يكسى وشائع النّوّار بابيضاض محدّق «2» باخضرار ... واصفرار مبطّن باحمرار كلّما أشرقت شموس الأقاحى ... خلت إحدى الشّموس شمس النهار وقال كشاجم: وروض عن صنيع الغيث راض ... كما رضى الصديق عن الصديق اذا ما القطر أسعده صبوحا ... أتمّ له الصنيعة فى الغبوق يعير الرّيح بالنفحات ريحا ... كأنّ ثراه من مسك سحيق كأنّ الطّلّ منتثرا عليه ... بقايا الدّمع فى خدّ المشوق كأنّ غصونه سقيت رحيقا ... فماست ميس شرّاب الرحيق الجزء: 11 ¦ الصفحة: 269 كأنّ شقائق النّعمان فيه ... محضّرة كئوسا من عقيق كأنّ النرجس البرّىّ فيه ... مداهن من لجين للخلوق يذكّرنى بنفسجه بقايا ... صنيع اللّطم فى الخدّ الرقيق وقال ابن سكّرة الهاشمىّ: أما ترى الروضة قد نوّرت ... وظاهر الرّوضة قد أعشبا كأنّما الأرض سماء لنا ... نقطف منها كوكبا كوكبا وقال علىّ بن عطيّة البلنسىّ: أديراها على الزّهر المندّى ... فحكم الصّبح فى الظّلماء ماضى وكأس الراح تنظر عن حباب ... ينوب لنا عن الحدق المراض وما غربت نجوم اللّيل لكن ... نقلن من السّماء الى الرياض وقال شاعر أندلسىّ: وفتيان صدق عرّسوا تحت دوحة ... وما لهم غير النبات فراش كأنّهم والنّور يسقط فوقهم ... مصابيح تهوى نحوهنّ فراش وقال أبو محمد الحسن بن علىّ بن وكيع التّنّيسىّ: أسفر عن بهجته الدهر الأغر ... وابتسم الروض لنا عن الزّهر أبدى لنا فصل الربيع منظرا ... بمثله تفتن ألباب البشر وشيا ولكن حاكه صانعه ... لا لابتذال اللّبس لكن للنظر عاينه طرف السماء فانثنت ... عشقا له تبكى بأجفان المطر فالأرض فى زىّ عروس فوقها ... من أدمع القطر نثار من درر وشى طواه فى الثّرى صيانة ... حتّى اذا ملّ من الطّىّ نشر الجزء: 11 ¦ الصفحة: 270 وقال أبو طاهر [بن] «1» أبى الرّبيع: وكأنّ مولىّ «2» الرياض ضرائر ... تزهى بخضرتها على الخضراء قد أبرزت زهراتها وازّيّنت ... وتعطّرت وتبرّجت للرّائى والنّور منحسر القناع كما بدت ... للناظرين محاسن العذراء والنبت ريّان المهزّة مائل ... شرق محاجر زهره بالماء الباب الثانى من القسم الرابع من الفنّ الرابع فى الأزهار ويشتمل هذا الباب على ما قيل فى الخيرى- وهو المنثور- والسّوسن، والآذريون والخرّم، والشّقيق، والبهار، والأقحوان فأمّا الخيرىّ «3» وما قيل فيه- فالخيرىّ هو المنثور- وهو مما أولع الشعراء بوصفه. فمن ذلك قول ابن وكيع التّنّيسىّ: انظر الى المنثور فى ميدانه ... يرنو إلى الناظر من حيث نظر كجوهر مختلف ألوانه ... أسلمه سلك نظام فانتثر الجزء: 11 ¦ الصفحة: 271 وقال آخر: انظر الى المنثور ما بيننا ... وقد كساه الطلّ قمصانا كأنّما صاغته أيدى الحيا ... من أحمر الياقوت قضبانا وقال أبو إسحاق إبراهيم بن خفاجة يذكر كونه لا تظهر رائحته إلّا ليلا: وخيريّة بين النّسيم وبينها ... حديث اذا جنّ الظلام يطيب يدبّ مع الإمساء حتّى كأنّما ... له خلف أستار الظّلام حبيب وقال أبو هلال العسكرىّ: ألوان منثور يريك حسنها ... ألوان ياقوت زها فى عقده يا حسنها فى كفّ من يشبهها ... فانظر إلى النّدّ بكفّ ندّه من أشهل «1» كعينه وأبيض ... كثغره وأحمر كخدّه وأصفر مثل صريع حبّه ... إذا تغشّته غواشى صدّه وقال آخر: عجبت من الخيرىّ أمتع فى الدّجى ... وأصبح ريّاه مع الصّبح تحجب فخلت الرّيا طبعا له مثل ناسك ... يرائى نهارا وهو باللّيل يشرب وقال آخر: ما أكرم الخيرىّ فى فعله ... يسهر إذ نور الرّبا ناعس كأنّما خاف عليه العدا ... فهو له فى ليله حارس وقال ابن الحدّاد: عاف النهار مخافة الرقباء ... فسرى يضمّخ حلّة الظّلماء الجزء: 11 ¦ الصفحة: 272 يطوى شذاه عن الأنوف نهاره ... ويجود فى الظّلماء بالإفشاء متهتّك فى طبعه متستّر ... وكذا تكون شمائل الظّرفاء لمّا رأى حبّ الأنوف لعرفه ... لبس الغياهب خيفة الرّقباء كالطّيف لا يصل الجفون لسهدها ... ويهبّ فيها ساعة الإغفاء وقال أبو العلاء السّروىّ: أهدى إلىّ فنون الشّوق والأرق ... نسيم رائحة الخيرىّ فى طبق كأنّه عاشق يطوى صبابته ... صبحا وينشرها فى ظلمة الغسق وكلّ ذى لوعة فاللّيل راحته ... والليل أخفى لو يل الواله القلق وقال آخر: ينمّ مع الإظلام طيب نسيمه ... ويخفى مع الإصباح كالمتستّر كعاطرة ليلا لوعد محبّها ... وكاتمة صبحا نسيم التعطّر وقال ابن الرّومىّ: خيرىّ ورد أتاك فى طبقه ... قد ملأ الخافقين من عبقه قد خلع العاشقون ما صنع الهجر ... بألوانهم على ورقه وأما السّوسن «1» وما قيل فيه - فقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 273 فى طبع السّوسن: الأبيض البستانىّ منه حارّ يابس فى الثانية؛ والإيرساء «1» أشدّ تسخينا وتجفيفا؛ والإيرساء هو أصل السّوسن الاسمانجونى. قال وأصله جلّاء، مجفّف باعتدال؛ ودهنه ألطف وأشدّ تحليلا وتليينا مطيّبا كان أم غير مطيّب؛ والإيرساء أقوى فى جميع ذلك؛ وهو قابض، وفيه شفاء للأوجاع والعفونات؛ وينفع من الكلف والنّمش، وخصوصا أصله؛ وينقّى الوجه غسلا به ويصقله، ويزيل تشنّجه «2» ؛ وإن دقّ بزره وورقه ناعما وعمل منه ضماد بالشراب على الحمرة «3» نفعها، وكذلك على الأورام البلغميّة الفجّة «والجرب المتقرّح «4» والخشكريشات «5» » وأصله ينفع من حرق الماء الحارّ، لأنه مجفّف مع جلاء وباعتدال، وكذلك ورقه مطبوخا، والأحسن أن يكون استعماله بدهن الورد وعصارة الإيرساء، وغيره يطبخ فى الخلّ والعسل فى إناء من نحاس للقروح المزمنة والجراحات. والبستانىّ أفضل الأدوية لحرق الجزء: 11 ¦ الصفحة: 274 الماء الحارّ؛ وهو جيّد لانقطاع العصب؛ وتتخذ «1» من أصل البرّىّ مضمضة لوجع الأسنان؛ ويوافق دهنه قروح الرأس والنّخالة؛ واذا قطر فى الأذن سكّن الدّوىّ؛ وهو ردىء للمعدة، وخصوصا دهنه؛ ودهنه محلّل مليّن لصلابة الرّحم شربا وتمريخا؛ وكذلك اذا طبخ أصله بدهن الورد، ولا نظير له فى أمراض الرّحم، وكذلك دهن الإيرساء؛ ويخرج الجنين؛ وينفع من المغص؛ [و] «2» اذا طبخ أصله وحده بالخلّ أو مع بزر البنج «3» ودقيق الحنطة سكّن الأورام الحارّة العارضة للأنثيين؛ واذا شرب من دهنه مقدار أوقيّة ونصف أسهل؛ ويصلح لأصحاب إيلاوس «4» الصّفراوىّ؛ ودهن الإيرساء يفتّح أفواه البواسير، وكذلك أصل السّوسن كيف كان؛ وهو ينفع من لسع الهوامّ، خصوصا العقرب هو وعصارته وشرابه وبزره شربا؛ ودهنه درياق [للبنج] . وأما ما جاء فى وصفه - فقال الأخيطل الأهوازىّ: سقيا لأرض اذا ما نمت أرّقنى «5» ... بعد الهدوء بها قرع النّواقيس الجزء: 11 ¦ الصفحة: 275 كأنّ سوسنها فى كلّ شارفة «1» ... على الميادين أذناب الطّواويس وقال أيضا فيه: وكأنّ سوسنها سبائك فضّة ... غضّ النبات فأزرق أو أحمر حملت سقيط الطّلّ فى ورقاته ... فكأنّه متبسّم مستعبر وقال الصّنوبرىّ- ويروى للرّفّاء-: انظر الى السّوسن فى منبته ... فانّه نبت عجيب المنظر كأنّه ملاعق من ذهب ... قد خطّ فيها نقط من عنبر وقال آخر: انظر الى السّوسن فى ... جماله المنعوت مثل كئوس خرطت ... من أزرق الياقوت وقال آخر: يا ربّ سوسنة قبّلتها شغفا ... وما لها غير نشر المسك من ريق مصفرّة الوجه مبيضّ جوانبها ... كأنّها عاشق فى حجر معشوق وقال آخر: إن كان وجه الربيع مبتسما ... فالسّوسن المجتنى ثناياه يا حسنه ضاحكا له عبق ... كطيب ريح الحبيب ريّاه وقال شاعر أندلسىّ: سوسنة بيضاء أوراقها ... فيها خطوط من سواد خفى كأنّه دارس خطّ بدت ... أشكاله فى الرّقّ من مصحف الجزء: 11 ¦ الصفحة: 276 وقال شاعر متطيّرا بإهدائه: [يا ذا «1» الذى أهدى لنا السّوسنا ... ما كنت فى إهدائه محسنا] أوّله سوء فقد ساءنى ... يا ليت أنّى لم «2» أر السّوسنا [وقال آخر] : سوسنة أعطيتنيها فما ... كنت بإعطائى لها محسنه أوّلها سوء فان جئت بالآخر ... منها فهو سوء سنه وأمّا الآذريون «3» وما قيل فيه - فالآذريون ورد أصفر لا ريح له ألبتّة؛ وهو صنف من الأقحوان، ومنه ما نوّاره أحمر. وقال ابن البيطار فى جامعه: انّه نوّار ذهبىّ، فى وسطه [رأس صغير «4» ] أسود، واسمه بالفارسيّة: آذركون، ومعناه لون النار. وقال أبو علىّ بن سينا: طبعه حارّ يابس فى الثالثة؛ وانه ينفع من داء الثعلب مسحوقا بخلّ؛ ورماده بالخلّ لعرق النّسا. وقال ديسقوريدوس: إنّ الحبلى اذا مسّته أو تحمّلت منه أسقطت من ساعتها؛ وهو ينفع من السّمومات كلّها وخصوصا اللّدوغ. وأما ما جاء فى وصفه - فقال شاعر يصفه: تاه الربيع بآذريونه وزها ... لمّا بدا منه فى جنح الدّجى أرج الجزء: 11 ¦ الصفحة: 277 كأنّ أغصانه فيروزج «1» بهج ... من فوقه ذهب فى وسطه سبج «2» وقال التّنوخىّ: وآذريون مثل خدّ متيّم ... لأحشائه خوف «3» الفراق وجيب شموس لها من حين تطلع شمسها ... [طلوع] وفى وقت الغروب غروب تفتّح إن لاحت سرورا بضوئها ... كما سرّ بالرأى المصيب مصيب وتنضمّ إن جاء الظلام كأنّه ... رقيب عليها والضياء حبيب وقال ابن وكيع: قم فاسقنى صافية ... تسلب قلبى فكره فى روضة كأنّها ... خريدة فى حبره كأنّ آذريونها ... أسوده وأحمره سحيق مسك مودع ... فى خرق معصفره وقال عبد الله بن المعتزّ: كأنّ آذريونها ... تحت «4» سماء هاميه مداهن من ذهب ... فيها بقايا غاليه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 278 وقال آخر: أظرف بآذريونة أبصرتها ... فى الروض تلمع كاتّقاد الكوكب وكأنّها لمّا تكامل حسنها ... مسك تفتّت فى إناء مذهب وكأنّما تشريفها من فوقها ... حبب يفرّج عن رحيق أكهب «1» وقال السّرىّ الرّفّاء: وروضة آذريون «2» ذرّ بوسطها «3» ... نوافج «4» مسك هيّجت قلب مهتاج تراها عيونا بالنّهار روانيا ... وعند غروب الشمس أزرار ديباج وقال الطّغرائىّ: وكأنّ آذريون روضتنا ... كانون فحم حوله لهب أوجام جزع وسطه سبج ... أو سؤر مسك جامه ذهب وأما الخرّم وما قيل فيه - فالخرّم هو الخزامى «5» ؛ وهو عند المغاربة السّوسن الأزرق. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 279 قال ابن الرّومىّ يصفه: وخرّم فى صبغة الطيالسه ... يحكى الطّواويس غدت مطاوسه «1» كأنّما تلك الفروع المائسه «2» ... تغمسها فى اللّازورد «3» غامسه وقال الشّمشاطىّ يصفه: وخرّم مثل لون اللازورد جرى ... منها «4» على فضّة بيضاء جاريها كأنّهنّ خدود اللّاطمات ضحى ... أو الطّواويس حلّتها خوافيها ما عمّضت لعيون «5» الشمس أعينها ... إلّا على لمع من نورها فيها وقال شاعر أندلسىّ: عاف لون البياض ثوب أخيه «6» ... وتبدّى فى حلّة زرقاء لتراه العيون فى حلّة يحكى ... سنا نورها أديم السماء الجزء: 11 ¦ الصفحة: 280 لو حواها الطاووس أصبح لا شكّ ... مهنّا بملك طير الهواء عزّة فى طباعه وعلوّ ... قد أنافا به على العلياء وأما الشّقيق وما قيل فيه - فالشقيق يسمّى الشّقائق والشّقر. قال أبو الخير العشّاب: فى ألوانه الأبيض والأسود والأحمر والوردىّ والرّمادىّ والأصفر؛ وفيه بستانىّ وبرّىّ؛ فالبستانىّ، هو الخشخاش الأبيض. قال: ومن أنواعه شقائق «1» النّعمان، ومن الشقائق نوع يسمّى الماميثا «2» ، ولونه أصفر فاقع. وقال أبو علىّ بن سينا: هو حارّ فى الثانية، رطب؛ وهو جلّاء محلّل. قال: يسوّد الشّعر اذا خلط بقشر الجوز؛ واذا استعمل ورقه وقضبانه كما هو أو مطبوخا حسّن الشّعر. قال: ويابسه ينفع من القروح الوسخة؛ وعصارته سعوط لتنقية الرأس والدّماغ؛ وأصله يمضغ لجذب الرطوبات من الرأس؛ وعصارته «3» نافعة من ظلمة البصر وبياضه وآثار قروح العين؛ واذا طبخ بالطّلاء وتضمّد به [أبرأ] «4» الجزء: 11 ¦ الصفحة: 281 الأورام الصّلبة؛ واذا طبخ ورقه بقضبانه بحشيش السّعتر «1» وأكل أدرّ اللّبن؛ وهو يدرّ الطّمث «2» ؛ والله أعلم. وأمّا ما جاء فى وصفه - فقال ابن الرّومىّ: تصوغ لنا كفّ الربيع حدائقا ... كعقد عقيق بين سمط لآلى وفيهنّ نوّار الشقائق قد حكى ... خدود غوان نقّطت بغوالى وقال أبو الفتح كشاجم «3» : فرّج القلب «4» غاية التفريح ... ابتهاجى ما بين روض بهيج فكأنّ الشّقيق فيه أكاليل ... عقيق على رءوس زنوج [وقال آخر «5» ] : طرب الشقائق للحمام وقد شجا ... شجو القيان فشقّ فضل ردائه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 282 وتحيّرت ما بين إثمد مأقه ... فى الخدّ دمعته وبين حيائه فكأنّه الحبشىّ يصبغ «1» جسمه ... فثيابه مخضلّة بدمائه [وقال القاضى عياض «2» ] : انظر «3» الى الزّرع وخاماته ... تحكى وقد مالت أمام الرياح كتيبة خضراء مهزومة ... شقائق النعمان فيها جراح [وقال الصّنوبرىّ «4» ] : كم خدود مصونة من شقيق ... لم تبذّل للّثم أو للعضاض اعترض ناظر الشقيق ففيه ... طرف ما يملّها ذو اعتراض جمم «5» سرّحت بلا مشط «6» أو ... طرر قصّصت بلا مقراض حمرة فوق خضرة وسواد ... بين هذين معلم ببياض وقال أيضا فيه: وجوه شقائق تبدو وتخفى ... على قضب تميد بهنّ ضعفا تراها كالعذارى مسبلات ... عليها من عميم «7» النّبت سجفا تنازعت الخدود الحمر حسنا ... فما إن أخطأت منهنّ حرفا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 283 اذا طلعت أرتك السّرج تذكى ... وان غربت أرتك السّرج تطفا تخال اذا هى اعتدلت قواما ... زجاجات ملئن الخمر صرفا يزيد بهنّ روض الحزن حسنا ... اذا ما زهرهنّ بهنّ حفّا وقال أيضا من أبيات: وكأنّ محمرّ الشّقيق ... اذا تصوّب أو تصعّد أعلام ياقوت نشرن ... على رماح من زبرجد [وقال آخر] : شقيقة شقّ على الورد ما ... قد لبست من كثرة الصّبغ كأنّها فى حسنها وجنة ... يلوح فيها طرف «1» الصّدغ وقال الأخيطل الأهوازىّ: هذى الشقائق قد أبصرت حمرتها ... فوق «2» السواد «3» على أعناقها الذّلل كأنّه دمعة قد غسّلت «4» كحلا ... جالت «5» بها وقفة فى وجنتى خجل «6» وقال كشاجم من أبيات: فانظر بعينك أغصان الشقائق فى ... فروعها زهر فى الحسن أمثال الجزء: 11 ¦ الصفحة: 284 من كلّ مشرفة الأوراق ناضرة ... لها على الغصن إيقاد وإشعال حمراء من صبغة البارى بقدرته ... مصقولة لم ينلها قطّ صقّال كأنّما وجنات أربع جمعت ... فكلّ واحدة فى صحنها خال وقال مؤيّد الدّين الطّغرائىّ: وترى شقائقه خلال رياضها ... أوفت مطاردها على أزهارها فكأنّها والريح تصقل خدّها ... والسّحب تملؤها بصوب قطارها أقداح ياقوت لطاف أترعت ... راحا فبات المسك سؤر قرارها وكأنها وجنات غيد أحدقت ... بخدودها حمرا خطوط عذارها وأمّا ما وصف به البهار «1» - فمن ذلك قول الصّنوبرىّ: وروضة لا يزال يبتسم النّوار ... فيها ابتسام مسرور كأنّما أوجه البهار بها ... وقد بدت أوجه الدنانير وقال أحمد بن برد الأندلسىّ: تأمّل فقد شقّ البهار مقلّصا «2» ... كمائمه عن نوره الخضل النّدى مداهن تبر فى أنامل فضّة ... على أذرع مخروطة من زبرجد الجزء: 11 ¦ الصفحة: 285 وقال ابن درّاج «1» القسطلّىّ «2» من أبيات: بهار يروق بمسك ذكى ... وصبغ بديع وخلق عجب غصون الزبرجد قد أورقت ... لنا فضّة موّهت بالذهب [وقال آخر] : بهر البهار عيوننا فقلوبنا ... مسحورة بجماله السّحّار كسواعد من سندس وأكفّها ... من فضّة حملت كئوس نضار وأمّا الأقحوان «3» وما قيل فيه - فقال أبو الخير العشّاب: الأقحوان هو البابونج؛ وهو نوعان: نوع ينبت فى الجبال الباردة جدّا، ونوع يزرع فى البساتين؛ فما كان جبليا فهو البابونج، وما كان مزروعا فهو أقحوان؛ ومنه ما زهره أصفر كلّه؛ ومنه ما زهره أبيض، وفى وسطه لمعة صفراء؛ ومنه الحوذان «4» ، وورقه يشبه ورق الخيرىّ «5» الأصفر؛ وهو مشرّف تشريف المنشار، ويعرف برأس الذّهب؛ ويسمّى بمصر: الكركاش؛ وأهل مصر يعتنون بأمره فى وقت نزول الشمس برج الحمل، ويحتفلون به، فيخرج كثير من عوامّهم وبعض الجند وغيرهم الى البرّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 286 ويقطعونه فى الساعة التى تحلّ الشمس فيها الحمل «1» بمناخل من الذهب يصوغونها برسمه، أو بدنانير؛ ومنهم من يتكلّم بكلام شبه الرّقية، لا ينطق بغيره ما دام يحصده، ويجمعون ما يقطعونه من ذلك بالذهب، ويدّخرونه فى صناديقهم، ويزعمون أنّ من قطعه على وضعه «2» ملك فى تلك السنة بعدد ما يقطعه منه دنانير إن قطعه بالذهب، ودراهم إن قطعه بالفضّة. وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: طبع الأقحوان حارّ فى الثالثة، يابس فى الثانية. قال: وهو مسخّن منضج، مفتّح للسّدد، وفى الأحمر منه قبض ومنع لأنواع السّيلان، مع ما فيه من التحليل؛ وهو يدرّ العرق، وكذلك دهنه مسوحا؛ ويفتّح أفواه العروق، محلّل، ملطّف للأورام والبثور، محلّل للورم الحارّ فى المعدة والدم الجامد فيها؛ وينفع جميع الأورام الباردة؛ وينفع من النّواصير؛ ويقشّر الخشكريشات «3» والقروح النّضيجة «4» ؛ وينفع من جراحات العصب، ومن التواء العصب اذا بلّت صوفة بطبيخه ووضعت عليه؛ وهو مسبت؛ واذا شمّ رطبه نوّم؛ ودهنه نافع من أوجاع الأذن؛ وهو ينفع من الرّبو اذا شرب يابسه «5» كما يشرب الإفتيمون «6» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 287 قال: وهو ردىء لفم المعدة، إلا أنّه يحلّل يابسا «1» ، ويجفّف ما يتحلّب «2» اليها؛ ويحلّل الدم الجامد فيها. قال: وهو يدرّ بقوّة، ويحلّل الدم الجامد فى المثانة بماء العسل، ويفتّت الحصاة، واذا شرب مع زهره وفقّاحه فى الشّراب أدرّ الطّمث، وكذلك احتمال دهنه فانّه يدرّ بقوّة، واحتمال دهنه يحلّل صلابة الرّحم، ويفتّح الرّحم؛ ويشرب يابسا بالسّكنجبين كما يشرب الإفتيمون فيسهل سوداء وبلغما؛ وينفع من أورام الجزء: 11 ¦ الصفحة: 288 المقعدة الحارّة؛ ويفتّح البواسير هو ودهنه؛ وينفع من ادرة «1» الماء بعد أن تشقّ؛ وينفع من القولنج «2» ووجع المثانة، وصلابة الطّحال، هذه منافعه الطّبيّة. وأمّا ما وصفه «3» به الشعراء - فقد أكثر الشعراء من تشبيهه بالثغور وتشبيه الثغور به، وتشبيه الثغور به أكثر فى أشعارهم من تشبيهه بالثغور؛ وقد أجاد ظافر الحدّاد الإسكندرىّ فى وصفه حيث قال: والأقحوانة تحكى ثغر غانية ... تبسّمت عنه من عجب ومن عجب فى القدّ والبرد والرّيق الشهىّ وطيب ... الرّيح واللّون والتفليج والشّنب كشمسة «4» من لجين فى زبرجدة ... قد شرّفت حول مسمار من الذهب [وقال آخر] : والأقحوانة تجلى «5» وهى ضاحكة ... عن واضح غير ذى ظلم ولا شنب كأنّها شمسة من فضّة حرست ... خوف الوقوع بمسمار من الذهب وهذا والذى قبله من بديع التشبيه؛ وهو أجود من تشبيهها بالثغور وأصنع فإنّها لا تشبّه بالثغر حقيقة إلّا من وجه واحد، وهذا قد شبّهها ووصفها بجميع صفاتها وهيئتها. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 289 وقال ابن عبّاد: ومن لؤلؤ فى الأقحوان منظّم ... على ذكت مصفرّة كالفرائد يذكّرنا ريّا الأحبّة كلّما ... تنفّس فى جنح من الليل بارد وقال آخر: كلّ يوم بأقحوان جديد ... تضحك الأرض من بكاء السماء وسطها جمّة من الشّذر حفّت ... بثغور من فضّة بيضاء وقال جمال الدين علىّ بن أبى منصور «1» المصرىّ: انظر فقد أبدى الأقاح «2» مباسما ... ضحكت بدرّ فى قدود زبرجد كفصوص درّ لطّفت أجرامها ... قد نظّمت من حول «3» شمسة عسجد [وقال آخر] : ظفرت يدى للأقحوان بزهرة ... باهت بها فى الرّوضة الأزهار أبدت ذراع زبرجد وأناملا ... من فضّة فى كفّها دينار [وقال آخر] : كأنّ نور الأقاحى ... إذ لاح غبّ القطر أنامل من لجين ... أكفّها من تبر الجزء: 11 ¦ الصفحة: 290 [وقال آخر] : لدى أقحوانات يطفن بناضر ... من الورد محمّر الثياب نضيد اذا الريح هزّتها توهّمت أنها ... ثغور هوت قصدا لعضّ خدود الباب الثالث من القسم الرابع من الفنّ الرابع «1» فى الصّموغ ويشتمل هذا الباب من الصّموغ على ثمانية وعشرين صنفا. وهى الكافور والكهربا، وعلك الأنباط، وعلك الرّوم- وهو المصطكا- وعلك البطم وصمغ الينبوت «2» ، وصمغ قوفىّ «3» ، والكثيراء، والكندر، والفربيون، والصّبر، والمرّ والكمكام «4» ، والضّجاج، والأشّق، وتراب القىء، والقنّة، والحلتيت، والأنزروت والسّكبينج، والسادوران «5» ، ودم الأخوين، والميعة، وصمغ قبعرين «6» ، والمقل الأزرق والصّمغ العربىّ، والقطران، والزّفت. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 291 فأما الكافور «1» وما قيل فيه - فهو أشرف الصّموغ قدرا، وأحقّها بالتقديم وأحرى؛ لفضله فى التركيب، ودخوله فى أصناف الأدوية والطّيب؛ ويقال فيه: (القافور) بالقاف بدل الكاف؛ ويقال: إنّه صمغ شجرة سفحيّة بحريّة «2» عظيمة تظلّ مائة رجل، تكون بأطراف الهند. وتزعم التّجار أنّه يوجد فى الشجرة الواحدة أصناف من الكافور، فيميّزون كلّ صنف على حدته؛ وله مظانّ: منها (فنصور) «3» وهى جزيرة محيطها سبعمائة فرسخ، وتعرف أرضها بأرض الذهب؛ والكافور المنسوب اليها أفضل ممّا عداه، ومن مظانّه موضع يعرف بأربشير «4» ، ومنها الزّابج «5» ؛ والمنسوب اليها أدنى أصنافه. قالوا: وكيفيّة جمعه أن تقصد شجرته فى وقت معلوم من السنة فتحفر حولها حفرة، ويجعل فى الحفرة إناء كبير، ثم يقبل الرّجل وبيده فأس عظيمة، وهو ملثّم، مسدود الأنف، ويمكّن الإناء من أصل الشجرة، ثمّ يضربها الجزء: 11 ¦ الصفحة: 292 بالفأس ضربة، ويطرح الفأس من يده، ويهرب خشية أن يفور فى وجهه ما يخرج من الشجرة من الكافور، فانّه متى أصاب وجهه قتله، ويجمع ما يخرج من الشجرة عقيب تلك الضربة فى ذلك الإناء الموضوع فى أصلها، فاذا برد فى الإناء جعلوه فى أوعية وقطعوا تلك الشجرة، وتركوها حتى تجفّ، ثم تقطع أجزاء صغارا أو كبارا. وذهب آخرون الى أنّه بين اللّحاء والعود مثل الصّمغ قطعا صغارا وكبارا. وقال آخرون: بل يشقّون الخشب فيجدون الكافور فى قلب العود منظّما مثل الملح، فيقلعونه منه، وهذا هو الأصحّ عندهم. وقد زعم آخرون أنّ الكافور يلتقط من شجر فى غياض ملتفّة فى سفوح جبال، وبين تلك الغياض والبحر مسيرة أيّام وأنّ الببور «1» تألف تلك الغياض، ولا يصل أحد إلى التقاطه خوفا منها إلّا فى وقت معلوم من السنة، وهو زمن هياج هذا الحيوان، لأنّه اذا هاج مرض، فتخرج إناثه وذكوره الى البحر فتستشفى بمائه نحوا من شهر، فيلتقط فى ذلك الوقت. قالوا: ولولا ذلك لكان الكافور كثيرا جدا. والكافور أصناف: أفضلها الرّباحىّ «2» ، وأجود الرّباحىّ الفنصورىّ «3» . قالوا: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 293 ولا يوجد هذا الصّنف إلّا فى رءوس الشجر وفروعها، ولونه أحمر ملمّع، ثم يصعّد هناك فيكون منه الكافور الأبيض، وإنّما سمّى الكافور رباحيّا، لأن أوّل من وقع عليه ملك يقال له: (رباح) ، فنسب اليه؛ ومن الرّباحىّ صنف يسمّى المهنشان «1» وهو حبّ أبيض برّاق، ناعم الفرك، ذكىّ الرائحة؛ ومنه صنف يعرف بالبرتك «2» ناعم الفرك، ذكىّ الرائحة، وليس له صفاء المهنشان، وبعده صنف يعرف بالسّرحان «3» وهو أكبر حبّا من المهنشان، إلّا أنّه كثير الخشب، ولونه يضرب الى السواد ناعم الفرك، ومنه صنف يسمّى موطيان «4» ، ناعم الفرك، يضرب الى الحمرة، ومنه صنف يسمّى المهاى لبصيصه، وهو حبّ أحمر الظاهر أبيض فى الفرك، جافّ الجوهر، ومنه صنف يعرف بالرقرق «5» ، وصنف يعرف بالإسفرك «6» ، وهو غثاء الكافور، وبعده صنف يسمّى الكندج «7» ، يشبه لونه نشارة الساج «8» ، إلّا أن فيه لينا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 294 ودهانة، وفى حبّه كبر، اذا كسر وجد داخله أسود، فاذا فرك وجد أبيض، وكلّ هذه الأصناف لا تدخل إلّا فى الأدوية، إلّا الرّباحىّ المجلوب من أرض (فنصور) فانّه لا ينبغى أن يستعمل إلّا فى الطّيب لجودته وحسنه، وقد ذكر محمد بن أحمد ابن سعيد التّميمىّ المقدسىّ فى كتابه المترجم (بجيب العروس) من الكافور أصنافا كثيرة، منها الذى أوردناه. وقال أبو علىّ بن سينا: طبع الكافور بارد يابس فى الثالثة، واستعماله يسرع الشّيب، ويمنع الأورام الحارّة، واذا خلط بالخلّ أو مع عصير البسر أو مع ماء الآس «1» أو ماء الباذروج «2» منع الرّعاف؛ و [نفع] الصّداع [الحارّ «3» ] ؛ وهو يقوّى حواسّ المحرور؛ وهو يقطع الباه، ويولّد حصى الكلية والمثانة. وأمّا الكهربا وما قيل فيه - فالكهربا يسمّى مصباح الرّوم. وقال عبد الله بن البيطار فى مفرداته: من زعم أنّ الكهربا صمغ الحور الرّومىّ فليس قوله بصحيح. والكهربا صنفان: منها ما يجلب من بلاد الرّوم والمشرق؛ ومنها ما يوجد بالأندلس فى غربيّها عند سواحل البحر تحت الأرض، ويوجد فى واحات مصر. ويقال: إنّه رطوبة تقطر من الدّوم من ورقه، شبيهة بالعسل، يكون الجزء: 11 ¦ الصفحة: 295 منها الكهربا، وقد يوجد فى داخلها الذّباب والتّين والحجارة. وأمّا من زعم أنّه صمغ الحور «1» الرّومىّ المعروف بالتّوز «2» ، فيقول: إنّ صمغته ذهبية، تسيل فى النّهر الّذى يسمّى أمريدانوس «3» ، فتجمد فيه، فيكون منه الكهربا؛ ولهذا الشجر ثمرة تسمّى السّدد «4» والكهربا يجذب التّبن الى نفسه، ولذلك يسمّى كاه «5» ربا، أى سالب التّبن؛ وأجوده الشّمعىّ اللّون. وقال ابن سينا: طبع الكهربا حارّ قليلا، يابس فى الثالثة «6» ؛ وهو قابض وخصوصا للدّم من أىّ موضع كان. قال، وقال بعضهم: إنّه يعلّق على الأورام الجزء: 11 ¦ الصفحة: 296 الحارّة فينفع منها؛ وهو يحبس الرّعاف؛ واذا شرب منه نصف مثقال بماء بارد نفع من الخفقان؛ ويمنع من نفث الدّم [جدّا «1» ؛ وهو يحبس القىء؛ ويمنع الموادّ الرديئة عن المعدة؛ ومع المصطكا يقوّى المعدة] وهو يحبس نزف الرّحم والمقعدة، وينفع من الزّحير. وأمّا علك الأنباط - فهو صمغ شجرة الفستق، يستخرج منها كسائر الصّموغ، وذلك أنّهم يعقرون الشجرة فى مواضع كثيرة، فيسيل من تلك العقور فيجمع ويجفّف فى الشمس، ولونه أبيض كمد، وفى طعمه شىء من مرارة. وأمّا علك الرّوم - فهو المصطكا- ويسمّى مصطيجا «2» - وأجوده ما كان له بريق، وكان أحمر مشربا، وأبيض، والأصفر دونهما. وقال أبو علىّ بن سينا فيه: الطبع حارّ يابس فى الثالثة «3» ؛ وهو قابض محلّل؛ ودهن شجرته ينفع من الجرب، حتّى جرب المواشى والكلاب؛ ويصبّ طبيخ ورقه وعصارته على القروح فتنبت اللّحم، وكذلك على العظام المكسورة فتجبر؛ ومضغه يحلب البلغم من الرأس وينقّيه، وكذلك المضمضة به تشدّ اللّثة؛ وهو يقوّى المعدة والكبد، ويفتق الشهوة، ويطّيب المعدة، ويحرّك الجشاء، ويذيب البلغم؛ وينفع والكبد، ويفتق الشهوة، ويطيّب المعدة، ويحرّك الجشاء، ويذيب البلغم؛ وينفع من أورام المعدة والكبد فى الوقت؛ ويقوّى الكبد والأمعاء وينفع من أورامهما؛ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 297 وطبيخ أصله وقشره ينفع من دوسنطاريا «1» والسّحج «2» ، وكذلك نفس ورقه؛ وينفع من نزف الدّم من الرّحم وجميع أوجاع الأرحام وسيلان رطوباتها الرّديئة، ومن نتوء الرّحم والمقعدة، وكذلك دهن شجرته. قال: ويدرّ «3» . وأمّا علك البطم - فهو صمغ شجرة الحبّة الخضراء «4» . ويؤتى به من بلاد المغرب وبلاد فلسطين وسورية وما جاورها. وقال ابن البيطار «5» : العلك أنواع: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 298 أفضلها علك الرّوم، وبعده علك البطم، وبعده صمغ الينبوت «1» ، وهو صمغ شجر قضم قريش، وهو الصّنوبر الصّغير، وبعده صمغ القوفىّ، وهو الأرز. وقالوا: الينبوت هو الخرنوب النّبطىّ. وأمّا الكثيراء - فقال أبو حنيفة الدّينورىّ: الكثيراء ممدود؛ هكذا نطقت به العرب، وهو صمغ القتاد. وهى شجرة «2» شوكة تكون بأرض خراسان؛ وهى أيضا توجد فى الجبال المطلّة على طرابلس الشأم، ورأيتها أنا تنبت بجبل «3» الثّلج، وهى جمم، لا ترتفع عن الأرض أكثر من نصف ذراع، يكون فيها الكثيراء. وقال ابن سينا: طبع الكثيراء بارد الى يبس؛ وفيه تجفيف. وأمّا الكندر - فهو اللّبان «4» . والكندر كلمة فارسيّة. وهو لا يكون إلّا بالشّحر «5» من اليمن؛ وشجرته لا ترتفع أكثر من ذراعين، ومنابتها الجبال، وورقها مثل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 299 ورق الآس، وثمرتها مثل ثمرته، لها مرارة فى الفم؛ وعلكها يظهر فى أماكن تقصّ «1» بالفئوس. وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: أجود الكندر الأبيض «2» المدحرج؛ الدّبقىّ» الباطن، الذهبىّ المكسر؛ وطبعه حارّ فى الثانية، مجفّف فى الأولى؛ وقشره مجفّف فى حدود الثالثة. قال: وهو حابس للدّم؛ والاستكثار منه يحرق الدّم؛ ودخانه أشدّ تجفيفا وقبضا؛ وإذا خلط الكندر فى العسل ووضع على الدّاحس «4» أذهبه، وقشوره جيّدة لآثار القروح؛ وينفع بالخلّ والزّيت لطوخا من الوجع المسمّى مرميقيا «5» ، وهو وجع يعرض منه «6» فى البدن كالثّآليل «7» ، مع شىء كدبيب النمل؛ واذا خلط بالخلّ والزّفت ولطخ به فى ابتداء حدوث الثّآليل الّتى تسمّى النملة «8» ازالها، ويدخل فى الضّمادات المحلّلة لأورام الأحشاء؛ وهو مدمل «9» جدّا، وخصوصا للجراحات الطريّة، ويمنع الخبيثة «10» الجزء: 11 ¦ الصفحة: 300 من الانتشار، ويصلح للقروح الكائنة من الحرق، ويقطع نزف الدم الرّعافىّ اذا خلط بزفت أو زيت أو بلبن، ويدمل قروح العين، وينضج الورم المزمن فيها؛ ودخانه ينفع من الورم الحارّ؛ ويقطع سيلان رطوبات العين؛ ويدمل القروح الرديئة؛ وينفع من السّرطان فى العين؛ وإذا خلط بقيموليا «1» ودهن الورد نفع الأورام الحارّة الّتى تعرض فى ثدى النّفساء «2» ؛ ويدخل فى أدوية قصبة الرّئة؛ وهو يحبس القىء، وينفع الهضم، ويحبس نزف الدّم من الرّحم والمقعدة؛ وينفع من دوسنطاريا «3» ؛ ويمنع من انتشار القروح الخبيثة «4» اذا اتّخذت منه فتيلة؛ وينفع من الحميّات البلغميّة. وأمّا الفربيون «5» - ويسمّى اللّبانة المغربيّة- فشجرته تشبه شجرة القنا «6» الجزء: 11 ¦ الصفحة: 301 فى شكلها؛ وصمغها مفرط فى الحدّة، يحذره من يستخرجه لإفراط حدّته، فيعمدون إلى كروش «1» الغنم فيغسلونها ويشدّونها على ساق الشجرة، ثم يطعنونها بعد ذلك بمزاريق، فينصبّ منها فى الكرش صمغ كثير، كأنّه ينصبّ من إناء؛ ويخرج من شجره صنفان: منه ما هو صاف يشبه الأنزروت «2» ؛ ومنه ما يشبه السكّر؛ وأكثر ما يوجد شجره ببلاد البربر، خصوصا بجبل درن «3» ، وهو عساليج عريضة كالألواح، مثل عساليج الخسّ، بيض، لها شعب، وهى مملوءة لبنا، ولا ينبت حول شجره نبات آخر. ومنه صنف آخر ينبت ببلاد السّودان، وشجرته شوكة كثيرة الأغصان، تنبسط على الأرض. ويقال إن ببلاد إفريقية شجرة صمغها الفربيون، وإن الصّمغ يسيل منها فيجمد؛ وبعض أهل البلد يشرط الشجرة، ويعلّق على موضع الشّرط ما تسيل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 302 فيه تلك الرطوبة، ولا يمسّون الشجرة بأيديهم، ولا تلك الرطوبة، لأنها سم قاتل مشيط، يحرق كلّ ما لامسه أو باشره من أبدان الناس. وقال الشيخ الرئيس: إنّ قوّة الفربيون تتغيّر بعد ثلاث أو أربع سنين؛ والعتيق منه يضرب الى الشّقرة والصّفرة؛ ولا يداف فى الزّيت إلّا بصعوبة؛ والحديث خلاف ذلك. قال بعضهم: إنه اذا جعل فى إناء مع الباقلّى المقشّر انحفظت قوّته. قال: وجيّده الحديث الصافى الأصفر الى الشّقرة، الحادّ الرائحة، الشديد الحرافة؛ وغير هذا فهو مغشوش بالعنزروت «1» والصّمغ «2» ؛ وهو جال، وله قوّة لطيفة محرقة جلّاءة؛ والحديث منه أشدّ إسخانا من الحلتيت «3» ، على أنه لا صمغ كالحلتيت فى إسخانه؛ ويخلط ببعض الأشربة المعمولة بالأفاويه فينفع من عرق النّسا؛ ويمرخ به الفالج والخدر فينفع جدّا؛ واذا اكتحل به كان جاليا، ولكن يدوم لذعه النّهار كلّه، فلذلك يخلط بالعسل. قال: وينفع من برد الكلى؛ وينفع أصحاب القولنج؛ والشّربة منه مع بعض البزور وماء العسل ثلاثة أو بولوسات «4» . وقال بعضهم: إنّه يضمّ فم الرّحم ضمّا شديدا حتّى يمنع الأدوية المسقطة أن تسقط الجنين؛ ويسهل البلغم اللّزج الناشب فى الوركين والظهر والامعاء فيما قالوا. قال، وقال بعضهم: إنّ من نهشه شىء من الهوامّ فشقّ جلد رأسه وما يليه حتّى يظهر القحف، ويجعل فيه من هذا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 303 الصّمغ مسحوقا، ثمّ يخيطه، لم يصبه مكروه. قال: وثلاثة دراهم منه تقتل فى ثلاثة أيّام تقريحا للمعدة والمعى. وأمّا الصّبر - فهو من الصّموغ؛ وصفة شجرته فيما قيل: أن ورقها يشبه ورق الإسقيل «1» ، عليه رطوبة تلصق باليد، وفى حرفى كلّ ورقة شبه الشّكوك، قصير متفرّق، وعرقها واحد؛ وهذه الشجرة تنبت ببلاد الهند كثيرا، وفى بلاد المغرب «2» . ويقال: إنّها ثلاثة أصناف: الأسقطرىّ، والعربىّ، والسّمنجانىّ «3» ؛ ويقال أيضا: إن نباته كنبات الراسن «4» الأخضر، غير أنّ ورق الصّبر أطول وأعرض وأغلظ، وهو الجزء: 11 ¦ الصفحة: 304 كثير الماء جدّا؛ ويلقى فى المعاصر، ثم يدقّ بالخشب، ويداس بالأقدام حتّى يسيل عصيره، ويترك حتّى يثخن، ثم يجعل فى الجرب «1» ، ويشمّس حتّى يجفّ؛ وأجوده الأسقطرىّ، وأسقطرى جزيرة قريبة من ساحل اليمن. وقال إسحاق ابن عمران: الصّبر ثلاثة أصناف، فمنه الأحمر الأسقطرىّ، ومنه الأسود الفارسىّ ومنه الأحمر الملمّع بصفرة، ويؤتى به من اليمن. وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: أجود الصّبر الأسقطرىّ؛ وماؤه كماء الزّعفران، ورائحته كالمرّ، بصّاص «2» ، منفرك؛ نقىّ من الحصى؛ والعربىّ دونه فى الصّفرة والرزانة والبصيص؛ والسّمنجانىّ ردىء، منتن الرائحة، قليل الصّفرة، لا بصيص له؛ واذا عتق الصّبر اسودّ. قال: وطبعه حارّ فى «3» الثانية يابس فيها، وقيل: حارّ يابس فى الثالثة، وليس كذلك. وقوّته قابضة مجفّفة منوّمة؛ والهندىّ كثير المنافع؛ مجفّف بلا لذع؛ وفيه قبض يسير؛ وهو بالعسل يدمل الدّاحس «4» المتقرّح؛ وبالشراب إذا جعل على الشّعر المتساقط منع تساقطه؛ وهو ينفع أورام الدّبر والمذاكير، وخاصّة أورام العضل الّتى على جانبى اللّسان اذا كان بالشّراب أو العسل؛ وهو صالح للقروح العسرة الاندمال، وخصوصا فى الدّبر والمذاكير والأنف والفم؛ وينفع من أوجاع المفاصل، وينقّى الفضول الصّفراويّة الّتى فى الرأس؛ واذا طلى به على الجبهة والأصداغ «5» الجزء: 11 ¦ الصفحة: 305 نفع من الصّداع، وهو من الأدوية النافعة من مرض «1» الأذن. قال: وفى الطّبّ القديم أنّ الصّبر يسهل السوداء، وينفع من الماليخوليا «2» ؛ والصّبر الفارسىّ يذكىّ العقل، ويحدّ الفؤاد. قال: والصّبر ينفع من قروح العين وجربها وأوجاعها ومن حكّة المآقى، ويجفّف رطوبتها؛ وينقّى الفضول الصّفراويّة والبلغميّة التى فى المعدة اذا شرب منه ملعقتان بماء بارد أو فاتر؛ ويصلح الحرقة والالتهاب الكائنين فى اللهاة، وربّما نفع أوجاع المعدة فى يوم واحد؛ ويفتّح سدد الكبد؛ لكنّه يضرّ بالكبد، وهو يزيل اليرقان بإسهاله. قال: ودرخمى ونصف منه بماء حارّ يسهل، وثلاث درخميات «3» تنقّى تنقية كاملة؛ والمعتدل درخميان بماء العسل يسهل بلغما وصفراء؛ وهو أصلح مسهل للمعدة؛ والمعسول «4» أضعف إسهالا لكنّه أنفع للمعدة؛ وخلطه بالعسل ينقص قوّته حتّى يكاد لا يسهل. قال: وإذا شرب العربىّ منه كرب وأمغص وأسهل، ونقبت «5» قوّته إلى صفاقات المعدة إلى يوم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 306 أو يومين، وسقى الصّبر أيّام البرد خطر؛ وربّما أسهل دما؛ وقد يجعل بالشراب الحلو على البواسير النابتة وشقاق المقعدة، ويقطع الدم السائل منها. قال: وبدله مثلاه حضض «1» . وأمّا المرّ - فهو صمغ شجرة تكون ببلاد المغرب شبيهة بالشجرة الّتى تسمّى باليونانية: الشوكة المصريّة، تشرط فتخرج منها هذه الصّمغة، فتسيل على حصر وبوارىّ قد أعدّت لذلك؛ ومنه ما يوجد على ساق الشّجرة. وقال أبو علىّ بن سينا: أجود المرّ ما هو الى البياض والحمرة، غير مختلط بخشب شجرته، طيّب الرائحة، وطبعه: حارّ يابس فى الثانية؛ وهو مفتّح محلّل للرّياح؛ وفيه قبض وإلزاق وتليين؛ ودخانه يصلح لما يصلح هو «2» ، ولكنّه أشدّ تجفيفا؛ وهو يمنع التعفّن، حتى إنّه يمسك الميت ويحفظه من التغيّر والنّتن، ويجفّف الفضول؛ واذا خلط بدهن الآس واللّاذن أعان على تقوية الشّعر وتكثيفه، ويجلو آثار القروح ويطيّب نكهة الفم اذا أمسك فيه؛ ويزيل البخر، ويلطخ بالشراب والشّبّ على الآباط فيزيل صنانها، ويلطخ بالعسل والسّليخة «3» على الثّآليل، وهو نافع من الأورام الجزء: 11 ¦ الصفحة: 307 البلغميّة، ويدمل الجروح والقروح، ويكسو العظام العارية، ويستعمل بالخلّ على القوابى «1» ، ويبرئ الجراحات المتعفّنة؛ ورائحته مصدّعة للرأس «2» ؛ واذا تمضمض به بشراب وزيت شدّ الأسنان جدّا وقوّاها، ومنع من تأكّلها؛ ويشدّ اللّثة، ويذهب رطوبتها؛ ويجفّف قروح الرأس؛ ويلطخ به المنخران للنوازل المزمنة فيحبسها؛ وقد يسعط بوزن «3» دانق منه فينقّى الدّماغ؛ وهو يجلو آثار القروح فى العين، ويجلو البياض، وينفع من خشونة الأجفان، ويحلّل المدّة فى العين بغير لذع، وربّما حلّل الماء فى ابتداء نزوله إذا كان رقيقا؛ وهو جيّد للسّعال المزمن الرّطب، ومن الرّبو «4» الجزء: 11 ¦ الصفحة: 308 وأوجاع الجنب، ويصفّى الصوت، ويجعل تحت اللّسان ويبلع ماؤه لخشونة الحلق؛ وينفع من استرخاء المعدة والنفخة فيها؛ ويدرّ الحيض، وخصوصا الاحتقان به بماء السّذاب أو ماء الأفسنتين «1» أو ماء التّرمس؛ ويخرج الأجنّة والدّيدان؛ ويليّن انضمام فم الرّحم؛ ويسقى بالشراب للسع العقرب. وأمّا الكمكام - فهو صمغ شجرة الضّرو؛ ويقال: إنّه ورقها؛ وقيل: لحاؤها «2» ؛ وهو يسيل لزجا أسود مثل القار، وشجرته تشبه شجرة البطم «3» . وقيل: إنها تشبه شجرة البلّوط العظيمة، إلّا أنّها ألين وأنعم، وتثمر عناقيد مثل عناقيد البطم إلّا أنّها أكبر. وأمّا الضّجاج - فقال أبو حنيفة الدّينورىّ: [الضّجاج «4» ] ، مثل شجر اللّبان «5» يكون فى جبل يقال له: (قهوان) من أرض عمان، وهو صمغ أبيض تغسل به الثياب فينقّيها مثل الصّابون؛ ولهذه الشجرة حبّ مثل الآس، أسود، يلذع اللّسان. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 309 وأمّا الأشّق «1» - ويقال فيه وشّق وأشّج- ولصاق «2» الذهب، والكلخ، وهو صمغ «3» الطّرثوث، وهو نبات ينبت تحت أصول الحمّيض «4» ؛ وهو صنفان: حلو يؤكل ولونه أحمر؛ ومرّ، ولونه أبيض. وقال الخليل: هو نبات مستطيل دقيق يضرب إلى حمرة. وقيل: انّه صمغ نبات يشبه القنا «5» فى شوكه «6» ، ينبت فى بلاد نينوى «7» على ما زعم ديسقوريدوس. وقال أبو علىّ بن سينا: هو حارّ فى آخر الثانية، يابس فى الأولى، وتجفيفه وتحليله قوىّ «8» ؛ وفيه تليين وجذب للأورام «9» والفضول؛ واذا طلى به الجزء: 11 ¦ الصفحة: 310 أو ضمد نفع من الخنازير «1» والصّلابات والسّلع؛ وهو نافع للجراحات الرديئة، يأكل اللحم الخبيث، وينبت الجيّد؛ واذا سقى بالعسل أو بماء الشعير نفع أوجاع المفاصل؛ واذا ضمد به بالعسل والزفت حلّل تحجّر المفاصل؛ وهو يليّن خشونة الأجفان والجرب، ويجلو البياض، وينفع رطوبات العين؛ وينفع من الرّبو وعسر النّفس اذا لعق بعسل أو بماء الشّعير؛ وينفع من الخوانق التى من البلغم والمرّة السّوداء؛ وإذا طلى به نفع من الاستسقاء؛ وهو يدرّ البول حتّى يبول الدم، ويقتل الدّود «2» ويخرج الجنين حيّا أو ميتا؛ وإذا لطخ به الأنثيان بخلّ «3» [ليّن] صلابتهما. وأمّا تراب القىء - ويسمّى الكنكرزد «4» - فهو صمغ الحرشف «5» والحرشف يسمّى خسّ الكلب؛ وهو ينبت على شطوط الأنهار وسواقى المياه وعليه شوك متفشّج «6» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 311 وأمّا القنّة - فهو بالفارسيّة البارزد «1» ، وشجره صنفان: صنف زبدىّ ضعيف الورق «2» أبيض؛ والآخر كثيف ثقيل؛ وهو ثلاثة أنواع برّىّ وعربىّ، وجبلىّ وأجوده العسلىّ الصافى اللون. وقال ديسقور يدوس هو صمغ نبات يشبه القنا فى شكله ينبت فى بلاد سورية؛ وأجوده ما كان شبيها بالكندر، وكان متقطّعا، نقيّا يدبق باليد؛ وهو يغشّ بالأشّق «3» ودقيق الباقلاء. وقال أبو علىّ بن سينا: طبعه حارّ فى الثانية، مجفّف فى الثالثة؛ وقوّته مليّنة محلّلة؛ وهو مما يفسد اللحم، وفيه تسخين وإلهاب وجذب؛ وهو يقلع العدسيّات، وينفع من الخنازير «4» ويطلى به على القروح اللّبنيّة «5» بالخلّ، وينفع من تشنّج العضل، ومن الصّداع؛ واذا شمّه المصروع انتعش؛ وينفع من وجع الضّرس والسّنّ المتأكّلة فى الحال؛ وينفع من الأوجاع الباردة فى الأذن، ويحلّل أورامها وأوجاعها بغير أذى اذا حلّ فى دهن السّوسن وفتّر وقطر؛ وينفع من الرّبو والسّعال المزمن؛ ويدرّ الطّمث بقوّة؛ ويسقط الأجنّة، وينفع من اختناق الرّحم سقيا بالشراب؛ ويزيل عسر البول؛ وهو ترياق للسّمّ الّذى تسقاه السّهام اذا سقى بشراب، ولسموم الحيّات والعقارب؛ ودخانه يطرد الهوامّ؛ وبدله السّكبينج «6» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 312 وأمّا الحلتيت - فهو صمغ شجرة الأنجذان «1» ، وهو نوعان: أحدهما أبيض وهو المأكول؛ والآخر أسود، منتن الرائحة. وقال أبو حنيفة الدّينورىّ: نباته الرّمل الذى بين بست «2» وبلاد القيقان «3» ، والحلتيت صمغ يخرج من أصل ورقه بان يشرط أصله وساقه. وقال أبو على بن سينا: طبعه حارّ فى أوّل الرابعة، يابس فى الثانية؛ وهو يكثر الرّياح ويطردها بتحليله، وهو مع ذلك نفّاخ مقطّع، ويحلّل الدم الجامد فى الجوف، وينفع من داء الثعلب «4» لطوخا بالخلّ والفلفل؛ واذا استعمل فى المأكولات حسّن اللّون، ويقلع الثّآليل «5» المسماريّة، واذا جعل على الأورام الخبيثة نفعها؛ واذا شرب بماء الرّمّان نفع من شدخ العضل؛ وينفع من أوجاع الجزء: 11 ¦ الصفحة: 313 العصب مثل التمدّد والفالج بأن يؤخذ منه، [أوبولوس «1» ] ويخلط بالشّمع، ويبلع أو يشرب بالشراب مع فلفل وسذاب؛ واذا تغرغر به قلع العلق من الحلق وهو جيّد لابتداء الماء فى العين كحلا بعسل؛ واذا أديف «2» فى الماء وتجرّع صفّى الصوت، ونفع من خشونة الحلق المزمنة؛ وان تحسّى بالبيض نفع من السّعال المزمن والشّوصة «3» الباردة، وإن استعمل بالتّين اليابس نفع من اليرقان؛ وهو ممّا يضرّ بالمعدة والكبد؛ وينفع من البواسير؛ ويقوّى الباه، ويدرّ البول؛ وينفع من المغص، ومن قروح الأمعاء، ومن حمّى الرّبع «4» ، واذا جعل على عضّة الكلب الكلب والهوامّ خصوصا العقرب والرّتيلاء «5» فإنه ينفع من جميع ذلك شربا وطلاء بالزيت؛ ويدفع ضرر السّهام المسمومة: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 314 وأمّا الأنزروت فهو صمغ شجرة شائكة، وفيه مرارة، ومنه أبيض وأحمر، ويكون بجبال فارس؛ وأجوده الشبيه باللّبان. وقال ابن سينا: قال بعضهم: هو حارّ فى الثانية «1» ، يابس فى الأولى؛ وهو يسكّن الأورام كلّها ضمادا، ويأكل اللّحم المّيت؛ وينفع من الرّمد والرّمص؛ وهو يسهل البلغم الغليظ. وأما السّكبينج «2» - فقال ديسقور يدوس: هو صمغ نبات يشبه القنا فى شكله، ينبت فى البلاد التى يقال لها: (ماه «3» ) ويسمّيه اليونان: (سكافتيون «4» ) . وقال ابن سينا: هو صمغ شجرة لا منفعة فيها، بل فى صمغها. قال: وأجود نوعيه الأكثف الأصفى، الّذى يضرب داخله الى الحمرة، وخارجه الى البياض، وينحلّ فى الماء سريعا؛ وخيره الأصفهانىّ. قال: وطبعه حارّ فى الثالثة، يابس فى الثانية؛ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 315 وهو محلّل ملطّف، مفشّ «1» ، مسخّن، جال؛ وينفع من الفالج؛ ويسهل المادّة التى فى الوركين حقنة وشربا، وكذلك أوجاع المفاصل الباردة؛ ويحلّل الصّداع البارد والرّيحىّ «2» ؛ وينفع من الصّرع، ومن ظلمة العين كحلا، ومن غلظ الأجفان ومن الآثار فى العين، وهو أفضل الأدوية للماء النازل فيها، وإن سحق بالخلّ وجعل على الشّعيرة «3» أذهبها؛ وهو نافع من وجع الصدر والجنب، ومن السّعال المزمن، يسقى بماء السّذاب المعصور ثلاثة أرباع درهم لسوء النّفس؛ وهو ينقّى الصدر، ويخرج الأخلاط النّيئة؛ وهو نافع من الاستسقاء؛ ويخرج الماء الأصفر؛ وينفع من القولنج «4» حقنة وشربا ومن المغص؛ ويخرج الحصاة، ويزيد [فى] الباه، وينفع من أوجاع الأرحام؛ وإذا شرب أدرّ الطّمث، وقتل الجنين؛ ويخرج الخلط اللّزج والماء الأصفر؛ وهو ينفع من الحميّات الدائرة؛ وإذا سقى فى الشراب أفاد لسع الهوامّ، ومن جميع السّموم القاتلة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 316 وأما السّادوران «1» - فهو شىء أسود شبيه بالصّمغ مثل حصى السّبج «2» يتكوّن فى التجويفات الكائنة فى أصول أشجار الجوز «3» الكبار العتيقة اذا تجوّفت أصولها، فإذا قطعت الشجرة وجد فى وسطها، ولونه محلولا الى الصّفرة «4» ، وله بصيص اذا كسر. وأما دم الأخوين «5» - ويسمّى القاطر «6» - فقال أبو حنيفة الدّينورىّ: هو صمغ أحمر يؤتى به من جزيرة سقطرى «7» ، ويسمّى الأيدع، ودم التّنّين، ودم الثعبان. ويقال: إنّه دموع شجرة كبيرة ببلاد الهند، معروفة هناك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 317 وأمّا الميعة «1» - فهى صنفان: سائلة، ويابسة، وكلاهما دسم «2» مرّ؛ ومنها صنف هو صمغ شجرة تشبه شجرة السّفرجل، أجوده «3» ما كان لونه أشقر دسما يميل الى البياض؛ ومن هذا الصّنف ما هو أسود هشّ كالنّخالة، وهو رومىّ. وقال اسحاق بن عمران: شجرة الميعة شجرة جليلة كشجرة «4» التّفاح، ولها ثمرة بيضاء أكبر من الجوز تشبه عيون «5» البقر الأبيض، يؤكل الظاهر منها، وفيه مرارة وثمرته الّتى داخل النوى دسمة، يعتصر منها دهن هو «6» الميعة اليابسة، ومنه تستخرج الميعة السائلة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 318 وقال ابن جريح: الميعة تسيل من شجرة تكون فى بلاد الرّوم تتحلّب منها، ثم تؤخذ فتطبخ، وتعتصر أيضا من لحاء تلك الشجرة، فما عصر فهو الميعة السائلة وما طبخ فهو الميعة اليابسة. وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا فى الميعة- وسماها لبنى- قال: ويقال للسائلة: عسل اللّبنى والأصطرك «1» ، وهو دمعة شجرة [كالسّفرجل «2» ] . قال: وأجود أصناف الميعة السائل بنفسه، الشّهدىّ، الصّمغىّ، والطيّب الرائحة الضارب الى الصّفرة. قال: وطبع الميعة حارّ فى الأولى يابس فى الثانية، وله قوّة منضجة، مليّنة جدّا، مسخّنة محلّلة، ودخانه شبيه بدخان الكندر؛ وفيه تخدير بالطبع، ودهنه الذى يتّخذ بالشأم مليّن تليينا قويّا؛ وينفع الصّلابات فى اللّحم، ويطلى به على البثور الرّطبة واليابسة مع الأدهان؛ ويطلى به على الجرب الرّطب واليابس؛ وهو طلاء جيّد عليه؛ وهو يقوّى الأعضاء وينفع تشبّك المفاصل جدّا شربا وطلاء؛ ورطبه ويابسه يحبس «3» النّزلة تبخيرا؛ وهو غاية للزّكام؛ وفيه قوّة مسبتة «4» ، لا سيّما فى دهنه؛ وينفع من السّعال المزمن والبلغم ووجع الحلق ويصفّى صوت الأبحّ مع تليين شديد؛ وهو يهضم، ويليّن الطبيعة، ويدرّ البول والطّمث إدرارا صالحا شربا واحتمالا؛ ويليّن صلابة الرّحم؛ واليابسة تعقل البطن؛ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 319 قال: واذا شرب من الميعة السائلة [مثقال «1» ] مع مثله «2» من صمغ اللّوز أسهل بلغما من غير أذى. وبدل الميعة جندبادستر «3» ، ومثلاه من دهن الياسمين. وأمّا صمغ قبعرين «4» -: فقال ديسقور يدوس: هو صمغ شجرة تكون ببلاد الجزء: 11 ¦ الصفحة: 320 العرب «1» ، وفيه شبه يسير من المرّ «2» إلّا أنّه كريه المطعم زهم. وزعم قوم أنّه السّندروس «3» . وقال آخرون: هو اللّك «4» . قال ابن البيطار: وليس «5» كما زعموا. وأمّا المقل «6» الأزرق - فيسمّى كورا «7» ، ويعرف بالمقل المكّىّ، وبمقل اليهود، والمقل الهندىّ، وإن كان لا يوجد إلّا بأرض العرب، ومنه صقلّىّ؛ ومنه عربىّ؛ وهو صمغ يشبه الكندر، طيّب الرائحة، وشجرته كشجرة اللّبان، وأكثر نباته بأرض اليمن فيما بين الشّحر وعمان بجبل هناك، ولشجره ثمر يسمّى ديميس «8» الجزء: 11 ¦ الصفحة: 321 اذا كان رطبا، فاذا يبس فهو الوقل، والّذى يؤكل منه يسمّى الحتّىّ «1» . وقال أبو الخير العشّاب: المقل المكّىّ هو صمغ الدّوم، لأنّ الدّوم هناك يدرك ويصمغ، وليس فى سائر البلاد كذلك إلّا بمكّة لا غير. وأما الصمغ العربى ّ - فهو صمغ القرظ، وهو الّذى يستعمل فى المركّب ولا يصلح بغيره، فإنّه ينحلّ فى الماء بسرعة من غير تعقيد، وما عداه من الصّموغ التى تجمع من أشجار الفواكه متى جعل فى المركّب أفسده. ولهم أيضا صمغ السّمّاق «2» وصمغ السّذاب «3» ، وصمغ الخطمىّ «4» ؛ ومن الصّموغ التى جرت عليها التسمية بالعربىّ صمغ الإجّاص، وصمغ الدّاميثا، وهو شجر ببلاد فارس؛ وصمغ اللّوز، وصمغ الزّيتون البرّىّ والبستانىّ، والبرىّ يشبه السّقمونيا «5» فى لونه، ومنه ما هو أحمر، وصمغ السّرو؛ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 322 ومن الصّموغ الرّاتينج «1» وهو القلفونيا «2» ؛ ومنه ما هو أبيض، ومنه ما هو أسود وهو صمغ الصّنوبر الذّكر. وأما القطران - فهو معدود من الصّموغ، وشجرته تسمّى شربين، وهى شجرة عظيمة، لها ثمر يشبه ثمر السّرو، غير أنّه أصغر منه، والقطران دهن يخرج منه، فأجوده ما كان صافيا، كريه الرائحة: وقال الزمخشرىّ فى تفسير قوله تعالى: (سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ) ، هو ما يحلب من شجر يسمّى الأبهل «3» فيطبخ، فتدهن به الإبل الجرب فيحلق الجرب لحدّته وحرّه، وهو أسود اللون، منتن الرائحة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 323 وقال أبو علىّ بن سينا: القطران حارّ يابس فى الرابعة، وهو يقتل القمل والصّئبان؛ وهو يقوّى اللحم الرّخو، وخصوصا دهنه من الجرب، حتّى جرب الحيوان من ذوات الأربع، وينفع من شدخ العضل واجتماع الدّم والقيح فيها، وهو دواء لداء الفيل «1» لعوقا ولطوخا. قال: وهو أعظم شىء فى تسكين الصّداع البارد طلاء للرأس ويقطر فى الأذن فيقتل دودها، ويقطر فيها بماء الزّوفا «2» للطّنين والدّوىّ، وينفع الأسنان المتأكّلة، وهو يحدّ البصر، ويجلو آثار القروح فى العين، ولعق أوقيّة ونصف منه ينفع لقروح الرئة، وينفع من السّعال العتيق، ويقتل الدود فى الأمعاء وخصوصا الاحتقان به؛ ويدرّ الطّمث، ويقتل الجنين، ويفسد المنىّ، واذا لطخ به الذّكر قبل الجماع منع الحبل، وينفع من تقطير البول، ويضمد به على نهش الحيّة ذات القرن، واذا أذيب فى شحم الأيّل «3» ومسحت به الأعضاء لا تقربها الهوامّ. وأمّا الزّفت - فيكون من شجر التّنّوب «4» وغيره من ضروب الصّنوبر، وهو قريب من دهن القطران. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 324 الباب الرابع من القسم الرابع من الفنّ الرابع فى الأمنان ويشتمل هذا الباب على العسل والشّمع واللّكّ والقرمز واللّاذن والأفتيمون والقنبيل والورس والتّرنجبين «1» والشّيرخشك «2» والمنّ والكشوث وسكّر العشر فأما العسل والشّمع - فقد قال التميمىّ فى المرشد: إنّ العسل منّ يسقط من الهواء بكلّ بلد وبكلّ إقليم من الأمصار المسكونة، وسقوطه على أنواع كثيرة من الأزهار والنّوّار والأوراق يلتقطه النّحل الّذى قد ألهمه الله جمعه وإلقاءه إيّاه فى كوائره التى هو ساكنها، وهى أقرصة «3» شهده، ويدّخره لقوته عند حلول الشتاء عليه وانقطاعه عن الطّيران وعند حصار الأمطار والثلوج له. وزعم كثير من الفلاسفة والأطبّاء أن الشّمع الّذى تتخذ منه النحل مساكنها، وتربّى فيه فراخها، وتوعى فيه أعسالها، نوع من المنّ الساقط من الهواء؛ والله تعالى أعلم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 325 وأمّا اللّكّ - فيقال إنّه يسقط على قضبان الكروم فى بلاد الهند فينعقد عليها. وزعم قوم أنّه صمغ يلقط من قضبان الكروم؛ والله أعلم. وقال ابن سينا: إنّه ينفع من الخفقان، ويقوّى الكبد، وينفع من اليرقان والاستسقاء. وأمّا القرمز - فقد قال أبو الخير فى كتاب النبات: القرمز طلّ يقع فى العام الكثير الرّطوبات والأنداء على شجر البلّوط والتّنّوب فينعقد على خشبه حبّ أبيض اللّون مثل حبّ الكرسنّة «1» ، فاذا انتهى ونضج وكان فى قدر الحمّص صار لونه أحمر قانئا برّاقا، فيجمع فى شهر ابريل ومايه، فيجفّف ويخزن لتصبغ به الثياب؛ ومن خاصيّته أنّه لا يصبغ به إلّا ما كان من حيوان، كالحرير، والصوف، وان هو لم يجمع خرج منه دود صغار، ويصنع على نفسه نسجا مثل نسج العنكبوت، ويموت فيه. وأما اللّاذن - فهو منّ يسقط بجزيرة قبرس على شجر ترعاه الأغنام، فاذا باكرت الرّعى من تلك الأشجار علق اللّاذن بلحى التّيوس وخراطيمها وأظلافها، فيجمع منها بأمشاط معدّة له. وأمّا ما يجمع من الشجر فإنّه يكون فى خزائن الملوك لطيب رائحته. وقال ابن سينا: أجوده الدّسم الرّزين القبرسىّ الطيّب الرائحة، الّذى هو الى الصّفرة ولا رمليّة فيه، وينحلّ كلّه فى الدّهن فلا يبقى منه ثفل؛ والاسود القارىّ غير جيّد؛ وطبعه حارّ فى آخر الأولى، يابس فى الثانية؛ والذى يكون فى البلاد الجنوبيّة أسخن. قال: وقال الخوزى: إنه بارد قابض؛ وليس كذلك. قال: وهو لطيف جدّا، فيه يسير قبض، منضج للرّطوبات الغليظة اللّزجة يحلّلها باعتدال فيه؛ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 326 وفيه قوّة حادّة «1» مسخّنة مفتّحة لأفواه العروق؛ ويدخل فى تسكين الأوجاع؛ وهو ينبت الشّعر ويكثّفه ويكثّره ويحفظه، خصوصا مع دهن الآس ومع الشّراب؛ ويقطر منه مع دهن الورد فى الأذن الوجعة؛ ويدخل فى علاج الصّداع والضّربان وينفع من السّعال، ويحلّل أورام الرّحم محتملا «2» ؛ ويخرج الجنين الميّت والمشيمة تدخينا «3» به؛ وإذا شرب بشراب عتيق عقل البطن وأدرّ البول. وأمّا الأفتيمون - فهو منّ يسقط من الهواء على صنف من الصّعاتر «4» برياض «5» جزيرة اقريطش «6» وبرقة «7» وفى جبال بيت المقدس. وأمّا القنبيل - فهو شبيه بالورس، يسقط فى اليمن مثل الرمل الأحمر وتمازج حمرته صفرة ظاهرة فيه. ويقال: إنّه يوجد أيضا بخراسان على وجه الأرض غبّ المطر فيجمع. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 327 وأمّا الورس - فهو منّ يسقط بأرض الصّين والهند والحبشة وأرض [اليمن «1» ] على ورق شجر يشاكل الباذروج «2» ، فتجمع الشجرة بما عليها منه، وتلقى فى الشمس حتى تنشف، ثم تنفض على أنطاع الأدم فيسقط ورقها وعليه الورس متعلّقا به، ولونه أحمر، فاذا طحن صار أصفر، وأجوده الهندىّ، ثم الحبشىّ، ثم اليمانىّ. وأما التّرنجبين «3» - فمعناه عسل النّدى، وهو يسقط ببلاد خراسان وما وراء النهر على العاقول، ويسمّى «4» الحاج «5» ؛ وقد يقع على سعف النخل ببلاد قسطيلية «6» ، وعلى ورق الأثل. وورق الطّرفاء. وقال ابن سينا: أجوده الطرىّ الأبيض؛ وطبعه معتدل الى الحرارة؛ وهو مليّن، صالح الجلاء، وينفع من السّعال؛ ويليّن الصدر، ويسكّن العطش، ويسهل الصّفراء برفق، وإسهاله بخاصيّة فيه؛ والشّربة عشرة مثاقيل الى عشرين مثقالا. وأما الشّير خشك «7» - فقال ابن البيطار، قال «8» علماؤنا الشّير خشك طلّ يقع من السماء بهراة من بلاد خراسان على شجر الخلاف، حلو الى الاعتدال. وقال الجزء: 11 ¦ الصفحة: 328 التّميمىّ: أمّا كيفيّته فإنّه حبّ أبيض مثل حبّ التّرنجبين، بل هو أكبر، وهو قريب من مزاج الكافور وطعمه ورائحته، واذا بقى فى اليد انحلّ ودبق باليد. وأمّا المنّ «1» - فهو يسقط على ورق البلّوط «2» والسّدر والخوخ والمشمش مثل العسل، فما تخلّص منه كان أبيض، وما لم يتخلّص وجمع بورقه كان أخضر وسقوطه يكون بجبال ربيعة ومضر وجبال الشأم الى نحو دمشق والساحل. وأما الكشوث «3» - فقال التّميمىّ: الكشوث يسقط بأرض العراق على شجر يشاكل الباذروج «4» ، وهو مركّب من قوى مختلفة من مرارة وعفوصة. وقال ابن سينا: طبعه حارّ قليلا فى أوّل الأولى يابس فى آخر الثانية؛ وهو منقّ يخرج الفضول اللّطيفة من العروق وينقّيها؛ وهو يقوّى المعدة، وخصوصا المقلىّ منه؛ وإذا شرب بالخل سكّن الفؤاق؛ وهو يفتّح سدد الكبد والمعدة ويقوّيهما؛ وماؤه عجيب لليرقان؛ وهو ينقّى الأوساخ عن بطن الجنين؛ ويدرّ البول والطّمث؛ وينقّى سيلان الرّحم؛ وبزره وماؤه ينفع «5» من الحميّات العتيقة جدّا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 329 وأمّا سكّر العشر - فقال التّميمىّ: هو طلّ يسقط على شجر العشر بأرض اليمن والحجاز، فان أصابه الهواء جمد. وقال أبو حنيفة الدّينورىّ: العشر ضرب من العضاه، ينبت صعدا، عريض الورق، وله سكّر يخرج من فصوص شعبه «1» ؛ والله أعلم بالصواب. كمل الجزء الحادى عشر من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب لشهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب النّويرىّ- رحمه الله- ويليه الجزء الثانى عشر، وأوّله: القسم الخامس من الفنّ الرابع فى أصناف الطّيب والبخورات والغوالى والنّدود والمستقطرات والأدهان والنضوحات وأدوية الباه والخواصّ والحمد لله رب العالمين الجزء: 11 ¦ الصفحة: 330 استدراك ورد فى صفحة 25 سطر 6 لفظ «شوابير» وذكرنا فى الحاشية رقم 5 من هذه الصفحة أننا لم نجد للشوابير معنى يناسب السياق، واستظهرنا أنه محرف عن لفظ آخر. وقد رأينا بعد ذلك فى بعض الكتب ما يفيد أن لفظ الشوابير صحيح لا تحريف فيه، وقد بيّنّا المراد به فى الحاشية رقم 1 من صفحة 225، فانظرها. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 331 بيان عن الجزء الثانى عشر من كتاب نهاية الأرب فى دار الكتب من نسخ هذا الجزء نسختان مأخوذتان بالتصوير الشمسىّ كتبت إحداهما فى القرن الثامن الهجرى قبل وفاة المؤلف، ونسب خطها إليه وهى المشار اليها فى الحواشى بحرف (ب) وكتبت الثانية فى القرن التاسع بخط نور الدين العاملىّ، وهى المشار إليها فى الحواشى بحرف (ا) وليست إحدى النسختين بأقل تحريفا ولا تصحيفا من الأخرى، بل التحريف فيهما يكاد يكون متفقا كما نبهنا على ذلك فى الأجزاء السابقة، غير أن النسخة المنسوب خطها الى المؤلف والمشار اليها فى الحواشى بحرف (ب) ، تمتاز عن الأخرى بقلة النقص فى الألفاظ والعبارات، فاذا وجدت كلمة أو جملة سقطت من الناسخ فى النسخة المشار اليها بحرف (ا) فكثيرا ما تجد هذه الكلمة أو الجملة ثابتة فى النسخة الأخرى. ويلاحظ أن المؤلف قد لخص كتاب (جيب العروس وريحان النفوس) لمحمد بن أحمد التميمى المقدسىّ فى الأبواب التسعة الأول من هذا الجزء فى أصناف الطّيب والبخورات والغوالى والنّدود والمستقطرات والأدهان والنّضوحات؛ ولم نقف على هذا الكتاب فى خزانة من خزائن الكتب الموجودة فهارسها بين أيدينا، فكنا نرجع فى تصحيح ما ورد فى هذا الجزء من التحريف والتصحيف الى ما بين أيدينا من كتب القدماء والمحدثين فى علوم الطب والنبات وأنواع الطّيب، منبّهين فى الحواشى على كل مصدر رجعنا اليه فى تصحيح الكلمة أو الجملة متحرّين بقدر الإمكان وجه الصواب فى ضبط أسماء النبات والأدوية والعقاقير الجزء: مقدمةج 12 ¦ الصفحة: 1 التى وردت فى هذا الجزء، فلا نضبط اسما من هذه الأسماء إلا إذا ورد بضبطه نص صريح لا يحتمل التأويل فيما لدينا من الكتب الموثوق بمؤلّفيها ومصحّحيها. وعسى أن نكون قد وفّقنا فى تصحيح هذا الجزء الى ما نقصد إليه فى جميع أجزاء هذا الكتاب: من إصلاح التحريف، وتكميل الناقص، وشرح الغريب، وغير ذلك مما بيّناه من الأغراض فى أوائل الأجزاء السابقة. وقد تم طبع هذا الجزء فى عهد (حضرة صاحب الجلالة) فاروق الأوّل ملك النيل وحفيد إسماعيل أدام الله على البلاد ظله، وأعلى برعايته وعنايته العلم وأهله. آمال أمّته به معقودة ... والله يكفل هذه الآمالا لا زال شعبك من سحابك يرتعى ... روضا يمدّ على البلاد ظلالا وفى هذا المقام نرى عرفانا بالجميل، وتقديرا لجهود المخلصين أننا مدينون بجزيل الثناء وعظيم الحمد لتلك العناية المشكورة التى بذلها ويبذلها حضرة صاحب العزة الأستاذ العالم، والمدير الحازم (الدكتور منصور فهمى بك مدير دار الكتب المصرية) . فقد خطت الدار فى عهده الميمون خطوات واسعة فى سبيل التقدّم والرقىّ، حتى أصبح منهلها العذب أقرب موردا، والانتفاع بما فيها من الذخائر أيسر على الطالب. كما أنه من الحق علينا أن نقدّم عظيم الشكر الى حضرة صاحب الفضيلة (السيد محمد الببلاوى مراقب إحياء الآداب العربية) وإلى حضرة الأديب الفاضل (الأستاذ أحمد زكى العدوى رئيس القسم الأدبى) على ما يبذلان من جهد فى سبيل إنهاض هذا القسم وتقدّمه. والله أسأل أن يوفّقنا إلى الخير فى القول والعمل. مصحّحه أحمد الزين الجزء: مقدمةج 12 ¦ الصفحة: 2 فهرس الجزء الثانى عشر من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب القسم الخامس من الفن الرابع فى أصناف الطيب والبخورات والغوالى والندود والمستقطرات والأدهان والنضوحات وأدوية الباه والخواص ...... 1 الباب الأوّل من هذا القسم من هذا الفن فى المسك وأنواعه ...... 1 الباب الثانى فى العنبر وأنواعه ومعادنه ..... 16 الباب الثالث فى العود وأنواعه ومعادنه وأصنافه ...... 23 ذكر تطرية العود الأبيض وإظهار دهانته وإكسابه سوادا ...... 37 الباب الرابع فى الصندل وأصنافه ومعادنه ...... 39 الباب الخامس فى السنبل الهندى وأصنافه، والقرنفل وجوهره- فأما السنبل الهندىّ ...... 43 وأما أصله ...... 43 وأما القرنفل وجوهره ...... 45 الباب السادس فى القسط وأصنافه ...... 49 الباب السابع فى عمل الغوالى والندود- أما عمل الغوالى- فأما الوقت الذى يصلح أن تعمل فيه- وأما الالات التى تصلح لعملها وسحق أجزائها فيها ...... 52 الجزء: مقدمةج 12 ¦ الصفحة: 3 وأما كيفية عملها وأخذ أجزائها ...... 53 غالية من غوالى الخلفاء ...... 53 غالية حجاجية تسمى الساهرية ...... 55 غالية هشام بن عبد الملك ...... 56 صفة غالية أخرى من كتاب محمد بن العباس ...... 58 غالية متوسطة نسبها التميمى الى كتاب أبى الحسن المصرى ...... 59 غالية تسمى الساهرية ختم بها التميمى باب الغوالى ...... 59 وأما عمل الندود- الند المستعينىّ ...... 60 وأما الند الذى أجمع الناس عليه ...... 61 صفة ند آخر ...... 61 صفة ند كانت «بنان» العطارة تصنعه للواثق بالله ...... 62 صفة ند آخر كانت تصنعه لجعفر المتوكل على الله ...... 63 صفة الند الذى كانت أم الخليفة المقتدر بالله تصنعه وتبخر به الكعبة وصخرة بيت المقدس فى كل جمعة ...... 64 صنعة ند آخر عن أم أبيها بنت جعفر بن سليمان، وهو الذى يسمى اللفيف الشريف ...... 64 وأما الذى يصنع فى عصرنا هذا بالديار المصرية ...... 65 ذكر كيفية عمل الند فى وقتنا هذا ومفرداته ومقاديره- فالنوع الأول المثلث ...... 66 وأما النوع الثانى وهو المعتدل ...... 67 وأما النوع الثالث وهو السوقى ...... 68 الجزء: مقدمةج 12 ¦ الصفحة: 4 ذكر صفة خلط أجزاء الندّ وتركيبه ...... 68 الباب الثامن فى عمل الرامك والسك من الرامك والأدهان- فأما عمل الرامك والسك ...... 70 وأما الأدهان وما قيل فيها ...... 78 ذكر دهن البان وحبه ومعادنه وكيفية طبخه ...... 78 وأما كيفية إخراج دهنه ...... 80 وأما كيفية طبخه بالأفاويه حتى يصير يانا مرتفعا- فمنه كوفى ومنه مدنى ... 80 أما الكوفى ...... 81 وأما البان المدنى ...... 81 صنعة بان آخر من تركيب التميمىّ ...... 83 صنعة نش البان على رأى أبى عمران البانى ...... 91 وأما نشه على ما ورد فى كتاب العطر المؤلف للمعتصم بالله ...... 91 وأما دهن الزنبق وما قيل فيه- فمنه أصلى خالص، ومنه مولد- فأما الخالص ...... 92 وأما المولد ...... 93 وأما دهن الحماحم وما قيل فيه ...... 95 وأما دهن الخيرى وما قيل فيه- فمنه أصلى ومنه مولد- فأما الأصلى الخالص- وأما المولد ...... 96 وأما دهن التفاح وما قيل فيه ...... 99 وأما الأدهان المركبة العطرة ...... 101 صنعة دهن آخر من الكتاب المصنف للمعتصم بالله ...... 103 الجزء: مقدمةج 12 ¦ الصفحة: 5 صنعة دهن آخر يسمى دهن السيدة ...... 104 صنعة دهن آخر صنع للمأمون من كتاب يوحنا بن ماسويه ...... 105 صنعة دهن برمكى مبخر من كتاب يوحنا بن ماسويه ...... 108 صنعة دهن آخر كان يعمل للعباس بن محمد ...... 109 صنعة دهن العنبر من كتاب ابن العباس ...... 110 وأما الأدهان التى تصلح الشعور وتكثرها الخ- فمنها دهن متخذ من حب القطن يكثر الشعور ويسوّدها ويذهب بالحاصة ويصفى اللون ...... 110 صنعة دهن يصنع من دهن نوى المشمش يجود الشعر ويكثره ويذهب بالحاصة، وينفع شعر الرأس واللحية منقول من كتاب المعتصم ...... 114 صنعة دهن آخر يجود الشعر ويطوله ويكثفه ويقوّى أصوله ويذهب بالحاصة ...... 116 صنعة دهن فاغية الحناء يصلح لشعور النساء ...... 118 الباب التاسع فى عمل النضوحات والمياه المستقطرة وغير المستقطرة ... الخ فأما النضوحات ...... 120 صفة عمل نضوح نقلته من كتاب الزهراوى يدخل فى أصناف الطيب، ويستعمل للشرب ...... 122 وأما المياه المستقطرة وغير المستقطرة- فمنها ماء الجورين ...... 123 وأما ماء الصندل ...... 124 صفة تصعيد ماء القرنفل 124 صفة تصعيد ماء السنبل ...... 124 صفة تصعيد ماء الكافور ...... 124 الجزء: مقدمةج 12 ¦ الصفحة: 6 صفة تصعيد ماء الزعفران عن ابن ماسويه ...... 125 تصعيد آخر استنبطه التميمى ...... 125 صفة تصعيد ماء الورد الطيب الذى يسمى الغنج ...... 126 تصعيد ماء ورد آخر ألفه التميمى يستخرج من الورد اليابس ...... 127 تصعيد ماء ورد ملوكى مرتفع عن ابن العباس ...... 128 صعيد ماء المسك وماء الورد ...... 128 وأما تصعيد ماء الخلوق من كتاب الزهراوىّ ...... 128 تصعيد ماء خلوق آخر من كتاب أبى الحسن المصرى 129 صعيد ماء خلوق آخر من كتابه أيضا ...... 129 وأما ماء الميسوس ...... 130 صنعة ميسوس نادر أخذ عن بختيشوع الطبيب من كتاب العطر المؤلف للخليفة المعتصم بالله ...... 130 صنعة نوع آخر من الميسوس عن بختيشوع أيضا من كتابه المذكور ...... 134 وأما ماء التفاح ونضوحه الذى يصنع منه ...... 136 صنعة عقيد ماء التفاح من كتاب أبى الحسن المصرى 137 صنعة نضوح ماء التفاح مما ألفه التميمى وركبه فجاء غاية فى الطيب ...... 138 وأما ماء العنب المطيب والعقيد المصنوع منه ...... 139 صنعة أخرى لماء العنب المطيب من كتاب محمد بن العباس ...... 140 الباب العاشر فى الأدوية التى تزيد فى الباه وتلذذ الجماع وما يتصل بذلك من أدوية الذكر والأدوية المعينة على الحبل والمانعة منه، وغير ذلك- ذكر الأطعمة النافعة لذلك ...... 142 الجزء: مقدمةج 12 ¦ الصفحة: 7 صفة لون يزيد فى الباه ...... 144 صفة هريسة ...... 145 وأما الأشربة المركبة التى تزيد فى الباه ...... 146 ذكر الأدوية المركبة النافعة التى تزيد فى الباه وتغزير المنىّ ...... 148 ذكر دواء آخر عجيب الفعل فى زيادة المنىّ ...... 150 صفة دواء آخر يزيد فى الباه ويصفى اللون وينفع الكبد والمعدة ...... 151 دواء آخر يهيج شهوة الجماع ويصلح لمن انقطعت شهوته فإنه يقوّيها ويزيد فيها ...... 152 صفة لبانة تمضغ تزيد فى الباه الخ ...... 158 ذكر الجوارشنات التى تزيد فى الباه وتغزر المنى- صفة جوارش يغزر المنى ...... 160 صفة جوارش يقوّى الباه ويزيد فى الشهوة ...... 161 صفة جوارش التفاح يقوّى المعدة ويزيد فى الباه ...... 161 ذكر المربيات المقوّية للشهوة والمعدة والباه ...... 162 صفة عمل الراسن المربى، وهو مسخن للكلى والظهر محرّك لشهوة الباه ...... 163 صفة عمل الشقاقل المربى يقوّى المعدة والشهوة، ويزيد فى الباه ...... 164 صفة عمل الجزر المربى الذى يزيد فى الباه ...... 164 صفة عمل الإهليلج الكابلى المربى ...... 165 صفة عمل التفاح المربى ...... 166 صفة عمل الجوز المربى وهو مما يزيد فى الباه ...... 166 ذكر السفوفات التى تزيد فى الباه ...... 167 الجزء: مقدمةج 12 ¦ الصفحة: 8 ذكر الحقن والحمولات المهيجة للباه والمغزرة للمنى والمسمنة للكلى ...... 168 وأما الحمولات التى تحدث الإنعاظ الشديد ...... 174 ذكر المسوحات والضمادات التى تزيد فى الباه المقوية للذكر ...... 176 وأما الضمادات التى تزيد فى الباه وتعين على الجماع ...... 181 ذكر الأدوية الملذذة للجماع ...... 183 ذكر الأدوية التى تعظم الذكر وتصلبه ...... 187 ذكر الأدوية التى تضيق فروج النساء وتسخنها وتجفف رطوبتها ...... 190 وأما الأدوية التى تسخن القبل ...... 195 وأما الأدوية التى تجفف رطوبة الفرج ...... 196 ذكر الأدوية التى تطيب رائحة البدن وتعطره ...... 198 صفة قرص حاد يقطع الصنان ...... 199 دواء آخر يقطع رائحة العرق ...... 199 صفة دواء آخر يذهب رائحة الإبط ولا يحتاج بعده الى دواء آخر ...... 199 صفة دواء آخر يطيب البدن وينفع أصحاب الأمزجة الحارة ...... 200 صفة دواء آخر يقطع العرق وينفع أصحاب الأمزجة الحارة ...... 200 ذكر الأدوية التى تجلو الأسنان من الصفرة والسواد وتطيب رائحة الفم والنكهة- فأما السنونات التى تجلو الأسنان ...... 201 صفة سنون آخر يقوى الأسنان ويجلوها ...... 203 وأما الأدوية التى تطيب رائحة الفم والنكهة ...... 203 صفة حب آخر يزيل البخر ...... 204 الجزء: مقدمةج 12 ¦ الصفحة: 9 صفة حب آخر ملوكى ...... 205 صفة حب آخر يطيب النكهة ...... 206 ذكر الأدوية التى تعين على الحبل والأدوية التى تمنعه- أما الأدوية التى تعين عليه ...... 207 صفة دواء آخر وهو من الأسرار ...... 209 وأما الأدوية التى تمنع الحبل ...... 210 ذكر الأدوية التى تنقص الباه وتمنع من الجماع وتسكن الشهوة وهذه الأدوية منها مفردة ومنها مركبة- أما المفردة ...... 212 وأما المركبات- فمنها أغذية وأدوية- أما الأغذية ...... 213 وأما الأدوية ...... 214 صفة دواء آخر يقطع شهوة الجماع البتة وهو من الخواص ...... 215 الباب الحادى عشر فيما يفعل بالخاصية ...... 217 ذكر الخواص المختصة بالنساء والنكاح التى استقرئت بالتجربة ...... 217 خاصية من خواص الهنود ...... 217 سر آخر لجعفر الطوسىّ ...... 218 ذكر شىء من الخواص غير ما تقدّم ذكره- من ذلك طلسم يجعل على المائدة فلا يقرّبها ذباب ...... 223 ذكر نبذة من خواص الحروف والأسماء ...... 225 الجزء: مقدمةج 12 ¦ الصفحة: 10 أهم المصادر التى رجعنا إليها فى تصحيح هذا الجزء إخبار العلماء بأخبار الحكماء للقفطى. أخبار الهند والصين للسيرافى. إرشاد السارى لشرح صحيح البخارى لشهاب الدين القسطلانى. أقرب الموارد لسعيد الخورى الشرتونى اللبنانى. الألفاظ الفارسية المعربة للسيد أدّى شير. الأنساب للسمعانى. الإيضاح فى أسرار النكاح للشيرازى. بحر الجواهر للهروى. البرهان القاطع وهو معجم فارسى تأليف محمد حسين بن خلف التبريزى. البلدان لليعقوبى. تاج العروس من جواهر القاموس للزبيدى. تاريخ ابن الأثير. تاريخ الطبرى. تبصير المنتبه بتحرير المشتبه للحافظ شهاب الدين أحمد بن على بن حجر العسقلانى. تذكرة داود. تقويم البلدان لأبى الفداء. التنبيه والإشراف للمسعودى. حياة الحيوان للدميرى. خرائط الإدريسىّ. شذرات الذهب فى أخبار من ذهب لابن العماد الحنبلى. الشذور الذهبية فى الاصطلاحات الطبية لمحمد بن عمر التونسى. شرح الأدوية المفردة من قانون ابن سينا للكازرونى. الجزء: مقدمةج 12 ¦ الصفحة: 11 شرح تحفة الملوك للتمرتاشى. شرح الرضى على الكافية. الشعر والشعراء لابن قتيبة الدينورى. صبح الأعشى للقلقشندى. عجائب الهند لبزوك الرامهرمزى. عمدة المحتاج المعروف بالمادة الطبية للرشيدى. عيون الأنباء فى طبقات الأطباء لابن أبى أصيبعة. الفلاحة النبطية لأبى بكر بن وحشية. الفهرست لابن النديم. قاموس الأطباء للقيصونى. قاموس المحيط لمجد الدين الفير وزابادى. القانون لابن سينا. كتاب (كليرتسديل) فى قواعد اللغة الفارسية. كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوى. كشف الظنون عن أسماء الكتب والفنون لحاجى خليفة. لب اللباب فى تحرير الأنساب للجلال السيوطى. لسان العرب لابن منظور. لطائف الإشارات فى أسرار الحروف والعبارات للبونى. ما لا يسع الطبيب جهله لابن الكتبى. ما يعول عليه فى المضاف والمضاف اليه للمحبّى. مجموعة فى أصول علم البحار لأحمد بن ماجد بن أبى الركائب النجدى. المخصص لابن سيده. مشتبه النسبة لعبد الغنى بن سعيد المصرى. المصباح المنير للفيومى. الجزء: مقدمةج 12 ¦ الصفحة: 12 المضاف والمنسوب للثعالبى. مطالع البدور فى منازل السرور للغزولى الدمشقى. معجم أسماء النبات للدكتور أحمد عيسى بك. معجم البلدان لياقوت. المعجم الفارسى الإنجليزى لاستاينجاس. معجم ما استعجم للبكرى. المعرب من الكلام الأعجمى للجواليقى. المعرب والدخيل للمدنى. مغنى اللبيب لابن هشام. مفاتيح العلوم للخوارزمى. المفردات لابن البيطار. المكتبة الجغرافية. منهاج الدكان ودستور الأعيان لأبى المنى المعروف بالكهيل العطار الإسرائيلى. المنهج المنير فى معرفة أسماء العقاقير لم يعلم اسم مؤلفه. النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة لابن تغرى بردى. نخبة الدهر لابن أبى طالب الأنصارى الصوفى. نزهة المشتاق للإدريسىّ. نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويرى. الوافى بالوفيات لصلاح الدين الصفدى. الجزء: مقدمةج 12 ¦ الصفحة: 13 الجزء الثاني عشر [ تتمة فن الرابع في النبات ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ القسم الخامس من الفنّ الرابع فى أصناف الطّيب والبخورات والغوالى والنّدود والمستقطرات والأدهان والنّضوحات وأدوية الباه والخواصّ وفيه أحد عشر بابا الباب الأوّل من هذا القسم من هذا الفنّ فى المسك «1» وأنواعه قال محمد بن أحمد «2» بن الخليل «3» بن سعيد التّميمىّ المقدسىّ فى كتابه المترجم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1 (بجيب «1» العروس وريحان النفوس) : المسك أصناف كثيرة، وأجناس مختلفة؛ فأرفعها وأفضلها التّبّتىّ، ويؤتى به من موضع يقال له: (ذو سمت) «2» ، بينه وبين (التّبّت) «3» مسيرة شهرين، فيصار به إلى (التّبّت) ، ثم يحمل إلى خراسان. قال: وأصل المسك من بهيمة ذات أربع، أشبه شىء بالظّبى الصغير. وقد ذكرنا غزال المسك فى (الباب الثالث من القسم الثانى من الفنّ الثالث) ، وهو فى السفر التاسع «4» من هذه النسخة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 2 فلا فائدة فى إعادته. وقد ذكروا فى صفة تحصيل المسك من هذا الحيوان أقوالا نحن نذكرها؛ فزعم قوم أنّ الغزلان تذبح وتؤخذ سررها «1» بما عليها من الشّعر «2» ويكون فيها دم عبيط «3» ، وربّما كانت السرّة كثيرة الدم، وربّما كانت كبيرة واسعة قليلة الدم، فيجمع فيها دم عدّة سرر، ويصبّ فيها الرّصاص وهو ذائب وتخيّط بالخوص، وتعلّق فى حلق مستراح مدّة أربعين يوما، ثم تخرج وتعلّق فى موضع آخر حتّى يتكامل جفافها، وتشتدّ رائحتها، ثم تصيّر النّوافج «4» فى مزاود الجزء: 12 ¦ الصفحة: 3 صغار، وتخيّط، وتحمل من التّبّت إلى خراسان. قال: وقال أحمد بن أبى يعقوب مولى بنى العبّاس: ذكر لى جماعة من العلماء بمعدن المسك أنّ معادنه بأرض (التّبّت) وغيرها معروفة، قد ابتنى الجلّابون فيها بناء يشبه المنار فى طول عظم الذّراع، فتأتى هذه البهيمة الّتى من «1» سررها يتكوّن المسك فتحكّ سررها بتلك المنار، فتسقط السّرر هنالك، فيأتى إليه الجلّابون فى وقت من السنة قد عرفوه، فيلتقطون ذلك مباحا لهم، فإذا وردوا به إلى (التّبّت) عشّر «2» عليهم. وقال قوم: إنّ «3» هذه الدابّة خلقها الله تعالى معدنا للمسك، فهى تثمره فى كلّ سنة وهو فضل دموىّ يجتمع من جسمها إلى سررها فى كلّ عام فى وقت معلوم، بمنزلة الموادّ التى تنصبّ إلى الأعضاء؛ فإذا حصل فى سررها ورم وعظم، مرضت له وتألّمت حتّى يتكامل؛ فإذا بلغ وتناهى حكّته بأظلافها «4» ، فيسقط فى تلك المفاوز والبرارىّ، فيخرج اليه الجلّابون فيأخذونه. قال: وهذا أصّح ما قيل فى باب المسك. قال: ويشهد بصحّة ذلك ويوافقه ما حكاه محمد بن العبّاس المسكىّ فى كتابه: أنّ تجار المسك من أهل الصّغد «5» يذكرون أنّ المسك سرّة دابّة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 4 فى صورة ضخامة الظّبى، لها قرن واحد فى وسط رأسها. قال: ومن قرنها وعظم جبهتها تتّخذ النّصب المعروفة بنصب (الختو) «1» . قال: وذكروا أنّها تهيج فى وقت معلوم من السنة، فترم مواضع سررها، ويجتمع إليها دم غليظ أسود يفيض إليها من سائر أجسادها، وأنه يشتدّ وجعها، فتأتى مواضع فيها تراب ليّن كهيئة المراغة فى تلك البرارىّ، بين المراغة منها وبين الأخرى مسافة ليست بالقريبة وتلك الظّبىّ «2» لا تنزع سررها فى غير تلك المراغات، قد ألفت التّمعّك فيها، والتمرّغ فى تربها، واعتادته على ممرّ السنين؛ فإذا نالها ذلك أمسكت عن الرّعى وعن ورود المياه، ولا تزال تتقلّب فيه حتّى تسقط تلك السّرر عنها، وهى دم عبيط. قال: وربّما سقطت قرونها أيضا كما يفصل الإيّل «3» قرنه فى كلّ سنة. قال: وربّما اجتمع فى المراغة الواحدة مائتان من تلك الظّباء، فإذا ألقت تلك السّرر خرج شباب أهل الصّغد وأهل التّبّت «4» فى وقت الإمكان إلى تلك المفاوز الّتى فيها تلك المراغات الجزء: 12 ¦ الصفحة: 5 فيتفرّقون فى طلب النّوافج، فربّما وجدوا فى المراغة ألوفا من تلك السّرر: من بين رطب وجامد ويابس. قال: واذا سقطت السّرّة عن الظّبى كان فى ذلك إفاقته وصحّته فيثبت حينئذ فى الرّعى وورود الماء. وقال محمد بن العباس: أجود المسك الصّغدىّ، وهو ما اشتراه تجار خراسان من التّبّت «1» وحملوه على الظهر الى خراسان ثم يحمل من خراسان إلى الآفاق؛ ثم «2» يتلوه فى الجودة المسك الهندىّ، وهو ما وقع من التّبّت إلى أرض الهند، ثم حمل إلى الدّيبل «3» ، ثم حمل فى البحر الى سيراف «4» وعدن «5» الجزء: 12 ¦ الصفحة: 6 وعمان «1» ، وغيرها من النواحى، وهو دون الصّغدىّ؛ ويتلو الهندىّ المسك الصّينىّ وهو دونه، لطول مكثه فى البحر، وما يلحقه من عفونة هوائه، ولعلّة أخرى وهى اختلاف المرعى فى الأصل. قال: وأفضل المسك ما كان مرعى غزلانه حشيشا يقال له: الكدهمس «2» ، ينبت بالتّبّت وقشمير، أو بأحداهما. وذكر أحمد بن أبى «3» يعقوب أنّ اسم هذه الحشيشة الكندهسة. قال: وأفضل ما يرعى هذا الحيوان بعد هذه الحشيشة السّنبل الهندىّ، يريد سنبل «4» الطّيب، فإنّه ينبت بأرض الجزء: 12 ¦ الصفحة: 7 الهند وبأرض التّبّت كثيرا، وما كان يرعى السّنبل فإنّ المسك المتكوّن منه يكون وسطا دون الصّنف الأوّل. قال: وأدنى المسك ما كان مرعى حيوانه حشيشة يسمّى أصلها: «المرو «1» » ؛ ورائحة تلك الحشيشة كرائحة المسك، إلا أنّ المسك أقوى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 8 وأذكى رائحة. قال محمد «1» بن أحمد بن العبّاس المسكىّ «2» : وقد ذكر بعض العرب أنّ دابّة المسك ترعى شجر الكافور، واستدلّ على ذلك بقول الشاعر العكلىّ «3» : تكسو المفارق واللّبّات ذا أرج ... من قصب معتلف الكافور درّاج «4» والقصب: المعى؛ ومنه قول النّبىّ صلّى الله عليه وسلّم: «رأيت عمرو «5» بن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 9 لحىّ يجرّ قصبه فى النار» . وقال محمد بن أحمد: هذا رأى بدوىّ، وليس برأى عالم يعتمد على نقله. وقال الحسين بن يزيد السّيرافىّ- وهو من أهل الخبرة ببرّ الصّين وبحرها، ومسالكها وممالكها-: إنّ الأرض الّتى بها ظباء المسك الصّينىّ والتّبّتىّ أرض واحدة لا فرق بينهما، وأهل الصّين يجمعون من المسك ما قرب منهم وكذلك أهل التّبّت. قال: وإنما فضّل المسك التّبّتىّ على المسك الصّينىّ لأمرين: أحدهما أنّ ظباء المسك الّتى فى حدود التّبّت ترتعى سنبل» الطّيب، وما يلى منها أرض الصّين ترتعى سائر الحشائش؛ والثانى أنّ أهل التّبّت يتركون النّوافج بحالها؛ وأهل الصّين ربّما يغشّون فيها، ولسلوكهم بها فى البحر وما يلحقها من الأنداء؛ فأمّا إذا ترك أهل الصّين المسك فى نوافجه من غير غشّ، وأحرز فى البرانىّ، وحمل إلى أرض العرب، فلا فرق بينه وبين التّبّتىّ فى الجودة. قال وأجود المسك كلّه ما حكّته الظّباء على أحجار الجبال، وذلك أنّ المادّة الغليظة الدّمويّة اذا انصبّت إلى سرر الظّباء اجتمعت «2» فيها كاجتماع الدم فيما يعرض من الدّماميل، فاذا أدرك وأضجر الظّباء، حكّت السّرر بالحجارة بحدّة وحرقة فيسيل ما فى السّرر على أطراف الحجارة؛ فاذا خرج عنها جفّت السّرر واندملت وعادت المادّة «3» فآجتمعت فيها «4» ، فيخرج أهل التّبّت فى طلب هذا الدم السائل ولهم به معرفة، فيلتقطونه ويجعلونه فى النّوافج، ويحملونه إلى ملوك خراسان، وهو نهاية المسك جودة وفضلا، إذ هو ممّا أدرك على حيوانه، فصار فضله على غيره من المسك الجزء: 12 ¦ الصفحة: 10 كفضل ما يدرك من الثّمار على أشجاره على ما يقطف قبل بلوغه وإدراكه. قال: وغير هذا من المسك فإنّما «1» تصاد ظباؤه بالشّرك وبالسّهام، وربّما قطعت النّوافج عن الظّباء قبل إدراك المسك فيها. قال: على أنّه إذا قطع عن ظبائه كان كريه الرائحة مدّة طويلة إلى أن يجفّ على طول الأيّام، فيستحيل مسكا. قال: وظباء المسك كسائر الظّباء المعروفة فى القدر واللّون ودقّة القوائم، وافتراق الأظلاف، وانتصاب القرون وانعطافها، غير أنّ لكلّ واحد منها نابين رقيقين أبيضين، خارجين من فيه فى فكّه الأسفل، قائمين فى وجه الظّبى كنابى الخنزير، فى طول الفتر أو دونه، على هيئة ناب الفيل. وقال أحمد بن أبى يعقوب: أفضل المسك التّبّتىّ، ثم بعده [المسك] الصّغدى، وبعد الصّغدىّ المسك الصّينىّ، وأفضل الصّينى ما يؤتى به من خانقو «2» ، وهى المدينة العظمى الّتى هى مرفأ الصّين الّتى ترسى بها مراكب تجار المسلمين، ثم يحمل فى البحر الى الزّقاق «3» ، فإذا قرب من بلد الأبلّة «4» ارتفعت الجزء: 12 ¦ الصفحة: 11 رائحته، فلا يمكن التجار أن يستروه من العشّارين «1» ، فإذا خرج من المركب جادت رائحته، وذهبت عنه رائحة البحر. [ثم «2» المسك الهندىّ، وهو ما يقع من التّبّت الى الهند، ثم يحمل إلى الدّيبل، ثم يجهّز فى البحر] ، وهو دون الأوّل؛ وبعد الهندىّ من المسك القنبارى «3» ، وهو مسك جيّد، إلا أنّه دون التّبّتىّ فى القيمة والجوهر واللّون والرائحة، يؤتى به من بلد يقال له: قنبار «4» بين «5» الصّين والتّبّت؛ وربّما غالطوا به فنسبوه إلى التّبّت. قال: ويتلوه فى الجودة المسك الطّغزغزىّ، وهو مسك رزين يضرب إلى السواد، يؤتى به من أرض التّرك الطّغزغز «6» تجلبه التجار فيغالطون به، إلا أنّه ليس له جوهر ولا لون؛ وهو بطىء السّحق لا يسلم من الخشونة؛ ويتلوه فى الجودة المسك القصارىّ «7» ، يؤتى به من بلد يقال لها «8» قصار، بين الهند والصّين. قال: وقد يلحق بالصّينى، إلّا أنّه دونه فى القيمة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 12 والجوهر والرائحة. قال: والمسك الجرجيرىّ «1» ، وهو مسك يشاكل التّبّتىّ ويشبهه وهو أصفر حسن، زعر «2» الرائحة. وبعده المسك العصمارىّ «3» ، وهو أضعف أنواع المسك كلّها، وأدناها قيمة، يخرج من النافجة «4» التى زنتها أوقيّة زنة درهم واحد من المسك. ثم المسك الجبلىّ، وهو ما يؤتى به من ناحية أرض السّند من أرض المولتان «5» ، وهو كبير النّوافج، حسن اللون، إلّا أنّه ضعيف الرائحة. وقال: أجود المسك فى الرائحة والمنظر ما كان تفّاحيّا، تشبه رائحته رائحة التّفّاح اللّبنانىّ، وكان لونه تغلب عليه الصّفرة، وكان بين الجلال والدّقاق وسطا؛ ثم الذى يليه وهو أشدّ سوادا منه، إلّا أنّه يقاربه فى الرائحة والمنظر، وليس مثله؛ ثم الذى هو الجزء: 12 ¦ الصفحة: 13 أشدّ سوادا منه، وهو أدناه قدرا وقيمة. وقال: بلغنى أنّ العلماء بالمسك من تجار أهل الهند يذكرون أنّ المسك ثلاثة أنواع، لا يخرجونه عن ذلك، فالنوع الأوّل- وهو أفضله وأجوده- المسك الأصلىّ الخلقة المعروف؛ ونوعان آخران متّخذان: أحدهما يتخذ من أخلاط يابسة تكون عندهم من نبات أرضهم، وليس فيه من المسك الأصلىّ شىء، وهم يأمرون باستعماله وابتياعه من مواضع أصوله وما يليها من البلاد ومن الّذين يعرفونه، وهم أهل التّبّت؛ والآخر يتّخذونه وينهون عنه وعن ابتياعه والمتّجر فيه، وذلك أنّه يتغيّر ويفسد إذا أقام. قال: ونوع آخر، وهو مسك يجلب من قشمير «1» الداخلة وما حولها، وليس بجيّد؛ وهو يقارب المسك المصنوع المنهىّ عنه، ويكون هو أيضا متّخذا وغير متّخذ، وهو على نصف القيمة من المسك الجيّد. قال: والمسك فى طبعه حادّ لطيف غوّاص «2» ، جيّد لوجع الفؤاد، مقوّ للقلب، قاطع للدّم إذا ضمد به الجرح؛ ويدخل فى أكحال الجزء: 12 ¦ الصفحة: 14 العين وفى كثير من المعاجين الكبار؛ واذا جعل بدلا من الجندبيدستر «1» فإنّه أقرب الأشياء إليه فى طبعه وفعله. وقال محمد بن أحمد: فأمّا المسك المنسوب الى دارين، فهو من نوع المسك الهندىّ؛ تجلبه التجار الى دارين: جزيرة «2» بالبحرين ترفأ اليها سفن تجّار الهند، ويحمل منها إلى المواضع؛ وليست دارين بمعدن للمسك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 15 الباب الثانى من القسم الخامس من الفنّ الرابع فى العنبر «1» وأنواعه ومعادنه قال محمد بن أحمد التّميمىّ: حدّثنى أبى عن أبيه عن أحمد بن أبى يعقوب أنه قال: العنبر أنواع كثيرة، وأصناف مختلفة، ومعادنه متباينة؛ وهو يتفاضل بمعادنه وبجوهره؛ فأجود أنواعه وأرفعه وأفضله وأحسنه لونا وأصفاه جوهرا وأغلاه قيمة، العنبر الشّحرىّ، وهو ما قذفه بحر الهند إلى ساحل الشّحر من أرض اليمن؛ وزعموا أنّه يخرج من البحر فى خلقة البعير أو «2» الصخرة الكبيرة. قال التّميمىّ: والأصل الصحيح فيه أنه ينبع من صخور فى قرار الأرض ومن عيون، ويجتمع فى قرار البحر؛ فاذا تكاثف وثقل جذبته «3» طبيعة الدّهانة «4» التى فيه، واضطرّته إلى الانقطاع من المواضع التى يتعلّق بها عند خروجه من الأرض، وطلعت به إلى وجه الماء الجزء: 12 ¦ الصفحة: 16 فطفا على وجه الماء وهو جار ذائب؛ ومنه ما تقطّعه الأمواج فتخرجه الى السواحل قطعا كبارا وصغارا. قال: وحدّثنى أبى عن أبيه عن أحمد بن أبى يعقوب قال: تقطّعه الرّيح وشدّة الموج فترمى به إلى السواحل وهو يفور، لا يدنو منه شىء لشدّة حرّه وفوارانه؛ فاذا أقام أيّاما وضربه الهواء جمد، فيجمعه الناس من السواحل المتّصلة بمعادنه. قال: وربّما أتت السمكة العظيمة التى يقال لها: «البال «1» » فابتلعت من ذلك العنبر الصافى وهو يفور، فلا يستقرّ فى جوفها حتى تموت وتطفو، ويطرحها البحر إلى الساحل؛ فيشقّ جوفها، ويستخرج ما فيه من العنبر، وهو العنبر السّمكىّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 17 ويسمّى أيضا: المبلوع. قال: وربّما طرح البحر قطعة «1» العنبر فيبصرها طير أسود شبيه بالخطّاف، فيأتى اليها ويرفرف بجناحيه، فإذا دنا منها وسقط عليها تعلّقت مخاليبه ومنقاره فيها فيموت ويبلى، ويبقى منقاره ومخاليبه» فى العنبر، وهو العنبر المناقيرىّ «3» . قال النّميمىّ: وزعم الحسين بن يزيد السّيرافىّ أنّ الذى يقع من العنبر الى سواحل الشّحر شىء تقذفه الأمواج إليها من بحر الهند، وأنّ أجوده وأفضله ما يقع الى بحر البربر وحدود بلاد الزّنج وما والاها، وهو «4» الأبيض المدوّر، والأزرق النادر. قال: ولأهل هذه النواحى نجب يركبونها مؤدّبة يركبون «5» عليها فى ليالى القمر على سواحلهم، وهذه النّجب تعرف العنبر، وربّما نام الراكب عليها أو غفل، فإذا رأى النجيب العنبر على الساحل برك بصاحبه، فينزل ويأخذه. قال: ومنه ما يوجد فوق البحر طافيا فى عظم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 18 الثّور. قال: وبعد العنبر الشّحرىّ العنبر الزّنجىّ، وهو الّذى يؤتى به من بلاد الزّنج إلى عدن، وهو عنبر أبيض؛ وبعده العنبر الشّلاهطىّ «1» ، وهو يتفاضل، وأجود الشّلاهطىّ الأزرق الدّسم الكثير الدّهن، وهو الذى يستعمل فى الغوالى «2» . وبعد الشّلاهطىّ العنبر القاقلّىّ، وهو أشهب «3» ، جيّد الرّيح، حسن المنظر، خفيف، وفيه يبس يسير، وهو دون الشّلاهطىّ لا يصلح للغوالى ولا للتّغلية «4» والتّطهير «5» إلّا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 19 عن ضرورة؛ وهو صالح للذّرائر «1» والمكلّسات «2» ؛ ويؤتى بهذا العنبر من بحر قاقلّة إلى عدن؛ وبعد القاقلّىّ العنبر الهندىّ، يؤتى به من سواحل الهند الداخلة، فيحمل إلى البصرة وغيرها؛ وبعده الزّنجىّ، يؤتى به من ساحل الزّنج؛ وهو شبيه بالهندىّ ويقاربه. هكذا ذكر التّميمىّ فى (جيب العروس) ، فإنّه يجعل الزّنجىّ بعد الشّحرىّ وذكر الزّنجىّ أيضا بعد الهندىّ. وقال: وعنبر يؤتى به من الهند يسمّى الكرك «3» بالوس وينسب إلى قوم من الهند يجلبونه، يعرفون بالكرك بالوس، يأتون به الى قرب عمان، يشتريه منهم أصحاب المراكب. قال: وأمّا العنبر المغربىّ، فإنّه دون هذه الأنواع كلّها، يؤتى به من بحر الأندلس، فتحمله التّجار إلى مصر؛ وهو شبيه فى لونه بالعنبر الشّحرىّ، وقد يغالط به فيه. قال التّميمىّ: وأفضل العنبر وأجوده ما جمع قوّة رائحة وذكاء بغير زعارّة «4» . وقال أحمد بن أبى يعقوب: قال لى جماعة من أهل العلم بالعنبر: إنه بجبال ثابتة فى قرار البحر، مختلفة الألوان، تقتلعه الرّياح وشدّة اضطراب البحر فى الأشتية الشديدة، فلذلك لا يكاد يخرج فى الصيف. قال: وألوان العنبر مختلفة، منها الأبيض، وهو الأشهب؛ ومنها الأزرق، والرّمادىّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 20 والجرارىّ، وهو الأبرش؛ والصّفائح، وهو الأصفر والأحمر، وهما أدنى العنبر قدرا؛ [والله أعلم «1» ] . ومن العنبر صنف يسمّى المند «2» ، ويوجد على سواحل من البحر - قال التّميمىّ: أخبرنى جماعة من أهل المعرفة بالعطر وأصنافه وأنسابه أنّ دابّة تخرج من البحر فترمى به من دبرها، وأنّ تلك الدابّة فى صورة البقر الوحشىّ، فيؤخذ وهو ليّن يمتدّ، فما كان منه عذب الرائحة حسن الجوهر، فهو أفضله وأجوده. والمند أصناف، أجودها الشّحرىّ وهو أسود، فيه صفرة تخضب اليد إذا لمس؛ ورائحته كرائحة العنبر اليابس، إلّا أنّه لا بقاء له على النار؛ ويستعمل فى الغوالى «3» اذا عزّ العنبر الشّلاهطىّ «4» ؛ ومن المند الزّنجىّ، وهو نظير الشّحرىّ فى المنظر، ودونه فى الرائحة؛ وهو أسود بغير صفرة؛ ومنه الخمرىّ، وهو يخضب اليد وأصول الشّعر خضابا جيّدا، ولا ينفع فى الطّيب؛ ومنه السّمكىّ، وهو المبلوع كما قدّمنا ذكره، وهو فى لونه شبيه بالقار، وهو ردىء فى الطّيب، للسّهوكة «5» التى يكتسبها من السّمك «6» . وقال الجزء: 12 ¦ الصفحة: 21 التّميمىّ: طبع العنبر حارّ، وفيه شىء من يبس؛ وهو مقوّ للقلب، مذكّ للحواسّ محلّل للرّطوبات، نافع للشيوخ؛ وقد تضمد به المفاصل المنصبّ اليها الرّطوبات فتنتفع به نفعا جيّدا، ويقوّيها؛ ويستعمل فى الجوارشنات «1» وكبار المعاجين وفى المعاجين المقوّية للمعدة والقلب؛ ويسعط «2» به فيحلّل علل الدّماغ. قال: وقد تصطنع منه شمّامات فيشمّها من بهم اللّقوة «3» والفالج، فينتفعون بروائحها. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 22 الباب الثالث من القسم الخامس من الفن الرابع فى العود وأنواعه ومعادنه وأصنافه قال محمد بن أحمد التّميمىّ: أخبرنى أبى عن أبيه عن جماعة من أهل العلم والمعرفة بالعود أنّه شجر عظام بمواضع من أرض الهند؛ وهى معادن له، وأنّ منه ما يجلب من أرض (قشمير) الداخلة، [و «1» ] من أرض (سرنديب) ومن (قمار «2» ) وما اتّصل بتلك النواحى؛ وذكروا أنّه لا تصير له رائحة إلّا بعد أن يعتق وينجر ويقشر، فاذا نفى عنه قشره وجفّف حمل «3» إلى «4» كلّ ناحية. قال: وأخبرنى بعض العلماء به أنه يكون من قلب الشجر، وأنّه ليس كلّ ما فى الشجرة عودا، وأنّه بمنزلة قلب شجرة الآبنوس «5» الجزء: 12 ¦ الصفحة: 23 والعنّاب والزيتون والأنواع الّتى داخلها من جوهر الخشب فيه دهانة «1» ، وما فى خارجها خشب أبيض لا دهانة فيه، وربّما كان فيه كمثل الطرائق والشامات فى الشجرة فيقطع، ويقشر البياض منه، ويدفن فى التراب، فيقيم سنين حتى يأكل التّراب ما عليه وما فى داخله من الخشب، ويبقى العود، ولا يعمل التراب فيه. وإلى نحو هذا القول ذهب محمد بن العبّاس. وقال محمد بن العبّاس أيضا: وأخبرنى جماعة من أهل (الأبلّة «2» ) أنّ العود المعروف بالهندىّ يكون فى أودية بين جبال شواهق متوعّرة، لا وصول لأحد اليها لصعوبة المسلك، وأنّ العود يكون فى غياض بتلك الأودية، فيتكسّر بعض ذلك الشجر على طول الأيّام، وتتعفّن منه أصول بعض الشجر من الأمطار والسّيول، فيأكل التراب والماء والهواء ما فيه من الخشب، ويبقى صميم العود وخالصه وجوهره، فإذا كثرت الأمطار وجرت السّيول أخرجته من تلك الأودية إلى البحر، فتقذفه الأمواج إلى الساحل فيجمعه الناس ويلتقطونه وينقلونه الى الجهات. وقد حكى بعض من تردّد إلى بلاد الهند من التّجار قال: لم أرشجر العود، ولا رأيت من رآه؛ قيل له: وكيف لم تره وقد تردّدت الى بلاد الهند، ومنها يجلب؟ قال: لأنّ التجّار الذين يجلبونه إلى «3» الهند اذا قدموا بمراكبهم إلى الموانى بالهند يقفون بالمراسى بحيث يرى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 24 من بالموانى مراكبهم، ولا يرون من فيها، فإذا شاهدوها أخلوا الفرضة والمينا من عشيّة، ولا يظهر منهم أحد بها، فيأتى أصحاب تلك المراكب إلى المينا وينقلون جميع ما معهم الى الفرضة، ويفرد «1» كلّ تاجر منهم بضاعته، ويتركونها ويخرجون فيقفون على مراسيهم، ويصبح أهل المدينة فيأتون الى تلك البضائع، [ويجعلون «2» الى جانب كلّ بضاعة بضاعة نظيرها، ويتركونها، ويخلون الفرضة، فيعود التجّار وينظرون الى ما جعل لهم بدل بضائعهم، فمن رضى بالعوض أخذه وترك بضاعته ومن لم يرض به تركهما جميعا؛ ويصبح أهل المدينة فيأتون إلى تلك البضائع] فما وجدوه منها قد أخذ عوضه علموا أنّ صاحبه رضى بالبيع، وما وجدوه باق هو وعوضه علموا أنّ صاحب البضاعة لم يرض بالعوض، فيزاد حتّى يرضى؛ فهذا دأبهم مع الذين يجلبون العود، وليس فيهم من رآهم. وحكى الحاكى، أنّه حكى أنّ بعض أهل المدينة كمن لهم فى مكان يراهم منه ولا يرونه، فرأى وجوههم وجوه كلاب، وبقيّة أجسامهم أجسام الآدميّين. وأمّا أنواع العود ومعادنه وأصنافه - فهو أنواع كثيرة، وأصناف متباينة؛ فأفضله وأجلّه وأنفسه المندلىّ، وهو الهندىّ؛ وإنّما سمّى المندلىّ نسبة الى معدنه «3» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 25 «والمندلىّ هو «1» الهندىّ» . قالوا: وهو يجلب من ثلاثة مواضع من أرض الهند، فأفضل ذلك القامرونىّ، وهو ما جلب من القامرون؛ والقامرون «2» : مكان مرتفع من الهند. وقيل: بل هو منسوب إلى نوع من شجر العود يسمّى القامرون وهو أغلى العود ثمنا، وأرفعه قدرا. قال: وهو قليل لا يكاد أن «3» يجلب إلّا فى [بعض «4» ] الحين؛ وهو عود رطب جدّا، شديد سواد اللّون، رزين، كثير الماء. وقال الحسين بن يزيد السّيرافىّ فى (أخبار الهند) : إنّ الصنم المعروف بالمولتان «5» - وهو بقرب المنصورة «6» - يقصده الرجل من مسيرة ثلاثة أشهر يحمل على ظهره أفخر العود الهندىّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 26 والقامرونىّ. قال: وقامرون: بلد يكون فيه فاخر العود، ويتجشّم الهندىّ المشقّة فى حمله حتى يأتى به إلى هذا الصنم فيدفعه إلى السّدنة ليبخّروا به الصّنم، وإنّ هذا العود القامرونىّ فيه ما قيمة المنّ «1» منه مائتا دينار؛ وإنّه ربّما ختم عليه فانطبع وقبل الختم [للينه «2» ] . قال: والتّجار يبتاعونه من هؤلاء السّدنة؛ ولمّا غلب المسلمون على المولتان «3» قلعوا هذا الصنم وكسروه، فأصابوا تحته من هذا العود، فأخذوه. والصّنف الثانى من الهندىّ، السّمندورىّ، ويجلب من بلاد سمندور «4» ، وهى «5» الجزء: 12 ¦ الصفحة: 27 بلد سفالة «1» الهند؛ والسّمندورىّ يتفاضل، فأجوده الأزرق، الكثير الماء، الصّلب الرزين، الذى يصبر على النار؛ ومن الناس من يفضّل الأسود على الأزرق، ومنهم من يفضّل الأزرق على الأسود؛ وتكون القطعة الضّخمة منه منّا «2» واحدا، ويسمّى لطيب رائحته ريحان العود؛ وأفضل العود بعد السّمندورىّ [العود] القمارىّ ويؤتى به [من] قمار «3» ، وهى أرض سفالة الهند؛ وهو أيضا يتفاضل؛ وأجوده الأسود والأزرق، الكثير الماء، الرزين الصّلب، الذى لا بياض فيه، ويبقى على النار ويكون فى القطعة منه نصف رطل الى ما دون ذلك. قال أحمد بن أبى يعقوب: وله سنّ نضيج جيّد، كثير الماء. قال: ولا يجتمع فى صنف من أصناف العود ما يجتمع فى العود الهندىّ من الحلاوة والمرارة والخمرة «4» والبقاء والصبر على النار. وحكى محمد بن العبّاس المسكىّ فى كتابه فى سبب تفضيل العود الهندىّ وتقديمه على غيره، واستعمال الخلفاء له، فقال: العود الهندىّ أرفع أجناس العود وأفضلها الجزء: 12 ¦ الصفحة: 28 وأجودها، وأبقاها على النار، وأعبقها بالثياب. قال: ولم تكن التّجار تجلبه فى الجاهليّة ولا ما بعدها، إلى آخر أيّام بنى أميّة، ولا ترغب فى حمله، لأجل المرارة التى فى رائحته؛ وإنّما كانت الأكاسرة تتبخّر بالمندلىّ والقمارىّ «1» والسّمندورىّ والصّنفىّ لشدّة حلاوة روائحها. وزعم أنّ تلك الحلاوة تولّد القمل فى الثّياب. قال: ولم يكن الهندىّ يعرف فى هذه الأمصار، ولا كانت التّجّار تجلبه مع معرفتها بفضله فلمّا كان فى آخر أيّام الدّولة الأمويّة عند ما كثر الاختلاف بينهم، وقلّت الأموال فى أيديهم، شرعوا فى مصادرات الرّعايا، وأخذوا الأموال من غير وجوهها وتعرّضوا إلى أموال الأوقاف والأيتام، فتعرّض ولاة خراسان لبرمك ولولده وطالبوهما بالأموال، وكان تحت يد برمك أوقاف جليلة، فهرب هو وولده من أعمال خراسان الى بلاد الهند، فأقاموا بها الى أن ظهرت الدّولة العبّاسيّة، فرأى الحسين بن برمك طيبة العود الهندىّ وزهد التّجّار فيه، فاستجاده، واشترى منه واستكثر؛ ثم قدم خالد بن برمك وأخوه الحسين وأهلهما على المنصور أبى جعفر لمّا أفضت الخلافة اليه، فاصطنعهم وأدناهم وقرّبهم؛ فدخل الحسين يوما على المنصور وهو يتبخّر بالعود القمارىّ، فأعلمه أنّ عنده ما هو أطيب منه رائحة [وأنه «2» حمله معه من الهند؛ فأمره المنصور بحمل ما عنده منه، فحمله اليه، فآستجاده المنصور، وأمر أن يكتب إلى الهند فى حمل الكثير منه، ولم تكره تلك المرارة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 29 والزّعارّة «1» التى فى رائحته] ، لأنّها تقتل القمل، وتمنع من تكوّنه فى الثّياب؛ وله عبق بالثياب وبقاء فيها. قال: فلمّا اختارت الخلفاء والملوك العود الهندىّ وآثرت البخور «2» به، سقط قدر ما عداه من أصناف العود، وعزّ العود الهندىّ. قال محمد ابن أحمد: وبعد العود القمارىّ فى الفضل والجودة العود القاقلّىّ، ويجلب من جزائر فى بحر قاقلّة، وهو عود دسم له بقاء فى الثياب، وفى ريحانيّة «3» خمرة «4» ؛ وهو حسن اللّون شديد الصّلابة، إلّا أنّ قتاره «5» ربّما تغيّر على النّار، فينبغى أنّه إذا استعمل وبخّر به لا يستقصى إلى أن تنتهى النّار إلى القتار. قال ابن أبى يعقوب: وبعد العود القاقلّىّ العود الصّنفىّ، ويجلب من بلد يقال له الصّنف بناحية الصّين؛ وبين الجزء: 12 ¦ الصفحة: 30 الصّنف والصّين جبل لا يسلك، وهو أجلّ «1» الأعواد وأبقاها فى الثياب؛ ومنهم من يفضّله على القاقلّىّ، ويرى أنّه أطيب وأعبق وآمن من القتار؛ ومنهم أيضا من قدّمه على القمارىّ. قالوا: وأجود الصّنفىّ الأسود، الكثير الماء، ويكون فى القطعة منه المنّ «2» والأكثر والأقلّ. قالوا وشجر العود الصّنفىّ أعظم من شجر الهندىّ والقمارىّ. وبعد الصّنفىّ العود الصّندفورىّ. ويجلب من بلد الصّندفور «3» . ويقال: إنّه صنف من الصّنفىّ، إلّا أنّه ليس بالقطع الكبار؛ وهو حلو الرائحة حسن اللّون، رزين صلب، لا حق بقيمة الجيّد من الصّنفىّ. وبعد الصّندفورىّ العود الصّينىّ، وهو عود حسن اللّون، أوّل رائحته يشاكل رائحة الهندىّ، إلّا أنّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 31 قتاره «1» غير محمود، وأفضله نوع منه يسمّى القطعىّ «2» ، وهو رطب حلو، طيّب الرائحة؛ ويؤتى به من الصّين؛ وتكون القطعة منه نصف رطل وأكثر وأقلّ. قال أحمد بن أبى يعقوب: ومن العود أيضا صنف يسمّى القشور، رطب أزرق؛ وهو أعذب رائحة من القطعى، ودونه فى القيمة. قال: ومن الصّينىّ أيضا أصناف أخر، وهى دون كلّ هذه الأصناف: منها المنطائىّ «3» ، وهو المانطائىّ قطعه كبار ملس سود، لا عقد فيها، ليست روائحها بمحمودة، تصلح للأدوية والسّفوفات والجوارشنات. ومنه صنف يعرف بالجلّابىّ «4» ؛ وصنف يعرف باللّواقىّ وهو اللّوقينىّ؛ وهى أعواد متقاربة فى القيمة. قال التّميمىّ: ومن الناس من رتّب العود الصّينىّ غير ترتيب أحمد بن أبى يعقوب فقالوا: إنّ أفضل العود الصّينىّ العود القطعىّ «5» ، وبعده العود الكلهىّ «6» ، وهو عود رطب الجزء: 12 ¦ الصفحة: 32 يمضغ، وفيه زعارّة «1» وشدّة مرارة، للدّهانة «2» الّتى فيه، وهو من [أعبق] الأعواد فى الثّياب وأبقاها. وبعد الكلهىّ العود العولاتى «3» ، وهو عود يجلب من (جزيرة العولات «4» ) بناحية قمار «5» من أرض الهند. وبعده اللّوقينىّ، ولوقين: طرف من أطراف الهند، وهو دون هذه الأعواد فى الرائحة والقيمة؛ وله خمرة «6» فى الثّياب. وبعد اللّوقينىّ المانطائىّ «7» ، وهو الجزء: 12 ¦ الصفحة: 33 من شجر بجزيرة تسمّى ما نطاء؛ وقيمته مثل قيمة اللّوقينىّ؛ وهو خفيف، ليس بالحسن اللّون. وبعد المانطائىّ العود الريطائىّ «1» ، وهو من جزيرة تسمّى ريطاء، وهو دون المانطائىّ فى الرائحة والقيمة، يدخل فى أعمال المثلّثات «2» والبرمكيّات «3» . وبعد العود الرّيطائىّ العود القندغلى «4» ، ويؤتى به من ناحية (كله «5» ) وهو ساحل الزّنج، وهو يشبه القمارىّ، إلّا أنّه لا طيب لرائحته. وبعده العود السّمولىّ، وهو عود حسن المنظر فيه حمرة «6» ، وله بقاء فى الثياب وعلى النار؛ وقتاره «7» غير محمود، وهو سريع القتار. وبعد السّمولىّ العود الرانجىّ «8» ، وهو عود يشبه قرون الثور، لا ذكاء له ولا بقاء؛ وهو ساقط الجزء: 12 ¦ الصفحة: 34 القيمة، وهو أردأ أنواعه وأدناها. وبعده صنف يقال له: المحرّم، سمّى بذلك لأنه كان قد وقع الى البصرة، فشكّ الناس فيه، فحرّمه السلطان، فسمّى المحرّم، وهو من أدنى أصناف العود. وقال محمد «1» بن العبّاس المسكىّ «2» فى كتابه: أفضل العود كلّه وأجوده المندلىّ، وبعده العود السّمندورىّ، وأجود السّمندورىّ الأزرق، الكثير الماء الرزين، الصّلب، الغليظ، الذى لا بياض فيه، الباقى على النار، الكثير الغليان وقوم يفضّلون الأسود منه، وآخرون يفضّلون الأزرق؛ ويكون فى القطعة الضخمة منه منّ «3» . ثمّ العود القمارىّ، وأجود القمارىّ الأسود، النقىّ من البياض، الرّزين الباقى على النار. قال: وربّما كان فيه شهبة يسيرة؛ وبعد القمارىّ الصّنفىّ الغليظ الكثير الماء، وقد يوازى القمارىّ فى بعض الحالات، وربّما فضّل عليه، وهما عودان يتقاربان فى الصّفة، وتكون القطعة من الصّنفىّ رطلين وأقلّ. وبعد الصّنفىّ القاقلّىّ، وهو عود أسود، فيه بعض شهبة، أشبه شىء بالعود الجزء: 12 ¦ الصفحة: 35 القمارىّ فى منظره؛ وهو عود حلو، طيّب الرائحة. وبعد القاقلّىّ العود الريركى وهو عود صلب، خفيف، قليل الصّبر على النار، حسن المنظر واللّون، ويشبه القاقلّىّ؛ ويؤتى به من بلاد سفالة الهند. وبعده العود العطكىّ، يؤتى به من الصّين وهو عود رطب حلو طيّب، دون الصّنفىّ، وفوق «1» القاقلّىّ. ثم صنف من العود يسمّى: القشور، وهو عود طيّب الرائحة، رطب، أزرق، عدب، رائحته مثل رائحة القطعى، وهو دونه فى القيمة، وبعده المانطائىّ «2» ، وهو جنس من العود الصّينىّ، وهو قطع كبار ملس لا عقد فيها، وليست رائحته طيّبة، وهو يصلح للأدوية والجوارشنات «3» . قال: وكذلك الجلّابى، واللّواقى، والبربطائىّ «4» ، والبوطاجىّ هذه الأصناف لا خير فيها، ولا طيب لروائحها؛ وهذه الأجناس يسمونها: الأشباه. قال: وأمّا العود المسمّى: الإفليق، فإنّه يجلب من أرض الصّين، ويكون فى العظم مثل الخشب الرّيحىّ «5» الغليظ، يباع المنّ «6» منه بدينار وأقلّ وأكثر، والعود من قشوره؛ وأمّا داخله وقلبه فخشب أبيض خفيف مثل الخلاف؛ وإذا وضع على الجمر وجد الجزء: 12 ¦ الصفحة: 36 له فى أوّله رائحة حلوة طيّبة، فإذا أخذت النار منه ظهرت له رائحة جزازيّة «1» رديئة كرائحة الشّعر. هذا ما أمكن إيراده من أصناف العود وأجناسه ومعادنه، وهو معنى ما أورده التّميمىّ فى (جيب العروس) . ذكر تطرية العود الأبيض وإظهار دهانته وإكسابه «2» سوادا قال التّميمىّ فيما نقله عن أبى بكر بن محمد بن أحمد المرندج «3» المعروف بابن البوّاب: يؤخذ من العود ما كان أبيض الظاهر، إلّا أنّ فيه رزانة تدلّ على دهانة «4» كامنة فيه فيبرى برية يسيرة، ويعمد إلى قعر قدر برام» فيثقّب «6» حتّى يصير كهيئة المنخل، ويعمد الجزء: 12 ¦ الصفحة: 37 إلى قدر من نحاس أو غير نحاس يكون رأسها بمقدار قعر القدر المبخّش «1» ، بحيث إنها متى انطبقت عليها لا يخرج من البخار شىء، ويصبّ فى القدر ماء، ويجعل ذلك المثقّب على فم القدر، ويطيّن، ويجعل العود فيها «2» ، وتغطّى بغطاء محكم، ويوقد تحت القدر السّفلى وقيدا جيّدا حتّى يصعد بخار الماء إلى العود من تلك الأبخاش «3» ويفتقده بعد مضىّ ساعة، ثم يكشفه ويقلّبه تقليبا جيّدا، ثم يغطّيه، ويتعاهده ساعة بعد ساعة إلى أن يظهر له أنّ دهن العود قد ظهر، ويمتحن ذلك بأن يمسح القطعة منه فى خرقة، فإذا أثّرت الدّهانة «4» فيها فليخرج وينشر فى طست حتّى يبرد ويرفعه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 38 الباب الرابع من القسم الخامس من الفنّ الرابع فى الصّندل «1» وأصنافه ومعادنه والصّندل أصناف: أفضلها الأصفر الدّسم، الرزين العود، الّذى كأنّه قد مسح بالزّعفران، الذكّى الرائحة؛ ويسمّى المقاصيرىّ، واختلف فى سبب تسميته بهذا الاسم ونسبته اليه، فقال قوم: هى نسبة إلى بلد تسمّى (مقاصير) . وقال قوم: إنّ بعض الخلفاء من بنى العبّاس أمر بأن تصنع منه مقاصير لأمّهات أولاده وخواصّ سراريّه، فسمّى بذلك؛ والأوّل أصحّ. وقيل: إنّه يجلب من بلدين من أطراف الهند، إحداهما مقاصير، والأخرى تسمّى الجور؛ فما جلب من مقاصير فهو المقاصيرىّ، وما جلب من الجور فهو الجورىّ. قالوا: وهو شجر عظام؛ وإنّه يقطع وهو رطب، ويقشر؛ وله من فوق قلبه الأصفر خشب ليس بالذّكىّ الرّيح إلّا أنّه صندل يضرب إلى البياض، وهو الصّندل الأبيض؛ وفى روائحه ضعف الجزء: 12 ¦ الصفحة: 39 عن رائحة القلب الدّسم. وأجوده ما اصفرّ وذكت رائحته ولم يكن فيه زعارّة «1» . ويلى الصندل الأصفر الصندل الأبيض، الطّيب الرّيح، الّذى هو من جنس المقاصيرىّ، لا يخالفه إلّا بالبياض؛ وبعده الصّندل الأبيض الّذى يضرب لونه الى السّمرة، وهو الجورىّ السّبط، الصّلب العود، الّذى يجلب من الجور، وهو صندل صلب سبط، ضعيف الرائحة، وله رائحة طيّبة، إلّا أنّها دون رائحة ما قبله. ويلى الجورىّ صنفان: أحدهما أصفر فيه زعارّة وطيب؛ والاخر يضرب فى لونه الى الحمرة، وفيه أيضا زعارّة ريح وجدّة، وما لونه منهما الى الصّفرة فإنّه يسمّى «الساوس» ؛ وقيل: «الكاوس «2» » ، وقد تفتق «3» بهما الذّرائر؛ ويدخلان فى المثلّثات «4» والبخورات. وبعدهما صندل جعد الشّعرة، لا سباطة له، اذا شقّق كان جعدا كتجعيد خشب الزيتون؛ وهو أذكى أصناف الصّندل، ولا يستعمل فى شىء سوى البخورات والمثلّثات؛ وبعده الصّندل الأحمر الشديد الحمرة؛ ويستعمل لتبريد الأورام الحارّة؛ وهو حسن اللّون، ثقيل الوزن، لا رائحة له ولا خاصّيّة غير تحليل الأورام الحارّة، وتتّخذ منه المنجورات والمخروطات، كالدّوىّ، والعتائد «5» الجزء: 12 ¦ الصفحة: 40 وأدوات الشّطرنج ومهارك «1» النّرد وأشباه ذلك؛ ويتّخذ ذلك من الأبيض فيما يحتاج إلى لونين. والصندل الأحمر أيضا يحكّ على الحجارة الخشنة بالماء، ويطلى به على الأورام الحارّة كما ذكرنا، وعلى الماشرا «2» ، وعلى كلّ موضع من الجسد تظهر فيه حمرة دمويّة، وعلى النّقرس «3» الحادّ المتولّد من فساد الدم فى بدء العلّة، ليقوّى العضو الجزء: 12 ¦ الصفحة: 41 ويمنع من انصباب المادّة اليه. قال التّميمىّ: وبعد الصندل الأحمر صنف يعرف بالنّجارىّ «1» ، وهو خشب صلب لا رائحة له، ولا يدخل فى شىء من الطّيب، وإنّما تتّخذ منه المنجورات والمخروطات التى ذكرناها، وذلك لصلابته ورزانته. قال: وجميع أنواع الصّندل الّتى ذكرناها يؤتى بها من سفالة الهند. فالأصفر الطيّب الرائحة المقاصيرىّ يدخل فى طيب النساء الرّطب واليابس وفى البرمكيّات والمثلّثات والذّرائر؛ وتتّخذ منه قلائد؛ ويدخل فى الأدوية وفى ضمادات الكبد والمعدة؛ وهو بارد منشّف محلّل للأورام. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 42 الباب الخامس من القسم الخامس من الفنّ الرابع فى السّنبل «1» الهندىّ وأصنافه والقرنفل وجوهره فأمّا السّنبل الهندىّ - فقد قال أحمد بن أبى يعقوب: السنبل أصناف، وأجوده العصافير الحمر الألوان، المسلّل، والمسلّل هو الذى قد نقّى من زغبه ومسح منه، وبقى عصافير مجرّدة، واذا أمسكه الإنسان بكفّه ساعة ثم اشتمّه كانت رائحته كرائحة التّفّاح أو نحوها؛ ثم الذى يليه، وهو نوع من العصافير أصفر «2» كثير البياض والشّمط، طيّب الرائحة، قريب من الأوّل. ثم أدناه، وهو دقاق من السّنبل وجلال، ليس ممّا يدخل فى جيّد العطر. وأمّا أصله - فهو حشيشة تنبت بأرض الهند، وببلد التّبّت «3» أيضا. وقيل: إنّها تنبت فى أودية بالهند كما ينبت الزّرع، ثم تجفّ فيأتى قوم فيحصدونه ويجمعونه. وقيل: إنّ الأودية التى ينبت فيها هذا السّنبل كثيرة الأفاعى وليس يأتيها أحد إلّا وفى رجله خفّ طويل غليظ منعّل بالخشب أو الحديد. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 43 قالوا: وتلك الأفاعى ذوات قرون فيها السّمّ القاتل الذى يقال له: (البيش) ؛ فيقال: إنّه من قرون الأفاعى. وقال قوم من أهل العلم: إنّه نبات «1» ينبت بتلك الأودية؛ وهو ضربان: ضرب خلنجىّ، يضرب فى لونه إلى الصّفرة، وهو أفضله؛ وضرب آخر يضرب إلى السواد، وهم يعرفونه فيتوقّونه؛ وربّما جهله بعضهم فمات عند مسّه، سيّما «2» إن كانت يده قد عرقت، أو هى رطبة. وقد كان بعض الخلفاء يأمر بأن يوكّل بالمراكب التى تأتى من بلد الهند إلى الأبلّة وغيرها من الفرض من يكشف السّنبل ويعتبره، فيخرج منه البيش، فيؤخذ بكلبتين من حديد وليس يمسّه أحد إلّامات لوقته، فكان يجمع ذلك فى وعاء ويلقى فى البحر. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 44 وأمّا القرنفل «1» وجوهره - فقال أحمد بن أبى يعقوب: القرنفل كلّه جنس واحد، وأفضله وأجوده الزّهر، القوىّ اليابس الجافّ الذّكىّ، الحرّيف الطّعم الحلو الرائحة؛ ومنه الزّهر، ومنه الثمر؛ والزّهر منه هو ما صغر وكان مشاكلا لعيدان فروع الخربق «2» الأسود فى المنظر. والثمر منه ما غلظ وشاكل نوى التّمر، أو عجم الزّيتون. وقيل: هو ثمر شجر عظام «3» يشبه شجر السّدر. وقال آخرون: يشبه شجر الجزء: 12 ¦ الصفحة: 45 الأترجّ. وقال آخرون: هو ثمر شجر ورقه الساذج «1» الهندىّ، واستدلّوا على ذلك بما فى طعم الساذج من القرنفليّة. قال: ويجلب من بلاد سفالة الهند وأقاصيها؛ وله بالمواضع التى هو بها روائح ذكيّة ساطعة الطّيب جدّا، حتى إنّهم يسمّون أماكن القرنفل: «ريح الجنّة» ، لذكاء رائحته. وهو حارّ يابس، لطيف غوّاص، مقوّ للقلب نافع لبعض الأكباد التى فيها عفونة، قاطع للغثيان المولّد من الرّطوبة والقىء الكائن من التّخمة والهيضة «2» ؛ وإذا دقّ مع التّفّاح الشامىّ واعتصر ماؤه مع شىء من قلوب النّعناع وأعطى الوصب نفعه؛ وقطع عنه الغثيان والقىء؛ وهو يطيّب النّكهة؛ والذّكر منه- وهو الزّهر- أقوى من فعل الأنثى. قال: وقد يصعّد منه ماء يفوق فى الطّيب ماء الورد، ويدخل فى كثير من مكلّسات «3» الطّيب والذّرائر، وفى كثير الجزء: 12 ¦ الصفحة: 46 من المعاجين الكبار والأدوية، وفى عامّة طيب النساء، وفى اللّخالخ «1» والمخمّرات كلّها. وقال محمد بن العبّاس المسكىّ «2» : رأيت قوما ببغداد يدورون على الصّيارفة يشترون منهم الدّنانير المروانيّة التى أمر بضربها عبد الملك بن مروان، وعلى سكّتها: «الله أحد» ؛ فسألتهم عن ذلك، فذكروا أنّها تحمل فى البحر فى أكياس قد كتب على كلّ كيس منها اسم صاحبه ووزنه، فإذا صاروا بالقرب من جزيرة عظيمة بناحية سفالة الهند وضعوا «3» الأناجر «4» ، وشدّوا المراكب ناحية، وركبوا قوارب ومعهم تلك الأكياس وأنطاع قد كتب على كلّ نطع منها اسم صاحبه أيضا؛ فيخرجون إلى موضع من تلك الجزيرة، فيبسط كلّ واحد منهم نطعه، ويحمل كيسه فوق النّطع مغطّى ببعض النّطع، حتّى اذا فعل ذلك جماعتهم، وعادوا إلى القوارب، ورجعوا إلى المراكب آخر النهار، باتوا ليلتهم تلك فى مراكبهم، ثمّ غدوا فى القوارب إلى الجزيرة، فيجدون فوق كلّ نطع من أنطاعهم من القرنفل بحسب ماله من الجزء: 12 ¦ الصفحة: 47 المال، ولا يجدون الأكياس؛ فإن رضى القوم بما وجدوا من القرنفل على أنطاعهم أخذوه، ومن لم يرض منهم تركه وعاد إلى مركبه، ثم يعود فى اليوم الثانى فيجد كيسه بحاله، ولا يرى للقرنفل أثرا، ولا تقع عين أحد من التّجار على أحد ممّن هو فى تلك الجزيرة، ولا يقفون على موضع القرنفل ولا على شجره. وهذه الحكاية شبيهة بما ذكرناه فى أمر العود. قال التّميمىّ: وقد كان وقع إلىّ ذكر هذا بعينه؛ وزعم الّذى أخبرنى: أنّهم قديما كانوا يجدون أكياسهم مع القرنفل على الأنطاع بحالها، فكان الرجل إن اختار القرنفل حمله وترك الكيس، وإن اختار المال أخذه وترك القرنفل، الى أن غدر التّجار بهم فى بعض السنين، فحملوا المال والقرنفل، وانقطع جلب القرنفل سنين كثيرة، وغلا حتّى لم يقدر عليه، ثمّ عادوا ولزموا العدل مع أهل الجزيرة، فصاروا عند ذلك لا يجدون فوق الأنطاع غير القرنفل فإن رضوا به حملوه، وإن سخطوا تركوه ليلتهم، ثم عادوا فى اليوم الثانى فوجدوا أموالهم. وهذه الحكاية نحو ما قدّمناه فى العود. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 48 الباب السادس من القسم الخامس من الفنّ الرابع فى القسط «1» وأصنافه ويقال فيه: الكست «2» بالكاف والتاء، بدل القاف والطاء؛ وقد تكرّرت الأحاديث الصحيحة النبويّة- على قائلها أفضل الصلاة والسلام- بمنافعه وما فيه من الأشفية؛ فمنها ما رواه البخارىّ بسنده عن أمّ قيس «3» بنت محصن أخت عكاشة،- وكانت من المهاجرات الأول اللّاتى بايعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- أنّها قالت: أتيت «4» النّبىّ صلّى الله عليه وسلّم بآبن لى قد علّقت «5» عليه «6» من الجزء: 12 ¦ الصفحة: 49 العذرة «1» فقال النّبىّ صلّى الله عليه وسلّم: «اتّقوا الله، على «2» ما تدغرون «3» أولادكم بهذه الأعلاق «4» ، عليكم بهذا العود الهندىّ فإنّ فيه سبعة أشفية، منها ذات الجنب» يريد الكست، يعنى القسط. وللقسط أصناف ذكرها محمّد بن أحمد التّميمىّ فى جيب العروس فقال: منه ما يجلب من بلاد الحبشة؛ ومنه البحرىّ الذى يسمّى الجلود؛ وأجوده الأبيض الرقيق القشرة الّذى هو كأمثال الأصابع وأكبر، والمشقّق اليابس. ويقال: إنّهم يأكلونه فى بلادهم رطبا. وقال محمد بن العبّاس المسكىّ «5» : أخبرنى بعض البحريّين أنّه يكون فى جبال الماهات «6» ، ينبت فى شقوق الصّخور وأعالى الجبال؛ ويقال الجزء: 12 ¦ الصفحة: 50 له [الكى «1» ] ويؤكل «2» ، غير أنّه ردىء الجوهر، اذا جفّ لا تكون له صلابة، ويشبه أصله أصل الكرفس الجبلىّ، وكذلك ورقه يشبه ورق الكرفس الجبلىّ أيضا. قال المسكىّ: فلمّا صرت إلى الجبل جرّبت ذلك فوجدته كما قال، ورأيته كثيرا فى جبال أبهر «3» وزنجان «4» . قال التّميمىّ: ومن القسط الحلو أيضا صنف آخر غليظ الرائحة يسمّى القرنفل، ليس بطائل، ويدخل فى الدّخن «5» . وأمّا القسط المرّ- وهو الهندىّ- فيجلب من أرض الهند؛ وأجوده ما ابيضّ ورزن؛ ومن الهندىّ صنف يضرب إلى السواد لا خير فيه. قال: ومن المرّ نوع يسمّى القرنفلىّ، ليس بطائل. وهذا النوع من القسط والذى يضرب الى السواد أدناه وأسقطه ثمنا وقيمة. والقسط المرّ الأبيض يدخل فى كثير من الأدوية والمعاجين الكبار؛ ومنه يعمل دهن القسط؛ ويشرب فينتفع به من أوجاع الجنبين والخواصر ويدرّ البول ويفتّح سدد الكبد؛ وهو حارّ يابس قوىّ الحرارة [واليبس «6» ] . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 51 الباب السابع من القسم الخامس من الفنّ الرابع فى عمل الغوالى «1» والنّدود أمّا عمل الغوالى - فقد قال الزّهراوىّ «2» فى كتابه: والغالية ينقسم عملها إلى ثلاثة أقسام: الأوّل فى الوقت الذى تعمل فيه؛ والثانى الآلة التى تصلح أن تعمل فيها؛ والثالث كيفيّة عملها. فأمّا الوقت الذى يصلح أن تعمل فيه - فوجه السّحر قبل طلوع الشمس، لاعتدال الهواء فيه، وإن وافق أن يكون فصل الربيع فهو أفضل ويتوقّى أن يكون حالة وقت هبوب الرّيح، بل فى وقت سكونه. وأمّا الآلات التى تصلح لعملها وسحق أجزائها فيها - فأفضل ما سحق المسك فى هاون ذهب خالص، أو صلاية زجاج، بفهر زجاج؛ وأن يذاب العنبر فى محارة من حجر، أو فى مدهن من حجر أسود، أو زجاج؛ أو فى مدهن ذهب، او فضّة مموّهة بالذّهب، ويرفع فى إناء من ذهب أو زجاج. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 52 وأمّا كيفيّة عملها [وأخذ «1» ] أجزائها - فهو أن يأخذ من المسك الجيّد أوقيّة فيسحقه برفق لئلّا يحترق من شدّة السّحق، ثم ينخله بمنخل شعر صفيق «2» وإن أمكن نخله من غير سحق فهو أجود، ثمّ يأخذ من العنبر الطّيب نصف أوقيّة فيذوّبه فى مدهن على ألطف ما يكون من النار، فاذا كاد يذوب قطّر عليه شيئا من دهن البان المطيّب، ثم ينزله بعد أن يذوب، ويعتبره بأنامله، فإن كان فيه رمل أخرجه، ثم يلقيه على المسك فى الصّلاية؛ ويحذر أن يكون العنبر حارّا فإنّ حرارته تفسد المسك؛ ثم يسحق الجميع فى الصّلاية برفق حتّى يمتزج العنبر بالمسك، ويجردهما بصفيحة ذهب لطيفة، ولا يجردهما بنحاس ولا بحديد فإنّهما يفسدانهما، ثم يرفع الغالية بالبان على حسب ما يحبّ من رقّتها أو ثخنها؛ وليس للبان حدّ يوقف عنده. وإن أراد أن يجعل المسك مثل العنبر أو دونه فعل. هذا ما ذكره الزّهراوىّ فى الغالية. وقد ذكر محمد بن أحمد التّميمىّ فى كتابه المترجم (بجيب العروس) فى باب الغوالى كثيرا منها، نذكر من ذلك ما كان يعمل للخلفاء والملوك والأكابر. فمن ذلك غالية من غوالى الخلفاء عن أحمد بن أبى يعقوب: يؤخذ من المسك التّبّتىّ النادر مائة مثقال، يسحق بعد تنقيته من أكراشه وشعره، وينخل بعد السّحق بالحرير الصّينىّ الصّفيق، ويعاد سحقه ونخله، ويكرّر «3» حتى يصير كالغبار؛ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 53 ثم يؤخذ تور «1» مكّىّ أو زبديّة «2» صينىّ، فيجعل فى أيّهما حضر من البان الجيّد النادر قدر الكفاية، ويقطّع فيه من العنبر الشّحرىّ الأزرق الدّسم خمسون مثقالا وترفع الزّبديّة بما فيها من البان والعنبر على نار فحم ليّنة لا دخان لها ولا رائحة فتفسده، ويحرّك بملعقة من ذهب أو فضة حتى يذوب العنبر، ثم ينزله عن النار، فإذا فتر طرح المسك فيه، ويضرب باليد ضربا جيّدا حتى يصير جزءا واحدا، ثم يرفع ذلك فى إناء من الذهب أو الفضّة، وليكن ضيّق الرّأس ليمكن تصميمه، أو فى برنيّة زجاج نظيفة، ويسدّ رأسها بصمامة حرير صينىّ محشوّة بالقطن، لئلّا يتصاعد ريحها. قال: فهذه أجود الغوالى كلّها، وإن جعل العنبر نظير المسك فلا بأس. وهذه الغالية المتساوى فيها المسك والعنبر كانت تعمل لحميد الطّوسىّ «3» ؛ وكانت تعجب المأمون جدّا؛ وكانت هذه الغالية تعمل لأمّ جعفر، إلّا أنّهم كانوا يضيفون الى البان نظير ربعه من دهن الزّنبق «4» الجزء: 12 ¦ الصفحة: 54 الرّصافىّ «1» النّيسابورىّ؛ وكانوا يصنعون هذه الغالية لمحمد بن سليمان، إلّا أنّهم كانوا يجعلون مع البان والزّنبق شيئا من دهن البلسان «2» الخالص؛ وكانوا أيضا يصنعون لأمّ جعفر غالية يسمّونها غالية العنبر، وذلك أنّهم يجعلون لكلّ ثلاثة أجزاء من المسك عشرة أجزاء من العنبر، وترتيب عملها كما تقدّم. غالية حجّاجيّة تسمّى الساهريّة «3» يؤخذ من المسك التّبّتىّ عشرة مثاقيل، ومن العنبر عشرة مثاقيل، ومن العود الهندىّ المسحوق مثقال واحد، ومن الزّعفران مثقال واحد؛ فيحلّ العنبر بدهن البان الكوفىّ الجيّد ودهن الزّنبق النّيسابورىّ، فإذا ذاب العنبر ينزل عن النار الجزء: 12 ¦ الصفحة: 55 ويترك حتّى يفتر؛ ثم يلقى المسك المسحوق المنخول والعود والزّعفران عليه ويضرب «1» ضربا جيّدا محكما، وربّما فتق «2» بشىء من الكافور، ويرفع فى ظرف ويسدّ رأسه كما تقدّم؛ والله أعلم بالصّواب. غالية هشام بن عبد الملك- وهى غالية صفراء يؤخذ من السّنبل «3» العصافير وزن أربعة دراهم، ومن الصّندل المقاصيرىّ «4» ثلاثة دراهم، ومن العود الهندىّ الجيّد أوقيّتان؛ وتدقّ هذه الأصناف، وتنخل بحريرة، وينعّم سحقها بعد النّخل، وتلقى عليها من الزعفران القمّىّ «5» المطحون أوقيّة منخولة بحريرة، ويخلط جميع ذلك، ثمّ يؤخذ الزّبيب الطائفىّ والمرزنجوش «6» الرّطب الجزء: 12 ¦ الصفحة: 56 والنّمّام «1» الرّطب، فتنقع الثلاثة ليلة فى ماء وتمرس وتصفّى وتعجن بها الأخلاط أو تعجن بطلاء عتيق عجنا جيّدا، وتلصق فى باطية «2» ، وتبخّر بالنّدّ ثلاثة أيّام، وتقلّب كلّ سبع تبخيرات مرّة؛ ثم يؤخذ لها من السّكّ «3» المثلّث أو المنصّف خمسة عشر مثقالا فتسحق سحقا جيّدا، وتنخل بحريرة، ويؤخذ نصف السّكّ وتعجن به وهو رطب الجزء: 12 ¦ الصفحة: 57 ثم يقرّص «1» ويترك ثلاثة أيّام فى الظّلّ، ولا يدنيه من الشمس، فإذا جفّ يسحق فى صلاية، وينخل بحريرة؛ ثمّ يذاب له من العنبر الأزرق أوقيّة ببان الغالية المرتفع الجيّد، وتلقى عليه بقيّة السّكّ وتلك الأخلاط، ويضرب؛ ثم تلقى عليه أوقيّة ونصف من المسك التّبّتىّ المسحوق المنخول بالحريرة، ويضرب فيه بالأصابع حتّى يختلط، ثمّ يوعى، ويحكم سدّه كما تقدّم. صفة غالية أخرى من كتاب محمّد بن العبّاس يؤخذ من العود الهندىّ الجيّد المطحون المنخول عشرة دراهم، فيجعل فى قدح ويصبّ عليه ماء ورد، ويسحق به، ويسقى ماء الورد ثلاث مرّات، ثم يؤخذ من سكّ المسك خمسة عشر درهما، فتسحق، وتنخل، وتلقى على العود المحلول بماء الورد، ويسحقان جميعا حتّى يجفّ ماء الورد، ويسقيانه، ويسحقان، ثم يسقيان ثلاث مرّات حتّى يصيرا كالهباء، ثم يحلّ العنبر بدهن البان، ويلقى عليه العود والمسك بعد أن ينزل عن النار، ويحرّك بعود، ولا يحرّك بجريدة ولا ظفر، فإذا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 58 اختلط ردّ إلى الصّلاية وسحق حتى يصير كالعلك، ثم يذرّ عليه من المسك المسحوق بحسب ما يريده صاحبه. غالية متوسّطة نسبها التّميمىّ الى كتاب أبى الحسن المصرىّ «1» يؤخذ من المسك ثلاثة مثاقيل، ومن العنبر الأزرق مثقال، ومن سكّ «2» المسك المرتفع مثقالان، ومن العود الهندىّ مثقالان، ومن بان الغالية ثلاث أواقىّ؛ يحلّ العنبر فى البان بنار ليّنة، وينعّم سحق العود والمسك والسّكّ، وتخلط، وتلقى على العنبر المحلول وهو فاتر، وتضرب ضربا جيّدا حقّ تستوى. غالية تسمّى الساهريّة «3» ختم بها التّميمىّ باب الغوالى وقال فيها: من أحبّ أن يحلّها بالبان فهى غالية لا بعدها؛ ومن تطيّب بها يابسة بماء الورد فهى أطيب ما يكون من المسوحات. وصفة عملها، أن يؤخذ من المسك التّبّتىّ مثقال، ومن السّكّ المثلّث مثقالان ومن العود الهندىّ ثلاثة مثاقيل، ومن العنبر الشّحرىّ مثقال؛ يسحق كلّ واحد منها بمفرده سحقا ناعما، وينخل بحريرة، إلّا العنبر فإنه يقرّض، ويحلّ فى تور «4» من الجزء: 12 ¦ الصفحة: 59 حجارة، أو فى زبديّة «1» صينىّ؛ ثم يلقى عليه العود والسّكّ، ويخلطان به خلطا جيّدا ويجعل ذلك على الصّلاية؛ فاذا برد وجمد يسحق وينخل بحريرة، ويضاف اليه المسك المسحوق، ويسحق ذلك جميعا، ويرفع؛ فمن أراد أن يستعمل ذلك غالية يحلّ المثقال منه فى مثقال من دهن البان المفتّر، ومن أراد أن يستعمله مسوحا يحلّه بماء الورد. وأمّا عمل النّدود - فقد ذكر التّميمىّ منها أنواعا كثيرة؛ فمنها النّدّ المستعينىّ كان يصنع للمستعين بالله العبّاسىّ. قال: يؤخذ من العود الهندىّ خمسون مثقالا ومثله من المسك التّبّتىّ، ومن العنبر الشّحرىّ الأزرق الدّسم خمسون ومائة مثقال ومن الكافور الرّياحىّ «2» ثلاثة مثاقيل؛ يسحق العود والمسك والكافور سحقا ناعما كلّ واحد منها بمفرده، وينخل المسك بالحريرة، ويحلّ العنبر فى عبّاسيّة «3» صينىّ أو فى برام «4» ، ويلقى المسحوق عليه بعد أن ينزل عن النار، ويعجن به عجنا جيّدا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 60 ثم يمدّ على الرّخامة، ويقطّع شوابير «1» ، ويصفّ على منخل حتّى يجفّ ويرفع. قال: وأمّا النّد الذى أجمع الناس عليه، فهو أن يؤخذ من العود الجيّد خمسون مثقالا، ومثله من المسك التّبّتىّ، ويحلّ لذلك من العنبر الهندىّ أو الشّحرىّ مائة مثقال وثلاثة مثاقيل، ويعجن بالمسك، ويمدّ شوابير، ويجفّف، ويرفع. صنعة ندّ آخر قال التّميمىّ، تركيبه لأبى سعيد يانس الفارسىّ، فجاء غاية فى الجودة؛ يؤخذ من العود الهندىّ القامرونىّ «2» أو العود القمارىّ «3» عشرة مثاقيل، ومن المسك التّبّتىّ المنقّى من أكراشه وشعره عشرون مثقالا، يسحق كلّ واحد منهما بمفرده، وينخل بحريرة صينيّة ثم يجمعان على الصّلاية، ويضاف إليهما من الكافور الفنصورىّ «4» مثقال واحد، ويحلّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 61 لذلك من العنبر الشّحرىّ «1» الأزرق ثلاثون مثقالا فى تور حجر أو فى عبّاسيّة صينىّ حلّا لطيفا بنار ليّنة، بعد أن يقرّض العنبر ليسرع انحلاله، وسبيل التّور أن يحمل على النار قبل أن يلقى فيه العنبر، ليقلّ مكث العنبر على النار، فاذا انحلّ العنبر أنزل عن النار وألقى فيه المسك والعود والكافور بعد إنعام سحقها «2» ، ويضرب ذلك مع العنبر فى التّور بملعقة من فضّة أو حديد ضربا جيّدا حتى يصير جميعه جزءا واحدا؛ ثم تبلّ سكّين ويمسح بها ما تعلّق على الملعقة، ويوضع على قطعة من الرّخام ملساء قد مسح وجهها بالماء، وتبلّ اليد، ويؤخذ بها من المعجون، ويفتل على الرّخامة فتلا متساويا ويقطّع شوابير بسكّين مبلولة بالماء، على ما يراه من المقادير؛ وإن خشيت أن يبرد المعجون فيجمد، جعلت التّور الّذى فيه المعجون على رماد حارّ. صفة ندّ كانت بنان «3» العطّارة تصنعه للواثق بالله يؤخذ من العود الجيّد الهندىّ مائة مثقال، ومن سكّ «4» المسك خمسون مثقالا ومن المسك التّبّتىّ ثلاثون مثقالا، ومن الكافور الرّياحىّ «5» تسعة مثاقيل؛ يسحق كلّ واحد منها على انفراده سحقا ناعما، ثم تجمع كلّها على الصّلاية، وتسحق حتّى تختلط الجزء: 12 ¦ الصفحة: 62 وتلتئم؛ ثم تؤخذ لها مائتا مثقال من العنبر الهندىّ أو الشّحرىّ «1» فيحلّ فى تور برام أو غضارة «2» صينىّ «3» ؛ فاذا ذاب ينزل عن النار، وتلقى عليه المسحوقات، وتخلط به وتعجن عجنا جيّدا، ثم تعمل منه «4» أقراص أو شوابير «5» ، وزن كلّ قطعة منها مثقال، وتجفّف. صفة ندّ [آخر] كانت تصنعه لجعفر المتوكّل على الله يؤخذ من العود الهندىّ القامرونىّ «6» عشرون مثقالا، ومن السّكّ «7» المثلّث خمسة عشر مثقالا، ومن الكافور الرّياحىّ مثقالان، ومن المسك التّبّتىّ ستّة مثاقيل، ومن السّكّ الأصفر الطوامير مثقال واحد، ومن الزّعفران الرّوذراورىّ «8» المسحوق مثقال؛ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 63 يسحق كلّ واحد بمفرده، ثم تجمع على الصّلاية، وتسحق؛ ويؤخذ من العنبر الهندىّ خمسون مثقالا، فيقرّض، ويذاب فى تور مكّىّ، وتخلط فيه الأصناف نحو ما تقدّم، ويقطّع شوابير «1» . صفة النّدّ الّذى كانت أمّ الخليفة المقتدر «2» بالله تصنعه وتبخّر به الكعبة وصخرة بيت المقدس فى كلّ جمعة يؤخذ من المسك التّبّتىّ المنقّى من الأكراش مائة مثقال، يسحق، وينخل ويحلّ له من العنبر الشّحرىّ، وينزل عن النار، فاذا فتر ألقى عليه المسك بمفرده من غير عود ولا غيره، ويضرب ضربا جيّدا، ثم يمدّ على الرّخامة، ويقطّع شوابير ويبخّر به. قال التّميمىّ: كان رئيس الخدم ببيت المقدس يهدى إلى والدى من هذا النّدّ فيحلّه والدى بالبان، فتجىء منه غالية لا شىء أطيب منها. صفة ندّ آخر عن أمّ «3» أبيها بنت جعفر بن سليمان- وهو الذى يسمّى اللّفيف «4» الشريف- قال التّميمىّ: ولا شىء فى النّدّ أرفع منه- يؤخذ من العود الهندىّ القامرونىّ «5» الجزء: 12 ¦ الصفحة: 64 أوقيّة، فيدقّ وينخل، ويسحق على الصّلاية، ويؤخذ له من السّكّ «1» المثلّث نصف أوقيّة، ومن المسك التّبّتىّ المنقّى من أكراشه، المسحوق المنخول نصف أوقيّة ويجمع الجميع، ويسحق على الصّلاية؛ ويؤخذ من العنبر الهندىّ الأزرق الدّسم أوقيّتان، ويقرّض ويذاب فى تور على نار ليّنة نحو ما تقدّم، ثم يلقى عليه العود والسّكّ والمسك، ويعجن ذلك، ويمدّ على صلاية، ويقطّع شوابير «2» ، ويجفّف ويرفع. قال التّميمىّ: أجمع العلماء بأمر العطر وأعمال الطّيب أنّ السّكّ اذا كان مثلّثا فله فى النّدّ معنى جيّد وخمرة، والبخور الّذى يدخل فيه يكون له عبق فى الثياب، سيّما «3» فى بلد مصر والبلاد المعروفة بالعفن. قال: وملاك البخور كلّه جودة العنبر والمسك والعود والكافور والنار الّتى يبخّر بها، وألّا يكون فى الفحم شىء من الزّهومة، فإنّ ذلك يفسد البخور، ويقطع رائحته. وبسط التّميمىّ القول فى النّدود، وقد أوردنا منها ما فيه كفاية؛ وهذه النّدود كلّها الّتى ذكرناها كانوا يصنعونها للبخور خاصّة. وأمّا الّذى يصنع فى عصرنا هذا بالديار المصرية - فهو نادر اذا عنى به يصلح للحمل والادّخار والبخور على النار، وتعمل منه عنابر «4» مختلفة الأشكال والمقادير، من الأكر والوردات والشّوابير «5» ، وغير ذلك، وتنظم قلائد الجزء: 12 ¦ الصفحة: 65 ومعاضد «1» ووشاحات وسبحا، وغير ذلك، ويجعلها الناس بين ثيابهم اذا لبسوها ويمشون بها، ويجلسون ويرقدون وهى لا تتغيّر ولا تتكسّر، ويكسر بعض الأكرة «2» منها أو الوردة أو الخرزة فتستعمل فى البخور وغيره، وتبقى بقيّتها فى جملة العنبر المنظوم، ولا يضرها الكسر، ولا يتفتّت منها شىء البتّة إلّا إن قرض بالسّنّ أو قطع بالشّفرة أو «3» المدية؛ وإذا طال مكثه صلح وجاد وصلب، وعبق ريحه على النار، إلّا أنّه متى اختلط بالياسمين ضعف ريحه؛ وإذا تمادت عليه المدد وكثر استعماله وأفسده العرق الردىء كسّر وأضيف اليه شىء من العنبر الخام الشّحرىّ وجن به، ثم بالمسك المسحوق، وأعيد كما كان، أو على أىّ صفة أرادها صاحبه فيجىء غاية فى الجودة، وربّما كان أجود وأنفع من الأوّل؛ وها نحن نذكر كيفيّة عمله ومفرداته ومقاديره؛ والله أعلم. ذكر كيفيّة عمل النّدّ فى وقتنا هذا ومفرداته ومقاديره والنّدّ فى وقتنا هذا يسمّى العنبر، فاذا أطلق عندهم اسم العنبر كان هو المراد؛ ويميّز العنبر الأصلىّ إذا أريد بأن يقال فيه: العنبر الخام؛ وهذا النّدّ الّذى يتداوله الناس فى وقتنا هذا ثلاثة أنواع: فالنوع الأوّل المثلّث ، وهو أجودها وأعطرها؛ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 66 وصفة تركيبه ومقادير أجزائه أن يؤخذ له من العنبر الجيّد الشّحرىّ «1» الرزين الدّسم جزء، ونظيره من العود الهندىّ الجيّد، ونظيره أيضا من المسك التّبّتىّ، ويجعل العود براية أجزاء صغارا، ثم يقلى على نار ليّنة، ويطحن بعد ذلك طحنا ناعما ويسحق المسك بعد تنقيته ممّا لعلّه فيه من شعر أو غيره، ثم يقرّض العنبر صغارا ويوضع فى قدر برام لطيفة شبه رأس الخوذة «2» على نار فحم ليّنة حتى يحمرّ، ويلقى ذلك العنبر الخام فى القدر، ويحرّك بملعقة من النّحاس مدوّرة الرأس، ثقيلة، لها ساعد فاذا ذاب العنبر يلقى عليه العود المطحون شيئا بعد شىء، ويحرّكان حتّى يختلطا ويصيرا جزءا واحدا، ويجعل العنبر والعود فتائل، ويقسّم المسك على نسبة تلك الفتائل، وتعجن به عجنا جيّدا على حجر يمنىّ معدّ لذلك حتى تختلط به؛ ثم يقطّع ويجعل أكرا بحسب ما يريد، ويرفع. وهذا أجود ما يصنع من أنواع النّدّ فى وقتنا هذا، إلّا أنّه يكون ليّنا لا يكاد يستعمل للّباس «3» ، بل يحمل فى الجيوب ويبخّر به، ويشمّ، ويوضع بين الثياب، ونحو ذلك. وأمّا النوع الثانى- وهو المعتدل - فأجزاؤه أن يؤخذ من العنبر الخام الجيّد عشرة مثاقيل، ومن النّدّ العتيق الجيّد عشرة مثاقيل، ومن العود الجيّد المطحون عشرون مثقالا؛ ويؤخذ لذلك من المسك الجيّد ما أحبّ المستعمل ويركّب على ما نذكره «4» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 67 وأمّا النوع الثالث- وهو السّوقىّ - فأجزاؤه أن يؤخذ لكلّ عشرة مثاقيل من العنبر الخام عشرة مثاقيل من العنبر العتيق، وثلاثون مثقالا من العود المطحون ومن المسك. ذكر صفة خلط أجزاء النّدّ وتركيبه أوّل ذلك أن يضع القدر البرام «1» المعدّة لذلك على نار فحم ليّنة، ويكون وضعه للقدر على جنبها، ثم يكسّر العنبر العتيق ويضعه فى القدر، فاذا سخن هرسه بالملعقة النّحاس المعدّة لذلك، فاذا انهرس ونعم رفعه من القدر الى وعاء آخر نظيف ثم يمسح القدر، ويكسّر العنبر الخام قطعا صغارا، ويوضع فى القدر على أثر السّخونة ويحرّك بالملعقة حتّى يذوب؛ ثم توضع القدر على النار، ويلقى على العنبر من العود المطحون شىء بعد شىء الى أن يختلط بعضه ببعض ويصيرا جزءا واحدا، ثم يلقى عليه العنبر العتيق، ويخلط بالملعقة حتى يختلط بهما «2» ، ثم يصبّ على ذلك ماء ورد بقدر واعتدال، ويجسّ بالإبهام والسّبّابة، فإن قبل الفتل أخذ منه شيئا بعد شىء وفتله فتائل على الحجر اليمنىّ المعدّ لذلك؛ فإذا صار جميعه فتائل- وهو الفتل الأوّل- وضع القدر على النار، ووضع بعض الفتائل فيها ويصبّ عليها ماء ورد بقدر، ويعجنها عجنا جيّدا، ثم يعيدها على الحجر، ويعجنها الجزء: 12 ¦ الصفحة: 68 بالمسك حتى يختلط بها، بحيث لا يضع المسك على النار اللّيّنة، فاذا اختلط المسك بها فتلها فتائل، ثم يقطّعها أجزاء متساوية على قدر ما يريد، ويضمّه «1» بأصابعه الثلاث: الإبهام والسّبّابة والوسطى حتى يدخل بعضه فى بعض، ثم يدوره تدويرا جيّدا فى كفّه حتّى يندمج ويصطحب «2» ، ثم ينخسه «3» بمسلّة برفق، وينقشه بعد ذلك بالمشطاب «4» المعدّله، وان كان ساذجا دوّره على الرّخامة. هذه كيفيّة عمله وأجزاؤه؛ فإن نقص عن ذلك منع من بيعه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 69 الباب الثامن من القسم الخامس من الفن الرابع فى عمل الرّامك والسّكّ من الرامك والأدهان فأمّا عمل الرّامك والسّكّ - فالرامك هو أصل السّكّ الّذى لا يمكن عمله إلّا منه، وصفة عمل الرامك على ما أورده محمد بن أحمد بن سعيد التّميمىّ المقدسىّ فى كتابه المترجم (بجيب العروس وريحان النفوس) ، وقال: إنه استنبطه ودبّره برأيه- يشير الى هذه الصفة التى نذكرها الآن، وإلّا فالرامك قديم، نقله هو عن غيره ممن كان قبله «1» -؛ فقال التّميمىّ فى هذه النسخة «2» : يعمد إلى العفص النّقىّ الأبيض الجيّد، فيدقّ وينخل، ويعتّق بعد طحنه سنة. قال: ومن الناس من يطبخه بالماء حتّى ينشف الماء، فيستغنى بطبخه عن تعتيقه، وإنّما يراد تعتيقه ليسلس وتذهب منه زعارّة «3» العفصيّة وطعمها، وطبيخه يفعل ذلك. قال: وتعتيقه أجود. قال: ثم يؤخذ لكلّ عشرة أرطال من العفص المنخول المعتّق خمسة أرطال من الزّبيب العينونىّ «4» اللّحم المنقّى من عيدانه، ويؤخذ من البلح الحديث ما قد لقط من تحت الجزء: 12 ¦ الصفحة: 70 نخله بعد نضجه، ويجفّف، ويحكم تجفيفه، وينزع نواه، خمسة أرطال، فينقع الزّبيب والبلح فى الشّراب الرّيحانىّ «1» يوما وليلة، ومن لم ينقعهما فى الشراب فلينقعهما فى الميسوس «2» الطيّب، أو فى الماء القراح، ثم يرفعان على النار، فيغليان غليانا جيّدا حتّى ينضجا، ولا تبقى فيهما قوّة، ويعتصر ماؤهما، فتعجن به العشرة «3» أرطال العفص المطحون المنخول عجنا جيّدا حتى يصير مثل الحساء أو أرقّ منه ثم يرفع فى طنجير «4» نحاس غليظ على نار ليّنة، فيطبخ وهو يحرّك بإسطام «5» حديد، ولا يفتر تحريكه، ويحترز المتولّى لطبخه، بأن يتلثّم، ويلفّ على يديه ورجليه ما يصونهما أن يقع عليهما من ذلك، حتّى اذا غلظ وصار أشقر أنزله عن النار. قال: ومن الناس من يضيف اليه وقت طبخه من عقيد «6» العنب على كلّ عشرة أرطال رطلا واحدا مع ماء الزّبيب وماء البلح؛ ومنهم من يقتصر على مائهما فقط، فإذا انتهى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 71 أنزله عن النار، وصبّه على بوارىّ «1» قصب، بعد أن يبرد، ويبسط عليها بسطا رقيقا مستويا بشىء قد دهن بدهن خيرىّ «2» ؛ ثم يعلّق البوارىّ بعد جفافه عليها فى سقف بيت كنين من الغبار سنة كاملة، بحيث يصل اليها مهبّ ريح الشّمال؛ فهذا عمل الرامك الذى هو أصل السّكّ. فإذا أحببت أن تصنع منه سكّا فاقلع الرامك عن البوارىّ، ودقّه، واطحنه طحنا ناعما، واسقه أمراق الأفاويه التى يطبخ بها البان، وسنذكرها فى فصل الأدهان- إن شاء الله تعالى-؛ واذا أردت ذلك تجمع أمراق الأفاويه بعد تصفية البان عنها، وغسلها من دهنيّة البان، وسلقها وتصفيتها، فيعجن بها عجنا جيّدا كما عجن أوّلا بماء الزّبيب والبلح، وترفعه على النار وأنت تحرّكه دائما بالإسطام تحريكا جيّدا، وقد تحرّزت ممّا يتطاير منه كما تقدّم، حتى إذا شرب الجزء: 12 ¦ الصفحة: 72 تلك الأمراق وقوى، برّدته فى سطول «1» ، وصببته على البوارىّ كما فعلت أوّل مرّة، فتعتّقه أربعة أشهر حتّى يجفّ، ثم تدقّه وتطحنه وتنخله، وتأخذ لكلّ منّ «2» منه من الهرنوة «3» وزن ثلاثة دراهم، ومن الصندل المقاصيرىّ «4» نصف أوقيّة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 73 ومن العود القمارىّ «1» الدّقّ «2» الجيّد نصف أوقيّة، ومن الزعفران المسحوق وزن درهمين، ومثقالا واحدا أو مثقالين- إن أحببت- من نافجة «3» مسك طريّة الفتاق قد نتف ما عليها من الشّعر وحلق، وقرّضت تقريضا صغيرا، ودقّت دقّا ناعما ومن دهن الخيرىّ «4» الكوفىّ الخالص نصف أوقيّة، ومن العسل الماذىّ «5» نصف أوقيّة؛ يعجن جميع ذلك بالسّكّ عجنا جيّدا، ويترك ثلاثة أشهر أو أربعة حتّى يجفّ ويتكامل جفافه؛ ثم يدقّ ويطحن، ويعجن بميسوس «6» ، ويطرح فى كلّ منّ منه من المسك ثلاثة مثاقيل، يعجن بها عجنا جيّدا، ويقرّص أقراصا صغارا ويترك حتّى يجفّ. قال: فهذا أذكى أبواب السّكّ وأصلحه. فإن أردت أن تصنع منه سكّا مثلّثا أو منصّفا أو دون ذلك، فآعمد إلى كلّ عشرة مثاقيل من السّكّ الأصلىّ الّذى قدّمنا ذكره، فأنعم دقّها وسحقها، وأضف إلى العشرة مثاقيل- ان أردته مثلّثا- من المسك خمسة مثاقيل؛ وإن أردته منصّفا فأضف الى العشرة مثاقيل مثلها من المسك؛ وإن أردته دون المثلّث فأضف الى العشرة مثاقيل ثلاثة مثاقيل، وأنعم عجنه به، وقرّصه، واختمه، وجفّفه؛ فهذه صفة السّكّ المنصّف والمثلّث وما دونه، وهو أفضل أنواع السّكّ وأشرفها. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 74 صنعة سكّ آخر يؤخذ من الرامك بعد تجفيفه على البوارىّ «1» كما تقدّم رطلان، يدقّ «2» وينخل ويسقى من أمراق الأفاويه نحو ما ذكرناه؛ ثم يؤخذ لذلك من العود السّنّ القمارىّ «3» المسحوق أوقيّة ونصف، ومن الصّندلى المقاصيرىّ «4» الأصفر الدّسم ثلاث أواقىّ ومن السّنبل «5» العصافير أوقيّة، ومن الهرنوة «6» أوقيّة، ومن القرنفل الزّهر أوقيّة، ومن الهال «7» الجزء: 12 ¦ الصفحة: 75 نصف أوقيّة، ومن الزّعفران المائىّ «1» أوقيّتان؛ يدقّ ذلك، ويطحن وينخل، ويلقى على السّكّ فى الطّنجير وهو على نار ليّنة، ويصبّ عليه من دهن الخيرىّ «2» الكوفىّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 76 الخالص أوقيّتان، ومن العسل الماذىّ «1» الأبيض أوقيّتان، ويحرّك ساعة، ثم يوضع عن النار، ويبسط على باريّة «2» بعد أن يبرد، ويعتّق سنة، ثم يقلع فيدقّ دقّا ناعما ويعجن بميسوس أو بماء قراح، ويلقى على كلّ منّ «3» منه من المسك ربع مثقال بعد سحقه، ومن العسل خمسة دراهم، ويقرّص ويختم. قال التّميمىّ: هذه الأفاويه- فيما أرى- كثيرة لرطلين عفصا؛ وأنا أرى أن يكون العفص سبعة أرطال بالبغدادىّ، فإنّه «4» يحتمل ذلك. صنعة رامك وسكّ آخر ذكر التّميمىّ عن أحمد بن أبى يعقوب أنّه عمله، وأنّه أجود ما يكون من السّكّ. قال ابن أبى يعقوب: صفة عمل الرّامك أن يؤخذ من العفص البالغ الجيّد، فيرضّ «5» ، ويصيّر فى قدر كبيرة، ويصبّ عليه من الماء ما يغمره، ثم يطبخ أيّاما، ويزاد فى مائه كلّما نشف حتى ينضج، ثم يخرج العفص فيجعل فى شمس حارّة حتّى يجفّ، ويرفع ذلك الماء الذى طبخ فيه، ويؤخذ ما جلس فيه من العفص فيجفّف، ويضاف الى العفص، ويدقّ، وينخل بمنخل شعر، ثم يردّ إلى القدر؛ ويصبّ عليه ماء كثير، ويطبخ به يومين أو ثلاثة حتى تذهب العفصيّة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 77 منه، ثم يسحق على صلاية حتّى يجفّ، ويصنع منه أمثال العلك؛ فهذا عمل الرامك، ولم يذكر فيه البلح ولا الزّبيب. قال: فاذا أردت أن تصنع من هذا الرامك سكّا فخذ منه ستّة أجزاء، ومن نوافج المسك جزءا واحدا، فتنزع الشّعر عن النّوافج، وتقرّضها، وتدقّها دقّا شديدا وتطحنها، ثم اخلطها بالستّة أجزاء، واسحق الجميع على الصّلاية بالماء أو بالشراب أو بالنّضوح حتى يستوى، ثم يقرّص، فاذا جفّ فخذ منه ستّة أجزاء، ومن المسك التّبّتىّ جزءا واحدا، واسحق المسك، وحلّ السّكّ بماء ورد، وأضفه اليه بالعجن الجيّد، وقرّصه يأتك سكّا طيّبا. فإن أردت أن تعمل منه منصّفا أو مثلّثا أو غير ذلك، فاسحقه، وألق على كل مثقال منه نصف مثقال من المسك، أو ثلث مثقال، أو دون ذلك، واعجنه به وقرّصه. قال: فهذا أفضل ما يعمل من السّكّ. وأمّا الأدهان «1» [وما قيل «2» فيها] - فهى كثيرة، نقتصر منها على ما يدخل فى أصناف الطّيب والغوالى، مثل دهن البان، ودهن الزّنبق، ودهن الحماحم ودهن الخيرىّ، ودهن التّفّاح، والأدهان المركّبة العطرة، وأدهان تصلح الشّعور. ولنبدأ بذكر دهن البان وحبّه ومعادنه وكيفيّة طبخه - قال محمد بن أحمد التّميمىّ: شجر البان شجر عظيم، يحمل حبّا ألطف من البندق الجزء: 12 ¦ الصفحة: 78 فى مقدار حبّ النّبق، مستديرا، ذا ثلاثة حدود كحدود «1» أزجّة «2» النّشّاب، يكسر فيخرج من جوفه حبّ أبيض دهنىّ، تعتريه مرارة يسيرة؛ ومنابته بينبع من أرض الحجاز، وبأرض عمان «3» ، وباليمن. قال: ومنه شىء ينبت بأرض مصر، وشىء يجلب من أرض الشّراة «4» وناحية البلقاء «5» ، وشىء ينبت على شاطئ البحيرة «6» المنتنة ما بين زغر «7» الجزء: 12 ¦ الصفحة: 79 وأريحا «1» ؛ وأجوده اليمنىّ والحجازى؛ وأجود حبّه ما كان قشره يضرب الى السّواد؛ وأمّا الأبيض القشر فإنّه ردىء، يعرض له الفوران عند طبخه. وأمّا كيفيّة إخراج دهنه - فإنّه يؤخذ هذا الحبّ فيطحن فى أرحية معدّة له، ثم يجعل فى قدر نحاس كبيرة تسع عشر كيالج وأكثر بالكيلجة «2» الشاميّة، ومقدار كلّ كيلجة ثمن «3» إردبّ بالكيل المصرىّ، ويكون الحبّ المطحون قد ملأ ثلثى القدر ويصبّ عليه من الماء ما يغمره، وزيادة أربع أصابع مفتوحة، ويوقد تحته بالحطب الجزل «4» حتّى يغلى، فيطبخ نصف يوم، وكلّما نقص الماء يزاد، حتى إذا انتصف النّهار يقطع عنه الوقود، ويترك حتّى يبرد، ثم يلقط ما طلع فوقه من الدّهن ويجمع فى آنية حتى لا يبقى من الدّهن شىء؛ فهذا استخراج حبّ البان. وأمّا كيفيّة [طبخه «5» ] بالأفاويه حتى يصير بانا مرتفعا - فمنه كوفىّ ومنه مدنىّ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 80 أمّا الكوفىّ - فقال أحمد بن أبى يعقوب مولى ولد العبّاس فيه: يؤخذ الدّهن المستخرج من حبّ البان، فيجعل فى قدر برام «1» كبيرة، ويطبخ بمثله من الماء الصافى، ولا يزال يطبخ أيّاما، وكلّما نشف الماء نقل إلى قدر أخرى، ويصبّ عليه من الماء الصافى نظير الدّهن، ويطبخ حتّى ينشف الماء ويبقى الدّهن؛ يفعل ذلك به ثلاث مرّات؛ ثم يطبخ بالماء الصافى والورد الذى لم يتفتّح ثلاثة أيّام؛ ثم يطبخ بالماء والصندل الأصفر المقاصيرىّ المخروط أيّاما ثلاثة حتّى تذهب عنه رائحة الدّهن؛ ثم يطبخ بالعود الهندىّ السّنّ والماء الصافى يومين أو ثلاثة ثم يطبخ بسكّ المسك المنصّف المسحوق بماء الورد يوما، وهذا الطبخ الّذى بالسّكّ وماء الورد يسمّى: النّشّ، ويسمّى بانه: البان المنشوش. قال: ثم ينزل ويصفّى، ثم ينشّ بعد طبخه بالسّكّ وماء الورد بالمسك التّبّتىّ المسحوق المحلول بماء الورد الجورىّ نشّا جيّدا حتّى ينشف عنه ماء الورد، ويأخذ البان قوّة المسك. وأمّا البان المدنىّ - فإنّ أهل المدينة يطبخونه بالأفاويه الطيّبة مثل الجزء: 12 ¦ الصفحة: 81 السّليخة «1» والسّنبل «2» والقرنفل والكبابة «3» والهرنوة «4» والصّندل الأصفر المخروط، وسنّ العود الجزء: 12 ¦ الصفحة: 82 الأسود، يطبخونه بكلّ واحد من هذه الأصناف أيّاما مع الماء الصافى؛ ثم يبرّد ويطبخ بالصّنف الآخر حتّى ينتهى- على ما نصفه إن شاء الله [تعالى]- إلّا أنّ هذا الدّهن لا يصلح للغوالى، لأنّه يتغلّب على روائح العنبر والمسك بروائح الأفاويه وحدّتها، فلا تستعمله الملوك إلّا أن تدهن به أيديها فى الشتاء، وتستعمله النساء فى أطيابهنّ وخمرهنّ. صنعة بان آخر - قال التّميمىّ فيه: هذا بان ركّبته أنا، واخترعته رأيا من ذات نفسى، فجاء غاية فى الطّيب؛ وهو أن ينقّى من حبّ البان البالغ فى شجره ما كان قشره يضرب إلى السواد، فتنقّى منه مقدار ما يخرج لك من الدّهن زيادة على ثلاثين منّا، وذلك يخرج من مائة منّ من الحبّ البالغ إذا طحن وطبخ وأحكم طبخه- على ما قاله أبو عمران موسى اليهودىّ المعروف بالبانىّ «1» . وقال أبو سعيد اليهودىّ العطّار- وكان عالما بعمل البان وعلاجه وطبخه-: إنّ الكيلجة الفلسطينيّة تخرج منا «2» من الدّهن، وكلّ كيلجة وربع نصف ويبة بالكيل المصرىّ والويبة سدس إردبّ، فتجعل من الثلاثين منا عشرين منا أوّلا، وعشرة أمناء ثانيا. قال: فاذا حصّلت من حبّ البان ما يخرج لك ذلك، وطحنته، وجمعت الجزء: 12 ¦ الصفحة: 83 دهنه كما تقدّم، تعمد الى قدر برام «1» لم يدخلها شىء من الدنس، تسع أربعين منا- فتصبّ فيها من دهن البان عشرين منّا بعد أن يجلس «2» ، وتصفّيه؛ ثم تعمد الى منوين من السّليخة «3» الحمراء تكون قضبانا دقاقا، فتغلى لها من الماء فوق غمرها، وتصبّه عليها فى إناء غضار «4» أو صفر، وتكمر «5» الإناء ليرجع بخار الماء اليها وتتركها منقوعة يوما وليلة، أو يومين. ورأى أبو سعيد أن تغلى على النار بعد نقعها ثم يصفّى ماء السّليخة على دهن البان، وتعاود بماء ثان فتغلى به أيضا حتى تخرج قوّتها، وتصفّيه على دهن البان أيضا، وتطبخه حتى ينشف الماء ويبقى الدّهن فترفعه فى قراريب «6» بعد ترويقه؛ ثم تعمد إلى السّليخة فتغمرها بماء ثالث «7» ، وتطبخها به الجزء: 12 ¦ الصفحة: 84 طبخة خفيفة لتستخرج قوّتها، ثم تصفّيها، وتطبخ بالماء الّذى يخرج منها العشرة «1» أمناء البان الثانية، وتعزلها فى قراريب «2» مفردة؛ فإن كانت السّليخة قد ضعفت بعد استخراجك منها الماء الأوّل فقوّها بنصف منّ آخر لتطيّب به العشرة أمنان الثانية؛ وكذلك تفعل فى كلّ نوع من الأنواع التى نذكرها إذا استخرجت ماءه الأوّل ورأيته يضعف عن أن يطيّب البان الثانى فقوّه بشىء منه طرىّ، ثم تنقع من السّليخة» الحمراء التّفّاحيّة المنسوفة منّا ونصف منّ فى ماء حارّ يوما وليلة، ثم تغليه وتصفّيه على العشرين منّ «4» بان المطبوخة بالسّليخة فى القدر، ثم صبّ عليه من الماء ما تكمّله به حتى يصير الماء نظير الدّهن، واطبخه على الرسم حتّى ينشف الماء ويبقى الدّهن فأعده فى قراريبه، ثم انقع السّليخة أيضا فى ماء ثان، وقوّها إن ضعفت، واطبخ بها العشرة أمناء الدّهن الثانية كما تقدّم؛ ثم برّده، وأعده فى قراريبه؛ ثم خذ من قرفة «5» الجزء: 12 ¦ الصفحة: 85 القرنفل الحارّة الذّكيّة منوين فدقّهما تهشيما، ثم اغل لهما عشرين منا من الماء وصبّه عليهما، واكمره «1» بالغطاء يومين وليلتين، ثم اغله بهما غلية واحدة، وصفّه على البان الأوّل، واطبخه نصف يوم حتّى ينشف الماء ويبقى الدّهن، فبرّده، وأوعه وأحكم سدّه، وانقع القرفة أيضا بماء حارّ، وقوّها بربع منّ، ودعها يوما وليلة ثم اغلها، وصفّ ماءها على البان الثانى حتّى ينشف الماء ويبقى الدّهن، فبرّده وأعده إلى ظروفه، وأحكم سدّها. قال: فإن أحببت أن ترفعه بالقرنفل- وهو أفضل-، فخذ من القرنفل الجيّد الجزء: 12 ¦ الصفحة: 86 الحبّ المنسوف نصف منّ، فهشّمه، واغل له من الماء عشرين منا، وصبّه عليه وهو حارّ، وغطّه يومين وليلتين، ثم صفّه على البان الأوّل فى القدر، واطبخه به وافعل فى طبخه نحو ما تقدّم؛ وانقع القرنفل المسلوق فى سبعة أمناء من الماء الحارّ ثم اغله، واطبخ به البان الثانى كما تقدّم؛ ثم خذ من البسباسة «1» الحمراء نصف منّ فانقعها فى عشرة أمنان من الماء الحارّ يوما وليلة، وصفّ الماء على البان، واطبخه به كما تقدّم، وافعل فى البان الثانى كما تقدّم، ثم يطبخ بماء الورد بعد البسباسة؛ ثم خذ من الورد الفارسىّ الأحمر المنقّى من أقماعه منوين، واغل لهما من الماء الصافى عشرين منا، وصبّها عليهما، واكمره بما يردّ بخاره فيه، ودعه فيه يومين ثم صفّه على البان الأوّل من غير أن تغليه، واطبخه به على الرسم، وصبّ على الورد عشرة أمناء من الماء الحارّ، وقوّه بنصف منّ من الورد الطرىّ، وصفّه على البان الجزء: 12 ¦ الصفحة: 87 الثانى، واطبخه به كما تقدّم؛ ثم خذ من السّنبل «1» العصافير الجيّد منا واحدا، واغل له من الماء عشرين منا، وصبّه عليه، واكمره بما يردّ بخاره فيه يومين؛ ثم اسلقه سلقة خفيفة، وصفّه على البان الأوّل، واطبخه على الرسم، وقوّ السّنبل بثمن منّ وانقعه يوما وليلة فى ثمانية أمنان من الماء؛ واغله على النار، وصفّه على البان الثانى، واطبخه به كما تقدّم؛ ثم خذ من الهرنوة «2» منّا وربع منّ فهشّمه «3» ، واغل له من الماء عشرين منا، وصبّه عليها «4» ، واكمره حتّى ينعكس بخاره اليها، واتركه يومين وصفّه على البان الأوّل، واطبخه به؛ ثم قوّ الهرنوة بثمن منّ منها، وانقعها فى عشرة أمناء من الماء الحارّ؛ وصفّه على البان الثانى، واطبخه به كما تقدّم؛ ثم خذ من الصّندل الأصفر المقاصيرىّ «5» الدّسم منا وأوقيّتين، واخرطه خرطا رفيعا على نطع واجعله فى سفن «6» ، واغل له عشرين منا ماء، وصبّه عليه، واكمره يومين وليلتين، ثم اغله به، وصفّه على البان الأوّل فى القدر، واطبخه به حتّى ينشف الماء، وبرّده، وأعده إلى ظروفه؛ ثم قوّ الصّندل بأوقيّتين، وانقعه يوما وليلة واغله؛ ثم صفّه على البان الثانى، واطبخه به نحو ما تقدّم؛ ثم خذ من العود الجزء: 12 ¦ الصفحة: 88 الأسود السّنّ نصف منّ أو ثلثى منّ إن أحببت فانقعه فى الماء الحارّ، واتركه فيه ثلاثة أيّام وثلاث ليال، ثم اغله على النار، وصفّه على البان الأوّل، وثنّ العود وثلّثه بالماء الحارّ والغليان، واجمع ماءه الثانى والثالث، وصبّهما على البان الأوّل واطبخه بالمياه الثلاثة حتى ينشف الماء ويبقى الدّهن، ثم برّده وأعده إلى ظروفه ثم اغل العود بخمسة أمناء ماء غليانا جيّدا، واطبخ به البان الثانى حتّى ينشف الماء ويبقى الدّهن، فبرّده وأودعه فى ظروفه. قال: فهذا البان الأوّل الذى لا بعده، والثانى الذى دونه، ولم يبق إلّا نشّه «1» بالمسك وسكّ المسك، على ما نصف إن شاء الله تعالى. قال التّميمىّ: ورأيت أبا سعيد العطّار يؤثر أن يهشّم القرفة والقرنفل والهرنوة، ويجمع ذلك مع السّنبل فى إناء كبير، ويصبّ عليه من الماء الحارّ ثلاثين منّا، وينقعه فيه يومين وليلتين، ثم يصفّى ويعزل، ويصبّ على الأفواه «2» ماء حارّا عشرين منّا، ويصفّى على الماء الأوّل فى سفن «3» ؛ ثم يطبخ به البان الأوّل فى ثلاث سقيات وهو على النار، كلّما نشف ثلث الماء صبّ عليه الثلث الآخر فإذا انتهى يبرّد ويوعى فى ظروفه حتى تثنّى الأفواه بماء ثان للبان الثانى، وتطبخ به على الرسم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 89 وقال: هذا أروح وأخفّ مؤونة من تكرار الطبخ بكلّ نوع على حدته إلّا الصّندل والعود، فإنّه لابدّ من طبخهما بماء، كلّ منهما على الانفراد. قال: ورأى سعيد بن عمّار البانىّ وأبو عمران بن الحارث البانىّ أن يطبخ البان بالماء والأفاويه جميعا بعد نقعها، ولا يصفّى الماء عنها. وقالا: طبيخه بالأفاويه مع الماء أقوى له، لأن «1» البان ينمحق «2» فى الأفاويه. وقال سعيد بن عمّار: تسلق الأفاويه بعد إخراجها من البان، كلّ صنف منها على انفراده، ويؤخذ ماء كلّ صنف منها على حدته، ويترك بما بقى فيه من البان ويعجن به السّكّ «3» كما ذكرناه قبل. قال التّميمىّ: وأنا أرى عجن السّكّ بأفواه «4» قويّة منقوعة خيرا وأفضل. وقال: عرضت هذه النّسخة «5» التى اخترعتها- وهى الّتى تقدّم ذكرها- على أبى عمران موسى بن الحران البانىّ فعجب من ذلك، وقال: والله إنّ هذه الطريق لطريقى فى عمل البان وطريق كلّ حاذق، ما عدوت منها شيئا، وما كنت أظنّ أحدا يصل إلى علم مثل هذا من عند نفسه من غير أن يأخذه عن صانع؛ [والله أعلم] . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 90 صفة نشّ «1» البان على رأى ابى عمران البانىّ قال أبو عمران: إذا أردت (نشّ) البان فاسحق للعشرين منّا منه بعد أن يبرد ويجلس «2» من المسك التّبّتىّ مثقالين، ومن سكّ المسك المرتفع أربعة مثاقيل وانخلهما بحريرة، واعجنهما بماء ورد، ثم حلّهما بماء الورد بعد عجنهما حتى يصيرا مثل الحساء، وصبّهما على البان «3» الذى تريد نشّه فى قدر جديدة معدّة للنّشّ واجعله على الكانون الذى يسمّونه (نافخ نفسه «4» ) ، أو غيره، وأوقد تحته بنار فحم، وحرّكه بقصبة فارسيّة دائما وهو يغلى حتى ينشف ماء الورد، وعلامة ذلك أن يعلق المسك والسّكّ برأس القصبة مثل الشّمع أو مثل الغالية، فأنزله عند ذلك عن النار واتركه حتّى يبرد، وارفعه. وأمّا نشّه على ما ورد فى كتاب «5» العطر المؤلّف للمعتصم بالله- فهو أن تأخذ من البان الأصلىّ الأوّل الجيّد رطلين، فتجعلهما فى طنجير برام جديد لم يدخله شىء غير البان، ثم خذ لهما من السّكّ «6» المثلّث المرتفع أوقيّة، ومن العود الجزء: 12 ¦ الصفحة: 91 الهندىّ أوقيّة، واسحق كلّ واحد منهما، وانخله بحريرة، ثم اعجنهما بماء الورد حتّى يصيرا أرقّ من الحساء المصنوع من الدقيق، وصبّهما على البان فى الطّنجير وارفعه على نار ليّنة حتى يغلى غليانا رفيقا وأنت تحرّكه دائما بأنبوبة قصب فارسىّ حتّى ينشف ماء الورد، ويعلق السّكّ والعود برأس الأنبوبة، فأنزله حينئذ عن النار، ودعه حتّى يبرد، وصفّه فى إنائه، ثم انزع ما فى أسفل الطّنجير من السّكّ والعود بزأس سكّين، أو بملعقة من حديد، واعزله لعمل الغالية؛ ثم اغسل الطّنجير غسلا جيّدا، وجفّفه، وأعد اليه البان الّذى نششته بالسّكّ والعود، واسحق للرّطلين من المسك أوقيّة، ومن العنبر الشّحرىّ أوقيّة، وانخل المسك بحريرة صفيقة، والعنبر بخامة «1» ، ثم اجمعهما على الصّلاية، واسحقهما جميعا، ثم حلّهما بماء الورد مثلما حللت السّكّ والعود، وصبّهما فى الطّنجير على البان، وارفعه على نار ليّنة، وأدم تحريكه بأنبوبة القصب. ولا تغفل عن تحريكه، وتكون ناره الآن ألين من النار الأولى التى نششت بها السّكّ والعود، فاذا نشف ماء الورد وتعلّق المسك برأس القصبة، فأنزله عن النار، وبرّده، وارفعه. قال: ونشّ على أثره بما بقى فى الطّنجير من ثفل «2» المسك والعنبر بانا ثانيا يكون دون الأوّل. وأمّا دهن الزّنبق «3» وما قيل فيه - فمنه أصلىّ خالص، ومنه مولّد؛ فأمّا الخالص فمعروف، ولم أقف على كيفيّة عمله فأذكرها. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 92 وأمّا المولّد - فقد ذكره التّميمىّ، ونقله عن الكتاب المؤلّف للمعتصم فقال: تأخذ من الشّيرج الرائق منّا، فتصبّه فى طنجير برام «1» ، ثم تأخذ من ورد النّسرين «2» أوقيّة، ومن بزر الشاهسفرم «3» غير المفروك وورقه من كلّ واحد منهما أوقيّة، ومن بزر النّسرين نصف أوقيّة، ومن زهر الياسمين الأبيض الطرىّ الغضّ لقاط يومه نصف رطل، ومن بزر الورد الأحمر الطرىّ نصف أوقيّة، ومن قضبان قلوب «4» شجر البلسان «5» الطريّة خمسة قضبان أو ستّة، وإن تعذّرت الطرية فخذ من لحائه الجافّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 93 أوقيّة ونصف أوقيّة، ومن الصّندل الأصفر نصف أوقيّة؛ واقسم هذه الأصناف وانقعها فى ماء ورد ونضوح وماء ريحان مصعّد من كلّ واحد نصف رطل، واتركها يوما وليلة منقوعة، ثم ألق ذلك على الدّهن مع الياسمين الطرىّ الأبيض، ثم ارفعه على نار ليّنة، وحرّكه بشقّة قنا حتى تنشف المياه الّتى نقعت فيها الأصناف، فأنزل الطّنجير عن النار، وأحكم تغطيته لوقته، واتركه إلى الغد، ثم صفّ الدّهن عن الثّفل، فاذا برد فألق على كلّ منّ من هذا الدّهن رطلا من الزّنبق المصرىّ الجيّد ثم بعه على أنّه زنبق خالص. قال: وإن شئت فخذ من دهن الشّيرج الرائق العتيق، واجعله فى دستجة «1» ، وألق على كلّ رطل منه فى بكرة النهار الأوّل من زهر الياسمين الطرىّ الأبيض الّذى لا نداوة فيه أوقيّة، وسدّ رأسه «2» ، واجعله طول النّهار فى شمس حارّة؛ ثم افتحه من الغد، وألق عليه من الياسمين نصف أوقيّة، ودرّجه فى كلّ يوم بنقصه «3» درهما حتّى يبقى وزن درهم، فألقه فيه فى كلّ يوم إلى تمام أربعة عشر يوما، ثم اقطع عنه الياسمين، ودعه أربعة عشر يوما فى الشمس حتّى ينطبخ؛ فإذا انضمّ الزّهر الذى ألقيته فى الدّهن، فألق عليه فى كلّ يوم وزن درهم أو درهمين من زهر الياسمين سبعة أيّام، ثم دعه سبعة أيام، وألق عليه سبعة أيّام، ثم اقطع الإلقاء عنه ودعه فى الشمس تمام ستّين يوما حتّى يجفّ الزهر؛ ثم صفّه على شقّة غربال وخذ ما صفا منه فأودعه القوارير، وأحكم سدّها؛ فهذا زنبق غاية لا بعده. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 94 وأمّا دهن الحماحم «1» [وما قيل فيه «2» ] - فقال محمد بن العبّاس: يؤخذ من رءوس الحماحم السّود أوّل ما تظهر قبل أن تبرز، ومن ورقه «3» الصغير الأخضر الذى يجنى منه، فيعزل، ويؤخذ تور «4» حجارة، أو برمة جديدة، تغسل غسلا جيّدا ويصبّ فيها قدر رطل ماء ورد جورىّ، ويطرح فيه الحماحم والورق مع عشرين حبّة من حبّ القرنفل الزّهر، ويصبّ على ذلك من دهن الخيرىّ «5» الكوفىّ الفائق والزّنبق السابورىّ لكلّ عشرة رءوس من الحماحم الضخمة رطل من الخيرىّ والزّنبق ثم اغله بنار فحم لينة حتّى ينضج الحماحم؛ ثم خذ مثقال عود هندىّ مسحوق ومثله من السّكّ «6» المرتفع، ونصف مثقال من الكافور، ووزن دانق «7» من المسك الجزء: 12 ¦ الصفحة: 95 يعجن ذلك بزنبق، ويبخّر، ويقلّب بعد كلّ ثلاث بندات «1» ، ثم يصفّى الدّهن من فوق الحماحم؛ وتعصر حتّى لا يبقى فيها شىء من الدّهن، ثم صبّ الدّهن على الأفاويه المبخّرة، ويحرّك فى باطية، ويترك أربعة أيّام حتّى يصفو؛ ثم تبخّر قارورة نظيفة بسكّ وكافور وعود؛ ثم صبّ فيها الدّهن، وحلّ فيه من المسك ثلث مثقال أو أكثر فإذا أردت استعمال شىء من الدّهن فحرّك القارورة. ومن أحبّ أن يزيده دهنا مبخّرا ويفتقه «2» بشىء من كافور فعل. وأمّا دهن الخيرىّ «3» - فمنه أصلىّ، ومنه مولّد: فأمّا الأصلىّ الخالص فلم أقف على كيفيّة عمله. وأمّا المولّد - فقد ذكره التّميمىّ عن الكتاب المؤلّف للمعتصم، فقال: تأخذ من الشّيرج الصافى منّا فتصبّه فى طنجير «4» برام، وتأخذ له من بزر الحماحم وزن ثلاثة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 96 دراهم، ومن بزر الأفرنجمشك «1» خمسة دراهم، ومن ورقه عشرة دراهم، ومن ورق الحماحم وقلوبه «2» ستّة عشر درهما رطبا كان أو يابسا، ومن بزر الخيرى «3» الخمرىّ والاسمانجونىّ «4» الطرىّ النقىّ من خضرته من كلّ واحد خمسة دراهم، ومن بزر الخيرىّ الأصفر أربعة دراهم، ومن ورق الورد الأبيض ربع أوقيّة، ومن قلوب «5» الأترجّ الورق الرّطب وورده المفتّح وورد النارنج الطرىّ وقشره من كلّ واحد الجزء: 12 ¦ الصفحة: 97 نصف أوقيّة، ومن قلوب النّمّام «1» الطرىّ أوقيّة، ومن الصّندل الأصفر ربع أوقيّة؛ يرضّ الصّندل مع ما كان من الأوراق اليابسة والبزور، وينقع بماء الورد وبماء زهر الخيرىّ «2» المصعّد يومين، وتلقى الأزهار والأوراق وماء الورد والخيرىّ المنقوع فيه على الدّهن، ويوقد تحته «3» بنار ليّنة، وأنت تحرّكه تحريكا مستمرّا بشقّة قنا، حتى إذا علمت أنّ الدّهن قد قبل روائح ما استودعته، أنزلت الطّنجير وغطّيته ليلة ثم تصفّى الدّهن فى القوارير، وإن شئت خلطته بدهن خيرىّ فجعلت على المنّ منه من هذا الدّهن رطلا، أو على الرّطل منه منّا، فإنّه يأتى غاية فى الطّيب؛ وقد يباع هذا الدّهن مفردا بسعر الخيرىّ الخالص. قال: وإن أردت أن تجعل منه غير مطيّب، فخذ الشّيرج واجعله فى قارورة، وألق على كلّ رطل من الشّيرج أوقيّة ونصفا من زهر الخيرىّ الخمرىّ والاسمانجونىّ «4» الطرىّ الّذى لقط عند غروب الجزء: 12 ¦ الصفحة: 98 الشمس، وتلقيه فيه من أوّل الليل، ثم تعلّق القارورة فى بئر ماء عشرة أيّام، ثم تجعلها فى الشمس عشرة أيّام، وتضع فيه فى كلّ عشيّة من زهر الخيرىّ «1» الاسمانجونىّ «2» والخمرىّ لقاط وقته «3» فى كلّ «4» يوم وزن ثلاثة دراهم، ثم يعاد الى البئر عشرة أيّام؛ ثم يخرج ويعلّق فى الشمس، ويجدّد «5» له زهر كرّة «6» ثالثة، ويترك فى الشمس حتّى يجفّ ورقه، ويصفّى بمنخل فيأتى دهن خيرىّ يضرب المثل بطيبه «7» ؛ والله أعلم بالصواب. وأمّا دهن التّفّاح وما قيل فيه - فأجوده ما ألّفه التّميمىّ فقال: تأخذ من دهن الخيرىّ ودهن الورد من كلّ واحد نصف منّ» ، فتخلطهما فى ظرف وتأخذ من ورق الآس الغضّ ما أحببت، فتدقّه بشىء من الماء القراح، وتستقطره الجزء: 12 ¦ الصفحة: 99 فى قابلة «1» ، وتأخذ مما قطر منه زنة مائة درهم، ومن ماء الزعفران المصعّد «2» خمسين درهما، وتخلطهما فى برنيّة، وتصبّ عليهما من ماء الورد ثلاث أواقىّ، وتدقّ من المحلب المقشّر مائة درهم، وتعجنه بنصف أوقيّة ميعة حمراء سائلة عجنا شديدا وتعزله، ثم تأخذ من قشور التّفّاح الشامىّ البالغ الطرىّ رطلا فتلقيه فى المياه وتغليها عليه، ثم تمرسه مرسا جيّدا، وأنزله عن النار، ثم ألق فيه أوقيّة من فاغية «3» الحنّاء وجرزة من ورق النّمّام «4» الطرىّ، وتلقى المحلب المعجون بالميعة فى الدّهن وتضربه به ضربا جيّدا، وتسحق له من القرنفل مثقالين، ومن السّنبل مثقالين وتنخل ذلك، وتضيف اليه أوقيّة ذريرة «5» ممسّكة مفتوقة، وتعجن الجميع بنضوح عتيق، وتخمّره يومين فى باطية بالعود والكافور، وألقه فى الدّهن الّذى حللت فيه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 100 المحلب، واضربه به، ثم اقلبه على المياه الّتى فيها قشور التّفّاح والفاغية والنّمّام «1» وأحكم سدّ رأس الإناء، وضعه فى شمس حارّة سبعة أيّام، وحرّكه فى كلّ يوم ثم ارفعه بعد الأسبوع فى طنجير على نار ليّنة، واطبخه حتّى ينشف الماء، ثم برّده واقطف الدّهن فى ظرف مبخّر، وافتقه «2» بمسك وكافور من كلّ واحد سدس مثقال؛ فهذا دهن التّفّاح الفاخر. وأما الأدهان المركّبة العطرة - فقد ذكر منها التّميمىّ وغيره كثيرا؛ وقد اقتصرنا منها على أطيبها وأجودها وأعطرها. فمنها دهن ألّفه التّميمىّ فجاء غاية، وسمّاه: الدّهن الفيح «3» ، تعمل منه غالية رفيعة. قال: وهذا الدّهن يفوق البان طيبا، وتدهن منه فى الشتاء الأطراف والوجه فيفوق كلّ دهن طيّب؛ تأخذ من دهن الورد الفارسىّ الطرىّ ثلاث أواقىّ، ومن الزّنبق السابورىّ الرّصافىّ «4» أو المصرىّ أوقيّتين، ومن دهن البنفسج أوقيّتين، ومن دهن الخيرىّ أوقيّتين، ومن البان المنشوش «5» بالمسك أوقيّتين، ومن دهن النرجس أوقيّة؛ تجمع هذه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 101 الأدهان فى خماسيّة «1» ، ثم تأخذ من العود الجيّد الفائق وزن درهم ونصف، ومن الصّندل الأصفر المحلول بماء الورد المخمّر بالزّهر والنّمّام «2» وزن درهم، ومن السّكّ المرتفع وزن درهم، ومن زهر القرنفل الذكىّ نصف مثقال، ومن الهرنوة «3» مثل ذلك ومن السّليخة «4» التّفّاحيّة وزن درهم، فتدقّ ذلك وتسحقه، وتنخله بحريرة، ثم تضيف إلى هذه الأصناف من الزّعفران القمّىّ «5» المسحوق وزن دانقين، ومن الكافور الرّياحىّ «6» نصف مثقال، ومن المسك ربع مثقال، ومن النّدّ مثقالا، تسحق المسك والنّدّ وتضيف اليهما الكافور بعد سحقه على الانفراد والزّعفران؛ ثم تعجن الجميع بشىء من الدّهن، وتقطّر فيه من دهن البلسان «7» زنة دانق، ومن دهن الأترجّ زنة دانقين وتضربه ضربا جيّدا، ثم تخلطه بالدّهن، وتضربه به حتّى يختمر، وتقيم سبعة أيّام تضربه كلّ يوم، وتبخّره فى السبعة أيّام إحدى وعشرين بندة برمكيّة رفيعة، وبمثلها الجزء: 12 ¦ الصفحة: 102 من العود الصّرف، وبمثلها من العود والكافور، وتضربه بالبخور والثّفل الّذى فيه ضربا جيّدا فى كلّ مرّة تبخّره، فإنّه يأتى عجبا فى الطّيب والذّكاء؛ فإن أحببت رفعه فحلّ له نصف مثقال من العنبر الأزرق بشىء منه، وألق فيه ربع مثقال من المسك المسحوق؛ واضربه به حتى يصير مثل الغالية؛ ثم صبّه عليه، وأنعم ضربه، فإنّه يرفعه ويطيّبه. صنعة دهن آخر من الكتاب المصنّف للمعتصم بالله تأخذ من العود الهندىّ أوقيّة، ومن السّنبل مثقالا، ومن الصّندل الأصفر مثقالا، ونصف مثقال من الورد؛ يدقّ ذلك، ويخمّر بمثقال من سكّ «1» مسك محلول بماء الورد، مرفوع على النار، فتخمّره به ليلة، ثم يسحق حتّى يجفّ بالسّحق وينخل بحريرة، ويعجن بزنبق «2» سابورىّ مرتفع، ويدخّن بمثلّثة «3» ، ثم تهضمه «4» بعود وكافور، ثم يفتق بما أحبّ صاحبه من مسك وعنبر، ويؤخذ له من دهن الخيرىّ العراقىّ نصف رطل، ومن دهن الزعفران نصف رطل، ومن البان نصف رطل منشوش «5» ؛ تجمع هذه الأدهان فى إناء، وتبخّرها بالعود والكافور، ثم اخلطها الجزء: 12 ¦ الصفحة: 103 بالمعجون المبخّر، واضربها به ضربا جيّدا، واستودعه القوارير، وافتقه بما أحببت من مسك وعنبر. صنعة دهن آخر يسمّى دهن السيّدة تأخذ من الزّنبق «1» من الزّنبق الرّصافىّ المرتفع ثلاث أواقىّ، ومن دهن الورد الفارسىّ أوقيّة ونصفا، ومن دهن الخيرىّ «2» الخالص أوقيّة، تجمع هذه الأدهان الثلاثة فى إناء واحد، ثم تأخذ لها من الهرنوة «3» وزن درهمين ونصف، ومن القرنفل الزّهر مثل ذلك، ومن الكبابة «4» درهمين، ومن جوزبوا «5» مثل ذلك الجزء: 12 ¦ الصفحة: 104 وبسباسة «1» درهما، وزعفرانا درهما، ومن الكافور ثلث مثقال، تسحق الأفواه سحقا جيّدا، وتعجن بقليل من الدّهن، وتلطّخ فى باطن برنيّة، ويبخّر الدّهن بالعود والكافور، ثم تصبّه فى البرنيّة على الفتاق «2» المبخّر، وتضربه به ضربا جيّدا، وتطرح فيه ثلاثة قلوب من قلوب الأترجّ، وإن قطّرت فيه وزن نصف درهم من دهن الأترجّ أغناك عن قلوب الأترجّ وجاء أطيب، فإذا برد وجلس «3» فصفّ الدّهن واستعمله على انفراده، ويؤخذ ثفله فيعمل فى غمر» الحمّام، فإنّه يكون عطرا طيّبا. صنعة دهن آخر صنع للمأمون من كتاب يوحنّا بن ماسويه تأخذ من الزّنبق السابورىّ خمسين درهما، ومن دهن الورد الفارسىّ الرفيع مثل ذلك، ومن دهن الخيرىّ «5» الرفيع مثله؛ تجمع الأدهان الثلاثة فى باطية أو قدح زجاج أو برنيّة رحبة الفم، ثم يؤخذ من الورد خمسة مثاقيل، ومن الصّندل المقاصيرىّ «6» الأصفر خمسة مثاقيل، ومن القاقلّة مثقال، ومن الكبابة «7» مثقال، ومن القرنفل مثقال؛ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 105 يدق ذلك وينخل، ويعجن بزنبق «1» سابورىّ عجنا يابسا، ويبسط فى باطية أو قدح زجاج أو برنيّة بسطا رقيقا، وتبخّره بعود صنفىّ «2» وكافور رياحىّ «3» وسكّ «4» مسك فائق ثلاثة أيّام فى كلّ يوم ثلاث بندات «5» بالغداة، وثلاث بندات بالعشىّ؛ فاذا أردت أن تصبّ عليه الدّهن فبخّره أيضا بنصف مثقال عود هندىّ، ونصف مثقال كافور رياحىّ، ونصف مثقال عنبر؛ تجمع ذلك جميعا، وتقطّع عليه من الزعفران الشّعر زنة دانق؛ ثم تبخّر بجميعها الأفاويه الّتى عجنتها فى برنيّة رحبة ضيّقة الفم ثلاث «6» تبخيرات، ثم تبخّر الدّهن على انفراده سبع بندات بالعود والكافور، وتصبّه على إثر تبخيرك للفتاق الممسّك فى البرنيّة، وتسدّ رأسها، وتضرب الدهن فيها بالفتاق حتّى ينحلّ به ويمتزج، وتسدّ رأس البرنيّة على الدّهن والثّفل سدّا جيّدا حتّى يبرد «7» ؛ ثم أفرغ الدّهن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 106 فى قدح، وبخّر البرنيّة، وأعد الدّهن اليها، تفعل ذلك حتى ينفد ما أعددته للتبخير من العود والعنبر والكافور والزعفران، فاذا فرغ ذلك فحلّ الأفاويه المبخّرة فيه، وحرّكها به حتّى تختلط به، ودعه يومين وليلتين، ثم صفّه عن الأفاويه، وارفعه فى قارورة ضيّقة الفم، وأحكم سدّها، ثم صبّ على الثّفل الذى صفّيت عنه الدّهن من الزّنبق «1» السّابورىّ ثلاثين درهما، ومن دهن الورد الفارسىّ مثل ذلك، ومن دهن الخيرىّ الكوفىّ مثل ذلك بعد أن تجمع هذه الأدهان الثلاثة فى برنيّة، وتبخّرها بالعود والكافور حتّى تشبع؛ ثم تصبّها اذا برد بخورها على الثّفل، وتضربها به ضربا جيّدا، وتحرّكه تحريكا جيّدا سبعة أيّام، فى كلّ يوم ثلاث مرّات؛ فإذا أردت رفعه ألقيت فيه زنة درهم من الزعفران المطحون، وزنة دانق ونصف من الكافور الرّياحىّ «2» المسحوق، وزنة دانق من المسك المسحوق، وزنة درهم من العنبر المحلول على النار بشىء منه وتضربه بذلك ضربا جيّدا؛ ثم تصفّى الدّهن الثانى عن الثّفل فى قوارير، وتحكم سدّ رءوسها، ويؤخذ الثّفل ويستعمل فى لخالخ «3» الحمّام، فإنّه نهاية؛ والله أعلم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 107 صنعة دهن برمكىّ مبخّر من كتاب يوحنّا بن ماسويه تأخذ من البان الرفيع ثلاثين درهما، ومن الزّنبق السابورىّ مثله، ومن دهن الورد الفارسىّ مثله، وتأخذ من العود الهندىّ أوقيّة، ومن الصّندل الأصفر أوقيّة ومن جوزبوا «1» أوقيّة، ومن القرنفل الزّهر أوقيّة، ومن الهرنوة «2» أوقية، ومن البسباسة «3» نصف أوقيّة، ومن السّكّ «4» المرتفع الأوّل أوقيّة، ومن المسك ثلاثة مثاقيل، ومن العنبر مثقالين؛ تدقّ جميع الأفواه كلّ واحد على حدته، وتنخل بحريرة، ويحلّ العنبر ببان الغالية، ويعجن به الجميع بعد أن يحلّ بزنبق سابورىّ عجنا يابسا، ويصيّر فى برنيّة رحبة الجوف واسعة الفم، ويبسط فيها بسطا رقيقا، ويبخّر يوما بالقسط «5» الحلو ويوما بالعود النّىء، ويوما بالصّندل الأصفر، ويوما بالزعفران، ويوما بالسّكّ الرفيع، ويوما بالعود، ويوما بالعود والكافور والعنبر؛ ثم يؤخذ من كل واحد منها نصف مثقال، ويقطّع ويبخّر؛ فإذا انتهى تبخيره فصبّ الدّهن عليه، وحرّكه فيه تحريكا جيّدا، واتركه يوما وليلة، ثم صفّ الدّهن عن الأثفال فى برنيّة قد بخرّتها بمثقال مسك ومثقال عنبر، ونصف مثقال كافور رياحىّ، وسدّ رأسها سدّا جيّدا؛ فهذا الدّهن البرمكىّ الرفيع الّذى اتخذه جعفر بن يحيى لهارون الرشيد؛ ثم تأخذ بعد ذلك من الزّنبق السابورىّ ودهن الخيرى الكوفىّ الرفيع ودهن الورد الفارسىّ من كلّ واحد خمسين درهما، فتصبّ ذلك على الأثفال، وتضربها به بعد أن تبخّرها بالعود الجزء: 12 ¦ الصفحة: 108 والكافور سبع مرّات، وتضرب الأثفال بها «1» فى قارورة نظيفة، وصفّه «2» عنها ويكون ذلك للّخالخ «3» ولشعور النّساء. والدّهن الثانى يلتحق «4» بالأوّل. قال التّميمىّ: وهذا الدّهن البرمكىّ يقوم مقام الغالية. صنعة دهن آخر [كان] يعمل للعبّاس بن محمّد يؤخذ من السّنبل ثلاثة مثاقيل، ومثقال من القرنفل، وثلاثة مثاقيل من براية العود الهندىّ، ووزن نصف درهم بسباسة «5» ، ووزن دانقين قاقلّة «6» ، ومثلها من المحلب «7» المقشّر؛ تدقّ هذه الأصناف، وتنخل بمنخل صفيق، وتعجن بماء الورد الطيّب والزّنبق الخالص، وتبخّر بعود مطرّى سبع بندات «8» ، ثم يترك «9» حتّى يبرد الجزء: 12 ¦ الصفحة: 109 فاذا برد فاقلبه، ودخّنه سبع مرّات، ثم صبّ عليه رطلا من الزّنبق السابورىّ الخالص بعد تبخيره مفردا بالعود والكافور، وحرّكه «1» به، فاذا اختلط فدعه يوما وليلة حتى يجلس «2» ؛ ثم صفّه فى قارورة جديدة مبخّرة، وادّهن منه متى أحببت. صنعة دهن العنبر من كتاب ابن العبّاس تؤخذ قارورة ضيّقة الرأس، فيدهن باطنها بدهن، وتبخّر بعنبر قوىّ الرائحة حتّى تكمد وتسودّ من دخان العنبر؛ فإذا اسودّت فصبّ فيها قدر ثلثيها من دهن الخيرىّ «3» المفتوق «4» بالمسك، واضرب الدّهن فى القارورة ضربا جيّدا حتّى يختلط به ذلك السواد الذى اكتسبته القارورة من دخان العنبر؛ ثم يستعمل، فمن أحبّ تقويته حلّ مثقالا من العنبر بشىء يسير منه، ثم يضربه [به «5» ] ضربا جيّدا. وأمّا الأدهان الّتى تصلح الشّعور وتكثّرها وتبسطها «6» وتسوّدها وتذهب ما بها من الحاصّة «7» وتطوّلها وتقوّى أصولها - فمنها دهن متّخذ من حبّ القطن يكثّر الشّعور ويسوّدها ويذهب بالحاصّة ويصفّى اللون. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 110 يؤخذ من لبّ حبّ القطن منوان، فيدقّ حتّى يصير مثل المحّ «1» [وتستخرج دهنه «2» ] كما تستخرج دهن اللّوز؛ فاذا استخرجت من دهنه منا «3» فصيّره فى طنجير برام «4» وخذ له من السّنبل «5» أوقيّة، ومن القرنفل نصف أوقيّة، ومن المرزنجوش «6» المجفّف نصف أوقيّة، ومن الصّندل الأصفر نصف أوقيّة، ومن القاقلّة «7» أوقيّة، ومن الورد الفارسىّ الأحمر أوقيّة، ومن بزر الشاهسفرم نصف أوقيّة، ومن بزر الافرنجمشك «8» نصف أوقيّة، ومن الزّعفران نصف أوقيّة، ومن الإذخر «9» أوقيّة، ومن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 111 السّعد «1» الكوفىّ المقشور وورد الأترجّ وورد النارنج ولبّ حبّ الأترجّ ولبّ حبّ الأترجّ المقشّر وبزر النّمّام وحبّ الآس الرّطب من كلّ واحد أوقيّة، ومن البلح الأحمر المنزوع النّوى إن كان رطبا فأربع أواقىّ، وإن كان يابسا فأوقيّة، ومن الشّير «2» أملج الأسود بعد دقّه ونخله الجزء: 12 ¦ الصفحة: 112 ثلاث أواقىّ؛ تجمع هذه الأصناف، وتلقى فى قدر، وتصبّ عليها من الماء غمرها وزيادة أربع أصابع، وتصب عليها أيضا من ماء الآس الأخضر رطلا، ومن النّضوح المعتّق منّا، وتنقع فى ذلك يومين وليلتين، ثم يصبّ دهن حبّ القطن عليها، وترفع على نار ليّنة، ويوقد تحتها برفق حتّى ينشف الماء، وتدخل روائح الأفاويه فى الدّهن؛ فإذا انتهى إلى هذا الحدّ فخذ من اللّاذن الرّطب نصف أوقيّة وحلّه على نار ليّنة بزنبق رصافىّ حتّى يصير مثل الغالية، وألق من الكافور سدس مثقال بعد سحقه، ومن المسك المسحوق قيراطين، وإن أحببت فسدس مثقال واضربهما جميعا فى اللّاذن المحلول بالزّنبق ضربا جيّدا، ثم أنزل الطّنجير عن النار وغطّه بطبق ينطبق على رأسه، وإن كان طبخه فى قدر نحاس فهو أجود وأمكن للتغطية، وألق فوق الطبق خشبة، ودعه بقيّة يومه وليلته حتّى يبرد الدّهن ويصفو ثم اقطعه عن الثّفل، واجعله فى إناء واسع، واضرب فيه اللّاذن المحلول والكافور والمسك ضربا جيّدا حتّى تختلط به؛ وان كان فاترا فهو أجود؛ ثم ارفعه فى قوارير مبخّرة، وأحكم سدّها، ودعه حتّى يختمر «1» ، ثم استعمله، فإنّه غاية فى الطّيب والنفع. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 113 صنعة دهن يصنع من دهن نوى المشمش يجوّد الشّعر ويكثّره ويذهب بالحاصّة «1» ، وينفع شعر الرأس واللّحية منقول من كتاب المعتصم تعصر من دهن نوى المشمش منّا «2» ، وتدعه حتّى يروق ويصفو، ثم تأخذ له من المحلب «3» الأبيض المقشور والقرنفل وسكّ «4» المسك والبنك «5» والورد اليابس الأحمر والقاقلّة «6» والمرو «7» الأبيض والمرزنجوش «8» المجفّف والأفرنجمشك «9» المجفّف والشّاهسفرم «10» الجزء: 12 ¦ الصفحة: 114 المجفّف والصّندل الأصفر وورق الأترجّ المجفّف وورد الياسمين المجفّف والسنبل «1» العصافير والهرنوة «2» ، من كلّ واحد أوقيّة؛ تدقّ هذه الأصناف، وتنخل نخلا جريشا «3» وتعجن بماء ورد ونضوح عتيق فى توربرام، وتصبّ عليها من ماء الورد غمرها وزيادة إصبعين؛ فإن كان الثلثان ماء ورد والثلث نضوحا كان أطيب، وتترك فيه يوما وليلة؛ فإذا أصبحت فألقه فى طنجير برام، وصبّ عليه أيضا من ماء الورد والنّضوح، وأوقد تحته، حتى إذا استحقّ صببت الدّهن عليه وأوقدت تحت الطّنجير وأنت تحرّكه دائما تحريكا شديدا حتى ينشف ماء الورد والنّضوح ويبقى الدّهن وحده؛ فأنزل الطّنجير عن النار، وصبّ عليه من ماء الآس الرّطب الّذى قد رششت عليه الماء ودققته وعصرته وروّقته بخرقة رطلا ونصفا؛ ثم أعده إلى النار، وأوقد تحته حتّى ينشف ماء الآس؛ ثم أنزله، وألق فيه قيراطين «4» من المسك المسحوق، وثلاثة قراريط من الكافور المسحوق، وحرّكه تحريكا جيّدا؛ ثم غطّه وغمّه بخشبة، واتركه بقيّة يومه وليلته حتّى يبرد ويصفو؛ ثم صفّه فى القوارير، وارفعه. قال التّميمىّ: وإن حللت فيه وهو حارّ نصف أوقيّة من اللّاذن الرّطب وفتقته «5» به زاد طيبا ونفعا للشّعر. وهذا الدّهن صنعته أنا بالقاهرة فى سنة خمس عشرة وسبعمائة فجاء غاية فى الطّيب والنفع. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 115 صنعة دهن آخر يجوّد الشّعر ويطوّله ويكثّفه ويقوّى أصوله ويذهب بالحاصّة، ألّفته «1» منه يؤخذ من الإهليلج» الأسود والبليلج «3» وشير أملج «4» ونيلوفر «5» أصفر وأحمر مجفّفا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 116 وخبث «1» الحديد، من كلّ واحد نصف أوقيّة؛ يدقّ ذلك وينخل، ويسحق بماء الآس الأخضر، ويربّب «2» حتى يصير عليه من ماء الآس نحو رطل؛ ثم يؤخذ من دهن الحلّ «3» الصافى الجيّد رطلان، ومن ماء البئر ستّة أرطال، ومن ماء ورق الآس رطل آخر؛ فيجمع ذلك فى قدر أو طنجير، وتوقد تحته وقيدا ليّنا وأنت تحرّكه دائما بإسطام «4» حديد صغير حتّى تعلم أنّ الماء قد نشف أو قارب أن ينشف، ثم تحلّ لذلك من اللاذن الرّطب أوقيّة بأوقية دهن رازقىّ «5» رصافىّ «6» على نار ليّنة، فاذا انحلّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 117 فصبّه فى القدر على النار، واغله غلية حتّى تعلم أنّه قد بلغ ونشف ماؤه، ثم برّده «1» وصفّ الدّهن بخرقة حرير، واجعله فى قارورة، وتدهن منه فى كلّ مرّة بوزن درهمين، فإنّه نافع لما وصف. صنعة دهن فاغية «2» الحنّاء يصلح لشعور النّساء قال التّميمىّ: «هذا ممّا ألفّته» ، وهو أن تأخذ من دهن الحلّ «3» الطّرىّ المخلوع السّمسم غير المملوح، ومعنى المخلوع أن يسلق سمسمه بعد قشره وغسله وتجفيفه سلقة ليّنة، ويجفّف على مسح «4» فى الشمس، ولا يقلى، فإنّ المقلوّ لا يقبل روائح الأزهار، ولا يملّح فى سلقه بملح، فإنّ الملح يقطع روائح الطّيب؛ فإذا أخذت الدّهن فصيّره فى طنجير أو قدر حجارة، وألق فيه من فاغية الحنّاء فى أوّل يوم منّا، وفى اليوم الثانى نصف منّ، ودرّجه حتى تتمّ الفاغية ثلاثة أمنان، ويسخّن الدّهن فى كلّ يوم حتى يحمى حين تلقى عليه الفاغية، فاذا كملت فيه ثلاثة أمنان فآصبب عليه من ماء الآس المصعّد نصف منّ، ومن ماء الزعفران نصف منّ، ومن ماء الورد نصف منّ، ثم ارفعه على نار ليّنة حتّى تنشف المياه عنه ويبقى الدّهن؛ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 118 فاذا نشف الماء فأنزله، وغمّه بالغطاء، واتركه حتّى يبرد، واستخرج ما فيه من فاغية «1» بمصفاة؛ ثم اعصرها حتّى يخرج ما فيها من الدّهن بحريرة، وأودعه القوارير. ولم يذكر التّميمىّ مقدار الدّهن. وقال يوحنّا بن ماسويه فى صنعة دهن الفاغية: تأخذ من دهن الحلّ الطرىّ غير المملوح ثلاثة أرطال، فاجعلها فى طنجير أو قدر حجارة؛ وخذ لذلك من فاغية الحنّاء وقلوبه «2» زنة منوين فألقه فيه مفروكا، وإن كان يابسا فدقّه جريشا واصبب عليه من الماء ثلاثة أرطال، وارفع الطّنجير على نار ليّنة حتّى يذهب الماء ويبقى الدّهن، فارفعه فى قوارير. قال: وهو جيّد لشعور النساء، مصلح لها، جيّد للتّمريخ، يستعمله الرّجال والنساء؛ [والله أعلم] . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 119 الباب التاسع من القسم الخامس من الفنّ الرابع فى عمل النّضوحات والمياه المستقطرة وغير المستقطرة مثل ماء الجورين «1» ، وماء الصّندل، وماء الخلوق، وماء الميسوس وماء التّفّاح، وماء العنب، وتصعيد المياه فأمّا النّضوحات - فليس المراد بها فى هذا الباب النّضوحات الّتى تصنع للشّرب، بل المراد بها النّضوحات الّتى تدخل فى أصناف الطّيب. وقد ذكر التّميمىّ منها كثيرا، وهى غير متباعدة فى الأعمال، ولا متنافية فى المقادير؛ ثم اختار منها نضوحا، قال: إنّه ألّفه فجاء جيّدا، وهو: يؤخذ من التمر المنقّى من أقماعه، المنزوع النوى عشرون رطلا، فتنقع فى الماء يوما وليلة، ثم تطبخ فى قدر نحاس مؤنّكة «2» فإذا نضج التّمر فصفّ عنه ماءه من غير أن يمرس أو يمسّ؛ ثم يؤخذ من الاس الغضّ الطرىّ المخروط من عيدانه رطلان، فيدقّ دقّا جريشا، ويعجن بشىء من ماء التمر، ويبخّر بقسط مرّ وبراية عود وصندل وأظفار «3» خمسة أيّام، فى كلّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 120 يوم ثلاث بندات «1» بالغداة، وثلاثا بالعشىّ، وتقلّبه حتى يأخذ روائح البخور؛ ثم دقّه بشىء من ماء التمر، وألقه عليه، وارفعه على النار حتّى يذهب من الماء النصف، ثم صفّه براووق، واتركه حتّى يغلى، فإذا غلى وهدأ غليانه فخذ له من السّنبل والأفلنجة «2» والقرنفل والقرفة والهال «3» بوا والكبابة «4» والقاقلّة «5» ، من كلّ واحد ثلاثة دراهم؛ ودقّ هذه الأصناف دقّا جريشا، ويضاف اليها من الزعفران نصف درهم، وتعجن بشىء من النّضوح، وابسطها فى باطية أو قدح، وبخّرها بآلقسط الطّيّب والعود والكافور، ثم اضربها به ضربا جيّدا وطيّن رأس الظّرف، ولا تفتحه إلّا بعد ثلاثة أشهر. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 121 صفة عمل نضوح نقلته من كتاب الزّهراوىّ يدخل فى أصناف الطّيب، ويستعمل للشّرب، وهو: يؤخذ من عصير العنب مائة رطل فيغلى عليه «1» حتّى يظهر ريمه «2» ، ويقطف عنه؛ فإذا صفا فخذله من ورق الآس ثلاثة أرطال، ومن التّفاح الشامىّ عشرين حبّة ومن السفرجل الممسوح من زغبه عشرين حبّة، ومن التّفاح الشامىّ عشرين حبّة ومن السفرجل الممسوح من زغبه عشرين حبّة، ومن قشور الأترجّ الأخضر ثلاثة أرطال؛ وألق ذلك على العصير، واطبخه على النار حتّى يبقى منه النصف واتركه حتّى يبرد، ثم أوعه فى آنية الزّجاج، ودقّ الأفاويه الحارّة الوافرة، واعجنها بشىء منه، وبخّرها بالقسط الطيّب والعود والكافور، واضربها به، واضرب به أيضا شيئا من الكادىّ «3» ، ومثقالا من دهن الأترجّ، وطيّبه «4» ، ويستعمل بعد تعتيقه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 122 قال الزّهراوىّ فى كتابه: إنّه ينقص النّصف؛ ولم يزد «1» على ذلك. فمن أراده للطّيب فهو كاف؛ وأمّا من أراده للشّرب فلا بدّ أن يغليه حتّى يبقى منه الثّلث؛ ولا يجوز استعماله بأقلّ من ذلك. وأمّا المياه المستقطرة وغير المستقطرة - فمنها ماء الجورين «2» ، وهو الّذى كان يصنع للخلفاء؛ يؤخذ من ماء الورد الجورىّ خمسة أرطال، تجعل فى زجاجة ويطرح عليها من العود الطيّب الهندىّ أوقيّة بعد دقه جريشا؛ ثم يغطّى فم الزّجاجة ويلفّ بملحفة نظيفة، ويترك خمسة أيّام؛ ثم تصفّيه بعد ذلك فى قرعة التقطير ويقطّر الماء برفق وحكمة، ويرفع فى قارورة؛ ثم يؤخذ رطلان من الماء، ويطرح فيهما من الزّعفران الشّعر خمسة دراهم، وجوزبوا «3» درهمان، ويجمع الجميع فى قرعة التقطير وتترك القرعة مسدودة الفم يوما وليلة، ثم تجعل فى فرن التقطير، ويوقد تحتها وقودا معتدلا بنار حطب لا دخان لها؛ فاذا رأيت الماء قد بدأ يقطر فاقطع النار ساعة وتكون قد أعددت قيراط «4» مسك وقيراط عنبر، وحبّتين من الكافور، كلّ ذلك مسحوقا، وألقه فى القرعة، ثم سدّ رأسها، وأعدها إلى النار؛ فإذا بدأ الماء أن يقطر فأغلق باب الفرن، فإنّ الماء يقطر أبيض؛ فإذا تغيّر الى الصّفرة فارفع الأوّل فى قارورة، وسدّ رأسها بشمع، واجمع الماء الأصفر فى قارورة ثانية؛ فاذا تغيّر الى الحمرة فارفع القارورة الثانية، واجعل قارورة ثالثة، فإنّه يقطر أحمر، فاذا فتر التقطير فارفع الماء الثالث، واجعل كلّ ماء على حدة؛ فهذا ماء الجورين. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 123 وأمّا ماء الصّندل - فقال الزّهراوىّ: يؤخذ من الصّندل المقاصيرىّ «1» الأصفر أوقيّتان، تنقعان فى رطل ونصف من الماء المشروب يوما وليلة؛ ثمّ يصعّد مثل ماء الجورين؛ وإن عملته من ماء الورد فهو أبلغ؛ وكذلك تصعيد العود، ويكونان قد طحنا قبل نقعهما. صفة تصعيد ماء القرنفل يؤخذ من زهر القرنفل الذّكىّ الحرّيف أوقيّة، تدقّ وتنخل، ويضاف اليها زنة دانق من الكافور المسحوق، ويحلّ بمنّ ونصف من ماء الورد، ويضرب به ويترك يوما وليلة؛ ثم يصعّد كما تقدّم. صفة تصعيد ماء السّنبل يؤخذ من السّنبل العصافير الأحمر أوقيّتان، يدقّ، ويعجن بماء الورد وماء النّمّام «2» ، ويترك ليلة مخمّرا؛ ثمّ يضاف اليه من الغد من ماء الورد منا «3» ، ويضرب به ضربا جيّدا؛ ثم يصعّد بنار ليّنة كما تقدّم. صفة تصعيد ماء الكافور يؤخذ من الكافور الرّياحىّ مثقالان، يسحق سحقا جيّدا، ثم تصبّ عليه من ماء الورد رطلا، أو رطلين إن أحببت الكثرة؛ واضربه به ضربا جيّدا شديدا حتى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 124 يصير أبيض؛ ثم طيّن له قرعة بطين الحكمة «1» ، وتفقّدها ثلاثة أيّام حتّى لا يبقى فى طينها شقّ؛ ثم تنصب على الأتون، ويصبّ فيها الماء الذى ضرب به الكافور ويركّب عليها الانبيق «2» ، ويوقد تحتها بنار فحم ليّنة حتّى يصعد، فإنّه يصعد منه ماء كافور يفوق كلّ طيب؛ ثم اثنه «3» بماء ورد بغير كافور، فيأتى ماء كافور دون الأوّل. تصعيد ماء الزّعفران عن ابن ماسويه يؤخذ رطل زعفران مسحوق، ويصبّ عليه من الماء رطلان، ويترك يوما وليلة؛ ثم يضرب بالغداة، ويحرّك باليد، ويدلك دلكا جيّدا، ثم يصفّى بخرقة رقيقة، ويجعل الماء فى قرعة، ويصعّد؛ ومن أحبّ ألّا يصفّيه يصعّده بثفله. تصعيد آخر استنبطه التّميمىّ قال: يؤخذ من الزعفران الشّعر أوقيتان، فيجعل فى برنيّة زجاج، ويصبّ عليه من ماء الورد منّ، ويسدّ رأسها، ويترك يوما وليلة؛ ثم يسحق له من القرنفل الزّهر مثقال، ومن الكافور مثقال، ويضربان به ضربا جيّدا؛ ثم يصعّد بالقرعة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 125 والانبيق على الماء، فإنّه يخرج منه ماء عجيب فى الطّيب؛ ثم يثنّى بالماء القراح فيخرج منه ماء ثان دون الأوّل. صفة تصعيد ماء الورد الطيّب الّذى يسمّى الغنج «1» يؤخذ من ورق الورد الطرىّ الأحمر، ويسحق لكلّ رطل منه نصف درهم جوزبوا «2» ، ونصف درهم من القرنفل الزّهر، ومن المسك قيراط «3» ، ومن الكافور نصف قيراط، وتذرّ على ورق الورد بعد أن يرشّ عليه ماء ورد جورىّ، ويجعل فى قرع «4» التقطير فى كلّ قرعة رطلان؛ ويركّب عليها الانبيق، ويستقطر بخار الماء؛ فإذا قطر من الرطلين ربع رطل عزل ذلك الماء الأوّل؛ ثم تركّب على القرعة قابلة «5» أخرى، ويستقطر فيها ما بقى فى الورق من الماء، وهو نحو ربع رطل أو أكثر وارفعه على نوعين: أوّل وثان، وأحكم سدّ رءوس القوارير؛ وإن أردت أن تأمن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 126 عليه التعطّن «1» وأن يصفو، فاسحق لكلّ منّ من ماء الورد قدر حبّتين «2» نوشادرا «3» معدنيّا وألقه فيه قبل سدّ رأس القارورة، فإنّه يصفّيه؛ وإن جمعت الماء الأوّل فى إناء وألقيت النوشادر فيه، وتركته ثم أوعيته فى القوارير كان أجود، وتصنع بالثانى مثل ذلك. تصعيد ماء ورد آخر ألّفه التّميمىّ يستخرج من الورد اليابس يؤخذ من الورد الأحمر الفارسى الجيد فينقّى من أقماعه، وينقع منه رطل واحد فى منوين ماء ورد جورىّ يومين وليلتين، فى برانىّ مسدودة الرءوس؛ ثم يصبّ عليه من الماء العذب أربعة أمثال وزنه، ويسحق له من الكافور مثقال، ومن القرنفل ثلاثة دراهم، ومن المسك قيراطان، ويضرب ذلك به، ثم يقسم فى قرعتين أو ثلاثة؛ تفعل ذلك قبل إلقائك الكافور والقرنفل، ثمّ تلقى فى كلّ قرعة من الفتاق «4» حقّها، وتضرب ما فيها من الورد والماء ضربا جيّدا، ويركّب عليها الانبيق ويستقطر ماؤه، فإنّه يأتى منه ماء ورد لا بعده فى الطّيب؛ ثم تصبّ على الثّفل ماء ثانيا نحو ثلاثة أرطال، وتستقطره، فإنّه يخرج منه ماء ورد ثان لا حق بالأوّل. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 127 تصعيد ماء ورد ملوكىّ مرتفع عن ابن العبّاس يؤخذ من حبّ السّمسم المربّى بالمسك، فيسحق مع شىء من الكافور على صلاية، ويجعل لكلّ عشرة مثاقيل من حبّ السّمسم زنة دانق من الكافور ويجعل منه فى كلّ قرعة مثقالان مخلوطان بورق الورد الأحمر العربىّ؛ ثم يستقطر فإنه يقطر منه ماء ورد أدكى من كلّ طيب؛ وإن سحقت لكلّ قرعة زنة دانقين من زهر القرنفل، أو نصف درهم، خرج ماء عجيبا حسن «1» الرائحة عبقا. تصعيد ماء المسك وماء الورد قال التّميمىّ: تأخذ من المسك دانقا؛ ومن ماء الورد الجورىّ رطلا بالبغدادىّ فتسحق المسك، واضربه بماء الورد، واتركه فيه ساعة؛ ثم اجعله فى القرعة وركّب على رأسها الانبيق، وصعّده على هباء «2» الماء، فإنّه يطلع منه ماء مسك لا بعده؛ ومن أحبّ الزيادة فى المسك أو النقصان فعل؛ ويصعّد على أثره ماء ورد بغير مسك، فإنّه يأتى ماء مسك دون الماء الأوّل. وأمّا تصعيد ماء الخلوق من كتاب الزّهراوىّ قال: يؤخذ جوزبوا وبسباسة وسكّ، من كلّ واحد أوقيّة؛ كافور نصف أوقيّة؛ قرنفل أوقيّة، سنبل وقاقلّة «3» وكبابة، من كل واحد نصف أوقيّة، زعفران أوقيّة؛ تدقّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 128 هذه الأصناف، وتحلّ بماء الورد، وتبخّر بالعود والكافور فى يوم وليلة خمس عشرة مرّة، ويكون العود والكافور سواء فى التّجزئة، ثم تلقى على ذلك من ماء الورد عشرة أرطال، ويجعل فى قرعة التقطير، ويوقد تحته بنار فحم ليّنة حتّى يصعد جميع الماء ويبقى الثّفل، فإن أردت أن تزيده ماء آخر على الثّفل وتصعّده ثانيا فافعل، وارفع كلّ ماء على حدّة؛ والله أعلم. تصعيد ماء خلوق آخر من كتاب أبى الحسن المصرى ّ يؤخذ من القرنفل والسّنبل والهرنوة والصّندل والزّعفران، من كلّ واحد جزء، ومن الورد الأحمر المنزوع الأقماع جزءان؛ يدقّ الجميع، وينخل، ويعجن بزنبق، ويبخّر بقسط مرّ وحلو وظفر «1» ولاذن ثلاثة أيّام، ويقلّب بين كلّ ثلاث بندات «2» ؛ ثم يبخّر بعود وكافور ثلاثة أيّام؛ ثم يفتق بجوزبوا وبسباسة وسكّ مسك وعود لكلّ رطلين منه نصف أوقيّة من جميع الفتاق، ودرهمان من الكافور الرياحىّ ومثقال من دهن البلسان، ويحلّ بماء ورد حتّى يصير كالحساء، ويجعل فى قرعة التقطير، ويستقطر، ثم يخرج وفيه نداوة بعد أن يثنّى بماء ورد آخر، ويجعل ثفله فى اللّخالخ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 129 تصعيد ماء خلوق من كتابه أيضا يؤخذ من الزّعفران عشرة دراهم، ومن القاقلّة «1» والصّندل وحبّ «2» العروس والقرنفل والمحلب، من كلّ واحد وزن درهمين، وسنبل وقرفة «3» قرنفل ومصطكاء وجوزبوا من كلّ واحد وزن درهم، ومثل الزعفران وسائر هذه الأفاويه من الورد الفارسىّ الأحمر؛ يدقّ الجميع، وينخل، ويعجن بعسل نحل صاف منزوع الرّغوة، مضروب بالنّضوح المعتّق، ويبخّر بقسط وظفر حتّى يشبع، ثم بعود وكافور ثلاثة أيّام ثم بزعفران وكافور ثلاثة أيّام؛ ثم يؤخذ من الرّيحان الغضّ الأخضر أربعة وعشرون درهما، فتدقّ وتعجن بصفو النّضوح، ويبخّر الرّيحان بقسط وظفر «4» ، ويخمّر ليلة ثم يخلط بالخلوق، ويضرب به ضربا جيّدا، وتقطّر عليه قطرات من دهن البلسان أو دهن الكادىّ «5» ؛ ويسحق من الكافور الرّياحىّ «6» مثقال فيعجن به، ويضرب به ضربا جيّدا، ويحلّ جميع ذلك بمنوين من ماء الورد، ومنوين من ماء النّمّام «7» المصعّد؛ ثم يصعّد على ما تقدّم، فإنّه يأتى غاية فى الطّيب والذّكاء. قال: وهذا أطيب ما يستخرج من ماء الخلوق. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 130 وأمّا ماء الميسوس - فهو ممّا يدخل فى النّضوحات، وتنقع به الأفاويه وتخمّر به اللّخالخ «1» ، وغير ذلك من أصناف الطّيب؛ وعمله على طرق كثيرة، نذكر أقربها وأجودها إن شاء الله تعالى. صنعة ميسوس نادر أخذ عن بختيشوع «2» الطبيب من كتاب العطر المؤلّف للخليفة المعتصم بالله قال: يؤخذ من القسط المرّ وقصب «3» الذّريرة والساذج «4» الهندىّ والقرنفل الزّهر الجزء: 12 ¦ الصفحة: 131 وقشور عيدان السّليخة «1» الحمراء والبسباسة «2» الذّكيّة والأشنة «3» الهنديّة واليمانيّة بعيدانها من كلّ واحد ستّ أواقىّ، ومن السّنبل «4» العصافير أوقيّتان، ومن الميعة «5» السائلة الحمراء أو البيضاء ستّ أواقىّ، ومن دهن البلسان «6» ستّ أواقىّ، ومن الزّعفران القمّىّ «7» المسحوق خمس أواقىّ، ومن المسك خمسة مثاقيل؛ تدقّ الأصناف اليابسة وتطحن، ويسحق المسك والزّعفران سحقا ناعما، ويدافان بالطّلاء «8» الرّيحانىّ الذّكىّ وتحلّ الميعة بدهن البلسان، ويصبّ على الجميع من عسل النحل ستّ أواقىّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 132 ويضرب بالأصناف ضربا جيّدا وهو حارّ، ويداف ذلك بالطّلاء «1» ، وتعجن به الأفواه عجنا جيّدا، ثم يؤخذ من ورد السّوسن الأبيض الطرىّ ثمانمائة وردة عددا فتقطع أصول ورقها بالأظفار، ويمسح من الصّفرة التى تكون فى داخله بخرقة ناعمة كتّان جديدة، ثم تفرش الورق فى إناء، راقا «2» من الورق، وراقا من الأدوية حتى تأتى على السّوسن والأدوية، ثم تصبّ على ذلك من الطّلاء الذّكىّ خمسة وعشرين رطلا بالبغدادىّ، وتغطّى الإناء بغطاء ينطبق عليه، وتستوثق منه ويطيّن بطين حرّ مخلوط بشعر العنز المدقوق المنخول؛ ويرفع فى بيت كنين، فى ظلّ ممّا يواجه ريح الشّمال، ويترك ستّة أشهر، ثم يفتح ويصفّى فى القوارير. قال: فإنّه ينفع- بإذن الله- من الإغماء الشديد، وفرط الغثيان والقىء والاستطلاق والهزال وضعف الطبائع، ومن الغمّ الشديد، وضعف المعدة والكبد؛ وقد ينفع فى «3» الضّمادات، وتعصب به المفاصل، ويوضع منه على قرطاس وتضمد به المعدة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 133 صنعة نوع آخر من الميسوس عن بختيشوع «1» أيضا من الكتاب المذكور تؤخذ من السّوسن الأبيض أربعمائة سوسنة، فيقطع ورقها، وتمسح الصّفرة التى داخله، ويبسط على ثوب كتّان جديد، وينثر عليه من الملح الأندرانىّ «2» ويجفّف فى الظّلّ؛ ثم خذ له من القسط المرّ والساذج «3» الهندىّ والحمامى «4» الحمراء وقشور الجزء: 12 ¦ الصفحة: 134 عيدان السّليخة «1» الحمراء والقرنفل وقصب «2» الذّريرة الطيّبة من كلّ واحد أوقيّتين ومن المصطكاء وسنبل الطّيب والعود الهندىّ، من كلّ واحد أوقيّة، ومن الزّعفران نصف أوقيّة، ومن الميعة «3» الحمراء السائلة ودهن البلسان من كلّ واحد أربع أواقىّ ومن المسك أربعة مثاقيل؛ تدقّ هذه الأصناف جريشا، وتنعم سحق المسك والزعفران، ويجمعان بالميعة السائلة ودهن البلسان، وتصبّ على ذلك أربع أواقىّ من عسل النحل، ويعجن به (يعنى الزعفران والمسك) عجنا جيّدا؛ ثم يحلّ بالطّلاء ويعرك، وتأخذ برنيّة من زجاج واسعة الرأس، كبيرة، فتبسط فيها راقا «4» من ورق السّوسن وراقا من الأخلاط حتّى ينتهى ذلك؛ ثم صبّ عليه من الطّلاء الجيّد العتيق الذكىّ الرائحة الّذى لم يوضع فى الشمس عشرين رطلا، وتصبّ عليه بعد ذلك الزعفران والمسك المدافين بدهن البلسان والميعة والعسل المحلول بالطّلاء فوق رأس البرنيّة، وليكن للبرنيّة غطاء ينطبق عليها، وتجعل تحت الغطاء خرقة كتّان جديدة، وتشدّ فوق الخرقة بقرطاس مصرىّ، ثمّ بالغطاء، ثم تطيّن البرنيّة بالطّين الحرّ والشّعر وتبن الكتّان، وتجعل البرنيّة فى طاق يلى ريح الشّمال، ولا تقابل بها الريح استقبالا، بل اجعلها منحرفة عنها أدنى انحراف، واتركها ستّة أشهر ثم استعمله. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 135 قال: وبعض الحكماء الأطبّاء يزيد فيه كبابة «1» وفلنجة «2» وزرنبادا «3» من كلّ واحد أوقيّتين. وأمّا ماء التّفّاح ونضوحه الّذى يصنع منه - فقال التّميمىّ عن أحمد ابن أبى يعقوب فى صنعة ماء التّفّاح الشامىّ الطيّب: تؤخذ من التّفّاح الشامىّ الجيّد السالم من العفن والتشنّج «4» خمسمائة حبّة، فتمسح، ثم تشقّق كلّ تفّاحة أربعة ويلقى ما فيها من الحبّ وما يجاوره، ثم تقطّع صغارا فى مراكن «5» خضر، ثم تدقّ دقّا جيّدا فى هاون حجارة، ثمّ تعتصر فى كرباسة «6» نظيفة طيّبة الرّيح مبخّرة، ثم تدقّ مرّة ثانية، وتعتصر حتّى لا يبقى فيها شىء من الماء، ثم يروّق، ويصبّ فى تور حجارة، أو طنجير حجارة، ويطبخ بنار فحم ليّنة من فحم كرم جزل، فإذا ذهب من الماء أقلّ من الثلث فاطرح فيه قرنفلا صحيحا وقطعا من صندل أصفر دقاقا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 136 واغله بهما حتى ينقص الثلث وزيادة يسيرة، ثم ارفق بالنار حتّى يبلغ نقصه النصف ثمّ أنزله عن النّار، ودعه حتّى يبرد، ثم صفّه، وأعده إلى الطّنجير وأخرج الصندل والقرنفل منه، وأوقد تحته برفق، فإذا غلى ثانية فاطرح فيه عودا مرضوضا مثل رضّ الخشخاش، أو أجلّ منه قليلا، واغله به حتّى يذهب ثلث ما بقى وزيادة فيكون نقصه عن أصله قد زاد عن ثلثيه، ثم اطرح فيه من السّكّ «1» المرتفع سكّ الغالية، ولا تكثر تحته النار إلّا بقدر ما يغلى غليانا رفيقا، فاذا رأيته قد انعقد وصار مثل الخلوق- وهو الى الرقّة ليس بخاثر «2» - فأنزله عن النار، واتركه فى الإناء يوما وليلة، ثم خذ قارورة ليست بالواسعة الرأس ولا بالضيّقة قدر ما تدخلها اليد، فبخّرها بسبع قطع عود مخمّر وندّ وقطع عنبر، ثم صفّ ذلك الماء وصّه فيها، وسدّ رأسها ما استطعت بخرقة، وطيّنه، ثم اتركه ثلاثة أيّام، حتى إذا كان فى اليوم الثالث فاسحق له لكلّ رطل من الماء مثقالا من مسك، ومثقالا من عنبر شحرىّ مداف، واضرب ذلك بالماء ضربا جيّدا، وحرّك القارورة سبعة أيّام، واتركها شهرا، ثم استعمله بعد ذلك. صنعة عقيد ماء التّفّاح من كتاب أبى الحسن المصرىّ «3» قال: يعتصر ماء التّفّاح على ما تقدّم، ثم يجعل فى طنجير برام أو برمة بعد ترويقه وتصفيته، ويطبخ على النار حتّى يذهب منه النصف والربع، ثم ينزل الجزء: 12 ¦ الصفحة: 137 عن النار، ويبرّد، ويسحق لكلّ رطل منه وزن نصف درهم من القرنفل الزّهر وحبّتى مسك، وحبّتى كافور سحقا جيّدا، وتضرب به، ويجعل فى آنية زجاج ويحكم سدّ رأسها، ويرفع إلى وقت الحاجة إليه. صفة نضوح ماء التّفّاح ممّا ألّفه التّميمىّ وركّبه فجاء غاية فى الطّيب قال: تأخذ من التّفّاح الشامىّ البالغ النّضيج خمسمائة حبّة، فتعصر ماءها على ما تقدّم، وترفعه على النار فى قدر نحاس مؤنّكة «1» ، وتوقد تحته حتى تنشقّ عنه رغوته، فإذا تشقّقت فالقطها عنه حتّى يصفو وينصقل وجهه، ثم خذ له من العود الجيّد والسّنبل العصافير والقرنفل الزّهر والقاقلّة» والهال بوا والهرنوة «3» والقرفة والجوزة «4» ، من كلّ واحد وزن درهم، يدقّ ذلك دقّا جريشا، وينخل بمنخل شعر واسع، ويشدّ فى خرقة شرب «5» فيها عنه فضل، وتدلّى بخيط فى قدر ماء التّفّاح الجزء: 12 ¦ الصفحة: 138 ويغلى عليها، وتمرس الخرقة ساعة بعد ساعة حتّى تخرج قوّة الأفواه فى ماء التّفّاح ولا تزال توقد تحته وقيدا ليّنا حتّى يذهب نصف الماء وربعه، فإذا بقى منه الربع فأنزله عن النار، واعتصر الخرقة فيه، ثم أخرجها وجفّف ما فيها من أثفال الأفواه فإنّها تصلح للضّمادات الّتى تصلح المعدة، فإذا فتر ماء التّفّاح فاسحق له من المسك مثقالا، ومن الكافور نصف مثقال، ومن سكّ المسك مثقالا، ومن الزعفران المطحون نصف مثقال، واجمع ذلك فى زبديّة «1» ، وصبّ عليه من مطبوخ ماء التّفّاح ما تعجنه به، ثم أذبه حتى يصير مثل الخلوق، ثم صبّه فيه، واضربه به ضربا جيّدا، واجعله فى ظروف، وأحكم سدّها، فإنه يأتى عجيبا فى الطّيب. وأمّا ماء العنب المطيّب والعقيد المصنوع منه - وقد سماه التّميمىّ بهذه التسمية، ونقله من كتاب العبّاس بن خالد وغيره- فقال فى عمل ماء العنب المطيّب: تأخذ من عصير العنب الأسود زقّين أو ثلاثة، فتصبّه فى إناء، وتتركه يومين، ثم تروّقه فى إناء آخر حتّى يصفو، واجعله فى طنجير برام، وأوقد تحته بنار ليّنة، وانزع رغوته، فإذا صفا فخنله من الزّرنب «2» والفلنجة «3» من كلّ واحد أوقيّة واجعلهما فى خرقة شرب خفيفة، وتشدّ وتعلّق فى الطّنجير، ويطبخ وهى فيه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 139 وتمرس ساعة بعد ساعة حتّى يذهب من ماء العنب النصف، ثم أنزله عن النار وبرّده يوما وليلة، ثم روّقه، وخذله من المسك مثقالين، ومن الكافور الرياحىّ مثقالا ونصف مثقال، ومن الزعفران نصف أوقيّة، ومن العود المسحوق المنخول نصف أوقيّة؛ ثم اجمع ذلك فى زبديّة، وحلّه بشىء من العصير المطبوخ، ثم صبّه فيه، واضربه ضربا جيّدا، واجعله فى قوارير، وسدّ رءوسها، ويكون أقلّ من ملوها «1» ، فإنّه يغلى ويفور؛ وينبغى أن يحرّك فى كلّ يوم تحريكا شديدا إلى أن يسكن غليانه ويستعمل بعد شهور. صنعة أخرى لماء العنب المطيّب من كتاب محمد بن العبّاس يؤخذ من العنب الأبيض الكثير الماء فيعصر فى إناء نظيف، ويجعل الماء فى طنجير، ويوقد تحته وقود ليّن حتى تنزع رغوته ويصفو، ثم خذ له قرفة قرنفل وسنبل، فيدقّ ذلك دقّا ناعما؛ ويلقى فيه وهو على النار بعد أن ينقص نصفه ثم يغلى «2» عليه ساعة، وينزل، ويترك حتّى يبرد يوما وليلة، ثم يصفّى «3» براووق ويجعل فى إناء غضار «4» ، ويفتق بمسك وكافور رياحىّ وعود مطحون، فإن كان فى زمن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 140 الحرّ فأخرجه بالليل إلى صحن الدار مغطّى، ويردّ بالنهار إلى موضع بارد كنين ولا يترك فى مكان ند «1» ، ثم يجعل بعد إحكام سدّه وتطيينه فى موضع كنين إلى أن يدرك، ويستعمل فى وقت الحاجة اليه. ووصف التّميمىّ أعمالا كثيرة لماء العنب، إلّا أنّها لا تبعد عن هذه النّسخ الّتى أوردناها ولا تنافيها إلا بكثرة الأفاويه وقلّتها، ولم يقل فى شىء منها: إنّه ينقص أكثر من النصف؛ وفيه على هذه الصفة ما فيه، وبعيد أن تفارقه النشاة «2» مطلقا اذا لم يزد عن النصف؛ فأمّا من أراد استعماله على الوجه المباح عند أكثرهم فإنه يغليه حتى لا يبقى منه إلّا دون الثلث. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 141 الباب العاشر من القسم الخامس من الفنّ الرابع فى الأدوية التى تزيد فى الباه وتلذّذ الجماع «1» وما يتّصل بذلك من أدوية الذّكر والأدوية المعينة على الحبل والمانعة منه وغير ذلك إعلم- وفّقنا الله وإيّاك- أنّ علاج الباه يحتاج إلى أدوية لإصلاح باطن البدن وظاهره. أمّا باطنه فإصلاحه «2» بالأدوية المستعملة، من الأطعمة والأدوية المركّبة والجوارشنات «3» والمربّيات والسّفوفات والحقن والخمولات. وأمّا ظاهره فإصلاحه بالمسوحات والضّمادات والأدوية الملذّذة بالجماع. ذكر الأطعمة النافعة لذلك - من ذلك صفة عجّة «4» تزيد فى الباه: يؤخذ حمّص وباقلاء «5» وبيض «6» وبصل أبيض، يطبخ ذلك بلبن حليب حتّى يتهرّأ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 142 ويصفّى عنه اللّبن؛ ثم يطرح فى مهراس «1» ويدقّ ناعما حتّى يختلط «2» ... ؛ وتؤخذ صفرة عشر بيضات فتطرح عليه، ويجعل جميع ذلك فى مقلى، ويقلى بزيت «3» ، وتعمل عليه الأبازير، ولا يترك حتّى يحترق، بل يؤكل قبل نضجه. صفة عجّة أخرى يؤخذ هليون «4» رخص «5» ولوبياء «6» وبصل أبيض وحمّص؛ يسلق جميع ذلك الجزء: 12 ¦ الصفحة: 143 حتّى يتهرّأ، ويؤخذ من صفرة البيض ما يحتاج اليه، ويجعل على المسلوق بعد دقّه ويطرح عليه شىء من شحم الإوزّ، ويغلى بزيت مغسول «1» ، ويؤكل قبل نضجه، فإنّه غاية فى زيادة الباه. صفة لون يزيد فى الباه تؤخذ فراريج مسمّنة قد علفت الحمّص والباقلاء واللّوبياء، تذبح وتغسل ويؤخذ حمّص يسلق ببصل كثير، وينشّف، ويرضّ بشحم ثلاثة فراريح، ويحشى به فرّوج من المسمّنة، ويطبخ إسفيد باجة رطبة، ويكون ملحها ملح السّقنقور «2» ويذرّ عليه «3» دار صينىّ وزنجبيل وابازير؛ ثم يجعل الفرّوج بعد نضجه على رغيف سميذ «4» قليل الملح والخمير، ويترك الرّغيف فى المرق حتّى يتشرّبه، ثم يؤكلان، فإنّ ذلك نهاية. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 144 صفة هريسة يؤخذ من الحنطة النقيّة المقشورة، ثم تجعل فى قدر، ويجعل معها مثل خمسها من الحمّص والباقلاء واللّوبياء، ثم يجاد طبخها، ثم يؤخذ من عصارتها جزءان، ومن اللّبن الحليب البقرىّ جزء، ومن النارجيل مثل ربع اللّبن، ويلقى فيه من شحم الإوزّ والبطّ؛ ويسلق بلحم الهريسة، ويخلط جميع ذلك بالأوّل؛ ويضرب حتّى يصير هريسة، ويكون ملحها ملح السّقنقور، وتؤكل، فإنّها تزيد فى الباه. صفة لون آخر يؤخذ لحم حمل سمين، يطبخ إسفيد باجا «1» ، ويطرح معه حمّص وبصل كثير وخولنجان «2» الجزء: 12 ¦ الصفحة: 145 وصفرة البيض، ويطيّب بالأبازير وملح السّقنقور «1» ويؤكل فإنّه غاية. قال صاحب كتاب (الإيضاح) : إنّ الأطعمة الّتى تزيد فى الباه هى الطّباهجات «2» والاسفيدباجات واللّوبياء والهرائس والمطجّنات والأمخاخ وما يجرى مجرى ذلك. وأمّا الأشربة المركّبة الّتى تزيد فى الباه - فقد وصف منها محمد ابن زكريا الرازىّ وغيره أصنافا، فقال: يؤخذ من لبن البقر الحليب رطلان من بقرة فتيّة صفراء، يجعل فيه ترنجبين «3» أبيض، ويطبخ بوقود شديد حتّى يغلظ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 146 ويصير مثل العسل، وتؤخذ منه فى كلّ يوم أوقيّة على الريق، وأكثر من ذلك. وقال: هذا لأصحاب الأمزجة الحارّة اليابسة. آخر يصلح لأصحاب الأمزجة الباردة اليابسة يؤخذ من اللّبن الحليب رطل، وتسحق عشرة دراهم دارصينىّ سحقا ناعما حتّى تصير مثل الكحل، وتلقى على اللّبن، ويترك ساعة، ثم يشرب قدحا بعد قدح ويخضخض لئلّا يرسب الدارصينىّ فيه، وليشرب قبل الطعام وبعده قليلا قليلا بدل الماء عند العطش حتّى يأتى على اللّبن والدار صينىّ بكماله، ويكون الغذاء طباهجا بلحم ضأن فتىّ، ويشرب عليه نبيذا صرفا، يفعل ذلك أسبوعا، ولا يجامع فيه، فإنّه يولّد منيّا كثيرا، ويهيّج تهييجا عظيما. قال: وينبغى أنّه اذا هاجت منه حدّة وحرارة أن يقطع، فإن لم تسكن الحدّة والحرارة فصد وأسهل وسقى ماء الشّعير ويترك اللحم والشراب أياما، ويقلّل الغذاء. قال الرازىّ: إلّا أنّ هذا التدبير يجمع امتلاء كثيرا؛ ولا يقرب هذا الدواء من بدنه غير نقىّ، فإنّه يحمّ لا محالة. فأما النقىّ البدن، القليل الدم، الساكن الحدّة، فنعم الدواء هوله، وهو دواء قوىّ فى فعله. صفة شراب آخر يؤخذ من حليب البقر رطلان؛ وقيل رطل، ويلقى عليه من التّرنجبين «1» الأبيض الخراسانىّ زنة عشرين درهما، ويطبخ برفق حتّى يصير فى قوام «2» العسل ثم تؤخذ منه فى كلّ غداة أوقيّة على الرّيق، فإنّه نهاية فى زيادة الباه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 147 صفة شراب آخر يؤخذ ماء البصل وماء الهليون «1» وسمن البقر ولبنها، من كلّ واحد جزء، ومن بزر الجرجير وبزر اللّفت من كلّ واحد كفّ؛ يدقّان ويلقيان فى المياه واللّبن، ويغلى ذلك على النار، ويصفّى؛ وتشرب منه أوقيّة وهو حارّ، فإنّه جيّد. ذكر الأدوية المركّبة النافعة لزيادة الباه وتغزير المنىّ يؤخذ بزر رازيانج وبزر جرجير، من كلّ واحد خمسة مثاقيل؛ يسحقان ويعجنان بلبن البقر، ويحبّب كالباقلاء، ويؤخذ منه مثقال، ويدخل بعده الحمّام، ويمرخ البدن فى الحمّام بزيت وخلّ وعصارة عنب الثعلب، فإنّه نافع. صفة دواء آخر يؤخذ من ماء البصل الأبيض جزء، ومن العسل جزءان؛ يطبخ ذلك على نار ليّنة حتّى يذهب ماء البصل، ويؤخذ من العسل عند النوم ملعقتان، فإنّه نافع جيّد لأصحاب الأمزجة الباردة. دواء آخر يؤخذ عاقرقرحى «2» وبزر الرشاد «3» وبزر الأترجّ وفلفل، من كلّ واحد مثقال؛ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 148 دار صينىّ وشقاقل «1» وبزر الجزر وزنجبيل، من كلّ واحد مثقالان. [حلتيت «2» نصف مثقال؛ تجمع هذه الأدوية بعد دقّها، وتعجن بعسل منزوع الرّغوة، وترفع؛ الشربة منه مثقالان] . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 149 ذكر دواء آخر عجيب الفعل فى زيادة الباه يؤخذ حسك «1» يابس، يدقّ ويسحق سحقا ناعما، ويعتصر من ماء الحسك الرّطب، ويسقى به المسحوق فى الشمس حتّى يشرب ثلاثة أمثال وزن المسحوق ثم تؤخذ منه خمسة مثاقيل؛ عاقرقرحى خمسة مثاقيل، وزنجبيل مثقال، وسكّر طبرزذ «2» خمسة مثاقيل؛ يدقّ جميع ذلك، وينخل، ويعجن بعسل قد ربّى فيه الزّنجبيل ويرفع؛ الشربة منه مثقالان بماء فاتر، أو بلبن حليب، فإنّه لا مثال له فى معناه. دواء آخر يؤخذ من الحمّص اليابس، ينقع فى ماء الجرجير حتّى يربو؛ ثم يجفّف، ويقلى بسمن بقر على نار ليّنة؛ وتؤخذ منه خمسة مثاقيل، تسحق وتنخل وتعجن بعسل منزوع الرّغوة؛ ويلقى على العسل وهو حارّ دار صينىّ وقرفة وقرنفل ومصطكاء، من كلّ واحد مثقال، ويخلط ذلك خلطا جيّدا، ويرفع؛ والشربة منه مثقالان بماء حارّ أو بلبن البقر. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 150 صفة دواء آخر يزيد فى الباه، ويصفّى اللّون، وينفع الكبد والمعدة يؤخذ إهليلج كابلىّ وهندىّ منزوع النّوى وبليلج وأملج «1» وفلفل ودارفلفل وزنجبيل وسعد وشيطرج «2» وقشور الأترّج المجفّف وبرادة الإبروتوبال «3» الحديد وسمسم مقشور، من كلّ واحد مثقال؛ تجمع هذه الأدوية مسحوقة منخولة وتلتّ بسمن البقر، وتعجن بعسل منزوع الرّغوة، وترفع؛ والشّربة منه درهم فى أوّل يوم، ثمّ درهمان فى اليوم الثانى، وثلاثة دراهم فى اليوم الثالث، هكذا إلى سبعة أيّام، يزيد فى كلّ يوم زنة درهم، ويكون استعماله لذلك عند النوم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 151 دواء آخر يهيج شهوة الجماع ويصلح لمن انقطعت شهوته فإنّه يقوّيها، ويزيد فيها يؤخذ الحندقوق «1» وشقاقل وبزر اللّفت وبزر الزّراوند «2» وبزر الجزء: 12 ¦ الصفحة: 152 البصل الأبيض وحبّ الخشخاش وبزر الجرجير وبزر الأنجرة «1» وبزر خصى «2» الثّعلب، من كلّ واحد مثقالان ونصف مثقال الجزء: 12 ¦ الصفحة: 153 ومن كلى السّقنقور «1» وعلك الأنباط «2» وقسط «3» وبصل الفأر «4» المشوىّ من كلّ واحد مثقال واحد ونصف؛ فلفل أبيض وسمسم مقشور ودارفلفل «5» الجزء: 12 ¦ الصفحة: 154 وزنجبيل وزعفران، من كلّ واحد مثقال؛ أدمغة الدّيوك الصّغار، وأدمغة العصافير من كلّ واحد [ثلاثة مثاقيل «1» ، خصى الدّيوك ثلاثة مثاقيل؛ أدمغة الحملان الرّضّع خمسة مثاقيل؛ بيض الشّبّوط (اللّجأة) «2» ولحمه من كلّ واحد] خمسة مثاقيل؛ قنّة «3» مثقال واحد ونصف؛ تدقّ البزور اليابسة؛ وتذاب القنّة مع العلك بخمسة مثاقيل عسل؛ وتنقّى الأدمغة والخصى من العروق؛ ويطرح ذلك فى صلاية؛ ويخلط الجزء: 12 ¦ الصفحة: 155 بالسّحق؛ فإن احتاج الى عسل فزده الى أن يترطّب؛ ثم يجعل فى إناء؛ ويختم رأسه ويرفع مدّة أربعين يوما، ويفتح بعد ذلك، ويستعمل؛ الشربة منه مثقال بأوقيّة من ماء الجرجير، ويؤكل عليه اسفيدباج «1» بحمّص وبصل وسمن بقر، فإنّه نهاية فيما ذكرناه. دواء آخر يؤخذ جزر برّىّ وبزر اللّفت ودارفلفل وقاقلّة» وبزر جرجير وقرنفل وخولنجان «3» وزرّ ورد وبزر كرّاث وزنجبيل وبسباسة «4» ، من كلّ واحد أربعة مثاقيل؛ تجمع هذه الحوائج مسحوقة منخولة، وتعجن بقدر ما تحتاج اليه من العسل المنزوع الرّغوة وترفع؛ الشربة منه مثقالان بلبن البقر الحليب، أو بشراب حلو. صفة دواء آخر عجيب الفعل يؤخذ عود هندىّ وكافور وزعفران وجوزبوا وقرفة وقرنفل وصندلان: أحمر وأبيض، وسعد ودارصينىّ وشيطرج «5» ونارمشك «6» الجزء: 12 ¦ الصفحة: 156 وساذج «1» هندىّ، وبصل العنصل، ولحاء الغار «2» ، ولحاء أصل الكبر «3» ، وخربق «4» أسود، وسندروس «5» ، وكندر «6» من كلّ واحد أربعة دراهم؛ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 157 يدقّ كلّ واحد منها على حدة، وتخلط جميع الأصناف بالسّحق، ويعجن بعسل منزوع الرّغوة، ويرفع فى إناء، ويترك ستّة أشهر، ثم يستعمل بعد ذلك، الشربة منه مثقال بماء العسل. صفة لبانة تمضغ تزيد فى الباه، وتنعظ إنعاظا شديدا، وتهيج فلا يسكن حتّى تنزع من فم الماضغ قال شهاب الدّين عبد الرحمن بن نصر الشّيرازىّ صاحب كتاب (الإيضاح) : هذه اللّبانة كان يستعملها بعض ملوك مصر. قال: وله فيها قصّة طويلة لم نذكرها رغبة فى الاختصار. قال: وهذا من الأسرار الخفيّة [فآعرفه «1» ] . يؤخذ من قشر البلاذر «2» الخارج أوقيّة، تقرّض بالمقراض صغارا، ويجعل الجزء: 12 ¦ الصفحة: 158 فى برمة فخّار، ويصبّ عليه من دهن البطم «1» مقدار ما يغمره، ثم يؤخذ لبان ذكر عشرون درهما، يسحق ناعما، ويلقى عليه فى البرمة، ويوقد تحته بنار ليّنة حتّى ينعقد، ثم يلقى عليه من المحمودة «2» الصفراء على كلّ أوقيّة من الدّواء نصف دانق؛ فإذا انعقد جميعه فآرفعه عن النار، واجعله فى إناء زجاج؛ فإذا أردت استعماله فخذ منه وزن درهم وامضغه، فإنّه ينعظ للوقت إنعاظا قويّا؛ فإذا أردت الإنعاظ يسكن فأخرجها من فيك؛ والقطعة الواحدة منه تستعمل ثلاث مرّات ثم يرمى بها. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 159 قال: وربّما قطع ما هاج من الإنعاظ باستعمال هذه اللّبانة، وهى: يؤخذ من الشّيرج الطرىّ «1» جزء، ومن السكّر جزء، ومن اللّبان الأبيض ثلث جزء ويطرح فيه لكلّ أوقيّة من الدواء زنة دانق من الكافور، ويعقد الجميع على نار ليّنة ثم ينزل ويرفع، ويستعمل منه عند الحاجة زنة درهم يمضغ، فإنّه يسكّن ما هاج. ذكر الجوارشنات «2» الّتى تزيد فى الباه وتغزر المنىّ صفة جوارش يغزر المنىّ يؤخذ سنبل وقرنفل ودارفلفل «3» ودارصينىّ وقاقلّة، من كلّ واحد مثقال؛ شلجم «4» مثقال ونصف، كمّون منقوع فى خلّ خمر يوما وليلة مقلّو أربعة مثاقيل، ومصطكاء مثقالان ونصف، مسك سدس مثقال، سكّر طبرزذ خمسة مثاقيل؛ تجمع هذه الحوائج بعد سحقها ونخلها، وتعجن بعسل منزوع الرّغوة، وتبسط على رخام «5» ، وتقطّع وتستعمل. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 160 صفة جوارش يقوّى الباه وبزيد فى الشّهوة يؤخذ قرنفل وجوزبوا وبسباسة وألسنة العصافير «1» وأصل الإذخر «2» وزنجبيل ودارصينىّ ومصطكاء وعود هندىّ وزعفران، من كلّ واحد مثقالان؛ قاقلّة ولبان ذكر من كلّ واحد مثقال، أشنة «3» ثلاثة مثاقيل، مسك ربع مثقال، سكّر عشرة مثاقيل؛ يحلّ السكّر بماء الورد على النار، ويلقى عليه عسل نحل منزوع الرّغوة، ويعقد بالأدوية بعد سحقها، ويبسط على رخام، ويقطّع ويستعمل فإنّه غاية. صفة جوارش التّفّاح، يقوىّ المعدة ويزيد فى الباه يؤخذ تفّاح شامىّ مقشّر الخارج، منقّى الدّاخل، تطبخ منه خمسة أرطال بخمسة عشر رطلا من الماء حتّى ينشف الماء؛ ثم يؤخذ رطل عسل نحل، ورطل سكّر ورطل ماء ورد، ويلقى جميع ذلك على التّفّاح حتّى ينعقد على النار؛ ثم يلقى عليه زعفران الجزء: 12 ¦ الصفحة: 161 وسنبل وقرنفل ودار صينى وزنجبيل ومصطكاء، من كلّ واحد مثقال، لسان ثور «1» شامىّ مثقالان، عود هندىّ ثلاثة مثاقيل، تدقّ هذه الأصناف، وتنخل قبل إلقائها عليه؛ ثم تبسط على رخام «2» ، وتقطّع، وتستعمل. ذكر المربّيات المقوّية للشّهوة والمعدة والباه قال صاحب (كتاب الإيضاح) : لا بدّ لسائر المربيّات من هذه الأفاويه وهى: زنجبيل، ودارصينى، وقرفة، وقرنفل، وهال «3» ، وجوزبوا «4» ، ومصطكاء، وعود هندىّ، من كلّ واحد أوقيّة، زعفران نصف أوقيّة؛ سكّ «5» مثقالان، مسك نصف الجزء: 12 ¦ الصفحة: 162 مثقال؛ تدقّ هذه الأصناف دقّا جريشا، وتجعل فى خرقة كتّان، وتشدّ «1» شدّا متحلحلا «2» ويعلّق «3» منها فى كلّ مربّى لكلّ رطل أوقيّة. صفة عمل الرّاسن» المربّى، وهو مسخّن للكلى والظّهر محرّك لشهوة الباه تؤخذ عشرة أرطال راسن يقطّع بقدر الإصبع، وينقع فى ماء وملح مدّة عشرين يوما، ويغيّر عليه الماء والملح فى كلّ خمسة أيّام أو ثلاثة؛ ثم يصيّر فى قدر الجزء: 12 ¦ الصفحة: 163 ويصبّ عليه من الماء الحلو ما يغمره، ومن العسل ثلاثة أرطال، ويغلى حتّى يلين؛ وتلقى عليه الأفاويه مصرورة «1» فى خرقة كما وصفنا، ثم يرفع ويستعمل. صفة عمل الشّقاقل «2» المربّى يقوّى المعدة والشهوة ويزيد فى الباه يؤخذ شقاقل كبار خمسة أرطال، ينقع فى ماء عشرة أيّام «3» ، ثم يلقى فى قدر حجارة، ويغلى عليه غلية خفيفة، ثم يخرج ويقشّر، ويردّ الى القدر؛ ويصبّ عليه من العسل ما يغمره، ويغلى عليه «4» ، وتلقى عليه الأفاويه معلّقة كما وصفنا ويجعل فى برنيّة مدهونة، ويغسل ظاهر البرنيّة بالماء فى كلّ خمسة أيّام حتّى يبرد لئلّا يحمض ويفسد، ويستعمل عند الحاجة. صفة عمل الجزر المربّى الّذى يزيد فى الباه يؤخذ من نحاتة أجواف «5» الجزر عشرة أرطال، فيجعل فى قدر حجارة، ويلقى عليه من الماء ما يغمره، ثم يلقى عليه ثلاثة أرطال من عسل النحل، ويطبخ بنار ليّنة حتّى يتهرّأ، ثم يخرج من الماء (والعسل «6» ) ، وينشّف ويبرّد؛ ثم يلقى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 164 عليه من العسل ما يغمره؛ ويردّ الى القدر، ويغلى عليه غلية يسيرة، ويبرّد، ويجعل فى إناء، ويتعاهد غسل ظاهر الإناء حتّى يبرد ولا يحمض، ويكون قد طرح فيه الأفاويه على الرّسم [والله أعلم «1» ] . صفة عمل الإهليلج «2» الكابلىّ المربّى يؤخذ من الإهليلج الكابلىّ الغليظ «3» «ما أحبّ «4» الأخذ» فيجعل فى إناء «5» ، ويصبّ عليه من الماء ما يغمره، ويلقى فيه من رماد البلّوط ما يكفيه، ويترك ثلاثة أيّام ويغيّر عليه الماء والرّماد؛ يفعل به ذلك أربع مرّات «الى تمام اثنى «6» عشر يوما» ؛ ثم يغسل بالماء العذب ثلاث مرّات، ثم يطبخ بماء الشّعير طبخا ليّنا، ويخرج منه ويمسح مسحا رفيقا لئلّا ينسلخ، ثم تثقب كلّ إهليلجة بالإبرة فى عشرة مواضع ثم يجعل فى برنيّة خضراء، ويلقى عليه من عسل «7» النحل ما يغمره بعد أن تنزع رغوته ويغسل ظاهر الإناء مرارا على ما تقدّم، وذلك بعد أن تلقى عليه الأفاويه فى خرقة على الرسم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 165 صفة عمل التّفّاح المربّى يؤخذ من التّفّاح الجيّد الّذى لا عيب فيه [قدر «1» ] خمسين حبّة، يقشر، وينقّى ما فى باطنه من الحبّ وما يجاوره، ويصيّر فى قدر، ويلقى عليه من عسل النحل ما يغمره، ويغلى عليه «2» يسيرا؛ وتعلّق فيه الأفاويه، ويجعل بعد ذلك فى برنيّة من الزجاج، ويتعاهد غسل ظاهرها بالماء فى كلّ ثلاثة أيّام حتّى يبرد، ويستعمل فإنّه يقوّى المعدة، ويشدّ القلب، ويزيد فى الباه. صفة عمل الجوز «3» المربّى، وهو ممّا يزيد فى الباه يؤخذ من الجوز الطرىّ الأخضر الّذى لم يصلب قشره، فيسلب عنه قشره الخارج، وإن كان داخله قشر قد صلب يقشر عنه أيضا، ويصيّر فى قدر حجارة ويصبّ عليه من عسل النحل ما يغمره، ويغلى عليه غليانا خفيفا، ويصيّر فى برنيّة زجاج، وتعلّق فيه الأفاويه، ويتعاهد غسل الإناء «4» كما تقدّم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 166 ذكر السّفوفات الّتى تزيد فى الباه فمن ذلك صفة سفوف يؤخذ إشقيل «1» مشوىّ وفانيذ «2» وبوزيدان «3» وبزر سذاب، وحبّ الشّهدانج «4» وألسنة العصافير «5» من كلّ واحد ثلاثة مثاقيل؛ شقاقل «6» مثقال ونصف، خشخاش وبزر البصل، وبزر الجرجير من كلّ واحد مثقالان؛ تجمع هذه الأصناف بعد دقّها ونخلها، ويستفّ منها مثقال ونصف بشراب حلو ممزوج، فإنّه غاية. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 167 سفوف آخر يزيد فى الباه تؤخذ ألسنة العصافير وبزر الجرجير وبزر اللّفت، من كلّ واحد مثقالان «1» ؛ يدقّ ذلك، ويستفّ منه مثقال بشراب حلو، أو بعقيد العنب، فإنّه جيّد نافع إن شاء الله [تعالى] . ذكر الحقن والحمولات المهيّجة للباه والمغزرة للمنىّ والمسمّنة للكلى هذه الحقن والحمولات إنّما جعلتا لمن عجز عن تناول ما قدّمناه من الأدوية إمّا لكثرة حرارتها، أو كراهية لمذاقها، أو لإحراقها «2» مزاج المستعمل لها، فالحقن والحمولات تنوبان منابها، وتقومان مقامها فى الفعل، إلّا أنّ هذه الحقن لابدّ أن تتقدّمها حقنة تغسل الأمعاء، ثم يحتقن بها بعد ذلك فتكون أسرع فعلا وأنجح نفعا. فمن ذلك [صفة «3» حقنة تغسل الأمعاء وتنقّيها يؤخذ بابونج «4» وبزر كتّان وحلبة وشبث، من كلّ واحد سبعة مثاقيل، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 168 وبطم وحسك «1» أربعة عشر مثقالا، تين «2» أربعة عشر مثقالا؛ يطبخ جميع ذلك بخمسة أرطال من الماء، ويغلى حتّى يبقى منه رطل، ويصفّى، ويؤخذ من هذا الماء نصف رطل، ويضاف إليه من الشّيرج خمسة عشر مثقالا، وسكّر أحمر سبعة مثاقيل ثم يحقن به. صفة حقنة أخرى تغسل الأمعاء يؤخذ لعاب بزر قطونا «3» ، ولعاب» بزر كتّان، ولعاب الحلبة، وماء السّلق «5» المعتصر الجزء: 12 ¦ الصفحة: 169 ولعاب الخطمىّ «1» ، من كلّ واحد خمسة «2» مثاقيل؛ ثم يجعل فى ذلك من البورق «3» والسكّر الأحمر من كلّ واحد خمسة مثاقيل، ومن الشّيرج عشرة مثاقيل، ثم يحقن به، فإنه نافع لما ذكرناه إن شاء الله؛ فهذه الحقن الّتى تتقدّم أوّلا. صفة حقنة تسمّن الكلى وتزيد فى الباه يؤخذ من دهن الجوز نصف رطل، يلقى فيه من الحسك نصف رطل، ومن لبن البقر رطل ونصف، وفانيذ «4» وزنجبيل وبزر هليون «5» ، من كلّ واحد أوقيّة؛ يغلى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 170 على النار، ويصفّى ماؤه؛ ويؤخذ منه أربعة عشر مثقالا، ومن دهن الزّنبق أربعة مثاقيل، ومن دهن البان أربعة مثاقيل، ثم يحقن به، فإنّه نافع لذلك] . صفة حقنة أخرى تسمّن الكلى وتزيد فى الباه يؤخذ رأس كبش وأكارعه ونصف أليته، [ويرضّ «1» الجميع، ويوضع فى قدر؛ ثم يوضع عليه ربع رطل حمّص] ؛ ومثل «2» ذلك حنطة ولوبياء حمراء، ومن الشّبث والبابونج وبزر اللّفت ومرزنجوش «3» ، من كلّ واحد سبعة مثاقيل، حسك خمسة عشر مثقالا؛ تطبخ بعشرة أرطال ماء حتى يتهرّأ الجميع، ويصفّى، ويؤخذ من ذلك الماء والدّسم رطل «4» ، ويلقى عليه من سمن البقر أوقيّة، ومن اللّبن الحليب أوقيّتان ومن دهن البان نصف أوقيّة؛ ثم يحقن به ثلاث ليال متوالية عقيب تلك الحقنة الّتى تغسل الأمعاء، فإنّه عجيب الفعل. صفة حقنة أخرى تنفع من انقطاع الجماع، وتقوّى الشهوة وتسخّن الكلى، وتزيد فى الباه زيادة حسنة يؤخذ بزر كتّان وبزر نرجس وبزر فجل وبابونج «5» من كلّ واحد أوقيّة، حلبة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 171 ثلاث أواقىّ، أنجرة أوقيّة، حنطة أربع أواقىّ، سمن «1» ثلاث أواقىّ، تمر «2» عشرون عددا لبّ «3» القرطم البرىّ والبستانىّ من كلّ واحد أوقيّتان، مرزنجوش «4» ثلاث أواقىّ يطبخ جميع ذلك بعشرة أرطال ماء حتّى يبقى منه الثّلث، ويمرس، ويصفّى ويؤخذ دهن سوسن ودهن نرجس ودهن زنبق ودهن خيرىّ «5» وعسل نحل من كل واحد أوقيّة، يخلط الجميع «بالماء الأوّل» ، ويؤخذ منه نصف رطل ويحقن به فإنه نافع. صفة حقنة أخرى يؤخذ لبن ضأن واذنا الخروف وحنطة وشعير وحلبة وشحم دجاج، وشحم بطّ وفراخ [حمام «6» ] وبابونج وخطمىّ وحسك وشبث «7» وتين وعنّاب وسيسبان «8» الجزء: 12 ¦ الصفحة: 172 وبزر كتّان، من كلّ واحد جزء؛ ويطبخ جميع ذلك بماء حتّى يتهرّأ، ويصفّى، ويخلط معه شيرج ودهن بنفسج ودهن خيرىّ ودهن بطم «1» ، ودهن جوز، وسمن بقر، ثم يحقن به على ما تقدّم فإنّه غاية فى النفع. صفة حقنة أخرى من كتاب الرّازىّ تهيج الباه يؤخذ رطل من دهن الجوز، ويلقى فيه رطل حسك، وثلاثة أرطال من حليب البقر، وأوقيّة زنجبيل وأوقيّة فانيذ «2» ، ويطبخ حتّى يغلى مرارا؛ ثم يصفّى ويؤخذ منه أوقيّتان، وزنبق نصف أوقيّة، ودهن بان نصف أوقيّة، ويحتقن به ولا يجامع عشر ليال، فإنّه عجيب. هذه الحقن. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 173 وأمّا الحمولات الّتى تحدث الإنعاظ الشديد - يؤخذ بزر جزر وبزر جرجير، ولعبة «1» ، ولبّ حبّ القطن، أجزاء متساوية، يعجن بماء الراسن «2» أو بماء الجرجير، وتعمل من ذلك فتيلة، ويتحمّل بها، فإنّها تنعظ إنعاظا عجيبا. صفة أخرى يؤخذ من شحم كلى السّقنقور «3» فيذاب بدهن السّوسن، ويذرّ عليه من لبّ حبّ القطن وعاقرقرحى «4» وزنجبيل بعد سحق ذلك ونخله، وتعمل منه فتيلة ويتحمّل بها. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 174 صفة أخرى «1» يؤخذ من شحم كلى السّقنقور وشحم البقر، والشّمع، يسلأ «2» ذلك، وتلقى عليه أدمغة العصافير «3» الدّوريّة، وتعمل منه فتيلة، ويتحمّل بها] . صفة أخرى يؤخذ قنطريون «4» مسحوق، وزفت، وشمع، يذاب بدهن سوسن، وتعمل منه فتيلة، ويتحمّل بها، فإنّها تنعظ إنعاظا عجيبا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 175 صفة أخرى تؤخذ قطعة حلتيت «1» فتجعل فى ثقب الذّكر بقدر ما تلذع، ثم تشال منه، فإنّه ينعظ إنعاظا قويّا؛ وإذا حصل اللّذع يقطر فى ثقب الذّكر دهن بنفسج. هذا ما يعالج به الباطن؛ فلنذكر الأدوية النافعة للظاهر من المسوحات والضّمادات والأدوية الملذّذة للجماع» . ذكر المسوحات والضّمادات الّتى تزيد فى الباه، المقويّة للذّكر صفة مسوح يمرخ به القضيب فيهيج شهوة الجماع ويزيد فى الباه يؤخذ عاقرقرحى، وبسباسة، ودارفلفل، من كلّ واحد مثقالان؛ قنّة «3» وأفربيون «4» الجزء: 12 ¦ الصفحة: 176 من كلّ واحد مثقال؛ جندبا «1» دسترو بزر الجرجير، من كلّ واحد نصف مثقال؛ دهن النّرجس عشرة مثاقيل؛ شمع أبيض أربعة مثاقيل؛ تسحق الأدوية اليابسة ويذوّب الشّمع والقنّة مع الدّهن على النار؛ ثم تلقى عليها الأدوية المسحوقة، ثم يرفع، ويمرخ به القضيب والعانة، فإنّه جيّد مفيد لما ذكر. صفة مسوح آخر يمرخ به الذّكر والعانة، يزيد فى الإنعاظ ويسخّن الكلى والمثانة تؤخذ عصارة حشيشة الكلب- وهى الفراسيون «2» - تدق وتحلّ بالدّهن ويمرخ بها. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 177 مسوح آخر يمرخ به الذّكر يزيد فى الإنعاظ تؤخذ مرارة ثور فحل، وعسل نحل منزوع الرّغوة، وقليل عاقرقرحى «1» ؛ يخلط الجميع، ويمسح به. مسوح آخر ملوكى ّ يؤخذ أفربيون وزنجبيل وعاقرقرحى «2» ، من كلّ واحد مثقال، ومسك نصف مثقال؛ تجمع بدهن البلسان «3» ، ويمرخ بها القضيب وما يليه، فإنّها نهاية. مسوح آخر ينعظ ويزيد فى الباه، ويعين على الجماع إذا مرخ به القضيب والعانة يؤخذ السّقنقور «4» وقضيب الايّل «5» المجفّف، والحشيشة المسمّاة خصى الثّعلب «6» من كلّ واحد مثقال، ومن بزر العاقر قرحى وبزر الجرجير، من كلّ واحد أربعة مثاقيل فربيون مثقالان، بيض العصافير الدّوريّة «7» ثلاث بيضات، تجعل فى إناء زجاج ويصبّ عليها شىء من قطران ودهن سوسن مقدار ما يغمرها ويطفو عليها؛ ويسدّ رأس الإناء، ويدفن فى الزّبل مدّة أربعين يوما، يبدّل عليه الزّبل فى كلّ سبعة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 178 أيّام، ثم يخرجه بعد ذلك، ويصفّى عنها الدّهن؛ ويلقى فى الدّهن سبعة مثاقيل من علك البطم «1» ؛ وتسحق الأدوية اليابسة، ويخلط الجميع بالعجن الجيّد؛ ويصبّ عليه من دهن السّوسن حتّى يصير فى قوام المرهم الرّطب، ثم يرفع لوقت الحاجة؛ فاذا أراد العمل به مرخ به القضيب وما قرب منه، فإنّه يفعل فعلا عجيبا. مسوح آخر يؤخذ دهن خيرىّ ودهن نرجس، من كلّ واحد نصف رطل؛ يجعل ذلك فى طنجير، ويلقى عليه دارفلفل «2» وعاقرقرحى «3» وزنجبيل ودار صينىّ من كلّ واحد أوقيّة؛ جند بيدستر «4» نصف أوقيّة؛ يغلى ذلك على النار غليانا جيّدا، ويمرس ويصفّى، ويرفع فى إناء زجاج، ثم يدهن به القضيب وما حوله، فإنّه يفعل فى الإنعاظ فعلا جيّدا قويّا. مسوح آخر تؤخذ مرارة التّيس ويطلى بها الذّكر وما حوله والحقوان، فإنّ ذلك يقوّى على الباه «5» ... أمرا عجيبا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 179 مسوح آخر يلطخ به الذّكر المرخى القليل القيام يؤخذ بورق «1» وورس «2» ، ويعجنان بعسل منزوع الرّغوة، ثم يلطخ به الذّكر وما حوله، ويدمن ذلك أيّاما، فإنّه عجيب الفعل. مسوح آخر يؤخذ من شحم الضّبّ ولحمه فيطبخان، ويؤخذ دهنه ويخلط بزنبق، ويدهن به الذّكر، فإنّه يزيد فى الإنعاظ، ويقوّى الباه ... «3» أمرا عظيما. مسوح آخر تؤخذ العصافير وقت هيجانها فتذبح على دقيق العدس، ويلتّ بدمها، ويبندق ويجفّف، فإذا أراد الجماع فليأخذ بندقة ويحلّها بزيت، ثم يطلى بها أسفل القدمين؛ ولا يطأ على الأرض، بل يكون على الفراش، فإنّه ينعظ إنعاظا قويّا، وإن وطئ على الأرض بطل فعل الدّواء. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 180 مسوح آخر تؤخذ مرائر العصافير الدّوريّة الذكور وتخلط بدهن زنبق خالص، ثم يؤخذ باذروج «1» وشهدانج فيدقّان جميعا دقّا ناعما، ثم يخلطان بالمرائر والدّهن، ويرفع ذلك فى قارورة، فإذا أراد الجماع يمسح منه تحت القدمين وعلى القضيب والأنثيين ولا يطأ على الأرض، فإنّه يرى من قوّة الباه أمرا عجيبا. مسوح آخر يؤخذ قضيب الإيّل فيحرق، ويعجن رماده بشراب عتيق، ثم يطلى به القضيب ويمرخ به، ويطلى ما حوله، فإنّه ينعظ إنعاظا شديدا جدّا؛ فهذه المسوحات. وأمّا الضّمادات التى تزيد فى الباه وتعين على الجماع فيؤخذ رماد قضيب الإيّل وعاقرقرحى وفربيون وفلفل أبيض، من كلّ واحد جزء؛ تسحق وتجمع، وتعجن بشراب عتيق، ويضمد الذّكر بها والانثيان، فإنّها تزيد فى الباه. صفة ضماد يجعل على الظّهر، يزيد فى الباه، ويقوّى الإنعاظ يؤخذ فلفل وعاقرقرحى وفربيون، من كلّ واحد مثقالان ونصف؛ حلتيت «2» مثقال وربع؛ دهن بلسان «3» ودهن قسط، من كلّ واحد خمسة مثاقيل؛ دارفلفل «4» الجزء: 12 ¦ الصفحة: 181 وجوزبوا، من كلّ واحد مثقالان؛ تسحق الأدوية اليابسة سحقا ناعما جدّا؛ وتحلّ بالأدهان؛ وتمدّ على خرقة، وتوضع على الظّهر، فإنّه يرى العجب. صفة ضماد يجعل على الإبهام من الرّجل اليمنى، يزيد فى الباه ويقوّى الجماع يؤخذ من عود اليسر «1» خمسة عشر مثقالا، ومن صمغ البطم «2» وصمغ عربىّ وفلفل من كلّ واحد عشرة مثاقيل؛ خرء الفأر والحشيشة المسمّاة خصية الثعلب، من كلّ واحد خمسة مثاقيل، ومقل «3» أزرق وعاقرقرحى وزنجبيل وفربيون وسكبينج «4» وجوزبوا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 182 من كلّ واحد أربعة مثاقيل، ويؤخذ سامّ أبرص فينقع فى الخلّ الحامض أربعين يوما، ويخرج ويجفّف؛ ويؤخذ شحم ودك الكلى وقنّة وشمع أبيض، من كلّ واحد عشرة مثاقيل؛ تجمع الصّموغ والأصناف، ويذوّب ما يذوب منها، وتخلط به بقيّتها بعد دقّها، فإذا اختلطت خلطا جيّدا يمدّ منها على خرقة حرير أو صوف وتوضع على إبهام الرّجل اليمنى، فإنّه يرى منه أمرا عجيبا. ذكر الأدوية الملذّذة للجماع «1» منها صفة دواء يطلى به الإحليل عند الجماع يزيد فى الباه واللّذّة؛ يؤخذ جوزبوا «2» وفلفل ودارفلفل «3» وعاقرقرحى وزنجبيل وسنبل وخولنجان» وسكّر، من كلّ واحد مثقالان «5» ؛ فيسحق كلّ صنف منها على انفراده ثم تجمع بالسحق، وتنخل، وتعجن بالعسل الّذى قد ربّى فيه الزنجبيل والشّقاقل ويمسح بها الذّكر، فإنّه يرى منه عند الجماع لذّة عظيمة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 183 صفة دواء آخر يؤخذ عاقرقرحى وزنجبيل ودار صينىّ وسكّر «1» ، من كلّ واحد مثقالان «2» ونصف؛ تجمع هذه الأصناف بعد سحقها ونخلها، وتعجن بماء الرازيانج «3» الرّطب، وتحبّب مثل حبّ الفلفل، وتجفّف فى الظّلّ؛ ثم تسحق ثانيا، وتطرح فى دهن رازقىّ «4» ويطلى بها الذّكر، فإنّه جيّد. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 184 صفة دواء آخر يزيد فى اللّذّة عند الجماع يؤخذ [سكّر] طبرزذ وكبابة وعاقرقرحى «1» ، من كلّ واحد مثقالان «2» ؛ تجمع بعد سحقها ونخلها، وتعجن بماء الرازيانج الرّطب، وتحبّب مثل الفلفل، وتجفّف فى الظّلّ؛ فإذا احتاج اليها طرح منها فى الفم حبّة، واستعمل ما انحلّ منها؛ أو تحلّ فى دهن ويمسح بها الذّكر، ويجامع، فإنّه يرى منه لذّة عظيمة. صفة دواء آخر يحدث من اللّذّة ما لا يوصف يؤخذ رازيانج يابس محمّص، وفلفل، ودارفلفل، وزنجبيل، وعاقرقرحى ودار صينىّ، وجوزبوا «3» وقردمانا «4» وسكّر طبرزذ، من كل واحد مثقالان «5» ؛ تجمع الجزء: 12 ¦ الصفحة: 185 مسحوقة منخولة، وتحلّ بماء الرازيانج الرّطب أو بماء الباذروج الرّطب حتّى تصير فى قوام الطّلاء؛ ثم ترفع فى إناء زجاج، ويسدّ رأسه عشرة أيّام، ويخضخض فى كلّ يوم ثلاث مرّات، ثم يمسح منه الذّكر بعد ذلك، ويترك حتّى يجفّ ثمّ يجامع بعد جفافه؛ ويحرص أن ينحلّ وهو يجامع؛ ولا يترك رأس الإناء مفتوحا فإنّ الهواء يذهب بقوّة الدواء. قال: فمن استعمل هذا الدواء لم تصبر المرأة عنه. صفة دواء آخر يزيد فى اللّذّة تؤخذ مرارة ذئب، وعسل «1» نحل، وماء الرازيانج الرّطب، من كلّ واحد خمسة مثاقيل؛ فلفل ودارصينىّ وزنجبيل وغاقر قرحى، من كلّ واحد مثقال؛ تسحق الأدوية اليابسة، وتنخل، وتلقى فى المرارة والماء والعسل، وتخضخض فى إناء «زجاج» «2» ، ويغطّى فمه حتّى لا يصل إليه الهواء؛ ويمسح منه على الذّكر وقت الجماع، فإنّ المرأة تجد لذلك لذّة عظيمة. صفة دواء آخر تؤخذ مرارة دجاجة سوداء، ويضاف إليها شىء [يسير «3» ] من الزنجبيل «4» المسحوق ويطلى بهما الذّكر، فإنّ المرأة تلتذّ به. وحيث ذكرنا من أدوية الباه ما ذكرنا، فلنذكر ما قيل فى الأدوية الّتى تعظّم الذّكر وتصلّبه، والأدوية الّتى تضيّق فروج النّساء وتجفّف رطوبتها. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 186 ذكر الأدوية الّتى تعظّم الذّكر وتصلّبه قد أجمع (جالينوس) ومن تابعه من الحكماء على أنّ الدّلك الدائم والتّمريخ بالأدهان والأشياء المليّنة والتنطيل «1» بالماء الحارّ والدّلك بالزيت والزفت، تعظّم كلّ عضو فى الجسد؛ ولا خلاف عندهم أنّ هذا العضو اذا فعل به ذلك عظم ونما وزاد عن حالته الّتى هو عليها، فاذا اجتمع مع ذلك هذه الأدوية الّتى نذكرها- وهى ممّا اتّفق الأطباء على جودتها وصحّتها- فإنّ ذلك أبلغ وأسرع. فمن ذلك صفة دواء يعظّم الذّكر ويصلّبه ويعين على الجماع يؤخذ بورق «2» أرمنىّ وسنبل، من كلّ واحد مثقالان، علق طوال عشر عددا؛ يجفّف العلق، ويسحق مع البورق والسّنبل حتّى يصير جميع ذلك كالهباء؛ ثم يصبّ عليه لبن حليب وعسل أجزاء متساوية، من كلّ واحد منهما عشرة مثاقيل، ويمرس باليد حتّى يختلط، ثم يطلى به الذّكر ليلة؛ ثم يغسل بالماء الحارّ من الغد، ويدلك بالخطمىّ «3» دلكا قويّا حتّى يحمرّ، ثم يغسل، ثم يعاد عليه الدواء والدّلك قبل الدواء وبعده، فإنّه جيّد. صفة دواء آخر يعظّم الذّكر ويحسّن منظره يؤخذ شمع أحمر، وزفت، وعلك بطم، وزيت فلسطينىّ، من كلّ واحد خمسة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 187 مثاقيل، أنزروت «1» وبورق أرمنىّ مذوّبان «2» بلبن الأتان أربعة مثاقيل- وهو أن تأخذ الأنزروت والبورق فتسقيهما لبن الأتان ثم [تجفّفهما] وتسحقهما، [وتسقيهما «3» ] ثمّ تجفّفهما حتّى يشربا ثلاثة مثاقيل لبن- ويؤخذ من العلق الطّوال المجفّف ثلاثة مثاقيل؛ ويسحق الجميع، ويذوّب الشّمع والزّفت والعلك والزيت، وتلقى عليها الأدوية المسحوقة، وتخلط خلطا جيّدا، ويمدّ منها على خرقة، وتوضع الخرقة على الذّكر بعد دلكه إلى أن يحمرّ، وتبيّت عليه ليلة، ويغسل باكر النهار بالماء الحلو «4» الحارّ، ويدلك أيضا، ويعاد عليه الدواء إلى أن يبلغ فى العظم ما تريد فاتركه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 188 صفة دواء آخر لذلك يؤخذ إشقيل مشوىّ وفربيون وعاقرقرحى ودارفلفل «1» ، من كلّ واحد جزء؛ يسحق ذلك سحقا ناعما، ويعجن بالعسل، ويطلى منه القضيب، ويترك ليلة، ثم يغسل باكر النهار بالماء الحارّ، ويدهن بدهن زنبق، فإنّه يعظم جدّا. دواء آخر يؤخذ باذروج «2» أخضر، يمضغ حتّى ينعم مضغه، ويدلك به الذّكر دلكا جيّدا فإنّه يعظّمه. صفة دواء آخر يؤخذ علق طوال طريّة، تجفّف وتسحق، ثم تربّب بدهن حتّى تصير كالمرهم ثم يطلى بها الذّكر، فإنّها تعظّمه جدّا. صفة دواء آخر يطبخ الزفت بالزّيت، ثم يمدّ على خرقة، ويوضع على الذّكر، ثم يقلع بعد ساعة ويغسل بالماء الحارّ، ثم تعيد الدواء عليه حتّى يبلغ من العظم ما تريد. وإن تقرّح الذّكر من بعض الأدوية التى تقدّم ذكرها، فامسحه بدهن زنبق ودهن بنفسج و «3» شمع أبيض. قال: وإن دلك الدّكر باللّبن الحليب من ضرع الشاة ثلاثة أيّام فإنه يعظم؛ والله أعلم بالصواب. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 189 ذكر الأدوية الّتى تضيّق فروج النّساء وتسخّنها وتجفّف رطوبتها قال عبد الرحمن بن نصر بن عبد الله الشّيرازىّ: اعلم أنّ كمال لذّة الوطء لا تحصل للرّجل حتّى تجتمع فى الفرج ثلاثة أوصاف، وهى الضّيقة والسّخونة والجفاف من الرطوبة؛ فإذا نقص منها وصف واحد أو وصفان فقد نقص من اللّذّة الّتى تحصل للرّجل عند الجماع بمقدار ذلك؛ وإن عدمت هذه الأوصاف الثلاثة من الفرج، لم يحصل بوطئه لذّة البتّة. ثم قال: واعلم أنّ الولادة وكثرة الجماع يوسّعان الفرج، ويذهبان لذته؛ فينبغى أن يتدارك من هذه الأدوية بما يصلحه ليرجع إلى حالته الأولى. فمن ذلك صفة دواء يضيّق الفرج يؤخذ جلد ابن آوى «1» محرقا، وأظلاف المعز محرقة، وحافر حمار محرق، وجوز ماثل «2» الجزء: 12 ¦ الصفحة: 190 محرق، وسرطان «1» بحرىّ محرق، وبسفايج «2» محرق، وسعتر «3» فارسىّ، من كلّ واحد وزن درهم؛ يسحق الجميع ناعما، ويعجن بدهن البان، ويرفع؛ ثم تتحمّل منه المرأة بزنة دانق فى كلّ شهر ثلاث مرّات كلّ عشرة أيّام مرّة، ولا يكون فى وقت الحيض ويكون حرق الأدوية بمقدار ما تسحق من غير مبالغة فى الإحراق، فإنّه يضيّق القبل حتّى تصير المرأة كالبكر. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 191 صفة دواء آخر يؤخذ أفسنتين «1» وحمامى «2» وعصفر «3» وصمغ البطم «4» وجلّنار «5» وقيصوم «6» ودار شيشعان «7» ، من كلّ واحد زنة درهمين؛ تدقّ وتعجن بزيت، وتتحمّل منها المرأة بصوفة تسعة أيّام متوالية، فإنّه مجرّب لذلك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 192 صفة دواء آخر فيه منافع يؤخذ «1» بسباسة ومرزنجوش «2» وسعتر برّىّ وقشور الكندر وإذخر وخيرىّ «3» وورد أحمر، وقشور الرّمّان وقشور الكبر «4» والتّرمس «5» من كلّ واحد مثقال، يسحق ذلك، ويعجن بدهن البان، وتتحمّل منه المرأة نهارا، وتخرجه ليلا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 193 صفة دواء آخر يضيّق القبل يؤخذ سكّ مسك وزعفران، ويصبّ عليهما شراب ريحانىّ، ويغلى «1» غليانا جيّدا، ثم تشرّب منه «2» خرقة كتّان، وترفع لوقت الحاجة؛ فاذا أرادت المرأة استعمالها قطعت قطعة، وتحمّلت بها قبل الجماع بيوم وليلة، فإنّه يضيّق المحلّ، ويطيّب رائحته. دواء آخر يؤخذ رامك «3» وأقاقيا «4» وسنبل وسعد؛ يسحق الجميع، ويعجن بشراب، وتتحمّل منه المرأة بصوفة. دواء آخر يؤخذ شبّ وعفص وقلقند «5» ، من كلّ واحد جزء؛ يدقّ الجميع، ويعجن بشراب ويصيّر مثل النّوى، وتتحمّل منه المرأة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 194 دواء آخر يؤخذ زاج «1» وشبّ، من كلّ واحد جزء، يسحقان، ثم يعجنان بماء الحصرم ويصيّران شبه النّوى، وتتحمّل المرأة بواحدة منه قبل الجماع، وتمكث ساعة حتّى تنحلّ فى فرجها، فهذه أدوية تضيّق الفرج. وأمّا الأدوية الّتى تسخّن القبل فيؤخذ شحم الدّجاج، وشحم البطّ، وزبل الغنم ودهن ناردين «2» ، وصمغ اللّوز، من كلّ واحد جزء؛ زعفران ومرّ، من كلّ واحد ربع جزء؛ تذاب الشّحوم بالدّهن وتذرّ عليها الأدوية اليابسة بعد سحقها، وتتحمّل منه المرأة بصوفة وهو فاتر، فإنّه جيّد مجرّب. دواء آخر مثله يؤخذ مرزنجوش «3» ، وقشور الكندر، وصعتر برّىّ، وبسباسة «4» ، من كلّ واحد الجزء: 12 ¦ الصفحة: 195 جزء؛ يسحق الجميع، ويعجن بدهن ناردين «1» أو دهن بان، ثم تتحمّل منه المرأة فإنّه بليغ جيّد الفعل. صفة دواء آخر يؤخذ أفسنتين رومىّ وسنبل «2» ودار صينىّ ومرارة ثور يابسة وسعتر؛ يسحق الجميع، ويعجن بشراب صرف، وتستعمله المرأة مرارا فإنّه جيّد. وأمّا الأدوية الّتى تجفّف رطوبة الفرج- فقال الحكماء: إذا كثرت رطوبة فرج المرأة كان أنفع علاجها الإسهال بالإيارجات «3» والحبوب واستعمال هذه الأدوية. فمنها [صفة «4» ] دواء يجفّف الرطوبة يؤخذ شبّ وإثمد «5» ، من كلّ واحد جزء؛ يسحقان، وتتحمّل المرأة منهما ذرورا، فإنّه جيّد. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 196 صفة دواء آخر مثله يؤخذ صنوبر «1» وسعد «2» ، من كلّ واحد جزء؛ يدقّ ذلك ناعما، ويطبخ بشراب وتشرّب منه خرقة كتّان، وتتحمّل منه المرأة، فإنّه نافع. صفة دواء آخر يؤخذ عفص وجفت «3» البلّوط وجلّنار «4» ، من كلّ واحد ملء كفّ؛ يطبخ ذلك بالماء طبخا جيّدا، ويرفع فى إناء، وتستنجى منه المرأة قبل الجماع، فإنّه غاية. دواء آخر يؤخذ تمر برنىّ «5» وسمن وعسل وأنيسون ولبن، من كلّ واحد جزء، ويجعل ذلك فى قدر نظيفة، ويغمر بالماء أربع أصابع، ثم يطبخ طبخا جيّدا حتّى يغلظ وتتحمّل منه المرأة. قال حنين بن إسحاق: ينبغى ألّا يستعمل فيه ماء البتّة، بل يطبخ بالعسل والسمن حتّى يغلظ ويرفع، ويستعمل، فإنّه يقطع الرطوبة من الفرج، ويسكّن الضربان، ويصلح للنّفساء؛ والله أعلم بالصواب. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 197 ذكر الأدوية الّتى تطيّب رائحة البدن وتعطّره فمنها [صفة «1» ] طلاء يطيّب رائحة البدن يؤخذ نمّام «2» ونعنع ومرزنجوش وورق التّفّاح، من كلّ واحد جزء «3» ، ثم يجعل عليه «4» من الماء ما يغمره وزيادة أربع أصابع؛ ويطبخ حتّى ينقص الثّلث، ويصفّى ويطلى به البدن، فإنّه يطيّبه ويقطع سهوكته. دواء آخر يؤخذ آس ومرزنجوش وسعد وقشور الأترجّ وورقه وأشنة «5» وصندل، من كلّ واحد جزء؛ يسحق جميع ذلك، ويرفع؛ فاذا أراد استعماله حلّ منه قليلا بدهن آس أو دهن ورد، أو بماء فاتر، ويمرخ به البدن، فإنّه جيّد. دواء آخر مثله يؤخذ مرداسنج «6» وتوتياء ورماد ورق السّوسن ومرّ وصبر وورد، من كلّ واحد جزء، يدقّ ذلك، ويسحق؛ ويستعمل مثل الأوّل لطوخا أو ذرورا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 198 صفة قرص حادّ يقطع الصّنان يؤخذ صندل وسليخة وسكّ مسك وسنبل وشبّ ومرّ وورد أحمر، من كلّ واحد جزء، ومن التوتياء والمرداسنج، من كلّ واحد ثلاثة أجزاء، ومن الكافور نصف جزء؛ تجمع هذه الأصناف بعد سحقها، وتعجن بماء الورد، وتقرّص وتستعمل بعد التجفيف. دواء آخر يقطع رائحة العرق يؤخذ ورد وسكّ وسنبل وسعد وشبّ ومرّ، من كلّ واحد جزء؛ تدقّ هذه الأصناف دقّا ناعما، وتحلّ بماء الورد، وتستعمل لطوخا، فإنّه جيّد لما ذكرنا. صفة دواء آخر يذهب رائحة الإبط، ولا يحتاج بعده إلى دواء آخر يؤخذ راسن مجفّف محرق وزراوند «1» طويل محرق، وورق رند «2» محرق، ونوى زعرور «3» محرق، ونوى الزيتون الأخضر محرقا، وقرطاس «4» محرق، وزجاج «5» فرعونىّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 199 محرق، وزعفران، من كلّ واحد جزء؛ تسحق سحقا ناعما حتّى تصير مثل الكحل وتعجن بالماء المعتصر من الآس، وتحبّب، وتجفّف فى الظّلّ، ثم يشرط تحت الإبط شرطان يسيران، ويسحق ذلك الحبّ، ويدلك به ذلك الموضع والدّم يجرى، ويترك عليه يوما وليلة، ثم يغسل، فلا تعود تظهر رائحته أبدا. صفة دواء آخر يطيّب البدن، وينفع أصحاب الأمزجة الحارّة يؤخذ سعد «1» ، وساذج «2» ، وفقّاح الإذخر «3» ، وميعة «4» سائلة «5» ، من كلّ واحد عشرة مثاقيل، ورد يابس، وأطراف الآس، من كلّ واحد مثقالان، يبلّ السّعد وفقّاح الإذخر والساذج بشراب ريحانىّ «6» ، ثم تسحق، وتعجن بالشّراب وتقرّص، وتجفّف، ثم تسحق، ويطرح عليها الورد وأطراف الآس مسحوقين ويذاب زعفران بماء الورد، ويخلط مع الأدوية، ويجفّف ذلك كلّه فى الظّلّ ثم يسحق بعد جفافه، ويجعل ذرورا؛ فإذا أراد استعماله دخل الحمّام، وتنظّف من كلّ درن، ثم خرج وتنشّف من العرق، ثم نثر على بدنه من هذا الدّواء، فإنّه نهاية فى قطع رائحة العرق. صفة دواء آخر يقطع العرق، وينفع أصحاب الأمزجة الحارّة يؤخذ دار صينىّ وسنبل هندىّ، وأظفار وقسط «7» ، من كلّ واحد جزء؛ ومن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 200 طين البحر «1» وإسفيداج «2» مغسول، من كلّ واحد نصف جزء، شيح وشقاقل «3» من «4» كلّ واحد ثلاثة أجزاء «5» ، زعفران وورد يابس، من كلّ واحد ثلث جزء؛ تسحق الأدوية اليابسة بماء الزعفران والآس بعد أن تحلّ بشراب ريحانىّ ويستعمل، فإنّه جيّد. ذكر الأدوية الّتى تجلو الأسنان من الصّفرة والسواد وتطيّب رائحة الفم والنّكهة فأمّا السّنونات «6» الّتى تجلو الأسنان- فمنها، يؤخذ قرن ايّل «7» محرق، وملح أندرانىّ «8» ، وزبد البحر، من كلّ واحد جزء؛ ورق أثل محرق، وأصول القصب الجزء: 12 ¦ الصفحة: 201 المحرق جزءان؛ شاذنج «1» ربع جزء، خزف صينىّ جزء؛ يدقّ الجميع، ويخلط ويستنّ «2» به. سنون آخر يؤخذ من قشور الرمّان جزءان، ومن عروق الچنار «3» والشّبّ والعقيق «4» ، من كلّ واحد جزء، يدقّ «5» وينخل، ويستنّ به، فإنّه غاية. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 202 صفة سنون آخر يقوّى الأسنان ويجلوها يؤخذ ملح أندرانىّ، يسحق، ويشدّ فى قرطاس، ويلقى على الجمر، فإذا احمرّ أخذ وأطفئ فى قطران، ثم يؤخذ منه جزء، ومن زبد البحر ودار صينىّ ومرّ وسعد ورماد الشّنج «1» ، من كلّ واحد جزء؛ ومن السّكّر ثلاثة أجزاء، ومن الكافور عشرة «2» أجزاء؛ يسحق ويستنّ به، فإنّه جيّد. وأمّا الأدوية الّتى تطيّب رائحة الفم والنّكهة- فمنها دواء يؤخذ ورد أحمر منزوع الأقماع، وصندل أبيض، وسعد، من كلّ واحد عشرة دراهم؛ سليخة» وسنبل وقرفة [وقرنفل «4» ] وجوزبوا «5» ، من كلّ واحد أربعة دراهم؛ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 203 قشور الأترجّ المجفّفة وورقه، وإذخر وأشنة «1» ، من كلّ واحد خمسة دراهم سكّر وعود هندىّ ومصطكاء وبسباسة وسكّ «2» ، من كلّ واحد درهمان، كافور نصف درهم؛ مسك نصف دانق؛ تدقّ الأصناف دقّا ناعما، وتعجن بماء ورد، أو بماء ورق الأترجّ، وتحبّب بقدر الحمّص، وتمسك فى الفم، فإنّه جيّد مجرّب. صفة حبّ آخر يزيل البخر يؤخذ صبر صمغ «3» ثلاثة دراهم، وفلفل وقرنفل وخولنجان وعاقرقرحى «4» ، من كلّ واحد درهم؛ مسك وكافور من كلّ واحد دانق؛ تدقّ هذه الأصناف دقّا ناعما وتعجن بشراب «5» ريحانىّ، وتحبّب، وتستعمل كما تقدّم. صفة حبّ آخر ينفع من البخر يؤخذ هال «6» وقاقلّة «7» وجوزبوا ودارصينى وخولنجان، من كلّ واحد ثلاثة دراهم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 204 ورد أحمر وصندل أبيض من كلّ واحد خمسة دراهم، كافور نصف درهم، مسك زنة دانق؛ يدقّ الجميع دقّا ناعما، ويعجن بماء ورد، ويحبّب مثل الحمّص، وتمسك فى الفم منه حبّة واحدة. صفة دواء آخر تؤخذ سليخة، ودارصينىّ، ورامك، وهال، وفقّاح الإذخر «1» ، وأصول السّوسن وكبابة وأشنة «2» ؛ تسحق هذه الأدوية، [وتعجن «3» ] بماء ورد، وتحبّب مثل الحمّص وتجعل فى الفم منها تحت اللّسان فى كلّ يوم واحدة، فإنه جيّد. صفة حبّ آخر ملوكىّ ذكره التّميمىّ فى كتابه، وقال: إنّه أخذه عن أحمد بن أبى يعقوب؛ وهو: يؤخذ من العود الهندىّ سبعة دراهم، ومن القرنفل والبسباسة «4» من كلّ واحد منهما أربعة دراهم، ومن الكبابة والقاقلّة «5» من كلّ واحد ثلاثة دراهم، ومن السّعد «6» الجزء: 12 ¦ الصفحة: 205 الكوفىّ الأبيض والصّندل «1» المقاصيرىّ من كلّ واحد خمسة دراهم، ومن سكّ «2» المسك مثقال، ومن الكافور نصف مثقال؛ تسحق هذه الأصناف، وتعجن بماء الورد وتحبّب بقدر الحمّص أو أكبر، وتجفّف فى الظّلّ، ويأخذ منه «3» حبّة بالغداة فيديرها فى فمه حتّى تذوب، ويفعل مثل ذلك عند النوم. وقال: هذا الحبّ إن شئت استعملته على هذه الصفة. وإن شئت تبخّرت منه. وإن شئت سحقت منه حبّة وأذبتها بماء ورد، وتطيّبت بها. وإن شئت سحقتها مثل الذّريرة وتطيّبت بها يابسة. وإن حللت منه بالبان المنشوش «4» كان مسوحا طيّبا شبيها بالغالية «5» . وإن حللت منه ثلاث حبّات أو أربعا بماء ورد ومسحت به على جسدك فى الحمام، كان طيبا لا بعده. صفة حبّ آخر مثله يطيّب النّكهة، ويستعمل كما تقدّم أيضا يؤخذ عنبر ومسك وسكّ مسك وعود هندىّ، من كلّ واحد جزء؛ كافور رياحىّ «6» ربع جزء، زعفران وقرنفل من كلّ واحد نصف جزء؛ تسحق هذه الأصناف، وتجمع، ويكون سحق العنبر مع العود، ثم يعجن جميع ذلك بماء الورد الجزء: 12 ¦ الصفحة: 206 ويحبّب كما تقدّم، ويستعمل حبّة بالغداة، وأخرى عند النوم، فانّه ينفع لما ذكرناه وينفع الخفقان وعلل القلب. وقد أخذ هذا الفصل حقّه، فلنرجع الى أدوية الباه. ذكر الأدوية الّتى تعين على الحبل، والأدوية الّتى تمنعه أمّا الأدوية الّتى تعين عليه- فمنها صفة دواء: يؤخذ حبّ «1» البلسان ومقل «2» أزرق وجاوشير «3» وباذاورد «4» ، من كلّ واحد مثقال؛ تدقّ أفرادا، وتجمع الجزء: 12 ¦ الصفحة: 207 بالسّحق، وتحلّ بشراب، ويطلى بها الذّكر، ويجامع بعد جفافه، ويحرص على أن ينحلّ الدواء فى الفرج قبل الإنزال، فإنّه نافع مجرّب. صفة دواء آخر يؤخذ أفربيون وعاقرقرحى وجند بيدستر وسنبل وقسط وميعة «1» سائلة، من كلّ واحد مثقالان «2» ؛ يسحق «3» وينخل، ثم يجمع، ويحلّ بالميعة، ويرطّب بشراب «4» ريحانىّ، ويطلى الذّكر منه، وتجامع [المرأة بعد جفافه، فإنّه نافع لذلك لا يخرم «5» سيّما «6» اذا كان عقيب طهر المرأة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 208 دواء آخر يؤخذ ورق الغبيراء «1» ، يجفّف، ويسحق سحقا ناعما، ويعجن بمرارة البقر، ويطلى به الذّكر، ويجامع] ، فإنه يزيد فى الباه ويعين على الحبل. دواء آخر يؤخذ بول الفيل، وتسقى منه المرأة وهى لا تعلم، ثمّ يجامعها، فإنّها تحبل لوقتها بإذن الله تعالى. صفة دواء آخر وهو من الأسرار يطلى الذّكر بلبن حليب، ويترك حتّى يجفّ، ثم يجامع عقيب طهر المرأة فإنّه غاية لذلك. قال صاحب كتاب (الإيضاح) : ينبغى لمن استعمل دواء من هذه الأدوية أن يقصد الجماع فى الوقت الذى تطهر فيه المرأة من طمثها. قال: وينبغى أن يرفع وركيها عند الإنزال، ويكون رأسها منكّسا إلى أسفل فإنّ ذلك ممّا يعين على الحبل. قال: وينبغى أنّه إذا أحسّ بالإنزال أن يميل على جنبه الايمن، وكذلك إذا نزع فإنّ الولد يكون ذكرا إن شاء الله تعالى. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 209 وأمّا الأدوية التى تمنع الحبل - فيحتاج الرجل مع الأدوية أن يكون اعتماده [فى الجماع «1» ] بضدّ «2» ما تقدّم، وذلك أن يجعل إنزاله قبل إنزالها، وأن ينهض عنها بسرعة، ولا يجامعها عقيب الظّهر. وأمّا الأدوية - فمنها صفة دواء يمنع من الحبل ويسقط الجنين: يؤخذ سذاب مجفّف ونطرون، من كلّ واحد جزء؛ يسحقان وينخلان ويحلّان بماء السّذاب الرّطب، ويطلى بذلك الإحليل، ويجامع. دواء آخر مثله تؤخذ قنّة «3» ، تسحق بعصارة السّذاب وماء الكسبرة الخضراء حتّى تترطّب ويطلى بها الذّكر، ويجامع، فإنّه يمنع الحبل ويسقط الجنين. صفة دواء آخر يفعل فعل ما تقدّم يؤخذ أبهل «4» مثقالان؛ ورق سذاب مجفّف، وفودنج «5» يابس، من كلّ واحد نصف الجزء: 12 ¦ الصفحة: 210 مثقال؛ فوّة «1» وسقمونيا «2» ونطرون، من كلّ واحد مثقال؛ يدقّ ذلك وينخل ويسحق، ثم يجمع، ويحلّ بماء السّذاب الرّطب، أو بماء طفئ فيه الحديد [ويجامع به «3» ] فإنّه شديد فى منع «4» الحبل وإسقاط الأجنّة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 211 وحيث ذكرنا ما قدّمناه من الأدوية التى تزيد فى الباه وتغزر المنىّ، وأشباه ذلك، وما وصلناه به، فلنذكر الأدوية الّتى تنقص الباه، وتسكّن الشهوة، فإنّه قد يحتاج الى ذلك فى بعض الأوقات. ذكر الأدوية الّتى تنقص الباه وتمنع من الجماع وتسكّن الشهوة وهذه الأدوية منها مفردة ومنها مركّبة أمّا المفردة - فمنها البقلة الحمقاء، وهى الرّجلة، وتسمّى الفرفحين «1» أيضا، ومنها الخسّ «2» ، والقرع، والشّهدايج «3» ، والعدس، والجمّار، والشّعير «4» ، والأشياء الحامضة كالحصرم والتّوت، والرّمّان الحامض، وحمّاض «5» الأترجّ، والخلّ، وعنب الثعلب «6» ، ومنها البطّيخ والخيار والقثّاء والسّفرجل والمشمش «7» وأشباه ذلك؛ ومنها الفودنج والمرماحوز والمرزنجوش «8» الجزء: 12 ¦ الصفحة: 212 والحرمل «1» والكمّون «2» وبزر قطونا «3» والكافور والبنج «4» والورد والخلاف والإسفاناج وكلّ دواء بارد يابس، فهذه المفردات. وأمّا المركبّات- فمنها أغذية وأدوية. أمّا الأغذية - فمنها السّمّاقيّات، والحصرميّات «5» ، واللّيمونيّات، والسّكباج «6» والمصوص «7» ، والمضيرة «8» ، والعدس، والتّمريّة، والزّبيبيّة، وما أشبه ذلك ممّا فيه خلّ أو حموضة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 213 وأمّا الأدوية - فمنها صفة دواء يقطع الشهوة، ويجمد المنىّ. تؤخذ كسبرة يابسة محمّصة، وبزر قثّاء، وبزر نرجس، وبزر كتّان، وجلّنار «1» وتحمّص البزور كلّها. ويؤخذ سمّاق، وحرمل «2» وبنج «3» أبيض، وقلقطار «4» وقلقند «5» ، وصندل أبيض من كلّ واحد جزء؛ تجمع هذه الأدوية بعد سحقها ونخلها، وتعجن بالماء المعتصر الجزء: 12 ¦ الصفحة: 214 من الورد «1» والرّجلة، وتحبّب مثل الحمّص، وتجفّف فى الظّلّ، وترفع فى إناء زجاج ويسدّ رأسه من الهواء، فإذا احتيج اليه اذيبت منه واحدة بلعاب بزر قطونا «2» ، ويطلى به الإحليل فى كلّ أسبوع ثلاث مرّات. وإن طليت به «3» فقار الظّهر وتكرّر ذلك أيّاما متواليات قطع النّسل وأمات شهوة الجماع. صفة دواء آخر يقطع شهوة الجماع البتّة، وهو من الخواصّ تؤخذ خصية السّقنقور «4» اليمنى، تجفّف، وتسحق، وتذاب بماء السّذاب الرّطب، فمن شرب منه زنة قيراط قطع شهوته ونسله. صفة دواء آخر يضعف الإحليل ويكسر حدّته ولا يدعه ينتشر البتّة، وهو الّذى يستعمله كثير من الرّهبان. يؤخذ توبال النحاس، وتوبال «5» الحديد، وتوتياء هندىّ، وشعر دبّ، وشعر ثعلب محرقان، وجلّنار محرق، وجفت «6» البلّوط، وكافور، وجوز السّرو محرقا، وصندل أبيض الجزء: 12 ¦ الصفحة: 215 من كلّ واحد جزء «1» ، تجمع بعد سحقها ونخلها، وتعجن بالماء المعتصر من السّلق وتحبّب مثل الحمّص، وتجفّف فى الظّلّ، وترفع فى إناء من الزّجاج، ويسدّ رأسه فإذا احتيج اليه تؤخذ منه حبّة تحلّ بماء الكسبرة الخضراء، ويطلى بها الذّكر ويرشّ منها أيضا فى السّراويل. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 216 الباب الحادى عشر من القسم الخامس من الفنّ [الرابع «1» ] فيما يفعل بالخاصّيّة إعلم- وفّقنا الله وإيّاك- أنّ الخواصّ كثيرة لا تكاد تنحصر، ولا تتعلل أفعالها، فأحببنا أن نذكر منها طرفا نختم به هذا الفنّ. ولنبدأ بما هو متعلّق بالنكاح، ليكون القول فيه يتلو بعضه بعضا. ذكر الخواصّ المختصّة بالنساء والنكاح الّتى استقرئت بالتجربة «2» ............... ............... ............... ............. خاصّيّة من خواصّ الهنود وهى، تأخذ رأس غراب أسود فأفرغ «3» دماغه، واجعل موضع الدّماغ «4» شيئا من تراب الموضع الّذى تجلس فيه المرأة الّتى تريد، وشيئا يسيرا من زبل الحمام، واجعل الجزء: 12 ¦ الصفحة: 217 فى ذلك «1» سبع شعيرات، وادفنه فى الأرض فى موضع ند؛ فاذا نبت الشّعير وصار طول أربع أصابع، فخذ منه، ثم ادلك به يدك، وامسح به على وجهك وذراعيك ثم استقبل به تلك المرأة ولا تكلّمها، فإنها تسعى فى أثرك، ولا تطيق الصبر عنك. قال: وهو من الأسرار الخفيّة، فاعرفه. سرّ آخر قال صاحب الخواصّ: خذ أظفار الهدهد وأظفار نفسك، فأحرقهما جميعا واسحقهما حتّى يصيرا ذرورا؛ ثم اجعل ذلك فى قدح طلاء، واسقه أىّ امرأة أردت وهى لا تعلم، فإنّها تميل اليك، وتحبّ القرب منك جدّا. سرّ آخر لجعفر الطّوسىّ قال: إذا أخذت لسان ضفدعة خضراء، ووضعته على قلب امرأة نائمة أخبرتك بجميع ما عملت فى ذلك اليوم. قال: وإن بخّرت فراش امرأة بشىء من ضفدعة خضراء وهى لا تعلم ثم نامت عليه، فإنّها تتكلّم فى نومها بجميع ما عملته. قال: وكذلك اذا أخذت عين الرّخمة أو عين كلب ميّت وأصل الخسّ ثم ربطت ذلك فى خرقة كتّان؛ ووضعته على سرّة امرأة نائمة، أخبرتك بجميع ما عملته. وقال حنين بن إسحاق: اذا أردت أن تعلم أنّ المرأة بكر أو ثيّب، فمرها أن تأخذ ثومة مقشورة وتنخسها «2» فى عدّة مواضع، ثم تحملها فى فرجها ليلة، فاذا أصبحت الجزء: 12 ¦ الصفحة: 218 فاستنكهها «1» ، فإن وجدت رائحة الثّوم فى فيها فهى ثيّب، وإن لم تجد فيه رائحة فهى بكر. وبذلك أيضا تعرف حملها، فإن وجدت للثّوم رائحة فهى غير «2» حامل وإن لم تجدها فهى حامل. قال: وإذا أردت أن تختبر حال امرأة، وهل بقيت تحمل أم «3» لا فمرها أن تأخذ زراوندا «4» مدحرجا، وتسحقه بمرارة البقر، ثم تحمله بعد طهرها ليلة، فاذا أصبحت، فان وجدت طعمه فى فيها فهى تحمل، وإلّا فهى عاقر. وقال صاحب كتاب (فردوس الحكمة) : إذا تبخّرت المرأة بحافر فرس أو حافر بغل أو حافر حمار أسقطت الولد والمشيمة؛ واذا تحمّلت «5» به بعد الجماع لم تحبل. قال: ومن طلى ذكره بمرارة دجاجة سوداء ثمّ جامع امرأة لم تحمل بعد ذلك أبدا. وقال جابر بن حيّان: إذا أخذت المرأة حبّة خروع وغمّضت عينيها وابتلعتها لم تحبل سنة. قال: وإن ابتلعت حبّتين لم تحمل سنتين؛ وإن ابتلعت ثلاثا فثلاث، وكذلك كلّما «6» زادت كانت كلّ حبّة بسنة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 219 قال: وإذا أخذ رأس خشّاف «1» ووضع تحت رأس امرأة عند الجماع، لم تحبل من ذلك الوطء. قال: وإن أخذ شوكران «2» وسحق وعجن بلبن رمكة «3» وجعل فى صرّة، وربط فى عضد المرأة الأيسر، لم تحبل أبدا ما دام عليها. قال: وإن شربت المرأة بول كبش لم تحبل أبدا. [وكذلك «4» إن شربت من رغا «5» الجمل الهائج لم تحبل أبدا] . وقال شرك «6» الهندىّ: إذا أردت ذهاب غيرة المرأة فلا تغار من ضرّتها ولا من وطء جارية، فاسقها دماغ أرنب بشراب وهى لا تعلم. قال: وإن سقيت مرارة ذئب بعسل وهى لا تعلم ذهبت غيرتها. ومما يذهب غيرة المرأة أن تسقى غبار دقيق الشّعير من الرّحى الدائرة بماء المطر فإنّه جيّد فى ذهاب الغيرة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 220 قالوا: وإذا شدّت فى مقنعة «1» امرأة دودة حمراء وهى لا تعلم هاجت شهوتها واغتلمت أمرا «2» عظيما. واذا أخذ من الزّنجار «3» جزء، ومن النّشادر نصف جزء، وجعلا فى الماء الّذى تستنجى به المرأة؛ اغتلمت وطلبت الجماع. وكذلك إذا أخذ من الأقحوان «4» والأبهل «5» والأشنان «6» الأحمر من كلّ واحد جزء ودقّ ذلك، وسحق، وعجن بدهن البان، وحملته المرأة، ثارت بها شهوة الجماع. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 221 [واذا أخذ قضيب الثّور الأحمر وجفّف فى الظّلّ، وسحق، وشربت منه المرأة وزن مثقال بنبيذ صرف، قطع عنها شهوة الجماع «1» ] . واذا أخذت قضيب الذئب قبل طلوع الشمس أو بعد غروبها بحيث لا تراه الشمس، وقطّعته، ثم جفّفته فى الظّلّ، وسحقته، وأسقيته امرأة، فإنّها تبغض الرجال، وتذهب عنها شهوة الباه. واذا أخذت شجرة مريم «2» وسحقتها وعجنتها بماء النّعناع، وحبّبتها كلّ حبّة زنة نصف دانق، وسقيت منها امرأة حبّة، انقطعت شهوتها سنة. وكذلك مهما زدت كانت كلّ حبّة بسنة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 222 ذكر شىء من الخواصّ غير ما تقدّم ذكره من ذلك طلسم «1» يجعل على المائدة فلا يقربها ذباب يؤخذ كندس «2» وزرنيخ أصفر، وكمأة «3» يابسة، أجزاء متساوية؛ يسحق جميع ذلك، ويعجن بماء بصل العنصل «4» ، ويجعل منه مثال «5» ، «ويدهن بالزّيت» «6» فإنّ الذّباب لا يقرب من المكان الّذى يوضع فيه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 223 سامّ أبرص اذا جعل فى قصبة فارسيّة أحد رأسيها مسدود، ثم يسدّ الآخر بشمعة، وتعلّق القصبة بما فيها على من به عرق النّسا على وركه من الجانب الّذى به الوجع، فإنّ وجعه يتناقص بقدر ما يضعف سامّ أبرص، فاذا مات فى القصبة زال الوجع كلّه. الافسنتين «1» الرّومىّ يمنع السوس عن الثياب؛ وفساد الهوامّ؛ ويمنع الحبر والمداد أن يتغيّرا، والكاغد أن يعثّ أو يقرّض. قشر الأترجّ اذا جعل فى الثّياب حماها من السّوس. [الساذج «2» الهندىّ اذا نثر فى الثّياب حفظها من السّوس «3» ] . الخربق «4» اذا جعل مع الثياب التى ترفع لم يقربها السّوس. عود الرّيح «5» وورق النّعناع مثل ذلك. يكتب على بيضتين بعد سلقهما وقشرهما، على الأولى: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ؛ وعلى الثانية: وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ، وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ؛ ويكتب بعد ذلك على كلّ منهما الجزء: 12 ¦ الصفحة: 224 قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ وتعطى الأولى للمرأة، والثانية للرّجل؛ ويعطى كلّ منهما لصاحبه البيضة الّتى أعطيها يأكلها، فإنّ ذلك يحلّ المعقود. مرارة الخطّاف إن شربت وشرب فى عقبها اللّبن الحليب، سوّدت شعر اللّحية والرأس. إذا غرز فى طرف القرع قطع من حديد وهو متّصل بأصله، ولم ينفذ إلى الجانب الآخر، وطلى عليه بالطّين الأصفر، وترك فى أصله إلى أن يدرك ويجفّ ويؤخذ ما فى جوفه، وهو كالحبر، ويحلّ بعسل نحل من غير نار، ويستعمل منه فى كلّ غداة قدر البندقة- وان حلّ بربّ العنب فهو أجود، وهو الميبختج «1» - فإنّه يسوّد الشّعر إن داوم عليه. ذكر نبذة من خواصّ الحروف والأسماء خواصّ الحروف والأسماء كثيرة، قد ذكرها البونىّ «2» ؛ فمنها ما عرفوا تأثيراته بطوالع، وقيّدوه بأوقات؛ ومنها ما ليس له وقت مخصوص، وهو الّذى أورد منه فى هذا الموضع ما تقف عليه إن شاء الله تعالى. قال الشيخ جمال الدين أبو العبّاس أحمد بن أبى الحسن القرشىّ البونىّ- رحمه الله تعالى- فى كتابه المترجم (بلطائف الإشارات فى أسرار الحروف العلويّات «3» ) : الجزء: 12 ¦ الصفحة: 225 من نقش حرف الحاء فى فصّ خاتم ثمانى مرّات، ونقش معه «يا حىّ يا حليم يا حنان يا حكيم» ، أمن من الحمّيات كلّها. وإن هو جعله فى ماء وسقى منه المحمومين خفّف ما بهم. وان داموا على شرب ذلك الماء والابتراد به ذهبت الحمّيات كلّها. وكذلك ينفع المحرورين من أهل الصّفراء. قال: ولا يكثر من لبسه كبير السّنّ. قال: ومن خاصّيّته تعطيل حركة النّكاح. قال: وإن حمله الشابّ فهو أوفق للتّختّم به، ولا يحمله فى يوم السبت ولا فى يوم الاثنين، ويحمله فيما عداهما من الأيّام. وفيه لمن أمسكه ذهاب العطش وكثرة شرب الماء. وان علّق فى بستان نمى ثمره، وكثرت نضارته. قال: ومن قال عند طلوع الشمس: «يا حىّ يا حليم يا حنّان يا حكيم» ومن الأسماء المقدّسة ما أوّله حاء فى زمن القيظ، يذكر ذلك حتّى تنقلب الشمس فى رأى عينه خضراء وهو ناظر اليها، لم يحسّ فى يومه [ذلك «1» ] ألم الحرّ. قال: ومن كتب اسمه «2» «الجبّار وذا الجلال» فى بطاقة أىّ وقت شاء وهو على طهارة، وجعلها فى خاتمه أو بين عينيه وقت جلوسه بين الناس، رزقه الله الهيبة والتعظيم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 226 ومن كتب اسم الله «الجميل والجواد» فى بطاقة أىّ وقت شاء، وتختّم بها أو حملها وقت دخوله بين أحبابه أو منزله، حسّنه الله تعالى، وجمّل ظاهره وباطنه. قال: ومن كتب «محمّد رسول الله» خمسة وثلاثين مرّة، «أحمد رسول الله» خمسة وثلاثين مرّة فى يوم جمعة بعد صلاة الجمعة وحملها معه، رزقه الله تعالى قوّة فى الطاعة، وتقوية على البرّ كلّه، وكفاه الله تعالى همزات الشياطين. وإن هو أدام النظر الى تلك البطاقة كلّ يوم عند طلوع الشمس وهو يصلّى على محمّد صلّى الله عليه وسلّم، كثرت رؤياه للنّبىّ صلّى الله عليه وسلّم، ويسّر الله تعالى عليه فى يومه ذلك أسباب السعادة، وذلك بحسن القبول وعقد النيّة وصفاء الباطن. قال: ومن نقش اسم الله (الخبير) على فصّ مهما «1» يكن يوم الجمعة أو يوم الاثنين أوّل ساعة من النهار، واحتمل هذا الفصّ فى فمه، لم ينله وصب العطش. وإن هو جعله فى كوز ماء وشرب منه، أسرع له الرّىّ، ولم يطلب الماء بعده. ومن كتب: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ أربع مرّات، وعلّقها عليه، لم يقربه شيطان، ولم يصبه، ولا يقرب البيت الّذى يكون فيه. قال: ومن كتب الصاد ستّين مرّة فى بطاقة وحملها غلب خصمه. ومن علّقها عليه وهو صائم، أمن من الجوع بإذن الله تعالى. قال: ومن كتب الصاد ستّين مرّة فى عصابة، وعصّب بها من يشتكى الصّداع، برئ إن شاء الله تعالى. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 227 وقال: إذا نقش حرف الطاء فى لوح من مشمش «1» والشمس فى السعود تسع طاءات، وخمس هاءات وحملها إنسان، قهر الله عنه قلوب الجبّارين من الشياطين والإنس، وربّما أنه كثيرا «2» ما يرى النّبىّ صلّى الله عليه وسلّم. ومن استدام إمساكه على غير طهارة، أورثه ذلك حمّى الدّقّ «3» . قال: ولا بسه يحبّ أعمال البر كلّها، ولا يقدر أن يبقى ساعة بغير طهارة. وإن علّق على من يشتكى ألم الرأس، هوّن الله تعالى عليه ذلك. وإن ألقاه فى كوز الماء وشرب من ذلك الماء، رأى بركة فى ذاته من محبّة الخير، وانشراح الباطن، واتساع الصّدر. قال: ومن كتبها فى تسع من الشّهر، أو ثمانية عشر، أو فى سبعة وعشرين عددها، وخمس هاءات معها، وعلّقها على نفسه، أمن من الهوامّ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 228 قال: ومن نقش حرف العين سبعين مرّة يوم الجمعة وقت الأذان، فى خرقة حرير بيضاء، وركّبها على خاتم قلعىّ «1» أو قمر «2» ، وتختّم «3» به، نطق بالحكمة، ويسّر الله عليه الفهم الثاقب؛ ويكون تعليقه بإزاء قلبه، ولا يعلّقه عليه عند نومه، فإنّه يرى خيالات كثيرة. قال: ومن أكثر من ذكر اسمه «4» (العزيز) ، نال عزّة فى دينه إن يكن من أهل الديانات، وعزّة فى دنياه إن يكن من أهل الدنيا. قال: ومن كتب حرف القاف فى زيادة الهلال مائة مرّة ومحاه بماء وشربه أمن من الرّطوبات العارضة، وجاد فهمه، وقوى حفظه؛ ولا يداوم ذلك لئلّا يفرط به اليبس. ومن كتبه فى ورقة رند مائة مرّة، وغلاها فى زيت زيتون، ودهن به المفلوجين وأهل النّزلات الهوائيّة، نفعهم. قال: ومن ذكر من أسماء الله تعالى ما فيه قاف كاسمه (القادر) و (القيّوم) و (القوىّ) ، وما أشبه ذلك، فمن استعمل ذلك الذّكر ممّن يشتكى الضّعف والفزع واستدام عليه بعقد نيّة وجمع همّة، رزقه الله تعالى القوّة، ويسّر له أسباب الخروج من الجزع. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 229 قال: ومن نقش حرف الكاف فى خاتم عشرين مرّة، أو كتبه فى خرقة حرير، وطواها، وجعلها تحت فصّ خاتم، فإنّ لا بسه لا يردّ كلامه إلا بخير؛ وينفع لملاقاة الجبّارين ودفع ضررهم. قال: ومن نقش حرف النون بالعربىّ «1» فى فصّ خاتم خمس نونات، وعلّقه على من يشتكى معدته أو خفقان قلبه على موضع الألم، سكن بإذن الله تعالى. قال: ومن كتب حرف الواو ستّ مرّات فى ورقة وعلّقها عليه، أمن من الصّداع العارض من اليبوسة، وحسبه «2» . ومن نقشه فى فصّ مها «3» أو فضّة وجعله فى فيه، وكان به بلغم يجفّف الفم، فإنّه يكون برأه إن شاء الله تعالى. ومن علّقه عليه أمن من حمّى الرّبع «4» . والخواصّ كثيرة؛ وفيما أوردناه منها كفاية. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 230 كمل الجزء الثانى» عشر من كتاب «نهاية الأرب فى فنون الأدب» للنّويرىّ رحمه الله تعالى، ويليه الجزء الثالث عشر، وأوّله: (الفنّ الخامس فى التاريخ) والحمد لله رب العالمين الجزء: 12 ¦ الصفحة: 231 [مقدمة الجزء الثالث عشر] بيان يوجد من نسخ هذا الجزء بدار الكتب المصرية نسختان كاملتان مأخوذتان بالتصوير الشمسىّ؛ وقطعة غير كاملة من نسخة أخرى مأخوذة بالتصوير الشمسى أيضا، وقد نبهنا على الموضع الذى تنتهى عنده هذه القطعة فى إحدى الحواشى. أما خطوط النّسخ الثلاث: فإحداها مكتوبة بخط نور الدين العاملى فى سنة 966 هـ. وثانيتها مكتوبة بخط الشيخ عبد الرحمن بن ابراهيم الجبرتى الحنفى فى سنة 966 أيضا. والثالثة منسوب خطها إلى المؤلف كما نص على ذلك فى بعض الأجزاء الأخرى منها. أما التحريف والتصحيف فى هذه الأصول فيكاد يكون متفقا فى جميعها؛ غير أننا وجدنا أن بعض هذه النسخ قد سقطت منها عبارات وجدناها مثبتة فى النسخ الأخرى، فكملنا بعضها من بعض كى يكون الجزء نسخة كاملة من جميع هذه الأصول. ومما ينبغى التنبيه عليه في هذا الموضع أن المؤلف قد نقل موضوعات هذا الجزء عن كتابين: أحدهما «يواقيت البيان فى قصص القرآن» لأبى إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبىّ؛ والثانى «المبتدأ» لأبى الحسن محمد بن عبد الله المعروف بالكسائى؛ وقد بحثنا فى محفوظات دار الكتب عن اسمى هذين الكتابين فلم نجدهما، غير أننا وجدناهما باسمين آخرين؛ فكتاب الثعلبى مكتوب عليه: «قصص الأنبياء المسمى بالعرائس» . وكتاب الكسائى يسمى «بالعرائس» أيضا؛ ويسمى أيضا «نفائس العرائس» كما هو مكتوب على بعض نسخه المخطوطة. وفى «كشف الظنون» أنه يسمى «خلق الدنيا وما فيها» . والأوّل مطبوع بالمطبعة البهية بالقاهرة عام 1301 هـ. والثانى مخطوط سنة 803 هـ. ومما يرجح لدينا أن هذين الكتابين هما اللذان أشار إليهما المؤلف ونقل عنهما وإنما تغيّر اسماهما دون مسمّاها، مراجعة ما فيهما على ما نقله المؤلف فى هذا الجزء عنهما ملخصا، والاتفاق التام فى العبارات بين المنقول والمنقول عنه. الجزء: مقدمةج 13 ¦ الصفحة: 1 ويلاحظ أنه قد ورد فى هذا الجزء نقلا عن الكتابين المذكورين كثير من الأسماء العبرانية التى تعوّد المؤرخون القدماء ذكرها فى كتبهم فى الكلام على بدأ الخليقة وقصص الأنبياء، وهذه الأسماء لم نقف على نصوص صريحة تدل على الصواب فى ضبطها، والصحة فى تقييد حروفها. وقد بحثنا فيما بين أيدينا من مصادر التاريخ الكثيرة عنها للوثوق من صحتها فوجدنا تلك المصادر مختلفة كل الاختلاف فيها، حتى لا تجد كتابا متفقا مع غيره فى كتابتها. لهذا رأينا أن نبقى تلك الأسماء كما هى فى الأصول، إلا ما وجدناه مضبوطا بخطّ موثوق بكاتبه. وعسى أن نكون قد وفقنا فى هذا الجزء إلى ما قصدنا إليه فى الأجزاء السابقة من تصحيح التحريف، وتكميل النقص، وضبط الملتبس من الألفاظ، وغير ذلك مما سردناه فى الكلام على تصحيح الأجزاء السابقة. وقد تمّ طبعه فى عهد من اعتز العلم بنصره، وازدهت الآداب فى عصره وقويت آمال لغة العرب فيه، واختالت زهوا بأياديه: حضرة صاحب الجلالة مولانا الملك المعظم «فاروق الأوّل» حفظه الله ولا يفوتنا فى هذا المقام أن نذكر بالشكر والثناء تلك الجهود العظيمة التى بذلها ويبذلها حضرة صاحب العزة العالم الكبير «الدكتور منصور فهمى بك» مدير عام دار الكتب المصرية، واهتمامه الصادق بإخراج هذه الكتب فى أقرب وقت ممكن على أحسن وجه وأكمله، تحقيقا لما تتوق إليه الأمة العربية جمعاء من إحياء لغتها وآدابها بنشر الكتب الثمينة فى الدين واللغة والأدب والتاريخ وغيرها من أنواع العلوم. ونسأل الله سبحانه أن يجعل عملنا خالصا لوجهه مصحّحه أحمد الزين القاهرة فى 7 شوّال سنة 1357 هـ. (29 نوفمبر سنة 1938 م) الجزء: مقدمةج 13 ¦ الصفحة: 2 فهرس الجزء الثالث عشر من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويرىّ .... صفحة الفن الخامس فى التاريخ ويشتمل على خمسة أقسام 1 القسم الأوّل من الفن الخامس فى مبدأ خلق آدم وحواء عليهما السلام ودخولهما الجنة، وما كان بينهما وبين إبليس لعنه الله وهبوطهما إلى الأرض واجتماعهما بعد الفرقة، وخبر حرثه وزرعه، وحمل حواء ووضعها، وخبر ابنى آدم هابيل وقابيل، ونبوة آدم عليه السلام ووفاته، وخبر شيث وأولاده، وقصة إدريس ونوح وهود وصالح عليهم السلام، وخبر أصحاب البئر المعطلة والقصر المشيد، وخبر أصحاب الرس، وفيه ثمانية أبواب 3 الباب الأوّل من هذا القسم فى مبدأ خلق آدم وحواء عليهما السلام وما كان من أخبارهما إلى حين وفاتهما- ذكر خلق آدم عليه السلام 10 ذكر دخول الروح فيه 11 ذكر سجود الملائكة لآدم 12 ذكر خلق حواء عليها السلام 13 ذكر عرض الأمانة على آدم عليه السلام 14 ذكر خبر إبليس والطاوس والحية 15 الجزء: مقدمةج 13 ¦ الصفحة: 3 ذكر خروج آدم وحواء من الجنة 18 ذكر سؤال إبليس لعنه الله 19 ذكر سؤال آدم عليه السلام 20 ذكر سؤال حواء عليها السلام 21 ذكر توبة آدم عليه السلام 23 ذكر أخذ الميثاق على ذرية آدم عليه السلام 25 ذكر اجتماع آدم بحواء 26 ذكر بناء آدم وزرعه وحرثه 28 ذكر حمل حواء عليها السلام وولادتها 30 ذكر مبعث آدم عليه السلام إلى أولاده 31 ذكر قتل قابيل هابيل 32 ذكر وفاة آدم عليه السلام 34 ذكر وفاة حواء 35 الباب الثانى من القسم الأول من الفن الخامس فى خبر شيث بن آدم عليهما السلام وأولاده 35 ذكر قتال شيث قابيل 36 الباب الثالث من القسم الأول من الفن الخامس فى أخبار إدريس النبى عليه السلام 38 الباب الرابع من القسم الأول من الفن الخامس فى قصة نوح عليه السلام وخبر الطوفان 42 ذكر مبعث نوح عليه السلام 43 الجزء: مقدمةج 13 ¦ الصفحة: 4 ذكر عمل السفينة 46 ذكر خبر دعوة نوح على ابنه حام ودعوته لابنه سام 49 ذكر وصية نوح ووفاته 50 ذكر خبر أولاد نوح عليه السلام من بعده 50 الباب الخامس من القسم الأوّل من الفن الخامس فى قصة هود عليه السلام مع عاد وهلاكهم بالريح العقيم 51 ذكر مبعث هود عليه السلام 52 ذكر خبر وفد عاد إلى الحرم يستسقون لهم 56 ذكر إرسال العذاب على قوم هود 58 ذكر خبر مرثد ولقمان 60 ذكر خبر إرم ذات العماد وقصة شديد وشدّاد بنى عاد 61 الباب السادس من القسم الأوّل من الفن الخامس فى قصة صالح عليه السلام مع ثمود وعقرهم الناقة وهلاكهم 71 ذكر ميلاد صالح عليه السلام 73 ذكر مبعثه عليه السلام 75 ذكر خروج الناقة 80 ذكر خبر عقر الناقة وهلاك ثمود 82 الباب السابع من القسم الأوّل من الفن الخامس فى أخبار أصحاب البئر المعطلة والقصر المشيد وما كان من أمرهم وهلاكهم 86 الباب الثامن من القسم الأوّل من الفن الخامس فى خبر أصحاب الرس وما كان من أمرهم 88 الجزء: مقدمةج 13 ¦ الصفحة: 5 القسم الثانى من الفن الخامس فى قصة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام وخبره مع نمروذ وقصة لوط وخبر إسحاق ويعقوب وقصة يوسف وأيوب وذى الكفل وشعيب، وفيه سبعة أبواب- الباب الأوّل منه فى قصة إبراهيم الخليل عليه السلام وخبره مع نمروذ بن كنعان ذكر خبر نمروذ بن كنعان 96 ذكر الآيات التى رآها نمروذ قبل مولد إبراهيم عليه السلام 99 ذكر حمل أم إبراهيم عليه السلام وطلوع نجمه 100 ذكر ميلاد إبراهيم عليه السلام 102 ذكر خروج إبراهيم عليه السلام من الغار واستدلاله 102 ذكر معجزة لإبراهيم عليه الصلاة والسلام 105 ذكر مبعث ابراهيم عليه السلام 107 ذكر سؤال إبراهيم عليه السلام فى إحياء الموتى 108 ذكر آية لإبراهيم عليه السلام 108 ذكر خبر تكسير إبراهيم الأصنام وإلقائه فى النار 111 ذكر خبر صعود نمروذ إلى السماء على زعمه 113 ذكر خبر إرسال البعوض على نمروذ وقومه 114 ذكر هجرة إبراهيم عليه السلام 115 ذكر خبر ميلاد إسماعيل عليه السلام ومقامه وأمه فى البيت المحرّم 115 ذكر خبر بشارة إبراهيم بإسحاق عليهما السلام 118 ذكر خبر الذبيح وفدائه 120 ذكر وفاة إبراهيم عليه السلام 122 الجزء: مقدمةج 13 ¦ الصفحة: 6 الباب الثانى من القسم الثانى من الفن الخامس فى قصة لوط عليه السلام وقلب المدائن 123 ذكر خبر نزول العذاب على قوم لوط وقلب المدائن 125 الباب الثالث من القسم الثانى من الفن الخامس فى خبر إسحاق ويعقوب عليهما السلام 128 ذكر مبعث يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام 129 الباب الرابع من القسم الثانى من الفن الخامس فى قصة يوسف بن يعقوب ابن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام- ذكر خبر ميلاد يوسف عليه السلام 130 ذكر رؤيا يوسف عليه السلام وكيد إخوته له 131 ذكر رجوع إخوة يوسف إلى يعقوب- ذكر كلام الذئب بين يدى يعقوب 133 ذكر خبر خروج يوسف من الجب وبيعه من مالك بن دعر 134 ذكر خبر بيع يوسف من عزيز مصر 135 ذكر خبر يوسف وزليخا 136 ذكر خبر النسوة اللاتى قطعن أيديهن 138 ذكر إلهام يوسف عليه السلام التعبير 140 ذكر خبر الخباز والساقى 140 ذكر رؤيا الملك وتعبيرها وما كان من أمر يوسف وولايته 141 ذكر حاجة زليخا إلى الطعام وزواج يوسف بها 144 ذكر دخول إخوة يوسف عليه السلام فى المرة الأولى 145 ذكر خبر دخولهم عليه فى المرة الثانية 147 الجزء: مقدمةج 13 ¦ الصفحة: 7 ذكر خبر دخولهم عليه فى الدفعة الثالثة 152 ذكر خبر حديث الصاع 152 ذكر دعوة يوسف عليه السلام وارتحاله عن بلد الريان 155 ذكر خبر وفاة يوسف عليه السلام 156 الباب الخامس من القسم الثانى من الفن الخامس فى قصة أيوب عليه السلام وابتلائه وعافيته 157 ذكر كشف البلاء عن أيوب عليه السلام 163 الباب السادس من القسم الثانى من الفن الخامس فى خبر ذى الكفل 164 الباب السابع من القسم الثانى من الفن الخامس فى خبر شعيب النبى عليه السلام 167 ذكر مبعث شعيب عليه السلام 169 ذكر خبر الظلة 172 القسم الثالث من الفن الخامس يشتمل على قصة موسى بن عمران عليه السلام وخبره مع فرعون وخبر يوشع بن نون وإلياس واليسع وغيلا واشمويل وداود وطالوت وجالوت وسليمان بن داود ويونس بن متى وجرجيس وبلوقيا وزكريا وعمران ومريم وعيسى عليهم السلام وأخبار الحواريين وفيه ستة أبواب- الباب الأول من القسم الثالث من الفن الخامس فى قصة موسى بن عمران وهارون عليهما السلام وخبر فرعون وابتداء أمره وغرقه، وأخبار بنى إسرائيل، وخبر قارون، وحروب موسى عليه السلام 173 خبر فرعون وابتداء أمره، وكيف توصل إلى الملك 173 ذكر خبر قتل الملك واستيلاء فرعون على ملكه وما كان من أمره 175 ذكر خبر آسية بنت مزاحم وزواج فرعون بها 177 ذكر شىء من الآيات التى رآها فرعون قبل مولد موسى عليه السلام 178 الجزء: مقدمةج 13 ¦ الصفحة: 8 ذكر خبر قتل الأطفال 178 ذكر خبر ميلاد موسى وما كان من أمره وإلقائه فى التابوت 179 ذكر دخول التابوت فى دار فرعون ورجوع موسى إلى أمه 180 ذكر شىء من عجائب موسى عليه السلام وآياته 182 ذكر خبر القبطى وخروج موسى من مصر 183 ذكر خبر ورود موسى مدين وما كان بينه وبين شعيب وزواجه ابنته 184 ذكر خبر خروج موسى عليه السلام من أرض مدين ومناجاته ومبعثه إلى فرعون 186 ذكر خبر مسير موسى إلى مصر واجتماعه بأخيه هارون وأمه 189 ذكر خبر دخول موسى عليه السلام إلى فرعون وما كان من أمره معه 190 ذكر خبر العصا حين صارت ثعبانا واليد البيضاء 191 ذكر خبر السحرة واجتماعهم وما كان من أمرهم وإيمانهم 192 ذكر خبر حزقيل مؤمن آل فرعون 194 ذكر خبر بناء الصرح وما قيل فيه 196 ذكر خبر الآيات التسع 197 ذكر خبر مسخ قوم فرعون 198 ذكر خبر قتل الماشطة 206 ذكر خبر قتل آسية بنت مزاحم امرأة فرعون 206 ذكر خبر انقطاع النيل وكيف أجراه الله عز وجل لفرعون 207 ذكر خبر غرق فرعون وقومه 207 ذكر خبر ذهاب موسى عليه السلام لميقات ربه وطلبه الرؤية وخبر الصاعقة والإفاقة 210 الجزء: مقدمةج 13 ¦ الصفحة: 9 ذكر خبر الألواح ونزول العشر كلمات 214 ذكر خبر السامرى واتخاذه العجل وافتتان بنى إسرائيل به 223 ذكر خبر رجوع موسى إلى قومه وما كان من أمرهم 226 ذكر خبر امتناع بنى إسرائيل من قبول أحكام التوراة ورفع الجبل عليهم وإيمانهم 229 ذكر خبر الحجر الذى وضع موسى عليه السلام ثيابه عليه 230 ذكر خبر طلب بنى إسرائيل رؤية الله تعالى وهلاكهم بالصاعقة وكيف أحياهم الله عز وجل وبعثهم بعد موتهم 230 ذكر خبر قارون 232 ذكر خبر موسى والخضر عليهما السلام 240 ذكر خبر البقرة وقتل عاميل 244 ذكر بناء بيت المقدس وخبر القربان والتابوت والسكينة وصفة النار 252 ذكر ما أنعم الله تعالى به على بنى إسرائيل بعد خروجهم من مصر 255 ذكر خبر النقباء ومسيرهم إلى أريحا وقصة عوج بن عوق وخبر التيه 260 ذكر مسير موسى- عليه السلام- وبنى إسرائيل لحرب الجبارين ودخولهم القرية 265 ذكر خبر مدينة بلقاء وخبر بلعم بن باعورا وما يتصل بذلك 267 ذكر خبر وفاة هارون عليه السلام 274 ذكر خبر وفاة موسى بن عمران عليه السلام 275 الجزء: مقدمةج 13 ¦ الصفحة: 10 الجزء الثالث عشر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* وبه توفيقى وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله وصحبه وسلّم. الفنّ الخامس فى التاريخ ويشتمل على خمسة أقسام قال الله تعالى: (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ) ؛ وقال تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) ؛ إلى غير ذلك من الآى. والتاريخ ممّا يحتاج إليه الملك والوزير، والقائد والأمير، والكاتب والمشير والغنىّ والفقير؛ والبادى والحاضر، والمقيم والمسافر. فالملك يعتبر بما مضى من الدّول ومن سلف من الأمم، والوزير يقتدى بأفعال من تقدّمه ممّن حاز فضيلتى السيف والقلم؛ وقائد الجيش يطّلع منه على مكايد الحرب، ومواقف الطعن والضرب؛ والمشير يتدبّر الرأى فلا يصدره إلّا عن روية ويتأمّل الأمر فكأنه أعطى درجة المعيّة وحاز فضيلة الألمعيّه «1» ؛ والكاتب يستشهد به فى رسائله وكتبه، ويتوسّع به إذا ضاق عليه المجال فى سربه «2» ، والغنىّ يحمد الله تعالى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 1 على ما أولاه من نعمه ورزقه من نواله، وينفق مما آتاه الله إذا علم أنه لابدّ من زواله وانتقاله؛ والفقير يرغب فى الزهد لعلمه أن الدنيا لا تدوم، ولتيقّنه أن سعتها بضيقها لا تقوم. ومن عدا هؤلاء يسمعه على سبيل المسامره، ووجه المحاضرة والمذاكره؛ والرغبة فى الاطلاع على أخبار الأمم، ومعرفة أيام العرب وحروب العجم. فقد تبيّن بهذه المقدّمة تعويل الأمر عليه، وميل المرء إليه. وسأورد إن شاء الله فى هذا الفنّ جملا من تواريخ الأمم السالفة والعصور الخاليه، وأطرّزه من القصص والسّير بما تصبح به صفحات الطروس حاليه. ولمّا رأيت غالب من أرّخ فى الملة الإسلامية وضع التاريخ على حكم السنين ومساقها، لا الدّول واتّساقها؛ علمت أن ذلك ربما قطع على المطالع لذّة واقعة استحلاها، وقضيّة استجلاها؛ فانقضت أخبار السنة ولا استوعب تكملة فصولها ولا انتهى إلى جملتها وتفصيلها؛ وانتقل المؤرّخ بدخول السنة التى تليها من تلك الوقائع وأخبارها، والممالك وآثارها، والدولة وسيرها، والحالة وخبرها؛ فتنقّل من الشرق إلى الغرب، وعدل عن السّلم إلى الحرب؛ وعطف من الجنوب إلى الشمال وتحوّل من البكر إلى الآصال؛ وقد تجول به خيل الاستطراد فيبعد، وتحول بينه وبين مقصده السّنون فيغور «1» تارة وتارة ينجد، فلا يرجع المطالع إلى ما كان قد أهمّه إلّا بعد مشقّة، وقد يعدل عنه إذا طالت المسافة وبعدت عليه الشّقّة. فاخترت أن أقيم التاريخ دولا، ولا أبغى عن دولة إذا شرعت فيها حولا؛ حتى أسردها من أوائلها إلى أواخرها، وأذكر جملا من وقائعها ومآثرها؛ وسياقة أخبار ملوكها، ونظم عقود سلوكها؛ ومقرّ ممالكها، وتشعّب مسالكها. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 2 فإذا انقضت مدّتها، وانقرضت عدّتها؛ وانتقلت من العين إلى الأثر، ومن العيان إلى الخبر؛ رجعت إلى غيرها فقفوت أثرها، وشرحت خبرها، وبيّنت خبرها؛ وذكرت أسبابها، وسردت أنسابها؛ وبدأت بأصلها، وتفوّهت بأخبار من نبغ من أهلها؛ واستقصيتها دولة بعد دوله، وجالت بى خيول المطالعة جولة ناهيك بها من جوله؛ ورغبت مع ذلك فى الاختصار دون الاقتصار «1» ، وأوردت ما يحتاج إلى إيراده من غير تكرار ولا إكثار. فإن عرضت واقعة كانت بين ملكين كان وقتهما واحدا، وكان الدهر لأحدهما على الآخر مساعدا؛ شرحتها بجملتها فى أخبار الظاهر منهما؛ وأحلت فى أخبار المغلوب عليها، واكتفيت بإيرادها فى أحد الموضعين ولم أعرّج فى الآخر إلا بالإشارة إليها. وجريت فى تقسيم هذا الفنّ على القاعدة التى تقدّمت فيما قبله من الفنون ليكون أبسط للنفوس وأنشط للخواطر وأقرّ للعيون؛ وجعلته خمسة أقسام، ووضعته على أحسن اتّساق وأكمل انتظام. القسم الأوّل فى مبدأ خلق آدم- عليه السلام- وحوّاء وأخبارهما ومن كان بعد آدم إلى نهاية خبر أصحاب الرّس، وفيه ثمانية أبواب: الباب الأوّل- فى مبدأ خلق آدم وحوّاء- عليهما السلام- وما كان من أخبارهما إلى حين وفاتهما. الباب الثانى- فى خبر شيث بن آدم- عليهما السلام- وأولاده. الباب الثالث- فى أخبار إدريس النبىّ عليه السلام. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 3 الباب الرابع- فى قصّة نوح- عليه السلام- وخبر الطّوفان. الباب الخامس- فى قصة هود- عليه السلام- مع عاد وهلاكهم بالريح العقيم. الباب السادس- فى قصّة صالح- عليه السلام- مع ثمود وعقرهم الناقة وهلاكهم. الباب السابع- فى أخبار أصحاب البئر المعطّلة والقصر المشيد وهلاكهم. الباب الثامن- فى خبر أصحاب الرّس، وما كان من أمرهم. القسم الثانى فى قصة إبراهيم الخليل- عليه الصلاة والسلام- وخبره مع النمروذ [لعنه الله] وقصّة لوط وخبر إسحاق ويعقوب، وقصّة يوسف وأيّوب وذى الكفل وشعيب- عليهم السلام- وفيه سبعة أبواب: الباب الأوّل- فى قصة إبراهيم الخليل- عليه السلام- وأخبار نمروذ بن كنعان. الباب الثانى- فى خبر لوط مع قومه وقلب المدائن. الباب الثالث- فى خبر إسحاق ويعقوب- عليهما السلام. الباب الرابع- فى قصّة يوسف بن يعقوب- عليهما السلام. الباب الخامس- فى قصّة أيوب- عليه السلام- وابتلائه وعافيته. الباب السادس- فى خبر ذى الكفل بن أيوب- عليهما السلام. الباب السابع- فى خبر شعيب- عليه السلام- وقصّته مع مدين. «1» الجزء: 13 ¦ الصفحة: 4 القسم الثالث يشتمل على قصّة موسى بن عمران- عليه السلام- وخبره مع فرعون وخبر يوشع ومن بعده وخبر حزقيل وإلياس واليسع وغيلا وأشمويل وطالوت وجالوت وداود وسليمان وسعيا وإرمياء وخبر بختنصر وخراب بيت المقدس وعمارته وما يتصل بذلك من خبر عزير وقصّة يونس بن متّى وخبر بلوقيا وخبر زكريا ويحيى وعمران ومريم وعيسى- عليهم السلام- وخبر الحوارييّن وما كان من أمرهم وخبر جرجيس، وفيه ستة أبواب: وذيّلت على هذا القسم ذيلا يشتمل على أبواب أربعة، ذكرت فيها ما قيل فى الحوادث التى تظهر قبل نزول عيسى- عليه السلام- إلى الأرض، وأخبار المهدىّ والدجّال، ونزول عيسى- عليه السلام- ومدّة إقامته فى الأرض ووفاته وما يكون بعده، وشيئا من أخبار الحشر والمعاد. وإنما ذكرت هذا الذيل فى هذا الموضع- وإن كان غير داخل فى فنّ التاريخ- لأن النفوس لما كانت مائلة إلى الاطّلاع على أخبار ما مضى من الزمان ومن سلف من الأمم، فميلها إلى الاطّلاع على ما يظهر فى مستقبل الزمان أكثر وتشوّقها إليه أوفر؛ فأوردت ما أذكره لهذا السبب، ولأنّ كتابنا هذا ليس مبناه على مجرّد التاريخ بل هو كتاب أدب، لا تخرجه هذه الزيادة عن شرطه. الباب الأوّل- فى قصّة موسى بن عمران وهرون عليهما السلام وغرق فرعون، وأخبار بنى إسرائيل وخبر قارون وحروب موسى وخبر الجبّارين وبلعم وغير ذلك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 5 الباب الثانى- فيما كان بعد موسى بن عمران- عليه السلام- وهو أخبار يوشع وخبر حزقيل وإلياس واليسع وغيلا وأشمويل وطالوت وجالوت وداود وسليمان- عليهم السلام- ومن بعدهم. الباب الثالث- فى أخبار سعيا وإرمياء وخبر بختنصّر وخراب بيت المقدس وعمارته، وما يتّصل بذلك من خبر عزير. الباب الرابع- فى قصّة ذى النّون يونس بن متّى- عليه السلام- وخبر بلوقيا. الباب الخامس- فى خبر زكريّا ويحيى وعمران ومريم ابنته وعيسى ابن مريم عليهم السلام. الباب السادس- فى أخبار الحوارييّن الذين أرسلهم عيسى وما كان من أمرهم وخبر جرجيس. التذييل على هذا القسم، وفيه أربعة أبواب الباب الأوّل- فى ذكر الحوادث التى تظهر قبل نزول عيسى بن مريم عليه السلام. الباب الثانى- فى خبر نزول عيسى إلى الأرض وقتل الدجّال وخروج يأجوج ومأجوج وإفسادهم وهلاكهم، ووفاة عيسى عليه السلام. الباب الثالث- فى ذكر ما يكون بعد وفاة عيسى بن مريم الى النفخة الأولى. الباب الرابع- فى أخبار يوم القيامة والحشر والمعاد والنفخة الثانية فى الصّور. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 6 القسم الرابع فى أخبار ملوك الأصقاع، وملوك الأمم والطوائف، وخبر سيل العرم؛ ووقائع العرب فى الجاهليّة، وفيه خمسة أبواب الباب الأوّل- فى أخبار ذى القرنين المذكور فى كتاب الله عزّ وجلّ. الباب الثانى- فى أخبار ملوك الأصقاع، وهم ملوك مصر والهند والصين والترك وجبل الفتح. الباب الثالث- فى أخبار ملوك الأمم من الأعاجم، وهم ملوك الفرس الأول، وملوك الطوائف من الفرس، والملوك الساسانيّة منهم، وملوك اليونان والسريان والكلدانيّين والروم والصقالبة والنّوبرد «1» والفرنجة والجلالقة وطوائف السودان. الباب الرابع- فى أخبار ملوك العرب، وما يتّصل بها من خبر سيل العرم. الباب الخامس- فى أيّام العرب ووقائعها فى الجاهليّة. القسم الخامس فى أخبار الملّة الإسلاميّة وذكر شىء من سيرة نبينا محمد- صلّى الله عليه وسلّم- وأيام الخلفاء من بعده- رضى الله عنهم- والدولة الأمويّة والعباسيّة والعلويّة ودول ملوك الإسلام وأخبارهم، وما فتح الله عليهم، وفيه اثنا عشر بابا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 7 الباب الاوّل- فى سيرة سيّدنا رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم-. الباب الثانى- فى أخبار الخلفاء من بعده: أبى بكر وعمر وعثمان وعلىّ، وابنه الحسن- رضى الله عنهم-. الباب الثالث- فى أخبار الدولة الأمويّة بالشأم وغيره. الباب الرابع- فى أخبار الدولة العباسيّة بالعراق ومصر. الباب الخامس- فى أخبار الدولة الأمويّة بالأندلس، وأخبار الأندلس بعد انقراض دولتهم. الباب السادس- فى أخبار افريقية وبلاد المغرب ومن وليها من العمّال، ومن استقلّ بالملك. الباب السابع- فى أخبار من نهض فى طلب الخلافة من الطالبيّين فى الدولتين: الأمويّة والعباسيّة فقتل دونها بعد مقتل الحسين بن علىّ- رضى الله عنهما-. الباب الثامن- فى أخبار صاحب الزّنج والقرامطة والخوارج ببلاد الموصل. الباب التاسع- فى أخبار من استقلّ بالملك والممالك فى البلاد الشرقيّة والشّماليّة فى خلال الدولة العبّاسيّة، وهم ملوك خراسان وما وراء النهر والجبال وطبرستان وغزنة والغور وبلاد السّند والهند، كالدولة السامانيّة، والدولة الصّفّارية، والدّولة الغزنويّة، والدولة الغوريّة، والدولة الدّيلميّة الختلّيّة. الباب العاشر- فى أخبار ملوك العراق وما والاه، وملوك الموصل والديار الجزيريّة والديار البكريّة والبلاد الشاميّة والحلبيّة، كالدولة الحمدانيّة، والدولة الدّيلميّة البويهيّة، والدّولة السّلجقيّة، والدولة الأتابكيّة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 8 الباب الحادى عشر- فى أخبار الدولة الخوارزميّة والدولة الجنكزخانيّة وهى دولة التتار (جنكزخان وأولاده) وما تفرّع منها. الباب الثانى عشر- فى أخبار ملوك الديار المصريّة الّذين ملكوا فى خلال الدولة العباسيّة نيابة عن خلفائها، وهم الملوك الطّولونيّة والملوك الإخشيديّة، ومن استقلّ بملكها وانتزعها وأخراجها من يد نوّاب خلفاء الدولة العباسيّة، وهم الملوك العبيديّون الّذين انتسبوا إلى العلويّين، وما كان من أمرهم من ابتدائه إلى انتهائه وما ملكوه من بلاد المغرب، وكيف استولوا على الديار المصريّة والبلاد الشاميّة والثغور الساحليّة، وانقراض دولتهم، وقيام الدولة الأيّوبيّة وأخبار ملوكها بمصر والشأم إلى حين انقراضها، وقيام دولة الترك ومن ملك منهم وما حازوه من الأقاليم وما فتحوه من الممالك واستنقذوه من أيدى الأفرنج والأرمن والتّتار وغيرهم وما استقرّ فى ملك هذه الدولة من الممالك إلى حين وضعنا لهذا التأليف فى سنة «1» وسبعمائه فى أيام مولانا السلطان السيّد الأجل المالك (الملك الناصر) ، ناصر الدنيا والدين، محمد ابن السلطان الشهيد المالك، الملك المنصور سيف الدنيا والدين (قلاوون) الصالحىّ، خلّد الله تعالى ملكه على ممّر الزمان، وسقى عهد والده صوب الرحمة والرضوان. هذا جملة ما اشتمل عليه هذا الفنّ من الأقسام والأبواب، والله تعالى المرشد والهادى والموفّق إلى الصواب، بمنّه وكرمه، إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 9 القسم الأوّل من الفنّ الخامس فى مبدأ خلق آدم وحوّاء- عليهما السلام- ودخولهما الجنة، و .... ما كان بينهما وبين إبليس- لعنة الله- وهبوطهما إلى الأرض واجتماعهما بعد الفرقة، وخبر حرثه وزرعه، وحمل حوّاء ووضعها، وخبر ابنى آدم هابيل وقابيل، ونبوّة آدم- عليه السلام- ووفاته، وخبر شيث وأولاده، وقصّة إدريس ونوح وهود وصالح- عليهم السلام- وخبر أصحاب البئر المعطّلة والقصر المشيد، وخبر أصحاب الرّس وفيه ثمانية أبواب الباب الأوّل- من هذا القسم فى مبدأ خلق آدم وحوّاء- عليهما السلام- وما كان من أخبارهما إلى حين وفاتهما. ذكر خلق آدم عليه السلام خلق الله تبارك وتعالى آدم- عليه السلام- من تراب، بدليل قوله عزّ وجلّ: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) وقوله تعالى (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) وقوله تعالى إخبارا عن إبليس: (قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) * وهذا أمر بيّن واضح لا خلاف فيه، ولا يحتاج إلى زيادة فى إقامة دليل وإيضاح. وقيل: إنما سمّى آدم لأن الله تعالى خلقه من أديم الأرض. وعن وهب بن منبّه أن راسه من الأرض الأولى، وعنقه من الثانية، وصدره من الثالثة، ويديه من الرابعة، وبطنه وظهره من الخامسة، وفخذه ومذاكيره وعجزه من السادسة، وساقيه وقدميه من السابعة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 10 وعن عبد الله بن عبّاس- رضى الله عنهما- أنّ الله تعالى خلقه من الأقاليم السبعة. وقيل: إن عزرائيل أخذ من تراب الأرض كلّها أبيضها وأحمرها وأسودها وعذبها ومالحها، فهو مخلوق من ذلك التراب. قال: ولمّا خلقه الله- عزّ وجلّ- وصوّره على هذه الصّورة الآدميّة، أمر الملائكة أن يحملوه ويضعوه على باب الجنّة عند ممرّ الملائكة، وكان جسدا لا روح فيه، فكانت الملائكة يعجبون من خلقته وصورته، لأنّهم لم يكونوا راؤا مثله قط وكان إبليس يطيل النظر إليه ويقول: ما خلق الله تعالى هذا إلّا لأمر. وربما دخل فيه، فاذا خرج قال: إنه خلق ضعيف، خلق من طين أجوف، والأجوف لا بدّله من مطعم ومشرب. ويقال: إنه قال للملائكة: ما تعملون إذا فضّل هذا المخلوق عليكم؟ فقالوا: نطيع أمر ربّنا ولا نعصيه. فقال إبليس: إن فضّله علىّ لأعصينّه، وإن فضّلنى عليه لأهلكنّه. ذكر دخول الرّوح فيه قال: ولما أراد الله تعالى نفخ الرّوح فيه أمر بروحه فغمست فى جميع الأنوار وليست كأرواح الملائكة ولا غيرها من المخلوقات. قال الله تعالى (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) * الاية. وقال تعالى: (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) الآية. قال: فأمرها الله تعالى أن تدخل فى جسد آدم بالتأنّى دون الاستعجال فرأت مدخلا ضيّقا حرجا؛ فقالت: يا ربّ، كيف أدخل؟ فنوديت «ادخلى كرها واخرجى كرها» . فدخلت من يافوخه إلى عينيه، ففتحها آدم ونظر إلى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 11 نفسه طينا، ثم صارت إلى أذنيه، فسمع تسبيح الملائكة، وجعلت الروح تمّر فى رأسه والملائكة ينظرون إليه، ثم صارت إلى الخياشيم، فعطس، فانفتحت المجارى المسدودة؛ وصارت إلى اللّسان؛ فقال آدم: «الحمد لله الذى لم يزل ولا يزول» وهى أوّل كلمة قالها. فناداه الرب: «يرحمك ربّك يا آدم، لهذا خلقتك، وهذا لك ولذرّيتك» . وسارت الروح فى جسده حتى بلغت الساقين، فصار آدم لحما ودما وعظما وعروقا، غير أنّ رجليه من طين؛ فذهب ليقوم فلم يقدر وهو قوله تعالى: (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا) . فلمّا صارت إلى الساقين والقدمين استوى قائما على قدميه يوم الجمعة. فقيل: إنّ الروح استوت فى جسده فى خمسمائة عام عند نزول الشمس. ذكر سجود الملائكة لآدم قال: فلمّا استوى قائما أمر الله الملائكة بالسجود له؛ فسجدوا كلّهم إلّا إبليس، كما أخبر الله تعالى عنه؛ قال الله تعالى: (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) الآيات. قال: وكان السجود لآدم يوم الجمعة عند الزوال، فبقيت الملائكة فى سجودها إلى العصر. قال وعلّم الله تعالى آدم الأسماء كلّها واللغات بأجمعها. قال ابن عبّاس- رضى الله عنهما-: علّمه حتى لغة الحيتان والضفادع وجميع ما فى البرّ والبحر، ثم أمر الملائكة أن يحملوه على أكتافهم، ويطوفون به فى طرائق السموات؛ ففعلوا ذلك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 12 ثم أمر جبرئيل أن ينادى فى صفوف الملائكة أن يجتمعوا؛ فاجتمعوا واصطفّوا عشرين ألف صفّ، ووضع لآدم منبر الكرامة، وعليه ثياب السندس الأخضر وله ضفيرتان محشوّتان بالمسك والعنبر بطوله، وعلى رأسه تاج من ذهب مرصّع بالدرّ والجوهر؛ فانتصب على المنبر، وسلّم على الملائكة، فأجابته بردّ السلام وخطب فحمد الله، ثم ذكر علم السموات والأرضين وما فيهما، وذلك قوله تعالى: (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) . ونزل آدم عن منبره، فجىء بقطف من عنب أبيض فأكله، وهو أوّل شىء أكله من طعام الجنّة، ثم أخذته سنة فنام. ذكر خلق حوّاء عليها السلام قال: ولمّا نام آدم خلق الله تعالى حوّاء من جنبه الأيسر، من ضلعه مما يلى الشّرسوف، وهو ضلع أعوج، قال الله تعالى: (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) فكانت على طول آدم وحسنه وجماله، إلّا أنها أرقّ جلدا منه، وأحسن صوتا، ولها ضفائر مرصّعة محشوّة بالمسك تسمع لذوائبها خشخشة، فجلست عند رأسه، فانتبه فرآها، فتمكّن حبّها من قلبه؛ فقال: يا ربّ، من هذه؟ قال: أمتى حوّاء. فقال: يا ربّ لمن خلقتها؟ قال: لمن أخذها بالأمانة، وأصدقها الشكر. قال: يا ربّ، أنا أقبلها على هذا فزوّجنيها. فزوّجها إياه قبل دخول الجنة على الطاعة والتقوى والعمل الصالح، ونثرت عليهما الجزء: 13 ¦ الصفحة: 13 الملائكة من نثار الجنّة، وأوحى الله إلى آدم، أن اذكر نعمتى عليك، فإنّى خلقتك ببديع فطرتى، وسويتك بشرا على مشيئتى، ونفخت فيك من روحى، وأسجدت لك ملائكتى، وحملتك على أكتافهم، وجعلتك خطيبهم، وأطلقت على لسانك جميع اللّغات، وجعلت ذلك كلّه فخرا وشرفا لك، وهذا إبليس قد أبلسته «1» ولعنته حين أبى أن يسجد لك، وقد ختمت كرامتى لك بأمتى حوّاء، وقد بنيت لكما دار الحيوان «2» من قبل أن أخلقكما بألفى عام، على أن تدخلاها بعهدى وأمانتى. ذكر عرض الأمانة على آدم عليه السلام قال الله تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا) . قال: وهى أن يكافأوا على الإحسان، ويعذّبوا على الإساءة؛ فأبوا؛ فعرضت على آدم، فقيل له: إن أطعت كافأتك بالإحسان، وخلّدتك فى الجنان؛ وإن تركت عهدى أخرجتك من دارى، وعذّبتك بنارى، فقبل آدم الأمانة، فعجب الملائكة من ذلك؛ ثم مثّل له ولحوّاء إبليس، وقيل له: (هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) . ثم ناداهما الرب: إنّ من عهدى إليكما وأمانتى أن تدخلا الجنة (وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) . فقبلا هذه العهود كلّها. ثم أمر الله تعالى بإدخالهما الجنّة، فحمل آدم على الفرس الميمون، وحوّاء وراءه على الناقة، والملائكة عن اليمين والشمال وأمامهما وخلفهما حتى بلغوا باب الجنّة ودخلا واستقرّ بجنّة عدن فى وسط الجنّة بعد أن طافا بالجنان، فقدّم إليهما من الجزء: 13 ¦ الصفحة: 14 فواكه الجنّة فأكلا، فكانا فى الجنّة خمسمائة عام من أعوام الدنيا فى أتمّ السرور وأنعم الأحوال. ذكر خبر إبليس والطاوس والحيّة قال: ولمّا سمع إبليس أن الله تعالى أباح لآدم أن يأكل من ثمار الجنّة إلّا شجرة واحدة، فرح بذلك، وقال: لأخرجنّهما من الجنة. ثم مرّ مستخفيا فى طرقات السموات حتى وقف على باب الجنّة، فإذا الطاوس قد خرج من الجنة وله جناحان إذا نشرهما غطّى بهما سدرة المنتهى، وله ذنب من الزمرّد الأخضر على كلّ ريشة منه جوهرة بيضاء، وعيناه من الياقوت الأحمر؛ وهو أطيب طيور الجنّة صوتا وتغريدا؛ وكان يخرج ويمرّ فى السموات يخطر فى مشيته ويرجع إلى الجنّة. فلما رآه إبليس كلّمه بكلام ليّن، وقال: أيّها الطائر العجيب الخلق الطيّب الصوت، من تكون من طيور الجنة؟ فقال: أنا الطاوس، فمالك أيها الشّخص كأنّك مرعوب تخاف من طالب يطلبك؟ قال إبليس: أنا من ملائكة الصّفيح «1» الأعلى من زمرة الكروبييّن «2» ، وقد أحببت أن أنظر إلى الجنّة وإلى ما أعدّ الله فيها لأهلها فهل لك أن تدخلنى الجنّة وأنا أعلّمك ثلاث كلمات من قالها لا يهرم ولا يسقم ولا يموت؟ فقال له: وأهل الجنّة يموتون؟ قال: نعم ويسقمون ويهرمون إلّا من كانت عنده هذه الكلمات، وحلف له على ذلك، فوثق به الطاوس ولم يظنّ أحدا يحلف بالله كاذبا؛ فقال: ما أحوجنى إلى هذه الكلمات، غير أنّى أخاف أن يستخبرنى (رضوان) عنك، ولكنى أبعث إليك الحيّة فإنّها سيّدة دوابّ الجنة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 15 قال: وجاء الطاوس إلى الحية وهى يومئذ على صورة الجمل، ولها زغب كالعبقرىّ «1» ما بين أبيض وأحمر وأسود وأخضر، ولها عرف من اللؤلؤ، وذوائب من الياقوت ورائحة كرائحة المسك والعنبر، وكان مسكنها فى جنّة المأوى، وكانت تساير آدم وحوّاء فى الجنة، وتخبرهما بالأشجار. فلما أخبرها الطاوس بالخبر أسرعت الحية نحو باب الجنة، فتقدم إبليس إليها وقال لها كقوله للطاوس، وحلف لها؛ فقالت: حسبك، ولكن كيف أدخلك؟ فقال: إنى أرى ما بين نابيك فرجة، وهى تسعنى. ففتحت الحيّة فاها، فوثب وقعد بين نابيها، فصار نابها إلى آخر الدهر سمّا، وضمّت الحيّة شفتيها، ودخلت الجنّة ولم يكلّمها رضوان للقضاء السابق؛ فلمّا توسّطت الجنّة قالت: أخرج وعجّل. قال: إن حاجتى من الجنّة آدم وحوّاء، فإنى أريد أن أكلّمهما من فيك، فإن لم تفعلى ذلك فما أعلّمك الكلمات، فجاءت إلى حوّاء فقال إبليس من فيها: يا حوّاء، ألست تعلمين أنّى معك فى الجنة، وأحدّثك بكلّ ما فيها، وأنا صادقة فى كلّ ما حدّثتك به؟ قالت حوّاء: نعم؛ قال إبليس: يا حوّاء، أخبرينى ما الّذى أحلّ لكما ربّكما من هذه الجنة وحرّم عليكما؟ فأخبرته بما نهاهما عنه؛ فقال إبليس: لماذا نهاكما عن شجرة الخلد؟ فقالت حوّاء: لا أعلم بذلك؛ قال: أنا أعلم، إنما نهاكما لأنه أراد ألّا يفعل بكما ما فعل بالعبد الذى مأواه تحت شجرة الخلد. هذا وحوّاء تظنّ أن الخطاب لها من الحيّة؛ فوثبت حوّاء عن سريرها لتنظر إلى العبد، فخرج إبليس من فيها كالبرق، فقعد تحت الشجرة، فأقبلت الجزء: 13 ¦ الصفحة: 16 حوّاء فوقفت بالبعد منه ونادته: من أنت أيها الشخص؟ قال: خلق من خلق الله، خلقنى من ناركما تريننى، وأنا فى هذه الجنة منذ ألفى عام، خلقنى كما خلقكما بيده، ونفخ فىّ من روحه، وأسجد لى ملائكته، وأسكننى جنّته، ونهانى عن أكل هذه الشجرة، فكنت لا آكل منها، حتى نصحنى بعض الملائكة وقال لى: كل منها، فإنّ من أكل منها كان مخلّدا فى الجنّة أبدا. فأكلت منها، فأنا فى الجنة إلى وقتى هذا، قد أمنت الهرم والسقم والموت والخروج من الجنّة. ثم قال: والله (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) ثم نادى: يا حوّاء اسبقى وكلى قبل زوجك، فمن سبق كان له الفضل على صاحبه. فأقبلت حوّاء إلى آدم وهى مستبشرة فرحة، فأخبرته بخبر الحيّة والشخص، وأنه قد حلف لها بأنّه لها لمن الناصحين، فذلك قوله تعالى: (وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) ؛ وتقدّمت حوّاء إلى الشجرة ولها أغصان لا تحصى، وعلى الأغصان سنابل، كل حبة منها مثل قلال هجر «1» ، ولها رائحة كالمسك، أبيض من اللبن وأحلى من العسل؛ فأخذت منها سبع سنابل من سبعة أغصان، فأكلت واحدة وادّخرت واحدة، وجاءت بخمس إلى آدم. قال ابن عبّاس- رضى الله عنهما-: لم يكن لآدم فى ذلك أمر ولا إرادة بل كان فى سابق العلم، لقوله تعالى: (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) . فتناول آدم السنابل من يدها، وقد نسى العهد الذى أخذ عليه من أجلها، فذلك قوله تعالى: (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) فذاق من الشجرة كما ذاقت حواء؛ قال الله تعالى: (فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 17 قال ابن عبّاس- رضى الله عنهما-: والذى نفسى بيده ما ساغ آدم من تلك السنابل سنبلة واحدة حتى طار التاج عن رأسه، وعرى من لباسه، وانتزعت عنه خواتمه، وسقط كلّ ما كان على حوّاء من لباسها وحلّيها وزينتها، وناداهما كلّ ما طار عنهما: «يا آدم طال حزنك، وعظمت رزيّتك، وعليك السّلام إلى يوم اللّقاء» . ولم يبق عليهما من لباسهما شىء، (وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ) ؛ ونظر كلّ منهما إلى سوءة صاحبه؛ وهرب إبليس فسار مستخفيا فى طرائق السموات، وصاح آدم صيحة عظيمة، ولم يبق فى الجنة شىء إلّا لامه، وانقبضت عنه الأشجار؛ فلمّا كثرت عليه الملامات مرّ هاربا على وجهه، فالتفّت عليه شجرة الطّلح وأمسكته ونادته: إلى أين تهرب يا عاصى؛ واضطربت الملائكة لذلك؛ والله الموفّق للصواب. ذكر خروج آدم وحوّاء من الجنة قال: وأمر الله جبرئيل فجاء إلى آدم وقبض على ناصيته، وخلّصه من الشجرة؛ فلما صار به إلى باب الجنة وأخرج رجله اليمنى وبقيت اليسرى، نودى: يا جبريل قف به على باب الجنّة حتى يخرج معه أعداؤه الذين حملوه على أكل الشجرة لكى يراهم ويرى ما يفعل بهم. فوقفه هنالك، فناداه الربّ: يا آدم إنّما خلقتك لتكون عبدا شكورا، لا لتكون عبدا كفورا. قال: يا ربّ أسألك أن تعيدنى إلى تربتى التى خلقتنى منها لأكون ترابا كما كنت أوّل مرّة. قال: يا آدم، كيف أعيدك إلى تربتك وقد سبق علمى أن أملأ من ظهرك الجنّة والنار. وأخرج آدم حوّاء وقد استترت بورقة من ورق الجنة بإذن الله؛ فلمّا رأت آدم صاحت وقالت: يا لها من حسرة؟ فوقفت خارج الجنّة، ثم أتى بالطاوس وقد الجزء: 13 ¦ الصفحة: 18 طعنته الملائكة حتى قطعت ريشه، وجبريل يجرّه ويقول: اخرج من الجنة خروج الأبد، فإنّك شؤم أبدا ما بقيت؛ ثم أتى بالحية وقد جذبتها الملائكة جذبا شديدا، وهى ممسوخة «مبطوحة» على بطنها لا قوائم لها، وصارت ممدودة مشوّهة، ومنعت النطق فصارت خرساء، مشقوقة اللسان، فقالت لها الملائكة: لا رحمك الله ولا رحم من يرحمك. ثم حجبت حوّاء عن آدم من هناك؛ ومرّ به جبريل فى طرائق السموات، ونظرت إليه الملائكة عريانا ففزعت منه، وقالت: إلهنا، هذا آدم بديع فطرتك أقله عثرته. وآدم قد ترك يده اليمنى على رأسه، واليسرى على سوأته، ودموعه تجرى على خدّيه، وكلّما مرّ على ملإ من الملائكة يوبّخونه على نقض عهد ربّه وميثاقه، وأكثروا عليه فى الملامة والتوبيخ؛ فقال لهم: يا ملائكة ربّى، ارحمونى ولا توبّخونى، فالّذى جرى علىّ بقضاء ربّى، حيث قال: (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) الآية. ذكر سؤال إبليس- لعنه الله تعالى- قال: وقال إبليس: يا ربّ أضللتنى وأغويتنى وأبلستنى، وكان ذلك فى سابق علمك (فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ* قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ* إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) * وهى النفخة الأولى، (قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) . قال الله تعالى (اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) . قال إبليس: أنظرتنى فأين يكون مسكنى؟ قال: إذا هبطت إلى الأرض فمسكنك المزابل. قال: فما قراءتى؟ قال: الشعر والغناء. قال: فما مؤذّنى؟ قال: المزمار. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 19 قال: فما طعامى؟ قال: ما لم يذكر اسمى عليه. قال: فما شرابى؟ قال: الخمور. قال: فما بيتى؟ قال: الحمّامات؛ قال: فما مجلسى؟ قال: الأسواق. قال: فما شعارى؟ قال: لعنتى. قال: فما دثارى؟ قال: سخطى. قال: فما مصايدى؟ قال: النساء. قال: فوعزّتك لا أخرجت محبّة النساء من قلوب بنى آدم أبدا. قيل له: يا ملعون، فإن ربّك لا ينزع التوبة من ولد آدم حتى يتغرغر بالموت، (فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ) . ذكر سؤال آدم- عليه السلام- قال: فعند ذلك قال آدم: يا ربّ هذا إبليس قد أعطيته النّظرة، وقد أقسم بعزّتك أنّه يغوى أولادى، فبماذا أحترز من مكايده؟ فنودى، يا آدم، إنّى قد مننت عليك بثلاث خصال، واحدة لى، وهى أن تعبدنى لا تشرك بى شيئا؛ وواحدة لك، وهى ما عملت من صغيرة أو كبيرة من الحسنات فلك بالحسنة عشر وإن عملت سيئة فواحدة بواحدة، وإن استغفرتنى غفرتها لك وأنا الغفور الرحيم؛ وواحدة بينى وبينك، وهى أنّ منك المسألة ومنّى الإجابة، فابسط يدك وادعنى فإنّى قريب مجيب. فصاح إبليس حسدا لآدم وقال: كيف أكيد ولد آدم الآن؟ فنودى: يا ملعون (واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم فى الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشّيطان إلّا غرورا) . قال إبليس: زدنى يا ربّ؛ قال لا يولد لآدم ولد إلّا يولد لك سبعة: قال: ربّ زدنى؛ قال: زدتك أن تجرى منهم مجرى الدم فى عروقهم، وتسكن فى صدورهم. فقال: يا ربّ حسبى؛ ثم قال علام أهبط إلى الأرض؟ قال: على الإياس من رحمتى. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 20 قال: ثم نظر آدم إلى الحيّة وقال: ربّ هذه اللعينة هى التى أعانت عدوّى علىّ، فبماذا أتقوّى عليها؟ فقيل له: قد جعلت مسكنها الظلمات، وطعامها التراب فإذا رأيتها فاشدخ رأسها. وقيل للطاوس: مسكنك أطراف الأنهار، ورزقك ممّا تنبته الأرض من حبّها، وألقى عليك المحبّة حتى لا تقتل. ذكر سؤال حوّاء- عليها السلام- قال: ثم قالت حوّاء: إلهى خلقتنى من ضلع أعوج، وجعلتنى ناقصة العقل والدين والشهادة والميراث، وضربتنى بالنجاسة، وحرمتنى الجمعة والجماعات؛- وذكرت مشقّة الحمل والولادة- فأسألك أن تعطينى مثل ما أعطيتهم. فقيل لها: قد وهبت لك الحياء والأنس والرحمة، وكتبت لك من ثواب الحبل والولادة ما لو رأيته لقرّت به عيناك، فأىّ امرأة ماتت فى ولادتها حشرتها فى زمرة الشهداء. قالت: حسبى يا ربّ. قال: ثم أمر الله بعد ذلك أن يهبطوا إلى الأرض؛ قال الله تعالى: (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) . فهبط آدم من باب التوبة، وحوّاء من باب الرحمة، وإبليس من باب اللّعنة، والطاوس من باب الغضب، والحيّة من باب السّخط، وكان ذلك وقت العصر. قال السّدّى: فمن هذه الأبواب تنزل التوبة والرحمة واللّعنة والغضب والسّخط. قال وهب: خلق الله آدم يوم الجمعة، وفيه دخل الجنّة وأقام فيها نصف يوم مقدار خمسائة عام، وأهبط بين الظهر والعصر من باب يقال له (المبرم) «1» وهو حذاء البيت المعمور. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 21 قال كعب: أهبط آدم إلى بلاد الهند على جبل من جبالها يقال له (بوذ) وهو جبل محيط بأرض الهند؛ وأهبطت حوّاء بجدّة، وإبليس بدستميسان «1» ، والحيّة أصفهان، والطاوس بالبحر؛ ففرّق الله بينهم فلم ير بعضهم بعضا حينا، ولم يكن على آدم يوم أهبط إلّا ورقة من أوراق الجنة، فذرتها الرياح فى بلاد الهند فصارت معدنا للطيّب. وأخذ آدم فى البكاء مائة عام حتى نبت من دموعه العود والزنجبيل والصندل والكافور وأنواع الطيّب، وامتلات الأودية بأطيب الأشجار؛ وبكت حوّاء فنبت من دموعها القرنفل والأفاوية؛ وكانت الريح تحمل كلامه إليها وكلامها إليه. ثم أنبت الله- عزّ وجلّ- لآدم الشّعر واللّحية، وكان قبل ذلك أمرد وجسده كالفضّة، فتألّم لذلك ألما شديدا. قال وهب: أوّل من علم بهبوط آدم من حيوان الأرض النّسر، وكان قد ألف الحوت، فجاء إليه وقال له: إنى رأيت اليوم خلقا عظيما ينقبض وينبسط، ويقوم ويقعد، ويجىء ويذهب. فقال الحوت: إن كان ما تقوله حقّا فقد حان ألّا يكون لى معه مقرّ فى البحر ولا لك فى البرّ، وهذا الوداع بينى وبينك. فجاء النّسر إلى آدم وألفه، وجاءه الوحش والطير وألفوه وبكوا لبكائه دهرا طويلا، فلمّا أضجرهم ذلك نفروا عنه ولم يبق عنه إلّا النّسر وحده وهو لا يفتر عن البكاء. قال وهب: بكى آدم حتى بكت الملائكة لبكائه وقالوا: «إلهنا أقله عثرته» . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 22 قال: وبقى من دموعه فى الأرض- بعد أن كفّ عن البكاء- ما شربه الوحش والطير والهوامّ مائة عام؛ وكان لدموعه رائحة كالمسك، ولذلك كثر الطيّب فى الهند. وقال كعب: بكى آدم ثلاثمائة عام لا يرفع رأسه إلى السماء وهو يقول: «إلهى بأىّ وجه أنظر إلى السماء» . فألهم الله سائر الحيوانات أن تأتى لآدم وتعزّيه فى مصيبته، فعزّاه جميعها ونهته عن البكاء، وأمرته بالتسبيح والتقديس. ذكر توبة آدم عليه السلام قال: فعند ذلك أمر الله تعالى جبريل أن يهبط على آدم، وقال له: «إن آدم بديع فطرتى قد أبكى أهل سمواتى وأرضى، ولا يذكر غيرى، ولم يخف سواى، وهو أوّل من حمدنى، وأوّل من دعانى بأسمائى الحسنى، وأنا الرحمن الّذى سبقت رحمتى غضبى، وهذه الكلمات قد خصصت بها آدم لتكون له توبة، وتخرجه من الظلمات إلى النور» . فهبط عليه جبريل بالكلمات ولها نور عظيم، فقال: «السلام عليك يا طويل البكاء والحزن» ؛ فلم يسمعه آدم لغليان صدره؛ فناداه بصوت رفيع: السلام عليك يا آدم. وأمرّ جناحه على صدره ووجهه حتى هدّأ من بكائه، وسمع الصوت فقال: أبنداء السّخط تنادى، أم بنداء الإحسان والغفران؟ قال: بل بنداء الرحمة والغفران، يا آدم: لقد أبكيت ملائكة السموات والأرض، فدونك هذه الكلمات، فإنّها كلمات الرحمة والتوبة. قال كعب: كانت الكلمات ما قالها يونس فى ظلمات ثلاث: (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) . وقال عبد الله بن عمرو بن العاص- رضى الله عنهما- كانت: (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 23 وقال ابن عبّاس- رضى الله عنهما-: كانت «لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، عملت سوءا وظلمت نفسى فتب علىّ يا خير التوّابين» . قال الله تعالى: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) . قال: فلمّا قالها آدم انتشر صوته فى الافاق، فقالت الأرض والشجر والجبال: «أقرّ الله عينك يا آدم، وهنّاك الله بتوبتك» . وأمره الله أن يبعث بالكلمات إلى حوّاء؛ فحملتها الريح إليها، فقالتها، فتاب الله عليها. قال: ولمّا فرغ آدم من الدعاء والسجود قال له جبريل: ارفع رأسك. فرفعه وإذا قد رفع له حجاب النّور، وفتحت له السموات، ونودى بالتوبة والرضوان وقيل له: يا آدم، إنّ الله قد قبل توبتك. فذهب ليقوم فلم يقدر لأنه كان قد رسب فى الأرض كعروق الشجر، فآقتلعه جبريل، فصاح صيحة شديدة للألم الذى أصابه، وقال: «ماذا تفعل الخطيئة» ؟ ثم ضرب جبريل بجناحه الأرض فانفجرت عين ماء معين برائحة كالمسك فاغتسل آدم منها، ثم كساه الله حلّتين من سندس الجنّة، وبعث الله تعالى ميكائيل إلى حوّاء، فبشرها بالتوبة، وكساها كذلك؛ وسأل آدم جبريل عنها؛ فأخبره أن الله قد قبل توبتها، وأنه يجمع بينهما فى أشرف الأعياد وأكرم البقاع. قال: وأمر الله عزّ وجلّ الملائكة والحيوانات أن يقربوا من آدم ليهنّئوه فأتوه وهنّأوه كما كانوا عزّوه. ثم أمر الله تعالى جبريل أن يضع يده على رأس آدم ليقصّر من طوله، وكان إذا قام وصل رأسه إلى السماء، فيسمع تسبيح الملائكة، فلمّا قصر اغتمّ لفقد ذلك، فقال له جبريل: لا يغمّك ذلك فإن الله يفعل ما يريد. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 24 وامره الله ببناء بيت يحاذى البيت المعمور ليطوف به هو وأولاده من بعده كما رأى الملائكة تفعل حول البيت المعمور؛ فبناه. وقد ذكرنا صفة بنائه فى الباب الثانى من القسم الخامس من الفن الأوّل من هذا الكتاب فى خصائص البلاد، وهو فى السفر الأوّل، فلا حاجة إلى إعادته هاهنا. فلنذكر غير ذلك. قال: وسار آدم من موضعه إلى موضع البيت؛ والله الهادى. ذكر أخذ الميثاق على ذرّية آدم- عليه السلام- قال: وأوحى الله تعالى إلى آدم: أنّى أريد أن آخذ على وديعتى الّتى فى ظهرك الميثاق، فأحاطت الملائكة بآدم فى أحسن صورهم، فوقعت الرّعدة على آدم من الخوف، فضمّه جبريل إلى صدره، واضطرب الوادى وارتجّ، فقال جبريل: اسكن فإنّك أوّل شاهد على الميثاق الذى يأخذه الله على ذريّة آدم. فسكن، ومسح الله تعالى على ظهر آدم كما شاء، وقال: «انظر يا آدم إلى من يخرج من ظهرك» فأوّل من بادر وكان أسرع خروجا نبيّنا محمد- صلّى الله عليه وسلّم- فأجاب بالتلبية ونادى إلى ذات اليمين وهو يقول: أنا أوّل من يشهد لك بالتوحيد، ويقرّ لك بالعبوديّة، وأشهد أنّى عبدك ورسولك. فهو- صلّى الله عليه وسلّم- أوّل الأنبياء فى الخلق، وآخرهم فى البعث، وفى ذلك من الحكمة الإلهيّة والقدرة الربّانيّة ما لم يخف على ذى لبّ وفهم، وليس هذا موضع ذكر ذلك. ثم أجابت الطبقة الثانية من النبيّين والمرسلين نبيّنا بعد نبىّ فى نورهم وبهائهم، ثم خرجت زمرة من المؤمنين بيض الوجوه، معلنين بالتوحيد، فوقفوا دون النبيّين. ثم مسح الله مسحة أخرى فخرج (قابيل) بن آدم مبادرا وقد تبعه أهل الشّمال فوقفوا ذات الشّمال كلّهم سود الوجوه. ثم قيل لآدم: «انظر إلى ولدك هؤلاء الجزء: 13 ¦ الصفحة: 25 لتعرفهم بأسمائهم وأزمانهم» فنظر إلى أهل اليمين فضحك منهم، وبارك عليهم؛ ونظر إلى أهل الشّمال فلعنهم وصرف وجهه عنهم؛ ثم استنطقهم الله تعالى فقال: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا) وأقررنا. قال ابن عبّاس- رضى الله عنهما-: أمّا أهل اليمين فأجابوا بالسرعة، وأمّا أهل الشّمال فأجابوا بالتثاقل. قال الله تعالى «يا ملائكتى أشهدوا على ذرّيّة آدم بأنهم أقرّوا أنّى ربّهم لا يجحدوننى شيئا، وأن آدم قد بارك على أهل يمينه، ولعن أهل شماله، فأهل اليمين فى جنّتى برحمتى، وأهل الشّمال فى النار بما جحدوا من حقّى» . ثم ردّهم الله إلى ظهره كما أخرجهم بقدرته. قال وهب: إذا كان يوم القيامة وحشر الخلق لفصل القضاء قيل: يا آدم، «ابعث بعث الجنّة إلى الجنّة، وبعث النار إليها» . فيعرفهم بصورهم وأسمائهم؛ فيقول: «نعم يا ربّ» ؛ ويراهم كما رآهم فى الذرّيّة، ويقبل عليهم بوجهه ويقول: أنسيتم عهد ربّكم وشهادتكم له بأنّه الله الواحد الأحد؟ فيقولون ما أخبرنا الله تعالى به عنهم: (إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ) يعنون قابيل بن آدم، لأنه أوّل من عصى ربّه؛ ثم يقولون: (رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) يعنون إبليس وقابيل؛ فيقبض آدم بشماله من كلّ ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار، وواحدا بيمينه إلى الجنة؛ ثم يقول: يا ربّ هل وفيت؟ فيقال له: نعم ادخل الجنّة برحمتى. ذكر اجتماع آدم بحوّاء قال: وأقبل ملك إلى حوّاء وهى جالسة بجدّة على ساحل البحر، فقال لها: «خذى لباسك وانطلقى إلى الحرم» ؛ ثم رمى لها بقميص وخمار من الجنّة، وتوارى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 26 عنها حتى لبست القميص وتخمّرت بالخمار، ومضت إلى مكّة فدخلت الحرم من شرقيّه يوم الجمعة من شهر المحرّم؛ فأمرها الملك أن تقعد على جبل المروة؛ وإنّما سميّت المروة لقعود المرأة عليها. قال وهب: دخلت حوّاء الحرم قبل آدم بسبعة أيّام، ودخل آدم من غربىّ مكّة وحوّاء من شرقيّها، فصار آدم إلى جبل الصفا، فناداه: «مرحبا بك يا صفىّ الله» ، فسمّى الصّفا لذلك؛ وناداه الربّ: يا آدم، فقال: «لبيّك اللهم لبّيك لبّيك لا شريك لك لبّيك، إنّ الحمد والنّعمة لك والملك لا شريك لك» . فصار ذلك سنّة فى الحجّ والعمرة. ثم أوحى الله إليه: «اليوم حرّمت مكّة وما حولها» . فهى حرام إلى يوم القيامة. فقال آدم: يا رب، إنك وعدتنى أن تجمع بينى وبين حوّاء فى هذا المقام. فنودى: إنّها أمامك على المروة، وأنت على الصّفا، فانظر إليها ولا تمسّها حتى تقضى المناسك. فهبط آدم إليها، والتقيا، وفرح كلّ منهما بصاحبه، وسعى هو من الصفا، وسعت هى من المروة، فكانا يجتمعان بالنهار، فإذا أمسيا رجع إلى الصفا، ورجعت إلى المروة، فكانا كذلك حتى دخل ذو القعدة، فأعاد آدم التلبية وعقد الإزار، ولم يزل يلبّى حتّى دخل ذو الحجّة؛ فهبط جبريل وعلّمه المناسك وكساه ثوبا أبيض لإحرامه، وطاف به، وعرّفه المناسك، وأمره أن يطوف بالبيت سبعا؛ فلمّا فعل ذلك قال له جبريل: «حسبك يا آدم قد أحللت» ؛ فانطلق آدم إلى حوّاء فاجتمع بها فى ليلة الجمعة فحملت من ساعتها. قال كعب: ما حملت حوّاء حتّى رأت الحيض ففزعت وأخبرت آدم بذلك فمنعها من الصّلاة أيّام حيضها حتّى ينقطع الدم؛ ثم جاءها ملك فوقفها على زمزم الجزء: 13 ¦ الصفحة: 27 وقال لادم: اركض برجلك فى هذا الموضع. فركضها، فانفجرت الأرض بإذن الله عين ماء معين؛ فكبّر آدم وحوّاء، وهمّت أن تشرب فمنعها وقال: «حتى يأذن لى ربّى» . فاغتسلت حوّاء، وكان فى ذوائبها بقيّة من مسك الجنّة، ففاحت الدنيا. ذكر إبناء آدم وزرعه وحرثه قال: ثم أوحى الله تعالى إلى آدم: «أنك إن لم تعمر هذه الدنيا لم يعمرها أحد من أولادك، فاعمرها» . فبنى له مسكنا يأوى إليه هو وحوّاء؛ ثم أخذ بعد ذلك فى الحرث والزرع وحفر الآبار؛ وجاءه جبريل بالحبة وهى على قدر بيض النّعام، بيضاء فى لون الثلج وأحلى من العسل؛ وجاءه بثورين من ثيران الفردوس وجاءه بالحديد؛ فلمّا نظر آدم إلى الحبّ صاح صيحة عظيمة، وقال: ما لى ولهذا الحبّ الّذى أخرجنى من الجنّة. قال: «هذا رزقك فى الدنيا، لأنك اخترته فى الجنّة، فهو غذاء لك ولذرّيّتك» . ثم قال له جبريل: يا آدم، قم فكن حرّاثا زرّاعا، وأتاه بالنار وقد غمسها فى سبعين ماء حتّى اعتدلت وكمنت فى الحديد والحجر، وأمره أن يوقد النار ويلين الحديد، ويتّخذ منه مطرقة وسندانا، ففعل؛ ثم اتخذ مدية يذبح بها، وفأسا يحفر بها ويكسر، ومحراثا يحرث به الأرض، ونيرا؛ كلّ ذلك وجبريل يعلّمه. قال وهب: أوّل ما اتخذ آدم من الحديد سندان ومطرقة وكلبتان؛ ثم اتخذ بعد ذلك آلة النجارة، وأتاه جبريل بكبش من الجنّة، فنحره آدم، وأكل هو وحوّاء من لحمه، واتخذا مقراضا فجزّا به الصوف من الكبش، وغزلاه، واتخذا منه الجزء: 13 ¦ الصفحة: 28 جبّتين بغير كمّين، وكساءين، فاكتسى كلّ واحد منهما جبّة وكساء، فلما مسّت جلّدهما خشونة الصوف بكيا شوقا إلى السندس والإستبرق؛ فقيل لهما: «هذا لباس أهل الطاعة فى الدنيا» . وجىء بالأشجار التى ذكرناها فى الفن الرابع من هذا الكتاب، وهو فنّ النباتات؛ وقد قدّمنا ذكرها فيما سلف منه. وعن كعب أن الذى جاء بالحبّ ميكائيل، لأنّه الموكّل بالحبّ والقطر والنبات. قال: فقام آدم فعقد النّير على عنقى الثورين؛ ثم حرث وبذر، وكان يقف على الزرع ويقول: متى يدرك؟. فيسمع هاتفا يقول: (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) ؛ وكان الزرع فى طول النخل، والسنبلة فى طول مائة ذراع، بيضاء كالفضّة. قال كعب: فلمّا استحقّ الزرع كان آدم يحصد، وحوّاء تجمع؛ ثم علّم آدم الدّراسة والتذرية والطحن والعجن والخبز؛ ثم أكلا وشربا فأصابتهما النفخة والقرقرة فى بطونهما؛ فتجشّأ آدم جشاء متغيّرا، وتغيّر عليه بدنه وثقل؛ فلمّا ثقلت عليهما بطونهما أمرهما الملك أن يتبرّزا إلى الصحراء لقضاء الحاجة؛ فلمّا رأيا ذلك من أنفسهما بكيا بكاء شديدا، وقالا: «هذا الذى أورثنا ذنبنا» . ثم أمرهما الملك أن يمسحا بالمدر، ثم يغتسلا بالماء؛ ثم علّمهما الوضوء فتوضا وضوء الإسلام؛ ثم أمرهما بالصلاة، فكان أوّل صلاة صلّاها آدم الظهر. وكان آدم ربّما اشتغل عن صلاته ولا يعرف الأوقات، فأعطاه الله ديكا ودجاجة، فكان الديك أبيض أفرق «1» أصفر الرجلين، كالثور العظيم، وكان يضرب بجناحه عند أوقات الصلاة ويقول: سبحان من يسبّحه كلّ شىء سبحان الله وبحمده، يا آدم: الصلاة يرحمك الله. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 29 قال: وأخذ آدم فى الغرس حتى غرس كلّ ما على وجه الأرض من أنواع الثمار والأشجار، وأخذت الأرض زهرتها؛ وكان آدم يأكل من بقول الأرض ونباتها. قال وهب: أوّل بقلة زرعها آدم الهندبا، وأوّل ما زرع من الرياحين الحنّاء، ثم الآس. ذكر حمل حوّاء- عليها السلام- وولادتها قال: وواقع آدم حوّاء فى ليلة الجمعة، فحملت بذكر وأنثى، وأسقطتهما فى الشهر الثامن، فكان أوّل سقط فى الدنيا؛ ثم حملت ثانيا كذلك، فأصابهما مثل الأوّل؛ ثم حملت ثالثة. قال الله تعالى: (فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) . قال: فجاء إبليس إلى حوّاء وقال: أتحبّين أن يعيش فى بطنك؟ قالت: نعم. قال: سميّه (عبد الحارث) . وقال ابن حبيب عن ابن عباس: أنها لمّا وضعته جاء إبليس وقال: ألا تسمّيانه باسمى؟ قالت له حوّاء: ما اسمك؟ فذهب ولم يتسّم، ثم عاد إليهما فقال: كيف تريدان أن تسمّياه؟ قالا: نسمّيه (عبد الله) . قال: أفتظنّان أنّ الله يترك عبده عندكما إن سمّيتماه (عبد الله) ، لا والله لا يدعه عندكما حتى يقبضه، ولكن سمّياه (عبد شمس) فإنّه يبقى ما بقيت الشمس. فأطاعاه وسمّياه (عبد شمس) ؛ فمات صغيرا. قال الله تعالى: (فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) . قال وهب: أوحى الله إليهما «أنكما أطعتما إبليس فى هذه التسمية، فهلّا سمّيتماه عبد الله أو عبد الرحمن أو عبد الرحيم» فجزعا لذلك جزعا شديدا، وقالا: «لا حاجة لنا فى هذا المولود» . فأماته الله. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 30 ثم حملت بذكر وأنثى، فلما وضعتهما سمّتهما (عبد الله) (وأمة الله) ؛ ثم وضعت بطنا آخر فسمّتهما (عبد الرحيم) (وأمة الرحيم) ؛ ولم تزل كذلك حتى وضعت مائة بطن؛ ثم وضعت بعد ذلك هابيل وأخته فى بطن، ثم قابيل وأخته فى بطن، حتى وضعت عشرين ومائة بطن ذكر وأنثى، فتناسلوا وكثروا. ذكر مبعث آدم- عليه السلام- إلى أولاده قال: ثم بعث الله عزّ وجلّ آدم إلى ذرّيّته رسولا، وذلك فى أوّل ليلة من شهر رمضان، وخصّه بالوحى، وأنزل عليه إحدى وعشرين صحيفة فيها سور مقطّعة الحروف، لا يتّصل حرف بحرف، وهو أوّل كتاب أنزل، وهو بألف لغة فيها الفرائض والسنن والشرائع والوعد والوعيد وأخبار الدنيا، وبيّن له فيها أهل كل زمان وصورهم وسيرهم، وما يحدث فى الأرض حتى المأكل والمشرب. ثم أمره الله تعالى أن يكتبها بالقلم، فأخذ جلود الضأن فدبغها حتى صارت رقّا، وكتب فيها الحروف التسعة والعشرين، وهى فى التوراة والإنجيل والزبور والقرآن، أوّلها (ا) : معناها، أنا الله الواحد الأحد الذى لم يزل. (ب) : بديع السموات والأرض. (ت) : توحّد فى ملكه، وتواضع كلّ شىء لعظمته. (ث) : ثابت لم يزل ولا يزال. (ج) : جميل الفعال، جواد، جليل المقال. (ح) : حليم على من عصاه، حميد عند من أنشاه. (خ) خبير ببواطن الأشياء وظواهرها، خالق كلّ شىء. (د) : ديّان يوم الدين، دان من خلقه. (ذ) : ذو الفضل العظيم، والعرش المجيد، ذو الطّول القديم. (ر) : ربّ الخلائق رزّاق رءوف رحمن رحيم. (ز) : زرّاع زرع من غير بذر، زائد لمن شكر، زيّن كلّ شىء برحمته. (س) : سريع الحساب، سميع الدعاء، سريع الإجابة. (ش) : شديد العقاب والبطش، شاهد الجزء: 13 ¦ الصفحة: 31 كلّ نجوى. (ص) : صمد صادق الوعد. (ض) : ضياء السموات والأرض، ضمن لأوليائه المغفرة. (ط) : طاب من أخلص له من المطيعين، طوبى لمن أطاعه. (ظ) : ظهر أمره، وظفر أهل محبّته بالجنّة. (ع) : عليم عالم علّام علا بالربوبيّة. (غ) : غياث المستغيثين، غنىّ لا يفتقر. (ف) : (فعّال لما يريد) ، فرد ليس له شريك. (ق) : قيّوم، (قائم على كلّ نفس بما كسبت) ، قدير قاهر. (ك) كريم كان قبل كلّ شىء، كائن بعد كلّ شىء، كافى كلّ بليّة. (ل) : (له ما فى السّموات وما فى الأرض) ، وله الخلق والأمر. (م) : مالك يوم الدين، متكبّر محسن محمود متين معبود منعم من قبل ومن بعد. (ن) : نور السموات والأرض ناره معدّة لأهل عذابه. (و) : ولىّ المؤمنين، ويل لمن عصاه، (ويل للمطفّفين) . (هـ) : هاد هدى من الضلالة من قدّر له ذلك برحمته ومشيئته، (لا) : لا إله إلا الله الواحد القهّار، الّذى لا إله إلّا هو العزيز الحكيم. (ى) : يعلم ما فى السموات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى وما تخفى الصدور. قال: فلما نزلت هذه الحروف علّمها آدم لولده، فتوارثها ولده، إلى أن بعث الله تعالى إدريس، وأنزل عليه خمسين صحيفة، وأنزل عليه هذه الحروف. ذكر قتل قابيل هابيل قال: ودعا آدم ابنيه (هابيل) (وقابيل) - وكان يحبّهما من بين أولاده- فذكر لهما ما كان من أمره ودخوله الجنة، وسبب خروجه، وغير ذلك، ثم أمرهما أن يقرّبا قربانا، وكان هابيل صاحب غنم، وقابيل صاحب زرع، فأخذ هابيل من غنمه كبشا سمينا لم يكن فى غنمه خير منه، فجعله قربانا؛ وأخذ قابيل من زرعه أدناه فقرّبه؛ فنزلت من السماء نار بيضاء لا حرّ ولا دخان فيها، فأحرقت قربان الجزء: 13 ¦ الصفحة: 32 هابيل، ولم تحرق قربان قابيل، فداخله الحسد من ذلك، وقال: إن أولاد هذا تفتخر على أولادى من بعدى، فو الله لأقتلنه. قال الله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ. قال: ثم رجعا من منّى- وهو موضع القربان- يريدان أباهما وهابيل أمام قابيل؛ فعمد قابيل إلى حجر فضرب به رأس أخيه (هابيل) فقتله، ثم مرّ على وجهه هاربا. قال الله تعالى: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ ؛ وإذا هو بغرابين قد اقتتلا، فقتل أحدهما الآخر، وجعل يبحث فى الأرض برجليه حتى حفر حفرة ودفن فيها المقتول؛ فقال قابيل فى نفسه ما أخبر الله تعالى به عنه: يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ. فلمّا أبطآ على آدم خرج فى طلبهما، فأصاب هابيل مقتولا، فساءه ذلك واغتمّ غمّا شديدا، وكانت الأرض لمّا شربت دمه تغيّرت الأشجار عن نضارتها، فيقال: إن آدم قال: تغيّرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبرّ قبيح تغيّر كلّ ذى لون وطعم ... وقلّ بشاشة الوجه المليح قتل «1» قابيل هابيلا أخاه ... فوا أسفى على الوجه الصبيح الجزء: 13 ¦ الصفحة: 33 ثم حمل آدم هابيل على عاتقه وهو باك، ثم دفنه، وبكى عليه هو وحوّاء أربعين يوما، فأوحى الله تعالى إليه أن كفّ عن بكائك، فإنّى سأهب لك غلاما زكيّا على صورة هابيل يكون أبا النبييّن والمرسلين. فسرّى عنه، وجامع حوّاء فحملت بشيث واسمه (هبة الله) فلمّا وضعته كان على صفة هابيل وصورته؛ فلمّا ترعرع وبلغ بعث الله تعالى له قضيبا من سدرة المنتهى فى صفاء الجوهر، ورزق الله شيئا الأولاد فى حياة آدم؛ والله أعلم. ذكر وفاة آدم- عليه السلام- قال: وكان آدم لمّا أخرج الله تعالى الذريّة من ظهره رأى داود- عليه السلام- وحسن صورته، فسأل عنه وعمّا رزقه الله تعالى من العمر؛ فقيل له: إنه نبىّ الله داود، وإن عمره الذى كتب الله له أربعون سنة. فقال: يا ربّ زد فى عمره. قال: ذلك الذى كتبت له. فقال: يا ربّ فإنّى قد وهبته من عمرى ستّين سنة. فلمّا انقضى من عمره تسعمائة سنة وأربعون سنة أتاه ملك الموت، فقال له آدم: قد عجلت علىّ، لأنّ ربّى كتب لى ألف سنة. قال: ألم تهب منها لولدك داود ستّين سنة؟ قال: لا. قال: فجحد آدم وجحدت ذرّيته من بعده، ونسى فنسيت. وقيل فى عمر داود: ستون سنة، وإن آدم وهبه أربعين سنة؛ والله أعلم. فلما استكمل عدّته أمر الله بقبض روحه، فعهد إلى ابنه شيث وأوصاه، وسلّم إليه التابوت، وكان فيه نمط من الجنّة أبيض أهداه الله تعالى لآدم، فيه صور الأنبياء والفراعنة من ذرّيّته؛ فنشر آدم النّمط وأراه لابنه شيث، فنظر إليه، ثم أمر بطيّه ووضعه فى التابوت؛ وعمد آدم إلى طاقات من شعر لحيته فوضعها فى التابوت وقال له: يا بنىّ، إنك لا تزال مظفّرا على أعدائك ما دامت هذه الشعرات سودا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 34 فإذا ابيضّت فاعلم أنّك ميّت، فأوص إلى خير أولادك. وأوصاه بقتال أخيه قابيل. ثم قبض الله تعالى نبيّه آدم فى يوم الجمعة بعد أن استكمل ألف سنة، وصلّت عليه الملائكة صفوفا، وصلّى عليه شيث، ودفن- عليه السلام-. وقيل: كانت وفاته بالهند، فلما كان زمن الطوفان حمل نوح معه تابوت آدم فى السفينة، ثم دفنه ببيت المقدس. ذكر وفاة حوّاء قال: ولمّا توفّى آدم- عليه السلام- لم تعلم حوّاء بموته حتى سمعت بكاء الوحش والسباع والطير، ورأت الشمس منكسفة؛ فقامت من قبّتها فزعة أن يكون حلّ بشيث ما حلّ بهابيل، وصارت إلى قبّة آدم فلم تره، فصاحت صيحة عظيمة، فأقبل إليها شيث وعزّاها وأمرها بالصبر، فلم تصبر دون أن صرخت ولطمت وجهها ودقّت صدرها، فأورثت ذلك بناتها إلى يوم القيامة؛ ثم لزمت قبره أربعين يوما لا تطعم؛ ثم مرضت مرضا شديدا ودام بها حتى بكت الملائكة رحمة لها؛ ثم قبضت- رحمة الله عليها- فغسلها بناتها، وكفّنت من أكفان الجنة ودفنت إلى جنب آدم- عليهما السلام- ورأسها إلى رأسه، ورجلاها عند رجليه. وقيل: كانت وفاتها بعد مضىّ سنة من وفاة آدم. الباب الثانى من القسم الأوّل من الفنّ الخامس فى خبر شيث ابن آدم- عليهما السلام- وأولاده قال: ولمّا مات آدم- عليه السلام- أسند وصيّته إلى ابنه شيث، وكان ممّا أوصاه به التمسّك بالعروة الوثقى، وشهادة أن لا إله إلا الله، والإيمان بمحمّد رسول الله؛ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 35 وقال له: يا بنىّ؛ إنى رأيت اسمه مكتوبا على سرادق العرش وأبواب الجنان وأطباق السموات وأوراق شجرة طوبى؛ فهذه وصيّتى إليك. ثم نزع خاتمه من اصبعه ودفعه إليه، وتسلّم منه التابوت، ثم قال له: إن الله سيعطيك ثوب المجاهدة، فحارب أخاك قابيل، فإن الله تعالى ينصرك عليه. وكان شيث حين الوصية إليه ابن أربعمائة سنة، فأطاعه أولاد أبيه، وصار إليه الفرس الميمون، وكان أغرّ محجّلا إذا صهل أجابته الدوابّ كلّها بالتسبيح. ذكر قتال شيث قابيل قال: ثم أمر الله تعالى شيث بن آدم بقتال قابيل، وكان قابيل قد اعتزل فى ناحية من الأرض، فعمرها، وخدع أختا له فأحبلها، ورزق منها أولادا كثيرة فسار إليه شيث بجميع أولاده، وتقلّد سيف أبيه، وكان بين يديه عمود من الياقوت تحمله الملائكة يضىء بالليل والنهار؛ وسار وقد أحدقت به الملائكة، فتوجّه إبليس إلى قابيل وأعمله خبر أخيه، فتأهّب للقائه وقد داخله الفزع؛ ثم جاء شيث فقابله، فاقتتلا، فانكبّ قابيل على وجهه، فأخذه شيث أسيرا، وأسر جماعة من أولاده. ثم أقبلت الملائكة إلى قابيل فسلكوه فى سلسلة من سلاسل جهنّم، وغلّوا يده إلى عنقه، وساقوه بين يدى شيث مهانا وهو يقول: يا شيث احفظ الرّحم بينى وبينك. فقال: لا رحم بيننا بعد أن قتلت أخاك ظلما. ثم أمر شيث الملائكة فساقوه مغلولا إلى عين الشمس بالمغرب، فلم يزل مواجها للشمس حتى مات كافرا، وصارت ذريّته عبيدا وإماء لشيث وأولاده. ثم أخذ شيث بعد ذلك فى عمارة المدن حتى بنى نيّفا على ألف مدينة فى كلّ مدينة منارة ينادى عليها: (لا إله إلا الله، آدم صفوة الله، محمد رسول الله) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 36 وكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر هو وأولاده، حتى عمرت الدنيا؛ وأنزل الله تعالى على شيث خمسين صحيفة، فكانوا يقرأونها ويعملون بما فيها من غير عداوة ولا تباغض ولا تحاسد ولا فسق بينهم؛ وكان إبليس يحسد شيئا وأولاده، فأقبل إبليس إليه فى صورة امرأة حسناء، فقال لها: من أنت؟ قالت: امرأة أرسلنى الله إليك لتتزوّج بى، ولست من بنات آدم. فقال: إن ربى لم يأمرنى بذلك ولا أخبرنى عنك، وما أظنك إلا إبليس. فضحك وقال: إنما أنا امرأة من نساء الجنة، ولا تعص ربّك وتزوّج بى؛ وجعل إبليس يتزيّن له حتى كاد يفتنه؛ فنادته الملائكة: يا نبىّ الله، إنه عدوّك إبليس. فقبض شيث عليه وهمّ بقتله؛ فقال: خلّ عنّى فإنى من المنظرين، ولكن أعطيك الميثاق أنّى لا أتعرّض إليك بعدها. فأطلقه ولم يعد إليه. وولد لشيث (أنوش) على طوله وحسنه؛ فجعله شيث مكانه والخليفة من بعده، وسلّم إليه التابوت، وأوصاه بقتال أولاد قابيل. ومات شيث وله سبعمائة سنة وعشرون سنة. وقيل: بل عاش بعد آدم مائتى سنة، وعهد إلى ابنه (أنوش) فقام على أولاده بالطاعة ثلاثمائة عام. وعهد من بعده إلى ابنه (قينان) ، فعمّر بعد أبيه مائتين وخمسين سنة. وعهد إلى ابنه (مهلائيل) ، وكثر فى زمانه بنو آدم، وكان منزلهم الحرم فضاق بهم، فقسّم الأرض بينهم خمسة أقسام، وأرسل خمسة نفر من صلحاء قومه يقيمون لهم شرائع آدم- عليه السلام- ويتولّون الحكومة بينهم، وهم ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وهؤلاء الذين لمّا فقدوا بلغ من وجد قومهم الجزء: 13 ¦ الصفحة: 37 عليهم أن جعلوا لهم تماثيل يتسلّون بها؛ وترامى الأمر إلى أن عبدها القرن الذى تلاهم، فكان ذلك هو السبب لعبادة الأوثان. ثم قام بالأمر بعد (مهلائيل) ابنه (أخنوخ) ، وهو إدريس. الباب الثالث من القسم الأوّل من الفنّ الخامس فى أخبار إدريس النبى- عليه السلام- واسمه أخنوخ، وإنما سمّى إدريس لكثرة دراسته الكتب؛ وهو أوّل من بعث من بنى آدم؛ وهو أوّل من خطّ بالقلم بعد شيث، وأوّل من كتب فى الصحيفة؛ وكان مشتغلا بالعبادة ومجالسة الصالحين حتى بلغ فآنفرد للعبادة، فجعله الله تعالى نبيّا، وأنزل عليه ثلاثين صحيفة، وورّثه صحف شيث وتابوت آدم. وكان يعيش من كسب يده؛ وكان خيّاطا، وهو أوّل من خاط الثياب ولبسها وكانوا قبل ذلك يلبسون الجلود، حتى أتت عليه أربعون سنة، فبعثه الله تعالى إلى أولاد قابيل، وكانوا جبابرة، وقد اشتغلوا باللهو والغناء والمزامير والطنابير وغير ذلك، وعبدوا الأصنام؛ وكان إدريس يدعوهم ثلاثة أيّام، ويعبد الله أربعة. وحكى عن وهب أنّه أوّل من اتّخذ السلاح، وجاهد فى سبيل الله، ولبس الثياب، وأظهر الأوزان والأكيال، وأنار علم النجوم. وكان إدريس شديد الحرص على دخول الجنة، وكان قد رأى فى الكتب أنّه لا يدخلها أحد دون الموت، فبينما هو يسبح فى عبادته إذ عرض له ملك الموت فى صورة رجل فى نهاية الجمال؛ فقال له إدريس: من أنت؟ قال: عبد من عبيد الله أعبده كعبادتك. واصطحبا، فكان إدريس يأكل من رزق الله، وهو لا يطعم شيئا؛ فسأله عن ذلك؛ فأخبره أنه ملك الموت؛ فقال له: جئت لقبض الجزء: 13 ¦ الصفحة: 38 روحى؟ قال: لا، ولو أمرنى الله بذلك ما أمهلتك، ولكنّه أمرنى أن أصطحبك. فسأله إدريس أن يقبض روحه؛ فقال له: وما تريد بذلك وللموت كرب عظيم؟ قال: لعل الله تعالى يحيينى فأكون أكثر فى عبادته. فأمره الله بقبض روحه فقبضها، وأحياه الله تعالى لوقته. ثم قال إدريس له بعد حين: هل تستطيع أن تقفنى على جهنّم؟ قال: ما حاجتك إلى ذلك ولها من الأهوال ما لا تطيق أن تنظر إليه، وما لى سبيل إلى ذلك، ولكنى أقفك على طريق مالك خازنها، والله أعلم بحاجتك. فاحتمله ووقفه على طريق مالك، فلما رآه كشر فى وجهه، فكادت روحه تخرج، فأوحى الله- عزّ وجلّ- إلى مالك: وعزّتى وجلالى لا رأى عبدى إدريس بعد كشرتك سوءا، إرجع إليه وقفه على شفير جهنّم ليرى ما فيها. فوقفه مالك على شفيرها ونظر إلى ما فيها من الأهوال، فلولا أن ثبّته الله تعالى لصعق؛ ثم أعاده إلى مكانه، فاحتمله ملك الموت إلى الأرض، فعبد الله عزّ وجلّ حينا؛ ثم قال لملك الموت: هل لك أن تدخلنى الجنّة لأرى ما أعدّ الله تعالى لأهل طاعته من النعيم؟ فقال: حاجتك إلى الله تعالى، ولكنّى أحملك وأقف على طريق رضوان خازن الجنان فسله حاجتك. ففعل ذلك؛ فلما رآه رضوان قال: من هذا؟ قال: إدريس نبى الله يريد أن ينظر إلى نعيم الجنان. قال: «ذلك إلى ربّى» . فأوحى الله تعالى إلى رضوان: أنّى قد علمت ما يريد عبدى إدريس، وقد أمرت غصنا من أغصان شجرة طوبى أن يتدلّى إليه فيلتفّ به ويدخله الجنّة، فإذا دخل فأقعده فى أعلى موضع؛ فلمّا دخلها إدريس ورأى ما فيها من النعيم قال له رضوان: أخرج الآن. قال له إدريس: أيدخل الجنّة من يخرج منها؟ فحاجّه فى ذلك، فأرسل الله تعالى له ملك الموت، فقال له إدريس: ما حاجتك؟ إنك لن تسلّط على قبض روحى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 39 مرّتين، فاذهب. فرجع ملك الموت إلى ربّه عزّ وجلّ وقال: إلهى قد علمت ما قال إدريس. قال الله تعالى: إنه حاجّك بكلامى، فذره فى جنتى. فذلك قوله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا. هذا ما أورده الكسائىّ- رحمه الله- فى كتاب المبتدأ «1» . ونقل الشيخ أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبىّ- رحمه الله- فى كتابه المترجم (بيواقيت البيان فى قصص القرآن) وفى تفسيره أيضا فى سبب رفع إدريس عليه السلام، قال: وكان سبب رفعه على ما قال ابن عبّاس- رضى الله عنهما- وأكثر الناس: أنه سار ذات يوم فأصابه وهج الشمس، فقال: يا رب إنى مشيت يوما فتأذّيت منها، فكيف من يحملها خمسمائة عام فى يوم واحد؟! اللهم خفّف عنه من ثقلها، واحمل عنه حرّها. فلمّا أصبح الملك وجد من خفّة الشمس وخفّة حرّها ما لا يعرف؛ فقال: يا رب، خلقتنى لحمل الشمس، فما الّذى قضيت فىّ؟ فقال: أما إنّ عبدى إدريس سألنى أن أخفّف عنك ثقلها وحرّها، فأجبته. قال: يا ربّ اجمع بينى وبينه، واجعل بينى وبينه خلّة. فأذن الله تعالى له؛ فأتى إدريس حتى إنّ إدريس ليسأله، فكان ممّا سأله أن قال: أخبرت أنّك أكرم الملائكة عند ملك الموت وأمكنهم عنده، فاشفع لى إليه أن يؤخّر أجلى فأزداد شكرا وعبادة. فقال الملك: لا يؤخّر الله نفسا إذا جاء أجلها. قال إدريس: قد علمت ذلك، ولكنّه أطيب لنفسى. قال: نعم أنا مكلّمه لك، فما كان يستطيع أن يفعل لأحد من بنى آدم فهو فاعله لك. ثم حمله ملك الشمس على جناحه، فرفعه إلى السماء الجزء: 13 ¦ الصفحة: 40 ووضعه عند مطلع الشمس؛ ثم أتى ملك الموت، فقال: لى إليك حاجة. قال: أفعل كلّ شىء أستطيعه. فقال له: صديق لى من بنى آدم يتشفّع بى إليك أن تؤخّر أجله. فقال: ليس ذلك إلىّ، ولكن إن أحببت أعلمه أجله مى يموت فيتقدّم فى نفسه. قال: نعم. فنظر فى ديوانه، فأخبره باسمه، فقال: إنك كلّمتنى فى إنسان ما أراه يموت أبدا. ثم قال: إنى لأجده يموت عند مطلع الشمس. قال: فإنّى أتيتك وتركته هناك. قال: فانطلق فإنّه قد مات، فو الله ما بقى من أجل إدريس شىء. فرجع الملك فوجده ميتا. قال: وقال وهب: كان يرفع له فى كلّ يوم من العبادة مثل ما يرفع لأهل الأرض فى زمانه. فعجبت منه الملائكة، فاشتاق إليه ملك الموت، فاستأذن الله تعالى فى زيارته، فأذن له، فأتاه فى صورة غلام؛ وكان إدريس يصوم الدهر كلّه فلمّا كان فى وقت إفطاره دعاه إلى الطعام، فأبى أن يأكل معه، وفعل ذلك ثلاث ليال، فقال له إدريس فى الليلة الثالثة: إنّى أريد أن أعلم من أنت. قال: أنا ملك الموت، استأذنت ربّى أن أزورك وأن أصاحبك، فأذن لى فى ذلك. فقال له إدريس: فلى إليك حاجة. قال: وما هى؟ قال: اقبض روحى؛ فأوحى الله تعالى إليه: «اقبض روحه» . ففعل، ثم ردّها الله تعالى إليه بعد ساعة، فقال له ملك الموت: فما الفائدة فى سؤالك قبض الروح؟ قال: لأذوق كرب الموت وغمّه فأكون له أشدّ استعدادا. ثم قال: لى إليك حاجة أخرى، قال: وما هى؟ قال: ترفعنى إلى السماء لأنظر إليها وإلى الجنّة والنار. فأذن الله تعالى له فى ذلك، فلمّا قرب من النار قال: لى إليك حاجة. قال له: وما تريد؟ قال: تسأل مالكا حتى يفتح لى أبوابها فأردها. ففعل؛ ثم قال له إدريس: فكما أريتنى النار فأرنى الجنّة. فذهب إلى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 41 الجنّة فاستفتح، ففتحت له أبوابها، فأدخله الجنّة؛ فقال له ملك الموت: اخرج منها لتعود إلى مقرّك. فتعلّق بشجرة وقال: لا أخرج منها. فبعث الله تعالى ملكا حكما بينهما؛ فقال له الملك: ما لك لا تخرج؟ قال: لأن الله تعالى قال: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ* وقد ذقته. وقال: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها وقد وردتها. وقال تعالى: وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ فلست أخرج. قال الله تعالى لملك الموت: دعه فإنه بإذنى دخل الجنّة، وبأمرى يخرج. فهو هناك، فتارة يعبد الله فى السماء الرابعة، وتارة يتنعّم فى الجنّة. الباب الرابع من القسم الأوّل من الفنّ الخامس فى قصة نوح- عليه السلام- وخبر الطوفان قال الكسائىّ- رحمه الله تعالى- قال وهب بن منبّه: لمّا رفع الله تعالى إدريس- عليه السلام- ترك إدريس فى الأرض ولده متوشلح، فتزوّج بامرأة يقال لها: (ميشاخا) ؛ فولدت له ولدا سمّاه (لمك) ، وكان يرجع إلى قوّة وبطش وكان يضرب بيده الشجرة العظيمة فيقتلعها من أصلها، وكان على وجهه نور نبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم؛ فخرج فى يوم إلى البرّيّة فرأى امرأة فى نهاية الجمال وبين يديها غنم ترعاها، فأعجبته، فسألها عن نفسها، فقالت: أنا قينوش بنة براكيل بن محويل من أولاد قابيل بن آدم. فقال: ألك زوج؟ قالت: لا. قال: فما سنّك؟ قالت: مائة وثمانون. قال: لو كنت بالغة لتزوّجتك- وكان البلوغ يومئذ لاستيفاء مائتى سنة- فقالت: كان عندى أنك تريد أن تفضحنى، فأمّا إذا أردت الزواج فقد أتى علىّ مائتا سنة وعشر سنين. فخطبها من أبيها، وأرغبه بالمال؛ فزوّجه بها فحملت منه بنوح- عليه السلام- فلما كان وقت الولادة ولدته فى غار خوفا على الجزء: 13 ¦ الصفحة: 42 نفسها وولدها من الملك لكونها تزوّجت بمن ليس منهم؛ فلمّا وضعته هناك وأرادت الانصراف قالت: وانوحاه. وانصرفت، فبقى فى الغار أربعين يوما؛ ثم توفّى أبوه لمك؛ فاحتملته الملائكة ووضعته بين يدى أمّه مزيّنا مكحولا، ففرحت به وربّته حتى بلغ. وكان ذا عقل وعلم ولسان وصوت حسن، واسع الجبهة، أسيل الخدّ، وكان يرعى الغنم لقومه مدّة، وربما عالج التجارة؛ ثم كره مجاورة قومه لعبادتهم الأصنام. وكان لهم ملك يقال له درمشيل؛ وكان جبّارا عاتيا قويّا، وهو أوّل من شرب الخمر واتّخذ القمار وقعد على الأسرة واتخذ الثياب المنسوجة بالذهب وأمر بصنعة الحديد والنحاس والرصاص؛ وكان هو وقومه يعبدون الأصنام الخمسة: ودّا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا؛ ثم اتخذ ألف صنم وسبعمائة صنم على صور شتّى، واتخذ لها كراسىّ من الذهب والفضة، وأقام لها الخدم يخدمونها؛ فاعتزلهم نوح إلى البرارىّ ولم يخالطهم حتى بعثه الله تعالى نبيّا؛ والله أعلم بالصواب. ذكر مبعث نوح عليه السلام قال: فأمر الله تعالى جبريل- عليه السلام- أن يهبط إلى نوح ويبشره بالنبوّة والرسالة؛ فهبط جبريل عليه، وجاءه بوحى الله أن يسير إلى درمشيل الملك وقومه ويدعوهم إلى عبادة الله تعالى؛ فأقبل نوح إلى قومه من يومه- وكان يوم عيدهم وقد نصبوا أصنامهم على أسرّتها وكراسيّها، وهم يقرّبون القرابين لها، وكانوا إذا فعلوا ذلك يخرّون لها سجّدا ويشربون الخمر، ويضربون بالصّنج، ويأتون النساء كالبهائم من غير تستّر- فجاءهم وهم يزيدون على تسعين زمرة، كلّ زمرة لا يحصون كثرة، فاخترق الصفوف حتى صار فى وسط القوم، وسأل الله تعالى أن ينصره الجزء: 13 ¦ الصفحة: 43 عليهم؛ فلما أرادوا السجود للأصنام نادى: أيها القوم، إنى قد جئتكم بالنصيحة من عند ربّكم أدعوكم إلى عبادته وطاعته، وأنهاكم عن عبادة هذه الأصنام (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) * . فخرقت دعوته الأسماع، وهوت الأصنام عن كراسيّها، وسقط الملك عن سريره مغشيّا عليه، فلمّا أفاق قال: يا أولاد قابيل، ما هذا الصوت الّذى لم أسمع مثله؟ قالوا: أيّها الملك، هذا صوت رجل منّا اسمه نوح بن لمك كان يجانبنا قبل ذلك بجنونه، والآن قد اشتدّ عليه فقال ما قال. فغضب الملك واستدعاه، فأتوه به بعد أن ضربوه الضرب الشديد؛ فقال له: من أنت، فقد ذكرت آلهتنا بسوء؟ قال: أنا نوح بن لمك رسول ربّ العالمين، جئتكم بالنصيحة من عند ربّكم لتؤمنوا به وبرسوله، وتهجروا هذه الأصنام والقبائح. فقال درمشيل: إنّك قد جئتنا بما لا نعرفه، ولا نعتقد أنك عاقل، فإن كان بك جنّة فنداويك أو فقر فنواسيك. قال: يا قوم، ما بى جنون ولا حاجة إلى ما فى أيديكم، ولكنّى أريد أن تقولوا: لا إله إلا الله وإنى نوح رسول الله. فغضب درمشيل وقال: لولا أنه يوم عيد لقتلناك. فأوّل من آمن به امرأة من قومه يقال لها: (عمرة) فتزوّجها فأولدها (ساما) (وحاما) (ويافث) وثلاث بنات؛ ثم آمنت به امرأة أخرى من قومه يقال لها: (والعة) فتزوّجها فأولدها كنعان؛ ثم نافقت وعادت إلى دينها. وكان نوح يخرج فى كلّ يوم فى أندية لقومه يدعوهم إلى عبادة الله تعالى فيضربونه حتى يغشى عليه، ويجرّون برجله فيلقونه على المزابل، فاذا أفاق عاد إليهم بمثل ذلك، ويعاملونه بمثله؛ حتى أتى عليه ثلاثمائة سنة وهو على هذه الحال؛ ثم مات ملكهم درمشيل، وملك بعده ابنه بولين، وكان أعتى وأطغى من أبيه- وكان نوح يدعوهم فى القرن الرابع على عادته، فيضربونه ويشتمونه، وربما سفوا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 44 عليه التراب ويقولون: إليك عنا يا ساحر يا كذّاب. ويضعون أصابعهم فى آذانهم؛ فينصرف عنهم ويعود إليهم، وإذا خلا بالرجل منهم دعاه، وهم لا يزدادون إلّا عتوّا وتمرّدا واستكبارا، وذلك قوله تعالى: قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً الآيات. ثم دعاهم حتى استكمل ستّة قرون؛ فلمّا دخل القرن السابع مات ملكهم (بولين) واستخلف عليهم ابنه (طفردوس) - وكان على عتوّ أبيه- وكان نوح يأتى أصنامهم بالليل وينادى بأعلى صوته: يا قوم، قولوا (لا إله إلا الله، وإنى نوح رسول الله) . فتنكّس الأصنام؛ وكانوا يضربون نوحا ضربا شديدا، ويدوسون بطنه حتى يخرج الدم من أنفه وأذنيه؛ وكان الرجل منهم عند وفاته يوصى أولاده ويأخذ عليهم العهد ألا يؤمنوا به؛ ويأتى الرجل بابنه إلى نوح ويقول: يا بنىّ انظر إلى هذا فإنّ أبى حملنى إليه وحذّرنى منه، فاحذره أن يزيلك عمّا أنت عليه فإنّه ساحر كذّاب. وهو بعد ذلك يدعوهم؛ فضجّت الأرض إلى ربّها وقالت: ما حلمك على هؤلاء؟ وضجّ كلّ شىء إلى ربّه من عتوّهم، ونوح يدعوهم ويذكّرهم بآيات الله؛ فلمّا كان فى بعض الأيّام إذا هو برجل من كبار قومه قد أقبل بولده يحذّره منه؛ فضرب الغلام بيده إلى كفّ تراب وضرب به وجه نوح، فعند ذلك قال نوح ربّ لا تذر على الأرض من الكافرين ديّارا إنّك إن تذرهم يضلّوا عبادك ولا يلدوا إلّا فاجرا كفّارا. فأمّنت الملائكة على دعوته، فمنع الله عنهم القطر والنبات؛ فعلم نوح أنّ الله مهلك قومه؛ فأحبّ أن يؤمن بعضهم إن لم يؤمنوا كلّهم؛ فأوحى الله تعالى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 45 إليه: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ. ذكر عمل السفينة قال: وأوحى الله تعالى إليه أن يتّخذها فى ديار قومه، وأن يجعلها ألف ذراع طولا وخمسائة عرضا وثلاثمائة ارتفاعا، فأعدّ آلات النّجارة، وشرع فى عملها وأعانه أولاده ومن آمن من قومه، والناس يسخرون منه ويقولون: بعد النبوّة صرت نجّارا، ونحن نشكو القحط، وأنت تبنى للغرق. قال الله تعالى: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ؛ وكانوا يأتون السفينة بالليل فيشعلون فيها النار ولا تحترق، فيقولون: هذا من سحرك يا نوح. وجعل نوح رأس السفينة كرأس الطاوس، وعنقها كعنق النّسر، وجؤجؤها كجؤجؤ الحمامة، وكوثلها كذنب الديك، ومنقارها كمنقار البازى، وأجنحتها كأجنحة العقاب؛ ثم غشّاها بالزفت، وجعلها سبع طبقات لكلّ طبقة باب؛ فلمّا فرغ من بنائها نطقت بإذن الله وقالت: لا إله إلا الله إله الأوّلين والآخرين، أنا السفينة، من ركبنى نجا، ومن تخلّف عنّى غرق، ولا يدخلنى إلّا أهل الإخلاص. فقال نوح لقومه: أتؤمنون؟ قالوا: هذا قليل من سحرك. ثم استأذن ربّه فى الحج، فأذن له؛ فلمّا خرج همّ القوم بإحراقها، فأمر الله الملائكة فاحتملوها إلى الهواء، فكانت معلّقة حتى عاد من حجّه. ولمّا قضى مناسكه رأى تابوت «1» آدم عن يمين الكعبة، فسأل ربّه فى ذلك التابوت فأمر الملائكة فحملوه إلى دار الجزء: 13 ¦ الصفحة: 46 نوح- وكانت يومئذ فى مسجد الكوفة- فلمّا رجع من حجّه نزلت السفينة من الهواء، ثم أوحى الله إليه: أن قد دنا هلاك قومك فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ . ثم أمره الله تعالى أن ينادى فى الوحش والسباع والطير والهوامّ والأنعام؛ فوقف على سطح منزله، ونادى: «هلمّوا إلى السفينة المنجّية» . فمرّت دعوته إلى الشرق والغرب والبعد والقرب، فأقبلت إليه أفواجا. فقال: إنّما أمرت أن أحمل من كلّ زوجين اثنين؛ فأقرع بينهم، فأصابت القرعة من أذن الله فى حمله، وكان معه من بنى آدم ثمانون إنسانا بين رجل وامرأة؛ فلما كان فى مستهلّ شهر رجب نودى من التنّور وقت الظهر: قم يا نوح فاحمل فى سفينتك من كلّ زوجين اثنين من الذكر زوجا ومن الأنثى زوجا، فحملهم. وكان معه جسد آدم وحوّاء؛ وتباطأ عليهم الحمار فى صعوده، لأن إبليس تعلّق بذنبه؛ فقال نوح بالنبطيّة: على سيطان، يعنى ادخل يا شيطان؛ فدخل ومعه إبليس فرآه نوح فقال: يا ملعون، من أدخلك؟ قال: أنت حيث قلت: على سيطان: فعاهده ألا يغوى أهل السفينة ما داموا فيها؛ ثم أوحى الله إلى جبريل أن يأمر خزنة الماء أن يرسلوه بغير كيل ولا مقدار وأن تضرب المياه بجناح الغضب. ففعل ذلك، ونبعت العيون، وهطلت السماء (فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) وكان ماء السماء أخضر، وماء الأرض أصفر؛ وأمر الله الملائكة أن يحملوا البيت الى سماء الدنيا؛ وكان الحجر يومئذ أشدّ بياضا من الثلج؛ فيقال إنه اسودّ من خوف الطّوفان؛ وقال نوح عند ركوبه السفينة ما أخبرنا الله عنه فى كتابه العزيز: وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 47 فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ. قال: كان ابنه هذا كنعان. قال: وكانوا لا يعرفون الليل من النهار إلّا بخرزة كانت مركّبة فى صدر السفينة بيضاء، فاذا نقص ضوءها علموا أنّه النهار، واذا زاد علموا أنّه اللّيل؛ وكان الديك يصيح عند أوقات الصلاة؛ وعلا الماء على الجبال أربعين ذراعا؛ وسارت السفينة حتى بلغت موضع الكعبة، فطافت سبعا، ونطقت بالتلبية؛ وكانت لا تقف فى موقف إلّا وتناديه: يا نوح هذه بقعة كذا، وهذا جبل كذا؛ حتى طافت به الشرق والغرب ورجعت إلى ديار قومه، فقالت: يا نبىّ الله، ألا تسمع صلصلة السلاسل فى أعناق قومك؟ قال الله تعالى: مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً ؛ ولم تزل السفينة كذلك ستّة أشهر آخرها ذو الحجة. وقيل: كان ركوب نوح ومن معه السفينة لعشر خلون من شهر رجب وذلك لتتمّة ألفى سنة ومائتى سنة وخمسين سنة من لدن أهبط الله تعالى آدم- عليه السلام- وخرجوا منها فى العاشر من المحرّم بعد مضىّ ستة أشهر؛ ثم استقرّت على جبل الجودىّ، قال الله تعالى: وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ* وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ* قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ. قال: ثم فتح نوح باب السفينة، فنظر إلى الأرض بيضاء من عظام قومه؛ وبعث الغراب لينظر ما بقى على وجه الأرض من الماء؛ فأبطأ، فبعث الحمامة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 48 فانطلقت شرقا وغربا وعادت مسرعة، فقالت: يا نبىّ الله، هلكت الأرض ومن عليها، وأما الماء فإنى لا أراه إلّا ببلاد الهند، ولم تبق على وجه الأرض شجرة إلّا الزيتون، فإنّها على حالها. فأوحى الله تعالى الى نوح: اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ فخرج من السفينة وأخرج من فيها، وأعاد الله الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم والأشجار والنبات كما كانت، وتفرّق الوحش والسباع والطيور وغيرها فى الأرض؛ وأمر نوح فبنيت قرية فى أسفل جبل الجودىّ وسمّيت (قرية ثمانين) على عددهم. قيل: هى الجزيرة؛ وهى أوّل قرية بنيت على وجه الأرض بعد الطّوفان ثم قسم نوح الأرض بين أولاده الثلاثة: سام وحام ويافث، فأعطى سام الحجاز واليمن والشأم، فهو أبو العرب، وأعطى حام بلاد المغرب فهو أبو السّودان وأعطى يافث بلاد المشرق، فهو أبو الترك. ثم أوحى الله- عزّ وجلّ- الى نوح أن يردّ التابوت الى المكان الذى أخذ منه، فردّه. ذكر خبر دعوة نوح على ابنه حام ودعوته لابنه سام قال: ولما استقرّ الأمر قال نوح لبنيه: إنى أحب أن أنام، فإننى لم أتهنّأ بالنوم منذ ركبت الفلك. فوضع رأسه فى حجر ابنه حام، فهبّت الريح فكشفت عن سوءته، فضحك حام، وغطّاه سام؛ فانتبه فقال: ما هذا الضحك؟ فأخبره سام، فغضب وقال لحام: أتضحك من سوءة أبيك؟ غيّر الله خلقتك، وسوّد وجهك. فاسودّ وجهه لوقته. وقال لسام: سترت عورة أبيك، ستر الله عليك فى هذه الدنيا، وغفر لك فى الآخرة، وجعل من نسلك الأنبياء والأشراف، وجعل من نسل حام الإماء والعبيد، وجعل من نسل يافث الجبابرة والأكاسرة والملوك العاتية. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 49 ذكر وصيّة نوح ووفاته قال كعب: بعث الله- عزّ وجلّ- نوحا إلى قومه وله مائتان وخمسون سنة ولبث فيهم ألف سنة إلّا خمسين عاما، وعاش بعد الطّوفان مائتى سنة؛ فلمّا حضرته الوفاة دعا بابنه سام وقال له: أوصيك يا بنىّ باثنين، وأنهاك عن اثنين: أوصيك «بشهادة أن لا إله إلا الله» ، فإنّها تخرق السموات السبع، لا يحجبها شىء، والثانية أن تكثر من قولك: «سبحان الله وبحمده» ، فإنها جامعة الثواب؛ وأنهاك عن الشّرك بالله، والاتّكال على غير الله. فلمّا فرغ من ذلك أتاه ملك الموت، فسلّم عليه فقال: من أنت؟ فقد ارتاع قلبى من سلامك. قال: أنا ملك الموت، جئت لقبض روحك. فتغيّر وجهه وجزع، فقال له: ما هذا الجزع، ألم تشبع من الدنيا فى طول عمرك؟ قال: ما شبّهت ما مضى من عمرى فى الدنيا إلّا بدار لها بابان دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر. فناوله ملك الموت كأسا فيها شراب وقال: اشرب هذا حتى يسكن روعك. فلمّا شربه خرّ ميتا- عليه السلام- والله الموفّق. ذكر خبر أولاد نوح- عليه السلام- من بعده فأما حام فإنه واقع زوجته فولدت غلاما وجارية سودا «1» ، فأنكرهما حام؛ فقالت امرأته: «لحقتك دعوة أبيك» . فلم يقربها حينا؛ ثم واقعها فولدت مثلهما فتركها حام وهرب على وجهه؛ فلما كبر الولدان الأوّلان خرجا فى طلب أبيهما حتى بلغا قرية على شاطىء البحر، فنزلاها، وواقع الغلام أخته فحملت منه وولدت غلاما وجارية؛ وأقاما فى ذلك الموضع لا مأكل لهما إلّا السمك؛ فرجع الجزء: 13 ¦ الصفحة: 50 حام فى طلب ولديه فلم يجدهما، فاغتمّ لذلك؛ ثم ماتت امرأته، فخرج الولدان الآخران فى طلب أخويهما حتّى صارا الى قرية أخرى على الساحل خربة؛ فنزلاها فسمع بهما الأخوان اللّذان فى البطن الأوّل، فلحقا بهما؛ ونزلوا هناك، ووطئ كلّ منهما أخته؛ فرزقوا أولادا، وكثر منهم النسل، وانتشروا فى أعلى الأرض على ساحل البحر؛ فمنهم النّوبة والزّنج والبربر والهند والسند وجميع طوائف السودان. وأمّا يافث بن نوح، فإنه صار إلى المشرق، فولد له هناك خمسة أولاد «1» : جومر وتيرس وأشار وسفويل ومياشخ؛ فمن جومر جميع الصّقالبة والروم وأجناسهم؛ ومن تيرس جميع الترك والخزر وأجناسهم؛ ومن مياشخ جميع أصناف العجم؛ ومن أشار يأجوج ومأجوج؛ ومن سفويل جميع الأرمن: وأما سام بن نوح فولد خمسة أولاد: أرفخشذ، وهو أب العرب؛ ولاوذ وهو أبو العمالقة؛ وأشور، وهو أبو النسناس؛ وعيلم، وهو أبو العادية [الأولى] ، وإرم، وهو أبو عاد وثمود؛ ورزق غيرهم ممّن لم يعقب. الباب الخامس من القسم الأوّل من الفن الخامس فى قصة هود- عليه السلام- مع عاد وهلاكهم بالريح العقيم قال وهب: كان ملك عاد الأكبر اسمه الخلجان بن عاد بن العوص بن إرم ابن سام؛ وكان قومه يرجعون إلى فصاحة وشعر، وكان له ثلاثة أصنام: صدا وهبا، وصمو؛ وكان ملكهم قد حلّى هذه الأصنام بأنواع الحلّى، وطيّبها، وجعل لها عدّة من الخدم بعدد أيّام السنة؛ فعتوا فى المعاصى، وانهمكوا على عبادة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 51 الأصنام؛ وكان فيهم رجل من أشرافهم اسمه الخلود بن معيد بن عاد، وكان له بسطة فى الخلق وقوّة فى الجسم، مع الحسن والفصاحة؛ وكان إذا قيل له: لم لا تتزوّج وقد بلغت سنّ أبيك؟ يقول: رأيت فى المنام كأن سلسلة بيضاء قد خرجت من ظهرى، ولها نور كالشمس، وقيل لى: إذا رأيت هذه السلسلة قد خرجت من ظهرك ثانية فتزوّج بالتى تؤمر بتزوّجها؛ ولم أرها بعد، وقد عزمت على التزوّج. وقام ليعبر بيت الأصنام يدعو بالتوفيق فى التزوّج، فلما همّ بالدخول لم يقدر، وسمع هاتفا يقول: يا خلود، ما لمن فى ظهرك والأصنام؟ فلم يعد إليها. ثم رأى بعد ذلك فى منامه السلسلة وقد خرجت من ظهره وقائلا يقول: «قم يا خلود فتزوّج بابنة عمك» فانتبه وخطبها وتزوّجها، وواقعها فحملت بهود؛ وأصبح القوم وهم يسمعون من جميع النواحى: هذا هود قد حملت به أمّه، ويلكم، إن لم تطيعوه هلكتم. ووضعته أمّه فى ليلة الجمعة، فوقعت الرّعدة على قبائل عاد، ولم يعلموا ما حالهم؛ فعلموا أنه قد ولد لخلود ولد، فقال بعضهم لبعض: ليكونن لهذا الولد شأن فاحذروه. فخرج أحسن الناس وجها، وأكملهم عقلا، وسمّته أمّه عابر، فرأته أمّه ذات يوم يصلّى، فقالت: لمن هذه العبادة يا بنىّ؟ قال: لله الذى خلقنى وخلق الخلق. قالت: أليس هى لأصنامنا؟ قال: إنّ أصنامكم لا تضرّ ولا تنفع وإنما الشيطان قد زين لكم عبادتها. قالت: اعبد إلهك يا بنىّ، فقد رأيت منك حين كنت حملا وطفلا عجائب كثيرة. ذكر مبعث هود عليه السلام قال: ولم يزل هود فى ديار قومه يجادلهم فى أصنامهم، حتى أتت عليه أربعون سنة؛ فبعثه الله- عزّ وجلّ- إلى قومه رسولا، وأتاه الوحى، فانطلق إليهم وهم الجزء: 13 ¦ الصفحة: 52 متفرّقون فى الأحقاف، وهى الرمال والتّلال- وكانت مساكنهم ما بين عمان إلى حضرموت إلى الأحقاف إلى عالجة- فأتاهم فى يوم عيد لهم وقد اجتمع الملوك على الأسرّة والكراسىّ، وملكهم الخلجان على سرير من ذهب وهو متوّج وقد أحدقت به قبائل عاد، وهم فى اللهو والطرب؛ فلم يشعروا إلا وهود قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ وهذه الأصنام التى تعبدونها هى الّتى أغرقت قوم نوح، ولستم أكرم على ربّكم منهم؛ فآستغفروا ربّكم من عبادة هذه الأصنام. والأصنام ترتجّ؛ فقال له ملكهم: ويحك يا هود، أقبل إلىّ. فتقدّم إليه، فلما صار بين يدى الملك صاح صيحة أجابه الوحش والسباع: أبلغ «1» ولا تخف. فامتلأت قلوب الناس خوفا، فقام إليه رجل منهم وقال: يا هود، صف لنا إلهك. فوصف عظمة الله، وأنه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ - وكان الذى سأله عمرو بن الحلى- فلمّا فرغ من كلامه قال له الملك: يا هود، أتظن أنّ إلهك يقدر علينا وهذه كثرة جموعنا وشدّة قوّتنا؟ قال الله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً. فأوّل من آمن بهود رجل من قومه يقال له جنادة بن الأصمّ وأربعون من بنى عمّه؛ ثم انصرف إلى منزله. فلمّا كان من الغد أقبل جنادة وبنو عمّه حتى وقفوا على جماعة من سادات قومه، فقال: يا قوم لا تمنعكم مرارة الحق أن تقبلوه، ولا حلاوة الباطل أن تتركوه؛ وهذا ابن عمّكم هود قد عرفتم صدقه، وقد أتاكم من عند الله رسولا وواعظا فاتقوا الله وأطيعوه. وحذّرهم، فحصبوه وشتموه، فرجع إلى هود. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 53 فلما كان من الغد خرج هود فوقف عليهم وقال: يا قوم لا تبدّلوا نعمة الله كفرا. وأخذ يعظهم؛ فكذّبوه وواجهوه بالقبائح؛ فبقى على ذلك دهرا طويلا يلاطفهم وهم على كفرهم وعتوّهم؛ فأعقم الله أرحام نسائهم، فلم تحمل امرأة منهم؛ فشكوا ذلك إلى الملك، فأمرهم أن يخرجوا أصنامهم ويقرّبوا القرابين إليها؛ ففعلوا ذلك؛ فأتاهم هود وقال: يا قوم ألا تفزعون إلى الله الّذى خلقكم وأعطاكم هذه النعمة والقوّة، فإنه مجيبكم إذا سألتموه، ويزيدكم ملكا إلى ملككم وقوّة إلى قوّتكم وهو أن تقولوا معى: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له وإنى هود عبده ورسوله» وإن لم تفعلوا ذلك ضربكم الله بالذلّ والنّقمة، وهبّت عليكم الريح العقيم حتّى تذركم فى دياركم هشيما. فلمّا سمعوا ذلك منه ضربوه حتى سال الدم على وجهه وهو يقول: «إلهى قد أبلغت وأنذرت» . وأقبل إلى هود بعد انصرافه رجل من قومه يعرف بمرثد بن عاد، وقال: يا هود، إنّى قد جئتك فى أمر، فإن أخبرتنى به فأنت رسول الله. قال له هود: يا مرثد، كنت البارحة نائما مع زوجتك فواقعتها، فقالت لك: أتظنّ أنى قد حملت؟ فقلت لها: إنى صائر غدا إلى هود، فإن أخبرنى بهذا الكلام آمنت به. فقال مرثد: أشهد أنّك رسول الله حقا؛ ولكن أخبرنى هل حملت؟ قال: نعم حملت بولدين ذكرين يكونان من أمّتى، سيخرجان من بطنها سليمين مؤمنين؛ وستلد لك عشرة أبطن فى كلّ بطن ذكران، ويكونان من أمّتى. فوثب مرثد وقبّل رأس هود وكان من خيار أصحابه، وجعل مرثد يقول: من كان يصدق يوما فى مقالته ... فإنّ هودا رسول صادق القيل نبىّ صدق أتى بالحقّ من حكم ... وقد أتانا ببرهان وتنزيل فالحمد لله حمدا دائما أبدا ... مضاعفا «1» شكره فى كلّ تفصيل الجزء: 13 ¦ الصفحة: 54 ثم انصرف مرثد إلى امرأته وأخبرها، فآمنت؛ وكان مرثد يكتم إيمانه ويجالس قومه، فإذا سمعهم يذكرون هودا بسوء يقول: مهلا يا بنى عمّ فإنه كأحدكم وابن عمّكم. قال: ثم اجتمعوا فى متنزّه لهم وملكهم ونصبوا أصنامهم؛ فأقبل هود عليهم وقال: يا قوم اعبدوا الله فإن هذه الأصنام لا تضرّ ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع. فقال الرؤساء من قومه: إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً. فنادوه من كلّ ناحية: يا هود أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ* قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ. وكان القوم يشتمونه ويضربونه ويدوسونه تحت أرجلهم حتى يظنّوا أنه قد مات، ثم يولّون عنه ضاحكين؛ فيقوم غير مكترث بفعلهم؛ فلما أكثر عليهم قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ فآمن به فى ذلك اليوم رجل يقال له نهيل. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 55 قال: ولم يزل هود فيهم يحذرهم وينذرهم العذاب سبعين عاما؛ فلما رأى أنهم لا يؤمنون دعا الله تعالى أن يبتليهم بالقحط، فإن آمنوا وإلّا يهلكهم بعذاب لم يهلك به أحدا قبلهم ولا بعدهم؛ فاستجاب الله تعالى دعوته، وأمره باعتزالهم بمن معه من المؤمنين، فآعتزلهم فأمسك الله عنهم المطر، وأجدبت الأرض ولم تنبت ومات عامّة المواشى؛ فصبروا على ذلك أربع سنين حتى يئسوا من أنفسهم، وهمّوا أن يؤمنوا؛ فنهاهم الملك عن ذلك وصبّرهم؛ فأجمعوا رأيهم أن يبعثوا رجالا منهم إلى الحرم يستسقون لهم؛ والله الفعّال. ذكر خبر وفد عاد إلى الحرم يستسقون لهم قال وهب: فجمعوا الهدايا، واختاروا سبعين رجلا من أشرافهم، وجعلوا لكلّ عشرة منهم رئيسا، من جملتهم مرثد المؤمن؛ فسار وهو يدعو عليهم؛ فلما أشرفوا على الحرم إذا بهاتف يقول: قبّح الله قوم عاد وذلّوا ... إنّ عادا أشرّ أهل الجحيم سيّروا الوفد كى يسقوا غياثا ... فسيسقون من شراب الحميم فدخلوا الحرم والملك يومئذ معاوية بن بكر، وكانوا أخواله، فسألهم عما جاء بهم فأخبروه بخبر هود وبما حلّ بعاد، وأنّهم قد لجأوا إلى الحرم للاستسقاء؛ فأنزلهم معاوية فى منزل الضيافة، وأطعمهم وسقاهم شهرا؛ فشغلهم اللهو عن الاستسقاء؛ فبلغ الملك (الخلجان) ذلك، فبعث إلى معاوية يسأله أن يأمرهم بالاستسقاء، فكره مواجهتهم بذلك فيقولون: «قد تبرّم بضيافتنا» فدعا بالجرادتين- وهما قينتان لمعاوية- فقال لهما: إذا شرب القوم ودبّ فيهم الشراب فغنيّاهم بهذه الأبيات، وهى: بأبى من خلق الخل ... ق بنى سام وحام سادة سادوا جميع ال ... خلق فى الخلق التّمام الجزء: 13 ¦ الصفحة: 56 نصب الدهر عليهم ... حربه دون الأنام فسقى الله بنى عا ... د من الصّوب الغمام فأجابهما رجل من الوفد يقال له الجعد بن القيل: علّلينا- زانك اللّ ... هـ- بأكواب المدام وبماء فامزجيها ... تستريحى من ملام فلما لم يكترثوا بالصوت الأوّل قالت: ألا يا قيل ويحك قم فهينم «1» ... لعلّ الله يمنحكم غماما غماما صوبها هطل مغيث ... يروّى السّهل طرّا والإكاما من العطش الشديد فليس نرجو ... بها الشيخ الكبير ولا الغلاما وقد كانت نساؤهم بخير ... فقد أمست نساؤهم عياما «2» وأنّ الوحش تأتيهم جهارا ... ولا تخشى لعادىّ سهاما وأنتم هاهنا فيما اشتهيتم ... نهاركم وليلكم التّماما فقبّح وفدكم من وفد قوم ... ولا لقوا التحيّة والسلاما أفيقوا أيّها الوفد السّكارى ... لقومكم فقد أضحوا هياما فقد طال المقام على سرور ... ألا يا قيل ويك ذر المداما قال: فانتبه الناس وقاموا فاغتسلوا ولبسوا ثيابا جددا، وكسوا البيت بالكسوة التى حملوها له؛ فجعل ينفضها؛ فقال مرثد: يا قوم، إنّ ربّ هذا البيت لا يقبل الهديّة إلّا من مؤمن، فهل لكم أن تؤمنوا بهود؟ فقالوا: يا مرثد: إنّ كلامك يدلّ على إيمانك به، ونحن لا نؤمن به أبدا. فأنشأ يقول: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 57 أرى عادا تمادى «1» في ضلال ... وقد عدلوا عن الأمر الرشيد بما كفرت بربّهم جهارا ... وحادوا رغبة عن دين هود فاجتمعوا يستسقون، فقال واحد منهم: يا ربّ عاد اسقينّ عادا ... إنّك حقّا ترحم العبادا فاسق البساتين وذى البلادا ... أجواد «2» غيث تتبع العهادا وجعل كلّ واحد منهم يتكلّم بما حضره من ذلك. ثم تكلّم مرثد بن سعد- وهو المؤمن الّذى يكتم إيمانه- وقال: اللهمّ إنا لم نأتك إلى حرمك إلّا لأرض تسقيها، أو أمّة تحييها. فأوحى الله إلى ملك السحاب أن ينشر لهم ثلاث غمامات: بيضاء وحمراء وسوداء؛ وجعل السوداء مشوبة بغضبه، فارتفعت البيضاء، وتبعتها الحمراء خلفهما السوداء، فارتفعت حتى رأى الوفد جميع الغمامات؛ ففرحوا واستبشروا ثم نودوا: يا قيل، اختر لقومك من هذه السحائب. فنظر فقال: أمّا البيضاء فإنها جهام لا ماء فيها؛ وأمّا الحمراء فإنها إعصار ريح. فاختار السوداء. فنودى: يا قيل، اخترت رمادا أرمدا، لا يبقى من قوم عاد أحدا، إلا تراهم فى الديار همّدا. ذكر إرسال العذاب على قوم هود قال: وأوحى الله إلى (مالك) خازن جهنّم أن يقبض على سلاسل السوداء وليكن عليها ألف من الزبانية. قال كعب: إن هذه السلسلة غمست فى سبعين واديا من أودية الزمهرير ولولا ذلك لذابت الجبال من حرّها. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 58 فمدّت الزبانية السلاسل، وجعلت السحابة ترمى بشرر كالجبال، وخرجت عليهم من واد يقال له: (وادى الغيث) فنظروا إليها فقال بعضهم لبعض: هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا قال الله تعالى: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها. وأخرج القوم أصنامهم ونصبوها على أسرتها؛ فأمر الله تعالى خازن الريح العقيم أن يفتح بعض أطباقها، فانطلقت ناشرة أجنحتها بعدد قبائل عاد؛ فلمّا عاينوا الملائكة يطوفون حول السحاب تيقّنوا العذاب، فأدخلوا النساء والولدان فى الحصون وخرجوا ونشروا أعلامهم وأوتروا قسيّهم، وأفرغوا السهام بين أيديهم، والرياح ساكنة تنتظر أمر ربّها، وهود قائم ينذرهم العذاب، وهم يقولون: ستعلم يا هود من أشدّ منا قوّة وبطشا. حتى إذا كانت صبيحة الأربعاء، خرجت الريح عليهم فى يوم نحس مستمرّ، فكانت فى اليوم الأوّل شهباء، فلم تترك على وجه الأرض شيئا إلّا نسفته نسفا؛ وفى اليوم الثانى صفراء، فاقتلعت الأشجار؛ وفى اليوم الثالث حمراء، فدمّرت كلّ شىء مرّت عليه؛ فلم يزل يجرى فى كلّ يوم لون والنساء ينظرن إلى فعلها بقومهنّ، فجعلن يقلن شعرا: ألا قد ذهب الدّه ... ر بعمرو ذى العليّات وبالحارث والقمقا ... م طلّاع الثّنيّات ومن سدّ مهب الري ... ح فى وقت البليّات واستمرت الريح سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً ، أى دائمة؛ فلما كان فى اليوم الثامن اصطفّت القوم صفوفا، كلّ واحد إلى جنب أخيه، وهم عشرة صفوف؛ فجعل ملكهم الخلجان يشجّعهم ويقول: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 59 ما بال «1» عاد اليوم خائفينا؟ ... أمن مهبّ الريح يجزعونا؟ لقد خشيت أن يكونوا دونا ... إنّ البنين تعقب البنينا هذا والرّيح تمزّقهم، فكانت تدخل فى ثوب الرجل فتحمله فى الهواء، ثم ترميه على رأسه ميتا. قال الله تعالى: كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ. فلم يبق منهم إلا الملك أخّره الله تعالى ليرى مصارع قومه، وهو يردّ الريح بصدره، فجاءت الريح فدخلت من فيه وخرجت من دبره، فمات؛ ثم مرّت الريح نحو الوفد، فحملتهم من الأرض إلى الهواء، فألقتهم على وجوههم؛ فماتوا عن آخرهم. قال: وهود فى حظيرة بمن معه من المؤمنين لا يصيبهم منها إلا ما تلين له الجلود. قال الله تعالى وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ. قال: وارتحل هود ومن معه من أرض عاد إلى الشّحر من بلاد اليمن؛ فنزلوا هناك حولين، ثم مات. ويقال: إنه دفن بأرض (حضرموت) ؛ والله أعلم. ذكر خبر مرثد ولقمان قال: وخرج من وفد عاد مرثد، ولقمان بن عاد، فدخلا مكة منفردين، فدعوا الله تعالى لأنفسهما؛ فقيل لهما: قد أعطيتما مناكما، فاختارا لأنفسكما، إلا أنه لا سبيل إلى الخلود. فقال مرثد: اللهم أعطنى برّا وصدقا. فأعطى ذلك. وقال لقمان: «يا ربّ عمرا» . فقيل له: اختر لنفسك بقاء سبع بقرات صفر عفر الجزء: 13 ¦ الصفحة: 60 فى جبل وعر، لا يمسّهن ذعر؛ وإن شئت بقاء سبع نوايات من تمر، مستودعات فى صخر، لا يمسّهن ندى ولا قطر؛ وإن شئت بقاء سبعة أنسر كلّما هلك نسر أعقب من بعده نسر. فاختار الأنسر، فكان يأخذ الفرخ منها حين يخرج من بيضته، فإذا مات أخذ غيره، فكان كلّ نسر يعيش ثمانين سنة، حتى انتهى إلى السابع، فكان آخرها لبد؛ فلما مات لبد مات معه لقمان، وهو لقمان النسور. ولنصل هذا الباب بخبر إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ ، وقصّة شديد وشدّاد. ذكر خبر إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ وقصّة شديد وشدّاد بنى عاد قد ذكرنا خبر إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ فيما تقدّم من كتابنا هذا على سبيل الاختصار وذلك فى (الباب الثالث من القسم الخامس من الفن الأوّل فى المبانى القديمة) وهو فى السفر الأوّل من هذه النسخة؛ ورأينا إيراده فى هذا الباب بما هو أبسط من ذلك لتعلّقه به. قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ. روى أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبىّ فى كتابه المترجم (بيواقيت البيان فى قصص القرآن) عن منصور عن سفيان عن أبى وائل أنّ رجلا يقال له: (عبد الله بن قلابة) خرج فى طلب إبل له قد شردت، فبينما هو فى بعض صحارى عدن فى تلك الفلوات، إذ وقف على مدينة عليها حصن، حول ذلك الحصن قصور كثيرة وأعلام طوال؛ فلمّا دنا منها ظنّ أن فيها من يسأله عن إبله فلم ير داخلا فيها ولا خارجا منها، فنزل عن ناقته وعقلها، وسلّ سيفه، ودخل من باب الحصن، فاذا هو ببابين عظيمين لم ير فى الدنيا أعظم منهما ولا أطيب رائحة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 61 وإذا خشبهما من أطيب عود، وعليهما نجوم من ياقوت أصفر وياقوت أحمر ضوءها قد ملأ المكان؛ فلما رأى ذلك عجب، ففتح أحد البابين، فاذا هو بمدينة لم ير الراءون مثلها قطّ، وإذا هو بقصور تتعلّق، تحتها أعمدة من زبرجد وياقوت وفوق كلّ قصر منها غرف مبنيّة بالذهب والفضّة واللؤلؤ والياقوت والزبرجد، وعلى كلّ باب من أبواب تلك القصور مصراع كمصراع باب المدينة من عود طيّب، قد نضّدت عليه اليواقيت؛ وقد فرشت تلك القصور باللؤلؤ وبنادق المسك والزعفران ولم ير هنالك أحدا، فأفزعه ذلك، ثم نظر إلى الأزقّة فاذا فى كلّ زقاق منها أشجار قد أثمرت، تحتها أنهار تجرى؛ فقال: هذه الجنّة التى وصفها الله تعالى لعباده فى الدنيا الحمد لله الذى أدخلنى الجنة. فحمل من لؤلؤها وبنادق المسك والزعفران ولم يستطع أن يقلع من زبرجدها ولا ياقوتها لأنّها كانت مشتبكة فى أبوابها وجدرانها وكان اللؤلؤ وبنادق المسك والزعفران منثورة بمنزلة الرمل فى تلك القصور والغرف؛ فأخذ منها ما أراد، وخرج؛ ثم سار يقفو أثر ناقته حتى رجع إلى اليمن، فأظهر ما كان معه، وأعلم الناس بخبره، وباع ذلك اللؤلؤ، وكان قد اصفرّ وتغيّر من طول الزمان الذى مرّ عليه، ففشا خبره وبلغ معاوية، فأرسل رسولا إلى صاحب (صنعاء) ، وكتب بإشخاصه، فسار حتى قدم على معاوية، فخلا به وسأله عمّا عاين؛ فقصّ عليه أمر المدينة وما رأى فيها؛ فاستعظم ذلك، وأنكر ما حدّث به، وقال: ما أظنّ ما يقول حقّا. ثم قال: يا أمير المؤمنين، معى من متاعها الّذى هو مفروش فى قصورها وغرفها وبيوتها. قال له: ما هو؟ قال: اللؤلؤ والبنادق. فشمّ البنادق فلم يجد لها ريحا؛ فأمر ببندقة منها فدقّت، فسطع ريحها مسكا وزعفرانا؛ فصدّقه عند ذلك؛ ثم قال معاوية: كيف أصنع حتى أسمع باسم هده المدينة ولمن هى ومن بناها؟ والله ما أعطى أحد مثلما أعطى سليمان بن داود الجزء: 13 ¦ الصفحة: 62 وما أظنّ أنه كان له مثل هذه المدينة. فقال بعض جلسائه: ما تجد خبر هذه المدينة إلّا عند (كعب الأحبار) فإن رأى أمير المؤمنين أن يبعث إليه ويأمر بإشخاصه ويغيّب عنه هذا الرجل فى موضع ويسمع كلامه منه وحديثه ووصف المدينة حتّى يتبيّن أمر هذه المدينة فعل، فإنّ كعبا سيخبر أمير المؤمنين بخبرها وأمر هذا الرجل إن كان دخلها، لأن مثل هذه المدينة على هذه الصفة لا يستطيع هذا الرجل دخولها، إلّا أن يكون سبق فى الكتاب دخوله إيّاها فيعرف ذلك. فأرسل معاوية إلى (كعب الأحبار) وأحضره ثم قال له: يا أبا إسحاق إنّى دعوتك لأمر رجوت أن يكون علمه عندك. فقال له: يا أمير المؤمنين «على الخبير سقطت» فسلنى عما بدا لك. فقال له: أخبرنا يا أبا إسحاق، هل بلغك أن فى الدنيا مدينة مبنيّة بالذهب والفضّة، عمدها زبرجد وياقوت، وحصا قصورها وغرفها اللؤلؤ، وأنهارها فى الأزفة تحت الأشجار؟ قال: والّذى نفس كعب بيده لقد ظننت أن سأتوسّد «1» يمينى قبل أن يسألنى أحد عن تلك المدينة وما فيها ولكن أخبرك بها يا أمير المؤمنين ولمن هى، ومن بناها. أمّا المدينة فهى حقّ على ما بلغ أمير المؤمنين وعلى ما وصفت له. وأمّا صاحبها الّذى بناها فشدّاد بن عاد. وأمّا المدينة فهى إرم ذات العماد التى لم يخلق مثلها فى البلاد. فقال له معاوية: يا أبا إسحاق، حدّثنا بحديثها- يرحمك الله-. فقال كعب: نعم يا أمير المؤمنين، إن عادا كان له ابنان يسمّى أحدهما «شديدا» والآخر «شدّادا» ؛ فهلك عاد، فبقيا وملكا وتجرّآ، فقهرا أهل البلاد، وأخذاها عنوة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 63 وقسرا، حتى دان لهما جميع الناس، فلم يبق أحد من الناس فى زمانهما إلّا دخل فى طاعتهما، لا فى شرق الأرض ولا فى غربها؛ وإنهما لمّا صفا لهما ذلك وقرّ قرارهما مات شديد بن عاد، وبقى شدّاد، فملك وحده، ولم ينازعه أحد ودانت له الدنيا كلّها؛ فكان مولعا بقراءة الكتب القديمة، وكان كلّما مرّ فيها بذكر الجنة دعته نفسه لتعجيل تلك الصفة لنفسه الدنيّة عتوّا على الله وكفرا؛ فلما وقر ذلك فى نفسه أمر بصنعة تلك المدينة الّتى هى إرم ذات العماد، وأمر على صنعتها مائة قهرمان، مع كلّ واحد ألف من الأعوان. ثم قال: انطلقوا إلى أطيب فلاة من الأرض وأوسعها، واعملوا فيها مدينة من ذهب وفضّة وياقوت وزبرجد ولؤلؤ، تحت تلك المدينة أعمدة من زبرجد، وعلى المدينة قصور، من فوق القصور غرف، ومن فوق الغرف غرف، واغرسوا تحت القصور غروسا فيها أصناف الثمار كلّها، وأجروا فيها الأنهار حتى تكون تحت تلك الأشجار جارية، فإنّى أسمع فى الكتب صفة الجنة، وإنى أحبّ أن أتخذ مثلها فى الدنيا، أتعجل سكناها. فقال له قهارمته: كيف لنا بالقدرة على ما وصفت لنا من الزبرجد والياقوت واللؤلؤ والذهب والفضة نبنى منها مدينة كما وصفت لنا؟ فقال لهم شدّاد: ألستم تعلمون أن ملك الدنيا كلّها بيدى؟ فقالوا: بلى. قال: انطلقوا إلى كلّ موضع فيه معدن من معادن الزبرجد والياقوت والذهب والفضة، وكلّفوا من كلّ قوم رجلا يخرج لكم ما فى كلّ معدن من تلك الأرض؛ ثم انظروا إلى ما فى أيدى الناس من ذلك فخذوه، سوى ما يأتيكم به أصحاب المعادن، فإنّ معادن الدنيا فيها كثير من ذلك، وما فيها ممّا لا تعلمون أكثر وأعظم ممّا كلّفتكم من صنعة هذه المدينة. قال: فخرجوا من عنده، وكتب معهم إلى كلّ ملك من ملوك الدنيا يأمره أن يجمع لهم ما فى بلده من الجواهر، ويحفر معادنها؛ فانطلق القهارمة، وبعث الكتب الجزء: 13 ¦ الصفحة: 64 إلى الملوك بأخذ كلّ ما يجدونه فى أيدى الناس عشر سنين من الزبرجد والياقوت واللؤلؤ والذهب والفضة، ويبعثون بذلك إلى فعلة إرم ذات العماد. وخرج الفعلة يطلبون موضعا كما وصفه لهم شدّاد. فقال معاوية: يا أبا إسحاق، كم كان عدد أولئك الملوك الذين كانوا تحت يد شدّاد؟ قال: كانوا مائتين وستّين ملكا. قال: فخرج عند ذلك الفعلة والقهارمة، فتفرّقوا فى الصحارى ليجدوا ما يوافق غرضه؛ فوقعوا فى صحراء عظيمة نقيّة من الجبال والتلال. وإذا هم بعيون مطّردة؛ فقالوا: هذه صفة الأرض التى أمرنا بها؛ فأخذوا منها بقدر ما أمرهم به من العرض والطول، ثم عمدوا إلى مواضع الأزقّة فأجروا فيها قنوات الأنهار؛ ثم وضعوا الأساس من صخور الجزع اليمانىّ، وعجنوا طين ذلك الأساس من دهن البان والمحلب؛ فلمّا فرغوا من وضع الأساس بعث بالعمد والذهب والفضّة من جهة الملوك؛ فتسلّمها الوزراء والقهارمة، وأقاموا حتى فرغوا من بنائها على ما أراد شدّاد. فقال معاوية: يا أبا إسحاق، إنى لأحسبهم أقاموا فى بنائها زمنا من الدهر. قال: نعم يا أمير المؤمنين. إنى لأجد فى التوراة مكتوبا أنهم أقاموا فى بنائها ثلاثمائة سنة. فقال معاوية: كم كان عمر شدّاد؟ فقال: سبعمائة سنة. فقال معاوية: لقد أخبرتنا عجبا، فحدّثنا. فقال: يا أمير المؤمنين، إنّما سمّاها الله تعالى إرم ذات العماد الّتى لم يخلق مثلها فى البلاد، للعمد التى تحتها من الزبرجد والياقوت وليس فى الدنيا مدينة من الزبرجد والياقوت غيرها، فلذلك قال الله تعالى: لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ. وقال كعب: إنّهم لما أتوه فأخبروه بفراغهم منها قال: انطلقوا واجعلوا عليها حصنا، واجعلوا حول الحصن ألف قصر، عند كلّ قصر ألف علم، ويكون فى كلّ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 65 قصر وزير من وزرائى، ويكون كلّ علم عليه ناطور. فرجعوا فعملوا تلك القصور والأعلام والحصن؛ ثم أتوه فأخبروه بالفراغ ممّا أمرهم به. قال: فأمر شدّاد ألف وزير من خاصّته أن يهيّئوا أسبابهم، ويعوّلوا على النقلة إلى إرم ذات العماد، وأمر رجالا أن يسكنوا تلك الأعلام ويقيموا فيها ليلهم ونهارهم، وأمر لهم بالعطاء والأرزاق، وأمر من أراد من نسائه وخدمه بالجهاز إلى إرم ذات العماد؛ فأقاموا فى جهازهم عشر سنين؛ ثم سار الملك شدّاد بن عاد بمن أراد، وتخلّف من قومه فى عدن من أمره بالمقام بها. قال: فلمّا استقلّ وسار إليها ليسكن فيها، وبلغ منها موضعا بقى بينه وبين دخوله إليها مسيرة يوم وليلة، بعث الله تعالى عليه وعلى من كان معه صيحة من السماء، فأهلكتهم جميعا، ولم يبق منهم أحد، ولم يدخل شدّاد ولا من كان معه إرم ذات العماد، ولم يقدر أحد منهم على الدخول فيها حتى الساعة. فهذه صفة إرم ذات العماد، وأنّه سيدخلها رجل من المسلمين فى زمانك ويرى ما فيها، فيحدّث بما عاين، ولا يسمع منه ولا يصدّق. فقال معاوية: يا أبا إسحاق، فهل تصفه لنا؟ قال: نعم، هو رجل أحمر أشقر قصير، على حاجبه خال، وعلى عقبه خال، يخرج فى طلب إبل له ندّت فى تلك الصحارى فيقع على إرم ذات العماد، فيدخلها ويحمل ممّا فيها. والرجل جالس عند معاوية. فالتفت كعب فرأى الرجل، فقال: هو هذا يا أمير المؤمنين قد دخلها، فاسأله عما حدّثتك به. فقال معاوية: يا أبا إسحاق، إنّ هذا من خدمى، ولم يفارقنى. قال كعب: قد دخلها وإلّا سوف يدخلها، وسيدخلها أهل هذا الدين فى آخر الزمان. قال معاوية: يا أبا إسحاق، لقد فضّلك الله على غيرك من العلماء الجزء: 13 ¦ الصفحة: 66 ولقد أعطيت من علم الأوّلين والآخرين ما لم يعطه أحد. فقال: والّذى نفس كعب بيده، ما خلق الله تعالى فى الأرض شيئا إلّا وقد فسّره فى التوراة لعبده موسى تفسيرا، وإن هذا القرآن أشدّ وعيدا (وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً) * والله الهادى للصواب. قال أبو إسحاق الثعلبىّ- رحمه الله تعالى- وقال الشعبىّ: أخبرنا دغفل الشيبانىّ عن رجل من أهل (حضرموت) يقال له: بسطام، أنه وقع على حفيرة شدّاد بن عاد فى جبل من جبال حضرموت مطلّ على البحر. قال: وكنت أسمع من صباى إلى أن اكتهلت بمغارة فى جبل من جبالنا بحضرموت وهيبة الناس لدخولها، فلم أحتفل بما كنت أسمع من ذلك؛ فبينما أنا فى نادى قومى إذ تناشدوا حديث تلك المغارة وأطنبوا فى ذكرها ووصفوا موضعها؛ فقلت لقومى: إنى غير منته حتى أدخلها، فهل فيكم من يساعدنى؟ فقال فتى منهم حدث السنّ: أنا أصاحبك. فقلت: يابن أخى، أو تجسر على ذلك؟ قال: عندى ما عند أشدّ رجل من رباطة الجأش وشدّة القلب. فهيّأنا شمعة وحملنا معنا إداوة عظيمة مملوءة ماء وطعاما مقدار ما قدرنا على حمله؛ ثم مضينا نحو ذلك الجبل الذى فيه المغارة- وكان مشرفا على المكان الذى يركب أهل حضرموت منه البحر- فلما انتهينا إلى باب المغارة حزمنا علينا ثيابنا؛ وأشعلنا الشمعة؛ ثم ذكرنا الله تعالى، ودخلنا ومعنا تلك الإداوة وذلك الطعام، فإذا بمغارة عظيمة عرضها عشرون ذراعا، وطولها علوا نحو خمسين ذراعا؛ فمشينا فيها هونا فى طريق أملس مستو، ثم أفضينا إلى درجات عالية عرض الدرجة عشرون ذراعا فى سمك عشر أذرع، فحملنا أنفسنا على نزول تلك الدرجات فقلت لصاحبى: هلمّ، إلىّ يديك. فكنت آخذ بيده حتى ينزل، فإذا نزل وقام فى الدرجة تعلّقت بطرف الدرجة وتسيّبت حتى تنال رجلاى منكبيه؛ فلم نزل الجزء: 13 ¦ الصفحة: 67 كذلك وذلك دأبنا عامّة يومنا، حتى نزلنا ذلك الدّرج وكانت مقدار مائة درجة؛ فأفضينا إلى أزج عظيم محفور فى الجبل، فى طول مائة ذراع، فى عرض أربعين ذراعا، وسمكه فى السماء نحو مائة ذراع، وفى صدره سرير من ذهب مفصّص بأصناف الجواهر، وفوقه رجل عظيم الجسم، قد أخذ طول هذا الأزج وعرضه وهو مضطجع على ظهره كهيئة النائم، وعليه سبعون حلّة بمقدار طوله وعرضه منسوجة تلك الحلل بقضبان الذهب والفضة، وإذا فى ذلك الأزج نقب عرضه ذراعان، وارتفاعه ثلاث أذرع، خارج إلى فضاء لم ندر ما هو، وإذا على رأس السرير لوح من ذهب، فيه كتاب بالمسند- وهو كتاب عاد كانت تكتبه فى زمانها- محفور ذلك الكتاب فى اللوح حفرا؛ فقلعناه ودنونا من الرجل فمسسنا تلك الحلل فصارت رميما، وبقيت قضبان الذهب قائمة، فجمعناها وكانت مقدار مائة رطل، فحملناها فى أزرنا، وأردنا قلع شىء من تلك الجواهر المفصّص بها السرير، فلم نقدر عليه لوثاقته، فتركناه؛ وهجم علينا الليل، ونحن فى ذلك الأزج وعرفنا ذلك بذهاب ذلك الضوء الذى كان يدخل من ذلك النّقب، فبتنا ليلتنا فى ذلك الأزج، وطفئت الشمعة التى كانت معنا؛ فلما أصبحنا قلت لصاحبى: ما ترى؟ قال: أما الرجوع من حيث جئنا فلا سبيل إليه، لارتفاع الدّرج، وأنا لا نستطيع صعودها، لا سيّما والشمعة قد طفئت، ولكن هلّم لنلزم هذا الضوء الذى نراه فى هذا النقب، فإنى أرجو أن يخرج بنا إلى الفضاء إن شاء الله تعالى. فقلت له: لعمرى إنّ هذا لهو الرأى. قال: فانطلقنا بما معنا من تلك القضبان من الذهب، وحملناها مع ذلك اللوح الذهب الذى كان عند رأس السرير، ومشينا فى ذلك النّقب نتبع ذلك الضوء، فلم نزل نمشى فيه فى طريق ضيق مقدار مائة ذراع حتى خرجنا منه إلى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 68 كهف فى ذلك الجبل كهيئة الحائط، وقد حفّ بذلك الكهف البحر؛ فجلسنا على باب ذلك النّقب ثلاثة أيّام نتموّن بقيّة ما كان معنا من الماء والطعام؛ فلمّا كان فى اليوم الرابع نظرنا إلى مركب قد أقبل فى البحر فلوّحنا إلى من فيه، فأرسلوا إلينا القارب، فنزلنا من باب ذلك النقب نزولا شاقّا حتى وثبنا إلى القارب بما معنا، ثم خرجنا من البحر فقسمنا ذلك الذهب بيننا، وصار ذلك اللّوح إلىّ بقسطى. قال: ثم إنّ أنفسنا دعتنا إلى العودة إلى ذلك السّرب ممّا يلى النّقب من جهة البحر، فركبنا قاربا وسرنا فى البحر نحو المكان الذى كنّا فيه، فنزلنا منه، فخفى علينا فعلمنا أنّا لم نرزق من ذلك المكان إلّا ما أخذناه، فرجعنا. قال: ومكث ذلك اللوح عندى حولا وأنا لا أجد من يقرؤه، حتى أتانا رجل حميرىّ من أهل صنعاء كان يحسن قراءة تلك الكتابة، فأخرجت إليه اللوح فقرأه، فإذا فيه مكتوب هذه الأبيات: اعتبر بى أيّها المغ ... رور بالعمر المديد أنا شدّاد بن عاد ... صاحب الحصن العتيد وأخو القوّة والبأ ... ساء والملك الشديد وبفضل الملك والع ... دّة فيه والعديد دان أهل الأرض طرّا ... لى من خوف وعيدى وملكت الشرق والغر ... ب بسلطان شديد فأتى هود وكنّا ... فى ضلال قبل هود فدعانا- لو قبلنا ... هـ- إلى الأمر الرشيد فعصيناه ونادي ... نا ألا هل من محيد فأتتنا صيحة ته ... وى من الأفق البعيد الجزء: 13 ¦ الصفحة: 69 فتوافينا كزرع ... وسط بيداء حصيد وقد ساق أبو إسحاق الثعلبىّ أيضا هذه الأبيات بهذا السند دون القصّة فى تفسيره (الكشف والبيان عن تفسير القرآن) وفيها فى البيت الرابع بدل قوله: ... طرا لى من خوف وعيدى دان أهل الأرض لى من ... خوف وعدى ووعيدى قال أبو إسحاق- رحمه الله- قال دغفل الشيبانىّ: سألت علماء حمير عن شدّاد بن عاد، فقلت: إنه أصيب وكان قد دنا من إرم ذات العماد، فكيف وجد شلوه فى تلك المغارة وهى بحضرموت؟ فقالوا: إنّه لمّا هلك هو ومن معه بالصيحة، ملك بعده مرثد بن شدّاد، وقد كان أبوه خلّفه على ملكه بحضرموت فأمر بحمل أبيه إلى حضرموت، فحمل مطلّيا بالصبر والكافور، فأمر أن تحفر له تلك المغارة، واستودعه فيها على ذلك السرير الذهب؛ والله تعالى أعلم. هذا ما أورده- رحمه الله- من خبر إرم ذات العماد وخبر شديد وشدّاد بنى عاد. وقد ذكر فى هذه الأبيات هود النبىّ- عليه السلام- فى قوله: فأتى هود وكنّا ... فى ضلال قبل هود الأبيات الخمسة. وقد تقدّم فى خبر هود وهلاك عاد بالريح العقيم، أن ملكهم القائم بأمرهم فى زمن هود كان اسمه الخلجان بن الوهم بن عاد، وأنه هلك بالريح العقيم إثر هلاك قومه، ولم يرد أنّه آمن بالله تعالى؛ وهذه الأبيات تدلّ على ندم قائلها؛ ومقتضى هذا السياق فيه دلالة على أن شدّاد بن عاد هذا المذكور آنفا، وابنه مرثد بن شدّاد وخبر إرم ذات العماد، كان قبل مبعث هود- عليه السلام- والله تعالى أعلم. ولنرجع إلى قصص الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- الجزء: 13 ¦ الصفحة: 70 الباب السادس من القسم الأوّل من الفنّ الخامس فى قصة صالح- عليه السلام- مع ثمود وعقرهم الناقة وهلاكهم قال الكسائىّ: قال كعب: لما أهلك الله- عزّ وجلّ- عادا، جاءت ثمود وعمرت الأرض، وكانوا بضع عشرة قبيلة، فى كلّ قبيلة زيادة عن سبعين ألفا سوى النساء والذرّيّة، وكثروا حتى صاروا فى عدد عاد وأكثر، وكانوا ذوى بطش وقوّة وتجبّر وكفر وفساد، وكانت منازلهم ما بين الحجاز إلى الشأم، وهى ديار الحجر من وادى القرى، وكان ملكهم جندع بن عمرو بن عاد بن ثمود بن إرم بن سام ابن نوح. وقيل فى نسبه: إنّه جندع بن عمرّد بن عمرو بن الدّميل بن عاد بن ثمود ابن عائذ بن إرم بن سام، وكانت طائفة ممّن آمنت بهود يذكرون له كيف أهلك الله قوم عاد بالريح العقيم، وكيف كانت سيرة هود فيهم؟ فيقول: إنّما هلكت عاد لأنها لم تكن تشيّد بنيانها: ولا تنصح آلهتها، وكان بنيانهم على الأحقاف التى هى الرمال، ونحن أشدّ قوّة وبناء وبلادا، ونحن نتخذ الجبال بيوتا فننحتها فى الصخر لئلّا يكون للرّيح عليها سبيل، ونحن نعبد آلهتنا حقّ العبادة. قال كعب: كانت قوّة الرجل منهم أن ينحت فى الجبل بيتا طوله مائة ذراع فى عرض مثل ذلك، ويضربه بصفائح الحديد، ويغلّق بابا من حديد مصمّت لا يفتحه إلّا القوىّ منهم، وكانت منازلهم أوّلا بأرض كوش فى بلاد عالج «1» ، فانتقلوا إلى هذه البلاد لكثرة جبالها. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 71 قال: ثم اجتمع كبراؤهم إلى ملكهم جندع، وقالوا: نريد أن نتّخذ لأنفسنا إلها نعبده، لم يكن مثله لقوم عاد ولا قوم نوح. فأذن فى ذلك، فنحتوا صنما من جبل يقال له: (الكثيب) وجعلوا وجهه كوجه الإنسان، وعنقه وصدره كالبقر ويديه ورجليه كالخيل، وضربوه بصفائح الذهب والفضّة، وعقدوا على رأسه تاجا، ورصّعوه بالدرّ والجوهر؛ فلمّا كمل خرّوا له سجّدا؛ وقرّبوا القربان، وأقبلوا إلى الملك فقالوا له: اخرج إلى هذا الإله الّذى أتعبنا أنفسنا فى اتّخاذه. فخرج الملك إليه فى زينته وأصحابه؛ فلما رأوه خرّوا له سجّدا؛ ثم أمر الملك أن يتخذ له بيت، وأن يسقّف بصفائح الذهب والفضّة، ويرصّع بالجوهر، وتفرش أرضه بالدّيباج؛ وأمر أن تتّخذ لسائر الأصنام بيوت، وأن يتخذ سرير من العاج والابنوس على عرض البيت، قوائمه من الفضّة، وأن تعلّق قناديل الفضّة بسلاسل الذهب وأمر أن يجعل للبيت مصراعان فى كلّ مصراع مائة حلقة من الذهب والفضّة ويعلّق عليهما ستران، وسمّاهما ستور العزّ، ووضع الصنم على ذلك السرير، وسائر الأصنام الصغار على كراسىّ العاج والآبنوس؛ وأمر أن يندب لخدمة الأصنام رجل من أشراف قومه وأحسنهم وأنسبهم؛ فقالوا: ليس فى ثمود أشرف نسبا وأجمل وجها من كانوه «1» . فاستدعاه وقرّبه وتوّجه وسوّده، وجعله على خدمة الأصنام؛ فقبل ذلك، وتفرّغ لخدمتها وعبادتها، وقوم ثمود يعبدون ذلك الصنم، وقد ازدادوا عتوّا وتجبّروا وكفرا وفسادا، والله تعالى يزيدهم سعة وخصبا، وهم يرون أن ذلك كلّه من بركات أصنامهم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 72 ذكر ميلاد صالح- عليه السلام- قال: فبينما كانوه «1» فى بيت الأصنام إذ تحرّكت نطفة صالح فى ظهره، وصار لها نور على عينيه، وسمع هاتفا يقول: (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) ألا بعدا وسحقا لثمود لكفرهم، وهذا صالح بن كانوه يصلح الله به الفساد. ففزع من ذلك، وذهب ليتقدّم إلى الصنم الأكبر، فنطق بإذن الله وقال: مالى ومالك يا كانوه، مثلك يخدمنى وقد استنارت الأرض بنور وجهك للنور الذى فى ظهرك؟! ثم تنكّس الصنم عن سريره، فأعاده كانوه وأعوانه إلى السرير، وبلغ الملك ذلك، فاغتمّ له؛ فقال له أصحابه: إنّ هذا لسوء خدمة كانوه فإنّه لا يوفّى الآلهة حقّها فى الخدمة. وهمّوا بقتله، فأخفاه الله تعالى عن عيونهم؛ فلمّا كان الليل هبط عليه ملك من السماء، فاحتمله وهو نائم، وألقاه فى واد على أميال من ديار قومه وهو لا يدرى فى أى موضع هو، فنظر غارا فى جبل هناك، فدخله ليكنّه من حرّ الشمس ونام، فضرب الله على أذنه مائة سنة، وفقده قومه، ونصبوا لخدمة أصنامهم رجلا منهم يقال له: داود بن عمرو، فبينما هم كذلك وقد خرجوا فى يوم عيد لهم إذ نطقت الأشجار بإذن الله وقالت: يا آل ثمود، ألا تعتبرون، إنّ الله يخرج لكم فى السنة من الثمار مرّتين، ثم تكفرون بنعمة ربّكم وتعبدون سواه. ونطقت المواشى كذلك فعمدوا إلى الأشجار فقطّعوها، وعقروا المواشى؛ فنطقت السباع ونادت من رءوس الجبال: ويلكم يا آل ثمود، لا تقطعوا هذه الأشجار وتذبحوا هذه المواشى وقد نطقت بالحقّ. فخرجوا إلى السباع بالأسلحة وهى تهرب من بين أيديهم الجزء: 13 ¦ الصفحة: 73 وتستغيث بالله وتقول: اللهم طهّر أرضك بنبيّك صالح، وارفع به الفساد. والقوم يسمعون ذلك ويقولون: قد كفر هؤلاء بآلهتنا. قال: وكان لكانوه فى ديار قومه امرأة يقال لها: (رعوم) وهى كثيرة البكاء عليه منذ فقدته؛ فبينما هى ذات ليلة وإذا بغراب نعق، فقامت لتنظر إليه، فرأته على مثال الغراب، ورأسه أبيض، وظهره أخضر، وبطنه أسود وهو أحمر الرجلين والمنقار، وأخضر الجناحين؛ فقالت: أيها الطائر، ما أحسنك! فقال: أنا الغراب الّذى بعثت إلى قابيل فأريته كيف يوارى سوءة أخيه، وأنا من طيور الجنّة، وإنى أراك باكية حزينة. فقالت: إنى فقدت زوجى منذ مائة عام. فقال: اتبعينى فانّى أرشدك إليه. فتبعته، وطويت لها الطريق حتى وقفها على باب الغار، ونادى الطائر: قم يا كانوه، قم بقدرة الله. فقام ودخلت إليه زوجته، فواقعها، فحملت- بإذن الله تعالى- بصالح. وقبض الله كانوه لوقته؛ وعادت رعوم والغراب يدلّها على منزلها؛ فلما انقضت مدّة حملها، وضعت فى ليلة الجمعة من شهر المحرم، فوقعت هزّة شديدة فى بلاد ثمود لمولده، وخرّت الوحوش والسباع ساجدة لله تعالى، وأصبحت الأصنام وقد تنكّست؛ فأقبل داود وأخبر الملك بخبرها؛ فجاء بأشراف ورفعوها على مراتبها وأسرّتها، وتقدّم الملك إلى الصنم الأكبر وقال: ما دهاك؟ فناداهم إبليس منه: قد ولد فيكم غلام يدعوكم إلى دين هود ليس عليكم منه بأس. فخرج الملك ومن معه مستبشرين؛ ونشأ صالح، حتى إذا بلغ سبع سنين أقبل على قومه وهو يقول: يا آل ثمود، تنكرون حسبى ونسبى، أنا فلان بن فلان. فيقولون: إنك من أحسبنا وأنسبنا؟ حتى إذا بلغ عشر سنين إذا أقبل عليهم ملك من أولاد سام، كان يغزوهم الجزء: 13 ¦ الصفحة: 74 فى كلّ سبع سنين مرّة فيسلب أموالهم؛ فوثب صالح إلى سيف أبيه وسلاحه وخرج يعدو، وإذا هو بالملك جندع وسادات قومه قد اجتمعوا، وقد انتزع الملك منهم أموالهم، وهم لا يستطيعون دفعه عنها لكثرة جموعه؛ فصاح بهم صالح صيحة أزعجتهم، وألقى الله الرعب فى قلوبهم، واستنقذ منهم جميع ما أخذوه من قومه. فعجب جندع وأصحابه منه، وأقبلوا يقبّلون صالحا ويكرمونه؛ فخشى الملك على ملكه أن يعزلوه ويولّوا صالح بن كانوه، فهمّ أن يقتله، ودسّ إليه جماعة من خواصّه فدخلوا منزله، فأيبس الله أيديهم عنه، وأخرس ألسنتهم؛ فعلم الملك أنّه معصوم، فبعث يسأله فيهم؛ فدعالهم، فأطلق الله أيديهم والسنتهم، وبقى صالح مكرّما معظّما فى قومه. ذكر مبعثه- عليه السلام- قال: ولمّا أتى عليه أربعون سنة بعثه الله- عزّ وجلّ- رسولا إلى قومه؛ فجاءه جبريل بالوحى عن الله، وأمره أن يدعوهم الى قول لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ* والإقرار بأن صالحا عبده ورسوله، وترك عبادة الأصنام، وأعلمه بما سيظهر على يديه من العجائب. قال: فأقبل صالح إلى قومه فى يوم عيد لهم وقد نصبوا أصنامهم واجتمعوا على يمينها وشمالها، والملك جندع مشرف عليهم ينظر إليهم وإلى قربانهم؛ فتقدّم حتى وقف على الملك وقال: قد علمت نصحى لك أبدا، وقد جئتك رسولا أدعوك إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأنّى صالح رسول الله. فقال الملك له: إن قبائل ثمود لا ترضى أن يكون مثلك رسولا إليهم، غير أنى أنظر فيما تقول، فعد إلىّ غدا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 75 ثم أصبح الملك ودعا بأشراف قومه، وأحبرهم بخبر صالح؛ فقالوا: أحضره حتى نسمع ما يقول. فأحضره فقال: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ فقال له نفر منهم: يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ* قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ فقال له الملك: كيف خصّك ربّك بالرسالة من بيننا، ورفعك علينا وفى قبائل ثمود من هو أعزّ منك؟ فقال: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ* ثم قال: يا قوم اتقوا الله وأطيعون، وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ* أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ* فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ ، أى ليّن وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ أى حاذقين فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ* وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ* الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ* قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ* ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. قال: فأقبل الملك عليهم وقال: قد عرفتم صالحا فى حسبه ونسبه، وأنا رجل منكم؛ فما تقولون؟ وما عندكم من الرأى فى أمره؟ قالوا: أيّها الملك أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ قال الله تعالى: سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ. قال: فآمن به منهم جماعة، وخرج صالح من عند الملك، فأمره الله تعالى أن يبنى مسجدا لنفسه ولمن معه من المؤمنين. فأعانته الملائكة على بنائه؛ فلمّا كمل جاءه جبريل بشجرة فغرسها على باب المسجد. وأنبع الله له عينا من الماء العذب. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 76 وكان صالح يخرج فى كلّ يوم إلى قبيلة من قومه يدعوهم إلى عبادة الله تعالى ويعظهم بأيّام عاد وما حلّ بهم فيقول الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ فكان المستضعفون يقولون: إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ والمتكبّرون يقولون: إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ. ولم يزل صالح يدعوهم حتّى استكمل سبعين عاما؛ ثم أعقم الله نساءهم وجفّت أشجارهم فلم تثمر، ولم تضع لهم بقرة ولا شاة. ثم لم يزل يدعوهم حتى استكمل مائة سنة وهم لا يزدادون إلا كفرا؛ فلمّا أيس منهم خرج يريد أن يدعو عليهم بالهلاك، وقال لقومه: لا تبرحوا حتى أعود إليكم. وقصد جبلا فطاف به حتى أمسى، فنظر إلى عين ماء، فتقدّم وتوضأ وقام ليصلّى ويدعو على قومه، فرأى فى الجبل كهفا، فدخله فرأى فيه سريرا من الذهب، عليه فرش الحرير، وفى وسط الكهف قنديل؛ فعجب من ذلك، وصعد على السرير، فضرب الله على أذنه فنام أربعين سنة؛ وأخذ قومه فى العبادة؛ فكان يموت منهم الوحد بعد الواحد، فيدفن إلى جانب المسجد، ويكتب على قبره: «هذا فلان بن فلان» . قال: ثم بعث الله- عزّ وجلّ- صالحا من نومته، فخرج من الكهف وتوضّأ وصلّى ركعتين، وأراد أن يدعو على قومه؛ فقيل له: لا تعجل عليهم، فإنّ عجلتك غيّبتك عن قومك أربعين سنة. فعاد إلى قومه، وإذا برسوم وآثار لا يعرفها، وأشرف على مسجده وهو خراب ليس فيه إلّا الملائكة يحفظونه من فسّاق أهل ثمود؛ فقال: إلهى ما فعل الجزء: 13 ¦ الصفحة: 77 أهل هذا المسجد؟ فنادته الملائكة: مات بعضهم ورجع الباقون إلى دينهم الأوّل لمّا أيسوا منك. ثم أمره الله تعالى أن يأتى قومه ويدعوهم إلى عبادة الله والكفّ عن عبادة الأصنام؛ فأقبل وهم مجتمعون فى يوم عيدهم ومعهم ملكهم، فناداهم: قولوا (لا إله إلا الله وإنى صالح رسول الله) يا قوم إنى أرسلت إليكم مرّة وهذه أخرى. فتحيّروا وتساقطت أصنامهم، ونطقت الدوّاب: جاء الحقّ من ربّنا. قال له الملك: من أنت؟ قال: أنا صالح. قال: أليس قد بقى صالح فينا طويلا وغاب عنّا منذ مدّة طويلة؟ ما أنت إلّا ساحر جئتنا بعده. وهمّ بقتله. وكان للملك ابن عمّ يقال له: هذيل، فقال: يا صالح، لا نحتاج إلى نصحك فانصرف عنّا. فقال: يا هذا أما إنك ميت فى يومك هذا أنت وأهلك وولدك فى وقت كذا وكذا، وفى غد يموت أبوك وأمّك، فبادر إلى الإيمان، فإن آمنت أحياك الله وجعلك حجّة على قبائل ثمود. فانصرف الرجل وهم ينظرون إلى الوقت الذى ذكره صالح؛ فلما جاء الوقت مات الرجل وأهله وولده، وانتشر الخبر فى قبائل ثمود، ومات أبوه وأمّه من الغد؛ فعجب الناس وجزعوا، وخاف الملك. وأقبل صالح فقال: يا آل ثمود، كيف كان هذا الميّت عندكم؟ قالوا: خير رجل حتى مات. قال: فإن أحياه الله بدعائى، أتؤمنون بى وبإلهى وتبرأون من أصنامكم؟ قالوا: نعم. فجاء صالح إلى الميت فدعا ربّه، ثم ناداه باسمه فقال: لبّيك يا نبىّ الله، وقام وهو يقول: (لا إله إلا الله صالح عبد الله ورسوله) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 78 فلما عاين قومه ذلك ازدادوا كفرا، ودخلوا على صنمهم وشكوا ما يلقونه من صالح؛ فنطق إبليس من جوفه وقال: انصرفوا إلى ما أنتم عليه؛ وإذا رأيتم صالحا فقولوا: ائتنا ببرهان كما أتى به هود ونوح. فخرجوا مسرورين حتى أتوا صالحا، فقال لهم: قد رأيتم وسمعتم كلام الوحش والطير وإحياء الموتى وغير ذلك من الآيات ما فيه كفاية، فأىّ آية تريدون؟ قالوا: نخرج نحن وأنت إلى هذا الوادى، وندعو وتدعو، وننظر أىّ الدعوتين تستجاب؛ وتواعدوا إلى يوم عيدهم. فلمّا كان فى ذلك اليوم اجتمعوا وخرجوا بأصنامهم وزينتهم؛ وأقبل صالح يخترق صفوفهم؛ حتّى وقف أمام ملكهم، ودعاهم إلى الإيمان بالله. قالوا: أرنا آية. قال: ما تريدون؟ قالوا: اخرج لنا ناقة من هذه الصخرة ونؤمن بك ونعلم أنّك صادق. قال: إنّ ذلك هيّن على ربّى، ولكن صفوها لى. فأقبل القوم يصف كلّ منهم صفة حتى أكثروا. فقال الملك: إنّ هؤلاء قد أكثروا وأنا أصفها بما فى قلبى: تكون ناقة ذات فرث ودم ولحم وعظم وعصب وعروق وجلد وشعر يخالطه وبر، وتكون شكلاء «1» شقراء هيفاء، ولها ضرع كأكبر ما يكون من القلال، يدرّ من غير أن يستدرّ، يشخب لبنا غزيرا صافيا، ويكون لها فصيل يتبعها على مثالها، فإذا رغت أجابها بمثل رغائها، ويكون حنينها الإخلاص لربّك بالتوحيد، والإقرار لك بالنبوّة، فإن أخرجتها على هذه الصفة آمنّا. فأوحى الله إليه: أن أعطهم ما سألوا. فقال لقومه: إن الله قد شفّعنى فى حاجتكم، فإن أخرجتها تؤمنون؟ قالوا: نعم، على شرط أن يكون لبنها ألذّ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 79 من الخمر وأحلى من العسل. قال: إن أخرجها ربّى تؤمنون؟ قالوا: نعم على شرط أن يكون لبنها فى الصيف باردا، وفى الشتاء حارّا، لا يشربه مريض إلّا برئ، ولا فقير إلّا استغنى. قال: إن أخرجها ربّى أتؤمنون؟ قالوا: نعم، على شرط ألّا ترعى من مراعينا، بل فى رءوس الجبال وبطون الأودية، وتذر ما على الأرض لمواشينا، قال: إن أخرجها ربّى أتؤمنون؟ قالوا: نعم، على شرط أن يكون الماء لنا يوما ولها يوما، ولا يفوتنا اللّبن، وتدخل علينا بالعشيّات فى بيوتنا وتسمّى كلّ واحد منّا باسمه، وتنادى: «ألا من أراد اللّبن» ؟ فيخرج ويضع ما يريد تحت ضرعها، فيمتلئ لبنا من غير احتلاب. قال أتؤمنون حقيقة؟ قالوا: نعم. قال صالح: قد شرطتم شرائط كثيرة، وأنا أشترط عليكم: لا يركبها أحد منكم، ولا يرميها بحجر ولا سهم، ولا يمنعها من شربها ولا فصيلها. قالوا: هذا لك يا صالح. فأخذ عليهم المواثيق. ذكر خروج الناقة قال: فلمّا انتهت شروطهم وشروطه، وأخذ عليهم المواثيق، قام وصلّى ركعتين، ودعا، فاضطربت الصخرة وتمخّضت، وتفجّر من أصولها الماء، والقوم ينظرون، وسمعوا دويّا كدوىّ الرعد، فرفعوا رءوسهم، فإذا بقبّة تنقضّ من الهواء فانحدرت على الصخرة وحولها الملائكة؛ ثم تقدّم صالح إلى الصخرة فضربها بقضيب كان بيده، فاضطربت وتشامخت صعدا؛ ثم تطامنت إلى موضعها؛ ثم خرج رأس ووثبت من جوفها على الصفة كأنّها قطعة جبل، فوقفت بين يدى الملك وقومه وهى أحسن ممّا وصفوا، وهى تنادى: (لا إله إلا الله، صالح رسول الله) . ثم مر جبريل على بطنها بحربة، فخرج فصيلها على لونها. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 80 ثم نادت: «أنا ناقة ربّى، فسبحان من خلقنى وجعلنى آية من آياته الكبرى» . فلما رأى الملك ذلك قام عن سريره وقبّل رأس صالح، وقال: يا معشر قبائل ثمود، لا عمى بعد الهدى، أنا أشهد أن لا إله إلّا الله، وأن صالحا رسول الله. وآمن معه فى ذلك اليوم خلق كثير من أهل مملكته وغيرهم؛ فلمّا رأى داود خادم الأصنام ذلك نادى بصوت رفيع: يا آل ثمود، ما أسرع ما صبوتم إلى هذا الساحر، إن كانت الناقة قد أعجبتكم فهلّموا إلى آلهتكم فسلوها حتى تخرج لكم أحسن منها. فوقفوا عن الإيمان، وعمدوا إلى شهاب أخ الملك، فملّكوه عليهم؛ ودخل جندع المدينة فكسر الصنم الذى كان يعبده، وفرّق أمواله على المؤمنين، ولبس الصوف، وعبد الله حقّ عبادته، وكانت الناقة تتّبع صالحا كاتّباع الفصيل لأمّه؛ فلمّا كان بعد ذلك أقبلت ثمود على صالح، وقالوا: إن لم نمسّ الناقة بسوء يصرف ربّك عنّا عذابه؟ قال: نعم، إلى منتهى آجالكم. وكانت الناقة تخرج وفصيلها خلفها، فتصعد إلى رءوس الجبال، ولا تمرّ بشجرة إلّا التفّت عليها أغصانها فتأكل أطايب أوراقها؛ ثم تهبط إلى الأودية فترعى هناك، فإذا أمست تدخل المدينة وتطوف على دور أهلها، وتنادى بلسان فصيح: ألا من أراد منكم اللّبن فليخرج. فيخرجون بآنيتهم، فيضعونها تحت ضرعها، واللّبن يشخب حتى تمتلئ الآنية؛ فإذا اكتفوا عادت إلى المسجد، وتسبّح الله حتى تصبح؛ ثم تخرج إلى المرعى وهذا دأبها. قال: وكان للقوم بئر يشربون منها ليس لهم سواها، فإذا كان يوم الناقة تأتى وتدلّى رأسها فتشربه وتقول: «الحمد لله الذى سقانى من فضل مائه، وجعلنى حجّة على آل ثمود» . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 81 وكانت تمجّ من فيها إلى فم الفصيل حتّى يروى؛ فإذا كان يوم القوم أتوا البئر ونزحوا ما فيها؛ وكانت الناقة تقول إذا أصبحت: إلهى كلّ من شرب من لبنى وآمن بك وبرسولك فزده إيمانا ويقينا، ومن لم يؤمن بك وبرسولك فاجعل ما يشرب من لبنى فى بطنه داء لا دواء إنّك على كلّ شىء قدير. ذكر خبر عقر الناقة وهلاك ثمود قال: فلما كانت تدعو بذلك صار القوم إذا شربوا لبنها اعترتهم الحكّة فى أبدانهم؛ فاجتمعوا وقالوا: ليس لنا فى هذه من خير؛ وأجمعوا على عقرها؛ وكانت فيهم امرأة يقال لها: عنيزة بنت غنم بن مجلز «1» ، وتكنى أمّ غنم، وهى من بنات عبيد «2» بن المهل، وكانت امرأة ذؤاب «3» بن عمرو، وهى عجوز مسنّة، ولها أموال ومواش، ولها أربع بنات من أجمل النساء، وبجوارها امرأة يقال لها: صدوف بنت المحيّا بن فهر، ولها أيضا مواش كثيرة؛ فدعتا قومهما إلى عقر الناقة، فلم يجيبوهما إلى ذلك؛ فبينما صدوف كذلك إذ مرّ بها رجل يقال له الحباب «4» - وكان مولعا بالنساء- فعرضت نفسها عليه على أن يعقر الناقة؛ فامتنع، فقالت له: لقد جبن قلبك، وقصرت يدك. وتركته؛ وأقبلت على ابن عمّ لها يقال له: مصدع «5» فكشفت عن وجهها، وعرضت نفسها عليه على أن يصدقها عقر الناقة؛ فأجاب. وأقبلت صدوف إلى عنيزة فأخبرتها بذلك، ففرحت به. قالت: إلّا أنه منفرد، ولكن قومى إلى عزيز ثمود قدار، فإنه شابّ لم يتزوّج، فاعرضى عليه بناتك الجزء: 13 ¦ الصفحة: 82 لعلّه يفعل؛ ففعلت عنيزة ذلك، وزيّنت بناتها، وأقبلت بهنّ إلى قدار، وكان أقبح رجل فى ثمود، وكان فى عينيه زرقة، وكأنّهما عدستان، وأنفه أفطس ولحيته بطوله، غير أنه كان يمرّ بالشجرة العظيمة فينطحها برأسه فيكسرها؛ فلمّا رأته عنيزة رجعت ببناتها إلى صدوف، وقالت: من تطيب نفسه أن يزوّج مثل هؤلاء من هذا؟ فلم تزل بها حتى رجعت بهنّ إليه، وعرضتهنّ عليه؛ فاختار منهنّ (الرّباب) ، وأجاب إلى عقر الناقة، واجتمع إليه «مصدع وأخوه «1» ورعين «2» وداود خادم الأصنام وريّان ولبيد والمصرد وهزيل «3» ومفرّج «4» » فهؤلاء التسعة الذين ذكرهم الله فى كتابه، قال الله تعالى: وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ. فطافوا بأجمعهم على قبائل ثمود وأعلموهم بما أجمعوا عليه من عقر الناقة؛ فرضى بذلك كبيرهم وصغيرهم، واجتمع هؤلاء التسعة بسيوفهم وقسيّهم، وذلك فى يوم الأربعاء، وقعدوا ينتظرون الناقة، فأقبلت حتى قربت من البئر؛ فنادت عنيزة: يا قدار، اليوم يومك، فأنت السيّد فى قومك. قال الله: فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ. قال: فشدّ قدار قوسه ورماها بسهم فأصاب لبّتها، وهو أوّل من رماها، ثم مصدع، وأقبلوا عليها بالسيوف فقطّعوها، وأنذرت فصيلها، فهرب إلى رأس جبل، ودعا باللّعنة على ثمود، فأتبعه القوم وعقروه، وتقاسموا لحمه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 83 وحكى الثعلبىّ فى كتابه المترجم (بيواقيت البيان فى قصص القرآن) : أنّ الفصيل لمّا عقرت الناقة أتى جبلا منيعا يقال له: صور «1» . وقيل: اسمه فاره؛ وأن صالحا لمّا بلغه عقر الناقة أقبل إلى قومه، فخرجوا يتلقّونه ويعتذرون إليه ويقولون: إنّما عقرها فلان وفلان، ولا ذنب لنا. فقال لهم صالح: أنظروا، هل تدركون فصيلها؟ فعسى أن تدركوه فيرفع عنكم العذاب. فخرجوا يطلبونه، فلما رأوه على الجبل ذهبوا ليأخذوه، فأوحى الله تعالى إلى الجبل أن يتطاول؛ فتطاول فى السماء حتى ما يناله الطير؛ وجاء صالح، فلمّا رآه الفصيل بكى حتى سالت دموعه؛ ثم دعا ثلاثا فانفرجت الصخرة حتّى دخلها؛ فقال صالح: بكلّ دعوة أجل يوم فتمتّعوا فى داركم ثلاثة أيّام ذلك وعد غير مكذوب. نرجع إلى رواية الكسائىّ، قال: وصاح قدار بأصحابه: هلمّوا. فقدموا فأمرهم أن يقطّعوا لحم الناقة؛ فقطّعوا وطبخوا وقعدوا للأكل والشرب، وصالح لا يعلم بذلك، فنادته الوحوش: يا صالح، هتكت ثمود حرمة ربّها، وتعدّوا أمره. فأقبل بالمؤمنين من قومه؛ فلمّا رآها بكى وقال: إلهى أسألك أن تنزل على ثمود عذابا من عندك. فأوحى الله إليه: أن أنذر قومك بالعذاب. فبشّرهم بعذاب الله. فقالوا له: افعل ما بدا لك، فقد عقرناها، وقد أنذرت بالعذاب منذ بعيد وما نرى له أثرا. فقال لهم: تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ . وبات القوم ليلتهم، فلمّا أصبحوا تفجّرت آثار وطء الناقة بعيون الدم، وظهرت الصفرة فى ألوانهم؛ فقالوا: يا صالح، ما هذا التغيّر فى ألواننا وبلادنا؟ قال: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 84 غضب ربّكم عليكم. فأجمعوا على قتله، وقالوا: إذا قتلناه امتنع عنّا سحره ولا تمكنه الإساءة إلينا. فتقدّم التسعة لقتله عند ما أقبل الليل، فوقف لهم جبريل ورمى كلّ واحد منهم بحجر فقتله. فلمّا كان من الغد نظرت ثمود إليهم وقد قتلوا، فقالوا: هذا من فعل صالح. فعزموا على الهجوم عليه وقتله، فأمره الله تعالى بالخروج من المسجد، فجاءوا ليقتلوه فما رأوه، وأصبحوا فى اليوم الثانى وقد أحمرّت وجوههم، وفى اليوم الثالث اسودّت، فأيقنوا بعذاب الله، وحفروا لأنفسهم حفائر، ولأهليهم وأولادهم ولبسوا الأنطاع، وجلسوا فى الحفائر ينتظرون العذاب، وصالح يخوّفهم وينذرهم عذاب الله وهم لا يبالون به. فلما كان فى اليوم الرابع- وهو صبيحة الأحد- أرسل الله تعالى جبريل فنشر جناح غضبه، وأتاهم بشرارة من نار لظى، وجعل يرميهم منها بجمر متوهّج كأمثال الجبال، وثمود باركة فى حفائرها. وأخذ جبريل بتخوم الأرض، فزلزلت بيوتهم وقصورهم، ثم نشر جناح غضبه على ديار ثمود، وصاح صيحة، فكانوا كما قال الله تعالى: فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ. ثم أقبلت سحابة سوداء على ديارهم، فرمتهم بوهج الحريق سبعة أيّام حتّى صاروا رمادا. فلمّا كان فى اليوم الثامن انجلت السحابة وطلعت الشمس، وجاء صالح بمن معه من المؤمنين، فطاف بديارهم، واحتملوا ما قدروا عليه من أموالهم وارتحل بقومه إلى أرض الشأم، فنزل بأرض فلسطين، وأقام- عليه السلام- حتى مات. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 85 الباب السابع من القسم الأوّل من الفنّ الخامس فى أخبار أصحاب البئر المعطّلة والقصر المشيد وما كان من أمرهم وهلاكهم قال الكسائىّ: قال كعب: لمّا قبض الله تعالى نبيّه صالحا عليه السلام بأرض فلسطين، خرج أصحابه إلى بلاد اليمن فتفرّقوا فرقتين: فنزلت إحداهما بأرض عدن، وهم أصحاب البئر المعطّلة، والثانية صارت إلى (حضرموت) (والقصر المشيد) وهو قبل البئر؛ والذى بناه رجل يقال له: جند بن عاد، وذلك لأنه رأى ما نزل بقوم هود من الريح، فعزم على بناء قصر مشيد، فبالغ فى تشييده، وانتقل إليه، وكان له قوّة عظيمة، فكان يقتلع الشجرة، ويمرّ بيده فى الجبل فيخرقه وكان مولعا بالنساء، فتزوّج زيادة عن سبعمائة امرأة، ورزق من كلّ أمرأة ذكرا وأنثى؛ فلمّا كثر ولده وقومه طغى فى الأرض وتجبّر، وكان يقعد فى أعلى قصره مع نسائه فلا يمرّ به أحد إلّا أمر بقتله؛ فلمّا كثر فساده أهلكه الله بصيحة جبريل جاءته من قبل السماء فأهلكته هو وأولاده وقومه. قال الكسائىّ: ولا يجسر أحد أن يدخل إلى القصر ممّا نزل بسكّانه. قال: ويقال: إنّ فيه حيّة عظيمة، وإنّه يسمع من داخله أنين كأنين المريض. وأما البئر المعطّلة- فهى بأرض عدن، وكان أهلها على دين صالح، وكان المطر ينقطع عنهم فى بعض الأوقات حتّى يبلغ بهم الجهد، فيحملون الماء من بلد بعيد، فأعطاهم الله تعالى هذه البئر على ألّا يشركوا به شيئا، ويعبدوه حقّ عبادته وكانوا معجبين بها، قد بنوها بألوان الصخور، وبنوا حولها حياضا بعدد قبائلهم؛ وكان لهم ملك يسوسهم، فلما مات حزنوا عليه حزنا عظيما؛ فأقبل عليهم إبليس وقال: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 86 ما بالكم بهذا الحزن؟ قالوا: كيف لا نكون كذلك وقد فقدنا ملكنا مع إحسانه إلينا. قال: إنّه لم يمت، ولكنّه احتجب عنكم لغضبه عليكم، ولكونكم لم تعبدوه. وانطلق إبليس فآتخذ لهم صنما على صورة الملك، ونصبه على سريره، وقال: هلمّوا إلى الملك فاسمعوا كلامه. فأقبلوا حتى وقفوا من وراء السّتر، ووقف إبليس فى جوف الصنم شيطانا يكلّمهم بلغة لا ينكرون أنّها لغة الملك؛ ثم قال إبليس: استمعوا. فكلّمهم الشيطان من الصنم وقال: يا آل ثمود، مالى أراكم تبكون؟ قالوا: لفقدك. قال: قد كذبتم، لو كنتم تحبّوننى كما تقولون كنتم عبدتمونى، وقد كنت فيكم أربعمائة سنة ما فيكم من سجد لى سجدة واحدة، والآن فقد ألبسنى ربّى ثوب الألوهيّة، فصيّرنى فيكم لا آكل ولا أشرب، ولا أنام، وأخبركم بالغيوب، فاعبدونى وسمّونى ربّا، فإنى أقربكم إلى ربّى زلفى. قالوا: يأيها الملك، فلو رأينا وجهك. فرفع إبليس الحجاب حتى رأوه فلم ينكروا من صفاته شيئا، فخرّوا له سجّدا، واتخذوه ربّا؛ وكان فيهم رجل من خيار قوم صالح اسمه حنظلة بن صفوان، ففارقهم ولحق بالحرم، وعبد الله حينا فرأى فى منامه قائلا يقول له: قد أمرك ربّك أن تصير إلى قومك وتحذّرهم عذابه إن لم يرجعوا عن عبادة الأصنام، وتذكّرهم العهود فى البئر، وإن لم يؤمنوا غار ماء البئر حتى يموتوا عطشا. فآنتبه وخرج من ساعته حتى أتى قومه، فأنذرهم ووعظهم، فهمّوا بقتله فعطّل الله تعالى بئرهم حتّى لم يجدوا فيها قطرة، فأتوا إلى صنمهم فلم يكلّمهم، وأتتهم صيحة من السماء، فهلكوا عن آخرهم. ويقال: إنّ سليمان صفّد شياطين وحبسهم بهذه البئر؛ والله أعلم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 87 الباب الثامن من القسم الأوّل من الفنّ الخامس فى خبر أصحاب الرّس وما كان من أمرهم قال الكسائىّ: قال كعب: إنّ أصحاب الرّس كانوا بحضرموت، وكانوا كثيرا، فبنوا هناك مدينة كانت أربعين ميلا فى مثل ذلك، فاحتفروا لها القنوات من تحت الأرض، وسمّوها رسّا، وكان ذلك أيضا اسم ملكهم؛ فأقاموا فى بلدهم دهرا طويلا يعبدون الله تعالى حقّ عبادته؛ ثم تغيّروا عن ذلك وعبدوا الأصنام وكان ممّا أحدثوه إتيان النساء فى أدبارهنّ والمبادلة بهنّ، فكان كلّ منهم يبعث بآمرأته إلى الآخر، فشقّ ذلك على النساء، فأتاهنّ إبليس فى صورة امرأة وعلّمهن السّحاق ففعلنه، وهم أوّل من أتى النساء فى أدبارهنّ وساحق؛ فاشتهرت هذه القبائح فيهم. فبعث الله إليهم رسولا اسمه حنظلة. وقيل: خالد بن سنان. وقيل: ابن صفوان. فدعاهم إلى طاعة الله، ونهاهم عن عبادة الأصنام وفعل القبائح وحذّرهم وذكّرهم ما حلّ بمن قبلهم من الأمم؛ فكذّبوه؛ فوعظهم دهرا طويلا وهم لا يرجعون، فضربهم الله بالقحط، فقتلوا نبيّهم وأحرقوه بالنار؛ فصاح بهم جبريل صيحة فصاروا حجارة سودا، وخسفت مدينتهم. وقيل: إن هذه المدينة لم يرها إلّا ذو القرنين، وإنّه رآهم حجارة، ورأى النساء ملتصقات بعضهنّ ببعض، ورأى الملوك على الأسرّة وبين أيديهم الجنود قائمة، بأيديهم الأعمدة والأسلحة، وقد صاروا كلّهم حجارة سودا. هذا ما حكاه الكسائىّ. وقال أبو إسحاق الثعلبىّ- رحمه الله تعالى- قال سعيد بن جبير والكلبىّ والخليل بن أحمد- دخل كلام بعضهم فى بعض، وكلّ قد أخبر بطائفة من حديث الجزء: 13 ¦ الصفحة: 88 أصحاب الرسّ: أنّهم بقيّة ثمود وقوم صالح، وهم أصحاب البئر التى ذكرها الله تعالى فى كتابه وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ. قال: وكانوا بفلج اليمامة نزولا على تلك البئر. وكلّ ركيّة لم تطو بالحجارة والآجرّ فهى رسّ؛ وكان لهم نبىّ يقال له: (حنظلة ابن صفوان) . وكان بأرضهم جبل يقال له: (فلج) مصعد فى السماء ميلا وكانت العنقاء تأتيه، وهى أعظم ما يكون من الطير، وفيها من كلّ لون، وسمّوها العنقاء لطول عنقها، وكانت تكون فى ذلك الجبل وتنقضّ على الطير فتأكلها فجاعت ذات يوم وأعوزها الطير، فانقضّت على صبىّ فذهبت به، فسميّت عنقاء مغرب، لأنّها تغرب بما تأخذه وتذهب به، ثم انقضّت على جارية حين ترعرعت فأخذتها فضمّتها إلى جناحين لها صغيرين سوى الجناحين الكبيرين، فشكوا ذلك إلى نبيّهم؛ فقال: اللهم خذها واقطع نسلها، وسلّط عليها آفة تذهب بها. فأصابتها صاعقة فآحترقت، فلم ير لها أثر بعد ذلك. قال: ثم إنّ أصحاب الرسّ قتلوا نبيّهم، فأهلكهم الله تعالى. قال الثعلبىّ: وقال بعض العلماء: بلغنى أنّه كان رسّان: أمّا أحدهما فكان أهله أهل بذر وعمود، وأصحاب غنم ومواش، فبعث الله إليهم نبيّا فقتلوه، ثم بعث الله رسولا آخر وعضّده بولىّ، فقتلوا الرسول، وجاهدهم الولىّ حتى أفحمهم؛ وكانوا يقولون: إلهنا فى البحر. وكانوا على شفير البحر؛ وكان يخرج إليهم من البحر شيطان فى كلّ شهر خرجة فيذبحون عنده، ويتّخذون ذلك اليوم عيدا؛ فقال لهم الولىّ: أرأيتم إن خرج إلهكم الّذى تدعونه وتعبدونه إلىّ وأطاعنى أتجيبونى إلى ما دعوتكم إليه؟ قالوا: بلى. وأعطوه على ذلك العهود والمواثيق، فانتظر حتى خرج ذلك الشيطان على صورة حوت راكبا على أربعة أحوات، وله عنق الجزء: 13 ¦ الصفحة: 89 منقلب، وعلى رأسه مثل التاج؛ فلمّا نظروا إليه خرّوا سجّدا؛ وخرج الولىّ إليه وقال: ائتنى طوعا أو كرها باسم الله الكريم. فنزل عند ذلك عن أحواته؛ فقال له الولىّ: ائتنى راكبا لئلا يكون القوم فى شكّ. فأتى الحوت وأتت به الحيتان حتى أفضوا إلى البرّ يجرّونه ويجرّهم؛ ثم كذّبوه بعد ما رأوا ذلك، ونقضوا العهود؛ فأرسل الله تعالى عليهم ريحا تقذفهم فى البحر ومواشيهم وما كانوا يملكون من ذهب وفضّة وآنية؛ فأتى الولى الصالح إلى البحر حتّى أخذ التّبر والفضّة والأوانى، فقسمها على أصحابه بالسويّة على الصغير والكبير، وانقطع ذلك النسل. وأمّا الرسّ الآخر - فهم قوم كان لهم نهر يدعى الرسّ، وذلك النهر بمنقطع أذربيجان، بينهما رسّ أرمينية، فإذا قطعته مدبرا دخلت فى حدّ أرمينية وإذا قطعته مقبلا دخلت فى حدّ أذربيجان، وكان من حولهم من أهل أرمينية يعبدون الأوثان، ومن قدّامهم من أهل أذربيجان يعبدون النيران، وكانوا هم يعبدون الجوارى العذارى، فإذا تمّت لإحداهنّ ثلاثون سنة قتلوها واستبدلوا غيرها، وكان عرض نهرهم ثلاثة فراسخ، وكان يرتفع فى كلّ يوم وليلة حتّى يبلغ أنصاف الجبال الّتى حوله، ولا ينصبّ فى برّ ولا بحر، وإذا خرج من حدّهم يقف ويدور ثم يرجع إليهم، فبعث الله إليهم ثلاثين نبيّا فى شهر واحد، فقتلوهم جميعا فبعث الله إليهم نبيّا وأيّده بنصره، وبعث معه وليّا، فجاهدهم فى الله حقّ جهاده. ثم بعث الله تعالى ميكائيل حين نابذوه- وكان ذلك فى أوان وقوع الحبّ فى الزرع، وكانوا إذ ذاك من أحوج ما يكون إلى الماء- فبحر «1» نهرهم فى البحر الجزء: 13 ¦ الصفحة: 90 فانصبّ ما فى أسفله، وأمّا عيونه من فوق فسدّها، ثم بعث الله تعالى خمسائة ألف ملك من الملائكة أعوانا له، ففرّغوا ما بقى فى نهرهم. ثم أمر الله تعالى جبريل فنزل فلم يدع فى أرضهم عينا ولا نهرا إلّا أيبسه بإذن الله تعالى. وأمر ملك الموت فانطلق إلى المواشى فأماتها فى ربضة واحدة. وأمر الرياح الأربع: الجنوب والشمال والدّبور والصّبا فضمّت ما كان لهم من متاع، وألقى الله تعالى عليهم السّبات. ثم خفقت الرياح الأربع بذلك المتاع أجمع فشتّتته فى رءوس الجبال وبطون الأودية. وأمر الله الأرض فابتلعت ما كان لهم من حلىّ وتبر وآنية؛ فأصبحوا لا ماشية عندهم ولا بقر ولا مال يرجعون إليه ولا ماء يشربون ولا طعام يأكلون، فآمن بالله تعالى عند ذلك قليل منهم، وهداهم الله تعالى إلى غار فى الجبل له طريق إلى خلفه، فنجوا، وكانوا أحدا وعشرين رجلا وأربع نسوة وصبيّين، وكان عدّة الباقين من الرجال والنساء والذرارىّ ستّمائة ألف، فماتوا عطشا وجوعا، ولم تبق منهم باقية. ثم عاد القوم إلى منازلهم فوجدوها قد صار أعلاها أسفلها، فدعا القوم عند ذلك مخلصين أن يحييهم الله تعالى بماء وزرع وماشية، وأن يجعل ذلك قليلا لئلّا يطغوا. فأجابهم الله تعالى إلى ذلك، وأطلق لهم نهرهم، وزادهم على ما سألوه. فأقام أولئك القوم على طاعة الله تعالى باطنا وظاهرا حتى مضوا وانقرضوا؛ فحدث من بعدهم من نسلهم قوم أطاعوا الله تعالى فى الظاهر، ونافقوا فى الباطن؛ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 91 وأملى الله تعالى لهم، ثم بعث الله عليهم عدوّهم ممّن قاربهم وخالفهم، فأسرع فيهم القتل، وبقيت منهم شرذمة، فسلّط الله عليها الطاعون، فلم يبق منهم باقية وبقى نهرهم ومنازلهم مائتى عام لا يسكنها أحد. ثم أتى الله بعد ذلك بقرن فنزلوها وكانوا صالحين سنين، ثم أحدثوا فاحشة وجعل الرجل منهم يدعو ابنته وأخته وزوجته فيلقى بهنّ جاره وأخاه وصديقه يلتمس بذلك البرّ والصلة؛ ثم ارتفعوا عن ذلك إلى نوع آخر، ترك الرجال النساء حتى شبقن، واشتغلن عن الرجال، فجاءت النساء شيطانة فى صورة امرأة- وهى الولهانة بنت إبليس- فشبّهت للنساء ركوب بعضهن بعضا؛ وعلمتهنّ كيف يصنعن؛ فأصل ركوب النساء النساء منها؛ فسلّط الله تعالى على ذلك القرن صاعقة من أوّل ليلتهم، وخسفا فى آخر اللّيل، وصيحة مع الشمس، فلم تبق منهم باقية وبادت مساكنهم. قال الثعلبىّ: ولا أحسب مساكنهم اليوم مسكونة. وقال أبو إسحاق الثعلبىّ أيضا: وروى علىّ بن الحسين زين العابدين عن أبيه الحسين بن علىّ بن أبى طالب- رضى الله عنهم- أن رجلا من أشراف بنى تميم يقال له: عمرو، أتاه فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرنى عن أصحاب الرس وأى عصر كانوا فيه؟ وأين كانت منازلهم؟ ومن كان ملكهم؟ وهل بعث الله تعالى إليهم رسولا أو لا؟ وبماذا هلكوا؟ فإنّى أجد فى كتاب الله تعالى ذكرهم ولا أجد خبرهم. فقال له: لقد سألتنى عن حديث ما سألنى عنه أحد قبلك، ولا يحدّثك به أحد بعدى. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 92 كان من قصّتهم يا أخا تميم أنهم كانوا يعبدون شجرة صنوبر يقال لها: ساب درحب «1» ، كان يافث بن نوح غرسها على شفير عين يقال لها: دوسات «2» كانت أنبطت لنوح بعد الطوفان، وكان لهم اثنتا عشرة قرية على شاطئ نهر يقال له الرّس من بلاد المشرق، ولم يكن يومئذ فى الأرض نهر أغزر ولا أعذب منه ولا قرى أكثر سكّانا وعمرانا منها؛ وذلك قبل سليمان بن داود، وكان من أعظم مدائنهم اسفيدبا «3» ، وهى التى كان ينزلها ملكهم، وكان يسمّى بركون «4» بن عابور بن بلوش بن سارب بن النّمروذ بن كنعان، وفيها العين والصّنوبرة، وقد غرسوا فى كلّ عين حبّة من تلك الصنوبرة، فنبتت الحبّة وصارت شجرة عظيمة، وحرّموا ماء تلك العيون والأنهار، لا يشربون منها ولا أنعامهم، ومن فعل ذلك منهم قتلوه ويقولون: هى مياه آلهتنا، ولا ينبغى لأحد أن ينقص من حياتها، ويشربون هم وأنعامهم من نهر الرسّ الّذى عليه قراهم؛ وقد جعلوا فى كلّ شهر من السنة فى كلّ قرية عيدا يجتمع أهلها ويضربون على تلك الشجرة مظلّة من الحرير، فيها من أصناف الصّور؛ ثم يأتون بشياه وبقر فيذبحونها قربانا للشجرة، ويشعلون فيها النيران، فإذا سطع دخان تلك الذبائح وقتارها وبخارها فى الهواء، وحال بينهم وبين النظر إلى السماء، خرّوا سجّدا، ويتلون ويتضرّعون إليها أن ترضى عنهم. وكان الشيطان يجىء فيحرّك أغصانها ويصيح من ساقها صياح الصبىّ: عبادى قد رضيت عنكم، فطيبوا نفسا، وقرّوا عينا. فيرفعون عند ذلك رءوسهم، ويشربون الخمر، ويضربون بالمعازف؛ فيكونون على ذلك يومهم وليلتهم، ثم ينصرفون؛ حتى إذا كان عيد قريتهم العظمى، اجتمع إليه صغيرهم وكبيرهم، فضربوا عند الصّنوبرة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 93 والعين سرادقا من ديباج، عليه من أنواع الصّور، له اثنا عشر بابا، كلّ باب لأهل قرية منهم؛ ويسجدون للصنوبرة خارجا من السرادق، ويقرّبون لها الذبائح أضعاف ما يقرّبون للأشجار الّتى فى قراهم؛ فيجىء إبليس عند ذلك فيحرّك الشجرة تحريكا شديدا، ويتكلّم من جوفها كلاما جهرا، ويعدهم ويمنّيهم بأكثر ممّا وعدهم به الشياطين كلّهم؛ فيرفعون رءوسهم من السجود وبهم من الفرح والنشاط ما لا يفيقون ولا يتكلّمون [معه] ؛ فيداومون الشرب والعزف، فيكونون على ذلك اثنى عشر يوما بلياليها بعدد أعيادهم فى السنة؛ ثم ينصرفون؛ فلما طال كفرهم بالله تعالى وعبادتهم غيره، بعث الله إليهم نبيّا من بنى إسرائيل من ولد يهوذ بن يعقوب، فلبث فيهم زمنا طويلا يدعوهم إلى الله تعالى، ويعرّفهم ربوبيّته؛ فلا يتّبعونه ولا يسمعون مقالته؛ فلما رأى شدّة تماديهم فى البغى والضلالة وتركهم قبول ما دعاهم إليه من الرشد والصلاح، وحضر عيد قريتهم العظمى قال: يا ربّ إنّ عبادك أبوا تصديقى ودعوتى لهم، فما زادوا إلّا تكذيبى والكفر بك، وغدوا يعبدون شجرة لا تنفع ولا تضرّ، فأيبس شجرهم أجمع، وأرهم قدرتك وسلطانك. فأصبح القوم وقد يبس شجرهم كلّه، فها لهم ذلك وتضعضعوا، فصاروا فرقتين: فرقة قالت: سحر هذا الرجل الّذى زعم أنّه رسول ربّ السماء، ألهاكم ليصرف وجوهكم عنها إلى إلهه؛ وفرقة قالت: بل غضبت آلهتكم حين رأت هذا الرجل يعيبها ويقع فيها، ويدعوكم إلى عبادة غيرها، فحجبت حسنها وبهاءها لكى تغضبوا لها، فتنتصروا منه. فأجمعوا رأيهم على قتله، فاتخذوا مثال بئر، واتخذوا أنابيب طوالا من رصاص واسعة الأفواه، ثم أرسلوها إلى قرار العين واحدة فوق الأخرى مثل البرانج، ونزحوا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 94 ماء العين، ثم حفروا فى قرارها بئرا ضيّقة المدخل عميقة، وأرسلوا فيها نبيّهم، وألقوا عليه فيها صخرة عظيمة؛ ثم أخرجوا الأنابيب من الماء وقالوا: الآن نرجو رضا آلهتنا عنّا إذا رأت أنا قد قتلنا من كان يقع فيها، ويصدّ عن عبادتها. فبقوا عامّة يومهم يسمعون أنين نبيّهم، وهو يقول: سيّدى، ترى ضيق مكانى وشدّة كربى، فارحم ضعف ركنى وقلّة حيلتى، وعجّل قبض روحى ولا تؤخّر إجابة دعوتى. حتى مات عليه السلام. فقال الله تعالى لجبريل: انظر عبادى هؤلاء الّذين غرّهم حلمى، وأمنوا مكرى، وعبدوا غيرى، وقتلوا رسولى؛ وأنا المنتقم ممّن عصانى ولم يخش عذابى وإنّى حلفت بعزّتى لأجعلنّهم عبرة ونكالا للعالمين. فبينما هم فى عيدهم إذ غشيتهم ريح عاصف حمراء، فتحيّروا وذعروا منها وانضمّ بعضهم إلى بعض، ثم صارت الأرض من تحتهم حجر كبريت يتوقّد؛ وأظلّتهم سحابة سوداء، فألقت عليهم كالقبّة حجرا يلتهب نارا، فذابت أبدانهم كما يذوب الرصاص فى النار؛ نعوذ بالله من غضبه ودرك نقمته «1» . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 95 القسم الثانى من الفنّ الخامس فى قصّة إبراهيم الخليل- عليه الصلاة والسلام- وخبره مع نمروذ، وقصّة لوط، وخبر إسحاق ويعقوب، وقصّة يوسف وأيّوب وذى الكفل وشعيب وفيه سبعة أبواب الباب الأوّل منه فى قصّة إبراهيم الخليل- عليه الصلاة والسلام- وخبر نمروذ بن كنعان. ولنبدأ من هذه القصّة بخبر نمروذ؛ ثم نذكر قصّة إبراهيم- عليه السلام- لتعلّق قصّته به، لأنّ إبراهيم ولد فى زمانه، وآيته الكبرى معه. ذكر خبر نمروذ بن كنعان هو نمروذ بن كنعان بن كوش، وهو أحد ملوك الدنيا الأربعة الّذين ملكوا شرقها وغربها. وقد ورد أنهم مؤمنان وكافران: فالمؤمنان سليمان بن داود والإسكندر ذو القرنين المذكور فى سورة الكهف؛ والكافران: شدّاد بن عاد ونمروذ ابن كنعان. وقد قيل: بدل شدّاد بختنصّر. قال الكسائىّ: قال وهب: لمّا أهلك الله تعالى أهل الرسّ بالمسخ ومن تقدّمهم بما ذكرناه، أنشأ قرونا آخرين، فكان ممّن أنشأ من ولد حام بن نوح كوش ابن قرظ بن حام، وكان جبّارا شديد القوّة عظيم الخلق، له مخاليب كالسّباع وهو الذى أنشأ كوثاربّا من أرض العراق، وولد له بها ولد سمّاه كنعان، وكان له الجزء: 13 ¦ الصفحة: 96 ولد آخر يقال له: الهاص؛ فلما مات كوش استقل الهاص بالملك دون كنعان واستقلّ كنعان بالصيد، وولع به حتّى ألهاه عن طلب الملك؛ وكان مع ذلك شديد البطش والقوّة، فبينما هو يتصيّد إذ رأى امرأة ترعى بقرات، فأعجبته فراودها عن نفسها، فامتنعت واعتذرت بزوجها؛ فقال: ويلك، هل على وجه الأرض من يطاولنى وأنا من ولد كوش، ونحن ملوك الأرض؟ فضحكت المرأة كالمستهزئة، وقالت: لا تذكر الملوك وأنت رجل صيّاد. ثم أقبل زوجها فقتله كنعان وأخذ المرأة ووطئها، فحملت بنمروذ، ونقلها كنعان إلى قصره، فكانت من أحظى نسائه؛ ثم قتل أخاه بعد ذلك، واستقلّ بالملك. ثم رأى فى منامه كأنّه صارع إنسانا فصرعه وقال: أنا مشئوم أهل الأرض ومنزلى الظلمة. وقد أجّلتك حتّى أخرج من ظلمتى هذه إلى ضوء الدنيا. فانتبه مرتاعا، وأحضر أصحاب علم النجوم، وقصّ رؤياه عليهم؛ فقالوا: سيولد مولود هو الآن فى بطن أمّه يكون هلاكك على يديه. وتبيّن حمل الراعية- وكان اسمها شلخاء- وكانت تسمع من بطنها صوتا عجيبا، فسمعه كنعان فقال: ويحك، هذا ليس بآدمىّ؛ وإنما هو شيطان؛ وهمّ أن يدوس بطنها ليقتل من فيه؛ فهتف به هاتف: مه يا كنعان، ليس إلى قتله سبيل. فلمّا كملت مدّة الحمل وضعته أسود أحول أفطس أزرق العين؛ وخرجت حيّة من حجر فدخلت فى أنفه، ففزعت شلخاء؛ وأخبرت كنعان بخبره؛ فقال: اقتليه فإنّه شؤم. فقالت: لا تطيب نفسى بقتله. قال: فاحتمليه واطرحيه فى البرّيّة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 97 فاحتملته الى البرّيّة، فمرّت براعى بقرات فعرضته عليه، فأخذه، وعادت الى منزلها؛ فلمّا وضعه الراعى بين البقر نفرت وتفرّقت وعسر عليه جمعها؛ وأقبلت امرأته فأخبرها بخبر الغلام؛ فقالت: اقتله فإنّه شؤم. فأبى وقال: اطرحيه فى النهر. فطرحته فى نهر عظيم، فألقاه الماء إلى البرّ؛ فقيّض الله له نمرة فأرضعته وانصرفت؛ فرأته امرأة من قرية هناك فعجبت وأخبرت أهل القرية، فخرجوا إليه واحتملوه وربّوه وسمّوه نمروذ، فلمّا بلغ جعل يقطع الطريق ويغير على النواحى، واجتمع له جمع كثير، فبلغ خبره كنعان، فجعل يبعث إليه بقائد بعد قائد وهو يهزمهم؛ وعظم أمره حتى صار فى جيش عظيم؛ فسار الى كوثاربا وقاتل كنعان، فهزم جيوشه وظفر به، وقتله وهو لا يعلم أنه أبوه، واحتوى على ملكه؛ ثم أخذ فى غزو الملوك حتّى ملك الشرق وسائر ممالك الدنيا؛ ثم رجع الى كوثاربّا فاستدعى وزراءه وقال: أريد أن أبنى بنيانا عظيما لم أسبق إلى مثله. فدلّوه على تارح وذكروا أنّه عارف بأمر النجارة والبناء؛ فأحضره ومكّنه من خزانته، وأمره بإنشاء قصر عظيم؛ فخرج تارح وشرع فى بنائه، وتأنّق فيه، وأجرى فيه الأنهار؛ فلمّا كمل ورآه نمروذ خلع على تارح، وجعله وزيره. وأخذ نمروذ فى التكبّر حتى ادّعى الألوهية. وكان مولعا بعلم النجوم، فأتقنه؛ فجاءه إبليس فى صورة شيخ وسجد له وقال: إنك قد أتقنت علم النجوم؛ وعندى علم ما هو أحسن منه، وهو السحر والكهانة. فعلّمه ذلك، ثم حسّن له عبادة الأصنام، فدعا بتارح وأمره أن يتخذ له صنما على صورته، ويتّخذ لقومه أصناما أخرى؛ فاتخذها تارح من الجوهر والذهب والفضّة والقوارير والخشب على أقدار الناس، وكلّها على صورة نمروذ حتى اتّخذ سبعين صنما، وأمر نمروذ قومه أن يتّخذوها؛ ففعلوا ذلك وانهمكوا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 98 فى عبادتها، وكلّمهم الشياطين من أجوافها؛ فعبدوها حتّى لم يعرفوا سواها وطغوا وبغوا، وأكثروا الفساد فى الأرض، حتى ضجّت الأرض والسماء والوحش والطير إلى ربّها منهم. ذكر الآيات التى رآها نمروذ قبل مولد إبراهيم- عليه السلام- قال: كان أوّل ذلك أنّه صعد فى بعض الأيّام إلى سريره، فانتفض من تحته انتفاضا شديدا، وسمع هاتفا يقول: تعس من كفر بإله إبراهيم. فقال لتارح وهو واقف عنده: سمعت ما سمعت؟ قال: نعم. قال: فمن هو إبراهيم؟ قال: لا أعرفه. فأرسل إلى السحرة وسألهم عن إبراهيم، وأخبرهم بما سمع؛ فقالوا: لا نعرف إبراهيم ولا إلهه. ثم توالت عليه الهواتف، ونطقت الوحش والطير والسباع بمثل ذلك؛ ثم رأى الرّؤى فى منامه. فكان منها أنّه رأى كأنّ القمر قد طلع من ظهر تارح، وألقى نوره كالعمود الممدود بين السماء والأرض؛ وسمع قائلا يقول: جاء الحق ونظر إلى الأصنام وهى ترتعد، فاستيقظ وقصّ رؤياه على تارح، فقال: أيّها الملك، إنّى فى الأرض كالقمر لكثرة عبادتى لهذه الأصنام. فقال له نمروذ: صدقت. وانصرف تارح حتى دخل بيت الأصنام، فإذا هى قد سقطت عن كراسيّها منكّبة على أوجهها؛ فأمر خدمها بإعادتها، وعجب من ذلك. قال: ثم رأى فى منامه كأنّ نورا ساطعا بين السماء والأرض، وقوما يسلكون فيه ينزلون إلى الأرض، ويصعدون إلى السماء، وإذا برجل من أحسن الناس وجها الجزء: 13 ¦ الصفحة: 99 فى ذلك النور، وأولئك يقولون: نصرك إله السماء، فبك تحيا الأرض بعد موتها. فانتبه ودعا بالسّحرة والكهنة والمنجّمين، وذكر لهم رؤياه، وأقسم إن كتموه تأويلها عذّبهم وجعلهم طعما للسباع. فطلبوا أمانه، فأمّنهم، فقالوا: رؤياك تدلّ على مولود من أقرب الناس إليك، يرث ملكك، ويرتفع ذكره إلى السماء والشرق والغرب ويهلكك، وأنه لا يأتيك ومعه سلاح ولا جند. فتبسّم نمروذ وقال: إن كان كذلك فأمره هيّن. ثم قال لهم: فممّن يكون؟ قالوا: من ظهر أقرب الناس إليك، ولا نعلم أكثر من هذا. ثم قال: ليس أحد أقرب إلىّ من ابنى كوش ووزيرى تارح؛ ثم أمر بآبنه كوش فضرب عنقه؛ وأمر بقتل الأطفال حتى قتل مائة ألف طفل؛ ثم دعا بالمنجّمين فقال: انظروا هل استرحت ممّن كنت أخافه؟ قالوا: ما حملت به أمّه بعد. وأخذ فى ذبح الأطفال حتى ضجّت الخلائق إلى الله تعالى. ذكر حمل أمّ إبراهيم- عليه السلام- وطلوع نجمه قال: وعبر تارح يوما إلى الأصنام فاضطربت اضطرابا شديدا؛ فسجد لها فأنطقها الله، فقالت: يا تارح، جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ ووافى نمروذ ما كان يحذره، فخرج خائفا وجلا حتى دخل على أمرأته وذكر لها ذلك؛ فقالت: وأنا أخبرك بعجب، كنت قعدت عن الحيض منذ كذا وكذا، وقد حضت فى يومى هذا. فقال: اكتمى أمرك لئلّا يبلغ الملك. فلما طهرت هتف به هاتف: يا تارح صر إلى زوجتك ليخرج النور الّذى على وجهك. فلمّا سمع ذلك مرّ هاربا على وجهه فإذا هو بملك يقول: أين تريد؟ ارجع فردّ الأمانة الّتى فى ظهرك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 100 فانصرف إلى منزله ولم يجسر أن يقرب امرأته؛ فأصبح وإذا بنور ساطع على وجهه؛ وكان هو الّذى يقرّب إلى الأصنام الطعام والشراب كلّ ليلة، وينصرف الى منزله فتأكله الشياطين؛ فقرّب الطعام إليها، فأقبلت الشياطين لتأكله، فرأوا الملائكة هناك فولّوا هاربين، وبقى الطعام على حاله؛ فلمّا أصبح تارح رآه على حاله فظنّ أن الأصنام ساخطة عليه، فعكف عليها لترضى عنه، فأبطأ عن منزله، فأتته امرأته؛ فلمّا خلت به فى بيت الأصنام تحرّكت شهوته، وهمّ بمواقعتها، فقالت: ألا تستحى، أتفعل هذا بين يدى آلهتك؟ فواقعها، فحملت منه بإبراهيم- عليه السلام- فنكّست الأصنام، وظهر نجم إبراهيم وله طرفان: أحدهما بالمشرق والآخر بالمغرب؛ فعجب الناس منه؛ ورآه نمروذ فتحيّر؛ فلمّا أصبح سأل المنجّمين عنه، فقالوا: هذا نجم جديد طلع يدلّ على مولود جديد من أولاد الأكابر، يرتفع شأنه، ويخشى عليك منه. فهتف به هاتف يقول: يا عدوّ الله، هذا المولود قد حملت به أمّه والله مهلكك على يديه. قال: فلمّا استكملت أمّة تسعة أشهر قالت لأبيه: إنى أحبّ أن أدخل بيت الأصنام فأسألها أن تخفّف عنّى أمر الولادة؛ فإذن لها فى ذلك، وتربّص بها إلى اللّيل خوفا أن يعلم الناس بحملها؛ فلمّا دخلت بيت الأصنام تنكّست عن كراسيّها فخرجت فزعة، فإذا هى بنمروذ فى قومه، وبين أيديهم الشّموع والمشاعل؛ فقال نمروذ: من هذا؟ قالت: زوجة عبدك تارح؛ فأراد أن يقول: اقبضوها فقال: خلّوها؛ فأقبلت إلى منزلها مذعورة، فجاءها الطلق، فأقبل إليها ملك من عند الله تعالى وقال: لا تخافى وانهضى فضعى ما فى بطنك. فتبعته حتّى أدخلها الغار، وهو الّذى ولد فيه إدريس ونوح- عليهما السلام-. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 101 ذكر ميلاد إبراهيم- عليه السلام- قال: ودخلت أمّه الغار فوجدت فيه جميع ما تحتاج إليه، وخفّف الله عنها الطلق، فولدته فى ليلة جمعة، وهى ليلة عاشوراء؛ فلمّا سقط إلى الأرض قطع جبريل سرّته، وأذّن فى أذنه، وكساه ثوبا أبيض؛ ثم عاد بها الملك إلى منزلها فرجعت خفيفة كأن لم تلد، وقال لها الملك: اكتمى أمرك وما قد رأيت. فدخلت منزلها، وجاء تارح فرآها نشطة خفيفة، فقالت: إن الذى كان فى بطنى لم يكن ولدا، وإنّما كانت ريحا وقد انفشّت عنّى. ففرح بذلك، وألقى الله تعالى على نمروذ النسيان فى أمر إبراهيم؛ فلمّا كان فى اليوم الثالث خرجت أمّه إلى الغار فرأت الوحش والسباع على بابه، فتوهّمت أن يكون هلك؛ فدخلت فرأته على فراش من السندس، وهو مدهون مكحول، فتحيّرت وعلمت أنّ له ربّا، ورجعت إلى منزلها وأخبرت تارح الخبر، فنهاها عن العود إلى الغار، فكانت تروح إليه سرّا فى كلّ ثلاثة أيّام تنظر إليه وتعود، حتى تمّ له حولان، فأتاه جبريل بطعام من الجنّة، فأطعمه وسقاه؛ فلمّا استكمل أربع سنين جاءه ملك بكسوة من الجنّة، وسقاه شربة التوحيد وقال: اخرج الآن منصورا. ذكر خروج إبراهيم- عليه السلام- من الغار واستدلاله قال: ولمّا قال له الملك ذلك خرج عند غروب الشمس، فجعل ينظر إلى السموات، فذلك قوله تعالى: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي يعنى على سبيل الاستفهام، أى أهذا ربّى؟. فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ* فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ* فَلَمَّا رَأَى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 102 الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ وهبط جبريل- عليه السلام- فقال له: انطلق إلى أبيك وأمّك ولا تخف فإن الله معك. فخرج إبراهيم وجبريل معه حتى وقفه على الباب وقال: هذا بيت أبيك، فدونك هو. فاستأذن إبراهيم وقال: أدخل؟ قال تارح: ادخل. فلمّا دخل نظر إليه فعجب من حسنه وجماله، وقامت أمّه مسرعة إليه واعتنقته وقالت: ولدى وعزّة نمروذ. فقال لها: لا تحلفى بعزّة نمروذ، فإن العزة لله الّذى خلقنى فى بطنك وأخرجنى منك، وكلأنى وربّانى وهدانى. فارتعد تارح من كلامه وقال لأمّه: أخشى أن تزول عنّى هذه المنزلة بسببه. ونظر إليه وقال: ما أحسنك! فلولا ما وقع فى قلبى من محبّتك لرفعت خبرك إلى نمروذ. ثم بكى تارح خوفا عليه أن يقتل، فقال له: يا أبت لا تخف علىّ من القتل فإن الله يعصمنى من نمروذ. فقال له: ألك ربّ غير نمروذ، وله مملكة الأرض شرقها وغربها، وله ثلاثمائة صنم؟ فقال إبراهيم: بل ربّى الله الّذى لا إله إلّا هو خالق السموات والأرض وما بينهما لا شريك له. وبلغ خبر إبراهيم بعض أقارب تارح، فدخل عليه وقال: ما هذا الغلام الجميل؟ قال: هو ابنى ولد لى على كبر. قال: فما الّذى بلغك من قوله عن نمروذ وأصنامنا؟ قال تارح: هو ما بلغكم، فكلّموه حتى يعود إلى ديننا. فحاجّه قومه وخوّفوه بعذاب نمروذ، وهو يجادلهم ويحتجّ عليهم، ويذكر عظمة ربّه حتى عجزوا عنه فذلك قوله تعالى: وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ الآيات إلى قوله: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 103 فانصرفوا عنه، وخاف تارح أن يسعوا به وبولده إلى نمروذ، فقال: يا إبراهيم كفّ عن هذا الكلام حتّى استخلفك على خزانة الأصنام فقد كبرت. فقال: يا أبت، إنّ المعبود هو الله، والأصنام لا تضرّ ولا تنفع. فغضب تارح وأقبل على نمروذ، فسجد له، وقال: إن المولود الذى كنت تحذره هو ولدى، ولم يولد فى دارى، ولا أعلم به حتّى الآن، وقد جاءنى وهو غلام يعقل ويفهم، ويزعم أن له ربا سواك، وقد أعلمتك فاصنع ما أنت صانع. فلمّا سمع نمروذ ذلك داخله الرعب وقال: صفه. فوصفه. قال نمروذ: هو الّذى رأيته فى منامى. وقال لأعوانه: ائتونى به. فأتوه به، فردّد النظر إليه وقال: احبسوه إلى غد؛ فلمّا أصبح أحضره وقد أمر بتزيين قصره بأعظم زينة، وهوّل عليه بجنوده وأصناف السلاح؛ فالتفت إبراهيم إلى الناس يمينا وشمالا وقال: ما تَعْبُدُونَ ؟ فذلك قوله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ* إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ إلى قوله: إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ ثم قال: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ إلى قومه: وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ ثم التفت وقال: وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ إلى قوله: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ. فلمّا فرغ من كلامه قال له نمروذ، يا إبراهيم، تقع فى دينى وأنا الّذى خلقتك ورزقتك؟ قال: كذبت، إنّ خالقى ورازقى وخالق الخلق ورازقهم، هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ* فبهت الناس، ووقعت فى قلوبهم محبّته لحسنه وحسن كلامه؛ فالتفت نمروذ إلى تارح وقال: إنّ ولدك صغير لا يدرى ما يقول ولا يجوز لمثلى فى قدرتى وعظم مملكتى أن أعجّل عليه؛ فخذه إليك، وأحسن إليه وحذّره بأسى حتى يرجع عما هو فيه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 104 فأخذه تارح وانصرف إلى منزله، وقال: يا بنىّ، إنّ لى عليك حقّا. وأسألك بحقّى عليك أن تلازمنى فى عملى وبيع هذه الأصنام كما يفعل إخوتك. قال: كيف أبيع ما أبغضه؟ قال: ما عليك أن تبيعها؟ وأخرج له صنمين صغيرا وكبيرا، وقال: بع هذا بكذا، وهذا بكذا. قال: يا أبت أنت تعبد هذه الأصنام على أنّها ترزقك وهى الّتى خلقتك؟ قال: نعم. فقال له ما أخبرنا الله به فى قوله: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا* إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً* يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا* يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا فغضب تارح من قوله وقال: أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قال إبراهيم: سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا. وقال: وكان إبراهيم يخرج ومعه غلامان ومعهما صنمان، فيقول: من يشترى ما لا يضرّ ولا ينفع ولا يدفع الذّباب عن نفسه؛ وكان يغمسهما فى الماء ويقول: اشربا. ويشدّ الحبل فى أرجلهما ويجرّهما، والناس يعظمون ذلك ولا يجسرون يكلّمونه لمكان أبيه من نمروذ. ذكر معجزة لإبراهيم- عليه الصلاة والسلام- قال: وبينما إبراهيم قاعدا إذ جاءته امرأة عجوز، فقالت: بعنى أحد هذين الصنمين، واختر لى أجودهما. فقال: هذا أكثر حطبا من هذا. قالت: لست أريده للوقود، وإنّما أريد أن أعبده، فقد كان لى إله سرق فى جملة ثياب كثيرة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 105 لى، وأنا أريد أن أشترى هذا الصنم فأعبده حتى يردّ علىّ رحلى. قال لها إبراهيم: إنّ الإله الّذى يسرق لو كان إلها لحفظ الثياب وحفظ نفسه، فكم لك تعبدينه؟ قالت: كنت أعبده ونمروذ منذ كذا وكذا سنة. قال: بئس ما صنعت، هلا عبدت ربّ السموات والأرض حتى يردّ عليك ما سرق منك، فإن عاد ما لك تؤمنين؟ قالت: نعم. فدعا إبراهيم ربّه فإذا بالمسروق بين يديه قد جاء به جبريل؛ فقال لها إبراهيم: هذا رحلك. فأخذته العجوز وكسرت الصنم، وقالت تبّا لك ولمن عبدك دون الله. وآمنت، وجعلت تطوف فى المدينة وتقول: يأيّها الناس اعبدوا الله الّذى خلقكم ورزقكم، وذروا ما كنتم عليه من عبادة الأصنام. فبلغ خبرها نمروذ، فأحضرها وأمر بقطع يديها ورجليها وفقء عينيها؛ فاجتمع إبراهيم والناس لينظروا إليها- وهو إذ ذاك لم يبلغ الحلم- فدعا لها بالصبر وقال: إلهى إنّك قد هديتها، أسألك أن تجعلها آية. فردّ الله عينيها ويديها ورجليها وارتفعت فى الهواء وهى تنادى: ويلك يا نمروذ، أنا الّذى قد فعلت بى ما فعلت هأنا أرقى إلى الجنان. وكان لنمروذ خازن «1» يقال له: بهرام، فقام وقال: آمنت أيّتها المرأة بالذى خصّك بهذه الكرامة، وآمن فى ذلك اليوم خلق كثير من وجوه القوم؛ فأمر نمروذ فنشروا بالمناشير وألقوا للأسود فلم تأكلهم؛ وارتجت المدينة بزلزلة عظيمة وترادفت معجزات إبراهيم- عليه السلام- الجزء: 13 ¦ الصفحة: 106 ذكر مبعث إبراهيم- عليه السلام- قال: فلمّا تمّ لإبراهيم أربعون سنة، جاءه جبريل بالوحى من الله، وأرسله إلى نمروذ، فأقبل إبراهيم ووقف على باب نمروذ ونادى بأعلى صوته: يا قوم، قولوا: «لا إله إلّا الله وإنّى إبراهيم رسول الله» . فآنتشر الصوت على جميعهم؛ فأحضر نمروذ الوزراء والبطارقة، وأجلسهم فى مجالسهم، وأقام جنوده، وأحضر الأسود والفيلة بسلاسلها، وأقيمت صفوفا عن يمين الدار ويسارها؛ وأمر بدخول إبراهيم؛ فدخل وقال: «باسم الله العظيم» فلمّا توسّط الدار قال بصوت رفيع: يا قوم قولوا: «لا إله إلّا الله خالق كلّ شىء» . ثم تقدّم إلى نمروذ؛ فقال له بعض وزرائه: من أنت؟ قال: أنا إبراهيم بن تارح رسول ربّ العالمين، أدعوكم إلى عبادته. قال له: من ربّك؟ قال: الذى خلق الناس جميعا. قال نمروذ: إنّ ملكى أعظم من ملكه. قال إبراهيم: الملك والسلطان لله ربّ العالمين. قال: لقد تجرّأت علىّ يا إبراهيم، وأنت تعلم أنّى خلقتك ورزقتك. فاضطرب سرير نمروذ، وقال إبراهيم: كذبت يا نمروذ، إنّ الله هو الّذى خلقك وخلق الناس أجمعين، ورزقك ورزقهم، وأنت تكفر بنعمته وقد رأيت بعض الآيات؟ قال: هات غير ذلك. فوصف إبراهيم قدرة الله. قال نمروذ: فما الّذى يفعل من قدرته؟ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قال نمروذ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ . قال: كيف تفعل؟ قال: أخرج من الحبس من قد وجب عليه القتل فأطلقه، وأقتل الّذى لم يجب عليه. قال إبراهيم: إنّ ربّى لا يفعل كذلك، بل الميّت يحييه، والحىّ يميته من غير قتل، ولكن يا نمروذ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 107 ذكر سؤال إبراهيم- عليه السلام- فى إحياء الموتى قال الله تعالى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. قال: فأخذ ديكا أبيض وغرابا أسود وحمامة خضراء وطاوسا، وقطع رءوسها، وخلط الدم بالدم والريش بالريش؛ ثم جزّأها أجزاء متساوية، وجعل على كلّ جبل منهنّ جزءا، وجعل رءوسها بين أصابعه؛ ثم دعاها، فانضمّ كلّ جزء إلى بعضه، وخرجت الرءوس من بين أصابع إبراهيم، فصار كل رأس إلى بدنه. قال: والتفت إبراهيم إلى نمروذ وقال: كيف ترى قدرة إلهى؟ قال: ليس هذا ببديع من سحرك. وأمر به فقيّد وغلّت يده، وأدخل المضيق تحت الأرض وفيه الحيّات والعقارب فلم يضرّه ذلك. وجاءه جبريل فبشّره عن الله بالنصر، وألبسه حلّة خضراء، وفرش له فرشا من السندس، وأتاه بطعام فأكل وقال له: اصبر كما صبر الأنبياء من قبلك. ذكر آية لإبراهيم- عليه السلام- قال: وكان إبراهيم يسلّى أهل السجن، ويذكّرهم بالجنّة والنار؛ فقام إليه رجل وقال: يا إبراهيم، أنا من ملوك العرب، وأنا ابن ملكهم، وكنّا أربع إخوة فغضب الملك علينا فحبسنى هاهنا، وحبس الآخر بالمشرق، والآخر بالمغرب والرابع باليمن، فهل يقدر ربّك أن يجمع بيننا؟ قال: نعم. ودعا إبراهيم ربّه، فإذا بالأخوين وقد انقضّا من المشرق والمغرب. فبلغ ذلك نمروذ، فأحضرهم وقال: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 108 من جمع بينكم؟ قالوا: إلهنا بدعاء إبراهيم. فأحضر إبراهيم وقال: ائتنا بالأخ الرابع من اليمن. فقال: إنّه قد مات ودفن. فقال نمروذ: ادع ربّك حتّى يأتينا بقبره. فدعا إبراهيم، فأمر الله الملك الموكّل بالأرض أن يخترق بالقبر إلى إبراهيم؛ فخرج القبر من تحت الأرض إلى دار نمروذ، فقال إبراهيم للثلاثة: هذا قبر أخيكم. فقالوا: أيّها الملك، إن كان حقّا ما يقول فليدع ربّه ليحييه وينظر إليه ويكلّمه. فصلّى إبراهيم ركعتين، وسأل الله أن يحييه؛ فانشق القبر، وخرج الرجل منه وهو يشتعل نارا ويقول: هذا جزاء من عبد الأصنام ورغب عن دين الله. فقام بهرام الخازن ونزع ما كان عليه من لباس نمروذ، وآمن بالله وبإبراهيم. فقال له نمروذ: لقد عمل سحره فيك. وأمر بهم نمروذ فشدّت أيديهم وأرجلهم ووضعت عليهم أساطين، فلم يؤلمهم ثقلها؛ فبهت نمروذ ثم قال: عودوا لطاعتى فأنا الذى خففت عنكم ثقل هذه. فقال خازنه: قم حتى نضع عليك واحدة منها وخفّفها عن نفسك. فغضب نمروذ وأحرقهم بالنار حتى صاروا رمادا؛ فردّ الله عليهم أرواحهم فقاموا على أرجلهم يقرّون بعظمة الله؛ فعجب الناس، ولم يدر نمروذ ما يفعل؛ فأمر بهم فألقوا فى الحبس بين حيّات وعقارب، فبقوا فيه أربعين يوما، ولم يطعموا شيئا؛ فجاءت أمّ إبراهيم إلى نمروذ وسألته فى إطلاقه، فأمر بإخراجه هو ومن آمن به، وفى ظنّه أنّهم قد ماتوا؛ فأخرجهم فإذا هم فى أحسن صورة؛ فعجب الجزء: 13 ¦ الصفحة: 109 وقال: يا إبراهيم، من أطعمك وسقاك؟ قال: ربّى أطعمنى وسقانى، فآمن به يا نمروذ، فقد رأيت آياته وعظمته. فغضب نمروذ ثم أقبل على تارح وقال له: قد كنت أتخوّف من ابنك، لأنّى كنت أظنّ له شوكة من الجنود، والآن فليس عنده إلّا السحر، وقد وهبته لك. فأخذه أبوه وأخرجه من دار نمروذ، وقال له: يا بنىّ، امش حتى أدخلك على هذه الأصنام لعلّك تميل إليها. فقال إبراهيم: سوءة لك أيّها الشيخ. ثم قال: أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ؟ ثم قال: يا قوم قولوا: لا إله إلّا الله وإنّى إبراهيم رسول الله تفلحوا. فكذّبوه، فقال له أبوه: يا بنىّ ما تخشى سطوة الملك. فقال: يا أبت إنّ الله يعصمنى من مكايده. قال: ثم ابتلاهم الله- عزّ وجلّ- بالقحط، وقلّت عندهم الأقوات؛ وكان بظاهر المدينة كثيب من الرمل، فتعبّد إبراهيم فيه، ودعا ربّه أن يحوّله طعاما. فحوّله الله، فكان المؤمنون ينالون منه ما يريدون، والكفّار يسجدون لنمروذ ويأخذون منه القوت. وكان قد جمع الأقوات فى سراديب عنده، فأطعمهم حتى نفد أكثرها ولم يبق إلّا قوت أهله وعشيرته؛ فشرع الناس يؤمنون ويزيدون فى كل يوم؛ فشقّ ذلك على نمروذ، وطلب إبراهيم وقال له: اخرج من بلدى فقد أفسدت قومى بسحرك. فقال إبراهيم: لم أخرج وأنا أحقّ منك؟ وخرج من عنده فأحضر نمروذ تارح وقال له: إن ابنك قد آذانى فى أهل مملكتى، ولولا منزلتك عندى لبطشت به. فقال: إنّنى قد هجرته، ولست راضيا بصنعه، فافعل به ما بدا لك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 110 ذكر خبر تكسير إبراهيم الأصنام وإلقائه فى النار قال كعب: وكان لأهل كوثربّا عيد يخرجون إليه فى كلّ سنة، فيتعبّدون هناك أيّاما؛ وكان بعيدا من البلد؛ فلمّا حضر ذلك العيد قال تارح لإبراهيم: اخرج معنا إلى عيدنا. فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ ، يعنى لعبادتكم الأصنام فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ إلى عيدهم، ولم يبق فى بلدهم إلّا الصّغار والهرمون. فقام إبراهيم ودخل بيت الأصنام- وكان القوم قد وضعوا الطعام بين أيديها- فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ* ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ استهزاء بهم؛ وكانت فى جانب البيت فأس، فأخذها وكسر بها هذا الصنم، وكسر يد هذا الصنم ورجل هذا ورأس هذا. قال الله عزّ وجلّ: فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ وترك كبيرهم كما أخبر الله تعالى: فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ ثم علّق الفأس فى عنق الصنم الأكبر ورجع إلى منزله. وأقبل القوم بعد فراغهم من عيدهم، فرأوا أصنامهم على ذلك؛ فقالوا: مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ* قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ وبلغ الخبر نمروذ. قال: فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ يعنى عذابه. فلمّا أتوا به قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ* قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ قال بعضهم لبعض: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ* ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ فصاحوا من كلّ ناحية: أفتأمرنا بذلك وأنت تعلم أنّها لا تسمع ولا تبصر. فقال إبراهيم: أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ فقال القوم لنمروذ ما أخبرنا الله تعالى عنهم: قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 111 وكان لنمروذ تنّور من حديد يحرق فيه من غضب عليه، فأمر به فأسجر فطرح إبراهيم فيه، فلم تضرّه النار بقدرة الله؛ فلمّا رأى نمروذ ذلك جمع أهل مملكته واستشارهم، فأشاروا أن يحبسه ويجمع له الحطب الكثير، ويضرم فيه النار، ثم يلقيه فيه إذا صار جمرا. وقالوا: إنّه لا يقدر يسحر النار الكبيرة، ولا يعمل سحره فيها. فعند ذلك حبسه وأمر بجمع الأحطاب؛ فيقال: إنّ الدوابّ امتنعت من حملها إلّا البغال، فأعقمها الله عقوبة لذلك؛ فجمعوا من الأحطاب ما لا يحصى كثرة؛ وأمر أن تحفر حفيرة واسعة، وبنى حولها حائطا عاليا، وألقى فيها تلك الأحطاب وأضرم فيها النار والنّفط ثلاثة أيّام، فكان لهبها يصيب الطائر فى الجوّ فيحرق. قال: وهمّوا بطرح إبراهيم فيها، فلم يقدروا يقربوا منها. فيقال: إنّ إبليس أتاهم فى صورة شيخ، وصنع لهم المنجنيق، ولم يكونوا يعرفونه قبل ذلك، ووضعوا إبراهيم فى كفّة المنجنيق، ورموا به وهو يدعو الله أن ينصره عليهم؛ فعارضه جبريل وهو فى الهواء، وقال له: ألك حاجة يا إبراهيم؟ قال: أمّا إليك فلا، بل حسبى الله ونعم الوكيل. فلمّا قرب من النار قال الله عزّ وجلّ: يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ. قال ابن عبّاس- رضى الله عنهما-: لو لم يقل «وسلاما» لمات إبراهيم من شدّة البرد. فبرد حرّها وأخضرت الأشجار التى احترقت ورست بعروقها. فلمّا أصبح نمروذ جلس فى مكان مشرف ينظر إلى ما أصاب إبراهيم من النار؛ فكشف عن بصره فإذا هو برجل فى وسطها على سرير، عليه ثياب خضر وإلى جنبه رجل آخر؛ وخلق كثير وقوف من ورائهما؛ فدعا بصاحب المنجنيق الجزء: 13 ¦ الصفحة: 112 وقال له: كم ألقيت فى النار؟ قال: إبراهيم وحده. فعجب وعجبت الناس وقال: اذهبوا وانظروا من القاعد على السرير ومن إلى جنبه وحوله. فأتوا فإذا هم بإبراهيم على أحسن صورة، فأخبروا نمروذ، فقال: ائتونى به. فقالوا: لا نستطيع الوصول إليه لحرّ النار. فنادوه: يا إبراهيم، أخرج إلينا. فخرج إلى نمروذ وقال له: ما أعجب سحرك يا إبراهيم! قال: ليس هذا بسحر، وإنما هو من قدرة الله تعالى. قال: فمن الّذى عن يمينك؟ قال: ملك جاءنى من عند ربّى بشّرنى انّ الله اتّخذنى خليلا. فقال نمروذ: لأصعدنّ إلى السماء وأقتل إلهك. ذكر خبر صعود نمروذ إلى السماء على زعمه قال: وأمر نمروذ أن يتّخذ له تابوت مربّع، ويكون له بابان: باب إلى السماء وباب إلى الأرض، وجوّع أربعة نسور، وسمّر أربعة رماح فى أركان التابوت، وعلّق اللحم فى أعلاها، وشدّ النسور بأوساطها إلى الرماح، وجلس فى التابوت ومعه وزيره، وحمل معه قوسا ونشّابا، وأطبق البابين، فرفعت النسور رءوسها فنظرت إلى اللّحم، فطارت صاعدة، وارتفعت فى الهواء؛ فقال لوزيره: افتح الباب الذى يلى الأرض وانظر كيف هى؟ قال: أراها كأنّها قرية. قال: فأنظر إلى السماء. فقال: هى كما رأيناها ونحن فى الأرض. ولم يزل يصعد حتى قال: أما الدنيا فلا أراها إلا سوادا ودخانا، والسماء كما رأيناها. وارتفعت النسور حتى كادت تسقط إلى الأرض؛ فعارضه ملك وقال: ويلك يا نمروذ؛ إلى أين؟ قال: أريد محاربة إله إبراهيم. قال: ويحك، إنّ بينك وبين سماء الدنيا خمسمائة عام، ومن فوق ذلك ما لا يعلمه إلّا الله. فخرّ الوزير ميتا؛ فأخذ نمروذ القوس ووضع فيه السهم، وقال: أنا لك يا إله إبراهيم، ورمى بالسهم إلى الهواء، فيقال: إنّ ذلك السهم عاد إليه ملطّخا بالدم بإذن الله. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 113 وأمر الله جبريل أن يضرب التابوت بجناحه، فيلقيه فى البحر؛ فضربه فمرّ يهوى به حتى ألقاه فى البحر؛ وأمر الله الأمواج أن تلقيه إلى الساحل؛ فلمّا وصل إلى البرّ خرج وقد ابيضّت لحيته لما عاين من الأهوال، وتوصّل من بلد إلى بلد حتى أتى المدينة، فدخل منزله ليلا فأنكره الناس لشيبه، ثم عرفوه؛ وجاءه إبراهيم فقال: كيف رأيت قدرة ربّى؟ قال: قد قتلت ربّك. قال: إنّ ربّى أعظم من ذلك، ولكن هل لك قوّة- مع كثرة جنودك- أن تقاتلنى؟ قال: نعم. ذكر خبر إرسال البعوض على نمروذ وقومه قال: وأمر نمروذ جنوده فاجتمعوا لحرب إبراهيم وهم لا يحصون كثرة؛ وخرج إبراهيم فى سبعين من قومه الذين آمنوا فى الصحراء، فأرسل الله عليهم البعوض حتى امتلأت منه الدنيا، ولدغت جيش نمروذ؛ فمات من لدغها خلق كثير، والتجأ الباقون إلى الدّور، وأغلقوا الأبواب وأسبلوا الستور؛ فلم تغن عنهم شيئا؛ وانفرد نمروذ عن جيشه، ودخل منزله وأغلقت الأبواب، وأرخيت الستور، واستلقى على سريره، فجاءت بعوضة فقعدت على لحيته، فهمّ بقتلها، فدخلت منخره وصعدت إلى دماغه؛ فعذّبه الله بها أربعين يوما لا ينام ولا يطعم؛ ثم شقّت رأسه وخرجت فى كبر الفرخ، فمات. وقيل: إنّه اتخذ إرزبّة من حديد، فكان صديقة الّذى يضرب بها رأسه فانفلق رأسه بضربة فخرجت كالفرخ وهى تقول: هكذا يهلك الله أعداءه، وينصر أنبياءه، ويسلّط رسله على من يشاء. وأرسل الله الزلازل على المدينة، فخرّبت. قال: وجاء لوط وهو ابن أخى إبراهيم، وآمن به، وآمنت سارة، فتزوّج بها إبراهيم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 114 ذكر هجرة إبراهيم- عليه السلام- قال: وجمع إبراهيم أصحابه الّذين آمنوا به، وسار يريد الشأم، فجاء إلى (حرّان) فأقام بها مدّة من عمره، وترك بها طائفة من المؤمنين، وسار حتى أتى الأردنّ وكان اسم ملكها صادوق، فمرّ به وهو فى منظرة له، فنظر إلى سارّة مع إبراهيم فأحضرهما، وقال لإبراهيم: من أنت؟ قال: أنا خليل الله إبراهيم. وذكر له ما كان من أمر نمروذ. فقال له: من هذه؟ قال: هى أختى. فقال: زوّجنيها. قال: هى أعلم بنفسها منّى، وإنّها لا تحلّ لك. فاغتصبها منه، وقام إلى مجلس آخر وأمر بحملها إليه. فدعا إبراهيم الله تعالى، فارتجّ المجلس بالملك، ويبست يده فقال لسارّة: ألا ترين ما أنا فيه؟ قالت: لأنّك أغضبت خليل الله. قال: فتضرّع إلى إبراهيم؛ فسأل الله فى ردّ يده عليه؛ فأوحى الله إليه: لا أطلقه دون أن أخرجه من ملكه ويسلم؛ فأسلم وخرج عن الملك، ووهب سارّة هاجر، وهى أمّ إسماعيل. قال وارتحل إبراهيم حتى أتى الأرض المقدّسة فنزلها. وقد روينا هذه القصة بسندنا إلى البخارىّ- رحمه الله- وسنذكر الحديث- إن شاء الله تعالى- فى أخبار طرطيس أحد الملوك بمصر، فقد ورد أنه صاحب القصة؛ والله أعلم. ذكر خبر ميلاد إسماعيل- عليه السلام- ومقامه وأمّه فى البيت المحرّم قال: وأقام إبراهيم بالأرض المقدّسة ما شاء الله أن يقيم حتى كبرت سارّة وأيست من الولد، فخافت من انقطاع نسل إبراهيم- عليه السلام- فوهبته هاجر فقبلها، وواقعها، فحملت بإسماعيل، ووضعته كالقمر وفى وجهه نور نبيّنا محمد الجزء: 13 ¦ الصفحة: 115 صلّى الله عليه وسلّم؛ فأحبّته سارّة حتى بلغ من عمره سبع سنين، فداخلت الغيرة سارّة، ولم تطق أن ترى إبراهيم مع هاجر، فقالت: يا نبىّ الله، إنى لا أحبّ أن تكون هاجر معى فى الدار، فحوّلها حيث شئت. فأوحى الله إليه أن انقلها إلى الحرم؛ وجاءه جبريل بفرس من الجنّة، فقال له: يا إبراهيم، احمل هاجر وإسماعيل على هذا الفرس. فأركب إبراهيم هاجر وإسماعيل من ورائها، وسار بهما حتى بلغ الحرم. فأوحى الله إليه أن أنزل بهما هاهنا. فأنزلهما بالقرب من البيت، وهو يومئذ أكمة حمراء كالربوة من تخريب الطوفان. ثم قال إبراهيم لهاجر: كونى هاهنا مع ولدك فإنى راجع، فبذلك أمرنى ربّى. فلما أراد إبراهيم أن ينصرف قال: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ إلى قوله: لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ. ثم رجع وتركهما هناك ولا ثالث لهما إلّا الله تعالى. فلما علا النهار، واشتدّ الحرّ، ونفد ما معهما من الماء، قامت هاجر تعدو يمينا وشمالا فى طلب الماء فلم تجده؛ فعادت إلى إسماعيل فرأته يبحث بأصابعه فى موضع بئر زمزم وقد نبع الماء؛ فسجدت لله، وأخذت تجمع الحصا حول العين لئلّا ينتشر الماء وهى تقول: زمّ زمّ يا مبارك. فناداها جبريل: لا تخافى وأبشرى، فإن الله سيعمر هذا المكان. قال وهب: لولا أن هاجر جمعت الحصا حول الماء لتمّت العين نهرا جاريا على وجه الأرض إلى يوم القيامة. قال: وأقبل ركب من اليمن يريدون الشأم، وطريقهم على الحرم، فرأوا الطير تهوى إلى الأرض، فقالوا: إن الطير لا تنقضّ إلّا على الماء والعمارة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 116 وأقبلوا فرأوا هاجر وإسماعيل والعين؛ فسألوها، فقالت: أنا جارية خليل الله إبراهيم وهذا ابنه، خلّفنا وانصرف إلى الشأم. فآستأذنوها فى الماء؛ فأذنت لهم. ثم قالوا: هل أحد ينازعك على هذا الماء؟ قالت: لا، فإنّ الله أخرجه لى ولولدى. قالوا: إن حضرنا بأهالينا وسكّنا فى جواركم هل تمنعيننا من هذا الماء؟ قالت: لا، فإنه لله يشربه خلق الله. فرجعوا إلى بلدهم، واحتملوا أهاليهم وأتوا الحرم بها وبمواشيهم، فصاروا لهما أنسا. ونشأ إسماعيل حتى بلغ مبلغ الرجال، فكان يخرج إلى الصيد معهم ويرجع وماتت أمه هاجر، وتزوّج إسماعيل منهم، وبلغ إبراهيم خبر موت هاجر، فاشتاق إلى إسماعيل، فاستأذن سارّة فى ذلك، فأذنت له، فجاءه جبريل بفرس فركبه وسار حتى وقف على بيت ولده إسماعيل بالحرم، فقال: السلام عليكم يا أهل المنزل. فقالت له المرأة: إن صاحب البيت غائب. فقال إبراهيم: إذا رجع فقولى له: ابدل عتبة دارك، فإنّى لا أرضاها لك. وانصرف إلى الشأم. فلما عاد إسماعيل أخبرته بالخبر، فقال: صفيه لى. فوصفته؛ فقال: الحقى بأهلك. فجاء أهلها وقالوا: ما الذى كرهت منها؟ قال: لأنها لم تعرف لخليل الله قدرا. ثم تزوّج امرأة من جرهم، فأولدها إسماعيل ستّة أبطن، فاشتاق إبراهيم إلى ولده، فجاءه جبريل بفرس فركبه وسار إلى الحرم، وقد عمر ذلك المكان بجرهم؛ فوقف على باب إسماعيل وقال: السلام عليكم يا أهل المنزل. فبادرت المرأة وسلّمت عليه، وقالت: فدتك نفسى، إن صاحب المنزل غائب، وإنه يعود عن قريب. قال: هل عندك طعام؟ قالت: نعم، عندنا خير كثير. وجاءته بطبق الجزء: 13 ¦ الصفحة: 117 عليه لحم مشوىّ من الصيد، وقدح فيه ماء. قال: فهل غير هذا من حب أو زبيب! قالت: يا عمّاه، ما هذا طعام بلدنا، ولكنّه يجلب إلينا، فانزل بنا وتناول طعامنا. قال: إنّى صائم، ولكن علىّ ذرق «1» الطير فاغسليه. وحوّل قدمه عن الفرس، ووضعه على المقام؛ فغسلته «2» ، فقال: إذا جاء زوجك فسلّمى عليه وقولى له: الزم عتبة بابك فقد رضيتها لك. وانصرف. فلما رجع إسماعيل من الصيد أخبرته الخبر فقال: لقد كنت كريمة علىّ وقد صرت الآن أكرم بإكرامك أبى خليل الله إبراهيم. ثم اشتاق إبراهيم إلى ولده ثالثا، وذلك بعد ثلاث وعشرين يوما، فجاء إليه ولقيه، وأمره الله أن يبنى البيت، فبناه؛ وأتاه جبريل فعلّمه مناسك الحجّ. وقد تقدّم ذكر ذلك مبيّنا فى الباب الثانى من القسم الخامس من الفنّ الأوّل وهو فى السفر الأوّل من كتابنا هذا، فلا حاجة لنا فى إعادته. قال: ورجع إبراهيم إلى البيت المقدّس، وأوحى الله إليه أن يرسل لوطا نبيا إلى سذوم؛ فأرسله. وكان من أمره ما نذكره فى أخباره فى الباب الّذى يلى هذا الباب- إن شاء الله تعالى-. ذكر خبر بشارة إبراهيم بإسحاق- عليهما السلام- قال: وبعث الله الملائكة إلى إبراهيم حين أرسلهم بالعذاب على قوم لوط وأمرهم أن يبشّروه بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب؛ فأتوه على صورة البشر وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل ودريائيل. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 118 قال: فأتوه مفاجأة على خيولهم، ودخلوا عليه منزله ففزع منهم، حتى قالوا: سَلاماً . فسكن خوفه، وقال: سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ورحّب بهم وأجلسهم وقام إلى زوجته سارّة وأمرها بخدمتهم؛ فقالت: عهدى بك وأنت أغير الناس. قال: هو كما تقولين، وإنّما هؤلاء أضياف أخيار. ثم قام إلى عجل سمين فذبحه وشواه، وقرّبه إليهم، ووقفت سارّة لخدمتهم، فجعل إبراهيم يأكل ولا ينظر إليهم وهو يظنّ أنهم يأكلون؛ فرأت سارّة أنّهم لا يأكلون؛ فنبهّته على ذلك، فقال: أَلا تَأْكُلُونَ ؟ وداخله الخوف من ذلك، ثم قال: لو علمت أنّكم لا تأكلون ما قطعت العجل عن البقرة. فمد جبريل يده نحو العجل، وقال: قم بإذن الله. فاشتدّ خوف إبراهيم وقال: إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ* قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ إلى قوله إِلَّا الضَّالُّونَ. قال: وكانت سارّة واقفة هناك، فقالت: «أوّه» فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ قال الله تعالى: وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ أى حاضت فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ* قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ* قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ولم تعلم أنّهم ملائكة؛ فقال لها جبريل: يا سارّة، كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ . قال إبراهيم: فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ* لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ ثم عاد جبريل إلى صورته، فعرفه إبراهيم، وعرّفه أنهم يقصدون قوم لوط بالعذاب؛ فاغتم إبراهيم شفقة على لوط وأهله، ثم قال: امضوا حيث تؤمرون. وكان من أمر قوم لوط ما نذكره. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 119 قال: وحملت سارّة بإسحاق فى الليلة الّتى خسف الله فيها بقوم لوط، ووضعته وعلى وجهه نور أضاء منه ما حولها؛ فدخل إبراهيم وقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وربّته سارّة حتى بلغ سبع سنين. ذكر خبر الذبيح وفدائه قال: وكان إسحاق يخرج مع أبيه إلى بيت المقدس، فبينما إبراهيم فى مصلّاه إذ غلبته عينه فنام، فأتاه آت فى منامه وقال: إن الله يأمرك أن تقرّب قربانا. فلمّا أصبح عمد إلى ثور فذبحه وفرّق لحمه على المساكين، فلما كان الليل رأى فى منامه الّذى أتاه وهو يقول: يا إبراهيم، إنّ الله يأمرك أن تقرّب له قربانا أعظم من الثور. فلمّا انتبه ذبح جملا وفرّق لحمه على المساكين. ثم رآه فى الليلة الثالثة وهو يقول: إنّ الله يأمرك أن تقرّب قربانا أعظم من الثور والجمل. قال إبراهيم: وما هو؟ فأشار إلى ولده إسحاق؛ فانتبه فزعا، وأقبل على إسحاق وقال له: ألست تعطينى يا بنىّ؟ قال: بلى، ولو كان فى ذبح نفسى. فانصرف إبراهيم إلى منزله، وأخذ الشّفرة والحبل، فوضعهما فى مخلاته وقال: يا إسحاق، امض بنا إلى الجبل. فلما مضيا أقبل إبليس إلى سارّة وقال لها: إنّ إبراهيم قد عزم على ذبح إسحاق فالحقيه وردّية. قالت: ولم يذبحه؟ قال: إنّه زعم أن ربّه أمره بذلك. قالت: إن كان الأمر كذلك فإنّه صواب إذا أراد رضى ربّه. وقالت: اللهم اصرف نزغ الشيطان. فولّى عنها هاربا، وتبع إسحاق فناداه: إنّ أباك يريد أن يذبحك. فقال إسحاق لأبيه: يا أبت ألا تسمع إلى هذا الهاتف ما يقول؟ قال: يا بنىّ امض ولا تلتفت إليه، فسأخبرك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 120 فلما انتهيا إلى رأس الجبل قال: إبراهيم: يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ: يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ. فحمد إبراهيم ربّه على ذلك؛ فنودى من السماء: أليس الله قد وصفك بالحلم فكيف لا ترحم هذا الطفل؟ قال: إن الله قد أمرنى بذلك. فقال إسحاق: يا أبت عجّل أمر ربّك قبل أن ينال منّا الشيطان. فنزع إبراهيم قميصه وربطه بالحبل، وكبّه على جبينه وهو يقول: الحمد لله باسم الله الفعّال لما يريد. ووضع الشفرة على حلقه، فلمّا همّ بذبحه انقلبت الشفرة، فارتعدت يد إبراهيم، فقال له إسحاق: يا أبت، حدّ الشفرة، واصرف وجهك عنّى حتى لا ترحمنى. قال: يا بنىّ، قد فعلت حتى لو قطعت بها المجنّ لقطعته بحدّها. ثم وضع إبراهيم الشفرة على حلقه ثانيا، وهمّ بقطع أوداجه؛ فانقلبت؛ فقال إبراهيم: لا حول ولا قوّة إلا بالله. فقال: أصبت فى قولك يا أبت ولكن حدّ شفرتك لتذبحنى ذبحا، ولا تجزع. فحدّ إبراهيم المدية حتى جعلها كالنار ووضعها على حلق إسحاق، فسمع إبراهيم هدّة «1» عظيمة ومناديا يقول: يا إبراهيم خذ هذا الكبش فاذبحه عن ابنك، فهو قربان عنه، وهذا اليوم جعل عيدا لك ولولدك من بعدك. فالتفت إبراهيم إلى الجبل، وإذا هو بكبش أملح أقرن، قد انحدر من الجبل وهو يقول: خذنى يا إبراهيم فآذبحنى عن ابنك، فأنا أحق منه بالذبح، فأنا كبش هابيل بن آدم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 121 فحمد إبراهيم ربّه على ذلك، وذبح الكبش؛ فأتت نار من السماء بغير دخان فأكلته حتى لم يبق إلّا رأسه؛ وانصرف إبراهيم وإسحاق ورأس الكبش معهما إلى منزل إبراهيم، وأخبر سارّة بما جرى. قال: ثم توفّيت سارّة بعد ذلك، وتزوّج إبراهيم بامرأة من الكنعانيين وأولدها ستّة أولاد فى ثلاثة أبطن. وإبراهيم أوّل من صافح وعانق وفرق الشعر بالمشط ونتف الإبط واستاك واكتحل واختتن بالقدوم. ذكر وفاة إبراهيم- عليه السلام- قال: فبينما إبراهيم على باب داره، وإذا هو بملك الموت وقد وافاه فى أحسن صورة؛ فسلّم عليه؛ فأجابه وقال: من أنت؟ قال: أنا ملك الموت، أمرنى الله بقبض روحك. فكره إبراهيم الموت؛ ثم تصوّر له فى صورة شيخ كبير، ودخل على إبراهيم وقال: هل من طعام؟ فقدّم إليه طعام على طبق، فجعل ملك الموت يتناول الطعام، ويخيّل إلى إبراهيم أنه يلوّث وجهه وعنقه، وأنّه لا يستقرّ فى بطنه. فقال له إبراهيم: أيّها الشيخ، ما بال هذا الطعام لا يستقرّ فى بطنك؟ قال: يا خليل الله، إنى قد شخت، ولست أتمكّن منه إلّا على هذا الوجه. قال: فكم تعدّ من السنين؟ قال: قد جزت مائتى سنة. قال إبراهيم: وأنا فى المائتين إلّا سنة، وإذا مضى علىّ مائتين أصير كذا؟ [قال: نعم «1» ] . فدعا إبراهيم ربّه أن يقبضه. فجاءه ملك الموت؛ فقال: يا ملك الموت قد اشتقت إليك منذ رأيت ذلك الشيخ على تلك الصورة، فاقبض روحى. فقبض روحه صلى الله عليه وسلّم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 122 الباب الثانى من القسم الثانى من الفن الخامس فى قصّة لوط- عليه السلام- وقلب المدائن هو لوط بن هاران بن تارح، وتارح هو آزر أبو إبراهيم- عليه السلام- وكان لوط قد شخص مع عمّه إبراهيم- عليهما السلام- من المدائن إلى أرض الشأم، مؤمنا به، مهاجرا معه، ومع إبراهيم تارح وسارّة بنت ماحور؛ فلمّا انتهوا إلى حرّان هلك تارح بها وهو باق على كفره؛ وسار إبراهيم ولوط وسارّة إلى الشأم؛ ثم مضوا إلى مصر وبها فرعون من الفراعنة يقال له: سنان بن علوان ابن عبيد بن عوج بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح عليه السلام؛ ورجعوا إلى أرض الشأم فنزل إبراهيم فلسطين، وأنزل لوطا الأردن، فكان هناك إلى أن بعثه الله نبيا. قال: وأوحى الله- عزّ وجلّ- إلى إبراهيم أن يرسل لوطا نبيّا إلى (سذوم) ، وكانت خمس مدائن؛ وهى: (صامورا) «1» (وصابورا) (وسذوم) (ودومة) «2» (وعامورا) ، وهى المؤتفكات، وكان أعظمها (سذوم) وعلى كلّ مدينة سور عظيم مبنىّ بالحجارة والرّصاص، وعليهم ملك يقال له: (سذوم) من بيت نمروذ بن كنعان، وكان أهل هذه المدائن قد خصّوا بحذف الحصا والحبق «3» في المجالس وعبادة الأصنام، وكانوا حسان الوجوه، فأصابهم قحط، فأتاهم إبليس فقال: إنما أصابكم القحط لأنّكم منعتم الناس من دوركم ولم تمنعوهم من بساتينكم. فقالوا: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 123 كيف السبيل إلى المنع؟ قال: اجعلوا السنّة بينكم إذا دخل بلدكم غريب سلبتموه ونكحتموه فى دبره، فإذا فعلتم ذلك لم تقحطوا. فخرجوا إلى ظاهر البلد فتصوّر لهم إبليس فى صورة غلام أمرد، فنكحوه وسلبوه، فطاب لهم ذلك حتى صار فيهم عادة مع الغرباء، وتعدّوا إلى أهل البلد، وفشا بينهم؛ فأرسل الله إليهم لوطا، فبدأ بمدينة (سذوم) وبها الملك، فلما بلغ وسط السوق قال: يا قوم اتقوا الله وأطيعون وارجعوا عن هذه المعاصى التى لم تسبقوا إليها، وانتهوا عن عبادة الأصنام، فإنّى رسول الله إليكم. فكان جوابهم أن قالوا: ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. وبلغ الخبر الملك، فقال: «ائتونى به» فلمّا وقف بين يديه سأله: من أين أقبل؟ ومن أرسله؟ ولماذا جاء؟ فأخبره أن الله أرسله. فوق فى قلبه الخوف والرعب، وقال: إنما أنا رجل من القوم، فآدعهم فإن أجابوك فأنا منهم. فدعاهم فقالوا: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ . فقال لهم: إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ* رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ. فلبث فيهم عشرين سنة يدعوهم إلى الله وهم لا يجيبونه. ثمّ توفيت امرأته، فتزوّج بامرأة من قومه كانت قد آمنت به، فأقام معها أعواما وهو يدعوهم حتى صار له فيهم أربعون سنة وهو يدعوهم بما أخبر الله به ويقول: أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ الايات، وهم لا يزدادون إلا كفرا وإصرارا وتماديا على أفعالهم الذميمة، فضجّت الأرض منهم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 124 ذكر خبر نزول العذاب على قوم لوط وقلب المدائن قد ذكرنا فى قصّة إبراهيم أن الله- عزّ وجلّ- أرسل الملائكة إليه وبشّروه بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، وأخبروه بما أمرهم الله به من إهلاك قوم لوط، وقال لهم: امضوا حيث تؤمرون. فاستووا على خيولهم. وساروا إلى المدائن وهم على صفة البشر، فأتوا المدائن وقت المساء، فرأتهم ابنة لوط- وهى الكبرى من بناته وهى تستقى الماء- فتقدّمت إليهم وقالت: ما لكم تدخلون على قوم فاسقين؟ ليس يضيفكم إلّا ذلك الشيخ. فعدلت الملائكة إلى لوط، فلما رآهم اغتمّ غمّا شديدا مخافة عليهم من شرّ قومه، ثم قال لهم: من أين أقبلتم؟ قالوا: من موضع بعيد، وقد حللنا بساحتك، فهل لك أن تضيفنا الليلة؟ قال: نعم، ولكن أخاف عليكم من هؤلاء الفاسقين- عليهم لعنة الله- قال جبريل لإسرافيل: هذه واحدة- وكان الله قد أمرهم ألّا يدمّروا على قومه إلّا بعد أربع شهادات من لوط ولعنته عليهم- ثم أقبلوا إليه وقالوا: يا لوط، قد أقبل علينا الليل، فاعمل على حسب ذلك. قال: قد أخبرتكم بأنّ قومى يأتون الرجال من العالمين- عليهم لعنة الله- فقال جبريل لإسرافيل: هذه ثانية. ثم قال لهم لوط: انزلوا عن دوابّكم واجلسوا هاهنا حتى يشتدّ الظلام، وتدخلون ولا يشعر بكم أحد منهم- عليهم لعنة الله- قال جبريل: هذه ثالثة. ثم مضى لوط والملائكة وراءه، فدخل المنزل، وأغلق الباب، وقال لامرأته: إنك قد عصيت الله أربعين سنة وهؤلاء ضيفانى قد ملأوا قلبى خوفا، فاكتمى علىّ أمرهم حتى يغفر الله لك ما مضى. قالت: نعم. ثم خرجت وبيدها سراج كأنها تشعل، فطافت على عدّة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 125 من القوم، فأخبرتهم بجمالهم وحسنهم، فعلم لوط بذلك، فأغلق الباب وأوثقه؛ فأقبل الفسّاق وقرعوا الباب. فناداهم لوط: هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ* قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ ثم كسروا الباب، ودخلوا، فقالوا له: أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ. فوقف لوط على الباب الذى دونه ضيفانه وقال: لا أسلم ضيفانى إليكم دون أن تذهب نفسى. فتقدّم بعضهم ولطم وجهه، وأخذ بلحيته، ودفعوه عن الباب، فقال: أوّه لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ ثم قال: إلهى خذ لى بحقّى من هؤلاء الفسقة والعنهم لعنا كبيرا. فقال جبريل عند ذلك: هذه أربعة. وقام جبريل ففتح الباب وقال للوط: إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فهجم القوم. ودخلوا وبادروا نحو الملائكة، فطمس الله أعينهم، واسودّت وجوههم. قال الله تعالى: وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فجاءت طائفة أخرى ونادوهم: اخرجوا لندخل. فنادوا: يا قوم، هؤلاء قوم سحرة سحروا أعيننا فأخرجونا. فأخرجوهم، وقالوا: يا لوط، حتى نصبح نريك وبناتك. وخرجوا فقال لوط للملائكة: بماذا أرسلتم؟ فأخبروه، فقال: متى؟ قالوا: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ. ثم قال له جبريل: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ فجمع لوط أهله وبناته ومواشيه، وأخرجه جبريل من المدينة، وقال له: أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ ومضى لوط الجزء: 13 ¦ الصفحة: 126 بمن معه، وجبريل قد بسط جناح الغضب، وإسرافيل قد جمع أطراف المدن ودريائيل قد جعل جناحه تحت الأرض، وملك الموت قد تهيّأ لقبض أرواحهم حتى إذا برز عمود الصبح صاح جبريل صيحة: يا بئس صباح قوم كافرين. وقال ميكائيل: يا بئس صباح قوم فاسقين. وقال دريائيل: يا بئس صباح قوم ظالمين. وقال إسرافيل: يا بئس صباح قوم مجرمين. وقال عزرائيل: يا بئس صباح قوم غافلين. فاقتلع جبريل هذه المدن عن آخرها، ثم رفعها حتى بلغ بها الى البحر الأخضر وقلبها، فجعل عاليها سافلها. قال الله تعالى: وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى * فَغَشَّاها ما غَشَّى يعنى رمى الملائكة إيّاهم بالحجارة من فوقهم. قال: واستيقظ القوم، وإذا هم بالأرض تهوى بهم، والنيران من تحتهم والملائكة تقذفهم بالحجارة. قال: ومن كان من القوم بغير مدائنهم ممّن كان على دينهم وفعلهم أتاه حجر فقتله. قال: وبقى يخرج من تحت «1» المدائن دخان منتن، لا يقدر أحد يشمّه لنتنه، وبقيت آثار المدائن. قال الله تعالى: وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. قال: ومضى لوط إلى إبراهيم- عليهما السلام- فذلك قوله عزّ وجلّ: وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ* وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 127 الباب الثالث من القسم الثانى من الفن الخامس فى خبر إسحاق ويعقوب- عليهما السلام- قال: ولمّا قبض الله تعالى إبراهيم الخليل- عليه السلام- سكن إسماعيل الحرم، وإسحاق الشأم ومدين، وسكن معه سائر أولاد إبراهيم، وبعثه الله إلى الأرض المقدّسة نبيّا ورسولا، فأقام بينهم نحوا من ثمانين سنة، وكفّ بصره فبينما هو نائم الى جنب امرأته إذ تحرّكت شهوته، فقالت: وفيك بقيّة يا إسحاق؟ فواقعها مرّة فحملت بذكرين: وهما يعقوب والعيص- على ما ذكرناه فى الأنساب- وهو فى الباب الرابع من القسم الأوّل من الفنّ الثانى، وهو فى الجزء الثانى من هذا الكتاب، وذكرنا أيضا أولاد العيص فيه. قال: ثم قبض الله تعالى نبيّه إسحاق، فقسم ما كان له من بقر وخيل وغنم وغير ذلك بالسوية، ومات؛ فغلب العيص على مال يعقوب، واغتصبه إياه وقصد قتله؛ فقالت له أمّه: الحق بخالك (لابان) وإخوته بحرّان، فإنّهم مؤمنون من آل إبراهيم. فتوجّه يعقوب إلى حرّان، فأكرمه خاله، وزوّجه ابنته، وسلّم إليه ما بيده من المال، وكانت ابنته هذه الكبرى، واسمها (ليا) «1» فرزق منها روبيل «2» وشمعون «3» ، ثم ذكرين: لاوى «4» ويهوذا، وتوفيت؛ فزوّجه خاله ابنته الثانية واسمها الجزء: 13 ¦ الصفحة: 128 سروريّة «1» ، فولدت له ولدين: دانا ونفتالى «2» ؛ ثم توفّيت، فزوّجه الثالثة فأولدها ذكرين يساخر «3» وزبولون، وماتت؛ فزوّجه ابنته الرابعة، واسمها راحيل- وكانت أحسن بناته- وذلك بعد أن استكمل يعقوب من عمره أربعين سنة، فجاءه الوحى يومئذ وهو بحرّان وقد ماتت أمّه. ذكر مبعث يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام قال: ولما أتاه الوحى أقبل على خاله لابان، وشكره على فعله، وقال: إن ربّى بعثنى رسولا إلى أرض كنعان. فزوّده بخيل وغنم وبقر وغير ذلك، وقال: امض لما أمرك به ربّك. فخرج يعقوب ومعه أولاده العشرة «4» وامرأته يريد أرض كنعان، فبلغ خبر نبوّته أخاه العيص، فغضب لذلك، وعارضه فى طريقه بجموعه؛ فراسله يعقوب مع ابنه روبيل، وذكّره الأخوّة والرحم، فزبر «5» روبيل وردّه؛ ثم التقيا، فظفّر الله يعقوب بالعيص بقوّة النبوّة، فاحتمله وألقاه على الأرض وجلس على صدره، وقال له: كيف رأيت صنع الله بك يا عيص؟ ثم رقّ له وقام عن صدره واعتنقه، فاعترف العيص بفضله عليه، وسأله أن يعفو عمّا سلف منه فى حقّه؛ فاستغفر له يعقوب ودعا له، وانصرف العيص إلى بلده، وأقبل يعقوب الجزء: 13 ¦ الصفحة: 129 إلى أرض كنعان، فبنيت له دار متّسعة، سكنها بأهله وأولاده، وكان بأرض كنعان ملك يقال له: سحيم، فدعاه يعقوب إلى الإيمان بالله، فلم يكترث به قال: فإنّى مجاهدك. قال: بمن تجاهدنى وليس معك أحد؟ قال: أجاهدك بالله وملائكته وهؤلاء أولادى. وأقبل يعقوب بأولاده والملك فى حصنه، فقال: يا بنىّ، جاهدوا فى الله حقّ جهاده. فقال ابنه شمعون: أنا أكفيك هذا الحصن. وأقبل وضرب باب الحصن برجله فتساقطت حيطانه، وصاح صيحة عظيمة فمات الملك وأكثر من بالحصن. ودخل يعقوب الحصن، وغنم ما كان فيه؛ فكانت هذه معجزة ليعقوب، وبلغ ذلك أهل كنعان، فوقع الرعب فى قلوبهم، فآمنوا بيعقوب- عليه السلام-. الباب الرابع من القسم الثانى من الفن الخامس فى قصّة يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام وهذه القصة تدخل فيها بقيّة أخبار يعقوب وما كان من أمره ووفاته وخبر الأسباط أولاده. ذكر خبر ميلاد يوسف- عليه السلام- قال: ولمّا رجع يعقوب من غزاته دخل على امرأته راحيل فواقعها فحملت بيوسف وببنيامين أخيه، فوضعتهما، فجاء يوسف كالقمر، فربّته أمّه حتى صار عمره سنتين، وماتت أمه؛ فلمّا بلغ عمره عشر سنين أمر يعقوب بجذعة من غنمه، فذبحت، وصنعت طعاما، وجمع أولاده على الطعام يأكلون، فأقبل الجزء: 13 ¦ الصفحة: 130 مسكين وسأل وأكثر السؤال، واشتغل يعقوب عنه ولم يأمرهم بإطعامه، حتى انصرف السائل. فلما فرغ يعقوب من أكله قال: أعطيتم السائل شيئا؟ فقالوا: إنك لم تأمرنا بشىء. فجاءه الوحى: يا يعقوب، قد جاءك مؤمن فقير مريض شمّ رائحة طعامك فلم تطعمه، وأحرقت قلبه، فلأحرقنّ قلبك. فاغتم يعقوب. ذكر رؤيا يوسف- عليه السلام- وكيد إخوته له قال: ولما بلغ اثنتى عشرة سنة رأى رؤياه وقصّها على أبيه. قال الله تعالى: إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ* قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ* وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ إلى قوله: عَلِيمٌ حَكِيمٌ. قال: فسمع إخوته الرؤيا، فداخلهم الحسد، وقالوا ما أخبر الله به عنهم: إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ* اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ* قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ. قال: فاتفقوا وجاءوا إلى أبيهم، فقالوا: يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ* أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ . فقال لهم يعقوب: إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ* قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 131 قال: وأحبّ يوسف ذلك، فدعا يعقوب بسلّة فيها طعام وكوز ماء، وقال: إذا جاع فأطعموه من هذا الطعام، وإذا عطش فاسقوه؛ وأخذ عليهم العهود بردّه وشيّعهم بنفسه، وجلس على تلّ عال ينظر إليهم حتى غابوا عنه؛ فندم على إرساله ثم رجع إلى منزله؛ وجعل إخوة يوسف يمنعون فى السير، وهو يمشى وراءهم ولا يلحقهم، ويناديهم: «قفوا لى» . فلم يقفوا. ويقول: «اسقونى» . فلم يسقوه؛ وكسر شمعون الكوز وقال: قل لأحلامك الكاذبة حتى تسقيك. ورمى (لاوى) سلّة الطعام فى الوادى؛ فعلم يوسف أنهم قد عزموا على أمر، فناداهم وناشدهم الله والرحم، وذكّرهم بعهود أبيه، فلطمه أحدهم فأكبّه؛ وساروا ويوسف يعدو وراءهم حتى بلغوا موضع أغنامهم، فأرادوا قتله؛ فقال لهم يهوذا: إن قتلتموه حلّ بكم ما حلّ بقابيل حين قتل أخاه. فأجمعوا أن يجعلوه فى غيابت الجب وطلبوا له جبّا عميقا فوجدوه، فجرّوه إليه وهو يبكى، وقال لهم يهوذا: يا بنى يعقوب لقد ذهبت الرحمة من قلوبكم. قالوا: فنردّه إلى أبيه فيحدّثه بما فعلناه به؟ قال: فإن طرحتموه فى الجبّ لا يبلغ قعره حتى يموت، ولكن دلّوه بحبل. ولم يكن معهم حبل، فذبحوا شاة، وقدّوا جلدها كالحبل، ودلّوه به؛ فلما نزل إلى الجبّ امتلأ نورا، وأتاه جبريل وقال له: لا تخف فإنّ الله معك. وكان فى الجبّ حجر عظيم، فسطّحه جبريل بجناحه فصار كالطبق وأجلسه فيه، وأتاه بطعام من الجنّة فأكل، وأتاه بقميص فلبسه، وبفراش من الجنة، وآنسته الملائكة فى الجبّ. قال الله تعالى: فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 132 قال: ثم قالوا: ماذا نقول لأبينا؟ قال بعضهم: إنّه كان يخاف عليه من الذئب، فنقول: إن الذئب أكله. فعمدوا إلى جدى فذبحوه على قميصه، وألصقوا بالدم شيئا من شعر الجدى، ورجعوا إلى أبيهم. ذكر رجوع إخوة يوسف إلى يعقوب قال: ولمّا قربوا من عريش يعقوب أخذوا فى البكاء والعويل، فرأتهم ابنة يعقوب، فنزلت إلى أبيها باكية، وقالت: رأيت إخوتى متفرّقين يبكون، وروبيل يقول: «يا يوسف يا يوسف» . فصاح يعقوب، وخرّ على وجهه؛ فدخلوا عليه وقالوا: يا أبانا، جلت المصيبة وعظمت الرزيّة إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ قال الله تعالى: وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ وأخذ يعقوب القميص. ونظر إليه فلم ير فيه أثر خدش فقال: يا بنىّ، ما للذئب وأكل أولاد الأنبياء؟ وأخذ يبكى؛ ثم قال: اخرجوا فى طلب هذا الذئب، وإلّا دعوت عليكم فتهلكوا. فخرجوا فأخذوا ذئبا عظيما وجعلوا يضربونه ويجرّونه، حتى جاءوا به إلى أبيهم، فقال: كيف عرفتموه؟ قالوا: لأنه ذئب كبير، وكان يتعرّض لنا فى غنمنا. ذكر كلام الذئب بين يدى يعقوب فقال يعقوب: سبحان من لو شاء لأنطقك بحجّتك. فنطق الذئب وقال: لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، يا نبىّ الله، إنى ذئب غريب، فقدت ولدا لى فجئت فى طلبه حتى بلغت بلدك، فأخذنى هؤلاء وضربونى وكذبوا علىّ؛ والذى أنطقنى ما أكلت ولدك، وكيف يأكل الذئب أولاد الأنبياء؟ فأطلقه يعقوب. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 133 ذكر خبر خروج يوسف من الجبّ وبيعه من مالك بن دعر قال: وأقبل قوم من بلاد اليمن يريدون أرض مصر، فخرج بعضهم فى طلب الماء، فرأى نورا يسطع من البئر، فأدلى دلوه، فتعلّق به يوسف، فآجتذبه، فنظر اليه فرآه، فقال للّذى كان معه: يا بُشْرى هذا غُلامٌ . فأخرجوه. قيل: وذلك فى اليوم الرابع من إلقائه فى الجبّ، وكان إخوته على رأس جبل فنظروا إلى اجتماع القافلة على الجبّ، فعدوا إليهم، وقالوا: هذا عبد لنا أبق منذ أيام، ونحن فى طلبه، فإن أردتم بعناه منكم. ثم قالوا ليوسف بالعبرانية: إن أنكرت العبوديّة انتزعناك من أيديهم وقتلناك. فسأله أهل القافلة فقال: «إنى عبد» ، أراد لله. وكان رئيس القافلة مالك بن دعر، فاشتراه منهم بأقل من عشرين درهما. قيل: تنقص درهما. وقيل: تزيد درهمين. وقيل: اشتراه بأربعين درهما والله أعلم. فاقتسموها بينهم. قال الله تعالى: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ثم قالوا لمالك: هذا عبد آبق سارق، قيّده حتى لا يهرب منك ولا يسرق. فقيده وأركبه ناقة، وكتب يهوذا كتاب البيع، وساروا حتى بلغت القافلة قبر أمّ يوسف، فلم يتمالك أن رمى بنفسه على القبر وبكى؛ فافتقدوه فلم يروه، فبعثوا فى طلبه، فوجدوه وقد اتكأ على القبر؛ فلطمه واحد منهم، وقالوا: هلّا كان هذا البكاء قبل اليوم حتى كنّا لا نشتريك؟ وساروا به حتى دخلوا مصر، فغيّر مالك لباس يوسف، وعبر به، فاجتمع الناس على القافلة، ورأوا يوسف فعجبوا لحسنه وجماله. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 134 ذكر خبر بيع يوسف من عزيز مصر قال: وواعدوا مالكا على بيعه بباب الملك ريّان بن الوليد، فزيّن يوسف بأحسن زينة، وأقعده على كرسىّ، وأقبل عزيز مصر واسمه قطفير «1» ، واجتمع التجار وقام الدلّال ونادى عليه؛ فبكى يوسف، وتزايد القوم حتى بلغ يوسف مالا لا يحصى كثرة؛ واستقرّ بيعه من قطفير، وأحضر الأموال. وقد اختلف الرّواة فى كميّة الثمن، فمنهم من لم يحدّه، بل قال: مالا كثيرا. ومنهم من قال: إنّ عزيز مصر تلقّى القافلة، واشتراه من مالك بن دعر بعشرين دينارا، ونعلين، وثوبين أبيضين. وقد عزى هذا القول إلى ابن عبّاس- رضى الله عنهما-. وروى عن وهب بن منبّه أنه أقيم فى السوق، وتزايد الناس فى ثمنه، فبلغ ثمنه وزنه مسكا وورقا وحريرا؛ فابتاعه العزيز بهذا الثمن. نرجع إلى سياق الكسائىّ: قال: فوقف عليه رجل من بلاد كنعان على ناقة، فمدّت عنقها، وجعلت تشمّ يوسف، فسأل يوسف صاحب الناقة بالعبرانيّة: من هو؟ فأخبره أنه من أرض كنعان؛ فقال له: اقرئ يعقوب سلامى اذا رجعت، وصف له صفتى. فلمّا عاد الكنعانىّ أخبر يعقوب بذلك؛ فقال يعقوب: سلنى حاجة بهذه البشارة. قال: ادع لى أن الله يكثر ولدى ومالى. فقال: اللهمّ أكثر ولده وماله وأدخله الجنة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 135 قال: ثم دنا مالك «1» من يوسف فقال له: أنا يوسف بن يعقوب بن إبراهيم الخليل؛ وأخبره بخبر إخوته. فصاح مالك وقال: والله ما علمت فاستغفر لى فإنى من أولاد مدين بن إبراهيم. فبكى يوسف، وقال له مالك: أسألك أن تدعو الله يرزقنى ولدا. فدعا الله فرزقه أربعة وعشرين ولدا؛ وعاش مالك حتى رأى يوسف وهو عزيز مصر. قال: ودخل قطفير منزله ويوسف معه، فرأته زليخا- وكانت أحسن نساء زمانها- فقال لها زوجها قطفير: قد اشتريت هذا الغلام لنتّخذه ولدا فإنا لم نرزق ولدا. قال الله تعالى: وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً. ذكر خبر يوسف وزليخا قال: ولمّا رأته زليخا عجبت لحسنه، ولا طفته، وقالت: لا ينبغى لمثلك أن يباع عبدا. ويوسف ساكت؛ وكان لا يأكل من ذبائحهم، فقالت له: لم لا تأكل من ذبيحتنا وتقبل كرامتنا ولى هذا البستان أريد أن تحفظه. فقال يوسف: أفعل ذلك. فكان يوسف يتعاهده حتى عمر ببركته، وهو يأكل من نباته، فوقعت محبّته فى قلب زليخا، فكتمت ذلك حتى كاد يظهر عليها، فأتتها دايتها، وقالت: يا سيدة نساء مصر، اخبرينى بقصّتك. فذكرت ما بها من حبّ يوسف؛ فأمرتها أن تتزيّن بأحسن زينتها؛ ففعلت، وجلست على سرير وأحضرت يوسف، فوقف بين يديها وهو لا يعلم ما يراد منه؛ وأغلقت الداية أبواب المجلس من خارج؛ فعلم عند ذلك مراد زليخا- وكان عمره ثمان عشرة سنة-؛ قال الجزء: 13 ¦ الصفحة: 136 الله تعالى: وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ. قال: فرمت بتاجها وهمت به. قال الله تعالى: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ. قالوا: همّ بضربها. وقيل: بردعها. وقيل: لما حصل عنده من الهمّ. ولا تعويل على ما نقله أهل التاريخ: أنّه همّ بها كما همّت به. قالوا: وكان البرهان الذى رآه أنه سمع صوتا من ورائه، فالتفت، فرأى صورة يعقوب وهو عاضّ على يديه يقول: «الله الله يا يوسف» . وقيل: خرجت كفّ من الحائط مكتوب عليها: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ ؛ ثم انصرفت الكفّ وعادت زليخا لمراودته، فخرجت الكف ثانية مكتوب عليها: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ* كِراماً كاتِبِينَ* يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ ثم عادت فخرجت الكف ثالثة وعليها مكتوب: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ. قال: فلمّا نظر يوسف إلى البرهان، بادر إلى الباب؛ فعدت زليخا خلفه فلحقته عند الباب، فجذبت قميصه فقدّته من دبر؛ وإذا قطفير قد أقبل. قال الله تعالى: وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ. قال: فلمّا نظرت زليخا إليه لطمت وجهها، وقالت: أيّها العزيز، هذا يوسف الّذى اتخذناه ولدا دخل يراودنى عن نفسى. ثم قالت: ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ* قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي فهمّ قطفير أن يضرب يوسف بسيف، فأنجاه الله منه؛ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 137 وكان فى المجلس صغير ابن شهرين- وهو ابن داية زليخا- فتكلّم بإذن الله وقال: لا تعجل يا قطفير، أنا سمعت تخريق الثوب. قال الله تعالى: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ* وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ ثم لم ينطق الصبىّ بعد ذلك حتى بلغ حدّ النطق، وهذا الصبىّ أحد من تكلّم فى المهد. فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ؛ وأقبل على يوسف وقال: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا الحديث لا يسمعه أحد. وقال لزليخا: وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ. وخرج قطفير من منزله، وعادت زليخا لمراودته؛ فامتنع عليها. ذكر خبر النسوة اللاتى قطّعن أيديهنّ قال: وفشا فى المدينة، وشاع عند نساء الأكابر خبرها، فعتبنها عليه، وهو قوله تعالى: وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ فلمّا بلغها ذلك من قولهنّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً. قال: استدعت امرأة الكاتب والوزير وصاحب الخراج وصاحب الديوان. وقيل: إنّ النساء اللاتى تكلّمن فى أمر زليخا امرأة الساقى وامرأة الخباز وامرأة صاحب الديوان وامرأة صاحب السجن وامرأة الحاجب؛ والله أعلم. قيل: إنها قدّمت إليهنّ صوانىّ الأترج وصحاف العسل: وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وزيّنت يوسف، وقالت: إنّك عصيتنى فيما مضى، فإذا دعوتك الآن فاخرج. فأجابها إلى ذلك؛ قال الله تعالى: فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 138 إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ. قال: كنّ يأكلن الأترجّ بالسّكاكين فنالهنّ من الدهش والحيرة ما قطّعن أيديهنّ «1» وتلوّثت بالدماء ولم يشعرن؛ فقالت لهنّ زليخا ما حكاه الله عنها: قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ. وقيل: إنّ النساء خلون به ليعدّلنه «2» لها، فراودته كلّ واحدة منهنّ عن نفسه لنفسها، ثم انصرفن إلى منازلهنّ. ثم دعته زليخا وراودته، وتوعّدته بالسجن إن لم يفعل؛ فقال يوسف ما أخبر الله به عنه: قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ. قال: فلمّا أيست زليخا منه مضت إلى الملك ريّان بن الوليد- وكانت لا تردّ عنه- فقالت: إنّى اشتريت عبدا، وقد استعصى علىّ، ولا ينفع فيه الضرب والتوبيخ، وأريد أن أحبسه مع العصاة. فأمر الملك بحبسه، وأن يفرج عنه متى اختارت؛ فأمرت السجّان أن يضيّق عليه فى محبسه ومأكله ومشربه؛ ففعل ذلك؛ فأنكره العزيز، وأمر أن ينقل إلى أجود أماكن السجن، ويفكّ قيده، وقال له: لولا أن زليخا تستوحش من إخراجك لأخرجتك، ولكن اصبر حتى ترضى عنك ويطيب قلبها. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 139 ذكر إلهام يوسف- عليه السلام- التعبير ونزل جبريل على يوسف- عليه السلام- وبشّره أنّ الله قد ألهمه تعبير الرؤيا فعرفه بإذن الله عزّ وجلّ، وأنبت الله له شجرة فى محبسه يخرج منها ما يشتهيه. ذكر خبر الخبّاز والساقى قال: وغضب الملك ريّان بن الوليد على ساقيه شرهيا، وصاحب مطبخه شرها «1» ، فأمر بحبسهما، فحبسا فى السجن الذى فيه يوسف، فرأى الساقى رؤيا فسأل أهل السجن عن تأويلها، فدلّوه على يوسف؛ فأتاه وقال: قد رأيت رؤيا. فقال له يوسف: قصّها. فقال: رأيت كأنّى فى بستان فيه كرمة حسنة؛ وفيها عناقيد سود؛ فقطعت منها ثلاث عناقيد وعصرتها فى كأس الملك، ورأيت الملك على سريره فى بستانه، فناولته الكأس فشربه، وانتبهت. فقال صاحب المطبخ: وأنا رأيت مثل هذه الرؤيا، رأيت كأنى أخبز فى ثلاثة تنانير: أحمر وأسود وأصفر، ورأيت كأنّى أحمل ذلك الخبز فى ثلاث سلال إلى دار الملك، وإذا بطائر على رأسى يقول لى: قف فإنّى طائر من طيور السماء. ثم سقط على رأسى فجعل يأكل من ذلك الخبز، والناس ينظرون إليه وإلىّ، وانتبهت فزعا. فقال يوسف: بئسما رأيت. ثم قال للساقى: إنّك تقيم فى السجن ثلاثة أيّام ويخرجك الملك فيسلّم إليك خزانته، وتكون ساقيه وصاحب خزانته. وأنت يا خباز بعد ثلاثة أيام تضرب رقبتك وتصلب وتأكل الطير من رأسك. فقال الخباز: إنى لم أرشيئا، وإنّما وضعت رؤياى هذه. فقال: قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 140 ثم قال يوسف للساقى: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ وأعلمه أنّى محبوس ظلما. فقال له: ما أبقى جهدا. فلمّا كان بعد ثلاثة أيّام كان من أمر السّاقى والخباز ما قاله لهما يوسف. ثم هبط جبريل على يوسف وقال: إن الله يقول لك: نسيت نعمائى عليك فقلت للساقى يذكرك عند ربه، وهما كافران، فأنزلت حاجتك بمن كفر بنعمتى وعبد الأصنام دونى. قال الله تعالى: وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ. قيل: الذى أنساه الشيطان ذكر ربه هو الساقى، فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ وهو يبكى ويستغفر ويتضرع إلى الله؛ فأوحى الله إليه: أنى قد غفرت لك ذنبك، وأنه سيخرجك من السجن، ويجمع بينك وبين أبيك وإخوتك وتصدق رؤياك. فخرّ ساجدا لله تعالى. ذكر رؤيا الملك وتعبيرها وما كان من أمر يوسف وولايته قال: وقدّر الله عزّ وجلّ أن الملك- وهو الريّان بن الوليد بن ثروان بن أواسة بن قاران بن عمرو بن عملاق بن لاوذ بن نوح عليه السلام- رأى فى تلك الليلة رؤيا هالته؛ فدعا بالمعبّرين، فقالوا: إن هذه أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ . فغضب الملك وقطع أرزاقهم؛ وذكّر الله الساقى؛ قال الله تعالى: وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ فتقدّم إلى الملك وذكر له خبر يوسف- وكان بين المدّتين «1» سبع سنين وسبعة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 141 أشهر- فأرسله الملك إليه وقال: أخبره برؤياى وأتنى بتأويلها. فأقبل الساقى إلى السجن واجتمع بيوسف، واعتذر له، وأخبره برؤيا الملك، وقال: هل عندك تعبير ذلك؟ قال: لا أفعل حتى ترجع إلى الملك وتسأله ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ ؛ فرجع الساقى إلى الملك وأخبره. فاستدعى النسوة، فأتى بمن كان يعيش منهن، فقال الملك: ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ . فلما قلن ذلك قال الملك: ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ؛ فلمّا دخل عليه أجلسه معه على السرير، وسأله عن اسمه ونسبه، فانتسب له، وذكر قصّته مع إخوته؛ فقال له الملك: قد سمعت ما رأيت فى منامى. ثم قصّها عليه، فقال: رأيت سبع بقرات سمان فى نهاية الحسن، ولكل بقرة قرون كبيرة، فحملتنى واحدة على قرنيها، فجعلت أصير من بقرة إلى بقرة حتّى طفت على الجميع؛ فبينما أنا كذلك وإذا بسبع بقرات عجاف مهازيل، فعمدت فأكلت كلّ واحدة من المهازيل واحدة من السمان، وبقيت الّتى أنا على قرنيها فلمّا تقدّمت المهزولة لأكلها، رمتنى عن قرنيها، فأكلتها المهزولة؛ ثم صار للمهازيل أجنحة، فطارت ثلاث نحو المشرق وثلاث نحو المغرب، وبقيت هناك واحدة؛ فبينما أنا كذلك وإذا أنا بسبع سنبلات فى نهاية الخضرة خرجن من ذلك الوادى، ثم لاحت فيهن سبع سنبلات يابسات، فآلتففن على الخضر حتى غلبن على خضرتهن، وإذا بملك قد أقبل وقال: يا ريّان. خذ هذا الرجل فأقعده على سريرك، فإنّه لا يصلح ما رأيت إلّا على يديه؛ فهذا ما رأيت. فقال يوسف: أما السبع بقرات السمان فهى سبع سنين يكون فيها زرع وخصب فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ فإنّه أبقى له. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 142 وأما البقرات العجاف، فإنّها سبع سنين فيها قحط وضيق، فتأكل ما حصدتم فى سنين الخصب إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ فى بيوتكم. وأما السنابل الخضر، فهى سنو الخصب، واليابسة سنو الجوع، والرجل الذى قال لك؛ أقعده على سريرك، فيكون صلاح ذلك على يديه فأنا هو؛ وقد أمرك ربى بهذا؛ فهذا تأويل رؤياك. قال: فقال له ريّان: أشر علىّ الآن بمن أقدّمه فى هذا الأمر. فقال يوسف: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ. قال: كيف يتهيّأ لك وأنت رجل عبرانىّ لا تعرف لغة أهل مصر؟ فقال: إنّ الله ألهمنى جميع هذه الألسنة يوم دخلت مصر. فنزع الملك خاتمه، وجعله فى اصبع يوسف، وقال لأصحابه: هذا عزيز مصر وخليفتى، فآسمعوا له وأطيعوا. قال الثعلبىّ: قال أهل الكتاب: لما تمت ليوسف فى الأرض ثلاثون سنة استوزره فرعون مصر. وكان مرادهم- والله أعلم- أنه لما استكمل ثلاثين سنة من عمره. وحكى الثعلبىّ أن الملك عزل العزيز وولّى يوسف، ثم هلك العزيز عن قريب وكان يوسف يوم قضائه تضرب له قبّة من الديباج يجلس فيها للحكومة بين الناس وبقيّة الأيام يدور فى عمله ويأمر بالزراعة والحرث وعمر البيوت لخزن الحبوب بسنابلها، حتى ملأها، وخزن الأتبان حتى انقضت سنو الخصب ودخلت سنو القحط، فنهى عن الزراعة فيها لعلمه أن الأرض لا تثمر فيها شيئا؛ فأكلوا ما عندهم حتى نفد؛ فالتجأوا إلى الملك، فقال الملك: عليكم بالعزيز فإن فى يده خزائن الطعام. فجاءوه، فباعهم فى السنة الأولى بالدنانير والدراهم، وفى السنة الثانية بالحلىّ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 143 والجواهر، وفى الثالثة بالأراضى والعقار، وفى الرابعة بالإماء والعبيد، وفى الخامسة بأولادهم، وفى السنة السادسة بأنفسهم، حتى صاروا ملكا له وعبيدا، وأطعمهم فى السنة السابعة لأنهم صاروا عبيده وإماءه؛ والله أعلم. ذكر حاجة زليخا إلى الطعام وزواج يوسف بها يقال: إن زليخا أصابها من الحاجة ما أصاب غيرها. وابتاعت الطعام بجميع ما لها، وبقيت منفردة، فلم تجد بدّا من التعرّض ليوسف، فقعدت على طريقه وإذا هو قد أقبل فى مواكب عظيمة، فقامت وقالت: يا يوسف، سبحان من أعز العبيد بالطاعة، وأذّل السادات بالمعصية، أنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنّك من أولاد النبييّن. فسألها يوسف. من أنت؟ فقالت: زليخا؛ وبكت وذكرت حاجتها إلى الطعام؛ فصرفها إلى منزلها، وردّ عليها أملاكها وأموالها، وبعث لها بمال جزيل وطعام كثير؛ ثم استأذن الله تعالى فى زواجها؛ فإذن له؛ فتزوّجها، وردّ الله عليها حسنها وجمالها؛ فلمّا دخل عليها وجدها بكرا؛ فعجب من ذلك؛ فقالت: يا نبىّ الله «والذى هدانى إلى دينك ما مسّنى ذكر قطّ، وما قدر علىّ العزيز» . فيقال: إنه رزق منها عشرة أولاد فى خمسة أبطن. وقد حكى الثعلبىّ أنّ العزيز قطفير لمّا هلك بعد عزله زوّج الملك يوسف بامرأته زليخا، وسماها الثعلبىّ فى كتابه: «راعيل» . قال: وانتشر القحط حتى بلغ أرض كنعان؛ فقال يعقوب لبنيه: يا بنىّ، إنكم ترون ما نحن فيه من الضّر، وقد بلغنى أنّ عزيز مصر تقصده الناس فيمتارون منه الجزء: 13 ¦ الصفحة: 144 ويحسن إليهم، وأنه مؤمن بإله إبراهيم، فاحملوا ما عندكم من البضاعة وتوجهوا إليه. ففعلوا ذلك وساروا. قال: وأقبل مالك بن دعر على يوسف ومعه أولاده، وهم أربعة وعشرون ولدا، كلّهم ذكور، فوقف بين يديه وحيّاه بتحيّة الملك، وقال: أيّها العزيز أتعرفنى؟ قال: إنّى أشبّهك برجل حملنى إلى هاهنا. قال: أنا هو. فقرّبه وسأله عن الفتية، فقال: هم أولادى رزقتهم ببركة دعائك. فكساه وكساهم، وكفاهم من الطعام؛ وسأله: هل مرّ بأرض كنعان؟ قال: نعم وإنّهم لفى جهد، وقد رأيت الذين باعوك منّى مقبلين عليك يريدون أن يمتاروا. ففرح يوسف. ذكر دخول إخوة يوسف- عليه السلام- فى المرّة الأولى قال: وأقبل إخوة يوسف فدخلوا مصر ليلا، وأناخوا رواحلهم بباب قصر أخيهم؛ فأشرف عليهم وقال: من أنتم؟ قالوا: نحن أولاد يعقوب النبىّ، قدمنا من أرض كنعان لنشترى القوت. فسكت، وأمر بتزيين قصره؛ وبات إخوته على الباب. وأصبح يوسف فجلس على السرير، وتتوّج وتمنطق وتطوّق؛ ثم امر بإخوته؛ فدخلوا عليه- وهم عشرة، وتأخر عنهم بنيامين عند أبيه-. قال الله تعالى: وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ. فسلّموا عليه، وحيّوه بتحيّة الملوك؛ فردّ عليهم وقال لهم: إنكم أولاد يعقوب النبىّ، فكيف لى بصدقكم؟ فقال له روبيل: نحن نأتيك بأخينا الّذى عند أبينا يخبرك بمثل ما أخبرناك به. فأمر بأخذ بضاعتهم، وأن يكال لهم الطعام بقدر كفايتهم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 145 ثم قال لأعوانه: اجعلوا بضاعتهم فى رحالهم. قال الله تعالى: وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ* فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ* قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ* وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. فوضعت فى رحل يهوذا؛ ثم سار القوم حتى أتوا إلى أرض كنعان، فدخلوا على أبيهم؛ فسألهم عن حالهم وما كان من أمرهم؛ وفتحوا رحالهم، فوجدوا بضاعتهم ردّت إليهم؛ فدخلوا على أبيهم وقالوا: يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا. فقال: إنّ هذا الطعام حرام عليكم إلّا أن تؤدّوا ثمنه. فقالوا: كيف نرجع إليه وقد ضمنّا له أن نأتيه بأخينا بنيامين؟ ثم قالوا ما أخبر الله تعالى به عنهم: يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ* قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. فقال له يهوذا يا أبانا ما نبغى هذه بضاعتنا ردّت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير* قال لن أرسله معكم حتّى تؤتون موثقا من الله لتأتنّنى به إلّا أن يحاط بكم فلمّا آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل. ودعا يعقوب بقميص يوسف الّذى وردوا به عليه بالدم، فألبسه بنيامين وودّعهم وقال يا نبىّ لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرّقة وما أغنى عنكم من الله من شىء إن الحكم إلّا لله عليه توكّلت وعليه فليتوكّل المتوكّلون؛ ثم ساروا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 146 ذكر خبر دخولهم عليه فى المرّة الثانية قال: فلمّا بلغوا مصر ودخلوا على يوسف قرّبهم، ونظر إلى أخيه بنيامين وأدناه وأجلسه بين يديه. قال الله تعالى: وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ. ثم قال له: أرى كلّ واحد من هؤلاء مع أخيه، فما بالك منفردا؟ فقال: أيّها العزيز، كان لى أخ، ولا أدرى ما أصابه، غير أنّه خرج مع هؤلاء الإخوة إلى الغنم، فذكروا أنّ الذئب أكله، وردّوا قميصه هذا الّذى علىّ وهو ملطّخ بالدم. فقال لهم يوسف: يا أولاد يعقوب، إنّ فيكم من يصيح بالأسد فيخرّ ميتا ومن يأخذ برجل الذئب فيشقّه اثنين، وفيكم من يقتلع الشجرة من أصلها، وفيكم من يعدو مع الفرس فيسبقه. قالوا: نعم أيها العزيز. فقال: سوءة لكم ولقوّتكم إذ يعدو الذئب على أخيكم فيأكله. فقالوا: إذا جاء القضاء ذهبت القوى. فسكت يوسف، ثم أمر لهم بخمس موائد، وأمر كلّ اثنين منهم أن يجلسا على مائدة؛ ثم وضعت أخرى بين يدى بنيامين، فبكى؛ فقال له: ما يبكيك؟ قال: أيّها العزيز، إخوتى يأكلون كلّ واحد مع أخيه، وأنا وحدى، ولو كان أخى يوسف باقيا أكل معى. فقال يوسف: يا فتى، أنا لك كالأخ، ثم نزل عن السرير وأكل معه. فلمّا فرغوا من الأكل جعل يوسف يسألهم عن أرض كنعان وهم يخبرونه. ثم خرج صبىّ من القصر يتثنّى، فنظر إليه بنيامين وبكى؛ فقال له يوسف: ممّ بكيت؟ قال: هذا الصبىّ يشبه أخى يوسف، فبكيت لأجله. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 147 فقال يوسف: هل فيكم من حزن على يوسف؟ قالوا: نعم، كلّنا حزنّا عليه وبنيامين أشدّ منّا حزنا. ثم قال: فما الّذى حملتم من البضاعة؟ قالوا: لم نحمل شيئا، لأنه لم يكن لنا شىء، غير أنا رددنا عليك البضاعة التى وجدناها فى رحالنا، لأنها ثمن الطعام الّذى حملناه من عندك. فأمر أن يعطوا من الطعام ما تحمله إبلهم، وأمر غلمانه أن يجعلوا الصّواع فى رحل بنيامين؛ فكانوا يكيلون وإخوة يوسف يخيطون الأعدال، حتى فرغوا. ورحل إخوة يوسف وهم لا يشعرون بالصّواع. وقال الثعلبىّ: كانت السقاية مشربة يشرب فيها الملك، وكانت كأسا من ذهب مكلّلة بالجوهر، جعلها يوسف مكيالا يكال بها. قال الله تعالى: فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ* قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ* قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ* قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ* قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ* قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ. فعند ذلك أمر يوسف أن تفتّش رحالهم. قال الله تعالى فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ الآية. قال: فلما نظروا ذلك ضربوا بأيديهم على جباههم، وقالوا: ثكلتك أمّك فضحتنا يا بنيامين. قال: إنى لم أفعل ذلك. قالوا: من وضعه فى رحلك؟ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 148 قال: الّذى جعل البضاعة فى رحالكم. فسكتوا، ثم قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرّها يوسف فى نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شرّ مكانا والله أعلم بما تصفون. قال الثعلبىّ: واختلف العلماء فى السرقة التى وصف بها يوسف، فقال سعيد وقتادة: سرق يوسف صنما لجدّه أبى أمّه وكان من ذهب، فكسره وألقاه فى الطريق. وقال ابن جريج: أمرته أمّه- وكانت مسلمة- أن يسرق صنما لخاله كان يعبده. وقال مجاهد: جاء سائل يوما، فسرق يوسف بيضة من البيت. وقال ابن عيينة: دجاجة، فناولها السائل، فعيّروه. وقال وهب: كان يخبأ الطعام من المائدة للفقراء. وقال الضحاك وغيره: كان أوّل ما دخل على يوسف من البلاء أن عمّته بنت إسحاق كانت أكبر ولد إسحاق، وكانت لها منطقة إسحاق، وكانوا يتوارثونها بالكبر، وكانت راحيل أمّ يوسف قد ماتت، فحضنته عمّته وأحبّته حبّا شديدا فكانت لا تصبر عنه؛ فلما ترعرع وبلغ سنيّات وقع حبّه فى قلب يعقوب؛ فأتاها وقال: يا أختاه سلّمى إلىّ يوسف، فو الله ما أصبر عنه ساعة واحدة. فقالت: ما أنا بتاركته. فلما غلبها يعقوب قالت: فدعه عندى أياما أنظر إليه، لعل ذلك يسلينى عنه. ففعل ذلك يعقوب؛ فلمّا خرج يعقوب من عندها عمدت إلى منطقة إسحاق فحزمتها على يوسف تحت ثيابه وهو صغير، ثم قالت: لقد فقدت منطقة إسحاق الجزء: 13 ¦ الصفحة: 149 فانظروا من أخذها. فالتمست فلم توجد؛ فقالت: اكشفوا أهل البيت. فكشفوهم، فوجدوها مع يوسف؛ فقالت: والله إنّه ليسلّم لى أصنع فيه ما شئت- وكان ذلك حكم آل إبراهيم فى السارق- فأتاها يعقوب، فأخبرته بذلك؛ فقال: إن كان فعل ذلك فهو يسلّم إليك، ما أستطيع غير ذلك. فأمسكته بعلّة المنطقة، فما قدر يعقوب عليه حتى ماتت، فهو الذى قال له إخوته: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ. قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ* قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ* فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا أى يتناجون قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ* ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ. قال: ثم تشاوروا فقالوا: إن هذا الملك وأهل مصر كفرة يعبدون الأصنام فتعالوا نتظاهر عليهم. قال روبيل: أنا أكفيكم الملك وأعوانه. وقال شمعون: أنا أكفيكم أمر العزيز وأعوانه. وقال يهوذا: أنا أكفيكم الأسواق. فعلم يوسف بذلك، فأحضرهم وقال: يا بنى يعقوب، ما الّذى غرّكم منّى؟ أحسنت إليكم مرّة بعد مرّة، وتفضّلت عليكم، وجنى أخوكم جناية فتشاورتم فى هلاك المدينة وأهلها، أتظنون أن هذه القوّة لكم دون غيركم؟ ثم ضرب برجله الجزء: 13 ¦ الصفحة: 150 السّدّة التى كان عليها فطحطحها وكسر صفائح رخامها؛ ثم قال: لولا أنكم من أولاد الأنبياء لصحت بكم صيحة تخرّون على أذقانكم. قال: وكان يهوذا قد عزم على أن يفعل شيئا، وكان على كتفه شعرة إذا غضب خرجت من جبّته فيقطر منها الدم، ثم يصيح صيحة فلا يسمعها أحد إلّا سقط مغشيّا عليه؛ وكان لا يسكن غضبه إلا أن يمسّه أحد من آل يعقوب؛ فدعا يوسف بابنه منسّا وقال: اذهب الى ذلك الكهل فمسّه بيدك، وتنحّ عنه من حيث لا يشعر بك. ففعل ذلك، فسكن غضبه؛ فقال يهوذا لإخوته: من الذى مسّنى منكم فقد سكن غضبى. قالوا: لم يمسّك غير ذاك الصبىّ. فقال: والله لقد مسّتنى يد من آل يعقوب. فلمّا عسر عليهم ما عزموا عليه، عزموا على العود إلى أبيهم، وتركوا روبيل عند بنيامين. قال: فلمّا انصرفوا دخل يوسف إلى منزله وأحضر بنيامين، وقال: أتعرفنى؟ قال: نعم، أنت العزيز، والله ما سرقت، فلا تعجل علىّ، فإنك موصوف بالإحسان. فضمّه يوسف إلى صدره، وقال له: أنا أخوك يوسف. ثم كساه وسأله عن أبيه، فأخبره بما يقاسيه من أجله. قال: ورجع إخوة يوسف إلى أبيهم فذكروا ما كان من خبر بنيامين، وأن روبيل أقام عنده. قال: وكيف يسرق ولدى وهو من الذرّيّة الطيّبة؟ فقالوا له: واسأل القرية الّتى كنّا فيها والعير الّتى أقبلنا فيها وإنّا لصادقون* قال بل سوّلت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتينى بهم جميعا إنّه هو العليم الحكيم* وتولّى عنهم وقال يأسفى على يوسف وابيضّت عيناه من الحزن فهو كظيم إلى قوله: ما لا تعلمون. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 151 قال: وأخذ فى البكاء حتى ضجر منه جيرانه، فأوحى الله إليه: أن كفّ عن بكائك فإنّى سأردّ عليك بصرك، وأجمع بينك وبين ولدك. فسكن وهدأ، ثم قال لبنيه: احملوا كتابى إلى العزيز. ودعا بابنته (دينة) وقال لها: اكتبى، بآسم إله إبراهيم، من يعقوب إلى عزيز مصر، إن الله أكرمنى بولد كان أحبّ أولادى إلىّ وقد فقدته وبكيت عليه حتى عميت، وكنت آنس بأخيه بنيامين الّذى حبسته عندك؛ وعجبت من أمر الصّواع؛ فإن أولاد الأنبياء لا يفعلون ذلك، وإنه مكذوب عليه؛ فإذا أتاك كتابى هذا فتفضّل علىّ بولدى وردّه علىّ فإنى أدعو الله أن يزيدك فضلا وكرامة. وسلّم الكتاب اليهم، وقال: يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ الآية. ذكر خبر دخولهم عليه فى الدفعة الثالثة قال: وساروا حتى دخلوا مصر، فاستقبلهم روبيل ودخل معهم، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ؛ وناولوه الكتاب؛ فقبّله وقرأه، ثم قال لهم: لو كنتم حملتم إلىّ هذا الكتاب قبل اليوم دفعته لكم، ولكنّى قد ألقيت حديثه إلى الملك، وأنا أكلّمه فيه. ذكر خبر حديث الصاع قال: ثم أمر يوسف بإحضار الصاع بين يديه وقال: اجتمعوا حتى أسأل هذا الصاع عنكم. فنقر الصاع فطنّ، فقال: يا بنى يعقوب، إنّ هذا الصاع يقول: إنكم تشهدون بالزور؛ وإنكم كذبتم فى قولكم: إن الذئب اكل أخاكم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 152 قالوا: ما شهدنا بالزور قط، وما قلنا فى يوسف إلّا الحقّ. فنقر الصاع وقال: أتدرون ما يقول؟ إنه يقول: إنكم حسدتم أخاكم، وأخرجتموه من عند أبيه وأردتم قتله، ثم ألقيتموه فى الجب المظلم البعيد القعر. ثم نقر ثالثا وقال: إنه يقول، ما كذبتك فيما أقول، ولقد أخرجوا أخاهم من الجب فباعوه بعشرين درهما عددا تنقص درهما، وأوصوا مشتريه أن يقيّده حتى يبلغ أرض مصر. فتغيّرت وجوه القوم، وقالوا: ما نعرف شيئا من هذا. ثم نقره رابعا وقال: إنه يقول: وكتبوا كتاب البيع بخطّ يهوذا. فقال: أيّها العزيز، إنى لم أكتب شيئا وأنكره. فقال: مكانكم حتى أعود إليكم. ودخل على زليخا وقال: هاتى تلك الصحيفة. فأخرجتها له؛ فأخرجها إلى يهوذا وقال: أتعرف خطّك؟ قال: نعم. فألقاها إليه فرآها وهى خطّه؛ فقال: هى خطّى، «غير أنّى لم أكتبه باختيارى «1» ، وإنما كتبته على عبد أبق منّا» . فغضب يوسف وقال: ألستم تزعمون أنكم من أولاد الأنبياء، ثم تفعلوا مثل هذا. ثم قال لأعوانه: انصبوا عشرة أشجار على باب المدينة حتى أضرب أعناق هؤلاء وأصلّبهم؛ وأجعلهم حديثا لأهل مصر. فبكوا وقالوا: اقتلنا كيف شئت ولا تصلّبنا. وأقبل بعضهم على بعض وقالوا: هذا جزاؤنا بما عاملنا به أخانا. فلمّا أقرّوا كلّهم بالذنب، رفع التاج عن رأسه، وقال: هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون، وكان فى رأسه شامة مثلها فى رأس يعقوب؛ فلمّا نظروا إلى الشامة عرفوها وقالوا: ءإنّك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخى قد منّ الله علينا إلى قوله: وهو أرحم الرّاحمين. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 153 فعمد يوسف إلى قميصه، وجعله فى قصبة من فضّة؛ ودفعه إلى يهوذا وخلع عليهم وطيّبهم، وقال: اذهبوا بقميصى هذا فألقوه على وجه أبى يأت بصيرا وأئتونى بأهلكم أجمعين. فخرجوا، وسبقهم يهوذا بالقميص. قال الله تعالى: وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ. قال: لمّا فصلت العير من أرض مصر حملت الريح رائحة القميص فشمّها يعقوب، فقال ذلك. ومعنى (تفنّدون) ، أى تكذّبون. فقال له أهله: - وقيل: بنو بنيه- تالله إنّك لفى ضلالك القديم، معناه فى حبّك القديم ليوسف. فلمّا وصل يهوذا بالقميص ودخل على يعقوب ألقاه على وجهه وقال: خذها بشارة. فعاد بصره من ساعته، وخرّ ساجدا لله. قال الله تعالى: فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً الآية. وجاء بنوه وقالوا: يا نبىّ الله، نحن الذين غيّبنا يوسف عنك، ونحن الذين تيناك بخبره وهو عزيز مصر. ثم قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ* قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. قال: وجاءه جبريل بناقة من نوق الجنّة، فاستوى عليها، وخرج من أرض كنعان يريد مصر ومعه أولاده وأهله، وهم ثمانية وسبعون إنسانا، فدعا لهم يعقوب فما دخل أولاده مصر إلّا وقد غفر لهم؛ وخرج يوسف لملتقى أبيه ومعه خلق كثير فلما رآه يوسف ترجّل عن فرسه وأبرك يعقوب ناقته، واعتنقا وبكيا، وقال يوسف: ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 154 قال الله تعالى: وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً يعنى الأب والخال، وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ. قال: وكان بين مفارقته ووقت الاجتماع أربع وثلاثون سنة. وقال الحسن: كان بين خروج يوسف إلى يوم الالتقاء معه ثمانون سنة لم تجفّ عيناه. وأقام يعقوب بمصر أربعين سنة. وقيل: أربعا وعشرين سنة؛ ثم أمره الله أن يرتحل الى أرض كنعان لاقتراب أجله؛ فارتحل ومات هناك، ودفن إلى جانب أبيه إسحاق. وحكى الثعلبىّ- رحمه الله- أن يعقوب مات بمصر، وأوصى يوسف أن يحمل جسده إلى الأرض المقدّسة حتى يدفنه عند أبيه إسحاق وجدّه إبراهيم؛ ففعل ذلك، ونقله فى تابوت من ساج إلى البيت المقدّس، وخرج معه فى عسكره وإخوته وعظماء أهل مصر، ووافق ذلك اليوم وفاة عيصو، فدفنا فى يوم واحد، وكان عمرهما جميعا مائة سنة وسبعا وأربعين سنة، لأنّهما ولدا فى بطن واحد، وقبرا فى قبر واحد. ذكر دعوة يوسف- عليه السلام- وارتحاله عن بلد الريّان قال: ثم إنّ يوسف- عليه السلام- دعا أهل مصر إلى الإيمان سرّا وعلانية، فآمن به كثير منهم، وكسروا الأصنام، وصارت الغلبة للمسلمين؛ فاستدعاه ريان بن الوليد وقال له: أيها العزيز، إن أهل مصر كانوا يحبّونك وقد كرهوك بسبب أديانهم، فمالك وأديانهم؟ فقال يوسف: قد بلغنى ذلك الجزء: 13 ¦ الصفحة: 155 وأنا رادّ عليك ما خوّلتنيه، ومتحول عنك وعن قومك بأهل ملّتى، فإنى لا أحبّ أن أكون من عبدة الأوثان. وخرج يوسف هو وأولاده وإخوته وقومه الذين آمنوا حتى نزل الموضع الذى استقبل أباه يعقوب عنده؛ فجاءه جبريل وخرق له نهرا من النيل إلى هناك، وهو نهر الفيّوم، ولحق به كثير من الناس، وآمنوا، وابتنى مدينتين وسمّاهما بالحرمين وكان لا يدخلهما أحد إلّا يلّبى يقول: «لبّيك يا مفضّل إبراهيم بالنبوّة لبيّك» . ولم يكن بأرض مصر أعمر منهما، وسار يوسف فى قومه سيرة الأنبياء حتى مات. ذكر خبر وفاة يوسف- عليه السلام- قال: ولمّا أدركته الوفاة أوصى إلى ابنه (أفرايم) أن يسوس قومه بالواجب وأن يكون معاندا لأهل مصر الذين يعبدون الأوثان، ويجاهدهم فى الله حقّ جهاده؛ ثم توفّى، وكانت زليخا قد ماتت قبله، وما تزوّج بعدها. قال الثعلبىّ: قال أهل التاريخ: عاش يوسف بعد يعقوب ثلاثا وعشرين سنة، ومات وهو ابن مائة وعشرين سنة. قالوا: ودفن فى بلده فعمر الجانب الذى يليها وأخصب، وقحط الجانب الآخر، فشكا أهله إلى الملك، فبعث إلى أفرايم أن ينقله فيدفنه فى الجانب الآخر وإن لم يفعل قاتله؛ فدفنه هناك، فحصب ذلك الجانب، وقحط الآخر، فكان يدفن سنة فى هذا الجانب، وسنة فى الآخر؛ ثم اجتمعت الاراء أن يدفن فى وسط النهر؛ ففعلوا ذلك، فخصب الجانبان ببركته، ولم يزل فى نهر النيل حتى بعث الله موسى- عليه السلام- فأمره الله أن يحمل تابوت يوسف؛ فأخرجه ونقله إلى بيت المقدس، فدفنه هناك، وموضع قبره معروف. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 156 الباب الخامس من القسم الثانى من الفنّ الخامس فى قصّة أيوب- عليه السلام- وابتلائه وعافيته عن وهب بن منبّه أنه لم يكن بعد يوسف نبىّ إلّا أيوب، وهو أيّوب بن أموص ابن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم. وكان أموص كثير المال والماشية، لم يكن فى أرض الشأم أغنى منه؛ فلما مات صار ذلك جميعه لأيوب؛ وكان أيوب يومئذ ابن ثلاثين سنة، فأحبّ الزواج فخطب رحمة بنت أفرايم بن يوسف؛ فتزوّجها، وكانت أشبه الخلق بيوسف وكانت كثيرة العبادة، فرزقه الله منها اثنى عشر بطنا، فى كلّ بطن ذكر وأنثى؛ ثم بعثه الله تعالى إلى قومه رسولا- وهم أهل حوران والبثنية- ورزقه الله حسن الخلق والرفق، فشرع لقومه الشرائع، وبنى المساجد، ووضع موائده للفقراء والأضياف؛ وأمر وكلاءه ألّا يمنعوا أحدا من زراعته وثماره، فكان الطير والوحش وجميع الأنعام تأكل من زرعه وبركة الله تزداد صباحا ومساء؛ وكانت كلّ مواشيه تحمل فى كلّ سنة بتوءم. وكان أيّوب إذا أقبل الليل جمع من يلوذبه فى مسجده، ويصلّون بصلاته ويسبّحون بتسبيحه حتى يصبح، فحسده إبليس؛ وكان لا يمر بشىء من ماله وماشيته إلا رآه وهو مختوم بخاتم الشكر؛ وكان إذ ذاك يصعد إلى السموات ويقف فى أى مكان أحبّ منها، حتى رفع الله عيسى بن مريم، فحجب عن أربع سموات منها؛ حتى بعث الله نبينا محمدا صلّى الله عليه وسلّم، فحجب عن جميعا فصعد إبليس فى زمن أيّوب- عليه السلام- وقال: يا ربّ إنى طفت الأرض ففتنت من أطاعنى إلّا عبادك منهم المخلصين. فنودى: يا ملعون، هل علمت الجزء: 13 ¦ الصفحة: 157 بعبدى أيّوب؟ وهل نلت منه مع طول عبادته؟ وهل تستطيع أن تغيّره عن عبادتى؟ فقال إبليس: إلهى إنك ذكرته بالخير، وقد نظرت فى أمره فإذا هو عبد عافيته بعافيتك، ورزقته شكرك، ولم تختبره بالبلاء؛ فلو ابتليته بالمصائب لوجدته بخلاف ما هو عليه، فلو سلّطتنى على ماله لرأيته كيف ينساك. فسلّطه الله على ماله؛ فآنقضّ وجمع العفاريت، وأخبرهم أنه سلّط على مال أيوب، وحضّهم على زرعه وأشجاره ومواشيه، فأحرقوا الأشجار، وصاحوا بالمواشى صيحة فماتت برعاتها. قيل: وكان له ألف فرس وألف رمكة وألف بغل وبغلة، وثلاثة آلاف بعير، وألف وخمسمائة ناقة، وألف ثور، وألف بقرة، وعشرة آلاف شاة وخمسائة فدّان، وثلاثمائة أتان، مع ما يتبع ذلك من النّتاج؛ فهلك جميع ذلك؛ ثم أقبل إبليس إلى أيوب فى صورة راع من رعاته، وخيل له أن عليه وهج الحريق وقد اسودّ وجهه، وهو ينادى: يا أيّوب، أدركنى فأنا الناجى دون غيرى ما رأيت قطّ مثل هذا اليوم، رأيت نارا أقبلت من السماء فأحرقت أموالك، وسمعت نداء من السماء: هذا جزاء من كان مرائيا فى عمله يريد به الناس دون الله. وسمعت النار تقول: أنا نار الغضب. فأقبل أيوب على صلاته، ولم يكترث به حتى فرغ منها، وقال: يا هذا، لقد كثّرت علىّ، ليست الأموال لى، بل هى لربّى يفعل فيها ما يشاء. فقال إبليس: صدقت. وماج الناس بعضهم فى بعض، وقالوا: هلّا قبضها قبضا جميلا. فشقّ ذلك على أيّوب من قولهم، ولم يجبهم، غير أنه قال: الحمد لله على قضائه وقدره. وانصرف إبليس عنه، وصعد الى السماء، فنودى: يا ملعون الجزء: 13 ¦ الصفحة: 158 كيف وجدت عبدى أيّوب وصبره على ذهاب أمواله؟ فقال إبليس: إلهى إنك قد متّعته بالأولاد، فلو سلّطتنى عليهم لوجدته غير صابر. فنودى: يا ملعون اذهب فقد سلّطتك عليهم. فانقضّ إبليس على باب قصر أيّوب الّذى فيه أولاده فزلزله حتّى سقط عليهم، وشدخهم بالخشب، ومثّل بهم كلّ مثلة؛ فأوحى الله إلى الأرض: احفظى أولاد أيّوب فإنّى بالغ فيهم مشيئتى. وأقبل إبليس إلى أيّوب وقال له: لو رأيت قصورك كيف تهدّمت، وأولادك وما حلّ بهم. ولم يزل يعدّ له ما حلّ بهم حتّى إبكاه؛ ثم ندم على بكائه، فاستغفر وخرّ ساجدا؛ وأقبل على إبليس وقال: يا ملعون، انصرف عنّى خائبا؛ فإن أولادى كانوا عارية عندى لله. فانصرف وصعد إلى السماء، ووقف موقفه، فنودى: يا ملعون، كيف رأيت عبدى أيوب واستغفاره عند بكائه؟ فقال: إلهى إنّك قد متّعته بعافية نفسه، وفيها عوض عن المال، فلو سلّطتنى على بدنه لكان لا يصبر. فنودى: يا ملعون اذهب فقد سلّطتك على جسده إلّا عينيه ولسانه وقلبه وسمعه. فانقضّ إبليس عليه وهو فى مسجده يتضرّع الى الله ويشكره على جميع بلائه؛ فلمّا سمع إبليس ذلك منه اغتاظ، ولم يتركه يرفع رأسه من السجود حتى نفخ فى منخريه كالنار الملتهبة؛ فاسودّ وجهه، ومرّت النفخة فى سائر جسده؛ فتمعّط منها شعره، وتقرّح جميع بدنه، وورم فى اليوم الثانى، وعظم فى الثالث، واسودّ فى الرابع، وامتلأ قيحا فى الخامس، ووقع فيه الدود فى السادس، وسال منه الصديد فى اليوم السابع ووقع فيه الحكاك، فجعل يحكّه حتى سقطت أظافيره؛ فحكّ بدنه بالخروق والمسوح والحجارة، وكان إذا سقطت دودة من بدنه ردّها إلى موضعها، ويقول: كلى إلى أن يأذن الله بالفرج. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 159 فقالت له رحمة: يا أيوب، ذهب المال والولد، وبدء الضرّ فى الجسد. فقال لها: يا رحمة، إنّ الله ابتلى الأنبياء من قبل فصبروا، وإن الله وعد الصابرين خيرا؛ وخرّ ساجدا لله تعالى، وقال: إلهى لو جعلت ثوب البلاء سرمدا وحرمتنى العافية، ومزّقتنى كلّ ممزّق، ما ازددت إلّا شكرا؛ إلهى لا تشمت بى عدوّى إبليس. ثم قال لرحمة: انقلينى إلى موضع غير مسجدى، فإنّى لا أحبّ أن يتلوّث المسجد. فانطلقت إلى قوم كان أيوب يحسن إليهم؛ فالتمست منهم أن يعينوها على إخراجه من المسجد؛ فقالوا: إنه قد غضب عليه ربّه بما كان فيه من الرياء، فليت كان بيننا وبينه بعد المشرقين. فرجعت رحمة واحتملته إلى الموضع الّذى كان يضع فيه الموائد للناس بالفضاء. ثم قال لها: يا رحمة، إن الصدقة لا تحلّ علينا، فآحتالى فى خدمة الناس. وبكى وبكت، فكانت تخدم أهل البلد فى سقى الماء وكنس البيوت وإخراج الكناسات الى المزابل، وتتكسّب من ذلك ما تنفقه على أيّوب؛ فأقبل إبليس فى صورة شيخ، فوقف على أهل القرية وقال: كيف تطيب نفوسكم بمخالطة امرأة تعالج من زوجها هذا القيح والصديد وتدخل بيوتكم، وتدخل يدها فى طعامكم وشرابكم؟! فوقع ذلك فى قلوبهم ومنعوها أن تدخل بيوتهم. قال: واشتد بأيّوب البلاء، ونتن حتى لم يقدر أحد من أهل القرية أن يستقرّ فى بيته لشدّة رائحته؛ فاجتمعوا على أن يرسلوا عليه الكلاب لتأكله؛ فأرسلوها فعدت حتى قربت منه وولّت هاربة ولم ترجع إلى القرية. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 160 ثم قال لرحمة: إنّ القوم قد كرهونى، فاحتالى فى نقلى عنهم. فتوجّهت واتخذت له عريشا، واستعانت بمن يحمله؛ فأعانها الله بأربعة من الملائكة، فحملوه بأطراف النّطع إلى العريش، وعزّوه فى مصيبته ودعوا له بالعافية؛ واتخذت له رحمة فى العريش رمادا، فألقى نفسه عليه؛ ثم توجّهت فى طلب القوت، فردّها أهل القرية، وقالوا: إنّ أيّوب سخط عليه ربّه. فعادت إليه باكية، وقالت: إنّ أهل القرية غلّقوا أبوابهم دونى. فقال: إن الله لا يغلق بابه دوننا. فحملته إلى قرية أخرى، وصنعت له عريشا ودخلت القرية، فقرّبوها وأكرموها، وحملت فى ذلك اليوم عشرة أقراص من خمسة بيوت؛ ثم شمّ أهل القرية رائحة أيّوب بعد ذلك، فمنعوا رحمة أن تدخل إليهم، وقالوا: نحن نواسيك من طعامنا بشىء. فرضيت بذلك؛ فبينما هى تتردّد إلى أيّوب إذ عرض لها إبليس فى صورة طبيب وقال: إنى أقبلت من أرض فلسطين لما سمعت خبر زوجك، وقد جئت لأدويه، وأنا صائر إليه غدا فيجب أن تخبريه، وقولى له: يحتال فى عصفور أو طائر فيذبحه ولا يذكر اسم الله عليه، ويأكله ويشرب عليه قدحا من خمر، ففرجه فى ذلك. فجاءت رحمة إلى أيّوب وأخبرته بذلك، فتبيّن الغضب على وجهه، وأخبرها أنه إبليس وحذّرها أن تعود لمثل ذلك؛ ثم أقبلت بعد ذلك إلى أيّوب بشىء من الطعام فعرض لها إبليس فى صورة رجل بهىّ على حمار، فقال: كأنى أعرفك، ألست رحمة امرأة أيّوب؟ قالت: بلى. قال: إنى أعرفكم وأنتم أهل غناء ويسار فما الّذى غيّر حالكم؟ فذكرت ما أصاب أيّوب من البلاء فى المال والولد والنفس قال: وفى أىّ شىء أصابتكم هذه المصائب؟ قالت: لأنّ الله أراد أن يعظم لنا الأجر على قدر بلائه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 161 قال إبليس: بئس ما قلت، ولكن للسماء إله وللأرض إله؛ فأمّا إله السماء فهو الله؛ وأمّا إله الأرض فأنا، فأردتكم لنفسى فعبدتم إله السماء ولم تعبدونى ففعلت بكم ما فعلت، وسلبتكم نعمكم، وكلّ ذلك عندى، فاتّبعينى حتى تنظرى إلى ذلك، فإنّه عندى فى وادى كذا وكذا. فلما سمعت (رحمة) ذلك منه عجبت، واتبعته غير بعيد حتى وقفها على ذلك الوادى، وسحر عينيها حتى رأت ما كانت فقدته من أموالهم. فقال: أنا صادق أم لا؟ فقالت: لا أدرى حتى أرجع إلى أيّوب. فرجعت وأخبرته بذلك، فتألم وأنكر عليها وغضب؛ فسألته أن يعفو عنها ولا تعود؛ فقال: قد نهيتك مرّة وهذه أخرى، وأقسم إن عافاه الله ليجلدنها مائة جلدة على كلامها لإبليس. قال: ولبث أيّوب فى بلائه ثمانى عشرة سنة حتى لم يبق إلّا عيناه تدوران فى رأسه، ولسانه ينطق به، وقلبه على حالته، وأذناه يسمع بهما. قال: وعجزت (رحمة) فى بعض الأيام عن تحصيل القوت، وطافت القرية حتى أتت إلى امرأة عجوز فشكت لها ذلك؛ فقالت العجوز: يا رحمة، قد زوّجت ابنتى، فهل لك أن تعطينى ضفيرتين من ضفائرك لأزين بهما ابنتى، وأعطيك رغيفين. فأجابتها رحمة إلى ذلك، وأخذت الرغيفين، وجاءت بهما إلى أيوب؛ فأنكرهما أيوب وقال: من أين لك هذين؟ فأخبرته بالقصة؛ فصاح أيوب وقال ما أخبر الله تعالى: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. فأوحى الله إليه: يا أيّوب، قد سمعت كلامك، وسأجزيك على قدر صبرك؛ وأمّا رحمة فلأرضينّها بالجنة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 162 ذكر كشف البلاء عن أيّوب- عليه السلام- قال: فلما كان يوم الجمعة عند زوال الشمس، هبط عليه جبريل فسلّم عليه فردّ عليه وقال: من أنت؟ قال: أنا جبريل؛ وبشّره بالشفاء، وأن الله قد وهب له أهله وماله وولده ومثلهم معهم لتكون آية، فبكى أيّوب من شدّة الفرح وقال: الحمد لله الذى لم يشمت بى عدوّى إبليس. فقال له جبريل: قم يا أيّوب. فلم يستطع؛ فأخذ بيده وقال: قم بإذن الله. فقام على قدميه، فقال له جبريل: اركض برجلك هذه الأرض. فركضها، فنبعت عين من الماء تحت قدميه أشدّ بياضا من الثلج وأحلى من العسل وأذكى من المسك؛ فشرب منه شربة فسقط ما فى بدنه من الدود، ثم أمره جبريل فاغتسل من تلك العين، فخرج ووجهه كالقمر وعاد إليه حسنه وجماله؛ ثم ناوله جبريل خلعتين، فأتزر بواحدة وارتدى بالأخرى؛ وناوله نعلين من الذهب شراكهما من الياقوت؛ وناوله سفرجلة من الجنّة؛ ثم قام إلى الصلاة، فأقبلت رحمة وقد طردها الناس من كلّ الأبواب؛ فلما صارت إلى ذلك المكان رأته وقد تغيّر، فظنت أنها قد أخطأت الطريق؛ فقالت: أيها المصلّى كلّمنى. فلم يكلّمها، وثبت فى صلاته؛ فقال له جبريل: كلمها. فقال: ما حاجتك؟ قالت: هل عندك علم بأيوب المبتلى فإنّى خلّفته هاهنا ولست أراه. فتبسّم أيوب وقال: إن رأيته عرفته؟ فقالت: والله إنّك لأشبه الناس به قبل بلائه. فضحك وقال: أنا أيوب. فبادرت إليه واعتنقته، وبشرهما جبريل بأولادهما وما فقداه من الأموال وغيرها ومثلهم معهم، وأمطر الله عليهم جرادا من ذهب؛ وكان له بيدران، فأرسل الله سحابتين فأفرغتا فى أحدهما ذهبا وفى الآخر فضة حتى فاض أحدهما على الآخر. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 163 قيل: إنه كان له بعد العافية أربعة آلاف وكيل، رزق كلّ واحد فى الشهر مائة مثقال من الذهب، وبين يديه اثنا عشر من البنين، ومثلهم من البنات وملّكه الله جميع بلاد الشأم، وأعطاه مثل عمره الّذى عمّره فى الماضى. فلما أدركته الوفاة أوصى أولاده أن يخلفوه فى ماله كما كان يفعل مع الفقراء والمساكين والأيتام والأرامل؛ ثم مات، وتوفيت امرأته قبله. وقيل: بعده بقليل؛ فدفن إلى جانب العين التى أذهب الله بلاءه فيها. قال الثعلبىّ- رحمه الله تعالى-: وكانت مدّة ابتلائه ثمانى عشرة سنة. الباب السادس من القسم الثانى من الفن الخامس فى خبر (ذى الكفل) اختلف العلماء فى (ذى الكفل) من هو؟ فقال الكسائىّ: هو ابن أيوب- عليهما السلام- وذكر قصته فقال: لما قبض الله- عزّ وجلّ- أيوب عليه السلام سار ابنه حوميل- وهو أكبر أولاده- فى الناس سيرة أبيه، حتى خرج عليهم ملك من ملوك الشأم يقال له: لام بن دعام، فغلب على بلاد الشأم، وبعث إلى حوميل يقول: إنكم ضيّقتم علينا بلاد الشأم، وأريد منكم نصف أموالكم وتزوّجونى أختكم حتى أقرّكم على ما أنتم عليه، وإلّا سرت إليكم بخيلى ورجلى وجعلتكم غنيمة. فأرسل إليه حوميل يقول: إن هذه الأموال التى فى أيدينا ليس لأحد فيها حق إلا الفقراء والمساكين والأيتام والأرامل؛ وأما أختنا فإنّك من غير ديننا، فلا نزوّجها لك؛ وأما تخويفك لنا بخيلك ورجلك، فنحن نتوكّل على الله ربّنا، وهو حسبنا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 164 فجمع الملك جنوده وقصدهم، فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا، فكانت الكسرة على أولاد أيوب، وأسر بشير بن أيوب وجماعة معه؛ وانقلب حوميل بنفسه وجمع مالا عظيما ليحمله إلى الملك ويخلّص أخاه منه؛ فبينما هو فى ذلك إذ أتاه آت فى منامه فقال: لا تحمل هذا المال، ولا تخف على أخيك، فإن هذا الملك يؤمن، وتكون عاقبة أمره خيرا. فلما أصبح قصّ رؤياه على إخوته، ففرحوا؛ فبلغ الملك توقّفه فى حمل المال فأرسل إليه يقول: احمل ما تكفل به أخاك من المال وإلّا أحرقته بالنار. فبعث إليه: إنى قد أمرت ألّا أحمل لك شيئا، فاصنع ما أنت صانع. فغضب الملك وأمر أن تجمع الأحطاب؛ فجمعت وألقى فيها النار والنّفط، وأمر ببشير فألقى فيها فلم تحرقه؛ فعجب الملك من ذلك، وآمن بالله، واختلط بعضهم ببعض، وزوّجوه أختهم، وسمى بشير ذا الكفل، وأرسله الله إلى الشأم؛ وكان الملك يقاتل بين يديه الكفار، فلم يزل كذلك حتى مات أولاد أيّوب؛ ثم مات الملك وغلب العمالقة على الشأم، إلى أن بعث الله- عزّ وجلّ- شعيبا رسولا. وحكى الثعلبى فى تفسيره وقصصه فى قصّة ذى الكفل غير ما تقدّم، وساق القصّة تلو قصة اليسع، فقال: قال مجاهد: لما كبر اليسع قال: لو أنى استخلفت رجلا على الناس فعمل عليهم فى حياتى حتى أنظر كيف يعمل. فجمع الناس وقال: من يتكفّل لى بثلاثة أستخلفه: يصوم النهار، ويقوم الليل، ولا يغضب. فقام رجل شاب تزدريه العين قال: أنا. فردّه ذلك اليوم؛ وقال مثل ذلك فى اليوم الآخر؛ فسكت الناس، وقام ذلك الرجل فقال: أنا. فاستخلفه؛ فجعل إبليس يقول للشياطين: عليكم بفلان. فأعياهم؛ فقال: دعونى وإياه. فجاءه الجزء: 13 ¦ الصفحة: 165 فى صورة شيخ فقير حين أخذ مضجعه للقائلة، وكان لا ينام بالليل إلّا تلك النومة؛ فدقّ الباب؛ فقال: من هذا؟ فقال: شيخ مظلوم. ففتح الباب، فجعل يقص عليه قصته، فقال: إن بينى وبين قوم خصومة، وإنهم ظلمونى وفعلوا وفعلوا وفعلوا؛ وجعل يطوّل عليه حتى حضر الرواح وذهبت القائلة؛ فقال له: إذا رحت فإنّى قد أخذ بحقك. فانطلق وراح، فكان فى مجلسه، فجعل ينظر هل يرى الشيخ؟ فلم يره؛ فلما رجع وأخذ مضجعه أتاه ودقّ الباب، فقال: من هذا؟ قال: أنا الشيخ المظلوم. فقال: ألم أقل لك: إذا قعدت فأتنى. قال: إنهم أخبث قوم إذا عرفوا أنك قاعد قالوا: نحن نطيعك ونعطيك حقّك، وإذا قمت جحدونى. قال: فانطلق، فإذا رحت فأتنى، ففائته القائلة، فراح فجعل ينظر فلا يراه وشقّ عليه النعاس، فقال لبعض أهله: لا تدعنّ أحدا يقرب هذا الباب حتى أنام فإنى قد شق علىّ النعاس. فلما كانت تلك الساعة جاء فلم يأذن له الرجل، فنظر فرأى كوّة فى البيت، فتسوّرها فإذا هو فى البيت، وإذا هو يدقّ الباب من داخل؛ فاستيقظ ذو الكفل، وقال: يا فلان، ألم آمرك ألّا تأذن لأحد علىّ؟ فقال: أمّا من قبلى فما أتيت، فانظر من أين أتيت. فقام إلى الباب فإذا هو مغلق والرجل معه فى البيت، فقال له: أتنام والخصوم ببابك؟ فقال: فعلتها يا عدوّ الله. قال: نعم، أعييتنى فى كل شىء ففعلت ما ترى لأغضبك، فعصمك الله منى، فسمّى ذا الكفل، لأنه متكفّل بأمر فوفى به. وروى الثعلبىّ أيضا بسند رفعه إلى ابن عمر- رضى الله عنهما- قال: سمعت رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- يحدّث حديثا لو لم أسمعه إلّا مرة أو مرتين لم أحدّث به، سمعته منه أكثر من سبع مرات. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 166 قال: كان فى بنى إسرائيل رجل يقال له: ذو الكفل، لا ينزع عن ذنب عمله، فاتبع امرأة فأعطاها ستين دينارا على أن تعطيه نفسها؛ فلما قعد منها مقعد الرجل من المرأة أرعدت وبكت؛ فقال: ما يبكيك؟ قالت: من هذا العمل ما عملته قطّ. قال: أكرهتك؟ قالت: لا، ولكن حملتنى عليه الحاجة. قال: اذهبى فهى لك. ثم قال: والله لا أعصى الله أبدا. فمات من ليلته. فقيل: «مات ذو الكفل» فوجدوا على باب داره مكتوبا: إنّ الله قد غفر لذى الكفل. وقال أبو موسى الأشعرىّ- رضى الله عنه- إنّ ذا الكفل لم يكن نبيّا ولكنه كان عبدا صالحا، تكفّل بعمل رجل صالح عند موته، فكان يصلّى لله تعالى فى كل يوم مائة صلاة، فأحسن الله- عزّ وجلّ- عليه الثناء. وقيل: كان رجلا عفيفا، تكفل بشأن رجل وقع فى بلاء، فأنجاه الله تعالى. وقيل: ذو الكفل، هو إلياس النبىّ عليه السلام. وقيل: هو زكريا النبىّ عليه السلام؛ والله تعالى أعلم. الباب السابع من القسم الثانى من الفن الخامس فى خبر شعيب النبى عليه السلام هو شعيب بن صنعون بن عفّا بن نابت بن مدين بن إبراهيم عليه السلام. قال: وعاش مدين عمرا طويلا، وكان قد تزوّج امرأة من العمالقة فولدت له أربعة بنين، ونسلوا فكثر عددهم فى حياة مدين، فلما رآى كثرة عقبه جمعهم وأشار عليهم أن يبنوا مدينة ويحصّنوها من العمالقة؛ ففعلوا ذلك، وجعلوا أبوابها من الحديد، وسمّوها مدين باسم أبيهم، وجعلوها محالّ لقبائلهم، فرغبت العمالقة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 167 فى مجاورتهم، وامتلأت المدينة من العمالقة ومن أهلها حتى ضاقت بهم، فخرجت العمالقة من مدين ونزلوا بالأيكة،- وكانت غيضة عن يمين مدين- فبنوا هناك الدّور لأنفسهم، واختلطوا بأهل مدين، وكان أهل مدين يعبدون الله، وأصحاب الأيكة يعبدون الأصنام، ولا يعدو بعضهم على بعض؛ وكان صنعون والد شعيب من العبّاد والعلماء بمدين، وتحته امرأة من العمالقة، فولدت له شعيبا فى نهاية الجمال؛ فلمّا كبر أعطاه الله فهما وعلما؛ وكان قليل الكلام دائم الفكر؛ وكان أبوه إذا تأمّل ضعفه ونحافته يقول: اللهم إنك كثّرت الشعوب والقبائل فى أرض مدين، فبارك لى فى شعيبى هذا. يعنى ولده. فرأى فى منامه أن الله تعالى قد بارك لك فى شعيبك هذا، وقد جعله نبيا إلى أهل مدين. فسمّى شعيبا لذلك. وتوفّى والده فقام شعيب مقامه، وبرّز بالزهد على أهل زمانه، واشتهر بالعبادة. قال: وكان ملك الأيكة- واسمه أبو جاد- قد اتخذ لقومه أصناما، وهى ثلاثون صنما، عشرة من الذهب حلّاها بالجوهر خاصّة به وبأولاده، والبقية من الفضة والنحاس والحجارة والحديد والخشب لبقية الناس. قال كعب فى تفسير (أبجد) : إنها أسماء ملوك مدين. وقيل: بل ملوك الأيكة، وهم أبو جاد وهوّز وحطّى وكلمن وسعفص وقرشت. قال: وكان أهل مدين أصحاب تجارات يشترون الحنطة والشعير وغيرهما من الحبوب، ويجلبون ذلك من سائر البلدان يتربّصون به الغلاء، وهم أوّل من تربّص؛ وكان لهم مكيالان: واف يكتالون به لأنفسهم عند الشراء، وناقص يكيلون به للإعطاء، وكذلك فى وزنهم؛ فكانوا على ذلك وشعيب بين أظهرهم وهو لا يخالطهم، وله غنم ورثها من أبيه يأكل من منافعها، وهو عظيم المحلّ عندهم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 168 فبينما هو ذات يوم على باب منزله مشتغل بالذكر، إذ جاءه رجل غريب فقال: إنّ هؤلاء القوم يظلمون الناس، وإنى اشتريت منهم مائة مكيال بمائة دينار وقبضوا الثمن وزيادة، والذى كاله منهم نقص عشرين مكيالا. فقال له شعيب: ارجع إليهم فلعلّهم قد غلطوا عليك. قال: قد راجعتهم فضربونى وسبّونى، وقالوا: هذه سنّتنا فى بلدنا. والتمس الرجل من شعيب أن يساعده عليهم؛ فخرج شعيب معه حتى صار إلى سوقهم، وسألهم عن قصّته فلم ينكروها، وقالوا: ألم تعلم يا شعيب أنّ هذه سنّة آبائنا فى بلدنا؟ قال ليس هذا من السنة. فعذلهم، فلم يرجعوا إلى قوله وضربوا الرجل حتى أدموه، وانصرف شعيب إلى منزله. ذكر مبعث شعيب- عليه السلام- قال: فأتاه جبريل فى الحال، وأخبره أنّ الله قد بعثه رسولا إلى أهل مدين وأصحاب الأيكة وغيرهم ممّن يعبدون الأصنام، وأمره أن يدعوهم إلى عبادة الله وطاعته، وألّا يبخسوا الناس أشياءهم. قال: وأقبل شعيب إلى أهل مدين وقال لهم ما أخبر الله تعالى به فى كتابه: وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ* وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ. فلما سمعوا ذلك منه أجابوه بما أخبر الله به عنهم: قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ* قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 169 عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ* وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ* وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ. ثم انصرف عنهم، وعاد إليهم من الغد وقد اجتمعوا مع ملكهم أبى جاد؛ فوقف عليهم ونهاهم عن عبادة الأصنام وبخس المكيال والميزان؛ فقالوا له: يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ* قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ. فاستهزأ القوم به، فقال: ويا قوم اعملوا على مكانتكم إنّى عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إنّى معكم رقيب. فكذّبه سفهاء قومه، كما أخبر الله عنهم: كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ* إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ* وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ* أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ* وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ* وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ* وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ* قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ* وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ* فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ* قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ. ثم قال له الملك: قد بلّغت رسالتك بزعمك، وقد سمعناها وأبينا، فلا تعد إلينا فترى ما لا طاقة لك به. فقال: أنا رسول الله إليكم، وإنى أعود أدعوكم حتّى ترجعوا إلى طاعة الله. فغضب الملك، وانصرف عنهم شعيب؛ وآمن به رجل من وزراء الملك، واستكتمه إيمانه، فكتمه شعيب؛ ثم عاد من الغد وقد خرج الملك الجزء: 13 ¦ الصفحة: 170 ومن معه إلى سوقهم، وأخرجوا أصنامهم ونصبوها؛ وأمر الملك فى أهل مدين والأيكة: من سجد لأصنامنا فهو منّا، ومن أبى عذّبناه عذابا شديدا. فسجد القوم بأجمعهم للأصنام؛ فناداهم شعيب: إنّ هذه الأصنام لا تضرّ ولا تنفع، فاتركوا عبادتها. وحذرهم عذاب الله. فقالوا: إنك تدعونا بغير حجة، فهل لك حجة على دعواك النبوة؟ قال لهم شعيب: إن نطقت هذه الأصنام بصدق مقالتى أتؤمنون؟ قالوا: نعم. ورضى الملك بذلك؛ فتقدّم شعيب إلى الأصنام وقال لها: أيتها الأصنام، من ربّك؟ ومن أنا؟ تكلّمى بإذن الله. فنطقت بإذن الله وقالت: ربّنا الله وخالقنا وخالق كلّ شىء، وأنت رسول الله ونبيّه. وتنكّست عن كراسيّها ولم يبق منها صنم صحيح؛ وأرسل الله على قوم شعيب ريحا كادت تنسفهم نسفا فأسرع الملك ومن معه إلى منازلهم، وآمن بشعيب خلق كثير؛ ثم أصبح الملك ومن معه فخرجوا إلى سوقهم، ونصبوا ما كان قد بقى عندهم من الأصنام، وأمرهم بالسجود لها؛ فأتاهم شعيب ونهاهم وحذرهم فلم يرجعوا إليه، وأمر الملك أصحابه أن يقعدوا لشعيب ولمن معه كلّ مرصد، ويؤذوهم أشدّ الأذى؛ ثم قال الملك وقومه: لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا إلى قوله: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ. قال: وإذا بريح قد هاجت عليهم فيها من الحرّ والكرب ما لا طاقة لهم به حتى رموا أنفسهم فى الآبار والسراديب، واشتدّ الحرّ ودام عليهم مدّة وهم لا يزدادون إلا عتوّا وتمرّدا، وشعيب يدعوهم ويحذّرهم العذاب؛ فيقولون: لسنا نرى من عذاب ربّك إلا هذا الحرّ، ونحن نصبر عليه. وأقاموا كذلك أعواما كثيرة وهم لا يؤمنون؛ فأرسل الله عليهم الذباب الأزرق، فكان يلدغهم كالعقارب، وربما قتل أولادهم؛ ثم تضاعف الحرّ عليهم الجزء: 13 ¦ الصفحة: 171 فتحوّلوا من مدين إلى الأيكة، فتضاعف الحرّ عليهم، وتنقّلوا من الأودية إلى الغياض والحرّ يشتدّ عليهم، حتى اسودّت وجوههم، فأقبل إليهم شعيب ودعاهم إلى الإيمان؛ فنادوه: يا شعيب، إن كان ما نلقاه لكفرنا بك وبربك فزدنا منه فإنا لا نؤمن. فأوحى الله إليه أنّه مهلكهم، فتحوّل عنهم. ذكر خبر الظّلّة قال الله تعالى: فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ* إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. قال: ولما كان من غد يوم مقالتهم ما قالوه لشعيب وهو يوم الأربعاء وإذا بسحابة سوداء قد ارتفعت فأظلّتهم، فاجتمعوا تحتها يستظلون بها من الحرّ فانطبقت عليهم حتى لم يبصر بعضهم بعضا؛ واشتدّ الحرّ؛ ثم رمت بوهجها وحرها حتى أنضجت أكبادهم وأحرقتهم وجميع ما كان على وجه الأرض، وشعيب والمؤمنون ينظرون إلى ما نزل بهم، ويتأمّلون مصارعهم، ولم ينلهم من ذلك مكروه. قال الله تعالى: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ يعنى صيحة جبريل فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ* كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ ثم أقبل شعيب والمؤمنون ينظرون إلى مصارع القوم. قال الله تعالى: فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ معناها، كيف أحزن عليهم. ثم قسم شعيب أموال الكفار على قومه، وتزوّج بإمرأة من أولاد المؤمنين، ورزقه الله رزقا حسنا، ولم يزل بأرض مدين حتى كفّ بصره، وجاء موسى بن عمران من أرض مصر، وزوّجه ابنته- على ما نذكره إن شاء الله تعالى-. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 172 القسم الثالث من الفنّ الخامس يشتمل على قصة موسى بن عمران عليه السلام وخبره مع فرعون؛ و ... خبر يوشع بن نون وإلياس واليسع وغيلا واشمويل وداود وطالوت وجالوت وسليمان بن داود ويونس بن متى وجرجيس وبلوقيا وزكريا وعمران ومريم وعيسى، عليهم السلام، وأخبار الحواريين؛ وفيه ستة أبواب؛ والله أعلم بالصواب الباب الأوّل من القسم الثالث من الفن الخامس فى قصة موسى بن عمران وهارون- عليهما السلام - وخبر فرعون وابتداء أمره وغرقه، وأخبار بنى إسرائيل، وخبر قارون، وخروج موسى عليه السلام. ولنبدأ بخبر فرعون وابتداء أمره، وكيف توصل إلى الملك، ثم نذكر قصة موسى عليه السلام معه، ليكون الكلام فى ذلك على سياقه. فأمّا فرعون، فهو الوليد بن مصعب. قال وهب: كان مصعب بن نسيم «1» بمصر يرعى البقر لقومه، وله امرأة يقال لها: راعونة، وهما من العمالقة؛ فأتت عليه مائة وسبعون سنة لم يرزق ولدا، فبينما هو فى برّيّة مصر إذا ببقرة قد ولدت عجلا؛ فتأوّه وحسد البقرة؛ فنادته: يا مصعب لا تعجل، فسيولد لك ولد مشئوم يكون من أهل جهنم. فرجع وذكر ذلك لأمرأته، وواقعها فحملت بفرعون، ومات أبوه قبل ولادتها؛ ثم ولدته أمّه وسمّته الوليد، وأخذت فى إرضاعه وتربيته حتى كبر، فأسلمته إلى النجارين؛ فأتقن صناعة النجارة؛ ثم ولع بالقمار، فعاتبته أمّه؛ فقال: كفّى عنى فأنا عون نفسى. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 173 فلزمه هذا اللقب، فكان يعرف بعون نفسه، فقامر فى بعض الأيام، فقمروه فى قميصه، وبقى فى خلق لا يستره؛ فاستحيا من الناس أن يروه كذلك؛ فهرب حتى صار إلى قرية من قرى مصر؛ فعرض نفسه على بقّال، فخدمه، وكان يضرب المشترين ويؤذيهم حتى نفروا من البقّال؛ فطردوه فعاد إلى مصر؛ وكانوا يقولون: (فرّعون) . قال: ورجع إليها وهو لا يملك إلّا درهما واحدا، فاشترى به بقلا وبطيخا وقعد يبيعه، فجاءه عريف الطريق وطالبه بحق الطريق؛ قال: وما هو؟ قال: درهم. فتلاحيا؛ فترك فرعون رحله ومضى، وجعل يسرق وينقب، فيهرب مرة ويؤخذ أخرى. فاتفق أن رجلا من العمالقة جمح به فرسه فعجز عن ضبطه، فوثب فرعون إلى الفرس وضبطه بلجامه؛ فقال له العمليقىّ: أراك جلدا قويّا. فاتخذه سائسا؛ فجعل يخدمه حتى مات الرجل وليس له وارث؛ فاحتوى فرعون على جميع ماله وحمله إلى أمّه، وأكل ذلك المال حتى فنى، وضاق به الأمر، فوقع فى قلبه أن يجلس على باب مقابر مصر ويطلب أرباب الجنائز بشىء، ويظهر أنه بإذن الملك؛ ففعل ذلك مدّة حتى اجتمع له مال عظيم؛ واتخذ له أعوانا وحفدا «1» يعينونه على ذلك؛ وكان الملك بعد أن أهلك الله الريان بن الوليد تتوارثه الفراعنة؛ واستقرّ فى سنجاب بن الوليد، وكان مكرما لبنى إسرائيل، وكانوا يعبدون الله علانية ويتلون الصحف جهرا. قال: فماتت ابنة للملك؛ فحملت إلى المقبرة، فتعلق بها أعوان فرعون على العادة لأخذ القطيعة؛ فاتصل الخبر بالملك؛ فأمر بإحضاره وأراد قتله؛ فقص الجزء: 13 ¦ الصفحة: 174 عليه قصّته. وفدى نفسه بما جمعه من المال؛ فعظم عند الملك وأقّره على عمله؛ فقرّر فرعون عند ذلك على جنائز الملوك ألف درهم، وعلى جنائز الوزراء سبعمائة والقوّاد خمسمائة، ثم إلى المائة، إلى الخمسين، إلى عشرة، إلى ثلاثة؛ فاجتمع الناس إلى الملك وحرّفوا رأيه عن هذه الحالة وقبّحوها عليه؛ فصرفه الملك عنها وأبطلها؛ وحمل إليه فرعون أموالا جمّة، وقال له: أيها الملك، إنّ جدّى كان على حرس أبيك، فاجعل ذلك إلىّ. فولّاه الحرس وأمره أن يشدّد فيه، ويقتل كلّ من لقيه بالليل كائنا من كان؛ وجعل الملك معه عدّة من الرجال والأعوان؛ فخرج فرعون واتخذ لنفسه قبّة فى وسط البلد، وكان يوجّه أعوانه، فمن أتوه به فى الليل أمر بقتله؛ فتقدّم عند الملك بذلك، لأنه أخاف أعداء الملك، وأمن الملك جانبهم بسببه، وخافه الناس، وجعل لنفسه حاجبا، ونفذت كلمته. ذكر خبر قتل الملك واستيلاء فرعون على ملكه وما كان من أمره قال: واتفق مرض بعض وزراء الملك- وكان الملك يأنس إليه ويقتدى برأيه- فأحبّ أن يزوره بالليل؛ فخرج منفردا وليس معه أحد من خدمه؛ فأخذه أعوان فرعون وأتوه به وهو يقول: ويلكم، أنا الملك سنجاب، وهم يظنون أنه يخدعهم بذلك، حتى أتوا به إلى فرعون، فأمر بقتله، فقتل؛ وبادر فرعون بمن معه- وكان فيهم كثرة- ودخل القصر، وكان لا يمنع منه؛ فاستوى على سرير الملك ووضع التاج على رأسه، وفتح الخزائن، وأحضر الوزراء وفرّق فيهم الأموال فرضوا به، وصاروا أولياء له. قال: وأتاه إبليس وسجد بين يديه، وسمّاه إلها وربّا؛ ثم سجد له هامان- وكان غلاما لسنجاب- وسجد الوزراء والملوك والأعوان وغيرهم؛ وبعث الجزء: 13 ¦ الصفحة: 175 إلى أسباط بنى إسرائيل، فدعاهم إلى الطاعة والسجود له؛ فسجدوا وقصدوا بالسجود الله تعالى. ثم أقبل فرعون بعد ذلك على إبليس وقال: أيّها الشيخ، إنّك كنت مباركا وأنت أوّل من سجد لى، ثم جرى القوم بعدك على سنّتك، فمن أنت؟ قال: أنا رجل من أهل مصر أشير على الملوك بمصالحهم. ثم قال لفرعون: اتخذ لقومك أصناما واحملهم على عبادتها، واتخذ لك صنما انفرد به أنت، واجعله إلها وربّا. فوافقه فرعون على ذلك، واتخذ له ثورا من ذهب يعبده، وأمر الناس بعبادة الأصنام؛ فعبدوها؛ فكان فرعون يعبد الثور، والقبط يعبدون الأصنام، وبنو إسرائيل يعبدون الله؛ فبلغه ذلك، فأحضر عبّادهم وقال: قد بلغنى أنكم مطيعون لى فى الظاهر، مخالفون لى فى الباطن، فاسجدوا لى. فأبوا ذلك، وكان فيهم جماعة من أولاد يوسف ويهوذا، فقتلهم، ثم قتل خلقا كثيرا، وتبعه الباقون وأسرّوا الإيمان؛ ثم إنّ فرعون استعبد الناس ووضع عليهم الخراج الكثير، وشقّ عليهم فى الأعمال. هذا ما حكاه الكسائىّ- رحمه الله- فى خبر فرعون وابتداء أمره وسبب ملكه. وحكى أبو إسحاق الثعلبىّ- رحمه الله- فى كتابه المترجم (بيواقيت البيان فى قصص القرآن) : أن فرعون موسى هو أبو العباس الوليد بن مصعب بن الريّان ابن أراشة بن ثروان بن عمرو بن فاران بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح عليه السلام، وكنّاه بهذه الكنية. قال: وملك بعد أخيه قابوس بن مصعب؛ وذلك أنه لما مات الريان بن الوليد فرعون يوسف- عليه السلام- وذكر أنّه قد آمن بيوسف ومات قبل وفاة يوسف- عليه السلام- ملك بعده قابوس بن مصعب صاحب يوسف الجزء: 13 ¦ الصفحة: 176 الثانى؛ فدعاه يوسف إلى الإسلام، فأبى، وكان جبّارا، وقبض الله تعالى يوسف فى ملكه، وطالت أيّام ملكه، ثم هلك؛ وقام بعده بالملك بعده أخوه أبو العباس الوليد ابن مصعب، ولم يذكر خلاف ذلك. وقد قيل فى اسمه ونسبه وسبب ملكه غير ذلك، وسيرد- إن شاء الله تعالى- فى أخبار ملوك مصر الفراعنة ما ستقف عليه هناك- إن شاء الله تعالى- والله أعلم. ذكر خبر آسية بنة مزاحم وزواج فرعون بها قال: وكانت آسية بنة مزاحم من الصدّيقات، وهى مختلف فى نبوّتها ولا خلاف أنّها صدّيقة؛ وكانت بارعة الجمال؛ فبلغ فرعون خبرها وجمالها، فأرسل إلى أبيها مزاحم (أن ابعث إلىّ بآسية فإنها أمتى) . فدخل على فرعون وقال: إن ابنتى صغيرة لا تصلح. فكذّبه فرعون وقال: قد عرفت وقت ولادتها. فقال: أيها الملك، فاجعل لها مهرا. فغضب فرعون وقال: احملها إلىّ، فإن رضيتها أكرمتها، وإلّا رددتها إليك. فقال له عمران: أيها الملك، لا تفضحنى فى ابنة أخى، ولكن أكرمها بخلعة ومهر. فأجابه إلى ذلك؛ فانصرف مزاحم وأخبر آسية بذلك وقال: إن امتنعت يكون ذلك هلاكى وهلاكك. قالت فكيف تكون مؤمنة عند كافر؟ فلم يزل بها حتى أجابت على كره منها؛ وحمل إليها فرعون عشرة آلاف أوقية من الذهب. ومثل ذلك من الفضّة، وجملة من أنواع الثياب والطّرف؛ وحملت إلى فرعون، فحماها الله منه حتى رضى منها بالنظر. وكان فرعون قد رأى قبل ذلك من الآيات ما دلّه على أن زوال ملكه يكون على يد فتى من بنى إسرائيل؛ فقال: ائتونى بعمران لأنه كبير فيهم لأصطنع إليه وإليهم معروفا. فأتى به، فخلع عليه وتوّجه، وجعله سيّد وزرائه، حتى كان هامان وغيره يحسدونه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 177 ذكر شىء من الايات التى رآها فرعون قبل مولد موسى عليه السلام فمن ذلك أنه هتفت به الهواتف تقول: ويلك يا فرعون، قد قرب زوال ملكك على يد فتى من بنى إسرائيل. ثم رأى الرّؤى التى أزعجته وأفزعته؛ فكان منها أنه رآى شابا وقد دخل عليه وبيده عصا، فضربه بها على رأسه وقال: ويلك يا فرعون، ما أقل حياءك من خالق السموات، كلّما رأيت آية ازددت كفرا. ونظر إلى آسية فى المنام ولها جناحان تطير بهما بين السماء والأرض حتى دخلت السماء؛ ورأى الأرض قد انفرجت وأدخلته فى جوفها؛ فآنتبه فزعا، وقصّ رؤياه على أهل العبارة، فقالوا: إنّها تدلّ على مولود يولد يسلبك ملك، ويزعم أنه رسول إله السماء والأرض ويكون هلاكك وقومك على يديه. وكان فرعون قبل ذلك إذا عبّر عليهم رؤيا يقولون: هذه أضغاث أحلام ويكتمونه ما تدلّ عليه. ذكر خبر قتل الأطفال قال: فاستشار فرعون وزراءه وأهل مملكته؛ فأشاروا عليه بقتل من يولد من الذكور؛ فقتل اثنتى عشرة ألف امرأة وسبعين ألف طفل؛ وكان يعذّب الحوامل حتى يسقطن، حتى ضجّت الملائكة إلى ربّها؛ فأوحى الله إليهم بأن له أجلا وبشّرهم بموسى؛ وكان فرعون قد منع وزراءه وكبار أهل مملكته من الاجتماع بأهاليهم والخلوة بهنّ، لأنه كان قد بلغه أن المولود يكون من أقرب الناس إليه؛ وكان عمران ممن منع؛ وكان فرعون إذا نام لا يفارقه حتى يستيقظ؛ فبينما عمران ذات ليلة على كرسيه عند رأس فرعون إذا هو بامرأته وقد حملت إليه على جناح ملك من الجزء: 13 ¦ الصفحة: 178 الملائكة؛ فلما نظر عمران إليها فزع وقال: ما حاجتك هاهنا؟ فسكتت؛ فقال له الملك: إن الله يأمرك يا عمران أن تأتى زوجتك على فراش فرعون ليكون ذلك هوانا له. فواقعها فحملت بموسى؛ ثم اغتسلا فى الحوض الذى فى دار فرعون؛ ثم حملها الملك وردّها إلى منزلها؛ وكان على باب فرعون ألف حاجب، والأبواب مغلّقة، فلم يغن عنه ذلك؛ ولما أصبح فرعون دخل عليه المنجّمون وقالوا: إن الذى تخافه قد حملت به أمّه وقد طلع نجمه. فأمر فرعون القوابل والحواضن أن يدرن على نساء بنى إسرائيل؛ ففعلن ذلك، ولم يعبرن بيت عمران لعلمهنّ بملازمته لفرعون ليلا ونهارا؛ فلما تمت أيّامها جاءها الطلق نصف الليل، وليس عندها إلا ابنتها، فوضعته ووجهه يتلألأ نورا. ذكر خبر ميلاد موسى وما كان من أمره وإلقائه فى التابوت قال: وأصبحت أمّ موسى وهى شديدة الفرح به والخوف عليه؛ وسمع فرعون فى تلك الليلة هاتفا يقول: ولد موسى وهلكت يا فرعون وتنكّست الأصنام. فشدّد فرعون فى طلب المولود، فكانت أمّه ترضعه، وإذا خرجت فى حاجة ألقته فى التنّور بمهده وغطّته؛ ففعلت ذلك فى بعض الأيّام، وكانت أخته قد عجنت وأرادت أن تخبز، فسجرت التنور وهى لا تعلم أن موسى فيه؛ وجاء هامان والدايات فدخلوا دار عمران فلم يجدوا شيئا، ونظروا إلى التنور والنار تعلو منه، فانصرفوا؛ وجاءت أمّ موسى فرأت الأعوان والحرس قد خرجوا من منزلها، فكاد روحها يزهق من الغمّ؛ فدخلت المنزل بسرعة نحو التنور، فرأت النار فيه؛ فلطمت وجهها وقالت: ما نفعنى الحذر، أحرقتم ولدى. وانطلقت إلى التنور فرأت موسى ولم تمسّه النار؛ فأخرجته؛ ولمّا تم له أربعون يوما فزعت عليه، فاتخذت له تابوتا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 179 ووضعته فيه، وألقته فى اليمّ؛ وكان أبوه قد مات قبل ذلك ودفن، فلذلك اشتدّ خوف أمّ موسى. قال الله تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ. قال: فلمّا أتت به لتلقيه فى النيل تصوّر لها إبليس فى صورة حيّة سوداء وقال: إن ألقيته فى اليمّ ابتلعته. فعلمت أنه إبليس؛ فسمعت النداء: وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ. قال: فطرحته فى النيل. فقيل: إنه بقى فى الماء أربعين ليلة. وقيل: ثلاثا. وقيل: ليلة واحدة. ذكر دخول التابوت فى دار فرعون ورجوع موسى إلى أمّه قال: وأصبح فرعون فى اليوم الذى دخل فيه التابوت إلى قصره، فصعد أعلى القصر وأشرف فرأى التابوت والموج يلعب به؛ وكان لفرعون سبع بنات من غير آسية، بكلّ واحدة منهنّ نوع من البلاء والمرض؛ وكان الأطبّاء قالوا له: إنّ دواءهنّ أن يغتسلن فى النيل. فصنع لهنّ نهرا من النيل وأجراه فى وسط القصر يصب فى حوض عظيم؛ فكانت بناته يغتسلن فيه؛ فأمر الله الريح أن تلقى التابوت فى ذلك النهر وبنات فرعون فيه؛ فبادرت الكبرى وفتحته فإذا فيه موسى وله شعاع ونور؛ فلما لمسته أذهب الله ما بها من البلاء والمرض؛ فلمسته بنات فرعون واحدة بعد أخرى، فذهب ما بهنّ من الأمراض؛ وأقبلن بالتابوت إلى آسية؛ فلما رأته قبلته ولم تعلم أنه ابن عمّها؛ ثم أعادته إلى التابوت؛ وحملته جارية معها الجزء: 13 ¦ الصفحة: 180 ومضت به إلى فرعون؛ فلمّا نظر إليه أرعد منه وقال: يا آسية، إنى أخاف أن يكون هذا عدوّى، ولا بدّلى من قتله. فقالت له: قرّة عين لى ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا. وحكى الثعلبىّ أنها لما قالت: قرّة عين لى ولك، قال فرعون: قرّة عين لك، أمّا أنا فلا حاجة لى فيه. قال أبو إسحاق: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «والذى يحلف به لو أقرّ فرعون أن يكون له قرّة عين كما أقرّت به لهداه الله تعالى كما هدى به امرأته ولكن الله تعالى حرمه ذلك» . قال الكسائىّ: ولم تزل تتلطّف بفرعون حتى تركه، وأحضرت له المواضع فلم يرضعهنّ. قال الله تعالى: وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ. وأرسلت أمّ موسى ابنتها كلثم «1» ، قال الله تعالى: وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. قال: فدخلت قصر فرعون فرأته فى حجر آسية وقد امتنع أن يرضع؛ فتقدّمت إليها، فقالت هل أدلّكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون. قال: ولم تعلم آسية أنها ابنة عمّها لرثائة ثيابها، لأنها دخلت فى حلبة المراضع؛ فالتفت إليها فرعون وقال: من هؤلاء القوم الّذين يكفلونه؟ قالت: قوم من آل إبراهيم. قال: اذهبى وائتنى بهم. فرجعت إلى أمّها وأخبرتها؛ فدخلت على فرعون وموسى بين يديه، فعرفتها آسية وقالت: خذى هذا الصبىّ وأرضعيه. فلما أخذته التقم ثديها ورضع منه، وفرعون لا يعلم أنّها امرأة عمران؛ فقالت لها الجزء: 13 ¦ الصفحة: 181 آسية: أحبّ أن تكونين عندى إلى أن يستغنى هذا الغلام عن الرضاع. فأقامت عند آسية سنتين حتى فطمته وفارقته مستبشرة فرحة. وحكى الثعلبىّ أنها لم تقم عند آسية، بل أخذته وصارت إلى منزلها فأرضعته إلى أن تمّ رضاعه، وأعادته إلى آسية؛ والله أعلم. ذكر شىء من عجائب موسى- عليه السلام- وآياته قال: فلمّا صار موسى من أبناء ثلاث سنين، استدعاه فرعون وأجلسه فى حجره وجعل يلاعبه؛ فقبض على لحية فرعون؛ فتألّم لذلك وقال: لا شكّ أنّ هذا عدوّى. وهمّ بقتله؛ فقالت له آسية: إن الصبيان لهم جراءة ولعب من غير معرفة ولا عقل، وأنا أريك أنه لا يعقل؛ وأمرت بإحضار طست وطرحت فيه درّة وجمرة، وقدّمته إلى موسى، فأراد أن يأخذ الدرّة؛ فصرف جبريل يده عنها إلى الجمرة، فأخذها ورفعها إلى فيه، فاحترق لسانه، فقذفها من فيه وبكى بكاء شديدا؛ فقالت آسية لفرعون: علمت أنه لا يميّز بين الدرّة والجمرة؟ فسكن عند ذلك. قال: فلمّا تمّ لموسى سبع سنين، جلس فى بعض الأيّام مع فرعون على سريره فقرصه فرعون، فغضب موسى ونزل عن السرير وضرب قوائمه برجله، فكسر قائمتين منه، فسقط فرعون عنه، وانهشم أنفه وسال الدم على لحيته؛ فبادر موسى ودخل على آسية وأعلمها بالخبر، وتبعه فرعون إليها وأراد قتله؛ فقالت: ألا يسرّك أن يكون ولدك بهذه القوّة يدفع أعداءك عنك؟ ولا طفته حتى سكن غضبه. ثم ظهر له من المعجزات والآيات ما لا يظهر إلّا للأنبياء وفرعون يكرمه؛ والله الموفّق. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 182 ذكر خبر القبطىّ وخروج موسى من مصر قال: ولما كبر موسى صار يركب من مراكب فرعون ويلبس من ملابسه؛ وكان يدعى: موسى بن فرعون؛ فامتنع بسببه الظلم عن بنى إسرائيل، ولم يعلم إلّا أنّ ذلك من قبل الرضاعة؛ واتفق ركوب فرعون، فركب موسى فى أثره والمدينة مغلّقة الأسواق، وليس بها أحد؛ قال الله تعالى: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فكان الذى من شيعته فتى من بنى إسرائيل، والذى من عدوّه رجل من القبط، وهو طبّاخ لفرعون، وقد أخذ حطبا للطعام، وهو يريد الإسرائيلىّ على حمله وقد امتنع؛ فلما مرّ بهما استغاثه الإسرائيلىّ؛ فقال للطبّاخ: اتركه. فامتنع من تركه؛ فوكزه موسى فى صدره فمات؛ فندم موسى على قتله؛ قال الله تعالى: فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ الآيات. قال: فأصبح فى المدينة خائفا يترقّب. وجاء القبط وشكوا إلى فرعون أنّ بنى إسرائيل قتلوا رجلا منهم؛ فأمرهم أن يطوفوا على قاتله؛ وخرج موسى فى اليوم الثانى، فإذا الّذى استنصره بالأمس يستصرخه على قبطىّ آخر، والقبطىّ يقول: هذا الّذى قتل ابن عمّى بالأمس. فقال الإسرائيلىّ: أعنى يا موسى على هذا، فإنّه يريد أن يحملنى إلى دار فرعون قال له موسى إنّك لغوىّ مبين. قال: ثم لم يجد موسى بدّا من نصرة الإسرائيلىّ، فحسر عن ذراعيه، ودنا من القبطىّ؛ فظنّ الإسرائيلىّ أنّ موسى يريد أن يبطش به، فقال ما أخبر الله به عنه: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 183 فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ. فلمّا سمع القبطىّ كلام الإسرائيلىّ لموسى تحقق أن موسى قاتل ابن عمه؛ فدخل إلى دار فرعون وأخبره أن موسى هو الّذى قتل القبطىّ؛ قال: ومن أعلمك؟ فقصّ عليه القصة؛ فأذن فرعون لأولياء المقتول فى قتل موسى حيث وجدوه؛ فجاء حزقيل- وكان مؤمنا من آل فرعون- وأعلم موسى بالخبر. قال الله تعالى: وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ* فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ* وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ. ومضى بغير زاد ولا راحلة؛ فمرّ براع فى طريقه، فأعطاه موسى ثيابه، وأخذ جبّة الراعى وكساه، وسار فوصل إلى مدين فى اليوم السابع وقد أجهده الجوع. قال: وكان موسى يسير بالليل ودليله النجم، فإذا جاء الصبح جاءه أسدان يدلّانه على الطريق؛ فكان هذا دأبه وهما كذلك حتى ورد مدين؛ والله الهادى. ذكر خبر ورود موسى مدين وما كان بينه وبين شعيب وزواجه ابنته قال الله تعالى: وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ وكانتا ابنتى شعيب عليه السلام. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 184 قال: وكان الرّعاء إذا سقوا غطّوا البئر بصخرة لا يرفعها إلّا جماعة؛ فلمّا انصرفوا تقدّم موسى إلى الصخرة فوكزها برجله، فدحاها أربعين ذراعا على ضعفه من الجوع وسقى غنمهما. قال الله تعالى: فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ. قال: فتمنّى موسى فى ذلك الوقت شبعة من خبز الشعير؛ وانصرفت المرأتان إلى أبيهما وأخبرتاه بالخبر، فأرسل إحداهما إليه وقال: ائتينى به. قال الله تعالى: فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا. فقام موسى، وكانت تمرّ بين يديه فكشف الريح عن ساقيها؛ فقال لها: تأخّرى ورائى ودلّينى على الطريق. فتأخّرت وكانت تقول: عن يمينك وعن شمالك. حتى دخلا مدين؛ وجاء إلى شعيب- وهو شيخ كبير وقد كفّ بصره- فسلّم عليه؛ فردّ عليه ورحّب به وسأله عن خبره. قال الله تعالى: فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. ثم دعا شعيب بالطعام فأكل؛ فقالت ابنته: يا أبت استأجره إنّ خير من استأجرت القوىّ الأمين أرادت بالقوّة رفع الحجر عن رأس البئر واستقاءه بالدلو العظيمة، وأمانته أنّه أخّرها إلى خلفه. فرغب فيه وقال: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ* قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 185 فتزوّج موسى صفورا «1» - وهى الصغرى منهما- وطلب عصا؛ فقالت له: ادخل بيت أبى الّذى يأوى فيه فخذ عصاك. وكان فيه عصىّ كثيرة- فدخل موسى البيت وأخذ من العصىّ عصا حمراء؛ فقال له شعيب: هذه من أشجار الجنة أهداها الله إلى آدم، ثم صارت إلى شيث وإدريس ونوح وهود وصالح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، وكلّهم توكّأوا عليها، فلا تخرجنّها من يدك. ثم أوصاه وحذّره من أهل مدين، وقال: إنّهم قوم حسدة، وإذا رأوك قد كفيتنى أمر غنمى حسدونى عليك، فدلّوك على وادى كذا وكذا، وهو كثير المرعى، وإنما فيه حيّة عظيمة تبتلع الغنم، فإن دلّوك عليه فلا تمرّ به، فإنّى أخاف عليك وعلى غنمى. فخرج موسى بالغنم- وكانت يومئذ أربعين رأسا- وقال فى نفسه: إنّ من أعظم الجهاد قتل هذه الحيّة. وتوجه بالغنم إلى ذلك الوادى؛ فلمّا قار به أقبلت الحيّة إلى الغنم، فقتلها موسى ورعى غنمه إلى آخر النهار، وعاد إلى شعيب وأعلمه الخبر؛ ففرح بقتلها، وفرح أهل مدين وعظّموا موسى وأجلّوه؛ وقام موسى بغنم شعيب يرعاها ويسقيها، حتى انقضت المدّة التى بينهما، وبلغت أربعمائة رأس وعزم موسى على المسير. ذكر خبر خروج موسى- عليه السلام- من أرض مدين ومناجاته ومبعثه إلى فرعون قال: ولما أراد موسى الانصراف بكى شعيب وقال: يا موسى، إنّى قد كبرت وضعفت، فلا تضيّعنى مع كبر سنّى وكثرة حسّادى، وتترك غنمى شاردة لا راعى لها. قال موسى: إنّها لا تحتاج إلى راع، وقد طالت غيبتى عن أمّى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 186 وخالتى وهارون أخى وأختى. فقال شعيب: إنى أكره أن أمنعك. وأوصاه بابنته وأوصاها ألّا تخالفه؛ وسار موسى- عليه السلام- بأهله يريد أرض مصر حتى بلغ جانب وادى طوى فى عشيّة شديدة البرد؛ وجاء الليل وهبّت الرياح وغيّمت السماء؛ فأنزل موسى أهله وضرب خيمته على شفير الوادى، وأدخل أهله فيها؛ وهطلت السماء بالمطر؛ وكانت امرأته حاملا، فجاءها الطلق، فجمع حطبا وقدح الزناد فلم يور، فرماه وخرج من البيت، فرآى نارا. قال الله تبارك وتعالى: فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ* فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ. ولم يكن هناك نار بل نور. قال الثعلبىّ: واختلفوا فى الشجرة ما كانت، فقيل: العوسجة. وقيل: العنّاب. قال الكسائىّ: وأمر موسى بخلع نعليه؛ قال الله تعالى: فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً* وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى إلى قوله: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى * قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى. قال: لأنه كان يركزها فى الأرض ويعلّق عليها كساءه وإداوته ونعليه، ويقاتل بها السباع، ويستظلّ بها من الشمس. قال الله تعالى: أَلْقِها يا مُوسى فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى على مثال الثعبان العظيم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 187 قال: فلمّا رآها تهتزّ كأنّها جانّ ولّى مدبرا ولم يعقّب. فلما أمعن فى الهرب قال له جبريل: أتهرب من ربّك وهو يكلّمك؟ قال: ما فررت إلّا من الموت. ورجع وهى بحالها؛ قال الله تعالى: خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى. فأدخل يده فى فيها فإذا هى عصا؛ ثم قال الله له: وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى فذهب الخوف عن موسى؛ ثم أمره الله تعالى أن يذهب إلى فرعون، فقال: اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى . قال موسى: ربّ اشرح لى صدرى* ويسّر لى أمرى* واحلل عقدة من لسانى* يفقهوا قولى* واجعل لى وزيرا من أهلى* هارون أخى* اشدد به أزرى* وأشركه فى أمرى* كى نسبّحك كثيرا* ونذكرك كثيرا* إنّك كنت بنا بصيرا. قال الله تعالى: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى. قال: ثم تذكّر موسى ما كان منه فقال: ربّ إنّى قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون. فنودى: يا موسى لا تخف إنّى لا يخاف لدىّ المرسلون. ثم ذكّره الله منّته عليه فقال: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى الآيات؛ ثم قال الله تعالى: اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى * فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى * قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى * قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى * فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى. قال: وكان الخطاب لموسى وحده، والرسالة له ولهارون. قال: وأمّا ابنة شعيب فاشتدّ بها الطلق، وسمع سكّان الوادى من الجنّ أنينها، فأتوها وأوقدوا النار عندها، وقبلوها؛ وقيّض الله تعالى لها من ردّها إلى أبيها؛ والله المعين. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 188 ذكر خبر مسير موسى إلى مصر واجتماعه بأخيه هارون وأمّه قال الكسائىّ: وسار موسى من الطّور حتى بلغ العمران؛ وكان هارون يومئذ وزيرا لفرعون على عادة أبيه لا يفارقه ليلا ولا نهارا؛ فبينما هو نائم إلى جنب سرير فرعون إذ أتاه آت فى منامه ومعه شراب فى كأس من الياقوت، وقال: يا هارون اشرب هذه الشربة فهى بشارة بقدوم أخيك من أرض مدين، وأنت شريكه فى الرسالة إلى فرعون. فانتبه هارون فزعا وظنّ ذلك من الشيطان، وعاد إلى النوم، فعاوده القائل ثلاث مرّات؛ ثم قال له: قم إلى أخيك- وكانت الأبواب مغلّقة- فاحتمله الملك إلى قارعة الطريق وقال له: امض واستقبل أخاك. ثم أتاه جبريل بوحى الله وبشّره بالرسالة، وحمله إلى شاطئ النيل، وموسى إلى الجانب الآخر؛ فكان يكلّمه والريح تحمل كلامه إلى هارون؛ ثم أذن الله لهما أن يلتقيا؛ فجاء موسى إلى الجانب الآخر، فالتقيا؛ وبشّره بشركته فى الرسالة؛ ثم أقبلا إلى أمّهما وجبريل معهما، فطرق هارون الباب وأمّه فى صلاتها، فقامت من محرابها وقالت: من بالباب؟ فقال موسى: أنا ولدك موسى وأخى هارون. ففتحت الباب، ووقعت مغشّيا عليها من الفرح؛ ثم أفاقت؛ وذكر لها موسى ما كان من أمره؛ فسجدت لله تعالى؛ ثم حمل جبريل هارون وأعاده عند رأس فرعون؛ وأقام موسى بقيّة ليلته عند أمّه، وخرج من الغد متنكّرا، فنظر إلى ما أحدثه فرعون فى أرض مصر ورجع حتى أقبلت الليلة الثانية، فخرج وجاء إلى قصر فرعون وبه الحجّاب والحرس والجنود، فقرع الباب بعصاه، فانفتح ودخل حتى بلغ القبّة الأرجوانيّة، فانفتحت وعبرها وفرعون نائم بها، وهارون عند رأسه؛ فقام إليه هارون وقال: لقد عجلت يا أخى. وأخرجه؛ فانصرف، وغلّقت الأبواب كما كانت. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 189 فلمّا كان من الغد جاء إلى فرعون فعرفه بعضهم، وأنكره البعض، وجاء بعض الوزراء إلى فرعون وأخبره به، فأرعدت فرائصه، وأمر هامان أن يخرج إليه؛ فخرج وسأله عن اسمه، فأخبره أنه موسى؛ فعاد هامان إلى فرعون وأعلمه أنه هو؛ فنظر إلى هارون وقال: أيقدم أخوك ولم تعلمنى به؟ فقال: أردت ذلك وإنما خشيت غضبك. ذكر خبر دخول موسى- عليه السلام- إلى فرعون وما كان من أمره معه قال: وأمر فرعون أن يزيّن قصره، وجلس والتاج على رأسه، ووقف الوزراء عن يمينه وشماله، وأحضر موسى؛ فلمّا رآه عرفه، ثم قال له: من أنت؟ قال: أنا عبد الله ورسوله وكليمه. قال: أنت عبد فرعون. قال: إن الله أعزّ من أن يكون له ندّ. قال له فرعون: إلى من أرسلت؟ قال: إليك وإلى جميع أهل مصر. قال: فبماذا؟ قال: أن يقولوا لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأنّى موسى عبده ورسوله. قال: فما حجّتك؟ فإنّ لكلّ مدّع بيّنة. قال: إن أتيتك ببيّنة تؤمن؟ قال: نعم. قال موسى: يا هارون، انزل عن الكرسىّ وبلّغ فرعون الرسالة. فنزل وقال: يا فرعون. إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى . فقال فرعون: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى * قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى ، الآيات. فغضب فرعون على هارون، وأمر هامان بنزع ما عليه من اللباس؛ فنزعه حتى بقى بالسراويل، فألبسه موسى مدرعة الصوف؛ فاقشعرّ جلده؛ فنزل جبريل بقميص كوّنه الله تعالى فكان وألبسه إيّاه؛ فقال فرعون لهامان: احمل موسى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 190 وأخاه إلى منزلك ودارهما، فإن أطاعانى مكّنتهما من خزائنى، ولا أقطع أمرا دونهما. ففعل ذلك؛ فقالا له: يا هامان اشتر نفسك من ربّك. فضحك من قولهما، ثم أحضرهما من الغد إلى فرعون؛ فأقبل على موسى وقال: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ* وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ* قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ أى عن النبوّة فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ* وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ. ثم قال: تذبّح أبناءهم وتستحيى نساءهم، فشكوك إلى ربّ العالمين. وكان فرعون متكئا، فاستوى جالسا وقال: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ* قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ . فالتفت فرعون لمن حوله وقال: أَلا تَسْتَمِعُونَ. قال موسى: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ* قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ* قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ . قال فرعون: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ* قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ. قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. ذكر خبر العصا حين صارت ثعبانا واليد البيضاء قال: وبينماهما فى المخاطبة وإذا بالعصا اضطربت فى كف موسى؛ فناداه جبريل: أطلقها يا نبىّ الله. فألقاها موسى فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ كأعظم ما يكون؛ ثم تمثّل مثال الجمل البختىّ وقام على رجليه حتى أشرف برأسه على حيطان القصر وتنفّس نارا ودخانا، وعطف على قبّة فرعون فضربها فطحطحها، وجعلت لا تمرّ بشىء إلّا ابتلعته، وهاجت كالجمل المغتلم ولها صوت كالرعد؛ وأقبلت إلى قبّة فرعون وهو فيها، فوضعت لحيها الأسفل تحت القبة، ولحيها الأعلى فوقها، ورفعت القبّة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 191 ثمانين ذراعا فى الهواء، وقالت: يا فرعون، وعزّة ربّى لو أذن لى لابتلعتك بقصورك وأموالك. فلمّا نظر فرعون إلى ذلك وثب عن سريره- وهو أعرج- وجعل يعدو ويقول: يا موسى بحقّ التربية والرضاع، وبحقّ آسية كفّها عنّا. فناداها، فأقبلت، فأدخل يده فى فيها، وقبض على لسانها فإذا هى عصا كما كانت؛ فعاد فرعون إلى مكانه وقال: يا موسى، لقد تعلّمت بعدى سحرا عظيما. قال: يا فرعون، أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ . قال فرعون: هل عندك سحر غير هذا؟ قال: نعم؛ فأدخل يده فى جيبه، ثم أخرجها وعليها نور وشعاع؛ قال الله تعالى: فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ* وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ* قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ* يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ* قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ* يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ. ذكر خبر السّحرة واجتماعهم وما كان من أمرهم وإيمانهم قال: فأمر فرعون بجمع السّحرة؛ فاجتمع إليه سبعون ألف ساحر؛ فاختار منهم سبعين ساحرا- وهم أحذق الخلق-. وحكى الثعلبىّ عن عطاء قال: كان رئيسا السحرة بأقصى مدائن الصعيد وكانا أخوين؛ فلما جاءهما رسول فرعون قالا لأمّهما: دلّينا على قبر أبينا. فدلّتهما عليه؛ فأتياه فصاحا باسمه، فأجابهما؛ فقالا له: إن الملك قد وجّه إلينا أن نقدم إليه، لأنّه أتاه رجلان ليس معهما رجال ولا سلاح، ولهما عزّ ومنعة، وقد ضاق الملك ذرعا بهما، ومعهما عصا إذا ألقياها لا يقوم لها شىء حتى تبتلع الحديد والخشب والحجارة. فأجابهما أبوهما: انظرا إذا هما ناما، فإن قدرتما أن تسلّا العصا فسلّاها، فإنّ الساحر لا يعمل سحره وهو نائم، فإن عملت العصا وهما نائمان فذلك الجزء: 13 ¦ الصفحة: 192 أمر ربّ العالمين فلا طاقة لكما به ولا للملك ولا لجميع أهل الدنيا. فأتياهما خفية وهما نائمان ليأخذاها، فصدّتهما. قال الكسائىّ: وبعث فرعون إلى موسى فأحضره وقال ما أخبر الله تعالى به عنه: قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً* قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى. قال: ويوم الزينة هو أوّل يوم من السنة؛ فلمّا كان فى ذلك اليوم اجتمع الناس من أطراف أرض مصر فى صعيد واحد، فأخذ فرعون يقول للسحرة: اجتهدوا أن تغلبوا موسى. قالوا إنّ لنا لأجرا إن كنّا نحن الغالبين. قال فرعون: نعم وإنّكم لمن المقرّبين. وأقبل موسى وهارون وقد أحدقت بهما الملائكة، فرأى موسى الوادى وقد امتلأ من الحبال والعصىّ؛ فقال موسى: ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى. قال: وكان فى السحرة ساحران عظيمان- وهما رأس السحرة- فقالا: يا موسى إمّا أن تلقى وإمّا أن نكون أوّل من ألقى. فهمّ موسى أن يلقى، فمنعه جبريل، وأجرى الله على لسانه فقال: بل ألقوا؛ فألقوا وسحروا أعين النّاس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم. قال الله تعالى: فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى . فامتلأ الوادى من الحيّات، وجعلت يركب بعضها بعضا؛ وقالوا بعزّة فرعون إنّا لنحن الغالبون؛ قال الله تعالى: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى * وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما الجزء: 13 ¦ الصفحة: 193 صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى فعندها زال خوفه وقال: ما جئتم به السّحر إنّ الله سيبطله إنّ الله لا يصلح عمل المفسدين. ثم ألقى عصاه فى وسط الوادى، فانكشف سحر السحرة، وبطل ما أظهروه من التخييل، فإذا هى حبال وعصىّ، وصارت عصا موسى ثعبانا له سبعة أرؤس، وعلى ظهره مثل الأزجّة «1» ، فابتلعت الحبال والعصىّ وجميع ما كان فى الوادى من الزينة؛ فقام فرعون ووزراؤه فوقفوا على تل ينظرون فعل الحية وهم خائفون؛ ثم حملت على السبعين رجلا فولّوا هاربين على وجوههم؛ ثم اجتمعوا بأجمعهم وقالوا: ما هذا بسحر. وخرّوا سجّدا؛ قال الله تعالى: أُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ* قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ* رَبِّ مُوسى وَهارُونَ. قال: فاغتمّ فرعون لذلك وقال للسحرة: آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ* لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ. وأمر أن يفعل بهم ذلك؛ فقالوا ما أخبر الله به تعالى عنهم: لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى. ثم صلبوا على سبعين جذعا بعد أن قطّع فرعون أيديهم وأرجلهم. ذكر خبر حزقيل مؤمن آل فرعون قد قيل: إن خبر مؤمن آل فرعون كان قبل خبر السحرة، وسياق الآيات يدل على أن خطابه لفرعون كان بعد خبرهم، وذلك أنه لما كان من أمر السحرة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 194 ما ذكرناه، قال الملأ من قوم فرعون ما أخبر الله تعالى به عنهم؛ قال الله تعالى: وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ . وقال الله تعالى إخبارا عن فرعون: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ. قال: فلمّا عزم فرعون على قتل موسى، أقبل حزقيل على القوم- وكان خازن فرعون وزوّج ماشطة بناته- فقال ما أخبر الله تعالى عنه: وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ* يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا. ففزع فرعون من قوله وقال: ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ. فخوّفهم المؤمن وقال ما أخبر الله تعالى به عنه: وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ* مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ* وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ* يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ. فلما سمع فرعون كلامه غضب وقال: كأنّك ممن اتبع موسى، فارجع عن ذلك وإلّا عاقبتك بأنواع العذاب. فقال له حزقيل: يا قوم اتّبعون أهدكم سبيل الرّشاد، الآيات. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 195 ثم قال: وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ* تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ* لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ* فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ ؛ ولحق بموسى وهارون، وفارق فرعون وقومه؛ قال الله تعالى: فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ. وحكى الثعلبىّ أنّ فرعون قتله مع السحرة صلبا؛ ثم ذكر بعد ذلك أنه كان مع موسى عليه السلام لمّا فرق الله له البحر؛ والله تعالى أعلم. ذكر خبر بناء الصرح وما قيل فيه قال: ولما انقضى أمر السحرة أقبل فرعون على هامان وقال: يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ* أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً. قال: فجمع هامان خمسين ألف صانع وصنع القرميد- وهو الآجر، وهامان أوّل من صنعه- فكانوا يبنون فيه ليلا ونهارا لا يفترون؛ فلمّا تكامل الصرح وارتفع ارتفاعا عظيما، أمر الله عزّ وجلّ جبريل فهدمه وجعل عاليه سافله ومات كلّ من كان فيه على دين فرعون، والمؤمنون يزيدون ويجتمعون إلى موسى عليه السلام. وحكى أبو إسحاق الثعلبىّ- رحمه الله- أن الصرح اجتمع فيه لبنائه خمسون ألف بنّاء سوى الأتباع والأجراء ممّن يطبخ الآجرّ والجصّ وينجر الخشب والأبواب ويضرب المسامير؛ فلم يزل يبنى ذلك الصرح؛ ويسّر الله تعالى له أمره الجزء: 13 ¦ الصفحة: 196 استدراجا منه، فأتى الأمر فيه على ما يريد، إلى أن فرغ فى سبع سنين، فارتفع ارتفاعا لم يبلغه بنيان أحد من الخلق منذ خلق الله السموات والأرض؛ فشقّ ذلك على موسى، فأوحى الله تعالى إليه: أن دعه وما يريد فإنّى مستدرجه ومبطل كلّ ما عمله فى ساعة واحدة. قال: فلمّا تم بنيانه بعث الله عزّ وجلّ جبريل فضرب بجناحه الصرح، فقذف به على عسكر فرعون، فقتل منهم ألفى ألف رجل. قالوا: ولم يبق أحد ممّن عمل فيه إلا أصابه موت أو حريق أو عاهة. قال: وكان تدمير الله تعالى الصرح فيما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. قال: فلمّا رأى فرعون ذلك من أمر الله، وعلم أنّ حيلته لم تغن عنه شيئا عزم على قتال موسى ومن معه، وأمر أصحابه فنصبوا له الحرب؛ فلما رأى الله تعالى ذلك من فعل فرعون وقومه، وأنه حقّت عليهم كلمة العذاب، ابتلاهم الله تعالى بالعذاب والآيات. ذكر خبر الآيات التسع قال الكسائىّ: ثم أخذ الله تعالى قوم فرعون بالآيات التسع، فكان أوّل ما جاءهم الطوفان، فدام عليهم ثمانية أيام لا يرون فيها شمسا، حتى امتلات الأسواق والدّور، وأخذت فى الخراب؛ فالتجأوا إلى فرعون، فقال: سأكشف ذلك عنكم. ودعا موسى وسأله أن يدعو برفع الطوفان ليؤمن به؛ فطمع موسى فى ذلك، فسأل الله تعالى، فرفع ذلك عنهم، فازدادوا كفرا، فبعث الله تعالى عليهم الجراد فأكل أشجارهم وزرعهم، ودام ثمانية أيّام، ففزعوا إلى فرعون، فوعدهم بصرفه عنهم وضمن لموسى إن صرفه عنهم آمن به؛ فدعا ربّه، فأرسل الله على الجراد ريحا باردة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 197 فقتلته، فلم يؤمنوا؛ فبعث الله عليهم القمّل فأكل جميع ما فى بيوتهم، وقرض ثيابهم وأبدانهم وشعورهم؛ فضجّوا إلى فرعون، فسأل موسى ووعده الإيمان؛ فسأل الله تعالى، فصرفه عنهم بعد ثمانية أيام وأماته، فازدادوا كفرا؛ فأرسل الله تعالى عليهم الضفادع، فكانت تدخل فى طعامهم وشرابهم، وكانت لها رائحة منتنة فدامت ثمانية أيام؛ فسأل موسى؛ فلما كشفها الله عنهم لم يؤمنوا وازدادوا كفرا؛ فأمر الله تعالى موسى: أن اضرب بعصاك النيل. فضربه فتحوّل دما عبيطا، فاشتدّبهم العطش، فكان الإسرائيلىّ والفرعونىّ يأتيان إلى موضع واحد، فإذا أخذه الإسرائيلىّ يكون ماء، وإذا أخذه الفرعونىّ كان دما، فدام ذلك ثمانية أيّام حتى أجهدهم العطش وأشرفوا على الهلاك؛ فلمّا كشفه الله عنهم بدعوة موسى ازدادوا كفرا. ذكر خبر مسخ قوم فرعون قال: ولما لم يؤمنوا بهذه الآيات، قال موسى: رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ؛ وكان الدعاء من موسى، والتأمين لهارون؛ فأوحى الله إليهما: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما الآية. قال: فطمس الله تعالى على كثير منهم، حتى أصبح الرجال والنساء والصبيان والأموال كلّها حجارة، فلم يؤمنوا؛ قال الله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ. قال عمر بن عبد العزيز فى تفسيره: كان أوّل الآيات العصا، واليد البيضاء والطّوفان والجراد والقمّل والضفادع والدم والطّمس والبحر حتى صار يبسا. هذا ملخّص ما حكاه الكسائىّ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 198 وحكى أبو إسحاق الثعلبىّ فى قصصه عن ابن عبّاس وسعيد بن جبير وقتادة ومحمد بن إسحاق وغيرهم من أصحاب الأخبار- دخل حديث بعضهم فى حديث بعض- قالوا: لما آمنت السحرة وصلبهم فرعون، وانصرف موسى وهارون إلى عسكر بنى إسرائيل، أمر فرعون أن يكلّفوا بنى إسرائيل ما لا يطيقونه، فكان الرجل من القبط يجىء إلى الرجل من بنى إسرائيل فيقول له: انطلق معى فآكنس حشى «1» واعلف دوابّى واستق لى. وتجىء القبطية إلى الكريمة من بنى إسرائيل فتكلّفها ما لا تطيق، ولا يطعمونهم فى ذلك كلّه خبزا، واذا انتصف النهار يقولون لهم: اذهبوا فاكسبوا لأنفسكم. فشكوا ذلك إلى موسى، فقال لهم: استعينوا بالله واصبروا إنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقّين. قالوا: يا موسى: أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا، كنا نطعم اذا استعملونا من قبل أن تجيئنا، فلمّا جئتنا استعملونا ولا يطعموننا. فقال لهم موسى: عسى ربّكم أن يهلك عدوّكم يعنى فرعون والقبط، ويستخلفكم فى الأرض فينظر كيف تعملون. قالوا: فلمّا أبى فرعون وقومه إلّا الإقامة على الكفر، والتمادى فى الشر والظلم، دعا موسى ربّه وقال: ربّ إن عبدك فرعون طغى فى الأرض وبغى وعتا وإن قومه نقضوا عهدك وأخلفوا وعدك، ربّ فخذهم بعقوبة تجعلها عليهم نقمة ولقومى عظة، ولمن بعدهم من الأمم عبرة. فتابع الله عليهم الآيات المفصّلات بعضها فى إثر بعض، فأخذهم بالسنين ونقص من الثمرات، ثم بعث عليهم الطوفان (وهو الماء) أرسل عليهم السماء حتى كادوا يهلكون، وبيوت بنى إسرائيل وبيوت القبط مشبّكة مختلطة بعضها فى بعض، فامتلأت بيوت القبط حتى قاموا فى الماء الجزء: 13 ¦ الصفحة: 199 إلى تراقيهم، فمن جلس منهم غرق، ولم يدخل بيوت بنى إسرائيل من الماء قطرة وفاض الماء على وجه أراضيهم كذلك، فلم يقدروا على أن يحرثوا ولا يعملوا شيئا؛ ودام ذلك عليهم سبعة أيّام من السبت إلى السبت؛ فقالوا لموسى: ادع لنا ربّك يكشف عنّا هذا البلاء ونؤمن بك ونرسل معك بنى إسرائيل. فدعا موسى ربّه فرفع عنهم الطوفان، فلم يؤمنوا، ولم يرسلوا معه بنى إسرائيل، وعادوا أشرّ مما كانوا عليه. واختلف العلماء فى الطوفان ما هو؛ فقال ابن عبّاس- رضى الله عنهما-: هو الماء أرسله الله تعالى عليهم. وقال مقاتل: هو الماء طغى فوق حروثهم فأهلكها. وقال الضّحاك: هو الغرق. وقال مجاهد وعطاء: هو الموت الذريع. وقال وهب: هو الطاعون بلغة أهل اليمن، أرسل الله الطّوفان على أبكار آل فرعون فقبضهنّ فى ليلة واحدة، فلم يبق منهنّ واحدة ولا دابة. وقال أبو قلابة: الطّوفان هو الجدرىّ، والله تعالى أعلم. قالوا: وأنبت الله تعالى لهم فى تلك السنة من الكلإ والزرع ما لم ينبت قبل ذلك، فأعشبت بلادهم وأخصبت، فقالوا: هذا ما كنّا نتمنّاه، وما كان هذا الماء إلّا نعمة لنا وخصبا. فأقاموا شهرا فى عافية؛ ثم بعث عليهم الجراد فأكل زرعهم وثمارهم وأوراق أشجارهم والزهر، حتّى إن كان ليأكل الأبواب والثياب والأمتعة وسقوف البيوت والخشب والمسامير حتى سقطت دورهم، والجراد لا يدخل بيوت بنى إسرائيل ولا يصيبهم من ذلك شىء؛ فعجّوا وضجّوا، وقالوا: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 200 يا موسى ادع لنا ربّك بما عهد عندك لئن كشفت عنّا الرّجز لنؤمننّ لك ولنرسلنّ معك بنى إسرائيل؛ فأعطوه عهد الله وميثاقه؛ فدعا موسى ربّه، فكشف الله تعالى عنهم الجراد بعد ما أقام عليهم سبعة أيّام من السبت إلى السبت. ويقال: إن موسى برز إلى الفضاء، فأشار إلى المشرق بالعصا فذهب الجراد من حيث جاء كأن لم يكن قطّ. قالوا: فأقاموا شهرا فى عافية؛ ثم بعث الله عليهم القمّل، وذلك أن موسى أمر أن يمشى إلى كثيب أغبر بقرية من قرى مصر تدعى: (عين شمس) فمشى موسى إلى ذلك الكثيب- وكان عظيما- فضربه بعصاه، فانثال عليهم القمّل فتتّبع ما بقى من حروثهم وأشجارهم ونباتهم فأكله ولحس الأرض كلّها، وكان يدخل بين ثوب أحدهم وبين جلده فيعضّه، وكان يأكل أحدهم الطعام فيمتلئ قمّلا، حتى إن أحدهم ليبنى الأسطوانة بالجصّ فيزلّقها حتى لا يرتقى فوقها شىء، ثم يرفع فوقها طعامه، فإذا صعد إليه ليأكله وجده ملآن قمّلا، فما أصيبوا ببلاء كان أشدّ عليهم من القمّل؛ وأخذ القمل شعورهم وأشفار عيونهم وحواجبهم، ولصق بجلودهم كالجدرىّ، ومنعهم النوم والقرار، ولم يستطيعوا له حيلة. وقد اختلفوا فى القمّل ما هو؟ فروى عن أبى طلحة أنّه الذباب لا أجنحة له. وروى معمر عن قتادة قال: القمّل أولاد الجراد. وعن عبد الرحمن بن أسلم قال: هو البراغيث. وقال عطاء: هو القمّل؛ دليله قراءة الحسن: «والقمل» بفتح القاف وسكون الميم. وقال أبو عبيدة: هو الحمنان، وهو ضرب من القردان. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 201 وقال سعيد بن جبير عن ابن عبّاس- رضى الله عنهم-: القمّل، هو السوس الذى يخرج من الحنظة والحبوب، فكان الرجل يخرج عشرة أقفزة فلا يردّ منها إلّا ثلاثة أقفزة؛ فلما رأوا ذلك شكوا إلى موسى وصاحوا وقالوا: يأيّها الساحر أى أيّها العالم إنا نتوب إلى الله ولا نعود، فادع لنا ربّك يكشف عنا هذا البلاء. فدعا موسى ربه، فرفع الله تعالى عنهم القمّل بعد ما أقام عليهم سبعة أيّام من السبت إلى السبت، ثم نكثوا العهد، وعادوا إلى خبث أعمالهم، وقالوا: ما كنا قطّ أحقّ أن نستيقن أن موسى ساحر إلّا اليوم، فيجعل الرمل والرماد دوابّ، فعلى ماذا نؤمن به ونرسل معه بنى إسرائيل؟ فقد أهلك زرعنا وحروثنا، وأذهب أموالنا، فما عسى أن يفعل أكثر مما فعل، وعزّة فرعون لا نصدّقه أبدا ولا نتبعه. فدعا عليهم موسى بعد ما أقاموا شهرا فى عافية- وقيل أربعين يوما- فأوحى الله تعالى إليه وأمره أن يقوم على ضفّة النيل فيغرز عصاه فيه، ويشير بالعصا إلى أدناه وأقصاه وأعلاه وأسفله؛ ففعل موسى ذلك، فتداعت إليه الضفادع بالنّقيق من كلّ جانب حتى أعلم بعضها بعضا، وأسمع أدناها أقصاها؛ ثم خرجت من النيل مثل البحر تدبّ سراعا نحو باب المدينة، فدخلت عليهم فى بيوتهم بغتة، وامتلأت منها أفنيتهم وأبنيتهم وأطعمتهم؛ وكان أحدهم لا يكشف ثوبا ولا إناء ولا طعاما ولا شرابا إلّا وجد فيه ضفادع؛ وكان الرجل يجلس الى ذقنه فى الضفادع، ويهمّ أن يتكلّم فيثب الضفدع فى فيه؛ وكان أحدهم ينام على فراشه وسريره فيستيقظ وقد ركبته الضفادع ذراعا بعضها فوق بعض، وصارت عليه حتى لا يستطيع أن ينصرف إلى شقّه الأخر؛ وكان أحدهم يفتح فاه لأكلته فتستبق الضفادع إلى فيه؛ وكانوا لا يعجنون إلّا انشدخت فيه، ولا يطبخون إلا امتلات القدر بالضفادع؛ وكانت تثب فى نيرانهم فتطفئها، وفى طعامهم فتفسده؛ فلقوا منها أذّى شديدا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 202 وروى عن عكرمة عن ابن عبّاس- رضى الله عنهم- قال: كانت الضفادع برّيّة، فلمّا أرسلها الله على فرعون سمعت وأطاعت، فجعلت تقذف أنفسها فى القدر وهى تفور، وفى التنانير وهى مسجورة، فأثابها الله بحسن طاعتها برد الماء. قال: فضجّوا إلى فرعون من أمر الضفادع، وضاق عليهم أمرهم حتى كادوا يهلكون، وصارت المدينة وطرقها مملوءة جيفا من كثرة ما يطأونها بأقدامهم، فلما رأوا ذلك بكوا وشكوا ذلك إلى موسى، وقالوا: اكشف عنّا هذا البلاء فإنا نتوب هذه المرّة ولا نعوذ. فأخذ بذلك عهودهم ومواثيقهم، ثم دعا الله تعالى فكشف عنهم الضفادع، فما كان منها حيّا لحق بالنيل؛ وأرسل الله تعالى ريحا على الميت منها فنحّته عن مدينتهم بعد ما قامت عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت فأقاموا شهرا فى عافية؛ وقيل: أربعين يوما. ثم نقضوا العهود وعادوا إلى كفرهم وتكذيبهم؛ فدعا عليهم موسى، فأرسل الله تعالى عليهم الدم، وذلك أنّ الله تعالى أمر موسى أن يذهب إلى شاطئ النيل ويضربه بعصاه؛ ففعل ذلك، فسال النيل عليهم دما، وصارت مياههم كلّها دما عبيطا، فما يشربون من الأنهار والآبار إلّا وجدوا دما أحمر عبيطا؛ فشكوا ذلك إلى فرعون وقالوا؛ إنّا قد ابتلينا بهذا الدم، وليس لنا شراب. فقال: إنّه قد سحركم. فكان يجمع بين الرجلين على الإناء: القبطىّ والإسرائيلىّ فيسقيان من ماء واحد، فيخرج ماء القبطى دما، وماء الإسرائيلىّ عذبا؛ وكانا يقومان إلى الجرّة فيها الماء، فتخرج للإسرائيلىّ ماء وللقبطىّ دما، حتى إنّ المرأة من آل فرعون كانت تأتى المرأة من بنى إسرائيل حين جهدهم العطش فتقول: اسقينى من مائك. فتغرف لها من جرّتها، وتصبّ لها من قربتها، فيعود فى الإناء دما، حتى إن كانت المرأة تقول لها: اجعليه فى فيك الجزء: 13 ¦ الصفحة: 203 ثم مجيّه فى فمى. فتأخذ فى فيها ماء، فإذا مجّته فى فيها صار دما، والنيل على ذلك يسقى الزرع والشجر؛ فإذا ذهبوا ليستقوا من بين الزرع عاد الماء دما عبيطا. قالوا: وإنّ فرعون اعتراه العطش فى تلك الأيّام، حتى إنه اضطر إلى مضغ الأشجار الرطبة، فكان إذا مضغها يصير ماؤها فى فيه ملحا أجاجا ومرّا زعاقا؛ فمكثوا فى ذلك سبعة أيّام لا يأكلون ولا يشربون إلّا الدم؛ فقالوا لموسى: ادع لنا ربّك يكشف عنا هذا الدم فنؤمن لك ونرسل معك بنى إسرائيل. فدعا موسى ربّه فكشف عنهم ذلك، وأمر أن يضرب بعصاه النيل ضربة أخرى؛ ففعل فتحوّل صافيا كما كان، فلم يؤمنوا ولم يفوا بما عاهدوا عليه، وذلك قوله تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ. وقال نوف البكالىّ- وهو ابن امرأة كعب الأحبار-: مكث موسى فى آل فرعون عشرين سنة بعد ما غلب على السحرة يريهم الآيات: الجراد والقمّل والضّفادع والدم. وقال الضحّاك: لمّا يئس موسى من إيمان فرعون وقومه، ورأى أنهم لا يزدادون إلا الطغيان والكفر والتمادى، دعا عليهم موسى وأمّن هارون. رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ. فأجاب الله دعاءه، كما قال تعالى: قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما الآية. قال: وكان لفرعون وأصحابه من زهرة الدنيا وزينتها من الذهب والفضّة واليواقيت وأنواع الجواهر والحلىّ ما لا يحصيه إلا الله تعالى؛ وكان أصل ذلك المال مما جمعه يوسف- عليه السلام- فى زمانه أيّام القحط، فبقى ذلك الجزء: 13 ¦ الصفحة: 204 فى أيدى القيط، فأوحى الله تعالى إلى موسى: أنّى مورث بنى إسرائيل ما فى أيدى آل فرعون من العروض والحلىّ، وجاعله لهم جهازا وعتادا إلى الأرض المقدّسة فاجعل لذلك عيدا تعتكف عليه أنت وقومك تشكروننى وتذكروننى فيه وتعظّموننى ذلك اليوم، وتعبدوننى فيه لما أريكم من الظّفر ونجاة الأولياء وهلاك الأعداء واستعيروا لعيدكم من آل فرعون الحلىّ وأنواع الزينة، فإنّهم لا يمتنعون عليكم للبلاء الحالّ بهم فى ذلك الوقت، ولما قذفت لكم فى قلوبهم من الرعب. ففعل موسى ذلك كما أمره الله تعالى، فأمر فرعون بزينة أهله وولده وما كان فى خزائنه من أنواع الحلىّ، فأعيرت بنى إسرائيل لما أراد الله تعالى بذلك أن يفىء على موسى وقومه أفضل أموال أعدائه بغير قتال ولا إيجاف خيل ولا رجل؛ فلمّا دعا موسى عليهم مسخ الله تعالى الأموال الّتى بقيت فى أيديهم حجارة حتى النخل والرقيق. وقال محمد بن كعب: سألنى عمر بن عبد العزيز عن الآيات الّتى أراهن الله تعالى فرعون وقومه؛ فقلت: الطّوفان والجراد والقمّل والضفادع والدم والعصا واليد البيضاء والطّمس وفلق البحر. قال عمر: كيف يكون الفقه إلّا هكذا. ثم دعا بخريطة فيها أشياء ممّا كان أصيب لعبد العزيز بن مروان لمّا كان على مصر من بقايا آل فرعون، فأخرج البيضة مقسومة نصفين كأنّها الحجر، والجوزة مشقوقة نصفين وكأنها الحجر، والحمّصة والعدسة. وروى ابن إسحاق عن رجل من أهل الشأم كان بمصر قال: ورأيت نخلة مصروعة كأنها الحجر. قال: ورأيت إنسانا وما شككت أنه إنسان وإنّه لحجر؛ وكان المسخ فى أرقائهم دون أحرارهم، إذ العبيد من جملة أموالهم؛ فلم يبق لهم مال إلّا مسخه الله تعالى ما خلا الذى فى أيدى بنى إسرائيل من الحلىّ والجواهر وأنواع الزينة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 205 قال ابن عبّاس- رضى الله عنهما-: أوّل الايات العصا، وآخرها الطمس؛ وبلغنا أن الدنانير والدراهم صارت حجارة منقوشة كهيئتها صحاحا وأنصافا وأثلاثا، وجعل سكّرهم حجارة، وبعض المسخ من الآدميين باق مشاهد إلى وقتنا هذا، وقد شاهدت أنا منه شخصا شكل خادم وهو جالس على كرسىّ بقرب البيت الأخضر ببلاد الجيزية، وذلك فى شهور سنة سبع عشرة وسبعمائة، ولعلّه من ذلك المسخ؛ والله أعلم. ذكر خبر قتل الماشطة قال: وكانت لبنات فرعون ماشطة- وهى امرأة حزقيل المؤمن- فبينما هى تمشط إحدى بناته إذ سقط المشط من يدها، فقالت: تعس من كفر بالله. فقالت لها ابنة فرعون: إنما تريدين من كفر بأبى. فقالت: إنّما عنيت من كفر بإله موسى. فقامت إلى أبيها وأخبرته؛ فغضب وأحضرها وقال: ما الّذى بلغنى عنك؟ قالت: صدقوا، أنا مؤمنة بإله موسى، فاقض ما أنت قاض. فشدّها إلى أوتاد من حديد، وأحضر أولادها الثلاثة، وعرض عليها أن تؤمن به؛ فأبت، فذبحهم على صدرها وهى تحمد الله تعالى؛ ثم طرحها فى تنور من نحاس وأحرقها فيه وأحرق أولادها. ذكر خبر قتل آسية بنت مزاحم امرأة فرعون قال: لما قتل فرعون الماشطة، سمعت آسية الملائكة تعدها بالجنة، فقامت من مجلسها وهى تقول: يا إله موسى ألبسنى الصبر وارزقنى الشهادة وابن لى عندك بيتا فى الجنّة ونجّنى من فرعون وعمله ونجّنى من القوم الظّالمين، وخرجت على فرعون وهى حاسرة عن وجهها، وقالت له: يا ملعون، الى كم تقتل أولياء الله الجزء: 13 ¦ الصفحة: 206 وتأكل رزق الله وتكفر نعمته ولا تشكره، وترى آياته ولا تعتبر بها؟ فقال لوزرائه: قد أفسد علىّ موسى حتّى آسية؛ واستشارهم فى أمرها؛ فأشاروا عليه بقتلها، فأمر بنزع ما عليها؛ وشدّها إلى أوتاد فى الأرض، وضرب وتدين فى صدرها فماتت- رضى الله عنها-. ذكر خبر انقطاع النيل وكيف أجراه الله عزّ وجلّ لفرعون قال الكسائىّ: ثم بعث الله تعالى الظّلمة على أهل مصر ثلاثة أيام، فلم يعرفوا اللّيل من النهار، وانقطع عنهم النيل حتى أضرّبهم العطش؛ فشكوا ذلك إلى فرعون فأمر بجمع الجنود وخرج ليجريه؛ فلمّا قرب من مكانه انفرد عن القوم ونزل عن فرسه وقال: إلهى إنك إله السماء والأرض لا إله إلا أنت، وحلمك الذى يحملنى أن أسألك ما ليس لى بحق، والخلق خلقك، وقد علمت ما هم فيه من العطش وأنت المتكفّل بأرزاقهم؛ اللهم أجر لهم النيل. فما فرغ من كلامه حتى انصبّ النيل، وركب فرسه والنيل يجرى معه إن سار سار وإن وقف وقف، حتى دخل مصر، فسجد القوم له، وازدادوا كفرا؛ وعجب موسى وهارون لذلك. ذكر خبر غرق فرعون وقومه قال الكسائىّ: ولما رجع فرعون بجنوده وقد أجرى لهم النيل بزعمهم، دخل عليه جبريل فى صورة آدمىّ حسن الهيئة، فقال له: من أنت؟ قال: عبد من عبيد الملك جئتك مستعديا على عبد من عبيدى مكّنته من نعمتى، وأحسنت إليه كثيرا، فاستكبر وبغى وجحدنى حقّى وتسمّى باسمى، وادّعى فى جميع ما أنعمت عليه به أنّه له، وأنّه لا منعم عليه به. قال فرعون: بئس ذلك من العبيد. قال جبريل: فما جزاؤه عندك؟ قال: يغرق فى هذا البحر. فقال له جبريل: أسألك الجزء: 13 ¦ الصفحة: 207 أن تكتب لى خطّك بذلك. فكتب له فرعون خطّا، وأخذه جبريل وجاء به إلى موسى، وأمره عن الله عزّ وجلّ أن يرتحل بقومه عن مصر؛ فنادى موسى فى بنى إسرائيل وأمرهم بالرحيل؛ فارتحلوا وهم يومئذ ستّمائة ألف. قال الثعلبىّ: ستّمائة ألف وعشرون ألفا لا يعدّ فيهم ابن سبعين سنة ولا ابن عشرين سنة؛ ولكنّ هؤلاء المقاتلة سوى الذريّة. وأهل التوراة يقولون: إنه لا يعدّ فيهم ابن خمسين سنة ولا ابن عشرين سنة، لا خلاف عندهم فى هذا ويزعمون أنه نصّ التوراة. قال الكسائىّ: فلما سمع فرعون بارتحالهم أمر باجتماع جنوده؛ قال الله تعالى: فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ* إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ* وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ* وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ . فاجتمعوا وهم لا يحصون كثرة. قيل: إنّ هامان كان على مقدّمة فرعون بألف ألف وستّمائة ألف. وقال الثعلبىّ: ألف ألف وسبعمائة ألف رجل على ألف ألف وسبعمائة ألف حصان. قال: وقال ابن جريح: أرسل فرعون فى أثر موسى وقومه ألف ألف وخمسمائة ألف ملك مسوّر، مع كل ملك ألف رجل؛ ثم خرج فرعون خلفهم فى الدّهم، وكان فى عسكره مائة ألف حصان أدهم سوى سائر الشّيات، وذلك حين طلعت الشمس وأشرقت؛ قال الله تعالى: (فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ) . قال الكسائىّ: وساروا حتى قربوا من موسى ومن معه، فقالوا: يا موسى، قد لحقنا فرعون بجنوده، والبحر أمامنا والسيف وراءنا. قال كلّا إنّ معى ربّى سيهدين. فأوحى الله تعالى إلى موسى: أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فضربه فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ . وصار فيه اثنا عشر طريقا للأسباط الأثنى عشر الجزء: 13 ¦ الصفحة: 208 فجعلوا يسيرون وموسى أمامهم وهارون وراءهم، وجعل الله بينهم فتحا ليرى بعضهم بعضا، وجاء فرعون ومن معه إلى البحر ورأى تلك الطرق فيه، فقال لهامان: هذه تفرّقت من هيبتى. وقصد الافتحام فلم يطاوعه فرسه- وكان حصانا- ونفر من العبور؛ فأتاه جبريل على رمكة فى صورة آدمىّ، فدنا من فرعون وقال: ما يمنعك من العبور؟ وتقدّم إلى جنبه، فاشتمّ فرس فرعون رائحة الرّمكة فتبعها ودخل فرعون وجنوده وجبريل أمامهم وميكائيل يسوق الناس، حتى لم يبق من جنود فرعون أحد على الساحل، فجاءه جبريل بخطّه؛ فلما رآه فرعون علم أنه هالك وانضمّت الطرق، وأغرق الناس، وفرعون ينظر إليهم؛ قال الله تعالى: حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ . فقال له جبريل: الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين. ثم غرق فرعون وجميع من معه وبنو إسرائيل ينظرون إليهم؛ ثم قال: بنو إسرائيل: إنّ فرعون لم يغرق. فأمر الله تعالى البحر فألقاه على الساحل. قال الله تعالى: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً. قال: فلمّا عبر موسى البحر ببنى إسرائيل إلى الطّور، إذا هم فى طريقهم بقوم يعبدون الأصنام، قال الله تعالى: وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ* إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. ثم قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضّلكم على العالمين، وذكّرهم بنعم الله تعالى عليهم، وأمرهم بالتوبة والاستغفار؛ ثم ساروا وفى قلوبهم حبّ الأصنام حتى قربوا من الطّور. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 209 ذكر خبر ذهاب موسى- عليه السلام- لميقات ربه وطلبه الرؤية وخبر الصاعقة والإفاقة حكى أبو إسحاق الثعلبىّ فى تفسير قوله تعالى: وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً. قال: كان ذلك فى شهر ذى القعدة وعشر من ذى الحجّة. قال: وذلك أنّ موسى- عليه السلام- كان قد وعد بنى إسرائيل وهو بمصر إذا خرجوا منها وهلك عدوّهم أن يأتيهم بكتاب فيه ما يأتون وما يذرون؛ فلمّا أهلك الله تعالى فرعون وقومه واستنقذ بنى إسرائيل من أيديهم، وأمّنهم من عدوّهم، ولم يكن لهم كتاب ولا شريعة ينتهون إليها، قالوا: يا موسى ائتنا بالكتاب الذى وعدتنا به. فسأل موسى ربّه تعالى ذلك؛ فأمره أن يصوم ثلاثين ليلة ثم يتطهّر «1» ويطهّر ثيابه ويأتى طور سيناء ليكلّمه ويعطيه الكتاب؛ فصام ثلاثين يوما؛ فلمّا صعد الجبل أنكر خلوف فمه، فاستاك بعود خرنوب. وقال أبو العالية: أخذ من لحاء الشجر فمصّه؛ فقالت له الملائكة: كنا نشمّ من فمك رائحة المسك فأفسدته بالسواك. فأوحى الله تعالى إليه أن صم عشرة أيّام أخر، وقال له: أما علمت يا موسى أنّ خلوف فم الصائم أطيب عندى من ريح المسك؟ قال: وكانت فتنة بنى إسرائيل فى العشر ليالى التى زادها الله تعالى؛ فلما مضت أربعون ليلة تطهّر موسى وطهّر ثيابه لميقات ربّه؛ فلمّا أتى طور سيناء كلّمه ربّه وناجاه، وقرّبه وأدناه، كما قال تعالى: وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 210 قال وهب: كان بين الله تعالى وبين موسى سبعون حجابا، فرفعها كلها إلّا حجابا واحدا، فسمع موسى كلام الله تعالى واشتاق إلى رؤيته وطمع فيها، فقال ما أخبر الله- عزّ وجلّ- به عنه فى كتابه، قال الله تعالى: وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ . فقال الله تعالى له: لَنْ تَرانِي وليس يطيق البشر النظر إلىّ فى الدنيا، من نظر إلىّ مات. قال: إلهى سمعت كلامك فاشتقت إلى النظر إليك، ولأن أنظر إليك ثم أموت أحبّ إلىّ من أن أعيش ولا أراك. فقال له تعالى: انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ وهو أعظم جبل يقال له: (الزّبير) . قال: وذلك أنّ الجبال لمّا علمت أن الله تعالى يريد أن يتجلّى لجبل منها تعاظمت وتشامخت رجاء أن يتجلّى الله تعالى لها، وجعل الزّبير يتواضع من بينها فلما رأى الله تعالى تواضعه رفعه من بينها، وخصّه بالتجلّى، قال الله تعالى: وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي . فتجلّى الله تعالى للجبل. قال: واختلف العلماء فى معنى التجلّى؛ قال ابن عباس: ظهر نوره للجبل. وقال الضحّاك: أظهر الله تعالى من نور الحجب مثل منخر الثور. وقال عبد الله بن سلام وكعب: ما تجلّى من عظمة الله تعالى للجبل إلّا مثل سمّ الخياط حتى صار دكّا. وقال السدّىّ: ما تجلّى منه إلّا قدر الخنصر. وقال الحسن: أوحى الله تعالى إلى الجبل فقال: هل تطيق رؤيتى؟ فغار الجبل وساخ فى الأرض وموسى ينظر إليه حتى ذهب أجمع. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 211 قال أبو إسحاق: قال أبو بكر محمد بن عمر الورّاق: حكى لى عن سهل بن سعد الساعدىّ أنّ الله تعالى أظهر من سبعين ألف حجاب نورا قدر درهم، فجعل الجبل دكّا. قال أبو بكر: فعذب إذ ذاك كلّ ماء، وأفاق كلّ مجنون، وبرأ كلّ مريض وزال الشوك عن الأشجار، واخضرّت الأرض واهتزّت. وخمدت نيران المجوس وخرّت الأصنام لوجوهها. وقال السّدّىّ: ما تجلّى للجبل إلّا مقدار جناح بعوضة، فصار الجبل دكّا. قال ابن عباس- رضى الله عنهما-: ترابا. وقال سفيان: ساخ حتى وقع فى البحر. وقال عطية العوفىّ: صار رملا هائلا. وقال الكلبىّ: جَعَلَهُ دَكًّا ، أى كسّر جبالا صغارا. وعن أنس بن مالك- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم-: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا قال: صار بعظمة الله ستّة أجبل، فوقعت ثلاثة بالمدينة: أحد، وورقان «1» ، ورضوى «2» . ووقعت ثلاثة بمكّة: ثور، وثبير وحراء. وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً . قال ابن عبّاس- رضى الله عنهما-: مغشيّا عليه. وقال قتادة: ميّتا. وقال الكلبىّ: خرّ موسى صعقا: يوم الخميس يوم عرفة، وأعطى التوراة يوم الجمعة يوم النحر. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 212 قال الواقدىّ: لمّا خرّ موسى صعقا قالت الملائكة: ما لابن عمران وسؤال الرؤية. قال وهب: لما سأل موسى الرؤية أرسل الله تعالى الضّباب والصواعق والظّلمة والرعد والبرق فأحاطت بالجبل الّذى عليه موسى، وأمر الله تعالى ملائكة السموات أن يعرضوا على موسى أربعة فراسخ من كلّ ناحية؛ فمرّت ملائكة سماء الدنيا كثيران البقر، تتابع أفواههم التقديس والتسبيح بصوت عظيم كصوت الرعد الشديد؛ ثم أمر الله تعالى ملائكة السماء الثانية: أن اهبطوا على موسى. فهبطوا عليه مثل أسد لهم نحيب بالتسبيح والتقديس؛ ففزع موسى مما رأى وسمع واقشعرّ جلده، ثم قال: ندمت على مسألتى، فهل ينجينى من مكانى الّذى أنا فيه شىء؟ فقال له حبر الملائكة ورأسهم: يا موسى اصبر لما رأيت، فقليل من كثير رأيت. ثم هبطت ملائكة السماء الثالثة كأمثال النسور، لهم قصف ورجف بالتسبيح والتهليل والتقديس كجلب الجيش العظيم وكلهب النار؛ ثم هبطت عليه ملائكة السماء الرابعة لا يشبههم شىء من الّذين مرّوا به قبلهم، ألوانهم كلهب النار، وسائر خلقهم كالثلج الأبيض، أصواتهم عالية بالتسبيح والتقديس لا يقاربهم شىء من أصوات الّذين مرّوا به قبلهم؛ ثم هبطت عليه ملائكة السماء الخامسة فى سبعة ألوان، فلم يستطع موسى أن يتبعهم الطّرف، لم ير مثلهم ولا سمع مثل أصواتهم، وامتلأ جوف موسى فزعا، واشتدّ حزنه وكثر بكاؤه؛ ثم قال له حبر الملائكة ورأسهم: يابن عمران، مكانك حتّى ترى ما لا تصبر عليه؛ ثم أمر الله تعالى ملائكة السماء السادسة أن اهبطوا على عبدى الّذى أراد أن يرانى؛ فعرضوا عليه وفى يد كلّ منهم حربة مثل النخلة الطويلة، نارها أشدّ ضوءا من الشمس، ولباسهم كلهب النّيران، إذا سبّحوا وقدّسوا جاوبهم من كان قبلهم الجزء: 13 ¦ الصفحة: 213 من ملائكة السموات، كلّهم يقولون بشدّة أصواتهم: سبّوح قدّوس ربّ العزّة أبدا لا يموت. وفى رأس كل ملك منهم أربعة أوجه؛ فلمّا رآهم رفع صوته يسبّح معهم ويبكى ويقول: ربّ اذكرنى ولا تنس عبدك، لا أدرى هل أتخلّص مما أنا فيه أم لا، إن خرجت احترقت وإن مكثت مت. فقال له كبير الملائكة ورئيسهم: قد أوشكت يا بن عمران أن يشتدّ خوفك وينخلع قلبك، فاصبر للذى سألت. ثم أمر الله تعالى أن يحمل عرشه فى ملائكة السماء السابعة، فقال: أروه إيّاه. فلما بدا نور العرش انفرج الجبل من عظمة ربّ العزّة، وردّدت ملائكة السموات أصواتهم جميعا؛ فارتج الجبل، واندكت كلّ شجرة كانت فيه، وخرّ موسى صعقا ليس معه روحه؛ فقلب الله تعالى الحجر الذى كان موسى عليه وجعله كهيئة القبّة لئلّا يحترق موسى؛ وأرسل الله عليه روح الحياة برحمته؛ فقام موسى يسبّح الله تعالى ويقول: آمنت أنّك ربّى وصدّقت أنه لا يراك أحد، فنجّنى، ومن نظر إلى ملائكتك انحلع قلبه، فما أعظمك وأعظم ملائكتك! أنت ربّ الأرباب وإله الآلهة وملك الملوك، لا يعدلك شىء، ولا يقوم لك شىء، تبت إليك، الحمد لك لا شريك لك ربّ العالمين. ذكر خبر الألواح ونزول التوراة والعشر كلمات قال الله تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ* قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ* وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 214 قال الثعلبىّ: ثم بعث الله جبريل- عليه السلام- إلى جنّة عدن فقطع منها شجرة، فاتخذ منها تسعة ألواح، طول كلّ لوح عشر أذرع بذراع موسى، وكذلك عرضه، وكانت الشجرة من زمرّد أخضر؛ ثم أمر الله تعالى جبريل أن يأتيه بسبعة أغصان من سدرة المنتهى؛ فجاء بها، فصارت جميعا نورا، وصار «1» النور قلما طاف فيما بين السماء والأرض فكتب التوراة، وموسى يسمع صرير القلم؛ فكتب الله تعالى له فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وذلك يوم الجمعة، فأشرقت الأرض بالنور؛ ثم أمر الله تعالى موسى أن يأخذها بقوّة ويقرئها قومه؛ فوضعت الألواح على السماء فلم تطق حملها لنقل العهود والمواثيق؛ فقالت: يا ربّ كيف أطيق حمل كتابك الكريم الثقيل المبارك؟ وهل خلقت خلقا يطيق حمل ذلك؟ فبعث الله تعالى جبريل وأمره أن يحمل الألواح فيبلغها موسى، فلم يطق حملها، فقال: يا ربّ من يطيق حمل هذه الألواح بما فيها من النور والبيان والعهود؟ وهل خلقت خلقا يطيق حملها؟ فأمدّه الله تعالى بملائكة يحملونها بعدد كلّ حرف من التوراة؛ فحملوها حتى بلّغوها موسى؛ فعرضوا له الألواح على الجبل، فانصدع الجبل وخشع، وقال: يا ربّ من يطيق حمل هذه الألواح بما فيها؟ فلمّا وضعتها الملائكة على الجبل بين يدى موسى- وذلك عند صلاة العصر- قبض موسى عليها فلم يطق حملها، فلم يزل يدعو حتّى هيأ الله تعالى له حملها؛ فحملها، فذلك قوله تعالى: يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ. قال: وأمّا العشر كلمات الّتى كتبها الله تعالى لنبيّه موسى فى الألواح- وهى معظم التوراة، وعليها مدار كلّ شريعة- فهى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* ، هذا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 215 كتاب من الله الملك الجبّار العزيز القهار لعبده ورسوله موسى بن عمران، سبّحنى وقدّسنى، لا إله إلّا أنا فآعبدنى ولا تشرك بى شيئا، واشكر لى ولوالديك إلىّ المصير، أحيك حياة طيّبة؛ ولا تقتل النفس الّتى حرّم الله عليك فتضيق عليك السماء بأقطارها والأرض برحبها؛ ولا تحلف باسمى كاذبا فإنّى لا أطهّر ولا أزكّى من لم يعظّم اسمى؛ ولا تشهد بما لا يعى سمعك ولا تنظر عينك ولم يقف قلبك عليه فإنى أقف أهل الشهادات على شهاداتهم يوم القيامة، وأسائلهم عنها؛ ولا تحسد الناس على ما آتيتهم من فضلى ورزقى، فإنّ الحاسد عدوّ لنعمتى، ساخط لقسمتى؛ ولا تزن ولا تسرق فأحجب عنك وجهى، وأغلق دون دعوتك أبواب السموات؛ ولا تذبح لغيرى، فإنه لا يصعد إلىّ من قربان الأرض إلّا ما ذكر عليه اسمى؛ ولا تغدرنّ بحليلة جارك فإنّه أكبر مقتا عندى؛ وأحبّ للناس ما تحبّ لنفسك. فهذه العشر كلمات؛ وقد أنزل الله- عزّ وجلّ- على نبيّنا محمد- صلّى الله عليه وسلّم- مثلها فى ثمانى عشرة آية، وهى قوله تعالى فى سورة بنى إسرائيل: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً* وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً* رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً* وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً* إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً* وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً* وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً* إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً* وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 216 خِطْأً كَبِيراً* وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا* وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً* وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا* وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا* وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا* وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا* كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً* ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً ثم جمعها فى آيتين من سورة الأنعام، وهى قوله تعالى: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. وقد روى أبو إسحاق الثعلبىّ- رحمه الله- عن ابن عبّاس- رضى الله عنهما- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لمّا أعطى الله موسى الألواح نظر فيها وقال: يا ربّ لقد أكرمتنى بكرامة لم تكرم بها أحدا قبلى. قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 217 وأخرج «1» الحافظ: تموت على حبّ محمد عليه السلام. قال موسى: يا ربّ وما محمد؟ قال: أحمد الذى أثبتّ اسمه على عرشى من قبل أن أخلق السموات والأرض بألفى عام، وإنه لنبيّى وحبيبى وخيرتى من خلقى، هو أحبّ إلىّ من جميع خلقى ومن جميع ملائكتى. قال: يا ربّ إن كان محمد أحبّ إليك من جميع خلقك فهل خلقت أمّة أكرم عليك من أمّتى.؟ قال الله تعالى: إنّ فضل أمّة محمد- عليه السلام- على سائر الأمم كفضله على سائر الخلق. قال: يا ربّ ليتنى رأيتهم. قال: إنّك لن تراهم، ولو أردت أن تسمع كلامهم لسمعت. قال: يا ربّ فإنّى أريد أن أسمع كلامهم. قال: يا أمّه محمد. فأجبنا كلّنا من أصلاب آبائنا وأرحام أمّهاتنا: لبّيك اللهمّ لبّيك لا شريك لك. قال الله تعالى: يا أمّة محمد. إنّ رحمتى سبقت غضبى، وعفوى عقابى، قد أعطيتكم من قبل أن تسألونى، وقد أجبتكم من قبل أن تدعونى، وقد غفرت لكم من قبل أن تعصونى، من جاء يوم القيامة يشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمدا عبدى ورسولى دخل الجنة ولو كانت ذنوبه أكثر من زبد البحر. وهذا قوله تعالى: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ. وروى الثعلبىّ أيضا بسند رفعه إلى (كعب الأحبار) أنّه رأى حبرا من أحبار اليهود يبكى، فقال له: ما يبكيك.؟ فقال له: ذكرت بعض الأمر. فقال كعب: أنشدك الله إن أخبرتك بما أبكاك أتصدّقنى؟ قال: نعم. قال: أنشدك الله هل تجد فى كتاب الله المنزل أنّ موسى نظر فى التوراة فقال: إنى أجد أمّة هى خير أمّة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، يؤمنون بالكتاب الأوّل الجزء: 13 ¦ الصفحة: 218 وبالكتاب الآخر، ويقاتلون أهل الضلالة حتى يقاتلوا الأعور الدجّال. فقال موسى: يا ربّ اجعلهم أمّتى. قال: هى أمّة أحمد يا موسى. فقال له الحبر: نعم. قال كعب: أنشدك بالله هل تجد فى كتاب الله المنزّل أنّ موسى نظر فى التوراة فقال: إنى أجد أمّة هم الحامدون، الرّعاة الشّمس «1» المحكّمون، إذا أرادوا أمرا قالوا: «نفعله إن شاء الله تعالى» فاجعلهم أمّتى. قال: هى أمّة أحمد يا موسى. قال له الحبر: نعم. قال: أنشدك الله هل تجد فى كتاب الله المنزّل أنّ موسى نظر فى التوراة فقال: ربّ إنّى أجد أمّة يأكلون كفّاراتهم وصدقاتهم. قال: «وكان الأوّلون يحرقون صدقاتهم بالنار، غير أنّ موسى كان يجمع صدقات بنى إسرائيل فلا يجد عبدا مملوكا ولا أمة إلّا اشتراه ثم أعتقه من تلك الصدقة وما فضل حفر له حفيرة عميقة وألقاه فيها، ثم دفنه كيلا يرجعوا فيه» وهم المسبّحون والمسبّح لهم، وهم الشافعون والمشفّع لهم. قال موسى: يا ربّ اجعلهم أمّتى. قال: هم أمّة أحمد يا موسى. قال الحبر: نعم. قال كعب: أنشدك الله أتجد فى التوراة أنّ موسى نظر فى التوراة فقال: إنّى أجد أمّة إذا أشرف أحدهم على شرف كبّر الله تعالى، وإذا هبط واديا حمد الله تعالى؛ الصعيد لهم طهور والأرض لهم مسجد حيثما كانوا، يتطهّرون من الجنابة، طهورهم بالصعيد كطهورهم بالماء حين لا يجدون الماء؛ غرّ محجّلون من آثار الوضوء، فآجعلهم أمّتى. قال: هى أمّة أحمد يا موسى. قال الحبر: نعم. قال كعب: أنشدك الله هل تجد فى كتاب الله المنزل أنّ موسى نظر فى التوراة فقال: يا ربّ إنّى أجد أمّة إذا همّ أحدهم بحسنة ولم يعملها تكتب له، فإن عملها ضوعفت عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وإذا همّ بسيئة ولم يعملها لم تكتب عليه، وإن عملها تكتب عليه الجزء: 13 ¦ الصفحة: 219 سيّئة مثلها. فاجعلهم أمتى. قال: هى أمّة أحمد يا موسى. قال الحبر: نعم. قال كعب: أنشدك الله أتجد فى كتاب الله المنزّل أنّ موسى نظر فى التوراة فقال: ربّ إنّى أجد أمّة مرحومة ضعفاء «يرثون «1» الكتاب الّذين اصطفينا» فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ فلا أجد أحدا منهم إلّا مرحوما فاجعلهم أمتى. قال: هى أمّة أحمد يا موسى. قال الحبر: نعم. قال كعب: أنشدك الله هل تجد فى كتاب الله المنزّل أنّ موسى نظر فى التوراة فقال: يا ربّ إنّى أجد أمّة مرحومة، مصاحفهم فى صدورهم، يلبسون ألوان ثياب أهل الجنّة يصفّون فى صلاتهم صفوفا كصفوف الملائكة؛ أصواتهم فى مساجدهم كدوىّ النحل، لا يدخل النار منهم أحد إلّا من الحساب مثل ما يرمى الحجر من وراء الشجر. فاجعلهم أمتى. قال: هى أمّة أحمد يا موسى. قال الحبر: نعم. قال: فعجب موسى من الخير الذى أعطاه الله محمدا وأمّته، وقال: يا ليتنى من أصحاب محمد. فأوحى الله تعالى إليه ثلاث آيات يرضيه بهنّ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي إلى قوله: دارَ الْفاسِقِينَ وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ. قال: فرضى موسى كلّ الرضا. ولنصل هذا الفصل بما ورد فى تفسير قوله تعالى: سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ وقوله: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ. قال الثعلبىّ: قال أهل المعانى: هذا كقول القائل لمن يخاطبه: «سأريك غدا إلى ما تصير إليه حال من يخالف أمرى» على وجه الوعيد والتهديد. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 220 وقال مجاهد: سأريكم دار الفاسقين، يعنى مصيرهم فى الآخرة. وقال الحسن: جهنّم. وقال قتادة وغيره: سأدخلكم الشأم فأريكم منازل الكافرين الذين هم سكّانها من الجبابرة والعمالقة. وقال عطيّة العوفىّ: معناه سأريكم دار فرعون وقومه، وهى مصر. قال أبو العالية: رفعت مصر لموسى حتّى نظر إليها. وقال السدّىّ: دار الفاسقين: مصارع الفاسقين، ما يمرّون عليه إذا سافروا من منازل عاد وثمود والقرون الذين أهلكوا. وقال ابن كيسان: دار الفاسقين، يعنى إلى ما يصير قرارهم فى الأرض. وقيل: الدار الهلاك، وجمعه أدوار؛ وذلك أن الله تعالى لمّا أغرق فرعون وقومه أمر البحر أن يقذف أجسادهم إلى الساحل؛ ففعل، فنظر إليهم بنو إسرائيل، فأراهم هلاك الفاسقين. وقال يمان: يعنى مسكن فرعون. وأما ما ورد فى تفسير قوله تعالى: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ. قوله تعالى: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى ، يعنى بنى إسرائيل أُمَّةٌ جماعة يَهْدُونَ بِالْحَقِ ، أى يرشدون إلى الحق. وقيل: معناه يهتدون ويستقيمون عليه ويعملون به وَبِهِ يَعْدِلُونَ أى ينصفون من أنفسهم لا يجورون. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 221 قال السدّىّ: هم قوم بينكم وبينهم نهر من شهد. وقال ابن جريح: بلغنى أن بنى إسرائيل لمّا قتلوا أنبياءهم وكفروا- وكانوا اثنى عشر سبطا- تبرّأ سبط منهم؛ واعتذروا وسألوا الله تعالى أن يفرّق بينهم وبينهم، ففتح الله تعالى لهم نفقا فى الأرض، فساروا فيه سنة ونصفا حتى خرجوا من وراء الصّين؛ فهم هناك حنفاء مسلمون مستقبلون قبلتنا. قال الكلبىّ وربيع والضّحاك وعطاء: هم قوم من المغرب خلف الصين على نهر يحوى «1» الرمل يسمى نهر أوران «2» ، وليس لأحدهم مال دون صاحبه؛ يمطرون بالليل، ويصحون بالنهار ويزرعون، لا يصل إليهم منّا أحد ولا منهم إلينا وهم على الحقّ. قال: وذكر عن النبىّ- صلّى الله عليه وسلّم- أن جبريل ذهب به ليلة أسرى به إليهم؛ فكلّمهم؛ فقال لهم جبريل: هل تعرفون من تكلّمون؟ قالوا: لا. قال: هذا محمّد النبىّ الأمّىّ. فآمنوا به وقالوا: يا رسول الله، إن موسى أوصانا وقال: من أدرك منكم أحمد فليقرأ منّى عليه السلام. فردّ رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- على موسى وعليهم السلام؛ ثم أقرأهم عشر سور من القرآن نزلت بمكة ولم تكن نزلت فريضة سوى الصلاة والزكاة، فأمرهم بالصلاة والزكاة، وأمرهم أن يقيموا مكانهم، وكانوا يسبتون، فأمرهم أن يجمعوا ويتركوا السبت. حكاه أبو إسحاق الثعلبىّ فى تفسيره. نرجع إلى تتمّة أخبار موسى- عليه السلام-. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 222 ذكر خبر السامرى واتخاذه العجل وافتتان بنى إسرائيل به قال الكسائىّ والثعلبىّ وغيرهما من أهل السير ما مختصره ومعناه: إن موسى- عليه السلام- لمّا توجّه إلى البقعة المباركة الّتى كلّمة الله تعالى فيها لميقات ربّه، استخلف أخاه هارون على بنى إسرائيل، وكان السامرىّ فيهم. واختلف فيه، فقال قتادة والسدّىّ: كان السامرىّ من عظماء بنى إسرائيل من قبيلة يقال لها: (سامرة) «1» ولكنه عدوّ لله منافق. وقال سعيد: كان السامرىّ من (كرمان) . وقال غيرهم: كان رجلا صائغا من أهل باجرما، واسمه ميخا. وقال ابن عبّاس- رضى الله عنهما-: اسمه موسى بن ظفر، وكان رجلا منافقا وقد أظهر الإسلام؛ وكان من قوم يعبدون البقر، فدخل قلبه حبّ البقر، فلما ذهب موسى- عليه السلام- لميقات ربّه- وكان قد واعد قومه ثلاثين ليلة فأتمّها الله بعشر، كما أخبر الله عزّ وجلّ- فعدّ بنو إسرائيل ثلاثين، فلمّا لم يرجع إليهم موسى افتتنوا وقالوا: إنّ موسى أخلفنا الوعد؛ فاغتنمها السامرىّ ففعل ما فعل. وقال قوم: إنهم عدّوا الليلة يوما واليوم يوما، وكان موسى قد واعدهم أربعين، فلمّا مضت عشرين يوما افتتنوا، فأتاهم السامرىّ وقال: إنّ موسى قد احتبس عنكم، فينبغى لكم أن تتّخذوا إلها، فإنّ موسى ليس يرجع إليكم، وقد تمّ الميقات. وإنما طمع فيهم السامرىّ لأنّهم فى اليوم الذى أنجاهم الله من فرعون وطلعوا من البحر، كان من أمرهم ما أخبر الله تعالى عنهم فى قوله: وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 223 إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ فطمع السامرىّ فيهم واغتنمها، فلمّا تأخّر موسى عن الميقات- وكان بنو إسرائيل قد استعاروا حلّى آل فرعون كما قدّمنا؛ فلمّا فصل موسى قال هارون لبنى إسرائيل: إنّ حلّى القبط الّذى استعرتموه غنيمة، وإنّه لا يحلّ لكم؛ فاجمعوه فاحفروا له حفيرة وادفنوه حتى يرجع موسى فيرى فيه رأيه. ففعلوا ذلك، وجاءهم السامرىّ ومعه القبضة الّتى قبضها من أثر حافر فرس جبريل- عليه السلام-. قالوا: وكان لجبريل- عليه السلام- فرس أنثى بلقاء يقال لها: «فرس الحياة» لا تصيب شيئا إلّا حيى؛ فلما رأى السامرىّ جبريل على تلك الفرس عرفه وقال: إن لهذا الفرس لشأنا. وأخذ قبضة من تراب حافرها حين عبر جبريل البحر. قالوا: وإنّما عرف السامرىّ خبر الفرس دون غيره من بنى إسرائيل، لأنّ فرعون لمّا أمر بذبح أولاد بنى إسرائيل جعلت المرأة إذا ولدت الغلام انطلقت به سرّا فى جوف الليل الى صحراء أو واد أو غار فى جبل فأخفته؛ فقيّض الله تعالى له ملكا من الملائكة يطعمه ويسقيه حتى لا يختلط بالناس، وكان الذى ولى كفالة السامرىّ جبريل عليه السلام، فجعل يمصّ من إحدى إبهاميه سمنا، ومن الأخرى عسلا، فمن ثمّ عرفه، ومن ثمّ الصبىّ إذا جاع يمصّ إبهامه فيروى من المص. نرجع إلى خبر بنى إسرائيل مع السامرىّ. قال: فلمّا أمرهم هارون بجمع الحلىّ وجمعوه، جاء السامرىّ بالقبضة فقال لهارون: يا نبىّ الله، أأقذفها فيه؟ فظنّ هارون أنّها من الحلىّ، وأنّه يريد بها ما يريد أصحابه، فقال له: اقذف. فقذفها فى الحفرة على الحلىّ، فصار عجلا جسدا له خوار. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 224 وقال ابن عبّاس- رضى الله عنهما-: أوقد هارون نارا وأمرهم أن يقذفوا الحلىّ فيها؛ فقذف السامرىّ تلك القبضة فيها وقال: «كن عجلا جسدا له خوار» . فكان كذلك للبلاء والفتنة. ويقال: إنّ الّذى قال لبنى إسرائيل: «إنّ الغنيمة لا تحل لكم» هو السامرىّ، فصدّقوه وجمعوها، فدفعوها إليه فصاغ منها عجلا فى ثلاثة أيام ثم قذف فيه القبضة، فجثا وخار خورة ثم لم يعد. وقال السدّىّ: كان يخور ويمشى؛ فلمّا أخرج السامرىّ العجل وكان من ذهب مرصّع بالحجارة كأحسن ما يكون، قال هذا إلهكم وإله موسى. فشبّه السامرىّ على أوغاد بنى إسرائيل وجهّالهم حتى أضلّهم وقال لهم: إنّ موسى قد أخطأ ربّه فأتاكم ربّه أراد أن يريكم أنه قادر على أن يدعوكم إلى نفسه بنفسه، وأنه لم يبعث موسى لحاجة منه إليه، وأنه قد أظهر لكم العجل ليكلّمكم من وسطه كما كلّم موسى من الشجرة. قالوا: فلمّا رأوا العجل وسمعوا قول السامرىّ، افتتنوا غير اثنى عشر ألفا وكان مع هارون ستّمائة ألف، فعكفوا عليه يعبدونه من دون الله تعالى، وأحبّوه حبّا ما أحبّوا مثله شيئا قطّ؛ فقال لهم هارون: يا بنى إسرائيل إنّما فتنتم به وإنّ ربّكم الرّحمن فاتّبعونى وأطيعوا أمرى* قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتّى يرجع إلينا موسى. فأقام هارون بمن معه من المسلمين، وأقام من يعبد العجل على عبادته؛ وخشى هارون إن سار بمن معه من المسلمين إلى المفتتنين الضالّين أن يقول له موسى: فرقت بين بنى إسرائيل. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 225 قال راشد بن سعد: لما واعد الله تعالى موسى أربعين يوما قال الله تعالى: يا موسى، إنّ قومك قد افتتنوا من بعدك. قال: يا ربّ كيف يفتتنون وقد نجّيتهم من فرعون ومن البحر، وأنعمت عليهم؟ قال: إنهم اتخذوا العجل إلها من دونى وهو عجل جسد له خوار. قال: يا ربّ من نفخ فيه الرّوح؟ قال: أنا. قال: أنت- وعزّتك- فتنتهم، إن هى إلّا فتنتك تضلّ بها من تشاء وتهدى من تشاء أنت وليّنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين. قال: فلمّا رجع موسى من الميقات الى قومه وقرب منهم، سمع اللغط حول العجل وكانوا يرقصون حوله، ولم يخبر موسى أصحابه السبعين بما أخبره به ربّه تعالى من حديث العجل، فقالوا: هذا قتال فى المحلّة. قال موسى لهم: لا ولكنّها أصوات الفتنة، افتتن القوم بعدنا بعبادة غير الله تعالى. ذكر خبر رجوع موسى إلى قومه وما كان من أمرهم قال الله عزّ وجلّ: وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وذلك أنّه لما رآهم حول العجل وما يصنعون فيه ألقى الألواح من يده فتكسّرت، فصعد عامّة الكلام الذى فيها، ولم يبق إلّا سدسها، ثم أعيدت له فى لوحين. روى عن ابن عبّاس- رضى الله عنهما- أنّ رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- قال: ليس المعاين كالمخبر، قال الله تعالى لموسى: إن القوم قد افتتنوا فلم يلق الألواح، فلمّا عاين ألقى الألواح فكسرها. قالوا: فلما رأى موسى ما صنع قومه بعده من عبادة العجل، أخذ شعر رأس أخيه هارون بيمينه، ولحيته بشماله وقال له: يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلّوا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 226 ألّا تتّبعن أفعصيت أمرى، هلّا قاتلتهم إذ علمت أنّى لو كنت فيما بينهم لقاتلتهم على كفرهم؟ فقال هارون: يابن أمّ؛ قال المفسّرون: كان هارون أخا موسى لأبيه وأمّه، ولكنّه أراد بقوله: يابن أمّ تقريبه واستعطافه عليه، لا تأخذ بلحيتى ولا برأسى إنّى خشيت، إن أقاتلهم أن يصيروا حزبين يقتل بعضهم بعضا، فتقول: فرّقت بين بنى إسرائيل ولم ترقب قولى، ولم تحفظ وصيّتى حين قلت لك: اخلفنى فى قومى وأصلح ولا تتّبع سبيل المفسدين. وقال: إنّ القوم استضعفونى وكادوا يقتلوننى فلا تشمت بى الأعداء ولا تجعلنى مع القوم الظّالمين. فقال موسى: ربّ اغفرلى ولأخى وأدخلنا فى رحمتك وأنت أرحم الرّاحمين. قال: ثم أقبل موسى على السامرىّ فقال له: ما خطبك يا سامرى، أى ما أمرك وشأنك؟ فقال السامرىّ: بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرّسول، أى أخذت ترابا من أثر فرس جبريل فنبذتها وطرحتها فى العجل وكذلك سوّلت لى نفسى، أى زيّنت. قال: فلمّا علم بنو إسرائيل أنهم قد أخطأوا وضلّوا فى عبادتهم العجل، ندموا على ذلك واستغفروا، كما قال الله تعالى: وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ ؛ فقال لهم موسى: يا قوم إنّكم ظلمتم أنفسكم باتّخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم. قالوا: كيف نتوب؟ قال: فاقتلوا أنفسكم، أى يقتل البرىء المجرم، ذلكم يعنى القتل خير لكم عند بارئكم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 227 قال ابن عباس- رضى الله عنهما-: أبى الله أن يقبل توبة بنى إسرائيل إلّا بالحال الّتى كرهوا أن يقاتلوهم حين عبدوا العجل. وقال قتادة: جعل الله توبة عبدة العجل القتل لأنّهم ارتدّوا، والكفر مبيح للدّم. وقال الكسائىّ: لمّا قال موسى لبنى إسرائيل: يا قوم إنّكم ظلمتم أنفسكم باتّخاذكم العجل، سألوه أن يتوب الله تعالى عليهم؛ فسأل الله تعالى، فأوحى الله تعالى إليه أنّه لا توبة لهم، لأنّ فى قلوبهم حبّ العجل، فاجمع رماد العجل وألقه فى الماء، وأمرهم أن يشربوا منه فإنه يظهر ما فى قلوبهم على وجوههم. ففعل ذلك؛ فلمّا شربوا لم يبق أحد ممّا فى قلبه مرض إلا اصفرّ وجهه ولونه وورم بطنه، ودام ذلك بهم، فقالوا: يا موسى، هل شىء غير التوبة الخالصة وقد أخلصنا فى توبتنا حتى لو أمرتنا بقتل أنفسنا فعلنا؟ فأوحى الله إليه: يا موسى قد رضيت بحكمهم على أنفسهم، فقل لهم: بقتلوا أنفسهم إن كانوا صادقين فى توبتهم. فقال لهم موسى ما أمرهم الله به: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ . فقالوا: كيف نقتل أنفسنا؟ قال: يقوم من لم يعبد العجل إلى من عبده فيقتله. فقاموا بالسيوف والخناجر إلى الّذين عبدوه وأرسل الله عليهم ظلمة فلم يبصر بعضهم بعضا، حتى كان الرجل يأتى إلى أخيه وأبيه وابن عمه وقرابته فيقتله وهو لا يعرفه، ولم يعمل السلاح فيمن لم يعبد العجل حتى خاضوا فى الدماء، وصاح النساء والصبيان إلى موسى: «العفو يا نبىّ الله» فدعا موسى الله بالعفو عنهم؛ فلم يعمل السلاح فيهم بعد ذلك، وقبل الله تعالى توبتهم، وارتفعت الظّلمة عنهم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 228 قالوا: ثم همّ موسى بقتل السامرىّ، فأوحى الله تعالى إليه: لا تقتله فإنّه سخىّ، ولكن أخرجه عن قومك. فلعنه موسى وقال له ما أخبر الله تعالى به عنه: (قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ) أى لعذابك فى القيامة. وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً. قال: وأمر موسى بنى إسرائيل ألّا يخالطوا السامرىّ ولا يقاربوه؛ فصار السامرىّ وحشيّا لا يألف ولا يؤلف ولا يدنو من الناس ولا يمسّ أحدا منهم فمن مسّه قرض ذلك الموضع بالمقراض، فكان ذلك دأبه حتى هلك. ذكر خبر امتناع بنى إسرائيل من قبول أحكام التوراة ورفع الجبل عليهم وإيمانهم قال الكسائىّ: ثم أقبل موسى على بنى إسرائيل بالتوراة وقال: هذا كتاب ربّكم فيه الحلال والحرام والأحكام والسنن والفرائض ورجم الزانى والزانية المحصنين وقطع يد السارق، والقصاص فى كل ذنب يكون منكم. فضجّوا من ذلك وقالوا: لا حاجة لنا فى هذه الأحكام، وما كنا فيه من عبادة العجل كان أرفق بنا من هذا. قال: فلمّا امتنعوا من قبول أحكام الله عزّ وجلّ قال موسى: يا رب قد علمت أنهم ردّوا كتابك وكذّبوا بآياتك. فأمر الله تعالى جبريل أن يرفع عليهم جبل طور سيناء فى الهواء؛ قال الله عزّ وجلّ: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا «1» قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا ؛ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 229 فجعل الجبل يدنو منهم حتى ظنوا أنه يسقط عليهم؛ فآمنوا وخرجوا سجّدا على أنصاف وجوههم وهم ينظرون إلى الجبل بالنصف الاخر؛ فلأجل ذلك سجود اليهود كذلك. وردّ الجبل عنهم. ذكر خبر الحجر الذى وضع موسى- عليه السلام- ثيابه عليه قال: وكانوا إذا اغتسلوا لا يسترون عوراتهم، وإذا اغتسل موسى يستتر فظنوا أن فى بدنه عيبا، فتكلموا بذلك، وكان موسى- عليه السلام- إذا اغتسل وضع ثوبه على حجر وقرعه بعصاه فيتفجر الماء منه، فيغتسل ثم يلبس ثوبه؛ ففعل ذلك فى بعض الأيام، فلما أراد أن يلبس ثوبه انقلع الحجر من موضعه ومر على وجه الأرض وعليه ثوب موسى؛ فعدا موسى خلفه وهو يقول: «ثوبى يا حجر ثوبى يا حجر» ولم يزل يعدو حتى وقف على بنى إسرائيل، فنظروا إلى موسى ولا عيب فيه، فندموا على ما كان منهم؛ قال الله تعالى: (فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً) . ذكر خبر طلب بنى إسرائيل رؤية الله تعالى وهلاكهم بالصاعقة، وكيف أحياهم الله- عزّ وجلّ- وبعثهم من بعد موتهم قال الله تعالى: (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ* ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) . وذلك أن الله تعالى أمر موسى- عليه السلام- أن يأتيه فى ناس من بنى إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل؛ فاختار موسى- عليه السلام- سبعين رجلا من قومه من خيارهم، وكان قد اختار من كلّ سبط ستّة نفر، فصاروا اثنين وسبعين، فقال: إنما أمرت بسبعين، فليتخلّف منكم رجلان. فتشاحنوا على الجزء: 13 ¦ الصفحة: 230 ذلك، فقال موسى: إن لمن قعد مثل أجر من خرج. فقعد يوشع بن نون وكالب ابن يوقنا «1» ، فقال موسى للسبعين: صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم. ففعلوا ذلك فخرج بهم موسى عليه السلام إلى طور سيناء لميقات ربه؛ فلما بلغوا ذلك الموضع قالوا لموسى: اطلب لنا نسمع كلام ربنا. فقال: أفعل. فلما دنا موسى من الجبل وقع عمود الغمام عليه وتغشّى الجبل كلّه، فدخل فى الغمام وقال للقوم: ادنوا. وكان موسى عليه السلام إذا كلمه ربه عز وجل- وقع على وجهه نور ساطع لا يستطيع أحد من بنى آدم أن ينظر إليه؛ فضرب دونه الحجاب، ودنا القوم حتى دخلوا فى الغمام وخرّوا سجّدا، وسمعوه وهو يكلّم موسى يأمره وينهاه؛ فأسمعهم الله تعالى: إنى أنا الله لا إله إلا أنا ذو الملك، أخرجتكم من أرض مصر فاعبدونى ولا تعبدوا غيرى. فلما فرغ موسى وانكشف الغمام أقبل إليهم فقالوا: لن نؤمن لك حتّى نرى الله جهرة، أى لن نصدّقك، فأخذتهم الصّاعقة، وهى نار جاءت من السماء فأحرقتهم جميعا. وقال وهب بن منبّه: أرسل الله عليهم جندا من السماء، فلما سمعوا حسّها ماتوا فى يوم وليلة. فلما هلكوا جعل موسى- عليه السلام- يبكى ويتضرع ويقول: يا رب ماذا أقول لبنى إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم، ولو شئت أهلكتهم من قبل وإياى أتهلكنا بما فعل السفهاء منا، فلم يزل يناشد ربه حتى أحياهم الله- عزّ وجلّ- رجلا بعد رجل ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون. حكاه الثعلبىّ فى تفسيره. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 231 وقال الكسائىّ فى هذه القصة: أقبل بنو إسرائيل على موسى وقالوا: أرنا الله جهرة. فأوحى الله تعالى إليه: أكلّهم يريد ذلك؟ - وهو أعلم- فقال الصالحون منهم: إن الله أجل من أن نراه فى الدنيا. وقال الباقون: إنما امتنع هؤلاء لضعف قلوبهم. فأوحى الله تعالى إليه: أن اختر منهم سبعين رجلا وسر بهم إلى جبل الطور؛ فسار بهم، ووقع الغمام على الجبل حتى أظله، وأتاه موسى وهم معه؛ فأمر الله تعالى الملائكة أن تهبط إلى الجبل بزيّها وصورها؛ فلما نظر بنو إسرائيل إليهم أخذتهم الرّعدة والخوف، وندموا على ما كان منهم، ونودوا من قبل السماء: يا بنى إسرائيل. فصعقوا كلّهم وماتوا. وساق نحو ما تقدّم. قال: ورجعوا إلى قومهم وخبّروهم بما رأوا. ذكر خبر قارون قال المفسرون: إنّ قارون كان ابن عمّ موسى، لأنه قارون بن يصهر ابن قاهث. وقال ابن إسحاق: هو عمّ موسى، لأن يصهر بن قاهث تزوّج شميش «1» بنت ماويب بن بركيا بن يقشان بن إبراهيم، فولدت له عمران بن يصهر وقارون ابن يصهر. فعلى هذا القول يكون عم موسى؛ وعلى قول الآخرين يكون ابن عمه، وعليه عامّة أصحاب التواريخ؛ وعليه أهل الكتاب، لا خلاف عندهم فى ذلك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 232 قالوا: وكان قارون أعلم بنى إسرائيل بعد موسى وهارون وأفضلهم وأجملهم. قال قتادة: وكان يسمى المبشور «1» لحسن صورته، ولم يكن فى بنى إسرائيل أقرأ للتوراة منه، ولكنّ عدوّ الله نافق كما نافق السامرىّ، فبغى على قومه، كما قال تعالى: (إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ) . قال الثعلبىّ: واختلفوا فى معنى هذا البغى ما هو، قال ابن عباس- رضى الله عنهما-: كان فرعون قد ملّك قارون على بنى إسرائيل، وكان يبغى عليهم ويظلمهم. وقال عطاء الخراسانىّ وشهر بن حوشب: زاد عليهم فى الثياب شبرا. وقال شيبان عن قتادة: بغى عليهم بالكبر والبذخ. وقال سعيد عنه: بكثرة المال. وكان أغنى أهل زمانه وأثراهم، كما قال تعالى: (وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ) أى تثقل وتميل بهم إذا حملوها لثقلها. واختلف المفسرون فى عدد العصبة، فقال مجاهد: ما بين العشرة إلى الخمسة. وقال قتادة: ما بين العشرة إلى الأربعين. وقال عكرمة: منهم من يقول: سبعين. وقال الضحاك: ما بين الثلاثة إلى العشرة. وقيل: هم ستون. وروى جرير عن منصور عن خيثمة قال: وجدت فى الإنجيل أن مفاتيح خزائن قارون كانت وقر ستين بغلا غرّا محجّلة ما يزيد منها مفتاح على إصبع لكل مفتاح منها كنز. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 233 ويقال: إن قارون كان أينما ذهب يحمل معه مفاتيح كنوزه- وكانت من حديد:- فلما ثقلت عليه جعلها من الخشب، فثقلت عليه، فجعلها من جلود البقر على طول الأصابع، تحمل معه على أربعين بغلا. وقال بعضهم: أراد بالمفاتيح الخزائن. وإليه ذهب أبو صالح. وقال أبو رزين: لو كان مفتاح واحد لأهل الكوفة كان كافيا. واختلفوا فى سبب اجتماع تلك الأموال لقارون؛ فقيل: كان عنده علم الكيمياء. قال سعيد بن المسيّب: كان موسى يعلم الكيمياء، فعلّم يوشع ثلث العلم، وعلّم كالب ثلثه، وعلّم قارون ثلثه؛ فخدعهما قارون حتى أضافا علمهما إلى علمه. وحكى الكسائىّ: كان قارون من فقراء بنى إسرائيل، فأوحى الله إلى موسى أن يحلّى تابوت التوراة بالذهب، وعلّمه صنعة الكيمياء؛ فجاء قارون إلى أم كلثم أخت موسى- وقد قيل: إنها كانت زوجته- فسألها: من أين لموسى هذا الذهب؟ فقالت: إن الله تعالى قد علّمه صنعة الكيمياء. وكان موسى قد علّمها الصنعة، فتعلّمها قارون منها. قالوا: فكان ذلك سبب أمواله، فذلك قوله كما أخبر الله تعالى عنه: (قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) . وقيل: معناه على علم عندى بالتصرّف فى التجارات والزراعات وسائر أنواع المكاسب والمطالب. وقيل فى سبب جمعه تلك الأموال ما رواه الثعلبىّ بسنده عن أبى سليمان الدارانى انه قال: تبدّى إبليس لقارون وكان قارون قد أقام فى جبل أربعين سنة حتى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 234 غلب بنى إسرائيل فى العبادة، فبعث إبليس إليه شياطينه فلم يقدروا عليه؛ فأتاه وجعل يتعبد معه، وجعل قارون يتعبّد وإبليس يقهره فى العبادة ويفوقه؛ فخضع له قارون؛ فقال له إبليس: يا قارون، قد رضينا بهذا الذى نحن فيه، لا نشهد لبنى إسرائيل جماعة، ولا نعود مريضا، ولا نشهد جنازة؟ قال: فأحدره من الجبل إلى البيعة، فكانا يؤتيان بالطعام، فقال له إبليس: يا قارون، قد رضينا أن نكون هكذا كلّا على بنى إسرائيل؟ فقال له قارون: فأىّ رأى عندك؟ قال: نكسب يوم الجمعة، ونتعبد بقية الجمعة. قال: فكسبوا يوم الجمعة وتعبدوا بقيتها؛ فقال إبليس: قد رضينا أن نكون هكذا؟ قال قارون: فأىّ رأى عندك؟ قال: نكسب يوما ونتعبّد يوما فنتصدّق ونعطى. قال: فلما كسبوا يوما وتعبّدوا يوما خنس إبليس وتركه، ففتحت على قارون أبواب الدنيا، فبلغ ماله- على ما رواه الثعلبىّ بسنده الى المسيّب بن شريك قال: ما إنّ مفاتحه لتنوء بالعصبة، وكانت أربعمائة ألف ألف فى أربعين جرابا. قال: فبغى وطغى حين استغنى، فكان أوّل طغيانه وعصيانه أنه تكبّر واستطال على الناس بكثرة الأموال، وكان يخرج فى زينته. قال مجاهد: خرج على براذين بيض عليها سروج الأرجوان وعليه المعصفرات. وقال ابن أسلم: خرج فى سبعين ألفا عليهم المعصفرات. قال: وذلك أوّل يوم ظهرت فيه المعصفرات فى الأرض. وقال مقاتل: خرج على بغلة شهباء على سرج من الذهب عليه الأرجوان ومعه ألف فارس عليهم الديباج وعلى دوابّهم الأرجوان؛ ومعه ستّمائة جارية بيض عليهنّ الحلىّ والثياب الحمر، وهنّ على البغال الشهب. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 235 وحكى الكسائىّ أنّ قارون اتخذ سريرا من الذهب يصعد إليه بمراق، وعليه أنواع من فرش الديباج، وعلى رأسه تاج من الذهب مرصّع بالجوهر. قالوا: فلما خرج فى بعض الأيام فى زينة عظيمة، تمنّى أهل الجهالة والخسارة مثل الّذى أوتيه، وقالوا ما أخبر الله تعالى به عنهم: قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ فأنكر عليهم أهل العلم بالله تعالى، وقالوا لهم: اتقوا الله واعملوا ما أمركم به، وانتهوا عما نهاكم الله عنه، فإن ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا من لذّات الدنيا وشهواتها؛ قال الله تعالى: وَلا يُلَقَّاها ، أى لا يوفّق لهذه الكلمة إِلَّا الصَّابِرُونَ ، أى على طاعة الله وعن زينة الحياة الدنيا. قالوا: ثم أوحى الله تعالى إلى نبيّه موسى- عليه السلام- أن يأمر قومه أن يعلّقوا فى آذانهم خيوطا أربعة، فى كل طرف خيط أخضر كلون السماء فقال موسى: يا رب لم أمرت بنى إسرائيل بتعليق هذه الخيوط الخضر فى آذانهم؟ فقال تعالى: إن بنى إسرائيل فى غفلة، وقد أردت أن أجعل لهم علما فى ثيابهم ليذكرونى به إذا نظروا إلى السماء، ويعلموا أنى منزل منها كلامى. فقال موسى: يا رب أفلا تأمرهم أن يجعلوا أرديتهم كلها خضرا، فإن بنى إسرائيل تحقر هذه الخيوط؟ فقال له: يا موسى، إن الصغير من أمرى ليس بصغير، وإن لم يطيعونى فى الأمر الصغير لم يطيعونى فى الأمر الكبير. قال: فدعا موسى بنى إسرائيل وأعلمهم بأمر الله تعالى؛ ففعلوا ذلك واستكبر قارون فلم يطعه، وقال: إنما يفعل هذا الأرباب بعبيدهم لكى يتميزوا من غيرهم. فكان هذا أيضا من بغيه وعصيانه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 236 قالوا: ولما قطع موسى البحر ببنى إسرائيل جعلت الحبورة- وهى رآسة المذبح وبيت القربان- لهارون عليه السلام؛ وكان بنو إسرائيل يأتون بهديهم فيدفعونه إلى هارون، فيضعه على المذبح، فتنزل نار من السماء فتأكله، فوجد قارون فى نفسه من ذلك، وأتى موسى وقال له: يا موسى، لك الرسالة، ولهارون الحبورة، وليس لى من ذلك شىء، وأنا أقرأ للتوراة منكما، لا صبر لى على هذا. فقال موسى: والله ما أنا جعلتها فى هارون، بل الله جعلها له. فقال قارون: والله لا أصدّقك فى ذلك حتى ترينى بيّنة. قال: فجمع موسى رؤساء بنى إسرائيل وقال: هاتوا عصيّكم. فجاءوا بها فخزمها وألقاها فى قبّته التى كان يعبد الله تعالى فيها؛ وجعلوا يحرسون عصيّهم حتى أصبحوا، فأصبحت عصا هارون قد اهتزّ لها ورق أخضر، وكانت من شجر اللوز فقال موسى: يا قارون، أترى هذا من فعلى؟ قال قارون: والله ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر. وذهب قارون مغاضبا، واعتزل موسى بأتباعه؛ وجعل موسى يداريه للقرابة التى بينهما وهو يؤذيه فى كل وقت، ولا يزداد كلّ يوم إلا عتوّا وتجبّرا ومخالفة. ويقال: إنه بنى دارا وجعل بابها من الذهب، وضرب على جدرانها صفائح الذهب، وكان الملأ من بنى إسرائيل يغدون عليه ويروحون فيطعمهم الطعام ويحدّثونه ويضاحكونه. قال ابن عباس- رضى الله عنهما-: ثم أنزل الله تعالى الزكاة على موسى؛ فلما وجبت الزكاة على بنى إسرائيل أتى قارون موسى فصالحه عن كلّ ألف دينار على دينار، وعن كلّ ألف درهم على درهم، وعن كلّ ألف شاة على شاة، وعن كلّ ألف الجزء: 13 ¦ الصفحة: 237 شىء شيئا، ثم رجع إلى بيته فحسبه فوجده كثيرا، فلم تسمح بذلك نفسه، فجمع بنى إسرائيل وقال لهم: يا قوم، إن موسى قد أمركم بكل شىء فأطعتموه، وهو الآن يريد أن يأخذ أموالكم. فقالوا له: أنت كبيرنا وسيدنا فمر بما شئت. فقال: آمركم أن تجيئوا بفلانة البغىّ فنجعل لها جعلا على أن تقذف موسى بنفسها، فإذا فعلت ذلك خرج عليه بنو إسرائيل ورفضوه فاسترحنا منه. فأتوا بها، فجعل لها قارون ألف درهم. وقيل: ألف دينار. وقيل: طستا من ذهب. وقيل: حكمها؛ وقال لها: إنى أموّلك وأخلطك بنسائى على أن تقذفى موسى غدا إذا كان بنو إسرائيل متجمّعين. فلما كان الغد جمع قارون بنى إسرائيل، ثم أتى موسى فقال: إنّ بنى إسرائيل قد اجتمعوا ينظرون خروجك لتأمرهم وتنهاهم وتبيّن لهم اعلام دينهم وأحكامهم وأحكام شرعهم. فخرج إليهم موسى وهم فى براح من الأرض، فقام فيهم خطيبا ووعظهم، وقال فيما قال: يا بنى إسرائيل، من سرق قطعت يده، ومن افترى جلدناه ثمانين جلدة، ومن زنى وليس له امرأة جلدناه مائة جلدة، وإن كانت له امرأة رجمناه حتى يموت. فقال له قارون: وإن كنت أنت؟ قال: وإن كنت أنا. قال: فإنّ بنى إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة. قال موسى: أنا؟ قال: نعم. قال: ادعها فإن قالت فهو كما قالت. فدعيت؛ فلما جاءت قال لها موسى: يا فلانة، أنا فعلت بك ما يقول هؤلاء؟ وعظّم عليها وسألها بالذى فلق البحر لبنى إسرائيل وأنزل التوراة على موسى إلّا صدقت. فلما ناشدها موسى تداركها الله تعالى بالتوفيق وقالت: لأن أحدث اليوم توبة أفضل من أوذى رسول الله. وقالت: لا والله بل كذبوا، ولكن جعل لى قارون جعلا على أن أقذفك بنفسى. فلما تكلّمت بهذا الكلام سقط فى يد قارون ونكّس رأسه، وسكت الملأ وعرف قارون أنه قد وقع فى مهلكة، وخرّ موسى ساجدا لله تعالى. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 238 وقال الكسائىّ فى قصّة هذه المرأة: إن قارون بعث إلى امرأة فاسقة كان موسى قد نفاها من عسكره، فقال لها: إنى أريد أن أتزوّج بك وأنقذك من هذا الفقر إن عملت ما أقول. قالت: وما هو؟ قال: إذا اجتمع بنو إسرائيل عندى فاحضرى وقولى: إن موسى دعانى إلى نفسه فلم أطاوعه، فأخرجنى من عسكره فانصرفت ودخلت على قارون من الغد- وقد اجتمع بنو إسرائيل عنده- فقالت: يا بنى إسرائيل، هذا ما لقى الأخيار من الأشرار؛ اعلموا أن قارون دعانى بالأمس وقال لى كذا وكذا، وأمرنى أن أكذب على نبىّ الله موسى؛ وكذب قارون إنما أخرجنى موسى من عسكره لفسادى، وقد تبت إلى الله تعالى من ذلك. فلما سمع قارون ذلك ندم، ولامه بنو إسرائيل، وبلغ موسى الخبر فغضب ودعا على قارون. قالوا: وجعل موسى يبكى ويقول: يا رب إن عدوّك هذا قد آذانى وأراد فضيحتى، اللهم إن كنت رسولك فاغضب لى وسلّطنى عليه. فأوحى الله تعالى إليه: ارفع رأسك وأمر الأرض بما شئت تطعك. فقال موسى: يا بنى إسرائيل إن الله قد بعثنى إلى قارون كما بعثنى إلى فرعون، فمن كان معه فليثبت مكانه ومن كان معى فليعتزل عنه. فاعتزل بنو إسرائيل قارون ولم يبق منهم إلا رجلان ثم قال موسى: يا أرض خذيهم. فأخذتهم إلى كعابهم. ثم قال: يا أرض خذيهم. فأخذتهم إلى ركبهم. ثم قال: يا أرض خذيهم. فأخذتهم إلى حقيّهم. ثم قال: يا أرض خذيهم. فأخذتهم إلى أعناقهم؛ وقارون وصاحباه فى كل ذلك يتضرعون إلى موسى ويناشدونه؛ حتى روى فى بعض الأخبار: أنه ناشده سبعين مرة وموسى فى جميع ذلك لا يلتفت إليه، لشدّة غضبه عليه. ثم قال: يا أرض خذيهم. فانطقت عليهم الأرض؛ فأوحى الله إلى موسى: استغاثوا بك سبعين الجزء: 13 ¦ الصفحة: 239 مرّة فلم ترحمهم ولم تغثهم، أما وعزتى وجلالى لو إياى دعوا لوجدونى قريبا مجيبا. قال قتادة: ذكر لنا أن الله تعالى يخسف بهم فى كل يوم قامة، وأنه يتخلخل» فيها لا يبلغ قعرها إلى يوم القيامة. قالوا: فلما خسف الله تعالى بقارون وصاحبيه أصبحت بنو إسرائيل يتناجون فيما بينهم: إن موسى دعا على قارون ليستبدّ بداره وكنوزه وأمواله. فدعا موسى حتى خسف الله تعالى بدار قارون وأمواله الأرض؛ وأوحى الله تعالى إلى موسى: أنى لا أعبّد الأرض لأحد بعدك أبدا؛ فذلك قوله تعالى: فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ. قال: فلما حلّت نقمة الله تعالى بقارون حمد المؤمنون الله تعالى، وندم الذين كانوا يتمّنون ماله وحاله، كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله: وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ . والله الفعّال. ذكر خبر موسى والخضر- عليهما السلام- وهذا الخبر إنما رجعت فيه واعتمدت على ما ورد فى الحديث الصحيح النبوىّ مما خرّجه البخارىّ- رحمه الله تعالى- فى صحيحه، ورويناه بسندنا عنه بسنده عن ابن عباس عن أبىّ بن كعب- رضى الله عنهم- عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم: أن موسى «2» - عليه السلام- قام خطيبا فى بنى إسرائيل، فسئل: أىّ الناس الجزء: 13 ¦ الصفحة: 240 أعلم؟ قال: أنا. فعتب الله تعالى عليه إذ لم يردّ العلم إليه؛ فقال: بلى، عبد بمجمع البحرين هو أعلم منك. وورد فى الحديث الآخر من رواية البخارىّ: بلى عبدنا خضر. قال: أى ربّ ومن لى به؟ قال سفيان من روايته: أى ربّ وكيف لى به؟ قال: تأخذ حوتا فتجعله فى مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثمّ. وربما قال: فهو ثمّة. فأخذ حوتا فجعله فى مكتل، ثم انطلق هو وفتاه يوشع بن نون حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رءوسهما؛ فرقد موسى عليه السلام، واضطرب الحوت فخرج فسقط فى البحر: فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً ؛ فأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار «1» مثل الطاق؛ فانطلقا يمشيان بقيّة يومهما وليلتهما، حتى إذا كان من الغد قال لفتاه: آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً ؛ ولم يجد موسى النّصب حتى جاوز حيث أمره الله تعالى؛ قال له فتاه: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً ؛ فكان للحوت سربا ولهما عجبا. قال له موسى: ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً. فرجعا يقصّان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا رجل مسجّى بثوب، فسلّم موسى، فردّ عليه فقال: وأنّى بأرضك السلام. قال: أنا موسى. قال: موسى بنى إسرائيل؟ قال: نعم، أتيتك لتعلّمنى ممّا علّمت رشدا. قال: يا موسى إنى على علم من علم الله علّمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علّمكه الله لا أعلمه. قال هَلْ أَتَّبِعُكَ . قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً* وَكَيْفَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 241 تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً . إلى قوله: أَمْراً ؛ فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرّت بهما سفينة فكلّموهم أن يحملوهم؛ فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول؛ فلما ركبا فى السفينة جاء عصفور «1» فوقع على حرف السفينة فنقر فى البحر نقرة أو نقرتين «2» فقال له الخضر: يا موسى، ما نقص علمى وعلمك من علم الله إلّا مثل ما نقص هذا العصفور بمنقاره من البحر. «فأخذ الفأس «3» فنزع لوحا» . قال: فلم يفجأ «4» موسى إلّا وقد قلع لوحا بالقدوم؛ فقال له موسى: ما صنعت؟ قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً* قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً* قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً . وكانت الأولى من موسى نسيانا. فلمّا خرجا من البحر مرّا بغلام يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر برأسه يقلعه بيده هكذا- وأومأ سفيان بأطراف أصابعه كأنّه يقطف شيئا- قال له موسى: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً* قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً* قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً* فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ مائلا، فَأَقامَهُ - أومأ بيده هكذا وأشار سفيان كأنّه يمسح شيئا إلى فوق- قال: قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيّفونا عمدت إلى حائطهم، لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً* قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 242 قال النبىّ- صلّى الله عليه وسلّم-: «وددنا أنّ موسى كان صبر فقصّ علينا من خبرهما» . قال سفيان: قال النبىّ- صلّى الله عليه وسلّم-: «يرحم الله موسى لو كان صبر لقصّ علينا من أمرهما» . وقرأ ابن عبّاس- رضى الله عنهما-: «أمامهم ملك يأخذ كلّ سفينة صالحة غصبا* وأمّا الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين» . ثم قال لى سفيان: سمعته منه مرّتين وحفظته منه. هذا حديث البخارىّ عن علىّ «1» بن عبد الله عن سفيان عن عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبىّ بن كعب؛ وقصّتهما فى كتاب الله تعالى: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً* وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً الآيات، إلى قوله: وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً. وحكى أبو إسحاق الثعلبىّ- رحمه الله- فى قصصه أنّ الخضر- عليه السلام- اسمه بليا «2» بن ملكان بن فالغ بن عابر بن شالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام. وروى حديثا عن أبى هريرة- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنما سمّى الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء، وإذا هى تهتزّ تحته خضراء. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 243 وروى عن مجاهد قال: إنما سمّى الخضر لأنه حيثما صلّى اخضرّ ما حوله. قال الثعلبىّ: وكان الخضر فى أيام أفريدون الملك على قول عامّة أهل الكتب الأوّل. قال: وقيل إنه كان على مقدّمة ذى القرنين الأكبر الذى كان فى أيام ابراهيم- عليه السلام- وذلك فى أيام مسيره فى البلاد، وأنه بلغ مع ذى القرنين نهر الحياة وشرب من مائه وهو لا يعلم ولا يعلم ذو القرنين، فخلّد، وهو حىّ إلى الآن؛ والله أعلم. وسنذكر- إن شاء الله تعالى- فى السّفر الذى يلى هذا السفر خبره فى ظفره بماء الحياة فى أخبار ذى القرنين. ذكر خبر البقرة وقتل عاميل قال أبو إسحاق الثعلبىّ- رحمه الله تعالى- فى تفسيره عن السّدىّ وغيره: إن رجلا كان فى بنى إسرائيل كان بارّا بأبيه، وبلغ من برّه به أن رجلا أتاه بلؤلؤة فابتاعها منه بخمسين ألفا، وكان فيها فضل وربح؛ فقال له البائع: اعطنى الثمن. فقال: إن أبى نائم، ومفتاح الصندوق تحت رأسه، فأمهلنى حتى يستيقظ فأعطيك الثمن. فقال له البائع: أيقظ أباك وأعطنى المال. قال: ما كنت لأفعل ولكن أزيدك عشرة آلاف وأنظرنى حتى ينتبه. فقال الرجل: أنا أعطيك عشرة آلاف إن أيقظت أباك وعجّلت النقد. فقال: أنا أزيدك عشرين ألفا إن انتظرت انتباهه. ففعل ولم يوقظ أباه؛ فلما استيقظ أبوه أخبره بذلك، فدعا له وجزاه خيرا، وقال له: أحسنت يا بنىّ، وهذه البقرة لك بما صنعت. وكانت بقيّة بقر كانت لهم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 244 قال: وقال ابن عبّاس ووهب وغيرهما: كان فى بنى إسرائيل رجل صالح له ابن طفل، وكان له عجلة، فأتى بها إلى غيضة وقال: اللهم إنى استودعتك هذه العجلة لابنى حتى يكبر. ومات الرجل، فشبّت العجلة فى الغيضة وصارت عوانا وكانت تهرب من كلّ من رامها؛ فلما كبر الأبن- وكان برّا بوالدته، وكان يقسم الليل ثلاثة أثلاث: يصلى ثلثا، وينام ثلثا، ويجلس عند رأس أمّه ثلثا؛ فإذا أصبح انطلق واحتطب على ظهره، ويأتى به السوق فيبيعه بما شاء الله، ثم يتصدق بثلثه، ويأكل ثلثه، ويعطى والدته ثلثه. وحكى الكسائىّ عن وهب قال: كان فى بنى إسرائيل عبد صالح، فمات وترك امرأته حاملا، فولدت غلاما، فسمّته ميشى، فكبر، وكان يحتطب من المواضع المباحة، وينفق على نفسه وأمه، وكان كثير العبادة؛ فلم يزل كذلك حتى كبر وضعف وعجز عن الاحتطاب. قالوا: فقالت له أمه: إن أباك ورّثك عجلة وذهب بها إلى غيضة كذا واستودعها الله- عزّ وجلّ- فانطلق إليها وادع إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب أن يردّها عليك، وإنّ من علامتها أنك إذا نظرت إليها يخيّل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها- وكانت تسمّى المذهبة لحسنها وصفرتها وصفاء لونها- فأتى الفتى إلى الغيضة، فرآها ترعى، فصاح بها وقال: أعزم عليك بإله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب. فأقبلت تسعى حتى قامت بين يديه، فقبض على عنقها وقادها، فتكلّمت بإذن الله- عزّ وجلّ- وقالت: أيّها الفتى البارّ بوالدته، اركبنى فإنّ ذلك أهون عليك. فقال: إنّ أمى لم تأمرنى بذلك، ولكن قالت: خذ بعنقها. فقالت البقرة: وإله بنى إسرائيل لو ركبتنى ما كنت تقدر الجزء: 13 ¦ الصفحة: 245 علىّ أبدا، فانطلق فإنّك لو أمرت الجبل أن ينقطع من أصله وينطلق معك لفعل، لبرّك بوالدتك. فسار الفتى بها، فاستقبله عدوّ الله إبليس فى صورة راع فقال: أيها الفتى، إنى رجل من رعاة البقر، اشتقت إلى أهلى فأخذت ثورا من ثيرانى، فحملت عليه زادى ومتاعى، حتى إذا بلغت شطر الطريق ذهبت لأقضى حاجتى، فعدا الثور وسط الجبل وما قدرت عليه، وإنى أخشى على نفسى الهلكة، فإن رأيت أن تحملنى على بقرتك. فلم يفعل الفتى وقال له: اذهب فتوكّل على الله- عزّ وجلّ- فلو علم الله منك الصدق لبلّغك بلا زاد ولا راحلة. فقال له إبليس: إن شئت فبعنيها بحكمك، وإن شئت فاحملنى عليها وأعطيك عشرا مثلها. فقال الفتى: إن أمّى لم تأمرنى بذلك. فبينا الفتى كذلك إذ طار طائر من بين يديه، فنفرت البقرة هاربة فى الفلاة، وغاب الراعى، فدعا الفتى باسم إله إبراهيم، فرجعت إليه وقالت: أيها الفتى البارّ بوالدته، ألم تر إلى الطائر الذى طار، إنه إبليس عدوّ الله اختلسنى، أما إنه لو ركبنى ما قدرت علىّ أبدا، فلمّا دعوت بإله إبراهيم جاء ملك وانتزعنى من يد إبليس وردّنى إليك لبرّك بأمّك وطاعتك لها. فجاء بها الفتى إلى أمّه، فقالت له أمّه: إنك فقير لا مال لك ويشقّ عليك الاحتطاب بالنهار والقيام بالليل، فانطلق فبع هذه البقرة وخذ ثمنها. قال: بكم أبيعها؟ قالت: بثلاثة دنانير، ولا تبعها بغير رضاى ومشورتى. فكان ثمن البقرة فى ذلك الوقت ثلاثة دنانير، فانطلق بها الفتى إلى السوق فبعث الله- عزّ وجلّ- ملكا ليرى فى خلقه قدرته، وليخبر الفتى كيف برّه بوالدته، وكان الله تعالى به خبيرا؛ فقال له الملك: بكم تبيع هذه البقرة؟ قال: بثلاثة دنانير، وأشترط عليك رضا والدتى. فقال له الملك: فأنا أعطيك ستة دنانير ولا تستأمر أمّك. فقال الفتى: لو أعطيتنى وزنها ذهبا لم آخذه إلّا برضا أمّى. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 246 فردّها إلى أمّه، وأخبرها الخبر، فقالت: ارجع فبعها بستة دنانير على رضا منى. فانطلق بها إلى السوق، وأتى الملك، فقال: استأمرت والدتك؟ فقال الفتى: إنها أمرتنى ألا أنقصها عن ستة دنانير على أن أستأمرها. فقال الملك: فإنى أعطيك اثنى عشر دينارا على ألّا تستأمرها. فأبى ورجع إلى أمّه فأخبرها بذلك؛ فقالت: إنّ ذلك الرجل الذى يأتيك هو ملك من الملائكة يأتيك فى صورة آدمىّ ليختبرك، فإذا أتاك فقل له: أتأمرنا أن نبيع هذه البقرة أم لا؟ ففعل الفتى ذلك؛ فقال له الملك: اذهب إلى أمّك فقل لها: أمسكى هذه البقرة، فإن موسى بن عمران يشتريها منكم لقتيل يقتل من بنى إسرائيل، فلا تبيعوها إلّا بملء مسكها دنانير. فأمسكوا البقرة، وقدّر الله على بنى إسرائيل ذبح تلك البقرة بعينها مكافأة له على برّه بأمّه؛ وذلك أنه وجد قتيل فى بنى إسرائيل اسمه (عاميل) ولم يدر قاتله. واختلفوا فى قاتله والسبب فى قتله؛ فقال عطاء والسدّىّ: كان فى بنى إسرائيل رجل كثير المال. وله ابن عم مسكين لا وارث له غيره، فلما أبطأ عليه موته قتله ليرثه. قال: وقال بعضهم: كان تحت عاميل بنت عمّ له تضرب مثلا فى بنى إسرائيل بالحسن والجمال، فقتله ابن عمّها لينكحها. وقال الكلبىّ: قتله ابن أخيه لينكح ابنته، فلمّا قتله حمله من قريته إلى قرية أخرى وألقاه هناك. وقيل: ألقاه بين قريتين. وقال عكرمة: كان لبنى إسرائيل مسجد له اثنا عشر بابا، لكل سبط منهم باب، فوجد قتيل على باب سبط، وجرّ إلى باب سبط آخر؛ فاختصم السّبطان فيه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 247 وقال ابن سيرين: قتله القاتل ثم احتمله فوضعه على باب رجل منهم، ثم أصبح يطلب بثأره ودمه ويدّعيه عليه. قالوا: فجاء أولياء القتيل إلى موسى- عليه السلام- وأتوه بأناس وادّعوا عليهم القتل، وسألوه القصاص؛ فسألهم موسى عن ذلك، فجحدوا، فاشتبه أمر القتيل على موسى- عليه السلام- ووقع بينهم خلاف. قال الكلبىّ: وذلك قبل نزول القسامة فى التوراة، فسألوا موسى- عليه السلام- أن يدعو الله ليبيّن لهم ذلك؛ فسأل موسى- عليه السلام- ربّه عزّ وجلّ؛ فأمرهم بذبح بقرة؛ فقال لهم موسى ما أخبر الله تعالى به فى قوله: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ . أى تستهزئ بنا حين نسألك عن القتيل وتأمرنا بذبح البقرة؛ وإنما قالوا ذلك لتباعد ما بين الأمرين فى الظاهر، ولم يدروا ما الحكمة فيه. قال موسى: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ ، أى من المستهزئين بالمؤمنين؛ فلما علم القوم أنّ ذبح البقرة عزم من الله عزّ وجلّ، سألوه الوصف، فذلك قوله تعالى: قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ. قال: ولو أنهم عمدوا إلى أدنى بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكن شدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم؛ وإنما كان تشديدهم تقديرا من الله- عزّ وجلّ- وحكمة. قال: ومعنى ادْعُ لَنا رَبَّكَ . أى سل؛ وهكذا فى مصحف عبد الله: «سل لنا ربّك يبيّن لنا ما هى وما سنّها» . قال موسى: إنه- يعنى الله عزّ وجلّ- يقول: إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ : لا كبيرة ولا صغيرة عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ أى نصف بين السّنين. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 248 وقال الأخفش: العوان التى نتجت مرارا، وجمعه عون. فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ : من ذبح البقرة، ولا تكرروا القول. قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ. قال ابن عبّاس: شديدة الصّفرة. وقال قتادة وأبو العالية والربيع: صاف. وقال سعيد بن جبير: صفراء القرنين والظّلف. وقال الحسن: سوداء. والعرب تسمّى الأسود أصفر. وقال العتبىّ: غلط من قال: الصفراء هاهنا السوداء، لأن هذا غلط فى نعوت البقر، وإنما هو من نعوت الإبل، وذلك أن السود من الإبل يشوب سوادها صفرة. وقال آخر: إنه لو أراد السواد لما أكّده بالفقوع، لأنّ الفاقع: البالغ فى الصفرة، كما يقال: أبيض يقق، وأسود حالك، وأحمر قانئ، وأخضر ناضر. تَسُرُّ النَّاظِرِينَ إليها، ويعجبهم حسنها وصفاء لونها، لأنّ العين تسرّ وتولع بالنظر إلى الشئ الحسن. وقال علىّ- رضى الله عنه-: من لبس نعلا صفراء قلّ همّه، لأنّ الله تعالى يقول: صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ* قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ أسائمة أم عاملة إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ أى إلى وصفها. قال رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم-: «وايم الله لو لم يستثنوا لما بيّنت لهم آخر الأبد» . قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ ، أى مذلّلة للعمل. تُثِيرُ الْأَرْضَ ، أى تقلبها للزراعة وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ أى بريئة من العيوب الجزء: 13 ¦ الصفحة: 249 وقال الحسن: مسلّمة القوائم، ليس فيها أثر العمل. لا شِيَةَ فِيها ، قال عطاء: لا عيب فيها. وقال قتادة: لا بياض فيها أصلا. وقال مجاهد: لا بياض فيها ولا سواد. وقال محمد بن كعب: لا لون فيها يخالف معظم لونها. فلما قال هذا قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ ، أى بالوصف البيّن التامّ؛ فطلبوها فلم يجدوا كمال وصفها إلّا عند الفتى البارّ بوالدته؛ فاشتروها منه بملء مسكها ذهبا. وقال السدّىّ: اشتروها بوزنها عشر مرّآت ذهبا. وقيل: اشتروها بوزنها مرّة؛ قاله أبو عبيد. وقيل: بوزنها مرّتين. وقال الكسائىّ: إنهم أتوا إلى ميشى فى بيع البقرة فقال: لا أبيعها إلّا بحضرة موسى. فرضوا بذلك، وأخرج البقرة إلى موسى، قال: بكم تبيعها؟ قال: المساومة بينى وبينك لا خير فيها، لا أبيعها إلّا بملء جلدها ذهبا. فقال موسى لبنىء إسرائيل: ذلك لتشديدكم على أنفسكم فشدّد الله عليكم. فضمنوا له ذلك، قال الله تعالى: فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ من غلاء ثمنها. وقال محمد بن كعب: وما كادوا يجدونها باجتماع أوصافها. وقال الكسائىّ: بوفاء المال؛ قال الله تعالى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ، يعنى عاميل. فَادَّارَأْتُمْ : اختلفتم، قاله ابن عبّاس ومجاهد. وقال الضحّاك: اختصمتم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 250 وقال عبد العزيز بن يحيى: شككتم. وقال الربيع بن أنس: تدافعتم. وأصل الدّرء: الدفع، يعنى ألقى هذا على هذا وهذا على ذاك، فدافع كلّ واحد عن نفسه لقوله تعالى: وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ* ، أى يدفعون. قال الله تعالى: فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها يعنى القتيل ببعض البقرة. واختلفوا فى هذا البعض ما هو. فقال ابن عباس: ضربوه بالعظم الّذى يلى الغضروف، وهو المقبل. وقال الضحّاك: بلسانها. قال الحسين بن الفضل: وهذا أولى الأقوال، لأنّ المراد كان من إحياء القتيل كلامه، واللسان آلته. وقال سعيد بن جبير: بعجم ذنبها. قال يمان بن زرياب: وهو أولى التأويلات بالصواب، لأنّ العصعص أساس البدن الّذى ركّب عليه الخلق، وأنّه أوّل ما يخلق، وآخر ما يبلى. وقال مجاهد: بذنبها. وقال عكرمة والكلبىّ: بفخذها الأيمن. وقال السدّىّ: بالبضعة الّتى بين كتفيها. وقيل: بأذنها. ففعلوا ذلك، فقام القتيل- بإذن الله عزّ وجلّ- وأوداجه تشخّب دما، وقال: قتلنى فلان. ثم مات وسقط مكانه؛ قال الله تعالى: كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 251 قال الكلبىّ: ثم قالوا بعد ذلك: «لم نقتله نحن» ، وأنكروا، فلم يكونوا قطّ أقسى قلبا ولا أشدّ تكذيبا منهم لنبيّهم عند ذلك، ولذلك يقول الله تعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً. قال الكلبىّ: يبست واشتدّت. وقال أبو عبيدة: جفّت من الشدّة فلم تلن. وقيل: غلظت. وقيل: اشتدّت. وقال الزّجاج: تأويل القسوة ذهاب اللّين والرحمة والخشوع والخضوع. قوله: مِنْ بَعْدِ ذلِكَ ، أى من بعد ظهور الدّلالات، فهى فى غلظها وشدّتها كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ، أى بل أشدّ قسوة. ثم عدّد الله تعالى الحجارة وفضّلها على القلب القاسى، وقال تعالى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ، أى ينزل من أعلى الجبل إلى أسفله وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ. ذكر بناء بيت المقدس وخبر القربان والتابوت والسكينة وصفة النار وهذا البيت ليس هو البيت المقدّس الموجود الآن، وإنما هو الذى تسميه اليهود: «قبة الزمان» ويزعمون أن ذلك نص التوراة، وكان من خبر هذه القصة ما رواه الثعلبىّ بإسناده عن وهب بن منبّه قال: أوحى الله تعالى إلى موسى- عليه السلام- أن يتّخذ مسجدا لجماعتهم. وبيت قدس للتوراة، وتابوتا للسكينة وقبابا للقربان، وأن يجعل لذلك المسجد سرادقات باطنها وظاهرها من الجلود الجزء: 13 ¦ الصفحة: 252 الملبسة عليها، وأن تكون تلك الجلود من جلود ذبائح القربان، وحيالها من أصواف تلك الذبائح؛ وعهد إليه ألا تغزل تلك الحبال حائض، ولا يدبغ تلك الجلود جنب؛ وأمره أن ينصب تلك السرادقات على عمد من نحاس، طول كلّ عمود منها أربعون ذراعا، ويجعل فيها اثنى عشر قسما مشرجا «1» ، إذا نقضت صارت اثنى عشر جزءا يحمل كلّ جزء بما فيه من العمد سبط من الأسباط من بنى إسرائيل؛ وأمره أن يجعل سعة ذلك السرادق ستّمائة ذراع، وأن ينصب فيه سبع قباب، ستّ قباب منها مشبكة بقضبان الذهب والفضة، كلّ واحدة منهن منصوبة على عمود من فضة طول كل عمود منها أربعون ذراعا، وعليها أربعة دسوت ثياب، الباطن منها سندس أخضر، والثانى أرجوان أحمر، والثالث ديباج أصفر، والرابع من جلود القربان وقاية لها من المطر والغبار، وحبالها التى تمدّ بها من صوف القربان، وأن يجعل سعتها أربعين ذراعا، وأن ينصب فى جوفها موائد من فضّة مربّعة مرصّعة يوضع عليها القربان، سعة كلّ مائدة منها أربع أذرع، كلّ مائدة منها على أربع قوائم من فضّة، طول كلّ قائمة ثلاث أذرع، لا ينال الرجل منها إلّا قائما؛ وأمره أن ينصب بيت المقدس على عمود من ذهب، طوله سبعون ذراعا، وأن يضعه على سبيكة من ذهب أحمر طولها تسعون ذراعا، مرصّعة بألوان الجواهر، وأن يجعل أسفله مشبّكا بقضبان الذهب والفضّة، وأن يجعل حباله التى يمدّ بها من صوف القربان مصبوغة بألوان من أحمر وأصفر وأخضر؛ وأن يلبسه سبعة من الحلل، الباطن منها سندس أخضر، والثانى أرجوان أحمر، والثالث ديباج أصفر، والرابع من الحرير الأبيض، وسائرها من الدّيباج والوشى؛ والظاهر غاشية له من جلود القربان وقاية له من الأذى والندى؛ وأمره أن يجعل سعته سبعين ذراعا، وأن يفرش القباب الجزء: 13 ¦ الصفحة: 253 بالقزّ الأحمر؛ وأمره أن ينصب فيه تابوتا من ذهب كتابوت الميثاق، مرصّعا بأنواع الجواهر والياقوت والزمرد الأخضر، وقوائمه من الذهب، وأن يجعل سعته سبع أذرع فى أربع أذرع، وعلوّه قامة موسى عليه السلام، وأن يجعل له أربعة أبواب: باب تدخل منه الملائكة، وباب يدخل منه موسى، وباب يدخل منه هارون، وباب يدخل منه أولاد هارون، وهم سدنة ذلك البيت وخزّان التابوت، وأمر الله نبيّه موسى أن يأخذ من كلّ محتلم من بنى إسرائيل مثقالا من الذهب فينفقه على هذا البيت، وأن يجعل باقى المال الذى يحتاج إليه فى ذلك من الحلىّ والحلل التى ورثها موسى وأصحابه من فرعون وأصحابه؛ ففعل موسى ذلك، فبلغ عدد رجال بنى إسرائيل ستّمائة ألف وسبعمائة وخمسين رجلا فأخذ منهم ذلك المال. وأوحى الله تعالى إليه أنى منزّل عليكم من السماء نارا لا دخان لها ولا تحرق شيئا، ولا تنطفئ أبدا، لتأكل القرابين المتقبّلة، وتسرج منها القناديل الّتى فى بيت المقدس، وكانت من ذهب معلّقة بسلاسل من ذهب، منظومة باليواقيت واللآلئ وأنواع الجواهر؛ وأمره أن يضع فى وسط البيت صخرة عظيمة من الرّخام، وينقر فيها نقرة لتكون كانون تلك النار التى ينزل بها من السماء؛ فدعا موسى أخاه هارون وقال له: إن الله تعالى قد اصطفانى بنار ينزلها من السماء لتأكل القرابين المقبولة ولتسرج منها القناديل، وأوصانى بها، وإنى قد اصطفيتك لها وأوصيتك بها. فدعا هارون ابنيه وقال لهما: إن الله تعالى قد اصطفى موسى بأمر وأوصاه به، وإنه قد اصطفانى له وأوصانى به، وإنى قد اصطفيتكما وأوصيتكما به. وكان أولاد هارون هم الذين يلون سدانة بيت المقدس وأمر القربان والنيران؛ فشربا ذات ليلة ثم ثملا، ثم دخلا البيت وأسرجا القناديل من هذه النار التى فى الدنيا، فغضب الجزء: 13 ¦ الصفحة: 254 الله عليهما، وسلط عليهما تلك النار حتى أحرقتهما، وموسى وهارون يدفعان عنهما النار فلم يغنيا عنهما من الله شيئا؛ فأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: هكذا أفعل بمن عصانى ممّن يعرفنى، فكيف أفعل بمن لا يعرفنى، والله أعلم. ذكر ما أنعم الله تعالى به على بنى إسرائيل بعد خروجهم من مصر قال الله عز وجل: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ. قال أبو إسحاق الثعلبىّ: اختلفوا فى معنى الملوك؛ فروى عن أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كانت بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم وامرأة فهو ملك» . وقال أبو عبد الرحمن الحبلىّ: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص- وسأله رجل فقال: ألسنا من فقراء المهاجرين؟ - فقال له عبد الله: ألك امرأة تأوى إليها؟ قال: نعم. قال: ألك مسكن تسكنه؟ قال: نعم. قال: فأنت من الأغنياء. قال: وإنّ لى خادما. قال: فأنت من الملوك. وقال الضحّاك: كانت منازلهم واسعة، فيها مياه جارية، فمن كان مسكنه واسعا وفيه ماء جار فهو ملك. وقال قتادة: وكانوا أوّل من ملك الخدم، وأوّل من سخّر لهم الخدم من بنى آدم. وقال السدّىّ: يعنى وجعلكم أحرارا تملكون أنفسكم بعد ما كنتم فى أيدى القبط بمنزلة أهل الجزية، فأخرجكم الله تعالى من ذلك الذلّ. وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ ، يعنى من عالم زمانكم. وقال مجاهد: يعنى المنّ والسلوى والحجر والغمام. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 255 قال: ثم أوحى الله تعالى إلى موسى أن يسير ببنى إسرائيل إلى الأرض المقدّسة ويجاهد الجبّارين؛ فأخرجهم موسى- عليه السلام- لذلك، فقال: يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ. قال الثعلبىّ: اختلفوا فى الأرض المقدّسة ما هى. فقال مجاهد: هى الطّور وما حوله. وقال الضحاك: هى إيلياء وبيت المقدس. وقال عكرمة والسدّىّ وابن يزيد: هى أريحا. وقال الكلبىّ: دمشق وفلسطين وبعض الأردن. وقال قتادة: الشأم كلّه. قال الكسائىّ: فلمّا أخبرهم موسى بذلك قالوا: يا موسى إنّك قلت لنا حين أخرجتنا من مصر: إنّ الله تعالى بعثك لتنقذنا من عذاب فرعون، والآن فإنك تحملنا على ما هو أشقّ منه، وبيننا وبين الأرض المقدّسة المفاوز والقفار، وكيف ندخلها ولا زاد معنا ولا ماء؟ فأوحى الله تعالى إليه: يا موسى، قل لهم: إنى منزّل عليهم المنّ والسلوى، وقد أمرت الحجر أن يتفجّر لهم بالماء العذب، وأمرت الغمام أن يظلّهم ويسير معهم حيث ساروا؛ وألا تنقب خفافهم ونعالهم؛ وأمرت ثيابهم أن يلبسها صغيرهم وكبيرهم. فلما سمعوا ذلك طابت نفوسهم، وساروا نحو الأرض المقدّسة والغمام يظلّهم فى مسيرهم، والسماء تمطر عليهم بالمنّ، والريح بالسلوى، ويجدون كلّ ما يحتاجون إليه، ويضىء لهم بالليل عمود من النور، وتهبّ الريح على السلوى فتمعط ريشها فيطبخونها بغير تعب؛ ويقرع موسى- عليه السلام- الحجر فتفجّر لهم اثنتا عشرة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 256 عينا، تجرى كلّ عين إلى سبط من الأسباط؛ وثيابهم جدد بيض لا تخلق، وهم فى خفض ودعة. وقال أبو إسحاق الثعلبىّ، كان ما أنعم الله تعالى به عليهم أنهم قالوا لموسى فى التّيه: أهلكتنا وأخرجتنا من العمران إلى مفاوز لا ظلّ فيها. فأنزل الله تعالى عليهم غمامة بيضاء رقيقة ليست بغمام المطر أرق وأطيب وأبرد، فأظلّتهم وكانت تسير معهم إذا ساروا، وتدور عليهم من فوقهم إذا داروا؛ وجعل لهم عمودا من نور يضىء لهم بالليل إذا لم يكن ضوء القمر؛ فقالوا: هذا الظلّ والنور قد حصلا، فأين الطعام؟ فأنزل الله عليهم المنّ. واختلفوا فيه؛ فقال مجاهد: هو شىء كالصمغ يقع على الأشجار، وطعمه كالشّهد. وقال الضحّاك «1» : هو الطّرنجبين. وقال وهب: الخبز الرّقاق. وقال السدّىّ: عسل كان يقع فى السّحر من الليل فيأكلون منه. وقال عكرمة: أنزل الله- عزّ وجلّ- عليهم مثل الزيت الغليظ. وقيل: هو الزنجبيل. وقال الزجّاج: جملة المنّ: ما يمنّ الله عزّ وجلّ به ممّا لا تعب فيه ولا نصب. فكان ينزل عليهم كلّ ليلة ويقع على أشجارهم مثل الثلج، لكلّ إنسان منهم صاع كلّ ليلة؛ فقالوا: يا موسى، قتلنا هذا المنّ بحلاوته، فادع لنا ربّك أن يطعمنا اللحم. فدعا موسى عليه السلام، فأنزل الله- عزّ وجلّ- عليهم السّلوى. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 257 قالوا: واختلفوا فيه؛ فقال ابن عباس- رضى الله عنهما- وأكثر المفسّرين: هو طائر يشبه السّمانى. وقال أبو العالية ومقاتل: بعث الله- عزّ وجلّ- السحابة فمطرت السّمانى فى عرض ميل وقدر طول رمح فى السماء بعضه على بعض. وقال عكرمة: طير يكون بالهند أكبر من العصفور. فكان يأخذ كلّ واحد منهم ما يكفيه يوما وليلة من المنّ والسلوى، فإذا كان يوم الجمعة أخذوا ما يكفيهم عن يومين، لأنه لم يكن ينزل عليهم يوم السبت، فذلك قوله تعالى: وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ ولا تدّخروا لغد. فجنوا لغد فقطع الله ذلك عنهم، ودوّد وفسد ما ادّخروا، فذلك قوله تعالى: وَما ظَلَمُونا معناه وما ضرّونا بالمعصية وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ روى عن أبى هريرة- رضى الله عنه- عن رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- أنه قال: لولا بنو إسرائيل لم يخثر الطعام، ولم يخبث اللحم، ولولا حوّاء لم تخن أنثى زوجها. ثم قالوا: يا موسى، من أين لنا الشراب؟ فاستسقى لهم موسى؛ فأوحى الله تعالى إليه: أن أضرب بعصاك الحجر. قال الثعلبىّ: واختلف العلماء فى الحجر؛ فقال وهب: كان موسى- عليه السلام- يقرع لهم أقرب حجر من عرض الحجارة فيتفجّر عيونا، لكلّ سبط عين، وكانوا أثنى عشر سبطا، ثم تسيل كلّ عين فى جدول إلى سبط؛ فقالوا: إن فقد موسى عصاه متنا عطشا. فأوحى الله تعالى إليه: لا تقرعنّ الحجارة بالعصا ولكن كلّمها تطعك لعلّهم يعتبرون. فكان يفعل ذلك. فقالوا: كيف بنا لو مضينا إلى الرمل وإلى الأرض التى ليس فيها حجارة؟ فأمر موسى فحمل معه حجرا، فحيثما نزل ألقاه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 258 وقال آخرون: كان حجرا مخصوصا بعينه، والدليل عليه قوله: «الحجر» فأدخل الألف واللام للتعريف والتخصيص؛ وأمر أن يحمله، فكان موسى عليه السلام يضعه فى مخلاته، وإذا احتاجوا إلى الماء أخرجه وضربه بعصاه وسقاهم. وقال أبو روق: كان الحجر من الغضار، وكان فيه اثنتا عشرة حفرة ينبع من كل حفرة ماء عذب، فيأخذونه، فإذا فرغوا وأراد موسى حمله ضربه بعصاه؛ فيذهب الماء؛ فكان كلّ يوم يستقى منه ستّمائة ألف. وقال سعيد بن جبير: هو الحجر الذى وضع موسى عليه ثوبه لغسله ففرّ بثوبه؛ فلما وقف أتاه جبريل فقال: يا موسى، إن الله تعالى يقول لك: ارفع هذا الحجر فإنّ لى فيه قدرة، ولك فيه معجزة. وقد تقدّم ذكر خبر الحجر. وورد أيضا فى صحيح البخارىّ نحو ما تقدّم. قال أبو إسحاق الثعلبىّ: وكان مما أنعم الله تعالى به على بنى إسرائيل أنهم قالوا لموسى عليه السلام: من أين لنا اللباس؟ فخلّد الله تعالى ثيابهم التى عليهم حتى إنها لا تزيد على الأيام ومرورها إلّا جدّة وطراوة، ولا تخلق ولا تبلى، وتنمو على صبيانهم كما ينمون. قال: ثم سئم بنو إسرائيل المنّ والسلوى، فقالوا ما أخبر الله تعالى به عنهم: وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها. واختلف فى الفوم ما هو؟ فقال ابن عبّاس: هو الخبز، تقول العرب: «فوموا لنا» ، أى اختبزوا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 259 وقال عطاء وأبو مالك: هو الحنطة، وهى لغة قديمة. وقال العتبىّ: هو الحبوب كلّها. وقال الكلبىّ والنضر بن شميل والكسائىّ والمؤرّج: هو الثّوم. فقال لهم موسى عند ذلك: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ. قالوا: مصرا من الأمصار، ولذلك نوّنه؛ ولو أراد مصر بعينها لقال: «مصر» ولم يصرفه، كقوله تعالى: ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ. وقال الضحّاك: هى مصر فرعون. واليهود يزعمون أنّ موسى- عليه السلام- وبنى إسرائيل حرّم عليهم بنصّ التوراة الدخول إلى مصر حين خرجوا منها عند اتباع فرعون لهم وغرقه، وأنهم لم يدخلوها بعد ذلك. والله أعلم. ولنرجع إلى أخبار النقباء وقتال الجبّارين. ذكر خبر النقباء ومسيرهم إلى أريحا، وقصّة عوج بن عوق «1» وخبر التّيه قال الله عزّ وجلّ: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً. قال الثعلبىّ: وذلك أن الله تعالى وعد موسى- عليه السلام- أن يورثّه وقومه الأرض المقدّسة، وهى الشأم، وكان يسكنها الكنعانيّون الجبّارون ووعدهم أن يهلكهم ويجعل أرض الشأم مسكن بنى إسرائيل؛ فلمّا استقرّت ببنى إسرائيل الدار بمصر أمرهم الله تعالى بالمسير إلى أريحا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 260 «هكذا قال الثعلبىّ: بمصر «1» » . واليهود تنكر ذلك، ويقولون: إن نص التوراة عندهم أن الله تعالى لما أغرق فرعون وقومه ونجّى موسى وبنى إسرائيل، تنقلوا من مكان إلى آخر. ويذكرون أسماء الأماكن بالعبرانية- وليست تعرف الآن- وكان فى خلال مسيرهم خبر التيه، وكلّ ما تقدّم ذكره من الأخبار يزعمون أنه فى التيه؛ والله أعلم. نعود إلى سياق الثعلبىّ. قال: فأمرهم الله تعالى بالمسير إلى أريحا وأرض الشأم، وهى الأرض المقدّسة وقال: يا موسى، إنى قد كتبتها لكم دارا وقرارا، فاخرج إليها وجاهد من فيها من العدوّ، فإنى ناصركم عليهم، وخذ من قومك اثنى عشر نقيبا، من كل سبط نقيبا يكون كفيلا على قومه بالوفاء منهم على «2» ما أمروا به. فاختار موسى- عليه السلام- النقباء. قال: وهذه أسماؤهم؛ «من سبط «3» روبيل شامل بن زكور. ومن سبط شمعون سافاط بن حرى. ومن سبط يهوذا كالب بن يوقنا. ومن سبط أبين حامل بن بكر الجزء: 13 ¦ الصفحة: 261 ابن سورا. ومن سبط يوسف وهو سبط افرايم يوشع بن نون. ومن سبط بنيامين قلطم بن رقوق. ومن سبط زبولون خدى بن سورى. ومن سبط يوسف وهو سبط منشى بن يوسف جدّى بن سوشى. ومن سبط أشير شيانون بن ملكيل. ومن سبط نفتالى حنا بن وقشى. ومن سبط دان جملائيل بن حمل. ومن سبط لاوى حولى بن مليكا» . قال: فسار موسى ببنى إسرائيل حتى إذا دنوا من أرض كنعان- وهى أريحا- بعث هؤلاء النقباء إليها يتجسّون له الأخبار ويعلمون علمها؛ فلقيهم رجل من الجبّارين يقال له: عوج بن عوق، وكان طوله ثلاثة آلاف وعشرين ألف ذراع وثلاثمائة ذراع وثلاثا وثلاثين ذراعا. قال ابن عمر- رضى الله عنهما-: وكان عوج يحتجز بالسحاب ويشرب منه، ويتناول الحوت من قرار البحر فيشويه بعين الشمس يرفعه إليها، ثم يأكله. ويروى أنه أتى نوحا- عليه السلام- يوم الطّوفان فقال له: احملنى معك فى السفينة. فقال له: اذهب يا عدوّ الله فإنّى لم أومر بك؛ وطبّق الماء ما على وجه الأرض من سهل وجبل فما جاوز ركبتى عوج. وعاش عوج ثلاثة آلاف سنة حتى أهلكه الله على يدى موسى. قال: وكان لموسى عسكر فرسخ فى فرسخ، فجاء عوج حتى نظر إليهم، ثم جاء إلى الجبل وقوّر منه صخرة على قدر العسكر، ثم حملها ليطبقها على العسكر، فبعث الله عليه الهدهد ومعه الطيور، وجعلت تنقر بمناقيرها حتى قوّرت الصخرة وانثقبت حتى وقعت فى عنق عوج. فطوّقته وصرعته، فأقبل موسى وطوله عشر أذرع وطول عصاه عشر أذرع، ونزا فى السماء عشر أذرع، فما أصاب إلّا كعبه وهو مصروع بالأرض، فقتله. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 262 قالوا: وأقبلت جماعة كثيرة ومعهم الخناجر حتى حزّوا رأسه؛ فلما قتل وقع على نيل مصر فسكره «1» سنة. قالوا: وكانت أمّ عوج يقال لها: عناق، وهى إحدى بنات آدم لصلبه. ويقال: إنها كانت أوّل من بغت على وجه الأرض، وكان كلّ إصبع من أصابعها ثلاث أذرع فى ذراعين، فى كلّ إصبع ظفران حادّان مثل المنجلين، وكان موضع مقعدها جريب من الأرض، فلمّا بغت بعث الله تعالى إليها أسودا كالفيلة وذئابا كالإبل، ونسورا كالحمر، وسلّطها عليها فقتلوها وأكلوها. قالوا: فلمّا لقى عوج النقباء لقيهم وعلى رأسه حزمة حطب، فأخذهم وجعلهم فى حزمته، وانطلق بهم إلى امرأته، وقال: انظرى إلى هؤلاء الّذين يريدون قتالنا. فطرحهم بين يديها وقال: ألا أطحنهم برجلى؟ قالت امرأته: لا، بل خلّ عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا. ففعل؛ وجعلوا يتعرّفون أحوالهم. وكان لا يحمل عنقود عنبهم إلّا خمسة أنفس بينهم فى خيشة، ويدخل فى قشر شطر الرّمانة إذا نزع حبّها خمسة أنفس. قال: فلمّا خرج النقباء قال بعضهم لبعض: يا قوم إنكم إن أخبرتم بنى إسرائيل خبر القوم ارتدّوا عن نبىّ الله، ولكن اكتموا وأخبروا موسى وهارون فيكونا هما يريان رأيهما. فأخذ بعضهم على بعض الميثاق بذلك؛ ثم انصرفوا إلى موسى- عليه السلام- وجاءوا بحبّة من عنبهم وقر رجل، ثم إنهم نكثوا العهد، وجعل كلّ واحد منهم ينهى سبطه عن قتالهم، ويخبرهم بما رآى، إلّا يوشع وكالب. قال: فلمّا سمع القوم ذلك من النقباء رفعوا أصواتهم بالبكاء وقالوا: يا ليتنا متنا فى أرض مصر، وليتنا نموت فى هذه البريّة ولا يدخلنا الله أرضهم، فتكون نساؤنا وأولادنا وأموالنا غنيمة لهم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 263 وجعل الرجل يقول لأصحابه: تعالوا نجعل علينا رأسا وننصرف إلى مصر؛ فذلك قوله تعالى إخبارا عنهم: يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ. فلما قالوا ذلك وهمّوا بالانصراف إلى مصر، خرّ موسى وهارون- عليهما السلام- سجّدا، وخرق يوشع وكالب ثيابهما، وهما الّلذان أخبر الله تعالى عنهما بقوله: قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ، أى يخافون الله. وقرأ سعيد بن جبير (يخافون) بضم الياء. قال: كانا من الجبّارين، فأسلما واتبعا موسى. أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ ، لأن الله تعالى منجز وعده، وإنا أتيناهم فكانت أجسامهم عظيمة قويّة، وقلوبهم ضعيفة، فلا تخشوهم، وعلى الله فتوكّلوا إن كنتم مؤمنين. فأراد بنو إسرائيل أن يرجموهما بالحجارة، وقالوا: يا موسى إنّا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا ههنا قاعدون. فلما قالوا ذلك غضب موسى وقال: ربّ إنّى لا أملك إلّا نفسى وأخى فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين. وكانت عجلة عجلها موسى- عليه السلام- فظهر الغمام على قبّة الزمان، وأوحى الله تعالى إلى موسى: إلى متى يعصينى هذا الشعب، وإلى متى لا يصدّقون بالآيات؟ لأقتلنهم جميعا، ولأجعلنّ بدلهم شعبا أشدّ وأكثر منهم. قال موسى: إلهى لو أنّك قتلت هذا الشعب كلّه كرجل واحد قالت الأمم الذين سمعوا: إنّما قتل هذا الشعب من أجل أنه لم يستطع أن يدخلهم الأرض المقدّسة، فقتلهم فى البرّيّة. وإنك طويل صبرك، كثيرة نعمك، وأنت تغفر الذنوب، وتحفظ الآباء على الأبناء وأبناء الأبناء، فاغفر لهم ولا توبقهم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 264 فقال الله تعالى: قد غفرت لهم بكلمتك، ولكن بعد ما سميّتهم فاسقين ودعوت عليهم، لأحرّمنّ عليهم دخول الأرض المقدّسة غير عبدىّ يوشع وكالب ولأتيهنّهم فى هذه البرّيّة أربعين سنة، ولتلقينّ جيفهم فى هذه القفار؛ وأمّا بنوهم الّذين لم يعملوا الخير والشرّ فإنهم يدخلون الأرض المقدّسة، فذلك قوله تعالى: قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ في ستّة فراسخ، يسيرون كلّ يوم جادّين، حتى إذا سئموا وأمسوا، فإذا هم فى الموضع الّذى ارتحلوا منه وكانوا ستّمائة ألف مقاتل، مات النقباء العشرة الّذين أفشوا الخبر بغتة، وكلّ من دخل التيه ممّن جاوز عشرين سنة مات فى التّيه غير يوشع وكالب، ولم يدخل أريحا أحد ممن قال: إنّا لن ندخلها أبدا. فلما هلكوا وانقضت أربعون سنة، ونشأت النواشئ من ذراريّهم، ساروا إلى حرب الجبّارين، فذلك قوله تعالى: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ. والله المعين. ذكر مسير موسى- عليه السلام- وبنى إسرائيل لحرب الجبّارين ودخولهم القرية قال الله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ. اختلف المفسّرون فى القرية: قال ابن عبّاس: هى أريحا، وهى قرية الجبّارين، وكان فيها بقيّة من عاد يقال لهم: العمالقة. وقيل: هى بلقاء. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 265 وقال ابن كيسان: هى الشأم. وقال الضحّاك: الرملة والأردنّ وفلسطين وتدمر. وقال مجاهد: بيت المقدس. وقال مقاتل: إيلياء. وقوله: رغدا، أى موسّعا عليكم. والباب: باب من أبواب القرية، وكان لها سبعة أبواب. وقال مجاهد: هو باب فى بيت المقدس يعرف إلى اليوم بباب حطّة. وقيل: هو باب القبّة الّتى كان موسى يصلّى إليها. وعن مجاهد أيضا: أنه باب فى الجبل الّذى كلّم الله تعالى عليه موسى كالفرضة. وقوله: سجّدا، أى منحنين متواضعين. وقال وهب: قيل لهم: ادخلوا الباب فإذا دخلتموه فاسجدوا شكرا لله عزّ وجلّ، وذلك أنّ موسى- عليه السلام- لما انقضت مدّة التيّه سار بالأبناء إلى القرية ودخلها، ودخل المؤمنون سجّدا كما أمرهم الله تعالى. وقوله: وَقُولُوا حِطَّةٌ ، قال قتادة: حطّت عنّا خطايانا، أمروا بالاستغفار. قال ابن عبّاس: يعنى لا إله إلا الله، لأنها تحطّ الذنوب. فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ. قال مجاهد: طؤطئ لهم الباب ليخفضوا رءوسهم، فلم يخفضوا ولم يركعوا ولم يسجدوا، ودخلوا يزحفون على أستاههم، وقالوا قولا غير الذى قيل لهم، وذلك أنهم أمروا أن يقولوا: حطّة؛ فقالوا: (هطا سمعاثا) ، يعنون حنطة سمراء استخفافا بأمر الله تعالى؛ قال الله تعالى: فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ، وذلك أنّ الله تعالى أرسل عليهم ظلمة وطاعونا، فهلك منهم فى ساعة واحدة سبعون ألفا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 266 قال الكسائىّ: وغلب موسى على مدينة أريحا، وهرب من كان بها من الجبّارين. وقيل: إنما دخل موسى الآن أرض كنعان، وإن مدينة أريحا فتحها يوشع ابن نون بعد وفاة موسى- عليه السلام- على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى فى أخبار يوشع. ذكر خبر مدينة بلقاء وخبر بلعم بن باعورا وما يتّصل بذلك قالوا: ولمّا دخل موسى ببنى إسرائيل أرض كنعان، سار منها يريد مدينة بلقاء. قال مقاتل: سمّيت بلقاء لأنّ ملكها كان يقال له: بالق، وكان بها بلعم بن باعورا، وهو الذى أنزل الله تعالى فيه: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ الآيات. وقيل: نزلت الآيات فى غيره- على ما نذكره إن شاء الله تعالى آخر القصّة-. واختلف أيضا فى اسمه ونسبه. فقال ابن عبّاس- رضى الله عنهما-: هو بلعم بن باعورا. وقال ابن مسعود- رضى الله عنه-: بلعم بن ابر. وقال مجاهد: بلعام بن باعر. وقال الثعلبىّ: قال أكثر المفسّرين: هو بلعام بن باعورا بن أيدن بن مأرب ابن لوط، وكان من الكنعانيّين. وقال عطية عن ابن عبّاس: هو من بنى إسرائيل. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 267 وقال على بن أبى طلحة عنه: هو من الكنعانيّين من مدينة الجبّارين. وقال مقاتل: هو من مدينة بلقاء. قالوا: فلمّا أقبل موسى ببنى إسرائيل إلى مدينة بلقاء، كان أهلها يعبدون الأصنام، فلمّا بلغ الملك مسير موسى- عليه السلام- إليه استشار أكابر دولته؛ فقالوا له: إنّ فرعون لم يطقه مع كثرة جنوده، فأنت أولى ألّا تطيقه، غير أنّ هاهنا رجلا يعرف ببلعام مجاب الدعوة، التمس منه أن يدعو عليهم ليكفيك ربّك أمر موسى. فبعث الملك إليه وأحضره وتحدّث معه فى أمر موسى؛ فقال: حتى أستأذن ربّى. ودخل بلعم مصلّاه واستأذن فى الخروج، فأوحى إليه أن هذا العسكرهم بنو إسرائيل، وعليهم موسى رسولى، ولا تخرج إليهم. فقال بلعم لرسل الملك: إنّ ربى قد منعنى من ذلك، فانصرفوا وعرّفوا الملك. وكان لبلعم امرأة، فأهدى لها الملك هديّة نفيسة، وسألها أن تكلّم زوجها فى التوجّه مع الملك؛ فسألته؛ فقال: قد استأذنت ربّى فنهانى. فلم تزل به حتى استأذن الله ثانيا؛ فأوحى الله إليه: أنى نهيتك عن ذلك، والآن قد جعلت الأمر إليك. فطابت نفسه بالخروج مع الملك. حكاه الكسائىّ. وقال الثعلبىّ فى تفسيره، وعزاه إلى ابن عباس وابن إسحاق والسدّىّ وغيرهم: إن موسى- عليه السلام- لما قصد حرب الجبّارين ونزل أرض كنعان من أرض الشأم، أتى قوم بلعام- وكان عنده اسم الله الأعظم- فقالوا: إن موسى رجل حديد، ومعه جنود كثيرة، وإنه قد جاء يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويحلّها بنى إسرائيل، وإنّا قومك وبنو عمّك، وليس لنا منزل، وأنت رجل مجاب الدعوة فاخرج وادع الله أن يردّ عنّا موسى وقومه. فقال: ويلكم، هو نبىّ الله ومعه الملائكة والمؤمنون، كيف أدعو عليهم وأنا أعلم من الله ما أعلم؟! وإنى إن فعلت ذلك ذهبت الجزء: 13 ¦ الصفحة: 268 دنياى وآخرتى. فراجعوه فى ذلك، فقال: حتى أوامر ربّى.- وكان لا يدعو حتى ينظر ما يؤمر به فى المنام- فآمر فى الدعاء عليهم، فقيل له فى المنام: لا تدع عليهم. فقال لقومه: إنى قد نهيت عن الدعاء عليهم. فأهدوا إليه هديّة فقبلها، ثم راجعوه فى الدعاء عليهم، فقال: حتى أؤامر. فآمر فلم يجر إليه شىء فقال: قد آمرت فلم يجر إلىّ شىء. فقالوا: لو كره ربّك أن تدعو عليهم لنهاك كما نهاك فى المرّة الأولى. فلم يزالوا به يرققونه ويتضرعون إليه حتى فتنوه فافتتن؛ فركب أتانا له متوجها إلى جبل يطلعه على عسكر بنى إسرائيل يقال له: (حبّان) ؛ فلما سار عليها غير كثير ربضت، فنزل عنها فضربها، حتى إذا آلمها قامت، فركبها فلم تسر به كثيرا حتى ربضت، فنزل عنها وضربها حتى إذا آلمها أذن لها بالكلام، فتكلّمت حجّة عليه، فقالت: ويحك يا بلعم، أين تذهب؟ ألا ترى الملائكة أمامى يردّوننى عن وجهى هذا؟ تذهب إلى نبى الله والمؤمنين تدعو عليهم؟ فلم ينزع عنها؛ فخلّى الله سبيلها؛ فانطلقت حتى إذا أشرفت به على جبل (حبّان) جعل يدعو عليهم، فلا يدعو بشرّ إلا صرف به لسانه إلى قومه؛ ولا يدعو لقومه بخير إلّا صرف لسانه إلى بنى إسرائيل؛ فقال قومه: يا بلعم أتدرى ما تصنع؟ إنما تدعو لهم وتدعو علينا. قال: فهذا مالا أملك. واندلع لسانه فوقع على صدره، فقال لهم: قد ذهبت منى الآن الدنيا والآخرة، ولم يبق إلّا المكر والحيلة، فسأمكر لكم وأحتال، جمّلوا النساء وزيّنوهنّ وأعطوهنّ السّلع، ثم أرسلوهنّ إلى العسكر يبعنها فيه، ومروهنّ فلا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها؛ فإنّهم إن زنى منهم رجل واحد كفيتموهم. ففعلوا؛ فلما دخل النساء العسكر مرّت امرأة من الكنعانيين اسمها كستى «1» بنت صعور برجل من عظماء بنى إسرائيل يقال له: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 269 زمزى بن شلوم رأس سبط شمعون بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم- عليهم السلام- فقام إليها فأخذ بيدها حين أعجبه جمالها؛ ثم أقبل حتى وقف على موسى فقال له: إنى أظنك ستقول: هذه حرام عليك. قال موسى: أجل، هى حرام عليك، لا تقربها. قال: فو الله لا نطيعك فى هذا. ثم دخل بها قبّته فوقع عليها فأرسل الله تعالى الطاعون على بنى إسرائيل فى الوقت؛ وكان فنحاص بن العيزار ابن هارون صاحب أمر موسى رجلا قد أعطى بسطة فى الخلق وقوّة فى البطش وكان غائبا حين صنع زمزى بن شلوم ما صنع، فجاء والطاعون يجوس فى بنى إسرائيل فأخبر الخبر، فأخذ حربته، وكانت كلّها من حديد، ثم دخل عليهما القبّة وهما مضطجعان فنظمهما بحريته، ثم خرج بهما رافعا حربته إلى السماء قد أخذها بذراعه، واعتمد بمرفقه على خاصرته، وأسند الحربة إلى لحيته- وكان بكر العيزار- وجعل يقول: اللهمّ هكذا تفعل بمن يعصيك؛ ورفع الطاعون، فحسب من هلك من بنى إسرائيل فى الطاعون- فيما بين أن أصاب المرأة إلى أن قتله فنحاص- فوجدوه قد أهلك منهم سبعين ألفا فى ساعة واحدة من النهار. قال: فمن هناك يعطى بنو إسرائيل ولد فنحاص من كلّ ذبيحة ذبحوها الخاصرة «1» والذراع واللّحية، لاعتماده بالحربة على خاصرته، وأخذه إياها بذراعه، وإسناده إياها إلى لحيته، والبكر من كل أموالهم وأنفسهم، لأنه كان بكر العيزار بن هارون. قال الثعلبىّ أيضا: وقال مقاتل: إن ملك البلقاء قال لبلعام: ادع الله على موسى. فقال: إنه من أهل دينى فلا أدعو عليه. فنحت الملك خشبة ليصلبه فلما رأى ذلك خرج على أتان له ليدعو عليه، فلما عاين عسكرهم قامت به الأتان الجزء: 13 ¦ الصفحة: 270 وقد وقفت، فضربها، فقالت: لم تضربنى وأنا مأمورة؟ فلا تظلمنى، وهذه نار أمامى قد منعتنى أن أمشى. فرجع فأخبر الملك؛ فقال: لتدعونّ عليه أو لأصلّبنّك. فدعا على موسى باسم الله الأعظم ألّا يدخل المدينة، فاستجيب له، ووقع موسى فى التّيه بدعائه، فقال موسى: يا ربّ بأىّ ذنب وقعنا فى التّيه. فقال: بدعاء بلعام. قال: ربّ بما سمعت دعاءه علىّ فاسمع دعائى عليه. فدعا موسى أن ينزع منه الاسم الأعظم والإيمان. فسلخه الله مما كان عليه، ونزع منه المعرفة، فخرجت كحمامة بيضاء، فذلك قوله عز وجل فَانْسَلَخَ مِنْها. وقال عبد الله بن عمرو بن العاص وسعيد بن المسيّب وأبو روق وزيد بن أسلم: نزلت هذه الآية فى أميّة بن أبى الصّلت، وكانت قصته أنه كان فى ابتداء أمره قد قرأ الكتب وعلم أن الله عزّ وجلّ مرسل رسولا فى ذلك الوقت، ورجا أن يكون هو ذلك الرسول، فلما أرسل الله تعالى محمدا- صلى الله عليه وسلّم- حسده وكان قد قصد بعض الملوك، فلما رجع مرّ بقتلى بدر، فسأل عنهم؛ فقيل: قتلهم محمد. فقال: لو كان نبيّا ما قتل أقرباءه. فلما مات أتت أخته فارعة رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- فسألها رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- عن وفاة أخيها؛ فقالت: بينا هو راقد أتاه اثنان فكشفا سقف البيت ونزلا، فقعد أحدهما عند رجليه والآخر عند رأسه، فقال الّذى عند رجليه للّذى عند رأسه: أوعى؟ قال: وعى. قال: أزكا «1» قال: أبى. [قالت] «2» : فسألته عن ذلك؟ فقال: خير أريد بى فصرف عنّى. ثم غشى عليه، فلمّا أفاق قال: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 271 كلّ عيش وإن تطاول دهرا ... صائر أمره إلى أن يزولا ليتنى كنت قبل ما قد بدا لى ... فى قلال الجبال أرعى الوعولا إنّ يوم الحساب يوم عظيم ... شاب فيه الصغير يوما ثقيلا ثم قال لها رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- أنشدينى من شعر أخيك. فأنشدته: لك الحمد والنّعماء والفضل ربّنا ... ولا شىء أعلى منك جدّا وأمجد مليك على عرش السماء مهيمن ... لعزّته تعنو الوجوه وتسجد وهى قصيدة طويلة، حتى أتت على آخرها. وأنشدته قصيدته الّتى يقول فيها: يوقف الناس للحساب جميعا ... فشقّى معذّب وسعيد ثم أنشدته قصيدته الّتى يقول فيها: عند ذى العرش تعرضون عليه ... يعلم الجهر والسّرار الخفيّا يوم نأتى الرحمن وهو رحيم ... إنّه كان وعده مأتيّا يوم آتيه- مثل ما قال- فردا ... ثم لا أدر «1» راشدا أم غويّا أسعيدا إسعاده أنا أرجو ... أو مهانا بما اكتسبت شقيّا إن أؤاخذ بما اجترمت فإنّى ... سوف ألقى من العذاب فريّا ربّ إن تعف فالمعافاة ظنّى ... أو تعاقب فلم تعاقب بريّا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: آمن شعره وكفر قلبه. وأنزل الله تعالى فيه: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها الآيات. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 272 ومنهم من قال: إنّ الآيات نزلت فى البسوس، وكان رجلا أعطى ثلاث دعوات مستجابة، وكانت له امرأة، وكان له منها ولد، فقالت: اجعل لى منها دعوة واحدة. فقال: لك فيها دعوة، فما تريدين؟ قالت: ادع الله أن يجعلنى أجمل امرأة فى بنى إسرائيل. فدعا لها، فصارت أجمل امرأة فى بنى إسرائيل؛ فلما علمت أنّه ليس فيهم مثلها رغبت عنه، فغضب ودعا عليها، فصارت كلبة نبّاحة، فجاء بنوها وقالوا: ليس لنا على هذا قرار، قد صارت أمّنا كلبة نبّاحة والناس يعيّروننا بها، فادع الله أن يردّها إلى الحال الّتى كانت عليها. فدعا الله تعالى، فعادت كما كانت، فذهبت فيها الدعوات. وقال أبو سعيد: نزلت فى أبى عامر بن نعمان بن صيفىّ الراهب الذى سمّاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: الفاسق، وكان قد ترهّب فى الجاهليّة ولبس المسوح وقدم المدينة، فقال للنبىّ صلّى الله عليه وسلّم: ما هذا الذى جئت به؟ فقال: جئت بالحنيفيّة دين إبراهيم. قال: فأنا عليها، فقال له النبىّ صلّى الله عليه وسلّم: لست عليها، ولكنّك أدخلت فيها ما ليس منها. ثم خرج إلى كفّار قريش. وأخباره تذكر- إن شاء الله- فى سيرة سيّدنا رسول الله- صلى الله عليه وسلّم. فهذا ما قيل فى تفسير هذه الآية. قال الكسائىّ: ونادى موسى فى قومه بعد رفع الطاعون عنهم: «أن احملوا» . فحملوا واقتتلوا، فقتل الملك وبلعم، وانهزم الباقون، وغنم بنو إسرائيل من النساء والولدان شيئا كثيرا. والله تعالى أعلم بالصواب. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 273 ذكر خبر وفاة هارون عليه الصلاة والسلام قال الكسائىّ:- وذكر وفاة هارون إثر خبر البقرة وقتل عاميل- قال: لمّا كان بعد قتل عاميل نظر هارون إلى جبل فى التّيه بعيد من العسكر، فقال: يا موسى، ألا نمضى إلى ذلك الجبل فننظر إلى خضرته ونضارته. فمضيا من الغد ومعهما أولاد هارون، فأتوه فإذا هو جبل كثير المياه والعشب والكهوف وفيه كهف واسع يسطع نورا، فدخلوه وإذا هم بسرير من ذهب عليه أنواع من الفرش، فصعد هارون إليه ونام، فجاء طوله، فهمّ أن ينزل، فأتاه ملك الموت فى صورة شابّ حسن، فقبض روحه، وغسّلته الملائكة، وصلّى موسى عليه، وسدّوا باب الكهف، وعاد موسى إلى بنى إسرائيل، فسألوه عن هارون، فأخبرهم بوفاته قالوا: بل قتلته. فقال: ماذا لقيت منكم يا سفهاء بنى إسرائيل، أقتل أخى وشقيقى؟ ثم دعا ربّه أن يريهم إيّاه على صورته. فأمر الله تعالى الملائكة أن يخرجوا سريره من الكهف، فأخرجوه وحملوه فى الهواء حتى نظرت إليه بنو إسرائيل، ثم نادت الملائكة: يا بنى إسرائيل، هذا سرير هارون قد قبضه الله تعالى إليه. وقال أبو إسحاق الثعلبىّ فى تفسيره فى وفاة هارون- عليه السلام- قال السدّىّ: أوحى الله تعالى إلى موسى- عليه السلام- أنى متوفى هارون، فأت به جبل كذا وكذا. فانطلق موسى وهارون- عليهما السلام- نحو ذلك الجبل فإذا هما بشجرة لم يريا شجرة مثلها، وإذا بيت مبنى، وفيه سرير عليه فراش واذا فيه ريح طيّبة، فلما نظر هارون إلى ذلك أعجبه وقال: يا موسى، إنّى أحبّ أن أنام على هذا السرير. قال: نم عليه. قال: إنى أخاف أن يأتى ربّ هذا البيت فيغضب علىّ. قال موسى: لا ترهب، أنا أكفيك ربّ هذا البيت، فنم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 274 قال: يا موسى، بل نم معى، فإن جاء ربّ البيت غضب علىّ وعليك جميعا. فلمّا ناما أخذ هارون الموت، فلما وجد حسّه قال: يا موسى خدعتنى. فلمّا قبض- عليه السلام- رفع ذلك البيت، وذهبت تلك الشجرة، ورفع السرير به إلى السماء، فلما رجع موسى إلى بنى إسرائيل وليس معه هارون، قالوا: إن موسى قتل هارون وحسده لحبّ بنى إسرائيل له. فلمّا أكثروا عليه قام فصلّى ركعتين، ثم دعا الله تعالى، فنزل السرير حتى نظروا إليه بين السماء والأرض؛ فصدّقوه. وقال الثعلبىّ أيضا. وقال عمرو بن ميمون: مات هارون- عليه السلام- فى التّيه، ومات قبل موسى، وكانا خرجا فى التّيه إلى بعض تلك الكهوف، فمات هارون، فدفنه موسى، وانصرف إلى بنى إسرائيل، فقالوا: ما فعل هارون؟ قال: مات. قالوا: كذبت، ولكنّك قتلته لحبّنا إيّاه- وكان محبّبا فى بنى إسرائيل- فتضرّع موسى إلى الله تعالى وشكا ما لقى من بنى إسرائيل؛ فأوحى الله إليه: أن انطلق بهم إلى قبره، فإنّى باعثه حتى يخبرهم أنه مات موتا وأنك لم تقتله. فانطلق بهم موسى إلى قبره، فنادى: يا هارون. فخرج من قبره ينفض رأسه؛ فقال: أنا قاتلك؟ قال: لا، ولكنّى متّ. قال: فعد إلى مضجعك. فعاد- عليه السلام- وانصرفوا. ذكر وفاة موسى بن عمران- عليه الصلاة والسلام- قال أبو إسحاق الثعلبىّ- رحمه الله- قال ابن إسحاق: كان موسى- عليه السلام- قد كره الموت وأعظمه، فأراد الله تعالى أن يحبّب إليه الموت ويكره إليه الحياة؛ وكان يوشع بن نون يغدو عليه ويروح، فيقول له موسى: يا نبىّ الله ما أحدث الله إليك. فيقول له يوشع: يا نبىّ الله، ألم أصحبك كذا وكذا سنة، فهل الجزء: 13 ¦ الصفحة: 275 كنت أسألك عن شىء ممّا أحدث الله إليك حتى تكون أنت تبتدئ به وتذكره؟ ولا يذكر له شيئا. فلما رأى موسى ذلك كره الحياة وأحبّ الموت. وعن وهب أنه قال- وذكر من كرامة موسى عليه السلام- أنه ضاق ببنى إسرائيل ذرعا لمّا كثّروا عليه؛ فأوحى الله تعالى إلى ألف نبىّ أن يكونوا أعوانا له؛ فلمّا مال الناس إليهم وجد موسى فى نفسه، فأماتهم الله تعالى لكرامته فى يوم واحد. والذى صحّ لنا من خبر وفاة موسى- عليه السلام- ما ثبت فى صحيح البخارىّ وهو ما حدّثنا به الشيخان المسندان المعمّران: شهاب الدين أبو العبّاس أحمد بن أبى طالب نعمة بن حسن بن علىّ بن سنان الشّحنة الصالحىّ الحجّار، وستّ الوزراء أمّ محمد «1» (وزيرة) ابنة الشيخ الإمام العالم شمس الدين أبى حفص عمر ابن القاضى وجيه الدين أسعد بن المنجا التنوخىّ الدمشقيّان، قراءة عليهما، وأنا أسمع بالمدينة المنصوريّة بخطّ (بين القصرين بالقاهرة المعزّيّة) ، وذلك فى يوم السبت السابع من جمادى الأولى سنة خمس عشرة وسبعمائة، بقراءة الشيخ علاء الدين علىّ بن الماردينى، قالا: حدّثنا الشيخ سراج الدين أبو عبد الله الحسين بن المبارك بن محمد بن يحيى الزبيدىّ، قال: أخبرنا الشيخ أبو الوقت عبد الأوّل بن عيسى بن شعيب السّجزىّ الصوفىّ ثم الهروىّ، قال: أخبرنا الإمام جمال الدين أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد بن المظفر بن محمد بن داود الداودىّ، قال: أخبرنا الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد بن حمويه التنوخىّ، قال: أخبرنا الإمام أبو عبد الله محمد ابن يوسف بن مطر الفهرىّ، قال: حدّثنا الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن الجزء: 13 ¦ الصفحة: 276 إبراهيم بن المغيرة بن الأحنف الجعفىّ مولاهم البخارىّ- رحمه الله- قال: حدّثنا محمود، حدّثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن أبى هريرة- رضى الله عنه- قال: أرسل ملك الموت إلى موسى عليه السلام فلما جاءه صكّه، فرجع إلى ربّه فقال: أرسلتنى إلى عبد لا يريد الموت. فردّ الله عليه عينه وقال: ارجع فقل له يضع يده على متن ثور فله بكل ما غطّت به يده بكل شعرة سنة. قال: أى رب ثم ماذا؟ قال: ثم الموت. قال: فالآن. فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدّسة رمية بحجر. قال: قال رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم-: فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر. قال الثعلبى: وكان عمر موسى- عليه السلام- مائة وعشرين سنة، عشرون منها فى ملك أفريدون، ومائة سنة فى ملك منوجهر، وبعث الله تعالى بعد موسى يوشع عليهما السلام. كمل الجزء الثالث عشر من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب لشهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب البكرى التيمىّ القرشى المعروف بالنويرىّ- رحمه الله تعالى- ويليه الجزء الرابع عشر، وأوّله: الباب الثانى من القسم الثالث من الفن الخامس فيما كان بعد موسى بن عمران عليهما السلام، وهو أخبار يوشع بن نون وحزقيل وإلياس واليسع وغيلا واشمويل وداود وطالوت وجالوت وسليمان بن داود عليهم السلام. والحمد لله رب العالمين الجزء: 13 ¦ الصفحة: 277 استدراك قد وقعت بعض أخطاء مطبعية يسيرة فى هذا الجزء، فرأينا أن نستدرك ما عثرنا عليه منها بعد الطبع، وهى فى ثلاثة مواضع: (1) وقع فى صفحة 28 سطر 5 قوله: «إبناء» . والصواب «بناء» بغير ألف فى أوّله. (2) وفى صفحة 173 سطر 9 قوله: «وخروج» . والصواب: «وحروب» كما فى بعض النسخ. (3) وفى صفحة 220 سطر 3 ما نصه: «أجد أمة مرحومة ضعفاء يرثون الكتاب الذين اصطفينا فمنهم ظالم لنفسه» الخ. وقد كتبنا فى الحاشية رقم 1 من هذه الصفحة ما يفيد أن قوله: «الذين» غير واضح موقعها من الإعراب فى هذه العبارة بخلاف موقعها من الآية المقتبسة منها، وهى قوله تعالى: «ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا» اه. وقد تبين لنا أن قوله: «الذين اصطفينا» زائدة فى هذه العبارة التى وردت فى كلام المؤلف، فقد ورد هذا الكلام فى كتاب الثعلبى المنقول عنه هذا الكلام- مع اختلاف فى بعض ألفاظه، فليلاحظ- ونصه: «أجد أمة مرحومة أصفياء يرثون الكتاب فمنهم ظالم لنفسه» الخ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 278 كمل طبع «الجزء الثالث عشر من كتاب نهاية الأرب» بمطبعة دار الكتب المصرية فى يوم الثلاثاء 28 شوّال سنة 1357 (20 ديسمبر سنة 1938) محمد نديم ملاحظ المطبعة بدار الكتب المصرية الجزء: 13 ¦ الصفحة: 279 (مطبعة دار الكتب المصرية 34/1937/2500) الجزء: 13 ¦ الصفحة: 280 فهرس الجزء الرابع عشر من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويرى الباب الثانى من القسم الثالث من الفنّ الخامس فيما كان بعد موسى ابن عمران عليهما السلام 1 ذكر خبر يوشع بن نون عليه السلام وفتح أريحا وغيرها 1 ذكر خبر حزقيل عليه السلام 6 ذكر خبر إلياس عليه السلام 9 ذكر دعاء إلياس على قومه وما حل بهم من القحط وخبر اليسع حين اتبع إلياس 24 ذكر رفع البلاء عن قوم إلياس بدعوته واستمرارهم على الكفر ورفع إلياس وهلاك آجاب الملك وامرأته، ونبوّة اليسع 26 ذكر نبوّة اليسع عليه السلام 28 ذكر خبر عيلى وأشمويل وما يتصل بذلك 31 ذكر ابتداء أمر أشمويل وكيف كانت نبوّته 32 ذكر خبر الملك طالوت وإتيان التابوت وخبر جالوت 36 ذكر قصة التابوت وصفته وما قيل فيه 38 ذكر إتيان التابوت إلى بنى إسرائيل وسبب عوده 42 ذكر مسير طالوت بالجنود وخبر النهر الذى ابتلوا به 44 ذكر خبر داود حين قتل جالوت الملك 45 الجزء: مقدمةج 14 ¦ الصفحة: 1 ذكر خلافة داود عليه السلام ونبوّته ومبعثه إلى بنى إسرائيل وما خصه الله عز وجل به 54 ذكر خبر داود عليه السلام حين ابتلى بالخطيئة 61 ذكر ميلاد سليمان بن داود عليهما السلام 70 ذكر خبر أبشالوم بن داود 70 ذكر خبر الزرع الذى رعته الغنم وما حكم فيه سليمان عليه السلام 72 ذكر خبر الذين اعتدوا فى السبت 73 ذكر استخلاف داود ابنه سليمان عليهما السلام وخبر الصحيفة وابتداء أمر الخاتم 76 ذكر وفاة داود عليه السلام 80 ذكر نبوّة سليمان بن داود عليهما السلام وملكه 82 ذكر حشر الطير لسليمان بن داود عليهما السلام وكلامها له 82 ذكر خبر العنقاء فى القضاء والقدر 86 ذكر خبر خاتم سليمان عليه السلام 93 ذكر خبر حشر الجنّ لسليمان بن داود عليهما السلام 94 ذكر خبر مطابخه عليه السلام 95 ذكر خبر الرزق الذى سأل سليمان الله تعالى أن يجريه على يديه 96 ذكر خبر بناء بيت المقدس وابتداء أمره 97 ذكر خبر وادى النمل وما قيل فيه 103 ذكر خبر البعوض وما قيل فيه 104 ذكر خبر الخيل وما قيل فيها 105 ذكر خبر بساط سليمان عليه السلام 107 ذكر خبر صخر الجنىّ 108 ذكر صفة كرسىّ سليمان عليه السلام وما انتهى إليه أمره 109 الجزء: مقدمةج 14 ¦ الصفحة: 2 ذكر خبر بلقيس وابتداء أمرها 111 ذكر خبر ميلاد بلقيس وكيف كان وسبب ملكها 113 ذكر خبر سليمان وبلقيس وسبب زواجه بها 116 ذكر صفة القصر الذى بنته بلقيس وصفة عرشها 123 ذكر خبر وادى القردة 124 ذكر خبر الرجل الذى قبض بأرض الهند 125 ذكر خبر الفتنة وذهاب خاتم سليمان عليه السلام ورجوعه إليه 125 ذكر عزم سليمان عليه السلام أن يطوف على نسائه 134 ذكر وفاة بلقيس زوجة سليمان عليه السلام 134 ذكر خبر وفاة سليمان بن داود عليهما السلام 135 الباب الثالث من القسم الثالث من الفنّ الخامس فى أخبار شعيا وإرميا عليهما السلام وخبر بختنصر وخراب بيت المقدس وعمارته وما يتصل بذلك من خبر عزير وفتنة اليهود 142 ذكر قصة شعيا عليه السلام 142 ذكر قصة إرميا عليه السلام 149 ذكر خبر بختنصر وابتداء أمره وكيف ملك 153 ذكر خبر بختنصر مع دانيال 158 ذكر خبر عمارة بيت المقدس بعد أن خربه بختنصر وخبر الذى مرّ على قرية 164 الباب الرابع من القسم الثالث من الفنّ الخامس فى قصة ذى النون يونس ابن متّى عليه السلام وخبر بلوقيا 171 ذكر قصة ذى النون يونس بن متّى عليه السلام 171 ذكر خبر بلوقيا وما شاهد من العجائب 182 الجزء: مقدمةج 14 ¦ الصفحة: 3 الباب الخامس من القسم الثالث من الفنّ الخامس فى أخبار زكريا وابناه يحيى وعمران ومريم وعيسى بن مريم عليهم السلام 195 ذكر نسب زكريا وعمران عليهما السلام وما يتصل بذلك 195 ذكر ميلاد مريم بنة عمران عليه السلام 196 ذكر دعاء زكريا أن يرزقه الله عزّ وجل الولد ومولد يحيى بن زكريا 198 ذكر صفة يحيى بن زكريا وحليته 201 ذكر نبوّة يحيى عليه السلام وسيرته وزهده 201 ذكر مقتل يحيى بن زكريا وأبيه زكريا عليهما السلام 202 ذكر هلاك بنى إسرائيل وخراب بيت المقدس ثانيا 206 ذكر خبر حمل مريم بنة عمران بعيسى عليهما السلام 209 ذكر خبر ميلاد عيسى بن مريم عليهما السلام 213 ذكر رجوع مريم بعيسى عليه السلام بعد مولده الى قومها 218 ذكر خروج مريم وعيسى عليهما السلام الى مصر وما ظهر له من المعجزات فى مسيره ومدّة مقامه الى أن عاد 219 ذكر خبر زكريا عليه السلام مع هيرودس الملك وما كان من أمره 224 ذكر رجوع عيسى ومريم عليهما السلام من مصر 225 ذكر خبر الحواريين حين اتبعوا عيسى عليه السلام وآمنوا به 226 ذكر الخصائص والآيات والمعجزات التى أظهرها الله تعالى على يد عيسى عليه السلام بعد مبعثه 227 ذكر خبر سام بن نوح وغيره الذين أحياهم عيسى بإذن الله عز وجل 229 ذكر خبر يجمع عدّة معجزات من معجزات عيسى عليه السلام 233 ذكر خبر المائدة التى أنزلها الله عز وجل من السماء 236 ذكر ما قالته الشياطين الثلاثة فى عيسى بن مريم واتبعهم الناس بعدهم 243 ذكر خبر إبليس حين عارض عيسى عليه السلام وما خاطبه به وجوابه 244 الجزء: مقدمةج 14 ¦ الصفحة: 4 ذكر خبر عيسى مع اليهود حين ظفروا به وأرادوا صلبه وقتله 246 ذكر خبر رفع عيسى عليه السلام أوّل مرة وهبوطه إلى الأرض ووصيته إلى الحواريين ورفعه ثانيا 247 ذكر وفاة مريم بنة عمران عليها السلام 248 الباب السادس من القسم الثالث من الفنّ الخامس فى أخبار الحواريين الذين أرسلهم عيسى عليه السلام وما كان من أمرهم مع من أرسلوا اليه وخبر جرجيس 250 ذكر خبر أخبار الحواريين 250 ذكر خبر يوحنا ويونس اللذين توجها إلى إنطاكية 250 ذكر خبر توما الحوارى مع ملك الهند وإيمانه به 255 ذكر خبر لوقا الحوارى مع ملك فارس 257 ذكر خبر جرجيس رحمة الله عليه 259 التذبيل على القسم الثالث من الفنّ الخامس 270 الباب الأوّل من التذبيل على القسم الثالث من الفنّ الخامس فى ذكر الحوادث التى تظهر قبل نزول عيسى بن مريم 271 ذكر خبر المتغلبين على البلاد وذلك مما يظهر من الفتن قبل نزول عيسى عليه السلام 272 ذكر خبر خروج المهدىّ 273 ذكر خبر خروج الدجّال وصفته وما يكون من أمره الى أن ينزل عيسى عليه السلام 275 الباب الثانى من التذييل على القسم الثالث من الفنّ الخامس فى خبر نزول عيسى بن مريم عليه السلام وقتله الدجّال وخروج يأجوج ومأجوج وفسادهم وهلاكهم ووفاة عيسى عليه السلام 277 ذكر نزول عيسى بن مريم عليه السلام 277 ذكر خبر يأجوج ومأجوج 278 الحديث الجامع لأخبار عيسى بن مريم عليه السلام والدجّال 281 الجزء: مقدمةج 14 ¦ الصفحة: 5 الباب الثالث من التذييل على القسم الثالث من الفنّ الخامس فى ذكر ما يكون بعد وفاة عيسى بن مريم عليه السلام الى أن ينفخ إسرافيل فى الصور النفخة الأولى 285 ذكر خروج الدابة وطلوع الشمس من مغربها 285 ذكر خبر قيام الساعة والنفخة الأولى 286 الباب الرابع من التذييل على القسم الثالث من الفنّ الخامس فى أخبار يوم القيامة والحشر والمعاد والنفخة الثانية فى الصور 288 ذكر يوم القيامة وأسمائه 288 ذكر الحشر والمعاد والنفخة الثانية 289 حديث لقيط بن عامر 292 القسم الرابع من الفنّ الخامس فى أخبار ملوك الأصقاع وملوك الأمم والطوائف وخبر سيل العرم ووقائع العرب فى الجاهلية ويشتمل على خمسة أبواب 298 الباب الأوّل فى أخبار ذى القرنين الذى ذكره الله عز وجل فى كتابه العزيز فى سورة الكهف 298 ذكر أخبار ذى القرنين 298 ذكر خبر دخول ذى القرنين الظلمات مما يلى القطب الشمالىّ لطلب عين الحياة 309 الباب الثانى من القسم الرابع من الفنّ الخامس فى أخبار ملوك الأصقاع وهم ملوك الهند والصين والترك وجبل الفتح وملوك مصر 319 ذكر أخبار ملوك الهند 319 ذكر تنصيب ابن البرهمن وهو الباهبود 321 ذكر أخبار ملوك الصين 324 ذكر أخبار ملوك الترك 332 ذكر جبل الفتح وما عليه من الملوك والأمم 334 الجزء: مقدمةج 14 ¦ الصفحة: 6 الجزء الرابع عشر تتمة الفن الخامس في التاريخ تتمة القسم الثالث بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* الباب الثانى من القسم الثالث من الفن الخامس فيما كان بعد موسى بن عمران عليهما السلام «1» وهو أخبار يوشع بن نون وحزقيل وإلياس واليسع وعيلى «2» وأشمويل وداود وطالوت وجالوت وسليمان بن داود عليهم السلام ذكر خبر يوشع «3» بن نون- عليه السلام- وفتح أريحا وغيرها قال أبو إسحاق الثّعلبىّ- رحمه الله تعالى-: اختلف العلماء فيمن تولّى حرب الجبّارين وفيمن كان على يده الفتح، فقال قوم: إنما فتح أريحا «4» موسى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 1 - عليه السلام- وكان يوشع على مقدّمته فسار إليها بمن بقى من بنى إسرائيل ولم يمت فى التّيه، فدخلها يوشع بهم وقتل الجبّارين «1» الذين كانوا فيها، ودخلها موسى ببنى إسرائيل، فأقام فيها ما شاء الله تعالى أن يقيم، ثم قبضه الله تعالى، ولم يعلم أحد من الناس أين قبره. قال: وهذا أولى الأقاويل بالصدق. وقال الآخرون: إنما قتل الجبّارين يوشع ولم يسر إليهم إلّا بعد موت موسى. وقالوا: إنما مات موسى وهارون- عليهما السلام- فى التّيه. قالوا: فلما انقضت مدّة التّيه ومات موسى- عليه السلام- بعث الله تعالى يوشع بن نون نبيّا، فأخبرهم أنه نبىّ الله تعالى، وأنّ الله- عزّ وجلّ- قد أمره بقتال الجبّارين، فصدّقوه وبايعوه. فتوجّه ببنى إسرائيل الى أريحا ومعه تابوت «2» الميثاق، فأحاط بمدينة أريحا ستّة أشهر، فلمّا كان فى الشهر السابع نفخوا فى القرون «3» وضجّ الشعب ضجّة واحدة «4» ، فسقط سور المدينة، فدخلوها وقاتلوا الجبّارين، فهزموهم وهجموا عليهم يقتّلونهم، فكانت العصابة من بنى إسرائيل يجتمعون على عنق الرجل يضربونها لا يقطعونها، وكان القتال يوم الجمعة، فبقيت منهم بقيّة وكادت الشمس تغرب وتدخل ليلة السبت، فخشى يوشع أن يعجزوه، فقال: اللهم اردد الشمس علىّ، وقال للشمس: إنك فى طاعة الله، وأنا فى طاعة الله. فسأل الشمس الجزء: 14 ¦ الصفحة: 2 أن تقف والقمر أن يقيم حتى ينتقم من أعداء الله قبل غروب الشمس، فردّت عليه الشمس وزيد له فى النهار ساعة واحدة حتى قتلهم أجمعين. قالوا: ثم أرسل ملوك الأرمانيّين «1» بعضهم الى بعض- وكانوا خمسة «2» - فجمعوا كلمتهم على حرب يوشع وقومه، فهزمت بنو إسرائيل الملوك حتى أهبطوهم إلى ثنيّة حوران، «3» فرماهم الله تعالى بأحجار البرد، فكان من قتله البرد أكثر ممّن قتله بنو إسرائيل بالسيف، وهربت الملوك الخمسة، فاختفوا فى غار، فأمر بهم يوشع فأخرجوا، فقتلهم وصلبهم، ثم أنزلهم وطرحهم فى ذلك الغار، وتتّبع سائر ملوك الشأم فاستباح منهم أحدا وثلاثين ملكا حتى غلب على جميع أرض الشأم، وصار الشأم كلّه لبنى إسرائيل، وفرّق عمّاله فى نواحى الشأم. وحكى الكسائىّ فى (كتاب المبتدا) أنّ يوشع أخذ فى الجهاد بعد وفاة موسى عليه السلام حتى فتح الله على يديه نيّفا وثلاثين مدينة من مدن الكفّار بأرض الشأم. قال: ثم سار ببنى إسرائيل الى أريحا لقتال الجبّارين، وكانوا قد عادوا إليها بعد أن فتحها موسى، فقاتلهم يوم الجمعة، وساق نحو ما تقدّم من حبس الشمس. قال: وفسد على أهل علم النجوم علوم كثيرة من ذلك اليوم. قال الكسائىّ: ولما فرغ يوشع بن نون من قتال الجبّارين بأريحا سار ببنى إسرائيل الى أرض بنى كنعان، فقاتلهم حتى قتل أكثر من ثلاثين ملكا، وفتح ثلاثين حصنا. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 3 قال الثعلبىّ فى تفسيره: ولمّا قتل يوشع الملوك واستباح الأموال جمع الغنائم فلم تنزل النار، فأوحى الله تعالى إلى يوشع أنّ فيها غلولا «1» ، فمرهم فليبا يعوك فبايعوه، فالتصقت يد رجل منهم بيده، فقال: هلمّ ما عندك!. فأتاه برأس ثور من ذهب مكلّل بالياقوت والجوهر كان قد غلّه، فجعله فى القربان وجعل الرجل معه، فجاءت النار فأكلت الرجل والقربان. قالوا: ثم مات يوشع فدفن فى جبل أفرائيم «2» ، وكان عمره مائة وستّا «3» وعشرين سنة، وتدبيره أمر بنى إسرائيل بعد وفاة موسى- عليه السلام- تسعا وعشرين سنة. وقال الكسائىّ: أربعين سنة. والله تعالى أعلم. ولما مات استخلف على بنى إسرائيل كالب «4» بن يوقنّا، وهو من أولاد يهوذا بن يعقوب، وكان من الزّهاد، فسار فيهم أجمل سيرة حتى قبضه الله تعالى. فاستخلف عليهم ابنه برشاناس «5» وكان نظير يوسف الصدّيق- عليه السلام- فى حسنه وجماله، فافتتن الناس به، فسأل الله تعالى أن يغيّر خلقته، فأصابه الجزء: 14 ¦ الصفحة: 4 الجدرىّ، فتغيّرت خلقته، فأنكره الناس وأكثروا من سؤاله عن خبره، فشقّ ذلك عليه وشغله عن عبادته، فسأل الله تعالى أن يزيده تشويها، فاسترخى وجهه، وظهرت له أسنان طوال، وقبح حتى كره الناس أن ينظروا إليه، وعرفوا منه الاجتهاد فى عبادة الله تعالى وطاعته، فآختاروه وسمعوا له وأطاعوا، ولم يزل بين أظهرهم أربعين سنة ثم قبضه الله تعالى. فقام بأمرهم العيزار «1» بن هارون بن عمران، وكان قد أسنّ ولا ولد له، فجعلوا يقولون: ما حرم الولد إلّا لذنب عظيم. فسأل الله الولد، فرزقه ولدا بعد كبر سنّه وإياس زوجته صفّوريّة «2» بنت عمّه موسى بن عمران وجدّد له قوّة، ولها جمالا وحسنا، وسمّى ولده «سباسبا» «3» وجاء عالما بالتوراة، فاستخلفه والده على بنى إسرائيل، فقام بأمرهم، وتزوّج بامرأة يقال لها صفّوريّة، فأولدها إلياس. هكذا نقل الكسائىّ. وقال الثعلبىّ فى قصصه فى خبر ابن كالب وسمّاه «بوساقوس» : وأنه لمّا افتتن الناس به سأل الله تعالى أن يغيّر صورته مع سلامة حواسه وجوارحه فأصابه الجدرىّ. وقال: إنه لبث فيهم مائة سنة، ثم قبضه الله- عزّ وجلّ-. ولم يذكر العيزار وابنه، بل ذكر خبر حزقيل. والله تعالى أعلم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 5 ذكر خبر حزقيل عليه السلام قال أبو إسحاق الثعلبىّ- رحمه الله تعالى- قالت العلماء: لمّا قبض الله تعالى كالب وابنه، بعث الله- عزّ وجل- حزقيل «1» إلى بنى إسرائيل، وهو حزقيل بن بوذى، ويلقّب بابن العجوز. قال: وإنما لقّب بذلك لأن أمّه سألت الله تعالى الولد وقد كبرت وعقمت، فوهبه الله تعالى لها، وهو الذى أحيا الله تعالى القوم بعد وفاتهم بدعائه، وهم الذين قال الله تعالى فيهم: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ «2» . قال قال أكثر المفسرين: كانت قرية يقال لها داوردان «3» قبل واسط وقع بها الطاعون، فخرج منها طائفة هاربين من الطاعون وبقيت طائفة، فهلك أكثر من بقى فى القرية، وسلم الذين خرجوا، فلمّا ارتفع الطاعون رجعوا سالمين. فقال الذين بقوا: أصحابنا كانوا أحزم منّا، لو صنعنا كما صنعوا لبقينا، ولئن وقع الطاعون بها ثانية لنخرجنّ إلى الأرض التى لا وباء فيها. فوقع الطاعون من قابل. فهرب عامّة أهلها، فخرجوا حتى نزلوا واديّا أفيح «4» ، فلمّا نزلوا المكان الذى يبغون فيه الحياة والنجاة، إذا هم بملك من أسفل الوادى وآخر من أعلاه يناديهم كل واحد منهما أن موتوا «5» فماتوا. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 6 وقال الضحّاك ومقاتل والكلبىّ: إنّما فرّ هؤلاء من الجهاد؛ وذلك أنّ ملكا من ملوك بنى إسرائيل أمرهم أن يخرجوا إلى قتال عدوّهم، فخرجوا فعسكروا ثم جبنوا وكرهوا الموت وأعتلّوا وقالوا لملكهم: إنّ الأرض التى نأتيها بها الوباء فلا نأتيها حتى ينقطع منها الوباء؛ فأرسل الله تعالى عليهم الموت، فلمّا رأوا أنّ الموت كثر فيهم خرجوا من ديارهم فرارا منه. فلمّا رأى الملك ذلك قال: اللهمّ ربّ يعقوب وإله موسى، قد ترى معصية عبادك فأرهم آية فى أنفسهم حتى يعلموا أنهم لا يستطيعون الفرار من حكمك وقضائك. فلما خرجوا قال الله لهم: موتوا، فماتوا جميعا وماتت دوابّهم كموت رجل واحد، فما أتت عليهم ثلاثة أيام حتى انتفخوا وأروحت «1» أجسادهم، فخرج إليهم الناس فعجزوا عن دفنهم، فحظروا عليهم حظيرة «2» دون السّباع وتركوهم فيها. قال: واختلفوا فى مبلغ عددهم، فقال عطاء الخراسانىّ: كانوا ثلاثة آلاف «3» . وقال ابن عباس ووهب: أربعة آلاف. وقال مقاتل والكلبىّ: ثمانية آلاف. وقال أبو روق: عشرة آلاف. وقال أبو مالك: ثلاثين ألفا. وقال السّدّى: بضعة وثلاثين ألفا. وقال ابن جريج: أربعين ألفا. وقال عطاء بن أبى رباح: سبعين ألفا. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 7 قالوا: فأتت عليهم مدّة وقد بليت أجسادهم، وعريت عظامهم، وتقطّعت أوصالهم، فمرّ بهم حزقيل النبىّ- عليه السلام- فوقف عليهم متفكّرا متعجّبا، فأوحى الله تعالى إليه: يا حزقيل، تريد أن أريك كيف أحيى الموتى؟ قال نعم، فأحياهم الله جميعا. قال: هذا قول السّدّىّ وجماعة من المفسّرين. وقال هلال بن يساف وجماعة من العلماء: دعا حزقيل ربّه أن يحييهم فقال: يا ربّ لو شئت أحييت هؤلاء فعمروا بلادك وعبدوك. فقال الله- عزّ وجل- أو تحبّ أن أفعل؟ قال نعم، فأحياهم. وقال عطاء ومقاتل والكلبىّ: بل كانوا قوم حزقيل، فأحياهم الله- عز وجل- بعد ثمانية أيام؛ وذلك أنهم لمّا أصابهم ذلك خرج حزقيل فى طلبهم فوجدهم موتى، فبكى وقال: يا ربّ كنت فى قوم يحمدونك ويقدّسونك ويكبّرونك ويهلّلونك فبقيت وحيدا لا قوم لى. فأوحى الله تعالى إليه: إنى قد جعلت حياتهم إليك. فقال حزقيل: احيوا بإذن الله تعالى، فعاشوا. وقال وهب: أصابهم بلاء وشدّة من الزمان، فشكوا ما أصابهم فقالوا: يا ليتنا متنا فاسترحنا ممّا نحن فيه. فأوحى الله- عزّ وجلّ- إلى حزقيل: إنّ قومك قد ضجروا من البلاء، وزعموا أنهم ودّوا لو ماتوا فاستراحوا، وأىّ راحة لهم فى الموت! أيظنّون أنّى لا أقدر أن أبعثهم بعد الموت! فانطلق إلى جبّانة كذا، فإنّ فيها قوما أمواتا. فأتاهم، فقال الله- عزّ وجل-: قم فنادهم- وكانت أجسامهم وعظامهم قد تفرّقت، فرّقتها الطير والريح- فنادى حزقيل: أيتها العظام، إنّ الله يأمرك أن تكتسى اللحم. فاكتست جميعا اللحم، وبعد اللحم جلدا ودما وعصبا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 8 وعروقا، فكانت أجسادا، ثم نادى: أيتها الأرواح، إنّ الله تعالى يأمرك أن تعودى فى أجسادك. فقاموا جميعا عليهم ثيابهم التى كانوا فيها، وكبّروا تكبيرة واحدة. قال: وزعم منصور بن المعتمر عن مجاهد أنهم قالوا حين أحيوا: سبحانك ربّنا وبحمدك لا إله إلا أنت، فرجعوا إلى قومهم بعد ما أحياهم الله- عزّ وجل- وعاشوا دهرا يعرفون أنهم كانوا أمواتا، سحنة الموت على وجوههم، لا يلبسون ثوبا إلا عاد رميما مثل الكفن، حتى ماتوا لآجالهم التى كتب الله لهم. وقال ابن عباس- رضى الله عنهما- فإنها لتوجد اليوم فى ذلك السّبط من اليهود تلك الريح. قال قتادة: مقتهم الله- عزّ وجل- على فرارهم من الموت فأماتهم عقوبة لهم، ثم بعثهم إلى بقيّة آجالهم ليستوفوها، ولو كانت آجال القوم جاءت ما بعثوا بعد موتهم. فلمّا أحياهم الله- عزّ وجل- قال: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ «1» . ثم تلا الثعلبىّ هذه القصّة بقصّة إلياس؛ وذكرها الكسائىّ تلو قصّة العيزار. والله الموفق للصواب. ذكر خبر إلياس عليه السلام قال الله عزّ وجل: وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ «2» . قال الكسائىّ- رحمه الله تعالى- قال كعب «3» : لمّا ولد إلياس- عليه السلام- ونسبه أنه إلياس ابن سباسبا «4» بن العيزار بن هارون. قال: وأمّه صفّوريّة، وجدّته أمّ أبيه الجزء: 14 ¦ الصفحة: 9 صفّوريّة «1» بنت موسى بن عمران- عليه السلام- ظهر ليلة مولده أنوار أضاءت منها محاريب بنى إسرائيل. فلما نظرت ملوك بنى اسرائيل ذلك علموا أنه قد حدث حادث، فتعرّفوا الخبر، فقيل لهم: ولد مولود من ولد هارون ابن عمران. قال: وكان إلياس على صورة موسى وقوّته، ونشأ أحسن نشأة. وبنو إسرائيل يقولون: هذا الذى بشّرنا به العيزار، أن الله يهلك الملوك والجبابرة على يديه. قال: فلمّا بلغ سبع سنين- وكان يحفظ التوراة- قال: يا بنى إسرائيل، إنى أريكم من نفسى عجبا. فصاح بهم صيحة انتشرت فيهم فأرعبت قلوبهم. فلما سكنت روعتهم همّوا بقتله، وقال بعضهم: هو ساحر، فهرب منهم وصعد إلى جبل وهم يتبعونه. فلمّا قربوا منه انفرج له الجبل فدخل فيه، وانصرف القوم. فنمى الخبر إلى بعض ملوكهم فعذّبهم، ثم انفرج الجبل، وأقام إلياس به يأكل من المباحات حتى استكمل أربعين سنة، والناس قد أخذوا فى عبادة الأصنام وخاضوا فى المعاصى، فبعثه الله تعالى نبيّا ورسولا، وجاءه جبريل بالوحى، وأمره عن الله تعالى أن يتوجّه إلى الملوك والجبابرة الذين يعبدون الأصنام ويدعوهم إلى طاعة الله تعالى وعبادته، وأن يرسلوا معه بنى إسرائيل وأعطاه القوّة، وأمر النار والجبال والوحش بطاعته. فانطلق إلياس إليهم وهم فى سبعين قرية، كلّ قرية منها مدينة، فى كلّ مدينة جبّار يسوسهم، وكلّهم يعبدون صنما يدعى «بعلا» وهو على صورة امرأة، فصار إلياس إلى قرية من قراهم، وكان فيها ملك يقال له الجزء: 14 ¦ الصفحة: 10 «آجاب» «1» ، فوقف بالقرب من قصره، وقرأ التوراة بأطيب نغمة، فسمعه الملك، فقال لامرأته: ألا تسمعين؟ ما أطيب هذا الصوت! فقامت المرأة إليه وأشرفت عليه من أعلى القصر وسألته عن حاله وخبره، فأخبرها أنه رسول الله. قالت: وما حجّتك على دعواك؟ فاستدعى النار فجاءت إليه وشهدت بنبوّته وصدّقته، فأخبرت المرأة زوجها بما رأت منه، فجاء إليه وآمن به هو وامرأته، وأوصاه بالصبر والجهاد، وانصرف إلياس. حتى إذا كان يوم اجتماع القوم وقد خرجوا بزينتهم ونصبوا صنمهم بعلا وقف عليهم ودعاهم إلى الإيمان، فقال فيما أخبر الله تعالى به عنه: وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ* أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ «2» * اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ «3» . فقالوا له: من أنت؟ فقال: أنسيتمونى بعد أن كنت فيكم ومعكم! أنا إلياس. فحثوا فى وجهه التراب ورموه بالحجارة من كلّ جانب. وكان ملكهم الأكبر يقال له «عاميل» ، فأمر بزيت فغلى فى قدر نحاس وقال لإلياس «4» : إن رجعت وإلّا طرحتك فيه!. فقال: أنا وحيد فى أرضكم، فريد فى جمعكم، ولكنّى أريكم آية تدلّ على صدق دعواى أنّى رسول الله إليكم. فقال له الملك نعم. فقال إلياس: أيّتها النار اخمدى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 11 بإذن الله تعالى، فخمدت وسكن غليان الزيت، فعجب الناس من ذلك. قال الملك: قد أتيت بحجّة، ولكن أمهلنا يومنا لننظر فى أمرك. ففارقهم وأتاهم من الغد ودعاهم، فجمع الملك ملوك قومه وعلماءهم وقال: ما تقولون فى هذا الرجل؟ فقال العلماء: إنّا نرى فى التوراة صفة هذا الرجل أنّه يبعث نبيّا تسخّر له النار والأسود والجبال، وأنه لا يسمع أحد صوته إلّا ذلّ وخضع له. فقال بعض علمائهم: أيها الملك، كذب هؤلاء فيما ذكروه، وهذا ساحر، فلا يهولنّك أمره. فبسط العذاب على أولئك النفر، فاشتدّ ذلك على إلياس، وخالفه الملك «آجاب» الذى كان قد آمن به؛ ففارقته زوجته ولحقت بإلياس؟ وكانت من الصالحات. قال: واتّخذ إلياس عريشا بالقرب من قصر الملك «عاميل» ، فأشرفت امرأة عاميل عليه فى بعض الليالى وهو يعبد الله تعالى، فنظرت الى عمود من نور من لدن العريش فى السماء، فآمنت ولحقت به، فأمر زوجها أن تلقى فى النار، فألقيت فيها، فدعا إلياس- عليه السلام- الله تعالى لها، فلم تعمل النار فيها شيئا، فأطلقها الملك، فلحقت بإلياس. ثم مات ولد لعاميل الملك فجزع عليه وتضرّع إلى صنمه فلم يغن عنه شيئا، فغضب وقال لإلياس: إن ابنى قد مات وعجز إلهى عن إحيائه، فهل تقدر أن تحييه؟ فقال: هذا على ربّى هيّن، ودعا الله تعالى، فقام الغلام يشهد أن لا إله إلا الله، وأن إلياس عبده ورسوله، فآمن الملك وخرج عن الملك وتبع إلياس ولبس الصوف وعبد الله تعالى حتى مات، وماتت زوجته وابنه. واستمرّ القوم فى ضلالهم وكفرهم ما شاء الله، وإلياس يدعوهم فلا يجيبونه، فأوحى الله تعالى إليه أن ادعهم وأنذرهم، فإن آمنوا وإلّا حبست عنهم الغيث وابتليتهم. بالقحط. فدعاهم فقالوا: إنّا لا نؤمن بك ولا بربّك، فاصنع ما أنت صانع. فحبس الله- عزّ وجلّ- عنهم المطر، وغارت العيون وجفّت الأشجار، فأكلوا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 12 ما عندهم حتى نفد، ثم أكلوا المواشى حتى أكلوا الكلاب والسنانير والفيران، وبلغ بهم الجوع حتى كانوا يأكلون من مات منهم، وإلياس بينهم وهم لا يرونه، ويدعونه وهو لا يجيبهم، وكان الله تعالى قد جعل أمر أرزاقهم إليه، فأوحى الله إليه أن السماء والأرض ومن عليها قد بكت على هؤلاء، وقد هلك كثير من خلقى بسببهم، وكلّ يدعوك ولا ترحمهم، فأنصف خلقى يا إلياس، فإنى أعصى فأرزق، وأكفر فأحلم. ففزع إلياس وقال: يا ربّ ما غضبت إلّا لك، وأنت أعلم بمصالح عبادك. فأوحى الله اليه أن سر إليهم وادعهم، فإن آمنوا وإلّا كنت أرأف بهم منك. قال: فانطلق إلياس حتى صار إلى أوّل قرية من قرى مدينتهم، فمرّ بعجوز فقال لها: هل عندك طعام؟ فقالت: وحقّ إلهى بعل ما ذقت الخبز منذ مدّة. قال: فهلّا تؤمنين بالله! فقالت: إنّ ابنى اليسع على دين إلياس، ولا أراه ينتفع به وقد أشرف على الموت من الجوع. فقال له إلياس: يا اليسع، أتحبّ أن تأكل الخبز؟ فصاح: كيف لى بالخبز! ومات؛ فبكت العجوز ولطمت. فقال لها: إن أحياه الله وجاءك بما تأكلين أتؤمنين بالله؟ قالت نعم. فدعا الله تعالى، فقام اليسع وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن إلياس رسول الله، ورزقهم الله تعالى خبزا ولبنا، فأكلوا، وآمنت العجوز، وخرجت تنذر قومها، فخنقوها فماتت، فاغتمّ اليسع لذلك. فقال له إلياس: إن الله سيحييها ويجعلكما آية لقومكما. وخرج إلياس إلى قومه وقد اجتمعوا عليها يريدون أكلها؛ فصاح بهم، فتفرّقوا عنها وقالوا: إنك أنت إلياس حقّا، فدعا الله تعالى فأحياها، فأقبل القوم عليه وقالوا: ألا ترى ما نحن فيه منذ سبع سنين! قال: فهلّا دعوتم صنمكم بعلا ليكشف عنكم! قالوا: قد دعوناه فلم يغن شيئا. قال: فإن أغاثكم الله تعالى أتؤمنون؟ قالوا نعم. فسأل الله تعالى فأمطرهم، وجرت أنهارهم وأنبتت أرضهم، وأحيا الله من مات منهم من الجوع، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 13 فازدادوا كفرّا وعتوّا، فحذّرهم إلياس وأنذرهم وذكّرهم بنعمة الله عليهم. فقالوا: إنّ القحط قد ارتفع عنّا وهيهات أن يعود أبدا، وإن عاد فلا نبالى، قد جمعنا فى منازلنا ما يكفينا زمنا طويلا. فدعا الله عليهم واعتزلهم، وقال: قد بلّغت الرسالة وأنك لا حق بالملائكة. فاستخلف اليسع على المؤمنين «1» ؛ فقال اليسع: يا نبىّ الله، إنى ضعيف بين قوم كافرين. فأوحى الله تعالى الى اليسع بذلك، وخرج إلياس عن ديار قومه فى يوم جمعة، فإذا هو بفرس يلتهب نورا، وله أجنحة ملوّنة، فناداه: أقبل يا نبىّ الله. فاستوى على ظهره، وجاءه جبريل فقال: يا إلياس طرمع الملائكة حيث شئت، فقد كساك الله الريش، وقطع عنك لذّة المطعم والمشرب وجعلك آدميّا ملكيّا سماويّا أرضيّا. قال: ونشر الفرس أجنحته فهو يطير مع الملائكة. ثم أرسل الله- عز وجل- العذاب على قومه، فأحدقت بهم سحابة من جهنّم، واعتزلهم المؤمنون، فأحدقت السحابة بالكفرة، فأمطرت عليهم حجارة من العذاب. قال الله تعالى: وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ «2» . قال: ثم انكشفت عن ديارهم وقد صاروا حمما سودا؛ قال الله تعالى: فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ. إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ «3» . قال: وأقام اليسع مع بنى إسرائيل حتى قبضة الله تعالى. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 14 هذا ما أورده الكسائىّ فى أخبار إلياس واليسع عليهما السلام. وأمّا ما حكاه الثعلبىّ- رحمه الله- فى هذه القصة، فإنه قال: قال ابن إسحاق والعلماء من أصحاب الأخبار: لمّا قبض الله حزقيل النبىّ- عليه السلام- عظمت الأحداث فى بنى إسرائيل وظهر فيهم الفساد، ونسوا عهد الله تعالى إليهم فى التوراة حتى نصبوا الأوثان وعبدوها من دون الله- عزّ وجل- فبعث الله تعالى اليهم إلياس نبيّا. قال الثعلبىّ: وهو إلياس ابن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون عليه السلام. قال: وإنما كانت الأنبياء بعد موسى- عليه السلام- يبعثون إليهم بتجديد ما نسوا وضيّعوا من أحكام التوراة، وبنو إسرائيل يومئذ متفرّقون فى أرض الشأم وفيهم ملوك كثيرة. وذلك أن يوشع لمّا فتح أرض الشأم بوّأها بنى إسرائيل وقسمها بينهم، فأحلّ سبطا منهم بعلبكّ ونواحيها، وهم سبط إلياس، فبعثه الله تعالى إليهم نبيّا، وعليهم يومئذ ملك يقال له «آجاب» «1» قد أضلّ قومه وجبرهم على عبادة الأصنام، وكان يعبد هو وقومه صنما يقال له «بعل» وكان طوله عشرين ذراعا، وكانت له أربعة وجوه، فجعل إلياس يدعوهم إلى عبادة الله تعالى وهم فى ذلك لا يسمعون منه شيئا إلّا ما كان من أمر الملك الذى كان ببعلبكّ فإنه صدّقه وآمن به، وكان إلياس- عليه السلام- يقوّم أمره ويسدّده ويرشده، وكان لآجاب الملك هذا امرأة يقال لها «أرايل «2» » ، وكان يستخلفها على رعيّته إذا غاب عنهم فى غزاة الجزء: 14 ¦ الصفحة: 15 أو غيرها، فكانت تبرز للناس كما يبرز زوجها وتركب كما يركب، وتجلس فى مجلس القضاء فتقضى بين الناس، وكانت قتّالة للانبياء، وكان لها كاتب وهو مؤمن حكيم يكتمها إيمانه، وكان الكاتب قد خلّص من يدها ثلاثمائة نبىّ كانت تريد قتل كلّ واحد منهم إذا بعث، سوى الذين قتلتهم ممن يكثر عددهم؛ وكانت فى نفسها غير محصنة ولم يكن على وجه الأرض أفحش منها، وهى مع ذلك قد تزوّجت سبعة ملوك من ملوك بنى إسرائيل وقتلتهم كلّهم بالاغتيال؛ وكانت معمّرة حتى يقال: إنها ولدت سبعين ولدا. وكان لآجاب هذا جار من بنى إسرائيل رجل صالح يقال له «مزدكى» وكانت له جنينة يعيش منها ويقبل على عمارتها ومرمّتها، وكانت الجنينة إلى جانب قصر الملك وامرأته، فكانا يشرفان على تلك الجنينة ويتنزّهان فيها، ويأكلان ويشربان ويقيلان فيها، وكان «آجاب» فى ذلك يحسن جوار «مزدكى» صاحبها ويحسن إليه، وامرأته «أرايل» تحسده على ذلك لأجل تلك الجنينة، وتحتال فى أن تغتصبها منه لمّا تسمع الناس يذكرون» الجنينة، ويتعجّبون من حسنها ويقولون: ما أحرى أن تكون هذه الجنينة لأهل هذا القصر، ويتعجّبون من الملك وامرأته كيف لم يغصباها صاحبها. فلم تزل المرأة تحتال على العبد الصالح «مزدكى» أن تقتله وتأخذ جنينته، والملك ينهاها عن ذلك. ثم اتفق خروج الملك إلى سفر بعيد وطالت غيبته، فاغتنمت المرأة غيبة الملك واحتالت على «مزدكى» صاحب الجنينة، وهو غافل عما تريد مقبل على عبادة ربه وإصلاح جنينته، فجمعت «أرايل» جمعا من الناس وأمرتهم أن يشهدوا على «مزدكى» أنه سبّ زوجها الملك «آجاب» ، فأجابوها إلى ملتمسها من الشهادة عليه، وكان حكمهم فى ذلك الجزء: 14 ¦ الصفحة: 16 الزمان على من سبّ الملك القتل إذا قامت البيّنة عليه بذلك. فأحضرت «مزدكى» وقالت: بلغنى أنك سببت الملك وعبته، فأنكر ذلك. فقالت: إنّ عليك شهودا، وأحضرت الشهود فشهدوا عليه بحضرة الناس، فأمرت بقتل «مزدكى» ، فقتل وأخذت جنينته غصبا، فغضب الله- عزّ وجل- عليهم للعبد الصالح. فلمّا قدم الملك من سفره قال لها: ما وفّقت وما أصبت، ولا أرانا نفلح بعده أبدا، وإن كنّا عن جنينته لأغنياء، قد كنّا نتنزّه فيها، وقد جاورنا وتحرّم بنا منذ زمان طويل، فأحسنّا جواره، وكففنا عنه الأذى لوجوب حقّه علينا، فختمت أمره بأسوأ حال الجوار. وما حملك على اجترائك عليه إلّا سفهك وسوء رأيك وقلّة عقلك وقلّة تفكّرك فى العواقب. فقالت: إنما غضبت لك وحكمت بحكمك. قال: أو ما كان يسعه حلمك ويحدوك عظم خطرك على العفو عن رجل واحد فتحفظين له جواره!. قالت: قد كان ما كان. فبعث الله تعالى إلياس- عليه السلام- إلى «اجاب» الملك وقومه، وأمره أن يخبرهم أنّ الله تعالى قد غضب لوليّه حين قتلوه بين أظهرهم ظلما، وآلى على نفسه أنهما إن لم يتوبا عن صنيعهما ولم يردّا الجنينة على ورتة «مزدكى» أن يهلكهما، يعنى «آجاب» وامرأته، فى جوف الجنينة أشرّ ما يكون بسفك دمهما، ثم يدعهما جيفتين ملقاتين فيها حتى تتعرّى عظامهما من لحومهما، ولا يمتّعان بها إلا قليلا. قال: فجاء إلياس- عليه السلام- إلى الملك وأخبره بما أوحى الله- عزّ وجل- إليه فى أمره وأمر امرأته والجنينة. فلمّا سمع الملك ذلك اشتدّ غضبه عليه، ثم قال له: يا إلياس، والله ما أرى ما تدعونا إليه إلّا باطلا، والله ما أرى فلانا وفلانا- سمّى ملوكا منهم قد عبدوا الأوثان- إلّا على مثل ما نحن عليه، يأكلون ويشربون الجزء: 14 ¦ الصفحة: 17 ويتنعّمون مملّكين، ما ينقص من دنياهم أمرهم الذى تزعم أنه باطل، وما نرى لنا عليهم من فضل. قال: وهمّ الملك بتعذيب إلياس وقتله. فلمّا سمع إلياس- عليه السلام- ذلك وأحسّ بالشّر، رفضه وخرج عنه. فلحق بشواهق الجبال، ودعا الملك «1» الناس إلى عبادة بعل، وارتقى إلياس- عليه السلام- أصعب جبل وأشمخه، فدخل مغارة فيه. فيقال: إنه بقى فيه سبع سنين شريدا طريدا خائفا، يأوى الشّعاب والكهوف، ويأكل من نبات الأرض وثمار الشجر وهم فى طلبه قد وضعوا عليه العيون يتوكّفون «2» أخباره ويجتهدون فى أخذه، والله تعالى يستره ويدفع عنه. فلمّا تمّت له سبع سنين أذن الله تعالى فى إظهاره عليهم، وشفا غيظه منهم، فأمرض الله تعالى ابنا لآجاب الملك وكان أحبّ ولده إليه وأعزّهم عليه وأشبههم به، فأدنف «3» حتى يئس منه، فدعا صنمه بعلا؛ وكانوا قد فتنوا به وعظّموه حتى «4» جعلوا له أربعمائة سادن وكّلوهم به وجعلوهم أنبياءه، وكان الشيطان يوسوس إليهم بشريعة من الضلالة، فيبيّنونها للناس فيعملون بها، ويسمّونهم الأنبياء. فلمّا اشتدّ مرض ابن الملك طلب إليهم أن يشفعوا إلى بعل، ويطلبوا لابنه من قبله الشفاء والعافية، فدعوه فلم يجبهم، ومنع الله تعالى بقدرته الشيطان عن صنمهم فلم يمكنه الولوج فى جوفه، وهم مجتهدون فى التضرّع إليه، وهو لا يزداد مع ذلك إلّا خمودا «5» . فلمّا طال عليهم ذلك قالوا لآجاب: إن فى ناحية الشأم آلهة أخرى، وهى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 18 فى العظم مثل إلهك، فابعث إليها أنبياءك فليشفعوا لك إليها، فلعلها أن تشفع لك إلى إلهك بعل فإنه غضبان عليك، ولولا غضبه عليك لقد كان أجابك وشفى لك ابنك. قال آجاب: ومن أجل ماذا غضب علىّ وأنا أطيعه وأطلب رضاه منذ كنت لم أسخطه ساعة قطّ؟ قالوا: من أجل أنّك لم تقتل إلياس وفرّطت فيه حتى نجا سليما وهو كافر بإلهك يعبد غيره، فذلك الذى أغضبه عليك. قال آجاب: وكيف لى أن أقتل إلياس يومى هذا وأنا مشغول عن طلبه بوجع ابنى وليس لإلياس مطلب، ولا يعرف له موضع فيقصد، فلو عوفى ابنى لتفرّغت لطلبه، ولم يكن لى همّ ولا شغل غيره حتى آخذه فأقتله فأريح إلهى منه وأرضيه. قال: ثم اندفعت أنبياؤه الأربعمائة ليشفعوا الى إلأرباب التى بالشأم ويسألوها أن تشفع إلى صنم الملك ليشفى ابنه، فانطلقوا حتى إذا كانوا بحيال الجبل الذى فيه إلياس أوحى الله- عزّ وجل- إلى إلياس أن يهبط من الجبل ويعارضهم ويستوقفهم ويكلّمهم، وقال له: لا تخف فإنّى سأصرف عنك شرّهم، وألقى الرعب فى قلوبهم. فنزل إلياس- عليه السلام- من الجبل، فلمّا لقيهم استوقفهم فوقفوا، وقال لهم: إنّ الله- عزّ وجل- أرسلنى إليكم وإلى من وراءكم، فاستمعوا أيّها القوم رسالة ربكم لتبلغوا صاحبكم، فارجعوا إليه وقولوا له: إنّ الله تعالى يقول لك: ألست تعلم يا آجاب أنّى أنا الله لا إله إلّا أنا إله بنى إسرائيل الذى خلقهم ورزقهم وأحياهم وأماتهم، أفجهلك وقلّة علمك حملك على أن تشرك بى وتطلب الشفاء لابنك من غيرى ممن لا يملكون لأنفسهم شيئا إلّا ما شئت. إنى حلفت باسمى لأغيظنّك فى ابنك ولأميتنّه فى فوره هذا حتى تعلم أنّ أحدا لا يملك له شيئا دونى. فلمّا قال لهم إلياس هذا رجعوا وقد ملئوا منه رعبا. فلمّا صاروا إلى الملك قالوا له ذلك، وأخبروه أنّ إلياس انحطّ عليهم، وهو رجل نحيف طوال قد قشف الجزء: 14 ¦ الصفحة: 19 وقحل «1» وتمعّط «2» شعره وتقشّر «3» جلده، عليه جبّة من شعر وعباءة قد خلّها «4» على صدره بخلال، فاستوقفنا، فلمّا صار معنا قذفت فى قلوبنا الهيبة والرّعب، وانقطعت ألسنتنا، ونحن فى هذا العدد الكثير وهو واحد، فلم نقدر على أن نكلّمه ونراجعه ونملأ أعيننا منه حتى رجعنا إليك، وقصّوا عليه كلام إلياس عليه السلام. فقال آجاب: لا ننتفع بالحياة ما دام إلياس حيّا. ما الذى منعكم أن تبطشوا به حين لقيتموه وتوثقوه وتأتونى به، وأنتم تعلمون أنه طلبتى وعدوّى. قالوا: أخبرناك بالذى منعنا منه ومن كلامه والبطش به. قال آجاب: ما يطاق إدا إلياس إلّا بالمكر والخديعة. فقيّض له خمسين رجلا من قومه ذوى قوّة وبأس، وعهد إليهم عهده، وأمرهم بالاحتيال له والاغتيال به «5» وأن يطمعوه فى أنهم قد آمنوا به هم ومن وراءهم، ليستنيم إليهم ويغترّ بهم، فيمكّنهم من نفسه، فيأتوا به الملك. فانطلقوا حتى ارتقوا ذلك الجبل الذى فيه إلياس- عليه السلام- ثم تفرّقوا [فيه] «6» وهم ينادونه بأعلى أصواتهم ويقولون: يا نبىّ الله، ابرز لنا وأنت آمن على نفسك [فإنا قد آمنا بك وصدّقناك، وملكنا آجاب «7» ] ، وجميع بنى إسرائيل يقرءون عليك السلام ويقولون: قد بلّغتنا رسالة ربّك، وعرفنا ما قلت، وآمنّا بك، وأجبناك إلى ما دعوتنا، فهلمّ إلينا فأنت نبيّنا ورسول ربّنا، [فأقم «8» ] بين أظهرنا واحكم فينا؛ فإنّا ننقاد لما أمرتنا، وننتهى عمّا نهيتنا، وليس يسعك أن تتخلّف عنّا مع إيماننا وطاعتنا، فتداركنا وارجع إلينا. وكلّ هذا كان منهم مما كرة وخديعة. فلمّا سمع إلياس- عليه الجزء: 14 ¦ الصفحة: 20 السلام- مقالتهم وقعت بقلبه وطمع فى إيمانهم وخاف الله تعالى وأشفق من سخطه إن هو لم يظهر لهم ولم يجبهم بعد الذى سمع منهم. فلمّا أجمع على أن يبرز لهم رجع إلى نفسه فقال: لو أنّى دعوت الله- عزّ وجلّ- وسألته أن يعلمنى ما فى أنفسهم ويطلعنى على حقيقة أمرهم. فقال: اللهمّ إن كانوا صادقين فيما يقولون فأذن لى فى البروز إليهم، وإن كانوا كاذبين فاكفنيهم وارمهم بنار تحرقهم. فما استتمّ قوله حتى حصبوا «1» بالنار من فوقهم، فاحترقوا أجمعين. قال: وبلغ آجاب الخبر فلم يرتدع، واحتال ثانيا فى أمر إلياس، وجهّز فئة أخرى مثل عدد أولئك أقوى منهم وأمكن فى الحيلة والرأى، فأقبلوا حتى ارتقوا قلل تلك الجبال [متفرقين «2» ] ، وجعلوا ينادون: يا نبىّ الله، إنّا نعوذ بالله وبك من غضب الله وسطواته. إنّا لسنا كالذين أتوك من قبلنا، إنّ أولئك فرقة نافقت وخالفتنا، فصاروا إليك ليكيدوك «3» من غير رأينا ولا علم منّا، وذلك أنهم حسدونا وحسدوك، وخرجوا إليك سرّا، ولو علمنا بهم لقتلناهم ولكفيناك مؤنتهم، والان فقد كفاك ربّك أمرهم وأهلكهم بسوء نيّاتهم وانتقم لنا ولك منهم. فلمّا سمع إلياس- عليه السلام- مقالتهم دعا الله تعالى بدعوته الأولى، فأمطر الله عليهم النار، فاحترقوا عن آخرهم، كلّ ذلك وابن الملك فى البلاء الشديد من وجعه- كما وعده الله تعالى على لسان نبيّه إلياس- لا يقضى عليه فيموت، ولا يخفّف عنه من عذابه. قال: فلمّا سمع الملك بهلاك أصحابه ثانيا ازداد غضبا إلى غضبه، وأراد أن يخرج «4» فى طلب إلياس بنفسه، إلّا أنه شغله عن ذلك مرض ابنه فلم يمكنه، فوجّه نحو إلياس الكاتب المؤمن الذى هو كاتب امرأته رجاء أن يأنس به إلياس فينزل الجزء: 14 ¦ الصفحة: 21 معه، وأظهر للكاتب أنه لا يريد بإلياس سوءا. وإنما أظهر له ذلك لما اطّلع عليه من إيمانه، وكان الملك مع اطّلاعه يغضّ عنه لما هو عليه من الكفاية والأمانة والحكمة وسداد الرأى، فوجّهه نحوه، وأرسل معه فئة من أصحابه، وأوعز إلى الفئة دون الكاتب أن يوثقوا إلياس ويأتوه به إن أراد أن يتخلّف عنهم، وإن جاء مع الكاتب واثقا به آنسا بمكانه لم يوحشوه ولم يروّعوه، ثم أظهر آجاب للكاتب الإنابة وقال: إنه قد آن لى أن أتوب وأتّعظ، وقد أصابتنا بلايا من حريق أصحابنا والبلاء الذى فيه ابنى؛ وقد عرفت أنّ ذلك بدعوة إلياس، ولست آمن أن يدعو على جميع من بقى منّا فنهلك بدعوته. فانطلق إليه وأخبره أنّا قد تبنا وأنبنا، وأنه لا يصلحنا فى توبتنا وما نريد من رضا ربّنا وخلع أصنامنا إلّا أن يكون إلياس بين أظهرنا يأمرنا وينهانا، ويخبرنا بما يرضى به ربّنا. وأمر الملك قومه فاعتزلوا الأصنام، وقال له: أخبر إلياس بأنّا قد خلعنا آلهتنا التى كنّا نعبد وأرجأنا «1» أمرها حتى ينزل إلياس إلينا، فيكون هو الذى يحرقها ويهلكها وكان ذلك مكرا من الملك. فانطلق الكاتب والفئة حتى علوا الجبل الذى فيه إلياس- عليه السلام- ثم ناداه الكاتب، فعرف إلياس صوته، فتاقت نفسه إليه وأنس بمكانه وكان مشتاقا إلى لقائه، فأوحى الله تعالى إلى إلياس أن ابرز إلى أخيك الصالح فالقه وجدّد العهد به، فبرز إليه إلياس وسلّم عليه وصافحه، وقال له: ما الخبر؟ قال له المؤمن: إنّه قد بعثنى إليك هذا الجبّار الطاغية وقومه، ثم قصّ عليه ما قالوا، ثم قال: وإنّى خائف إن رجعت إليه ولست معى أن يقتلنى، فمرنى بما شئت أن أفعله وأنتهى إليه، [إن شئت انقطعت إليك وكنت معك وتركته، وإن شئت جاهدته معك «2» ] الجزء: 14 ¦ الصفحة: 22 وإن شئت فأرسلنى إليه بما تحبّ فأبلّغه رسالتك، وإن شئت دعوت ربّك أن يجعل لنا من أمرنا فرجا ومخرجا. قال: فأوحى الله- عزّ وجلّ- إلى إلياس عليه السلام أنّ كلّ شىء جاءوك به مكر وخديعة ليظفروا بك، وأن «آجاب» إن أخبرته رسله أنّك قد لقيت هذا الرجل ولم يأت بك إليه اتّهمه وعرف أنه قد داهن فى أمرك، فلم يأمن أن يقتله، فانطلق معه فإنّ فى انطلاقك معه عذره وبراءته عند آجاب، وإنى سأشغل عنكما آجاب، وأضاعف على ابنه البلاء حتى لا يكون له همّ غيره، وأميته على شرّ حال، فإذا مات فارجع عنه ولا تقم. فانطلق معهم حتى قدموا على آجاب، فلمّا قدموا عليه شدّد الله تعالى على ابنه الوجع، وأخذه الموت، فشغل الله تعالى آجاب وأصحابه بذلك عن إلياس، فرجع إلياس سالما إلى مكانه. فلمّا مات ابن آجاب وفرغوا منه وقلّ جزعه، انتبه لإلياس وسأل عنه الكاتب الذى جاء به، فقال: ليس لى به علم، وذلك أنّه شغلنى عنه موت ابنك والجزع عليه، ولم أكن أحسبك إلّا قد استوثقت منه. فأضرب عنه آجاب وتركه لما كان فيه من الحزن على ابنه. فلمّا طال الأمر على إلياس ملّ الكمون فى الجبال والمقام بها واشتاق إلى العمران وإلى الناس فنزل من الجبل، وانطلق حتى نزل بامرأة من بنى إسرائيل، وهى أمّ يونس ابن متّى [ذى النون، فاستخفى عندها ستة أشهر «1» ] ، ويونس يومئذ مولود يرضع، وكانت أمّ يونس تخدمه بنفسها، وتواسيه بذات يدها، ولا تدّخر عنه كرامة تقدر عليها. ثم إنّ إلياس سئم ضيق البيوت بعد مقامه بالجبال وسعتها، فأحبّ أن يلتحق بالجبال فخرج وعاد إلى مكانه، فجزعت أمّ يونس لفراقه وأوحشها فقده، ثم لم تلبث إلّا يسيرا حتى مات ابنها [يونس «2» ] حين فطمته، فعظمت مصيبتها فيه، فخرجت فى طلب إلياس، فلم تزل ترقى الجبال وتطوف [فيها «3» ] حتّى عثرت عليه ووجدته، فقالت: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 23 إنّى قد فجعت بموت ابنى بعدك، فعظمت فيه مصيبتى، واشتدّ لفقده بلائى، وليس لى ولد غيره، فارحمنى وادع ربّك- جلّ جلاله- فيحيى لى ابنى، ويجبر مصيبتى، وإنى قد تركته مسجّى لم أدفنه، وإنى قد أخفيت مكانه. فقال لها إلياس: ليس هذا ممّا أمرت به، وإنما أنا عبد مأمور أعمل بما يأمرنى به ربّى، ولم يأمرنى بهذا. فجزعت المرأة وتضرّعت، فعطّف الله سبحانه وتعالى قلب إلياس عليها، فقال لها: ومتى مات ابنك؟ قالت: منذ سبعة أيام. فانطلق إلياس معها وسار سبعة أيام أخرى حتى انتهى إلى منزلها فوجد ابنها يونس ميتّا منذ أربعة عشر يوما، فتوضّأ وصلّى ودعا الله فأحيا الله تعالى يونس بن متّى بدعوة إلياس. فلمّا عاش وجلس وثب إلياس وانصرف وعاد إلى موضعه. والله أعلم. ذكر دعاء إلياس على قومه، وما حلّ بهم من القحط وخبر اليسع حين اتّبع إلياس قال: ولمّا طال عصيان قومه ضاق إلياس بذلك ذرعا وأجهده البلاء. فأوحى الله تعالى إليه بعد سبع سنين وهو خائف مجهود: يا إلياس، ما هذا الحزن والجزع الذى أنت فيه! ألست أمينى على وحيى، وحجّتى فى أرضى، وصفوتى من خلقى! فسلنى أعطك فإنّى ذو الرحمة الواسعة والفضل العظيم. قال: تميتنى فتلحقنى بآبائى، فإنّى قد مللت بنى إسرائيل وملّونى، وأبغضتهم فيك وأبغضونى. فأوحى الله تعالى إليه: يا إلياس، ما هذا باليوم الذى أعرى منك الأرض وأهلها، وإنما قوامها وصلاحها بك وبأشباهك إن كنتم صبرتم قليلا، ولكن تسألنى فأعطيك. قال إلياس: فإن لم تمتنى يا إلهى فأعطنى ثأرى من بنى إسرائيل. قال الله تعالى: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 24 وأىّ شىء تريد أن أعطيك يا إلياس؟ قال: تمكننى من خزائن السماء سبع سنين، فلا تنشئ «1» عليهم سحابة إلّا بدعوتى، ولا تمطر عليهم سبع سنين قطرة إلّا بشفاعتى، فإنهم لا يذلّهم إلّا ذلك. قال الله تعالى: يا إلياس، أنا أرحم بخلقى من ذلك وإن كانوا ظالمين. قال: ستّ سنين. قال: أنا أرحم بخلقى من ذلك وإن كانوا ظالمين. قال: فخمس سنين. قال: أنا أرحم بخلقى من ذلك وإن كانوا ظالمين، ولكنى أعطيك ثلاث سنين أجعل خزائن المطر بيدك، فلا تنشأ «2» عليهم سحابة إلّا بدعوتك، ولا تنزل عليهم قطرة إلّا بشفاعتك. قال إلياس: فبأىّ شىء أعيش؟ قال: أسخّر جيشا من الطير تنقل إليك طعامك وشرابك من الريف والأرض التى لم تقحط. قال إلياس: قد رضيت. قال: فأمسك الله- عزّ وجلّ- عنهم المطر حتى هلكت الماشية والدوابّ والهوامّ والشجر وجهد الناس جهدا شديدا وإلياس على حالته مستخف من قومه يوضع له الرزق حيثما كان، وقد عرفه بذلك قومه، فكانوا إذا وجدوا ريح الخبز فى بيت قالوا: لقد دخل إلياس هذا البيت وطلبوه، ولقى أهل ذلك المنزل منهم شرّا. قال ابن عباس- رضى الله عنهما-: أصاب بنى إسرائيل ثلاث سنين القحط، فمرّ إلياس- عليه السلام- بعجوز فقال لها: هل عندك طعام؟ قالت: نعم، شىء من دقيق وزيت قليل. فجاءته بشىء من الدقيق والزيت، فدعا فيهما بالبركة «3» ومسّهما، فبارك الله فى ذلك حتى ملأت جربها دقيقا وملأت الجزء: 14 ¦ الصفحة: 25 خوابيها زيتا. فلمّا رأوا ذلك عندها قالوا: من أين لك هذا؟ قالت: مرّ بى رجل من حاله كذا وكذا، فوصفت صفته، فعرفوه وقالوا: ذلك إلياس؛ فطلبوه فوجدوه فهرب منهم. ثم أوى ليلة إلى بيت امرأة من بنى إسرائيل لها ابن يقال له: اليسع ابن أخطوب به ضرّ، فآوته وأخفت أمره، فدعا له فعوفى من الضرّ الذى كان به، واتّبع اليسع إلياس وآمن به وصدّقه ولزمه، وكان يذهب به حيثما ذهب، وكان إلياس قد أسنّ وكبر، وكان اليسع غلاما شابّا. ذكر رفع البلاء عن قوم إلياس بدعوته واستمرارهم على الكفر ورفع إلياس وهلاك آجاب الملك وامرأته، ونبوّة اليسع قال: ثم أوحى الله تعالى إلى إلياس- عليه السلام- إنك قد أهلكت كثيرا من الخلق ممن لم يعص سوى بنى إسرائيل من البهائم والدوابّ والطير والهوامّ والشجر بحبس المطر عن بنى إسرائيل. فيزعمون- والله أعلم- أنّ إلياس قال: يا ربّ دعنى أكن الذى أدعو لهم وآتيهم بالفرج ممّا هم فيه من البلاء الذى أصابهم لعلّهم أن يرجعوا وينزعوا عمّا هم عليه من عبادة غيرك. قيل له: نعم. فجاء إلياس- عليه السلام- إلى بنى إسرائيل فقال لهم: إنكم قد هلكتم جوعا وجهدا، وهلكت البهائم والدّوابّ والطير والهوامّ والشجر بخطاياكم، وإنكم على باطل وغرور. فإن كنتم تحبّون أن تعلموا ذلك فاخرجوا بأصنامكم هذه، فإن استجابت لكم فذلك كما تقولون، وإن هى لم تفعل علمتم أنكم على باطل فنزعتم، ودعوت الله- عزّ وجلّ- ففرّج عنكم ما أنتم فيه من البلاء. قالوا: أنصفت. فخرجوا بأوثانهم فدعوها الجزء: 14 ¦ الصفحة: 26 فلم تستجب لهم، ولم تفرّج عنهم ما كانوا فيه [من البلاء «1» ] . ثم قالوا لإلياس: يا إلياس، إن الله قد أهلكنا، فادع الله لنا. فدعا الله تعالى لهم ومعه «2» اليسع بالفرج ممّا هم فيه وأن يسقوا، فخرجت سحابة مثل التّرس على ظهر البحر وهم ينظرون، فأقبلت نحوهم وطبّقت الآفاق، ثم أرسل الله تعالى عليهم المطر [فأغاثهم «3» ] وحييت بلادهم. فلمّا كشف الله تعالى عنهم الضّرّ نقضوا العهد ولم ينزعوا عن كفرهم، ولم يقلعوا عن ضلالتهم، وأقاموا على أخبث ما كانوا عليه. فلمّا رأى إلياس- عليه السلام- ذلك دعا الله تعالى أن يريحه منهم؛ فقيل له- كما يزعمون-: انظر «4» يوم كذا وكذا فاخرج فيه «5» إلى موضع كذا، فما جاءك من شىء فاركبه ولا تهبه. فخرج إلياس ومعه اليسع بن أخطوب، حتى إذا كانا بالموضع الذى أمر إلياس به، أقبل فرس من نار حتى وقف بين يديه، فوثب عليه إلياس، فانطلق الفرس به، فناداه اليسع، يا إلياس: ما تأمرنى؟ فقذف اليه إلياس بكسائى من الجوّ الأعلى، وكان ذلك علامة استخلافه إيّاه على بنى إسرائيل، فكان [ذلك «6» ] آخر العهد به. ورفع الله- عزّ وجلّ- إلياس من بين أظهرهم، وقطع عنه لذّة المطعم والمشرب، وكساه الرّيش، فكان إنسيّا ملكيّا أرضيّا سماويّا، وسلّط الله على آجاب الملك وقومه عدوّا لهم فقصدهم من حيث لم يشعروا [به «7» ] حتى رهقهم، فقتل الجزء: 14 ¦ الصفحة: 27 آجاب وامرأته أرايل فى بستان مزدكى، فلم تزل جيفتاهما ملقاتين فى تلك الجنينة حتى بليت لحومهما ورمّت عظامهما «1» . ذكر نبوّة اليسع عليه السلام قال أبو إسحاق- رحمه الله تعالى-: ولمّا رفع الله تعالى إلياس- عليه السلام- نبّأ اليسع وبعثه رسولا إلى بنى إسرائيل، وأوحى إليه وأيّده بما أيّد به عبده إلياس؛ فآمنت به بنو إسرائيل، وكانوا يعظّمونه وينتهون إلى أمره، وحكم الله تعالى قائم فيهم إلى أن فارقهم اليسع عليه السلام. قال أبو إسحاق الثعلبىّ- رحمه الله- بسند رفعه إلى عبد العزيز بن أبى روّاد قال: إلياس والخضر- عليهما السلام- يصومان شهر رمضان بيت المقدس، ويوافيان الموسم فى كلّ عام. وروى بسند رفعه إلى زيد مولى عون الطّفاوىّ «2» عن رجل من أهل عسقلان أنّه كان يمشى بالأردنّ نصف النهار، فرأى رجلا فقال له: يا عبد الله، من أنت؟ قال: فجعل لا يكلّمنى. فقلت: يا عبد الله، من أنت؟ قال: أنا إلياس. قال: فوقعت علىّ رعدة، فقلت: أدع الله يرفع عنّى ما أجد حتى أفهم حديثك وأعقل عنك. قال: فدعا لى بثمان دعوات: يا برّ، يا رحيم، يا حنّان، يا منّان، يا حىّ، يا قيوم، ودعوتين بالسريانية لم أفهمهما. قال: فرفع الله عنّى ما كنت أجد، فوضع كفّه بين كتفى، فوجدت بردها بين ثديى. قال فقلت: يوحى إليك اليوم؟ قال: منذ بعث الله محمدا رسوله فإنه ليس يوحى إلىّ. قال قلت له: كم من الأنبياء اليوم أحياء؟ قال: أربعة، اثنان فى الأرض، واثنان فى السماء، فى السماء عيسى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 28 وإدريس، وفى الأرض إلياس والخضر. قلت: كم الأبدال «1» ؟ قال: ستون رجلا، خمسون منهم من لدن عريش مصر إلى شاطئ الفرات؛ ورجلان بالمصّيصة «2» ، ورجلان بعسقلان، وستة فى سائر البلدان، كلّما أذهب الله واحدا جاء بآخر [مكانه «3» ] بهم يدفع الله عن الناس [البلاء «4» ] وبهم يمطرون. قلت: فالخضر أين يكون؟ قال: فى جزائر البحر. قلت: فهل تلقاه؟ قال نعم. قلت: أين؟ قال: بالموسم. قلت: فما يكون من حديثكما؟ قال: يأخذ من شعرى وآخذ من شعره. قال: وذلك حين كان بين مروان بن الحكم وبين أهل الشأم قتال. قال: فقلت: ما تقول فى مروان بن الحكم؟ قال: ما تصنع به! [رجل جبّار «5» ] عات على الله- عزّ وجلّ- القاتل والمقتول والشاهد فى النار. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 29 قال قلت: فإنى قد شهدت فلم أطعن برمح ولم أرم بسهم ولم أضرب بسيف، وأنا أستغفر الله- عزّ وجلّ- أن أعود إلى ذلك المقام أو مثله أبدا. قال: أحسنت، هكذا فكن. قال: فإنى وإيّاه قاعدان إذ وضع بين يديه رغيفان أشدّ بياضا من الثلج، أكلت أنا وهو رغيفا وبعض آخر ثم رفع، فما رأيت أحدا وضعه ولا أحدا رفعه. قال: وله ناقة ترعى فى وادى الأردنّ، فرفع رأسه إليها، فما دعاها حتى جاءت فبركت بين يديه فركبها. قلت: أريد أن أصحبك. قال: إنك لا تقدر على صحبتى. قلت: إنى خلو مالى زوجة ولا عيال. قال: تزوج، وإيّاك والنساء الأربع، إيّاك والناشز «1» ، والمختلعة «2» ، والملاعنة «3» ، والمبارئة «4» ، وتزوّج ما بدالك من النساء. قال: قلت: فإنى أحبّ لقاءك. قال: إذا رأيتنى فقد رأيتنى، ثم قال: إنى أريد أن أعتكف فى بيت المقدس فى شهر رمضان. قال: ثم حالت بينى وبينه شجرة، فو الله ما أدرى كيف ذهب. فهذا ما أورده فى خبر إلياس واليسع- عليهما السلام-. والله أعلم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 30 ذكر خبر عيلى «1» وأشمويل «2» وما يتّصل بذلك قال أبو إسحاق الثعلبىّ- رحمه الله- قال وهب بن منبّه: لمّا قبض الله تعالى اليسع- عليه السلام- خلفت فى بنى إسرائيل الخلوف، وعظمت فيهم الخطايا، وكان عندهم التابوت يتوارثونه صاغرا عن كابر، فيه السّكينة «3» وبقيّة «4» ممّا ترك آل موسى وآل هارون، وكانوا لا يلقاهم عدوّ فيقدّمون التابوت إلّا هزم الله ذلك العدوّ. وكان الله- تبارك وتعالى- قد بارك لهم فى جبلهم، لا يدخله عدوّ، ولا يحتاجون معه إلى غيره. وكان أحدهم- فيما يذكرون- يضع التراب على الصّخرة ثم ينثر فيه الحبّ فيخرج الله تعالى له ما يأكله سنة هو وعياله. ويكون لأحدهم الزيتونة فيعتصر منها ما يأكله سنة هو وعياله. فلمّا عظمت أحداثهم وكثرت ذنوبهم وتركوا عهد الله إليهم سلّط عليهم العمالقة- وهم قوم [كانوا «5» ] يسكنون غزّة وعسقلان وساحل بحر الروم ما بين مصر وفلسطين- وكان جالوت الملك منهم فظهروا على بنى إسرائيل، وغلبوهم على كثير من أرضهم وسبوا كثيرا من ذراريهم وأسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة وأربعين غلاما، فضربوا عليهم الجزية، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 31 وأخذوا توراتهم، ومكثوا على اضطراب من أمرهم واختلاف من حالهم يتمادون أحيانا فى غيّهم وضلالتهم، فسلّط الله عليهم من ينتقم منهم ليراجعوا التوبة، حتى بعث الله تعالى فيهم طالوت ملكا. وكانت مدّة ما بين وفاة يوشع بن نون إلى نبوّة أشمويل أربعمائة سنة وستّين سنة، وكان آخر ملوكهم فى هذه المدّة رجل يقال له «إيلاف» وكان يدبّر أمرهم فى ملكه شيخ يقال له «عيلى» الكاهن، وكان حبرهم وصاحب قربانهم، وكانوا ينتهون إلى رأيه. ذكر ابتداء أمر أشمويل وكيف كانت نبوّته قال الثعلبىّ قال وهب: كان لأبى أشمويل امرأتان، إحداهما عجوز عاقر لم تلد، وهى أمّ أشمويل، والأخرى ولدت عشرة أولاد. وكان لبنى إسرائيل عيد من أعيادهم قد قاموا بشرائطه وقرّبوا فيه القرابين، فحضر أبو أشمويل وامرأتاه وأولاده العشرة ذلك العيد، فلمّا قرّبوا قربانهم أخذ كلّ واحد منهم نصيبه، فكان لأمّ الأولاد عشرة أنصباء، وللعجوز نصيب واحد، فعمل الشيطان بينهما ما يعمل بين الضرائر من الحسد والبغى، فقالت أمّ الأولاد [للعجوز «1» ] : الحمد لله الذى كثّرنى بولدى وقلّلك، فوجمت العجوز وجوما شديدا. فلمّا كان عند السّحر عمدت العجوز إلى متعبّدها فقالت: اللهمّ بعلمك وسمعك كانت مقالة صاحبتى واستطالتها علىّ بنعمتك التى أنعمت عليها، وأنت ابتدأتها بالنعمة والإحسان، فارحم ضعفى وارحمنى وارزقنى ولدا تقيّا رضيّا أجعله لك ذخرا فى مسجد من مساجدك، يعبدك ولا يكفرك، ويطيعك ولا يجحدك. وإذا رحمت ضعفى ومسكنتى وأجبت دعوتى، فاجعل لها علامة أعرفها بها. فلمّا أصبحت حاضت وكانت من قبل قد يئست من الحيض، فألمّ بها زوجها، فحملت وكتمت أمرها، ولقى بنو إسرائيل الجزء: 14 ¦ الصفحة: 32 فى ذلك الوقت من عدوّهم بلاء وشدّة، ولم يكن فى بنى إسرائيل من يدبّر أمرهم، فكاوا يسألون الله تعالى أن يبعث لهم نبيّا يشير عليهم ويجاهدون عدوّهم معه، وكان سبط النبوّة قد هلك، فلم يبق منهم إلّا هذه المرأة الحبلى؛ فلمّا علموا بحبلها تعجّبوا وقالوا: إنما حبلت بنبىّ، لأن الآيسات لا يحبلن إلّا بالأنبياء، فأخذوها وحبسوها فى بيت رهبة أن تلد جارية فتبدل بها غلاما، لما ترى من رغبة بنى إسرائيل فى ولدها، فجعلت المرأة تدعو الله تعالى أن يرزقها غلاما، فولدت غلاما فسمّته «أشمويل» وقيل فيه «شمعون» . وتقول: سمع الله دعائى. واختلف فى نسبه، فالذى يقول اسمه شمعون يقول: هو شمعون بن صفيّة بن علقمة بن أبى ياسف بن قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب. وقال سائر المفسّرين: هو أشمويل، وهو بالعربية إسماعيل بن بالى «1» ابن علقمة بن حام بن النهر بن بهر بن صوف بن علقمة بن ماحت بن عموصا ابن عزريا. قال مقاتل: هو من نسل هارون- عليه السلام-. وقال مجاهد: أشمويل ابن هلقاثا. والله أعلم. قالوا: فلمّا كبر الغلام أسلمته أمّه يتعلّم التوراة فى بيت المقدس وكفله عيلى، فلمّا بلغ أشمويل الوقت الذى يبعثه الله- عزّ وجلّ- نبيّا أتاه جبريل الجزء: 14 ¦ الصفحة: 33 وهو نائم إلى جنب عيلى الكاهن، وعيلى لا يأمن عليه أحدا، فدعاه بلحن الشيخ: يا أشمويل، فقام فزعا إلى الشيخ فقال: يا أبتاه، دعوتنى؟ فكره الشيخ أن يقول لا فيفزع الغلام؛ فقال: يا بنىّ ارجع. فرجع فنام، ثم دعاه ثانيا، فأتاه فقال: أدعوتنى؟ فقال الشيخ: ما شأنك؟ فقال: أما دعوتنى؟ قال: لا. قال أشمويل: فإنى سمعت صوتا فى البيت، وليس فيه غيرنا. فقال: ارجع فتوضّأ وصلّ، فإذا دعيت باسمك فأجب وقل: لبّيك، أنا طوعك، فمرنى أفعل ما تأمرنى. ففعل الغلام ذلك، فنودى الثالثة، فقال: لبّيك أنا طوعك، فمرنى أفعل ما تأمرنى. فظهر له جبريل وقال: اذهب إلى قومك فبلّغهم رسالة ربّك، فإنّ الله تعالى قد بعثك إليهم نبيّا، وإن الله تعالى ذرأك يوم ذرأك [للنبوة «1» ] ورحم وحدة أمّك فى ذلك اليوم الذى تاهت عليها ضرّتها، ولا أحد اليوم أشدّ عضدا «2» ولا أطيب ولادة منك، فانطلق إلى عيلى [فقل له «3» ] إنك كنت خليفة الله على عباده، فبقيت زمانا تأمر بأمره، وحاكما بكتابه، وحافظا لحدوده؛ فلمّا امتدّ سنّك، ودقّ عظمك، وذهبت قوتّك، وفنى عمرك، وقرب أجلك؛ وصرت أفقر ما تكون إلى الله تعالى، ولم تزل فقيرا إليه، عطّلت الحدود، وعملت بالرّشا، وأضعت حكومات الخلق، حتى عزّ الباطل وأهله، وذلّ الحقّ وحزبه، وظهر المكر، وخفى المعروف، وفشا الكذب، وقلّ الصدق، وما الله عاهدك على هذا. ولا عليه استخلفك، فبئس ما ختمت به عملك، والله لا يحبّ الخائنين. فبلّغه هذه الرسالة، وقم بعده بالخلافة؛ فلمّا بلّغ أشمويل عيلى هذه الرسالة فزع وجزع. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 34 قالوا: وكان السبب فيما عاتب الله تعالى عبده عيلى ووبّخه عليه أنه كان له ابنان شابّان، فأحدثا شيئا فى القربان لم يكن فيه، وذلك أنه كان فى مسواط «1» القربان الذى يسوطونه «2» به كلّابان، فما أخرجا كان للكاهن الذى كان يسوطه، فجعل ابناه لهما كلاليب، فأوحى الله تعالى إلى أشمويل: انطلق إلى عيلى فقل له: منعك حبّ الولد أن تزجر ابنيك أن يحدثا فى قربانى وأن يعصيانى، فلأ نزعنّ الكهانة منك ومن ولديك ولأهلكنّك وإياهما. فأخبر أشمويل عيلى بذلك، ففزع فزعا شديدا وسار إليهم عدوّهم، فأمر عيلى ابنيه أن يخرجا بالناس ويقاتلا ذلك العدوّ، فخرجا وأخرجا معهما التابوت، فجعل عيلى يتوقّع الخبر؛ فجاءه رحل وهو قاعد على كرسيّه فأخبره أنّ الناس قد انهزموا، وأن ابنيه قتلا. قال: فما فعل بالتابوت؟ قال: ذهب به العدوّ. فشهق عيلى ووقع ميّتا. فلمّا بلغ ملكهم إيلاف أن التابوت استلب، وأن عيلى قد مات كمدا مالت عنقه فمات كمدا. قالوا: فلمّا ماتا وأخذ التابوت مرج «3» أمر بنى إسرائيل واجترأ عليهم عدّوهم فقالوا لأشمويل ما أخبر الله تعالى به عنهم فى قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ «4» الآيات. وذلك بعد ما دبّر أشمويل أمرهم عشر سنين. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 35 وإنما كان قوام أمر بنى إسرائيل بالاجتماع على الملوك وطاعة الملوك أنبياءهم، وكان الملك هو الذى يسير بالجنود ويقاتل العدوّ، والنبىّ يقيم له أمره ويشير عليه ويرشده، ويأتيه بالخبر من الله تعالى. قال وهب: بعث الله تعالى أشمويل نبيّا، فلبثوا أربعين سنة بأحسن حال، وكان من أمر جالوت الملك والعمالقة ما كان، فسألوه أن يبعث لهم ملكا؛ فقال لهم: هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا . فأجابوه بما قصّ الله تعالى فى كتابه: قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ «1» الآية. قال: فلمّا أخذ أشمويل ميثاقهم فى الطاعة والجهاد سأل الله تعالى أن يبعث لهم ملكا. والله أعلم بالصواب. ذكر خبر الملك طالوت وإتيان التابوت وخبر جالوت قالوا: ولما سألوا أشمويل أن يبعث لهم ملكا، سأل الله تعالى فى ذلك، فأتى بعصا وقرن «2» فيه دهن القدس، وقيل له: إنّ صاحبكم الذى يكون ملكا طوله طول هذه العصا؛ وقيل له: أنظر إلى القرن الذى فيه الدّهن فإذا دخل عليك رجل فنشّ «3» الدّهن الذى فى القرن فهو ملك بنى إسرائيل، فادهن به رأسه، وملّكه عليهم؛ فقاسوا أنفسهم بالعصا فلم يكونوا مثلها؛ وكان طالوت- واسمه بالسّريانيّة «شارك «4» » الجزء: 14 ¦ الصفحة: 36 وبالعبرانيّة شاول «1» بن قيس بن أنيال بن ضرار بن أحرب بن أفيح بن آيش بن بنيامين ابن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم- رجلا دبّاغا يعمل الأدم. قال وهب وعكرمة والسّدّى: كان سقّاء يسقى على حمار من النّيل، فضّل حماره، فخرج فى طلبه. وقال وهب: بل ضلّت حمر لأبى طالوت، فأرسله وغلاما له يطلبانها، فمرّا ببيت أشمويل فقال الغلام لطالوت: لو دخلنا على هذا النبىّ فسألناه عن أمر حمرنا ليرشدنا ويدعو لنا بخير. فقال نعم. فدخلا عليه، فبينما هما عنده يذكران شأن الحمر إذ نشّ الدّهن فى القرن فقام أشمويل وقاس طالوت بالعصا، فكانت على طوله، فقال لطالوت: قرّب رأسك. فقرّبه فدهنه بدهن القدس، ثم قال له: أنت ملك بنى إسرائيل، وقد أمرنى الله تعالى أن أملّكك عليهم. فقال طالوت: أنا؟ قال نعم. قال: أو ما علمت أن سبطى» أدنى الأسباط فى بنى إسرائيل؟ قال بلى. قال: أفما علمت أن بيتى أدنى بيوت بنى إسرائيل؟ قال بلى. قال: فبأىّ آية أكون ملكا؟ قال: بآية أنك ترجع وقد وجد أبوك حمره. فكان كذلك. ثم قال لبنى إسرائيل: إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ «3» ؛ وإنما قالوا ذلك لأنه كان فى بنى إسرائيل سبطان: سبط نبوّة، وسبط مملكة؛ فكان سبط النبوّة سبط لاوى بن يعقوب، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 37 منهم موسى وهارون- عليهما السلام- وسبط المملكة سبط يهوذا بن يعقوب، منهم سليمان بن داود؛ ولم يكن طالوت من سبط النبوّة ولا المملكة، وإنما كان من سبط بنيامين بن يعقوب، وكانوا عملوا ذنبا عظيما؛ كانوا ينكحون النساء على ظهر الطريق نهارا، فغضب الله تعالى عليهم، ونزع النبوّة والمملكة منهم، فأنكر بنو إسرائيل ذلك وقالوا: أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قال أشمويل: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً ، أى فضيلة وسعة فِي الْعِلْمِ وذلك أنه كان أعلم بنى إسرائيل فى وقته. وقال الكلبىّ: «فى العلم» بالحرب. وَالْجِسْمِ يعنى بالطّول والقوّة؛ وكان يفوق الناس برأسه ومنكبيه؛ وإنما سمّى طالوت لطوله. وقال ابن كيسان: للجمال، وكان أجمل رجل فى بنى إسرائيل وأعلمهم وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ «1» . قالوا: فما آية ذلك؟ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «2» . ذكر قصة التابوت وصفته وما قيل فيه قال أبو إسحاق الثعلبىّ- رحمه الله-: قال أهل التفسير وأصحاب الأخبار: إنّ الله تعالى أهبط تابوتا على آدم حين أهبط آدم إلى الأرض، فيه صور الأنبياء من أولاده، وفيه بيوت بعدد الرّسل منهم، وآخر البيوت بيت محمد- صلى الله عليه وسلّم- وهو من ياقوتة حمراء، وإذا هو قائم يصلّى وعن يمينه الكهل المطيع، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 38 مكتوب على جبينه: هذا أوّل من يتّبعه من أمّته «أبو بكر الصدّيق» وعن يساره «الفاروق» ، مكتوب على جبينه: قرن من حديد لا تأخذه فى الله لومة لائم؛ ومن ورائه ذو النّورين آخذ بحجزته «1» ، مكتوب على جبينه: بارّ من البررة. ومن بين يديه «علىّ بن أبى طالب» شاهر سيفه على عاتقه، مكتوب على جبينه: هذا أخوه وابن عمه المؤيّد بالنصر من عند الله. وحوله عمومته والخلفاء والنّقباء والكبكبة «2» الخضراء- وهم أنصار الله وأنصار رسوله- نور حوافر دوابّهم يوم القيامة مثل نور الشمس فى الدنيا. وكان التابوت نحوا من ثلاثة أذرع فى ذراعين، وكان من عود الشّمشار «3» الذى تتّخذ منه الأمشاط، مموّها بالذهب، فكان عند آدم إلى أن مات، ثم عند شيث، ثم توارثه أولاد آدم إلى أن بلغ إبراهيم- عليه السلام- فلمّا مات كان عند إسماعيل، ثم كان عند قيذار بن إسماعيل، فتنازعه ولد إسحاق وقالوا: إنّ النبوّة قد صرفت عنكم، وليس لكم إلّا هذا النور الواحد، [يعنى نور محمد صلّى الله عليه وسلّم «4» ] فأعطنا التابوت. فكان قيذار يمتنع عليهم ويقول: إنه وصيّة لأبى، ولا أعطيه أحدا من العالمين. قال: فذهب ذات يوم يفتح التابوت، فتعسّر عليه فتحه، فناداه مناد من السماء: مهلا يا قيذار، فليس لك إلى فتح هذا التابوت سبيل، إنه وصيّة نبىّ، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 39 لا يفتحه إلا نبىّ، فادفعه لابن عمّك يعقوب إسرائيل الله؛ فحمل قيذار التابوت على عنقه وخرج يريد أرض كنعان وكان بها يعقوب- عليه السلام- فلمّا قرب منه صرّ التابوت صرّة سمعها يعقوب، فقال لبنيه: أقسم بالله لقد جاءكم قيذار بالتابوت فقوموا نحوه. فقام يعقوب وأولاده جميعا إليه، فلمّا نظر يعقوب إلى قيذار استعبر باكيا وقال: يا قيذار، مالى أرادك متغيّرا وقوّتك ضعيفة، أرهقك عدوّ أم أتيت معصية بعد أبيك إسماعيل؟ قال: ما رهقنى عدوّ ولا أتيت معصية ولكن نقل من ظهرى نور محمد، فلذلك تغيّر لونى وضعف ركنى، قال: أفى بنات إسحاق؟ قال: لا، فى العربيّة الجرهميّة، وهى العامريّة، فقال يعقوب: بخ بخ! شرفا لمحمد، لم يكن الله- عزّ وجل- ليجريه إلا فى العربيّات الطاهرات يا قيذار، وأنا مبشّرك ببشارة. قال: وما هى؟ قال: اعلم أن العامريّة قد ولدت لك البارحة غلاما. قال قيذار: وما علّمك يابن عمّى وأنت بأرض الشأم وهى بأرض الحرم؟ قال يعقوب: علمت ذلك لأنى رأيت أبواب السماء قد فتحت، ورأيت نورا كالقمر الممدود بين السماء والأرض، ورأيت الملائكة ينزلون من السماء بالبركات والرحمة، فعلمت أنّ ذلك من أجل محمد- صلى الله عليه وسلّم- فسلم قيذار التابوت إلى يعقوب ورجع إلى أهله، فوجدها قد ولدت غلاما، فسمّاه «حملا» وفيه نور محمد صلّى الله عليه وسلّم. قالوا: وكان التابوت فى بنى إسرائيل إلى أن وصل إلى موسى- عليه السلام- فكان موسى يضع فيه التوراة ومتاعا من متاعه، وكان عنده إلى أن مات، ثم تداوله أنبياء بنى إسرائيل إلى وقت أشمويل، وكان فيه ما ذكر الله تعالى فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 40 قال الثعلبىّ: واختلفوا فى السكينة ما هى؟ فقال علىّ بن أبى طالب: السكينة ريح خجوج «1» هفّافة لها رأسان [كرأس الهرّة «2» ] ووجه كوجه الإنسان. وقال مجاهد: رأس كرأس الهرّة، وذنب كذنب الهرّة وجناحان. وقال ابن إسحاق عن وهب عن بعض علماء بنى إسرائيل: السكينة، رأس هرّة ميّتة كانت إذا صرخت فى التابوت بصراخ هرّ أيقنوا بالنصر وجاءهم الفتح. وقال السّدّىّ عن أبى مالك عن ابن عبّاس: هى طست من ذهب من الجنة كانت تغسل فيه قلوب الأنبياء. وقال بكّار بن عبد الله عن وهب: روح من الله تتكلم، إذا اختلفوا فى شىء تخبرهم ببيان ما يريدون. وقال عطاء بن أبى رباح: هى ما يعرفون من الآيات فيسكنون إليها. وقال قتادة والكلبىّ: فعيلة من السكون أى طمأنينة من ربّكم، وفى أىّ مكان كان التابوت اطمأنّوا وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ. قالوا: كان فيه عصا موسى ورضاض «3» الألواح، وذلك أنّ موسى لمّا ألقى الألواح تكسرت فوقع بعضها، وجمع ما بقى فجعله فى التابوت. وكان فيه أيضا لوحان من التوراة، وقفيز من المنّ الذى كان ينزل عليهم، ونعلا موسى، وعمامة هارون وعصاه. وكان التابوت عند بنى إسرائيل؛ وكانوا إذا اختلفوا فى شىء تكلّم وحكم بينهم، وإذا حضروا القتال قدّموه بين أيديهم يستفتحون «4» به على عدوّهم، فلمّا عصوا وأفسدوا سلّط الله- عزّ وجلّ- عليهم العمالقة فاستلبوا التابوت كما تقدّم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 41 ذكر إتيان التابوت إلى بنى إسرائيل وسبب عوده قال أبو إسحاق: لمّا سلب العمالقة قوم جالوت التابوت كان جالوت صغيرا، فأتوا بالتابوت قرية من قرى فلسطين يقال لها أشدود «1» ، وجعلوه فى بيت صنم لهم ووضعوه تحت الصنم الأعظم، فأصبحوا من الغد والصنم تحته، فأخذوه ووضعوه فوقه، وسمّروا قدمى الصنم على التابوت، فأصبحوا من الغد وقد قطعت يد الصنم ورجلاه، وأصبح ملقّى تحت التابوت وأصبحت أصنامهم كلّها منكّسة، فأخرجوه من بيت الصنم ووضعوه فى ناحية من مدينتهم، فأخذ أهل تلك الناحية وجع فى أعناقهم حتى هلك أكثرهم، فقال بعضهم لبعض: أليس قد علمتم أن إله بنى إسرائيل لا يقوم له شىء، فأخرجوه عن مدينتكم، فأخرجوه إلى قرية أخرى، فبعث الله- عزّ وجلّ- على تلك القرية فأرا، يبيت «2» الرجل صحيحا فيقرضه الفأر فيصبح ميّتا قد أكلت ما فى جوفه، فأخرجوه منها إلى الصحراء ودفنوه فى مخرأة لهم، فكان كلّ من تبرّز هناك أخذه الباسور والقولنج «3» ؛ فتحيّروا؛ فقالت لهم امرأة كانت عندهم من سبى بنى إسرائيل من أولاد الأنبياء: لا تزالون ترون ما تكرهون ما دام هذا التابوت فيكم، فأخرجوه عنكم، فأتوا بعجلة بإشارة تلك المرأة فحملوا التابوت عليها، ثم علّقوها على ثورين، ثم ضربوا جنوبهما، فأقبل الثوران يسيران، ووكّل الله تعالى بهما أربعة من الملائكة يسوقونهما، فلم يمرّ التابوت الجزء: 14 ¦ الصفحة: 42 بشىء من الأرض إلّا كان مقدّسا، فأقبلا حتى وقفا على أرض فيها حصاد لبنى إسرائيل فكسرا برتهما وقطعا حبالهما، ووضعا التابوت فيها ورجعا إلى أرضهما، فلم يرع بنى إسرائيل إلّا التابوت، فكبّروا وحمدوا الله تعالى. وقال الكسائىّ: إنهم لمّا دفنوه إلى جنب الحشّ «1» وأخذهم الباسور أعادوه إلى الكنيسة. فغزاهم بعض الفراعنة فهزمهم ودخل الكنيسة، وأخذوا التابوت وهمّوا بفتحه فلم يقدروا فهمّوا «2» بكسره فلم يقدروا، فتركوه؛ فكان القوم يتشاءمون به لما كان يصيبهم من البلاء، فحوّلوه إلى خمس مدائن، فقال أهل المدينة الخامسة: إن هذا البلاء يصيبكم بسبب هذا التابوت فأخرجوه. وساق نحو ما تقدّم. وقوله تعالى: تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ أى تسوقه. فعند ذلك أقرّوا بملك طالوت. وقال ابن عبّاس- رضى الله عنهما-: جاءت الملائكة بالتابوت تحمله بين السماء والأرض وهم ينظرون إليه حتى وضعوه فى دار طالوت، فأقرّوا بملكه. قال الله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «3» . قال ابن عبّاس- رضى الله عنهما- إنّ التابوت وعصا موسى فى بحيرة «4» طبريّة، وإنهما يخرجان يوم القيامة. والله أعلم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 43 ذكر مسير طالوت بالجنود وخبر النهر الذى ابتلوا به قالوا: فلمّا أقرّوا بملك طالوت سألوه أن يغزو بهم، وهم يومئذ سبعون ألف مقاتل. وقيل: ثمانون ألفا لم يتخلّف عنه إلّا كبير لهرمه أو مريض لمرضه أو ضرير لضرّه أو معذور لعذره؛ وذلك أنهم لما رأوا التابوت قالوا: قد أتانا التابوت، وهو النصر لا شكّ فيه؛ فسارعوا إلى الجهاد، فقال طالوت: لا حاجة لى فى كل ما أرى، لا يخرج معى رجل بنى بناء لم يفرغ منه، ولا صاحب تجارة مشتغل بها، ولا رجل عليه دين، ولا رجل تزوّج بامرأة ولم يبن بها؛ ولا يتبعنى إلّا الشابّ النشيط الفارع «1» . فاجتمع له ثمانون ألفا على شرطه- وكانوا فى حرّ شديد- فشكوا قلّة المياه فيما بينهم وبين عدوّهم، وقالوا: إنّ المياه لا تحملنا، فادع الله تعالى أن يجرى لنا نهرا. فقال لهم طالوت: إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي أى من أهل دينى وطاعتى؛ وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي ؛ ثم استثنى فقال: إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ. قال الكسائىّ: لمّا سألوه أن يجرى لهم نهرا قال: أفعل- إن شاء الله- وسار بهم حتى إذا كانوا فى بريّة وفقدوا الماء وأجهدهم العطش، أتوه، فدعا أن يجرى الله تعالى لهم نهرا؛ فأوحى الله إليه ما أخبر به فى كتابه؛ قال الله تعالى: فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ «2» الآية. قال: وهو نهر الأردنّ من بلاد فلسطين. وقال الثعلبىّ: قال ابن عبّاس والسّدّىّ: هو نهر فلسطين. وقال قتادة والربيع: هو نهر بين الأردنّ وفلسطين، عذب. قال الكسائىّ: قالوا: وما تغنى عنّا الغرفة ثم عرض لهم النهر فانهمكوا فى شربه. قال الله تعالى: فَشَرِبُوا مِنْهُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 44 إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ قال: واختلفوا فى القليل الذين لم يشربوا؛ فقال السّدّىّ: كانوا أربعة آلاف. وقال غيره: كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر؛ وهو الصحيح، لقول رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- لأهل بدر: «أنتم اليوم على عدّة أصحاب طالوت حين عبروا النهر» وكان أهل بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر. قالوا: فلم يزد هؤلاء على الغرفة فكانت كفاية لهم ولدوابّهم؛ فمن اغترف غرفة، كما أمر الله، نوّر الله قلبه وصحّ إيمانه، وعبر النهر سالما. والذين شربوا وخالفوا أمر الله- عزّ وجل- اسودّت شفاههم وغلبهم العطش فلم يرووا وبقوا على شطّ النهر وجبنوا عن لقاء العدوّ؛ فقال طالوت للذين عصوا ربهم: ارجعوا فلا حاجة لى بكم فرجعوا. قال الله تعالى: فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ «1» وإنّما قال ذلك الذين عصوا وشربوا قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ «2» . ذكر خبر داود حين قتل جالوت الملك قال الله تعالى: وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ «3» . قال أبو إسحاق الثعلبىّ- رحمه الله-: قال المفسّرون بألفاظ مختلفة ومعان متفقة: عبر النهر مع طالوت إيشى أبو داود فى ثلاثة عشر ابنا له، وكان داود الجزء: 14 ¦ الصفحة: 45 أصغرهم، فأتاه ذات يوم فقال: يا أبتاه، ما أرمى بقذّافتى «1» شيئا إلّا صرعته. فقال: أبشر يا بنىّ فإن الله- عزّ وجل- جعل رزقك فى قذّافتك؛ ثم أتاه مرّة أخرى فقال: يا أبتاه، لقد دخلت بين الجبال فوجدت أسدا رابضا، فركبته وأخذت بأذنيه فلم يهجنى «2» ، فقال: أبشر يا بنىّ فإنّ هذا خير يريده الله بك. ثم أتاه يوما آخر فقال: يا أبتاه، إنى لأمشى بين الجبال فأسبّح فما يبقى جبل إلّا سبّح معى. فقال: أبشر يا بنىّ فإنّ هذا خير أعطاكه الله عزّ وجل. قالوا: فأرسل جالوت إلى طالوت، أن ابرز إلىّ أو أبرز إلىّ من يقاتلنى، فإن قتلنى فلكم ملكى، وإن قتلته فلى ملككم. فشقّ ذلك على طالوت، فنادى فى عسكره: من قتل جالوت زوّجته ابنتى وناصفته ملكى. فهاب الناس جالوت فلم يجبه أحد؛ فسأل طالوت نبيّهم- عليه السلام- أن يدعو، فدعا الله- عزّ وجل- فى ذلك، فأتى بقرن فيه دهن القدس، وتنّور من حديد، فقيل له: إنّ صاحبكم الذى يقتل جالوت هو الذى يوضع هذا القرن على رأسه فيغلى الدّهن ثم يدهن به رأسه ولا يسيل على وجهه، يكون على رأسه كهيئة الإكليل، ويدخل فى هذا التنّور فيملأه لا يتقلقل فيه؛ فدعا طالوت بنى إسرائيل، فجرّبهم فلم يوافقه منهم أحد، فأوحى الله- عزّ وجل- إلى نبيّهم أن فى ولد إيشى من يقتل الله به جالوت، فدعا طالوت إيشى وقال له: اعرض علىّ بنيك. فأخرج له اثنى عشر رجلا أمثال السوارى، وفيهم رجل فارع عليهم؛ فجعل يعرضهم على القرن فلا يرى شيئا، فيقول لذلك الجسيم: ارجع فيردّده على التنّور. فأوحى الله- عزّ وجل- إليه: إنّا لا نأخذ الرجال على صورهم، ولكنّا نأخذهم على صلاح قلوبهم. فقال لإيشى: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 46 هل بقى لك ولد غيرهم؟ فقال لا. فقال النبىّ: ربّ إنه زعم أن لا ولد له غيرهم. فقال كذب. فقال النبىّ: إن ربّى كذّبك. قال: صدق الله يا نبىّ الله، إنّ لى ابنا صغيرا يقال له داود استحييت أن يراه الناس لقصر قامته وحقارته، فخلّفته فى الغنم يرعاها وهو فى شعب كذا. وكان داود- عليه السلام- رجلا قصيرا مسقاما «1» مصفارّا أزرق أشقر. فدعاه طالوت. ويقال: بل خرج طالوت إليه فوجد الوادى قد حال بينه وبين الزّربية التى كان يريح إليها، فوجده يحمل شاتين شاتين فيجيزهما السّيل ولا يخوض بهما الماء؛ فلمّا رآه [أشمويل «2» ] قال: هذا هو لا شكّ فيه، هذا يرحم البهائم فهو بالناس أرحم. فدعاه ووضع القرن على رأسه ففاض؛ فقال له طالوت: هل لك أن تقتل جالوت وأزوّجك ابنتى وأجرى حكمك فى ملكى؟ قال نعم. قال: وهل أنست من نفسك شيئا تتقوّى به على قتله؟ قال: نعم، أنا أرعى فيجىء الأسد أو النّمر أو الذئب فيأخذ شاة فأقوم له فأفتح لحييه عنها وأخرقهما إلى قفاه. فردّه إلى عسكره؛ فمرّ داود- عليه السلام- فى الطريق بحجر فناداه: يا داود، احملنى فإنى حجر هارون الذى قتل بى ملك كذا، فحمله فى مخلاته. [ثم مرّ بحجر آخر فناداه: يا داود، احملنى فإنى حجر موسى- عليه السلام- الذى قتل به ملك كذا وكذا، فحمله فى مخلاته «3» ] . ثم مرّ بحجر آخر فقال: احملنى فإنى حجرك الذى تقتل به جالوت، وقد خبأنى الله لك، فوضعه فى مخلاته. فلما تصافّوا للقتال وبرز جالوت وسأل المبارزة، انتدب له داود، فأعطاه طالوت فرسا ودرعا وسلاحا، فلبس السلاح وركب الفرس، وسار قريبا، ثم انصرف فرجع إلى الملك، فقال من حوله: جبن الغلام. فجاء فوقف على الملك فقال: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 47 ما شأنك؟ قال: إنّ الله- عز وجل- إن لم ينصرنى لم يغن عنّى هذا السلاح شيئا، فدعنى أقاتل كما أريد. قال نعم. فأخذ داود مخلاته فتقلّدها، وأخذ المقلاع ومضى نحو جالوت، وكان جالوت من أشدّ الناس وأقواهم؛ وكان يهزم الجيوش وحده، وكان له بيضة فيها ثلاثمائة منّ حديدا، فلمّا نظر إلى داود ألقى فى قلبه الرّعب، فقال له: أنت تبرز لى؟ قال نعم- وكان جالوت على فرس أبلق، عليه السلاح التامّ- قال: تأتينى بالمقلاع والحجر كما يؤتى الكلب؟ قال: نعم، لأنت شرّ من الكلب. قال: لا جرم لأقسّمنّ لحمك بين سباع الأرض وطير السماء. فقال داود: [باسم «1» الله و] يقسّم الله لحمك. وقال: بسم إله إبراهيم، وأخرج حجرا، ثم أخرج الآخر وقال: باسم إله إسحاق، ووضعه فى مقلاعه، ثم أخرج الثالث وقال: باسم إله يعقوب، ووضعه فى مقلاعه، فصارت كلّها حجرا واحدا، ودوّر المقلاع ورماه به، فسخّر الله تعالى له الريح حتى أصاب الحجر أنف البيضة وخالط دماغه فخرج من قفاه، وقتل من ورائه ثلاثين رجلا، وهزم الله تعالى الجيش وخرّ جالوت قتيلا، فأخذه داود فجرّه حتى ألقاه بين يدى طالوت. وقال الكسائىّ فى هذه القصة: كان مع طالوت سبعة إخوة لداود، وكان داود عند أبيه وهو صغير، فقال له أبوه: قد أبطأ علىّ خبر إخوتك مع طالوت، فاحمل إليهم طعاما وتعرّف لى خبرهم. فمضى داود ومعه مخلاة له فيها الطعام، وقد شدّ وسطه بمقلاع؛ فبينا هو يسير إذا ناداه حجر من الأرض: خذنى فأنا حجر أبيك إبراهيم. فأخذه؛ ثم ناداه حجر آخر: خذنى فأنا حجر أبيك إسحاق. فأخذه؛ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 48 ثم ناداه حجر آخر: خذنى فأنا حجر أبيك يعقوب. فأخذه وسار حتى أتى العسكر، فنزل على إخوته، فلمّا كان من الغد تهيّأ الجيشان للمحاربة، فقال طالوت: أيها الناس، من كفانى منكم أمر جالوت زوّجته ابنتى، وأشركته فى ملكى، وجعلته خليفتى من بعدى. فلم يجبه أحد إلّا داود؛ فخلع عليه وأركبه وطاف به فى معسكره؛ فلمّا كان من الغد ركبوا، وأقبل جالوت بجيوشه وهو على فيل، وكان طوله ثمانية عشر ذراعا، وطول داود عشرة أذرع، فقال المؤمنون: رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً «1» الآية. فبرز جالوت بين الصفّين فبرز له داود، فقال له جالوت: إنك صغير ولا سلاح معك فارجع، فأبى ذلك، وأخذ تلك الأحجار فوضعها فى مقلاعه ورمى بها، فوقع أحدها بميمنة جالوت فهزمها، والثانى فى الميسرة فانهزموا، والثالث وقع على أنف بيضة جالوت فخرج من قفاه، فسقط جالوت ميّتا، وانهزم أصحابه. قالوا: ولمّا قتل داود جالوت ذكر الناس داود وعظم فى أنفسهم، فجاء إلى طالوت وقال له: أنجز لى ما وعدتنى، وأعطنى امرأتى. فقال له طالوت: أتريد ابنة الملك بغير صداق، عجّل صداق ابنتى وشأنك بها. فقال له داود: ما شرطت علىّ صداقا، وليس لى شىء، فتحكّم فى الصداق «2» ما شئت وأقرضنى مهرها وعلىّ الأداء والوفاء لك. فقال طالوت: أصدقها نصيبك من الملك. فقالت بنو إسرائيل: لا تظلمه وأنجز له ما وعدته به. فلمّا رأى طالوت ميل بنى إسرائيل إلى داود وحسن رأيهم فيه قال: لا حاجة لابنتى فى المال، ولا أكلّفك إلّا ما تطيق، أنت رجل جرىء، وفى جبالنا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 49 أعداء من المشركين غلف «1» فانطلق وجاهدهم، فإذا قتلت منهم مائتى رجل وجئتنى برءوسهم زوّجتك ابنتى. فأتاهم داود، وجعل كلّما قتل منهم رجلا احتزّ رأسه ونظمه فى خيط حتى نظم رءوسهم فجاء بها إلى طالوت، فألقاها إليه وقال: ادفع إلىّ امرأتى، فزوّجه ابنته وأجرى خاتمه فى ملكه، فمال الناس إلى داود وأحبّوه وأكثروا من ذكره، فوجد طالوت من ذلك فى نفسه وحسده وأراد قتله. قال وهب بن منبّه: وكانت الملوك يومئذ يتوكّأون على عصىّ فيغرزون فى أطرافها أزجة من حديد، وكان بيد طالوت منها واحدة، فى رأسها رمّانة من ذهب وفى أسفلها زجّ من حديد، وداود جالس قريبا منه فى ناحية البيت، فرماه بها بغتة ليقتله بها، فلمّا أحسّ داود بذلك حاد عن طريقها، وأمال نفسه عنها من غير أن يبرح من موضعه، فارتكزت فى الجدار، فقال له داود: عمدت إلى قتلى؟ قال طالوت: لا، ولكن أردت أن أقف على ثباتك فى الطّعان وربط جأشك للاقران. قال داود: فألفيته على ما قدّرته فىّ؟ قال: نعم، ولعلك فزعت. قال: معاذ الله أن أخاف إلّا الله تعالى وأرجو إلا الله، ولا يدفع الشرّ إلا الله. فانتزعها من الجدار ثم هزّها هزّة منكرة وقال له: أثبت كما ثبتّ لك، فأيقن طالوت بالهلاك؛ فقال له: أنشدك الله والحرمة التى بينى وبينك إلّا ما صفحت؛ فقال داود: إن الله تعالى كتب فى التوراة أن اجز السيئة مثلها، واحدة بواحدة والبادى أظلم؛ فقال طالوت: ألا تقول قول هابيل لأخيه قابيل: لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ «2» . قال داود: قد عفوت عنك لوجه الله تعالى. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 50 فلبث طالوت زمنا يريد قتل داود، فعزم على أن يأتيه ويغتاله فى داره، فأخبر بذلك بنت طالوت رجل يقال له: ذو العينين، فقالت لداود: إنك مقتول الليلة؛ قال: ومن يقتلنى؟ قالت: أبى، وأخبرته الخبر وقالت: لا عليك أن تغيب الليلة حتى تنظر مصداق ذلك. فأخذ داود زقّ خمر فوضعه فى مضجعه على السّرير وسجّاه ودخل تحت السّرير ودخل طالوت نصف الليل، فعمد إليه فضربه ضربة بالسيف فسالت الخمر، فلمّا وجد ريحها قال: رحم الله داود، ما كان أكثر شربه للخمر، وخرج، فلمّا أصبح علم أنه لم يصنع شيئا، فقال: إنّ رجلا طلبت منه ما طلبت لخليق ألّا يدعنى حتى يطلب منى ثأره؛ فاشتدّ حجّابه وحرّاسه وأغلق دونه الأبواب، فأتاه داود ليلة وقد هدأت العيون وأعمى الله الحجّاب عنه وفتح له الأبواب، ودخل عليه وهو نائم على فراشه فوضع سهما عند رأسه وسهما عند رجليه وسهما عن يمينه وسهما عن شماله ثم خرج. فلمّا استيقظ طالوت بصر بالسهام فعرفها، فقال: رحم الله داود فهو خير منّى، ظفرت به فقصدت قتله، وظفر بى فكفّ عنّى، لو شاء لوضع هذا السهم فى حلقى وما أنا بالذى آمنه. فلمّا كانت الليلة القابلة أتاه ثانيا، وأعمى الله الحجّاب، فدخل وهو نائم، فأخذ إبريق طالوت الذى كان يتوضّأ به وكوزه الذى يشرب منه، وقطع شعرات من لحيته وشيئا من هدب ثيابه، ثم خرج وهرب وتوارى؛ فلمّا أصبح ورأى ذلك نصب على داود العيون وطلبه أشدّ الطلب فلم يقدر عليه، ثم ركب طالوت يوما فوجد داود يمشى فى البرّيّة فقال: اليوم أقتل داود، وكان داود إذا فرّ لم يدرك، فركض داود حتى دخل غارا، فأمر الله العنكبوت أن تنسج، فنسجت عليه بيتا، وجاء طالوت إلى الغار فنظر الى بيت العنكبوت فقال: لو كان هاهنا لخرق بيت العنكبوت، فتركه ومضى، وانطلق داود إلى الجبل ومعه المتعبّدون، فجعل يتعبّد فيه. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 51 وطعن العلماء والعبّاد على طالوت فى شأن داود؛ فجعل طالوت لا ينهاه أحد عن داود إلّا قتله. وأغرى بقتل العلماء، فلم يكن يقدر فى بنى إسرائيل على عالم [ويطيق قتله إلّا قتله «1» ] ولم يكن طالوت يحارب جيشا إلّا هزمه، حتى أتى بامرأة تعلم اسم الله الأعظم، فأمر جبّاره بقتلها، فرحمها الجبّار وقال: لعلّنا نحتاج إلى عالم فتركها. ثم وقع فى قلب طالوت التوبة، وندم على ما فعل، وأقبل على البكاء حتى رحمه الناس، وكان كلّ ليلة يخرج إلى القبور ويبكى وينادى: أنشد الله عبدا يعلم لى التوبة إلّا أخبرنى. فلمّا كثر عليهم [بكاؤه «2» ] ناداه مناد من قبر: يا طالوت، أما ترضى [أنك «3» ] قتلتنا حتى تؤذينا أمواتا، فازداد بكاء وحزنا، فقال له الجبّار: مالك أيها الملك؟ قال: هل تعلم لى فى الأرض عالما أسأله؟ هل لى من توبة؟ قال الجبّار: هل تدرى ما مثلك؟ إنما مثلك مثل ملك نزل قرية عشاء، فصاح ديك فتطيّر به، فقال: لا تتركوا فى هذه القرية ديكا إلّا ذبحتموه. فلمّا أراد أن ينام قال لأصحابه: إذا صاح الدّيك فأيقظونا حتى ندّلج. فقالوا له: وهل تركت ديكا يسمع صوته؟ وأنت هل تركت فى الأرض عالما؟! فازداد طالوت حزنا وبكاء؛ فلمّا رأى الجبّار ذلك قال له: أرأيتك إن دللتك على عالم لعلّك أن تقتله؟ قال لا. فتوثّق منه الجبّار وأخبره أنّ المرأة العالمة عنده؛ قال: فانطلق بى إليها حتى أسألها هل لى من توبة؟ - وكان إنما يعلم ذلك أهل بيت لهم علم بالاسم الأعظم «4» - فلمّا بلغ طالوت الباب قال له الجبّار: إنها إن رأتك فزعت، فخلّفه خلفه، ثم دخل عليها فقال لها: ألست أعظم عليك حرمة، أنجيتك من القتل وآويتك عندى؟ قالت بلى. قال: فإنّ لى إليك حاجة. قالت: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 52 وما هى؟ قال: هذا طالوت يسأل هل له من توبة؟ فقالت: لا والله ما لطالوت من توبة، ولكن هل تعلمون مكان قبر أشمويل؟ قال نعم. قالت: فانطلقوا بى إلى قبره، ففعلوا، فصلّت ثم نادت: يا صاحب القبر أخرج. فخرج أشمويل من قبره ينفض رأسه من التراب. فلمّا نظر إليهم ثلاثتهم. المرأة والجبّار وطالوت قال: مالكم! أقامت القيامة؟ قالت: لا، ولكنّ طالوت يسألك هل له من توبة؟ قال أشمويل: يا طالوت، ما فعلت بعدى؟ قال: لم أدع من الشرّ شيئا إلّا فعلته، وقد جئت أطلب التوبة. قال: كم لك من الولد؟ قال: عشرة رجال. قال: ما أعلم لك من توبة إلّا أن تتخلّى عن مالك وتخرج أنت وولدك فى سبيل الله، ثم تقدّم ولدك حتى يقتلوا بين يديك، ثم تقاتل أنت حتى تقتل آخرهم. ثم رجع أشمويل إلى القبر وسقط ميّتا، ورجع طالوت أحزن ما كان، رهبة ألّا يتابعه أولاده، وقد بكى حتى سقطت أشفار عينيه، ونحل جسمه. فدخل عليه أولاده فقال لهم: أرأيتم لو دفعت إلى النار هل كنتم تنقذوننى؟ قالوا: بلى، ننقذك بما قدرنا عليه. قال: فإنها النار إن لم تفعلوا ما أقول. قالوا: فاعرض علينا، فذكر لهم القصة. قالوا: فإنك لمقتول؟! قال نعم. قالوا: فلا خير لنا فى الحياة بعدك، قد طابت أنفسنا بالذى سألت. فتجهّز للغز وبماله وولده، فتقدّم ولده فقاتلوا بين يديه حتى قتلوا؛ ثم تقدّم فقاتل بعدهم حتى قتل. فجاء قاتله إلى داود يبشّره وقال: قد قتلت عدوّك. فقال داود: ما أنت بالذى تحيا بعده. فضرب عنقه. وحكى الكسائىّ: أنّ طالوت لمّا حسد داود على ما أوتى من القوّة، وهمّ بالغدر مرارا فلم يظفر به وظفر به داود فأبقى عليه، اعتذر له طالوت واتفقا؛ ثم مات أشمويل، فانضمّ بنو إسرائيل إلى داود واختلفوا على طالوت وحاربوه؛ فاستقلّ داود بالملك، وجاهد ببنى إسرائيل وقهر الأعداء. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 53 ذكر خلافة داود عليه السلام ونبوّته ومبعثه إلى بنى اسرائيل وما خصه الله عزّ وجل به هو داود بن إيشى «1» بن عويل بن باعد بن سلمون بن يحسون بن عمى بن مارب ابن أرم بن حصرون بن فارص بن يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل- عليهم السلام- قال الله تعالى: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ «2» قال الكسائىّ: لمّا مات أشمويل تفرّق بنو إسرائيل واشتغلوا باللهو، فبعث الله تعالى داود- عليه السلام- وأعطاه سبعين سطرا من الزّبور، وأعطاه حسن الصوت، فكان إذا سبّح سبّحت الجبال معه والطير والوحش؛ قال الله تعالى: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ* وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ «3» أى مطيع، وقال أبو إسحاق الثعلبىّ: قالت العلماء بأخبار الأنبياء: لمّا استشهد طالوت أتى بنو إسرائيل إلى داود فأعطوه خزانة طالوت وملّكوه على أنفسهم، وذلك بعد قتل جالوت بسبع سنين، ولم يجتمع بنو إسرائيل بعد يوشع بن نون على ملك واحد إلّا على داود عليه السلام. قال: وخصّ الله تعالى نبيّه داود بخصائص: منها: أنه أنزل عليه الزّبور بالعبرانية خمسين ومائة سورة، فى خمسين منها ما يكون من بختنصر وأهل بابل؛ وفى خمسين ما يكون من أهل إبرون؛ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 54 وفى خمسين منها موعظة وحكمة؛ ولم يكن فيها حلال ولا حرام، ولا حدود ولا أحكام؛ وذلك قوله تعالى: (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً «1» ) . ومنها: الصوت الطيّب، والنغمة اللذيذة، والترجيع فى الألحان؛ ولم يعط الله تعالى أحدا من خلقه مثل صوته، فكان يقرأ الزّبور بسبعين لحنا بحيث يعرق المحموم ويفيق المغشىّ عليه. وكان إذا قرأ الزبور برز إلى البرّيّة، فيقوم ويقرأ ويقوم معه علماء بنى إسرائيل خلفه، ويقوم الناس خلف العلماء، وتقوم الجنّ خلف الناس، وتقوم الشياطين خلف الجنّ، وتدنو الوحوش والسباع حتى تؤخذ بأعناقها، وتظلّه الطير مصيخة «2» ، ويركد الماء الجارى ويسكن الريح. قال الثعلبىّ: وما صنعت المزامير والبرابط «3» والصّنوج إلّا على صوته، وذلك أنّ إبليس حسده واشتدّ عليه أمره، فقال لعفاريته: ترون ما دهاكم؟ فقالوا: مرنا بما شئت. قال: فإنه لا يصرف الناس عن داود إلّا ما يضادّه ويحادّه «4» فى مثل حاله. فهيّأ المزامير والأعواد والأوتار والملاهى على أجناس أصوات داود- عليه السلام- فسمعها سفهاء الناس فمالوا إليها واغترّوا بها. ومنها: تسبيح الجبال والطير معه؛ قال الله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ «5» ) . وقوله تعالى: (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ «6» ) . يقال: إن داود كان اذا تخلّل الجبال يسبّح الله تعالى جعلت الجبال الجزء: 14 ¦ الصفحة: 55 تجاوبه بالتسبيح نحو ما يسبّح. ثم قال فى نفسه ليلة من الليالى: لأعبدنّ الله عبادة لم يعبد مثلها، فصعد الجبل، فلمّا كان فى جوف الليل وهو على جبل داخلته وحشة، فأوحى الله إلى الجبال: أن آنسى داود، فاصطكّت الجبال بالتسبيح والتهليل. فقال داود فى نفسه: كيف يسمع صوتى مع هذه الأصوات؟ فهبط عليه ملك وأخذ بعضده حتى انتهى به إلى البحر، فوكزه برجله فانفرج له البحر، فانتهى إلى الأرض فوكزها برجله فانفرجت له الأرض، حتى انتهى إلى الحوت فوكزه برجله، فانتهى الى الصخرة، فوكز الصخرة برجله، فانفلقت فخرجت منها دودة تنشّ «1» ، فقال: إن الله تعالى يسمع نشيش هذه الدودة فى هذا الموضع. قال ابن عباس- رضى الله عنهما-: كان داود يفهم تسبيح الحجر والشجر والمدر. ومنها: أن الله تعالى أكرمه بالحكمة وفصل الخطاب. قالوا: والحكمة: الإصابة فى الأمور. واختلفوا فى فصل الخطاب، قال ابن عباس- رضى الله عنهما-: بيان الكلام. وقال ابن مسعود والحسن: المعنى علم الحكم والنظر فى القضاء، كان لا يتتعتع «2» فى القضاء بين الناس. وقال علىّ بن أبى طالب- رضى الله عنه-: هو البيّنة على المدّعى واليمين على المدّعى عليه. وقال كعب: الشهود والأيمان. وقال الشعبىّ: سمعت زيادا يقول: فصل الخطاب الذى أعطى داود: أمّا بعد. قال الأستاذ: وهو أوّل من قالها. ومنها: السلسلة التى أعطاه الله إيّاها، ليعرف المحقّ من المبطل فى المحاكمة إليه. قال الثعلبىّ: روى الضحّاك عن ابن عباس- رضى الله عنهما- قال: إنّ الله تعالى أعطى داود سلسلة موصولة بالمجرّة والفلك، ورأسها عند محراب داود الجزء: 14 ¦ الصفحة: 56 حيث يتحاكم إليه، وكانت قوّتها قوّة الحديد، ولونها لون النار، وحلقها مستديرة، مفصّلة بالجوهر، مدسّرة بقضبان اللؤلؤ الرّطب، فلا يحدث فى الهواء حدث إلّا صلصلت السلسلة، فيعلم داود ذلك الحدث؛ ولا يلمسها ذو عاهة إلّا برىء، وكان علامة دخول قومه فى الدّين أن يمسّوها بأيديهم ويمسحوا بأكفّهم على صدورهم. وكانوا يتحاكمون إليه، فمن تعدّى على صاحبه أو أنكره حقا أتوا السلسلة، فمن كان صادقا محقّا مدّ يده إلى السلسلة فنالها، ومن كان كاذبا ظالما لم ينلها؛ فكانت كذلك إلى أن ظهر فيهم المكر والخديعة. قال: فبلغنا أن بعض ملوكهم أودع رجلا جوهرة ثمينة، فلمّا استردّها منه أنكره ذلك، فتحا كما إلى السلسلة، فعلم الذى كانت عنده الجوهرة أن يده لا تنال السلسلة، فعمد إلى عكّازة فنقرها ثم ضمّنها الجوهرة واعتمد عليها حتى حضر معه غريمه «1» عند السلسلة، فقال لصاحبها: ما أعرف لك من وديعة، إن كنت صادقا فتناول السلسلة، فتناولها بيده وقال للمنكر: قم أنت أيضا فتناولها، فقال لصاحب الجوهرة: إلزم عكّازتى هذه حتى أتناول السلسلة. فأخذها وقام الرجل وقال: اللهم إن كنت تعلم أنّ هذه الوديعة التى يدّعيها علىّ قد وصلت إليه فقرّب منّى السلسلة. فمدّ يده وتناولها، فشكّ القوم وتعجّبوا، فأصبحوا وقد رفع الله تلك السلسلة. وقال الكسائىّ فى خبر السلسلة: أوحى الله تعالى إلى داود أن ينصب سلسلة من حديد ويعلّق فيها جرسا، ففعل ذلك؛ وساق فى خبرها نحو ما تقدّم فى أمر المحقّ والمبطل. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 57 قال: وجاء خصمان فادّعى أحدهما على الآخر أنه أودعه جواهرا؛ فاعترف به وقال: أعدته إليه، فتقدّم المدّعى وتناول السلسلة فدنت منه حتى تناولها، ثم قال للمدّعى عليه: تناولها. وكان قد أخذ الوديعة فجعلها فى قناة مجوّفة، فناولها للمدّعى وقال: الزم عصاى هذه، ومدّ يده إلى السلسلة فدنت منه حتى كاد يتناولها؛ ثم ارتفعت وتدلّت إليه مرارا، ثم تناولها، فقال داود للمدّعى: لعلّ هذا قد سلّم وديعتك لأهلك. فرجع وسأل أهله، فقالوا: ما دفع إلينا شيئا. فعاد وأعلم داود، فأخذ داود القناة وشقّها، فطلعت الوديعة منها؛ وارتفعت السلسلة من ذلك اليوم. قال الثعلبىّ: وكان عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- إذا اشتبه عليه أمر الخصمين قال: ما أحوجكما إلى سلسلة بنى إسرائيل؟ كانت تأخذ بعنق الظالم فتجرّه إلى الحق جرّا. والله أعلم بالصواب. ومنها: القوّة فى العبادة وشدّة الاجتهاد؛ قال الله تعالى: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ «1» ، أى القوّة فى العبادة إِنَّهُ أَوَّابٌ أى توّاب مطيع مسبّح. وكان داود يقوم الليل، ويصوم يوما ويفطر يوما، وما مرّت ساعة من الليل إلّا وفيها من آل داود قائم يصلّى، ولا يوم من الأيام إلّا وفيه منهم صائم. ومنها: قوّة المملكة. قال الله تعالى: وَشَدَدْنا مُلْكَهُ «2» أى قوّيناه، وقرأ الحسن: (وشدّدنا ملكه) بالتشديد. قال ابن عباس: كان أشدّ ملوك الأرض سلطانا؛ كان يحرس محرابه كلّ ليلة ثلاثة وثلاثون ألف رجل. وقال السّدّىّ: كان يحرسه فى كل يوم وليلة أربعة آلاف. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 58 وروى عن ابن عباس- رضى الله عنهما- أن رجلا من بنى إسرائيل استعدى على رجل من عظمائهم عند داود؛ فقال المستعدى: إن هذا قد غصبنى بقرى «1» . فسأل داود الرجل فجحده، وسأل الآخر البيّنة فلم تكن له بيّنة، فقال لهما داود: قوما حتى أنظر فى أمركما. فقاما من عنده، فأوحى الله تعالى إلى داود فى منامه أن يقتل الذى استعدى عليه، فقال: هذه رؤيا [ولست أعجل حتى أتبيّن «2» ] فأوحى الله تعالى إليه مرّة ثانية أن يقتله [فقال: هذه رؤيا، فأوحى الله تعالى إليه مرة ثالثة أن يقتله «3» ] أو تأتيه العقوبة من الله. فأرسل داود إلى الرجل فقال: إن الله تعالى قد أوحى إلىّ أن أفتلك. فقال: تقتلنى بغير بيّنة ولا تثبّت؟. فقال نعم، والله لأنفّذنّ أمر الله فيك. فلمّا عرف الرجل أنه قاتله قال: لا تعجل حتى أخبرك، إنّى والله ما أخذت بهذا الذنب، ولكنّى [كنت «4» ] اغتلت والد «5» هذا فقتلته. فأمر به داود فقتل؛ فاشتدّت هيبته عند بنى إسرائيل واشتدّ ملكه. ويقال: كان لداود إذا جلس للحكم عن يمينه ألف رجل من الأنبياء، وعن يساره ألف رجل من الأحبار. ومنها: شدّة البطش. فروى أنه ما فرّ ولا انحاز من عدوّ له قطّ، ولذلك قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى الحديث الصحيح عن داود عليه السلام: «كان يصوم يوما ويفطر يوما «6» » . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 59 ومنها: إلانة الحديد له. قال الله تعالى: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ «1» . قالوا: وكان سبب ذلك أنّ داود- عليه السلام- لمّا ملك أمر بنى إسرائيل، كان من عادته أن يخرج للناس متنكّرا، فإذا رأى رجلا لا يعرفه تقدّم إليه وسأله، فيقول له: ما تقول فى داود واليكم هذا؟ أىّ رجل هو؟ فيثنون عليه ويقولون خيرا؛ فبينما هو ذات يوم إذ قيّض الله له ملكا فى صورة آدمىّ، فتقدّم داود إليه، فسأله على عادته، فقال له: نعم الرجل هو لولا خصلة فيه. فراع داود ذلك، فقال: ما هى يا عبد الله؟ قال: إنه يأكل ويطعم عياله من بيت المال. قال: فتنبّه داود لذلك، وسأل الله تعالى أن يسبّب له سببا يستغنى به عن بيت المال، فألان الله له الحديد، فصار فى يده مثل الشّمع والعجين والطّين المبلول، فكان يصرّفه بيده كيف شاء من غير إدخال نار ولا ضرب بحديد. وعلّمه الله تعالى صنعة الدروع فهو أوّل من اتّخذها وكانت قبل ذلك صفائح. وقيل: إنه كان يبيع كل درع منها بأربعة آلاف، فيأكل ويطعم عياله ويتصدّق منها على الفقراء والمساكين، وذلك قوله تعالى: وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ «2» الآية. وقوله: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ أى دروعا كوامل واسعات وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ، أى لا تجعل المسامير دقاقا فتنفلق، ولا غلاظا فتكسر الحلق. فكان يفعل ذلك حتى جمع منه مالا. وروى أنّ لقمان الحكيم رأى داود وهو يعمل الدّروع، فعجب من ذلك ولم يدر ما هو؟ فأراد أن يسأله، فسكت حتى فرغ داود من نسج الدروع، فقام وصبّها على نفسه وقال: نعم القميص هذا للرجل المحارب. فعلم لقمان ما يراد به، فقال: الصمت حكمة وقليل فاعله. والله أعلم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 60 ذكر خبر داود عليه السلام حين ابتلى بالخطيئة قال الثعلبىّ- رحمه الله-: اختلف العلماء فى سبب امتحان الله تعالى نبيّه داود- عليه السلام- فقيل: إنه تمنّى يوما من الأيام على ربّه تعالى منزلة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وسأله أن يمتحنه نحو الذى كان يمتحنهم به، ويعطيه من الفضل نحو الذى أعطاهم. قال: وروى السّدّىّ والكلبىّ ومقاتل عن أشياخهم دخل حديث بعضهم فى حديث بعض، قالوا: كان داود- عليه السلام- قسم الدهر ثلاثة أيام «1» : يوما يقضى فيه بين الناس، ويوما لعبادة ربّه، ويوما يخلو فيه بنسائه وأولاده وأشغاله؛ وكان يجد فيما يقرأ من الكتب فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب- عليهم السلام- فقال: يا ربّ إنّ الخير كلّه ذهب به آبائى الذين كانوا من قبلى. فأوحى الله تعالى إليه: أنهم ابتلوا ببلايا لم تبتل بها فصبروا عليها؛ ابتلى إبراهيم بالنّمرود وبذبح ابنه؛ وابتلى إسحاق بالذّبح وبذهاب بصره، وابتلى يعقوب بالحزن على يوسف، وإنك لم تبتل بشىء من ذلك. فقال داود عليه السلام: ربّ فابتلنى بمثل ما ابتليتهم وأعطنى مثل ما أعطيتهم. فأوحى الله تعالى إليه: إنك مبتلى فى شهر كذا فى يوم كذا فاحترس. فلمّا كان ذلك اليوم الذى وعده الله عز وجل دخل داود محرابه وأغلق بابه، وجعل يصلّى ويقرأ الزبور، فبينا هو كذلك إذ جاءه الشيطان، تمثّل له فى صورة حمامة من ذهب، فيها من كل لون حسن؛ فوقعت بين رجليه، فمدّ يده ليأخذها. وفى بعض الروايات: «ليدفعها إلى ابن له صغير» فلمّا أهوى إليها طارت غير بعيد من غير أن تؤيسه من نفسها؛ فامتدّ إليها ليأخذها، فتنحّت، فتبعها فطارت حتى وقعت [فى كوّة «2» ] ، فذهب ليأخذها الجزء: 14 ¦ الصفحة: 61 فطارت من الكوّة؛ فنظر داود عليه السلام أين تقع فيبعث إليها من يصيدها؛ فأبصر امرأة فى بستان على شطّ بركة لها تغتسل، هذا قول الكلبىّ. وقال السّدّىّ: رآها تغتسل على سطح لها. وقال الكسائىّ: سقط الطائر على شجرة إلى جانب الحوض الذى تغتسل فيه نساء بنى إسرائيل. قالوا: فرأى داود امرأة من أجمل النساء خلقا، فعجب من حسنها، وحانت منها التفاتة، فأبصرت ظلّه، فنفضت شعرها فتغطّى بدنها، فزاده ذلك إعجابا بها؛ فسأل عنها، فقيل هى بتشابع بنت سالغ «1» ، امرأة أوريّا بن حنانا، وزوجها فى غزاة بالبلقاء «2» بعث مع يوآب «3» ابن صروية ابن أخت داود، فكتب داود إلى ابن أخته: أن أبعث أوريّا إلى موضع كذا وكذا، وقدّمه قبل التابوت؛ وكل من قدّم على التابوت لا يحلّ له أن يرجع وراءه [حتى يفتح الله على يديه «4» ] أو يستشهد، فبعثه أيوب وقدّمه، ففتح له، فكتب إلى داود بذلك؛ فكتب إليه أيضا: أن أبعثه إلى عدوّ كذا وكذا. فبعثه، ففتح له؛ فكتب إلى داود بذلك، فكتب إليه أيضا: أن ابعثه إلى عدوّ كذا أشدّ منه بأسا. فبعثه؛ فقتل فى المرّة الثالثة. فلمّا انقضت عدّة المرأة تزوّجها داود- عليه السلام- وهى أمّ سليمان عليه السلام. وقال آخرون: كان سبب امتحانه أن نفسه حدّثته أن يطيق قطع يوم بغير مقارفة سوء. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 62 وقد روى الثعلبىّ فى ذلك بسند [سعيد بن «1» ] مطر عن الحسن قال: إن داود- عليه السلام- جزّأ الدهر أربعة أجزاء: يوما لنسائه، ويوما للعبادة، ويوما للقضاء بين الناس «2» ، ويوما لبنى إسرائيل يذاكرهم ويذاكرونه، ويبكيهم ويبكونه. فلمّا كان يوم بنى إسرائيل ذكروا فقالوا: هل يأتى على الإنسان يوم لا يصيب فيه ذنبا؟ فأضمر داود فى نفسه أنه سيطيق ذلك. فلمّا كان يوم عبادته غلّق أبوابه، وأمر ألّا يدخل عليه أحد، وأكبّ على قراءة الزّبور؛ فبينما هو يقرأ إذا حمامة من ذهب فيها من كل لون حسن وقد وقعت بين يديه، فأهوى إليها ليأخذها، فطارت فوقعت غير بعيد، ولم تؤيسه من نفسها، فما زال يتبعها حتى أشرف على أمرأة تغتسل، فأعجبه خلقها؛ فلمّا رأت ظلّه فى الأرض جللّت نفسها بشعرها، فزاده ذلك إعجابا بها؛ وكان قد بعث زوجها على بعض جيوشه، فكتب إليه: أن سر إلى مكان كذا وكذا- مكان إذا سار إليه قتل ولم يرجع- ففعل، فأصيب. فخطبها داود وتزوّجها. وقال بعضهم فى سبب ذلك ما رواه أبو إسحاق بسنده عن قتادة عن الحسن قال: قال داود- عليه السلام- لبنى إسرائيل حين ملك: والله لأعدلنّ بينكم. ولم يستثن؛ فابتلى. وقال أبو بكر الورّاق: كان سبب ذلك أن داود عليه السلام كان كثير العبادة، فأعجب بعمله وقال: هل فى الأرض أحد يعمل عملى؟ فأتاه جبريل عليه السلام فقال: إن الله عزّ وجلّ يقول: أعجبت بعبادتك والعجب الجزء: 14 ¦ الصفحة: 63 يأكل العبادة، فإن أعجبت ثانيا وكلتك إلى نفسك. فقال: يا ربّ كلنى إلى نفسى سنة. قال: إنها لكثيرة. قال: شهرا. قال: إنه لكثير. قال: فأسبوعا. قال: إنه لكثير. قال: فيوما. قال: إنه لكثير. قال: فساعة. قال: فشأنك بها. فوكّل الأحراس ولبس الصوف ودخل المحرب ووضع الزبور بين يديه، فبينما هو فى نسكه وعبادته إذ وقع الطائر بين يديه؛ وكان من أمر المرأة ما كان. قالوا: فلمّا دخل داود عليه السلام بامرأة أوريّا لم يلبث إلا يسيرا حتى بعث الله عز وجل ملكين فى صورة إنسيّين، يطلبان أن يدخلا عليه، فوجداه فى يوم عبادته، فمنعهما الحرس أن يدخلا عليه؛ فتسوّرا المحراب عليه، فما شعر وهو يصلّى إلّا وهما بين يديه جالسان، فذلك قوله تعالى: وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ* إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ «1» أى تجر وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ «2» أى وسط الطريق إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ كنى بالنّعاج عن النساء؛ والعرب تفعل ذلك. فَقالَ أَكْفِلْنِيها . قال ابن عبّاس: أعطنيها. وقال ابن جبير عنه: تحوّل لى عنها. وقال أبو العالية: ضمّها إلىّ حتى أكفلها. وقال ابن كيسان: إجعلها كفلى، أى نصيبى. وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ «3» ، أى غلبنى. وقرأ عبيد بن عمير: وعازّنى، من المعازّاة، وهى المغالبة. قال داود: لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 64 أى الشركاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ «1» . وروى السّدّىّ أن أحدهما لما قال: إِنَّ هذا أَخِي الآية، قال داود- عليه السلام- للآخر: ما تقول؟ قال: إن لى تسعا وتسعين نعجة ولأخى هذا نعجة واحدة، وأنا أريد أن آخذها منه فأكمّل نعاجى مائة وهو كاره. قال داود: وهو كاره؟ قال نعم. قال: إذا لا ندعك وذلك، وإن رمت ذلك ضربنا منك هذا وهذا، يعنى طرف الأنف وأصل الجبهة. فقال: يا داود، أنت أحقّ أن يضرب منك هذا وهذا، حيث لك تسع وتسعون امرأة ولم يكن لأوريّاء إلا امرأة واحدة، فلم تزل به تعرّضه للقتل حتى قتل وتزوّجت امرأته. فنظر داود- عليه السلام- فلم ير أحدا، فعرف ما قد وقع فيه؛ فذلك قوله تعالى: وَظَنَّ داوُدُ أى أيقن أَنَّما فَتَنَّاهُ أى ابتليناه. قال سعيد بن جبير: إنما كانت فتنة داود النظر. قال الثعلبىّ: ولم يتعمد النظر إلى المرأة، ولكنه أعاد النظر اليها فصارت عليه «2» . قال: فهذه أقاويل السلف من أهل التفسير فى قصة امتحان الله تعالى داود عليه السلام. وقد روى عن علىّ بن أبى طالب- رضى الله عنه- قال: «من حدّث بحديث داود على ما يرويه القصّاص معتقدا صحته جلدته حدّين لعظيم ما ارتكب وجليل ما احتقب «3» من الوزر والإثم، يرمى من قد رفع الله محلّه وأنابه من خلقه رحمة للعالمين وحجة للمجتهدين» !. وقال القائلون بتنزيه المرسلين فى هذه القصة: إن ذنب داود- عليه السلام- إنما كان أنه تمنّى أن تكون له امرأة أوريّاء حلالا له، وحدّث نفسه بذلك، فاتفق الجزء: 14 ¦ الصفحة: 65 غزو أوريّاء وتقدّمه فى الحرب وهلاكه. فلمّا بلغه قتله لم يجزع عليه ولم يتوجّع له كما [كان «1» ] يجزع على غيره من جنده إذا هلك، [ووافق قتله مراده، ثم تزوّج امرأته فعاتبه الله على ذلك؛ لأن ذنوب الأنبياء وإن صغرت «2» ] فهى عظيمة عند الله تعالى. وقال بعضهم: ذنب داود أن أوريّاء كان قد خطب تلك المرأة ووطّن نفسه عليها، فلما غاب فى غزاته خطبها داود، فتزوّجت منه لجلالته؛ فاغتمّ لذلك أوريّاء غمّا شديدا، فعاتبه الله تعالى على ذلك، حيث لم يترك هذه الواحدة لخاطبها الأوّل، وقد كانت عنده تسع وتسعون امرأة. قالوا: فلما علم داود أنه ابتلى سجد فمكث أربعين ليلة ساجدا باكيا حتى نبت الزرع من دموعه، وأكلت الأرض من جبينه، وهو يقول فى سجوده: ربّ داود زل داود زلّة أبعد مما بين المشرق والمغرب، ربّ إن لم ترحم ضعف داود وتغفر ذنبه جعلت ذنبه حديثا فى الخلوف من بعده. فجاء جبريل- عليه السلام- بعد أربعين ليلة فقال: يا داود، إن الله تعالى قد غفر لك الهمّ الذى هممت به. فقال داود: عرفت أن الربّ قادر على أن يغفر لى، وقد عرفت أن الله عدل لا يميل، فكيف بفلان إذا جاء يوم القيامة فقال: يا ربّ، دمى الذى عند داود؟ فقال جبريل: ما سألت ربك عن ذلك، ولئن شئت لأفعلنّ. قال نعم. فعرج جبريل- عليه السلام- وسجد داود فمكث ما شاء الله، ثم نزل جبريل فقال: قد سألت يا داود ربّك عن الذى أرسلتنى فيه فقال: قل لداود: إن الله يجمعكما يوم القيامة، فيقول له: هب لى دمك الذى عند داود؛ فيقول: هو لك يا ربّ، فيقول: فإن لك فى الجنة ما شئت وما اشتهيت عوضا. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 66 وروى الثعلبىّ بسند رفعه إلى ابن عبّاس وكعب الأحبار ووهب بن منبّه، قالوا جميعا: إن داود- عليه السلام- لما دخل عليه الملكان فقضى على نفسه تحوّلا عن صورتهما، فعرجا وهما يقولان: قضى الرجل على نفسه. وعلم داود أنه عنى به، فخرّ ساجدا أربعين يوما لا يأكل ولا يشرب ولا يرفع رأسه إلّا لحاجة أو لوقت صلاة مكتوبة ثم يعود ساجدا، لا يرفع رأسه إلّا لحاجة لا بدّ منها ثم يعود، فسجد تمام أربعين يوما لا يأكل ولا يشرب وهو يبكى حتى نبت العشب حول رأسه، وهو ينادى ربه- عز وجل- ويسأله التوبة، ويدعو بدعاء «1» طويل ذكره الثعلبىّ، فى آخر كل كلمة منه: سبحان خالق النور. قال: فأتاه نداء: يا داود، أجائع أنت فتطعم، أظمآن أنت فتسقى، أمظلوم أنت فتنصر، ولم يجبه فى ذكر خطيئته بشىء. فصاح صيحة هاج منها ما حوله؛ ثم نادى: يا رب الذنب الذى أصبته. فنودى: يا داود، ارفع رأسك فقد غفرت لك. فلم يرفع رأسه حتى جاء جبريل- عليه السلام- فرفعه. قال وهب: إن داود- عليه السلام- أتاه نداء: إنّى قد غفرت لك. قال: يا رب، كيف وأنت لا تظلم أحدا؟ قال: اذهب إلى قبر أوريّاء، فناده وأنا أسمعه نداءك، فتحلّل منه. فانطلق حتى أتى قبره وقد لبس المسوح، فجلس ثم نادى: يا أوريّاء. فقال: لبيّك، من هذا الذى قطع علىّ لذّتى وأيقظنى؟ قال: أنا داود. قال: ما جاء بك يا نبىّ الله؟ قال: أسألك أن تجعلنى فى حلّ مما كان منّى إليك. قال: وما كان منك إلىّ؟ قال: عرّضتك للقتل. قال: عرّضتنى للجنّة، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 67 فأنت فى حلّ. فأوحى الله تعالى إليه: يا داود، ألم تعلم أنى حكم عدل لا أقضى بالغيب والتغرير «1» ! ألا أعلمته أنك قد تزوّجت امرأته!. قال: فرجع إليه فناداه؛ فأجابه فقال: من هذا الذى قطع علىّ لذّتى؟ قال: أنا داود. قال: يا نبىّ الله، أليس قد عفوت عنك! قال: نعم، ولكن إنما فعلت ذلك لمكان امرأتك فتزوّجتها، فسكت ولم يجبه، وعاوده فلم يجبه، فقام عند قبره وحثا «2» التراب على رأسه ثم نادى: الويل لداود ثم الويل لداود إذا نصبت الموازين القسط [ليوم القيامة «3» ] ، سبحان خالق النور. الويل لداود ثم الويل الطويل له حين يؤخذ بذقنه فيدفع إلى المظلوم، سبحان خالق النور. الويل لداود ثم الويل الطويل له حين يسحب على وجهه مع الخاطئين إلى النار، سبحان خالق النور. الويل لداود ثم الويل الطويل له حين تقرّبه الزبانية مع الظالمين إلى النار، سبحان خالق النور. قال: فأتاه نداء من السماء: يا داود، قد غفرت لك ذنبك، ورحمت بكاءك، واستجبت دعاءك، وأقلت عثرتك. قال: يا ربّ، كيف لى أن تعفو عنّى وصاحبى لم يعف عنّى؟ قال: يا داود، أعطيه يوم القيامة ما لم تر عيناه، ولم تسمع أذناه، فأقول له: رضيت عبدى؟ فيقول: يا ربّ، من أين لى هذا ولم يبلغه عملى؟ فأقول له: هذا عوض من عبدى «4» داود، فأستوهبك منه فيهبك لى. قال: يا رب، الآن قد عرفت أنك قد غفرت لى. فذلك قوله تعالى: فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ «5» * فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ ، أى ذلك الذنب وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ «6» أى وإنّ له بعد المغفرة عندنا يوم القيامة حسن مرجع. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 68 قال الثعلبىّ ورفعه إلى وهب بن منبّه قال: إن داود- عليه السلام- لما تاب الله تعالى عليه بكى على خطيئته ثلاثين سنة لا ترقا له دمعة ليلا ولا نهارا، وكان أصاب الخطيئة وهو ابن سبعين سنة، فقسم الدهر بعد الخطيئة على أربعة أيام، فجعل يوما للقضاء بين بنى إسرائيل، ويوما لنسائه، ويوما يسيح فى الفيافى والجبال والساحل، ويوما يخلو فى دار له فيها أربعة آلاف محراب؛ فيجتمع إليه الرّهبان، فينوح معهم على نفسه، ويساعدونه على ذلك. فإذا كان يوم سياحته يخرج فى الفيافى، فيرفع صوته بالمزامير، فيبكى وتبكى معه الشجر والرمال والطير والوحوش حتى يسيل من دموعهم مثل الأنهار؛ ثم يجىء إلى الساحل فيبكى وتبكى معه الحيتان ودوّاب البحر والسباع وطير الماء، فإذا أمسى رجع، فإذا كان يوم نوحه نادى مناد: إن اليوم نوح داود على نفسه فليحضر من يساعده. قال: فيدخل الدار التى فيها المحاريب، فتبسط له فرش من مسوح حشوها ليف فيجلس عليها، ويجىء الرّهبان وهم أربعة آلاف، عليهم البرانس وفى أيديهم العصىّ، فيجلسون فى تلك المحاريب ثم يرفع داود صوته بالنّوح والبكاء، ويرفع الرهبان معه أصواتهم، فلا يزال يبكى حتى تغرق الفرش من دموعه، ويقع داود مثل الفرخ يضطرب، فيجىء ابنه سليمان فيحمله، فيأخذ داود من تلك الدموع بكفيّه، ثم يمسح بها وجهه ويقول: يا رب اغفر ما ترى. قال: فلو عدل بكاء داود ببكاء أهل الدنيا لعدله. وقال ثابت: ما شرب داود شرابا بعد المغفرة إلّا ونصفه ممزوج بدموع عينيه. وعن الأوزاعىّ قال: بلغنا أن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- قال: «خدت الدموع فى وجه داود- عليه السلام- خديد الماء فى الأرض» . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 69 ذكر ميلاد سليمان بن داود عليهما السلام قال الكسائىّ: كان لداود- عليه السلام- عدّة من الولد، فسأل الله تعالى أن يرزقه ولدا يرث ملكه؛ فرزقه الله تعالى سليمان. فنودى إبليس عند ما حملت به أمه: يا ملعون، قد حمل فى هذه الليلة برجل يكون طول حزنك على يديه، ويكون أولادك له خدّاما. ففزع من ذلك وجمع الشياطين وأخبرهم بأمر المولود وما سمعه وقال: إنه لا يكون إلّا من داود، فإنه خير أهل الأرض. قال: فلما وضعته أمه أتت الملائكة إلى داود وقالوا: أقرّ الله عينك به. فبادر داود إلى منزله فرأى أعلام الملائكة منصوبة، فخرّ داود شكرا لله تعالى، وقرّب قربانا عظيما. ثم جاءه إبليس وقال: يا داود، أقرّ الله عينك بولدك، غير أنه يقتلك ويسلبك ملكك، فاقتله صغيرا وإلّا قتلك كبيرا، فغضب منه ولعنه، فانصرف وقد خاب أمله. قال: ونشأ سليمان، فكان داود إذا تلا الزبور حفظ ما يتلوه لوقته، وحفظ التوراة، وكان يحكم بحضرة أبيه. ذكر خبر أبشالوم بن داود قال الكسائىّ: كان من خبر «أبشالوم «1» » أنه لما كان من أمر فتنة داود- عليه السلام- ما قدّمناه، تكلّم بعض بنى إسرائيل فى ذلك وجاءوا إلى «أبشالوم» وهو ابن بنت طالوت، وقالوا: إنّ أباك قد كبر وعجز عن سياستنا، وقد وقع الجزء: 14 ¦ الصفحة: 70 فى هذه الخطيئة، وأنت أكبر أولاده، والرأى أن ندعو الناس إليك وتقوم مقامه، فتبع رأيهم وتولّى الملك. فخاف داود على نفسه من سفهاء بنى إسرائيل، ففارق منزله واعتزل القوم برجلين من أصحابه. ثم جاء رجل من بنى إسرائيل اسمه أحيتوفل «1» إلى أبشالوم وقال: إنه لا يستقيم أمرك إلّا بعد وفاة أبيك، والرأى أن تعاجله وتقتله ما دام فى الخطيئة، فهمّ بذلك ثم صرفه الله عنه. فلما غفر الله تعالى لداود ورجع إلى قومه اعتزل ابنه «أبشالوم» فى طائفة من بنى إسرائيل. فلمّا ولد سليمان أرسل داود ابن أخت «2» له يقال له: «يوآب «3» » إلى ابنه «أبشالوم» وقال: سر إليه فإنه اعتزلنى خوفا على نفسه، وما كنت بالذى أقتل ولدى وقد تاب الله تعالى علىّ ورزقنى هذا الولد المبارك، فإن ظفرت به فائتنى به مكرّما، وإيّاك أن تقتله، فإنك إن قتلته قتلتك به. فسار إليه فى نفر من أصحابه، فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم أبشالوم ومن معه. فبينا هو فى هزيمته إذ مرّ بشجرة فعلق برنسه بها، وخرج الفرس من تحته، فأدركه يوآب فحمله الحرج «4» على قتله فقتله وتركه معلّقا فى الشجرة، ورجع إلى داود فأخبره الخبر، فغضب وقال: إنى قاتلك به لا محالة عاجلا أو آجلا. قال الثعلبىّ: فلما حضرت داود الوفاة أمر سليمان أن يقتله، فقتله بعد فراغه من دفن أبيه. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 71 ذكر خبر الزرع الذى رعته الغنم وما حكم فيه سليمان عليه السلام قال الكسائىّ: وبينما داود- عليه السلام- فى يوم قضائه وسليمان بين يديه، إذ تقدّم إليه قوم فقالوا: يا نبىّ الله، إنّا قوم حرثنا أرضا لنا وزرعناها وسقيناها حتى بلغت الحصاد، فجاء هؤلاء وأرسلوا أغنامهم فيها بالليل، فرعتها جميعا حتى لم يبق منها شىء. فقال داود لأصحاب الغنم: ما تقولون؟ قالوا: صدقوا. فقال لأصحاب الزرع: كم قيمة زرعكم؟ قالوا: كذا وكذا. وقال لأرباب الغنم: كم قيمة أغنامكم؟ فذكروا قيمتها، فتقاربت القيم، فقال: ادفعوا أغنامكم إليهم بقيمة زرعهم. فقال سليمان: يا أبت إن أذنت لى تكلّمت. قال: يا بنىّ تكلم بما عندك. فقال سليمان لأرباب الغنم: ادفعوا أغنامكم إلى هؤلاء ينتفعوا بأصوافها وألبانها ونتاجها، وخذوا أنتم أرضهم فاحرثوا وازرعوها واسقوها حتى يقوم الزرع على سوقه، فإذا بلغ الحصاد فسلّموا إليهم أرضهم بزرعها وخذوا أغنامكم، فرضوا جميعا بذلك. قال الله تعالى: فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً «1» . قال: ولما نظر مشايخ بنى إسرائيل إلى جلوس سليمان عن يمين أبيه مع صغر سنّه حسدوه على ذلك. فأوحى الله إلى داود أن يقيم سليمان خطيبا ليسمعهم من الحكمة ما ألهمه الله ليعلموا فضله عليهم. فجمع داود الناس حتى العبّاد والرّهبان وأهل السياحة إلى محرابه، وكانت سنّ سليمان يومئذ اثنتى عشرة سنة، فأخرجه داود إليهم وألبسه لباس النبيّين من الصوف الأبيض وقال: هذا ابنى قد أخرجته إليكم خطيبا ليورد عليكم مما علّمه الله تعالى. فجلس على منبر أبيه وحمد الله تعالى ووحّده، ووصف عجائب خلقه وصنعه؛ فسجدوا شكرا لله، ونظروا إليه بعد ذلك الجزء: 14 ¦ الصفحة: 72 بالعين الرفيعة وأجلّوه، وأعطى سليمان فى حياة أبيه من العلم ما فسّر لبنى إسرائيل خطبة آدم ووصيّة شيث ورفع إدريس وغير ذلك. ذكر خبر الذين اعتدوا فى السبت قال الله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ «1» . وقال تعالى: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ «2» الآية. قال الكسائىّ: وكان فى زمن داود- عليه السلام- قوم من بنى إسرائيل من أبناء الذين كانوا مع موسى؛ وكانوا ينزلون على ساحل البحر بقرية يقال لها: «ايلة «3» » وكان الله قد حرّم على بنى إسرائيل أن يشتغلوا يوم السبت، وأوجب عليهم فيه العبادة؛ لأنّ موسى- عليه السلام- أمرهم بالعبادة يوم الجمعة فأبوا وقالوا: لا ينبغى لنا أن نشتغل بعبادة الرب إلا فى اليوم الذى فرغ فيه من الخلق، وهو يوم السبت. فلمّا اختاروه شدّد الله عليهم فيه؛ قال الله تعالى: إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ «4» . وكان موسى يأمر قومه بتعظيمه؛ فكانوا كذلك مدّة، وكان على ساحل البحر إلى جانب أيلة حجران أبيضان، وكانت الحيتان تخرج إلى أصلهما ليلة السبت ويوم السبت، لأنها كانت لا تصاد، فإذا أقبلت ليلة الأحد الجزء: 14 ¦ الصفحة: 73 خرجت منهما إلى البحر، فيتعذّر عليهم صيدها فيه إلّا بمشقّة؛ فذلك قوله تعالى: إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ «1» . فجعل فسّاق أهل «أيلة» يقول بعضهم لبعض: إنما حرّم الله تعالى الاصطياد على آبائنا وأجدادنا لا علينا، ونحن لا ذنب لنا، وهذه الحيتان تكثر يوم السبت وليلته، فمن المحال تركها؛ فاصطادوها وطبخوها وشووا منها، فشمّ المؤمنون راحتها فى يوم السبت، فخرجوا إلى الفسّاق ووعظوهم وحذّروهم، فلم يكترثوا لذلك ولم ينتهوا عنه، فاجتمع المؤمنون على أبواب القرية بالسلاح ومنعوهم من دخولها، فاشتدّ ذلك على الفسّاق وشقّ عليهم أن يمتنعوا من الاصطياد فى يوم السبت لكثرة الحيتان فيه دون غيره من الأيام، فقالوا: إن هذه [القرية «2» ] مشتركة بيننا [وبينكم «3» ] ولا يحلّ لكم أن تمنعونا منها، فإمّا أن تصبروا على أفعالنا أو تقاسمونا القرية فننفرد عنكم. فتراضوا على ذلك وقاسموهم القرية، وبنوا بينهم حيطانا عالية وبابا يدخلون منه غير بابهم، وانفردت كلّ طائفة، واشتغل الفسّاق باللهو واللعب والاصطياد، وحفروا أنهارا صغارا من البحر إلى أبواب دورهم، فكانت الحيتان تأتيها فى يوم السبت، فإذا غربت الشمس همّت الحيتان بالرجوع إلى البحر، فيسدّون أفواه تلك الأنهار مما يلى البحر، ويصيدون تلك الحيتان. هذا والمؤمنون يخوّفونهم عذاب الله فلا يرجعون. فلمّا طال ذلك وتكرّر منهم قال بعض المؤمنين لبعض: إلى كم ننصح هؤلاء ولا يزيدون إلا تماديا وعتوّا! قال الله تعالى: وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً «4» الآية. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 74 قال: واستغنى الفسّاق وكثرت أموالهم، واشتروا الضّياع وانهمكوا على الفسق. فبلغ ذلك داود- عليه السلام- فلعنهم ودعا عليهم. فبينما هم فى منازلهم فى شرّ ما هم فيه إذ زلزلت قريتهم زلزلة عظيمة، ففزع المؤمنون وخرجوا من بيوتهم؛ قال الله تعالى: فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ «1» وقال تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ «2» فالذين لعنوا على لسان داود هم هؤلاء الذين اعتدوا فى السبت، والذين لعنوا على لسان عيسى الذين سألوه نزول المائدة، فلمّا نزلت عليهم كفروا. قال: فمسخ الله هؤلاء الذين اعتدوا فى السبت قردة، ومسخ أصحاب المائدة خنازير- وسنذكر إن شاء الله خبر أصحاب المائدة فى موضعه من أخبار عيسى عليه السلام- قال: فكان أحدهم يأتى حميمه من المؤمنين وعيناه تدرفان دمعا فيقول له: أنت فلان؟ فيشير برأسه، أى نعم. فيقول لهم المؤمنون: قد أنذرناكم عذاب ربكم وعقوبته فلم تتّعظوا، فنزل بكم ما نزل. قال الثعلبىّ قال قتادة: صارت الشّبّان قردة، والشيوخ خنازير، فما نجا إلّا الذين نهوا وهلك سائرهم. قال: ثم برز الممسوخون من المدينة وهاموا على وجوههم متحيّرين، فمكثوا ثلاثة أيام ثم هلكوا، وكذلك لم يلبث مسخ فوق ثلاثة أيام، ولم يتوالدوا ولم يتناسلوا؛ بم بعث الله تعالى عليهم ريحا ومطرا فقذفهم فى البحر، فإذا كان يوم القيامة أعادهم الله إلى صورهم الأولى البشرية، فيدخلهم النار. والله أعلم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 75 ذكر استخلاف داود ابنه سليمان عليهما السلام وخبر الصحيفة وابتداء أمر الخاتم قال الكسائى- رحمه الله-: ولمّا أتى على سليمان بضع وعشرون سنة نزل جبريل على داود بصحيفة، وأمره عن الله تعالى أن يجمع أولاده ويقرأ عليهم ما فى الصحيفة من المسائل، فمن أجاب عمّا فيها فهو الخليفة من بعده. فأحضر داود أولاده، وكان سليمان أصغرهم سنّا، وقرأ عليهم ما فى الصحيفة، فأقرّوا بالعجز عن معرفتها، وذلك بحضور مشيخة بنى إسرائيل، فقال داود- عليه السلام- لسليمان- عليه السلام-: أجب عن هذه المسائل. فقال: أرجو أن يهدينى الله تعالى إلى جوابها. فقال: يا سليمان، ما الشىء؟ قال: المؤمن. قال: فما بعض الشىء؟ قال: الفاجر. قال: فما لا شىء؟ قال: الكافر. قال: فما كلّ شى؟ قال: الماء. قال: فما أكبر شىء؟ قال: الشّرك. قال: فما أقلّ شىء؟ قال: اليقين. قال: فما أمرّ شىء؟ قال: الفقر بعد الغنى. قال: فما أحلى شىء؟ قال: المال والولد. قال: فما أقبح شىء؟ قال: الكفر بعد الإيمان. قال: فما أحسن شىء؟ قال: الرّوح فى الجسد. قال: فما أوحش شىء؟ قال: الجسد بلا روح. قال: فما أقرب شىء؟ قال: الآخرة [من الدنيا «1» ] . قال: فما أبعد شىء؟ قال: الدنيا من الآخرة. قال: فما أشرّ شىء؟ قال: المرأة السوء. قال: فما خير شىء؟ قال: المرأة الصالحة. قال: وكان داود يصدّقه عقب كل مسئلة، ثم التفت إلى بنى إسرائيل فقال: ما أنكرتم من قول ابنى؟ قالوا: ما أخطأ فى شىء متّعك الله به، وبارك لنا ولك فيه. قال: أترضون أن يكون خليفتى عليكم؟ قالوا نعم. هذا ما أورده الكسائىّ رحمه الله. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 76 وقد ذكر الثعلبىّ فى هذه القصة زيادات نذكرها. قال أبو إسحاق الثعلبىّ- رحمه الله تعالى- قال أبو هريرة- رضى الله عنه-: نزل كتاب من السماء مختوم بخاتم من الذهب على داود فيه ثلاث عشرة «1» مسألة، فأوحى الله تعالى إليه أن اسأل عنها ابنك سليمان، فإن هو أخرجها فهو الخليفة من بعدك. قال: وإن داود- عليه السلام- دعا سبعين قسّيسا وسبعين حبرا، ولم يذكر أولاده. قال: وأجلس سليمان بين أيديهم وقال له: يا بنىّ، إن الله أنزل من السماء كتابا فيه مسائل، وأمرت أن أسألك عنها، فإن أخرجتها فأنت الخليفة من بعدى. قال سليمان: اسأل يا نبىّ الله عما بدالك، وما توفيقى إلا بالله. قال داود: أخبرنى يا بنىّ، ما أقرب الأشياء؟ وما أبعد الأشياء؟ وما آنس الأشياء؟ وما أوحش الأشياء؟ وما أحسن الأشياء؟ وما أقبح الأشياء؟ وما أقلّ الأشياء؟ وما أكثر الأشياء؟ وما القائمان؟ وما المختلفان؟ وما المتباغضان؟ وما الأمر الذى إن ركبه الرجل حمد آخره؟ وما الأمر الذى إن ركبه الرجل ذمّ آخره؟. قال سليمان: أمّا أقرب الأشياء فالآخرة. وأما أبعد الأشياء فما فاتك من الدنيا. وأما آنس الأشياء فجسد فيه روح. وأما أوحش الأشياء فالجسد بلا روح. وأما أحسن الأشياء فالإيمان بعد الكفر «2» . وأما أقبح الأشياء فالكفر بعد الإيمان. وأما أقل الأشياء فاليقين. وأما أكثر الأشياء فالشكر. وأما القائمان: فالسماء الجزء: 14 ¦ الصفحة: 77 والأرض. وأما المختلفان: فالليل والنهار. وأما المتباغضان: فالموت والحياة. وأما الأمر الذى اذا ركبه الرجل حمد آخره فالحلم. وأما الأمر الذى اذا ركبه الرجل ذمّ آخره فالحدّة عند الغضب. قال: ففكّوا الخاتم، فإذا جواب المسائل سواء على ما نزل من السماء. فقال القسّيسون والأحبار: لا نرضى حتى نسأله عن مسألة، فإن هو أخرجها فهو الخليفة. قال: سلوه. قال سليمان: سلونى وما توفيقى إلا بالله. قالوا: ما الشىء الذى إذا صلح صلح كلّ شىء من الإنسان، وإذا فسد فسد كلّ شىء منه؟ قال: هو القلب. فقام داود وصعد المنبر وحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: إن الله أمرنى أن أستخلف عليكم سليمان. قال: فضجّت بنو إسرائيل وقالوا: غلام حدث يستخلف علينا وفينا من هو أعلم وأفضل منه! فبلغ ذلك داود، فدعا رءوس أسباط بنى إسرائيل وقال: إنه بلغتنى مقالتكم، فأرونى عصيّكم، فأىّ عصا أثمرت فإنّ صاحبها ولىّ هذا الأمر [بعدى] ؛ فقالوا: قد رضينا. فجاءوا بعصيّهم؛ فقال لهم داود: ليكتب كل رجل منكم اسمه على عصاه؛ فكتبوا. ثم جاء سليمان بعصاه فكتب عليها اسمه؛ ثم أدخلت بيتا وأغلق عليها الباب وسكّر بالأقفال، وحرسه رءوس أسباط بنى إسرائيل. فلما أصبح صلّى بهم الغداة؛ ثم أقبل وفتح الباب وأخرج عصيّهم كما هى، وعصا سليمان قد أثمرت وأورقت. قال: فسلّموا ذلك لداود، فأخذ ابنه سليمان ثم سار به فى بنى إسرائيل فقال: هذا خليفتى فيكم من بعدى. قال وهب بن منبّه: لما استخلف داود ابنه وعظه فقال: يا بنىّ، إياك والهزل؛ فإنّ نفعه قليل ويهيج العداوة بين الإخوان. وإيّاك والغضب؛ فإن الغضب يستخفّ صاحبه. وعليك بتقوى الله وطاعته؛ فإنهما يغلبان كل شىء. وإيّاك الجزء: 14 ¦ الصفحة: 78 وكثرة الغيرة على أهلك من غير شىء؛ فإن ذلك يورث سوء الظنّ بالناس وإن كانوا برآء. واقطع طمعك عن الناس؛ فإنه هو الغنى. وإياك والطمع فهو الفقر الحاضر. وإياك وما يعتذر منه من القول والفعل. وعوّد نفسك ولسانك الصدق؛ والزم الإحسان؛ فإن استطعت أن يكون يومك خيرا من أمسك فافعل. وصلّ صلاة مودّع، ولا تجالس السفهاء، ولا تردّ على عالم ولا تماره فى الدّين. وإذا غضبت فألصق نفسك بالأرض وتحوّل من مكانك. وارج رحمة الله فإنها واسعة وسعت كل شىء. قالوا: ثم إن سليمان بعد أن استخلف أخفى أمره وتزوّج امرأة واستتر عن الناس، وأقبل على العلم والعبادة. ثم إن امرأته قالت له ذات يوم: بأبى أنت وأمّى، ما أكمل خصالك وأطيب ريحك! ولا أعلم لك خصلة أكرهها إلّا أنك فى مئونة أبى «1» ، فلو أنك دخلت السوق فتعرّضت لرزق الله لرجوت ألا يخيبّك الله. قال سليمان: إنى والله ما عملت عملا ولا أحسنه، ثم دخل السّوق صبيحة يومه ذلك فلم يقدر على شىء، فرجع فأخبرها. فقالت له: يكون غدا إن شاء الله. فلما كان فى اليوم الثانى مضى حتى انتهى إلى ساحل البحر وإذا هو بصيّاد، فقال له: هل لك أن أعينك وتعطينى شيئا؟ قال نعم، فأعانه. فلما فرغ أعطاه الصياد سمكتين، فأخذهما وحمد الله تعالى، ثم إنه شقّ بطن إحداهما فإذا هو بخاتم فى بطنها، فأخذه وصرّه فى ثوبه، وحمد الله تعالى، وجاء بالسمكتين إلى منزله، ففرحت امرأته بذلك، فأخرج الخاتم [ولبسه «2» فى إصبعه] ؛ فعكفت عليه الجزء: 14 ¦ الصفحة: 79 الطير والريح، ووقع عليه بهاء الملك؛ ولم يلبث أبوه أن مات. [فلما ملك حمل المرأة وأبويها إلى إصطخر «1» ] . وقد قيل فى أمر الخاتم غير ذلك- على ما أورده الكسائىّ- وسنذكره إن شاء الله تعالى بعد هذا فى أخبار سليمان عليه السلام. ذكر وفاة داود عليه السلام قال الكسائىّ: كان داود- عليه السلام- شديد الغيرة على النساء، ويغلق الأبواب عليهنّ إذا خرج، ويحمل المفاتيح معه. فقيل: إنه رجع يوما ففتح باب نسائه، فرأى رجلا فى داره ذا مهابة «2» . فقال له داود- وغضب-: من أنت؟ ومن أدخلك دارى؟ قال: أدخلنى الدار من هو أولى بها منك، أنا الذى لا أهاب الملوك، ولا يمنعنى دونهم الحجّاب والجنود، وأفرّق بين الجمع، أنا ملك الموت. فارتعد داود وقال: دعنى أدخل إلى أهلى لأودّعهم. قال: لا سبيل إلى ذلك يا داود. فبكى وقال: من لبنى اسرائيل من بعدى؟ قال: ابنك سليمان. قال: الآن طابت نفسى، امض لما أمرت به، فقبض روحه- عليه السلام- وغسّله سليمان وإخوته، وكفّنه بأكفان نزلت عليه من الجنة، وحمله إلى قبره، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 80 ودفن دون غار إبراهيم- عليه السلام- قال: وعكفت الطير على قبره أربعين يوما. قال الثعلبىّ فى خبر وفاة داود: إن داود كانت له وصيفة تغلق الأبواب كل ليلة وتأتيه بالمفاتيح ثم تنام، ويقبل داود على ورده فى العبادة. فأغلقت ذات ليلة الأبواب وجاءت بالمفاتيح ثم ذهبت لتنام، فرأت رجلا قائما فى وسط الدار فقالت: ما أدخلك هذه الدار! فإن صاحبها رجل غيور، فخذ حذرك. فقال: أنا الذى أدخل على الملوك بغير إذن. فسمعه داود، وكان فى المحراب يصلّى، ففزع واضطرب وقال: علىّ به، فأتاه. فقال: ما أدخلك هذه الدار فى هذا الوقت بغير إذن؟! فقال: أنا الذى أدخل على الملوك بغير إذن. قال: فأنت ملك الموت؟ قال نعم. قال: أجئت داعيا أم ناعيا؟ قال: بل ناعيا. قال: فهلّا أرسلت إلىّ قبل ذلك وآذنتنى لأستعدّ للموت؟ قال: كم أرسلت إليك يا داود فلم تنتبه. قال: ومن كانت رسلك؟ قال: يا داود، أين أبوك إيشى؟ وأين أمّك؟ وأين أخوك؟ وأين قهرمانك فلان؟ قال: ماتوا كلهم. قال: أما علمت أنهم رسلى، وأن النوبة تبلغك! ثم قبضه. قال أهل التاريخ: كان عمر داود مائة سنة، ومدّة ملكه أربعين سنة. وقد تقدّم خبر آدم فيما وهب له من عمره «1» . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 81 ذكر نبوّة «1» سليمان بن داود عليهما السلام وملكه قال الكسائىّ- رحمه الله-: ولما قام سليمان- عليه السلام- من عزاء أبيه داود وتفرّق الطير عن قبره، دخل محراب أبيه، فهبط عليه جبريل- عليه السلام- وقال له: إن الله تعالى يخصّك بالسلام ويقول لك: الملك أحبّ إليك أو العلم؟. فخرّ سليمان ساجدا لله تعالى وقال: العلم أحبّ إلىّ من الملك، لأنه أنفع الأشياء. فأوحى الله تعالى إليه: إنك تواضعت وأخترت العلم على الملك، فقد وهبت لك العلم والملك، وأضفت إلى ذلك كمال العقل وزينة الخلق، ونزعت عنك العجب «2» ، وسأطوى لك الدنيا بأسرها حتى تطأها بجيشك وتشاهد عجائبها. فخرّ سليمان ساجدا لربّه، ورفع رأسه فإذا الرياح الثمانية قد وقفت بين يديه وقالت له: إن الله سخّرنا لك، فاركبنا إذا شئت إلى أىّ موضع شئت. وأقبلت الوحوش والسّباع فوقفت بين يديه وقالت: إن الله أمرنا بالطاعة لك. وأقبلت الطير وقالت: قد أمرنا أن نظلّك بأجنحتنا ولا نخالفك فى أمر. وفوّض الله- عز وجل- إلى سليمان أمر الدنيا شرقها وغربها. ذكر حشر الطير لسليمان بن داود عليهما السلام وكلامها له قال الكسائىّ: ولما آتاه الله النبوّة والملك أحبّ أن يستنطق الطير، فحشرت إليه، فكان جبريل يحشر طير المشرق والمغرب من البر «3» ، وميكائيل يحشر طير الهواء والجبال. فنظر سليمان إلى عجائب خلقها، وجعل يسأل كل واحد منها عن مسكنه الجزء: 14 ¦ الصفحة: 82 ومعاشه فيخبره، وكان بين يديه سبعة ألوية من ألوية الأنبياء، يمسكها سبعة من الملائكة. قال: ولما حشرت الطير له جاءته فوجا فوجا؛ فسلّمت عليه «الخطّافة» بثلاث «1» لغات وقالت: يا نبىّ الله، أنا ممن اختارنى نوح وحملنى فى السفينة، ومنّى تناسل كلّ خطّافة فى الدنيا، ودعا لى آدم وقال: إنك تدركين من أولادى من خلافته مثل خلافتى، تحشر إليه الوحوش والطيور والمردة، فإذا رأيته فأقرئيه منّى السلام. وقالت له: يا نبىّ الله، إن معى سورة تعجب الملائكة من نورها، ما أعطيت لأحد من بنى آدم غير أبيك إبراهيم، فإنها نزلت كرامة له يوم ألقى فى النار، فهل لك أن تسمعها منّى؟ قال نعم. فقرأت سورة الْحَمْدُ حتى بلغت وَلَا الضَّالِّينَ ومدّت صوتها بآمين وسجدت، وسجد معها سليمان عليه السلام. ثم تقدّم «النّسر» وهو يومئذ فى صورة عظيمة فقال: السلام عليك يا ملك الدنيا، ما رأيت ملكا أعظم من ملكك، وإنى صحبت آدم وساعدته على كثرة حزنه، وأنا أوّل من علم بهبوطه إلى الأرض، وكنت معه إلى أن تاب الله عليه وقال: إنه يكون من ذرّيتى من يحشر له الطير، فإذا رأيته فأقرئه منىّ السلام؛ وقد أدّيت إليك وديعته، فاصطنعنى يا نبىّ الله، فإنى عليم بمعادن «2» الأرض وجبالها، ومعى آية عظيمة لا يفتر لسانى عنها، وهى: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ «3» . ثم سجد وسجد معه سليمان؛ فلمّا رفع رأسه جعله سليمان ملكا على سائر الطيور. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 83 ثم تقدّمت «العقاب «1» » فوقفت بين يديه وسلّمت عليه وقالت: يا نبىّ الله، إن الله حين خلقنى كنت أعظم خلقا من هذا، غير أن حزنى على هابيل يوم قتله قابيل صيّرنى الى ما ترى، ولقد توحّشت الأرض والجبال يوم قتل. ومعى آية أعطانيها ربى، وهى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ «2» فَصَلَّى . ثم قالت: سلّطنى على من شئت، فإنى قوية سميعة. ثم تقدّمت «العنقاء» وهى يومئذ شديدة البياض، وصدرها كالذهب الأحمر، ووجهها كوجه الإنسان، ولها ذوائب كذوائب النساء، ورجلان صفراوان، ولها تحت أجنحتها يدان، فى كل يد ثلاثون إصبعا، فوقفت بين يديه وسلّمت وقالت: إن الله فضّلك على كثير من الملوك حين أبرزنى اليك فى صورتى هذه، فمرنى بما شئت، فو الله ما نطقت لأحد إلا لصفوة الله آدم، فإنى وقفت بين يديه وتعجّب من حسن صورتى، وقال: ما أشبهك بطيور الجنان! فمنذكم خلقك ربك؟ قلت: منذ ألفى عام. ثم تبخترت بين يديه فقال: أيها الطائر، إنك معجب بخلقك، والعجب يهلك صاحبه، لقد فاز المفلحون وخسر المبطلون. وللعنقاء خبر عجيب نذكره- إن شاء الله- فى آخر خبر الطير على ما تقف عليه إن شاء الله تعالى. ثم تقدّم «الغراب» فسلّم وقال: يا نبىّ الله، لقد فضّلك الله على كثير من ولد آدم، وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما، وإنى كنت أبيض الجزء: 14 ¦ الصفحة: 84 قبل ذلك، فصرت كما ترى، لمّا سمعتهم يقولون: اتخذ الرحمن ولدا. وما ينبغى للرحمن أن يتخذ ولدا. ولقد دعا لى أبوك آدم ونوح بطول العمر؛ وسمعت أباك إبراهيم يتلو آية يخضع لها كل شىء، وهى: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ «1» . ثم تقدّمت «الحمامة» فسلّمت عليه وقالت: يا نبىّ الله، أنا الحمامة التى اختارنى أبوك آدم لنفسه إلفا وأنيسا، وكنت آنس به وبتسبيحه؛ وكان اذا ذكر الجنة يصيح صيحة عظيمة ويقول: أترانى أرجع إليها؟ وإن لم أرجع إليها كنت من الخاسرين. واعلم يا نبىّ الله أنه قد علّمنى كلمات حفظتها عنه، وهى: الله لا إله إلا هو وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله سيد الأوّلين والآخرين. وقد أقبلت إليك طائعة لأمرك، فمرنى بما شئت. ثم تقدّم «الهدهد» فسلّم عليه وسجد بين يديه وقال: ما أحببت أحدا كما أحببتك، لأنى رأيت الدنيا ضاحكة لك، وقد أعطاك الله ملكا عظيما، فاتخذنى رسولا آتك بالأخبار، وأدلك على مواضع الماء. فقال له: أراك أكيس الطيور، وأرى فخاخ بنى إسرائيل تصطادك، ولا تغنى عنك كياستك شيئا. قال الهدهد: يا نبىّ الله، الحيلة لا تنفع مع القضاء والقدر، وإن الله يضيف إلى عقل المخلوق سبعين ضعفا ثم ينفّذ فيه حكمه وقضاءه. قال: صدقت. ثم سجد بين يديه مرارا. ثم تقدّم إليه «الديك» وهو آخر من تقدّم، فوقف بين يديه وهو فى نهاية الحسن، وضرب بجناحيه، وصاح صيحة أسمع الملائكة والطيور وجميع من حضر الجزء: 14 ¦ الصفحة: 85 وقال فى صياحه: يا غافلين اذكروا الله. ثم قال: يا نبىّ الله، إنى كنت مع أبيك آدم وكنت أوقظه أوقات الصلوات، ومع نوح فى الفلك، ومع أبيك إبراهيم وكنت أسمعه يقول: «اللهمّ مالك الملك تؤتى الملك من تشاء، وتنزع الملك ممن تشاء، وتعزّ من تشاء، وتذّل من تشاء، بيدك الخير إنك على كل شىء قدير» . واعلم يا نبىّ الله أنى ما صحت صيحة إلا أفزعت بها الجن والشياطين. ففرح سليمان به وأمره أن يكون معه حيثما كان. ووقف كل طير بين يديه، وفرغ من حشر الطيور وعرفها بأسمائها ومنطقها، وكانوا يعبدون الله بالليل والنهار، وكذلك الوحوش والسباع، حتى عرف كل واحد منهم باسمه وصفته ونعته «1» . ذكر خبر العنقاء فى القضاء والقدر قال أبو إسحاق الثعلبىّ- رحمه الله تعالى- بسند رفعه الى جعفر بن محمد الصادق قال: عاتب سليمان الطير فى بعض عتابه فقال لها: إنك تأتين كذا، وتفعلين كذا، فقالت له: والله ربّ السماء والثّرى، إنا لنحرص على الهدى، ولكن قضاء الله يأتى إلى منتهى علمه وقدره. قال سليمان: صدقت، لا حيلة فى القضاء. فقالت العنقاء: لست أومن بهذا. قال لها سليمان: أفلا أخبرك بأعجب العجب؟ قالت بلى. قال: إنه ولد الليلة غلام فى المغرب، وجارية فى المشرق، هذا ابن ملك الجزء: 14 ¦ الصفحة: 86 وهذه بنت ملك، يجتمعان فى أمنع المواضع وأهولها على سفاح بقدر الله تعالى فيهما. قالت العنقاء: يا نبىّ الله، وقد ولدا؟ قال: نعم الليلة. قالت: فهل أخبرت بهما؟ من هما وما اسمهما واسم أبويهما؟ قال: بلى، اسمهما كذا وكذا، واسم أبويهما كذا وكذا. قالت: يا نبىّ الله، فإنى أفرّق بينهما وأبطل القدر. قال: فإنك لا تقدرين على ذلك. قالت بلى. فأشهد سليمان عليها الطير وكفلتها البومة. ومرّت العنقاء وكانت فى كبر الجمل عظما، ووجهها وجه إنسان، ويداها وأصابعها كذلك؛ فحلّقت فى الهواء حتى أشرفت على الدنيا وأبصرت كل دار فيها، وأبصرت الجارية فى مهدها قد احتوشتها الظئور والخول، فآختلست المهد والجارية وطارت، ومرّت حتى انتهت بها إلى جبل شاهق فى السماء، أصله فى جوف البحر، وعليه شجرة عالية فى السماء، لا ينالها طائر إلا بجهد، لها ألف غصن، كل غصن كأعظم شجرة فى الأرض، كثيرة الورق، فاتخذت لها فيه وكرا عجيبا واسعا وطيئا، وأرضعتها واحتضنتها تحت جناحها، وصارت تأتيها بأنواع الأطعمة والأشربة، وتكنّها من الحرّ والبرد، وتؤنسها بالليل، ولا تخبر أحدا بشأنها، وتغدو إلى سليمان وتروح إلى وكرها. وعلم سليمان بذلك ولم يبده لها، وبلغ الغلام مبلغ الرجال، وكان ملكا من ملوك الدنيا، وكان يلهو بالصيد ويحبّه ويطلبه حتى نال منه عظيما. فقال يوما لأصحابه: كل صيد البر وفلواته ومفازاته قد تمكنت من صيده، فلو ركبت البحر لأنال من صيده فإنه كثير الصيد كثير العجائب!. فقال وزير من وزرائه: نعم ما رأيت، وهو أكثر ما خلق الله صيدا. فأمره بجهازه، وهيأ السفن وجعل يختار من كل شىء يملكه، وأخذ من الوزراء والندماء والمشيرين والجوارى والغلمان والطباخين والخبازين والبزاة والصقور وغير ذلك مما يريده ويشتهيه من الملاهى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 87 والشراب، وركب ومرّ فى البحر يتصيّد ويتلذذ لا يعرف شيئا غير ذلك، حتى سار مسيرة شهر، فأرسل الله تعالى على سفينته ريحا عاصفا خفيفة ساقتها حتى وصلت بها الى جبل العنقاء الذى فيه الجارية، وذلك مسيرة خمسين سنة فى خمسين ليلة، ثم ركدت سفينته بإذن الله تعالى، وأصبح الغلام فرأى سفينته راكدة، فأخرج رأسه من السفينة، فرأى الجبل وهو فى لون الزعفران [صفرة «1» ] ، وطوله لا يدرى أين منتهاه ولا عرضه، ورأى الشجرة فإذا هى كثيرة الأغصان والورق، ورقها عرض آذان الفيلة ليس لها ثمر، بيضاء الساق، فقال: إنى أرى عجبا، أرى جبلا شاهقا لم أر مثله، وأرى شجرة حسنة قد أعجبنى منظرها. فحرّك سفينته نحو الجبل، فسمعت الجارية التى فى عشّ العنقاء صوت الماء وكلام الناس، ولم تكن سمعت قبل ذلك شيئا من ذلك؛ فأخرجت رأسها من العشّ، فتطلّعت فرأى الملك صورتها فى الماء، ورأى عجبا من جمالها وكثرة شعرها وذوائبها؛ فرفع رأسه إلى الشجرة فرأى الجارية، فأبصر أمرا عظيما فأخذه القلق، فناداها: من أنت؟ فأفهمها الله تعالى لغته وقالت: لا أدرى ما تقول ولا من أنت إلا أنى أراك يشبه وجهك وجهى وكلامك كلامى، وإنى لا أعرف شيئا غير العنقاء، وهى أمى التى ربّتنى وتسمينى بنتها. فقال لها الغلام: وأين العنقاء أمك؟ قالت: فى نوبتها. قال: وما نوبتها؟ قالت: تغدو كل يوم إلى ملكها سليمان فتسلّم عليه وتقيم عنده إلى الليل، ثم تروح وتجيئنى وتحدّثنى بما فعل سليمان وبما حكم وقضى، وإنه لملك عظيم، على ما تصف أمى العنقاء، وإنها تخبرنى أنه يشبهنى إلا أنها تخبر أنه أحسن وجها وأتمّ منى. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 88 قال: فآنذعر الغلام وفزع، ثم قال: قد عرفته، هو الذى قتل أبى وسبى ذرّيته، وإنى لمن طلقائه وممن يؤدّى إليه الخراج، ورسله الطير والرياح، ثم بكى الغلام. فقالت الجارية: وما يبكيك؟ قال: أبكى على وحدتك فى مثل هذا الموضع الذى ليس به أنيس ولا أحد، وإن مثلك فى الدنيا عدد الشجر والمدر، وكلهم فى مقاصير الذهب والفضة والعيش الهنئ والّلذة الحسنة مع الأزواج يتعانقون ويتنّعمون، ويتوالدون أولادا مثل خلقتك وخلقتى، أرأيت إن هاجت الريح وأزعجتك من وكرك من يمسكك أن تقعى فى البحر؛ فإن وقعت فى البحر فمن ذا الذى يخرجك. قال: ففزعت من قوله وقالت: وكيف لى أن يكون معى إنسىّ مثلك يحدّثنى مثل حديثك، ويحفظنى من خوف ما ذكرت. فقال لها الغلام: أولا تعلمين أن الله الذى اتخذ سليمان نبيّا وسخّر له الطير والرياح هو الذى رحمك وساقنى إليك إلفا وصاحبا وأنيسا، وأنى من أبناء الملوك. قالت الجارية: وكيف تصير إلىّ وأصير إليك، وهذه العنقاء تنام وتحضننى إلى صدرها بين جناحيها؟ قال الغلام: تكثرين جزعك ووحشتك وبكاءك على العنقاء ليلتك هذه إذا انصرفت إليك، فإذا قالت لك: ما تخشين وما شأنك، فأخبريها بحديثك، ثم انظرى إلى ما يكون ردّها عليك فتخبرينى به. فراحت العنقاء فوجدتها حزينة كئيبة. فقالت لها: يا بنيّة، ما شأنك؟ قالت: الوحدة والوحشة، وإنى لجزعة على نفسى لذلك. فقالت لها: يا بنيّة لا تخافى ولا تحزنى، فإنى أستأذن سليمان أن آتيه يوما وأتخلّف عنه يوما. فلمّا أصبحت أخبرت الغلام بجوابها. فقال لها: لا تريدى هذا، ولكن سأنحر من دوابّى هذه فرسا وأبقر بطنه وأخرج ما فى جوفه وأقيّره وأطيّنه وأدخل أنا فى جوفه، وألقيه على قرقور «1» سفينتى هذه، فإذا جاءتك العنقاء فقولى لها: إنى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 89 أرى عجبا، خلقة ملقاة على هذه السفينة، فلو اختطفتيها وحملتيها إلى وكرى هذا، فأنظر وأستأنس بها، كان أحبّ إلىّ من كينونتك عندى نهارا وإمساكك عنى خبر سليمان. فرجعت العنقاء فوجدتها فى مثل حالها، وشغل سليمان عنها، فلم تصل إليه فى استئذانها إيّاه بالمقام يوما فى منزلها. فقالت لها: إن نبىّ الله شغل عنى اليوم بالحكم بين الآدميين فلم أصل اليه. قالت لها: فإنّى لا أريد أن تتخلّفى عنه نهارا لمكان أخبار سليمان، وإنى أرى فى البحر عجبا، شيئا مرتفعا ما هو؟ قالت العنقاء: هذه سفينة قوم سيّارة ركبوا البحر. قالت: فما هذا الذى أرى ملقى على رأس هذه السفينة؟ قالت: كأنه ميتة رموها. قالت: فاحمليها إلىّ لأستأنس بها وأنظر إليها. فانقضّت العنقاء فاختطفت الفرس والغلام فى بطنها فحملتها إلى عشّها. فقالت: يا أمّاه، ما أحسن هذا! وضحكت، ففرحت العنقاء بذلك وقالت: يا بنيّة، لو علمت لقد كنت آتيك بمثل هذا منذ حين. ثم طارت العنقاء إلى نوبتها إلى سليمان، وخرج الغلام من جوف الفرس فلاعبها ومسّها ولا مسها وافتضّها فأحبلها، وفرح كل واحد منهما بصاحبه واستأنس به. وجاء الخبر إلى سليمان باجتماعهما من قبل الريح، ووافت العنقاء، وكان مجلس سليمان يومئذ مجلس الطير؛ فدعا بعرفاء الطير وأمرهم ألّا يدعوا طائرا إلا حشروه، ففعلوا؛ ثم أمر عرفاء الجنّ فحشروا الجنّ من ساكنى البحار والجزائر والهواء والفلوات والأمصار، ففعلوا وحشروهم، وأحضروا الإنس وكل دابّة، واشتدّ الخوف وقالوا: نشهد بالله أن لنبىّ الله أمرا قد أهمّه. فأوّل سهم خرج فى تقديم الطير سهم الحدأة، وكانت الطير لا تتقدّم إلا بسهام، فتقدّمت الحدأة واستعدت على زوجها، وكان قد جحدها ولدها، فقالت: يا نبىّ الله، إنه سفدنى، حتى احتضنت بيضى وأخرجت ولدى جحدنى. فأمر سليمان بولدها فأتى به، فوجد الشبه واحدا، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 90 فألحقه بالذكر وقال لها: لا تمكّنيه من السّفاد أبدا حتى تشهدى على ذلك الطير لكيلا يجحدك بعدها أبدا. فإذا سفدها ذكرها صاحت وقالت: يا طيور «1» سفدنى اشهدى، يا معشر الطير اشهدى. ثم خرج سهم العنقاء فتقدّمت، فقال لها سليمان: ما قولك فى القدر؟ قالت: يا نبىّ الله، إن لى من القوّة والاستطاعة ما أدفع الشر وآتى الخير. قال لها: وأين شرطك الذى بينى وبينك أنك تفرّقين بقوّتك واستطاعتك بين الجارية والغلام؟ قالت: قد فعلت. قال سليمان: الله أكبر! فأتينى بها الساعة والخلق شهود لأعلم تصديق ذلك، وأمر عريف الطير الّا يفارقها حتى يوافى بها. فمرّت العنقاء، وكانت الجارية اذا قربت منها العنقاء تسمع حفيف أجنحتها، فيبادر الغلام فيدخل جوف فرسه، فقالت كالفزعة: إن لك لشأنا إذ رجعت نهارا. قالت: لعمرى إن لى لشأنا، إن سليمان قد أمرنى بإحضارك الساعة لأمر جرى بينى وبينه فى أمرك، فأنا أرجو نصرتى اليوم فيك. قالت: فكيف تحملينى؟ قالت: على ظهرى. قالت: وهل أستقرّ على ظهرك وأنا أرى أهوال البحر فلا آمن أن أزلّ وأسقط فأهلك! قالت: ففى منقارى. قالت: وهل أصبر فى منقارك! قالت: فكيف أصنع؟ لابدّ من إحضارك إلى سليمان، وهذا عريف الطير معى، وقد دعا بكفيلى البومة. قالت: أدخل جوف هذا الفرس، ثم تحملين الفرس على ظهرك أو فى منقارك، فلا أرى شيئا ولا أسقط ولا أفزع. قالت: أصبت. فدخلت فى جوف الفرس واجتمعت مع الغلام، وحملت العنقاء الفرس بما فيه فى منقارها، وطارت حتى وقعت بين يدى سليمان، فقالت: يا نبىّ الله، هى الآن فى جوف الفرس، فأين الغلام! فتبسّم سليمان- عليه السلام- طويلا وقال لها: أتؤمنين الجزء: 14 ¦ الصفحة: 91 بقدر الله تعالى وقضائه! إنه لا حيلة لأحد «1» فى دفع قضاء الله تعالى وقدره وعلمه السابق الكائن من خير وشرّ. قالت العنقاء: أومن بالله وأقول: إن المشيئة للعباد والقوّة، فمن شاء فليعمل خيرا ومن شاء فليعمل شرّا. قال سليمان: كذبت ما جعل الله من المشيئة إلى العباد شيئا، ولكن من شاء الله أن يكون سعيدا كان سعيدا، ومن شاء أن يكون كافرا كان كافرا، فلا يقدر أحد أن يدفع قضاء الله وقدره بحيلة ولا بفعل ولا بعلم، وإن الغلام الذى قد ولد بالمغرب والجارية التى ولدت بالمشرق قد اجتمعا الآن فى مكان واحد على سفاح، وقد حملت منه الجارية ولدا. قالت العنقاء: لا تقل يا نبىّ الله هذا، فإن الجارية معى فى جوف فرسى هذا. قال سليمان: الله أكبر! أين البومة المتكفّلة بالعنقاء؟ قالت: هأنا. قال سليمان: على مثل قول العنقاء أنت؟ قالت نعم. قال سليمان: يا قدر الله السابق قبل الخلق أخرجهما على قضاء الله وقدره. قال: فأخرجهما جميعا من جوف الفرس. فأما العنقاء فتاهت وفزعت فطارت فى السماء وأخذت نحو المغرب، واختفت فى بحر من بحار المغرب وآمنت بالقدر وحلفت لا ينظر «2» الطير فى وجهها أبدا استحياء منها. وأمّا البومة فلزمت الآجام والجبال وقالت: أمّا بالنهار فلا خروج ولا سبيل إلى المعاش. فهى إذا خرجت نهارا وبّختها الطير واجتمعت عليها وقالت لها: يا قدريّة، فهى تخضع لهذا. هذا ما كان من شأن العنقاء فى القضاء والقدر. فلنرجع إلى أخبار سليمان عليه السلام. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 92 ذكر خبر خاتم سليمان عليه السلام قال الكسائىّ: وأوحى الله تعالى إلى جبريل- عليه السلام- أنه قد سبق فى علمى أنى أملّك سليمان الدنيا، ليعلم الجن والإنس أنى لم أخلق خلقا هو أفضل من ذريّة آدم؛ وأمره أن يأخذ خاتم الخلافة من الجنة ويأتيه به. فجاء جبريل إلى سليمان ومعه الخاتم وهو يضىء كالكوكب الدرّىّ، ورائحته كالمسك، وعليه كتابة «1» بغير قلم، وهى: لا إله إلا الله محمد رسول الله. فأعطاه لسليمان وقال له: هنيئا لك يا بن داود بهذه الهديّة، وكان فى يوم الجمعة لسبع وعشرين «2» خلت من المحرّم. فلما صار الخاتم فى كفّ سليمان لم يتمكن من النظر إليه حتى قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وكذلك كل من كان ينظر إليه «3» . قال وقيل: إن الخاتم أنزل من تحت العرش من نور برهان الله، وقيل لسليمان: لا تنزعه من كفّك إلا بأمانة، وجعل الله عزّه فيه، فتختمّ سليمان به وصعد على كرسيّه واستقبل الناس بوجهه ورفع اليه الخاتم وهو يلمع، وقال: هذا الخاتم جمع فيه عزّى وسلطانى وفضّلنى به ربى على العالمين، وسلّطنى على كل شيطان مريد. ثم سجد شكر الله تعالى وسجد معه الناس. ثم نزل عليه بعد نزول الخاتم: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* فكان لا يقرؤها على شىء إلا خضع وذلّ، فتلاها على بنى إسرائيل فلم يسمعها أحد إلا امتلأ فرحا. ثم أمر بعد ذلك باتخاذ البيض والسيوف، فكان عنده اثنا عشر ألف درع من نسج داود. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 93 وقيل: إن داود لم يعمل أكثر من سبع أدرع، ثم قال سليمان: يا بنى إسرائيل، إنى أمرت بمجاهدة أعداء الله؛ ثم جمع الخيول «1» وشرع فى الاستعداد للحرب. ذكر خبر حشر الجن لسليمان بن داود عليهما السلام قال الكسائىّ: وأمر الله- عز وجل- جبريل- عليه السلام- أن يحشر الجنّ، فنشر جناحه الأيمن على شرق الأرض، والأيسر على غربها، ونادى: أيتها الجنّ والشياطين، أجيبوا سليمان بن داود بإذن الله، فخرجت من سائر الأماكن وهى تقول: لبّيك لبّيك يا حجة الله. فحشرها الى سليمان طائعة ذليلة تسوقها الملائكة، وهى يومئذ أربعمائة وعشرون فرقة، كل فرقة تدين بدين غير دين الأخرى، فوقفت بأجمعها بين يدى سليمان، فنظر الى عجائب صورها وسجد لله شكرا؛ ثم قام على قدميه والخاتم فى إصبعه، فلما نظرت إليه الجنّ خرّت ساجدة ثم رفعت رءوسها وقالت: يابن داود، قد حشرنا إليك وأمرّنا بالطاعة لك، فختم على أكتافهم بخاتمه وجنّدهم وصفّد مردتهم بالحديد ولم يتخلّف منهم إلا صخر الجنىّ تغيّب فى جزيرة، وسنذكر خبره إن شاء الله تعالى. قال: وبقى إبليس بغير أعوان وفرّق سليمان الشياطين فى الأعمال المختلفة. من الحديد والنحاس وقطع الصخور والأشجار وعمارة القرى والمدن والحصون، وأمرهم بعمل القدور والجفان؛ قال الله تعالى: يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ «2» . قيل: كان يأكل من كل جفنة ألف إنسان. وشغل الجزء: 14 ¦ الصفحة: 94 طائفة منهم بغوص البحار واستخراج الأصداف والجواهر منها، وأمر بعضهم بحفر الآبار وشقّ الأنهار والقنوات، وبعضهم بإخراج الكنوز والمعادن، وغير ذلك من الأعمال. ثم حشر له بعد ذلك الهوامّ من الحيّات والعقارب وغيرها من الحشرات وسخّرت له. فسأل كلا منها عن اسمها [وضرّها ونفعها «1» ] ومأكلها ومشربها ومسكنها ومقدار أعمارها وعادتها وغير ذلك من أحوالها، فأخبرته، ثم صرفهم وأمرهم ونهاهم. والله أعلم. ذكر خبر مطابخه عليه السلام قال الكسائىّ: وأمر سليمان أن تصنع الأطعمة للخلق الذين معه، حتى كان طبّاخوه ينادون فى عسكره: من أراد طعاما فليأت حتى نصنعه له كما يريد، فإن سليمان نصبنا لذلك. وكانت موائده منصوبة، كل مائدة طول ميل وأطول، ومعه عدّة من الطبّاخين، مع كل طباخ شيطان يعينه، ورتب فى كل مخبز ألف خباز، وفى كل مطبخ ألف طباخ. قال ويقال: إنه كان يذبح فى مطبخه فى كل يوم من الإبل والبقر والغنم زيادة على ثلاثين ألف رأس، ويستعمل فى مطابخه كل يوم كذا وكذا كرّا من الملح، وكانت موائده منصوبة لعامّة الناس فقيرهم وغنيّهم؛ وكان يلقى للطير فى كل يوم من الحبوب سبعون ألف كرّ- والكر عشرة أجربة، والجريب ثلاثون قفيزا «2» - وكانت تظل البلاد بأجنحتها. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 95 ذكر خبر الرزق الذى سأل سليمان الله تعالى أن يجريه على يديه قال الكسائىّ: ولمّا نظر سليمان- عليه السلام- إلى عظم ما آتاه الله- عز وجل- من الملك، سأل الله تعالى أن يجعل أرزاق المخلوقات على يديه. فأوحى الله تعالى إليه: إنك لا تطيق ذلك. قال: يا رب فيوما واحدا؛ فأوحى الله إليه: إنك لا تطيق ذلك. قال: يا رب فساعة واحدة؛ فأوحى الله إليه: إنى قد أعطيتك ذلك، فاستعدّ الآن لأرزاق خلقى واجمع لهم. فأخذ فى الأستعداد حتى جمع ما ينيف على حمل مائة ألف بغل وبعير، وسار يريد ساحل البحر، حتى أتاه ووضع ما جمعه هناك، ونادى مناديه فى سكّان البحر احضروا لقبض أرزاقكم. فاجتمع الحيتان والضفادع ودوابّ البحر على صور مختلفة، وإذا بحوت قد أخرج رأسه وقال: اشبعنى يابن داود، وهو على مثال الجبل. فقال سليمان: دونك الطعام، فأكل جميع ذلك، ثم قال: زدنى يا نبىّ الله، والله ما أصابنى الجوع منذ خلقنى ربى كما أصابنى اليوم حين جعل رزقى على يديك. فعجب سليمان منه وقال: هل فى البحر مثلك؟ فقال: إنى لفى زمرة من الحيتان فيها سبعون ألف زمرة، كل زمرة مثل عدد الرمل؛ وفى البحر حيتان لو دخلت أنا فى جوف أحدها ما كنت إلا كخردلة فى أرض فلاة. فبكى سليمان عند ذلك وقال: رب أقلنى عثرتى. فأقاله الله تعالى، ثم أوحى إليه: أن قف يابن داود حتى ترى جنودى، فإنّ ما رأيت قليل. فوقف وإذا بالبحر قد اضطرب اضطرابا عظيما وخرج منه شىء أعظم من الجبل يشقّ البحر شقّا وهو يقول: سبحان من تكفّل بأرزاق العباد، ثم نادى: يآبن داود، لولا اليد الباسطة عليك لكنت أضعف الخلائق، وإنك لم تقدر أن تشبع حوتا واحدا ولا نال كلّ طعمه، فكيف تقدر أن تتكفّل بأرزاق الخلائق!. ثم مرّ ذلك الحوت، فنظر سليمان إلى خلق عظيم، وقال: إلهى، هل خلقت خلقا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 96 أكبر من هذا؟ فأوحى الله تعالى إليه: إنّ فى البحر من يحتاج أن يأكل سبعين ألفا مثل هذا ولا يشبعه، ولا يشبعه إلا نعمتى ولطفى. فعلم سليمان أنّ الذى أعطيه ليس بشىء فى قدرة الله عز وجل. والله الواسع المتفضّل. ذكر خبر بناء بيت المقدس وابتداء أمره قال أبو إسحاق الثعلبىّ- رحمه الله تعالى- فى سبب بناء بيت المقدس: إن الله تعالى بارك فى نسل إبراهيم- عليه السلام- حتى جعلهم فى الكثرة غاية لا يحصون. فلما كان زمن داود- عليه السلام- لبث فيهم مدّة مديدة بأرض فلسطين وهم يزدادون كلّ يوم كثرة، فأعجب داود بكثرتهم فأراد أن يعلم عدد بنى إسرائيل فأمر بعدهم، وبعث لذلك عرفاء ونقباء، وأمرهم أن يرفعوا إليه ما بلغ من عدّتهم، فكانوا يعدّون زمانا من الدهر حتى عجزوا وأيسوا أن يحيط علمهم بعدد بنى إسرائيل. فأوحى الله تعالى إلى داود: إنى وعدت أباك إبراهيم يوم أمرته بذبح ابنه فصدّقنى واتمر بأمرى أن أبارك له فى ذرّيته حتى يصيروا أكثر من عدد نجوم السماء، حتى لا يحصيهم العادّون. وإنى قد أقسمت أن أبتليهم ببليّة يقل منها عددهم، ويذهب عنك إعجابك بكثرتهم. وخيره بين أن يبتليهم بالجوع والقحط ثلاث سنين، وبين أن يسلّط عليهم عدوهم ثلاثة أشهر، وبين أن يسلّط عليهم الطاعون ثلاثة أيام. فجمع داود بنى إسرائيل وأخبرهم بما أوحى الله تعالى إليه وخيّره فيه. فقالوا: أنت أعلم بما هو أيسر لنا، وأنت نبيّنا فانظر لنا غير الجوع فلا صبر لنا عليه، وتسليط العدوّ أمر فاضح. فإن كان ولا بدّ فالموت، لأنه بيده لا بيد غيره. فأمرهم داود أن يتجهّزوا للموت، فاغتسلوا وتحنّطوا ولبسوا الأكفان وبرزوا إلى صعيد بيت المقدس قبل بناء المسجد بالذارىّ والأهلين، وأمرهم داود أن الجزء: 14 ¦ الصفحة: 97 يضجّوا إلى الله تعالى وأن يتضرّعوا إليه لعله أن يرحمهم. فأرسل الله عليهم الطاعون فأهلك منهم فى يوم وليلة ألوف كثيرة لا يدرى عددهم، ولم يفرغوا من دفنهم إلا بعد مدّة شهرين. فلما أصبحوا فى اليوم الثانى خرّ داود ساجدا يبتهل إلى الله تعالى، فاستجاب الله تعالى منه وكشف عنهم الطاعون ورفع عنهم الموت. ورأى داود الملائكة سالّين سيوفهم فأغمدوها وهم يرقون فى سلّم من ذهب من الصخرة إلى السماء. فقال داود لبنى إسرائيل: إن الله قد منّ عليكم ورحمكم فجدّدوا له شكرا. قالوا: وكيف تأمرنا؟ قال: آمركم أن تتّخذوا من هذا الصعيد الذى رحمكم الله فيه مسجدا لا يزال فيه منكم وممن بعدكم ذكر الله تعالى. فأخذ داود فى بنائه. فلمّا أرادوا أن يبتدئوا البناء جاء رجل صالح فقير يختبرهم ليعلم كيف إخلاصهم فى بنيانهم، فقال لبنى إسرائيل: إنّ لى فيه موضعا أنا محتاج إليه، فلا يحلّ لكم أن تحجبونى عن حقى. قالوا له: يا هذا، ما من أحد من بنى إسرائيل إلا وله فى هذا الصعيد حقّ مثل حقّك، فلا تكن أبخل الناس ولا تضايقنا فيه. فقال: أنا أعرف حقى وأنتم لا تعرفون حقكم. قالوا له: إمّا أن ترضى وتطيب نفسا وإلا أخذناه كرها. قال لهم: أو تجدون ذلك فى حكم الله تعالى وحكم داود؟! قال: فرفعوا خبره إلى داود فقال: أرضوه. فقالوا: نعم نأخذه منه يا نبىّ الله بثمنه. قال: خذوه بمائة شاة. فقال الرجل: زدنى يا نبىّ الله؛ فقال: بمائة بقرة. قال: زدنى يا نبىّ الله؛ قال فبمائة بعير. قال: زدنى يا نبىّ الله، فإنما تشتريه لله تعالى. فقال داود: أمّا إذ قلت هذا فاحتكم أعطك. قال: تشتريه منى بحائط مثله زيتونا ونخلا وعنبا؟ قال نعم. قال: أنت تشتريه لله تعالى فلا تبخل. قال: سل ما شئت أعطك، وإن شئت أؤجرك نفسى. قال: أو تفعل ذلك يا نبىّ الله؟ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 98 قال: نعم إذا شئت. قال: أنت أكرم على الله تعالى من ذلك، ولكن تبنى حوله جدارا ثم تملؤه ذهبا وإن شئت ورقا. قال داود: هو هيّن. فآلتفت الرجل إلى بنى إسرائيل وقال: هذا هو التائب والمخلص. ثم قال لداود: لأن يغفر الله تعالى لى ذنبا واحدا أحبّ إلىّ من كل ما وهبت لى، ولكن كنت أختبركم. فأخذوا فى بناء بيت المقدس، وذلك فيما قيل لإحدى عشرة سنة مضت من خلافة داود. وكان داود ينقل لهم الحجارة على عاتقه، وكذلك خيار «1» بنى إسرائيل حتى رفعوه قامة. فأوحى الله تعالى إليه: إن هذا بيت مقدّس، وأنت سفّاك للدماء، ولست بانيه، ولكن ابن لك أملّكه بعدك اسمه سليمان أسلّمه من سفك الدماء وأقضى إتمامه على يديه ويكون له صيته وذكره. قال: فصلّوا فيه زمانا إلى أن توفّى الله نبيّه داود واستخلف سليمان وأمره بإتمام بناء بيت المقدس. فجمع سليمان الإنس والجنّ والشياطين وقسم عليهم الأعمال، فخصّ كلّ طائفة منهم بعمل، فأرسل الجن والشياطين فى تحصيل الرّخام والمها «2» الأبيض الصافى من معادنه؛ وأمر ببناء المدينة بالرّخام والصّفّاح، وجعلها اثنى عشر ربضا «3» ، وأنزل كلّ ربض منها سبطا من الأسباط. فلمّا فرغ من المدينة ابتدأ فى بناء المسجد، فوجه الشياطين فرقا، فريقا منهم يستخرجون الذهب والفضّة من معادنها، وفريقا يغوصون فى البحر ويستخرجون أنواع الدّرّ ويقلعون الجواهر والحجارة من أماكنها، وفريقا يأتونه بالمسك والعنبر وسائر أنواع الطيّب من أماكنها؛ فأتى من ذلك بشىء لا يحصيه إلا الله تعالى. ثم أحضر الصّنّاع الجزء: 14 ¦ الصفحة: 99 وأمرهم بنحت تلك الحجارة وتنضيدها ألواحا، وإصلاح تلك الجواهر وتثقيبها؛ فكانوا يعالجونها فتصوّت صوتا شديدا لصلابتها. فكره سليمان تلك الأصوات، فدعا الجنّ فقال لهم: هل لكم حيلة فى نحت هذه الجواهر من غير تصويت؟ فقالوا: يا نبىّ الله، ليس فى الجنّ أكثر تجارب ولا أكثر علما من صخر. فاستدعاه. وكان من أمره فى حضوره إليه والتلطف فى تحصيل حجر السامور ما نذكره- إن شاء الله تعالى- فى أخبار صخر. قالوا: فلمّا أتى بحجر السامور، وهو حجر الماس، استعمله فى أدوات الصّنّاع. فسهّل عليهم نحت الحجارة. قالوا: فبنى سليمان المسجد بالرّخام الأبيض والأصفر والأخضر، وعمّده بأساطين المها الصافى، وفصّصه بألواح الجواهر الثمينة، وفصص سقوفه وحيطانه باللآلىء واليواقيت وسائر الجواهر، وبسط أرضه بألواح الفيروزج، فلم يكن يومئذ بيت فى الأرض أبهى ولا أنور من ذلك المسجد؛ وكان يضىء فى الظلمة كالقمر ليلة البدر. قالوا: فلما فرغ من بنائه جمع أحبار بنى إسرائيل فأعلمهم أنه بناه لله تعالى، وأنّ كلّ شىء فيه خالص لله تعالى. واتخذ ذلك اليوم عيدا، فلم يتخذ فى الأرض قطّ أعظم منه ولا من الأطعمة التى عملت فيه. قيل: إنه ذبح من الخراف خمسين ألفا، ومن البقر خمسة وعشرين ألفا معلوفة، ومن الغنم أربعمائة ألف شاة. قالوا: ومن أعاجيب ما اتّخذ سليمان ببيت المقدس أنه بنى بيتا وطيّن حيطانه بالخضرة وصقله؛ فكان إذا دخله الورع البارّ استبان خياله فى ذلك الحائط أبيض؛ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 100 وإذا دخله الفاجر استبان خياله فى الحائط أسود. فارتدع عند ذلك كثير من الناس عن الفجور والخيانة. ونصب فى زاوية من زوايا المسجد عصا آبنوس، فكان من مسّها من أولاد الأنبياء لم تضرّه، ومن مسّها من غيرهم احترقت يده. قالوا: ولمّا فرغ من بناء بيت المقدس قرّب قربانا على الصخرة، ثم قال: اللهمّ أنت وهبت لى هذا الملك منّا منك على، وجعلتنى خليفتك فى أرضك، وأكرمتنى به من قبل أن أكون شيئا، فلك الحمد. اللهمّ إنى أسألك لمن دخل هذا المسجد خصالا: ألّا يدخله أحد فيصلّى فيه ركعتين مخلصا فيهما إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه، ولا يدخله مستتيب إلا تبت عليه، ولا خائف إلا أمّنته، ولا سقيم إلا شفيته، ولا مجدب إلا أخصبته وأغنيته. وإذا أجبت دعوتى فاجعل علامتها أن تقبل قربانى. قال: فنزلت نار من السماء فسدّت ما بين الخافقين ثم امتدّ منها عنق فاحتمل القربان وصعد به الى السماء. وقال سعيد بن المسيّب: لمّا فرغ سليمان بن بناء بيت المقدس تغلّقت أبوابه، فعاجلها سليمان فلم تنفتح حتى قال فى دعائه: بصلوات أبى داود إلا ما فتحت الأبواب، ففتحت. ففرّغ له سليمان- عليه السلام- عشرة آلاف من قرّاء بنى إسرائيل، خمسة آلاف بالليل، وخمسة آلاف بالنهار، فلا تأتى ساعة من ليل أو نهار إلا والله عز وجل يعبد فيها فيه. وحكى الكسائىّ فى خبر بناء بيت المقدس قال: فأوحى الله تعالى إلى سليمان- عليه السلام- أن تبنى بيت المقدس وترفع قواعده كما رفع إبراهيم قواعد البيت العنيق، وأن تبنيه على صخرة المعراج. فأمر سليمان الجانّ أن تقطع الصخور. وتنقل الرّخام والأحجار والعمد وآلات العمارة إليه؛ ثم أمر بالبناء على الأساس الجزء: 14 ¦ الصفحة: 101 الذى كان داود وضعه. فلما كمل البناء انهار وانهدم؛ فأمر أن يحفر أساسه حتى يبلغ الماء، وعقد البناء بالحجارة المنحوتة بعضها على بعض، فغلب الماء على البناء فما انعقد الأساس. فأمر أن تصنع قلال النحاس والرّصاص، وختمها بخاتمه، وجعلها تحت الأساس. ثم أمر بالبناء فوقها فبنيت وارتفع البناء، وعمل فيه عشرة الاف عمود من الرّخام الملوّن، يلى كلّ عمود سارية من الذهب، وسارية من الفضة؛ ومحاريب الذهب والفضة، وكمل البناء والزخرفة فى أربعين يوما. قال: وكان يعمل فيه فى كل يوم ألف عفريت من الجنّ وألف شيطان وألف من الإنس. وفرغ منه يوم عرفة، واتخذ له قناديل من الذهب بسلاسل الفضّة. قال الثعلبىّ: فكان بيت المقدس على ما بناه سليمان إلى أن غزاه بختنصّر، فخرّب المدينة وهدمها، ونقض المسجد، وأخذ ما كان فى سقوفه وحيطانه من الذهب والفضة والدرّ والياقوت وسائر الجواهر، فحمل ذلك معه إلى دار مملكته من أرض العراق. قال: ثم لم يزل خرابا إلى أن بنى فى الإسلام. قال الكسائىّ: ثم أمر الله سليمان بجهاد العدوّ، فرغب فى جمع الخيل، فأهديت إليه من جهة ملوك الأطراف الخيول المسوّمة؛ فاجتمع له ما ينيف عن سبعين ألف فرس بسروج الذهب والفضة بأجلّة الديباج. وسار صوب بلاد الشأم. وكان إذا خرج للغزو لا يستصحب شيطانا ولا جنّيّا بل العبّاد من بنى إسرائيل. والله المعين. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 102 ذكر خبر وادى النمل وما قيل فيه قال: ولمّا سار سليمان لقصد الغزو مرّ فى طريقه بوادى النمل. قال الكسائىّ: إنه مرّ بوادى السدير «1» (واد من الطائف) فأتى وادى النمل «2» . قال الكسائىّ: فنظر إليهم وإذا هم يزيدون على مائة ألف كردوس مثل السحاب «3» ، وهم زرق العيون، ولهم أيد وأرجل. فقال سليمان: إنى أرى سحابة فى الأرض لا أعلم ما هى. فحملت إليه الريح قول النملة كما أخبر الله تعالى عنها: حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ* فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها «4» . قال: ونزل الناس معه، فقال: أتدرون ما هذا السواد؟ هذه أمّة من الأمم يقال لها النمل، وأخبرهم بقول النملة، وسجد وسجدوا شكرا لله تعالى. ودخلت النمل مساكنها زمرة بعد زمرة، والنملة تناديهم: الوحا الوحا «5» فقد وافتكم الخيل. فصاح بها سليمان وأراها الخاتم فجاءته خاضعة، فوقفت بين يديه وهى أكبر من الذئب، فسجدت بين يديه ثم قالت: يا نبىّ الله، ما سجدت قبلك إلا لأبيك إبراهيم، وهأنا بين يديك مرنى بأمرك. فقال: ما الذى تكلّمت به قبل وصولى إليك؟ قالت: يا نبىّ الله، إنى رأيتك فى موكبك وعسكرك، فناديت النمل أن يدخلوا مساكنهم لئلّا يحطمهم جندك، وأنا كمثل غيرى من الملوك أريد الإصلاح لقومى. فقال لها: كم عددكم؟ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 103 وما تأكلون وما تشربون؟ قالت: يا نبىّ الله، لو أمرت الجنّ والشياطين أن يحشرونا إليك لعجزوا، وليس على وجه الأرض واد ولا جبل ولا غابة إلا وفى أكنافها مثل سلطانك كراديس من النمل. ولو تفرّق كردوس واحد فى الأرض لما وسعته. ولقد خلقنا قبل أبيك آدم، وإنا لنأكل رزق ربنا ونشكره. فأمرها أن تعرض النمل عليه. فنادتهم، فمرّوا به زمرة بعد زمرة، وسلّموا عليه بلغاتهم وهو ينظر إليهم. فقالت: ملكة النمل: يا نبىّ الله، منّا ما يأوى الجبال، ومنّا ما يأوى قرب المياه والأشجار والزرع، وفى الهواء وهى الطيّارة، فإذا نبتت أجنحتها هلكت واختطفتها الطير. والنملة لا تموت حتى يخرج من ظهرها كراديس من النمل. وليس على ظهر الأرض أحرص من النملة؛ وإنها لتجمع فى صيفها ما يملأ بيتها وهى مع ذلك تظن أنها لا تشبع. وتسبيحها تسأل ربّها أن يوسّع الرزق على خلقه. قال الثعلبىّ قال الضحّاك: اسم النملة [التى كلمت سليمان «1» ] «طاحية «2» » وقيل: «حرمى «3» » . والله أعلم. ذكر خبر البعوض وما قيل فيه قال الكسائىّ: ولمّا نظر سليمان إلى كثرة النمل قال: إلهى هل خلقت أكثر من النمل؟ فأوحى الله إليه: نعم وسترى ذلك. ثم أمر الله تعالى ملك البعوض أن يحشرها لسليمان، فحشرها من شرق الأرض وغربها. فأقبلت كراديس البعوض الجزء: 14 ¦ الصفحة: 104 كالسّحاب يتبع بعضها بعضا حتى وقف منهم كردوس على سليمان، وأقبل ملكهم وقال: يا نبىّ الله، مالك وللضّعفاء من خلق ربّك ألهيتهم عن التسبيح!. يابن داود، إنّا فى هذه الأرض قبل أبيك آدم بألفى عام ما عرضنا على آدمىّ غيرك، نأكل من رزق ربنا، ولا نفتر عن ذكره صباحا ولا مساء. قال: أخبرونى كم أنتم؟ وأين مأواكم؟ ومن أين تزرقون؟ قال ملكهم: يا نبىّ الله، تحت يدى سبعون سحابة، كلّ سحابة تملا المشرق والمغرب، لكلّ زمرة موضع معلوم، تأكل كل واحدة رزقها، ولولا خوف المعاد لأكلنا ما فى الدنيا. ثم سجدوا وانصرفوا. وكان سليمان إذا أراد أن يدرك قوما بعث إليهم البعوض فيأكل جميع ما فى مدينتهم. ذكر خبر الخيل وما قيل فيها قال الله تعالى: إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ* فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ «1» . قال أبو الحسن علىّ بن ابراهيم الحوفى «2» فى «كتاب البرهان فى علوم القرآن» فى تفسيره هذه الآية: الصافن من الخيل الذى يجمع بين يديه. وقال الفرّاء: الصافن هو القائم. وقال مجاهد: صفون الفرس إذا رفع إحدى رجليه حتى يكون على طرف الحافر. قال ابن زياد: الخيل أخرجها الشيطان لسليمان من مرج من مروج البحر. والصّفن أن يقوم الفرس على ثلاث ويرفع رجلا واحدة، يكون طرف الحافر على الأرض. قال: وكانت لها أجنحة. قال: والجياد السّراع. وذكر أنها كانت عشرين فرسا ذوات أجنحة. قال وقوله: «إنى أحببت الجزء: 14 ¦ الصفحة: 105 حبّ الخير عن ذكر ربّى حتى توارت بالحجاب» إنه لها عن الصلاة حتى فاتته. قال قتادة والسّدىّ: الخير: الخيل. وروى عن علىّ- رضى الله عنه- أنه سئل عن الصلاة الوسطى فقال: هى العصر، وهى التى فتن بها سليمان. «حتّى توارت بالحجاب» ، يعنى الشمس حتى تغيب فى مغيبها. وقوله: «ردّوها علىّ» أى الخيل التى عرضت علىّ فشغلتنى عن الصلاة. «فطفق مسحا بالسوق والأعناق» ، أى جعل يمسح فيها السّوق وهو جمع ساق. قال بعضهم: عقرها وضرب أعناقها؛ قاله قتادة والحسن والسّدّىّ. وقال ابن عباس- رضى الله عنهما-: جعل يمسح أعرافها وعراقيبها بيده حبّا لها. وقيل: كشف عن عراقيبها وضرب أعناقها وقال: لا تشغلينى عن عبادة ربّى مرّة أخرى. قال أبو إسحاق: يجوز أن يكون الله أباح له ذلك لأنه لا يجعل التوبة من الذنب بذنب أعظم منه. والله أعلم. وقال الثعلبىّ- رحمه الله- فى قصّة الخيل قال الكلبىّ: غزا سليمان أهل نصيبين، فأصاب منهم ألف فرس. وقال مقاتل: ورث سليمان من أبيه داود ألف فرس، كان داود أصابها من العمالقة. قالوا: فصلّى سليمان الصلاة الأولى وقعد على كرسيّه، فعرض عليه منها تسعمائة «1» فرس؛ فتنبّه لصلاة العصر، فإذا الشمس قد غابت وفاتته الصلاة ولم يعلم بذلك؛ فاغتمّ وقال: ردّوها علىّ، فردّت عليه، فعرقبها بالسيف، وقرّبها إلى الله- عز وجل- وبقى منها مائة فرس. فما فى أيدى الناس من الخيل العراب فهى من نسل تلك المائة. وقال كعب: كانت الأفراس أربعة عشر فرسا، فأمر بضرب أعناقها وسوقها بالسيف وقتلها؛ فسلبه الله ملكه أربعة عشر يوما؛ لأنه ظلم الجزء: 14 ¦ الصفحة: 106 الخيل بقتلها. قال الثعلبىّ وقال قوم: «فطفق مسحا بالسّوق والأعناق» حبسها فى سبيل الله وكوى سوقها وأعناقها بميسم «1» الصّدقة. وروى عن علىّ بن أبى طالب- رضى الله عنه- أن الله تعالى أمر الملائكة الموكّلين بالشمس فردّوها، وصلّى سليمان العصر فى وقتها. ذكر خبر بساط سليمان عليه السلام قال الكسائىّ: وكان سليمان إذا ركب الرّيح تقدّم أمام بساطه البعوض ثم الزنابير وكل ما يطير فى الهواء، ثم الشياطين. وكان إذا أراد أن يركب الريح دعا الرياح الثمانية: الشّمال والجنوب والصّبا والدّبور والصّرصر والعقيم والكرس والراكى «2» ، فيبسط بعضها على بعض، ثم يبسط بساطه على هذه الرياح، وكان من السندس الأخضر، أخضر البطن أحمر الظهر، أهداه الله تعالى إليه من الجنة، لا يعلم طوله وعرضه إلا الله تعالى. وقيل: كان طوله ثلاثمائة وسبعين فرسخا فى عرض عشرة آلاف ذراع. وكان سليمان إذا ركبه جعل الّلون الأخضر مما يلى الأرض، فإذا رفع الناس رءوسهم اليه يرونه على لون السماء. وكان يجلس على كرسيّه وعن يمينه ويساره القضاة والعلماء والأحبار من بنى إسرائيل على كراسىّ معدّة لهم، وهو جالس فى وسط البساط وزمام الريح بيده، ويتغدّى على مسيرة شهر ويتعشى على مسيرة شهر؛ قال الله تعالى: غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ «3» . قال: وكان سليمان إذا ركب الرياح على بساطه يرى كل شىء عليه من الجنّ والإنس والشياطين والهوامّ وغيرهم، والطير تظلّه، ولا يقف على مدينة إلا فتحها. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 107 ذكر خبر صخر الجنى قال: وجمع سليمان- عليه السلام- عفاريت الجنّ والشياطين وأمرهم بإحضار صخر الجنىّ، فقالوا: يا نبىّ الله، إنّ الله قد أعطاه قوّة جماعة منّا؛ ويصعب علينا حمله إليك، وما لنا إلا أمر واحد وهو أنه يأتى فى كل شهر الى عين فى جزيرة فيشرب ماءها. والرأى أن ننزفه منها ونملأها خمرا، فإذا جاء وشربه وسكر ذهبت قوّته فنحمله ونأتيك به. ثم خرجوا ففعلوا ذلك، واختفوا فى تلك الجزيرة. فجاء صخر ليشرب فاشتمّ رائحة الخمر وقال: أيتها الخمرة إنك لطيّبة غير أنك تسلبين العقل وتجعلين الحليم جاهلا، وأمرك كلّه ندامة، وانصرف ولم يشرب. ثم عاد فى اليوم الثانى وقد أجهده العطش فقال: ما من قضاء يأتى من الله إلا كان مبرما، ثم نزل على العين فشرب حتى امتلأ، ثم قام ليخرج فسقط، فتبادرت العفاريت إليه ومعهم طابع خاتم سليمان، فلما رآه ذلّ وخضع، فحملوه حتى وقفوه بين يدى سليمان وهو يخرج من فيه لهب النيران، ومن منخريه الدّخان. فلما عاين الخاتم ضعفت قوّته وخرّ ساجدا على وجهه، ثم رفع رأسه وقال: يا نبىّ الله، سيزول هذا الملك عنك ولا يبقى إلا ذكره. قال: صدقت. ثم قال له: يا نبىّ الله، ما الذى أحوجك إلىّ وأنا بالعبد منك لا أختلط بالآدميين؟ فقال له سليمان: إنّ الناس قد اشتكوا من وقع الحديد وصوته على الحجر. فقال: عليك بوكر العقاب وعشّه وبيضه، فليس شىء من الطيور أبصر منه، فأتى به. فوضعه فى البرّيّة وغطّاه بجام من القوارير شديد الصفاء فوضعه على عشّ العقاب. فجاء العقاب فلم يرعشّه، فطار فى الهواء حتى نظر إلى عشّه فى تلك البرّيّة، فانقضّ عليه وضرب الجام برجله ليكسره فلم يقدر على ذلك، فطار وتعلّق فى الهواء وغاب يومه وليلته، ثم أقبل صبيحة اليوم الثانى وفى منقاره قطعة من حجر السامور، فانقضّ على الجام بذلك الحجر الجزء: 14 ¦ الصفحة: 108 فضربه به، فانشقّ الجام نصفين ولم يسمع له صوت، وأخذ العقاب عشّه وبيضه وترك حجر السامور هناك، فأخذه صخر وهو فى صفاء المرآة وحرّ النار. فدعا سليمان بالعقاب وسأله عن حجر السامور من أين احتمله، فأخبره أنه من جبل شامخ. فبعث سليمان الجن والشياطين فحملوا منه ما قدروا، فكان يقطع به الأحجار والصخور والجزع من غير أن يسمع له وقع. قال: ثم قال صخر: يا نبىّ الله، أتحبّ أن أتّخذ لك مدينة؟ قال نعم؛ فاتخذها. فعجب سليمان من ذلك، وأمره أن يتّخذ له مدينة دون تلك المدينة حتى يحملها معه على بساطه حيثما ذهب. فقال: يا نبىّ الله، لك كلّما أردت السفر مدينة على أىّ لون شئت. فبنى له مدينة فى طول عسكره وعرضه، وجعل لكل سبط من الأسباط قصرا فى طول ألف ذراع وعرضه مثل ذلك، وفى كل قصر بيوت وغرف، ثم بنى بعد ذلك مجلسا من القوارير فى طول ألف ذراع، وعرضه مثل ذلك، يجلس فيه العلماء والقضاة. وبنى لسليمان قصرا عجيبا فى طول خمسة آلاف ذراع، وعرضه مثلها، وزخرفه بألوان القوارير ورصّعه بأنواع الجواهر، وجعل فيه جميع الصور والتماثيل وأتقن صنعته. وكان مما صنع صخر لسليمان الكرسىّ. ذكر صفة كرسىّ سليمان عليه السلام وما انتهى إليه أمره قالوا: وكان مما عمله صخر الجنىّ لسليمان- عليه السلام- الكرسىّ، وكان سليمان أمره باتخاذه ليجلس عليه للقضاء، وأمره بأن يعمله بديعا مهولا بحيث إنه إذا رآه مبطل أو شاهد زور ارتدع وتهيّب. قال: فعمل له الكرسىّ وكان من أنياب الفيلة وفصّصه بالياقوت واللؤلؤ، والزّبرجد وأنواع الجوهر، وحفّه بأربع نخلات من ذهب، شماريخها من الياقوت الجزء: 14 ¦ الصفحة: 109 الأحمر والزّبرجد الأخضر، على رأس نخلتين طاووسان من ذهب، وعلى رأس النخلتين الأخربين نسران من ذهب، بعضها يقابل بعضا، وجعل مقابل جنبى الكرسىّ أسدين من ذهب، على رأس كل أسد منهما عمود من الزّمرّد الأخضر، وعقد على النخلات أشجار كروم من الذهب، عناقيدها من الياقوت الأحمر. قالوا: وكان سليمان إذا أراد صعوده وضع قدميه على الدرجة السفلى فيستدير الكرسىّ كله بما فيه دوران الرحا المسرعة، وتنشر تلك النسور والطواويس أجنحتها، ويبسط الأسدان أيديهما ويضربان الأرض بأذنابهما، وكذلك كان يفعل فى كل درجة يصعد فيها سليمان. فإذا استوى سليمان بأعلاه أخذ النسران اللذان على النخلتين تاج سليمان فوضعاه على رأس سليمان، ثم يستدير الكرسىّ بما فيه ويدور معه النسران والطاووسان، والأسدان مائلان برءوسهما إلى سليمان، ينضحن عليه من أجوافها المسك والعنبر، ثم تناوله حمامة من ذهب جاثمة على عمود من جوهر من أعمدة الكرسىّ التوراة، فيفتحها سليمان- عليه السلام- ويقرؤها على الناس ويدعوهم إلى فصل القضاء. فإذا دعا بالبيّنات [و] تقدّمت الشهود لإقامة الشهادات دار الكرسىّ بما فيه من جميع ما حوله دوران الرحا المسرعة. قال أبو إسحاق الثعلبىّ قال معاوية لوهب بن منبّه: ما الذى كان يدير ذلك الكرسىّ؟ قال: بلبلتان «1» من ذهب. قال: فإذا دار الكرسىّ بسط الأسدان أيديهما ويضربان الأرض بأذنابهما، وينشر النسران والطاووسان أجنحتها فتفزع منها الشهود ويداخلهم الرعب الشديد، فلا يشهدون إلا بالحق. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 110 قال: فلمّا توفّى الله سليمان- عليه السلام- وجاء بختنصّر إلى بيت المقدس أخذ الكرسىّ وحمله الى أنطاكية «1» ، وأراد أن يصعد عليه ولم يكن له علم بالصعود عليه ولا معرفة بأحواله. فلما وضع قدمه على الدرجة رفع الأسد يده اليمنى فضربه ضربة شديدة دقّه ورماه، فحمل بختنصّر، فلم يزل يعرج منها ويتوجّع إلى أن مات. وبقى الكرسىّ بأنطاكية حتى غزاهم ملك من ملوك الشام يقال له كداس بن سدارس فهزم خليفة بختنصّر وردّ الكرسى الى بيت المقدس، فلم يستطع أحد من الملوك الصعود اليه. فوضع تحت الصخرة فغاب فلم يعرف له خبر ولا يدرى أين هو. والله أعلم بالصواب. ذكر خبر بلقيس وابتداء أمرها قال الكسائىّ قال كعب: هى بلقيس بنة ذى شرح «2» ، وهى متولّدة من الإنس والجنّ. وأمّها عميرة بنت ملك الجنّ. وكان لاتصال ذى شرح والد بلقيس بعميرة بنت ملك الجنّ سبب عجيب نذكره على ما حكاه الكسائىّ، قال: أهلك الله تعالى مساكن سبأ بسيل العرم، على ما نذكر ذلك فى كتابنا هذا إن شاء الله تعالى، وهو يلى أخبار ملوك قحطان، وذلك فى الباب الثانى من القسم الرابع من الفن الخامس الجزء: 14 ¦ الصفحة: 111 فى السفر الثالث عشر «1» من هذه النسخة. قال: فلما انقرضوا وأبادهم الفناء توارثها بعدهم جماعة من الملوك ليس هذا موضع ذكرهم، حتى انتهى الملك إلى رجل فظّ غليظ يقال له شراحى الحميرىّ. وكان من عادته مع قومه أنه افترض على أهل مملكته فى كل أسبوع أن يأتوه بجارية من بناتهم فيفتضّها ثم يردّها إلى أهلها. وكان ذو شرح وزيره وهو من أبناء ملوك حمير من ولد سبأ، وكان لذى شرح ألف قصر وألف فرس عتيق «2» وألف سيف يمان، وكان يرجع الى حسن وجمال وعقل، وكان مولعا بالصيد، فكانت الجنّ تتصوّر له فى صورة الظبى، فإذا صادهم وهمّ بذبحهم كلّموه وقالوا له: لا تعجل فإنّا إنما جئنا لننظر الى محاسن وجهك. وكانت الجنّ تؤذى أهل اليمن، فأقسم ذو شرح أن يقتل ملك الجنّ ويتزوّج بابنته. قال: وكان اسم ملك الجنّ عمير، وكان حسن الوجه، وابنته عميرة. فمرّ ذو شرح ذات يوم فى واد من بلاد اليمن كثير الأشجار فنزل به، حتى جنّة الليل، وكان فى جمع قليل من أصحابه، وكان الوادى الذى نزل به من مساكن الجنّ. فلما مضى بعض الليل سمع همهمة الجنّ، فقام ونادى: يا معشر الجنّ، قد نزلت بكم الليلة على أن تضيفونى فإنى جار لكم، فأسمعونى من أشعاركم. قال: فأنشدته الجنّ من أشعارها، وجاءته عميرة بنت عمير ملك الجن على أحسن صورة. فلما نظر إليها ذهل عقله من حسنها، وغابت عن عينه فشغف بحبّها فقال: يا معشر الجنّ، إن أنتم زوّجتموها منى وإلّا كنت حربا لكم ما عشت أبدا. فنادوه: يا ذا شرح، إنك آدمىّ فكيف تقاتل الجنّ ومسكنهم الهواء وظلمات الأرض! مهلا أيها الآدمىّ لا تعرّض نفسك الى ما لا تقدر عليه وارجع، فإن قدّر لك أمر فسوف تناله. فلما سمع ذلك أيس الجزء: 14 ¦ الصفحة: 112 من التزويج وأخذ فى مستأنف أمره فى مؤالفة الجنّ، فكان يهاديهم بما يصلح لهم من الهدايا، فصافاه عمير ملك الجنّ وآخاه وألفه حتى صار عنده كالأخ. فلما رأى ذلك ذو شرح وأنه قد تمكّن من ملك الجنّ قال له: هل لك أن تزوّجنى ابنتك عميرة ليكون لى فى ذلك شرف الى الممات! فرغب فيه عمير ملك الجنّ لحسنه وجماله وشرفه وماله؛ فزوّجه ابنته بحضرة سادات الجنّ. وانصرف ذو شرح الى مدينة سبأ وأهدى هدايا كثيرة الى ملك الجنّ وسادات قومه، ثم زفّت إليه فوطئها فحملت منه. ذكر خبر ميلاد بلقيس وكيف كان وسبب ملكها قال: وولدت عميرة بنت ملك الجنّ بلقيس بنت ذى شرح على أحسن ما تكون من الصّور، ثم ماتت أمها بعد ذلك بقليل، فربّتها الجنّ. فلمّا بلغت مبلغ النساء قالت لأبيها: إنّى كرهت المقام عند الجن فاحملنى الى بلاد الإنس فإنهم أحبّ إلىّ. فقال لها: إنّ للإنس ملكا ظالما وذكر لها سنّته فى بلاد قومه، وأنه يفتضّ الأبكار ثم يردّهن الى أهلهنّ. قالت: لا تخش ذلك علىّ وانقلنى، وسترى ما يكون منّى. فبنى لها قصرا خارج مدينة سبأ من أعظم ما يكون من الأبنية، واتّخذ لها عريشا من العاج والآبنوس والذهب والفضة، ونقلها الى القصر واتّخذ لها أوانى الجوهر. فأقامت بلقيس فى قصرها زمنا طويلا، وانتشر خبرها إلى ملك سبأ، فركب فى موكبه حتى وقف على باب القصر ورأى حسن بنائه، فرجع وأرسل بجارية من جواريه إلى بلقيس، فدخلت عليها ونظرت إليها وإلى ما فى قصرها من التّحف العظيمة وما عندها من جوارى الإنس والجنّ، فعادت إلى الملك وأخبرته بما هى عليه من الجمال وأنها ابنة وزيره. فأحضره وأنكر عليه وقال: كيف اتّخذت الجزء: 14 ¦ الصفحة: 113 مثل هذا القصر ولك مثل هذه البنت وأنت وزيرى ولم تعلمنى ولا استأذنتنى فى بنائه!. فقال: أيها الملك، أمّا القصر فإنى أنفقت عليه المال الذى ورثته من أبى. وأمّا البنت فإنها ابنة عميرة بنت ملك الجن، ورغبت فى السكن فى بلاد الإنس، فحملتها الى هذا المكان، فهذه قصتها. فقال: صدقت فزوّجنيها ولابدّ من ذلك. فقال: أحتاج فى ذلك إلى إذنها. قال: استأذنها. فجاء اليها وقال: يا بنيّة، قد وقعت فيما كنت أخشاه عليك، وذكر لها مقالة الملك. فقالت: زوّجنى منه ولا تخف، فإنه لا يصل إلىّ. فزوّجها منه بحضور أكابر أهل المملكة. ولمّا تمّ التزويج كتب الملك كتابا إليها يقول: إنى قد عشقت اسمك قبل أن أنظر إليك، فإذا قرأت هذه الرقعة فعجّلى بحضورك إلىّ. فكتبت إليه: إنى لمشتاقة إلى وجهك أشوق منك إلىّ، غير أن قصرى هذا هو من بناء الجن، وفيه عجائب كثيرة، وقد جمعت فيه ما لا يصلح إلا لمثلك. فإن رأيت أن تتحوّل إلى قصرى فافعل. فلما ورد جوابها عليه ركب لوقته فى حشمه وجنوده وسادات قومه. فبلغ بلقيس فقالت لأبيها: امض إلى الملك وقل له: إنّ ابنتى من بنات الجن ولم تنظر قطّ الى مثل هذه الجنود، ففرّق هؤلاء وادخل إليها منفردا. فقال ذلك للملك، ففرّق جنوده وأتى إليها بمفرده، ودخل القصر وله سبعة أبواب. وكانت بلقيس قد جعلت عند كل باب جارية من بنات الجن من أحسن ما تكون من النساء، وفى أيديهنّ أطباق الذّهب فيها الدنانير والدراهم والطّيب، وأمرتهن أن ينثرن ذلك على الملك. فلمّا دخل توهّم أنّ كل واحدة منهنّ امرأته وهمّ بالنزول عليها، فتقول: أنا خادمتها وهى أمامك، حتى انتهى إلى آخر الأبواب، فتقدّمت إليه جارية وأصعدته إلى العرش، فنظر الى القصر وما فيه من الآلات والزينة، فرأى ما لم يخطر بباله. ثم أقبلت بلقيس والجوارى بين يديها ينثرن على الملك من الجزء: 14 ¦ الصفحة: 114 أنواع النّثار وعلى رأسها تاج، فصعدت على عرشها. فلمّا رآها الملك فتن بها وكاد يذهل عقله. وأخذت فى مخادعته وملاعبته، ثم أمرت بالطعام فأحضر بين يديه. فآمتنع من الأكل وقال: ما أريد أن أغفل عن وجهك. فأمرت بإحضار الشراب فأتى به فى آلات الجوهر النفيس. وأخذا فى الشرب، فلم تزل به حتى أسكرته وغاب عن عقله ووقع على قفاه لا يعقل من أمره شيئا. فذبحته بلقيس، ثم دعت بأبيها وأعلمته بما فعلت. ففرح وكتب إلى خزّان الملك عن الملك: إنّى قد أحببت النزول بهذا القصر فأجمعوا ما فى الخزائن من الأموال وأنفذوه إلى عندى «1» . فجمعوا الأموال وأنفذوها الى القصر. ثم أمرت بعد ذلك باتخاذ الأطعمة فصنعت ودعت سادات ملوك اليمن. فلمّا جلسوا قدّمت إليهم الأطعمة فأكلوا، ثم قدّم إليهم الشراب فشربوا. فلما أخذ منهم أشرفت بلقيس عليهم وقالت: إنّ الملك يأمركم أن توجّهوا إليه بنسائكم وبناتكم. فغضبوا وقالوا: أما يكفيه أنه فضح بنات العرب حتى طمع فينا نحن!. فقالت لهم: لا تغضبوا حتى أرجع إليه وأعرّفه غضبكم. ثم أمرت أن يعاد عليهم الشراب ثانيا فشربوا ساعة، فعادت إليهم وقالت: قد أخبرت الملك بغضبكم ومقالتكم فقال: لابدّ من ذلك. فازداد القوم غضبا وصاحوا. فقالت: على رسلكم حتى أراجعه وأسأله. ومضت وعادت فقالت: إنى عدت الى الملك فوجدته قد نام، فما رأيكم فى أمر أفعله وأريحكم مما أنتم فيه من شرّه على أن تملّكونى على أنفسكم؟ قالوا نعم. فحلّفتهم على ذلك وأخذت عليهم العهود والمواثيق، وغابت ساعة وعادت ومعها رأس الملك فألقته إليهم، ففرحوا بذلك واستبشروا وملّكوها عليهم. فملكت بضع عشرة سنة حتى بعث الله سليمان نبيّا. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 115 ذكر خبر سليمان وبلقيس وسبب زواجه بها قال: وكان سبب اتّصال خبرها بسليمان عليه السلام أنه بينما هو يسير على بساطه، وكان الهدهد دليله على الماء لأنه يراه من عدّة فراسخ، فارتفع فى الهواء لطلب الماء، فنظر الى هدهد قد أقبل من ناحية اليمن، فالتقيا. فقال له الهدهد السليمانىّ: من أين أنت؟ قال: من اليمن. وسأله الآخر فقال: أنا من الشام من طيور الملك سليمان. قال: ومن سليمان؟ قال: نبىّ الله ملك الجنّ والإنس والطير وجميع المخلوقات. قال: إنّ هذا ملك عظيم. قال: وهل فى اليمن ملك؟ قال: نعم، ملكة يقال لها «بلقيس» تحت يدها عشرة آلاف قائد، تحت يد كلّ قائد كذا وكذا ألفا من العساكر. وحكى الثعلبىّ أنه قال لمّا أخبره بملك سليمان: إن لصاحبكم ملكا عظيما، ولكن ليس ملك بلقيس دونه، فإنها ملكة اليمن وتحت يدها اثنا عشر ألف قيل مع كل قيل مائة ألف مقاتل- والقيل هو القائد بلغة أهل اليمن- فهل أنت منطلق معى حتّى تراها؟ قال نعم. فانطلق الهدهدان حتى أتيا بلاد اليمن وصارا إلى قصرها؛ فنظر إليها [الهدهد «1» السليمانىّ] وإلى قصرها وملكها. وحضر وقت الصلاة لسليمان فلم يجد الهدهد، فقال ما أخبر الله به عنه: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ* لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ «2» أى بحجة بيّنة. ثم دعا العقاب وقال: أنت عريف الطير، فتعرّف لى خبر الهدهد. فطار فى الشرق والغرب، وإذا هو بالهدهد قد أقبل من جهة اليمن، فجاء به إلى سليمان. فاستخبره عن سبب غيبته فقال: «أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبإ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 116 يقين. إنى وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كلّ شىء ولها عرش عظيم» . وذكر صفة عرشها وما فيه من أصناف الجواهر وغيرها ثم قال: «وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله» وخرّ ساجدا لله، ثم رفع رأسه وقال: «ألّا يسجدوا لله الذى يخرج الخبء «1» فى السّموات والأرض» . قال سليمان: «سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين» !. ثم سأله عن الماء فقال: هو تحت قائمة كرسيّك. فأمر سليمان بتحويل البساط، فحوّل ونقر الهدهد بمنقاره فخرج الماء، فشرب الناس وصلّوا. ثم قال لهدهد: «اذهب بكتابى هذا فألقه إليهم ثم تولّ عنهم فانظر ماذا يرجعون» وأقبل سليمان على آصف بن برخيا وقال: أكتب إلى هذه المرأة كتابا لطيفا. فدعا بصحيفة من فضّة وكتب: «بسم الله الرحمن الرحيم. إنه من سليمان. ألّا تعلوا علىّ وأتونى مسلمين» . وختم الكتاب وبعثه مع الهدهد فى زمرة من الطير، فأقبلوا نحو اليمن وانقضّوا على قصرها، ودخل الهدهد إلى قبّتها من كوّة «2» من كوى القبّة وهى نائمة، وقد وضعت خاتم ملكها على صدرها، فوضع الكتاب على نحرها وطار. فلما استيقظت أخذت الكتاب وجمعت قومها ثم قالت: «إنّى ألقى إلىّ كتاب كريم» وفتحته وقالت: إنه من سليمان، وقرأته عليهم وعلمت أنه من قبل رجل عظيم. وجمعت أكابر قومها وأهل العقل والعلم الذين فى مملكتها و «قالت يأيها الملأ أفتونى فى أمرى ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون. قالوا نحن أولو قوّة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظرى ماذا تأمرين» . فعلمت عند ذلك أنهم قد أخطلوا الرأى فى عزمهم على الحرب و «قالت إنّ الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزّة أهلها أذلّة وكذلك يفعلون. وإنّى مرسلة إليهم بهديّة فناظرة بم يرجع المرسلون» . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 117 قال: وأرادت أن تختبر حال سليمان عليه السلام فقالت: إن طلب الدنيا أرضيناه بالمال وصرفنا أذاه عنّا، وإن كان من الأنبياء ولم ترغّبه الدنيا لم يكن لنا أمر إلا الطاعة له، فمضوا على رأيها، فأمرت باتّخاذ الهدايا. فعاد الهدهد إلى سليمان وأخبره بما كان من أمرها مع قومها. فأمر سليمان أن يفرش ميدانه بلبن الذهب والفضّة، وأن يبنى حول الميدان حائط من الفضة شرفاته من الذهب، على كل شرفة تاج من الذهب مرصّع بالجوهر، وأمر الجنّ أن يأتوا بأولادهم من الذكور والإناث، وأمر بإحضار كل فرس عجيب الخلق. قال الثعلبىّ: إنّ سليمان عليه السلام سأل الجنّ عن أحسن دوابّ رأوها فى البحر. قالوا: رأينا دوابّ فى بحر كذا وكذا منمّرة منقّطة مختلفة ألوانها، لها اجنحة وأعراف ونواص. قال: علىّ بها الساعة، فأتوه بها. قال: شدّوها عن يمين الميدان ويساره، ففعلوا. قالوا: وأمر سليمان الشياطين أن يظهروا من التهويلات ما لم يظهروه قبل ذلك اليوم. قال الكسائىّ: وكانت بلقيس قد أعدّت مائة لبنة من الذهب، ومائة لبنة من الفضّة، ومائة غلام أمرد، لكل غلام ضفائر كضفائر النساء، ومائة وصيفة مضمومات الشعر. قال الثعلبىّ: واختلفوا فى عددهم، فقال الكلبىّ: عشرة غلمان وعشر جوار. وقال مقاتل: مائة وصيف ومائة وصيفة. وقال مجاهد: مائتا غلام ومائتا جارية. وقال وهب: خمسائة غلام وخمسائة جارية. وألبست الغلمان ثياب الوصائف، وألبست الوصائف ثياب الغلمان. وقال الثعلبىّ: قال وهب وغيره من أهل الكتب: عمدت بلقيس إلى خمسمائة جارية وخمسائة غلام، فألبست الجوارى لباس الغلمان، وألبست الغلمان الجزء: 14 ¦ الصفحة: 118 لباس الجوارى، وجعلت فى سواعدهم أساور من ذهب، وفى أعناقهم أطواقا من ذهب، وفى آذانهم أقراطا وشنوفا «1» من ذهب مرصّعات بألوان الجواهر، وحملت الجوارى على خمسمائة رمكة «2» ، والغلمان على خمسمائة برذون، على كل فرس لجام من ذهب مرصّع بالجواهر، وغواشيها من الدّيباج الملوّن، وبعث إليه خمسمائة لبنة من ذهب، وخمسمائة لبنة من فضة. قالوا: وعمدت الىّ تاج من ذهب مرصّع بالجواهر، ومائة فرس من جياد خيول اليمن، عليها براقع الحرير وأجلّة الديباج، وبعث بحقّة من ذهب فيها درّة غير مثقوبة، وجزع يمانىّ مثقوب معوّج الثّقب، [وقارورة «3» ] وبعثت ذلك مع وزيرها، وكتبت جواب كتاب سليمان وقالت: قد بعثت إليك بمائتى وصيف ووصيفة على سنّ واحدة، وأحبّ أن تميّز ذكورهم من إناثهم من غير أن تكشف عنهم، ودرّة غير مثقوبة تأمر من يثقبها من غير أن تستعين بأحد من الإنس والجنّ والشياطين، وجزع مثقوب تدخل فيه خيطا، وقارورة تملؤها ماء ما نزل من السماء ولا نبع من الأرض. فلمّا جاء الرسول ونظر الىّ ميدان سليمان وحيطانه وما على شرفاتها من التّيجان والخيول حول الميدان، دخل على سليمان بالجوارى والغلمان والحقّة والقارورة، ولم يظهر الذهب والفضة والخيل لأنه استحقرها بالنسبة إلى ما رآه. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 119 وقال الثعلبىّ: إنه كان مما بعثته خمسمائة لبنة من ذهب، وخمسمائة لبنة من فضة. قال: فلمّا دنا القوم من الميدان ونظروا الى ملك سليمان ورأوا الدوابّ تروث على لبن الذهب والفضة رموا ما معهم من الهدايا. قال: وفى بعض الروايات أنّ سليمان لمّا أمر بفراش الميدان بلبن الذّهب والفضّة أمرهم أن يتركوا على طريقهم موضعا على قدر اللّبنات التى معهم. فلمّا رأت الرسل موضع اللّبنات خاليا وكل الأرض مفروشة خافوا أن يتّهموا بذلك، وطرحوا ما معهم فى ذلك المكان. قال: ثم مرّوا على الشياطين، فلمّا نظروا إليهم فزعوا. فقيل لهم: جوزوا فلا بأس عليكم. وكانوا يمرّون على كردوس «1» كردوس من الجنّ والإنس والطير والسباع والوحش حتى وقفوا بين يدى سليمان عليه السلام. قال الكسائىّ: فقدّم الكتاب إلى سليمان، فأخبر سليمان الرسول بما فيه قبل فتحه وقراءته، وميّز الوصفاء من الوصائف، وأمر دودة فثقبت الدّرّة وأدخلت الخيط فى الجزع، وأمر أن تساق الخيل حتى تعرق وتملأ القارورة من عرقها، وأقبل على وزير بلقيس وقال: ارجع إلى صاحبتك بما جئت به من الهديّة وقل لها: «أتمدّوننى بمال فما آتانى الله خير ممّا آتاكم بل أنتم بهديّتكم تفرحون. ارجع إليهم فلنأتينّهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنّهم منها أذلّة وهم صاغرون» . قال: فعاد الوزير إليها بما جاء به من الهديّة وأخبرها بما كان من أمر سليمان. فقالت لقومها: هل علمتم الان أنّ رأيى كان أصوب من رأيكم فى ترك المحاربة؟ ومن أين لنا طاقة بحرب نبىّ!! ثم جمعت أموالها وكنوزها واستصحبت ذلك معها الجزء: 14 ¦ الصفحة: 120 إلّا عرشها فإنّها تركته بقصرها وأغلقت عليه سبعة أبواب وسارت إلى سليمان ومعها ملوك اليمن وأكابرها وساداتها، فبلغ ذلك سليمان. قال أبو إسحاق الثعلبىّ رحمه الله تعالى: شخصت بلقيس إلى سليمان عليه السلام فى اثنى عشر ألف قيل من ملوك اليمن، تحت يد كل قيل منهم مائة ألف. قال ابن عبّاس رضى الله عنهما: وكان سليمان رجلا مهيبا، لا يبتدأ بشىء حتى يكون هو الذى يسأل عنه. فخرج يوما فجلس على سرير ملكه فرأى رهجا «1» قريبا منه، فقال: ما هذا؟ قالوا: بلقيس. قال: وقد نزلت منّا بهذا المكان؟ قالوا نعم. قال ابن عبّاس رضى الله عنهما: كما بين الكوفة والحيرة قدر فرسخ. قال: فأقبل حينئذ سليمان على جنوده فقال: «يأيها الملأ أيّكم يأتينى بعرشها قبل أن يأتونى مسلمين. قال عفريت من الجنّ أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإنّى عليه لقوىّ أمين» قال: أريد أسرع من ذلك. «قال الّذى عنده علم من الكتاب- وهو آصف بن برخيا- أنا آتيك به قبل أن يرتدّ إليك طرفك» . قال: وكان عنده اسم الله الأعظم. «فلمّا رآه مستقرّا عنده قال هذا من فضل ربّى ليبلونى أأشكرأم أكفر ومن شكر فإنّما يشكر لنفسه ومن كفر فإنّ ربّى غنىّ كريم» . ثم قال سليمان: «نكّروا لها عرشها ننظر أتهتدى أم تكون من الذين لا يهتدون» . فأقبل عفريت من الجنّ وقال: يا نبىّ الله، إنّ رجليها كحافر حمار. قال له سليمان: إن كان ذلك كما قلت وإلا عاقبتك. قال: يا نبىّ الله، أريد أن أتّخذ لك صرحا «2» من قوارير، وأجرى فيه ماء، وأنزل فيه الحيتان والسمك، فلا يشكّ من رآه أنه الجزء: 14 ¦ الصفحة: 121 ماء جار، فاتّخذه كذلك. فلمّا فرغ منه شكره. فقال: يا نبىّ الله، أعف عنّى فإنّى كذبت على بلقيس فى رجليها، فعفا سليمان عنه. وأقبلت بلقيس فجعلت تنظر إلى الجنّ والإنس والطير والوحش وغيرهم، وهم قيام لا يضرّ بعضهم بعضا. فلما قاربت الصّرح الممرّد إذا بعرشها، فتعجّبت. فقيل: أهكذا عرشك؟ قالت: كأنه هو، وعلمت أنّه هو، وأنه من قدرة الأنبياء. قال: فلمّا أقبلت إلى الصرح حسبته لجّة وكشفت عن ساقيها. فناداها سليمان: إنه صرح ممرّد من قوارير. فأرسلت ثوبها على ساقيها حياء من سليمان، ثم «قالت ربّ إنّى ظلمت نفسى وأسلمت مع سليمان لله ربّ العالمين» ثم أسلم قومها. قال الثعلبىّ: اختلف العلماء فى أمرها بعد إسلامها، فقال أكثرهم: لمّا أسلمت بلقيس أراد سليمان أن يتزوّجها. فلمّا همّ بذلك كره ما رأى من كثرة شعر ساقيها وقال: ما أقبح هذا!. فسأل الإنس: بم يذهب هذا؟ فقالوا: بالموسى. فقالت المرأة: لم يمسّنى الحديد قطّ، فكرهه سليمان. فسأل الجنّ، فقالوا: لا ندرى. فسأل الشياطين فمكروا عليه، فلمّا ألحّ عليهم قالوا: نحن نحتال عليه حتى يكون كالفضّة البيضاء، فآتّخذوا لها النّورة «1» والحمّام. قال ابن عبّاس رضى الله عنهما: هو أوّل يوم اتّخذت فيه النّورة. وقال الكسائىّ فى سياقة خبره: ثم قالت بلقيس: يا نبىّ الله، أرى خاتمك منقوشا، فما الذى عليه؟ قال: «لا إله إلا الله محمد رسول الله» . قالت: ومن محمد؟ قال: نبىّ يخرج فى آخر الزمان، فآمنت الجزء: 14 ¦ الصفحة: 122 بلقيس به. ثم قال لها بعد إيمانها: أتحبّين أن ترجعى إلى بلادك وما كنت فيه؟ قالت: لا، بل أكون معك من بعض نسائك، فتزوّج بها سليمان عليه السلام. هذا ما أورده الكسائىّ. وفيه زيادات نقلها أبو إسحاق الثعلبىّ قد ذكرناها فى أثناء القصّة ونبّهنا عليها ونسبناها إلى قائلها. وحكى الثعلبىّ أيضا فى هذه القصة زيادات قد رأينا إثباتها؛ فمن ذلك وصف قصرها وعرشها. ذكر صفة القصر الذى بنته بلقيس وصفة عرشها قال أبو إسحاق الثعلبىّ قال الشعبىّ: يروى أنّ بلقيس لمّا ملكت أمرت فحمل إليها خمسمائة أسطوانة من الرّخام، كلّ أسطوانة خمسون ذراعا، وأمرت بها فنصبت على تلّ قريب من مدينة صنعاء، وخطّت بين كلّ أسطوانتين عشرة أذرع، ثم جعلت على ذلك سقفا مبسوطا بألواح الرّخام وألحم بعضها إلى بعض بالرّصاص حتى صارت كانها لوح واحد. ثم بنت فوق ذلك قصرا مربّعا من آجرّ وجعلت فى كل زاوية من زواياه قبّة من ذهب مشرفة فى الهواء، وفيما بين ذلك مجالس حيطانها من ذهب وفضّة مرصّعة بأنواع الجواهر الملوّنة، فكانت الشمس إذا طلعت على ذلك القصر التهب الذهب والجوهر فيكاد يعش العيون وتحار فيه الأبصار. وجعلت باب ذلك القصر مما يلى المدينة بدرج من الرخام الأبيض والأحمر والأخضر، وفى جانبه حجرا لحجّابها وبوّابيها وحرسها وخدمها وحشمها على قدر مراتبهم. قال: وأمّا صفة عرشها فكان مقدّمه من ذهب مفصّص بالياقوت الأحمر والزّمرّد الأخضر، ومؤخّره من فضّة مكلّل بأنواع الجواهر، وله أربع قوائم: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 123 قائمة من ياقوت أحمر، وقائمة من ياقوت أصفر، وقائمة من زمرّد أخضر، وقائمة من درّ أصفر، وصفائح السرير من ذهب. وعليه سبعة بيوت، على كل بيت باب مغلق، وكان ثمانين ذراعا فى ثمانين ذراعا، وطوله فى الهواء ثمانون ذراعا، فذلك قوله: وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ . أى سرير ضخم. ذكر خبر وادى القردة قال الكسائىّ: وبينما سليمان عليه السلام مع بلقيس ذات يوم إذ قال لها: أكل اليمن فى طاعتك؟ قالت: نعم، إلّا واد عن يمين سبأ، فيه أشجار ومياه غلبت عليه القردة وأزاحوا عنه سكّانه، وهو واد طويل عريض، وهم فى كثرة، وإنهم على سنن اليهود لا يتبايعون يوم السبت. فبعث سليمان العقاب ليأتيه بخبرهم. فطار إلى الوادى وعاد اليه قبل أن يقوم من مقامه ذلك، وأخبره بكثرتهم. فركب سليمان الريح على بساطه فى قبّة القوارير، وسار فى نفر من بنى إسرائيل حتى نزل على شفير الوادى، فعلم القردة أنه سليمان، فبادروا إلى طاعته وأتوه، وقالوا: يا نبىّ الله، إنّا من نسل اليهود الذين اعتدوا فى السبت، ونحن على دين موسى نعمل بأحكام التوراة، وسألوه أن يقرّهم فى ذلك الوادى، فأقرّهم فيه وكتب لهم سجلّا على لوح من نحاس وجعله فى عنق كبيرهم يتوارثونه، ثم انصرف عنهم. هكذا نقل. والصحيح أنّ الذين اعتدوا فى السبت وغيرهم ممن مسخ لم يعقبوا. وفى الصحيح: إنّ الله لم يجعل لمسيخ «1» نسلا. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 124 ذكر خبر الرجل الذى قبض بأرض الهند قال الكسائىّ: كان سليمان عليه السلام قد سأل الله تعالى أن يريه ملك الموت فأراه إيّاه، وكان يعوده ويأتيه فى كل خميس. فأتاه فى بعض الأيام على صورة البشر، وجعل يطيل النظر إلى رجل فى مجلس سليمان حتى ارعب ذلك الرجل. فلمّا فارقه ملك الموت قال: يا نبىّ الله، لقد فزّعنى هذا الرجل الذى كان فى مجلسك من نظره إلىّ، فمن هو؟ قال: هو ملك الموت. قال: يا نبىّ الله أسألك أن تأمر الريح أن تحملنى إلى أرض الهند، فأمرها سليمان فحملته من مجلسه ووضعته بأرض الهند. ثم جاء ملك الموت إلى سليمان، فقال له: قد كنت اليوم عندى وأنت تنظر إلى ذلك الرجل نظرا شافيا حتى خاف منك. قال: يا نبىّ الله، إنى كنت قد أمرت بقبض روحه فى موضع من أرض الهند فى هذا اليوم، فلمّا رأيته عندك عجبت متى يصل إلى الهند، فإذا الريح قد جاءت به، فألقته فى البقعة التى أمرت بقبض روحه فيها، فقبضت روحه هناك. فعجب سليمان عليه السلام من ذلك. ذكر خبر الفتنة وذهاب خاتم سليمان عليه السلام ورجوعه اليه قال الكسائىّ: كان سليمان عليه السلام كلّما نزل بمنزل من البرارى بنت الجنّ والشياطين له قصرا بديعا، فإذا تحوّل عنه خرّبوه. وكان له قصر على ساحل البحر من بناء الجنّ، فأمرهم أن يتركوه على حالته. فجاء سليمان إلى ذلك القصر فنزله، وكان صخر الجنىّ معه وهو شديد الحرص على أن يسلبه الخاتم؛ لأنه كان قد علم أن ملكه فى خاتمه. وكان لسليمان جارية اسمها «الأمينة» فكان إذا أراد الدخول الى الخلوة بنسائه يسلّم الخاتم إليها، فإذا اغتسل أخذ خاتمه منها، وكذلك إذا أراد الوضوء. فجاء سليمان فى بعض الأيام فنزل ذلك القصر وأراد الجزء: 14 ¦ الصفحة: 125 الوضوء، فدفع الخاتم الى الجارية. فجاء صخر وقد ألقى على نفسه صورة سليمان، فقال للجارية: هات الخاتم، فناولته إيّاه وهى لا تعلم. فلمّا صار الخاتم فى يد صخر لم يستقرّ فى يده لأنه شيطان، فرماه فى البحر، فجاء حوت بإذن الله فآبتلعه. ومضى صخر وهو على صورة سليمان فجلس على كرسيّه ومعه الناس وهم يظنّون أنه سليمان؛ فذلك قوله تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ «1» قيل: الجسد هو صخر الجنى. قال: وخرج سليمان من الخلاء وقد غيّر الله صورته إلى صورة صخر، فطلب الخاتم، فقالت الجارية: أعوذ بالله منك، قد دفعت الخاتم إلى سليمان. فعلم أنّ الله قد أوقع به البليّة، فخرج يريد القصر ويقول للناس: أنا سليمان، والناس يهزءون بقوله ويقولون: لست سليمان أنت صخر الجنّىّ. فجعل سليمان يدور على جميع الناس وهم على كلمة واحدة فى إنكاره، وجعل يدور فى القرى ويقول: أنا سليمان والناس يشتمونه حتى لزق بطنه بظهره من الجوع، فقال: إلهى إنّك ابتليت كثيرا من الأنبياء ولم تحرمهم رزقك. إلهى إنّى تائب إليك من خطيئتى. فلم يزل سليمان كذلك أربعين يوما لم يطعم شيئا، ثم وجد قرصة يابسة ملقاة، فأخذها ولم يقدر على أكلها ليبسها، فأقبل الىّ ساحل البحر وقعد يبلّ القرصة فاستلبتها الأمواج من يده. فقال: إلهى رزقتنى بعد أربعين يوما قرصة يابسة نزلت حتى أبلّها فاستلبتها الأمواج من يدى وأنت المتكفّل بأرزاق العباد، وأنا عبدك المذنب، فارزقنى فأنت الرزّاق الكريم. ثم جعل يمشى على الساحل وهو يبكى، فإذا هو بقوم يصطادون السمك، فسألهم شيئا من الطعام فمنعوه وطردوه وقالوا له: انصرف عنّا، فما رأينا أوحش من وجهك. قال: ما عليكم من وجهى إذا أطعمتمونى؟!. قالوا: وحقّ سليمان الجزء: 14 ¦ الصفحة: 126 إن قمنا إليك لنوجعنّك ضربا إن لم ترح «1» عنّا. قال: يا قوم، فأنا والله سليمان. فضربه رجل منهم على رأسه وقال: أتكذب على نبىّ الله! فبكى حتى بكت الملائكة لبكائه ورحمه أولئك القوم وناولوه سمكة وأعطوه سكّينا، فشقّ بطنها ليصلحها ويشويها ويأكلها، فخرج الخاتم من بطنها فغسله وجعله فى إصبعه، وعاد إليه حسنه وجماله، فوضع السمكة وسار يريد قصره، فجعل يمرّ بتلك القرى، فكلّ من كان قد أنكره عرفه وسجد له. فبلغ ذلك صخرا الجنّىّ فهرب. وعاد سليمان الىّ قصره واجتمع له الإنس والجنّ والشياطين والسباع والهوامّ كما كانوا أوّل مرّة. فبعث العفاريت فى طلب صخر فأتوه به، فأمر أن ينقروا له صخرتين وصفّده بالحديد وجعله بينهما وأطبقهما عليه وختم عليه بخاتمه وطرحه فى بحيرة طبريّة. فيقال: إنه فيها إلى يوم القيامة. ثم أمر الله الرياح أن تحشر له سائر الشياطين فحشرت له، فصفّد مردتهم بالحديد وحبسهم. هذا ما أورده الكسائىّ فى قصّة الفتنة، وهو أولى ما أورده وأشبه ما نقل. وحكى الثعلبىّ رحمه الله فى خبر الفتنة قال قال محمد بن إسحاق قال بعض العلماء عن وهب بن منبّه قال: سمع سليمان عليه السلام أنّ فى جزيرة من جزائر البحر رجلا يقال له «صيدون» ملك عظيم الشأن لم يكن لأحد من الناس عليه سبيل لمكانه فى البحر. وقال غيره: إن هذه الجزيرة مسيرة شهر فى مثله، وفيها عجائب كثيرة وأشجار وأنهار، وفى وسطها مجلس على عمد من مرمر ملوّن، والمجلس من ذهب مفصل بأنواع الجواهر يشرف على جميع الجزيرة. وقيل: إنه كان ساحرا، فكانت الجنّ تطيف به وتعمل له العجائب، فدلّ سليمان عليها فغزاه. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 127 نرجع إلى سياق الثعلبىّ قال: فخرج سليمان إلى الجزيرة تحمله الريح على ظهر الماء حتى نزل بها بجنوده من الجنّ والإنس، فقتل ملكها وسبى ما فيها، وأصاب فيما أصاب بنت الملك واسمها «جرادة» لم ير الناس مثلها حسنا وجمالا، فاصطفاها سليمان لنفسه، ودعاها إلى الإسلام فأسلمت على جفاء منها وقلّة ثقة، وأحبّها سليمان حبّا لم يحبّه شيئا من نسائه، وكانت منزلتها عنده منزلة عظيمة، وكان لا يذهب حزنها ولا ترقأ «1» دمعتها على أبيها. فشقّ ذلك على سليمان وقال لها: ويحك! ما هذا الحزن الذى لا يذهب، والدمع الذى لا يرقأ!. قالت: إنى أذكره وأذكر ملكه وما كان فيه وما أصابه فيحزننى ذلك. قال سليمان: فقد بدّلك الله ملكا أعظم من ملكه، وسلطانا أعظم من سلطانه، وهداك إلى الإسلام وهو خير من ذلك كلّه. قالت: إنّ ذلك كذلك، ولكن إذا ذكرته أصابنى ما ترى من الحزن. ولو أنك أمرت الشياطين فصوّروا لى صورته فى دارى أراها بكرة وعشيّة لرجوت أن يذهب ذلك، وأن يسكن عنّى بعض ما أجد فى نفسى. فأمر سليمان الشياطين أن يمثّلوا صورة أبيها فى دارها حتى لا تنكر منه شيئا، فمثّلوه لها حتى نظرت إلى أبيها بعينه إلا أنه لا روح فيه. فعمدت إليه حين صنعوه فأزّرته وقمّصته وعمّمته بمثل ثيابه التى كان يلبس. ثم كانت إذا خرج سليمان من دارها تغدو على ذلك التمثال هى وولائدها فيسجدن له كما كانت تصنع ذلك فى ملكه، وتفعل ذلك بكرة وعشيّة وسليمان لا يعلم بشىء من ذلك أربعين يوما. وبلغ ذلك آصف بن برخيا، وكان صدّيقا، وكان لا يردّ من باب سليمان متى أراد دخوله من ليل أو نهار، فأتاه فقال: يا نبىّ الله، كبرت سنّى، ودقّ عظمى، ونفد عمرى، وقد حان منّى الذهاب، وقد أحببت أن أقوم مقاما قبل الموت أذكر فيه من مضى من أنبياء الله وأثنى عليهم بعلمى، وأعلّم الناس الجزء: 14 ¦ الصفحة: 128 ما يجهلون من كثير من أمورهم، فقال: افعل. فجمع له سليمان الناس فقام فيهم خطيبا، فذكر من مضى من أنبياء الله وأثنى على كلّ منهم بما فيه، وذكر ما فضّلهم الله به حتى انتهى إلى سليمان، فقال: ما كان أحلمك فى صغرك، وأورعك وأفضلك فى صغرك، وأحكم أمرك فى صغرك، وأبعدك من كل ما تكره فى صغرك، ثم انصرف. فوجد سليمان فى نفسه من ذلك. فلمّا دخل سليمان داره أرسل إلى آصف بن برخيا فقال: ذكرت من مضى من أنبياء الله، وأثنيت عليهم خيرا فى كل زمانهم، وفى كل حال من أمورهم؛ فلما ذكرتنى جعلت نثنى علىّ بخير فى صغرى وسكتّ عما سوى ذلك من أمرى فى كبرى، فماذا أحدثت فى آخر أمرى؟ قال: لأنّ غير الله يعبد فى دارك أربعين يوما فى هوى امرأة. قال سليمان: فى دارى! قال: نعم فى دارك. فاسترجع سليمان ثم دخل داره فكسر ذلك الصنم، وخافت تلك المرأة. ثم أمر سليمان بثياب الطّهر فأتى بها، وهى ثياب لا يغزلها إلا الأبكار ولا تمسّها امرأة ذات دم، فلبسها ثم خرج إلى فلاة من الأرض وحده، فأمر برماد ففرش له، ثم أقبل تائبا إلى الله حتى جلس على ذلك الرّماد تذلّلا لله تعالى وتضرّعا إليه، يبكى ويدعو ويستغفر مما كان فى داره، فلم يزل ذلك دأبه حتى أمسى، ثم رجع إلى داره. وكان له وليدة يقال لها «الأمينة» ، فكان إذا دخل لحاجته أو أراد إصابة امرأة من نسائه وضع خاتمه عندها حتى يتطهّر، فوضعه يوما من الأيام عندها ثم دخل لقضاء حاجته، فأتاها صخر الجنّىّ على صورة سليمان لا ينكر منه شىء، فقال لها: يا أمينة، خاتمى؛ فناولته إيّاه، فجعله فى يده ثم خرج حتى جلس على سرير سليمان وعكفت عليه الجنّ والإنس والطير. وخرج سليمان فأتى الأمينة وقد تغيّر عن حليته وهيئته عند كل من يراه. فقال: يا أمينة. قالت: ومن أنت؟ قال: أنا سليمان بن داود. قالت: كذبت لست سليمان، وقد جاء سليمان وأخذ خاتمه وهو جالس على سريره فى ملكه، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 129 فعرف سليمان أنّ خطيئته قد أدركته، فجعل يقف على الدار من دور بنى إسرائيل فيقول: أنا سليمان بن داود، فيحثون عليه التراب ويسبّونه ويقولون: انظروا إلى هذا المجنون يزعم أنه سليمان. فلمّا رأى سليمان ذلك عمد إلى البحر، فكان ينقل الحيتان لأصحاب البحر منه الى السوق فيعطونه كلّ يوم سمكتين، فإذا أمسى باع إحدى سمكتيه بأرغفة ويشوى الأخرى فيأكلها. فمكث كذلك أربعين صباحا عدّة ما كان ذلك الوثن فى داره. قال: وأنكر آصف وعظماء بنى إسرائيل حكم عدوّ الله الشيطان فى تلك المدّة. فقال آصف: يا معشر بنى إسرائيل، هل رأيتم من اختلاف حكم سليمان بن داود ما رأيت؟ قالوا نعم. قال: أمهلونى حتى أدخل على نسائه وأسألهنّ هل أنكرن منه فى خاصّة أمره ما أنكرناه فى عامّة أمر الناس. فدخل على نسائه فقال: ويحكنّ! هل أنكرتنّ من أمر نبىّ الله سليمان ما أنكرناه؟ فقلن: أشدّ وأعظم، ما يدع امرأة منّا فى دمها، ولا يغتسل من جنابة. فقال آصف: إنّا لله وإنا إليه راجعون، إن هذا لهو البلاء المبين. ثم خرج إلى بنى إسرائيل فقال: ما فى الخاصّة أعظم ممّا فى العامّة. فلمّا مضت أربعون صباحا طار الشيطان عن مجسمه ثم مرّ بالبحر فقذف الخاتم فيه، فابتلعته سمكة وأخذها بعض الصيادين، وقد عمل له سليمان صدر يومه حتى إذا كان آخر النهار أعطاه سمكتيه، فأعطى السمكة التى ابتلعت الخاتم، وحمل سليمان سمكتيه فباع التى ليس فيها الخاتم بالأرغفة، ثم عمد إلى السمكة الأخرى فبقرها ليشويها، فاستقبله الخاتم من جوفها فأخذه، فجعله فى يده ووقع ساجدا لله تعالى، وعكفت عليه الطير والوحش والجنّ. وأقبل إليه الناس ورجع إلى ملكه وأظهر التوبة من ذنبه، وأمر الشياطين بإحضار صخر فأدخله فى صخرة عظيمة، ثم شدّ عليه أخرى، ثم أوثقهما بالحديد والرّصاص، ثم أمر به فقذف فى البحر. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 130 هذا حديث وهب. وقال السّدّىّ فى سبب الفتنة: كان لسليمان مائة امرأة وكانت منهن امرأة يقال لها «جرادة» وهى آثر نسائه وآمنهنّ عنده، وكان إذا أجنب أو أتى حاجته نزع خاتمه ولم يأتمن عليه غيرها. فجاءها يوما من الأيام فقالت له: إنّ أخى بينه وبين فلان خصومة، وإنى أحبّ أن تقضى له إذا جاءك. قال نعم، ولم يفعل؛ فابتلى بقوله وأعطاها خاتمه ودخل المذهب «1» ، فخرج الشيطان فى صورته فقال لها: هاتى الخاتم، فأعطته إيّاه، فجاء حتى جلس على مجلس سليمان، وخرج سليمان بعده فسألها أن تعطيه الخاتم فقالت: ألم تأخذه؟ قال: لا! وخرج من مكانه. ومكث الشيطان يحكم بين الناس أربعين يوما، فأنكر الناس حكمه، فاجتمع قرّاء بنى إسرائيل وعلماؤهم، فجاءوا حتى دخلوا على نسائه فقالوا: إنّا قد أنكرنا هذا، فإن كان سليمان فقد ذهب عقله وأنكرنا حكمه «2» ، فأبكى النساء عند ذلك. فأقبلوا يمشون حتى أتوه فأحدقوا به ثم نشروا التوراة فقرءوها، فطار الشيطان من بين أيديهم حتى وقع على شرفة والخاتم معه حتى ذهب إلى البحر فوقع الخاتم فى البحر فابتلعه الحوت. فأقبل سليمان فى حالته التى كان فيها حتى انتهى إلى صيّادين وهو جائع فاستطعمهم من صيدهم وقال: إنّى سليمان بن داود. فقام إليه بعضهم فضربه بعصاه فشجّه. فجعل يغسل دمه وهو على شاطئ البحر، فلام الصيّادون صاحبه الذى ضربه وقالوا: بئسما صنعت حيث ضربته. فقال: إنه زعم أنه سليمان بن داود! الجزء: 14 ¦ الصفحة: 131 فأعطاه سمكتين. فقام إلى ساحل البحر فشقّ بطونهما وجعل يغسلهما، فوجد خاتمه فى بطن إحداهما، فأخذه ولبسه وردّ الله تعالى عليه ملكه وبهاءه، وجاءت الطير فعكفت عليه، فعرفه القوم فقاموا يعتذرون إليه مما صنعوا. فقال: ما أؤاخذكم على عدوانكم ولا ألومكم على ما كان منكم، هذا ما كان لا بدّ منه. وجاء حتى أتى ملكه، فأخذ الشيطان فجعله فى صندوق من حديد ثم أطبقه وأقفل عليه بقفل وختمه بخاتمه، ثم أمر به فألقى فى البحر، وهو فيه كذلك «1» إلى يوم القيامة. قال: وفى بعض الروايات أنّ سليمان لمّا افتتن سقط الخاتم من يده، فأخذه سليمان فأعاده الى يده، فسقط من يده. فلما رآه لا يثبت فى يده أيقن بالفتنة. وقال آصف لسليمان: إنّك مفتون بذنبك والخاتم لا يتماسك أربعة عشر يوما؛ ففرّ إلى الله تعالى تائبا من ذنبك وأنا أقوم مقامك وأسير فى عملك وأهل بيوتك بسيرتك حتى يتوب الله عليك ويردّك إلى ملكك. ففرّ سليمان هاربا إلى ربه، وأخذ آصف الخاتم ووضعه فى يده فثبت. وإنّ الجسد الذى قال الله تعالى: وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً هو آصف كاتب سليمان، وكان عنده علم من الكتاب. فأقام آصف فى ملك سليمان يسير سيرته ويعمل بعمله أربعة عشر يوما، إلى أن رجع سليمان إلى منزله تائبا إلى الله تعالى، وردّ الله تعالى عليه ملكه، وقام آصف من مجلسه وجلس سليمان على كرسيّه وأعاد الخاتم فى يده فثبت فيها. قال أبو إسحاق: وقيل فى سبب ذلك ما روى عن سعيد بن المسيّب أنّ سليمان احتجب عن الناس ثلاثة أيّام، فأوحى الله تعالى إليه أن يا سليمان احتجبت عن عبادى ثلاثة أيّام فلم تنظر فى أمورهم ولم تنصف مظلوما من ظالم. وذكر الجزء: 14 ¦ الصفحة: 132 حديث الخاتم وأخذ الشيطان إيّاه كما تقدّم، وقال فى آخره: قال علىّ: فذكرت ذلك للحسن فقال: ما كان الله ليسلّطه على نسائه «1» . قال وقال بعض المفسّرين: كان سبب فتنة سليمان أنه أمر ألّا يتزوّج امرأة إلّا من بنى إسرائيل، فتزوّج من غيرهم فعوقب على ذلك. وقيل: إن سليمان لمّا أصاب ابنة الملك صيدون أعجب بها، فعرض عليها الإسلام فأبت وامتنعت، فخوّفها فقالت: إن أكرهتنى على الإسلام قتلت نفسى. فخاف سليمان أن تقتل نفسها، فتزوّج بها وهى مشركة أربعين يوما، وكانت تعبد صنما لها فى خفية من سليمان إلى أن أسلمت، فعوقب سليمان بزوال ملكه أربعين يوما. قال وقال الشعبىّ فى سبب ذلك: إنّ سليمان ولد له ولد، فاجتمعت الشياطين وقال بعضهم لبعض: إن عاش له ولد لم ننفكّ مما نحن فيه من البلاء والسّخرة، وما لنا إلا أن نقتل ولده أو نخبله. فعلم سليمان بذلك، فأمر السحاب أن يأخذ ابنه، وأمر الريح فحملته، وغدا ابنه فى السحاب خوفا من مضرّة الشيطان. فعاقبه الله تعالى بخوفه من الشيطان، ومات الولد فألقى ميّتا على كرسيّه، فهو الجسد الذى ذكره الله تعالى فى كتابه العزيز؛ قال الله تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 133 ذكر عزم سليمان عليه السلام أن يطوف على نسائه قال الكسائىّ: كان سليمان عليه السلام قد أعطى من القوّة ما إنه يأتى على خمسمائة حرّة وسبعمائة سرّيّة. فقال فى يوم: لأطوفنّ على ألف امرأة وأجامعهنّ كلهنّ، فتحمل كل واحدة منهنّ بغلامين فارسين يركبون الخيل ويغزون البلاد، ولم يقل إن شاء الله. وطاف عليهنّ فلم تحمل منهنّ غير واحدة، حملت بنصف إنسان، قيل: إنه الجسد الذى ألقى على كرسىّ سليمان. والله تعالى أعلم. والذى ثبت من هذه القصة ما رويناه من صحيح البخارىّ بسندنا المتقدّم اليه. قال البخارىّ حدّثنا خالد بن مخلد حدّثنا مغيرة بن عبد الرحمن عن أبى الزّناد عن الأعرج عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «قال سليمان بن داود لأطوفنّ الليلة على سبعين امرأة تحمل كل امرأة فارسا يجاهد فى سبيل الله فقال له صاحبه إن شاء الله فلم يقل، ولم تحمل شيئا إلا واحدا ساقطا إحدى شقّيه فقال النبىّ صلّى الله عليه وسلّم لو قالها لجاهدوا فى سبيل الله. قال شعيب وابن أبى الزناد تسعين وهو أصح «1» » . ذكر وفاة بلقيس زوجة سليمان عليه السلام قال الكسائىّ: أقامت بلقيس عند سليمان سبع سنين وسبعة أشهر ثم توفّيت، فدفنها بمدينة «2» تدمر من أرض الشام تحت حائط، ولم يعلم أحد بموضع قبرها إلى أيّام الوليد بن عبد الملك بن مروان. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 134 قال موسى بن نصير: بعثت فى أيّام الوليد إلى مدينة تدمر ومعى العباس بن الوليد بن عبد الملك، فجاء مطر عظيم فانهار بعض حائط المدينة، فانكشفت عن تابوت طوله ستون ذراعا وعرضه أربعون ذراعا متّخذ من حجر كالزّعفران مكتوب عليه: «هذا تابوت بلقيس الصالحة أسلمت لثلاث عشرة سنة خلت من ملك سليمان، وتزوّج بها يوم عاشوراء سنة أربع عشرة خلت من ملكه، وتوفّيت يوم الاثنين من ربيع الأوّل سنة إحدى وعشرين مضت من ملكه، وقد دفنت ليلا فى حائط مدينة تدمر، ولم يطّلع على دفنها إنس ولا جنّ ولا شيطان» . قال: فرفعنا غطاء التابوت واذا هى غضّة كانها دفنت ليلتها. فكتبتا بذلك إلى الوليد فأمر بتركه فى مكانه، وأن يبنى عليه بالصخر والمرمر، ففعلنا ذلك. ذكر خبر وفاة سليمان بن داود عليهما السلام قال الكسائىّ: ملك سليمان شرق الأرض وغربها وطاف أقطارها حتى انتهى إلى السّدّ «1» الذى هو بالقرب من جبل قاف «2» ، فوقف هناك ثم قال للريح: هل الجزء: 14 ¦ الصفحة: 135 جريت هاهنا قطّ؟ قالت: لا يا نبىّ الله، وإنه آخر الدنيا وليس وراءه إلا علم الله تعالى. ثم أمر الريح فاحتملته حتى نظر إلى التّنّين المحدق بالعالم، فسار أياما على طرف من أطرافه فإذا هو بملك، فقال: يابن داود إن هذا التّنين محيط بالعالم الذى هو مسيرة خمسائة عام. ثم ارتفع إلى مستقرّ الغام ونظر إلى مجمع القطر، ونزل من هناك إلى مسكن الليل والنهار فاذا هو بملك يقول: اللهم أعط كل منفق خلفا وكل ممسك تلفا. ثم أمر الريح أن تحطّ بساطه إلى الأرض المقدّسة، وكانت مدّة غيبته مائة وثلاثين يوما. وكان فى طول سفرته هذه يرى شخصا بين يديه يسبق كل شىء، فسأله من هو؟ فأخبره أنه ملك الموت، فوقعت عليه الرّعدة وتغيّر لونه وجعل ابنه رحبعم خليفته، وأوصى الناس بالسمع والطاعة له. وأخذ فى الصوم والصلاة طول ليله، فإذا أصبح خرج من محرابه إلى روضة هناك فيها نبات حسن يتسلّى به. فخرج فى بعض الأيام فرأى نبتا غريبا لم يكن قد رآه قبل ذلك اليوم. فقال: أيها النبت ما أنت؟ قال: أنا الخرنوب الذى لا أنبت فى موضع إلا خرّبته. فقال سليمان: فما تصنع هاهنا فلست من نبات الرياض بل من نبات البرارى؟ قال: قد أمرت أن أنبت هاهنا. فعاد سليمان من الغد وهو على حاله وقد زاد نباته. فقال له سليمان: ألم آمرك أن تلحق بموضعك من البرراى!. قال الخرنوب: يا نبىّ الله. إنّ هذا الموضع سيخرب عن قريب، فسكت سليمان. فلما ضعف عن العبادة توكأ على عصاه. فبينا هو فى محرابه متوكئا قائما يتلو الزّبور والتوراة إذ أتاه ملك الموت، فرفع رأسه إليه فناوله شمّة فشمّها فمات. وبقى سليمان على حالته لم يسقط إلى الأرض ولم يتحرّك ولا مال. فهابوه وما جسروا أن يتقدّموا إليه. وقالوا: إنه لم يمت، ولم تزل الإنس والجنّ والشياطين والوحش الجزء: 14 ¦ الصفحة: 136 والطير فى الطاعة والأعمال حتى مضت سنة، ثم وقعت الأرضة فى أسفل العصا؛ فذلك قوله تعالى: فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ . فخرّ سليمان عند ذلك كالخشبة اليابسة، وكانت الجنّ قبل ذلك تدّعى علم الغيب؛ قال الله تعالى: فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ «1» أى فى تلك السنة فى نقل الصخور والبنيان وغير ذلك. وحكى أبو إسحاق الثعلبىّ رحمه الله تعالى فى خبر وفاة سليمان عليه السلام: قال أهل التاريخ: لبث سليمان فى ملكه بعد أن ردّه الله عليه تعمل له الجنّ ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجوابى وقدور راسيات وغير ذلك، ويعذّب من الشياطين من يشاء، ويأمرهم بحمل الحجارة الثقيلة ونقلها إلى حيث أحبّ. فأتاهم إبليس وهم فى العمل فقال: كيف أنتم؟ فقالوا: ما بنا طاقة لما نحن فيه. فقال لهم: تذهبون تحملون الحجارة وترجعون فرّاغا لا تحملون شيئا؟ قالوا نعم. قال: فأنتم فى راحة. فأبلغت الريح ذلك سليمان، فأمرهم أن يحملوا ذاهبين وراجعين. فقال لهم إبليس: تعملون بالليل؟ قالوا لا. قال: فأنتم فى راحة. فأبلغت الريح ذلك سليمان، فأمرهم أن يعملوا بالليل والنهار. فأتاهم إبليس فسألهم فشكوا إليه أنهم يعملون بالليل والنهار. فقال لهم إبليس: وفعلها؟ قالوا: نعم. قال: فتوقّعوا الفرج، فقد بلغ الأمر منتهاه. فما لبثوا إلا يسيرا حتى مات سليمان. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 137 قال ابن عبّاس وغيره: كان سليمان يتحنّث «1» فى بيت المقدس السنة والسنتين والشهر والشهرين وأقلّ من ذلك وأكثر، يدخله ومعه طعامه وشرابه، فدخله فى المرّة التى مات فيها. قال: وكان بدء ذلك أنه لم يكن يوما يصبح فيه إلا نبت فى بيت المقدس شجرة فيسألها سليمان ما اسمك؟ فتقول الشجرة: اسمى كذا وكذا. فيقول: لأى شىء تصلحين؟ فتقول: لكذا وكذا؛ [فيأمر «2» بها فتقطع] ، فإن كانت تنبت لغرس غرسها، وإن كانت لدواء كتب عليها لكذا وكذا. فبينا هو يصلّى ذات يوم إذ رأى شجرة بين يديه، فقال لها: ما اسمك؟ فقالت: الخرنوبة. قال: ولأىّ شىء نبتّى؟ قالت: لخراب هذا المسجد. فقال سليمان: ما كان الله ليخربه وأنا حىّ، أنت الذى على وجهك هلاكى وخراب بيت المقدس. فنزعها وغرسها فى حائط له، ثم قال: اللهمّ عمّ عن الجنّ موتى حتى يعلم الإنس أنّ الجنّ لا يعلمون الغيب. وكانت الجنّ يخبرون الإنس أنهم يعلمون الغيب وأنهم يعلمون ما فى غد. قال: ثم دخل سليمان المحراب فقام يصلّى متكئا على عصاه، فمات على تلك الحالة، ولم يعلم بذلك أحد من الشياطين، وهم فى ذلك يعملون له يخافون أن يخرج فيعاقبهم. قال وقال عبد الرحمن [بن زيد «3» ] قال سليمان لملك الموت: إذا أمرت بى فأعلمنى. قال: فأتاه فقال: يا سليمان قد أمرت بك وقد بقيت لك سويعة. فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحا من قوارير ليس له باب، فقام يصلّى واتكأ على عصاه، فدخل عليه ملك الموت فقبض روحه وهو متكئ على عصاه. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 138 قال وفى رواية أخرى: أنّ سليمان قال ذات يوم لأصحابه: قد آتانى الله من الملك ما ترون، وما مرّ علىّ يوم فى ملكى بحيث صفا لى من الكدر، وقد أحببت أن يكون لى يوم واحد يصفولى إلى الليل ولا أغتمّ فيه، وليكن ذلك غدا. فلما كان من الغد دخل قصرا له، وأمر بإغلاق أبوابه ومنع الناس من الدخول عليه ورفع الأخبار إليه لئلا يسمع شيئا يسوءه، ثم أخذ عصاه بيده وصعد فوق قصره واتكأ عليها ينظر فى ممالكه، إذ نظر إلى شابّ حسن الوجه، عليه ثياب بيض قد خرج عليه من جانب قصره فقال: السلام عليك يا سليمان. فقال سليمان: وعليكم السلام، كيف دخلت هذا القصر وقد منعت من دخوله؟ أما منعك البوّاب والحجّاب!. أما هبتنى حين دخلت قصرى بغير إذنى!! فقال: أنا الذى لا يحجبنى حاجب، ولا يمنعنى بوّاب، ولا أهاب الملوك، ولا أقبل الرّشا، وما كنت لأدخل هذا القصر بغير إذن. فقال سليمان: فمن أذن لك فى دخوله؟ قال: ربّه. فارتعد سليمان وعلم أنه ملك الموت. فقال له: أنت ملك الموت؟ قال نعم. قال: فيم جئت؟ قال: جئت لأقبض روحك. قال: يا ملك الموت، هذا يوم أردت أن يصفو لى وما أسمع فيه ما يغمّنى. قال له: يا سليمان، إنك أردت يوما يصفو لك فيه عيشك حتى لا تغتمّ فيه، وذلك اليوم لم يخلق فى الدنيا، فارض بقضاء ربك فإنه لا مردّ له. قال: فاقبض كما أمرت، فقبض ملك الموت روحه وهو متكئ على عصاه. قال الثعلبىّ قالوا: وكانت الشياطين تجتمع حول محرابه ومصلّاه أينما كان. وكان للمحراب كوى بين يديه ومن خلفه، فكان الشيطان الذى يريد أن يدخل يقول: ألست جليدا إن دخلت فخرجت من ذلك الجانب، فيدخل حتى يخرج من الجانب الآخر. فدخل شيطان من أولئك فمرّ، ولم يكن شيطان ينظر إلى سليمان الجزء: 14 ¦ الصفحة: 139 فى المحراب إلا احترق، فمرّ ولم يسمع صوت سليمان، ثم رجع ولم يسمع، ثم رجع فوقع فى البيت فلم يحترق، ونظر إلى سليمان عليه السلام قد سقط ميّتا، فخرج فأخبر الناس أنّ سليمان قد مات، ففتحوا عنه وأخرجوه ووجدوا منسأته- وهى العصا بلسان الحبشة «1» - قد أكلتها «2» الأرضة، فمكثوا يدأبون له من بعد موته حولا كاملا، فأيقن الناس أنّ الجنّ كانوا يكذبونهم، ولو أنهم علموا الغيب لعلموا بموت سليمان، فلم يلبثوا فى العذاب سنة يعملون. قال: ثم إنّ الشياطين قالوا للأرضة: لو كنت تأكلين الطعام لأتيناك بأطيب طعام، ولو كنت تشربين الشراب سقيناك أطيب الشراب، ولكننا سننقل إليك الماء والطين. قال: فهم ينقلون إليها ذلك حيث كانت. قال: ألم تر إلى الطين الذى يكون فى جوف الخشب فهو مما تأتيها به الشياطين شكرا لها؛ فذلك قوله تعالى: فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ وهى الأرضة، ويقال لها القادح أيضا، وهى دويبّة تأكل العيدان تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ أى عصاه فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ ... الآية. قال أهل التاريخ: كان عمر سليمان ثلاثا وخمسين سنة، ومدّة ملكه أربعين سنة، وملّك يوم ملّك وهو ابن ثلاث عشرة سنة. وقال الكسائىّ قال وهب: عاش سليمان ستين سنة، منها فى الملك والنبوّة أربعون سنة. قال: وتفرّقت الإنس والجنّ وغيرهم، فتفرّق بنو إسرائيل بعده الجزء: 14 ¦ الصفحة: 140 ثلاث فرق: فرقة كفروا واتبعوا السحرة، وفرقة اعتزلوا وقالوا: لا نطيع بعده أحدا، وفرقة اتبعوا ابنه رحبعم «1» . قال الثعلبىّ: ملك بعد سليمان عليه السلام ابنه رحبعم، وكان قد استخلفه فنبّأه الله تعالى ولم يكن رسولا ثم قبض، وكان ملكه سبع عشرة سنة. ثم ملك بعده ابنه أيشا «2» بن رحبعم، وكان ملكه ثلاثا وستين سنة. ثم ابنه أينا. وقال الكسائىّ: ملك بعد رحبعم ابنه لايى، وملك بعد لايى ابنه أيشا بن لايى، ثم بعث الله تعالى بعد أن قبض أيشا، شعيا «3» وهو من ولد هارون بن عمران. وقال الثعلبىّ فى سياقه: لمّا ملك أينا بن أيشا، وكان رجلا صالحا، وكان أعرج، وكان به عرق النّسا، فطمعت الملوك فيه لضعفه، وافترقت ملوك بنى إسرائيل، فغزاهم ملك من ملوك الهند يقال له «زرج «4» الهندىّ» فى جمع كثير، فبعث الله تعالى عليهم ملائكة فهزموهم، فقصدوا البحر حتى ركبوه جميعا، فبعث الله تعالى عليهم الرياح والأمواج حتى ضربت سفنهم بعضا ببعض، فتكسّرت وغرق زرج ومن كان معه، وألقت الأمواج أثقالهم وأموالهم وسلبهم إلى محلّة بنى إسرائيل، ونودوا أن خذوا ما غنمكم الله وكونوا فيه من الشاكرين. ثم لم يزل يغزوهم الملك بعد الملك من ملوك العراق وغيرهم، فيهلكهم الله تعالى الى أن ظهر فيهم الظلم والفساد، وفشت فيهم المعاصى، وعبد بعض ملوكهم الأصنام، فكان من أمرهم ما نذكره إن شاء الله تعالى. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 141 الباب الثالث من القسم الثالث من الفن الخامس فى أخبار شعيا وإرميا عليهما السلام وخبر بختنصّر وخراب بيت المقدس وعمارته وما يتصل بذلك من خبر عزير وفتنة اليهود ذكر قصة شعيا عليه السلام قال أبو إسحاق الثعلبىّ رحمه الله: كان الملك اذا ملك من بنى إسرائيل بعث الله معه نبيّا يرشده ويسدّده ويكون فيما بين الناس وبين الله تعالى، ولا ينزل الله تعالى عليه كتابا إنما يأمر بأحكام التوراة وينهى عن المعصية، ويدعو الناس الى ما تركوا من الطاعة. وكان ممن ملك منهم «صديقة» . فلمّا ملك بعث الله تعالى شعيا بن أمصيا «1» ، فملك ذلك الملك بنى إسرائيل وبيت المقدس زمانا، ثم كثرت فى بنى إسرائيل الأحداث، فبعث الله سنحاريب «2» ملك بابل، معه ستمائة ألف راية، فأقبل حتى نزل حول بيت المقدس والملك إذ ذاك مريض فى ساقه قرحة، فجاء النبىّ شعيا عليه السلام فقال لملك بنى إسرائيل: إن سنحاريب ملك بابل قد أقبل ونزل بك فى ستمائة ألف راية، وقد هابهم الناس وفرقوا منهم. فكبر ذلك على الملك وقال: يا نبىّ الله، هل أتاك وحى فيما حدث فتخبرنا به كيف يفعل الله الجزء: 14 ¦ الصفحة: 142 تعالى بنا وسنحاريب؟ قال: لم يأتنى وحى. فبينما هم كذلك أوحى الله تعالى إلى شعيا أن ائت ملك بنى إسرائيل فمره أن يوصى بوصية ويستخلف على ملكه من يشاء من أهل بيته. فأتاه شعيا فقال: إنّ ربك عز وجل قد أوحى إلىّ أن آمرك أن توصى وصيّتك وتستخلف من شئت على ملكك من أهل بيتك فإنك ميّت. فلمّا قال له شعيا ذلك أقبل صديقة الملك على القبلة فصلّى ودعا وبكى، فقال وهو يبكى ويتضرّع إلى الله عز وجل بقلب مخلص وتوكّل وصبر: [اللهم ربّ الأرباب وإله الآلهة القدّوس المقدس، يا رحمن يا رحيم، يا رءوف يا من لا تأخذه سنة ولا نوم، اذكرنى بنيّتى وفعلى وحسن قضائى فى بنى إسرائيل، وذلك كله كان منك وأنت أعلم به منّى سرّى وعلانيتى لك «1» ] ، فاستجاب الله تعالى دعاءه، وكان عبدا صالحا. فأوحى الله تعالى إلى شعيا أن أخبر صديقة أن الله استجاب له وقبل منه ورحمه وأخّر أجله خمس عشرة سنة، وأنجاه من عدوّه سنحاريب وجنوده. فأتاه شعيا فأخبره بذلك، فذهب عنه الجزع وخرّ ساجدا لله تعالى ودعاه. فلما رفع رأسه أوحى الله تعالى إلى شعيا أن قل للملك صديقة يأمر عبدا من عبيده فيأتيه بماء التين فيجعله على قرحة ساقه فيشفى ويبرأ، ففعل ذلك فشفى. وقال الملك لشعيا: سل ربّك أن يجعل لنا علما بما هو صانع بعدوّنا هذا. فقال الله تعالى لشعيا: قل له إنى كفيتك عدوّك وأنجيتك منهم، وإنهم سيصبحون موتى إلا سنحاريب وخمسة نفر من كتّابه. فلمّا أصبحوا جاء صارخ فصرخ على باب المدينة: يا ملك بنى إسرائيل، إن الله تعالى قد كفاك أمر عدوّك؛ فإن سنحاريب ومن معه قد هلكوا. فخرج الملك فالتمس سنحاريب فلم يوجد فى الموتى. فبعث الملك فى طلبه، فأدركه الطّلب فى مغازة وخمسة من كتّابه، أحدهم الجزء: 14 ¦ الصفحة: 143 بختنصّر، فجعلوهم فى الجوامع «1» ثم أتوا بهم ملك بنى إسرائيل، فلما رآهم خرّ ساجدا لله تعالى من حين طلعت الشمس إلى العصر، ثم قال لسنحاريب: كيف ترى فعل ربّنا؟ ألم يقتلكم بحوله وقوّته ونحن وأنتم غافلون؟! فقال سنحاريب: قد أتانى خبر ربّكم ونصره إيّاكم، ورحمته التى رحمكم بها قبل أن أخرج من بلادى، فلم أطع مرشدا ولم يلقنى فى الشّقوة إلّا قلّة عقلى، ولو سمعت أو عقلت ما غزوتكم، ولكن الشقوة غلبت علىّ وعلى من معى. فقال صديقة: الحمد لله رب العزّة الذى كفاناكم بما شاء. إنّ ربّنا لم يبقك ومن معك لكرامة لك عليه، ولكنّه إنما أبقاك ومن معك لتزدادوا شقوة فى الدنيا وعذابا فى الآخرة، ولتخبروا من وراءكم بما رأيتم من فعل ربنا. ولدمك ودم من معك أهون على الله تعالى من دم قرادة لو قتلت. ثم أمر صديقة أمير جيشه أن يقذف فى رقابهم الجوامع، فطاف بهم سبعين يوما حول بيت المقدس وإيليا «2» ، وكان يرزقهم فى كل يوم خبزتين من شعير لكل رجل. فقال سنحاريب لملك بنى إسرائيل: القتل خير مما تفعل بنا، فافعل ما أمرت. فأمر بهم الملك الى سجن القتل، فأوحى الله تعالى إلى شعيا: أن قل لملك بنى إسرائيل: يرسل سنحاريب ومن معه لينذروا من وراءهم، وأن يكرمهم ويحملهم حتى يبلغوا بلادهم. فبلّغ شعيا الملك ذلك، ففعل ما أمر به، وخرج سنحاريب ومن معه حتى قدموا بابل «3» . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 144 فلمّا قدموا جمع سنحاريب الناس وأخبرهم كيف فعل الله بجنوده. فقال له كهّانه وسحرته: قد كنا نقصّ عليك خبر ربهم وخبر نبيّهم ووحى الله إلى نبيّهم، فلم تطعنا، وهى أمّة لا يستطيعها أحد من ربّهم. ولبث سنحاريب بعد ذلك سبع سنين ومات. واستخلف بختنصّر ابن ابنه على ما كان عليه جدّه، فعمل بعمله وقضى بقضائه، فلبث سبع عشرة سنة ثم قبض الله تعالى صديقة ملك بنى إسرائيل، فمرج «1» أمر بنى إسرائيل وتنافسوا الملك حتى قتل بعضهم بعضا، ونبيّهم شعيا معهم لا يرجعون إليه ولا يقبلون منه. فلما فعلوا ذلك أوحى الله تعالى إلى شعيا: أن قم فى قومك أوح على لسانك. فلمّا قام أوحى الله تعالى على لسانه وأنطقه بالوحى فقال: يا سماء اسمعى، ويا أرض أنصتى؛ فإنّ الله يريد أن يقصّ شأن بنى إسرائيل الذين ربّاهم بنعمته، واصطنعهم لنفسه، وخصّهم بكرامته، وفضّلهم على عباده، واستقبلهم بالكرامة، وهم كالغنم الضائعة التى لا راعى لها؛ فآوى شاردها، وجمع ضالّها، وجبر كسيرها، وداوى مريضها، وأسمن مهزولها، وحفظ سمينها. فلمّا فعل ذلك بها تناطحت كباشها فقتل بعضها بعضا، حتى لم يبق منهم عظم صحيح يجبر إليه آخر كسير. فويل لهذه الأمة الخاطئة الذين لا يدرون ما جاءهم من الخير. إنّ البعير مما يذكر وطنه فيأتيه، وإنّ الحمار مما يذكر الآرىّ «2» الذى يشبع عليه فيراجعه، وإنّ الثور مما يذكر المرج «3» الذى يسمن فيه فينتابه، وإن هؤلاء القوم لا يدرون من أين «4» جاءهم الخير وهم أولو الألباب والعقول ليسوا ببقر ولا حمير، وإنى ضارب لهم مثلا فليسمعوه. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 145 قل لهم: كيف ترون فى أرض كانت جرزا «1» زمانا خربة مواتا لا عمران فيها، وكان لها ربّ حكيم قوىّ، فأقبل عليها بالعمارة وكره أن تخرب أرضه، فأحاط عليها جدارا وشيّد فيها قصرا وأنبط فيها نهرا، وصفّف فيها غراسا من الزيتون والرمّان والنخيل والأعناب وألوان الثّمار كلها، وولىّ ذلك واستحفظه ذا رأى وهمّة حفيظا قويّا أمينا، فانتظرها، فلمّا أطلعت جاء طلعها خرّوبا؟!. قالوا: بئست الأرض هذه! نرى أن يهدم جدارها وقصرها ويدمّر نهرها ويقبض قيّمها ويحرق غرسها حتى تصير كما كانت أوّل مرّة خرابا موانا لا عمران فيها. قال الله عزّ وجلّ لهم: إنّ الجدار ذمّتى، وإنّ القصر شريعتى، وإنّ النهر كتابى، وإنّ القيّم نبيّى، وإنّ الغراس هم، وإن الخرّوب الذى أطلع الغراس أعمالهم الخبيثة، وإنّى قضيت عليهم قضاءهم على أنفسهم، فإنه مثل ضربه الله لهم. يتقرّبون إلىّ بذبح البقر والغنم، وليس ينالنى اللحم ولا آكله. ويدّعون أنهم يتقرّبون إلىّ بالتقوى والكفّ عن ذبح الأنفس التى حرّمتها، فأيديهم مخضوبة منها، وثيابهم مترمّلة «2» بدمائها؛ يشيّدون لى البيوت مساجد ويطهّرون أجوافها، وينجّسون قلوبهم وأجسادهم ويدنّسونها. فأىّ حاجة لى إلى تشييد البيوت ولست أسكنها! وأىّ حاجة لى إلى تزويق المساجد ولست أدخلها! إنما أمرت برفعها لأذكر فيها ولأسبّح، ولتكون مصلّى لمن أراد أن يصلّى فيها. يقولون: لو كان الله يقدر على أن يجمع ألفتنا لجمعها، ولو كان الله يقدر على أن يفقه قلوبنا لأفقهها، فاعمد إلى عودين يابسين ثم ائت بهما ناديهم فى أجمع ما يكونون، فقل للعودين: إنّ الله يأمركما أن تكونا عودا واحدا. فلمّا قال لهما ذلك اختلطا فصارا واحدا. فقال الله تعالى [قل «3» ] لهم: إنى قد قدّرت على أن أفقه العودين اليابسين، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 146 وعلىّ أن أؤلّف بينهما، فكيف لا أقدر على أن أجمع ألفتهم إن شئت! أم كيف لا أقدر على أن أفقه قلوبهم وأنا الذى صوّرتها!. يقولون: صمنا فلم يرفع صيامنا، وصلّينا فلم تنوّر صلاتنا، وتصدّقنا فلم تزك صدقاتنا، ودعونا بمثل حنين الحمام، وبكينا بمثل عواء الذئاب، فى كل ذلك لا يسمع ولا يستجاب لنا. قال الله تعالى: فسلهم: ما الذى يمنعنى أن أستجيب لهم! ألست أسمع السامعين، وأبصر الناظرين، وأقرب المجيبين، وأرحم الراحمين! الأنّ ذات يدى قلّت! وكيف ويداى مبسوطتان بالخير أنفق كيف أشاء، ومفاتيح الخزائن عندى لا يفتحها غيرى!. أو لأن رحمتى ضاقت! فكيف ورحمتى وسعت كلّ شىء، إنما يتراحم المتراحمون بفضلها!. أو لأنّ البخل يعترينى! أولست أكرم الأكرمين. والنّفّاح بالخيرات أجود من أعطى وأكرم من سئل!. لو أنّ هؤلاء القوم نظروا لأنفسهم بالحكمة التى تورث فى قلوبهم [النور «1» ] فنبذوها واشتروا بها الدنيا، إذا لأبصروا من حيث أتوا، وإذا لأيقنوا أنّ أنفسهم هى أعدى العداة لهم. فكيف أرفع صيامهم وهم يلبسونه بقول الزّور ويتقوّون عليه بطعمة الحرام! وكيف أنوّر صلاتهم وقلوبهم صاغية إلى من يحاربنى وينتهك محارمى! أم كيف تزكو عندى صدقاتهم وهم يتصدّقون بأموال غيرهم! إنما آجر عليها أهلها المغصوبين. أم كيف أستجيب لهم دعاءهم، وإنما هو قول بألسنتهم والفعل من ذلك بعيد!. إنما أستجيب للداعى البرّ، وإنما أسمع قول المستعفّ المستكين. وإنّ من علامة رضاى رضا المساكين. فلو رحموا المساكين، وقرّبوا الضعفاء، وأنصفوا المظلوم، ونصروا المغصوب، وعدلوا للغائب، وأدّوا إلى اليتيم والأرملة والمسكين وكلّ ذى حقّ حقّه، ثم لو كان ينبغى لى أن أكلّم البشر إذا لكلّمتهم؛ وإذا لكنت نور أبصارهم، وسمع آذانهم، ومعقول قلوبهم؛ وإذا لدعمت أركانهم فكنت قوّة أيديهم وأرجلهم؛ وإذا لثبّتّ ألسنتهم وعقولهم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 147 يقولون لمّا سمعوا كلامى وبلغتهم رسالاتى إنها أقاويل منقولة، وأحاديث متوارثة، وتآليف مما يؤلّف السّحرة والكهنة، وزعموا أنهم لو شاءوا أن يأتوا بحديث مثله فعلوا، وأن يطّلعوا على علم الغيب بما يوحى إليهم الشياطين لاطلعوا، وكلهم يستخفى بالذى يقول ويسرّه، وهم يعلمون أنى أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما يبدون وما يكتمون. وإنى قد قضيت يوم خلقت السماء والأرض قضاء اثبتّه على نفسى وجعلت دونه أجلا مؤجّلا لابدّ أنه واقع، فإن صدقوا فيما ينتحلون من علم الغيب فليخبروك متى أنفذه، وفى أىّ زمان يكون. وإن كانوا يقدرون على أن يأتوا بما يشاءون فليأتوا بمثل القدرة التى بها أقضى؛ فإنّى مظهره على الّدين كله ولو كره المشركون. وإن كانوا يقدرون على أن يؤلّفوا ما يشاءون فليؤلّفوا مثل الحكمة التى أدبّر بها أمر ذلك القضاء إن كانوا صادقين. فإنّى قضيت يوم خلقت السموات والأرض أن أجعل النبوّة فى الأجراء «1» ، وأجعل الملك فى الرّعاء، والعزّ فى الأذلّاء، والقوّة فى الضعفاء، والغنى فى الفقراء، والثروة فى الأقلّاء، والمدائن فى الفلوات، والآجام «2» فى المفاوز، والثّرى فى الغيطان، والعلم فى الجهلة، والحكم فى الأميّيّن. فسلهم متى هذا ومن القيّم به وعلى يدى من أسبّبه، ومن أعوان هذا الأمر وأنصاره. وإن كانوا يعلمون فإنى باعث لذلك نبيّا أمّيّا لا أعمى من العميان ولا ضالّا من الضالّين، ليس بفظّ ولا غليظ، ولا صخّاب فى الأسواق، ولا متزيّن بالفحش، ولا قوّال للخنا، أسدّده لكل جميل، وأهب له كلّ خلق كريم، ثم أجعل السكينة لباسه، والبرّ شعاره، والتقوى ضميره، والحكمة معقوله، والصدق والوفاء طبيعته، والعفو والمعروف خلقه، والعدل سيرته، والحقّ شريعته، والهدى إمامه، والإسلام ملّته، أحمد اسمه، أهدى به بعد الضّلالة، وأعلّم به بعد الجهالة، وأرفع به بعد الخمالة، وأشهّر الجزء: 14 ¦ الصفحة: 148 به بعد النّكرة، وأكثّر به بعد القلّة، وأغنى به بعد العيلة، وأجمع به بعد الفرقة؛ وأؤلّف به قلوبا مختلفة، وأهواء متشتّتة، وأمما متفرّقة، وأجعل أمّته خير أمّة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، إيمانا بى، وتوحيدا لى، وإخلاصا بى «1» ، يصلّون قياما وقعودا، وركّعا وسجودا، ويقاتلون فى سببلى صفوفا وزحوفا، ويخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاء رضوانى [ألوفا «2» ] . ألهمهم التكبير والتوحيد، والتسبيح والتحميد، فى مجالسهم ومسيرهم ومضاجعهم ومتقلّبهم ومثواهم؛ يكبّرون ويهلّلون ويقدّسون على رءوس الأشراف، ويطهّرون لى الوجوه والأطراف، ويعقدون الثياب إلى الأنصاف؛ قربانهم دماؤهم، وأناجيلهم صدورهم؛ رهبان بالليل، ليوث بالنهار. ذلك فضلى أوتيه من أشاء، وأنا ذو الفضل العظيم. قال: فلمّا فرغ نبيّهم شعيا من مقالته عدوا عليه ليقتلوه فهرب منهم فانفلقت له شجرة فدخل فيها، فأدركه الشيطان فأخذ بهدبة من ثوبه فأراهم إيّاها، فوضعوا المنشار فى وسطها فنشروها حتى قطعوها وقطعوه فى وسطها. ذكر قصة إرميا عليه السلام قال أبو إسحاق الثعلبىّ رحمه الله: استخلف الله تعالى على بنى إسرائيل بعد قتلهم شعيا عليه السلام رجلا منهم يقال له «ناشية بن آموص» ، وبعث لهم الخضر نبيّا. قال: واسم سمّى الخضر إرميا بن حلقيّا، وكان من سبط هارون ابن عمران. قال: وإنما سمّى الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فقام عنها وهى تهتزّ «3» خضراء. فقال الله عزّ وجل لإرميا حين بعثه إلى بنى إسرائيل: يا إرميا، من قبل أن خلقتك اخترتك، ومن قبل أن أصوّرك فى بطن أمّك قدّستك، ومن الجزء: 14 ¦ الصفحة: 149 قبل أن أخرجك من بطن أمّك طهّرتك، ومن قبل أن تبلغ السّعى نبّأتك، ولأمر عظيم اجتبيتك؛ فذكّر قومك نعمى، وعرّفهم أحداثهم، وادعهم إلىّ. وكانت الأحداث قد عظمت فى بنى إسرائيل فركبوا المعاصى واستحلّوا المحارم. فقال إرميا: إنى ضعيف إن لم تقوّنى، عاجز إن لم تنصرنى. فقال الله عزّ وجل: أنا ألهمك. فقام إرميا فيهم ولم يدر ما يقول، فألهمه الله عزّ وجل خطبة طويلة بليغة، بيّن لهم فيها ثواب الطاعة وعقاب المعصية، وقال فى آخرها: وإنى أحلف بعزّتى لأقيّضنّ لهم فتنة يتحيّر فيها الحكيم، ولأسلّطنّ عليهم جبّارا قاسيا قلبه، ألبسه الهيبة وأنزع من صدره الرحمة، يتبعه عدد مثل سواد الليل المظلم. ثم أوحى الله تعالى إلى إرميا: إنّى مهلك بنى إسرائيل بيافث، ويافث أهل بابل، وهم من ولد يافث بن نوح. فلمّا سمع ذلك إرميا صاح وبكى وشقّ ثيابه ونبذ الرّماد على رأسه. فلمّا سمع الله عزّ وجل تضرّعه وبكاءه ناداه: يا إرميا، أشقّ عليك ما أوحيت إليك؟ قال: نعم يا ربّ، أهلكنى قبل أن أرى فى بنى إسرائيل ما لا أسرّ به. فقال الله عز وجل: وعزّتى لا أهلك بنى إسرائيل حتى يكون الأمر فى ذلك من قبلك. ففرح بذلك إرميا وطابت نفسه وقال: لا والذى بعث موسى بالحقّ لا أرضى بهلاك بنى إسرائيل. ثم أتى الملك فأخبره بذلك، وكان ملكا صالحا، ففرح واستبشر وقال: إن يعذّبنا ربّنا فبذنوب كثيرة، وإن عفا عنا فبرحمته. ثم إنهم لبثوا بعد الوحى ثلاث سنين لم يزدادوا إلّا معصية وتماديا فى الشرّ، وذلك حين اقترب هلاكهم ودعاهم الملك إلى التوبة فلم يفعلوا، فسلّط الله عليهم بختنصّر فخرج فى ستمائة ألف رأية يريد بيت المقدس. فلمّا فصل «1» سائرا أتى الخبر الملك فقال لإرميا: أين ما زعمت أنّ الله أوحى إليك؟ فقال إرميا: إن الله عزّ وجلّ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 150 لا يخلف الميعاد وأنا به واثق. فلمّا قرب الأجل وعزم الله عز وجل على هلاكهم بعث الله تعالى إلى إرميا ملكا فتمثّل له رجلا من بنى إسرائيل فقال له: يا نبىّ الله، أستفتيك فى أهل رحمى، وصلت أرحامهم ولم آت اليهم إلا حسنا، ولا يزيد إكرامى إيّاهم إلا إسخاطا لى، فأفتنى فيهم. فقال له: أحسن فيما بينك وبين الله وصلهم وأبشر بخير. فانصرف الملك فمكث أياما ثم أقبل إليه فى صورة ذلك الرجل فقعد بين يديه، فقال له إرميا: أو ما ظهرت أخلاقهم لك بعد؟ فقال: يا نبىّ الله، والذى بعثك بالحقّ ما أعلم كرامة يأتيها أحد من الناس إلى أهل رحمه إلا قدّمتها إليهم وأفضل. فقال له إرميا: ارجع إلى أهلك وأحسن إليهم، واسأل الله تعالى الذى أصلح عباده الصالحين أن يصلحهم. فقام الملك فمكث أيّاما وقد نزل بختنصّر وجنوده حول بيت المقدس بأكثر من الجراد، ففزع منهم بنو إسرائيل وشقّ عليهم. فقال ملكهم لإرميا: يا نبىّ الله، أين ما وعدك الله؟ قال: إنى بربّى واثق. ثم أقبل الملك إلى إرميا وهو قاعد على جدار بيت المقدس وهو يضحك ويستبشر بنصر ربّه الذى وعده، فقعد بين يديه وقال له: أنا الذى أتيتك فى شأن أهلى مرّتين. فقال إرميا: ألم يأن لهم أن يفيقوا من الذى هم فيه؟ فقال الملك: يا نبىّ الله، كل شىء يصيبنى منهم قبل اليوم كنت أصبر عليه، فاليوم رأيتهم فى عمل لا يرضى الله عزّ وجل. فقال إرميا: على أىّ عمل رأيتهم؟ قال: على عمل عظيم من سخط الله، فغضبت لله ولك وأتيتك لأخبرك. وإنى أسألك بالله الذى بعثك بالحقّ إلّا ما دعوت الله عليهم ليهلكهم. قال إرميا: يا ملك السموات والأرض إن كانوا على حقّ وصواب فأبقهم، وإن كانوا على سخطك وعمل لا ترضاه فأهلكهم. فلمّا خرجت الكلمة من فم إرميا أرسل الله عز وجل صاعقة من السماء فى بيت المقدس فالتهب مكان القربان وخسف بسبعة أبواب من أبوابها. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 151 فلمّا رأى ذلك إرميا صاح وشقّ ثيابه ونبذ الرّماد على رأسه وقال: يا ملك السموات والأرض، أين ميعادك الذى وعدتنى! فنودى: إنه لم يصبهم الذى أصابهم إلّا بفتياك ودعائك. فاستيقن إرميا أنها فتياه، وأن ذلك السائل كان رسول ربه. فطار إرميا حتى خالط الوحوش. ودخل بخنتصّر وجنوده بيت المقدس ووطئ الشام وقتل بنى إسرائيل حتى أفناهم وخرّب بيت المقدس؛ ثم أمر جنوده أن يملأ كلّ رجل منهم ترسه ترابا ثم يقذفه فى بيت المقدس، فقذفوا فيه التراب حتى ملئوه؛ ثم أمرهم أن يجمعوا من كان فى بلدان بيت المقدس كلّهم، فجمعوا عنده كل صغير وكبير من بنى إسرائيل، فاختار منهم مائة ألف صبىّ، وقيل سبعين ألف صبىّ. فلمّا خرجت غنائم جنده لتقسم قال له الملوك الذين كانوا معه: أيها الملك، لك غنائمها كلها، فآقسم بيننا هؤلاء الصّبيان الذين اخترتهم من بنى إسرائيل، ففعل ذلك، فأصاب كلّ رجل منهم أربعة غلمة. وكان من أولئك الغلمان دانيال وحنانيا وعزاريا وميشائيل «1» ، وسبعة آلاف من أهل بيت داود عليه السلام، وأحد عشر ألفا من سبط يوسف ابن يعقوب، وأخيه بنيامين عليه السلام، وثمانية آلاف من سبط أشرس «2» بن يعقوب، وأربعة عشر ألفا من سبط ريالون «3» بن يعقوب ونفتالى «4» بن يعقوب، وأربعة آلاف من سبط يهوذا بن يعقوب، وأربعة آلاف من سبط روبيل «5» ولاوى ابنى يعقوب، ومن بقى من بنى إسرائيل. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 152 قال: وجعل بختنصّر من بقى «1» من بنى إسرائيل ثلاث فرق، فثلثا أقرّ بالشام، وثلثا سبى، وثلثا قتل. وذهب بآنية بيت المقدّس وسلب حليّة حتى أقدم ذلك بابل، فكان على سبعين ألفا ومائة ألف عجلة من حلىّ. فذلك قوله تعالى: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً* فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ يعنى بختنصّر وأصحابه فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا «2» فهذه الواقعة الأولى التى أنزلها الله ببنى إسرائيل لاختلافهم وظلمهم. ولنصل هذا الفصل بخبر بختنصّر. ذكر خبر بختنصر وابتداء أمره وكيف ملك يقال فى اسمه: بختنصّر (بتشديد الصاد وإسكانها) ويقال فيه: بختناصر «3» . وقد اختلف فى أمره، فقال قوم: إنه ملك الدنيا أجمع. وقال آخرون: بل ملك بابل وما افتتحه. وقال قوم: إنما كان مرزبانا للهراسف الفارسىّ. وقال قوم: كان أصله من أبناء الملوك، وقيل: بل كان من الفقراء. وسنذكر إن شاء الله تعالى ما نقف عليه من ذلك. فمن ذلك ما رواه أبو إسحاق الثعلبىّ فى تفسير قوله عز وجل: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ.. الآيات بسند رفعه إلى سعيد بن جبير قال: كان رجل من بنى إسرائيل يقرأ التوراة، حتى إذا بلغ «بعثنا عليكم عبادا لنا أولى بأس شديد» بكى وفاضت عيناه ثم أطبق المصحف وقال: أى ربّ أرنى هذا الرجل الذى جعلت هلاك بنى إسرائيل على يديه؛ فأرى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 153 فى المنام مسكين ببابل يقال له بختنصّر، فانطلق بمال وأعبد له وكان رجلا موسرا. فقيل له: أين تريد؟ قال: أريد التجارة. فسار حتى نزل بابل، فنزل دارا فاكتراها، ليس فيها أحد غيره، فجعل يدعو المساكين ويلطف بهم حتى لا يأتيه أحد إلا أعطاه. فقال: هل بقى مسكين غيركم؟ قالوا: نعم، مسكين بفجّ آل فلان مريض يقال له بختنصّر. فقال لغلمته: انطلقوا بنا، فانطلق حتى أتاه فقال له: ما اسمك؟ قال بختنصّر. فقال لغلمته: احتملوه، فنقله إليه فمرّضه حتى برئ، فكساه وأعطاه نفقة، ثم آذن الإسرائيلىّ بالرحيل، فبكى بختنصّر. فقال له الإسرائيلىّ: ما يبكيك؟ قال: أبكى أنك فعلت بى ما فعلت، ولا أجد شيئا أجزيك به. قال: بلى، شيئا يسيرا. فقال له: وما هو؟ قال: إن ملّكت أطعتنى. فجعل يتبعه ويقول: تستهزئ بى! ولا يمنعه من أن يعطيه ما سأله إلّا أنه يرى أنه يستهزئ به. فبكى الإسرائيلى وقال: لقد علمت ما يمنعك مما سألتك إلّا أنّ الله تعالى يريد أن ينفّذ ما قد أمضى وكتب فى كتابه. قال: وضرب الدهر ضربانه «1» فقال صيحون «2» وهو ملك فارس ببابل: لو أنّا بعثنا طليعة إلى الشام؟ قالوا: وما ضرّك لو فعلت؟ قال: فمن ترون؟ قالوا: فلان. فبعث رجلا وأعطاه مائة ألف فارس، وخرج بختنصّر فى مطبخه لا يخرج إلا ليأكل من مطبخه [ويعيش منه «3» ] . فلمّا قدم الشام رأى صاحب الطليعة أكثر خلق الله فرسانا ورجالا، فكسر ذلك فى ذرعه فلم يسأل. فجعل بختنصّر يجلس فى مجالس الجزء: 14 ¦ الصفحة: 154 أهل الشام فيقول: ما يمنعكم أن تغزوا بابل! فلو غزوتموها فما دون بيت ما لها شىء. قالوا: لا نحسن القتال ولا نقاتل، حتى انتفذ مجالس أهل الشام. ثم رجع أمير الطليعة فأخبر الملك بما رأى. وجعل بختنصّر يقول لفوارس الملك: لو دعانى الملك لأخبرته غير ما أخبره فلان. فرفع ذلك إلى الملك فدعاه، فقال: إنّ فلان لمّا رأى أكثر أرض الله كراعا «1» ورجالا كسر ذلك فى ذرعه ولم يسألهم عن شىء، وإننى لم أدع مجلسا بالشام إلا جالست أهله فقلت لهم كذا وكذا، فقالوا لى كذا وكذا. فقال صاحب الطليعة لبختنصّر: بصحبتى لك مائة ألف دينار وتنزع عما قلت. قال: لو أعطيتنى بيت مال بابل ما نزعت. فضرب الدهر ضربانه فقال الملك: لو بعثنا جريدة خيل الى الشام، فإن وجدوا مساغا ساغوا وإلّا استبلوا ما قدروا عليه. قالوا: ما ضرّك لو فعلت؟ قال: فمن ترون؟ قالوا: فلان. قال: بل الرجل الذى أخبرنى بما أخبرنى. فدعا بختنصّر وأرسله وانتخب معه أربعة آلاف من فرسانهم، فانطلقوا فجاسوا خلال الديار، فسبوا ما شاء الله ولم يخرّبوا ولم يقتلوا. ومات صيحون الملك، فقالوا: استخلفوا رجلا. فقالوا: على رسلكم حتى يأتى أصحابكم فإنهم فرسانكم. فأمهلوا [وأخرّوا «2» ذلك] حتى جاء بختنصّر بالسّبى وما معه، فقسم ذلك فى الناس. فقالوا: ما رأينا أحدا أحقّ بالملك من هذا فملّكوه. قال: وقال السّدّىّ بإسناده: إنّ رجلا من بنى إسرائيل رأى فى المنام أنّ خراب بيت المقدس وهلاك بنى إسرائيل على يدى غلام يتيم ابن أرملة من أهل بابل يدعى بختنصّر، وكانوا يصدقون فتصدق رؤياهم. فأقبل فسأل عنه حتى نزل على أمه وهو يحتطب. فلمّا جاء وعلى رأسه الحطب ألقى الحزمة ثم قعد فى جانب الجزء: 14 ¦ الصفحة: 155 من البيت، فكلّمه ثم أعطاه ثلاثة دراهم وقال: اشتر بهذه طعاما وشرابا، فاشترى بدرهم لحما، وبدرهم خبزا، وبدرهم خمرا؛ فأكلوا وشربوا، حتى إذا كان اليوم الثانى فعل به كذلك؛ وفى اليوم الثالث كذلك. ثم قال: إنى أحبّ أن تكتب لى أمانا إن أنت ملّكت يوما من الدهر. قال: تسخّر منّى؟ قال: إنى لا أسخر منك، ولكن ما عليك أن تتّخذها عندى يدا! فكلّمته أمّه فقالت: ما عليك إن كان، وإلّا لم ينقصك شيئا، فكتب له أمانا. فقال له: أرأيت إن جئت والناس حولك قد حالوا بينى وبينك فاجعل لى آية تعرفنى بها. قال: ترفع صحيفتك على قصبة فأعرفك بها، فكساه وأعطاه. ثم إنّ ملك بنى إسرائيل كان يكرم يحيى بن زكريا عليهما السلام ويدنى مجلسه ويستشيره فى أمره ولا يقطع أمرا دونه، وإنه هوى أن يتزوّج بنت امرأته. - قال وقيل: كانت بنت أخيه، قال الثعلبىّ: وهو الأصحّ «1» إن شاء الله- فسأله عن ذلك، فنهاه عن نكاحها وقال: لن أرضاها لك. فبلغ ذلك أمّها فحقدت على يحيى عليه السلام حين نهاه أن يتزوّج بنتها، فعمدت أمّ الجارية حين جلس الملك على شرابه فألبستها ثيابا رقاقا حمراء وطيبّتها وألبستها من الحلىّ، وألبستها فوق ذلك كساء أسود وأرسلتها الى الملك، وأمرتها أن تسقيه وأن تتعرّض إليه، فإن أرادها على نفسها أبت عليه حتى يعطيها ما سألته، فإذا أعطاها ذلك سألته أن يؤتى برأس يحيى بن زكريا فى طست، ففعلت. فلمّا أخذ منه الشراب أرادها على نفسها، فقالت: لا أفعل حتى تعطينى ما أسألك. قال: ما تسألينى؟ قالت: أسألك الجزء: 14 ¦ الصفحة: 156 أن تبعث إلى يحيى بن زكريّا فتؤتى برأسه فى طست. فقال: ويحك! سلينى غير هذا. قالت: ما أريد إلّا هذا. فلمّا أبت عليه بعث إليه فأتى برأسه، والرأس يتكلّم حتى وضع بين يديه وهو يقول: لا يحلّ لك. فلمّا أصبح إذا دمه يغلى، فأمر بتراب فألقى عليه، فرقى الدم فوق التراب يغلى، فألقى عليه أيضا فارتفع الدم فوقه، فلم يزل يلقى عليه من التراب حتى بلغ سور المدينة وهو فى ذلك يغلى. فبلغ صيحون ملك بابل ذلك فنادى فى الناس، وأراد أنّ يبعث إليهم جيشا [ويؤمّر عليهم رجلا «1» ] . فأتاه بختنصّر فكلّمه وقال: إنّ الذى كنت أرسلت تلك المرّة ضعيف، وإنّى قد دخلت المدينة وسمعت كلام أهليها [فابعثنى «2» ] فبعثه. فسار بختنصّر، حتى إذا بلغوا ذلك المكان تحصّنوا منه فى مدائنهم فلم يطقهم. فلمّا اشتدّ عليه المقام وجاع أصحابه وأرادوا الرجوع خرجت امرأة عجوز من عجائز بنى إسرائيل فقالت: أين أمير الجند؟ فأتى بها إليه. فقالت: إنه بلغنى أنك تريد أن ترجع بجندك قبل أن تفتح هذه المدينة. قال: نعم، قد طال مقامى وجاع أصحابى، فلست أستطيع المقام فوق الذى كان منّى. فقالت: أرأيتك إن فتحت لك المدينة أتعطينى ما أسألك، فتقتل من أمرتك بقتله، وتكفّ إذا أمرتك أن تكفّ؟ فقال لها نعم. قالت: إذا أصبحت فاقسم جندك أربعة أرباع، ثم اجعل فى كل زاوية ربعا، ثم ارفعوا أيديكم إلى السماء فنادوا: إنّا نستفتحك يا الله بدم يحيى بن زكريّا، فإنها سوف تسّاقط، ففعلوا؛ فتساقطت المدينة فدخلوا من جوانبها. فقالت: كفّ يدك واقتل على هذا الدم حتى يسكن، وانطلقت به الى دم يحيى بن زكريّا، وهو على تراب كثير، فقتل عليه حتى سكن، فقتل سبعين ألفا. فلمّا سكن الدم قالت له: كفّ يدك فإنّ الله تعالى إذا قتل نبىّ لم يرض حتى يقتل من قتله ومن رضى قتله. وأتاه الجزء: 14 ¦ الصفحة: 157 صاحب الصحيفة بصحيفته فكفّ عنه وعن أهل بيته، وخرّب بيت المقدس وأمر أن تطرح الجيف فيه، وقال: من طرح فيه جيفة فله جزيته تلك السنة. قال: وأعانه الروم على خرابه من أجل أنّ بنى إسرائيل قتلوا يحيى بن زكريا. قال: فلمّا خرّبه بختنصّر ذهب معه بوجوه بنى إسرائيل وسراتهم وذهب بدانيال وقوم من أولاد الأنبياء وذهب معه برأس جالوت الملك، فلمّا قدم وجد صيحون ملك بابل قد مات فملّك مكانه. ذكر خبر بختنصّر مع دانيال قال: ولمّا سار بختنصّر إلى بابل وملّك بعد موت الملك كان معه دانيال، وكان أكرم الناس عليه هو وأصحابه، فحسدهم المجوس على ذلك، فوشوا بهم إليه وقالوا: إنّ دانيال وأصحابه لا يعبدون إلهك ولا يأكلون ذبيحتك. فدعاهم فسألهم؛ فقالوا: أجل، إنّ لنا ربّا نعبده، ولسنا نأكل من ذبيحتكم. فأمر أن يخدّ» لهم أخدود فخدّ لهم وألقوا فيه وهم ستّة، وألقى معهم سبع ضار ليأكلهم، ثم قال: اذهبوا بنا لنأكل ونشرب، فذهبوا فأكلوا وشربوا، ثم عادوا فوجدوهم سبعة والسبع مفترش ذراعيه بينهم ولم يخدش منهم أحدا. فقالوا: ما بال هذا السابع إنما كانوا ستّة! فخرج السابع إلى بختنصّر، وكان ملكا من الملائكة، فلطمه لطمة فصار من الوحش [ومسخه «2» الله] سبع سنين، [ثم ردّه الله الى صورته وردّ عليه ملكه «3» ] . هذا ما حكاه السّدىّ. وروى الثعلبىّ بسنده إلى وهب قال: لمّا سار بختنصّر الى بابل وملّك بعد موت ملكها واستتبّ أمره لبث على ذلك مدّة، ثم رأى رؤيا عجيبة فأفزعته وسأل عنها الكهنة والسحرة فعجزوا عن تعبيرها. فبلغ ذلك دانيال وكان فى السجن الجزء: 14 ¦ الصفحة: 158 مع أصحابه وقد أحبّه صاحب السجن وأعجب به لمّا رأى من حسن سمته. فقال له دانيال: إنك قد أحسنت إلىّ، وإنّ صاحبكم قد رأى رؤيا، فدلّه علىّ لأعبرّها له. فجاء السجّان فأخبر بختنصّر بقصّة دانيال، فاستدعاه فجاء إليه. وكان من عادة من حضر بين يدى الملك أن يسجد له، فلما أتوا بدانيال قام بين يديه ولم يسجد له. فقال: ما الذى منعك من السجود؟ فقال: إن لى ربّا آتانى العلم والحكمة وأمرنى ألّا أسجد لغيره، فخشيت إن سجدت لغيره أن ينزع منّى الحكمة والعلم ويهلكنى. فأعجب به وقال: نعم ما فعلت حيث وفّيت بعهده، وأجللت علمه؛ ثم قال: هل عندك علم هذه الرؤيا؟ قال: نعم وأبشر، فأخبره برؤيا قبل أن يخبره الملك بها، وعبّرها له. قال الثعلبىّ: وكانت الرؤيا على ما أخبرنا به عبد الله بن حامد فى إسناده عن وهب بن منبّه قال: إنّ بختنصّر رأى فى آخر زمانه صنما رأسه من ذهب، وصدره من فضّة، وبطنه من نحاس، وفخذاه من حديد، وساقاه من فخّار، ثم رأى حجرا من السماء وقع عليه فدقّه، ثم ربا الحجر حتى ملأ ما بين المشرق والمغرب، ورأى شجرة أصلها فى الأرض وفرعها فى السماء، ثم رأى عليها رجلا بيده فأس وسمع مناديا ينادى: اضرب جذعها ليتفرّق الطير من فروعها، وتتفرّق الدوابّ والسباع من تحتها، واترك أصلها قائما. فعبّرها دانيال عليه السلام له فقال: أمّا الصنم الذى رأيت، فأنت الرأس وأنت أفضل الملوك. وأما الصدر الذى من فضة فابنك يملك من بعدك. وأما البطن الذى رأيت من نحاس فملك يكون بعد ابنك. وأما ما رأيت من الفخذين من حديد فيتفرّق الناس فرقتين فى فارس يكون أشدّ الملوك. وأما الفخّار فآخر ملكهم يكون دون الحديد. وأما الحجر الذى رأيته قد ربا حتى ملأ ما بين المشرق والمغرب فنبىّ يبعثه الله تعالى فى آخر الزمان فيفرّق ملكهم كلّه، ويربو ملكه حتى يملأ ما بين المشرق والمغرب. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 159 وأما الشجرة التى رأيت والطير التى عليها والسّباع والدوابّ التى تحتها وما أمر بقطعها، فيذهب ملكك ويردّك الله طائرا تكون نسرا ملك الطير، ثم يردّك الله ثورا ملك الدوّاب، ثم يردّك الله أسدا ملك السباع والوحش سبع سنين، وفى كل ذلك قلبك قلب إنسان، حتى تعلم أنّ الله له ملك السموات والأرض، يقدر على الأرض ومن عليها، وكما رأيت أصلها قائما فإن ملكك قائم. قال: فمسخ بختنصّر نسرا فى الطيور، وثورا فى الدوّاب، وأسدا فى السباع، فكان مسخه كله سبع سنين، ثم ردّ الله تعالى إليه ملكه، فآمن ودعا الناس إلى الله تعالى. قال: وسئل وهب بن منبّه: أكان بختنصّر مؤمنا؟ فقال: وجدت أهل الكتاب قد اختلفوا فيه، فمنهم من قال: مات مؤمنا، ومنهم من قال: مات كافرا؛ لأنه حرّق بيت المقدس وكتب الله وقتل الأنبياء، فغضب الله تعالى عليه ولم يقبل توبته. قالوا: فلمّا عبّر دانيال لبختنصّر رؤياه أكرمه وصحبه واستشاره فى أموره وقرّبه منه حتى كان أكرم الناس عليه وأحبّهم إليه، فحسده المجوس على ذلك ووشوا به وبأصحابه الى بختنصّر فقالوا: إنّ دانيال وأصحابه لا يعبدون إلهك، ولا يأكلون ذبيحتك. فدعاهم وسألهم فقالوا: إنّ لنا ربّا نعبده ولسنا نأكل من ذبائحكم. فأمر بختنصّر بأخدود، فخدّ لهم وألقوا فيه، وهم ستّة، وألقى معهم سبع ضار ليأكلهم، ثم قالوا: انطلقوا لنأكل ونشرب، فأكلوا وشربوا، ثم راحوا فوجدوهم جلوسا والسبع مفترش ذراعيه بينهم ولم يخدش منهم أحدا ولم ينكأهم «1» بشىء، ووجدوا معهم رجلا فعدوّهم فوجدوهم سبعة، فقالوا: ما بال هذا السابع وإنما الجزء: 14 ¦ الصفحة: 160 كانوا ستّة! فخرج إليهم السابع، وكان ملكا من الملائكة، فلطم بختنصّر لطمة فصار فى الوحوش، ومسخه الله تعالى سبع سنين ثم ردّه الله تعالى إلى صورته وردّ عليه ملكه. قال السّدىّ: ثم إن بختنصر لمّا رجع إلى صورته بعد المسخ وردّ الله تعالى عليه ملكه، كان دانيال وأصحابه أكرم الناس عليه، فحسدته المجوس ووشوا به ثانية فقالوا لبخنتصّر: إنّ دانيال إذا شرب الخمر لم يملك نفسه أن يبول، وكان ذلك فيهم عار. فجعل بختنصّر لهم طعاما وشرابا فأكلوا وشربوا وقالوا للبوّابين: أنظروا أوّل من يخرج إليكم ليبول فاضربوه بالطّبرزين «1» ، وإن قال لكم أنا بختنصّر فقولوا له: كذبت، بختنصّر أمرنا بهذا. فحبس الله تعالى عن دانيال البول، وكان أوّل من قام من القوم يريد البول بختنصّر. فقام مدلّا وذلك ليلا، فخرج يسحب ثيابه، فشدّ عليه البوّاب فقال: أنا بختنصّر. فقال: كذبت، بختنصّر أمرنى أن أقتل أوّل من يخرج، فضربه فقتله. وحكى محمد بن إسحاق بن يسار فى سبب هلاك بختنصّر غير ما حكاه السّدّىّ، وذلك أنه قال بإسناده: لمّا أراد الله تعالى هلاك بختنصّر انبعث فقال لمن كان فى يده من بنى إسرائيل: أرأيتم هذا البيت الذى خرّبته، وهؤلاء الناس الذين قتلتهم من هم؟ وما هذا البيت؟ قالوا: هذا بيت الله ومسجد من مساجده، وهؤلاء أهله، كانوا من ذرارى الأنبياء فظلموا وتعدّوا وعصوا، فسلّطت عليهم بذنوبهم، وكان ربّهم ربّ السموات والأرض وربّ الخلق كلهم، يكرمهم ويمنعهم الجزء: 14 ¦ الصفحة: 161 ويعزّهم، فلمّا فعلوا ما فعلوا أهلكهم الله تعالى وسلّط عليهم غيرهم. قال: فأخبرونى ما الذى يطلع بى الى السماء العليا لعلّى أطّلع إليها وأقتل من فيها وأتّخذها ملكا فإنى قد فرغت من الأرض ومن فيها؟ قالوا: ما يقدر على هذا أحد من الخلائق. قال: لتفعلنّ أو لأقتلّنكم عن آخركم. فبكوا وتضرّعوا إلى الله تعالى، فبعث الله عز وجل عليه بقدرته ليريه ضعفه وهوانه بعوضة فدخلت فى منخره ثم ساخت فيه حتى عضّت بأمّ دماغه فما يقرّ ولا يسكن حتى يوجأ «1» له رأسه على أمّ دماغه. فلمّا عرف أنه الموت قال لخاصّته من أهله: اذا متّ فشقّوا رأسى فانظروا ما هذا الذى قتلنى. فلمّا مات شقّوا رأسه فوجدوا البعوضة عاضّة بأمّ دماغه ليرى الله تعالى عباده قدرته وسلطانه، ونجّى الله تعالى من بقى فى يديه من بنى إسرائيل وردّهم إلى إيليا والشام، فبنوا فيه وربوا وكثروا حتى كانوا كأحسن ما كانوا عليه. قال: فيزعمون أنّ الله تعالى أحيا أولئك الموتى الذين قتلوا ولحقوابهم. قال: ثم إنهم لمّا رجعوا الى الشام وقد أحرق التوراة وليس معهم عهد من الله تعالى جدّد الله عز وجل توراتهم وردّها عليهم على لسان عزير، على ما نذكره إن شاء الله تعالى. قال: وكان عمر بختنصّر بأيام مسخه نيّفا وخمسين سنة وخمسين يوما. فلمّا مات بختنصّر استخلف [ابنه «2» ] بلسطاس «3» . وكانت آنية بيت المقدّس التى حملها بختنصّر إلى بابل باقية، فنجّسها بلحوم الخنازير وأكل وشرب فيها، وأقصى دانيال ولم يقبل منه، واعتز له دانيال. فبينما بلسطاس ذات يوم إذ بدت له كف بغير ساعد وكتبت ثلاثة أحرف بمشهده ثم غابت، فعجب من ذلك ولم يدر ما هى، فاستدعى دانيال واعتذر اليه وسأله أن يقرأ تلك الكتابة ويخبره بتأويلها. فقرأها دانيال، فإذا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 162 هى: «بسم الله الرحمن الرحيم. وزن فخفّ «1» ، ووعد فنجز، وجمع فتفرّق» . فقال دانيال: أمّا قوله وزن فخفّ، أى وزن عملك فى الميزان فخفّ. ووعد ملك فنجز اليوم، وجمع فتفرّق، أى جمع لك ولوالدك من قبلك ملك عظيم فتفرّق اليوم فلا يرجع إلى يوم القيامة. فلم يلبث إلا قليلا حتى أهلكهم الله تعالى وضعف ملكهم، وبقى دانيال بأرض بابل إلى أن مات بالسّوس «2» . فهذه الأقاويل التى وردت فى بختنصّر هى على ما جاء فى التفسير «3» والمبتدا «4» . وأمّا قول من قال إنه كان مرزبانا للهراسف الملك الفارسىّ فسنذكره إن شاء الله تعالى فى أخبار ملوك الفرس، على ما تقف عليه إن شاء الله تعالى فى موضعه وهو فى الباب الثالث من القسم الرابع من هذا الفنّ فى السفر الثالث عشر من هذه النسخة من كتابنا هذا. وهذه الاخبار التى قدّمنا ذكرها أوردها أبو إسحاق الثعلبىّ فى تفسيره وفى كتابه المترجم ب «يواقيت البيان فى قصص القرآن» . وقال فى تفسيره: إلّا أنّ رواية من روى أن بختنصّر غزا بنى إسرائيل عند قتلهم يحيى بن زكريّا عليهما السلام غلط عند أهل السّير والأخبار والعلم بأمور الماضين من أهل الكتاب والمسلمين. وذلك أنهم مجمعون على أن بختنصّر غزا بنى إسرائيل عند قتلهم نبيّهم شعيا وفى عهد إرميا بن حلقيّا عليهم السلام، وهى الوقعة الأولى التى قال الله تعالى: فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا يعنى بختنصّر وجنوده. قال الثعلبىّ قالوا: ومن عهد إرميا وتخريب بختنصّر البيت المقدّس الى مولد يحيى بن زكريّا أربعمائة سنة وإحدى وستون سنة. والله أعلم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 163 ذكر خبر عمارة بيت المقدس بعد أن خرّبه بختنصّر وخبر الذى مرّ على قرية قال الله عز وجل: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ «1» ... الآية. قال أبو إسحاق الثعلبىّ رحمه الله: اختلفوا فى ذلك المارّ من كان، فقال عكرمة وقتادة والرّبيع بن أنس والضحّاك والسّدّىّ وناجية بن كعب وسليمان بن بريدة «2» وسلم الخوّاص: هو عزير بن شرخيا. وقال وهب بن منبّه وعبد الله بن عبيد ابن عمير: هو إرميا بن حلقيّا، وكان من سبط هارون بن عمران، وقد تقدّم ذكره. قال: واختلفوا أيضا فى القرية التى مرّ عليها، فقال وهب وعكرمة وقتادة والربيع: هى بيت المقدس. وقال الضحّاك: هى الأرض المقدّسة. وقال ابن زيد: هى الأرض التى أهلك الله تعالى بها الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت. وقال الكلبىّ: هى دير سابرا باذ. وقال السّدّىّ: هى سلماباذ. وقيل: هى ذيرهزقل «3» . وقيل: هى قرية العنب، وهى على فرسخين من بيت المقدس. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 164 قال فالذى يقول: إن المارّ إرميا وإنّ القرية بيت المقدّس، هو ما رواه محمد ابن إسحاق بن يسار عن وهب بن منبّه: أنه لمّا كان من أمر إرميا ما قدّمناه، وأنه طار لمّا التهب مكان القربان وخسف بسبعة أبواب من أبواب بيت المقدس حتى خالط إرميا الوحش ودخل بختنصّر وجنوده بيت المقدس وخرّب كما تقدّم. فلمّا رجع بختنصّر عن بيت المقدّس أقبل إرميا على حمار له معه عصير عنب فى ركوة «1» وسلّة تين حتى غشى إيلياء «2» . فلمّا وقف عليها ورأى خرابها قال: «أنّى يحيى هذه الله بعد موتها» !. قال: ثم ربط إرميا حماره بحبل جديد، فألقى الله تعالى عليه النوم، فلمّا نام نزع منه الرّوح مائة عام وأمات حماره، وعصيره وتينه عنده، وأعمى الله تعالى عنه العيون فلم يره أحد وذلك ضحى، ومنع الله السباع والطير لحمه. فلمّا مضى من نومه سبعون سنة أرسل الله عز وجل ملكا إلى ملك عظيم من ملوك فارس يقال له: «بوسك «3» » فقال له: إن الله عز وجل يأمرك أن تنفر بقومك فتعمّر بيت المقدس وإيلياء وأرضها حتى تعود أحسن ما كانت، فانتدب الملك ألف قهرمان مع كل قهرمان ثلاثمائة ألف عامل، فجعلوا يعمّرونها فعمّرت، ونجّى الله تعالى من بقى من بنى إسرائيل ولم يمت ببابل أحد منهم وردّهم الله تعالى إلى بيت المقدس وعمّروها ثلاثين سنة حتى كانوا كأحسن ما كانوا عليه؛ وذلك بعد أن خرّبت سبعين سنة. فلمّا مضت المائة سنة أحيا الله عز وجل منه عينيه وسائر جسده ميّت، ثم أحيا جسده وهو ينظر، ثم نظر إلى حماره فإذا عظامه متفرّقة بيض تلوح، فسمع صوتا من السماء: أيّتها العظام البالية إن الله الجزء: 14 ¦ الصفحة: 165 يأمرك أن تجتمعى، فاجتمع بعضها إلى بعض واتّصل بعضها ببعض. ثم نودى: إن الله يأمرك أن تكتسى لحما وجلدا فكان كذلك. ثم نودى: إن الله يأمرك أن تحيا، فقام بإذن الله ونهق. وعمّر الله تعالى إرميا، فهو الذى يرى فى الفلوات؛ فذلك قوله تعالى: فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ أى أحياه قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ وذلك أن الله تعالى أماته ضحى فى أوّل النهار وأحياه بعد مائة عام فى آخر النهار قبل غيبوبة الشمس، فقال: «لبثت يوما» ، وهو يرى أن الشمس قد غربت، ثم التفت فرأى بقيّة من الشمس فقال: «أو بعض يوم» ، بمعنى بل بعض يوم قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ يعنى التّين وَشَرابِكَ يعنى العصير لَمْ يَتَسَنَّهْ أى لم يتغيّر وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ «1» . قال وهب: ليس فى الجنة كلب ولا حمار إلا كلب أصحاب أهل الكهف وحمار إرميا الذى أماته الله مائة عام ثم بعثه. هذا قول من قال إنه إرميا بن حلقيّا. وأمّا من قال إنه عزير، فإنه يقول: إنّ بختنصّر لمّا خرّب بيت المقدس قتل أربعين ألفا من قرّاء التوراة والعلماء، وقتل منهم أبا عزير وحده. وكان عزير يومئذ غلاما قد قرأ التوراة وتقدّم فى العلم، وأقدمه بختنصّر مع بنى إسرائيل إلى أرض بابل، وهو من ولد هارون. فلمّا نجا عزير من بابل ارتحل على حمار حتى نزل على دير هزقل على شطّ دجلة، وطاف فى القرية فلم يرفيها أحدا، وعامّة شجرها حامل، فأكل من الفاكهة واعتصر من العنب وشرب منه، وجعل فضل الفاكهة الجزء: 14 ¦ الصفحة: 166 فى سلّة وفضل العصير فى زقّ. فلمّا رأى خراب القرية وهلاك أهلها قال: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها الآية، وساق فيه نحو ما تقدّم فى خبر إرميا. وقال قوم فى قوله تعالى: وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ إنّ الله تعالى لم يمت حماره فأحيا الله تعالى عينيه ورأسه وسائر جسده ميّت فقال له: «أنظر الى حمارك» فنظر الى حماره قائما كهيئته يوم ربطه حيّا، لم يطعم ولم يشرب مائة عام، ونظر الى الرّمّة فى عنقه جديدة؛ وهذا قول الضحّاك وقتادة. وقال الآخرون: أراد عظام حماره كما تقدّم فى قصّة إرميا. وقوله تعالى: وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ أى عبرة ودلالة على البعث بعد الموت. وقال الضحّاك: وهو أنه عاد إلى قريته وأولاده وأولاد أولاده شيوخ وعجائز وهو أسود الرأس واللّحية. وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: أحيا الله تعالى عزيرا بعد مائة سنة، فركب حماره حتى جاء محلّته «1» ، فأنكره الناس وأنكر الناس ومنازله، فانطلق على وهم حتى أتى منزله، وإذا هو بعجوز عمياء قد أتى عليها مائة وعشرون سنة، وكانت أمة لهم، فخرج عنهم عزير وهى ابنة عشرين سنة، وكانت قد عرفته وعقلته؛ فلما أصابها الكبر والزّمن «2» قال لها عزير: يا هذه، هذا منزل «3» عزير؟ قالت: نعم هذا منزل عزير وبكت وقالت: ما رأيت أحدا من كذا وكذا سنة يذكر عزيرا وقد نسيه الناس. قال: فإنى عزير. قالت: سبحان الله! فإنّ عزيرا قد فقدناه من مائة سنة. قال: فإنّى أنا عزير، إنّ الله أماتنى مائة سنة ثم بعثنى. قالت: فإن عزيرا كان رجلا مجاب الدعوة، يدعو للمريض وصاحب البلاء بالعافية والشفاء، فادع الله الجزء: 14 ¦ الصفحة: 167 يردّ علىّ بصرى حتى أراك، فإن كنت عزيرا عرفتك. فدعا ربّه تعالى فاستجاب له ومسح بيده على وجهها وعينيها فصحّتا، وأخذ بيدها وقال لها: قومى بإذن الله تعالى، فأطلق الله رجليها، فقامت صحيحة كأنما نشطت من عقال، فنظرت اليه فقالت: أشهد أنك عزير. فانطلقت إلى محلّة بنى إسرائيل وهم فى أنديتهم ومجالسهم وابن لعزير شيخ ابن مائة سنة وثمانية عشر سنة وبنو ابنه شيوخ فى المجالس، فنادت: هذا عزير قد قدم وجاءكم، فكذّبوها. فقالت: وأنا فلانة مولاتكم دعا لى ربّه فردّ الله علىّ عبنىّ وأطلق رجلىّ، وزعم أنّ الله أماته مائة عام ثم بعثه. فنهض الناس وأقبلوا إليه، فقال ابنه: إنه كان لأبى شامة سوداء مثل الهلال بين كتفيه، فكشف عن كتفيه وإذا هو عزير. وأمّا خبر فتنة اليهود به وقولهم عزير ابن الله، فقد روى عطيّة العوفىّ عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: كان عزير من أهل الكتاب، وكانت التوراة عندهم، فعملوا بها ما شاء الله تعالى أن يعملوا، ثم أضاعوها وعملوا بغير الحقّ، وكان التابوت فيهم. فلمّا رأى الله تعالى أنهم قد أضاعوا التوراة وعملوا بالأهواء رفع عنهم التابوت وأنساهم التوراة ونسخها من صدورهم، وأرسل عليهم مرضا، فاستطلقت بطونهم، حتى إنّ الرجل يمسّ كبده، حتى نسوا التوراة وفيهم عزير. فمكثوا ما شاء الله أن يمكثوا بعد ما نسخت التوراة من صدورهم. وكان عزير دعا الله وابتهل إليه أن يردّ إليه الذى نسخ من صدورهم. فبينما هو يصلّى ويبتهل إلى الله تعالى إذ نزل نور من السماء فدخل فى جوفه، فعاد إليه الذى كان ذهب من التوراة، فأذّن فى قومه فقال: يا قوم، قد أتانى الله التوراة وردّها إلىّ، فطفق يعلّمهم، فمكثوا ما شاء الله وهو يعلّمهم. ثم إنّ التابوت نزل بعد ذلك. فلمّا رأوا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 168 التابوت عرضوا ما كان فيه على الذى كان يعلّمهم عزير فوجدوه مثله، فقالوا: والله ما أوتى عزير هذا إلّا وهو ابن الله. وقال السّدّىّ وابن عبّاس فى رواية عمّار بن ياسر: إنما قالت اليهود هذا لأنّ العمالقة ظهرت عليهم فقتلوهم وأخذوا التوراة وهرب علماؤهم الذين بقوا ودفنوا التوراة فى الجبال وغيرها، ولحق عزير بالجبال والوحوش، وجعل يتعبّد فى رءوس الجبال ولا يخالط الناس ولا ينزل إلّا يوم عيد، وجعل يبكى ويقول: يا ربّ تركت بنى إسرائيل بغير عالم، فبكى حتى سقطت أشفار عينيه، فنزل مرّة الى العيد، فلمّا رجع إذا هو بامرأة قد تمثّلت له عند قبر من القبور تبكى وتقول: يا مطعماه، ويا كاسياه!. فقال لها عزير: يا هذه اتقى الله واصبرى واحتسبى، أما علمت أنّ الموت مكتوب على الناس!. وقال لها: ويحك! من كان يطعمك ويكسوك قبل هذا الرجل؟ (يعنى زوجها التى كانت تندبه) . قالت له: الله تعالى. قال: فإن الله تعالى حىّ لا يموت. فقالت: يا عزير، من كان يعلّم العلماء قبل بنى إسرائيل؟ قال: الله. قالت: فلم تبكى عليهم وقد علمت أنّ الموت حقّ وأن الله حىّ لم يمت. فلمّا علم عزير أنه قد خصم ولّى مدبرا. فقالت له: يا عزير، لست بامرأة ولكنّى الدنيا. أما أنه ستنبع لك فى مصلّاك عين وتنبت لك شجرة، فكلّ من ثمرة تلك الشجرة واشرب من ماء تلك العين واغتسل وصلّ ركعتين؛ فإنه سيأتيك شيخ، فما أعطاك فخذ منه. فلمّا أصبح نبعت العين فى مصلّاه ونبتت الشجرة، ففعل ما أمرته به، وجاء شيخ وقال له: افتح فاك، ففتح فاه فألقى فيه شيئا كهيئة الجمرة العظيمة مجتمعا كهيئة القوارير ثلاث مرّات، ثم قال له: ادخل هذه العين فامش فيها حتى تبلغ قومك. قال: فدخلها فجعل لا يرفع قدمه إلّا زيد فى علمه، فرجع إليهم وهو أعلم الناس بالتوراة. فقال: يا بنى إسرائيل، قد جئتكم بالتوراة. فقالوا: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 169 يا عزير، ما كنت كذّابا. فربط على كلّ إصبع له قلما وكتب بأصابعه كلها حتى كتب التوراة كلّها عن ظهر قلبه، فأحيا لبنى إسرائيل التوراة وأحيا لهم السّنّة. فلمّا رجع العلماء استخرجوا كتبهم التى كانوا دفنوها، فعارضوا بها توراة عزير فوجدوها مثلها، فقالوا: ما أعطاه الله تعالى هذا إلّا أنه ابنه. وقال الكلبىّ: إنّ بختنصّر لمّا ظهر على بنى إسرائيل وهدم بيت المقدس وقتل مرّة قرّاء التوراة، كان عزير إذ ذاك غلاما صغيرا، فاستضعفه فلم يقتله، ولم يدر أنه يقرأ التوراة. فلمّا توفّى مائة سنة ورجعت بنو إسرائيل إلى بيت المقدس وليس منهم من يقرأ التوراة بعث الله عز وجل عزيرا ليجدّد لهم التوراة ويكون لهم آية، فأتاهم فقال: أنا عزير. فكذّبوه وقالوا: إن كنت عزيرا كما تزعم فاتل علينا التوراة. فكتبها وقال: هذه التوراة. ثم إنّ رجلا قال: إنّ أبى حدّثنى عن جدّى أن التوراة جعلت فى خابية ثم دفنت فى كرم. فانطلقوا معه حتى احتفروها وأخرجوا التوراة، فعارضوها بما كتب عزير فلم يجدوه غادر منها [آية ولا «1» ] حرفا، فعجبوا وقالوا: إن الله لم يقذف التوراة فى قلب رجل واحد منّا بعد ما ذهبت من قلوبنا إلّا أنه ابنه؛ فعند ذلك قالت اليهود: عزير ابن الله. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 170 الباب الرابع من القسم الثالث من الفن الخامس فى قصة ذى النّون يونس بن متّى عليه السلام وخبر بلوقيا ذكر قصة ذى النّون يونس بن متّى عليه السلام قال الكسائىّ رحمه الله قال وهب بن منبّه: كان متّى رجلا صالحا من أهل بيت النبوّة، ولم يرزق الولد الى آخر عمره بعد أن أسنّ هو وزوجته، فسأل الله تعالى الولد، فنودى: إنّ الله قد استجاب دعاءك، فانطلق إلى حضيرة التوبة، وهو الموضع الذى أمر الله تعالى بنى إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم فيه لمّا عبدوا العجل. فصار إلى هناك وإذا بملك قد هبط من السماء فضرب قبة على باب حضيرة التوبة، وذلك فى ليلة عاشوراء، وأمرهما أن يدخلاها فدخلا وواقعها، فحملت بيونس، ثم انصرفا إلى منزلها. فلمّا صار لها أربعة أشهر توفّى متّى وبقيت امرأته أرملة ليس لها إلّا قصعة كانت لآل هارون، فكانت تصيب رزقها فى المساء والصباح من عند الله. فلمّا وضعت يونس لم يكن لها لبن يكفيه، فكانت أمّه تأتى إلى الرّعاة وتسألهم اللبن فلا يجيبونها، فكانت تقول: اللهمّ هذا الولد هبتك فلا تهلكه جوعا، فكانت المواشى تأتيه وتمجّ «1» عليه بضرعها حتى يشبع، فإذا شبع يقول: الحمد لله «2» ، فآمن به جماعة من الرّعاة، فبقى كذلك حتى فطمته أمه، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 171 وكان يسمّى يتيم بنى إسرائيل، حتى أتت عليه سبع سنين، فأقبل على أمه فقال: يا أمّاه، لا ينبغى أن تذهب أيّامى بالبطالة، وأريد أن تلبسينى ثوبا من الصوف حتى ألحق بالعبّاد وأكون معهم. فقالت: يا بنىّ، أنت صغير ولم يأن لك أن تسيح. فلم يزل بأمّه حتى أجابته إلى ذلك ولحق بالعبّاد واشتهر ذكره فيهم بكثرة العبادة حتى استكمل من العمر خمسا وعشرين سنة، فرأى فى منامه: إنّ الله يأمرك أن تمضى الى مدينة الرّملة «1» فإنّ فيها وليّا من أوليائى وله ابنة عفيفة فتزوّجها منه. فلمّا أصبح عزم على المسير، وصحبه جماعة من بنى إسرائيل من أصحابه، وسار حتى دخل مدينة الرّملة، وسأل عنه فقيل: إنه فى السّوق يبيع ويشترى. فعجب يونس من ذلك وجاء الى السّوق فرآه وهو يبيع الطّيب ويكثر الضّحك. فقال يونس: ليس هذا من صفات الأولياء والعبّاد. فنظر إليه زكريّا «2» وقام إليه وصافحه وسلّم عليه باسمه واسم أبيه. قال: وكيف عرفتنى؟ قال: رأيتك فى المنام وأمرت أن أزوّج ابنتى منك. وتوجّه به إلى منزله وقدّم له الطعام فأكلا، وذكر له رؤياه وأنها سبب مسيره الى الرملة، ثم سأله عن مكسبه بالبيع والشراء فقال: أمّا البيع والشراء فمباح، والتاجر فاجر إلّا من أخذ الحقّ وأعطاه، واتقى الله ولم يمدح سلعته. فلمّا أقبل الليل نزع زكريّا ما كان عليه من الثياب ولبس الصوف ودخل محرابه ولم يزل فى صلاته ودعائه وتضرّعه حتى أصبح، فنزع الصوف ولبس ما كان عليه بالأمس وبرز إلى السوق ويونس معه، فكان ذلك دأبه. ثم زوّج ابنته من يونس ووهب لها بعض ماله. وأقام يونس عنده، ورزق الله يونس من زوجته ولدين ومات زكريّا، فاحتمل يونس زوجته إلى بيت الجزء: 14 ¦ الصفحة: 172 المقدس وأقام هناك يعبد الله تعالى. وشعيا يومئذ بيت المقدس وهو نبىّ فى بنى إسرائيل إلى أن بعث الله تعالى يونس نبيّا. قال: وكان فى بلاد نينوى «1» ملك «2» وكانت جيوشه كثيرة، قيل: إنها كانت تزيد على عشرة آلاف قائد «3» . وكان إذا غزا تكون معه تماثيل من الأسود والفيلة متّخذة من النحاس والحديد، يخرج من أفواهها لهب النّيران، ومعه رجال يلعبون بالنيران. فغزا هذا الملك بنى إسرائيل على هذه الصورة، فقتل من بنى إسرائيل وسبى، ثم عاد الى بلاد نينوى، وغزاهم ثانية وتكرّرت غزواته فيهم. فأوحى الله تعالى إلى شعيا نبىّ بنى إسرائيل أن يختار من عبّاد بنى إسرائيل أمينا قويّا يبعثه إلى بلاد نينوى رسولا إلى من بها من الملوك وغيرهم؛ فإنهم قد جحدوا حقّى وأنكروا معرفتى. فدخل شعيا على حزقيّا الملك وأمره أن ينادى فى عبّاد بيت المقدس، وبها يومئذ عشرة آلاف عابد، لباسهم الشعر والصوف ونعالهم الخوص، فنادى فيهم بالاجتماع فاجتمعوا، فآختار منهم ثلاثة واختار من الثلاثة يونس بن متّى، ثم قال له حزقيّا: إن الله أوحى إلى نبيّه شعيا أن يختار من جملة هؤلاء العبّاد والزّهّاد أعبدهم وأتقاهم، وقد وقع اختياره عليك لتبعث [إلى أهل «4» ] بلاد نينوى. قال يونس: إن فى بنى إسرائيل من هو أعبد منّى وأزهد، فابعث أيها الملك غيرى. قال: لا أبعث سواك، فانهض الجزء: 14 ¦ الصفحة: 173 ولا تخالفنى فإنّ هذا عن أمر الله. فانصرف يونس إلى أمّه وأخبرها الخبر واستشارها، فقالت: إن الله أنطق الملك فى حقّك بالرسالة فسر كما أمرت ولا تعص الله ونبيّنا شعيا وملكنا حزقيّا. فعزم على المسير وودّع أمّه وحمل أهله حتى بلغ شاطئ دجلة، فنزل هناك وفكّر فى أمره وضعفه وعياله وقال: كيف لى بمطاولة الجبابرة والفراعنة! وأقبل على أهله وقال: قد عزمت على الفرار، فنهاه أهله عن ذلك. فسكت وقام ليعبر دجلة إلى بلاد نينوى فعبر بولده الأكبر، ثم رجع وأخذ ولده الثانى. فلمّا توسّط دجلة زاد الماء فغرق ابنه الذى كان معه، وكان فى يده نقرة» من الذهب كان قد ورثها من حميه فغرقت، وجاء ذئب إلى ولده الذى عبربه فاحتمله. فصاحت المرأة: يا يونس، إن ابنك أخذه الذئب. فخرج من الماء يعدو خلف الذئب فالتفت إليه وقال: ارجع يا يونس فإنى مأمور، فرجع يونس باكيا على ولديه. فلمّا بلغ الشطّ لم ير أهله، فجلس يبكى. فأوحى الله إليه: إنك شكوت كثرة العيال، وقد أرحتك منهم، فاذهب الآن إلى قومك فإنى سأردّ عليك أهلك وولديك وأنا على كل شىء قدير. فطابت نفسه وسار حتى بلغ بلاد نينوى فتوسّط سوقها ونادى: يا قوم، قولوا بأجمعكم: لا إله إلا الله وأنّى يونس عبده ورسوله. فلمّا سمعوا ذلك أقبلوا على ملكهم وأخبروه به وبمقالته. فأحضره الملك وقال له: من أين أنت؟ قال: رسول الله إليك وإلى أهل مملكتك فآمنوا بى تنجوا من النار. فأمر الملك بحبسه ثم بعث إليه وزيره، وهو من أهل بيت المقدس، واسمه سنجير «2» ، فقال له: ادخل على هذا الرجل يونس وتعرّف أمره. فدخل عليه وسأله عن اسمه واسم أبيه، ومن أين أقبل وفيماذا جاء. فذكر له أنه رسول الله الجزء: 14 ¦ الصفحة: 174 إليهم. فقال له الوزير: أرى أن ترفق فإنى أخشى عليك من هذا الملك فإنه جبّار. وانصرف الوزير إلى الملك وقال له: قد عرفت الرجل، وقد ذكر أنه رسول من إله السماء. فهمّ الملك بقتله، فآستوهبه الوزير منه على أن يكون فى البلد ولا يقول مثل مقالته. فاستدعى الوزير يونس وذكر له ذلك. فقال له: أمّا القتل فلا أخشى منه، والرسالة فلا أتركها حتى يحكم الله بينى وبينه. ثم إنّ الملك خلّى سبيله على أنه مجنون. فلم يزل يونس يدعوهم إلى طاعة الله تعالى فى كل يوم عامّة نهاره، حتى إذا جاء المساء أتى شطّ دجلة فيصلّى حتى يصبح، ثم يعود إليهم والناس يضربونه ويرجمونه ويسبّونه حتى ضجر فاستغاث إلى ربّه. فأوحى الله تعالى إليه: يا يونس، إنك دعوت القوم فلا تعجل عليهم وادعهم أربعين يوما، فإن آمنوا وإلّا جاءهم العذاب. فدعاهم حتى استكمل العدّة ولم يؤمنوا. فأوحى الله إليه أن اخرج من بين أظهرهم، فخرج حتى بلغ شاطئ دجلة، فقعد ينظر إلى العذاب كيف ينزل بالقوم. فأمر الله تعالى جبريل أن يرسل على قوم يونس سحابة فيها ألوان العذاب؛ فانطلق إلى مالك وأمره بذلك، فأخرج شرارة من الحطمة «1» على مثال سحابة سوداء مظلمة. فجاءت بها الزبانية حتى بلغت بلاد نينوى وانبسطت حتى أظلّت عليها، فظنّ القوم أنها مطر. فنظر وزير الملك إلى السحابة يخرج من أطرافها شرر النار، فدخل على الملك وقال: الحذر الحذر! فليست هذه سحابة مطر بل هى سحابة عذاب، وأخشى أن يكون ذلك لتكذيبنا يونس نبىّ الله. ثم قال: انظروا إلى يونس إن كان معكم فى بلدكم فلا تخافوا، وإن كان قد خرج عنكم فقد هلكتم. فطلبوا يونس فلم يجدوه. وجعلت السحابة تدنو حتى قربت منهم ورمتهم بشرر كالرّماد الأحمر لا يقع على الجزء: 14 ¦ الصفحة: 175 شىء إلّا أحرقه. فبينا الناس يقولون: أين نطلب يونس إذا هم بالملك قد خرج عليهم وجميع أصحابه وهم يقولون: أين أنت يا يونس! فإنا لا نعود إلى مخالفتك، فلم يجدوه. فأقبل عليهم سنجير الوزير وقال: أيها الملك، إن يكن يونس قد غاب عنّا فإن إلهه لم يغب، فتعالوا حتى نتضرّع إلى الله لعلّه يرحمنا. فخرجوا بأجمعهم ونسائهم وأطفالهم إلى ظاهر البلد يبكون ويتضرّعون، فقام سنجير فيهم وقال: إلهنا إنك أمرتنا أن نعتق رقاب عبيدنا وإمائنا ونحن عبيدك وإماؤك فأعتقنا. إلهنا إنك أمرتنا أن نعفو عمن ظلمنا فاغفر لنا واعف عنا. اللهم أعتقنا من عذابك فإنّا قد آمنا بنبيّك يونس وبجميع النبيّين فاغفر لنا ذنوبنا، ثم خرّوا سجّدا بأجمعهم. فأوحى الله تعالى إلى ملائكة العذاب أن ارجعوا، فانصرفت السحابة عنهم، وسمعوا صوتا: أبشروا يأهل نينوى برحمة من ربكم؛ فرجعوا إلى المدينة وقد آمنوا. وجاء يونس لينظر إلى ما نزل بهم من العذاب، فلقيه إبليس فى صورة شيخ. فقال له يونس: من أين أقبلت أيها الشيخ؟ [قال «1» ] : من نينوى. قال: فما نزل بهم اليوم؟ قال: ما نزل بنا إلّا سحابة بيضاء أمطرت مطرا جودا «2» ، وكان يونس قد وعدنا بالعذاب فلم يكن وعلمنا كذبه. فغضب يونس وقال: لا أعود إلى قوم كذّبونى، وسار. قال الله تعالى: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ «3» . قال مجاهد وقتادة والضّحاك والكلبىّ: معناه أن لن نقضى عليه بالعقوبة، وهى رواية العوفىّ عن ابن عبّاس؛ ودليل ذلك قراءة عمر بن عبد العزيز والزّهرىّ «فظنّ أن لن نقدّر عليه» بالتشديد. وقال عطاء وكثير من العلماء: معناه نضيّق عليه الحبس. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 176 قال الكسائىّ: فلم يزل يسير حتى لحق بساحل البحر، فإذا هو بسفينة مارّة فلوّح إليهم فدخلوا إليه فقال: احملونى معكم فإنّى رجل منقطع غريب من بيت المقدس. فحملوه فقعد على كوثل «1» السفينة. فلمّا توسّطوا البحر هبّت عليهم رياح كثيرة من جميع الجوانب وأشرفوا على الغرق، فأخذوا فى الدعاء والتضرّع ويونس لا يتكلّم، فأقبل أهل السفينة عليه وقالوا: لم لم تدع أنت معنا؟ قال: لأنى مغموم لذهاب الأهل والولد. فلم يزالوا به حتى دعا، فازداد البحر هيجانا. قال يونس: اطرحونى فى البحر فإنّ هذا من أجلى. قالوا: ما نفعل. قال: فاقترعوا. فاقترعوا فوقعت القرعة عليه. فقالوا: إنّ القرعة تخطئ وتصيب، ولكن تعالوا حتى نتساهم. فجعل كل واحد منهم لنفسه سهما ثم رموابها فى البحر، فغرقت إلّا سهم يونس فإنه بقى على وجه الماء. قال الله عز وجل: فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ «2» . ثم أقبل حوت عظيم من بحر الهند حتى بلغ جانب السفينة، فقام يونس ليرمى بنفسه، فتعلّق القوم به وقالوا: ألا ترى هذه الأمواج وهذا الحوت العظيم! فأقعدوه والبحر يزيد عيلهم بكثرة أمواجه وأهواله، فصار إلى جانب السفينة ليرمى بنفسه، فإذا بالحوت قد دار إلى الجانب الذى قصد أن يرمى نفسه منه، فعلم يونس أنه هو المراد، فغطّى وجهه بكسائه ورمى نفسه فى البحر «3» فابتلعه الحوت. قال الله تعالى: فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ «4» معناه يلوم نفسه على ما فعله. وبقى فى جوف الحوت وهو يسمع الجزء: 14 ¦ الصفحة: 177 تسبيح الحيتان بلغاتهم، فلم يزل كذلك حتى بلغ [الى موضع يسمع فيه صريف الأقلام «1» ] . وهو اذا سجد يكون سجوده على كبد الحوت وهو يقول له: يا يونس، أسمعنى تسبيح المغمومين المحبوسين فى حبس لم يحبس فيه أحد من الآدميّين، ويونس يقول: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ، وكانت الملائكة تقول: إلهنا إنّا نسمع تسبيح مكروب كان لك شاكرا، اللهمّ ارحمه فى غربته. قال الله تعالى: فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ «2» الآية. قيل: ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت. قال الله تعالى: فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ «3» أى المصلّين لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ «4» . واختلف فى مدّة لبثه، فمنهم من قال: لبث أربعين يوما، وقيل: ثلاثة أيام. فلمّا انقضت المدّة التى قدّر الله عليه ألهم الله الحوت أن يرجع إلى الموضع الذى ابتلعه فيه. فشقّ ذلك على الحوت لأنه كان قد أنس به وبتسبيحه، فناداه الملك أن اقذفه من بطنك فليس هو مطعم لك. فتقدّم الحوت إلى الساحل وقذفه. قال الله تعالى: فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ «5» . قال: خرج كالفرخ الذى لا ريش له، وهو لا يقدر على القيام، فأنبت الله عليه شجرة من يقطين «6» كان لها ثلاثة أغصان: غصن قبل المشرق، وغصن قبل المغرب، والغصن الثالث على رأسه. وجاءه جبريل فقال: يا يونس، إن الله قد أعطاك من الجنة ما ترضى به، ثم أمرّ يده على رأسه وجسمه فأنبت الله شعره ولحيته، وأمر الجزء: 14 ¦ الصفحة: 178 الله ظبية فوقفت بين يدى يونس وكلّمته بإذن الله، فمصّ من لبنها فقوى عند شربه؛ ثم بشّرته بإيمان قومه وأخبرته بما كان من أمرهم وسبب إيمانهم وذكرت اشتياقهم إلى رؤيته. وكانت الظبية ترعى حول يونس فإذا جاع أو عطش أرضعته، فلم يزل كذلك أربعين يوما. فنام فى بعض الأيام ثم انتبه فرأى اليقطينة قد جفّت والظبية قد غابت، فاغتمّ لذلك، فعلم يونس أن الله ضرب له مثلا بقومه، ثم هبط عليه ملك وقال: قم إلى قومك فإنهم يتمنّون رؤيتك، وأتاه بحلّتين فأتزر بواحدة وارتدى بالأخرى، ثم سار حتى دخل قرية كثيرة الأشجار والخيرات وأهلها يقطعون تلك الأشجار ويلقون ثمارها فى الأرض، فقال: يا قوم، كيف تفعلون ذلك وتبطلون على أنفسكم ثمارها! فأوحى الله تعالى إليه: يا يونس، إنك أشفقت على قوم لا تعرفهم من قطعهم الأشجار ولم تشفق على قومك وهم مائة ألف أو يزيدون! فعلم يونس أنّ هذا مثل ضربه الله تعالى له، فقال: إلهى لا أعود إلى ذلك أبدا. ثم سار حتى دخل قرية أخرى وقت الماء، فتلّفاه رجل من أهل القرية وسأله أن ينزل عليه فنزل. فلمّا أكل وشرب نظر إلى بيت الرجل وفيه فخّار كثير يريد أن يوقد عليه. فأوحى الله تعالى إليه: يا يونس، قل لهذا الفاخرانىّ أن يكسر الفخّار الذى قد عمله. فقال يونس ذلك للفاخرانىّ، فقال: يا هذا أضفتك لما رأيت فيك من أثر الخير وإذا أنت رجل مجنون، تأمرنى أن أكسّر فخّارا قد أتعبت فيه نفسى لأنتفع بثمنه! قم الآن فاخرج من عندى، وأخرجه. فأوحى الله تعالى إليه: يا يونس، إنه أشفق على فخاره وسمّاك مجنونا وأخرجك من منزله حين أمرته بكسره، وأنت بعثت إلى مائة ألف أو يزيدون فدعوت عليهم ولم تفكّر فى هلاكهم فترحمهم!. قال: إلهى لا أعود إلى ذلك أبدا. فلمّا أصبح سار فإذا هو برجل يزرع زرعا، فقال له الرجل: ادع الله عز وجل حتى يبارك لى فى زرعى، فدعا له فأنبته الله تعالى من ساعته الجزء: 14 ¦ الصفحة: 179 وقام على سوقه، ففرح الرجل وأتى بيونس إلى منزله. فأوحى «1» الله تعالى إليه: يا يونس، قد حزنت على إرسال الجراد على الزرع ولم تزرعه، ولم تحزن على إرسال العذاب على مائة ألف أو يزيدون!. قال: إلهى تبت إليك من ذنبى لا أعود إليه أبدا. وسار حتى دخل قرية وهناك امرأة معها رجل وهو ينادى: من [يحمل «2» ] هذه المرأة إلى بلاد نينوى [ويردّها «3» ] إلى زوجها وله مائة مثقال من الذهب؟ فنظر إليها يونس فإذا هى امرأته، فقال: أيها الرجل، ما قصّة هذه المرأة؟ قال: إنها كانت قاعدة على شاطئ دجلة تنتظر زوجها يونس، فمرّ بها ملك من ملوك هذه القرية فاحتملها وأراد أن يفجر بها، فأيبس الله يديه ورجليه، فسألها أن تدعو له بالفرج ولا يعود إلى ذلك، فدعت له. فلمّا عافاه الله لوقته دفعها إلىّ وأعطانى مائة مثقال ذهبا على أن أحملها إلى بلاد نينوى، وما يمكننى ذلك. قال يونس: أنا أحملها فأعطنى الذهب، فأعطاه إياه وسلم إليه المرأة. فسارا وقد فرحا حتى أتيا قرية أخرى، وإذا برجل يبيع سمكة، فاشتراها يونس وقعد ليصلحها فشقّ بطنها فوجد فيها تلك الصرّة الذهب التى وقعت منه فى دحلة، فقال: الحمد الله الذى ردّ علىّ أهلى ومالى، اللهمّ فاردد علىّ أولادى يا أرحم الرحمين، ثم سار فإذا هو برجل على دابّة ومن ورائه غلام، فإذا هو ولد يونس الصغير. فتعلّق به، فقال له الرجل: من أنت؟ قال: أنا يونس. فسلم اليه الغلام وقال: الحمد الله الذى ردّ الأمانة الى أهلها وخلّص ذمّتى. فسأله يونس عن قصّة الغلام فقال: أنا رجل صيّاد، وكنت قد ألقيت الشبكة فى طرف دجلة فوقع هذا الغلام فيها فأخذته، وإذا بها تف يقول: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 180 يا صيّاد، احفظ هذا الغلام حتى يأتى اليك يونس فإنه أبوه فادفعه اليه. ثم قال له: يا نبىّ الله، أدع لى أن يغنينى الله عن صيد السمك، فدعا له فرزقه الله مالا وولدا. وسار يونس حتى قرب من بلاد نينوى، فإذا هو براع على قارعة الطريق يرعى غنما وهو يقول: اللهمّ اردد علىّ والدى، فرآه يونس فعرفه وهو ولده الأكبر، فتعانقا وبكيا طويلا، ثم قال له: يا أبت إنّ هذه الأغنام لرجل فى القرية فسر معى حتى أردّها اليه، فسارا إلى القرية وإذا بشيخ على باب داره، فقال له الغلام: هذا أبى. فقام الشيخ الى يونس وسلم عليه. فقال له يونس: هل تعرف قصّة هذا الغلام؟ قال الشيخ: نعم، كنت أرعى هذه الغنم، وإذا بهذا الغلام على ظهر ذئب فكلّمنى الذئب بقدرة الله وقال: إذا جاء اليك يونس فادفع إليه هذا الغلام. ثم قال له: يا نبىّ الله، أدع الله أن يغفر لى ذنوبى وأن يميتنى فى وقتى هذا، فدعا له فقبضه الله لوقته، فغسّله يونس وكفّنه وصلى عليه ودفنه. ثم سار حتى قرب من المدينة، فإذا هو بغلام يرعى غنما فوقف يونس عليه السلام وقال: يا غلام، هل من لبن؟ قال الغلام: يا هذا، والذى بعث إلينا يونس نبيّا ما ذقت اللبن منذ غاب عنّا نبيّنا يونس. قال: فأنا يونس نبىّ الله. فقبّل الغلام رأسه وقال: لو رأيتنا يا نبىّ الله ونحن نجول تحت العذاب لرحمتنا. قال: يا غلام، اذهب الآن الى المدينة وأخبر الناس أنك قد رأيتنى. قال: أخشى أن يكذّبونى. فقال: سر اليهم [وهذه الأغنام شهود «1» لك] . فمضى حتى توسّط سوق المدينة وقال: أيها الناس، البشرى فقد رجع إلينا يونس نبيّنا وقد لقيته. فاتّصل الخبر بالملك فقام عن سريره وقال: علىّ بالغلام، فأتى به، فسأله فأخبره بمقدم يونس. ففرح وخرج الملك وأهل المدينة والتقوا بيونس وأدخلوه المدينة وأجلسه الملك فى موضعه، ووقف بين يديه، وفرح به أهل المدينة. فقام الجزء: 14 ¦ الصفحة: 181 يونس فيهم ما شاء الله يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر الى أن مات الملك وماتت امرأة يونس وولداه جميعا، فاستخلف يونس الراعى على مدينة نينوى وخرج هو وسبعون رجلا من العبّاد حتى جاء الى جبل يقال له صهيون «1» فكانوا هناك يعبدون الله حقّ عبادته، حتى مات يونس عليه السلام، ومات العبّاد الذين صحبوه، فقبروا هناك فى جبل صهيون، رضى الله عنهم ورحمهم. ذكر خبر بلوقيا وما شاهد من العجائب وهذه القصّة تشتمل على عجائب كثيرة ووقائع قد ينكرها بعض من يقف عليها لغرابتها وليست بمستنكره بعد أن ثبت فى صحيح البخارى عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «بلّغوا عنّى ولو آية «2» وحدّثوا عن بنى إسرائيل ولا حرج ومن كذب علىّ متعمّدا فليتبوّا مقعده من النار» . ولنأخذ الآن فى سرد القصّة. قال أبو إسحاق الثعلبىّ رحمه الله تعالى فى كتابه المترجم بيواقيت البيان فى قصص القرآن بسند رفعه عن عبد الله بن سلّام قال: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 182 كان فى بنى إسرائيل رجل يقال له «أوشيا» وكان من علمائهم، وكان كثير المال، وكان إماما لبنى إسرائيل، وكان قد عرف نعت «1» النبىّ صلى الله عليه وسلم فى التوراة، فخبأه وكتمه عنهم. وكان له ابن يقال له بلوقيا خليفة أبيه فى بنى إسرائيل، وذلك بعد سليمان بن داود عليهما السلام. فلمّا مات أوشيا بقى ابنه بلوقيا والأمانة فى يده والقضاء، ففتّش يوما خزائن أبيه فوجد فيها تابوتا من حديد مقفلا بقفل حديد، فسأل الخزّان عن ذلك، فقالوا: لا ندرى. فاحتال على القفل حتى فكّه، فإذا فيه صندوق من خشب الساج، ففكّه وإذا فيه أوراق، فقرأها فإذا فيها نعت النبىّ صلى الله عليه وسلم وأمّته وهى مختومة بالمسك، فقرأ ذلك على بنى إسرائيل ثم قال: الويل لك يا أبت من الله فيما كتبت وكتمت من الحقّ وأهله!. فقالت بنو إسرائيل: يا بلوقيا، لولا أنك إمامنا وكبيرنا لنبشنا قبره وأخرجناه منه وحرّقناه بالنار. قال: يا قوم، [لا ضير «2» ] إنما ترك حظّ نفسه وخسر فى دينه ودنياه، فألحقوا نعت النبىّ صلى الله عليه وسلم وأمّته بالتوراة. قال: وكانت أمّ بلوقيا فى الأحياء، فاستأذنها فى الخروج إلى بلاد الشام، وكانوا يومئذ فى بلاد مصر. فقالت: وما تصنع بالشام؟ قال: أسأل عن محمد وأمّته، فلعلّ الله تعالى أن يرزقنى الدخول فى دينه، فأذنت له. فبرز بلوقيا وقدم بلاد الشام. فبينما هو يسير إذا انتهى إلى جزيرة من جزائر البحر، فإذا هو بحيّات كأمثال الإبل عظما وفى الطّول ما شاء الله وهنّ يقلن: لا إله إلّا الله محمد رسول الله. فقلن له: أيها الخلق المخلوق من أنت؟ وما اسمك؟ قال: اسمى بلوقيا، وأنا من بنى إسرائيل. فقلن: وما إسرائيل؟ قلت: من ولد آدم. فقلن: سمعنا باسم آدم ولم نسمع باسم الجزء: 14 ¦ الصفحة: 183 إسرائيل. فقال بلوقيا: أيتها الحيّات من أنتنّ؟ فقلن: نحن حيّات من حيّات جهنّم ونحن نعذّب الكفّار فيها يوم القيامة. قال بلوقيا: وما تصنعن هاهنا؟ وكيف عرفتنّ محمدا؟ فقلن: إن جهنّم تفور وتزفر فى كل سنة مرّتين فتلقينا هاهنا ثم نعود إليها، فشدّة الحرّ فى الصيف من حرّها، وشدّة البرد فى الشتاء من بردها. وليس فى جهنّم درك من دركاتها، ولا باب من أبوابها، ولا سرادق من سرادقاتها إلا وقد كتب عليه: «لا إله إلّا الله محمد رسول الله» فمن أجل هذا عرفنا محمدا صلى الله عليه وسلم. قال بلوقيا: أيتها الحيّات، هل فى جهنّم مثلكنّ أو أكبر منكنّ؟ فقلن: إن فى جهنّم حيّات تدخل إحدانا فى أنف إحداهنّ وتخرج من فمها ولا تشعر بذلك لعظمها. قال: فسلم بلوقيا عليهنّ ومضى حتى أتى جزيرة أخرى، فإذا هو بحيّات كأمثال الجذوع والسوارى، وعلى متن إحداهنّ حيّة صغرى صفراء كلما مشت اجتمعت الحيّات حولها فإذا نفخت صرن تحت الأرض خوفا منها. فلمّا رآها ورأته قالت له: أيها الخلق المخلوق من أنت؟ وما اسمك؟ قال: اسمى بلوقيا، وأنا من بنى إسرائيل من ولد ابراهيم. فاخبرينى أيتها الحيّة من أنت؟ قالت: أنا موكّلة بالحيّات واسمى تمليخا، ولولا أنى موكّلة بهنّ لقتلت الحيّات بنى آدم كلهم فى يوم واحد، ولكنّى اذا صفّرت صفرة [واحدة «1» ] وسمعن صوتى دخلن فى الماء الذى تحت الأرض. ولكن يا بلوقيا إن لقيت محمدا صلى الله عليه وسلم فأقرئه منّى السلام. قال: ومضى بلوقيا إلى بلاد الشام فأتى بيت المقدس، وكان بها حبر من أحبارهم يسمّى عفّان الخير، فأتاه فسلم عليه وقصّ عليه قصّته. فقال له: ليس هذا زمان محمد ولا زمان أمّته، بينك وبينه بعد سنين وقرون. ثم قال عفّان: يا بلوقيا أرنى موضع الحية التى اسمها تمليخا، فإن قدرت أن أصيدها رجوت أن أنال معك ملكا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 184 عظيما ونحيا حياة طيّبة الى أن يبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم فندخل فى دينه. قال: فمن حرص بلوقيا على الدخول فى دين محمد صلى الله عليه وسلم قال: أنا أريك المكان. فقام عفّان وأخذ تابوتا من حديد وحمل فيه قدحين من فضّة فى أحدهما خمر وفى الآخر لبن؛ ثم سارا جميعا حتى انتهيا الى موضع الحيّة ففتحا باب التابوت وتنحيّا. وجاءت الحيّة تبغى الرائحة فدخلت التابوت وشربت من اللبن والخمر حتى سكرت ونامت. فقام عفّان ودبّ الى التابوت دبيبا خفيفا فأغلق بابه واحتضنه وسارا جميعا فلم يمرّا بشجرة ولا بيت إلا كلمهما بإذن الله تعالى. فمرّا بشجرة يقال لها الدواء فقالت: يا عفان، من يأخذنى ويقطعنى ويدقّنى ويعصر مائى ودهنى ويطلى به قدميه فإنه يغوص البحار السبعة ولا تبتّل قدماه ولا يغرق. فقال عفّان: إيّاك طلبت، فقطع تلك الشجرة فدقّها وعصر دهنها وجعله فى كوز ثم خلّى عن الحيّة فطارت بين السماء والأرض وهى تقول: يا بنى آدم ما أجرأكم على الله تعالى، ولن تصلوا الى ما تريدون، وذهبت الحيّة. وسار عفّان وبلوقيا الى اليمّ فطليا أقدامهما ثم عبرا البحر ومشيا على الماء كما كانا يمشيان على الأرض حتى قطعا البحر الأوّل ثم الثانى، فإذا هما بجبل فى وسط البحر ليس بعال ولا متدان ترابه كالمسك، عليه غمام أبيض، وفيه كهف، وفى الكهف سرير من الذهب عليه شابّ مستلق على قفاه ذو وفرة «1» ، واضع يده اليمنى على صدره واليسرى على بطنه بمنزلة النائم وليس بنائم وهو ميّت، وعلى رأسه تنّين وخاتمه فى الشمال. قال: وكان ذلك سليمان بن داود، وملك سليمان فى خاتمه، وكانت حلقته من ذهب وفصّه من ياقوت أحمر مربّع، مكتوب عليه أربعة أسطر، فى كل سطر اسم من أسماء الله الأعظم. وكان عند عفّان علم من الكتاب، فقال بلوقيا: من هذا؟ قال: هذا سليمان بن داود، نريد أن نأخذ خاتمه الجزء: 14 ¦ الصفحة: 185 فنملك ملكه ونرجو الحياة إلى أن يبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم. فقال بلوقيا: أليس قد سأل سليمان ربه: «ربّ هب لى ملكا لا ينبغى لأحد من بعدى» فأعطاه الله إيّاه على ما سأل، ولا ينال ملك سليمان إلى يوم القيامة لدعائه. فقال عفّان: يا بلوقيا اسكت إنّ الله معنا ومعنا اسم الله الأعظم، ولكن أنت يا بلوقيا فاقرأ التوراة. فتقدّم عفّان لينزع خاتم سليمان من إصبعه، فقال التّنين: ما أجرأك على الله! إن غلبتنا باسم الله فنحن نغلبك بقوّة الله. قال: فكلّما نفخ التنّين ذكر بلوقيا اسم الله، فلم تعمل نفخات التّنين فيهما. ودنا عفّان من السرير لينزع الخاتم من إصبع سليمان، فاشتغل بلوقيا بالنظر إلى نزول جبريل من السماء، فلمّا نزل صاح بهما صيحة ارتجّت الأرض والجبال وتزلزت منها واختلطت مياه البحار وماجت والتطمت حتى صار كلّ عذب ملحا من شدّة صيحته، وسقط عفان على وجهه، ونفخ التنّين فخرجت من بطنه شعلة نار كأنها البرق الخاطف، فاحترق عفّان وعادت نفخته فى البحر فما مرت البرقة بشىء إلّا أحرقته ولا بماء إلا أجاشته وأغلته. وذكر بلوقيا اسم الله الأعظم فلم ينله مكروه، ثم تراءى له جبريل فى صورة رجل فقال له: يابن آدم ما أجرأك على الله تعالى! فقال له بلوقيا: من أنت رحمك الله؟ قال: أنا جبريل أمين ربّ العالمين. قال له يا جبريل، إنما خرجت حبّا لمحمد ودينه ولم أقصد الخطأ ولم أتعمّده. قال: فبذلك نجوت. ثم صعد جبريل إلى السماء، ومضى بلوقيا فطلى قدميه بذلك الدّهن فأضلّ الطريق الذى جاء منه وأخذ فى طريق آخر، وسار فقطع ستّة أبحر ووقع فى السابع فإذا هو بجزيرة من ذهب حشيشها الورس «1» والزعفران وأشجارها النخل والرّمان. قال بلوقيا: ما أشبه هذا المكان بالجنّة على ما وصفت!. ثم دنا من بعض تلك الأشجار فتناول من ثمرها، فقالت الشجرة: يا خاطئ ابن الخاطئ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 186 لا تأخذ منّى شيئا. فتعجّب، وإذا بحيال الشجرة قوم يتراكضون، بأيديهم سيوف مسلولة، يتناوش بعضهم بعضا بالطعن والضرب. فلمّا رأوا بلوقيا طافوا به وأحدقوا من ورائه وهمّوا به سوءا، فذكر اسم الله فهابوه وعجبوا منه وأغمدوا سيوفهم وقالوا بأجمعهم: لا إله إلا الله محمد رسول الله. ثم قالوا له: من أنت يا عبد الله؟ قال: أنا من بنى آدم اسمى بلوقيا. قالوا: نعرف آدم ولا نعرفك فما أوقعك إلينا؟ قال: إنى خرجت فى طلب نبىّ يسمّى محمدا وإننى قد ضللت عن الطريق الذى أردته فرأيت من الأهوال كذا وكذا. قالوا: يا بلوقيا نحن من الجنّ مؤمنون، ونحن مع ملائكة الله فى السماء، ثم نزلنا إلى الأرض وقاتلنا كفرة الجنّ ونحن هاهنا مقيمون نغزوهم ونجاهدهم إلى يوم القيامة، ولسنا نموت إلى يوم القيامة وأنت لا تصبر معنا. فقال بلوقيا لملك الجنّ: يا صخر، أخبرنى عن خلق الجنّ كيف كان؟ قال: لمّا خلق الله جهنّم خلق لها سبعة أبواب وسبعة ألسن، خلق منها خلقين: خلق فى سمائه [سمّاه «1» ] حيليت «2» ، وخلق فى أرضه [سمّاه «3» ] تمليت «4» . فأمّا حيليت فإنه خلق على صورة أسد، وتمليت فى صورة ذئب، وجعل الأسد ذكرا والذئب أنثى، وجعل طول كلّ واحد منهما مسيرة خمسائة عام، وجعل ذئب الذئب بمنزلة ذنب العقرب، وذنب الأسد بمنزلة الحيّة، وأمرهما أن ينتفضا فى النار انتفاضة ففعلا، فسقط من ذنب الذئب عقارب «5» ، ومن ذنب الأسد حيّات «6» . فعقارب جهنّم وحيّاتها من ذلك. ثم أمرهما أن يتناكحا ففعلا، فحمل الذئب من الأسد فولد سبعة بنين وسبع بنات. فأوحى الله تعالى إليهم أن يزوّج البنات من البنين كما أمر آدم، فستّة بنين الجزء: 14 ¦ الصفحة: 187 أطاعوا وواحد لم يطع ولم يتزوّج فلعنه أبوه وهو إبليس. وكان اسمه الحارث، وكنيته أبو مرّة؛ فهذا أوّل خلق الجنّ. ثم قال له: يا بلوقيا إنّ دوابّنا لا تثبت مع الإنس ولكن أجلّل فرسى وأبرقعه حتى لا يعرف راكبه، فاركب عليه على اسم الله تعالى؛ فإذا انتهيت إلى أقصى أعمالى «1» على ساحل بحر كذا وإذا شيخ وشابّ ومشايخ معهما فإنك ستلقاهما هناك فادفع الفرس إليهما وامض فى حفظ الله راشدا. فجاء بلوقيا على الفرس حتى انتهى إليهم فسلم على الشيخ والشابّ ونزل عن الفرس ودفعه إليهما. وكان قد فصل من عند ملك الجنّ عند صلاة الغداة ووصل إليهما نصف النهار. فقالا لبلوقيا: مذكم فارقت الملك؟ قال: فارقته غدوة. فقالا له: ما أسرع ما جئت! قد أتعبت فرسنا. فقال بلوقيا: والله ما مددت إليه يدا ولا حرّكت عليه رجلا ولم أركضه عنفا. قالا: صدقت ولكن فرسنا أحسّ بك وبمنزلتك «2» ، فطار ما بين السماء والأرض ليريح نفسه منك، فكم تراه جاء بك؟ قال: خمسة فراسخ أو أقلّ أو أكثر. قالا: بل جاء بك مسيرة مائة وعشرين سنة، وكان يطير بك بين السماء والأرض حول الدنيا دون «قاف» وأنت لا تعلم. فحوّلوا عنه السّرج واللّجام والبرقع وإذا العرق يقطر من كلّ شعرة منه، وله جناحان انقضّا من كثرة الطيران. فقال بلوقيا: هذا والله العجب. فقالوا: يا بلوقيا عجائب الله لا تنقضى. ثم سلم عليهم ومضى فركب اليمّ. فبينما هو يسير إذ رأى ملكا إحدى يديه بالمشرق والأخرى بالمغرب وهو يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله. فسلم عليه بلوقيا، فقال له الملك: من أنت أيها الخلق المخلوق؟ فقال: أنا بلوقيا وأنا من بنى إسرائيل من ولد آدم. ثم قال له: أيّها الملك ما اسمك؟ قال: [اسمى يوحاييل وأنا موكّل بضوء النهار وظلمة الليل. فقال: فما بال يديك مبسوطتين؟ فقال له: فى يدى اليمنى ضوء النهار، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 188 وفى يدى اليسرى ظلمة الليل، ولو سبق النهار الليل لأضاءت السموات والأرضون، ولم يكن الليل أبدا، ولو سبقت الظّلمة النور لأظلمت السماء والأرض ولم يكن ضوء أبدا. وبين يديه لوح معلّق فيه سطران سطر أبيض وسطر أسود، فإذا رأيت السواد ينتقص نقصت الظلمة، وإذا رأيت السواد يزيد زدت الظّلمة، وإذا رأيت السطر الأبيض يزداد زدت فى البياض والنور، وإذا انتقص نقصت، فلذلك الليل فى الشتاء أطول والنهار أقصر؛ وفى الصيف النهار أطول والليل أقصر. ثم سلم بلوقيا ومضى، فإذا هو بملك قائم يده اليمنى فى السماء ويده اليسرى فى الأرض فى الماء تحت الثرى وهو يقول: لا إله الله محمد رسول الله. فسلم عليه بلوقيا، فقال له: من أنت وما اسمك؟ قال اسمى بلوقيا وأنا من بنى إسرائيل من ولد آدم. قال له بلوقيا: أيها الملك ما اسمك؟ قال «1» ] : اسمى ميخاييل «2» . قال: فما لى أراك يمينك فى السماء وشمالك فى الماء؟ قال: أحبس الريح بيمينى والماء بشمالى، ولو رفعت شمالى عن الماء لزخرت البحار كلّها فى ساعة واحدة ولطمت بإذن الله تعالى، ويدى اليمنى فى الهواء أحبس الريح عن بنى آدم لأنّ فى السماء ريحا يقال لها الهائمة «3» لو أرسلنها لقتلت من فى السماء ومن فى الأرض من بردها. فسلم عليه بلوقيا ومضى، وإذا بأربعة من الملائكة، أحدهم رأسه كرأس الثّور «4» ؛ والآخر رأسه كرأس النسر؛ والثالث رأسه كرأس الأسد؛ والرابع رأسه كرأس الإنسان. فالذى رأسه كرأس الثّور يقول: اللهم ارفع العذاب عن البهائم، وارفع عنهم برد الشتاء وحرّ الصيف، واجعل لهم فى قلوب بنى آدم الرأفة والرحمة كيلا يكرهنّ ولا يكلّفوهن «5» فوق طاقتهن، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 189 واجعلنى من أهل شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة. وأمّا الذى رأسه كرأس النسر فيقول: اللهم ارحم الطيور ولا تعذّبها، وادفع عنها برد الشتاء وحرّ الصيف، واجعلنى من أهل شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة. وأمّا الذى رأسه كرأس الأسد فإنه يقول: اللهمّ ارحم السّباع ولا تعذبها وادفع عنها برد الشتاء وحرّ الصيف، واجعلنى من أهل شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة. وأمّا الذى رأسه كرأس الإنسان فإنه يقول: لا إله إلّا الله محمد رسول الله، اللهمّ ارحم المسلمين ولا تعذّبهم وادفع عنهم حرّ النار، واجعلنى من أهل شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة. فسلم عليهم ومضى حتى أتى على جبل قاف واذا هو بملك قائم على قاف، وهو جبل محيط بالدنيا من ياقوتة خضراء. فسلم بلوقيا على الملك، فقال له: من أنت؟ فقال: أنا بلوقيا وأنا من بنى إسرائيل من ولد آدم. فقال الملك: وأين تريد؟ قال: خرجت فى طلب من يسمى محمدا. ولست أرى أمره ولا أدرى فى أىّ بلاد أنا. فقال الملك: لا إله إلّا الله محمد رسول الله، قد أمرنا بالصلاة على محمد. قال بلوقيا: أيها الملك، ما اسمك؟ قال: اسمى حزقاييل. قال: وما تصنع هنا؟ قال: أنا أمين الله على قاف، واذا فى يده وتر مرّة يعقده ومرّة يحلّه، وعروق الأرض كلها مشدودة عليه والوتر فى كفّ الملك [قال «1» :] فإذا أراد الله أن يضيّق على عباده أمرنى أن أمدّ الوتر وأعقده وأرتق «2» عروق الأرض فتضيق الدنيا على العباد والبلاد. وإذا أراد الله أن يوسّع عليهم أمرنى أن أرخى الوتر وأفتق عروق الأرض فتتّسع الدنيا على العباد والبلاد. وإذا أراد أن يخوّف قوما أمرنى أن أحرّك عروق تلك الأرض، فمن أجل ذلك موضع يهتزّ وموضع لا يهتزّ، وموضع يتزلزل وموضع الجزء: 14 ¦ الصفحة: 190 لا يتزلزل. قال بلوقيا: أيها الملك، ما وراء قاف؟ قال: وراء قاف أربعون دنيا غير الدنيا التى جئت منها، فى كلّ دنيا أربعمائة ألف «1» باب، فى كل باب أربعة آلاف ضعف مثل الدنيا التى جئت منها، وليس فيها ظلمة بل كلّها نور وأرضها ذهب عليها حجب من نور، وسكّانها الملائكة لا يعرفون آدم ولا إبليس ولا جهنّم وهم يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله، لذلك ألهموا وله خلقوا وبه أمروا الى يوم القيامة. قال بلوقيا: فما وراءهم؟ قال: حجب ووراء الحجب علم الله وقدرته. قال بلوقيا: أخبرنى أيها الملك على أىّ شىء هذا الجبل موضوعا؟ قال: على قرنى ثور واسمه قرياطيه «2» وهو أبيض، رأسه بالمشرق ومؤخّره بالمغرب، وما بين قرنيه مسيرة ثلاثين ألف سنة وهو ساجد لربّه على صخرة بيضاء. قال بلوقيا: أيها الملك، كم الأرضون؟ وكم البحار؟ قال: الأرضون سبع، والبحار سبع. قال: فجهنّم أين هى؟ قال: تحت الأرض السابعة. قال: فسلم بلوقيا عليه ومضى حتى انتهى الى حجاب طرفه فى السماء وأسفله فى الماء، عليه باب مقفل وعليه خاتم من نور، وعلى الباب ملكان أحدهما رأسه كرأس الثور، والآخر رأسه كرأس الكبش وبدنه كبدن الثور وهما يقولان: لا إله إلّا الله محمد رسول الله. قال: فسلم بلوقيا عليهما فردّا عليه السلام وقالا: أيها الخلق الضعيف المخلوق من أنت؟ وما اسمك؟ قال: اسمى بلوقيا وأنا من بنى إسرائيل من ولد آدم. فقالا: لا إله إلّا الله محمد رسول الله، هذه أسامى ما عرفناها. قال بلوقيا؟ كيف عرفتم محمدا ولم تعرفوا آدم ومحمد من نسله؟. فقالا: لهذا خلقنا وبذلك أمرنا، ولم نسمع باسم آدم ولا إسرائيل. فقال بلوقيا: افتحا لى الباب حتى أجوز. فقالا: ما نحسن فتحه، وإنّ لله فى السماء ملكا اسمه الجزء: 14 ¦ الصفحة: 191 جبرائيل عسى أن يقدر على فتحه. فدعا بلوقيا، فأمر الله تعالى جبريل فنزل عليه وفتح الباب، ثم قال: يابن آدم ما أجرأك على الله! ثم جاز بلوقيا حتى انتهى الى بحرين: بحر مالح وبحر عذب. فلمّا وصل إليهما رأى بينهما حاجزا، وفى البحر المالح جبل من ذهب، وفى البحر العذب جبل من فضّة، وبينهما ملك على صورة النمل ومعه ملائكة على تلك الصورة. فسلم عليهم فردّوا عليه السلام وقالوا له: من أنت؟ فأخبرهم بقصّته. ثم قال بلوقيا: من أنتم؟ قالوا: نحن أمناء الله تعالى على هذين البحرين لا يلتقيان ولا يبغيان. فقال لهم بلوقيا: ما هذا الجبل الأحمر؟ قالوا: هذا كنز الله فى الأرض وكلّ ذهب فى الأرض إنما هو من نصاب هذا الجبل، وكلّ ما فى الدنيا من ماء عذب هو من هذا البحر. وهذا البحر إنما يجىء من تحت العرش من قبل أن خلق الله تعالى الملائكة؛ وكل ما يجرى من ماء مالح فهو من ذلك البحر الملح. وهذا الجبل الأبيض هو من فضّة وهو كنز الله تعالى؛ وكل كنز فى الدنيا وكل معدن فضّة فهو من عروق هذا الجبل. فسلم بلوقيا عليهم ومضى حتى انتهى الى بحر عظيم، فإذا هو بحيتان كثيرة عظيمة وقد اجتمعت وبينها حوت عظيم يقضى بين الحيتان. فلمّا نظر الى بلوقيا قال: لا إله إلّا الله محمد رسول الله. فسلم بلوقيا وأخبره بحال النبىّ صلى الله عليه وسلم وأنه خرج فى طلبه، فردّ السلام ثم قال: يا بلوقيا، إن لقيت محمدا فأقرئه منّى السلام. فقال: نعم إن شاء الله. ثم قال: أيّتها الحيتان إنى جائع عطشان وماء البحر ملح وما أجد ما آكل. فقال الحوت الأعظم: يا بلوقيا سأطعمك طعاما تسير أربعين سنة لا تعيا ولا تجوع ولا تعطش، قال: فأطعمه ذلك الحوت قرصا أبيض، فأكله ومضى حتى بلغ العمران. قال: ومن قبل أن يبلغ العمران رأى شابّا يجرى على الماء كأنه البدر. فقال له بلوقيا: من أنت؟ قال: سل الذى خلفى. فسار بلوقيا يوما الجزء: 14 ¦ الصفحة: 192 وليلة فإذا هو بآخر يمرّ على الماء ضوءه كضوء النجوم. فقال له بلوقيا: يا فتى، من أنت؟ قال: سل الذى خلفى. فسار بلوقيا يوما وليلة، فإذا هو بشابّ كأنه القمر يلوح فى آخر الشمس «1» ، فقال بلوقيا: أنشدك الله إلّا وقفت. قال: فوقف وقال: لماذا استحلفتنى؟ قال: خشيت أن تفوتنى مثل أصحابك الماضين، فمن كان الأوّل؟ قال: إسرافيل صاحب الصّور، والثانى ميكائيل صاحب المطر، والثالث جبرائيل أمين ربّ العالمين. فقال بلوقيا: ماذا تصنعون فى اليمّ؟ قال جبريل: حيّة من حيّات البحر قد آذت سكّانه، فدعوا الله عليها فاستجاب الله دعاءهم وأمرنا أن نسوقها الى جهنّم ليعذّب الله بها الكفّار يوم القيامة. قال بلوقيا: كم طولها وكم عرضها؟ قال: طولها مسيرة ثلاثين سنة، وعرضها مسيرة عشرين سنة. فقال بلوقيا: يا جبريل، أيكون فى جهنّم مثل هذه أو أكبر منها؟ فقال جبريل: إنّ فى جهنّم من الحيّات ما تدخل هذه فى أنف إحداهنّ ولا تشعر بها من عظم خلقتها. فسلم بلوقيا عليه ومضى الى جزيرة أخرى، وإذا هو بغلام أمرد بين قبرين، فسلم عليه بلوقيا وقال: يا شابّ، من أنت وما اسمك؟ قال: اسمى صالح. قال: فما هذان القبران؟ قال: أحدهما أبى والآخر أمّى، كانا سائحين فماتا هاهنا، وأنا عند قبريهما حتى أموت. فسلم بلوقيا ومضى حتى انتهى الى جزيرة، فإذا هو بشجرة عظيمة عليها طائر رأسه من ذهب، وعيناه من ياقوت، ومنقاره من لؤلؤ، وبدنه من زعفران، وقوائمه من زمرد، واذا مائدة موضوعة تحت الشجرة وعليها طعام وحوت مشوىّ. فسلم عليه بلوقيا فردّ عليه الطائر السلام. فقال بلوقيا: أيها الطائر من أنت؟ قال: أنا من طيور الجنّة، وأنّ الله تعالى بعثنى الى آدم بهذه المائدة لمّا هبط من الجنة وكنت معه حتى لقى حوّاء، وأنا هاهنا من ذلك الجزء: 14 ¦ الصفحة: 193 الوقت، وكلّ غريب وعابر سبيل يمرّ بها ويأكل منها، وأنا أمين الله عليها الى يوم القيامة. فقال بلوقيا: ولا تتغيّر ولا تنقص! قال: طعام الجنّة لا يتغيّر ولا ينقص. فقال لبلوقيا: كل فأكل حاجته، ثم قال: أيها الطائر، هل معك أحد؟ قال: معى أبو العبّاس يأتينى أحيانا. قال: ومن أبو العبّاس؟ قال: الخضر. فلمّا ذكر اسمه اذا هو بالخضر عليه السلام قد أقبل عليه ثياب بيض. قال: فما خطا خطوة إلّا نبت الحشيش تحت قدميه. فسلّم عليه بلوقيا وسأله عن حاله. قال بلوقيا: قد طالت غيبتى وأريد أن أرجع الى أمّى. قال الخضر: بينك وبينها مسيرة خمسمائة سنة، أنا أردّك فى مسيرة خمسمائة شهر. قال الطائر: إن كان بينك وبين أمّك مسيرة خمسمائة سنة أنا أردّك مسيرة خمسمائة يوم. قال الخضر: أنا أردّك إليها فى ساعة ثم قال: غمّض عينيك فغمّضهما ثم قال له: افتحهما ففتحهما، وإذا هو عند أمّه جالس. فسألها: من جاء بى؟ فقالت: جئت على متن طائر أبيض يطير بين السماء والأرض فوضعك قدّامى. قال: ثم إنّ بلوقيا حدّث بنى إسرائيل بما رأى من العجائب والأخبار، فأثبتوها وكتبوها الى يومنا هذا. فهذا ما كان من حدبث بلوقيا. والله أعلم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 194 الباب الخامس من القسم الثالث من الفن الخامس فى أخبار زكريّا وابنه يحيى وعمران ومريم وعيسى بن مريم عليهم السلام ذكر نسب زكريّا وعمران عليهما السلام وما يتصل بذلك قال أبو إسحاق الثعلبىّ رحمه الله تعالى: هو زكريّا بن برخيا بن آذن بن مسلم ابن صدوق بن نخشان بن داود بن سليمان بن مسلم بن صديقة بن ناحور بن شلوم ابن نهفاشاط بن أنبا بن لبنا بن رحبعم بن سليمان بن داود عليهم السلام. وعمران بن ماتان. وقال ابن اسحاق: هو عمران «1» بن باسهم بن أمون بن منسّى بن حزقيّا بن أحزيق بن يوثام بن عزاريا بن أنصيا بن ناوش بن يارم بن يهفاشاط بن أنبا بن لبنا بن رحبعم بن سليمان بن داود. وكان زكريّا وعمران متزوّجين بأختين، فامرأة زكريّا أسباع، وقيل بليشفع بنت فاقود وهى أمّ يحيى. وامرأة عمران حنّة بنت فاقود وهى أمّ مريم بنة عمران. قالوا: وكان زكريّا نجّارا قبل أن يبعث نبيّا، وكان كثير العبادة، وكان بيت المقدس قد خلا من الأنبياء، فبينا زكريّا فى محراب جدّه داود عليه السلام وقد انفتل «2» عن صلاته إذ هبط عليه جبريل بوحى الله تعالى ونبوّته، وأعلمه أنّ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 195 الله تعالى قد بعثه رسولا إلى بنى إسرائيل. فخرّ زكريّا ساجدا لله تعالى على ذلك، وخرج إلى بنى إسرائيل ودعاهم، فكذّبه بعضهم وصدّقه آخرون. فأقام زكريّا فى بنى إسرائيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر وعمران يعبد الله. وكان زكريّا وعمران لم يرزقا الولد. فبينا حنّة ذات يوم جالسة إلى جانب عمران إذ رأت حمامة تزقّ فرخا لها، فبكت شوقا منها إلى ولد، وذكرت ذلك لزوجها عمران فقال: قومى ندعو الله ربّنا فى ذلك، فقاما جميعا وصلّيا ودعوا الله تعالى أن يرزقهما ولدا، فرأى عمران فى منامه إن الله قد استجاب دعاءك. فقام إلى زوجته فواقعها فحملت منه، وقالت ما أخبر الله تعالى عنها. قال الله تعالى: إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ «1» . قال: وكان الناس فى ذلك الزمان يتقرّبون إلى الله عز وجل بتحرير أولادهم، وكانوا يخدمون بيت المقدس فى صغرهم إذا بلغوا، فمن أحبّ أن يقم على الخدمة أقام، ومن اختار الانصراف انصرف. ذكر ميلاد مريم بنة عمران عليه السلام قال الكسائىّ: ولمّا حرّرتها أمّها لله تعالى قال لها زوجها: إنك حرّرت ما فى بطنك، فإن كان أنثى كيف يكون محرّرا؟ فاغتمّت لذلك حتى وضعت مريم. قال الله تعالى: فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ «2» ثم قالت: «ربّ إنّى كنت نذرت لك ما فى بطنى محرّرا فتقبلّها منّى» . قال الجزء: 14 ¦ الصفحة: 196 الله تعالى: فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً «1» . قال: ثم حملتها حتى دخلت بيت المقدس وزكريّا هناك فى نفر من عبّاد بنى إسرائيل، فقال لها: ما هذه يا حنّة؟ قالت: هذه ابنتى مريم، قد جعلتها محرّرة وقد قبلها الله منّى فاقبلوها ولا تردّوها، فأقبل بنو إسرائيل على زكريّا وقالوا: ما تقول فى هذه؟ قال: لابدّ لها من مكفّل إلى أن تبلغ مبلغ الخدمة ثم تكون خادمة فى المسجد. قالوا: أيّنا يكفلها؟ قال زكريّا: أنا أولى بها لأنّى زوج خالتها، ولكنّا نقترع، فأخذوا أقلامهم وصاروا إلى عين سلوان «2» وقالوا: نرمى بأقلامنا فيها فأيّنا وقف قلمه فهو الذى يكفلها؛ فألقوها فرسبت أقلامهم جميعا إلّا قلم زكريّا فإنه طفا وغالب الجرية، فأخذها واسترضع لها بعض نساء بنى إسرائيل. ثم مات عمران والد مريم. قال: وبنى لها زكريّا بيتا لا يصعد إليه إلّا بسلّم، وكان لا يصعد إليها إلّا زكريّا يحمل إليها الطعام، وابن خال لها يقال له يوسف بن يعقوب النجّار، وكان من العبّاد المحرّرين، وكان زكريّا إذا صعد إليها وجد عندها فى الصيف فواكه الشتاء، وفى الشتاء فواكه الصيف، فيعجب من ذلك. قال الله تعالى: وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ «3» . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 197 ذكر دعاء زكريا أن يرزقه الله عز وجل الولد ومولد يحيى بن زكريا قال الكسائىّ: فلمّا نظر زكريّا الى ما رزق الله عزّ وجلّ من الفاكهة فى غير وقتها قال: إن الذى رزق هذه الفواكه لقادر على أن يرزق من العجوز العقيم والشيخ الكبير الولد. قال الله تعالى: هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ «1» . قال: ولمّا أراد زكريّا أن يدعو استحيا من الله تعالى، فجلس سبعة أيّام ثم قام الى المحراب ووافق ذلك يوم عاشوراء، فكلّمه المحراب بإذن الله تعالى وقال: يا زكريّا، أوجدت ربّك بخيلا! يا زكريّا إنّ ربك أبدا رحيم. فعند ذلك عزم على الدعاء واجتهد فى العبادة، ثم رفع يديه «ونادى ربّه نداء خفيّا» معناه أخفاه عن قومه «قال ربّ إنّى وهن العظم منّى واشتعل الرأس شيبا» يعنى غلب بياضه على سواده «ولم أكن بدعائك ربّ شقيّا» معناه لم تخيّبنى فى الدعاء «وإنّى خفت الموالى من ورائى» يعنى الذرّيّة من بعدى أن تصير الحبوريّة فى غير أولاد الأنبياء «فهب لى من لدنك وليّا يرثنى ويرث من آل يعقوب» يعنى مكانى وحبوريّتى والتابوت الذى فيه وأقلام المحرّرين ومفاتيح القربان، ثم قال: «واجعله ربّ رضيّا» فى بنى إسرائيل. فاستجاب الله تعالى دعاءه وأمر جبريل أن ينزل عليه بالبشرى فأتاه وأتته الملائكة وأحدقوا بالمحراب. قال الله تعالى: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى «2» الآية. وقال تعالى: يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 198 مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا* قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا* قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً «1» . قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ «2» . قال الكلبىّ: كان زكريّا يوم بشّر بالولد ابن اثنتين وتسعين سنة. وروى الضحّاك عن ابن عبّاس رضى الله عنهما قال: كان ابن مائة وعشرين سنة. وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين. قالوا: ولمّا جامع زكريّا امرأته اغتسل وعاد الى محرابه، فجاءته نساء بنى إسرائيل وقالوا له: نرى أمرك أعجب من امرأتك، فذهب زكريّا ليتكلّم فلم يقدر على الكلام، فعلم أن امرأته قد حملت فكتب لهم فى الأرض، إنّى لا أقدر على الكلام ثلاثة أيام. قال الثعلبىّ رحمه الله: فإن قيل: لم أنكر زكريّا ذلك وسأل الآية بعد ما بشّرته الملائكة؟ أكان ذلك شكّا فى وحيه؟، أم إنكارا لقدرته، وهذا لا يجوز أن يوصف به أهل الإيمان فكيف الأنبياء؟! فالجواب عنه ما قال عكرمة والسّدّىّ: إنّ زكريّا لمّا سمع نداء الملائكة جاءه الشيطان فقال: يا زكريّا إنّ الصوت الذى سمعت ليس من الله إنما هو من الشيطان سخر بك، ولو كان من الله لأوحاه إليك خفيّا كما ناديته خفيّا وكما يوحى إليك فى سائر الأمور؛ فقال ذلك دفعا للوسوسة. قال: وفيه جواب آخر، وهو أنه لم يشكّ فى الولد وإنما شكّ فى كيفيته والوجه الذى يكون منه الولد فقال: أنّى يكون لى؟ أى كيف يكون لى ولد؟ أتجعلنى وامرأتى شابّين أو ترزقنا على كبرنا، أو ترزقنى من امرأة عاقر، أم من غيرها من النساء؟ فقال الجزء: 14 ¦ الصفحة: 199 ذلك مستخبرا لا مستنكرا. وهذا قول الحسن. «قال ربّ اجعل لى آية قال آيتك ألّا تكلّم الناس» تكفّ عن الكلام ثلاثة أيام وتقبل بكلّيّتك على عبادتى وطاعتى؛ لأنه ما حبس لسانه عن الكلام ولكنه نهى عنه؛ ويدلّ عليه قوله: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ . هذا قول قوم من أهل المعانى. وقال آخرون: عقل لسانه عقوبة له لسؤاله الآية بعد مشافهة الملائكة إيّاه، فلم يقدر على الكلام ثلاثة أيام، لأنهم كانوا اذا صاموا لم يتكلّموا إلّا رمزا. قال: وفى بعض الأخبار أنه لمّا ولد يحيى رفع الى السماء فغذّى بأنهار الجنّة حتى فطم ثم أنزل الى أبيه، فكان يضىء البيت لنوره. واختلفوا فى تسميته بيحيى ولم سمّى بذلك؟ قال ابن عبّاس رضى الله عنهما: لأنّ الله تعالى أحيا به عقر أمّه. وقال قتادة وغيره: لأنّ الله تعالى أحيا قلبه بالإيمان والنبوّة. وقال الحسين بن الفضل: لأنّ الله تعالى أحياه بالطاعة حتى لم يعص ولم يهمّ بمعصية. وقيل: سمّى بذلك لأنه استشهد والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون. ويحيى أوّل من أقرّ بعيسى عليه السلام وصدّقه؛ وذلك أنه لمّا كان فى بطن أمّه استقبلها مريم وقد حملت بعيسى، فقالت لها أمّ يحيى: يا مريم، أحامل أنت؟ فقالت: لماذا تقولين؟ قالت: إنى أرى ما فى بطنى يسجد لما فى بطنك؛ فذلك تصديقه وإيمانه. وكان يحيى أكبر من عيسى بستّة أشهر، وقتل قبل رفع عيسى. وقوله تعالى فيه: وَسَيِّداً وَحَصُوراً قال ابن جبير: السيّد الذى يطيع ربّه عز وجل. وقال الضحّاك: السيّد الحسن الخلق. وقال عكرمة: السيّد الذى لا يغضب. وقال سفيان: السيّد الذى لا يحسد. وحصورا، قال الجزء: 14 ¦ الصفحة: 200 ابن مسعود وابن عبّاس وغيرهما: هو الذى لا يأتى النساء ولا يقربهنّ، فعول بمعنى فاعل، يعنى أنه حصر نفسه عن الشهوات: وقال المبرّد: الحصور: الذى لا يدخل فى اللّعب ولا الباطل. ذكر صفة يحيى بن زكريا وحليته قال كعب الأحبار: كان يحيى بن زكريّا عليهما السلام حسن الوجه والصّورة، ليّن الجناح، قصير الأصابع، طويل الأنف، مقرون الحاجبين، رقيق الصوت، كثير العبادة، قويّا فى طاعة الله عزّ وجلّ وقد ساد الناس فى عبادته. ذكر نبوّة يحيى عليه السلام وسيرته وزهده قال الله تعالى: يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا «1» . قيل: هو أن يحيى عليه السلام قال له أقرانه من الصبيان: يا يحيى اذهب بنا نلعب؛ فقال: ألّلعب خلقت!. وقال الآخرون: هو أنه نبىّ وهو صغير، وكان يعظ الناس ويقف لهم فى أعيادهم وجمعهم يدعوهم الى الله تعالى، ثم ساح ودخل الشام يدعو الناس. ولمّا بعثه الله عز وجل إلى بنى إسرائيل أمره أن يأمرهم بخمس خصال وضرب لكلّ خصلة منها مثلا: أمرهم أن يعبدوا الله تعالى ولا يشركوا به شيئا وقال: مثل الشّرك مثل رجل اشترى عبيدا من خالص ماله ثم أسكنهم دارا له ودفع لهم مالا يتجرون فيه ويأكل كل واحد منهم ما يكفيه، ويؤدّون إليه فضل الرّبح، فعمد العبيد إلى فضل الربح فدفعوه إلى غير سيّدهم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 201 وأمرهم بالصلاة وقال: إنّ مثل المصلّى كمثل رجل استأذن على ملك فأذن له ودخل عليه، فأقبل الملك عليه بوجهه ليسمع مقالته ويقضى حاجته، فلما دخل الرجل التفت يمينا وشمالا ولم يهمّ بحاجته، فأعرض الملك عنه بوجهه ولم يقض حاجته. وأمرهم بالصدقة وقال: مثلها كمثل رجل أسره العدوّ فاشترى منهم نفسه بثمن معلوم، فجعل يعمل فى بلادهم ويؤدّى إليهم من كسبه القليل والكثير حتى وفّى ثمنه فأعتق. وأمرهم بذكر الله تعالى وقال: مثل الذّكر مثل قوم لهم حصن ولهم عدوّ، فإذا أقبل عليهم عدوّهم دخلوا حصنهم فلم يقدر العدوّ عليهم، كذلك من ذكر الله عزّ وجلّ لا يقدر عليه الشيطان. وأمرهم بالصيام وقال: مثله كالجنّة «1» لا يصل عدوّه إليه. وكان عليه السلام فيهم كثير التقشّف والعبادة والزهد والسياحة إلى أن قتل عليه السلام. ذكر مقتل يحيى بن زكريّا وأبيه زكريّا عليهما السلام اختلف العلماء فى سبب قتل يحيى؛ فقال بعضهم: كان يحيى عليه السلام فى زمن ملك من ملوك بنى إسرائيل، وكانت له امرأة وهى بنت ملك صيدا «2» ، وكانت قتّالة للأنبياء والصالحين، وكانت عاهرة تبرز للناس، وكان يحيى يزجرها الجزء: 14 ¦ الصفحة: 202 عن ذلك ويقول لها: لا تبرزين كاشفة عن وجهك. وكان كثيرا ما يقول لها: مكتوب فى التوراة: إنّ الزّناة يوقفون يوم القيامة وريحهم أنتن من الجيف. فأمرت بيحيى فسجن. وكان قد حبس رجل من أبناء الملوك، وكان يختلف إليها، فعلم بها وبه يحيى فزجره، فبلغ ذلك امرأة الملك فحملت بنتا لها واستقبلت بها زوجها. فقال: لم فعلت ذلك؟ فقالت: وجب لها عليك حقّ. فقال: سلينى ما شئت. فسألته أهل السجن. فظنّ أنها ترحمهم وتسرّحهم فقال: قد فعلت. فأمرت المرأة بأهل السجن فعرضوا. فلمّا مرّ بيحيى أمرت به فذبح فى طست ثم حملت الطست إلى أبيها بأمر أمّها وقالت: أيها الملك، إنى ذبحت لك ذبيحة من أعظم ما وجدت، ولو كان مثله ألفا لذبحتهم لك. فقال: ومن هو؟ قالت: يحيى بن زكريا. قال: هلكت وأهلكت أبويك. فغيّر الله ما بهم من النعم، وسلّط عليهم عدوّهم فذبح البنت وأبويها، وسلّط عليهم الكلاب حتى أكلتهم. وقال الثعلبىّ فى تفسيره: والصحيح من ذلك ما ذكره محمد بن إسحاق بن يسار قال: عبرت «1» بنو إسرائيل بعد ما عمرت الشام، وعادوا اليها بعد خراب بختنصّر إياها وسبيهم منها، فجعلوا بعد ذلك يحدثون الأحداث بعد مهلك عزير عليه السلام، ويعود الله عليهم ويبعث فيهم الأنبياء، ففريقا يكّذبون وفريقا يقتلون، حتى كان آخر من بعث الله تعالى فيهم من أنبيائهم زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام. فمات زكريا وقتل يحيى بسبب نهيه الملك عن نكاح ابنته فى قول عبد الله بن الزبير، وابنة امرأته فى قول السّدّىّ، وابنة أخيه فى قول ابن عباس رضى الله عنهما وهو الأصح إن شاء الله تعالى؛ لما روى الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: بعث عيسى بن مريم يحيى بن زكريا عليهم الجزء: 14 ¦ الصفحة: 203 السلام فى اثنى عشر من الحواريّين يعلّمون الناس، فكان مما نهوهم عنه نكاح ابنة الأخ. قال: وكانت لملكهم ابنة أخ تعجبه يريد أن يتزوّجها، وكانت لها فى كل يوم حاجة يقضيها لها. فلمّا بلغ ذلك أمّها أنه نهى عن نكاح بنت الأخ قالت [لابنتها: اذا دخلت على الملك فسألك فقولى له: حاجتى أن تذبح لى يحيى بن زكريا. فلمّا دخلت عليه سألها حاجتها قالت: حاجتى أن تذبح لى يحيى بن زكريا. فقال «1» :] سلينى غير هذا. قالت: لا أسألك إلا هذا. فلمّا أبت عليه دعا بيحيى ودعا بطست فذبحه فيه، فندّت من دمه قطرة على الأرض، فلم تزل تغلى حتى بعث الله عز وجل ملك بابل، فقتل عليها من بنى إسرائيل حتى سكنت. وقد تقدّم أيضا خبر مقتله، وأنّ بختنصّر هو الذى قتل على دمه حتى سكن «2» . والصحيح أن بختنصّر إنما قتل بسبب قتل شعيا عليه السلام. قال الثعلبىّ أيضا: وقال علماء النصارى: إنّ قتل يحيى كان على يدى ملك من ملوك بنى إسرائيل يقال له هيرودس بسبب امرأة يقال لها هردوبا، كانت امرأة أخ له يقال له فلفوس، عشقها فوافقته على الفجور، فنهاه يحيى وأعلمه أنها لا تحلّ له، فسألت المرأة هيرودس أن يأتيها برأس يحيى ففعل، ثم سقط «3» فى يده وجزع جزعا شديدا. وقال كعب: كان يحيى عليه السلام من أحسن الناس وجها وأجملهم فى زمانه، فأحبّته امرأة الملك الذى كان فى ذلك الزمان حبّا شديدا، فأرسلت اليه تراوده، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 204 فأرسل إليها أنه لا علم له بالنساء والملك أحقّ أن يطأ فراشه. فلمّا جاءها الرسول غضبت وقالت: كيف لى أن أقتله حتى لا يخبر الناس أنى قد راودته!. فلم تزل بالملك حتى وهب لها رأس يحيى بن زكريّا، وأرسلت إليه وهو قائم يصلّى فى محراب داود فى بيت المقدس فضرب عنقه وأخذ رأسه. فلمّا أرادوا أن يأخذوا رأس يحيى خسف الله بها وبأهلها الأرض عقوبة لقتلها يحيى عليه السلام. قال كعب: فلمّا رأى زكريّا أن ابنه يحيى قد قتل وخسف بالقوم انطلق هاربا فى الأرض، حتى دخل بستانا عند بيت المقدس فيه أشجار. وأرسل الملك فى طلبه غضبا لما لقيت المرأة وأهلها. فمرّ زكريّا بشجرة من تلك الأشجار فنادته الشجرة: يا نبىّ الله، هلمّ إلى هاهنا. فلمّا أتاها التفّت عليه الشجرة ودخل زكريا عليه السلام فى وسطها، فآنطلق عدوّ الله إبليس لعنه الله حتى أخذ بطرف ردائه، فأخرجه من الشجرة ليصدّقوه إذا أخبرهم، وجاء الذين يلتمسون زكريّا، فأخبرهم إبليس أنه دخل الشجرة؛ فقالوا: لا نصدّقك. قال: فإنى أريكم علامة تصدّقوننى بها. قالوا: فأرناها، فأراهم طرف ردائه، فأخذوا الفؤوس فضربوا الشجرة حتى قطعوها باثنتين، فسلّط الله عليهم أخبث أهل الأرض علجا مجوسيّا، فانتقم الله من بنى إسرائيل بدم يحيى وزكريّا، فقتل عظماء بنى إسرائيل وسبى منهم مائة ألف وعشرين ألفا. وقد قيل فى سبب قتل زكريا غير هذا، وسنذكره إن شاء الله فى أثناء أخبار عيسى بن مريم على ما تقف عليه إن شاء الله تعالى. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 205 ذكر هلاك بنى إسرائيل وخراب بيت المقدس ثانيا قال الثعلبىّ رحمه الله تعالى فى بعض طرقه عن محمد بن إسحاق: إنّ خراب بيت المقدس ثانيا وقتل بنى إسرائيل كان بعد رفع عيسى بن مريم وقتل يحيى بن زكريّا. فلمّا فعلوا ذلك سلّط الله تعالى عليهم ملكا من ملوك بابل يقال له خردوس «1» ، فسار اليهم بأهل بابل حتى دخل عليهم الشام؛ فلمّا ظهر عليهم أمر رأسا من رءوس أجناده يدعى نبوزرادان «2» صاحب الفيل «3» فقال له: إنى قد كنت حلفت بالهى إن أنا ظهرت على أهل بيت المقدس لأقتلنّهم حتى تسيل دماؤهم فى وسط عسكرى إلى ألّا أجد أحدا أقتله، فأمره أن يقتلهم حتى يبلغ ذلك منهم، وأن نبوزرادان دخل بيت المقدس فقتلهم فى البقعة التى كانوا يقرّبون فيها قربانهم، فوجدوا فيها دما يغلى فسألهم عنه فقالوا: هذا دم قربان قرّبناه فلم يتقبّل منّا فلذلك هو يغلى كما تراه، ولقد قرّبنا منذ ثمانمائة سنة القربان فتقبّل منّا إلّا هذا القربان. فقال: ما صدقتمونى الخبر. قالوا له: لو كان كأوّل دمائنا لقبل ولكنّه قد انقطع منّا الملك والنبوّة والوحى فلذلك لم يقبل. فذبح منهم نبوزرادان على ذلك الدم سبعمائة وسبعين روحا من رءوسهم فلم يهدأ، فأمر بسبعة آلاف من سبيهم فذبحهم على الدم فلم يبرد. فلمّا رأى نبوزرادان أن الدم لا يهدأ قال لهم: ويلكم يا بنى إسرائيل! اصدقونى واصبروا على أمر ربكم، فقد طالما ملكتم الأرض تفعلون فيها ما شئتم، قبل الجزء: 14 ¦ الصفحة: 206 ألّا أترك نافخ نار ذكر أو أنثى إلا قتلته. فلمّا رأوا الجهد وشدّة القتل صدقوه الخبر فقالوا: إن هذا دم نبىّ منّا كان ينهانا عن أمور كثيرة من سخط الله، فلو أطعناه لكان أرشد لنا، وكان يخبرنا بأمركم فلم نصدّقه فقتلناه فهذا دمه. فقال لهم: ما كان اسمه؟ قالوا: كان اسمه يحيى بن زكريّا. قال: الآن صدقتمونى، لمثل هذا ينتقم منكم ربكم. ولمّا رأى أنهم قد صدقوه خرّ ساجدا وقال لمن حوله: أغلقوا باب المدينة وأخرجوا من كان هاهنا من جيش خردوس. وخلا فى بنى إسرائيل ثم قال: يا يحيى بن زكريا، قد علم ربّى وربّك ما قد أصاب قومك من أجلك وما قتل منهم، فاهدأ بإذن الله تعالى قبل ألّا أبقى من قومك أحدا، فهدأ دم يحيى بن زكريّا بإذن الله تعالى، ورفع نبوزرادان عنهم القتل وقال: آمنت بما آمنت به بنو إسرائيل وصدّقت به وأيقنت أنه لا ربّ غيره. فأوحى الله تعالى الى رأس من رءوس بقيّة الأنبياء عليهم السلام أن نبوزرادان حبور صدوق- والحبور بالعبرانية حديث الإيمان- فقال نبوزرادان: يا بنى إسرائيل، إنّ عدوّ الله خردوس أمرنى أن أقتل منكم حتى تسيل دماؤكم وسط عسكره، وإنى لست أستطيع أن أعصيه. قالوا له: افعل ما أمرت به، فأمرهم أن يحفروا خندقا وأمر بأموالهم من الخيل والبغال والحمر والبقر والغنم فذبحها حتى سال الدم فى العسكر، وأمر بالقتلى الذين كانوا قتلوا قبل ذلك فطرحوا على ما قتل من مواشيهم حتى كانوا فوقها. فلمّا بلغ الدم عسكر خردوس أرسل الى نبوزرادان أن ارفع عنهم القتل فقد بلغتنى دماؤهم. ثم انصرف عنهم الى بابل وقد أفنى بنى إسرائيل أو كاد. وهذه هى الوقعة الآخرة التى أنزل الله تعالى فيها وفى الأولى: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً* فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ «1» فكان بختنصّر الجزء: 14 ¦ الصفحة: 207 وجنوده. ثم ردّ الله لهم الكرّة عليهم. وكانت الوقعة الآخرة خردوس وجنوده فلم تقم لهم بعد ذلك راية. وانتقل الملك بالشام ونواحيها الى الروم واليونان، إلّا أنّ بقايا بنى إسرائيل كثروا وانتشروا بعد ذلك. وكانت لهم الديانة والرياسة ببيت المقدس ونواحيها على غير وجه الملك. وكانوا فى نعمة ومنعة الى أن بدّلوا وأحدثوا الأحداث واستحلّوا المحارم وضيّعوا الحدود، فسلّط الله تعالى عليهم ططوس «1» بن اسفيانوس «2» الرومى فأخرب بلادهم وطردهم عنها، ونزع الله تعالى منهم الملك والرياسة وضرب عليهم الذلّ، فليسوا فى أمّة من الأمم إلّا وعليهم الصّغار «3» والجزية والملك فى غيرهم. وبقى بيت المقدس خرابا الى أيام عمر بن الخطاب رضى الله عنه فعمّره المسلمون بأمره. قال: وروى أبو عوانة عن أبى بشر قال: سألت سعيد بن جبير عن قول الله عز وجل: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ الآيات فقال: أمّا الذين جاسوا «4» خلال الديار فكان صرخان «5» الخزرى شعّث من الديار وتبرّ «6» . ثم قال: ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ الى قوله: فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ الى قوله: تَتْبِيراً قال: هذا بختنصّر الذى خرّب بيت المقدّس. ثم قال لهم: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا قال: فعادوا فعيد عليهم، فبعث الله تعالى عليهم ملك الروم. ثم عادوا أيضا فعيد عليهم، فبعث عليهم درم أوزن «7» ملك الرىّ. ثم عادوا أيضا فعيد عليهم، فبعث عليهم سابور ذا الأكتاف. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 208 وقال قتادة: هذه الآية قضاء قضى على القوم كما يسمعون، فبعث عليهم فى الأولى جالوت فسبى وقتل وخرّب بيت المقدس وسامهم سوء العذاب، ثم قال: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ فعاد الله عليكم برحمته. ثم عاد القوم بشرّ ما يحضرهم. فبعث الله تعالى عليهم ما شاء أن يبعث من نقمته وعقوبته. ثم بعث الله تعالى عليهم هذا الحىّ من العرب، كما قال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ «1» فهم بهم فى عذاب الى يوم القيامة. وهذه الأخبار التى أوردناها فى هذا المكان من خبر زكريّا ويحيى وخراب بيت المقدس ثانيا، منها ما كان فى زمن عيسى عليه السلام، ومنها ما كان بعد رفعه. وإنما أوردناها سياقة وتركنا خبر عيسى عليه السلام لئلا تنقطع بغيرها وليتلو بعضها بعضا. فلنرجع الى أخبار عيسى بن مريم عليه السلام. ذكر خبر حمل مريم بنة عمران بعيسى عليهما السلام قال الكسائىّ رحمه الله تعالى: وكانت مريم تنمو وتزيد فى كل يوم وتعبد الله تعالى حتى برّزت فى العبادة على نساء بنى إسرائيل. فلمّا بلغت مبلغ النساء أتت منزل زكريّا، فقال لها: كيف خرجت من بيتك ومفتاحه معى؟ قالت: إنى رأيت أمرا قبيحا- أرادت بذلك الحيض- فجئتك بإذن الله. فأمرها زكريّا أن تكون عند خالتها حتى تطهر، ففعلت ذلك. فلما طهرت واغتسلت عادت إلى عبادتها. فكان ذلك عادتها وشأنها اذا حاضت. فذلك قوله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا* فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً «2» أى سترا فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا يعنى جبريل فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا أى فى صورة رجل الجزء: 14 ¦ الصفحة: 209 قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا أى مطيعا لربك قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا* قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا* قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا ثم نفخ فى جيبها فوصلت النفخة الى جوفها فحملت بعيسى لوقتها. ويقال: إنّ زكريّا فى ذلك الوقت أفضى إلى امرأته فحملت بيحيى. وقيل: إنّ امرأة زكريّا حملت قبل مريم بثلاثة أشهر، وقيل ستة أشهر. وكانت مريم إذ ذاك بنت خمس عشرة سنة، وقيل ثلاث عشرة سنة. وحكى الثعلبىّ فى قصة حمل مريم أنه كان معها فى المسجد ابن عمّ لها من المحرّرين يقال له يوسف بن يعقوب النجّار، وكان رجلا حكيما نجّارا، يتصدّق بعمل يديه، وكان يوسف ومريم اذا نفد ماؤهما أخذ كل واحد منهما قلّته وانطلق إلى المغارة التى فيها الماء يستقيان منه ثم يرجعان إلى الكنيسة. فلمّا كان اليوم الذى لقيها فيه جبريل، وكان أطول يوم فى السنة وأشدّ حرّا، نفد ماؤها، فقالت: يا يوسف، ألا تذهب بنا نستقى؟ فقال لها: إنّ عندى لفضلا من ماء أكتفى به فى يومى هذا إلى غد. قالت: لكنى والله ما عندى ماء، فأخذت قلّتها ثم انطلقت وحدها حتى دخلت المغارة، فوجدت عندها جبريل عليه السلام، قد مثّله الله عز وجل بشرا سويّا؛ فقال لها: يا مريم، إنّ الله قد بعثنى اليك لأهب لك غلاما زكيّا. قالت: إنى أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيّا. قال عكرمة: وكان جبريل قد عرض لها فى صورة شابّ أمرد وضىء الوجه، جعد الشعر، سوىّ الخلق. قال الحكماء: وإنما أرسله الله تعالى فى صورة البشر لتثبت مريم عليها السلام وتقدر على استماع كلامه، ولو أتاها على صورته التى هو عليها لفزعت ونفرت عنه، ولم تقدر على استماع كلامه. فلمّا استعاذت مريم منه قال: إِنَّما أَنَا رَسُولُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 210 رَبِّكِ الآية. فلما قال ذلك استسلمت لقضاء الله تعالى. فنفخ جبريل فى جيب درعها، وكانت قد وضعته، ثم انصرف عنها. فلما لبست مريم درعها حملت بعيسى عليه السلام، ثم ملأت قلّتها وانصرفت الى المسجد. وقال السّدّىّ وعكرمة: إنّ مريم عليها السلام كانت تكون فى المسجد ما دامت طاهرة فإذا حاضت تحوّلت الى بيت خالتها حتى إذا طهرت عادت إلى المسجد. فبينما هى تغتسل من الحيض وقد أخذت مكانا شرقيّا- قال الحسن: إنما اتخذت النصارى الشرق قبلة لأن مريم انتبذت مكانا شرقيّا- فاتخذت، فضربت من دونهم حجابا، أى سترا. وقال مقاتل: جعلت الجبل بينها وبين قومها، فبينما هى كذلك اذ عرض لها جبريل وبشّرها ونفخ فى جيب درعها. قالوا: فلما اشتملت على عيسى وتبيّن حملها داخلها الغمّ وعلمت أنّ بنى إسرائيل سوف يقذفونها، فنادتها الملائكة: يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ أى من الحيض وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ* يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ . قال: وبشّرها الله تعالى بعيسى فقال: إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ* وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ «1» . وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ* وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ «2» الآية فطابت نفسها. قال وهب: فلمّا اشتملت على عيسى وكان معها يوسف النجار، وكانا منطلقين الى المسجد الذى بجبل صهيون- وجبل صهيون على باب بيت المقدس- وكان ذلك المسجد يومئذ من أعظم مساجدهم، وكانت مريم ويوسف يخدمان ذلك المسجد، وكان لخدمته فضل عظيم، فكانا يليان معالجته بأنفسهما وتطهيره، وكان لا يعلم أحد من أهل زمانها أشدّ اجتهادا وعبادة الجزء: 14 ¦ الصفحة: 211 منهما. فكان أوّل من أنكر حمل مريم يوسف النجّار. فلما رأى ما بها استعظمه وقطع به ولم يدر على ماذا يضع أمرها. فكان إذا أراد أن يتّهمها ذكر صلاحها وعبادتها وبراءتها وأنها لم تغب عنه، وإذا أراد أن يبرّئها رأى الذى ظهر بها من الحمل. فلما اشتدّ ذلك عليه كلّمها، فكان أوّل ما كلّمها به أن قال لها: إنه قد وقع فى نفسى منك ومن أمرك شىء، وقد حرصت على أن أكتمه فغلبنى ذلك ورأيت أنّ الكلام فيه أشفى لصدرى. فقالت: قل قولا جميلا. قال: خبّرينى يا مريم، هل ينبت زرع بغير بذر؟ قالت نعم. قال: فهل تنبت شجرة بغير غيث يصيبها؟ قالت نعم. قال: فهل يكون ولد من غير فحل؟ قالت: ألم تعلم أنّ الله عز وجل أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر، والبذار إنما تكون من الزرع الذى كان أنبته من غير بذر!. ألم تعلم أن الله عز وجل أنبت الشجر من غير غيث، وبالقدر جعل الغيث حياة الشجر بعد ما خلق كل واحدة على حدة!. أو تقول إن الله لا يقدر على إنباته!. قال يوسف لها: لا أقول هذا، ولكنى أعلم أن الله تبارك وتعالى يقدر على ما يشاء، يقول لذلك: كن فيكون. فقالت له مريم: أو لم تعلم أن الله تبارك وتعالى خلق آدم وامرأته حوّاء من غير ذكر ولا أنثى!. قال بلى. فلمّا قالت له ذلك وقع فى نفسه أن الذى بها شىء من أمر الله، وأنه لا يسعه أن يسألها عنه، وذلك لما رأى من كتمانها. وقال الكسائىّ: لما قال يوسف لمريم: هل يكون ولد من غير فحل؟ قالت: نعم، آدم من غير أب وأمّ. قال صدقت. ثم قال: هذا الولد الذى فى بطنك من أبوه؟ قالت: هذا هبة ربّى لى، ومثله كمثل آدم خلقه من تراب. فنطق عيسى فى بطنها وقال: يا يوسف ما هذه الأمثال التى تضربها! قم فاشتغل بصلاتك واستغفر لذنبك مما قد وقع فى قلبك. فقام يوسف وجاء الى زكريّا وأخبره، فاغتمّ وقال لامرأته: إنّ مريم حامل، وأخاف من فسّاق الجزء: 14 ¦ الصفحة: 212 بنى إسرائيل أن يتّهموا يوسف بها. قالت: توكّل على الله واستعن به فإنه يردّ عنها مقالة الفسّاق. قالوا: ثم تولى يوسف خدمة المسجد وكفاها كل عمل كانت تعمله فيه لما رأى من رقّة جسمها، واصفرار لونها، وكلف وجهها، ونتوء بطنها، وضعف قوّتها. والله أعلم. ذكر خبر ميلاد عيسى بن مريم عليهما السلام قال الكسائىّ رحمه الله: فلمّا دنا وقت الولادة خرجت مريم فى جوف الليل من منزل زكريا حتى صارت إلى خارج بيت المقدس؛ فذلك قوله تعالى: فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا . قال: وأخذها الطّلق، فنظرت إلى نخلة يابسة فجلست تحتها فاخضرّت النخلة من ساعتها وصار لها سعفا وخوصا وحملت الرّطب لوقتها، وأنبع الله فى أصل النخلة عينا من الماء. قال: وعن وهب أنه لمّا دنت ولادة مريم عليها السلام أوحى الله تعالى إليها أن تخرج من المحراب فتتبوّأ منزلا تلد فيه، فتحوّلت إلى بيت خالتها أمّ يحيى بن زكريا لتلد فى بيتها. قال: فلمّا دخلت عليها استقبلتها أمّ يحيى وسلّمت عليها. فلما التقيا أحسّت أمّ يحيى بسجود من فى بطنها، فقالت: يا مريم، إن الذى فى بطنى يسجد لما فى بطنك. قالوا: ثم أوحى الله تعالى إلى مريم أن تخرج من أرض بيت «1» لحم إلى جهة من الأرض تلد فيها، فحملها يوسف النجّار على حمار بأكاف «2» ليس بينها وبين الأكاف غير الجزء: 14 ¦ الصفحة: 213 ثوبها وهى مثقلة لا تكاد تقوم. فانطلقا فى سواد الليل من بيت لحم يؤمّان الجبال، حتى إذا كانا ببعض الطريق بين نخلات ينزلها الرّكبان، بينهنّ أوارىّ «1» مبنيّة بناها السّفر «2» ليعلّقوا فيها دوابّهم. فنزلا ذلك المنزل، فأدركها المخاض، فالتجأت إلى بعض تلك الأوارىّ وهو فى أصل جذع نخلة يابس قحل ليس فيه عراجين «3» ولا غيرها، فأنبته الله تعالى وأثمره حتى أظلّها وأكنّها وتدلّت عليها غصونه من كل جانب حتى سترها السّعف والعراجين. واشتدّ بها الطّلق وداومها سبع ليال، وأشرفت على الموت، فقالت ما أخبر الله تعالى به عنها، قال الله تعالى: فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا «4» . قال: واشتدّ عليها البرد، فعمد يوسف الى حطب فجعله حولها كالحظيرة، ثم أشعل فيه النار فأدفأها، وكسر لها سبع جوزات فأكلتها. فمن أجل ذلك توقد النصارى النار ليلة الميلاد وتلعب بالجوز. قال وقال كعب: إنها خرجت منفردة، فلمّا فقدها زكريّا أهمّه ذلك، وبعث يوسف النجّار فى طلبها، فجاء حتى نظر إليها تحت النخلة. قال: ولمّا شكت من ألم الولادة ما شكت وقالت: «يا ليتنى متّ قبل هذا وكنت نسيا منسيا» أى لا تعرف ولا تذكر فَناداها مِنْ تَحْتِها - قيل: إن الذى ناداها عيسى. وقيل: جبريل- أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا وهو الجدول الصغير. قالوا: كان نهرا من ماء عذب، يكون باردا إذا شربت منه، وفاترا إذا استعملته وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا أى نضيجا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً أى كلى واشربى من الماء الذى أنبعه الله لك وقرّى عينا بهذا الولد فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً أى صمتا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 214 قال: فلما جاء يوسف النجّار كلّمها فلم تتكلم، فتكلّم عيسى فى حجرها وقال: يا يوسف، أبشر وقرّ عينا وطب نفسا، فقد أخرجنى ربى من ظلمة الأرحام الى ضوء الدنيا، وسآتى بنى إسرائيل وأدعوهم الى طاعة الله. واختلف العلماء فى مدّة حمل مريم عليها السلام بعيسى ووقت وضعها إياه، فقال بعضهم: كان تسعة أشهر كحمل سائر النساء، وقيل: ثمانية أشهر، وكان ذلك آية أخرى لأنه لم يعش مولود يوضع لثمانية أشهر غير عيسى، وقيل: ستة أشهر، وقيل: ثلاث ساعات، وقيل ساعة واحدة. وقال ابن عباس: ما هو إلا أن حملت فوضعت، ولم يكن بين الحمل والانتباذ إلا ساعة واحدة؛ لأن الله تعالى لم يذكر بينهما فصلا. وقال مقاتل: حملته مريم فى ساعة وصوّر فى ساعة ووضعته فى ساعة حين زالت الشمس من يومها وهى بنت عشر سنين، وقد كانت حاضت حيضتين قبل أن تحمل بعيسى عليه السلام. قال: فانصرف يوسف الى زكريّا وأخبره بولادة مريم وكلام عيسى، فازداد زكريّا غمّا لما يقوله الناس. قال الثعلبىّ قال وهب: فلما ولد عيسى عليه السلام أصبحت الأصنام كلها بكل أرض منكوسة على رءوسها، ففزعت الشياطين ولم يدروا لم ذلك، فساروا مسرعين حتى جاءوا إبليس وهو على عرش له فى لجّة خضراء يتمثل بالعرش يوم كان على الماء، فأتوه وقد خلت ستّ ساعات من النهار. فلمّا رأى إبليس جماعته فزع من ذلك ولم يرهم جميعا منذ فرّقهم قبل تلك الساعة إنما كان يراهم أشتاتا، فسألهم، فأخبروه أنه حدث فى الأرض حادث أصبحت الأصنام كلها منكوسة على رءوسها، ولم يكن شىء أعون على هلاك بنى آدم منها لما يدخل فى أجوافها فتكلّمهم وتدبّر أمرهم، فيظنّون أنها هى التى تكلّمهم، فلمّا أصابها هذا الحادث صغّرها فى أعين الجزء: 14 ¦ الصفحة: 215 بنى آدم وأذلّها، وقد خشينا ألّا يعبدوها بعد هذا. واعلم إنّا لم نأتك حتى أحصينا الأرض وقلبنا البحار وكل شىء، فلم نزدد بما أردنا إلا جهلا. فقال لهم إبليس: إنّ هذا الأمر عظيم، فكونوا على مكانكم. وطار إبليس عند ذلك ولبث عنهم ثلاث ساعات، فمرّ بالمكان الذى ولد فيه عيسى عليه السلام. فلمّا رأى الملائكة محدقين بذلك المكان علم أنّ ذلك الحادث فيه، فأراد إبليس أن يأتيه من فوقه فإذا فوقه رءوس الملائكة ومناكبهم الى السماء، ثم أراد أن يأتيه من تحت الأرض فإذا أقدام الملائكة راسية، فأراد أن يدخل من بينهم فنحّوه عن ذلك، فرجع إبليس إلى أصحابه فقال: ما جئتكم حتى أحصيت الأرض كلها شرقها وغربها وبرّها وبحرها والخافقين والجوّ الأعلى، وكل هذا بلغته فى ثلاث ساعات، وأخبرهم بمولد عيسى عليه السلام وقال: ما اشتملت قبله أمّ على ولد إلّا بعلمى، ولا وضعته قطّ إلّا وأنا حاضرها. وإنى لأرجو أن أضلّ به كثيرا ممن يهتدى، وما كان نبىّ قبله أشدّ علىّ وعليكم من هذا المولود. قال: ثم خرج من تلك الليلة قوم يؤموّنه من أجل نجم طلع، وكانوا قبل ذلك يتحدّثون أنّ مطلع ذلك النجم من علامات مولود فى كتاب دانيال، فخرجوا يريدونه ومعهم الذهب والمرّ واللّبان، فمرّوا بملك «1» من ملوك الشام، فسألهم أين تريدون؟ فأخبروه بخبرهم. قال: فما بال الذهب والمرّ واللّبان أهديتموه له من بين الأشياء الجزء: 14 ¦ الصفحة: 216 كلها «1» ؟ قالوا: تلك أمثاله؛ لأنّ الذهب سيّد المتاع كله، وكذلك هذا النبىّ سيد أهل زمانه. ولأنّ المرّ يجبر به الكسر والجرح، وكذلك هذا النبىّ يشفى الله تعالى به كل سقيم ومريض. ولأن اللّبان يبلغ دخانه إلى السماء ولا يبلغها دخان غيره، وكذلك هذا النبىّ يرفعه الله تعالى إلى السماء ولا يرفع فى زمانه أحدا غيره. فلمّا قالوا ذلك للملك حدّث نفسه بقتله فقال: اذهبوا، فإذا علمتم مكانه فأعلمونى ذلك فإنى راغب فى مثل ما رغبتم فيه من أمره. فانطلقوا حتى دفعوا ما كان معهم من تلك الهديّة إلى مريم، وأرادوا أن يرجعوا إلى الملك ليعلموه بمكان عيسى، فلقيهم ملك فقال لهم: لا ترجعوا إليه ولا تعلموه بمكانه فإنه إنما أراد بذلك ليقتله، فانصرفوا فى طريق آخر. وقال مجاهد: قالت مريم عليها السلام: كنت إذا خلوت أنا وعيسى حدّثنى وحدّثته، فإذا شغلنى عنه شىء سبّح فى بطنى وأنا أسمع. قالوا: وكان مولد عيسى عليه السلام بعد مضىّ اثنتين وأربعين سنة من ملك أغوسطوس «2» ، وخمسين سنة مضت من ملك الأشغانين «3» ملوك الطوائف. وكانت المملكة لملوك الطوائف، والرياسة بالشام ونواحيها لقيصر ملك الروم، والملك عليها من قبل قيصر هيرودس «4» ، وقيل فى اسمه هرادوس. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 217 ذكر رجوع مريم بعيسى عليه السلام بعد مولده الى قومها قال الكسائىّ: ثم قامت مريم بعد الولادة وحملت عيسى على صدرها حتى أشرفت به على بنى إسرائيل وزكريا بينهم. وقال الثعلبىّ قال الكلبىّ: احتمل يوسف مريم وعيسى الى غار فأدخلهما فيه أربعين يوما حتى تعالّت «1» مريم من نفاسها، ثم جاء بهما فكلّمها عيسى فى الطريق فقال: يا أمّاه، أبشرى فإنى عبد الله ومسيحه. قال الله تعالى: فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ «2» . فلما نظروا اليها بكوا وقالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا أى عظيما فظيعا لا يعرف منك ولا من أهل بيتك، وكانوا أهل بيت صالحين. يا أُخْتَ هارُونَ واختلف فى سبب قولهم لها «يا أخت هارون» ، فقال الكسائىّ: ناداها هارون وكان أخاها من أمّها، وهو من أحبار بنى إسرائيل وعبّادهم، وقال لها: ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ، فمن أين لك هذا الولد! وقال الثعلبىّ قال قتادة: كان هارون رجلا صالحا من أتقياء بنى إسرائيل، وليس هارون أخا موسى. وقال وهب: كان هارون من أفسق بنى إسرائيل وأظهرهم فسادا، فشبّهوها به. فَأَشارَتْ إِلَيْهِ أى كلّموه. قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا !، وضربوا بأيديهم على جباههم تعجّبا، فتنحنح عيسى وقالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا . قالوا: فلما سمع ذلك أحبار بنى إسرائيل علموا أنه لا أب له وأنّ الله تعالى خلقه كما خلق آدم. فقال زكريا: الحمد لله الذى برّأنا بقول عيسى من فسّاق بنى إسرائيل. قالوا: ثم لم يتكلم عيسى بعدها حتى كان بمنزلة غيره من الصبيان. وقيل غير هذا. والله أعلم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 218 ذكر خروج مريم وعيسى عليهما السلام إلى مصر وما ظهر له من المعجزات فى مسيره ومدّة مقامه إلى أن عاد قال الله تعالى: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ «1» . اختلف العلماء فى الرّبوة فقال عبد الله بن سلام: هى دمشق. وقال أبو هريرة: هى الرّملة. وقال قتادة وكعب: هى بيت المقدس. وقال كعب: هى أقرب الأرض إلى السماء. وقال أبو زيد: هى مصر. وقال الضحّاك: هى غوطة دمشق. وقال أبو العالية: هى أيلة. وقال بعض المفسرين: هى قرية من قرى مصر تسمى سدمنت. وسدمنت: بلد من بلاد إقليم الفيوم معروفة مشهورة. وقوله تعالى: ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ القرار: الأرض المستوية. والمعين: الماء الظاهر. وكان سبب خروج مريم إلى مصر ما حكاه الكسائىّ وغيره من أهل السير قالوا: وبلغ الملك هيردوس خبر عيسى فهم بقتل مريم وابنها، فخاف زكريا والمؤمنون عليهما من القتل، وذلك بعد مولد عيسى بأيام قلائل، فقال زكريا لمريم: إنى أخاف عليك وعلى ابنك من هذا الملك، وأمر يوسف النجّار أن ينقلهما إلى أرض مصر، وأعطاهما أتانا وزوّدهم، فسار يوسف بهما نحو مصر. وكان من المعجزات التى ظهرت على يدى عيسى عليه السلام فى مسيره ومقامه بمصر أنه بينما هم سائرون إلى أرض مصر رأى يوسف النّجار فى بعض الطريق أسدا ففزع منه، فقال عيسى: قرّبانى إلى الأسد ولا تقرباه أنتم، فقرّبوه؛ فلما صاربين يدى الأسد قال عيسى: أيها الوحش، ما وقوفك على قارعة الطريق؟ قال: لثور الجزء: 14 ¦ الصفحة: 219 يمرّ علىّ لا بدّ لى منه. قال عيسى: هذا الثور لقوم مساكين ليس لهم سواه، ولكن انطلق إلى برّيّة كذا وكذا، فإنك سترى جملا ميّتا فكله، واترك هذا الثور لأصحابه، فمضى الأسد نجو الميتة وتركهم. والله أعلم بالصواب. معجزة أخرى: قال: ثم ساروا، فرأوا قوما قد اجتمعوا بالقرب من دار ملك من الملوك. فقال لهم عيسى: ما وقوفكم هاهنا؟. قالوا: امض أيها الصبىّ لشأنك. قال: أتحبّون أن أخبركم بوقوفكم؟ قالوا نعم. قال: إنكم تريدون دخول هذه الدار اذا جنّ الليل فتأخذون مال هذا الملك، فلا تفعلوا فإنه مؤمن، ودلّهم على كنز وقال: إنه كان لقوم ماتوا، فسار أولئك إليه واقتسموا منه مالا عظيما. معجزة أخرى: قال: ثم ساروا حتى دخلوا قرية عامرة وقد اجتمع الناس على باب ملكها ومعهم صنم من حجر وهم يبكون ويسجدون لذلك الصنم. فقال عيسى: ما شأنكم أيها القوم؟ فقالوا: إنّ امرأة هذا الملك قد عسر عليها وضع الولد، وقد أمرنا الملك أن نسجد لهذا الصنم ونسأله أن يخفّف عنها ما هى فيه. قال عيسى: اذهبوا الى الملك وقولوا له: لو وضعت يدى على بطنها يخرج الولد عاجلا. فأخبروا الملك فقال: ائتونى به، فأدخلت مريم وعيسى على الملك، فعجب من نطقه وهو صغير، وأدخل على المرأة، فقال عيسى: إن أخبرتك بما فى بطنها وخرج كما أقول أتؤمن بربّى الذى خلقنى من روحه؟. قال نعم. قال عيسى: فى بطنها غلام على خدّه خال أسود، وعلى ظهره شامة بيضاء، ثم وضع يده على بطن المرأة وقال: أيها الجنين، بالذى خلق الخلق وأسبغ عليهم سعة الرزق اخرج. فخرج الولد على ما وصفه عيسى. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 220 فهمّ الملك أن يؤمن، فقال وزراؤه: إنّ هذه المرأة ساحرة، وهذا الصبىّ مثلها، وقد طردوهما من بيت المقدس، ولم يزالوا به حتى ردّوه عن الإيمان. فأرسل الله تعالى على الملك وقومه صاعقة فأهلكتهم. ثم مضى يوسف بهما حتى دخلوا مصر، ونزلت مريم دار دهقان «1» هناك، ولم يكن لها ما تعيش منه إلّا الغزل، فكانت تغزل الكتّان والصوف بالأجرة لأهل مصر، ويوسف يحتطب ويبيع الحطب مدّة ليس لهم رزق إلا من ذلك. معجزة أخرى: قال الثعلبىّ قال وهب: كان أوّل آية رآها الناس من عيسى أنّ أمه كانت نازلة فى دار دهقان من أهل مصر أنزلها به يوسف النجّار حين ذهب بها إلى مصر، وكانت داره يأوى إليها المساكين، فسرق للدّهقان مال من خزانته فلم يتّهم المساكين، فحزنت مريم لمصيبة الدهقان. فلمّا رأى عيسى حزن أمّه بمصيبة صاحب ضيافتها قال لها: يا أمّاه، أتحبّين أن أدلّه على ماله؟ قالت: نعم يا بنىّ. قال: قولى له يجمع لى مساكين داره. فقالت مريم ذلك للدهقان، فجمع له المساكين. فلما اجتمعوا عمد إلى رجلين منهم أحدهما أعمى والآخر مقعد، فحمل المقعد على عاتق الأعمى وقال له: قم به. فقال الأعمى: أنا أضعف من ذلك. فقال عيسى: وكيف قويت على ذلك البارحة!. فلمّا سمعوه يقول ذلك ضربوا الأعمى حتى قام. فلما استقلّ قائما هوى المقعد إلى كوة الخزانة. فقال عيسى عليه السلام: هكذا احتالا على مالك البارحة، لأنّ الأعمى استعان بقوّته والمقعد بعينيه. فقال المقعد والأعمى: صدق، فردّا على الدهقان ماله. فقال الدهقان لمريم: خذى نصف المال. فقالت: إنى لم أخلق لهذا. قال: فأعطه ابنك. قالت: هو أعظم منى شأنا. والله أعلم بالصواب. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 221 معجزة أخرى: قال: ثم لم يلبث الدهقان أن أعرس ابنا له، فصنع له عيدا فجمع عليه أهل مصر وكان يطعمهم شهرين. فلمّا انقضى ذلك زاره قوم من أهل الشام ولم يعلم الدهقان بهم حتى نزلوا به وليس عنده يومئذ شراب. فلمّا رأى عيسى اهتمامه بذلك دخل بيتا من بيوت الدهقان فيه جرار، فأمرّ عيسى يده على أفواهها وهو يمشى، فكلّما مرّ بيده على جرّة امتلأت شرابا حتى أتى على آخرها، وهو يومئذ ابن اثنى عشرة سنة. معجزة أخرى: قال: وبينا عيسى يلعب مع الصبيان بأرض مصر، إذ وثب غلام منهم على غلام آخر فقتله. فجاء أهله وتعلّقوا بجميع الصبيان وفيهم عيسى وأتوا بهم الى القاضى. فقال القاضى: من قتل هذا؟ قالوا: هذا، وأشاروا إلى عيسى. فقال له القاضى: لم قتلت هذا الغلام؟ قال: أراك حاكما جاهلا، كان يجب أن تسألنى: أقتلته أم لا! قال القاضى: أراك ذا عقل، فما اسمك؟ قال: عيسى بن مريم. قال: يا عيسى، لم قتلته؟ قال: يا جاهل، أبهذا أمرتك؟ ثم دنا عيسى من الغلام وقال: قم بإذن الله الذى يحيى العظام وهى رميم، فاستوى جالسا وقال له: من قتلك؟ قال: قتلنى فلان بن فلان، وهذا عيسى بن مريم برىء من دمى. فعجب الناس من ذلك وقتلوا قاتل الغلام، وأخذت مريم بيد عيسى وانطلقت. معجزة أخرى: قال: وأتت به أمّه الى معلّم ليعلّمه، فقال: إنّ ربى قد أغنانى عن تعليم المعلّمين وقد علّمنى التوراة والإنجيل. قالت: صدقت، ولكن تكون عند معلّم خير من أن تلعب مع الصبيان. فأتت به الى معلّم يعلّمه، فعلّمه عيسى. قال الثعلبىّ: وروى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 222 محمد الباقر رحمه الله قال: لما ولد عيسى عليه السلام كان ابن يوم كأنه ابن شهر، فلمّا كان ابن تسعة أشهر أخذت والدته بيده وجاءت به الى كتّاب وأقعدته بين يدى المؤدّب. فقال له المؤدّب: قل: «بسم الله الرّحمن الرّحيم» فقالها عيسى عليه السلام. فقال المؤدّب: قل: أبجد، فرفع عيسى رأسه وقال للمؤدّب: هل تدرى ما أبجد؟ فعلاه ليضربه. فقال: يا مؤدّب، لا تضربنى، إن كنت تدرى وإلّا فسلنى حتى أفسّر لك. فقال: فسّره لى. فقال عيسى عليه السلام: الألف آلاء الله، والباء بهجة الله، والجيم جلال الله، والدال دين الله. هوّز، الهاء هى جهنم وهى الهاوية، والواو ويل لأهل النار، والزاى زفير جهنم. حطّى، حطّت الخطايا عن المستغفرين. كلمن، كلام الله غير مخلوق لا مبدّل لكلماته. سعفص، صاع بصاع والجزاء بالجزاء. قرشت تقرشهم حين تحشرهم، أى تجمعهم. فقال المؤدّب لأمه: أيتها المرأة، خذى بيد ابنك فقد علّم ولا حاجة له الى مؤدّب. وقال سعيد بن جبير: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ عيسى عليه السلام أرسلته أمّه الى الكتّاب ليتعلّم، فقال له المعلّم قل بسم الله الرحمن الرحيم فقال وما باسم الله. قال لا أدرى. قال الباء بهاء الله والسين سناء الله والميم مملكته» . والله أعلم الموفّق. معجزة أخرى: قال الكسائىّ: وانطلقت به أمّه إلى صبّاغ ليعلّمه صنعة الصباغة. فأخذه الصبّاغ وأمره أن يملأ التّيغارات «1» من تيغار كبير، وناوله أصباغا وأمره أن يجعل فى كل تيغار صبغا، وأن يصبغ الثياب فى تلك التيغارات على اختلاف ألوانها، وفارقه الصبّاغ وخرج إلى منزله. فعمد عيسى إلى تيغار واحد وملأه ماء وأخذ جميع تلك الجزء: 14 ¦ الصفحة: 223 الأصباغ فجعلها فيه، ووضع جميع تلك الثياب فيه وانصرف إلى أمّه. فلما كان من الغد جاء الصبّاغ إلى الحانوت فنظر إلى ما فعله عيسى، فقال له: يا عيسى أهلكتنى وأفسدت ثياب الناس. قال عيسى: يا صبّاغ، ما دينك؟ قال: دين اليهود. قال: قل: لا إله إلا الله وأنّى عيسى روح الله، وأدخل يدك فى هذا التيغار وأخرج كل ثوب على ما تريد. فآمن الصبّاغ بالله وبعيسى عليه السلام وأدخل يده فأخرج كل ثوب على ما أراده أصحابه. قال: وظهر لعيسى بمصر معجزات كثيرة. ذكر خبر زكريا عليه السلام مع هيرودس الملك وما كان من أمره قال الكسائىّ: ولمّا كان من أمر عيسى عليه السلام وكلامه ما قدّمناه وتنكّست الأصنام ليلة مولده، جاء إبليس لعنه الله إلى الملك فى صورة شيخ وقال له: أيها الملك، إن لك عندى نصيحة فاخل معى. فخلا به وقال: ما نصيحتك؟ قال: قد بلغك ما كان من شأن المولود الذى تكلم فى المهد. قال نعم. قال: وقد رأيت ما حلّ بالأصنام من شؤم مولده، وإنه لخليق أن يشمل الأرض كلها بشؤمه، وأنت فلا يمكنك قتله الآن لخروجه من بلادك، وأرى أن تفعل أمرا يتشاءم الناس بسببه بهذا المولود ويعينونك على قتله، وأنت مع ذلك تطلبه، فإن ظفرت به ذبحته. قال الملك: فما الذى رأيت؟ فلعمرى لقد وقع فى نفسى إنك لخليق أن يكون عندك رأى ومكيدة. قال: تذبح الولدان، فإن ذلك يبغّضه إلى الناس ويتشاءمون به فيكفوك أمره. قال: لقد أتيت بالأمر على وجهه، وأمر بذبح الولدان من سنتين فما دونهما، فوقع الذبح فى صبيان بنى إسرائيل. قال: ثم انطلق إبليس إلى مجالس بنى إسرائيل ونواديهم يقول: الفاحشة فى مريم ويقذفها بزكريا، يعرّض الجزء: 14 ¦ الصفحة: 224 بذلك لخيارهم، ويبوح به ويصرح لشرارهم، حتى شاعت الفاحشة على زكريّا. فلما رأى زكريا ذلك هرب واتّبعه سفاؤهم وشرارهم، وسلك فى واد كثير النبت، حتى اذا توسّط الوادى انفرجت له شجرة فدخلها وأقبل القوم فى طلبه، وإبليس يقدمهم حتى أوقفهم عليه وهو فى الشجرة وقد التحمت عليه، فأشار عليهم بقطعها، فقطعت. ثم قال لهم: أىّ العقوبة والنكال أبلغ فى هذا الذى أورث آباءكم الطيبين إبراهيم وإسحاق ويعقوب وذرّيتهم من بعدهم الفضيحة والعار؟!. قالوا: القتل أو النشر. فأشار عليهم بنشره، فنشروه نصفين ثم انصرفوا عنه، وغاب عنهم إبليس لعنه الله. وبعث الله تعالى الملائكة فغسلوا زكريّا وصلّوا عليه ثلاثة أيام ثم دفنوه. وقد قيل فى مقتل زكريا غير هذا، وقد تقدّم فى أخباره. والله أعلم. ذكر رجوع عيسى ومريم عليهما السلام من مصر قال الكسائىّ قال وهب: وأقامت مريم وابنها عيسى بمصر اثنتى عشرة سنة حتى أهلك الله الملك هيرودس. قال: وأوحى الله تعالى إلى مريم بوفاة الملك وأمرها أن ترجع إلى بلادها بالشام، فجاء يوسف النجار فرجع بها. فلم تزل هى وابنها يسكنان بجبل الخليل بقرية يقال لها الناصرة «1» ، وبها سمّيت النصارى، وبها ابتدعت النصرانية. قال: ثم أوحى الله تعالى إلى عيسى بعد أن تمت له ثلاثون سنة أن يبرز إلى الناس ويدعوهم إلى الله تعالى، وأنزل عليه الإنجيل. فكان يسير فى البلاد ويدعو الجزء: 14 ¦ الصفحة: 225 الناس إلى الله عز وجل، ويرغّبهم فيما عنده، ويزهّدهم فى الدنيا ويضرب لهم أمثالا، ويداوى المرضى والزّمنى «1» ، ويبرئ الأكمه والأبرص. فأحبّه الناس وسكنوا إليه، وكثرت أتباعه حتى امتنع وعلا أمره. ثم أحيا الموتى بإذن الله تعالى. قالوا: وربما اجتمع عليه من المرضى والزّمنى فى الساعة الواحدة خمسون ألفا، فمن أطاق منهم أن يبلغه بلغه، ومن لم يقدر على ذلك أتاه عيسى يمشى إليه. وإنما كان يداويهم بالدعاء بشرط الإيمان. ذكر خبر الحواريّين «2» حين اتبعوا عيسى عليه السلام وآمنوا به قال الكسائىّ رحمه الله: ومرّ عيسى على قوم يصيدون السمك وهم أربعة: شمعون، وأخ له اسمه أندريوس، ويعقوب، ويوحنّا. فوعظهم وزهّدهم فى الدنيا ووعدهم الجنة ونعيمها فآمنوا به واتّبعوه. قال: ومرّ بطائفة أخرى فوجدهم على نهر يغسلون الثياب، منهم لوقا، وتوما، ومرقوس، ويوحنّا، وأخوان لهم صبيّان لم يبلغا الحلم، أحدهما شمعون والآخر يعقوب، وقيل فى أسمائهم غير هذا. والله تعالى أعلم. فقال لهم عيسى: يا قوم، إنكم تقصّرون هذه الثياب وتنظّفونها من أوساخها، فلم لا تفعلون ذلك مع قلوبكم!. ثم قال لهم: إنّى رسول الله إليكم جميعا، وبشرّهم برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ «3» الجزء: 14 ¦ الصفحة: 226 قال: فآمنوا به واتّبعوه، وكانوا كلهم اثنى عشر رجلا، أربعة منهم كانوا يصيدون السمك، وثمانية يقصّرون الثياب. وكان من القصّارين رجل أسفل النهر يقال له يوذا «1» لم يسمع كلام عيسى. فلمّا رأى أصحابه اتّبعوه لحق بهم، وهو الذى ارتدّ بعد ذلك ودلّ اليهود على عيسى، فصاروا به قبل ارتداده ثلاثة عشر. ذكر الخصائص والآيات والمعجزات التى أظهرها الله تعالى على يد عيسى عليه السلام بعد مبعثه قال الله تعالى: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي «2» الآيات. قوله تعالى: اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ قال الحسن: ذكر النعمة: شكرها، وأراد بقوله: نِعْمَتِي نعمى، كقوله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها «3» . ثم ذكر تعالى النعم فقال: إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ وقال: وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ «4» . واختلفوا فى روح القدس ما هو؟ فقال الربيع بن أنس: هو الرّوح الذى نفخ فيه، أضافه سبحانه الى نفسه الجزء: 14 ¦ الصفحة: 227 تكرّما وتخصيصا، نحو: بيت الله، وناقة الله. والقدس: هو الله تعالى يدلّ عليه قوله: وَرُوحٌ مِنْهُ وقوله تعالى: فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا «1» . وقال آخرون: أراد الله تعالى بالقدس: الطهارة، يعنى الروح الطاهرة، سمّى روحه قدسا لأنه لم تتضمنه أصلاب الفحولة إنما كان أمرا من الله تعالى. وقال السّدّىّ وكعب: روح القدس هو جبريل، وتأييد عيسى بجبريل عليهما السلام هو أنه كان رفيقه وقرينه يوحى اليه ويعينه ويسير معه حيثما سار الى أن صعد به الى السماء. وقال سعيد بن جبير وعبيد بن عمير: هو اسم الله الأعظم، وبه كان يحيى الموتى ويرى الناس تلك العجائب. وقوله: وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ يعنى الخطّ، وَالْحِكْمَةَ يعنى العلم والفهم. وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ كان يقرؤهما من حفظه. وقوله: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي . قوله: تَخْلُقُ أى تجعل وتصوّر وتقدّر مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ أى كصورة الطير. فكان عيسى يصوّر من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فيه فيصير طيرا بإذن الله تعالى. قالوا: ولم يخلق غير الخفّاش. وانما خص بالخفّاش لأنها أكمل الطير خلقا، فتكون أبلغ فى القدرة، لأن لها ثديا وأسنانا، وهى تلد وتحيض وتطهر. قال وهب: كان يطير ما دام الناس ينظرون اليه، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتا ليتميّز فعل الخلق من فعل الله تعالى، وليعلم أنّ الكمال لله عز وجل. وقوله تعالى: وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي. الأكمه: الذى ولد أعمى ولم ير الضوء قط. قالوا: ولم يكن فى الإسلام أكمه غير قتادة. والأبرص: الذى به وضح، وكان الغالب على زمن عيسى الطبّ، فأراهم الله تعالى المعجزة من جنس ذلك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 228 قال أبو إسحاق الثعلبىّ رحمه الله: يروى أنّ عيسى عليه السلام مرّ بدير فيه عميان، فقال: ما هؤلاء؟ فقيل: هؤلاء قوم طلبوا للقضاء فطمسوا أعينهم بأيديهم. فقال لهم: ما دعاكم الى هذا؟ فقالوا: خفنا عاقبة القضاء فصنعنا بأنفسنا ما ترى. فقال: أنتم العلماء والحكماء والأحبار والأفاضل، امسحوا بأيديكم أعينكم وقولوا: باسم الله. ففعلوا ذلك فإذا هم جميعا يبصرون. ذكر خبر سام بن نوح وغيره الذين أحياهم عيسى بإذن الله عز وجل قال الكسائىّ قال وهب: سألت طائفة من بنى إسرائيل عيسى بن مريم عليه السلام أن يحيى لهم سام بن نوح وقالوا: أحى «1» لنا سام بن نوح ليكلّمنا وإلّا قتلناك، وإن فعلت آمنّا بك واتبعناك. فأوحى الله تعالى اليه: ناده ثلاث مرّات فإنه سيجيبك. فقام عيسى على قبره وناداه ثلاث مرات: يا سام بن نوح قم بإذن الله، فقام فى الثلاثة وهو أشمط «2» الرأس واللحية. فقال له عيسى: أهكذا متّ أبيض الرأس واللحية؟ قال: لا، ولكنىّ سمعت نداءك فخفت أن تكون القيامة فشمطت، وأخبر القوم بما أرادوه وكلمهم، ثم ردّه عيسى الى قبره، وما آمن بعيسى منهم إلّا قليل. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 229 قالوا: وممن أحياه عيسى بن مريم العازر، وكان صديقا له، فأرسل أخته الى عيسى إنّ أخاك العازر يموت فأته، وكان بينه وبين أن يصل إليه مسيرة ثلاثة أيام، فأتاه هو وأصحابه فوجدوه قد مات منذ ثلاثة أيام، فقال لأخته: انطلقى بنا الى قبره، فانطلقت معهم الى قبره وهو فى صخرة مطبقة. فقال عيسى: اللهمّ ربّ السموات السبع والأرضين السبع إنك أرسلتنى الى بنى إسرائيل أدعوهم الى دينك وأخبرتهم أنى أحيى الموتى بإذنك فأحى العازر. فقام العازر وأوداجه تقطر. فخرج من قبره وبقى وولد له. قالوا: ومرّ عيسى عليه السلام برجل جالس على قبر وكان يكثر المرور به فيجده جالسا عنده، فقال له: يا عبد الله، أراك تكثر القعود على هذا القبر. فقال: يا روح الله، امرأة كانت لى وكان من جمالها وموافقتها كيت وكيت ولى عندها وديعة. فقال عيسى: أتحبّ أن أدعو الله تعالى فيحييها؟ قال نعم. فتوضّأ عيسى وصلّى ركعتين ودعا الله عز وجل فإذا أسود قد خرج من القبر كأنه جذع محترق. فقال له: ما أنت؟ قال: يا رسول الله أنا فى عذاب منذ أربعمائة سنة، فلما كانت هذه الساعة قيل لى أجب فأجبت. ثم قال: يا رسول الله، قد مرّ علىّ من أليم العذاب ما إن ردّنى الله الى الدنيا أعطيته عهدا ألّا أعصيه، فادع الله لى. فرقّ له عيسى ودعا الله عز وجل ثم قال له: امض، فمضى. فقال صاحب القبر: يا رسول الله، لقد غلطت بالقبر، إنما قبرها هذا. فدعا عيسى عليه السلام، فخرج من ذلك القبر امرأة شابّة جميلة. فقال له عيسى: أتعرفها؟ قال: نعم هذه امرأتى. فدعا عيسى حتى ردّها الله عليه. فأخذ الرجل بيدها حتى انتهيا الى شجرة فنام تحتها ووضع رأسه فى حجر المرأة. فمرّ بهما ابن ملك فنظر اليها ونظرت اليه وأعجب كل الجزء: 14 ¦ الصفحة: 230 واحد منهما بصاحبه، فأشار اليها فوضعت رأس زوجها على الشجرة واتّبعت ابن الملك. فاستيقظ زوجها ففقدها وطلبها فدلّ عليها، فأدركها وتعلّق بها وقال: امرأتى، وقال الفتى: جاريتى. فبينما هم كذلك إذ طلع عيسى فقال الرجل: هذا عيسى وقصّ عليه القصّة. فقال لها عيسى: ما تقولين؟ قالت: أنا جارية هذا ولا أعرف هذا. فقال لها عيسى: ردّى علينا ما أعطيناك. قالت: قد فعلت. فسقطت مكانها ميّتة. فقال عيسى: هل رأيتم رجلا أماته الله كافرا ثم بعثه فآمن!. وهل رأيتم امرأة أماتها الله مؤمنة ثم أحياها فكفرت!. قالوا: ومرّوا بميّت على سرير، فدعا عيسى الله تعالى، فجلس الميّت على السرير ونزل عن أعناق الرجال ولبس الثياب وحمل السرير على عنقه ورجع إلى أهله وبقى وولد له. وممن أحياه عيسى بإذن الله تعالى ابنة العازر، قيل له: أتحييها وقد ماتت بالأمس! فدعا الله عز وجل، فعاشت وبقيت وولدت. قال الكسائىّ: وسأل بنو إسرائيل عيسى عليه السلام أن يحيى لهم عزيرا، فقال: التمسوا قبره فالتمسوه، فوجدوه فى صندوق من حجر، فعالجوه ليفتحوا بابه فلم يستطيعوا ذلك. فرجعوا الى عيسى وأخبروه أنهم عجزوا أن يخرجوه من قبره، فأعطاهم ماء فى إناء وقال: انضحوه بهذا الماء فإنه ينفتح. فانطلقوا ونضحوه بالماء فانفتح طابقه. فأقامه عيسى فى أكفانه فنزعها عنه، ثم جعل ينضح جسده بالماء ولحمه ينبت وشعره وهم ينظرون. ثم قال عيسى: يا عزير احى بإذن الله، فإذا هو جالس. فقالوا: ما شهادتك على هذا الرجل؟ فقال عزير: أشهد أنه روح الله وكلمته ألقاها الى مريم وأنه عبد الله ونبيّه وابن أمته. قالوا: يا عيسى، ادع ربك يحييه لنا فيكون بين أظهرنا. فقال عيسى: ردّوه الى قبره فإنه انقطع رزقه وانقضى أجله، فردّوه الى قبره. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 231 ومن معجزاته عليه السلام إخباره عن الغيوب قال الله عز وجل إخبارا عنه: وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «1» . قالوا: لما أبرأ عيسى عليه السلام الأكمه والأبرص وأحيا الموتى بإذن الله قالوا له: إنك تزعم أنك تخبرنا بما نأكل فى بيوتنا وما ندّخر. قال نعم. قالوا: فإنّا نجمع خيارنا وأحبارنا ورهباننا فنأمرهم أن يأكلوا ويدّخروا فى بيوتهم ثم نأتيك فتخبرنا. قال نعم. فانطلقوا الى بيوتهم وأكلوا وادّخروا وأقبلوا اليه من الغد، وسأله كل رجل منهم وهو يخبره بما أكل وادّخر. ومما أخبر به عيسى عليه السلام من المغيّبات قصّة ابن العجوز. وكان من خبره ما حكاه أبو إسحاق الثعلبىّ رحمه الله أن عيسى عليه السلام مرّ فى سياحته بمدينة ومعه الحواريّون، فقال: إنّ فى هذه المدينة كنزا، فمن يذهب فيستخرجه؟. قالوا: يا روح الله، لا يدخل هذه القرية غريب إلّا قتلوه. فقال لهم: مكانكم حتى أعود اليكم، ومضى حتى دخل المدينة فوقف بباب فقال: السلام عليكم يأهل الدار، غريب أطعموه. فقالت له امرأة عجوز: أما ترضى أن أدعك لا أذهب بك الى الوالى حتى تقول أطعمونى شيئا!. فبينا عيسى بالباب إذ أقبل ابن العجوز فقال له عيسى: يا عبد الله، أضفنى ليلتك هذه. فقال له الفتى مثل مقالة العجوز. فقال له عيسى: أما إنك لو فعلت ذلك زوّجتك بنت الملك. فقال له الفتى: إمّا أن تكون مجنونا، وإمّا أن تكون عيسى بن مريم. قال: أنا عيسى. فأضافه وبات عنده. فلّما أصبح قال له: اغد وادخل على الملك وقل له: جئت أخطب ابنتك فإنه سيأمر بضربك وإخراجك. فمضى الفتى حتى دخل على الملك وقال له: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 232 جئت أخطب إليك ابنتك، فأمر به فضرب وأخرج. ورجع الفتى إلى عيسى فأخبره، فقال له: إذا كان الغد فاذهب إليه واخطب إليه فإنه ينالك بدون ذلك. ففعل ما أمره عيسى، فضربه الملك دون ذلك. فرجع الى عيسى فأخبره، فقال: إرجع اليه واخطبها فإنه سوف يقول لك: إنى أزوّجك إياها على حكمى، وحكمى قصر من ذهب وفضّة، وما فيه من فضّة وزبرجد، فقل له: أفعل ذلك. فاذا بعث معك فاخرج فإنك سوف تجده فلا تحدث فيه شيئا. فدخل عليه فخطب اليه، فقال: تصدقها حكمى؟ فقال: وما حكمك؟ فحكم الذى سمّى [له «1» ] عيسى. فقال له: نعم، ابعث من يقبض ذلك. فبعث معه [قوما «2» ] ، فدفع إليهم ما سأله الملك. فعجب الملك من ذلك وسلّم اليه ابنته. فتعجّب الفتى وقال لعيسى: يا روح الله، تقدر على مثل هذا وأنت على مثل هذه الحال!. قال عيسى: لأننى آثرت ما يبقى على هذا الفانى. فقال الفتى: وأنا أدعه وأصحبك. فتخلّى من الدنيا واتّبع عيسى. فأخذ بيده وأتى أصحابه وقال: هذا هو الكنز الذى قلت لكم. فكان ابن العجوز مع عيسى حتى مات. والله أعلم. ذكر خبر يجمع عدّة معجزات من معجزات عيسى عليه السلام حكى أبو إسحاق الثعلبىّ رحمه الله قال وهب: خرج عيسى عليه السلام يسيح فى الأرض، فصحبه يهودىّ، وكان مع اليهودىّ رغيفان، ومع عيسى رغيف. فقال له عيسى: تشاركنى فى طعامك؟ قال اليهودىّ نعم. فلمّا رأى اليهودىّ أنّ عيسى ليس معه إلا رغيف واحد ندم. فقام عيسى الى الصلاة فأكل اليهودىّ رغيفا. فلما قضى عيسى صلاته قدّما طعامهما، فقال عيسى لليهودىّ: أين الرغيف الآخر؟ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 233 فقال: ما كان إلّا رغيف واحد، فأكل عيسى رغيفا وصاحبه رغيفا، ثم انطلقا فجاءا الى شجرة، فقال عيسى لصاحبه: لو أننا بتنا تحت هذه الشجرة!. فناما ثم أصبحا. فانطلقا فلقيا أعمى، فقال له عيسى: أرأيت إن عالجتك حتى ردّ الله عليك بصرك هل تشكره؟ قال نعم. فمسّ عيسى عليه السلام بصره ودعا الله تعالى فإذا هو صحيح. فقال عيسى لليهودىّ: بالذى أراك الأعمى بصيرا كم كان معك من رغيف؟ فقال: والله ما كان إلّا رغيف واحد، فسكت عيسى عنه. ومرّا فإذا هما بمقعد، فقال له عيسى: أرأيت إن عالجتك فعافاك الله تعالى هل تشكره؟ قال بلى. فدعا الله عيسى فإذا هو صحيح قائم على رجليه. فقال صاحب عيسى: ما رأيت مثل هذا قط!. فقال عيسى: بالذى أراك الأعمى بصيرا والمقعد صحيحا، من صاحب الرغيف الثالث؟ فحلف له اليهودىّ ما كان معه إلّا رغيف واحد، فسكت عيسى. وانطلقا حتى انتهيا الى نهر عجّاج جرّار، فقال عيسى: لا أرى جسرا ولا سفينة، فخذ بحجزتى «1» من ورائى وضع قدمك موضع قدمى، ففعل ومشيا على الماء. فقال له عيسى: بالذى أراك الأعمى بصيرا والمقعد صحيحا وسخّر لك هذا البحر حتى مشيت عليه، من صاحب الرغيف الآخر؟ فقال: لا والله ما كان إلّا رغيف واحد، فسكت عيسى. وانطلقا فإذا هما بظباء يرعين، فدعا عيسى بظنى فأتاه فذبحه وشوى منه بعضا وأكلاه، ثم ضرب عيسى بقية الظبى بعصاه وقال: قم بإذن الله عز وجل فإذا الظبى يعدو. فقال الرجل: سبحان الله!. فقال عيسى: بالذى أراك هذه الآية، من صاحب الرغيف الآخر؟ فقال: ما كان إلّا رغيف واحد. فانطلقا فمرّا بصاحب بقر، فنادى عيسى: يا صاحب البقر، اجزر لنا من بقرك هذه عجلا. قال: ابعث صاحبك يأخذه. فانطلق اليهودىّ فجاء به، فذبحه وشواه وصاحب البقر ينظر إليه. فقال له عيسى: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 234 كل ولا تكسر له عظما، ففعل. فلمّا فرغ قذف بعظامه فى جلده وضربه بعصاه وقال: قم بإذن الله تعالى، فقام العجل وله خوار. فقال: يا صاحب البقر خذ عجلك. قال: ويحك! من أنت؟ قال: أنا عيسى بن مريم. قال: عيسى السحّار! ثم فرّ منه. فقال عيسى لصاحبه: بالذى أحيا لك العجل، كم كان معك من رغيف؟ قال: ما كان معى إلا رغيف واحد، فسكت عيسى. ومضيا حتى دخلا قرية، فنزل عيسى فى أسفلها واليهودىّ فى أعلاها، فأخذ اليهودىّ عصا عيسى وقال: أنا الآن أبرئ المرضى وأحيى الموتى. قال: وكان ملك تلك المدينة مريضا مدنفا. فانطلق اليهودىّ ينادى: من يبتغى طبيبا، حتى أتى قصر الملك، فأخبر بوجعه، فقال: أدخلونى عليه فأنا أبرئه، وإن لقيتموه قد مات فأنا أحييه. فقيل له: إنّ وجع الملك قد أعيا الأطبّاء قبلك، فليس من طبيب يداويه ولا يشفيه إلّا صلبه. فقال: أدخلونى عليه، فأدخلوه فضرب الملك بعصاه فمات. فجعل يضربه بالعصا وهو ميّت ويقول: قم بإذن الله. فأخذ ليصلب. فبلغ ذلك عيسى، فأقبل اليه وقد رفع على الخشبة، فقال لهم: أرأيتم إن أحييت لكم الملك أتتركون لى صاحبى؟ قالوا نعم. فدعا الله تعالى عليه السلام فأحياه وقام وأنزل اليهودىّ من الخشبة، فقال: يا عيسى، أنت أعظم الناس على منّة، والله لا أفارقك أبدا. فقال له عيسى: أنشدك الله الذى أحيا الظبى والعجل بعد ما أكلناهما، وأحيا هذا بعد ما مات، وأنزلك من الجذع بعد ما صلبت، كم كان معك من رغيف؟ قال: والله ما كان معى إلّا رغيف واحد، قال: لا بأس. ثم انطلقا حتى أتيا قرية عظيمة خربة فيها كنز وفيها ثلاث لبنات من ذهب. فقال الرجل لعيسى: هذا المال لك؟ فقال: أجل! واحدة لى، وواحدة لك، وواحدة للذى أكل الرغيف الثالث. فقال اليهودىّ: أنا والله أكلته وأنت تصلى. فقال عيسى: هى لك كلها. فانطلق عيسى وتركه قائما ينظر وهو لا يستطيع أن الجزء: 14 ¦ الصفحة: 235 يحمل واحدة منهنّ، وكلما أراد أن يحمل واحدة ثقلت عليه. فقال له عيسى: دعه فإنّ له أهلا يهلكون عليه. فجعلت نفس اليهودىّ تطلّع إلى المال ويكره أن يعصى عيسى ويعجز عن حمله. فانطلق مع عيسى، فبينما هما كذلك إذ مرّ بالمال ثلاثة نفر فأقاموا عليه. فقال اثنان منهما لصاحبهما: انطلق إلى أهل هذه القرية «1» فأتنا بطعام وشراب ودوابّ نحمل هذا المال عليها. فلمّا ذهب صاحبهما قال أحدهما للآخر: هل لك أن نقتله إذا رجع ونقتسم المال فيما بيننا؟ قال نعم. وقال الذى ذهب فى نفسه: هو ذا أجعل فى الطعام سمّا فإذا أكلاه ماتا ويصير المال كله إلىّ، ففعل ذلك. فلمّا رجع إليهما قتلاه، ثم أكلا الطعام فماتا. ومرّ عيسى عليه السلام بهم وهم موتى حوله، فقال: هكذا تصنع الدنيا بأهلها، فأحياهم بإذن الله عز وجل، فاعتبروا ومرّوا ولم يأخذوا من المال شيئا. فتطّلعت نفس اليهودىّ صاحب عيسى إلى المال فقال: أعطنى المال. فقال له عيسى: خذه فهو حظّك من الدنيا والآخرة. فلمّا ذهب اليهودىّ ليحمله خسف الله تعالى به الأرض، وانطلق عيسى عليه السلام. ذكر خبر المائدة التى أنزلها الله عز وجل من السماء قال وهب: وسأل بنو إسرائيل عيسى بن مريم عليه السلام أن ينزل عليهم مائدة من السماء. قال الله تعالى: إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ «2» وقرأ علىّ وعائشة وسعيد بن جبير ومجاهد رضى الله عنهم «هل تستطيع ربّك» (بالتاء المثناة من أعلاها ونصب الباء الموحدة فى ربك) واختاره الكسائىّ وأبو عبيد الجزء: 14 ¦ الصفحة: 236 على معنى هل تستطيع أن تدعو ربك وتسأل ربك. قالوا: لأنّ الحوارييّن لم يكونوا شاكّين فى قدرة الله تعالى. وقرأ الباقون «يستطيع ربّك» (بالياء المثناة من تحتها ورفع الباء) وقالوا: إنهم لم يشكّوا فى قدرة الله تعالى وإنما معناها هل ينزل أم لا، كما يقول الرجل لصاحبه: هل تستطيع أن تنهض معى وهو يعلم أنه يستطيع، وإنما يريد هل يفعل أم لا، وأجراه بعضهم على الظاهر فقالوا: غلط القوم وكانوا بشرا، فقال لهم عيسى عليه السلام استعظاما لقولهم: «اتّقوا الله إن كنتم مؤمنين» معناه أن تشكّوا فى قدرة الله أو تنسبوه إلى عجز أو نقصان. وقيل: قال لهم: اتقوا الله أن تسألوه شيئا لم تسأله الأمم قبلكم. قالوا: إنما سألنا لأنّا نريد أن نأكل منها فنستيقن قدرته وتطمئنّ وتسكن قلوبنا، ونعلم أن قد صدقتنا بأنك رسول الله، ونكون عليها من الشاهدين، فنقرّ لله بالوحدانية والقدرة، ولك بالرسالة والنبوّة. وقيل: ونكون عليها من الشاهدين لك عند بنى إسرائيل إذا رجعنا إليهم. قال الكسائىّ: فأمرهم عيسى بصيام ثلاثين يوما وأنّ الله بعد ذلك يطعمهم وينزلها عليهم. فصاموا حتّى تمّ الأجل، فقام عيسى وصلّى وسأل الله تعالى وقال: اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ «1» . قال قوله: عِيداً أى عائدة من الله علينا وحجة وبرهانا. والعيد اسم لما أعدته وعاد إليك من كل شىء؛ ومنه قيل ليوم الفطر ويوم الأضحى عيد، لأنهما يعودان كل سنة. وقوله: لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا . قال الثعلبىّ: يعنى لأهل زماننا ولمن يجىء من بعدنا. وقرأ زيد بن ثابت: «لأولانا وأخرانا «2» » . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 237 وقال ابن عباس رضى الله عنهما: يعنى يأكل منها آخر الناس كما يأكل أوّلهم. وَآيَةً مِنْكَ دلالة وحجة. قال الله عز وجل مجيبا لعيسى عليه السلام: إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ . وقرأ أهل الشام وقتادة وعاصم «منزّلها» بالتشديد لأنها نزلت مرّات، والتفعيل يدل على التكثير مرّة بعد مرّة. وقال تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ أى يكفر بعد نزول المائدة فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ «1» أى عالمى زمانهم. قال: فجحد القوم وكفروا بعد نزول المائدة فمسخوا قردة وخنازير. قال الثعلبىّ: واختلف العلماء فى المائدة، هل نزلت أم لا؟ فقال مجاهد: ما نزلت مائدة، وهذا مثل ضرب. وقال الحسن: والله ما نزلت المائدة، إنّ القوم لمّا سمعوا الشرط وقيل لهم: فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ . استعفوا وقالوا: لا نريدها ولا حاجة لنا فيها، فلم تنزل. قال أبو إسحاق الثعلبىّ: والصواب أنها نزلت، لقوله عز وجل: إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ ولا يقع فى خبره الخلف ولتواتر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين رضوان الله عليهم وغيرهم من علماء الدين فى نزولها. قال كعب: أنزلت يوم الأحد، فلذلك أتخذه النصارى عيدا. واختلفوا فى صفتها وكيفية نزولها، فحكى الكسائىّ عن وهب قال: أنزل الله تعالى على عيسى مكتلا «2» فيه ثلاث سمكات مشويّات ليس لها شوك ولا قشر وثلاثة أرغفة، والملائكة تحملها حتى وضعوها بين يدى عيسى. قال: وقد قيل: إنّ المائدة كانت سفرة «3» من الأدم الأحمر، وكان فيها سمكة واحدة مشويّة وحولها الخضر الجزء: 14 ¦ الصفحة: 238 والبقول، وعند رأسها خلّ، وعند ذنبها ملح وخمسة أرغفة على كل منها زيتون، وخمس رمّانات وثمرات. وقال الثعلبىّ فى تفسيره: روى قتادة عن خلاس بن عمرو عن عمّار بن ياسر عن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «نزلت المائدة خبزا ولحما «1» » . وذلك أنهم سألوا عيسى طعاما يأكلون منه لا ينفد، فقيل لهم: إنّها مقيمة لكم مالم تخونوا أو تخبئوا أو ترفعوا، فإن فعلتم ذلك عذّبتم. قال: فما مضى يومهم حتى خبئوا ورفعوا وخانوا. وقال إسحاق بن عبد الله: إنّ بعضهم سرق منها وقال: لعلها لا تنزل أبدا، فرفعت ومسخوا قردة وخنازير. وقال ابن عبّاس رضى الله عنهما: إنّ عيسى بن مريم عليه السلام قال لبنى إسرائيل: «صوموا ثلاثين يوما ثم سلوا الله تعالى ما شئتم يعطكم» . فصاموا ثلاثين يوما، فلمّا فرغوا قالوا: يا عيسى، إنا لو عملنا لأحد فقضينا عمله لأطعمنا طعاما، وإنّا قد صمنا وجعنا، فادع الله أن ينزل علينا مائدة من السماء ففعل. فأقبلت الملائكة بمائدة يحملونها، عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات «2» حتى وضعتها بين أيديهم، فأكل منها آخر الناس كما أكل أوّلهم. وروى عطاء بن السائب عن راذان وميسرة قالا: كانت المائدة اذا وضعت لبنى إسرائيل اختلف عليهم الأيدى من السماء بكل طعام إلّا اللحم. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس رضى الله عنهم: أنزل على المائدة كل شىء إلّا الخبز واللحم. قال عطاء: أنزل عليها كل شىء إلا السمك واللحم. وقال عطيّة العوفى: نزل من السماء سمكة فيها طعم كل شىء. وقال عمّار وقتادة: كانت مائدة تنزل من السماء وعليها ثمر من ثمار الجنة. وقال وهب بن منبّه: أنزل الله تعالى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 239 أقرصة من شعير وحيتانا. فقيل لوهب: ما كان ذلك يغنى عنهم؟ قال: لا شىء، ولكنّ الله أضعف لهم البركة، فكان قوم يأكلون ويخرجون ويجىء الآخرون فيأكلون ويخرجون، حتى أكلوا بأجمعهم وفضل. وقال الكلبىّ ومقاتل: استجاب الله تعالى لعيسى عليه السلام فقال: إنى منزّلها عليكم كما سألتم، فمن أكل من ذلك الطعام ثم لم يؤمن جعلته مثلا ولعنة لمن بعدهم، قالوا: قد رضينا. فدعا شمعون الصّفا وكان أفضل الحواريّين فقال: هل معك طعام؟ قال: نعم معى سمكتان وسبعة أرغفة. قال: قدّمها. فقطعهنّ عيسى عليه السلام قطعا صغارا ثم قال: اقعدوا فى روضة وترفّقوا رفاقا، كل وفقة عشرة. ثم قام عيسى عليه السلام ودعا الله تعالى فاستجاب الله له ونزّل فيها البركة، فصار خبزا صحاحا وسمكا صحاحا. ثم قام عيسى فجعل يلقى فى كل رفقة ما حملت أصابعه، ثم قال: كلوا باسم الله، فجعل الطعام يكثر حتى بلغ ركبهم، فأكلوا ما شاء الله وفضل منه، والناس خمسة آلاف ونيّف. فقال الناس جميعا: نشهد أنك عبد الله ورسوله. ثم سألوه مرّة أخرى، فدعا الله تعالى، فأنزل الله خبزا وسمكا، خمسة أرغفة وسمكتين، فصنع بها ما صنع فى المرّة الأولى. فلمّا رجعوا إلى قراهم ونشروا هذا الحديث ضحك منهم من لم يشهدها، وقالوا لهم: ويحكم! إنما سحر أعينكم، فمن أراد الله تعالى به الخير ثبّته على بصيرته، ومن أراد فتنته رجع إلى كفره. فمسخوا خنازير وليس فيهم صبىّ ولا امرأة. فمكثوا بذلك ثلاثة أيام ثم هلكوا، ولم يتوالدوا ولم يأكلوا ولم يشربوا. وقال كعب: نزلت مائدة منكوسة من السماء تطير بها الملائكة بين السماء والأرض عليها كل طعام إلّا اللحم. وقال قتادة: كانت تنزل عليهم بكرة وعشيّة حيث كانوا كالمنّ والسّلوى لبنى إسرائيل. وقال يمان بن رئاب: كانوا يأكلون منها ما شاءوا. وروى عطاء بن أبى رباح عن سلمان الفارسىّ قال: لمّا سأل الحواريّون عيسى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 240 ابن مريم أن ينزل عليهم المائدة لبس صوفا وبكى وقال: اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ الآية، وارزقنا عليها طعاما نأكله، وارزقنا وأنت خير الرازقين. فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين، غمامة من فوقها وغمامة من تحتها، وهم ينظرون إليها وهى تهوى منقضّة حتى سقطت بين أيديهم. فبكى عيسى وقال: «اللهمّ اجعلنى من الشاكرين، اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عقوبة ومثلة «1» » والشهود ينظرون إليها، ينظرون الى شىء لم يروا مثله قطّ، ولم يجدوا ريحا أطيب من ريحه. فقال عيسى عليه السلام: ليقم أحسنكم عملا فيكشف عنها ويذكر اسم الله ويأكل منها. فقال شمعون الصّفا رأس الحواريّين: أنت أولى بذلك منّا. فقام عيسى عليه السلام فتوضّأ وصلّى صلاة طويلة وبكى بكاء كثيرا وكشف المنديل عنها وقال: باسم الله خير الرازقين، فاذا هو بسمكة مشويّة ليس عليها فلوسا ولا شوك تسيل سيلا «2» من الدسم، وعند رأسها ملح، وعند ذنبها خلّ، وحولها من أنواع البقول ما خلا الكرّاث؛ وإذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون، وعلى الثانى عسل، وعلى الثالث بيض، وعلى الرابع جبن، وعلى الخامس قديد. قالوا: فلمّا استقرّت بين يدى عيسى قال شمعون رأس الحواريّين: أنت أولى يا روح الله، أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الآخرة؟ فقال عيسى عليه السلام: ليس شىء مما ترون. ولكنّه شىء افتعله الله تعالى بالقدرة الغالبة، كلوا مما سألتم يمددكم ويزدكم من فضله. قال الحواريّون: يا روح الله، لو أريتنا من هذه الآية اليوم آية أخرى! فقال عيسى: يا سمكة احيى بإذن الله. فاضطربت السمكة وعادت عليها فلوسها وشوكها ففزعوا منها. فقال عيسى: ما لكم تسألون أشياء اذا أعطيتموها كرهتموها، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 241 ما أخوفنى عليكم أن تعذّبوا! يا سمكة عودى كما كنت بإذن الله تعالى. فعادت السمكة مشويّة كما كانت. فقالوا: يا روح الله، كن أوّل من يأكل منها ثم نأكل نحن. فقال عيسى: معاذ الله أن آكل منها، ولكن يأكل منها من سألها، فخافوا أن يأكلوا منها. فدعا عيسى عليه السلام أهل الزّمانة والمرض وأهل البرص والجذام والمقعدين والمبتلين فقال: كلوا من رزق الله ولكم المهنأ ولغيركم البلاء. وفى رواية: كلوا من رزق ربكم ودعوة نبيكم واذكروا اسم الله. فأكلوا وصدروا عنها وهم ألف وثلاثمائة رجل وامرأة من فقير وزمن ومريض ومبتلى كلهم شبعان يتجشّأ «1» ، ثم نظر عيسى عليه السلام الى السمكة فاذا هى كهيئتها حين نزلت من السماء. ثم طارت المائدة صعدا وهم ينظرون إليها حتى توارت عنهم. فلم يأكل منها يومئذ زمن إلا صحّ، ولا مريض إلا برأ، ولا مبتلى إلّا عوفى، ولا فقير إلا استغنى ولم يزل غنيّا حتى مات؛ وندم الحواريّون ومن لم يأكل منها إذ لم يأكلوا منها. وكانت اذا نزلت اجتمع الفقراء والأغنياء والصغار والكبار والرجال والنساء فيزدحمون عليها. فلمّا رأى عيسى ذلك جعلها نوبة بينهم، فلبثت أربعين صباحا تنزل ضحى ولا تزال منصوبة يؤكل منها حتى اذا فاء الفىء طارت صعدا وهم ينظرون الى ظلها حتى تتوارى عنهم. وكانت تنزل غبّا، تنزل يوما ولا تنزل يوما كناقة صالح. وأوحى الله عز وجل الى عيسى أن اجعل مائدتى ورزقى للفقراء دون الأغنياء، فعظم ذلك على الأغنياء حتى شكّوا وشكّكوا الناس فيها وقالوا: أترون المائدة حقّا نزلت من السماء! فقال عيسى: هلكتم تجهزّوا لعذاب الله. فأوحى الله تعالى الى عيسى عليه السلام: إنى شرطت على المكذّبين شرطا أنّ من كفر بعد نزولها عذّبته عذابا لا أعذّبه أحدا من العالمين. فقال عيسى: «إن تعذّبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم الجزء: 14 ¦ الصفحة: 242 فإنك أنت العزيز الحكيم» . فمسخ منهم ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون رجلا. وقال الكسائىّ عن وهب: مسخ منهم خمسة آلاف وخمسمائة، فباتوا على فرشهم مع نسائهم فى ديارهم، فأصبحوا خنازير يسعون فى الطّرقات والكناسات ويأكلون العذرة. فلمّا رأى الناس ذلك فزعوا الى عيسى عليه السلام، وبكى على الممسوخين أهلوهم. ولما أبصرت الخنازير عيسى عليه السلام بكت وجعلت تطيف به وجعل عيسى يدعوهم بأسمائهم واحدا واحدا فيبكون ويشيرون برءوسهم ولا يقدرون على الكلام، فعاشوا ثلاثة أيام ثم هلكوا. وهؤلاء الذين لعنوا على لسان عيسى كما قال تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ «1» الآية. ذكر ما قالته الشياطين الثلاثة فى عيسى بن مريم واتبعهم الناس بعدهم قال الكسائىّ قال وهب: جاء إبليس الى عيسى عليه السلام هو وأصحاب له على صور رجال ذوى هيئة وشيبة وعيسى يقول لبنى إسرائيل: قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ «2» الآية. فقال إبليس: أتخلق وتشفى المرضى وتحيى الموتى وتنبئنا بالغيب؟ قال عيسى نعم. قال إبليس: هذا الله عز وجل! يأيها الناس فانظروا اليه، فإنه نزل اليكم ليريكم قدرته. فقال أحد أصحاب إبليس: بئسما قلت يا شيخ! أخطأت وجرت وقلت قولا عظيما، أتزعم أنّ الله يتجلّى لخلقه لينظروا الى قدرته! وهل ينبغى لخلقه أن ينظروا اليه أو يسمعوا كلامه أو يقوموا لرؤيته! لا، ولكنّه ابن الله وليس هو الله. فقال الثالث: كلا كما قال شططا وأخطأ وجار وقال قولا عظيما، وهل ينبغى لله أن يتخذ صاحبة يكون له منها ولد! وهل ينبغى لولد هو من الله الجزء: 14 ¦ الصفحة: 243 أن تستقلّ به قوّة امرأة ويسعه رحمها! ولكنّه إله مع الله وليس بولد لله وليس بالله كما قلتما. قال: فتفرّقوا على ذلك ونطق الناس بقولهم، فصار ذلك كلام النصارى. قال الله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ «1» *. وقال تعالى: وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ «2» . وقال تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ «3» . ذكر خبر إبليس حين عارض عيسى عليه السلام وما خاطبه به وجوابه قال وهب: ثم جاء إبليس الى عيسى بن مريم فعارضه فى عقبة» من عقاب الأرض المقدّسة يقال لها عقبة فيق: فقال له: أنت المسيح بن مريم؟ قال عيسى: أنا المسيح عيسى بن مريم روح الله وكلمته وعبد الله وابن أمّته. فقال له إبليس: فأنت إله الأرض. قال: بل إله الأرض ربّى. قال: فأنت الذى بلغ من عظم ربوبيّتك أن تكلّمت فى المهد صبيّا. قال: بل العظمة للذى أنطقنى فى صغرى. قال: بل فأنت الذى بلغ من عظم ربوبيتك أنك تخلق من الطين كهيئة الطير فتنفخ فيه فيكون طيرا. قال عيسى: بل العظمة للذى خلقنى وخلق ما سخّر لى. قال: فأنت الذى بلغ من عظم ربوبيّتك أنك تشفى المرضى. قال عيسى: بل العظمة للذى بإذنه شفيتهم وإن شاء أمرضنى. قال إبليس: فأنت الذى بلغ من عظم ربوبيتك أنك تحيى الموتى. قال عيسى: بل العظمة للذى بإذنه أحييهم، ولا بدّ أنه سميت من أحييت ويميتنى. قال: فأنت الذى بلغ من الجزء: 14 ¦ الصفحة: 244 عظم ربوبيّتك أنك تعبر البحر فلا تبتّل قدماك ولا ترسخ فيه. قال: بل العظمة للذى ذلّله. قال: فأنت الذى بلغ من عظم ربوبيّتك أنك تعلم الغيب. قال: بل العظمة لعالم الغيب والشهادة، لست أعلم إلا ما علّمنى. قال: فأنت الذى بلغ من عظم ربوبيّتك أنك كوّنت من غير أب. قال: بل العظمة للذى كوّننى وكوّن آدم وحوّاء من قبلى. قال: فأنت الذى بلغ من عظم ربوبيّتك أنك سيأتى عليك يوم تعلو فيه الخلائق كلها، فتكون السموات السبع والأرضون السبع ومن فيهنّ دونك، وأنت فوق ذلك كلّه تدبّر الأمر وتقسم الأرزاق. قال: فأعظم عيسى قوله وضاق به ذرعا وسبّح إعظاما لما قال إبليس. قال: فأتاه جبريل فنفخ إبليس نفخة ذهب يلطم منها على وجهه فلا يملك من نفسه شيئا حتى وقع بالخافق الأقصى، ثم نهض بالذى أعطاه الله من القوّة فسبق عيسى إلى أسفل العقبة فسدّها وملأ كل ثلمة وطريق، ثم قال لعيسى: لقد غضبت غضب إله عظيم، وقد أخبرتك بأنك إله وما أنت من البشر، ولو كنت من البشر ما قمت «1» ، منذ فارقتك، أربعين ليلة لم تطعم ولم تشرب ولم تنم ولم يضرع «2» لذلك جسمك، وهذا ما لا ينبغى لبشر. قال عيسى: إنّ جسدى ليألم مما يألم منه البشر، وإنى لأطعم وأشرب وأنام وأغفل وأفرح وأحزن وأجزع وأهلع وأحتاج إلى أن أتنظّف بالماء وكيف تزعم أنى إله وأنت تعلم أنى هكذا!. ولم يزل إبليس لعنه الله يحاوره حتى عرض عليه أن يأمر الشياطين بعبادته والاعتراف بربوبيته. فضاق عيسى ذرعا وسبّح لله تعالى فقال: «سبحان الله عما يقول وبحمده، ملء سمائه وأرضه، وعدد خلقه، ورضا نفسه، ومبلغ علمه، ومنتهى كلماته، وزنة عرشه» . فهبط جبريل وميكائيل وإسرافيل، فنفخه ميكائيل نفخة ذهب منها نحو مطلع الشمس حتى صدم عين الشمس عند طلوعها، فخرّ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 245 حصيدا محترقا، فأتبعه إسرافيل فنفخه نحو مغرب الشمس فانطلق لا يملك من نفسه شيئا حتى حاذى عيسى فقال: يابن مريم، لقد لقيت منك تعبا. ومرّت به النفخة حتى وقع فى العين الحامية التى تغرب الشمس فيها، فلبث سبعة أيام وسبع ليال، متى أراد الخروج منها غطّته الملائكة بأجنحتها، فما رام عيسى بعد ذلك. والله أعلم. ذكر خبر عيسى مع اليهود حين ظفروا به وأرادوا صلبه وقتله قال وهب: لمّا أوحى الله عز وجل إلى عيسى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ «1» جزع من الموت جزعا شديدا وقال للحواريّين: هذا الزمان الذى يقبض الله فيه الراعى ثم تفرّق الرعيّة من بعده، فعرفوا أنه يعنى نفسه، فبكوا وجزعوا، فقال: لا تبكوا من حزن الفراق. فسترون ما هو أشدّ منه، ولست مفارقكم حتى يظفر بى عدوّى ثم يأسروننى، فلا تدفعوا عنّى ولا تمنعوا. قال: وطلبه اليهود ليقتلوه فاستخفى منهم، فدلّهم عليه يوذا وهو الذى ارتدّ عنه، فأخذوه من غار جبل بيت لحم وجعلوا على رأسه إكليلا من الشّوك ليمثّلوا به، وجعلوا يلطمونه ويضربونه من خلفه ويقولون له: إن كنت نبيّا كما تزعم فامنع عن نفسك وادع ربك فليحل بيننا وبينك، وهو لا يكلّمهم حتى طلع الفجر، ونصبوا له خشبة ليصلبوه. فلمّا أرادوا أن يرفعوه عليها أظلم الجوّ ظلمة عظيمة لم تلبس الأرض مثلها، وأرسل الله الملائكة فحالوا بينهم وبينه وصلبوا مكانه يوذا الذى دلّ عليه، وأشرقت الشمس وقلب الله قلوب الناس وأبصارهم فجعلوا ينظرون إلى يوذا فى صورة عيسى. قال الله تعالى: وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ «2» . قال: ولمّا رفعوا يوذا على الخشبة قال: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 246 يا هؤلاء، إنّى أذكّركم الله فى دمى، إنّى صاحبكم يوذا الذى دللتكم على عيسى. ثم أخبرهم خبر الظلمة وأنّ الملائكة حالوا بينهم وبين عيسى وجعلوه مكانه، وأخبرهم بعلامات يعرفونها. فلمّا سمعوا ذلك منه زادهم عليه غيظا وحنقا وقالوا: ما أعظم سحره! كيف اطّلع بسحره على سرّنا وما كنّا نطويه دونه! وقتلوه وهو صاحبهم. ذكر خبر رفع عيسى عليه السلام أوّل مرة وهبوطه إلى الأرض ووصيّته إلى الحواريّين ورفعه ثانيا قال: رفع الله تعالى عيسى لثلاث ساعات مضت من النهار، فلبث فى السماء أيّاما، قيل سبعة أيام، وقيل أربعين يوما. والله أعلم. ثم قال الله له: إنّ أعداءك اليهود أعجلوك عن الوصيّة والعهد إلى أصحابك، فانزل اليهم واعهد لهم وأوصهم، وانزل على مريم المجدلانيّة «1» فإنها فى غار فى جبل الجليل. وكانت مريم المجدلانيّة من قرية من قرى أنطاكية يقال لها مجدل. وكانت من أوسط نساء بنى اسرائيل حسبا، وكانت أجمل نسائهم وأكثرهم مالا، وكانت تستحاض فلا تطهر أبدا وخطبها أشراف بنى إسرائيل وملوكهم وامتنعت من إجابتهم، فظنّوا أنّ ذلك ترفّعا منها، وإنما كان بسبب ما يعرض لها. فلمّا ظهر عيسى عليه السلام وشاع ذكره أتته فى جملة المرضى ليشفيها، فخجلت أن تسأله لكثرة الناس حوله، فجاءت من ورائه فمسّته بيدها فزال عنها ما كانت تشكوه وطهرت وآمنت بعيسى، وأنفقت مالها فيما أمرها به من وجوه البرّ، وصارت فقيرة وتبتّلت وتخلّت للعبادة، وكانت تعدّ من أصحاب عيسى. قال: وأمر الله تعالى عيسى أن يأمرها أن تجمع له الحواريّين، وأن يستخلف عليهم شمعون، وأن يفرّقهم دعاة إلى الله عز وجل فى البلاد، وأن يخبرهم بالعلامة التى تأتيهم من الله. ثم أهبطه الله تعالى على مريم فاشتعل الجبل نورا، وأتته بالحواريّين، فبلّغهم الجزء: 14 ¦ الصفحة: 247 رسالة ربهم، وقال: إن آية ذلك أن تأتيكم الملائكة فى ليلتكم هذه بمغارف فيها نور من نور الله، فكلّ من تناول مغرفة منها فليلحس النور الذى فيها فإنه يصبح وقد تكلّم بلغة القوم الذين بعث إليهم ويصبح وهو على باب مدينتهم. قال: والليلة التى هبط عيسى فيها هى الليلة التى تدخّن فيها النصارى باللّبان. قال: فلمّا فرغ عيسى من وصيّته الى الحواريّين رفع بعد سبعة أيام، وتوفّاه الله تعالى لثلاث ساعات من النهار، ثم كساه الله الريش وألبسه النور، وقطع عنه المطعم والمشرب وصار ملكيّا إنسيّا. قال وهب: برز عيسى عليه السلام للناس يوم برز وهو ابن ثلاثين سنة، ولبث فيهم فى نبوّته وفيما كان الناس يرونه منه من العجائب والآيات ثلاث سنين، ورفعه الله وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة. وحكى أبو إسحاق الثعلبىّ عن أهل التاريخ أن الله تعالى أوحى الى عيسى وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، ورفعه من بيت المقدس ليلة القدر من شهر رمضان وهو ابن ثلاث وتسعين سنة. وقد ورد فى الحديث ما يدلّ على أنه رفع وله مائة وخمس وعشرون سنة. وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى فى آخر السيرة النبوية على ما تقف إن شاء الله عليه هناك. ذكر وفاة مريم بنة عمران عليها السلام قال الكسائىّ قال كعب: ماتت مريم بنة عمران أمّ عيسى عليهما السلام قبل رفعه، فدفنها فى مشاريق بيت المقدس. وحكى الثعلبىّ رحمه الله أنها ماتت بعد رفع عيسى عليهما السلام. وقال فى خبره: إنه لمّا صلب المشبّه بعيسى جاءت مريم ابنة عمران وامرأة كان عيسى دعا لها فأبرأها الله من الجنون يبكيان عند المصلوب، فجاءهما عيسى عليه السلام فقال لهما: على ماذا تبكيان؟ فقالتا عليك. فقال: إن الله تعالى رفعنى فلم يصبنى إلا خير، وإنّ هذا شىء شبّه لهم. ثم قال أيضا فى قصة الجزء: 14 ¦ الصفحة: 248 وفاة مريم عن وهب: لمّا أراد الله تعالى أن يرفع عيسى عليه السلام آخى بين الحواريّين وأمر رجلين منهما وهما شمعون ويوحنّا أن يلزما أمّه ولا يفارقانها، فانطلقا ومعهما مريم الى نيرون «1» ملك الروم يدعوانه الى الله عز وجل، وقد بعث الله اليه قبل ذلك بولس «2» . فلمّا أتوه أمر بشمعون وبولس فقتلا وصلبا منكّسين، وهربت مريم ويوحنّا، حتى اذا كانا فى بعض الطريق لحقهما الطلب، فخافا فانشقت لهما الأرض فغابا فيها، فأقبل نيرون ملك الروم وأصحابه فحفروا ذلك الموضع فلم يجدوا شيئا فردّوا التراب على حاله، وعلموا أنه أمر من الله عز وجل. فسأل ملك الروم عن حال عيسى فأخبر به فأسلم. وقد قيل فى إسلامه غير هذا، على ما نذكره إن شاء الله تعالى. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 249 الباب السادس من القسم الثالث من الفنّ الخامس فى أخبار الحواريّين الذين أرسلهم عيسى عليه السلام وما كان من أمرهم مع من أرسلوا اليه وخبر جرجيس ذكر خبر أخبار الحواريّين قال الكسائىّ قال وهب: وأصبح الحواريّون على أبواب المدائن التى بعثوا اليها، يتكلّم كل رجل منهم بلغة الأمة التى بعث اليها. فبعث الى أهل رومية رجلين من الحواريّين، وبعث إندراوس ولوقا الى أرض الحبشة، وبعث رجلا الى بابل، وبعث رجلا الى إفريقيّة، ورجلا الى أصحاب قرية الكهف، ورجلا الى بربر، ورجلين الى أنطاكية، ورجلا الى السّند والهند، وأقام شمعون مكانه وهو رأسهم، وأمروا أن يستظهروا به فيما يهمّهم. ذكر خبر يوحنّا وبولس اللذين توجّها إلى إنطاكية قال الكسائىّ: لمّا أصبح يوحنّا وبولس على باب إنطاكية دخلاها عند فتوح بابها، وملكها يومئذ مخلنطيس «1» بن مخلنطيس، وكان ظالما جبّارا متكبّرا، فلم يقدرا على الوصول اليه، وما أمكنهما أن يذكرا ما جاءا فيه مخافة أن يقتلا قبل أن يبلّغاه رسالة الله تعالى. فكانا كذلك مدّة، حتى شخص الملك من منزله الى مستنزه له فنادياه من بعيد بالإنذار. فلمّا سمع أصواتهما أرسل من يسمع مقالتهما فبلّغاه رسالة الله عز وجل؛ فأمر الملك بجلد كل منهما مائة جلدة وحلق رءوسهما حلق الشمامسة الجزء: 14 ¦ الصفحة: 250 ليمثّل بهما، ثم أمر بهما الى السجن ليخلدا فيه. فأوحى الله تعالى الى شمعون بخبرهما وأمره بالانتصار لهما. فخرج حتى بلغ أنطاكية فدخلها، وتلطّف حتى صحب خواصّ الملك وبطانته وأنسوا به وذكروه للملك. ثم طرق السجن ليلا، وكان له باب من حديد طوله خمسون ذراعا وعرضه ثلاثون، وكان اذا فتح صرصر حتى يسمع صريره أقصاهم وأدناهم. فأرسل الله تعالى ملكا فاقتلع الباب من موضعه فلم يسمع له صوت، وألقى الله عز وجل السّبات على أهل السجن وحرّاسه. فدخله شمعون، واجتمع بيوحنّا وبولس وبشّرهما عن الله بالثواب والخير وانصرف عنهما، وردّ الملك باب السجن الى موضعه. وكان شمعون يدخل مع الملك وأصحابه الى بيوت أصنامهم ويسجد لله ويبكى ويكثر العبادة وهم لا يشكّون أنه يعبد أصنامهم، فأحبّه الملك وقرّبه وسأله عن نسبه، فأخبره أنه من بنى إسرائيل وأنه بقيّة قوم انقرضوا، ولم يكن له من يأنس به فاعتمدتكم رغبة فى قربكم، وحرصا على إخائكم. فقال الملك: قد قبلنا قولك وسوّدناك علينا، فأنت أفضلنا وسيّدنا. فلبث فيهم زمنا يصدرون عن رأيه. فلما تمكّن أمره من الملك قال له: أيها الملك، بلغنى أنك سجنت رجلين كانا قد جاءاك يدعوانك الى غير دينك والى عبادة إله غير إلهك، ويزعمان أنّ الله أرسلهما إليك، وعجبت كيف اجترأا عليك. فماذا قلت لهما وما قالا لك؟ وهل أجبتهما بما كان ينبغى لك من الجواب؟ وهل سألتهما حين عظّما لك ربهما أن يذكرا لك سائر عظمته، أو أحييا لك ميتا، أو غير ذلك مما تعرف به مصداق قولهما؟ قال الملك: لقد حال الغضب دون ما تقول. قال: فهل لك أن تدعوهما؟ قال نعم. فأحضرهما بين يديه، فقال لهما شمعون: أخبرانى من أرسلكما الى هذا الملك وقومه؟ قالا: أرسلنا الله الذى هو على كل شىء قدير. فقال شمعون: صفا لى عظمته. قالا: هى أعظم من أن تحصى. قال: فأخبرانى ماذا يبلغ من قدرته؟ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 251 قالا: إن شئت وصفنا لك ما نطيق وصفه، وصفته أعظم من طاقتنا، وإن شئت وصفنا لك ذلك فى كلمتين تكفيان من كلام كثير. قال: نعم، صفا وأوجزا. قالا: إنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. فوضع شمعون يده على رأسه كالمنكر لما قالا، ثم أقبل عليهما وقال: إنى أسألكما أمرا فإن قدر إلهكما عليه آمنّا بكما. قالا: سل. قال: هل يقدر أن يخلق خلقا ونحن ننظر اليه؟ قالا نعم. قال: اعلما ما تقولان! قالا: قد علمنا، فمتى شئت أريناك. فعندها خلا شمعون بالملك وقال: أيها الملك، إنّ هذين الرجلين ليسا ببعيدين من أن يكون ربهما كما قالا، ولا أظنهما عرّضا أنفسهما للملك لمثل هذا الموقف إلا وعندهما ثقة من إلههما. وإنى أخشى أن يدعوا ربهما فيخلق خلقا ينظر اليه الناس فيمرض ذلك قلوبهم ويزهدون فى إلهك الذى تعبده ويذهبان بالصوب «1» والشرف. فهل لك أن تدعو إلهك فيخلق هذا الخلق الذى نريد أن نتمناه عليهما فيكون لك ولإلهك شرف هذا اليوم وصوبه؟. قال له الملك: ليس دونك سرّ، إنّ هذا الإله الذى نعبد لا يسمع ولا يبصر ولا يضرّ ولا ينفع ولا يحيى ولا يميت. فقال لهما شمعون: اعرضا علىّ بعض قدرة إلهكما فإن أجابكما وخلق الشىء على أعيننا ونحن ننظر اليه فقد صدقتما والقول قولكما. واجتمع الناس لينظروا. فأوحى الله اليهما أن سلاه ماذا يريد، فإنى مسخّر لكما ما سألكما. قالا: قد أوحى الينا أنه فاعل ما تسألنا، فسلنا. وكان شمعون قد عهد فى المدينة غلاما مطموس الوجه لم يخلق له عينان، فأتى به فقال: ادعوا ربكما أن يخلق له عينين ونحن ننظر. قالا نعم. فأوقفاه بين أيديهما ودعوا الله وأعانهما شمعون سرّا، فأجابهم الله تعالى، فأخذ كل واحد منهما حثوة من تراب وعجنه وجعله كالبندقة، ووضعا البندقتين فى موضع العينين من وجه الغلام فانشقّ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 252 لهما البصر، ثم صارت البندقتان عينين. فخاف الملك، فقال له شمعون: لا تخف إنّ عندى حيلة. قال له الملك: لعلّهما ساحران، أرنا ما لا يكون وما ليس بكائن. قال شمعون: ليس هذا من السحر، ولكنى أخاف أن يأتى من إلههما ما يعجز حيلتنا. فدعا شمعون بغلام مطموس وعمل كما عملا فانشقّ بصره، كما انشقّ بصر الأوّل، ففرح الملك وأصحابه بذلك. فقال شمعون: إنما صنع ما ترون إله اخترته لنفسى وهو الذى أظهر فلجكم «1» ، فاسجدوا لهذا الإله الذى أظفركم بعدوّكم لعلّه يعينكم على ما يكون بعد هذا. فقال الملك: كيف نسجد لغير إلهنا!. قال شمعون: ألم تخبرنى أنه لا يبصر ولا يسمع ولا يضرّ ولا ينفع، فما قدرته عليك إن سجدت لغيره! قال: صدقت. وسجد الملك وسجد قومه لسجوده. ثم قال شمعون ليوحنّا وبولس: إنّى أسألكما عن أمر، فإن قدر عليه إلهكما فالحجّة إذا لكما والقول قولكما. قالا: سل عمّا بدالك. قال: تسألان ربكما أن يحيى لنا ميّتا حتى يكلّمنا ويخبرنا ما خبره، ويعلمنا ما كان فيه وما لقى بعدنا. قالا: نعم، إنّ الذى سألت يسير على الله وهيّن عليه. فوضع شمعون يده على رأسه كالمعظم والمنكر لما قالا. ثم خلا بالملك وقال: إنك قد رميت بأمر عظيم، وإنى أخاف إن أحيا إلههما الموتى أن يميل الناس اليهما. قال الملك: إنّا نرجو ألّا يأتيا بشىء إلا أتيت أنت بمثله. قال شمعون: إنّى لا أغرّكم، إنّ إلهى لا يحيى الموتى، ولا أعلم فى الأرض من يقدر على ذلك. قال الملك: فهل تدعهما يدعاننا وندعهما، فإن أبيا قاتلناهما؟. قال شمعون: كيف نقاتل من لهما إله يحيى الموتى! ولكن أرجو أن أدعو الإله الذى صنع ما رأيتم فيعيننا على ما نريد. قال شمعون: هل يقدر إلهكما على أن يحيى الموتى؟ قالا نعم. قال الملك: إنّ عندنا ميّتا قد مات منذ سبعة أيام وهو ابن الجزء: 14 ¦ الصفحة: 253 دهقان مدينتنا، فدعا به الملك فأحضر فى نعش، وقد تغيّر لونه وأروح «1» ، فقال: دونكما ادعوا أن يحييه إلهكما. فدعوا الله، فما لبث أن تفتّقت عنه أكفانه وردّ الله إليه روحه. فسألوه متى مات وماذا لقى. فقال: متّ منذ سبعة أيام، ثم عرضت على عملى فقذفت فى سبعة أودية من نار، وذكر ما فى الأودية من العذاب والحيّات وغير ذلك. قال: فلمّا صرت الى الوادى السابع خفّف عنّى العذاب. قالوا: فمن أين خفّف عنك العذاب؟ قال: أحيانى الله وردّ علىّ روحى، فجاءنى شىء مثل الريح فدخل فى رأسى، فلمّا صار فى جسدى حييت، ثم قيل لى: انظر فوقك، فشخصت «2» ببصرى وفتحت أبواب السماء، فنظرت فإذا برجل شابّ حسن الوجه نحيف الجسم أبيض يخالطه حمرة متعلّق بالعرش يشفع لهؤلاء الرهط الثلاثة، يعنى عيسى بن مريم. فقال له الملك: أىّ رهط تعنى؟. قال: هذا الشيخ الأجلخ «3» ، وهذا الكهل الأنزع «4» ، وهذا الفتى الرّجل «5» . فما زالوا مجتهدين فى الدعاء حتى شفّعوا، والشافع لهم مصغ إليهم بإذنه كأنّه يسمع ما يقولون ثم يرفعه الى الله فيدعو به. فلما فرغ من كلامه قال: إنّى أحذّركم أيها القوم مثل ما كنت فيه، فإنه لا إله إلّا إله عيسى بن مريم وشمعون وبولس ويوحنّا. قال شمعون: اعتصمنا بالله وتوكّلنا عليه، ثم أخبر الملك بخبره وخبر أصحابه ودعاهم الى الله، فمنهم من آمن، ومنهم من تولّى. وكان الملك ممن آمن به فى عصبة يسيرة. وأرسل الله على من تولّى منهم صيحة من السماء فإذا هم خامدون. قال: وكان قد نعى الى الدّهقان ابنه، وكان اسم الدّهقان حبيبا النجّار، ثم لم يلبث أن جاءته البشارة بحياة ابنه، ولم يكن له ولد غيره، وأخبر خبر الحواريّين، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 254 فآمن بهم قبل أن يراهم، فأقبل مسرعا. فلمّا قصّ عليه ابنه قصّته ازداد إيمانا ويقينا. قال وهب: فيقال- والله أعلم- إنّ هذا هو الذى ذكره الله تعالى فى قوله: وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ «1» الآية. فأوجب الله له بكلامه الجنة، وخيّر أن يعمّر هو وابنه مائة عام أو يعجّل بهما الى الجنة، فاختارا الجنة؛ وهو قوله تعالى: أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ «2» الآية. قال: ولم يزل يجاهد قومه قبل أن تأخذهم الصيحة ويدعوهم الى الله حتى قتلوه، فقيل له: ادخل الجنة قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ «3» . ذكر خبر توما الحوارىّ مع ملك الهند وإيمانه به قال الكسائىّ قال وهب: وجاء توما الى أرض الهند والسّند. فبينما هو يتردّد على ساحلهم إذا هو بغلام لملك الهند يقال له حيّان، وكان تاجرا. فأتاه توما فقال له: هل لك أن تبتاعنى للملك؟ فقال له حيّان: من أنت أيها الرجل الكريم؟. قال له توما: إنّى كنت عبدا مملوكا فأعتقنى سيّدى وأمرنى بالطلب لنفسى، فلم أصادف من الحرّيّة ما كنت أظنّ، وكان حالى يوم كنت عبدا خيرا منه اليوم وأحسن. فقال له حيّان: ما أرى عليك ميسم العبوديّة، وإنى لأرى عليك أثر الخير، ثم قال له: ما الذى تحسن من الأعمال؟ قال: أعمل سائر الأعمال. فاشتراه بثلاثمائة مثقال من الذهب وانطلق به الى الملك. فلمّا رآه أجلّه وعظّمه، وسأل التاجر عنه فأخبره أنه اشتراه على أن يعمل سائر الأعمال. فقال له الملك: أريد أن تبنى لى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 255 قصرا لم يعمل مثله لأحد قطّ. قال توما: لك ذلك علىّ، ولكن أرضك حارّة، وإذا بنى فى زمن الحرّ كان حارّا لا يسكن من حرّه، وكذلك فى زمن البرد يكون باردا، وإنى لأرى أن يعمل فى زمن الاعتدال، فوافقه الملك على رأيه. وعرض للملك غزاة فخرج اليها واستخلف أخاه على الملك، وأمره أن يدفع لتوما ما يحتاج اليه من الأموال للنفقة على القصر، فصرف له أموالا كثيرة، ففرّقها توما فى الفقراء والمساكين حتى أغناهم، ثم مرض أخو الملك مرضا شديدا وغاب عن حسّه وحركته سبعة أيام. فقدم الملك وهو على تلك الحال، فلما ردّ الله عليه روحه قال الملك لتوما: ما فعلت فى القصر؟ قال: قد فرغت منه. فقال الملك لأخيه: ما الذى أعطيته من مالى؟ قال: جميع ما فى بيت مالك. قال: فهل رأيت القصر؟ قال: إنه قبض منى المال ثم اشتكيت فقلت لتوما: أين بنيت هذا القصر؟ قال: بنيته لك فى السماء. قال: وكيف لى بسلّم أنال به السماء؟ قال: تنال السماء بالسّلّم الذى نالها به أخوك. فقال له أخوه: اسمع منّى أيها الملك أخبرك بالعجب؛ فإنك لو تعلم ما أدخل عليك هذا الرجل من الخير وصرف عنك من الشرّ لقبّلت قدميه وجعلته فوق رأسك. قال: أخبرنى خبره. قال: أخبرك أنّ الله عزّ وجل عرج بروحى، فعرضنى على النار فرأيت أمرا عظيما مهولا ووصفه لأخيه، ووصف له صفة ما يعذّب به أهل الشّرك بالله وعبدة الأوثان. قال: ثم قيل لى: إنّ الله عرضك على النار فأراك ما رأيت لتكون لمن خلفك نذيرا، وسيريك الجنة، لتبشّر بها قومك، ولتخبر من خلفك بما رأيت. قال: فأدخلت الجنة فرأيت كذا وكذا، ووصف الجنة ونعيمها وما فيها. قال: وانتهيت إلى قصر عظيم من أعظم قصورها وأبوابه مغلقة، فقلت لخزنة الجنة: إنّى أحبّ أن أشاهد باطن هذا القصر فإنّى لم أر مثله. قالوا: إنّ صاحبه الآن فى الدنيا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 256 ومفاتيحه عند ملك من الملائكة. قلت: فلمن ادّخر هذا القصر؟ قالوا: هذا لأخيك فلان وهو الآن فى الدنيا، وعنده رسول من عند الله يقال له توما الحوارىّ من حواريّى عيسى بن مريم. فإذا رجعت إليه فبشّره وأخبره أنه القصر الذى بناه له توما فى السماء، وأنفق فيه بيت ماله. ثم ردّ الله بعد ذلك علىّ روحى، وأنت تعلم يا أخى أنّ لى شطر مالك وملكك وخزائنك، وتعلم مالى بعد ذلك من الأموال والخزائن، وأنا أعطيك جميع ذلك على أن تعطينى قصرك الذى رأيته لك فى الجنة. قال: يا أخى، ما كنت لأعطيك الباقى بالفانى. ثم أقبل على توما وآمن به هو وأهل مملكته، ولم تزل تلك الأمة على دين عيسى حتى أبادها الموت. ذكر خبر لوقا الحوارىّ مع ملك فارس قال: وأصبح لوقا على باب مدينة من مدائن فارس، وهى التى يسكنها الملك، فإذا غلمان من أبناء الملوك وأبناء الوزراء جلوس على قارعة الطريق يلعبون. فجلس الحوارىّ الى جانب غلام منهم وسأله كيف يلعب، فغلب جميع أولئك. فلمّا تفرّقوا دعاه الغلام الى منزله، فقال له: اذهب الى أبيك واستأذنه فى ذلك. فانطلق الغلام الى أبيه وأخبره بخبر الشيخ، فأذن له أن يأتيه به، فرجع اليه وقال له: إنّ أبى يدعوك، فأقبل معه. فلمّا ولج باب الدار قال: بآسم الله، فخرج كل شيطان فى الدار، وصاحب الدار ينظر الى ذلك، وكانت الشياطين تظهر لهم وتشاركهم فى طعامهم وشرابهم، فعجب صاحب الدار من ذلك. وقدّم الطعام فأقبلت الشياطين لتأكل على عادتها، فقال لوقا: باسم الله، فنفرت الشياطين وفرّت من الدار. فقال الشيخ: قد رأيت منك اليوم ما لم أره من أحد، وإنّ لك لشأنا، وخلا به وقال: لابدّ أن تخبرنى خبرك ولا تكتمنى أمرك. قال: على أن تكتمه ولا تذكره إلّا أن الجزء: 14 ¦ الصفحة: 257 آذن لك، قال نعم. فاستوثق منه وأخبره بخبره. ثم قال له لوقا: أخبرنى أىّ مال الملك أحبّ اليه وأعجب عنده؟ قال: ما شىء من ماله أحبّ اليه وأعجب عنده من برذون حتى إنه يركبه من سريره. ثم أقام مدّة، فقدّم البرذون إلى الملك ليركبه على عادته، فلما صار الى جانب السرير خرّ ميّتا، فشقّ ذلك على الملك وآلمه وقال: وددت لو فديته بمال عظيم، وحزن جلساء الملك وخواصّه لحزنه. قال: وجاء الرجل الى لوقا وقد حزن لحزن الملك، فسأله عن سبب حزنه فذكر له قصّة البرذون، فقال له: ارجع الى الملك وقل له: إنى أحييه له إن أطاعنى فيما أقول. فرجع الى الملك وأخبره بذلك، وقال: إنّ هذا الرجل لمّا عبر الى منزلى نفرت منه الشياطين ولم تطعم من طعامنا، وكانت تأكل معنا قبل ذلك وتشرب كما علمت، وقد قال: إن أطاعنى الملك أحييت له برذونه. فقال الملك: إنّ نفسى لتطيب بكل شىء أحيى به هذا البرذون، فعلىّ بالرجل، فأحضره إلى الملك. فلمّا دخل الدار لم يبق بها شيطان إلا خرج. ثم جلس لوقا إلى جانب الملك، فقال له: بلغنى أنك تحيى الموتى، فأحى لى برذونى هذا. فقال له: إن أطعتنى فيما أقول لك أحى برذونك. قال الملك: مرنى بما شئت. قال: ادع ابنك وامرأتك، وكان ابنه ولىّ عهده وامرأته منه بمكان، فدعاهما، فأخذ لوقا بقائمة من قوائم البرذون، وكلّ من الملك وابنه وامرأته بقائمة، ثم قال الحوارىّ بالفارسية: «اللهمّ ربّ السموات والأرض، خالق السموات والأرض وما فيهما لا إله إلّا أنت وحدك لا شريك لك، أحى هذا العضو الذى فى يدى» فتحرّك ذلك العضو. ثم قال للملك: قل كما قلت، فقال الملك مثل قوله. فتحرّك العضو الذى فى يده. ثم قال لابنه: قل كما أقول، فقال فتحرّك العضو الثالث، ثم قال لامرأته: قولى كما قلت، فدعت بدعائه، فتحرّك العضو الذى فى يدها. ثم قال لهم: قولوا جميعا كما أقول، فقالوا كلهم: «اللهم الجزء: 14 ¦ الصفحة: 258 ربّ السموات والأرض خالق السموات والأرض وما فيهما لا إله إلّا أنت وحدك لا شريك لك أحى هذا البرذون» . فقام البرذون حيّا ينفض ناصيته. فعجب الملك والناس من ذلك. وسأله الملك عن خبره فأخبره أنه رسول عيسى بن مريم إليه والى قومه يدعوهم إلى عبادة الله تعالى، فآمنوا به. وقد قيل: إن الذى أرسل إلى أرض فارس متى الحوارىّ، وإنه لمّا دخل على الملك كان الملك سكرانا، فلمّا أحيا الفرس أمر الملك أصحابه بقتل متّى فقتلوه. فلمّا أفاق الملك من سكره سأل عنه فقيل له: إنك أمرت بقتله فقتلناه، فقال: ما علمت بذلك. فقاموا إليه وغسلوه وكفّنوه ودفنوه. ويقال: إنّ الله تعالى بعد دفنه خسف بالملك وأولاده وأهله. والله أعلم. ولنصل أخبار الحواريّين بخبر جرجيس وإن لم يكن منهم، فقد كانت له قصّة عجيبة تلتحق بهم. ذكر خبر جرجيس رحمة الله عليه قال أبو إسحاق الثعلبىّ رحمه الله تعالى فى كتابه المترجم ب «يواقيت البيان فى قصص القرءان» بإسناده عن وهب بن منبّه قال: كان بالموصل ملك يقال له داديه «1» ، وكان قد ملك الشام كله ودان له أهله، وكان جبّارا عاتيا، وكان يعبد صنما يقال له أفلون، وكان جرجيس عبدا صالحا من أهل فلسطين قد أدرك بقايا من حواريّى عيسى عليه السلام، وكان تاجرا عظيما كثير المال عظيم الصدقة، وكان لا يأمن ولاية المشركين الجزء: 14 ¦ الصفحة: 259 عليه مخافة أن يفتنوه عن دينه. فخرج يريد الموصل «1» ومعه مال يريد أن يهديه إليه حتى لا يجعل لأحد من الملوك عليه سلطانا دونه. فجاءه حين جاءه وقد برز فى مجلس له وأمر بصنمه أفلون فنصب وأوقد نارا، فمن لم يسجد لصنمه ألقى فى النار. فلمّا رأى جرجيس ذلك قطع به وهاله وأعظمه وحدّث نفسه بجهاده، وألقى الله تعالى فى نفسه بغضه ومجاهدته. فعمد إلى المال الذى أراد أن يهديه له فقسمه فى أهل ملّته حتى لم يبق منه شىء وكره أن يجاهده بالمال. ثم أقبل عليه وقال له: إنك عبد مملوك لا تملك لنفسك شيئا ولا لغيرك، وإنّ فوقك ربّا هو الذى ملّكك وغيرك، وهو الذى خلقك ورزقك ويحييك ويميتك ويضرّك وينفعك، وإنك عمدت الى خلق من خلقه قال له: كن، فكان أصمّ أبكم لا ينطق ولا يسمع ولا يغنى عنك من الله شيئا، فزيّنته بالذهب والفضة فتنة للناس، ثم عبدته من دون الله. فكان من جواب الملك إيّاه أن سأله عن حاله وأمره ومن هو ومن أين هو. فأجابه جرجيس: أنا عبد الله وابن عبده وابن أمته أذلّ عباده وأفقرهم إليه، من التراب خلقت واليه أصير. فقال له الملك: لو كان ربّك الذى تزعم كما تقول لرئى عليك أثره كما رئى أثرى على من حولى وفى طاعتى. فأجابه جرجيس بتحميد الله وتعظيم أمره وقال: أتعدل أفلون الأصمّ الأبكم الذى لا يغنى عنك شيئا بربّ العالمين الذى قامت السموات والأرض بأمره!. أو تعدل طرفلينا «2» وما نال بولايتك فإنه عظيم قومك بما نال إلياس الجزء: 14 ¦ الصفحة: 260 بولاية الله تعالى؛ فإنّ إلياس كان فى بدء أمره آدميّا يأكل الطعام ويمشى فى الأسواق فلم تزل به كرامة الله تعالى حتى أنبت له الريش وألبسه النور فعاد إنسيّا ملكيّا سماويّا أرضيّا يطير مع الملائكة! أم تعدل مخلنطيس «1» وما نال بولايتك فإنه عظيم قومك، بالمسيح بن مريم وما نال بولاية الله تعالى فإنّ الله فضّله على رجال العالمين وجعله [وأمه «2» ] آية للمعتبرين! أم تعدل أمر هذه الروح الطيّبة التى اختارها الله لكلمته وسوّدها على إمائه وما نالت بولاية الله تعالى، بأزبيل «3» وما نالت بولايتك فإنها كانت من شيعتك وعلى ملّتك، فأسلمها الله مع عظم ملكها حتى اقتحمت عليها الكلاب فى بيتها فانتهشت لحمها وولغت فى دمها، وقطّعت الضباع أوصالها!. فقال الملك: إنك لتحدّثنا عن أشياء ليس لنا بها علم؛ فأتنى بالرجلين اللذين ذكرت أمرهما حتى أنظر إليهما، فإنى أنكر أن يكون هذا من البشر. قال له جرجيس: إنما جاءك الإنكار من قبل الغرّة بالله تعالى. وأمّا الرجلان فلن تراهما ولا يريانك إلّا أن تعمل بعملهما فتنزل منازلهما. فقال له الملك: أمّا نحن فقد أعذرنا اليك وتبيّن لنا كذبك لأنك فخرت بأمور عجزت عنها. ثم خيّره الملك بين العذاب وبين السجود لأفلون. فقال جرجيس: إن كان أفلون هو الذى رفع السماء ووضع الأرض فقد أصبت، وإلّا فاخسأ أيها النّجس الملعون. فلمّا سمعه الملك غضب وسبّه وسبّ إلهه وأمر بخشبة فنصبت له وجعل عليها أمشاط الحديد فخدش بها جسده حتى تقطّع لحمه وجلده وعروقه، ونضح خلال ذلك الخلّ والخردل، فحفظه الله تعالى من ذلك الألم والهلاك. فلما رأى ذلك لم يقتله أمر بستّة مسامير من حديد فأحميت، حتى إذا جعلت نارا سمرّ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 261 بها رأسه حتى سال دماغه، فحفظه الله من الألم والهلاك. فلمّا رأى ذلك لم يقتله أمر بحوض من نحاس وأوقد عليه حتى إذا جعله نارا أمر به فأدخل فى جوفه وأطبق عليه فلم يزل فيه حتى برد [حرّه «1» ] . فلمّا رأى أنّ ذلك لم يقتله دعا به فقال: يا جرجيس، أما تجد ألم هذا العذاب الذى تعذّب به؟ فقال: إنّ ربّى الذى أخبرتك به حمل عنّى [ألم العذاب «2» ] وصبّرنى لأحتجّ عليك. فلمّا قال له ذلك أيقن الملك بالشرّ وخافه على نفسه وملكه، واجتمع رأيه أن يخلّده فى السجن. فقال له الملأ من قومه: إنك إن تركته طليقا فى السجن [يكلّم الناس «3» ] يوشك أن يميل بهم عليك، ولكن مر له بعذاب فى السجن يشغله عن كلام الناس. فأمر به فبطح [فى السجن «4» ] على وجهه ثم أوتد [له «5» ] فى يديه ورجليه أربعة أوتاد من حديد [فى كل ركن منها «6» وتد] ، ثم أمر بأسطوان من رخام فوضع على ظهره، وحمل ذلك الأسطوان ثمانية عشر رجلا، فظلّ يومه [ذلك «7» ] موتدا تحت الحجر. فلمّا أدركه الليل أرسل الله تعالى [اليه «8» ] ملكا فقلع عنه الحجر ونزع الأوتاد وأطعمه وسقاه وبشّره وعزّاه. فلمّا أصبح أخرجه من السجن وقال له: الحق بعدوّك فجاهده فى الله حقّ جهاده، فإنّ الله يقول لك: أبشر واصبر فإنّى قد ابتليتك بعدوّك هذا سبع سنين يعذّبك ويقتلك فيهنّ أربع مرّات، فى كل ذلك أردّ إليك روحك، فإذا كانت الرابعة تقلبّت روحك وأوفيتك أجرك. قال: فلم يشعر الملك وأصحابه إلّا وجرجيس قد وقف على رءوسهم وهو يدعوهم إلى الله تعالى. فقال له الملك: يا جرجيس من أخرجك من السجن؟ قال: أخرجنى الذى سلطانه فوق سلطانك. فلمّا قال له ذلك ملىء غيظا ودعا بأصناف العذاب حتى لم يخلّف منها شيئا. فلمّا رآها جرجيس أوجس فى نفسه خيفة وفزعا منها، ثم أقبل على نفسه يعاتبها بأعلى صوته وهم يسمعون. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 262 فلمّا فرغ من عتابه نفسه مدّوه بين خشبتين ثم وضعوا سيفا على مفرق رأسه فنشروه حتى سقط من بين رجليه وصار قطعتين، فعمدوا إلى أجزائه فقطّعوها قطعا، وللملك سبعة أسود ضارية، وكانوا صنفا من أصناف عذابه، فرموا بجسده إليها. فأمرها الله تعالى فخضعت له برءوسها وأعناقها وقامت على براثنها، فظلّ يومه ذلك ميّتا وهى أوّل موتة ماتها. فلمّا أدركه الليل جمع الله جسده الذى قطّعوه بعضه إلى بعض حتى سوّاه، ثم ردّ الله تعالى اليه روحه وأرسل ملكا فأخرجه من قعر الجبّ فأطعمه وسقاه وبشّره وعزّاه. فلمّا أصبحوا قال له الملك: يا جرجيس، قال: لبيك! قال: اعلم أنّ القدرة التى خلق الله تعالى بها آدم من التراب هى التى أخرجتك من قعر الجبّ، الحق بعدوّك وجاهده فى الله حقّ جهاده ومت موت الصابرين. فلم يشعر الملك وأصحابه إلّا وقد أقبل جرجيس وهم فى عيد لهم عكوف عليه صنعوه فرحا بموت جرجيس. فلمّا نظروا إليه وقد أقبل قال الملك: ما أشبه هذا بجرجيس! قالوا: كأنه هو. قال الملك: ما بجرجيس من خفاء إنه لهو، ألا ترون الى سكون ريحه وقلّة هيبته. قال جرجيس: أنا هو، بئس القوم أنتم! قتلتم ومثّلتم فأحيانى الله بقدرته، فهلّموا الى هذا الرب العظيم الذى أراكم ما أراكم. فلما قال لهم ذلك أقبل بعضهم على بعض وقالوا: ساحر سحر أعينكم. وجمعوا من كان ببلادهم من السحرة. فلمّا جاءوا قال الملك لكبيرهم: اعرض علىّ من كبير سحرك ما يقرّ عينى. قال: ادع لى بثور من البقر. فلمّا أتى به نفث فى إحدى أذنيه فانشقّت باثنتين، ثم نفث فى الأخرى فإذا هو ثوران، ثم دعا ببذر فحرث وبذر، فشبّ الزرع واستحصد، ثم درس وذرى وطحن وعجن وخبز، كلّ ذلك فى ساعة واحدة. فقال الملك: هل تقدر أن تمسخه لى دابّة؟ قال الساحر: أىّ دابّة أمسخه لك؟ قال: كلبا. قال: ادع لى بقدح من ماء. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 263 فلمّا أتى بالقدح نفث فيه الساحر ثم قال: اعزم عليه أن يشربه، فشربه جرجيس حتى أتى على آخره. فلمّا فرغ منه قال له الساحر: ماذا تجد؟ قال: ما أجد إلّا خيرا، قد كنت عطشت فلطف الله بى بهذا الشراب فقوّانى به عليكم. فأقبل الساحر على الملك فقال له: اعلم أيها الملك إنك لو كنت تقاسى رجلا مثلك اذا لقد كنت غلبته، ولكنك تقاسى جبّار السموات والأرض. وهو الملك الذى لا يرام. قال: وكانت امرأة مسكينة من أهل الشام سمعت بجرجيس وما يصنع من الأعاجيب، فأتته وهو فى أشدّ ما هو فيه من البلاء، فقالت له: يا جرجيس، إنّى امرأة مسكينة ولم يكن لى مال إلا ثورا أحرث عليه فمات، فجئتك لترحمنى وتدعو الله تعالى أن يحيى لى ثورى. فذرفت عيناه، ثم دعا الله تعالى أن يحيى لها ثورها، وأعطاها عصا وقال لها: اذهبى الى ثورك فاقرعيه بهذه العصا وقولى له: احى بإذن الله. فقالت: يا جرجيس، مات ثورى منذ أيام ومزّقته السباع، وبينى وبينه أيام. فقال: لو لم تجدى منه إلّا سنّا واحدة ثم قرعتها بالعصا لقام بإذن الله تعالى. فانطلقت حتى أتت مصرع ثورها، وكان أوّل شىء بدا لها أحد روقيه وشعر أذنيه، فجمعت أحدهما الى الآخر ثم قرعتهما بالعصا وقالت كما أمرها، فقام الثور بإذن الله تعالى وعملت عليه. قال: فلما قال الساحر للملك ما قال، قال رجل من أصحاب الملك، وكان أعظمهم من بعد الملك، إنكم قد وضعتم أمر هذا الرجل على السحر، وإنكم عذّبتموه فلم يصل اليه عذابكم، وقتلتموه فلم يمت، فهل رأيتم ساحرا يدرأ عن نفسه الموت وأحيا ميّتا قط؟ فقالوا له: إنّ كلامك لكلام رجل قد صغا إليه فلعلّه استهواك. فقال: بل آمنت بالله، واشهدوا أنّى برىء مما تعبدون. فقام اليه الملك وأصحابه بالخناجر فقتلوه. فلمّا رأى القوم ذلك اتّبع جرجيس أربعة آلاف رجل. فعمد اليهم الملك فأوثقهم، ثم لم يزل يعذّبهم بأنواع العذاب حتى أفناهم. فلمّا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 264 فرغ منهم قال لجرجيس: هلّا دعوت ربك فأحيا لك أصحابك هؤلاء الذين قتلوا بجريرتك!. فقال له جرجيس: ما خلّى بينك وبينهم حتى حان لهم. فقال رجل من عظماء أصحابه يقال له مخلنطيس: إنك زعمت يا جرجيس أن إلهك هو الذى يبدأ الخلق ثم يعيده، وإنى سائلك أمرا إن فعله إلهك آمنت بك وصدّقتك وكفيتك، إنّ حولنا أربعة عشر كرسيّا ومائدة، وبيننا أقداح وصحاف وهى من أشجار شتّى، فادع إلهك ينشئ هذه الكراسىّ والأوانى كما بدأها أوّل مرّة حتى تعود خضراء يعرف كلّ عود منها بلونه وورقه وزهره. فقال له جرجيس: قد سألت أمرا عزيزا علىّ وعليك، وإنه على الله لهيّن، ودعا الله عزّ وجل، فما برحوا من مكانهم حتى اخضرّت تلك الكراسىّ والأوانى كلها وساخت عروقها وألبست اللحاء وتشعّبت فأورقت وأزهرت وأثمرت. فلمّا نظروا الى ذلك انتدب له مخلنطيس الذى تمنّى عليه ما تمنّى فقال: أنا أعذّب لكم هذا الساحر عذابا يضلّ عنه كيده. فعمد الى نحاس فصنع منه صورة ثور أجوف واسع، ثم حشاه نفطا ورصاصا وكبريتا وزرنيخا، ثم أدخل جرجيس مع الحشو فى جوفه، ثم أوقد تحت الصورة حتى التهبت وذاب كل شىء فيها واختلط، ومات جرجيس فى جوفها. فلمّا مات أرسل الله عزّ وجل ريحا عاصفا فملأت السماء سحابا أسود مظلما، فيه رعد وبرق وصواعق، وأرسل الله تبارك وتعالى إعصارا ملأت بلادهم عجاجا وقتاما حتى اسودّ ما بين السماء والأرض، ومكثوا أياما متحيّرين فى تلك الظّلمة لا يفصلون بين الليل والنهار، وأرسل الله تعالى ميكائيل فاحتمل الصورة التى فيها جرجيس، حتى اذا أقلّها ضرب بها الأرض ففزع من روعها أهل الشام أجمعون فخرّوا على وجوههم صعقين، وانكسرت الصورة فخرج منها جرجيس حيّا. فلمّا وقف يكلّمهم انكشفت الظلمة وأسفر ما بين السماء والأرض ورجعت اليهم أنفسهم. فقال له رجل يقال له طرفلينا: لا ندرى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 265 يا جرجيس أأنت تصنع هذه الأعاجيب أم ربّك! فإن كان ربك هو الذى يصنع هذا فادعه يحى موتانا؛ فإنّ فى هذه القبور أمواتا منهم من يعرف ومنهم من لا يعرف. فقال له جرجيس: لقد علمت ما يصفح الله عنكم هذا الصفح ويريكم هذه الأعاجيب إلّا كانت عليكم حجّة، فتستوجبوا غضبه، ثم أمر بالقبور فنبشت وهى عظام رفات وأقبل على الدعاء، فما برحوا من مكانهم حتى نظروا الى سبعة عشر إنسانا: تسعة رهط وخمس نسوة وثلاثة صبية، واذا فيهم شيخ كبير. فقال له جرجيس: يا شيخ، ما اسمك؟ فقال: يا جرجيس اسمى نوبيل. قال: متى متّ؟ قال: فى زمان كذا وكذا. فحسبوا فإذا هو مات منذ أربعمائة سنة. فلمّا نظر الملك وأصحابه الى ذلك قالوا: ما بقى من أصناف العذاب شىء إلّا وقد عذّبتموه به إلّا الجوع والعطش، فعذّبوه بهما. فعمدوا الى بيت عجوز كبيرة، وكان لها ابن أعمى أصمّ أبكم مقعد، فحصروه فى بيتها ولا يصل اليه من عند أحد طعام ولا شراب. فلمّا بلغ به الجوع قال للعجوز: هل بقى عندك من طعام أو شراب؟ قالت: لا والذى يحلف به ما عهدنا الطعام منذ كذا وكذا، وسأخرج ألتمس لك شيئا. فقال لها جرجيس: هل تعرفين الله تعالى؟ قالت نعم. قال: فإيّاه تعبدين؟ قالت لا. فدعاها الى الله عز وجلّ فصدّقته، وانطلقت تطلب له شيئا، وفى بيتها دعامة من خشبة يابسة تحمل خشب البيت، فأقبل على الدعاء، فاخضرّت تلك الدّعامة وأنبتت له كل فاكهة تؤكل أو تعرف، حتى كان فيها اللّوبيا واللّبان «1» مثل البردىّ يكون بالشام، وظهر للدّعامة فروع من فوق البيت أظلّته وما حوله. فأقبلت العجوز وهو فيما شاء يأكل رغدا. فلمّا رأت الذى حدث فى بيتها من بعدها قالت: آمنت بالذى أطعمك، فادع هذا الرّب العظيم ليشفى ابنى. قال: ادنيه منّى، فأدنته، فبصق الجزء: 14 ¦ الصفحة: 266 فى عينيه فأبصر، ونفث فى أذنيه فسمع. قالت له: أطلق لسانه ورجليه رحمك الله. قال: خذيه فإنّ له يوما عظيما. وخرج الملك يوما ليسير فى مدينته، إذ وقع بصره على الشجرة، فقال: إنى أرى شجرة بمكان ما كنت أعرفها به. قالوا: تلك شجرة نبتت لذلك الساحر الذى أردت أن تعذّبه بالجوع، فهو فيما شاء وقد شبع منها وأشبع العجوز الفقيرة وشفى لها ابنها. فأمر الملك بالبيت فهدم وبالشجرة لتقطع. فلمّا همّوا بقطعها أيبسها الله تعالى وردّها كما كانت أوّل مرّة، فتركوها. وأمر بجرجيس فبطح على وجهه وأوتد له أربعة أوتاد، وأمر بعجلة وأوقرها أسطوانا وجعل فى أسفل العجلة خناجر وشفارا، ثم دعا بأربعين ثورا فنهضت بالعجلة نهضة واحدة وجرجيس تحتها، فانقطع ثلاث قطع، فأمر بقطعه فأحرقت بالنار، حتى اذا عادت رمادا بعث بذلك الرّماد وبعث معه رجالا فذرّوه فى البحر، فلم يبرحوا من مكانهم حتى سمعوا صوتا من السماء: يا بحر، إنّ الله يأمرك أن تحفظ ما فيك من هذا الجسد الطيّب، فإنّى أريد أن أعيده كما كان. ثم أرسل الله تعالى الريح فأخرجته ثم جمعته حتى صار الرّماد صبرة كهيئة قبل أن يذرّوه؛ فخرج منه جرجيس مغبرا ينفض رأسه، فرجعوا ورجع جرجيس، فأخبروا الملك خبر الصوت [الذى سمعوا «1» ] والريح التى جمعته، فقال: هل لك يا جرجيس فيما هو خير لى ولك مما نحن فيه؟ ولولا أن يقول الناس إنك قهرتنى وغلبتنى لاتّبعتك وآمنت بك، ولكن اسجد لأفلون سجدة واحدة واذبح له شاة واحدة، ثم إنى أفعل ما يسرّك. فقال له: نعم، مهما شئت فعلت، فأدخلنى على صنمك. ففرح الملك بقوله فقام وقبّل يديه ورجليه ورأسه وقال: إنّى أعزم عليك ألّا تظل هذا اليوم إلّا عندى، ولا تبيت هذه الليلة إلّا فى بيتى وعلى فراشى، حتى تستريح ويذهب عنك وصب العذاب، ويرى الناس كرامتك علىّ، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 267 فأخلى له بيت فظلّ فيه جرجيس، حتى اذا أدركه الليل قام يصلّى ويقرأ الزّبور، وكان أحسن الناس صوتا. فلمّا سمعت امرأة الملك استجابت له، فلم يشعر إلّا وهى خلفه تبكى معه، فدعاها جرجيس الى الإيمان فآمنت به، وأمرها فكتمت إيمانها. فلمّا أصبح غدا به الملك الى بيت الأصنام ليسجد لها. [وقيل للعجوز التى كان سجن فى بيتها: هل علمت أن جرجيس قد فتن بعدك فأصغى الى الدنيا وقد خرج به الملك الى بيت أصنامه ليسجد لها «1» ] فخرجت العجوز تحمل ابنها على عاتقها وتوبّخ جرجيس والناس مشغولون عنها. فلمّا دخل جرجيس بيت الأصنام ودخل الناس معه نظر فإذا العجوز وابنها على عاتقها أقرب الناس اليه مقاما؛ فدعا ابن العجوز باسمه فنطق وأجابه ولم [يكن «2» ] يتكلّم قبل ذلك، ثم اقتحم عن عاتق أمه يمشى على رجليه وهما مستويتان وما وطئ على الأرض قبل ذلك قط. فلمّا وقف بين يدى جرجيس قال: اذهب فادع لى هذه الأصنام وهى حينئذ سبعون صنما على منابر من ذهب، وهم يعبدون الشمس والقمر معها. فقال له الغلام: كيف أدعو الأصنام؟ قال: قل لها إن جرجيس يسألك ويعزم عليك بالذى خلقك إلّا أجبتيه. قال: فلمّا قال لها الغلام ذلك أقبلت تدحرج الى جرجيس، فلمّا انتهت اليه ركض الأرض برجله فخسف بها وبمنابرها، وخرج إبليس من جوف صنم منها هاربا فرقا من الخسف، فلمّا مرّ بجرجيس أخذ بناصيته، فخضع له وكلّمه جرجيس فقال له: أخبرنى أيها الرّوح النّجسة والخلق الملعون، ما الذى يحملك على أن تهلك نفسك وتهلك الناس وأنت تعلم أنك وجندك تصيرون الى جهنّم؟ فقال له إبليس: لو خيّرت بين ما أشرقت عليه الشمس وأظلم عليه الليل وبين هلكة واحد من بنى آدم وضلالته طرفة عين لاخترته على ذلك كله، وإنه ليقع لى من الشهوة واللذّة فى ذلك مثل جميع ما يتلذّذ به جميع الخلائق. ألم تعلم يا جرجيس أنّ الله تعالى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 268 أسجد لأبيك آدم جميع الملائكة فسجدوا كلّهم وامتنعت أنا من السجود وقلت أنا خير منه!. فلما قال هذا أخلاه جرجيس. فما دخل إبليس منذ ذلك اليوم جوف صنم ولا يدخله بعدها فيما يذكرون أبدا. [فقال الملك: يا جرجيس خدعتنى وغدرتنى وأهلكت آلهتى «1» .] فقال جرجيس للملك: إنما فعلت ذلك لتعتبر ولتعلم أنها لو كانت آلهة لامتنعت منّى فكيف ثقتك- ويلك- بآلهة لم تمنع أنفسها منّى! وإنما أنا مخلوق ضعيف لا أملك إلّا ما ملّكنى ربّى. فلمّا قال جرجيس هذا كلّمتهم امرأة الملك وكشفت لهم إيمانها، وعدّدت عليهم [أفعالهم «2» ] أفعال جرجيس والعبر التى أراهم الله تعالى، وقالت لهم: ما تنتظرون من هذا الرجل إلّا دعوة فيخسف الله بكم الأرض كما خسف بأصنامكم. الله الله أيها القوم فى أنفسكم!. فقال لها الملك: ويحك يا سكندرة! ما أسرع ما أضلّك هذا الساحر فى ليلة واحدة وأنا أقاسيه منذ سبع سنين فلم يظفر منّى بشىء قطّ! فقالت: أما رأيت الله كيف يظفره بك ويسلّطه عليك فيكون له الفلج والحجّة عليك فى كل موطن!. فأمر بها الملك عند ذلك فحملت على خشبة جرجيس التى كان عليها علّق، وحملت عليها الأمشاط التى جعلت على جرجيس. فلمّا تألّمت قالت: ادع ربك يا جرجيس فيخفّف عنّى فإنى قد المنى العذاب. فقال لها: انظرى فوقك. فلمّا نظرت ضحكت. فقال لها: ما الذى يضحكك؟ قالت: أرى ملكين فوقى معهما تاج من حلّى الجنة ينتظران به روحى أن تخرج. فلمّا خرجت أتيا بذلك التاج ثم صعدا بها الى الجنة. قال: فلمّا قبض الله تعالى روحها أقبل جرجيس على الدعاء فقال: اللهمّ أنت أكرمتنى بهذا البلاء لتعطينى فضائل الشهداء، فهذا آخر أيامى التى وعدتنى فيه الراحة من بلائك، فإنّى أسألك ألّا تقبض روحى ولا أزول من مكانى هذا حتى تنزل بهؤلاء القوم من الجزء: 14 ¦ الصفحة: 269 سطوتك ونقمتك ما لا قبل لهم به حتى تشفى به صدرى وتقرّ به عينى؛ فإنهم ظلمونى وعذّبونى. اللهمّ وأسألك ألّا يدعو بعدى داع فى بلاء وكرب فيذكرنى ويشير باسمى إلّا فرّجت عنه ورحمته وأجبته وشفّعتنى فيه. فلمّا فرغ من هذا الدعاء أمطر الله عليهم نارا من السماء. فلمّا رأوا ذلك عمدوا اليه وضربوه بالسيوف غيظا عليه من شدّة الحريق ليعطيه الله تعالى بالقتلة الرابعة ما وعده. ثم احترقت المدينة بجميع ما فيها وصارت رمادا، فحملها الله من وجه الأرض وجعل عاليها سافلها، فمكثت زمانا يخرج من تحتها دخان منتن لا يشمّه أحد إلّا سقم سقما شديدا. وكان من آمن بجرجيس وقتل معه أربعة وثلاثون ألفا وامرأة الملك. قالوا: وكان جرجيس فى أيام ملوك الطوائف. وحيث انتهى بنا القول فى سرد ما شرحناه من قصص الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، وما اتصل بذلك من الأخبار؛ فلنذكر الآن التذييل الذى شرحناه فى ترجمة هذا القسم للسبب الذى قدّمناه. وبالله المستعان. التذييل على القسم الثالث من الفنّ الخامس يشتمل على ذكر الحوادث التى تظهر قبل نزول عيسى بن مريم الى الأرض، وما يكون من الفتن والحروب، وخروج من يخرج ويتغلّب على البلاد، وخروج المهدىّ والدّجال ونزول عيسى بن مريم وقتله الدّجال، وخروج يأجوج ومأجوج وهلاكهم، ووفاة عيسى بن مريم، وما يكون بعده من أشراط الساعة ويوم القيامة والنفخ فى الصّور والحشر والمعاد. مما أورد إن شاء الله تعالى ذلك من كتب الحديث الصحيح النبوىّ، ومن كتاب المبتدا للكسائىّ، ومن كتاب العاقبة للشيخ أبى محمد عبد الحقّ بن عبد الحقّ بن عبد الله الأزدىّ الإشبيلىّ على سبيل الاختصار. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 270 الباب الأوّل من التذييل على القسم الثالث من الفنّ الخامس فى ذكر الحوادث التى تظهر قبل نزول عيسى بن مريم ولنبدأ بذكر الملاحم. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ستصا لحكم الرّوم صلحا آمنا، ثم تغزون أنتم وهم عدوّا «1» فتنتصرون وتغنمون وتسلمون ثم تنصرفون حتى تنزلوا بمرج ذى تلول، فيرفع الرجل من أهل الصليب الصليب فيقول غلب الصليب، فيغضب رجل من المسلمين فيقوم اليه فيدقّه، فعند ذلك تغدر الروم ويجتمعون للملحمة فيأتون حينئذ تحت ثمانين غاية «2» تحت كل غاية اثنا عشر ألفا» . وعنه صلى الله عليه وسلم: «اذا وقعت الملاحم بعث الله بعثا من الموالى هم أكرم العرب فرسا وأجوده سلاحا يؤيّد الله بهم الدّين» . وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الملحمة الكبرى وفتح القسطنطينيّة وخروج الدجّال فى سبعة أشهر «3» » . وعنه صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما صغار الأعين ذلف «4» الأنوف كأنّ وجوههم المجانّ المطرقة «5» ولا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما نعالهم الشّعر «6» » . وفى الحديث الجزء: 14 ¦ الصفحة: 271 الآخر: «إنّ من أشراط الساعة أن تقاتلوا قوما عراض الوجوه كأنّ وجوههم المجانّ المطرقة. وإنّ من أشراط الساعة أن تقاتلوا قوما ينتعلون الشّعر» . وعنه صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما صغار الأعين عراض الوجوه كأنّ أعينهم حدق الجراد كأنّ وجوههم المجانّ المطرقة ينتعلون الشّعر ويتّخذون الدّرق يربطون خيولهم بالنخل «1» » . خرّج هذه الأحاديث ابن ماجه «2» . ذكر خبر المتغلّبين على البلاد وذلك مما يظهر من الفتن قبل نزول عيسى عليه السلام قال أبو الحسن الكسائىّ عن كعب الأحبار: ولابدّ أن يحدث بين يدى نزول عيسى علامات وحروب وفتن، فأوّل من يخرج ويغلب على البلاد رجل اسمه الأصهب من بلاد الجزيرة، ويخرج الجرهمىّ من بلاد الشام، ويخرج القحطانىّ بأرض اليمن، وهو أمثل هؤلاء الثلاثة شوكة. فبينا هؤلاء الثلاثة فى مواضعهم وقد تغلّبوا على أمكنتهم بالظلم والجور إذا هم بالرجل السّفيانىّ قد خرج من غوطة دمشق، وقيل: إنه يخرج من الشام، وقيل: إنه يخرج من الوادى اليابس. وأخواله من كلب، واسمه معاوية بن عنبسة. وهو ربع من الرجال، دقيق الوجه. طويل الأنف، محدودب، جهورىّ الصوت، يكسر عينه اليمنى؛ يحسبه الذى يراه كأنه أعور وليس بأعور، يظهر فى أوّل أمره بالزهد ويبذل الأموال، ويخطّب له على منابر الشام، ويكون جريئا على سفك الدماء لمن خالفه، ويعطّل الجمعة والجماعة. وعلامة بدء أمره أنه يخرج فى كل مدينة دجّال يدعو إلى نفسه، ويظهر الفسق حتى إنهم يفجرون فى المساجد، فيخرج عليهم السّفيانىّ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 272 حتى ينزل أرض دمشق، فيجتمع اليه القوم ويبايعونه، ويفرّق الأموال الكثيرة بينهم حتى يقولوا هذا خير أهل الأرض. ثم يسير فى الشام وعلى مقدّمته رجل من جهينة يقال له ناجية حتى ينزل العراق، فيخرج اليه القحطانىّ جيشا كثيرا فيهزمهم ناجية هزيمة قبيحة، فعند ذلك يوجّه السّفيانىّ ثلاث جيوش: جيش الى الكوفة فيقتلون قتلا ذريعا، وجيش الى خراسان فيقتلون ويحرّقون، وجيش الى الروم حتى يكثر القتل منهم فى الدنيا وفى كل طريق. فعند ذلك يجتمع الصالحون على السّفيانىّ ويخوّفونه عقوبة الله فى سفك الدماء، فيأمر بقتلهم وقتل العلماء والزّهّاد فى جميع الآفاق. فعند ذلك يجتمع المسلمون على رجل من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له محمد بن علىّ فيبايعونه ويسمّونه المهدىّ. والله أعلم. ذكر خبر خروج المهدى ّ قال ابن عبّاس رضى الله عنهما: يبايع بين مكة والرّكن، ويكون أوّل أمره على عدد أهل بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا. وقيل: إنه يخرج [قبل هذا ولىّ «1» ] من قرية من قرى حرس «2» فى ثلاثين رجلا، ثم يجتمع اليه المؤمنون من كل ناحية، ثم ينكسف القمر ثلاث ليال متواليات، ثم يظهر المهدىّ بمكة ويشيع أمره؛ فيبلغ ذلك [الزّهرانىّ صاحب «3» ] السّفيانىّ، فيبعث الى المهدىّ جيشا ثلاثين ألفا فينزلون فى البرّيّة. ثم يخرج السّفيانىّ، الى البيداء، فإذا استقرّ بالموضع خسف الله تعالى بهم الأرض، فيأخذهم الى أعناقهم حتى لا يفلت منهم إلّا رجلان يخرجان بفرسيهما، فإذا وصلوا الى القوم رأوهم وقد خسف الله بهم، فيخسف الأرض بواحد منهما، ويحوّل الله وجه الآخر الى قفاه، فيبقى كذلك مدّة حياته. ثم يخرج المهدىّ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 273 بمن معه الى بلاد الروم فيسير حتى يسمع بهلاك السّفيانىّ وأصحابه. قال: وذلك قوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ «1» . فيحمد المهدىّ الله تعالى على ذلك، ويخرج الى بلاد الروم فى نحو مائة ألف فيصل الى القسطنطينيّة، فيدعو ملك الروم الى الإسلام فيأبى فيقاتله، ويدوم القتال بينهم شهرين، ثم ينهزم ملك الروم. ويدخل [المسلمون «2» ] الى القسطنطينية، فينزل المهدىّ على بابها، ولها سبعة أسوار، فيكبّر سبع تكبيرات فينهدم كلّ سور منها بتكبيرة. ويدخلها المهدىّ ويقتل خلقا كثيرا ويقتل ملك الروم، ثم يرفع [عنهم «3» ] السيف، ويأخذ المسلمون من الغنائم ما لا يحصى، حتى إنّ الرجل ليأخذ من الجوهر ما يعجز عن حمله. فبينما هم كذلك إذ يأتيهم الخبر من خليفة المهدىّ بخروج الدجّال واجتماع الناس عليه، فيتركون تلك الغنائم وينصرفون الى بلادهم مسرعين لمحاربة الدجّال. فيقال: إن المهدىّ يسير نحو الدّجال وعلى رأسه عمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيلتقون ويقتتلون قتالا شديدا، فيقتل من أصحاب الدجّال أكثر من ثلاثين ألفا، ثم ينهزم الدجّال فيمرّ نحو بيت المقدس، فيأمر الله الأرض بإمساك قوائم خيله، ويرسل عليهم ريحا حمراء فتقتل منهم أربعين ألفا. قال: ثم يقبل المهدىّ بجيشه زهاء «4» مائة ألف، فى أيديهم الرايات البيض. فيقول المهدىّ [لعسكر الدجّال «5» ] : ويلكم! أتشكّون فى هذا الأعور الكذّاب «6» أنه الدجّال؟ فيقولون: لا، ولكنّا نعيش فى طعامه. فيمسخون فى الحال قردة وخنازير. ثم ينزل عيسى بعد ذلك الى الأرض ويصلّى خلف المهدىّ، على ما نذكره إن شاء الله تعالى. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 274 ذكر خبر خروج الدجّال وصفته وما يكون من أمره الى أن ينزل عيسى عليه السلام قال كعب: إنّ الدجّال رجل طويل، عريض الصدر، مطموس العين اليمنى، واليسرى كأنها كوكب درّىّ، مكتوب بين عينيه: «كافر» ، يقرؤه كل كاتب أو غير كاتب. ويدّعى أنه الربّ، ومعه يومئذ جبل من خبز، وجبل من لحم، وأجناس الفواكه والخمور، ومعه أصحاب الملاهى يمشون بين يديه بالطبول والطنابير والمعازف والعيدان والنايات والصّنوج وغير ذلك، فلا يسمعه أحد إلا وتبعه وفتنه إلّا من عصمه الله. ويكون معه نار وجنّة، وهو يقول: من أطاعنى أدخلته الجنّة، ومن عصانى ولم يسجد لى ألقيته فى النار. قال: وعلامة خروجه أن تهبّ ريح مثل ريح قوم عاد، وتسمع صيحة عظيمة مثل صيحة قوم صالح، ويكون مسخا كمسخ أصحاب الرّس، وذلك عند ترك الناس الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. فإذا أخذوا فى سفك الدماء واستحلّوا الرّبا وشيّدوا البنيان وشربوا الخمور، واكتفى الرجال بالرجال، والنساء بالنساء، فعند ذلك يخرج الدجّال من جهة المشرق من قرية يقال لها سيراباد «1» بين الأهواز وأصفهان، ويخرج على حمار له. قال: وهو أحمر الحاجبين، أشعر الأنف، تخرج من خلل أسنانه رائحة لا يشمّها أحد إلّا صار اليه نتنه، فى جبهته قرن مكسور تخرج منه الحيّات والعقارب، محدودب الظهر، قد صوّرت آلات السلاح فى جسده حتى الرمح والفأس والسهم والدّرق. وهو يتناول السحاب بيده، ويخوض البحار الى كعبيه، ويستظلّ فى ظلّ أذن حماره خلق كثير من أولاد الزّنا، عليهم خفاف مخروطة، لخفافهم مناقير كمناقير العقبان، لأصابعهم أظافير كالمناجل، ومعه قوم الجزء: 14 ¦ الصفحة: 275 من السّحرة يقلبون الجبال خبزا والأنهار شرابا، ولا يطعم ولا يسقى إلّا من آمن به. ومعه صاحب لوائه من قريته ينادى بأعلى صوته: هذا ربكم فاعرفوه. فإذا سار الدجّال سارت معه جبال طعامه وأنهار شرابه، وإذا وقف وقفت. يطوف الأرض شرقها وغربها حتى يدخل أرض بابل فيلقاه الخضر، فيقول له الدجّال: أنا ربّ العالمين. فيقول له الخضر: كذبت يا دجّال! إنّ ربّ العالمين ربّ السموات والأرضين. فيقتله الدّجال ويقول: لو كان لهذا إله كما يزعم لأحياه. فيحيى الله الخضر من ساعته فيقوم ويقول: ها أنا يا دجّال، قد أحيانى الله ربّى. ثم يقبل الخضر على أصحابه ويقول: ويلكم! لا يفتننّكم هذا الكافر. ويقال: إنه يقتل الخضر ثلاث مرّات ويحييه الله تعالى. ثم يخرج الدجّال نحو مكة، فإذا دنا منها رأى الملائكة «1» محدقين بالبيت الحرام قد نشروا أجنحتهم على الكعبة، يخرج من خلل أجنحتهم مثل شرر النّيران، فلا يقدر على دخولها. ثم يسير الى المدينة فيجدها كذلك. ثم يمضى الى بيت المقدس فلا يقدر على دخوله لكثرة من حوله من الملائكة. واختلف فى مدّة إقامته فى الأرض، فقيل أربعين سنة، وقيل أربعين يوما، على ما نورد ذلك من الحديث الصحيح النبوىّ الذى يشمل ذكر هذه الفتن كلها. قال: وأمّا المسلمون فإنهم يصومون ويصلّون كما كانوا غير أنهم فى غمّ، قد تركوا المساجد ولزموا البيوت، وتطلع الشمس متلوّنة: مرّة بيضاء، ومرّة صفراء، ومرّة حمراء، ومرّة سوداء، وتكون الأرض فى الزلزلة والرجفة، ثم يكون بينه وبين المهدىّ ما قدّمنا، ثم ينزل عيسى بن مريم عليه السلام. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 276 الباب الثانى من التذييل على القسم الثالث من الفنّ الخامس فى خبر نزول عيسى بن مريم عليه السلام وقتله الدجّال و ... خروج يأجوج ومأجوج وفسادهم وهلاكهم، ووفاة عيسى عليه السلام لمّا رأيت أهل السّير قد أكثروا من القول فى نزول عيسى عليه السلام وزادوا فى القول ونقصوا منه، عدلت عن أقوالهم، وأوردت ما أذكره من ذلك من الحديث الصحيح النبوىّ، وكذلك خروج يأجوج ومأجوج وهلاكهم. وختمت هذا الباب بالحديث الشامل فى خروج الدجّال، ونزول عيسى بن مريم عليه السلام وغير ذلك. وهذه الأحاديث خرّجتها من كتاب السّنن للإمام الحافظ أبى عبد الله محمد ابن يزيد بن ماجه القزوينى، رحمه الله تعالى ونفعنا به آمين. ذكر نزول عيسى بن مريم عليه السلام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر فتنة الدجّال وما يلاقيه الناس منه، قال: «فبينما هم كذلك إذ بعث الله عيسى بن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقى دمشق بين مهرودتين «1» واضع «2» كفّيه على أجنحة ملكين، اذا طأطأ رأسه قطر «3» ، وإذا رفع رأسه يتحدر منه جمان كاللؤلؤ، ولا يحلّ لكافر أن يجد ريح نفسه إلّا مات. ونفسه ينتهى حيث ينتهى طرفه، فينطلق حتى يدرك الدجّال فيقتله عند باب لدّ «4» . قال: «ثم يأتى نبىّ الله عيسى عليه السلام قوما قد عصمهم الله فيمسح وجوههم ويحدّثهم بدرجاتهم فى الجنة» . والله أعلم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 277 ذكر خبر يأجوج ومأجوج صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّ يأجوج ومأجوج ليحفرون السدّ كلّ يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذى عليهم ارجعوا فستحفرونه غدا فيعيده الله عزّ وجل أشدّ ما كان حتى إذا بلغت مدّتهم وأراد الله أن يبعثهم إلى الناس حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال ارجعوا فستحفرونه غدا إن شاء الله واستثنوا فيعودون اليه وهو كهيئته حين تركوه فيحفرونه ويخرجون على الأرض فينشفون المياه ويتحصّن الناس منهم فى حصونهم فيرمون بسهامهم إلى السماء فيرجع عليهم الدم الذى أجفط «1» فيقولون قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء فيبعث الله عليهم نغفا» فى أقفائهم فيقتلهم بها» . قال صلى الله عليه وسلم: «والذى نفسى بيده إنّ دوابّ الأرض لتسمن وتشكر «3» شكرا من لحومهم ودمائهم» . وفى الحديث الآخر: «إنّ الله تعالى يوحى إلى عيسى أنّى قد أخرجت عبادا لى لا يدان لأحد بقتالهم فاحرز عبادى إلى الطور. ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم كما قال الله تعالى: مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ فيمرّ أوائلهم على بحيرة طبريّة فيشربون ما فيها ثم يمرّ آخرهم فيقولون لقد كان فى هذا ماء مرّة وليحصر نبىّ الله عيسى عليه السلام وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرا من مائة دينار لأحدكم اليوم فيرغب نبىّ الله عيسى وأصحابه إلى الله عز وجل فيرسل الله عليهم النغف فى رقابهم فيصبحون فرسى «4» كموت نفس واحدة ويهبط نبىّ الله عيسى وأصحابه فلا يجدون موضع شبر إلّا قد ملأه زهمهم «5» ونتنهم ودماؤهم فيرغبون إلى الله عزّ وجل فيرسل عليهم طيرا كأعناق البخت فتحملهم الجزء: 14 ¦ الصفحة: 278 فتطرحهم حيث شاء الله عزّ وجل. ثم يرسل الله [عليهم «1» ] مطرا لا يكنّ منه بيت مدر ولا وبر فيغسله حتى يتركه كالزّلفة «2» ، ثم يقال للأرض أنبتى ثمرتك وردّى بركتك، فيومئذ تأكل العصابة من الرّمانة فتشبعهم ويستظلّون بقحفها «3» ، ويبارك الله فى الرّسل «4» حتى إن اللّقحة «5» من الإبل تكفى الفئام «6» من الناس، واللّقحة من البقر تكفى القبيلة، واللقحة من الغنم تكفى الفخذ «7» . فبينماهم كذلك إذ بعث الله عليهم ريحا طيّبة فتأخذ تحت آباطهم فتقبض روح كلّ مسلم ويبقى سائر الناس يتهارجون «8» كما يتهارج الحمر، فعليهم تقوم الساعة» . وفى الحديث الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال: «لمّا كان ليلة أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم لقى إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام فتذاكروا الساعة فبدءوا بإبراهيم فسألوه عنها فلم يكن عنده منها علم، ثم سألوا موسى فلم يكن عنده منها علم، فردّ الحديث إلى عيسى بن مريم فقال قد عهد إلىّ فيما دون وجبتها «9» ، فأمّا وجبتها فلا يعلمها إلّا الله، فذكر خروج الدجّال قال فأنزل فأقتله فيرجع الناس إلى بلادهم فيستقبلهم يأجوج ومأجوج وهم من كلّ حدب ينسلون، فلا يمرّون بماء إلّا شربوه ولا بشئ إلّا أفسدوه، فيجئرون إلى الله تعالى فأدعو الله أن يميتهم فتنتن الأرض من ريحهم، فيجئرون إلى الله فأدعو الله فيرسل السماء بالماء فيحملهم الجزء: 14 ¦ الصفحة: 279 فيلقيهم فى البحر ثم تنسف الجبال وتمدّ الأرض مدّ الأديم فعهد إلىّ متى كان ذلك كانت الساعة من الناس كالحامل لا يدرى أهلها متى تفجأهم بولادتها» . قال العوّام بن حوشب وهو من رواة هذا الحديث: ووجد تصديق ذلك فى كتاب الله تعالى: حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ «1» . وفى الحديث الآخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يفتح يأجوج ومأجوج فيخرجون كما قال الله تعالى: وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ فيعمّون الأرض وينحاز منهم المسلمون حتى تصير بقيّة المسلمين فى مدائنهم وحصونهم ويضمّون إليهم مواشيهم، حتى إنهم ليمرّون بالنهر فيشربونه حتى ما يذكرون فيه شيئا، فيمرّ آخرهم على أثرهم فيقول قائلهم لقد كان بهذا المكان مرّة ماء، ويظهرون على الأرض، فيقول قائلهم هؤلاء أهل الأرض قد فرغنا منهم ولننازلن أهل السماء، حتى إنّ أحدهم ليهزّ حربته إلى السماء فترجع مخضّبة بالدم، فيقولون قد قتلنا أهل السماء. فبينما هم كذلك إذ بعث الله دوابّ كنغف الجراد فتأخذ بأعناقهم فيموتون موت الجراد يركب بعضهم بعضا، فيصبح المسلمون لا يسمعون لهم حسّا، فيقولون من رجل يشرى نفسه وينظر ما فعلوا، فينزل منهم رجل قد وطنّ نفسه على أن يقتلوه فيجدهم موتى، فيناديهم ألا أبشروا فقد هلك عدوّكم، فيخرج الناس ويخلون سبيل مواشيهم فما يكون لهم رعى إلّا لحومهم فتشكر عليها كأحسن ما شكرت من نبات أصابته قطّ» . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سيوقد المسلمون من قسىّ يأجوج ومأجوج ونشّابهم وأترستهم سبع سنين» . والله المعين. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 280 الحديث الجامع لأخبار عيسى بن مريم عليه السلام والدجّال قال الإمام الحافظ أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه القزوينى فى سننه: حدّثنا علىّ بن محمد قال حدّثنا عبد الرحمن المحاربىّ عن إسماعيل بن رافع أبى رافع عن أبى زرعة السّيبانىّ «1» يحيى بن أبى عمرو عن أبى أمامة الباهلىّ قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أكثر خطبته حديثا حدّثناه عن الدجّال وحذّرناه، فكان من قوله أن قال: «إنه لم تكن فتنة فى الأرض منذ ذرأ «2» الله ذرّية آدم صلى الله عليه وسلم أعظم من فتنة الدجّال، وإنّ الله عزّ وجل لم يبعث نبيّا إلّا حذّر أمّته الدجّال. وأنا آخر الأنبياء وأنتم آخر الأمم، وهو خارج فيكم لا محالة. فإن يخرج وأنا بين ظهرانيكم فأنا حجيج لكلّ مسلم، وإن يخرج من بعدى فكلّ امرئ حجيج نفسه، والله خليفتى على كل مسلم. وإنه يخرج من حلّة بين الشام والعراق فيعيث «3» يمينا ويعيث شمالا يا عباد الله فأثبتوا فإنّى سأصفه لكم صفة لم يصفها إيّاه نبىّ قبلى: إنه يبدأ فيقول أنا نبىّ، ولا نبىّ بعدى، ثم يثنّى فيقول أنا ربكم، ولا ترون ربكم حتى تموتوا، وإنه أعور وإنّ ربكم عز وجل ليس بأعور، وإنه مكتوب بين عينيه «كافر» يقرؤه كل مؤمن كاتب أو غير كاتب. وإنّ من فتنته أنّ معه جنة ونارا، فناره جنة، وجنته نار. فمن ابتلى بناره فليستغث بالله وليقرأ فواتح الكهف فتكون عليه بردا وسلاما كما كانت النار على إبراهيم. وإنّ من فتنته أن يقول لأعرابىّ أرأيت إن بعثت لك أباك وأمّك أتشهد أنّى ربّك فيقول نعم، فيتمثّل له شيطانان فى صورة أبيه وأمّه فيقولان يا بنىّ اتبعه فإنه ربك. وإنّ من فتنته أن يسلّط على نفس واحدة فيقتلها وينشرها بالمنشار حتى تلقى شقّين، ثم يقول الجزء: 14 ¦ الصفحة: 281 انظروا الى عبدى هذا فإنّى أبعثه الآن، ثم يزعم أنّ له ربّا غيرى، فيبعثه الله ويقول له الخبيث من ربّك؟ فيقول ربّى الله وأنت عدوّ الله أنت الدجّال، والله ما كنت بعد أشدّ بصيرة بك منّى اليوم» . قال أبو الحسن الطّنافسىّ فحدثنا المحاربىّ حدّثنا عبيد الله ابن الوليد الوصّافىّ عن عطيّة عن أبى سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذلك الرجل أرفع أمّتى درجة فى الجنة» . قال قال أبو سعيد: والله ما كنّا نرى ذلك الرجل إلّا عمر بن الخطاب حتى مضى لسبيله. قال المحاربىّ ثم رجعنا الى حديث أبى رافع قال: «وإنّ من فتنته أن يأمر السماء أن تمطر فتمطر، ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت. وإنّ من فتنته أن يمرّ بالحىّ فيكذّبونه فلا تبقى لهم سائمة إلّا هلكت. وإن من فتنته أن يمرّ بالحىّ فيصدّقونه فيأمر السماء أن تمطر فتمطر ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت حتى تروح مواشيهم من يومهم ذلك أسمن ما كانت وأعظمه وأمدّه خواصر وأدرّه ضروعا. وإنه لا يبقى شىء من الأرض إلّا وطئه وظهر عليه إلّا مكة والمدينة لا يأتيهما من نقب «1» من نقابهما إلّا لقيته الملائكة بالسيوف صلتة «2» حتى ينزل عند الظّريب «3» الأحمر عند منقطع السّبخة فترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات فلا يبقى منافق ولا منافقة إلّا خرج إليه، فتنفى الخبث منها كما ينفى الكير خبث الحديد، ويدعى ذلك اليوم يوم الخلاص. فقالت أمّ شريك بنت «4» أبى العكر يا رسول الله فأين العرب يومئذ؟ قال هم يومئذ قليل وجلّهم ببيت المقدس وإمامهم رجل صالح. فبينما إمامهم قد تقدّم يصلّى بهم الصبح إذ نزل عليهم عيسى بن مريم عليه السلام الصبح، فرجع ذلك الجزء: 14 ¦ الصفحة: 282 الإمام ينكص (يمشى القهقرى) ليتقدّم عيسى عليه السلام يصلّى بالناس، فيضع عليه السلام يديه بين كتفيه ثم يقول له تقدّم فصلّ فإنها لك أقيمت فيصلّى بهم إمامهم، فإذا انصرف قال عيسى عليه السلام افتحوا الباب «1» فيفتح ووراءه الدّجال ومعه سبعون ألف يهودىّ كلهم ذو سيف محلّى وساج «2» ، فإذا نظر اليه الدجّال ذاب كما يذوب الملح فى الماء فينطلق هاربا، ويقول عيسى عليه السلام إنّ لى فيك ضربة لن تسبقنى بها فيدركه عند باب اللّدّ الشرقىّ فيقتله فيهزم الله اليهود فلا يبقى شىء مما خلق الله عزّ وجل يتوارى به يهودىّ إلا أنطق الله ذلك الشىء لا حجر ولا شجر ولا حائط ولا دابّة إلّا الغرقدة «3» فإنها من شجرهم لا تنطق إلا قال يا عبد الله المسلم هذا يهودىّ فتعال اقتله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنّ أيامه أربعون سنة، السنة كنصف السنة، والسنة كالشهر، والشهر كالجمعة، وآخر أيامه كالشررة يصبح أحدكم على باب المدينة فلا يبلغ بابها الآخر حتى يمسى. فقيل له يا رسول الله كيف نصلّى فى تلك الأيام القصار؟ قال تقدّرون فيها الصلاة كما تقدّرونها فى هذه الأيام الطّوال ثم صلّوا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون عيسى بن مريم فى أمّتى حكما «4» عدلا وإماما مقسطا «5» ، يدقّ الصليب «6» ، ويذبح الخنزير «7» ، ويضع «8» الجزية، ويترك الصدقة «9» فلا يسعى على الجزء: 14 ¦ الصفحة: 283 شاة ولا بعير، وترفع الشحناء والتباغض، وتتزع حمة «1» كلّ ذات حمة حتّى يدخل الوليد يده فى الحيّة فلا تضرّه، وتفرّ «2» الوليدة الأسد فلا يضرّها، ويكون الذئب فى الغنم كأنه كلبها، وتملأ الأرض من السّلم كما يملأ الإناء من الماء، وتكون الكلمة واحدة فلا يعبد إلّا الله، وتضع الحرب أوزارها، وتسلب قريش ملكها، وتكون الأرض كماثور «3» الفضّة- وقيل كفاثور الفضة- تنبت نباتها بعهد آدم حتى يجتمع النفر على القطف من العنب فيشبعهم، ويجتمع النفر على الرّمانة فتشبعهم، ويكون الثور بكذا وكذا من المال، ويكون الفرس بالدّريهمات. قالوا يا رسول الله: وما يرخّص الفرس؟ قال: لا يركب لحرب أبدا. قيل له: فما يغلى الثور؟ قال تحرث الأرض كلّها. وإنّ قبل خروج الدجّال ثلاث سنوات شداد يصيب الناس فيها جوع شديد، يأمر الله السماء فى السنة الأولى أن تحبس ثلث مطرها ويأمر الأرض فتحبس ثلث نباتها، ثم يأمر السماء فى السنة الثانية فتحبس ثلثى مطرها ويأمر الأرض فتحبس ثلثى نباتها، ثم يأمر الله السماء فى السنة الثالثة فتحبس مطرها كلّه فلا تقطر قطرة ويأمر الأرض فتحبس نباتها كلّه فلا تنبت خضرا، ولا تبقى ذات ظلف إلّا هلكت إلّا ما شاء الله عزّ وجل. قيل: فما يعيش الناس فى ذلك الزمان؟ قال: التهليل والتكبير والتسبيح والتحميد ويجرى ذلك عليهم مجرى الطعام» . قال المحاربىّ: ينبغى أن يدفع هذا الحديث إلى المؤدّب حتى يعلّمه الصبيان فى المكاتب. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 284 الباب الثالث من التذييل على القسم الثالث من الفنّ الخامس فى ذكر ما يكون بعد وفاة عيسى بن مريم عليه السلام الى أن ينفخ إسرافيل فى الصور النفخة الأولى ذكر خروج الدابّة وطلوع الشمس من مغربها عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تخرج الدّابة ومعها خاتم سليمان بن داود وعصا موسى بن عمران، فتجلو «1» وجه المؤمن بالعصا، وتخطم «2» أنف الكافر بالخاتم، حتى إنّ أهل الحواء «3» ليجتمعون فيقول هذا يا مؤمن ويقول هذا يا كافر» . وعن عبد الله بن بريدة عن أبيه رضى الله عنهما قال: ذهب بى رسول الله صلى الله عليه وسلم الى موضع بالبادية قريب من مكة فإذا أرض يابسة حولها رمل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تخرج الدّابة من هذا الموضع» فإذا فتر فى شبر. قال ابن بريدة: فحججت بعد ذلك بسنين فأرانا عصا له، فاذا هى بعصاى هذه كذا وكذا. وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمن من عليها؛ فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل» . وعن عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوّل الايات خروجا طلوع الشمس من مغربها. وخروج الدابّة على الناس ضحى» . قال عبد الله: فأيّتهما ما خرجت قبل الأخرى فالأخرى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 285 منها قريب. قال عبد الله: ولا أظنها إلّا طلوع الشمس من مغربها. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ من قبل مغرب الشمس بابا مفتوحا عرضه سبعون سنة، فلا يزال ذلك الباب مفتوحا للتوبة حتى تطلع الشمس من نحوه، فإذا طلعت من نحوه لم ينفع نفس إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت فى إيمانها خيرا» . والله الهادى للصواب. ذكر خبر قيام الساعة والنفخة الأولى عن أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما زال صاحب الصّور مذ وكّل به مستعدّا ينظر نحو العرش الى أن يؤمر فينفخ قبل أن يرتدّ اليه طرفه كأنّ عينيه كوكبان درّيّان» . وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الصّور؟ فقال: «قرن ينفخ فيه» . وعنه صلى الله عليه وسلم فى قوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ* قال: «الصور كهيئة القرن» . وعن أبى هريرة رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان تكون بينهما مقتلة عظيمة دعوتهما واحدة، وحتى يبعث دجّالون كذّابون قريب من ثلاثين كلّهم يزعم أنه رسول الله، وحتّى يقبض العلم وتكثر الزلازل ويتقارب الزمان وتظهر الفتن ويكثر الهرج، وهو القتل، وحتّى يكثر فيكم المال فيفيض حتّى يهمّ ربّ المال من يقبل صدقته، وحتّى يعرضه فيقول الذى يعرضه عليه لا أرب لى به، وحتّى يتطاول الناس فى البنيان، وحتى يمرّ الرّجل بقبر الرّجل فيقول يا ليتنى مكانه، وحتّى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت فى إيمانها خيرا. ولتقومنّ الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه. ولتقومن الجزء: 14 ¦ الصفحة: 286 الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه، ولتقومنّ السّاعة وهو يليط «1» حوضه فلا يسقى فيه. ولتقومنّ الساعة وقد رفع أكلته الى فيه فلا يطعمها» . هذا من صحيح البخارى «2» . وعن عبد الله بن عمرو بن العاص وذكر خبر الدجّال وقتله قال: «3» « .... ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة. ثم يرسل الله عز وجل ريحا باردة من قبل الشأم فلا يبقى على وجه الأرض أحد فى قلبه مثقال ذرّة من خير أو إيمان إلا قبضته، حتّى لو أنّ أحدكم دخل فى كبد جبل لدخلته عليه حتى تقبضه. قال فيبقى شرار الناس فى خفّة الطير «4» وأحلام السّباع لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا، فيتمثّل لهم الشيطان فيقول ألا تستجيبون! فيقولون فما تأمرنا؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان، وهم فى ذلك دارّ «5» رزقهم حسن عيشهم، ثم ينفخ فى الصّور فلا يسمعه أحد إلّا أصغى ليتا «6» ورفع ليتا. قال وأوّل من يسمعه رجل يلوط حوض إبله، قال فيصعق ويصعق الناس، ثم يرسل الله- أو قال ينزل الله- مطرا كأنه الطّلّ أو الظّل- الشكّ من الراوى- فتنبت منه أجساد الناس؛ ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون، ثم يقال يأيّها الناس هلمّوا الى ربّكم» . ويروى أن هذا المطر الذى تنبت منه الأجساد كمنىّ الرجال. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 287 الباب الرابع من التذييل على القسم الثالث من الفنّ الخامس فى أخبار يوم القيامة والحشر والمعاد والنفخة الثانية فى الصور ذكر يوم القيامة وأسمائه هو اليوم الذى وصفه الله عز وجل بالعظمة فقال: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ* يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ «1» . ووصفه الله بالطّول فقال: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ* فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا «2» . وليوم القيامة أسماء جاء بها القرآن، وقد ذكرها عبد الحقّ فى كتاب العاقبة فقال: «يوم القيامة وما أدراك ما يوم القيامة! يوم الحسرة والندامة، يوم يجد كلّ عامل عمله أمامه، يوم الدمدمة، يوم الزلزلة، يوم الصاعقة، يوم الواقعة، يوم الراجفة، يوم الرادفة، يوم الغاشية، يوم الداهية، يوم الآزفة، يوم الحاقّة، يوم الطامّة، يوم الصاخّة، يوم التّلاق، يوم الفراق، يوم الميثاق، يوم الانشقاق، يوم القصاص، يوم لات حين مناص، يوم التّناد، يوم الأشهاد، يوم الميعاد، يوم المآب، يوم العذاب، يوم الفرار، يوم القرار، يوم المرصاد، يوم السائلة، يوم المناقشة، يوم الحساب، يوم القضاء، يوم الجزاء، يوم البكاء، يوم البلاء، يوم تمور السماء مورا وتسير الجبال سيرا، يوم الحشر، يوم النشر، يوم الجمع، يوم البعث، يوم العرض، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 288 يوم الوزن، يوم الحقّ، يوم الحكم، يوم الفصل، يوم الخزى، يوم عقيم، يوم عظيم، يوم عسير، يوم عبوس، يوم قمطرير، يوم النشور، يوم المصير، يوم الدّين، يوم اليقين، يوم النفخة، يوم الصّيحة، يوم الرّجفة، يوم الرجّة، يوم الزجرة، يوم الشدّة، يوم الفزع، يوم الجزع، يوم القلق، يوم العرق، يوم الميقات، يوم تخرج الأموات وتظهر المخبآت، يوم الإشفاق، يوم الأنشقاق، يوم الانكدار، يوم الانتشار، يوم الانفطار، يوم الافتقار، يوم الوقوف، يوم الانصداع، يوم الانقطاع، يوم معلوم، يوم موعود، يوم مشهود، يوم تبلى السرائر، يوم تخرج الضمائر، يوم لا تجزى نفس عن نفس شيئا، يوم لا تملك نفس لنفس شيئا، يوم يدعى فيه إلى النار، يوم تسجر «1» فيه النار، يوم تقلّب فيه الوجوه فى النار، يوم البروز فيه إلى الله، يوم الصّدور إلى الله، يوم لا تنفع المعذرة، يوم لا يرضى إلّا المغفرة. قال: وأهول أسمائه وأشنع ألقابه: يوم الخلود، يوم لا انقطاع لعذابه، ولا آخر لعقابه، ولا يكشف عن كافر ما به. نعوذ بالله من غضبه وبلائه، برحمته وآلائه. والله معين العاجزين. ذكر الحشر والمعاد والنفخة الثانية جاء فى بعض التفاسير فى قوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ «2» قيل: جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت. قال: ثم يأمر الله ملك الموت أن يقبض روح جبريل وميكائيل وإسرافيل، ثم يأمر ملك الموت أن يموت فيموت ولا يبقى إلا الله، فينادى جلّ جلاله: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ «3» فلا يجيبه أحد، فيقول: لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 289 ثم يمكث الناس فى البرزخ «1» أربعين عاما، ثم يحيى الله عز وجل إسرافيل فيأمره أن ينفخ النفخة الثانية؛ قال الله تعالى: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ «2» . وقال تعالى: مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى «3» . وقال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ «4» . روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يأكل التراب كلّ شىء من الإنسان إلّا عجب «5» الذّنب» . قيل: يا رسول الله، وما هو؟ قيل: «مثل حبّة خردل ومنه ينشأ» . وفى الحديث الآخر: «ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل» . وفى الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله وعزتى وجلالى ليرجعنّ كلّ روح إلى جسده، فتدخل الأرواح فى الأرض إلى الأجسام، فتدخل فى الخياشيم ثم تمشى مشى السمّ فى اللّديغ» . قال: «وتجتمع الأرواح كلها فى الصّور، ثم ينفخ إسرافيل فيه فتخرج الأرواح كأنها النحل قد ملأت ما بين السماء والأرض، ثم تدخل فى الأجساد» كما تقدّم. وفى الحديث الصحيح أنّ عائشة رضى الله عنها قالت: يا رسول الله، كيف يحشر الناس يوم القيامة؟ قال: «حفاة عراة» . قالت: يا رسول الله، والنساء؟ قال: «والنساء» . قالت: يا رسول الله، فما نستحيى؟ قال: «يا عاشة الأمر أهمّ من أن ينظر بعضهم الى بعض» . وعن أبى موسى الأ شعرىّ رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات، فأمّا عرضتان فجدال ومعاذير، وأمّا الثالثة فعند ذلك تطير الصحف فى الأيدى، فآخذ بيمينه وآخذ بشماله» . وعن ابن عمر رضى الله عنهما عن رسول الله الجزء: 14 ¦ الصفحة: 290 صلى الله عليه وسلم فى قوله تعالى: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ «1» قال: «يقوم أحدهم فى رشحه «2» الى أنصاف أذنيه وهو اليوم الذى قال الله تعالى فيه كَلَّا لا وَزَرَ* إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ «3» * يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ » . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجمع الله الأوّلين والآخرين فى صعيد واحد فيسمعهم الداعى وينفذهم البصر» يريد أرضا مستويّة لا جبل فيها ولا أكمة ولا ربوة ولا وهدة، أرض بيضاء لم يسفك عليها دم قطّ، ولا عمل عليها خطيئة ولا ارتكب فيها محرّم. قال الله تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ . وفى حديث «4» ثوبان: أن النبىّ صلى الله عليه وسلم سئل أين يكون الناس يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسموات؟ فقال: «هم فى الظّلمة دون الجسر» والجسر هو الصراط. وفى حديث عائشة «إنهم على الصراط» . قال الله عزّ وجل: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ «5» . وقال تعالى: يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً «6» أى يقول بعضهم لبعض سرّا، فيقول أعدلهم قولا وأرجحهم عقلا: إن لبثتم إلا يوما. قال الله عزّ وجل: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً «7» . وروى عن مجاهد أنه قال: للكفّار هجعة قبل يوم القيامة يجدون فيها طعم النوم، فإذا بعثوا قالوا: يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا! فتخرج الخلائق مذعورين خائفين وجلين، وإذا المنادى ينادى: يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ «8» ، فيطمع فى ذلك النداء المؤمنون والكافرون، فينادى المنادى: الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 291 وَكانُوا مُسْلِمِينَ «1» . وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف ركبانا ومشاة وعلى وجوههم» . قيل: يا رسول الله، وكيف يمشون على وجوههم؟ قال: «إنّ الذى أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم أما إنهم يتّقون بوجوههم كلّ حدب «2» وشوك» . وفى حديث مسلم بن الحجّاج عن أنس أنّ رجلا قال: يا رسول الله، كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ قال: «أليس الذى أمشاه على رجليه فى الدنيا قادرا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة» . والأحاديث الصحيحة فى هذا الباب كثيرة جدّا لو استقصيناها لطال الكلام وانبسط القول، وخرج التأليف عن شرطه الذى قدّمناه، فلنختم هذا الباب ب حديث لقيط بن عامر العقيلىّ فإنه حديث جامع لأكثر ما فى هذا الباب. حديث لقيط بن عامر قال أبو بكر بن أبى خيثمة بإسناده الى لقيط بن عامر العقيلىّ قال: خرجت أنا وصاحب «3» لى حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة لانسلاخ «4» رجب، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، [فوافيناه «5» ] حين انصرف من صلاة «6» الغداة الجزء: 14 ¦ الصفحة: 292 فقام [فى الناس «1» ] خطيبا فقال: «أيها الناس! ألا إنى قد خبأت لكم صوتى منذ أربعة أيام لأسمعكم اليوم. ألا فهل من امرئ بعثه قومه [فقالوا اعلم لنا ما يقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. ألا ثم لعله أن يلهيه حديث نفسه أو حديث صاحبه أو يلهيه الضّلال «2» ] . ألا إنى مسئول هل بلّغت. ألا اسمعوا تعيشوا «3» ألا اجلسوا «4» » فجلس الناس وقمت أنا وصاحبى، حتى إذا فرغ لنا فؤاده وبصره قلت: يا رسول الله، ما عندك من علم الغيب؟ [فضحك لعمر الله وهزّ رأسه وعلم أنّى أبتغى لسقطه «5» ] فقال: «ضنّ ربك عز وجل بمفاتيح خمس «6» من الغيب لا يعلمها إلا الله «7» » . فقلت: وما هنّ يا رسول الله؟ قال: «علم المنية [قد علم متى منيّة أحدكم ولا تعلمونه «8» ] . وعلم المنّى حين «9» يكون فى الرّحم [قد علمه ولا تعلمونه «10» ] وعلم ما فى غد وما أنت طاعم غدا ولا تعلمه «11» . وعلم يوم الغيث يشرف عليكم آزلين مسنتين «12» فيظّل يضحك قد علم أنّ غوثكم قريب» . قال لقيط: لم لن نعدم من ربّ يضحك خيرا. «وعلم يوم الساعة» . قلت: يا رسول الله، إنى سائلك عن حاجتى «13» . قال: «سل عمّا شئت» . قلت: يا رسول الله، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 293 علّمنا مما لا يعلم الناس «1» ومما تعلم فإنا من قبيل لا يصدقون تصديقنا أحدا من مذحج التى تدنو إلينا، وخثعم التى توالينا، وعشيرتنا التى نحن منها «2» ] . قال: «تلبثون ما لبثتم ثم يتوفّى نبيّكم ثم تلبثون ما لبثتم ثم تبعث الصحيحة، فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها من شىء إلّا مات والملائكة الذين مع ربك، فأصبح «3» ربك يطوف فى الأرض وقد خلت «4» عليه البلاد، فأرسل ربك السماء [بهضب «5» ] من عند العرش، فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها من مصرع قتيل ولا مدفن ميّت إلا شقّت القبر عنه حتى تخلقه من قبل رأسه فيستوى جالسا، فيقول ربك مهم «6» لما كان فيه، فيقول: يا رب أمتّنى «7» أمس اليوم، لعهده بالحياة يحسبه حديثا بأهله» . فقلت: يا رسول الله، كيف يجمعنا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 294 بعد ما تمزقنا الرياح والبلى والسباع؟ قال: «أنبئك بمثل ذلك فى إلّ «1» الله الأرض أشرفت عليها وهى مدرة بالية فقلت لا تحيا أبدا ثم أرسل ربك عليها «2» السماء، فلم تلبث عليها إلا أياما حتى أشرفت عليها فإذا هى شرية «3» واحدة، فلعمر إلهك لهو أقدر على أن يجمعهم من الماء على أن يجمع نبات الأرض فتخرجون من الأصواء «4» ومن مصارعكم فتنظرون إليه ساعة وينظر اليكم» . قلت: يا رسول الله، [وكيف «5» ] ونحن ملء الأرض وهو شخص واحد ينظر إلينا وننظر اليه؟ قال: «أنبئكم بمثل ذلك فى إلّ الله الشمس والقمر آية [منه «6» ] صغيرة ترونهما ساعة واحدة «7» ويريانكم لا تضارّون «8» فى رؤيتهما ولعمر إلهك لهو أقدر على أن يراكم وتروه «9» منهما أن تروهما ويرياكم لا تضارّون فى رؤيتهما» . قلت: يا رسول الله، فماذا يفعل بنا ربّنا إذا لقيناه؟ قال: تعرضون عليه بادية [له «10» ] صفحاتكم لا يخفى عليه [منكم «11» ] خافية، فيأخذ ربك [بيده «12» ] غرفة من الماء فينضح [بها «13» ] قبلكم، فلعمر إلهك ما تخطئ وجه واحد منكم منها قطرة، فأمّا المسلم الجزء: 14 ¦ الصفحة: 295 فتدع وجهه مثل الرّيطة «1» البيضاء، وأمّا الكافر فتخطمه بمثل الحمم «2» الأسود. ألا ثمّ ينصرف [نبيّكم «3» ] ويتفرّق على أثره الصالحون، فتسلكون جسرا من النار يطأ أحدكم الجمرة يقول حسّ «4» ، فيقول ربك وإنّه «5» . ألا فتطلعون على حوض الرسول لا يظمأ والله ناهله فلعمر إلهك ما يبسط أحد منكم يده إلّا وقع عليها قدح يطهّره «6» من الطّوف والبول «7» والأذى. وتحبس الشمس والقمر فلا ترون منهما واحدا» . قلت: يا رسول الله، فبم نبصر الأرض «8» ؟ قال: «بمثل ساعتك هذه» وذلك مع طلوع الشمس فى يوم أشرقته «9» الأرض وواجهته الجبال. قلت: يا رسول الله، فبم نجزى من سيئاتنا وحسناتنا؟ قال «الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها إلّا أن يعفو الله» . قلت: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 296 يا رسول الله، ما الجنة وما النار «1» . قال: «لعمر إلهك إن «2» للنار لسبعة أبواب ما منها بابان إلا يسير الراكب بينهما سبعين عاما. وإن للجنة لثمانية أبواب ما منها بابان إلّا يسير الراكب بينهما سبعين عاما» . قلت: يا رسول الله، فعلام نطّلع من الجنّة؟ قال: «على أنهار من عسل مصفّى، وأنهار من كأس ما بها صداع ولا ندامة، وأنهار من لبن لم يتغيّر طعمه، وماء غير آسن، [وفاكهة لعمر إلهك ما تعلمون «3» ] وخير من مثله معه وأزواج مطهّرة» . قلت: يا رسول الله، ولنا فيها أزواج أو منهنّ مصلحات «4» ؟ قال: «الصالحات للصالحين تلذّونهنّ مثل لذّاتكم فى الدنيا ويلذذنكم غير أن لا توالد فيها» . انتهى التذييل على القسم الثالث بعون الله وتعالى وحسن توفيقه. والله الموفّق. للصواب. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 297 القسم الرابع من الفنّ الخامس فى أخبار ملوك الأصقاع، وملوك الأمم والطوائف، وخبر سيل العرم ووقائع العرب فى الجاهلية، ويشتمل على خمسة أبواب الباب الأوّل فى أخبار ذى القرنين الذى ذكره الله عزّ وجل فى كتابه العزيز فى سورة الكهف. قال الله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً* إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً «1» . واختلف فى تسميته ذا القرنين، فقيل: لبلوغه أطراف الأرض، وإنّ الملك الموكّل بجبل قاف سمّاه بذلك. وهذا القول محكىّ عن ابن عبّاس رضى الله عنهما. وقيل: إنما سمّى بذلك لأنه كانت له ذؤابتان من الذهب. ويعزى هذا القول إلى علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه. وقيل: إنما سمّى بذلك لأنه رأى فى منامه أنه يدنو من الشمس فيضع يده فى قرنيها من شرقها وغربها، فقصّ رؤياه على قومه فسمّوه ذا القرنين، وهذا القول مروىّ عن وهب. وقيل: إنما سمّى به لأن الله تعالى كان قد بعثه إلى قوم فضربوه على قرنه فمات، فأحياه الله ثم بعثه اليهم فضربوه على قرنه الآخر فمات، ثم أحياه الله، فسمّى ذا القرنين. وقيل: إنما سمّى بذلك لأنه أفنى قرنين من الناس. وقيل: لأنه كريم الطرفين من أهل بيت شرف من قبل أبيه وأمّه. وقيل: لأنه أعطى علم الظاهر والباطن. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 298 وقيل: لأنه دخل الظلمة والنور. وقيل: لأنه ملك فارس والروم. وقيل غير «1» ذلك. والله تعالى أعلم. قال وهب: كان ذو القرنين رجلا من أهل الإسكندرية يقال له الإسكندروس. والعجب كونه نسبه أنه من أهل الإسكندرية، وقد نقل جماعة من أهل التاريخ أن الإسكندر هو الذى أنشأ الإسكندرية وبناها، فكيف يكون من أهلها وهو الذى أنشأها واليه نسبت!. وروى عن وهب أيضا أن ذا القرنين كان خارجيا فى قومه، ولم يكن بأفضلهم نسبا ولا حسبا ولا موضعا، ثم قال بعد ذلك: إن الله تعالى بعثه نبيّا ورسولا. ولا يكون الأنبياء إلّا من أفضل قومهم حسبا وأشرفهم نسبا. وقد يكون هذا النقل لاختلاف الروايات. وما آفة الأخبار إلّا رواتها. قال الشيخ أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبىّ فى تفسيره عن ابن إسحاق قال حدّثنى من يسوق الأحاديث عن الأعاجم فيما توارثوا من علم: أنّ ذا القرنين كان رجلا من أهل مصر، اسمه مرزبان «2» بن مرذبة اليونانىّ من ولد يونان بن يافث ابن نوح. قال وقال ابن هشام: اسمه الإسكندر، وهو الذى بنى الإسكندرية، فنسبت إليه. قال وقيل: اسمه هرمس، ويقال هرديس. وقال ابن هشام: هو الصعب بن ذى يزن الحميرىّ. وقال وهب: هو رومىّ. وقيل: إنه أفريدون [الذى قتل بيوراسب بن أرونداسب «3» ] الملك الفارسىّ «4» . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 299 وقال أبو إسحاق الثعلبىّ رحمه الله تعالى فى قصصه- وذكر الخلاف فى نبوّته- قال: الصحيح إن شاء الله أنه كان نبيّا غير مرسل، كما روى عن وهب وغيره من أهل الكتب. قال وقالوا: كان ذو القرنين رجلا من الروم ابن عجوز من عجائزهم ليس لها ولد غيره، وكان اسمه إسكندروس. قال ويقال: كان اسمه ابن عيّاش «1» ، وكان عياش عبدا صالحا. قال وهب: ونشأ ذو القرنين فى علم وأدب وثروة وعفّة، ولم يزل يتخلّق بمكارم الأخلاق ويسمو إلى معالى الأمور حتى بعدت همّته، واشتدّ أمره، وعلا صوته، وعزّ فى قومه، وألقى الله تعالى عليه الهيبة، وحدّث نفسه بمعالى الأمور. قال الثعلبىّ: فلمّا استحكم ملكه واستجمع أمره أوحى الله تعالى إليه: يا ذا القرنين، إنّى بعثتك إلى جميع الخلائق ما بين الخافقين، وجعلتك حجّتى عليهم، وهذا تأويل رؤياك. وإنى باعثك إلى أمم الأرض كلهم وهى سبع أمم مختلفة ألسنتهم، منهم أمّتان بينهما عرض الأرض، وأمّتان بينهما طول الأرض، وثلاث أمم فى وسط الأرض، وهم الإنس والجنّ ويأجوج ومأجوج. فأمّا الأمّتان اللتان بينهما طول «2» الأرض فأمّة عند مغرب الشمس يقال لها ناسك، والأخرى [بحيالها عند مطلع الشمس «3» ] يقال لها منسك. وأمّا الأمّتان اللتان بينهما عرض «4» الأرض فأمّة فى قطر الأرض الأيمن يقال لها هاويل، والأخرى بحيالها فى قطر الأرض الأيسر يقال لها تاويل. فلمّا قال الله تعالى له ذلك قال ذو القرنين: إلهى إنك قد ندبتنى إلى أمر عظيم لا يقدر قدره «5» إلا أنت؛ فأخبرنى عن هذه الأمم التى بعثتنى إليها بأىّ قوّة أكاثرهم، وبأىّ حيلة وجمع أكابرهم، وبأىّ صبر أقاسيهم، وبأىّ لسان أناطقهم؛ وكيف لى بأن أفقه لغاتهم، وبأىّ سمع أسمع أقوالهم، وبأىّ بصر أنفذهم، وبأىّ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 300 حجّة أخاصمهم، وبأىّ عقل أعقل عنهم، وبأىّ قلب وحكمة أدبّر أمرهم، وبأىّ قسط أعدل بينهم، وبأىّ حلم أصابرهم، وبأىّ معرفة أفصل بينهم، وبأىّ علم أتقن أمرهم، وبأىّ يد أسطو عليهم، وبأىّ رجل أطؤهم، وبأىّ طاقة أحصيهم، وبأىّ جند أقاتلهم، وبأىّ رفق أتألفهم، وليس عندى يا إلهى شئ مما ذكرت يقوم لهم «1» ويقوى عليهم وأنت الرؤف الرحيم، الذى لا تكلّف نفسا إلا وسعها، ولا تحمّلها إلّا طاقتها، ولا تشقيها؛ بل أنت ترحمها. فقال الله تعالى له: إنى سأطوّقك ما حمّلتك، وأشرح لك صدرك وسمعك فتسمع وتعى كلّ شئ، وأوسّع لك فهمك فتفقه كلّ شئ، وأبسط لك لسانك فتنطق بكل شئ، وأفتح لك بصرك فينفذ فى كل شئ، وأحصى لك قوّتك «2» فلا يفوتك شئ، وأشدّ لك عضدك فلا يهولك شئ، وأشيّد لك ركنك فلا يغلبك شئ، وأشدّ لك قبلك فلا يفزعك شئ، وأشدّ لك يديك «3» فتسطو على كلّ شئ، وألبسك الهيبة فلا يروعك شئ، وأسخّر لك النور والظلمة وأجعلهما جندا من جنودك، يهديك النور من أمامك، وتحوطك الظلمة من ورائك. قال: فلما قيل له ذلك حدّث نفسه بالمسير، وألحّ عليه قومه بالمقام، فلم يفعل وقال: لابدّ من طاعة الله تعالى. قال وهب: وكان أوّل ما بدأ به أن أخذ قومه بالإسلام فأسلموا قهرا من عند آخرهم، ثم أمرهم أن يبنوا له مسجدا ويجعلوا طوله أربعمائة ذراع، وعرضه مائتى ذراع، وسمك حائطه اثنين وعشرين ذراعا، وارتفاعه فى السماء مائة ذراع، وأمرهم أن ينصبوا فيه سوارى. قالوا: يا ذا القرنين، كيف لنا بخشب يبلغ ما بين الحائطين؟ فلمّا كمل البناء أمرهم بردمه بالتراب، ثم فرض على الموسر قدره من الذهب وعلى المقتر قدره، وأمرهم أن يجعلوا ذلك الذهب كقلامة الظّفر الجزء: 14 ¦ الصفحة: 301 ويخلطوه بالتراب وكبسوا التراب حتى ساوى البناء، ثم أمرهم بعد ذلك أن يتّخذوا أعمدة من النحاس بدلا من الخشب فصنعوها، وجعلوا على كل حائط اثنى عشر ذراعا، فكان طول كل عمود من النحاس مائتين وأربعة وعشرين ذراعا، فتمكّنوا من ذلك بسبب الردم. فلمّا استقرّ «1» السقف بما فيه أمر الإسكندر المساكين أن يحوّلوا التراب، ومن خرج له شئ من الذهب فهو له، فسارعوا إلى ذلك ونقلوه واستغنوا بما فيه، ثم جنّد القوم أربعين ألفا، وهم أوّل جند اتّبعوه. وقال الثعلبىّ رحمه الله: إنّ الإسكندر جنّد المساكين بما حصل لهم من قراضة الذهب، وكانوا أربعين ألفا، جعلهم أربعة أجناد، فى كل جند عشرة آلاف. قال: ثم عرض جنده فوجدهم فيما قيل ألف ألف وأربعمائة ألف رجل غير المساكين، وهم أربعون ألفا؛ ثم انطلق يؤمّ الأمّة التى عند مغرب الشمس، فسار لا يمرّ بأمّة إلّا دعاهم إلى الله تعالى، فإن أجابوه قبل ذلك منهم، وإن أبوا عليه غشيتهم الظّلمة فلبست مدائنهم ومنازلهم وأعشت أبصارهم، فيتحيّروا حتى يجيبوه، أو يأخذهم عنوة. ولم يزل كذلك حتى بلغ مغرب الشمس. قال الله تعالى: فَأَتْبَعَ سَبَباً* حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ «2» أى ذات حمأة، ومن قرأ حامية فمعناه حارّة وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً الآيات إلى قوله: يُسْراً . قال الثعلبىّ: فوجد جمعا وعددا لا يحصيه إلا الله تعالى، وقوّة وبأسا لا يطيقه إلا الله تعالى، ورأى ألسنا مختلفة وأهواء متشتّتة، وهذه الأمّة هى ناسك. فلمّا رأى ذلك كاثرهم بالظّلمة فضرب حولهم ثلاث عساكر فأحاط بهم من كل مكان حتى جمعهم فى مكان واحد، ثم أخذ عليهم بالنور فدعاهم إلى الله تعالى وعبادته، فمنهم من آمن به ومنهم من صدّ عنه، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 302 فعمد إلى الذين تولّوا عنه فأدخلهم الظّلمة، فدخلت فى أفواههم وأنوفهم وآذانهم وأجوافهم، ودخلت فى بيوتهم وغشيتهم من فوقهم ومن تحتهم ومن كل جانب، فصاحوا وتحيّروا وأشفقوا من الهلكة، فعجّوا إليه بصوت واحد، فكشفها عنهم وأخذهم عنوة فدخلوا فى دعوته، فجنّد منهم أمما عظيمة وجعلهم جندا واحدا، ثم انطلق بهم يقودهم والظّلمة تسوقهم من خلفهم وتحرسهم والنور أمامهم، وسار يريد الأمّة التى فى قطر الأرض التى يقال لها هاويل، فكان إذا انتهى إلى بحر أو نهر بنى سفنا من ألواح صغار أمثال النعال ونظمها فى ساعة، ثم حمل فيها جميع من معه من تلك الأمم والجنود، فإذا قطع ذلك البحر أو النهر فتقها ثم دفع إلى كل رجل منهم لوحا فلا يكرثه حمله، فلم يزل ذلك دأبه حتى انتهى إلى هاويل ففعل بهم كما فعل بالأمة التى قبلها. قال: ولما فرغ منها مضى حتى انتهى إلى منسك وهى الأمة التى عند مطلع الشمس. قال الله تعالى: ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً* حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً* كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً «1» . قال: وقوله تعالى: لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً وذلك أنهم كانوا فى مكان لا يستقرّ عليه بناء، وكانوا يكونون فى أسراب «2» لهم، حتى إذا زالت الشمس خرجوا الى معايشهم وحروثهم. وقال الحسن «3» : كانت أرضهم أرضا لا تحتمل البناء، فكانوا إذا طلعت الشمس عليهم تهوّروا فى الماء، فإذا ارتفعت عنهم خرجوا فتراعوا كما ترعى البهائم. وقال الكلبىّ: هم أمّة يقال لها منسك عراة حفاة عماة عن الحقّ. قال: وحدّثنى عمرو بن مالك بن أميّة قال: وجدت رجلا بسمرقند يحدّث الناس الجزء: 14 ¦ الصفحة: 303 وهم مجتمعون حوله، فسألت بعض من سمع حديثه فأخبرنى أنه حدّثهم عن القوم الذين تطلع عليهم الشمس، قال: خرجت حتى جاوزت الصين، ثم سألت عنهم فقيل: [لى «1» ] إن بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة، فاستأجرت رجلا [يرينيهم «2» ] ، فسرت بقيّة عشيّتى وليلتى حتى صبّحتهم، فإذا أحدهم يفترش أذنه ويلبس «3» الأخرى. وكان صاحبى يحسن لسانهم فسألوه فقال: جئنا ننظر كيف تطلع الشمس. قال: فبينما نحن كذلك إذ سمعنا مثل الصلصلة، فغشى علىّ فوقعت، فلمّا أفقت وجدتهم يمسحوننى بالدهن فإذا الشمس طلعت على الماء، وهى عليه كهيئة الزيت، وإذا طرف السماء كهيئة الفسطاط، فلمّا ارتفعت دخلوا فى سرب لهم وأنا وصاحبى، فلمّا ارتفع النهار خرجوا إلى البحر فجعلوا يصطادون السمك فيطرحونه فى الشمس فينضج. نرجع إلى تتمة أخبار الإسكندر ومطلع الشمس. قالوا: ولمّا بلغ الإسكندر مطلع الشمس فعل بمنسك كما فعل بالأمم التى قبلها وجنّد منها جنودا، ثم كرّ حتى أخذ ناحية الأرض اليسرى وهى بدء تاويل، وهى الأمّة التى بحيال هاويل، وهما متقابلتان بينهما عرض الأرض. فلمّا بلغها عمل فيها كما عمل بمن قبلها. ولمّا فرغ من الأمم الذين هم بأطراف الأرض وطاف الشرق والغرب عطف منها إلى الأمم التى هى فى وسط الأرض من الجنّ والإنس ويأجوج ومأجوج. فلمّا كان فى بعض الطريق مما يلى منقطع الترك نحو المشرق قالت له أمّة صالحة من الإنس: يا ذا القرنين، إنّ بين هذين الجبلين خلقا من خلق الله ليس فيهم مشابهة من الإنس، وهم أشباه البهائم، يأكلون العشب ويفترسون الدوّاب والوحوش كما يفترسها السباع، ويأكلون هوّام الأرض من الحيّات والعقارب وكل ذى روح مما خلق الله تعالى. وليس لله خلق ينمون نماءهم ولا يزدادون كزيادتهم. فإن أتت مدّة على ما نرى من الجزء: 14 ¦ الصفحة: 304 نمائهم وزيادتهم فلا شكّ أنهم سيملئون الأرض ويخلون أهلها منها ويظهرون عليها فيفسدون فيها، وليست تمرّ بنا سنة منذ جاورناهم إلا ونحن نتوقّعهم أن يطلع علينا أوّلهم من [بين «1» ] هذين الجبلين «2» . قال الشيخ عبد الوهاب بن المبارك الأنماطىّ فى كتابه عن وهب بن منبّه: إنّ يأجوج ومأجوج أجفلوا «3» فى زمن ذى القرنين يريدون أرضا وأمّة من الأمم، وكانوا إذا توجّهوا لوجه لم يعدلوا عنه ولا يميلون ولا يعرّجون، وكانت تسمع همهمتهم من مسيرة مائة فرسخ لكثرتهم. فلما سمعت تلك الأمّة حسّهم استغاثوا بذى القرنين، وهو يومئذ فى ناحية أرضهم من شرقى أرض الترك والخزر وقالوا: يا ذا القرنين، إنه قد بلغنا ما آتاك الله من السلطان والملك، وما ألبسك من الهيبة، وما أيّدك به من جنود أهل الأرض ومن النور والظلمة، وإنّا جيران يأجوج ومأجوج، وليس بيننا وبينهم إلا شواهق الجبال، وليس لهم إلينا طريق إلا من هذين الصّدفين «4» ، فهل نجعل لك خرجا [على أن تجعل بيننا وبينهم سدّا «5» ] . قال الله تعالى: ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً* حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا* قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً «6» أى جعلا وأجرا عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا أى حاجزا فلا يصلون إلينا قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي أى قوّانى خَيْرٌ من خراجكم ولكن فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً حاجزا كالحائط. قالوا: وما تلك القوّة؟ قال: فعلة وصنّاع الجزء: 14 ¦ الصفحة: 305 يحسنون البناء والعمل والآلة. قالوا: وما تلك الآلة: قال آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ يعنى قطعه، واحدتها زبرة، وأتونى بالنّحاس. قالوا: من أين لنا الحديد والنّحاس [ما يكفى هذا العمل «1» ] ؟ قال، سأدلّكم على معادن الحديد والنحاس، فضرب لهم فى جبلين حتى فلقهما، ثم استخرج منهما معدنين من الحديد والنحاس. قالوا: فبأىّ قوّة نقطع الحديد والنحاس؟ فآستخرج معدن السامور وهو أشدّ ما خلق الله بياضا، وهو الذى قطع به سليمان صخور بيت المقدس وجواهره، كما تقدّم. قال الثعلبىّ: ولمّا شغلهم الإسكندر فى استخراج الحديد والنحاس سار نحو يأجوج ومأجوج ليعلم علمهم، فانطلق يؤمّهم حتى انتهى إليهم وتوسّط بلادهم، فوجدهم على مقدار واحد ذكرهم وأنثاهم، يبلغ طول الواحد منهم مثل نصف الرجل المربوع منّا. وروى عن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه أنه قال: منهم من طوله شبر، ومنهم من هو مفرط فى الطول، لهم مخاليب فى أيديهم موضع الأظافر، وأنياب وأضراس كالسّباع، يسمع لها حركة إذا أكلوا كقضم البغل المسنّ أو الفرس القوىّ، ولهم من الشعر فى أجسادهم ما يواريهم وما يتّقون به الحرّ والبرد، ولكل واحد منهم أذنان عظيمتان، إحداهما وبرة والأخرى زغبة، يفترش إحداهما ويلتحف الأخرى، ويصيّف فى إحداهما ويشتّى فى الأخرى «2» . وقال الأنماطىّ فى خبره: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 306 ولهم أخفاف كأخفاف الإبل. قالوا: وليس منهم ذكر ولا أنثى إلّا قد عرف أجله الذى يموت فيه. وذلك أنّ الذكر منهم لا يموت حتى يخرج من صلبه ألف ولد، ولا تموت الأنثى حتى يخرج من رحمها ألف ولد «1» ، فإذا كان ذلك أيقن بالموت الجزء: 14 ¦ الصفحة: 307 وترك طلب المعيشة. قالوا: وهم يرزقون التنيّن فى أيام الربيع، يقذفه عليهم السحاب من البحر فى كل عام مرّة. فإذا تأخّر عنهم وقت عادته استمطروه كما يستمطر الغيث لحينه، فإن قذفوا به أخصبوا وسمنوا وتوالدوا وكثروا وأكلوا منه حولا كاملا لا يأكلون غيره، ويقدّدونه فيعمّهم على كثرتهم. قال: وهم يتداعون تداعى الحمام، ويعوون عواء الذئاب، ويتسافدون تسافد البهائم حيث التقوا. فلمّا عاينهم ذو القرنين انصرف إلى ما بين الصّدفين فقاس ما بينهما، ثم أوقد على ما جمع من الحديد والنحاس فصنع منه زبرا أمثال الصخور العظام، ثم أذاب النّحاس فجعله كالطين وألاط به تلك الصخور الحديد ثم بناه. قالوا: وكيفيّة بنائه على ما ذكره أهل السّير: أنه لمّا قاس ما بين الجبلين وجد ما بينهما مائة فرسخ، ثم حفر له الأساس حتى بلغ الماء، وجعل عرضه خمسين فرسخا، ثم وضع الحطب بين الجبلين، ثم نسج عليه الحديد، ثم نسج الحطب على الحديد، فلم يزل يحوّل الحديد على الحطب والحطب على الحديد حتى ساوى بين الصّدفين، وهما الجبلان، ثم أمر بالنار فأرسلت فيه، ثم قال انفخوا ثم جعل يفرغ القطر «1» وهو النحاس المذاب، فجعلت النار تأكل الحطب ويصير النحاس مكان الحطب حتى لزم الحديد النحاس، فصار كأنه برد «2» حبرة من صفرة النحاس وحمرته، وسواد الحديد وغبرته؛ فصار سدّا طويلا عظيما حصينا. قال الله تعالى: فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً «3» وقد روى أنّ رجلا قال يا رسول الله قد رأيت سدّ يأجوج ومأجوج. قال: «انعته لى» . قال: كالبرد المحبّر، طريقة سوداء، وطريقة حمراء. قال: «قد رأيته» . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 308 وقد ذكرنا خبر السدّ فيما سلف من كتابنا «1» هذا عن سلّام التّرجمان حين أرسله الواثق إلى السدّ فرآه، وهو فى الباب الثالث من القسم الخامس من الفنّ الأوّل وهو فى السفر الأوّل من كتابنا هذا. قال الأنماطىّ قال وهب: فبلغنا- والله أعلم- أنهم يأتونه فى كل سنة مرّة، وذلك أنهم يسيحون فى بلادهم حتى إذا انتهوا إلى ذلك الرّدم حبسهم فرجعوا يسيحون فى بلادهم، فهم كذلك حتى تقرب الساعة، فإذا جاء أشراطها فتحه الله عز وجل؛ فذلك قوله تعالى: حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ «2» ، وقوله تعالى: فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا «3» . والله أعلم. ذكر خبر دخول ذى القرنين الظلمات مما يلى القطب الشمالىّ لطلب عين الحياة قال أبو إسحاق الثعلبىّ رحمه الله: قال علىّ رضى الله عنه: ملك ذو القرنين ما بين المشرق والمغرب، وكان له خليل من الملائكة اسمه رفائيل يأتيه ويزوره. فبينما هما ذات يوم يتحادثان إذ قال ذو القرنين: يا رفائيل، حدّثنى عن عبادتكم [فى السماء «4» ] . فبكى وقال: يا ذا القرنين، وما عبادتكم [بشىء «5» ] عند عبادتنا! إنّ فى السماء من الملائكة من هو قائم أبدا لا يجلس، ومنهم من هو ساجد لا يرفع رأسه أبدا، ومنهم الراكع لا يستوى أبدا قائما، يقولون: سبحان الملك القدّوس، ربّ الملائكة والرّوح، ربنا ما عبدناك حقّ عبادتك. فبكى ذو القرنين بكاء شديدا ثم قال: إنى لأحبّ أن الجزء: 14 ¦ الصفحة: 309 أعيش فأبلغ من عبادة ربّى حقّ طاعته. قال رفائيل: أو تحبّ ذلك؟ قال نعم. قال: فإنّ لله عينا فى الأرض تسمّى عين الحياة فيها من الله عزيمة، إنّ من يشرب منها شربة لم يمت أبدا حتى يكون هو الذى يسأل ربّه الموت. قال ذو القرنين: هل تعلم موضع تلك العين؟ قال الملك: لا، غير أنّا نتحدّث فى السماء أنّ لله تعالى فى الأرض ظلمة لا يطؤها إنس ولا جانّ، فنحن نظن أنّ العين فى تلك الظلمة. فجمع ذو القرنين علماء أهل الأرض وأهل دراسة الكتب وآثار النبوّة فقال لهم: أخبرونى هل وجدتم فيما قرأتم من كتب الله وما جاءكم من أحاديث الأنبياء ومن كان قبلكم أنّ الله وضع فى الأرض عينا سمّاها عين الحياة؟. قالوا لا. وقال عالم من العلماء «1» : إنّى قرأت وصيّة آدم، وصّى أنّ الله تعالى خلق فى الأرض ظلمة لم يطأها «2» إنس ولا جانّ ووضع فيها عين الخلد. فقال ذو القرنين: فأين وصيّته فى الأرض؟ قال: على قرن الشمس. فبعث ذو القرنين وحشر إليه العلماء والأشراف والملوك، ثم سار يطلب مطلع الشمس، فسار اثنتى عشرة سنة إلى أن بلغ طرف الظّلمة، فإذا ظلمة تقوم «3» مثل الدّخان ليست بظلمة ليل، فعسكر هناك، ثم جمع العلماء وقال: إنّى أريد أن أسلك هذه الظلمة. قالوا: إنه من كان قبلك من الأنبياء والملوك لم يطلبوا هذه الظلمة فلا تطلبها، فإنّا نخاف أن ينبثق عليك أمر تكرهه فيكون فيه فساد [أهل «4» ] الأرض. فقال: لابدّ من أن أسلكها. قالوا: أيها الملك كفّ عنها ولا تطلبها فإنّا لو نعلم أنك إن طلبتها ظفرت بما تريد ولم يسخط علينا ربّنا لاتّبعناك، ولكنّا نخاف العتب من الله عزّ وجل وفساد الأرض ومن عليها. فقال: لابدّ أن أسلكها. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 310 قالوا: شأنك بها. قال: أىّ الدوابّ بالليل أبصر؟ قالوا: الخيل. قال: فأىّ الخيل أبصر؟ قالوا: الإناث. قال: فأىّ الإناث أبصر؟ قالوا: البكارة. فجمع ذو القرنين ستّة آلاف فرس بهذه الصفة، ثم انتخب من عسكره [أهل الجلد والعقل «1» ] ستّة آلاف رجل، فدفع إلى كلّ رجل فرسا، وعقد للخضر عليه السلام على مقدّمته ألفين، وبقى هو فى أربعة آلاف. وقال ذو القرنين للناس: لا تبرحوا من معسكركم هذا إلى اثنتى عشرة سنة، فإن رجعنا إليكم وإلا فارجعوا إلى بلادكم. فقال الخضر: أيها الملك، إنّا نسلك ظلمة لا ندرى كم المسير فيها ولا يبصر بعضنا بعضا، فكيف نصنع إذا ضللنا! فدفع إلى الخضر خرزة حمراء وقال: حيث يصيبكم الضلال فاطرح هذه فى الأرض فإذا صاحت فليرجع إليها أهل الضلال أين صاحت. فسار الخضر بين يديه، يرتحل الخضر وينزل ذو القرنين. فبينما الخضر يسير إذ عرض له واد فظنّ أنّ العين فيه وألقى ذلك فى قلبه. فقام على شفير الوادى وقال لأصحابه: قفوا لا تبرحو. ورمى بالخرزة فى الوادى ومكث طويلا حتى أجابته الخرزة، فطلب صوتها فانتهى إليها فإذا هى إلى جانب العين. فنزع الخضر ثيابه ثم دخل العين، فإذا ماؤها أشدّ بياضا من اللبن وأحلى من الشهد، فشرب واغتسل وتوضّأ ولبس ثيابه، ثم رمى الخرزة نحو أصحابه، فوقعت الخرزة وصاحت، فرجع إلى صوتها حتى انتهى إلى أصحابه، فركب وقال: سيروا على اسم الله. ومرّ ذو القرنين فأخطأ الوادى فسلكوا تلك الظّلمة أربعين يوما وليلة، ثم خرجوا إلى ضوء ليس بضوء شمس ولا قمر، وإلى أرض حمراء ورملة خشخاشيّة «2» ، فإذا هو بقصر مبنىّ فى تلك الأرض طوله فرسخ فى فرسخ عليه باب، فنزل ذو القرنين بعسكره، ثم خرج وحده فدخل القصر، فإذا حديدة قد وضع طرفاها على جانبى القصر من هاهنا وهاهنا، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 311 وإذا طائر أسود يشبه الخطّاف مزموم بأنفه إلى الحديدة، معلّق بين السماء والأرض. فلمّا سمع الطائر خشخشة ذى القرنين قال: من هذا؟ قال: أنا ذو القرنين. فقال: يا ذا القرنين، أما كفاك ما وراءك حتى وصلت إلىّ! ثم قال الطائر: يا ذا القرنين، حدّثنى؛ قال سل؛ فقال: هل كثر بناء الآجرّ والجصّ فى الأرض؟ قال نعم؛ فانتفض الطائر انتفاضة ثم انتفخ فبلغ ثلث الحديدة، ثم قال: يا ذا القرنين، هل كثرت شهادات الزور فى الأرض؟ قال نعم؛ فانتفض الطائر ثم انتفخ فملأ الحديدة وسدّ ما بين جدارى القصر، ففرق ذو القرنين فرقا عظيما. فقال الطائر: لا تخف، حدّثنى. قال سل. قال: هل ترك الناس [شهادة أن «1» ] لا إله إلّا الله بعد؟ قال لا، فانضم الطائر ثلثه ثم قال: هل ترك الناس الصلاة المفروضة بعد؟ قال لا، فانضمّ ثلثاه. ثم قال: يا ذا القرنين، هل ترك الناس غسل الجنابة بعد؟ قال لا؛ فعاد الطائر كما كان. ثم قال: يا ذا القرنين، اسلك هذا الدّرج درجة درجة إلى أعلى القصر، فسلكها وهو خائف وجل لا يدرى على ماذا يهجم، حتى انتهى إلى سطح ممدود، عليه صورة رجل شابّ قائم، وعليه ثياب بيض، رافعا وجهه إلى السماء، واضعا يديه على فيه، فلمّا سمع خشخشة ذى القرنين قال: من هذا؟ قال: أنا ذو القرنين. قال: يا ذا القرنين، إنّ الساعة قد اقتربت، وإنا منتظر أمر ربّى يأمرنى أن أنفخ [فأنفخ «2» ] ، ثم أخذ صاحب الصّور شيئا بين يديه كأنه حجر وقال: خذه يا ذا القرنين، فإن شبع هذا شبعت، وإن جاع جعت؛ فأخذه ونزل إلى أصحابه فحدّثهم بأمر الطائر وما قال له وما ردّ عليه، وما قال صاحب الصّور. ثم جمع علماء عسكره فقال: أخبرونى عن هذا الحجر ما أمره؟ [فقالوا: أيها الملك، أخبرنا عما قال لك فيه صاحب الصور. فقال ذو القرنين: إنه قال لى: إن شبع هذا شبعت وإن جاع جعت «3» ] فوضعوا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 312 ذلك الحجر فى إحدى كفّتى ميزان وأخذوا حجرا مثله فوضعوه فى الكفة الأخرى ثم رفعوا الميزان فإذا هو يميل، [فوضعوا معه آخر فاذا هو يميل بهنّ «1» ] فلم يزالوا يضعون حتى وضعوا ألف حجر فمال بالألف جميعا، فقالوا: انقطع علمنا دون هذا الحجر لا ندرى أسحر هو أم علم [ما نعلمه «2» ] ! فقال الخضر: نعم أنا أعلمه، فأخذ الميزان بيده ثم وضع الحجر فى كفّتها وأخذ كفّا من تراب فجعله فى الكفّة الأخرى ثم رفع الميزان فاستوى. فخرّت العلماء سجّدّا لله تعالى وقالوا: هذا علم لم يبلغه علمنا. فقال الخضر عليه السلام: أيّها الملك، إنّ سلطان الله عزّ وجل قاهر لخلقه، وأمره نافذ فيهم، وحكمه جار عليهم؛ وإنّ الله تعالى ابتلى خلقه بعضهم ببعض، فابتلى العالم بالعالم، والجاهل بالجاهل، والعالم بالجاهل، والجاهل بالعالم؛ وإنه ابتلانى بك وابتلاك بى. قال ذو القرنين: صدقت، فأخبرنى ما هذا؟ فقال الخضر: أيها الملك، هذا مثل ضربه لك صاحب الصّور، [إن الله تعالى مكّن لك فى البلاد، وأعطاك منها ما لم يعط أحدا، وأوطأك منها ما لم يؤطى أحدا، فلم «3» ] تشبع، وآتيت نفسك شرّها، حتى بلغت من سلطان الله ما لم يطأه إنس ولا جانّ، فهذا مثل ضربه لك، إن ابن آدم لا يشبع أبدا دون أن يحثى عليه التراب، ولا يملأ جوفه إلّا التراب. فبكى ذو القرنين وقال: صدقت، لا جرم [أنى «4» ] لا طلبت أثرا فى البلاد بعد مسيرى هذا حتى أموت، ثم انصرف راجعا. فلمّا توسّط الظّلمة وطئ وادى الزّبرجد، فقال من معه لما سمعوا الخشخشة تحت حوافر دوابّهم: ما هذا أيّها الملك؟ فقال: خذوا منه فإنه من أخذ منه ندم، ومن تركه ندم. فمنهم من أخذ، ومنهم من ترك. فلمّا خرجوا من الظلمة إذا هو الزبرجد. فندم الآخذ كونه لم يكثر، والتارك كونه لم يأخذ. قال: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 313 فقال النبىّ صلى الله عليه وسلم: «رحم الله أخى ذا القرنين لو ظفر بوادى الزّبرجد فى المبتدأ ما ترك منه شيئا حتى أخرجه إلى الناس لأنه كان راغبا فى الدنيا ولكنّه ظفر به وهو زاهد فى الدنيا لا حاجة له فيها» . قال الثعلبىّ: ثم رجع إلى العراق وملك ملوك الطوائف، ومات فى طريقه بشهرزور «1» . وقال علىّ رضى الله عنه: [ثم إنه «2» ] رجع إلى دومة «3» الجندل فأقام بها حتى مات. وصرّح الثعلبىّ فى سياقة أخباره أنه الذى قتل دارا بن دارا، وأنه لم تطل مدّة عمره. وسنذكر إن شاء الله تعالى خبر قاتل دارا بن دارا فى أخبار ملوك اليونان. وحكى الأنماطىّ عن وهب فى خبر دخول الإسكندر الظّلمات: أنه لمّا انتهى إلى مغرب الشمس ترك من معه هناك وسار على الماء فى الظلمة ثمانية أيام وثمانى ليال حتى انتهى إلى جبل قاف، وإذا هو بملك قابض على الجبل يسبّح الله تعالى؛ فخرّ ذو القرنين ساجدا لله تعالى فلم يرفع رأسه حتى قوّاه الله تعالى على النظر إلى الملك. فقال له: كيف قويت يابن آدم على أن تبلغ هذا الموضع ولم يبلغه أحد من ولد آدم قبلك؟! قال: قوّانى الله الذى قوّاك على قبض هذا الجبل. فأخبرنى عن هذا الجبل. قال: إنه قاف المحيط بالأرض كلها، ولولا هو لانكفأت الأرض بأهلها، وليس على ظهر الأرض أعظم منه، وإنه لمحيط بها كالحلقة، وهو أوّل جبل أثبته الله، فرأسه ملصق بسماء الدنيا، وأسفله راسخ فى الأرض السفلى. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 314 وحكى إبراهيم بن وصيف شاه فى كتاب العجائب الكبير: أنّ ذا القرنين لمّا سار إلى الظّلمة مرّ بجزيرة فيها أمّة رءوسهم رءوس الكلاب العظام بادية أنيابهم، يخرج من أفواههم مثل لهب النار، وأنهم خرجوا إلى مراكبه فحاربوه فتخلّص منهم، وسار فرأى نورا ساطعا فقصده فاذا هو قد بلغ جزيرة القصر. قال: وهذه الجزيرة فيها قصر مبنىّ بالبلّور الصافى عالى الطول يشفّ حتى يرى نوره على البعد، فأراد النزول بها، فمنعه بهرام فيلسوف الهند وعرّفه أنّ من نزل اليها وقع عليه النوم وعزب عقله فلا يستطيع الخروج منها حتى يهلك. قال: ويقال إنه ظهر لهم منها قوم قصار زعر، لباسهم ورق الشجر. فسأل بهرام عن صبرهم على المقام بها، فعرّفوه أنّ بها ثمرا اذا أكلوا منه زال عنهم ذلك، وذكروا أنهم إذا كان الليل ظهر بين شرف القصر مثل المصابيح تسرج إلى الصّبح ثم تخمد نهارا إلى الليل فتوقد. قال: ويقال إنه مرّ فى طريقه بجزيرة التّنّين «1» وإنها جزيرة فيها جبال وأنهار وأشجار وزروع وهى عامرة، وعلى مدينتها حصن عال، وبها تنّين عظيم قد سام أهلها أقبح سوم. فلمّا دخلها الإسكندر استغاثوا به من التّنين وأنه أتلف مواشيهم حتى إنهم جعلوا له فى كل يوم ثورين ينصبونهما قريبا من موضعه، فيخرج فيبتلعهما. فأمر الإسكندر بثورين عظيمين فسلخا وحشا جلودهما زفتا وكبريتا وكلسا وزرنيخا، وجعل مع تلك الأخلاط كلاليب حديد، وجعلهما فى ذلك المكان. وخرج التنّين وأقبل كالسحابة السوداء وعيناه [تلمعان «2» ] كالبرق، والنار تخرج من جوفه، فابتلعهما ومضى، فأضّطرمت تلك الأشياء فى جوفه، فلمّا أحسّ بثقلها ذهب ليقذفها، فتشبّكت الجزء: 14 ¦ الصفحة: 315 الكلاليب فى حلقه فخرّ وفتح فاه ليستروح، فأمر الإسكندر بقطع الحديد فأحميت وحملت على ألواح من حديد وقذفت فى حلقه فمات. ففرح أهل ذلك الموضع بموته وألطفوا الإسكندر وحملوا اليه من طرائف ما عندهم. وكان فيما حملوه اليه دابّة فى خلق الأرنب، شعرها أصفر يبرق كالذهب، يسمّونها المعراج «1» ، وفى رأسها قرن واحد أسود، اذا رأتها الأسود وسباع الوحش وكلّ دابّة هربت منها. وقال الأنماطىّ فى سياقة أخبار الإسكندر عن وهب تلو خبر السدّ: ثم انطلق ذو القرنين بعد ذلك، فبينما هو يسير إذ مرّ على شيخ يصلّى، فوقف عليه بجنوده حتى إذا انصرف من صلاته قال له: كيف لم يرعك ما حضرك من الجنود؟! قال: كنت أناجى من جنوده أكثر من جنودك، وسلطانه أعزّ من سلطانك، وقوّته أشدّ من قوّتك؛ ولو صرفت وجهى إليك لم أدرك حاجتى قبله. قال له: هل لك أن تنطلق معى وأواسيك بنفسى وأستعين بك على بعض أمرى؟ قال: نعم، إن ضمنت لى أربعة خصال: نعيم لا يزول، وصحة لا سقم فيها، وشباب لا كبر فيه، وحياة لا موت فيها. قال له ذو القرنين: وأىّ مخلوق يقدر على هذه الخصال!. قال الشيخ: فإنّى مع من يقدر عليها ويملكها، فتركه وسار. فبينما هو يسير إذ دفع الى الأمة الصالحة من قوم موسى الذين يهدون بالحقّ وبه يعدلون، فوجد أمّة مقسطة عادلة يقسمون بالسّويّة، ويحكمون بالعدل ويتواسون، فكلمتهم واحدة، وقلوبهم مؤتلفة مستقيمة، وسيرتهم مستوية، وقبور موتاهم فى أفنيتهم، وليس على بيوتهم «2» أبواب تغلق، وليس عليهم أمراء، ولا قضاة بينهم، ولا أشراف الجزء: 14 ¦ الصفحة: 316 يتفاوتون، ولا يتفاضلون ولا يختلفون ولا يتنازعون ولا يتسابّون ولا يقتتلون ولا يقحطون ولا تصيبهم الآفات؛ فعجب من أمرهم وقال: أخبرونى خبركم أيّها القوم؛ فإنّى قد أحصيت الأرض شرقها وغربها، وسهلها وجبلها، وبرّها وبحرها، ونورها وظلمتها، فلم أر مثلكم. قالوا: سلنا عمّا بدا لك نخبرك. قال: ما بال قبوركم فى أفنيتكم وعلى أبواب بيوتكم؟ قالوا: لئلا ننسى الموت ولا يخرج ذكره من قلوبنا. قال: فما بال بيوتكم لا أبواب عليها؟ قالوا: ليس فينا متّهم ولا ظنين، ولا فينا إلّا مؤتمن أمين. قال: فما بالكم ليس عليكم أمراء؟ قالوا: لأنّا لا نتظالم. قال: فما بالكم ليس فيكم أغيناء؟ قالوا: لأنّا لا نتكاثر. قال: فما بالكم لا تتفاضلون ولا تتفاوتون؟ قالوا: من قبل أنّا متواسون متراحمون. قال: فما بالكم ليس فيكم أشراف؟ قالوا: لأنّا لا نتنافس. قال: فما بالكم لا تتنازعون ولا تختلفون؟ قالوا: من ألفة قلوبنا وصلاح ذات بيننا. قال: فما بالكم ليس بينكم حكّام؟ قالوا: نحن لا نختصم. قال: فما بال كلمتكم واحدة؟ قالوا: من قبل أنّا لا نتكاذب ولا نتخادع ولا يغتاب بعضنا بعضا. قال: فأخبرونى من قبل ماذا تشابهت قلوبكم واعتدلت سيرتكم؟ قالوا: من صحّة صدورنا، فنزع الله بذلك الغلّ والحسد من قلوبنا. قال: فما بالكم ليس فيكم مسكين ولا فقير؟ قالوا: من قبل أنا نقسم بالسويّة. قال: فما بالكم ليس فيكم فظّ ولا غليظ؟ قالوا من قبل الذل والتواضع. قال: فأخبرونى بماذا أنتم أطول الناس أعمارا؟ قالوا: من قبل أنّا نتعاطى الحقّ ونحكم بالعدل. قال: فما بالكم لا تقحطون؟ قالوا: لأنّا لا نغفل عن الاستغفار. قال: فما بالكم لا تصيبكم الآفات؟ قالوا: من قبل أنّا لا نتوكّل إلّا على الله، ولا نستمطر بالأنواء ولا بالنجوم. قال: أهكذا وجدتم آباءكم يفعلون؟ قالوا: وجدنا آباءنا يعطون مسكينهم، ويواسون فقيرهم، ويوقّرون غنيّهم، ويعفون عمّن ظلمهم، ويحسنون الى من أساء اليهم، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 317 ويحملون عمّن جهل عليهم، ويستغفرون لمن سبّهم، ويصلون أرحامهم، ويؤدّون أمانتهم، ويحفظون وفاءهم لصلاحهم، ويوفون بعهدهم، ويصدقون فى مواعيدهم، ولا يرغبون عن أكفائهم، ولا يستنكفون عن أقاربهم؛ فأصلح الله تعالى لهم بذلك أمرهم، وحفظهم به ما كانوا أحياء. قال: فأقام ذو القرنين عندهم حتى قبضه الله عزّ وجل، ولم تطل مدّة إقامته فيهم. قال وهب: عاش منذ بعثه الله تعالى الى أن قبض خمسائة عام. وقال غيره: أكثر من ذلك. وقد ذكر فى المعمّرين. وقيل: إنه عاش ألف وستمائة وخمسين سنة ومات فى حياة أمه. وقيل: إنه أدرك إبراهيم الخليل واجتمع معه وأركبه من دوابّه. حكاه الأزرقىّ وأبو عبيد البكرىّ. والله أعلم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 318 الباب الثانى من القسم الرابع من الفنّ الخامس فى أخبار ملوك الأصقاع، وهم ملوك الهند والصين والترك وجبل الفتح وملوك مصر ذكر أخبار ملوك الهند قال المسعودى فى مروج «1» الذهب: ذكر جماعة من أهل النظر والبحث الذين واصلوا البحث والعناية بتأمّل شأن هذا العالم [وبدئه «2» ] أنّ الهند كانت فى قديم الزمان الفرقة التى فيها الصلاح والحكمة، وأنه لمّا تجيّلت الأجيال وتحزّبت الأحزاب حاولت الهند أن تضمّ المملكة وتستولى على الحوزة وتكون الرياسة فيها. قال كبراؤهم: نحن كنّا أهل البدء وفينا التناهى، ولنا الغاية والصدر والأنتهاء، ومنّا سرى الأب الى الأرض، فلا شاقّنا أحد ولا عاندنا ولا أراد بنا الاغتماص «3» إلّا أتينا عليه وأبدناه أو يرجع «4» الى طاعتنا. فأجمعت على ذلك رأيها ونصبت لها ملكا، وهو «البرهمن» الأكبر والملك الأعظم، واليه تنسب طائفة البراهمة بالهند، لا الى إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلّم. وهذا «البرهمن» هو الإمام المقدّم فيهم الذى ظهرت فى أيامه الحكمة وتقدّمت العلماء، وأمر باستخراج الحديد من معادنه، وضربت فى أيامه السيوف والخناجر وكثير من أنواع السلاح وآلات القتال، وشيّد الهياكل ورصّعها بالجواهر النفيسة المشرقة، وصوّر فيها الأفلاك والبروج الاثنى عشر برجا والكواكب، وبيّن بالصورة الجزء: 14 ¦ الصفحة: 319 كيفيّة العالم، وأرى «1» بالصورة أيضا كيفيّة أفعال الكواكب فى هذا العالم وإحداثها للأشخاص الحيوانيّة من الناطقة وغيرها، وبيّن حال المدبّر الأعظم الذى هو الشمس، وبرهن على ذلك كلّه وقرّبه إلى عقول العوامّ «2» وأذهانهم ففهموه، وغرس فى نفوس الخواصّ دراية ما هو أعلى من ذلك، وأشار إلى المبدئ الأوّل المعطى لسائر الموجودات [وجودها الفائض عليها بجوده «3» ] . فانقادت له الهند، وأراهم وجه مصالح الدنيا وأخصبت بلادهم. وجمع الحكماء فى أيامه كتاب «السند هند «4» » ، وتفسيره دهر الدهور «5» ، ومنه فرّعت الكتب، ككتاب الأزجهير والمجسطى، وفرّع [من الأزجهير الأركند ومن المجسطى «6» ] كتاب بطلميوس، ثم عمل منها بعد ذلك الزّيجات. وأحدثوا التسعة الأحرف المحيطة بالحساب الهندىّ. وكان البرهمن هذا أوّل من تكلم فى أوج «7» الشمس، وذكر أنه يقيم فى كلّ برج ثلاثة آلاف سنة، ويقطع الفلك فى ستّة وثلاثين ألف سنة، الى غير ذلك من هذا الفنّ. وكان ملك البرهمن الى أن هلك ثلاثمائة سنة وستا وستين سنة، وولده يعرفون بالبراهمة. والهند تعظّمهم الى وقتنا هذا، وهم أعلى أجناسهم وأشرفهم، وهم لا يتغذّون بشىء من الحيوانات. وفى رقاب النساء والرجال منهم خيوط صفر يتقلّدون بها كحمائل السيوف، تفرّق بينهم الجزء: 14 ¦ الصفحة: 320 وبين غيرهم من أنواع الهند. وقد تنوزع فى البرهمن، فمنهم من زعم أنه آدم وأنه رسول من الله الى الهند، ومنهم من زعم أنه كان ملكا، على حسب ما قدّمناه وهو الأشهر. ولمّا هلك البرهمن جزعت عليه الهند جزعا شديدا، وملّكت عليها ولده الأكبر. ذكر تنصيب ابن البرهمن وهو الباهبود «1» وكان ولىّ عهد أبيه من بعده. فسار فيهم سيرة أبيه وأحسن النظر إليهم، وزاد فى بناء الهياكل، وقدّم الحكماء ورفع من مقدارهم وزاد فى مراتبهم، وحثّهم على تعليم الناس الحكمة وبعثهم على طلبها. وكان ملكه الى أن هلك مائة سنة. وفى أيامه عمل النّرد ولعب به، وجعل ذلك مثالا للمكاسب، وأنها لا تنال بالكيس ولا بالحيل فى هذه الدنيا، وأن الرزق لا يتأتّى فيها بالحذق. وذكر أن أردشير بن بابك أوّل من وضع النّرد ولعب بها، وأرى تقلّب الدنيا بأهلها واختلاف أمرها. وجعل بيوتها أثنى عشر بعدد الشهور، وجعل مهاركها «2» ثلاثين بعدد أيام الشهر، والفصوص أمثلة للقدر وتقلبه بأهل الدنيا وأن الانسان يلعب بها فيبلغ بإسعاد القدر له فى مراده بها ما يريد، وأن الحازم الفطن لا يتأتّى له ما يتأتّى لغيره اذا لم يسعده القدر، وأن الأرزاق لا تنال فى هذه الدنيا إلا بمقادير. ثم ملك بعده رامان «3» ، فكان ملكه نحوا من خمسين ومائة سنة. قال: وله سير وأخبار وحروب مع ملوك فارس وملوك الصين. ثم ملك بعده فور، وهو الذى قتله الإسكندر بن فيلبس اليونانىّ مبارزة. وكان ملكه الى أن قتل أربعين ومائة سنة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 321 ثم ملك بعده تسام «1» ، وهو الذى وضع كتاب كليلة ودمنة الذى نقله ابن المقفّع. وكان ملكه مائة وعشر سنين «2» ، وقيل غير ذلك. ثم ملك بعده بلهيت. وفى أيامه صنعت الشّطرنج فقضى بلعبها على النّرد، وبيّن الظفر الذى يناله الحازم والنكبة التى تلحق الجاهل وحسب حسابهما، ورتّب لذلك كتابا للهند يتداولونه بينهم، ولعب بها مع حكمائه. وكانت مدّة ملكه الى أن هلك نحوا من ثمانين سنة، وفى بعض النسخ أنه ملك ثلاثين ومائة سنة. ثم ملك بعده كوش «3» ، فأحدث للهند آراء فى الديانات على حسب ما رأى من صلاح الوقت، وما يحتمله أهل العصر من التكليف، وخرج عن مذاهب من سلف. وكان فى مملكته وعصره سندباد، وله كتاب الوزراء السبعة والمعلم والغلام وامرأة الملك، وهو الكتاب المترجم بكتاب السندباد. وعمل لهذا الملك الكتاب الأعظم فى معرفة العلل والأدواء والعلاجات وأشكال الحشائش وصفتها. وكان ملك هذا الملك الى أن هلك عشرين ومائة سنة. ولمّا هلك اختلفت الهند فى آرائها فتحزّبت الأحزاب وتجيّلت الأجيال، وانفرد كل رئيس بناحيته، فملّك على أرض السند ملك، وعلى أرض القّنوج ملك، وعلى أرض قشمير ملك. فكانت مدّة اجتماع الكلمة ببلاد الهند على ملك واحد على هذا الحكم نحوا من ألف سنة وستّ وستين سنة، وعلى القول الآخر ألف سنة ومائة سنة وست عشرة سنة. وعدّة ملوكهم سبعة ملوك. والله تعالى أعلم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 322 وملك بعد كوش بمدينة المانكير وهى الحوزة الكبرى ملك يسمّى البلهرا. قال المسعودىّ: وأرض الهند أرض متّسعة فى البرّ والبحر والجبال، وملكهم يتّصل بملك الزّنج وهى دار مملكة المهراج. وهذه المملكة فرز بين مملكة الهند والصين. قال: ومن عادة الهند أنها لا تملّك الملك حتى يبلغ عمره أربعين سنة، ولا تكاد ملوكهم تظهر لعوامّهم إلّا فى كل برهة معلومة من الزمان. ويكون ظهور الملك للنظر فى أمور الرعيّة. وقال أيضا: رأيت فى بلاد سرنديب» ، وهى جزيرة من جزائر البحر اذا مات ملكهم صيّروه على عجلة صغيرة البكر، وشعره ينجّر على الأرض، وامرأة بيدها مكنسة تحثو التراب على رأسه وتنادى: أيها الناس، هذا ملككم بالأمس قد ملككم وجاز فيكم أمره قد صار الى ما ترون من ترك الدنيا، وقبض روحه ملك الملوك الحىّ القديم الذى لا يموت، فلا تغترّوا بالحياة بعده، وكلام هذا معناه من الترهيب والتزهيد فى هذا العالم. ويطاف به فى جميع شوارع المدينة وهو كذلك؛ ثم يفصل بأربع قطع وقد هيّئ له الصندل والكافور وسائر أنواع الطّيب ويحرق بالنار ويذرّى رماده فى الرياح. قال: وكذلك فعل أكثر أهل الهند بملوكهم وخواصّهم لغرض يذكرونه. قال: والملك مقصور فى أهل بيت لا ينتقل منهم الى غيرهم. وكذلك بيوت الوزراء والقضاة وسائر أرباب المراتب، تتوارث مناصبهم ولا تغيّر ولا تبدّل. وعندهم أنّ ملكهم متى شرب الشراب فقد استحق الخلع. والله الهادى. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 323 ذكر أخبار ملوك الصين قال أبو الحسن علىّ بن عبد الله المسعودىّ فى كتابه المترجم بمروج الذهب «1» : لمّا قسم فالغ «2» بن عابر بن أرفخشذ بن سام بن نوح الأرض بين ولد نوح سار ولد عامور «3» بن توبل «4» بن يافث بن نوح يسرة المشرق، فكان منهم أجناس الترك. وسار الجمهور من ولد عامور «5» على ساحل البحر حتى انتهوا الى أقاصيه من بلاد الصين، فتفرّقوا فى تلك البقاع والبلاد وقطنوها وعمّروها، وكوّروا الكور، ومصروا الأمصار، ومدّنوا المدن، واتخذوا للملك مدينة عظيمة سمّوها إيقو «6» ، وبينها وبين ساحل البحر الحبشىّ، وهو بحر الصين مسيرة ثلاثة أشهر، مدن وعمائر متصلة. فكان أوّل من تملّك عليهم فى هذه الديار نسطيرطاس «7» بن ماعور «8» بن بزنج «9» بن عامور «10» . قال: ولمّا ملك فرّق أهله فى تلك الديار، وشقّ الأنهار، وغرس الأشجار، وطعّم الثمار، وقتل السباع. وكانت مدّة ملكه ثلاثمائة سنة ونيّفا وهلك. فقام بالأمر بعده ولده عرون بن نسطيرطاس، فجعل جسد أبيه فى تمثال من الذهب الأحمر جزعا عليه وتعظيما له، وأجلسه على سرير من الذهب مرصّع بالجوهر، وجعل مجلسه دونه، وسجد له وهو فى جوف ذلك التمثال، وسجد معه أهل مملكته، وفعل ذلك فى كل نهار فى طرفيه. وكانت مدّة ملكه بعد أبيه نحوا من مائتى سنة وخمسين سنة ثم هلك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 324 فملك بعده ابنه عبيرون «1» بن عرون. ولمّا ملك جعل جسد أبيه عرون فى تمثال من الذهب ونصبه دون مرتبة جدّه، وكان يبدأ بالسجود لجدّه ثم يسجد لأبيه، وساس الرعيّة بأحسن سياسة، وساواهم فى جميع أمورهم، وشملهم بعدله، وكثر النسل، وأخصبت الأرض. وكان ملكه الى أن هلك مائتى سنة. ولمّا مات ملك بعده ولده عثينان «2» بن عبيرون. قال: ولمّا ملك جعل جسد أبيه فى تمثال من الذهب، وجرى فى أمره على ما سلف من عادتهم فى السجود والتعظيم. وطالت مدّته فى الملك، واتسعت مملكته حتى اتصلت بلاده ببلاد الترك من بنى عمه. واتّخذ فى أيامه كثير من المهن مما لطف فى الرقة من الصنائع، وعاش أربعمائة سنة ثم هلك. فملك بعده ابنه حرانان «3» بن عثينان. قال: ولما ملك جرى فى جسد أبيه على عادتهم، ثم أمر باتّخاذ الفلك وحمل فيها الرجال، وحمل معهم لطائف بلاد الصين وسفّرهم نحو بلاد الهند والسند والى إقليم بابل وسائر الممالك مما قرب وبعد فى البحر. وأهدى الى الملوك الهدايا العجيبة والتحف النفيسة. وأمر أصحابه الذين سفّرهم أن يجلبوا إليه ما فى كل بلد من الطرائف والتحف والمأكول الذى لا يوجد فى بلاده، والمشروب والغروس وأصناف الأقمشة والأمتعة وغير ذلك. وأمرهم أن يتعرّفوا سياسة كلّ ملك، وملّة كل أمة وشرائعها ونهجها الذى هى عليه، وأن يرغّبوا الناس فيما فى بلادهم من الجواهر والطّيب والآلات. فتفرّقت تلك المراكب فى البلاد وفعلوا ما أمرهم به، فلم يردوا على مملكة من الممالك إلّا أعجبوا بهم واستظرفوا ما معهم. فأنشأت الملوك المحيطة ممالكهم الجزء: 14 ¦ الصفحة: 325 بالبحار السفن وجهّزت نحو الصين، وحملوا إليهم ما ليس عندهم، وكاتبوا ملكهم وكافئوه على ما كان قد هاداهم به من تحف بلاده، فعمرت بلاد الصين، واستقامت أمور مملكته الصين. فكانت مدّة حياته فى الملك نحوا من مائتى سنة وهلك، فجزع أهل مملكته عليه وحزنوا حزنا شديدا، وأقاموا النياحة عليه شهرا. وملك بعده ابنه توتال «1» بن حرانان. قال: ولما ملك جعل جسد أبيه فى تمثال من الذهب، وسلك فيه سنّة من تقدّمه من آبائه، واستقام أمره، وأحدث من السّنن المحمودة ما لم يحدثه أحد من الملوك قبله. وقال لأهل مملكته: إنّ الملك لا يثبت إلا بالعدل لأنه ميزان البارى، وإنّ من العدل الزيادة فى الإحسان مع الزيادة فى العمل. وخصّ وشرّف وتؤج ورتّب الناس فى رتبهم، ووقفهم على طرائفهم. وخرج يرتاد موضعا يبنى فيه هيكلا، فوافى موضعا عامرا بالنبات، حسن الاعتمام بالزهر، تخترقه المياه. فحطّ الهيكل هناك. وجلبت له أنواع الأحجار المختلفة الألوان، فشيّد الهيكل وجعل على أعلاه قبّة، وجعل لها مخارق للهواء متساوية. وجعل فى الهيكل بيوتا لمن أراد الانفراد للعبادة. فلمّا فرغ من الهيكل نصب فى أعلاه تلك التماثيل التى فيها أجسام من سلف من آبائه، وقال: فى ترك ذلك على ما هو عليه خروج عن حدّ الحكمة، ويكون ذلك الى غير غاية ونهاية. وأمر بتعظيم تلك الأجساد التى جعلها فى أعلى القبّة. ثم جمع الخواصّ من أهل مملكته وأخبرهم أنّ من رأيه أن يضمّ الناس الى ديانة يرجعون إليها فيجتمع الشمل ويتساوى النظام، وقال: إنه متى عدم الملك الشريعة لم يؤمن عليه الخلل، ودخول الفساد والزلل؛ فرتّب لهم سياسة وشريعة «2» وفرائض، ورتّب لهم قصاصا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 326 للنفوس والأعضاء، وقاعدة تستباح بها الفروج وتصحّ بها الأنساب. وجعل مما رتّبه وقرّره لوازم ونوافل، وأوجب عليهم صلوات لخالقهم تقرّبا الى معبودهم [منها «1» ] إيماء لا ركوع فيها ولا سجود [فى أوقات من الليل والنهار معلومة، ومنها بركوع وسجود «2» ] فى أوقات من السنين وفى شهور محدودة. ورسم لهم أعيادا، وأوجب على الزّناة منهم حدودا، وعلى من أراد من نسائهم البغاء جزية مقرّرة، وألّا يستبحن بالنكاح وقتا من الأوقات، وإن أقلعن عما كنّ عليه [تكف الجزية عنهنّ «3» ] . وما يكون من أولادهنّ ذكورا «4» يكونون للملك جندا وعبيدا، وما يكون من أولادهنّ إناثا فلأمهاتهنّ ويلحقن بصنعتهنّ. وأمر بقرابين للهياكل ودخن وأبخرة للكواكب، وجعل لكل كوكب منها دخنا «5» يتقرّب إليه بها معمولة من أنواع الطّيب والعقاقير. وأحكم لهم جميع الأمور، فاستقامت أيامه وكثر النسل. فكانت مدّة حياته نحوا من مائة وخمسين سنة ثم مات، فجزعوا عليه جزعا عظيما، وجعلوه فى تمثال من الذهب ورصّعوه بالجوهر وبنوا له هيكلا عظيما، وجعلوا فى أعلاه سبعة أنواع من الجوهر على ألوان الكواكب السبعة وأشكالها، وجعلوا يوم وفاته صلوات وعيدا يجتمعون فيه عند [ذلك «6» ] الهيكل، وصوّروا صورته وذكروا سيرته فى لوح من الذهب، وجعلوه فى أعلى الهيكل من حيث تراه الأبصار ليكون ذلك مثالا لمن يرد بعده فى السياسة ونهج السيرة وصوّروا صورته على أبواب المدينة. وعلى الدنانير والفلوس والثياب. وأكثر أموالهم الفلوس الصّفر والنّحاس. قال: واستقرّت هذه المدينة دار ملك الصين وهى مدينة إيقو «7» . قال: ولهم مدينة عظيمة الجزء: 14 ¦ الصفحة: 327 نحو ما يلى مغرب الشمس من أرضهم يقال لها مدو، وتلى بلاد التّبّت. والحرب بين أهل مدو وبين أهل بلاد التّبّت سجال. ولم تزل الملوك ممن طرأ بعد هذا الملك أمورهم منتظمة، وأحوالهم مستقيمة، والخصب والعدل لهم شامل، والجور فى بلادهم معدوم، يقتدون بما نصب لهم تونال من الأحكام. وحروبهم على عدوّهم قائمة، وثغورهم مشحونة، والرزق على الجنود جار، والتجّار يختلفون اليهم فى البرّ والبحر من كل بلد. ودينهم دين من سلف من آبائهم، وهى ملّة تدعى السّمنية «1» ، [عباداتهم «2» ] نحو من عبادات قريش قبل الاسلام، يعبدون الصّور ويتوجهون نحوها بالصلوات. فاللبيب فيهم يقصد بصلاته الخالق عزّ وجل، ويقيم التمثال من الأصنام وغيرها مقام قبلة. والجاهل ومن لا علم له يشرك هذه التماثيل با [لاهية «3» ] الخالق ويعتقدهما «4» جميعا، وأنّ عبادتهم الأصنام تقرّبهم الى الله زلفى، وأنّ منزلتهم فى العبادة تنقص عن البارئ لجلالته وعظمته وسلطانه، وأنّ عبادتهم لهذه الأصنام طاعة له ووسيلة، الى أن ظهرت فى أهل الصين آراء ونحل حدثت من مذاهب الثّنويّة «5» وأهل الدهر. وقد كانوا قبل ذلك فى الآراء وعبادة التماثيل على حسب ما عليه عوامّ الهند وخواصّهم، فتغيّرت أحوالهم وبحثوا وتناظروا، إلّا أنهم ينقادون فى جميع أحكامهم الى ما نصب لهم من القاعدة التى قدّمناها. قال: وملكهم متصّل بملك الطّغرغر «6» . وكان اعتقاد الجزء: 14 ¦ الصفحة: 328 الطّغرغر القول بإله النور والظّلمة، وكانوا قبل ذلك جاهليّة جهلاء، سبيلهم فى الاعتقاد سبيل أنواع الترك، الى أن وقع إليهم شيطان من شياطين المانيّة «1» ، فزخرف لهم كلاما يريهم فيه تضادّ هذا العالم وتنافيه من موت وحياة وصحّة وسقم وغنى وفقر وضياء وظلام واجتماع وافتراق واتصال وانفصال وشروق وغروب ووجود وعدم وليل ونهار وغير ذلك من سائر المتضادّات، وذكر لهم أنواع الآلام المعترضة لأجناس الحيوان الناطق والصامت، وما يعرض للاطفال والبله والمجانين، وأنّ البارى غنىّ عن إيلامهم، وأراهم أنّ هناك ضدّا شديدا دخل على الخير الفاضل فى فعله وهو الله، تعالى الله عما يقولون علوّا كبيرا، فاجتذب بذلك عقولهم ودانوا به. فإذا كان ملك الصين سمنىّ المذهب يذبح الحيوانات، فتكون الحرب بينه وبين ملك الترك قائمة، وإذا كان مانىّ المذهب كان الأمر بينهم «2» مشاعا. قال: وملوك الصين ذوو آراء ونحل، إلّا أنهم مع اختلاف أديانهم غير خارجين عن قضيّة العقل وسنن الحق فى نصب القضاة والأحكام، وانقياد الخواصّ والعوامّ الى ذلك. قال: وأهل الصين شعوب وقبائل كشعوب العرب وأفخاذها، ولهم مراعاة لحفظ أنسابهم. وينتسب الرجل منهم الى خمسين أبا وأكثر الى أن يتصل بعامور «3» . ولا يتزوّج «4» أهل كل فخذ إلا من فخذهم، ويزعمون أنّ فى ذلك صحة النسل وقوام البنية، وأنّ ذلك أصحّ للبقاء وأتمّ للعمر. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 329 قال المسعودىّ: ولم تزل أمور الصين مستقيمة فى العدل على حسب ما جرى به الأمر فيما سلف من ملوكهم الى سنة أربع وستين ومائتين؛ فإنه حدث فى ملك الصين أمر زال به النظام وانتقض به حكم شرائعهم ومنع من الجهاد. وكان سبب ذلك أنّ خارجيّا خرج ببلد من مدن الصين وهو من غير بيت الملك، يقال له ياسر، شرّير. وكان فى ابتداء أمره يطلب الفتوّة، ويجتمع اليه أهل الدعارة والشرّ، فلحق الملوك وأرباب التدبير غفلة عنه لخمول ذكره، وأنه ممن لا يبالى به؛ فاشتدّ أمره، ونما ذكره، وكثر عتوّه، وقويت شوكته، وقطع أهل الشرّ المسافات نحوه. فسار من موضعه وشنّ الغارات، ولم يزل كذلك حتى نزل مدينة خانقو «1» ، وهى المدينة العظيمة. قال: وهى على نهر عظيم أكبر من دجلة أو نحوه، تدخله السفن التى ترد من بلاد البصرة وسيراف «2» وعمان «3» ومدن الهند وجزائر الزابج «4» . وبين هذه المدينة وبحر الصين مسيرة الجزء: 14 ¦ الصفحة: 330 ستة أيام أو سبعة، وفيها خلائق من الناس مسلمون ونصارى ويهود ومجوس وغيرهم من أهل الصين. فقصد الخارجىّ هذه المدينة، والتقى بجيوش الملك فهزمها، وحاصر المدينة وفتحها واستولى على المملكة، وقتل من أهل مدينة خانقو خلقا لا يحصون كثرة، فأحصى من قتل فيها من المسلمين والنصارى واليهود غير أهل الصين فزادوا على مائتى ألف. ثم سار بجيوشه الى بلد بلد فافتتحه، وقصد مدينة إيقو، وهى دار المملكة، وهو فى ثلاثمائة ألف ما بين فارس وراجل. فخرج اليه الملك فى خواصّه فى نحو مائة ألف والتقيا، فكانت الحرب بينهم سجالا نحو شهر وصبرا جميعا، ثم كانت على الملك فانهزم، وأمعن الخارجىّ فى طلبه. وانحاز الملك الى مدينة فى أطراف أرض الصين. واستولى الخارجىّ على حوزة الصين واحتوى على دار الملك وخزائن الملوك السالفة وما أعدّوه للنوائب. وعلم أنه لا يقوم بالملك لأنه ليس من بيته، فأخرب البلاد واستباح الأموال وسفك الدماء. فكاتب ملك الصين ملك الترك أمرخان واستنجده، فأنجده ملك الترك بولده فى نحو أربعمائة ألف فارس وراجل. وقد استفحل أمر الخارجىّ فالتقى الفريقان، فكانت الحرب بينهما سجالا نحو سنة وقتل من الطائفتين ما لا يحصى كثرة، ثم فقد الخارجىّ فقيل قتل وأسر ولده وخواصّ أصحابه، وعاد ملك الصين الى دار ملكه. قال: والعامّة تسميّة «بغيور» «1» ، وتفسيره ابن السماء تعظيما له. والاسم الذى يخاطب به ملوك الصين طمغاجيان، ثم لقّبوا بعد ذلك ملكهم بالخان. قال: ولمّا كان من أمر هذا الخارجىّ الذى ذكرناه تغلّب صاحب كل عمل على عمله، وضعف ملك الصين عن مقاومتهم. وسنذكر إن شاء الله تعالى ما آل اليه ملك الصين عند ذكرنا لأخبار الدولة الجنكز خانيّة. والله أعلم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 331 ذكر أخبار ملوك الترك قال المسعودىّ: وقد تنازع الناس فى الترك وبدئهم، فذكر كثير منهم أن ولد عامور بن توبل بن يافث بن نوح لمّا قسم فالغ بن عابر بن أرفخشد بن سام بن نوح الأرض بين ولد نوح كما ذكرنا فى أخبار ملوك الصين ساروا يسرة المشرق، فقطع قوم منهم من ولد رعو على سمت الشمال وانتشروا فى الأرض، فصاروا عدّة ممالك، منهم الدّيلم «1» ، والجيل «2» ، والطّيلسان «3» ، والتتر «4» ، وفرغانة «5» ، وأهل جبل الفتح من أنواع الّلكز «6» واللان «7» والخزر «8» والأبخاز «9» والسّرير «10» وكمشك وسائر تلك الأمم المنتشرة فى ذلك الصّقع الجزء: 14 ¦ الصفحة: 332 والأرمن إلى طرابزندة «1» إلى بحر مانيطش «2» ونيطش «3» وبحر الخزر إلى البلغار «4» ومن اتصل بهم من الأمم. وعبر ولد عامور نهر بلخ، ويمّم بلاد الصين الأكثر منهم وتفرّقوا فى تلك البلاد وانتشروا فى تلك الديار، منهم الختّل وهم سكّان ختلان «5» وورسنان «6» والأسروشنة «7» ، والسّغد «8» وكانوا بين بخارى وسمرقند «9» ، ثم الفراغنة والشاش «10» وإسپيجاب «11» وأهل بلاد الفاراب «12» ، فبنوا المدن والضياع، وانفرد منهم ناس غير هؤلاء فسكنوا البوادى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 333 وهم الترك الخزلج «1» والتّغزغز وهم أصحاب مدينة كوشان «2» ، وهى مملكة بين بلاد خراسان والصين. قال: ومن الترك الكيماكية «3» والبرسخانية «4» والغزيّة «5» والجفرية «6» . قال: وأشدّهم بأسا الغزّيّة، وأحسنهم صورا الخزلجيّة، وكانوا على بلاد فرغانة والشاش وما يلى ذلك الصّقع. قال: وفيهم كان الملك، ومنهم خاقان الخوّاقين، وكان ملكه يجمع سائر ممالك الترك وينقاد إليه ملوكها. قال: ولحق فريق من ولد عامور بتخوم الهند، فأثّرت فيهم تلك البقاع فصارت ألوانهم خلاف ألوان الترك ولحقوا بألوان الهند. ولهم حضر وبواد، وسكن فريق منهم بلاد التّبّت وملّكوا عليهم ملكا وكان ينقاد إلى ذلك الخاقان. فلمّا زال ملك خاقان سمّى أهل التّبّت ملكهم بخاقان تشبيها بملوك الترك. ذكر جبل الفتح وما عليه من الملوك والأمم قال المسعودىّ: وأمّا جبل الفتح فهو جبل عظيم اشتمل على كثير من الممالك والأمم، وفيه اثنتان وسبعون أمّة، لكل أمّة ملك ولغة تخالف لغة الأخرى. وهو ذو شعاب وأودية، ومدينة الباب والأبواب على شعب من شعابه، وهى التى بناها كسرى. وعلى أحد شعاب هذا الجبل بحر الخزر مما يلى الباب والأبواب، ومملكة الجزء: 14 ¦ الصفحة: 334 شروان، ويلى هذه المملكة مملكة الأرّان «1» ، وملكها يدعى الأرّان شاه. ومنها مملكة الموقانية «2» ، ومملكة الّلكز، وهى أمّة لا تحصى كثرة تسكن أعالى هذا الجبل، وهؤلاء ينقادون إلى ملك شروان، ومنهم كفّار لا ينقادون اليه يقال لهم الدّودانيّة «3» جاهلية لا يرجعون إلى قبلة. ويلى ملك شروان ملك طبرستان. ومن ممالك الجبل مملكة حيزان «4» ، وهى داخلة فى جملة الخزر. ومملكة الخزر تلى مملكة حيزان، وبين مملكة الخزر ومدينة الباب ثمانية أيام. ومدينة الخزر اسمها سمندر «5» . ومن مدن الخزر أيضا مدينة إتل «6» بينها وبين سمندر سبعة أيام، وهى ثلاث قطع يقسمها نهر عظيم يرد من أعالى بلاد الترك، ويتشعب منه شعبة نحو بلاد البلغار ويصب فى بحر ما نيطش. وفى هذه المدينة [خلق «7» ] من المسلمين والنصارى واليهود والجاهلية. فالملك وحاشيته وجيشه من اليهود، والجاهلية بها من الصقالبة والروس، وهم يحرقون موتاهم ودوابّ من يموت وآلاته. واذا مات الرجل منهم أحرقت معه امرأته، وإن ماتت المرأة لا يحرق معها الزوج. وأما المسلمون فهم جند الملك، ويعرفون باللارسية، وهم ناقلة من بلاد خوارزم كانوا قد وفدوا الى هذه المملكة لقحط أصاب بلادهم فى صدر الجزء: 14 ¦ الصفحة: 335 الإسلام. فاستعان بهم الملك فأقاموا عنده على شروط، منها: أن يقيموا شعار الإسلام، وأن تكون الوزارة فيهم، وإنه اذا كانت الحرب بينه وبين المسلمين لا يحضرونها ويحاربون معه سائر الكفار. وبالمدينة قضاة سبعة: اثنان من المسلمين، واثنان للخزر يحكمان «1» بحكم التوراة، واثنان من النصارى يحكمان بالإنجيل، وواحد من الصقالبة والروس والجاهلية يحكم بالقضايا العقلية. واذا ورد ما لا علم لهم به من النوازل الكبار اجتمعوا الى قضاة المسلمين فتحاكموا اليهم وانقادوا لما توجبه الشريعة الإسلامية. وليس فى الملوك من عنده جند مرتزقة غير ملك الخزر. قال: وفى دار مملكة الخزر رجل يكون اسمه خاقان لا يركب ولا يظهر للخاصّة ولا للعامّة، ولا يستقيم ملك الخزر لملكهم إلّا أن يكون عنده خاقان معه فى قصره. فإذا أجدبت أرض الخزر أو نابت بلادهم نائبة أو حرب، جاءت الخاصّة والعامّة الى ملك الخزر وقالوا له: قد تطيّرنا بخاقان وبأيامه وتشاء منا به، فاقتله أو سلّمه إلينا نقتله، من غير أن يكون قد عمل ما يوجب ذلك؛ فتارة يقتله، وتارة يسلّمه اليهم فيقتلونه، وتارة يمانع عنه ويرقّ له. واذا قتل خاقان أقاموا غيره. قال: وللخزر زوارق يركبون فيها من نهر فوق المدينة يصبّ الى نهر يقال له برطاس، عليه أمم من الترك حاضرة داخلة فى جملة ملوك الخزر، وعمائرهم متّصلة بين مملكة الخزر والبلغر، يرد هذا النهر من نحو بلاد البلغر. ومن بلاد برطاس تحمل جلود الثعالب السّود التى يعرف وبرها بالبرطاسىّ. قال المسعودىّ: ويبلغ ثمن الجلد منها مائة دينار. وتلبسها الملوك وهو عندهم أغلى من السمّور «2» والفنك «3» ، والحمر دونها فى الثمن. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 336 قال: وفى أعالى نهر الخزر مصبّ يتّصل بخليج من نهر نيطش، وهو بحر للّروس لا يسلكه غيرهم، وهم على ساحل من سواحله. وهى أمّة عظيمة لا تنقاد الى ملك ولا الى شريعة. وفى أرض الرّوس معدن من الفضّة. قال: والرّوس أمم كثيرة «1» ، فمنهم جنس يقال لهم البوداغية «2» ، وهم الأكثر، يختلفون بالتجارات الى بلاد الأندلس والقسطنطينية ورومية. قال: وبين مملكة حيزان التى ذكرناها وبين الباب والأبواب أناس من المسلمين عرب لا يحسنون غير اللغة العربية فى آجام هنالك وغياض وأودية وأنهار، ولهم قرى قد سكنوها، وهم على نحو من ثلاثة أميال من مدينة الباب والأبواب. قال: ويلى مملكة حيزان مما يلى الفتح والسّغد ملك يقال له برزينان «3» مسلم، ويعرف بلد هذا الملك بالكرج. وكل ملك يلى هذه المملكة يدعى برزينان. ثم يلى مملكة برزينان ملك يقال له عينق «4» ، وهم يدينون بدين النصرانيّة، لا ينقادون لملك، ولهم رؤساء، وهم مهادنون لأهل مملكة اللّان. ثم يليهم مما يلى السور والجبل مملكة يقال لها زره كران. وتفسير ذلك بالعربية عمّال الزرد؛ لأن أكثرهم يعملون الزّرد والسيوف واللّجم والرّكب وغير ذلك من آلات الحديد. وهم ذوو أديان مختلفة من المسلمين والنصارى واليهود. وبلدهم بلد ممتنع خشن قد امتنعوا فيه ممن جاورهم من الأمم لخشونته. ثم يلى هؤلاء ملك السرير «5» الجزء: 14 ¦ الصفحة: 337 ويدعى قبلان شاه يدين بالنصرانية. ودار مملكته تعرف بخندج «1» ، وله اثنتا عشرة ألف قرية يستعبد منهم من شاء. وبلده بلد منيع. وهو شعب من جبل الفتح. وهذا الملك يغير على الخزر ويستظهر عليهم. ثم يلى هذه المملكة اللّان. وملكها يقال له كركنداج «2» ، وهذا الاسم غالب على سائر ملوكهم. وكانوا جاهليّة ثم دانوا بالنصرانيّة، ثم رجعوا فيها بعد العشرين والثلاثمائة. وصاحب اللّان يركب فى ثلاثين ألف فارس. ثم يلى ملك اللان أمّة يقال لها كمشك. وتفسير هذا الاسم بالفارسية التّيه والصّلف. وهم بين جبل الفتح وبحر الروم. وهى تنقاد الى دين المجوسيّة. قال: وليس فى الأمم التى ذكرناها أنقى أجسادا، ولا أصفى لونا، ولا أحسن رجالا، ولا أصبح نساء، ولا أقوم قدودا، ولا أرقّ أخصارا وأظهر أردافا، ولا أحسن شكلا من هذه الأمّة. ونساؤهم موصوفات بلذّة الخلوة. ولباسهنّ البياض والدّيباج الرومىّ والسّقلاطون «3» وغير ذلك من أنواع الديباج المذهب. واللّان تستظهر على هذه الأمّة إلّا أنها تمتنع منهم بقلاع لها على ساحل البحر. وتلى هذه الأمّة على ساحل البحر أمّة يقال لبلدهم السبع بلدان، وهى أمّة كثيرة ممتنعة بعيدة الدار. ويلى هذه الأمّة أمّة عظيمة يقال لها إرم [ذات العماد «4» ] ذو وخلق عجيب جاهليّة الآراء. ويلى هذه الأمّة صحراء نحو من مائة ميل، بين جبال أربعة، كل جبل منها ذاهب فى الهواء، فى وسط هذه الصحراء دارة مقوّرة كأنها خطّت ببركار «5» ، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 338 منحوتة فى حجر صلد، استدارتها نحو من خمسين ميلا قطع قائم كأنه حائط مبنىّ، يكوّن قعرها نحوا من ميلين، لا سبيل الى الوصول الى مستوى تلك الدارة، ويرى بها بالليل نيران كثيرة فى مواضع مختلفة، ويرى فيها بالنهار قرى وأنهار تجرى، وفيها ناس وبهائم إلّا أنهم يرون لطاف الأجسام لبعد قعر الموضع لا يدرى من أىّ الأمم هم. ولا سبيل الى صعودهم ولا الى النزول اليهم من جهة من الجهات. ووراء تلك الجبال خسفة أخرى قريبة القعر فيها آجام وغياض، فيها نوع من القرود منتصبة القامات مستديرة الوجوه، الأغلب عليها صور الناس وأشكالهم إلا أنهم ذوو شعور. قال: وربّما وقع فى النادر منها القرد اذا احتيل عليه فى اصطياده، فيكون فى نهاية الفهم والدراية. وربّما حمل الواحد منها الى الملوك فيعلّم القيام على رأسه بالمذبّة. ولهم خاصيّة بمعرفة المسموم من المآكل والمشارب. فإذا دنا الطعام منها شمّته ويلقى لها الشىء منه فإن أكلته أكله الملك، وإن امتنعت علم الملك أنّ ذلك مسموم. قال: وفيما بين بلاد الخزر وبين بلاد المغرب أمم أربع من الترك ترجع فى أنسابها الى أب واحد، وهم حضر وبدو، ذوو منعة وبأس شديد. ولكل أمّة منها ملك. ومسافة كل مملكة منها أيام، متّصلة ممالكهم بعضها ببحر نيطش. وتتّصل غاراتهم ببلاد رومية وما يلى بلاد الأندلس. وهى تستظهر على سائر من هنالك من الأمم. وبينهم وبين الخزر واللّان مهادنة، وبلادهم تتّصل بممالك الخزر. فالجيل الأوّل منهم يقال له نجا. ويليه بجعود «1» . ويليه بجناك؛ وهى أشدّ هذه الأمم الأربع بأسا، ويليه أنو جرذد «2» . وكانت لهم حرب مع الروم بعد العشرين والثلاثمائة. ويلى بلاد الّلان أيضا أمة يقال لها الأنجاز تدين بالنصرانية، وملك اللّان مستظهر عليهم وهم متّصلون بجبل الفتح. ثم يلى بلاد الأبخاز ملك الخزرية، وهم أمّة عظيمة منقادة الجزء: 14 ¦ الصفحة: 339 الى دين النصرانية تدعى خزران ولها ملك. قالوا: وكانوا يؤدّون الخراج الى صاحب ثغر تفليس. وتليهم أمّة يقال لها الصمصحيّة نصارى، ومنهم جاهليّة لا ملك لهم. ويليهم بين ثغر تفليس وقلعة باب الّلان مملكة يقال لها الصنباريّة «1» ، وملكهم يقال له كريشكوش «2» ، ينقادون الى النصرانيّة، ويزعمون أنهم من العرب من نزار بن معدّ. ثم يلى مملكة الصنباريّة مملكة شكى «3» وهم نصارى. ويليهم مملكة أخرى وهى مأوى الصعاليك والذّعّار، ثم تتصل بمملكة الموقانيّة وهى التى على ساحل بحر الخزر. والله أعلم بالصواب. تم الجزء الرابع عشر، ويليه الجزء الخامس عشر وأوّله: ذكر أخبار مصر كمل طبع «الجزء الرابع عشر من نهاية الأرب فى فنون الأدب» بمطبعة دار الكتب المصرية فى يوم الثلاثاء 27 محرّم سنة 1362 (2 فبراير سنة 1943) محمد نديم ملاحظ المطبعة بدار الكتب المصرية (مطبعة الدار 82/1938/2500) . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 340 فهرس الجزء الخامس عشر من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب .... صفحة ذكر أخبار مصر ومن ملكها من الملوك قبل الطوفان وبعده، وما بنوه من المدن، وما أقاموه من المنارات والأهرام والبرابى وغير ذلك من المبانى، وما وضعوه بها من العجائب والطلّسمات والحكم، وما أثاروا من المعادن وما دبّروه من الصنعة، وما شقّوه وأنبطوه من الأنهار وغير ذلك من عجائبها وأخبارها 1 ملوكها قبل الطوفان 1 ذكر خبر بناء الأهرام وسبب بنائها وشىء من عجائبها 22 ذكر خبر كهّان مصر وحالهم مع الملوك 40 ذكر من ملك مصر بعد الطوفان من الملوك 43 ذكر خبر هاروت وماروت 52 ذكر أخبار أشمون ومن ملك من بنيه 69 ذكر أخبار أتريب الملك 75 ذكر أخبار صا بن قبطيم بن مصريم بن بيصر بن حام بن نوح عليه السّلام 81 ذكر خبر عون وما فعله فى غيبة الوليد وخبر المدينة التى بناها 115 ذكر عود الوليد إلى مصر وهرب عون الى مدينته 119 ذكر نبذة من أخبار من ملك مصر بعد غرق فرعون 138 الجزء: مقدمةج 15 ¦ الصفحة: 1 الباب الثالث من القسم الرابع من الفنّ الخامس فى أخبار ملوك الأمم من الأعاجم؛ وهم ملوك الفرس الأول، وملوك الطوائف من الفرس، والملوك الساسانية واليونان والسريان والكلوانيين والروم والصقالبة والنوكبرد والإفرنجة والجلالقة وطوائف السودان 142 ذكر أخبار ملوك الفرس وهم الفرس الأول 142 ذكر أخبار بختنصّر 158 ذكر أخبار ملوك الطوائف 164 ذكر أخبار الملوك الساسانية 166 ذكر قطعة من سير كسرى أنو شروان وسياسته 195 ذكر خطبة أنو شروان 207 ذكر حيلة لأبرويز على ملك الروم 223 ذكر سبب هلاك أبرويز وقتله 226 ذكر أخبار ملوك اليونان وأنسابهم 234 ذكر شىء من مكايد الإسكندر وحيله فى حروبه 238 ذكر شىء من أخبار الإسكندر وما اتفق له مع ملكى الهند والصين 243 كلام الحكماء عند وفاة الإسكندر 252 ذكر أخبار ملوك السريان 255 ذكر أخبار ملوك الكلوانيين وهم ملوك النبط ملوك بابل 258 ذكر أخبار ملوك الروم وأنسابهم 263 ذكر خبر أصحاب الكهف 266 ذكر أخبار ملوك الروم المتنصّرة وهم ملوك القسطنطينية 273 ذكر ملوك الروم بعد ظهور الإسلام 279 ذكر أخبار ملوك الصقالبة والنوكبرد 284 ذكر خبر ملوك الإفرنجة والجلالقة 285 الجزء: مقدمةج 15 ¦ الصفحة: 2 ذكر طوائف السودان وشىء من أخبارهم ونسبهم 287 الباب الرابع من القسم الرابع من الفنّ الخامس فى أخبار ملوك العرب ويتصل بهذا الباب خبر سيل العرم 291 ذكر أخبار ملوك قحطان 291 ذكر خبر سيف بن ذى يزن وعود الملك الى حمير 309 ذكر أخبار ملوك الشام من ملوك قحطان 311 ذكر أخبار ملوك الحيرة وهم من آل قحطان 315 ذكر خبر سدّ مأرب وسيل العرم 332 الباب الخامس من القسم الرابع من الفنّ الخامس فى أيام العرب ووقائعها فى الجاهلية 338 ذكر واقعة طسم وجديس 339 ذكر حروب قيس فى الجاهلية. يوم منعج لغنىّ على عبس 344 يوم النفرات لبنى عامر على بنى عبس 346 يوم بطن عاقل لذبيان على بنى عامر 348 يوم رحرحان لعامر على تميم 349 يوم شعب جبلة لعامر وعبس على ذبيان وتميم 350 يوم الحريبة وفيه قتل الحارث بن ظالم 353 ذكر حرب داحس والغبراء، وهى من حروب قيس 356 يوم المريقب لبنى عبس على بنى ذبيان 358 يوم ذى حسى لذبيان على عبس 359 يوم اليعمرية لعبس على ذبيان 360 يوم الهباءة لعبس على ذبيان 360 يوم الفروق لبنى عبس 362 يوم قطن 363 الجزء: مقدمةج 15 ¦ الصفحة: 3 يوم غدير قلبى 363 يوم الرقم لغطفان على بنى عامر 364 يوم النتاءة لعبس على بنى عامر 364 يوم شواحط لبنى محارب على بنى عامر 365 يوم حوزة الأوّل لسليم على غطفان 365 يوم حوزة الثانى 367 يوم ذات الإئل 368 يوم اللوى لغطفان على هوازن 369 يوم الظعينة بين دريد بن الصمة وربيعة بن مكدّم 370 يوم الصلحاء لهوازن على غطفان 373 ذكر حرب قيس وكنانة. يوم الكديد لسليم على كنانة 373 يوم فزارة لكنانة على سليم 374 يوم الفيفاء لسليم على كنانة 374 ذكر حرب قيس وتميم. يوم السؤبان لبنى عامر على بنى تميم 375 يوم أقرن لبنى عبس على بنى دارم 377 يوم المرّوت لبنى العنبر على بنى قشير 377 يوم دارة مأسل لتميم على قيس 378 أيام تميم على بكر. يوم الوقيط 379 يوم النباح وثيتل لبكر على تميم 381 يوم زورود الثانى لبنى يربوع على بنى تغلب 383 يوم ذى طلوح لبنى يربوع على بكر 383 يوم الحائر وهو يوم ملهم لبنى يربوع على بنى بكر 385 يوم القحقح وهو يوم ماله لبنى يربوع على بكر 385 يوم رأس العين لبنى يربوع على بكر 386 الجزء: مقدمةج 15 ¦ الصفحة: 4 يوم العظالى لبنى يربوع على بكر 386 يوم الغبيط لبنى يربوع على بكر 388 يوم مخطط لبنى يربوع على بكر 389 يوم جدود 389 يوم سفوان 390 يوم نقا الحسن وهو يوم الشقيقة لبنى ضبة على بنى شيبان 391 أيام بكر على تميم. يوم الزويرين 391 يوم الشيطين لبكر على تميم 393 يوم صعفوق لبكر على تميم 393 يوم مبايض لبكر على تميم 394 يوم فيحان لبكر على تميم 395 يوم ذى قار الأوّل لبكر على تميم 395 يوم الحاجز لبكر على تميم 396 يوم الشقيق لبكر على تميم 396 ذكر حرب البسوس. وهى حرب بكر وتغلب ابنى وائل 396 ذكر مقتل كليب وائل 398 يوم النهى 400 يوم الذنائب 400 يوم واردات 401 يوم عنيزة 401 يوم قضة 402 يوم تحلاق اللمم 404 الكلاب الأوّل 406 يوم الصفقة وهو يوم الكلاب الثانى 407 الجزء: مقدمةج 15 ¦ الصفحة: 5 يوم طخفة 413 يوم فيف الريح 414 يوم زرود الأوّل 415 يوم غول الأوّل وهو يوم كنهل 416 يوم الجبابات 417 يوم الشعب 417 يوم غول الثانى 418 يوم الخندمة 418 يوم اللهيماء 419 يوم خزاز 420 يوم النسار 421 يوم ذات الشقوق 421 يوم خوّ 422 أيام الفجار- الفجار الأوّل 423 الفجار الثانى 424 الفجار الثالث وهو بين كنانة وهوازن 424 الفجار الآخر وهو بين قريش وكنانة كلها وبين هوازن 425 يوم شمظة وهو يوم نخلة من الفجار الآخر 427 يوم العبلاء 428 يوم شرب 428 يوم الحريرة 429 يوم عين أباغ 430 يوم ذى قار 431 الجزء: مقدمةج 15 ¦ الصفحة: 6 الجزء الخامس عشر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [ تتمة الفن الخامس في التاريخ ] [ تتمة القسم الرابع من الفن الخامس في أخبار الملوك ] [ تتمة الباب الثاني من القسم الرابع من الفن الخامس ] ذكر أخبار مصر ومن ملكها من الملوك قبل الطوفان وبعده، وما بنوه بها من المدن، وما أقاموه من المنارات والأهرام والبرابى وغير ذلك من المبانى، وما وضعوه بها من العجائب والطّلّسمات والحكم، وما أثاروا من المعادن وما دبّروه من الصّنعة، وما شقّوه وأنبطوه من الأنهار وغير ذلك من عجائبها وأخبارها فأمّا ملوكها قبل الطّوفان فقد ذكرهم إبراهيم بن القاسم الكاتب فى مختصر كتاب العجائب الكبير الذى ألّفه إبراهيم بن وصيف شاه. قال: أوّل من ملك مصر من الملوك قبل الطوفان نقراوس «1» ، ومعناه ملك قومه وعظيمهم. وذلك أن بنى آدم لمّا بغى بعضهم على بعض وتحاسدوا وتغلّب عليهم بنو قابيل تحمّل نقراوس «2» الجبّار ابن مصرايم بن براكيل بن زرابيل بن غرناب بن آدم فى نيّف وسبعين رجلا من بنى غرناب جبابرة، كلّهم يطلبون موضعا ينقطعون فيه من بنى آدم. فلمّا نزلوا على النيل ورأوا سعة البلد وحسنه أقاموا فيه وبنوا الأبنية، وقالوا: هذا بلد زرع؛ [وبنى نقراوس «3» مصر] وسمّاها باسم أبيه مصرايم ثم تركها «4» . وكان نقراوس الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1 جبّارا له أيد وبسطة، وكان مع ذلك كاهنا عالما، له معاون من الجنّ، فملك بنى أبيه ولم يزل مطاعا فيهم. وقد كان وقع إليه من العلوم التى كان زرابيل علّمها من آدم. قال: فهو وبنوه الجبابرة الذين بنوا الأعلام، وأقاموا الأساطين العظام، وعملوا المصانع، ووضعوا الطّلّسمات، واستخرجوا المعادن، وقهروا من ناوأهم من ملوك الأرض ولم يطمع طامع فيهم. وكل علم جليل فى أيدى المصريين إنما هو من فضل علم أولئك القوم، كان مرموزا على الحجارة. فيقال إن فليمون الكاهن الذى كان ركب مع نوح عليه السّلام فى السفينة هو الذى فسّرها لهم وعلمهم كتابتها، وسنذكر إن شاء الله تعالى خبر فليمون فى موضعه. قال: ثم أمرهم نقراوس حين استقرّ أمرهم ببناء مدينة فقطعوا الصخور والأحجار من الجبال، وأثاروا معادن الرصاص وبنوا مدينة وسمّوها أمسوس «1» ، وأقاموا بها أعلاما، طول كل علم مائة ذراع، وعمروا الأرض، وأمرهم ببناء المدائن والقرى، وأسكن أهل كل بيت ناحية من أرض مصر. وهم الذين حفروا النيل حتى أجروا ماءه اليهم، ولم يكن معتدل الحفر إنما كان يتسطح ويتفرّق فى الأرض. قال: ووجّه الى بلد النوبة جماعة حتى هندسوه وشقّوا منه أنهارا الى مواضع كثيرة من مدنهم التى بنوها، وشقّوا نهرا عظيما الى مدينتهم أمسوس يجرى فى وسطها وغرسوا عليه الغروس، فكثر خيرهم وعزّت أرضهم وتجبّر ملكهم. قال: وبعد مائة وعشرين سنة من ملكه أمر بإقامة الأساطين العظام وزبر عليها ذكر دخولهم البلد، وكيف نزلوا به، وحربهم لمن حاربوه من الجزء: 15 ¦ الصفحة: 2 الأمم. ثم أمر ببناء قبّة على أساطين مثبتة فى الرّصاص، طولها مائة ذراع، وجعل على رأسها مرآة من زبرجد أخضر، قطرها سبعة أشبار، ترى خضرتها على أمد بعيد. قال: وفى مصاحف المصريين أنه سأل الذى كان معه أن يعرّفه مخرج النيل، فحمله حتى أجلسه على جبل القمر خلف «1» خطّ الأستواء على البحر الأسود «2» الزّفتى، وأراه النيل كيف يجرى فوق ذلك البحر «3» الأسود مثل الخيوط حتى يدخل تحت جبل القمر، ثم يخرج الى بطائح «4» هناك. ويقال: إنه عمل بيت التماثيل هناك، وعمل فيه هيكلا للشمس. ورجع الى أمسوس فقسم البلد بين بنيه، فجعل لنقارس الجانب الغربى، ولسورب الجانب الشرقى، ولأبنه الصغير وهو مصرام مدينة سمّاها برسان «5» وأسكنه فيها، وأقام فيها أساطين وشقّ لها نهرا وغرس بها غروسا. وعمل بأمسوس عجائب كثيرة، منها صورة طائر على أسطوانة عالية، يصفر كل يوم مرّتين عند طلوع الشمس وعند غروبها صفيرا مختلفا، فيستدلّون به على ما يكون من الحوادث فيتأهّبون لها؛ ومخزن للماء المقسوم على جناتهم مائة وعشرين قسما لا يقدر أحد أن يحوز ما ليس له. وعمل وسط المدينة صنمين من حجر أسود، اذا تقدّم السارق لم يقدر على الزوال عنها حتى يسلك بينهما، [فإذا دخل بينهما أطبقا عليه فيؤخذ «6» ] . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 3 وله أعمال كثيرة سوى هذه. قال: وعمل فى برسان صورة [من] نحاس مذهب على منار عال لا تزال عليها سحب تظلّها، من استمطرها أمطرت عليه ماء، فهلكت فى الطوفان. وعمل على حدود بلادهم أصناما من نحاس مجوّف وملأها نارا وكبريتا وجلب اليها روحانيّة [النار «1» ] ، فإن قصدهم قاصد بسوء أرسلت تلك الأصنام من أفواهها نارا أحرقته. وكان حدّ بلادهم الى داخل الغرب مسافة أيام كثيرة عامرا كلّه بالقصور والبساتين، وكذلك فى المشرق الى البحر، ومن الصعيد الى بلاد علوة. «2» وعمل فوق جبال بطرس منارا يفور بالماء يسقى ما تحته من المزارع. وملكهم مائة وثمانين سنة. فلما مات لطّخوا جسده بالأدوية الممسكة، وجعلوه فى تابوت من ذهب، وعملوا له ناووسا مصفّحا بالذهب، وجعلوا معه كنوزا من أنواع الجواهر وتماثيل الزّبرجد، وكنزا من الصّنعة المعمولة، وأوانى الذهب، والطّلّسمات التى تدفع الهوامّ وغيرها، وزبروا عليه تاريخ الوقت. ولما مات ملك بعده ابنه نقارس بن نقراوس، فتجبّر وعلا أمره، وبنى مدينة يقال لها خلجة، «3» وعمل فيها جنّة صفّح حيطانها بصفائح الذهب والحجارة الملوّنة، وغرس فيها أصناف الفواكه والغروس الحسنة، وأجرى تحتها الأنهار، وأمر بإقامة الأساطين والأعلام، وركّب «4» عليها أصناف العقاقير والأدوية وجميع العلوم. وكان معه شيطان يعمل له التماثيل العجيبة. وهو أوّل من بنى بمصر هيكلا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 4 وجعل فيه صور الكواكب السبعة، وزبر على رأس كل كوكب محارته «1» وما يعمله من المنافع والمضارّ، وألبسه الثياب الفاخرة وأقام له كاهنا وسدنة. وخرج مغرّبا حتى بلغ البحر المحيط وعمل عليه أعلاما، وجعل على رأس كل علم أصناما تسرج عيونها بالليل كأنها مصابيح، ورجع على بلاد السودان الى النيل، وأمر ببناء حائط على جانب النيل، وجعل له أبوابا يخرج الماء منها. وبنى فى صحراء الغرب وراء الواحات ثلاث مدن على أساطين، وجعل شرفها من الحجارة الملوّنة التى تشفّ، وجعل فى كل ناحية منها ثلاث خزائن للحكمة، وهى أوّل عجائب الأرض، جعل الدخول الى هذه المدائن من الأساطين التى بنيت عليها. ففى إحدى هذه الخزائن صنم الشمس الذى هو أعظم أصنامهم، وهى معلّقة عليه فى بيت شرفها، «2» وعلى رأسه إكليل فيه كواكبها الثابتة. وفى إحداها «3» صنم للشمس رأسه رأس طاووس فى جسد إنسان من ذهب أزرق، وعيناه جوهرتان صفراوان، وهو جالس على سرير مغنطيس، وفى يده مصحف العلوم. وفى إحداها «4» صنم رأسه رأس إنسان وجسده جسد طائر، وصورة امرأة جالسة من زئبق معقود، لها ذؤابتان، وفى يدها مرآة وعلى رأسها صورة كوكب، وهى رافعة بالمرآة الى وجهه، ومطهرة فيها سبعة ألوان، من الماء السائل لا يختلط بعضها ببعض ولا يوارى بعضها بعضا، وصورة شيخ من حجر الفيروزج، وبين يديه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 5 صبية يعلّمهم، وهم من أصناف العقيق والجوهر. وفى الخزانة الثانية صورة هرمس [يعنى «1» عطارد] وهو مكبّ ينظر الى مائدة بين يديه من نوشادر على قوائم كبريت أحمر، وفى وسطها مثل الصّحفة من جوهر أحمر فيها دواء أخضر من الصنعة، وصورة عقاب من زمرّد أخضر عيناه من ياقوت أصفر، وبين يديه حيّة من فضّة قد لوت ذنبها على رجليه ورفعت رأسها كأنها تريد أن تنفخ عليه، وفى ناحية منها صورة المرّيخ راكبا على فرس وبيده سيف مسلول من حديد أخضر، وعمود من جوهر أخضر، عليه قبّة من ذهب فيها صورة المشترى، وقبّة [من أدرك «2» ] على أربعة أعمدة من جزع أزرق فى سقفها صورة الشمس والقمر متحاذبين فى صورة امرأة ورجل كأنهما يتحادثان، وقبة من كبريت أحمر فيها صورة الزّهرة على صورة امرأة ممسكة بضفيرتها وتحتها رجل من زبرجد أخضر، فى يده كتاب فيه علم من علومهم كأنه يقرأ فيه عليها «3» . وجعل فى كل خزانة من بقية الخزائن من العجائب ما لا يحدّ، وعلى باب كل مدينة طلّسمات تمنع من دخولها فى صور مختلفة لا يشبه بعضها بعضا، وفى كل مدينة من الجوهر النفيس والذهب والفضة والكبريت الأحمر والتّربة الصنعيّة فى البرانىّ الملوّنة، وصنوف الأدوية النفيسة المؤلّفة والسموم القاتلة. وعلّم كل باب من الأساطين بعلامة يعرف بها يصعد اليها من مسارب تحت الأرض. قال: وجعل بين «4» هذه المدائن الجزء: 15 ¦ الصفحة: 6 وبين مدينة خلجة، وهى التى عمل فيها الجنة، سبعة أميال الى الغرب، وبينها وبين الأخرى أربعة عشر ميلا، وبين الأخرى واحد وعشرون ميلا. وكان له من مدينته إلى هذه المدائن أسراب تحت الأرض يصل منها اليها، وكذلك من بعضها الى بعض. وعمل عجائب كثيرة أزالها الطوفان، وركبت هذه الأرض الرمال فأزالت طلّسماتها. قال: وملك نقارس مائة سنة وسبع سنين ثم هلك فعمل له ناووس، وجعل معه من الأشياء العجيبة ما يطول الأمر بذكره. ثم ملك بعده أخوه مصرام بن نقراوس، فبنى للشمس هيكلا من المرمر الأبيض وموّهه بالذهب، وجعل وسط الهيكل كالعرش «1» من جوهر أزرق عليه صورة الشمس من ذهب أحمر وأرخى عليها كلل الحرير الملوّن، وأمر أن يوقد عليها بطيّب الأدهان، وجعل فى الهيكل قنديلا من الزجاج الصافى، وجعل فيه حجرا مدّبرأ يضىء كما يضىء السراج وأكثر منه ضوءا، وأقام له سدنة، وعمل له سبعة أعياد فى السنة. وقيل: إن مصر سمّيت به. وتسمّى به مصرايم بن بيصر بن حام بن نوح بعد الطوفان لأنه وجد اسمه مزبورا على الحجارة. وكان فليمون الكاهن أخبرهم أخبار هؤلاء الملوك. وكان مصرام هذا قد ذلّل الأسد فى وقته فكان يركبها. وصحبه الروحانىّ الذى كان مع أبيه لما رأى من حرصه على لوازم الهياكل والقيام بأمور الكواكب، وأمره أن يحتجب عن الناس. وألقى على وجهه بسحره نورا عظيما لا يقدر أحد أن يتمكّن من النظر اليه. فادّعى أنه إله، وغاب عن الناس ثلاثين سنة، واستخلف عليهم رجلا من ولد غرناب وكان كاهنا. ويقال: إنّ مصرام ركب فى عرش وحملته الشياطين حتى انتهى الى وسط البحر الأسود، فعمل فيه القلعة الفضّة وجعل عليها صنمين من النحاس وزير عليها: أنا مصرام الجبّار، كاشف الأسرار، الغالب القهار، صنعت الجزء: 15 ¦ الصفحة: 7 الطّلّسمات الصادقة، وأقمت الصّور الناطقة، ونصبت الأعلام الهائلة على البحار السائلة، ليعلم من بعدى أنه لا يملك أحد ملكى، وكل ذلك فى أوقات السعادة. وكان قد عمل فى جنّته شجرة مولدة يؤكل منها جميع الفواكه، وقبّة من زجاج أحمر على رأسها صنم يدور مع الشمس، ووكّل بها شياطين إذا اختلط الظلام نادوا: لا يخرج أحد من منزله حتى يصبح وإلّا هلك، وكان أوّل من عمل له ذلك. وأمرهم أن يجتمعوا له، وجلس لهم فى مجلس عال مزيّن بأصناف الزينة وتجلّى لهم فى صورة هالتهم وملأت قلوبهم رعبا، فخرّوا على وجوههم ودعوا له. فأمر بإحضار الطعام والشراب فأكلوا وشربوا ورجعوا إلى مواضعهم ثم لم يروه بعد. وبلغ بكهانته ما لم يبلغه أحد من آبائه. ثم ملك بعده عنقام «1» الكاهن؛ فعدل فيهم، وعمل مدينة عجيبة قرب العريش جعلها لهم حرسا. وقيل: إنّ إدريس عليه السلام رفع فى زمانه. قال: ويحكى عنه أهل مصر حكايات كثيرة تخرج عن العقول. وكان قد رأى فى علمه كون الطوفان، فأمر الشياطين التى تصحبه أن تبنى له مكانا خلف خطّ الأستواء بحيث لا يلحقه الفساد، فبنى له القصر الذى فى سفح جبل القمر، وهو قصر النحاس الذى فيه التماثيل، وهى خمسة وثمانون تمثالا، يخرج ماء النيل من حلوقها وينصبّ الى بطيحة. ولمّا عمل له ذلك القصر أحبّ أن يراه قبل أن يسكنه، فجلس فى قبتّه وحملته الشياطين على أعناقها اليه. فلمّا رأى حكمة بنيانه وزخرفة حيطانه وما فيه من النقوش وصور الأفلاك والكواكب، وغير ذلك من صنوف العجائب- وكان يسرج بغير مصابيح، وتنصب فيه موائد يوجد عليها من كل الأطعمة ولا يدرى من يعملها، وكذلك الأشربة فى أوان، يستعمل منها ولا تنقص. وفى وسطه [بركة «2» ] الجزء: 15 ¦ الصفحة: 8 من ماء جامد الظاهر ترى حركته من وراء ما جمد منه، وأشياء كثيرة من هذا النوع وإن كانت تنبو عن العقول- أعجبه ما رأى، ورجع الى مصر فاستخلف ابنه عرناق وأوصاه بما يريده وقلّده الملك، ورجع الى ذلك القصر فأقام به حتى هلك هناك. واليه تعزى مصاحف القبط التى فيها تواريخهم وجميع ما يجرى الى آخر الزمان. قالوا: ولم تطل مدّة ملكه. ثم ملك بعده ابنه عرناق بن عنقام «1» . ملك بعد أبيه وعمل عجائب كثيرة، منها شجرة صفر فيها أغصان حديد بخطاطيف حادّة اذا تقرّب منها الظالم والكاذب تقرّبت اليه تلك الخطاطيف فتعلّقت به وشكّت بدنه ولم تفارقه حتى يحدّث عن نفسه بالصدق ويعترف بظلمه ويخرج عن ظلامة خصمه. وعمل صنما من صوّان أسود وسمّاه عبد قزويس «2» ، أى عبد زحل، فكانوا يحتكمون اليه، فمن زاغ عن الحقّ ثبت فى مكانه فلم يقدر على الخروج منه حتى ينصف من نفسه ولو أقام سنة أو أكثر. ومن كانت له حاجة منهم أو طلب شيئا بخّر الصنم ليلا ونظر الى الكواكب وذكر اسم عرناق وتضرّع فيصبح وقد وجد حاجته على باب منزله. قال: وكان عرناق ربما حملته أطيار عظام وتمرّ به وهم يرونه. وكان ربما غضب على ناس فجعل ماءهم مرّا لا يذاق، وسلّط عليهم وحوش الأرض وسباعها وهوامّها. قال: وتجرّأ على صيد السباع والوحوش، وعمل عجائب، منها أنه عمل شجرة من حديد ذات أغصان لطّخها بدواء مدبّر، فكانت تجتلب كل صنف من الوحش. قال: وفى كتب المصريين أنّ هاروت وماروت كانا فى وقته وعلّما أهل مصر أصنافا من الجزء: 15 ¦ الصفحة: 9 السحر، ونقلا بعد الطوفان الى بابل. وكان عرناق يجتلب النساء بسحره ويغتصبهنّ، وكان يسكن الجنة التى عملها نقارس، فاحتالت عليه امرأة من المغصوبات فسمّته فهلك وبقى مدّة لا يعرف خبره. وكان من رسمه- إذا خلا بنسائه- لا يقربه أحد، فلمّا تأخر خبره عن الناس هجم عليه فتى من بنى نقراوس يقال له لوخيم «1» ومعه نفر من أهله، فوجدوه ملقى فى فراشه جيفة. فأمر أن توقد له نار فأحرقه فيها. وجمع النسوة اللواتى كنّ فى الجنة، فمن كانت من نسائه تركها، ومن كانت من المغصوبات سرّحها الى أهلها، ففرح الناس بذلك وبما نزل به. وملك بعده لوخيم وجلس على سرير الملك ولبس تاج أبيه، وأمر بجمع الناس وقام فيهم وتكلّم وذكر ما كان عليه عرناق الأثيم من سوء السيرة واغتصاب النساء وسفك الدماء ورفض الهياكل والاستخفاف بالكهنة الى أن هلك، وأنه أحقّ بتراث أبيه «2» وجدّه. وضمن للناس العدل والإحسان والقيام بأمرهم ودفع كل أذى عنهم. فرضى الناس به وأطاعوه وقالوا: أنت أحقّ بالملك، ولا زلت دائم السعادة طويل العمر قائما بتجويد الهيا كل وتعظيمها. فركب الى هيكل الشمس فقرّب له بقرا كثيرا، وسار فى الناس بالعدل. قال: وكانت الغرانيق «3» قد كثرت فى زمن عرناق فأهلكت زروع الناس. فعمل لوخيم أربع منارات من نحاس فى أربعة جوانب أمسوس، وجعل على كل منارة صورة غراب فى فمه حيّة قد التوت عليه فلم يقربهم شىء من تلك الطيور، فكانت كذلك حتى أزالها الطوفان. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 10 قال: ومن ملوكهم خصليم وهو أوّل من عمل مقياسا لزيادة الماء؛ وذلك أنه جمع أصحاب العلوم والهندسة فعملوا بيتا من رخام على حافة النيل، وجعل فى وسطه بركة من نحاس صغيرة فيها ماء موزون، وعلى حافتى البركة تمثال عقابين من نحاس ذكر وأنثى. فإذا كان فى أوّل الشهر الذى يزيد فيه الماء «1» فتح باب البيت وحضر الكهّان وأمناء الملك وتكلّموا بكلام لهم حتى يصفر أحد العقابين، فإن صفر الذكر كان الماء زائدا، وإن صفرت الأنثى كان الماء ناقصا، ثم يعتبرون الماء فكلّ إصبع يكون فى تلك البركة فهو ذراع من زيادة النيل، وكل إصبع ينقص فهو نقصان ذراع. فإذا علموا ذلك حفروا الترع وأصلحوا الجسور. وعمل على النيل القنطرة التى هى ببلاد النّوبة. وكان له ابن سمّاه هرصال «2» ، أى خادم الزّهرة، لرؤيا كانت رأتها أخت الملك أن الزّهرة تخاطبها، وكفلت الغلام عمّته، واسمها خرداقة، «3» وأدّبته أحسن التأديب، وزوّجته عشرين «4» امرأة من بنات الملوك والعظماء، وبنت له مدينة فيها عجائب كثيرة، احتفلت بها وزيّنتها بأحسن النقوش والزينة والعمارة، وعملت فيها حمّاما معلّقا على أساطين يرتفع الماء إليها حارّا من غير وقيد. «5» ولمّا هلك خصليم دفن فى ناووس. ثم ملك بعده ابنه هرصال بن خصليم فتحوّل إلى المشرق وسكنه، وبنى مدينة هى إحدى المدائن ذوات العجائب، وعمل فى وسطها صنما للشمس يدور بدورانها ويبيت مغرّبا ويصبح مشرّقا. ويقال: إنه عمل من تحت النيل سربا. وهو أوّل الجزء: 15 ¦ الصفحة: 11 من عمل ذلك. وخرج متنكّرا يشقّ الأمم إلى أن بلغ بابل، ورأى ما عمل الملوك من العجائب. وعلم حال ملكها فى الوقت وسيرته ومجارى أموره. ويقال: إنّ نوحا عليه السلام ولد فى وقته. قال: وولد لهرصال عشرون ولدا، جعل مع كل ولد منهم قاطرا «1» وهو رأس الكهنة. وتزعم القبط أنه بعد مائة وسبع وعشرين سنة من ملكه لزم الهياكل وتعبّد للكواكب فأخفته عن أعين الناس. وأقام بنوه على حالهم كل واحد منهم فى قسمه الذى أعطاه إياه يدبّره ولا يشركه فيه غيره. وأمور الناس جارية على سداد، فأقاموا كذلك سبع سنين. ثم وقع بين الإخوة تشاجر، واجتمع رأى الكهنة على أن يجعلوا أحدهم ملكا، ويقيم كل واحد منهم فى قسمه. فاجتمعوا فى ذلك اليوم فى دار المملكة، وقام رأس الكهّان فتكلّم وذكر هرصال وسعادة أيامه وما شملهم فيها من الخير، وأخبر بما رأته الجماعة من تقليد أحدهم الملك. فإن كان هرصال لم يمت ورجع إليهم لم ينكر ما فعلوه لأنهم أرادوا بذلك حفظ ملكه، وإن لم يرجع كان الأمر قد جرى على ما سلف من قيام ملك بعد ملك فاجتمع رأيهم على أكبر ولده وهو: ندسان «2» بن هرصال. فملك وسار سيرة أبيه وحمد الناس أمره. وعمل قصرا من خشب ونقشه بأحسن النقوش، وصوّر فيه صور الكواكب ونجّده بالفرش وحمله على الماء وكان يتنزّه فيه. فبينما هو فيه إذ زاد النيل زيادة عظيمة وهبّت ريح عاصف فانكسر القصر وغرق الملك. وكان قد نفى إخوته إلى المدائن الجزء: 15 ¦ الصفحة: 12 الداخلة فى الغرب. واقتصر على امرأة من بنات عمّه، وكانت ساحرة، فتفرّد بها واستخلف بعض وزرائه على الملك وأقبل على لذّته ولهوه. فلمّا هلك كتمت امرأته الساحرة موته، وكان أمرها ونهيها يخرجان إلى الوزير عن الملك. وأقام الناس تحت طاعته سبع سنين لا يعلمون بأمره. فلما رأى إخوته طول غيبته جمعوا جموعا كثيرة وقدّموا على أنفسهم أحدهم وهو شمرود «1» الجبّار وساروا إلى أمسوس. وبلغ ذلك امرأة ندسان الساحرة فأمرت الوزير بالخروج إليهم ومحاربتهم، ففعل ذلك ولقيهم فمزّقوه وقتلوا كثيرا ممن كان معه، ودخلوا مدينة أمسوس، وأتوا دار المملكة فلم يروا ندسان وأيقنوا بهلاكه. وملك شمرود بن هرصال فسرّ الناس به، ووعدهم بحسن السّيرة فيهم وتغيير ما كانوا ينكرونه على أخيه. واستولى على كنوزه وخزائنه ففرّقها على إخوته، وأقطعهم جميع ما كان فى يد ندسان. وطلب امرأته الساحرة وابنها ليقتلهما، فانتقلت إلى مدينة أهلها من الصعيد، وكانوا كلّهم كهّانا سحرة، فامتنعت بهم، وأرسلت إلى الناس وعرّفتهم أنّ ابنها الملك فى وقته؛ لأنّ أباه قلّده الملك وأمرها أن تدبّر أمره حتى يكبر، فصدّقوها وأجابوها وقالوا: إنّ الغلام مغصوب على ملك أبيه، وإنّ شمرود متغلب. فاجتمع فى ناحيتها جماعة من أهل البلد وزحف ابن الساحرة وقد عمل له السحرة أصنافا من التخاييل الهائلة والنيران المحرقة، فقامت الحرب بينهم أياما؛ فانهزم شمرود وإخوته وتعلّقوا ببعض الجبال. وملك توميدون «2» بن ندسان وهو ابن الساحرة. ودخل دار الملك وجلس على السرير ولبس التاج الذى كان لأبيه وأطاف به بطانة أبيه، وهو يومئذ حدث السنّ، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 13 وكانت أمه تدبّر أمره، فقتل كلّ من كان مع شمرود. وطلب شمرود حتى ظفر به، واجتمع الناس لينظروا ما يصنع به، فشدّ رأسه برأس أسطوانة قائمة، ورجلاه برأس أسطوانة أخرى. وكان طوله فيما يذكر القبط عشرين ذراعا، ووكّلت الساحرة به حرسا لتقتله يوم عيدها، وكان قريبا، فصاح بالليل صيحة مات منها بعض الحرس وهرب الباقون. فلمّا اتّصل بها ذلك أوقدت نارا وأمرت بإنزاله وجعلت تقطع منه عضوا عضوا وترميه فى النار. قال: وخرج «1» ابنها كاهنا منجّما، وعملت له الشياطين قبّة الزّجاج الكبيرة الدائرة على دوران الفلك، وصوّروا عليها صور الكواكب، وكانوا يعرفون الطالع منها وما يحدث بطلوعه بعد ستين سنة. ثم ماتت أمّه الساحرة وأوصت أن يجعل جسدها تحت صنم القمر فإنه يخبرهم بالعجائب وما يسألون عنه ففعلوا ذلك. وذل الناس لابنها وهابوه، وكان يتصوّر لهم فى صور كثيرة، وملكهم مائة سنة وستين سنة. ولمّا حضره الموت أمرهم أن يعملوا له صنما من زجاج على شقّين ويطبق على جسده بعد أن يطلى بالأدوية الممسكة ويلحم ويقام فى هيكل الأصنام، ويجعل له عيد فى السنة ويقرّب له قربان، وتدفن علومه وكنوزه تحته، ففعلوا ذلك كله. ولمّا مات ملك بعده ابنه شرناق «2» بن توميدون، فعمل بسيرة أبيه وجدّته، واجتمع الناس عليه. وزحف رجل من بنى صرابيس «3» بن إرم من ناحية العراق، فتغلّب الجزء: 15 ¦ الصفحة: 14 على الشام، وأراد أن يزحف إلى مصر، فعرف أنه لا يصل اليها لسحر أهلها، فأراد أن يدخلها متنكّرا ليقف على أحوالها، فخرج فى نفر حتى بلغ الحصن الذى كانوا بنوه على مصر. فسألهم الحرس الموكّلون به عن أمرهم، فعرّفوهم أنهم قصدوا بلدهم ليسكنوه، فحبسوهم وطالعوا الملك بخبرهم. وكان الملك قد رأى فى منامه كأنه قائم على منار لهم عال، وكأن طائرا عظيما انقضّ عليه ليختطفه، فحاد عنه حتى كاد يسقط عن المنارة فجاوزه ولم يضرّه، فانتبه مرعوبا، وبعث إلى رأس الكهنة فقصّ عليه رؤياه، فعرّفه أن ملكا يطلب ملكه فلا يصل اليه. فنظر فى علمه فرأى أنه قد دخل بلده. فلما وردت الرسل بذكر القوم علم أن الملك فيهم؛ فوجّه جماعة من أصحابه فاستوثقوا منهم وحملوهم اليه، وقد كان أمرهم أن يطوفوا بهم فى أعمال مصر كلها ليروا ما فيها من الطّلّسمات والأصنام المتحرّكات والعجائب المعجزات، فبلغوا بهم إلى الإسكندرية، ثم ساروا بهم إلى أمسوس وطيف بهم على عجائبها. ثم سير بهم إلى الجنّة التى عملها مصرام، وكان الملك مقيما بها وأمر السحرة بإظهار التهاويل والتخاييل، فجعلوا يتعجّبون مما رأوا الى أن وصلوا الى شرناق الملك والكهنة حوله وقد أظهروا صنوف العجائب، وجعلوا بين يدى الملك نارا عظيمة لا يصل اليه إلا من خاضها ولا تضرّ إلا من أضمر للملك غائلة، وأمر بدخولها، فشقّوها واحدا واحدا لم ينلهم منها أذّى، وكان الملك آخرهم، فلمّا دنا من النار أخذته فولّى هاربا. فأتى به شرناق فسأله عن أمره فأقرّ، فأمر بقتله على أسطوانة عند باب الحصن من ناحية الشام، فقتل وزبر عليه: هذا فلان المتغلّب على الشام أضمر غائلة الملك، طلب ما لا يصل اليه فعوقب بهذا. وأمر بإخراج الباقين من بلاده فأخرجوا. وقيل لهم: قد وجب عليكم القتل لصحبتكم من أراد الفساد فى الأرض، ولكنّ الملك عفا عنكم. فكانوا لا يمرّون على أحد إلّا حدّثوه بما رأوا من العجائب، فانقطعت أطماع الملوك عن الجزء: 15 ¦ الصفحة: 15 الوصول الى مصر والتعرّض إليها. وعملت فى أيامه عجائب كثيرة، منها أنه عمل على باب كل مدينة بطّة نحاس قائمة على أسطوانة، فإذا دخل الغريب من الباب صفّقت بجناحيها وصرخت، فيؤخذ ويكشف عن أمره. وشقّ الى مدائن الغرب نهرا من النيل، وبنى على عبره منازل وأعلاما وغرس بينها غروسا، وكان اذا خرج إليها سار فى عمارة متّصلة. وملكهم مائة سنة وثلاثين سنة ثم مات. وملك بعده ابنه سهلوق بن شرناق، وكان كاهنا منجّما، فأفاض العدل وقسم ماء النيل قسما موزونا، صرف الى كل ناحية قسمها، ورتّب المراتب وجعلها على سبعة أقسام: فالطبقة الأولى الملك وولده وأهل بيته ومن يلى عهده ورأس الكهّان والوزير الأكبر وقائد الجيش الأكبر وصاحب خاتم الملك وصاحب خزانته. والطبقة الثانية مراتب العمّال والمتولّين جباية الأموال والإشراف على النفقات فى أمر المملكة ومصالح البلد والعمارات وقسمة المياه. والطبقة الثالثة الكهّان وأصحاب الهياكل وخدمتها ومتولو القرابين والمشرفون على جميع ما يتقرّب به من بواكير الفواكه والرياحين وفتىّ البقر والفراريح الذكور ورءوس خوابى الشراب. والطبقة الرابعة المنجّمون والأطباء والفلاسفة. والطبقة الحامسة أصحاب عمارة الأرض ومتولّو أمر الزراعة. والطبقة السادسة أصحاب الصناعات والمهن فى كلّ فنّ، والمشرفون على أعمالهم ونقل ما يستحسنون منها الى خزانة الملك. والطبقة السابعة أصحاب الصّيد من الوحش والسّباع والطير والهوامّ والخشاش، والمشرفون على أخذ دمائها ومرائرها وشحومها وحملها الى الأطبّاء لإصلاح العقاقير وتأليف الأدوية. وتقدّم ألا يدخل أهل مهنة ولا صناعة فى غيرهم، ومن قصّر فى عمله عوقب، ومن أحسن فى عمله جوزى بقدره. وكانت رتبة الألحان والملاهى فى قسمة الملك. وتقدّم فى استنباط المعادن وبناء المدائن ونصب الأعلام والمنارات وإبداع الصناعات وجرّ المياه وتوليد غرائب الجزء: 15 ¦ الصفحة: 16 الأشجار. وأقام على أعالى الجبال سحرة يقسمون الرياح ويمنعون من يقصدهم ويقصد بلادهم بأذّى، وكذلك كلّ مفسد من طائر وسبع ووحش وهوامّ، وأجرى أمر البلاد والناس على سداد، وجعل فى كلّ صنف من الناس صنفا من الكهنة يعلّمونهم الدين، ودينهم يومئذ الصابئة الأولى. ويرفع كلّ صنف منهم ما يجرى من أمر ما يتولّونه الى الملك فى كلّ يوم. وعمل البيت ذا القباب النوريّة الثلاث، وأوقد فيه النار الدائمة تعظيما للنور. والقبط تزعم أنه أوّل من وضع بيتا لتعظيم النار. وقيل: إن جم الفارسىّ إنما بنى بيت النار- وهو أوّل من عمل ذلك للفرس- اقتداء بسهلوق مصر. وكان السبب فى عمل سهلوق بيت النار أنه رأى أباه فى نومه يقول له: انطلق الى جبل كذا من جبال مصر فإنّ فيه كوّة من صفتها كذا وكذا، وإنك واجد على باب الكوّة أفعى لها رأسان، وإنها اذا رأتك كشّت فى وجهك، فليكن معك طيران صغيران، فإذا رأيت الأفعى فاذبحهما لها وألقهما إليها، فإنه يأخذ كلّ رأس من رأسيها أحد الطيرين وتتنحّى الى سرب قريب من الكوّة فتدخله، فإذا غابت عنك فادخل الكوّة فإنك تنتهى الى «1» آخرها الى صورة امرأة جميلة الخلق، وهى من نور حارّ يابس، وسوف يقع عليك وهجها وتحسّ بحرارة شديدة، فلا تقرب منها فتحترق، وقف وسلّم عليها فإنها تخاطبك فاسكن الى خطابها، وانظر ما تقوله لك فاعمل به، فإنك تشرف بذلك. وهى حافظة كنوز جدّك مصرام التى رفعها الى مدائن العجائب المعلّقة وهى تدلّك عليها. وتنال مع ذلك شرفا فى بلدك وطاعة فى قومك، ثم مضى وتركه. فلمّا انتبه سهلوق جعل يفكّر فيما رأى ويتعجّب منه، ورأى أن ينفّذ ما أخبره به أبوه، فمضى الى الجبل وحمل الطيرين معه وفعل جميع ما أمره أبوه الى أن وقف حذاء المرأة وسلّم عليها، فقالت له: أتعرفنى؟ قال: لا، لأنّى ما رأيتك قبل وقتى هذا. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 17 قالت: أنا صورة النار المعبودة فى الأمم الخالية، وقد أردت أن تحيى ذكرى وتتّخذلى بيتا وتوقد فيه نارا دائمة بقدر واحد، وتتّخذ لها عيدا فى كل سنة تحضره أنت وقومك فإنك تتّخذ بذلك عندى يدا وتنال به شرفا وملكا الى ملكك، وأمنع عنك وعن بلدك من يطلبك ويعمل الحيلة عليك، وأدلك على كنوز جدّك مصرام. فلمّا سمع ذلك منها ضمن لها أن يفعل، ودلّته على الكنوز التى كانت لجدّه تحت المدائن المعلّقة، وكيف يصير إليها ويمتنع من الأرواح الموكّلة بها وما يبخّرها به. فلمّا فرغ من ذلك قال لها: كيف لى بأن أراك فى الأوقات وأسألك عمّا أريده، أأصير اليك فى هذا المكان أو غيره؟ قالت: أمّا هذا المكان فلا تقدر بعد وقتك هذا عليه؛ لأنّ الأفعى التى رأيتها فيه قيّمته لأنّ فيه آية تمنع أن يوقف عليها فى وقتنا هذا، ولكن إن أحببت أن ترانى فدخّن فى البيت الذى تعمله لى بكذا وكذا: أشياء ذكرتها له، منها: عظام ما يقرّبه له من القرابين والذبائح والصّموغ، فإنى أتخيّل لك وأخبرك بكل حقّ وباطل مما يكون فى بلدك. فلمّا سمع ذلك منها سرّ به وغابت عنه، وظهرت الأفعى وخرج هاربا وجعل على الكوّة سدّا، وعمل ما أمرته به وأخرج كنوز جدّه. وعمل من العجائب بأمسوس وغيرها ما يطول شرحه. وعمل القبّة المركّبة على سبعة أركان، ولها سبعة أبواب، على كل باب صورة معمولة، وكان يقال لها قبّة القصر. وكان السبب فى بنائها أنّ بعض الكهّان جار فى قضيّة قضى بها؛ وذلك أن بعض العامّة أتاه يشكو امرأته- وكان يحبّها والمرأة تبغضه- وسأله أن يقوّمها له، وكانت المرأة من أهل بيت الكاهن، فمالأها على زوجها، وأمره بتخليتها فلم يفعل، فحبسه وشدّد عليه، وكان من أهل الصناعات، فاجتمع جماعة من أهل صنعته ممّن كان قد عرف حال المرأة معه وأنها له ظالمة وهو لها منصف، فوقفوا على ظلم الكاهن فاستعدوا عليه عند خليفة الملك. فأحضر الكاهن وسأله، فذكر أنه لم يحكم إلّا بواجب. فأحضر الجزء: 15 ¦ الصفحة: 18 رؤساء الكهنة والقوم الذين شهدوا للرجل، فوقف على ظلم الكاهن فأخرج الرجل وحبس الكاهن مكانه، وأمر بعقوبة المرأة وردّها إلى زوجها ورفع ذلك إلى الملك، فأمر بإخراج الكاهن من رسم الكهانة، وأن يعاقب ويحبس إلى أن يرى فيه رأيه. واهتمّ الملك لذلك وخشى أن يجرى من غير ذلك الكاهن فى أمر الرعيّة مثل ما جرى منه، فبات مهموما. ثم فكّر فى أمر النار، فأتى إلى بيت النار ودخّن بالدّخنة التى أمرته بها، فأتته وخاطبته. فسألها أن تعمل له عملا يقف به على حقيقة أمر المظلوم من الظالم، فأمرته أن يعمل بيتا مركّبا على سبعة أركان ويجعل له سبعة أبواب فى كل ركن باب، ويعمل فى وسطه قبّة من صفر، ويصوّر عليها صور الكواكب السبعة، ويعمل تحت القبّة مطهرة من جوهر ملوّن، ويجعل فيها سبعة أدهان من أشجار مختلفة؛ وتكون القبّة معلّقة على سبعة أساطين، ويعمل على الباب الأوّل تمثال أسد رابض، وحذاءه من الجانب الآخر لبؤة رابضة من صفر ويقرّب لهما جرو أسد ويبخّرهما بشعره. وعلى الباب الثانى صورة ثور وبقرة ويذبح لهما عجلا ويبخّرهما بشعره. وعلى الباب الثالث صورة خنزير وحذاءه خنزيرة ويذبح لهما خنّوصا «1» ويبخّرهما بشعره. وعلى الباب الرابع صورة فرس وحجر «2» ويذبح لهما مهرا ويبخرهما بشعره. وعلى الباب الخامس صورة ثعلب وحذاءه أنثاه ويذبح لهما جرو ثعلب ويبخّرهما بوبره. وعلى الباب السادس صورة حمار وحذاءه أتان ويذبح لهما عيرا ويبخّرهما بشعره. وعلى الباب السابع صورة ديك وحذاءه دجاجة ويذبح لهما فرّوجا ويبخّرهما بريشه. ويلطخ وجوهها جميعا بدم ما يذبح. ثم يحرق بقيّة القربان ويجعل تحت عتب أبوابها وتغلّق الأبواب، ويقام للبيت سدنة يوقدونه ليله ونهاره. فإذا «3» فرغ ذلك الجزء: 15 ¦ الصفحة: 19 يتكلّم على باب الكواكب السبعة، فإنى سوف ألقى روحانيّة الكواكب على تلك الصور فتنطق. وإذا فرغت من ذلك فاجعل لكل مرتبة من المراتب التى قسمتها بابا من تلك الأبواب، وليكن باب الأسد لأهل بيت المملكة، وسائر الأبواب لسائر المراتب. فإذا تقدّم الخصمان إلى شىء من تلك الصور التصقت بالظالم وشدّت عليه شدّا عنيفا يؤلمه حتى يخرج لخصمه من حقّه، الذكر للذكر، والأنثى للأنثى، فيعرف بذلك المظلوم من الظالم، ومن كان له قبل أحد حقّ ودعاه الى تلك الصور فلم يجئ معه فأتاه المظلوم، وقد عرّف الصورة ذلك، أقعد الظالم من رجليه وخرس لسانه ولم يتحرّك. فاستراح الملك الى تلك الصورة. ولم تزل على ذلك حتى أزالها الطوفان مع ما أزال من أعمالهم وطلّسماتهم وعجائبهم. وعملت فى أيام سهلوق أعمال كثيرة، وكتبت سيرته وما عمل من العجائب فى مصحف. وعمل عقاقير كثيرة وتماثيل ومحرّكات وصنعة، وأمر أن يحمل ذلك كلّه إلى ناووس عمله لنفسه فى الجبل الغربىّ ونقل اليه حكمه. وهلك بعد أن ملك تسعا وستين سنة وحمل إلى ناووسه، وأقام أهل المملكة ووجوه المدينة ونساؤهم عند ناووسه شهرا يبكون عليه ويتوجّعون عنده، واغتّموا عليه غمّا لم يغتمّوه على ملك قبله، وأقاموا لناووسه سدنة يخدمونه. وملك بعده ابنه سوريد بن سهلوق؛ وكان أبوه قد قلّده الملك قبل مهلكه، فملك واقتفى سيرة أبيه فى العمارة ومصالح البلد والإنصاف بين الناس والأخذلهم من نفسه وأهل بيته، وعمل الهياكل وبنى المنارات، ونصب الأعلام والطّلّسمات فأحبّه الناس. وبنى بالصعيد ثلاث مدائن وعمل فيها عجائب كثيرة. وهو أوّل من جبى الخراج بمصر، وألزم أهل الصناعات على أقدارهم، وأوّل من أمر بالإنفاق على الزّمنى والمرضى من خزائنه. وعمل مرآة من أخلاط كان ينظر منها جميع الأقاليم ما أخصب منها وما أجدب وما حدث فيها، وكانت المرآة على منارة من النحاس وسط مدينة أمسوس، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 20 وكان يعلم من المرآة من يقصد مدينته من جميع النواحى فيتأهّب له. وهو أوّل من عمل صحيفة فى كلّ يوم يكتب فيها جميع ما يكون فى يومه وما يعمله ويرفع اليه، ثم يخلد فى خزانته يوما بيوم. وإذا مضى الشهر نقلت إلى مصحف الملك وختمه بخاتمه، وما صلح أن يزبر على الحجارة زبره: وكذلك ما عمل من الصنائع وما أحدث منها. وكان يعطى الرغائب على الصّناعات العجيبة والحكم الغريبة. وعمل فى المدائن صورة امرأة جالسة فى حجرها صورة صبىّ كأنها ترضعه، فمن أصابتها علّة بجسمها مسحت ذلك الموضع من جسد تلك الصورة فيزول عنها ما تجد، وكذلك إن قلّ لبنها مسحت ثديها، وإن أحبّت أن يعطف عليها زوجها مسحت وجهها يدهن طيّب وقالت افعلى كذا وكذا، وإن قلّت حيضتها مسحت فوق ركبها، وإن كثر دمها ونزفت مسحت تحت ركبها، وإن أصاب ولدها شىء فعلت مثل ذلك بالصبىّ فيبرأ، وإن عزّت «1» ولادتها ومسحت رأس الصبىّ سهلت ويسهل افتضاضها، وإذا بخرته ومسحته بدهن طيّب منع جميع التوابع. وإذا وضعت الزانية يدها عليها ارتعدت حتى تكفّ عن زناها. وما كان من أعمال الليل بخّرت ليلا، وما كان من أعمال النهار بخّرت نهارا. وكانت تعمل أعمالا كثيرة إلى أن أزالها الطوفان. قال: وفى بعض كتب القبط أنها وجدت بعد الطوفان وأنهم استعملوها وعبدوها. وصورتها مصوّرة فى جميع البرابى، واسمها نبلوية، والذى دلّهم عليها قرابة فليمون «2» الكاهن. قال: وعمل سوريد عجائب كثيرة، منها الصنم الذى يقال له نكرس «3» المعمول من عدّة أخلاط كان يعمل أعمالا كثيرة فى الطبّ ودفع الأسقام الجزء: 15 ¦ الصفحة: 21 والعلل، ويعرفون به من تبرئه الأدوية فيعيش، وإن كان يموت فله علامات فيقصرون عن علاجه، وكانوا يغسلون المواضع التى بإزاء أعضاء العلل منه ويسقى لصاحب الداء فيزول عنه. وهو أوّل من عمل الأفروثنات «1» وزبر فيها جميع العلوم. وهو الذى بنى الهرمين الكبيرين. ذكر خبر بناء الأهرام وسبب بنائها وشىء من عجائبها قال: كان بناء الأهرام قبل الطوفان بنحو ثلاثمائة سنة. وقد ذكرنا فيما سلف من كتابنا «2» هذا نبذة من خبر الأهرام فى الباب الثالث من القسم الخامس من الفنّ الأوّل؛ وذلك فى السّفر الأوّل من هذه النسخة. ونحن الآن نذكر من خبرها خلاف ما قدّمناه مما أورده إبراهيم بن القاسم الكاتب مما اختصره من كتاب العجائب الكبير لإبراهيم بن وصيف شاه. قال: كان سبب بنائها أن الملك سوريد رأى رؤيا أفزعته؛ رأى كأنّ الأرض انقلبت بأهلها، وكأنّ الناس يخرّون على رءوسهم، وكأنّ الكواكب تتساقط ويصدم بعضها بعضا بأصوات هائلة مفزعة، فغمّه ذلك ولم يذكره لأحد، وعلم أنه سيحدث فى العالم أمر عظيم. ثم رأى بعد ذلك [بأيام] كأنّ الكواكب الثابتة [نزلت الى الأرض «3» ] فى صور طيور تنصبّ «4» ، وكأنها تتخطّف الناس وتلقيهم بين جبلين عظيمين، وكأنّ الجبلين انطبقا عليهم، وكأنّ الكواكب النيّرة مظلمة كاسفة؛ فانتبه أيضا مذعورا فزعا، فدخل الى هيكل الشمس وجعل يمرّغ خدّيه ويبكى. ولمّا أصبح أمر الجزء: 15 ¦ الصفحة: 22 بجمع رؤساء الكهنة من جميع أعمال مصرفآ جتمعوا، وكانوا مائة وثلاثين، فخلابهم وقصّ عليهم رؤياه، فأعظموه وأكبروه وأوّلوه على أمر عظيم يحدث فى العالم. فقال لهم فليمون- وكان من كبارهم وكان لا يبرح من حضرة الملك لأنه رأس كهنة أمسوس-: إنّ فى رؤيا الملك لعجبا وأمرا كبيرا، والملوك رؤياهم لا تجرى على فساد ولا كذب لعظم أخطارهم، وكبر أقدارهم. وأنا أخبر الملك عن رؤيا رأيتها منذ سنة لم أذكرها لأحد من الناس. فقال له الملك: قصّها علينا. قال: رأيت كأنى مع الملك على رأس المنار الذى فى أمسوس، وكأنّ الفلك قد انحطّ من موضعه حتى قارب سمت رءوسنا، وكان علينا كالقبّة «1» المحيطة بنا، وكأنّ [الملك قد رفع يديه نحو السماء وكواكبها «2» ] قد خالطتنا فى صور مختلفة، وكأن الناس يستغيثون بالملك وقد انضمّوا الى قصره، وكأنّ الملك رافع يديه ليدفع الفلك أن يبلغ رأسه، وأمرنى أن أفعل فعله ونحن على وجل شديد، إذ رأينا منه نورا مضيئا طلعت علينا منه الشمس، فكأنّا استغثنا بها، فخاطبتنا بأنّ الفلك سيعود الى موضعه اذا مضت ثلاثمائة دورة، وكأنّ الفلك لصق بالأرض ثم عاد الى موضعه، ثم انتبهت فزعا. فعند ذلك قال لهم الملك: خذوا ارتفاع الكواكب فانظروا هل من حادثة تحدث. فنظروا فأخبروه بأمر الطوفان وبعده بذكر النار [التى تخرج من برج الأسد تحرق العالم «3» ] ، فذكروا له أن ذلك يكون فى وقت عيّنوه له من مقارنات النجوم ونزولها فى الأبراج على ما حرّروه من الدقائق، وشرحه إبراهيم فى كتابه مما لا فائدة لنا فى ذكره. قال: فلما تبيّن ذلك له أمر بقطع الأساطين العظام ونشر البلاط الجزء: 15 ¦ الصفحة: 23 الكبير المصفّح، واستخراج الرصاص من أرض المغرب، وإحضار الصخور السود التى جعلها أساسا من ناحية أسوان، وكانت تحمل على أطواف «1» . وقيل: كانت لهم فراقلّ من خوص لها عذب وعليها كتابة منقوشة، فكانوا إذا ضربوا بها الحجارة عدت على وجه الأرض وحدها مقدار رمية سهم حتى وضعت الأساسات. وأمر أن يزبر على البلاط المنشور المهندم جميع علومهم. ثم بنى الأهرام الثلاثة الأول: الشرقىّ، والغربىّ، والملوّن؛ فكانوا يجعلون فى وسط البلاطة قلب حديد قائما ويركّبون عليه بلاطة أخرى مثقوبة الوسط، ثم يدخل ذلك القلب الحديد فى ثقب البلاطة التى تطبق عليه، ويذاب الرّصاص ويصبّ حول البلاطة بعد أن تؤلّف الكتابة التى عليها. وجعل أبوابها من تحت الأرض بأربعين ذراعا فى آزاج «2» مبنيّة بالحجارة فى الأرض، طول كل أزج مائة وخمسون ذراعا. قال: فأما باب الهرم الشرقىّ فإنه من الناحية الجنوبية «3» على قياس مائة ذراع من وسط حائط الهرم الى الناحية الجنوبيّة، ويحفر حتى ينزل الى باب الأزج ثم يدخل اليه منه. وأما باب الهرم الغربىّ فمن الناحية الغربيّة يقاس أيضا من وسط الحائط الغربىّ الى الغرب مائة ذراع، ويحفر حتى ينزل الى باب الأزج المبنىّ ويدخل منه اليه. وأما باب الهرم الملوّن فمن الناحية البحرية «4» يقاس أيضا من وسط الحائط البحرىّ مائة ذراع، ويحفر حتى ينزل الى باب الأزج. وجعل طول كل واحد منها أربعمائة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 24 ذراع بالملكى، يكون خمسمائة بذراعنا. وجعل تربيع كل واحد أربعمائة ذراع. وبناها فى الاستواء الى أربعين ذراعا ثم هرّمها «1» . وكان أوّل بنائهم لها فى أوقات السعادة، فلمّا فرغ منها كساها ديباجا ملوّنا من أعلاها الى أسفلها، وعمل لها عيدا عظيما لم يبق فى المملكة أحد إلّا حضره. ثم أمر «2» بعمل ثلاثين جرنا من حجارة الصوّان ملوّنة فجعلت فى الهرم الغربىّ، ونقل اليها من الكنوز والأموال والجواهر المعدنيّة، والجواهر المسبوكة الملوّنة، والآلات الزّبرجد. والتماثيل المعمولة، والطّلّسمات، والحديد الفاخر، والسلاح الذى لا يصدأ، والزجاج الذى ينطوى «3» ولا ينكسر، والنواميس والمولّدات والدّخن وأصناف العقاقير والمفردات والمؤلّفات والسموم وغير ذلك شيئا كثيرا لا يدرك وصفه. ونقل الى الآخر وهو الشرقىّ أصنام الكواكب والقباب الفلكيّة، وما عمل أجداده من التماثيل والدّخن التى يتقرّب بها لها ومصاحفها، وما عمل لها من التواريخ والحوادث التى مضت، والحوادث التى تحدث، والأوقات التى تحدث فيها، ومن يلى مصر من الملوك الى آخر الزمان، وكون الكواكب الثابتة وما يحدث بكونها وقتا وقتا، وجعل فيها المطاهر» التى فيها المياه المدبّرة والبودقات الدهنية وما أشبه هذه الأشياء. وجعل فى الهرم الآخر أجساد الكهنة فى توابيت من الصوّان الأسود، وعند كل كاهن منهم مصحف فيه عجائب صناعته وسيرته وما عمل فى وقته. وكانوا سبع مراتب. فالمرتبة الأولى القاطرون، وهم الذين يعبدون الكواكب السبعة لكل كوكب الجزء: 15 ¦ الصفحة: 25 سبع سنين، ومعنى القاطرون جامع العلوم. والمرتبة الثانية لمن يعبد ستّة من الكواكب وهم اللاحقون بالدرجة الأولى. ثم يسمّون صاحب الخمسة وما دونها كل واحد باسم، فجعل فى كل ناحية من الهرم مرتبة من هذه المراتب، فأجسادهم هناك وما عملوه من العجائب. وجعل فى الحيطان «1» من كل جانب مما يدور أصناما [تعمل «2» ] بأيديها جميع الصنائع على مراتبها وأقدارها، وصفة كل صنعة وعلاجها وما يصلح لها، وكذلك أصحاب النواميس ومن عالج شيئا من الأشياء وجعل فيها أموال الكواكب التى أهديت إليها الكواكب وأموال الكهنة. وجعل لكل هرم منها خادما؛ فخازن «3» الهرم الشرقىّ صنم من جزع أسود [مجزّع بأسود] وأبيض له عينان مفتوحتان [برّاقتان، وهو] جالس على كرسىّ، ومعه شبيه بالحربة، إذا نظر إليه الناظر سمع من جهته صوتا كالرعد يكاد يفزع قلبه، فيهيم على وجهه ويختلس عقله، ولا يكاد يفارق الهرم حتى يموت فيه. وجعل خازن الهرم الآخر من حجر الصّوّان المجزّع، معه شبيه بالحربة، وعلى رأسه حيّة تطوّق «4» بها، من قرب منه وثبت عليه من ناحيته وتطوّقت فى عنقه فقتلته [ثم تعود إلى مكانها] . وجعل خازن الهرم الثالث صنما صغيرا من حجر البهتة «5» على قاعدتيه، من نظر إليه اجتذبه إليه حتى يلتصق به فلا يفارقه حتى يموت. فلمّا فرغ من ذلك حصنها «6» بالأرواح وذبح لها الجزء: 15 ¦ الصفحة: 26 الذبائح لتمنع «1» عن نفسها [من أرادها] إلا من قرّب إليها وعمل لها أعمال الوصول فإنه يصل اليها. قال: وذكر القبط أنه كتب عليها اسم الملك والوقت الذى بناها فيه، ويقول: إنا بنيناها فى ستّ سنين «2» فقل لمن يأتى بعدنا يهدمها فى ستمائة سنة فإن الهدم أهون من البنيان. وإنا كسوناها الدّيباج الملوّن المذهب المرقوم بالذهب فقل لمن يأتى بعدنا يكسوها حصيرا. فنظروا فوجدوا أحدا لا يقوم بهدمها وكسوتها لأنه لا يستطاع ذلك ولا يقدر عليه. قال: وحكى عن هذه الأهرام عجائب يطول الشرح بذكرها؛ منها أن المأمون لمّا دخل إلى مصر أحبّ أن يهدم أحدها ليعلم ما فيها، فقيل له: إنك لا تقدر على ذلك. فقال: لا بدّ من فتح شىء «3» منه. فعولجت الثّلمة المفتوحة منه فأنفق عليها مالا كثيرا لنار توقد وخلّ يرشّ ومنجنيقات ترمى بها، فوجد عرض الحائط قريبا من عشرين ذراعا. فلما انتهوا الى داخل الهرم وجدوا خلف الحائط عند النقب مطهرة خضراء فيها ذهب مضروب دنانير، وزن كل دينار أوقية «4» من أواقينا، وكان عددها ألف دينار، فعجبوا من ذلك ولم يعرفوا ما معناه، ثم أتى المأمون بالذهب والمطهرة فجعل يتعجّب من الذهب وحسنه وجودته وحمرته، فقال: ارفعوا لى حساب ما أنفقتموه على هذه الثّلمة ففعلوا، فوجده بإزاء المال الذى أصابوه لا يزيد ولا ينقص. فعجب المأمون من معرفتهم على طول المدد بأنهم سيفتحونه من ذلك الموضع بعينه، ومعرفتهم بمقدار ما ينفق عليه وتركهم مقداره الجزء: 15 ¦ الصفحة: 27 فى موضعه، فقال: كان هؤلاء القوم من العلوم بمنزلة لا ندركها نحن ولا أمثالنا. وقيل: إنّ المطهرة التى وجد فيها الذهب كان من زبرجد، فأمر المأمون بحملها إلى خزانته، وكانت أحد ما حمل من عجائب مصر. ومن عجائب أخبارها أنّ المأمون لمّا فتح الهرم أقام الناس سنين يقصدونه ويدخلون فيه وينزلون الزلّاقة التى فيه، فمنهم من يسلم ومنهم من يهلك. وأنّ جماعة من الأحداث اهتمّوا، وكانوا عشرين رجلا، على أن يدخلوا الهرم ولا يبرحوا منه حتى يقفوا على منتهى أمره، فأخذوا معهم من الطعام والشراب ما يكفيهم لشهرين، وأخذوا السكك والحبال والشمع والوقيد والفؤس والقفاف ودخلوا الهرم، ونزل أكثرهم فى الزلّاقة الأولى والثانية، ومضوا فى أرض الهرم فرأوا فيه خفافيش بقدر العقبان تضرب وجوههم، فانتهوا إلى لصب «1» فى حائط تخرج منه ريح باردة لا تفتر، فذهبوا ليدخلوا فانطفأت سرجهم، فجعلوها فى زجاج وذهبوا ليدخلوا فكاد اللّصب ينطبق عليهم فهابوه فقال أحدهم: اربطوا وسطى بحبل وأنا أدخل، فإذا كاد اللّصب ينطبق فجرّونى إليكم؛ وكان على باب اللّصب أجرنة «2» فارغة فعلموا أنّ أجساد موتاهم داخل ذلك اللصب، فربطوه بالحبل، فلمّا تقحّم «3» اللصب انطبق عليه فجرّه أصحابه فلم يقدروا على نزعه وسمعوا عظامه تتكسّر، وسمعوا صيحة هائلة فسقطوا على وجوههم لا يعقلون. فلمّا أفاقوا طلبوا الخروج فأخرجهم أصحابهم بشدة، وسقط بعضهم فى وقت صعودهم من الزلّاقة فنزل، وخرجوا من الهرم فجلسوا فى سفحه متعجّبين، فإنهم كذلك إذ أخرجت لهم الأرض صاحبهم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 28 يتكلّم بكلام كاهنىّ فسّره لهم بعض أصحاب الديارات بالصعيد: هذا جزاء من يطلب ما ليس له؛ ثم سقط ميّتا، فحملوه وفطن بهم فأخذوا وأتى بهم إلى الوالى فحدّثوه بالخبر. وفى خبر آخر: أنّ قوما دخلوا الهرم وانتهوا إلى أسفله وطوّفوه فعرض لهم مثل الطريق فساروا فيه فوجدوا قبّة تحتها كالمطهرة يقطر فيها ماء فينشّ «1» ثم يغيض «2» ولم يدروا ما هو، ووجدوا موضعا كالمجلس المربّع حيطانه كلّها بحجارة ملوّنة عجيبة، فقلّع أحدهم منها حجرا وجعله فى كمّه فانسدّت أذناه من الريح، ولم تزل «3» تصر وهو معه، ووجدوا مكانا كالفوّارة العظيمة فيها ذهب مضروب كثير يكون الدينار منه زهاء مائة مثقال، فأخذوا منه شيئا فلم يستطيعون أن يمشوا ولم يتحرّكوا حتى تركوه من بين أيديهم. ووجدوا فى مكان آخر كالصّفّة فيها شيخ من حنتم «4» أخضر كأنه مشتمل بشملة، وبين يديه تماثيل صغار فى صور الصّبيان وكأنه يعلمهم، فأخذوا منه شيئا فلم يقدروا أن يتحرّكوا فردّوه، ومشوا أيضا فى ذلك الطريق فوجدوا بيتا مسدودا فيه دوىّ هائل وزمزمة فلم يتعرّضوا له، ومضوا فوجدوا كالمجلس المرّبع فيه صورة ديك من جواهر معمولة، قائم على أسطوانة خضراء، وله عينان يسرج منهما المجلس، فلما قربوا منه صوّت بصوت مفزع وخفق بجناحيه، فتركوه ومضوا حتى بلغوا صنما من حجر أبيض فى صورة امرأة منكّسة على رأسها ومن جانبيها أسدان من حجارة كأنهما يريدان نهسها «5» ، فجعلوا يتعوّذون ويقرءون إلى أن جاوزوها. قال: وقيل إنهم مشوا حتى لاح لهم نور فاتّبعوه فإذا بفوّهة مفتوحة فخرجوا منها فإذا هم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 29 فى صحراء، وإذا على باب تلك الفوهة تمثالان من حجر أسود معهما كالمزراقين فعجبوا من ذلك. ووجدوا أجرنة منقورة وأسطوانات مخروطة، فساروا منها بعدا فانتهوا إلى ماء وجدوه فى نقار «1» حذاء تلك الفوهة، وأخذوا نحو المشرق فساروا يوما حتى وصلوا إلى الأهرام من خارج فأخبروا والى مصر بخبرهم، فوجّه معهم من يدخل من تلك الفوهة، فطافوا فلم يجدوها وأشكل عليهم أمرها. ووجد الآخذ للحجر الحجر جوهرا نفيسا فباعه بمال. قال: وحكى أنّ قوما فى زمن أحمد بن طولون «2» دخلوا الهرم فوجدوا فى طاق فى أحد بيوته أستاندانة زجاجا ثخينة فأخذوها وخرجوا، ففقدوا رجلا منهم فدخلوا فى طلبه، إذ خرج عليهم الرجل عريانا يضحك ويقول: لا تتعبوا فى طلبى، ورجع هاربا الى أن دخل، فعلموا أن الجنّ استهوته وشاع أمرهم، فأخذوا الأستاندانة منهم ومنع الناس من الدخول الى الهرم، ووزنت الأستاندانة فكانت أربعة أرطال زجاجا أبيض صافيا، فانتبه رجل من أهل المعرفة لها وقال: لم تعمل إلّا لشىء، وملأها ماء ووزنها فوجد وزنها وهى ملأى مثل وزنها فارغة لا تزيد ولا تنقص فكانت أعجوبة. وحكى أن قوما دخلوا الهرم ومعهم من يريدون يعبثون به، فلمّا همّوا بذلك خرج عليهم غلام أسود أمرد فى يده عصا فأخذ فى ضربهم، فخرجوا هاربين وتركوا ما كان معهم من طعام وشراب وبعض ثيابهم. وحكى أن رجلا دخل بامرأة ليفجر بها فصرعا جميعا ولم يزالا مجنونين مشهورين حتى ماتا. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 30 قال: وفى بعض مصاحف القبط أن سوريد الملك لما أخبره كهنته بخبر النار المحرقة وأنها تخرج من برج الأسد فتحرق العالم، عمل فى الأهرام مسارب موّجهة الى آزاج ضيّقة تجتلب الرياح الى داخل بصوت هائل. وعمل فيها مسارب يدخل منها ماء النيل الى مكان ينتهى الى موضع من أرض الغرب وأرض الصعيد، وملأ تلك الأسراب عجائب وطلّسمات وأصناما تنطق. قال: وحكى بعض القبط أن سوريد لمّا أخبره منجّموه قال: انظروا لبلدنا هذا هل تلحقه آفة؟ فنظروا فقالوا: يلحقه طوفان ويلحقه خراب يقيم فيه عدّة سنين وتغلب عليها التنانين. قال: كيف يكون خرابها؟ قالوا: يقصدها ملك فيقتل أهلها ويغنم مالها ويهدم مصانعها. قال: ثم ماذا؟ قالوا: ثم تكون عمارتها من قبله. قال: ثم ماذا؟ قالوا: ثم يقصدها قوم مشوّهون من ناحية مصبّ النيل فيأتون على أكثرها. قال: ثم ماذا؟ قالوا: ثم ينقطع نيلها ويجلو أهلها عنها؛ فأمر أن يكتب جميع ذلك على الأهرام. قال: وذكر رجل من أهل الغرب ممن يختلف الى الواح ويحمل الشّمار «1» على جمل له أنه بات فى بعض الليالى قرب الهرم فما زال يسمع الضوضاء والعطعطة فهاله ذلك وتباعد عنه بجمله، وكان يرى حول الهرم شبه النيران تأتلق، فلم يزل مرعوبا الى أن سرقته عيناه فنام وأصبح وهو فى الموضع الذى جمع منه الشّمار وشماره موضوع بحاله، فتعجّب من ذلك وشدّ شماره على جمله ورجع الى الفسطاط وآلى على نفسه ألّا يقرب من الهرم بعد ذلك. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 31 قال: والقبط يذكرون أنّ روحانيّة الهرم الغربى فى صورة امرأة عريانة مكشوفة الفرج حسناء لها ذؤابتان، فإذا أرادت أن تستفزّ الإنسىّ ضحكت اليه فاختلسته الى نفسها فيدنو منها فتستهويه ويزول عقله. قال: وقد رأى جماعة هذه المرأة تدور حول الهرم وقت القائلة وعند غروب الشمس. وروحانيّة الهرم الشرقى غلام أمرد أصفر عريان له ذؤابة. قال: وقد رأوه أيضا يطوف حوله. وروحانيّة الهرم الملوّن فى صورة شيخ يرى عليه برطلة «1» وفى يده مجمرة من مجامر الكنائس وهو يبخّر كذلك فى جميع الأفروثنات «2» . وأمّا روحانيّات البرابى: فبربا إخميم «3» روحانيّتها غلام أسود عريان. وروحانيّة بربا قفط «4» فى صورة جارية سوداء تحمل صبيّا أسود صغيرا. وروحانية بربا دندرة «5» فى صورة إنسان رأسه رأس أسد وله قرنان. وروحانية بربا بوصير «6» فى صورة شيخ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 32 أبيض عليه زىّ الرهبان ومعه مصحف يحمله. وروحانية بربا سمنّود «1» فى صورة شيخ آدم طوال أشيب صغير اللحية. وروحانيّة بربا عدىّ فى صورة راع عليه كساء ومعه عصا. وهذه البربا فى أعمال المرتاحيّة «2» من عمل أشمون طنّاح «3» بقرب تلبانة عدىّ «4» . قال: ولكلّ من هذه الأهرام والبرابى قرابين وبخورات تظهر كنوزها وتؤلّف بين الناس والروحانيّين الذين بها. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 33 ولنرجع الى أخبار الملوك قال: وأقام سوريد فى الملك مائة سنة وسبع سنين، وقد كان منجّموه عرّفوه الوقت الذى يموت فيه واليوم والساعة، فأوصى الى ابنه هرجيب وعرّفه ما يعمل، وأمره أن يدخل جسده الهرم، وأن يجعله فى الجرن الذى أعدّه لنفسه ويغشّيه بكافور، ويحمل معه ما أعدّه من فاخر الثياب والسلاح والآلات، فامتثل جميع ما أمره به. ولما مات ملك بعده ابنه هرجيب «1» بن سوريد فسار بستره أبيه فى العدل والعمارة والرأفة بالناس، فأحبّوه. وبنى الهرم الأوّل من أهرام دهشور وحمل اليه من المال والجوهر. وكان غرضه جمع المال وعمل الكيمياء واستخراج المعادن ودفن ما تهيّأ له من الكنوز فى كل سنة. وكانت له ابنة أفسدت مع بعض خدمه فنفاها الى ناحية الغرب، وأمر أن تبنى لها مدينة هناك ويقام عليها علم ويزبر عليها اسمها، وأسكن معها كل امرأة مسنّة من أهل بيته. قال: وشجّ رجلا فأمر بقطع أصابعه، ووجد سارقا من العامّة فملّك رقّه الذى سرق منه، وعمل منارات ومصانع وطلّسمات، وملكهم نيّفا وسبعين سنة. وملك عليهم بعده ابنه منقاوش بن هرجيب وكان جبّارا أثيما فآذى الناس وسفك الدماء واغتصب النساء واستخرج كنوز آبائه، وبنى قصورا بالذهب والفضة [وأجرى «2» ] فيها الأنهار، وجعل حصباءها من صنوف الجواهر، وتخرّق «3» فى الهبات وأغفل العمارات فأبغضه الناس، وأباح أصحابه غصب نساء العامّة. وأطاف به أهل الشرّ من كل ناحية، وكان يفترع النساء قبل أزواجهنّ، وامتنع عليه قوم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 34 فى شىء أمرهم به فأحرقهم بالنار، وسلّط رجلا من الجبّارين اسمه قرناس «1» من ولد وراديس بن آدم على الناس ووجّهه لمحاربة الأمم الغربية فقتل منهم أمما. وكان أشجع أهل زمانه ثم هلك، فأغتمّ عليه الملك وأمر أن يدفن مع الملوك فى الهرم. ويقال: بل عمل له ناووسا وأقام عنده أعلاما وزبر عليها اسمه وما عمله فى وقته. وملك منقاوش ثلاثا وسبعين سنة ومات، فجعل فى الهرم مع أجداده فى حوض مرمر مصفّح بالذهب والجوهر، وحمل معه كثير من ذخائره وأمواله وسلاحه وعجائبه. وملك بعد ابنه أقروش «2» بن منقاوش، وكان عاقلا فخالف آثار أبيه وعدل فى الناس وردّ النساء الّلاتى غصبهنّ منقاوش الى أهلهنّ. وعمل فى وقته فوّارة قطرها مائة ذراع وطولها خمسون ذراعا، وركّب فى جميع جوانبها أطيارا تصفر بأصناف اللغات المطربة لا تفتر. وعمل فى وسط المدينة منارتين من صفر عليهما صورة رأس إنسان من صفر كلّما مضت ساعة من النهار صاح ذلك الرأس صياحا عاليا، وكذلك الليل، فيعلم به دخول الساعات، وجعل فيه علامة لكلّ ساعة تمضى تعرف بها عدّتها. وعمل منارا آخر وجعل على رأسه قبّة صفر مذهب ولطخها بلطوخات، فإذا غربت الشمس اشتعلت تلك القبّة نارا «3» يضىء بها أكثر المدينة لا تطفئها الأمطار ولا الرّياح، فإذا كان النهار قلّ ضوءها بضوء الشمس. ويقال: إنه أهدى الدرمسيل [بن محويل «4» ] الملك ببابل مائدة «5» من الزبرجد قطرها خمسة أشبار، وكان استهداه ذلك ليجعلها فى بيت القربان. ويقال إنها وجدت بعد الطوفان. ويقال أيضا: إنه عمل على الجبل الجزء: 15 ¦ الصفحة: 35 الشرقىّ صنما عظيما قائما على قاعدة [وهو «1» ] مصبوغ بلطوخ أصفر مصوّر بالذهب ووجّهه الى الشمس يدور معها حتى تغرب، ثم يدور ليلا الى الناحية الجنوبيّة حتى يحاذى الشمس «2» مع الصبح، فلم يزل الى أن سقط فى أيام فرغان «3» الملك فتهشم. وكان نصبه تعظيما للشمس. ويقال: إن أقروش كان يطلب الولد فنكح ثلاثمائة أمرأة يبتغى الولد منهنّ فلم يكن ذلك. وقيل: إنّ فى عصره عقمت الأرحام لما أراد الله عزوجل من هلاك العالم بالطوفان، وعقمت أرحام البهائم ووقع الموت فيها. وقيل: إن الأسد كثرت فى وقته حتى كانت تتخلّل البيوت، فاحتالوا لها بالطّلّسمات المانعة والحيل المضرّة لها، فكانت تغيب وقتا وتعود، فرفعوا ذلك الى الملك فقال: هذه علامة مكروهة، وأمر أن تعمل أخاديد وتملأ نارا واجترّوا إليها الأسد بالدّخن التى تجلب روحانيتها وألقوها على تلك النّيران، فاجتلبتها تلك الدخن فتهافتت فى تلك النيران فاحترقت. وبنى فى وقته مدائن فى ناحية الغرب تلفت بالطوفان مع أكثر مدنهم. قال: وارتفعت الأمطار عنهم وقلّ الماء فى النيل فأجدبوا، وهلك الزرع بالنار والريح الحارّة وغيرها، فأضرّ ذلك بهم، فاحتالوا لدفع النار بطلّسماتهم فكانت تذهب وتعود. وقيل: إنّ الذى فعل بهم ذلك ساحر من سحرتهم كان منقاوش غصبه امرأته فكان يعمل الحيلة قليلا قليلا فى إفساد طلّسماتهم؛ لأن لكل طلسم شىء تبطل به روحانيته. وبهذه العلّة دخل بختنصّر الفارسىّ مصر وقد كانت ممتنعة من جميع الملوك. فلمّا أفسد ذلك الساحر الطلّسمات، سلّط عليهم تلك الآفات وأفسد طلّسمات التماسيح فهاجت عليهم ومنعتهم الماء وعذّبهم عذابا كبيرا الى أن الجزء: 15 ¦ الصفحة: 36 فطنوا به من قبل تلاميذه؛ وذلك أن أحدهم لامه على فعله فانتهره ونفخ فى وجهه فأظلم عليه بصره، فجاء الى وزير الملك وعرّفه القصّة فأنهاها الى الملك، فأمر الملك بإدخاله عليه فأدخل، فسأله عن الخبر فعرّفه يفعل الساحر، فأنفذ اليه جيشا ليأتوه به، فلمّا نظر الساحر الى القوم وقد أقبلوا دخّن دخنة أغشت أبصارهم وارتفعت منها عجاجة نار أحرقت وحالت بينه وبينهم، فهالهم ذلك، فرجعوا الى الملك وعرّفوه ما جرى فأمر بجمع السحرة، وكان من رسم السحرة أن يعاهدوا ملوكهم على أن يكونوا معهم ولا يخالفونهم ولا ينالهم منهم مكروه ولا يبغونهم الغوائل، فمن فعل ذلك سلب علمه، وكان للملك أن يسفك دمه ودم أهل بيته وولده، وكانوا مع الملوك على هذه الحال يوفون بعهودهم. فلمّا اجتمع السحرة عند الملك أخبرهم خبر الساحر، وكان يقال له: أختاليس، وبما عمله وقال: تحضرونه إلىّ وإلّا أهلكتكم؛ فسألوه النّظرة «1» فأنظرهم، فأخذوا أولادهم ونساءهم وخرجوا هاربين، فلمّا خرجوا عنه تكلّموا بينهم وقالوا: إنكم لتعرفون كثرة علم أختاليس وشدّة سحره، وما نرى لنا به طاقة، ومنقاوش الملك الذى نقض عهده وتعدّى عليه وأخذ امرأته غصبا، فاحتالوا لخلاصكم منه؛ فأجمعوا أنهم يصدقون الملك عن أنفسهم، ويستأذنونه فى الذهاب اليه ومداراته حتى يأتوه به بعد أن يأخذوا له أمانا منه ويجدّد العهد بينه وبينه. فمضوا الى الملك وصدقوه عن أنفسهم، فأجابهم الى ما سألوه من ذلك، ثم مضوا الى أختاليس فلطفوا به ووعظوه الى أن أجابهم الى ما أرادوا، فكتبوا الى الملك بذلك، فكتب للساحر أمانا وعهدا، فرجع وردّت اليه امرأته، فأكرمها وردّها الى دار الملك، وعرّفهم أنه لا يرى فى ذمّته أن يلابس امرأة لابسها الملك على حال من الأحوال لما كانوا يراعونه من حقوق الملك، فسرّ الناس بذلك وعجبوا من عقله الجزء: 15 ¦ الصفحة: 37 وحكمته، وصلح أمر الناس، وعمل أختاليس طلّسمات وعجائب كثيرة. قال: وملكهم أقروش أربعا وستين سنة، وهلك وليس له ولد ولا أخ، فدفن فى الهرم وجعلت معه أمواله وذخائره وجواهره والصنائع التى عملت فى وقته، واجتمع الناس على تمليك رجل من أهل بيت الملك. فملّكوا عليهم أرمالينوس، فلمّا ملك أمر بجمع الناس وقال: أرى الأمم الغربية قد تطرّقت إليكم فى نواحيكم، ويوشك أن تسير إليكم، وأنا مانع لبلادكم ودمائكم منهم بغزوهم والخروج إليهم وتحويلكم إياهم، وأحتاج الى معونة من حكمائكم بالأعمال الهائلة والتخاييل العجيبة، فشكروه ودعوا له بالتوفيق. وقالت الحكماء: نحن نخرج مع الملك إذا خرج ونبلغ له مجابه أو يقيم ونحن نخرج مع الجيش مكانه ونبذل أنفسنا دونه. فامتنع من ذلك وخرج فى جيش عظيم وحارب تلك الأمم ونكأ «1» فيها أعظم نكاية، ورجع غانما وخلّف فى وجوههم جيشا، فاجتمعت تلك الأمم فهزمت جيشه ورجع أصحابه مغلوبين فعظم ذلك عليه. وكانت أصابته علّة من تغيّر الهواء فأنفذ ابن عمّ له يقال له فرعان بن مسور، وكان أحد الجبابرة الذين لا يطاقون، وهو أوّل «2» فرعون تسمّى بهذا الاسم ومن سمّى بعده سمّى تشبيها به؛ فأنفذه الملك أرمالينوس فى جيش عظيم فأجلى تلك الأمم ونفاها الى أطراف البحر، وعاد ومعه خلق كثير من الأسرى والرءوس، فأمر الملك بنصب تلك الرءوس حول مدينته وقتل جميع الأسرى. وكان منهم كاهن فأمر الملك أن يوشر «3» بمنشار، وهو أوّل من فعل الجزء: 15 ¦ الصفحة: 38 ذلك، فأعلم «1» الملك فرعان وألبسه خلعا منظومة بالجوهر، وأمر بأن يطاف به ويذكر فضله، وأمر له ببعض قصوره. واتفق أن امرأة من نساء الملك عشقته وراسلته فامتنع فرعان من ذلك وفاء للملك، ولأنّ التحظّى الى نساء الملوك كان من الأمور العظيمة عندهم. فلمّا طال ذلك عليها أحضرت ساحرة ولا طفتها وذكرت لها حالها ووجدها بفرعان، فضمنت لها بلوغ مأربها منه وسحرته لها، فاهتاج اليها وندم على ردّها وجعل يدسّ اليها الى أن اجتمعت معه، وتمكّن حبّ كلّ واحد منهما من صاحبه، الى أن ذاكرته أمر الملك وأنها لا تأمن أن يتّصل به خبرهما وقالت: أنا أعمل الحيلة فى قتله وتكون أنت الملك وأكون لك ونأمن على أنفسنا. فمن شدّة ما عنده من حبّها حسّن لها ذلك، فسمّت الملك فى شرابه فمات لوقته وحمل الى الهرم. وملك بعده فرعان بن مسور وجلس على سرير الملك فلم ينازعه أحد، وفرح الناس بمكانته لشجاعته. وهو الذى كان الطوفان فى وقته. قال: ولمّا ملك علا فى الأرض وتجبّر واغتصب الناس أموالهم وأنفسهم ونساءهم، وعمل ما لم يعمله ملك قبله؛ وأسرف فى القتل وهابته الملوك وأقرّوا له. وهو الذى كتب الى الدرمسيل ملك بابل يشير عليه بقتل نوح عليه السلام. وذلك أن الدرمسيل بن محويل كتب الى الأقاليم يسألهم: هل يعرفون آلهة غير الأصنام؟ ويذكر قصّة نوح وأنه يريد تغيير ذلك، وأن له إلها غيرها، فكلّ أنكر ذلك. ولمّا أخذ نوح فى بناء السفينة كتب فرعان الى الدرمسيل يشير عليه بإحراقها، وكان عند أهل مصر خبر الطوفان ولكنهم لم يقدروا كثرته وطول مقامه على الأرض، فاتّخذوا السراديب تحت الأرض الجزء: 15 ¦ الصفحة: 39 وصفّحوها بالزجاج وحبسوا فيها الرياح بتدبيرهم، واتخذ فرعان منها عدّة له ولأهل بيته. وكان فرعان قد أقصى الكهّان وباعدهم، وكانوا مع الملوك على خلاف ذلك. ولنصل هذا الخبر بخبر الكهّان وما كانوا عليه. ذكر خبر كهّان مصر وحالهم مع الملوك قال: وكهّان مصر أعظم الكهان علما، وأجلّهم فى الكهانة حديثا. وكان حكماء اليونان يصفونهم بذلك، ويشهدون لهم به ويقولون: أخبرنا حكماء مصر بذلك فاستفدناه منهم. وكانوا ينحون فى كهانتهم نحو الكواكب، ويزعمون أنها هى التى تفيض عليهم العلوم وتخبرهم بالغيوب، وهى التى علّمتهم أسرار الطبائع، ودلّتهم على العلوم المكنونة؛ فعملوا الطلّسمات المشهورة، والنواميس الجليلة، وولّدوا الولادات الناطقة، والصور المتحرّكة؛ وبنوا العالى من البنيان، وزبروا علومهم فى الصلب من الصّوّان، وانفردوا بعمل البرابى، ومنعوا بها الأعداء من بلدهم، وعجائبهم ظاهرة. وكان الذى يتعبّد منهم الكواكب السبعة المدبّرة، لكلّ كوكب سبع سنين، فإذا بلغ هذه الرتبة سمّى قاطرا «1» ، وكان يجلس مع الملك فى المرتبة ويصدر الملك عن رأيه، وإذا رآه قام له. وكان من رسمهم فى كل يوم أن يدخل القاطر إلى الملك فيجلس إلى جانبه، ويدخل الكهنة ومعهم أصحاب الصناعات فيقفوا حذاء القاطر، وكلّ واحد من الكهنة منفرد بكوكب يخدمه لا يتعدّاه إلى سواه، ويسمّى عبد كوكب كذا، كما كانت العرب تسمّى عبد شمس، فيقول القاطر للكاهن: أين صاحبك؟ فيقول: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 40 فى البرج الفلانى فى الدرجة الفلانية فى دقيقة كذا، ويسأل الآخر حتى إذا عرف مستقرّ الكواكب قال للملك: ينبغى لك أن تعمل اليوم كذا، وتضع بنيان كذا، وتوجّه جيشا إلى ناحية كذا، وتجامع فى وقت كذا، وتأكل فى وقت كذا، وجميع ما يراه صلاحا له فى أموره كلّها؛ والكاتب قائم يكتب جميع ما يقوله القاطر، ثم يلتفت إلى أهل الصناعات فيقول: انقش أنت صورة كذا على حجر كذا، واغرس أنت كذا، واصنع أنت كذا، حتى يمرّ على أهل الصناعات؛ فيخرجون إلى دار الحكمة ويضعون أيديهم فى تلك الأعمال، ويستعمل الملك جميع ما يأمره القاطر. ويشرح ذلك اليوم فى الصحيفة وتطوى وتودع فى خزانة الملك، فعلى ذلك كانت تجرى أمورهم. وكان الملك إذا نابه أمر جمعهم واصطفّ الناس لهم فى شارع المدينة، ثم يدخلون ركبانا يقدم بعضهم بعضا، ويضرب بين أيديهم بطبل الاجتماع، فيدخل كلّ واحد منهم بأعجوبة: فمنهم من يعلو وجهه نور كنور الشمس فلا يقدر أحد على النظر إليه، ومنهم من يكون عليه بدنة «1» جوهر أخضر أو أحمر أو من ذهب منسوج. ومنهم من يدخل راكبا أسدا متوشّحا بحيّات عظام. ومنهم من تكون عليه قّبة من نور أو من جوهر فى صنوف من العجائب كثيرة. ويصنع كلّ واحد منهم ما يدلّه عليه كوكبه الذى يعبده؛ فإذا دخلوا على الملك قالوا: أرادنا الملك لأمر كذا وقد علمنا، أو أضمر الملك كذا والصواب فيه كذا. فكانوا مع ملوكهم على هذه الحال حتى ملك فرعان فأبعدهم. وكان فليمون «2» رئيس الكهّان، فرأى فيما يرى النائم كأنّ مدينة أمسوس قد انقلبت بأهلها، وكأنّ الأصنام الجزء: 15 ¦ الصفحة: 41 تهوى على رءوسها، وكأنّ ناسا ينزلون من السماء معهم مقامع «1» فيضربون الناس بها، وكأنه قد تعلّق بأحدهم وقال له: ما لكم تفعلون بالخلق هذا! أما ترحمونهم؟ فقال: لأنهم كفروا بإلهم. قال: أفما لهم من خلاص؟ قالوا: نعم، من أراد الخلاص فليلحق بصاحب السفينة، فانتبه وهو يخاطبه، فبقى مرعوبا مما رآه. وكان له امرأة وولدان ذكر وأنثى ومعه تلاميذه، فأجمع على أن يلحق بنوح عليه السلام، ثم نام أيضا فرأى كأنه فى روضة خضراء، وكأنّ فيها طيورا بيضاء تفوح منها رائحة طيّبة، وكأنه تعجّب من حسنها إذ تكلّم بعض الطيور فقال لأصحابه: سيروا بناننج المؤمنين. قال له فليمون: ومن هؤلاء المؤمنون؟ قال: أصحاب السفينة. فانتبه مرعوبا وأخبر أهله وتلاميذه بذلك ثم نام. فلمّا كان الغد أتى الملك فقال: إن رأى الملك أن ينفذنى إلى در مسيل لأعرف حال هذا الرجل الذى عمل السفينة فأشاهده وأناظره على ما جاء به من هذا الدّين الذى أظهره وأتبيّن حقيقة أمره فليفعل؛ فإنى أرجو أن يكون ذلك سببا لهلاكه ودفعه عما يدّعيه، فأعجب الملك ذلك منه وأذن له فى الخروج، فسار بأهله وولده وتلاميذه حتى انتهوا إلى أرض بابل وقصد نوحا وسأله أن يشرح له دينه ففعل ذلك، فآمن به وجميع من معه، فقال نوح عليه السلام: من أراد الله عزوجل به الخير لم يصدفه أحد عنه. فلم يزل فليمون مع نوح عليه السلام يخدمه هو وولده وتلاميذه إلى أن ركبوا السفينة. وأمّا فرعان الملك فإنه أقام منهمكا فى ضلاله وظلمه، مقبلا على لهوه، واستخفّ بالكهنة والهياكل، وضاقت الدنيا بأهلها، وكثر الهرج والظلم، وفسدت الزروع، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 42 وأجدبت النواحى، وظلم الناس بعضهم بعضا، ولم يكن أحد ينكر ذلك عليهم، وسدّت الهياكل والبرابى، وطيّنت أبوابها، وجاءهم الطوفان وأقبل المطر عليهم، وكان فرعان سكران فلم يقم إلّا بخرير الماء، فوثب مبادرا يريد [الهرب «1» إلى] الهرم فتخلخلت الأرض به، وطلب الأبواب فخانته رجلاه وسقط على وجهه وجعل يخور كما يخور الثور، إلى أن أهلكه الله تعالى بالطوفان، ومن دخل الأسراب منهم هلك بغمّها، ولحق الماء من الأرض والأهرام إلى آخر التربيع، وهو ظاهر عليها إلى الآن، وانقرضت ملوك الدنيا أجمع بالطوفان ولم يسلم إلا أصحاب السفينة كما تقدّم. فعدّة من سمّى لنا من ملوك مصر قبل الطوفان على هذا السّياق تسعة عشر ملكا، ثم ملكها بعد الطوفان من نذكره. ذكر من ملك مصر بعد الطوفان من الملوك قال إبراهيم بن القاسم الكاتب: قال إبراهيم بن وصيف شاه: أجمع أهل الأثر أنّ أوّل من ملك مصر بعد الطوفان مصريم بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام، وذلك بدعوة سبقت له من جدّه. وكان السبب فى ذلك أنّ فليمون الكاهن سأل نوحا عليه السلام أن يخلطه بأهله وولده وقال: يا نبىّ الله، إنى قصدتك رغبة فى الإيمان بالله سبحانه وتعالى وتصديقك يا نبىّ الله، وتركت وطنى وبلدى فاجعل لى رفعة وقدرا أذكر بهما من بعدى، فزوّج نوح عليه السلام بيصر بن حام بنت فليمون الكاهن فولدت له ولدا سمّاه فليمون مصريم «2» باسم بلده، فلمّا أراد نوح قسمة الأرض بين بنيه قال له فليمون: ابعث معى يا نبىّ الله ابنى حتى أمضى به إلى بلدى وأظهره على كنوزه وأوقفه على علومه ورموزه، فأنفذه معه فى جماعة من أهل بيته، وكان الجزء: 15 ¦ الصفحة: 43 غلاما مراهقا، فلمّا قرب من مصر بنى له عريشا من أغصان الشجر وستره بحشيش الأرض، ثم بنى له بعد ذلك فى الموضع مدينة وسمّاها درسان «1» ، أى باب الجنة؛ فزرعوا وغرسوا الأشجار والأجنّة من درسان الى البحر. [فصارت هناك «2» ] زروع وأجنّة وعمارة وكان الذين مع مصريم جبابرة؛ فقطعوا الصخور وبنوا المعالم والمصانع وأقاموا فى أرغد عيش. ونكح مصريم امرأة من بنات الكهنة فولدت له ولدا سمّاه قبطيم، ونكح قبطيم بعد سبعين سنة من عمره امرأة ولدت له أربعة نفر، وهم: قفطريم، وأشمون، وأتريب، وصا، وكثروا وعمّروا الأرض وبورك لهم فيها. وقيل: كان عدد من وصل مع مصريم ثلاثين نفرا فبنوا مدينة سمّوها مافه، ومعنى مافه ثلاثون بلغتهم، وهى منف؛ وكشف أصحاب فليمون عن كنوز مصر وعلّموهم خطّ البرابى، وأثاروا لهم المعادن من الذهب والزبرجد والفيروزج والأسباد شم «3» وغير ذلك، ووصفوا لهم عمل الصنعة، فجعل الملك أمرها الى رجل من أهل بيته يقال له مقيطام، فكان يعمل الكيمياء فى الجبل الشرقىّ فسمّى به المقطّم، وعلّموهم أيضا عمل الطلّسمات. وكانت تخرج من البحر دوابّ تفسد زرعهم وأجنّتهم وبنيانهم فعملوا لها الطلّسمات فغابت ولم تعد. وبنوا على عبر البحر مدنا منها: رقودة مكان الإسكندرية، وجعلوا فى وسطها قبّة على أساطين من نحاس مذهب والقبّة مذهبة، ونصبوا فوقها مرآة من أخلاط شتّى قطرها خمسة أشبار؛ وكان ارتفاع القبّة مائة ذراع؛ فكانوا اذا قصدهم قاصد من الأمم التى حولهم، فإن كان مما يهمّهم أو من البحر عملوا لتلك المرآة عملا فألقت شعاعها على ذلك الشىء فأحرقته؛ فلم تزل على حالها الى أن غلب عليها الجزء: 15 ¦ الصفحة: 44 البحر فنسفها. وقيل: إن الإسكندر إنما عمل المنارة تشبّها بها. وقد ذكرنا خبر المنارة فيما تقدّم من كتابنا هذا «1» . وقال: لما حضرت مصريم الوفاة عهد الى ابنه قبطيم بن مصريم؛ فقسم قبطيم مصر بين بنيه الأربعة: فجعل لابنه قفطريم من قفط الى أسوان الى النّوبة، ولأشمون من أشمون الى منف، ولأتريب الحوف كلّه الى الشجرتين الى أيلة من الحجاز، ولصا من ناحية صا البحيرة الى قرب برقة؛ وقال لأخيه فارق: لك من برقة الى المغرب، فهو صاحب إفريقية. وولده الأفارق. وأمر كل واحد من بنيه أن يبنى لنفسه مدينة فى موضعه. وأمر مصريم عند موته أن يحفروا له فى الأرض سربا وأن يفرشوه بالمرمر الأبيض ويجعلوا فيه جسده، ويدفنوا معه جميع ما فى خزائنه من الذهب والجوهر، ويزبروا عليه أسماء الله تعالى المانعة من أخذه. فخفروا له سربا طوله مائة وخمسون ذراعا، وجعلوا فى وسطه مجلسا مصفّحا بصفائح الذهب، وجعلوا له أربعة أبواب، على كل باب منها تمثال من ذهب عليه تاج مرصّع بالجوهر، جالس على كرسىّ من ذهب قوائمه من زبرجد، وزبروا فى صدر كل تمثال آيات عظاما مانعة، وجعلوا جسده فى جرن من المرمر مصفّح بالذهب وزبروا على مجلسه: مات مصريم بن بيصر بن حام بعد سبعمائة عام مضت من أيام الطوفان، ومات ولم يعبد الأصنام، إذ لا هرم ولا سقام، ولا حزن ولا اهتمام، وحصنه بأسماء الله العظام، لا يصل اليه إلا ملك ولدته سبعة ملوك يدين بدين الملك الديّان، ويؤمن بالبعث والفرقان، الداعى الى الإيمان فى آخر الزمان. وجعلوا معه فى ذلك المجلس ألف قطعة من الزبرجد المخروط، وألف تمثال من الجوهر النفيس، وألف الجزء: 15 ¦ الصفحة: 45 برنية [مملوءة «1» ] من الدرّ الفاخر والصّنعة الإلهية، والعقاقير البرّيّة، والطلّسمات العجيبة، وسبائك الذهب مكدّسة بعضها على بعض، وسقّفوا ذلك بالصخور العظام وهالوا فوقها الرمال [بين جبلين «2» ] . واستقلّ قبّطيم بالملك بعد أبيه. ويقال: إنّ قبط مصر منسوبون اليه. وهو أوّل من عمل العجائب وأثار المعادن، وشقّ الأنهار. ويقال: إنه لحق البلبلة «3» وخرج منهم بهذه اللغة القبطية، وعمل ما لم يعمله أبوه من نصب الأعلام والمنارات والعجائب والطلّسمات. وملكهم قبطيم [أربعمائة و «4» ] ثمانين سنة ومات؛ فاغتمّ عليه بنوه وأهله ودفن فى الشرق فى سرب تحت الجبل الكبير الداخل، وصفّحوه بالمرمر الملوّن وجعلت فيه منافذ للرّياح؛ فهى تتخرق فيه بدوىّ عظيم هائل، وجعل فيه من الكبريت الأحمر وأكر من نحاس مطليّة بأدوية مشعلة لاتطفأ، ولطّخوا جسده بالمرّ والكافور والموميا، وجعلوه فى جرن من ذهب فى ثياب منسوجة بالمرجان والدرّ، وكشفوا عن وجهه وجعلوه تحت قبّة ملوّنة، فى وسطها درّة معلّقة تضىء كالسراج، والقبّة على أعمدة بين كلّ عمودين تمثال فى يده أعجوبة، وجعلوا حول الجرن توابيت مملوءة جوهرا وذهبا وتماثيل وصنعة وغير ذلك، وحول ذلك مصاحف القبط والحكمة، وسدّوا عليه بالصخور والرّصاص وزبروا عليه كما زبروا على ناووس أبيه. وملك بعده ابنه قفطريم بن قبطيم؛ وكان أكبر ولد أبيه؛ وكان جبّارا عظيم الخلق، وهو الذى وضع أساسات الأهرام الدّهشوريّة وغيرها ليعمل منها كما عمل الأوّلون، وهو الذى بنى دندرة ومدينة الأصنام. ودندرة: بلد من بلاد إقليم قوص، وهى فى البرّ الغربىّ مشهورة هناك. قال: وأثار من المعادن ما لم يثره غيره، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 46 وكان يجرّ من الذهب مثل حجر الرحى، ومن الزّبرجد كالأسطوانة، ومن الأسبادشم فى صحراء الغرب كالقلّة. وعمل من العجائب شيئا كثيرا. وبنى منارا عاليا على جبل قفط يرى من البحر الشرقىّ، ووجد هناك معدن زئبق فعمل منه بركة كبيرة، فيقال إنها هناك الى الآن؛ وأما المنار فسقط. وعمل عجائب كثيرة. ويقال: إنه بنى المدائن الداخلة وعمل فيها عجائب كثيرة، منها: الماء الملفوف القائم كالعمود لا ينحلّ ولا يذوب، والبركة التى تسمّى فلسطين، أى صيّادة الطير، إذا مرّ عليها الطير سقط فيها ولم يمكنه أن يبرح حتى يؤخذ. وعمل أيضا عمودا من نحاس عليه صورة طائر إذا قربت الأسد والحيّات والأشياء المضرّة من تلك المدينة صفر صفيرا عاليا فترجع تلك الدوابّ هاربة. وكان على أربعة أبواب هذه المدينة أربعة أصنام من نحاس لا يقرب منها غريب إلّا ألقى عليه النوم والسّبات، فينام عندها ولا يستيقظ حتى يأتيه أهل المدينة وينفخون فى وجهه فيقوم، وإن لم يفعلوا ذلك لم يزل نائما عند الأصنام حتى يهلك. وعمل منارا لطيفا من زجاج ملوّن على قاعدة من نحاس، وعلى رأس المنارة صورة صنم من أخلاط كثيرة، وفى يده كالقوس كأنه يرمى عنها، فإن عاينه غريب وقف فى موضعه لم يبرح حتى ينجيه أهل المدينة. وكان ذلك الصنم يتوجّه إلى مهبّ الرياح الأربع من نفسه. قال وقيل: إن هذا الصنم على حالته إلى الآن، وإنّ الناس تحاموا تلك المدينة على كثرة ما فيها من الكنوز والعجائب الظاهرة خوفا من ذلك الصنم أن تقع عين الإنسان عليه فلا يزال قائما حتى يتلف. قال: وكان بعض الملوك عمل على قلعه فما أمكنه، وهلك لذلك خلق كثير. ويقال: إنه عمل فى بعض المدن الداخلة مرآة من أخلاط ترى جميع ما يسأل الإنسان عنه وهى غربىّ البلد. قال: وعمل خلف الواحات الداخلة مدنا عمل فيها عجائب كثيرة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 47 ووكّل بها الروحانيّين الذين يمنعون منها؛ فما يستطيع أحد أن يدنو منها ولا يدخلها أو يعمل قرابين أولئك الروحانيين فيصل إليها حينئذ ويأخذ من كنوزها ما أحبّ من غير مشقّة ولا ضرر. قال: وأقام قفطريم ملكا أربعمائة سنة. وأكثر العجائب عملت فى وقته ووقت ابنه البودسير «1» . وكان الصعيد أكثر عجائب من أسفل الأرض. قال: وفى آخر أيام قفطريم هلكت عاد بالريح العقيم. ولمّا حضرت قفطريم الوفاة عمل له ناووس من الجبل الغربىّ قرب مدينة الكهنة، كان عمله لنفسه قبل موته فى سرب فى الجبل كهيئة الدار الواسعة وجعل دورها خزائن منقورة، وجعل فى سقوفها مسارب للرياح، وبنى ذلك بالمرمر، وجعل فى وسط الدار مجلسا على ثمانية أركان مصفحا بالزجاج الملوّن المسبوك، وجعل فى سقفه جواهر وحجارة تسرج، وجعل فى كل ركن من أركان المجلس تمثالا من الذهب بيده كالبوق، وجعل تحت القبّة دكّة مصفّحة بالذهب، وجعل لها حوافى زبرجد، وفرش فوق الدكّة فرش الحرير، وجعل عليها جسده بعد أن لطخ بالأدوية الممسكة، ومن جوانبه آلات الكافور المخروطة، وسدلت عليه ثياب منسوجة بالذهب، ووجهه مكشوف وعلى رأسه تاج ملكه، وعن جوانب الدكّة أربع تماثيل مجوّفات من زجاج مسبوك مثل صور النساء وألوانهن، بأيديهن كالمراوح من ذهب، وعلى صدره من فوق الثياب سيف صاعقىّ قائمه من الزبرجد، وجعل فى تلك الخزائن: من الزبرجد وسبائك الذهب والتيجان والجواهر وبرانى الحكم وأصناف العقاقير والطّلّسمات، ومن المصاحف الحاوية لجميع العلوم، ما لا يحصى قدره كثرة؛ وجعل على باب المجلس ديك من ذهب على قاعدة من زجاج أخضر منشور الجناحين مزبور عليه آيات عظام مانعة، وجعل على مدخل كل أزج صورتين من نحاس مشوّهتين بأيديهما الجزء: 15 ¦ الصفحة: 48 سيفان كالبرق، ووراءهما بلاطة تحتها لوالب فمن وطئها ضرباه بأسيافهما فقتلاه، وفى سقف كل أزج كرة عليها لطوخ مدبّر يسرج، وسدّ باب الأزج بالأساطين ورصّوا على سقفه البلاط العظام وردموا فوقها الرمال، وزبروا على باب الأزج: هذا الداخل إلى جسد الملك العظيم المهيب الكريم الشديد قفطريم ذى الأيد والفخر، والغلبة والقهر، أفل نجمه وبقى ذكره وعلمه، فلا يصل أحد اليه، ولا يقدر بحيلة عليه، وذلك بعد سبعمائة وسبعين، ودورات مضت من السنين. قال: ولمّا مات قفطريم ملك بعده ابنه البودسير بن قفطريم؛ فتجبّر وتكبّر وعمل بالسحر واحتجب عن العيون، وقد كان أعمامه أشمون وأتريب وصا ملوكا على أحيازهم إلّا أنه قهرهم بجبروته وقوّته، فكان الذكر له كما كان لأبيه. ويقال: إنه أرسل هرمس الكاهن المصرىّ إلى جبل القمر الذى يخرج النيل من تحته حتى عمل هناك هيكل التماثيل النحاس، وعدل إلى البطيحة التى ينصبّ اليها ماء النيل. ويقال: إنه الذى عدّل جانبى النيل وقد كان يفيض [فى مواضع وينقطع فى مواضع «1» ] ، وأمره البودسير أن يسير مغرّبا فينظر الى ما هناك، فوقع على أرض واسعة متخرّقة بالمياه والعيون كثيرة العشب، فبنى منائر ومتنزهات، وحوّل اليها جماعة من أهل بيته فعمروا تلك النواحى وبنوا فيها حتى صارت أرض الغرب كلها عمارة، وأقامت كذلك مدة كثيرة وخالطهم البربر فتناكحوا؛ ثم إنهم تحاسدوا وبغى بعضهم على بعض، وكانت بينهم حروب فخرب البلد وباد أهله إلا بقية منازل تسمّى الواحات هى موجودة الى وقتنا هذا. ويقال: إنه عمل عجائب كثيرة فى وقته، منها: قبّة لها أربعة أركان وفى كلّ ركن منها كوّة يخرج منها كالدخان الملتفّ فى ألوان شتّى [يستدلّون بكل الجزء: 15 ¦ الصفحة: 49 لون على شىء «1» ] ؛ فما خرج منه أخضر دلّ على العمارة وحسن النبات والزرع وصلاحه، وإن خرج الدخان أبيض دلّ على الجدب وقلّة الزكاء «2» ، وإن خرج أحمر دلّ على الدماء والحروب وقصد الأعداء، وإن كان أسود دلّ على كثرة الأمطار والمياه وفساد بعض الأرض بذلك، وإن كان أصفر دلّ على النيران وآفات تحدث فى الفلك، وما كان منها مختلطا دلّ على مظالم الناس وتعدّى بعضهم على بعض وإهمال ملوكهم لهم، وأشياء من هذا الضرب. وكانت هذه القبّة على منار أقام زمنا طويلا ثم هدمه بعض الملوك البربر؛ لأنه أراد غزو قوم بتلك الناحية فعلموا بحاله فانتقلوا عن ذلك الموضع الى قرب النيل فلمّا جاء ولم يجدهم هدمه. ومما عمل له فى الصحراء التى تقرب منه- وكانت الوحش قد كثرت وأفسدت عليهم زرعهم وكذلك خنازير الماء- شجرة من نحاس عليها أمثال تلك الوحوش ملجمة أفواهها بخيوط من نحاس، فما يجوز بها من الوحش لا يستطيع الحراك ولا البراح من عندها حتى يؤخذ قبضا ويقتل؛ فأشبع الناس فى لحوم تلك الوحوش وانتفعوا بجلودها زمانا طويلا إلى أن انتزعها بعض ملوك الغرب سرّا من أهل مصر وقدّر أن ينصبها فى بلدهم فتعمل له مثل ذلك، فلمّا عملها بطلت؛ لأنهم كانوا يعملون ما يعملون بطالع يأخذونه له، فلا يزال عمله مستقيما إلى أن تغيّر عن مكانه فبطل عمله. ومما عمل فى وقته أنّ غرابا نقر عين صبىّ من أولاد الكهنة فقلعها، فعمل شجرة من نحاس عليها تمثال غراب من نحاس فى منقاره حربة بادية الطرفين. منشور الجناحين، وكتب على ظهره كتابا؛ فكانت الغربان تقع على تلك الشجرة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 50 ولا تبرح حتى تؤخذ فتقتل، ففنى أكثر الغربان وزالت عن تلك الناحية إلى ناحية الشام. ولم يزل الأمر على ذلك إلى أن أصاب بعض ملوكهم علّة ووصف له فيها لحم غراب يطبخه ويأكله ويشرب من مرقه فلم يوجد، فوجّه الى آخر العمل الذى بمصر من ناحية الشام من يأتيه بغراب فأبطأ عليه، فأمر بنزع الشجرة فرجع الغربان وأخذ منها ما عولج به الملك قبل أن يرجع رسوله. ومما عمل فى وقته- وكانت الرمال قد كثرت عليهم من ناحية الغرب حتى ظهرت على زروعهم- فعمل لذلك صنما من صوّان أسود على قاعدة منه وعلى كتفه شبه القفّة فيها كالمسحاة، ونقش على جبهته وصدره وذراعيه وساقيه حروفا، وأقامه الكاهن بطالع أخذه له ووجهه إلى الغرب؛ فانكشفت تلك الرمال ورجعت إلى ورائها. فتلك الأكداس العالية فى صحراء الغرب منها. ولم تزل الرمال تندفع عنهم إلى أن زال ذلك الصنم عن موضعه. قال: وأقام البودسير مدّة واحتجب عن الناس، وكان يتجلّى لهم فى صورة وجه عظيم، وربما خاطبهم ولا يرونه، ثم غبر «1» مدّة وهم فى طاعته إلى أن رآه ابنه عديم وهو يأمره بالجلوس على سرير الملك. فجلس عديم «2» بن البودسير على الملك وكان جبارا لا يطاق، عظيم الخلق، فأمر بقطع الصخور ليعمل هرما كما عمل الأوّلون. قال: وكان فى وقته الملكان اللذان الجزء: 15 ¦ الصفحة: 51 هبطا من السماء، وكانا فى بئر يقال لها أفناوه، وكانا يعلّمان أهل مصر السحر. ويقال: إن عديم استكثر من علمهما ثم نقلا إلى بابل. قال: وأهل مصر من القبط يقولون إنهما شيطانان يقال لهما: مهلة ومهالة، وليس هما الملكين. والملكان ببابل فى بئر هناك يغشاها السحرة إلى يوم الساعة. ولنصل هذا الفصل بخبر هاروت وماروت وإن لم يكن منه؛ وإنما الشئ بالشئ يذكر. والله أعلم. ذكر خبر هاروت وماروت قال الله تعالى: (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ «1» ) الآية. قال أبو إسحاق الثعلبىّ فى تفسيره: وكانت قصّتهما- على ما ذكره ابن عباس رضى الله عنه والمفسّرون- أنّ الملائكة رأوا ما يصعد إلى السماء من أعمال بنى آدم الخبيثة وذنوبهم الكثيرة؛ وذلك فى زمن إدريس عليه السلام فيعيّرونهم بذلك، ودعت عليهم الملائكة وقالوا: هؤلاء الذين جعلتهم فى الأرض واخترتهم فهم يعصونك؛ فقال الله عزّوجل لهم: لو أنزلتكم إلى الأرض وركّبت فيكم ما ركّبت فيهم لركبتم ما ارتكبوا؛ فقالوا: سبحانك ما كان ينبغى لنا أن نعصيك؛ قال الله تعالى: فاختاروا ملكين من خياركم أهبطهما إلى الأرض، فاختاروا هاروت وماروت، وكانا من أصلح الملائكة وأعبدهم. قال: وقال الكلبىّ: قال الله لهم: اختاروا ثلاثة فاختاروا عزّا وهو هاروت، وعزايا وهو ماروت، وغيّر اسمهما لمّا قارفا الذنب، وعزاييل؛ فركّب الله فيهم الشهوة التى ركّبها فى بنى آدم وأهبطهم إلى الأرض، وأمرهم أن يحكموا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 52 بين الناس بالحق، ونهاهم عن الشرك والقتل بغير حق، ونهاهم عن الزنا وشرب الخمر. فأما عزاييل فإنه لمّا وقعت الشهوة فى قلبه استقال ربّه وسأله أن يرفعه إلى السماء فأقاله ورفعه، فسجد أربعين سنة ثم رفع رأسه. ولم يزل بعد ذلك مطأطئا رأسه حياء من الله تعالى. وأما الآخران فإنهما بقيا على ذلك، وكانا يقضيان بين الناس يومهما فإذا أمسيا ذكرا اسم الله الأعظم وصعدا إلى السماء. قال قتادة: فما مرّ عليهما أشهر حتى افتتنا. قال الثعلبىّ: قالوا جميعا: وذلك أنه اختصم اليهما ذات يوم الزّهرة، وكانت من أجمل النساء. قال علىّ رضى الله عنه: كانت من أهل فارس، وكانت ملكة فى بلدها، فلمّا رأياها أخذت بقلوبهما، فراوداها عن نفسها فأبت وانصرفت، ثم عادت فى اليوم الثانى ففعلا مثل ذلك، فأبت وقالت: لا! إلا تعبدا ما أعبد، وتصلّيا لهذا الصنم، وتقتلا النفس، وتشربا الخمر. فقالا: لا سبيل إلى هذه الأشياء؛ فإن الله عزوجل نهانا عنها، فانصرفت؛ ثم عادت فى اليوم الثالث ومعها قدح من خمرو فى أنفسهم من الميل إليها ما فيها، فراوداها عن نفسها فعرضت عليهما ما قالت بالأمس فقالا: الصلاة لغير الله عظيم، وقتل النفس عظيم، وأهون الثلاثة شرب الخمر؛ فشربا فانتشيا ووقعا بالمرأة وزنيا، فلمّا فرغا رآهما إنسان فقتلاه. قال الربيع بن أنس: وسجدا للصنم فمسخ الله عزوجل الزّهرة كوكبا. وقال علىّ بن أبى طالب والسدّى والكلبىّ رضى الله عنهم: إنها قالت لهما: لن تدركانى حتى تخبرانى بالذى تصعدان به إلى السماء. فقالا: باسم الله الأكبر. قالت: فما أنتما بمدركانى حتى تعلّمانيه. فقال أحدهما لصاحبه: علّمها! قال: إنى أخاف الله. قال الآخر: فأين رحمة الله! فعلّماها ذلك. فتكلّمت به وصعدت الجزء: 15 ¦ الصفحة: 53 إلى السماء. فمسخها الله تعالى كوكبا. فعلى قول هؤلاء هى الزّهرة بعينها، وقيّدوها فقالوا: هى هذه الكوكبة الحمراء واسمها بالفارسية «ناهيد» ، وبالنبطية «بيدخت» . قال: ويدلّ على صحة هذا القول ما رواه الثعلبىّ بسنده إلى علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه قال: كان النبىّ صلى الله عليه وسلم إذا رأى سهيلا قال: «لعن الله سهيلا إنه كان عشّارا «1» باليمن ولعن الله الزّهرة فإنها فتنت ملكين» . وقال مجاهد: كنت مع ابن عمر رضى الله عنهما ذات ليلة فقال لى: ارمق الكوكبة فإذا طلعت فأيقظنى، فلمّا طلعت أيقظته، فجعل ينظر إليها ويسبّها سبّا شديدا، فقلت: رحمك الله تسبّ نجما سامعا مطيعا لله؟ ما له يسبّ! فقال: إن هذه كانت بغيّا فلقى الملكان منها ما لقيا. وقال نافع: كان ابن عمر رضى الله عنهما إذا رأى الزّهرة قال: لا مرحبا بها ولا أهلا. وروى أبو عثمان النهدى عن ابن عباس رضى الله عنهما: أن المرأة التى فتن بها الملكان مسخت، فهى هذه الكوكبة الحمراء، يعنى الزّهرة. قال الثعلبىّ: وأنكر الآخرون هذا القول وقالوا: إن الزهرة من الكواكب «2» السبعة السيّارة التى جعلها الله قواما للعالم، وإنما كانت هذه التى فتنت هاروت وماروت امرأة، كانت تسمّى زهرة من جمالها، فلمّا بغت جعلها الله تعالى شهابا، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 54 فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم الزهرة ذكر هذه المرأة لموافقة الاسمين فلعنها، وكذلك سهيل العشّار. والله أعلم. قالوا: فلما أمسى هاروت وماروت بعد ما قارفا الذنب همّا بالصعود إلى السماء فلم تطاوعهما أجنحتهما، فعلما ما حلّ بهما فقصدا إدريس عليه السلام فأخبراه بأمرهما وسألاه أن يشفع لهما إلى الله عزوجل ففعل ذلك، فخيّرهما الله تعالى بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا إذ علما أنه ينقطع، فهما ببابل يعذّبان. واختلف العلماء فى كيفيّة عذابهما فقال عبد الله بن مسعود رضى الله عنه: هما معلّقان بشعورهما إلى قيام الساعة. وقال قتادة: كبّلا من أقدامهما إلى أصول أفخاذهما. وقال مجاهد: إن جبّا ملئ نارا فجعلا فيه. قال حصيف: معلّقان منكّسان فى السلاسل. وقال عمير بن سعد: منكوسان يضربان بسياط الحديد. وروى أنّ رجلا أراد تعلم السحر فقصد هاروت وماروت فوجدهما معلّقين بأرجلهما، مزرقّة أعينهما، مسودّة جلودهما، ليس بين ألسنتهما وبين الماء إلّا قدر أربع أصابع، وهما يعذّبان بالعطش، فلمّا رأى ذلك هاله مكانهما فقال: لا إله إلا الله، وقد نهى عن ذكر الله هناك. فلمّا سمعا كلامه قالا: من أنت؟ قال: رجل من الناس. قالا: من أىّ أمة أنت؟ قال: من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. قالا: وقد بعث؟ قال نعم. قالا: الحمد لله! وقد أظهرا الاستبشار. فقال الرجل: وممّ استبشاركما؟ قالا: إنه نبىّ الساعة. وقد دنا انقضاء عذابنا. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 55 قال: وأمّا كيفية تعلّم السحر، فقد روى فيه خبر جامع، وهو ما رواه أبو إسحاق بسنده عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضى الله عنها قالت: قدمت علىّ امرأة من أهل دومة الجندل جاءت تبتغى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته تسأله عن شىء دخلت فيه من أمر السحر ولم تعمل به؛ قالت عائشة رضى الله عنها لعروة: يابن أختى، فرأيتها تبكى حين لم تجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت تبكى حتى إنى لأرحمها! تقول: إنى أخاف أن أكون قد هلكت؛ قالت: كان لى زوج فغاب عنّى فدخلت علىّ عجوز فشكوت ذلك إليها فقالت: إن فعلت ما آمرك به فلعلّه يأتيك، فلمّا كان الليل جاءتنى بكبشين أسودين فركبت أحدهما وركبت الآخر، فلم يكن كثير حتى وقفنا ببابل، فإذا برجلين معلّقين بأرجلهما فقالا: ما جاء بك؟ فقلت: أتعلّم السحر، قالا: إنما نحن فتنة فلا تكفرى وارجعى، فأبيت فقلت: لا، فقالا: إذهبى إلى ذلك التنّور فبولى فيه، فذهبت ففزعت فلم أفعل، فرجعت إليهما فقالا: فعلت؟ قلت نعم، قالا: هل رأيت شيئا؟ قلت: لم أرشيئا، فقالا: لم تفعلى، إرجعى إلى بلادك فلا تكفرى، قالت: فأبيت، فقالا: إذهبى إلى ذلك التنّور فبولى فيه، فذهبت فاقشعرّ جلدى فرجعت إليهما فقلت: قد فعلت، فقالا: هل رأيت شيئا؟ فقلت: لم أرشيئا، فقالا: كذبت لم تفعلى، إرجعى إلى بلادك فلا تكفرى فإنك على رأس أمرك؛ قالت: فأبيت، فقالا: إذهبى إلى ذلك التنّور فبولى فيه، فذهبت إليه فبلت فرأيت فارسا مقنّعا بحديد خرج منّى حتى ذهب فى السماء وغاب عنّى حتى ما أراه، فجئتهما فقلت: قد فعلت؛ قالا: فما رأيت؟ قلت: رأيت فارسا مقنّعا بالحديد خرج منّى حتى ذهب فى السماء حتى ما أراه، قالا: صدقت، ذلك إيمانك خرج منك؛ اذهبى. فقلت للمرأة: والله ما أعلم شيئا، وما قالا لى شيئا. فقالت: لن تريدى شيئا إلا كان؛ خذى هذا القمح فابذرى، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 56 فبذرت، قلت: أطلعى، فأطلعت «1» ، فقلت، أحقلى، فأحقلت «2» ، ثم قلت: أفركى «3» ، فأفركت، ثم قلت: أطحنى، فأطحنت، ثم قلت: أخبزى، فأخبزت. فلما رأيت أنى لا أريد شيئا إلا كان، سقط فى يدى وندمت. والله يا أمّ المؤمنين ما فعلت شيئا قطّ، ولا أفعله أبدا. قال: وقال بعضهم: إنهما لا يتعمّدان تعليم السحر ولكنهما يصفانه ويذكران بطلانه ويأمران باجتنابه، فيتعلّم الشقىّ منهما فى خلال صفتهما ويترك موعظتهما ونصيحتهما، فلا يكون على هذا التأويل كفرا وإنما يكون العمل به كفرا. وقد أنكر بعضهم أن يكونا ملكين قال: وإنما كانا ملكين. وقرئ فى الشواذّ: (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) (بكسر اللام) . وقيل: كانا علجين ببابل «4» . حكاه القاضى عياض فى كتاب الشفا «5» . والله تعالى أعلم. ولنرجع إلى أخبار عديم بن البودسير الملك. قال: وعديم أوّل من صلب «6» ؛ وذلك أن امرأة زنت برجل من أهل الصناعات، وكان لها زوج من أصحابه، فأمر الجزء: 15 ¦ الصفحة: 57 بصلبهما على منارتين، وجعل ظهر كلّ منهما إلى ظهر صاحبه، وزبر على المنارتين اسمهما وما فعلاه وتاريخ الوقت الذى عمل ذلك بهما فيه، فانتهى الناس عن الزنا. قال: وبنى أربع مدائن وأودعها صنوفا كثيرة من عجائب الأعمال والطّلّسمات وغير ذلك، وكنز فيها كنوزا كثيرة. وعمل فى الشرق منارا وأقام على رأسه صنما «1» موجّها إلى الشرق، مادّا يديه يمنع دوابّ البحر والرمال أن تتجاوز حدّه، وزبر فى صدره تاريخ الوقت الذى نصبه فيه؛ ويقال: إن هذا المنار قائم إلى وقتنا هذا؛ ولو لاه لغلب الماء المالح من البحر الشرقىّ على أرض مصر. وعمل قنطرة على النيل فى أوّل بلاد النوبة ونصب عليها أربعة أصنام موجّهة [إلى أربع جهات الدنيا «2» ] فى يدى كل صنم جرس يضرب به إذا أتاهم آت من تلك الناحية؛ فلم تزل بحالها إلى أن هدمها فرعون موسى. وهو الذى عمل البربا على باب النوبة، ويقال: إنه عمل فى إحدى المدائن الأربع التى ذكرناها حوضا من صوّان أسود مملوءا ماء لا ينقص على طول الدهر ولا يتغيّر؛ وكان أهل تلك الناحية يشربون منه ولا ينقص ماؤه؛ وإنما عمل ذلك لبعدهم عن النيل وقربهم من البحر لمالح. وقد ذكر بعض كهنة القبط أن ذلك لقربهم من البحر المالح، لأن الشمس فيما ذكروا ترفع بحرّها بخارا فيحصل من ذلك البخار حرّ بالهندسة، وقيل بالسحر. وملكهم عديم مائة سنة وأربعين سنة، ومات وهو ابن سبعمائة سنة وثلاثين سنة. وقيل: إنه دفن فى إحدى المدائن ذات العجائب فى أزج من رخام ملوّن بزرقة، مبطّن برخام أصفر، وطلى جسده بما يمسكه، وجعل حوله كثير من ذخائره، وذلك وسط المدينة، فهى محروسة بما يمنع منها من الروحانيّين. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 58 قال: وذكر بعض القبط أنّ عديما هذا عمل لنفسه فى صحراء قفط على وجه الأرض قبّة عظيمة من زجاج أخضر برّاق، معقودة على ثمانية آزاج من صنفها، على رأسها أكرة من ذهب، عليها طائر من ذهب، متوشّح بجوهر، منشور الجناحين، يمنع من الدخول إليها، وقطرها مائة ذراع فى مثلها، وجعل جسده فى وسطها على سرير من ذهب مشبّك وهو مكشوف الوجه، وعليه ثياب منسوجة بذهب مغروزة بجوهر منظوم؛ والآزاج مفتحة، طول كل أزج ثمانية أذرع، وارتفاع القبّة أربعون ذراعا تلقى الشعاع على ما حولها من الأرض، وجعل حوله فى القبّة مائة وسبعون مصحفا من مصاحف الحكمة، وسبع موائد عليها أوانيها، منها: مائدة من أدرك رمّانىّ أحمر وآنيتها منها. ومائدة من ذهب فيلمونى «1» يخطف البصر، وهو من الذهب الذى تعمل منه تيجان الحكماء، وآنيتها منها. ومائدة من حجر الشمس المضئ بآنيتها. ومائدة من الزبرجد المخروط الذى يخالطه شعاع أصفر بآنيتها، قال: وهذا الزبرجد إذا نظرت إليه الأفاعى سالت عيونها. ومائدة من كبريت أحمر ومدبّر بآنيتها. ومائدة من ملح مدبّر برّاق يكاد نوره يخطف الأبصار بآنيتها. ومائدة من زئبق معقود وقوائمها وحافاتها من زئبق أصفر معقود مضىء، وعليها آنية من زئبق أحمر معقود. وجعل فى القبّة جواهر كثيرة ملوّنة وبرانىّ صنعة مدبّرة، وجعل حوله سبعة أسياف صاعقية وكاهنية وأتراس من حديد أبيض مدبّر، وجعل معه تماثيل أفراس من ذهب، [عليها سروج من ذهب «2» ] وسبعة توابيت من الدنانير التى ضربها وصوّر عليها صورته، وجعل معه من أصناف العقاقير والسمومات والأدوية فى برانىّ الحنتم «3» ، ومن أصناف الأحجار شىء كثير. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 59 قال: وقد ذكر من رأى تلك القبة وأقاموا عليها أياما فما قدروا على الوصول إليها، وأنهم إذا قصدوها وكانوا منها على مقدار ثمانية أذرع دارت القبّة عن أيمانهم وشمائلهم وقد عاينوا ما فيها. ومن أعجب ما ذكروا أنهم كانوا يحاذون آزاجها أزجا أزجا فلا يرون غير الصورة التى يرونها من الأزج الآخر على معنى واحد. وذكروا أنهم رأوا وجهه فى قدر ذراع ونصف بالذراع الكبير، ولحيته كبيرة مكشوفة، وقدّروا طول بدنه عشرة أذرع وزيادة، وأنهم لمّا تهيأ أن يصلوا إليها فنى ماؤهم وخافوا على أنفسهم فرجعوا ليمتاروا ما يكفيهم من الزاد ففعلوا، ثم رجعوا فأقاموا أياما يطوفون تلك الصحراء، ثم أخبروا أنهم رأوا بها عجائب كثيرة وصنوفا من الوحش لم يروا مثلها. قال: وفى كتبهم أنهم لا يصلون إليها إلا بأن يذبح لها ديك أفرق ويبخّر بريشه من بعد، ثم يسأل من المرّيخ الوصول حتى يصل، وتكون الكواكب النيّرة على مثل ما كانت عليه وقت نصبها من اجتماعها فى البروج: يكون زحل والمشترى والمرّيخ فى برج واحد، والشمس والقمر فى برج واحد، والزّهرة وعطارد فى برج واحد، ويتكلّم عليها بصلاة الكهنة سبع مرّات، فإذا وصل إليها لطّخ حائطها بدم الديك الذى قرّبه لها ويأخذ ما شاء من المال والتماثيل ولا يكثر المقام فيها ولا يقيم غير ساعة واحدة. قال: وذكر هؤلاء الذين رأوها أنهم لم يكونوا من تلك الناحية وإنما خرجوا يطلبون غيرها؛ فإنهم سألوا أهل قفط عنها فلم يجدوا من يعرفها ولا رآها غير رجل شيخ منهم، فإنه ذكر أن ابناله خرج فى بعض الأمور ومعه جمل له فرآها ولم يصل إليها، وبحث عن أمرها فعرف أن قوما من الشرق جاءوا فى طلبها وأنهم أقاموا يطوفون بقفط أياما وخرجوا إليها فما رجع أحد منهم ولا عرف لهم خبر. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 60 قال: وكان عديم قد أوصى إلى ابنه شدّاث عند موته أن ينصب فى كل حيّز من أحياز عمومته منارا ويزبر عليه اسمه، فانحدر إلى الأشمونين فعمل منارا وزبر عليه اسمه وعمل بها ملاعب، وعمل فى صحرائها منارا وأقام عليه صنما ذا رأسين باسم كوكبين كانا مقترنين فى الوقت «1» . وخرج إلى أتريب وبنى فيها قبّة عظيمة مرتفعة «2» على عمد وأساطين بعضها فوق بعض، وجعل على رأسها صنما صغيرا من ذهب، وعمل هيكلا للكواكب. وكان أبوه البودسير أوّل من أقام للكواكب فأخذ ذلك عنه. ومضى إلى حيّز صا فعمل فيه منارا على رأسه مرآة من أخلاط تورى الأقاليم، ورجع إلى أبيه فعهد له بالملك. فملك شدّاث «3» بن عديم وهو الذى بنى الأهرام الدهشوريّة من الحجارة التى قطعت فى زمان أبيه. قال: من أنكر أن يكون العاديّة دخلوا مصر إنما غلطوا باسم شدّاث بن عديم فقالوا شدّاد بن عاد لأنه أكثر ما يجرى على ألسنتهم، وقلة ما يجرى على ألسنتهم شدّاث بن عديم؛ وإلا فما قدر أحد من الملوك يدخل مصر ولا قوى على أهلها غير بخت نصّر. وشدّاث الذى عمل مصاحف النار نجيّات «4» ، وعمل هيكل أرمنت «5» وأقام فيه أصناما بأسماء «6» الكواكب من ذهب وفضة وحديد أبيض ونحاس الجزء: 15 ¦ الصفحة: 61 مذهب ورصاص مصفّى وزئبق معقود. وهذه الأجساد المعدنيّة فى طباع الكواكب وفى قسمتها. فلما فرغ منه زيّنه بأحسن زينة ونقشه بأحسن النقوش من الجواهر الملوّنة والزجاج المعمول الملوّن وكساه الوشى والديباج ولم يترك شيئا من التحف إلا عمله، وكذلك عمل فى المدن الداخلة من أنصنا «1» هيكلا، والقبّة التى أقامها بأتريب «2» وهيكلا شرقىّ الإسكندرية، وأقام لزحل صنما من صوّان أسود على عبر النيل من الجانب الغربىّ. وبنى شدّاث من الجانب الشرقىّ مدائن وجعل فيها صورة صنم قائم له إحليل إذا أتاه المعقود والمسحور ومن لا ينتشر فمسّه بكلتا يديه أزال عنه ذلك وانتشر وقوى على الباه، وجعل فى إحداها بقرة لها ضرعان كبيران إذا مسحتهما المرأة التى انعقد لبنها درّ وصلح أمرها. وفى أيامه بنيت قوص «3» العالية، بناها لابن له كان سخط على أمّه فحوّلها إليها وأسكن معها قوما من أهل الحكمة وأهل الصناعات. وقيل: إن شطب «4» بنيت فى أيامه؛ وعمل الصورتين الملتصقتين لكثرة النسل. وكانت الحبش والسودان عاثوا فى بلده فأخرج لهم ابنه منقاوش فى جيش عظيم فقتل منهم وسبى واستعبد الذين سباهم وصار ذلك سنّة لهم، واقتطع معدن الذهب من أرضهم وأقام ذلك الجزء: 15 ¦ الصفحة: 62 السبى يعملون فيه ويحملون الذهب إليه؛ وهو أوّل من أحبّ الصيد واتخذ الجوارح، وولّد الكلاب السلوقيّة من الذئاب والكلاب الأهلية، وعمل البيطرة وما تعالج به الدوابّ، وعمل من العجائب والطلّسمات لكل فنّ ما لا يحصى كثرة، وجمع التماسيح، بطلّسم عمله لها، إلى بركة بناحية أسيوط فكانت تنصبّ إليها من النيل انصبابا فتقتلها، وتستعمل جلودها فى السفن وغيرها، وتستعمل لحومها فى الأدوية والعقاقير المؤلّفة. قال: وبعض القبط يحكى أنه عمل بمصر اثنتى عشرة ألف أعجوبة وطلّسما، ولم يعمل فى بلد كما عمل فيها ولا تهيّأ لأهله ما تهيّأ لهم من ذلك. قال: وأقام شدّاث فى الملك تسعين سنة وخرج يطرد «1» فأكبّ فرسه فى وهدة فقتله. وفى بعض كتبهم: أنه أخذ بعض خدمه، وقد خالفه فى أمر من الأمور، فأمر بطرحه من أعلى الجبل إلى أسفل فطرح فتقطّع جسده، وندم على فعله ذلك فرأى فى منامه أنه سيصيبه مثل ذلك فكان يتوقّاه، وآلى على نفسه ألا يعلو جبلا، وأوصى إن أصابه شىء أن يجعل ناووسه فى الموضع الذى يلحقه فيه ما يلحقه، ويزبر عليه: ليس ينبغى لذى القدرة أن يخرج عن الواجب ويفعل ما لا يجوز له فعله، وهذا ناووس شدّاث بن عديم بن قفطريم الملك، عمل ما لا يحلّ له فكوفئ عليه بمثله. قال: ولمّا هلك عمل له سرب فى سفح الجبل فيه قبّة على مجلس قد صفّح بالفضّة وجعل فيه على سرير ملكه، وجعل معه من الأموال والجواهر والتماثيل وأصناف الحكم والمصاحف شىء كثير. وكان له أربعمائة وأربعون سنة. وملك بعده ابنه منقاوش «2» بن شدّاث؛ فملك بحزم وحنكة وأظهر مصاحف الحكم وأمر بالنظر فيها، وأن ينسخ منها لهم بخطّ العامّة ليفهموها، وردّ الكهنة إلى الجزء: 15 ¦ الصفحة: 63 مراتبهم. وهو أوّل من عمل له الحمّام من ملوك مصر. وكان كثير النكاح؛ تزوّج عدّة نساء من بنات عمه وبنات الكهنة، وجعل لكل امرأة منهن مكانا بجميع ما يصلحه من البنيان العجيب والصور المتقنة والغروس الحسنة والآلات العجيبة، وأسكنهنّ فيها. وقد قال بعض أهل الأثر: إنه الذى بنى منف لبناته وكنّ ثلاثين بنتا ونقلهنّ إليها، وعمل مدنا غيرها ومصانع، وعمل هيكلا لصور الكواكب وأصنامها على ثمانية فراسخ من منف، وعمل بتلك الناحية طلّسمات كثيرة وعجائب أغرب فيها بفضل حكمة أبيه وجدّه، وعمل فى السنة اثنى عشر عيدا لكل شهر عيد يعمل فيه من الأعمال ما كان موافقا لبرج ذلك الشهر؛ وكان يطعم الناس فى تلك الأعياد ويوسّع عليهم، ففرح الناس به ورأوا معه ما لم يروه مع غيره، وفتح عليه من المعادن ما لم يفتح على أحد، وألزم أصحاب الكيمياء العمل فكانوا لا يفترون ليلا ولا نهارا؛ فاجتمع عنده أموال عظيمة وجوهر كثير وزجاج نفيس مسبوك وغير ذلك، فأحبّ كنزه فدعا أخاله فقال له: قد ترى كثرة هذا الذهب والجوهر، وما عمل من هذه التماثيل الكثيرة، ولست آمن أن يتسامع بنا الملوك فيغزونا من أجله، فأمعن فى أرض الغرب ثم انظر مكانا حريزا خفىّ الأثر ثم أحرزه فيه ثم استره بعلامات واكتب صفة المكان وطريقه وعلامته. قال: ويقول أهل الأثر: إنه حمل معه اثنتى عشرة ألف عجلة، منها من الجوهر ثلاثمائة عجلة، وسائرها من الذهب الإبريز الصفائح والمضروب، ومن آلات الملوك وطرائفهم وسلاحهم وأوانيهم؛ فسار فى الجنوب يوما ثم أخذ مغرّبا اليوم الثانى وبعض الثالث، فانتهى إلى جبل أسود منيف ليس له مصعد بين جبال مستديرة حوله، فعمل تحت ذلك الجبل أسرابا ومغاور ودفن فيها ما كان معه وردمها وزبر عليها ورجع؛ فمكث أربع سنين يبعث كل سنة عجلا عظيمة تدفن فى نواح شتّى. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 64 وهو الذى عمل فى أنديمس المدينة بيتا تدور به تماثيل لجميع العلل، وكتب على رأس كل تمثال ما يصلح له من العلاج، فانتفع الناس بها زمانا إلى أن أفسدها بعض الملوك ضنّا بالحكمة. وعمل فى هذه المدينة صورة امرأة مبتسمة لا يراها مهموم إلا زال همّه ونسيه؛ وكان الناس يأتونها ويطوفون حولها ثم عبدوها من بعد. وعمل تمثالا روحانيّا من صفر مذهب بجناحين لا يمرّ به زان ولا زانية إلا كشف عورته بيده، وكان الناس يمتحنون به فامتنعوا من الزنا فرقا منه، واستمرّ كذلك إلى زمن كلكمن الملك؛ وذلك أن بعض نسائه، وكانت حظية عنده، عشقت رجلا من خدم الملك وخافت أن ينتهى إليه خبرها فيمتحنها بذلك الصنم فيقتلها، فاحتالت لذلك فخلا بها الملك فى بعض الليال، وهما يشربان، فأخذت فى ذكر الزوانى وجعلت تسبهنّ وتذمهنّ، فذكر الملك ذلك الصنم وما فيه من المنافع للناس، وما يستحقّ من عمله من الثناء والذكر الجميل؛ فقالت المرأة: إنه كذلك وقد صدق الملك، غير أن منقاوش لم يصب الرأى فى أمره؛ قال الملك: وكيف قلت ذلك؟ قالت: لأنه أتعب نفسه وحكماءه فيما جعله لصلاح العامّة دون نفسه، وهذا أكبر العجز؛ وإنما كان حكم هذا التمثال أن ينصب فى دار الملك حيث تكون نساؤه وجواريه، فإن اقترفت إحداهنّ ذنبا علم بها فيكون رادعا لهنّ متى عرض بقلوبهنّ شىء من الشهوة؛ لأن شهواتهنّ أغلب وأكثر من شهوات الرجال؛ ولو حدث- وأعوذ بسعد الله الأعلى- فى دار الملك شىء من هذا فأحبّ امتحانه فضح نفسه وشاع فى الخاصّ والعامّ أمره، وإن عاقب بغير أمر يتحققه كان متعدّيا آثما، وإن لم يمتحنه صبر على المكروه. قال الملك: صدقت، فكيف الوجه فى هذا الأمر؟ قالت: يأمر الملك بنزع هذا الصنم من مكانه ونقله إلى داره ففعل فبطل عمله، وامتحن فلم يصنع شيئا، فعملت المرأة ما كانت همت به وانهمكت فيه. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 65 قال: ويقال: إن منقاوش بنى هيكلا للسحرة على جبل القصير وقدّم عليه رجلا منهم يقال له مسّيس، فكانوا لا يطلقون الرياح للمراكب المقلعة إلّا بضريبة يأخذونها منهم للملك. وكان الملك إذا ركب عملوا بين يديه التخاييل «1» العجيبة، فيجتمع الناس إليهم ويعجبون من أعمالهم، وأمر أن يبنى لهم هيكل للعبادة يكون لهم خصوصا، وجعل فيه قبّة فيها صورة الشمس والكواكب، وجعل حولها أصناما وعجائب، وكان الملك يركب إليه ويقيم سبعة أيام، وجعل فيه عمودين زبر عليهما تاريخ الوقت الذى عمل فيه، وهما بعين شمس، ونقل منقاوش إلى عين شمس كنوزا وجواهر وطلّسمات وعقاقير وعجائب ودفنها بها وبنواحيها. قال: وكان منقاوش قسم خراج البلاد أرباعا: فربع منه للملك خاصة يعمل منه ما يريد، وربع لأرزاق خدمه، وربع ينفق فى مصالح الأرض وما يحتاج إليه من حفر ترعها وعمل جسورها وتقوية أهلها على العمارة، وربع يدفن لحادثة تحدث وحاجة تنزل. وكان خراج البلد فى ذلك الوقت مائة ألف ألف وثلاثة آلاف دينار. وهو مقسوم على مائة وثلاث كور بعدّة الآلاف. وأقام ملكا إحدى وسبعين سنة، ومات من طاعون أصابه، وقيل: من سمّ جعل له فى طعامه، وعمل له ناووس فى صحراء المغرب، وقيل: فى غربىّ قوص؛ ودفن معه من مصاحف الحكمة والصنعة المعمولة وتماثيل الذهب والجوهر، ومن الذهب المضروب شىء كثير، ودفن معه روحانىّ الشمس من ذهب يلمع، وله جناحان من زبرجد، وصنم على صورة امرأته التى كانت أحظى نسائه عنده وكان يحبّها، فأمر أن تعمل صورتها الجزء: 15 ¦ الصفحة: 66 فى هياكلهم جميعا، فعمل له تمثالها من ذهب بذؤابتين من ذهب أسود، وألبست حلّة من جواهر منظومة وجعلت جالسة على كرسىّ، فكانت تجعل بين يديه فى موضع تجلس فيه يتسلّى بذلك عنها، فدفنت معه عند رجليه. وملك بعده ابنه مناوش بن منقاوش؛ ملك بوصيّة من أبيه، فطلب الحكمة على عادة أبيه واستخرج كتبها وأكرم أهلها، وبذل فيهم الجوائز وطلب الإغراب فى عمل العجائب، وكان كل واحد من ملوكهم يجهد جهده فى أن تعمل له غريبة من الأعمال لم تعمل لمن كان قبله وتثبت فى كتبهم وتزبر على الحجارة فى تواريخهم. قال: ومناوش هذا أوّل من عبد البقر من أهل مصر، وكان السبب فى ذلك أنه اعتلّ علّة يئس منه فيها، وأنه رأى فى منامه صورة روحانىّ عظيم يخاطبه ويقول له: إنك لا يخرجك من علّتك إلا عبادة البقر لأن الطالع كان وقت حلولها بك فى صورة ثور بقرنين؛ ففعل ذلك، وأمر بأخذ ثور أبلق حسن الصورة، وعمل له مجلسا فى قصره وسقفه بقبّة مذهبة، فكان يبخّره ويطيّب موضعه، ووكّل به سادنا يقوم به ويكنس تحته، وكان يتعبّد له سرّا من أهل مملكته، فبرأ من علّته وعاد إلى أحسن أحواله. ويقال: إنه أوّل من عمل العجل وضبّبها بالذهب، وعمل فيها قبابا من الخشب المذهبة وفرشت بأحسن الفرش، وكان يركب عليها مع من أحبّ. وقيل: إنه عمل له ذلك فى علّته لأنه كان لا يقدر على الركوب؛ وكانت البقر تجرّه فإذا مرّ بالمكان النزه أقام فيه، وإن مرّ بالمكان الخراب أمر بعمارته. وقيل: إنه نظر إلى ثور أبلق من البقر الذى يجرّ عجلته فأعجبه حسن بشرته فأمر بترفيهه وسوقه بين يديه إلى كل موضع يسلكه إعجابا به، وجعل عليه جلّا من الدّيباج المنسوج بالذهب، فلما كان فى بعض الأيام- وقد خلا فى موضع منفرد عن أتباعه والثور قائم بين يديه- الجزء: 15 ¦ الصفحة: 67 إذ خاطبه الثور وقال: لو رفّهنى الملك عن السير معه وجعلنى فى الهيكل وعبدنى وأمر أهل مملكته بعبادتى كفيته جميع ما يريده، وعاونته على أمره، وقوّيته فى ملكه، وأزلت عنه جميع علله؛ فارتاع لذلك وأمر بالثور أن يغسل ويطيّب وينظّف ويدخل الهيكل، وأمر بعبادته. وعبد ذلك الثور مدّة وصارت فيه آية أنه لا يبول ولا يروث ولا يأكل إلّا أطراف ورق القصب الأخضر فى كل شهر مرّتين، فافتتن الناس به وصار ذلك أصلا لعبادة البقر. قال: وابتنى مناوش مواضع وكنز فيها كنوزا وأقام أعلاما. وبنى فى صحراء الغرب مدينة يقال لها ديماس وأقام فيها منارا ودفن حولها كنوزا. قال: ويقال: إن هذه المدينة قائمة، وإن قوما جازوا بها من نواحى الغرب وقد أضلّوا الطريق فسمعوا بها عزيف الجنّ ورأوا أضواء نيرانهم. قال: وفى بعض كتبهم أنّ ذلك الثور، بعد مدّة من عبادتهم له، أمرهم أن يعملوا صورته من ذهب أجوف، ويؤخذ من رأسه هو شعرات، ومن ذنبه ومن نحاتة قرونه وأظلافه، ويجعل ذلك فى التمثال، وعرّفهم «1» أنه يلحق بعالمه وأمرهم أن يجعلوا «2» جسده فى جرن من حجر [أحمر «3» ] ويدفن فى الهيكل وينصب تمثاله عليه، ويكون ذلك وزحل فى شرفه والشمس مسعودة تنظر إليه من تثليث والقمر فى الزيادة، وينقش على التمثال علامات الكواكب السبعة ففعلوا ذلك، وعملت الصورة من ذهب ملمّع على شبه الثور، وجعل له قرنان من ذهب وكلّلا بأصناف الجواهر، وجعلوا عينيه جزعتين سوادا فى بياض، ودفن جسد الثور فى الجرن الأحمر. قال: وجعل فى المدينة شجرة تطلع كل لون من الفاكهة، ومنارا فى وسطها طوله ثمانون ذراعا، وعلى رأسه قّبة تتلون فى كل يوم لونا حتى تمضى سبعة أيام الجزء: 15 ¦ الصفحة: 68 ثم تعود إلى اللون الأوّل فيكسو المدينة من تلك الألوان، وجعل حول المنار ماء شقّه إليه من النيل، وجعل فى ذلك الماء سمكا من ذلك اللون، وجعل حول المدينة طلّسمات رءوسها رءوس قردة وأبدانها أبدان الناس، كل واحد منها لدفع مضرّة أو اجتلاب منفعة، وعمل على أبواب المدينة، وهى أربعة أبواب «1» ، على كل باب صنما، ودفن تحت كلّ صنم كنزا من الكنوز؛ وباب كل واحد منها على قياس مائة ذراع منه إلى الجهة التى وجهه منصرف إليها، وكتب على كل واحد منها قربانه وبخوره والوصول إليه، وأسكنها السحرة فكانت تعرف بمدينة السحرة، ومنها كانت أصناف السحرة تخرج. قال: وأقام مناوش فى الملك سبعا وثلاثين سنة وملك، وعمل له ناووس تحت الجبل الغربىّ، وجعل وصيّته إلى ابنه من بعده هرميس بن منقاوش، فملك إحدى عشرة سنة لم يبن بنيانا ولا نصب منارا ولا عمل فى أيامه أعجوبة حتى إنه لم يكن يذكر فى عداد ملوكهم. فهذا ما أورده فى أخبار قفطريم بن قبطيم وبنيه على توال واتساق فلنذكر أخبار أشمون. ذكر أخبار أشمون ومن ملك من بنيه هو أشمون بن قبطيم بن مصريم بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام؛ وهو أخو قفطريم أبى الملوك الذين قدّمنا ذكرهم. كان ملكه من أشمونين إلى منف، ومن الشرق إلى البحر المالح، ومن الغرب إلى حدود برقة، وهو آخر حدّ مصر، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 69 ومن الصعيد إلى حدّ أخميم. وكان ينزل مدينة الأشمونين وله بنيت وباسمه سمّيت، وكان طولها اثنى عشر ميلا فى مثلها. قال إبراهيم: وأشمون أوّل من اتّخذ الملاعب بأنصنا والبهنسا وغيرها، وبنى القصور وغرس الغروس، وبنى مدينة تعرف بقمنطر ذات العجائب، وهى بالقرب من مدينة السحرة التى تقدّم ذكرها فى أخبار منقاوش. قال: وفى وسط هذه المدينة قبّة تمطر شتاء وصيفا مطرا خفيفا، وتحت القبّة مطهرة فيها ماء أخضر يتداوى به من كل داء فيبرئه، وفى شرقها سرب لطيف له أربعة أبواب، لكل باب منها عضادة صورة وجه يخاطب كل واحد منها صاحبه بما يحدث فى قومه، ومن دخل تلك البربا على غير طهارة نفخوا عليه فأصابته علّة فظيعة لا تفارقه إلى أن يموت. وكانوا يقولون إنّ فى وسطه مهبط النور وهو فى صورة العمود، من اعتنقه لم يحتجب عن نظره شىء من الروحانيّات، ويسمع كلامهم ويرى ما يعملون، وعلى كل باب من أبواب هذه المدينة صورة راهب فى يده مصحف فيه علوم الكهنة، فمن أحبّ ذلك العلم أتى تلك الصورة فمسحها بيديه وأمرّهما على صدره، فيثبت ذلك العلم فى صدره. ويقال: إن هاتين المدينتين قمنطر ومدينة السحرة بنيتا على اسم هرمس وهو عطارد، وأنهما بحالهما. قال: وحكى عن رجل أنه أتى عبد العزيز بن مروان، وهو على مصر، فعرّفه أنه تاه فى صحراء الشرق وأنه وقع على مدينة خراب، وأنه وجد فيها شجرة تحمل من كل فاكهة، وأنه أكل منها وتزوّد؛ فقال له رجل من القبط: هذه إحدى مدينتى هرمس وفيها كنوز كثيرة؛ فوجّه عبد العزيز معه جماعة وحمل معهم زادا وماء، فأقاموا يطوفون شهرا فى تلك الصحارى فلم يقفوا لها على أثر. ويقال: إن أشمون عمل فى وقته على باب الأشمونين إوزّة من نحاس، فكان الغريب إذا دخل المدينة صاحت الإوزّة وخفقت بجناحيها فيعلم به، فإن أحبّوا منعوه، وإن أحبّوا تركوه. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 70 قال: وفى أيامه كثرت الحيّات فكانوا يصيدونها ويعملون من لحومها الأدوية والدّرياقات، ثم ساقوها بسحرهم إلى وادى الحيّات فى جبال لوبية ومراقية فسجنوها هناك. قال: وهو أوّل من عمل النوروز بمصر ورتبه سبعة أيام يدمنون فيها الأكل والشرب واللهو. وفى زمانه بنيت البهنسا وأقام بها أسطوانات، وجعل فيها «1» مجلسا من زجاج أصفر وعليه قبّة مذهبة، فكانت الشمس إذا طلعت على القبّة ألقت شعاعها على المدينة. وعمل فيها عجائب كثيرة يطول الشرح بذكرها. قال: ويقال إن أشمون كان أوّل إخوته ملكا، وكان أعدل بنى أبيه وأرغبهم فى صنعة تبقى ويبقى ذكرها. وهو الذى بنى المجالس المصفّحة بالزجاج الملوّن فى وسط النيل. وتزعم القبط أنه بنى سربا تحت الأرض من الأشمرنين إلى أنصنا تحت النيل. وقيل: إنه عمله لبناته لأنهنّ كنّ يمضين إلى هيكل الشمس. وكان هذا السرب مبلّط الأرض والحيطان والسقف بالزجاج الثخين الملوّن. وقيل: إنه كان أطول إخوته ملكا. وقال أهل الأثر: إنه ملك ثمانمائة سنة، وإن قوم عاد انترعوا منه الملك بعد ستمائة سنة من ملكه وأقاموا تسعين سنة واستوبؤا البلد فانتقلوا [إلى الدّثينة من طريق الحجاز إلى وادى القرى فعمروها «2» ] واتخذوا [بها «3» ] المنازل والمصانع فسلّط الله عليهم الذّرّ فأهلكهم، وعاد ملك مصر إلى أشمون بعد خروجهم من البلد. ويقال: إنه ملكهم ثمانمائة سنة وثلاثين سنة، ودفن فى أحد الأهرام الصّغار القبليّة. وقيل: بل عمل له ناووس فى غربى الأشمونين ودفن معه فيه من الأموال والعجائب شىء كثير، وأصنام الكواكب السبعة التى كانت فى هيكل المرآة التى ترى منها الأقاليم، ودفن معه ألف سرج من ذهب وفضّة، وعشرة آلاف الجزء: 15 ¦ الصفحة: 71 خابية صغار من ذهب وفضّة وزجاج، وألف عقّار مدبّرة لفنون الأعمال وزبر عليه اسمه ومدّة ملكه والوقت الذى مات فيه. واستخلف ابنه مناقيوس بن أشمون. وكان جلدا محنّكا فاستأنف العمارة وبنى القرى ونصب الأعلام، وجمع الحكمة ومصاحف الملوك والحكماء وعمل العجائب، وبنى لنفسه مدينة وانفرد بها، وعمل عليها حصنا ونصب عليه أربعة أعلام، فى كل ركن من أركانه علم، وبين تلك الأعلام ثمانون صنما من نحاس وأخلاط، فى أيديها آلات السلاح وزبر على صدرها آياتها. قال: وكان بمنف رجل من أولاد الكهنة من أعلم الناس بالسحر وأبصرهم بأخذ التماسيح والسباع، وكان يعلّم الغلمان السحر فإذا حذقوا علّم غيرهم؛ فأمر الملك أن تبنى له مدينة ويحوّل إليها فبنيت، وهى إخميم. وملك مناقيوس نيّفا وأربعين سنة ومات فدفن فى الهرم المحاذى لإطفيح، ونقل معه شىء كثير من المال والجواهر والآنية والتماثيل، وزبر عليه اسمه والوقت الذى مات فيه. وملك بعده ابنه- ولم يسمّه إبراهيم «1» - فكان أحزم من أبيه، فعظم فى عيون أهل مصر. وهو أوّل من عمل الميدان وأمر أصحابه برياضة أنفسهم فيه. وأوّل من عمل البيمارستانات لعلاج المرضى والزمنى وأودعها العقاقير ورتّب فيها الأطبّاء وأجرى عليهم ما يسعهم، وأقام الأمناء على ذلك، وصنع لنفسه عيدا وسماه عيد الملك؛ فكان الناس يجتمعون اليه فى يوم من السنة، فيأكلون ويشربون الجزء: 15 ¦ الصفحة: 72 سبعة أيام وهو يشرف عليهم فى مجلس قد بنى له على عمد قد طوّقت ذهبا وألبست فاخر الذهب المنسوج، وعليه قبّة مصفّحة من داخلها وخارجها بالذهب والزجاج المسبوك، وكان يعطى كلّ قوم قسطهم من النظر ثم يكثرون الدعاء له وينصرفون الى مواضعهم. وفى أيامه بنيت سنتريّة «1» فى صحراء الواحات، عملها من حجارة بيض مربّعة على تقدير واحد، وجعل فى كل حائط من حيطانها بابا فى وسطه شارع ينتهى الى الحائط المجاور له من الجهة الأخرى، وجعل فى كل شارع أبوابا يمنة ويسرة تنتهى طرقاتها الى داخل المدينة، وجعل فى وسط هذه المدينة ملعبا يدور به من كل ناحية سبع درج؛ وعمل عليه قبّة من خشب مدهون على عمد «2» عظيمة من رخام، وفى وسطه منار من رخام عليه صنم من صوّان أسود يدور مع الشمس بدورانها، وبسائر نواحى القبّة صور معلّقة تصفر وتصيح بلغات مختلفة. وكان الملك يجلس على الدرجة العالية من الملعب وحوله بنوه وأقار به وأبناء الملوك، وعلى الدرجة الثانية رؤساء الكهنة [والوزراء «3» ] ، وعلى الثالثة رؤساء الجيش، وعلى الرابعة أصحاب الفلسفة والمنّجمون والأطبّاء وأصحاب العلوم، وعلى الخامسة أصحاب العمارات، وعلى السادسة أصحاب المهن، وعلى السابعة العامّة؛ فيقال لكل طائفة منهم: انظروا من دونكم ولا تنظروا من فوقكم، فإنكم لا تلحقونهم. فكان فى هذا ضرب من التأديب. قال: وكان للملك عدّة نسوة، وكان يحبّ منهنّ امرأتين ويتحظّاهما ويجمع بينهما فى مجلس واحد، فمال لإحديهما فى بعض الأيام دون الأخرى، فغارت الجزء: 15 ¦ الصفحة: 73 وغرب عقلها وتناولت سكّينا ودخلت الى الملك وهو مغتر وتلك المرأة جالسة الى جنبه فضربتها بالسكّين، وقام الملك دونها ليمنعها منها فضربته على فؤاده فخرّ صريعا، وقبض على المرأة وحبست، ومات الملك. وقد أوصى بقتل المرأة ووضع رأسها على ناووسه. ومدّة ملكه ستون سنة. وملك بعده ابنه مرقورة الملك؛ فدخل عليه العظماء وهنوه ودعوا له بدوام الملك والنعمة، وكان حازما عاقلا، فأخذ فى حسن التدبير وتقويم العمارة وترتيب المراتب، وجعل لرأس الكهّان الحكومة فى أمر الدّين. قال: وفى كتبهم أنه أوّل من ذلّل السباع بمصر وركبها. قال: وبنى [المدن «1» وعمّر] الهياكل وأقام الأصنام التى غربى منف، وكان ملكه نيّفا وثلاثين سنة، وعمل له ناووس على طريق الغرب على مسافة يومين. وقلّة ابنه بلاطس بن مرقورة، فملك وهو صبىّ، وكانت أمّه تدبّر الملك مع الوزراء والكهنة، وكانت حازمة مجرّبة، فأجرت الأمور على ما كانت فى حياة أبيه، وأحسنت الى الأولياء، وعدلت فى الرعيّة، ووضعت عنهم بعض الخراج فأحبّوها. وعملت فى وقته البركة العظيمة فى صحراء الغرب، وجعل فى وسطها عمود طوله ثلاثون ذراعا، فى أعلاه قصعة من حجارة يفور منها الماء فهى لا تنقص أبدا، وجعل حولها أصنام حجارة ملوّنة من كل صنف على صور الحيوان والوحش والطير، وكان كل جنس يأتى الى صورته ويألفها فيؤخذ ولا يدرى. قال: ولمّا ترعرع الملك أحبّ الصيد ولهج به، فعملت له أمّه متنزّها فيه مجالس مركّبة على أساطين من المرمر مصفّحة بالذهب، عليها قباب مرصّعة بالتصاوير الجزء: 15 ¦ الصفحة: 74 العجيبة والنقوش المؤلّفة، يطلع من تحتها الماء فى فوّارات وتنصب الى أنهار مصفّحة بالفضّة تفضى الى حدائق فيها بدائع الغروس، عليها تماثيل تصفر بأصناف اللغات، ونضّدت بأنواع الفواكه، وأرخت عليها ستور الدّيباج المنسوجة بالذهب، واختارت له من بنات الملوك الحسان وأزوجته منهنّ، وبنت حول تلك الجنة مجالس يجلس فيها الوزراء والكهنة وأشراف أهل الصناعات يرفعون اليه ما يعملونه، فكان أكثر مقام الملك فى تلك الجنة، فإذا فرغوا من أعمالهم نقل اليهم الطعام والشراب من مطبخه، ولا يزالون فى أكل وشرب بقية يومهم وليلتهم، وأقاموا على ذلك والأمور جارية على السداد. وكانت أيامه سعيدة كثيرة الخصب والسعة للناس والعدل فيهم والإحسان اليهم. وكان له يوم يخرج فيه الى الصيد ويرجع الى جنّته فيأمر لمن معه بالجوائز والأطعمة والأشربة، ويجلس يوما للناس فينظر فى أمورهم ومصالحهم ويقضى حوائجهم، ويجلس يوما للخلوة بنسائه، ثم جدر فمات؛ وعمل له ناووس فى جنّته وجعل فيه من الأموال والجواهر والصنعة والتماثيل كما كان يجعل لآبائه. وكان ملكه ثلاث عشرة سنة، وانتقل الملك إلى أعمامه. ذكر أخبار أتريب الملك هو أتريب بن قبطيم بن مصريم بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام. قال: وكان أتريب قد انتقل إلى حيّزه بعد وفاة أبيه قبطيم، وهى المدينة التى كان أبوه بناها له، وكان طولها اثنى عشر ميلا، ولها اثنا عشر بابا، وفى شارعها الأعظم ثلاث قباب عالية على عمد بعضها فوق بعض، منها قبّة فى وسط المدينة، وقبّتان فى طرفيها، وجعل على كل ركن منها مرقبا كبيرا يوقد ليلا، وعلى كل باب من أبوابها الجزء: 15 ¦ الصفحة: 75 حرسا كثيرا، وجعل فى كل جانب منها ملعبا ومجالس ومتنزّهات تشرف من تلك المجالس عليها، وشقّ فى عرضها «1» نهرا وعمل عليه قناطر معقودة، وبنى فوقها مجالس يتّصل بعضها ببعض، وجعل حوله منازل تدور بالخليج متّصلة بالقناطر على رياض مزروعة وخلفها الأجنّة والبساتين؛ وعلى كل باب من أبوابها أعجوبة من تماثيل وأصنام متحرّكة وأصنام ينبع الماء من آذانها، ومن داخل كل باب صورة شيطانين من صفر، فكان إذا قصدها أحد من أهل الخير قهقه الشيطان الذى عن يمنة الباب، وإن كان من أهل الريب «2» بكى الشيطان الذى عن يسرة الباب، وجعل فى كل متنزّه منها من الوحوش الآلفة والطير المغرّدة كل مستحسن، وجعل فوق قباب المدينة صورا تصفر إذا هبّت الرياح، ونصب له فيها مرايا ترى البلدان البعيدة والعجائب الغريبة، وبنى حذاءها فى الشرق مدينة وجعل فيها ملاعب وأصناما بارزة كثيرة فى خلق مختلفة، وجعل فى وسطها بركة إذا مرّ بها الطير سقط عليها فلا يبرح حتى يؤخذ، وجعل لها حصنا [باثنى عشر بابا «3» ] وجعل على كل باب من أبوابها تمثالا يعمل أعجوبة وعمل حولها أجنّة، وجعل ما يقرب منها من ناحية الشرق مجلسا منقوشا على ثمانى أساطين، وفوق المجلس قبّة عليها طائر منشور الجناحين يصفر كل يوم ثلاث صفرات: بكرة، ونصف النهار، وعند الغروب، وأقام فيها أصناما وعجائب كثيرة، وبنى مدنا كثيرة وأكثر من العمارات، وأقام رجلا يقال له برسان يعمل الكيمياء، وضرب منها دنانير، فى كل دينار سبعة مثاقيل عليها صورته، وعمل منها تماثيل كثيرة. وعاش أتريب فى الملك ثلاثمائة سنة وستين سنة، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 76 وكانت سنّه خمسمائة سنة. وعمل له ناووس فى جبل بالشرق حفر [له «1» ] تحته سرب بطّن بالزجاج [والمرمر «2» ] وجعل على سرير من ذهب [مرصّع «3» ] وحملت إليه ذخائره، وجعل على بابه صورة تنّين لا يدنو منه أحد إلّا أهلكه، وزبر عليه اسمه وتاريخ وقته، وسفوا عليه الرمال. وملكت بعده ابنته [تدرورة «4» ] فدبّرت الملك وساسته بأيد وقوّة خمسا وثلاثين سنة ثم ماتت. فقام بالملك بعدها أخوها «5» فليمون «6» بن أتريب؛ فردّ الوزراء إلى مراتبهم، وأقام الكهّان [على مواضعهم «7» ] ولم يخرج الأمر عن رأيهم، وجدّ فى العمارات وطلب الحكم وعمل بها. وفى أيامه بنيت تنّيس الأولى التى غرّقها البحر، وكان بينها وبين البحر شىء كثير، وحولها الزروع والأشجار والكروم والقرى ومعاصر الخمر وغيرها وعمارة لم يكن أحسن منها، فأمر الملك أن يبنى له [فى «8» ] وسطها مجالس، وينصب له عليها قباب، وتزيّن بأحسن الزينة والنقوش، وأمر بفرشها وإصلاحها، وكان إذا بدأ النيل فى الزيادة انتقل الملك إليها فأقام بها إلى النّوروز ورجع. وكان للملك بها أمناء يقسّمون المياه ويعطون كل قرية قسطها، وكان على تلك القرى حصن يدور بقناطر، وكان كل ملك يأتى يأمر بعمارتها والزيادة فيها ويجعلها له متنزّها. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 77 ويقال: إن الجنّتين اللتين ذكرهما الله تعالى فى كتابه كانتا لأخوين من أهل بيت الملك أقطعهما الملك ذلك الموضع. وقد تقدّم ذكر خبرهما عند ذكرنا لبحيرة «1» تنّيس، وهو فى الباب السادس من القسم الرابع من الفن الأوّل فى ذكر البحار والجزائر وهو فى السفر الأوّل من كتابنا هذا. قال: وفى زمان فليمون بنيت دمياط على اسم غلام له كانت أمّه ساحرة لفليمون. قال: وملك فليمون تسعين سنة، وعمل لنفسه ناووسا فى لجبل الشرقىّ، وحوّل إليه من الأموال والجواهر وسائر الذخائر شيئا كثيرا، وجعل من داخله تماثيل تدور بلوالب فى أيديها سيوف فمن دخلها قطّعته بسيوفها. وجعل عن يمينه ويساره أسدين من نحاس مذهب بلوالب أيضا فمن دنا منهما حطّماه، وزبر على الناووس: هذا قبر فليمون بن أتريب بن قبطيم بن مصريم، عمّر عمرا، وبقى دهرا، وأتاه الموت فما استطاع له دفعا، فمن وصل إليه فلا يسلبه ما عليه، وليأخذ مما بين يديه. وصار الملك بعده إلى ابنه قرسون بن فليمون؛ وجلس على سرير الملك، ودخل إليه عظماء أهل البلد والخاص والعام فهنؤه بالملك، فتقدّم فى أمر الهياكل والكهنة وطلب الحكمة؛ وكان حدثا جميلا فعشقته إحدى نساء أبيه، وكانت تتولى طيبة «2» وتزعم أن أباه أمرها بذلك، ثم بعثت إلى ساحرة من أعلم السحرة بمنف «3» الجزء: 15 ¦ الصفحة: 78 فسألتها أن تسحره لها وبذلت لها على ذلك أموالا، وإذا الساحرة قد عشقته أشدّ من عشقها، فسعت بامرأة أبيه وعرّفته ما بذلت لها على ذلك، فأبعدها عن مجلسه ومنعها من الدخول إليه. وبلغ ملكا من ملوك حمير أن ملك مصر صار إلى غلام حدث غرّ فطمع فيه وسار إليه فى جموع عظيمة، فخرج قرسون نحوه فالتقوا بأيلة «1» واقتتلوا قتالا شديدا حتى تفانّى الفريقان، فأتت تلك الساحرة إلى الملك فقالت: ما تجعل لى إن أعنتك على عدوّك حتى تفضّ جموعه وتظفر به؟ قال حكمك؛ فأخذت عليه بذلك العهود والمواثيق، وأصبحوا للحرب فدخّنت الساحرة بدخن عجيبة وأظهرت تخاييل هائلة، فهرب الحميرىّ فى نفر يسير من ثقاته، وقتل بقية أصحابه، وحاز جميع ما كان فى خزائنهم، وعاد الملك إلى منف بالظفر والغنيمة، فأتته الساحرة فسألته الوفاء بالشرط فقال: احتكمى ما أحببت، فهذه الأموال والخزائن بين يديك؛ فقالت: ما أريد غير الملك؛ فقال: ويحك! إنك لست من أهل بيت الملك، وقد علمت ما فى هذا على الملك؛ فقالت: قد كان الملوك قبلك يغصبون نساء الناس ويلدن منهم ولا يسألون عن ولاداتهم، وأنا ابنة فلان رئيس الكهنة، ويوشك أن يحتاج الملك إلىّ بعد هذا. ولم تزل به حتى انصرف قلبه اليها، فتزوّجها وأحبّها وحظيت عنده. فضاقت الأرض بامرأة أبيه فأخذت فى أعمال الحيلة عليها؛ فدسّت جارية لها عاقلة لطيفة على ساقى الملك الذى يتولّى شرابه، فاختلطت بجواريه حتى الجزء: 15 ¦ الصفحة: 79 تمكّنت من إناء كان فيه شراب للملك فألقت فيه سمّا وعادت فى الوقت إلى مولاتها وأخبرتها، فدخلت إلى الملك فسجدت له وقالت: قد كنت للملك ناصحة، وعليه مشفقة، فأقصانى واختصّ هذه الساحرة الفاجرة، وقد سمّت شرابه فى إناء من صفته كذا وكذا، فليسقها الملك منه ليعلم صدقى؛ فدعا الملك بالإناء فوجده على ما ذكرت، فأحضر الساحرة وأمرها بشرب قدح منه فشربته ولم تعلم ما فيه فسقط لحمها عن عظمها، فأمر بدفنها فى ناووس وزبر عليه اسمها وما همّت به وما صار أمرها إليه، وعاد إلى امرأة أبيه وتزوّج بها وحسنت حالها عنده. قال: وفى أيامه عمل المنار على بحر القلزم «1» وجعلت على رأسه مرآة من أخلاط تجتذب المراكب على شاطىء البحر، فلا يمكنها أن تبرح أو تعشّر، فإذا عشّرت سترت المرآة فتجوز المراكب. قال: وأقام قرسون ملكا مائتين وستين سنة؛ وقد كان عمل لنفسه ناووسا خلف الجبل الأسود الشرقىّ. وجعل فى وسطه قبّة فيها اثنى عشر بيتا، فى كل بيت أعجوبة لا تشبه الأخرى، وزبر عليها اسمه ومدّة ملكه. قال: وملك بعده ثلاثة أو أربعة. فهؤلاء الذين سمّاهم من أولاد أتريب ممن ملك منهم. والله أعلم «2» . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 80 ذكر» أخبار صابن قبطيم بن مصريم بن بيصر بن حام ابن نوح عليه السلام قال: ولمّا قسم قبطيم الأرض بين بنيه الأربعة كما تقدّم وانتقل كل واحد منهم إلى حيّزه، خرج صا بأهله وولده وحشمه إلى حيّزه، وهو بلد البحيرة وما يليها إلى برقة، ونزل مدينة صا، وذلك قبل أن تبنى الإسكندرية. وكان صا أصغر ولد أبيه وأحبّهم إليه، فلمّا ملك حيّزه أمر بالنظر فى العمارة، وبنى المدائن والبلدان والهياكل، وعمل فى إظهار العجائب كما صنع إخوته، وطلب الزيادة فى ذلك. وكان مرهون «2» الهندى «3» صاحب بنائه «4» ، فبنى له من حدّ صا إلى حدّ لوبية ومراقية على عبر البحر أعلاما، وجعل على رءوس تلك الأعلام مرايا من أخلاط شتّى: فكان منها ما يمنع من دوابّ البحر وأذاهم، ومنها ما إذا قصدهم عدوّ من الجزائر الداخلة وأصابها الشمس ألقت شعاعها على مراكبهم فأحرقتها، ومنها ما يرى المدائن التى تجاورهم من عدوة البحر وما يعمله أهلها، ومنها ما ينظر منها إلى إقليم مصر فيعلم ما يخصب وما يجدب منه فى كل سنة. وجعل فيها حمامات توقد من نفسها ومستشرفات. وكان كل يوم فى موضع منها بمن يخصّه من حشمه وخدمه، وجعل حولها بساتين وسرّح فيها الطيور المغرّدة والوحش المستوحش والمستأنس والأنهار المطردة والرياض المونقة، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 81 وجعل شرف القصر من حجارة ملوّنة تلمع إذا أصابتها الشمس فتنشر شعاعها على ما حولها؛ ولم يدع شيئا من آلة النعمة والرفاهية إلا استعمله. فكانت العمارة ممتدّة إلى برقة فى رمال من رشيد إلى الإسكندرية إلى برقة. وكان الرجل يسافر فى أرض مصر لا يحتاج إلى زاد لكثرة الفواكه والخيرات، ولا يسير إلا فى ظلال تستره من الشمس. وعمل فى تلك الصحارى قصورا وغرس فيها غروسا، وساق إليها من النيل أنهارا. وكان يسلك من الجانب الغربىّ إلى حدّ الغرب فى عمارة متصلة. قال: فلما انقرض أولئك القوم بقيت آثارهم فى تلك الصحارى وخربت تلك المنازل وباد أهلها. قال: ولا يزال من دخل تلك الصحارى يحكى ما رأى فيها من الآثار والعجائب. قال: ومن ملوكهم مرقونس؛ وكان [فاضلا «1» ] حكيما، محبّا للنجوم والحكمة، فعمل فى أيامه درهم إذا ابتاع به صاحبه شيئا اشترط أن يزن له ما يبتاعه منه بوزن الدرهم ولا يطلب عليه زيادة، فيغترّ البائع بذلك ويقبل الشرط، فإذا تمّ ذلك بينهما وقع فى وزن الدرهم أرطال كثيرة تساوى عشرة أضعافه، وإن أحبّ أن يدخل فى وزنه أضعاف تلك الأرطال دخل. قال: وقد وجد هذا الدرهم فى كنوزهم فى أيام بنى أميّة، فكان الناس يتعجّبون منه. وقد كانوا وجدوا درهما آخر قيل إنه عمل فى وقته أيضا يكون فى ميزان الرجل، فإذا أراد أن يبتاع حاجة أخذ الدرهم من ميزانه وقلبه «2» وقال: اذكر العهد، ومضى فابتاع به ما أراد، فإذا أخذ السّلعة ومضى إلى بيته الجزء: 15 ¦ الصفحة: 82 وجد الدرهم قد سبقه إلى منزله، ووجد البائع حيث وضعه ورقة آس أو قرطاس أو مثل ذلك بدور «1» الدرهم. وقيل: إن فى وقته عملت الآنية الزجاج التى توزن، فإذا ملئت [ثم «2» ] وزنت لم تزد على وزنها الأوّل شيئا، وهى تحمل من الماء بوزنها. وعمل أيضا فى وقته الآنية التى إذا جعل الماء فيها صار خمرا فى لونه ورائحته وسكره. قال: وقد وجد من هذه الآنية بإطفيح «3» فى إمارة هارون بن خمارويه بن أحمد ابن طولون شربة جزع «4» بعروة زرقاء ببياض. وكان الذى وجدها أبو الحسن [الصائغ «5» ] الخراسانىّ هو ونفر معه، فجلسوا ليأكلوا على عبر النيل وشربوا الماء بها فوجدوه خمرا فسكروا منه ورقصوا، فوقعت الشربة فانكسرت على عدّة قطع، فاغتمّ الرجل وجاء بها إلى هارون مكسورة، فأسف عليها وقال: لو كانت صحيحة لاشتريتها ببعض ملكى. وفى أيامه عملت الصورة الحنتمية من الضفادع والخنافس والذباب والعقارب وسائر الحشرات «6» ، فكانت إذا جعلت فى موضع من المواضع اجتمع إليها ذلك الجنس بعينه ولا يقدر أن يفارقها حتى يقتل. وعمل فى صحراء الغرب ملعبا من زجاج ملوّن، وجعل فى وسطه قبّة من الزجاج خضراء صافية اللون؛ وكانت إذا طلعت عليها الشمس ألقت شعاعها على المواضع البعيدة. وعمل من أربع جهاته أربعة مواضع عالية من الزجاج، كلّ مجلس منها بلون، ونقش كلّ مجلس منها بما الجزء: 15 ¦ الصفحة: 83 يخالف لونه من الطلّسمات العجيبة والنقوش الغريبة والصور البديعة؛ كل ذلك من زجاج مطابق يشفّ. وكان يقصد هذا الملعب ويقيم فيه الأيام الكثيرة. وعمل له ثلاثة أعياد فى كل سنة، فكانوا يحجّون إليه ويذبحون له ويقيمون فيه سبعة أيام؛ فلم يزل ذلك الملعب بحاله تقصده الأمم لتنظر إليه لأنه لم يكن له نظير ولا شكل، ولا عمل [فى العالم «1» ] مثله إلى أن هدمه بعض الملوك لأنه تعاطى مثله فلم يقدر على ذلك. وكانت أمّ مرقونس ابنة ملك النوبة، وكان أبوها يعبد نجما يقال له السّها، ويسمّيه إلها، فسألت ابنها أن يعمل لها هيكلا ويفردها «2» به، فعمله لها وصفّحه بالذهب والفضّة [وأقام فيه صنما «3» ] وأرخت عليه ستور الحرير، فكانت تدخل إليه مع جواريها وحشمها وتسجد له كل يوم ثلاث مرّات. وعملت فى كل شهر عيدا تقرّب له فيه القرابين وتبخّره ليله ونهاره، ونصبت له كاهنا من النوبة فكان يقوم به ويبخّر [هـ «4» ] ويقرّب [له «5» ] ، ولم تزل بابنها حتى سجد له ودعا الناس إلى عبادته. قال: ولمّا رأى الكاهن أنّ الأمر قد أحكم له من جهة الملك فى عبادة الكواكب، أحبّ أن يكون له مثالا فى الأرض على صورة شىء من الحيوان يتعبّد له ليكون حذاء عينيه؛ فأقام يعمل الحيلة فى ذلك إلى أن اتفق بمصر كثرة العقبان حتى أضرّت بالناس، فأحضره الملك وسأله عن كثرتها فقال: إنّ إلهك أرسلها لتعمل له نظيرا يسجد له. فقال الملك: إن كان ذلك يرضيه فأفعله، فعمل تمثال عقاب طوله ذراعان فى عرض ذراع من ذهب مسبوك، وعمل عينيه من ياقوتتين، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 84 وعمل له وشاحين من لؤلؤ منظوم على أنابيب جوهر [أخضر «1» ] ، وجعل فى منقاره كرة «2» معلّقة وسروله بأدرك أحمر، وأقامه على قاعدة [من «3» ] فضّة منقوشة، وركّبها على قائمة زجاج أزرق، وجعله فى أزج عن يمين الهيكل، وألقى عليه ستور الحرير، وجعل [له] دخنة معمولة من جميع الأفاويه والصمغ، وقرّب له بعجل أسود وبكارة الفراريج وبواكير الفواكه والرياحين. فلما تمّت له سبعة أيام دعاهم إلى السجود له فأجابوه. ولم يزل [الكاهن «4» ] يجهد نفسه فى عبادته، وعمل له عيدا دعاهم فيه إلى أن يبخّر له فى أنصاف الشهور بالمندل وترشّ الهياكل بالخمر العتيقة [التى تؤخذ «5» ] من رءوس الجوابى «6» ، ونطق لهم العقاب وعرّفهم أنه أزال عنهم العقبان وضررها؛ وكذلك يفعل فى غيرها ممّا يخافون؛ فسرّ الكاهن بذلك ووجّه إلى أمّ الملك فعرّفها ذلك فصارت الى الهيكل، فلمّا سمعت كلام العقاب سرّها ذلك وأعظمته، وبلغ الملك خبره فركب إلى الهيكل حتى خاطبه وأمره ونهاه، فسجد له وأقام له سدنة وأمر أن يزيّن بأصناف الزينة، وكان الملك يقوم بذلك الهيكل ويسجد لتلك الصورة ويسألها عمّا يريد «7» فتخبره. وعمل من الكيمياء والذهب ما لم يعمله أحد من الملوك. فيقال: إنه دفن فى صحراء الغرب خمسمائة دفين. ويقال: إنه عمل على باب صاعمودا وجعل عليه صنما فى صورة امرأة جالسة وفى يدها مرآة ينظر فيها العليل [أو ينظر له أحد فيها «8» ] فإن كان يموت رآه ميّتا، وإن كان يعيش رآه حيّا؛ والمسافر، فإن كان مقبلا بوجهه علموا أنه راجع، وإن رآه مولّيا علموا أنه متماد، وإن كان مريضا أو ميّتا رأوه كذلك. وعمل بالإسكندرية صورة راهب جالس على قاعدة وعلى الجزء: 15 ¦ الصفحة: 85 رأسه كالبرنس «1» وفى يده كالعكّاز إذا مرّ به رجل تاجر جعل بين يديه شيئا من الذهب على قدر بضاعته، وإن حاذاه «2» عن بعد ولم يفعل ذلك لم يقدر على الجواز ويبيت قائما مكانه، فكان يجتمع من ذلك مال عظيم يفرّق فى الزمنى والفقراء. وعمل فى وقته كل أعجوبة طريفة، وأمر أن يزبر اسمه عليها وعلى كل علم وكل طلّسم وصنم. وعمل لنفسه ناووسا فى داخل أرض الغرب عند جبل يقال له سدام، وعمل تحته رحى طوله مائة ذراع فى ارتفاع ثلاثين ذراعا فى عرض عشرين ذراعا، وصفّحه بالمرمر والزجاج الملوّن المسبوك وسقفه بالحجارة الصافية، وعمل فيما دار به مصاطب لطافا مبلّطة بالزجاج، وعمل على كل مصطبة فيها أعجوبة وتمثالا مما عمل فى وقته، وعمل فى وسط الأزج دكّة من زجاج ملوّن، على كل ركن من أركانها صورة تمنع من الدنوّ إليها، وبين كل صورتين كالمنارة عليها حجر مضىء، وجعل فى وسط الدكّة حوضا من ذهب يكون جسده فيه بعد تضميده بالأدوية الممسكة، ونقل إليه ذخائره من الجوهر والذهب وغير ذلك، وأمر أن يسدّ باب الأزج بالصخور والرّصاص وتهال عليه الرمال. وكان ملكه ثلاثا وسبعين سنة، وعمره مائتين وأربعين سنة، وكان جميلا ذا وفرة حسنة فنسكت عامّة نسائه بعده ولزمن الهيكل. وعهد بالملك إلى ابنه أنساد بن مرقونس؛ فملك بعد أبيه وهو غلام ابن خمس وأربعين سنة، وكان معجبا جبّارا طمّاح العين، فنكح امرأة من نساء أبيه وانكشف أمره معها، وكان أكبر همّه اللهو واللعب، فجمع كل مله كان فى مملكته وقصده كل من هذه سبيله، وجعل تدبير الملك إلى وزير له يقال له الجزء: 15 ¦ الصفحة: 86 مسرور، ورفض العلوم والهياكل والكهنة والنظر فى أمور الناس. وعمل قصورا من خشب عليها قباب من خشب منقوشة ممّوهة وجعلها على أطواف فى النيل، فكان يشرب عليها مع من يحبّه من نسائه وخدمه ومن يلهيه. وعمل عجلا فى البرّ وحمل عليها الأروقة المذهبة وفرشها بفاخر الفرش، فكان يتنزّه عليها ويجرّها البقر ويقيم فى نزهته شهورا لا يمرّ بموضع نزه إلّا أقام فيه أياما. وولّد من الشجر توليدا كثيرا. واستتفد أكثر ما فى خزائن أبيه لجوائز الملهين والنفقات فى غير وجه. فلمّا أسرف فى ذلك اجتمع الناس إلى وزيره فأنكروا عليه حاله وسألوه مسألته والمشورة عليه أن يقع عمّا هو عليه فضمن لهم ذلك، وفاوضه فيه فلم ينته عنه، وسلّط أصحابه على الناس فأساءوا إليهم وأضروا بهم. وخرج فى بعض الأيام إلى متنزّه كان له قد صفّح مجالسه بصفائح الذهب والفضة، وغريب الزجاج الملوّن، والجواهر المخروطة، والصهاريج المرّخمة الملوّنة، وأمال إليه المياه، وغرس فيه الرياحين والثمار، وفرش مجالسه بأصناف الفرش؛ وكان إذا أحبّ أن يخلو بامرأة من نسائه خلابها هناك؛ فإنه فى ذلك المكان، وقد أقام به أياما، إذ خرج غلام لبعض حرمه فأتى بعض التجّار فى حاجة أراد أخذها بغير ثمن، فمنعه التجّار منها، فوثب بهم فضربوه حتى أسالوا دمه وحمل، واتصل الخبر بالوزير وصاحب الجيش فركبا إلى الموضع وأنكرا على الناس فأغلظوا لهما، فانصرفا وعرّفا الملك الخبر، فأراهما أنه لم يحفل بذلك، وأمر بالنداء فى الناس من تعرّض لكم من خدم الملك وأصحابه بأذى فاقتلوه، فشكره الناس وحمدوا فعله على ذلك، وتواصوا بالوثوب على أصحابه، حتى إذا مضى لذلك أسبوع وجه الملك إلى الوزير وصاحب الجيش فعرّفهما أنه قد عزم على الركوب إلى صحراء الغرب يتصيّد هناك، وامر أن يركب معه الجيش ويتزوّدوا لثلاثة أيام ففعلوا، وخرج إلى البرّية فسار حتى إذا اختلط الجزء: 15 ¦ الصفحة: 87 الظلام رجع الجيش حتى وافى باب المدينة، وأمر أصحابه أن يضعوا السيف فى الناس فقتلوا خلقا كثيرا، ثم أمر أن ينادى: هذا جزاء من أقدم على الملوك من رعاياهم وأصحاب منهم، وأخرب الموضع الذى ضرب فيه الغلام، فاستغاث به الناس، فتقدّم إلى وزيره أن يطرح نفسه بين يديه ويسأله فيهم، ففعل وأمّنهم وقال: من عاد إلى مثل ما كان فقد حلّ لنا دمه، فدعوا له وانصرفوا. ثم احتجب عن الناس واستخف بالكهنة والهياكل فأبغضته العامّة والخاصّة وبغوا الغوائل فاحتال عليه خاصّته بطبّاخه وساقيه فسمّاه وهو ابن مائة وعشرين سنة فمات. وصار الملك من بعده إلى ابنه صابن أنساد بن مرقونس؛ قال: وأكثر القبط تزعم أن صابن مرقونس أخو أنساد. فملك وهنأه الناس، فوعدهم بالعدل فيهم، والإحسان إليهم، وحسن النظر لهم، وسكن منف وحكم الأحياز كلها، وعمل بها عجائب وطلّسمات، وردّ الكهنة إلى مراتبهم، ونفى الملهين وأهل الشرّ ممن كان يصحب أخاه، ونصب العقاب الذى كان أبوه عمله، وشرف هيكله ودعا إليه. وعمل فى منف مرآة كان يرى منها ما يخصب من بلده وما يجدب. وبنى بداخل الواحات مدينة غرس حولها نخلا كثيرا. ونصب قرب البحر أعلاما كثيرة. وعمل خلف المقطّم صنما يقال له صنم الحيلة، فكان كل من تعذّر عليه أمر يأتيه فيبخّره فيتيسّر عليه ذلك الأمر «1» . وجعل على أطراف مصر أصحاب أخبار يرفعون إليه ما يجرى فى حدودهم. وعمل على غربى النيل منائر يوقد عليها إذا قصدهم قاصد أو نابهم أمر. ويقال: إنه بنى أكثر منف وكل بنيان عظيم بالإسكندرية. قال: وكان لمّا ملك البلد بأسره جمع الحكماء إليه ونظر فى النجوم- وكان بها حاذقا- فرأى أن بلده لا بدّ أن تغرق بالطوفان من نيلها، ورأى أنها تخرب على الجزء: 15 ¦ الصفحة: 88 يدرجل [يأتى «1» ] من ناحية الشأم، فجمع كل فاعل بمصر وبنى فى الواح الأقصى مدينة جعل طول حصنها فى الأرتفاع خمسين ذراعا وأودعها جميع الحكم والأموال. وبنى المدينة «2» التى وقع عليها موسى بن نصير فى زمن بنى أميّة، وكان قد أخذ على الواح الأقصى، وكان عنده علم منها، وأقام سبعة أيام يسير فى رمال وصحارى سمت الغرب والجنوب إلى أن ظهرت له مدينة عليها حصن وأبواب حديد، فأصعد إليها الرجال ليقفوا على ما فيها لمّا لم يمكنه فتح أبوابها، ولغلبة الرمال على ما حولها؛ فكانوا إذا علوا الحصن وأشرفوا عليها وثبوا إليها؛ وعرض حصنها عشرون ذراعا؛ فلمّا أعياه أمرها تركها ومضى، فهلك فى تلك الطريق جماعة من أصحابه. فلم يسمع بأحد بعد موسى بن نصير ولا قبله وقع عليها. قال: وفى تلك الصحارى أكثر متنزّهاتهم ومدائنهم العجيبة؛ إلا أنّ الرمال غلبت عليها. ولم يبق بمصر ملك إلا وقد عمل للرمال دفعا ثم تفسد طلّسماتهم على تقادم الأيام. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 89 وقال: وحكى قوم من «1» التّنّاء فى ضياع الغرب: أنّ عاملا من عمّالهم عنف بهم فهربوا ودخلوا فى صحراء الغرب وحملوا معهم زادا إلى أن يصلح أمرهم ويرجعوا إلى بلادهم، وكانوا على يوم وبعض آخر قد لحجوا» فى سفح الجبل، فوجدوا عيرا أهليّا قد خرج من بعض شعابه، فتبعه نفر منهم، فأخرجهم إلى مساكن وأشجار ونخل ومياه تطّرد «3» وقوم يسكنون هناك ويزرعون، فخاطبوهم وعجبوا منهم وسألوهم عن حالهم فعرّفوهم أنهم منذ كانوا يسكنون تلك الناحية ويتناسلون ويزرعون ولا يطالبهم أحد بخراج ولا يؤذيهم، وأنهم لم يدخلوا إلى ضياع الغرب قطّ، وقالوا لهم انتقلوا إلينا؛ فخرج القوم بعد أن صلحت أمورهم واجتمعوا على الرجوع إلى ذلك الموضع والسكنى فيه بأهليهم ومواشيهم، فخرجوا يطلبون الطريق مدّة فما عرفوا الطريق ولا تأتّى لهم الوصول إليه بعد ذلك فأسفوا على مافاتهم منه. وحكى أيضا عن آخرين ضلّوا الطريق فى الغرب، فوقفوا على مدينة عامرة، كثيرة الناس والمواشى والنخيل والشجر، فأضافوهم وأكلوا عندهم وشربوا، وباتوا فى طاحونة يعمل فيها الخبز «4» ، فسكروا من الشراب وناموا، فلم ينتبهوا إلّا عند طلوع الشمس، فوجدوا أنفسهم فى مدينة كبيرة خراب ليس فيها أحد، فارتاعوا لذلك وخرجوا على وجوههم كالهاربين، وساروا يومهم على غير سمت حتى قرب المساء، فظهرت لهم مدينة أخرى عظيمة أكبر من الأولى وأعمر، وأكثر أهلا ودوابّ ومواشى وشجرا ونخلا، فأنسوا بهم وأخبروهم بخبر المدينة، فجعلوا يعجبون منهم ويضحكون؛ وإذا لبعض أهل المدينة وليمة فانطلقوا بهم معهم، فأكلوا وشربوا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 90 وغنّوهم بأصناف الملاهى، وسألوهم عن حالهم فحدّثوهم أنهم ضلّوا عن الطريق فى هذه الصحارى، فقالوا لهم: الطريق بين أيديكم واضح مستقيم لا يمكن أن تغلطوا فيه، فإن أحببتم المسير وجّهنا معكم من يوقفكم على سنن الطريق الكبير الذى يوصلكم إلى منازلكم، وإن أحببتم أن تقيموا عندنا رفدناكم وكنتم إخواننا وأحبابنا. قالوا: فسررنا بذلك من قولهم، وأجمع بعضنا على المقام معهم، وأجمع من كان له منا أهل وولد على أن يسير إلى منزله ويحمل أهله وولده ويعود إليهم. قال: وبتنا عندهم فى خير مبيت، فرحين بما ساق الله إلينا. فلمّا كان من الغد انتبهنا فوجدنا أنفسنا فى مدينة عظيمة ليس فيها أحد من الناس وقد تشعّب بعض حصنها، إلّا أن حولها نخلا قد تساقط ثمره وتكدّس حوله، فلحقنا من الخوف لذلك والارتياع ما استوحشنا له، وخرجنا على وجوهنا هاربين مفكّرين فيما عاينّاه من أهلها، وإنّا لنجد روائح الشراب منّا ومعانى الخمار ظاهرة، فلم نزل نسير يومنا أجمع وليس بنا جوع ولا عطش، حتى إذا كان المساء رأينا راعيا يرعى غنما فسألناه عن العمارة وعن الطريق فدلّنا على الطريق وقال: إنّ العمارة حذاؤكم؛ وإذا بنقار «1» من ماء المطر فشربنا منه وبتنا عليها، ثم أصبحنا فإذا نحن فى خلاف موضعنا الذى كنّا فيه، وإذا آثار العمارة والناس فما سرنا إلّا بعض يوم حتى دخلنا مدينة الأشمونين بالصعيد، فكنّا نحدّث الناس ولا يقبلون منا. قال: وهذه مدائن القوم القديمة قد غلب عليها الجانّ، ومنها ما قد سترته عن العيون فلا ينظر إليها أحد. قال: وذكر بعض القبط أن رجلا من بنى الكهنة الذين قتلهم أنساد سار إلى ملك الإفرنجة فذكر له كنوز مصر وعجائبها وخيرها، وضمن له أن يوصّله إلى ملكها الجزء: 15 ¦ الصفحة: 91 وأموالها، ويدفع عنه أذى طلّسماتها حتى يبلغ جميع ما يريده ويعرّفه مواضع الكنوز. فلمّا اتصل بصا الملك أنّ صاحب الإفرنجة يتجهّز إليه، عمد إلى جبل بين البحر المالح وشرقى النيل فأصعد إليه أكثر كنوزه وما فى خزائنه، وبنى عليها قبابا وصفّحها بالرّصاص، وأمر ففتحوا جوانب الجبل إلى منتهى خمسين ذراعا، وجعلوا فى انتهاء المنحوت منه شبه الطرر البارزة خارجة من النحت بقدر مائة ذراع وهو بين جبال وعرة، فحصّن أمواله هناك. وتجهّز إليه صاحب الإفرنجة فى ألف مركب، فكان لا يمرّ بشىء من أعلام مصر ومناراتها وأصنامها إلّا هدمه وكسره بمعونة الكاهن له. حتى أتى الإسكندرية الأولى فعاث فيها وهدم كثيرا من معالمها إلى أن دخل النيل من ناحية رشيد وصعد إلى منف فحاربه أهل النواحى، وجعل ينهب ما مرّ به ويقتل من قدر عليه إلى أن طلب المدائن الداخلة ليأخذ كنوزها فوجدها ممتنعة بالطلّسمات الشداد والمياه العميقة والخنادق الشدّاخات، فأقام عليها أياما كثيرة يعالج أن يصل إليها، فلمّا لم يمكنه ذلك قتل الكاهن، وهلك جماعة من أصحابه، واجتمع أهل النواحى على مراكبه وأصحابه فقتلوا منهم خلقا وأحرقوا بعض المراكب. ولما تيقّن أهل مصر تلف الكاهن الذى كان معه أرسلوا إليه سحرهم وتهاويلهم، وأتت مع ذلك رياح غرقت كثيرا من مراكبه، وكانّ جل مرامه أن ينجو بنفسه فما عاد إلى الإفرنجة إلا وقيذا «1» بجراحات أصابته، ورجع الناس إلى منازلهم وقراهم، ورجع صا إلى منف فأقام بها وترك ما كنزه على حاله. قال: ولم يزل بعد ذلك يغزو بلاد الروم وأهل الجزائر ويخرّبها فهابته الملوك، وتتّبع الكهنة فقتل منهم خلقا، وأقام سبعا وستين سنة، وكانت سنة مائة وسبعين سنة وهلك، فدفن بمنف فى ناووس عمله وسط المدينة من تحت الأرض، وجعل الجزء: 15 ¦ الصفحة: 92 المدخل إليه من خارج المدينة من الجهة الغربية، وحمل إليه أموالا عظيمة وجواهر كثيرة، وتماثيل وطلّسمات وغير ذلك كما فعل أجداده. وكان فيه أربعة آلاف تمثال ذهب على صور شتّى برّية وبحرية، وتمثال عقاب من جوهر أخضر جعل عند رأسه، وتمثال تنّين من ذهب مشبّك عند رجليه وزبر عليه اسمه وسيرته وغلبته للملوك. وعهد إلى ابنه تدارس بن صا؛ فملك الأحياز كلها بعد أبيه وصفا له ملك مصر. وكان محنّكا مجرّبا ذا أيد وقوّة ومعرفة بالأمور؛ فأظهر العدل، وأقام الهياكل وأهّلها قياما حسنا. وبنى غربى منف بيتا عظيما للزّهرة وزبر جميع الأخبار- وكان صنم الزهرة من لا زورد مذهّب متوّجا بذهب- وسوّره بسوارين من الزّبرجد الأخضر؛ وكان فى صورة امرأة لها ضفيرتان من ذهب أسود مدبّر، وفى رجليها خلخالان من حجر أحمر شفاف ونعلان من ذهب، وفى يدها قضيب مرجان وهى تشير بسبّابتها كالمسلّمة على من فى الهيكل، وجعل حذاءها من الجانب الآخر تمثال بقرة ذات قرنين وضرعين من نحاس أحمر مموّه بذهب موشحة بحجر اللازورد، ووجه البقرة محاذ «1» يا لوجه الزهرة، وجعل بينهما مطهرة من أخلاط للأجساد على عمود رخام مجزّع فيها ماء مدبّر يستشفى به من كل داء، وفرش الهيكل بحشيشة الزهرة يبدلونها فى كل سبعة أيام، وجعل فيه كراسىّ للكهنة مصفّحة بذهب وفضّة، وقرّب له ألف رأس من الضأن والمعز والوحش والطير، وكان يحضر يوم الزهرة ويطوف به. وكانت فرش الهيكل وستوره عن يمين تمثال الزهرة ويساره. وكان فى قبّته صورة رجل راكب على فرس له جناحان وله حربة فى سنانها رأس إنسان معلق، وبقى هذا إلى زمان بخت نصر الجزء: 15 ¦ الصفحة: 93 وهو الذى هدمه. ويقال: إن تدارس الملك هذا هو الذى حفر خليج سخا، وارتفع مال البلد فى أيامه مائة ألف ألف [دينار «1» ] وخمسين ألف [ألف «2» ] دينار. وقصده بعض عمالقة الشأم فخرج إليه واستباحه ودخل إلى فلسطين فقتل منها خلقا كثيرا وسبى بعض حكمائها وأسكنهم مصر وهابته الملوك. قال: وعلى رأس ثلاثين سنة من ملكه طمع السودان من الزّنج والنّوبة فى أرضه فعاثوا وأفسدوا، فأمر بجمع الجيوش وأعدّ المراكب ووجّه قائدا من قوّاده يقال له: بلوطس فى ثلاثمائة ألف، وقائدا آخر فى مثلها، ووجّه فى البحر «3» ثلاثمائة سفينة فى كل سفينة كاهن يعمل أعجوبة من العجائب [ثم خرج فى جيوش كثيرة، فلقى جموع السودان «4» ] وكانوا فى زهاء ألف ألف فهزموهم، وقتلوا أكثرهم أبرح قتل، وأسر منهم خلقا كثيرا، وتبعهم حتى وصل إلى أرض الفيلة من بلاد الزّنج «5» فأخذ منها عدّة من النمور والوحش وذللها وساقها معه إلى مصر. وعمل على حدود بلده منارات وزبر عليها مسيره وظفره والوقت الذى سار فيه. ولمّا وصل إلى مصر اعتلّ ورأى رؤيا تدلّ على موته، فعمل لنفسه ناووسا ونقل إليه شيئا كثيرا من أصنام الكواكب والذهب والجوهر والصنعة والتماثيل وهلك؛ فحمل إليه وزبر عليه اسمه وتاريخ الوقت الذى هلك فيه، وجعل عليه طلّسما تمنع منه. وعهد إلى ابنه ماليق بن تدارس؛ فملك بعد أبيه. وكان غلاما كريما حسن الوجه، مجرّبا، مخالفا لأبيه وأهل بلده فى عبادة الكواكب والبقر. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 94 ويقال: إنه كان موحّدا على دين أجداده قبطيم ومصريم، وكانت القبط تذمّه لذلك. وكان سبب إيمانه فيما حكى أنه رأى فى منامه أن رجلين لهما أجنحة أتياه فآختطفاه وحملاه إلى الفلك، فأوقفاه بين يدى شيخ أسود أبيض الرأس واللحية، فقال: هل عرفتنى؟ فدخلته فزعة الحداثة، وكانت سنه نيّفا وثلاثين سنة، فقال له: ما أعرفك! فقال: أنا قرويس، يعنى زحل، فقال: قد عرفتك، أنت إلهى، فقال: إنك وإن كنت تدعونى إلها فإنى مربوب مثلك، وإلهى الذى خلق السموات والأرض وخلقنى وخلقك، فقال: وأين هو؟ فقال: هو فى العلوّ لا تراه العيون، ولا تلحقه الأوهام، وهو الذى جعلنا سببا لتدبير العالم الأسفل. قال له ماليق الملك: فكيف أعمل؟ قال: تضمر فى نفسك ربوبيّته علينا. وتخلص فى وحدانيّته وتعرف بأزليّته. ثم إنه أمر الرجلين فأنزلاه؛ فانتبه وهو مذعور، فدعا رأس الكهنة فقصّ عليه رؤياه فقال: قد نهاك عن عبادة الأوثان فإنها لا تضرّ ولا تنفع، فقال له: من أعبد؟ قال: الله الذى خلق السموات والكواكب التى فيها والأرض ومن عليها. فكان الملك يحضر الهيكل فإذا سجد انحرف عن الصنم وأضمر السجود لخالق السموات والأرض دون غيره، ثم أخذ فى الغزو والغيبة عن أهل مصر وجال فى البلدان. قال: وقال بعض أهل مصر: إنّ الله تعالى أيّده بملك من الملائكة يعضّده ويرشده، وربما أتاه فى نومه، فأمره أن يأمر الناس باتخاذ كل فاره من الخيل، واتخاذ السلاح وما يصلح للأسفار، وإعداد الزاد، واتخذ فى بحر الغرب مائتى سفينة، وخرج فى جيش عظيم فى البرّ والبحر، فلقيه جموع البربر فى جموع لا تحصى فهزمهم واستأصل أكثرهم، وبلغ إلى إفريقية وسار منها، وكان لا يمرّ بأمة إلّا أبادها إلى أن عدّى من ناحية الأندلس يريد الإفرنجة، وكان بها ملك عظيم يقال له: أرقيوس، فأقام يحاربه شهرا ثم طلب صلحه وأهدى له هدايا كثيرة فسار عنه، ودوّخ الأمم المتّصلة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 95 بالبحر الأخضر «1» وأطاعه أكثرها. ومرّ بأمّة عراة لهم حوافر فى أرجلهم، وقرون صغار، وشعور كشعور الدوابّ، ولهم أنياب بارزة من أفواههم، فقاتلهم قتالا شديدا حتى أثخنهم، فنفروا منه إلى غيران «2» لهم مظلمة عظام. والقبط تذكر أنه رأى سبعين أعجوبة، وعمل أعلاما على البحر وزبر عليها اسمه ومسيره، وخرب مدن البربر حيث كانت، وألجأهم إلى قرون الجبال ورجع؛ فتلقّاه أهل مصر بأصناف اللهو والطيب والرياحين، وفرشت له الطرقات ولقوه بابنه بلهقانس وكان ولد بعد مسيره فسرّبه. واتصل خبره بالملوك فهابوه وحملوا إليه الهدايا من كل وجه ومكان. قال: وبلغه أن قوما من البربر سحرة لهم تخاييل عجيبة وبخورات يدلّون بها، وأنهم فى مدينة لهم يقال لها: قرميدة، فى الغرب من مصر، قد ملّكو عليهم امرأة ساحرة يقال لها: اسطافا، فاتصل به كثرة أذاهم للناس فغزاهم، فلما قرب منهم ستروا عنه مدينتهم بسحرهم فلم يرها، وطمّوا مياههم فلم يعرفها، فهلك أكثر أصحابه عطشا. فلما ستروا عنه البلد صعد إلى ناحية الجنوب، ثم رجع على غير الطريق التى سار إليهم فيها، فمرّ بهيكل كان لهم يحضرونه فى أعيادهم، فهدم بعضه وسقط منه موضع على جماعة ممن تولّى هدمه فأهلكهم، فلما رأى ذلك تركهم وانصرف، وخرجوا إلى هيكلهم فبنوا ما سقط منه وحرسوه بطلّسمات محكمة، ونصبوا فوق قبّته طلّسما من نحاس مذهب، وكان إذا قصده أحد صاح صياحا منكرا يرعد منه من سمعه ويبهت فيخرجون إليه ويصطلمون «3» . وكانت ملكتهم أحذق منهم بالسحر فقالت: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 96 إنى أعمل الحيلة فى إفساد مصر وأضرّ وآذى أهلها، فعملت أشياء وأرسلتها مع من ألقاها فى النيل، ففاض النيل على مزارعهم وغلّاتهم، وكثرت فيه التماسيح والضفادع، وكثرت العلل فى الناس، وانبثّت فيهم الثعابين والعقارب، فأحضر ماليق الكهنة والحكماء وقال: أخبرونى عن هذه الحوادث التى حدثت فى بلادنا ما هى؟ ولم لم تشرحوها فى طالع السنة؟ فاجتمعوا فى دار حكمتهم ونظروا حتى علموا أنه من ناحية الغرب، وأنّ امرأة عملته وألقته فى النيل، فعلم أنه من فعل تلك الساحرة، فقال لهم: اجهدوا أنفسكم فى هلاكها فقد بلغت فيكم مرادها، فاجتمعوا للهيكل الذى فيه صور الكواكب وأصنامها، وسألوا الملك الحضور معهم فلم يمكنه الخلاف عليهم. فلما أمسى لبس مسحا وافترش رمادا واستقبل مصلاه وأقبل على الابتهال إلى الله والتضرّع وقال: يا ربّ يا الله، أنت إله الآلهة، وخالق الخلق، ولا يكون شىء إلا بقضائك، أسألك أن تكفينى أمر هؤلاء القوم، وغلبه السهر فأغفى فى مصلاه، فرأى آتيا يقول له: قد رحم الله تضرّعك، وأجاب دعاءك، وهو مهلك هؤلاء القوم ومدمّر عليهم، وصارف عنك الماء المفسد والدوابّ المضرّة. فلمّا أصبح الكهنة غدوا عليه وسألوه حضور هيكلهم، فقال لهم: قد كفيتكم أمر عدوّكم وأهلكتهم، وأزلت الماء الفاسد والدوابّ المضرّة عنكم، ولن تروا بعدها شيئا تكرهونه، فنظر بعضهم إلى بعض كالمنكرين لقوله وقالوا: قد سررنا بما ذكره الملك، وهم يضمرون الاستهزاء به والتكذيب له، ومضوا إلى دار الحكمة فقال بعضهم: الرأى ألا تقولوا فى هذا شيئا، فإن كان حقّا وقفتم عليه، وإن كان باطلا اتسع لكم اللفظ فى لومه، وسيتبين لكم أمره. فلما كان بعد يومين انكشف ذلك الماء الفاسد، وهلكت تلك الدوابّ المضرّة، فعلموا أن الذى أخبرهم به حقّ؛ وأمر قائدا من قوّاده ورجالا من الكهنة أن يمضوا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 97 حتى يعلموا علم هؤلاء القوم، فأتوا المدينة فوجدوا حصنها قد سقط وقد هلكوا بأجمعهم واحترقوا واسودّت وجوههم؛ ووجدوا الأصنام منكّسة على وجوهها، وأموالهم ظاهرة بين أيديهم، فطرقوا المدينة فلم يجدوا فيها غير رجل واحد كان مخالفا لهم بسبب رؤيا رآها؛ ووجدوا من الأموال والجواهر وأصنام الذهب والتماثيل ما لا يحصى ولا تعرف له قيمة، ووجدوا صورة كاهن لهم من زبرجد أخضر على قائمة من حجر الأسباد شم؛ ووجدوا صورة روحانىّ من ذهب، ورأسه من جوهر أحمر، وله جناحان من درّ، وفى يده مصحف فيه كثير من علومهم فى دفّتين مرصّعتين بجوهر ملوّن؛ ووجدوا مطهرة من ياقوت أزرق على قاعدة من زجاج أخضر مسبوك، وفيها فضلة من الماء الدافع لأسقامهم، وفرسا من فضّة من عزم عليه بعزائمه ودخنه بدخنة وركبه طار به فيما يزعمون، وغير ذلك من العجائب والأصنام؛ فحملوا من ذلك ما قدروا عليه من الأموال والجواهر، وسأل الملك ذلك الرجل: ما أعجب ما رأيت من أعمالهم؟ فقال: نعم أخبرك أيها الملك؛ إنه قصدهم بعض ملوك البربر، وكان جبّارا من أهل بيت سحر، فجاء بالجموع الكثيرة وتخاييل هائلة، فأغلق أهل مدينتنا حصنهم ولجأوا إلى أصنامهم يخضعون لها ويتضرّعون إليها، وكان لهم كاهن عظيم الشأن، فسار إليه رؤساؤهم وشكوا اليه مادهمهم من عدوّهم، فأتى إلى بركة عظيمة بعيدة القعر كانوا يشربون منها، فجلس على حافّتها وأحاط رؤساء الكهنة بها وزمزم على ماء البركة، فلم يزل كذلك حتى فار الماء وفاض، وخرجت من وسطه نار تتأجج، وظهر من وسطها وجه كدارة الشمس وعلى صورتها وضوئها، فخرّ الجماعة وسجدوا لذلك الوجه، وتجلّلهم نور؛ وجعل يعظم حتى ملأ البركة، وصعد حتى خرق سقف القبّة، ثم ارتفع إلى رأسها وسمعته يقول: قد كفيتكم شرّ عدوّكم، وأمرهم أن يأخذوا دوابّهم ففعلوا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 98 ذلك، وهلك الملك الذى قصدهم وجميع من كان معه، وانصرفوا؛ فأقبلوا يأكلون ويشربون، فقلت لبعض الكهنة: لقد رأيت عجبا من ذلك الوجه فما هو؟ فقال: تلك الشمس تبدّت لنا فى صورتها وأهلكت عدوّنا، صاحت بهم صيحة أحرقتهم فأصبحوا خامدين. قال: وكان هذا الرجل عاقلا فاتخذه ماليق وزيرا. ولم يزل ماليق على التوحيد، وهو مع ذلك يساير أهل البلد خوفا من اضطراب ملكه، وأمر أن يعمل له ناووس، فكان يقصده ويتعبّد فيه، وأمر ألا يدفن معه ذهب ولا جوهر، فلم يدفن معه شىء سوى الطّيب وصحيفة مكتوبة بخطه فيها: هذا ناووس ملك مصر ماليق، مات مؤمنا بالله العظيم لا يعبد معه غيره، بريئا من الأصنام وعبادتها، مؤمنا بالبعث والحساب والمجازاة على الأعمال، عاش كذا وكذا سنة، ملك فيها كذا وكذا، فمن أحبّ النجاة من عذاب الآخرة فليدن بما دان به. وأوصى ألا يدفن معه فى ناووسه أحد من أهله، وكان قد كنز كنوزا عظيمة وزبر عليها أن تخرجها أمة النبىّ المبعوث فى آخر الزمان. واستخلف ابنه حرمان «1» بن ماليق. قال: وكان ليّنا سهل الخلق، لم يمت أبوه حتى شرح له التوحيد، وأمره أن يدين به، ونهاه عن عبادة الأصنام؛ وكان معه على ذلك فى حياته، ثم رجع عنه بعد وفاته الى دينهم. وكان سبب رجوعه الى عبادة الأصنام أنّ أمّه كانت من بنات كبار الكهّان، فنقلته بعد موت أبيه الى دينها وغلبته على رأيه، وأمرت بتجديد الهياكل وتشدّدت فى عبادة الأصنام. وتزوّج حرما امرأة من بنى عمّه فأحبّها حبّا شديدا وهام بها، فأفسدته على جميع نسائه، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 99 فاشتدّ ذلك على أمه، وكانت له قهرمانة من أهل سيوط ساحرة لا تطاق، وكانت تميل الى هذه المرأة لأنها كانت تعشق أخاها؛ فزادت فى سحرها لتلك المرأة فأوحشت ما بين الملك وأمّه حتى رفضها واستخفّ بأمرها، وزاد الأمر حتى حلف ألّا يجاورها، وأنه يغزو وينصرف فلا يرجع الى مصر أو يتّصل به موتها، ففعل ذلك وغزا بلد الهند وأرض السودان. وكان سبب خروجه الى الهند أن ملكا من ملوكها يقال له مسور خرج فى عدد كثير وسايرته مراكبه فى البحر ففتح بلدانا وجزائر، وأكثر القتل والسبى؛ وذكرت له مصر فقصدها واعتلّ فرجع من طريقه، فأمر حرما الملك بعمل مائة سفينة على شكل سفن الهند، وتجهّز وركب وحمل معه المرأة ووجوه أصحابه وقوّاده، واستخلف ابنه كلكن على مصر وكان صبيّا، وجعل معه وزيرا يقال له لاون، وكاهنا يقال له ويسموس، وخرج فمرّ على ساحل اليمن وعاث فى مدائنه. وكان لا يمرّ بمدينة إلا أقام صنما وزبر عليه اسمه ومسيره ووقته، وبلغ سرنديب «1» فأوقع بأهلها، وغنم منها مالا وجوهرا كثيرا، وحمل معه حكيما لهم، وبلغ جزيرة بين الهند والصين بها قوم سمر طوال يجرّون شعورهم، ورأى لهم الدوابّ والطيور وشجر الطيب والنارجيل والفواكه التى لا تكون إلا عندهم، فأذعنوا له بالطاعة وحملوا اليه أموالا وهدايا فقبلها وسار عنهم. وأقبل يتنقّل فى تلك الجزائر عدّة سنين؛ فقيل: إنه أقام فى سفره سبع عشرة سنة، ورجع إلى مصر بالظّفر والغنيمة، ووجد أمه قد هلكت، ووجد ابنه على الملك كما استخلفه؛ فسرّ بذلك وهابه من حوله من الملوك. وبنى عدّة هياكل وأقام فيها أصنام الكواكب؛ لأنها- فيما زعم- هى التى أيّدته فى سفره حتى ظفر بما ظفر به وغنم ما غنمه. وقد كان حمل الجزء: 15 ¦ الصفحة: 100 معه من الهند حكيما وطبيبا، وكان معهما من كتبهم وحكمهم ما أظهرا به فى مصر عجائب مشهورة، وحمل معه صنما من أصنام الهند من الذهب مقرّطا بالجوهر، فنصبه على بعض الهياكل التى عملها. وكان حكيم الهند يقوم به ويخدمه ويقرّب له. وكان يخبرهم بما يريدون منه. قال: وأقام حرما بعد منصرفه من الهند مدّة ثم غزا نواحى الشام فأطاعه أهلها وهادوه ورجع إلى مصر. ثم غزا نواحى النوبة والسودان فصالحوه على خراج يحملونه له، ورفع أقدار الكهنة وزاد فى تعظيم دينهم؛ فصوّروه فى هياكلهم ومضاجعهم، وملكهم خمسا وسبعين سنة. وعمل لنفسه فى صحراء الغرب ناووسا، وعمل برقودة «1» مصانع وعجائب، وأقام بها إلى أن مات وابنه كلكن بمنف، فضمد جسده بالمومميا والكافور والمرّ، وجعل فى تابوت من ذهب، وجعل معه مال كثير، وجوهر نفيس، وسلاح عجيب، وتماثيل وصنعة وعقاقير، ومصحف الحكمة. وصوّر فى جانب الناووس صورا وزبر عليها ذكر السفن التى سار فيها، والبلدان التى فتحها، وسدّ باب الناووس وزبر عليه اسمه ومدّته وتاريخ الوقت الذى هلك فيه، وقتل جماعة من نسائه أنفسهنّ عليه. وكان جميلا سمح الأخلاق، واغتمّ عليه الكهنة لإكرامه لهم، وأهل المملكة لاتباعه لهم. وملك بعده ابنه كلكن بن حرما، وعقد التاج على رأسه بالإسكندرية بعد موت أبيه وأقام بها شهرا ورجع إلى منف. وكان أصناميّا على دين أبيه واستبشر به أهل مصر. وكان يحبّ الحكمة وإظهار العجائب ويقرّب أهلها ويكثر جوائزهم. ولم يزل يعمل الكيمياء فى مدّة ملكه؛ فحزن أموالا عظيمة بصحارى الغرب. وهو أوّل من أظهر علم الكيمياء بمصر وكان مكتوما. وكان الملوك قبله الجزء: 15 ¦ الصفحة: 101 أمروا بترك صنعتها لئلا تجتمع ملوك الأمم على غزوهم، فعملها كلكن وملا دور الحكمة منها حتى لم يكن الذهب بمصر أكثر منه فى وقته ولا الخراج؛ لأنه كان فى وقته- فيما حكاه القبط- مائة ألف ألف وبضعة عشر ألف ألف مثقال. قال: وكان المثقال الواحد من الصّنعة يطرح على القناطير الكثيرة فيصبغها، فاستغنوا عن إثارة المعادن لقلّة حاجتهم إليها. وعمل من الحجارة المسبوكة الملوّنة الصمّ التى تشفّ شيئا كثيرا لم يعمل مثله أحد ممن تقدّمه. وعمل من الأدرك «1» الملوّن والفيروزج أشياء تخرج عن العقول، حتى كان يسمّى حكيم الملوك. وغلب جميع الكهنة فى علومهم، وكان يخبرهم بما يغيب عنهم، فهابوه واحتاجوا إلى علمه. وكان نمروذ بن كنعان الذى أهلكه الله تعالى على يد إبراهيم الخليل عليه السلام فى وقته، فيقال: إنه لما اتصل بنمروذ خبر حكمته استزاره فوجّه إليه أن يلقاه منفردا من أهله وحشمه بموضع كذا، ففعل النمروذ ذلك وسار إلى الموضع الذى ذكره، وأقبل كلكن على أربعة أفراس تحمله ذوات أجنحة، وقد أحاط به نور كالنار، وحوله صور هائلة قد خيّل بها، وهو متوشّح بثعبان محتزما ببعضه، والثعبان فاغر فاه، ومعه قضيب آس أخضر كلما حرّك الثعبان رأسه ضربه بالقضيب. فلما رآه النمروذ هاله أمره وخاطبه؛ فاعترف له بجليل الملك والحكمة، وسأله أن يكون ظهيرا له. وتقول القبط: إن كلكن الملك كان يرتفع ويجلس على الهرم الغربىّ فى قبّة تلوح على رأسه. وكان أهل البلد إذا دهمهم أمر اجتمعوا حول الهرم. ويقولون: إنه ربما أقام على رأس الهرم أياما لا يأكل ولا يشرب، ثم استتر عنهم مدّة حتى توهّموا أنه هلك. وكان يجول فى الأرض وحده حتى طمعت الملوك التى حوله الجزء: 15 ¦ الصفحة: 102 فى ملكه؛ فقصده ملك من ملوك الغرب يقال له «سادوم» فى جيش عظيم، وأقبل من ناحية المغرب من نحو وادى هبيب «1» ليكبس البلد، فأقبل حتى وافاهم، ثم جلّلهم بشىء من سحره كالغمام شديد الحرارة، فأقاموا تحته أياما لا يدرون أين يتوجّهون، فطار إلى مصر فآستأنس الناس لمقدمه، فعرّفهم ما جرى وأمرهم بالخروج إليهم ليعرفوا خبرهم، فوجدوهم ودوابّهم أمواتا فعجبوا لذلك، وهابه الكهنة هيبة لم يهابوها أحدا قبله، وصوّروه فى جميع الهياكل، وملكهم زمانا. وبنى فى آخر عمره هيكلا لزحل من صوّان أسود فى ناحية الغرب، وجعل له عيدا، وجعل فى وسطه ناووسا، وحمل إليه ما أراد من ذهب وجوهر، وحكم وعقاقير، وعرّفهم بموته، وجعل على باب الناووس طلّسمات تمنع منه، وغاب عنهم فلم يقفوا على موته. وكان قد أوصى إلى ابنه ماليا بن كلكن فملك بعد أبيه. وكان شرها كثير الأكل والشرب، منفردا بالرفاهة، غير ناظر فى شىء من الحكمة، وجعل أمر البلد إلى وزير له. وكان معجبا بالنساء؛ وكان له ثمانون امرأة، ثم اتخذ امرأة من بنات الملوك التى بمنف وكانت عاقلة سديدة الرأى، وكان بها معجبا فحمته النساء. وكان له بنون وبنات، وكان أكبر بنيه يقال له: طوطيس، فكان يستجهل أباه فأعمل الحيلة فى قتله، وإنما حملته على ذلك أمه وجماعة نسائه وبعض وزراء أبيه؛ فهجم عليه فى وزرائه وهو سكران وتلك المرأة عنده فقتله وقتل المرأة وصلبها. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 103 وملك بعده ابنه طوطينس بن ماليا وجلس على سرير الملك. وكان جبّارا جريئا شديد البأس مهيبا؛ فدخل عليه الأشراف وهنئوه ودعوا له، وأمرهم بالإقبال على مصالحهم وما يعنيهم، ووعدهم الإحسان. والقبط تزعم أنه أوّل الفراعنة بمصر، وهو فرعون إبراهيم الخليل عليه السلام. ويقولون إن الفراعنة سبعة هو أوّلهم. قال: ثم تذاكر الناس ما فعله بأبيه وأنكروه واستقبحوا صلبه المرأة فأنزلها ودفنها، واستخفّ بالكهنة والهياكل. ولنذكر خبره مع إبراهيم الخليل عليه السلام فى أمر سارة «1» ، ونورد من ذلك ما أورده أهل الأثر وما ورد فى الحديث الصحيح النبوىّ من هذه القصة. قال إبراهيم بن القاسم الكاتب فى سياقه أخباره: لما فارق إبراهيم عليه السلام قومه والنمروذ بن كنعان ونزل الشام ثم خرج إلى مصر ومعه سارة امرأته وخلّف ابن أخيه لوطا بالشام وسار إلى مصر، وكانت سارة أحسن نساء العالمين فى وقتها، ويقال إن يوسف الصدّيق ورث جزءا من حسنها لأنها جدّة أبيه. قال: فلما سار إبراهيم إلى مصر وأتى الحرس المقيمون على أبواب المدينة فرأوا سارة وعجبوا من حسنها ورفعوا خبرها إلى طوطيس «2» . وقد روينا فى ذلك حديثا بسندنا الذى قدّمناه إلى أبى عبد الله البخارىّ رحمه الله قال: حدثنا أبو اليمان قال: أخبرنا شعيب قال: حدثنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال النبىّ صلى الله عليه وسلم: «هاجر إبراهيم عليه السلام بسارة فدخل بها قرية «3» فيها ملك الجزء: 15 ¦ الصفحة: 104 من الملوك أو جبار من الجبابرة فقيل: دخل إبراهيم بامرأة هى من أحسن النساء؛ فأرسل إليه أن يا إبراهيم من هذه التى معك؟ قال: أختى. ثم رجع إليها فقال: لا تكذّبى حديثى فإنى أخبرتهم أنك أختى؛ والله إن «1» على الأرض من مؤمن غيرى وغيرك؛ فأرسل بها إليه فقام إليها فقامت توضّأ وتصلى، فقالت: اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك وأحصنت فرجى إلا على زوجى فلا تسلّط علىّ هذا الكافر، فغطّ «2» حتى ركض برجله. قال الأعرج: قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: إن أبا هريرة قال: قالت: اللهم إن يمت يقال «3» هى قتلته فأرسل، ثم قام اليها فقامت توضّأ وتصلى وتقول: اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك وأحصنت فرجى إلا على زوجى فلا تسلّط علىّ هذا الكافر، فغط حتى ركض برجله. قال عبد الرحمن: قال أبو سلمة: قال أبو هريرة: فقالت: اللهم إن يمت فيقال هى قتلته فأرسل فى الثانية أو فى الثالثة. فقال: والله ما أرسلتم الىّ إلا شيطانا! إرجعوها الى إبراهيم وأعطوها آجر، «4» فرجعت إلى إبراهيم عليه السلام فقالت: أشعرت أن الله كبت الكافر وأخدم وليدة» . هذا ما رويناه من صحيح البخارى «5» . وقد ورد فى أخبار طوطيس زيادات نذكرها؛ وهو أن الملك لما أطلقته فى المرة الثالثة قال لها: إن لك ربّا عظيما لا يضيّعك؛ وأعظم قدرها وسألها عن إبراهيم فقالت: هو قريبى وزوجى. قال: فإنه ذكر أنك أخته. قالت: صدق أنا أخته فى الدين، وكل من كان على ديننا فهو أخ لنا. قال: نعم الدين دينكم! ووجهها الى ابنته حوريا، وكانت من العقل والكمال بمكان كبير، فألقى الله تعالى محبة سارة فى قلبها فعظّمتها حوريا وأضافتها أحسن ضيافة، ووهبت لها جوهرا ومالا، فأتت الجزء: 15 ¦ الصفحة: 105 به إبراهيم عليه السلام فقال لها: ردّيه فلا حاجة لنا به فردته؛ فذكرت حوريا ذلك لأبيها فعجب منها وقال: هؤلاء من قوم كرام ومن أهل بيت طهارة فتحيّلى فى برّها بكل حيلة، فوهبت لها جارية قبطية من أحسن الجوارى يقال لها آجر، وهى هاجر أم إسماعيل عليه السلام، وعملت لها سلالا من الحلوى وقالت: يكون معك هذا للزاد. وجعلت تحت الحلوى جوهرا نفيسا وحليّا مصبوغا مكلّلا. فقالت: أشاور صاحبى؛ فأتت إبراهيم عليه السلام فشاورته فقال: إذا كان مأكولا فخذيه، فقبلته منها وخرج إبراهيم عليه السلام. فلما أمعنوا فى السير أخرجت سارة بعض تلك السلال فأصابت الجوهر والحلىّ، فعرّفت إبراهيم ذلك، فباع بعضه وحفر من ثمنه البئر التى جعلها للسبيل وفرّق بعضه فى وجوه البرّ، وكان يضيف كل من مرّ به. قال: وعاش طوطيس إلى أن وجهت إليه هاجر من مكة تعرّفه أنها بمكان جدب وتستغيثه، فأمر بحفر نهر فى شرقىّ مصر يمرّ بسفح الجبل حتى ينتهى إلى مرفأ السفن فى البحر المالح، فكان يحمل إليهما الحنطة وأصناف الغلّات فتصل إلى جدّة وتحمل من هناك على المطايا، فأحيا بلد الحجاز مدّة. ويقال: إن كل ما حلّيت به الكعبة فى ذلك العصر هو مما أهداه ملك مصر. ويقال: إنه لكثرة ما كان طوطيس يحمله إلى الحجاز سمّته العرب «جرهم الصادق» وكذلك يسمّيه كثير من أهل الأثر. وقد تقدّم فى قصة «1» إبراهيم الخليل عليه السلام أن اسم الملك صادوق، ويقال: إنه سأل إبراهيم عليه السلام أن يبارك له فى بلده، فدعا بالبركة لمصر، وعرّفه إبراهيم أن ولده سميلكها ويصير أمرها إليه. قال: وطوطيس أوّل الفراعنة بمصر؛ وذلك أنه أكثر القتل حتى قتل قراباته وأهل بيته وبنى عمه وخدمه ونسائه، وأكثر الكهنة والحكماء. وكان حريصا على الولد الجزء: 15 ¦ الصفحة: 106 فلم يرزقه الله ولدا غير ابنته حوريا، وكانت عاقلة حكيمة تأخذ على يده كثيرا وتمنعه من سفك الدماء، فأبغضته وأبغضه الخلق: الخاص والعام. فلما رأت أمره يزيد خافت على زوال ملكهم فسمّته فهلك. وكان ملكه سبعين سنة. ولما مات اختلفوا فيمن يملّكوه عليهم بعده فقالوا: لا يملّك علينا أحد من أهل بيته، وأرادوا تمليك بعض ولد أتريب؛ فقام بعض الوزراء ودعا إلى تمليك ابنته لصنيعها فيه، ولما كانت تنكر عليه، وتبعه أكثر القوّاد والوجوه فتمّ لها الأمر. وملكت حوريا بنة طوطيس وجلست على سرير الملك، ووعدت الناس بالإحسان، وأخذت فى جمع الأموال وحفظها، فاجتمع لها من الأموال والجوهر والحلىّ والطيب ما لم يجتمع لملك، وقدّمت الكهنة وأهل الحكمة ورؤساء السّحرة ورفعت أقدارهم، وأمرت بتجديد الهياكل وتعظيمها. وسار من لم يرضها إلى مدينة أتريب وملّكوا عليهم رجلا من ولد أتريب يقال له أنداخس؛ فعقد على رأسه تاجا وانضمّ إليه جماعة من بنى عمه وأهل بيته، فأنفذت إليه جيشا فحاربه؛ فلما رأى أنه لا طاقة له بها دعاها إلى الصلح وخطبها إلى نفسه وقال لها: إن الملك لا يقوم بالنساء، وخوّفها أن يزول ملكهم بمكانها؛ فعملت صنيعا وأمرت أن يحضره الناس على منازلهم، فحضروا وأكلوا وشربوا وبذلت لهم الأموال وعرّفتهم ما جرى من خطبتها، فبعض صوّب الرأى، وبعض امتنع وقالوا: لا يتولّى علينا غيرها لمعرفتنا بعقلها وحكمتها، وهى وارثة الملك؛ ووثبوا على نفر ممن خالفها فقتلوهم، وخرجوا فى جيش كثيف فلقوا جيش الخارج بأتريب فهزموه وقتلوا كثيرا من أصحابه، فهرب إلى أرض الشام وبها الكنعانيون من ولد عمليق، فاستغاث بملكهم وضمن له أخذ مصر وفتحها، فجهزه بجيش عظيم إلى مصر، فاجتمع الناس كلهم إلى حوريا، ففتحت خزائن أبيها وفرّقت ما فيها على الناس فأحبّوها، وقوّت السحرة بالمال ووعدتهم الإحسان. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 107 فلما تقدّم أنداخس بالجيوش أمرت السّحرة أن يعملوا له عملا، وكان على جيوشهم قائد من عظماء قوّاد ملكهم يقال له جيرون؛ فلما نزلوا أرض مصر بعثت ظئرا لها من عقلاء النساء إلى جيرون سرّا من أنداخس تعرّفه رغبتها فى تزويجه، لأنها لا تختار أحدا من أهل بيتها، وأنه إن قتل أنداخس تزوّجت به وسلمت إليه ملك مصر ومنعت منه صاحبه. فرغب فى ذلك وسمّ أنداخس بسمّ أنفذته إليه فقتله؛ فوجهت إليه أنه لا يجوز أن أتزوّجك حتى تظهر فى بلدى قوّتك وحكمتك وتبنى لى مدينة عجيبة- وكان افتخارهم حينئذ بالبنيان وإقامة الأعلام وعمل العجائب- وقالت له: انتقل من موضعك هذا إلى غربىّ بلدى فثمّ آثار لنا كثيرة فاقتف تلك الأعمال الغريبة وابن عليها. ففعل ذلك وبنى لها مدينة بصحراء الغرب يقال لها تندومة «1» ، وجرّ إليها من النيل نهرا وغرس عليها غروسا كثيرة، وأقام بها منارا عاليا، وعمل فوقه منظرا وصفّحه بالذهب والفضة والصّفر والرخام الملوّن والزجاج المسبوك وأبدع فى عمله. وكانت تمدّه بالأموال وتكاتب صاحبه عنه وتهاديه وهو لا يعلم. فلما فرغ من بناء المدينة قالت له: إن لنا مدينة حصينة كانت لأوائلنا وقد خربت منها أمكنة [وتشعّث حصنها «2» ] فامض إليها واعمل فى إصلاحها إلى أن أنتقل إلى هذه المدينة التى بنيتها وأنقل إليها جميع ما يحتاج إليه، فإذا فرغت من إصلاح تلك المدينة فأنفذ إلىّ جيشا حتى أصير إليك وأنظر ما صنعته، وأبعد عن مدينتى وأهل بيتى فإنى أكره أن آتيك بالقرب منهم. فمضى وجدّ فى عمل الإسكندرية الثالثة. قال: وأهل التاريخ يسوقون شيئا من أخبار أنداخس ويذكرون أنه الذى قصد الوليد بن دومع العمليقى، وهو ثانى الفراعنة. وكان سبب قصده له أنه كانت به علّة فوجّه إلى المواضع ليحمل إليه من مياهها حتى يعرف ما يلائم جسده، فوجّه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 108 غلاما له فأتى مملكة مصر ووقف على كثرة خيراتها «1» وحمل إلى صاحبه من مائها وألطافها وعاد إليه، فعرّفه حال مصر فقصدها فى جيش كثيف حتى حطّ عليها، وكاتب الملكة وخطب إليها نفسها، فوجهت إليه من أشرف على حاله فوجد قوما عظاما لا يقوم بحربهم، فأجابته إلى التزويج وألطفته وشرطت عليه أن يبنى لها مدينة يظهر فيها أيده وقوّته ويجعلها مهرا لها، فأجابها ودخل مصر وانتهى إلى ناحية الغرب ليبنى لها المدينة ناحية الإسكندرية، فأمرت أن يتلقّى بأصناف الرياحين والفواكه وتخلّق وجوه الخيل؛ فمضى إلى الإسكندرية- وقد خربت بعد خروج العاديّة «2» منها- فنقل منها ما كان من حجارتها ومعالمها وعمدها ووضع أساس مدينة عظيمة وبعث إليها مائة ألف فاعل، فأقام فى بنائها مدّة وأنفق جميع ما كان معه من المال، وكان كلما بنى بناء خرجت من البحر دوابّ تقلعه فإذا أصبح لم يجد منه شيئا؛ فاهتمّ لذلك. وكانت حوريا قد أنفذت إليه ألف رأس من المعز اللبون يستعمل ألبانها فى مطبخه، وكانت مع راع يثق به، وكان ذلك الراعى يطوف بها ويرعاها هناك، فكان إذا أراد أن ينصرف عند المساء خرجت إليه من البحر جارية حسناء فتتوق نفسه إليها، فإذا كلمها شرطت عليه أن تصارعه فإن صرعها كانت له وإن صرعته أخذت رأسين من المعز؛ فكانت على طول الأيام تصرعه وتأخذ من الغنم حتى أخذت أكثر من نصفها وتغير باقيها لشغله بحب تلك الصورة عن رعيها، وتغير هو أيضا فى جسمه ونحل، فمرّ به صاحبه وسأله عن حاله وحال الغنم فخبّره الخبر خوف سطوته فقال: أى وقت تخرج؟ قال: قرب المساء. فلبس ثياب الراعى وتولّى رعية «3» الغنم يومه إلى المساء، وخرجت الجارية فشرطت عليه كما شرطت على الراعى، فأجابها وصارعها فصرعها وقبض عليها وشدّها فقالت له: إن كان لا بدّ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 109 من أخذى فسلّمنى لصاحبى الأوّل فإنه ألطف بى، وقد عذّبته مرة بعد مرة، فردّها إليه وقال له: سلها عن هذا البنيان الذى بنيته ويزول من ليلته من يفعل به ذلك؛ وهل فى بنائه من حيلة؟ فسألها الراعى عن ذلك فقالت: إن دوابّ البحر التى تنزع بنيانكم. قال: فهل فيها من حيلة؟ قالت: نعم. قال: وما هى؟ قالت: تعمل توابيت من زجاج كثيف بأغطية وتجعل فيها قوما يحسنون الصناعة فى التصوير، وتجعل معهم صحفا وأنقاشا وزادا يكفيهم أياما، وتجعل التوابيت فى المراكب بعد أن تشدّها بالحبال، فإذا توسّطوا الماء صوّر المصوّرون جميع ما مرّ بهم وترفع تلك التوابيت من الماء، فإذا وقفتم على تلك الصور فآعملوا لها أشباها من الصّفر أو من الحجارة أو من الرصاص وانصبوها أمام البنيان الذى تبنونه من جانب البحر، فإن تلك الدوابّ إذا خرجت ورأت صورها هربت ولم تعد. فعرّفه الراعى ذلك ففعله، وتمّ بناء المدينة. وقال قوم من أهل التاريخ: إن صاحب البناء والغنم جيرون [المؤتفكىّ «1» ] وكان قصدهم قبل الوليد، وإنما أتاهم بعد حوريا وقهرهم جيرون وملك مصر. وذكروا أن الأموال التى كانت مع جيرون نفدت كلها فى تلك المدّة ولم يتم البناء، فأمر الراعى فسأل تلك الجارية فقالت: إن فى المدينة التى خربت ملعبا مستديرا حوله سبعة عمد على رءوسها تماثيل [من «2» ] صفر قيام، فقرّب لكل تمثال منها ثورا سمينا ولطّخ العمود الذى عليه التمثال من دم الثور، وبخّره بشعر من ذنبه وشىء من نحاتة قرونه وأظلافه، وقل له: هذا قربانك فأطلق لى ما عندك، ثم قس من كل عمود إلى الجهة التى يتوجّه إليها وجه التمثال مائة ذراع واحفر، وليكن ذلك فى وقت امتلاء القمر واستقامة زحل؛ فإنك تنتهى بعد خمسين ذراعا إلى بلاطة عظيمة فلطّخها بمرارة الثور وأقلعها فإنك تنزل منها إلى سرب طوله خمسون ذراعا فى آخره خزانة مقفلة ومفتاح الجزء: 15 ¦ الصفحة: 110 القفل تحت عتبة الباب فخذه ولطّخ الباب ببقية مرارة الثور ودمه وبخره بنحاتة قرونه وأظلافه وشعره، وادخل الباب بعد أن تخرج الرياح التى فيه، فإنه يستقبلك صنم فى عنقه لوح من صفر معلق مكتوب فيه جميع ما فى الخزانة من مال وجوهر وتمثال وأعجوبة، فخذ منه ما شئت ولا تتعرض لميت تجده ولا لما عليه؛ وكذلك فافعل بكل عمود وتمثاله؛ فإنك تجد فى تلك الخزائن نواويس سبعة من الملوك وكنوزهم. فلما سمع ذلك سرّ به وفعله فوجد ما لا يدرك وصفه، ووجد من العجائب شيئا كثيرا؛ فتم بناء المدينة. واتصل ذلك بحوريا فساءها؛ وإنما كانت أرادت إتعابه وهلاكه بالحيلة عليه. فيقال: إنه فيما وجد من العجائب درج ذهب مختوم بطين ذهب فيه مكحلة زبرجد فيها ذرور أخضر ومعها عرق جوهر أحمر، من اكتحل من ذلك الذّرور وكان أشيب عاد شابا واسودّ شعره وأضاء بصره حتى يدرك النظر إلى أصناف الروحانيين، ووجد تمثال من الذهب إذا أظهر غيمت السماء وأمطرت، وتمثال غراب من حجر إذا سئل عن شىء صوّت وأجاب عنه. ويقال: إنه كان فى كل خزانة عشر أعجوبات. قال: فلما فرغ جيرون من بناء المدينة وجه إليها يعلمها ذلك ويحثّها على القدوم، فحملت إليه فرشا فاخرة وقالت: ابسطها فى المجلس الذى تجلس فيه، وأقسم جيشك أثلاثا وأنفذ إلىّ ثلثه، حتى إذا بلغت ثلث الطريق فأنفذ إلىّ الثلث الآخر، فإذا جزت نصف الطريق فأنفذ إلىّ الثلث الباقى، ويكونون من ورائى لئلا يرانى أحد إذا دخلت عليك، ولا يكن عندك إلا صبية تثق بهم يخدمونك فإنى أوافيك فى جوار تكفيك الخدمة ولا أحتشمهنّ؛ ففعل. وأقامت تحمل إليه الجهاز والأموال حتى علم بمسيرها ووجه إليها ثلث جيشه فعملت لهم الأطعمة والأشربة المسمومة، فلما أتوها استنزلهم جواريها وحشمها وأقبلوا عليهم بتلك الأطعمة والأشربة والطيب والكساء الجزء: 15 ¦ الصفحة: 111 واللهو فلم يصبح منهم أحد يعيش، ولقيها الثلث الثانى والثالث بعده ففعلت بهم كذلك، وهى توجّه إليه أنها أنفذت جيشه إلى قصرها ومملكتها يحفظونه، إلى أن دخلت عليه هى وظئرها وجوار كنّ معها، فنفخت ظئرها فى وجهه نفخة بهت إليها ورشّت عليه ماء كان معها فارتعدت مفاصله فقال: من ظنّ أنه يغلب النساء فقد كذبته نفسه وغلبته النساء، ثم فصدت عروقه وأسالت دمه وقالت: دماء الملوك شفاء. وأخذت رأسه فوجّهت به إلى قصرها فنصب عليه وحملت تلك الأموال الى منف. وبنت منارا بالاسكندرية وزبرت عليه اسمها واسمه وما فعلت به وتاريخ الوقت. قال: ولما اتصل خبرها بالملوك الذين يتاخمون بلدها، هابوها وأذعنوا لها وهادوها. وعملت بمصر عجائب كثيرة، وأقطعت أهل بيتها وقوّادها وحشمها أقطاعا كثيرة، وأمرت أن يبنى على حدّ مصر من ناحية النوبة حصن وقنطرة يجرى ماء النيل من تحتها. واعتلت حوريا فاجتمع اليها أهل مملكتها وسألوها أن تقدّم عليهم ملكا، ولم يكن فى ذلك الوقت من ولد أبيها وأهل بيته من يصلح لذلك، فقلدت عمتها دليفة بنت ماموم «1» ، وكانت عذراء من عقلاء النساء وكبراهنّ، فعهدت اليها وأخذت لها المواثيق على أهل مصر ألا يسلموها وأن يتبعوا أمرها، وسلمت اليها مفاتيح خزائنها، وأطلعتها على مواضع كنوز آبائها وكنوزها، وأمرت أن يضمّد جسدها بالكافور وتحمل الى المدينة التى بنيت لها فى صحراء الغرب، وقد كانت عملت لها فيها ناووسا وعملت فيه عجائب ونقلت اليه أصنام الكواكب، وزينته بأحسن الزينة ونصّبت له قومة، وأسكنت تلك المدينة جماعة من الكهنة وأصحاب العلوم والمهن وبعض الجيش، وعمرت تلك المدينة فلم تزل على حالها من العمارة الى أن خرّبها بختنصّر وحمل بعض كنوزها. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 112 وجلست دليفة بنت ماموم على سرير الملك بعد وفاة حوريا، واجتمعت الكلمة عليها وأحسنت الى الناس ووضعت عنهم خراج سنة، وقام عليها أيمين يطلب بثأر خاله انداخس، واستنصر بملك العمالقة «1» فوجّه معه قائدا من قوّاده فى جيش كثيف، فأخرجت اليه دليفة بعض قوّادها فالتقوا بالعريش، وجعل سحرة الفريقين يظهرون التخاييل الهائلة والعجائب العظيمة والأصوات التى تقرع الأسماع وتؤلمها، فأقاموا مدّة يتكافئون الحرب ويتراجعون فهلك بينهم خلق كثير، ثم انهزم أصحاب دليفة الى منف وسار أصحاب أيمين فى آثارهم، ومضت دليفة فى جمع من جيوشها الى ناحية الصعيد فنزلت الأشمونين وأنفذت من قدرت عليه من الجيوش ووقعت الحرب بينهم بناحية الفيوم وخلّى أصحاب دليفة الماء بينهم وبين عدوّهم، واستنجدت دليفة بأهل مدائن الصعيد فحاربوا أصحاب أيمين حتى أزالوهم عن منف، وكانوا قد ظفروا بها وعاثوا فيها، فهزموهم حتى ركبوا المراكب وعدوا الى ناحية الحوف، وكان معهم ساحر من أهل ناحية قفط فأظهر بسحره نارا حالت بينهم وبين أصحاب دليفة، فلما زاد الأمر وأشفق أهل مصر من خروجها عن أيديهم سفر السفراء بينهم على أن يجعلوا البلد قسمة بينهم فأجاب كل منهما الى الصلح، ثم غدرت دليفة بعد ذلك بأيمين وأخرجت الأموال والجواهر وفرقتها فى الناس، وكان بعضهم قد لامها فى الصلح، فرجعت الى الحرب فأقاموا ثلاثة أشهر ثم ظهر أيمين عليها وهزمها الى ناحية قوص وسار خلفها وتمكن من المملكة، فلما رأت ذلك سمّت نفسها فهلكت. وملك بعدها أيمين؛ فتجبر وقتل خلقا كثيرا ممن كان حاربه. وكان الوليد بن دومع العمليقى قد خرج فى جيش كثيف يتنقل فى البلدان ويقهر ملوكها ليسكن الجزء: 15 ¦ الصفحة: 113 ما يوافقه منها؛ فلما صار بالشام انتهى اليه خبر مصر وعظم قدرها، وأن أمرها قد صار الى النساء وبادت ملوكها، فوجه غلاما له يقال له عون، فسار الى مصر وفتحها وحوى أموالا، ومولاه لا يعرف خبره ولا يشك فى هلاكه وهلاك الجيش الذى معه، لما كان يسمع عما بمصر من الطلّسمات والسحر؛ ثم اتصل به خبره فسار الى مصر فتلقاه عون وعرّفه أنه كان عزم على المسير اليه وإنما أراد تعديل البلد وإصلاحه فقبل قوله ودخل. وملك مصر الوليد بن دومع العمليقىّ، واستباح أهلها وأخذ أموالها وقتل جماعة من كهنتها، ثم سنح له أن يخرج فيقف على مصبّ النيل ويعرف ما بناحيته من الأمم ويغزوهم، فأقام ثلاث سنين يستعدّ لخروجه، وأصلح ما يحتاج اليه، واستخلف عونا على البلد وخرج فى جيش كثيف فلم يمرّ بأمة إلا أبادها. فيقال: إنه أقام فى سفره سنين كثيرة، وإنه مرّ على أمم من السودان وجاوزهم، ومرّ على أرض الذهب وفيها قضبان نابتة؛ ولم يزل يسير حتى بلغ البطيحة «1» التى ينصبّ ماء النيل اليها من الأنهار التى تخرج من تحت جبل القمر «2» ؛ ثم سار حتى بلغ هيكل الشمس فدخله. ويقال: إنه خوطب فيه. وسار حتى بلغ جبل القمر؛ وهو جبل عال. وإنما سمى جبل القمر لأن القمر لا يطلع عليه لخروجه عن خط الاستواء. ونظر الى النيل يخرج من تحته. وقد تقدّم خير النيل «3» . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 114 قال: ودخل الوليد القصر الذى فيه تماثيل النحاس التى عملها هرمس الأوّل فى وقت البودسير الأوّل بن قفطريم. قال: ولما بلغ الوليد جبل القمر رأى جبلا عاليا فأعمل الحيلة وصعد عليه ليرى ما خلفه، فأشرف على البحر الأسود الزفتىّ المنتن، ونظر إلى النيل يجرى عليه كالأنهار الرقاق، وأتته من ذلك البحر روائح منتنة هلك كثير من أصحابه من ريحها فأسرع النزول بعد أن كاد يهلك. قال: وذكر قوم أنهم لم يروا شمسا ولا قمرا وإنما رأوا نورا أحمر كنور الشمس عند مغيبها. وأقام الوليد فى غيبته أربعين سنة. وأما عون الذى استخلفه بمصر فإنه فعل فى غيبة الوليد ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر خبر عون وما فعله فى غيبة الوليد وخبر المدينة التى بناها قال: ولما مضت من غيبة الوليد بن دومع سبع سنين تجبّر غلامه عون بمصر، وادّعى أنه الملك، وأنكر أن يكون غلاما للوليد، وأنه أخوه وقلّده الملك بعده، ووثب على الناس وغلبهم بالسحرة وأسنى جوائزهم ولم يمنعهم محابّهم؛ فمالوا إليه ووثّقوا أمره، فلم يترك امرأة من بنات ملوك مصر إلا نكحها، ولا مالا إلا أخذه وقتل صاحبه. وكان مع ذلك يلزم الهياكل ويكرم الكهنة، فكانوا يمسكون عنه إشفاقا منه وخوفا من السحرة الذين معه؛ إلى أن رأى فى منامه الوليد بن دومع وكأنه يقول له: من أمرك أن تتسمى باسم الملك، وقد علمت أنه من فعل ذلك استحق القتل، ونكحت بنات الملوك وأخذت الأموال بغير واجب، ثم أمر بقدور فملئت زيتا وأحميت على أنه يغمر فيها، فلما غلت أمر بنزع ثيابه فأتى طائر فى صورة عقاب فاختطفه من أيديهم وحلق به فى الجوّ وجعله فى هوّة على رأس جبل، وأنه سقط من رأس الجبل إلى واد فيه حية، فانتبه مرعوبا طائر العقل. وقد الجزء: 15 ¦ الصفحة: 115 كان فى فعله ذلك وتملّكه إذا خطرت بقلبه من ذكر الوليد خطرة كاد عقله يزول، خوفا منه لما يعلمه من فظاظته وبطشه وقوّته. ولم يتيقّن هلاكه وأضمر فى نفسه الهرب من مصر بما معه من الأموال. قال: ولما رأى الرؤيا لم يشك فى حياة الوليد وأنه سيعود، فأطلع بعض السّحرة ممن يثق به على أمره وقال: إنى خائف من الوليد وقد عزمت على الخروج من مصر فما الوجه عندكم؟ قالوا: نحن ننجيك منه على أن تقبل منا. قال: قولوا، قالوا: تعمل عقابا وتعبده؛ فإن الذى حصّنك منه أحد الروحانيين وهو يريد ذلك منك. قال عون: أشهد لقد قال لى وأنا معه: أعرف لى هذا المقام ولا تنسه. قالوا: قد بينا لك. فأجابهم إلى ذلك وعمل عقابا من ذهب وعمل عينيه جوهرتين ووشّحه بأصناف من الجوهر، وعمل له هيكلا لطيفا وجعله فى صدره وأرخى عليه ستور الحرير، وأقبل أولئك يبخّرونه ويقرّبون إليه ويسحرون إلى أن نطق لهم، فأقبل عون على عبادته ودعا الناس إليها فأجابوه. فلما مضى لذلك مدّة أمره العقاب ببناء مدينة يحوله إليها وتكون معقلا له وحرزا من كل أحد. فأمر عون أصحابه أن يخرجوا إلى صحارى الغرب ويطلبوا كل أرض سهلة حسنة الاستواء، ويكون المدخل إليها بين هجول «1» صعبة وجبال وعرة، ويتوخّوا أن تكون قريبة من ناحية مغيض الماء التى هى اليوم الفيوم. وكانت مغيضا لماء النيل حتى أصلحها يوسف عليه السلام على ما نذكره إن شاء الله. وإنما أراد عون بذلك ليجرّ الماء منها إلى مدينته التى يبنيها؛ فخرج أصحابه وأقاموا شهرا يطوفون الصحارى حتى وجدوا له بغيته، ولم يبق فاعل ولا مهندس ولا أحد ممن الجزء: 15 ¦ الصفحة: 116 يبصر البناء ويقطع الصخور وينحتها إلا وجّه به عون إليها، وأنفذ معهم ألف رجل من جيشه وسبعمائة ساحر يعاونونهم بالروحانيين الذين فى طاعتهم، وأنفذ معهم جميع الآلات وأقام يحمل لهم الزاد إلى هناك شهورا على العجل؛ وطريق العجل على الفيوم واضحة فى صحراء الغرب وخلف الأهرام- وهى التى يقصدها أصحاب المطالب- مشهورة. قال: فلما تكامل له ما أراد من ذلك ومن نحت الأحجار خطّوا المدينة فرسخين فى فرسخين، وحفروا فى الوسط بئرا وجعلوا فى تلك البئر تمثال خنزير من نحاس بأخلاط ونصبوه على قاعدة من نحاس وجعلوا وجهه إلى الشرق، وكان ذلك بطالع زحل واستقامته وسلامته من المتضادين له فى شرفه، وأخذوا خنزيرا فذبحوه له ولطخوا وجهه بدمه وبخروه بشعره، وأخذوا شيئا من عظامه ولحمه ومرارته فجعلوه فى جوف ذلك الخنزير النحاس، وجعلوا فى أذنيه شيئا من مرارته، وأحرقوا بقية الخنزير، وجعلوا رماده فى قلة نحاس بين يدى الخنزير النحاس، ونقشوا عليه آيات زحل، ثم شقوا فى البئر أخدودا من أربعة وجوه شرقا وغربا وجنوبا وشمالا، ومدّوا تلك الأخاديد إلى حيطان المدينة، وعملوا على أفواهها مسارب تجتلب الرياح إليها، ثم سدّوا البئر وعملوا عليها قبة على عمد مربعة، وجعلوا منها شوارع كل شارع ينتهى إلى باب من أبواب المدينة وفصلوها بالطرقات والمنازل، وجعلوا حول القبة تماثيل فرسان من نحاس بأيديها حراب ووجوهها مقابلة لتلك الأبواب، وجعلوا أساس المدينة من حجر أسود وفوقه أحمر وفوقه أصفر وفوقه أخضر، وفوق الجميع أبيض يشفّ، مثبتة كلها بالرصاص المصبوب بين الحجارة، وقلوبها أعمدة من حديد على وضع بناء الأهرام؛ وجعل طول حصنها ستين ذراعا فى عرض عشرين ذراعا، ونصب على كل رأس باب من أبوابها فى أعلا الحصن تمثال عقاب كبير من صفر وأخلاط ناشر الجناحين أجوف، وعلى كل ركن صورة فارس بيده حربة ووجهه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 117 إلى خارج المدينة؛ وساق الماء إلى ناحية الباب الشرقى ينحدر فى صبب إلى الباب الغربى ويخرج إلى صهاريج هناك، وكذلك من الباب الجنوبى إلى الشمالى، وقرّب لتلك العقبان عقبانا ذكورا، واجتذب الرياح إلى أفواه التماثيل، فكانت الرياح إذا دخلتها سمعت لها أصوات شديدة لا يسمعها أحد إلا هالته، وصمّدها «1» بعفاريت تمنع الداخل إليها إلا أن يكون من أهلها، ونصب العقاب الذى كان يعبده تحت القبة التى فى وسط المدينة على قاعدة لها أربعة أركان فى كل ركن منها وجه شيطان، وجعلها على عمود يديرها، والعقاب يدور إلى كل الجهات الأربع، ويقيم فيها ربع السنة، يقرب إليه من جهتها. فلما فرغ من ذلك كله حمل إليها جميع الأموال والجواهر المخزونة بمصر وما وجده فى خزائن الملوك، ومن التماثيل والحكم وتراب الصنعة والعقاقير والسلاح وغير ذلك، وحوّل إليها كبار السحرة والكهنة وأصحاب الصنائع والتجار، وقسم المساكن بينهم لا يختلط أهل صنعة بغيرها، وعمل لها ربضا «2» يحيط بها، وبنى فيه منازل لأصحاب المهن والزراعة، وعقد على تلك الأنهار قناطر يمرّ عليها الداخل إلى المدينة، وجعل الماء يدور حول الرّبض؛ ونصب عليها أعلاما وحرسا؛ ثم غرس وراء ذلك بالبرية النخل والكروم وأصناف الأشجار، ومن وراء ذلك مزارع الغلات من كل جهة، وكان يرتفع له بها فى كل سنة ما يكفيه لعشر سنين، كل ذلك خوفا من الوليد. قال: وبين هذه المدينة وبين منف ثلاثة أيام؛ فكان عون يخرج إليها فيقيم بها عشرة أيام ثم يعود إلى منف، وكان لها أربعة أعياد فى السنة؛ وهى الأوقات التى يتحوّل العقاب فيها. فلما تمّ ذلك كله لعون اطمأنّ قلبه، وسكنت نفسه. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 118 ذكر عود الوليد إلى مصر وهرب عون إلى مدينته قال: ثم وافا كتاب الوليد بن دومع من نواحى النوبة إلى عون يأمره أن ينفذ إليه الأزواد وينصب له الأسواق؛ فوجّه إليه ذلك فى المراكب وعلى الظهر «1» ، وحوّل جميع عياله ومن اصطفاه من بنات ملوك مصر وكبرائها إلى المدينة، حتى إذا قرب دخول الوليد إلى مصر خرج عون إلى مدينته وخلّف خليفة على مصر يكون بين يدى الوليد. ودخل الوليد مدينة منف وتلقاه أهل مصر وشكوا إليه عونا وما حلّ بهم منه. قال: وأين هو؟ قالوا: فرّ منك. فغضب الوليد وأمر بجيش كثيف ينفذ إليه، فعرّفوه أن الجيش لا يصل إليه، وأخبروه خبر المدينة وكيف بناها وخبر السّحرة الذين معه. فكتب إليه يأمره بالقدوم عليه ويحذّره التخلف عنه، ويقسم أنه إن لم يفعل وظفر به بضّع لحمه بضعا. فردّ جوابه يقول: ما على الملك منى مؤنة، وأنا لا أتعرّض إلى بلده ولا أعيث فيه؛ لأنى عبده، وأنا له فى هذا الموضع أردّ كل عدوّ يأتيه من نواحى الغرب، ولا أقدر على المصير إليه لخوفى منه، فليقرّنى الملك بحالى كأحد عمّاله وأوجه إليه ما يلزمنى من الخراج والهدايا. ووجه إليه بأموال جليلة وجوهر نفيس. فلما رأى ذلك كفّ عنه. وأقام الوليد بمصر فآستعبد أهلها واستباح حريمهم وأموالهم. وملكهم مائة وعشرين سنة فأبغضوه وسئموا أيامه. واتفق أنه ركب فى بعض الأيام إلى الصيد فألقاه فرسه فى وهدة فهلك. وكان ابنه الريان ينكر عليه فعله ولا يرضاه. فلما هلك عمل له ناووسا قرب الأهرام. وقيل: بل دفن فى الهرم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 119 ثم ملك بعده ابنه الريان بن الوليد بن دومع؛ وهو فرعون يوسف عليه السلام، والقبط تسميه نهراوش «1» ، وجلس على سرير الملك. وكان عظيم الخلق، جميل الوجه، عاقلا متمكنا؛ فتكلم ومنّى الناس وضمن لهم الإحسان وأسقط عنهم الخراج ثلاث سنين، فأثنوا عليه وشكروه، وأمر بفتح الخزائن وفرّق ما فيها على الخاصّ والعامّ، وتمكنت منه أريحيّة الصّبا فملّك على الرعية رجلا من أهل بيته يقال له أطفين، وقيل فى اسمه: قطفير، وقيل: قوطيفر، وهو الذى يسميه أهل الأثر العزيز. وكان من أولاد الوزراء. وكان عاقلا أديبا متمكنا صائب الرأى كثير النزاهة مستعملا للعدل والعمارة والإصلاح. وأمر الريان أن ينصب له فى قصر الملك سرير من الفضة يجلس عليه ويغدو ويروح إلى باب الملك، ويخرج بجميع الوزراء والعمال والكتاب بين يديه؛ فكفى الريّان ما خلف سريره «2» وقام بجميع أمره وأخلاه للذّاته؛ فأقام الريان منعكفا على قصفه ولهوه منغمسا فى لذّته لا ينظر فى عمل ولا يظهر للناس ولا يخاطبهم، فأقاموا بذلك حينا. هذا والبلد عامر. وبلغ الخراج فى وقته سبعة وتسعين ألف ألف مثقال فجعلها أقساما، فما كان للملك وأسبابه وموائده حمل إليه، وما كان فى أرزاق الجيش والكهنة والفلاسفة وأصحاب الصنائع ومصالح البلد وأهل المهنة صرف إليهم، والملك مع ذلك غير سائل عن شىء؛ قد عملت له مجالس من الزجاج الملوّن وأجرى حولها الماء وأرسلت فيها الأسماك المقرّطة، فكانت الشمس إذا وقعت على المجلس منها أرسل شعاعا عجيبا يبهر العيون. وعملت له عدّة متنزهات على عدد أيام السنة، فكان كل يوم فى موضع منها، وفى كل موضع منها من الفرش والآنية والآلات ما ليس فى غيره. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 120 فلما اتصل بملوك النواحى تشاغل الريان بلذاته وتدبير العزيز لأمره، قصده رجل من العمالقة يقال له عاكن بن بيحوم وكنيته أبو قابوس، وقصد مصر حتى نزل على حدودها، فأنفذ إليه العزيز جيشا كثيفا وجعل عليه قائدا يقال له بريانس، فأقام ثلاث سنين يحاربه، ثم ظفر به العمليقى ودخل من الحدود وهدم أعلاما ومصانع كثيرة، وتمكن طمعه فى البلد فأعظم أهل مصر ذلك واجتمعوا إلى قصر الملك وجعلوا يصيحون ويستغيثون ويرفعون أصواتهم حتى سمعها الملك فقال: ما بال الناس؟ فأخبر خبر العمليقى وأنه قد دخل عمل مصر وعاث وأفسد المزارع والمصانع والأعلام، وأنه سار بجيشه إلى قصر الملك، فارتاع الريان لذلك وأنف منه وانتبه من غفلته وعرض جيوشه وأصلح أمره وخرج فى ستمائة ألف مقاتل سرى الأتباع، فالتقوا من وراء الأحواف فى تلك الصحراء، واقتتلوا قتالا شديدا فانهزم العمليقى واتبعه الربان إلى حدود الشام وقتل من أصحابه خلقا وأفسد زرعهم وأكثر أشجار الفواكه والزيتون، وأحرق وصلب ونصب أعلاما على الموضع الذى بلغه وزبر عليها: إنى لمن يجاوز هذا المكان بالمرصاد. فلما تمّ له هذا الظفر هابته الملوك ولا طفوه وأعظموه. وقيل: إنه بلغ الموصل وضرب على الشام خراجا وبنى عند العريش مدينة لطيفة وشحنها هى وتلك الناحية بالرجال، ورجع إلى مصر فحشد جنوده من جميع الأعمال، واستعدّ لغزو ملوك الغرب فخرج فى تسعمائة ألف واتصل بالملوك خبره، فمنهم من تنحّى عن طريقه، ومنهم من دخل تحت طاعته. ومرّ بأرض البربر فأجلى كثيرا منهم، ووجه قائدا يقال له مريطس فى سفن فركب البحر من ناحية رقودة. ومرّ الريان بجزائر بنى يافث فعاث فيها واصطلم «1» أهلها، وخرج من ناحية أرض البربر فقتل بعضهم وصالح بعضهم وحملوا إليه الأموال، ومضى إلى إفريقية وقرطاجنّة فصالحوه على أموال الجزء: 15 ¦ الصفحة: 121 وألطاف كثيرة حملوها إليه، ومرّ حتى بلغ مصبّ البحر الأخضر «1» وهو موضع الأصنام النحاس، فأقام هناك صنما وزبر عليه اسمه وتاريخ الوقت الذى خرج فيه، وضرب على أهل تلك النواحى خراجا، وعدّى إلى الأرض الكبيرة وصار فى الإفرنجة، والأندلس فى حوزهم وعليها لذريق الأصغر، فحاربه أياما وقتل من أصحابه خلقا وصالحه بعد ذلك على ذهب مضروب، وعلى ألا يغزو مصر ويمنع من رام ذلك من جميع أهل النواحى، وانصرف مشرّقا فشقّ بلد البربر فلم يمر بموضع إلا خرج أهله بين يديه وأهدوا له ودخلوا تحت طاعته. ثم أخذ نحو الجنوب ومر ببلد الكوسانيين فحاربوه فقتل خلقا كثيرا، وبعث قائدا إلى مدينة على عبر البحر الأخضر «2» فخرج إليه ملك المدينة وأهلها فعرّفهم حال الريان ومصالحة الملوك له فقالوا: ما بلغنا أحد قط، وسألهم هل ركب هذا البحر أحد؟ فقالوا: ما يستطيع أحد أن يركبه، وأخبروه أنه ربما أظله الغمام فلا يرونه أياما، وأتى الريان فتلقّوه بهدايا وفاكهة أكثرها الموز؛ وحجارة سود فإذا جعلت فى الماء صارت بيضاء، ثم تركهم وسار إلى أمم السودان حتى بلغ ملك الدمدم «3» الذين يأكلون الناس، فخرجوا إليه عراة بأيديهم العمد الحديد، وخرج ملكهم على دابة وهو عظيم الخلق له قرون، وكان جسيما أحمر العينين، فظفر بهم فانهزموا إلى أوحال وأدغال فلم يتهيأ له اتباعهم فيها، وجازهم إلى قوم على خلق القرود لهم أجنحة صغار يثبون بها من غير ريش. ومرّ على عبر البحر المظلم فغشيهم منه غمام فرجع شمالا حتى انتهى إلى جبل يقال له وسن، فرأى فوقه تمثالا من حجر أحمر يومى الجزء: 15 ¦ الصفحة: 122 بيده: إرجعوا، وعلى صدره مزبور: ما ورائى أحد. فتركه وسار راجعا فانتهى إلى مدينة النحاس فلم يصل إليها. ومضى حتى بلغ الوادى المظلم فكانوا يسمعون منه جلبة عظيمة ولا يرون أحدا لشدّة ظلمته. وسار حتى انتهى إلى وادى الرمل ورأى على عبره أصناما عليها أسماء الملوك قبله فأقام معها صنما وزبر عليها اسمه. فلما أسبت «1» الرمل جاز عليه إلى الخراب المتصل بالبحر الأسود، وسمع جلبة وصياحا هائلا فخرج فى شجعان أصحابه حتى أشرف على السباع المقرنة الأنوف، فإذا بعضها تهرّ وتأكل بعضها بعضا، فعلم أنه لا مذهب له من ورائها فرجع، وعدّى وادى الرمل ومرّ بأرض العقارب فهلك بعض أصحابه ورفعوها عنهم بالرّقى التى يعرفونها، ثم جاوزهم حتى انتهى إلى مكان صلوفة وهى حية عظيمة، فهجموا عليها ولم يعرفوها وظنوا أنها جبل، ثم عرجوا عنها وتعوّذوا منها بالرّقى. قال: ويزعم القبط أنه منعها من الحركة بسحره وتركها فهلكت. وقيل: إن تعريج هذه الحية ميل وأنها كانت تبتلع السباع هناك. وسار حتى بلغ مدينة الكند «2» ، وهى مدينة الحكماء، فتهاربوا منه إلى جبل صعدوه من مواضع يعرفونها من داخل مدينتهم لم يعرفها غيرهم، ولم يجد الريان ومن معه إلى الصعود إليها سبيلا، فأقاموا عليها أياما وكادوا يهلكون من العطش، فنزل إليهم من الجبل رجل يقال له مندوس، كان من أفاضل الحكماء وقد لبس شعره جسده، فقال: أين تريد أيها المغرور الممدود له فى الأجل! المرزوق الكفاية! أتعبت نفسك وجيشك! ألا اقتنعت بما تملكه واتكلت على خالقك [وربحت الراحة «3» ] وتركت العناء والغرور بهذا الخلق. فعجب الملك من قوله وسأله عن الماء فدلّه عليه، وسأله عن الجزء: 15 ¦ الصفحة: 123 موضعهم فقال: موضع لا يصل إليه احد ولا بلغه قبلك أحد. قال: فما عيشكم؟ قال: من أصول نبات لنا نعتصم به ونقنع بأكله ويكفينا اليسير. قال: فمن أين تشربون؟ قال: من نقار الماء من الأمطار. قال: فلم هربتم منا؟ قال: رغبة عن خلطتكم وإلا فليس لنا ما نخاف عليه. قال: فكيف تكونون إذا حميت عليكم الشمس؟ قال: فى غيران تحت هذه الجبال. قال: فهل تحتاجون إلى مال أخلفه لكم؟ قال: إنما يريد المال أهل البذخ ونحن لا نستعمل منه شيئا، استغنينا عنه بما قد اكتفينا به، وعندنا منه ما لو رأيته لحقّرت ما عندك. قال: فأرنيه، فانطلق به مع نفر من أصحابه إلى أرض فى سفح جبلهم فيها قضبان الذهب نابتة، وأراهم واديا حافتاه حجارة الزبرجد والفيروذج، فأمر الرّيان أصحابه أن يأخذوا من كبار تلك الحجارة ففعلوا؛ ورآهم الحكيم يصلّون إلى صنم يحملونه معهم، فسألهم ألا يقيموا بأرضهم خوفا من عبادة الأصنام؛ فسأله الملك أن يدله على الطريق ففعل، وودّع الحكيم وسار على السمت الذى وصفه له. فلم يمر بأمة إلا أبادها وأثر فيها إلى أن بلغ بلد النوبة، فصالح أهلها على مال يحملونه إليه، ثم أتى دنقلة فأقام بها علما وزبر عليه اسمه ومسيره. ومرّ يريد منف؛ فكان أهل كل مدينة من مدائن مصر يتلقّونه بالفرح والسرور والطيب والرياحين والملاهى إلى أن بلغ منف، فلم يبق أحد من أهلها إلا خرج إليه مع العزيز وتلقّوه بأصناف الطيب والبخورات والرياحين. وكان العزيز قد بنى له مجلسا من الزجاج الملوّن وفرشه بأحسن الفرش المذهبة، وغرس حوله جميع الأشجار والرياحين، وجعل فيه صهريجا من زجاج سمائى، وجعل فى أرضه شبه السمك من زجاج أبيض وأنزله فيه، وأقام الناس يأكلون ويشربون أياما كثيرة. وأمر بعرض جيشه فوجد أنه قد فقد منهم سبعون ألفا، وكان قد خرج فى ألف ألف، ووجد من انضاف إليه من الغرباء والمأسورين نيّفا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 124 وخمسين ألفا، وكان مسيره وغيبته إحدى وعشرين سنة. فلما سمع الملوك بذكره وما فتح من البلاد وما أسرها بوه، وخافوا شدّة بأسه وعظم سلطانه. وتجبّر وبنى بالجانب الشرقى قصورا من الرخام ونصب عليها أعلاما، فكان يقيم بها الأيام الكثيرة. وكان الخراج قد بلغ فى وقته سبعة وتسعين ألف ألف فأحبّ أن يتمه مائة ألف ألف دينار، فأمر بوجوه العمارات وإصلاح الجسور والزيادة فى استنباط الأراضى حتى بلغ ذلك وزاد عليه. ثم كان من خبر يوسف الصديق عليه السلام وبيعه بمصر وخبره مع امرأة العزيز وسجنه وقصته مع صاحبى الملك ورؤيا الملك وتعبيرها وتولية الريان بن الوليد يوسف عليه السلام رتبة العزيز وخبر القحط، ما قدّمنا ذكره فى أخبار يوسف عليه السلام، وهو فى السفر الحادى «1» عشر من نسخة الأصل. فلا فائدة فى إعادته. إلا أنه قد وردت زيادات أخر لم ترد هناك نحن نذكرها الآن. وهو ما حكاه مؤلف هذا الكتاب الذى نقلنا منه إبراهيم بن القاسم الكاتب عن إبراهيم بن وصيف شاه قال: إن يعقوب عليه السلام لما قدم مصر بأهله وولده، خرج يوسف عليه السلام فى وجوه أهل مصر فتلقاه وأدخله على الملك؛ وكان يعقوب عليه السلام مهيبا جميلا فقرّبه الملك وعظّمه وقال له: يا شيخ، كم سنوك وما صناعتك وما تعبد؟ فقال: أما سنّى فعشرون ومائة سنة، وأما صناعتى فلنا غنم نرعاها وننتفع بها، وأما الذى أعبد فربّ العالمين، وهو الذى خلقنى وخلقك، وهو إله آبائى وإلهك وإله كل شىء. قال: وكان فى مجلس الملك فنيامين، وهو كاهن جليل القدر، فلما سمع كلام يعقوب ضاق به ذرعا وقال للملك بلغتهم: أخاف أن يكون خراب مصر على يد ولد هذا. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 125 فقال له الملك: فأنّى «1» لنا خبره؟ فقال الكاهن: أرنا إلهك أيها الشيخ. قال: إلهى أعظم من أن يرى. قال: فإنا نحن نرى آلهتنا. قال: لأن آلهتكم ذهب وفضة ونحاس وخشب، وما يعمله بنو آدم عبيد إلهى الذى احتجب عن خلقه بعزّ ربوبيته، لا إله إلا هو العزيز الحكيم. قال له فنيامين: إن لكل شىء دليلا، وكل شىء لا تراه العيون فليس بشىء، فغضب يعقوب وقال: كذبت يا عدوّ الله وطغيت فى هذه الدنيا؛ إن الله سبحانه وتعالى شىء وليس كالأشياء، وهو خالق كل شىء لا إله إلا هو. قال: فصفه لنا. قال: إنما يوصف المخلوقون ولا يوصف الخالق عزوجل؛ لأنه يرتفع عن الصفات؛ لأنه واحد قديم مدبّر للأشياء فى كل مكان يرى ولا يرى. ثم قام يعقوب مغضبا، فأجلسه الملك وأمر فنيامين أن يكفّ عنه ويكون بين يديه ويأخذ فى غير هذا. ثم قال الملك: كم عدّة من دخل معك إلى مصر؟ قال ستّون رجلا. قال الكاهن: كذلك نجده فى كتبنا؛ إن خراب مصر يجرى على أيديهم. قال الملك: فهل يكون فى أيامنا؟ قال: لا، ولا إلى مدّة كبيرة. والصواب أن يقتله الملك ولا يستبقى من ذرّيته أحدا. قال الملك: إن كان الأمر كما تقول فما يمكننا أن ندفعه ولا نقتل هؤلاء، وإن لهم إلها عظيما، وقد قبل قلبى هذا الشيخ، ومالى إلى قتله من سبيل، فخاطبه بألين الكلام؛ فجرت بينهما بعد ذلك مخاطبات ألان له فيها القول. قال: ثم إن يعقوب عليه السلام أحبّ أن يعرف خبر مصر ومدائنها وكيف بنيت وخبر طلّسماتها وعجائبها. فسأله عن ذلك وسأله بحقّ الملك ألا يكتمه شيئا من أمرها فأخبره. قال: وأقام يعقوب عليه السلام مع الريان بن الوليد الملك يعظّمه ويبجّله إلى أن حضرته الوفاة، فأوصى أن يحمل إلى مكانه من الشأم، فحمل فى تابوت الجزء: 15 ¦ الصفحة: 126 وخرج معه يوسف عليه السلام ووجوه مصر حتى بلغ الى موضعه ورجعوا. وقيل: إن عيصو منعهم من دفنه هناك لأن إسحاق عليه السلام كان قد وهبه الموضع فاشتراه يوسف عليه السلام منه. ويقال: إن الريان آمن بيوسف وكتم إيمانه خوفا من فساد ملكه. وملك الريان مائة وعشرين سنة. وفى وقته عمل يوسف عليه السلام الفيوم لابنة الملك، وكان أهل مصر قد وشوا به وقالوا: قد كبر ونقص نفعه فاختبره. فقال له الملك: قد وهبت هذه الناحية لابنتى، وكانت مغايض للماء فدبّرها. قال: فقلع أدغالها، وساق المنهى «1» ، وبنى اللّاهون «2» ، وجعل الماء فيه مقسوما موزونا، وفرغ من ذلك كله فى أربعة أشهر، فعجبوا من حكمة يوسف عليه السلام. قال: ولما مات الريان بن الوليد ملك بعده ابنه دريموس «3» بن الريان ابن الوليد ويسميه أهل الأثر دارم، وهو الفرعون الرابع عندهم. قال: ولما ملك خالف سنّة أبيه، وكان يوسف عليه السلام خليفته كما كان مع أبيه، وذلك بأمر الريان. وكان يوسف يسدّده فربما قبل منه وربما خالفه، وظهر فى وقته معدن فضة على ثلاثة أيام من النيل فأبان «4» منه شيئا عظيما، وعمل منه صنما على اسم القمر؛ لأن طالعه كان بالسرطان، ونصبه على القصر الرخام الذى كان أبوه بناه فى شرقى النيل، ونصب حوله أصناما كلّها من الفضة وألبسها الحرير الأحمر، وعمل لها عيدا فى كل سنة «5» ، وهو إذا نزل القمر السرطان. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 127 وكان يتنقّل الى مواضع شتّى يتنزّه فيها، وإذا أراد أن يضرّ الناس بشىء منعه يوسف عليه السلام ودفعه عنه الى أن توفّى يوسف عليه السلام، كما تقدّم فى خبر وفاته، فاستوزر الملك دارم بعده بلاطس بن منسا الكاهن، فكان بلاطس يطلق له ما كان يوسف يمنعه عنه، وحمله على أذى الناس وأخذ أموالهم فبلغ منهم كل مبلغ. وعمل الوادى المنحوت بين الجبلين فى الناحية الغربية وكنز الأموال فلا يوصل إليها، وجعل صقالة من الوادى الى باب الخبّاء، وجعل له بابا من الحديد يتوصّل إليه من تلك الصقالة، وصمده بجماعة من العفاريت يمنعون من ذلك الخباء، فمن رامه من الناس سقط فى الوادى. وقال آخرون: كنزها فى موضع منه يدخل إليه وينظر الى الأموال مكشوفة مضروبة، فى كل دينار عشرة مثاقيل عليها صورته، فإن أخذ الداخل منها شيئا انطبق عليه الباب فلم يقدر على الخروج، فإذا ردّه الى موضعه انفتح له الباب. وهو بحاله الى هذا الوقت كما زعموا. قال: ثم زاد دارم فى التجبّر الى أن اختلع كلّ امرأة جميلة بمدينة منف من أهلها؛ ولا يسمع بامرأة حسناء فى ناحية من النواحى إلا وجّه فحملت إليه. وفشا ذلك فى المملكة واضطرب الناس من فعله وشقّ عليهم أمره الى أن شغبوا عليه وعطّلوا الصنائع والأعمال والأسواق فعدا على جماعة منهم فقتلهم. وزاد الأمر حتى اجتمعوا على خلعه، فخاف بلاطس الوزير أن يفسد أمر المملكة فدخل على الملك وأشار عليه أن يتودّد الى الناس ويعتذر إليهم ويردّ نساءهم فأبى إلا مخالفته، وهمّ أن يخرج الى الناس فى خاصّته ويقتل منهم وقال: إنما هم عبيدى وعبيد آبائى. فلم يزل يرفق به الى أن سكن غضبه؛ فأمره أن يعتذر الى الناس عنه، ففعل الوزير ذلك وذكر عنه جميلا، فأبى الناس أن يقبلوا منه دون مخاطبتهم الملك فضمن لهم ذلك وخاطبه وأشار به عليه، فأمره أن ينادى فى الناس بالحضور فى يوم عيّنه، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 128 ثم لبس أرفع ثيابه وأكبر تيجانه وجلس ودخل الناس عليه فذكروا ما حلّ بهم من أخذ أموالهم، وعرّفوه أنه لم يجر عليهم من ملك قبله مثل هذا، فاعتذر إليهم ووعدهم الإقلاع عما شكوا منه وأسقط عنهم خراج ثلاث سنين. ثم أمر بعمل قصر من خشب على أساطين خشب ممدودة بأضلاع مسمّرة يتنزّه فيه، فعمل ودهن بالأدهان والأصباغ الملوّنة المذهبة، وضبّب بالفضة والنحاس المذهب، وعمل فوقه قبة من الفضة المذهبة مصوّرة بالزجاج الملوّن وعلّق فيها الحجر المضىء الذى أتى به أبوه من المغرب. فلما فرغ القصر فرشه بأحسن الفرش وجعله طبقتين: طبقة له يجلس فيها مع من يحبّه، وطبقة لحشمه، وجعل حول ذلك أروقة ملصقة بالمجلس يجلس فيها من يريد؛ فكان يركب فيه بمن احبّه من خاصته ونسائه ويصعّد فيه فى الماء إلى ناحية الصعيد وتتبعه المراكب فيها أصحابه وغلمانه بالعدد والسلاح وينحدر إلى أسفل الأرض، فإذا مرّ بمكان يستحسنه أقام فيه أياما. واتفق أنه خرج فى بعض الأيام مصعّدا فوثب رجل من الإسرائليين على رجل من سدنة الهياكل فضربه حتى أدماه وعاب دين الكهنة، فغضب القبط لذلك وخاطبوا خليفة الملك أن يخرجهم من مصر فآمتنع دون مشاورة الملك، وكتب إليه يعرّفه ذلك، فكتب إليه ألا يحدث فى القوم حادثة دون موافاته، فشغبوا وأجمعوا على خلعه وتمليك غيره، وتعرّض بعضهم الى ذكر الملك فحشد أهل الصعيد وانحدر اليهم، فحاربوه فهلك بينهم خلق كثير. وعاونته امرأة أبيه، وكانت ساحرة، فأظهرت من سحرها وتخاييلها ودخنها ما أعماهم عن النظر، وأضعف حواسهم وأسكرهم، فقتل خلقا منهم وصلب خلقا على عبر النيل، ورجع إلى أكثر مما كان عليه من ابتزاز النساء ونهب الأموال واستخدام الأشراف والوجوه من القبط ومن بنى إسرائيل؛ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 129 فأجمع الكل على ذمه. وكانت الساحرة لا تخلّيه من معونتها الى أن ركب فى ذلك القصر فى بعض الليالى وقد أحدق النيل بالبلد، وهو من الجبل الى الجبل، وامتدّ القمر على الماء، فأراد أن يعدّى من العدوة الى العدوة الأخرى فلم يتهيأ له سوق القصر بسرعة لعظمه، فركب مركبا لطيفا مع ثلاثة من خدمه والساحرة، فلما توسّط البحر هاجت ريح عاصف فغرق هو ومن معه، وأصبح الناس شاكّين فى أمره لا يعلمون ما نزل به، الى أن وجدت جثته بشطّنوف «1» فعرف بخاتمه وبجوهر كان يتقلّد به فحمل الى منف. وملك بعده ابنه معاديوس بن دريموس؛ ويسميه أهل الأثر معدان ابن دارم، وهو الفرعون الخامس. وذلك بتدبير الوزير؛ فأجلسه على سرير الملك وبايعه الجيش، وكان صبيا فكرهه الناس ثم رضوا به، فأسقط عن الناس الخراج الذى كان أبوه أسقطه، وزادهم سنة وأحسن إليهم فأطاعوه؛ واستقام له الأمر وردّ نساءهم. وكان ينكر على أبيه فعله ولا يرضاه؛ فلذلك رضوا به. قال: وفى زمانه كان طوفان أضرّ ببعض البلد فلزم الملك الإقبال على الهياكل والتعبد، وطلب القاطر ووجوه الكهنة بالحضور معه، وأنصف بعض الناس من بعض. وكثر بنو إسرائيل وعابوا الأصنام وثلبوها. وكان الوزير قد هلك فاستوزر كاهنا يقال له املاده، فلما رأى ما فعله بنو إسرائيل أنكره وأمر أن يفردوا بناحية من البلد لا يختلط بهم أحد غيرهم، فأقطعهم موضعا فى قبلىّ منف، واجتمعوا إليه وعملوا لأنفسهم معبدا كانوا يتلون فيه صحف إبراهيم عليه السلام، واتفق أن رجلا من أهل بيت الكهنة عشق امرأة من بنى إسرائيل كانت قد جاءته الجزء: 15 ¦ الصفحة: 130 لتشتكى أخاها أنه غصبها ميراثها، وأرادت أن يعتنى بأمرها عند وزير الملك، فرآها ابنه فأحبها وسأل والده أن يزوّجه منها، فخطبها من أهلها فأبوا ذلك، فأنكر الناس فعلهم واجتمعوا الى الوزير وقالوا: هؤلاء قوم يعيبوننا ويرغبون عنّا، ولا نحب أن يجاورونا إلا أن يدينوا بديننا. فقال الوزير: قد علمتم إكرام الريان الملك لجدّهم يوسف عليه السلام، وقد وقفتم على بركة جدّهم يوسف عليه السلام حتى جعلتم قبره وسط النيل فأخصب جانبا مصر بمكانه فلا تخوضوا فى هذا، فأمسكوا. قال: وتغلّب أحد ملوك الكنعانيين على الشام وامتنع أهله أن يحملوا الضريبة التى كانت عليهم لملك مصر، فأنكر أهل مصر ذلك وأشفقوا من غلبة صاحب الشام على بلدهم، فحضّوا الملك على غزو الشام فقال: إن رام أحد حدود بلدنا غزوناه، وما لنا فى ذلك البلد من حاجة؛ فاستنقصوا رأيه. وأقام على ملازمة الهياكل والتعبّد فيها؛ فيزعم القبط أنه بينا ذات يوم قائم فى هيكل زحل حذاء صورته، وقد أجهد نفسه فى التعبد، إذ تغشّاه النوم فتجلّى له زحل وخاطبه وقال: قد جعلتك ربّا على أهلك وأهل بلدك، وحبوتك بالقدرة عليهم وعلى غيرهم، وسأرفعك إلىّ فلا تخل من ذكرى؛ فعظم عند نفسه، واتصل خبره بأهل البلد، وأخبرهم سدنة الهيكل أنهم رأوا النور وسمعوا الخطاب، وأعظم الناس أمره، فتجبّر فى نفسه وأمر الناس أن يسمّوه ربّا، وترفّع أن ينظر فى شىء من أمر الملك، وأحضر الناس وقال: قد وقفتم على ما خصصت به دون الملوك، وهذه موهبة يلزمنى الشكر لواهبها عليها، ولست أتفرّغ للنظر فى أموركم، وقد رأيت أن أجعل الملك إلى ابنى أكسامس، وأكون من ورائه إلى أن يغيب شخصى عنكم كما وعدت، وقد أيدته بالقاطرين، فانظروا كيف تكونون، ولا تتظالموا فإنكم منى بمرأى ومسمع، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 131 فرضوا بذلك وقالوا: نحن عبيد الملك ومن رضيته الآلهة فحكم الخلق أن يرضوه ولا يخالفونه. فملك ابنه أكسامس بن معاديوس؛ ويسميه أهل الأثر كاسم ابن معدان، وهو الفرعون السادس، وجلس على سرير الملك وتوّج بتاج أبيه وقام القاطرون بين يديه، فجعل لكل واحد منهم رتبة، ورتّب الناس مراتب، وقسم الكور والأعمال، وأمر باستنباط العمارات وإظهار الصناعات، ووسع على الناس فى أرزاقهم وعلى حاشيته وحاشية أبيه، وأمر بتنظيف الهياكل وتجديد لباسها وأوانيها، وزاد فى القرابين؛ وكلما أتى شيئا من ذلك لم تخالفه الكهنة وقدّروا أن ذلك عن أمر أبيه برضى الكواكب، واحتجب أبوه عن الناس. وأقام كاسم أعلاما كثيرة حول منف وجعل عليها أساطين يمرّ عليها من بعضها إلى بعض. وعمل برقودة وصا ومدائن الصعيد وأسفل الأرض مدنا كثيرة وأعلاما ومنائر للوقود والطلّسمات. وعمل كرة من الفضة على عمل البيضة الفلكية ونقش عليها صور الكواكب الثابتة ودهنها بدهن الصينى وركّبها على منار فى وسط منف. وعمل فى هيكل أبيه روحانىّ زحل من ذهب أسود مدبّر. وعمل فى وقته الميزان الذى يعتبر به الناس، وجعلت كفّتاه من ذهب وعلائقه من فضّة وخيوطه سلاسل ذهب، وكان معلقا فى هيكل الشمس، وكتب على إحدى كفّتيه حقّ، والأخرى باطل، وتحته فصوص قد نقش عليها أسماء كل شىء من الكواكب؛ فيدخل الظالم والمظلوم ويأخذ كل واحد منهما فصّا من تلك الفصوص ويسمى عليها ما يريد، ويجعل أحد الفصين فى كفّة والآخر فى الأخرى، فتثقل كفة الظالم وترتفع كفة المظلوم. وكذلك من أراد سفرا أخذ فصين فذكر على واحد اسم السفر، والآخر اسم الجلوس، ويجعل كل واحد فى كفة، فإن لم يرتفع أحدهما على الآخر جلس، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 132 وإن ارتفعا خرج، وإن ارتفع أحدهما مكث شهرا. ومن نحو هذا من غائب ودين وفساد وصلاح. ويقال إن بختنصّر لما ظفر بمصر حمله فى جملة ما حمل الى بابل وجعله فى بيت من بيوت النار. قال: وطالب كاسم الناس بلزوم الأعمال وإظهار الصنائع، فعملت كل غريبة منها: التنّور الذى يشوى من غير نار فيه، والقدور التى يطبخ فيها من غير نار، والسكين التى تنصب فإذا رآها شىء من البهائم أقبل حتى يذبح نفسه بها، والماء الذى يستحيل نارا، والزجاج الذى يستحيل هواء، وأشياء من ذلك. قال: فأقام فى أوّل ولايته ثلاث سنين بأجمل أمر وأصلح حال، ومات وزير أبيه الذى كان معه فاستخلف رجلا من أهل بيت المملكة يقال له طلما، وكان شجاعا فارسا كاهنا كاتبا حكيما دهيّا متصرّفا فى كل فنّ، وكانت نفسه تنازعه الملك فصلح أمر المملكة بمكانه وأحبه الناس، فعمل معالم كثيرة وعمر خرابا وبنى مدنا من الجانبين. ورأى فى نجومه أنه ستكون شدّة فاستعمل ما استعمله نهراوش، وبنى بناحية رقودة والصعيد ملاعب ومصانع. وشكا القبط اليه حال الإسرائليين فقال: هم عبيد لكم، فكان القبطىّ اذا أراد حاجة سخر الإسرائيلى، وكان القبطىّ يضرب الإسرائيلىّ فلا ينكر عليه أحد، وإن ضرب الإسرائيلىّ القبطىّ قتل، فكان أوّل من أذى بنى إسرائيل، ويفعل نساء القبط بنساء بنى إسرائيل ما يفعل الرجال بالرجال من السّخر والضرب. قال: وفى أيام أكسامس بنيت منارة الإسكندرية. وفى زمانه هاج البحر المالح فغرّق كثيرا من القرى والجنان والمصانع. وحكى أن أكسامس تغيّب عن الناس مدّة. وقيل: مات وكتموا موته. وكانت مدّة ملكه إلى أن غاب إحدى وثلاثين سنة، وأقام طلما إحدى عشرة سنة يدبّر المملكة ثم اضطرب الناس على الجزء: 15 ¦ الصفحة: 133 طلما وتغيّروا واتصل بهم أنه قتل الملك بسمّ سقاه إياه فاجتمعوا وقالوا: لابدّ لنا من النظر إلى الملك، فعرّفهم أنه قد تخلّى عن الملك وولّى ابنه لاطس فلم يقبلوا ذلك. فأمر طلما الجيوش فركبت فى السلاح وأجلس لاطس بن أكسامس على سرير الملك ولبس التاج. وكان جريئا معجبا فوعد الناس جميلا وقال: أنا مستقيم لكم ما استقمتم، وإن ملتم عن الواجب ملت عنكم، وأمر ونهى وألزم الناس أعمالهم، وحط جماعة من الوجوه عن مراتبهم، وصرف طلما عن خلافة المملكة واستخلف رجلا يقال له لاهوق من ولد صا الملك ودفع إليه خاتمه، وأنفذ طلما عاملا على الصعيد وأنفذ معه جماعة من الإسرائيليين، وعمل الأعلام وأصلح الهياكل وبنى قرى كثيرة، وأثيرت «1» فى أيامه معادن كثيرة وكنوز فى صحراء المشرق، واستعمل آنية كثيرة من الجوهر الأخضر وأصناف الزجاج. وكان محبّا للحكم ثم تجبّر وعلا، وأمر ألا يجلس أحد فى مجلسه ولا فى قصر الملك من الكهنة وغيرهم، بل يقومون على أرجلهم إلى أن ينصرفوا، وزاد فى أذى الناس والعنف بهم، ثم منع الناس فضول ما بأيديهم وقصرهم على القوت، وجمع أموالهم وطلب النساء فانتزع كثيرا منهنّ، وفعل فى ذلك أكثر من فعل من تقدّمه من الملوك، وقهر الناس بالسطوة واستعبد بنى إسرائيل وقتل جماعة من الكهنة فأبغضه الخاص والعامّ. وكان طلما لما صرفه لاطس عن خلافته وجد «2» فى نفسه وأضمر الغدر به. فلما خرج إلى الصعيد احتجز الأموال فلم يحملها، وحال بين الملك وبين المعادن، وأراد أن يقيم ملكا من ولد قبطريم ويجلسه فى الملك، فأشار بعض الكهنة على طلما أن يطلب الملك لنفسه وعرّفه أنه سيكون له حال. فلما شجّعه الكاهن وجرّأه على الجزء: 15 ¦ الصفحة: 134 ذلك دعا إلى نفسه وكاتب وجوه أهل البلد، فبعض أجابه وبعض توقف، ورفع كل واحد من ولد الملوك رأسه وطمع فى الملك. قال: وفى بعض كتبهم أن بعض الروحانيين ظهر له وقال: إنى أطيعك إن أطعتنى، وأقلدك مصر زمانا طويلا، فأجابه إلى ما سأله وقرّب له أشياء ذكرها له، منها غلام إسرائيلىّ؛ فعاونه حينئذ وكان له رسولا الى رؤساء مصر، فكان يتصوّر بصور بعضهم ويشير بتمليكه عليهم إلى أن استقام له الأمر، قال: ولما منع طلما لاطس من مال الصعيد كتب بصرفه عن العمل فأبى أن ينصرف، فوجه اليه قائدا من أهل بيته وقلده مكانه وأمره أن يحمله اليه، فحاربه وأعانه الروحانىّ فظفر به طلما واعتقله ثم خلّاه وقرّبه وأدخله فى جملته، واتصل الخبر بلاطس فأنفذ اليه قائدا آخر فهزمه طلما وسار فى أثره بجيش كثيف، وكاتب جميع القوّاد وأهل البلد وبذل لهم الأموال، وخرج اليه لاطس فحاربه طلما وعاونه الروحانىّ فظفر به طلما وقتله وسار حتى دخل منف وعاث فيها. وملك طلما بن قومس؛ ونزل قصر المملكة وجلس على سرير الملك وحاز جميع ما كان فى خزائنهم. قال: وطلما هذا هو ابن قومس، وهو الذى يذكر القبط أنه فرعون موسى عليه السلام. وأهل الأثر يسمونه الوليد بن مصعب وأنه من العمالقة. وذكروا أن الفراعنة سبعة فأوّلهم: طوطيس بن ماليا، ثم الوليد بن دومع، ثم ابنه الريان بن الوليد، ثم دريموس بن الريان، ثم معاديوس بن دريموس، ثم أكسامس بن معاديوس، ثم طلما. قال: وكان طلما فيما زعموا قصيرا. قيل: كان طوله أربعة أشبار، طويل اللحية، أشهل العينين، صغير العين اليسرى، فى جبينه شامة. ويقولون: إنه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 135 كان أعرج. وزعم قوم أنه من القبط. قال: والدليل على ذلك ميله إليهم ونكاحه فيهم؛ ونسب أهل بيته مشهور عندهم. وقد اختلف الناس فى سبب ملكه وعمن تلقّى الملك، فقيل ما ذكرناه، وقيل ما قدّمناه «1» فى قصة موسى بن عمران عليه السلام، والله تعالى أعلم. قال: ولما جلس طلما على سرير الملك اضطرب الناس عليه فبذل الأموال وأرغب من أطاعه، وقتل من خالفه، فاعتدل الأمر له. وكان أوّل ما عمل أن رتّب المراتب، وشيّد الأعلام، وبنى المدن، وخندق الخنادق، وعمل بناحية العريش حصنا، وكذلك على حدود مصر، واستخلف هامان، وكان يقرب منه فى نفسه ونسبه، فأثار بعض الكنوز وصرفها فى بناء المدن والعمارات، وحفر خلجانا كثيرة. ويقال: إنه الذى حفر خليج السّردوس «2» ، وكان كلما عرّجه الى قرية من قرى الحوف حمل إليه أهلها مالا؛ فاجتمع له من ذلك شىء كثير، فأمر بردّه «3» على أهله. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 136 وانتهى الخراج فى وقته الى سبعة وتسعين ألف ألف دينار، وكان ينزل الناس على مراتبهم. وهو أوّل من عرّف العرفاء على الناس، وكان ممن صحبه من الإسرائليين رجل يقال له إمرى، وهو عمران أبو موسى عليه السلام، وهو أخو مزاحم لأبويه، ومزاحم أبو آسية، فهى ابنة عمّ موسى وبنت خالته، فجعل فرعون عمران حارسا لقصره يتولى حفظه وفتحه وإغلاقه. وكان رأى فى كهانته أن هلاكه على يد مولود من الإسرائليين، فمنعهم المناكحة ثلاث سنين؛ لأنه رأى أن ذلك المولود يكون فيها. ثم كان من خبر موسى فى حمل أمه به وولادته وغير ذلك من أمره ما قدّمنا «1» ذكره فى قصة موسى عليه السلام فلا فائدة فى إعادته. وقد نقل أن موسى عليه السلام لمّا كبر عند فرعون عظم شأنه وردّ فرعون إليه كثيرا من أمره وجعله من قوّاده، وكانت له سطوة؛ ثم وجهه فرعون لغزو الكوثانيين، وكانوا قد عاثوا فى أطراف مصر، فخرج فى جيش كثيف فرزقه الله عزوجل الظّفر، فقتل منهم خلقا وأسر خلقا وانصرف سالما فسرّ به فرعون وآسية. قال: واستولى موسى وهو غلام على كثير من أمر فرعون وأراد أن يستخلفه حتى قتل رجلا من أشراف القبط فكان من أمره ما تقدّم ذكره. والله أعلم. هذا ما أورده إبراهيم فى كتابه؛ ولم يذكر من أخبار ملوك مصر بعد غرق فرعون شيئا ولا ذكر من ملك بعده. وقد أشار المسعودى فى مروج الذهب الى نبذة من أخبار من ملك مصر بعد غرق فرعون نحن نذكرها. وأما سياقة أخباره فيما كان قبل فرعون فهذا الذى ذكرناه أتمّ منه وأكثر استيعابا. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 137 ذكر نبذة من أخبار من الملك مصر بعد غرق فرعون قال أبو الحسن على بن عبد الله المسعودى فى كتابه مروج الذهب «1» ومعادن الجوهر: لما أهلك الله تعالى فرعون وقومه بالغرق خشى من بقى بمصر من الذرارى والنساء والعبيد أن يغزوهم ملوك الشام والمغرب؛ فملكوا عليهم امرأة يقال لها دلوكة؛ فبنت على أرض مصر حائطا يحيط بجميع البلاد من حدّ أرض رفج الى برقة، وجعلت الحرّاس على مسافة كل ميل منها يصل أخبار بعضهم الى بعض، فإذا حدث أمر فى أوّل ملكها بليل رفعت النيران فى وقت حدوثه فعلم فى آخر المملكة بالخبر من ليلته، وإن كان بالنهار دخن. وهذا الحائط موجود الى حين وضعنا لهذا الكتاب ويسمى حائط العجوز. وقيل فيه: حائط «2» الحجوز. وقيل: إنها بنت هذا الحائط من خوفها على ولدها. واتخذت دلوكة بمصر البرابى وصوّرت فيها الصور، وأحكمت آلات السحر، وجعلت فى البرابى صور من يرد فى البر ودوابّهم إبلا كانت أو خيلا، ومن يرد الجزء: 15 ¦ الصفحة: 138 فى البحر فى المراكب من بلاد الغرب وسواحل الشام، وأحكمت جميع ذلك بحركات فلكيّة. فكان إذا ورد عليها عدوّ من نحو الحجاز واليمن عوّرت تلك الشخوص التى فى البرابى من الإبل وغيرها فيحدث العور فى ذلك الجيش وتهلك دوابّهم، وكذلك كل من يقدم عليها من البر والبحر اذا بلغها خبر مقدمه صنعت فى تلك الصور ما يحدث مثله فى ذلك الجيش من الآفات، فهابها سائر ملوك الأمم. وخبر هذه المرأة مشهور. وأكثر هذه البرابى باق الى وقتنا هذا وفيها التصاوير إلا أنها لا فعل لها. وقد قيل فى البرابى: إنها اتخذت مع الأهرام قبل الطوفان. والله تعالى أعلم. وقيل أيضا: إن مما أنشأته هذه المرأة منارة الإسكندرية، وقد تقدّم ذكر خبرها فى المبانى القديمة وهو فى السفر «1» الأول من كتابنا هذا من هذه النسخة. قال: وملكت هذه المرأة نحوا من ثلاثين سنة، وقيل أقل من ذلك. ولما هلكت دلوكة ملك بعدها دركوس «2» بن بلوطس. ثم ملك بعد ولده بورش. «3» ثم ملك بعده ولده بغاش «4» بن بورش نحوا من خمسين سنة. ثم ملك بعده دنيا «5» ابن بورش نحوا من عشرين سنة. ثم ملك بعده بلوطس عشرين سنة. ثم ملك بعده بلوطس بن متناكيل «6» أربعين سنة. ثم ملك بعده مالس «7» بن بلوطس. ثم ملك الجزء: 15 ¦ الصفحة: 139 بعده بوليه «1» بن متناكيل؛ وكانت له حروب وسير فى الأرض وهو فرعون الأعرج «2» الذى غزا بنى إسرائيل وخرّب بيت المقدس. ثم ملك بعده وينوس بن مرينوس «3» ثمانين سنة. ثم ملك بعده قومس «4» بن بغاس «5» عشر سنين. ثم ملك بعده مكاييل وكانت له حروب مع ملوك الغرب، وهو الذى غزاه بختنصّر فقتله وقتل رجاله وخرّب أرض مصر، فقيل إنها خرّبت مدة أربعين سنة. وانقرض ملك الفراعنة. وملك الروم أرض مصر فتنّصر أهلها؛ ولم تزل بيد ملوك الروم الى أن ملك كسرى أنو شروان فارس فغلبت جيوشه على الشام وسارت نحو مصر، فملك الفرس أرض مصر، وغلبوا عليها نحوا من عشر سنين. وكانت بين الروم وفارس حروب كثيرة، فصار أهل مصر يؤدّون خراجين: للروم وللفرس، ثم انجلت الفرس عن الشام ومصر لأمر حدث فى بلادهم، فغلبت الروم على مصر والشام وأظهروا النصرانية، واستمرّ ذلك الى أن جاء الله تعالى بالإسلام. وكان المقوقس ينوب عن ملك الروم، وهادى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم تزل الديار المصرية الجزء: 15 ¦ الصفحة: 140 والشام بيد ملوك الروم الى أن فتحت فى خلافة عمر بن الخطاب رضى الله عنه على ما سنورد ذلك إن شاء الله تعالى فى خلافة عمر فى الباب الثانى من القسم الخامس من هذا الفن، وهو فى السفر السابع عشر من هذه النسخة. قال المسعودى رحمه الله: والذى اتفقت عليه التواريخ، مع تباين ما فيها، فى عدد ملوك مصر الى آخر أيام الفراعنة أنهم اثنان وثلاثون ملكا. قال: فمن ملوك بابل الى آخر أيام ابنة ماموم- يشير الى دليفة- أحد عشر ملكا وملكة. ومن العماليق أربعة ملوك. ومن الفراعنة من لدن الوليد بن مصعب فرعون موسى بن عمران عليه السلام، والى أن خرج بختنصّر الفارسىّ على مكاييل وقتله سبعة عشر ملكا بما فى ذلك من ملك دلوكة، وهو إنما يشير الى من ملكها بعد الطوفان. وأما من ملكها قبل الطوفان فإنه لم يتعرّض الى ذكرهم. قال: وملكها من الروم سبعة ملوك. ومن اليونان عشرة ملوك. قال: وذلك قبل ظهور المسيح عليه السلام. قال: وملكها أناس من الفرس فكانت مدّة من ملكها من الفراعنة ومن بعدهم والعماليق والفرس والروم واليونان ألفى سنة وثلاثمائة سنة. والله أعلم بالصواب. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 141 الباب الثالث من القسم الرابع من الفن الخامس فى أخبار ملوك الأمم من الأعاجم؛ وهم ملوك الفرس الأول، وملوك الطوائف من الفرس، والملوك الساسانية واليونان والسريان والكلوانيين والروم والصقالبة والنوكبرد والإفرنجة والجلالقة وطوائف السودان ذكر أخبار ملوك الفرس وهم الفرس الأول وقد اختلف الناس فى الفرس وأتسابهم وكم من دولة كانت لهم. وسنذكر هاهنا مقالاتهم فى ذلك واختلافهم. فمن الناس من زعم أنهم من فارس بن ياسور ابن سام بن نوح، وهذا قول هشام بن محمد. ومنهم من زعم أنهم من ولد يوسف ابن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام. ومنهم من زعم أنهم من ولد هدرام ابن أرفخشد بن سام بن نوح، وأنه ولد له بضعة عشر رجلا كلهم كان فارسا شجاعا؛ فسمّوا الفرس لفروسيتهم، وفى ذلك يقول حطّان بن المعلّى الفارسىّ: وبنا سمّى الفوارس فرسا ... نا ومنّا مناجب الفتيان «1» وزعم قوم أن الفرس من ولد لوط من ابنتيه رشا ورغوشا. وذكر آخرون أنهم من ولد بوّان بن أران بن الأسود بن سام بن نوح، ولبوّان هذا ينسب شعب بوّان وهو أحد متنزّهات الدنيا. وقد تقدّم ذكره فى باب الرياض «2» من الفن الرابع. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 142 ومن الناس من يرى أن الفرس من ولد إيران بن أفريدون، ولا خلاف بين الفرس أجمع أنهم من ولد كيومرث «1» وهو الأشهر، وإليه يرجع جميع الفرس الأول وملوك الطوائف والملوك الساسانية. وأما التنازع فى دولهم فمن الناس من زعم أنهم أربعة أصناف، وأن الصنف الأوّل منهم كان من كيومرث إلى أفريدون وهم الجرهانية، وقيل الجهدهانية. والصنف الثانى من كيان إلى دارا بن دارا وهم الكيانية. والصنف الثالث ملوك الطوائف. والصنف الرابع الساسانية. ومن الناس من جعلهم صنفين: فجعل الصنف الأوّل من كيومرث إلى دارا بن دارا. والصنف الثانى من أردشير بن بابك إلى يزدجرد ابن شهريار المقتول فى خلافة عثمان رضى الله عنه. فمدّة ملكهم فى الدولة الأولى ثلاثة آلاف سنة وثلاثمائة وستة وعشرون سنة. وعدّة ملوكهم عشرون ملكا فيهم امرأة واحدة. فأوّل ملك ملك من الفرس الأول كيومرث وقيل فيه جيومرث. وقد اختلف فى نسبه، فمن الناس من قال: إنه ولد آدم «2» لصلبه. ومنهم من قال: إنه ولد لاوذ بن إرم بن سام بن نوح. وقد قيل: إنه أوّل ملك ملك من بنى آدم. وكان السبب فى ملكه أنه لمّا كثر البغى والظلم فى الناس اجتمع أكابر أهل زمانه ورأوا أنه لا يقيم أمرهم إلا ملك يرجعون إليه فيما يأمر وينهى، فأتوه وقالوا: أنت أكبر أهل زمانك وبقية أبينا، والناس قد بغى بعضهم على بعض، وأكل القوىّ الضعيف، فضمّ أمرنا إليك وكن القائم بصلاحنا. فأخذ عليهم العهود والمواثيق بالسمع والطاعة له وترك الخلاف عليه. فصنعوا له تاجا ووضعوه على رأسه. وهو أوّل من وضع التاج على رأسه. فاستوثق له الأمر وقام الجزء: 15 ¦ الصفحة: 143 بأمر الناس وحسنت سيرته فيهم. وكانت مدّة ملكه عليهم أربعين سنة. وكان ينزل إصطخر من أرض فارس حتى مات. واختلف فى مقدار عمره، فقيل: إنه عاش ألف سنة، وقيل غير ذلك. والله تعالى أعلم. فلما مات قام بالأمر من بعده أو شهنج ابنه وقيل: أخوه، وقيل: أو شهنج ابن فيشداد «1» بن كيومرث. وفى الناس من يزعم أنه أوّل ملك ملك من الفرس، وهو الذى جمع الأقاليم السبعة، ورتب الملك ونظّم الأعمال، ولقّب بفيشداد، وتفسيره بالعربية أوّل سيرة العدل. ويقال: إن أوشهنج هذا كان بعد الطوفان بمائتى سنة، وهو أوّل من قطع الحجر وبنى به، واستخرج المعادن، وبنى مدينتى بابل والسوس. وكان فاضلا حسن السياسة محمود الأثر. قال: ونزل الهند وتنقّل فى البلاد وعقد التاج وجلس على السرير. وكان من حسن سياسته أنه نفى أهل الفساد والدعارة من البلدان وألجأهم إلى رءوس الجبال وجزائر البحر، واستخدم منهم من كان يصلح للخدمة وسمّاهم الشياطين والعفاريت، وقرّب أهل الخير والصلاح. وكانت مدّة ملكه أربعين سنة. ولما مات ملك بعده طهمورث «2» وقيل فيه طهورث بن أنوجهان بن أوشهنج، وقيل بل بينهما عدّة آباء. قال: ولما ملك سار فى الناس سيرة جدّه أوشهنج. وكان ينزل نيسابور. وقيل إنه الذى أنشأها ثم جدّدها بعد ذلك سابور. وقيل: إنه أوّل من كتب بالفارسية «3» ونفى أهل الدعارة والشرّ واستقام له نظام الملك. قيل: وفى أيامه ظهر بوداسف الذى «4» أحدث دين الصابئة. وكان ملكه ثمانين سنة. وقيل ثلاثين سنة. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 144 ولما مات ملك بعده أخوه جمشيد «1» ، وتفسير شيد: الشعاع، سمى بذلك لوضاءة وجهه. قال: ولما ملك سلك سيرة من تقدّم وزاد عليها بأن صنّف الناس وطبّقهم ورتّب منازل الكتّاب وأمر لكل واحد وظيفة وأمره أن يلزمها. وعمل أربعة خواتيم: خاتما للحرب والشّرط «2» وكتب عليه الأناة، وخاتما للخراج وجباية الأموال وكتب عليه العمارة، وخاتما للبريد وكتب عليه الوحا، وخاتما للمظالم وكتب عليه العدل. فبقيت هذه الرسوم فى ملوك الفرس الى أن جاء الإسلام. وكان ملكه ستمائة سنة. وقيل سبعمائة سنة وستة أشهر. وقيل ألف سنة إلا عشر سنين. وفى أيامه أحدث النيروز «3» وجعله عيدا، وأمر الناس أن يتنعموا فيه. ثم بدّل سيرته بالجور بعد الإنصاف، والظلم بعد العدل، والإساءة بعد الإحسان، فثقلت وطأته على الناس. ثم أظهر الكبر على وزرائه وكتّابه وقوّاده. ثم انهمك على لذّاته وترك مراعاة كثير من السياسة الملوكية التى جرت عادة الملك أن يتولّاها بنفسه. وقيل: إنه ادّعى الإلهية فخرج عليه بيوراسب، وكان من جملة عمّاله، واستجلب الناس وجمعهم عليه واستصلحهم لنفسه، وقصد جمشيد بعد أن كثرت أتباعه وقويت شوكته، فهرب منه فاتبعه حتى أدركه وظفر به ونشره بمنشار. وملك بعد جمشيد بيوراسب؛ وهو الذى يسمّيه العرب الضحّاك. قالوا: وهو بيوراسب «4» بن أرونداسف بن بغاداس بن طوخ بن قروال بن ساعل بن فرس ابن كيومرث، وهو الدّهّاك، فعرّب اسمه فقيل الضحّاك. وقيل: إنه ملك ألف سنة. وزعم قوم أنه نمروذ. وزعم قوم آخرون أنه كان من عمّال بيوراسب على كثير من أعماله. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 145 قال: ولما ملك بيوراسب ظهر منه خبث شديد وفجور كثير، وملك الأرض كلها، فسار فيها بالجور والعسف وسفك الدماء والصلب، وهوّل على الناس ومحاسيرة من تقدّمه من الملوك، وسنّ الأعشار واتخذ الملاهى والغناء. وكان على منكبيه سلعتان «1» يحرّكهما إذا شاء كما يحرّك يده، فادّعى أنهما حيّتان تهويلا على ضعفاء الناس. وقد تقدّم ذكره فى الباب الرابع من القسم الثالث من الفنّ الأوّل، وهو فى السفر الأوّل «2» من نسخة الأصل فى أخبار أعياد الفرس، فلا حاجة الى إعادة ما قدّمنا ذكره من أمره. قال: ولما عمّ الناس جوره كان من سوء عاقبة ذلك أن ظهر بأصبهان رجل يقال له كابى «3» من عوامّ الناس. ويقال: إنه كان حدّادا. وكان الضحاك قتل لكابى ابنين، فبلغ به الجزع على ولديه مبلغا عظيما، فقام وأخذ عصا وعلّق عليها جرابا. وقيل: بل علّق النّطع الذى كان يشدّه على وسطه يتّقى به النار إذا صنع الحدادة. وقيل: بل كان جلد أسد. وقيل: بل جلد نمر، ودعا الناس إلى مجاهدة بيوراسب، فحمل الناس ما كانوا فيه من البلاء إن اتبعوه وأطاعوه، فاستفحل أمره، وكثرت أتباعه، واجتمع عليه أشراف الناس وأكابرهم؛ فقصد بيوراسب. فلما أشرف عليه هرب عن منازله، فجاء أشراف الناس إلى كابى الأصبهانى واجتمعوا عليه ليملّكوه، فامتنع من ذلك وقال: إنى لست من بيت الملك، ولكن التمسوا من هو من بيت الملك فنولّيه علينا. وكان أفريذون «4» بن اثفيان قد استخفى من الضحاك الجزء: 15 ¦ الصفحة: 146 فى بعض النواحى، فجاء إلى كابى الأصبهانىّ ففرح الناس به واستبشروا بمقدمه، وكان مرشحا للملك فملّكوه عليهم، وصار كابى من جملة أعوان أفريذون. قال: وتفاءل الفرس وتبركوا بذلك العلم الذى كان قد رفعه كابى الأصبهانى وعظّموه ورصّعوه بعد ذلك بالجواهر وسمّوه الدّرفس وجعلوه علمهم الأكبر الذى يتبرّكون به، وهو الذى صار الى المسلمين فى وقعة القادسية «1» . وكانت الفرس لا ينشرونه إلا فى الأمور العظيمة. قال: ولما هرب بيوراسب ملك بعده أفريذون؛ وهو التاسع من ولد جمشيد. قال: فأوّل ما بدأ به أن اتبع بيوراسب فأدركه بدنباوند «2» وقتله. وفى يوم قتله أحدث المهرجان على ما قدّمناه «3» . قال: ثم ردّ أفريذون مظالم الناس وأمر بالإنصاف وبسط العدل، ونظر الى ما كان بيوراسب قد اغتصبه من أموال الناس وأملاكهم وأراضيهم، فردّ ذلك على أهله، وما لم يجد أهله وقفه على المساكين ومصالح العامة. وكان مؤثرا للعلم وأهله. وكان صاحب طبّ وفلسفة ونجوم. وزعم بعض الفرس أن بيوراسب الضحاك هو النمروذ، وأن أفريذون هو إبراهيم عليه السلام. قال: ودام ملكه خمسمائة سنة. وقال: هو أوّل من تسمى بكى، فكان يقال له: كى أفريذون، وهى كلمة يراد بها التنزيه؛ أى روحانىّ منزّه متصل بالروحانية. وهو أوّل من ذلّل الفيلة وقاتل بها الأعداء. قال: وكان لأفريذون الجزء: 15 ¦ الصفحة: 147 ثلاثة أولادوهم: سرم وقيل فيه سلم، وطوخ «1» ، وإيرج وقيل فيه إيران؛ فخشى أفريذون ألا يتفقوا بعده وأن يبغى بعضهم على بعض، وظن أنه إذا قسم الملك بينهم فى حياته بقى الأمر بعده على انتظام واتساق فقسمه بينهم. فجعل الروم والشام وناحية المغرب لسرم. وجعل الترك والصين لطوخ. وجعل العراق والهند لإيرج، وهو صاحب التاج والسرير. ففى ذلك يقول شاعرهم: وقسمنا ملكنا فى دهرنا ... قسمة اللحم على ظهر الوضم «2» فجعلنا الروم والشام الى ... مغرب الشمس الى الملك سرم ولطوخ جعل التّرك له ... فبلاد الصين يحويها ابن عم ولإيران جعلنا عنوة ... فارس الملك وفزنا بالنعم فلما مات أفريذون وثب طوخ وسرم بأخيهما إيران فقتلاه وملكا الأرض بينهما، ولذلك نشأت العداوة بين الترك والروم، وقامت الحروب، وطلب بعضهم بعضا بالدماء. فكان من سوء عاقبة غدرهما بأخيهما وتغلبهما على ملكه أن نشأ ابن لإيران بن أفريذون يقال له منوجهر، وقيل اسمه منواشجهر، وقيل فيه منوشهر، فغلب على ملك أبيه إيران. وملك منوجهر بن إيران بلاد فارس، ثم نشأ ابن لطوخ التركى فنفى منوجهر عن بلاده وجرت بينهما حروب، ثم ظفر منوجهر وعاد الى ملكه، ونفى ولد طوخ وقوى أمره وظهر اسمه. وكان منوجهر موصوفا بالعدل والإحسان فى مملكته. ويقال: إنه أوّل من خندق الخنادق، وجمع آلة الحروب، وأوّل من وضع الدّهقنة «3» ، وجعل لكل قرية دهقانا، وجعل أهلها عبيدا وخولا وألبسهم لباس الجزء: 15 ¦ الصفحة: 148 المذلّة. ولما قوى أمره سار نحو الترك وطلب بدم أبيه فقتل عمّيه اللذين قتلا أباه، وأدرك ثأره وانصرف الى بلاده. ثم نشأ فراسياب «1» بن ترك من ولد طوخ بن أفريذون وإليه ينسب الترك، فحارب منوجهر وحاصره بطبرستان «2» ، ثم اصطلحا وضربا بينهما حدّا لا يجاوزه واحد منهما، وهو نهر بلخ، فانقطعت الحرب بين فراسياب ومنوجهر. وكان لمنوجهر هذا خطب تدل على سداد رأيه، ووفور عقله، وجودة فهمه؛ قد ذكرنا بعضها فى الباب الرابع «3» من القسم الخامس من الفنّ الثانى فى وصايا الملوك. قال: وفى أيام منوجهر ظهر موسى بن عمران عليه السلام. قال: ولما مات منوجهر تغلّب فراسياب على إقليم بابل اثنتى عشرة سنة، وأكثر الفساد، وخرّب البلاد، وطمّ الأنهار ودفن القنى، فقحط الناس الى أن ظهر زوّبن طهماسب فأخرجه عن بلاد فارس الى تركستان. وملك زوّبن طهماسب وقيل فيه: زاع، وقيل فيه: زاب، وقيل: راسب، وهو من أولاد منوجهر، وبينه وبين منوجهر عدّة آباء. قال: ولما ملك ابتدأ فى عمارة ما خرّبه فراسياب، وأمر ببناء ما هدم من الحصون، وحفر الأنهار والقنى، حتى عادت البلاد إلى أحسن ما كانت عليه، ووضع عن الناس الخراج الجزء: 15 ¦ الصفحة: 149 سبع سنين، فعمرت البلاد فى أيامه، ودرّت معايش الناس، واحتفر بالسواد «1» نهرا وسماه الزاب، وبنى على حافتيه مدينة وهى التى تسمى المدينة العتيقة، وكوّرها كورا، وجعلها ثلاثة طساسيج «2» : الزاب الأعلى، والزاب الأوسط، والزاب الأسقل، ونقل إليها بذور الرياحين، وأصول الأشجار، وزوّ هذا أوّل من اتخذ ألوان الطبيخ، وأنواع الأطعمة، وقسم الغنائم على جنوده. وكانت مدّة ملكه ثلاث سنين. ثم ملك بعده كرشاسب بن أسباس؛ وأمه من سبط يامين بن يعقوب عليه السلام. قال: وكان مسكنه ببابل. ومدّة ملكه عشرون سنة. وبعض المؤرّخين لم يذكره فى الملوك. وقال الشيخ أبو على أحمد بن محمد بن مسكويه فى كتابه المترجم بتجارب الأمم: إن كرشاسب كان وزيرا لزوّ بن طهماسب، وأنه من أولاد طوخ ابن أفريذون. قال: وقد حكى أن زوّا وكرشاسبا اشتركا فى الملك. قال: والصحيح من أمره أنه كان وزيرا لزوّ ومعينا له، والذى أثبت كرشاسب فى الملوك الشيخ عبد الملك بن عبد الله بن عبدون الحضرمى الشلبى فى كتابه المترجم بكمامة الزهر وصدفة الدرر، وقال: ولم يذكره بعض المؤرّخين. ثم ملك بعده كيقباذ بن زوّ؛ وقيل فيه: ابن زاب بن تور، وسلك سبيل أبيه فكوّر الكور، وبين حدودها، وأمر الناس بالعمارات، وأخذ العشر من الغلات لأرزاق الجند. وكان حريصا على العمارة، مانعا لحوزته. والملوك الكييّة «3» من نسله. وكان بينه وبين الترك حروب كثيرة. وكانت إقامته فى الحدّ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 150 الذى بين مملكة الفرس والترك بناحية بلخ. وكان ملكه مائة وعشرين سنة ثم مات. وملك بعده كيقابوس «1» بن كينة بن كيقباذ الملك. قال: ولما ملك شدّد على أعدائه، وقتل خلقا كثيرا من عظماء البلاد وسكن بلخ، وولد له ابن لم ير مثله فى عصره جمالا وتمام خلقة، وسمّاه سياوخش وضمه الى رستم الشديد بن دستان من ولد كرشاسب. وكان أصبهبذا بسجستان وما يليها من قبل كيقابوس وأمره بتربيته. فمضى به رستم الى سجستان وتخيّر له الحواضن والمراضع الى أن عقل، فجمع له المعلمين، ثم علّمه الفروسية حتى فاق فيها، فقدم به على أبيه وهو كامل الصفات من العقل والأدب والفروسية، فامتحنه والده فوجده فوق ما يحب. قال: وكان لكيقابوس زوجة بارعة الجمال يقال إنها بنت فراسياب ملك الترك؛ ويقال: إنها ابنة ملك اليمن، فهويت سياوخش وهويها، ويقال: إنها كانت ساحرة فسحرته، وآل أمرهما الى أن انكشف لأبيه كيقابوس واطّلع على ما كان من أمر ابنه وزوجته، فأشفق سياوخش على نفسه وخشى عاقبة أبيه فتلطف فى البعد عنه، فسأل رستم أن يشير على أبيه لإرساله لحرب فراسياب ملك الترك، وكان قد تجدّدت بين فراسياب وكيقابوس وحشة، ففعل رستم ذلك وخاطب كيقابوس فيه واستأذن له فى جند يضمهم إليه، فأذن له وضمّ إليه جندا كثيفا وأشخص سياوخش الى بلاد الترك، فسار حتى التقى بفراسياب فانتظم الصلح بينهما من غير حرب، فكتب سياوخش الى أبيه يخبره بما كان بينه وبين فراسياب من الصلح والاتفاق، فكتب إليه كيقابوس بإنكار ذلك عليه وأمره بمناهضته ومناجرته الحرب، فرأى سياوخش الجزء: 15 ¦ الصفحة: 151 أنه إن فعل ما أمره به والده من الحرب ونقض الهدنة من غير سبب وقع يوجب نقضها، يكون ذلك عارا عليه ومنقصة، فامتنع من إنفاذ أمر أبيه وأجمع رأيه على الهرب منه، فكتب الى فراسياب ملك الترك يطلب منه الأمان لنفسه، وعرّفه أنه آثر اللحاق به فأجابه الى ذلك. وكان السفير بينهما أحد عظماء الترك وأكابرهم يسمى قيران. فلما استوثق سياوخش من ملك الترك سار نحوه وانصرف من كان معه من جند أبيه ورجعوا إليه. قال: ولما وصل سياوخش الى فراسياب ملك الترك أكرمه وعظّمه وزوجه بابنته، وهى أم كيخسرو الذى ملك الفرس. ولم يزل على إكرامه الى أن ظهر له من أدبه وحسن سياسته وجميل تلطفه ما أشفق منه وخشى على ملكه لميل الناس إليه فقتله. وكانت ابنة الملك قد اشتملت من سياوخش على حمل، فقصد أن يسقطه وتحيّلوا فى ذلك فلم تسقط؛ ثم جاء قيران، وهو الذى كان السفير فى الصلح بين الترك وسياوخش، وأنكر ما كان من فعل الملك وحذّره عاقبة الغدر والطلب بالثأر، وأشار عليه أن يدفع ابنته زوجة سياوخش إليه لتكون عنده الى أن تضع وقال: اذا أردت بعد ذلك قتل ولدها فاقتله؛ فأجابه الملك الى ذلك وسلّم إليه ابنته، فكانت عنده الى أن وضعت كيخسرو؛ فلما وضعته امتنع قيران من قتله وستر أمره، فكان عند قيران حتى بلغ، ثم احتال جدّه كيقابوس الى أن أخرجه هو وأمّه من بلاد الترك. قال أبو على أحمد بن محمد بن مسكويه فى كتابه المترجم بتجارب الأمم: وللفرس فى أمر كيقابوس خرافات كثيرة منها: أنهم يزعمون أن الشياطين مسخوه، وقوم منهم يزعمون أن سليمان بن داود عليهما السلام أمرهم بذلك فى خرافات كثيرة ظاهرة الإحالة: من الصعود الى السماء، وبناء مدينة كنكر بأسوار من ذهب وفضة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 152 وحديد ونحاس وأنهار، وأنها ما بين السماء والأرض؛ وأشياه ذلك مما تحيله العقول السليمة؛ لأن ذلك ليس فى قدرة البشر. قال: ولما تمّ لكيقابوس أكثر ما كان يقصده سار من خراسان ونزل بابل وترك ما كان يتولاه بنفسه من السياسات، واحتجب عن الناس وتعاظم عليهم، وآثر الخلوة، فكان من عاقبة ذلك أن فسد عليه ملكه وغزته الملوك؛ فكان بعد ذلك يغزوهم فيظفر بهم مرّة وينكب أخرى، الى أن غزا بلاد اليمن، والملك بها يومئذ ذو الأذعار بن أبرهة بن ذى المنار. فلما أتاه كيقابوس خرج اليه ذو الأذعار فى جموعه من حمير وولد قحطان، فظفر به ذو الأذعار وأسره واستباح عسكره وحبسه فى بئر وأطبق عليه طبقا، فخرج رستم الشديد من سجستان فى جموع كثيرة من الفرس؛ فالفرس تزعم أنه أوغل فى بلاد اليمن واستخرج كيقابوس من محبسه، واليمن تقول غير ذلك، وأن ملكهم ذاالأذعار لما بلغه إقبال رستم خرج اليه فى جموعه وجنود عظيمة، وخندق كل منهما على نفسه وعسكره، وأنهما أشفقا على جندهما من البوار، فاتفقا على أن دفع لهم ملك اليمن كيقابوس وانصرف رستم من غير حرب ورجع بكيقابوس الى بابل، فكتب له كيقابوس كتابا بالعتق وأقطعه سجستان. ونسخة الكتاب الذى كتبه: من كيقابوس بن كيقباذ الى رستم. إنى قد أعتقتك من العبودية، وملّكتك بلاد سجستان، واجلس على سرير من فضة مموّه بالذهب، والبس قلنسوة من الحرير منسوجة بالذهب متوجة. قال: ومما يدل على صحة ما نقل من أمر كيقابوس قول الحسن بن هانىء: وقاظ «1» قابوس فى سلاسلنا ... سنين سبعا وفت لحاسبها الجزء: 15 ¦ الصفحة: 153 ولما مات كيقابوس ملك بعده ولد ابنه كيخسرو بن سياوخش بن كيقابوس. قال: ولما ملك عقد التاج على رأسه وخطب رعيته خطبة بليغة أعلمهم فيها أنه على الطلب بدم أبيه سياوخش قبل فراسياب ملك الترك، وكتب إلى جوذرز بأصبهان- وكان أصبهبذا على خراسان- يأمره بالمسير إليه، وأمره أن يعرض جنده وأن ينتخب ثلاثين ألف راجل ويضمهم إلى طوس [بن نوذران «1» ] وكان فيمن أشخص معه برزافره [بن كيقاوس «2» ] عمّ كيخسرو وابن جوذرز وجماعة من إخوته، وتقدّم كيخسرو إلى طوس، وأمره أن يقصد فراسياب وطراخنته «3» وحذره من ناحية ببلاد الترك فيها أخ له من أبيه سياوخش يقال له فروذ، وكان قد رزقه من بعض نساء الأتراك، كان سياوخش قد تزوّجها لما سار إلى فراسياب فولدت له فروذ، وأقام بموضعه إلى أن شبّ، فسار طوس وكان من غلطه الذى فعله أنه لما صار بالقرب من المدينة التى فيها فروذ حاربه فقتل فروذ فى الوقعة. فلما اتصل الخبر بكيخسرو غضب لذلك وشقّ عليه، فكتب إلى عمه برزافره ذلك كتابا غليظا يخبره بما ورد عليه من خبر طوس ومخالفته له ومحاربته لأخيه فروذ وقتله إياه، وأمره بإشخاص طوس إليه مقيدا مغلولا، وأن يتقدّم هو على العسكر ويتوجه. ففعل برزافره ذلك وتولى أمر العسكر، وسار وعبر النهر المعروف بكاشرود، وانتهى خبره إلى فراسياب فوجه للقائه وحربه جماعة من إخوته وطراختنه، فالتقوا وفيهم قيران وإخوته، فاقتتلوا قتالا شديدا، وظهر من برزافره عمّ كيخسرو فى ذلك اليوم فشل لمّا اشتدت الحرب، فهرب وانحاز بالعلم إلى رءوس الجبال، واضطرب على ولد جوذرز الأمر، فقتل منهم فى تلك الملحمة فى وقعة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 154 واحدة سبعون رجلا، وقتل خلق كثير، وانصرف برزافره ومن أفلت معه إلى كيخسرو، فرئيت الكابة فى وجهه وامتنع عن الطعام والشراب أياما، ثم أتاه جوذرز وشكا إليه عمه برزافره وأنه كان سبب الهزيمة، ولاطفه كيخسرو وقال: إن حقك لازم لنا لخدمتك إيانا، وهذا جندنا وخزائننا مبذولة لك فاطلب ترتك «1» واستعدّ وتجهّز للتوجه إلى فراسياب. فنهض جوذرز وقبّل يده وقال: نحن رعيتك وعبيدك أيها الملك، فإن كانت آفة أو نازلة فلتكن بالعبيد دون الملوك، وأولادى الذين قتلوا فداؤك، ونحن من وراء الانتقام من فراسياب والاستيفاء «2» من الترك. فكتب كيخسرو إلى وجوه عساكره وأكابر أجناده يأمرهم بموافاته فى صحراء تعرف بشاه اسطون من كورة بلخ فى وقت وقّته لهم، فوافوه فى ذلك الوقت، وشخص كيخسرو بأصبهبذيته وأصحابهم وفيهم برزافره عمه وجوذرز وولده، فعرض كيخسرو الجند بنفسه حتى عرف عدّتهم واطّلع على أحوالهم، ثم أحضر جوذرز وثلاثة نفر معه من القوّاد فأعلمهم أنه يريد إدخال العساكر على الترك من أربعة وجوه ليحيطوا بهم من جميع جهاتهم، وقوّد على تلك العساكر، وجعل أعظمها إلى جوذرز، ودفع اليه يومئذ درفس «3» كابيان، ولم يكن يدفع قبل ذلك لأحد من القوّاد، بل مع أولاد الملوك. قال: وأمر أحد القوّاد بالدخول مما يلى الصين وضم اليه ثلاثين ألف رجل، وأمرهم بالدخول من ناحية الخزر من طريق بين جوذرز وبين الذى دخل من طريق الصين، ودخل جوذرز من ناحية خراسان وبدأ بقيران والتحمت بينهما الجزء: 15 ¦ الصفحة: 155 الحرب واشتدّ القتال، فقتل جوذرز أخالقيران، ثم قتل قيران مبارزة، ثم قصد فراسياب والتحمت عليه العساكر من كل جهة، واتبع كيخسرو القوم بنفسه وقصد الوجه الذى كان فيه جوذرز، وقد أثخن فى القتل وقتل أصبهبذ فراسياب والمرشح للملك بعده، وجماعة كثيرة من إخوته وأولاده، وأسر برويز وهو الذى قتل سياوخش. قال: ولما جاء كيخسرو وجد جوذرز قد أحصى الأسرى والقتلى وما غنم من الكراع «1» والأموال، فوجد ما فى يده من الأسرى ثلاثين ألفا، ومن القتلى خمسمائة ألف ونيفا وستين ألفا على ما تزعم الفرس، وحاز من الكراع والأموال ما لا يحصى كثرة، وأمر كل واحد من الوجوه الذين كانوا معه أن يجعل أسيره ورأس قتيله [عند علمه «2» ] لينظر إلى ذلك كيخسرو عند موافاته. فلما وافى كيخسرو موضع الملحمة تلقاه جوذرز وعرض عليه الأسرى والقتلى، فرأى قيران قتيلا، وأتى بقاتل «3» أبيه الذى مثّل به بعد قتله. فقتله كيخسرو شرّ قتلة؛ قطعه عضوا عضوا ثم ذبحه، وأحسن صلة جوذرز وفوّض إليه الوزارة التى يقال لها بزر جفر «4» مذار وجعل إليه مع ذلك أصبهان وجرجان، وأحسن لكل من أبلى من قوّاده ورجاله، ثم أتته أخبار قوّاده الثلاثة الأخر أنهم قد أحاطوا بفراسياب، وبرز فراسياب ومن بقى من ولده وعساكره وتوجه نحو كيخسرو بجيوش عظيمة، فيقال إن كيخسرو أشفق منه وهابه حتى ظن أنه لا قبل له به، ودام القتال بين العسكرين أربعة أيام، فقتل شيده مقدّم عسكر فراسياب، وكانت هذه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 156 الحرب معه، ثم أقبل فراسياب فى جمع عظيم من الأتراك والتقى هو وكيخسرو ونشبت بينهما حروب عظيمة يقال إنه لم ير مثلها قبلها قط على وجه الأرض، فكانت الدائرة على الترك، وانهزم فراسياب وكثر القتل فى أصحابه وأتبعه كيخسرو حتى أدركه بأذربيجان فظفر به واستوثق منه بالحديد ووبّخه على ما كان منه من قتل سياوخش، فلم يكن له حجة، فذبحه ثم انصرف. وقد غنم غنائم عظيمة لا تحصى وأدرك بثأره. قال: ولما فرغ كيخسرو من أمر الترك ورجع إلى بلاده واستقرّ بدار ملكه زهد فى الملك وتنّسك، وأعلم وجوه أهل بيته وأكابر مملكته أنه قد عزم على التخلى والأنفراد وترك الملك؛ فجزعوا من ذلك وسألوه ألا يفعل، فأبى عليهم. فلما أيسوا منه سألوه أن ينصب فى الملك من يراه له أهلا، فأشار بيده إلى لهراسف وأعلمهم أنه خاصته ووصيته، فقبل لهراسف ذلك وأقبل الناس عليه. وفقد كيخسرو. فمنهم من يقول: إنه غاب للتنسك، وبعضهم يقول غير ذلك، إلا أنه لم تعلم جهة وفاته. قال: وكان ملكه ستين سنة. قال: وفى أيام ملكه كان سليمان بن داود عليه السلام. ثم ملك بعده لهراسف «1» ؛ وقيل فيه بهراسف بن تنوفى بن كيمش وهو ابن أخى كيقابوس ويلقب بكى لهراسف. قال: ولما ملك اتخذ سريرا من ذهب مكللا بالجوهر للجلوس عليه، وبنيت له بأرض خراسان مدينة، وسماها بلخ الحسناء. قال: وهو أوّل من دوّن الدواوين، وقوّى ملكه بانتخاب الجنود، وعمر الأرض. وكانت شوكة الأتراك اشتدّت فى زمانه، فنزل بلخ لمقاتلتهم، ووجه بختنصر الجزء: 15 ¦ الصفحة: 157 أصبهبذا ما بين الأهواز إلى أرض الروم، من غربىّ الفرات. وسنذكر أخباره إذا انتهت أخبار لهراسف. قال: وكان لهراسف بعيد الهمة، طويل الفكرة، شديد القمع للملوك المحيطة لإيران شهر. وكانت ملوك الروم والمغرب والهند يؤدّون إليه إتاوة معلومة فى كل سنة، ويقرّون له أنه ملك الملوك هيبة له، واستمتر فى الملك إلى أن كبرت سنّة وأحس بالضعف فاعتزل الملك ونصب ابنه بشتاسب «1» . وكان ملكه فيما ذكر مائة وعشرين سنة. ذكر أخبار بختنصّر ويقال فى اسمه بالفارسية بخترشه «2» ، وكان مرزبانا للهراسف، ومعنى المرزبان أنه ملك على ربع من أرباع المملكة. وقد قدّمنا أن الملك لهراسف كان قد جعله أصبهبذا ما بين الأهواز إلى أرض الروم. قال: فسار حتى أتى دمشق فصالحه أهلها، ووجه قائدا له فأتى بيت المقدس فصالح ملك بنى إسرائيل، وهو رجل من بنى داود النبىّ عليه السلام، وأخذ منه رهائن وانصرف. فلما بلغ طبرية وثب بنو إسرائيل على ملكهم فقتلوه وقالوا له: إنك هادنت أهل الكفر وخذلتنا واستعدّوا للقتال؛ فكان عاقبة ذلك أن قائد بختنصر- لما بلغه ما كان من بنى إسرائيل- كتب إليه يخبره بقتلهم ملكهم، فأجابه بختنصر أن يقيم بموضعه حتى يوافيه، وأمره بضرب أعناق الرهائن الذين معه. وسار بختنصر حتى أتى بيت الجزء: 15 ¦ الصفحة: 158 المقدس فأخذ المدينة عنوة وقتل المقاتلة وسبى الذرّية وهرب الباقون إلى مصر، فكتب بختنصر إلى ملك مصر: أن عبيدا لى هربوا منى إليك فسرّحهم إلىّ وإلا غزوتك وأوطأت خيلى بلادك، فكتب إليه ملك مصر: إنهم ليسوا عبيدك، ولكنهم الأحرار أبناء الأحرار، وامتنع من إنفاذهم اليه، فغزاه بختنصر وقتله وسبى أهل مصر، ثم سار فى أرض المغرب حتى بلغ أقصى نواحيها. قال صاحب كتاب تجارب الأمم: وقد حكى أهل التوراة وغيرهم فى أمر بختنصر أقوالا مختلفة، فذكروا منها: أن بختنصر لما خرّب بيت المقدس أمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه ترابا ثم يقذفه فى بيت المقدس، فقذفوا فيه من التراب ما ملأه. قال: ولما انصرف إلى بابل اجتمع معه سبايا بيت المقدس من بنى إسرائيل وغيرهم، فاختار منهم سبعين ألف صبىّ، فلما فرّق الغنائم على جنوده سألوه أن يقسم فيهم الصبيان، فقسمهم فى الملوك منهم، فأصاب كل رجل منهم أربعة، وكان من أولئك الغلمة الذين سباهم، دانيال النبىّ وحنين ومنشايل، وسبعة آلاف من أهل بيت داود، وأحد عشر ألفا من سبط بشر بن يعقوب. ثم غزا بختنصر العرب، وذلك فى زمن معدّ بن عدنان. قال: وكانت مدّة غلبة بختنصر إلى أن مات أربعين سنة، ثم قام ابن له يقال له أو نمروذ «1» ثم [هلك، وملك مكانه ابن له يقال «2» له] بلتنصر، وذلك فى زمن بهمن، فلم يرض بهمن أمره فعزله وملّك مكانه كيرش، وتقدّم إليه بهمن أن يرفق ببنى إسرائيل ويمكّنهم من النزول حيث سألوا، أو الرجوع إلى أرضهم، وأن يولّى الجزء: 15 ¦ الصفحة: 159 عليهم من يختارونه، فاختاروا دانيال فولاه أمرهم. فكانت مدّة خراب بيت المقدس سبعين سنة، وقيل غير ذلك. ولنرجع إلى أخبار الفرس. ولما اعتزل لهراسف الملك كما ذكرناه، ملك بعده كى بشتاسف «1» بن كى لهراسف. قال: ولما ملك بنى مدينة فسا «2» ، وهو أوّل من بسط دواوين الكتاب لا سيما ديوان الرسائل، وكان له ديوانان أحدهما: ديوان الخراج، والآخر ديوان النفقات، فكل ما يرد فإلى ديوان الخراج، وكل ما يصرف فمن ديوان النفقات. وكان له كاتب موكل بدار المملكة، فإن وقع تقصير بأحد فى منزلته، أو حطّ من درجته رجع إلى ذلك الكاتب ليبين له حال مرتبته فيجرى على رسمه وعادته. وفى أيامه ظهر زرادشت [بعد ثلاثين سنة من ملكه فادّعى النبوّة «3» ] فأراده على قبول دينه فامتنع من ذلك ثم صدّقه وقبل دعواه، وأتاه بكتاب يكتب فى جلد اثنتى عشرة ألف بقرة حفرا فى الجلود ونقشا بالذهب، فصير بشتاسف ذلك الكتاب بإصطخرو وكل به الهرابذة «4» ، ومنع من تعليمه العامة. وبنى ببلاد الهند بيوتا للنيران، وتنسّك واشتغل بالعبادة، وهادن كى خرزاسف بن كى سواسف ابن أخى «5» فراسياب ملك الترك على ضروب من الصلح، وفى جملة شريطة الصلح ألا يكون الجزء: 15 ¦ الصفحة: 160 ببلاد خرزاسف دابة موقوفة فى منزلة الدوابّ التى تكون على أبواب الملوك، وغير ذلك مما وقعت عليه المهادنة. فأشار زرادشت على بشتاسف بنقض الهدنة ومفاسدة ملك الترك، فبلغ ملك الترك ذلك، فغضب وكتب إليه كتابا غليظا من جملته أن يوجه إليه زرادشت، وأقسم إن امتنع أن يغزوه حتى يسفك دمه ودماء أهل بيته؛ فأجابه بشتاسف بجواب أغلظ من كتابه وآذنه بالحرب وأعلمه أنه غير ممسك عنه إن أمسك هو. فسار كل منهما الى الآخر، ومع كل واحد منهما إخوته وأهل بيته، والتقوا واقتتلوا قتالا شديدا، فكانت الدائرة على الترك، وقتل اسفنديار بن بشتاسف بيدرفش «1» الساحر مبارزة؛ وقتلت الترك قتلا ذريعا، وهرب ملكهم خرزاسف ورجع بشتاسف الى بلخ. قال: فلما مضت لتلك الحرب سنون سعى رجل يقال فروخ «2» بإسفنديار الى بشتاسف ونسبه أنه تطاول للملك، وزعم أنه أحقّ به، فأفسد بذلك قلب بشتاسف عليه، وصدق مقالة فروخ، فأخذ فى التدبير على إسفنديار وجعل يرسله الى حرب بعد حرب، وهو يظفر وينجح ويرجع بالغنائم، ثم أمر بتقييده فقيّد، وصيره فى الحبس فى حصن من حصونه، وسار بشتاسف الى جبل يقال له طميدر لدراسة دينه والتنسك هناك، وخلّف أباه لهراسف فى مدينة بلخ، وقد كبرت سنه وهرم وعجز. قال: فاتصل هذا الخبر بخرزاسف ملك الترك، فجمع من الجنود ما لا يحصى كثرة، وشخص من بلاده نحو بلخ حتى [إذا «3» ] انتهى الى تخوم ملك فارس قدّم أمامه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 161 جوهرمز «1» أخيه، وكان مرشحا للملك، فى جماعة كثيرة من المقاتلة، وأمرهم أن يغذّوا السير حتى يتوسطوا المملكة، ثم يوقعوا بأهلها ويشنوا الغارة على المدن والقرى. ففعل جوهر مز ذلك وسفك الدماء واستباح الحرم، وسبى ما لا يحصى، وأتبعه خرزاسف ملك الترك حتى انتهى الى مدينة بلخ، فأحرق الدواوين وقتل لهراسف والهرابذة، وهدم بيوت النيران، واستولى على الأموال والكنوز، وسبى ابنتين لبشتاسف وأخذ درفس كابيان، وسار فى طلب بشتاسف فتحصن منه فى جبل طميدر؛ فعند ذلك ندم بشتاسف على ما كان منه فى حق ابنه إسفنديار؛ فيقال: إنه وجه من استخرجه من محبسه، وجاءه به؛ فلما دخل عليه اعتذر منه ووعده عقد التاج على رأسه، وأن يفعل معه كما فعل لهراسف به. وقلده أمر عساكره وندبه لحرب ملك الترك. فطابت نفس إسفنديار بكلام أبيه له، وتأهب لوقته، وسار بالجنود صبيحة النهار نحو الترك. فلما قرب منهم تبادروا لحربه؛ فكان ممن خرج اليه منهم جوهر مزواندرمان، فالتقوا والتحمت بينهم الحرب، فانقضّ إسفنديار على عساكر الترك بنفسه واختلط بهم، وقاتل حتى ثلم فيهم ثلمة عظيمة، وفشا فى الترك أن إسفنديار قد أطلق من محبسه، وأنه هو الذى يقاتلهم، فانهزموا لا يلوون على شىء. واسترجع إسفنديار من الترك الدّرفس وعاد الى أبيه، فاستبشر وأمره باتّباع القوم وقتال خرزاسف وقتله- إن ظفر به- بجدّه لهراسف، وقتل جوهر مز واندرمان بمن قتل من ولده، وأن يهدم حصون الترك ويحرّق مدنهم ويقتل أهلها بمن قتلوا من أهل بلاده، ويستنقذ من سبوه من بناته. فدخل إسفنديار بلاد الترك ورام ما لم يرمه أحد قبله، واعترض العنقاء ورماها على ما يزعم الفرس، ودخل مدينة الصفر عنوة، وقتل ملكها وأخوته ومقاتلته، واستباح الجزء: 15 ¦ الصفحة: 162 أمواله وسبى ذراريه ونساءه واستنقذ أختيه، وكتب بالفتح الى أبيه. ولم يستقل إسفنديار هذا بالملك. والذى ملك الفرس بعد بشتاسف أردشير «1» بهمن بن إسفنديار بن بشتاسف. وتفسير بهمن بالعربية: الحسن النيّة. قال: ولما ملك أردشير انبسطت يده وتناول الممالك حتى ملك الأقاليم. وكانت ملوك الأرض تحمل اليه الإتاوة، وابتنى بالسواد مدينة وهى المعروفة بهمينيا «2» ، وهو أبو دارا الأكبر، وأبو ساسان. قال: وكان بهمن كريما متواضعا. وكانت تخرج كتبه: من أردشير بهمن عبد الله وخادم الله والسائس لأمركم. ويقال: إنه غزا رومية الداخلة فى ألف ألف مقاتل. ومن المؤرخين من ذهب الى أن بهمن هذا هو الذى جهّز بختنّصر لغز والعرب وغيرهم. وكانت مدّة ملك أردشير [مائة «3» و] اثنتى عشرة سنة. ولما مات ملكت بعده ابنته جماز هرازاد، وهى جمانى «4» أمّ ابنه دارا. قال: وكانت قد حملت منه بدارا الأكبر وسألته أن يعقد التاج للذى فى بطنها ويؤثره بالملك، ففعل أردشير ذلك. وكان ابنه ساسان يتصنع للملك ولا يشكّ أنه يكون هو الملك بعد أبيه. فلما رأى ما فعل أبوه شقّ ذلك عليه، فلحق بإصطخر وتزهّد، وخرج عن حلية الملوك، واتخذ غنيمة وكان يتولّاها بنفسه، فاستشنع «5» الناس ذلك الجزء: 15 ¦ الصفحة: 163 من فعله وقالوا: صار ساسان راعيا، ولم تزل جمانى قائمة بأمر الملك، ضابطة له، وأغزت الروم جيشا [بعد «1» جيش] وأوتيت ظفرا، فقمعت الأعداء وشغلتهم عن التطرّق الى شىء من بلادها، ونال رعيّتها بتدبيرها رفاهية وأمن الى أن كبر ابنها. فملك دارا بن أردشير بهمن. قال: ولما كبر حوّل التاج الى رأسه ونزل بابل. وكان ضابطا لملكه، قاهرا لمن حوله من الملوك، يؤدون اليه الخراج. وابتنى بفارس مدينة وسماها دارا بجرد. ورتّب دوابّ البريد. وكانت مدّة ملكه اثنتى عشرة سنة. وملك بعده ابنه دارا بن دارا بن أردشير؛ وكان دارا هذا حقودا جبارا، فملّه قومه. وغزاه الإسكندر بن فيلبس اليونانى، والتقوا واقتتلوا قتالا شديدا، فقتل دارا بن دارا. وسنذكر خبر مقتله فى أخبار الإسكندر. فهؤلاء ملوك الفرس الأول. ثم تبدّد ملك الفرس وانتثر لقتل دارا بن دارا، واستقل الإسكندر بالملك. وملك بعده من نذكره من ملوك اليونان، وتفرّق ملك الفرس أربعمائة سنة الى أن عاد الى بنى ساسان. وهأنا ذاكر خبر ملوك الطوائف ما بين دارا بن دارا وأردشير بن بابك. ذكر أخبار ملوك الطوائف وملوك الطوائف هم الذين ملكوا بلاد فارس ما بين دارا بن دارا وأردشير ابن بابك الذى جمع ملك الفرس بعد تبدّده، ونظمه بعد انتثاره. وكان من خبرهم أن الإسكندر لما قتل دارا بن دارا وغلب على بلاد الفرس هم بقتل أكابرهم، فكتب الى معلّمه أرسطا طاليس يستشيره فى ذلك، فنهاه عن قتلهم وقال: هذا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 164 من الفساد فى الأرض، وإذا قتلتهم أنبتت أرض بابل امثالهم؛ وأشار عليه أن يفرّق المملكة بين أولاد الملوك، فإنهم يتنافسون الملك فلا يجتمعون على ملك واحد منهم، فمتى خالفك واحد كانت مؤنته عليك خفيفة؛ ففعل ذلك، وفرّق الملك حتى أمكنه أن يتجاوز أرض فارس الى بلاد الهند والصين. فكانت ملوك الطوائف فى إقليم بابل لا يدين بعضهم الى بعض. فكان من ملوكهم الذين ملكهم الإسكندر: أشك بن دارا الأكبر؛ فقوى أشك هذا وعظّمته الملوك وقدّموه على أنفسهم، وبدأوا به فى كتبهم إليه إجلالا له، وبدأ فى كتبه اليهم بنفسه، وسمّوه ملكا، وأهدوا اليه من غير أن يطيعوه أو يستعمل أحدا منهم أو يعزله، وكثرت جموعه وسار الى أنطيخس، وكان مقيما بسواد العراق من قبل الروم، وتقدّم أنطيخس اليه والتقيا ببلاد الموصل واقتتلا فقتل انطيخس، وغلب أشك على السواد، وصار فى يده من الموصل الى الرىّ وأصفهان، ولذلك عظّمته ملوك الطوائف. ثم ملك جوذرز بن أشكان. وهو الذى غزا بنى إسرائيل المرة الثانية؛ وذلك بعد قتلهم يحيى بن زكرياء عليهما السلام، فسلطه الله تعالى عليهم فأكثر فيهم القتل فلم يعد لهم جماعة بعد ذلك، ورفع الله عنهم النبوّة وأنزل بهم الذل. وكان من سنّة الفرس بعد الإسكندر أن يخضعوا لمن ملك بلاد الجبل، وهم الأشغانية؛ فأوّلهم أشك بن أشكان، ثم سابور بن أشكان، وفى أيامه ظهر المسيح عيسى بن مريم عليه السلام بأرض فلسطين. ثم ملك جوذرز بن أشغانان الأكبر. ثم ملك بيزن الأشغانى. ثم ملك جوذرز الأشغانى. ثم نرسى الأشغانى. ثم هرمز. ثم أردوان الأشغانى. ثم كسرى الأشغانى. ثم بلاش الأشغانى. ثم أردوان الأصغر الجزء: 15 ¦ الصفحة: 165 الأشغانى. ثم اردشير بن بابك. فكانت مدة هؤلاء، الى أن وثب أردشير بن بابك على الأردوان فقتله، مائتين وستا وستين سنة. وفى أيام ملوك الطوائف اصطلمت «1» طسم وجديس. وسنذكر إن شاء الله خبرهم. ذكر أخبار الملوك الساسانية وهم الفرس الأخر. وأوّل من ملك منهم أردشير بن بابك بن ساسان الأصغر. وكان من أعظم ملوك الطوائف وملوك الأشغانية، فوثب بالأردوان وقتله واستولى على الممالك وقاد الملوك الى طاعته رغبة ورهبة. وكتب الى ملوك الطوائف يدعوهم الى الاجتماع اليه: بسم الله ولىّ الرحمة. من أردشير المستأثر دونه بحقه، المغلوب على ثراث آبائه، الداعى الى قوام دين الله وسنته، المستنصر بالله، الذى وعد المحقّين الفلح «2» ، وجعل لهم العواقب؛ الى من بلغه كتابى هذا من ملوك الطوائف. سلام عليكم بقدر ما تستوجبون بمعرفة الحق، وإنكار الباطل والجور. ودعاهم الى الطاعة: فمنهم من أقرّ له بالطاعة، ومنهم من تربّص حتى قدم عليه، ومنهم من عصاه فكانت عاقبة أمره الى القتل والهلاك؛ حتى استوثق له الأمر. فكانت طائفة الأشكانية ممن امتنعت من طاعة أردشير، فأقسم أنه لا يبقى منهم- إن قدر عليهم- رجلا ولا امرأة. فلما غلب عليهم ما نجا منهم إلا من أخفى اسمه ونسبه. وقد كان أخذ فى جملة من أخذ منهم ابنة ملكهم، وكانت بارعة الجمال، وافرة العقل. فلما رآها قال لها: أنت من بنات ملوكهم؟ قالت: بل من خدمهم. فاصطفاها لنفسه، فحملت منه. فلما علمت بالحمل شهرت نفسها وقالت: أنا ابنة ملكهم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 166 فعند ذلك أمر شيخا من رجاله الذين يثق بهم يقال له هرجند «1» [بن سام] بأن يودعها فى بطن الأرض إشارة الى قتلها. فقالت: أيها الشيخ، إننى قد حملت من الملك فلا تبطل زرعه. فعمل لها سربّا تحت الأرض وجعلها فيه، ثم عمد الى مذاكيره فجّبها ووضعها فى حقّ وختم عليه ورجع الى الملك وقال: قد أودعتها بطن الأرض؛ ودفع له الحقّ وقال: إن فيه وديعة وأحب أن يكون عند الملك الى أن أحتاج اليه، فاستودعه الملك؛ وأقامت الجارية فى السّرب حتى كلمت مدّة حملها، فوضعت غلاما فسماه الشيخ: شاه بور، أى ولد الملك؛ فسماه الناس سابور. وبقى أردشير هذا دهرا لا يولد له، فرآه الشيخ فى بعض الأيام وقد ظهر عليه الحزن، وكان خاصا به، فقال له: ما هذا الحزن سرّك «2» الله أيها الملك وعمرك. فقال: من أجل أنه ليس لى ولد يرث ملكى. فقال له الشيخ: إن لك عندى ولدا طيبا فادع بالحقّ. وأمر أردشير بإحضاره فأحضر، ففضّ ختمه فإذا فيه مذاكير الشيخ وكتاب فيه: إنه لما أمرنى الملك بقتل المرأة الأشكانية التى علقت من ملك الملوك أردشير لم أر أن أبطل زرع الملك الطيب فأودعتها بطن الأرض كما أمرنى، وتبرأت اليه من نفسى لئلا يجد عائب الى عيبها سبيلا؛ فسرّ أردشير بذلك، وأمر الشيخ أن يجعل الغلام بين مائة غلام من أشباهه فى الهيئة وأقرانه فى السن، ثم يدخلهم عليه، ففعل ذلك، فعرفه أردشير من بينهم وقبلته نفسه، ثم أمرهم أن يلعبوا فى حجرة الإيوان بالصّوالج، فدخلت الأكرة الإيوان، فأحجم الغلمان عن دخولهم وأقدم سابور، فأمر أردشير عند ذلك بعقد التاج له. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 167 وكان أردشير من أهل العقل والمعرفة وحسن التدبير، وله وصايا ومكاتبات صدرت عنه تدل على حكمة ورجاحة عقل. وقد تقدّم إيرادها فى الباب الرابع «1» من القسم الخامس من الفنّ الثانى فى وصايا الملوك. وكانت مدّة ملكه أربع عشرة سنة وستة أشهر. ثم ملك بعده ابنه سابور بن أردشير؛ والعرب تسميه سابور الجنود. وسابور هذا هو الذى حصر الضّيزن «2» ، وملك حصن الحضر، وهو من مبانى العرب المشهورة. وقد تقدّم ذكره فى الباب «3» الثالث من القسم الخامس من الفنّ الأوّل، وهو فى السفر الأوّل. فلا حاجة الى إعادة ذكره. وفى أيامه ظهر مانى الزنّديق تلميذ قاردون وقال بالاثنين، فرجع سابور الى مذهب مانى والقول بالنور والبراءة من الظلمة، ثم عاد الى دين المجوسية وترك المانويّة، وهو المسمى عندهم بدين الثّنويّة. وكانت مدّة ملكه ثلاثين سنة. وقيل إحدى وثلاثين سنة ونصف سنة وثمانية عشر يوما. ثم ملك بعده ابنه هرمز بن سابور؛ وهو الذى يدعى هرمز البطل، ويلقّب أيضا بالجرىء. وبنى مدينة رامهرمز بين كور الأهواز. وكانت مدة ملكه سنة وعشرة أشهر. ثم ملك بعده ابنه بهرام بن هرمز. قال: ولما ملك جاءه مانى الزنديق فعرض عليه مذاهب الثنوية فأجابه الى ذلك احتيالا منه عليه، الى أن أحضر له دعاته للتفرقين فى البلاد الذين يدعون الناس الى مذاهب الثنوية. فلما أحضرهم اليه قتلهم وقتل مانى وسلخه. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 168 وفى أيام مانى هذا ظهر اسم الزنادقة الذين أضيفت اليهم الزندقة. وذلك أن الفرس كان لهم كتاب يسمونه السنا، وكان له شرح يسمى الزند. فكان من أتاهم بزيادة على ما فى كتابهم يسمونه زنديا. فلما جاءت العرب أخذت هذا المعنى من الفرس فعربته وقالت زنديق. فالثنوية هم الزنادقة، فألحق هذا الاسم بسائر من اعتقد القدم وأبى حدوث العالم وأنكر البعث. والذى أتى الفرس بهذا الكتاب زرادشت فى زمن الفرس الأوّل. وقد قدّمنا ذكره فى أخبار بشتاسف. وهذا زرادشت هو الذى تزعم المجوس أنه نبيّها الذى أرسل اليها. وكان زرادشت خادم شعيا فدعا شعيا عليه فبرص. وكان صاحب نيرجات «1» وسحر. وكان يحزر «2» بعض الكوائن قبل أن تقع مما كان قد سمعه من شعيا وقت خدمته له، وادّعى النبوّة فى المجوس وعمل لهم الكتاب الذى قدّمنا ذكره، وزعم أنه أنزل عليه من السماء، وجعل كلامه فيه يدور على نيّف وسبعين حرفا، فلم يقدر أحد منهم على قراءته فاختصره لهم وسمى مختصره الزند. فلما قام مانى بدين الثنوية سمته المجوس «زندين» وسموا أصحابه الزنادنة لأنه زاد فى شرعهم الذى شرعه لهم زرادشت، فقتل بهرام هذا مانيا وصلبه على باب «3» من أبواب مدينة من مدنه بالعراق؛ فيدعى ذلك الباب الى آخر وقت باب مانى. وكانت مدة ملك بهرام ثلاثا «4» وثلاثين سنة وثلاثة أشهر. ثم ملك بعده ابنه بهرام بن بهرام. قال: ولما ملك أقبل فى أوّل ملكه على اللهو والصيد والنّزه، وترك ملكه لا يفكر فيه ولا فى رعيته؛ فخربت البلاد ونقصت الجزء: 15 ¦ الصفحة: 169 بيوت الأموال. فلما كان فى بعض الأحيان ركب الى بعض متنزهاته وصيده فجنّه الليل وهو يسير نحو المدائن، وكانت ليلة قمراء. فدعا بالموبذ لأمر خطر بباله، والموبذ عند المجوس كالقسيس عند النصارى، فجعل يحادثه فتوسطا فى مسيرهم بين خرابات كانت من أمهات الضياع فخربت فى ملكه، وإذا بوم يصيح وآخر يحاوبه، فقال الملك: أترى أحدا من الناس أعطى فهم ما يقول هذا الطائر؟ فقال الموبذ: أنا أيها الملك ممن خصه الله تعالى بذلك. قال: فما يقول هذا الطائر، وما يقول الآخر؟ فقال الموبذ: هذا يوم ذكر يخاطب بومة أنثى ويقول: متّعينى من نفسك حتى يخرج من بيننا أولاد يسبحون الله تعالى. فأجابته البومة: إن الذى دعوتنى اليه هو الحظ الأكبر، والنصيب الأوفر، إلا أننى أشترط عليك شرائط. فقال: وما هى؟ فقالت: أن تقطعنى من خرابات أمهات الديار عشرين قرية مما خربت فى أيام هذا الملك السعيد. فقال له الملك: فما الذى قال الذكر؟ قال الموبذ: كان من قوله لها: إن دامت أيام هذا الملك السعيد أقطعتك منها ألف قرية، فما تصنعين بها؟ قالت: فى اجتماعنا ظهور النسل وكثرة الولد، فنقطع كل واحد من الأولاد ضيعة. فقال الذكر: هذا سهل ما حيى الملك. فلما سمع الملك هذا الكلام من الموبذ عمل فى نفسه وفكر فيما خوطب به، فنزل من ساعته وخلا بالموبذ وقال له: ما هذا الكلام الذى خاطبتنى به؟ فقد حركت منى ما كان ساكنا. فقال: صادفت من الملك وقت سعد بالعباد والبلاد، فجعلت الكلام مثلا وموقظا على لسان الطائر عند سؤال الملك إياى. فقال له الملك: أيها الناصح للملك، [المنبه «1» على] ما أغفله من أمور ملكه، وأضاعه من أمور بلاده ورعيته، اكشف لى عن هذا الغرض ما المراد منه. فقال له: أيها الملك! ان الملك الجزء: 15 ¦ الصفحة: 170 لا يتمّ إلا بالشريعة والقيام لله بطاعته، ولا قوام للشريعة إلا بالملك، ولا عزّ للملك إلا بالرجال، ولا قيام للرجال إلا بالمال، ولا سبيل للمال إلا بالعمارة، ولا سبيل للعمارة إلا بالعدل، والعدل هو الميزان المنصوب بين البرية، نصبه الربّ وجعل له قيّما وهو الملك. قال: أما ما وصفت فحّق، فأبن لى عما اليه تقصد، وأوضح لى فى البيان. قال: نعم أيها الملك! عمدت الى الضياع فأقطعتها الخدم وأهل البطالة فعمدوا الى ما تعجل من غلاتها فاستعجلوا المنفعة وتركوا العمارة والنظر فى العواقب وما يصلح الضياع، وسومحوا فى الخراج لقربهم من الملك. ووقع الحيف على الرعية وعمّار الضياع فانجلوا عن ضياعهم، وقلّت الأموال، وهلكت الجند والرعية، وطمع فى ملك فارس من طمع فيه من الملوك والأمم، لعلمهم بانقطاع المواد التى بها تستقيم دعائم الملك. فلما سمع الملك ذلك أقام فى موضعه ثلاثة أيام، وأحضر الوزراء والكتاب وأرباب الدواوين، فانتزعت الضياع من أيدى الخاصة والحاشية وردّت إلى أربابها، وحملوا على رسومهم السالفة، وأخذوا بالعمارة، وقوى من ضعف منهم، وعمرت البلاد، وكثرت الأموال، وقويت الجند، وانتظم ملكه حتى كانت أيامه تدعى بالأعياد، لما عمّ الناس من الخصب، وشملهم من العدل. وكان ملكه سبع عشرة سنة. ثم ملك ابنه بهرام بن بهرام بن بهرام البطل، وكان يدعى شكان شاه، وهو الذى يقال له شاهنشاه «1» . فكان ملكه أربعين «2» سنة وأربعة أشهر. ثم ملك بعده أخوه نرسى بن بهرام الثانى فكان ملكه تسع سنين. وقيل سبع سنين وخمسة أشهر. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 171 ثم ملك بعده ابنه هرمز بن نرسى. قال: وكان فظا إلا أنه كان يرفق بالرعية، وكان حسن السيرة فيهم. وكان ملكه سبع سنين وخمسة أشهر. ثم ملك بعده ابنه سابور بن هرمز؛ وهو الملقب بذى الأكتاف. وكان هرمز قد تركه حملا فى بطن أمه، فعقدوا التاج على بطنها، وقام الوزراء بتدبير الأمر مدّة حملها، وفى مدّة رضاع سابور وطفولته وصغره حتى كبر؛ فكتب إليه الناس الكتب من الآفاق وأجابهم، ووجه البريد إلى الآفاق والأطراف، ورتّب الوزراء والكتاب وقرّر العمال. قال: وكان قد شاع فى الممالك أن ملك الفرس صغير السنّ، وأنه يتدبّر برأى وزرائه، ولا يدرى ما يراد منه، ولا ما يكون من الأمر، فطمع فى مملكة الفرس الترك والروم والعرب. وكانت أدنى بلاد الأعداء إلى الفرس بلاد العرب. وكانت العرب من أحوج الأمم إلى تناول شىء من المعايش لسوء حالهم وشظف عيشهم، فانبسطت أيديهم فى البلاد وغلبوا أهلها عليها واتسعت حالهم وكثرت مواشيهم، وأفسدوا فى بلاد فارس، ومكثوا كذلك حينا، وقد أمنوا جانب الفرس واطمأنّوا من قتالهم لقلة هيبتهم. وكان الذى غلب على سواد العراق من العرب جمرة العرب ولد إياد بن نزار. وكان يقال لها طبق لإطباقها على البلاد، وملكها يومئذ الحارث بن الأغر الإيادى. قال: ولما ترعرع سابور جعل الوزراء يعرضون عليه أمر الجنود الذين فى الثغور، وأن الأخبار وردت عليهم أن أكثرهم قد أخلّ، وعظّموا عليه الأمر وهوّلوه، فقال لهم: لا يهولنّكم ذلك، فالخطب فيه غير جسيم، والحيلة فى ذلك يسيرة. وأمر الكتّاب أن يكتبوا الى أولئك الجنود أنه قد انتهى إلىّ طول مكثكم فى النواحى التى أنتم فيها، وعظم عنائكم وذبّكم عن إخوانكم وأوليائكم، فمن أحب منكم الانصراف الى أهله فلينصرف مأذونا له فى ذلك، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 172 ومن أحبّ أن يستكمل الفضل بالصبر فى موضعه عرفنا له ذلك؛ وتقدّم الى من اختار الانصراف منهم بلزوم أهله وبلاده الى وقت الحاجة إليه. فلما سمع الوزراء قوله ورأيه استحسنوه وقالوا: لو كان هذا قد أطال تجربة الأمور وسياسة الجنود مازاد على ما سمعناه. ثم تتابعت آراؤه فى تقويم أصحابه وقمع أعدائه؛ حتى إذا تمت له ستّ عشرة سنة جمع أساورته وأمرهم بالاستعداد لقتال العرب. وكانت إياد تصيف بالجزيرة وتشتو بالعراق. وكان فى جيش سابور رجل منهم يقال له لقيط «1» ، فكتب الى إياد شعرا ينذرهم وهو: سلام فى الصحيفة من لقيط ... الى من بالجزيرة من إياد بأن الليث آتيكم دليفا «2» ... فلا يحبسكم سوق النّقاد أتاكم منهم سبعون ألفا «3» ... يزجّون الكتائب كالجراد الجزء: 15 ¦ الصفحة: 173 فلم يعبئوا بكتابه، وسراياهم تكرّنحو العراق وتغير على السواد. فلما تجهّز القوم نحوهم ظفربهم سابور فعمّهم بالقتل، وما أفلت منهم إلا نفر لحقوا بأرض وبار «1» ، وخلع سابور أكتاف كثير منهم، فلذلك سمّى ذا الأكتاف. وكان سابور فى مسيره أتى البحرين وفيها بنو تميم فهربوا، وشيخها يومئذ عمرو بن تميم بن مرة وعمره ثلاثمائة سنة، وكان يعلّق فى عمود البيت فى قفّة، فأرادوا حمله فأبى عليهم إلا أن يتركوه فى ديارهم وقال لهم: أنا هالك اليوم أو غدا فتركوه. فلما صبحت خيل سابور الديار لقوها خالية، فلما سمع عمرو صهيل الخيل جعل يصيح بصوت ضعيف، فحمل إلى سابور، فلما نظر إلى دلائل الهرم ومرور الأيام عليه قال له: من أنت أيها الفانى؟ قال: أنا عمرو بن تميم بن مرة، قد بلغت من الكبر ما ترى، وقد هرب الناس منك لإسرافك فى القتل، فآثرت الفناء على يديك ليبقى من بقى من قومى، ولعل الله يجرى على يديك فرجهم، وأنا سائلك عن أمر إن أذنت فيه؛ فقال سابور: أقتلهم لما ارتكبوا فى بلادى وأهل مملكتى؛ فقال عمرو: فعلوا ذلك ولست بقيّم عليهم؛ فلما ملكت وقفوا عما كانوا عليه من الفساد هيبة لك؛ قال سابور: وأقتلهم لأنا نجد فى مخزون علمنا وما سلف من أنباء أوائلنا أن العرب ستدال علينا. فقال عمرو: هذا أمر تظنه أم تتحققه؟ قال: بل أتحققه ولا بدّ أن يكون؛ فقال عمرو: فلم تسئ إليها؟ والله لئن تبقى عليها وتحسن إليها ليكافئون قومك عند إدالة الدوله إليهم بإحسانك، وإن أنت طالت بك المدّة كافئوك عند مصير الأمر إليهم إن كان حقا، وإن كان باطلا فلم تتعجل الإثم وتسفك دماء رعيتك؟ فقال الجزء: 15 ¦ الصفحة: 174 سابور: الأمر صحيح والحقّ ما قلت، ولقد صدقت فى القول ونصحت. فنادى منادى سابور بأمان الناس ورفع السيف. ويقال: إن عمرا بقى بعد هذا الوقت ثمانين سنة. ثم سار سابور إلى أرض الروم ففتح المدن وقتل خلائق من الروم وقال لمن معه: إنى أريد أن أدخل بلاد الروم متنكرا لأتعرّف أحوالهم وسيرهم ومسالك «1» بلادهم، فإذا بلغت من ذلك حاجتى انصرفت الى بلدى فسرت إليهم بالجنود؛ فحذّروه التغرير بنفسه فلم يقبل قولهم. وسار متنكرا الى أرض القسطنطينية فصادف وليمة لقيصر اجتمع فيها الخاص والعامّ، فدخل فى جملتهم وجلس على بعض موائدهم، وقد كان قيصر أمر مصوّرا أتى عسكر سابور فصوّره وجاء الى قيصر بالصورة، فأمر بها فصوّرت على آنية الشراب من الذهب والفضة، وأتى بعض من كان على المائدة التى عليها سابور بكأس، فنظر بعض الخدم الى الصورة التى على الكأس، وسابور مقابل له، فانطبعت مثالا لصورة سابور، فقام الى الملك فأخبره، فمثل بين يدى الملك، فسأله عن خبره فقال: أنا من أساورة سابور وهربت منه لأمر خفته منه. فلم يقبل ذلك منه، وقدّم إلى «2» السيف فأقرّ بنفسه، فجعل فى جلد بقرة، وسار قيصر فى جنود حتى توسط العراق، فافتتح المدن، وشنّ الغارات، وعقر النخل، وانتهى الى مدينة نيسابور، وقد تحصن بها وجوه فارس، فنزل عليها وحضر عيدا للنصارى فأغفل الموكّلون بسابور أمره، وأخذ منهم الشراب، وكان بالقرب من سابور أسارى من الفرس، فراطنهم بالفارسية أن يحلّ بعضهم بعضا، وأمرهم أن يصبّوا عليه زقاق «3» الزيت ففعلوا، فلان عليه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 175 الجلد وتخلص، وأتى المدينة فراطنهم فرفعوه بالحبال، ففتح خزائن السلاح وخرج على الروم فكبس جيشهم عند ضرب النواقيس، فانهزم الروم، وأتى بقيصر أسيرا، فأبقى عليه وضمّ إليه من أسر من أصحابه، وأخذهم بغرس الزيتون بالعراق بدلا من النخل التى عقروها؛ ولم يكن الزيتون بالعراق قبل ذلك. وفى فعل سابور ودخوله الى أرض الروم يقول بعض شعراء الفرس: وكان سابور صفوا فى أرومته ... اختير منها فأضحى خير مختار إذ كان بالروم جاسوسا يجول بها ... حوم المنيّة «1» من ذى كيد مكّار فاستأسروه، وكانت كبوة عجبا ... وزلّة سبقت من غير عثّار وأصبح الملك الرومىّ مغتربا ... أرض العراق على هول وأخطار فراطن الفرس بالأبواب فافترقوا ... كما تجاوب أسد الغاب «2» بالغار فجذّ بالسيف أصل الروم فامتحقوا ... لله درّك من طلّاب أوتار إذ يغرسون من الزيتون ما عضدوا ... من النخيل وما حفّوا بمنشار وسابور هذا هو الذى بنى الإيوان المعروف بإيوان كسرى، وبنى السّوس «3» والكرج «4» ونيسابور «5» . قال صاحب كتاب تجارب الأمم: وبنى بالسواد مدينة نرجس سابور، وبنى الأنبار «6» . قال: وبنى مدائن أخر بالسند وسجستان، ونقل الجزء: 15 ¦ الصفحة: 176 طبيبا من الهند وأسكنه السوس، فورث طبّه أهل السوس. وهلك سابور بعد اثنتين وسبعين سنة من ملكه. ثم ملك بعده أردشير بن هرمز وهو أخو سابور بن هرمز هذا. قال: ولما ملك ظهر منه شرّ كثير وقتل من العظماء وذوى الرياسة خلقا كثيرا، فاجتمع الناس على خلعه فخلعوه بعد أن ملك أربع سنين. ثم ملّكوا عليهم بعده سابور بن سابور. قال: ولما ملك استبشرت الرعية برجوع ملك أبيه إليه، فأحسن السيرة ورفق بالرعيّة. وكانت له حروب كثيرة مع إياد بن نزار وغيرها [من العرب «1» ] ، وفيه يقول شاعر إيادىّ: على رغم سابور بن سابور أصبحت ... قباب إياد حولها الخيل والنّعم وكان ملكه خمس سنين وأربعة أشهر، وسقط عليه فسطاط كان ضرب عليه فمات. وملك بعده أخوه بهرام بن سابور ذى الأكتاف، وهو الملّقب كرمان شاه؛ لأن سابور كان ولّاه كرمان. قال: وكان حسن السيرة، جميل السياسة، محمود الأثر، محبّبا للرعية. وكان ملكه عشر سنين. وقيل إحدى عشرة سنة وخمسة أشهر وثمانية عشر يوما. وملك بعده ابنه يزدجرد بن بهرام المعروف بالأثيم. قال: وكان فظّا غليظا، ذا عيوب كثيرة، وكان من أشدّ عيوبه وضعه ما آتاه الله من ذكاء ذهن وحسن أدب فى غير موضعهما؛ وذلك أنه كان كثير الرّويّة فى المضارّ من الأمور، واستعمل الذى أوتيه فى الدهاء والحيل، واستخف بكل علم كان عند الناس، واحتقر آدابهم، وتعاظم عليهم واستطال بما عنده. وكان معجبا بنفسه سيىء الخلق، حتى بلغ من شدته وحدّته أنه كان يستعظم صغار الزلات، ولا يرضى فى عقوبتها إلا بما لا يستطاع. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 177 وكان لا يقدر أحد من بطانته- وإن كان لطيف المنزلة منه- أن يشفع عنده لمن ابتلى به وإن كان ذنب المبتلى به يسيرا، ولم يكن يأتمن أحدا على شىء ألبتّة، ولا يكافئ على حسن البلاء. وكان يعتدّ بالخسيس من المعروف اذا أولاه ويستجزل ذلك، فإن جسر على كلامه أحد فى أمر قال له: ما قدر جعالتك فى هذا الأمر الذى كلمتنا فيه، وما الذى بذل لك بسببه؟ وما أشبه ذلك. فلما اشتدت بليّة الناس به، وكثرت إهانته للعظماء، وأكثر من سفك الدماء، واستعمل الضعفاء فى الأعمال الشاقّة، وحمّلهم ما لا طاقة لهم به، تضرّعوا الى الله عز وجل وسألوه أن ينقذهم منه. فزعم الفرس أنه كان ذات يوم مطلعا من قصره إذ رأى فرسا عائرا لم ير مثله قط فى الخيل من حسن الصورة وتمام الخلقة حتى وقف على بابه، فتعجب الناس من ذلك، فأمر يزدجرد أن يسرج ويلجم ويدخل عليه به، فحاول السوّاس وأصحاب المراكيب أن يلجموه أو يسرجوه فعجزوا عن ذلك، ولا مكّنهم الفرس من نفسه، فخرج يزدجرد بنفسه الى الفرس وتقدم اليه وأسرجه وألجمه ولبّبه وهو لم يتحرّك، فلما استدار ورفع ذنبه ليثفره «1» رمحه الفرس على فؤاده رمحة فهلك منها لساعته، ثم لم يعاين الفرس بعد ذلك؛ فأكثرت الفرس فى حديثه فظنّوا الظنون. وكان أحسنهم مذهبا وأمثلهم طريقة من قال: إنما استجاب الله عز وجل دعاءنا. فكان ملكه الى أن هلك إحدى عشرة سنة وخمسة أشهر وثمانية عشر يوما. وقيل اثنتين وعشرين سنة غير شهرين. قال: وكان ابنه بهرام جور فى حجر النعمان بن المنذر بن ماء السماء أسلمه أبوه اليه ليرّبيه بالحيرة لصحة هوائها. وقد تقدّم خبره فى ذكر بناء الخورنق «2» والسدير. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 178 فعدل الفرس عنه لسوء أثر يزدجرد فيهم وملّكوا عليهم كسرى، وهو رجل من عترة ساسان، فاستعان بهرام جور بالعرب وأرسل الى الفرس وأعلمهم إنكاره سيرة أبيه، ووعدهم بإصلاح ما فسد، وأنه إن مضى لملكه سنة ولم يف لهم بما بذل تبّرأ من الملك طائعا، فمال اليه قوم وبقيت طائفة مع كسرى، فتراضوا أن يوضع تاج الملك بين أسدين مشبلين فمن تناوله فهو الملك. وكان بهرام جور شجاعا بطلا، فلما وقف هو وكسرى الى جانب الأسدين هابهما كسرى، فوثب بهرام جور فإذا هو على ظهر الأسد وعصر جنبيه بفخذيه، فلما تمكّن منه قبض على أذنيه، ولم يزل يضرب رأس الأسد برأس الآخر حتى قتلهما. فكان كسرى أوّل من هتف به وأذعن له. فملك بهرام جور بن يزدجرد؛ فأحسن السيرة، وجلس سبعة أيام متوالية للجند والرعيّة، يعدهم الخير من نفسه ويحضّهم على تقوى الله وطاعته. وكان جلوسه على سرير الملك وهو ابن عشرين سنة، فغبر زمانا وهو يحسن السيرة، ويعمر البلاد، ويدرّ الأرزاق، ثم آثر اللهو على ذلك وكثرت خلواته بأصحاب الملاهى حتى كثرت عليه الملامة من أرباب دولته، وطمع من حوله من الملوك فى استباحة بلاده والغلبة على ملكه. وكان أوّل من سبق الى مغالبته ومكاثرته خاقان ملك الترك، وغزاه فى مائتى ألف وخمسين ألفا من الأتراك، فبلغ الفرس إقبال الترك فى هذه الجموع العظيمة فهالهم ذلك، ودخل على بهرام جور جماعة من عظماء الفرس وأهل الرأى والنجدة وقالوا: أيها الملك، قد أرهقك من بائقة «1» عدوّك ما يشغلك عما أنت فيه من اللهو والتلذذ، فتأهّب له لئلا يلحقك منه أمر يلزمك فيه مسبّة وعار. وكان بهرام لثقته بنفسه ورأيه يجيب القوم بأن يقول: الله ربنا قوىّ ونحن أولياؤه. ثم يقبل على ما هو عليه من اللهو والصيد. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 179 قال: ثم أظهر بهرام جور التجهز الى أذربيجان ليتنسّك فى بيت نارها، ويتوجه منها الى أرمينية ويتصيد فى آجامها، وسار فى سبعة رهط من عظماء الفرس وأهل البيوتات، وثلاثمائة رجل من رابطته ذوى بأس وشدّة ونجدة، واستخلف أخاله يقال له نرسى على ملكه، فما شك الناس- لما بلغهم ذلك- أنه هرب من خاقان، فتآمر الفرس فى مراسلة خاقان والانقياد الى طاعته والإقرار له بالخراج؛ مخافة منه أن يستبيح بلادهم، فاتصل هذا الخبر بخاقان فاطمأنّ وترك التحفظ والاستعداد وآثر المسالمة. وتعرّف بهرام خبر خاقان وحال جنده وما هم عليه من الطمأنينة والفتور وعدم الاستعداد، فسار بمن معه وبيّت خاقان وقتله بيده. فلما علم الأتراك أن ملكهم خاقان قد قتل انهزموا لا يلوون على شىء وخلّفوا أثقالهم وأموالهم. فأكثر بهرام فيهم القتل وأمعن فى طلبهم، وحاز غنائم لم يسمع بمثلها، وسبى من ذرّيتهم كثيرا. وكان مما غنمه تاج خاقان وإكليله، وغلب على بلاد الترك وانصرف بالظفر والغنائم، وكتب الى أهل مملكته يعلمهم بما حصل له من الظفر بخاقان وجموعه بمن كان معه من أولئك القوم الذين استصحبهم معه. وكان بهرام يتكلّم بلغات كثيرة، منها اللغة العربية. ومما حفظ من شعره يوم ظفره بخاقان: أقول له لما فضضت جموعه ... : كأنك لم تسمع بصولات بهرام وأنّى حامى ملك فارس كلّها ... وما خير ملك لا يكون له حامى ومن شعره أيضا: لقد علم الأنام بكل أرض ... بأنّهم قد اضحوا لى عبيدا ملكت ملوكهم وقهرت منهم ... عزيزهم المسوّد والمسودا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 180 فتلك أسودهم تبغى «1» حذارى ... وترهب من مخافتى الورودا وكنت إذا تشاوس «2» ملك أرض ... عبأت له الكتائب والجنودا فيعطينى المقادة أو أوافى ... به يشكو السلاسل والقيودا قال: ولما قتل خاقان بعث بهرام جور أحد قوّاده إلى ما وراء النهر فغزاهم وأقرّوا لبهرام بالعبودية وأداء الجزية. قال: وأسقط بهرام جور عن رعيته إثر هذا الظفر خراج ثلاث سنين، وترك ما كان قد بقى من الخراج ولم يستخرج من قسط تلك السنة، وكان سبعين ألف ألف درهم، وقسم فى الفقراء ما لا عظيما وفى أهل البيوتات والأحساب عشرين ألف ألف درهم؛ ونحل بيت النار بأذربيجان جميع ما غنمه من الترك من اليواقيت والجواهر والتاج والإكليل. ويقال إن بهرام دخل إلى أرض الهند متنكرا فمكث حينا لا يعرف حتى بلغه أن فيلا قد هاج وقطع السّبل وأهلك الناس، فسألهم أن يدلوه عليه، فرفع أمره إلى الملك فأرسل معه رسولا، فلما انتهى إليه أوفى «3» الرسول على شجرة لينظر ما يصنع بهرام مع الفيل، فصرخ بالفيل فخرج اليه، فجعل يرميه ويثبّت النّشّاب بين عينيه، ثم دنا وأخذ بمشفره وجذبه جذبة خرّمنها الفيل، ثم احتز رأسه وأقبل به إلى الملك فحباه وأحسن اليه. ثم إن ملكا من أعداء ذلك الملك أقبل لغزوه فجزع ذلك الملك من كثرة جنود الملك الذى أتى نحوه، فقال له بهرام: لا يهولنّك أيها الملك أمره؛ فركب بهرام وقال لأساورة الهند: احموا ظهرى، وانظروا إلى عملى، وكانوا لا يحسنون الرمى، وأكثرهم رجالة، فحمل عليهم حملة هدّهم بها، ثم جعل يضرب الرجل فيقطعه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 181 نصفين، ويأتى الفيل فيضرب مشفره ويكبّه ويأخذ من عليه فيقتله، ويأخذ الفارس فيذبحه على قربوس سرجه، ويتناول الرجلين فيضرب أحدهما بالاخر فيموتان جميعا، ويرمى فلا تقع له نشابة إلا فى رجل، فولّوا أمامه منهزمين، وحمل الذين كانوا يحرسون ظهره عليهم فأكثروا القتل فيهم، فزوّجه ملك الهند بنته ونحله الدّيبل «1» ومكران وما يليهما من أرض السند وأشهد له بذلك، وانصرف بهرام جور إلى مملكته وضمّ ذلك إلى بلاده وحمل خراجها إليه، ثم أغزى بهرام جور أخاه نرسى إلى بلاد الروم فى أربعين ألفا فدخل القسطنطنية وهادن ملك الروم على إتاوة يحملها إلى أخيه. ثم مضى بهرام جور إلى أرض السودان على طريق اليمن فأوقع بهم وعاد إلى مملكته وهلك بعد ذلك فى ماء. وذلك أنه توجه إلى الصيد فشدّ على عير وأمعن فى طلبه، فارتطم فى ماء فى سبخة فغرق فيه، فسارت أمه إلى ذلك الموضع بمال عظيم ونزلت بالقرب منه، وأمرت بإنفاق تلك الأموال على من يخرجه، فنقلوا طينا عظيما وحمأة كثيرة حتى صار من ذلك آكاما عظاما ولم يقدروا على [استنقاذ «2» ] جثته. وكان ملكه ثلاثا وعشرين سنة. وحكى عنه فى صغره ما يدلّ على نباهته، وجودة فكرته وجميل رأيه. فمن ذلك أنه قال للنعمان بن المنذر لما بلغ عمره خمس سنين: أحضر لى مؤدّبين ليعلّمونى الكتابة والفقه والرمى والفروسية. فقال له المنذر: إنك بعد صغير السنّ، ولم يأن لك ذلك بعد. فقال له بهرام: أما تعلم أيها الرجل أنى من ولد الملوك، وأن الملك الجزء: 15 ¦ الصفحة: 182 صائر إلىّ، وأولى ما كلّف به الملوك وطلبوه صالح العلم؛ لأنه زين لهم وركن، وبه يعرفون. أما تعلم أن كل ما يتقدّم فى طلبه، ينال فى وقته، وما لم يتقدّم فيه ويطلب فى وقته، ينال فى غير وقته، وما يفرّط فيه وفى طلبه يفوت ولا ينال؟ عجّل علىّ بما سألتك. فبعث المنذر من ساعته إلى باب الملك من أتاه برهط من المعلمين الفقهاء والرماة، وجمع له حكماء الروم وفارس وغيرهم، وألزمهم إياه، ووقّت أوقاتا لكل منهم؛ فتعلّم بهرام من كل علم أحسنه، وسمع الحكمة ووعى ما سمع منها، وثقف كلّ ما علم بأيسر شىء، وبلغ أربع عشرة سنة، وقد فاق معلّميه، وحفظ للنعمان حقّ التربية، فملّكه على العرب لمّا صار الملك إليه. ولما هلك بهرام جور ملك بعده ابنه يزدجرد بن بهرام جور؛ فسار بسيرة أبيه؛ ولم يزل قامعا لعدوّه، كثير الرفق برعيته. وكان له ابنان أحدهما يسمّى هرمز، والآخر فيروز. ودام ملك يزدجرد تسع عشرة سنة، وقيل ثمانى عشرة سنة وأربعة أشهر وثمانية عشر يوما ثم هلك. فتغلّب على الملك بعده ابنه هرمز بن يزدجرد. ولما ملك هرمز هرب منه فيروز ولحق ببلاد الهياطلة «1» ، وأخبر ملكها بقصته وقصة أخيه هرمز، وذكر أنه أحقّ منه بالملك، وسأله أن يمدّه بجيش يقاتل به أخاه، فأبى عليه ملك الهياطلة وقال: سأعلم خبره ثم آمرك بعد ذلك بما تفعل. وكشف ملك الهياطلة عن خبر هرمز وتعرّف أحواله فبلغه أنه غشوم ظلوم؛ فقال عند ذلك: إن الجور لا يرضاه الله تعالى، ولا يصلح عليه الملك، ولا تقوم به سياسته؛ وأمدّ فيروز بالعساكر ودفع له الطالقان «2» ؛ فأقبل فيروز من عنده بجيش طخارستان وطوائف خراسان، فظفر بأخيه فحبسه. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 183 وملك فيروز بن يزدجرد. ولما ملك أظهر العدل وحسن السيرة، وكان يتديّن إلا أنه كان مشئوما على رعيته، فقحط الناس فى زمانه سبع سنين، فأحسن فيها الى الناس، وقسم ما فى بيوت الأموال. ويقال: إن الأنهار غارت فى مدّة القحط، وكذلك القنى والعيون، وقحلت الأشجار والغياض، وهلكت الوحوش والطير، وجاعت الدوابّ حتى كادت لا تطيق الحمولة، وعمّ أهل البلاد الجهد والمجاعة، فبلغ من حسن سياسة فيروز لهذا الأمر أن كتب الى جميع الرعية: أنه لا خراج عليكم ولا جزية ولا سخرة، وأنه قد ملّكهم أنفسهم، وأمرهم بالسعى فيما يقوتهم ويصلحهم، وكتب بإخراج ما فى المطامير من الأطعمة وقسمها فى الناس، وترك الاستئثار عنهم وتساوى بهم، وأخبر أهل الغنى والشرف، بكل مدينة وقرية، أنه إن بلغه أن إنسانا مات جوعا عاقب أهل تلك المدينة أو الجهة التى يموت بها، وينكّل بهم أشدّ النكال. فقيل إنه لم يهلك فى هذا القحط والمجاعة من رعيته إلا رجل واحد من رستاق «1» . قال: ثم أغاثه الله فأمطرت السماء، وجرت الأنهار ونبعت العيون، وصلحت الأشجار، وسمنت المواشى؛ فاستوثق له الملك، وأخذ فى غزو أعدائه وقهرهم. وبنى مدنا إحداها بين جرجان [وباب «2» صول] وأخرى بناحية آذربيجان. ثم سار بجنوده نحو خراسان لقصد حرب أخشنوار «3» ملك الهياطلة لأشياء كانت فى نفسه، ولأن الهياطلة كانوا يأتون الذّكران ويركبون الفواحش فسار اليهم؛ فلما الجزء: 15 ¦ الصفحة: 184 بلغ أخشنوار ملك الهياطلة خبره خافه واشتدّ رعبه منه، وعلم أنه لا طاقة له به، وأن جيشه يضعف عن مقابلة الجيوش التى أقبل بها فيروز فحار فى أمره؛ فتقدّم اليه رجل كبير السنّ من أهل بلاده وقال: أنا أفدى الملك وأهل مملكته بنفسى، فليأمر الملك بقطع يدىّ ورجلىّ ويؤثر فى جسدى آثار العقوبة بضرب السياط، ويلقنى فى الطريق التى يمرّ فيروز بها، ويحسن إلى ولدى وعيالى الذين أخلفهم؛ ففعل به ذلك وأمر بإلقائه فى الطريق. فلما مرّ به فيروز أنكر حاله، فأخبره أن أخشنوار فعل به ذلك؛ لأنه أشار عليه بالانقياد إلى طاعة فيروز والإقرار بعبوديته، وأن يحمل إليه من الأموال والتحف ما يرضيه؛ فرقّ له الملك فيروز ورحمه وأمر بحمله معه، فنهاه أكابر قومه عن تقريبه فلم يرجع إليهم، ثم قال له ذلك الأقطع كالمتنصّح «1» له: أنا أدلّ الملك على طريق مختصر تدخل منه فى مفازة إلى بلاد أخشنوار، فتصادف غرّته؛ وسأله أن يشتفى له منه. فاغترّ فيروز بذلك؛ وأخذ الأقطع بفيروز ومن معه وعدل بهم عن الطريق الجادّة وشرع يقطع بهم مفازة بعد مفازة. فلما شكوا العطش منّاهم بقرب الماء وقطع المفازة. ولم يزل يتقدّم بهم حتى بلغ بهم موضعا علم أنهم لا يقدرون فيه على التقدّم ولا الرجوع، فتبين لهم أمره، فعندها سقط فى أيدى القوم وقالوا لفيروز: ألم ننهك عن هذا الرجل فلم تنته؟ فهلك أكثر أصحابه من العطش، ومضى على وجهه بمن نجا معه؛ فوافى أخشنوار وقومه؛ وهو ومن نجا معه على أسوإ حال، وقد أجهدهم العطش، فدعوا أخشنوار إلى الصلح على أن يخلى سبيلهم وينصرفوا إلى بلادهم، وعاهدوه على ألا يغزوهم أبدا، فرضى أخشنوار بذلك وحصل اتفاقهما على أن يجعلا بينهما حدّا لا يتجاوزه واحد منهما، ووضع عند الحدّ حجر، وحلفّه أخشنوار أنه لا يتجاوز ذلك الحجر، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 185 فخلف له وأخذ عليه العهود والمواثيق وأطلقه أخشنوار، فعاد فيروز إلى بلاده. فلما سار إلى مملكته داخلته الحميّة وحملته الأنفة على محاربة أخشنوار والغدر به، فنهاه أهل مملكته عن ذلك وقبّحوا عليه نقض العهود والمواثيق، فلم يرجع الى أقوالهم وأبى إلا غزوه. وسار بجيوشه حتى أتى الحدّ الذى بينهما والحجر الذى حلف أنه لا يتجاوزه الى بلاد الهياطلة، فأمر فيروز بالحجر أن يصمد فيه خمسون فيلا وثلاثمائة رجل، فجره أمامه وأمر العسكر ألا يتجاوز ذلك الحجر ولا يتقدّم الفيلة، وزعم أنه يكون قد وفى بيمينه ولم يتجاوز ما عاهد عليه. فلما بلغ أخشنوار ذلك أرسل اليه يقول: إن الله عز وجل لا يخادع ولا يماكر، ونهاه عن الغدر وقبّحه عليه، وهو لا يكترث بقوله، وأحجم أخشنوار عن محاربة فيروز وكرهها، ثم أعمل الفكرة وأخذ يفكر فى وجوه المكايد والمكر والخداع، فخفر حول عسكره خندقا عرضه عشرة أذرع، وعمقه عشرون ذراعا، وغطاه بخشب ضعيف وألقى عليه التراب، ثم ارتحل بمن معه ومضى غير بعيد، فبلغ فيروز رحيل أخشنوار بجنده من معسكره، فما شك أنه انهزم منه، فركب فى طلبه وأغذّ السير بجنوده- وكان مسلكهم على الخندق- فلما مروا عليه تردّى فيروز وعامة جنوده فيه فهلكوا عن آخرهم وعطف عليهم أخشنوار واحتوى على كل شىء كان فى معسكر فيروز، وأسر موبذان موبذ وجماعة من نساء فيروز منهنّ دخت ابنة فيروز، فكان هذا عاقبة مكره. وكان ملكه سبعا وعشرين سنة. ولما هلك تنازع الملك بعده ابناه قباذ وبلاش؛ فملك بلاش بن فيروز ابن يزدجرد. وكان حسن السيرة حريصا على العمارة؛ وبلغ من حسن نظره أنه كان لا يبلغه أن بيتا خرب وجلا عنه أهله إلا عاقب صاحب القرية التى فيها ذلك الجزء: 15 ¦ الصفحة: 186 البيت على تركهم إنعاش أهله وسدّ فاقتهم حتى لا يضطرون إلى الجلاء عن أوطانهم. ثم هلك بعد أربع سنين. وملك بعده أخوه قباذ بن فيروز. قال: وكان قباذ لما ملك أخوه بلاش سار الى خاقان يستنصره على أخيه ويذكر أنه أحقّ منه بالملك؛ فمطله بذلك أربع سنين ثم جهزه بجيش، فلما عاد وبلغ نيسابور بلغه وفاة أخيه بلاش. وكان قباذ فى مسيره إلى خاقان مرّ على نيسابور متنكرا وتزوّج بها بابنة رجل من الأساورة وواقعها، فحملت منه بأنو شروان وتركها بنيسابور، فلما عاد فى هذا الوقت سأل عن الجارية فأتى بها وابنه منها أنوشروان، فتبرّك بهما وفرح بابنه، ثم عاد إلى بلاد فارس وبنى مدينة أرّجان وحلوان وعدّة مدن أخر. قال: وكان لقباذ خال يقال له سوخرا «1» وقيل فيه: ساخورا، وكان يخلف فيروز والد قباذ على مدينة الملك بالمدائن، فجمع جموعا كثيرة من الفرس وقصد أخشنوار ملك الهياطلة وحاربه وانتقم منه واستنقذ جميع من كان أسره من الفرس ومن سباه من نساء فيروز، وأكثر ما كان قد احتوى عليه أخشنوار من خزائن فيروز؛ فعظم قدره عند الفرس، وحسن فيهم أثره، وكبرت منزلته عند بلاش وقباذ إلى أن لم يبق بينه وبين الملك إلا مرتبة واحدة، وتولى سياسة الأمر بحنكة وتجربة؛ ومال إليه الناس وأطاعوه، واستخفوا بقباذ ولم يعبأوا بأمره، وهان عندهم فما حملت نفسه هذه الإهانة والذّلّ، فأخذ فى التدبير على ساخورا وكتب إلى سابور الرازى، وهو الذى يقال له اللبيب، وهو أصبهبذ البلاد، فى القدوم عليه بمن قبله من الجند، فقدم بهم سابور فخاطبه قباذ فى أمر خاله، فوافقه سابور عليه، فأمره الجزء: 15 ¦ الصفحة: 187 قباذ بالتلطف فى هذا الأمر وكتمانه، وإعمال الحيلة وحسن التدبير فيه، فغدا سابور على قباذ فوجد خاله ساخورا عنده، فتقدّم سابور إليه وهو آمن، فألقى وهقا «1» فى عنقه واجتذبه وأوثقه بالحديد ثم أودعه السجن، وقتله قباذ وخافته الفرس بعده. وفى أيام قباذ ظهر مزدق- ويقال فيه: مزدك، وتفسيره: حديد الملك؛ وإليه تضاف المزدقية، ويقال لهم العدلية- وقال: إن الله تعالى إنما جعل الأرزاق فى الأرض مبسوطة ليقسّمها عباده بينهم بالسوية، ولكن الناس يظلمون؛ واستأثر بعضهم على بعض، فانضم اليه جماعة وقالوا: نحن نقسم بين الناس بالسويّة ونردّ على الفقراء حقوقهم من الأغنياء، ومن عنده فضل من المال والقوت والنساء والمتاع وغير ذلك فليس هو له ولا أولى به من غيره؛ فافترص السّفلة ذلك واغتنموه واتبعوا مزدك وأصحابه، فقوى أمرهم حتى كانوا يدخلون على الرجل فى داره فيغلبونه على ما فيها من ماله ونسائه ولا يستطيع أن يردّهم عنه ولا يدافعهم. ورأى الملك قباذ رأى مزدك وأصحابه وتابعهم فازداد قوة، فلم يلبث الناس إلا قليلا حتى صار الأب لا يعرف ولده، ولا الولد يعرف والده، ولا يملك أحد شيئا، وصيّرت العدلية قباذ فى مكان لا يصل اليه غيرهم، فاجتمعت الفرس على خلع قباذ من الملك ففعلوا ذلك. وملّكوا عليهم عند ذلك جاماسف بن فيروز. وهو أخو قباذ. وقيل: إن المزدكية هم الذين أجلسوه. قال: ولما ملك جاماسف قبض على أخيه قباذ وحبسه فاحتالت أخت قباذ فى خلاصه. وذلك أنها أنت الى الحبس الذى هو الجزء: 15 ¦ الصفحة: 188 فيه وحاولت الدخول الى أخيها، فمنعها الموكّل به من الدخول اليه، وطمع أنه يفضحها، وأعلمها أنه لا يمكّنها من العبور إليه إلا إن وافقته على قصده، فأطمعته فى نفسها وقالت: إنى لا أخالفك فى شىء مما تهواه منى، فمكّنها من الدخول الى السجن والاجتماع بأخيها قباذ، فدخلت اليه وأقامت عنده أياما، ثم لفته فى بساط أمرت بعض الغلمان أن يحمله فحمله على عاتقه، فلما مر الغلام بالموكّل بالحبس سأله عن حمله فاضطرب الغلام فلحقته وقالت: إنه فراش كنت أفرشه تحتى وعركت «1» فيه؛ وأنها خرجت لتتطهر وتعود، فصدّقها ولم يمسّ البساط ولم يدن منه استفذارا له على مذهبهم فى ذلك، فمضى الغلام به وخرجت أخته فى أثره، وهرب قباذ فلحق بأرض الهياطلة يستمد ملكها ليمده بجيش بحارد، من خالفه، ويقال: إن زواجه بأمّ كسرى أنو شروان كان فى هذه السفرة لا فى تلك، وأنه تزوّجها بأبرشهر «2» ، وهى ابنة رجل من عظمائها، وأنه رجع به وبأمه عند عوده من بلاد الهياطلة. قال: وسار قباذ الى ملك الهياطلة فأقام عنده عدّة سنين، ثم عاد الى بلاده بأمداده، فغلب على أخيه ونزعه من الملك بعد أن ملك ستّ سنين. ثم عاد قباذ الى الملك ثانيا، ولما عاد الى الملك وجد ابن ساخورا قد وثب فى جماعة من أصحابه على مزدك فقتله، فسعى به الى قباذ فقتله بمزدك. قال: ثم غزا الروم وافتتح آمد، ثم أدبر ملكه لسوء عقيدته. وهلك قباذ إثر ذلك. وكان سبب هلاكه أن الحارث بن عمرو الكندىّ قتل النعمان بن المنذر ابن امرئ القيس، وملك العرب وما كان ملكه النعمان، فبعث قباذ بن فيروز الجزء: 15 ¦ الصفحة: 189 الى الحارث بن عمرو يقول: إنه كان بيننا وبين الملك الذى كان قبلك عهد، وإنى أحبّ لقاءك؛ وخرج للقائه فى عدد وعدّة، وجاءه الحارث والتقيا بمكان، فأمر قباذ بطبق من تمر فنزع نواه وبطبق آخر على حالته، فوضعا بين أيديهما، وجعل المنزوع بين يدى قباذ، والذى هو بنواه بين يدى الحارث، فجعل الحارث يأكل التمر ويلقى النوى، وقباذ يأكل التمر ولا يحتاج الى إلقاء شىء. فقال للحارث: مالك لا تأكل كما آكل؟ فقال الحارث: إنما يأكل النوى إبلنا وغنمنا، وعلم أن قباذ يهزأ به. ثم افترقا على الصلح على ألا يجاوز الحارث وأصحابه الفرات، إلا أن الحارث استضعف قباذ وطمع فيه، فأمر أصحابه أن يغبروا الفرات ويغيروا على قرى السواد ففعلوا ذلك، فجاء الصريخ الى قباذ وهو بالمدائن، فكتب الى الحارث بن عمرو أن لصوصا من العرب قد أغاروا على السواد، وأنه يحب لقاءه فلقيه، فقال قباذ كالعاتب له: قد صنعت صنيعا ما صنعه أحد قبلك، فطمع الحارث فيه من لين كلامه وقال: ما علمت بذلك ولا شعرت به، وإنى لا أستطيع ضبط لصوص العرب، وما كل العرب تحت طاعتى، ولا أتمكن منهم إلا بالمال والجنود. فقال له قباذ: فما الذى تريد؟ قال: أريد أن تعطينى من السواد ما أتخذ به سلاحا، فأمر له بما بلى جانب العرب من أسفل الفرات؛ وهو ستة طساسيج؛ فعند ذلك زاد طمع العرب فيه، أرسل الحارث بن عمرو الى تبّع وهو باليمن: إنى قد طمعت فى ملك الأعاجم، وقد أخذت منه ستة طساسيج، فأجمع الجنود وأقبل فإنه ليس دون ملكهم شىء؛ لأن الملك عليهم لا يأكل اللحم ولا يستحل هراقة الدماء، وله دين يمنعه من ضبط الملك؛ فبادر إليه بجندك وعدّتك، وأطمعه فى الفرس. فجمع تبّع جنوده وسار حتى نزل الحيرة، وقرب من الفرات، فآذاه البقّ، فأمر الحارث بن عمرو أن يشق له نهر الحيرة فنزل عليه، ووجه ابن أخته الجزء: 15 ¦ الصفحة: 190 شمرا ذا الجناح إلى قباذ فقاتله فهزمه شمر حتى لحق بالرىّ، ثم أدركه بها فقتله. وملك بعده ابنه كسرى أنو شروان بن قباذ بن فيروز. ولما ملك استقبل الأمر بجدّ وسياسة وحزم. وكان جيّد الرأى، كثير النظر، صائب التدبير، طويل الفكر؛ فجدّد سيرة أردشير وعمل بها، ونظر فى عهده وأخذ نفسه به، وأدّب رعيته وبطانته، وبحث عن سياسات الأمم فاستصلح لنفسه منها ما رضيه، ونظر فى تدابير أسلافه المستحسنة فاقتدى بها. وكان أوّل ما بدأ به أن أبطل ملّة زرادشت الثانى الذى كان من أهل فسا، وأبطل ملة المزدكية وقتل على ذلك خلقا كثير، وسفك من الدماء بسبب إبطال هذين المذهبين ما لا يحصى كثرة، وقتل قوما من المانويّة، وثبت ملة المجوسية القديمة، وكتب فى ذلك كتبا بليغة الى أصحاب الولايات والأصبهبذين، وقوّى ملك الفرس بعد ضعفه بإدامة النظر وهجر الملاذّ وترك اللهو، وقوّى جنوده بالأسلحة والأمتعة والكراع «1» ، وعمّر البلاد وحفظ الأموال وثمّرها، وسدّ الثغور واستعاد كثيرا من الأطراف التى غلب عليها الأمم. قال: وأما تدبيره فى أمر المزدكية وإبطال ما فعلوه فإنه ضرب أعناق رؤسائهم، وقسّم أموالهم فى أهل الحاجة، وقتل جماعة كثيرة ممن عرف من الذين كانوا يدخلون على الناس فى بيوتهم، ويشاركونهم فى أموالهم وأهاليهم، وردّ الأموال الى أربابها. وأمر بكل مولود اختلف فيه أن يلحق بمن هو فى سيمائه، وأمر بكل امرأة غلب عليها أن يؤخذ الغالب عليها حتى يغرم لها مهر مثلها، ثم تخير المرأة بين الإقامة عنده وبين تزويج غيره؛ إلا أن يكون لها زوج أوّل فتردّ اليه. وأمر بكل من أضرّ برجل فى ماله أو ظلمه أن يؤخذ منه الحق، ويعاقب الظالم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 191 بعد ذلك بقدر جرمه. وأمر بعيال ذوى الأحساب الذين مات قيّمهم فكتبوا له فأنكح بناتهم للأكفاء وجعل جهازهم من بيت المال، وأنكح بنيهم من بيوتات الأشراف وأغنيائهم. وأمرهم بملازمة بابه ليستعين بهم فى أعماله، وخيّر نساء والده أن يقمن مع نسائه فيواسين ويصيّرن فى الأحرار، ويبتغى لهنّ الأكفاء من البعول، ثم أمر بكرى الأنهار وحفر القنى. وأمر بإعادة كل جسر قطع، أو قنطرة خربت أن تردّ الى أحسن ما كانت عليه، وتخيّر الحكام والعمال وأمرهم أن يسيروا بسيرة أردشير ووصاياه. فلما انتظمت له هذه الأمور واستوثق له الملك ووثق بجنده سار نحو أنطاكية فافتتحها، وأمر أن تصوّر له المدينة على هيئتها وذرعها وطرقها وعدّة منازلها، وأن تبنى له مدينة على صفتها الى جانب المدائن، فبنيت المدينة المعروفة بالرومية، ثم نقل أهل أنطاكية اليها. فلما دخلوا باب المدينة مضى كل أهل بيت الى ما يشبه منازلهم التى كانوا فيها بأنطاكية. وفتح مدينة هرقل ثم الإسكندرية، ثم أخذ نحو الخزر، ثم الى الهياطلة فقتل ملكهم بفيروز، وصاهر خاقان ملك الترك، وتجاوز بلخ وأنزل جنوده فرغانة، وبنى باب الأبواب. وقد ذكرناه فى المبانى القديمة «1» . ولما بنى هذا السور هابته الملوك وراسلته وهادنته؛ فورد عليه رسول ملك الروم بهدايا فنظر الى إيوانه فرأى فى ميزانه اعوجاجا، فقال: ما هذا الاعوجاج؟ فقيل له: إن عجوزا لها منزل فى جانب هذا الاعوجاج فأرادها الملك على بيعه وأرغبها فى الثمن فأبت، فلم يكرهها وبقى الاعوجاج على ما ترى. فقال الرومىّ: هذا الاعوجاج أحسن من هذا الاستواء. وكتب إليه ملك الصين: من نقفور «2» ملك الجزء: 15 ¦ الصفحة: 192 الصين، صاحب قصر الدرّ والجوهر، الذى يخرج من قصره نهران يسقيان العود والكافور، والذى توجد رائحته على فرسخين، والذى يخدمه بنات ألف ملك، والذى فى مربطه ألف فيل أبيض، الى أخيه كسرى أنوشروان. وأهدى إليه هدايا عظيمة. وكتب إليه ملك الهند: من ملك الهند وعظيم ملوك الشرق، وصاحب قصر الذهب، وأبواب الياقوت والدرّ، الى أخيه كسرى أنوشروان ملك فارس، صاحب التاج والراية. وأهدى إليه هدايا؛ منها ألف منّ «1» من العود يذوب على النار كالشمع، ويختم عليه كما يختم على الشمع. وجام من الياقوت الأحمر فتحته شبر مملوء درّا، وعشرة أمنان كافور كالفستق، وجارية طولها سبعة أذرع تضرب أشفار عينيها خدّيها، وكأن بين أجفانها لمعان البرق مع إتقان شكلها، مقرونة الحاجبين، لها ضفائر تجرها؛ وفراش من جلود الحيّات ألين من الحرير وأحسن من الوشى. وكان كتابه فى لحا الشجر المعروف بالكاذى «2» مكتوبا بالذهب. وكتب إليه ملك التّبّت: من ملك التبت ومشارق الأرض المتاخمة للصين والهند، الى أخيه كسرى المحمود السيرة والقدر، ملك المملكة المتوسطة فى الأقاليم السبعة، أنو شروان. وأهدى إليه أنواعا مما عمل من عجائب أرض تبت، منها مائة جوشن ومائة ترس تبّتّية مذهبة، وأربعة آلاف منّ من المسك من نوافج غزلانية. واستغاث به ابن ذى يزن يستصرخه على الحبشة فبعث معه قائدا من قوّاده. وسنورد ذلك إن شاء الله فى خبر سيف بن ذى يزن. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 193 ولما استتبّ له الأمر ووظّف الوظائف على الترك والخزر والهند والروم وغيرهم، نظر فى الخراج وأبواب المال. وكانت رسوم الناس جارية على الثلث من البقاع، ومن بعضها الربع والخمس والسدس على حسب العمارة. وكان قباذ أبوه قد مسح الأرض وهلك قبل أن يستحكم له أمر تلك المساحة؛ فجمع أنوشروان أهل الرأى فاتفقوا على أن جعلوا على كل جريب من الحنطة والشعير درهما، وعلى الجريب من الكرم ثمانية دراهم، وعلى الرّطاب تسعة دراهم، وعلى كل أربع نخلات فارسية درهما، وعلى كل ستّ نخلات دقل «1» مثل ذلك، وعلى كل ستة أصول زيتون مثل ذلك، ولم يضعوا إلا على نخل فى حديقة، أو مجتمع غير شاذّ، وتركوا فيما سوى ذلك من الغلّات السبع، وألزموا الناس الجزية ما خلا أهل البيوتات والعظماء والمقاتلة والهرابذة والكتّاب، ومن كان فى خدمة الملك، وصيروها على طبقات: اثنى عشر درهما، وثمانية دراهم، وستة دراهم، وأربعة دراهم، على قدر إكثار الرجل وإقلاله، ولم يلزموا الجزية من كان أتى له من السنين دون العشرين أو فوق الخمسين، ورفعوا هذه الوضائع الى كسرى فرضيها وأمر بإمضائها وجباية مبلغها فى ثلاثة أنجم فى كل سنة، وسماها ابراسيار. ومعنى ذلك الأمر المتراضى به. وكان أنوشروان- لما أراد أن يضع هذه الوضائع- أمر بإتمام المساحة التى بدأ بها قباذ، وأحصى النخل والزيتون وغير ذلك، والجماجم؛ ثم أمر الكتاب فأخرجوا جمل ذلك غير تفصيله، وأذن للناس إذنا عامّا، وأمر كاتب خراجه أن يقرأ عليهم الجمل المستخرجة من أصناف الغلّات وعدد النخل والزيتون والجماجم، فقرأ ذلك عليهم. ثم قال كسرى: إنا قد رأينا أن نضع على ما أحصى من جربان «2» الجزء: 15 ¦ الصفحة: 194 هذه المساحة وضائع، ونأمر بإنجامها فى السنة ثلاثة أنجم، ونجمع فى بيوت أموالنا من الأموال ما لو أتانا عن ثغر من الثغور أو طرف من الأطراف فتق «1» أو ما نكرهه واحتجنا الى تداركه أو حسمه بذلنا الأموال التى عندنا ولم نحتج الى استئناف جبايتها، فما الذى ترون فيما رأيناه من ذلك وأجمعنا عليه؟ فلم يشر عليه أحد منهم بمشورة، ولا نطق بكلمة. فكرر كسرى عليهم القول ثلاثا، فقام رجل من عرضهم وقال: أتضع أيها الملك- عمرك الله- خالدا من هذا على الفانى؟ من كرم يموت، وزرع يهيج، ونهر يغيض، وعين أو قناة ينقطع ماؤها. فقال له كسرى: ياذا الكلفة المشئوم، من أىّ طبقات الناس أنت؟ فقال: من الكتّاب. فقال كسرى: اضربوه بالدّوىّ حتى يموت، فضربه الكتاب خاصة تبرؤا منهم الى كسرى من رأيه، وما صدر من مقالته حتى قتلوه. وقال الناس: نحن راضون بما ألزمتنا أيها الملك به من خراج. ثم اجتمعت الآراء على وضع ما ذكرناه من الوضائع، فاستقرّت على ذلك إلى أن جاء الإسلام، وبها أخذ عمر رضى الله عنه لما فتحت بلاد فارس. ذكر قطعة من سير كسرى أنو شروان وسياسته قال الشيخ أبو على أحمد بن محمد بن مسكويه فى كتابه المترجم بتجارب الأمم: إنه قرأ فيما كتبه أنو شروان من سيرة نفسه فى كتاب عمله فى سيرته وما ساس به مملكته: قال كسرى: كنت يوما جالسا بالدّسكرة وأنا سائر الى همذان لنصيف هناك؛ وقد أعدّ الطعام للرسل الذين بالباب من قبل خاقان والهياطلة والصين وقيصر ونقفور؛ ودخل رجل من الأساورة مخترطا سيفه حتى وصل الى السّتر فى ثلاثة أماكن، وأراد الدخول حيث نحن والوثوب علينا، فأشار علىّ بعض خدمى الجزء: 15 ¦ الصفحة: 195 أن أخرج إليه بسيفى، فعلمت أنه إن كان إنما هو رجل واحد فسوف يحال بيننا وبينه، وإن كانوا جماعة فإنّ سيفى لا يغنى شيئا؛ فلم أخف ولم أتحرّك من مكانى؛ وأخذه بعض الحرس فإذا هو رجل رازىّ من حشمنا وخاصّتنا، فلم يشكّوا أنّ على رأيه كثيرا من الناس، فسألونى ألّا أجلس ولا أحضر للشرب حتى يستبين الأمر، فلم أجبهم الى ذلك لئلّا ترى الرسل منّى جبنا، فخرجت لشربى، «1» فلما فرغنا هدّدت الرازىّ بالعقوبة وقطع اليمين، وسألته أن يصدقنى عن الذى حمله على ذلك، وأنه إن صدقنى لم تنله عقوبة بعد ذلك؛ فذكر أنّ قوما وضعوا من قبل أنفسهم كتبا وكلاما، وذكروا أنه من عند الله، أشاروا عليه بذلك وأخبروه أنى إن قتلته وإن قتلنى أدخل الجنة. فلما فحصت عن ذلك وجدته حقّا؛ فأمرت بتخلية الرازىّ وبردّ ما أخذ منه، وتقدّمت بضرب رقاب أولئك الذين أشاروا عليه حتى لم أدع منهم أحدا. وقال أنو شروان: إنى لما أحضرت القوم الذين اختلفوا فى الدين وجمعتهم للنظر فيما يقولونه، بلغ من جرأتهم وخبثهم وقوّة شياطينهم أن لم يبالوا بالقتل والموت فى إظهار دينهم الخبيث، حتى إنى سألت أفضلهم رجلا على رءوس الناس عن استحلاله قتلى، فقال: نعم، استحلّ قتلك وقتل من لا يطاوعنا على ديننا! فلم آمر بقتله حتى إذا حضر وقت الغداء أمرت أن يحبس الغداء وأرسلت اليه بطرف الطعام، وأمرت الرسول أن يبلّغه عنّى أنّ بقائى له أنفع مما ذكر؛ فأجاب الرسول إنّ ذلك حقّ، ولكن سألنى الملك أن أصدقه عن ذات نفسى ولا أكتمه شيئا مما أدين به، وإنما أدين بما أخذته من مؤدّبى. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 196 قال أنو شروان: لمّا غدربى قيصر وغزوته فذلّ وطلب الصلح وأنفذ إلىّ بمال وأقرّ بالخراج والفدية، تصدّقت على مساكين الروم وضعفائهم وضعفاء مزارعيهم مما بعث به قيصر بعشرة آلاف دينار، وذلك فيما وطئته من أرض الروم دون غيرها. وقال: لمّا أمرت بتصفح أمر الرعية بنفسى ورفع البلاء والظلم عنهم، وما ينوبهم من ثقل الخراج؛ فإنّ فيه مع الأجر تزيين [أهل «1» ] المملكة وغناهم وقدرة الوالى على أن يستخرج منهم إن هو احتاج الى ذلك- وقد كان فى آبائنا من يرى أنّ وضع الخراج عنهم السنة والسنتين والتخفيف أحيانا مما يقوّيهم على عمارة أرضيهم- جمعت العمال ومن يؤدّى الخراج فرأيت من تخليطهم ما لم أرله حيلة إلا التعديل والمقاطعة على بلدة بلدة، وكورة كورة، ورستاق رستاق، وقرية قرية، ورجل رجل؛ فاستعملت عليهم أهل الثقة والأمانة فى نفسى، وجعلت فى كل بلد مع كل عامل أمناء يحفظون عليه، ووليت قاضى القضاة بكل كورة النظر فى أهل كورته، وأمرت أهل الخراج أن يرفعوا ما يحتاجون الى رفعه إلينا الى القاضى الذى وليته أمر كورهم حتى لا يقدر العامل أن يزيد شيئا، وأن يؤدّوا الخراج بمشهد من القاضى، وأن تعطى به البراءة، وأن يرفع خراج من هلك منهم، ولا يزاد الخراج ممن لم يدرك من الأحداث، وأن يرفع القاضى وكاتب الكورة وكاتب أهل الكورة وكاتب أهل البلد والعامل محاسبتهم الى ديواننا وقت الكتب بذلك. وقال: رفع الينا موبذان موبذ أنّ قوما سمّاهم من أهل الشرف، بعضهم بالباب كان شاهدا وبعضهم ببلاد أخر، دينهم مخالف لما رويناه عن نبينا وعلمائنا، وأنهم يتكلمون بدينهم سرّا ويدعون اليه الناس، وأن ذلك مفسدة للملك، وحيث الجزء: 15 ¦ الصفحة: 197 لا تقوم الرعيّة [إلا «1» ] على هوى واحد، فيحرّمون جميعا ما يحرّم الملك، ويستحلّون ما يستحلّ الملك فى دينه؛ فإنّ ذلك إذا اجتمع للملك قوى بجنده لأجل الموافقة بينهم وبين الملك، فآستظهر على قتال الأعداء؛ فأحضرت أولئك المختلفين فى الأهواء، وأمرت أن يخاصموا حتى يقفوا على الحقّ ويقرّوا به، وأمرت أن يقصوا عن مدينتى وعن بلادى ومملكتى، ويتتبع كل من هو على هواهم فيفعل به ذلك. وقال: إن الترك الذين فى ناحية الشمال كتبوا إلينا بما أصابهم من الحاجة، وأنهم لا يجدون بدّا- إن لم نعطهم شيئا- من أن يغزونا، وسألوا خصالا إحداها أن نتخذهم فى جندنا، ونجرى عليهم ما يعيشون به، وأن نعطيهم من أرض الكرج «2» وبلنجر «3» وتلك الناحية ما يعيشون به، فرأيت أن أسير فى ذلك الطريق الى باب صول «4» ، وأحببت أن يعرف من قبلنا من الملوك هناك نشاطنا للأسفار وقوّتنا عليها متى هممنا، وأن يروا ما رأوا من هيبة الملوك وكثرة الجنود وتمام العدّة وكمال السلاح ما يقوون به على أعدائهم، ويعرفون به قوّة من خلفهم إن هم احتاجوا اليه، وأحببنا بمسيرنا أن نجرى لهم على أيدينا الجوائز والحملان «5» ، والقرب من المجلس واللطف فى الكلام ليزيدهم ذلك مودّة لنا ورغبة فينا، وحرصا على قتال أعدائنا، وأحببت أيضا التعهد لحصونهم، وأن أسأل أهل الخراج عن أمرهم فى مسيرنا. فسرت فى طريق همذان وأذربيجان. فلما بلغت الى باب الصول ومدينة فيروز خسرو يمّمت تلك المدائن العتيقة، وتلك الحدود، وأمرت ببناء حصون أخر. فلما بلغ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 198 خاقان الخزر نزولنا هناك تخوّف أن نغزوه، فكتب أنه لم يزل- منذ ملكت- يحب موادعتى، وأنه يرى الدخول فى طاعتى؛ ورأى بعض قوّاده- لمّا شاهد حاله- تركه وأتانا فى ألفين من أصحابه؛ فقبلناه وأنزلناه فى تلك الناحية، وأجريت عليه وعلى أصحابه الرزق، وأمرت لهم بحصن هناك، وأمرت بمصلّى لأهل ديننا، وجعلت فيه موبذا وقوما نسّاكا، وأمرتهم أن يعلموا من دخل من الترك فى طاعتنا ما فى طاعة الولاة من المنفعة العاجلة فى الدنيا، والثواب الآجل فى الأخرى، وأن يحثّوهم على المودّة والصحبة «1» والعدل والنصيحة ومجاهدة العدوّ، وأن يعلّموا أحداثهم رأينا ومذهبنا، وأقمت لهم فى تلك التخوم الأسواق، وأصلحت طرقهم «2» وقوّمت السكك. ونظرنا فيما اجتمع لنا هناك من الخيل والرجال فإذا هو بحيث لو كان بوسط فارس لكان منزلنا بها فاضلا. وقال: فلما أتى لملكنا ثمان وعشرون سنة جدّدت النظر فى أمر المملكة والعدل على الرعية، والنظر فى أمرهم، وإحصاء مظالمهم، وإنصافهم. وأمرت موبذ كل ثغر ومدينة وبلد وجند بإنهاء ذلك الىّ. وأمرت بعرض الجند، من كان منهم بالباب بمشهد منّى، ومن غاب فى الثغور والأطراف بمشهد من القائد وبادوستان «3» والقاضى وأمين من قبلنا. وأمرت بجمع أهل كور الخراج فى كل ناحية من مملكتى الى مصرها «4» مع القائد وقاضى البلد والكاتب والأمين. وسرّحت من الجزء: 15 ¦ الصفحة: 199 قبلى من عرفت صحبته وأمانته ونسكه وعلمه، ومن جرّبت ذلك منه الى كل مصر ومدينة حيث أولئك العمال والغلمان وأهل الأرض ليجمعوا بينهم وبين أهل أراضيهم وبين وضيعهم وشريفهم، وأن يرفع الأمر كلّه على حقّه وصدقه، فما نفذ لهم فيه أمر أو صحّ فيه القضاء فرضى به أهله فرغوا منه هنالك، وما أشكل عليهم رفعوه الىّ. وبلغ اهتمامى بتفقّد ذلك ما لولا الذى أدارى من الأعداء والثغور لباشرت أمر الخراج والرعية بنفسى قرية قرية حتى أتعهدها وأكلّم رجلا رجلا من أهل مملكتى؛ غير أنى تخوّفت أن يضيع بذلك السبب أمر هو أعظم منه، الأمر الذى لا يغنى فيه أحد غنائى ولا يقدر على إحكامه غيرى، ولا يكفينيه كاف، مع الذى فى الشخوص الى قرية قرية من المئونة على الرعية من جندنا، ومن لا نجد بدّا من إخراجه معنا. وكرهنا أيضا إشخاصهم إلينا مع تخوّفنا أن يشتغل أهل الخراج عن عمارة أراضيهم، أو يكون فيهم من يدخل عليه من ذلك مئونة فى تكلّف السير الى بابنا، وقد ضيّع قراه وأنهاره وما لا يجد بدّا من تعهده فى السنة كلها فى أوقات العمارة، ففعلنا ذلك بهم ووكّلنا موبذان «1» موبذ بذلك، وكتبنا به الكتب وسرّحنا من وثقنا به، ورجونا أن يجرى مجرانا وأشخصناه وقلّدناه ذلك. قال: ولما أمّن الله جميع أهل مملكتنا من الأعداء فلم يبق منهم إلا نحو ألفى رجل من الديلم الذين عسر افتتاح حصونهم لصعوبة الجبال عليها، لم نجد شيئا أنفع لمملكتنا من أن نفحص عن الرعية، وأولئك الأمناء الذين وصّيناهم بإنصاف أهل الخراج. وكان بلغنا أن أولئك الأمناء لم يبالغوا على قدر رأينا فى ذلك، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 200 فأمرت بالكتب الى قاضى كورة كورة أن يجمع أهل الكورة بغير علم عاملهم وأولى أمرهم فيسألهم عن مظالمهم وما استخرج منهم، ويفحص عن ذلك بمجهود رأيه ويبالغ فيه، ويكتب حال رجل رجل منهم ويختم عليه بخاتمه وخاتم الرضا من أهل تلك الكورة، ويبعث به الىّ ويسرّح ممن يجتمع رأى أهل الكورة عليه بالرضا نفرا، وإن أحبّوا أن يكون فيمن يشخص بعض سفلتهم أيضا فعل ذلك. فلما حضروا جلست للناس وأذنت لهم بمشهد من عظماء أرضنا وملوكهم وقضاتهم وأحرارهم وأشرافهم، ونظرت فى تلك الكتب والمظالم، فأيّة مظلمة كانت من العمال ومن وكلائنا، أو من وكلاء أولادنا ونسائنا وأهل بيتنا حططناها عنهم بغير بينة؛ لعلمنا بضعف أهل الخراج منهم، وظلم أهل القوّة من السلطان لهم، وأيّة مظلمة كانت لبعضهم من بعض ووضحت لنا، أمرت بإنصافهم قبل البراح، وما أشكل وأوجب الفحص عنه شهود البلد وقاضيها سرّحت معه أمينا من الكتاب، وأمينا من فقهاء ديننا وأمينا ممن وثقنا به من خدمنا وحاشيتنا، فأحكمت ذلك إحكاما وثيقا. ولم يجعل الله لذوى قرابتنا ورحمنا وخدمنا وحاشيتنا منزلة عندنا دون الحقّ والعدل؛ فإن من شأن قرابة الملك وحاشيته أن يستطيلوا بعزّته وقوّته، فإذا أهمل السلطان أمرهم هلك من جاوره إلّا أن يكون فيهم متأدّب بأدب ملكه، محافظ على دينه، شفيق على رعيّته، وأولئك قليل؛ فدعانا الذى اطلعنا عليه من ظلم أولئك ألا نطلب البيّنة عليهم فيما ادّعى قبلهم. ولم نزل نردّ المظالم، ولم نرد أيضا ظلم أحد ممن كان عزيزا بنا، منيعا بمكانه ومنزلته عندنا، فإن الحقّ واسع للضعفاء والأقوياء والفقراء والأغنياء؛ ولكنا لما أشكلت الأمور فى ذلك علينا كان الحمل على خواصّنا وخدمنا أحبّ الينا من أن نحمل على ضعفاء الناس ومساكينهم، وأهل الفاقة والحاجة منهم. وعلمنا أن أولئك الضعفاء لا يقدرون على ظلم من حولنا. وعلمنا مع ذلك الجزء: 15 ¦ الصفحة: 201 أن الذين أعدينا «1» عليهم من خاصّتنا يرجعون من نعمتنا وكرامتنا الى ما لا يرجع اليه أولئك. ولعمرى إن خواصّنا الينا، وآثر خدمنا فى أنفسنا الذين يحفظون سيرتنا فى الرعية، ويرحمون أهل الفاقة والمسكنة وينصفونهم؛ فإنه قد ظلمنا من ظلمهم، وجار علينا من جار عليهم، وأراد تعطيل ذمتنا التى هى حرزهم وملجأهم. قال: ثم كتب الينا على رأس سبع وثلاثين سنة من ملكنا، أربعة أصناف من الترك من ناحية الخزر، ولكل صنف منهم ملك، يذكرون ما دخل عليهم من الحاجة، وما لهم من الحظ فى عبوديتنا، وسألوا أن نأذن لهم فى القدوم بأصحابهم لخدمتنا، والعمل لما نأمرهم به، وألا نحقد عليهم ما سلف منهم قبل ملكنا، وأن ننزلهم منزلة سائر عبيدنا، فإنا سنرى فى كل ما نأمرهم به من قتال وغيره كأفضل ما نرى من أهل نصيحتنا، فرأيت فى قبولى إياهم عدة منافع، منها: جلدهم وبأسهم، ومنها: أنى تخوّفت أن تحملهم الحاجة على إتيان قيصر أو بعض الملوك فيقووا بهم علينا، وقد كان فيما سلف يستأجر منهم قيصر لقتال ملوك ناحيتنا بأغلى الأجرة. وكان لهم فى ذلك القتال بعض الشوكة بسبب أولئك الأتراك؛ لأن الترك ليس عندهم لذة للحياة، فهو الذى يجرئهم مع شقاء معايشهم على الموت؛ فكتبت اليهم إنّا نقبل من دخل فى طاعتنا، ولا نبخل على أحد بما عندنا، وكتبت الى مرزبان «2» الباب آمره بأن يدخلهم أوّلا أوّلا، فكتب إلىّ إنه قد أتاه منهم خمسون ألفا بنسائهم وأولادهم وعيالهم. ولما بلغنى ذلك أحببت أن أقرّبهم الىّ ليعرفوا إحسانى إليهم، وأعظّمهم ليطمئنّوا الى قوّادنا، حتى إذا أردنا تسريحهم مع بعض قوّادنا كان كل واحد بصاحبه واثقا، فشخصنا الى أذربيجان، فلما نزلتها أذنت الجزء: 15 ¦ الصفحة: 202 لهم فى القدوم، وأتانى عند ذلك طرائف من هدايا قيصر، وأتانى رسول خاقان الأكبر، ورسول صاحب الروم، ورسول صاحب خوارزم، ورسول ملك الهند، والداور «1» ، وكابل «2» شاه، وصاحب سرنديب «3» ، وصاحب كله «4» ، وكثير من الرسل، وتسعة وعشرون ملكا فى يوم واحد، وانتهيت الى أولئك الأتراك الثلاثة والخمسين ألفا فأمرت أن يصفّوا هناك وركبت لذلك، فكان يومئذ من أصحابى وممن قدم علىّ ومن دخل فى طاعتى وعبوديّتى من لم يسعهم مرج كان طوله عشرة فراسخ، فحمدت الله كثيرا وأمرت أن يصفّ أولئك الأتراك فى أهل بيوتاتهم على سبع مراتب، ورأست عليهم منهم، وأقطعتهم وكسوت أصحابهم، وأجريت عليهم الأرزاق، وأمرت لهم بالمياه والأرضين، وأسكنت بعضهم مع قائد لى باللان «5» ، وقسمتهم فى كل ما احتجنا اليه من الثغور، وضممتهم الى المرزبان؛ فلم أزل أرى من مناصحتهم واجتهادهم فيما نوجههم له ما يسرنا فى جميع البلدان والثغور وغيرها. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 203 قال: وكتب الىّ خاقان الأكبر يعتذر الىّ من بعض غدراته ويسأل المراجعة والتجاوز؛ وذكر فى كتابه ورسالته أن الذى حمله على عداوتى وغزو أرضى من لم ينظر له، وناشدنى الله أن أتجاوز عنه، وتوثّق لى بما أطمئنّ اليه. وذكر أن قيصر قد أرسل اليه وزعم أنه يستأذننى فى قبول رسله، وأنه لا يعمل فى قبول رسل أحد إلا بما آمره، ولا يجاوز أمرى، ولا يرغب فى الأموال ولا فى المودّات لأحد إلا برضائى، وكان دسيس «1» لى فى الترك يكاتبنى بندم خاقان وندم أصحابه على غدره وعداوته إياى، فأجبته: إنى لعمرى ما أبالى إن طبيعة نفسك وغريزتك غدرت بنا أم أطعت غيرك فى ذلك، وما ذنبك فى طاعة من أطعت فى ذلك إلا كذبتك فيما فعلته برأى نفسك، وإنى قد استحققت أشد العقوبة. وكتبت أنى لا أظن شيئا من الوثيقة تفى لكم إلا وقد كنت ضيعته، ولا أظن شيئا وثقت لنا به من قبل اليوم ثم غدرتم، فكيف نطمئنّ اليك ونثق بقولك؟ ولسنا نأمنك على مثل ما فعلت من الغدر ونقض العهد والكذب فى اليمين. وذكرت أن رسل قيصر عندك، ووقفنا على استنئذانك إيانا فيهم؛ وإنى لست أنهاك عن مودّة أحد. وكرهت أن يرى أنى أتخوّف مصادقته وأهاب ذلك منه. وأحببت أن أعلمه أنى لا أبالى بشىء مما جرى بينهما. ثم سرحت لمرمة المدائن والحصون التى بخراسان وجمع الأطعمة والأعلاف اليها ما يحتاج اليه الجند، وأمرت أن يكونوا على استعداد وحذر، ولا يكون من غفلتهم ما كان فى المرة الأولى وهم على حال الصلح. قال: وكان شكرى لله تعالى لما وهب لى وأعطانى متصلا بنعمه الأول التى وهبها لى فى أوّل خلقه إياى؛ فإنما الشكر والنّعم عدلا كفّتى الميزان أيهما رجح بصاحبه احتاج الأخفّ الى أن يزاد فيه حتى يعادل صاحبه، فإذا كانت النعم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 204 كثيرة والشكر قليلا انقطع الحمل وهلك ظهر الحامل، وإذا كان ذلك مستويا استمرّ الحامل. وكثير النعم يحتاج صاحبها الى كثير الشكر، وكثير الشكر يجلب كثير النعم. ولما وجدت الشكر بعضه بالقول، وبعضه بالعمل، ونظرت فى أحبّ الأعمال الى الله وجدته الشىء الذى أقام به السموات والأرض، وأرسى به الجبال، وأجرى به الأنهار وبرأ به البريّة. وذلك الحقّ والعدل فلزمتهما. ورأيت ثمرة الحقّ والعدل عمارة البلدان التى بها معايش الناس والدوابّ والطير وسكان الأرض. ولما نظرت فى ذلك وجدت المقاتلة أجراء أهل العمارة، ووجدت أهل العمارة أجراء المقاتلة، فإنهم يطلبون أجورهم من أهل الخراج وسكان البلدان المدافعتهم عنهم، ومجاهدتهم من ورائهم، فحقّ على أهل العمارة أن وفّوهم أجورهم؛ فإن عمارتهم تتمّ بهم، وإن أبطأوا عليهم بذلك أو هنوهم فقوى عدوّهم؛ فرأيت من الحق على أهل الخراج ألا يكون لهم من عمارتهم إلا ما أقام معايشهم، وعمروا به بلدانهم، ورأيت ألا أجتاحهم وأستفرغ ذات أيديهم للخزائن والمقاتلة، فإنى إذا فعلت ذلك ظلمت المقاتلة مع ظلم أهل الخراج؛ وذلك أنه إذا فسد «1» العامر فسد المعمور، وكذلك أهل الأرض والأرض، فإنه إذا لم يكن لأهل الخراج ما يعيشهم ويعمرون به بلادهم هلكت المقاتلة الذين قوّتهم بعمارة الأرض؛ فلا عمارة للأرض إلا بفضل ما فى يد أهل الخراج؛ فمن الإحسان الى المقاتلة والإكرام لهم أن أرفق بأهل الخراج وأعمر بلادهم، وأدع لهم فضلا فى معايشهم؛ فأهل الأرض وذوو الخراج أيدى المقاتلة والجند وقوتهم، والمقاتلة أيضا أيدى أهل الخراج وقوتهم. ولقد ميزت ذلك بجهدى وطاقتى، وفكرت فيه فما رأيت أن أفضّل هؤلاء على هؤلاء إذ وجدتهما كاليدين المتعاونتين والرجلين المترادفتين. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 205 ولعمرى ما أعفى أهل الخراج من الظلم من أضرّ بالمقاتلة، ولا كفّ الظلم عن المقاتلة من تعدّى على أهل الخراج. ولولا سفهاء الأساورة لأبقوا على أهل الخراج والبلاد إبقاء الرجل على ضيعته التى منها معيشته وحياته وقوّته، ولولا جهّال أهل الخراج لكفّوا عن أنفسهم بعض ما يحتاجون إليه من المعايش إيثار للمقاتلة على أنفسهم. قال: ولما فرغنا من إصلاح العامة والخاصة بهذين الركنين من أهل الخراج والمقاتلة كان ذلك ثمرة العدل والحقّ الذى دبّر الله العظيم خلائقه به، وشكرت الله على نعمته والمقاتلة فى أداء حقه على مواهبه، وأحكمنا أمر المقاتلة وأهل الخراج ببسط العدل، وأقبلنا بعد ذلك على السّير والسّنن، ثم بدأنا بالأعظم فالأعظم من أمورنا، والأكبر فالأكبر عائدا على جندنا ورعيتنا، ونظرنا فى سير آبائنا من لدن بستاسف الى ملك قباذ أقرب آبائنا. ثم لم نترك إصلاحا فى شىء من ذلك إلا أخذناه، ولا فساد إلا أعرضنا عنه، ولم يدعنا حبّ الآباء إلى قبول ما لا خير فيه من السنن، ولكنّا آثرنا حبّ الله وشكره وطاعته. ولما فرغنا من النظر فى سير آبائنا وبدأنا بهم، وكانوا أحقّ بذلك، فلم ندع خقا إلا آثرناه، ووجدنا الحق أقرب القرابة. نظرنا فى سير أهل الروم والهند فاصطفينا محمودها، وجعلنا عيار «1» ذلك عقولنا، وميزانه بأحلامنا، فأخذنا من جميع ذلك ما زيّن سلطاننا، وجعلناه سنة وعادة، ولم تنازعنا أنفسنا الى ما تميل به أهواؤنا، وأعلمناهم ذلك وأخبرناهم به، وكتبنا إليهم بما كرهنا لهم من السير ونهيناهم عنه وتقدّمنا إليهم فيه؛ غير أنا لم نكره أحدا على غير دينه وملّته، ونحسدهم ما قبلنا، ولا منع ذلك انقباض بعلم ما عندهم، فإن الإقرار بمعرفة الحقّ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 206 والعلم والاتباع له من أعظم ما تزيّنت به الملوك. ومن أعظم المضرة على الملوك الأنفة من العلم والحميّة من طلبه، ولا يكون عالما من لا يتعلّم. ولما استقصيت ما عند هاتين الأمتين من حكمة التدبير والسياسة، ووصلت بين مكارم أسلافى، وما أحدثته بالرأى، وأخذت به نفسى، وقبلته عن الملوك الذين لم يكونوا منا، وثبت على الأمر الذى نلت به الظفر والخير، ورفضت سائر الأمم لأنى لم أجد عندهم رأيا ولا عقولا ولا أحلاما، ووجدتهم أصحاب بغى وحسد وكلب وحرص وشحّ وسوء تدبير وجهالة ولؤم عهد وقلة مكافأة. وهذه أمور لا تصلح عليها ولاية، ولا تتمّ لها نعمة. قال ابن مسكويه: وقرأت مع هذه السير فى آخر هذه الكتاب الذى كتبه أنوشروان فى سيرة نفسه أن أنوشروان لما فرغ من أمور المملكة وهذبها جمع إليه الأساورة مع القوّاد والعظماء والمرازبة والنساك والموابذة وأماثل الناس معهم فخطبهم فقال: ذكر خطبة أنوشروان قال: أيها الناس، أحضرونى فهمكم، وارعونى أسماعكم، وناصحونى أنفسكم، فإنى لم أزل واضعا سيفى على عنقى منذوليت عليكم غرضا للسيوف والأسنة، وكل ذلك للمدافعة عنكم، والإبقاء عليكم، وإصلاح بلادكم مرة بأقصى الشرق، وتارة فى آخر المغرب، وأخرى فى نهاية الجنوب، ومثلها فى جانب الشمال، ونقلت الذين اتهمتهم إلى غير بلادهم، ووضعت الوضائع فى بلدان الترك، وأقمت بيوت النيران بقسطنطنية، ولم أزل أصعد جبلا شامخا وأنزل عنه، وأطأ حزونه بعد سهوله، وأصبر على المخمصة «1» والمخافة، وأكابد البرد والحر، وأركب هول البحر وخطر المفازة؛ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 207 إرادة هذا الأمر الذى قد أتمة الله لكم: من الإثخان فى الأعداء، والتمكن فى البلاد، والسعة فى المعاش، ودرك العز، وبلوغ ما نلتم؛ فقد أصبحتم بحمد الله ونعمته على الشرف الأعلى من النعمة، والفضل الأكبر من الكرامة والأمن، وقد هزم الله أعداءكم وقتّلهم؛ فهم بين مقتول هالك، وحىّ مطيع لكم سامع؛ وقد بقى لكم عدوّ عددهم قليل، وبأسهم شديد، وشوكتهم عظيمة؛ وهؤلاء الذين بقوا أخوف عندى عليكم، وأحرى أن يهزموكم ويغلبوكم من الذين غلبتموهم من أعدائكم، وأصحاب السيوف والرماح والخيول؛ وإن أنتم أيها الناس غلبتم عدوّكم هذا الباقى، غلبتكم لعدوّكم الذين قاتلتم وحاصرتم، فقد تمّ الظّفر والنصر، وتمّت فيكم القوّة، وتمّ بكم العزّ، وتمّت عليكم النعمة، وتمّ لكم الفضل، وتمّ لكم الاجتماع والألفة والصحة والسلامة؛ وإن أنتم قصّرتم ووهنتم، وظفر هذا العدوّ بكم فأين الظّفر الذى كان منكم، فاطلبوا أن تقتلوا من هذا العدوّ الباقى مثل ما قتلتم من ذلك العدوّ الماضى؛ وليكن جدّكم فى هذا واجتهادكم واحتشادكم أكبر وأجلّ وأحزم وأعزم وأصح وأشدّ، فإن أحقّ الأعداء بالاستعداد له أعظمهم مكيدة، وأشدهم شوكة، وليس الذى كنتم تخافون من عدوّكم الذى قاتلتم بقريب من هؤلاء الذين آمركم بقتالهم الآن؛ فاطلبوه وصلوا ظفرا بظفر، ونصرا بنصر، وقوّة بقوّة، وتأييدا بتأييد، وعزما بحزم وعزم، وجهادا بجهاد؛ فإن بذلك اجتماع إصلاحكم، وتمام النعمة عليكم، والزيادة فى الكرامة من الله لكم، والفوز برضوانه فى الآخرة. ثم اعلموا أن عدوّكم من الترك والروم والهند وسائر الأمم لم يكونوا ليبلغوا منكم- إن ظهروا عليكم وغلبوكم- مثل الذى يبلغ هذا العدوّ منكم إن غلبكم وظهر عليكم؛ فإن بأس هذا العدوّ أشدّ، وكيده أكبر، وأمره أخوف من ذلك العدوّ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 208 يأيها الناس، إنى قد نصبت «1» لكم كما رأيتم، ولقيت ما قد علمتم بالسيف والرّمح والمفاوز والبحار والسهولة والجبال؛ أقارع عدوّا عدوّا، وأكالب جندا جندا، وأكابد ملكا ملكا، لم أتضرّع إليكم هذا التضرّع فى قتال أولئك الجنود والملوك، ولم أسألكم هذه المسألة فى طلب الجدّ منكم، والاجتهاد والاحتفال والاحتشاد، وإنما فعلت هذا لعظم خطره، وشدّة شوكته، ومخافة صولته بكم. وإن أنا أيها الناس لم أغلب هذا العدوّ وأنفه عنكم، فقد أبقيت فيكم أكبر الأعداء، ونفيت عنكم أضعفها، فأعينونى على نفى هذا العدوّ المخوف عليكم، القريب الدار منكم؛ فأنشدكم الله أيها الناس لمّا أعنتموتى عليه حتى أنفيه عنكم، وأخرجه من بين أظهركم فيتمّ بلائى عندكم، وبلاء الله فيكم عندى، وتتمّ النعمة علىّ وعليكم، والكرامة من الله لى ولكم، ويتمّ هذا العز والنصر، وهذا الشرف والتمكين، وهذه الثروة والمنزلة. يأيها الناس، إنى تفكرت بعد فراغى من كتابى هذا، وما وصفت من نعمة الله علينا فى الأمر الذى لمّا غلب دارا الملوك والأمم وقهرها، واستولى على بلادها، ولمّا تحكّم أمر هذا العدوّ، هلك وهلكت جنوده بعد السلامة والظّفر والنصر والغلبة؛ وذلك أنه لم يرض بالأمر الذى تمّ له به الملك، واشتدّ به السلطان، وقوى به على الأعداء، وتمّت عليه به النعمة، وفاضت عليه من وجوه الدنيا كلّها الكرامة، حتى احتال له بوجوه النميمة والبغى؛ فدعا البغى الحسد «2» فتقوّى به وتمكّن، ودعا الحسد بغض أهل الفقر لأهل الغنى، وأهل الخمول لأهل الشرف؛ ثم أتاهم الإسكندر وهم على ذلك من تفرّق الأهواء، واختلاف الأمور، وظهور البغضاء الجزء: 15 ¦ الصفحة: 209 وقوّة العداوة فيما بينهم والفساد منهم. ثم ارتفع ذلك إلى أن قتله صاحب حرسه وأمينه على دمه، للذى شمل قلوب العامة من الشر والضغينة، ونبت فيها من العداوة والفرقة، وكفى الإسكندر مؤنة نفسه؛ وقد اتعظت بذلك اليوم وذكرته. يأيها الناس، فلا أسمعنّ فى هذه النعمة تفرقا ولا بغيا ولا حسدا ظاهرا، ولا وشاية ولا سعاية، فإن الله قد طهّر من ذلك أخلاقنا وملكنا، وأكرم عنه ولا يتنا، وما نلت ما نلت بنعمة ربنا وحمده بشىء من الأمور الخبيثة التى نفتها العلماء، وعافتها الحكماء؛ ولكن نلت هذه الرتبة بالصحة والسلامة، والحب للرعية، والوفاء والعدل والاستقامة والتؤدة. وإنما تركنا أن نأخذ عن هذه الأمم التى سميناها، أعنى من الترك والبربر والزنج والجبال وغيرهم، مثل ما أخذنا عن الهند والروم لظهور هذه الأخلاق فيهم وغلبتها عليهم. ولا تصلح أمة قط وملكها على ظهور هذه الأخلاق التى هى أعدى أعدائكم. يأيها الناس، إن فيما بسط الله علينا بالسلامة والعافية والاستصلاح غنى لنا عما نطلب بهذه الأخلاق الرديئة المشئومة؛ فأكفونى فى ذلك أنفسكم، فإنّ قهر هذه الأعداء أحبّ إلىّ وخير لكم من قهر أعدائكم من الترك والروم. فأما أنا أيها الناس فقد طبت نفسا بترك هذه الأمور ومحقها وقمعها ونفيها عنكم. يأيها الناس، إنى قد أحببت أن أنفى عدوّكم الظاهر والباطن؛ فأما الظاهر منهما فإنّا بحمد الله ونعمته قد نفيناه وأعاننا الله عليه وحصد لنا شوكته، وأحسنتم فيه وأجملتم وآسيتم وأجهدتم، فافعلوا فى هذا العدوّ كما فعلتم فى ذلك العدوّ، واعملوا فيه كالذى عملتم فى ذلك، واحفظوا عنّى ما أوصيكم به فإنى شفيق عليكم ناصح لكم. أيها الناس، من أحيا هذه الأمور فينا فقد أفسد بلاءه عندنا بقتاله من كان يقاتلنا من أعدائنا، فإن هذه أكثر مضرة، وأشدّ شوكة، وأعظم بلية، وأضر تبعة. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 210 واعلموا أن خيركم يأيها الناس من جمع إلى بلائه السالف عندنا المعونة لنا على نفسه فى هذا الغابر. واعلموا أن من غلبه هذا غلبه ذاك، ومن غلب هذا فقد قهر ذاك؛ وذلك أن بالسلامة والألفة والمودّة والاجتماع والتناصح منكم يكون العزّ والقدرة والسلطان، ومع التحاسد والبغى والنميمة والسبّ يكون ذهاب العز، وانقطاع القوّة وهلاك الدنيا والآخرة؛ فعليكم بما أمرناكم به، واحذروا ما نهيناكم عنه، ولا حول ولا قوّة إلا بالله. عليكم بمواساة أهل الفاقة، وضيافة السابلة «1» ، وأكرموا جوار من جاوركم، وأحسنوا صحبة من دخل فيكم من الأمم، فإنهم فى ذمّتى، ولا تجبهوهم ولا تظلموهم، ولا تسلّطوا عليهم، ولا تحرجوهم، فإن الإحراج يدعو إلى المعصية، ولكن اصبروا لهم على بعض الأذى، واحفظوا أمانتكم وعهدكم، واحفظوا ما عهدت إليكم من هذه الأخلاق، فلا تصلحوا إلا معها، وبالله تعالى ثقتنا فى الأمور كلها. ثم هلك أنو شروان بعد ثمان وأربعين سنة من ملكه. ثم ملك بعده ابنه هرمز بن كسرى أنو شروان. وأمه قاقم بنة خاقان ملك الترك. وقيل: بل ابنة ملك من ملوك الخزر. قال: وكان كثير الأدب، حسن السياسة، جميل النية، وافر الإحسان إلى الضعفاء والمساكين. وكان من سيرته المرتضاة أنه يجرى الخير والعدل على الرعية، ويشدّد على العظماء المتسلطين على الضعفاء. وبلغ من عدله أنه كان يسير إلى المياه ليصيف هناك، فأمر فنودى فى مسيره أن يتحامى مواضع الحروث، ولا يسير فيها الراكب لئلا يضروا بأحد، ووكّل بتعهد ما يجرى فى عسكره، ومعاقبة من تعدّى أمره وتغريمه لصاحب الجزء: 15 ¦ الصفحة: 211 الحرث عوضا عما أفسده له. وكان ابنه كسرى أبرويز فى عسكره فغار مركب من مراكبه ووقع فى حرث كان على الطريق، فأفسد ما مرّ عليه، فأخذ ودفع إلى الرجل الموكل من جهة هرمز بمعاقبة من أفسد هو أو دوابّه شيئا من الحرث، فلم يجسر الرجل الموكل من جهة هرمز أن ينفّذ أمر هرمز فى ابنه أبرويز، فرفع الأمر إلى هرمز فأمره أن يجدع أذنيه، ويبتر ذنبه، ويغرّم كسرى أبرويز لصاحب الحرث؛ فخرج الرجل لإنفاذ الأمر، فدس له كسرى رهطا من العظماء يسألونه التثبت فى الأمر، فكلّموه فلم يجب إلى ذلك. فسألوه تأخير إنفاذ الأمر فى المركب حتى يكلموا هرمز، ففعل، ولقى أولئك الرهط هرمزا وأعملوه أن ذلك المركب الذى غار إنما غار زعارة «1» ، وأنه أخذ لوقته. وسألوه أن يأمر بالكف عن جدعه وبتره، لما فى ذلك من سوء الطّيرة فلم يجبهم إلى ما سألوه، وأمر بالمركب فجدعت أذناه وبترذنبه، وغرم كسرى كما يغرم غيره من الجند ثم ارتحل. قال: وركب ذات يوم فى أوان إيناع الكرم يريد ساباط «2» المدائن، وكان ممرّه على بساتين وكروم، فنظر بعض الأساورة إلى كرم فرأى حصرما، فأصاب منه عناقيد ودفعها إلى غلامه وقال: اذهب بها إلى المنزلة واطبخها بلحم واصنع منها مرقة فإنها نافعة فى هذا الإبّان، فأتاه حافظ ذلك الكرم فلزمه وصاح به، فبلغ إشفاق الأسوار من عقوبة هرمز أن دفع إنى حافظ الكرم منطقة محلّاة بالذهب كانت فى وسطه، وسأله أن يأخذها عوضا عما أخذه من الحصرم، ولا يرفع الأمر إلى الملك. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 212 فهذه كانت سيرته فى العدل، وهذا كان خوف جنده وأساورته منه. وكان مظفّرا منصورا، وكان أديبا داهيا، إلا أنه كان مقصيا للأشراف وأهل البيوتات والعلماء. وقيل: إنه قتل ثلاثة عشر ألف رجل وستمائة رجل منهم، ولم يكن له رأى إلا فى تآلف السّفلة وأسقاط الناس واستصلاحهم. وحبس خلقا كثيرا من العظماء، وحطّ مراتب جماعة كبيرة، وقصّر بالأساورة ففسدت عليه نيات أكابر جنده وعظماء مملكته، فكان عاقبة سوء هذا التدبير أن خرج عليه جماعة من الملوك منهم شابه [شاه «1» ] ملك الترك فى ثلاثمائة ألف مقاتل، وسار إلى باذغيس «2» ، وذلك بعد مضىّ إحدى عشرة سنة من ملكه، وخرج عليه ملك الروم فى ثمانين ألف مقاتل، وخرج عليه ملك الخزر حتى سار إلى باب الأبواب، وخرج عليه من العرب خلق كثير، فنزلوا فى شاطئ الفرات وشنّوا الغارات على أهل السواد، فاجترأ عليه أعداؤه وغزوا بلاده. فأما شابه [شاه «3» ] ملك الترك فإنه أرسل إلى هرمز وإلى عظماء ملكه من الفرس يؤذنهم بإقباله فى جيوشه زمرا زمرا، وأعلمهم أنه يريد غزو الروم، ويسلك إليهم من بلادهم، وأمرهم أن يعقدوا له قناطر على كل نهر يمرّ عليه فى بلادهم من الأنهار التى لا قناطر عليها، وكذلك فى الأودية، وأن يسهّلوا له الطرق والمسالك وقال: فإننى قد أجمعت على المسير إلى بلاد الروم من بلادكم، فاستفظع هرمز ما ورد عليه من ذلك، وجمع أكابر مملكته وعرض ذلك عليهم، وشاورهم فيما يفعله، فاجتمعت الآراء على قصد ملك الترك وحربه، فندب إليه رجلا من أهل الرأى والنجدة يقال له بهرام جوبين، فاختار بهرام من العسكر اثنى عشر ألفا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 213 من الكهول دون الشباب، وسار بهم حتى انتهى إلى هراة «1» وباذغيس، ولم يشعر شابه [شاه «2» ] ملك الترك ببهرام حتى وافاه ونزل بالقرب من معسكره، فكانت بينهما حروب كثيرة آخرها أن بهرام جوبين قتل شابه برمية رماه [بها «3» ] فاستباح عسكره، وأقام بهرام موضعه، فوافاه برموذة «4» بن شابه وكان يعدل بأبيه، فحار به فهزمه بهرام جوبين وحصره فى بعض الحصون، ثم ألحّ عليه حتى استسلم له، فوجهه أسيرا إلى هرمز، وغنم كنوزا عظيمة، فيقال إنه حمل إلى هرمز من الأموال والجواهر والأوانى وسائر الأمتعة وقرمائتى ألف وخمسين ألف بعير فى مدّة تلك الأيام، فشكره هرمز على ذلك، وأمره أن يتقدّم بمن معه إلى بلاد الترك فلم يره بهرام صوابا، ثم خاف سطوة هرمز. وحكى له أن الملك يستقلّ ما حمله إليه من الغنائم فى جنب ما وصل إليه منها، وأنه يقول فى مجالسه قد ترفّه بهرام واستطاب الدّعة، وبلغ ذلك الجند فخافوا مثل خوفه. فيقال إن بهرام جمع ذات يوم وجوه عسكره وأجلسهم على مراتبهم ثم خرج عليهم فى زىّ النساء وبيده مغزل وقطن حتى جلس فى موضعه؛ وحمل إلى كل واحد من أولئك القوم مغزل وقطن ووضع بين أيديهم، فامتعضوا من ذلك وأنكروه وقالوا: ما هذا الزىّ! فقال بهرام: إن كتاب الملك ورد علىّ بذلك ولا بدّ من امتثال أمره إن كنتم طائعين له، فأظهروا أنفة وحميّة وأجمعوا كلهم على خلع الجزء: 15 ¦ الصفحة: 214 هرمز، فخلعوه وأظهروا أن ابنه كسرى أبرويز أصلح للملك منه، وساعدهم على ذلك خلق كثير ممن كان بحضرة هرمز. ولما اتصل ذلك بهرمز أنفذ جيشا كثيفا مع بعض قوّاده لمحاربة بهرام جوبين، فأشفق أبرويز من الحديث وخاف سطوة أبيه ببهرام، فهرب إلى أذربيجان، فاجتمع إليه هناك عدّة من المرازبة ومن الأصبهبذين، فأعطوه بيعتهم ولم يظهر أبرويز شيئا، وأقام بمكانه إلى أن بلغه قتل القائد الذى كان قد بعثه هرمز لمحاربة بهرام جوبين، وهو أذبيحشيش، وهزيمة الجيش الذى كان معه واضطراب أمر هرمز أبيه، وكتبت أخت أذبيحشيش إلى كسرى أبرويز تخبره بضعف أبيه هرمز، وأعلمته أن العظماء والوجوه قد أجمعوا على خلعه، وأن بهرام جوبين إن سبقه إلى المدائن احتوى على الملك. قال: ولم يلبث العظماء أن وثبت على هرمز وفيهم بندويه «1» وبسطام خالا أبرويز وخلعوه وسملوا عينيه، وتركوه تحرّجا من قتله. فكان ملكه إلى أن خلع وسمل اثنتى عشرة سنة. ثم ملك بعده ابنه كسرى أبرويز بن هرمز بن كسرى أنو شروان. قال: ولما ملك بادر بمن معه إلى المدائن وسبق إليها بهرام جوبين وتتوّج وجمع إليه الوجوه والأشراف، وجلس على السرير ومنّاهم، وأمرهم بالسمع والطاعة، فاستبشر الناس به ودعوا له وأجابوه ودخلوا تحت طاعته. فلما كان فى اليوم الثانى أتى إلى أبيه فسجد له، واعتذر وقال: إنك تعلم أيها الملك إننى برىء مما جناه إليك هؤلاء القوم الذين فعلوا بك ما فعلوا، وإنما هربت خوفا منك وإشفاقا على نفسى، فصدّقه هرمز وقال: يا بنىّ! إن لى إليك حاجتين فاسعفنى بهما، إحداهما: أن الجزء: 15 ¦ الصفحة: 215 تنتقم لى ممن عاون على خلعى وسمل عينىّ ولا تأخذك بهم رأفة، والأخرى تؤنسنى كل يوم بثلاثة نفر ممن لهم أصالة رأى، وتأذن لهم بالدخول إلىّ؛ فتواضع له أبرويز وقال: عمرك الله أيها الملك، إن المارق بهرام قد أطلنا «1» ومعه أهل الشجاعة والنجدة، ولسنا نقدر أن نمدّ يدا إلى من أتى إليك ما أتى؛ فإنهم وجوه أصحابك؛ ولكن إن أمكننى الله من المنافق فأنا خليفتك وطوع أمرك. قال: وأما بهرام جوبين فإنه ورد إلى النهروان، فخرج كسرى أبرويز إليه وواقفه بها وجعل النهر بينه وبينه، ودار بينهما كلام كثير. كل ذلك فى استصلاح بهرام ورجوعه إلى الطاعة، وهو لا يجيب إلى ذلك ولا يردّ إلا ما يسوء أبرويز حتى يئس منه وأجمع على حربه والتقوا واقتتلوا. وكان بينهما أخبار كثيرة وأحاديث طويلة آخرها أن أبرويز ضعف عنه بعد أن قتل بيده ثلاثة نفر من الأتراك، وكانوا من أشدهم وأعظمهم شجاعة ووسامة، وكانوا قد التزموا لبهرام بقتل أبرويز، وضمن لهم بهرام على ذلك أموالا عظيمة. قال: ثم رأى أبرويز من أصحابه فتورا فسار الى أبيه وشاوره فرأى المسير الى الروم، وأحرز نساءه وشخص فى عدّة يسيرة فيهم بندويه وبسطام وكردى أخو بهرام؛ لأنه كان معاديا لأخيه، شديد الطاعة والنصيحة لأبرويز. فلما خرجوا من المدائن خاف القوم من بهرام، وأشفقوا أن يردّ هرمز الى الملك، ويكاتب ملك الروم عن هرمز فى ردّهم فيتلفوا؛ فذكروا ذلك لأبرويز واستأذنوه فى إتلاف هرمز فلم يحر جوابا، فانصرف بندويه وبسطام وطائفة معهما الى هرمز فخنقوه ثم رجعوا الى كسرى فقالوا: سر على خير طالع، وأيمن طائر؛ فحثّوا دوابّهم وساروا الى الفرات فقطعوه، وأخذوا طريق المفازة بدلالة رجل يقال له: خرشيذان الجزء: 15 ¦ الصفحة: 216 وساروا الى بعض الديارات التى فى أطراف العمارة، فلما أوطنوه للراحة لحقتهم خيل بهرام جوبين، فلما نذروا بهم أنبه بندويه أبرويز من نومه وقال له: احتل لنفسك فإن القوم قد طلبوك «1» . فقال كسرى: ما عندى حيلة. فقال بندويه: إنى سأحتال لك بأن أبذل نفسى دونك؛ قال: وكيف ذلك؟ قال: تدفع لى ثوبك وزينتك لأعلو الدير وتنجو أنت ومن معك من وراء الدير، فإن القوم إذا وصلوا ورأوا هيئتك علىّ اشتغلوا بى عن غيرى، وطاولتهم حتى تفوتهم، ففعل ذلك. وخرج أبرويز ومن معه، ثم وافت خيل بهرام الدير وعليهم قائد لهم يقال له بهرام ابن سياوش فاطلع عليهم بندويه من فوق الدير وعليه زينة أبرويز وثيابه، وأوهمهم أنه هو، وسأله أن ينظره الى غد ليصير فى يده سليما ويسير به الى بهرام جوبين، فأمسك عنه وحفظ الدير ليلة كاملة بالحرس. فلما أصبح اطلع عليه فى بزّته وحليته وقال: إن علىّ وعلى أصحابى بقية شغل من استعداد وصلوات وعبادات فأمهلنا. ولم يزل يدافعه حتى مضى عامة النهار وأمعن أبرويز، وعلم بندويه أنه قد فاتهم، ففتح الباب حينئذ وأعلم بهرام سياوش بأمره، فانصرف به الى بهرام جوبين فحبسه. وأما بهرام جوبين فإنه دخل المدائن وجلس على سرير الملك، وجمع العظماء فخطبهم وذمّ أبرويز ودار بينهم كلام، فكان كلهم منصرفا عنه إلا أن بهرام تتوّج وانقاد له الناس خوفا، ثم إن بهرام بن سياوش واطأ بندويه على الفتك ببهرام جوبين، فظهر بهرام على ذلك، فقتل سياوش وأفلت بندويه ولحق بأذربيجان، وسار أبرويز حتى أتى أنطاكية فكاتب ملك الروم منها، وراسله بجميع من كان معه وسأله نصرته، فأجابه الى ذلك وزوّجه ابنته مريم وحملها إليه، وأمدّه بثياذوس أخيه ومعه ستون ألفا من المقاتلة، عليهم رجل يقال له سرجس، يتولى تدبير الجزء: 15 ¦ الصفحة: 217 أمرهم، ورجل آخر من أبطال الروم، كان يعدّ بينهم بألف رجل، وسأله ترك الأتاوة التى كان أبوه ومن قبله من ملوك الفرس يستأدونها من ملوك الروم إذا هو ملك، فأجابه الى ذلك، وفرح بالجيش الذى أمدّه به ملك الروم، واغتبط بهم وأراحهم خمسة أيام، ثم عرضهم وعرّف عليهم العرفاء وسار بهم حتى نزل من أذربيجان فى صحراء تدعى الدنق «1» فوافاه هناك بندويه ورجل من أصبهبذى الناحية يقال له موسيل فى أربعين ألف مقاتل، فانضمّوا إليه، ووافاه الناس بالخيل من أصبهان وفارس، وانتهى الى بهرام جوبين مكانه بصحراء الدنق، فشخص نحوه من المدائن، فجرت بينهما حروب شديدة قتل فيها الكمىّ الرومىّ بضربة ضربه بها بعض الفرس على رأسه فقدّ رأسه وبدنه، وعاد فرسه بنصف بدنه الباقى الى المعركة. فلما رآه أبرويز استضحك؛ فعظم ذلك على الروم وعاتبوا أبرويز وقالوا له: هذا جزاؤنا منك! يقتل كميّنا وواحد عصره فى طاعتك وبين يديك ونصحك ونصرتك وأنت تضحك لقتله! فاعتذر بأن قال: إنى والله ما ضحكت لما تكرهون. ولقد شقّ علىّ أن فقدت مثله أكثر مما شقّ عليكم، ولكنى رأيتكم تستصغرون شأن جوبين وتنكرون هربى منه، فذكرت ذلك من قولكم الآن وعلمت أنكم برؤيتكم هذه الضربة تعذروننى وتعلمون يقينا أن هربى إنما كان من أمثال هؤلاء القوم الذين هذا مبلغ نكايتهم فى الأبطال. ويقال إن أبرويز حارب بهرام منفردا عن العسكر بأربعة عشر رجلا منهم كردى أخو جوبين وبندويه وبسطام حربا شديدا وصل فيها بعضهم الى بعض، وآخر الأمر أن أبرويز استظهر استظهارا يئس منه بهرام جوبين، وعلم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 218 أنه لا حيلة له فيه ولا قدرة عليه، فانحاز عنه نحو خراسان، ثم سار الى الترك، وسار أبرويز الى المدائن بعد أن فرق فى الجنود من الروم أموالا عظيمة وصرفهم الى ملك الروم. قال: ولبث بهرام جوبين فى الترك مكرما عند الملك حتى احتال عليه كسرى أبرويز بتوجيهه رجلا يقال له هرمز الى الترك بجوهر نفيس وغيره من الهدايا الى امرأة ملك الترك حتى دسّت لبهرام من قتله؛ فاغتمّ خاقان لموته وأرسل إلى أخته كردية وامرأته يعلمهما بلوغ الحوادث ببهرام، وسأل كردية أخت بهرام أن يتزوّجها وفارق امرأته خاتون بهذا السبب، فأجابته كردية جوابا لينا، ثم ضمت إليها من كان مع أخيها بهرام من المقاتلة، وخرجت بهم من بلاد الترك إلى حدود مملكة فارس، فأتبعها ملك الترك أخاه نطرا «1» فى اثنى عشر ألف فارس. فيقال إن كردية قاتلت وقتلت نطرا بيدها، ومضت لوجهها حتى بلغت حدود أرض فارس، وكتبت إلى أخيها كردى فأخذ لها أمانا من أبرويز، فلما قدمت عليه اغتبط بها وتزوّج بها أبرويز. قال: ولم يزل أبرويز يلاطف ملك الروم الذى نصره وأمدّه ويهاديه إلى أن وثبت الروم عليه فى شىء أنكروه منه فقتلوه وملّكوا غيره، فبلغ ذلك أبرويز فتألم له وأوى إلى أبرويز ابن الملك المقتول، فتوجه أبرويز وملكه على الروم، ووجه معه جنودا كثيفة مع شهرياز فدوّخ بهم البلاد. وملك صاحب كسرى بيت المقدس وأخذ خشبة الصلب وبعث بها إلى كسرى، وذلك فى أربع وعشرين سنة من ملكه، ثم احتوى على مصر والاسكندرية وبلاد النوبة، وبعث مفاتيح ثغر الإسكندرية إلى كسرى فى سنة ثمان وعشرين من ملكه، وقصد قسطنطينية فأناخ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 219 على ضفة الخليج الذى هو بالقرب منها وخيم هنالك، فأمره كسرى فخرّب بلاد الروم غضبا على أهلها لما انتهكوا من ملكهم وانتقاما له، ومع ذلك لم يخضعوا لابن ملكهم المقتول ولا منحوه الطاعة، ولا مال اليه واحد منهم؛ غير أنهم قتلوا الملك الذى ملّكوه عليهم بعد أبيه المسمى قوقا لما ظهر لهم من فجوره وسوء تدبيره؛ وملّكوا عليهم رجلا يقال له هرقل. فلما رأى هرقل عظم ما فيه أهل بلاد الروم من تخريب جنود فارس بلادهم، وقتلهم مقاتلتهم، وسبيهم ذراريهم، واستباحتهم أموالهم تضرّع إلى الله وأكثر الدعاء وابتهل. فيقال إنه رأى فى منامه رجلا ضخم الجثة رفيع المجلس قد دخل عليه، فدخل عليهما داخل فألقى ذلك الرجل عن مجلسه وقال لهرقل: إنى قد أسلمته فى يدك، فلم يقصص رؤياه تلك فى يقظته على أحد حتى توالت عليه أمثالها، فرأى فى بعض لياليه كأن رجلا دخل عليهما وبيده سلسلة طويلة فألقاها فى عنق صاحبه، أعنى صاحب المجلس الرفيع، ثم دفعه إليه وقال له: ها قد دفعت اليك كسرى برقبته. فلما تتابعت هذه الأحلام قصّها على عظماء الروم وذوى العلم منهم، فأشاروا عليه أن يغزوه، فاستعدّ هرقل واستخلف ابنه على مدينة قسطنطينية، وأخذ عن الطريق الذى فيه شهرياز «1» صاحب كسرى وعدل الى غيرها، وسار حتى أوغل فى بلاد أرمينية ونزل نصيبين سنة، وكان صاحب ذلك الثغر من قبل كسرى استدعى لموجدة كانت من كسرى عليه. وأما شهرياز فقد كانت كتب كسرى ترد عليه فى الجثوم على الموضع الذى هو به وترك البراح، ثم بلغه أن هرقل قد أقام بجنوده الجزء: 15 ¦ الصفحة: 220 بنصيبين، فوجه كسرى لمحاربة هرقل رجلا من قوّاده يقال له: راهزار «1» فى اثنى عشر ألف رجل من الأنجاد، وأمره أن يقيم بنينوى- وهى الموصل- على شاطئ دجلة ويمنع الروم أن يجوزوها. وكان كسرى بلغه خبر هرقل، وهو يومذاك بدسكرة «2» الملك، فنفذ الجيش لمنعه من جواز دجلة، فعسكروا حيث أمرهم كسرى، فقطع هرقل دجلة من موضع آخر الى الناحية التى فيها جنود فارس، فأذكى راهزار العيون عليه، فأخبروه أن هرقل فى سبعين ألف مقاتل، فأيقن راهزار ومن معه من الجند أنهم عاجزون عن مناهضته، فكتب إلى كسرى غير مرة أن هرقل قد دهمه بما لا طاقة له به ولا قبل من الجنود الكثيرة. كل ذلك يجيبه كسرى بأنه إن عجز عن الروم فلن يعجز عن استقبالهم، وبذل دماء الفرس فى طاعته. فلما تتابعت على راهزار أجوبة كسرى بذلك عبّأ جنده وناهض الروم بهم؛ فقتلت الروم راهزار وستة آلاف رجل من الفرس، وانهزم بقيتهم وهربوا على وجوههم لا يلوون على شىء، وبلغ كسرى ذلك فانحاز من دسكرة الملك الى المدائن، وتحصّن بها لعجزه عن محاربة هرقل، وسار هرقل بجيوش الروم حتى كان قريبا من المدائن، فاستعدّ كسرى لقتاله، فلما بلغه ذلك انصرف الى أرض الروم، وكتب كسرى الى قوّاد الجند الذين انهزموا يأمرهم أن يدلّوه على كل رجل انهزم منهم، ومن فشل فى تلك الحرب، ولم يرابط مركزه، وأمر بعقوبتهم بحسب ما استوجبوا، فأحوجهم بهذا الكتاب الى الخلاف عليه، وطلب الحيل لنجاة أنفسهم منه، وكتب الى شهرياز يأمره بالقدوم عليه ويستعجله فى ذلك ويصف ما نال هرقل منه ومن بلاده. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 221 وقد حكى أن كسرى عرّف أن له امرأة فى فارس لا تلد إلا الملوك والأبطال فدعاها وقال: إنّى أريد أن أبعث الى الروم جيشا وأستعمل عليهم رجلا من بنيك فأشيرى علىّ أيّهم أستعمل، فوصفت له أولادها فقالت: هذا فرّخان أنفذ من سنان؛ وهذا شهرياز «1» أحكم من كذا، وهذا فلان أروغ من كذا؛ فاستعمل شهرياز؛ فسار الى الروم فظهر عليهم وهزمهم وخرّب مدائنهم. فلّما ظهرت فارس على الروم جلس فى بعض الأيام فرّخان يشرب؛ فقال فرّخان لأصحابه: لقد رأيت أنّى جالس على سرير كسرى، فبلغت كلمته كسرى، فكتب إلى شهرياز: اذا أتاك كتابى هذا فابعث إلىّ برأس فرّخان، فكتب اليه: أيها الملك، إنك لن تجد مثل فرّخان، وإن له نكاية فى العدوّ وصيتا فلا تفعل، فكتب اليه: إنّ فى رجال فارس خلفا منه، فعجّل إلىّ برأسه، فراجعه فغضب كسرى ولم يجبه، وبعث بريدا الى أهل فارس: إنّى قد نزعت عنكم شهرياز واستعملت فرّخان، فانقاد له شهرياز وقال: سمعا وطاعة، ونزل عن سريره وجلس عليه فرّخان، ثم دفع البريد صحيفة صغيرة الى فرّخان كان كسرى قد أعطاها له وقال له: اذا انقاد شهرياز الى طاعة فرّخان فاعط فرّخان هذه الصحيفة، فلما قرأها فرّخان قال: علىّ بشهرياز! فأتى به فقدّم ليضرب عنقه فقال: لا تعجّل علىّ حتى أكتب وصيّتى، ثم دعا بسفط وأخرج منه ثلاث صحائف، وهى التى كان كسرى أمر شهرياز فيها بقتل فرّخان وقال له: كلّ هذه راجعت كسرى فيها عنك، وأنت تريد أن تقتلنى بكتاب واحد؟ فردّ الملك إلى «2» أخيه واعتذر الجزء: 15 ¦ الصفحة: 222 منه، فكتب شهرياز الى هرقل ملك الروم: إنّ لى إليك حاجة لا تحملها البرد، ولا تبلّغها الصّحف، فألقنى ولا تأتينى إلّا فى خمسين روميّا، فإنّى أيضا ألقاك فى خمسين فارسيّا، فأقبل هرقل فى خمسمائة [ألف «1» ] رومىّ، وجعل يضع العيون بين يديه فى الطريق، وخاف أن يكون قد مكر به، فأتته عيونه أنه ليس مع شهرياز إلا خمسين رجلا. قال: ثم التقيا وقد بسط لهما فى قبّة من الدّيباج ضربت لهما، فاجتمعا ومع كلّ واحد منهما سكّين، ودعوا ترجمانا يترجم لكلّ منهما عن قول الآخر؛ فقال شهرياز لهرقل: إنّ الذين خرّبوا مدينتك وبلغوا منك ومن جندك ما بلغوا أنا وأخى بشجاعتنا وكيدنا، وإنّ كسرى حسدنا وأراد قتل أخى وكتب إلىّ بقتله فأبيت، ثم أمر أخى أن يقتلنى وقد خلعناه جميعا ونحن نقاتله معك. قال: قد أصبتما ووفّقتما، ثم أشار أحدهما الى صاحبه: إنّ السرّ إنما يكون بين اثنين فإذا جاوز اثنين فشا، قال الآخر: نعم، فقاما جميعا الى الترجمان بسكّينيهما فقتلاه، واتفقا على قتال كسرى أبرويز. ومما اتفق فى أيامه من الحوادث يوم ذى قار، وسنذكره- إن شاء الله تعالى- فى أيام العرب ووقائعها، ولم نذكر فى هذا الموضع يوم ذى قار على سبيل الإيراد له بل على سبيل التنبيه عليه. ذكر حيلة لأبرويز على ملك الروم قال: كان أبرويز وجّه رجلا من جلّة «2» أصحابه فى جيش جرّار الى بلاد الروم، فنكأ «3» فيهم، وبلغ منهم، وفتح الشام، وبلغ الدرب فى آثار الروم، فعظم أمره حتى خافه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 223 أبرويز، فكاتبه بكتابين، يأمره فى أحدهما أن يستخلف على جيشه من يثق به، ويقبل إليه، ويأمره فى الكتاب الآخر أن يقيم بمكانه، وأنه لمّا تدبّر أمره، وأجال الرأى لم ير من يسدّ مسدّه، ولم يأمن الخلل إن غاب عن موضعه، وأرسل بالكتابين رسولا من ثقاته وقال له: أعطه الكتاب الأوّل بالأمر بالقدوم، فإن أجاب الى ذلك فهو ما أردت، وإن كره وتثاقل عن الطاعة فاسكت عليه أياما وأعلمه أن الكتاب الثانى ورد عليك وأوصله اليه ليقيم بموضعه. فخرج رسول كسرى حتى أتى صاحب الجيش ببلاد الشام فأوصل اليه الكتاب، فلمّا قرأه قال: إمّا أن يكون كسرى قد تغيّر لى وكره موضعى، أو يكون قد اختلط عقله بصرف مثلى وأنا فى نحر العدوّ؛ فدعا أصحابه وقرأ عليهم الكتاب فأنكروه. فلما كان بعد ثلاثة أيام أوصل اليه الكتاب الثانى بالمقام وأوهمه أنّ رسولا ورد به. فلمّا قرأه قال: هذا تخليط ولم يقع منه موقعا، ودسّ الى ملك الروم من باطنه فى إيقاع الصلح بينهما على أن يخلى الطريق لملك الروم حتى يدخل الى بلاد العراق على غرّة من كسرى، وعلى أنّ لملك الروم ما يغلب عليه من دون العراق، وللفارسىّ ماوراء ذلك من بلاد فارس، فأجابه ملك الروم الى ذلك وتنحّى الفارسىّ عنه فى ناحية من الجزيرة، وأخذ أفواه الطريق، فلم يعلم كسرى حتى ورد خبر ملك الروم من ناحية قرقيسيا، «1» وكسرى على غير استعداد، وجنده متفرّقون فى أعماله. فلما أتاه الخبر وثب عن سريره وقال: هذا وقت حيلة ومكيدة، لا وقت شدّة، وجعل ينكث الأرض مليّا، ثم دعا برقّ فكتب فيه كتابا صغيرا بخطّ دقيق الى صاحبه بالجزيرة يقول فيه: قد علمت ما كنت أمرتك به من مواصلة صاحب الروم وأطماعهم فى نفسك، وتخلية الطريق حتى اذا تولج بلادنا أخذته من أمامه، وأخذته ومن ندبناه معك من خلفه فيكون فى ذلك الجزء: 15 ¦ الصفحة: 224 بواره، وقد تمّ فى هذا الوقت ما دبّرناه، وميعادك فى الإيقاع به يوم كذا وكذا، ثم دعا راهبا فى دير بجوار مدينته وقال له: أىّ جار كنت لك، قال: أفضل جار، فقال: قد بدت لنا اليك حاجة، فقال الراهب: الملك أجلّ من أن يكون له إلىّ حاجة، ولكن عندى بذل نفسى، فما الذى يأمر به الملك؟ قال كسرى: تحمل لى كتابا الى فلان صاحبى، قال نعم، قال كسرى: ستمرّ بأصحابك النصارى فأخفه، فلما ولّى عنه الراهب قال له كسرى: أعلمت ما فى الكتاب؟ قال لا، قال: فلا تحمله حتى تعلم ما فيه. فلما قرأه أدخله فى جيبه ثم مضى. فلما صار فى عسكر الروم ونظر إلى الصّلبان والقسّيسين وضجيجهم بالتقديس والصلوات احترق قلب الراهب وأشفق عليهم وقال فى نفسه: أنا شرّ الناس إن حملت بيدى حتف النصرانية، وهلاك هؤلاء الخلق؛ فصاح الراهب: أنا لم يحملنى الملك كسرى رسالة ولا معى كتاب، فأخذوه فوجدوا الكتاب معه، وقد كان كسرى أيضا وجّه رسولا قبل ذلك وأمره أن يمرّ بعسكر الروم كأنه رسول الى كسرى من صاحبه الذى وافق ملك الروم ومعه كتاب فيه: إنّ الملك كان قد أمرنى بمقاربة ملك الروم، وأن أخدعه وأخلى له الطريق، فيأخذه الملك من أمامه وآخذه أنا من خلفه، وقد فعلت ذلك، فرأى الملك فى إعلامى وقت خروجه اليه. فأخذ ملك الروم الرسول وقرأ الكتاب وقال: قد عجبت من أن يكون هذا الفارسىّ معى على كسرى، ووافاه كسرى أبرويز فيمن أمكنه من جنده، فوجد ملك الروم قد ولّى هاربا فاتبعه يقتل ويأسر من أدرك، وبلغ صاحب كسرى هزيمة الروم فأحبّ أن يخلى نفسه ويستر ذنبه. فلمّا فاته ما دبّر خرج خلف ملك الروم يقتل فيهم ويأسر، فلم يسلم منهم إلّا القليل. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 225 ذكر سبب هلاك أبرويز وقتله قال: وكان سبب ذلك تجبره واحتقاره للعلماء وعتوّه، وذلك أنه استخفّ بما لا يستخفّ به الملك الحازم، وكان قد جمع من المال ما لم يجمعه أحد من الملوك، وبلغت خيله الى قسطنطينية وأفريقية، وكانت له اثنتا عشرة ألف امرأة وجارية، وألف فيل إلّا فيل واحد، وخمسون ألف دابّة، ومن الجواهر والأوانى والآلات ما يليق بذلك، وأمر أن يحصى ما جبى من بلاده وسائر أبواب المال سنة ثمانى عشرة من ملكه، فرفع إليه أنّ الذى جبى فى تلك السنة من الخراج وسائر الأبواب كان ستمائة ألف ألف درهم، وأمر أن يحوّل إلى بيت مال بنى بمدينة طيسفون «1» من ضرب فيروز بن يزدجرد وقباذ بن فيروز اثنتى عشرة ألف بدرة من أنواع الجواهر وغير ذلك. قال: فعتا وتجبّر واستهان بالناس والأحرار، وبلغ من جرأته أنه رأى رجلا كان على حرس باب الخاصّة، يقال له: زاذان فرّوخ، فأمره أن يقتل كل مقيّد فى سجن من سجونه، فأحصوا من بالسجون من المقيّدين فبلغوا ستّة وثلاثين ألفا، فلم يقدر زاذان فرّوخ على قتلهم، وتوقّف عن إمضاء أمر كسرى وأعدّ عللا له فيما أمره به فيهم، فكان هذا أحد الأسباب التى كسب بها كسرى عداوة أهل مملكته مع وجود احتقاره إيّاهم، واستخفافه بهم، واطّراحه لعظمائهم. ومن ذلك أنه سلّط علجا، يقال له: فرّخان زاذ، على الخراج فاستخرج بقاياهم منهم بعنف وعذاب. ومن ذلك أنه أجمع على قتل الفلّ «2» الذين انصرفوا إليه من الجزء: 15 ¦ الصفحة: 226 قبل هرقل، فأكّدت هذه الأسباب بغضه، واستطال الناس مدّته، فكان نتيجة ذلك أنّ قوما من العظماء انصرفوا إلى عقر بابل «1» ، وفيه شيرى «2» بن أبرويز مع إخوته، وقد كان كسرى أبرويز وكّل بهم مؤدّبين وأساورة، يحولون بينهم وبين من يجتمع بهم من الناس، ويمنعونهم من البراح، فأخذه العظماء وأقبلوا به إلى مدينة بهرسير «3» ودخلوها ليلا، فخلّى عمّن كان فى سجونها وأخرجهم، واجتمع إليه الفلّ الذين كانوا غلبوا وفرّوا من هرقل وأمر كسرى بقتلهم، فنادوا: قباذ شاهنشاه، وصاروا كلّهم عند الصباح إلى رحبة كسرى، فهرب الحرس، وانحاز كسرى بنفسه إلى باغ «4» له بالقرب من قصره، يعرف بباغ الهندوان «5» ، فارّا مرعوبا، فأخذ وحبس بمكان غير دار المملكة، فى دار رجل يقال له: مار اسفند، إلى أن قتل بعد حديث طويل ومراسلات كانت بينه وبين ابنه شيرى بمواطأة العظماء، بعد تقريع عظيم، وتوبيخ كثير، على ما كان منه، ومن سوء تدبيره، وقبح فعاله، وهو يجيبهم بأجوبة إقناعيّة، وله مراسلات ووصايا كتبها إلى ابنه من السجن؛ قد ذكرنا بعضها فيما سلف من هذا الكتاب. وكان هلاكه بعد ثمان وثلاثين سنة من ملكه. وبمضىّ آثنتين وثلاثين سنة وخمسة أشهر وخمسة عشر يوما من ملكه، كانت هجرة سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 227 قال: ولمّا قبض على كسرى خلّف فى بيت المال من الورق «1» أربعمائة ألف بدرة سوى الكنوز والذخائر والجواهر والآلات. وكان وزيره والقائم بتدبير دولته بزرجمهر الحكيم. ولبزرجمهر هذا قضايا وحكم ومواعظ فى أيدى الناس. ويقال: إنّ بزرجمهر هذا إنما كان وزيرا لكسرى أنو شروان، وهو الذى قتله. وذلك أنّ بزرجمهر ترك المجوسيّة ورجع إلى دين عيسى بن مريم عليه السلام ودان به، فقتله كسرى لذلك. ويقال: إنه وجد فى منطقته لمّا قتل كتاب فيه: إذا كان القدر حقّا فالحرص باطل، وإذا كان الغدر فى الناس طباعا فالثّقة بكلّ أحد عجز، وإذا كان الموت نازلا فالطّمأنينة إلى الدنيا حمق. قالوا: ولمّا بلغ بزرجمهر من العمر خمس عشرة سنة دخل على كسرى، وقد جلست الوزراء على كراسيها والمرازبة «2» فى مجالسها. فوقف وحيّا الملك بتحيّة الملوك ثم قال: الحمد لله المأمون نعمه، المرهوب نقمه، الدالّ عليه، بالرغبة اليه، المؤيّد الملك، بسعوده فى الفلك، حتّى رفع شأنه، وعظم سلطانه، وأنار به البلاد، وأنعش به العباد، وقسّم به فى التقدير، وجوه التدبير، فرعى رعيّته بفضل نعمته، وحماها الموبلات، وأوردها المعشبات، وذاد «3» عنها الأكّالين، وألّفها بالرّفق واللين، إنعاما من الله عليه، وتثبيتا لما فى يديه. وأسأله أن يبارك له فيما آتاه، ويخيّر له فيما استرعاه، ويرفع قدره فى السماء، ويسير ذكره على وجه الماء، حتى لا يبقى له بينهما مناوى، ولا يوجد له مساوى. وأستوهب الله له الجزء: 15 ¦ الصفحة: 228 حياة لا يتنغّص فيها، وقدرة لا يحيد أحد عنها، وملكا لا بؤس فيه، وعافية تديم له البقاء، وتكثر له النّماء؛ وعزّا يؤمّنه من انقلاب رعيّته، أو هجوم بليّته، فإنه مؤتى الخير، ودافع الشرّ. فلمّا سمعه كسرى أمر فحشى فمه بنفيس الجواهر، ولم تمنعه حداثة سنّه أن استوزره، وقلّده خيره وشرّه؛ فكان أوّل داخل، وآخر خارج. وكان أبوه خامل القدر، وضيع الحال، سفيه المنطق، اسمه البختكان. قال: ولمّا قبض على أبرويز ملك بعده ابنه: قباذ بن أبرويز ويعرف قباذ بشيرويه. وقباذ هذا هو القابض على أبيه والقاتل له، وقتل سبعة عشر أخا له، وقيل ثمانية عشر، ذوى آداب وشجاعة؛ فكان عاقبة ذلك أنّ الله عز وجلّ ابتلاه بالأسقام، فانتقض عليه بدنه، ولم يلتذ بشىء من ملاذّ الدنيا، وجزع بعد قتل إخوته جزعا شديدا؛ وكان يبكى حتى يرمى التاج عن رأسه، وعاش ما عاش مهموما حزينا مدنفا. وفى أيامه فشا الطاعون فأهلك أكثر الفرس. وكان ملكه ثمانية أشهر، وقيل أكثر من ذلك. وملك بعد وفاته ابنه أردشير بن شيرويه وهو ابن سبع سنين ولم يوجد من بيت الملك غيره. قال: ولمّا ملّكته الفرس عليها حضنه رجل يقال له: مهآذر جشنس، «1» فأحسن سياسة الملك. وكان شهر براز «2» المقيم بثغر الروم فى جند ضمّهم اليه كسرى أبرويز الجزء: 15 ¦ الصفحة: 229 وابنه شيرويه، وكانا يكتبان اليه ويستشيرانه فى الأمر الذى يهمهما ويعملان برأيه. فلمّا مات شيرويه وملّكت الفرس عليها ابنه أردشير- مع حداثة سنه- لم يشاوره عظماء الفرس فى ذلك، فعظم عليه انفرادهم عنه، وجعل ذلك ذنبا لهم، وبسط يده وطمع فى الملك، واستهان بعظماء الفرس، ودعا الناس لنفسه، وأقبل بجنده نحو المدائن، فعمد مهآذر جشنس الى مدينة طيسبون، فحصّنها وحوّل أردشير ومن بقى من نسل الملوك ونسائهم والأموال والخزائن والكراع «1» وغير ذلك إليها؛ فورد شهر براز الى مدينة طيسبون وحاصرها ونصب عليها المجانيق، فعجز عنها لحصانتها، فأخذ فى أعمال المكايد والحيل، فلم يزل يتلّطف برجل يقال له: نيوخسرو ويراسله هو وغيره، حتى فتحوا له باب المدينة فدخلها، وقتل جماعة من الرؤساء واستصفى أموالهم وقتل أردشير بن شيرويه. وكان ملكه سنة ونصفا، وقيل: إنما ملك نصف سنة، وقيل: خمسة أشهر. وملك بعده شهر براز، وقيل فيه: شهريار، ولم يكن من أهل بيت المملكة. قال: ولمّا جلس على سرير الملك ضرب عليه بطنه، وبلغ من شدّة ذلك عليه أنه لم يقدر على إتيان الخلاء؛ فدعا بالطست، فوضع أمام ذلك السرير، ومدّ أمامه ما يستتر به، وبقى يتبرّز فى ذلك الطست. قال: ثم آمتعض رجل يقال له: فسفرّوخ «2» [بن ما خرشيذان «3» ] وأخوان له من قتل شهر براز أردشيرين شيرويه وغلبته على الملك، فتحالفوا على قتله. وكان من السنّة إذا ركب الملك أن يقف له حرسه سماطين عليهم الدروع والبيض، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 230 وبأيديهم السيوف والتّراس «1» والرّماح؛ فإذا حاذاهم الملك وضع كلّ واحد منهم ترسه على قريوس سرجه، ثم يضع جبهته عليه كهيئة السجود. قال: واتفق ركوب شهر براز فى بعض الأيام فوقف فسفرّوخ وأخواه وهم بالقرب من بعضهم بعضا، فلمّا حازاهم شهر براز طعنه فسفرّوخ، ثم طعنه أخواه فسقط عن دابّته، فشدّوا رجله بحبل وجرّوه إقبالا وإدبارا ساعة، وساعدهم العظماء «2» على ذلك، وقتلوا جماعة ممن كان قد ساعد شهر براز على قتل أردشير. فكان ملكه أربعين يوما، وقيل عشرين يوما. وملكت بعده بوران بنت كسرى أبرويز ويقال لها: بوران دخت. قال: فأحسنت السّيرة وبسطت العدل، وأمرت برمّ القناطر والجسور، وإعادة ما تشعّث من العمارات، ووضعت بقايا الخراج، وكتبت الى الناس عامّة كتبا تعلمهم ما هى عليه من الإحسان، وأنها ترجو أن يريهم الله من الرفاهية والاستقامة بمكانها، ومن العدل وحفظ الثغور ما يعلمون أنه ليس ببطش الرجال تدوّخ البلاد، ولا ببأسهم تستباح العساكر، ولا بمكائدهم ينال الظفر وتطفأ النوائر؛ ولكنّ ذلك بالله عز وجلّ، وحسن النيّة واستقامة التدبير. وأمرت بالمناصحة وحسن الطاعة، وردّت خشبة الصليب على ملك الروم. وكان ملكها سنة وأربعة أشهر. ثم ملك رجل يقال له: جشنسده وهو ابن عمّ أبروير، وكان ملكه أقلّ من شهر، وقيل: إن الذى ملك يزدجرد بن كسرى وهو طفل. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 231 ثم ملكت بعده آزرميدخت بنت كسرى أبرويز، وكانت من أجمل نساء دهرها، وكان عظيم فارس يومئذ فرّخ هرمز أصبهبذ خراسان؛ فأرسل إليها يسألها أن تزوّجه نفسها، فأرسلت اليه: التزويج للملكة غير جائز، وقد علمت أن أريك فيما ذهبت اليه قضاء حاجتك منّى؛ فصر الىّ ليلة كذا وكذا، ففعل وركب اليها فى تلك الليلة، وتقدّمت الى صاحب حرسها أن يرصده فى الليلة التى تواعدا للالتقاء فيها، فإذا رآه يقتله، فرصده صاحب الحرس؛ فلمّا جاء قتله وجرّ برجله وطرحه فى رحبة دار الملك. فلمّا أصبح الناس ورأوه علموا أنه لم يقتل إلّا لأمر عظيم، ثم أمرت بتغييب جثّته فغيّبت. وكان رستم بن فرّخ هرمز هذا- وهو رستم صاحب القادسيّة- عظيم البأس، قويّا فى نفسه، فلمّا بلغه ما صنع بأبيه أقبل فى جند عظيم حتى نزل المدائن؛ فقبض على آزرميدخت وسمل عينيها وقتلها بعد ذلك. فكانت مدّة ملكها ستة أشهر. واختلف فيمن ملك بعد آزرميدخت، فقيل رجل من عقب أردشير بن بابك كان ينزل الأهواز يقال له: كسرى [بن] مهرجشنس «1» ، فلبس التاج وقتل بعد أيام. ويقال: بل كان رجل يسكن ميسان يقال له فيروز، فملّكوه كرها. وكان ضخم الرأس، فلمّا توّج قال: ما أضيق هذا التاج! فتطيّر العلماء من افتتاح الأمر بالضيق وقتلوه. ثم أتى برجل من أولاد كسرى كان قد لجأ الى موضع من الغرب بالقرب من نصيبين، يقال له: «حصن الحجارة» حين قتل شيرويه بن كسرى أبرويز إخوته، وهو فرّخ زاباذ «2» خسرو بن كسرى أبرويز، فانقاد الناس له طوعا زمانا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 232 يسيرا ثم استعصوا عليه وخالفوه. وكان ملكه ستة أشهر. وكان أهل اصطخر قد ظفروا بيزدجرد بن شهريار بن أبرويز باصطخر، وكان قد هرب إليها حين قتل شيرويه إخوته. فلمّا بلغ عظماء أهل اصطخر أنّ من بالمدائن خالفوا الملك فرّخ زاذ خسرو أتوا يزدجرد ببيت نار أردشير، فتوّجوه هناك وملّكوه، وكان حدثا، ثم أقبلوا به الى المدائن وقتلوا فرّخ زاذ خسرو بحيل احتالوها عليه. وملك يزدجرد بن شهريار بن كسرى أبرويز بن هرمز بن كسرى أنو شروان بن بهرام بن يزدجرد بن سابور بن هرمز بن سابور بن أردشير بن بابك؛ فملك وكان العظماء والوزراء يدبّرون الملك لحداثة سنّه، وهو آخر الملوك الساسانيّة وعليه انقرضت دولتهم، فلم تقم لهم قائمة، وتردّد الى بلاد خراسان والى بلاد الترك، وعاد فقتل بمرو من بلاد خراسان فى سنة إحدى وثلاثين من الهجرة لسبع سنين خلت من خلافة عثمان بن عفّان رضى الله عنه. وكانت مدّة ملك يزدجرد منذ ملك وإلى أن قتل عشرين سنة، إلّا أنّ فيها مدّة لا يعدّ فيها مع الملوك؛ لأنه كان مشرّدا طريدا على ما نذكر أخباره مفصّلة، وكيف فتحت بلاده ومدنه بلدا بلدا، ومدينة مدينة فى خلافة عمر بن الخطاب وعثمان بن عفّان رضى الله عنهما. فعدّة ملوك الفرس الأول والساسانيّة على هذا المساق الذى ذكرناه اثنان وخمسون ملكا منهم ثلاث نسوة. فالفرس الأول عشرون ملكا منهم امرأة واحدة. والملوك الساسانيّة اثنان وثلاثون ملكا فيهم امرأتان. وذكر بعض المؤرّخين أنّ ملوك الفرس ستّون ملكا، وأنّ مدّة ملكهم أربعة آلاف سنة وسبعون سنة وشهورا. والله أعلم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 233 ذكر أخبار ملوك اليونان وأنسابهم قد تنازع الناس فى اليونانيّين، فذهبت طائفة منهم أنهم ينتمون الى الروم ويضافون الى ولد إسحاق؛ وقالت طائفة: إنّ يونان هو ابن يافث بن نوح. وقال آخرون: إنه يافث بن الأصغر. وذهب قوم الى أنهم من ولد أوراش بن «1» ماذان ابن سام بن نوح. وذهب آخرون الى أنهم من قبيل متقدّم فى الزمن الأوّل. وقال المسعودىّ: وقد ذكر أنّ يونان أخو قحطان، وأنه من ولد عابر بن شالخ، وأن أمره فى الانفصال عن دار أخيه كان سبب «2» الشكّ فى الشركة فى النسب، وأنه خرج من أرض اليمن. وكان يونان جبّارا عظيما، وسيما جسيما. وكان جزل الرأى، كبير الهمّة، عظيم القدر. وهكذا ذكر يعقوب بن إسحاق الكندىّ فى نسب يونان أنه أخ لقحطان، وردّ عليه أبو العباس [عبد «3» الله بن محمد] الناشى فى قصيدته حيث قال: أبا يوسف إنّى نظرت فلم أجد ... على الفحص رأيا صحّ منك ولا عقدا وصرت حكيما عند قوم إذا امرؤ ... بلاهم جميعا لم يجد عندهم عهدا أتقرن إلحادا بدين محمد ... قد جئت شيئا- يا أخا كندة- إدّا وتخلط قحطانا بيونان ضلّة ... لعمرى لقد باعدت بينهما جدّا قيل: ولمّا كثر ولد يونان خرج يطلب موضعا يسكنه، فأتى الى موضع من الغرب، فأقام به هو ومن معه من ولده، وكثر نسله إلى أن أدركه الموت، فجعل الجزء: 15 ¦ الصفحة: 234 وصيّته إلى الأكبر من ولده واسمه جريبوش، وأوصاه بأولاده ونسله، ومات وبقى ابنه على مكانه، وكثر نسلهم فغلبوا على بلاد الغرب من الفرنجة والنّوكبرد والصقالبة وغيرهم. وذكر بطليموس فى كتابه: أن أوّل ملك ملك من ملوك اليونانين فيلبّس وتفسيره محبّ الفرس، وقيل اسمه نفليص، وقيل فيلفوس. وكانت مدّة ملكه سبع سنين. ثم ملك بعده ابنه الإسكندر ذو القرنين وليس هو صاحب الخضر رضى الله عنه. والإسكندر هذا هو الذى قتل دارا بن دارا ملك الفرس، ونثر عقد مملكة فارس، وقرّر ملوك الطوائف فيما ذكرناه. وكان سبب قتله لدارا أن سائر الملوك كانت تؤدّى الإتاوة الى ملوك الفرس منذ دوّخ بختنصّر البلاد، وذلّل لهم الملوك على ما ذكرناه آنفا فى أخبار الفرس، ولا حاجة الى إعادته. قالوا: وكان فيلبّس أبو الإسكندر قد صالح دارا على إتاوة يؤدّيها اليه فى كل سنة. فلمّا ولى الإسكندر وظهر أمره، وكان بعيد الهمّة، فامتنع أن يودّى الى دارا الخراج الذى كان يحمله أبوه اليه، فأسخط دارا ذلك، فكتب اليه يؤنّبه بسوء صنيعه بتركه حمل ما كان أبوه يحمله من الخراج وقال فى كتابه: إنما دعاك الى حبس ذلك الصّبا والجهل، وبعث اليه بصولجان وكرة وبقفيز من السمسم. يعلمه بذلك أنه إنما ينبغى لك أن تلعب مع الصبيان بالصولجان ولا تتقلّد الملك ولا تلبث به، ويعلمه أنه إن لم يقتصر على ما أمره به وتعاطى الملك بعد أن أمره باعتزاله بعث اليه بمن يأتيه به فى وثاق. وأنّ عدّة جنوده الذين يبعث بهم اليه كعدّة حبّ السمسم الذى بعث به إليه. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 235 فكتب إليه الإسكندر فى جواب ذلك: أنه قد فهم ما كتب به، ونظر الى ما أرسله إليه من الصّولجان والكرة وتيمّن به لإلقاء الملقى الكرة الى الصّولجان وإحرازه إيّاها، وأنه شبّه الأرض بالكرة، وتفاءل بملكه إياها واحتوائه عليها، وأنه يجترّ ملك دارا الى ملكه، وبلاده الى حيّزه؛ وأنه نظر الى السمسم الذى بعث به كنظره الى الصولجان والكرة لدسمه، وبعده عن المرارة والحرافة «1» ، وبعث الى دارا مع كتابه بصرّة من خردل، وأعلمه فى الجواب أنّ ما بعث به إليه قليل، غير أن ذلك مثل الذى بعث به فى القوّة والحرافة والمرارة، وأنّ جنوده فيما وصف به منه. فلمّا وصل الى دارا جواب كتاب الإسكندر. جمع جنده وتأهّب لحربه وسار نحو بلاده، وتأهّب الإسكندر أيضا للقائه وسار نحو دارا، فالتقيا جميعا بأرض الجزيرة «2» واقتتلا سنة، وقد كان دارا ملّه قومه وأحبّوا الراحة منه، فلحق كثير من وجوه الفرس بالإسكندر وأطلعوه على عورة دارا وقوّوه عليه، ثم وثب على دارا حاجباه فقتلاه وتقرّبا برأسه إلى الإسكندر، فلما أتوه بها أمر بقتلهما وقال: هذا جزاء من تجرّأ على ملكه. وقد ذكر أنه سيق اليه أسير غدر به صاحب شرطته، فقال له الإسكندر: بما اجترأ عليك صاحب شرطتك؟ قال: بتركى ترهيبه وقت إساءته، وإعطائى إيّاه وقت الإحسان باليسير من فعله نهاية رغبته، فقال الإسكندر: نعم العون على إصلاح القلوب الموغرة الترغيب بالأموال، وأصلح منه الترهيب وقت الحاجة، ثم أمر الإسكندر بقتله. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 236 وقد قيل: إنه لمّا هزمه الإسكندر فرّ جريحا فخرج فى طلبه فى ستّة آلاف حتى أدركه، ثم لم يلبث دارا أن هلك، فأظهر الإسكندر عليه الحزن ودفنه فى مقابر الملوك «1» . وقيل: إنّ الإسكندر كان قد نادى ألّا يقتل دارا وأن يؤسر. فلمّا علم الإسكندر بما تمّ على دارا سار حتى وقف عنده [فرآه يجود «2» بنفسه] فنزل [الإسكندر «3» ] عن دابته وجلس عند رأسه، وأخبره أنه ما أمر بقتله، وأنّ الذى أصابه لم يكن عن رأيه. وقال: سلنى ما بدا لك فإنّى أسعفك به، فقال له دارا: لى اليك حاجتان: إحداهما أن تنتقم لى من الرجلين اللذين قتلانى وسمّاهما له، والأخرى أن تتزوّج ابنتى روشنك، فأجابه الى ذلك، وأمر بصلب الرجلين اللذين فتكا بدارا. ويقال: إنّ الرجلين اللذين قتلاه إنما فعلا ذلك عن رأى الإسكندر، وأنه كان شرط لهما شرطا على قتله، فلما طعناه دفع اليهما ما كان شرطه لهما ثم قال: قد وفّيت لكما بالشرط ولم تكونا شرطتما لأنفسكما وأنا قاتلكما لا محالة، فإنه ليس ينبغى لقتلة الملك أن يستبقوا إلّا بذمّة لا تخفر، فقتلهما وصلبهما. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 237 ويقال: إن الإسكندر فى الأيّام التى نازل فيها دارا كان يسير اليه بنفسه على أنه رسول فيتوسّط العسكر ويعرف كثيرا مما يحتاج اليه، فكان دارا يستحسن سمته، ويحسن صلته ومجازاته، ثم اتّهمه، وأحسّ الإسكندر بذلك فما عاد اليه بعدها. ذكر شىء من مكايد الإسكندر وحيله فى حروبه من ذلك أنه لمّا التقى بدارا يوم الحرب أمر مناديه فنادى: يا معشر الفرس، قد علمتم ما كتبنا لكم من الأمانات، فمن كان منكم على الوفاء فليعتزل عن العسكر وله منّا الوفاء بما ضمنّاه، فاتهمت الفرس بعضها بعضا، وكان ذلك أوّل اضطراب حدث فيهم. ومن ذلك أنه لمّا شخص عن فارس الى أرض الهند تلقاه ملكها قور «1» فى جمع عظيم من الهنود ومعه ألف فيل عليها المقاتلة بالسلاح وفى خراطيمها السيوف والعمد، فلم تقف لها دوابّ الإسكندر وفرّت فكانت الهزيمة عليه، فلمّا بلغ الإسكندر مأمنه أمر باتّخاذ فيلة من نحاس «2» مجوّفة وربط خيله بين تلك التماثيل حتى ألفتها، ثم أمر فملئت نفطا وكبريتا، وألبسها الدروع وجرت على العجل، وعاود حرب الهند، وجعل بين كلّ تمثالين جماعة من أصحابه. فلمّا نشبت الحرب أمر بإشعال النيران فى أجواف تلك التماثيل وانكشف أصحابه عنها وغشيتها فيلة الهند، فخرجت الجزء: 15 ¦ الصفحة: 238 النيران من خراطيم التماثيل فولّت الفيلة مدبرة ورجعت على أصحابها، فكانت الدائرة على الهند وقتل ملكهم قور. ومما يحكى عنه أنه نزل على مدينة حصينة فتحصّن فيها أهلها، فتعرّف خبرها فقيل له: إن فيها من الميرة ما يكفيهم زمنا طويلا، وإنّ بها من العيون والأنهار ما لا يقدر على قطعه، فارتحل عنها ودسّ جماعة من التّجار متنكّرين، فدخلوها وأمدّهم بالأموال الكثيرة، وأمرهم أن يبتاعوا الأقوات ويغالوا فى أثمانها، ففعلوا ذلك حتى حازوا أكثر ما فيها. فلما علم الإسكندر بذلك كتب اليهم يأمرهم بإحراق ما حصلوه من الأقوات وأن يهربوا، ففعلوا كما أمرهم، وعاد الى المدينة وحاصرها وزحف عليها فأعطوه الطاعة وملك المدينة. وكان إذا أراد أن يحاصر مدينة شرّد من حولها من أهل القرى وتهدّدهم بالسبى فيلجأوا الى المدينة ويعتصموا بها، فلا يزال كذلك حتى يعلم أنه قد دخلها أضعاف أهلها وأسرعوا فى الميرة فيحاصرهم حينئذ فيفتح المدينة. ومما يحكى عنه أنه كتب الى معلّمه أرسطاطاليس «1» ، وكان الإسكندر يشاوره فى كثير من أموره، ويقتدى بآرائه، ويعمل بما يشير به عليه ولا يعدل عنه. وأرسطاطاليس هذا هو تلميذ أفلاطون، وأفلاطون صاحب الفراسة تلميذ سقراط. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 239 ويحكى عن أفلاطون أنه كان يصوّر له صورة إنسان لم يره قطّ ولا عرفه فيقول: صاحب هذه الصورة من أخلاقه كذا، ومن هيئته كذا، فيكون الرجل كما أخبر عنه، فيقال: إنه صوّر له صورة نفسه، فلمّا عاينها قال: هذا رجل محبّ فى الزنا فقيل له: إنها صورتك، فقال: نعم أنا كذلك، ولولا أنى أملك نفسى لفعلت وإنى لمحبّ فيه. نرجع إلى أخبار الإسكندر فيما كتب به الى أرسطاطاليس وما أجابه به قالوا: إنه كتب اليه يخبره أنّ فى عسكره من الروم جماعة من خاصّته لا يأمنهم على نفسه لما يرى من بعدهممهم فى شجاعتهم وكثرة آلتهم، وأنه لا يرى لهم عقولا تفى بتلك الفضائل التى تمنعهم من الإقدام والجرأة عليه، وأنه يكره الإقدام عليهم بالقتل بمجرّد الظّنّة مع وجوب الحرمة. فكتب إليه أرسطاطاليس: قد فهمت كتابك، وما وصفت به أصحابك. أمّا ما ذكرت من بعد هممهم فإنّ الوفاء من بعد الهمّة. وأمّا ما ذكرت من شجاعتهم ونقص عقولهم عنها، فمن كانت هذه حاله فرفّهه فى معيشته واخصصه بحسان النساء، فإنّ رفاهية العيش توهن العزم، وتحبب السلامة، وتباعد من ركوب الخطر والغرر «1» ، وليكن خلقك حسنا تخلص اليك النيّات، ولا تتناول من لذيذ العيش ما لا يمكن أوساط إخوتك مثله، فليس ينبغى مع الاستئثار محبّة، ولا مع المواساة بغضة. واعلم أنّ المملوك إذا اشترى لم يسأل عن مال مولاه، وإنما يسأل عن خلقه. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 240 وكتب اليه الإسكندر يعلمه أنه شاهد بإيران شهر «1» رجالا ذوى أصالة فى الرأى، وجمال فى الوجوه، ولهم مع ذلك صرامة وشجاعة، وأنه رأى لهم هيئات وخلفا لو كان عرف حقيقتها لما غزاهم، وأنه إنما ملكهم بحسن الاتفاق والبخت، وأنه لا يأمن إذا ظعن عنهم وثوبهم ولا تسكن نفسه إلّا ببوارهم. فكتب إليه أرسطاطاليس: فهمت كتابك فى رجال فارس؛ فأما قتلهم فهو من الفساد فى الأرض، ولو قتلتهم لأنبتت أرض فارس أمثالهم، لأنّ إقليم بابل يولد أمثال هؤلاء الرجال من أهل العقل، والسداد فى الرأى، والاعتدال فى التركيب؛ فصاروا أعداءك وأعداء عقبك بالطبع، لأنك تكون قد وترت القوم وكثّرت الأحقاد على أرض الروم منهم وممّن بعدهم، وإخراجك إيّاهم فى عسكرك مخاطرة بنفسك وأصحابك، ولكنّى أشير عليك برأى هو أبلغ لك فى كل ما تريد من القتل وغيره، وهو أن تستدعى أولاد الملوك منهم وممّن يستصلح للملك ويترشّح له، فتقلّدهم البلدان وتولّيهم الولايات ليصير كلّ واحد منهم ملكا برأسه، فتتفرّق كلمتهم، ويجتمعوا على الطاعة لك، ولا يؤدّى بعضهم إلى بعض طاعة، ولا يتفقوا على أمر واحد، ولا تجتمع كلمتهم. ففعل الإسكندر ذلك، فتمّ أمره وأمكنه أن يتجاوز أرض فارس إلى أرض الهند حتى قتل ملكها مبارزة بعد حروب عظيمة. ثم صار إلى أرض الصّين وطاف مما يلى القطب الشمالىّ ورجع إلى العراق فمات فى طريقه بشهر زور «2» ، ويقال: بل فى قرية من قرى بابل. وكان عمره ستّا وثلاثين الجزء: 15 ¦ الصفحة: 241 سنة. وفى بعض النسخ ثلاثا وثلاثين سنة. وكان ملكه ثلاث عشرة سنة وشهورا. وقيل: سبعة عشر سنة. وقتل دارا فى السنة الثالثة من ملكه. قال: وبنى الإسكندر اثنتى عشرة مدينة وسمّاها كلّها الإسكندرية منها: مدينة جىّ «1» بأصبهان، وثلاث مدن بخراسان وهى: هراة «2» ومرو «3» وسمرقند. وبنى بأرض بابل مدينة لروشنك «4» . وبنى بأرض يونان سبع مدن. ومن عجيب ما قيل فى نسب الإسكندر: أنه من ولد دارا الأكبر، وأنه أخو دارا الأصغر، وذلك أن دارا الأكبر بن أردشير تزوّج ببنت ملك الزّنج هلاى، فلمّا حملت» منه استخبث ريحها، فأمر أن تحتال لذلك، فكانت تغتسل بماء السندروس «6» فأذهب ذلك كثيرا من دفرها «7» ، ثم عافها وردّها [إلى أهلها «8» ] وقد علقت منه بالإسكندر فقيل له الإسكندروس. هذا ما نقله عبد الملك بن عبدون فى كتابه المترجم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 242 بكمامة الزهر وصدفة «1» الدرّ، قال: واختلف فى مدّته فذكر الخوارزمىّ فى تاريخه أنه [كان «2» ] قبل الهجرة بتسعمائة سنة، وثلاث وثلاثين سنة. وذكر أبو محمد ابن قتيبة فى كتاب المعارف: أن بينه وبين الهجرة أربعمائة «3» سنة. والله أعلم بالصواب. ذكر شىء من أخبار الإسكندر وما اتفق له مع ملكى الهند والصين فأما خبره مع ملك الهند قال عبد الملك بن عبدون: إن الإسكندر لمّا دوّخ البلاد وقهر الملوك سار نحو الهند وقتل ملكها الأعظم فورا صاحب مدينة المانكير «4» . فلما دانت له ملوك الهند بلغه أنّ بأقاصى ديارها ملكا من ملوكها ذا حكمة وسياسة وإنصاف لرعيّته، وأنه ليس فى بلاد الهند من فلاسفتهم وحكمائهم مثله يقال له الجزء: 15 ¦ الصفحة: 243 كندكان، وأنه قاهر لنفسه مانع [لها «1» ] من الشهوة الغضبية، فكتب إليه الإسكندر كتابا يقول فيه: أما بعد، فإذا أتاك كتابى هذا فإن كنت قائما فلا تقعد، وإن كنت ماشيا فلا تلتفت حتى تدخل فى طاعتى، وإلّا مزّقت ملكك وألحقتك بمن مضى من ملوك الهند من قبلك. فلمّا ورد عليه الكتاب أجاب بأحسن جواب، وخاطبه بملك الملوك، وأعلمه أنه قد اجتمع عنده أشياء لم تجتمع عند غيره مثلها: فمن ذلك ابنة له لم تطلع الشمس على أحسن منها؛ وفيلسوف يخبرك بمرادك قبل أن تسأله لحدّة مزاجه وحسن قريحته، واعتداله فى بنيته، واتساعه فى علمه؛ وطبيب لا يخشى عليه معه داء ولا شىء من العوارض إلا ما يطرأ من الفناء والدثور الواقع بهذه البنية، وحلّ العقدة التى عقدها المبدع لها المخترع لهذا الجسم الحسّىّ، وإذا كانت بنية الإنسان وهيكله قد نصبا فى هذا العالم غرضا للآفات والحتوف والبلايا؛ وقدح اذا ملاته شرب منه عسكرك بجمعه ولا ينقص منه شىء، وإنّى منفذ جميع ذلك الى الملك وصائر اليه. فلمّا قرأ الإسكندر كتابه قال: كون هذه الأشياء عندى ونجاة هذا الحكيم من صولتى أحبّ الىّ من ألا تكون عندى ويهلك. فأنفذ اليه الإسكندر جماعة من الحكماء اليونانيين والروم فى عدّة من الرجال وتقدّم اليهم أنه إن كان قد صدق فيما كتب به إلىّ فاحملوا ذلك الى عندى واتركوه فى موضعه، وإن تبيّنتم الأمر على خلاف ذلك، وأنه أخبر عن الشىء على خلاف ما هو به فقد خرج عن حدّ الحكمة فأشخصوه الىّ. فلمّا انتهوا الى مملكة الملك خرج اليهم وتلقّاهم بأحسن لفاء، وأنزلهم بأحسن منزل. فلما كان فى اليوم الثالث جلس لهم مجلسا خاصّا للحكماء دون من كان معهم من المقاتلة. فقال بعضهم لبعض: إن صدقنا فى الأوّل صدقنا فيما بعد ذلك مما ذكر. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 244 فلمّا أخذت الحكماء مراتبها واستقرّت بها مجالسها أقبل عليهم مباحثا فى أصول العلوم الفلسفية وفروعها، وعلى كم فنّ يحتوى العلم الفلسفىّ فى أصوله، والى كم يتفرّع. قال عبد الملك بن عبد الله بن عبدون- رحمه الله-: وقد ذكر أن العلم الفلسفىّ ينقسم على أربعة أنواع: أحدها الرياضيّات، والثانى المنطقيّات، والثالث الطبيعيّات، والرابع الإلهيّات. قال: فأما الرياضيّات فأربعة أنواع: الواحد علم الحساب، والثانى علم الهندسة، والأصل فيه النقطة، وهى فيه كالواحد فى علم الحساب، والثالث علم النجوم، والرابع علم الموسيقى. وهو علم تأليف الألحان. وأما العلوم المنطقيّات فخمسة أنواع: الواحد معرفة صناعة الشعر، وأنواع البديع كالتكافؤ والتفريع والحشو والتتبيع والتسميط والترصيع والالتفاتة والإشارة والمقابلة والاستعارة والتبليغ والتلويح والتصدير والتوشيح والتجنيس والتضادّ والترديد والاستطراد والتقسيم والتسهيم والإحالة والتتميم. والثانى معرفة صناعة الخطابة. والثالث صناعة الجدل. والرابع صناعة البرهان. والخامس صناعة المغالطين فى المناظرة ولجدل. وأما العلوم الطبيعيّات فسبعة أنواع: الواحد علم المبادى الجسمانيّة، وهى خمسة أشياء: الهيولى والصورة والزمان والمكان والحركة. والثانى علم السماء والأرض، وهو معرفة ماهية جواهر الأفلاك والكواكب وكيفيتها وكيفية تركيبها وعلّة دورانها، وهل تقبل الكون والفساد كما تقبل الأركان الأربعة التى دون فلك القمر أولا، وما علّة حركات الكواكب واختلافها فى السرعة والإبطاء، وما علّة سكون الأرض فى وسط الفلك فى المركز، وهل خارج العالم جسم آخر أم لا. وهل الجزء: 15 ¦ الصفحة: 245 فى الكون والفساد موضع فارغ لا شىء فيه، وما شاكل هذه المباحث. والثالث علم الكون والفساد وهو علم معرفة جواهر الأركان [الأربعة «1» ] التى هى النار والهواء والماء والأرض. والرابع علم حدوث الجواهر بتغيّرات الهواء وتأثيرات الكواكب بحركاتها ومطارح شعاعاتها على الأركان الأربعة وانفعالاتها بعضها ببعض بقدرة الله تعالى. والخامس علم المعادن التى تنعقد من البخارات المختنقة فى بطن الأرض والعصارات المتحلّلة من الهواء. والسادس علم النبات على اختلاف أنواعه فى هيآته وأشكاله واختلاف صموغه وطعومه وخواصّه وروائحه ومنافعه ومضارّه. السابع علم الحيوان، وهو معرفة كلّ جسم يغتذى ويحسّ ويعيش ويتحرّك على اختلاف أنواعه، وما شاكل ذلك مما ينسب الى علم الطبيعيّات كعلم الطبّ والبيطرة وسياسة الدوابّ والسباع والطيور والحرث والنسل وعلم الصنائع أجمع داخل فى علم الطبيعيات. وأما العلوم الإلهيّات فخمسة أنواع؛ أوّلها: معرفة البارى سبحانه وتعالى بجميع صفاته، وأنه أوّل كلّ شىء وآخر كلّ شىء، والخالق لكلّ شىء، والعالم بكلّ شىء، وأنه ليس كمثله شىء. والثانى علم الروحانيّات من الجواهر البسيطة العقليّة، وهى الصورة المجرّدة من الهيولى المستعملة للأجسام المطهّرة، ومعرفة ارتباط أبعضها ببعض، وقبض بعضها عن بعض، وهى أفلاك روحانيّة تحيط بأفلاك جسمانيّة. والثالث علم النفوس والأرواح السارية فى الأجسام الفلكيّة والطبيعيّة من لدن الفلك المحيط الى منتهى مركز الأرض. والرابع علم السياسة وهى خمسة انواع؛ أولها: السياسة النبويّة، والسياسة الملوكيّة، والسياسة العامّيّة والسياسة الخاصّيّة والسياسة الذاتيّة. فأما السياسة النبويّة فالله تبارك وتعالى يختصّ بها من يشاء من الجزء: 15 ¦ الصفحة: 246 عباده ويهدى لاتباعهم من يشاء لا معقّب لحكمه، لا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون. وأما السياسة الملوكية فهى حفظ الشريعة على الأمة وإحياء السنّة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. وأما السياسة العامّيّة فهى الرياسات على الجماعات كرياسة الأمراء على البلدان وقادة الجيوش وترتيب أحوالهم على ما يجب وينبغى من الأمور وإتقان التدبير. وأما السياسة الخاصّيّة فهى معرفة كلّ إنسان بنفسه، وتدبيره أمر غلمانه وأولاده، ومن يليهم من أتباعه وقضاء حقوق الإخوان. وأما السياسة الذاتية فهى أن يتفقّد الإنسان أفعاله وأحواله وأخلاقه وشهوته فيزمّها بزمام عقله، وغضبه فيردعه وما شاكل ذلك. والخامس من العلوم الإلهيات علم المعاد وكيفية انبعاث الأرواح وقيام الأجساد وحشرها للحساب يوم الدين، ومعرفة حقيقة جزاء المحسنين وعقاب المسيئين. *** نرجع إلى خبر الملك الهندىّ مع أصحاب الإسكندر، قال: ولمّا تكلّم مع الحكماء اليونانيين فى العلوم الفلسفية وطال الخطب فى مناظرتهم أخرج الجارية اليهم، فلمّا ظهرت لأبصارهم لم يقع طرف كلّ واحد منهم على عضو من أعضائها فتعدّى ببصره إلى غير ذلك العضو اشتغالا بحسنه عمّا سواه حتى خاف القوم على عقولهم، ثم رجعوا إلى أنفسهم وقهروا سلطان هواهم، ثم أراهم بعد ذلك ما تقدّم الوعد به وصرفهم، وبعث بالفيلسوف والطبيب والجارية والقدح [معهم «1» ] . فلمّا وردوا على الإسكندر أمر بإنزال الفيلسوف والطبيب، ونظر إلى الجارية فحار عند مشاهدتها، فأمر قيّمة الجوارى بالقيام عليها، ثم صرف همّته إلى الفيلسوف والطبيب وإلى علم ما عندهما، وقصّ عليه الحكماء ما جرى لهم مع الملك الهندىّ من الجزء: 15 ¦ الصفحة: 247 المباحث فى العلوم الفلسفيّة، فأعجبه ذلك وتأمّل أغراض القوم ومقاصدهم، وأقبل ينظر فى مطاردة الهند يعلّلها فى معلولاتها، وما يصفه اليونانيون أيضا من عللها فى معلولاتها على حسب ما قدّمت من أوضاعها، ثم أراد محنة الفيلسوف على حسب ما خبّر عنه، فأجال فكره فيما يختبره به، فدعا بقدح فملاه سمنا ولم يجعل للزيادة عليه موضعا، ودفعه لرسول وقال: احمل هذا إلى الفيلسوف ولا تكلّمه بشىء، فلمّا دفعه اليه دعا الفيلسوف بألف إبرة فغرزها فى السمن وصرفه اليه، فأمر الإسكندر بضرب تلك الإبر كرة متساوية الأجزاء وردّها اليه، فأمر الفيلسوف ببسطها وجلائها حتى صارت جسما تردّ صورة مقابليها لصفائها وردّها إلى الإسكندر، فدعا بطست وجعل تلك المرآة فيه وصبّ عليها الماء حتى غمرها وردّها اليه، فأخذها الفيلسوف وعمل منها طرجهارة «1» طافية على الماء وصرفها اليه، فملأها الإسكندر ترابا وردّها اليه، فلمّا نظر الفيلسوف إلى التراب تغيّر لونه وبكى ثم ردّها إلى الإسكندر ولم يضع فيها شيئا. فلمّا كان فى اليوم الثانى جلس الإسكندر جلوسا خاصّا ودعا بالفيلسوف، ولم يكن رآه قبل ذلك اليوم، فلمّا أقبل نظر الإسكندر [من الفيلسوف «2» ] إلى رجل طويل الجسم رحب الجبين معتدل البنية فقال فى نفسه: هذه بنية تضادّ الحكمة، فإذا اجتمع له حسن الصورة والفهم كان أوحد زمانه، فأدار الفيلسوف إصبعه حول وجهه ثم وضعه على أرنبة أنفه وأسرع نحو الإسكندر وحيّاه بتحية الملك، فأشار اليه بالجلوس وقال: لم أدرت إصبعك حول وجهك ووضعتها على أرنبة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 248 أنفك؟ قال: علمت أنك تقول فى نفسك، إذا نظرت إلى حسن صورتى وإتقان بنيتى قلّما تجتمع هذه الخلقة مع الحكمة، وإذا كان على هذا كان صاحبها أوحد زمانه، فأريتك مصداقا لما سنح لك أنه كما ليس لك فى الوجه إلا أنف واحد فكذلك ليس فى ديار الهند على هذه الصفة أحد غيرى. فقال الإسكندر: حسن ما أتيت به! فما بالك حين بعثت اليك بالقدح السمن غرزت فيه الإبر وردّدته؟ قال الفيلسوف: علمت أنك تقول إنّ قلبى قد امتلأ علما فليس لأحد فيه مستزاد، فأعلمتك أنّ علمى سيزيد فيه كما زادت هذه الإبر فى هذا السمن. قال: فما بالك حين عملت لك الإبر كرة صنعت منها مرآة صقيلة وصرفتها إلىّ؟ قال الفيلسوف: علمت أنك تقول إن قلبى قد قسا من سفك الدماء واشتغل بهذا العالم فلا يقبل العلم ولا يرغب فيه، فأخبرتك أنى سأعمل الحيلة فى ذلك، كما جعلت من الكرة مرآة مورية للأجسام. قال: فما بالك حين جعلتها لك فى الطست وصببت عليها الماء جعلتها طرجهارة طافية على الماء؟ قال الفيلسوف: علمت أنك تقول إنّ الأيام قد قصرت والأجل قريب، ولا يدرك العلم الكثير فى المهل القليل، فأخبرتك أنى سأعمل الحيلة فيه فى غير مدّة طويلة، كما جعلت هذه المرآة الراسبة طافية فى أسرع وقت. قال: فما بالك حين ملأت ذلك الإناء ترابا ردّدته إلىّ ولم تحدث فيه شيئا؟. قال: علمت أنك تقول: ثم الموت، وأنه لا بدّ منه، فأخبرتك أن لا حيلة فى ذلك. قال الإسكندر: قد أجبتنى على مرادى فى جميع ذلك ولأحسننّ إلى الهند من أجلك، وأمر له بجوائز كثيرة. فقال له الفيلسوف: لو أحببت المال لما كنت عالما، ولست أدخل على علمى ما يضادّه، فإن القنية توجب الخدمة، وقد ملكت أيها الملك الرحيم بسيفك أجسام رعيّتك فأملك قلوبهم بإحسانك فهو خزانة سلطانك، واحذر العامّة فإنها إذا قدرت الجزء: 15 ¦ الصفحة: 249 أن تقول قدرت أن تفعل فاحترز من أن تقول تأمن أن تفعل، فالملك السعيد من ملك الرعيّة بالرغبة والرهبة، وأشبه الأشياء من أفعال الناس بأفعال بارئهم الإحسان، فخيّره الإسكندر فى المقام معه، أو الانصراف إلى بلاده، فاختار الرجوع إلى موضعه. وأمّا القدح فملأه ماء ثم أورد عليه الناس فلم ينقص شربهم منه شيئا، فيقال إنه كان معمولا من خواصّ الهند الروحانيّة مما تدّعيه الهند، ويقال إنه كان لآدم أبى البشر عليه السلام، مبارك له فيه حين كان بأرض سرنديب، فورث عنه إلى أن انتهى إلى هذا الملك الهندىّ. وأما الطبيب فإنه كان له معه منظرات دلّت على ثبوت قدمه فى علمه، وأنه كما وصف صاحبه أوكاد. هذا خبره مع ملك الهند. وأما خبره مع ملك الصين؛ قال ابو على أحمد بن محمد بن مسكويه فى كتابه المترجم بتجارب الأمم: وفى الرواية الصحيحة أن الإسكندر لمّا انتهى إلى بلاد الصين أتاه حاجبه وقد مضى من الليل شطره فقال: هذا رسول ملك الصين بالباب يستأذن فى الدخول عليك، قال: أدخله، فأدخله فوقف بين يدى الإسكندر وسلّم ثم قال: إن رأى الملك أن يستخلينى فعل، فأمر الإسكندر من بحضرته أن ينصرفوا، فانصرفوا كلّهم عنه وبقى حاجبه فقال: إنّ الذى جئت له لا يحتمل أن يسمعه غيرك، فأمر الإسكندر أن يفتّش ففتّش، فلم يجد معه سلاحا، فوضع بين يديه سيفا مسلولا وقال له: قف مكانك وقل ما شئت، وأخرج الحاجب ومن كان قد بقى عنده، فلمّا خلا المجلس قال له: أنا ملك الصين لا رسوله، جئت لأسألك عما تريد، فإن كان ممّا يمكن عمله ولو على أصعب الوجوه عملته الجزء: 15 ¦ الصفحة: 250 وأغنيتك عن الحرب، فقال له الإسكندر: وما الذى آمنك منّى؟ قال: علمى بأنك عاقل حكيم، ولم تك بيننا عداوة ولا مطالبة بذحل «1» ، وأنك تعلم أنك إن قتلتنى لم يكن ذلك سببا لتسليم أهل الصين إليك ملكهم، ولم يمنعهم قتلى من أن ينصبوا لأنفسهم ملكا غيرى ثم تنسب [أنت «2» ] إلى غير الجميل وضدّ الحزم. فأطرق الإسكندر وعلم أنه رجل عاقل، ثم قال له: إن الذى أريد منك ارتفاع «3» مملكتك لثلاث سنين عاجلا ونصف ارتفاع مملكتك لكلّ سنة. قال: هل غير هذا؟ قال لا، قال: قد أجبتك، ولكن سلنى كيف تكون حالك، قال: كيف تكون؟ قال: أكون أوّل قتيل محارب، وأوّل أكيلة مفترس. قال: فإن قنعت منك بارتفاع سنتين. قال: أكون أصلح قليلا وأفسح مدّة، قال: فإن قنعت بارتفاع سنة. قال: يكون فى ذلك بقاء ملكى، وذهاب لجميع لذّتى. قال: فإن قنعت منك بثلث الارتفاع كيف تكون حالك؟ قال: يكون السدس للفقراء ومصالح العباد، ويكون الباقى لجيشى «4» ولسائر أسباب الملك. قال الإسكندر: قد اقتصرت منك على هذا، فشكره وانصرف. فلمّا طلعت الشمس أقبل جيش الصين وقد طبّق الأرض وأحاط بجيش الإسكندر حتى خافوا الهلاك، وتواثب أصحابه فركبوا الخيل واستعدّوا للحرب بعد الجزء: 15 ¦ الصفحة: 251 الأمن والطمأنينة إلى السّلم. فبينما هم كذلك إذ طلع ملك الصين وهو راكب وعليه التاج، فلمّا تراءى الجمعان نظر الإسكندر إلى ملك الصين فظنّ أنه حضر للحرب، فصاح به: أغدرت؟ فترجّل ملك الصين وقال: لا والله، قال: فادن منّى فدنا منه، فقال له الإسكندر: ما هذا الجيش الكثير؟ فقال: إنّى أردت أن أريك أنّى لم أطعك من قلّة وضعف، ولكنّى رأيت العالم العلوىّ مقبلا عليك ممكنّا لك ممن هو أقوى منك وأكثر عددا، ومن حارب العالم العلوىّ غلب، فأردت طاعته بطاعتك، والتذلّل له بالتذلّل لك، فقال الإسكندر له: ليس مئلك من يسام الذّل، ولا من يؤدّى الجزية، فما رأيت بينى وبين الملوك من يستحقّ التفضيل والوصف بالعقل غيرك، وقد أعفيتك من جميع ما أردته منك وأنا منصرف عنك. فقال ملك الصين: ولست تخسر [إذا «1» ] ثم انصرف عنه الإسكندر. فبعث إليه ملك الصين بضعف «2» ما قرّر معه وانصرف عن الصين. كلام الحكماء عند وفاة الإسكندر قال: لمّا توفّى الإسكندر جعل فى تابوت من الذهب، واجتمع الحكماء فتقدّم الأوّل «3» فقال: قد كان الإسكندر يخبأ الذهب، وقد أصبح الآن يخبؤه الذهب. وتقدّم الثانى «4» اليه والناس يبكون ويجزعون فقال: حركّنا بسكونه. وتقدّم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 252 الثالث «1» اليه فقال: قد كان يعظنا فى حياته، وهو اليوم أوعظ منه أمس. وتقدّم اليه الرابع فقال: قد جاب الأرضين وسلكها، ثم حصل منها فى أربعة قوائم. ووقف عليه الخامس «2» فقال: انظروا إلى حلم النائم كيف انقضى، وإلى ظلّ الغمام كيف انجلى. ووقف عليه السادس فقال: قد أمات هذا الميّت كثيرا من الناس لئلّا يموت، وقد مات الآن. ووقف عليه السابع «3» فقال: مالك لا تقلّ عضوا من أعضائك، وقد كنت تستقلّ بملك العباد. وقال الثامن «4» : مالك لا ترغب بنفسك عن المكان الضيّق، وقد كنت ترغب بها عن رحّب البلاد. وقال التاسع: كان لا يقدر عنده على الكلام، واليوم لا يقدر عنده على الصّمت. وقال العاشر: قد كان غالبا فصار مغلوبا، وآكلا فصار مأكولا. وقال الحادى عشر «5» : ما كان أقبح إفراطك فى التجبّر أمس مع شدّة خضوعك اليوم!. وقالت بنت دارا: ما كنت أحسب أنّ غالب أبى يغلب. وقال رئيس الطبّاخين: قد نضّدت النضائد، وألقيت الوسائد، ونصبت الموائد، ولست أرى عميد القوم. قال: ولما مات الإسكندر عرض الملك على ابنه من بعده فأباه واختار العبادة والنّسك. فملك بعد الإسكندر على اليونانيين بطليموس، وهذه التسمية لكلّ من ملك اليونان ككسرى للأكاسرة من الفرس، وقيصر للروم، وخاقان للترك، وطرخان للخزر، والنجاشىّ للحبشة. قال: وكان بطليموس هذا شابّا مدبّرا حكيما عالما. وكان ملكه أربعين سنة، وقيل عشرين سنة، وقيل إنه أوّل من اقتنى البزاة وضرّاها ولعب بها. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 253 ثم ملك بعده بطليموس الثانى، وهو الذى يقال له: محبّ الأخ، واسمه هيقلوس، وكان ملكه ستّا وعشرين سنة. ثم ملك بعده بطليموس محبّ الأب، وكانت مدّة ملكه سبع عشرة سنة. ثم ملك بعده بطليموس، وهو صاحب علم الفلك والنجوم وكتاب المجسطى. فكان ملكه أربعا وعشرين سنة. ثم ملك بعده بطليموس محبّ الأمّ. فكان ملكه خمسا وثلاثين سنة. ثم ملك بعده بطليموس الصائغ. فكان ملكه سبعا وعشرين سنة. ثم ملك بعده بطليموس الإسكندرانىّ. فكان ملكه اثنتى عشرة سنة. ثم ملك بعده بطليموس الحديدىّ. فكانت مدّة ملكه ثمانين سنة. ثم ملك بعده بطليموس الجوّال. فكان ملكه أيضا ثمانين سنة، وقيل أقلّ من ذلك. ثم ملك بعده بطليموس الحرب. فكانت مدّة ملكه ثلاثين سنة. ثم ملكت بعده ابنته قلوبطرة، وكانت حكيمة متفلسفة معظّمة للحكماء، ولها كتب مصنّفة فى الطبّ والزينة وغير ذلك، مترجمة باسمها ومنسوبة إليها، وكان زوجها بطليموس ويسمّى أنطونيوس مشاركا لها فى ملك مقدونية وهى مصر. فلمّا أراد الله تعالى ذهاب ملك اليونانيين أيّد عليهم ملك رومية وهو أغسطس، فسار إليها، وكان له مع الملكة قلوبطرة وزوجها حروب كثيرة، فقتل زوج قلوبطرة، فأراد ملك الروم أن يتروّجها لعلمه بحكمتها وليتعلّم منها، فراسلها فعلمت مراده منها، فطلبت حيّة تكون بالحجاز ومصر والشام، وهى نوع من الحيّات تراعى الإنسان حتى إذا نظرت الى عضو من أعضائه قفزت أذرعا نحوه فلم تخطئ ذلك العضو بعينه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 254 حتى تثفل عليه سمّا فيموت لوقته ولا يعلم ما خبره، فيتوهّم الناس أنه مات فجأة حتف أنفه. فاحتملت لها. فلمّا كان فى اليوم الذى علمت فيه أن أغسطس يدخل فى قصرها أمرت بأنواع الرياحين والزهور أن تبسط فى مجلسها وأمام سريرها، وجلست على سرير ملكها والتاج على رأسها وفرّقت حشمها وقرّبت يدها من الإناء الذى فيه تلك الحيّة فضربتها فماتت لوقتها، وانسابت الحيّة فى تلك الرياحين ودخل أغسطس حتى انتهى الى المجلس، فنظر إليها جالسة وهو يظنّ أنها باقية، فدنا منها فتبيّن له أنها قد ماتت، فنظر الى تلك الرياحين فقفزت عليه تلك الحيّة فرمته بسمّها وقد خفّ، فبطل شقّه الذى ضربته من جهته، ولولا أنّ سمّها كان قد نقص لمات، فعجب من قتلها لنفسها وما كادته به من إلقاء الحيّة، وكانت قلوبطرة هذه آخر من ملك من اليونانيين. والله أعلم. ذكر أخبار ملوك السّريان قال أبو الحسن علىّ بن عبد الله المسعودىّ فى كتابه المترجم بمروج الذهب «1» : ذكر ذوو العناية بأخبار ملوك العالم أنّ أوّل الملوك بعد الطوفان ملوك اليونان، قال: وقد تنوزع فيهم وفى النبط، فمن الناس من رأى أن السريانيين هم النّبط، ومنهم من رأى أنهم إخوة لولد «2» ماس بن نبيط، ومنهم من رأى غير ذلك على حسب تباين الناس فى الأجيال الماضية والقرون الخالية. قال: فكان أوّل من ملك منهم رجل يقال له سوشان، وهو أوّل من وضع التاج على رأسه فى تاريخ السريانيّين. قال: وانقاد له ملوك الأرض، فكان ملكه ستّ عشرة سنة باغيا فى الأرض، ومفسدا فى البلاد، وسفّا كاللدماء. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 255 ثم ملك بعد يريز «1» ، وكان ملكه إلى أن هلك عشرين سنة. ثم ملك بعده سماسير بن أبوبا. فكان ملكه تسع سنين. ثم ملك بعده أهريمون فحطّ الخطط، وكوّر الكور، وجدّ فى أمره، وأتقن ملكه، وعمر أرضه. فلّما استقامت له الأحوال وانتظم ملكه بلغ بعض ملوك الهند وهو رتبيل، وهو اسم لمن يملك هذه الجهة من الهند، ما القوم عليه من القوّة، وما بلادهم عليه من العمارة، وأنهم يحاولون الممالك، وقد كان هذا الملك الهندىّ غلب على من حوله من ممالك الهند وانقادت إلى أحكامه، وذلك أنّ ملكه كان مما يلى بلاد الهند والسّند، فسار نحو بلاد بست «2» وغزنين «3» ونغر «4» وبلاد الداور «5» على النهر المعروف بالهندمند، وهو نهر ببلاد سجستان ويعرف بنهر بست تجرى فيه السفن منها إلى سجستان. قال: وكان بين ملك الهند وملك السريانيّين حروب كثيرة نحوا من سنة ثم أجلت الحرب عن قتل السريانىّ واحتوى الهندىّ على الصّقع وملكه، فكان ملك أهريمون عشر سنين. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 256 قال: وبقى ذلك الصّقع بيد الملك الهندىّ حتى سار إلى بعض الملوك فأتى عليه وملك العراق وردّ السريانيين. فملّكوا عليهم تسنوا «1» بن سماسير. فكان ملكه إلى أن هلك ثمانى سنين. ثم ملك بعده أهريمون. فكانت مدّة ملكه اثنتى عشرة سنة. ثم ملك بعده ابنه هوريا فزاد فى العمارة وأحسن للرعايا وغرس الأشجار. فكان ملكه اثنتين وعشرين سنة. ثم ملك بعده ماروت «2» واستولى على الملك. فكان ملكه خمس عشرة سنة. وقيل أكثر من ذلك. ثم ملك بعده أزور وسلحاس «3» ، ويقال إنهما كانا أخوين. قال: فأحسنا السيرة، وتعاضدا على تدبير الملك. ويقال: إنّ أحد هذين الملكين كان جالسا ذات يوم فى أعلا قصره فنظر إلى طائر قد فرّخ هنالك، وهو يصيح ويضرب بجناحه، فنظر إلى حيّة تنساب إلى الوكر لتأكل الفراخ التى للطائر، فدعا بقوس وسهم ورمى الحيّة فقتلها، وسلمت الفراخ، وغاب الطائر وعاد إلى الملك بعد هنيهة وفى منقاره حبّة وفى مخاليبه حبّتان، وطار حتى وازى الملك، وألقى الحبّ بين يديه فتناوله الملك وقال: ما ألقى هذا الطائر هذا الحبّ إلا لأمر قصد به مكافأتنا على ما فعلناه من خلاص فراخه، ولم يعرف ما هو ذلك الحبّ، واستدعى الحكماء وأراهم فما عرفوه، فقال له حكيم: ينبغى أن يزرع هذا الحبّ ببطن الأرض لينظر ما يكون منه، فأحضر الأكرة وأمرهم بزرعه فزرعوه، والملك الجزء: 15 ¦ الصفحة: 257 يراعيه حتى طلع وأزهر وحصرم وأعنب، وهم لا يقربونه خشية أن يكون متلفا، فأمر الملك أن يعصر ماؤه ويودع الآنية وأخرج الحبّ منه وترك بعضه على حاله. فلمّا صار فى الآنية غلا وقذف بالزبد وفاحت له روائح عبقة، فقال الملك: علىّ بشيخ كبير، فأتى به، فسقاه من هذا العصير. فلمّا شرب منه ثلاثا صال وتكلّم وصفّق بيديه وحرّك رأسه ووقع برجليه على الأرض، فظهر عليه الطّرب والفرح وتغنّى. فقال الملك: هذا شراب مذهب للعقل، وأخلق به أن يكون قتّالا، ألا ترون إلى هذا الشيخ كيف عاد الى حال الصّبا وقوّة الشباب، ثم أمر الملك بالشيخ فرقد، فسكن ونام. فقال الملك: هلك، ثم أفاق الشيخ وطلب الزيادة من الشراب وقال: لقد شربته فكشف عنّى الهموم والغموم، وأزال عنّى الأحزان. فقال الملك: هذا أشرف شراب الرجل، فأكثر من غرس الكروم، واختصّ به دون غيره من الناس، واستعمله بقيّة أيامه، ثم نما بعد ذلك وكثر فى أيدى الناس. وهذا آخر ما أورده المسعودىّ من أخبار السّريان. ذكر أخبار الملوك الكلوانيّين وهم ملوك النّبط ملوك بابل قال المسعودىّ «1» ، ذهب «2» جماعة من أهل البحث والعناية بأخبار ملوك العالم أنهم ملوك العالم الذين مهّدوا الأرض بالعمارة، وأنّ الفرس الأول إنما أخذوا الملك من هؤلاء كأخذ الروم الملك من اليونان. فكان أوّل من ملك منهم نمروذ الجبّار. فكان ملكه نحوا من ستين سنة. وقد قدّمنا أخبار نمروذ «3» فى قصّة إبراهيم عليه السلام. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 258 قال: ونمروذ هذا هو الذى احتفر أنهارا بالعراق آخذة من الفرات، فيقال: إنّ من ذلك نهر كوثى «1» على طريق الكوفة، وهو بين قصر «2» ابن هبيرة وبغداد. ثم ملك بعده أبولس، وكان عظيم البطش جبّارا فى الأرض. وكان ملكه نحوا من سبعين سنة. ثم ملك بعده فيزمنوس. وكان باغيا فى الأرض، ملك نحوا من مائة سنة. ثم ملك بعده سوسوس. فكان ملكه نحوا من تسعين سنة. ثم ملك بعده كورس. فكان ملكه نحوا من خمسين سنة. ثم ملك بعده اذ فرنجوا «3» . فكان ملكه نحوا من عشر سنين. ثم ملك بعده سيهزم. فكان ملكه نحوا من أربعين سنة، وقيل أكثر. ثم ملك بعده قوسيس. فكان ملكه نحوا من سبعين سنة. ثم ملك بعده أنبوش «4» . فكان ملكه نحوا من ثلاثين سنة. ثم ملك بعده إيلاوس. فكان ملكه نحوا من خمس عشرة سنة. ثم ملك بعده الجلوس. وكان ملكه نحوا من أربعين سنة. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 259 ثم ملك بعده أونوبس «1» . فكان ملكه نحوا من ثلاثين سنة. ثم ملك بعده بعنكلوس. فكان ملكه نحوا من ثلاثين شهرا. ثم ملك بعده سفرين «2» . فكان ملكه نحوا من أربعين سنة، وقيل أقلّ. ثم ملك بعده مارنوس. فكان ملكه نحوا من ثلاثين سنة. ثم ملك بعده رسطاليم «3» . فكان ملكه نحوا من أربعين سنة. ثم ملك بعده أسطوس. فكان ملكه نحوا من خمسين سنة. ثم ملك بعده تاولوس. فكان ملكه نحوا من خمسين سنة. ثم ملك بعده العداس. فكان ملكه نحوا من ثلاثين سنة. ثم ملك بعده أطيروس. فكان ملكه نحوا من ستين سنة. ثم ملك بعده ساوساس. فكان ملكه نحوا من عشرين سنة. ثم ملك بعده فارينوس. فكان ملكه نحوا من خمسين سنة، وقيل خمسا وأربعين سنة. ثم ملك بعده أدرموس. فكان ملكه نحوا من أربعين سنة. وغزاه ملك من ملوك فارس فى عقر داره. ثم ملك بعده مسروس. فكان ملكه نحوا من خمسين سنة. ثم ملك بعده أفروس. فكان ملكه نحوا من أربعين سنة. ثم ملك بعده طاطاوس. فكان ملكه نحوا من أربعين سنة. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 260 ثم ملك بعده لاوسيس. فكان ملكه نحوا من خمسين سنة، وقيل خمسا وأربعين سنة. ثم ملك بعده قريطوس. فكان ملكه نحوا من ثلاثين سنة. ثم ملك بعده قروطاوس. فكان ملكه نحوا من عشرين سنة. ثم ملك بعده قراقريس. فكان ملكه نحوا من خمسين سنة، وقيل اثنتين وأربعين سنة. ثم ملك بعده بوليس قنطروس. فكان ملكه نحوا من عشرين سنة. ثم ملك بعده قولا قسما. [فكان ملكه «1» ] نحوا من ستين سنة. ثم ملك بعده هيقلس. فكان ملكه خمسا وثلاثين سنة، وقيل خمسين سنة. وكانت له حروب مع ملوك الصقالبة. ثم ملك بعده سموجد. فكان ملكه نحوا من ثلاثين سنة. ثم ملك بعده مردوج. فكان ملكه نحوا من أربعين سنة، وقيل أقلّ من ذلك. ثم ملك بعده سنحاريب. فكان ملكه نحو من ثلاثين سنة، وهو الذى ابتنى بيت المقدس. ثم ملك بعده منوشا. فكان ملكه نحوا من ثلاثين سنة، وقيل أقلّ من ذلك. ثم ملك بعده بختنصّر الجبّار. فكان ملكه خمسا وأربعين سنة، وقد تقدّم أن بختنصّر «2» لم يكن ملكا وإنما كان مرزبانا لملوك الفرس الأول، إلا أن يكون هذا غير ذاك. والله أعلم. ثم ملك بعده بيطسقر. فكانت مدّة ملكه نحوا من ستّين سنة، وقيل أقلّ من ذلك. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 261 ثم ملك بعده دارنوس. فكان ملكه إحدى وثلاثين سنة، وقيل أكثر من ذلك. ثم ملك بعده كشرخوش [فكان ملكه] عشرين سنة. ثم ملك بعده قرطياسة تسعة أشهر. ثم ملك بعده فيجسمنه. فكان ملكه إحدى وأربعين سنة. ثم ملك بعده أجرست. فكان ملكه ثلاثا وستين سنة. ثم ملك بعده شعيا. فكان ملكه ثلاثين سنة «1» ، وقيل تسعة أشهر. ثم ملك بعده داريوس. فكان ملكه عشرين سنة، وقيل تسع عشرة سنة. ثم بعده أنطجست. فكان ملكه تسعا وعشرين سنة. ثم ملك بعده اليسع. فكان ملكه خمس عشرة سنة، وقيل عشرين سنة. قال المسعودىّ: فهؤلاء الملوك الذين أتينا على أسمائهم، وذكرنا مدّة ملكهم، هم الذين شيّدوا البنيان، ومدّنوا المدن، وكوّروا الكور، وحفروا الأنهار، وغرسوا الأشجار، واستبطوا المياه، وأثاروا الأرض، واستخرجوا المعادن من الحديد والنحاس والرصاص وغير ذلك، وطبعوا السيوف، واتّخذوا عدّة الحرب، ونصبوا قوانين الحروب، ورتّبوا الميمنة والميسرة والأجنحة، وجعلوا ذلك مثالا لأجزاء أعضاء الإنسان، ورتّبوا الأعلام؛ فجعلوا أعلام القلب على صورة الفيلة والنسور وما عظم من أجناس الحيوان؛ وجعلوا أعلام الميمنة والميسرة على صورة السباع؛ وجعلوا فى الأجنحة أمثال ما لطف منها كالنمر والذئب؛ وجعلوا فى الطلائع كصور الحيّات وما خفى فعله من هوامّ الأرض؛ وتغلغل القوم فى هذه المعانى. قال: والذى ذكرناه من أخبارهم هو المشهور. والله تعالى أعلم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 262 ذكر أخبار ملوك الروم وأنسابهم قال المسعودىّ «1» : قد تنازع الناس فى الروم ولأىّ علّة سمّوا بهذا الأسم، فقيل لإضافتهم لمدينة رومية واسمها بالرومية روماس، فعرّب هذا الاسم فسمّى من كان بها روما، والروم لا يسمّون أنفسهم فى لغتهم إلّا رومس. «2» ومنهم من رأى أن هذا الاسم اسم الأب الأوّل، وهو روم بن شماخلين بن هوبان بن علفا بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام. ومنهم من رأى أنهم سمّوا باسم جدّهم رومس ابن لبطى بن نويفل بن رومىّ بن الأصغر بن النفر بن العيص، وقيل غير ذلك. وقد ذكرنا فى الأنساب شيئا من ذلك. قال المسعودىّ: وغلبت الروم على ملك اليونانيين، فكان أوّل من ملك منهم طوخاس وهو جانيوس الأصغر بن روم بن شماخلين، فكان ملكه اثنتين وعشرين سنة. وقيل إنّ أوّل من ملك من ملوك الروم قيصر، واسمه غالوس أوليوس. فكان ملكه ثمانى عشرة سنة. وقيل أوّل من ملك منهم بعد ملوك اليونانيين برومية بوليس. فكان ملكه سبع سنين ونصفا. قال: ورومية بنيت قبل الروم بأربعمائة سنة. ثم ملك بعده ابنه أغسطس قيصر. وكان ملكه ستّا وخمسين سنة، وهو أوّل من تسمّى بقيصر، وإنما سمّى بذلك لأنّ أمّه ماتت وهى حامل به فشقّ بطنها عنه، ومعنى قيصر بقر، وكان يفتخر بأنّ النساء لم تلده، وحقيقة هذه اللفظة بالعجميّة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 263 جيشر، قيل إنما سمى جيشر لأنه ولد بشعر يبلغ عينيه، واسم الشعر بالعجميّة حساريه وقيل جشايره، فعرّب فقيل قيصر، وهو صاحب قلوبطرة ملكة اليونان على ما ذكرناه. واحتوى هذا الملك على مقدونية وهى مصر والإسكندرية، وحاز ما فيهما من الخزائن، وكانت له حروب كثيرة، وكان يعبد الأوثان. وبنى بأرض الروم مدنا تنسب إليه، وكوّر كورا. فمن مدنه قيسارية. ولاثنتين وأربعين سنة خلت من ملكه ولد المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام، وعاش هذا الملك بقيّة عمره وقد بطل شقّه لما ثفلت عليه الحيّة على ما قدّمناه فى أخبار قلوبطرة. ثم ملك بعده طياريس. فكان ملكه اثنتين وعشرين سنة. قال: ولثلاث سنين بقيت من ملكه رفع المسيح عليه السلام. قال: ولمّا هلك هذا الملك برومية اختلفت الروم وتحزّبت وأقاموا على اختلاف الكلمة والتنازع مائتى سنة وثمانيا وأربعين سنة لا نظام لهم ولا ملك يجمعهم. ثم ملّكوا عليهم طباريس عابس بمدينة رومية. فكانت مدّة ملكه أربع سنين. ثم ملك بعده قلورس برومية. فكان ملكه أربع عشرة سنة، وهو أوّل ملك من ملوك الروم شرع فى قتل النصارى واتباع المسيح عليه السلام، فقتل منهم خلقا كثيرا، وكانت الروم تعبد التماثيل. ولما هلك هذا الملك ملك بعده نيرون. قال: واستقام ملكه ورغب فى عبادة التماثيل والأصنام، وكان ملكه أربع عشرة سنة وشهورا. ثم ملك بعده ططس واسبابوس مشتركين فى الملك. فكان ملكهما ثلاث عشرة سنة، ولسنة من ملكهما سارا الى الشام، فكانت لهما حروب عظيمة مع بنى إسرائيل قتل فيها من بنى إسرائيل ثلاثمائة ألف وخرّبا بيت المقدس وأزالا رسمه، وكان يعبدان الأصنام. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 264 قال المسعودىّ: وذكر فى بعض التواريخ أنّ الله تعالى عاقب الروم من ذلك اليوم الذى خرّبوا فيه بيت المقدس أن يسبى منهم فى كلّ يوم سبى فلا يوم إلّا والسّبى واقع فيهم قلّ ذلك أو كثر. ثم ملك بعدهما ذو مطيانس. فكانت مدّة ملكه خمس عشرة سنة. ثم ملك بعده تبرنوس. فكانت مدّة ملكه سنة واحدة. ثم ملك من بعده طومانوس. فكانت مدّة ملكه تسع عشرة سنة. ثم ملك بعده أذربالس. فكانت مدّة ملكه إحدى عشرة سنة، وخرّب سائر ما بقى بالشام لبنى إسرائيل. ثم ملك بعده أبطونيس. فكان ملكه ثلاثا وعشرين سنة. قال: وبنى بيت المقدس وسمّاه إيلياء. ثم ملك بعده قرمودس. فكانت مدّة ملكه ثلاث عشرة سنة. ثم ملك بعده سيريرس. فكانت مدّة ملكه ثمانى عشرة سنة. ثم ملك بعده ولده أنطويس. فكانت مدّة ملكه تسع سنين. ثم ملك بعده أنطويس الثانى. فكانت مدّة ملكه أربع سنين، وفى آخر ملكه مات جالينوس الطبيب. ثم ملك بعده الإسكندر مامياس، وتفسير مامياس العاجز. فكانت مدّة ملكه ثلاث عشرة سنة. ثم ملك بعده عردياس. فكانت مدّة ملكه ستّ سنين. ثم ملك بعده ديقيوس وقيل فيه دقيوس. فكانت مدّة ملكه ستين سنة. قال: فأمعن فى قتل النصارى، ومن هذا الملك هرب أصحاب الكهف. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 265 ذكر خبر أصحاب الكهف قال الشيخ عبد الوهّاب بن المبارك بن أحمد بن الحسين الأنماطىّ فى كتاب المبتدإ يرفعه الى وهب بن منبّه: إنّ أصحاب الكهف كانوا فتية من الروم، وهم الذين ذكرهم الله تعالى فى كتابه العزيز فقال: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً) الآيات التى فى سورة الكهف «1» . قال: وكان فى إيمانهم عبرة وتفكّر منهم فى عظم الله وجلاله وملكه وسلطانه وأصناف خلقه، لم يأتهم بذلك وحى ولم يقرءوا كتابا، ولم يدركوا زمان نبوّة، وكانوا فى زمن فترة قبل أن يبعث الله عزّ وجلّ عيسى بن مريم عليه السلام، وهذا القول مخالف لما ذكرناه آنفا، فإنّ المساق الذى قدّمناه من أخبار ملوك الروم يقتضى أن بين رفع عيسى عليه السلام وبين ملك دقيوس ما يزيد على مائتى سنة. والله عزّ وجلّ أعلم. قال: وكانوا شبّانا متقاربين فى السنّ قلّما يتفاوتون، وكانوا من فصيلة واحدة يجمعهم النسب، وكانوا فى حسب عظيم من أحساب الروم، من ولد عظمائهم وملوكهم وأشرافهم، وكان للروم فيهم هوى وصبابة شديدة، وكان ملك الروم الأوّل فى آباء أولئك الفتية وينقل فى فصيلتهم التى كانوا منها أكثر من أربعمائة عام حتى انقرضت تلك الفصيلة وزال الملك عنهم. فكان أولئك الفتية عقب أولئك الملوك وبقيّتهم، وكان الروم يتمنّون ملكهم ويمدّون اليهم أعناقهم لما قد بلغهم ما كان الناس فيه فى زمن أسلافهم من الخفض والدعة والعافية والبسط والأمن والسّعة، فكانوا يؤمّلونهم ويرجونهم، وكانت ملوك الروم قد جفوهم وحرموهم وأقصوهم وأضرّوا بهم مخافة منهم على ملكهم لما يعلمون من رأى الروم فيهم، وكانوا مع الجزء: 15 ¦ الصفحة: 266 ذلك يكفّون عنهم أذاهم، ويعرفون أنهم مفزع الروم إن اختلفوا ومعوّلهم عليهم، فلم تزل تلك حالهم فيما بينهم وبين ملوكهم وقومهم حتى أراد الله تعالى بهم ما أراد من هداهم والإيمان الذى نوّره الله فى قلوبهم. قال قائل منهم: إنى قد رأيت رأيا وقع فى قلبى وأمرا ثبت فيه، فلست أبصر غيره، وليس يخرجه من قلبى شىء، اسمعوا أعرض عليكم، إنّى فكّرت فى خلق السموات والأرض، واختلاف الليل والنهار، والشمس والقمر، والنجوم والسحاب والمطر، والأحياء والأموات، والنبات، والصّغار والكبار، والبقاء والفناء، والشدّة والرخاء، وتقلّب الدنيا بأهلها، والأطباق التى تنصرف عليها الخلق طبقا بعد طبق، وقوما عن قوم: من موت وحياة، ونقص وزيادة، وخفض ورفع، وغنى وفقر، وطول عمر ونقص آخر، وموت صغير وهرم كبير، وأشباه لذلك كثيرة، وهى أكثر من أن تعدّ وتوصف أو تحصى؛ فلمّا نظرت فيها وأعملت الرأى والنظر أجمع رأيى على أنّ لها خالقا بديعا ابتدعها؛ وربّا يملكها ويدبّرها، ويخلقها ويرزقها، ويغنيها ويفقرها، ويرفعها ويخفضها، ويحييها ويميتها ويفنيها، تتقلّب فى قبضته وتعيش برزقه؛ فلمّا تمّ لى الرأى نظرت فى عظمة هذا الربّ الذى ابتدع هذا الخلق وضبطه، ودبّره وأحكم أمره، فإذا قدرته تأتى من وراء ذلك كلّه، ليس من هذا الخلق شىء يفوتها ولا يخرج منها، وإذا هى محيطة بكلّ شىء ومن وراء كلّ شىء، ثم نظرت فى عظمة الربّ هل أصفها كما وصفتها القدرة، وهل أعلم كنهها؟ فتحيّرت فيها، وعجز عنها الحلم والعلم، وحسر عنها العقل والنظر، وما بقى مما لم أذكره لكم معرفة القلب ولا نصفه إلّا أنه قد ألهم بمعرفته وأسرّ بها أكثر وأعظم وأعجب مما وصفت وشرحت لكم، فماذا تقولون، وماذا تعرفون، وماذا تفعلون؟ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 267 قالوا: قد قلت قولا عظيما ووصفت أمرا عجيبا، وما نحسبك إلّا قد أصبت فيه الرأى والنظر، وقد صدّقناك وتابعناك ورأينا رأيك وواقع قلوبنا منه ومن معرفته مثل الذى عرفت وواقع قلبك، وإن كنّا لنرى مثل الذى رأيت من أعاجيب هذا الخلق وعظمة هذا الخالق، وإن كان ليكثر أن يخطر على قلوبنا منه مثل ما خطر على قلبك، ولكنّا لم نشرح منه ما شرحت ولم نصف منه ما وصفت، ولم نعمل الرأى والنظر فى معرفته مثل ما أعملت وعرفت، ولكنّ الله أراد هداك وتفضيلك وإكرامك بما سبقت إليه من هذا القول وهذا العلم وهذه المعرفة، ولكن حدّثنا عمّا نسألك عنه، وإنما نظرنا فيه بعد ما سمعنا قولك؛ هل ينبغى لهذا الربّ الذى وصفته بما وصفته من العظمة أن يكون له شريك فى ملكه، أو حاجة إلى شىء من خلقه، أو هل يغلبه شىء يستعين عليه بغيره؟ قال لهم: لو كان له شريك فى شىء من أمره لضبط ما ضبط، ولو كانت به حاجة إلى أحد من خلقه لكان مثلهم، ولو كان يستعين على شىء يغلبه بغيره إذا ما بلغت قدرته ما بلغت، ولا أحاطت بما أحاطت به، ولا وسع ما اتّسع له من أمر خلقه، وتدبير ما خلق ورزق وأمات وأحيا. قالوا له: صدقت وعرفنا ما تقول وثبت فى قلوبنا، ولكن حدّثنا ما بال خلقه يشركون به وهم يعرفونه حقّ معرفته. قال: لأنه خلق فيهم الأهواء وطبع فيهم الشهوات، وجبلهم على الضعف، وثبّت معهم الشيطان، فمن قبل هذا عدلوا به وهم يعرفون أنّ الذين يدعون من دونه لا يحيونهم ولا يميتونهم، ولا يخلقونهم ولا يرزقونهم، ولا يضروّنهم ولا ينفعونهم، إذا مسّهم الضّرّ فإيّاه يدعون وإليه يجأرون؛ فعند ذلك اجتمع رأيهم على أن يأووا إلى الكهف، وأن يعتزلوا قومهم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 268 وما يعبدون من دون الله، فعندها قالوا: (رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً) إلى قوله: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً) * قال: فلمّا اعتزلوهم وما يعبدون من دون الله آووا إلى الكهف رجاء أن ينشر لهم ربهم من رحمته ويهيّىء لهم من أمرهم مرفقا. قال: وأرادوا أن يكونوا فى عزلة من قومهم وشركهم حتى يفرق لهم رأيهم، فألقى الله عليهم السّبات. قال: وهم من مدينة من مدائن الروم يقال لها أفسوس «1» ، وملك الروم يومئذ دقيوس، ويقال- والله أعلم- إنّ عدّتهم سبعة، كان عبد الله بن عباس يسمّيهم بأسمائهم ويقول: ما يعلمهم إلا قليل وأنا من أولئك القليل، منهم مرطالوس، ونونوس، ودانيوس، وسراقيون، واسطاطالوس، ومكسلميس، وتمليخا، وهو الذى بعثوه بورقهم إلى المدينة ليرتاد لهم. هذا قول ابن عباس، قال: وكانوا قوما يطلبون الصّيد لما مسّهم من الضّرّ والحاجة ليس لهم كبير معيشة غيره، فقالوا قولهم هذا ونظروا ما نظروا، وهم يومئذ فى الجبل الذى فيه كهفهم يطلبون الصيد ومعهم كلابهم وبزاتهم وقسيّهم ونبلهم. فلمّا أجمع رأيهم أن يأووا إلى الكهف ليأتمروا فيه، هل يقيمون مع قومهم على شركهم، أم يفارقونهم فينتجعون ناحية من الأرض يحلّون فيها ويوحّدون فيها ربّهم. فبينا هم على ذلك ألقى الله عليهم السّبات وأخفى على جميع خلقه مكانهم، وصرف عنهم الأبصار والعقول، فليس يبصرهم أحد ولا يفطن بمكانهم، فلبثوا فى كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا، حتى انقرضت الأمّة التى كانوا فيها والملك الذى كان عليهم، وظهر المسيح عيسى بن مريم عليه السلام وآمن به الناس واتّبعوا ملّته ورفعه الله اليه وذهب زمانه وزمان أهل ملّته وهم فى كهفهم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 269 قال: وقد كان عيسى بن مريم عليه السلام قبل أن يرفعه الله يحدّث عنهم وعن إيمانهم وبصيرتهم، وكيف تفكّروا فى عظمة إلهم، وكيف ألقى الله عليهم السّبات فى كهفهم، وكيف أخفى مكانهم عن الناس، ولا ينبغى لأحد أن يهتدى إليهم ولا يعرف مكانهم، وكان يخبر أنّ الله سيردّ إليهم أرواحهم ويدلّ على كهفهم ليكونوا عبرة لمن خلفهم إن أراد أن يعتبر بهم. قال: فردّ الله اليهم أرواحهم بعد أن لبثوا فى كهفهم العدّة التى ذكرها الله عزّ وجلّ فى القرآن ولزمهم كلبهم، فلبث سنيهم كلّها، كما أخبر الله تعالى: (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) . والوصيد: فناء الكهف الذى فيه موضع الباب، وكان الكلب من كلاب صيدهم ولم يطعم ولم يشرب ليجعله الله آية من آياتهم. قال: فلمّا ردّ الله عليهم أرواحهم (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) إلى قوله: (وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً) وهم حينئذ يظنّون أنّ قومهم أحياء، وأنهم على ما يعهدون من حالهم وشركهم وعتوّ ملكهم، فانطلق رجل منهم يقال له تمليخا، وكان أشدّهم وأنجدهم، فتوجّه حتى إذا خالط ربض المدينة أنكره وأنكر ما وجد به من الناس والدوابّ والبنيان وغير ذلك، ووجد الناس على حال لم يكن يعهدها وسنّة لم يكن يعرفها، ووجدهم يبتاعون بورق لا يشبه الورق الذى معه، فتحيّر وأنكر وأقبل وأدبر، وأبطأ على أصحابه حتى خافوا عليه، وظنّوا أنه فطن به وقدر عليه. فلمّا طال عليه ذلك دخل المدينة من ناحية أخرى من نواحيها خفية فوجد حال أهل المدينة على حال أهل الرّبض فى كلّ شىء، فلمّا شكّ وارتاب والتبس عليه رأيه عمد إلى مشيخة من أهل المدينة توسّم فيه الخير ليتجسّس ويسمع قولهم، فوجد معهم الإنجيل يقرءونه، فسمع ما فيه من توحيد الله وعظمته وعذابه وسنّته وشرائعه وحلاله وحرامه، فعرف ذلك وأذعن اليه وأنصت يسمع حتى إذا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 270 فرغوا من قراءتهم سألهم عن كتابهم فقالوا: هذا كتاب الله الإنجيل الذى أنزل على عيسى بن مريم عليه السلام نبيّه. قال: وأين عيسى؟ قالوا: قد رفعه الله تعالى اليه. قال: وكم لبث فيكم؟ قالوا: ثلاثا وثلاثين سنة. قال: وهل رأيتموه وأتيتموه وأدركتم زمانه؟ قالوا: لا، كان قبل أن نولد، ووجدنا كتابه فى أيدى آبائنا. قال: أفكلّ هذه المدينة تؤمن بهذا النبىّ وبهذا الكتاب وتعمل بما فيه مما أسمع من حلاله وحرامه؟ قالوا: نعم، إلّا مستحقّا بذنب أو ظالما لنفسه. قال: فهل سمعتم بالملك الذى يقال له دقيوس؟ قالوا: نعم. قال: فكم له منذ هلك؟ قالوا: أكثر من ثلاثمائة عام. قال: فهل بقى له عقب، أو لأحد من أهل مملكته يعمل بعمله؟ قالوا: لا. قال: فلو أراد أحد أن يعمل بمثل عمله ما كنتم تفعلون به؟ قالوا: نقتله أو نخرجه من بين أظهرنا. فلمّا آمنهم واطمأنّ إليهم ورأى سمت الإسلام وهديه عليهم وفّقه الله وهداه لمسألة سألهم عنها. قال: أخبرونى، هل كان نبيّكم عيسى عليه السلام يخبركم عن سبعة رهط خرجوا من هذه المدينة فى زمن دقيوس وقومه، وهربوا إلى الله بأنفسهم ودينهم فرارا من دقيوس وقومه، وما كانوا يعبدون من دون الله حتى آووا الى الكهف فى هذه الجبال فاستخفوا فيها. فلمّا قال لهم هذا أوجسوا فى أنفسهم أنه منهم، قالوا: نعم، قد كان يخبرنا عنهم فلعلك منهم فإنّا ننكر حالك كلّه. قال: فهل كان عيسى عليه السلام فيما بلّغكم سمّى أصحاب الكهف؟ قالوا: نعم؛ قال: فسمّوهم لى بأسمائهم، فسمّوهم حتى إذا ذكروا اسمه تمليخا قال: فأنا تمليخا وأنا أحدهم، فخرّوا له سجّدا كما صنع إخوة يوسف بيوسف يوم دخلوا عليه؛ وكانت تحيّتهم فيما بينهم السجود يومئذ، ثم أدخلوه مسجدهم وعظّموه ووقّروه وأكرموه ورفعوه وجمعوا له أهل مدينتهم وقرّاءهم وفقهاءهم، فتبرّكوا به، وجعلوا له عيدا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 271 عظيما، وأقام أياما بين أظهرهم ثم قال لهم: إنّ أصحابى الذين يحدّثكم عنهم عيسى عليه السلام لا أراهم إلّا وقد خافوا علىّ وساء ظنّهم وهم يظنّون أنّ دقيوس حىّ؛ وأنّ الزمان زمانه، وأنّ الدين دينه، فانطلقوا بنا نعلمهم كيف أهلكه الله وقومه وطهّر الأرض منهم، وكيف استبدل الله به وبأهل ملّته أمّة يوحّدونه ويعرفونه ويهدون بالحقّ وبه يعدلون. فانطلقوا معه حتى انتهوا الى الكهف فوجدوا كلبهم باسطا ذراعيه بالوصيد فقالوا حين رأوه: وهذا الكلب أيضا من علاماتكم التى كان يحدّثنا عنها عيسى عليه السلام، وقد كان يحدّث أنّ أصحاب الكهف لا ينظر إليهم أحد من خلق الله من يوم يدخلون الكهف إلى أن ينزل عيسى بن مريم عليه السلام إلا رجل واحد منهم، وهو الذى يدلّ عليهم وعلى مكانهم، وأنت هو؛ فدخل على أصحابه فأخبرهم بما رأى وما لقى، ثم كان آخر العهد بهم. قال الله عزّ وجلّ: (وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) . قال: فبنوه حول الكهف وجعلوا الكهف فى وسطه وكتبوا القصّة على حيطانه. قال وهب: فبلغنى- والله أعلم- أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: إنّ نزول أخى عيسى بن مريم عليه السلام علم للساعة، وإنّ الله يبشرهم عند نزول عيسى بن مريم عليه السلام، وإنه يحجّ فى سبعين ألفا فيهم أصحاب الكهف لأنهم لم يموتوا، ثم تقبل ريح صفراء يمانيّة، ألين من الحرير، وريحها ريح المسك فتقبض روح عيسى عليه السلام وأرواح من معه. انتهى خبر أصحاب الكهف، فلنرجع إلى ما كنّا فيه من أخبار ملوك الروم. قال: ثم ملك بعد دقيوس جالش. فكانت مدّة ملكه ثلاث سنين. ثم ملك بعده قليطانس. فكانت مدّة ملكه عشر سنين، ثم كانت بعده ملوك الروم المتنصّرة. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 272 ذكر أخبار ملوك الروم المتنصّرة وهم ملوك القسطنطينية قال المسعودىّ «1» : لمّا هلك قليطانس ملك بعده قسطنطين برومية، وهو أوّل من انتقل من ملوك الروم عن رومية إلى بيزنطيا، وهى القسطنطينية، فبناها هذا الملك وسمّاها بهذا الاسم. قال: وكان خروجه من رومية ودخوله فى دين النصرانية لستّ خلت من ملكه، وذلك أنّ أمّه هلانا «2» خرجت إلى أرض الشام وبنت الكنائس وسارت إلى بيت المقدس وطلبت الخشبة التى تزعم النصارى أنّ عيسى عليه السلام صلب عليها، فلمّا ظفرت بها حلّتها بالذهب والفضة واتّخذت يوم وجودها عيدا، وهو عيد الصليب، لأربع عشرة ليلة خلت من أيلول. وهى التى ابتنت كنيسة حمص على أربعة أركان، واستخرجت الدفائن بمصر والشام، وصرفت ذلك فى بناء الكنائس وتشييد دين النصرانية، فكلّ كنيسة بالشام ومصر من بناء هذه الملكة هلانا. قال: ولسبع عشرة سنة خلت من ملك قسطنطين اجتمع ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا بمدينة نيقية «3» بأرض الروم فأقاموا دين النصرانية. وهذا الاجتماع أوّل الجزء: 15 ¦ الصفحة: 273 الاجتماعات الستة التى تذكرها الروم فى كلامهم وتسمّيها القوانين، ومعنى هذه الاجتماعات السّنودسات واحدها سونودس. فالأوّل بنيقية وكان الاجتماع فيه على أرنوس، وهذا اتفاق من سائر أهل دين النصرانية. والسّنودس الثانى بقسطنطينية على مقدونس، وعدّة المجتمعين فيه من الأساقفة مائة وخمسون رجلا. والثالث بأقسيس وعدّة من اجتمع فيه من الأساقفة مائة رجل. والرابع بخلقدونية «1» وعددهم ستمائة وستون رجلا. والخامس بقسطنطينية وعددهم مائة وستة وأربعون رجلا. والسادس كان فى [ملكة «2» ] المدن، وعدّتهم مائتان وثمانون رجلا. قال: وكان السبب فى دخول قسطنطين فى دين النصرانية أنه خرج فى بعض حروب أبرجان أو غيرهم من الأمم، فكانت الحرب بينهم سجالا نحوا من سنة، ثم كانت عليه فى بعض الأيام فقتل من أصحابه خلق كثير وخاف البوار فرأى «3» فى نومه كأنّ رماحا نزلت من السماء فيها عذب «4» وأعلام على رأسها صلبان من الذهب والفضة والحديد والنحاس وأنواع الجواهر والخشب، وقيل له: خذ هذه الرماح وقاتل بها عدوّك تنتصر، فجعل يحارب فى النوم فرأى عدوّه قد انهزم، فاستيقظ من نومه ودعا بالرماح وركّب عليها الصّلبان مثل ما رأى، ورفعها فى عسكره وزحف إلى عدوّه فكسرهم وأخذهم السيف، فرجع إلى مدينة نيقية وسأل عن تلك الصّلبان وهل يعرفون ذلك فى شىء من الآراء والنّحل؟ فقيل له: إنّ بيت المقدس من أرض الشام يجمع هذا المذهب، وأخبروه بما فعله من قبله من الملوك من قتل الجزء: 15 ¦ الصفحة: 274 النصارى، فبعث إلى الشام وبيت المقدس وحشر له ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا فأتوه بنيقية فقص عليهم أمره فشرعوا له دين النصرانيّة؛ فهذا هو السّنودس الأوّل. وقيل: إنّ أمّه كانت قد تنصّرت وأخفت ذلك عنه قبل هذه الرؤيا. وكان ملكه إلى أن هلك إحدى وثلاثين سنة، وقيل خمسا وعشرين. ثم ملك بعده قسطنطين بن قسطنطين. فكانت مدّة ملكه أربعا وعشرين سنة. وابتنى كنائس كثيرة وشيّد دين النصرانية. ثم ملك بعده ابن عمه بوليانس «1» المعروف بالحنيفى ويسمّى البرباط. قال: ولما ملك رجع عن دين النصرانية وغيّر رسومها وغزا العراق فى ملك سابور بن أردشير فأتاه سهم غرب «2» فذبحه. ولمّا هلك جزع من كان معه من الملوك والبطارقة ففزعوا إلى بطريق كان معظّما عندهم يقال له يونياس «3» ، وقيل: إنه كان كاتبا للملك الماضى، فأبى عليهم إلّا أن يرجعوا إلى دين النصرانية، فأجابوه إلى ذلك فملّك عليهم يونياس المذكور. قال: ولمّا ملك كان له مراسلات مع سابور ومهادنة واجتماع، ثم انصرف بجيوش النصرانيّة موادعا لسابور وأخلف عليه ما أتلف الملك الماضى من أرضه بأموال حملها إليه وهدايا من ألطاف الروم، وشيّد النصرانيّة وأعاد معالمها، ومنع من عبادة الأصنام والتماثيل، وقتل من كان على عبادتها. فكان ملكه سنة. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 275 ثم ملك بعده أوالس قال: ولمّا ملك كان على دين النصرانيّة ثم رجع عنه، وهلك فى بعض حروبه، فكان ملكه الى أن هلك أربع عشرة سنة. وقيل: إن فى أيامه استيقظ أهل الكهف. ثم ملك بعده غراطيانس «1» . فكانت مدّة ملكه خمس عشرة سنة، ولسنة من ملكه كان اجتماع النصرانيّة، وهو آخر الاجتماعات، فأتمّوا القول فى روح القدس، وهو السّنودس الثانى. ثم ملك بعده بدرسيس الأكبر، وتفسير هذا الاسم عطيّة الله. قال: ولما ملك قام بدين النصرانية وعظّم أمرها وابتنى الكنائس، ولم يكن من أهل بيت المقدس ولا من الروم؛ بل كان أصله من الأشبان، وهم بعض الأمم السالفة. قال: وقد كانت ممن ملكت الشام ومصر والمغرب والأندلس. وقد تنازع الناس فيهم، فذكر الواقدىّ فى كتاب فتوح الأمصار أنّ بدءهم من أهل أصبهان، وأنهم ناقلة من هنالك، وهذا يوجب أنهم من قبل ملوك فارس. قال: وذكر عبيد الله بن خرّداذبه نحو ذلك، وساعدهما على ذلك جماعة من أهل السّير والأخبار. قال المسعودىّ: والأشهر من أمرهم أنهم من ولد يافث بن نوح، وهم اللذارقة ملوك الأندلس واحدهم لذريق، وقد تنوزع فى دياناتهم، فمنهم من رأى انهم على دين المجوس، ومنهم من رأى أنهم على مذهب الصابئة وغيرهم من عبدة الأصنام. قال: وكان ملك بدرسيس الى أن هلك تسع عشرة سنة. ثم ملك بعده أوقاديس «2» . فكان ملكه أربع عشرة سنة [وكان «3» ] على دين النصرانية. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 276 ثم ملك بعده بدرسيس الأصغر، وذلك بمدينة أقسس، وجمع مائتى أسقف وهو الاجتماع الثالث من الأسنودسات، ولعن فيه نسطورس البطرك، وإليه تنسب النسطوريّة من النصارى. وكان ملك هذا الملك الى أن هلك اثنتين وأربعين سنة. ثم ملك بعده مرقياقس «1» وزوجته بلجاريا. فكانت ملكة معه. وكان ملكهما سبع سنين، وفى أيامهما كان خبر اليعاقبة ووقوع الخلاف بينهم فى الثالوث. قال: وأكثر اليعاقبة من النصارى بالعراق وتكريت والموصل والجزيرة ومصر وأقباطها إلا اليسير فإنهم ملكيّة، والنوبة والأرمن يعاقبة؛ ومطران اليعاقبة بين الموصل وبغداد وتكريت، وكان لهم بالقرب من رأس «2» عين واحد فمات، وانتقل مطرانها الى بلاد حلب وقنّسّرين والعواصم. قال المسعودىّ: وكرسى اليعاقبة [رسمه «3» ] أن يكون بمدينة أنطاكية، وكذلك لهم كرسى بمصر. ثم ملكا بعدهما ليون الأصغر بن ليون. فكان ملكه ستّ عشرة سنة، وفى أيامه أحرم مسعدة «4» اليعقوبىّ بطرك الإسكندرية، واجتمع له من الأسقافة ستمائة وثلاثون أسقفا. وفى تاريخ الروم أنّ عدّة المجتمعة ستمائة وستون رجلا، وذلك بخلقدونية، وهذا الاجتماع هو السّنودس الرابع عند الملكية. واليعاقبة لا تعتدّ بهذا السنودس. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 277 قال: واليعاقبة أضيفت الى يعقوب البرذعىّ وبه عرفت، وكان من أهل أنطاكية، وكان يعمل البراذع بها. ثم ملك بعده ابن له على دين الملكية. فكانت مدّة ملكه الى أن هلك سنة. ثم ملك بعده بير وهو من بلاد الأرمينان، وكان ملكه سبع عشرة سنة، وكان يميل الى رأى اليعاقبة، وكان له حروب مع خوارج خرجوا عليه فى دار ملكه فظقر بهم. ثم ملك بعده نسطاس، وكان يذهب الى مذهب اليعاقبة، وهو الذى بنى مدينة عمّوريّة، وأصاب كنوزا ودفائن عظيمة. وكان ملكه تسعا وعشرين سنة. ثم ملك بعده نوسطيانس تسع سنين. ثم ملك بعده سطيانس. فكان ملكه تسعا وثلاثين سنة، وبنى كنائس كثيرة، وشيّد دين النصرانيّة وأظهر مذاهب الملكية، وبنى كنيسة الرّها. وهى إحدى عجائب مبانى العالم. قال: وقد كان فى هذه الكنيسة منديل يعظّمه أهل دين النصرانية، وهو أن اليسوع الناصرىّ حين أخرج من ماء المعموديّة نشّف به، فلم يزل هذا المنديل يتداول الى أن قرّر على كنيسة الرّها؛ فلمّا اشتدّ أمر الروم على المسلمين وحاصروا الرّها فى سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة أعطى هذا المنديل للروم فوقعت الهدنة عليه، وفرح الروم به فرحا عظيما. ولما هلك هذا الملك ملك بعده قوسطيس وهو ابن أخيه، وكان ملكه الى أن هلك ثلاث عشرة سنة. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 278 ثم ملك بعده طباريس. فكان ملكه أربع سنين، وأظهر فى مدّة ملكه أنواعا من اللباس والآلات وآنية الذهب والفضة وغير ذلك من آلات الملوك. ثم ملك بعده مورقيس، وقيل فيه موريقس. فكانت مدّة ملكه عشرين سنة، وهو الذى نصّر كسرى أبرويز على بهرام جوبين على ما قدّمناه، ثم قتل وانتصر أبرويز لولده وبعث بجيوش الفرس، وكانت له حروب ذكرناها. ثم ملك بعده قرقاس «1» . فكان ملكه الى أن قتل أيضا ثمانى سنين. ثم ملك بعده هرقل وكان بطريقا فى بعض الجزائر قبل ذلك. قال: ولمّا ملك عمّر بيت المقدس وذلك بعد انكشاف الفرس عن الشام، وبنى الكنائس. ولسبع سنين خلت من ملكه كانت هجرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكر ملوك الروم بعد ظهور الإسلام قال المسعودىّ: وجدت فى كتب التواريخ تنازعا فى مولد النبىّ صلى الله عليه وسلم وفى عصر من كان من ملوك الروم؛ فمنهم من ذهب الى ما قدّمناه، ومنهم من رأى أنّ مولده صلى الله عليه وسلم كان فى ملك نوسطينوس. وكان ملكه سبعا وعشرين سنة. ثم ملك بعده نوسطينوس الثانى، وكان ملكه عشرين سنة. ثم ملك بعده هرقل بن نوسطينوس، وهو الذى ضرب الدنانير والدراهم الهرقليّة. وكان ملكه خمس عشرة سنة. ثم ملك بعده ابنه مورق بن هرقل، وهو الذى كتب الزّيجات فى النجوم، وعليه يعمل أهل الحساب. وفى تواريخ ملوك الروم فيمن سلف وخلف أنّ الملك الجزء: 15 ¦ الصفحة: 279 للروم كان فى وقت ظهور الإسلام وخلافة أبى بكر وعمر هرقل. وليس هذا الترتيب فيما عداها من كتب تواريخ أهل السّير. وفى تواريخ أصحاب السّير أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هاجر وملك الروم قيصر بن فوق. ثم ملك بعده قيصر بن قيصر، وذلك فى أيام أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه. ثم ملك بعده هرقل بن قيصر فى خلافة عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وهو الذى حاربه أمراء الإسلام الذين فتحوا الشام على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى خلافة عمر رضى الله عنه. ثم ملك بعده مورق بن هرقل فى خلافة عثمان بن عفّان رضى الله عنه. ثم ملك بعده فوق بن مورق فى خلافة علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه وأيام معاوية بن أبى سفيان. ثم ملك بعده فلقط «1» بن مورق بقيّة أيام معاوية بن أبى سفيان، وكانت بينهما مراسلات ومهادنات، وكان ملكه فى آخر أيام معاوية وأيام يزيد ابنه ومعاوية ابن يزيد ومروان بن الحكم وصدرا من أيام ابنه عبد الملك بن مروان. ثم ملك بعده لاوى «2» بن فلقط فى بقيّة أيام عبد الملك بن مروان. ثم ملك بعده جيرون بن لاوى فى أيام الوليد بن عبد الملك وسليمان بن عبد الملك أخيه وعمر بن عبد العزيز، ثم اضطرب ملك الروم لما كان من أمر مسلمة بن عبد الملك بن مروان وغزو المسلمين لهم فى البرّ والبحر، فملّكوا عليهم رجلا من غير الجزء: 15 ¦ الصفحة: 280 أهل بيت الملك من أهل مرعش «1» يقال له جرجس «2» . فكان ملكه تسع عشرة سنة. ولم يزل ملك الروم فى اضطراب الى أن ملك عليهم قسطنطين بن اليون، وذلك فى خلافة أبى العباس السفّاح وأبى جعفر المنصور. ثم ملك بعده اليون بن قسطنطين، وكانت أمّه أرسى ملكة معه ومشاركة له فى الملك لصغر سنّه. وملك فى أيام المهدى والهادى. ثم ملك بعده قسطنطين بن اليون بن قسطنطين، وكانت أمّه مشاركة له وسملت عيناها بعد موته. ثم ملك بعده نقفور بن استبراق، وكان لهذا الملك مراسلات وحروب مع الرشيد، وغزاه الرشيد فأعطى القود من نفسه من بعد بغى كان منه فى بعض مراسلاته، فانصرف الرشيد عنه ثم غدر ونقض ما كان أعطاه من الانقياد، فكتم الرشيد أمره لعارض علّة كان وجدها بالرّقّة «3» ، ثم تجهّز وغزاه فنزل على هرقلة «4» ؛ وذلك فى سنة سبعين ومائة، فحاصرهما سبعة عشر يوما فأصيب خلق من المسلمين وفنيت الأزواد والعلوفات، ثم فتحها عنوة. وقيل: إنهم بادروا لمّا فتحها بطلب الأمان فأمّنوا. والأشهر أنه فتحها عنوة. ثم ملك بعده استبراق بن نقفور بن استبراق. وكان ملكه فى أيام الأمين، ولم يزل ملكا حتى غلب على الملك قسطنطين بن فلقط، وكان ملكه فى خلافة المأمون. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 281 ثم ملك بعده توقيل وذلك فى خلافة المعتصم، وهو الذى فتح زبطرة «1» وغزاه المعتصم بعد فتح عمّوريّة. ثم ملك بعده ميخائيل بن توقيل، وذلك فى خلافة الواثق والمتوكّل والمنتصر والمستعين، ثم كان بين الروم تنازع فى الملك، فملّكوا عليهم توقيل بن ميخائيل ابن توقيل. ثم غلب على الملك بسيل الصقلبىّ «2» ولم يكن من أهل بيت الملك. وكان ملكه فى أيام المعتزّ والمهتدى وبعض أيام المعتمد. ثم ملك بعده اليون بن بسيل. فكان ملكه بقيّة أيام المعتمد وصدرا من أيام المعتضد الى أن هلك. ثم ملك بعده الإسكندروس فلم تحمد الروم أمره فخلعوه. وملّكوا عليهم أخاه لاوى بن اليون بن بسيل الصقلبىّ. فكان ملكه بقيّة أيام المعتضد وأيام المكتفى وصدرا من أيام المقتدر. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 282 ثم هلك وخلّف ولدا صغيرا يقال له قسطنطين فملك وغلب على مشاركته فى الملك أرمنوس بطريق البحر صاحب حربه. قال: فزوّج قسطنطين الصبىّ بابنته، وذلك فى بقيّة أيام المقتدر وأيام القاهر والراضى والمتقى، وذلك فى سنة اثنين وثلاثين وثلاثمائة. قال المسعودىّ: فملوك الروم فى هذا الوقت ثلاثة، فالأكبر منهم والمدبّر للأمور أرمنوس المتغلّب على الملك، ثم قسطنطين بن لاوى بن اليون بن بسيل، والثالث ابن لأرمنوس يخاطب بالملك اسمه اسطفانس وجعل أرمنوس ابنا له آخر صاحب الكرسىّ بالقسطنطينية، وهو البطريك الأكبر الذى يأخذون عنه دينهم، وقد كان خصاه قبل ذلك أبوه وقرّبه الى الكنيسة. وهذا آخر من ذكره المسعودىّ من ملوك الروم ولم نجد من ضبط أمرهم بعده على اتساق فنذكره. قال: فعدّة ملوك الروم المتنصّرة من قسطنطين بن هلاى الذى أظهر دين النصرانيّة بالروم الى هذا الوقت أحد وأربعون ملكا، ولم يعدّ [ابن «1» ] أرمنوس. وسنيهم خمسمائة سنة وسبع سنين. وقال فى ملوك رومية: والذى وجدت فى أكثر كتب التواريخ مما اتفقوا عليه أن عدّة ملوك الروم الذين ملكوا مدينة رومية، وهم الذين ذكرهم فى كتابه وذكرناهم نحن فى كتابنا هذا، تسعة «2» وأربعون ملكا، وجميع عدد سنى ملكهم، من أوّل من ملكهم على حسب ما ذكرناه من الخلاف فى صدر هذا الفصل إلى قسطنطين ابن هلاى، أربعمائة سنة وثلاثون سنة وسبعة أشهر وستة أيام. والله أعلم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 283 ذكر أخبار ملوك الصّقالبة والنّوكبرد قال المسعودىّ: الصقالبة من ولد ماراى بن يافث بن نوح، وإليه يرجع سائر أجناس الصقالبة وبه يلحقون فى أنسابهم. ومنهم من ينقاد إلى دين النصرانيّة اليعاقبة، ومنهم من لا كتاب له ولا ينقاد إلى شريعة. وهم أجناس: فمنهم جنس كان الملك فيهم قديما فى صدر الزمان، وكان ملكهم يدعى ماجك، وهذا الجنس يدعى لبنانا «1» ، وكان يتلو هذا الجنس قديما فى صدر الزمان سائر أجناس الصقالبة وهم اصطبرانة، وملكهم يدعى بصقلاح. وجنس يقال له نامجين، وملكهم يدعى عرابة «2» ، وهذا الجنس أشجع الصقالية، وجنس يدعى مناى «3» ، وملكهم رتبيل، ثم جنس يقال له سرتين، وهو جنس مهيب عندهم، ثم جنس يقال له مراوة، ثم جروانيق وصاصين وخشانين ونرانجابين. قال: والجنس الذى يدعى سرتين يحرقون أنفسهم بالنار، وإذا مات لهم ملك أو رئيس يحرقونه ويحرقون دوابّه، ولهم أفعال كأفعال الهند. قال: ومن الصقالية جنس التحق بالخزر والروس. قال: والأوّل من ملوك الصقالية ملك الدير، وله مدن واسعة وعمائر كثيرة، وهو يحارب الروم والفرنج والنوكبرد وغيرهم من الأمم، والحرب بينهم سجال: ثم يلى هذا الملك من بلاد الصقالية ملوك الترك. قال: والصقالية أجناس كثيرة، ثم اختلفت الكلمة بين أجناسهم فزال نظامهم وملّك كلّ جنس منهم عليهم ملكا. هذا ما أورده المسعودى من أخبار الصقالية. والله أعلم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 284 وأما النّوكبرد فقال المسعودىّ فيهم: إنهم أيضا من ولد يافث وبلادهم متّصلة ببلاد المغرب، ولهم جزائر كثيرة فيها أمم من الناس. وهم ذو بأس شديد ومنعة، ولهم مدن كثيرة ويجمعهم بلد واحد. قال: وأسماء ملوكهم فى سائر الأعصار أريكس، والمدينة العظمى من مدنهم ودار مملكتهم تبّت «1» وهى مدينة عظيمة يخترقها نهر عظيم من أعظم الأنهار اسمه سابيط والمدينة على جانبيه. قال: ومن مدنهم التى كان المسلمون ببلاد الأندلس قد غلبوهم عليها وسلبوها منهم وسكنوها ثم استعادها النّوكبرد بعد ذلك من المسلمين مدينة تارة ومدينة طارينو ومدينة سيرنية، ولم يذكر من أمرهم خلاف ذلك فنذكره. ذكر خبر ملوك الإفرنجة والجلالقه قال المسعودىّ «2» : لا خلاف أنّ الإفرنجة والجلالقة والصقالية والنّوكبرد والأسبان والترك والخزر وبرجان واللان ويأجوج ومأجوج وغير من ذكرنا ممن سكن بلاد الشمال من ولد يافث بن نوح. قال: والإفرنجة أشدّ هؤلاء الأجناس بأسا، وأمنعهم وأكثرهم عدّة، وأوسعهم ملكا، وأحسنهم نظاما، وانقيادا لملوكهم، وأكثرهم طاعة. قال: والجلالقة أشدّ من الإفرنجة وأعظم منهم نكاية. والرجل الواحد من الجلالقة يقاوم عدّة من الإفرنجة. ثم قال: وكلمة الإفرنجة متفّقة على ملك واحد الجزء: 15 ¦ الصفحة: 285 لا تنازع بينهم فى ذلك، ومدنهم تزيد على مائة وخمسين مدينة غير الكور. وكانت أوائل بلادهم قبل ظهور الإسلام فى البحر فى جزيرة رودس وجزيرة إقريطش، ثم ملكوا بلاد الغرب واستولوا عليها. قال: وأوّل ملوك الإفرنجة قلويا «1» وكان مجوسيا فنصّرته امرأته عرضلة. ثم ملك بعده ابنه لذريق. ثم ملك بعده ابنه دفسوت. «2» ثم ملك بعده ابنه قادله. ثم ملك بعده ابنه بيبق. ثم ملك بعده قادله. وكانت ولايته ستّا وعشرين سنة، وذلك فى أيّام الحكم صاحب الأندلس، وتدافع أولاده بعده ووقع الاختلاف بينهم حتى تفانت الإفرنجة بسببهم. وسار لذريق بن قادله فملك ثمانيا وعشرين سنة وستة أشهر، وهو الذى أقبل إلى طرطوشة فحاصرها. ثم ملك بعده قادله بن لذريق تسعا وثلاثين سنة وستّة أشهر. ثم ملك بعده ابنه لذريق ستّة أعوام، ثم خرج عليه قائد للإفرنجة يسمّى يوسة فملك الإفرنجة وأقام فى الملك ثمانى سنين. وهو الذى صالح المجوس على بلده سبع سنين بستمائة رطل ذهبا وستمائة رطل فضّة يؤدّيها صاحب الإفرنجة إليهم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 286 ثم ولى بعده قادله وأقام فى الملك إحدى وثلاثين سنة وثلاثة أشهر. ثم ولى بعده لذريق بن قادله واستمرّ فى الملك إلى سنة ستّ وثلاثين وثلاثمائة. هذا ما أورده المسعودىّ من أخبارهم فى كتابه المترجم بمروج «1» الذهب ومعادن الجوهر. ثم أتسعت بعد ذلك ممالكهم وانبسطت أيديهم واستولوا على أكثر بلاد الغرب وغيرها. ذكر طوائف السودان وشىء من أخبارهم ونسبهم قال المسعودىّ: لمّا تفرّق ولد نوح فى الأرض سار ولد كوش بن كنعان نحو المغرب حتى قطعوا نيل مصر. ثم افترقوا فسارت طائفة منهم ميمّمين المشرق، وهم النّوبة والحبشة والزنج. وسار فريق منهم نحو المغرب، وهم أنواع كثيرة: الزغاوة والكانم «2» ومرنك وكوكو والحمى «3» وغانة وغير ذلك من أنواع الأحابش والدمادم، ثم افترق الذين يمّموا بين المشرق والمغرب، فصارت الزّنج من المكمين «4» والمسكو ودبرا وغيرهم من أنواع الزّنج. قال: ومن مدنهم بربرا وهى مدينة على خليج من البحر الحبشىّ يسمّى الخليج البربرىّ، طوله خمسمائة ميل وعرضه مائة ميل. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 287 قال: وليست هذه بربرا هى التى تنسب إليها البرابرة الذين بالمغرب من أرض إفريقية. قال: ولباس هؤلاء الزّنج جلود النمورة، وهى جلود كبيرة تحمل من أرضهم الى بلاد الإسلام. قال: وأقاصى بلاد الزنج بلاد سفالة وأقاصيه بلاد الواق واق، وهى أرض كثيرة الذهب كثيرة العجائب والخصب، حارّة. واتّخذ بها الزنج دار مملكة وملّكوا عليهم ملكا اسمه «وقليمى» وهى نسبة لسائر ملوكهم فى سائر الأعصار. قال: ويركب وقليمى وهو ملك من ملوك الزنج فى ثلاثمائة ألف راكب، ودوابّهم البقر، وليس فى أرضهم خيل ولا بغال ولا إبل ولا يعرفونها، وإنما يركبون البقر بالسروج واللّجم، ويقاتلون عليها وهى تعدو بهم كالخيل. قال المسعودىّ: رأيت بالرىّ نوعا من هذه البقر تبرك كما يبرك الجمل وتحمل وتثور بأجمالها، وتحمل عليها الميتة من الخيل والإبل وغيرها فتنهض بحملها. والغالب على هذا النوع من البقر حمرة الحدق وسائر البقر تنفر منها. قال: ولا يقع البرد فى بلاد الزّنج. قال: ومنهم ناس محدّد والأسنان يأكل بعضهم بعضا. قال: ومساكن الزّنج من حدّ الخليج المشعّب من أعلى النيل الى بلاد سفالة والواق واق، ومقدار مسافة مساكنهم واتصالها فى الطول والعرض سبعمائة فرسخ: برّ وأودية وجبال ورمال. قال المسعودىّ: ومعنى تسمية ملك الزنج «وقليمى» أى ابن الربّ الكبير؛ لأنه اختارهم لملكهم والعدل فيهم، فمتى جار الملك عليهم فى حكمه أو حاد عن الحقّ قتلوه وحرّموا عقبه الملك. وزعموا أنه إذا فعل ذلك فقد بطل أن يكون ابن الربّ الذى هو ملك السماء والأرض، ويسمّون الخالق عزّ وجلّ (مكليجو) وتفسيره الربّ الكبير. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 288 قال: والزّنج أولو فصاحة فى ألسنتهم وفيهم خطباء بلغتهم؛ يقف الرجل الزاهد منهم فيخطب على الخلق الكثير منهم يرغّبهم فى القرب من ربّهم ويبعثهم على طاعته، ويرهبهم من عقابه، ويذكّرهم من سلف من ملوكهم وأسلافهم، وليس لهم شريعة يرجعون اليها بل رسوم لملوكهم، وأنواع من السياسات يرجعون اليها ويسوسون بها رعيّتهم، وأكثر أكلهم الموز، وهو كثير ببلدهم، وغالب أقواتهم الذّرة ونبت يقال له الكلارى «1» يقتلع من الأرض كالكمأة والراسن، ويأكلون العسل واللحم. قال: ومن هوى منهم شيئا من نبات أو حيوان أو جماد عبده. وجزائرهم لا تحصى كثرة وفيها النارجيل. وأمّا النّوبة وما قيل فيها فافترقت فرقتين فى شرقىّ النيل وغربيّه وأناخت على شطّيه واتّصلت ديارها بديار مصر، واتّسعت مساكنها على شاطئ النيل مصعدة. ومدينتهم دنقله. والفريق الآخر من النوبة يقال له غلوة وينزل مدينة الملك واسمها سرتة. وأمّا البجة وما قيل فإنّها نزلت بين بحر القلزم ونيل مصر وتشعّبوا فرقا وملّكوا عليهم ملوكا، وفى أرضهم معادن الذهب. قال: وانضاف إلى البجة طائفة من العرب من ربيعة بن نزار بن معدّ بن عدنان وتزوّجوا من البجة. وأمّا الحبشة وما قيل فيها فإنّ دار ملكهم كعبر، وهى مدينة عظيمة، وهى دار مملكة النجاشىّ. وللحبشة مدن كثيرة وعمائر واسعة، ويتّصل ملك النجاشىّ بالبحر الحبشىّ، وله ساحل فيه مدينة كبيرة، وهو مقابل لبلاد اليمن. فمن مدن الحبشة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 289 على الساحل: الزّيلع والدّهلك وناصع، وفى هذه المدن جماعة من المسلمين إلّا أنهم فى ذمّة الحبشة. قال: وبين ساحل الحبشة ومدينة غلافقة، وهى ساحل زبيد من أرض اليمن، ثلاثة أيام عرض البحر. قال: ومنه عبرت الحبشة الى اليمن حين ملكته فى أيام ذى نواس، وهذا الموضع هو أقلّ هذا البحر عرضا. قال: وهنالك جزائر بين الساحلين منها: جزيرة العقل فيها ماء يشرب فيفعل فى القرائح والذكاء فعلا جميلا، وبها جزيرة أسقطرة. وأما غير هؤلاء من الحبشة فمنهم من أمعن فى المغرب مثل: الزّغاوة والكوكو والقراقر ومديدة ومريس والمبرس والملانة والقوماطين ودويلة والقرمة. قال: ولكل طائفة من هؤلاء الطوائف وغيرهم ملك يرجعون اليه. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 290 الباب الرابع من القسم الرابع من الفنّ الخامس فى أخبار ملوك العرب ويتّصل بهذا الباب خبر سيل العرم ذكر أخبار ملوك قحطان قال المؤرّخون: لم يكن للعرب ملك حقيقىّ، وإنما كان من ملك حمير فى بلاد اليمن سمّى ملكا، وقد كانوا فى بعض الأوقات يخرجون من بلادهم ويسيحون فى الأرض حتّى بلغوا أقصى المغرب، وبلغوا من حدود المشرق سمرقند، وبلغوا باب الأبواب، ودخلوا بلاد الهند ولم يستقرّوا فى غير بلادهم، فلا يعدّ ذلك ملكا، وإنما هو غارة. فأوّل ملوك قحطان عبد شمس، وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ابن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح، وإنما سمّى سبأ لأنه أوّل من أدخل بلاد اليمن السّبى. قال عبد الملك بن عبدون فى كتابه المترجم بكمامة «1» الزهر وصدفة الدرّ: إنّ عبد شمس هذا ملك أربعمائة سنة وأربعا وثمانين سنة. قال: وقد اختلف فى أوّل من ملك منهم، فقيل يعرب بن قحطان. قال: وهو أوّل من نطق بالعربية، وأوّل من حيّاه ولده بتحية الملك: أبيت اللّعن، وأنعم صباحا. والأشهر أنّ عبد شمس سبأ هو أوّل ملوكهم. والله أعلم. ثم ملك بعده ابنه حمير بن سبأ، قال: وكان أشجع الناس فى وقته، وأفرسهم وأجملهم. وقيل: إنه إنما سمّى حمير لكثرة لباسه الأحمر من الثياب، وكان يلقّب الجزء: 15 ¦ الصفحة: 291 بالعرنجج، وهو أوّل من وضع تاج الذهب على رأسه من ملوك اليمن. وكان ملكه خمسين سنة، وذلك فى عصر قيذار بن إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام. ثم ملك بعده أخوه كهلان بن سبأ. فكان ملكه إلى أن هلك ثلاثمائة سنة. واختلف فيمن ملك بعده، فقيل: ملك بعده أبو مالك بن عسكر بن سبأ. فكان ملكه ثلاثمائة سنة. وقيل ملك بعد كهلان الرائش وهو الحارث بن شدّاد «1» ، وكان الحارث أوّل من غزا منهم، وأصاب الغنائم، وأدخلها اليمن، وبينه وبين حمير خمسة عشر أبا، وسمّى الرائش لأنه لمّا أدخل الغنائم والأموال والسّبى بلاد اليمن فراش الناس [فى أيامه «2» ] . وفى عصره مات لقمان النسور. قال: وذكر الرائش هذا نبيّنا صلى الله عليه وسلم فى شعره، فقال من قصيدته: ويملك بعدهم رجل عظيم ... نبىّ لا يرخّص فى الحرام يسمّى أحمدا يا ليت أنّى ... أعمّر بعد مخرجه بعام قال: وكان ملكه مائة وخمسا وعشرين سنة. هكذا نقل عبد الملك بن عبدون وذكر الخلاف فى أبى مالك والرائش على ما ذكرناه. وأمّا غيره فإنه لم يذكر كهلان ابن سبأ ولا أبا مالك، بل قال: إنّ حمير عهد إلى ابن ابنه الملطاط بن عمرو بن حمير. قال: وفى أيامه انقرض ملك صحار وجاسم ابنى دارم وبادوا. قالوا: ثم ملك بعده ابنه أبرهة ويقال له ذو المنار. قالوا: سمّى بذلك لأنه أوّل من أقام المنار فى مغازيه على الطريق، وذلك أنه أوغل فى بلاد المغرب والسودان، واتّخذها ليهتدى بذلك فى قفوله. وكان ملكه مائة وثلاثين سنة، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 292 وقيل مائة وثلاثا وثمانين سنة. هكذا ذكر ابن قتيبة فى كتاب المعارف أن الذى ملك أبرهة. وقال المسعودىّ: إنّ الذى ملك بعد الرائش جبّار بن غالب بن زيد ابن كهلان وقال: إنّ ملكه كان مائة وعشرين سنة. والله أعلم. ثم ملك بعد أبرهة على ما ذكر ابن حمدون فى تذكرته ابنه إفريقش، وهو ذوا الأذعار. قال: سمّى بذلك لأنه خرج نحو بلاد المغرب وأوقع بقوم لهم خلق منكرة فذعر الناس منهم وفرّقوا. قال ابن عبدون: وغزا إفريقش بلاد المغرب حتى أتى طنجة ونقل البربر من أرض فلسطين ومصر والساحل إلى مساكنهم ببلاد المغرب. وكان البربر بقيّة من قتل يوشع بن نون. قال: وإفريقش هو الذى بنى إفريقية وبه سمّيت. ثم ملك بعده ابنه العبد ويلقّب ذا الشناتر، وهى الأصابع فى لغة حمير. قال: وخرج نحو العراق فاحتضر فى طريقه. هكذا ذكر ابن حمدون. وقال عبد الملك: إنّ الذى ملك بعد إفريقش أخوه العبد بن أبرهة. قال: وهو ذو الأذعار، سمّى بذلك لأنه كان فيما ذكر أهل الأخبار غزا بلاد النسناس فقتل منهم مقتلة عظيمة، ورجع إلى اليمن من سبيهم بقوم وجوههم فى صدورهم فذعر الناس منهم فسمّى بذى الأذعار. وكان ملكه خمسا وعشرين سنة. وقد قدّمنا أنّ ذا الأذعار هو إفريقش. والله أعلم. ثم ملك بعده الهدهاد بن عمرو بن شرحبيل. هكذا قال ابن حمدون والمسعودىّ، إلّا أنّ المسعودىّ لم يذكر عمرا وقال الهدهاد بن شرحبيل. وسمّاه ابن قتيبة هدّاد بن شرحبيل بن عمرو بن الرائش، وهو أبو بلقيس صاحبة سليمان عليه السلام. وكانت مدّة ملكه عشرين سنة، وقيل سبعة، وقيل ستة. وقد قدّمنا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 293 خبر بلقيس وأنها ابنة ذى أشرح، وأنّ والدها لم يكن ملكا وإنما كان وزيرا لملك حمير وهو شراحى الحميرىّ. والله تعالى أعلم. واختلف فيمن ملك بعد الهدهاد، قال المسعودىّ: تبّع الأوّل. وكان ملكه أربعمائة سنة. وقال ابن قتيبة أقلّ من ذلك، وقال: ملك بعد الهدهاد ابنته بلقيس وهى صاحبة سليمان بن داود عليهما السلام. وكان ملكها مائة وعشرين سنة. وقد أتينا على أخبارها فيما سلف من هذا الكتاب «1» فى قصّة سليمان عليه السلام. ثم ملك بعدها ياسر بن عمرو بن شرحبيل وهو ناشر النّعم، قالوا: سمّى بذلك لإنعامه على العرب، وكان شديد السلطان، وسار غازيا وأوغل فى بلاد المغرب حتى بلغ وادى الرمل ولم يبلغه أحد قبله، وهو رمل جار، ولم يجد وراء ذلك مجازا لكثرة الرمل وجريانه، فبينما هو مقيم إذ انكشف الرمل فأمر بعض أهل بيته أن يعبر هو وأصحابه فعبروا فلم يعودوا إليه وهلكوا عن آخرهم، فأمر بصنم من نحاس فنصب على صخرة عظيمة على شفير الوادى وكتب على صدره بقلم المسند «2» : هذا الصنم لناشر النّعم الحميرىّ ليس وراءه مذهب ولا يتكلّفن أحد ذلك فيعطب، ورجع من هناك. وكان ملكه خمسا وثمانين سنة على رواية ابن قتيبة. وقال المسعودىّ: خمسا وثلاثين. ثم ملك بعده أبو كرب شمر بن إفريقش، ويسمّى يرعش لارتعاش كان به. قال: وخرج نحو العراق فى زمن بستاسف أحد ملوك الفرس فأعطاه بستاسف الطاعة، وسار نحو الصين حتى نزل فى طريقه ببلاد الصغد، فاجتمع أهل تلك الجزء: 15 ¦ الصفحة: 294 الأرض بمدينة سمرقند فأحاط بهم شمرو افتتحها عنوة وأسرف فى القتل وخرّب المدينة وهدمها فسمّيت شمركند، وعرّبت بعد ذلك فقالوا: سمرقند. ومعنى شمركند، أى خرّبها شمر. وفيه يقول دعبل بن علىّ يفتخر باليمن من قصيدة: هموا كتبوا الكتاب بباب مرو ... وباب الشاش «1» كانوا كاتبينا وهم سمّوا بشمر سمرقندا ... وهم غرسوا هناك التّبّتينا قال: ولما فرغ من بلاد الصّغد سار نحو الصين فأيقن ملكها بالبوار، فآحتال وزير له بأن جدع أنفه وأتى الى شمر، وهو بمفازة بينها وبين الصين عشر مراحل، ومتّ إليه بأن ملك الصين فعل به ذلك لأنه نصحه ألّا يحارب شمر وخالف رأيه، فسأله شمر عن الطريق والماء، فقال له: بينك وبين الماء ثلاث مراحل، فتزوّد لثلاثة أيام، فلمّا قطعها أعوزه الماء وكشف له الرجل أمره فمات هو وأصحابه عطشا. قال ابن قتيبة: وكانت مدّة ملكه مائة وسبعا وثلاثين سنة. وقال المسعودىّ: ثلاثا وخمسين سنة. ثم ملك بعده ابنه أبو مالك بن شمر، قال: وتأهّب للأخذ بثأر أبيه فبلغه أنّ بالمغرب واديا من الزبرجد، فحمله الشّره على طلبه وترك ما عزم عليه فمات فى طريقه. ثم ملك بعده ابنه تبّع الأقرن بن أبى مالك بن شمر. قال: وطلب ثأر جدّه وأتى سمرقند فعمّرها وجدّد بناءها، ثم أتى الصين وأخرب مدينتها وابتنى هناك الجزء: 15 ¦ الصفحة: 295 مدينة أسكن فيها ثلاثين ألف رجل. قال الحمدونىّ فى كتابه المترجم بالتذكرة: هم إلى اليوم هناك فى زىّ العرب، ولهم بأس وشدّة- يعنى يوم صنّف كتابه وهو فى سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة أو نحو ذلك- قال: وفى أوانه كان بوار طسم وجديس على ما نذكره فى وقائع العرب. قال: وفى أوانه أيضا كان سيل العرم وتفرّق سبأ. وسيأتى ذكر ذلك فى موضعه إن شاء الله تعالى. قال ابن قتيبة: وكان ملك تبّع الأقرن ثلاثا وخمسين سنة. قال المسعودىّ: إنّ ملكه كان مائة وثلاثا وستّين سنة. ولم يذكرا الملك الذى كان قبله، ونسبا هذا الملك أنه ابن شمر. ثم ملك بعده على ما رواه ابن حمدون- وهو إن شاء الله أشبه بالصواب- أسعد ابن عمرو. قال: وملك والملك متشتّت فاستفزّ قومه فنهضوا معه فى ملوك اليمن حتى قتلهم ملكا ملكا، وانتظم له ملك اليمن، فوجّه بابن عمّ له يقال له القيطون إلى الحجاز فبغى وظلم فقتله اليهود. ولمّا بلغ أسعد ذلك غضب وحلف ليقتلنّ كلّ يهودىّ فى الأرض، وتجهّز فى مائة ألف حتّى ورد يثرب، فاجتمع الأوس والخزرج وأخبروه بقصّة ابن عمّه وفجره وظلمه فعفا عن اليهود وقال: لست أرضى بالظلم ولو علمت ذلك منه لقتلته، وأتاه بنو هذيل بن مدركة فرغّبوه فى الكعبة وما فيها من الذهب والجوهر، فقدم مكّة لذلك، فاجتمع إليه أحبار اليهود وقالوا: إنّ هذا البيت العتيق الذى ليس لله عزّ وجلّ بيت فى الأرض غيره وقد رام إفساده كثير من الملوك فأبادهم الله. وفى هذه البلدة يكون مولد نبىّ آخر الزمان اسمه محمد وأحمد من ولد إبراهيم الخليل عليه السلام، وهو خاتم الرسل، وإنّما أراد من دلّك على الجزء: 15 ¦ الصفحة: 296 ذلك هلاكك، فضرب أعناق الهذليّين وأقام بمكة ستّة شهور ينحر فى كلّ يوم ألف ناقة، وكسا البيت وعلّق عليه بابا من الذهب. ولمّا هلك ملك بعده ابن عمّه مرثد بن عبد كلال بن تبّع الأقرن المعروف بذى الأعواد. قال: وكان ملكه أربعين سنة. ولمّا هلك ملك بعده أولاده وكانوا أربعة مشتركين فى الملك على كلّ واحد منهم تاج. قال: وخرجوا إلى مكة ليقلعوا الحجر الأسود ويبتنوا بيتا بصنعاء يكون حجّ الناس إليه؛ فاجتمعت كنانة وقلّدوا أمرهم فهر بن مالك والتقوا فقتل ثلاثة من الملوك وأسر الرابع. ولمّا أسر هؤلاء ملكت بعدهم أختهم أبضعة ابنة ذى الأعواد. قال: وكانت فاجرة فقتلها قومها. ثم ملك بعد أولاد ذى الأعواد ملكيكرب بن عمرو بن سعد بن عمرو، وكانت مدّة ملكه عشرين سنة، وتحرّج عن سفك الدماء فلم يغز ولم يخرج من اليمن. ثم ملك بعده تبّع أسعد بن ملكيكرب. قال: ولمّا ملك غزا بنى معدّ بتهامة فى ثلاثمائة ألف طالبا لدماء الملوك الأربعة، واجتمع بنو معدّ وعقدوا الرّياسة لأميّة ابن عوف الكنانىّ المعروف بالعنسىّ، ثم نفست ربيعة أن تكون الرّياسة فى مضر فقعدت عنهم، فضعفت مضر عن تبّع وسألوه الصلح على أن يؤدّوا إليه عقل الملوك الأربعة، عن كلّ ملك ألف ناقة. وكذلك كانت دية الملوك فى الجاهليّة. وديات من قتل معهم من الجنود لكلّ رجل مائة ناقة، فقبل تبّع ما بذلوه وانصرف إلى أرضه ووقع الشرّ بين الحيّين: ربيعة ومضر، فأرسلت ربيعة إلى تبّع رسلا فعقد بينهم حلفا وعقدا، وهو الحلف الباقى بين ربيعة واليمن إلى أن جاء الإسلام. وأقام تبّع هذا بأرض الشام ما شاء الله، ثم سار إلى الهند فى البحر وباشر الحرب بنفسه فبرز الجزء: 15 ¦ الصفحة: 297 اليه ملك الهند، وهو ابن فوز الذى قتل الإسكندر أباه فقتله تبّع بيده، وتحصّنت اليهود بمدينتهم وحاصرهم تبّع شهرا حتى سألوه الأمان فآمنهم وقفل إلى بلاده. ثم ملك بعده ابنه حسّان بن تبّع. قال: فغزا العراق فى ثلاثمائة ألف وأتى فى طريقه مكة، وقد عادت إليها خزاعة عند وفاة فهر بن مالك، فأعطاه بنو نزار الطاعة. وروى عنه شعر يخبر فيه ببعثة نبيّنا صلى الله عليه وسلم: شهدت على أحمد أنّه ... رسول من الله بارى النّسم فلو مدّ عمرى إلى عمره ... لكنت وزيرا له وابن عمّ قال: ولمّا ورد العراق وجد الفرس وسلطانهم واه وقد مات هرمز وولدت امرأته غلاما، وهو سابور ذو الأكتاف، ومربّيه أحد عظماء الفرس، فلم يقم بضبط الملك؛ فاستقبلوه بالطاعة وأقرّوا له بالخراج، فأقام بالعراق حولا وعزم على غزو الصين فساء ذلك حمير وقالوا: نغيب عن أولادنا وعيالنا ولا ندرى ما يحدث بهم، فمشوا إلى عمرو أخى حسّان الملك وبعثوه على قتل أخيه على أن يملّكوه عليهم ويعود بهم الى بلادهم، وأعطوه العهود والمواثيق إلّا رجل يقال له ذو رعين، فقال لهم: إنكم إن قتلتم ملككم ظلما خرج الأمر منكم فلم يحفلوا به، فأقبل بصحيفة مختومة وقال لعمرو بن تبّع: لتكن هذه الصحيفة وديعة لى عندك الى وقت حاجتى إليها، وأقبل عمرو ليلا الى أخيه حسّان وهو نائم فى فراشه فقتله وانصرفت حمير الى بلادها. هكذا نقل ابن حمدون فى تذكرته. وقال أبو علىّ أحمد بن محمد بن مسكويه فى كتابه المترجم بتجارب الأمم فى أخبار الفرس: إنّ ملك الفرس يوم ذاك هو قباذ بن فيروز وهو أبو كسرى أنو شروان، وإنّ الملك الذى غزاه من ملوك حمير هو تبّع والد حسّان، وكان معه لما غزا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 298 الفرس ابنه حسّان وابن أخيه شمر. قال: فسار تبّع حتى نزل الحيرة ووجّه ابن أخيه شمرا ذا الجناح الى قباذ فقاتله فهزمه شمر حتى لحق بالرىّ، ثم أدركه بها فقتله. قال: ثم إنّ تبّعا أمضى شمرا ذا الجناح وابنه حسّان إلى الصّغد وقال: أيّكما سبق إلى الصين فهو عليها. وكان كلّ واحد منهما فى جيش عظيم يقال إنهما ستمائة ألف وأربعون ألفا، وبعث ابن أخيه- واسمه يعفر- إلى الروم. قال: فأمّا يعفر فإنه سار حتى أتى القسطنطينية، فأعطوه الطاعة والأتاوة ومضى إلى رومية فحاصرها، ثم أصابهم جوع ووقع فيهم الطاعون فتفرّقوا، وعلم الروم بذلك فوثبوا عليهم فلم يفلت منهم أحد. وأمّا شمر ذو الجناح فإنه سار حتى انتهى إلى سمرقند فحاصرها فلم يظفر منها بشئ، فلمّا رأى ذلك طاف بالحرس حتى أخذ رجلا من أهلها فاستمال قلبه ثم سأله عن المدينة وملكها فقال: أمّا ملكها فأحمق الناس ليس له همّ إلّا الأكل والشرب والجماع، ولكن له بنت هى التى تقضى أمر الناس، فمنّاه ووعده حتى طابت نفسه، ثم بعث معه هديّة إليها وقال: أخبرها أنى إنما جئت من أرض العرب للذى بلغنى من عقلها لتنكحنى نفسها، فأصيب منها غلاما يملك العرب والعجم، وإنّى لم أجئ ألتمس مالا، وإنّ معى من المال أربعة آلاف تابوت ذهبا وفضّة هاهنا، وأنا أدفعها إليها وأمضى إلى الصين، فإن كانت لى الأرض كانت امرأتى، وإن هلكت كان المال لها. فلمّا انتهت رسالته إليها قالت: قد أجبته فليبعث بالمال، فأرسل إليها بأربعة آلاف تابوت، فى كلّ تابوت رجلان، وكان بسمرقند أربعة أبواب على كلّ باب منها أربعة آلاف رجل. قال: وجعل شمر العلامة بينه وبينهم أن يضرب لهم بالجلجل، وتقدّم بذلك الى رسله الذين وجّههم، فلمّا صاروا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 299 بالمدينة ضرب لهم بالجلجل فخرجوا وأخذوا بالأبواب، ونهد «1» شمر فى الناس فدخل المدينة وقتل أهلها، واحتوى على ما فيها. ثم سار إلى الصين فلقى الترك فهزمهم، وانتهى إلى حسّان بن تبّع بالصين فوجده قد سبقه إليها بثلاث سنين. قال: وفى بعض الروايات وهى المجتمع عليها: إنّ حسّان وشمرا انصرفا فى الطريق الذى كانا أخذا فيه حتى قدما على تبّغ بما حازا من الأموال بالصين وصنوف الجوهر والطّيب والسّبى، ثم انصرفوا جميعا إلى بلادهم، فكانت وفاة تبّع باليمن. وكان ملكه مائة سنة وإحدى وعشرين سنة. قال: وأمّا فى الرواية الأخرى فإنّ تبّعا أقام وواطأ ابنه حسّان وابن أخيه شمر أن يملكا الصين ويحملا إليه الغنائم، ونصب بينه وبينهم المنار، فكان إذا حدث حدث أوقدوا النار، فأتى الخبر فى ليلة. قال: وقد ذكر بعض الرّواة أنّ الذى سار فى المشرق من التبابعة تبّع الأخير؛ وهو تبّع تبّان أسعد أبو كرب بن مليك بن زيد بن عمرو بن ذى الأذعار، وهو أبو حسّان. انتهى ما أورده ابن مسكويه من أخبارهم، فلنرجع إلى مساق ما قدّمناه مما نقله ابن حمدون. قال: ثم ملك بعده حسّان بن تبّع أخوه، فقتله عمرو بن تبّع. قال: وانصرف بالقوم إلى بلادهم فسلّط الله عليه السّهر فكان لا ينام، فجمع الكهنة والقياف والعرّافين فسألهم عن ذلك فلم يعرفوه، فقال له رجل منهم: إنه يقال من قتل أخاه ظلما سلّط الله عليه السهر وحرم النوم، فأحال بالذنب على حمير وجعل يقتل من أشار عليه بقتل أخيه واحدا بعد واحد، ثم أرسل إلى ذى رعين ليلحقه بمن قتل من الجزء: 15 ¦ الصفحة: 300 أصحابه، فقال: أيّها الملك إنّى خالفت القوم فيما زيّنوا لك من قتل أخيك. قال: ومن يعلم ذلك؟ قال: الصحيفة التى أودعتها عندك، فأخرجها فقرأها فإذا فيها: ألا من يشترى سهرا بنوم ... خلىّ من يبيت قرير عين فإن تك حمير غدرت وخانت ... فمعذرة الإله لذى رعين قال: فخلّى عمرو سبيله. قال: ولمّا قتل عمرو أشراف قومه وصناديدهم تضعضع أمر حمير ووهى ملكها، فطمع فيه بنو كهلان بن سبأبن يشجب بن يعرب بن قحطان، فوثب ربيعة ابن نصر بن الحارث بن عمرو بن عدىّ بن مرّة بن زيد بن مذحج بن كهلان فى قومه وجمعهم من أقطار الأرض، وجمع له عمرو بن تبّع والتقوا فقتل عمرو بن تبّع. وملك بعده ربيعة بن نصر المقدّم ذكره قال: وكان قد رأى رؤيا أزعجته وعبّرت له أنّ الحبشة تملك بلاده؛ فوجّه ابن أخيه جذيمة بن عمرو بن نصر ومعه ابنه عدىّ بن ربيعة وهو صبىّ، ووجّه معهما حرمه وخزائنه، وكتب لهم الى سابور ذى الأكتاف، فأسكنهم سابور الحيرة وملّكهم ما حولها. قال: ولمّا بلغ عدىّ بن ربيعة الحلم زوّجه جذيمة أخته رقاش فولدت له عمرو بن عدىّ. وهؤلاء ملوك الحيرة على ما نذكره فى أخبارهم. قال: ولمّا مات ربيعة بن نصر تجّمعت حمير فآذنت كهلان بحرب أو إعادة الملك فيهم، ودخل بينهم السفراء فسلّموا الملك الى حمير فملّكت حمير عليها أبرهة ابن الصّبّاح بن لهيعة «1» بن شيبة الحمد بن مرثد بن الحير بن سيف بن مصلح الجزء: 15 ¦ الصفحة: 301 ابن عمرو بن مالك بن زيد بن سعد بن عوف بن عدىّ بن مالك بن زيد بن سعد ابن زرعة بن ذى المنار. قال: فملك عليهم ومكث طول أيّام سابور ذى الأكتاف ثم مات. فملك بعده ابن عمه صهبان بن محرّث. قال: فبعث عمّاله على أرض العرب، واستعمل على ولد سعد بن عدنان ابن خاله الحارث بن عمرو بن معاوية بن كندة ابن عدىّ بن مرّة بن زيد بن مذحج بن كهلان، وكان الحارث يلقّب بآكل المرار، وهو جدّ امرئ القيس الشاعر بن حجر بن الحارث، وهو جدّ الأشعث بن قيس ابن معد يكرب بن جبلة بن عدىّ بن الحارث المذكور؛ فقسّم الحارث مملكته بين ولده، وكانوا ثلاثة: فملّك ابنه حجرا على أسد وكنانة، وملّك شرحبيل على قيس وتميم، وملّك [سلمة «1» ] على ربيعة، فمكثوا كذلك حينا حتى مات أبوهم الحارث فوثبت بنو أسد على حجر فقتلوه، ووثبت قيس وتميم على شرحبيل فطردوه، فغضب صهبان وتجهّز للمسير الى مضر، فاستغاثت مضر بربيعة وجاءت وفودهم إليهم واستنصروهم، ورئيسهم كليب بن ربيعة بن الحارث بن زهير بن جشم ابن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب بن وائل، واجتمعت ربيعة ومضر والرياسة على الحّيين لكليب؛ فقاتلوا صهبان وعظماء قومه، وهو اليوم المشهور فى العرب، فقتل صهبان. وفى هذا اليوم يقول عمرو بن كلثوم: ونحن غداة أوقد فى خزاز «2» ... رفدنا فوق رفد الرافدينا فكنّا الأيمنين إذا التقينا ... وكان الأيسرين بنوا أبينا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 302 فآبوا بالنّهاب وبالسّبايا ... وأبنا بالملوك مصفّدينا قال: ولمّا قتل صهبان بن محرّث ملك بعده الصّبّاح بن أبرهة بن الصّبّاح. قال: وكان نجدا جلدا، فسار الى معدّ فى مئتى ألف يطلب ثأر صهبان. قال: وتجّمعت معدّ ورئيسهم كليب أيضا، وكانت الحرب بينهم بموضع يسمّى الكلاب، فآنهزمت اليمن. وهذان اليومان من مفاخر نزار على اليمن، وامتنعت معدّ بعد ذلك على اليمن حتى قتل كليب بن ربيعة. قال: ولما مات الصّبّاح ملك بعده ابن عمّ له فاسق، وقيل: إن الذى ملك لخنيعة ذو شناتر، قال: ولم يكن من أهل بيت الملك، فأغرى بحبّ الأحداث من أبناء الملوك، فكان يطالبهم بما يطالب به النسوان، وكان لا يسمع بأحد من فتيان العرب وأولاد الملوك حسن الصورة إلّا استدعاه وطالبه بهذا الفعل القبيح، ولم يزل على هذه الطريقة المذمومة حتّى نشأ غلام من أبناء ملوك حمير اسمه زرعة ابن كعب ويدعى ذانواس؛ سمّى بذلك لأنه كان له ذؤابتان تنوسان على عاتقه، وكان وضيئا، فاستدعاه لمثل ما كان يدعو اليه غيره، فجعل تحت إخمصه سكّينا، فلمّا خلا به الملك واثبه ذونواس فقتله ثم حزّ رأسه، وكان له كوّة يشرف منها على عبيده إذا قضى حاجته من الغلام الذى يكون عنده ويضع مسواكا فى فيه، فلمّا قتله ذو نواس جعل السواك فى فيه، وجعل رأسه فى تلك الكوّة التى كان يشرف منها على عبيده، ثم خرج على العبيد فقالوا [له «1» ] : ذو نواس، أرطب أم يباس؟. فقال لهم: سل نخماس، استرطبان ذو نواس. استرطبان لا باس «2» . وتفسير ذلك: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 303 سلوا الرأس التى فى الكوّة تخبركم واتركوا ذا نواس، قال: فأجمعت حمير عليه أمرها وقالوا: ينبغى أن نملّكه لأنه أراحنا من هذا الفاسق. فملك عليهم ذو نواس زرعة هذا. قال: ولمّا ملك واستتبّ له الأمر فارق عبادة الأوثان ودخل فى دين اليهوديّة وقتل من كان فى بلاد اليمن على دين عيسى ابن مريم عليه السلام ممن امتنع من موافقته، ثم قصد نجران وبها عبد الله بن الثامر وأصحابه وهم على دين عيسى عليه السلام، فسألهم الدخول فى اليهوديّة فامتنعوا، فقتل عبد الله بن الثامر بالسيف وأضرم للباقين نارا عظيمة فألقاهم فيها، وهم أصحاب الأخدود الذين ذكرهم الله تعالى فى كتابه العزيز فقال: (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ. إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ. وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ. وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ «1» ) . قال: ولم ينج منهم إلا نفر قليل. وكان سبب تهوّده أنّ حمير كان لها بيت نار فيه أصنامهم، وكان يخرج من تلك النار عنق يمدّ مقدار فرسخين، فحضر عنده قوم من اليهود وقالوا: أيها الملك إنّ هذا العنق من النار شيطان، فطلب منهم تبيان ذلك، فنشروا التوراة وقرءوها فتراجع ذلك العنق وطفئت تلك النار، فأعظم ذو نواس ذلك ودخل فى دين اليهوديّة. قالوا: ثم إنّ أحد الناجين من نجران- ويعرف بدوس بن «2» ذى ثعلبان- قصد قيصر ملك الروم مستنجدا به، ومعظّما عنده ما جرى على قومه وهم على دينه، فاعتذر اليه ببعد دياره وقال: سأكتب لك الى ملك على دينك قريب من ديارك، فكتب الى النجاشىّ ملك الحبشة، فلمّا عرض عليه الكتاب وحدّثه بما جرى على أهل ملّته غضب وحمى لأهل دينه، وندب من جنوده سبعين ألف رجل مع الجزء: 15 ¦ الصفحة: 304 ابن عمّه أرياط «1» ، وتقدّم إليه بأن يقتل كلّ من باليمن على دين اليهوديّة، فركب أرياط فى البحر حتى انتهى الى عدن فأحرق السفن وقال: يا معشر الحبشة، العدوّ أمامكم، والبحر وراءكم، ولا منجى لكم إلّا الصبر حتى تظفروا أو تموتوا كراما. قال: والتقوا واقتتلوا فانهزمت حمير بعد حرب عظيمة وقتل منهم خلقا كثيرا. قال: واقتحم ذو نواس البحر بفرسه وقال: والله الغرق أفضل من أسر السّودان، فغرق. وكان ملكه مائتى سنة وستين سنة، وهو آخر من ملك اليمن من قحطان. فجميع ما ملكوا من السنين ثلاثة آلاف سنة واثنتان وثمانون سنة. واستولت الحبشة على ملك اليمن ففرّق أرياط الأموال على أشراف الحبشة وحرم الضعفاء، فجمع أبرهة أحد قوّاد الحبشة جمعا منهم وخرج على أرياط وحاربه فقتله أبرهة بيده واستولى أبرهة على ملك اليمن. ولمّا بلغ خبرهما النجاشىّ غضب لقتل أرياط وحلف لأطأنّ أرض أبرهة سهلها وجبلها برجلى، ولأجزّنّ «2» ناصيته بيدى، ولأهرقنّ دمه بكفّى، وتجهّز للمسير الى أرض اليمن، فبلغ ذلك أبرهة فملأ جرابين من تراب السّهل والجبل، وعمد الى ناصيته فجزّها ووضعها فى حقّ، واحتجم وجعل دمه فى قارورة وختم عليه وعلى الحقّ الذى فيه ناصيته بالمسك، وبعث بذلك الى النجاشىّ وكتب إليه يعتذر مما فعله أرياط وأنه خالف سيرتك فى العدل، وقد بلغنى ما حلفت، وقد بعثت إليك بجرابين من تراب السهل والجبل، فطأها هنالك برجلك، وجزّ ناصيتى بيدك، وأهرق دمى بكفّك، وبرّ فى يمينك، ولطّف غضبك عنّى فإنما أنا عبد من عبيدك، وعامل من الجزء: 15 ¦ الصفحة: 305 عمّالك. فأعجب النجاشىّ عقل أبرهة وأقرّه على مكانه ورضى عنه؛ فبقى الى زمان كسرى أنو شروان وهو صاحب الفيل. وكانت قصّته أنه نظر الى أهل اليمن يتأهّبون للحجّ، فسأل عن أمرهم، فأخبر أنهم يخرجون حجّاجا الى مكة فقال: أنا أكفيهم تجشّم هذا السفر البعيد ببيعة أبنيها بصنعاء فيكون حجّ اليمن إليها، وأمر ببنائها فبنيت. وقد تقدّم وصفها فى الفنّ الأوّل «1» فى المبانى، ونصب عند المذبح درّة عظيمة تضىء فى الليلة الظلماء كما يضىء السّراج، ثم نادى فى أهل مملكته بالحجّ إليها، فغضب العرب لذلك، فانطلق رجلان من خثعم فأحدثا فى البيت الذى بناه ولطّخاه بالعذرة. وقيل: إنّ الذى فعل ذلك رجل من كنانة، فاتّهم أبرهة قريشا بذلك، وكان حينئذ بصنعاء تجّار من قريش فيهم هشام بن المغيرة، فأحضرهم وسألهم عمّن أحدث فى بيعته، فأنكروا أن يكونوا علموا بشىء من ذلك، فقال أبرهة: ظننت أنكم فعلتم ذلك غضبا لبيتكم الذى يحجّ إليه العرب، فقال هشام بن المغيرة: إنّ بيتنا حرز تجتمع فيه السّباع مع الوحوش، وجوارح الطير مع البغاث، ولا يعرض منها شىء لصاحبه، وإنما ينبغى أن يحجّ الى بيعتك هذه من كان على دينك، فأمّا من كان على دين العرب فلا يؤثر على ذلك شيئا. فأقسم أبرهة ليسيرنّ الى البيت فيهدمه حجرا حجرا. فقال له هشام بن المغيرة: إنه قد رام ذلك غير واحد من الملوك فما وصلوا إليه لأنّ له ربّا يمنعه. فخرج أبرهة فى أربعين ألفا وسار بالفيل، فغضبت لفعله همدان وجمعت إليها قبائل من اليمن- وكان ملكهم رجلا من أشراف اليمن يقال له ذو نفر- فاستقبلوه فحاربوه فهزمهم وظفر بذى نفر ملك همدان ونفيل بن الجزء: 15 ¦ الصفحة: 306 حبيب سيّد خثعم أسيرين فأمر بضرب عنقهما. فقالا: أيها الملك، استبقنا لندلّك على الطريق فإنّا من أدلّ العرب، ففعل ذلك. فلمّا صاروا فى مفرق الطريقين: مكة والطائف، قال ذو نفر لابن حبيب: كفى بنا عارا أن ننطلق بهذا الأسود الى بيت الله تعالى فيهدمه! قال ابن حبيب: هلّم بنا لنأخذ به طريق الطائف فيشتغل بثقيف ولعلّه يرى ما يسوءه، فلم يشعر أهل الطائف صباحا إلّا والجيوش قد وردت عليهم، فخرج أبو مسعود الثقفىّ فى نفر منهم، فأعلم أبرهة أنها ليست طريقه، وسار أبرهة حتى أتى مكة واستاق السوائم ونزل على حدّ الحرم؛ فكان فيما ساق مائتا ناقة لعبد المطّلب بن هاشم، فركب عبد المطّلب فرسه وقصد العسكر ودخل على أبرهة فأعجبه جماله وأكرمه ونزل عن سرير كان عليه وجلس دونه حتى لا يرفع عبد المطلب إليه، ثم قال له: ما حاجتك؟ قال: حاجتى أن يردّ علىّ الملك مائتى بعير أصابها لى. فلمّا قال له ذلك، قال له أبرهة: قد كان بلغنى شرفك فى العرب وفضلك فأحببتك، ثم دخلت علىّ فرأيت من جمالك ووسامتك ما زادنى حبّا، فنقصت عندى فى سؤالك إياى مائتى ناقة وتركت أن تسألنى فى الرجوع عمّا هممت به من هدم هذا البيت الذى هو شرفك وعزّك! قال عبد المطلب: أيها الملك، إنّ لهذا البيت ربّا سمينعه منك وأنا ربّ إبلى، وقد رام هدمه من لا يحصى من الملوك فرجعوا بين أسير وقتيل، فردّ إبله؛ واجتمع الى عبد المطّلب أشراف قومه فقالوا: اجعل له مالا نجمعه له ليرجع عما همّ به من هدم هذا البيت. قال لهم عبد المطلب: وما عيسى أن نجعل له من المال مع عظم ما هو فيه من الملك والسلطان! اطمئنّوا، الله أمددكم «1» ، فو الله لا يصل إليه أبدا. ثم أنشد عبد المطلب يقول: يا ربّ إنّ المرء يمنع ... جاره فامنع حلالك الجزء: 15 ¦ الصفحة: 307 لا يغلبنّ صليبهم ... بغيا وما جمعوا محالك إن كنت تاركهم وقب ... لمتنا فأمر ما بدالك «1» ثم علا جبل أبى قبيس هو وحكيم بن حزام ونفر من سادات قريش، وهرب الناس فلحقوا برءوس الجبال، وأمّ أبرهة البيت وقدّم أمامه الفيل، وكان أكبر فيل رآه الناس كالجبل العظيم، واسمه بلسان الحبشة محمود؛ فلمّا انتهى الفيل إلى طرف الحرم برك، فكانوا ينخسونه، فإذا أخذوا به يمينا وشمالا هرول، وإذا أقحموه برك. فلم يزل كذلك بقيّة يومهم. فلمّا قارب المساء نظروا إلى طير قد أقبلت من نحو البحر لا تحصى كثرة أصغر من الحمام، فعجبوا من كثرتها ولم يعرفوها ولا رأوا على خلقتها طيورا، وكان مع كلّ طير ثلاثة أحجار: حجران فى رجليه، وحجر فى منقاره، على مقدار الحمص، فرفرفت على رءوسهم وأظّلت عسكرهم، ثم قذفت بالحجارة عليهم، وهبّت ريح شديدة فزادت الحجارة صعوبة وقوّة، فكان الحجر منها إذا وقع على رأس الرجل منهم نفذ حتى يخرج من دبره، فإذا سقط على بطنه خرج من ناحية ظهره؛ فكان ما أخبر الله عزّ وجلّ عنهم فى سورة الفيل: (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ «2» ) . وخرج عبد المطّلب وأصحابه فملأوا أيديهم من المال، وأرسل الجزء: 15 ¦ الصفحة: 308 إلى قريش فجاءوه من الجبال وغنموا ما شاءوا، فعظمت قريش فى أعين العرب وسمّوهم آل الله، وازداد عبد المطّلب وأصحابه شرفا. وولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قدومهم بخمس وخمسين ليلة. وكان ذلك بعد عشرين سنة من ملك أنو شروان. وملك اليمن بعد أبرهة ابنه يكسوم. ثم ملك بعده مسروق بن أبرهة، وهو الذى زال ملكه على يد سيف بن ذى يزن على ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر خبر سيف بن ذى يزن وعود الملك إلى حمير وذلك أنّ حمير لمّا رأت ملك الحبشة قد دام عليهم وتوارثوه فيهم، اجتمع ساداتهم إلى سيف بن ذى يزن- وهو من أولاد ذى نواس الذى غلب الحبشة على اليمن فى أيام ملكه- وبذلوا له أن يجمعوا له نفقة تقيمه ليسير إلى بعض الملوك فيستنجده ففعل ذلك، وسار حتى وافى القسطنطينية إلى قيصر ملك الروم، فاستنجده فقال له قيصر: إنّ الجيش على دينى، وما كنت لأعينك عليهم، وأمر له بعشرة ألف درهم، فأبى أن يقبلها وقال: إذا لم تنصرنى فلا حاجة لى إلى مالك. وانصرف إلى كسرى واستنجده، فقال له كسرى: بعدت بلادك عن بلادنا مع قلّة خيرها، إنما فيها الشاء والبعير وما لا حاجة لى فيه. فقال له سيف: لا تزهدنّ أيها الملك فى بلادى فإنها فرضة العرب، وأرض التبابعة الذين ملكوا أقطار أقاليم الأرض، ودان لهم أهل الشرق والغرب. قال كسرى: ما كنت لأغرّر بجندى الجزء: 15 ¦ الصفحة: 309 فيما لا ينفعنى وأمر له بعشرة آلاف درهم. فلمّا انتهى إلى باب القصر نثرها فى الناس حتى أتى عليها، فبلغ ذلك كسرى فغضب وقال له: ما الذى حملك على استخفافك بصلتى حتى نثرتها فى الناس؟ قال: ما أصنع بالمال وتراب أرضى ذهب وفضّة! ثم خنقته العبرة، فرقّ له كسرى ووعده بالانتصار له، فأشار عليه بعض وزرائه فقال: إنّ فى سجونك بشرا كثيرا ممن استوجب القتل، فمر بإطلاقهم، وقوّهم بالمال والكراع «1» والسّلاح، ووجهّهم مع هذا العربىّ، فإن ظفروا كان ذلك زيادة فى ملكك، وإن قتلوا كان ذلك جزاء عن جرائمهم. فأعجب كسرى هذا الرأى وعمل به وقدّم عليهم وهرز بن كامخان، وكان من فرسان العجم وأهل البيوتات، وقد أناف على المائة من السنين، وكانت عدّتهم ثلاثة آلاف وستمائة رجل، فركبوا البحر فى سبع سفن، وأرسل سيف إلى اليمن ومخاليفها، فأتوه من أقاصى اليمن وأدانيها حتى صاروا فى عشرين ألفا، وتجهّز إليهم مسروق، فلمّا التقيا قال وهرز لسيف: أرنى ملكهم، فأراه إيّاه؛ وهو على فيل وعلى رأسه التاج وفيه ياقوتة حمراء مدلّاة على جبينه، فلبث ساعة ثم تحوّل إلى فرس ثم تحوّل إلى بغلة، فقال وهرز: ذلّ الأسود وباد ملكه، وأنا أرميه فتأمّل الرّمية، فإن رأيت أصحابه تصدّعوا عنه وحاصوا «2» يمينا وشمالا فاعلم أنّى قتلته، وإن لم يتحرّكوا من منازلهم فلم أصنع شيئا؛ ورماه، ففلق السهم الياقوتة نصفين وخرج من مؤخّر رأس مسروق، واضطربت الحبشة وماجوا، وحمل عليهم وهرز ومن معه والعرب فولّوا منهزمين، ودخلوا صنعاء وقتلوا كلّ أسود يوجد فى اليمن. وكتب وهرز إلى كسرى بالفتح، فكتب الجزء: 15 ¦ الصفحة: 310 إليه كسرى أن يسأل عن سيف «1» بن ذى يزن، فإن كان من أبناء الملوك فأقرّه على ملكه وانصرف عنه، وإن لم يكن من أبنائهم فاضرب عنقه وأقم فى الأرض متولّيا لهم. قال: فسلّم وهرز إليه ملكه وخلف من كان معه من العجم بصنعاء وانصرف إلى كسرى، وملك سيف اليمن لكسرى، وتداولتها الولاة بعده من قبل كسرى. وكان ملك الحبشة على اليمن اثنتين وسبعين سنة ثم انتزع عنهم. ذكر أخبار ملوك الشام من ملوك قحطان قال عبد الملك بن عبدون فى كتابه المترجم بكمامة الزهر وصدفة الدرّ «2» : ومن أهل اليمن من خرج منها فملك الشام، وهم آل جفنة وأوّلهم: الحارث بن عمرو بن عامر ابن حارثة [بن امرئ القيس بن مازن بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك «3» ] بن زيد ابن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، ويكنى الحارث بأبى شمر. ثم تداولها منهم سبع وثلاثون ملكا. ومدّة ما ملكوا من السنين ستمائة سنة وست عشرة سنة إلى أن كان آخرهم جبلة بن الأيهم، وهو الذى تنصّر فى أيام عمر ابن الخطاب رضى الله عنه بعد أن كان قد أقبل إلى عمرو أسلم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 311 ثم إنه كان فى الطواف فداس رجل طرف ردائه فلطمه جبلة، فأتى الرجل عمر رضى الله عنه فطلب جبلة ليقيده منه فنتصّر جبلة ولحق بهرقل صاحب القسطنطينية، فأقطعه هرقل الأموال والضياع والرباع، ثم ندم جبلة على ما كان منه وقال: تنصّرت الأشراف من أجل لطمة ... وما كان فيها لو صبرت لها ضرر تكنّفنى منها لجاج ونخوة ... فبعت لها العين الصحيحة بالعور فياليت أمّى لم تلدنى وليتنى ... رجعت إلى القول الذى قاله عمر ويا ليتنى أرعى المخاض بقفرة ... وكنت أسيرا فى ربيعة أو مضر ويا ليت لى بالشام أدنى معيشة ... أجالس قومى ذاهب السمع والبصر وحكى أنّ عمر بن الخطاب رضى الله عنه بعث إلى هرقل رسولا يدعوه إلى الإسلام أو الى الجزية فأجاب إلى الجزية، فلمّا أراد الرسول الانصراف قال له هرقل: ألقيت ابن عمّك هذا الذى عندنا- يعنى جبلة- الذى أتانا راغبا فى ديننا؟ فقال: ما لقيته. قال ألقه، قال الرسول: فذهبت إلى باب جبلة فإذا عليه من القهارمة والحجّاب والبهجة وكثرة الجمع مثل ما على باب هرقل. قال: فتلطّفت فى الدخول عليه حتى أذن لى، فدخلت فرأيته أصهب اللحية، وكان عهدى به أسود اللحية والرأس، فأنكرته وإذا هو قد ذرّ سحالة «1» الذهب على لحيته حتى صار أصهب، وهو قاعد على سرير من قوارير، قوائمه أربعة أسود من الذهب. قال: فلمّا عرفنى رفعنى معه على السرير. قال: وجعل يسألنى عن المسلمين وعن عمر رضى الله عنه؛ فذكرت خيرا وعرّفته أنّ المسلمين كثروا. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 312 ثم انحدرت عن السرير فقال لى: لم تأبى الكرامة التى أكرمناك بها؛ قلت: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا. قال: نعم! صلى الله عليه وسلم، ولكن نقّ قلبك من الدنس ولا تبال على ما قعدت. فلمّا سمعته يصلّى على النبىّ صلى الله عليه وسلم طمعت فيه فقلت له: ويحك يا جبلة! ألا تسلم وقد عرفت الإسلام وفضله؟ قال: أبعد ما كان منّى؟ قلت: نعم. قال: إن كنت تضمن لى أن يزوّجنى عمر ابنته ويولّينى الإمرة بعده رجعت إلى الإسلام. قال الرسول: فضمنت له التزويج ولم أضمن له الإمرة. قال: ثم أومأ إلى خادم كان على رأسه فذهب مسرعا فإذا خدّام قد جاءوا يحملون الصناديق فيها الطعام، فوضعت ونصبت موائد الذهب وصحاف الفضّة، وقال لى: كل. فقبضت يدى وقلت: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الأكل فى آنية الذهب والفضّة. قال: نعم! صلى الله عليه وسلم، ولكن نقّ قلبك وكل فيما أحببت. قال: فأكل فى الذهب وأكلت فى الخلنج «1» ، ثم جىء بطسات الذهب وأباريق الفضّة فغسل يده فيها وغسلت فى الصّفر «2» ، ثم أومأ إلى خادم فمرّ مسرعا فإذا خدم معهم كراسىّ الذهب مرصّعة بالجواهر، فوضعت عشرة عن يمينه وعشرة عن شماله، ثم جاءت الجوارى عليهنّ تيجان الذهب مرصّعة بالجواهر، فقعدن عن يمينه وعن شماله على تلك الكراسى، ثم جاءت جارية كأنها الشمس حسنا على رأسها تاج، على ذلك التاج طائر وفى يدها اليمنى جامة فيها مسك فتيت، وفى يدها اليسرى جامة فيها ماء ورد؛ فأومأت الجارية أو صفّرت بالطائر الذى على تاجها فوقع فى جام ماء الورد الجزء: 15 ¦ الصفحة: 313 فاضّطرب فيه، ثم أومأت إليه أو صفّرت فوقع فى جام المسك فتمرّغ فيه، ثم أومأت فطار حتى نزل على تاج جبلة، فلم يزل يرفرف حتى نفض ما عليه فى رأسه، فضحك جبلة سرورا به، ثم التفت الى الجوارى اللواتى عن يمينه وقال لهنّ: بالله أضحكننا، فاندفعن يغنّين بخفق عيدانهنّ ويقلن: لله درّ عصابة نادمتهم ... يوما بجلّق «1» فى الزّمان الأوّل يسقون من ورد البريص «2» عليهم ... بردى «3» يصفّق بالرّحيق السّلسّل يغشون حتى ما تهرّ كلابهم ... لا يسألون عن السّواد المقبل بيض الوجوه كريمة أحسابهم ... شمّ الأنوف من الطّراز الأوّل أولاد جفنة عند قبر أبيهم ... قبر ابن مارية «4» الكريم المفضل قال: فضحك حتى بدت نواجذه ثم قال: أتدرى من يقول هذا؟ قلت لا؛ قال: حسان بن ثابت، ثم أشار الى الجوارى اللواتى عن يساره فقال لهنّ: بالله أبكيننا، فاندفعن يغنّين بخفق عيدانهنّ ويقلن: لمن الدار أقفرت بمعان «5» ... بين أعلى اليرموك «6» فالخمّان «7» ذاك مغنى لآل جفنة فى الدهر ... وحقّ تعاقب الأزمان الجزء: 15 ¦ الصفحة: 314 قد أرانى هناك دهرا مكينا ... عند ذى التاج مقعدى ومكانى «1» قال: فبكى حتى سالت دموعه على لحيته، ثم قال: أتدرى من يقول هذا؟ قلت: لا، قال: حسّان، ثم أنشد: تنصّرت الأشراف الأبيات ثم سألنى عن حسّان أحىّ هو؟ قلت: نعم، فأمر له بكسوة ولى بمثلها، وأمر بمال لحسّان ونوق موقرة برّا ثم قال: إن وجدته حيّا فادفع الهديّة إليه، وإن وجدته ميتّا فادفعها إلى أهله وانحر النّوق على قبره. قال: فلمّا أخبرت عمر بخبره وما اشترط علىّ وما ضمنت له قال: فهلّا ضمنت له الأمر فإذا أفاء الله به قضى الله علينا بحكمه! ثم جهّزنى عمر إلى القسطنطينية إلى هرقل ثانية وأمرنى أن أضمن له ما اشترط، فلمّا دخلت القسطنطينية وجدت الناس قد انصرفوا من جنازته، فعلمت أنّ الشقاء غلب عليه فى أمّ الكتاب. ذكر أخبار ملوك الحيرة وهم من آل قحطان وأوّلهم مالك بن فهم بن غنم بن دوس بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك ابن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان «2» . وكان قد خرج من اليمن مع عمرو بن عامر حين أحسّوا بسيل العرم، وقد ذكرنا أنّ الملك ربيعة ابن نصر كان قد بعثهم إلى سابور فأسكنهم الحيرة وملكوا ما حولها. والله أعلم. قال: وكان ملك مالك على الحيرة عشرين سنة. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 315 ثم ملك بعده ابنه جذيمة «1» وهو الوضّاح. قال: وكان يقال له ذلك لبرص كان به؛ ويقال أيضا فيه الأبرش، وكان ينزل الأنبار، وكان لا ينادم أحدا من الناس ذهابا بنفسه على الندماء، وكان ينادم الفرقدين فإذا شرب قدحا صبّ [فى الأرض «2» ] لهذا قدحا ولهذا قدحا. ويقال: إنه أوّل من عمل المنجنيق من الملوك، وأوّل من حذيت له النّعال. وأوّل من وقد بين يديه الشمع، وهو الذى قتلته الزّبّاء بحيلة. ثم ملك بعده ابن أخته عمرو بن عدىّ بن ربيعة. قالوا: وعمرو هذا هو الذى استهوته الجنّ دهرا طويلا ثم رجع؛ فبينما مالك وعقيل ابنا فارح وقيل- قالح- يقصدان جذيمة الملك بهديّة إذ نزلا على ماء ومعهما قينة يقال لها: أمّ عمرو، فتعرّض لهما عمرو، وقد طالت أظفاره وشعره وساءت حالته وهيئته، فجلس إليهما- وكانا يأكلان- فمدّ إليهما يده مستطعما فناولته تلك الجارية طعاما فأكله، ثم مدّ يده ثانية فقالت: إن يعط العبد كراعا يبتع ذراعا! ثم ناولت صاحبيها من شرابها وأوكأت «3» سقاءها، فقال عمرو: صددت الكأس عنّا أمّ عمرو ... وكان الكأس مجراها اليمينا وما شرّ الثلاثة أمّ عمرو ... بصاحبك الذى لا تصبحينا «4» الجزء: 15 ¦ الصفحة: 316 فقالوا له: من أنت؟ فانتسب لهما، ففرحا به وأقبلا على خاله- وقد كان جعل الجعائل لمن يأتيه به- فلمّا أتياه به قال جذيمة لهما: لكما حكمكما. فقالا: منادمتك. فكانا كما اختارا، وسار بهما المثل. ويقال: إنهما نادماه أربعين سنة، فما أعادا عليه حديثا مما حدّثاه به مرّة أخرى، بل كانا يحدّثانه بحديث جديد لم يسمعه منهما قبل. وعمرو هذا هو الذى أخذ بثأر خاله جذيمة من الزّبّاء وقتلها. وذلك أنّ قصير ابن سعد كان من غلمان جذيمة قال لعمرو: اضرب ظهرى واقطع أرنبة أنفى واتركنى والزّبّاء، فإنّى سأحتال لك عليها، ففعل به ذلك، ففرّ قصير إلى الزّبّاء وصار فى جملة رجالها وأراها النصح والاجتهاد فى حوائجها، وأنه غاشّ لعمرو ابن عدىّ؛ وجعل يتّجر لها ويذهب لعمرو فى السرّ فيعطيه الأموال فيأتيها بها، كأنّ ذلك من اجتهاده وحذقه فى التجارة حتى اطمأنّت له؛ فذهب إلى عمرو وأخذه وأخذ معه ألفى رجل وجعلهم فى جوالق على ألف جمل، ومعهم دروعهم وسيوفهم وجاء بهم على طريق يقال له الغوير «1» ، ولم يكن يسلكه قبل ذلك، فلمّا قرب من حصنها تقدّم إليها وأعلمها أنه قد أتاها بمال صامت، فأشرفت من أعلى قصرها تنظر إلى الجمال، فرأتها وكأنّها تنزع أرجلها من أوحال لثقل ما عليها، فقالت: «عسى الغوير أبؤسا» . فذهبت مثلا. ثم قالت: ما للمطايا مشيها وئيدا ... أجندلا يحملن أم حديدا أم صرفانا «2» باردا شديدا ... أم الرّجال جثّما قعودا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 317 وقد كان قصير قال لها قبل ذلك كالناصح: ما ينبغى لمثلك «1» إلا أن يكون له موضع ليوم، فإنه لا يدرى ما تحدثه الأيام؛ فأرته سربا فى ناحية قصرها قد نفذت فيه إلى حصن أختها- وكانا على ضفّتى الفرات- قال: فلمّا دخلت الإبل على البوّاب ضجر لكثرتها، حتى إذا كان آخرها طعن فى جوالق بعود كان فى يده، فقابلت الطعنة خاصرة الرجل الذى كان فى الجوالق فحنق فقال البوّاب: لشنا لشنا «2» ؛ أى شىء فى الجوالق، فثارت الرجال من الجوالق بأيديهم السيوف، فهربت الزّبّاء إلى ذلك السّرب فإذا هى بقصير عند النفق ومعه عمرو بن عدىّ، والسيف فى يده، فمصّت خاتما كان فى يدها فيه سمّ ساعة وقالت: «بيدى لا بيد عمرو» . وفى ذلك يقول المتلمس: وفى طلب الأوتار ما حزّ أنفه ... قصير ورام الموت بالسيف بيهس الجزء: 15 ¦ الصفحة: 318 وعمرو هذا هو الذى يقال فيه: «شبّ عمرو عن الطّوق» . وكانت مدّة ملكه مائة سنة. ثم ملك بعده ابنه امرؤ القيس. فكان ملكه ستين سنة. ثم ملك بعده ابنه عمرو بن امرئ القيس وهو محرّق العرب «1» . وكان ملكه خمسا وعشرين سنة، وكانت أمّه مارية التى يضرب المثل بقرطيها. ثم ملك بعده النعمان «2» بن المنذر فارس حليمة «3» ، وهو الذى بنى الخورنق «4» وكردس «5» الكراديس. وكان أعور «6» ، ويقال: إنه أشرف فى بعض الأيّام على ما حول الخورنق فقال: أكّل ما أرى إلى نفاد؟ قيل: نعم. قال: فأىّ خير فى ملك يكون آخره إلى نفاد! ثم انخلع من ملكه ولبس المسوح وسار فى الأرض. وقد ذكره عدىّ بن زيد فقال: وتفكّر ربّ الخورنق إذ أشرف ... يوما وللهدى تفكير سرّه حاله وكثرة ما يملك ... والبحر معرضا «7» والسّدير الجزء: 15 ¦ الصفحة: 319 فارعوى قلبه وقال: فما غبطة ... حىّ إلى الممات يصير؟ وكان ملكه خمسا وثلاثين سنة. ثم ملك الأسود بن النعمان. فكان ملكه عشرين سنة. ويقال: إنّ الأسود هذا هو الذى انتصر على غسّان وأسر عدّة من ملوكهم، وأراد أن يعفو عنهم، وكان للأسود ابن عمّ يقال له: أبو أذينة، قد قتل آل غسّان له أخا فى بعض الوقائع، فقال قصيدته المشهورة يغرى بهم الأسود بن النعمان: ما كلّ يوم ينال المرء ما طلبا ... ولا يسوّغه المقدار «1» ما وهبا وأحزم النّاس من إن فرصة عرضت ... لم يجعل السبب الموصول مقتضبا وأنصف الناس فى كلّ المواطن من ... سقى المعادين بالكأس الذى شربا وليس يظلمهم من راح يضربهم ... بحدّ سيف به من قبلهم ضربا والعفو إلّا عن الأكفاء مكرمة ... من قال غير الذى قد قلته كذبا قتلت عمرا وتستبقى يزيد لقد ... رأيت رأيا يجرّ الويل والحربا لا تقطعن ذنب الأفعى وترسلها ... إن كنت شهما فأتبع رأسها الذّنبا هم جرّدوا السيف فاجعلهم له جزرا «2» ... وأوقدوا النار فاجعلهم لها حطبا إن تعف عنهم تقول الناس كلّهم ... لم يعف حلما ولكن عفوه رهبا «3» وكان أحسن من ذا العفو لو هربوا ... لكنّهم أنفوا من مثلك الهربا همو أهلّة غسّان ومجدهم ... عال فإن حالوا ملكا فلا عجبا وعرضوا بفداء واصفين لنا ... خيلا وابلا يروق العجم والعربا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 320 أيحلبون دما منّا ونحلبهم ... رسلا «1» لقد شرّفونا فى الورى حلبا علام تقبل منهم فدية وهمولا ... فضّة قبلوا منّا ولا ذهبا فلمّا أنشده هذه القصيدة رجع عن رأيه فى العفو عنهم وقبول الفداء منهم وقتلهم. والله أعلم. ثم ملك بعده المنذر «2» بن الأسود؛ وكانت أمّه ماء السماء «3» . وكانت مدّة ملكه أربعا وثلاثين سنة. ثم ملك بعده عمرو بن المنذر. فكان ملكه أربعا وعشرين سنة. ثم ملك بعده المنذر بن عمرو بن المنذر. وكان ملكه ستّين سنة. ثم ملك بعده قابوس بن المنذر. فكانت مدّة ملكه ثلاثين سنة. ثم ملك بعده أخوه المنذر بن ماء السماء. ثم ملك بعده النعمان بن المنذر؛ وهو الذى قيل له: «أبيت اللّعن» وهو آخر من ملك من آلهم. وكان ملكه اثنتين وعشرين سنة. وها نحن نذكر ما قيل فى سبب ملكه وزواله. قالوا: وكان عدىّ بن زيد العبّادىّ وابنه زيد بن عدىّ سبب ولايته وسبب هلاكه، وذلك أنّ عديّا وأخويه، وهما عمّار وعمرو، كانوا فى خدمة الأكاسرة ولهم من جهتهم قطائع، وكان قابوس الأكبر عمّ النعمان بعث إلى كسرى أبرويز بعدىّ بن زيد وأخويه ليكونوا فى كتّابه يترجمون له، فلمّا مات الجزء: 15 ¦ الصفحة: 321 المنذر ترك من الأولاد اثنى عشر رجلا، وهم الأشاهب «1» ، سمّوا بذلك لجمالهم، وفيهم يقول الأعشى: وبنو المنذر الأشاهب بالحيرة ... يمشون غدوة كالسيوف «2» فجعل المنذر ابنه النعمان فى حجر عدىّ بن زيد هذا، وجعل ابنه الأسود فى حجر رجل يقال له: عدىّ بن أوس بن مرينا، وبنو مرينا «3» قوم لهم شرف، وهم من لخم، وترك المنذر بقيّة بنيه، وهم عشرة، يستقلّ كلّ واحد منهم بنفسه، وجعل المنذر على أمره كلّه إياس بن قبيصة الطائىّ، فلمّا مات قابوس طلب كسرى من يملّكه على العرب، فدعا عدىّ بن زيد فقال له: من بقى من بنى المنذر، وما هم؟ وهل فيهم خير؟ فقال: بقيّتهم فى ولد هذا الميّت، يعنى المنذر، وهم رجال نجباء؛ فكتب إليهم بالقدوم عليه، فقدموا فأنزلهم، على عدىّ بن زيد، وكان عدىّ يرى موضع النعمان لأنه فى حجره ويختاره على بقيّة إخوته فى الباطن، وهو يظهر لهم خلاف ذلك ويفضّلهم عليه فى الظاهر، ويكرم نزلهم ويخلو بهم ويريهم أنه لا يرجو النعمان، كلّ ذلك، ليطمئنّوا إليه ويرجعوا إلى رأيه، ثم خلا بكلّ منهم على انفراده وقال لهم: إن سألكم الملك: أتكفونى العرب فقولوا: نكفيهم إلّا النعمان، وقال للنعمان: إن سألك الملك عن إخوتك فقل له: إن عجزت عنهم فإنّى عن غيرهم أعجز. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 322 قال: وكان عدىّ بن أوس بن مرينا داهية أريبا، وكان يوصى الأسود ابن المنذر ويقول: قد عرفت أنّى لك راج، وأنّ طلبتى اليك ورغبتى أن تخالف عدىّ بن زيد فيما يشير به عليك، فإنه والله لا ينصح لك أبدا، فلم يلتفت الأسود الى قوله. فلمّا أمر كسرى عدىّ بن زيد أن يدخلهم عليه قدّمهم رجلا رجلا، وكسرى يرى رجالا قلّما رأى مثلهم، فإذا سألهم هل تكفونى العرب قالوا: نكفيك العرب كلّها إلّا النعمان. فلمّا دخل النعمان عليه رأى رجلا دميما قصيرا أحمر الشعر فكلمّه وقال: هل تستطيع أن تكفينى العرب؟ قال نعم، قال: فكيف تصنع بإخوتك؟ قال: أيّها الملك إن عجزت عنهم فإنّى عن غيرهم أعجز، فملكه وكساه وألبسه تاجا قيمته ستّون ألف درهم. فلمّا خرج وملك على العرب قال عدىّ ابن أوس بن مرينا للأسود بن المنذر: دونك فإنك خالفت الرأى. قال: ثم إنّ عدىّ بن زيد صنع طعاما فى بيعة وأرسل الى ابن أوس أن ائتنى مع من أحببت فإن لى حاجة، فأتاه فى أناس فتغدّوا فى البيعة، فقال عدىّ بن زيد لعدىّ بن أوس: يا عدىّ إنّ أحق من عرف الحق ثم لم يلم عليه من كان مثلك، إنّى عرفت أنّ صاحبك الأسود كان أحبّ إليك أن يملّك من صاحبى النعمان، فلا تلمنى على شىء كنت على مثله، وأنا أحبّ ألّا تحقد علىّ شيئا لو قدرت عليه ركتبه، وأحبّ أن تعطينى من نفسك ما أعطيك من نفسى، فإنّ نصيبى من هذا الأمر ليس بأوفر من نصيبك. فقام عدىّ بن زيد الى البيعة وحلف ألّا يهجوه ولا يبغيه غائلة أبدا، ولا يروى عنه خيرا، وحلف عدىّ بن أوس على مثل يمينه ألّا يزال يهجوه أبدا ويبغيه الغوائل ما بقى. وخرج النعمان حتى أتى منزله بالحيرة، وافترق العديّان على وحشة، فقال عدىّ بن أوس للأسود: إن لم تظفر أفلا تعجز أن تطلب بثأرك من هذا المعدّىّ الذى عمل بك ما عمل؟ فقد كنت أخبرتك الجزء: 15 ¦ الصفحة: 323 أن معدّا لا تنام عن مكرها، وأمرتك أن تخالفه فعصيتنى. قال: فما تريد؟ قال: ألّا تأتيك فائدة من ملكك ولا أرضك إلّا عرضتها علىّ، ففعل. وكان عدىّ بن أوس كثير المال، فلم يمرّ به يوم إلّا بعث فيه الى النعمان هديّة أو تحفة. فلمّا توالى ذلك وكثرت هداياه عند النعمان صار من أكرم الناس عليه، وصار لا يقضى فى ملكه شيئا إلّا برأى عدىّ بن أوس. فلمّا رأى من يطيف بالنعمان منزلة ابن أوس عنده تابعوه ولزموه؛ فكان يقول لمن يثق به من أصحاب النعمان: إذا رأيتمونى أذكر عدىّ بن زيد عند الملك بخير فقولوا: إنه لكما يقول ولكنّه لا يسلّم عليه أحد، وإنه يقول: إن الملك- يعنى النعمان- إنما هو عامله، وإنه هو الذى ولّاه ما ولّاه. فلم يزالوا بهذا وأشباهه حتى أضغنوا النعمان عليه. ثم إنهم كتبوا كتابا عن عدىّ الى قهرمان «1» كان له، ودسّوا من أخذ الكتاب وأتى به النعمان فقرأه فغضب، وأرسل إلى عدىّ بن زيد يقول: عزمت عليك إلّا زرتنى فإنى قد اشتقت إليك، وكان عند كسرى، فاستأذنه فى زيارة النعمان فأذن له، فلمّا أتاه لم ينظر إليه حتى حبسه، فجعل يقول الشعر ويستعطفه به، فكان مما قاله: أبلغ النّعمان عنّى مألكا «2» ... إنه قد طال حبسى وانتظارى لو بغير الماء حلقى شرق ... كنت كالغصّان بالماء اعتصارى «3» الجزء: 15 ¦ الصفحة: 324 وقال أشعارا كثيرة كانت تبلغ النعمان فندم على حبسه وعلم أنه كيد فيه، فكان يرسل إليه ويعده ويمنّيه، فلمّا طال سجنه وأعياه التضرّع إلى النعمان كتب الى أخيه أبىّ- وهو عمّار- وهو مع كسرى يخبره بحاله، ويبعثه على السعى فى خلاصه، فدخل أبىّ على كسرى وكلّمه، فكتب إلى النعمان فى أمره وبعث رسولا بكتابه، فقال له أبىّ: إبدأ بعدىّ وانظره قبل أن تجتمع بالنعمان، ورشاه على ذلك، ففعل الرسول ذلك ودخل الى الحبس واجتمع بعدىّ وقال له: ما تحبّ أن أصنع؟ قال: أحبّ ألّا تخرج من عندى، وأعطنى كتاب كسرى لأرسله من قبلى. قال: لا أستطيع ذلك. قال: فإنك إن خرجت من عندى قتلت. فقال: لا بدّ أن آتى النعمان وأوصّله الكتاب من يدى، فانطلق إلى النعمان وأوصله الكتاب فقبّله وقال: سمعا وطاعة، ووصله بأربعة آلاف مثقال [ذهبا «1» ] وجارية [حسناء «2» ] وقال: إذا كان من غد فادخل عليه وأخرجه بنفسك. وكان أعداء عدىّ أتوا النعمان وأخبروه أنّ رسول كسرى دخل إلى عدىّ وأنه إن خرج من الحبس لم يستبق منّا أحدا، ولم تنج أنت ولا غيرك، فأمرهم النعمان بقتله، فدخلوا عليه لمّا خرج الرسول من عنده وغمّوه «3» حتى مات، فلمّا أصبح الرسول دخل السجن فقال له الحرس: إنّ عديّا قد مات منذ أيام، ولم نجرؤ أن نخبر النعمان فرقا منه لعلمنا بكراهيته لذلك، فرجع الرسول إلى النعمان فقال: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 325 إنّى كنت بدأت به فدخلت عليه وهو حىّ. فقال له النعمان: يبعثك الملك إلىّ فتدخل إليه قبلى، كذبت! ولكنّك ارتشيت وتهدّده، ثم استدعاه بعد ذلك وزاده جائزة وكسوة واستوثق «1» منه وصرفه الى كسرى. فلمّا رجع إليه قال له: قد مات قبل مقدمى على النعمان. قال: ثم ندم النعمان على قتل عدىّ ندما شديدا واجترأ أعداء عدىّ على النعمان وهابهم، ثم ركب النعمان فى بعض أيّامه للصّيد فلقى ابنا لعدىّ بن زيد، فكلّمه فإذا هو غلام ظريف ففرح به النعمان وقرّبه ووصله واعتذر إليه، ثم جهّزه «2» الى كسرى وكتب إليه: إنّ عديّا كان ممن أعين به الملك فى نصيحته ورأيه، فانقضت مدّته وانقطع أجله، ولم يصب به أحد أشدّ من مصيبتى، وإنّ الملك لم يكن ليفقد رجلا من عبيده إلّا جعل الله له منه خلفا، وقد أدرك له ابن ليس هو دونه، وقد سرّحته إلى الملك فإن رأى أن يجعله مكان أبيه ويصرف عمّه إلى عمل آخر فعل. فأجابه كسرى إلى ذلك ورتّبه فى وظيفة أبيه، وسأله عن النعمان فأحسن الثناء عليه، فمكث سنوات على منزلة أبيه وأعجب به كسرى. وكان لصاحب هذه الرّتبة على العرب وظيفة فى كلّ سنة من الأفراس والمهارة «3» والكمأة والأقط والأدم وغير ذلك، وهو يلى ما يكتب عن كسرى إلى العرب. قال: ثم تمكّن زيد بن عدىّ بن زيد عند كسرى حتّى كان يجتمع به فى أوقات خلواته، فدخل عليه فى بعض الأيّام فكلّمه فيما دخل بسببه؛ ثم جرى ذكر النساء. وكانت عند الأكاسرة صفات امرأة، ومن رسمهم أن يطلبوا للملك من هى متّصفة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 326 بتلك الصفات. وكانت الصفة أنّ المنذر الأكبر أهدى إلى أنو شروان جارية كان أصابها لمّا أغار على الحارث الأكبر الغسّانىّ، فكتب إلى أنو شروان بصفة الجارية فقال: هى معتدلة الخلق، نقيّة اللّون والثّغر، بيضاء قمراء وطفاء «1» دعجاء «2» حوراء عيناء [قنواء «3» ] شمّاء «4» [برجاء «5» ] زجّاء «6» أسيلة الخدّ، [شهيّة المقبّل «7» ] جثلة «8» الشّعر، عظيمة الهامة، بعيدة مهوى القرط عيطاء «9» ، عريضة الصدر، كاعب الثدى، ضخمة مشاش «10» المنكب والعضد، حسنة المعصم، لطيفة الكفّ، سبطة البنان، لطيفة طىّ البطن، خميصة الخصر، غرثى «11» الوشاح، رداح «12» الأقبال، رابية الكفل، مفعمة الساق «13» ، لفّاء الفخذين. ريّا الروادف، ضخمة المأكمتين «14» ، عظيمة الركبة، مشبعة «15» الخلخال، لطيفة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 327 الكعب [والقدم، قطوف المشى «1» ] ، مكسال «2» الضّحى، بضّة «3» المتجرّد، سموع للسيّد، ليست بخنساء «4» ولا سفعاء «5» ، رقيقة الأنف، عزيزة النفس، لم تغذّ فى بؤس، حييّة رزينة، حليمة ركينة «6» ، كريمة الخال، تقتصر «7» بنسب أبيها، وبفصيلتها دون جماع قبيلتها، قد أحكمتها التجارب «8» فى الأدب، رأيها رأى أهل الشرف، وعملها عمل أهل الحاجة، صناع الكفّين، قطيعة «9» اللسان، رهوة «10» الصوت [ساكنته 1» ] ، تزين البيت «12» وتشين العدوّ إن أردتها اشتهت، وإن تركتها انتهت، تحملق «13» عيناها، وتحمرّ وجنتاها، وتذبذب شفتاها، وتبادرك الوثبة [إذا قمت، ولا تجلس إلا بأمرك إذا جلست «14» ] . فقبلها أنو شروان وأمر بإثبات هذه الصفة فى ديوانه، «15» فكانت تتوارث الجزء: 15 ¦ الصفحة: 328 حتى انتهى الملك إلى كسرى أبرويز بن هرمز. فلمّا قرئت هذه الصفة عليه قال له زيد بن عدىّ: أيها الملك، أنا أخبر بآل المنذر، وعند عبدك النعمان من بناته وبنات عمّه وأهله أكثر من عشرين امرأة على هذه الصفة. فقال له كسرى: اكتب فيهنّ إليه. فقال: أيها الملك، إنّ شرّ شىء فى العرب وفى النعمان [خاصّة «1» ] أنهم يتكرّمون-[زعموا «2» ] فى أنفسهم- عن «3» العجم، فابعثنى اليه وابعث معى رجلا [من ثقاتك «4» ] يفقه العربية. فبعث معه رجلا جلدا [فهما «5» ] ، فخرج به زيد حتى أتى الحيرة ودخل على النعمان؛ فلما دخل عليه عظّم الرسول أمر كسرى وقال له: إنه قد احتاج إلى نساء لأهله وولده فأراد كرامتك [بصهره «6» ] وبعث إليك فيهنّ. فقال النعمان: وما صفة هؤلاء النّسوة؟ قال: هذه صفتهنّ قد جئناك بها، وقرأها على زيد بن عدىّ، فشقّ ذلك على النعمان وقال لزيد وللرسول: أما فى مها السّواد وعين فارس ما تبلغون به حاجتكم؟ فقال الرسول لزيد: ما المها والعين؟ قال: البقر. فقال زيد للنعمان: إنما أراد الملك كرامتك، ولو علم أنّ ذلك يشقّ عليك لما كتب إليك، فأنزلهما [يومين عنده «7» ] ثم كتب الى كسرى. إنّ الذى طلب الملك ليس عندى. ثم قال لزيد: أعذرنى عنده. فلمّا رجعا الى كسرى قال لزيد: أين ما كنت أخبرتنى به؟ قال: قد كنت أخبرتك بضنّتهم بنسائهم على غيرهم، وإنّ ذلك من شقائهم، فسل هذا الرسول عن مقالة النعمان فإنى أكره أن أواجه الملك بما قاله، فقال للرسول: وما قال؟ قال إنه قال: أما فى بقر السواد [وفارس «8» ] ما يكفى الملك حتى يطلب الجزء: 15 ¦ الصفحة: 329 ما عندنا! فعرف الغضب فى وجه كسرى ثم قال: ربّ عبد قد قال هذا فصار أمره الى التّباب «1» ، فبلغ كلامه النعمان. وسكت كسرى على ذلك أشهرا، وهو «2» يستعدّ ويتوقّع حتى أتاه كتاب كسرى يستدعيه، فانطلق النعمان حتى أتى جبال طيّىء وهو متزوّج «3» منهم، فأرادهم أن يمنعوه فأبوا ذلك وقالوا: لولا صهرك لقتلناك، فإنه لا حاجة لنا فى معاداة كسرى، فأقبل يعرض نفسه على العرب فلا يقبلوه، حتى نزل بذى قار «4» ببنى شيبان سرّا فلقى هانئ بن قبيصة [بن هانئ «5» ] بن مسعود فأودعه سلاحه وتوجه إلى كسرى فلقى زيد بن عدىّ على قنطرة ساباط «6» ، فقال له: انج نعيم! فقال: أنت يا زيد فعلت هذا! أما والله لئن أفلت لأسقينّك بكأس أبيك! فقال له زيد: امض نعيم، فقد والله وضعت لك عنده أخيّة «7» لا يقطعها المهر الأرن «8» . قال: فلما بلغ كسرى أنه بالباب أمر به فقيّد وأبعده الى خانقين «9» ، فلم يزل بالسجن حتى مات بالطاعون. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 330 قال ابن مسكويه فى كتاب تجارب الأمم: والناس يظنون أنه مات بساباط لبيت قاله الأعشى «1» . والصحيح ما قلناه. وقال ابن عبدون: إنّ النعمان لمّا أقبل «2» الى المدائن «3» صفّ له كسرى ثمانية آلاف جارية عليهنّ المصبّغات وجعلهنّ صفّين، فلمّا صار النعمان بينهنّ قلن له: أما فينا للملك غنى عن بقر السّواد؟ وأنّ كسرى أمر بالنعمان فحبس بساباط المدائن، ثم أمر به فرمى بين أرجل الفيلة فوطئته حتى مات. وفى ذلك يقول سلامة بن جندل «4» وذكر [قتل «5» ] كسرى أبرويز [للنّعمان «6» ] فقال: هو المدخل النّعمان بيتا سماؤه ... نحور الفيول بعد بيت مسردق «7» ثم ملك بعده إياس بن قبيصة وأتى الله تعالى بالإسلام. فهؤلاء ملوك العرب باليمن والشام والحيرة. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 331 ذكر خبر سدّ «1» مأرب وسيل العرم قد ذكر الله عزّ وجلّ ذلك فى كتابه العزيز فقال: (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ «2» آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) » الآية. روى عن فروة «4» بن مسيك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لمّا أنزل فى سبأ ما أنزل قال رجل: يا رسول الله، وما سبأ؟ أرض أو امرأة؟ فقال: «ليس بأرض ولا امرأة، ولكنّه رجل ولد عشرة من العرب فتيامن منهم ستّة وتشاءم منهم أربعة، فأمّا الذين تشاءموا فلخم وجذام وغسّان وعاملة، وأمّا الذين تيامنوا فالأزد والأشعرون «5» وحمير وكندة ومذحج وأنمار» فقال رجل: يا رسول الله، وما أنمار؟ قال: «الذين منهم خثعم وبجيلة» . أخرجه أبو داود فى سننه والترمذىّ فى جامعه. وكانت أرض مأرب من بلاد اليمن متّصلة العمارة مسيرة ستّة أشهر، وقيل أزيد من شهرين للراكب المجدّ، وكانوا يقتبسون النار بعضهم من بعض مسيرة ستّة أشهر؛ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 332 فكانت المرأة إذا أرادت أن تجتنى من ثمارها [شيئا «1» ] وضعت المكتل «2» على رأسها وخرجت تمشى بين الأشجار وهى تغزل وتعمل ما شاءت، فلا ترجع إلّا وقد امتلأ مكتلها مما يتساقط فيه من الثمار. واختلف فى مأرب، فقيل: إنه اسم ملك تلك الأرض فسمّيت به، قال الشاعر «3» : من سبأ «4» الحاضرين مأرب إذ ... يبنون من دون سيله العرما وقيل: هو اسم لقصر الملك، وفيه يقول أبو الطّمحان: ألم تروا مأربا ما كان أحصنه ... وما حواليه من سور وبنيان قال: وكان أوّل من خرج من اليمن بسبب سيل العرم عمرو بن عامر مزيقيا، وقد ذكرناه فى الأنساب «5» ، وإنّ سبب تسميته مزيقيا أنه كان يلبس فى كلّ يوم حلّة وقيل حلّتين، وهو الأشهر، ثم يمزّقهما عشيّة نهاره لئّلا يلبسهما غيره، فكان هذا دأبه فى كلّ يوم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 333 وكان سبب خروجه من اليمن واطّلاعه على خبر سيل العرم قبل حدوثه دون غيره من الناس أنه كان له امرأة كاهنة يقال لها: طريفة الخير، وكانت قد رأت فى منامها أنّ سحابة غشيت أرضهم فأرعدت وأبرقت ثم أصعقت فأحرقت كلّ ما وقعت عليه، ففزعت طريفة الخير لذلك فزعا شديدا وأتت إلى زوجها عمرو بن عامر وقالت: ما رأيت اليوم أزال عنى النوم. فقال لها: ما رأيت؟ قالت: رأيت غيما أرعد وأبرق طويلا ثم أصعق فما وقع على شىء إلّا احترق. قال: فلمّا رأى ما داخلها من الرّوع والفزع سكّنها. ثم إنّ عمرا بعد ذلك دخل حديقة له ومعه جارية من بعض جواريه، فبلغ ذلك امرأته طريفة فخرجت إليه ومعها وصيف لها اسمه سنان «1» ، فلمّا برزت من بيتها عرض لها ثلاث مناجد منتصبات على أرجلها، واضعات أيديها على أعينها. قال: والمناجد: دوابّ تشبه اليرابيع «2» . فلمّا نظرت طريفة إليها قعدت الى الأرض ووضعت يديها على عينيها وقالت لغلامها: إذا ذهبت هذه المناجد فأخبرنى، فلمّا ذهبت أعلمها فانطلقت مسرعة، فلمّا عارضها خليج الحديقة التى فيها عمرو وثبت سلحفاة من الماء فوقعت فى الطريق على ظهرها وجعلت تروم الانقلاب ولا تستطيع، وتستعفر بيديها وتحثو التراب على بطنها من جنباته وتقذف بالبول. فلمّا رأتها طريفة الخير جلست إلى الأرض. فلمّا عادت السّلحفاة إلى الماء مضت طريفة حتى دخلت الحديقة على عمرو حين انتصف النهار فى ساعة شديدة الحرّ فإذا الشجر يتكافأ من غير ريح، فلمّا رآها عمرو استحيى منها وأمر الجارية بالتنحّى الجزء: 15 ¦ الصفحة: 334 ثم قال لها: ما أتى بك يا طريفة؟ فكهنت وقالت: والنور والظلماء، والأرض والسماء، إنّ الشجر لهالك، وليعودنّ الماء كما كان فى الزمن السالك. قال لها عمرو: ومن خبّرك بهذا؟ قالت: أخبرنى المناجيد بسنين شدائد، يقطع فيها الولد الوالد. قال: فما تقولين؟ قالت: أقول قول النّدمان لهفا، لقد رأيت سلحفاة تجرف التراب جرفا، وتقذف بالبول قذفا، فدخلت الحديقة فإذا الشجر من غير ريح يتكافأ. قال عمرو: وما ترين فى ذلك؟ قالت: هى داهية دهياء من أمور جسيمة، ومصائب عظيمة. قال: وما هو ويلك؟ قالت: أجل، إنّ فيه الويل، ومالك فيه من نيل، وإنّ الويل فيما يجىء به السيل. فألقى عمرو نفسه على فراشه وقال: ما هذا يا طريفة؟ قالت: هو خطب جليل، وخزى طويل، وخلف قليل، والقليل خير من تركه. قال: وما علامة ما تذكرين؟ قالت: اذهب الى السدّ فإن رأيت جرذا يكثر يديه فى السدّ الحفر، ويقلب برجليه مراجل الصّخر، فاعلم أن الغمر غمر «1» ، وإن [قد «2» ] وقع الأمر. قال: وما هذا الذى تذكرين؟ قالت: وعد من الله نزل، وباطل بطل، ونكال بنا نكل. قال: فانطلق عمرو الى السدّ فحرسه فإذا لجرذ يقلب برجليه صخرة ما يقلبها خمسون رجلا، فرجع إليها وهو يقول: أبصرت أمرا عادنى منه ألم ... وهاج لى من هوله برح السّقم من جرذ كفحل خنزير الأجم ... أو كبش صرم من أفاويق الغنم يقلب صخرا من جلاميد العرم ... له مخاليب وأنياب قضم ما فاته صخر من الصخر قصم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 335 فقالت طريفة: وإنّ من علامة ما ذكرت لك أن تجلس فتأمر بزجاجة بين يديك؛ فإنّ الريح تملأها بتراب البطحاء من سهل الوادى ورمله، وقد علمت أنّ الجنان مظلّلة ما يدخلها شمس ولا ريح. فأمر عمرو بزجاجة فوضعت بين يديه فلم تمكث إلّا قليلا حتى امتلأت من تراب البطحاء. فقال لها عمرو: متى يكون هلاك السدّ؟ فقالت: فيما بينك وبين سبع سنين. فقال: ففى أيّها يكون؟ فقالت: لا يعلم ذلك إلّا الله، ولو علمه أحد لعلمته، ولا تأتى علىّ ليلة فيما بينى وبين السبع سنين إلّا ظنت أنّ هلاكنا فى غدها أو مسائها. ثم رأى عمرو بعد ذلك فى منامه سيل العرم وقيل له: آية ذلك أن ترى الحصباء «1» قد ظهرت فى سعف النخل وكربه «2» ، فنظر إليها فوجد الحصباء قد ظهرت فيها فعلم أنّ ذلك واقع، وأنّ بلادهم ستخرب لا محالة؛ فكتم ذلك وأخفاه وأجمع على بيع كلّ شىء له بأرض مأرب ويخرج منها هو وولده، ثم خشى أن ينكر الناس حاله فصنع وليمة جمع الناس لها وقرّر مع أحد أولاده أنه يأمره بأمر فى ملأ القوم فيخالفه فإذا لطمه عمرو فيلطمه الآخر، ففعل ذلك. فلمّا لطمه ابنه- وكان اسمه مالكا- صاح عمرو: واذلّاه! يوم فخر عمرو يهينه صبىّ ويضرب وجهه! وحلف ليقتلّنه، فسأله القوم ألّا يفعل، فحلف ألّا يقيم بموضع صنع به فيه هذا، وليبيعنّ أمواله حتى لا يورث بعده. فقال الناس بعضهم لبعض: اغتنموا غضبة عمرو واشتروا منه قبل أن يرضى، فابتاع الناس منه جميع ما هو له بأرض مأرب، وفشا بعض حديثه فباع أناس من الأزد، فلما كثر البيع استنكر الناس ذلك فأمسكوا عن الشراء، فلمّا اجتمعت لعمرو أمواله أخبر الناس بشأن سيل العرم وخرج من اليمن، وخرج الجزء: 15 ¦ الصفحة: 336 لخروجه منها خلق كثير فنزلوا أرض عكّ حتى مات عمرو بن عامر وتفرّقوا بعده فى البلاد؛ فمنهم من صار الى الشام، وهم أولاد جفنة بن عمرو بن عامر، ومنهم من صار الى يثرب، وهم أبناء قبيلة الأوس والخزرج، وأبوهما حارثة بن ثعلبة بن عمرو ابن عامر، وصارت أزد الشّراة الى أرض الشّراة، وأزد عمان الى عمان، ومالك بن فهم الى العراق. ثم خرجت بعد عمرو بيسير من أرض اليمن طيّىء فنزلت بجبلى طيّىء: أجا وسلمى، ونزل ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر تهامة، وسمّوا خزاعة لانخزاعهم [من أخواتهم «1» ] ، وتمزّقوا فى البلاد كما أخبر الله تعالى عنهم فقال: (وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) ثم أرسل الله عزّ وجلّ السيل على السدّ فهدمه. واختلف فى العرم ما هو؟ فقيل: السدّ واحدته عرمة، وقيل: هو الجرذ. وكان السدّ فيما يذكر قد بناه لقمان الأكبر بن عاد، وكان صفّه لحجارة السدّ بالرّصاص فرسخا فى فرسخ. ويقال: إنّ الذى بناه كان من ملوك حمير. وقد ذكر ذلك ميمون. ابن قيس الأعشى فقال: وفى ذلك للمؤتسى أسوة ... ومأرب عفّى عليها العرم رخام بنته لهم حمير ... إذا جاء موّاره لم يرم فصاروا أيادى ما يقدرون ... منه على شرب طفل فطم فأروى الزروع وأعنابها ... على سعة ماؤها إذ قسم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 337 الباب الخامس من القسم الرابع من الفنّ الخامس فى أيام العرب ووقائعها فى الجاهليّة، وأنها لمن مآثرها السنيّة، واذا تأمّلها المتأمّل دلّته على مكارم أخلاقهم وكرم نجارهم، وحقّقت عنده أنهم ما أحجموا عن طلب أوتارهم، وعلم مكافأتهم للأقران، وسماحتهم بالنفوس والأبدان، وإقدامهم على الموت، ومبادرتهم عند الإمكان خشية الفوت. وقيل لبعض الصحابة رضى الله عنهم: ما كنتم تتحدّثون به إذا خلوتم فى مجالسكم؟ فقال: نتناشد الشعر ونتحدث بأخبار جاهليّتنا. وقال بعضهم: وددت أنّ لنا مع إسلامنا كرم أخلاق آبائنا فى الجاهليّة. ألا ترى أنّ عنترة الفوارس جاهلىّ لا دين له، والحسن بن هانئ إسلامىّ، فمنع عنترة كرمه ما لم يمنع ابن هانئ دينه، فإنّ عنترة يقول: وأغضّ طرفى إن بدت لى جارتى ... حتى يوارى جارتى مأواها وقال أبو نواس الحسن بن هانئ: كأنّ الشباب مطيّة الجهل ... ومحسّن الضّحكات والهزل والباعثى والناس قد هجعوا «1» ... حتى أبيت خليفة البعل وسأذكر من وقائعهم ما يقوّى الجنان، ويبعث الجبان. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 338 ذكر وقعة طسم وجديس وطسم بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام، وجديس بن عابر بن إرم ابن سام بن نوح عليه السلام، وهم العرب العاربة، على ما ذكر بعض المؤرّخين. وكان منزلهما اليمامة «1» ، واسمها فى وقتهم جوّ؛ وكان الملك عليهما رجلا من طسم يقال له: عمليق، وكان غشوما ظلوما. وكان سبب فنائهما أنّ عمليقا أتته ذات يوم امرأة اسمها هزيلة بنت مازن مع زوج لها اسمه ماش «2» . وكان قد طلّقها وأراد أخذ ولده منها، فترافعا إليه ليحكم بينهما، فقالت هزيلة: «أيها الملك، هذا ابنى حملته تسعا، ووضعته دفعا، وأرضعته شفعا، ولم أنل منه نفعا، حتى إذا تمّت أوصاله، واستوت خصاله «3» ، أراد أن يأخذه منّى قهرا «4» ويسلبنيه سرّا، ويترك يدى منه صفرا» . فقال الزوج: «قد أخذت المهر كاملا، ولم أنل منك طائلا، إلّا ولدا «5» جاهلا، فافعل ما كنت فاعلا» . فأمر الملك أن يجعل الولد فى غلمانه، فقالت هزيلة: أتينا أخا طسم ليحكم بيننا ... فأبرم حكما فى هزيلة ظالما لعمرى لقد حكّمت «6» لا متورّعا ... ولا فهما عند الحكومة عالما ندمت فلم أقدر على متزحزح ... وأصبح زوجى عاثر الرأى نادما الجزء: 15 ¦ الصفحة: 339 فلمّا بلغ عمليقا ذلك غضب وأقسم أنه لا تهدى عروس فى جديس لبعلها حتى يكون هو الذى يبدأ بها قبل زوجها. فلم يزل على ذلك دهرا حتى أهديت عفيرة «1» بنت عفار «2» الجديسيّة أخت الأسود بن عفار «3» سيّد جديس إلى بعلها، ويقال: إنّ اسمها الشّموس، فحملت إلى عمليق، فلمّا افترعها وخلّى سبيلها خرجت على قومها فى دمائها شاقّة جيبها عن قبلها ودبرها وهى تقول: لا أحد أذلّ من جديس ... هكذا يفعل بالعروس يرضى بهذا يا لقومى حرّ ... أهدى وقد أعطى وسيق المهر لأخذة الموت كذا لنفسه ... خير من ان يفعل ذا بعرسه ثم قالت تحرّض جديسا على طسم: أيصلح ما يؤتى إلى فتياتكم ... وأنتم رجال فيكم عدد الرّمل «4» أيصلح تمشى فى الدّماء فتياتكم ... صبيحة زفّت فى النساء إلى البعل فإن كنتمو لا تغضبوا عند هذه ... فكونوا نساء لا تفيق من الكحل ودونكم طيب العروس فإنما ... خلقتم لأثواب العرائس وللغسل فلو أننا كنّا رجالا وكنتم ... نساء لكنّا لا نقرّ على الذّلّ فقبحا وسحقا للذى ليس دافعا ... ويختال يمشى بيننا مشية الفحل فموتواء كراما واصبروا لعدوّكم ... لحرب تلظّى بالضّرام من الجزل ولا تجزعوا فى الحرب يا قوم إنها ... تقوم بأقوام كرام على رجل الجزء: 15 ¦ الصفحة: 340 فاجتمعت جديس فقال لهم الأسود بن عفار، وكان مطاعا فيهم: لتطيعنّنى [فيما آمركم به «1» ] أو لأتّكئنّ على سيفى حتى يخرج من ظهرى. قالوا: فإنّا نطيعك. قال: إنّ طسما ليسوا بأعزّ منكم، ولكن ملك صاحبهم هو الذى يذعننا إليهم بالطاعة، ولو امتنعتم منهم لكان لكم النّصف «2» . قالوا: إنّ القوم أكثر منّا عددا وعددا. قال: إنّى صانع طعاما فأدعوهم إليه، فإذا جاءوكم متفضّلين فى الحلل نهضنا إليهم بأسيافنا. فقالت عفيرة لأخيها: لا تفعل! فإنّ الغدر ذلّة وعار، ولكن كاثروا القوم فى ديارهم فتظفروا أو تموتوا كراما. قال: بل نمكر بهم فنكون أمكن منهم. ثم صنع الأسود طعاما وأمر قومه أن يخترطوا سيوفهم ثم يدفنوها فى الرمل. ودعا عمليقا وقومه، فلمّا أتوا استثارت جديس السيوف وشدّوا عليهم فما أفلت منهم إلّا رياح بن مرّة، ففرّ إلى حسّان بن تبّع فاستغاث به وأخبره بما صنعته جديس بطسم فوعده النصرة، ثم نادى حسّان فى حمير بالمسير وأخبرهم بما صنعت جديس بطسم؛ فقالوا: وما جديس وطسم؟ قال: هما أخوان. قالوا: فما لنا فى هذا من أرب. قال حسّان: أرأيتم لو كان هذا فيكم أكان حسنا لملككم أن يهدر «3» دماءكم. وما علينا فى الحكم إلّا أن ننصف بعضهم من بعض. فقالوا: الأمر أمرك أيّها الملك فمرنا بما أحببت. فأمرهم بالمسير، فساروا حتى إذا كانوا من اليمامة على ثلاث ليال قال رياح بن مرّة لحسّان بن تبّع: أبيت اللعن! إنّ لى أختا متزوّجة فى جديس تنظر الراكب على مسيرة ثلاث ليال وأخاف أن تنذر قومها، فأمر كلّ إنسان أن يقتلع شجرة من الأرض ويجعلها أمامه، فأمرهم حسّان بذلك. ثم ساروا، فنظرت أخت رياح فقالت: يا جديس! لقد سارت إليكم الشّجر. فقالوا لها: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 341 وما ذاك؟ قالت: أرى شجرا، من ورائه بشرا، وإنّى لا أرى رجلا من وراء شجرة ينهش كتفا أو يخصف نعلا، فكذّبوها وغفلوا عن أخذ أهبة الحرب حتى صبّحتهم حمير. ففى ذلك تقول زرقاء اليمامة: خذوا لهم حذركم يا قوم ينفعكم ... فليس ما قد أراه اليوم يحتقر إنّى أرى شجرا من خلفه بشر ... فكيف تجتمع الأشجار والبشر صفّوا الطوائف منكم قبل داهية ... من الأمور التى يخشى وتنتظر إنّى أرى رجلا فى كفّه كتف ... أو يختصف النّعل خصفا ليس يعتذر «1» ثوروا بأجمعكم فى وجه أوّلهم ... فإنّ ذلك منكم- فاعلموا- ظفر وغوّروا كلّ ماء دون منزلهم ... فليس من دونه «2» نحس ولا ضرر أو عاجلوا القوم عند الليل إن رقدوا ... ولا تخافوا «3» لها حربا وإن كثروا فلمّا كان حسّان على مسيرة ليلة عبّأ جيشه ثم صبّحهم فاستباح اليمامة قتلا وسبيا، وهرب الأسود حتى نزل بطيّىء فأجاروه من كلّ من يطلبه وهم لا يعرفونه. وقبيلته فى طيّىء مذكورة. ثم إنّ حسانا أمر باليمامة فنزع عينيها فإذا فى داخلها عروق سود، فسألها عن ذلك فقالت: حجر أسود كنت أكتحل به يقال له الإثمد فثبّت لى بصرى. وقيل: إنها أوّل من اكتحل بالإثمد؛ فأمر بها فصلبت على باب جوّ. وقيل: سمّى جوّ باليمامة من ذلك الوقت. وفى ذلك يقول رياح بن مرّة لمّا أخذ بثأره: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 342 غدر الحىّ من جديس بطسم ... آل طسم كما تدانى تدينى قد أتيناهم بيوم كيوم ... تركوا فيه مثل ما تركونى ليت طسما على منازلها تع ... لم أنّى قضيت عنّى ديونى وقد كرّرت الشعراء قصّة هذه المرأة وجوّ. فمن ذلك قول الأعشى على رواية ابن قتيبة: قالت أرى رجلا فى كفّه كتف ... أو يخصف النّعل لهفى «1» آية صنعا فكذّبوها بما قالت فصبّحهم ... ذو آل حسّان يزجى السمّ والسّلعا «2» فاستنزلوا آل جوّ من مساكنهم ... وهدّموا رافع البنيان فاتّضعا «3» وروى ابن إسحاق: كونى كمثل التى إن غاب «4» واحدها ... أهدت له من بعيد نظرة جزعا ثم أتى بالأبيات التى ذكرها ابن قتيبة. وقال المسيّب بن علس: لقد نظرت عين إلى الجزع نظرة ... إلى مثل موج المقعم المتلاطم إلى حمير إذ وجّهوا من بلادهم ... تضيق بهم لأيا فروج المخارم «5» الجزء: 15 ¦ الصفحة: 343 وفيها يقول النّمر بن تولب: وفتاتهم عنز غداة تبيّنت ... من بعد مرأى فى الفضاء ومسمع قالت أرى رجلا يقلّب نعله ... تقليب ذى وصل له ومشسّع ورأت مقدّمة الخميس ودونها ... ركض الجياد إلى الصّباح يتّبع ذكر حروب قيس فى الجاهلية يوم منعج لغنىّ على عبس يوم منعج «1» . هو يوم الرّدهة «2» وفيه قتل شأس بن زهير بن جذيمة بن رواحة العبسىّ؛ قتله رياح بن الأشلّ «3» الغنوىّ. وذلك أنّ شأسا أقبل من عند النعمان بن المنذر وقد أجزل حباءه. وكان من حبائه قطيفة حمراء ذات هدب «4» وطيب؛ فورد منعجا- وهو ماء لغنىّ- فأناخ راحلته إلى جانب الرّدهة وعليها خباء لرياح بن الأشلّ، وجعل يغتسل وامرأة رياح تنظر إليه، وهو كالثّور الأبيض، فانتزعه رياح بسهم فقتله، وضمّ متاعه ونحر ناقته وأكلها وغيّب أثره. وفقد شأس بن زهير، حتى وجدوا القطيفة الحمراء بسوق عكاظ قد باعتها امرأة رياح، فعلموا أنّ رياحا صاحب ثأرهم، فغزت بنو عبس غنيّا قبل أن يطلبوا قودا أو ديّة، مع الحصين بن زهير ابن جذيمة والحصين بن أسيد بن جذيمة. فلمّا بلغ ذلك غنيّا قالوا لرياح: انج، لعلّنا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 344 نصالح القوم على شىء [أو نرضيهم بدية «1» ] . فخرج رياح رديفا «2» لرجل من بنى كلاب، وهما يظنّان أنهما قد خالفا وجهة القوم؛ فمرّ صرد «3» على رءوسهما فصرصر، فما راعهما إلّا خيل بنى عبس، فقال الكلابىّ لرياح: انحدر من خلفى والتمس نفقا فى الأرض فإنى شاغل القوم عنك، فانحدر رياح من عجز الجمل حتى أتى ضفّة «4» فاحتفر تحتها مثل مكان الأرنب وولج فيه، ومضى صاحبه، فسألوه فقال: هذه غنىّ جامعة، وقد استمكنتم منهم، فصدّقوه وخلّوا سبيله، فلمّا ولّى رأوا مركب الرجل خلفه فقالوا: من الذى كان خلفك؟ فقال: لا كذب! رياح بن الأشلّ، وهو فى أولئك الصّعدات «5» . فقال الحصينان لمن معهما: قد مكّننا الله من ثأرنا ولا نريد أن يشركنا فيه أحد، فوقفوا عنهما، ومضيا فجعلا يريغان رياحا بين الصّعدات، فقال لهما: هذا غزالكما الذى تريغانه، فابتدراه فرمى أحدهما بسهم فأقصده «6» ، فطعنه الآخر فأخطأه، ومرّت به الفرس، فاستدبره رياح بسهم فقتله ثم أتى قومه. ففى ذلك يقول الكميت بن زيد الأسدىّ، وكانت له أمّان من غنىّ: أنا ابن غنىّ والداى كلاهما ... لأمّين منهم فى الفروع وفى الأصل الجزء: 15 ¦ الصفحة: 345 هم استودعوا زهرا نسيب «1» بن سالم ... وهم عدلوا بين الحصينين بالنّبل وهم قتلوا شأّس الملوك ورغّموا ... أباه زهيرا بالمذلّة والثّكل يوم النّفراوات «2» لبنى عامر على بنى عبس فيه قتل زهير بن جذيمة بن رواحة العبسىّ. وكانت هوازن تؤدّى إليه إتاوة، فأتته عجوز رهيش «3» من بنى نصر بن معاوية بسمن فى نحى «4» ، وشكت سنين تتابعت على الناس، فذاقه فلم يرض طعمه، فدعّها «5» بقوس فى يده عطل «6» فى صدرها، فاستلقت على قفاها منكشفة «7» ، فتألّى «8» خالد بن جعفر وقال: والله لأجعلنّ ذراعى فى عنقه حتى يقتل أو أقتل. وكان زهير مقداما فتفرّد من قومه ببنيه وبنى أخويه أسيد وزنباع يريغ «9» الغيث فى عشراوات «10» له وشول؛ فأتاه الحارث [بن عمرو «11» ] الجزء: 15 ¦ الصفحة: 346 ابن الشّريد، وكانت تماضربنة [عمرو بن] الشّريد تحت زهير، فلمّا عرف الحارث مكانه أنذر عليه بنى عامر بن صعصعة رهط خالد بن جعفر، فركب منهم ستّة فوارس فيهم خالد بن جعفر وصخر بن الشّريد وحندج بن البكّاء ومعاوية بن عبادة ابن عقيل فارس الهرّار. ويقال لمعاوية: الأخيل، وهو جدّ ليلى الأخيليّة. فقال أسيد لزهير: أعلمتنى راعية غنمى أنها رأت على رأس الثنيّة أشباحا ولا أحسبها إلّا خيل بنى عامر، فألحق بنا بقومنا. فقال له زهير: «كلّ أزبّ «1» نفور» وكان أشعر القفا، فذهبت مثلا، فتحمّل أسيد بمن معه وبقى زهير وابناه ورقاء والحارث. وصبّحتهم الفوارس فارمدّت «2» بزهير فرسه القعساء ولحقه خالد ومعاوية الأخيل، فطعن معاوية القعساء فقلبت زهيرا، وخرّ خالد فرفع المغفر عن رأس زهير وقال: يالعامر اقتلونا جميعا! وأقبل معاوية فضرب زهيرا على مفرق رأسه ضربة بلغت الدّماغ، وأقبل ورقاء بن زهير فضرب خالدا وعليه درعان فلم تغن شيئا، وأجهض «3» ابنا زهير القوم عن زهير واحتملاه وقد أثخنته الضربة فمنعوه الماء فقال: اسقونى وإن كانت نفسى فيه، فسقوه فمات بعد ثالثة من الأيام، فقال فى ذلك ورقاء بن زهير: رأيت زهيرا تحت كلكل خالد ... فأقبلت أسعى كالعجول «4» أبادر فشلّت يمينى يوم أضرب خالدا ... ويمنعه منّى الحديد المظاهر الجزء: 15 ¦ الصفحة: 347 فياليت أنى قبل أيام خالد ... ويوم زهير لم تلدنى تماضر «1» لعمرى لقد بشّرت بى إذ ولدتنى ... فماذا الذى ردّت عليك البشائر وقال خالد بن جعفر فى قتله زهيرا: بل كيف تكفرنى هوازن بعدما ... أعتقتهم فتوالدوا أحرارا وقتلت ربّهم زهيرا بعدما ... جدع الأنوف وأكثر الأوتارا وجعلت مهر بناتهم ودياتهم ... عقل الملوك هجائنا وبكارا «2» يوم بطن عاقل لذبيان على بنى عامر فيه قتل خالد بن جعفر ببطن عاقل «3» . وذلك أنه قدم على الأسود «4» بن المنذر أخى النعمان ومعه عروة الرّحال بن عتبة بن جعفر، فالتقى خالد بن جعفر والحارث ابن ظالم بن غيط بن مرّة بن سعد بن ذبيان عند الأسود بن المنذر، فجعل خالد يقول للحارث بن ظالم: يا حار، أما تشكر يدى عندك أن قتلت عنك سيّد قومك زهيرا وتركتك سيّدهم؟ فقال: سأجزيك شكر ذلك. فلمّا خرج الحارث قال الأسود لخالد: ما دعاك إلى أن تتحرّش بهذا الكلب وأنت ضيفى؟ فقال: إنما هو عبد من عبيدى، ولو وجدنى نائما ما أيقظنى. وانصرف خالد إلى قبّته فلامه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 348 عروة الرّحال، ثم ناما وأشرجت «1» عليهما القبّة، وكان مع الحارث تبيع له من بنى محارب يقال له خراش، فلمّا هدأت العيون أخرج الحارث ناقته وقال الخراش: كن لى بمكان كذا، فإن طلع كوكب الصبح ولم آتك فانظر أحبّ البلاد اليك فاعمد لها؛ ثم انطلق الحارث حتى أتى قبّة خالد فهتك شرجها ثم ولجها وقتله، فنادى عروة عند ذلك: واجوار الملك! فأقبل إليه الناس، وسمع الأسود الهتاف وعنده امرأة من بنى عامر يقال لها: المتجرّدة، فشقّت جيبها. ففى ذلك يقول عبد الله ابن جعدة: شقت عليك العامريّة «2» جيبها ... أسفا وما تبكى عليك ضلالا يا حار لو نبّهته لوجدته ... لا طائشا رعشا «3» ولا معزالا «4» واغرورقت عيناى لمّا أخبرت ... بالجعفرىّ وأسبلت إسبالا فلنقتلنّ بخالد سرواتكم ... ولنجعلن للظالمين نكالا فإذا رأيتم عارضا متهلّلا ... منّا فإنّا لا نحاول مالا يوم رحرحان لعامر على تميم ولمّا هرب الحارث بن ظالم ونبت به البلاد لجأ الى معبد بن زرارة فأجاره؛ فقالت بنو تميم لمعبد: مالك أويت هذا المشئوم الأنكد وأغريت بنا الأسود؟ وخذلوه غير بنى ماوية وبنى عبد الله بن دارم. وبلغ الأحوص بن جعفر بن كلاب مكان الحارث بن ظالم، وأنه عند معبد بن زرارة، فغزا معبدا فالتقوا برحرحان «5» فانهزمت الجزء: 15 ¦ الصفحة: 349 بنو تميم وأسر معبد بن زرارة، أسره عامر والطّفيل ابنا مالك بن جعفر بن كلاب، فوفد لقيط بن زرارة عليهما فى فدائه فقال لهما: لكما عندى مائتا بعير، فقالا: أبا نهشل، أنت سيّد الناس، وأخوك معبد سيّد مضر فلا تقبل فيه إلا دية ملك، فأبى أن يزيدهم وقال: إنّ أبانا أوصانا ألا نزيد أحدا فى ديتنا على مائتى بعير، وقال: لا توكلوا العرب أنفسكم ولا تزيدوا بفدائكم على فداء رجل منكم، ورحل لقيط عن القوم. قال: فمنعوا معبدا الماء وضاروه حتى مات هزالا. وقيل: بل أبى معبد أن يطعم شيئا أو يشرب حتى مات هزالا. ففى ذلك يقول عامر بن الطفيل: قضينا الجون عن عبس وكانت ... منيّة معبد فينا هزالا وقال جرير: وليلة وادى رحرحان رفعتم «1» ... فرارا ولم تلووا رفيق النّعائم تركتم أبا القعقاع فى الغلّ معبدا ... وأىّ أخ لم تسلموا للأداهم وقال أيضا: وبرحرحان غداة كبّل معبد ... نكحت فتاتكم بغير مهور يوم شعب جبلة لعامر وعبس على ذبيان وتميم قال أبو عبيدة معمر بن المثنّى: يوم جبلة «2» أعظم أيام العرب «3» ، وذلك أنه لمّا انقضت وقعة رحرحان جمع لقيط بن زرارة لبنى عامر وألّب عليهم. وبين يوم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 350 رحرحان ويوم جبلة سنة. ويوم جبلة قبل الإسلام بأربعين سنة «1» ، وهو عام مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانت بنو عبس يومئذ فى بنى عامر حلفاء لهم، فاستعدى لقيط بنى ذبيان لعداوتهم لبنى عبس من أجل حرب داحس، فأجابته غطفان كلّها غير بنى بدر، وتجّمعت لهم تميم كلّها غير بنى سعد، وخرجت معه بنو أسد لحلف كان بينهم وبين غطفان، ثم أتى لقيط الجون «2» الكندىّ وهو ملك هجر «3» [وكان يحيّى من بها من العرب «4» ] فقال له: هل لك فى قوم عادين قد ملأوا الأرض نعما «5» وشاء، فأرسل معى ابنيك فما أصبنا من مال وسبى فلهما، وما أصبنا من دم فلى، فأجابه الجون الى ذلك وجعل له موعدا رأس الحول، ثم أتى لقيط النعمان ابن المنذر فاستنجده وأطمعه فى الغنائم، وكان لقيط وجيها عند الملوك، فلمّا كان على قرن الحول من يوم رحرحان أقبلت الجيوش الى لقيط، وأقبل سنان بن أبى حارثة المرّىّ فى غطفان وجاءت بنو أسد، وأرسل الجون ابنيه معاوية وعمرا، وأرسل النعمان أخاه لأمّه حسّان بن وبرة الكلبىّ. فلمّا توافوا خرجوا إلى بنى عامر وقد أنذروا بهم وتأهّبوا لهم، فقال الأحوص بن جعفر، وهو يومئذ رحى هوازن لقيس بن زهير: ما ترى؟ فإنك تزعم أنه لم يعرض لك أمران إلّا وجدت فى أحدهما المخرج! فقال قيس بن زهير: الرأى أن نرحل بالعيال والأموال حتى الجزء: 15 ¦ الصفحة: 351 تدخل شعب جبلة فتقاتل القوم [دونها «1» ] من وجه واحد، فإنهم داخلون عليك الشّعب، وإنّ لقيطا رجل فيه طيش فسيقتحم عليك الجبل، فأرى أن تأمر بالإبل فلا ترعى ولا تسقى وتعقل، ثم تجعل الذرارى وراء ظهورنا وتأمر بالرجّالة فتأخذ بأذناب الإبل، فإذا دخلوا علينا الشّعب حلّت الرجّالة عقل الإبل ثم لزمت أذنابها فإنها تنحدر عليهم وتحنّ الى مراعيها ووردها، ولا يردّ وجوهها شىء، ويخرج الفرسان فى أثر الرجّالة الذين خلف الإبل فإنها تحطّم ما لقيت وتقبل عليهم الخيل وقد حطّموا من عل. فقال الأحوص: نعم ما رأيت وأخذ برأيه، وكان مع بنى عامر يومئذ بنو عبس، وغنىّ فى بنى كلاب، وباهلة فى بنى صعب، والأبناء أبناء صعصعة. وكان رهط المعقّر البارقّى يومئذ فى بنى نمير بن عامر، وكانت قبائل بجيلة كلّها فيهم غير قيس. قال أبو عبيدة: وأقبل لقيط والملوك ومن معهم فوجدوا بنى عامر قد دخلوا شعب جبلة فنزلوا على فمه، فقال لهم رجل من بنى أسد: خذوا عليهم فم الشّعب حتى يعطشوا ويجوعوا، فأتوا حتى دخلوا عليهم الشّعب، وكانوا قد عقلوا الإبل [وعطّشوها «2» ] ثلاثة أخماس، وذلك اثنتا عشرة ليلة لم تطعم شيئا، فلمّا دنوا حلّوا عقلها فأقبلت تهوى، فظنّ القوم عند ذلك أنّ الشّعب قد هدّ عليهم، والرجّالة فى آثارها آخذين بأذنابها فدقّت كلّما لقيت، فانهزموا لا يلوون على أحد، وقتل لقيط وأسر حاجب بن زرارة، أسره ذو الرّقيبة، وأسر سنان بن أبى حارثة المرّىّ أسره عروة الرحّال، فجزّ ناصيته وأطلقه، وأسر عمرو بن أبى عمرو بن عدس، أسره قيس بن المنتفق، فجزّ ناصيته وخلّاه طمعا فى المكافأة فلم يفعل، وقتل معاوية بن الجزء: 15 ¦ الصفحة: 352 الجون ومنقذ بن طريف الأسدىّ، ومالك بن ربعىّ بن جندل بن نهشل، فقال جرير فى ذلك: كأنك لم تشهد لفيطا وحاجبا ... وعمرو بن عمرو إذ دعوا يال دارم ويوم الصفا كنتم عبيدا لعامر ... وبالحزن أصبحتم عبيد اللهازم يعنى بالحزن يوم الوقيط. وقال أيضا فى بنى دارم: ويوم الشّعب قد تركوا لقيطا ... كأنّ عليه خملة أرجوان وكبّل حاجب بشمام حولا ... فحكّم ذا الرّقيبة وهو عانى وقالت دختنوس أخت لقيط ترثى لقيطا: فرّت بنو أسد فرا ... ر الطّير عن أربابها عن خير خندف كلّها ... من كهلها وشبابها وأتمّها حسبا إذا ... ضمّت الى أحسابها «1» يوم الخريبة وفيه قتل الحارث بن ظالم قال أبو عبيدة: لما قتل الحارث بن ظالم خالد بن جعفر الكلابىّ أتى صديقا له من كندة. فالتفّ عليه وطلبه الملك فخفى ذكره، ثم شخص من عند الكندىّ وأضمرته «2» البلاد حتى استجار بزياد أحد بنى عجل بن لجيم، فقام بنو ذهل بن ثعلبة وبنو عمرو بن شيبان فقالوا لمعجل: أخرجوا هذا الرجل من بين أظهركم فإنه لا طاقة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 353 لنا بالشّهباء ودوسر، وهما كتيبتان للأسود بن المنذر، فأبت عجل ذلك عليهم، فلمّا رأى الحارث بن ظالم ذلك كره أن تقع الفتنة بينهما بسببه، فارتحل من بنى عجل الى جبلى طيّىء فأجاروه، فقال فى ذلك: لعمرى لقد حلّت بى اليوم ناقتى ... الى ناصر من طيّىء غير خاذل فأصبحت جارا للمجرّة فيهم ... على باذخ يعلو يد المتطاول اذا أجأ لفّت علّى شعابها ... وسلمى فأنّى أنتم من تناولى «1» فمكث عندهم حينا. ثم إن الأسود بن المنذر لمّا أعجزه أمره أرسل الى جارات كنّ للحارث بن ظالم استاقهنّ وأموالهنّ، فبلغ ذلك الحارث، فخرج من الجبلين فآندسّ فى الناس «2» حتّى علم مكان جاراته ومرعى إبلهنّ فأتاهنّ واستنقذهنّ واستاق إبلهنّ فألحقهنّ بقومهنّ. واندسّ فى بلاد غطفان حتّى أتى سنان بن أبى حارثة المرّىّ وهو أبو هرم بن سنان ممدوح زهير. وكان الأسود بن المنذر قد استرضع ابنه شرحبيل عند سلمى امرأة سنان، وهى من بنى غنم بن دودان بن أسد، فكانت لا تأمن على ابن الملك أحدا، فاستعار الحارث بن ظالم سرج سنان، وهو فى ناحية الشّربّة، فأتى به سلمى امرأة سنان وقال لها: يقول لك بعلك: ابعثى ابنك مع الحارث فإنى أريد أن أستأمن له الملك، وهذا سرجه لك آية. قال: فزيّنته ودفعته اليه، فأتى به ناحية من الشّربّة فقتله وهرب من فوره، وهرب سنان بن أبى حارثة. فلمّا بلغ الأسود قتل ابنه شرحبيل غزا بنى ذبيان فقتل وسبى، وأخذ الأموال، وأغار على بنى دودان رهط سلمى، فقتلهم وسباهم، ثم وجد بعد ذلك نعلى شرحبيل فى جانب الشّربّة عند بنى محارب بن خصفة، فغزاهم وأسرهم وأحمى لهم الصّفا وقال: إنى أحذيكم نعالا، فأمشاهم عليها، فسقطت أقدامهم. ثم إن سيّار بن عمرو بن جابر الجزء: 15 ¦ الصفحة: 354 الفزارىّ احتمل للأسود دية ابنه ألف بعير ورهنه بها قوسه، فوفاه بها وقال فى ذلك: ونحن رهنّا القوس ثمّت فوديت ... بألف على ظهر الفزارىّ أقرعا بعشر مئين للملوك وفى بها «1» ... ليحمد سيّار بن عمرو فأسرعا قال: ثم هرب الحارث فلحق بمعبد بن زرارة فاستجار به فأجاره، وكان من سببه وقعة رحرحان التى تقدّم ذكرها. ثم هرب حتى لحق بمكة وقريش لأنه يقال: إنّ مرّة بن عوف بن سعد بن ذبيان إنما هو مرّة بن عوف بن لؤىّ بن غالب، فتوسّل إليهم بهذه القرابة وقال فى ذلك: اذا فارقت ثعلبة بن سعد ... وإخوتهم نسبت الى لؤىّ الى نسب كريم غير وغل ... وحىّ من أكارم كلّ حىّ فإن يك منهم أصلى فمنهم ... قوانين الإله بنو قصىّ فقالوا له: هذا نسب رحم كرشاء «2» اذا استغنيتم عنها أدبرتم. قال: فشخص [الحارث «3» ] عنهم غضبان وقال فى ذلك: ألا لستم منّا ولا نحن منكم ... برئنا إليكم من لؤىّ بن غالب غدونا «4» على نشر الحجاز وأنتم ... بمنشعب «5» البطحاء «6» بين الأخاشب «7» وتوجّه الى الشام فلحق بيزيد بن عمرو الغسّانىّ فأجاره وأكرمه. وكانت ليزيد ناقة محماة، فى عنقها مدية وزناد وصرّة ملح، يمتحن بها رعيّته لينظر من يجترئ عليه، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 355 فوحمت امرأة الحارث فاشتهت شحما فانطلق الى الناقة فانتحرها وأتاها بشحمها وفقدت الناقة فأرسل الى الخمس التغلبىّ، وكان كاهنا، فسأله عنها، فأخبره أنّ الحارث صاحبها، فهمّ به الملك ثم تذمّم «1» من ذلك، فأوجس الحارث فى نفسه شرّا فأتى الخمس التغلبىّ فقتله، فلمّا فعل ذلك دعا به الملك فأمر بقتله، فقال: إنك قد أجرتنى فلا تغدرنى، قال الملك: لا ضير إن غدرت بك مرّة فقد غدرت بى مرارا، وأمر ابن الخمس به فقتله، وأخذ ابن «2» الخمس سيف الحارث، فأتى به سوق عكاظ فى الأشهر الحرم «3» ، فأراه قيس بن زهير العبسىّ فضربه به قيس فقتله. ذكر حرب داحس والغبراء وهى من حروب قيس قال أبو عبيدة: حرب داحس والغبراء بين عبس وذبيان ابنى بغيض ابن ريث بن غطفان. وكان السبب الذى هاجها أنّ قيس بن زهير وحمل ابن بدر تراهنا على داحس والغبراء أيّهما يكون له السّبق. وكان داحس فحلا لقيس بن زهير. والغبراء حجر «4» لحمل بن بدر، فتواضعا الرّهان على مائة بعير، وجعلا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 356 منتهى الغاية مائة غلوة، والمضمار أربعين ليلة، ثم قاداهما إلى رأس الميدان بعد أن ضمراهما أربعين ليلة. وكان فى طرف الغاية شعاب كثيرة، فأكمن حمل بن بدر فى تلك الشّعاب فتيانا على طريق الفرسين وأمرهم إن جاء داحس سابقا أن يردّوه عن الغاية، ثم أرسلوهما، فلما أحضرا خرجت الأنثى عن الفحل فقال حمل بن بدر: سبقتك يا قيس، فقال قيس: رويدا يعدوان الجدد إلى الوعث وترشح أعطاف الفحل، فلمّا أوغلا عن الجدد وخرجا إلى الوعث برز داحس عن الغبراء فقال قيس: «جرى المذكّيات «1» غلاب «2» » فذهبت مثلا. فلمّا شارف داحس الغاية ودنا من الفتية وثبوا فى وجه داحس فردّوه عن الغاية، ففى ذلك يقول قيس بن زهير: وما لاقيت من حمل بن بدر ... وإخوته على ذات الإصاد «3» همو فخروا علىّ بغير فخر ... وردّوا دون غايته جوادى وثارت الحرب بين عبس وذبيان ابنى بغيض، فركدت أربعين سنة لم تنتج ناقة ولا فرس فيها لاشتغالهم بالحرب. فبعث حذيفة بن بدر ابنه مالكا إلى قيس بن زهير يطلب منه حقّ السّبق، فقال قيس: كلّا لا مطلتك به، ثم أخذ الرمح فطعنه فدقّ صلبه، ورجعت فرسه غائرة، واجتمع الناس فحملوا دية مالك مائة ناقة عشراء «4» وزعموا أنّ الرّبيع بن زياد العبسىّ حملها وحده فقبضها حذيفة وسكن الناس. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 357 ثم إن مالك بن زهير نزل اللقاطة «1» من أرض الشربّة «2» فأخبر حذيفة بمكانه، فعدا عليه فقتله، ففى ذلك يقول عنترة: فلله عينا من رأى مثل مالك ... عقيرة قوم أن جرى فرسان فليتهما لم يجريا قيد غلوة ... وليتهما لم يرسلا لرهان فقالت بنو عبس: مالك بن زهير بمالك بن حذيفة وردّوا علينا مالنا، فأبى حذيفة أن يردّ شيئا، وكان الربيع بن زياد مجاورا لبنى فزارة. قال: فلمّا قتل مالك بن زهير جعل بنو فزارة يتساءلون ويقولون: ما فعل حماركم؟ قالوا: صدناه، فقال لهم الربيع: ما هذا الوحى؟ قالوا: قتلنا مالك ابن زهير، قال: بئس ما فعلتم بقومكم! قبلتم الدّية ورضيتم بها ثم غدرتم! فقالوا: لولا أنك جارنا لقتلناك، وكانت خفرة الجار ثلاثا، فقالوا له: بعد ثلاث ليال أخرج عنّا، فخرج واتّبعوه فلم يلحقوه حتى لحق بقومه، وأتاه قيس بن زهير فعاقده. ثم نهضت بنو عبس وحلفاؤهم بنو عبد الله بن غطفان إلى بنى فزارة وذبيان ورئيسهم الربيع بن زياد، ورئيس بنى فزارة حذيفة بن بدر. يوم المريقب لبنى عبس على بنى ذبيان فالتقوا بذى المريقب «3» من أرض الشّربّة فاقتتلوا، فكانت الشوكة فى بنى فزارة قتل منهم عوف بن بدر بن عمرو بن أبى الحصين، أحد بنىّ عدىّ بن فزارة وجماعة كثيرة. وفى هذه الوقعة يقول عنترة الفوارس: ولقد علمت إذ التقت فرسانها ... يوم المريقب أنّ ظنّك أحمق الجزء: 15 ¦ الصفحة: 358 يوم ذى حسى لذبيان على عبس ثم إن ذبيان تجمّعت لما أصابت بنو عبس منهم يوم المريقب فزارة بن ذبيان ومرّة بن عوف بن سعد بن ذبيان وأحلافهم، فنزلوا فتوافوا بذى حسى «1» ، وهو وادى الصفا من أرض الشّربّة، فهزمت بنو عبس وخافت ألّا تقوم بجماعة بنى ذبيان واتّبعوهم حتى لحقوهم، فقالوا: التفانى أو تقيدونا، فأشار قيس بن زهير على الربيع بن زياد ألّا يناجزهم، وأن يعطوهم رهائن من أبنائهم حتى ينظروا فى أمرهم، فتراضوا أن يكون رهنهم عند سبيع بن عمرو أحد بنى ثعلبة بن سعد بن ذبيان، فدفعوا إليه ثمانية من الصّبيان، فانصرفوا وتكافأ الناس، فمكث رهنهم عند سبيع حتى حضرته الوفاة، فقال لابنه مالك بن سبيع: إنّ عندك مكرمة لا تبيد «2» إن أنت احتفظت بهؤلاء الأغيلمة، وكأنى بك لو متّ قد أتاك خالك حذيفة بن بدر فعصر لك عينيه وقال: هلك سيّدنا ثم خدعك عنهم حتى تدفعهم إليه فيقتلهم، فلا تشرف بعدها أبدا، فإن خفت ذلك فاذهب بهم إلى قومهم. فلما هلك سبيع أطاف حذيفة بابنه مالك وخدعه حتى دفعهم إليه، فأتى بهم اليعمريّة «3» ، فجعل يبرز كلّ يوم غلاما فينصبه غرضا ويقول له: ناد أباك، فينادى أباه حتى يقتله. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 359 يوم اليعمريّة لعبس على ذبيان قال: فلما بلغ ذلك من فعله بنى عبس أتوهم باليعمريّة فلقوهم بحرّتها فقتلوا منهم اثنى عشر رجلا، منهم مالك بن سبيع الذى نبذ بالغلمة إلى حذيفة، وأخوه يزيد بن سبيع، وعامر بن لوذان، والحارث بن زيد، وهرم بن ضمضم أخو حصين. ويقال ليوم اليعمريّة: يوم ذى نفر لأنهما متجاوران. يوم الهباءة لعبس على ذبيان قال: ثم اجتمعوا فالتقوا فى يوم قائظ إلى جنب جفر الهباءة «1» واقتتلوا من أوّل النهار إلى أن انتصف، وحجز الحرّ بينهم، وكان حذيفة بن بدر يحرق فخذيه الركض، فقال قيس بن زهير: يا بنى عبس، إنّ حذيفة غدا إذا احتدمت الوديقة «2» مستنقع فى جفر الهباءة فعليكم بها، فخرجوا حتى وقعوا على أثر صارف: فرس حذيفة، والحيفاء: فرس حمل بن بدر، فقفوا أثرهما حتى توافوا مع الظهيرة على الهباءة، فبصر بهم حمل بن بدر فقال: هذا قيس بن زهير قد أتاكم، فوقف قيس وأصحابه على جفر الهباءة وهو يقول: لبّيكم لبّيكم! يعنى إجابة الصّبية الذين كانوا ينادونهم إذ يقتلون! وفى الجفر حذيفة وحمل وبدر ومالك بنو بدر، وورقاء بن بلال «3» الجزء: 15 ¦ الصفحة: 360 من بنى ثعلبة بن سعد. وحنش بن عمرو «1» ، فوقف عليهم شدّاد بن معاوية العبسىّ، فحال بينهم وبين خليهم، ثم توافت فرسان بنى عبس فقال حمل: ناشدتك بالرحم يا قيس، فقال: لبّيكم لبّيكم! فعرف حذيفة أنه لن يدعهم فانتهر حملا فقال: إيّاك والمأثور من الكلام، فذهبت مثلا، وقال لقيس: لئن قتلتنى لا تصلح غطفان بعدها أبدا! فقال: أبعدها الله ولا أصلحها، وجاءه قرواش بمعبلة «2» فقصم صلبه، وقتل الربيع بن زياد حمل بن بدر، فقال قيس بن زهير يرثيه: تعلّم أنّ خير الناس ميت ... على جفر الهباءة ما يريم «3» ولولا ظلمه ما زلت أبكى ... عليه الدهر ما بدت النجوم ولكنّ الفتى حمل بن بدر ... بغى والبغى مرتعه وخيم أظنّ الحلم دلّ علىّ قومىّ ... وقد يستجهل الرّجل الحليم وما رست الرجال وما رسونى ... فمعوجّ وآخر مستقيم ومثّلوا بحذيفة بن بدر كما مثّل بالغلمة، فقطعوا مذاكيره وجعلوها فى فيه وجعلوا لسانه فى استه، ففى ذلك يقول قائلهم: فإنّ قتيلا بالهباءة فى استه ... صحيفته إن عاد للظّلم ظالم متى تقرأوها تهدكم من ضلالكم ... وتعرف إذا مافضّ عنها الخواتم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 361 وقال عمرو بن الأسلع: إنّ السماء وإنّ الأرض «1» شاهدة ... والله يشهد والإنسان والبلد أنى جزيت بنى بدر بسعيهم ... على الهباءة قتلا ما له قود لمّا التقينا على أرجاء جمّيتها ... والمشرفيّة فى أيماننا تقد علوته بحسام ثم قلت له: ... خذها حذيف فأنت السيّد الصّمد فلمّا أصيب أهل الهباءة واستعظمت غطفان قتل حذيفة، تجمّعوا، وعرفت بنو عبس أن ليس لهم مقام بأرض غطفان، فخرجوا الى اليمامة فنزلوا بأخوالهم من بنى حنيفة، ثم رحلوا عنهم فنزلوا ببنى سعد بن زيد مناة. يوم الفروق لبنى عبس ثم إنّ بنى عبس غدروا بجوارهم فأتوا معاوية بن الجون فاستجاسوا عليهم وأرادوا أكلهم، فبلغ ذلك بنى عبس ففرّوا ليلا، وقدّموا ظعنهم، ووقفت فرسانهم بموضع يقال له الفروق، وأغارت بنو سعد ومن معهم من جنود الملك على محلّتهم فلم يجدوا إلّا مواقد النيران فاتبعوهم حتى أتوا الفروق، فإذا بالخيل والفرسان وقد تواترت الظّعن عنهم، فانصرفوا عنهم؛ ومضى بنو عبس فنزلوا ببنى ضبّة فأقاموا فيهم. وكان بنو حذيفة من بنى عبس يسمّون بنى رواحة، وبنو بدر من فزارة يسمّون بنى سودة، ثم رجعوا إلى قومهم وصالحوهم، فكان أوّل من سعى فى الحمالة حرملة بن الأشعر بن صرمة بن مرّة، فمات، فسعى فيها ابنه هاشم بن حرملة، وإليه أشار الشاعر: أحيا أباه هاشم بن حرمله ... يوم الهباءتين ويوم اليعمله ترى الملوك حوله مرعبله ... يقتل ذا الذنب ومن لا ذنب له! الجزء: 15 ¦ الصفحة: 362 يوم قطن فلمّا توافوا للصلح وقفت بنو عبس بقطن «1» وأقبل حصين بن ضمضم فلقى تيحان أحد بنى مخزوم بن مالك ففتله بأبيه ضمضم. وكان عنترة بن شدّاد العبسىّ قتله بذى المريقب، فأشارت بنو عبس وحلفاؤهم بنو عبد الله بن غطفان وقالوا: لا نصالحكم ما بلّ البحر صوفة وقد غدرتم بنا غير مرّة، وتناهض الناس: عبس وذبيان، فالتقوا بقطن، فقتل يومئذ عمرو بن الأسلع عتبة، ثم سفرت السفراء، بينهم، وأتى خارجة بن سنان أبا تيحان بابنه فدفعه اليه وقال: فى هذا وفاء من ابنك! فأخذه فكان عنده أياما، ثم حمل خارجة لأبى تيحان مائة بعير فأدّاها اليه واصطلحوا وتعاقدوا. يوم غدير قلبى قال أبو عبيدة: فاصطلح الحيّان إلّا بنى ثعلبة بن سعد بن ذبيان، فإنهم أبوا ذلك وقالوا: لا نرضى حتى يودوا قتلانا أو يهدر دم من قتلها، فخرجوا من قطن حتى وردوا غدير قلبى، فسبقتهم بنو عبس الى الماء فمنعوهم حتى كادوا يموتون عطشا، فأصلح بينهم عوف ومعقل ابنا سبيع من بنى ثعلبة وإياهما يعنى زهير بقوله: تداركتما عبسا وذبيان بعدما ... تفانوا ودقّوا بينهم عطر منشم «2» فوردوا حربا وخرجوا عنه سلما. تمّ خبر داحس والغبراء. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 363 يوم الرقم لغطفان على بنى عامر غزت بنو عامر فأغاروا على بلاد غطفان بالرّقم «1» - وهو ماء لبنى مرّة- وعلى بنى عامر: عامر بن الطّفيل- ويقال يزيد بن الصّعق- فركب عتبة بن حصين فى بنى فزارة، ويزيد بن سنان فى بنى مرّة- ويقال الحارث بن عوف- فانهزمت بنو عامر، فزعمت غطفان أنهم أصابوا من بنى عامر يومئذ أربعة وثمانين رجلا، فدفعوهم إلى أهل بيت من أشجع، كانت بنو عامر قد أصابوا فيهم، فقتلوهم أجمعين. وانهزم الحكم بن الطّفيل فى نفر من أصحابه، فيهم خوّات بن كعب حتى انتهوا إلى ماء يقال له: المرورات، فقطع العطش أعناقهم فماتوا، وخنق الحكم ابن الطفيل نفسه مخافة المثلة، فقال فى ذلك عروة بن الورد: عجبت لهم إذ يخنقون نفوسهم ... ومقتلهم تحت الوغى كان أعذرا «2» يوم النّتاءة «3» لعبس على بن عامر يقال: خرجت بنو عامر تريد أن تدرك بثأرها يوم الرّقم، فهجموا على عبس بالنّتاءة وقد أنذروا بهم، فالتقوا، وكان على بنى عامر: عامر بن الطّفيل، وعلى بنى عبس: الربيع بن زياد، فاقتتلوا قتالا شديدا، فانهزمت بنو عامر، وقتل منهم هزار بن مرّة، قتله الأحنف بن مالك، ونهشل بن عبيدة بن جعفر، قتله أبو زغبة ابن حارث وعبد الله بن أنس بن خالد، وهزمت بنو عامر هزيمة قبيحة. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 364 يوم شواحط «1» لبنى محارب على بنى عامر غزت سريّة من بنى عامر بن صعصعة بلاد غسّان، فأغاروا على إبل لبنى محارب بن خصفة، فأدركهم الطلب، فقتلوا من كلاب تسعة «2» نفر وارتدّوا إبلهم فلما رجعوا وثبت بنو كلاب على جسر- وهم من بنى محارب، وكانوا حاربوا إخوتهم، فخرجوا من عندهم فحالفوا بنى عامر بن صعصعة- فقالوا: نقتلهم بقتل بنى محارب من قتلوا منّا، فقام خداش بن زهير دونهم حتى منعهم من ذلك وقال: أيا راكبا إمّا عرضت فبلّغن ... عقيلا وأبلغ إن لقيت أبا بكر فيا أخوينا من أبينا وأمّنا ... إليكم إليكم لا سبيل الى جسر دعوا جانبى إنّى ساترك جانبا ... لكم واسعا بين اليمامة والقهر «3» أنا فارس الضحياء عمرو بن عامر ... أبى الذمّ واختار الوفاء على الغدر يوم حوزة «4» الأوّل لسليم على غطفان قال أبو عبيدة. كان بين معاوية بن عمرو بن الشريد وبين هاشم بن حرملة أحد بنى مرّة:- مرّة غطفان- كلام بعكاظ، فقال معاوية: والله لوددت أنى قد سمعت بظعائن يندبنك، فقال هاشم: والله لوددت أنى قد بريت الرطبة- وهى جمّة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 365 معاوية، وكانت الدهر تنطف ماء ودهنا وإن لم تدهن- فلمّا كان بعد [حين «1» ] تهيّأ معاوية ليغزو هاشما، فنهاه أخوه صخر، فأبى وغزاهم يوم حوزة، فرآه هاشم ابن حرملة قبل أن يراه معاوية، وكان هاشم ناقها من مرض أصابه، فقال لأخيه دريد بن حرملة: إنّ هذا إن رآنى لم آمن أن يشدّ علىّ، وأنا حديث عهد بشكيّة، فاستطرد له [دونى «2» ] حتى تجعله بينى وبينك، ففعل، فحمل عليه معاوية وأردفه «3» هاشم، فاختلفا طعنتين فأردى «4» معاوية هاشما عن فرسه الشماّء، وأنفذها هاشم سنانه عن عانة معاوية، وكرّ عليه دريد وظنّه قد أردى هاشما، فضرب معاوية بالسيف فقتله، وشدّ خفاف بن عمرو على مالك بن حمار الفزارىّ [فقتله «5» ] . قال: وغارت الشمّاء فرس هاشم حتى دخلت فى جيش بنى سليم فأخذوها وظنوا أنها فرس الفزارىّ الذى قتله خفاف، ورجع الجيش، فلما دنوا من صخر أخى معاوية قال لهم: ما صنع معاوية؟ قالوا قتل! قال: فما هذه الفرس؟ قالوا: قتلنا صاحبها! قال: إذا قد أدركتم ثأركم، هذه فرس هاشم بن حرملة. قال: فلما دخل رجب ركب صخر بن عمرو الشمّاء صبيحة يوم حرام، فأتى بنى مرّة، فلمّا رأوه قال لهم هاشم: هذا صخر فحيّوه وقولوا له خيرا، وهاشم مريض من الطعنة التى طعنه معاوية، فقال: من قتل أخى؟ فسكتوا، فقال: لمن هذه الفرس التى تحتى؟ فسكتوا، فقال هاشم: هلّم أبا حسّان إلى من يخبرك! قال: من قتل أخى؟ فقال [هاشم «6» ] : إذا أصبتنى أو دريدا فقد أصبت ثأرك! فقال: هل كفّنتموه؟ قال: نعم، فى بردين: أحدهما بخمس وعشرين بكرة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 366 وأروه قبره، فلمّا رأى القبر جزع عنده ثم قال: كأنكم أنكرتم ما رأيتم من جزعى، فو الله ما بتّ منذ عقلت إلّا واترا أو موتورا، وطالبا أو مطلوبا حتى قتل معاوية، فما ذقت طعم نوم بعده. يوم حوزة الثانى قال: ثم غزاهم [صخر] فلما دنا منهم مضى على الشمّاء، وكانت غرّاء محجّلة، فسوّد غرّتها وتحجيلها، فلما رأته بنت لهاشم قالت لعمّها دريد: أين الشمّاء؟ قال: هى فى بنى سليم. قالت: ما أشبهها بهذه الفرس! فقال: هذه بهيم «1» والشمّاء غرّاء محجّلة، ثم اضّطجع فلم يشعر حتى طعنه صخر، قال: فثاروا وتناذروا، وولّى صخر وطلبته غطفان عامّة يومها، وعارض دونه أبو شجرة بن عبد العزّى، وكانت أمّه خنساء أخت صخر، وصخر خاله، فردّ الخيل عنه حتى أراح فرسه ونجا إلى قومه، فقال خفاف بن ندبة لمّا قتل معاوية: قتلنى الله إن برحت من مكانى حتى أثأر به! فشدّ على مالك سيّد بنى شمخ فقتله، وقال صخر فى قتله دريدا: ولقد دفعت إلى دريد طعنة ... نجلاء تزغل «2» مثل غطّ المنخر ولقد قتلتكم ثناء وموحدا ... وتركت مرّة مثل أمس الدّابر قال أبو عبيدة: وأما هاشم بن حرملة فإنه خرج منتجعا فلقيه عمرو بن قيس الجشمىّ، فتبعه وقال: هذا قاتل معاوية، لا وألت نفس إن وأل «3» ، فلما دنا منه أرسل عليه معبلة ففلق قحفه فقتله. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 367 يوم ذات الأثل قال أبو عبيدة: ثم غزا صخر بن عمرو بن الشّريد بنى أسد بن خزيمة فاكتسح إبلهم، فأتى الصريخ بنى أسد، فركبوا حتى تلاحقوا بذات الأثل، فاقتتلوا قتالا شديدا، فطعن ربيعة الأسدىّ صخرا فى جنبه وفات القوم بالغنيمة، ومرض صخر من الطّعنة قريبا من الحول حتّى ملّه أهله، فسمع امرأة من جاراته تسأل سلمى امرأته: كيف بعلك؟ قالت: لا حىّ فيرجى، ولا ميّت فينسى، لقد لقينا منه الأمرّين! وكانت أمّه إذا سئلت عنه تقول: أرجو له العافية إن شاء الله! فقال فى ذلك: أرى أمّ صخر لا تملّ عيادتى ... وملّت سليمى مضجعى ومكانى فأىّ امرئ ساوى بأمّ حليلة ... فلا عاش إلّا فى أذى وهوان وما كنت أخشى أن أكون جنازة «1» ... عليك ومن يغترّ بالحدثان لعمرى لقد نبّهت من كان نائما ... وأسمعت من كانت له أذنان أهمّ بأمر الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنّزوان قال: فلمّا طال عليه البلاء- وقد نتأت قطعة من جنبه مثل اليد فى موضع الطعنة- قالوا له: لو قطعتها لرجونا أن تبرأ، فقال شأنكم! فقطعوها فمات، فقالت أخته الخنساء ترثيه: وقائلة والنعش قد فات خطوها ... لتدركه يا لهف نفسى على صخر! ألا ثكلت أمّ الذين غدوا به ... إلى القبر ماذا يحملون إلى القبر! الجزء: 15 ¦ الصفحة: 368 يوم اللّوى «1» لغطفان على هوازن قال أبو عبيدة: غزا عبد الله بن الصّمّة- واسم الصّمّة: معاوية الأصغر- من بنى غزيّة بن جشم بن معاوية بن بكر بن هوازن- وكان لعبد الله ثلاثة أسماء وثلاث كنّى، فاسمه: عبد الله، وخالد، ومعبد، وكنيته أبو فرعان، وأبو دفافة، وأبو وفاء، وهو أخو دريد بن الصّمّة لأبويه- فأغار على غطفان فأصاب منهم إبلا عظيمة فاطّردها، فقال له أخوه دريد: النجاء فقد ظفرت، فأبى عليه وقال: لا أبرح حتى أنتقع نقيعتى- والنقيعة: ناقة ينحرها من وسط الإبل فيصنع منها طعاما لأصحابه، ويقسم ما أصاب عليهم- فأقام وعصى أخاه، فتبعته فزارة فقاتلوه وهو بمكان يقال له اللّوى، فقتل عبد الله، وارتثّ «2» دريد فبقى فى القتلى، فلما كان فى بعض الليل أتاه فارسان، فقال أحدهما لصاحبه: إنى أرى عينية تبصّ، فانزل فانظر إلى سبّته «3» ، فنزل فكشف ثوبه فإذا هى ترمّز «4» ، فطعنه، فخرج دمّ قد احتقن. قال دريد: فأفقت عندها، فلمّا جاوزوا نهضت، فما شعرت إلّا وأنا بين عرقوبى جمل امرأة من هوازن، فقالت: من أنت؟ أعوذ بالله من شرّك! قلت: لا، بل من أنت؟ ويلك! قالت: امرأة من هوازن سيّارة. قلت: وأنا من هوازن، أنا دريد بن الصّمّة. قال: وكانت فى قوم مختارين لا يشعرون بالوقعة، فضمّته وعالجته حتى أفاق. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 369 يوم الظعينة بين دريد بن الصّمّة وربيعة بن مكدّم قال أبو حانم عن أبى عبيدة قال: خرج دريد بن الصّمّة فى فوارس من بنى جشم حتى إذا كانوا فى واد يقال له: الأخرم، وهم يريدون الغارة على بنى كنانة، إذ رفع له رجل فى ناحية الوادى ومعه ظعينة، فلمّا نظر اليه قال لفارس من أصحابه: صح به: خلّ الظّعينة وانج بنفسك، فانتهى اليه الفارس، فصاح به وألحّ عليه، فألقى زمام الراحلة وقال للظعينة: سيرى على رسلك سير الآمن ... سير رداح ذات جأش ساكن إنّ انثنائى دون قرنى شائنى ... أبلى بلائى واخبرى وعايتى ثم حمل عليه فصرعه وأخذ فرسه وأعطاه للظّعينة، فبعث دريد فارسا آخر لينظر ما صنع صاحبه، فلمّا انتهى اليه ورآه صريعا صاح به فتصامّ عنه، فظنّ أنه لم يسمع، فغشيه، فألقى زمام الراحلة إلى الظّعينة ورجع وهو يقول: خلّ سبيل الحرّة المنيعه ... إنّك لاق دونها ربيعه فى كفّه خطّية مطيعه ... أولا فخذها طعنة سريعه والطّعن منّ فى الوغى شريعه ثم حمل عليه فصرعه، فلمّا أبطأ على دريد بعث فارسا [ثالثا «1» ] لينظر ما صنعا، فلما انتهى إليهما رآهما صريعين ونظر إليه يقود ظعينته ويجرّ رمحه. فقال له: خلّ سبيل الظّعينة، فقال للظعينة: اقصدى قصد البيوت، ثم أقبل عليه فقال: ماذا تريد من شتيم عابس ... ألم تر الفارس بعد الفارس أرداهما عامل رمح يابس الجزء: 15 ¦ الصفحة: 370 ثم حمل عليه فصرعه وانكسر رمحه، وارتاب دريد وظنّ أنهم قد أخذوا الظّعينة وقتلوا الرجل، فلحق ربيعة وقد دنا من الحىّ، فوجد أصحابه قد قتلوا، فقال: أيها الفارس، إنّ مثلك لا يقتل، ولا أرى معك رمحا والخيل ثائرة بأصحابها، فدونك هذا الرّمح فإنّى منصرف إلى أصحابى فمثبّطهم عنك، فانصرف دريد وقال لأصحابه: إنّ فارس الظّعينة قد حماها وقتل فرسانكم وانتزع رمحى، ولا مطمع لكم فيه فانصرفوا، فانصرف القوم، فقال دريد: ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ... حامى الظّعينة فارسا لم يقتل أردى فوارس لم يكونوا نهزة ... ثم استمرّ كأنه لم يفعل متهلّلا تبدو أسرّة وجهه ... مثل الحسام جلته كفّ الصّيقل يزجى ظعينته ويسحب رمحه ... متوجّها يمناه نحو المنزل وترى الفوارس من مخافة رمحه ... مثل البغاث «1» خشين وقع الأجدل يا ليت شعرى من أبوه وأمّه ... يا صاح من يك مثله لا يجهل وقال ربيعة بن مكدّم: إن كان ينفعك اليقين فسائلى ... عنّى الظعينة يوم وادى الأخرم إذ هى لأوّل من أتاها نهبة ... لولا طعان ربيعة بن مكدّم إذ قال لى أدنى الفوارس ميتة ... خلّ الظّعينة طائعا لا تندم فصرفت راحلة الظّعينة نحوه ... عمدا ليعلم بعض ما لم يعلم وهتكت بالرّمح الطويل إهابه ... فهوى صريعا لليدين وللفم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 371 ومنحت آخر بعده جيّاشة ... نجلاء فاغرة كشدق الأضجم ولقد شفعتهما بآخر ثالث ... وأبى الفرار لى الغداة تكّرمى ثم لم تلبث بنو كنانة «1» أن أغارت على بنى جشم «2» ، فقتلوا وأسروا دريد بن الصّمّة فأخفى نفسه، فبينما هو عندهم محبوس إذ جاءه نسوة تتهادين إليه، فصرخت إحداهنّ وقالت: هلكتم وأهلكتم! ماذا جرّ علينا قومنا! هذا والله الذى أعطى ربيعة رمحه يوم الظّعينة! ثم ألقت عليه ثوبها وقالت: يا آل فراس، أنا جارة له منكم، هذا صاحبنا يوم الوادى! فسألوه: من هو؟ فقال: أنا دريد بن الصّمّة فمن صاحبى؟ قالوا: ربيعة بن مكدّم، قال: فما فعل؟ قالوا: قتلته بنو سليم! قال: فما فعلت الظّعينة؟ قالت المرأة: أنا هيه، وأنا امرأته، فحبسه القوم وآمروا أنفسهم، فقال بعضهم: لا ينبغى لدريد أن تكفر نعمته على صاحبنا! وقال آخرون: والله لا يخرج من أيدينا إلّا برضا المخارق الذى أسره، فانبعثت المرأة فى الليل، وهى ريطة بنت جذل الطّعان، تقول: سنجزى دريدا عن ربيعة نعمة ... وكلّ امرئ يجزى بما كان قدّما فإن كان خيرا كان خيرا جزاؤه ... وإن كان شرّا كان شرّا مذمّما سنجزيه نعمى لم تكن بصغيرة ... بإعطائه الرّمح الطويل المقوّما [فقد أدركت كفّاه فينا جزاءه ... وأهل بأن يجزى الذى كان أنعما «3» ] فلا تكفروه حقّ نعماه فيكم ... ولا تركبوا تلك التى تملأ الفما فلو كان حيّا لم يضق بثوابه ... ذراعا غنيا كان أو كان معدما الجزء: 15 ¦ الصفحة: 372 [ففكّوا دريدا من إسار مخارق ... ولا تجعلوا البؤسى إلى الشّرّ سلّما «1» ] فلما أصبحوا أطلقوه، فكسته وجهّزته ولحق بقومه، فلم يزل كافّا عن غزو بنى فراس حتى هلك. يوم الصّلعاء لهوازن على غطفان قال: فلمّا كان فى العام المقبل غزاهم دريد بن الصّمّة بالصّلعاء «2» ، فخرجت إليه غطفان فقال دريد لصاحبه: ما ترى؟ قال: أرى خيلا عليها رجال كأنهم الصبيان، أسنّتها عند آذان خيلها. قال: هذه فزارة، ثم قال: أنظر ما ترى؟ قال: أرى قوما كأنّ عليهم ثيابا غمست فى لجاب المعزى، قال: هذه أشجع، ثم قال: أنظر ما ترى؟ قال: أرى قوما يجرّون رماحهم سودا، يخدّون الأرض بأقدامهم، قال: هذه عبس، أتاكم الموت الزؤام فاثبتوا، فالتقوا بالصلعاء فاقتتلوا، فكان الظفر لهوزان على غطفان، وقتل دريد ذؤاب بن زيد بن قارب. ذكر حرب قيس وكنانة يوم الكديد «3» لسليم على كنانة فيه قتل ربيعة بن مكدّم فارس بنى كنانة، وهو من بنى فراس بن غنم بن مالك ابن كنانة، وهم أنجد العرب، كان الرجل منهم يعدل بعشرة من غيرهم، وكان الجزء: 15 ¦ الصفحة: 373 ربيعة بن مكدّم يعقر على قبره فى الجاهليّة، ولم يعقر على قبر أحد غيره، وقتلته بنو سليم يوم الكديد، ولم يحضر يوم الكديد أحد من بنى الشّريد. يوم فزارة لكنانة على سليم قال أبو عبيدة: لمّا قتلت بنو سليم ربيعة بن مكدّم فارس كنانة ورجعوا، أقاموا ما شاء الله، ثم إنّ ذا التاج مالك بن خالد بن صخر بن الشّريد- واسم الشّريد عمرو، وكانت بنو سليم قد توّجوا مالكا وأمّروه عليهم- فغزا بنى كنانة، فأغار على بنى فراس ببزرة «1» ، ورئيس بنى فراس عبد الله بن جذل، فدعا عبد الله إلى البراز، فبرز إليه هند بن خالد بن صخر بن الشّريد، فقال له عبد الله: من أنت؟ قال: أنا هند بن خالد، قال عبد الله؛ أخوك أسنّ منك، يريد مالك ابن خالد، فرجع فأخبر أخاه، فبرز له، فشدّ عبد الله على مالك بن خالد فقتله، فبرز إليه أخوه كرز بن خالد بن صخر، فشدّ عليه عبد الله أيضا فقتله، فشدّ عليه أخوهما عمرو بن خالد بن صخر، فتجالدا طعنتين، فجرح كلّ واحد منهما صاحبه وتحاجزا. يوم الفيفاء «2» لسليم على كنانة قال أبو عبيدة: ثم إنّ بنى الشّريد حرّموا على أنفسهم النساء والدّهن أو يدركوا ثأرهم من كنانة، فغزا عمرو بن خالد بن صخر بن الشّريد بقومه حتى أغار على الجزء: 15 ¦ الصفحة: 374 بنى فراس، فقتل منهم نفرا؛ منهم: عاصم بن المعلّى، ونضلة، والمعارك، وعمرو ابن مالك، وحصن، وشريح؛ وسبى سبيا فيهم ابنة مكدّم أخت ربيعة، فقال عباس بن مرداس فى ذلك: ألا أبلغن عنّى ابن جدل ورهطه ... فكيف طلبناكم بكرز ومالك غداة فجعناكم بحصن وبابنه ... وبابن المعلّى عاصم والمعارك ثمانية منهم ثأرناهم به ... جميعا وما كانوا بواء «1» بمالك نذيقكم- والموت يبنى سرادقا ... عليكم- شباحدّ السيوف البواتك تلوح بأيدينا كما لاح بارق ... تلألأ فى داج من الليل حالك ذكر حرب قيس وتميم يوم السّؤبان «2» لبنى عامر على بنى تميم قال أبو عبيدة: أغارت بنو عامر على بنى تميم وضبّة فاقتتلوا، ورئيس ضبّة حسّان بن وبرة، وهو أخو النعمان بن المنذر لأمّه، فأسره يزيد بن الصّعق، وانهزمت تميم؛ فلمّا رأى ذلك عامر بن مالك بن جعفر حسده، فشدّ على ضرار بن الجزء: 15 ¦ الصفحة: 375 عمرو الضبّىّ «1» ، وهو الرّديم «2» ، فقال لابنه: إذا همّ أغنه عنّى، فشدّ عليه فطعته، فتحوّل عن سرجه إلى جنب أبدانه، ثم لحقه، فقال لأحد بنيه: أغنه عنّى، ففعل مثل ذلك، ثم لحقه، فقال لابن له آخر، ففعل مثل ذلك، فقال: ما هذا إلّا ملاعب الأسنّة! [فسمّى عامر من يومئذ ملاعب الأسنّة «3» ] فلما دنا منه قال له ضرار: إنى لأعلم ما تريد، أتريد اللّبب «4» ؟ قال نعم! قال: إنك لن تصل إلىّ ومن هؤلاء عين تطرف، كلهم بنو عامر، قال له عامر: فأحلنى على غيرك، فدلّه على حبيش بن الدّلف وقال: عليك بذلك الفارس، فشدّ عليه فأسره، فلما رأى سواده وقصره، جعل يتفكّر، وخاف ابن الدّلف أن يقتله، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 376 فقال: ألست تريد اللّبب؟ قال بلى، قال: فأنّى لك به. وفادى حسّان بن وبرة نفسه من يزيد بن الصّعق بألف «1» بعير، [فداء الملوك «2» ] فكثر مال يزيد ونبه. قال أبو عبيدة: ثم أغار بعد ذلك يزيد بن الصّعق على عصافير النعمان بذى لبان، وذو لبان: عن يمين العرنيين. يوم أقرن لبنى عبس على بنى دارم قال: غزا عمرو بن عدس من بنى دارم، وهو فارس بنى مالك بن حنظلة، فأغار على بنى عبس، فأخذ إبلا ونساء «3» ثم أقبل، حتى إذا كان أسفل من ثنيّة أقرن نزل فابتنى بجارية من السّبى، ولحقه الطلب فاقتتلوا، فقتل أنس الفوارس بن زياد العبسىّ عمرا: وانهزمت بنو مالك بن حنظلة، وقتلت بنو عبس أيضا حنظلة بن عمرو- وقال بعضهم: قتل فى غير هذا اليوم- وارتدّوا ما كان فى أيدى بنى مالك. يوم المرّوت «4» لبنى العنبر على بنى قشير أغار بحير «5» بن سلمة بن قشير على بنى العنبر بن عمرو بن تميم، فأتى الصريخ بنى عمرو بن تميم حتى لحقوه وقد نزل المرّوت، وهو يقسم المرباع ويعطى من معه، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 377 قتلا حق القوم واقتتلوا، فطعن قعنب بن عتّاب المثلّم بن عامر القشيرى فصرعه فأسره، وحمل الكدّام، وهو يزيد بن أزيهر المازنى على بجير بن سلمة فطعنه فأرداه عن فرسه، ثم أسره، فأبصره قعنب بن عتّاب، فحمل عليه بالسيف فضربه فقتله، وانهزم بنو عامر. يوم دارة مأسل لتميم على قيس غزا عتبة بن شتير بن خالد الكلابىّ بنى ضبّة، فاستاق نعمهم، وقتل حصين بن ضرار الضبىّ زيد الفوارس، فجمع أبوه ضرار قومه وخرج ثائرا بابنه حصين، وزيد الفوارس يومئذ حدث لم يدرك، فأغار على بنى عمرو بن كلاب، وأفلت منه عتبة بن شتير وأسر أباه شتير [بن خالد «1» ] وكان شيخا كبيرا، فأتى به قومه فقال: يا شتير، اختر واحدة من ثلاث، قال: اعرضها علىّ، قال: إمّا أن تردّ ابنى حصينا! قال: إنّى لا أنشر الموتى! قال: وإمّا أن تدفع إلىّ ابنك عتبة أقتله به! قال: لا يرضى بذلك بنو عامر، قال: وإمّا أن أقتلك. قال: أما هذه فنعم! فأمر ضرار ابنه أدهم أن يقتله، فلمّا قدّمه ليضرب عنقه نادى شتير: يا آل عامر، صبرا بصبىّ! كأنه أنف أن يقتل بصبىّ، فقال فى ذلك شمعلة: وخيّرنا شتيرا من ثلاث ... وما كان الثلاث له خيارا جعلت السيف بين اللّيت «2» منه ... وبين قصاص لمّته عذارا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 378 أيام تميم على بكر يوم الوقيط «1» قال فراس بن خندف: تجمّعت اللهازم لتغير على تميم وهم غارّون «2» ، فرأى ذلك ناشب بن بشامة العنبرىّ الأعور، وهو أسير فى بنى سعد بن مالك من بنى ثعلبة، فقال لهم: أعطونى رسولا أرسله إلى بنى العنبر أوصيهم بصاحبكم خيرا ليولوه ما تولوننى من البرّ. وكان حنظلة بن طفيل المرثدىّ أسيرا فى بنى العنبر، فقالوا: على أن توصيه ونحن حضور، قال نعم، فأتوه بغلام «3» ، فقال: أتيتمونى بأحمق، وما أراه مبلّغا عنّى! قال الغلام: لا والله ما أنا بأحمق، وقل ما شئت فإنّى مبلّغه، فملأ الأعور كفّه من الرمل فقال: كم فى كفّى منه؟ قال: شىء لا يحصى كثرة، ثم أومأ الى الشمس فقال: ما تلك؟ قال: هى الشمس. قال: فاذهب إلى أهلى فأبلغهم عنّى التحيّة وقلّ لهم: ليحسنوا إلى أسيرهم [ويكرموه «4» ] فإنى عند قوم محسنين إلىّ [مكرمين «5» لى] وقل لهم ليعروا جملى الأحمر: ويركبوا نافتى العيساء «6» ، ويرعوا حاجتى فى بنى مالك، وأخبرهم أن العوسج «7» قد أورق، وقد اشتكت النساء، وليعصموا همّام بن بشامة فإنه مشئوم محدود «8» . ويطيعوا ابن الأخنس فإنه حازم ميمون. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 379 قال: فآتاهم الرسول فأبلغهم، فقال بنو عمرو بن تميم: ما نعرف هذا الكلام، ولقد جنّ الأعور، والله ما نعرف له ناقة عيساء، ولا جملا أحمر! فشخص الرسول، ثم ناداهم هذيل: يا بنى العنبر، قد بيّن لكم صاحبكم، أمّا الرمل الذى قبض عليه فإنه يخبركم أنه أتاكم عدد لا يحصى، وأمّا الشمس التى أومأ إليها فإنه يقول: إن ذلك أوضح من الشمس، وأمّا جمله الأحمر فهو الصّمّان «1» : يأمركم أن تعروه «2» ، وأما ناقته العيساء فهى الدّهناء «3» ، يأمركم أن تتحرزوا فيها، وأما أبناء مالك فإنه يأمركم أن تنذروا بنى مالك بن زيد مناة، وأن تمسكوا الحلف بينكم وبينهم، وأما العوسج الذى أورق، فيخبركم أنّ القوم قد لبسوا السلاح، وأمّا تشكّى النساء فيخبركم إنهنّ قد عملن حجلا يغزون به. قال: فتحرّزت عمرو فركبت الدّهناء وأنذروا بنى مالك فقالوا: ما ندرى ما تقول بنو عمرو، ولسنا متحوّلين لما قال صاحبهم. قال: فصبّحت اللهازم بنى حنظلة فوجدوا عمرا قد جلت، وكان على الجيش أبجر بن جابر العجلىّ، وشهدها ناس من بنى تميم اللات، وشهدها الفرز بن الأسود بن شريك فى بنى شيبان، فاقتتلوا، فأسر ضرار بن القعقاع بن زرارة، وتنازع فى أسره بشر بن العوراء من تيم اللات، والفرز بن الأسود فجزّوا ناصيته وخلوا أسره من تحت الليل، وأسر عمرو بن قيس من بنى ربيعة بن عجل عثجل بن الماموم بن شيبان بن علقمة من بنى زرارة، ثم منّ عليه، وأسرت غمامة بنت الطّود بن عبيد بن زرارة، واشترك فى أسرها الخطيم بن هلال، وظربان بن زياد، وقيس بن خليد، فردّوها إلى أهلها، وأسر الجزء: 15 ¦ الصفحة: 380 حنظلة بن المأموم بن شيبان بن علقمة، أسره طلبة بن زياد أحد بنى ربيعة بن عجل، وأسر حوثرة بن بدر من بنى عبد الله بن دارم، فلم يزل فى الوثاق حتى قال أبياتا يمدح فيها بنى عجل فأطلقوه، وأسر نعيم بن القعقاع بن معبد بن زرارة، وعمرو بن ناشب، وأسر سنان بن عمرو أحد بنى سلامة من بنى دارم، وأسر حاضر بن ضمرة، وأسر الهيثم بن صعصعة، وهرب عوف بن القعقاع عن إخوته، وقتل حكيم النهشلىّ، وكان يقاتل ويرتجز: كلّ امرئ مصبّح فى أهله ... والموت أدنى من شراك نعله وفيه يقول عنترة: وغادرنا حكيما فى مجال ... صريعا قد سلبناه الإزارا يوم النّباج وثيتل «1» لبكر على تميم قال أبو عبيدة معمر بن المثنّى: غدا قيس بن عاصم فى مقاعس وهو رئيس عليها- ومقاعس هم: صريم، وربيع، وعبيد، بنو الحارث بن عمرو بن كعب ابن سعد بن زيد مناة بن تميم- ومعه سلامة بن ظرب بن نمر الحمانى فى الأجارب وهم: حمان، وربيعة، ومالك، والأعرج، بنو كعب بن سعد ابن زيد مناة بن تميم، فغزوا بكر بن وائل فوجدوا بنى ذهل بن ثعلبة بن عكابة، واللهازم وهم: بنو قيس وتيم اللات بن ثعلبة، وعجل بن لجيم، وعنزة بن أسد ابن ربيعة بالنّباج وثيتل، وبينهما روحة، فتنازع قيس بن عاصم وسلامة بن ظرب فى الإغارة، ثم اتفقا على أن يغير قيس على أهل النّباج، ويغير سلامة على الجزء: 15 ¦ الصفحة: 381 أهل ثيتل. قال: فبعث قيس بن عاصم الأهتم سبقة له- والسبقة: الطيعة- فأتاه الخبر فلما أصبح قيس سقى خيله، ثم أطلق أفواه الروايا وقال لقومه: قاتلوا فإنّ الموت بين أيديكم، والفلاة من ورائكم. فلما دنوا من القوم صبحا سمعوا ساقيا يقول لصاحبه: يا قيس، أورد، فتفاءلوا به، فأغاروا على النّباج قبل الصبح، فقاتلوهم قتالا شديدا، ثم إنّ بكرا انهزمت، فأسر الأهتم حمران بن بشر بن عمرو ابن مرثد، وأصابوا غنائم كثيرة، فقال قيس لأصحابه: لا مقام دون الثيتل، فالنجاة، فأتوا ثيتل ولم يغزوا سلامة وأصحابه بعد، فأغار عليهم قيس بن عاصم، فقاتلوه ثم انهزموا، فأصاب إبلا كثيرة، فقال ربيعة بن طريف: فلا يبعدنك الله قيس بن عاصم ... فأنت لنا عز عزيز وموئل وأنت الذى حربت «1» بكر بن وائل ... وقد عضّلت «2» منها النّباج وثيتل غداة دعت يا آل شيبان إذ رأت ... كراديس «3» يزجيهنّ ورد محجّل وقال قرّة بن قيس بن عاصم: أنا ابن الذى شقّ المزاد «4» وقد رأى ... بثيتل أحياء اللهازم حضّرا فصبّحهم بالجيش قيس بن عاصم ... فلم يجدوا إلّا الأسنّة مصدرا على الجرد «5» يعلكن الشكيم «6» عوابسا ... إذا الماء من أعطافهنّ تحدّرا فلم يرها الراءون إلا فجاءة ... نثرن عجاجا بالسّنابك أكدرا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 382 سقاهم بها الذّيفان قيس بن عاصم ... وكان إذا ما أورد الأمر أصدرا وحمران أدّته إلينا رماحنا ... فنازع غلا فى ذراعيه أسمرا وجثّامة الذّهلىّ قدناه عنوة ... إلى الحىّ مصفود اليدين مفكّرا. يوم زرود «1» الثانى لبنى يربوع على بنى تغلب أغار خزيمة بن طارق التغلبىّ على بنى يربوع وهم بزرود، فاقتتلوا قتالا شديدا، ثم انهزمت بنو تغلب، وأسر خزيمة بن طارق، أسره أنيف بن جبلة الضبّىّ- وهو فارس السليط، وكان يومئذ نقيلا «2» فى بنى يربوع- وأسيد بن حنّاءة السليطى، فتنازعا فيه، فحكّما بينهما الحارث بن فراد، فحكم بناصية خزيمة للأنيف، على أنّ لأسيد على أنيف مائة من الإبل. قال: ففدى خزيمة نفسه بمائتى بعير وفرس، فقال أنيف: أخدتك قسرا يا خزيم بن طارق ... ولاقيت منّى الموت يوم زرود وعانقته والخيل تدمى نحورها ... فأنزلته بالقاع غير حميد يوم ذى طلوح «3» لبنى يربوع على بكر كان عميرة بن طارق بن حصينة بن أريم بن عبيد بن ثعلبة، تزوّج مريّة بنت جابر، أخت أبجر بن جابر العجلىّ، فابتنى بها فى بنى عجل، فأتى أبجر أخته امرأة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 383 عميرة يزورها فقال لها: إنى لأرجو أن آتيك ببنت النّطف امرأة عميرة التى فى قومها، فقال له عميرة: أترضى أن تحار بنى وتسبينى؛ فندم أبجر وقال لعميرة: ما كنت لأغزو قومك، ثم غزا أبجر والحوفزان متساندين، هذا فيمن تبعه من بنى شيبان، وهذا فيمن تبعه من اللهازم، وساروا بعميرة معهم قد وكل به أبجر أخاه حرقصة بن جابر، فقال له عميرة: لو رجعت إلى أهلى فاحتملتهم، فقال حرقصة: افعل، فكّر عميرة على ناقته، فسار يومين وليلة حتى أتى بنى يربوع، فأنذرهم الجيش، فاجتمعوا حتى التقوا بأسفل ذى طلوح، فكان أوّل فارس طلع عليهم عميرة، فنادى: يا أبجر، هلّم! فقال من أنت؟ قال: أنا عميرة، فكذّبه، فسفر عن وجهه، فعرفه، فأقبل إليه، والتفّت الخيل بالخيل، فأسر الجيش إلا أقلّهم، وأسر حنظلة ابن بشر بن عمرو بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم- وكان فى بنى يربوع- الحوفزان بن شريك، أخذه معه أبو مليل «1» ، وأخذ ابن طارق سوادة بن يحيى ابن عمّ أبجر، وأخذ أبو عنمة الضّبّىّ الشاعر مع بنى شيبان، فافتكّه متمّم بن نويرة، وأسر شريك بن الحوفزان، وأسود وفلحس، وهما من بنى سعد بن همّام، فقال جرير يذكر يوم ذى طلوح: ولمّا لقينا خيل أبجر تدّعى ... بدعوى لجيم قبل ميل العواتق صبرنا وكان الصّبر منّا سجيّه ... بأسيافنا تحت الظّلال الحوافق فلمّا رأوا أن لا هوادة عندنا ... دعوا بعد كرب يا عمير بن طارق الجزء: 15 ¦ الصفحة: 384 يوم الحائر وهو يوم ملهم لبنى يربوع على بنى بكر وذلك أنّ بنى مليل عبد الله بن الحارث بن عاصم بن عبيد، وعلقمة أخاه انطلقا يطلبان إبلا لهما حتى وردا ملهم من أرض اليمامة، فخرج عليهما نفر من بنى يشكر، فقتلوا علقمة وأخذوا أبا مليل، فكان عندهم ما شاء الله ثم خلّوا سبيله، وأخذوا عليه عهدا وميثاقا ألا يخبر بأمر أخيه أحدا، فأتى قومه فسألوه عنه فلم يخبرهم، فقال وبرة بن حمزه: هذا قد أخذ عليه عهد وميثاق، فخرجوا يقصّون الأثر وبينهم شهاب بن عبد القيس حتى وردوا ملهم، فلما رآهم أهل ملهم «1» تحصّنوا، فحرّقت بنو يربوع بعض زرعهم، وعقروا بعض نخلهم، فلمّا رأى ذلك القوم نزلوا إليهم فقاتلوهم، فهزمت بنو يشكر، وقتل عمرو بن صابر صبرا، ضربوا عنقه، وقتل عيبنة بن الحارث بن شهاب بن مثلّم بن عبيد بن عمرو رجلا آخر منهم، وقتل مالك بن نويرة حمران بن عبد الله وقال: طلبنا بيوم مثل يومك علقما ... لعمرى لمن يسعى بها كان أكرما قتلنا بجنب العرص عمرو بن صابر ... وحمران أقصدنا هما والمثلما فلله عينا من رأى مئل خيلنا ... وما أدركت من خيلهم يوم ملهما يوم القحقح وهو يوم مالة لبنى يربوع على بكر أغارت بنو أبى ربيعة بن ذهل بن شيبان على بنى يربوع ورئيسهم مجبة ابن ربيعة بن ذهل، فأخذوا إبلا لعاصم بن قرط أحد بنى حميد، وانطلقوا، فطلبهم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 385 بنو يربوع، فناوشوهم، فكانت الداثرة على بنى ربيعة، وقتل المنهال بن عصمة المجبّة بن ربيعة، فقال فى ذلك ابن حمران الرياحىّ: وإذا لقيت القوم فآطعن فيهم ... يوم اللّقاء كطعنة المنهال ترك المجبّة للضباع مجدّلا ... والقوم بين سوافل وعوال يوم رأس العين لبنى يربوع على بكر أغارت طوائف من بنى يربوع على بنى أبى ربيعة برأس العين فاطّردوا النّعم، واتبعهم معاوية بن فراس فى بنى أبى ربيعة فأدركوهم، فقتل معاوية وفاتوا بالإبل، فقال سحيم فى ذلك: أليس الأكرمون بنو رياح ... نمونى منهم عمّى وخالى همو قتلوا المجبة وابن تيمّ ... تنوح عليهما سود المال وهم قتلوا عميد بنى فراس ... برأس العين فى الحجج الخوالى وذادوا يوم طخفة عن حماهم ... ذياد غرائب الإبل النّهال يوم العظالى «1» لبنى يربوع على بكر قال أبو عبيدة: وهو يوم أعشاش ويوم الأفاقة ويوم الإياد ويوم مليحة. قال: وكانت بكر بن وائل تحت يد كسرى وفارس، فكانوا يجيرونهم ويجهزونهم، فأقبلوا من عند عامل عين التمر فى ثلاثمائة فارس متساندين، يتوقعون انحدار بنى يربوع فى الحزن- قال: وكانوا يشتون خفافا فإذا انقطع الشتاء انحدروا إلى الحزن- الجزء: 15 ¦ الصفحة: 386 قال: فاحتمل بنو عتيبة وبنو عبيد وبنو زبيد من بنى سليط، أوّل الحىّ، حتى أسهلوا ببطن مليحة، فطلعت بنو زبيد فى الحزن حتّى حلّوا الحديقة بالأفاقة، وحلّت بنو عبيد وبنو عتيبة بروضة الثمد. قال: وأقبل الجيش حتى نزلوا هضبة الخصىّ، ثم بعثوا رئيسهم فصادفوا غلاما شابّا من بنى عبيد يقال له قرط بن أضبط، فعرفه بسطام فقال له: أخبرنى ما ذاك السواد الذى أرى بالحديقة؟ قال: هم بنو زبيد. قال: أسيد بن حنّاءة؟ قال: نعم، قال: كم هم؟ قال خمسون بيتا، قال: فأين بنو عتيبة وبنو أريم؟ قال: نزلوا روضة الثّمد. قال: فأين سائر الناس؟ قال هم محتجزون بجفاف «1» . قال: فمن هناك من بنى عاصم؟ قال: الأحيمر وقعنب ومعدان أبناء عصمة. قال: فمن فيهم من بنى الحارث بن عاصم؟ قال: حصين ابن عبد الله. فقال بسطام لأصحابه: أطيعونى تقبضوا على هذا الحىّ من زبيد، وتصبحوا سالمين غانمين. قالوا: وما يغنى عنّا بنو زبيد لا يودون رحلتنا. قال: إن السلامة إحدى الغنيمتين. فقال له مغروق: انتفخ سحرك يا أخا الصهباء، قال له هانئ: أجبنا. قال: ويلكم إنّ أسيدا لم يظلّه بيت قط شاتيا ولا قائظا، إنما بيته القفر، فإذا أحسّ بكم أحال على الشقراء، فركض حتى يشرف مليحة «2» ، فينادى: يا آل يربوع! فيركب فيلقاكم طعن ينسيكم الغنيمة، ولا يبصر أحدكم مصرع صاحبه، وقد جئتمونى وأنا تابعكم، وقد أخبرتكم ما أنتم لاقون غدا. فقالوا: نلتقط بنى زبيد، ثم نلتقط بنى عبيد وبنى عتيبة كما نلتقط الكمأة، ونبعث فارسين فيكونان بطريق أسيد، فيحولان بينه وبين بنى يربوع، ففعلوا. فلما أحسّ بهم أسيد ركب الشقراء وخرج نحو بنى يربوع، فابتدره الفارسان فطعنه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 387 أحدهما فألقى نفسه فى شقّ فأخطأه، ثم كرّ راجعا حتى أشرف مليحة، فنادى: يا صباحاه! يا آل يربوع، غشيتم، فتلاحقت الخيل حتى توافوا بالعظالى، فاقتتلوا، فكانت الدائرة على بكر، قتل منهم مغروق بن عمرو، فدفن بثنيّة مغروق، وبه سمّيت، وغيره. وأما بسطام فألّح عليه فارس من بنى يربوع، وكان دارعا على ذات النسوع «1» ، وكانت إذا أجدّت «2» لم يتعلق بها شئ من خيلهم، ففاقت الطلب حتى أتى قومه. يوم الغبيط لبنى يربوع على بكر ويقال له يوم الثعالب «3» . قال: غزا بسطام بن قيس، ومغروق بن عمرو، والحارث بن شريك- وهو الحوفزان- بلاد بنى تميم، وهذا اليوم قبل يوم العظالى، فأغاروا على بنى ثعلبة بن يربوع، وثعلبة بن سعد بن ضبة، وثعلبة بن عدىّ ابن فزارة، وثعلبة بن سعد بن ذبيان، فلذلك قيل له يوم الثعالب. وكان هؤلاء جميعا متجاورين بصحراء فلج «4» فاقتتلوا، فانهزمت الثعالب، فأصابوا فيهم واستاقوا إبلا من نعمهم، ولم يشهد عتيبة بن الحارث بن شهاب هذه الوقعة لأنه كان نازلا يومئذ فى بنى مالك بن حنظلة. قال: ثم اسروا على بنى مالك، وهم بين صحراء فلج وبين الغبيط، فاكتسحوا إبلهم، فوكبت عليهم بنو مالك، فيهم عتيبة بن الحارث ابن شهاب، ومعه فارسان من فرسان بنى يربوع، وتأثّف «5» اليهم الأحيمر بن عبد الله، وأسيد بن حنّاءة، وأبو مرحب، وجزء بن سعد الرياحىّ- وهو رئيس الجزء: 15 ¦ الصفحة: 388 بنى يربوع وربيع، والحليس، وعمارة، بنو عتيبة بن الحارث، ومعدان وعصمة ابنا قعنب، ومالك بن نويرة، والمنهال بن عصمة أحد بنى رياح بن يربوع، وهو الذى يقول فيه متمّم بن نويرة فى شعره الذى يرثى به أخاه مالكا: لقد كفّن المنهال تحت ردائه ... فتى غير مبطان العشيات أروعا فأدركوهم بغبيط المدرة، فقاتلوهم حتى هزموهم، وأدركوا ما كانوا استاقوا من أموالهم، وأسر بسطام، أسره عتيبة، فلم يزل عنده حتى فادى نفسه. قيل: إنه فدى نفسه بأربعمائة بعير وثلاثين فرسا، ولم يكن غيره عكاظىّ أعلى فداء منه، على أن جزّ ناصيته وعاهده ألا يغزو بنى شهاب أبدا. يوم مخطّط لبنى يربوع على بكر قال أبو عبيدة: غزا بسطام بن قيس والحوفزان الحارث متساندين يقودان بكر بن وائل، حتى وردوا على بنى يربوع بالفردوس، وهو بطن لإياد، وبينه وبين مخطط ليلة، وقد نذرت بهم بنو يربوع فالتقوا بالمخطّط، فاقتتلوا، فانهزمت بكر، وهرب الحوفزان وبسطام ففاتا ركضا، وقتل شريك بن الحوفزان، قتله شهاب ابن الحارث أخو عتيبة، وأسر الأحيمر بن عبد الله بن الضريس الشّيبانىّ. يوم جدود غزا الحوفزان وهو الحارث بن شريك فأغار على من بالقاعة من بنى سعد بن زيد مناة، فأخذ نعما كثيرا ونساء فيهنّ الزرقاء من بنى ربيع بن الحارث، فأعجب بها وأعجبت به، فلم يتمالك أن وقع بها، فلما انتهى الى جدود «1» منعهم بنو يربوع الجزء: 15 ¦ الصفحة: 389 ابن حنظلة أن يردوا الماء، ورئيسهم عتيبة بن الحارث بن شهاب، فقاتلوهم، فلم يكن لبنى بكر بهم يد «1» ، فصالحوهم على أن يعطوا بنى يربوع بعض غنائمهم حتى يردوا الماء، فقبلوا ذلك منهم وأجازوهم، فلما أتى الصريخ بنى سعد، ركب قيس ابن عاصم فى أثر القوم حتى أدركهم بالأشيمين «2» ، فألّح قيس على الحوفزان، وقد حمل الزرقاء خلفه رديفا على فرسه الزّبد، وعقد شعرها على صدره، فأخذ قيس بن عاصم بحيث يكلّم الحوفزان، فقال له قيس: يا أبا حمّاد، أنا خير لك من الفلاة والعطش، قال له: ما يشاء الزبد. فلما رأى قيس أنّ فرسه لا يلحفه نادى الزرقاء فقال: ميلى به يا جعار، فجزّ الحوفران قرونها بالسيف ودفعها بمرفقه وألقاها عن عجز فرسه فردّها قيس بن عاصم الى بنى ربيع. يوم سفوان قال أبو عبيدة: التقت بنو مازن وبنو شيبان على ماء يقال له سفوان، فزعمت بنو شيبان أنه لهم، وأرادوا أن يجلوا تميما عنه. فاقتتلوا قتالا شديدا، فظهرت عليهم بنو تميم وشلوهم حتى بلغوا المحدث، وكانوا قبل ذلك يتوعّدون بنى مازن، فقال فى ذلك الودّاك المازنىّ: رويدا بنى شيبان بعض وعيدكم ... تلاقوا غدا خيلى على سفوان تلاقوا جيادا لا تحيد عن الوغى ... إذا الخيل جالت فى القنا المتدانى عليها الكماة الغرّ من آل مازن ... ليوث طعان كلّ يوم طعان تلاقوهم فتعرفوا كيف صبرهم ... على ما جنت فيهم يد الحدثان الجزء: 15 ¦ الصفحة: 390 مقاديم وصّالون فى الروع خطوهم ... بكلّ رقيق الشّفرتين يمان إذا استنجدوا لم يسألوا من دعاهم ... لأيّة حرب أم لأىّ مكان يوم نقا الحسن وهو يوم الشّقيقة «1» لبنى ضبّة على بنى شيبان فيه قتل بسطام. قال أبو عبيدة: غزا بسطام بن قيس بن مسعود بن قيس ابن خالد- وقيس بن مسعود هو ذو الجدّين، وأخوه السليل بن قيس من بنى ضبة ابن أدّ بن طابخة- فأغار على ألف بعير لمالك بن المنتفق فيها فحلها قد فقأ عينه، وكان فى الإبل مالك بن المنتفق، فركب فرسا له ونجا ركضا حتى إذا دنا من قومه نادى: يا صباحاه، فركبت بنو ضبّة، وتداعت بنو تميم، فتلاحقوا بالنقا، فقال عاصم بن خليفة لرجل من فرسان قومه: أيّهم رئيس القوم؟ قال: حاميتهم صاحب الفرس الأدهم- يعنى بسطاما- فعلا عاصم عليه بالرمح فطعنه، فلم تخطئ صماخ أذنه حتى خرج الرمح من الناحية الأخرى وخرّ. فلما رأى ذلك بنو شيبان خلّوا سبيل النّعم وولّؤا الأدبار، فمن قتيل واسير، وأسر بنو ثعلبة نجاد بن قيس أخا بسطام فى سبعين من بنى شيبان: وقال شمعلة بن الأخضر بن هبيرة: ويوم شقائق الحسنين لاقت ... بنو شيبان آجالا قصارا شككنا بالرّماح وهنّ زور ... صماخى كبشهم حتى استدارا أيام بكر على تميم يوم الزّويرين قال أبو عبيدة: كانت بكر بن وائل تنتجع أرض بنى تميم فى الجاهلية ترعى بها إذا أجدبوا، فإذا أرادوا الرجوع لم يدعوا عودة يصيبونها ولا شيئا يظفرون به الجزء: 15 ¦ الصفحة: 391 إلا اكتسحوه، فقال بنو تميم: امنعوا هؤلاء القوم من رعى أرضكم، فحشدت تميم، وحشدت بكر واجتمعت، فلم يتخلّف عنهم إلا الحوفزان بن شريك فى أناس من بنى ذهل بن شيبان، وكان غازيا، فقدّمت بكر عليهم عمرا الأصمّ أبا مفروق- وهو عمرو بن قيس بن مسعود بن عمرو بن أبى ربيعة بن ذهل بن شيبان- فحسد سائر ربيعة الأصمّ على الرياسة، فأتوه فقالوا: يا أبا مفروق، إنّا قد زحفنا لتميم وزحفوا لنا أكثر ما كنّا وكانوا قط. قال: فما تريدون؟ قالوا: نريد أن نجعل كلّ حىّ على حياله، ونجعل عليهم رجلا منهم، فنعرف غناء كل قبيلة، فإنه أشدّ لاجتهاد الناس. قال: والله إنى لأبغض الخلاف عليكم، ولكن يأتى مفروق فينظر فيما قلتم. فلما جاء مفروق شاوره أبوه، فقال له مفروق: ليس هذا أرادوا، وإنما أرادوا أن يخدعوك عن رأيك وحسدوك على رياستك، والله لئن لقيت القوم فظفرت لا يزال لنا الفضل بذلك أبدا، ولئن ظفر بك لا تزال لنا رياسة نعرف بها، فقال الأصمّ: يا قوم، قد استشرت مفروقا فرأيته مخالفا لكم، ولست مخالفا رأيه وما أشار به. فأقبلت تميم بجملين مجلّلين مقرونين مقيّدين وقالوا: لا نولّى حتى يولى هذان الجملان، وهما الزّويران، فأخبرت بكر بقولهم الأصمّ فقال: وأنا زويركم إن خشّوهما فخشونى، وإن عقروهما فاعقرونى، قال: والتقى القوم فاقتتلوا قتالا شديدا. فأسرت بنو تميم حراث بن مالك أخا بنى مرّة بن همام، فركض به رجل منهم وقد أردفه، فاتبعه ابنه قتادة بن حراث حتى لحق الفارس الذى أسر أباه، فطعنه فأرداه عن فرسه، واستنقذ أباه، ثم انهزمت بنو تميم. وقال رجل من بنى سدوس: يا سلم إن تسألى عنّا فلا كشف ... عند اللّقاء ولسنا بالمقاريف الجزء: 15 ¦ الصفحة: 392 نحن الذين هزمنا يوم صبّحنا ... جيش الزّورين فى جمع الأحاليف ظلّوا وظلنا نكّر الخيل وسطهم ... بالشّيب منّا وبالمرد الغطاريف يوم الشّيّطين لبكر على تميم قال أبو عبيدة: لمّا ظهر الإسلام- قبل أن يسلم أهل نجد والعراق- سارت بكر بن وائل الى السواد وقالت: نغير على بنى تميم بالشّيّطين «1» ، فإنّ فى دين ابن عبد المطلب أنه من قتل نفسا قتل بها، فنغير هذه الغارة ثم نسلم عليها. فارتحلوا من لعلع بالذّرارىّ والأموال، فأتوا الشيّطين فى أربع، وبينهما مسيرة ثمانية أميال فسبقوا الخبر فصبّحوهم وهم لا يشعرون، ورئيسهم يومئذ بشر بن مسعود بن قيس بن خالد ذى الحدّين، فقتلوا بنى تميم قتلا ذريعا وأخذوا أموالهم. قال: قتل من بنى تميم يوم الشّيّطين ولعلع ستمائة رجل، قال: فوفد وفد من بنى تميم الى النبىّ صلى عليه وسلم فقالوا: ادع الله على بكر بن وائل! فأبى صلى الله عليه وسلم. يوم صعفوق لبكر على تميم أغارت بنو ربيعة على بنى سليط بن يربوع يوم صعفوق، فأصابوا منهم أسرى، فأتى طريف بن تميم العنبرىّ فروة بن مسعود، وهو يومئذ سيّد بنى ربيعة، ففدى منهم أسرى بنى سليط ورهنهم ابنه، فأبطأ عليهم فقتلوا ابنه. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 393 يوم مبايض لبكر على تميم قال أبو عبيدة: كانت الفرسان إذا كانت أيام عكاظ فى الشهر الحرام، وأمن بعضهم بعضا، تقنّعوا كى لا يعرفوا، فكان طريف بن تميم لا يتقنّع، فوافى عكاظ وقد كشفت بكر بن وائل، وكان طريف قد قتل شراحيل الشيبانىّ أحد بنى عمرو بن ربيعة، فقال خميصة: أرونى طريفا، فأروه إيّاه، فتأمّله ونظر إليه، ففطن له طريف فقال: مالك تنظر؟ فقال: أتوسّمك لأعرفك، فلله علىّ إن لقيتك أن أقتلك أو تقتلنى. قال: فمضى لذلك ما شاء الله، ثم إن بنى عائدة حلفاء بنى ربيعة بن ذهل، خرج منهم رجلان يصيدان، فعرض لهما رجل من بنى شيبان، فذعر عليهما صيدهما، فوثبا عليه فقتلاه، فثارت بنو مرّة بن ذهل بن شيبان يريدون قتلهما، فأبت بنو ربيعة ذلك عليهم، فقال هانئ بن مسعود: يا بنى ربيعة، إنّ إخوتكم قد أرادوا ظلمكم فانمازوا «1» عنهم، ففارقوهم، وساروا حتى نزلوا بمبايض: - ماء لهم- فأبق عبد لرجل من بنى ربيعة، وسار الى بلاد تميم، فأخبرهم أن حيّا جديدا، أى منتقى من قومه، من بكر بن وائل نزول على مبايض وهم بنو ربيعة، فقال طريف العنبرىّ: هؤلاء فأرى يا آل تميم، وأقبل معه أبو الجدعاء أخو بنى طهيّة، وجاءه فدكىّ بن أعبد المنقرىّ فى جمع من بنى سعد بن زيد مناة، فأنذرت بهم بنو ربيعة؛ فانحاز بهم هانئ بن مسعود، وهو رئيسهم، الى علم مبايض، وأقام عليه وشرّفوا بالأموال والسرح «2» ، وصبّحتهم تميم، فقال لهم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 394 طريف: أطيعونى وافرغوا من هؤلاء الأكلب يصف لكم ما وراءهم، فقال لهم أبو الجدعاء- رئيس حنظلة- وفدكىّ- رئيس بنى سعد بن زيد مناة: أنقاتل أكلبا أحرزوا أنفسهم ونترك أموالهم؟ ما هذا برأى! وأبوا عليه. وقال هانئ لأصحابه: لا يقاتل رجل منكم، ولحقت تميم بالنّعم والبغال فأغاروا عليها، فلمّا ملأوا أيديهم من الغنيمة قال هانئ بن مسعود لأصحابه: احملوا عليهم، فهزموهم. وقتل طريف العنبرىّ، قتله خميصة الشيبانىّ. يوم فيحان لبكر على تميم قال أبو عبيدة: لمّا فدى نفسه بسطام بن قيس من عتيبة بن الحارث إذ أسره يوم الغبيط بأربعمائة بعير فقال: لأدركنّ عقر إبلى، فأغار بفيجان، فأخذ الربيع بن عتيبة واستاق ماله، فلمّا سار يومين شغلوا عن الربيع بالشراب، فبال على قيده حتى لان؛ ثم خلعه وانحلّ منه، ثم أجال فى متن ذات النسوع- فرس بسطام- وهرب، فركبوا قى أثره، فلمّا يئسوا منه ناداه بسطام: يا ربيع، هلمّ طليقا، فأبى، وأتوه فى نادى قومه يحدّثهم، فجعل يقول فى أثناء حديثه: إيها يا ربيع! انج يا ربيع! وأقبل ربيع حتى انتهى إلى أدنى بنى يربوع فإذا هو براع فاستسقاه وضربت الفرس برأسها فماتت، فسمّى ذلك المكان هبير الفرس، فقال له أبوه عتيبة: أما إذ نجوت بنفسك فإنى مخلف لك مالك. يوم ذى قار الأوّل لبكر على تميم قال: فخرج عتيبة فى نحو من خمسة عشر فارسا من بنى يربوع، فكمن فى جنبى ذى قار حتى مرّت بهم إبل بنى الحصين، وهى بالعدوانة: اسم ماء لهم، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 395 فصاحوا بمن فيها من الحامية والرعاية، ثمّ استاقوها، فأخلف للربيع ما ذهب له وقال: ألم ترنى أفأت على ربيع ... جلادا فى مباركها وخورا وأنّى قد تركت بنى حصين ... بذى قار يرمّون الأمورا يوم الحاجز لبكر على تميم قال أبو عبيدة: خرج وائل بن صريم اليشكرىّ من اليمامة، فلقيه بنو أسيد ابن عمرو بن تميم، فأسروه وجعلوا يغمسونه فى المناء فى الركّية ويقولون: يأيها المانح دلوى دونكا حتى قتلوه، فغزاهم أخوه باعث بن صريم يوم حاجز، فأخذ ثمامة بن باعث ابن صريم رجلا من بنى أسيد وجيها فيهم فقتله، وقتل على الظّنة مائة منهم. يوم الشقيق لبكر على تميم قال أبو عبيدة: أغار أبجر بن جابر العجلىّ على بنى مالك بن حنظلة، فسبى سليمى بنت محصن، فولدت له أبجر، ففى ذلك يقول أبو النجم: ولقد كررت على طهيّة كرّة ... حتّى طرقت نساءها بمساء ذكر حرب البسوس وهى حرب بكر وتغلب ابنى وائل قال أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب: لم تجتمع معدّ كلّها إلّا على ثلاثة من رؤساء العرب، وهم: عامر بن الظّرب بن عمرو بن بكر بن يشكر بن الحارث. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 396 وعامر هو قائد معدّ يوم البيداء حين تمدحجت مذحج وسارت الى تهامة، وهى أوّل واقعة كانت بين تهامة واليمن. والثانى: ربيعة بن الحارث بن مرّة بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب بن كلب وهو قائد معدّ يوم السّلّان، وهو يوم كان بين أهل تهامة واليمن. والثالث: كليب بن ربيعة، وهو الذى يقال فيه: أعزّ من كليب وائل، وقاد معدّا كلّها يوم خزاز، ففضّ جموع اليمن وهزمهم، واجتمعت عليه معدّ كلّها وجعلوا له قسم الملك وتاجه وتحيته وطاعته، فغبر «1» بذلك حينا من الدهر، ثم دخله زهو شديد وبغى على قومه حتى بلغ من بغيه أنه كان يحمى مواقع السحاب فلا يرعى حماه ويقول: وحش أرض كذا فى جوارى فلا يهاج، ولا تورد إبل أحد مع إبله، ولا توقد نار مع ناره. وكانت بنو جشم وبنو شيبان فى دار واحدة بتهامة، وكان كليب قد تزوّج جليلة بنة مرّة بن ذهل بن شيبان أخت جسّاس بن مرّة، وكانت لها ناقة يقال لها: السراب، وبها يضرب المثل فى التشاؤم، فيقال: «أشأم من السراب» و «أشأم من البسوس» وهى معقولة بفناء بيتها فى جوار جسّاس بن مرّة، فمرّت بها إبل لكليب، فلما رأت السراب الإبل تازعت عقالها حتى قطعته، وتبعت الإبل واختلطت بها حتى انتهت الى كليب، وهو على الحوض، ومعه قوس وكنانة، فلما رآها أنكرها، فانتزعها بسهم فخرم ضرعها، فنفرت وهى ترغو، فلما رأتها البسوس قذفت خمارها عن رأسها وصاحت: واذلّاه! واجاراه. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 397 ذكر مقتل كليب وائل قال: فأجمشت جسّاسا، فركب فرسا له مغرورا به، وتبعه عمرو بن الحارث ابن ذهل بن شيبان على فرسه، ومعه رمحه، حتى دخلا على كليب الحمى، فطعنه جسّاس فقصم صلبه، وطعنه عمرو بن الحارث من خلفه فقطع قطنه، فوقع كليب وهو يفحص برجله وقال لجسّاس: أغثنى بشربة من ماء، فقال له: تجاوزت شبيثا «1» والأحصّ «2» ، ففى ذلك يقول عمرو بن الأهتم: وإنّ كليبا كان يظلم قومه ... فأدركه مثل الذى تريان فلمّا حشاه الرمح كفّ ابن عمّه ... تذكّر ظلم الأهل أىّ أوان وقال لجسّاس أغثنى بشربة ... وإلّا فخيّر من رأيت مكانى فقال تجاوزت الأحصّ وماءه ... وبطن شبيث وهو غير زؤان وقال نابغة بنى جعد: أبلغ عقالا أنّ خطّة داحس ... بكفّيك فاستأخر لها أو تقدّم كليب لعمرى كان أكثر ناصرا ... وأيسر ذنبا منك ضرّج بالدّم رمى ضرع ناب فاستمرّ بطعنة ... كحاشية البرد اليمانى المسهّم وقال لجسّاس أغثنى بشربة ... تدارك بها منّا علىّ وأنعم فقال تجاوزت الأحصّ وماءه ... وبطن شبيث وهو ذو متوسّم قال: فلما قتل كليب ارتحلت بنو شيبان حتى نزلوا بماء يقال له النّهى، وتشمّر المهلهل أخو كليب- واسمه عدىّ بن ربيعة، وإنما قيل له المهلهل لأنه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 398 أوّل من هلهل الشعر، أى أرقّه- فاستعدّ المهلهل لحرب بكر، وترك النساء والغزل، وحرّم القمار والشراب، وجمع اليه قومه، فأرسل رجالا منهم الى بنى شيبان يعذر اليهم فيما وقع من الأمر، فأتوا مرّة بن ذهل بن شيبان وهو فى نادى قومه، فقالوا له: إنكم أتيتم عظيما بقتلكم كليبا بناب من الإبل، فقطعتم الرّحم، وانتهكتم الحرمة، وإنّا كرهنا العجلة عليكم دون الإعذار إليكم، ونحن نعرض عليكم خلالا أربعا، لكم فيها مخرج ولنا مقنع، قال مرّة: ما هى؟ قالوا: تحيى لنا كليبا أو تدفع لنا جسّاسا قاتله فنقتله به، أو همّاما فإنه كفء له، أو تمكّننا من نفسك فإنّ فيك وفاء من دمه، فقال: أمّا إحيائى كليبا فهذا ما لا يكون. وأمّا جسّاس فإنه غلام طعن طعنة على عجل ثم ركب فرسه فلا أدرى أىّ البلاد احتوت عليه. وأمّا همّام فإنه أبو عشرة وأخو عشرة وعمّ عشرة، كلّهم فرسان قومهم فلن يسلّموه لى فأدفعه اليكم يقتل بجريرة غيره. وأمّا أنا فما هو إلّا أن تجول الخيل جولة غدا فأكون أوّل قتيل بينهما، فما أتعجّل من الموت، ولكن لكم عندى خصلتان: أما إحداهما فهؤلاء بنىّ الباقون فعلّقوا فى عنق أيّهم شئتم نسعة فانطلقوا به الى رجالكم فاذبحوه ذبح الجزور وإلّا فألف ناقة سوداء المقل أقيم لكم بها كفيلا من بكر بن وائل، فغضب القوم وقالوا: لقد أسأت، تبذل لنا صغار ولدك وتسومنا اللبن من دم كليب. ووقعت الحرب بينهم، ولحقت جليلة زوجة كليب بأبيها وقومها، واعتزلت قبائل بكر بن وائل، وكرهوا مجامعة بنى شيبان ومساعدتهم على قتال إخوتهم، وأعظموا قتل جسّاس كليبا بناب من الإبل، فظعنت لجيم عنهم، وكفّت يشكر عن نصرتهم، وانقبض الحارث بن عباد فى أهل بيته، وهو أبو بجير وفارس النعامة. وقال المهلهل يرثى كليبا من أبيات: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 399 بات ليلى بالأنعمين «1» طويلا ... أرقب النّجم ساهرا أن يزولا كيف أهدى ولا يزال قتيل ... من بنى وائل ينسّى قتيلا فى قصيدة طويلة. وقال أيضا يرثيه من أخرى: نعى النعاة كليبا لى فقلت لهم ... مالت بنا الأرض أو زالت رواسيها القائد الخيل تردى فى أعنّتها ... زهوا إذا الخيل لجّت فى تعاديها من خيل تغلب ما تلقى أسنّتها ... إلّا وقد خضّبوها من أعاديها يهزهزون من الخطّىّ مدمجة ... كمنا أنابيبها زرقا عواليها ترى الرّماح بأيدينا فتوردها ... بيضا ونصدرها حمرا أعاليها لا أصلح الله يوما من يصالحكم ... ما لاحت الشّمس فى أعلى مجاريها يوم النّهى فالتقوا بماء يقال له: النّهى «2» ، كانت بنو شيبان نازلة عليه، ورئيس تغلب المهلهل، ورئيس شيبان الحارث بن مرّة، فكانت الدائرة لبنى تغلب، ولم يقتل فى ذلك اليوم أحد من بنى مرّة. يوم الذنائب ثم التقوا بالذنائب، وهى أعظم وقعة كانت لهم، فظفرت بنو تغلب وقتل من بكر مقتلة عظيمة، وفيه قتل شراحيل بن مرة بن همّام بن مرّة بن شيبان، وهو جدّ الحوفزان، قتله عتّاب بن سعد بن بن زهير بن جشم، وقتل من بنى ذهل بن الجزء: 15 ¦ الصفحة: 400 ثعلبة عمرو بن سدوس بن شيبان، وقتل من بنى قيس بن ثعلبة سعد بن ضبيعة بن قيس وتيم بن قيس بن ثعلبة، وهو أحد الحرقيّين «1» ، وكان شيخا كبيرا، فحمل فى هودج، فلحقه عمرو بن مالك بن الفدوكس بن جشم فقتله. يوم واردات ثم التقوا يوم واردات وعليهم رؤساؤهم الذين تقدّم ذكرهم، فظفرت بنو تغلب، واستحرّ «2» القتل فى بنى بكر، فيومئذ قتل الشعثمان: شعثم وعبد شمس ابنا معاوية بن عامر بن ذهل بن ثعلبة وسيّار بن الحارث بن سيّار، وفيه قتل همّام ابن مرّة أخو جسّاس لأبويه، فمرّ به مهلهل مقتولا فقال: والله ما قتل بعد كليب قتيل أعزّ علىّ فقدا منك يوم عنيزة . يوم عنيزة ثم التقوا بعنيزة، فظفرت بنو تغلب، ثم كانت بينهم معاودة ووقائع كثيرة كل ذلك كانت الدائرة فيها لبنى تغلب على بنى بكر، فمنها يوم الحنو، ويوم عويرضات، ويوم أنين، ويوم ضرية، ويوم القمصيبات، كلها لتغلب على بكر، أصيبت فيها بكر حتى ظنوا أن لن يستقبلوا أمرهم. وقال المهلهل يصف هذه الأيام وينعاها على بكر فى قصيدة طويلة أوّلها: أليلتنا بذى حسم «3» أنيرى ... اذا أنت انقضيت فلا تحورى «4» فإن يك بالذنائب «5» طال ليلى ... فقد أبكى من اللّيل القصير الجزء: 15 ¦ الصفحة: 401 فلو نبش المقابر عن كليب ... لأخبر بالذنائب أىّ زير وإنّى قد تركت بواردات «1» ... بجيرا فى دم مثل العبير «2» هتكت به بيوت بنى عباد ... وبعض القتل أشفى للصدور على أن ليس عدلا من كليب ... اذا برزت مخبّأة الخدور وقال المهلهل أيضا وقد أشرف فى الدماء: أكثرت قتل بنى بكر بربّهم ... حتّى بكيت وما يبكى لهم أحد آليت بالله لا أرضى بقتلهم ... حتّى أبهرج بكرا أينما وجدوا أبهرج: أى أدعهم بهرجا، لا يقتل بهم قتيل، ولا تؤخذ بهم دية. وقال أيضا: قتلوا كليبا ثمّ قالوا أربعوا ... كذبوا وربّ الحلّ والإحرام حتى تبيد قبيلة وقبيلة ... ويعضّ كلّ مثقّف بالهام ويقمن ربّات الخدور حواسرا ... يمسحن عرض ذوائب الأيتام حتى يعضّ الشيخ بعد حميمه ... ممّا يرى ندما على الإبهام يوم قضة قال: ثم إنّ المهلهل أسرف فى القتل ولم يبال بأىّ قبيلة من قبائل بكر وقع، وكانت أكثر بكر قعدت عن نصرة بنى شيبان لقتلهم كليبا، وكان الحارث بن عباد قد اعتزل تلك الحروب، حتى قتل ابنه بجير بن الحارث بن عباد، فلمّا بلغه قتله قال: نعم القتيل قتيل أصلح بين ابنى وائل، وظنّ أنّ المهلهل قد أدرك به ثأر الجزء: 15 ¦ الصفحة: 402 كليب وجعله كفؤا له، فقيل له: إنما قتله بشسع نعل كليب. وكان المهلهل قال لمّا قتل بجير بن الحارث: بؤبشسع نعل كليب، فلمّا سمع الحارث ذلك غضب، وكان له فرس يقال له النعامة، فركبها وتولّى قتال تغلب بنفسه، فكانت الدائرة فيه على تغلب، فتفرّقت قبائل تغلب وهرب المهلهل. وقال الحارث بن عباد: قرّبا مربط النعامة منّى ... لقحت حرب وائل عن حيالى قرّبا مربط النعامة منّى ... شاب رأسى وأنكرتنى رجالى لم أكن من جناتها علم اللّ ... هـ وإنى بحرّها اليوم صال فى قصيدة طويلة نحو المائة بيت كرّر فيها: قرّبا مربط النعامة منّى فى خمسين بيتا. وكان أوّل يوم شهده الحارث يوم قضة، وهو يوم تحلاق اللمم، وفيه يقول طرفة: سائلوا عنّا الّذى يعرفنا ... بقوانا يوم تحلاق اللّمم يوم تبدى البيض عن أسؤقها «1» ... وتلفّ «2» الخيل أعراج «3» النّعم «4» الجزء: 15 ¦ الصفحة: 403 يوم تحلاق اللّمم ويوم تحلاق اللّمم، إنما سمّى بذلك لأن الحارث بن عباد لمّا تولّى الحرب قال لقومه: احملوا معكم نساءكم يكنّ من ورائكم، فإذا وجدن جريحا منهم قتلوه، وإذا وجدن جريحا منّا سقينه وأطعمنه، فقالوا: ومن أين يتميّز لهنّ؟ فقال: احلقوا رءوسكم لتمتازوا بذلك، ففعلوا، فسمّى به، فقال جحدر بن ضبيعة- وكان من شجعانهم-: اتركوا لمّتى وأقتل لكم أوّل فارس يقدمهم، فتركوه، وهو الذى قتل عمرا وعامرا التغلبيّان، طعن أحدهما بسنان «1» رمحه، والآخر بزجّه «2» ، ثم صرع بعد ذلك، فلمّا رأته نساء بكر دون حلق ظنّوه من تغلب فأجهزوا عليه. وفى هذا اليوم أسر الحارث بن عباد المهلهل عدىّ بن ربيعة وهو لا يعرفه فقال له: دلّنى على عدىّ وأخلى عنك، فقال له عدىّ: عليك العهد بذلك إن دللتك عليه، قال نعم، قال فأنا عدىّ، فجزّ ناصيته وتركه وقال فيه: لهف نفسى على عدىّ ولم أع ... رف عديّا إذ أمكنتنى اليدان وكان الحارث آلى ألّا يصالح تغلبا حتى تكلّمه الأرض، فلمّا كثرت وقائعه فى تغلب ورأت تغلب أنها ما تقوم له حفروا سربا تحت الأرض وأدخلوا فيه رجلا وقالوا له: اذا مرّ بك الحارث فغنّ بهذا البيت: أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشّرّ أهون من بعض فلما مرّ الحارث اندفع الرجل وغنّى بالبيت، فقيل للحارث قد برّ بقسمك فابق بقيّة قومك، فأمسك، فاصطلحت بكر وتغلب. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 404 ثم إنّ المهلهل فرّ بنفسه فنزل بمذحج فى بنى جنب «1» ، فخطبوا اليه ابنته، وقيل أخته، فمنعهم، فأجبروه على تزويجها وساقوا اليه جلودا من أدم، فقال فى ذلك: أعزز على تغلب بما لقيت ... أخت بنى الأكرمين من جشم أنكحها فقدها الأراقم «2» فى ... جنب وكان الخباء من أدم لو بأبانين «3» جاء يخطبها ... ضرّج ما أنف خاطب بدم ليسوا بأكفائنا الكرام ولا ... يغنون فى ذلّة ولا عدم ثم اشترى المهلهل عبدين يغزوان معه، فغزا بهما حتى طال عليهما ذلك، فاختارا الراحة منه، فأجمعا على قتله بموضع قفر، فلمّا شعر بما همّا به ولم ير لنفسه ملجأ قال لهما: أبلغا عنّى هذه المراسلة، فقالا هات، فقال: من مبلغ عنّى بأنّ مهلهلا ... لله درّكما ودرّ أبيكما فلمّا قتلاه وانصرفا نحو بيته فقالا: مات بأرض كذا وذكرا وصيتّه، فلم يدر أحد ما أراد، فقالت ابنته: والله ما كان أبى ردىّ الشعر، ولا سفساف الكلام، وإنما أراد أن يخبركم أنّ العبدين قتلاه، وإنما معنى البيت: من مبلغ عنّى بأنّ مهلهلا ... أضحى قتيلا بالفلا مجدّلا لله درّكما ودرّ أبيكما ... لا يبرح العبدان حتّى يقتلا فقتل العبدان بعد أن أقرّا بذلك. وقيل: إنه أصبح قتيلا بين رجلى جمل هاج. والله تعالى أعلم بالصواب. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 405 الكلاب الأوّل قال أبو عبيدة: لمّا تسافهت بكر بن وائل وغلبها سفهاؤها، وتقاطعت أرحامها؛ ارتأى رؤساؤهم فقالوا: إنّ سفهاءنا قد غلبوا على أمرنا، فأكل القوىّ الضعيف، فنرى أن نملّك علينا ملكا نعطيه الشاة والبعير، فيأخذ للضعيف من القوىّ، ويردّ على المظلوم من الظالم، ولا يمكن أن يكون من بعض قبائلنا فيأباه الآخرون، فيفسد ذات بيننا، ولكنّنا نأتى تبّعا فنملّكه علينا، فأتوه [فذكروا له أمرهم «1» ] فملّك عليهم الحارث بن عمرو آكل المرار الكندىّ، فقدم فنزل بطن عاقل «2» . ثم غزا ببكر بن وائل حتى انتزع عامّة ما فى أيدى ملوك الحيرة اللخميّين، وملوك الشام الغسانّيين، وردّهم الى أقاصى أعمالهم، ثم طعن فى نيطة فمات فدفن ببطن عاقل. واختلف ابناه شرحبيل وسلمة فى الملك، فتواعد الكلاب «3» ، فأقبل شرحبيل فى ضبّة والرّباب كلّها، وبنى يربوع، وبكر بن وائل. وأقبل سلمة فى تغلب والنّمر وبهراء ومن تبعه من بنى مالك بن حنظلة، وعليهم سفيان بن مجاشع، وعلى تغلب السفّاح، وإنما قيل له السفّاح لأنه سفح أوعية قومه وقال لهم: اندروا الى ماء الكلاب، فسبقوا ونزلوا عليه، وإنما خرجت بكر مع شرحبيل لعداوتها لبنى تغلب، فالتقوا على الكلاب، واستحرّ القتل فى بنى يربوع، وشدّ أبو حنش على شرحبيل فقتله، وكان شرحبيل قد قتل ابنه حنشا، فأراد أبو حنش أن يأتى برأسه الى سلمة، فخافه فبعثه مع عسيف له، فلما رآه سلمة دمعت عيناه وقال له: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 406 أنت قتلته؟ قال لا، ولكن قتله أبو حنش، إنما أدفع الثواب الى قاتله، فهرب أبو حنش منه، فقال سلمة فى ذلك: ألا أبلغ أبا حنش رسولا ... فمالك لا تجىء الى الثّواب تعلّم أنّ خير الناس طرّا ... قتيل بين أحجار الكلاب يوم الصّفقة وهو يوم الكلاب الثانى قال أبو عبيدة: كان يوم الكلاب متّصلا بيوم الصّفقة «1» . وكان من حديث الصفقة أنّ كسرى كان قد أوقع ببنى تميم، فأخذ الأموال وسبى الذرارىّ بمدينة هجر «2» ، وذلك أنهم أغاروا على لطيمة له فيها مسك وعنبر وجوهر كثير، فسمّيت تلك الوقعة يوم الصّفقة، ثم إنّ بنى تميم أداروا أمرهم، وقال ذو الحجى منهم: إنكم قد أغضبتم الملك، وقد أوقع بكم حتى وهنتم، وتسامعت بما لقيتم القبائل، ولا تأمنون دوران العرب. فجمعوا سبعة من رؤسائهم وشاوروهم فى أمرهم، وهم: أكثم بن صيفىّ الأسدىّ، والأحيمر بن يزيد بن مرّة المازنىّ، وقيس بن عاصم المنقرىّ، وأبير بن عصمة التيمىّ، والنعمان بن جسّاس التيمىّ، وأبين بن عمرو السعدىّ، والزبرقان بن بدر السعدىّ فقالوا لهم: ماذا ترون؟ فقال أكثم بن صيفىّ، وكان يكنى أبا حنش: إنّ الناس قد بلغهم ما لقينا، ونخاف أن يطمعوا فينا وإنى قد نيّفت على التسعين، وقد نحل قلبى كما نحل جسمى، وأخاف ألّا يدرك ذهنى الرأى لكم، فليعرض علىّ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 407 كلّ رجل منكم رأيه وما يحضره فإنى متى أسمع الحزم أعرفه، فقال كلّ منهم ما عنده، وأكثم [ساكت] لا يتكلّم، حتى قام النعمان بن الجسّاس فقال: يا قوم، أنظروا ماء يجمعكم ولا يعلم الناس بأىّ ماء أنتم حتى تنفرج الحلقة عنكم، وقد صلحت أحوالكم، وانجبر كسيركم، وقوى ضعيفكم، ولا أعلم ماء يجمعكم إلّا قدّة، فقال أكثم: هذا [هو «1» ] الرأى، فارتحلوا حتى نزلوا الكلاب، وبين أدناه وأقصاه مسيرة يوم، وأعلاه مما يلى اليمن، وأسفله مما يلى العراق. فنزلت سعد والرّباب بأعلى الوادى، ونزلت حنظلة بأسفله. قال: وكانوا لا يخافون أن يغزوا فى القيظ، لبعد تلك الصحارى وشدّة الحرّ بها وقلة المياه، فأقاموا بقيّة القيظ لا يعلم أحد بمكانهم، حتى اذا تهوّر «2» القيظ بعث الله ذا العيينتين، وهو من أهل مدينة هجر، فمرّ بقدّة وصحاريها، فرأى ما بها من النّعم، فانطلق حتى أتى أهل هجر فقال: هل لكم فى جارية عذراء، ومهرة شوهاء «3» ، وبكرة حمراء، ليس دونها نكبة؟ قالوا: ومن لنا بذلك؟ قال: تلكم تميم ألقاء «4» مطروحون بقدّة. فمشى بعضهم الى بعض وقالوا: اغتنموها من بنى تميم. فأخرجوا معهم أربعة أملاك يقال لهم اليزيديون: يزيد بن هوبر، ويزيد بن عبد المدان، ويزيد بن المأموم، ويزيد بن المخرّم، وهم كلّهم حارثيّون ومعهم عبد يغوث الحارثىّ، وم كان كلّ واحد منهم على ألفين، فمضوا حتى إذا كانوا ببلاد باهلة قال جرير بن جزء الباهلىّ لابنه: يا بنىّ، هل لك فى أكرومة لا يصاب أبدا مثلها؟ قال: وما ذلك؟ قال: هذا الحىّ من تميم قد لجأوا هاهنا مخافة كسرى، وقد قصصت أثر الجيش يريدونهم، فاركب جملى الأرحبىّ، وسرسيرا رويدا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 408 عقبة «1» من الليل، ثم حلّ عنه حبليه وأنخه وتوسّد ذراعه، فإذا سمعته قد أفاض بجرّته وبال فاستنقعت ثفناته فى بوله، فشدّ حبليه ثم ضع السّوط عليه، فإنك لا تسأل جملك شيئا من السير إلا أعطاكه حتى تصبّح القوم. ففعل ما أمره به. قال الباهلّى: فحللت بالكلاب قبل الجيش فناديت: يا صباحاه! فإنهم ليثبون إلىّ ليسألونى من أنت؟ إذ أقبل رجل منهم من بنى شقيق على مهر قد كان فى النّعم فنادى: يا صباحاه، قد أتى على النّعم، ثم كرّ راجعا نحو الجيش، فلقيه عبد يغوث الحارثىّ وهو أوّل الرعيل، فطعنه فى رأس معدته فسبق اللّبن الدم، فقال عبد يغوث: أطيعونى وامضوا بالنّعم وخلّوا العجائز من تميم ساقطة أفواهها، فقالو: أما دون أن تنكح بناتهم فلا. وقال ضمرة بن لبيد الحماسىّ ثم المذحجىّ الكاهن: أنظروا اذا سقتم النّعم فإن أتتكم الخيل عصبا [عصبا] تنتظر العصبة أن تنتظم الأخرى حتى تلتحق بها فإن أمر القوم هيّن، وإن لحق بكم القوم ولم ينتظر بعضهم بعضا حتى يردّوا وجوه النّعم فإن أمرهم شديد. وتقدّمت سعد والرّباب فى أوائل الخيل والتقوا بالقوم فلم يلتفتوا إليهم، واستقبلوا النّعم ولم ينتظر بعضهم بعضا. ورئيس الرباب النعمان بن الجسّاس، ورئيس بنى سعد قيس بن عاصم، فالتقى القوم، فكان النعمان أوّل صريع، واقتتل الفريقان حتى حجز بينهم الليل، ثم أصبحوا على راياتهم، فنادى قيس بن عاصم: يا آل سعد! يريد سعد بن زيد، ونادى عبد يغوث: يا آل سعد! يريد سعد العشيرة، فلما سمع قيس ذلك نادى: يا آل كعب! يريد كعب بن سعد، ونادى عبد يغوث: يا آل كعب! يريد كعب بن عمرو، فلما رأى ذلك نادى: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 409 يا آل مقاعس! فلما سمع وعلة ابن عبد الله الجرمىّ- وكان صاحب لواء أهل اليمن- نادى: يا آل مقاعس، تفاءل به فطرح له اللواء، وكان أوّل من انهزم، فحملت عليهم سعد والرباب فهزموهم، ونادى قيس بن عاصم: يا آل تميم، لا تقتلوا إلّا فارسا فإنّ الرجّالة لكم، ثم جعل يرتجز ويقول: لمّا تولّوا عصبا شوازبا «1» ... أقسمت لا أطعن إلّا راكبا إنّى وجدت الطّعن فيهم صائبا وأمر قيس بن عاصم أن يتبعوا المنهزمة، ويعرقبوا من لحقوه، ولا يشتغلوا بالقتل عن اتباعهم، فحزّوا دوابرهم، وفى ذلك يقول وعلة: فدى لكم أهلى وأمى ووالدى ... غداة كلاب إذ تحزّ الدوابر وأسر عبد يغوت، أسره مصاد بن ربيعة بن الحارث وكتّفه وأردفه خلفه، وكان مصاد قد أصابته طعنة فى مأبضه، وكان عرقه يهمى «2» ، فنزفه الدم، فمال عن فرسه مقلوبا. فلما رأى ذلك عبد يغوث قطع كتافه وأجهز عليه وانطلق على فرسه، وذلك أوّل النهار، ثم ظفر به بعد فى آخره، ونادى مناد: قتل اليزيدون، وشدّ قبيصة بن ضرار الضّبّىّ على ضمرة بن لبيد الحماسىّ الكاهن فطعنه فخرّ صريعا، فقال له قبيصة: ألا أنبأك تابعك بمصرعك اليوم، ثم أسر عبد يغوث، أسره عصمة بن أبير التيمىّ. قال أبو عبيدة: انتهى عصمة بن أبير إلى مصاد فوجده صريعا، وكان قبل ذلك رأى عبد يغوث أسيرا فى يديه، فعلم أنه الذى أجهز عليه فآقتصّ أثره فلحقه وقال: ويحك! إنى رجل أحبّ اللين، وأنا خير لك من الفلاة والعطش. قال: ومن أنت؟ قال: عصمة بن أبير، فآنطلق به عصمة حتى جثاه عند الأهتم على الجزء: 15 ¦ الصفحة: 410 أن جعل له من فدائه جعلا، فتركه الأهتم عند امرأته العبشميّة، فأعجبها جماله وكمال خلقته، وكان عصمة الذى أسره غلاما نحيفا، فقالت له: من أنت؟ قال: أنا سيّد القوم، فضحكت وقالت: قبّحك الله سيّد قوم حين أسرك مثل هذا، ففى ذلك يقول عبد يغوث: وتضحك منّى شيخة عبشمية ... كأن لم ترى «1» قبلى أسيرا يمانيا فآجتمعت الرّباب الى الأهتم وقالت: ثأرنا عندك، وقد قتل مصاد والنعمان فأخرجه إلينا، فأبى الأهتم أن يخرجه إليهم، فكاد أن يكون بين الحيّين: الرّباب وسعد، فتنة حتى أقبل قيس بن عاص المنقرىّ فقال: أيؤتى قطع حلف الرّباب من قبلنا؟ فضرب فاه بقوس فهتّمه، فسمّى الأهتم، فقال الأهتم: إنما دفعه إلى عصمة ابن أبير، ولا أدفعه إلّا لمن دفعه إلىّ، فليجئ فيأخذه، فأتوا عصمة فقالوا: يا عصمة، قتل سيّدنا النعمان وفارسنا مصاد، وثأرنا أسيرك، فما كان ينبغى لك أن تستحييه! فقال: إنى ممعل وقد أصبت الغنى، ولا تطيب نفسى على أسيرى، فاشتراه بنو جسّاس بمائة بعير، فدفعه إليهم، فخشوا أن يهجوهم، فشدّوا على لسانه نسعة، فقال: إنكم قاتلى لا محالة، فدعونى أذمّ أصحابى وأنوح على نفسى! فقالوا: إنك شاعر ونخاف أن تهجونا، فعقد لهم ألّا يفعل، فأطلقوا لسانه، فقال قصيدته التى أوّلها: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 411 ألا لا تلومانى كفى اللّوم ما بيا ... فما لكما فى اللّوم خير ولا ليا ومنها: أقول وقد شدّوا لسانى بنسعة «1» ... أمعشر تيم أطلقوا لى لسانيا أمعشر تيم قد ملكتم فأسجحوا «2» ... فإنّ أسارى لم يكن من توانيا «3» وقد علمت عرسى مليكة أننى ... أنا اللّيث معديّا عليه وعاديا ومنها: كأنّى لم أركب جوادا ولم أقل ... لخيلى كرّى «4» قاتلى عن رجاليا ولم أسبإ «5» الزّقّ الرّوىّ ولم أقل ... لأيسار صدق أعظموا ضوء ناريا قال: فلما ضربت عنقه قالت ابنة مصاد: بؤ «6» بمصاد! فقال بنو النعمان: يا لكاع! نحن نشتريه بأموالنا ونبؤ بمصاد، فوقع بينهم فى ذلك الشرّ، ثم اصطلحوا. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 412 يوم طخفة «1» قال: كانت الرّفادة، وقيل الردافة «2» ، ردافة الملوك لعتّاب بن هرمىّ بن رياح، ثم كانت لقيس بن عتّاب، فسأل حاجب بن زرارة النعمان أن يجعلها للحارث بن مرط بن سفيان بن مجاشع، فسألها النعمان بنى يربوع وقال: أعقبو إخوتكم فى الرفادة، قالوا: إنهم لا حاجة لهم فيها، وإنما سألها حاجب جسدا لنا وأبوا عليه، فقال الحارث بن شهاب وهو عند النعمان: إنّ بنى يربوع لا يسلّمون ردافتهم إلى غيرهم. وقال حاجب: إن بعث الملك إليهم جيشا لم يمنعوه ولم يمتنعوا. فبعث النعمان إليهم قابوسا ابنه، وحسّان بن المنذر؛ فكان قابوس على الناس، وحسّان على المقدّمة، وبعث معهم الصنائع والوضائع- فالصنائع: من كان يأتيه من العرب، والوضائع: المقيمون بالحيرة- فالتقوا بطخفة، فانهزم قابوس ومن معه، وضرب طارق بن عميرة فرس قابوس فعقره، وأخذه ليجزّ ناصيته، فقال قابوس: إنّ الملوك لا تجزّ نواصيها، فجهّزه وأرسله إلى أبيه، وأما حسّان بن المنذر فأسره بشر ابن عمرو الرياحىّ، ثم منّ عليه وأرسله، ففى ذلك يقول مالك بن نويرة: ونحن عقرنا مهر قابوس بعد ما ... رأى القوم منه الموت والخيل تلحب «3» عليه دلّاص «4» ذات نسج وسيفه ... جراز من الهندىّ أبيض مقضب الجزء: 15 ¦ الصفحة: 413 يوم فيف الريح «1» قال أبو عبيدة: تجمّعت قبائل مذحج وأكثرها بنو الحارث بن كعب، وقبائل من مراد وجعفىّ وزبيد وخثعم، وعليهم أنس بن مدرك، وعلى بنى الحارث الحصين، فأغاروا على بنى عامر بن صعصعة بفيف الرّيح، وعلى بنى عامر، عامر بن مالك ملاعب الأسنّة. قال: فاقتتل القوم، فكسروهم، وارفضت قبائل من بنى عامر، وصبرت بنو نمير، وأقبل عامر بن الطّفيل وخلفه دعىّ بنى جعفر فقال: يا معشر الفتيان، من ضرب ضربة أو طعن طعنة فليشهدنى [فكان «2» ] الفارس إذا ضرب ضربة أو طعن طعنة، قال عند [ذلك] : أبا على، فبينما هو كذلك إذ أتاه مسهر بن يزيد «3» الحارثىّ، فقال له من ورائه: عندك يا عامر والريح عند أذنه فوهصه- أى طعنه-، قأصاب عينه، فوثب عامر عن فرسه ونجا على راحلته، وأخذ مسهر رمح عامر، ففى ذلك يقول عامر بن الطفيل من أبيات: لعمرى وما عمرى علىّ بهيّن ... لقد شان حرّ الوجه طعنة مسهر وقال مسهر- وقد زعم أنهم أخذوا امرأة عامر-: وهصت بخرص «4» الرمح مقلة عامر ... فأضحى نحيفا فى الفوارس أعورا وغادر فينا رمحه وسلاحه ... وأدبر يدعو فى الهوالك جعفرا وكنّا إذا قيسيّة ذهبت بنا ... جرى دمعها من عينها فتحدّرا مخافة ما لاقت حليلة عامر ... من الشرّ إذ سربالها قد تعفّرا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 414 قال: وكانت هذه الوقعة وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، وأدرك مسهر بن يزيد الإسلام فأسلم. يوم زرود الأوّل غزا الحوفزان حتى انتهى الى زرود «1» خلف جبل من جبالها، فأغاروا على نعم كثير لبنى عبس فاجتازوها، وأتى الصريخ «2» لبنى عبس فركبوا، ولحق عمارة بن زياد العبسىّ الحوفزان فعرفه- وكانت أمّ عمارة قد أرضعت مضر بن شريك، وهو أخو الحوفزان- فقال: يا بنى شريك، قد علمتم ما بيننا وبينكم، قال الحوفزان- وهو الحارث بن شريك-: صدقت يا عمارة، فانظر كلّ شىء هو لك فخذه، فقال عمارة: لقد علمت نساء بنى بكر بن وائل أنّى لن أملا أيدى أزواجهنّ وأبنائهنّ شفقة عليهنّ من الموت، فحلّ عمارة ليعارض النّعم ليردّه، وحال الحوفزان بينه وبين النّعم، فعثرت بعمارة فرسه فطعنه الحوفران، وطعنه نعامة بن عبد الله بن شريك: وأسر ابنا عمارة: سنان وشدّاد، وكان فى بنى عبس رجلان من طيىء: ابنان لأوس ابن حارثة، مجاورين لهم، وكان لهما أخ أسير فى بنى يشكر، فلمّا فقدته بنو شيبان نادوا: يا ثارات معدان! فعند ذلك قتلوا ابنى عمارة وهرب الطائيّان بأسيرهما. فلما برئ عمارة من جراحه أتى طيئا فقال: ادفعوا إلىّ هذا الكلب الذى قتلنا به، فقال الطائىّ لأوس: ادفع الى بنى عبس صاحبهم، فقال لهم: تأمرننى أن أعطى بنى عبس قطرة من دمى، وإن ابنى أسير فى بنى يشكر؟ فو الله ما أرجو فكاكه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 415 إلّا بهذا. فلما قفل الحوفزان من غزوه بعث الى بنى يشكر فى ابن أوس، فبعثوا به اليه، فافتدى به معدان، وقال نعامة بن شريك: استنزلت رماحنا سنانا ... وشيخنا بطخفة عنانا ثم أخوه قد رأى هوانا ... لمّا فقدنا بيننا معدانا يوم غول الأوّل وهو يوم كنهل قال أبو عبيدة: أقبل ابنا هجيمة- وهما من غسّان- فى جيش فنزلا فى بنى يربوع، فجاورا طارق بن عوف بن عاصم بن ثعلبة بن يربوع، فنزلا معه على ماء يقال له: كنهل، فأغار عليهما أناس من ثعلبة بن يربوع، فاستاقوا نعمهما وأسروا من كان فى النّعم، فركب قيس بن هجيمة بخيله حتى أدرك بنى ثعلبة، فكّر عليه عتيبة بن الحارث، فقال له قيس: هل لك يا عتيبة الى البراز؟ قال؛ ما كنت لأسأله وأدعه، فبارزه، قال عتيبة: فما رأيت فارسا أملأ لعينى منه، فطعننى فأصاب قربوس سرجى، حتى وجدت مسّ السّنان فى باطن فخذى، ثم أرسل الرمح وهو يرى أن قد أثبتنى [وانصرف «1» ] فأتبعته الفرس، فلما سمع زجلها «2» رجع جانحا على قربوس سرجه، وبدا لى فرج الدّرع فطعنته بالرمح، فقتلته وانصرفت فلحقت النّعم، وأقبل الهرماس بن هجيمة فوقف على أخيه قتيلا، ثم اتبعنى فقال: هل لك فى البراز؟ فقلت: لعلّ الرجعة خير لك، قال: أبعد قيس؟ ثم شدّ علىّ وضربنى على البيضة، فخلص السيف الى رأسى، فضربته فقتلته، فقال جرير: وساق ابنى هجيمة يوم غول ... الى أسيافنا قدر الحمام الجزء: 15 ¦ الصفحة: 416 يوم الجبابات «1» قال أبو عبيدة: خرج بنو ثعلبة بن يربوع فمرّوا بناس من طوائف بكر بن وائل بالجبابات، خرجوا سفّارا، فنزلوا وسرّحوا إبلهم ترعى، وفيها نفر منهم يرعونها، منهم: سوادة بن يزيد بن بجير العجلىّ، ورجل من بنى شيبان، وكان محموما، فمرّت بنو ثعلبة بن يربوع بالإبل فاطّردوها وأخذوا الرجلين من بنى شيبان، فسألوهما: من معكما؟ قالا: معنا شيخ من يزيد بن بجير العجلىّ فى عصابة من بكر بن وائل خرجوا سفّارا يريدون البحرين، فقال الربيع ودعموص ابنا عتيبة بن الحارث بن شهاب: أنذهب بهذين الرجلين وهذه الإبل ولم يعلموا من أخذها، ارجعوا بنا حتى يعلموا من أخذ إبلهم وصاحبيهم لنعنيهم بذلك، فقال عميرة لهما: ما وراءكما إلا شيخ ابن يزيد قد أخذتما أخاه وأطردتما إبله، دعاه، فأبيا ورجعا إليه وأخبراهم وتسمّيا لهم، فركب شيخ ابن يزيد فاتّبعهما وقد ولّيا، فلحق دعموصا فأسره، ومضى ربيع حتى أتى عميرة فأخبره أن أخاه قد قتل، فرجع على فرس له يقال لها الخنساء حتى لحق القوم، فافتكّ منهم دعموصا على أن يردّ عليهم أخاهم وإبلهم، فردّها إليهم، فكفر بنو عتيبة ولم يشكروا عميرة، فقال عميرة فى ذلك: ألم تر دعموصا يصدّ بوجهه ... إذا ما رآنى مقبلا لم يسلّم ألم تعلما يا ابنى عتيبة مقدمى ... على ساقط بين الأسنّة مسلم فعارضت فيه القوم حتى انتزعته ... جهارا ولم أنظر له بالتّلوّم يوم الشّعب غزا قيس بن شرقاء التغلبىّ، فأغار على بنى يربوع بالشّعب، فاقتتلوا، فانهزمت بنو يربوع، فأسر سحيم بن وثيل الرّياحىّ، فقال سحيم فى ذلك: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 417 أقول لهم بالشّعب إذ يأسروننى ... ألم تعلموا أنّى ابن فارس زهدم ففدى نفسه، وأسر أيضا متمّم بنّ نويرة، فوفد مالك بن نويرة على قيس بن شرقاء فى فدائه فقال: هل أنت يا قيس بن شرقاء منعم ... أو الجهد إن أعطيته أنت قابله فلما رأى وسامته قال: بل منعم، فأطلقه له. يوم غول الثانى فيه قتل طريف شراحيل وعمرو بن مرثد المحلّمىّ غزا طريف بن هشيم فى بنى العنبر بن تميم، فأغار على بكر بن وائل بغول، فاقتتلوا، ثم إنّ بكرا انهزمت، فقتل طريف شراحيل أحد بنى ربيعة، وقتل أيضا عمرو بن مرثد، وقتل المجشّر. يوم الخندمة «1» كان رجل من مشركى قريش يحدّ حربة يوم فتح مكة، فقالت له امرأته: ما تصنع بهذه؟ قال: أعددتها لمحمد وأصحابه! [فقالت له: ما أرى أنه يقوم لمحمد وأصحابه شىء «2» ] فقال: والله إنى لأرجو أن أخدمك بعض نسائهم، وأنشأ يقول: إن يقبلوا اليوم فما لى علّة ... هذا سلاح كامل والّه وذو غرارين سريع السّلّه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 418 فلما لقيهم خالد [بن الوليد «1» ] يوم الخندمة انهزم الرجل لا يلوى على شىء، فلامته امرأته فى ذلك، فقال: إنّك لو شهدت يوم الخندمه ... إذ فرّ صفوان وفرّ عكرمه ولقيتنا بالسّيوف المسلمه ... يفلقن كلّ ساعد وجمجمه ضربا فلا تسمع إلّا غمغمه ... لم تنطقى فى اللّوم أدنى كلمه وهذه القصّة نذكرها- إن شاء الله- فى أثناء السيرة النبويّة فى يوم فتح مكة. يوم اللهيماء «2» قال أبو عبيدة: كان سبب الحرب التى كانت بين [عمرو بن الحارث بن تميم ابن سعد بن هذيل، وبين عمرو «3» ] بن عدىّ بن الدّئل بن بكر بن عبد مناة، أنّ قيس بن عامر بن غريب أخا بنى عمرو بن عدىّ وأخاه سالما، خرجا يريدان بنى عمرو بن الحارث، على فرسين، يقال لأحدهما: اللّعاب، والآخر: عفزر، فباتا عند رجل من بنى نفاثة، فقال النّفاثىّ لقيس واخيه: أطيعانى وارجعا، لأعرفنّ رماحكما تكسر فى قتاد نعمان، قالا: إنّ رماحنا لا تكسر إلّا فى صدور الرجال! قال: لا يضرّكما؛ وستحمدان أمرى، فأصبحا غاديين. فلما شارفا متن اللهيماء من نعمان، وبنو عمرو بن الحارث فويق ذلك بموضع يقال له أديمة، وأغارا على غنم لجندب بن أبى أعيبس، وفيها جندب، فتقدّم إليه قيس، فرماه جندب على حلمة ثديه وبعجه قيس بالسيف فأصابت ضبّة السيف وجه جندب، وحزّ قيس الجزء: 15 ¦ الصفحة: 419 ونفرت الغنم نحو الدار فتبعها وحمل سالم على جندب بفرسه عفزر، فضرب جندب خطم الفرس بالسيف فقطعه، وضربه سالم بالسيف فقطع إحدى ثدييه، فخّر جندب ووقف عليه سالم، وأدرك العشى سالما، فخرج وترك سيفه فى المعركة وثوبه بحقويه، ولم ينج إلا بحفن سيفه ومئزره فقال حذيفة بن أنيس فى ذلك من أبيات: كشفت غطاء الحرب لمّا رأيتها ... تميل على صفو من اللّيل أعسرا أخو الحرب إن عضّت به الحرب عضّها ... وإن شمّرت عن ساقها الحرب شمّرّا ويمشى إذا ما الموت كان أمامه ... كذا الشّبل يحمى الأنف أن يتأخرا نجا سالم والنفس منه بشرقة ... ولم ينج إلّا جفن سيف ومئزرا وطاب عن اللّعّاب نفسا ورمّة ... وغادر قيسا فى المكرّ وعفزرا يوم خزاز قال أبو عبيدة: تنازع عامر ومسمع ابنا عبد الملك، وخالد بن جبلة، وإبراهيم بن محمد بن نوح العطاردى، وغسّان بن عبد الحميد، وعبد الله بن سالم الباهلىّ، ونفر من وجوه أهل البصرة كانوا يتجالسون يوم الجمعة ويتفاخرون ويتنازعون فى الرياسة يوم خزاز. فقال خالد بن جبلة: كان الأحوص ابن جعفر الرئيس. وقال عامر ومسمع: كان الرئيس كليب وائل. وقال ابن نوح: كان الرئيس زرارة بن عدس، وهذا فى مجلس أبى عمرو بن العلا، فتحاكموا إليه فقال: ما شهدها عامر بن صعصعة، ولا دارم بن مالك، ولا جشم بن بكر، اليوم أقدم من ذلك، غير أن أهل اليمن كان الرجل منهم يجئ ومعه كاتب وطنفسة يقعد عليها، فيأخذ من أموال نزار ما شاء، كعمّال صدقاتهم اليوم، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 420 وكان أوّل يوم امتنعت معدّ عن [الملوك «1» ] : ملوك حمير، وكانت نزار لم تكثر بعد، فأوقدوا نارا على خزاز ثلاث ليال، ودخّنوا ثلاثة أيام، فقيل له: وما خزاز؟ قال: هو جبل [قريب من أمرة على يسار الطريق «2» ] خلفه صحراء منعج «3» ، ففى ذلك اليوم امتنعت نزار من أهل اليمن، قال عمرو بن كلثوم: ونحن غداة أوقد فى خزاز ... رفدنا فوق رفد الرّافدينا فكنّا الأيمنين إذا التقينا ... وكان الأيسرين بنو أبينا فصالوا صولة فيمن يليهم ... وصلنا صولة فيمن يلينا فآبوا بالنهاب وبالسبايا ... وأبنا بالملوك مصفّدينا قال أبو عمرو بن العلاء: ولو كان جدّه كليب وائل قائدهم ورئيسهم ما ادّعى الرفادة وترك الرياسة. يوم النّسار قال أبو عبيدة: تحالفت أسد وطيىء وغطفان، ولحقت بهم ضبّة وعدىّ، فغزوا بنى عامر فقتلوهم قتلا شديدا، فغضبت بنو تميم لمقتل بنى عامر، فتجمّعوا حتى لحقوا طيئا وغطفان وحلفاءهم من ضبّة وعدىّ يوم الفجار، فقتلت تميم [طيّئا «4» ] أشدّ مما قتلت عامر يوم النّسار، فقال بشر بن أبى خازم: غضبت تميم أن تقتّل عامر ... يوم النّسار فأعقبوا بالصّيلم يوم ذات الشقّوق قال: فحلف ضمرة بن ضمرة النهشلىّ وقال: الخمر علىّ حرام حتى يكون لنا يوم يكافئه، فأغار عليهم يوم ذات الشقوق فقتلهم وقال فى ذلك: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 421 الآن ساغ لى الشّراب ولم أكن ... آتى الفجار ولا أشدّ تكلمى حتّى صبحت على الشّقوق بغارة ... كالتّمر تنثر فى جرين «1» الجرّم وأفأت يوما بالجفار بمثله ... وأجزت نصفا من حديث الموسم ومشت نساء كالنساء عواطلا ... من بين عارفة النساء وأيّم ذهب الرّماح بزوجها فتركنه ... فى صدر معتدل القناة مقوّم يوم خو ّ قال أبو عبيدة: أغارت بنو أسد على بنى يربوع فاكتسحوا إبلهم، فأتى الصريخ الحىّ فلم يتلاحقوا إلّا مساء بموضع يقال له خوّ «2» ، وكان ذؤاب بن ربيعة الأسدىّ على فرس أنثى، وكان عتيبة بن الحارث بن شهاب على حصان يستنشى ريح الأنثى فى سواد الليل ويتبعها، فلم يعلم عتيبة إلّا وقد أقحم فرسه على ذؤاب ابن ربيعة، وعتيبة غافل لا يبصر ما بين يديه، فرآه ذؤاب فطعنه فى نحره فقتله، ولحق الربيع بن عتيبة فشدّ على ذؤاب فأسره وهو لا يعلم أنه قاتل أبيه، فلم يزل عنده أسيرا حتى فاداه أبوه ربيعة بإبل قاطعه عليها، وتواعدا بسوق عكاظ فى الأشهر الحرم أن يأتى هذا بالإبل وهذا بالأسير، فأقبل أبو ذؤاب بالإبل، وشغل الربيع بن عتيبة فلم يحضر سوق عكاظ، فظنّ ربيعة أبو ذؤاب أن ذؤابا قتل بعتيبة، فقال يرثيه: أبلغ قبائل جعفر مخصوصة ... ما إن أحاول جعفر بن كلاب إنّ المودّة والهوادة بيننا ... خلق كسحق الرّيطة المنجاب ولقد علمت على التجلّد والأسى ... أنّ الرّزيّة كان يوم ذؤاب الجزء: 15 ¦ الصفحة: 422 إن يقتلوك فقد هتكت بيوتهم ... بعتيبة بن الحارث بن شهاب بأحبّهم فقدا على أعدائه ... وأشدّهم فقدا على «1» الأصحاب فلما بلغ إليهم الشعر قتلوا ذؤاب بن ربيعة. أيام الفجار «2» الفجار الأوّل قال أبو عبيدة: أيام الفجار عدّة، فأوّلها بين كنانة وهوازن. وكان الذى هاجه أنّ بدر بن معشر أحد بنى عقال بن مليك بن ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة جعل له مجلسا بسوق عكاظ، وكان منيعا فى نفسه، فقام فى المجلس وقام على رأسه قائم وأنشأ يقول: نحن بنو مدركة بن خندف ... من يطعنوا فى عينه لا يطرف ومن يكونوا قومه يغطرف «3» ... كأنّهم لجّة بحر مسدف «4» قال: ومدّ رجله وقال: أنا أعزّ العرب، فمن زعم أنه أعزّ منّى فليضربها، فضربها الأحيمر بن مازن أحد بنى دهمان بن نضر بن معاوية، فأندرها «5» من الركبة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 423 وقال: خذها إليك أيها المخندف! قال أبو عبيدة: إنما خرصها خريصية يسيرة وقال فى ذلك: نحن بنو دهمان ذو التّغطرف ... بحر لبحر زاخر لم ينزف [نبنى على الأحياء بالمعرّف «1» ] قال أبو عبيدة: فتحاور الحيّان عند ذلك حتى كاد يكون بينهم قتال، ثم تراجعوا ورأوا أنّ الخطب يسير. الفجار الثانى قال: كان الفجار الثانى بين قريش وهوازن، وكان الذى هاجه أنّ فتية من قريش قعدوا الى امرأة من بنى عامر بن صعصعة وضيئة بسوق عكاظ. وقالوا: بل أطاف بها شباب من بنى كنانة وعليها برقع [فأعجبهم ما رأوا من هيئتها «2» ] ، فسألوها أن تسفر عن وجهها، فأبت عليهم، فأتى أحدهم من خلفها فشدّ دبر درعها بشوكة إلى ظهرها وهى لا تدرى، فلما قامت تقلّص الدّرع عن دبرها، فضحكوا وقالوا: منعتنا النظر الى وجهها فقد رأينا دبرها، فنادت المرأة: يا آل عامر! فتحاور الناس، وكان بينهم قتال ودماء يسيرة، فحملها حرب بن أميّة وأصلح بينهم. الفجار الثالث وهو بين كنانة وهوازن وكان الذى هاجه أنّ رجلا من بنى كنانة كان عليه دين لرجل من بنى نضر بن معاوية، فأعدم الكنانىّ، فوافى النضرىّ بسوق عكاظ بقرد، فأوقفه فى سوق عكاظ فقال: من يبيعنى مثل هذا بما لى على فلان حتى أكثر فى ذلك. وإنما فعل ذلك تعييرا للكنانىّ ولقومه، فمرّ به رجل من بنى كنانة فضرب القرد بالسيف الجزء: 15 ¦ الصفحة: 424 فقتله، فهتف النضرىّ: يا آل هوازن! وهتف الكنانىّ: يا آل كنانة! فهاج الناس حتى كاد أن يكون بينهم قتال، ثم رأوا الخطب يسيرا فتراجعوا. قال أبو عبيدة: إنما سميت هذه الأيام بالفجار لأنها كانت فى الأشهر الحرم، وهى الشهور التى يحرّمونها، وهذه يقال لها أيام الفجار الأوّل. الفجار الآخر وهو بين قريش وكنانة كلها وبين هوازن وإنما هاجها البّراض بقتله عروة الرحّال بن عتبة بن جعفر بن كلاب، فأبت أن تقتل بعروة البّراض لأن عروة سيّد هوازن، والبّراض خليع من بنى كنانة، وأرادوا أن يقتلوا به سّيّدا من قريش. وهذه الحرب كانت قبل مبعث النبىّ صلى الله عليه وسلم بستّ وعشرين سنة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كنت أنبل على أعمامى يوم الفجار وأنا ابن أربع عشرة سنة» يعنى أناولهم النبل. وكان سبب هذه الحرب أنّ النعمان بن المنذر اللّخمىّ ملك الحيرة كان يبعث الى سوق عكاظ فى كلّ عام لطيمة «1» فى جوار رجل شريف من أشراف العرب يجيرها له، حتى تباع هنالك ويشترى له بها من أدم الطائف ما يحتاج إليه. وكانت سوق عكاظ تقوم فى أوّل يوم من ذى القعدة، فيتسوّقون إلى حضور الحجّ، ثم يحجّون، فجّهز النعمان عير اللطيمة ثم قال: من يجيرها؟ فقال البّراض بن قيس الضمرىّ: أنا أجيرها على بنى كنانة، فقال النعمان: ما أريد إلّا رجلا يجيرها على أهل نجد وتهامة، فقال عروة الرحّال- وهو يومئذ رجل هوازن- أكلب خليع يجيرها لك؟ أبيت اللعن! أنا أجيرها لك على أهل الشّيح والقيصوم من أهل الجزء: 15 ¦ الصفحة: 425 نجد وتهامة! فقال البّراض: أعلى بنى كنانة تجيرها يا عروة؟ قال: وعلى الناس كلّهم! فدفعها النعمان إلى عروة، فخرج بها وتبعه البرّاض، وعروة لا يخشى منه شيئا، إلى أن نزل بأرض يقال لها أوارة «1» ، فشرب من الخمر وغنّته قينة، ثم نام، فجاء البّراض فدخل عليه، فناشده عروة وقال: كانت منّى زلّة، وكانت الغفلة منى ضلّة، فقتله وخرج وهو يرتجز ويقول: قد كانت الغفلة منّى ضلّه ... هلّا على غيرى جعلت الزّلّه فسوف أعلو بالحسام القلّه وقال: وداهية يهال الناس منها ... شددت لها بنى بكر ضلوعى هتكت بها بيوت بنى كلاب ... وأرضعت الموالى بالضّروع جمعت له يدىّ بنصل سيف ... أفلّ فخرّ كالجذع الصّريع واستاق اللطيمة إلى خيبر، واتّبعه المساور بن مالك الغطفانىّ، وأسد بن خيثم الغنوىّ حتى دخلا خيبر، فكان البرّاض أوّل من لقيهما، فقال لهما: من الرجلان؟ قالا: من غطفان وغنىّ. قال البرّاض: ما شأن غطفان وغنىّ بهذا البلد؟ قالا: ومن أنت؟ قال: من أهل خيبر. قالا: ألك علم بالبرّاض؟ قال: دخل علينا طريدا خليعا فلم يؤوه أحد بخيبر ولا أدخله بيتا. قالا: فأين يكون؟ قال: وهل لكما [به «2» ] طاقة إن دللتكما عليه؟ قالا: نعم. قال: فانزلا، فنزلا وعقلا راحلتيهما. قال: أيّكما أجرأ عليه وأمضى مقدما وأحدّ سيفا؟ قال الغطفانىّ: أنا. قال: فانطلق أدلّك عليه، فانطلقا حتى انتهيا إلى خربة فى جانب خيبر خارجة عن البيوت، فقال البرّاض: هو فى هذه الخربة وإليها يأوى، فأنظرنى حتى أنظر الجزء: 15 ¦ الصفحة: 426 أثمّ هو أم لا، فوقف له ودخل البرّاض ثم خرج إليه وقال: هو قائم فى البيت الأقصى خلف هذا الجدار، فهل عند سيفك صرامة؟ قال: نعم. قال: هات سيفك أنظر إليه أصارم هو؟ فأعطاه سيفه، فهزّه البرّاض ثم ضربه فقتله، ووضع السيف خلف الباب وأقبل إلى الغنوىّ فقال: ما وراءك؟ قال: أجبن من صاحبك، تركته قائما فى البيت الذى فيه الرجل، والرجل نائم لا يتقدّم إليه ولا يتأخّر عنه، قال الغنوىّ: يا لهفاه! لو كان لى من ينظر راحلتينا، قال البرّاض: هما علىّ إن ذهبتا، فانطلق الغنوىّ والبرّاض خلفه حتى إذا جاور الغنوىّ باب الخربة أخذ البرّاض السيف من خلف الباب ثم ضربه حتى قتله وأخذ سلاحيهما وراحلتيهما وانطلق. وبلغ قريشا خبر البرّاض بسوق عكاظ، فخلصوا نجيّا، واتّبعتهم قيس لمّا بلغهم أنّ البرّاض قتل عروة الرحّال، وعلى قيس أبو براء عامر بن مالك، فأدركوهم وقد دخلوا الحرم، فنادوهم.: يا معشر قريش، إنّا نعاهد الله ألّا نبطل دم عروة أبدا، أو نقتل به عظيما منكم، وميعادنا معكم هذه الليلة من العام القابل، فقال حرب بن أميّة لأبى سفيان ابنه: قل لهم: إنّ موعدكم قابل فى هذا اليوم، فقال خداش بن زهير فى هذا اليوم، وهو يوم نخلة، من أبيات أوّلها: يا شدّة ما شددنا غير كاذبة ... على سخينة لولا الليل والحرم وكانت العرب تسمّى قريشا سخينة لأكلها السّخن. يوم شمظة «1» وهو يوم نخلة من الفجار الاخر قال: فجمعت كنانة قرشيّها وعبد منانها والأحابيش ومن لحق بهم من بنى أسد بن خزيمة، وألبس يومئذ عبد الله بن جدعان مائة كمىّ «2» السلاح بأداة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 427 كاملة، سوى ما ألبس من قومه، والأحابيش بنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة. قال: وجمعت سليم وهوازن وجموعهما وأخلافهما، غير كلاب وبنى كعب، فإنهما لم يشهدا يوما من أيام الفجار غير يوم نخلة، فاجتمعوا بشمظة من عكاظ فى هذه الأيام التى تواعدوا فيها على قرن الحول، وعلى كلّ قبيلة من قريش وكنانة سيّدها، وكذلك على قبائل قيس، غير أنّ أمر كنانة كلّها الى حرب بن أميّة، وعلى إحدى مخبتيها عبد الله بن جدعان، وعلى الأخرى كريز بن ربيعة، وحرب بن أميّة فى القلب، وأمر هوازن كلّها الى مسعود بن معتب الثقفىّ، فزحف بعضهم الى بعض، فكانت الدائرة فى أوّل النهار لكنانة على هوازن، حتى إذا كان من آخر النهار تداعت هوازن وصابرت، وانكشفت كنانة فاستحرّ القتل فيهم، فقتل منهم تحت رايتهم مائة رجل، ويقال ثمانون، ولم يقتل من قريش أحد يذكر، فكان هذا اليوم لهوازن على كنانة. يوم العبلاء قال: ثم رجع هؤلاء وأولئك فالتقوا على قرن الحول من يوم عكاظ، والرؤساء عليهم الذين ذكرناهم فى يوم شمظة، فكان هذا اليوم أيضا لهوازن على كنانة. وفى هذا اليوم قتل العوّام بن خويلد والد الزبير، قتله مرّة بن معتب الثقفىّ، وقال رجل من ثقيف: منّا الذى ترك العوّام مجندلا ... تنتابه الطير لحما بين أحجار يوم شرب «1» ثم جمع هؤلاء وأولئك فالتقوا على قرن الحول فى اليوم الثالث من أيام عكاظ، فالتقوا بشرب، وهو أعظم أيامهم والرؤساء عليهم وعلى المجنبتين من ذكرنا، وحمل الجزء: 15 ¦ الصفحة: 428 ابن جدعان يومئذ مائة رجل على مائة بعير ممن لم تكن له حمولة، فالتقوا، وقد كان لهوازن على كنانة يومان متواليان: يوم شمظة والعبلاء، فحمشت قريش وكنانة، وصابرت بنو مخزوم وبنو بكر، فانهزمت هوازن وقتلت قتلا ذريعا، فقال عبد الله بن الزّبعرى يمدح بنى المغيرة: ألا لله قوم ... لدت أخت بنى سهم هشام وأبو عبد ... مناف مدره «1» الخصم وذو الرّمحين أشباك «2» ... من القوّة والحزم فهذان يذودان ... وذا من كثب يرمى وأبو عبد مناف: هاشم بن المغيرة. وذو الرّمحين: أبو ربيعة بن المغيرة، قاتل يوم شرب برمحين. وأمّهم ريطة بنت سعد بن سهم، فقال فى ذلك جذل الطعان: جاءت هوازن أرسالا وإخوتها ... بنو سليم فهابوا الموت وانصرفوا فاستقبلوا بضراب فضّ جمعهم ... مثل الحريق فما عاجوا ولا عطفوا يوم الحريرة «3» ثم جمع هؤلاء وأولئك والتقوا على رأس الحول بالحريرة، وهى حرّة إلى جنب عكاظ، والرؤساء على هؤلاء [وأولئك «4» ] هم الذين كانوا فى سائر الأيام، وكذلك على المجنبتين إلّا أنّ أبا مساحق بن قيس اليعمرىّ قد كان مات، فكان بعده على بكر بن عبد مناة ابن كنانة أخوه جثامة بن قيس، فكان يوم الحريرة لهوازن على كنانة، وهو آخر الأيام الخمسة التى تزاحفوا فيها، فقتل يومئذ أبو سفيان بن أميّة أخو حرب بن الجزء: 15 ¦ الصفحة: 429 أميّة، وقتل من بنى كنانة ثمانية نفر، قتلهم عثمان بن أسيد بن مالك من بنى عامر ابن صعصعة، وقتل جماعة أخر، فقال خداش بن زهير: إنّى من النّفر المحمّر أعينهم ... أهل السّوام وأهل الصّخر واللّوب الطّاعنين نحور الخيل مقبلة ... بكلّ سمراء لم تغلب ومغلوب وقد بلوتم وأبلوكم بلاءهم ... يوم الحريرة ضربا غير تكذيب لا قيتم منهم آساد ملحمة ... ليسوا بزرّاعة عوج العراقيب فالآن إن تقبلوا نأخذ نحوركم ... وإن تباهوا فإنّى غير مغلوب وقال الحارث بن كلدة الثّقفىّ: تركت الفارس البّذاخ منهم ... تمجّ عروقه علقا عبيطا دعست لبانه بالرّمح حتّى ... سمعت لمتنه فيه أطيطا لقد أرديت قومك يابن صخر ... وقد جشّمتهم أمرا سليطا وكم أسلمت منكم من كمىّ ... جريحا قد سمعت له غطيطا مضت أيّام الفجار الآخر، وهى خمسة أيام فى أربع سنين. قال أبو عبيدة: ثم تداعى الناس إلى السلّم على أن يذروا الفضل ويتعاهدوا ويتواثقوا. يوم عين أباغ «1» قال أبو عبيدة: كان ملك العرب المنذر الأكبر بن ماء السماء، ثم مات فملك ابنه عمرو، ثم هلك فملك بعده أخوه قابوس، ثم مات فملك أخوه المنذر بن المنذر الجزء: 15 ¦ الصفحة: 430 ابن ماء السماء. وذلك فى مملكة كسرى بن هرمز، فغزاه الحارث الغسّانىّ، وكان بالشام من جهة قيصر، فالتقوا بعين أباغ، فقتل المنذر، فولّى كسرى النعمان بن المنذر، ثم سعى الى كسرى فى النعمان فقتله، وقد تقدّم ذكر سبب ولايته ومقتله. وكان النعمان لمّا تحقّق غضب كسرى عليه هرب، ثم علم أنه لا منجى له من يد كسرى فقدم إليه فقتله. واستعمل كسرى على العرب إياس بن قبيصة الطائىّ. وكان النعمان لمّا شخص الى كسرى أودع حلقته، وهى ثمانمائة درع وسلاحا كثيرا، هانىء بن مسعود الشّيبانىّ، وجعل عنده ابنته هندا التى تسمّى حرقة، فلمّا قتل النعمان قالت فيه الشعراء، فقال زهير بن أبى سلمى من أبيات: ألم تر للنّعمان كان بنجوة ... من الشرّ لو أنّ امرأ كان ناجيا فلم أر مخذولا له مثل ملكه ... أقلّ صديقا باذلا أو مواسيا يوم ذى قار قال أبو عبيدة: يوم ذى قار هو يوم الحنو، ويوم قراقر، ويوم الجبابات، ويوم ذات العجرم، ويوم بطحاء ذى قار، وكلّها حول ذى قار. قال أبو عبيدة: لم يكن هانىء بن مسعود المستودع حلقة النعمان، وإنما هو ابن ابنه، واسمه هانىء بن قبيصة بن هانىء بن مسعود، لأنّ وقعة ذى قار كانت وقد بعث النبىّ صلى الله عليه وسلم وخبّر أصحابه بها فقال: «اليوم أوّل يوم انتصفت فيه العرب من العجم، وبى نصروا» . ولما قتل النعمان كتب كسرى إلى إياس بن قبيصة يأمره أن يضمّ ما كان للنعمان، فأبى هانىء بن قبيصة أن يسلّم ذلك إليه، فغضب كسرى وأراد استئصال بكر بن وائل، فقدم عليه النعمان بن زرعة التغلبىّ فقال: يا خير الملوك، ألا أدلّك الجزء: 15 ¦ الصفحة: 431 على غرّة بكر بن وائل، قال نعم، قال: أقرّها وأظهر الإضراب عنها حتى يجليها القيظ ويدنيها منك، فأقرّهم، حتى إذا قاظوا نزلت بكر حنو ذى قار، فأرسل إليهم كسرى النعمان بن زرعة يخيّرهم بين ثلاث خصال: إمّا أن يسلّموا الحلقة، وإمّا أن يعرّوا الدّيار، وإمّا أن يأذنوا بحرب. فتنازعت بكر بينها، فهمّ هانىء بن قبيصة بركوب الفلاة، وأشار به على بكر وقال: لا طاقة لكم بجموع الملك، فلم تر من هانىء سقطة قبلها. وقال حنظلة بن ثعلبة بن سيّار العجلىّ: لا أرى غير القتال، فإنّا إن ركبنا الفلاة لمتنا عطشا، وإن أعطينا بأيدينا تقتل مقاتلتنا وتسبى ذراريّنا، فراسلت بكر عنها وتوافت بذى قار، ولم يشهدها أحد من بنى حنيفة، ورؤساء بكر يومئذ ثلاثة نفر: هانىء بن قبيصة الشيبانىّ، ويزيد بن مسهر الشّيبانىّ، وحنظلة بن ثعلبة العجلىّ. فقال حنظلة بن ثعلبة لهانىء بن قبيصة: يا أبا أمامة، إنّ ذمّتكم ذمّتنا عامّة، وإنه لن يوصل إليك حتى تفنى أرواحنا، فأخرج هذه الحلقة ففرّقها بين قومك، فإن تظفر فستردّ عليك، وإن تهلك فأهون مفقود، ففرّقها فيهم. وقال للنعمان: لولا أنك رسول ما أبت إلى قومك سالما. قال: فعقد كسرى للنعمان بن زرعة على تغلب والنّمر. وعقد لخالد بن يزيد البهرانىّ على قضاعة وإياد. وعقد لإياس بن قبيصة على جميع العرب، ومعه كتيبتاه: الشهباء ودو سر. وعقد للهامرز التّسترىّ على ألف من الأساورة، وكتب إلى قيس بن مسعود بن قيس بن خالد ذى الجدّين- وكان عامله على طفّ سفوان- يأمره أن يوافى إياس بن قبيصة، فسار إليه. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 432 وسار إياس بمن معه من الجند وغيرهم، فلما دنوا من بكر أقبل قيس بن مسعود الى قومه ليلا، فأمرهم بالصبر ثم رجع. فلما التقى الزّحفان وتقرّب القوم، قام حنظلة بن ثعلبة بن سيّار العجلىّ فقال: يا معشر بكر، إنّ نشّاب الأعاجم يفرّقكم، فعاجلوهم الى اللّقاء وابدءوهم بالشدّة، وقال هانىء بن مسعود: يا قوم، مهلك مقدور، خير من منجى مغرور. إنّ الجزع لا يردّ القدر، وإنّ الصبر من أسباب الظفر، المنيّة خير من الدنيّة، واستقبال المنيّة خير من استدبارها، فالجدّ الجدّ، فما من الموت بدّ. ثم قام حنظلة بن ثعلبة فقطع وضن «1» النساء فسقطن الى الأرض وقال: ليقاتل كلّ رجل عن حليلته، فسمّى مقطّع الوضن. قال: وقطع يومئذ سبعمائة من بنى شيبان أيدى أقبيتهم من مناكبها لتخفّ أيديهم لضرب السيوف فتجالد القوم، وقتل يزيد بن حارثة اليشكرىّ الهامرز مبارزة، ثم قتل يزيد بعد ذلك. فضرب الله وجوه الفرس فانهزموا، واتبعتهم بكر حتى دخلوا السواد فى طلبهم، وأسر النعمان بن زرعة التغلبىّ. ونجا إياس بن قبيصة على فرسه الحمامة، فكان أوّل من انصرف إلى كسرى بالهزيمة هو. وكان لا يأتيه أحد بهزيمة جيش إلّا نزع كتفيه. فلمّا أتاه إياس بن قبيصة سأله عن الجيش فقال: هزمنا بكر بن وائل وأتيناك ببناتهم. فأعجب ذلك كسرى وأمر له بكسوة، ثم استأذنه إياس فقال: أخى قيس بن قبيصة مريض بعين التّمر، فأردت أن آتيه، فأذن له. ثم أتى كسرى رجل من أهل الحيرة وهو بالخورنق فسأل: هل دخل على الملك أحد؟ فقالوا: إياس، فظنّ أنه قد حدّثه الخبر، فدخل عليه وأخبره بهزيمة القوم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 433 وقتلهم، فأمر به فنزعت كتفاه. وقد أكثرت الشعراء فى يوم ذى قار. فمن ذلك ما قاله أعشى بكر من قصيدة له: لو أنّ كلّ معدّ كان شاركنا ... فى يوم ذى قار ما أخطاهم الشّرف لمّا أمالوا الى النّشّاب أيديهم ... ملنا ببيض لمثل الهام تختطف بطارق وبنو ملك مرازبة ... من الأعاجم فى آذانها النّطف كأنما الآل فى حافات جمعهم ... والبيض برق بدا فى عارض يكف ما فى الخدود صدود عن سيوفهم ... ولا عن الطّعن فى اللّبات منحرف وقال الأعشى يلوم قيسا من أبيات: أقيس بن مسعود بن قيس بن خالد ... وأنت امرؤ ترجو شبابك وائل رحلت ولم تنظر وأنت عميدهم ... فلا يبلغنّى عنك ما أنت فاعل فعرّيت من أهل ومال جمعته ... كما عريّت ممّا تمرّ المغازل شفى النفس قتلى لم توسّد خدودها ... وسادا ولم تعضض عليها الأنامل لعلّك يوم الحنو إذ صبّحتهم ... كتائب لم تعصك بهنّ العواذل «1» قال: ولما بلغ كسرى خبر قيس بن مسعود بما فعل مع قومه حبسه حتى مات فى حبسه، ففيه قال الأعشى: وعرّيت من أهل ومال جمعته صورة ما ورد بآخر الجزء الثالث عشر فى أحد الأصلين الفتوغرافيين المرموز له بنسخة (ا) [انتهت أيام العرب على وجه الاختصار وحذف التكرار من كتاب «نهاية الأرب فى فنون الأدب» لمؤلفه أحمد بن عبد الوهاب القرشىّ المعروف بالنّويرىّ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 434 رحمة الله تعالى عليه وغفرانه على يد كاتبه فقير رحمة ربه الشامل نور الدين بن شرف الدين العالمى، فى اليوم السابع والعشرين من شهر رجب الفرد من شهور سنة سبع وستين وتسعمائة من الهجرة النبوية، وصلى الله على نبيّنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا دائما أبدا الى يوم الدين، ويليه الجزء الرابع عشر من نسخة الأصل وأوّله: (القسم الخامس من الفنّ الخامس فى أخبار الملّة الإسلامية) ] . صورة ما ورد بآخر الجزء الثالث عشر أيضا فى الأصل الثانى الفتوغرافى المرموز له بنسخة (ب) [انتهت أيام العرب على وجه الاختصار، وحذف التكرار، بعون الله تعالى وتوفيقه ويمنه، وبتمامها كمل الجزء الثالث عشر من كتاب «نهاية الأرب فى فنون الأدب» يتلوه إن شاء الله تعالى فى أوّل الجزء الرابع عشر من الكتاب، وهو الجزء الرابع من التاريخ: القسم الخامس من الفنّ الخامس فى أخبار الملّة الإسلامية. وحسبنا الله ونعم الوكيل] . «وكتب بالهامش مانصه: بلغ مؤلفه مقابلة بأصله والحمد لله» . أنجزت- بعون الله وحسن توفيقه- تصحيح وتحقيق الجزء الخامس عشر من كتاب «نهاية الأرب فى فنون الأدب» من تجزئة طبعة دار الكتب المصرية فى يوم الأحد 17 من ذى الحجة سنة 1368 هـ (9 أكتوبر سنة 1949 م) . ويليه الجزء السادس عشر وأوّله: «القسم الخامس من الفنّ الخامس فى أخبار الملّة الإسلامية» . محمد عبد الجوّاد الأصمعىّ المصحح بالقسم الأدبى بدار الكتب المصرية الجزء: 15 ¦ الصفحة: 435 كمل طبع «الجزء الخامس عشر من (نهاية الأرب فى فنون الأدب) » بمطبعة دار الكتب المصرية فى يوم الأربعاء 11 محرّم سنة 1369 (2 نوفمبر سنة 1949) محمد نديم مدير المطبعة بدار الكتب المصرية (مطبعة دار الكتب المصرية 15/1942/1500) الجزء: 15 ¦ الصفحة: 436 [مقدمة الجزء السادس عشر] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ بيان رتب شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب النويرىّ كتابه «نهاية الأرب» على خمسة فنون: الفنّ الأوّل فى السماء والآثار العلوية، والأرض والمعالم السفلية. والثانى فى الإنسان وما يتعلق به. والثالث فى الحيوان. والرابع فى النبات. والخامس فى التاريخ. وقد أنجز القسم الأدبى بالدار فيما مضى طبع خمسة عشر جزءا؛ تشتمل على الفنون الأربعة الأولى، وقسم من فنّ التاريخ؛ يبدأ بخلق آدم؛ ثم تاريخ الرسل من بعده، وأخبار الأمم والملوك فى مختلف الأصقاع، إلى وقت ظهور الإسلام. واليوم تقدّم الدار إلى قراء العربية ثلاثة أجزاء، من السادس عشر إلى الثامن عشر؛ وقد حرصت على أن تخرج هذه الأجزاء الثلاثة معا، لأنها تنتظم موضوعا واحدا من فنّ التاريخ، هو تاريخ السيرة النبوية العطرة. وقد بسط المؤلف القول فى سيرته صلوات الله عليه؛ مبتدئا بذكر نسبه ونسب آبائه، ثم تاريخه من يوم مولده إلى وفاته؛ متناولا جميع الأحداث التى لابست حياته، والمشاهد التى اقترنت بجهاده، وأخباره مع الوفود، وكتبه إلى الملوك؛ مع ذكر شمائله ومعجزاته؛ جامعا مستوعبا، فى تفصيل محكم، وتبويب متناسق. معتمدا فى ذلك على النقل من كتب السير والمغازى، وتواريخ الصحابة؛ الجزء: مقدمةج 16 ¦ الصفحة: 1 وأمهات كتب التفسير، وكتب السنة الصحاح. ومما نقل عنه كتب لم يسبق نشرها؛ وأخرى مما لم نعثر عليه من التراث القديم فى هذا الباب. وبهذا الجمع والتأليف جاءت هذه الأجزاء أوفى مرجع لسيرة الرسول عليه السلام. وقد اعتمد القسم الأدبى فى تحقيق هذه الأجزاء على نسختين: النسخة الأولى مصوّرة عن نسخة مخطوطة بمكتبة «كبريلى» بالآستانة؛ وتتألف من واحد وثلاثين جزءا؛ وهى بالدار برقم (549) معارف عامة. وأصلها مكتوب بقلم معتاد واضح، وعناوين الفصول والأبواب بخط الثلث؛ وهى مكتوبة بخطوط مختلفة، وأكثر أجزائها بخط «نور الدين بن شرف الدين العاملى» ، كتبها ما بين سنتى 966، 967 هـ. وفى كل صفحة خمسة وثلاثون سطرا، ومتوسط الكلمات فى السطر خمس عشرة كلمة، وقد رمز لهذه النسخة بحرف (ا) . أما الثانية؛ فهى نسخة مصوّرة عن نسخة مخطوطة بمكتبة «أياصوفيا» بالآستانة؛ وهى كسابقتها تتألف من واحد وثلاثين جزءا، والموجود منها بالدار ثمانية عشر جزءا غير متصلة؛ محفوظة برقم (551) معارف عامة، وبآخر كل جزء منها عبارة تشير إلى أنها بخط المؤلف؛ كتبت ما بين سنتى 721، 730 هـ تقريبا. وعناوين الفصول والأبواب فيها بالخط الثلث، وتحتوى كل صفحة على سبعة عشر سطرا، ومتوسط كلمات كل سطر ثمانى كلمات. وقد رمز إليها بالحرف (ج) . وبأوّل كل جزء منها وقفية للكتاب على المكتبة المحمودية التى أنشأها محمود الأستادار بخط الموازنيين «1» بالقاهرة؛ وتاريخ هذه الوقفية سنة 797 هـ. الجزء: مقدمةج 16 ¦ الصفحة: 2 أما النسخة التى رمز إليها فى الجزء الثامن بالحرف (ب) فهى قطعة مصوّرة عن مكتبة مشيخة علماء الإسكندرية، وتنتهى فى ص 69 من ذاك الجزء. وقد رجعنا فى تحقيق الجزء السادس عشر إلى نسخة (ا) فقط؛ أما السابع عشر والثامن عشر فقد رجعنا فى تحقيقهما إلى (ا) و (ج) . وقد وقع فى النسختين كثير من الغموض والتحريف؛ فبذلنا غاية الجهد فى بيان الغامض، وإيضاح المبهم، وحل المشكل، ورجعنا فى ذلك إلى ما أمكن الرجوع إليه من مصادر المؤلف؛ ثم إلى أمهات كتب التاريخ والتفسير والحديث واللغة. وقام الأستاذ محمد بن تاويت الطنجى الأستاذ الآن بجامعة أنقرة بتركيا، بتحقيق ثلاث عشرة ملزمة من الجزء السادس عشر؛ وتولى مصححو القسم الأدبى تصحيح بقية هذا الجزء، مع الجزأين: السابع عشر والثامن عشر. وقد جدّت الدار أخيرا فى استحضار بقية الأجزاء الباقية من النسخة المنسوبة لخط المؤلف من المكتبات المختلفة؛ واستكمال نسخ هذا الكتاب وأجزائه من المكتبات الأخرى، ليتم تحقيق بقية هذه الأجزاء على المنهج العلمى القويم؛ ونأمل أن يتم هذا قريبا إن شاء الله. ومن الله العون والحول، والهداية والتوفيق. 16 رجب سنة 1374 18 مارس سنة 1955 محمد أبو الفضل إبراهيم مدير القسم الأدبى بدار الكتب المصرية الجزء: مقدمةج 16 ¦ الصفحة: 3 فهرس الجزء السادس عشر من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويرىّ .... صفحة القسم الخامس من الفن الخامس فى أخبار الملة الإسلامية الباب الأوّل من القسم الخامس من الفن الخامس فى سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم 2 نسبه الطاهر صلى الله عليه وسلم 2 ذكر أمهات رسول الله صلى الله عليه وسلم 5 ذكر نبذة من أخبار آبائه 6 خبر انتزاع البيت ومكة من خزاعة ومن ولى البيت بعد إسماعيل عليه السلام، إلى أن انتزعه قصى ابن كلاب 22 ذكر ولاية هاشم الرّفادة والسقاية 34 أخبار عبد المطلب بن هاشم 39 ذكر ما قيل فى سبب تسميته وكنيته 40 ذكر حفر عبد المطلب زمزم، وما وجد فيها 43 ذكر خبر استسقاء عبد المطلب لبنى قيس عيلان، وهذيل ومن معهما 48 الجزء: مقدمةج 16 ¦ الصفحة: 4 ذكر نذر عبد المطلب نحر ابنه، وخروج القداح على عبد الله والد رسول الله، وفدائه 50 ذكر زواج عبد الله آمنة بنت وهب، أمه عليه السلام 56 خبر المرأة التى عرضت نفسها على عبد الله بن عبد المطلب 58 حمل آمنة برسول الله، وما رأته فى ذلك 63 وفاة عبد الله بن عبد المطلب 66 ذكر مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم 67 ذكر أسمائه وكناه 72 ذكر ما جاء فى تسميته محمدا، وأحمد، ومن تسمى بمحمد قبله من العرب، واشتقاق ذلك 75 أسماؤه فى الكتب المنزلة 78 أسماؤه ونعوته التى جرت على ألسنة أئمة الأمة 79 مراضعه وإخوته من الرضاعة وما ظهر من معجزاته فى زمن الرضاعة وحال طفوليته 80 وفاة أمه 87 كفالة جده له 88 خروجه إلى الشام مع عمه أبى طالب، وخبر بحيرا الراهب 90 رعيته الغنم 93 حضوره حلف الفضول 94 خروجه إلى الشام المرة الثانية، وحديث نسطورا 95 تزويجه خديجة بنت خويلد 97 الجزء: مقدمةج 16 ¦ الصفحة: 5 حضوره هدم الكعبة وبناءها 99 اختلاف قريش فى رفع الركن وتراضيهم به صلى الله عليه وسلم، وخبر النجدىّ 102 ذكر المبشرات به صلى الله عليه وسلم قبل مولده ومبعثه وبعد ذلك 105 خبر سلمان الفارسىّ وقصته فى سبب إسلامه وهجرته إلى المدينة 129 خبر سيف بن ذى يزن وقصته مع عبد المطلب وتبشيره به صلى الله عليه وسلم 137 خبر من ذكر صفته صلى الله عليه وسلم بعد مبعثه وذكّر قومه بها 148 ذكر بشائر كهان العرب به صلى الله عليه وسلم 153 خبر مازن الطائىّ فى سبب إسلامه 165 ذكر مبعثه صلى الله عليه وسلم، وما بدئ به من النبوة 168 ذكر فترة الوحى عنه، وما أنزل بعد فترته 176 ذكر فرض الصلاة 178 أول من أسلم وآمن بالله تعالى وبرسوله 180 خبر إسلام على بن أبى طالب 181 خبر إسلام زيد بن حارثة 183 ذكر من أسلم بدعاء أبى بكر الصديق 187 ذكر تسمية من كانت لهم سابقة فى الإسلام من العرب من غير قريش 192 ذكر دعائه صلى الله عليه وسلم الناس إلى الإسلام 195 ذكر أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين جاهروا بالعداوة 198 ذكر دخول قريش على أبى طالب فى أمره وما كان بينهم من المحاورات 199 الجزء: مقدمةج 16 ¦ الصفحة: 6 ذكر تحزّب قريش عليه صلى الله عليه وسلم، وأذاهم له ولأصحابه 203 ذكر إسلام حمزة بن عبد المطلب 208 ذكر مشى عتبة بن ربيعة والوليد بن المغيرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسماعهما القرآن 209 اجتماع أشراف قريش إليه صلى الله عليه وسلم، وما عرضوا عليه، وما طلبوا منه أن يريهم إياه ويخبرهم به 212 قصة أبى جهل فى الحجر الذى قصد قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم به، وما شاهده من حماية الله تعالى لنبيه 217 خبر النضر بن الحارث وما قال لقريش وإرسالهم إياه إلى أحبار يهود بيثرب، ومعه عقبة بن أبى معيط، وما عادا به 219 ذكر ما اشتملت عليه سورة الكهف مما سألوه عنه 222 ذكر ما أنزل من القرآن عليه صلى الله عليه وسلم فيما سأله قومه لأنفسهم، من تسيير الجبال وغيره 225 ذكر ما كان من عناد قريش بعد ما عرفوا من صدقه فيما حدّث 227 ذكر أوّل من جهر بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم 228 ذكر ما نال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أذى قريش 229 هجرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة، وهى الهجرة الأولى 232 رجوع أهل هذه الهجرة إلى مكة، وما قيل فى سبب رجوعهم 233 ما ورد فى توهين حديث الغرانيق 236 الهجرة الثانية إلى أرض الحبشة، ومن هاجر إليها من الصحابة، 241 ذكر إرسال قريش إلى النجاشى فى شأن من هاجر إلى الحبشة، وإسلامه 247 الجزء: مقدمةج 16 ¦ الصفحة: 7 إسلام عمر بن الخطاب 253 تعاقد قريش على بنى هاشم وبنى المطلب 258 ذكر من عاد من أرض الحبشة ممن هاجر إليها، وكيف دخلوا مكة 262 ذكر من قدم من أرض الحبشة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر 265 أسماء من هلك بأرض الحبشة من هاجر إليها 267 من أنزل فيه القرآن من مشركى قريش، وما أنزل فيهم 268 خروج أبى بكر الصديق رضى الله عنه إلى الهجرة، وعوده وجواره ورده الجوار 275 وفاة أبى طالب بن عبد المطلب ومشى أشراف قريش إليه 277 وفاة خديجة بنت خويلد 279 خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف وعوده إلى مكة «خبر الإسراء والمعراج 283 ذكر من قال إن الإسراء كان بالجسد وفى اليقظة 293 ذكر ما ورد فى رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه 295 ذكر ما كان بعد الإسراء من إنكار قريش لذلك 300 ذكر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قبائل العرب فى المواسم 302 خبر مفروق بن عمرو وأصحابه 306 بيعة العقبة الأولى 310 بيعة العقبة الثانية 312 بيعة العقبة الثالثة 313 الجزء: مقدمةج 16 ¦ الصفحة: 8 تسمية من شهد العقبة، وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم أوّل آية 317 أنزلت فى القتال 321 أوّل من هاجر من مكة إلى المدينة «اجتماع قريش فى دار الندوة 326 ذكر ابتداء هجرته صلى الله عليه وسلم وأبى بكر رضى الله عنه 330 خبر الغار وما قيل فيه 331 خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر من الغار إلى المدينة، وخبر سراقة بن مالك وأمّ معبد 333 قدومه مع أبى بكر إلى المدينة 339 خروجه من قباء، وتحوّله إلى المدينة 341 بناء مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيوته بالمدينة 344 بناء المسجد الذى أسس على التقوى، وهو مسجد قباء 345 ذكر ما أصاب المهاجرين من حمّى المدينة 346 ذكر مؤاخاته صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار 347 ذكر كتابه الذى أمر بكتبه بين المهاجرين والأنصار، وموادعة يهود 348 أخبار المنافقين من الأوس والخزرج، وما أنزل فيهم من القرآن 351 ذكر شىء من أخبار يهود الذين نصبوا العداوة له صلى الله عليه وسلم، وما أنزل فيهم من القرآن 362 إسلام عبد الله بن سلام ومخيريق 363 سؤال أحبار يهود رسول الله صلى الله عليه وسلم، واشتراطهم أنه إن أجابهم عما سألوه آمنوا به 370 الجزء: مقدمةج 16 ¦ الصفحة: 9 كتابه صلى الله عليه وسلم الذى كتبه إلى يهود خيبر 372 ما قاله أحبار يهود فى أوائل السور 373 ذكر شىء من مقالات يهود، وما أنزل من القرآن فى ذلك 374 ذكر ما ألقاه شأس بن قيس اليهودىّ بين الأوس والخزرج من الفتنة 378 ذكر ما تكلم به يهود فى شأن من أسلم منهم، وما أنزل الله تعالى فى ذلك 380 قصة الرجم 384 ذكر ما ورد من أن يهود سحروا رسول الله صلى الله عليه وسلم 390 ذكر الكلام على مشكل حديث السّحر 393 خبر الشاة التى سمّ فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم 395 ذكر الحوادث بعد الهجرة، من السنة الأولى إلى العاشرة حوادث السنة الأولى 396 حوادث السنة الثانية 397 ذكر صرف القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة 397 ذكر خبر الأذان 399 حوادث السنة الثالثة 400 حوادث السنة الرابعة 400 نزول الحجاب على أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم 401 حوادث السنة الخامسة 402 ما وقع بين المهاجرين والأنصار فى غزوة المريسيع 402 الجزء: مقدمةج 16 ¦ الصفحة: 10 حديث الإفك، وما أنزل الله تعالى من براءة عائشة رضى الله عنها 405 خبر التيمم 417 حوادث السنة السادسة 418 هجرة أم كلثوم بنت عقبة بن أبى معيط، وما أنزل الله تعالى فى هجرة النساء 418 حوادث السنة السابعة 419 حوادث السنة الثامنة 420 اتخاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر، وخطبته عليه 420 إسلام عمرو بن العاص، وخالد بن الوليد، وعثمان بن أبى طلحة 421 حوادث السنة التاسعة 423 خبر مسجد الضرار وهدمه، ومن اتخذه من المنافقين 427 إسلام كعب بن زهير، وامتداحه رسول الله صلى الله عليه وسلم 429 حجّ أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه بالناس، وأذان علىّ رضى الله عنه بسورة براءة 439 حوادث السنة العاشرة، وفيها كانت حجّة الوداع 440 الجزء: مقدمةج 16 ¦ الصفحة: 11 الجزء السادس عشر [ تتمة الفن الخامس في التاريخ ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا دائما القسم الخامس من الفن الخامس فى أخبار الملّة الإسلاميّة لمّا انتهى الغرض فى التاريخ إلى الغاية التى ذكرتها، والقصص فى الأخبار التى أوردتها، والدول والوقائع التى انتخبتها، مما طالعته وجررتها؛ عمدت إلى ذكر الملّة الإسلامية التى فضّلها الله تعالى على سائر الملل، ورفع أهلها بالعمل الصالح ووفّقهم لصالح العمل، ووعدهم برحمته؛ فهم من وعده فى أمن، وحذّرهم عقابه؛ فهم من وعيده على وجل، وبعث فيهم رسولا من أنفسهم وأنفسهم فبلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمّة وعدل، وجعله شافعا لذنوبهم فى يوم أحجم فيه من سواه عن الشفاعة وبنفسه اشتغل، وجعلهم به خير أمّة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالله؛ إذ حجد غيرهم ونكل؛ فهم الشهداء على الناس لأبيائهم، وناهيك بها رتبة تقدّم بها أواخر القوم على الأول. وقلت: بالله التوفيق، ومنه الإعانة وعليه المكل. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1 الباب الأوّل من القسم الخامس من الفن الخامس فى سيرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهى السيرة التى ظهرت آياتها، واشتهرت معجزاتها، وأشرقت أنوارها، وانتشرت أخبارها، وعمّت فضائلها، وطابت بكرها وأصائلها، وحسنت أوصافها، وكثر إنصافها، وجاءت فى ظلمة الضّلالة تتقّد، وما أنكر العدوّ فضائلها بل شهد: وفضائل شهد العدوّ بفضلها ... والفضل ما شهدت به الأعداء تالله لقد عجز الواصفون عن وصفها، واعترف المادحون بالتقصير عن بلوغ اليسير من مدى مدحها: وإذا أردت لك الثناء فما الّذى ... - والله قد أثنى عليك- أقول ولنبدأ بذكر نسبه الطاهر صلى الله عليه وسلم، وإن كنا قدّمناه مستوفى فى باب الأنساب «1» ، فلا غنية عن سرده ههنا. هو أبو القاسم محمد صلى الله عليه وسلم بن عبد الله، بن عبد المطّلب- واسم عبد المطّلب: شيبة الحمد- بن هاشم- واسم هاشم عمرو- بن عبد مناف-[واسمه «2» ] المغيرة- بن قصىّ- واسمه زيد- بن كلاب، بن مرّة، بن كعب، ابن لؤىّ، بن غالب، بن فهر. وإلى فهر جمّاع قريش، ومن كان فوق فهر فليس الجزء: 16 ¦ الصفحة: 2 هو بقرشىّ. وفهر هو ابن مالك، بن النّضر، بن كنانة، بن خزيمة، بن مدركة- واسم مدركة «1» عامر- بن الياس، بن مضر، بن نزار، بن معدّ، بن عدنان. روى عن ابن عباس، رضى الله عنهما، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا انتسب لم يجاوز فى نسبه معدّ بن عدنان بن أدد، ثم يمسك ويقول: «كذب النسّابون «2» » . قال الله عز وجل: (وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً «3» ) . قال ابن عباس: لو شاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلمه لعلمه. وعن هشام بن محمد «4» قال: سمعت من يقول: «كان معدّ على عهد عيسى بن مريم عليه السلام» . وقد تقدّم فى باب الأنساب، وهو الباب الرابع من القسم الأوّل من الفنّ الثانى من كتابنا «5» هذا، فى السفر الثانى من هذه النسخة، ما اختاره الشريف أبو البركات «6» محمد بن أسعد بن على بن معمر الحسينىّ الجوّانىّ «7» النسابة الجزء: 16 ¦ الصفحة: 3 فى «مقدّمته «1» » بعد معدّ: بن عدنان، بن أدّ، بن أدد «2» ، بن اليسع، بن الهميسع، بن سلامان، بن نبت، بن حمل، بن قيذار، بن إسماعيل الذبيح، بن إبراهيم الخليل، صلى الله عليهم وسلم، ابن تارح، وهو آزر، بن ناحور «3» ، بن ساروغ، بن أرغو، ابن فالغ، بن عابر، وهو هود النبىّ عليه السلام- وهو جمّاع قيس ويمن ونزار وخندف- بن شالخ، بن أرفحشذ، بن سام، بن نوح [النبىّ «4» ] عليه السلام، بن لمك، بن متّوشلخ، بن أخنوخ، وهو إدريس النبىّ عليه السلام، بن يارد، ابن مهلائيل بن قينان، بن أنوش، بن هبة الله شيث، بن أبى البشر آدم عليه السلام «5» . هذا ما أورده الشريف الجوّانى قال: وعليه أكثر أئمة الأنساب. وسنزيد إن شاء الله تعالى، فى أخبار آباء رسول الله صلى الله عليه وسلم، زيادة حسنة يحتاج إلى إيرادها من عدنان فمن بعده، تقف عليها «6» قريبا، إن شاء الله تعالى، بعد ذكرنا لأمهاته صلى الله عليه وسلم. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 4 ذكر أمهات رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو عبد الله محمد بن سعد رحمه الله تعالى فى طبقاته «1» الكبرى: «أخبرنا هشام بن محمد بن السائب الكلبىّ عن أبيه قال: أمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، آمنة بنت وهب، بن عبد مناف، ابن زهرة، بن كلاب بن مرّة. وأمّها برّة، بنت عبد العزّى، بن عثمان، بن عبد الدّار، بن قصىّ؛ بن كلاب. وأمّها أمّ حبيب، بنت أسد، بن عبد العزّى، ابن قصىّ بن كلاب. وأمّها برّة بنت عوف، بن عبيد، بن عويج، بن عدىّ، ابن كعب، بن لؤىّ. وأمّها قلابة بنت الحارث، بن مالك، بن حباشة، بن غنم، بن لحيان، بن عادية، بن صعصعة، بن كعب، بن هند، بن طابخة، بن لحيان، بن هذيل، بن مدركة، بن الياس، بن مضر. وأمّها أميمة بنت مالك، ابن غنم بن لحيان، بن عادية، بن صعصعة. وأمّها دبّ «2» بنت ثعلبة، بن الحارث، ابن تميم، بن سعد، بن هذيل، بن مدركة. وأمّها عاتكة بنت غاضرة، بن حطيط، بن جشم، بن ثقيف، بن منبّه «3» ، بن بكر، بن هوازن، بن منصور، بن عكرمة، بن خصفة، بن قيس، بن عيلان- واسمه النّاس- بن مضر. وأمّها ليلى بنت عوف، بن ثقيف «4» . وأمّ وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب قيلة. ويقال: هند بنت أبى قيلة» . وقال ابن الكلبىّ: «كتبت للنبىّ صلى الله عليه وسلم خمسمائة أم، فما وجدت فيهنّ سفاحا، ولا شيئا مما كان من أمر الجاهلية» . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 5 وعن محمد بن علىّ بن الحسين «1» أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنما خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم؛ لم يصبنى من سفاح أهل الجاهلية شىء؛ لم أخرج إلّا من طهرة «2» » . والله الفعّال. ذكر نبذة من أخبار آباء رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن بعده إلى أبيه عبد الله بن عبد المطّلب قد تقدّم ذكر آباء رسول الله صلى الله عليه وسلم فى باب الأنساب، وذكرنا كلّ أب من آبائه وأولاده ومن أعقب منهم، وجعلنا العمدة على سرد عمود النسب الشريف على ما تقف عليه هناك فى السفر الثانى من كتابنا هذا «3» من هذه النسخة، وسردنا النسب أيضا آنفا. وقد رأينا أن نذكر فى هذا الموضع نبدة أخرى زيادة على ذلك نذكر فيها الأسماء، والكنى، والأمّهات، وبعض الوقائع والأخبار، مما لم يتقدّم ذكره، فنقول وبالله التوفيق: أمّا عدنان فإليه انقطع علم أهل الأنساب حقيقة؛ لما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا انتهى فى النسب إلى معدّ بن عدنان أمسك، ثم قال: «كذب النسّابون» . قال الله جلّ ثناؤه: (وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً) . وقد روى أنه قال: «عدنان بن أدد» . والله أعلم. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 6 وأمّا معدّ بن عدنان ، فكنيته «1» أبو قضاعة، كنّى بولده قضاعة وهو بكره. ومعدّ (بتحريك العين وتشديد الدال) ، وفى طىّء معد (بتسكين العين) بن مالك ابن قميئة «2» ، وفى خثعم أيضا معد (بتسكين العين) بن الحارث، بن تميم، بن كعب، بن مالك، بن قحافة. وأمّ معدّ بن عدنان: مهدد، بنت اللهم بن جلحب الجرهميّة «3» ، وقيل فيها مهاد بنت لهم. وقيل اللهم بنت جلحب، وفى رواية خليد، بن طسم «4» ، بن يلمع، ابن عابر، بن اسليخيا، بن لاوذ «5» ، بن سام، بن نوح. حكاه الزّبير بن بكّار. وذكر عبد الملك بن حبيب أنّ ولد معدّ بن عدنان سبعة عشر رجلا، درج منهم بلا عقب تسعة، وأعقب ثمانية. وقال أبو الربيع بن سالم «6» : ذكر الزّبير بن أبى بكر «7» ، أن بختنصّر لمّا أمر بغزو بلاد العرب «8» ، وإدخال الجنود عليهم وقتلهم لقتلهم «9» انبياء الله تعالى، وردّهم رسالاتهم، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 7 أمر إرميا بن حلقيا- وكان فيما ذكر نبىّ بنى إسرائيل فى ذلك الزمان- أن أئت معدّ بن عدنان الذى من ولده خاتم النبيين، واحمله معك إلى الشام، وتولّ أمره. وقال السّهيلىّ: «أوحى الله تعالى إلى إرميا أن أحمل معدّ بن عدنان على البراق إلى أرض العراق» ، فإنى مستخرج من صلبه نبيّا اسمه محمد؛ فحمل معه معدّ وهو ابن اثنتى عشرة سنة، وكان مع بنى إسرائيل إلى أن كبر وتزوّج امرأة اسمها معانة» . قال أبو الرّبيع بن سالم: «ويقال المحمول عدنان، والأوّل أكثر. قال: وفى حديث ابن عبّاس رضى الله عنهما: إن الله تعالى بعث ملكين فاحتملا معدّا، فلما رفع الله تعالى بأسه عن العرب، ردّاه إلى موضعه من تهامة، فكان بمكة ونواحيها مع أخواله من جرهم» . وقال الزّبير: «حدّثنى علىّ بن المغيرة قال: لمّا بلغ بنو معدّ عشرين رجلا، أغاروا على عسكر موسى عليه السلام، فدعا عليهم ثلاث مرّات فقال: يا ربّ، دعوتك على قوم فلم تجبنى فيهم بشىء. قال: يا موسى، دعوت على قوم فيهم «2» خيرتى فى آخر الزمان» . وفى هذه الرواية ما فيها من المنافاة لما تقدّم من أنه كان مع إرميا، ومن قال إنه كان على عهد عيسى عليه السلام «3» . والله أعلم بالصواب وإليه المرجع. وأمّا نزار بن معدّ، فكنيته «4» أبو إياد، وقيل أبو ربيعة. ونزار (بكسر النون) . قال السهيلىّ: «5» «من النّزر وهو القليل. وكان أبوه حين ولد له، ونظر إلى النور بين الجزء: 16 ¦ الصفحة: 8 عينيه، وهو نور النّبوّة الذى كان ينتقل فى الأصلاب إلى محمد صلى الله عليه وسلم فرح به فرحا شديدا، ونحر وأطعم وقال: إنّ هذا كلّه نزر لحقّ هذا المولود، فسمّى نزارا لذلك» . وأمّ نزار: معانة بنت جوشم «1» بن جلهمة، بن عمرو «2» ، بن هلينيّه بن دوّة «3» ، بن جرهم. قال السهيلى: «ويقال اسمها ناعمة» . وأما مضر بن نزار فأمه «4» [و] أم إياد: سودة بنت عكّ، بن الذّيب «5» ، بن عدنان. وقال محمد بن الحسين فى كتاب «التحفة «6» » : إنّ أم مضر اسمها سودة بنت عكّ، قال: وقيل حبّية بنت عكّ. وقاله الزبير بن بكّار. وروى أن أم مضر خاصة سودة بنت عكّ؛ وربيعة وأنمار وإياد أمهم شقيقة بنت عكّ؛ وإلى مضر تنتسب مضر الحمراء لسكناها قباب الأدم، ومضر السّوداء سميت بذلك لسكناها المظالّ. وقال الزبير عن غير واحد من أهل العلم بالنّسب: إنهم قالوا: لما حضرت نزارا الوفاة، آثر إيادا بولاية الكعبة، وأعطى مضر ناقة «7» حمراء فسمّى مضر الحمراء، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 9 وأعطى ربيعة فرسه، فسمّوا ربيعة الفرس، وأعطى أنمارا جارية له تسمّى بجيلة فحضنت بنيه «1» ، فسمّى بجيلة أنمار. وقد تقدم ذكر خبر أولاد نزار فى الأمثال عند قولهم: «إن العصا من العصيّة «2» » ، و «إن خشينا من أخشن «3» » ، وقصتهم مع الأفعى الجرهمىّ «4» ، وهو فى الباب الأوّل من القسم الثانى من الفن الثانى فى السفر الثالث من هذه النسخة من كتابنا هذا «5» . قال ابن الأثير الجزرىّ «6» : «ومضر أوّل من حدا، وكان سبب ذلك أنه سقط عن بعيره، فانكسرت يده فجعل يقول: يا يداه! يا يداه! فأتته الإبل من المرعى، فلما صلح وركب حدا، وكان من أحسن الناس صوتا. وقيل بل انكسرت يد مولى له فصاح، فاجتمعت الإبل، فوضع مضر الحداء وزاد الناس فيه» . قال السّهيلى: وفى الحديث: «لا تسبّوا ربيعة ولا مضر فإنهما كانا مؤمنين «7» » وروى عبد الملك بن حبيب بسنده إلى سعيد بن المسيّب أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: «لا تسبّوا مضر فإنه كان مسلما على ملة إبراهيم «8» » . وعن عبد الملك بن حبيب والزبير وجماعة: أن ربيعة ومضر الصّريح من ولد إسماعيل ابن إبراهيم، عليهما السلام. قال: وحدثنى أبو معاوية، عن ابن جريج، عن عطاء، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 10 عن ابن عباس، رضى الله عنهما، قال: «مات أدد والد عدنان، وعدنان، ومعدّ بن عدنان، وربيعة، ومضر، وقيس عيلان، وتميم، وضبّة، وأسد، وخزيمة، على الإسلام على ملة أبيهم إبراهيم، فلا تذكروهم إلا بما يذكر به المسلمون «1» » . والله الموفق. وأما الياس بن مضر، فكيته «2» أبو عمرو. وقال صاحب الاشتمال «3» : قال الزبير: ولد مضر بن نزار الياس بن مضر، فلما أدرك الياس أنكر على بنى إسماعيل ما غيّروا من سنن آبائهم وسيرهم، وبان فضله فيهم، ولان جانبه لهم، حتى جمعهم رأيه ورضوا به، فردّهم إلى سنن آبائهم، حتى رجعت سنّتهم تامة على أوّلها. وهو أوّل من أهدى البدن إلى البيت، وهو أوّل من وضع [حجر «4» ] الرّكن للناس بعد غرق البيت وانهدامه زمن نوح. فكان الياس أوّل من ظفر به، فوضعه فى زاوية البيت. وبعض الناس يقولون: إنما كان ذهب بعد إبراهيم وإسماعيل. قال: وفى هذا كله نظر. قال: وقال الزبير: ولم تزل العرب تعظّم الياس بن مضر تعظيم أهل الحكمة، كتعظيمها لقمان وأشباهه. قال ابن دحية «5» : وهو وصىّ أبيه، وكان ذا جمال بارع ودين، تعظمه العرب قاطبة، وهو أوّل من مات بالسّلّ. قال السّهيلى «6» : «وإنما سمى السلّ داء ياس وداء «7» الياس لأن الياس بن مضر مات به «8» » . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 11 ولما مات أسفت امرأته خندف عليه أسفا شديدا. وكانت نذرت، إن هلك، [أ] لّا تقيم فى بلد مات فيه، ولا يظلّها بيت، وتسيح فى الأرض، وحرّمت الرجال والطيّب بعده. فلما هلك خرجت ساتحة حتى هلكت. وكانت وفاته يوم الحميس، فنذرت أن تبكيه كلما طلعت شمس يوم الخميس حتى تغيب الشمس. قال السهيلىّ: «ويذكر عن النبى صلى الله عليه وسلم [أنه «1» ] قال: «لا تسبوا الياس فإنه كان مؤمنا» . وذكر أنه كان يسمع فى صلبه لمبية النبىّ، صلى الله عليه وسلم، بالحج «2» » . والله أعلم. وأما مدركة بن الياس فقال «3» ابن السائب: واسمه عمرو. وقال ابن إسحاق والزبير: عامر «4» ، وكنيته أبو الهذيل، وقيل أبو خزيمة. وأمه خندف، واسمها ليلى بنت حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة. واسم أمها ضريّة بنت ربيعة بن نزار، وبها سمى «حمى «5» ضريّة» . وأما خزيمة بن مدركة فكنيته «6» أبو أسد، وأمه سلمى بنت أسلم بن الحاف ابن قضاعة. وقيل سلمى بنت أسد بن ربيعة، وخزيمة هذا هو الذى نصب هبل على الكعبة، فكان يقال هبل خزيمة، هكذا ذكره ابن الأثير «7» . وروى عن عطاء عن ابن عباس رضى الله عنهما أن خزيمة مات على ملة إبراهيم عليه السلام. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 12 أما كنانة بن خزيمة ، فكنيته «1» أبو النّضر، وأمّه عوانة بنت سعد بن قيس [بن عيلان «2» ] ، ويقال: بل هند بنت عمرو بن قيس بن عيلان. قال أبو الحسن سلّام ابن عبد الله بن سلام الإشبيلىّ: وقال أبو عمرو العدوانى لابنه فى وصيته: «يا بنى أدركت كنانة بن خزيمة- وكان شيخا مسنّا عظيم القدر، وكانت العرب تحج إليه لعلمه وفضله- فقال: إنه قد آن خروج نبىّ بمكة يدعى أحمد، يدعو إلى الله، وإلى البر والإحسان ومكارم الأخلاق، فاتّبعوه تزدادوا شرفا إلى شرفكم، وعزّا إلى عزّكم، ولا تتعدوا ما جاء به، فهو الحق» . والله الموفق. وأما النّضر بن كنانة . فكنيته «3» أبو يخلد، كنّى بابنه يخلد «4» . واسم النّضر قيس. قال أبو ذرّ الخثنىّ: النّضر: الذّهب الأحمر «5» . وهو النّضار؛ سمّى النّضر بذلك لوضاءته وإشراق وجهه. وأمّه برّة بنت مر بن أدّ بن طابخة بن الياس بن مضر أخت تميم بن مرّ. والذى عليه أكثر أهل السّير والمؤرّخين أن كنانة خلف على برّة بعد أبيه خزيمة، على ما كانت الجاهلية تفعله؛ إذا مات الرجل خلف على زوجته بعده أكبر بنيه من غيرها «6» . ويردّ هذا ما روى عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «ما ولدنى من سفاح أهل الجاهلية شىء؛ ما ولدنى إلا نكاح كنكاح أهل الإسلام «7» » ، وقول ابن الكلبىّ: «كتبت لرسول الله، صلى الله عليه وسلم خمسمائة أمّ، فلم أجد فيها شيئا مما كان من أمر الجاهلية» . وقد تقدّم ذكر ذلك آنفا. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 13 وقد اعتذر القائلون هذا القول عنه بأعذار، وأقاموا أدلة على أنه ليس يسقاح ولا من أمر الجاهلية. وفى أعذارهم وأدلّتهم بعض تكلّف. وقد حصل الظفر- ولله الحمد والمّنة- بما يزيل هذا الإشكال، ويرفع هذا الاحتمال، ويخلّص من مهاوى هذه الشّبه؛ وهو الصحيح، إن شاء الله تعالى، وسنذكره بعد ذكر أعذارهم وأدلّتهم. أما ما استدلوا به على تقدير أن يكون كنانة خلف على برة بنت مرّ بن ادّ بعد أبيه، فقال السّهيلىّ «1» ، رحمه الله، فى قوله تعالى: (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ «2» ) ؛ أى إلا ما قد سلف من تحليل ذلك قبل الإسلام، قال: وفائدة لاستثناء ألا يعاب نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليعلم أنه لم يكن فى أجداده بغية ولا سفاح؛ ألا ترى أنه لم يقل فى شىء نهى عنه فى القرآن (إلا ما قد سلف) نحو: (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى «3» ) ؛ ولم يقل (إلا ما قد سلف) ، (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ «4» ) * ولم يقل (إلا ما قد سلف) ، ولا فى شىء من المعاصى التى نهى عنها إلا فى هذه [لآية «5» ] ، وفى الجمع بين الأختين؛ لأن الجمع بينهما قد كان مباحا فى شرع من قبلنا؛ وقد جمع يعقوب عليه السلام، بين راحيل «6» وأختها ليا؛ فقوله: (إلا ما قد سلف) التفات إلى هذا المعنى وتنبيه على هذا المعزى. ونقل السّهيلىّ هذه التكتة عن القاضى أبى بكر بن العربىّ. واعتذار من اعتذر عن هذه الواقعة على هذا المنوال. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 14 وأما ما ارتفع به هذا الإشكال، فهو ما نقله أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ برحمه الله- فى كتاب له سماه «كتاب الأصنام» قال فيه: «وخلف: كنانة بن خزيمة على زوجة أبيه بعد وفاته، وهى برّة بنت أدّ بن طابخة بن الياس بن مضر، وهى أمّ أسد بن الهون؛ ولم تلد لكنانة ولدا ذكرا ولا أنثى، ولكن كانت ابنة أخيها، وهى برّة بنت مرّ بن أدّ بن طابخة: أخت تميم بن مرّ عند «1» كنانة بن خزيمة، فولدت له النّضر بن كنانة» . قال: «وإنما غلط كثير من الناس لما سمعوا أن كنانة خلف على زوجة أبيه لاتّفاق اسمهما «2» وتقارب نسبهما» . قال: «وهذا الذى عليه مشايخنا وأهل العلم بالنسب» . قال: «ومعاذ الله أن يكون أصاب [نسب «3» ] رسول الله صلى الله عليه وسلم مقت نكاح؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما زلت أخرج من نكاح كنكاح الإسلام، حتى خرجت من أمى وأبى» . قال: «ومن اعتقد غير هذا فقد كفر وشكّ فى هذا الخبر. قال: والحمد لله الذى طهّره من كل وصم وطهّر به» . وأما مالك بن النّضر، فكنيته «4» أبو الحارث، وأمّه عاتكة بنت عدوان، وهو الحارث بن عمرو بن قيس عيلان، ولقبها عكرشة، وقيل عوانة بنت سعد القيسية، وقيل غير ذلك. ومالك هو أبو قريش كلها. وأما فهر بن مالك - وهو قريش، وفهر لقب غلب عليه- فكنيته «5» أبو غالب، وهو جمّاع قريش فى قول هشام بن الكلبىّ. وأم فهر جندلة بنت عامر بن الحارث ابن مضاض الجرهمى «6» ؛ ومن جاوز فهرا فليس هو من قريش. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 15 وقد اختلف فى تسمية قريش قريشا، ومن أوّل من تسمّى به، فقال محمد بن كعب «1» : إنما سميت قريش قريشا لتجمّعها بعد تفرّقها، وقال محمد بن سلام: لما جمع قصىّ قبائل النّضر، وحارب بهم خزاعة، وغلب على الحرم، سمّوا قريشا لاجتماعهم. وقيل: إنما سمّوا قريشا لأنهم يتقرّشون البضاعات فيشترونها. وقيل: جاء النّضر بن كنانة فى ثوب له فقالوا: قد تقرّش فى ثوبه كأنه جمل قريش، أى شديد مجتمع. وقيل: أوّل من سماهم بهذا الاسم قصىّ بن كلاب. قاله المبّرد. وقال الشّعبىّ: النّضر بن كنانة هو قريش، وإنما سمى قريشا لأنه كان يقرّش عن خلّة الناس وحاجتهم فيسدّ ذلك بماله، والتقريش: هو التفتيش، وكان بنوه يقرشون أهل الموسم فيزوّدونهم «2» بما يبلّغهم، فسموا بذلك من فعلهم. وقال الزبير بن بكّار قال عمىّ: قريش بن بدر بن يخلد بن النّضر كان دليل بنى كنانة فى تجارتهم، فكان يقال «قدمت غير قريش» ، وأبوه بدر بن يخلد صاحب بدر [الموضع «3» ] الذى كانت به الوقعة المشهورة، وذكر عن عمه أن فهرا هو قريش، قال: وقد اجتمع «4» النسّاب من قريش وغيرهم أن قريشا إنما تفرّقت عن فهر. والذى عليه من أدركت من نسّاب قريش أن ولد فهر بن مالك قريش، ومن جاوز فهرا فليس من قريش. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 16 وروى عن هشام بن السائب: أن النّضر بن كنانة هو قريش. وقيل عنه فى موضع آخر: ولد مالك بن النّضر فهرا وهو جمّاع قريش. وقال أبو عبيدة معمر ابن المثنّى: أوّل من وقع عليه اسم قريش النّضر بن كنانة، فولده قريش دون سائر بنى كنانة. وقال أبو عمر محمد بن عبد الواحد الزاهد: قريش مأخوذ من القرش، وهو وقع الأسنّة بعضها على بعض «1» ؛ لأن قريشا أحذق الناس بالطّعان. وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنه سأل «2» عمرو بن العاص: لم سميت قريش قريشا؟ قال: بالقرش، دابّة فى البحر تأكل الدوابّ لشدّتها. وقال: المطرّزىّ «3» : هى ملكة الدواب، وسيّدة الدواب وأشدّها، فكذلك قريش سادات الناس. وكان فهر رئيس الناس بمكّة. والله أعلم. وأما غالب بن فهر ، فكنيته «4» أبو تيم، وأمه ليلى بنت الحارث، بن تميم، «5» بن سعد، بن هذيل، بن مدركة؛ ولغالب هذا من الولد: لؤىّ، وتيم الأدرم؛ وكان تيم كاهنا، وإنما قيل له تيم الأدرم لأن أحد لحييه كان أنقص من الآخر. وفى قريش تيمان: تيم بن مرّة، وتيم الأدرم. قال ابن قتيبة «6» : «بنو الأدرم من أعراب قريش ليس بمكّة منهم أحد «7» » . والله أعلم. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 17 وأما لؤىّ بن غالب، فكنيته «1» أبو كعب، وأمه عاتكة بنت يخلد، بن النّضر بن كنانة، وهى إحدى «2» العواتك الّلاتى ولدن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وقيل: بل أمه سلمى بنت عمرو بن ربيعة (وهو لحىّ بن حارثة «3» ) الخزاعية. وأما كعب بن لؤىّ، فكنيته «4» أبو هصيص، وأمه ماوية «5» بنت كعب بن القين ابن جسر القضاعية. قيل: إنما سمى كعب كعبا لارتفاعه على قومه، وشرفه فيهم. وكان عظيم القدر عند العرب؛ فلهذا أرّخوا بموته إلى عام الفيل، ثم أرّخوا بالفيل؛ روى أبو نعيم فى «الدّلائل» عن الطّبرانى بسنده إلى عبد العزيز بن أبى ثابت قال: «أرّخت كنانة من موت كعب بن لؤىّ، وأرّخت قريش بعد موته من عام الفيل؛ وبين موت كعب والفيل خمسمائة سنة وعشرون سنة «6» » . «وكعب هذا أوّل من سمى يوم الجمعة الجمعة، وكانت العرب تسمّى يوم الجمعة العروبة» ؛ قاله السهيلى «7» . ومعنى العروبة الرحمة فيما بلغنى عن أهل العلم، وإنما سماه الجمعة لاجتماع قريش فيه وخطبته [فيهم «8» ] . وأوّل من قال «أما بعد» كعب؛ فكان يقول: «أما بعد، فاستمعوا وافهموا» . ثم قال: «حرمكم عظّموه وتمسّكوا به، وسيأتى لكم نبأ «9» عظيم، وسيخرج له نبىّ كريم» . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 18 قال السّهيلىّ: «وكان يخطبهم ويذكّرهم «1» بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعلمهم أنه من ولده، ويأمرهم باتباعه والإيمان به، وينشد ويقول: يا ليتنى شاهد فحواء دعوته ... إذا قريش تبغّى الحقّ خذلانا «2» » وأما مرّة بن كعب، فكنيته «3» أبو يقظة، وأمه مخشية، وقيل وحشية بنت شيبان، بن محارب، بن فهر. وفى مرّة يجتمع نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونسب أبى بكر الصّديق، وطلحة بن عبيد الله رضى الله عنهما. وأما كلاب بن مرّة، فكنيته «4» أبو زهرة، واسمه حكيم. وكلاب لقب غلب عليه، وسبب ذلك أنه كان محبّا للصيد مولعا به، وكان أكثر صيده بالكلاب، وجمع منها شيئا كثيرا، فكان إذا مرّ بقوم بكلابه قالوا: هذه كلاب ابن مرة، فغلب ذلك عليه؛ وفيه يقول الشاعر: حكيم بن مرّة ساد الورى ... ببذل النّوال وكفّ الأذى وأمّ كلاب هند بنت سرير «5» ، بن ثعلبة، بن الحارث، بن فهر، بن مالك، بن كنانة. ويقال: إن كلابا هذا أوّل من جعل فى الكعبة السيوف المحلّاة بالذهب والفضة ذخيرة للكعبة. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 19 وأما قصىّ بن كلاب فاسمه «1» زيد، وكنيته أبو المغيرة، وقصىّ لقبه، ويلقّب أيضا مجمّعا. قال السّهيلىّ، فى قصىّ «تصغير قصىّ: أى بعيد» . وقال الرّشاطىّ: «وإنما قيل له قصىّ لأن أباه كلاب بن مرّة كان قد تزوّج فاطمة بنت سعد بن سيل، واسم سيل، خير بن حمالة، «2» بن عوف، بن عثمان «3» ، بن عامر (و «4» هو الجادر «5» ) بن جعثمة «6» ، وهو يشكر «7» ، وهم من الأزد. فولدت له زهرة وزيدا، ثم هلك كلاب وزيد صغير فطيم» ، وقال السّهيلى «8» : إنه كان رضيعا، «فتزوّج فاطمة أمّ قضىّ ربيعة بن حرام، بن ضنّة، بن عبد، ابن كبير «9» ، بن عذرة، بن سعد، بن زيد، بن قضاعة، فاحتملها ربيعة ومعها زيد، فربى زيد فى حجر ربيعة، فسمّى قصيّا لبعده عن دار قومه» . وقال الخطّابى: «سمى قصيا لأنه قصّى قومه، أى تقصّاهم بالشام فنقلهم إلى مكة» . قال الرّشاطى: «ثم «10» إن زيدا وقع بينه وبين ربيعة شر، فقيل له: ألا تلحق بقومك؟ وعيّر بالعربة، وكان لا يعرف لنفسه أبا غير ربيعة، فرجع قصىّ إلى أمه، وشكا لها ما قيل له، فقالت له: يا نبىّ، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 20 أنت أكرم منه نفسا وأبا، أنت ابن كلاب بن مرّة، وقومك بمكة عند البيت الحرام. فأجمع «1» قصىّ على الخروج، فقالت له أمه: أقم حتى يدخل الشّهر الحرام، فتخرج فى حاجّ العرب، فلما دخل الشهر الحرام خرج مع حاجّ قضاعة حتى قدم مكة، فحجّ وأقام بمكة» . وكان الذى بلى أمر البيت يومئذ حليل، بن حبشية، بن سلول، بن كعب، ابن عمرو الخزاعى. فخطب إلى حليل بن حبشية ابنته حبّى. فعرف حليل نسبه فزوّجه، وأقام قصىّ معه، فولدت له حبّى أولاده، وهم: عبد مناف، وعبد العزّى، وعبد الدار، وعبد، وبرّة، وتخمر (وهى بالتاء المثناة من فوق وخاء معجمة ساكنة وميم مضمومة وراء) . فلما انتشر ولده، وكثر ماله، وعظم شرفه هلك حليل، وأوصى بولاية البيت لابنته حبّى. فقالت: إنى لا أقدر على فتح الباب وإغلاقه، فجعلت «2» ذلك إلى سليم ابن عمرو، بن بوىّ، بن ملكان، وهو أبو غبشأن، ويقال له المحترش، فاشترى قصىّ منه ولاية البيت بزقّ خمر وقعود «3» ، فضربت به العرب المثل، فقالوا: «أخسر من صفقة أبى غبشان «4» » . فنازعته خزاعة البيت فانترعه منهم. والله الناصر. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 21 ذكر خبر انتزاع قصىّ البيت ومكّة من خزاعة ومن ولى البيت بعد إسماعيل عليه السلام إلى أن انتزعه قصىّ بن كلاب قال محمد بن إسحاق بن يسار «1» : «لما توفى لله تعالى إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وولى البيت بعده ابنه نابت بن إسماعيل ما شاء الله أن يليه، ثم ولى البيت بعده مضاض ابن عمرو الجرهمى، وبنو نابت مع جدّهم مضاض بن عمرو وأخوالهم من جرهم، وجرهم وقطوراء يومئذ أهل مكة، وهما ابنا عمّ، وكانا ظعنا من اليمن، فأقبلا سيّارة «2» ، وعلى جرهم مضاض بن عمرو، وعلى قطوراء السّميدع، رجل «3» منهم. فلما نزلا مكة وأبا بلدا ذا ماء وشجر، فأعجبهما فنزلا به؛ فنزل مضاض بمن معه من جرهم أعلى مكة بقعيقعان «4» فما حاز، ونزل السّميدع بقطوراء أسفل مكة بأجياد «5» فما حاز، وكان كل منهما يعشر «6» من دخل مكة ممّا يليه، وكلّ منهما فى قومه لا يدخل على صاحبه» . «ثم إن جرهما وقطوراء بغى بعضهم على بعض، وتنافسوا الملك بها، ومع مضاض بنو إسماعيل وبنو تابت، وإليه ولاية البيت دون السّميدع، فسار بعضهم إلى بعض؛ فخرج مضاض بن عمرو من قعيقعان فى كتيبته سائر إلى السّميدع ومع كتيبته عدّتها من الرماح والدّرق والسيوف والجعاب، يقعقع [بذلك «7» ] ؛ فيقال ما سمى قعيقعان قعيقعان إلا لذلك. وخرج السّميدع من أجياد ومعه الخيل والرجال، فيقال ما سمى أجياد أجيادا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 22 إلا لخروج الجياد من الخيل منه «1» مع السّميدع. فالتقوا بفاضح «2» واقتتلوا قتالا شديدا، فقتل السّميدع، وفضحت قطوراء؛ فيقال ما سمّى فاضح فاضحا إلا لذلك» . ثم إنّ القوم تداعوا إلى الصّلح، فساروا حتى نزلوا المطابخ: شعبا بأعلى مكة، فاصطلحوا به، وأسلموا الأمر إلى مضاض. فلما اجتمع إليه أمر مكة، وصار ملكها له، نحر للناس فطبخوا وأكلوا «3» ، فيقال ما سميت المطابخ المطابخ إلا لذلك» . وبعض أهل العلم يزعم أنها إنما سميت المطابخ لما كان تبّع نحر بها وأطعم وكانت منزله. والله أعلم» . «فكان الذى كان بين مضاض والسّميدع أوّل بغى كان بمكة. ثم نشر الله ولد إسماعيل بمكة، وأخوالهم من جرهم ولاة البيت والحكّام بمكة، لا ينازعهم ولد إسماعيل فى ذلك لخئولتهم وقرابتهم، وإعظاما للحرمة أن يكون بها بغى أو قتال؛ فلما ضاقت مكة على ولد إسماعيل انتشروا فى البلاد، فلا يناوئون قوما إلا أظهرهم الله عليهم بدينهم» . «ثم إنّ جرهما بغوا بمكة، واستحلّوا خلالا من الحرمة، وظلموا من دخلها من غير أهلها، وأكلوا مال الكعبة الذى يهدى لها، فرقّ أمرهم. فلما رأت بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة، وغبشان من خزاعة ذلك، أجمعوا لحربهم وإخراجهم من مكة؛ فاذنوهم بالحرب فافتتلوا، فغلبتهم بنو بكر وغبشان، فنفوهم من مكة؛ وكانت مكة فى الجاهلية لا تقر فيها ظلما ولا بغيا» . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 23 قال ابن إسحاق: «فخرج عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمىّ بغزالى الكعبة «1» وبحجر الركن، فدفنها فى زمزم؛ وانطلق هو ومن معه من جرهم إلى اليمن. فحزنوا على ما فارقوا من أمر مكة وملكها حزنا شديدا؛ فقال عمرو بن [الحارث «2» ] بن مضاض فى ذلك، وليس بمضاض الأكبر» . والله المعين: [وقائلة والدّمع سكب مبادر ... وقد شرقت بالدّمع منها المحاجر «3» ] كأن لم يكن بين الحجون «4» إلى الصّفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر [فقلت لها والقلب منّى كأنّما ... يلجلجه بين الجناحين طائر «5» ] بلى! نحن كنّا أهلها فأزالنا ... صروف الليالى والجدود العواثر وكنا ولاة البيت من بعد نابت ... نطوف بذاك البيت والخير ظاهر ونحن ولينا البيت من بعد نابت ... بعزّ فما يحظى لدينا المكاثر ملكنا فعزّزنا فأعظم. بملكنا ... فليس لحىّ غيرنا ثمّ فاخر ألم تنكحوا من خير شخص «6» علمته ... فأبناؤه منّا ونحن الأصاهر فإن تنثن الدنيا علينا بحالها ... فإن لها حالا وفيها التشاجر فأخرجنا منها المليك بقدرة ... كذلك يا للنّاس تجرى المقادر أقول إذا نام الحلىّ ولم أنم: ... أذا العرش لا يبعد سهيل وعامر وبدّلت منها أوجها لا أحبّها ... قبائل منها حمير ويحابر «7» وصرنا أحاديثا وكنّا بغبطة ... بذلك عضّتنا السّنون الغوابر الجزء: 16 ¦ الصفحة: 24 [وبدّلنا كعب بها دار غربة ... بها الذئب يعوى والعدوّ المكاشر «1» ] فسحّت دموع العين تبكى لبلدة ... بها حرم أمن وفيها المشاعر «2» وتبكى لبيت ليس يؤذى حمامه ... يظلّ به أمنا وفيه العصافر وفيه وحوش لا ترام أنيسة ... اذا خرجت منه فليست تغادر وقال أيضا يشير إلى بكر وغبشان الذين خلفوا مكة بعدهم: يأيها الناس سيروا إنّ قصركم «3» ... أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا حثّوا المطىّ وأرخوا من أزمّتها ... قبل الممات وقضّوا ما تقصّونا كنّا أناسا كما كنتم فغيّرنا ... دهر فأنتم كما كنّا تكونونا قال ابن هشام «4» : «حدّثنى بعض أهل العلم بالشعر؛ أن هذه الأبيات أوّل شعر قيل فى العرب، وأنها وجدت مكتوبة فى حجر باليمن، ولم يسمّ لى قائلها» . قال ابن إسحاق «5» : «ثم إنّ غبشان من خزاعة وليت البيت دون بنى بكر ابن عبد مناة، وكان الذى يليه منهم عمرو بن الحارث الغبشانىّ، وقريش إذ ذاك حلول وصرم «6» ، وبيوتات متفرّقون فى قومهم من بنى كنانة، فوليت خزاعة البيت يتوارثون ذلك كابرا عن كابر، حتى كان آخرهم حليل بن حبشية بن سلول بن كعب ابن عمرو الخزاعىّ. فخطب قصىّ بن كلاب إلى حليل ابنته حبّى، فرغب فيه حليل فزوّجه، فولدت له عبد الدار، وعبد مناف، وعبد العرّى، وعبدا» . «فلما انتشر ولد قصىّ وكثر ماله، وعظم شرفه هلك حليل، فرأى قصىّ أنه أولى بالكعبة، وبأمر مكة من خزاعة وبنى بكر، وأنّ قريشا فرعة «7» إسماعيل بن الجزء: 16 ¦ الصفحة: 25 إبراهيم وصريح ولده، فكلّم رجالا من قريش وبنى كنانة، ودعاهم إلى إخراج خزاعة وبنى بكر من مكة، فأجابوه» . وكان ربيعة بن حرام من عذرة بن سعد بن زيد مناة قد قدم مكة بعد هلاك كلاب، فتزوّج فاطمة بنت سعد بن سيل- وزهرة يومئذ رجل، وقصىّ فطيم- فاحتملها إلى بلاده، فحملت قصيّا معها وأقام زهرة، فولدت لربيعة رزاحا. فلما بلغ قصىّ وصار رجلا أتى مكة فأقام بها، فلما أجابه قومه إلى ما دعاهم إليه كتب إلى أخيه من أمه رزاح بن ربيعة، يدعوه إلى نصرته والقيام معه؛ فخرج رزاح بن ربيعة ومعه إخوته: حنّ بن ربيعة، ومحمود ابن ربيعة، وجلهمة بن ربيعة، وهم لغير فاطمة، فيمن تبعهم من قضاعة فى حاجّ العرب، وهم مجمعون لنصرة قصىّ» . «وكان الغوث بن مرّ بن أدّ بن طابخة بن الياس بن مضريلى الإجازة للناس بالحج من عرفة، وولده من بعده، وكان يقال له ولولده صوفة «1» . وإنما ولى الغوث ذلك لأن أمّه كانت من بنى جرهم، وكانت لا تا، فنذرت لله إن هى ولدت رجلا أن تصدّق به على الكعبة عبدا لها يخدمها، ويقوم عليها؛ فولدت الغوث، فكان يقوم على الكعبة فى الدّهر الأوّل مع أخواله من جرهم، فولى الإجازة بالناس من عرفة، لمكانه الذى كان به من الكعبة، وولده من بعده حتى انقرضوا» . «وكان الغوث بن مرّ إذا دفع بالناس قال: لا همّ إنى تابع تباعه ... إن كان إثم فعلى قضاعه «2» الجزء: 16 ¦ الصفحة: 26 قال ابن إسحاق: «كانت صوفة تدفع بالناس من عرفة، وتجيز بهم إذا نفروا من منى، حتى إذا كان يوم النّفر أتوا لرمى الجمار، ورجل من صوفة يرمى للناس، لا يرمون حتى يرمى، فكان ذوو الحاجات المتعجّلون يأتونه فيقولون له: قم فارم حتى نرمى [معك «1» ] ؛ فيقول: لا والله، حتى تميل الشمس؛ فيظلّ ذوو الحاجات يرمونه بالحجارة ويقولون له: ويلك! قم فارم، فيأبى عليهم؛ حتى إذا مالت الشمس قام فرمى، ورمى الناس معه» . «فإذا فرغوا من رمى الجمار، وأرادوا النّفر من منى أخذت صوفة بجانبى العقبة، فحبسوا الناس وقالوا: أجيزى صوفة، فلم يجر أحد من الناس حتى يمرّوا، فإذا نفرت صوفة ومضت خلّى سبيل الناس فانطلقوا بعدهم؛ فكانوا كذلك حتى انقرضوا، فورثهم فى ذلك بنو سعد بن زيد مناة، من تميم، وكانت من بنى سعد فى آل صفوان بن الحارث بن شجنة؛ فكان صفوان هو الذى يجيز الناس بالحج من عرفة، ثم بنوه من بعده، حتى كان آخرهم الذى قام عليه الإسلام كرب بن صفوان؛ وفى ذلك يقول أوس بن مغراء من قصيدة: لا يبرح الناس ما حجّوا معرّقهم ... حتّى يقال أجيزوا آل صفوانا «2» «وكانت الإفاضة فى عدوان يتوارثون ذلك كابرا عن كابر، حتى كان آخرهم الذى قام عليه الإسلام أبو سيّارة عميلة بن الأعزل، وكان أبو سيّارة يدفع بالناس على أتان له، وبه ضرب المثل: «أصبر من عير أبى سيّارة «3» » ؛ لأنه دفع بأهل الموسم عليه أربعين عاما» . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 27 نعود إلى أخبار قصىّ بن كلاب، « [فلما كان ذلك العام، فعلت صوفة كما كانت تفعل، وقد عرفت ذلك لها العرب، وهو دين فى أنفسهم من عهد جرهم وخزاعة وولايتهم، فأتاهم قصىّ «1» ] بمن معه من قومه من قريش وكنانة وقضاعة عند العقبة فقال: لا تجر- لنحن أولى بهذا منكم «2» -، فقاتلوه، فاقتتل الناس قتالا شديدا، ثم انهزمت صوفة، وغلبهم قصىّ على ما كان بأيديهم من ذلك» . «وانحازت عند ذلك خزاعة وبنو بكر عن قصىّ، وعرفوا أنه سيحول بينهم وبين الكعبة وأمر مكة، فلما انحازوا عنه باداهم «3» وأجمع لحربهم، وخرجت إليه خزاعة وبنو بكر، فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا حتى كثرت القتلى فى الفريقين، ثم تداعوا إلى الصلح، وأن يحكّموا بينهم رجلا من العرب، فحكموا يعمر بن «4» عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، فقضى أن قصيّا أولى بالكعبة وأمر مكة من خزاعة، وأن كلّ دم أصابه قصىّ من خزاعة وبنى بكر موضوع يشدخه تحت قدميه، وأن ما أصابت خزاعة وبنو بكر من قريش وكنانة وقضاعة ففيه الدّية مؤدّاة، وأن يخلّى بين قصىّ وبين الكعبة ومكة. «5» فسمّى يعمر بن عوف يومئذ الشّدّاخ، لما شدخ من الدّماء ووضع منها» . قال «6» : «فولى قصىّ البيت وأمر مكّة، وجمع قومه من منازلهم الى مكة، وتملّك على قومه وأهل مكة فملّكوه، إلا أنه أقرّ للعرب ما كانوا عليه، وذلك أنه كان يراه الجزء: 16 ¦ الصفحة: 28 دينا فى نفسه لا ينبغى تغييره؛ فأقرّ آل صفوان، وعدوان، «1» والنّنسأة، ومرّة بن عوف على ما كانوا عليه، حتى جاء الإسلام، فهدم الله به ذلك كلّه» . «فكان قصىّ أول من أصاب ملكا من بنى كعب بن لؤىّ، وكانت إليه الحجابة، والسّقاية، والرّفادة، والنّدوة، واللّواء؛ فحاز شرف مكة كلّه، وقطع مكّة رباعا بين قومه، فأنزل كلّ قوم من قريش منازلهم من مكة، فسمّته قريش مجمّعا لما جمع من أمرها، وتيمنت بأمره؛ فما تنكح امرأة، ولا يتزوّج رجل من قريش، ولا «2» يتشاورون فى أمر نزل بهم، ولا يعقدون لواء لحرب قوم غيرهم إلا فى داره؛ يعقده لهم بعض ولده، وما تدّرع جارية إذا بلغت أن تدّرع من قريش إلا فى داره، يشق عليها فيها درعها ثم تدّرعه، ثم ينطلق بها إلى أهلها» . «فكان أمره فى قومه من قريش فى حياته وبعد موته، كالدّين المتّبع لا يعمل بغيره. واتخذ لنفسه دار النّدوة، وجعل بابها إلى مسجد الكعبة؛ ففيها كانت قريش تقضى أمورها» قال الشاعر: قصىّ لعمرى كان يدعى مجمّعا ... به جمّع الله القبائل من فهر «3» قال ابن إسحاق «4» : «فلما فرغ قصىّ من حربه انصرف أخوه رزاح بن ربيعة بمن معه إلى بلاده» . قال: «فلم يزل قصىّ على ذلك، فلما كبر ورقّ عظمه- وكان عبد الدار بكره، وكان عبد مناف قد شرف فى زمان أبيه وذهب كلّ مذهب، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 29 وعبد العزّى وعبد- قال لابنه عبد الدار: أما والله يا بنى لألحفنّك بالقوم وإن كانوا قد شرفوا عليك؛ لا يدخل رجل منهم الكعبة حتى تكون أنت تفتحها له، ولا يعقد لقريش لواء [لحربها «1» ] إلا أنت بيدك، ولا يشرب رجل بمكة إلا من سقايتك، ولا يأكل أحد من أهل الموسم طعاما إلا من طعامك، ولا تقطع قريش أمرا من أمورها إلا فى دارك.، فأعطاه داره: دار النّدوة التى لا تقضى قريش أمرا إلا فيها، وأعطاه الحجابة واللّواء والسّقاية والرّفادة» . «وكانت الرّفادة خرجا تحرجه قريش فى كل موسم من أموالها إلى قصىّ بن كلاب، فيصنع به طعاما للحاجّ، فيأكله من لم تكن له سعة ولا زاد. وقصىّ هو الذى فرض ذلك، فقال [لهم «2» ] حين أمرهم به: يا معشر قريش، إنكم جيران الله وأهل بيته وأهل الحرم، وإن الحاجّ ضيف الله وزوّار بيته، وهم أحق الضّيف بالكرامة، فاجعلوا لهم طعاما وشرابا أيام الحج، حتى يصدروا عنكم. ففعلوا. قال «3» : «فلما هلك قصىّ بن كلاب أقام أمره فى قومه من بعده بنوه، فاختطّوا مكة رباعا، بعد الذى كان قد قطع لقومه «4» بها، فكانوا يعطونها «5» فى قومهم وفى غيرهم من حلفائهم، ويبيعونها، فأقامت قريش على ذلك معهم ليس بينهم اختلاف ولا تنازع» ، إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى فى هاشم بن عبد مناف. وحكى أبو عبد الله محمد بن عائذ «6» الدمشقى فى «مغازيه» زيادة فى خبر قصىّ نذكرها فى هذا الموضع، وإن كان قد نقص فى غيره، فقال فى أثناء ما حكاه: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 30 «إن البيت كان حوله غيضة والسّيل يدخله، ولم يرفع البيت حينئذ، فإذا قدم الحاجّ وطئوه حتى تذهب الغيضة، فإذا خرجوا نبتت» . قال: «فلما قدم قصىّ قطع الغيضة، وابتنى حول البيت دارا، ونكح حبّى بنت حليل» . وقال أيضا: «إن قصيّا قال لامرأته حبّى: قولى لجدّتك تدلّ بنتك على الحجر، فلم تزل بها حتى قالت: إنى أعقل أنهم حين خرجوا إلى اليمن سرقوه، ونزلوا منزلا وهو معهم، فبرك الجمل الذى كان عليه الحجر، فضربوه فقام، ثم ساروا فبرك، فضربوه فقام، ثم برك الثالثة فقالوا: ما برك إلا من أجل الحجر، ودفنوه، وذلك أسفل مكة، وإنى لأعرف حيث برك، فخرجوا بالحديد وخرجوا بها معهم، فأرتهم حيث برك أوّلا وثانيا وثالثا، فقالت: احفروا ههنا. فحفروا حتى يئسوا منه، ثم ضربوا فأصابوه وأخرجوه، فأتى به قصىّ، فوضعه فى الأرض، فكانوا يتمسحون به وهو فى الأرض، حتى بنى قصىّ البيت» . قال: «ومات قصىّ ودفن بالحجون» . والله أعلم بالصواب. وأما عبد مناف بن قصىّ فكنيته «1» أبو عبد شمس، واسمه المغيرة، وعبد مناف [لقبه «2» ] ، وسبب ذلك أنّ أمه حبّى بنت حليل الخزاعية أخدمته مناة، وكان مناة صنما عظيما لهم، فسمى عبد مناة به. ثم نظر قصىّ، فرآه يوافق عبد مناة بن كنانة، فحوّله عبد مناف. قاله السّهيلىّ «3» . [و «4» ] مناف «مفعل» من أناف ينيف إنافة إذا ارتفع. وقال المفضّل: الإنافة الإشراف والزيادة، وبه سمّى عبد مناف لطوله، ومنه تقول: مائة ونيّف، أى شىء زائد على المائة. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 31 او كان قصىّ يقول: لى أربعة بنين سميت ابنين بإلهى، وهما عبد مناف وعبد العزّى، وواحدا بدارى، وهو عبد الدار، وواحدا بى، وهو عبد قصىّ. حكاه محمد بن عائذ فى «مغازيه» عن أمّ سلمة. وقال محمد بن سعد «1» : «أخبرنا هشام بن محمد بن السائب الكلبىّ عن أبيه قال: لما ملك قصىّ بن كلاب قام عبد مناف بن قصىّ على أمر قصىّ بعده وأمر قريش إليه، واختطّ بمكة رباعا بعد الذى كان قصىّ قطع لقومه» . قال: «و «2» ولد عبد مناف ستة نفر، وست نسوة، وهم: عبد المطّلب بن عبد مناف وكان أكبرهم، وهو الذى عقد الحلف لقريش من النّجاشىّ فى متجرها إلى أرضه، وهاشم، واسمه عمرو، وهو الذى عقد الحلف لقريش من هرقل لأن تختلف إلى الشأم آمنة، وعبد شمس بن عبد مناف، وتماضر بنت عبد مناف، وحيّة «3» ، وقلابة، وبرّة، وهالة، وأمّهم عاتكة الكبرى «4» بنت مرّة، بن هلال، بن فالج، بن ثعلبة «5» بن ذكوان، بن ثعلبة، بن بهثة، بن سليم، بن منصور، بن عكرمة، بن خصفة، بن قيس عيلان، بن مضر. ونوفل بن عبد مناف، وهو الذى عقد الحلف لقريش من كسرى إلى العراق، وأبو عمرو بن عبد مناف، واسمه «6» عبيد، درج ولا عقب له، وأمهم واقدة بنت الجزء: 16 ¦ الصفحة: 32 أبى عدىّ، وهو عامر، بن عبدنهم، بن زيد، بن مازن «1» ، بن صعصعة؛ وريطة بنت عبد مناف، ولدت بنى هلال، بن معيط «2» من بنى كنانة، بن خزيمة، وأمّها «3» الثقفية» . وأما هاشم بن عبد مناف، فكنيته «4» أبو نضلة، وقيل أبو يزيد، وقيل بل كان يكنّى بابنه أسد؛ واسمه عمرو، وهاشم لقب لقّب به. روى عن ابن عبّاس «5» رضى الله عنهما أنه قال «6» : «كان اسم هاشم عمرا، وكان صاحب إيلاف قريش، وإيلاف قريش: دأب قريش، وهو أوّل من سنّ الرحلتين لقريش؛ ترحل إحداهما فى الشتاء إلى اليمن وإلى الحبشة إلى النّجاشىّ فيكرمه ويحبوه، ورحلة فى الصّيف إلى الشام إلى غزّة وربما بلغ أنقرة «7» ، فيدخل على قيصر فيكرمه ويحبوه؛ فأصابت قريشا سنوات ذهبن بالأموال، فخرج هاشم إلى الشام، فأمر بخبز كثير فخبز له، وحمله فى الغرائر على الإبل حتى وافى مكة، فهشم ذلك الخبز، يعنى كسره وثرده، ونحر تلك الإبل، ثم أمر بطبخها، ثم كفأ القدور على الجفان، فأشبع أهل مكة؛ فكان ذلك أوّل الحيا بعد السّنة التى أصابتهم؛ فسمّى بذلك هاشما، وفى ذلك يقول عبد الله بن الزّبعرى: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 33 عمرو العلى هشم الثّريد لقومه ... ورجال مكّة مسنتون عجاف» قال: «فحسده أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف، وكان ذا مال، فتكلّف أن يصنع صنيع هاشم فعجز عنه، فشمت به ناس من قريش، فغضب ونال من هاشم، ودعاه إلى المنافرة، فكره هاشم ذلك لسنّه وقدره، فلم تدعه قريش وأحفظوه» قال: «فإنى أنافرك على خمسين ناقة سود الحدق تنحرها ببطن مكّة، والجلاء عن مكة عشر سنين. فرضى أميّة بذلك، وجعلا بينهما الكاهن الخزاعىّ، فنفّر «2» هاشما عليه، فأخذ هاشم الإبل فنحرها وأطعمها من حضره، وخرج أميّة إلى الشام، فأقام بها عشر سنين؛ فكانت هذه أوّل عداوة وقعت بين هاشم وأميّة، ثم ولى هاشم الرّفادة والسّقاية» . ذكر ولاية هاشم الرّفادة والسّقاية قال: «إن هاشما، وعبد شمس، والمطّلب، ونوفلا: بنى عبد مناف أجمعوا على أن يأخذوا ما بأيدى بنى عبد الدار بن قصىّ مما كان قصىّ جعل إلى عبد الدار من الحجابة، واللّواء، والرّفادة، والسّقاية، والنّدوة، ورأوا أنهم أحقّ به منهم لشرفهم عليهم، وفضلهم فى قومهم، وكان الذى قام بأمرهم هاشم، فأبت بنو عبد الدار أن تسلم ذلك إليهم، وقام بأمرهم عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار؛ فصار مع بنى عبد مناف بن قصىّ بنو أسد بن عبد العزّى بن قصىّ، وبنو زهرة ابن كلاب، وبنو تيم بن مرّة، وبنو الحارث بن فهر؛ وصار مع بنى عبد الدار الجزء: 16 ¦ الصفحة: 34 بنو مخزوم، وسهم، وجمح، وبنو عدىّ بن كعب؛ وخرجت من ذلك بنو عامر ابن لؤىّ، ومحارب بن فهر؛ فلم يكونوا مع واحد من الفريقين، فعقد كلّ قوم على أمرهم حلفا مؤكّدا: ألا يتخاذلوا، ولا يسلم بعضهم بعضا، «ما بلّ بحر صوفة «1» » . فأخرجت بنو عبد مناف، ومن صار معهم، جفنة مملوءة طيبا، فوضعوها حول الكعبة، ثم غمس القوم أيديهم فيها، وتعاهدوا وتعاقدوا وتحالفوا، ومسحوا الكعبة بأيديهم توكيدا على أنفسهم، فسمّوا المطيّبين. وأخرجت بنو عبد الدار ومن كان معهم جفنة من دم، فغمسوا أيديهم فيها، وتعاقدوا وتحالفوا: ألا يتخاذلوا ما بلّ بحر صوفة؛ فسمّوا الأحلاف، ولعقة الدّم «2» ، وتهيئوا للقتال، وعبّئت كلّ قبيلة؛ فبينما الناس على ذلك، إذ تداعوا إلى الصّلح على أن يعطوا بنى عبد مناف بن قصىّ السّقاية والرّفادة، وتكون الحجابة واللّواء ودار النّدوة إلى بنى عبد الدار كما كانت، ففعلوا، وتحاجز الناس؛ فلم تزل دار النّدوة فى بنى «3» عبد الدار، حتى باعها عكرمة بن عامر، ابن هاشم، بن عبد مناف، بن عبد الدار، بن قصىّ، من «4» معاوية بن أبى سفيان؛ فجعلها معاوية دار الإمارة» . قال: «وولى هاشم بن عبد مناف بن قصىّ السّقاية والرّفادة، وكان رجلا موسرا، فكان يخرج فى كل عام مالا كثيرا، وكان قوم من قريش أهل يسار يترافدون، فيرسل كل إنسان بمائة مثقال هر قلية، وغيرهم يرسل بالشىء اليسير على الجزء: 16 ¦ الصفحة: 35 قدر حالهم، فكان هاشم، إذا حضر الحج، يأمر بحياض من أدم، فتجعل فى موضع زمزم، ثم يستقى فيها الماء من البئار التى بمكة فيشربه الحاجّ، وكان يطعمهم قبل التّروية بيوم بمكة، وبمنى، وجمع «1» ، وعرفة؛ وكان يثرد لهم الخبز واللحم، والخبز والسّمن، والسويق والتمر، ويحمل لهم الماء، فيستقون بمنى «2» ، والماء يومئذ قليل، [فى حياض الأدم «3» ] ، إلى أن يصدروا من منى، ثم تنقطع الضيافة ويتفرق الناس إلى بلادهم» . قال: «وهاشم بن عبد مناف هو الذى أخذ الحلف لقريش من قيصر أن تختلف آمنة، فكتب له كتابا، وكتب إلى النّجاشى أن يدخل قريشا أرضه وكانوا تجّارا، فخرج هاشم فى عير لقريش فيها تجارات، وكان طريقهم على المدينة، فنزلوا بسوق النّبط، فصادفوا سوقا تقوم بها فى السنة يحشدون لها، فباعوا واشتروا، ونظروا إلى امرأة على موضع مشرف من السوق، فرأى امرأة تأمر بما يشترى ويباع لها، فرأى امرأة حازمة جلدة مع جمال، فسأل هاشم عنها أأيّم هى أم ذات زوج؟ فقيل له أيّم كانت تحت أحيحة بن الجلاح، فولدت له عمرا ومعبدا ثم فارقها، وكانت لا تنكح الرجال، لشرفها فى قومها، حتى يشرطوا لها أنّ أمرها بيدها، فإذا كرهت رجلا فارقته «4» ؛ وهى سلمى بنت عمرو، بن زيد، «5» بن لبيد، بن خداش، ابن عامر، بن غنم، بن عدىّ، بن النجّار، فخطبها هاشم، فعرفت شرفه ونسبه فزوّجته نفسها، ودخل بها وصنع طعاما، ودعا من هناك من أصحاب العير الذين كانوا معه، وكانوا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 36 أربعين رجلا من قريش، ودعا من الخزرج رجالا، وأقام بأصحابه أياما؛ فعلقت سلمى بعبد المطّلب، وولدته وفى رأسه شيبة، فسمّى شيبة. وخرج هاشم فى أصحابه إلى الشام حتى بلغ غزّة فمات، ودفن بغزّة «1» وله عشرون سنة، وقيل خمس وعشرون سنة، ورجعوا بتركته إلى ولده، وأوصى هاشم إلى أخيه المطّلب ابن عبد مناف. وحكى ابن الأثير «2» أنه لما تزوّج سلمى شرط لها أبوها ألا تلد ولدا إلا فى أهلها، فحملها هاشم إلى مكّة فحملت منه، فلما أثقلت ردّها إلى أهلها ومضى إلى الشام؛ وقيل إنه لم ينقلها، وإنه خرج إلى الشام هو وعبد شمس، فماتا جميعا بغزّة فى عام واحد، وبقى مالهما إلى أن جاء الله تعالى بالإسلام؛ فلما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر غزوة غزاها جاءه قيس بمالهما، فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم مال هاشم إلى العبّاس بن عبد المطّلب، ففرّقه على كبراء بنى هاشم، ودفع مال عبد شمس إلى سفيان بن حرب، ففرّقه على كبراء بنى عبد شمس. وقد حكى ابن الأثير «3» : أن عبد شمس مات بمكة فقبر بأجياد، وذلك بعد وفاة هاشم «4» بغزّة. قال: ثم مات نوفل بسلمان «5» من طريق العراق، ومات المطلب بردمان «6» من أرض اليمن «7» والله أعلم. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 37 وقيل «1» : إن هاشما وعبد شمس توءمان، وإن أحدهما ولد قبل الآخر، قيل: إن الأوّل هاشم، وقيل: إنهما ولدا وأصبع أحدهما ملتصقة بجبهة صاحبه فنحيّت، فسال «2» دم فقيل يكون بينهما دم. والله تعالى أعلم. قال ابن الكلبى «3» : وولد هاشم بن عبد مناف أربعة نفر وخمسة نسوة، وهم: شيبة الحمد، وهو عبد المطّلب، ورقيّة ماتت وهى جارية لم تبرز، وأمّهما سلمى بنت عمرو، وأبو صيفىّ واسمه عمرو وهو أكبرهم، وأمه هند، بنت عمرو، بن ثعلبة، بن الحارث، بن مالك، بن سالم، بن غنم، بن عوف، بن الخزرج. وأسد ابن هاشم وأمّه قيلة، وكانت تلقّب الجزور «4» ، بنت عامر، بن مالك، بن جذيمة، وهو المصطلق بن خزاعة، ونضلة بن هاشم، والشّفاء، وأمهما أميمة «5» بنت عدىّ، ابن عبد الله، بن دينار، بن مالك، بن سلامان، بن سعد، بن قضاعة «6» . والضّعيفة «7» بنت هاشم، وخالدة بنت هاشم، وأمهما أمّ عبد الله، وهى واقدة بنت أبى عدىّ، ويقال عدىّ، وهو عامر، بن عبدنهم، بن زيد، بن مازن، بن صعصعة؛ وحيّة «8» الجزء: 16 ¦ الصفحة: 38 بنت هاشم، وأمها [أم «1» ] عدىّ بنت حبيب، ابن الحارث، بن مالك، بن حطيط ابن جشم بن قسىّ وهو ثقيف. والله عز وجل أعلم بالصواب. ذكر أخبار عبد المطلب بن هاشم قال ابن قتيبة «2» : «واسمه عامر» . والصحيح «3» عندهم ما ذكره محمد بن إسحاق بن يسار وغيره أن اسمه شيبة، وكنيته أبو الحارث، كنّى باسم ولده الحارث، وهو أكبر ولده. ولعبد المطّلب كنية أخرى، وهى أبو البطحاء؛ ولتسميته بهذين الاسمين، وتكنبته بأبى البطحاء أسباب نذكرها قريبا إن شاء الله تعالى. وأمّ عبد المطلب سلمى بنت عمرو «4» ، بن زيد، بن لبيد، بن خداش، بن عامر، بن غنم، ابن عدىّ، بن النّجار «5» . وقال ابن إسحاق: سلمى بنت زيد، بن عمرو، بن لبيد، بن [حرام، ابن «6» ] خداش، بن جندب، بن عدىّ، بن النّجّار «7» . وقد تقدم آنفا خبر زواج هاشم بها. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 39 ذكر ما قيل فى سبب تسميته وكنيته أمّا سبب تسميته شيبة فقيل إن أمّه ولدته وفى رأسه شيبة «1» ، وكانت ظاهرة فى ذؤابته، فسمّته شيبة، وذلك فى غيبة أبيه. وقيل: إن أباه أوصاها إذا ولدت ذكرا أن تسمّيه شيبة، فهو شيبة الحمد «2» . وفى تسميته «3» عبد المطلب أنه لما مات هاشم أقام شيبة بالمدينة عند أمه إلى أن بلغ سبع سنين، فمرّ رجل من بنى الحارث «4» بن عبد مناف بالمدينة «5» ، فإذا غلمان ينتضلون «6» ، فجعل شيبة إذا أصاب «7» قال: أنا ابن هاشم، أنا ابن سيد البطحاء «8» ، فقال له الحارثىّ «9» من أنت قال: أنا شيبة بن هاشم، بن عبد مناف. فلما أتى الحارثىّ مكّة قال للمطلب، وهو بالحجر «10» : يا أبا الحارث، رأيت ابن أخيك هاشم بيثرب، وأخبره بحاله، ولا يحسن بك أن تترك مثله، فقال المطّلب: والله لا أرجع إلى أهلى حتى آتى به؛ فأعطاه الحارثىّ ناقته فركبها وقدم المدينة عشاء، فإذا غلمان يضربون الجزء: 16 ¦ الصفحة: 40 كرة، فعرف ابن أخيه، فقال للقوم: هذا «1» ابن هاشم؟ قالوا نعم، فبلغ أمّه أنه جاء ليأخذه فقالت: والله لو أنّ لك مالا «2» مثل أحد ما أعطيتك إياه، فقال: لا أنصرف حتى أخرج به؛ إنّ ابن أخى قد بلغ، وهو غريب عن قومه. فيقال إنها دفعته إليه فأخذه بإذنها. وقيل إنه أخذه اختلاسا، وأعانه على أخذه رجل من خزاعة. وقال ابن سعد فى طبقاته «3» عن محمد بن واقد الأسلمىّ: إن ثابت بن المنذر ابن حرام، وهو أبو حسّان بن ثابت الشاعر، قدم مكّة معتمرا، فلقى المطّلب، وكان له خليلا، وكان المطّلب قد ولى السّقاية والرّفادة بعد موت هاشم، فقال له ثابت: لو رأيت ابن أخيك شيبة فينا لرأيت جمالا وهيبة وشرفا؛ لقد نظرت إليه، وهو يناضل «4» فتيانا من أخواله، فيدخل مرماتيه «5» جميعا فى مثل راحتى هذه، ويقول كلما خسق «6» : أنا ابن عمرو العلى! فقال المطّلب: لا أمسى حتى أحرج إليه فأقدم به، فخرج «7» فورد المدينة، فنزل فى ناحية، وجعل يسأل عنه حتى وجده يرمى فى فتيان من أخواله، فلما رآه عرف شبه أبيه فيه، ففاضت عيناه، وضمّه إليه وكساه حلّة يمانية، وأنشأ يقول: عرفت شيبة والنّجّار قد حفلت ... أبناؤها حوله بالنّبل تنتضل عرفت أجلاده منّا «8» وشميته ... ففاض منّى عليه وابل سبل «9» الجزء: 16 ¦ الصفحة: 41 فأرسلت سلمى إلى المطّلب، فدعته إلى النّزول عليها فقال: شأنى أخفّ من ذلك؛ ما أريد أن أحلّ عقدة حتى أقبض ابن أخى فألحه ببلده وقومه، فقالت: لست بمرسلته معك، وغلّظت عليه فقال: لا تفعلى «1» فإنى غير منصرف حتّى أحرج به معى، فإنّ المقام ببلده خير له من المقام ههنا، وهو ابنك حيث كان؛ فلما رأت أنه غير مقصّر حتى يخرج به استنظرته ثلاثة أيام، وتحوّل المطّلب إلهم ونزل عندهم «2» ، وأقام ثلاثا ثم احتمله وانطلقا جميعا، ودخل به إلى مكّة فقالت «3» قريش: هذا عبد المطّلب! فقال: ويحكم إنما هو ابن أخى شيبة بن عمرو. وقيل إنه لما دخل إلى مكّة دخلها وشيبة معه على عجز ناقته، وذلك ضحى «4» ، والناس فى أسواقهم ومجالسهم، فقاموا يرحّبون بقدوم المطّلب ويقولون له: من هذا معك؟ من هذا وراءك؟ فيقول: هذا عبدى، وفى رواية هذا عبد ابتعته «5» بيثرب، فأدخله المطّلب منزله على امرأته خديجة بنت سعيد بن سهم، فقالت: من هذا معك؟ قال: عبدلى؛ واشترى له حلّة فلبسها، ثم خرج به العشىّ إلى مجلس بنى عبد مناف وأعلمهم «6» أنه ابن أخيه؛ فجعل شيبة يطوف بمكّة، فإذا مرّ بقوم قالوا: هذا عبد المطّلب، فغلب ذلك عليه. وفى تكنبته بأبى البطحاء أنه أستسقى لأهل مكّة فسقوا لوقتهم، فقال له مشايخ قريش عند ذلك: هنيئا لك أبا البطحاء. وسنذكر إن شاء الله تعالى الجزء: 16 ¦ الصفحة: 42 هذه القصّة بطولها فى المبشّرات برسول الله صلى الله عليه وسلّم. فهذه أسباب تسميته وتكنيته «1» . والله أعلم. وكان عبد المطلب جسيما، أبيض، وسيما، طوالا، فصيحا؛ ما رآه أحد قطّ إلا أحبّه. قال الواقدى: وأقام عبد المطّلب بمكّة حتّى أدرك، وخرج المطّلب بن عبد مناف تاجرا إلى أرض اليمن، فهلك بردمان من أرض اليمن، فولى عبد المطّلب بعده الرّفادة والسّقاية؛ فلم يزل ذلك بيده وهو يطعم «2» الحاجّ ويسقيهم فى حياض الأدم حتى حفر زمزم، فترك السّقى فى الحياض، وسقاهم من زمزم، وكان يحمل الماء من زمزم إلى عرفة فيسقيهم. والله أعلم. ذكر حفر عبد المطّلب زمزم وما وجد فيها قال محمد بن إسحاق بن يسار رحمه الله بسند رفعه إلى علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه قال «3» : قال عبد المطّلب؛ إنى لنائم فى الحجر، إذ أتانى آت فقال: احفر طيبة «4» قال: قلت: وما طيبة؟ قال: ثم ذهب عنى؛ فلمّا كان الغد رجعت إلى مضجعى فنمت فيه، فجاءنى فقال «5» : احفر زمزم، قال: قلت وما زمزم؟ قال: لا تنزف «6» أبدا ولا تذمّ «7» ، تسقى الحجيج الأعظم، وهى بين الفرث الجزء: 16 ¦ الصفحة: 43 والدّم، عند نقرة الغراب الأعصم «1» ، عند قرية النمل «2» . قال «3» : فلما بيّن له شأنها، ودلّ على موضعها، وعرف أنه قد صدق، غدا بمعوله «4» ، ومعه ابنه الحارث، وليس «5» له يومئذ ولد غيره فحفر، فلمّا بدا لعبد المطّلب الطى «6» كبّر، فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته، فقاموا إليه فقالوا: يا عبد المطّلب، إنّها بئر أبينا إسماعيل، وإن لنا فيها حقّا، فأشركنا معك فيها، قال: ما أنا بفاعل، إن هذا الأمر قد خصصت به دونكم، وأعطيته من بينكم، قالوا له: فأنصفنا، فإنا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها، قال: فاجعلوا بينى وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه، قالوا: كاهنة بنى سعد بن هذيم «7» ، قال نعم. وكانت بمعان «8» من أشراف الشّام فركب عبد المطّلب ومعه نفر من بنى أبيه من بنى عبد مناف، وركب «9» من كل قبيلة من قريش نفر الجزء: 16 ¦ الصفحة: 44 والأرض إذ ذاك مفاوز، فخرجوا «1» حتى إذا كانوا ببعض تلك المفاوز بين الحجاز والشّام، فنى ماء عبد المطّلب وأصحابه، فظمئوا حتى أيقنوا بالهلكة، فاستسقوا من معهم من قبائل قريش فأبوا عليهم، وقالوا: إنّا بمفازة، ونحن نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم؛ فلما رأى عبد المطّلب ما صنع القوم، وما يتخوّف على نفسه وأصحابه قال: ماذا ترون؟ قالوا: ما رأينا إلا تبع رأيك «2» ، فمرنا بما شئت، قال: فإنى أرى أن يحفر كلّ رجل منكم حفرته لنفسه بما بكم الآن من القوّة، فكلّما مات رجل دفعه أصحابه فى حفرته ثم واروه، حتى يكون آخركم رجلا [واحدا «3» ] فيموت ضيعة «4» ، فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب جميعا، قالوا: نعم ما أمرت به. فقام كل رجل «5» منهم فحفر حفرته، ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشا؛ ثم إن عبد المطّلب قال لأصحابه: والله إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت عجز «6» ، ألا نضرب فى الأرض، ونبتغى لأنفسنا؟ فعسى الله أن يرزقنا ماء ببعض البلاد. ارتحلوا! فارتحلوا حتى إذا فرغوا، ومن معهم من قبائل قريش ينظرون إليهم ما هم فاعلون، تقدّم عبد المطّلب إلى ناقته «7» فركبها، فلمّا انبعثت به انفجرت من تحت خفّها عين [من «8» ] ماء عذب، فكبّر عبد المطّلب وكبر أصحابه، ثم نزل فشرب، وشرب أصحابه، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 45 واستقوا حتى ملأوا أسقيتهم، ثم دعا القبائل من قريش فقال: هلموا «1» إلى الماء، فقد سقانا الله، فاشربوا واستقوا، فجاءوا فشربوا واستقوا ثم قالوا: قد والله قضى لك علينا يا عبد المطّلب، والله لا نحاصمك فى زمزم أبدا، إن الذى سقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو الذى سقاك زمزم، فارجع إلى سقايتك راشدا، فرجع ورجعوا معه، ولم يصلوا إلى الكاهنة، وخلّوا بينه وبينها. هذا أحد ما قيل فى حفر زمزم. وفى رواية أخرى: أنه قيل له: احفر زمزم، إنك إن حفرتها لم تندم، وهى تراث من أبيك الأعظم، لا تنزف أبدا ولا تذمّ، تسقى الحجيج «2» الأعظم، مثل نعام جافل «3» لم يقسم. ينذر فيها ناذر لمنعم، تكون ميراثا وعقدا محكم، ليست كبعض ما قد تعلم، وهى بين الفرث والدّم «4» . قال ابن إسحاق «5» : فزعموا أنه حين قيل له ذلك قال: فأين «6» هى؟ قيل له عند قرية النّمل، حيث ينقر الغراب غدا. فغدا «7» عبد المطّلب ومعه ابنه الحارث، فوجد قرية النّمل، ووجد الغراب ينقر عندها بين الوثنين: إساف ونائلة «8» اللّذين كانت قريش تنحر عندهما ذبائحها، فجاء بالمعول، وقام ليحفر حيث أمر، فقامت الجزء: 16 ¦ الصفحة: 46 إليه قريش حين رأوا جدّه فقالوا: والله لا نتركك تحفر بين وثنينا هذين اللذين ننحر عندهما؛ فقال عبد المطّلب لابنه الحارث: ذد عنّى حتى أحفر، فو الله لأمضينّ لما أمرت به، فلمّا عرفوا أنه غير نازع «1» خلّوا بينه وبين الحفر وكفّوا عنه، فلم يحفر إلا يسيرا حتّى بدا له الطّىّ، فكبّر وعرف أنه قد صدق، فلما تمادى به الحفر وجد فيها غزالين «2» من ذهب، وهما الغزالان اللذان دفنت جرهم فيها حين خرجت من مكّة، ووجد فيها سيوفا قلعيّة «3» وأدراعا، فقالت له قريش: لنا معك فى هذا شرك» وحقّ، قال: لا. ولكن هلم إلى أمر نصف «5» بينى وبينكم؛ نضرب عليها بالقداح «6» ، قالوا: وكيف نصنع؟ قال: أجعل للكعبة قدحين، ولى قدحين، ولكم قدحين، فمن خرج قدحاه على شىء كان له، ومن تخلّف قدحاه فلا شىء له، قالوا: أنصفت، فجعل قدحين أصفرين للكعبة، وقدحين أسودين له، وقدحين أبيضين لقريش، ثم أعطوها صاحب القداح الذى يضرب بها عند هبل، وهبل صنم فى جوف الكعبة، وهو أعظم أصنامهم «7» ، وقام عبد المطّلب يدعو، وضرب «8» صاحب الجزء: 16 ¦ الصفحة: 47 القداح، فخرج الأصفران على الغزالين [للكعبة «1» ] ، وخرج الأسودان على الأسياف والأدراع لعبد المطّلب، وتخلّف قدحا قريش؛ فضرب عبد المطّلب الأسياف بابا للكعبة، وضرب فى الباب الغزالين «2» ، فكان أول ذهب حلّيته الكعبة. وقيل إنه جعل القفل والمفتاح من ذهب الغزالين «3» . وعن محمّد بن عمرو بن واقد قال: كانت جرهم «4» حين أحسّوا بالخروج من مكة دفنوا غزالين وسبعة أسياف قلعيّة، وخمسة أذراع [سوابغ «5» ] ، فوجدها عبد المطّلب. هذا خبر حفر زمزم وما وجد فيها، وقد تقدّم ذكر سبب خبر ردمها فى أثناء أخبار قصىّ بن كلاب؛ فلنذكر من أخبار عبد المطّلب خلاف ذلك. والله الموفق للصواب. ذكر خبر استسقاء عبد المطّلب لبنى قيس عيلان «6» وهذيل ومن معهم حكى الزّبير بن بكّار فى أنساب قريش وبنى هاشم، وبنى عبد المطّلب قال: روى إبراهيم بن محمد الشافعى عن أبيه، عن الوليد بن خالد المخزومىّ، عن سعد بن حذافة الجمحىّ، عن محمد بن عطية العوفى، عن رجل من هذيل قال: قحطت بلاد الجزء: 16 ¦ الصفحة: 48 قيس، وأجدبت فلم تصبهم سماء يعقد بها الثّرى، ولا ينبت بها الكلأ، فذاب الشّحم، وذهب اللحم، وتهافتوا ضرّا وهزلا، فاجتمعوا للمشورة وإجالة الرأى، وقد عزموا على الرّحلة وانتجاع البلاد، فقالت فرقة منهم: انتجعوا بلاد سعد وبطن العشر «1» ، وقالت فرقة أخرى: إنّ تميما عدد. كثير لا يفضل منهم ما يكفيكم، وقالت فرقة أخرى: لينتجع كلّ ولد أب منكم ولد أب من غيركم، واعقدوا معهم حلفا تشركونهم به فى ربعهم «2» ؛ فقام رجل حسن الوجه، مجتمع الخلق، جيّد الرأى، فقال: يا بنى عيلان «3» ، إنكم قد أصبحتم فى أمر ليس بالهزل؛ هذا أمر عظيم خطره، متباعد أمره؛ قد بلغنا أن عبد المطّلب بن هاشم سيّد البطحاء استسقى فسقى، ودعا فأجيب، واستجير به فأجار، فاجعلوا قصدكم إليه، ووفادتكم عليه، فإن ذلك أوكد للسّبب، وأوجه فى الطّلب. قالوا: أحسن الرّأى، فرحلت قيس وهذيل، ومن دنا منهم حتّى أتوا عبد المطّلب، فقالوا: أفلح الوجه أبا الحارث! نحن ذووا أرحامك الواشجات «4» ، أصابتنا سنون مجدبات، أهزلن السّمين، وأنفدن «5» المعين، وقد بلغنا خبرك، وبان لنا «6» أمرك، وكلاما نحو هذا. فقال: موعدكم جبل عرفات، ثم خرج فى بنيه وبنى أميّة حتى أتى جبل عرفات، فصعد الجبل فقال: الّلهم ربّ الريح العاصف، والرّعد القاصف، والبرق الخاطف، منشىء السّحاب، ومالك الرّقاب، ذى المنن العظام، والأيادى الجسام؛ هذه مضر الجزء: 16 ¦ الصفحة: 49 خير البشر، تشكو سوء الحال، وشدّة الإمحال، قد احدودبت ظهورها، وغارت عيونها، وشعثت شعورها، وقد خلّفوا نساء ضلّعا، وصبيانا رضّعا، وبهائم رتّعا. فآتهم اللهم ريحا جرّارة، وسحابا درّارة، تضحك أرضهم، وتكشف ضرّهم. فما فرغ من كلامه حتى نشأت سحابة دكناء فيها ودق شديد، فقال: هى هى، ثم قال يا معشر مضر، ارجعوا فقد سقيتم، فرجعوا واخضرّت أرضهم، وكثرت مياههم. هذا ما أورده الزّبير بن بكّار راوى هذه القصّة، والله أعلم. [و] كانت بعد أن استسقى لقريش، وذلك بعد مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى مستوفى فى المبشّرات برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا. والله تعالى عز وجل أعلم. ذكر نذر عبد المطّلب نحر ابنه وخروج القداح على عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفدائه قال محمد بن سعد فى طبقاته الكبرى «1» ، عن محمد بن عمر بن واقد الأسلمىّ بسند رفعه إلى عبد الله بن عبّاس وغيره رضى الله عنهم: «إن عبد المطّلب بن هاشم لما رأى قلّة أعوانه فى حفر زمزم نذر لئن أكمل الله له عشرة ذكور حتّى يراهم- أن يذبح أحدهم، فلما تكاملوا عشرة «2» وهم: الحارث، والزّبير «3» ، وأبو طالب، وعبد الله، وحمزة، وأبو لهب، والغيداق «4» ، والمقوّم «5» ، وضرار، والعبّاس» . هكذا نقل محمد الجزء: 16 ¦ الصفحة: 50 ابن سعد، وعد من العشرة حمزة والمقوّم؛ و «1» يردّ هذا العدد ما روى أن عبد المطّلب لم يتزوج أمّ حمزة إلا بعد الفداء، وقدعدّ محمد بن السائب الكلبىّ أولاد عبد المطّلب الذكور اثنى عشر، فيهم المغيرة، وقثم؛ وعدّهم الزّبير بن بكّار ثلاثة عشر فيهم عبد الكعبة، وحمزة، والمقوّم، والمغيرة؛ هؤلاء الثلاثة إخوة أشقّاء كلّهم لهالة بنت وهيب «2» ، وزواج عبد المطّلب هالة هذه كان بعد الفداء على ما حكاه ابن سعد أيضا عن الواقدى، ولعلّ العشرة تكمل بقثم وعبد الكعبة. والله تعالى أعلم. فلنرجع إلى سياقة خبر محمد بن سعد قال: «فلما تكاملوا عشرة جمعهم، ثم أخبرهم بنذره، ودعاهم إلى الوفاء لله [به «3» ] ، فما اختلف عليه منهم أحد، وقالوا: أوف بنذرك، وافعل ما شئت، فقال: ليكتب كل رجل منكم اسمه فى قدحه ففعلوا، فدخل عبد المطّلب فى جوف الكعبة وقال للسادن «4» : اضرب بقداحهم فضرب، فخرج قدح عبد الله أولها، وكان عبد المطّلب يحبّه، فأخذ بيده يقوده إلى المذبح ومعه المدية، فبكى بنات عبد المطّلب وكنّ قياما، وقالت إحداهنّ لأبيها: أعذر فيه بأن تضرب فى إبلك السّوائم التى فى الحرم، فقال للسّادن: اضرب عليه بالقداح، وعلى عشرة من الإبل «5» ، وكانت الديّة يومئذ عشرة من الإبل، فضرب فخرج القدح على عبد الله، فجعل يزيد عشرا عشرا، كلّ ذلك الجزء: 16 ¦ الصفحة: 51 يخرج القدح على عبد الله حتى كملت مائة «1» ، فضرب [بالقداح «2» ] فخرج على الإبل، فكبّر عبد المطّلب والناس معه، واحتمل بنات عبد المطّلب أخاهنّ عبد الله، وقدّم عبد المطّلب الإبل فنحرها بين الصّفا والمروة، وخلّى بينها وبين كلّ من وردها من إنسىّ أو سبع أو طائر، لم يذبّ «3» عنها أحدا، ولم يأكل منها هو ولا أحد من ولده شيئا. قال ابن عباس رضى الله عنهما: كانت الدية «4» يومئذ عشرا من الإبل، وعبد المطّلب أوّل من سنّ دية النّفس مائة من الإبل، فجرت فى قريش والعرب مائة «5» ، وأقرّها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما كانت عليه «6» . هذا ما أورده محمد بن سعد فى طبقاته. وقال أبو محمد عبد الملك «7» بن هشام فى السّيرة: قال ابن إسحاق: وكان عبد المطّلب قد نذر حين لقى من قريش ما لقى عند «8» حفر زمزم: لئن ولد له عشرة نفر، ثم بلغوا معه حتّى يمنعوه، لينحرنّ أحدهم لله تعالى عند الكعبة، فلمّا توافى بنوه عشرة، وعرف أنهم سيمنعونه جمعهم ثم أخبرهم بنذره، ودعاهم إلى الوفاء لله «9» بذلك، فأطاعوه وقالوا كيف نصنع؟ قال: ليأخذ «10» كلّ رجل منكم قدحا، ثم ليكتب «11» فيه اسمه، ثم ائتونى «12» ، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 52 ففعلوا ثم أتوه، فدخل بهم على هبل فى جوف الكعبة، وكان هبل «1» على بئر فى جوف الكعبة، وكانت تلك البئر هى التى يجمع فيها ما يهدى للكعبة، وكان عند هبل قداح سبعة، كلّ قدح منها فيه كتاب، قدح فيه «العقل» إذا اختلفوا فى «العقل» «2» من يحمله منهم ضربوا بالقداح السبعة «3» ، فعلى من خرج قدح «العقل» حمله؛ وقدح فيه «نعم» للأمر إذا أرادوه يضرب به فى القداح، فإن خرج قدح «نعم» عملوا به؛ وقدح فيه «لا «4» » ، فإن خرج ذلك القدح لم يفعلوا ذلك الأمر؛ وقدح فيه «منكم» ؛ وقدح فيه «ملصق» ؛ وقدح فيه «من غيركم» ؛ وقدح فيه «المياه» إذا أرادوا أن يحفروا للماء ضربوا بالقداح فيها ذلك القدح، فحيثما خرج عملوا به. وكانوا إذا أرادوا أن يختنوا غلاما أو ينكحوا منكحا، أو يدفنوا ميّتا، أو شكّوا فى نسب أحدهم، ذهبوا إلى هبل وبمائة درهم وجزور، فأعطوها صاحب القداح الذى يضرب بها «5» ، ثم قرّبوا صاحبهم الذى يريدون به ما يريدون، ثم قالوا: يا إلهنا! هذا فلان بن فلان قد أردنا به كذا وكذا، فأخرج الحقّ فيه، ثم يقولون لصاحب القداح: اضرب! فإن خرج عليه «منكم» كان منهم وسيطا «6» ، وإن خرج عليه «من غيركم» كان حليفا، وإن خرج عليه «ملصق» كان على الجزء: 16 ¦ الصفحة: 53 منزلته فيهم «1» ، لا نسب له «2» ولا حلف، وإن خرج فى «3» شىء مما سوى هذا ممّا يعملون به «نعم» عملوا به، وإن خرج عليه «لا» أخّروه عامه ذلك «4» حتى يأتوه به مرّة أخرى؛ ينتهون فى أمورهم إلى ذلك ممّا خرجت به القداح؛ فقال عبد المطّلب لصاحب القداح: اضرب على بنىّ هؤلاء بقداحهم هذه، وأخبره بنذره الذى نذره، فأعطاه «5» كلّ رجل منهم قدحه الذى فيه اسمه، وكان عبد الله بن عبد المطّلب أصغر بنى أبيه «6» ، وهو أحبّ ولده إليه، وهو أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمّا أخذ صاحب القداح القداح ليضرب بها قام عبد المطّلب عند هبل يدعو الله، ثم ضرب صاحب القداح فخرج القدح على عبد الله، فأخذ «7» عبد المطّلب بيده وأخذ الشّفرة، ثم أقبل «8» إلى إساف ونائلة ليذبحه، فقامت إليه قريش من أنديتها فقالوا: ماذا تريد يا عبد المطّلب؟ قال: أذبحه، فقالت له قريش وبنوه: والله لا تذبحه «9» حتى تعذر «10» فيه؛ لئن فعلت هذا لا يزال الرّجل يأتى بابنه حتّى يذبحه، فما بقاء الجزء: 16 ¦ الصفحة: 54 الناس على هذا؟! وقال له المغيرة بن عبد الله بن عمر «1» بن مخزوم [بن يقظة «2» ]- وكان عبد الله ابن أخت القوم-: لا تذبحه حتى تعذر فيه «3» ، فإن كان فداؤه بأموالنا فديناه، وقالت له قريش وبنوه: لا تفعل، وانطلق به إلى الحجاز فإنّ به عرّافة لها «4» تابع فسلها، ثم أنت «5» على رأس أمرك، إن أمرتك بذبحه «6» ذبحته، وإن أمرتك بأمر لك وله فيه مخرج قبلته «7» ، فانطلقوا حتى قدموا المدينة فوجدوها- فيما يزعمون- بخيبر، فركبوا [إليها «8» ] حتى جاءوها فسألوها، وقصّ عليها عبد المطّلب خبره [وخبر ابنه «9» ] ، فقالت لهم «10» : قد جاءنى الخبر، كم الدّيّة فيكم؟ قالوا: عشر من الإبل «11» ، قالت: فارجعوا إلى بلادكم «12» وقرّبوا عشرا من الإبل، ثم اضربوا عليها وعليه بالقداح، فإن خرجت على صاحبكم فزيدوا من الإبل «13» حتى يرضى ربّكم، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 55 وإن خرجت على الإبل فانحروها عنه، فقد رضى ربكّم ونجا صاحبكم، فخرجوا حتى قدموا مكّة وفعلوا «1» ذلك، والقداح تقع على عبد الله، وعبد المطّلب يزيد عشرا عشرا، وهو قائم يدعو حتّى بلغت الإبل مائة، فخرج القدح على الإبل، فقالت قريش ومن حضر: قد انتهى، رضى ربّك «2» يا عبد المطّلب، فقال «3» عبد المطّلب: لا والله! حتى أضرب عليه «4» بالقداح ثلاث مرات، فضربوا على عبد الله وعلى الإبل، وعبد المطّلب قائم يدعو، فخرج القدح فى كلّ مرّة على الإبل، فنحرت عند ذلك. وذكر نحو ما تقدّم. ذكر زواج عبد الله بن عبد المطّلب آمنة بنت وهب أمّ النبى صلى الله عليه وسلم روى محمد بن سعد «5» عن محمد بن عمر بن واقد بسند يرفعه، قال: كانت آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة «6» بن كلاب، فى حجر عمّها وهيب بن عبد مناف، فمشى إليه عبد المطلب بابنه عبد الله أبى النبىّ صلى الله عليه وسلم، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 56 فخطب عليه آمنة فزوّجها عبد الله، وخطب إليه عبد المطّلب بن هاشم فى مجلسه ذلك ابنته هالة بنت وهيب على نفسه، فزوّجه إياها، فكان تزوّجهما فى مجلس واحد، فولدت هالة لعبد المطّلب حمزة «1» ، وكان حمزة عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فى النّسب، وأخاه من الرّضاعة. ونقل أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البرّ «2» رحمه الله: أن عبد الله ابن عبد المطّلب تزوج آمنة وهو ابن ثلاثين سنة «3» . قال: وقيل بل كان يؤمئذ ابن خمس وعشرين سنة. وعن محمد بن السائب الكلبىّ عن أبيه، وعن أبى الفيّاض الخثعمى قالا: لما تزوّج عبد الله آمنة أقام عندها ثلاثا، وكانت تلك السّنّة عندهم. وقال أبو محمد عبد الملك بن هشام «4» عن محمد بن إسحاق: إن عبد المطلب لما فدى ابنه عبد الله أخذ بيده، وخرج به حتى أتى وهب بن عبد مناف بن زهرة، وهو يومئذ سيّد بنى زهرة نسبا وشرفا، فزوّجه ابنته آمنة، وهى يومئذ أفضل امرأة فى قريش نسبا وموضعا، قال: فزعموا أنه دخل عليها حين أملكها «5» مكانه فوقع عليها، فحملت «6» برسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 57 ذكر خبر المرأة التى عرضت نفسها على عبد الله بن عبد المطّلب وما أبدته من سبب ذلك قد اختلف فى هذه المرأة، فمنهم من يقول: هى قتيلة «1» ، بنت نوفل، بن أسد، ابن عبد العزّى، بن قصىّ، وهى أخت «2» ورقة بن نوفل. قال السّهيلى «3» : اسمها رقيّقة «4» بنت نوفل تكنّى أم قتال، وهى أخت ورقة بن نوفل. ومنهم من يقول «5» : هى فاطمة بنت مرّ الخثعمية، وقيل غيرها. ونحن نذكر ما قالوه فى ذلك. فأما عبد الملك بن هشام فقال «6» : لما انصرف عبد المطلب يوم الفداء آخذا بيد ابنه عبد الله، فمرّ به على امرأة من بنى أسد، وهى أخت ورقة بن نوفل، وهى عند الكعبة، فقالت له حين نظرت إلى وجهه: أين تذهب يا عبد الله؟ قال: مع أبى، قالت: لك مثل الإبل التى نحرت عنك وقع علىّ الآن. قال: أنا مع أبى «7» ، ولا أستطيع خلافه ولا فراقه، فخرج به عبد المطّلب حتى أتى وهب ابن عبد مناف. وذكر خبر زواجه بآمنة، وأنه وقع عليها كما ذكرناه آنفا. قال: ثم خرج من عندها، فأتى المرأة التى عرضت عليه ما عرضت، فقال لها: مالك لا تعرضين علىّ اليوم ما كنت عرضت علىّ بالأمس؟ قالت له: فارقك النّور الذى كان معك بالأمس، فليس لى بك اليوم حاجة. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 58 وقال الواقدىّ «1» : هى قتيلة بنت نوفل. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: أنها امرأة من بنى أسد، وهى أخت ورقة. قال الواقدىّ: كانت «2» تنظر وتعتاف «3» ، فمرّ بها عبد الله فدعته يستبضع منها، ولزمت طرف ثوبه فأبى وقال: حتى آتيك، وخرج مسرعا «4» حتى دخل على آمنة فوقع عليها، فحملت برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم رجع إلى المرأة وهى تنتظره فقال: هل لك فى الذى عرضت علىّ؟ فقالت: لا. مررت وفى وجهك نور ساطع، ثم رجعت وليس فيه ذلك النور. قال «5» : وقال بعضهم قالت: مررت وبين عينيك غرّة مثل غرّة الفرس، ورجعت وليس هى فى وجهك. وقال «6» محمد بن عمر بن واقد، عن هشام بن محمد بن السائب الكلبى، عن أبيه، عن أبى الفيّاض «7» الخثعمى، قال: مرّ عبد الله بامرأة من خثعم يقال لها: فاطمة الجزء: 16 ¦ الصفحة: 59 بنت مرّ «1» ، وكانت من أجمل الناس وأشبّه وأعفّه «2» ، وكانت قد قرأت الكتب «3» ، وكان شباب قريش يتحدثون إليها، فرأت نور النبوّة فى وجه عبد الله فقالت: يا فتى! من أنت؟ فأخبرها، قالت: هل لك أن تقع علىّ وأعطيك «4» مائة من الإبل؟ فنظر إليها وقال: أمّا الحرام فالممات دونه ... والحلّ لا حلّ فأستبينه فكيف بالأمر «5» الذى تنوينه «6» ثم مضى إلى امرأته آمنة، فكان معها، ثم ذكرا الخثعمية وجمالها، وما عرضت عليه، فأقبل عليها فلم ير منها من الإقبال عليه آخرا كما رآه منها أولا، فقال: هل لك فيما قلت لى؟ فقالت: «قد كان ذاك مرّة فاليوم لا «7» » ، فذهبت مثلا، وقالت: أىّ شىء صنعت بعدى؟ قال: وقعت على زوجتى آمنة، قالت: إنى والله لست الجزء: 16 ¦ الصفحة: 60 بصاحبة زنية «1» ، ولكنى رأيت نور النبوّة فى وجهك، فأردت أن يكون ذلك فىّ، وأبى الله إلا يجعله حيث جعله. وبلغ شباب قريش ما عرضت على عبد الله وتأبّيه عليها، فذكروا ذلك لها، فأنشأت تقول: إنى رأيت مخيلة «2» عرضت «3» ... فتلألأت بحناتم القطر فلمأتها نورا «4» يضىء له «5» ... ما حوله كإضاءة الفجر ورأيته شرفا «6» أبوء به ... ما كلّ قادح زنده يورى لله ما زهرية سلبت ... ثوبيك ما استلبت وما تدرى «7» وقالت أيضا «8» : بنى هاشم قد غادرت من أخيكم ... أمينة إذ للباه يعتلجان «9» كما غادر المصباح بعد خبوّه «10» ... فتائل قد ميثت له بدهان الجزء: 16 ¦ الصفحة: 61 وما كلّ ما يحوى الفتى من تلاده «1» ... بحزم «2» ولا ما فاته لتوان فأجمل إذا طالبت أمرا فإنه ... سيكفيكه جدّان يصطرعان ستكفيكه إمّا يد مقفعلة «3» ... وإمّا يد مبسوطة ببيان ولما قضت منه أمينة ما قضت ... نبا بصرى عنه وكلّ لسانى «4» وعن أبى يزيد المدنى «5» قال: نبّئت أن عبد الله أبا رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى على امرأة من خثعم فرأت بين عينيه نورا ساطعا إلى السماء فقالت: هل لك فىّ؟ قال: نعم حتى أرمى الجمرة، فانطلق فرمى الجمرة، ثم أتى امرأته آمنة بنت وهب، ثم ذكر الخثعمية «6» فأتاها فقالت: هل أتيت امرأة بعدى؟ قال نعم، امرأتى آمنة بنت وهب، قالت: فلا حاجة لى فيك، إنك مررت وبين عينيك نور ساطع إلى السماء، فلما وقعت عليها ذهب؛ فأخبرها أنها قد حملت بخير «7» أهل الأرض. وقال محمد بن إسحاق: حدّثنى أبى إسحاق بن يسار، أنه حدّث «8» أن عبد الله إنما دخل على امرأة كانت له مع آمنة بنت وهب، وقد عمل فى طين له، وبه آثار من الطّين، فدعاها إلى نفسه فأبطأت عليه لما رأت عليه من آثار الطّين، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 62 فخرج من عندها فتوضّأ وغسل ما كان به من ذلك الطّين، ثم خرج عامدا إلى آمنة فمرّ بها، فدعته فأبى عليها «1» ، وعمد إلى آمنة فدخل عليها؛ فأصابها فحملت بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مرّ بامرأته تلك فقال لها: هل لك؟ قالت: لا. مررت بى وبين عينيك غرة، فدعوتك فأبيت «2» ، ودخلت على آمنة فذهبت بها. قال ابن إسحاق «3» : وزعموا أن امرأته تلك كانت تحدّث: أنّه مرّ بها وبين عينيه مثل غرة الفرس، قالت: فدعوته رجاء أن تكون تلك بى، فأبى علىّ، ودخل على آمنة فأصابها، فحملت برسول الله صلى الله عليه وسلم، أوسط قومه نسبا، وأعظمهم شرفا من قبل أبيه وأمّه. والله الفعال. ذكر حمل آمنة برسول الله صلى الله عليه وسلم وما رأته، وما قيل لها حملت به صلى الله عليه وسلم أيام التّشريق فى شعب أبى طالب عند الجمرة الوسطى، رواه أبو عمر بن عبد البرّ «4» عن الزبير بن بكّار، وحكاه غيره أيضا. وقيل حملت به فى دار وهيب «5» بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب. وروى محمد بن عمر بن واقد الأسلمى «6» قال: حدّثنى علىّ بن يزيد، بن عبد الله، بن وهب بن زمعة عن أبيه، عن عمته قالت: كنا نسمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزء: 16 ¦ الصفحة: 63 لمّا حملت به آمنة بنت وهب كانت تقول: ما شعرت أنى حملت به، ولا وجدت له ثقلة «1» كما تجد النساء، إلا أنى قد أنكرت رفع حيضتى، فربما كانت ترفعنى وتعود؛ وأتانى آت، وأنا بين النائم واليقظان فقال: هل شعرت أنّك حملت؟ فكأنى أقول ما أدرى، فقال: إنك قد حملت بسيّد هذه الأمّة ونبيّها، وذلك يوم الإثنين، قالت: فكان ذلك مما يقّن عندى الحمل، ثم أمهلنى حتى إذا دنت ولادتى «2» أتانى ذلك الآتى فقال: قولى: «أعيذه بالواحد الصّمد، من شرّ كلّ حاسد» . قالت: فكنت أقول ذلك. وفى رواية محمد بن إسحاق «3» أنه قيل لها: إنك قد حملت بسيّد هذه الأمة، فإذا وقع إلى الأرض فقولى: «أعيذه بالواحد، من شر كل حاسد، ثم سميه محمدا» «4» . وفى رواية أخرى: امرت أمّه وهى حامل برسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسمّيه أحمد. قالت أمه: فذكرت ذلك لنسائى، فقلن لى: تعلّقى حديدا فى عضديك وفى عنقك، قالت: ففعلت، فلم يكن يترك علىّ إلا أياما، فأجده قد قطع، فكنت لا أتعلقه. وعن الزّهرىّ قال: قالت آمنة: لقد علقت به، فما وجدت له مشقّة حتى وضعته. قال ابن إسحاق «5» : ورأت «6» حين حملت به أنه خرج منها نور رأت به قصور بصرى من أرض الشام. قد تواترت الأخبار الصحيحة بذلك. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 64 وحكى الشيخ الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبى فى كتاب «الأعلام» له عن ابن عباس رضى «1» الله عنهما أنه قال: وكان من دلائل حمل آمنة برسول الله صلى الله عليه وسلم أن كلّ دابّة كانت لقريش نطقت تلك الليلة وقالت: حمل بمحمد وربّ الكعبة، وهو إمام الدنيا وسراج أهلها؛ ولم تبق كاهنة فى قريش ولا فى قبيلة من قبائل العرب إلا حجبت عن صاحبها؛ وانتزع علم الكهنة منهم ولم يبق سرير لملك من ملوك الدّنيا إلا أصبح منكوسا. قال: وقال كعب الأخبار: وأصبحت يومئذ أصنام الدنيا كلّها منكوسة مضغوطة فيها شياطينها، وأصبح عرش إبليس عدوّ الله منكوسا. قال: وقال ابن عباس رضى الله عنهما: وأصبح كلّ ملك أخرس «2» لا ينطق يومه ذلك، وفرّت وحوش «3» المشرق إلى وحوش «4» المغرب بالبشارات، وكذلك أهل البحار [صار «5» ] يبشّر بعضهم بعضا، وله فى كلّ شهر من شهوره «6» نداء فى الأرض، ونداء فى السماء: أن أبشروا، فقد آن لأبى القاسم أن يخرج «7» إلى الأرض ميمونا مباركا. والله الموفّق الفعّال. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 65 ذكر وفاة عبد الله بن عبد المطّلب روى أبو عبد الله محمد بن سعد، بسند يرفعه إلى محمد بن كعب، وأيوب بن عبد الرحمن بن أبى صعصعة، قالا: خرج عبد الله بن عبد المطّلب إلى الشام إلى غزّة فى عير من عيرات قريش يحملون تجارات، ففرغوا من تجاراتهم ثم انصرفوا فمرّوا بالمدينة وعبد الله يومئذ مريض فقال: أنا أتخلّف عند أخوالى بنى عدىّ ابن النجّار، فأقام عندهم مريضا شهرا، ومضى أصحابه فقدموا مكة، فسألهم عبد المطّلب عن عبد الله، فقالوا: خلّفناه عند أخواله وهو مريض، فبعث إليه عبد المطلب ولده الحارث «1» ، فوجده قد توفّى ودفن فى دار النابغة «2» ، وهو رجل من بنى عدىّ بن النّجار، فرجع إلى أبيه فأخبره، فوجد عليه عبد المطلب وإخوته وأخواته وجدا شديدا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ حمل. ولعبد الله يوم توفّى خمس وعشرون سنة. قال الواقدى: هذا هو أثبت الأقاويل، والرواية فى وفاة عبد الله وسنّه عندنا. وعن هشام بن السائب الكلبىّ عن أبيه، وعن عوانة بن الحكم قالا: توفى عبد الله بن عبد المطّلب بعد ما أتى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية وعشرون شهرا، ويقال سبعة أشهر، وقيل شهران. قال محمد بن سعد: والأول أثبت. وقال السّهيلىّ «3» : «وأكثر العلماء على أنه كان فى المهد» ، قال: «ذكره الدّولابى «4» وغيره» . والله تعالى أعلم. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 66 قال الواقدى: وترك عبد الله بن عبد المطّلب أمّ أيمن، واسمها بركة، وخمسة أجمال أوارك، يعنى تأكل الأراك، وقطعة غنم؛ فورث ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله خير الوارثين. ذكر مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة شرفها الله تعالى؛ قال الزّبير بن بكّار «1» : ولد صلى الله عليه وسلم فى الدار التى كانت لمحمد بن يوسف أخى الحجّاج. قال القرطبى رحمه الله فى كتاب «الأعلام» له: إنّ الدار كانت فى الزّقاق المعروف بزقاق المولد «2» ، وكانت فى مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم فى يد عقيل بن أبى طالب ثم فى أيدى ولده، ثم اشتراها محمد بن يوسف الثّقفىّ من ولد عقيل، فأدخل البيت «3» فى دار بناها وسمّاها البيضاء، فكان البيت فى الدار إلى أن حجّت الخيزران «4» أمّ الهادى والرشيد، فأخرجت البيت وجعلته مسجدا يشرع فى زقاق المولد. وكان مولده صلى الله عليه وسلم عام الفيل بعد قدوم أصحاب الفيل بخمس وخمسين ليلة «5» ، فى يوم الاثنين من شهر ربيع الأوّل، قيل لليلتين خلتا منه، وقيل الجزء: 16 ¦ الصفحة: 67 أوّل اثنين منه من غير تعيين، وقيل ولد فى شهر رمضان لاثنتى عشرة ليلة خلت منه «1» ، وهو العشرون من نيسان سنة ثمانمائة واثنتين للإسكندر ذى القرنين. والمشهور أنه ولد فى شهر ربيع الأوّل؛ فيقول القائل: كيف يمكن أن تكون حملت به فى أيام التّشريق، وولد فى شهر ربيع الأوّل، والمدّة بينهما إمّا أربعة أشهر، أو ستة عشر شهرا، ولم ينقل إلينا أنه صلى الله عليه وسلم ولد لأقل من تسعة أشهر ولا أكثر منها؟ فالجواب أن الحج إذ ذاك لم يكن محصورا فى ذى الحجّة، بل قد ثبت أنّ أبا بكر الصدّيق رضى الله عنه حج بالناس فى السنة التاسعة من الهجرة، ووافق الحج فى ذى القعدة، فلما حجّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم حجّة الوداع فى السنة العاشرة، خطب فقال فى خطبتة: «ألا إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض «2» ، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم: ثلاثة متواليات، ذو القعدة، وذو الحجّة، والمحرّم، ورجب مضر «3» الذى بين جمادى وشعبان» ، فيمكن أن يكون الحجّ لمّا حملت آمنة برسول الله صلى الله عليه وسلم وافق فى جمادى الآخرة؛ ولا يمتنع هذا والله أعلم. وروى عن ابن عباس رضى الله عنهما أن آمنة بنت وهب قالت: لقد علقت به، تعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما وجدت له مشقّة حتى وضعته؛ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 68 فلما «1» فصل منّى خرج منه نور أضاء له ما بين المشرق إلى المغرب، ثم وقع على الأرض على يديه، ثم أخذ قبضة من تراب فقبضها، ورفع رأسه إلى السماء. وقال بعضهم: وقع جاثيا على ركبتيه رافعا رأسه إلى السماء، وخرج معه نور أضاءت له قصور الشّام وأسواقها، حتى رأيت أعناق الإبل ببصرى «2» . وعن حسان ابن عطية: أن النبى صلى الله عليه وسلم لمّا ولد وقع على كفّيه وركبتيه «3» شاخصا بصره إلى السماء. قالت أمّه: فولدته نظيفا والله كما يولد السّخل ما به قذر. وقالت فاطمة بنت عبد الله أمّ عثمان بن [أبى] العاصى «4» ، وكانت شهدت ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وضعته أمّه آمنة وذلك ليلا، قالت: فما شىء أنظر إليه من البيت إلا نور، وإنى لأنظر إلى النّجوم تدنو حتى إنى لأقول لتقعنّ «5» علىّ. وذكر الخطيب أبو بكر بن ثابت رحمه الله، عن آمنة قالت: لمّا ولدت محمدا صلى الله عليه وسلم ثم خرج من بطنى نظرت إليه، فإذا هو ساجد لله عزّ وجلّ رافع يديه «6» إلى السماء كالمتضرّع المبتهل، ثم رأيت سحابة بيضاء قد أقبلت تنزل من السماء حتى غشيته، فغّيبته عن عينى برهة، فسمعت قائلا يقول: طوفورا بمحمد مشارق الأرض ومغاربها، وأدخلوه البحار كلّها ليعرف جميع الخلائق كلها باسمه الجزء: 16 ¦ الصفحة: 69 وصفته، ويعرفوا بركته، إنه حبيب لى، لا يبقى شىء من الشّرك إلا ذهب به. قالت «1» : ثم انجلت عنى فى أسرع من طرفة عين، فإذا أنا به مدرج فى ثوب أبيض أشدّ بياضا من اللبن، وتحته حريرة خضراء قد قبض على ثلاثة مفاتيح من اللؤلؤ الرّطب الأبيض، وإذا قائل يقول: قد قبض محمد صلى الله عليه وسلم مفاتيح النّصرة، ومفاتيح الدنيا، ومفاتيح النبوّة. وذكر الخطيب أيضا عنها فى شأن المولد: قالت: رأيت سحابة أعظم من الأولى ولها نور «2» ، أسمع فيها صهيل الخيل، وخفقان الأجنحة، وكلام الرجال» ، حتى غشيته، قالت: وغيّبت «4» عنى وجهه أطول وأكثر من المرة الأولى، فسمعت مناديا ينادى: طوفوا بمحمد جميع الأرضين، وعلى موالد النبيّين، واعرضوه على كل روحانىّ من الجنّ، والإنس، والملائكة، والطير، والوحوش؛ وأعطوه خلق آدم، ومعرفة شيث، وشجاعة نوح، وخلّة إبراهيم «5» ، ولسان إسماعيل، ورضا إسحاق وفصاحة صالح، وحكمة لوط، وبشرى يعقوب، وجمال يوسف، وشدّة موسى وطاعة يونس، وجهاد يوشع، وصوت داود، وحبّ دانيال، ووقار إلياس وعصمة يحيى، وزهد عيسى؛ واغمسوه فى جميع «6» أخلاق النبيّين عليه وعليهم السلام. ثم «7» انجلت عنّى فى أسرع من طرفة العين، فإذا به قد قبض على حريرة خضراء الجزء: 16 ¦ الصفحة: 70 مطويّة طيّا شديدا، ينبع من تلك الحريرة ماء معين، وإذا قائل «1» يقول: بخ بخ! قبض محمد صلى الله عليه وسلم على الدنيا كلّها، لم يبق خلق كثير «2» من أهلها إلا دخل فى قبضته طائعا بإذن الله. ولا حول ولا قوّة إلا بالله. وعن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما عن أبيه، قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم مختونا مسرورا «3» ، قال: وأعجب ذلك عبد المطّلب، وحظى عنده، فقال: ليكوننّ لابنى هذا شأن. وفى رواية: لمّا ولدت آمنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أرسلت إلى جدّه عبد المطلب، فجاء البشير وهو جالس فى الحجر مع ولده ورجال من قومه، فأخبره أن آمنة ولدت غلاما، فسرّ بذلك، وقام هو ومن معه، فدخل عليها، فأخبرته بكل ما رأت، وما قيل لها فيه، وما أمرت أن تسميّه. قال: فأخذه عبد المطلب فأدخله الكعبة، وقام عندها يدعو الله، ويشكر ما أعطاه. قال الواقدىّ: وأخبرت أنّ عبد المطلب قال يومئذ: الحمد لله الذى أعطانى ... هذا الغلام الطيّب الأردان قد ساد فى المهد على الغلمان ... أعيذه بالبيت ذى الأركان حتى أراه بالغ البنيان ... اعيذه من شرّ ذى شنان من حاسد مضطرب العنان وقال القرطبىّ: وقال أبو طالب: كنت تلك الليلة التى ولد فيها محمد فى الكعبة أصلح فيها ما تهدّم منها، فلما انتصف الليل، إذا أنا بالبيت الحرام قد مال بجوانبه الجزء: 16 ¦ الصفحة: 71 الأربعة، فخرّ ساجدا فى مقام إبراهيم عليه السلام، كالرجل الساجد، ثم استوى قائما، وأنا أسمع له تكبيرا عجيبا ينادى: الله أكبر! الله ربّ محمد المصطفى! الآن طهّرنى ربى من أنجاس المشركين، وحميّة الجاهلية! ونظرت إلى الأصنام كلها تنتفض كما ينتفض الثوب، ونظرت إلى الصنم الأعظم «هبل» قد انكبّ فى الحجر، وسمعت مناديا ينادى: ألا إن آمنة قد ولدت محمدا! وقد سكبت عليها سحائب الرحمة، هذا طست الفردوس قد انزل ليغسل فيه الثّانية. وعن حسّان بن ثابت الأنصارىّ، قال «1» : والله إنى لغلام يفعة ابن سبع سنين أو ثمان، أعقل كلّ ما سمعت، إذ سمعت يهوديا يصرخ على أطمة «2» يثرب: يا معشر يهود! حتى إذا اجتمعوا إليه، قالوا له: ويلك! مالك؟ قال: طلع الليلة نجم أحمد الذى ولد «3» به. ذكر أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم وكناه وأسماؤه صلى الله عليه وسلم كثيرة، منها ما جاء بنصّ القرآن، ومنها ما نقل إلينا من الكتب السالفة والصّحف المنزلة، ومنها ما جاء فى الأحاديث الصحيحة ومنها ما اشتهر على ألسنة الأئمة من الأمّة رضوان الله عليهم. روى عن جبير بن مطعم، قال «4» : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لى «5» خمسة الجزء: 16 ¦ الصفحة: 72 أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحى الذى يمحو الله بى الكفر، وأنا الحاشر الذى يحشر الناس على قدمى «1» ، وأنا العاقب» . قيل لأنه عقب غيره من الأنبياء. وروى عنه عليه السلام: «لى عشرة أسماء» ، فذكر الخمسة هذه، قال: «وأنا رسول الرحمة، ورسول الرّاحة، ورسول الملاحم، وأنا المقفّى؛ قفّيت النبيّين، وأنا قيّم» . قال القاضى عياض: والقيّم: الجامع الكامل، قال: كذا وجدته ولم «2» أروه وأرى صوابه: قثم «3» بالثاء، وروى النقّاش «4» عنه عليه [الصلاة و] السلام «5» «لى فى القرآن سبعة أسماء: محمد، وأحمد، ويس، وطه، والمدّثّر، والمزّمّل، وعبد الله» . وفى حديث أبى موسى الأشعرى رضى الله عنه: أنه كان عليه السلام يسمّى لنا نفسه أسماء؛ فيقول: أنا محمد، وأحمد، والمقفّى، والحاشر، ونبىّ التّوبة ونبىّ الملحمة، ويروى المرحمة، والرحمة؛ ومعنى المقفّى: معنى العاقب. وقد جاءت من ألقابه وأسمائه صلى الله عليه وسلم فى القرآن عدّة كثيرة سوى ما ذكرناه، منها النّور؛ لقوله تعالى: (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ) ، والسّراج المنير، والشاهد، والمبشّر والنذير، وداعى الله؛ قال الله تعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً) الجزء: 16 ¦ الصفحة: 73 والبشر لقوله تعالى: (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) * ، والمنذر لقوله: (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) ، والمذكّر لقوله تعالى: (إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ) ، والشهيد لقوله: (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) ، والخبير لقوله تعالى: (الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) قال القاضى بكر بن العلاء «1» : المأمور بالسؤال غير النبىّ صلى الله عليه وسلم، والمسئول الخبير هو النبىّ صلى الله عليه وسلم؛ والحق المبين لقوله تعالى: (حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ) ، وقوله: (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) ، وقوله: (قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) ، وقوله: (فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) ، قيل: محمد وقيل: القرآن، والرءوف الرحيم؛ لقوله تعالى: (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) ، والكريم، والمكين، والأمين؛ لقوله تعالى: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) ، والرسول، والنبى الأمّىّ؛ لقوله: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ) ، والولىّ، لقوله تعالى: (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) ، والفاتح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم، فى حديث الإسراء عن ربه تعالى: «وجعلتك فاتحا وخاتما» ، وفيه من قول النبى صلى الله عليه وسلم فاتحا وخاتما، وقدم الصدق؛ قال الله تعالى: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ؛ قال قتادة والحسن وزيد بن أسلم: قدم صدق هو محمد صلى الله عليه وسلم؛ والعروة الوثقى قيل: محمد، وقيل: القرآن؛ والهادى، لقوله تعالى: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 74 ذكر ما جاء فى تسميته صلّى الله عليه وسلّم محمدا وأحمد ومن تسمّى بمحمد قبله صلى الله عليه وسلم من العرب، واشتقاق ذلك أما اشتقاق هذه التسمية، فمحمد اسم علم، وهو منقول من صفة من قولهم: رجل محمّد؛ وهو الكثير الخصال المحمودة؛ والمحمّد فى لغة العرب: هو الذى يحمد حمدا بعد حمد مرة بعد مرة. قال السهيلى «1» : «لم يكن محمد حتى كان أحمد حمد ربّه فنبّأه وشرّفه؛ فلذلك تقدّم اسم أحمد على [الاسم الذى «2» هو] محمد فذكره عيسى عليه السلام باسمه أحمد» . وهو صلى الله عليه وسلم أول من سمّى بأحمد، ولم يسمّ به أحد قبله من سائر الناس؛ وفى هذا حكمة عظيمة باهرة؛ لأن عيسى عليه السلام قال: (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) ، فمنع الله تعالى بحكمته أن يسمّى أحد به ولا يدعى به مدعوّ قبله، حتى لا يدخل لبس على ضعيف القلب. وأما محمد «3» ، فإن الله تعالى حمى أن يسمّى به أحد من العرب، ولا من غيرهم إلى أن شاع قبل وجوده وميلاده صلى الله عليه وسلم: أن نبيّا يبعث اسمه محمد قد قرب إبّان مولده، فسمّى قوم من العرب أبناءهم. قال أبو جعفر محمد بن حبيب «4» : وهم ستة لا سابع لهم: محمد بن سفيان بن مجاشع جدّ الفرزدق الشاعر، وهو أوّل «5» من سمّى محمدا، ومحمد بن أحيحة «6» بن الجلاح الجزء: 16 ¦ الصفحة: 75 الأوسىّ، ومحمد بن حسّان الجعفىّ، ومحمد بن مسلمة الأنصارى «1» ، ومحمد بن براء البكرىّ، ومحمد بن خزاعىّ السّلمى، وذكر فيهم أيضا محمد بن اليحمدىّ من الأزد واليمن تقول: إنه أوّل من تسمّى بمحمد. وذكر أبو الخطّاب بن دحية فيهم: محمد بن عتوارة اللّيثى «2» الكنانىّ، ومحمد بن حرماز «3» بن مالك التّميمى «4» المعمرىّ. وقال أبو بكر بن فورك: «لا يعرف فى العرب من تسمّى قبله بمحمد سوى محمد بن سفيان، ومحمد بن أحيحة، ومحمد بن حمران «5» ، وإن آباء هؤلاء «6» الثلاثة وفدوا على بعض الملوك، وكان عنده علم من الكتاب الأوّل، فأخبرهم بمبعث النبى صلى الله عليه وسلم وباسمه، وكان كل واحد منهم قد خلّف امرأته حاملا، فطمع فى ذلك «7» فنذر كل واحد منهم إن ولد له ولد ذكر أن يسميّه محمدا» . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 76 وذكر ابن سعد فيهم: محمد الجشمىّ. وقال ابن الأثير «1» : محمد بن عدىّ بن ربيعة بن سعد بن سواد بن جشم بن سعد؛ عداده فى أهل المدينة «2» . وروى عبد الملك بن أبى سويد المنقرىّ عن جد أبيه خليفة، قال: سألت محمد «3» بن عدىّ كيف سمّاك أبوك محمدا؟ فضحك، ثم قال: أخبرنى أبى عدىّ بن ربيعة، قال: خرجت أنا وسفيان بن مجاشع، ويزيد بن ربيعة «4» بن كنانة، بن حرقوص ابن مازن، وأسامة بن مالك بن العنبر «5» نريد ابن جفنة، فلما قربنا منه نزلنا إلى شجرات وغدير، فأشرف علينا ديرانىّ فقال: إنى لأسمع لغة ليست لغة أهل هذه البلاد فقلنا: نعم! نحن من مضر، قال: أى المضرين؟ قلنا: خندف، فقال: إنه يبعث وشيكا نبىّ منكم، فخذوا نصيبكم منه تسعدوا، قلنا ما اسمه؟ قال: محمد فأتينا ابن جفنة، فلما انصرفنا ولد لكل منا ابن فسمّاه محمدا. وقال محمد بن سعد: «أخبرنا محمد بن على، عن مسلمة، عن علقمة، عن قتادة بن السّكن «6» ، قال: كان فى بنى تميم محمد بن سفيان بن مجاشع، ومحمد الجشمىّ فى بنى سواد، ومحمد الأسيّدى «7» ، ومحمد الفقيمىّ «8» ؛ سمّوهم طمعا فى النبوّة؛ ثم حمى الله تعالى كل من تسمّى بمحمد أن يدّعى النبوّة، أو يدّعيها أحد له، أو يظهر عليه سبب يشكّك أحدا فى أمره، حتى تحقّق ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم. والله أعلم بالصواب وإليه المرجع. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 77 ومن أسمائه فى الكتب المنزلة صلّى الله عليه وسلم «العظيم» ، وقع فى أوّل سفر من التوراة عن إسماعيل: وسيلد عظيما لأمّة عظيمة «1» . و «الجبّار» ، سمّى بذلك فى كتاب داود عليه السلام، فقال: تقلّد أيها الجبّار سيفك فإن ناموسك وشرائعك «2» مقرونة بهيبة يمينك. قالوا «3» : ومعناه فى حق النبى صلى الله عليه وسلم: إما لإصلاحه الأمة بالهداية «4» والتعليم، أو لقهره أعداءه، أو لعلو منزلته على البشر، وعظيم «5» وعظيم خطره. ونفى الله عز وجل عنه جبرية التكبّر فى القرآن فقال: (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) . ومن أسمائه فيها «6» : «المتوكّل» ، و «المختار» ، و «مقيم السّنّة «7» » ، و «المقدّس «8» » ، و «روح الحق» ، وهو معنى البارقليط «9» فى الإنجيل؛ وقال ثعلب: البارقليط: الذى يفرق بين الحق والباطل. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 78 ومنها ماذ ماذ «1» ؛ ومعناه طيّب طيّب، وحمطايا «2» ، والخاتم والخاتم؛ حكاه كعب الأحبار، قال: فقلت فالخاتم الذى ختم به الأنبياء، والخاتم أحسن الأنبياء خلقا وخلقا، ويسمّى بالسريانية مشفّج «3» ، والمنحمنّا «4» ، واسمه أيضا فى التوراة: أحيّد «5» ، وروى ذلك عن ابن سيرين رحمه الله. ومن اسمائه ونعوته عليه السلام التى جرت على ألسنة أئمّة الأمّة المصطفى، والمجتبى، والحبيب، ورسول ربّ العالمين، والشفيع المشفّع والمتّقى، والمصلح، والطاهر، والمهيمن، والصادق، والضّحوك، والقتّال «6» ، وسيّد ولد آدم، وسيد المرسلين، وإمام المتقين، وقائد الغرّ المحجّلين، وحبيب الله وخليل الرحمن، وصاحب الحوض المورود، واللواء المعقود، والشفاعة والمقام المحمود، وصاحب الوسيلة والفضيلة، والدرجة الرّفيعة، وصاحب التاج والمعراج والقضيب، وراكب البراق والناقة والنّجيب، وصاحب الحجّة والسلطان، والخاتم والعلامة والبرهان، وصاحب الهراوة والنّعلين. صلى الله عليه وسلم. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 79 قالوا: ومعنى صاحب القضيب: السّيف، وقع ذلك مفسّرا فى الإنجيل؛ قال: معه قضيب من حديد يقاتل به، وأمّته كذلك «1» ؛ وأما الهراوة التى وصف بها، فهى فى اللّغة العصا، ولعلها القضيب الممشوق الذى انتقل إلى الخلفاء «2» ؛ وأما صاحب التاج، فالمراد به العمامة، ولم تكن حينئذ إلا للعرب. وكانت كنيته المشهورة أبا القاسم، وعن أنس أنه لما ولد له إبراهيم، جاءه جبريل فقال: السلام عليك يأبا إبراهيم «3» . ذكر مراضع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإخوته من الرّضاعة، وما ظهر من معجزاته فى زمن رضاعه وحال طفوليته صلى الله عليه وسلم قال محمد بن عمر بن واقد الأسلمى: أوّل من أرضع رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثويبة «4» ، وهى جارية أبى لهب، أرضعته بلبن ابنها مسروح «5» أياما قبل أن تقدم حليمة السّعدية، وكانت قد أرضعت قبله عمه حمزة بن عبد المطلب، وأرضعت بعده أبا سلمة بن عبد الله بن عبد الأسد المخزومى؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلها وهو بمكّة، وكانت خديجة تكرمها وهى يومئذ مملوكة، وطلبت إلى أبى لهب أن تبتاعها منه لتعتقها فأبى أبو لهب، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أعتقها أبو لهب، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث إليها الجزء: 16 ¦ الصفحة: 80 بصلة وكسوة، حتى جاء خبرها أنها قد ماتت سنة سبع عند مرجعه من خيبر، فقال: ما فعل ابنها مسروح؟ فقيل: مات قبلها ولم يبق من قرابتها أحد. ثم أرضعته حليمة بنت أبى ذؤيب، وأبو ذؤيب عبد الله بن الحارث بن شجنة «1» ، ابن جابر بن رزام بن ناصرة «2» بن فصيّة «3» بن نصر بن سعد بن بكر بن هوازن ابن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان «4» بن مضر؛ واسم أبيه الذى أرضعه «5» : الحارث بن عبد العزّى بن رفاعة بن ملّان بن ناصرة؛ ويقال هلال «6» بن ناصرة بن فصيّة بن نصر بن سعد بن بكر بن هوازن. وإخوته من الرضاعة منها: عبد الله بن الحارث، وأنيسة بنت الحارث، وحذافة «7» بنت الحارث وهى الشّيماء «8» ، وكانت الشّيماء تحضن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أمها. قال أبو عبد الله محمد بن إسحاق «9» كانت حليمة بنت أبى ذؤيب تحدّث أنها خرجت من بلدها مع زوجها وابن لها ترضعه فى نسوة من بنى سعد بن بكر تلتمس الرّضعاء الجزء: 16 ¦ الصفحة: 81 قال الواقدى: إنهن كنّ عشرا، قالت: فى سنة شهباء «1» لم تبق شيئا «2» ، فخرجت على أتان. لى قمراء «3» معنا شارف «4» لنا، والله ما تبصّ «5» بقطرة، وما تنام لنا ليلتنا أجمع مع صبيّنا الذى معى «6» من بكائه من الجوع، ما فى ثديىّ ما يغنيه، وما فى شارفنا ما يغذّيه، ولكنا نرجو «7» الغيث والفرج، فخرجت على أتانى تلك، فلقد أذمّت «8» بالرّكب حتى شقّ ذلك عليهم ضعفا وعجفا «9» حتى قدمنا مكة، فما منّا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأباه إذا قيل لها إنه يتيم، وذلك أنا كنا «10» نرجو المعروف من أبى الصّبىّ؛ فكنا نقول: يتيم، ما عسى أن تصنع أمّه وجدّه؟ فما بقيت امرأة قدمت معى إلا أخذت رضيعا غيرى، فلما أجمعنا الانطلاق قلت لصاحبى: والله إنى لأكره أن أرجع من بين صواحبى ولم آخذ رضيعا، والله لأذهبنّ «11» إلى ذلك اليتيم فلآخذنّه؛ قال: لا عليك أن تفعلى، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة. قالت «12» : فذهبت إليه فأخذته، وما حملنى على أخذه إلا أنى لم أجد غيره؛ فلما أخذته رجعت به إلى رحلى، فلما وضعته فى حجرى، أقبل عليه ثدياى بما شاء الله من لبن، فشرب حتى روى، وشرب معه الجزء: 16 ¦ الصفحة: 82 أخوه حتى روى، ثم ناما، وما كنا ننام معه قبل ذلك، وقام زوجى إلى شارفنا تلك فإذا بها حافل، فحلب منها ما شرب وشربت، حتى انتهينا ريّا وشبعا، فبتنا بخير ليلة. قالت: يقول صاحبى حين أصبحنا: تعلمى والله يا حليمة لقد أخذت نسمة مباركة، قالت: قلت والله إنى لأرجو ذلك، قالت: ثم خرجنا فركبت أتانى وحملته عليها معى، فو الله لقطعت بالرّكب ما يقدر عليها شىء «1» من حمرهم، حتى إن صواحبى ليقلن لى: ويحك يا بنت أبى ذؤيب [ويحك «2» ] ! اربعى «3» علينا. أليست هذه أتانك التى كنت خرجت عليها؟ فأقول لهن: بلى والله! إنها لهى هى، فيقلن: والله إن لها لشأنا. قالت: ثم قدمنا منازلنا من بلاد بنى سعد، وما أعلم أرضا من أرض الله أجدب منها، فكانت غنمى تروح على حين قدمنا به معنا شباعا لبّنا، فنحلب ونشرب، وما يحلب إنسان قطرة لبن وما يجدها «4» فى ضرع حتى كان الحاضر «5» من قومنا يقولون لرعيانهم: ويلكم! اسرحوا حيث يسرح راعى بنت أبى ذؤيب، قالت: فلم نزل نتعرّف من الله الزيادة والخيرة حتى مضت سنتاه وفصلته، وكان يشبّ شبابا لا يشبه الغلمان، فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلاما جفرا «6» ، قالت: فقدمنا به على أمه ونحن أحرص شىء على مكثه فينا لما كنّا نرى من بركته، فكلّمنا أمّه. وقلت لها: لو تركت بنىّ عندى حتى يغلظ، فإنى أخشى عليه وباء مكة، قالت: فلم تزل «7» به حتى ردّته معنا فرجعنا به الجزء: 16 ¦ الصفحة: 83 فو الله إنه بعد مقدمنا بأشنهر مع أخيه لفى بهم «1» لنا خلف بيوتنا إذ أتانا أخوه يشتدّ «2» ، فقال لى ولأبيه: ذاك أخى القرشىّ قد أخذه رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاه فشقّا بطنه، فهما يسوطانه «3» ، قالت «4» : فخرجت أنا وأبوه نحوه، فوجدناه قائما منتقعا «5» وجهه، فالتزمته والتزمه أبوه، فقلنا: مالك يا بنىّ؟ قال: جاءنى رجلان عليهما ثياب بيض، فأضجعانى فشقّا بطنى، فالتمسا فيه شيئا لا أدرى ما هو؟ قالت: فرجعنا إلى خبائنا، فقال لى أبوه: يا حليمة، لقد خشيت أن يكون هذا الغلام قد أصيب، فألحقيه بأهله قبل أن يظهر ذلك به، قالت: فاحتملناه فقدمنا به على أمّه، فقالت: ما أقدمك يا ظئر وقد كنت حريصة عليه وعلى مكثه عندك؟ فقلت: قد بلغ الله بابنى، وقضيت الذى علىّ، وتخوّفت الأحداث عليه، فأدّيته عليك «6» كما تحبيّن، قالت: ما هذا شأنك فاصدقينى خبرك! فلم تدعنى حتى أخبرتها؛ قالت: أفتخوّفت عليه الشيطان؟ قلت نعم. قالت كلّا والله! ما للشيطان عليه من سبيل، وإن لبنىّ لشأنا، أفلا أخبرك خبره؟ قلت: بلى! قالت: رأيت حين حملت به أنه خرج منّى نور أضاء له قصور بصرى «7» من من أرض الشام، ثم حملت به، فو الله ما رأيت من حمل قطّ كان أخفّ ولا أيسر منه، ووقع حين ولدته وإنه لواضع يديه بالأرض، ورافع رأسه إلى السّماء؛ دعيه عنك وانطلقى راشدة. هكذا نقل ابن هشام فى سيرته عن ابن إسحاق. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 84 وقال محمد بن سعد فى كتابه المترجم بالطّبقات عن الواقدىّ: كان عمره يوم شقّ بطنه أربع سنين، وإن حليمة أتت به أمّه آمنة بنت وهب وأخبرتها خبره وقالت: إنا لا نردّه إلّا على جدع أنفنا؛ ثم رجعت به أيضا، فكان عندها سنة أو نحوها، لا تدعه يذهب مكانا بعيدا، ثم رأت غمامة تظلّه، إذا وقف وقفت، وإذا سار سارت، فأفزعها ذلك من أمره، فقدمت به إلى أمّه لتردّه وهو ابن خمس سنين، فأضلّها «1» فى الناس، فالتمسته فلم تجده، فأتت عبد المطّلب فأخبرته، فالتمسه فلم يجده، فقام عند الكعبة فقال: لا همّ ردّ راكبى محمّدا ... اردده ربّى واصطنع عندى يدا أنت الذى جعلته لى عضدا ... لا يبعد الدهر به فيبعدا أنت الذى سمّيته محمّدا قال ابن اسحاق «2» : يزعمون أنه وجده ورقة بن نوفل بن أسد ورجل آخر من قريش، فأتيا به عبد المطّلب، فقالا: هذا ابنك وجدناه بأعلى مكّة، فأخذه عبد المطلب فجعله على عنقه وهو يطوف بالكعبة يعوّذه ويدعو له، ثم أرسل به إلى أمّه آمنة. وعن خالد بن معدان الكلاعىّ «3» : أنّ نفرا من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم قالوا له: يا رسول الله! أخبرنا عن نفسك، قال: نعم. أنا دعوة أبى إبراهيم، وبشرى عيسى «4» ورأت أمى حين حملت بى أنه خرج منها نور أضاء لها قصور الشام، واسترضعت فى بنى سعد بن بكر، فبينما أنا مع أخ لى خلف بيوتنا نرعى بهما لنا، إذ أتانى رجلان الجزء: 16 ¦ الصفحة: 85 عليهما ثياب بيض بطست من ذهب مملوءة ثلجا، فأخذانى فشقّا بطنى، ثم استخرجا «1» قلبى فشقّاه، فاستخرجا منه علقة سوداء فطرحاها، ثم غسلا بطنى وقلبى بذلك الثّلج حتى أنقياه، ثم قال أحدهما لصاحبه: زنه بعشرة من أمّته، فوزننى بهم فوزنتهم، ثم قال: زنه بمائة من أمّته، فوزننى بهم فوزنتهم، ثم قال: زنه بألف من أمّته، فوزننى بهم فوزنتهم، فقال: دعه عنك، فلو وزنته بأمّته لوزنها. قال محمد بن إسحاق «2» : وحدّثنى بعض أهل العلم أن مما هاج أمّه السّعدية على ردّه إلى أمه، مع ما ذكرت لأمه مما أخبرتها عنه، أن نفرا من الحبشة نصارى رأوه معها حين رجعت به بعد فطامه، فنظروا إليه وسألوها عنه وقلّبوه ثم قالوا لها: لنأخذنّ هذا الغلام فلنذهبن به إلى ملكنا وبلدنا، فإن هذا غلام كائن له شأن نحن نعرف أمره، فلم تكد تنفلت به منهم. ونقل محمد بن سعد «3» : أن آمنة أمّ النبى صلى الله عليه وسلم لمّا دفعته لحليمة السعديّة قالت لها: احفظى ابنى، وأخبرتها بما رأت، فمرّ بها اليهود فقالت: ألا تحدّثونى عن ابنى هذا؟ فإنّى حملته كذا، ووضعته كذا، ورأيت كذا، كما وصفت آمنة «4» ، فقال بعضهم لبعض: اقتلوه! ثم قالوا: أيتيم هو؟ فقالت: لا. هذا أبوه وأنا أمه، فقالوا: لو كان يتيما لقتلناه «5» ، قالت: فذهبت به. وحضنته صلى الله عليه وسلم أمّ أيمن [بركة «6» ] الحبشيّة حتى كبر، فأعتقها وزوّجها زيد بن حارثة، فولدت له أسامة بن زيد؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ورثها من أبيه. والله أعلم. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 86 ذكر وفاة آمنة بنت وهب أم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الواقدىّ وغيره من أهل العلم: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أمه آمنة بنت وهب، فلما بلغت سنّه ستّ سنين خرجت به إلى أخواله بنى عدىّ بن النّجار بالمدينة تزورهم به، ومعه أمّ أيمن تحضنه، وهم على بعيرين، فنزلت به فى دار النابغة «1» ، فأقامت به عندهم شهرا، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر أمورا كانت فى مقامه ذلك لمّا نظر إلى أطم بنى عدىّ بن النجار عرفه وقال: كنت ألاعب أنيسة جارية من الأنصار على هذا الأطم، وكنت مع غلمان من أخوالى؛ ونظر إلى الدار فقال: هاهنا نزلت بى أمّى، وفى هذه الدار قبر أبى عبد الله، وأحسنت العوم فى بئر بنى عدىّ بن النجّار، وكان قوم من اليهود يختلفون ينظرون إليه «2» ، فقالت أمّ أيمن: فسمعت أحدهم يقول: هذا نبىّ هذه الأمّة، وهذه دار هجرته، فوعيت ذلك كلّه من كلامه؛ ثمّ رجعت به إلى مكّة، فلمّا كانوا بالأبواء «3» [توفّيت آمنة بنت وهب فقبرها هناك، فرجعت به أمّ أيمن على البعيرين الّلذين قدموا عليهما إلى مكّة، وكانت تحضنه مع أمّه ثم بعد أن ماتت، فلما مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم «4» ] فى عمرة الحديبية قال: «إن الله أذن لمحمد فى زيارة قبر أمّه» فأتاه صلى الله عليه وسلم فأصلحه وبكى عنده، وبكى المسلمون لبكائه، فقيل له «5» ، فقال: أدركتنى رحمتها فبكيت. والله الرحمن. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 87 ذكر كفالة عبد المطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ولما توفّيت أمّه آمنة قبضه إليه جدّه عبد المطلب وضمّه إليه ورقّ عليه رقّة لم يرقّها على ولده، وكان يقرّبه منه ويدنيه، ويدخل عليه إذا خلا وإذا نام، ويجلس على فراشه؛ وكان يوضع لعبد المطّلب فراش فى ظلّ الكعبة، فكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه، لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالا له، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتى وهو غلام حتى يجلس عليه، فيأخذه أعمامه ليؤخّروه عنه، فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك منهم: دعوا ابنى، فو الله إنّ له لشأنا، ثم يجلسه معه عليه، ويمسح ظهره بيده، ويسرّه ما يراه يصنع. وقال قوم من بنى مدلج «1» لعبد المطلب: احتفظ به، فإنّا لم نر قدما أشبه بالقدم التى فى المقام منه؛ فقال عبد المطلب لأبى طالب: اسمع ما يقول هؤلاء. وسنذكر إن شاء الله خبر سيف بن ذى يزن مع عبد المطلب، وما بشّره من أمر النبى صلى الله عليه وسلم. قالوا: وكان عبد المطلب لا يأكل طعاما إلا قال: علىّ بابنى فيؤتى به إليه فلما بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثمانى سنين، هلك عبد المطّلب بن هاشم؛ ولما حضرته الوفاة أوصى ابنه أبا طالب بحفظه وكفالته؛ [وكانت «2» ] وفاة عبد المطّلب ابن هاشم لثمان مضين من عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجون، وهو يومئذ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 88 ابن اثنتين وثمانين سنة، وقيل ابن مائة وعشر سنين «1» حكاه السّهيلىّ «2» ؛ قال: «وهو أوّل من خضب بالسّواد من العرب» . قال ابن قتيبة «3» : إنّه كبر وعمى، وكان يرفع من مائدته للطير والوحوش فى رءوس الجبال، ويقال له الفيّاض لجوده، ومطعم طير السماء. قال ابن الأثير «4» : «وهو أوّل من تحنّث بحراء، فكان إذا دخل شهر رمضان صعد حراء وأطعم المساكين» . وسئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أتذكر موت عبد المطّلب؟ قال: نعم. أنا يومئذ ابن ثمانى سنين، قالت أمّ أيمن: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يومئذ يبكى خلف سرير عبد المطّلب. قال: ولما هلك عبد المطلب ولى زمزم والسقاية عليها بعده ابنه العبّاس بن عبد المطلب، وهو يومئذ من أحدث إخوته سنّا، فلم تزل إليه حتى قام الإسلام وهى بيده، فأقرّها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ما مضى. وعن عبد الله بن عبّاس وغيره، قالوا: لما توفّى عبد المطلب قبض رسول الله صلى الله عليه وسلّم عمّه أبو طالب، قيل بوصية من عبد المطلب، فأحبّه حبّا شديدا، وكان لا يفارقه، وكان «5» يخصّه بالطعام «6» ، وكان إذا أكل عيال أبى طالب جميعا أو فرادى الجزء: 16 ¦ الصفحة: 89 لم يشبعوا «1» ، وإذا أكل معهم النبىّ صلّى الله عليه وسلّم شبعوا؛ فكان إذا أراد أن «2» يغذّيهم قال: كما أنتم حتّى يحضر ابنى؛ فيأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأكل معهم، فيفضلون من طعامهم، وإن لم يكن معهم لم يشبعوا، فيقول أبو طالب: إنك لمبارك؛ وكان الصّبيان يصبحون رمصا شعثا، ويصبح عليه السلام دهينا كحيلا «3» . ذكر خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشام مع عمّه أبى طالب، وخبر بحيرا الراهب قالوا: لما بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم اثنتى عشرة سنة وعشرة أيّام، خرج أبو طالب فى ركب تاجرا إلى الشأم، فلما تهيّأ للرحيل تعلّق به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فرقّ له أبو طالب وقال: والله لأخرجنّ به «4» ، ولا يفارقنى ولا أفارقه أبدا، فخرج به معه، فلما نزل الرّكب بصرى من أرض الشام، وبها راهب يقال له بحيرا فى صومعة له، وكان إليه علم أهل النصرانية، ولم يزل فى تلك الصّومعة راهب إليه يصير علمهم عن كتاب فيها يتوارثونه كابرا عن كابر، فلما نزلوا ذلك العام ببحيرا وكانوا كثيرا ما يمرون به قبل ذلك، وهو لا يكلمهم، فصنع «5» لهم طعاما كثيرا، وذلك أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو فى صومعته، فى الرّكب حين أقبلوا، وغمامة تظلّه من بين القوم، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 90 فلما نزلوا فى ظل شجرة قريبا منه، نظر إلى الغمامة وقد أظلّت الشجرة، وتهصّرت «1» أغصانها على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استظلّ تحتها «2» ، فلما رأى بحيرا ذلك نزل من صومعته، وقد أمر بذلك الطعام فصنع، ثم أرسل إلى القوم فقال: إنى قد صنعت لكم طعاما يا معشر قريش، فأنا أحبّ «3» أن تحضروا كلّكم؛ صغيركم وكبيركم، وعبدكم وحرّكم؛ فقال له رجل منهم: يا بحيرا إنّ لك لشأنا اليوم: قال له بحيرا: صدقت، قد كان ما تقول فاجتمعوا إليه، وتخلّف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين القوم لحداثة سنّه فى رحال القوم تحت الشجرة، فلما نظر بحيرا فى القوم لم ير الصّفة التى يعرف، فقال: يا معشر قريش لا يتخلّف منكم أحد عن طعامى، قالوا: ما تخلّف عنك أحد ينبغى أن يأتيك إلا غلام، وهو أحدث القوم سنّا تخلف فى رحالهم، قال: لا تفعلوا ادعوه فليحضر، فقال رجل من قريش: واللّات والعزّى إن كان للؤما بنا أن يتخلّف ابن عبد الله بن عبد المطلب عن طعام من بيننا، ثم قام «4» فاحتضنه وأجلسه مع القوم، فلما رآه بحيرا جعل يلحظه لحظا شديدا وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته، حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرّقوا قام إليه بحيرا فقال له: يا غلام، أسألك بحق اللّات والعزّى إلا ما أخبرتنى عما أسألك عنه، فقال: لا تسألنى بهما! فو الله ما أبغضت شيئا قط بغضهما، فقال له: فبالله إلا ما أخبرتنى عما أسألك عنه! فقال: سلنى الجزء: 16 ¦ الصفحة: 91 عمّا بدا لك، فجعل يسأله عن أشياء من حاله فى نومه «1» ، وهيئته، وأموره، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره، فيوافق ذلك ما عند بحيرا من صفته، ثمّ نظر إلى خاتم النبوّة بين كتفيه، وكان مثل أثر المحجم، فلما فرغ أقبل على عمه أبى طالب فقال له: ما هذا الغلام منك؟ قال: ابنى؟ قال له بحيرا: ما هو بابنك «2» ، وما ينبغى لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا؛ قال: فإنه ابن أخى، قال: فما فعل أبوه؟ قال: مات وأمّه حبلى به، قال: صدقت ارجع بابن أخيك إلى بلده فاحذر «3» عليه اليهود، فو الله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت، ليبغنّه شرّا، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم، فأسرع به إلى بلاده، فخرج أبو طالب سريعا حتّى أقدمه مكّة حين فرغ من تجارته بالشام. وروى أنّ زريرا وتمّاما ودريسا، وهم نفر من أهل الكتاب، قد كانوا رأوا من رسول الله صلى الله عليه وسلّم مثل ما رأى بحيرا فى ذلك السّفر الّذى كان فيه مع عمّه أبى طالب، فأرادوه، فردّهم «4» عنه بحيرا، وذكّرهم الله وما يجدون فى الكتاب من ذكره وصفته، وأنهم إن أجمعوا لما أرادوا به لا يخلصوا إليه، فعرّفهم ما قال «5» لهم فتركوه وانصرفوا عنه؛ قال: فشبّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكلؤه الله ويحفظه ويحوطه لما يريد به من كرامته واصطفائه إنّه خير الحافظين. والله المعين. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 92 ذكر رعيته «1» صلّى الله عليه وسلّم الغنم عن عبد الله بن عمير رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما من نبىّ إلا قد رعى الغنم، قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: وأنا. وعن أبى هريرة رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بعث الله نبيّا إلا راعى غنم» ، قال له أصحابه: وأنت يا رسول الله؟ قال: وأنا، رعيتها لأهل مكّة بالقراريط «2» . وعن أبى سلمة بن عبد الرحمن، قال: مرّوا على النّبى صلّى الله عليه وسلّم بثمر الأراك فقال: عليكم بما اسودّ منه، فإنّى كنت أجتنيه إذ أنا راعى الغنم، قالوا: يا رسول الله، رعيتها؟ قال: نعم. وما من نبىّ إلّا قد رعاها. وعن جابر بن عبد الله رضى الله عنه نحوه. قال أبو محمد عبد الملك بن هشام «3» : ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عشرة سنة أو خمس عشرة سنة، وقيل ابن عشرين، هاجت حرب الفجار «4» ، فشهدها صلّى الله عليه وسلّم، وكان ينبّل على أعمامه أى يردّ عليهم النّبل «5» . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 93 وقد تقدّم ذكر حرب الفجار فى وقائع العرب، وذلك فى الباب الخامس من القسم الرابع من الفن الخامس من كتابنا هذا؛ وهو فى السفر الثالث عشر من هذه النسخة والله الموفّق للصّواب وإليه المرجع. ذكر حضور رسول الله صلى الله عليه وسلم حلف الفضول قال محمّد بن عمر بن واقد [بسند] يرفعه إلى حكيم بن حزام: كان حلف الفضول منصرف قريش من حرب الفجار، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ ابن عشرين سنة، وكان الفجار فى شوّال، وهذا الحلف فى ذى القعدة «1» ، وكان أشرف حلف كان قطّ، وأوّل من دعا إليه الزّبير بن عبد المطّلب، فاجتمعت بنو هاشم وزهرة، وبنو أسد بن عبد العزّى وبنو تيم فى دار عبد الله بن جدعان، فصنع لهم طعاما، فتعاقدوا وتعاهدوا بالله ليكوننّ مع المظلوم حتّى يؤدّى إليه حقّه «ما بلّ بحر صوفة» ، فسّمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول. وقال ابن هشام «2» : تعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها، وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلّا قاموا معه؛ وكانوا على من ظلمه حتى تردّ عليه مظلمته. وعن جبير بن مطعم، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما أحبّ أنّ لى بحلف حضرته فى دار ابن جدعان حمر النّعم وأنّى أغدر به «3» ؛ هاشم وزهرة وتيم تحالفوا أن يكونوا مع المظلوم «ما بلّ بحر صوفة» ، ولو دعيت به لأجبت «4» ، وهو حلف الفضول. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 94 قال الواقدىّ: ولا نعلم أحدا سبق بنى هاشم بهذا الحلف. وحكى أبو الفرج الأصفهانىّ «1» فى سبب تسمية هذا الحلف حلف الفضول: أن قوما من قريش قالوا فى هذا الحلف: هذا والله فضل من الحلف، فسمى حلف الفضول؛ قال: وقال آخرون: تحالفوا على مثل حلف تحالف عليه قوم من جرهم «2» فى هذا الأمر لا يقرون «3» ظلما ببطن مكّة إلا غيّروه؛ وأسماؤهم: الفضل بن شراعة، والفضل بن قضاعة، والفضل بن سماعة. وروى أيضا بسنده «4» إلى أبى إسحاق بن الفضل قال: إنّما سمّت قريش هذا الحلف حلف الفضول لأنّ نفرا من جرهم يقال لهم الفضل والفضال والفضيل تحالفوا على مثل ما تحالفت عليه قريش، قال: وقال الواقدىّ «5» : والصحيح أنّ قوما من جرهم يقال لهم فضل وفضالة وفضال ومفضل تحالفوا على مثل هذا «6» فلما تحالفت قريش بهذا الحلف سمّوه بذلك. والله الموفّق للصواب. ذكر خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشام المرة الثانية فى التجارة وحديث نسطور قال: ولمّا بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين سنة قال له عمّه أبو طالب: أنا رجل لا مال لى، وقد اشتدّ الزمان علينا، وهذه عير قومك قد الجزء: 16 ¦ الصفحة: 95 حضر خروجها إلى الشام، وخديجة بنت خويلد تبعث رجالا من قومك فى عيراتها «1» ، فلو جئتها فعرضت نفسك عليها لأسرعت إليك؛ وبلغ خديجة ذلك، فأرسلت إليه تقول: أنا أعطيك ضعف ما أعطى رجلا من قومك، فقال أبو طالب: هذا رزق ساقه الله إليك، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعه ميسرة غلام خديجة، وجعل عمومته يوصون به أهل العير، فساروا حتى قدموا بصرى «2» ، فنزلا فى ظلّ شجرة، فقال نسطورا «3» الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة قطّ إلّا نبىّ. ثم سأل ميسرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أفى عينيه حمرة «4» ؟ قال: نعم لا تفارقه؛ قال: هو نبىّ «5» ، وهو آخر الأنبياء؛ ثم باع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سلعة فوقع بينه وبين رجل تلاخ، فقال له: احلف باللّات والعزّى، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما حلفت بهما قطّ، وإنّى لأمرّ فأعرض عنهما، فقال الرجل القول قولك، ثم قال لميسرة «6» : هذا والله نبىّ تجده أحبارنا منعوتا فى كتبهم؛ وكان ميسرة إذا كانت الهاجرة واشتدّ الحرّيرى ملكين يظلان رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الشمس، فوعى ذلك كلّه، وباعوا تجارتهم، وربحوا ضعف ما كانوا يربحون؛ فلما رجعوا وكانوا بمرّ الظّهران «7» قال ميسرة: يا محمّد! انطلق إلى خديجة فأخبرها الجزء: 16 ¦ الصفحة: 96 بما صنع الله على وجهك «1» ، فإنّها تعرف [لك «2» ] ذلك، فتقدّم رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى دخل مكّة فى ساعة الظّهيرة وخديجة فى علية «3» لها، فرأت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بعيره، وملكان يظلّان عليه، فأرته نساءها، فعجبن لذلك، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها فخبّرها «4» بما ربحوا فى وجههم ذلك، فسّرت به، فلمّا دخل ميسرة عليها أخبرته بما رأت، فقال: قد رأيت هذا مذ خرجنا من الشام، وأخبرها بما قال نسطورا، وبما قال الآخر الذى حالفه «5» فى البيع، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتجارتها، فربحت ضعف ما كانت تربح، وأضعفت له ما سمّت له. والله المعين. ذكر تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد قال الواقدى بسند يرفعه إلى نفيسة بنت منية «6» ؛ قالت: كانت خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزّى بن قصىّ امرأة حازمة جلدة شريفة لبيبة؛ وهى يومئذ أوسط «7» قريش نسبا، وأعظمهم شرفا، وأكثرهم مالا، وكلّ قومها كان حريصا على نكاحها لو قدر على ذلك، قد طلبوها وبذلوا «8» لها الأموال؛ فأرسلتنى «9» دسيسا إلى محمد بعد أن رجع فى عيرها من الشام، فقلت: يا محمد، ما يمنعك أن تتزوّج؟ فقال: ما بيدى ما أتزوّج به، قلت: فإن كفيت ذلك، ودعيت إلى الجمال والمال والشّرف والكفاءة ألا تجيب؟ قال: فمن هى؟ قلت خديجة، قال: وكيف لى بذلك؟ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 97 قلت علىّ «1» ، فأنا أفعل، فذهبت فأخبرتها، فأرسلت إليه: أن ائت لساعة كذا وكذا، وأرسلت إلى عمّها عمرو بن أسد ليزوّجها. وقيل: إنّها أرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول: يا بن العمّ! إنى قد رغبت فيك لقرابتك منّى، وشرفك فى قومك، وسطتك «2» وأمانتك عندهم، وحسن خلقك وصدق حديثك؛ ثم عرضت نفسها عليه، فذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذلك لأعمامه، فخرج معه حمزة ابن عبد المطّلب حتى دخل على خويلد بن أسد، وقيل: بل عمرو بن خويلد بن أسد، وقيل: بل عمرو بن أمية عمّها، وكان شيخا كبيرا وهو الصحيح، فخطبها إليه. قيل: وحضر أبو طالب ورؤساء مضر، فخطب أبو طالب فقال: «الحمد لله الذى جعلنا من ذرّية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وضئضىء «3» معدّ، وعنصر «4» مضر، وجعلنا حضنة بيته، وسوّاس حرمه، وجعل لنا بيتا محجوجا، وحرما آمنا، وجعلنا الحكّام على الناس؛ ثم إن ابن أخى هذا محمد بن عبد الله، لا يوزن به رجل إلا رجح به، فإن كان فى المال قلّ فإن المال ظلّ زائل، وأمر حائل، ومحمد من «5» قد عرفتم قرابته؛ وقد خطب خديجة بنت خويلد، وبذل لها من الصّداق ما آجله وعاجله من مالى كذا، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم، وخطب جليل «6» » . فتزوّجها صلى الله عليه وسلم وهو ابن خمس وعشرين سنة وشهرين وعشرة أيام، وخديجة يومئذ بنت ثمان وعشرين سنة، وقيل: بنت أربعين سنة، وأصدقها صلى الله عليه الجزء: 16 ¦ الصفحة: 98 وسلم ثنتى عشرة أوقية ونشّا ذهبا؛ الأوقية أربعون، والنّشّ عشرون، فذلك خمسمائة درهم. وروى ابن هشام «1» : أنه أصدقها صلى الله عليه وسلم عشرين بكرة. ذكر حضور رسول الله صلى الله عليه وسلم هدم الكعبة وبناءها قالوا: ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وثلاثين سنة شهد هدم الكعبة وبناءها، وتراضت قريش بحكمه فيها؛ وكان سبب هدم الكعبة وبنائها ما روى عن ابن عباس، ومحمد بن جبير بن مطعم، قالا: كانت الجروف «2» مطلّة على مكة، وكان السّيل يدخل من أعلاها حتى يدخل البيت فانصدع، فخافوا أن ينهدم، وسرق منه حليه وغزال من ذهب كان عليه درّ وجوهر. قال محمد بن إسحق «3» : وكان كنز الكعبة فى بئر فى جوفها، فوجد عند دويك مولى لبنى مليح بن عمرو من خزاعة. قال ابن هشام: فقطعت قريش يده، وزعمت قريش أن الذين سرقوه وضعوه عند دويك. وكانت الكعبة فوق القامة، فأرادوا رفعها وتسقيفها، وكانوا يهمّون بذلك ويهابون هدمها، فلما سرق الكنز حملهم ذلك على هدمها وبنائها؛ قال «4» : وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدّة لرجل من تجّار الروم فتحطمت. قال الواقدى: كان رأس أصحاب السفينة رجلا روميا اسمه باقوم «5» ، فخجّتها «6» الريح إلى الجزء: 16 ¦ الصفحة: 99 الشّعيبة «1» ، وكانت مرفأ السفن قبل جدّة فتحطّمت؛ فخرج الوليد بن المغيرة فى نفر من قريش فابتاعوا خشبها، وقدم معهم باقوم الرومىّ. قال ابن اسحق «2» : فأعدّوا الخشب لتسقيفها، وكان بمكة رجل قبطىّ نجار، فتهيأ لهم فى أنفسهم بعض ما يصلحها؛ وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التى كان يطرح فيها ما يهدى لها، فتتشرّق «3» كل يوم على جدار الكعبة، ولا يدنو منها أحد إلا احزألّت «4» أى رفعت رأسها وكشّت «5» وفتحت فاها، فكانوا يهابونها؛ فبينا هى يوما تتشرّق بعث الله طائرا فاختطفها فذهب بها، فقالت قريش: إنا لنرجو أن يكون الله قد رضى ما أردنا؛ عندنا عامل رفيق، وعندنا خشب، وقد كفانا الله عز وجل الحية. فلما أجمعوا أمرهم «6» على هدمها وبنائها، قام أبو وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، وهو خال أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتناول من الكعبة حجرا، فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه، فقال: يا معشر قريش، لا تدخلوا فى بنائها من كسبكم إلا طيّبا، لا يدخل فيها مهر بغىّ، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس. ويقال إن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم هو الذى قال هذا القول. قال الواقدىّ: فأمروا بجمع الحجارة، وببناء الكعبة منها؛ فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل معهم، وكانوا يضعون أزرهم على عواتقهم ويحملون الحجارة، ففعل الجزء: 16 ¦ الصفحة: 100 ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبط به: أى سقط من قيام، ونودى: عورتك! فكان ذلك أوّل ما نودى، فقال له أبو طالب: يا بن أخى اجعل إزارك على رأسك، فقال: ما أصابنى [ما أصابنى «1» ] إلا من التّعرّى؛ فما رؤيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم عورة بعد ذلك. قال ابن إسحاق «2» : ثم إن قريشا جزّأت «3» الكعبة، فكان شق «4» الباب لبنى عبد مناف وزهرة، وكان ما بين الركن الأسود والركن اليمانىّ لبنى مخزوم وقبائل من قريش انضمّوا إليهم، وكان ظهر الكعبة لبنى جمح وسهم، وكان شقّ الحجر لبنى عبد الدّار ابن قصىّ وبنى أسد بن عبد العزّى وبنى عدىّ بن كعب، وهو الحطيم «5» . وقال الواقدىّ: وقع لبنى عبد مناف وزهرة وجه البيت، وهو ما بين الركن الأسود إلى ركن الحجر، ووقع لبنى أسد بن عبد العزّى وبنى عبد الدار ما بين ركن الحجر إلى ركن الحجر الآخر، ووقع لتيم ومخزوم ما بين ركن الحجر إلى الرّكن اليمانىّ، ووقع لسهم وجمح وعدىّ وعامر بن لؤىّ ما بين الركن إلى الركن الأسود. قال ابن إسحاق «6» : ثمّ إن الناس هابوا هدمها، وفرقوا منه، فقال الوليد بن المغيرة: أنا أبدأكم فى هدمها، فأخذ المعول؛ ثم قام عليها وهو يقول: اللهم لم ترع «7» ، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 101 ويقال: لم نزغ «1» ، اللهم إنا لا نريد إلا الخير؛ ثم هدم من ناحية الركنين، فتربّص الناس به تلك «2» الليلة، وقالوا: ننظر، فإن أصيب لم نهدم منها شيئا، ورددناها كما كانت، وإن لم يصبه شىء فقد رضى الله ما صنعنا فنهدم، فأصبح الوليد من ليلته غاديا على عمله، فهدم وهدم الناس معه حتى انتهى الهدم بهم إلى أساس إبراهيم عليه السلام، فأفضوا إلى حجارة خضر كالأسنّة «3» آخذ بعضها بعضا، فأدخل رجل من قريش عتلة بين حجرين منها ليقلع بها أحدهما، فلما تحرك الحجر تنقّضت مكة «4» بأسرها، فانتهوا عن ذلك الأساس. قال: ثم «5» إن القبائل جمعت الحجارة لبنائها، كلّ قبيلة تجمع على حدة، وبنوا حتى بلغ البنيان موضع الركن «6» . والله المستعان. ذكر اختلاف قريش فى رفع الرّكن وتراضيهم بالنبى صلى الله عليه وسلم وخبر النجدىّ قال ابن إسحاق «7» : ولما بلغ البنيان إلى موضع الركن اختصموا فيه، كلّ قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى، حتى تحاوزوا وتخالفوا واعتدّوا للقتال «8» ، فقرّبت بنو عبد الدار جفنة مملؤة دما، ثم تعاقدوا هم وبنو عدىّ بن كعب الجزء: 16 ¦ الصفحة: 102 ابن لؤىّ على الموت، وأدخلوا أيديهم فى ذلك الدم، فسمّوا لعقة الدّم؛ فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسا، ثم اجتمعوا فى المسجد فتشاوروا وتناصفوا، فقال أبو أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وكان إذ ذاك أسنّ قريش كلّها: يا معشر قريش! اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أوّل داخل يدخل «1» ؛ فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوه قالوا: هذا الأمين، هذا محمد، رضينا به؛ فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر، قال صلى الله عليه وسلم: هلّم إلىّ ثوبا فأتى به، وقيل: بل بسط رداءه فى الأرض، وأخذ الركن فوضعه فيه بيده، ثم قال: ليأت «2» من كل ربع من أرباع قريش رجل، فكان من ربع بنى عبد مناف عتبة بن ربيعة، وفى الربع الثانى أبو زمعة، والربع الثالث أبو حذيفة بن المغيرة، والربع الرابع قيس بن عدىّ. هكذا نقل الواقدى، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليأخذ كلّ رجل منكم بزواية من زوايا الثّوب ثم ارفعوه جميعا ففعلوا، ثم وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فى موضعه، فذهب رجل من أهل نجد ليناول النبىّ صلى الله عليه وسلم حجرا يشدّ به الركن، فقال العباس بن عبد المطلب: لا. ونحّاه، وناول [العباس «3» ] رسول الله صلى الله عليه وسلم حجرا، فشدّ به الركن، فغضب النّجدىّ حين نحّى، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: إنه ليس يبنى معنا فى البيت إلا منّا؛ فقال النّجدىّ: يا عجبا لقوم أهل شرف، وعقول، وسنّ، وأموال، عمدوا إلى أصغرهم سنّا، وأقلّهم مالا، فرأسوه عليهم فى مكرمتهم وجودهم كأنهم الجزء: 16 ¦ الصفحة: 103 خدم له، أما والله ليفرقنّهم شيعا، وليقسمنّ بينهم حظوظا وجدودا «1» . ويقال إن النّجدىّ إبليس لعنه «2» الله. فقال أبو طالب: إن لنا أوله وآخره ... فى الحكم والعدل الذى لا ننكره وقد جهدنا جهده لنعمره ... وقد عمرنا خيره وأكثره «3» فإن يكن حقّا ففينا أوفره قال: ثم بنوا حتى انتهوا إلى موضع الخشب، وكان خمسة عشر جائزا «4» سقفوا البيت عليه، وبنوه على ستة أعمدة، وأخرجوا الحجر من البيت، قالت عائشة رضى الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن قومك استقصروا فى «5» بنيان الكعبة، ولولا حداثة عهدهم بالشّرك أعدت فيه ما تركوا منه، فإن بدا لقومك من بعدى أن يبنوه، فهلمّ أريك ما تركوا منه، فأراها قريبا من سبعة «6» أذرع فى الحجر، وقال صلى الله عليه وسلم: ولجعلت لها بابين شرقيّا وغربيا، أتدرين لم كان قومك رفعوا بابها؟ قالت: فقلت: لا أدرى. قال: تعزّزا أن لا يدخلها إلا من أرادوا. قال ابن هشام «7» : وكانت الكعبة على عهد النبىّ صلى الله عليه وسلم ثمانى عشرة ذراعا، وكانت تكسى القباطىّ «8» ثم كسيت البرود «9» ، وأوّل من كساها الديباج الحجّاج ابن يوسف «10» . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 104 وحيث انتهينا إلى هذه الغاية من أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلنذكر من بشّربه. ذكر المبشّرات برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مولده ومبعثه وبعد ذلك جاءت البشائر برسول الله صلى الله عليه وسلم فى كتب الله تعالى المنزلة على أنبيائه صلوات الله عليهم، وفيما «1» نقل إلينا من كلامهم، ووجد بخطّهم، وبشّر به أحبار يهود، وعلماء النّصارى، عما انتهى إليهم من العلوم التى تلقّوها عن الأنبياء صلوات الله عليهم، ونقلوها من صحفهم، ومخّبئات كتبهم، وذخائر أسرارهم، حتى اعترف قوم بنبوّته صلى الله عليه وسلم قبل مولده وظهوره بما شاء الله من السنين، وأوصوا به من بعدهم؛ (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ) ؛ وبشّر به أيضا قبل مبعثه كهّان العرب، عما كان يأتيهم من أخبار السّماء على لسان شياطينهم الذين كانوا يسترقون السّمع ومنعوا بالشّهب، كما أخبرنا الله تعالى فى قوله: (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) ، ونطق الجانّ من أجواف الأصنام بالبشارة به، فكان ذلك سببا لإسلام من سمع أصواتها ممن سبقت له من الله الحسنى، وهداه وأرشده إلى اتّباع الحق، والإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به من عند الله، على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى فى مواضعه. فأما ما جاءت به الكتب المنزلة من الله تعالى مما يدل على نبوّة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد جاء ذلك فى القرآن العزيز، وفى التوراة، والإنجيل، وزبور داود، وكتب الأنبياء: شعيا، وشمعون، وحزقيل عليهم السلام. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 105 فأما ما جاء فى القرآن العزيز فقد قال الله عز وجل: (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) ، وقال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ، قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) . قال أهل التفسير: أخذ الله الميثاق بالوحى، فلم يبعث نبيا إلا ذكر له محمدا ونعته، وأخذ عليه «1» ميثاقه: إن أدركه ليؤمننّ به؛ وقيل: أن يبيّنه لقومه، ويأخذ ميثاقهم أن يبيّنوه لمن بعدهم؛ وقوله تعالى: (ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ) الخطاب لأهل الكتاب المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم. وعن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه «2» ، أنه قال: لم يبعث الله نبيا من آدم فمن بعده، إلا أخذ عليهم العهود فى محمد صلى الله عليه وسلم: لئن بعث وهو حىّ ليؤمنن به ولينصرنّه ويأخذ العهد بذلك على قومه. ونحوه عن السّدّى وقتادة. وقال تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) . روى عن قتادة: أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: كنت أول الأنبياء فى الخلق، وآخرهم فى البعث. قال القاضى عياض: فلذلك وقع ذكره مقدّما هنا قبل نوح وغيره، صلى الله عليهم أجمعين. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا دعوة أبى إبراهيم، وبشّر بى عيسى» الحديث. يشير بدعوة إبراهيم عليه السلام إلى قوله تعالى إخبارا عنه: (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 106 وأما ما جاء فى كتب الله السالفة ، فقد علمنا قطعا أن أهل الكتاب بدّلوا فى كتب الله تعالى المنزلة على أنبيائهم، وحرّفوا كلمها عن مواضعه، وحذّفوا منها أشياء فيها صريح ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بغيا منهم وحسدا وجحودا ونكالا وافتراء على الله تعالى. هذا لا مرية عندنا فيه ولا خلاف، وقد اتّفقوا على أشياء فى كتبهم وترجموا عنها بالعربية، تدل على نبوّة سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، نحن نذكرها إن شاء الله، وكتموا فيها ما أخبر به من أسلم من أحبار يهود وغيرهم، وعرض ذلك على من استمرّ على كفره، فلم يسعه إنكاره بل أقرّبه، على ما نذكر إن شاء الله تعالى فى مواضعه. فأما ما اتفقوا عليه مما جاء فى التوراة وترجموه بالعربية ورضوا ترجمته فمن ذلك قوله: «جاء الله من طور سيناء، وأشرق لنا من ساعير، واستعلن من جبال فاران» . وفى ترجمة «1» أخرى كذلك: «تجلى الله من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران» . قال العلماء: وفى هذا تصريح بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، لأن الطّور «2» هو الجبل الذى اصطفى الله تعالى موسى عليه بتكليمه، وساعير: جبل بالشام منه ظهرت نبوّة عيسى بن مريم، وبالقرب منه قرية الناصرة التى ولد فيها، وفاران: هى مكة شرفها الله تعالى. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 107 قال الشيخ حجة الدين أبو هاشم «1» محمد بن ظفر فى كتابه المترجم بخير البشر «2» : لا يخالف فى هذا أحد من أهل الكتاب. قال: «وأما قوله: جاء الله من طور سيناء فإن مجىء «3» الله هو مجىء كتابه وأمره كما قال الله تعالى: (فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) ؛ أى أتاهم أمره. وقوله: «وأشرق لنا من ساعير» كناية عن ظهور أمره «4» وكلامه، قال: وكذلك قوله: «واستعلن من جبال فاران» ، أى ظهر أمره، وكتابه، وتوحيده، وحمده، وما شرعه رسوله من ذكره بالأذان والتلبية «5» وغير ذلك؛ قال ابن ظفر «6» : «وقرأت فى ترجمة للتوراة خطابا لموسى عليه السلام، والمراد به الذين اختارهم لميقات ربه فأخذتهم الرّجفة خصوصا، ثم سائر بنى إسرائيل عموما: والله ربك يقيم نبيا من إخوتك، فاستمع له كالذى سمعت ربّك فى حوربت يوم الاجتماع حين قلت: لا أعود أسمع صوت الله «7» ربى لئلا أموت، فقال الله لى «8» : نعم ما قالوا، وسأقيم لهم نبيا مثلك من إخوتهم، وأجعل كلامى فى فمه، فيقول لهم: كلّ شىء آمره به، وأيّما رجل لم يطع من تكلم باسمى فإنى أنتقم منه. وفى هذا «9» أدلّة على نبوّة نبينا صلى الله عليه وسلم، منها قوله: «من إخوتهم» ، وموسى وقومه من بنى إسحاق، وإخوتهم بنو إسماعيل، ولو كان الموعود «10» من الجزء: 16 ¦ الصفحة: 108 بنى إسحاق، لكان من أنفسهم، لا من إخوتهم، كما قال تعالى إخبارا عن إبراهيم فى دعوته: (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ) ، وكما قال تعالى: (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) ؛ ومنها قوله: «نبيا مثلك» ، وقد قال فى التوراة: «لا يقوم فى بنى إسرائيل أحد مثل موسى» ، وفى ترجمة أخرى: «مثل موسى لا يقوم فى بنى إسرائيل أبدا» ؛ ومنها قوله: «أجعل كلامى فى فمه» ، فهو واضح أن المقصود به محمد صلى الله عليه وسلم، لأن معناه: أوحى إليه بكلامى فينطق به؛ وقوله: «أيّما رجل لم يطع من تكلّم باسمى فإنى أنتقم منه» دليل على كذب اليهود فى قولهم: إن الله أمرنا بمعصية كلّ نبى دعا إلى دين سمّى نسخا لبعض ما شرعه موسى صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلم. وأما ما اتفقوا عليه، ورضوا ترجمته مما فى الإنجيل فمن ذلك ما ترجموه فى الإنجيل: أن عيسى عليه السلام قال: «إن أحببتمونى فاحفظوا وصيتى، وأنا أطلب إلى أبى فيعطيكم بارقليط آخر يكون معكم الدهر كلّه، فهذا تصريح بأن الله سيبعث إليهم من يقوم مقامه، وينوب عنه فى تبليغ رسالات ربه، وسياسة خلقه منابه، وتكون شريعته باقية مخلّدة أبدا» ، ولم يأت بذلك بعد عيسى إلا محمد صلى الله عليه وسلم. ومنه ما ترجموه: «إن هذا الكلام الذى سمعتموه ليس هو لى، بل للأب الذى أرسلنى، كلّمكم بهذا وأنا معكم، فأما البارقليط: روح القدس الذى يرسل أبى باسمى، فهو يعلّمكم كلّ شىء، ويذكّركم جميع ما أقول لكم» . قال ابن ظفر: قولهم: «أبى» : فهذه اللفظة عندنا مبدلة محرّفة، وليست منكرة الاستعمال عند أهل الكتابين إشارة إلى الرب سبحانه، لأنها عندهم لفظة الجزء: 16 ¦ الصفحة: 109 تعظيم يخاطب بها المتعلّم معلّمه الذى يستمدّ العلم منه؛ قال: ومن المشهور مخاطبة النصارى عظماء دينهم بالآباء الروحانية؛ قال: وأما قوله: «يرسله أبى باسمى» فهو إشارة إلى شهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم له بالصّدق والرسالة، وما تضمّنه القرآن من مدحه وتنزيهه عما افتراه اليهود فى أمره. ومما ترجموه ورضوا ترجمته قولهم: إنه قال: «إذ قال البارقليط الذى أرسل إليكم من عند أبى، روح الحق الذى يخرج من الأب، فهو يشهد لى، وأنتم تشهدون لى أيضا لكينونتكم معى من أوّل أمرى» . قال: قوله «روح الحق الذى يخرج من الأب» كناية عن كلام الله المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) . وقوله: «يشهد لى» تصريح بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، إذ لم يشهد للمسيح عليه السلام بالنبوّة، والنزاهة عما افترى عليه، وبأنه روح الله وكلمته وصفيّه ورسوله، كتاب سوى القرآن، ولم تزل الأمم تكذّب المتّبعين للمسيح، واليهود يفترون العظائم من البهتان، حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم فشهد للمسيح بما شهد به حواريّوه الذين كانوا معه من أوّل أمره، والمهتدون من أمته. قال: ومما رضوه من الترجمة أيضا عن الإنجيل قوله فيه: «إن انطلاقى خير لكم، لأنى إن لم أنطلق لم يأتكم البارفليط؛ فإذا انطلقت أرسلت به إليكم، فإذا جاء فنّد أهل العلم» . قال: فهذا ظاهر، وقوله: «أرسلت به إليكم» إن كان سالما من التحريف، فمعناه مثل معنى قوله: «إن لم أنطلق لم يأتكم» ، وقوله: «فنّد» وصف صريح للنبىّ صلى الله عليه وسلم، فهو الذى فنّد علماء اليهود والنّصارى فيما أطبقوا عليه من أن المسيح قتل وصلب بعد أن عذّب، وما انفرد الجزء: 16 ¦ الصفحة: 110 به علماء اليهود من بهتانهم فى الطّعن على المسيح، وما انفرد به علماء النّصارى من الدعوة إلى ألوهية المسيح، فرسول الله صلى الله عليه وسلّم فنّد جميعهم. والتّفنيد: التخطئة وتقبيح القول والرأى. قال ابن ظفر: وقرأت فى ترجمة أخرى للإنجيل: أنه قال: «البارقليط لا يجيئكم ما لم أذهب، فإذا جاء وبّخ العالم على الخطيئة، ولا يقول من تلقاء نفسه، ولكنه ما يسمع يكلّمهم به، ويسوسهم بالحق، ويخبرهم بالحوادث والغيوب» . ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذى وبخ العلماء من أهل الكتاب على كتمان الحق، وتحريف الكلم عن مواضعه، وبيع الدّين بالثّمن البخس من عرض «1» الدنيا، وهو الذى أخبر بالحوادث والغيوب. وقال ابن ظفر: والذى صح عندى فى معنى البارقليط: أنه الحكيم الذى يعرف السّر؛ وقد تقدّم ما يدلّ على أنه الرسول. وأما ما جاء فى زبور داود عليه السلام ممّا ترجمه أهل الكتاب، فمن ذلك قوله: «اللهم اجعل جاعل السّنة يحيا، يعلّم الناس أنه بشر» ؛ ويفهم من هذا: أن داود عليه السلام أطلعه الله تعالى على ما سيقوله النصارى فى المسيح إذا أرسله، من أنه إله معبود، فدعا الله سبحانه بأن يبعث محمدا صلى الله عليه وسلم فيعلّمهم أن المسيح بشر. وفيه أيضا مما ترجموه: «أنه فاضت الرحمة على شفتيك، من أجل ذلك أبارك عليك، إلى الأبد، فتقلّد السّيف، فإن بهاءك وحمدك الغالب، واركب كلمة الحق، فإن ناموسك وشرائعك مقرونة بهيبة يمينك؛ والأمم يخرون تحتك» ؛ قال: فالذى قرنت شريعته بهيبة يمينه، وخرّت الأمم تحته، هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 111 ومنها، وذكر رجلا فقال: «فإذا قام جاز «1» من البحر إلى البحر، ومن عند الأنهار إلى منقطع البرّ، وخرّ أهل الجزائر قدّامه على وجوههم وركبهم، ولحس أعداؤه التراب لهيبته، وجاءته الملوك بالقرابين، ودانت له الأمم بالطاعة؛ لأنه يخلّص الضعيف المغلوب البائس ممن هو أقوى منه، ويقوّى الضعيف الذى لا ناصر له، ويرحم المساكين، ويصلّى ويبارك عليه فى كلّ وقت، ويدوم ذكره إلى الأبد» . فهذا فى غاية الظّهور أن المراد به رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما ما ترجموه من كتاب شعيا «2» عليه السلام ورضوا ترجمته فقوله «3» : «عبدى الذى سرّت به نفسى أنزل عليه وحيى، فيظهر فى الأمم عدلى، ويوصيهم بالوصايا، لا يضحك، ولا يسمع صوته فى الأسواق «4» ؛ يفتح العيون العور، والآذان الصّمّ، ويحيى القلوب الغلف؛ وما أعطيه لا أعطى «5» أحدا، مشقّح «6» يحمد الله حمدا جديدا، يأتى من أقصى الأرض، تفرح البرية وسكانها يهلّلون الله على كلّ شرف، ويكررونه على كل رابية، ولا يضعف ولا يغلب، ولا يميل إلى الهوى ولا يذلّ الصالحين الذين هم كالقصبة الضعيفة، بل يقوّى الصدّيقين، وهو ركن المتواضعين، وهو نور الله الذى لا يطفأ، أثر سلطانه على كتفيه» . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 112 قال ابن ظفر «1» : هذه ترجمة السريانيين، وعبّر العبرانيون عنه بأن قالوا: «على كتفيه علامة النبوّة» ؛ فهذا كلّه صريح فى البشارة به صلى الله عليه وسلم، مع ما فيه من ذكر قيام دولة العرب بقوله: «تفرح البريّة وسكّانها» ؛ وأما قوله: [مشقّح «2» ] فهو محمد، لأن الشّقح بلغتهم الحمد. ومما ترجموه منه أن شعياء عليه السلام قال «3» : «قم نظّارا فانظر ما ترى، فأخبر به، فقلت: أرى راكبين مقبلين، أحدهما على حمار، والآخر على جمل؛ يقول أحدهما لصاحبه: سقطت بابل وأصنامها» فهذه بشارة صريحة بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه راكب الجمل لا محالة، ولأن ملك بابل إنما ذهب بنبوّته صلى الله عليه وسلم وعلى يد أصحابه، على ما نذكره إن شاء الله تعالى. قال «4» : وقد كان على باب من أبواب الإسكندرية صورة جمل من نحاس، عليه راكب من نحاس. فى هيئة العرب مؤتزر مرتد، عليه عمامة، وفى رجليه نعلان، كلّ ذلك من نحاس؛ وكانوا إذا تظالموا يقول المظلوم للظالم: أعطنى حقّى قبل أن يخرج هذا فيأخذ لى بحقّى منك، شئت أو أبيت، ولم يزل الصّنم على ذلك حتى افتتح عمرو بن العاص أرض مصر، فغيّبوا الصنم. ومنه: «أيّتها العاقر! افرحى واهتزّى وانطلقى بالتسبيح، فإن أهلك يكونون أكثر من أهلى» . قال: فالعاقر مكة، لأنهابواد غير ذى زرع، أو لأن الله لم يبعث الجزء: 16 ¦ الصفحة: 113 بها نبيا فى ذلك الزمن دون غيرها، فهى عاقر، وقوله: «انطلقى بالتسبيح» إشارة إلى عمارتها بأهل ذكر الله، وقوله: «يكون أهلك أكثر من أهلى» ، قال: إن سلم من التحريف وسوء العبارة «فمن» زائدة، والمعنى أن المسلمين يكونون أكثر أهل طاعة الله وتوحيده «1» ، وقد أخبر النبىّ صلى الله عليه وسلم أن أمّته أكثر أهل الجنة. والآل والأهل يكنّى بهما عن [الجماعة] الخاصّة «2» ، قال عبد المطلب بن هاشم: نحن آل الله فى بلدتنا ... لم نزل آلا «3» على عهد إرم ولمّا روجع أبو بكر الصديق رضى الله عنه فى استخلافه عمر بن الخطّاب وقيل له: ماذا تقول لربك وقد استخلفت علينا فظّا غليظا؟ فقال: أقول تركت على أهلك خير أهلك. والله الفعّال. ومن كتاب شمعون عليه السلام ممّا ترجموه ورضوا ترجمته قوله: «جاء الله بالبيّنات «4» من جبال فاران، وامتلأت السموات والأرض من تسبيحه وتسبيح أمته» ، وقد تقدّم أن جبال فاران هى جبال مكّة شرّفها الله، ومجىء الله هو مجىء كتابه. ومن كتاب حزقيل عليه السلام مما ترجموه من قصة ذكر فيها ظهور اليهود وعزّتهم، وكفرانهم للنعم، فشبّههم فيها بالكرمة حيث «5» قال: «لم تلبث تلك الكرمة أن قلعت «6» بالسخطة، ورمى بها على الأرض، فأحرقت السمائم أثرها، فعند ذلك غرس غرس فى البدو، وفى الأرض المهملة العطشى، فخرجت من أغصانه الفاضلة نار فأكلت تلك الكرمة حتى لم يوجد فيها قضيب» . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 114 قال: فلا شك أن أرض البدو المهملة العطشى هى أرض العرب، وغرس الله الذى غرسه فيها هو محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أخزى الله به اليهود والله أعلم. وممّا نقل من كلام خيقوق، وهو الذى زعمت اليهود أنه ادّعى النبوّة فى عهد بختنصّر، وحكوا عنه أنه قال: «إذا جاءت الأمّة الآخرة يسبّح بهم صاحب الجمل- أو قال: راكب الجمل- تسبيحا جديدا فى الكنائس الجدد، فافرحوا، وسيروا إلى صهيون بقلوب آمنة، وأصوات عالية، بالتسبيحة الجديدة التى أعطاكم الله فى الأيام الآخرة، أمّة جديدة بأيديهم سيوف ذوات شفرتين، فينتقمون من الأمم الكافرة فى جميع الأقطار» . ولا شكّ أن راكب الجمل أو صاحب الجمل من الأنبياء هو محمد صلى الله عليه وسلم، والأمّة الجديدة هى العرب، والكنائس الجدد هى المساجد، وصهيون: مكة، والتسبيحة الجديدة: «لبّيك اللهم لبّيك» . ونقل أيضا عن خيقوق هذا أنه قال: «جاء الله من اليمن، وظهر القدس على جبال فاران، وامتلأت الأرض من تحميد أحمد، وملك بيمينه رقاب الأمم، وأضاءت الأرض لنوره، وحملت خيله فى البحر» . والله أعلم. ومما وجد بخط موسى بن عمران عليه السلام ما روى معمر عن الزّهرى أنه قال: أشخصنى هشام بن عبد الملك إلى الشام، فلما كنت بالبلقاء وجدت حجرا مكتوبا عليه بالخط العبرانىّ، فطلبت من يقرؤه، فأرشدت إلى شيخ، فانطلقت به إلى الحجر، فقرأه وضحك، فقلت: ممّ تضحك؟ قال: أمر عجيب، مكتوب على هذا الحجر: باسمك اللهم جاء الحقّ من ربك، لسان عربىّ مبين؛ لا إله إلا الله محمد رسول الله. وكتبه موسى بن عمران بخطّ يده. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 115 وإنما ألحقنا هذا الخبر بما قبله لأن موسى صلى الله عليه وسلم إنما يكتب بخطه ما تلقّاه عن الله تعالى، أو عن كتبه المنزلة؛ وهذا الذى أوردناه مما جاء فى كتب الله السالفة هو الذى أبداه أهل الكتاب وأثبتوه، وترجموه ورضوا ترجمته فى تحريفهم وتبديلهم. وأما ما كتمه أهل الكتاب ممّا فيه صريح ذكر النبى صلى الله عليه وسلم ودلّنا عليه وأخبرنا به من أسلم «1» منهم ممّن جاز لنا أن نروى عنه ونقبل روايته؛ مثل وهب، وكعب الأحبار، وأبى ثعلبة بن أبى مالك. فأما «2» ما جاء عن وهب بن منبّه. فإنه روى عنه أنه قال: قرأت فى بعض كتب الله المنزلة على نبىّ من بنى إسرائيل: «أن قم فى قومك، فقل يا سماء اسمعى، ويا أرض أنصتى؛ لأن الله يريد أن يقصّ شأن بنى إسرائيل: أنى ربّيتهم بنعمتى، وآثرتهم بكرامتى، واخترتهم لنفسى، وأنى وجدت بنى إسرائيل كالغنم الشاردة التى لا راعى لها، فرددت شاردها، وجمعت ضالّتها، وداويت مريضها، وجبرت كسيرها، وحفظت سمينها؛ فلما فعلت بها ذلك بطرت، فتناطحت كباشها، فقتل بعضها بعضا. فويل لهذه الأمّة الخاطئة، ويل لهؤلاء القوم الظالمين؛ إنى قضيت يوم خلقت السموات والأرض قضاء حتما، وجعلت له أجلا مؤجّلا لا بدّ منه، فإن كانوا يعلمون الغيب فليخبروك متى حتمته، وفى أى زمان يكون ذلك، فإنى مظهره على الدين كله، فليخبروك متى يكون هذا، ومن القيّم به، ومن أعوانه وأنصاره، إن كانوا يعلمون الغيب فإنى باعث بذلك رسولا من الأمّييّن ليس بفظّ ولا غليظ، ولا صحّاب فى الأسواق، ولا قوّال بالهجر والخنى، أسدّده الجزء: 16 ¦ الصفحة: 116 بكل جميل، وأهب له كلّ خلق كريم، وأجعل السكينة على لسانه، والتقوى ضميره، والحكمة منطقه، والصدق والوفاء طبيعته، والعفو والمعروف خلقه والحقّ شريعته، والعدل سيرته، والإسلام ملّته، أرفع به من الوضيعة، وأغنى به من العيلة، وأهدى به من الضلالة، وأؤلّف به بين قلوب متفرّقة، وأهواء مختلفة، وأجعل أمّته خير الأمم إيمانا بى وتوحيدا «1» لى، وإخلاصا بما جاء به رسولى، ألهمهم التسبيح والتحميد والتمجيد لى فى صلواتهم «2» ومساجدهم ومنقلبهم ومثواهم، يخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاء مرضاتى يقاتلون فى سبيلى صفوفا، ويصلّون «3» لى قياما وركوعا وسجودا، يكبّروننى على كلّ شرف، رهبان بالليل، أسد بالنهار؛ ذلك فضلى أوتيه من أشاء، وأنا ذو الفضل العظيم» . ومنه ما روى عنه أنه قال: قرأت فى بعض الكتب القديمة: «قال الله تبارك وتعالى: وعزّتى وجلالى لأنزلنّ على جبال العرب نورا يملأ ما بين المشرق والمغرب، ولأخرجن من ولد إسماعيل نبيا عربيا أمّيا يؤمن به عدد نجوم السماء ونبات الأرض، كلهم يؤمن بى ربّا، وبه رسولا، ويكفرون بملل آبائهم، ويفرّون منها. قال موسى: سبحانك وتقدّست أسماؤك! لقد كرّمت هذا النبى وشرّفته، قال الله عز وجل: يا موسى إنى أنتقم من عدوّه فى الدنيا والآخرة، وأظهر دعوته على كل دعوة، وسلطانه ومن معه «4» على البر والبحر، وأخرج لهم من كنوز الأرض، وأذلّ من خالف شريعته؛ يا موسى: بالعدل ربّيته «5» ، وبالقسط أخرجته؛ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 117 وعزّتى لأستنقذنّ به أمما من النار، فتحت الدنيا بإبراهيم، وختمتها بمحمد، مثل كتابه الذى يجىء به، فاعقلوه يا بنى إسرائيل مثل السّقاء المملوء لبنا يمخض فيخرج زبدا، بكتابه أختم الكتب، وبشريعته أختم الشرائع، فمن أدركه ولم يؤمن به ولم يدخل فى شريعته فهو من الله برىء، أجعل أمّته يبنون فى مشارق الأرض ومغاربها مساجد، إذا ذكر اسمى فيها ذكر اسم ذلك النبىّ معى، لا يزول ذكره من الدنيا حتى تزول. وأما ما جاء عن كعب الأحبار رحمه الله، فمن ذلك ما روى أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: يا كعب، أدركت النبىّ صلى الله عليه وسلم، وقد علمت أن موسى بن عمران تمنّى أن يكون فى أيامه فلم تسلم على يده، ثم أدركت أبا بكر وهو خير منّى فلم تسلم على يده، ثم أسلمت فى أيّامى، فقال: يا أمير المؤمنين، لا تعجل علىّ، فإنى كنت أتثبّت حتى أنظر كيف الأمر؟ فوجدته كالذى هو فى التوراة. قال عمر: كيف هو فيها؟ قال: رأيت فى التوراة أن سيد الخلق، والصفوة من ولد آدم، يظهر من جبال فاران من منابت القرظ من الوادى المقدّس، فيظهر التوحيد والحق، ثم ينتقل إلى طيبة، فتكون حروبه وأيامه بها، ثم يقبض فيها، ويدفن بها. قال عمر: ثم ماذا يا كعب؟ قال كعب: ثم يلى بعده الشيخ الصالح. قال عمر: ثم ماذا؟ قال كعب: ثم يموت متّبعا. قال عمر: ثم ماذا؟ قال كعب: ثم يلى بعده القرن الحديد- وفى لفظ: مدرع من حديد- قال عمر: وادفراه «1» ! ثم ماذا؟ قال كعب: ثم يقتل شهيدا؛ قال عمر: ثم ماذا؟ قال كعب: ثم يلى صاحب الجزء: 16 ¦ الصفحة: 118 الحباء والكرم، قال عمر: ثم ماذا؟ قال كعب: ثم يقتل مظلوما، قال عمر: ثم ماذا؟ قال كعب: ثم يلى صاحب المحجّة البيضاء، والعدل والسواء، صاحب الشّرف التامّ، والعلم الجام «1» ، قال عمر: ثم ماذا؟ قال كعب: ثم يموت شهيدا سعيدا، قال عمر: ثم ماذا؟ قال كعب: ثم ينتقل الأمر إلى الشام؛ قال عمر: حسبك يا كعب. ومما جاء عنه ما روى عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما: أن رجلا جاء إلى كعب الأحبار من بلاد اليمن فقال له: إن فلانا الحبر اليهودىّ أرسلنى إليك برسالة، قال كعب: هاتها! فقال: إنه يقول لك: ألم تكن فينا سيّدا شريفا مطاعا؟ فما الذى أخرجك من دينك إلى أمّة «2» محمد؟ فقال له كعب: أتراك راجعا؟ قال: نعم، قال: فإن رجعت إليه فخذ بطرف ثوبه لئلا يفرّ منك وقل له: يقول لك كعب: أسألك بالذى ردّ موسى إلى أمّه، وأسألك بالذى فلق «3» البحر لموسى، وأسألك بالذى ألقى الألواح إلى موسى بن عمران فيها علم كلّ شىء، ألست تجد فى كتاب الله أن أمّة محمد ثلاثة أثلاث، فثلث يدخلون الجنّة بغير حساب، وثلث يدخلون الجنة برحمة الله، وثلث يحاسبون حسابا يسيرا ثم يدخلون الجنة؛ فإنه سيقول لك: نعم. فقل له: يقول لك كعب: اجعلنى فى أىّ هذه الثلاثة شئت. ومنه ما رواه عطاء بن يسار وأبو صالح عنه «4» أنه قال: أجد فى التوراة: أحمد عبدى المختار، لا فظّ، ولا غليظ، ولا صحّاب فى الأسواق، ولا مجز الجزء: 16 ¦ الصفحة: 119 بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح ويغفر، أمّته الحمّادون؛ يحمدون الله على كلّ حال، ويسبّحونه فى كلّ منزلة، ويكبّرونه على كل شرف، يأتزرون على أوساطهم، ويصونون أطرافهم «1» ، وهم رعاة الشمس، ومؤذّنهم ينادى فى جوّ السماء، وصفّهم فى الصلاة سواء؛ رهبان بالليل، أسد بالنهار، لهم بالليل دوىّ كدوىّ النحل، يصلّون الصلاة حيثما أدركتهم من الأرض؛ مولده مكّة، مهاجره طابة، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الأمّة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله، فيفتح الله به أعينا عميا، وآذانا صمّا، وقلوبا غلفا. ومنه ما روى أن معاوية بن أبى سفيان قال لكعب: دلّنى على أعلم الناس بما أنزل الله على موسى لأسمع كلامك معه، فذكر له رجلا من اليهود باليمن، فأشخصه إليه، فجمع معاوية بينهما، فقال له كعب: أسألك بالذى فرق البحر لموسى أتجد فى كتاب الله المنزل أن موسى نظر فى التوراة فقال: يا رب إنى أجد أمة مرحومة، وهى خير أمّة أخرجت للنّاس، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر ويؤمنون بالكتاب الأوّل «2» ، ويؤمنون بالكتاب الآخر «3» ، ويقاتلون أهل الضلالة، حتى يقاتلوا الأعور الكذّاب، فاجعلهم يا ربّ أمّتى، قال: هم أمّة أحمد؟ قال الحبر: نعم أجد ذلك، ثم قال: كعب للحبر: أنشدك الله الذى فرق البحر لموسى، أتجد فى كتاب الله المنزل أن موسى نظر فى التوراة فقال: رب إنى أجد أمة إذا أشرف أحدهم على شرف كبّر، وإذا هبط واديا حمد الله، الصعيد الجزء: 16 ¦ الصفحة: 120 لهم طهور، يتطهّرون به من الجنابة كطهورهم بالماء حيث لا يجدون الماء، حيث كانوا فلهم مسجد، غرّ محجّلون من الوضوء، فاجعلهم أمتى. قال: هم أمة أحمد؟ فقال الحبر: نعم أجد ذلك؛ قال: أنشدك الله الذى فرق البحر لموسى، أتجد فى كتاب الله المنزل أن موسى نظر فى التوراة فقال: رب إنى أجد أمّة إذا همّ أحدهم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة مثلها، وإذا عملها أضعفت له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وإذا همّ بسيئة ولم يعملها لم تكتب عليه، فإذا عملها كتبت عليه سيئة مثلها، فاجعلهم أمّتى، قال: هم أمّة أحمد؟ قال الحبر: نعم، أجد ذلك؛ قال كعب: أنشدك الله الذى فرق البحر لموسى، أتجد فى كتاب الله المنزل أن موسى نظر فى التوراة فقال: يا رب إنى أجد أمّة يأكلون كفّاراتهم وصدقاتهم، إنهم يطعمونها مساكينهم ولا يحرقونها كما كان غيرهم من الأمم يفعل؟. وجاء فى حديث آخر غير هذا ممّا هو منسوب إلى كتب الله السالفة: «يأكلون قرابينهم «1» فى بطونهم» . والمراد الضحايا. ومنه ما روى عنه أنه قال: كان لأبى سفر من التوراة يجعله فى تابوت ويختم عليه، فلما مات أبى فتحته، فإذا فيه: إن نبيا يخرج فى آخر الزمان هو خير الأنبياء «2» ، وأمّته خير الأمم، وهم يشهدون أن لا إله إلا الله، يكبّرون الله على كل شرف، ويصفّون فى الصلاة كصفوفهم فى القتال، قلوبهم مصاحفهم، يأتون يوم القيامة غرّا محجّلين، اسمه أحمد، وأمته الحمّادون، يحمدون الله على كل شدّة، رخاء، مولده مكة، ودار هجرته طابة، لا يلقون عدوّا إلا وبين أيديهم الجزء: 16 ¦ الصفحة: 121 ملائكة معهم رماح، تحنّن الله عليهم كتحنّن «1» الطير على فراخها، يدخلون الجنّة؛ يأتى ثلث منهم يدخلون «2» الجنة بغير حساب، ثم يأتى ثلث منهم بذنوب وخطايا، فيغفر لهم، ويأتى ثلث «3» بذنوب وخطايا عظام، فيقول الله: اذهبوا بهم فزنوهم وانظروا إلى أعمالهم، فيزنونهم «4» ويقولون: ربنا! وجدناهم قد أسرفوا على أنفسهم، ووجدنا أعمالهم من الذنوب أمثال الجبال، غير أنهم كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله، فيقول الله: وعزّتى لا أجعل من أخلص لى الشهادة كمن كفر بى؛ قال كعب: فأنا أرجو أن أكون من هذه الثلاثة إن شاء الله تعالى. ومنه ما روى أن رجلين جلسا يتحدّثان وكعب الأحبار قريب منهما، فقال أحدهما: رأيت فيما يرى النائم كأن الناس حشروا، فرأيت النبيّين كلّهم لهم نوران نوران، ورأيت لأشياعهم «5» نورا نورا، ورأيت محمدا صلى الله عليه وسلم وما من شعرة فى رأسه ولا جسده إلا وفيها نور، ورأيت أتباعه ولهم نوران نوران، فقال له كعب: اتق الله تعالى يا عبد الله! وانظر ما تتحدّث «6» به، فقال الرجل: إنما هى رؤيا منام أخبرت بها على ما أريتها، فقال كعب: والذى بعث محمدا بالحق صلى الله عليه وسلم، وأنزل التوراة على موسى بن عمران، إنّ هذا لفى كتاب الله المنزل على موسى بن عمران كما ذكرت. وأما ما جاء «7» عن أبى ثعلبة وهو أبو مالك، وكان من أحبار يهود، فقد روى الواقدىّ أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال له: يا أبا مالك! أخبرنى الجزء: 16 ¦ الصفحة: 122 بصفة النبىّ صلّى الله عليه وسلم فى التّوراة فقال: إن صفته فى توراة بنى إسرائيل «1» التى لم تبدّل ولم تغيّر أحمد، من ولد إسماعيل بن إبراهيم، وهو آخر الأنبياء؛ وهو النبىّ العربىّ، يأتى بدين إبراهيم الحنيف، يأتزر على وسطه، ويغسل أطرافه، فى عينيه حمرة، وبين كتفيه خاتم النبوّة، ليس بالقصير ولا بالطويل، يلبس الشّملة، ويجتزئ بالبلغة ويركب الحمار «2» ، ويمشى فى الأسواق، سيفه على عاتقه، لا يبالى من لقى من الناس، معه صلاة لو كانت فى قوم نوح ما أهلكوا بالطّوفان، ولو كانت فى قوم عاد ما أهلكوا بالرّيح، ولو كانت فى ثمود ما أهلكوا بالصّيحة، مولده مكّة، ومنشؤه وبدء نبوّته بها، ودار هجرته يثرب بين لابتى حرّة ونخل وسبخة، وهو أمّىّ لا يكتب ولا يقرأ المكتوب، وهو الحمّاد يحمد الله على كلّ شدّة ورخاء، سلطانه بالشام، وصاحبه من الملائكة جبريل، يلقى من قومه أذى شديدا، ثم يدال عليهم فيحصدهم حصدا، تكون له وقعات بيثرب، منها له ومنها عليه، ثم له العاقبة، معه قوم هم إلى الموت أسرع من الماء من رأس الجبل إلى أسفله، صدورهم أناجيلهم، وقربانهم دماؤهم، ليوث النهار رهبان الليل، يرعب عدوّه منه مسيرة شهر، يباشر القتال بنفسه حتى يجرح ويكلم، لا شرطة معه ولا حرس، الله يحرسه. وكان من هؤلاء أيضا عبد الله بن سلام «3» ومخيريق «4» ؛ وسنذكر أخبارهما إن شاء الله تعالى عند ذكر إسلامهما بعد الهجرة على ما تقف عليه هناك. هذه رواية من أسلم من أهل الكتاب. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 123 وأما من بشّر به صلى الله عليه وسلم من أهل الكتابين ممّن لم يسلم ظاهرا، ولا علم لهم إسلام، ومن أقرّ بنبوّته صلى الله عليه وسلم ولم يدر له مكان. فمن «1» هؤلاء من بشّر به وأخبر بنبوّته قبل مولده، ومنهم من ذكر ذلك حال مولده لقرائن كان يرقب وقوعها تدلّ على مولده فوقعت؛ ومنهم من بشّر به فى حال طفوليّته، ومنهم من بشّر به قبل مبعثه، ومنهم من ذكر صفته بعد مبعثه ورؤيته له، وذكّر قومه بها وحقّق عندهم أنه هو، ودليل كلّ منهم ما كان يجده عنده من أخباره فى الكتب السالفة التى تلقّاها عن أسلافه، ومنهم من أظهر صحفا كانت عنده فيها صريح ذكره وصفته، ومنهم من أظهر تمثال صورته، وصور بعض أصحابه وهيئتهم، وكان ذلك مصوّرا فى بيوت فى بيعهم على ما تذكر ذلك مسهبا «2» إن شاء الله. فأما من بشّر به وأخبر بنبوّته وصفته صلّى الله عليه وسلم قبل مولده؛ فمن ذلك ما حكاه ابن إسحاق فى خبر تبّع الأوّل «3» ، قال: وكان من الخمسة الذين كانت لهم الدنيا بأسرها، وكان له وزراء، واختار منهم واحدا، وأخرجه معه، وكان يسمّى عمار «4» يشا، وأخذه لينظر فى مملكته، وخرج معه مائة ألف من الفرسان، وثلاثة وثلاثون ألفا، ومائة ألف وثلاثة عشر ألفا من الرّجّالة، وكان إذا أتى بلدة يختار منها عشرة رجال من حكمائها، حتى جاء إلى مكة، فكان معه مائة ألف رجل من العلماء والحكماء الذين اختارهم من البلدان، فلم يهبه أهل مكة الجزء: 16 ¦ الصفحة: 124 ولم يعظّموه، فغضب لذلك، ثم دعا وزيره عمار «1» يشا وقال: كيف شأن أهل هذه البلدة؟ فإنهم لم يهابونى، ولم يخافوا عسكرى، فقال: أيها الملك إنهم قوم عرب «2» جاهلون لا يعرفون شيئا، وإن لهم بيتا يقال له كعبة، وهم معجبون بهذا البيت، وهم قوم يعبدون الطّواغيت، ويسجدون للأصنام. فقال الملك: وهم معجبون بهذا البيت؟ قال: نعم، فنزل بعسكره ببطحاء مكّة، وفكر فى نفسه دون الوزير، وعزم على هدم الكعبة، وتسميتها خربة، وأن يقتل رجالهم، ويسبى نساءهم، فأخذه الله بالصّداع، وتفجّر من عينيه وأذنيه ومنخريه وفمه ماء منتن، فلم يصبر عنه أحد طرفة عين من نتن الريح، فاستيقظ لذلك وقال لوزيره: اجمع العلماء والحكماء والأطبّاء وشاورهم فى أمرى، فاجتمع عنده الأطبّاء والعلماء والحكماء، فلم يقدروا على المقام عنده، ولم يمكنهم مداواته، فقال: إنى جمعت الأطبّاء والعلماء والحكماء من جميع البلدان، وقد وقعت فى هذه الحادثة ولم يقدروا على مداواتى، فقالوا بأجمعهم: إنا نقدر على مداواة ما يعرض من أمور الأرض، وهذا شىء من السماء لا نستطيع ردّ أمر السماء، ثم اشتدّ أمره، وتفرّق الناس عنه، ولم يزل أمره فى شدّة حتى أقبل الليل، فجاء أحد العلماء إلى الوزير وقال: إن بينى وبينك سرا، وهو إن كان الملك يصدقنى فى حديثه عالجته، فاستبشر الوزير بذلك وأخذ بيده، وحمله إلى الملك، وأخبره بما قال الحكيم، وما التمسه من صدق الملك، حتى يعالج علّته، فاستبشر الملك بذلك، وأذن له فى الدّخول، فلما دخل قال: أريد الخلوة، فأخلى له المكان، فقال: نويت لهذا البيت سوءا؟ قال: نعم؛ إنى نويت خرابه، وقتل الجزء: 16 ¦ الصفحة: 125 رجالهم، وسبى ذراريّهم، فقال له: إنّ وجعك وما بليت به من هذا. اعلم أن صاحب هذا البيت قوىّ يعلم الأسرار، فبادر وأخرج من قلبك ما هممت به من أذى هذا البيت ولك خير الدنيا والآخرة، قال الملك: أفعل، قد أخرجت من قلبى جميع المكروهات، ونويت جميع الخيرات، فلم يخرج العالم من عنده حتى برئ من علّته، وعافاه الله بقدرته، فآمن بالله من ساعته، وخرج من منزله صحيحا على دين إبراهيم عليه السلام، وخلع على الكعبة سبعة أثواب، وهو أوّل من كسا الكعبة، ودعا أهل مكة، وأمرهم بحفظ الكعبة، وخرج إلى يثرب، وهى يومئذ بقعة فيها عين ماء ليس فيها بيت مبنىّ ولا بناء، فنزل على رأس العين هو وعسكره وجميع العلماء الذين كانوا معه، ومعهم رئيسهم عماريشا الذى كان يرى برأيه. ثم إن العلماء والحكماء اجتمعوا، وكانوا أربعة آلاف، فأخرجوا من بينهم أربعمائة هم أعلمهم، وبايع كلّ واحد منهم صاحبه أن لا يخرجوا من ذلك المقام وإن ضربهم الملك أو قتلهم، فلما علم الملك ما قد عزموا عليه، قال للوزير: ما شأنهم يمتنعون عن الخروج معى، وأنا محتاج إليهم؟ وأىّ حكمة فى نزولهم فى هذا المكان، واختيارهم إياه على سائر النّواحى، فلما أتاهم الوزير وسألهم عما عزموا عليه، واختيارهم المقام بهذه البقعة، قالوا له: أيها الوزر! إن شرف ذلك البيت، وشرف هذه البقعة التى نحن فيها بشرف رجل يبعث فى آخر الزمان، يقال له محمد ووصفوه، ثم قالوا: طوبى لمن أدركه وآمن به، وقد كنا على رجاء أن ندركه أو يدركه أولادنا، فلما سمع الوزير مقالتهم همّ بالمقام معهم، فلما جاء وقت الرحيل أمرهم الملك أن يرتحلوا، فقالوا: لا نفعل، وقد أعلمنا الوزير بحكمة مقامنا، فدعا الوزير فأخبره بما سمع منهم، فتفكّر الملك وهمّ أن يقيم معهم سنة رجاء أن يدرك محمدا صلى الله عليه وسلم، فأقام وأمر الناس أن يبنوا أربعمائة دار، لكل رجل من العلماء الجزء: 16 ¦ الصفحة: 126 دار، واشترى لكل واحد منهم جارية وأعتقها وزوّجها برجل منهم، وأعطى كلّ واحد منهم عطاء جزيلا، وأمرهم أن يقيموا فى ذلك الموضع إلى أن يجىء زمان النبى صلى الله عليه وسلم، ثم كتب كتابا وختمه بخاتم من ذهب، ودفعه إلى العالم الكبير، وأمره أن يدفع الكتاب إلى محمد صلى الله عليه وسلم إن أدركه، وإلا أوصى به أولاده بمثل ما أوصاه به، وكذلك أولاده حتّى ينتهى أمره إلى محمد صلى الله عليه وسلم. وكان فى الكتاب: أما بعد فانى آمنت بك وبكتابك الذى أنزل عليك، وأنا على دينك وسنّتك، وآمنت بربك وربّ كلّ شىء، وآمنت بكل ما جاء من ربّك من شرائع الإيمان والإسلام، فإن أدركتك فبها ونعمت، وإن لم أدركك فاشفع لى، ولا تنسنى يوم القيامة، فإنى من أمّتك الأوّلين؛ وتابعيك «1» قبل مجيئك، وأنا على ملّتك وملّة أبيك إبراهيم عليه السلام. ثم ختم الكتاب ونقش عليه: (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) وكتب على عنوانه إلى محمد بن عبد الله نبىّ الله ورسوله، وخاتم النبيين، ورسول رب العالمين، صلّى الله عليه وسلّم، من تبّع الأوّل حمير بن حمير ابن وردع «2» أمانة لله فى يد من وقع اليه إلى أن يوصله إلى صاحبه، ودفع الكتاب إلى الرجل العالم الذى أبرأه من علّته. وصار تبّع من يثرب حتى مات بقلسان «3» من بلاد الهند. وكان من اليوم الذى مات فيه تبّع الى اليوم الذى بعث فيه النبى صلى الله عليه وسلم ألف سنة لا تزيد ولا تنقص، وكان الأنصار الذين نصروا النبى صلى الله عليه وسلم من أولاد أولئك العلماء والحكماء، فلما هاجر النبى صلى الله عليه وسلم الى المدينة، سأله أهل القبائل أن ينزل عليهم على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى؛ فكانوا يتعلّقون بناقته وهو يقول: خلّوا الناقة فإنها مأمورة، حتى جاءت الى دار أبى أيّوب، وكان من أولاد العالم الذى أبرأ تبعا برأيه. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 127 قال ابن إسحاق: واستشار الأنصار عبد الرحمن بن عوف فى إيصال الكتاب الى النبى صلى الله عليه وسلم لمّا ظهر خبره قبل هجرته، فأشار عبد الرحمن أن يدفعوه الى رجل ثقة، فاختاروا رجلا يقال له أبو ليلى وكان من الأنصار، فدفعوا الكتاب إليه وأوصوه بحفظه، فأخذ الكتاب وخرج من المدينة على طريق مكة، فوجد النبىّ صلى الله عليه وسلم فى قبيلة من بنى سليم، فعرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاه وقال: أنت أبو ليلى؟ فقال: نعم، قال: معك كتاب تبّع الأول؟ قال: نعم، فبقى الرجل متفكّرا، وقال فى نفسه: إن هذا من العجائب، ثم قال له أبو ليلى: من أنت، فإنى لست أعرفك؟ إن فى وجهك أثر السحر، وتوهمّ أنه ساحر، فقال له: بل أنا محمد رسول الله، هات الكتاب، فأخرجه ودفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذه النبى صلى الله عليه وسلم ودفعه الى علىّ كرم الله وجهه، فقرأه عليه، فلما سمع النبى صلى الله عليه وسلم كلام تبّع قال: مرحبا بالأخ الصالح ثلاث مرّات، ثم أمر أبا ليلى بالرجوع الى المدينة، فرجع وبشّر القوم بقدوم النبى صلى الله عليه وسلّم. ومن ذلك ما روى أن أبا كرب تبان بن أسعد ملك اليمن «1» أحد التبابعة لما قصد بلاد الشرق «2» ، جعل طريقه على يثرب، فلم يهج أهلها، وخلّف بين أظهرهم ابنا له، فقتل غيلة، فقدمها وهو مجمع لإخرابها واستئصال أهلها وقطع نخلها، فجمع له أهل المدينة ورئيسهم يومئذ عمرو بن طلّة أحد بنى النجار؛ وهو عمرو بن معاوية بن عمرو بن عامر بن زريق بن عبد حارثة بن مالك بن النجّار، وطلّة أمّه؛ وهى بنت عامر بن زريق بن عامر بن زريق بن عبد حارثة «3» . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 128 قال محمد «1» بن إسحاق: وكان رجل من بنى عدىّ بن النجّار ويقال له أحمر، عدا على رجل من أصحاب تبّع حين نزل بهم فقتله، وذلك أنه وجده فى عذق له يجدّه، فضربه بمنجله فقتله، وقال: إنما التّمر لمن أبّره، فزاد ذلك تبّعا حنقا عليهم فاقتتلوا، فكان أهل المدينة، وهم هذا الحىّ من الأنصار يقاتلونه بالنهار ويقرونه باللّيل، فيعجبه ذلك منهم ويقول: والله إن قومنا لكرام. وفى ذلك يقول حسّان بن ثابت من قصيدة لم يذكر فيها قومه: قروا تبّعا بيض المواضى ضحاة ... وكوم عشار بالعشيات نهّض قال فبينما تبّع على ذلك من «2» حربهم إذ جاءه حبران من أحبار يهود من بنى قريظة عالمان راسخان، حين سمعا بما يريد من إهلاك يثرب وأهلها، فقالا له: أيها الملك، لا تفعل، فإنك إن أبيت إلا ما تريد حيل بينك وبينها، ولم نأمن عليك عاجل العقوبة، فقال لهما: ولم ذلك؟ قالا: هى مهاجر نبىّ يخرج من هذا الحرم من قريش آخر الزمان، تكون داره وقراره، فرأى تبّع أن لهما علما، فانصرف عن المدينة واتّبعهما على دينهما. ومن ذلك خبر سلمان الفارسى ّ وقصته فى سبب إسلامه «3» وهجرته إلى المدينة. روى عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما، قال: حدثنى سلمان الفارسىّ من فيه، قال: كنت رجلا فارسيا من أهل أصبهان، من أهل قرية يقال لها جىّ، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 129 وكان أبى دهقان «1» قريته، وكنت أحبّ خلق الله إليه، ثم لم يزل به حبّه إياى حتى حبسنى فى بيته كما تحبس الجارية، واجتهدت فى المجوسية حتى كنت قطن النار «2» الذى يوقدها لا يتركها تخبو ساعة؛ قال: وكان لأبى ضيعة عظيمة، فشغل فى بنيان له يوما، فقال يا بنى: إنى قد شغلت فى بنيانى هذا اليوم عن ضيعتى، فاذهب إليها، فأمرنى فيها ببعض ما يريد ثم قال: ولا تحتبس عنى، فإنك إن احتبست عنّى كنت أهمّ إلى من ضيعتى وشغلتنى عن كل شىء من أمرى؛ قال: فخرجت أريد ضيعته التى بعثنى إليها، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلّون، وكنت لا أدرى ما أمر الناس بحبس «3» أبى إياى فى بيته، فلما سمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر ما يصنعون، فلما رأيتهم أعجبتنى صلاتهم، ورغبت فى أمرهم وقلت: هذا والله خير من الدّين الذى نحن عليه، فو الله ما برحتهم حتى غربت الشمس، وتركت ضيعة أبى فلم آتها، ثم قلت لهم: أين أصل هذا الدّين؟ قالوا: بالشام، فرجعت إلى أبى وقد بعث فى طلبى، وشغلته عن عمله كلّه، فلما جئته قال: أى بنىّ! أين كنت؟ ألم أكن عهدت إليك ما عهدت؟ قلت: يا أبت! مررت بأناس يصلّون فى كنيسة لهم، فأعجبنى ما رأيت من دينهم، فو الله ما زلت من عندهم حتى غربت الشّمس، قال: أى بنى! ليس فى ذلك الدين خير، دينك ودين آبائك خير منه، قلت له: كلا والله! إنه لخير من ديننا، قال: فخافنى فجعل فى رجلى قيدا ثم حبسنى فى بيته، فبعثت إلى النصارى فقلت لهم: إذا قدم عليكم ركب من الشام تجّار فأخبرونى بهم، قال: فقدم عليهم ركب من الشام تجار من النّصارى فأخبرونى بهم، فقلت: إذا قضوا حوائجهم، وأرادوا الترجعة الجزء: 16 ¦ الصفحة: 130 إلى بلادهم، فآذنونى بهم، فلما أرادوا الترجعة أخبرونى بهم، فألقيت الحديد من رجلى، ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام، فلما قدمتها قلت: من أفضل أهل هذا الدين علما؟ قالوا الأسقفّ فى الكنيسة، فجئته فقلت: إنى رغبت فى هذا الدين، وأحببت أن أكون معك وأخدمك وكنيستك، وأتعلّم منك، وأصلّى معك، قال: ادخل، فدخلت معه، فكان رجل سوء، يأمرهم بالصّدقة ويرغّبهم فيها، فإذا جمعوا إليه شيئا منها اكتنزه لنفسه ولم يعطه المساكين، حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق، قال: وأبغضته بغضا شديدا لما رأيته يصنع، ثم مات واجتمعت له النّصارى ليدفنوه فقلت لهم: إن هذا رجل سوء، يأمركم بالصّدقة ويرغّبكم فيها، فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه، ولم يعط المساكين منها شيئا، فقالوا لى: وما علمك بذلك؟ قلت: أنا أدلّكم على كنزه، قالوا: فدلّنا عليه، فأريتهم موضعه، فاستخرجوا سبع قلال مملوءة ذهبا وورقا، فلما رأوها قالوا: والله لا ندفنه أبدا، فصلبوه ورجموه بالحجارة، وجاءوا برجل آخر فجعلوه مكانه. قال: يقول سلمان: فما رأيت رجلا لا يصلّى الخمس أرى أنه أفضل منه، وأزهد فى الدنيا، ولا أرغب فى الآخرة، ولا أدأب ليلا ونهارا منه، قال: فأحببته حبا لم أحبّه شيئا قبله، فأقمت معه زمانا، ثم حضرته الوفاة فقلت له: يا فلان إنى قد كنت معك وأحببتك حبا لم أحبّه شيئا قبلك، وقد حضرك ما ترى من أمر الله، فإلى من توصى بى وبم تأمرنى؟ قال: أى بنىّ، والله ما أعلم اليوم أحدا على ما كنت عليه، لقد هلك الناس، وبدّلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه، إلا رجلا بالموصل، وهو فلان، وهو على ما كنت عليه، فالحق به. قال: فلما مات وغيّب لحقت بصاحب الموصل فقلت له: يا فلان إن فلانا أوصانى عند موته أن ألحق بك، وأخبرنى أنك على أمره، فقال لى: أقم عندى، فأقمت عنده الجزء: 16 ¦ الصفحة: 131 فوجدته خير رجل على أثر «1» صاحبه، فلم يلبث أن مات، فلما حضرته الوفاة قلت له: يا فلان إنّ فلانا أوصى بى إليك، وأمرنى باللّحوق بك، وقد حضرك من أمر الله ما ترى، فإلى من توصى بى وبم تأمرنى؟ قال: يا بنى والله ما أعلم رجلا على مثل ما كنّا عليه إلا رجلا بنصيبين، وهو فلان، فالحق به، فلما مات وغيّب لحقت بصاحب نصيبين، فأخبرته خبرى، وما أمرنى به صاحبى، فقال: أقم عندى، فأقمت عنده فوجدته على أمر صاحبه، فأقمت مع خير رجل، فو الله ما لبث أن نزل به الموت، فلما حضر قلت له: يا فلان إن فلانا كان أوصى بى إلى فلان، ثم أوصى بى فلان إليك، فإلى من توصى بى وبم تأمرنى؟ قال يا بنىّ والله ما أعلمه بقى أحد على أمرنا، فلما مات وغيّب لحقت بصاحب عمّورية، فأخبرته خبرى، فقال: أقم عندى، فأقمت عند خير رجل على هدى أصحابه وأمرهم، قال: واكتسبت حتى كانت لى بقرات وغنيمة، قال: ثم نزل به أمر الله، فلما حضر قلت له: يا فلان إنى كنت مع فلان فأوصى بى إلى فلان، ثم أوصى بى فلان إلى فلان، ثم أوصى بى فلان إلى فلان، ثم أوصى بى فلان إليك، فإلى من توصى بى وبم تأمرنى؟ قال: يا بنىّ والله ما أعلمه أصبح أحد على مثل ما كنّا عليه من الناس آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظلّ زمان نبىّ هو مبعوث بدين إبراهيم عليه السلام، يخرج بأرض العرب، مهاجره إلى أرض بين حرّتين بينهما نخل، به علامات لا تخفى؛ يأكل الهدية ولا يأكل الصّدقة، بين كتفيه خاتم النبوّة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل، قال: ثم مات وغيّب، ومكثت بعمّورية ما شاء الله أن أمكث، ثم مرّ بى نفر من كلب تجّار فقلت لهم، احملونى إلى أرض العرب، وأعطيكم بقراتى هذه، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 132 وغنيمتى هذه، قالوا: نعم. وأعطيتهموها وحملونى معهم، حتى [إذا] بلغوا وادى القرى ظلمونى فباعونى من رجل يهودىّ عبدا، فكنت عنده، ورأيت النخل؛ ورجوت أن يكون البلد الذى وصف لى صاحبى، ولم يحقّ فى نفسى؛ فبينا أنا عنده، إذ قدم عليه ابن عمّ له من بنى قريظة من المدينة، فابتاعنى منه، فحملنى إلى المدينة، فو الله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبى، فأقمت بها. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقام بمكة ما أقام، لا أسمع له بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرّقّ، ثم هاجر إلى المدينة، فو الله إنى لفى رأس عذق لسيدى أعمل له فيه بعض العمل، وسيدى جالس تحتى إذ أقبل ابن عمّ له، حتى وقف عليه فقال: يا فلان، قاتل الله بنى قيلة «1» ، إنهم والله الآن لمجتمعون بقباء «2» ، على رجل قدم عليهم من مكة اليوم يزعمون أنه نبىّ، قال: فلما سمعته أخذتنى العرواء «3» حتى ظننت أنى ساقط «4» على سيدى، فنزلت عن النخلة فجعلت أقول لابن عمه ذلك: ماذا تقول؟ فغضب سيدى ولكنى لكمة شديدة، ثم قال: مالك ولهذا؟ أقبل على عملك، فقلت لا شىء إنما أردت أن أستثبته عما قال. قال سلمان: وكان عندى شىء قد جمعته، فلما أمسيت أخذته ثم ذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقباء، فدخلت عليه فقلت له: إنه قد بلغنى أنك رجل صالح، ومعك أصحاب لك غرباء ذووا حاجة، وهذا شىء كان عندى للصّدقة، فرأيتكم أحقّ به من غيركم، قال: فقرّبته إليه، فقال لأصحابه: كلوا! وأمسك يده الجزء: 16 ¦ الصفحة: 133 فلم يأكل. قال: قلت فى نفسى: هذه واحدة، ثم انصرفت عنه فجمعت شيئا، وتحوّل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ثم جئته به، فقلت: إنى قد رأيتك لا تأكل الصّدقة، وهذه هدية أكرمتك بها، قال: فأكل منها، وأمر أصحابه فأكلوا معه، قال: قلت فى نفسى: هاتان ثنتان. قال: ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ببقيع الغرقد «1» قد تبع جنازة رجل من أصحابه، علىّ شملتان لى، وهو جالس فى أصحابه، فسلّمت عليه ثم استدرت أنظر إلى ظهره، هل أرى الخاتم الذى وصف لى، فلما رآنى رسول الله صلى الله عليه وسلم استدبرته، عرف أنى أستثبت من شىء وصف لى، فألقى رداءه عن ظهره فنظرت إلى الخاتم فعرفته فأكببت عليه أقبّله وأبكى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تحوّل! فتحولت فجلست بين يديه، فقصصت عليه حديثى كما حدثتك يابن عباس؛ فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمع ذلك أصحابه. ثم شغل سلمان الرّق حتى فاته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدر وأحد. قال سلمان: ثم قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم: كاتب يا سلمان، فكاتبت صاحبى على ثلاثمائة نخلة أحييها له بالفقير، يعنى الآبار الصّغار، وأربعين أوقية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: أعينوا أخاكم، فأعانونى بالنّخل؛ الرجل بثلاثين ودية «2» ، والرّجل بعشرين ودية، والرجل بخمس عشرة ودية، والرجل بعشر؛ يعين الرجل بقدر ما عنده، حتى اجتمعت لى ثلاثمائة ودية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب يا سلمان ففقّر «3» لها، فإذا فرغت فأتنى، أكن أنا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 134 أضعها بيدى. قال: ففقّرت، وأعاننى أصحابى حتى إذا فرغت جئته فأخبرته، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم معى إليها، فجعلنا نقرّب إليه الودىّ، ويضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده حتى إذا فرغنا «1» ، فو الذى نفس سلمان بيده ما مات منها ودية واحدة، فأدّيت النخل، وبقى علىّ المال، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل بيضة الدّجاجة من ذهب من بعض المعادن، فقال: ما فعل الفارسىّ المكاتب؟ قال: فدعيت، فقال: خذ هذه فأدّها مما عليك يا سلمان، قال: وقلت وأين تقع هذه يا رسول الله مما علىّ؟ فقال: خذها، فإن الله سيؤدّى بها عنك، وفى رواية: فأخذها رسول صلى الله عليه وسلم فقلّبها على لسانه ثم قال: خذها فأوفهم منها. قال: فأخذتها فوزنت لهم منها- والذى نفس سلمان بيده- أربعين أوقية، فأوفيتهم حقّهم منها، وعتق سلمان. فشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق حرّا، ثم لم يفتنى معه مشهد. قال محمد بن إسحاق «2» بسند رفعه إلى عمر بن عبد العزيز، أنه قال: حدّثت عن سلمان أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخبره: إن صاحب عمّورية قال له: ائت كذا وكذا من أرض الشام، فإن بها رجلا بين غيضتين «3» يخرج فى كل سنة من هذه الغيضة إلى هذه الغيضة يعترضه ذووا الأسقام «4» ، فلا يدعو لأحد منهم إلا شفى، فاسأله عن هذا الدّين الذى تبتغى، فهو يخبرك عنه، قال سلمان: فخرجت حتى جئت حيث وصف لى، فوجدت الناس قد اجتمعوا بمرضاهم هناك، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 135 حتّى يخرج لهم تلك الليلة مستجيزا من إحدى الغيضتين إلى الأخرى، فغشيه الناس بمرضاهم لا يدعو لمريض إلا شفى، وغلبونى عليه، فلم أخلص إليه حتى دخل الغيضة التى يريد أن يدخل إلى منكبه «1» ، قال: فتناولته، فقال: من هذا؟ والتفت إلىّ، قلت يرحمك «2» الله أخبرنى عن الحنيفية دين إبراهيم، قال: إنك لتسألنى عن شىء ما يسأل عنه الناس اليوم، وقد أظلّ زمان نبىّ يبعث بهذا الدين من أهل الحرم، فأته، فهو يحملك عليه، ثم دخل. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كنت «3» صدقتنى يا سلمان، لقد لقيت عيسى ابن مريم «4» . وقد روى حديث إسلام سلمان على غير هذا الوجه، إلا أنه غير مناف له فيما هو مختصّ برسول الله صلى الله عليه وسلم. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع. وأما من بشّر به عند مولده صلى الله عليه وسلم للقرائن التى كان يتوقّع وقوعها تدل على مولده، فوقعت. فمن ذلك ما روى أن يهوديا قال لعبد المطّلب جدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا سيد البطحاء إن المولود الذى كنت حدّثتكم عنه قد ولد البارحة، فقال عبد المطلب: لقد ولد لى البارحة غلام، قال اليهودىّ: ما سميته؟ قال: سميته محمدا، قال اليهودىّ: هذه ثلاث يشهدن علىّ بنبوته؛ إحداهن: أن نجمه طلع البارحة، والثانية: أن اسمه محمد، والثالثة: أنه يولد فى صبابة قومه، وأنت يا عبد المطّلب صبابتهم «5» . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 136 ومنه ما روى أن حسّان بن ثابت قال: والله إنى لعلى أطمى «1» فارع فى السّحر إذ سمعت صوتا لم أسمع قط صوتا أنفد «2» منه، وإذا هو «3» صوت يهودىّ على أطم من آطام اليهود معه شعلة نار، فاجتمع الناس إليه وأنكروا صراخه فقالوا: مالك ويلك! قال حسّان: فسمعته يقول: هذا كوكب أحمر قد طلع، وهو كوكب لا يطلع إلّا بالنبوّة، ولم يبق من الأنبياء إلا أحمد، قال حسّان: فجعل الناس يضحكون منه ويعجبون لما أتى به، قال: وكان أبو قيس أحد بنى عدىّ بن النجّار قد ترهّب ولبس المسوح، فقيل له يا أبا قيس! انظر ما قال هذا اليهودى! قال: صدق وإن انتظار أحمد هو الذى صنع به ما صنع، ولعلّى أن أدركه فأومن به، فلما بلغه ظهور النبى صلى الله عليه وسلم بمكّة آمن به، وقدم النبىّ صلى الله عليه وسلم المدينة وقد نالت السنّ من أبى قيس. وقد أشرنا إلى خبر حسّان هذا عند ذكرنا لمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم. والأخبار فى هذا الباب كثيرة، فلا نطوّل بسردها. وأما من بشّر به صلى الله عليه بعد مولده فى حال طفوليته وحداثة سنه. فمن ذلك خبر سيف بن ذى يزن، وقصّته مع عبد المطلب؛ وكان من خبره ما رواه الشيخ الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقىّ رحمه الله فى كتابه المترجم بدلائل النبوّة قال: أخبرنا أبو سهل محمد بن نصرويه بن أحمد المروزىّ بنيسابور، قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن صالح المعافرىّ، قال: حدثنا أبو يزن الحميرىّ إبراهيم ابن عبد الله بن محمد بن عبد العزيز بن عفير بن زرعة بن سيف بن ذى يزن، قال: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 137 حدّثنى عمّى أحمد بن حبيش بن عبد العزيز، قال: حدّثنى أبى عفير، قال: حدّثنى أبى زرعة بن سيف بن ذى يزن، قال: لما ظهر سيف بن ذى يزن على الحبشة، وذلك بعد مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين أتته وفود العرب وأشرافها وشعراؤها لتهنئته، وتذكّر ما كان من بلائه وطلبه بثأر قومه، وأتاه وفد قريش، منهم: عبد المطلّب بن هاشم، وأمية بن عبد شمس، وعبد الله ابن جدعان، وأسد بن عبد العزّى، ووهب بن عبد مناف، وقصىّ بن عبد الدار، فدخل عليه آذنه وهو فى قصر يقال له غمدان، والملك مضمّخ بالعبير، وعليه بردان أخضران، مرتد بأحدهما متّزر بالآخر، سيفه بين يديه، وعن يمينه وشماله الملوك، فأخبر بمكانهم فأذن لهم، فدخلوا عليه، فدنا منه عبد المطّلب فاستأذنه فى الكلام، فقال: إن كنت ممن يتكلّم بين يدى الملوك فقد أذنّا لك، فقال: إن الله عز وجل أحلّك أيها الملك محلا رفيعا شامخا منيعا، وأنبتك نباتا طابت أرومته، وعظمت جرثومته، وثبت أصله، وبسق فرعه، فى أطيب موضع وأكرم معدن؛ وأنت- أبيت اللّعن- ملك العرب الذى عليه الاعتماد، ومعقلها الذى تلجأ إليه العباد، سلفك خير سلف، وأنت لنا منهم خير خلف، فلن يهلك ذكر «1» من أنت خلفه، ولن يخمل ذكر من أنت سلفه، نحن أهل حرم الله وسدنة بيت الله، أشخصنا إليك الذى أبهجنا من كشفك الكرب الذى فدحنا، فنحن وفد التّهنئة، لا وفد المرزئة. قال له الملك: من أنت «2» أيها المتكلّم؟ فقال: أنا عبد المطّلب بن هاشم، قال: ابن أخينا؟ قال: نعم، قال: ادنه، ثم أقبل عليه وعلى القوم فقال: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 138 مرحبا وأهلا [وأرسلها مثلا «1» ] ، وكان أوّل من تكلّم بها، وناقة ورحلا، ومستناخا سهلا، وملكا ربحلا «2» ، يعطى عطاء جزلا، قد سمع الملك مقالتكم، وعرف قرابتكم، وقبل وسيلتكم، فإنكم أهل الليل والنّهار، ولكم الكرامة ما أقمتم، والحباء إذا ظعنتم، ثم أنهضوا إلى دار الضّيافة والوفود، وأجريت عليهم الأنزال «3» ، فأقاموا بذلك شهرا لا يصلون إليه، ولا يؤذن لهم فى الانصراف، ثم انتبه لهم انتباهة فأرسل إلى عبد المطّلب فأدناه ثم قال له: يا عبد المطلّب، إنى مفض إليك من سرّ علمى أمرا لو غيرك يكون لم أبح به، ولكنّى رأيتك معدنه، فأطلعتك عليه «4» ، فليكن عندك مخبّا «5» حتى يأذن الله عز وجل فيه؛ إنى أجد فى الكتاب المكنون، والعلم المخزون الذى ادّخرناه لأنفسنا، واحتجنّاه «6» دون غيرنا، خبرا عظيما وخطرا جسيما، فيه شرف الحياة، وفضيلة الوفاة للناس عامّة، ولرهطك «7» كافة، ولك خاصّة، فقال له عبد المطلب: مثلك أيها الملك سرّ وبرّ، فما هذا فداك «8» أهل الوبر زمرا بعد زمر؟ قال: إذا ولد بتهامة، غلام بين كتفيه شامة «9» ، كانت له الإمامة، ولكم به الزّعامة، إلى يوم القيامة. قال عبد المطلب: أيّها الملك، لقد أبت بخير ما آب بمثله وافد قوم، ولولا هيبة الملك وإجلاله وإعظامه، لسألته من بشارته إياى «10» ما أزداد به سرورا. قال له الملك: هذا حينه الذى يولد فيه أو قد ولد؛ اسمه محمد، يموت أبوه وأمه، ويكفله جدّه وعمه، قد ولدناه مرارا، والله باعثه جهارا، وجاعل له منا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 139 أنصارا يعزّبهم أولياءه، ويذل بهم أعداءه، ويضرب بهم الناس عن عرض، ويستفتح «1» بهم كرائم الأرض، يعبد الرحمن، ويدخض أو يدحر الشيطان، وتخمد النيران وتكسر الأوثان، قوله فصل، وحكمه عدل، يأمر بالمعروف ويفعله، وينهى عن المنكر ويبطله. قال له عبد المطلب: عز جدّك، ودام ملكك، وعلا كعبك، فهل الملك سارّنى بإفصاح؟ فقد أوضح لى بعض الإيضاح، قال له سيف [ابن ذى يزن «2» ] : والبيت ذى الحجب، والعلامات على النّصب «3» ، إنك لجدّه يا عبد المطلب غير كذب، قال: فخرّ عبد المطّلب ساجدا، فقال له سيف ارفع رأسك، ثلج صدرك، وعلا كعبك «4» ، فهل أحسست بشىء مما ذكرت؟ قال: نعم أيها الملك، إنه كان لى ابن وكنت به معجبا، وعليه رفيقا، وإنى زوّجته كريمة من كرائم قومى «5» آمنة بنت وهب بن عبد مناف، فجاءت بغلام وسميته محمدا، مات أبوه وأمه، وكفلته أنا وعمّه. قال له ابن ذى يزن: إن الذى قلت لك كما قلت، فاحتفظ بابنك «6» واحذر عليه اليهود، فإنهم أعداء، ولن يجعل الله لهم عليه سبيلا، واطو ما ذكرت لك دون هؤلاء الرهط الذين معك، فإنى لست آمن أن تداخلهم النفّاسة، من أن تكون لكم الرياسة، فينصبون له الحبائل، ويبغون «7» له الغوائل، وهم فاعلون ذلك أو أبناؤهم من غير شك «8» ، ولولا أنى أعلم أن الموت مجتاحى قبل مبعثه، لسرت الجزء: 16 ¦ الصفحة: 140 بخيلى ورجلى حتى أجىء يثرب دار ملكه «1» ، فإنى أجد فى الكتاب الناطق، والعلم السابق، أن بيثرب استحكام أمره، وأهل نصرته، وموضع قبره، ولولا أنى أقيه الآفات، وأحذر عليه العاهات، لأعليت على- حداثة سنّه- أمره، ولأوطأت على أسنان العرب كعبه «2» ، ولكن سأصرف ذلك إليك من غير تقصير بمن معك، ثم دعا بالقوم، وأمر لكل رجل منهم بعشرة أعبد سود، وعشر إماء سود، وحلّتين من حلل البرود، وخمسة أرطال ذهب، وعشرة ارطال فضة، ومائة من الإبل، وكرش مملوء عنبرا، ولعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك، وقال [له «3» ] : إذا حال الحول فأتنى بخبره، قال: فمات سيف بن ذى يزن قبل أن يحول عليه الحول، وكان عبد المطلب كثيرا ما يقول: يا معشر قريش، لا يغبطنى رجل منكم بجزيل عطاء الملك، وإن كثر، فإنه إلى نفاد، ولكن يغبطنى بما يبقى لى ولعقبى ذكره وفخره، فإذا قيل وما هو؟ قال: سيعلم ما أقول ولو بعد حين. قال البيهقى «4» وقد روى هذا الحديث أيضا عن الكلبىّ أبى صالح عن ابن عباس رضى الله عنهما. ومن ذلك رؤيا رقيقة بنت أبى صيفى ّ وقصة استسقاء عبد المطلب بن هاشم وكان من خبرها ما رواه أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقى رحمه الله بسند عن مخرمة بن نوفل عن أمه رقيقة بنت أبى صيفىّ بن هاشم، وكانت لدة عبد المطلب، قالت: تتابعت على قريش سنون أقحلت الضرع «5» ، وأرقّت العظم «6» ، قالت: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 141 فبينما أنا نائمة اللهم أو مهوّمة إذا هاتف يصرخ بصوت صحل صيّت يقول: معشر قريش، إن هذا النبى المبعوث منكم قد أظلّكم أيامه، وهذا إبان نجومه، وفى رواية عنها: مبعوث منكم، وهذا إبان مخرجه فحيّهلا بالخير والخصب، وفى رواية بالحيا والخصب، ألا فانظروا رجلا منكم وسيطا عظّاما جسّاما أبيض بضّا، أوطف الأهداب، سهل الخدّين، أشم العرنين، له فخر يكظم عليه، وسنة تهدى إليه، ألا فليخلص هو وولده وليهبط إليه «1» من كل بطن رجل فليشنّوا «2» من الماء، وليمسّوا من الطيب، ثم ليستلموا الركن. وفى رواية وليطوفوا بالبيت سبعا، ثم ليرتقوا أبا قبيس فليستسق الرجل، وليؤمّن القوم [ألا وفيهم الطاهر والطيب لذاته، ألا بعثتم إذا شئتم وعشتم] «3» ، قالت: فأصبحت- علم الله- مذعورة قد اقشعرّ جلدى، ووله عقلى، واقتصصت رؤياى، فوالحرمة والحرم ما بقى أبطحىّ إلا قال: هذا شيبة الحمد، هذا شيبة، وتتامّت «4» إليه رجالات قريش، وهبط إليه من كل بطن رجل، فشنّوا وطيّبوا «5» ، واستلموا وطافوا، ثم ارتقوا أبا قبيس، وطفقوا جنابيه ما يبلغ سعيهم مهلة، حتى إذا استوى بذروة الجبل، قام عبد المطلب ومعه رسول الله صلى الله عليه وسلم غلام قد أيفع أو كرب، فقال عبد المطلب: اللهم سادّ الخلّة، وكاشف الكربة، أنت معلم، وفى رواية عالم غير معلّم ومسئول غير مبخّل، وهذه عبدّاؤك وإماؤك عذرات «6» حرمك يشكون إليك سنتهم «7» أذهبت الخفّ والظلف، اللهم فأمطرن غيثا مغدقا مريعا؛ فوالكعبة ما راموا حتى تفجّرت السماء بمائها، واكتض «8» الجزء: 16 ¦ الصفحة: 142 الوادى بتجيجه، فسمعت شيخان «1» قريش وجلّتها: عبد الله بن جذعان، وحرب ابن أمية، وهشام بن المغيرة، يقولون لعبد المطلب: هنيئا لك أبا البطحاء أى عاش بك أهل البطحاء، وفى ذلك تقول رقيقة: بشيبة الحمد أسقى الله بلدتنا ... لما فقدنا «2» الحيا واجلّود المطر فجاد بالماء جونىّ له سيل ... دان فعاشت به الأنعام «3» والشّجر منّا من «4» الله بالميمون طائره ... وخير من بشّرت يوما به مضر مبارك الأمر يستسقى الغمام به ... ما فى الأنام له عدل ولا خطر وأما من بشّر به صلى الله عليه وسلم قبيل مبعثه، فمن ذلك خبر اليهودىّ الذى هو من بنى عبد الأشهل. وكان من خبره ما رواه أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقى بسنده عن سلمة بن سلامة بن وقش، قال: كان بين أبياتنا يهودىّ، فخرج على نادى قومه بنى عبد الأشهل ذات غداة، فذكر البعث والقيامة والجنة والنار والحساب والميزان، فقال ذلك لأصحاب وثن لا يرون أنّ بعثا كائن بعد الموت، وذلك قبل مبعث النبى صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ويحك يا فلان، وهذا كائن؟ إن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار، يجزون من أعمالهم؟ قال: نعم، والذى يحلف به، لوددت أن حظّى من تلك النار أن توقدوا أعظم تنّور فى داركم فتحمونه، ثم تقذفوننى فيه، ثم تطبقوا علىّ، وأنّى أنجو من النار غدا فقيل له يا فلان، فما علامة ذلك؟ قال: نبى يبعث من ناحية هذه البلاد، وأشار بيده نحو مكّة الجزء: 16 ¦ الصفحة: 143 واليمن. قالوا: فمتى تراه؟ فرمى بطرفه، فرآنى وأنا مضطجع بفناء باب أهلى، وأنا أحدّث القوم [فقال] : إن يستنفد هذا الغلام عمره يدركه فما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنه لحىّ بين أظهرهم فامنا به وصدّقناه، وكفر به بغيا وحسدا، فقلنا له: يا فلان، ألست الذى قلت ما قلت وأخبرتنا؟ فقال: بلى. ولكن لا أومن به. ومنه خبر إسلام أسيذ «1» وثعلبة ابنى سعية وراشد بن عبيد. روى البيهقى «2» رحمه الله عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن شيخ من بنى قريظة، قال: هل تدرون عمّ كان إسلام أسيد وثعلبة ابنى سعية، وأسد «3» بن عبيد، نفر من بنى هدل «4» لم يكونوا من بنى قريظة، ولا النّضير، كانوا فوق ذلك «5» ؟ فقلت: لا. قال: فإنه قدم علينا رجل من الشام من يهود يقال له ابن الهيّبان، وكنيته أبو عمير، كذا ذكره الواقدى، فأقام عندنا، والله ما رأينا رجلا قطّ لا يصلّى الخمس خيرا منه، فقدم علينا قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين، فكنّا إذا أقحطنا وقلّ علينا المطر نقول: يا بن الهيّبان، اخرج فاستسق لنا، فيقول: لا والله، حتى تقدّموا أمام مخرجكم صدقة؛ فنقول: كم؟ فيقول: صاع من «6» تمر أو مدّين من شعير الجزء: 16 ¦ الصفحة: 144 فنخرجه، ثم «1» يخرج إلى ظاهر حرّتنا ونحن معه، فيستسقى، فو الله ما يقوم من مجلسه حتى يمرّ السّحاب «2» ؛ قد فعل ذلك غير مرّة ولا مرّتين، ولا ثلاثة، فحضرته الوفاة، واجتمعنا إليه، فقال: يا معشر يهود، ما ترونه أخرجنى من أرض الخمر «3» والخمير إلى أرض البؤس والجوع؟ قالوا: أنت أعلم، قال: إنه إنما أخرجنى [أنى «4» ] أتوقّع خروج نبىّ قد أظلّ زمانه، هذه البلاد مهاجره، [وكنت أرجو أن يبعث «5» ] فاتّبعه، [وقد أظلكم زمانه «6» ] فلا تسبقنّ إليه إذا خرج يا معشر يهود، فإنه يبعث بسفك الدّماء، وسبى الذّرارىّ والنساء ممن خالفه، فلا يمنعكم ذلك منه. ثم مات؛ فلما كانت الليلة التى فتحت فيها قريظة قال أولئك الثلاثة الفتية، وكانوا شبابا أحداثا: يا معشر يهود: والله إنه للنّبىّ الذى ذكر لكم ابن الهيّبان، فقالوا: ما هو به، قالوا: بلى والله! إنها لصفته «7» ، ثم نزلوا فأسلموا، وخلّوا أموالهم وأولادهم وأهاليهم؛ فلما فتح رسول الله الحصن ردّ ذلك عليهم. ومنه ما روى أن عبد الله بن مسعود كان يحدّث «8» عن أبى بكر الصّدّيق رضى الله عنهما، «9» قال: خرجت إلى اليمن فى تجارة قبل أن يبعث النبى صلى الله عليه وسلم، فنزلت على شيخ من الأزد عالم، قد قرأ الكتب وحوى علما كثيرا، وأتى عليه من الجزء: 16 ¦ الصفحة: 145 السن ثلاثمائة وتسعون سنة «1» ، فلما تأملنى قال: أحسبك تيميا «2» فقلت: نعم، أنا من تيم ابن مرّة؛ أنا عبد الله بن عثمان بن عامر وبن عمرو بن كعب بن سعد «3» بن تيم بن مرّة، قال: بقيت «4» لى فيك واحدة، قلت: ما هى؟ قال: اكشف لى عن بطنك، قلت: لا أفعل أو تخبرنى لم ذلك، فقال: إنى لأجد فى العلم الصّحيح الصادق أن نبيّا يبعث بالحرم يعاونه على أمره فتى وكهل، فأما الفتى فخوّاض غمرات، وكشّاف معضلات، وأما الكهل فأبيض نحيف، على بطنه شامة، وعلى فخذه اليسرى علامة، ولا «5» عليك أن ترينى ما خفى علىّ؛ قال أبو بكر رضى الله عنه: فكشفت له عن بطنى، فرأى شامة سوداء فوق سرّتى، فقال: هو أنت وربّ «6» الكعبة، وإنى متقدّم إليك فى أمر فاحذره، قلت: وما هو؟ قال إياك والميل عن الهدى وتمسّك بالطريقة المثلى، وخف الله عزّ وجلّ فيما أعطاك وخوّلك. قال أبو بكر رضى الله عنه: فقضيت باليمن أربى، ثم أتيت الشيخ لأودّعه، فقال «7» : أحامل أنت منّى أنباء إلى ذلك النّبىّ؟ قلت «8» : نعم، فأنشأ يقول: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 146 ألم تر أنّى قد سئمت معاشرى ... ونفسى وقد أصبحت فى الحىّ راهنا «1» حييت وفى الأيام للمرء عبرة ... ثلاث مئين ثم تسعين آمنا «2» وصاحبت «3» أحبارا أنا روا بعلمهم ... غياهب جهل ما ترى فيه طابنا «4» وكم راهب فوق عنشبيل «5» قائم ... لقيت وما غادرت فى البحث كاهنا وكلّهم لما تعطّشت قال لى ... بأن نبيّا سوف تلقاه دائنا «6» بمكة والأوثان فيها عزيزة ... فيركسها حتى تراها كوامنا «7» فما زلت أدعو الله فى كل حاضر ... حللت به سرّا وجهرا معالنا وقد خمدت منّى شرارة قوّتى ... وألفيت شيخا لا أطيق الشّواجنا «8» وأنت وربّ البيت تلقى محمدا ... بعامك هذا قد أقام البراهنا فحىّ رسول الله عنّى فإننى ... على دينه أحيا وإن كنت واهنا «9» فياليتنى أدركته فى شبيبتى ... فكنت له عبدا وإلا العجاهنا «10» عليه سلام الله ما ذرّ شارق ... تألّق هنّافا من النور هافنا «11» الجزء: 16 ¦ الصفحة: 147 قال أبو بكر رضى الله عنه: فحفظت وصيته وشعره وقدمت مكة، فجاءنى شيبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وأبو البخترىّ، وعقبة بن أبى معيط، ورجالات قريش مسلّمين علىّ، فقلت: هل حدث أمر؟ فقالوا «1» : حدث أمر عظيم؛ هذا محمد بن عبد الله يزعم أنه نبىّ أرسله الله إلى النّاس، ولولا أنت ما انتظرنا به، فإذ جئت فأنت البغية والنّهية «2» ، قال: فأظهرت لهم تعجّبا وصرفتهم على أحسن شىء «3» ، وذهبت أسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل لى: هو فى منزل خديجة، فقرعت الباب عليه فخرج إلىّ فقلت: يا محمّد، فقدت من نادى قومك فاتهموك بالغيبة وتركت دين آبائك، فقال يا أبا بكر، إنى رسول الله إليك وإلى الناس كلهم [فآمن بالله «4» ] ، فقلت وما آيتك؟ قال: الشيخ الذى لقيته باليمن، قلت: وكم من شيخ قد لقيت، وبعت منه واشتريت، وأخذت وأعطيت! قال: الشيخ الذى أخبرك عنى، وأفادك الأبيات، قلت: من أخبرك بهذا يا حبيبى؟ قال: الملك العظيم الذى كان يأتى الأنبياء قبلى، فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. قال أبو بكر رضى الله عنه: فانصرفت وما أحد أشدّ سرورا من رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامى. وأما من ذكر صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد مبعثه ورؤيته له، وذكّر قومه بها، وحقّق عندهم أنه هو، لما كان يجد عنده من العلم بصفته صلى الله عليه وسلم. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 148 فمن ذلك ما روى «1» أن صفية بنت حيىّ بن أخطب قالت: كنت أحبّ الناس إلى أبى، وكان عمى أشدّ حبّا لى، فأتيا النبىّ صلى الله عليه وسلم بقباء، ثم رجعا من عنده ثقيلين لا يلتفتان نحوى، ولا ينظران إلىّ؛ فسمعت عمّى يقول لأبى: هل تعرفه؟ قال: نعم. قال فماذا عندك فيه؟ قال: عداوته إلى آخر الدّهر، قال عمى لأبى: أنشدك الله أن تطيعنى يأخى فى هذا، ثم اعصنى فيما سواه، هلّم نتبعه، فقال أبى: لا؛ والله لا أراك له عدوّا، فقال عمى: إنك تهلكنا، وتهلك نفسك، إن هذا نبىّ السّيف، وجعل عمى يكلّمه وهو يأبى إلا كلامه الأوّل، قالت صفية: فلما كان الليل، وجدت نسوة من بنى النّضير جالسات يقلن: والله ما أحسن حيىّ ابن أخطب بخلاف أخيه، إنا لنعلم أن هذا نبىّ مذكور فى الكتب، وقالت عجوز منهنّ: سمعت أبى يقول لإخوتى: إن نبيا من العرب يقال له أحمد، مولده بمكة، ودار هجرته يثرب، وهو خير الأنبياء، فإن خرج وأنتم أحياء، فاتّبعوه؛ قالت صفية: وإذا هن كلهنّ يزرين على أبى، ويتعتّبن عليه فعله. ومنه ما قاله كعب بن عمرو لبنى قريظة عند حصارهم. وسنذكر ذلك إن شاء الله فى الغزوات، وقد تقدّم خبر بحيرا، ونسطور، فلا فائدة فى إعادته هنا. وأما من أظهر صحفا كانت عنده فيها صريح ذكره صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك ما روى أن رجلا أتى النبىّ صلى الله عليه وسلم بورقة ورثها عن أبيه عن جدّه، وذكر أن سلفه كانوا يتوارثونها على وجه الدهر، فإذا فيها: «اسم الله وقوله الحق، وقول الظالمين فى تبار، هذا ذكر لأمّة تأتى فى آخر الزّمان، يأتزرون على أوساطهم، ويغسلون أطرافهم، ويخوضون البحر إلى أعدائهم، فيهم صلاة الجزء: 16 ¦ الصفحة: 149 لو كانت فى قوم نوح ما هلكوا فى الطوفان؛ أو فى ثمود ما أهلكوا بالصّيحة» ، قال: فقرئت الورقة على الناس، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظها. ومنه ما روى أن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه نزل بالبليح «1» إلى جانب دير، فأتاه قيّم الدير فقال يا أمير المؤمنين: إنى ورثت عن آبائى كتابا قديما كتبه أصحاب المسيح عليه السلام؛ فإن شئت قرأته عليك؛ قال: نعم، هات كتابك؛ فجاء بكتاب فإذا فيه: الحمد لله الذى قضى ما قضى؛ وسطّر ما سطّر، إنّه باعث فى الأمّيين رسولا يعلّمهم الكتاب والحكمة، ويدلّهم على سبيل الجنة، لا فظّ ولا غليظ، ولا صخّاب فى الأسواق، ولا يجزى بالسيئة السّيئة، ولكن يعفو ويصفح، أمته الحّمادون لله فى كل هبوط ونشر وصعود، تذلل ألسنتهم بالتكبير والتهليل، ينصر دينهم على كل من ناوأه. ومنه ما روى أن أبا ذؤيب الزّاهد قال: دخلت فى سياحتى ديرا فقلت للراهب القيّم عليه: أعندك فائدة؟ قال: نعم. لك يا عربىّ، قلت: هاتها! قال: فأخرج لى ورقة فيها أربعة أسطر، فذكر أنها من الكتب المنزلة؛ ففى السطر الأوّل منها: يقول الجبّار تبارك وتعالى: أنا الله لا إله إلا أنا وحدى لا شريك لى؛ والسطر الثانى: محمد المختار عبدى ورسولى؛ والسطر الثالث: أمته الحّمادون، أمته الحّمادون، أمّته الحمّادون؛ والسطر الرابع: رعاة الشمس، رعاة الشمس، رعاة الشمس. وأما من أظهر تمثال صورته صلى الله عليه وسلم وصور بعض أصحابه رضى الله عنهم، وذلك مصوّر عندهم فى بيوت فى بيعهم. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 150 فمن ذلك ما روى عن دحية بن خليفة الكلبىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قيصر أنه قال: لقيت قيصر بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بدمشق، فأدخلت عليه خاليا، فناولته الكتاب فقبّل خاتمه وفضّه وقرأه، ثم وضعه على وسادة أمامه، ثم دعا بطارقته وزعماء دينه فقام فيهم على وسائد بنيت له، ثم خطبهم فقال: هذا كتاب النبىّ الذى بشّر به عيسى المسيح، وأخبر أنه من ولد إسماعيل، قال: فنخروا نخرة عظيمة، وحاصوا فأومى إليهم بيده أن اسكتوا، ثم قال: إنما جرّبتكم لأرى غضبكم لدينكم، ونصركم له، وصرفهم «1» ، ثم استدعانى من الغد فأخلانى، وأنّسنى بحديثه، وأدخلنى بيتا عظيما فيه ثلاثمائة وثلاثة عشر صورة، فإذا هى صور الأنبياء المرسلين صلى الله عليهم «2» وسلم فقال: انظر من صاحبك من هؤلاء، فنظرت فإذا صورة النبىّ صلى الله عليه وسلم كأنما ينطق، فقلت: هو هذا، فقال: صدقت، ثم أرانى صورة عن يمينه فقال: من هذا؟ قلت: هذه صورة رجل من قومه اسمه أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه، فأشار إلى صورة أخرى عن يساره، فقلت: هذه صورة رجل من قومه يقال له عمر رضى الله عنه، فقال: إنا نجد فى الكتاب أن بصاحبيه هذين يتمّ الله أمره. قال دحية: فلما قدمت على النبىّ صلى الله عليه وسلم أخبرته، قال: صدق، بأبى بكر وعمر يتمّ الله هذا الأمر بعدى. والله الموفق. ومنه ما روى عن حكيم «3» بن حزام قال: دخلت الشام للتجارة «4» قبل أن أسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكّة، فأرسل قيصر إلينا «5» ، فجئناه ومعنا أميّة بن الجزء: 16 ¦ الصفحة: 151 أبى الصّلت الثّقفىّ، فقال: من أى العرب أنتم؟ وما قرابتكم من هذا الرجل الذى يزعم أنه نبى؟ فقال حكيم: فقلت أنا ابن عمه، يجمعنى وإياه الأب الخامس، فقال: هل أنتم صادقىّ فيما أريكموه وأسألكم عنه؟ قلنا: نعم، نصدقك أيها الملك، فقال: أنتم ممن اتّبعه أو ممن ردّ عليه؟ قلنا: ممن ردّ عليه ما جاء به وعاداه، ولكنا نصدقك مع هذا، قال: احلفوا لى بآلهتكم لتصدقنّنى فى جميع ما أسألكم عنه وأعرضه عليكم، فحلفنا له وأعطيناه من المواثيق ما أرضاه، فسألنا عن أشياء مما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه بها، ثم نهض واستنهضنا معه، فأتى كنيسة فى قصره، فأمر بفتحها ودخل ونحن معه، وجاء إلى ستر وأمر بكشفه فإذا صورة رجل، قال: أتعرفون من هذه صورته؟ قلنا: لا. قال: هذه صورة آدم، ثم تتبّع أبوابا يفتحها ويكشف عن صور الأنبياء واحدا بعد واحد، ويقول: هذا صاحبكم «1» ؟ فنقول: لا. حتى فتح بابا وكشف لنا سترا عن صورة محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: أتعرفون هذا؟ قلنا: نعم، هذه صورة صاحبنا، فقال: أتدرون منذكم صوّرت؟ قلنا: لا. قال: منذ أكثر من ألف سنة، فإن صاحبكم «2» نبىّ مرسل فاتّبعوه، ولوددت أنى عنده فأشرب ما يغسل من «3» قدميه. وقد ورد فى الصحيحين «4» خبر قيصر مع أبى سفيان لمّا سأله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وسيأتى ذكره إن شاء الله تعالى. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 152 ومنه ما روى عن جبير بن مطعم «1» أنه قال: لما بعث الله النبى صلى الله عليه وسلم: خرجت تاجرا إلى الشام، فأرسل إلىّ عظيم الأساقفة فأتيته فقال: هل تعرف هذا الرجل الذى ظهر بمكة، يزعم أنه نبىّ؟ قال: فقلت هو ابن عمى، فأخذ بيدى وأدخلنى بيتا فيه تماثيل وقال: انظر ترى صورته ههنا؟ فنظرت فلم أرشيئا فأخرجنى من ذلك البيت، وأدخلنى بيتا أكبر منه فيه مثلها، وقال: انظر هل تراه ههنا، فنظرت فإذا صورة النبىّ صلى الله عليه وسلم، وإذا صورة أبى بكر وهو آخذ بعقب النبى صلى الله عليه وسلم، وإذا صورة عمر وهو آخذ بعقب أبى بكر، فقال: هل رأيته؟ فقلت: نعم هوذا، قال: أتعرف الذى أخذ بعقبه؟ قلت: نعم، هو ابن أبى قحافة، قال: وهل تعرف الذى هو آخذ بعقبه؟ قلت نعم، هذا عمر بن الخطاب ابن عمّنا، فقال: أشهد أنه رسول الله، وأن هذا هو الخليفة من بعده، وأن هذا هو الخليفة من بعد هذا. وهذا باب متسع لو استقصيناه لطال، ولو سطرنا ما وقفنا عليه منه لا نبسطت هذه السيرة، وخرجت عن حدّ الاختصار، وفيما أوردناه كفاية. فلنذكر بشائر كهّان العرب والله أعلم. وأما من بشّر به صلى الله عليه وسلم من كهّان العرب فقد قدمنا فى الباب الثالث من القسم الثانى من الفن الثانى من كتابنا هذا أخبار الكهنة، وذكرنا طرفا من إخبارهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، مما نستثنيه فى هذا الموضع، ونذكر ما عداه، ولا يشترط الاستيعاب لتعذّره، ولا إثبات جميع ما وقفنا عليه أيضا من ذلك لأنه يوجب البسط والإطالة، بل نذكر من ذلك ما نقف إن شاء الله تعالى عليه مما فيه الكفاية، وإن كانت نبوّة نبيّنا صلى الله عليه وسلم أظهر الجزء: 16 ¦ الصفحة: 153 وأشهر وأقطع من أن يحتاج فيها إلى ذكر ما ذكرناه، وما نذكره، وإنما نورد ما أوردناه ليقف عليه من لم يتتبع أحواله صلى الله عليه وسلم، ولا طالع سيره، وليعلم أن امره صلى الله عليه وسلم لم يفجأ الناس، بل جاءهم على بيّنة واستبصار، وآثار وأخبار، ومعجزات ظهرت، نذكرها بعد إن شاء الله تعالى. فمن بشائر الكهّان رؤيا ربيعة بن نصر وتأويل سطيح وشقّ لها. قال محمد بن إسحاق بن يسار المطّلبىّ «1» : كان ربيعة بن نصر ملك اليمن بين أضعاف ملوك التّتابعة، فرأى رؤيا هالته [وفظع بها «2» ] ، فلم يدع كاهنا ولا ساحرا ولا [عائفا ولا «3» ] منجّما من أهل مملكته إلا جمعه إليه، فقال لهم: إنى قد رأيت رؤيا هالتنى وفظعت بها، فأخبرونى بها وبتأويلها، قالوا له: اقصصها علينا نخبرك بتأويلها، قال: إنى إن أخبرتكم بها لم أطمئنّ إلى خبركم عن تأويلها، فإنه لا يعرف تأويلها إلا من عرفها قبل أن أخبره بها، فقال له رجل منهم: فإن كان الملك يريد هذا فليبعث إلى سطيح وشقّ، فإنه ليس أحد أعلم منهما «4» ، فإنهما يخبرانه بما سأل عنه. قال ابن هشام: واسم سطيح «5» : ربيع بن ربيعة بن مسعود بن مازن بن ذئب ابن عدىّ بن مازن بن غسّان «6» . وشقّ بن صعب بن يشكر بن رهم بن أفرك بن قيس ابن عبقر بن أنمار بن نزار. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 154 قال ابن إسحاق: فبعث إليهما، فقدم عليه سطيح قبل شقّ، فقال له: إنى رأيت رؤيا هالتنى وفظعت بها فأخبرنى بها، فإنك إن قضيتها أصبت «1» تأويلها، قال: أفعل؛ رأيت حممة «2» ، خرجت من ظلمة، فوقعت بأرض تهمة «3» ، فأكلت منها كلّ ذات جمجمة «4» ؛ فقال له الملك: ما أخطأت منها شيئا يا سطيح، فما عندك فى تأويلها؟ قال: أحلف بما بين الحرّتين «5» من حنش، لتهبطنّ أرضكم الحبش، فليملكنّ ما بين أبين «6» إلى جرش» ، فقال الملك: وأبيك يا سطيح إن هذا لنا لغائظ موجع، فمتى هو كائن، أفى زمانى أم بعده؟ قال: لا. بل بعده بحين، أكثر من ستّين أو سبعين، يمضين من السنين، قال: أفيدوم ذلك من ملكهم أم ينقطع؟ قال: لا. بل ينقطع لبضع وسبعين «8» من السنين، ثم يقتلون ويخرجون منها هاربين، قال: ومن يلى ذلك من قتلهم وإخراجهم؟ قال: يليه إرم «9» ذى يزن، يخرج عليهم من عدن، فلا يترك منهم أحدا باليمن، قال: أفيدوم ذلك من سلطانه أم ينقطع؟ قال: بل ينقطع، قال: ومن يقطعه؟ قال: نبىّ زكىّ، يأتيه الوحى من قبل العلىّ، قال: وممن هذا النبىّ؟ قال: رجل من ولد غالب بن فهر بن مالك بن النّضر، يكون الملك فى قومه إلى آخر الدّهر، قال: وهل للدهر من آخر؟ قال: نعم، يوم يجمع فيه الأوّلون الجزء: 16 ¦ الصفحة: 155 والآخرون، يسعد فيه المحسنون، ويشقى فيه المسيئون، قال: أحقّ ما تخبرنى؟ قال: نعم، والشّفق والغسق، والفلق إذا اتّسق؛ إن ما أنبأتك به لحقّ. ثم قدم عليه شقّ فقال له كقوله لسطيح، وكتمه ما قال سطيح، لينظر أيتّفقان أم يختلفان؟ فقال «1» : نعم، رأيت حممة «2» ، خرجت من ظلمة، فوقعت بين روضة وأكمة، فأكلت منها كل ذات نسمة. فلما قال ذلك عرف أنهما قد اتّففا، وأن قولهما واحد، فقال له الملك: ما أخطأت ياشقّ منها شيئا، فما عندك فى تأويلها؟ فقال: أحلف بما بين الحرّتين من إنسان، لينزلنّ أرضكم السودان، فليغلبنّ على كلّ طفلة «3» البنان، وليملكنّ ما بين أبين إلى نجران، فقال له الملك: وأبيك ياشقّ، إن هذا لنا لغائظ موجع، فمتى هو كائن أفى زمانى أم بعده؟ قال: لا. بل بعده بزمان، ثم يستنقذكم منهم عظيم ذوشان، ويذيقهم أشدّ الهوان، قال: ومن هذا العظيم الشان؟ قال: غلام ليس بدنىّ «4» ولا مدنّ «5» يخرج عليهم من بيت ذى يزن، قال: أفيدوم سلطانه أم ينقطع؟ قال: بل ينقطع برسول مرسل، يأتى بالحق والعدل بين أهل الدين والفضل، يكون الملك فى قومه إلى يوم الفصل، قال: وما يوم الفصل؟ قال: يوم تجزى فيه الولاة، يدعى فيه من السماء بدعوات، يسمع فيها الأحياء والأموات، ويجمع فيها الناس للميقات، يكون فيه لمن اتّقى الفوز والخيرات، قال: أحقّ ما تقول؟ قال: إى وربّ السماء والأرض، وما بينهما من رفع وخفض، إنّ ما أنبأتك به لحق ما فيه أمض «6» ، قال: فوقع فى نفس ربيعة بن نصر ما قالا، فجهّز بنيه وأهل بيته الجزء: 16 ¦ الصفحة: 156 إلى العراق بما يصلحهم، وكتب إلى ملك من ملوك فارس يقال له سابور، فأسكنهم فى الحيرة، فمن بقية ولد ربيعة بن نصر النّعمان بن المنذر. ومن ذلك ما روى أن مرثد بن عبد كلال قفل من غزاة غزاها بغنائم عظيمة، فوفد عليه زعماء العرب وشعراؤها وخطباؤها يهنّونه؛ فرفع الحجاب عن الوافدين، فأوسعهم عطاء، واشتدّ سروره بتقريظ الخطباء والشعراء، فبينا هو على ذلك أرى فى المنام رؤيا أخافته وذعرته وهالته فى حال منامه، فلما انتبه أنسيها حتى ما تذكّر منها شيئا، وثبت ارتياعه فى نفسه لها، فانقلب سروره حزنا، فاحتجب عن الوفود حتى أساءوا الظن به، ثم حشد الكهّان، فجعل يخلو بكاهن كاهن ثم يقول: أخبرنى عما أريد أن أسألك، فيجيبه الكاهن بأن لا علم عندى، حتى لم يدع كاهنا علمه، فتضاعف قلقه، فقالت له أمّه، وكانت قد تكهّنت: أبيت اللعن! إن الكواهن أهدى إلى ما تسأل عنه، لأن أتباع الكواهن من الجن ألطف من أتباع الكهّان، فأمر بحشر الكواهن إليه، وسألهن كما سأل الكهّان فلم يجد عند واحدة منهن علم ما أراد علمه، فلما يئس من طلبته سلا عنها؛ ثم إنه بعد ذلك ذهب يتصيّد فأوغل فى الصيد، وانفرد عن أصحابه، فرفعت له أبيات فى ذرى جبل وقد لفحه الهجير، فعدل إلى الأبيات، وقصد بيتا منها كان منفردا عنها، فبرزت إليه منه عجوز فقالت: انزل بالرّحب والسّعة، والأمن والدّعة، والجفنة المدعدعة، والعلبة المترعة، فنزل عن جواده ودخل البيت، فلما احتجب عن الشمس وخفقت عليه الأرواح نام فلم يستيقظ حتى تصرّم الهجير، فجلس يمسح عينيه فإذا بين يديه فتاة لم ير مثلها جمالا وقواما، فقالت له: أبيت اللّعن أيها الملك الهمام! هل لك فى الطعام؟ فاشتدّ إشفاقه، وخاف على نفسه لما رأى أنها قد عرفته، وتصامم عن كلمتها، فقالت له: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 157 لا حذر، فداك البشر، فجدّك الأكبر، وحظّنا بك الأوفر، ثم قرّبت إليه ثريدا وقديدا وحيسا، وقامت تذب عنه حتى انتهى أكله ثم سقته لبنا صريفا وضريبا فشرب ما شاء، وجعل يتأمّلها مقبلة ومدبرة فملأت عينيه حسنا، وقلبه هوى، ثم قال لها: ما اسمك يا جارية؟ قالت: اسمى عفيراء، قال لها: من الذى دعوته الملك الهمام؟ قالت: مرثد العظيم الشان، الحاشر الكواهن والكهّان، لمعضلة يعلّ بها الجان، قال يا عفيراء: أتعلمين ما تلك المعضلة؟ قالت: أجل أيها الملك الهمام، إنها رؤيا منام، ليست بأضغاث أحلام، قال: أصبت يا عفيراء، فما تلك الرؤيا؟ قالت: رأيت أعاصير زوابع، بعضها لبعض تابع، فيها لهب لامع، ولها دخان ساطع، يقفوها نهر متدافع، وسمعت فيما أنت سامع، دعاء ذى جرس صادع: هلمّوا إلى المشارع، هلموا إلى المشارع، روىّ جارع، وغرق كارع. قال الملك: أجل هذه رؤياى! فما تأويلها يا عفيراء؟ قالت: الأعاصير «1» الزوابع، ملوك تبابع، والنهر علم واسع، والداعى نبى شافع، والجارع ولىّ له تابع، والكارع عدوّله منازع. قال: يا عفيراء أسلم هذا النبىّ أم حرب؟ قالت: أقسم برافع السماء، ومنزل الماء «2» من العماء، إنه لمبطل الدماء، ومنطق العقائل نطق الإماء. قال الملك: إلام يدعو يا عفيراء؟ قالت: إلى صلاة وصيام، وصلة أرحام، وكسر أصنام، وتعطيل أزلام، واجتناب آثام. قال الملك: يا عفيراء، من قومه؟ قالت: مضر بن نزار، ولهم منه نقع مثار، يتجلّى عن ذبح وإسار، قال: يا عفيراء: إذا ذبح قومه فمن أعضاده؟ قالت: أعضاده غطاريف يمانون، طائرهم به ميمون، يعزبهم فيعزّون «3» ، ويدمّث بهم الحزون، فإلى نصره يعتزون، فأطرق الجزء: 16 ¦ الصفحة: 158 الملك يؤامر نفسه فى خطبتها، فقالت: أبيت اللّعن! إن تابعى غيور، ولأمرى صبور، وناكحى مقبور، والكلف بى ثبور. فنهض الملك مبادرا، فجال فى صهوة جواده، وانطلق فبعث إليها بمائة ناقة كوماء. ويشبه ما ذكرناه رؤيا الموبذان وقد تقدّمت فى أخبار الكهان. ومن ذلك ما روى عن لهيب بن مالك اللهبىّ أنه قال: حضرت عند «1» رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت الكهانة «2» فقلت: بأبى أنت وأمى يا رسول الله! نحن أوّل من عرف حراسة السماء وزجر الشياطين، ومنعهم من استراق السمع عند القذف بالنجوم؛ وذلك أنا اجتمعنا إلى كاهن لنا يقال له خطر بن مالك، وكان شيخا كبيرا قد أتت عليه مائة سنة وثمانون سنة، وكان أعلم «3» كهّاننا، فقلنا له: يا خطر «4» ، هل عندك علم من هذه النجوم التى يرمى بها؟ فإنا قد فزعنا لها، وقد خفنا سوء عاقبتها، فقال: ائتونى بسحر «5» ، أخبركم الخبر، بخير أم ضرر «6» . وأمن أم حذر؛ قال: فانصرفنا عنه يومنا، فلما كان من غد فى وجه السحر أتيناه، فإذا هو قائم على قدميه شاخص إلى السماء بعينيه، فناديناه يا خطر، فأومأ إلينا أن امسكوا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 159 فأمسكنا، فانقضّ نجم من السماء عظيم، فصرخ الكاهن: أصابه إصابه «1» ، خامره عقابه، عاجله عذابه، أحرقه شهابه، زايله جوابه، يا ويله ما حاله، بلبله بلباله «2» ، عاوده خباله، تقطعت حباله، وغيرت أحواله؛ ثم أمسك طويلا، ثم قال: يا معشر بنى قحطان، أخبركم بالحق والبيان، أقسمت بالكعبة ذات الأركان، والبلد المؤتمن السكان «3» . قد منع السمع عتاة الجان، بثاقب بكفّ ذى سلطان، من أجل مبعوث عظيم الشان، يبعث بالتنزيل والقرآن، وبالهدى وفاضل الفرقان، تبطل به عبادة الأوثان. قال: قلنا يا خطر، إنك لتذكر أمرا عجيبا، فماذا ترى لقومك؟ فقال: أرى لقومى ما أرى لنفسى ... أن يتبعوا خير نبى الإنس برهانه مثل شعاع الشمس ... يبعث من مكة دار الحمس «4» بمحكم التنزيل غير اللبس قلنا: يا خطر، وممّ «5» هو؟ فقال: والحياة والعيش، إنه لمن قريش. ما فى حكمه طيش، ولا فى خلقه هيش «6» ، يكون فى جيش وأىّ جيش، من آل قحطان وآل ريش «7» . قال: قلنا بيّن لنا من أىّ قريش هو، قال: والبيت ذى الدّعائم، والرّكن الجزء: 16 ¦ الصفحة: 160 والأحائم «1» ، إنه لمن نجل هاشم، من معشر أكارم، يبعث بالملاحم، وقتل كلّ ظالم؛ ثم قال: هذا هو البيان، أخبرنى به رئيس الجانّ؛ ثم قال: الله أكبر، جاء الحق وظهر، وانقطع عن الجنّ الخبر؛ ثم سكت «2» فأغمى عليه، فما أفاق إلا بعد ثلاث «3» فقال: لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد نطق عن مثل نبوّة، وإنه ليبعث يوم القيامة أمة وحده» . والله أعلم. ومنه ما روى أن سفيان بن مجاشع بن دارم احتمل ديات دماء كانت من قومه، فخرج يستعين فيها، فدفع إلى حىّ من تميم، فإذاهم مجتمعون إلى كاهنة تقول: «العزيز من والاه، والذّليل من خالاه، والموفور من مالاه، والموتور من عاداه» ؛ قال سفيان: من تذكرين لله أبوك؟ فقالت: «صاحب حلّ وحرم، وهدى وعلم وبطش وحلم، وحرب وسلم، رأس رءوس، ورائض يموس «4» ، وماحى بوس، وماهد وعوس، «وناعش منعوس «5» » ؛ قال سفيان: من هو لله أبوك؟ قالت: «نبىّ مؤيدّ، قد آن حين يوجد، ودنا أو ان يولد، يبعث إلى الأحمر والأسود، بكتاب لا يفنّد، اسمه محمد» ؛ قال سفيان: لله أبوك، أعربىّ هو أم عجمىّ؟ قالت: «أما والسماء ذات العنان، والشجر ذات الأفنان، إنه لمن معدّ بن عدنان، فقدك يا سفيان» ؛ فأمسك سفيان عن سؤالها، ثم إن سفيان ولد له غلام فسماه محمدا لما رجاه من أن يكون النبىّ الموصوف. ومنه ما روى أن عمرو بن معديكرب عوتب على ارتداده عن الإسلام فقال: والله ما هو إلا الشّقاء، ولقد علمت أن محمدا رسول الله قبل أن يوحى إليه، قيل: كيف كان ذلك يا أبا ثور؟ قال: حدث بين بنى زبيد تناجش وتظالم، ونما الجزء: 16 ¦ الصفحة: 161 إلى أن سفك بعضهم دماء بعض، ففزع حلماؤهم إلى كاهن لهم رجوا أن يكون عنده المخرج مما نزل بهم، فقال الكاهن: «أقسم بالسماء ذات الأبراج، والأرض ذات الأدراج، والريح ذات العجاج، والبحار ذات الأمواج، والجبال ذات الفجاج، إنّ هذا الإمراج والارتجاج، للقاح ذو نتاج» ؛ قالوا: وما نتاجه؟ قال: «ظهور نبىّ صادق، بكتاب ناطق، وحسام والق «1» » ، قالوا: أين يظهر؟ وإلام يدعو؟ قال: «يظهر بصلاح؛ ويدعو إلى الفلاح، ويعطّل القداح، وينهى عن الرّاح والسّفاح، وعن كل أمر قباح» ؛ قالوا: ممن هو؟ قال: «من ولد الشيخ الأكرم، حافر زمزم، ومطعم الطير الحوّم، والسباع الصوّم» ؛ قالوا: وما اسمه؟ قال: «اسمه محمد، وعزّه سرمد، وخصمه مكمد» . فهذه جملة كافية من أخبار الكهّان. فلنذكر ما نطق به الجانّ من أجواف الأصنام، وما سمع من الهواتف، والله المستعان. وأما من بشّر به عليه الصلاة والسلام من الجانّ الذين نطقوا من أجواف الأصنام وما سمع من العتائر. فمن ذلك ما روى عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما فى سبب إسلام عمر، وأنه كان قد ضمن لقريش قتل النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، وخرج لذلك، فمرّ بقوم من خزاعة وقد اعتمدوا صنما لهم يريدون أن يتحاكموا إليه، فقالوا لعمر: ادخل لتشهد الحكم، فدخل معهم، فلما مثلوا بين يدى الصّنم سمعوا هاتفا من جوفه يقول «2» : يأيها الناس ذوو الأجسام ... ما أنتم وطائش الأحلام «3» الجزء: 16 ¦ الصفحة: 162 ومسند «1» الحكم إلى الأصنام ... أصبحتم كراتع الأنعام أما ترون ما أرى أمامى ... من ساطع يجلو دجى الظلام قد لاح للناظر من تهام ... وقد بدا للناظر الشآمى محمد ذو البرّ والإكرام ... أكرمه الرحمن من إمام قد جاء بعد الشّرك بالإسلام ... يأمر بالصلاة والصيام والبرّ والصّلات للأرحام ... ويزجر الناس عن الآثام فبادروا سبقا إلى الإسلام ... بلا فتور وبلا إحجام قال: فتفرّق القوم عن الصنم ولم يحضره يومئذ أحد إلّا أسلم؛ ثم ذكر ابن عباس انطلاق عمر إلى منزل أخته على ما نذكر ذلك أو نحوه عند ذكرنا إسلام عمر رضى الله عنه. قال: ثم خرج لقصد النبىّ صلى الله عليه وسلم، فلقيه رجال من بنى سليم «2» قد تنافروا إلى صنم لهم ليحكم بينهم اسمه الضّمار «3» ، فدعوا عمر إلى الدخول معهم إليه ففعل، فلما وقفوا بين يدى الصّنم سمعوا هاتفا من جوفه يقول: أودى الضّمار وكان يعبد مرة «4» ... قبل الكتاب وقبل بعث محمد إن الذى ورث النبوّة والهدى ... بعد ابن مريم من قريش مهتدى سيقول من عبد الضّمار ومثله ... ليت الضّمار ومثله لم يعبد الجزء: 16 ¦ الصفحة: 163 أبشر أبا حفص بدين صادق ... تهدى إليه بالكتاب المرشد واصبر أبا حفص قليلا إنه ... يأتيك عن فرق أعزّ بنى عدى لا تعجلنّ فأنت ناصر دينه ... حقّا يقينا باللسان وباليد قال: فعجب القوم منه ونكّسه عمر، وغيّر الله ما فى صدره من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومنه ما روى أن وائل بن حجر وكان ملكا مطاعا «1» ، وكان له صنم من العقيق الأحمر يعبده ويحبّه حبّا شديدا، ولم يكن يكلّم منه، إلا أنه كان يرجو ذلك، فيكثر له السجود، ويعتر له العتائر، فبينا هو نائم فى الظهيرة أيقظه صوت منكر من المخدع الذى فيه الصّنم، فقام من مضجعه وأتاه فسجد أمامه، فإذا قائل «2» يقول: يا عجبا «3» لوائل بن حجر ... يخال يدرى وهو ليس يدرى ماذا يرجّى من نحيت صخر ... ليس بذى عرف ولا ذى نكر ولا بذى نفع ولا ذى ضرّ ... لو كان ذا حجر أطاع أمرى «4» قال وائل: فرفعت رأسى واستويت جالسا، ثم قلت: قد أسمعت أيها الناصح، فماذا «5» تأمرنى؟ فقال: ارحل إلى يثرب ذات النّخل ... وسر إليها سير مشمعلّ تدن بدين «6» الصائم المصلّى ... محمد المرسل «7» خير الرسل الجزء: 16 ¦ الصفحة: 164 قال وائل: ثم خرّ الصنم لوجهه فانكسر أنفه، واندقّت عنقه، فقمت إليه فجعلته رفاتا، ثم سرت مسرعا حتى أتيت المدينة؛ وذكر إسلامه بين يدى النبى صلى الله عليه وسلم. والله المعين. ومنه خبر مازن الطائى فى سبب إسلامه رواه البيهقى فى دلائل النبوّة بسند قال: كان مازن الطائىّ «1» بأرض عمان بقرية تدعى سمايل «2» ، وكان يسدن الأصنام لأهله، وكان له صنم يقال له باجر «3» ، قال مازن: فعترت «4» ذات يوم عتيرة، والعتيرة: الذبيحة «5» ، فسمعت صوتا من الصنم يقول: يا مازن: أقبل إلىّ أقبل، تسمع ما لا يجهل، هذا نبى مرسل، جاء بحق منزل، فآمن به كى تعدل، عن حرّ نار تشعل، وقودها بالجندل. قال مازن: فقلت والله إن هذا لعجب، ثم عترت بعد عشرة أيام عتيرة أخرى، فسمعت صوتا آخر أبين من الأوّل وهو يقول: يا مازن اسمع تسرّ، ظهر خير وبطن شرّ، بعث نبىّ من مضر، بدين الله الكبر «6» ، فدع نحيتا من حجر، تسلم من حرّ سقر؛ قال مازن: فقلت إن هذا والله لعجب، إنه لخير يراد بى؛ وقدم علينا رجل من أهل الحجاز فقلنا: ما الخبر وراءك؟ قال «7» : الجزء: 16 ¦ الصفحة: 165 خرج رجل بتهامة يقول لمن أتاه: أجيبوا داعى الله عز وجل، يقال له أحمد، قال: فقلت هذا والله نبأ ما سمعت، فثرت «1» إلى الصنم فكسّرته أجذاذا، وشددت راحلتى ورحلت، حتى أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشرح إلىّ الإسلام فأسلمت، وأنشأت أقول: كسرت باجر أجذاذا وكان لنا ... ربا نطيف به ضلّا بتضلال فالهاشمىّ هدانا من ضلالتنا ... ولم يكن دينه منّى «2» على بال يا راكبا بلّغن عمرا وإخوته «3» ... أنى لما قال ربّى باجر قالى قال مازن: فقلت يا رسول الله، إنى امرؤ مولع بالطرب وشرب الخمر، وبالهلوك «4» من النساء، وألحّت علينا السنون «5» فأذهبن الأموال، وأهزلن الذرارى والرجال، وليس لى ولد، فادع الله أن يذهب عنى ما أجد، ويأتينى بالحيا، ويهب لى ولدا، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: اللهم أبدله بالطّرب قراءة القرآن، وبالحرام الحلال، [وبالخمر ريّا لا إثم فيه، وبالعهر عفّة الفرج «6» ] وائته بالحيا، وهب له ولدا. قال مازن: فأذهب الله عنى كل ما أجد، وأخصبت عمان، وتزوجت أربع حرائر «7» ، ووهب لى حيان بن مازن، وأنشأت أقول: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 166 إليك رسول الله خبّت مطيّتى ... تجوب الفيافى من عمان إلى العرج لتشفع لى يا خير من وطئ الحصا ... فيغفر لى ربى فأرجع بالفلج «1» إلى معشر خالفت فى الله دينهم ... فلا رأيهم رأيى ولا شرجهم شرجى «2» وكنت امرأ بالعهر «3» والخمر مولعا ... شبابى حتى آذن الجسم بالنّهج «4» فبدّلنى بالخمر خوفا وخشية ... وبالعهر إحصانا وحصّن لى فرجى فأصبحت همّى فى جهاد ونيّتى ... فلله ما صومى ولله ما حجّى قال مازن: فلما رجعت إلى قومى أنّبونى وشتمونى، وأمروا شاعرهم فهجانى، فقلت إن هجوتهم فإنما أهجو نفسى، فتركتهم، قال: ثم إن القوم ندموا وكنت القيّم بأمورهم، فقالوا ما عسى أن نصنع به، فجاءنى منهم أزفلة «5» عظيمة فقالوا: يابن عمّ، عبنا عليك أمرا فنهيناك عنه، فإذ أبيت فنحن تاركوك، ارجع معنا، فرجعت معهم، فأسلموا بعد كلّهم. ومازن هذا هو الذى أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم أرض عمان. ومنه ما روى عن جبير بن مطعم عن أبيه قال: كنا جلوسا عند صنم لنا، فإذا صائح يصيح من جوفه: اسمعوا إلى العجب، وتوقّعوا حادثا قد اقترب، استراق السمع ذهب، وترمى [الجنّ] بالشهب، لنبىّ من العرب، هاشمىّ النسب، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 167 مولده بمكّة، ومهاجره يثرب؛ قال: وهذا قبل أن يظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومنه ما روى عن عبد الله بن ساعدة الهذلى أنه قال: كنا نعبد صنما يقال له سواع، وكانت لى غنم فجربت فسقتها إليه وأدنيتها منه أرجو بركته، فسمعت مناديا من جوف الصّنم يقول: العجب كل العجب، سدلت الحجب، ورميت الجن بالشّهب، وسقطت النّصب، ونزل خير الكتب، على خير العرب؛ قال: فسقت غنمى وعدت إلى أهلى، وقد بغّضت إلىّ الأوثان، فجعلت أنقّب عن الحوادث حتى بلغنى ظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته فأسلمت. وسنذكر إن شاء الله تعالى فى خبر إسلام الجن ما هتفوا به فأسلم بسببه من أسلم لمّا سمعوا- ما تقف عليه هناك. وحيث ذكرنا ما ذكرنا من المبشّرات، فلنذكر مبعثه صلى الله عليه وسلم. ذكر مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وما بدئ به من النبوّة روى عن عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من النبوّة حين أراد الله كرامته ورحمة العباد به الرؤيا الصادقة «1» ، لا يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا فى نوم إلا جاءت كفلق الصّبح «2» ، وحبب الله إليه الخلوة، فلم يكن شىء أحب إليه من أن يخلو وحده. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 168 وروى محمد بن إسحاق بن يسار المطّلبى عن عبد الملك بن عبيد الله «1» بن أبى سفيان ابن العلاء بن حارثة «2» الثقفىّ، وكان واعية «3» ، عن بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراده الله بكرامته، وابتدأه بالنبوّة؛ كان إذا خرج لحاجته أبعد حتى تحسر عنه البيوت «4» ، ويفضى إلى شعاب «5» مكّة وبطون «6» أوديتها، فلا يمرّ بحجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله، فيلتفت حوله عن يمينه وشماله وخلفه فلا يرى إلا الشجر والحجارة؛ فمكث صلى الله عليه وسلم كذلك يرى ويسمع ما شاء الله أن يمكث، ثم جاءه جبريل بما جاءه من كرامة الله وهو بحراء فى شهر رمضان. وعن البراء بن عازب رضى الله عنه قال: بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم وله يومئذ أربعون سنة ويوم، فأتاه جبريل ليلة السبت وليلة الأحد، ثم ظهر له بالرسالة يوم الاثنين لسبع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان فى حراء، وهو أوّل موضع نزل فيه القرآن. وحكى أبو عمر بن عبد البرّ أن محمد بن موسى الخوارزمىّ قال: بعث نبينا صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين لثمان خلت من شهر ربيع الأوّل سنة إحدى وأربعين من عام الفيل. فكان من مولده إلى أن بعثه الله عز وجل أربعون سنة ويوم. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 169 وعن عبد الله بن الزبير وغيره: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور فى حراء [شهرا «1» ] من كل سنة، يطعم من جاءه من المساكين، فإذا قضى صلى الله عليه وسلم جواره من شهره ذلك، كان أول ما يبدأ به- إذا انصرف من جواره- الكعبة قبل أن يدخل بيته، فيطوف بها سبعا أو ما شاء الله من ذلك، ثم يرجع إلى بيته، حتى إذا كان الشهر الذى أراد الله به فيه من كرامته ما أراد، من السنة التى بعثه فيها، وذلك فى شهر رمضان، خرج صلى الله عليه وسلم إلى حراء «2» كما كان يخرج لجواره ومعه أهله، حتى إذا كانت الليلة التى أكرمه الله فيها برسالته، ورحم العباد بها، جاءه جبريل بأمر الله؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جاءنى وأنا نائم بنمط «3» من ديباج فيه كتاب، فقال: اقرأ؛ [قال «4» ] : قلت: ما أقرأ؟ قال: فغتّنى «5» به حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلنى فقال: اقرأ؛ قلت: ما أقرأ؟ قال: فغتّنى به حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلنى فقال: اقرأ؛ قلت: ماذا أقرأ؟ ما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود لى بمثل ما صنع. فقال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) . قال: فقرأتها ثم انتهى فانصرف عنى، وهببت من نومى، فكأنّما كتب «6» فى قلبى كتابا؛ قال: فخرجت حتى إذا كنت فى وسط من الجبل سمعت صوتا من السماء يقول: يا محمد، أنت رسول الله، وأنا جبريل، قال: فرفعت رأسى أنظر [إلى السماء «7» ] ؛ فإذا جبريل فى صورة رجل صافّ قدميه فى أفق السماء يقول: يا محمد، أنت رسول الله، وأنا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 170 جبريل، [قال «1» ] : فوقفت أنظر إليه، فما أتقدّم وما أتأخر، وجعلت أصرف وجهى [عنه «2» ] فى آفاق السماء، فما أنظر فى ناحية منها إلا رأيته كذلك، فما زلت واقفا ما أتقدّم أمامى وما أرجع ورائى حتى بعثت خديجة رسلها فى طلبى، فبلغوا [أعلى «3» ] مكة ورجعوا إليها، وأنا واقف فى مكانى ذلك؛ ثم انصرف عنى. وانصرفت راجعا إلى أهلى حتى أتيت خديجة، فجلست إلى فخذها [مضيفا إليها «4» ] فقالت: يا أبا القاسم أين كنت؟ فو الله لقد بعثت رسلى فى طلبك حتى بلغوا [أعلى «5» ] مكة ورجعوا إلىّ، فحدّثتها «6» بالذى رأيت، فقالت: أبشر يا بن عمّ واثبت، فو الذى نفس خديجة بيده إنى لأرجونّ «7» أن تكون نبىّ هذه الأمة. ثم قامت فجمعت عليها ثيابها، ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى «8» ، وهو ابن عمها، وكان قد تنصر فى الجاهلية وقرأ الكتب، وسمع من أهل التوراة والإنجيل، فأخبرته بما أخبرها به رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى وسمع، فقال ورقة: قدّوس قدّوس، والذى نفس ورقة بيده، لئن كنت صدقتنى يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذى كان يأتى موسى، وإنه لنبىّ هذه الأمة، فقولى له فليثبت. فرجعت خديجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بقول ورقة بن نوفل، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره وانصرف صنع كما كان يصنع؛ بدأ بالكعبة فطاف بها، فلقيه ورقة بن نوفل وهو الجزء: 16 ¦ الصفحة: 171 يطوف بالكعبة فقال: يا بن أخى، أخبرنى بما رأيت وسمعت، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال له ورقة: والذى نفسى بيده إنك لنبىّ هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر الذى جاء موسى، ولتكذبنّه، ولتؤذينّه، ولتخرجنّه، ولتقاتلنّه «1» ، ولئن أنا أدركت ذلك اليوم، لأنصرنّ الله نصرا يعلمه، ثم أدنى رأسه منه فقبّل يا فوخه، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله. وذكر الإمام العدل سليمان التّيمى فى سيره «2» أن النبى صلى الله عليه وسلم حين أخبر خديجة عن جبريل، ولم تكن سمعت باسمه قطّ، ركبت «3» إلى بحيرا الرّاهب إلى الشام، قال الزهرىّ هو حبر من يهود تيماء، فسألته عن جبريل، فقال لها: قدّوس قدّوس، يا سيدة نساء قريش، أنّى لك بهذا الاسم؟ فقالت: بعلى ابن عمّى أخبرنى أنه يأتيه، فقال: قدّوس قدّوس ما علم به إلا نبىّ، فإنه السفير بين الله وبين أنبيائه، وإن الشياطين لا تجترئ «4» أن تتمثّل به ولا تتسمّى به. وكان غلام لعتبة بن ربيعة بن عبد شمس اسمه عدّاس من أهل نينوى «5» مدينة يونس عليه السلام، عنده علم من الكتاب أرسلت تسأله عن جبريل فقال: قدّوس [قدّوس «6» ] أنّى لهذه البلاد بذكر جبريل يا سيدة نساء قريش؟ فأخبرته بقول النبى صلى الله عليه وسلم، فقال عدّاس مثل قول الراهب. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 172 وروى البخارىّ- رحمه الله- فى صحيحه «1» بإسناده عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها: أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، كيف يأتيك الوحى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحيانا يأتينى مثل صلصلة «2» الجرس وهو أشدّه علىّ، فيفصم «3» عنى وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لى الملك رجلا فيكلّمنى فأعى ما يقول. قالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه الوحى فى اليوم الشديد البرد، فيفصم «4» عنه وإنّ جبينه ليتفصّد عرقا. وبسنده «5» عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: أوّل ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحى الرؤيا الصالحة فى النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصّبح، ثم حبّب إليه الخلاء، فكان يلحق بغار حراء، فيتحنّث فيه، وهو التعبّد الليالى ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزوّد لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها، حتى جاء الحق وهو فى غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: قلت: ما أنا بقارئ، قال: فأخذنى فغطّنى حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلنى فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذنى فغطّنى الثانية حتى بلغ من الجهد، ثم أرسلنى فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذنى فغطّنى الثالثة، ثم أرسلنى فقال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد، فقال: زمّلونى زمّلونى، فزمّلوه حتى ذهب عنه الرّوع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد الجزء: 16 ¦ الصفحة: 173 خشيت على نفسى، فقالت خديجة: كلّا والله، ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرّحم، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى ابن عم خديجة، وكان امرءا تنصّر فى الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبرانىّ «1» ، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمى، فقالت له خديجة: يابن عم اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يابن أخى، ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذى أنزل الله على موسى، يا ليتنى فيها جذعا، ليتنى أكون حيا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو مخرجىّ هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودى، وإن يدركنى يومك أنصرك نصرا مؤزرا؛ ثم لم ينشب ورقة أن توفى، وفتر الوحى. قال ابن شهاب «2» : وأخبرنى أبو سلمة بن عبد الرحمن أن جابر بن عبد الله الأنصارىّ قال وهو يحدّث عن فترة الوحى، فقال فى حديثه: بينا أنا أمشى إذ سمعت صوتا من السماء، فرفعت بصرى فإذا الملك الذى جاءنى بحراء جالس على كرسىّ بين السماء والأرض، فرعبت منه، فرجعت فقلت: زمّلونى زمّلونى، فأنزل الله: (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) ، فحمى الوحى وتتابع. قال محمد بن إسحاق «3» : وحدّثنى إسماعيل بن أبى حكيم مولى آل الزّبير أنه حدّث عن خديجة أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أى ابن عم، أتستطيع أن تخبرنى بصاحبك هذا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 174 الذى يأتيك إذا جاءك؟ قال نعم، قالت: فإذا جاءك فأخبرنى به، فجاءه جبريل عليه السلام كما كان يصنع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا خديجة، هذا جبريل قد جاءنى قالت: قم يابن عم فاجلس على فخذى اليسرى، فقام فجلس عليها، قالت: هل تراه؟ قال: نعم، قالت: فتحوّل فاقعد «1» على فخذى ايمنى، قال: فتحوّل فقعد «2» على فخذها اليمنى، فقالت: هل تراه؟ قال: نعم، قالت: فتحوّل فاجلس فى حجرى، فتحوّل فجلس فى حجرها، ثم قالت: هل تراه؟ قال: نعم: قال: فحسرت وألقت خمارها ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فى حجرها ثم قالت: هل تراه؟ قال: لا. قالت يابن عمّ: اثبت وأبشر، فو الله إنه لملك، ما هذا بشيطان. وكانت خديجة رضى الله عنها أوّل من آمن بالله وبرسوله وصدّق بما جاء به. وحكى أبو عمر بن عبد البر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرّ أمره ثلاث سنين ثم أمره الله تعالى بإظهار دينه والدعاء إليه، فأظهره بعد ثلاث سنين من مبعثه. قال: وقال الشعبى: أخبرت أن إسرافيل تراءى له ثلاث سنين. وروى ابن عبد البر بسنده إلى الشعبىّ قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربعين، ووكّل به إسرافيل عليه السلام ثلاث سنين، ثم وكّل به جبريل عليه السلام. وفى رواية عنه: ثم بعث إليه جبريل بالرسالة. وعنه أيضا قال: أنزلت عليه النبوّة وهو ابن أربعين، فقرن نبوّته إسرافيل عليه السلام ثلاث سنين، وكان يعلّمه الكلمة والشىء، ولم ينزل عليه القرآن على لسانه، فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوّته جبريل عليه السلام، فنزل القرآن على لسانه عشرين سنة. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 175 ذكر فترة الوحى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم وما أنزل بعد فترته قال «1» : وفتر الوحى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فترة «2» حتى شقّ ذلك عليه وأحزنه. واختلف فى مدة فترة الوحى، فقال ابن جريح: احتبس عنه الوحى اثنى عشر يوما، وقال ابن عباس رضى الله عنهما: خمسة عشر يوما، وقيل: خمسة وعشرين. وقال مقاتل: أربعين يوما. والله أعلم. روى البخارىّ «3» - رحمه الله- عن عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها، وساق الحديث بنحو ما تقدّم، قال: وفتر الوحى فترة حتى حزن النبى صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا حزنا غدا منه مراراكى يتردّى من رءوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكى يلقى نفسه منه تبدّى له جبريل فقال: يا محمد إنك رسول الله حقا، فيسكن لذلك جأشه، وتقرّ نفسه فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحى غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدّى له جبريل وقال له مثل ذلك. قال: وتكلم المشركون عند فترة الوحى بكلام، فأنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم: (وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) السورة بكمالها؛ وقيل فى سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ترك قيام الليل ليلتين أو ثلاثا لشكوى «4» أصابته، فجاءت امرأة فقالت: يا محمد، إنى لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث «5» ، فأنزل الله تعالى السورة. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 176 قال القاضى أبو الفضل عياض بن موسى رحمه الله فى كتابه المترجم (بالشفا بتعريف حقوق المصطفى «1» ) : تضمّنت هذه السّورة من كرامة الله تعالى لنبيّه وتنويهه به وتعظيمه إياه ستّة وجوه: الأوّل- القسم له عما أخبر به من حاله بقوله: (وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) أى وربّ الضحى، وهذا لمن عظم درجات المبّرة. الثانى- بيان مكانته عنده وحظوته لديه بقوله: (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) أى ما تركك وما أبغضك، وقيل ما أهملك بعد أن اصطفاك. الثالث- قوله: (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) . قال ابن إسحاق: أى مالك فى مرجعك عند الله أعظم مما أعطاك الله من كرامة الدنيا. وقال سهل: أى ما ذخرت لك من الشفاعة والمقام المحمود خير لك مما أعطيتك فى الدنيا. الرابع- قوله: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) ، وهذه آية جامعة لوجوه الكرامة وأنواع السعادة وشتات الإنعام فى الدّارين والزّيادة. قال ابن إسحاق «2» : يرضيه بالفلج فى الدّنيا والثواب فى الآخرة. وقيل: يعطيه الحوض والشفاعة، وروى عن بعض آل النبى «3» صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليس فى القرآن آية أرجى منها. ولا يرضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل أحد من أمّته النار» . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 177 الخامس- ما عدّه الله تعالى عليه من نعمه، وقرّره من آلائه قبله فى بقية السورة، من هدايته إلى ما هداه له، أو هداية الناس به على اختلاف التفاسير، ولا مال له فأغناه بما آتاه، أو بما جعله فى قلبه من القناعة والغنى، ويتيما فحدب عليه عمّه وآواه إليه، وقيل: آواه إلى الله، وقيل: يتيما لا مثال لك فآواك إليه، وقيل المعنى ألم يجدك فهدى بك ضالّا، وأغنى بك عائلا، وآوى بك يتيما، ذكّره بهذه المنن، وأنه- على المعلوم من التفسير- لم يهمله فى حال صغره وعيلته ويتمه، وقبل معرفته به ولا ودّعه ولا قلاه، فكيف بعد اختصاصه واصطفائه. والله أعلم السادس- أمره بإظهار نعمته عليه، وشكر ما شرّفه به بنشره وإشادة ذكره بقوله: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) ، فإنّ من شكر النعمة التحدّث بها، وهذا خاصّ له، عامّ لأمته. وقال ابن إسحاق «1» : أى بما جاءك من الله من نعمته وكرامته من النبوّة، فحدّث بها أى اذكرها وادع إليها. قال: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر ما أنعم الله به عليه وعلى العباد به من النبوّة سرّا «2» إلى من يطمئنّ إليه من أهله. قال: ثم فرضت الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم. والله الموفّق لطاعته. ذكر فرض الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم روى عن عائشة أمّ المؤمنين- رضى الله عنها- أنها قالت «3» : افترضت الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أوّل ما افترضت ركعتين «4» ركعتين كلّ صلاة، ثم إن الله تعالى أتمّها فى الحضر أربعا، وأقرها فى السّفر على فرضها الأوّل ركعتين. قال محمد بن إسحاق: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 178 وحدّثنى بعض أهل العلم أن الصلاة حين افترضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو بأعلى مكة، فهمز له بعقبه فى ناحية الوادى، فانفجرت منه عين فتوضّأ جبريل «1» ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر [إليه «2» ] ليريه كيف الطّهور للصلاة، ثم توضّأ رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رأى جبريل توضّأ، ثم قام به جبريل فصلّى به، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصلاته، ثم انصرف جبريل «3» ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خديجة فتوضّأ لها ليريها كيف الطّهور للصلاة كما أراه جبريل، فتوضّأت كما توضّأ [لها «4» ] رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلّى بها كما صلى به جبريل، فصلّت بصلاته «5» . وعن عبد الله بن عباس «6» رضى الله عنهما قال: «لما فرضت الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل فصلّى به الظّهر حين مالت الشمس، ثم صلّى به العصر حين كان ظلّه مثله، ثم صلّى به المغرب حين غابت الشمس، ثم صلى به العشاء الآخرة حين ذهب الشّفق، ثم صلّى به الصبح حين طلع الفجر، ثم جاء فصلّى به الظهر من غد حين «7» كان ظلّه مثله، ثم صلى به العصر حين كان ظلّه مثليه، ثم صلّى به المغرب حين غابت الشمس لوقتها بالأمس، ثم صلى به العشاء الآخرة حين ذهب ثلث اللّيل الأوّل، ثم صلّى به الصبح مسفرا غير مشرق، ثم قال: يا محمد الصلاة فيما بين صلاتك اليوم وصلاتك بالأمس «8» » . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 179 ذكر أوّل من أسلم وآمن بالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم وصدّق بما جاء به من عند الله قد تقدّم أن أوّل من آمن خديجة رضى الله عنها، وذهب محمد بن إسحاق «1» إلى أن أوّل من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم وصلّى وصدّق بما جاء به «2» من الله تعالى علىّ بن أبى طالب، ثم زيد بن حارثة «3» مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أبو بكر الصدّيق «4» رضى الله عنهم. وسنذكر إن شاء الله إسلام كل واحد منهم. أما إسلام أبى بكر الصديق رضى الله عنه فالذى عليه الأكثرون أنه أوّل من أسلم من الذكور، وقد روى أبو الفرج بن الجوزىّ رحمه الله فى كتابه المترجم (بصفة الصفوة «5» ) عن ابن عبّاس، وحسّان بن ثابت، وأسماء بنت أبى بكر، وإبراهيم النّخعىّ، قالوا كلّهم: أوّل من أسلم أبو بكر، قال: وقال يوسف بن يعقوب بن الماجشون: أدركت أبى ومشيختنا محمد بن المنكدر، وربيعة بن أبى عبد الرحمن، وصالح ابن كيسان، وسعد بن إبراهيم، وعثمان بن محمد الأخنسى، وهم لا يشكّون أن أوّل القوم [إسلاما «6» ] أبو بكر. وروى أبو الفرج «7» بسنده عن ابن عباس أنه قال: «أوّل من صلى أبو بكر رضى الله عنه» ، ثم تمثّل بأبيات حسّان بن ثابت: إذا تذكّرت شجوا من أخى ثقة ... فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا خير البرية أتقاها وأعدلها ... إلا النبىّ، وأولاها بما حملا الثانى التالى المحمود مشهده ... وأوّل الناس حقا صدّق الرسلا والله يهدى من يشاء. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 180 وأما إسلام علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه - فقد اختلف فى سنّه حال إسلامه؛ فقيل: أسلم وهو ابن عشر سنين «1» ، وقيل: تسع سنين، وقيل اثنتى عشرة سنة، وقيل أكثر من ذلك إلى عشرين سنة، وهو بعيد، لأنه آمن فى ابتداء الأمر وظهور النبوّة. والله أعلم. وكان من حديث إسلامه ما رواه محمد بن إسحاق «2» عن عبد الله بن أبى نجيح عن مجاهد بن جبر بن أبى الحجّاج، قال: كان من نعمة الله على علىّ بن أبى طالب ومما صنع الله له وأراده به من الخير أن قريشا أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمّه العباس، وكان من أيسر بنى هاشم: يا عبّاس، إن أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة، فانطلق بنا إليه فلنخفّف [عنه «3» ] من عياله؛ آخذ من بنيه رجلا، وتأخذ أنت «4» رجلا فنكفلهما «5» عنه، فقال العباس: نعم، فانطلقا حتى لقيا «6» أبا طالب، فقالا [له] : إنا نريد «7» أن نخفّف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه، فقال لهما [أبو طالب «8» ] : إذا تركتما لى عقيلا فاصنعا ما شئتما؛ ويقال قال: عقيلا وطالبا؛ فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّا فضمه إليه، وأخذ العبّاس الجزء: 16 ¦ الصفحة: 181 جعفرا [فضمّه إليه «1» ] ، فلم يزل علىّ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بعثه الله نبيا فاتّبعه علىّ وآمن به وصدّقه، ولم يزل جعفر عند العباس حتى أسلم «2» . قال ابن إسحاق: وذكر بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكّة وخرج معه علىّ بن أبى طالب مستخفيا من عمه أبى طالب ومن جميع أعمامه وسائر قومه فيصلّيان الصلوات فيها «3» ، فإذا أمسيا رجعا؛ فمكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا، ثم إن أبا طالب عثر عليهما يوما وهما يصلّيان، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يابن أخى، ما هذا الدين الذى أراك تدين به؟ قال: أى عمّ، هذا دين الله ودين ملائكته ودين رسله ودين أبينا إبراهيم «4» ، بعثنى الله به رسولا إلى العباد، وأنت أى عمّ أحقّ من بذلت له النصيحة، ودعوته إلى الهدى، وأحقّ من أجابنى إليه، وأعاننى عليه، أو كما قال. فقال أبو طالب: أى ابن أخى، إنى والله «5» لا أستطيع أن أفارق دين آبائى وما كانوا عليه، ولكن والله لا يخلص إليك شىء تكرهه ما بقيت. وذكروا أنه قال لابنه علىّ: أى بنىّ ما هذا الدين الذى أنت عليه؟ فقال: يا أبت، آمنت برسول الله صلى الله عليه وسلم وصدّقته بما جاء به، وصليت معه لله واتّبعته. فزعموا أنه قال له: أما إنه لم يدعك إلا إلى خير فالزمه. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 182 وأما إسلام زيد بن حارثة «1» رضى الله عنه - فقال «2» محمد بن إسحاق: ثم أسلم زيد بن حارثة بن شرحبيل بن كعب بن عبد العزّى بن امرئ القيس الكلبى مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نسبه ابن الكلبىّ فقال: زيد ابن حارثة بن شراحيل بن كعب بن عبد العزّى بن يزيد «3» بن امرئ القيس بن عامر ابن النّعمان بن عبدودّ بن امرئ القيس بن نعمان بن عمران بن عبد عوف بن عوف ابن كنانة بن بكر بن عوف بن عذرة بن زيد اللّات بن رفيدة بن ثور بن كلب ابن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة بن مالك بن عمر ابن مرة بن مالك بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. قال أبو عمر «4» : وربّما اختلفوا فى الأسماء وتقديم بعضها على بعض وزيادة شىء فيها «5» . قال «6» : ولم يتابع ابن إسحاق على قوله «7» «شرحبيل» وإنما «شراحيل» . وقال ابن الكلبى: وأمّ زيد سعدى بنت ثعلبة بن عبد عامر بن أفلت، من بنى معن من طيئ «8» . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 183 قال ابن إسحاق «1» : وصلّى زيد بعد علىّ بن أبى طالب. قال أبو محمد عبد الملك ابن هشام: وكان حكيم بن حزام بن خويلد قدم من الشام برقيق منه «2» زيد بن حارثة، وصيف، فدخلت عليه عمته خديجة بنت خويلد، وهى يومئذ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها: اختارى يا عمّة، أىّ هؤلاء الغلمان شئت فهو لك، فاختارت زيدا، فأخذته، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها، فاستوهبه منها، فوهبته له، فأعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبنّاه، وذلك قبل أن يوحى إليه، وكان أبوه حارثة قد جزع عليه جزعا شديدا وبكى عليه حين فقده، ثم قدم عليه وهو عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن شئت فأقم عندى، وإن شئت فانطلق مع أبيك» ؛ قال: بل أقيم عندك؛ فلم يزل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بعثه الله، فصدّقه وأسلم وصلّى معه، فلما أنزل الله عزّ وجلّ: (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) قال: أنا زيد ابن حارثة. وقد روى أبو عمر وغيره أن حارثة لما فقد ابنه زيدا قال: بكيت على زيد ولم أدر ما فعل ... أحىّ يرجّى «3» أم أتى دونه الأجل فو الله ما أدرى وإن كنت سائلا ... أغالك سهل الأرض «4» أم غالك الجبل فياليت شعرى هل لك الدهر رجعة «5» ... فحسبى من الدنيا رجوعك لى بجل «6» الجزء: 16 ¦ الصفحة: 184 تذكّرنيه الشمس عند طلوعها ... وتعرض ذكراه إذا قارب الطّفل «1» وإن هبّت الأرواح هيّجن ذكره ... فيا طول ما حزنى عليه وما وجل سأعمل نص العيس فى الأرض جاهدا ... ولا أسأم التّطواف أو تسأم الإبل حياتى أو تأتى علىّ منّيتى ... وكلّ امرئ «2» فان وإن غرّه الأمل سأوصى به قيسا وعمرا كليهما ... وأوصى يزيدا ثم من بعده جبل «3» يعنى جبلة بن حارثة أخا زيد، ويزيد أخا زيد لأمّه، وهو يزيد بن كعب ابن شراحيل. قال: فحجّ «4» ناس من كلب «5» فرأوا زيدا فعرفهم وعرفوه، وقال لهم: أبلغوا أهلى «6» هذه الأبيات، فإنى أعلم أنهم قد جزعوا علىّ، فقال: أحنّ إلى قومى وإن كنت نائيا ... فإنّى قعيد البيت عند المشاعر فكفّوا من الوجد الذى قد شجاكم ... ولا تعملوا فى الأرض نصّ الأباعر فإنّى بحمد الله فى خير أسرة ... كرام معدّ كابرا بعد كابر فانطلق الكلبيّون فأعلموا أباه، فقال: ابنى ورب الكعبة، فوصفوا له موضعه وعند من هو، فخرج حارثة وكعب ابنا شراحيل لفدائه، وقدما مكّة «7» ، فسألا عن النبى صلى الله عليه وسلم، فقيل: هو فى المسجد، فدخلا عليه فقالا: يابن عبد المطّلب، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 185 يابن هاشم، يابن سيّد قومه، أنتم أهل حرم الله وجيرانه، تفكّون العانى، وتطعمون الأسير، جئناك فى ابننا عندك، فامنن علينا وأحسن إلينا فى فدائه؛ قال: ومن هو؟ قالا: زيد «1» بن حارثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فهلّا غير ذلك» ؟ قالوا: وما هو؟ قال: «ادعوه فأخيّره «2» ، فإن اختاركم فهو لكم، وإن اختارنى فهو لى، فو الله ما أنا بالذى أختار على من اختارنى أحدا» . قالوا «3» : قد زدتنا على النّصف وأحسنت إلينا، فدعاه «4» فقال: «هل تعرف هؤلاء» ؟ قال: نعم، قال «من هذا «5» » ؟ قال: أبى، وهذا عمى، قال: «فأنا من قد علمت «6» ، وقد رأيت صحبتى لك، فاخترنى أو اخترهما» ، فقال زيد: ما أنا بالذى «7» أختار عليك أحدا، أنت منى مكان الأب والعمّ، فقالا: ويحك يا زيد! أتختار العبودية على الحرّيّة، وعلى أبيك وعمك وأهل «8» بيتك؟ قال: نعم، قد رأيت من هذا الرجل شيئا ما أنا بالذى أختار عليه أحدا أبدا. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أخرجه إلى الحجر فقال: يا معشر من حضر، اشهدوا أنّ زيدا ابنى يرثنى وأرثه» . فلما رأى ذلك أبوه وعمّه طابت نفوسهما وانصرفا. ودعى زيد بن محمد حتى جاء الله بالإسلام، فنزلت: (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) ، فدعى يومئذ زيد بن حارثة، ودعى الأدعياء إلى آبائهم. والله أعلم. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 186 ذكر من أسلم بدعاء أبى بكر الصدّيق- رضوان الله عليهم- قال محمد بن إسحاق «1» : لما أسلم أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه أظهر إسلامه، ودعا إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر رجلا مألفا «2» لقومه محببّا سهلا، وكان أنسب قريش لقريش، وأعلم قريش بها وبما كان فيها من خير وشرّ، وكان رجلا تاجرا ذا خلق ومعروف، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر، لعلمه وتجارته وحسن مجالسته. فجعل يدعو إلى الإسلام «3» من وثق به من قومه ممّن يغشاه ويجلس إليه، فأسلم بدعائه رضى الله عنه، عثمان بن عفّان «4» ، والزّبير بن العوّام «5» ، وعبد الرحمن بن عوف «6» ، وسعد بن أبى وقّاص «7» ، وطلحة بن عبيد الله، فجاء «8» بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استجابوا «9» له، فأسلموا وصلّوا، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما دعوت أحدا إلى الاسلام إلا كانت عنده كبوة «10» ونظر وتردّد، إلا ما كان من أبى بكر بن أبى قحافة، ما عكم «11» عنه حين ذكرته له وما تردّد فيه» . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 187 قال ابن إسحاق: فكان هؤلاء النفر الثمانية الذين سبقوا بالإسلام الناس فصلّوا وصدّقوا بما جاء من الله. ثم أسلم أبو عبيدة، واسمه عامر بن عبد الله بن الجرّاح «1» ، وأبو سلمة، واسمه عبد الله بن عبد الأسد «2» ، والأرقم بن أبى الأرقم، واسم أبى الأرقم عبد مناف بن أسد ابن عبد الله بن عمر بن مخزوم «3» ، وعثمان بن مظعون «4» ، وأخواه قدامة «5» ، وعبد الله «6» ابنا مظعون، وعبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف بن قصىّ بن كلاب بن مرّة ابن كعب بن لؤىّ «7» ، وسعيد بن زيد «8» ، وامرأته فاطمة» بنة الخطّاب أخت عمر، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 188 وأسماء «1» وعائشة «2» بنتا أبى بكر، وكانت عائشة صغيرة، وخبّاب بن الأرتّ «3» حليف بنى زهرة، وعمير بن أبى وقّاص «4» أخو سعد، وعبد الله بن مسعود «5» ، ومسعود بن القارى، وهو مسعود بن ربيعة، [أو الربيع «6» ] ، وسليط بن عمرو ابن عبد شمس «7» ، وعيّاش بن أبى ربيعة بن المغيرة «8» ، وامرأته أسماء بنت سلامة ابن مخرّبة التميمية «9» ، وخنيس بن حذافة بن قيس «10» ، وعامر بن ربيعة حليف آل الخطاب «11» ، وعبد الله بن جحش «12» وأخوه أبو أحمد بن جحش «13» حليفا بنى أمية، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 189 وجعفر بن أبى طالب «1» ، وامر أنه أسماء بنت عميس «2» ، وحاطب بن الحارث بن معمر، وامرأته فاطمة بنت المجلّل بن عبد الله «3» ، وأخوه خطّاب بن الحارث، وامرأته فكيهة بنت يسار «4» ، ومعمر بن الحارث بن معمر «5» ، والسائب بن عثمان بن مظعون «6» ، والمطّلب ابن أزهر بن عبد عوف «7» ، وامرأته رملة بنت أبى عوف بن صيرة، والنّحام واسمه نعيم بن عبد الله «8» ، وعامر بن فهيرة «9» مولى أبى بكر الصدّيق، وخالد بن سعيد بن العاص ابن أميّة «10» ؛ وقد روى أن خالد بن سعيد كان خامس من أسلم، وأن إسلامه كان بعد سعد بن أبى وقّاص، حكاه أبو عمر «11» ، وامرأته أمينة «12» بنت خلف بن أسعد، وحاطب الجزء: 16 ¦ الصفحة: 190 ابن عمرو بن عبد شمس «1» ، وأبو حذيفة واسمه مهشم «2» بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ابن عبد مناف؛ ويقال فى اسمه هشيم؛ ويقال هاشم، وواقد «3» بن عبد الله بن عبد مناف ابن عرين «4» بن ثعلبة، وخالد «5» ، وعامر «6» ، وعاقل «7» ، وإياس «8» ، بنو البكير بن عبد ياليل وعمّار «9» بن ياسر حليف بنى مخزوم، وصهيب «10» بن سنان. قال ابن إسحاق «11» : ثم دخل الناس [فى الإسلام «12» ] أرسالا من الرجال والنساء، حتى فشا ذكر الإسلام [بمكّة وتحدّث «13» به] . ولنذكر من كانت له سابقة فى الإسلام غير من ذكرنا والله الموفّق للصواب. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 191 ذكر تسمية من كانت لهم سابقة فى الإسلام من العرب من غير قريش كانت لجماعة سابقة إسلام، وهم من غير قريش، فرأينا أن نذكرهم فى هذا الموضع لسابقتهم فى الإسلام. منهم أبو ذرّ «1» جندب بن جنادة الغفارىّ، واختلف فى اسمه اختلافا كثيرا، والمشهور ما ذكرناه، واختلف أيضا فيما بعد جنادة، فقيل جنادة بن قيس بن عمرو ابن صعير بن حرام بن غفار، وقيل جنادة بن صعير بن عبيد بن حرام بن غفار، ويقال جنادة بن سفيان بن عبيد بن [صعير «2» بن] حرام بن غفار؛ أسلم أبو ذرّ بعد ثلاثة، وقيل: بعد أربعة، فكان خامسا، وله فى سبب إسلامه حديث حسن، نذكره إن شاء الله تعالى عند ذكرنا لأخبار وفود العرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى وفد غفار على ما تقف عليه، وهو فى السّفر السادس عشر من كتابنا هذا. وأسلم بسبب إسلامه أخوه أنيس «3» بن جنادة وأمّهما رملة بنت الوقيعة الغفاريّة «4» . ومنهم عمرو بن عبسة «5» بن عامر بن خالد بن غاضرة بن عتّاب بن امرئ القيس ابن بهثة بن سليم، يكنى أبا نجيح، ويقال أبو شعيب. قال أبو عمر بن عبد البر «6» : روينا عنه من وجوه أنه قال: ألقى فى روعى أن عبادة الأوثان باطل، فسمعنى رجل وأنا أتكلم بذلك، فقال: يا عمرو، إن بمكة رجلا يقول كما تقول، قال: فأقبلت إلى مكة الجزء: 16 ¦ الصفحة: 192 أوّل ما بعث النبى صلى الله عليه وسلم وهو مستخف «1» ، فقيل لى: إنك لا تقدر عليه إلا باللّيل حين يطوف، فقمت بين يدى الكعبة فما شعرت إلا بصوته يهلّل، فخرجت إليه فقلت من أنت؟ قال: أنا نبىّ الله، فقلت وما نبىّ الله؟ قال: رسول الله، قلت وبم أرسلك؟ قال: بأن يعبد «2» الله وحده ولا يشرك به شىء، وتكسر الأوثان وتحقن الدماء، [وتوصل الأرحام] «3» ، قلت: ومن معك على هذا؟ قال: حرّ وعبد، يعنى أبا بكر وبلالا، فقلت: ابسط يدك أبايعك، فبايعته على الإسلام. قال: فلقد رأيتنى وأنا ربع «4» الإسلام، قال: قلت أقيم معك يا رسول الله؟ قال: «لا. ولكن الحق بقومك فإذا سمعت أنى قد خرجت فاتبعنى» ، قال: فلحقت بقومى، فمكثت دهر امنتظرا «5» خبره حتى أتت رفقة من يثرب فسألتهم الخبر «6» ، فقالوا: خرج محمد بن مكة إلى المدينة. قال: فارتحلت فأتيته فقلت: أتعرفنى؟ قال: «نعم، أنت الرجل الذى أتيتنا بمكّة» . وروى أبو «7» عمر أيضا بسنده إلى أبى أمامة الباهلى أنه حدث عن عمرو بن عبسة «8» قال: «رغبت عن آلهة قومى فى الجاهلية ورأيت أنها آلهة باطلة «9» ؛ يعبدون الحجارة، وهى لا «10» تضرّ ولا تنفع، قال: فلقيت رجلا من أهل الكتاب فسألته عن أفضل الدين، فقال: يخرج رجل من مكّة يرغب عن آلهة قومه ويدعو إلى غيرها، وهو يأتى بأفضل الدين، فإذا سمعت به فاتّبعه، فلم يكن لى همّ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 193 إلا مكّة أسأل هل حدث فيها حدث «1» ؟ فيقولون: لا. فأنصرف إلى أهلى، وأهلى من الطريق غير بعيد، فأعترض الركبان خارجين من مكة فأسألهم هل حدث فيها حدث؟ فيقولون: لا. فإنى لقاعد على الطريق يوما «2» إذ مرّ بى راكب فقلت من أين أنت «3» ؟ قال: من مكّة، قلت: هل فيها من خبر؟ قال: نعم، رجل رغب عن آلهة قومه ودعا إلى غيرها، قلت: صاحبى الذى أريد، فشددت راحلتى، وجئت مكة، ونزلت منزلى الذى كنت أنزل فيه، فسألت عنه، فوجدته مستخفيا، ووجدت قريشا إلبا عليه، فتلطّفت حتى دخلت عليه، فسلّمت ثم قلت: من أنت؟ قال: «نبىّ الله «4» » ، قلت: وما النبى؟ قال: «رسول الله» ، قلت: من أرسلك؟ قال: «الله» ، قلت بم أرسلك؟ قال: «أن توصل الارحام، وتحقن الدماء، وتؤمن السبل، وتكسر الأوثان، ويعبد الله وحده لا يشرك به شىء» . فقلت: نعم ما أرسلت به؛ أشهدك أنى قد آمنت بك وصدّقتك، أمكث معك أم ما تأمرنى «5» ؟. قال: «قد رأيت كراهة الناس لما جئت به، فامكث فى أهلك، فإذا سمعت أنى خرجت مخرجا فاتّبعنى» . فلما سمعت «6» به خرج إلى المدينة سرت حتى قدمت عليه فقلت: يا نبىّ الله، هل تعرفنى؟ قال: «نعم، أنت السّلمىّ الذى جئتنى بمكّة فقلت لى كذا، وقلت لك كذا «7» » . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 194 ومنهم عتبة «1» بن غزوان بن جابر، ويقال عتبة بن غزوان بن الحارث بن جابر ابن وهب» بن نسيب بن زيد بن مالك بن الحارث بن عوف بن [الحارث بن «3» ] مازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس «4» عيلان بن مضر بن نزار المازنى حليف لبنى نوفل بن عبد مناف «5» ، يكنى أبا عبد الله، وقيل أبا غزوان، كان إسلامه بعد ستّة رجال، فهو سابع سبعة [فى إسلامه، وقد قال ذلك فى خطبته بالبصرة: «لقد رأيتنى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله سابع سبعة «6» ] ما لنا طعام إلا ورق الشّجر حتى قرحت أشداقنا» . رضى الله عنهم أجمعين. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلّم. ذكر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى الإسلام قال محمد بن إسحاق «7» : وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلّوا ذهبوا فى الشّعاب، فاستخفوا بصلاتهم من قومهم، فبينا سعد بن أبى وقّاص فى نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى شعب من شعاب مكة، إذ ظهر عليهم نفر من المشركين وهم يصلّون، فناكروهم، وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم، فضرب سعد بن أبى وقّاص يومئذ رجلا من المشركين بلحى «8» بعير، فشجّه «9» ، فكان أول دم هريق فى الإسلام. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 195 ثم أمر «1» الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يصدع بما جاء «2» به من عند الله وأن ينادى الناس بأمره، وأن يدعوهم إلى الله تعالى، فكان يدعو «3» ثلاث سنين مستخفيا، إلى أن أمر الله بإظهار الدعاء. قال محمد بن سعد «4» : قوله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقى «5» : لما أمر الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يعلم الناس نزول الوحى عليه، ويدعوهم إلى الإيمان به، كبر ذلك عليه، فنزل قوله عز وجل: (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) ، قالت عائشة رضى الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت هذه الآية، فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من القبّة، فقال [لهم «6» ] : «أيها الناس، انصرفوا فقد عصمنى الله» ؛ قيل: يعصمك من قتلهم أن يقتلوك، فبلّغ عند ذلك الرسالة. وعن الزهرىّ «7» ، قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام سرا وجهرا، فاستجاب لله تعالى من شاء من أحداث الرجال وضعفاء الناس حتى كثر من آمن بالله؛ وكفار قريش غير منكرين لما يقول، فكان إذا مرّ عليهم فى مجالسهم يشيرون إليه: إنّ غلام بنى عبد المطلب ليكلّم من السماء، فكان ذلك حتى عاب الله آلهتهم التى يعبدونها دونه، وذكر هلاك آبائهم الذين ماتوا على الكفر، فعند ذلك عادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وناكروه؛ وأجمعوا علاقة «8» . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 196 قال ابن عباس «1» رضى الله عنه: لما أنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصّفا فقال: «يا معشر قريش» ، فقالت قريش: محمد على الصّفا يهتف، فأقبلوا واجتمعوا، فقالوا: مالك يا محمد؟ فقال: «أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل أكنتم تصدّقوننى» ؟ قالوا: نعم، أنت عندنا غير متّهم، وما جرّبنا عليك كذبا قط، قال: «فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد يا بنى عبد المطلب يا بنى عبد مناف يا بنى زهرة» ، حتى عدّد الأفخاد من قريش «إن الله أمرنى أن أنذر عشيرتى الأقربين، وإنى لا أملك لكم من الدّنيا منفعة، ولا من الآخرة نصيبا إلا أن تقولوا لا إله إلا الله» قال: فقال أبو لهب: تبّا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله تعالى (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) السورة كلّها. قال الواقدى «2» : لما أظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام ومن معه، وفشا أمره بمكّة، ودعا بعضهم بعضا، فكان أبو بكر يدعو ناحية سرّا، وكان سعيد بن زيد مثله «3» ، وعثمان مثل ذلك، [وكان عمر يدعو علانية وحمزة ابن عبد المطلب «4» ] وأبو عبيدة بن الجرّاح؛ فغضبت قريش من ذلك، وظهر منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم الحسد والبغى، وأشخص به «5» منهم رجال فبادوه، وتستّر آخرون وهم على ذلك الرّأى، إلا أنهم ينزّهون أنفسهم عن القيام والإشخاص برسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 197 ذكر أعداء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذين جاهروا بالعداوة قالوا: كان «1» أهل العداوة والمباداة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين يطلبون الجدل والخصومة: أبو جهل بن هشام، وأبو لهب بن عبد المطلب، والأسود بن عبد يغوث، والحارث بن قيس بن عدىّ، والوليد بن المغيرة، [وأمية وأبىّ ابنا خلف، وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة «2» ] ، والعاص بن وائل، والنّضر ابن الحارث، ومنبّه بن الحجاج، وزهير بن أبى أمية، والسائب بن صيفىّ [بن عابد «3» ] ، والأسود بن عبد الأسد، والعاص بن سعيد بن العاص، والعاص بن هشام «4» ، وعقبة بن أبى معيط، وأبو الأصدى «5» ، وهو الذى نطحته الأروى، والحكم ابن أبى العاص، وعدىّ بن الحمراء؛ وذلك أنهم كانوا جيرانه؛ والذين «6» كانت تنتهى عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم: أبو جهل، وأبو لهب، وعقبة ابن أبى معيط؛ وكان عتبة «7» وشيبة ابنا ربيعة وأبو سفيان بن حرب أهل عداوة، ولكنهم لم يشخصوا بالنبى صلى الله عليه وسلم؛ كانوا كنحو قريش، ولم يسلم من هؤلاء إلا أبو سفيان والحكم بن أبى العاص. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 198 ذكر دخول قريش على أبى طالب فى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان بينهم من المحاورات قال محمد بن إسحاق «1» : لما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعتبهم «2» من شىء أنكروه عليه، ورأوا أن عمّه أبا طالب قد حدب عليه، وقام دونه فلم «3» يسلمه لهم، مشى رجال من أشراف قريش إلى أبى طالب، وهم: عقبة وشيبة ابنا ربيعة ابن عبد شمس، وأبو سفيان صخر بن حرب، وأبو البخترىّ العاص بن هشام، والأسود بن المطّلب بن أسد، وأبو جهل عمرو بن هشام، ونبيه ومنبّه ابنا الحجّاج ابن عامر، والعاص بن وائل، فقالوا: يا أبا طالب، إن ابن أخيك قد سبّ آلهتنا وعاب ديننا وسفّه أحلامنا وضلّل آباءنا، فإما أن تكفّه عنا، وإما أن تخلّى بيننا وبينه، فإنك على سبيل «4» ما نحن عليه من خلافه فنكفيكه، فقال لهم أبو طالب قولا رفيقا، وردّهم ردّا جميلا، فانصرفوا عنه. ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه يظهر دين الله ويدعو إليه، ثم شرى» الأمر بينه وبينهم حتى تباعد الرّجال وتضاغنوا، وأكثرت قريش ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها، فتذامروا «6» فيه، وحضّ بعضهم بعضا عليه، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 199 ثم مشوا إلى أبى طالب مرّة أخرى فقالوا: يا أبا طالب، إن لك سنّا وشرفا ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنّا، وإنا والله لا نصبر على هذا، من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفّه عنا، أو ننازله وإيّاك فى ذلك حتى يهلك أحد الفريقين؛ ثم انصرفوا عنه، فعظم على أبى طالب فراق قومه وعداوتهم، ولم يطب نفسا بإسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ولا خذلانه. فبعث أبو طالب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يابن أخى، إن قومك قد جاءونى فقالوا لى كذا وكذا، فأبق علىّ وعلى نفسك، ولا تحمّلنى من الأمر ما لا أطيق؛ قال: فظنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد بدا لعمه «1» فيه، وأنه خاذله ومسلمه، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه، فقال «2» له: «يا عمّ، والله لو وضعوا الشّمس فى يمينى والقمر فى يسارى على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته» ؛ ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم «3» وقام، فلما ولّى ناداه أبو طالب فقال: أقبل يابن أخى، فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: اذهب يابن أخى فقل ما أحببت، فو الله لا أسلمك لشىء أبدا. قال «4» : ثم إن قريشا لما عرفوا «5» أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله صلى الله عليه وسلم وإسلامه، وإجماعه لفراقهم فى ذلك وعداوتهم، مشوا إليه بعمارة ابن الوليد بن المغيرة، فقالوا له: يا أبا طالب، هذا عمارة بن الوليد أنهد «6» فتى فى قريش وأجمله، فخذه فلك عقله ونصره، واتّخذه ولدا فهو لك خير، وأسلم لنا ابن أخيك هذا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 200 الذى قد خالف دينك ودين آبائك، وفرّق جماعة قومك، وسفّه أحلامهم فنقتله، فإنما هو رجل برجل «1» ، قال «2» : والله لبئس ما تسوموننى، أتعطوننى «3» ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابنى تقتلونه؟ هذا والله ما لا يكون أبدا، فقال له المطعم «4» بن عدىّ ابن نوفل بن عبد مناف بن قصىّ: والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك، وجهدوا على التخلّص مما تكره، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا؛ فقال له أبو طالب: والله ما أنصفونى، ولكنك «5» أجمعت خذلانى ومظاهرة القوم علىّ، فاصنع ما بدا لك، فحقب «6» الأمر، وحميت الحرب، وتنابذ القوم، وبادى بعضهم بعضا. قال الواقدى «7» : لما أجابهم أبو طالب بما قدّمناه من أنهم ما أنصفوه قالوا له: فأرسل إليه فلنعطه النّصف، فأرسل إليه أبو طالب، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يابن أخى، هؤلاء عمومتك، وأشراف قومك، وقد أرادوا ينصفونك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قولوا أسمع» قالوا: تدعنا وآلهتنا، وندعك وإلهك، قال أبو طالب: قد أنصفك القوم فاقبل منهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرأيتكم «8» إن أعطيتكم هذه هل أنتم معطىّ كلمة إن أنتم تكلّمتم بها، ملكتم بها العرب، ودانت لكم بها العجم» ؟ فقال أبو جهل: إنّ هذه لكلمة مربحة، نعم، وأبيك الجزء: 16 ¦ الصفحة: 201 لنقولنّها وعشر أمثالها، قال: «قولوا لا إله إلا الله» ، فاشمأزّوا ونفروا منها وغضبوا، وقاموا وهم يقولون: (وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ) ، ويقال: إن الذى تكلّم بها عقبة بن أبى معيط، وقالوا: لا نعود إليه أبدا، وما خير من أن نغتال محمدا «1» . فلما كان من تلك «2» الليلة، قعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء أبو طالب وعمومته إلى منزله فلم يجدوه، فجمع فتيانا من بنى هاشم وبنى المطّلب، ثم قال: ليأخذ كلّ واحد حديدة صارمة، ثم ليتبعنى إذا دخلت المسجد فليجلس كلّ فتى منكم إلى عظيم من عظمائهم، فيهم ابن الحنظليّة، يعنى أبا جهل، فإنه لم يغب عن شرّ إن كان محمد قد قتل، فقال الفتيان: نفعل، فجاء زيد بن حارثة، فوجد أبا طالب على تلك الحال، فقال: يا زيد، أحسست «3» ، ابن أخى؟ قال: نعم، كنت معه آنفا، فقال أبو طالب: لا أدخل بيتى أبدا حتى أراه، فخرج زيد مسرعا حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فى بيت عند الصّفا، ومعه أصحابه يتحدّثون؛ فأخبره الخبر، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبى طالب، فقال: يابن أخى، أين كنت؟ أكنت فى خير؟ قال: نعم، قال: ادخل بيتك، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيده فوقف على أندية قريش ومعه الفتيان الهاشميّون والمطّلبيّون، فقال: يا معشر قريش، هل تدرون ما هممت به؟ قالوا: لا. فأخبرهم الخبر، وقال للفتيان: اكشفوا عما فى أيديكم، فكشفوا فإذا كلّ رجل معه حديدة صارمة، فقال: والله لو قتلتموه ما بقّيت منكم أحدا حتى نتفانى نحن وأنتم، فانكسر القوم، وكان أشدّهم انكسارا أبو جهل. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 202 ذكر تحزّب قريش على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأذاهم له ولأصحابه قال ابن إسحاق «1» : لما أيست قريش من أبى طالب، وأنه لا يخذل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يسلمه أبدا، تامروا «2» بينهم على من فى القبائل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم [الذين أسلموا معه «3» ] ، فوثبت كلّ قبيلة على من فيهم من المسلمين يعذّبونهم ويفتنونهم عن دينهم، فقام أبو طالب حين رأى قريشا يصنعون ذلك فى بنى هاشم وبنى المطلب، فدعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم والقيام دونه، فقاموا معه وأجابوه إلى ما دعاهم إليه، إلا ما كان من أبى لهب فإنه تمادى على غيّه وكفره. قال «4» : ثم اجتمع نفر من قريش إلى الوليد بن المغيرة، وكان ذا سنّ فيهم وقد حضر الموسم فقال لهم: يا معشر قريش؛ إنه قد حضر هذا الموسم، وإنّ وفود العرب ستفد «5» عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيا واحدا، ولا تختلفوا فيكذّب بعضكم بعضا ويردّ قولكم بعضه بعضا؛ قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس فقل، وأقم لنا رأيا نقول به، قال: بل أنتم فقولوا أسمع؛ قالوا: نقول كاهن؛ قال: لا، والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهّان فما هو بزمزمة «6» الجزء: 16 ¦ الصفحة: 203 الكاهن ولا سجعه، قالوا: فنقول مجنون، قال: ما «1» هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته؛ قالوا: فنقول شاعر؛ قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كلّه رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر؛ قالوا: فنقول: ساحر، قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السّحار وسحرهم، فما هو بنفثه ولا عقده «2» ؛ قالوا: فما تقول يا أبا عبد شمس؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعدق «3» ، وإن فرعه لجناة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه أن تقولوا: ساحر، جاء بقول هو سحر يفرّق بين «4» المرء وأبيه، وبين المرء [وأخيه، وبين المرء «5» ] وزوجه، وبين المرء وعشيرته. فتفرّقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون بسبيل الناس حين قدموا الموسم، لا يمرّبهم أحد إلا حدّروه إياه وذكروا له أمره، فأنزل الله تعالى فى الوليد ابن المغيرة: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً) أى خصيما مخالفا (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ) . قال ابن هشام: بسر «6» أى كرّه وجهه، (ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 204 قال ابن إسحاق «1» : وأنزل الله فى النّفر الذين كانوا معه يصنّفون القول فى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيما جاء به من عند الله: (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) أى أصنافا (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) . قال ابن إسحاق» : وصدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانتشر ذكره فى بلاد العرب كلها. قال «3» : ثم ابتدأت قريش فى عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أسلم معه منهم، فأغروا به صلى الله عليه وسلم سفهاءهم، فكذّبوه وآذوه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مظهر لأمر الله لا يستخفى به، مبا لهم بما يكرهون من عيب دينهم، واعتزال أوثانهم، وفراقه إياهم «4» على كفرهم. قال محمد بن إسحاق «5» : حدّثنى يحيى بن عروة عن الزّبير عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما، قال: قلت له ما أكثر ما رأيت قريشا أصابوا «6» من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كانوا يظهرون «7» من عداوته؟ قال: حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يوما فى الحجر، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما رأينا مثلما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل قطّ؛ سفّه أحلامنا، وشتم آباءنا، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 205 وعاب ديننا، وفرّق جماعتنا، وسبّ آلهتنا؛ لقد صبرنا منه على أمر عظيم، أو كما قالوا؛ فبينما هم فى ذلك إذ طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل يمشى حتى استلم الركن، ثم مرّ بهم طائفا بالبيت، فغمزوه ببعض القول، قال: فعرفت ذلك فى وجهه صلى الله عليه وسلم، ثم مضى، فلما مرّ بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفت ذلك فى وجهه، ثم مرّ بهم الثالثة فغمزوه بمثلها، فوقف ثم قال: «أتسمعون يا معشر قريش؟ أما والذى نفسى بيده لقد جئتكم بالذّبح «1» » . قال: فأخذت كلمته القوم حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع، حتى إن أشدّهم فيه وصاة «2» قبل ذلك ليرفؤه «3» بأحسن ما يجد من القول، حتى إنه القول، انصرف يا أبا القاسم، فو الله ما كنت جهولا، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان الغد اجتمعوا فى الحجر وأنا معهم، فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم، وما بلغكم عنه، حتى إذا دنا منكم وباداكم بما تكرهون تركتموه، فبينما هم فى ذلك طلع رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد، فأحاطوا به يقولون: أنت الذى تقول كذا وكذا لما كان يقول من عيب آلهتهم ودينهم، فيقول: «نعم، أنا الذى أقول ذلك» . قال: فلقد رأيت رجلا منهم أخذ بمجمع «4» ردائه، فقام أبو بكر دونه وهو يبكى ويقول: (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ) ، ثم انصرفوا عنه. فإن ذلك لأشدّ ما رأيت قريشا نالوا منه قطّ «5» . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 206 قالت أم كلثوم بنت أبى بكر الصدّيق رضى الله عنهما: لقد رجع أبو بكر يومئذ وقد صدعوا فرق «1» رأسه ممّا جبذوه بلحيته، وكان رجلا كثير الشعر. وخرّج الترمذىّ الحكيم فى «نوادر الأصول» ، من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، قال: اجتمعت قريش بعد وفاة أبى طالب بثلاث فأرادوا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل هذا يجأه وهذا يتلتله «2» ، فاستغاث النبىّ صلى الله عليه وسلم فلم يغثه أحد إلا أبو بكر وله ضفيرتان، فأقبل يجأذا ويتلتل ذا، ويقول بأعلى صوته: ويلكم، (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ) ، والله إنه لرسول الله، فقطعت إحدى ضفيرتى أبى بكر يومئذ، فقال علىّ «3» : والله ليوم أبى بكر خير من مؤمن آل فرعون، ذاك رجل كتم إيمانه فأثنى الله عليه فى كتابه، وهذا أبو بكر أظهر إيمانه وبذل ماله ودمه لله عز وجل. قال ابن هشام «4» : حدّثنى بعض أهل العلم: أن أشدّ مالقى رسول الله صلى الله عليه وسلم من قريش: أنه خرج يوما فلم يلقه أحد من الناس إلّا كذّبه وآذاه [لا «5» ] حرّ ولا عبد، فرجع صلى الله عليه وسلم إلى منزله فتدثّر من شدّة ما أصابه، فأنزل الله عز وجل عليه: (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 207 ذكر إسلام حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال محمد بن إسحاق «1» : حدّثنى رجل من أسلم كان «2» واعية: أن أبا جهل بن هشام مر برسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصّفا فآذاه وشتمه، ونال منه بعض ما يكره من العيب لدينه، والتضعيف لأمره، فلم يكلّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومولاة لعبد الله بن جدعان تسمع ذلك، ثم انصرف أبو جهل عنه عامدا إلى نادى قريش عند الكعبة، فلم يلبث حمزة بن عبد المطلب أن أقبل متوشحا قوسه «3» ، راجعا من قنص له، وكان حمزة أعزّ فتى فى قريش وأشدّه شكيمة، فلما مر بمولاة ابن جدعان قالت له: يا أبا عمارة: لو رأيت ما لقى ابن أخيك محمد آنفا من أبى جهل ابن هشام؛ وجده ههنا جالسا فآذاه وسبّه، وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه ولم يكلّمه محمد، فغضب حمزة، فخرج يسعى حتى دخل المسجد فنظر إلى أبى جهل جالسا فى القوم، فأقبل نحوه حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها، فشجّه شجّة منكرة، ثم قال: أتشتمه؟ فأنا «4» على دينه أقول ما يقول، فردّ ذلك علىّ إن استطعت، فقامت رجال بنى مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل، فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة، فإنى والله لقد سببت ابن أخيه سبّا قبيحا، وتمّ حمزة على إسلامه، وعلى ما بايع «5» عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله؛ فلما أسلم حمزة عرفت الجزء: 16 ¦ الصفحة: 208 قريش أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد عزّ وامتنع، وأن حمزة سمينعه، فكفّوا عن بعض ما كانوا ينالون منه قبل، قال: وكان إسلام حمزة قبل إسلام عمر ابن الخطاب- رضى الله عنهما- بثلاثة أيام «1» . ذكر مشى عتبة بن ربيعة، والوليد بن المغيرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسماعهما القرآن، واعترافهما أنه لا يشبه شيئا من كلامهم، وما أشار [به] عتبة على أشراف قريش فى أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال محمد بن إسحاق «2» : حدّثنى يزيد بن زياد «3» ، عن محمد بن كعب القرظىّ قال: حدّثت أن عتبة بن ربيعة- وكان سيّدا- قال يوما وهو جالس فى نادى قريش، والنبىّ صلى الله عليه وسلم جالس فى المسجد وحده: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمّد فأكلّمه وأعرض عليه أمورا، لعلّه يقبل بعضها فنعطيه أيّها شاء ويكفّ عنّا؟ وذلك حين أسلم حمزة، ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون، فقالوا: بلى يا أبا الوليد، فقم إليه فكلّمه، فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يابن أخى، إنّك منّا حيث قد علمت من السّطة فى العشيرة، والمكان فى النسب، وإنّك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرّقت به جماعتهم، وسفّهت به أحلامهم، وعبت «4» به آلهتهم ودينهم، وكفّرت به من مضى الجزء: 16 ¦ الصفحة: 209 من آبائهم، فاسمع منى أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلّك تقبل منها «1» بعضها، قال: «قل يا أبا الوليد أسمع» ، قال: يابن أخى، إن كنت إنما تريد ممّا جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سوّدناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد ملكا ملّكناك علينا، وإن كان هذا الذى يأتيك رئيّا «2» تراه لا تستطيع ردّه عن نفسك طلبنا لك الطّبّ، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربّما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه، أو كما قال له. حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع «3» منه قال: «أقد فرغت يا أبا الوليد» ؟ قال: نعم، قال: «فاستمع منى» ، قال: أفعل، قال: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ «4» ) . ثم مضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيها يقرؤها عليه، فلما سمعها عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما «5» يستمع منه، ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى السّجدة «6» فسجد، ثم قال: «قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك» . فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذى ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك الجزء: 16 ¦ الصفحة: 210 يا أبا الوليد؟ قال: ورائى أنى سمعت قولا والله «1» ما سمعت مثله قطّ، والله ما هو بالشّعر، ولا بالسّحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش، أطيعونى واجعلوها بى، وخلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فو الله ليكوننّ لقوله الذى سمعت نبأ [عظيم «2» ] ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم «3» ، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزّه عزّكم، وكنتم أسعد الناس به؛ فقالوا «4» : سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيى فيه، فاصنعوا ما بدا لكم. وروى أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقىّ «5» بسنده إلى جابر بن عبد الله، قال: قال أبو جهل والملأ من قريش: لقد انتشر علينا أمر محمد، فلو التمستم رجلا عالما بالسحر والكهانة والشّعر فكلّمه، ثم أتانا ببيان أمره؟ فقال عتبة: لقد سمعت بقول السحرة والكهانة والشعر، وعلمت من ذلك علما، وما يخفى علىّ إن كان كذلك، فأتاه عتبة فقال «6» : يا محمد، أنت خير أم هاشم؟ [أنت خير أم عبد المطّلب «7» ] ؟ أنت خير أم عبد الله؟ فلم يجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فبم تشتم آلهتنا، وتضلّل آباءنا؟ فإن كنت إنما بك الرئاسة عقدنا ألويتنا لك، فكنت رأسنا ما بقيت، وإن كان بك الباه زوّجناك عشر نسوة تختار من أىّ بنات قريش شئت، وإن كان بك المال جمعنا لك من أموالنا ما تستغنى بها أنت وعقبك من بعدك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت لا يتكلّم؛ فلما فرغ من حديثه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 211 (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ) «1» حتى بلغ قوله تعالى: (صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) «2» ، فأمسك عتبة على فى النبىّ صلى الله عليه وسلم، وناشده الرّحم أن يكفّ، ولم يخرج إلى أهله واحتبس عنهم؛ فقال أبو جهل: يا عتبة، ما حسبنا إلا أنك صبوت إلى محمد وأعجبك أمره، فإن كانت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد، فغضب وأقسم بالله لا يكلّم محمّدا أبدا، وقال: لقد علمتم أنّى من أكثر قريش مالا، ولكنى أتيته، وقصّ عليهم القصّة، قال: فأجابنى بشىء والله ما هو بسحر ولا شعر ولا كهانة، قرأ علىّ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. حم) إلى قوله: (مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) فأمسكت بفيه وناشدته الرحم أن يكفّ، وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب فيه، فخفت أن ينزل بكم العذاب. وأما الوليد بن المغيرة فقد روى أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقىّ «3» بسنده عن عكرمة عن ابن عباس أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن، فكأنه رقّ له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال: يا عمّ إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالا، قال: لم؟ قال: ليعطوكه، فإنك أتيت محمدا لتعرض لما قبله، قال: قد علمت قريش أنى من أكثرها مالا، قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له «4» ، وأنك كاره له، فقال «5» :وماذا أقول؟ فو الله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار منّى، ولا أعلم برجزه ولا بقصيده منّى، ولا بأشعار الجنّ؛ والله ما يشبه الذى يقول شيئا من هذا، [و «6» ] والله إن لقوله الذى يقول لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته. قال: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 212 لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه. قال: فدعنى حتى أفكّر فيه، فلما فكّر قال: هذا سحر يؤثر، يأثره عن غيره «1» ، فنزل قوله تعالى: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ... ) «2» الآيات. وعن عكرمة أن الوليد بن المغيرة جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال له: اقرأ علىّ، فقرأ عليه: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى، وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) «3» ، قال: أعد علىّ، فأعاد عليه النبىّ صلّى الله عليه وسلم فقال: والله إنّ له لحلاوة، وإنّ [عليه لطلاوة «4» ، وإن] أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما يقول هذا بشر. ذكر اجتماع أشراف قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما عرضوا عليه وما طلبوا منه أن يريهم ويخبرهم به من القصص، وأخبار من سلف وغير ذلك من غيّهم، وما أنزل عليه فى ذلك ممّا سنذكره إن شاء الله تعالى، ويترجم على بعض ما انطوت عليه هذه الترجمة من القصص بما يدل عليها، ويبيّنها من التراجم وإن كانت داخلة فيها. قال محمد بن إسحاق «5» : ثم إن الإسلام جعل يفشو بمكّة فى قبائل قريش، فى الرجال والنساء. وقريش تحبس من قدرت على حبسه، وتفتن من استطاعت فتنته من المسلمين، ثم اجتمعت أشراف قريش من كلّ قبيلة، كما روى عن سعيد بن الجزء: 16 ¦ الصفحة: 213 جبير وابن عباس، قالا: اجتمع عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو سفيان ابن حرب، والنّضر بن الحارث بن كلدة، وأبو البخترىّ بن هشام، والأسود ابن المطّلب بن أسد، وزمعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام، وعبد الله بن أبى أميّة، والعاص بن وائل، ونبيه ومنبّه ابنا الحجّاج السّهميّان، وأمية ابن خلف، أو من اجتمع منهم، فاجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة، ثم قال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلّموه وخاصموه حتى تعذروا فيه، فبعثوا إليه: إن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلّموك، فأتهم؛ فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا، وهو يظن أن قد بدالهم فيما كلّمهم فيه بداء، وكان حريصا عليهم، يحبّ رشدهم «1» ، حتى جلس إليهم فقالوا: يا محمد إنّا قد بعثنا إليك لنكلّمك، وإنا والله لا نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت [على قومك «2» ] ، لقد شتمت الآباء، وعبت الدّين، وسببت «3» الآلهة، وسفّهت الأحلام، وفرّقت الجماعة، فما بقى أمر قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك، أو كما قالوا له، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك، وكلّموه بنحو ما كلّمه به عتبة بن ربيعة على ما قدّمناه آنفا. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بى [ما «4» ] تقولون، ما جئت بما جئتكم أطلب به أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكنّ الله بعثنى إليكم رسولا وأنزل عليكم «5» كتابا، وأمرنى أن أكون بشيرا ونذيرا، فبلّغت لكم رسالات ربّى ونصحت لكم، فإن تقبلوا منّى ما جئتكم به فهو حظّكم فى الدنيا والآخرة، وإن الجزء: 16 ¦ الصفحة: 214 تردّوه علىّ أصبر لأمر الله حتّى يحكم الله بينى وبينكم» أو كما قال- صلى الله عليه وسلم-. [قالوا يا محمد «1» ] : فإن كنت غير قابل منّا شيئا ممّا عرضناه عليك فإنك قد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلدا، ولا أقلّ ماء ولا أشدّ عيشا منّا، فسل لنا ربّك الذى بعثك به فليسيّر عنّا هذه الجبال التى ضيقّت علينا، وليبسط لنا بلادنا، وليخرق «2» لنا فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصىّ بن كلاب، فإنه كان شيخ صدق، فنسألهم عما تقول: أحقّ هو أم باطل، فإن صدقوك وصنعت لنا ما سألناك عرفنا به منزلتك من الله، وأنه بعثك رسولا كما تقول. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بهذا بعثت إليكم، إنما جئتكم من الله بما بعثنى به، وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم، فإن تقبلوه فهو حظّكم فى الدنيا والآخرة، وإن تردّوه علىّ أصبر لأمر الله حتّى يحكم الله بينى وبينكم» . قالوا له: فإذا لم تفعل هذا لنا فخذ لنفسك، سل ربّك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول، ويراجعنا عنك، وسله فليجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضّة يغنيك بها عما نراك تبتغى، فإنّك تقوم بالأسواق كما نقوم، وتلتمس المعاش كما نلتمس، حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم؛ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أنا بفاعل، وما أنا بالذى يسأل ربّه هذا، وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثنى بشيرا ونذيرا» ،- أو كما قال- «فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظّكم الجزء: 16 ¦ الصفحة: 215 فى الدنيا والآخرة، وإن تردّوه علىّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بينى وبينكم» . قالوا: فأسقط السماء علينا كسفا كما زعمت أن ربّك إن شاء فعل، فإنّا لا نؤمن لك إلّا أن تفعل. فقال صلى الله عليه وسلم: «ذلك إلى الله، إن شاء يفعله بكم فعل» قالوا: يا محمد، أفما علم ربّك أنّا سنجلس معك ونسألك عمّا سألناك عنه ونطلب، فيتقدّم إليك فيعلمك ما تراجعنا به، ويخبرك بما هو صانع فى ذلك بنا، إذا لم نقبل منك ما جئتنا به؟ إنه قد بلغنا أنك إنما يعلّمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن، وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبدا، فقد أعذرنا إليك يا محمد، وإنا والله لا نتركك وما بلغت منّا حتى نهلكك أو تهلكنا. وقال قائلهم: نحن نعبد الملائكة، وهى بنات الله. وقال قائلهم: لن نؤمن لك حتى تأتى بالله والملائكة قبيلا؛ فلما قالوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم قام عنهم وقام معه عبد الله بن أبى أميّة بن المغيرة- وهو ابن عمّته- فقال له: يا محمد، عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم، ثم سألوك لأنفسهم أمورا ليعرفوا بها منزلتك من الله كما تقول، ويصدّقوك ويتّبعوك فلم تفعل، ثم سألوك أن تأخذ لنفسك ما يعرفون به فضلك عليهم، ومنزلتك من الله فلم تفعل، ثم سألوك أن تعجّل لهم بعض ما تخوّفهم به من العذاب فلم تفعل- أو كما قال له- فو الله لا أو من بك أبدا حتى تتّخذ إلى السماء سلّما، ثم ترقى فيه وأنا أنظر إليك حتى تأتيها، ثم تأتى معك بصكّ، ومعك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول، وايم الله لو فعلت ذلك ما ظننت أنى أصدّقك؛ ثم انصرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزينا أسفا لما فاته ممّا كان يطمع به من قومه حين دعوه «1» . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 216 ذكر قصّة أبى جهل فى الحجر الذى قصد قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم به، وما شاهده من حماية الله تعالى لنبيّه، وكفايته إيّاه ورجوعه إلى قومه وإخبارهم بما شاهد قال ابن إسحاق: ولمّا قام عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو جهل: يا معشر قريش، إنّ محمد قد أبى إلّا ما ترون من عيب ديننا، وشتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وسبّ «1» آلهتنا؛ وإنى أعاهد الله لأجلسنّ له غدا بحجر ما أطيق حمله، فإذا سجد فضخت به رأسه، فأسلمونى عند ذلك أو امنعونى، فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم؛ قالوا: والله لا نسلمك لشىء أبدا، فامض لما تريد، فلمّا أصبح أخذ حجرا كما وصف، ثم جلس ينتظره، وغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يغدو، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّى إلى بيت المقدس: وكان إذا صلّى صلّى بين الركن اليمانىّ والحجر الأسود: وجعل الكعبة بينه وبين الشام، وقام يصلّى وقريش فى أنديتهم ينتظرون ما أبو جهل فاعل، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم احتمل أبو جهل الحجر ثم أتى «2» نحوه حتى إذا دنا منه رجع منهزما منتقعا لونه، مرعوبا قد يبست يداه على حجره حتى قذف الحجر من يده، وقامت إليه رجال قريش فقالوا له: مالك يا أبا الحكم؟ فقال: قمت إليه لأفعل [به «3» ] ما قلت لكم البارحة، فلمّا دنوت منه عرض لى دونه فحل من الإبل؛ والله ما رأيت مثل هامته الجزء: 16 ¦ الصفحة: 217 ولا قصرته «1» ولا أنيابه لفحل قطّ، فهمّ أن يأكلنى. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ذاك جبريل لو دنا لأخذه» . ومثل هذه القصة أيضا، ما رواه ابن إسحاق قال: قدم رجل من إراش- ويقال إراشة «2» - بإبل له مكة فابتاعها منه أبو جهل، فمطله بأثمانها، فأقبل الإراشىّ حتى وقف على ناد من أندية قريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم فى ناحية المسجد جالس، فقال الإراشىّ: يا معشر قريش، من رجل يؤدينى «3» على أبى الحكم بن هشام؛ فإنّى رجل غريب ابن سبيل، وقد غلبنى على حقّى؛ فقال له القوم: أترى ذلك الرجل الجالس؟ - يريدون رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يهزءون به- اذهب إليه فهو مؤديك عليه؛ فأقبل الإراشىّ حتى وقف على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا عبد الله، إن أبا الحكم قد غلبنى على حقّ لى قبله، وأنا غريب وابن سبيل، ولقد سألت هؤلاء القوم عن رجل يؤدينى عليه فأشاروا لى إليك، فخذ [لى «4» ] حقّى منه يرحمك الله، قال: «انطلق إليه» ، وقام معه صلى الله عليه وسلم فلمّا رأوه قام [معه «5» ] قالوا لرجل ممّن معهم: اتبعه فانظر ماذا يصنع؟ قال: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءه فضرب عليه بابه، فقال: من هذا؟ قال: «محمّد فاخرج إلىّ» فخرج وما فى وجهه رائحة «6» (أى دم) قد انتقع «7» لونه فقال: أعط هذا الرجل حقّه الجزء: 16 ¦ الصفحة: 218 قال: نعم، لا يبرح «1» حتّى أعطيه [الّذى له «2» ] ، ودخل فخرج إليه بحقّه فدفعه إليه، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال للإراشىّ: الحق بشأنك؛ فأقبل الإراشىّ حتّى وقف على ذلك المجلس، فقال: جزاه الله خيرا، فقد والله أخذ لى حقّى، وجاء الرجل الّذى بعثوه معه فأخبرهم الخبر، قال: ثمّ لم يلبث أبو جهل أن جاء، فقالوا له: ويلك! والله ما رأينا مثل ما صنعت قطّ! قال: ويحكم! والله ما هو إلّا أن ضرب علىّ بابى، وسمعت صوته، فملئت رعبا، ثم خرجت إليه وإنّ فوق رأسه لفحلا من الإبل ما رأيت مثل هامته ولا قصرته ولا أنيابه لفحل قطّ، والله لو أبيت لأكلنى. ذكر خبر النّضر بن الحارث، وما قال لقريش، وإرسالهم إيّاه إلى يثرب إلى أحبار يهود وعقبة بن أبى معيط وما عادا به قال: ولمّا رجع أبو جهل إلى قريش، وألقى الحجر من يده وقصّ عليهم ما شاهد قام النضر بن الحارث بن كلدة فقال: يا معشر قريش، إنه والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد، قد كان محمّد فيكم غلاما حدثا، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثا، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم فى صدغيه الشيب- وقد جاءكم بما جاءكم به- قلتم: ساحر، لا والله ما هو بساحر، لقد رأينا السّحرة؛ نفثهم وعقدهم. وقلتم: كاهن، لا والله ما هو بكاهن، قد رأينا الكهنة؛ تخالجهم، وسمعنا سجعهم. وقلتم: شاعر، لا والله ما هو بشاعر، لقد رأينا الشعر، وسمعنا أصنافه كلّها؛ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 219 هزجه ورجزه. وقلتم مجنون، لا والله ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون، ما هو بخنقه، ولا وسوسته، ولا تخليطه، يا معشر قريش، فانظروا فى شأنكم، فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم. قال ابن إسحاق: وكان النضر بن الحارث من شياطين قريش، وممّن كان يؤذى رسول الله صلى الله عليه وسلم وينصب له العداوة، وكان قد قدم الحيرة وتعلّم بها أحاديث ملوك الفرس ورستم «1» وإسفنديار، فكان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا فذكّر فيه بالله وحذّر قومه ما أصاب من قبلهم من الأمم من نقمة الله، خلفه فى مجلسه إذا أقام، ثم قال: والله يا معشر قريش أنا أحسن حديثا منه، فهلمّ «2» فأنا أحدّثكم أحسن من حديثه، ثم يحدّثهم عن ملوك فارس ورستم وإسفنديار، ثم يقول: بماذا محمد أحسن حديثا منى! قيل: والنضر هذا هو الذى قال [فيما بلغنى «3» ] : (سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ) «4» ، قال ابن عباس: نزل فيه ثمان آيات من القرآن: قوله تعالى (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) * «5» ، وكلّ ما ذكر فيه الأساطير من القرآن. قال: فلما قال لهم النضر بن الحارث ما قال بعثوه، وبعثوا معه عقبة بن أبى معيط إلى أحبار يهود بالمدينة، وقالوا لهما: سلاهم عن محمّد، وصفا لهم صفته وأخبراهم بقوله، فإنّهم أهل الكتاب الأوّل، وعندهم الجزء: 16 ¦ الصفحة: 220 علم حسن- ليس عندنا- من علم الأنبياء؛ فخرجا حتى قدما المدينة فسألا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفا لهم أمره، وأخبراهم ببعض قوله، وقالا لهم: إنّكم أهل التوراة، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا، فقال لهما أحبار يهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهنّ، فإن أخبركم بهنّ فهو نبىّ مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقوّل، فروا فيه رأيكم، سلوه عن فتية ذهبوا فى الدهر الأوّل، ما كان من أمرهم؟ فإنّه قد كان لهم حديث عجيب؛ وسلوه عن رجل طوّاف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها؛ ما كان نبؤه؟ وسلوه عن الرّوح ما هو؟ فإن أخبركم بذلك فاتّبعوه فإنه نبىّ، وإن لم يفعل فهو رجل متقوّل فروا فيه رأيكم. فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد، أخبرنا عن فتية ذهبوا فى الدهر الأوّل قد كانت لهم قصّة عجب؛ وعن رجل كان طوّافا قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها؛ وأخبرنا عن الرّوح ما هى؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أخبركم بما سألتم عنه غدا» ، ولم يستثن بالمشيئة، فانصرفوا عنه، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يزعمون خمس عشرة ليلة لا يحدث الله فى ذلك وحيا، ولا يأتيه جبريل حتى أرجف «1» أهل مكّة وقالوا: وعدنا محمد غدا، واليوم خمس عشرة ليلة قد أصبحنا منها لا يخبرنا «2» بشىء ممّا سألناه عنه، وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث الوحى عنه، وشقّ عليه ما يتكلّم به أهل مكة؛ ثم جاءه جبريل من الله بسورة الكهف فيها خبر ما سألوا عنه، فيقال: إنه صلى الله عليه وسلم قال لجبريل حين جاءه: لقد احتبست عنّى حتى سؤت ظنّا؛ فقال له جبريل: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 221 (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) «1» . ذكر ما اشتملت عليه سورة الكهف ممّا سألوه عنه قال أبو محمد عبد الملك بن هشام رحمه الله تعالى: افتتح الله عزّ وجلّ السورة بحمده، وذكر نبوّة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ) يعنى محمدا. قوله: (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً) أى معتدلا لا اختلاف فيه. قوله: (لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ) أى عاجل عقوبته فى الدنيا وعذابا أليما فى الآخرة. قوله: (وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً. ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً) أى دار الخلد لا يموتون فيها، الّذين صدّقوك بما جئت به ممّا كذّبك به غيرهم، وعملوا بما أمرتهم من الأعمال. قوله: (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً) يعنى قريشا فى قولهم: إنّا نعبد الملائكة وهى بنات الله. قوله: (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ) الّذين أعظموا فراقهم «2» . قوله: (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) أى قولهم: إنّ الملائكة بنات الله. قوله: (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) أى مهلك نفسك لحزنه صلى الله عليه وسلم عليهم حين فاته ما كان يرجو منهم، أى لا تفعل. قوله: (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) أى أيّهم أتبع لأمرى، وأعمل لطاعتى. قوله: (وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) «3» أى الأرض، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 222 وإنّ ما عليها لفان وزائل، ولكن المرجع إلىّ فأجزى كلّا بفعله، فلا تأس، ولا يحزنك ما ترى وتسمع فيها. ثم استقبل القصّة فيما «1» سألوه عنه من شأن الفتية. فقال تعالى: (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) ، أى قد كان من آياتى فيما وضعت على العباد من حجتى «2» ما هو أعجب من ذلك. قال ابن هشام: والرقيم الكتاب الذى يرقم فيه بخبرهم، وجمعه رقم. ثم قال: (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ) إلى قوله: (لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً) أى لم يشركوا بى كما أشركتم [بى «3» ] ما ليس لكم به علم. قال: والشّطط، الغلوّ «4» ومجاوزة الحق. قوله: (هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ) ، أى بحجّة بالغة. (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً) إلى قوله: (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) . قال ابن هشام: تزاور، تميل، وهو من الزّور، و (تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ) ، أى تجاوزهم وتتركهم عن شمالها. والفجوة: السعة، وجمعها الفجاء. قوله: (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ) أى فى الحجّة على من عرف ذلك من أمورهم من أهل الكتاب ممّن أمر هؤلاء بمسألتك عنهم فى صدق نبوّتك بتحقيق الخبر عنهم. قوله: (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ) إلى قوله (بِالْوَصِيدِ) «5» الوصيد: الباب. قال عبيد «6» بن وهب العبسىّ منشدا: بأرض فلاة لا يسدّ وصيدها ... علىّ ومعروفى بها غير منكر الجزء: 16 ¦ الصفحة: 223 والوصيد أيضا الفناء، وجمعه وصائد ووصد ووصدان قوله: (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ) إلى قوله (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ) أهل الملك (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) . قوله: (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ) إلى قوله: (وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً) يعنى أحبار يهود الذين أمروهم بالمسألة عنهم، فانهم لا علم لهم بهم. قوله: (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ) إلى قوله (رَشَداً) أى لا تقولنّ لشىء سألوك عنه كما قلت فى هذا: إنى مخبركم غدا، واستثن بمشيئة الله (وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي) لخير مما سألتمونى عنه رشدا، فإنّك لا تدرى ما أنا صانع فى ذلك. قوله: (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً) أى سيقولون ذلك. (قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) أى لم يخف عليه شىء مما سألوا عنه، وقال الله عزّ وجل، فيما سألوه عنه من أمر الطّواف، وهو ذو القرنين: (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ) «1» الآيات، إلى آخر خبره. وقد ذكرنا قصة ذى القرنين فى الباب الأوّل من القسم الرابع من الفنّ الخامس من كتابنا هذا، وهى فى الجزء الثانى عشر «2» من هذه النسخة، ولا فائدة فى إعادتها. وقال تعالى فيما سألوه عنه من [أمر «3» ] الرّوح «4» : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) «5» روى عن عبد الله بن عبّاس رضى الله عنهما قال: لمّا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قال الجزء: 16 ¦ الصفحة: 224 أحبار يهود: يا محمد، أرأيت قولك: (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) «1» إيّانا تريد أم قومك؟ قال: كلّا. قالوا: فإنّك تتلو فيما جاءك إنّا قد أوتينا التوراة فيها بيان كلّ شىء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّها فى علم الله قليل، وعندكم فى ذلك ما يكفيكم لو أقمتموه» فأنزل الله تعالى عليه فيما سألوه عنه من ذلك: (وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) «2» ، أى أن التوراة فى هذا من علم الله قليل. ذكر ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن فيما سأله قومه لأنفسهم من تسيير الجبال، وتقطّع الأرض وبعث من مضى من آبائهم من الموتى، وما سألوه لنفسه، وما قالوه له بعد ذلك أنزل الله عزّ وجلّ على رسوله صلى الله عليه وسلم فيما سأله قومه لأنفسهم فيما قدّمنا ذكره؛ قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) «3» ، أى لا أصنع من ذلك إلّا ما شئت. وأنزل عليه فى قولهم: خذ لنفسك ما سألوه أن يأخذ لنفسه قوله تعالى: (وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً. أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً) «4» . (تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ) «5» ، أى من أن تمشى فى الأسواق الجزء: 16 ¦ الصفحة: 225 وتلتمس المعاش (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً) . وأنزل عليه فى ذلك: (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) «1» ، أى جعلت بعضكم لبعض بلاء لتصبروا، ولو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلى ولا يخالفوا لفعلت. وأنزل عليه فيما قال عبد الله بن أميّة: (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً. أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا «2» ) ، وأنزل عليه فى قولهم: إنّا قد بلغنا [أنك «3» ] إنّما يعلّمك رجل باليمامة يقال له الرحمن، ولن نؤمن به أبدا؛ قوله تعالى: (كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ) . «4» . وأنزل عليه فيما قال أبو جهل وما همز به قوله تعالى: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى. عَبْداً إِذا صَلَّى. أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى. أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى) «5» إلى آخر السورة. قال ابن هشام: لنسفعن: لنجذبنّ ولنأخذنّ. والنادى: المجلس الذى يجتمع فيه القوم ويقضون فيه أمورهم، وجمعه أندية. يقول: (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ) «6» أى أهل ناديه، كما قال تعالى: (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) «7» أى أهل القرية. وأنزل عليه فيما عرضوه عليه من أموالهم: (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) «8» الجزء: 16 ¦ الصفحة: 226 ذكر ما كان من عناد قريش بعد ذلك وعقودهم «1» قال: فلمّا جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما عرفوا من الحقّ، وعرفوا صدقه فيما حدّث، وموقع نبوّته فيما جاءهم به من علم الغيوب حين سألوه عمّا سألوه عتوا على الله واستمرّوا فى طغيانهم وعلى كفرهم، فقال قائلهم: (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) «2» فإنكم إن ناظرتموه وخاصمتموه غلبكم. فقال أبو جهل يوما- وهو يهزأ برسول الله وما جاء به من الحقّ-: يا معشر قريش، يزعم محمد أنّما جنود الله الذين يعذبونكم فى النار ويحبسونكم فيها تسعة عشر، وأنتم أكثر الناس عددا [وكثرة «3» ] ، أفيعجز كل مائة رجل منكم عن رجل منهم. فأنزل الله تعالى فى ذلك: (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) «4» إلى آخر القصّة. قال: ولمّا قال بعضهم لبعض: (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) جعلوا إذا جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن وهو فى صلاته يتفرّقون عنه، ويأبون أن يسمعوا له، فكان الرجل منهم إذا أراد أن يستمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض ما يتلو من القرآن وهو يصلّى استرق السمع دونهم فرقا منهم، فإن رأى أنّهم قد عرفوا به أنه يستمع منه ذهب خشية أذاهم أن يستمع؛ وإن خفض صلى الله عليه وسلم صوته ظنّ الّذى يستمع أنهم لا يستمعون شيئا من قراءته؛ وسمع هو شيئا دونهم أصاخ له يستمع منه، فأنزل الله تعالى قوله: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 227 (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا) «1» يقول: لا تجهر بصلاتك فيفرّوا «2» عنك، ولا تخافت بها، فلا يسمعها من يحبّ أن يسمعها ممّن يسترقها دونهم لعلّه يرعوى إلى بعض ما يسمع فينتفع به. ذكر أوّل من جهر بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلّم روى عن عروة بن الزّبير عن أبيه قال: كان أوّل من جهر بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن مسعود. قال: اجتمع يوما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قطّ «3» من رجل يسمعهموه. فقال عبد الله بن مسعود: أنا؛ قالوا: إنّا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه، قال: دعونى، إن الله سمينعنى؛ قال: فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام فى وقت الضّحى وقريش فى أنديتها، ثم قال رافعا صوته: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. الرَّحْمنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ) «4» ثم استقبلها يقرؤها، وتأمّلوه فجعلوا يقولون: ماذا قال ابن أمّ عبد؟ ثم قالوا: إنه ليتلو بعض ما جاء به محمّد؛ فقاموا إليه فجعلوا يضربون فى «5» وجهه وهو يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ، ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثّروا بوجهه، فقالوا: هذا الذى خشينا عليك. قال: ما كان أعداء الله أهون علىّ منهم الآن، وإن شئتم لأغادينّهم بمثلها غدا؛ قالوا: لا، حسبك، قد أسمعتهم ما يكرهون. والله الموفّق. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 228 ذكر ما نال أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أذى قريش وعذابهم ليفتنوهم عن دينهم قال محمّد بن إسحاق: ثم إنهم عدوا على من أسلم واتبع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أصحابه، فوثبت كلّ قبيلة على من فيها من المسلمين، فجعلوا يحبسونهم ويعذّبونهم بالضّرب والجوع والعطش، وبرمضاء مكّة إذا اشتد الحرّ؛ من استضعفوا منهم يفتنونهم عن دينهم، فمنهم من يفتتن «1» من شدّة البلاء الذى يصيبه، ومنهم من يعصمه الله، فكان بلال بن رباح «2» مولى أبى بكر الصدّيق رضى الله عنهما لبعض بنى جمح مولّدا من مولّديهم، وكان صادق الإسلام، طاهر القلب، فكان أميّة بن خلف يخرجه إذا حميت الظّهيرة فيطرحه على ظهره فى بطحاء مكّة، ثم يأمر بالصّخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمّد، وتعبد اللّات والعزّى؛ فيقول- وهو فى ذلك البلاء- أحد أحد، فكان ورقة بن نوفل يمرّ به وهو يعذّب بذلك وهو يقول: أحد أحد، فيقول: أحد أحد والله يا بلال؛ ثم يقبل على أميّة بن خلف وهو يصنع به ذلك فيقول: أحلف بالله لئن قتلتموه على هذا لأتخذنّه حنانا «3» ؛ حتى مرّ به أبو بكر الصديق رضى الله عنه يوما وهم يصنعون به ذلك، فقال لأميّة: ألا تتقى الله فى هذا المسكين، حتّى متى! فقال: أنت أفسدته فأنقذه ممّا ترى. قال: أفعل، عندى غلام أسود أجلد منه وأقوى، وهو على دينك، أعطيكه به. قال: قد قبلت؛ قال: هو لك. فأعطاه أبو بكر الجزء: 16 ¦ الصفحة: 229 غلامه ذلك، وأخذه فأعتقه، ثم أعتق معه على الإسلام قبل أن يهاجر إلى المدينة ستّ رقاب؛ وهم عامر بن فهيرة، شهد بدرا وأحدا «1» ، وأمّ عميس «2» ، وزنّيرة- وكانت روميّة لبنى عبد الدار- فأصيب بصرها حين أعتقها، فقالت قريش: ما أذهب بصرها إلّا اللّات والعزّى، وما ينفعان. فردّ الله إليها بصرها؛ وأعتق النهديّة وابنتها، وكانتا لامرأة من بنى عبد الدّار، فمرّ بهما وقد بعثتهما سيّدتهما بطحين لها وهى تقول: والله لا أعتقكما أبدا؛ فقال أبو بكر: حلّ «3» يا أم فلان؛ فقالت: حلّ أنت؛ أفسدتهما فاعتقهما، قال فبكم هما؟ قالت: بكذا وكذا؛ قال: أخذتهما وهما حرّتان، ارجعا إليها طحينها؛ قالتا: أو نفرغ منه يا أبا بكر ثم نردّه إليها؛ قال: وذاك إن شئتما. ومرّ بجارية من بنى مؤمّل (حىّ من بنى عدىّ بن كعب) - وكانت مسلمة- وكان عمر يعذّبها لتترك الإسلام، وعمر يومئذ مشرك، وهو يضربها حتى إذا ملّ قال: إنى أعتذر إليك، لم أتركك إلّا ملالة، فيقول: كذا يفعل الله بك. فآبتاعها فأعتقها؛ فقال أبو قحافة لأبى بكر: يا بنىّ، أراك تعتق رقابا ضعافا، فلو أنّك إذ فعلت ما فعلت أعتقت رجالا جلدا يمنعونك ويقومون دونك؛ فقال أبو بكر: يا أبت إنّى إنما أريد لله عزّ وجلّ ما أريد؛ فيقال: إنّ هذه الآيات أنزلت فيه رضى الله عنه قوله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) إلى قوله: (وَلَسَوْفَ يَرْضى) «4» . قال محمد بن إسحاق: وكان بنو مخزوم يخرجون بعمّار بن ياسر وبأبيه وأمّه- وكانوا أهل بيت إسلام- إذا حميت الظّهيرة يعذّبونهم برمضاء مكّة، فيمرّ بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فيقول: «صبرا آل ياسر موعدكم الجنّة» ، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 230 فأما أمّه فقتلوها وهى تأبى إلا الإسلام «1» . قال أبو عمر: وهى سميّة، كانت أمة لأبى حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، فزوّجها من حليفه ياسر بن عامر بن مالك العبسى، فولدت له عمّارا، فأعتقه أبو حذيفة. وسميّة هذه أوّل شهيدة فى الإسلام. وجاءها أبو جهل بحربة فى قبلها فقتلها، فقال عمّار: يا رسول الله، بلغ منا- أو بلغ منها كلّ مبلغ- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صبرا يا أبا اليقظان، اللهم لا تعذّب أحدا من آل «2» ياسر بالنار» . قال ابن إسحاق: وكان أبو جهل هو الذى يغرى بهم فى رجال قريش إذا سمع برجل قد أسلم، فإن كان له شرف ومنعة أنّبه وخزّاه: فيقول: تركت دين أبيك وهو خير منك، لنسفّهن حلمك ولنفيّلنّ «3» رأيك، ولنضعنّ شرفك؛ وإن كان تاجرا، قال: والله لنكسدنّ «4» تجارتك، ولنهلكنّ مالك؛ وإن كان ضعيفا ضربه وأغرى به. وروى عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عبّاس رضى الله عنهم: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من العذاب ما يعذرون به فى ترك دينهم؟ قال: نعم، والله إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه؛ حتى ما يقدر أن يستوى جالسا من شدة الضرّ الذى به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة حتى يقولوا له: اللّات والعزّى إلهان من دون الله، فيقول: نعم، حتى إن الجعل ليمرّ بهم فيقولون له: هذا الجعل إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم، افتداء منهم ممّا يبلغون من جهده. والله المعين. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 231 ذكر هجرة أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الحبشة، وهى الهجرة الأولى قال محمد بن إسحاق: لما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما يصيب أصحابه من البلاء والعذاب، وما هو فيه من العافية لمكانه من الله تعالى ومن عمّه أبى طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم ممّا هم فيه قال لهم: لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد- وهى أرض صدق- حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه، فخرج عند ذلك من خرج منهم مخافة الفتنة، وفرارا إلى الله بدينهم، فكانت أوّل هجرة كانت فى الإسلام. قال الواقدىّ: خرجوا متسلّلين سرّا، وكانوا أحد عشر رجلا وأربع نسوة، حتى انتهوا إلى الشعيبة «1» منهم الراكب والماشى، ووفّق الله لهم ساعة جاءوا سفينتين للتجّار حملوهم فيهما إلى أرض الحبشة بنصف دينار، وكان مخرجهم فى نصف رجب من السنة الخامسة من حين تنّبأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وخرجت قريش فى آثارهم حتى جاءوا البحر فلم يدركوهم. قال ابن إسحاق. كان أوّل من خرج من المسلمين من بنى أمية بن عبد شمس عثمان بن عفان معه امرأته رقيّة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن بنى عبد شمس: أبو حذيفة بن عتبة، معه امرأته سهلة ابنة سهيل، ولدت بأرض الحبشة محمد بن [أبى «2» ] حذيفة. ومن بنى أسد بن عبد العزّى: الزبير بن العوّام. ومن بنى عبد الدار: مصعب بن عمير بن هاشم. ومن بنى زهرة بن كلاب: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 232 عبد الرحمن بن عوف. ومن بنى مخزوم: أبو سلمة بن عبد الأسد، معه امرأته أم سلمة بنت أبى أمية بن المغيرة. ومن بنى جمح: عثمان بن مظعون بن حبيب. ومن بنى عدىّ بن كعب: عامر بن ربيعة، معه امرأته ليلى بنت أبى حثمة بن غانم؛ ومن بنى عامر بن لؤىّ: أبو سبرة بن أبى رهم بن عبد العزّى «1» ؛ ومن بنى الحارث ابن فهر: سهيل بن بيضاء، وهو سهيل بن وهب بن ربيعة. قال: هؤلاء العشرة أول من خرج من المسلمين إلى أرض الحبشة، وكان عليهم عثمان بن مظعون. وزاد الواقدىّ: حاطب بن عمرو بن عبد شمس، فجعلهم أحد عشر رجلا وأربع نسوة. قال: فقدمنا أرض الحبشة، فجاورنا بها خير جار «2» ، أمنّا على ديننا، وعبدنا الله تعالى لا نؤذى، ولا نسمع شيئا نكرهه. والله أعلم. ذكر رجوع أهل هذه الهجرة إلى مكّة، وما قيل فى سبب رجوعهم قال محمد بن سعد عن محمد بن عمر بن واقد بسند يرفعه: لمّا رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قومه كفّا عنه، جلس خاليا، فتمنّى فقال: ليته لا ينزل علىّ شىء ينفّرهم عنى، وقارب رسول الله صلى الله [عليه وسلم «3» ] قومه ودنا منهم ودنوا منه، فجلس يوما مجلسا فى ناد من تلك الأندية حول الكعبة، فقرأ عليهم: (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) «4» حتى بلغ: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى. وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) «5» . ألقى الشيطان على لسانه كلمتين: «تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى» ولما بلغ «الغرانيق العلا» ، وفى أخرى: «والغرانقة «6» العلا، تلك الشفاعة ترتجى» الجزء: 16 ¦ الصفحة: 233 قال الواقدىّ: فتكلّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بهما «1» ، ثم مضى فقرأ السورة كلّها، وسجد وسجد القوم جميعا، ورفع المغيرة بن الوليد ترابا إلى جبهته فسجد عليه، وكان شيخا كبيرا لا يقدر على السجود. ويقال: إن أبا أحيحة سعيد بن العاص أخذ ترابا فسجد عليه، ورفعه إلى جبهته- وكان شيخا كبيرا- فرضوا بما تكلّم به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقالوا: قد عرفنا أن الله يحيى ويميت ويخلق ويرزق، ولكنّ آلهتنا هذه تشفع لنا عنده، فأمّا إذ جعلت لها نصيبا عندك فنحن «2» معك، فكبر ذلك على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قولهم حتى «3» جلس فى البيت فلمّا أمسى أتاه جبريل فعرض عليه السورة، فقال جبريل: ما جئتك بهاتين الكلمتين، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قلت على الله ما لم يقل» . فأوحى الله إليه: (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا) ، إلى قوله: (ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً) . وقال: ففشت تلك السّجدة فى الناس حتى بلغت أرض الحبشة، فبلغ أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن أهل مكّة قد سجدوا فأسلموا، حتى إن الوليد ابن المغيرة وأبا أحيحة قد سجدا خلف النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال القوم: فمن بقى بمكّة إذا أسلم هؤلاء! قالوا: عشائرنا أحبّ إلينا؛ فخرجوا راجعين، حتى إذا كانوا دون مكة بساعة من نهار لقوا ركبا من كنانة، فسألو لهم عن قريش الجزء: 16 ¦ الصفحة: 234 وعن حالهم، فقال الركب: ذكر محمد آلهتهم بخير، فتابعه الملأ، ثم ارتدّ عنها، فعاد يشتم آلهتهم، وعادوا له بالشر، فتركناهم على ذلك، فائتمر القوم فى الرجوع إلى أرض الحبشة، ثم قالوا: قد بلغنا، ندخل فننظر ما فيه قريش، ويحدث عهدا من أراد بأهله، ثم نرجع. قال: فدخلوا مكة، ولم يدخل أحد منهم إلا بجوار، إلا ابن مسعود فإنه مكث يسيرا، ثم رجع إلى أرض الحبشة. قال الواقدىّ: فكان خروجهم فى شهر رجب سنة خمس (يريد من النبوّة «1» ) ، فأقاموا شعبان ورمضان وقدموا فى شوال من السنة. وحيث ذكرنا هذا الحديث فلنذكر ما جاء فى توهينه. ذكر ما ورد فى توهين هذا الحديث والكلام عليه فى التوهين والتسليم قال القاضى عياض بن موسى بن عياض رحمه الله، فى كتابه المترجم (بالشفا بتعريف حقوق المصطفى) صلى الله عليه وسلم: اعلم أن لنا فى الكلام على مشكل هذا الحديث مأخذين: أحدهما فى توهين أصله، والثانى [على «2» ] تسليمه. أمّا المأخذ الأوّل فيكفيك أن هذا الحديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل مع ضعف نقلته، واضطراب رواياته، وانقطاع إسناده، واختلاف كلماته، فقائل يقول: إنه فى الصلاة، وآخر يقول قالها فى نادى قومه حين أنزلت عليه السورة، وآخر يقول: قالها وقد أصابته سنة؛ وآخر يقول: بل حدّث نفسه فسها؛ وآخر يقول: إن الشيطان قالها على الجزء: 16 ¦ الصفحة: 235 لسانه، وأن النبى صلى الله عليه وسلم لما عرضها على جبريل قال: ما هكذا أقرأتك؛ وآخر يقول: بل أعلمهم الشيطان أن النبى صلى الله عليه وسلم قرأها؛ فلما بلغ النبى صلى الله عليه وسلم ذلك قال: «والله ما هكذا أنزلت» إلى غير ذلك من اختلاف الرواة، ومن حكيت عنه هذه الحكاية من المفسرين والتابعين لم يسندها أحد منهم، ولا رفعها إلى صاحب، وأكثر الطرق عنهم فيها ضعيفة واهية «1» ، والمرفوع فيه حديث شعبة عن أبى بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضى الله عنهما فيما أحسب- الشك فى الحديث أن النبى صلى الله عليه وسلم كان بمكة- وذكر القصة. قال أبو بكر البزار: هذا الحديث لا تعلمه يروى عن النبى صلى الله عليه وسلم بإسناد متصل يجوز ذكره إلا هذا، ولم يسنده عن شعبة إلا أمية بن خالد، وغيره يرسله عن سعيد بن جبير، وإنما يعرف عن الكلبىّ، عن أبى صالح، عن ابن عباس قال: فقد بين لك أبو بكر رحمه الله أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره سوى هذا، وفيه من الضعف ما نبّه عليه مع وقوع الشك فيه كما ذكرناه. وأما حديث الكلبىّ فمما لا تجوز الرواية عنه ولا ذكره، لقوة ضعفه وكذبه كما أشار البزار إليه، قال: والذى منه فى الصحيح أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قرأ (وَالنَّجْمِ) وهو بمكة، فسجد وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس. هذا توهينه من طريق النقل، والله أعلم بالصواب. وأما جهة المعنى: فقد قامت الحجة، وأجمعت الأمة على عصمته صلى الله عليه وسلم ونزاهته عن مثل هذه الرّذيلة. أما من تمنّيه أن ينزل عليه مثل هذا من مدح آلهة غير الله وهو كفر، أو أن يتسور عليه الشيطان، ويشبه عليه القرآن حتى الجزء: 16 ¦ الصفحة: 236 يجعل فيه ما ليس منه، ويعتقد النبى صلى الله عليه وسلم أنّ من القرآن ما ليس منه، حتى ينبّهه جبريل عليهما السلام، وذلك كله ممتنع فى حقّه صلى الله عليه وسلم، أو يقول ذلك النبى صلى الله عليه وسلم من قبل نفسه عمدا- وذلك كفر- أو سهوا، وهو معصوم من هذا كله، وقد تقرر بالبرهان والإجماع عصمته عليه السلام من جريان الكفر على قلبه أو لسانه لا عمدا ولا سهوا، أو أن يتشبه عليه ما يلقيه الملك مما يلقى الشيطان، أو يكون للشيطان عليه سبيل، أو يتقوّل على الله؛ لا عمدا ولا سهوا «1» ، وقد قال تعالى: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ) «2» الآية، وقال: (إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ) «3» الآية. ووجه ثان، وهو استحالة هذه القصة نظرا وعرفا، وذلك أن هذا الكلام لو كان كما روى لكان بعيد الالتئام «4» ، متناقض الأقسام، ممتزج المدح بالذم، متخاذل التأليف والنظم؛ ولما كان النبى صلى الله عليه وسلم، ولا من بحضرته من المسلمين وصناديد المشركين ممن يخفى عليه ذلك- وهذا لا يخفى على أدنى متأمل- فكيف بمن رجح حلمه، واتّسع فى باب البيان ومعرفة فصيح الكلام علمه؟! ووجه ثالث، أنه قد علم من عادة المنافقين، ومعاندى المشركين، وضعفة القلوب والجهلة من المسلمين نفورهم لأول وهلة، وتخليط العدو على النبى صلى الله عليه وسلم لأقل فتنة، وتعييرهم المسلمين، وارتداد من فى قلبه مرض ممن أظهر الإسلام لأقل شبهة؛ ولم يحك أحد فى هذه القصة شيئا سوى هذه الرواية الضعيفة الأصل، ولو كان ذلك لوجدت قريش بها على المسلمين الصّولة، ولأقامت بها اليهود عليهم الحجة، كما فعلوا فى قصة الإسراء وقصة القضية «5» ، ولا فتنة أعظم من هذه البليّة لو وجدت، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 237 ولا تشغيب «1» للمعادى حينئذ أشدّ من هذه الحادثة لو أمكنت؛ فما روى عن معاند فيها كلمة، ولا عن مسلم بسببها بنت شفة؛ فدل على بطلها، واجتثاث أصلها. قال القاضى عياض: ولا شك فى إدخال بعض شياطين الإنس أو الجن هذا الحديث على بعض مغفّلى المحدّثين، ليلبّس به على ضعفاء المسلمين. ووجه رابع، ذكر الرواة لهذه القضية أن فيها نزلت: (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) الآيتين، وهاتان الآيتان ترددان الخبر الذى رووه، لأن الله تعالى ذكر أنهم كادوا يفتنونه حتى يفترى، وأنه لولا أن ثبته لكاد يركن إليهم؛ فمضمونه هذا. ومفهومه أن الله عصمه من أن يفترى، وثبّته حتى لم يركن إليهم قليلا، فكيف كثيرا! وهم يروون فى أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون والافتراء بمدح آلهتهم، وأنه قال عليه السلام: «افتريت على الله وقلت ما لم يقل» ؛ وهذا ضد مفهوم الآية، وهى تضعّف الحديث لو صح، فكيف ولا صحة له!، وروى عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: كل ما فى القرآن كاد فهو ما لا يكون، قال الله تعالى: (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) «2» ، ولم يذهب. قال القاضى القشيرىّ «3» : ولقد طالبه قريش وثقيف إذ مرّ بآلهتهم أن يقبل بوجهه إليها، ووعدوه الإيمان به إن فعل، فما فعل ولا كان ليفعل صلى الله عليه وسلم. وأما المأخذ الثانى- وهو مبنىّ على تسليم الحديث لو صحّ، وقد أعاذنا الله من صحته- فقد أجاب على ذلك أئمة المسلمين بأجوبة ذكرها القاضى عياض «4» وضعّف بعضها، واستحسن بعضا، نذكر منها ما استحسنه وجوّزه إن شاء الله. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 238 منها ما ذكره القاضى أبو بكر فى أجوبته عن هذا الحديث، قال: لعل النبىّ صلى الله عليه وسلم قال ذلك أثناء تلاوته؛ على تقدير التقرير والتوبيخ للكفار، لقول إبراهيم عليه السلام: (هذا رَبِّي) «1» على أحد التأويلات، يريد: أهذا ربّى؟! ولقوله: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) «2» بعد السكت وبيان الفصل بين الكلامين، ثم رجع إلى تلاوته، وهذا ممكن مع بيان الفصل وقرينة تدل على المراد، وأنه ليس من المتلوّ. قال القاضى عياض: ولا يعترض على هذا بما روى أنه كان فى الصلاة، فقد كان الكلام فيها قبل [غير «3» ] ممنوع، قال: والذى يظهر ويترجح فى تأويله عند القاضى أبى بكر، وعند غيره من المحققين على تسليمه، أن النبى صلى الله عليه وسلم كان كما أمره ربّه يرتّل القرآن ترتيلا، ويفصّل الآى تفصيلا فى قراءته، كما رواه الثقات عنه، فيمكن ترصد الشيطان لتلك السكتات ودسّه فيها ما اختلقه من تلك الكلمات محاكيا نغمة النبى صلى الله عليه وسلم بحيث يسمعه من دنا إليه من الكفار، فظنوها من قول النبى صلى الله عليه وسلم وأشاعوها، ولم يقدح ذلك عند المسلمين لحفظ السورة قبل ذلك على ما أنزلها الله تعالى، وتحقّقهم من حال النبى صلى الله عليه وسلم فى ذمّ الأوثان وعيبها ما عرف منه. وقد حكى موسى بن عقبة فى مغازيه نحو هذا، وقال: إن المسلمين لم يسمعوها، وإنما ألقى الشيطان ذلك فى أسماع المشركين وقلوبهم. قال القاضى عياض: ويكون ما روى من حزن النبى صلى الله عليه وسلم لهذه الإشاعة والشبهة، وقد قال الله تعالى: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 239 وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) «1» الآية، فمعنى (تمنى) تلا، قال الله تعالى: (لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ) «2» أى تلاوة، وقوله: (فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) «3» أى يذهبه ويزيل اللبس به، ويحكم آياته، قال: ومما يظهر فى تأويله أيضا أن مجاهدا روى هذه القصة: «والغرانقة العلا» . فإن سلمنا القصة قلنا: لا يبعد أنّ هذا كان قرآنا، والمراد بالغرانقة العلا، وأن شفاعتهنّ لترتجى: الملائكة على هذه الرواية، وبهذا فسر الكلبىّ الغرانقة أنها الملائكة، وذلك أن الكفار كانوا يعتقدون الأوثان والملائكة بنات الله، كما حكى الله عنهم وردّ عليهم فى هذه السورة بقوله: (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى) «4» ، فأنكر الله كل هذا من قولهم؛ ورجاء الشفاعة من الملائكة صحيح، فلما تأوّله المشركون على أن المراد بهذا الذكر آلهتهم، ولبّس عليهم الشيطان ذلك، وزينه فى قلوبهم، وألقاه إليهم؛ نسخ الله ما ألقى الشيطان وأحكم آياته، ورفع تلاوة تلك اللفظتين اللتين وجد الشيطان بهما للتلبيس سبيلا، كما نسخ كثيرا من القرآن ورفعت تلاوته. قال: وكان فى إنزال الله تعالى لذلك حكمة، وفى نسخه حكمة، ليضلّ به من يشاء، ويهدى من يشاء وما يضل به إلا الفاسقين، و (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ. وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ) «5» . وقيل: إنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه السورة [وبلغ إلى ذكر اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، خاف الكفار أن يأتى بشىء من ذمّها، فسبقوا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 240 إلى «1» ] مدحها بتلك الكلمتين؛ ليخلطوا تلاوة النبىّ صلى الله عليه وسلم ويشغبوا عليه على عادتهم، وقولهم: (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) «2» ، ونسب هذا الفعل إلى الشيطان لحمله لهم عليه، وأشاعوا ذلك وأذاعوه، وأنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم حزن لذلك من كذبهم وافترائهم عليه، فسلّاه الله تعالى بقوله: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) * «3» الآية، وبين للناس الحقّ من ذلك من الباطل، وحفظ القرآن وأحكم آياته، ودفع ما لبّس به العدوّ؛ كما ضمنه الله تعالى من قوله: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) «4» الآية، هذا ما ورد فى الجواب عن هذا الحديث. فلنرجع إلى تتمة أخباره وسيره صلى الله عليه وسلّم تسليما كثيرا. ذكر الهجرة الثانية إلى أرض الحبشة ومن هاجر إليها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الواقدىّ: لما قدم أصحاب النبىّ صلى الله عليه وسلم من الهجرة الأولى اشتدّ عليهم قومهم، ونيطت بهم عشائرهم، ولقوا منهم أذى شديدا، فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الخروج إلى أرض الحبشة مرة ثانية، فقال عثمان بن عفان: يا رسول الله؛ فهجرتنا الأولى، وهذه الآخرة إلى النجاشىّ ولست معنا، فقال صلى الله عليه وسلم: أنتم مهاجرون إلى الله وإلىّ، لكم هاتان الهجرتان جميعا، قال عثمان: فحسبنا يا رسول الله. قال ابن سعد: وكان عدّة من خرج فى هذه الهجرة من الرجال ثلاثة وثمانون ومن النساء إحدى عشرة امرأة قرشية، وسبع غرائب. وقد عدّهم أبو محمد عبد الملك بن هشام حسبما رواه عن محمد بن إسحاق بن يسار- رحمهم الله تعالى- الجزء: 16 ¦ الصفحة: 241 فلم يزد على ذلك. وأورد أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمرىّ رحمه الله فى كتاب (الاستيعاب) ؛ فى تراجم جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم؛ أنهم ممن هاجروا إلى أرض الحبشة ممن لم يذكرهم ابن هشام، نحن نذكرهم إن شاء الله تعالى وننبّه عليهم. قال ابن هشام: كان منهم من بنى هاشم بن عبد مناف، جعفر بن أبى طالب معه امرأته أسماء بنت عميس «1» ولدت بأرض الحبشة عبد الله بن جعفر، ومن بنى أميّة بن عبد شمس عثمان بن عفان رضى الله عنه، معه امرأته رقيّة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمرو بن سعيد بن العاص بن أميّة، معه امرأته فاطمة بنت صفوان، وأخوه خالد بن سعيد، معه امرأته أمينة بنت خلف بن أسعد الخزاعية، ويقال فيها همينة، ولدت بأرض الحبشة سعد» بن خالد، وآمنة بنت خالد. ومن حلفائهم من بنى أسد بن خزيمة عبد الله بن جحش بن رئاب؛ وأخوه عبيد الله ابن جحش، معه امرأته أم حبيبة بنت أبى سفيان بن حرب. وذكر أبو عمر فى ترجمة عبد الله بن جحش أنه هاجر إلى أرض الحبشة مع أخويه أبى أحمد وعبد الله، فعلى هذا يكون أبو أحمد ممن هاجر إلى الحبشة؛ واسمه عبد بن جحش، وكان أعمى، وعدّ أيضا محمد بن عبد الله بن جحش أنه هاجر مع أبيه وكان صغيرا. قال ابن هشام: وقيس بن عبد الله رجل من بنى أسد بن خزيمة، معه امرأته بركة بنت يسار [مولاة «3» ] أبى سفيان بن حرب، ومعيقيب بن أبى فاطمة؛ [وهؤلاء «4» ] آل سعيد بن العاص. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 242 ومن بنى عبد شمس بن عبد مناف أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس. قال أبو عمر: معه امرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو، ولدت له هناك محمد بن أبى حذيفة. قال ابن هشام: وأبو موسى الأشعرىّ واسمه عبد الله ابن قيس. قال أبو عمر فى ترجمة عبد الله بن قيس: الصحيح «1» أن أبا موسى رجع بعد قدومه مكة، ومحالفته من حالف من بنى عبد شمس إلى بلاد قومه، فأقام بها حتى قدم مع الأشعريين نحو خمسين رجلا فى سفينة، فألقتهم الريح إلى النجاشى بأرض الحبشة فوافقوا خروج جعفر وأصحابه منها، فأتوا معهم، وقدمت السفينتان معا: سفينة الأشعريين، وسفينة جعفر وأصحابه. والله تعالى أعلم بالصواب. ومن بنى نوفل بن عبد مناف: عتبة بن غزوان حليف لهم من بنى مازن؛ ومن بنى زمعة بن ربيعة وعمرو بن أمية بن الحارث مات بالحبشة. قال أبو عمر بن عبد البر فى ترجمة خالد بن حزام بن خويلد بن أسد «2» : إنه هاجر إلى أرض الحبشة فى المرّة الثانية، فنهشته حيّة، فمات فى الطريق قبل وصوله. والله المستعان وإليه المردّ. ومن بنى عبد [الدار «3» ] بن قصىّ مصعب: بن عمير بن هاشم بن عبد مناف ابن عبد الدار، وسويبط «4» بن سعد بن حريملة «5» بن مالك بن عميلة بن السباق ابن عبد الدار، وجهم بن قيس بن عبد بن شرحبيل بن هاشم بن عبد الدار معه امرأته [أمّ «6» ] حرملة بنت عبد بن الأسود الخزاعية- ويقال: حريملة- وابناه عمرو بن جهم، وخزيمة بن جهم؛ وأبو الروم بن عمير بن هاشم بن عبد مناف؛ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 243 ابن عبد الدار بن قصى أخو مصعب، وفراس بن النضر بن الحارث بن علقمة ابن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار. وقال أبو عمر فى ترجمة أبى بكر «1» : مولى لبنى عبد الدار؛ قال يقال: إنه من الأزد كان ممن عذب فى الله فلم يزل كذلك حتى كانت الهجرة الثانية مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن بنى زهرة بن كلاب عبد الرحمن بن عوف، وعامر بن أبى وقّاص، وأبو وقاص مالك بن وهيب، والمطلب بن أزهر بن عبد عوف، معه امرأته رملة بنت أبى عوف، ولدت له بأرض الحبشة عبد الله بن المطلب. قال أبو عمر بن عبد البر: وطليب بن أزهر بن عبد عوف وأخوه المطلب، هاجر مع أخيه إلى أرض الحبشة وبها ماتا جميعا. قال ابن هشام: ومن حلفائهم من هذيل: عبد الله بن مسعود، وأخوه عتبة بن مسعود. ومن بهراء المقداد بن عمرو بن ثعلبة، وكان يقال له: المقداد بن الأسود ابن عبد يغوث بن عبد مناف بن زهرة، وذلك أنه كان تبنّاه فى الجاهلية وحالفه. حكاه ابن إسحاق. ومن بنى تميم بن مرّة الحارث بن خالد بن صخر، معه امرأته ريطة بنت الحارث ابن جبيلة، ولدت له بأرض الحبشة موسى بن الحارث، وزينب بنت الحارث، وفاطمة بنت الحارث «2» ، وعمرو بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة. ومن بنى مخزوم أبو سلمة بن عبد الله بن عبد الأسد بن هلال، معه امرأته أم سلمة هند بنت أبى أمية بن المغيرة، ولدت له بأرض الحبشة زينب، وشماسا واسمه عثمان بن عثمان بن الشريد، وهبّار بن سفيان بن عبد الأسد، وأخوه عبد الله بن سفيان، وهشام بن أبى حذيفة بن المغيرة، وسلمة بن هشام بن المغيرة الجزء: 16 ¦ الصفحة: 244 وعيّاش بن أبى ربيعة بن المغيرة. ومن حلفائهم معتّب بن عوف بن عامر- وهو الذى يقال له عيهامة- ونسبه أبو عمر فقال: معتب بن عوف بن عمر بن الفضل ابن عفيف بن كليب بن حبشية. قال ابن هشام، ويقال: حبشية بن سلول، وهو الذى يقال له: معتب بن حمراء، وعمّار بن ياسر. ذكره أبو عمر، وشك فيه ابن هشام. ومن بنى جمح عثمان بن مظعون، وابنه السائب بن عثمان، وأخواه قدامة وعبد الله ابنا مظعون. قال أبو عمر: والسائب بن مظعون ممن هاجر إلى أرض الحبشة، وهو أخو عثمان لأبويه، حكاه عن العدوى. قال ابن هشام: وحاطب ابن الحرث بن معمر، معه امرأته فاطمة بنت المجلّل بن عبد الله، وابناه محمد والحارث، وقيل ولدا هناك، وأخوه حطاب «1» بن الحارث، معه امرأته فكيهة بنت يسار، وقيل: ولدت له ابنه محمدا هناك؛ وسفيان بن معمر بن حبيب معه ابناه: جابر وجنادة، ومعه امرأته أمهما حسنة، وابنها شرحبيل بن حسنة، وهو شرحبيل بن عبد الله أحد بنى الغوث بن مرّ، وقال موسى بن عقبة عن ابن شهاب: هو شرحبيل بن عبد الله من بنى جمح، وعثمان بن ربيعة بن أهبان بن وهب ابن حذافة بن جمح. قال الواقدى: ونبيه بن عثمان بن ربيعة. والله أعلم. ومن بنى سهم بن عمرو بن هصيص: خنيس بن حذافة، وعبد الله ابن الحارث، وهشام بن العاص بن وائل، وقيس بن حذافة، وأبو قيس بن الحارث ابن قيس، وعبد الله بن حذافة بن قيس، والحارث بن الحارث بن قيس، ومعمر ابن الحارث بن قيس، وبشر بن الحارث بن قيس، وأخ له من أمّه من بنى تميم، يقال له: سعيد بن عمرو، وسعيد بن الحارث بن قيس، والسائب الجزء: 16 ¦ الصفحة: 245 ابن الحارث بن قيس. وقال أبو عمر: وتميم بن الحارث بن قيس، والحارث ابن قيس بن عدىّ، وهو والد بشر والحارث، وعمير بن رئاب بن حذيفة، ومحمية ابن جزء «1» حليف لهم من زبيد. ومن بنى عدىّ بن كعب معمر بن عبد الله بن نضلة، وعروة بن عبد العزّى، وعدى بن نضلة وابنه النعمان، فمات عدىّ بالحبشة، فورثه ابنه النعمان، وهو أول وارث فى الإسلام، وعامر بن ربيعة حليف لآل الخطاب، معه امرأته ليلى بنت أبى حثمة. ومن بنى عامر بن لؤى أبو سبرة بن أبى رهم بن عبد العزّى معه امرأته أم كلثوم بنت سهيل بن عمرو، وعبد الله بن مخرمة بن عبد العزى، وعبد الله بن سهيل بن عمرو بن عبد شمس، وسليط بن عمرو بن عبد شمس، وأخوه السكران بن عمرو، معه امرأته سودة بنت زمعة، ومالك بن ربيعة بن قيس معه امرأته عمرة بنت السعدىّ، وأبو حاطب بن عمرو بن عبد شمس، وسعد بن خولة حليف لهم من اليمن. ومن بنى الحارث بن فهر أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح، وسهيل بن وهب وهو ابن بيضاء، وعمرو بن أبى سرح بن ربيعة، وعياض بن زهير بن أبى شداد، وعمرو بن الحارث بن زهير، وعثمان بن عبد غنم بن زهير، وسعد بن عبد قيس ابن لقيط بن عامر، والحارث بن عبد قيس بن لقيط. وقال أبو عمر بن عبد البر: إن عبد الله بن عرفطة بن عدىّ بن أمية بن خدارة بن عوف بن النجار بن الخزرج الأنصارىّ هاجر إلى أرض الحبشة مع جعفر بن أبى طالب، وهو حليف لبنى الحارث بن الخزرج، وذكره ابن منده «2» أيضا فجميع من هاجر على هذا الحكم الجزء: 16 ¦ الصفحة: 246 بما فيه من زيادات ابن عبد البرّ؛ خلا أبناءهم الذين خرجوا معهم صغارا، ومن ولد هناك اثنان وتسعون رجلا، وثمانى عشرة امرأة، والأبناء الصغار سبعة. والله أعلم. ذكر إرسال قريش إلى النجاشىّ فى شأن من هاجر إلى الحبشة، وطلبهم منه وإسلامه عن أمّ سلمة رضى الله عنها قالت: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار، النجاشىّ، [أمنّا «1» ] على ديننا، وعبدنا الله لا نؤذى، ولا نسمع شيئا نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشىّ فينا رجلين جلدين، وأن يهدوا للنجاشىّ هدايا مما يستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدم، فجمعوا له أدما كثيرا، ولم يتركوا من بطارقته بطريقا إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبى ربيعة، وعمرو بن العاص، وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلّما النجاشىّ فيهم، ثم قدّما إلى النجاشىّ هداياه، ثم سلاه أن يسلّمهم إليكما قبل أن يكلّمهم. قالت: فخرجا حتى قدما على النجاشى، ونحن عنده بخير دار، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلّما النجاشىّ، وقالا لكل بطريق منهم: إنه قد ضوى إلى بلد الملك منّا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا فى دينكم، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم لنردّهم إليهم، فإذا كلّمنا الملك فيهم فأشيروا عليه أن يسلّمهم إلينا ولا يكلمهم، فقالوا: نعم، ثم إنهما قدّما هدايا هما إلى النجاشىّ فقبلها، ثم كلّماه فقالا: أيها الملك، إنه قد الجزء: 16 ¦ الصفحة: 247 ضوى «1» إلى بلدك منّا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا فى دينك، جاءوا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردّهم عليهم، فهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه. قالت: ولم يكن شىء أبغض إلى عبد الله وعمرو من أن يسمع إلى كلامهم النجاشىّ، فقالت بطارقته: صدقا أيها الملك، قومهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه، فأسلمهم لهما فليردّاهم إلى بلادهم وقومهم، قالت «2» : فغضب النجاشىّ وقال: لا ها الله! إذا لا أسلّمهم إليهما، ولا يكاد قوم جاورونى، ونزلوا بلادى، واختارونى على من سواى؛ حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان فى أمرهم، فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهم «3» ، وأحسنت جوارهم ما جاورونى. قالت: ثم أرسل إلى أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم فدعاهم، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا أجبتموه «4» ، قالوا: نقول والله ما علمنا وما أمرنا نبيّنا؛ كائنا فى ذلك ما هو كائن، فلما جاءوا وقد دعا النجاشىّ أساقفته، فنشروا مصاحفهم حوله؛ سألهم فقال: ما هذا الدين الذى فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا به فى دينى؛ ولا فى دين أحد من هذه الملل؟ فكان الذى كلّمه جعفر بن أبى طالب فقال: أيها الملك، كنّا قوما أهل جاهلية؛ نعبد الأصنام [ونأكل «5» ] الميتة، ونأنى الفواحش، ونقتطع «6» الأرحام، ونسىء الجوار، ويأكل القوىّ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 248 منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منّا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحّده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة [و «1» ] الأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرّحم، وحسن الجوار، والكفّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام. قالت: فعدّد عليه أمور الإسلام، فصدقناه، وآمنّا به واتّبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئا، وحرّمنا [ما «2» ] حرم علينا، وأحللنا ما أحلّ لنا، فعدا علينا قومنا فعذّبونا وفتنونا عن ديننا، ليردّونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحلّ ما كنا نستحلّ من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيّقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك، ورغبنا فى جوارك ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك، فقال النجاشى: هل معك مما جاء به عن الله من شىء، قال: نعم، قال: فاقرأه علىّ، فقرأ عليه صدرا من (كهيعص) «3» ، قال: فبكى والله النجاشى حتى اخضلّت لحيته، وبكت أساقفته حتى اخضلّت مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال النجاشىّ: إن هذا والذى جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة انطلقا فلا والله لا أسلّمهم إليكما، ولا يكادون. قالت: فلما خرجنا من عنده قال عمرو بن العاص: والله لآتينّه غدا عنهم بما أستأصل به خضراءهم، فقال له عبد الله بن أبى ربيعة: لا تفعل فإن لهم أرحاما، وإن كانوا قد خالفونا، قال: والله لأخبرنّه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم الجزء: 16 ¦ الصفحة: 249 عبد. قالت: ثم غدا عليه [من «1» ] الغد فقال: يأيها الملك، إنهم يقولون فى عيسى بن مريم قولا عظيما، فأرسل إليهم فاسألهم عمّا يقولون فيه، فأرسل إليهم فسألهم عنه. قالت أمّ سلمة: ولم ينزل بنا مثلها، فاجتمع القوم، ثم قال بعضهم لبعض: ماذا تقولون فى عيسى بن مريم إذا سألكم عنه؟، قالوا: نقول والله كما قال الله، وما جاءنا به نبينا؛ كائنا فى ذلك ما هو كائن. قالت: فلما دخلوا عليه قال لهم: ما تقولون فى عيسى بن مريم؟ فقال جعفر بن أبى طالب: نقول فيه الذى جاءنا به نبينا، نقول هو عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول، قالت: فضرب النجاشىّ بيده إلى الأرض، ثم أخذ منها عودا، ثم قال: ما عدا عيسى بن مريم ممّا قلت هذا العود. فناخرت «2» بطارقته من حوله حين قال ما قال، فقال: وإن نخرتم، والله أنتم شيوم بأرضى- والشّيوم: الآمنون- من سبّكم غرم، من سبّكم غرم، من سبّكم غرم! وما أحب أن لى دبرا من ذهب، وأنى آذيت رجلا منكم- والدّبر بلسان الحبشة الجبل- ردّوا عليهما هداياهما فلا حاجة لى بها، فو الله ما أخذ الله منى الرشوة حين رد علىّ ملكى، فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فىّ فأطيعهم فيه. قالت: فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار، حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة. قال الزهرىّ: فحدثت عروة بن الزبير حديث «3» أمّ سلمة قال: هل تدرى ما قوله: «ما أخذ الله منّى الرشوة حين ردّ علىّ ملكى. فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فىّ فأطيع الناس فيه» ؟ قلت: لا، قال: فإن عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها حدثتنى الجزء: 16 ¦ الصفحة: 250 أن أباه كان ملك قومه، ولم يكن له ولد إلا النجاشىّ، وكان للنجاشىّ عمّ له من صلبه اثنا عشر رجلا، وكانوا أهل بيت مملكة الحبشة، فقالت الحبشة بينها: لو أنا قتلنا أبا النجاشىّ، وملّكنا أخاه فإنه لا ولد له غير هذا الغلام، وإن لأخيه من صلبه اثنى عشر رجلا يتوارثون «1» ملكه من بعده، فغدوا على أبى النجاشىّ فقتلوه وملّكوا أخاه، فمكثو على ذلك حينا، ونشأ النجاشىّ مع عمه، وكان لبيبا حازما، فغلب على أمر عمه، ونزل منه بكل منزلة، فلما رأت الحبشة مكانه منه، قالت: والله لقد غلب «2» هذا الفتى على أمر عمه، وإنا لنتخوف أن يملكه علينا، وإن ملّكه علينا قتلنا أجمعين، لقد عرف أننا نحن قتلنا أباه. فمشوا إلى عمّه فقالوا: إما أن تقتل هذا الفتى، وإما أن تخرجه من بين أظهرنا، فإنّا قد خفناه على أنفسنا، قال: ويلكم! قتلتم أباه بالأمس وأقتله اليوم! بل أخرجه من دياركم، فخرجوا به إلى السوق؛ فباعوه من رجل من التجار بستمائة درهم، فقذفه فى سفينته وانطلق به حتى إذا كانت العشاء من ذلك اليوم؛ هاجت سحابة من سحائب الخريف، فخرج عمّه يستمطر تحتها، فأصابته صاعقة فقتلته، ففزع الحبشة إلى ولده، فاذا هو محمّق ليس فى ولده خير، فمرج على الحبشة أمرهم، فلما ضاق عليهم ما هم فيه من ذلك قال بعضهم لبعض: تعلّموا والله أن ملككم «3» الذى لا يقيم أمركم غيره للذى بعتم «4» غدوة، فان كان لكم بأمر الحبشة حاجة فأدركوه، قال: فخرجوا فى طلبه، فأخذوه من الرجل الذى باعوه له، ثم جاءوا به فعقدوا عليه التاج، وأقعدوه على سرير الجزء: 16 ¦ الصفحة: 251 الملّك وملكوه، فجاءهم التاجر الذى باعوه منه، فقال: إما أن تعطونى مالى، وإما أن أكلمه: فى ذلك، قالوا: لا نعطيك شيئا، قال: فإذا والله أكلمه، قالوا: فدونك. فجاء فجلس بين يديه، فقال: أيها الملك، ابتعت غلاما من قوم فى السوق بستمائة درهم، فأسلموا إلىّ غلامى، وأخذوا دراهمى، حتى إذا سرت بغلامى؛ أدركونى فأخذوه منّى، ومنعونى دراهمى، فقال لهم النجاشىّ: لتعطنّه دراهمه أو ليضعن غلامه يده فى يده؛ فليذهبن به حيث شاء، قالوا: بل نعطيه دراهمه. قالت: فلذلك يقول: «ما أخذ الله منّى الرشوة حين ردّ على ملكى، فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فىّ فأطيع الناس فيه» . قال: وكان ذلك أول ما خبر من صلابته فى دينه، وعدله فى حكمه. قال ابن إسحاق، وحدثنى جعفر بن محمد عن أبيه، قال: اجتمعت الحبشة فقالوا للنجاشىّ: إنك فارقت ديننا، وخرجوا عليه. فأرسل إلى جعفر وأصحابه فهيأ لهم سفنا، وقال: اركبوا فيها وكونوا كما أنتم، فإن هزمت فامضوا حتى تلحقوا بحيث شئتم، وإن ظفرت فاثبتوا. ثم عمد إلى كتاب فكتب فيه: هو يشهد أن لا إله إلا الله، وأنّ محمدا عبده ورسوله، ويشهد أن عيسى عبده ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، ثم جعلها «1» فى قبائه عند المنكب الأيمن «2» ، وخرج إلى الحبشة وصفّوا له، فقال: يا معشر الحبشة، ألست أحقّ الناس بكم؟ قالوا: بلى؛ قال: فكيف رأيتم سيرتى فيكم؟ قالوا: خير سيرة، قال: فما بالكم؟ قالوا: فارقت ديننا، وزعمت أنّ عيسى عبد، قال: فما تقولون أنتم فى عيسى؟ قالوا: نقول: هو ابن الله فقال النجاشىّ ووضع يده على صدره على قبائه: هو يشهد أن عيسى بن مريم، لم يزد على هذا شيئا، وإنما يعنى ما كتب، فرضوا وانصرفوا، فبلغ ذلك النبى الجزء: 16 ¦ الصفحة: 252 صلى الله عليه وسلم، فلما مات النجاشىّ صلى عليه، واستغفر له. وسنذكر إن شاء الله تعالى خبر إسلامه. ذكر إسلام عمر بن الخطاب رضى الله عنه روى عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم أعزّ الإسلام بأحبّ الرجلين إليك: بعمر بن الخطاب، أو أبى جهل «1» بن هشام» . وعن سعيد بن المسيّب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى عمر بن الخطاب أو أبا جهل بن هشام قال: «اللهم اشدد دينك بأحبهما إليك» فشدّ دينه بعمر، وعنه صلى الله عليه وسلم: «اللهم أعزّ الدين بعمر بن الخطاب» . قال ابن إسحاق ومحمد بن سعد فى طبقاته: ليس بينهما تناف إلا فى مغايرة بعض الألفاظ، أو زيادة أوردها أحدهما دون الآخر، ونحن نورد ما يتعين إيراده منها. قالا: خرج عمر بن الخطاب متوشّحا سيفه يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورهطا من أصحابه، قد ذكروا له أنهم قد اجتمعوا فى بيت عند الصفا، وهم قريب أربعين: من بين رجال ونساء «2» ، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه حمزة بن عبد المطلب، وأبو بكر بن أبى قحافة، وعلى بن أبى طالب فى رجال من المسلمين ممن كان أقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، ولم يخرج فيمنّ خرج إلى أرض الحبشة، فلقيه نعيم بن عبد الله النّحّام، وهو رجل من قومه من بنى عدىّ بن كعب كان قد أسلم وهو يخفى إسلامه عن عمر، فقال: أين تريد يا عمرا؟ فقال: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 253 أريد محمدا، هذا «1» الذى فرّق أمر قريش وسفّه أحلامها، وعاب دينها، وسبّ آلهتها فأقتله. فقال له نعيم: لقد غرّتك نفسك «2» يا عمر، أترى بنى عبد مناف تاركيك تمشى على الأرض وقد قتلت محمدا! فقال عمر: ما أراك إلا قد صبوت وتركت دينك الذى أنت عليه؛ قال: أفلاك أدلك على العجب يا عمر؟ إنّ ختنك وأختك قد صبوا وتركا دينك الذى أنت عليه. قال ابن إسحاق: فقال له نعيم: أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم؟ قال: وأىّ أهل بيتى؟ قال: ختنك وابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو، وأختك فاطمة بنت الخطاب، فقد والله أسلما وتابعا محمدا على دينه، فعليك بهما، قال: فرجع عمر عامدا إلى أخته وختنه، وعند هما خبّاب بن الأرتّ، معه صحيفة فيها: (طه) يقرئهما إياها، فلما سمعوا حسّ عمر تغيب خبّاب فى مخدع لهم- أو فى بعض البيت- وأخذت فاطمة الصحيفة فجعلتها تحت فخذها «3» ، فلما دخل عمر قال: ما هذه الهينمة «4» التى سمعت؟ قالا: ما سمعت شيئا، قال: بلى والله، لقد أخبرت أنكما اتبعتما «5» محمدا على دينه. فقال له ختنه: أرأيت يا عمر إن كان الحقّ فى غير دينك! فوثب عمر على ختنه فبطش به ووطئه وطئا شديدا، فقامت إليه أخته فاطمة لتكفّه عن زوجها، فضربها فشجّها، فلما فعل ذلك قالا: نعم قد أسلمنا وآمنّا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك. فلما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم على ما صنع الجزء: 16 ¦ الصفحة: 254 فارعوى «1» ، وقال [لأخته «2» ] : أعطينى هذه الصحيفة التى سمعتكم تقرءون آنفا أنظر ما هذا الذى جاء به محمد- وكان عمر كاتبا- فقالت له أخته: إنا نخشاك عليها «3» ، قال: لا تخافى، وحلف لها بآلهته ليردّنّها إذا قرأها إليها، فطمعت فى إسلامه وقالت له: يا أخى إنك نجس على شركك، وإنه لا يمسّها إلا الطاهر، فقام عمر فاغتسل، فأعطته الصحيفة وفيها (طه) ، فلما قرأ منها صدرا قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه! فلما سمع ذلك خبّاب بن الأرتّ خرج إليه، فقال له: يا عمر، والله إنى لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيّه، فإنى سمعته أمس يقول: «اللهم أيد الإسلام بأبى الحكم بن هشام، أو بعمر بن الخطاب» ، فالله الله يا عمر! فقال له عمر: فدلّنى على محمد حتى آتيه فأسلم، فقال له خباب: هو فى بيت عند الصفا معه نفر من أصحابه، فأخذ عمر سيفه فتوشّحه، ثم عمد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فضرب عليهم الباب، فلما سمعوا صوته قام رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر من خلل الباب «4» ، فرآه وهو فزع، فقال: يا رسول الله، هذا عمر بن الخطاب متوشحا السيف، فقال حمزة: فأذن له، فإن كان جاء يريد خيرا بذلناه له، وإن كان يريد شرا قتلناه بسيفه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ايذن له» فأذن له الرجل، ونهض إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لقيه فى الحجرة، فأخذ بحجزته- أو بمجمع ردائه- ثم جبذه جبذة شديدة، وقال: «ما جاء بك يابن الخطاب؟، فو الله ما أرى أن تنتهى حتى ينزل الله بك قارعة» . قال أنس بن مالك فى روايته: «حتى ينزل الله بك من الخزى الجزء: 16 ¦ الصفحة: 255 ما أنزل بالوليد بن المغيرة» . فقال عمر: يا رسول الله، جئتك لأومن بالله ورسوله وبما جاء به من عند الله، فكبّر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيرة عرف بها أهل البيت أن عمر قد أسلم. قال محمد بن سعد بن منيع فى طبقاته: أسلم عمر بن الخطاب بعد أن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دار ابن الأرقم بعد أربعين أو نيّف وأربعين من رجال ونساء قد أسلموا قبله. وقال ابن المسيّب: أسلم عمر بعد أربعين رجلا وعشر نسوة. وعن عبد الله بن ثعلبة قال: أسلم عمر بعد خمسة وأربعين رجلا وإحدى عشرة امرأة. ويردّ هذه الأقوال أن إسلام عمر كان بعد الهجرة الثانية إلى أرض الحبشة؛ وقد تظافرت الروايات أنّ أهل الهجرة كانوا أكثر من ثمانين رجلا، ولعل إسلامه وقع وفى مكة ممن أسلم هذه العدّة التى ذكرت؛ خلاف من هاجر إلى أرض الحبشة. والله أعلم. قال ابن إسحاق: حدّثنى نافع «1» عن ابن عمر رضى الله عنهم قال: لما أسلم عمر بن الخطاب قال: أى قريش أنقل للحديث؟ قيل: جميل بن معمر «2» الجمحىّ، قال: فغدا عليه، قال عبد الله بن عمر: وغدوت معه أتبع أثره وأنظر ماذا يفعل الجزء: 16 ¦ الصفحة: 256 وأنا غلام أعقل «1» كلّ ما رأيت، حتى جاءه، فقال: أعلمت يا جميل أنى أسلمت ودخلت فى دين محمد؟ قال: فو الله ما راجعه حتى قام يجرّ رداءه، واتبعه عمر واتبعت أبى، حتى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش- وهم فى أنديتهم حول الكعبة- ألا إنّ ابن الخطاب قد صبأ «2» ، فيقول عمر من خلفه: كذبت، ولكنّى أسلمت، وشهدت أن لا إله إلا الله، وأنّ محمدا عبده ورسوله، وثاروا إليه، فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رءوسهم. قال: وطلح- يعنى أعيا- وقاموا على رأسه وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم، فأحلف بالله لو قد كنا ثلاثمائة لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا. فبينما هم على ذلك إذ أقبل شيخ من قريش عليه حلّة حبرة «3» وقميص موشّى، حتى وقف عليهم فقال: ما شأنكم؟ قالوا: صبأ عمر، قال: فمه! رجل اختار لنفسه أمرا فماذا تريدون؟ أترون بنى عدىّ بن كعب يسلمون لكم صاحبهم هكذا! خلّوا عن الرجل، قال: فو الله لكأنما كانوا ثوبا كشط عنه. قال: فقلت لأبى بعد أن هاجر إلى المدينة: يا أبه، من الرجل الذى زجر القوم عنك بمكة يوم أسلمت وهم يقاتلونك، جزاه الله خيرا؟ قال: ذاك العاص ابن وائل السّهمىّ، لا جزاه الله خيرا. قال عبد الله بن مسعود: ما كنا نقدر أن نصلّى عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتل قريشا وصلّى عند الكعبة وصلينا معه. وقال: إن إسلام عمر كان فتحا، وإنّ هجرته كانت نصرا، وإنّ إمارته كانت رحمة. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 257 وعن صهيب بن سنان قال: لما أسلم عمر ظهر الإسلام، ودعى إلى الله علانية، وجلسنا حول البيت حلقا، وطفنا بالبيت، وانتصفنا ممن غلظ علينا، ورددنا عليه بعض ما يأتى به. وكان إسلام عمر فى ذى الحجة من السنة السادسة من النبوّة، وهو ابن ست وعشرين سنة. ذكر تعاقد قريش على بنى هاشم وبنى المطلب وانحياز بنى هاشم وبنى المطلب إلى أبى طالب ودخولهم فى شعبه قال محمد بن إسحاق وغيره من أهل السّير: لما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزلوا بلدا أصابوا فيه أمنا وقرارا، وأن النجاشىّ قد أكرمهم، ومنع [من لجأ إليه «1» ] منهم، وأنّ عمر قد أسلم قبله حمزة بن عبد المطلب، وجعل الإسلام يفشو فى القبائل، اجتمعوا وائتمروا أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على بنى هاشم وبنى المطلب؛ على ألا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئا ولا يبتاعوا منهم. فلما اجتمعوا لذلك كتبوا صحيفة، ثم تعاهدوا وتعاقدوا وتوافقوا على ذلك، ثم علّقوا الصحيفة فى جوف الكعبة توكيدا على أنفسهم. وكان كاتب الصحيفة «2» منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن الجزء: 16 ¦ الصفحة: 258 عبد الدار بن قصىّ، ويقال: عمه بغيض بن عامر، قاله الزبير وابن الكلبىّ؛- ويقال: النضر بن الحارث- فشلّت يده. قال محمد بن عمر بن واقد: وحصروا بنى هاشم فى شعب «1» أبى طالب ليلة هلال المحرم سنة سبع من نبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانحاز بنو المطلب إلى أبى طالب فى شعبه مع بنى هاشم، وخرج أبو لهب إلى قريش، وظاهر هم على بنى هاشم وبنى المطلب، وقطعوا عنهم الميرة والمادّة، فكانوا لا يخرجون إلا من موسم إلى موسم، حتى بلغهم الجهد، وسمع أصوات صبيانهم من وراء الشّعب، فمن قريش من سرّه ذلك، ومنهم من ساءه، وقال: انظروا ما أصاب كاتب الصحيفة! فأقاموا فى الشّعب ثلاث سنين، ثم أطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على أمر صحيفتهم، وأن الأرضة قد أكلت ما فيها من جور وظلم، وبقى ما كان فيها من ذكر الله. قال: فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبى طالب، فذكر ذلك أبو طالب لإخوته، وخرجوا إلى المسجد، فقال أبو طالب لكفّار قريش: إن ابن أخى قد أخبرنى- ولم يكذبنى قطّ- أن الله سلّط على صحيفتكم الأرضة فلحست ما كان فيها من جور أو ظلم أو قطيعة رحم، وبقى فيها ما ذكر به الله، فإن كان ابن أخى صادقا نزعتم عن سوء رأيكم، وإن كان كاذبا دفعته إليكم فقتلتموه أو استحييتموه. قالوا: قد أنصفتنا، فأرسلوا إلى الصحيفة ففتحوها. فإذا هى كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسقط فى أيديهم، ونكسوا على رءوسهم. فقال أبو طالب: علام نحبس ونحصر وقد بان الأمر؟! ثم دخل هو وأصحابه بين أستار الكعبة والكعبة. فقال: اللهم انصرنا على من ظلمنا، وقطع الجزء: 16 ¦ الصفحة: 259 أرحامنا، واستحل ما يحرم عليه منا. ثم انصرفوا إلى الشّعب. وتلاوم رجال من قريش على ما صنعوا ببنى هاشم: فيهم مطعم بن عدىّ، وعدى بن قيس، وزمعة ابن الأسود، وأبو البخترىّ بن هشام، وزهير بن أبى أمية. ولبسوا السلاح؛ ثم خرجوا إلى بنى هاشم وبنى المطلب، فأمروهم بالخروج إلى مساكنهم ففعلوا، وكان خروجهم من الشّعب فى السنة العاشرة من النبوّة، وقيل: كان مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فى الشّعب سنتين. وحكى أبو محمد عبد الملك بن هشام، عن أبى عبد الله محمد بن إسحاق- رحمهم الله- فى سبب نقض الصحيفة غير ما قدّمناه مما حكاه محمد بن سعد عن الواقدىّ. قال ابن إسحاق بعد أن ذكر من شدّة ما لاقاه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الشّعب من الضائقة ما ذكر: ثم إنه قام فى نقض الصحيفة- التى تكاتبت فيها قريش على بنى هاشم وبنى المطلب- نفر من قريش، ولم يبل فيها أحد أحسن من بلاء هشام بن عمرو «1» بن ربيعة بن الحارث بن حبيب بن نصر بن مالك ابن حسل بن عامر بن لؤىّ، وذلك أنه كان ابن أخى نضلة بن هاشم بن عبد مناف لأمّه، وكان هشام لبنى هاشم واصلا، وكان ذا شرف فى قومه، فكان يأتى بالبعير وبنو هاشم وبنو المطلب فى الشعب ليلا، وقد أوقره طعاما، حتى إذا أقبله فم الشّعب خلع خطامه من رأسه، ثم ضرب على جنبه فيدخل الشّعب عليهم، ويأتى به قد أوقره برّا، فيفعل به مثل ذلك. قال: ثم إنه مشى إلى زهير بن أبى أمية بن المغيرة المخزومىّ- وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب- فقال: يا زهير، وقد رضيت أنّا نأكل الطعام ونلبس الجزء: 16 ¦ الصفحة: 260 الثياب، وننكح النساء، وأخوالك حيث قد علمت لا يبتاعون ولا يبتاع منهم، ولا ينكحون ولا ينكح إليهم، أما إنى أحلف بالله أن لو كانوا أخوال أبى الحكم ابن هشام ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه أبدا، قال: ويحك يا هشام! فماذا أصنع؟ أنا رجل واحد، والله لو كان معى رجل آخر لقمت فى نقضها حتى أنقضها؛ قال: قد وجدت رجلا، قال: من هو؟ قال: أنا؛ قال له زهير: ابغنا ثالثا، فذهب إلى المطعم بن عدىّ فقال له: يا مطعم أقد رضيت أن يهلك بطنان من بنى عبد مناف وأنت شاهد على ذلك، موافق لقريش فيه! أما والله لئن أمكنتموهم من هذه لتجدنّهم إليها منكم سراعا؛ قال: ويحك، فماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد، قال: قد وجدت ثانيا، قال: من هو؟ قال: أنا، قال: ابغنا ثالثا، قال: قد فعلت، قال: من هو؟ قال: زهير، قال: ابغنا رابعا، قال: فذهب إلى أبى البخترىّ بن هشام فقال له نحوا مما قال لمطعم، فقال: وهل من أحد يعين على هذا؟ قال: نعم، قال: فمن هو؟ قال زهير والمطعم وأنا معك، قال: ابغنا خامسا، فذهب إلى زمعة بن الأسود ابن المطلب، فكلّمه وذكر له قرابتهم وحقّهم، فقال: وهل على هذا الأمر الذى تدعونى إليه من أحد؟ قال: نعم، ثم سمّى له القوم، فاتّعدوا خطم الحجون «1» ليلا بأعلى مكة، فاجتمعوا هناك وتعاقدوا على القيام فى الصحيفة حتى ينقضوها. وقال زهير: أنا أبدؤكم فأكون أوّل من يتكلم. فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم، وغدا زهير عليه حلّة، فطاف بالبيت سبعا، ثم أقبل على الناس فقال: يا أهل مكة، أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى لا يبتاعون ولا يبتاع منهم! والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة. فقال أبو جهل الجزء: 16 ¦ الصفحة: 261 - وكان فى ناحية المسجد-: كذبت، والله لا تشقّ! قال «1» زمعة بن الأسود: أنت والله أكذب، ما رضينا كتابتها حيث كتبت، قال أبو البخترىّ: صدق زمعة، لا نرضى ما كتب فيها ولا نقرّ به، قال المطعم: صدقتما وكذب من قال غير ذلك؛ نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها! وقال هشام بن عمرو نحوا من ذلك. فقال أبو جهل: هذا أمر قضى بليل، وتشوور فيه بغير هذا المكان «2» - وأبو طالب جالس فى ناحية المسجد- وقام المطعم إلى الصحيفة ليشقّها فوجد الأرضة قد أكلتها؛ إلا «باسمك اللهم» . ثم حكى ابن هشام نحوا ممّا ذكره الواقدىّ من خبرها على ما قدّمناه، وأن أولئك الرهط الذين ذكرناهم صنعوا ما صنعوا مما ذكرناه بعد كلام أبى طالب. والله تعالى أعلم. ذكر من عاد من أرض الحبشة ممن هاجر إليها، وكيف دخلوا مكة قال ابن إسحاق رحمهما الله: وبلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين خرجوا إلى أرض الحبشة إسلام أهل مكة، فأقبلوا لما بلغهم من ذلك، حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن ما كانوا تحدّثوا به من إسلامهم كان باطلا، فلم يدخل أحد منهم إلا بجوار أو مستخفيا. فكان من قدم عليه مكة، منهم فأقام بها حتى هاجر إلى المدينة فشهد بدرا وأحدا، ومن حبس عنه حتى فاته ذلك. ومن مات منهم بمكة من بنى عبد شمس: عثمان بن عفان معه امرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، معه امرأته سهلة بنت سهيل. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 262 ومن حلفائهم عبد الله بن حجش بن رئاب. ومن بنى نوفل بن عبد مناف عتبة بن غزوان حليف لهم. ومن بنى أسد بن عبد العزّى الزبير بن العوّام. ومن بنى عبد الدار مصعب بن عمير، وسويبط بن سعد. ومن بنى عبد [بن «1» ] قصىّ طليب بن عمير. ومن بنى زهرة بن كلاب عبد الرحمن بن عوف، والمقداد بن عمرو؛ حليف لهم، وعبد الله بن مسعود؛ حليف لهم. ومن بنى مخزوم أبو سلمة بن عبد الأسد؛ معه امرأته أمّ سلمة، وشمّاس ابن عثمان، وسلمة بن هشام، حبسه عمه بمكة فلم يهاجر إلا بعد الخندق «2» ، وعيّاش ابن أبى ربيعة بن المغيرة، ومن حلفائهم عمّار بن ياسر «3» ، ومعتّب بن عوف من خزاعة. ومن بنى جمح عثمان بن مظعون وابنه السائب بن عثمان، وقدامة وعبد الله ابنا مظعون. ومن بنى سهم خنيس بن حذافة، وهشام بن العاص بن وائل؛ حبس بمكة فلم يهاجر إلا بعد الخندق. ومن بنى عدىّ بن كعب عامر بن ربيعة حليف لهم، معه امرأته ليلى بنت أبى حثمة. ومن بنى عامر بن لؤى عبد الله بن مخرمة، وعبد الله بن سهيل بن عمرو. حبس بعد الهجرة، فلما كان يوم بدر انحاز من المشركين إلى رسول الله صلى الله الجزء: 16 ¦ الصفحة: 263 عليه وسلم، وأبو سبرة بن أبى رهم، معه امرأته أمّ كلثوم «1» ، والسّكران بن عمرو معه امرأته سودة بنت زمعة؛ مات بمكة قبل الهجرة. ومن حلفائهم سعد بن خولة. ومن بنى الحارث بن فهر أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجرّاح، وعمرو ابن الحارث بن زهير، وسهيل بن بيضاء، وعمرو بن أبى سرح بن ربيعة بن هلال. فجميع من قدم مكة ثلاثة وثلاثون رجلا، فكان من دخل منهم بجوار عثمان ابن مظعون دخل بجوار من الوليد بن المغيرة، فلما رأى ما فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من البلاء وهو يغدو ويروح فى أمان من الوليد، قال: والله إنّ غدوّى ورواحى آمنا بجوار رجل من أهل الشّرك، وأصحابى «2» وأهل دينى يلقون من البلاء والأذى فى الله ما لا يصيبنى لنقص كبير فى نفسى، فمشى إلى الوليد ابن المغيرة فقال له: يا أبا عبد شمس، وفت ذمّتك، وقد رددت إليك جوارك؛ فقال له: يا بن أخى، لعله آذاك أحد من قومى، قال: لا، ولكنى أرضى بجوار الله، ولا أريد أن أستجير بغيره. قال: فانطلق إلى المسجد فردّ علىّ جوارى علانية كما أجرتك علانية، فخرجا حتى أتيا المسجد، فقال الوليد: هذا عثمان قد جاء يرد علىّ جوارى، قال: صدق، وجدته كريما وفىّ الجوار «3» ، ولكنى أحببت ألا أستجير بغير الله، فقد رددت عليه جواره، ثم انصرف عثمان. وأبو سلمة بن عبد الأسد دخل بجوار من أبى طالب بن عبد المطلب، فمشى إليه رجال من بنى مخزوم فقالوا: يا أبا طالب «4» ، منعت منا ابن أخيك محمدا؛ فمالك الجزء: 16 ¦ الصفحة: 264 ولصاحبنا تمنعه منّا! قال: إنه استجار بى؛ وهو ابن أختى، وإن أنا لم أمنع ابن أختى لم أمنع ابن أخى، فقام أبو لهب فقال: يا معشر قريش، والله لقد أكثرتم على هذا الشيخ، ما تزالون توثّبون عليه فى جواره من بين قومه، والله لتنتهنّ عنه أو لنقومنّ معه فى كل ما قام فيه حتى يبلغ ما أراد، فقالوا: بل ننصرف عما تكره يا أبا عتبة. قال: وأقام بقيتهم بأرض الحبشة إلى سنة سبع من الهجرة، فقدموا بعد فتح خيبر، وقد رأينا أن نذكرهم فى هذا الموضع؛ لتكون أخبارهم متوالية. ذكر من قدم من أرض الحبشة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر، ومن قدم بعد ذلك ومن هلك منهم هناك قال ابن إسحاق: كان من قدم منهم إلى خيبر فى سنة سبع من الهجرة مع جعفر ابن أبى طالب رضى الله عنه فى السفينتين ستة عشر رجلا، وهم من بنى هاشم بن عبد مناف: جعفر بن أبى طالب، معه امرأته أسماء بنت عميس، وابنه عبد الله؛ ولد بأرض الحبشة. ومن بنى عبد شمس خالد بن سعيد بن العاص، معه امرأته أمينة بنت خلف، وابناه سعيد بن خالد، وأمة بنت خالد؛ ولدتهما بأرض الحبشة، وأخوه عمرو بن سعيد، ومعيقيب «1» بن أبى فاطمة، وأبو موسى الأشعرىّ؛ واسمه عبد الله بن قيس. ومن بنى أسد الأسود «2» بن نوفل بن خويلد. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 265 ومن بنى عبد الدار [بن «1» ] قصىّ جهم بن قيس، معه ابناه عمرو بن جهم، وخزيمة بنت جهم، وكانت معه امرأته أمّ حرملة بنت عبد الأسود؛ هلكت بأرض الحبشة. ومن بنى زهرة بن كلاب عامر بن أبى وقّاص، وعتبة بن مسعود حليف لهم من هذيل. ومن بنى تيم بن مرّة الحارث بن خالد بن صخر، هلكت امرأته ريطة بالحبشة. ومن بنى جمح عثمان بن ربيعة بن أهبان. ومن بنى سهم محمية بن الجزء «2» حليف لهم من بنى زبيد. ومن بنى عدىّ بن كعب معمر بن عبد الله بن نضلة. ومن بنى عامر بن لؤىّ أبو حاطب بن عمرو، ومالك بن ربيعة: معه امرأته عمرة بنت السعدىّ. ومن بنى الحارث بن فهر الحارث بن [عبد «3» ] قيس بن لقيط، وحمل معهم نساء من نساء من هلك هناك. هؤلاء الذين قدموا مع جعفر فى السفينتين. وقدم بعد ذلك ستة وعشرون رجلا، وهم: من بنى أمية قيس بن عبد الله الأسدىّ، أسد خزيمة، حليف لهم. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 266 ومن بنى أسد يزيد بن زمعة بن الأسود، قتل يوم حنين شهيدا. ومن بنى عبد الدار: أبو الروم بن عمير، وفراس بن النضر بن الحارث بن كلدة. ومن بنى تيم بن مرة عمرو بن عثمان بن عمرو. ومن بنى مخزوم هبّار بن سفيان، وأخوه عبد الله، وهشام بن أبى حذيفة ابن المغيرة. ومن بنى جمح سفيان بن معمر، وابناه جنادة وجابر، وأمّهما حسنة «1» ، وأخوهما لأبيهما شرحبيل بن حسنة. ومن بنى سهم قيس بن حذافة بن قيس، وأبو قيس بن الحارث بن قيس، وبشر بن الحارث بن قيس، وأخ له من أمّه من بنى تميم يقال له: سعيد بن عمرو، وسعيد بن الحارث بن قيس، والسائب بن الحارث بن قيس، وعمير بن رئاب، ابن حذيفة. ومن بنى عامر بن لؤىّ سليط بن عمرو. ومن بنى الحارث بن فهر عثمان بن عبد غنم، وسعيد «2» بن عبد قيس بن لقيط، وعياض بن زهير بن أبى شدّاد. وهلك بأرض الحبشة ممن هاجر إليها ثمانية، وهم: من بنى عبد شمس، من حلفائهم عبيد الله بن جحش بن رئاب، تنصّر ومات بأرض الحبشة نصرانيا، وكانت معه امرأته أمّ حبيبة بنت أبى سفيان، فخلف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 267 ومن بنى أسد عمرو بن أمية بن الحارث. ومن بنى زهرة بن كلاب المطلب بن أزهر بن عوف، ومعه امرأته رملة بنت أبى عوف، فولدت له هناك عبد الله بن المطلب. ومن بنى جمح حاطب بن الحارث بن معمر، وكان معه امرأته فاطمة بنت المحلّل «1» بن عبد الله، وابناه محمد والحارث، فقدمت امرأته وابناه مع جعفر ابن أبى طالب رضى الله عنه فى أحد السفينتين، وأخوه خطاب بن الحارث، وكان معه امرأته فكيهة بنت يسار قدمت مع جعفر أيضا. ومن بنى سهم عبد الله بن الحارث بن قيس. ومن بنى عدىّ بن كعب عروة بن عبد العزّى بن حرثان، وكان مع عدىّ ابنه النعمان، فقدم مع من قدم من المسلمين. فهؤلاء الذين ذكرناهم هم الذين ذكرهم ابن إسحاق، وعدّهم أنهم الذين هاجروا إلى أرض الحبشة، وحصر عدّتهم كما تقدّم. وأمّا من ذكرنا ممن ذكر أبو عمر يوسف بن عبد البرّ فى كتابه أنهم ممن هاجر إلى أرض الحبشة فلم نقف على تاريخ عودهم فنذكره. ذكر من أنزل فيه القرآن من مشركى قريش وما أنزل فيهم قال أبو محمد عبد الملك بن هشام: ولمّا حمى الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم من قريش ومنعه منها، وقام عمه أبو طالب وقومه من بنى هاشم وبنى عبد المطلب دونه، وحالوا بينهم وبين ما أرادوا من البطش به، جعلت قريش يهمزونه ويستهزئون به ويخاصمونه، والقرآن ينزل فيهم، منهم من سماه الله تعالى، ومنهم من نزل فيه فى عامّة من ذكر الله من الكفار. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 268 فكان من سمى ممن نزل فيه القرآن أبو لهب بن عبد المطلب، وامرأته أمّ جميل بنت حرب بن أمية، حمالة الحطب، فأنزل الله فيهما قوله: (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ. ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ. سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ. وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ. فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) . قال: وإنما سماها الله تعالى حمالة الحطب لأنها كانت تحمل الشوك فتطرحه فى طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم. [قال ابن إسحاق: فذكر لى أن أمّ جميل حمالة الحطب، حين سمعت ما أنزل فيها، وفى زوجها من القرآن أتت رسول الله «1» ] وهو جالس فى المسجد عند الكعبة، ومعه أبو بكر الصديق رضى الله عنه وفى يدها فهر «2» من حجارة، فلما وقفت عليهما أخذ الله ببصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ترى إلا أبا بكر، فقالت: يا أبا بكر، أين صاحبك؟ قد بلغنى أنه يهجونى، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه، أما والله إنى لشاعرة: مذمّما عصينا ... وأمره أبينا ودينه قلينا ثم انصرفت. قال أبو بكر: يا رسول الله، أما تراها رأتك؟ قال: ما رأتنى، لقد أخذ الله ببصرها عنى. وأمية بن خلف بن وهب الجمحىّ؛ كان إذا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم همزه ولمزه، فأنزل الله تعالى فيه قوله: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) ، السورة كلها. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 269 قال ابن هشام: الهمزة: الذى يشتم الرجل علانية، ويكسر عينه عليه ويغمز به. واللّمزة: الذى يعيب الناس سرّا ويؤذيهم. والعاص بن وائل السّهمىّ؛ كان إذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: دعوه فإنما هو رجل أبتر لا عقب له، لو قد مات انقطع ذكره واسترحتم منه، فأنزل الله تعالى فى ذلك قوله: (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ. فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ. إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) . والكوثر: ماء هو خير من الدنيا وما فيها؛ وقيل: الكوثر: العظيم، وقيل: الخير الكثير. وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الكوثر الذى أعطاك الله؟ فقال: نهر فى الجنة كما بين صنعاء إلى أيلة «1» ، آنيته كعدد نجوم السماء، من شرب منه لم يظمأ أبدا، وأنزل الله فيه قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً) ، إلى قوله: (وَيَأْتِينا فَرْداً) «2» ، وكان سبب ذلك أن خبّاب بن الأرتّ صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان نشأ بمكة يعمل السيوف، وكان قد باع من العاص بن وائل السّهمىّ سيوفا عملها له؛ حتى كان له عليه مال، فجاءه يتقاضاه، فقال: يا خبّاب، أليس يزعم محمد صاحبكم هذا الذى أنت على دينه أن فى الجنة ما ابتغى أهلها من ذهب أو فضّة أو ثياب أو خدم! قال خباب: يلى، قال: فأنظرنى إلى يوم القيامة حتى أرجع إلى تلك الدار؛ فأقضيك هنالك حقّك، فو الله لا تكون أنت وأصحابك آثر عند الله منى، ولا أعظم حظّا فى ذلك، فأنزل الله ذلك فيه. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 270 وأبو جهل بن هشام؛ لقى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: والله يا محمد لتتركنّ سب آلهتنا أو لنسبنّ إلهك الذى تعبده، فأنزل الله فى ذلك: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) «1» ، فكفّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبّ آلهتهم، وجعل يدعوهم إلى الله. ولما ذكر الله شجرة الزّقوم تخويفا لهم قال أبو جهل: يا معشر قريش، هل تدرون ما شجرة الزّقوم التى يخوّفكم بها محمد؟ قالوا: لا، قال: عجوة يثرب بالزّبد، والله لئن استمكنا منها لنزقمنها، فأنزل الله فيه: (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ. طَعامُ الْأَثِيمِ. كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ. كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) «2» ، أى ليس كما يقول. والنضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصىّ؛ كان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا فدعا فيه إلى الله، وتلا فيه القرآن، وحذّر فيه قريشا ما أصاب الأمم الخالية، خلفه فى مجلسه إذا قام فحدّثهم عن رستم وملوك الفرس وإسفنديار، ثم يقول: والله ما محمد بأحسن حديثا منّى، وما حديثه إلا أساطير الأوّلين اكتتبها كما اكتتبتها، فأنزل الله فيه: (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا. قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) «3» . وأنزل فيه: (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) * «4» . ونزل فيه: َيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ. يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) «5» ، والأفّاك: الكذّاب. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 271 قال: وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما مع الوليد بن المغيرة فى المسجد، فجاء النّضر بن الحارث حتى جلس معهما، وفى المجلس غير واحد من رجال قريش، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فعرض له النّضر تكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه، ثم تلا عليه وعليهم: (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ. لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ. لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ) «1» ، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل عبد الله بن الزّبعرى السهمىّ حتى جلس، فقال له الوليد بن المغيرة: والله ما قام النّضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفا وما قعد، وقد زعم محمد أنّا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم! فقال عبد الله بن الزّبعرى: أما والله لو وجدته لخصمته، فسألوا محمدا: أكلّ ما يعبد من دون الله فى جهنم مع من عبده؟، فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد عزيرا، والنصارى تعبد عيسى بن مريم، فعجب الوليد ومن كان حضر معه فى المجلس من قول عبد الله، ورأوا أنه قد احتجّ وخاصم، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «كلّ من أحبّ أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده، إنهم إنما يعبدون الشياطين، ومن أمرتهم بعبادته» ، فأنزل الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ. لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ) «2» ، أى عيسى بن مريم، وعزير ومن عبدوا من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله، فاتخذهم من بعدهم من أهل الضلالة أربابا من دون الله. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 272 ونزل فيما ذكروا أنهم يعبدون الملائكة، وأنها بنات الله قوله تعالى: (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ. لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) ، إلى قوله: (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) «1» . ونزل فيما ذكر من أمر عيسى عليه السلام أنه يعبد من دون الله، وعجب الوليد ومن حضر من حجته: (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) «2» ، أى يصدّون عن أمرك، ثم ذكر عيسى: (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ. وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ. وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها) «3» ، أى ما وضعت على يديه من الآيات من إحياء الموتى، وإبراء الأسقام، فكفى به دليلا على علم الساعة، يقول: (فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) «4» . والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفىّ، حليف بنى زهرة، وكان من أشراف القوم، وممن يستمع منه، فكان يصيب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ويردّ عليه، فأنزل الله فيه: (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) إلى قوله: (زَنِيمٍ) «5» ، والزّنيم: العديد «6» للقوم. والوليد بن المغيرة قال: أينزل على محمد وأترك! وأنا لبيب قريش وسيّدها! ويترك أبو مسعود عمرو بن عمير الثقفىّ سيد ثقيف، ونحن «7» عظيما القريتين! فأنزل الجزء: 16 ¦ الصفحة: 273 الله تعالى فيه: (وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ. أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) ، إلى قوله: (خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) «1» . وأبىّ بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح، وعقبة بن أبى معيط- وكانا متصافيين حسنا ما بينهما- فجلس عقبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع منه، فبلغ ذلك أبيّا، فأتى عقبة فقال: ألم يبلغنى «2» أنك جالست محمدا وسمعت منه! ثم قال: وجهى من وجهك حرام أن أكلمك- واستغلظ من اليمين- إن أنت جلست أو سمعت منه، أو لم تأته فتتفل فى وجهه. ففعل عدوّ الله عقبة بن أبى معيط، فأنزل الله فيهما: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا. يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا. لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا) «3» . ومشى أبىّ بن خلف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم [بعظم «4» ] بال قد ارفتّ «5» ؛ فقال: يا محمد، أنت تزعم أن الله يبعث هذا بعد ما أرى «6» ؟ ثم فته بيده ونفخه فى الريح نحو النبى صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم أنا أقول ذلك، يبعثه الله وإياك بعد ما تكونان هكذا، ثم يدخلك النار» ، فأنزل الله تعالى فيه: (وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) «7» . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 274 واعترض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالكعبة الأسود بن المطلب ابن أسد، والوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل- وكانوا ذوى أسنان فى قومهم- فقالوا: يا محمد؛ هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد؛ فنشترك نحن وأنت فى الأمر، فإن كان الذى تعبد خيرا كنا قد أخذنا بحظّنا منه، وإن كان ما نعبد خيرا مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه، فأنزل الله تعالى فيهم: (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ. لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) ... السورة. ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه إلى الإسلام، وكلمهم فأبلغ، فقال له زمعة بن الأسود، والنضر بن الحارث، والأسود بن عبد يغوث، وأبىّ بن خلف، والعاص بن وائل: لو جعل معك يا محمد ملك يحدّث عنك الناس؛ ويرى معك! فأنزل الله تعالى فى ذلك: (وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ. وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) «1» . والله المستعان. ذكر خروج أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه إلى الهجرة وعوده، وجواره وردّه الجوار قال: وكان أبو بكر رضى الله عنه كما روى الزهرىّ عن عروة عن عائشة رضى الله عنها حين ضاقت عليه مكة، وأصابه فيها ما أصابه من الأذى، ورأى من تظاهر قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما رأى استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الهجرة، فأذن له، فخرج أبو بكر مهاجرا حتى إذا سار من الجزء: 16 ¦ الصفحة: 275 مكة يوما أو يومين لقيه ابن الدّغنّة «1» ، ويقال فيه: الدّغينة- أخو بنى الحارث بن بكر ابن عبد مناة بن كنانة، والهون بن خزيمة بن مدركة، وبنى المصطلق بن خزاعة، تحالفوا جميعا فسمّوا الأحابيش «2» للحلف- فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ قال: أخرجنى قومى وآذونى وضيقوا علىّ، قال: ولم؟ فو الله إنك لتزين العشيرة، وتعين على النوائب، وتفعل المعروف، وتكسب المعدوم، ارجع وأنت فى جوارى. فرجع معه حتى إذا دخل مكة؛ قام ابن الدّغنّة فقال: يا معشر قريش، إنى قد أجرت ابن أبى قحافة فلا يعرضنّ له أحد إلا بخير؛ فكفّوا عنه. قال: وكان لأبى بكر مسجد على باب داره فى بنى جمح، فكان يصلى فيه، وكان رجلا رقيقا؛ إذا قرأ القرآن استبكى، فتقف عليه الصبيان والعبيد والنساء فيعجبون لما يرون من هيئته، فمشى من قريش إلى ابن الدّغنّة رجال فقالوا: إنك لم تجر هذا الرجل ليؤذينا، إنه رجل إذا صلى وقرأ ما جاء به محمد يرقّ، ونحن نتخوّف على صبياننا ونسائنا وضعفتنا أن يفتنهم، فأته فمره أن يدخل بيته فليصنع فيه ما شاء. قالت: فمشى ابن الدّغنّة إليه فقال: يا أبا بكر، إنى لم أجرك لتؤذى قومك، إنهم قد كرهوا مكانك الذى أنت به، وتأذّوا بذلك منك، فادخل بيتك فاصنع فيه ما أحببت. قال: أو أردّ عليك جوارك، وأرضى بجوار الله؟ قال: فاردد علىّ جوارى، قال: قد رددته عليك، فقام ابن الدغنة فقال: يا معشر قريش، إن ابن أبى قحافة قد ردّ علىّ جوارى فشأنكم بصاحبكم. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 276 ذكر وفاة أبى طالب بن عبد المطلب عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومشى أشراف قريش إليه فى مرضه، وما قالوه وأنزل فيهم كانت وفاة أبى طالب بعد نقض الصحيفة، وخروج بنى هاشم وبنى المطلب من الشّعب بثمانية أشهر وأحد وعشرين يوما، وماتت خديجة بعده بثلاثة أيام. حكاه الشيخ شرف الدين عبد المؤمن بن خلف الدمياطىّ رحمه الله فى مختصر السيرة النبوية. وقال محمد بن سعد: كان بينهما شهر وخمسة أيام «1» . قال «2» محمد بن إسحاق: لما اشتكى أبو طالب وبلغ قريشا ثقله، فمشى إليه أشراف قريش وهم: عقبه بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، وأبو سفيان بن حرب فى رجال من أشرافهم، فقالوا: يا أبا طالب، إنك منا حيث قد علمت وقد حضرك ما ترى، وتخوّفنا عليك، وقد علمت الذى بيننا وبين ابن أخيك، فادعه فخذ له منا، وخذ لنا منه، ليكفّ عنا ونكفّ عنه، وليدعنا وديننا، وندعه ودينه. فبعث إليه فجاءه فقال له: يا بن أخى، هؤلاء أشراف قومك قد اجتمعوا لك، ليعطوك وليأخذوا منك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلمة «3» واحدة يملكون بها العرب، وتدين لهم بها العجم» فقال أبو جهل: نعم وأبيك وعشر كلمات، فقال: «تقولون لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه» ، قال: فصفّقوا بأيديهم، وقالوا: أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلها واحدا؛ إن أمرك لعجب! ثم قال الجزء: 16 ¦ الصفحة: 277 بعضهم لبعض: إنه والله ما هذا الرجل يعطيكم شيئا مما تريدون؛ فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم، حتى يحكم الله بينكم وبينه، ثم تفرّقوا. فقال أبو طالب: والله ما رأيتك سألتهم شططا. قال: فلما قالها أبو طالب طمع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه «1» ، فجعل يقول له: «يا عمّ فأنت فقلها؛ أستحل بها لك الشفاعة يوم القيامة» ، قال: يا بن أخى لولا مخافة السّبّة عليك وعلى بنى أبيك من بعدى، وأن تظنّ قريش أنى قلتها جزعا من الموت لقلتها، لا أقولها إلا لأسرك بها. قال ابن عباس: فلما تقارب من أبى طالب الموت، نظر العباس إليه يحرّك شفتيه، فأصغى إليه بأذنه، فقال: يا بن أخى، والله لقد قال أخى الكلمة التى أمرته أن يقولها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم أسمع» ، ثم هلك أبو طالب. والذى ورد فى الصحيح: أن آخر ما سمع من أبى طالب؛ هو على دين عبد المطلب. قال ابن إسحاق: وأنزل الله فى الرهط الذين اجتمعوا إلى أبى طالب وقالوا ما قالوا، قوله تعالى: (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ. بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ. كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ. وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ. أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ. وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ. ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) «2» . قال: يريدون بالملّة الآخرة النصارى؛ لقولهم: (إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) «3» . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 278 ذكر وفاة خديجة بنت خويلد زوج النبىّ صلى الله عليه وسلم ورضى الله عنها كانت وفاة خديجة رضى الله عنها بعد وفاة أبى طالب كما تقدّم، وماتت قبل الهجرة بثلاث سنين على ما صححه الشيخ شرف الدين الدمياطىّ رحمه الله فى مختصر السيرة النبويّة، قال: وبقيت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الوحى خمس عشرة سنة، وبعده تسع سنين وثمانية أشهر، وهى أوّل من أسلم من النساء بلا خلاف، ولعلها أوّل من أسلم من الناس، وكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وزير صدق. روى أن آدم عليه السلام قال: «إنى لسيد البشر يوم القيامة إلا رجل من ذريتى فضل علىّ باثنين؛ كانت زوجته عونا له، وكانت زوجتى عونا علىّ، وأعانه الله على شيطانه فأسلم، وكفر شيطانى» . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أمرت أن أبشر خديجة ببيت فى الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب» ، قالوا: والقصب هاهنا: اللؤلؤ. ودفنت خديجة بالحجون، ولم تكن شرعت الصلاة على الميت بعد. والله أعلم. ذكر خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، وعوده إلى مكة قال: لما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم مالم تكن تناله فى حياة عمه. قال محمد بن سعد «1» : فبلغ ذلك أبا لهب، فجاءه فقال: يا محمد، امض لما أردت وما كنت صانعا إذا كان أبو طالب حيّا فاصنعه، لا واللّات، لا يوصل إليك الجزء: 16 ¦ الصفحة: 279 حتى أموت. قال: وسبّ ابن الغيطلة النبىّ صلى الله عليه وسلم، فأقبل عليه أبو لهب فنال منه، فولّى وهو يصيح: يا معشر قريش، صبأ أبو عتبة، فأقبلت قريش حتى وقفوا على أبى لهب فقال: ما فارقت دين عبد المطلب، ولكنى أمنع ابن أخى أن يضام، حتى يمضى لما يريد، قالوا: قد أحسنت وأجملت ووصلت الرّحم، فلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك أياما يذهب ويأتى، ولا يعترض له أحد من قريش، وهابوا أبا لهب إلى أن جاء عقبة بن أبى معيط، وأبو جهل ابن هشام إلى أبى لهب فقالا: أخبرك ابن أخيك أين مدخل أبيك؟ فقالا «1» له: يا محمد أين مدخل عبد المطلب؟ قال: «مع قومه» ، فخرج أبو لهب إليهما فقال: قد سألته فقال: «مع قومه» ، فقالا: يزعم أنه فى النار، فقالا: يا محمد، أيدخل عبد المطلب النار؟، فقال: «نعم، ومن مات على مثل ما مات عليه عبد المطلب دخل النار» . فقال أبو لهب: والله لا برحت لك عدوّا أبدا، وأنت تزعم أن عبد المطلب فى النار، فاشتدّ عليه هو وسائر قريش، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف. قال محمد بن سعد: خرج ومعه زيد بن حارثة، وذلك فى ليال بقين من شوّال سنة عشر من حين النبوّة، فأقام بالطائف عشرة أيام لا يدع أحدا من أشرافهم إلا جاءه وكلّمه، فلم يجيبوه، وخافوا على أحداثهم، فقالوا: يا محمد، أخرج من بلدنا والحق بمجابك «2» من الأرض. وأغروا به سفهاءهم، فجعلوا يرمونه بالحجارة حتى إن رجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لتدميان، وزيد بن حارثة يقيه بنفسه. حتى لقد شجّ فى رأسه شجاجا، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف راجعا إلى مكة وهو محزون لم يستجب له رجل واحد ولا امرأة. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 280 وقال ابن إسحاق «1» : لما أغروا به سفهاءهم؛ لجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حائط «2» لعتبة وشيبة ابنى ربيعة، فجلس فى ظل حبلة «3» ، وابنا ربيعة ينظران إليه، ويريان ما لقى من سفهاء أهل الطائف، فتحركت له رحمتهما، فدعوا غلاما لهما نصرانيا يقال له عدّاس، فقالا له: خذ قطفا من هذا العنب فضعه فى هذا الطبق، ثم اذهب إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه، ففعل عدّاس، ثم أقبل حتى وضعه بين يديه صلى الله عليه وسلم، وقال له: كلّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بسم الله» فأكل، فنظر عدّاس إليه ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد، فقال له صلى الله عليه وسلم: «ومن أهل أىّ البلاد أنت يا عدّاس؟ وما دينك» ؟. قال: نصرانىّ، وأنا رجل من أهل نينوى «4» ، فقال له: «أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متّى» ؟ فقال عدّاس: وما يدريك ما يونس؟ قال: «ذاك أخى، كان نبيا وأنا نبىّ» ، فأقبل عدّاس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبّل رأسه وقدميه ويديه، فقال أحد ابنى ربيعة لصاحبه: أمّا غلامك فقد أفسده عليك، فلما جاءهما عدّاس قالا له: ويلك! ما لك تقبّل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه! قال: يا سيدى، ما فى الأرض شىء خير من هذا العبد، لقد أخبرنى بأمر ما يعلمه إلا نبىّ، قالا: ويحك يا عدّاس! لا يصرفنّك عن دينك، فإن دينك خير من دينه. قال: ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا إلى مكة حين يئس من خير ثقيف، حتى إذا كان بنخلة «5» أتاه جنّ نصيبين «6» ، على ما نذكر ذلك إن شاء الجزء: 16 ¦ الصفحة: 281 الله فى أخبار الوفود على رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما تقف عليه هناك، وهو فى آخر وفادات العرب. قال: وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بنخلة أياما، فقال له زيد بن حارثة: كيف تدخل عليهم وهم أخرجوك؟ فقال: «يا زيد، إن الله جاعل لما ترى فرجا ومخرجا، وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه» ، ثم انتهى إلى حراء، فأرسل رجلا من خزاعة إلى مطعم بن عدىّ يقول: «أدخل فى جوارك» ؟ فقال: نعم، ودعا بنيه وقومه، فقال: تلبّسوا السلاح، وكونوا عند أركان البيت؛ فإنى قد أجرت محمدا، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه زيد بن حارثة حتى انتهى إلى المسجد الحرام، فقام مطعم بن عدىّ على راحلته فنادى: يا معشر قريش، إنى قد أجرت محمدا؛ فلا يهجه أحد منكم، فانتهى صلى الله عليه وسلم إلى الرّكن فاستلمه، وصلى ركعتين، وانصرف إلى بيته، ومطعم وولده مطيفون به، فلذلك قال حسان بن ثابت الأنصارىّ فى رثائه لمطعم من قصيدته: فلو كان مجد يخلد الدهر واحدا ... من الناس، أبقى مجده اليوم مطعما «1» أجرت رسول الله منهم فأصبحوا ... عبيدك ما لبّى مهلّ وأحرما وحكى محمد بن إسحاق: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى الأخنس بن شريق ليجيره، فقال: أنا حليف؛ والحليف لا يجير؛ فبعث إلى سهيل بن عمرو فقال: إن بنى عامر «2» لا تجير على بنى كعب، فبعث إلى المطعم بن عدىّ فأجابه. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 282 ذكر خبر الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى البيت المقدس، وخبر المعراج به صلى الله عليه وسلم إلى السموات العلا، وإلى سدرة المنتهى، وما شاهد فى ذلك من الكرامة والاصطفاء والمناجاة، وفرض الصلاة، وغير ذلك مما يراه من آيات ربّه الكبرى، صلّى الله عليه وسلم وخبر الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح متفق على صحته بنص الكتاب والأحاديث الصحيحة. أما الكتاب العزيز، فقد قال الله عزّ وجل: (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) «1» . وقال تعالى: (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى. ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى. وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى. ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى. وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى. ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى. فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى. فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى. ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى. أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى. وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى. عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى. إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى. ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى. لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) «2» . وأما الأحاديث الواردة فى ذلك فسنذكرها إن شاء الله تعالى. وكان الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة السبت لسبع عشرة خلت من شهر رمضان قبل الهجرة بثمانية عشر شهرا، وقد أتت عليه إحدى وخمسون سنة وتسعة أشهر. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 283 وقال ابن سعد فى طبقاته عن عائشة وأمّ هانئ وابن عباس قالوا: أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة سبع عشرة من شهر ربيع الأوّل قبل الهجرة بسنة من شعب أبى طالب [إلى بيت المقدس «1» ] . والله أعلم. والأحاديث الصحيحة بصحة الإسراء قد جاءت من طرق كثيرة، وقد رأينا أن نبدأ منها بأكملها وأجمعها، وهو حديث ثابت البنانىّ عن أنس بن مالك رضى الله عنه، ثم نذكر زيادات عن غيره يتعين ذكرها. أما حديث ثابت البنانىّ «2» فهو مما رويناه بإسناد متصل عن مسلم بن الحجاج، قال حدّثنا شيبان بن فرّوخ، قال حدّثنا حماد بن سلمة، قال حدّثنا ثابت البنانىّ عن أنس بن مالك رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتيت بالبراق وهو دابة أبيض طويل، فوق الحمار ودون البغل، يضع حافره عند منتهى طرفه» . قال: «فركبته حتى أتيت بيت المقدس، فربطته بالحلقة التى يربط بها الأنبياء، ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت فجاءنى جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن، فأخذت اللبن، فقال جبريل: اخترت الفطرة، ثم عرج بنا إلى السّماء، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل، قيل: من معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا بآدم صلى الله عليه وسلم، فرحّب بى ودعا لى بخير، ثم عرج بنا إلى السماء الثانية، فاستفتح جبريل فقيل: من أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بابنى الخالة عيسى بن مريم، ويحيى بن زكريا صلى الله عليهما وسلم، فرحّبا بى ودعوا لى بخير، ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 284 وذكر مثل الأوّل ففتح لنا، فإذا أنا بيوسف صلى الله عليه وسلم، وإذا هو قد أعطى شطر الحسن، فرحّب بى، ودعا لى بخير، ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة، فذكر مثله، فإذا أنا بإدريس فرحّب بى ودعا لى بخير، ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة، فذكر مثله، فإذا أنا بهارون «1» فرحّب بى، ودعا لى بخير، ثم عرج بى إلى السماء السادسة، فإذا أنا بموسى فرحّب بى، ودعا لى بخير، ثم عرج بى إلى السماء السابعة، فذكر مثله، فإذا أنا بإبراهيم مسندا ظهره إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه، ثم ذهب بى إلى سدرة المنتهى، وإذا ورقها كآذان الفيلة، وإذا ثمرها «2» كالقلال» . قال: «فلما غشيها من أمر الله ما غشى تغيرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها، فأوحى الله إلىّ ما أوحى، ففرض علىّ خمسين صلاة فى كل يوم وليلة، فنزلت إلى موسى، فقال: ما فرض ربك على أمّتك؟ قلت: خمسين صلاة، قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمّتك لا يطيقون ذلك «3» ، فإنى قد بلوت بنى إسرائيل» . قال: «فرجعت إلى ربى فقلت: يا رب خفف عن أمّتى، فحطّ عنى خمسا، فرجعت إلى موسى فقلت: حطّ عنى خمسا» ، قال «4» : إنّ أمّتك لا يطيقون ذلك، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف. قال: «فلم أزل أراجع بين ربى تعالى، وبين موسى حتى قال: يا محمد، إنهنّ خمس صلوات، كل يوم وليلة بكل صلاة عشر، فتلك خمسون صلاة، ومن همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها الجزء: 16 ¦ الصفحة: 285 كتبت له عشرا، ومن همّ بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئا، فإن عملها كتبت سيئة واحدة» . قال: «فنزلت «1» حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته، فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فقلت: قد رجعت إلى ربى حتى استحييت منه» . وروى يونس عن ابن شهاب عن أنس قال: كان أبو ذرّ يحدّث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فرج سقف بيتى «2» ، فنزل جبريل ففرج صدرى ثم غسله من ماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا فأفرغها فى صدرى ثم أطبقه، ثم أخذ بيدى فعرج بى إلى السماء» . فذكر القصة. وروى قتادة عن أنس عن مالك بن صعصعة الحديث بمثله، وفيه تقديم وتأخير، وزيادة ونقص، وخلاف فى ترتيب الأنبياء والسموات؛ وحديث ثابت عن أنس أتقن وأجود. وهذان الحديثان يدلان على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شقّ جوفه عند الإسراء، وقد تقدم الخبر أنه شقّ جوفه وهو عند ظئره فى حال طفوليته، فيكون على هذا شقّ جوفه مرتين. والله أعلم بالصواب. ونقل عن الشيخ عبد القادر محمد بن أبى الحسن الصعبىّ فى مختصر السيرة له قال: روى أبو داود الطيالسىّ فى مسنده «3» ، قال: حدّثنا حماد بن سلمة قال أخبرنى أبو عمران الجونىّ عن رجل عن عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف هو وخديجة شهرا، فوافق ذلك رمضان، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمع: السلام عليكم، قالت: فظننت أنه فجئه الحقّ «4» ، فقال: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 286 «أبشروا فإن السلام خير» ، ثم رأى يوما آخر جبريل عليه السلام على الشمس جناح له بالمشرق، وجناح له بالمغرب، قال: فبهتّ منه، قالت «1» : فانطلق يريد أهله، فإذا هو بجبريل عليه السلام بينه وبين الباب، قال: «فكلمنى حتى أنست به ثم وعدنى موعدا، فجئت لموعده، واحتبس علىّ جبريل، فلما أراد أن يرجع إذا هو وميكائيل عليهما السلام، فهبط جبريل عليه السلام إلى الأرض، وبقى ميكائيل بين السماء والأرض» ، قال: «فأخذنى فسلقنى لحلاوة القفا «2» ، وشقّ عن بطنى، فأخرج منه ما شاء الله، ثم غسله فى طست من ذهب ثم أعاده، ثم كفانى كما يكفأ الإناء، ثم ختم فى ظهرى حتى وجدت مسّ الخاتم، ثم قال لى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) ولم أقرأ كتابا قط، فأخذ بحلقى حتى أجهشت بالبكاء، ثم قال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ) إلى قوله: (ما لَمْ يَعْلَمْ) » . قال: «فما نسيت بعد، فوزننى برجل فوزنته، ثم وزننى بآخر فوزنته، ثم وزننى بمائة، فقال ميكائيل: تبعته أمته وربّ الكعبة» . قال: «ثم جئت إلى منزلى، فما يلقانى حجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله، حتى دخلت على خديجة فقالت: السلام عليك يا رسول الله» . فيدل هذا الحديث على أنه شقّ جوفه أيضا عند الوحى، فيكون شقّ جوفه ثلاث مرات؛ مرة وهو عند ظئرة، ومرة عند الوحى فى أول النبوة، كما يقتضى هذا الحديث، ومرة ثالثة عند الإسراء؛ كما روى عن أبى ذرّ، ومالك بن صعصعة. والله أعلم. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 287 وإنما أوردنا حديث الطيالسىّ فى هذا الموضع على سبيل الاستطراد، لأن موضعه يصلح أن يكون عند ذكر حديث المبعث، وقد أثبتنا هناك الأحاديث الصحيحة؛ فلنرجع إلى ما نحن فيه من حديث الإسراء. وأمّا ما ورد فى الأحاديث الأخر من الروايات التى يتعين ذكرها: فمنها حديث ابن شهاب وفيه قول كل نبىّ: «مرحبا بالنبىّ الصالح، والأخ الصالح إلا آدم وإبراهيم فقالا له: والابن الصالح» . وفيه من طريق ابن عباس رضى الله عنهما: «ثم عرج بى حتى ظهرت بمستوى أسمع فيه صريف الأقلام» . وعن أنس: «ثم انطلق بى حتى أتيت سدرة المنتهى، فغشيها ألوان لم أدر ما هى» ، قال: «ثم أدخلت الجنة» «1» . وفى حديث مالك بن صعصعة: «فلما جاوزته- يعنى موسى- بكى، فنودى ما يبكيك؟ قال: ربّ، هذا غلام بعثته بعدى، يدخل من أمته الجنة أكثر مما يدخل من أمتى» . وفى حديث أبى هريرة: «وقد رأيتنى فى جماعة من الأنبياء، فحانت الصلاة فأممتهم فقال قائل: يا محمد، هذا مالك خازن النار فسلّم عليه، فالتفت «2» فبدأنى بالسلام» . وفى حديث أبى هريرة: «ثم سار حتى أتى بيت المقدس، فنزل فربط فرسه إلى صخرة وصلى مع الملائكة، فلما قضيت الصلاة، قالوا: يا جبريل من هذا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 288 معك؟، قال: هذا محمد رسول الله خاتم النبيين، قالوا: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قالوا: حيّاه من أخ وخليفة! فنعم الأخ ونعم الخليفة! ثم لقوا أرواح الأنبياء فأثنوا على ربهم» . وذكر كلام كل واحد منهم؛ وهم إبراهيم وموسى وعيسى وداود وسليمان. ثم ذكر كلام النبى صلى الله عليه وسلم، فقال: وإن محمدا صلى الله عليه وسلم أثنى على ربه، فقال: «كلكم أثنى على ربه، وأنا أثنى على ربى؛ الحمد لله الذى أرسلنى رحمة للعالمين، وكافة للناس بشيرا ونذيرا، وأنزل علىّ الفرقان فيه تبيان كل شىء، وجعل أمتى خير أمة، وجعل أمتى أمة وسطا، وجعل أمتى هم الأولون وهم الآخرون، وشرح لى صدرى، ووضع عنى وزرى، ورفع لى ذكرى، وجعلنى فاتحا وخاتما» . فقال إبراهيم: بهذا فضلكم محمد. ثم ذكر أنه عرج به إلى السماء الدنيا، ومن سماء إلى سماء؛ نحو ما تقدم. وفى حديث ابن مسعود: «وانتهى بى إلى سدرة المنتهى، وهى فى السماء السادسة؛ إليها ينتهى ما يعرج به من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهى ما يهبط «1» من فوقها فيقبض [منها «2» ] » . قال تعالى: (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) ، قال: فراش من ذهب. وفى رواية أبى هريرة رضى الله عنه، من طريق الربيع بن أنس: «فقيل لى: هذه سدرة المنتهى، ينتهى إليها كل أحد من أمتك خلا «3» على سبيلك» . وهى السّدرة المنتهى يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغيرّ طعمه، وأنهار من خمر لذّة للشاربين، وأنهار من عسل مصفّى. وهى شجرة يسير الراكب فى ظلها سبعين عاما، وإن ورقة منها مظلّة الخلق. فغشيها نور، وغشيتها الملائكة. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 289 قال: فهو قوله تعالى: (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) ؛ فقال تبارك وتعالى له: «سل» ، فقال: «إنك اتخذت إبراهيم خليلا، وأعطيته ملكا عظيما، وكلّمت موسى تكليما، وأعطيت داود ملكا عظيما، وألنت له الحديد، وسخّرت له الجبال، وأعطيت سليمان ملكا عظيما؛ سخّرت له الجنّ والإنس والشياطين والرياح، وأعطيته ملكا لا ينبغى لأحد من بعده، وعلّمت عيسى التوارة والإنجيل، وجعلته يبرئ الأكمه والأبرص، وأعذته وأمّه من الشيطان الرجيم، فلم يكن له عليهما سبيل» . فقال «1» له ربّه: «قد اتخذتك حبيبا» فهو مكتوب فى التوراة: «محمد حبيب الرحمن، وأرسلتك «2» إلى الناس كافة، وجعلت أمتك [هم «3» ] الأوّلون وهم الآخرون، وجعلت أمتك لا تجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدى ورسولى، وجعلتك أوّل النبّيين خلقا، وآخرهم بعثا، وأعطيتك سبعا من المثانى ولم أعطها نبيّا قبلك، وأعطيتك خواتيم سورة البقرة من كنز تحت عرشى، لم أعطها نبيّا قبلك، وجعلتك فاتحا وخاتما» . وفى الرواية «4» الأخرى، قال: فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا: أعطى الصلوات الخمس، وأعطى خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لا يشرك بالله شيئا من أمّته المقحمات «5» . وقال: (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) ؛ الآيتين. قيل: رأى جبريل فى صورته له ستمائة جناح. وفى حديث شريك: «أنه رأى موسى فى السابعة» قال: بتفضيل الجزء: 16 ¦ الصفحة: 290 كلام الله، قال: «ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلم إلا الله، فقال موسى: لم أظن أن يرفع علىّ أحد» . وقد روى عن أنس أنه صلى الله عليه وسلم صلّى بالأنبياء ببيت المقدس. وعنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينا أنا قاعد ذات يوم إذ دخل علىّ جبريل عليه السلام فوكز بين كتفىّ، فقمت إلى شجرة فيها مثل وكرى الطائر، فقعد فى واحدة، وقعدت فى الأخرى فنمت «1» حتى سدّت الخافقين، ولو شئت لمسست السماء، وأنا أقلّب طرفى، ونظرت جبريل كأنه حلس «2» لا طئ «3» ، فعرفت فضل علمه بالله علىّ؛ وفتح لى باب السماء، ورأيت النور الأعظم، وإذا دونى الحجاب وفرجه الدرّ والياقوت، ثم أوحى الله إلىّ ما شاء أن يوحى» . وذكر البزّار عن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه أنه قال: لمّا أراد الله أن يعلّم رسوله الأذان جاءه جبريل بداية يقال لها البراق، فذهب يركبها، فاستصعبت عليه، فقال لها جبريل: أسكنى، فو الله ما ركبك عبد أكرم على الله من محمد صلى الله عليه وسلم؛ فركبها حتى أتى بها إلى الحجاب الذى يلى الرحمن تعالى، فبينا هو كذلك إذ خرج ملك [من «4» ] الحجاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا جبريل، من هذا؟» . قال: والذى بعثك بالحقّ إنى لأقرب الخلق مكانا، وإنّ هذا الملك ما رأيته منذ خلقت قبل ساعتى هذه، فقال الملك: الله أكبر، الله أكبر، فقيل من وراء الحجاب: صدق عبدى؛ أنا أكبر أنا أكبر، ثم قال الملك: أشهد أن الجزء: 16 ¦ الصفحة: 291 لا إله إلا الله، فقيل من وراء الحجاب: «صدق عبدى، أنا لا إله إلا أنا» . وذكر مثل هذه فى بقيّة الأذان، إلا أنه لم يذكر جوابا عن قوله: حىّ على الصلاة، حىّ على الفلاح، وقال: ثم أخذ الملك بيد محمد فقدّمه، فأمّ أهل السماء فيهم آدم ونوح «1» . قال القاضى عياض بن موسى رحمه الله: ما فى هذا الحديث من ذكر الحجاب فهو فى حقّ المخلوق لا فى حقّ الخالق، فهم المحجوبون، والبارى جل اسمه منزّه عما يحجبه؛ إذ الحجب إنما تحيط بمقدّر محسوس «2» ، ولكنّ حجبه على أبصار خلقه وبصائرهم وإدراكاتهم بما شاء وكيف شاء ومتى شاء، كقوله: (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) «3» . قال: فقوله فى هذا الحديث: «الحجاب» يجب أن يقال: إنه حجاب حجب به من ورائه من ملائكته عن الاطلاع على ما دونه من سلطانه وعظمته، وعجائب ملكوته وجبروته. ويدل عليه من الحديث قول جبريل عن الملك الذى خرج من ورائه: إن هذا الملك ما رأيته منذ خلقت قبل ساعتى هذه، فدلّ [على «4» ] أن هذا الحجاب لم يختص بالذات. ويدل عليه قول كعب فى تفسيره: سدرة المنتهى، قال: إليها ينتهى علم الملائكة، وعندها يجدون أمر الله لا يجاوزها علمهم. قال: وأما قوله «الذى يلى الرحمن» ، فيحمل على حذف المضاف [أى «5» ] الذى يلى عرش الرحمن، أو أمرا ما من عظيم آياته، أو مبادئ حقائق معارفه مما هو أعلم به، كما قال تعالى: (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) «6» أى أهلها. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 292 وقوله: «فقيل من وراء الحجاب، صدق عبدى، أنا أكبر» فظاهره أنه سمع فى هذا الموطن كلام الله ولكن من وراء حجاب، كما قال تعالى: (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) «1» [أى «2» ] وهو لا يراه؛ حجب بصره عن رؤيته، فإن صحّ القول بأنّ محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه فيحتمل أنه فى غير هذا الموطن بعد هذا أو قبله رفع الحجاب عن بصره حتى رآه. والله أعلم بالصواب. ذكر من قال: إن الإسراء كان بالجسد وفى اليقظة قد اختلف العلماء على ثلاث مقالات؛ فذهبت طائفة إلى أنه إسراء بالروح، وأنه رؤيا منام. وذهبت طائفة إلى أنّ الإسراء كان بالجسد يقظة إلى بيت المقدس وإلى السماء بالروح. والذى عليه الأكثرون- وقال به معظم السلف- أنه إسراء بالجسد، وفى اليقظة. قال القاضى عياض بن موسى بن عياض: وهذا هو الحق، وهو قول ابن عبّاس، وجابر، وأنس، وحذيفة، وعمر، وأبو هريرة، ومالك بن صعصعة، وأبى حبّة البدرىّ، وابن مسعود، والضحاك، وسعيد بن جبير، وقتادة، وابن المسيب، وابن شهاب، وابن زيد، والحسن، وإبراهيم، ومسروق، ومجاهد، وعكرمة، وابن جريج؛ وهو قول الطبرىّ، وابن حنبل، وغيرهما، وقد أبطلوا حجج من قال خلاف ذلك بأدلّة يطول علينا شرحها. قال القاضى عياض: والحقّ [من هذا «3» ] والصحيح إن شاء الله أنه إسراء بالجسد والروح فى القصة كلها، وعليه تدل الآية، وصحيح الأخبار والاعتبار- الجزء: 16 ¦ الصفحة: 293 ولا يعدل عن الظاهر والحقيقة إلى التأويل [إلا «1» ] عند الاستحالة، وليس فى الإسراء بجسده وحال يقظته استحالة، إذ لو كان مناما لقال: بروح عبده، ولم يقل: (بِعَبْدِهِ) - وقوله «2» : (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) . ولو كان مناما لما كانت فيه آية ولا معجزة، ولما استبعده الكفّار ولا كذّبوه فيه، ولا ارتدّ به ضعفاء من أسلم وافتتنوا به، إذ مثل هذا من المنامات لا ينكر، بل لم يكن ذلك منهم إلا وقد علموا أنّ خبره إنما كان عن جسمه وحال يقظته إلى ما ذكر فى الحديث من ذكر صلاته بالأنبياء ببيت المقدس فى رواية أنس، أو فى السماء على ما روى غيره، وذكر مجىء جبريل له بالبراق، وخبر المعراج واستفتاح السماء، فيقال «3» : ومن معك؟ فيقول: محمد، ولقائه الأنبياء فيها، وخبرهم معه، وترحيبهم به، وشأنه فى فرض الصلاة ومراجعته مع موسى فى ذلك، وفى بعض هذه الأخبار: «فأخذ- يعنى جبريل- بيدى، فعرج بى إلى السماء» إلى قوله: «ثم عرج بى حتى ظهرت بمستوى أسمع فيه صوت «4» الأقلام؛ وأنه وصل إلى سدرة المنتهى، وأنه دخل الجنة ورأى فيها ما ذكره» . قال ابن عباس رضى الله عنهما: هى رؤيا عين رآها النبى صلى الله عليه وسلم لا رؤيا منام، والآى فى ذلك كثيرة، والأدلة واضحة، فلا نطوّل بسردها، وفيما أوردناه منها فيما قدّمنا ذكره كفاية. والله أعلم. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 294 ذكر ما ورد فى رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم ربّه تبارك وتعالى، ومناجاته له، وكلامه ودنوّه وقربه من ربّه عزّ وجلّ، ومن جوّز ذلك ومن منعه، وما قيل فى مشكل حديث الدّنوّ والقرب أما الرؤية فقد اختلف السلف فى رؤيته صلى الله عليه وسلم لربّه عزّ وجل، فأنكرته عائشة. روى عن مسروق أنه قال لعائشة رضى الله عنها: يا أمّ المؤمنين، هل رأى محمد ربّه؟ فقالت: لقد قف «1» شعرى مما قلت؛ ثلاث من حدّثك بهنّ فقد كذب، [من حدّثك أن محمدا رأى ربّه فقد كذب «2» ] ثم قرأت (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) «3» الآية [ثم ذكر الحديث «4» ] . وقالت جماعة بقول عائشة، وهو المشهور عن ابن مسعود. ومثله عن أبى هريرة: إنما رأى جبريل، واختلف عنه. وقال بإنكار هذا وامتناع رؤيته فى الدنيا [جماعة «5» ] من المحدّثين والفقهاء والمتكلّمين. وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنه رآه بعينه. وروى عطاء عنه: رآه بقلبه، وعن أبى العالية [عنه «6» ] رآه بفؤاده مرتين. وذكر ابن إسحاق: أن ابن عمر رضى الله عنهما أرسل إلى ابن عباس رضى الله عنهما يسأله: هل رأى محمد ربّه؟ قال: نعم، والأشهر [عنه «7» ] أنه رأى ربه بعينيه. وقال: إن الله اختص موسى بالكلام، وإبراهيم بالخلّة، ومحمدا بالرؤية. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 295 وحجته قوله: (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى. أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى. وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) . وقال الماوردىّ: قيل إنّ الله تعالى قسم كلامه ورؤيته بين موسى ومحمد، فرآه محمّد مرتين، وكلّمه موسى مرتين. وحكى أبو الفتح الرازىّ، وأبو الليث السّمرقندىّ ذكرها «1» عن كعب. وروى عبد الله بن الحارث، قال: اجتمع ابن عباس وكعب، فقال ابن عباس: أمّا نحن بنى هاشم فنقول: إنّ محمدا قد رأى ربه مرتين، فكبر كعب حتى جاوبته الجبال، وقال: إنّ الله قسم رؤيته وكلامه بين موسى ومحمد، فكلمه موسى، ورآه محمد بقلبه. وحكى السّمرقندىّ عن محمد بن كعب القرظىّ، وربيع بن أنس: أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت ربى» - وذكر كلمة- فقال: «يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى» . الحديث. وحكى عبد الرزاق أن الحسن كان يحلف بالله لقد رأى محمد ربه، وحكاه أبو عمر الطّلمنكىّ عن عكرمة، وحكى بعض المتكلمين هذا المذهب عن ابن مسعود، وحكى ابن إسحاق أن مروان سأل أبا هريرة: هل رأى محمد ربه؟ فقال: نعم. وحكى النقّاش عن أحمد بن حنبل أنه قال: أنا أقول بحديث ابن عباس، بعينه رآه رآه، حتى انقطع نفس أحمد. وقد اختلف فى تأويل الآية عن ابن عباس وعكرمة والحسن وابن مسعود، فحكى عن ابن مسعود، وعكرمة: رآه بقلبه. وعن الحسن وابن مسعود: رأى جبريل. وعن ابن عطاء فى قوله تعالى: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) «2» ، قال: شرح صدره للرؤية، وشرح صدر موسى للكلام. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 296 وقال أبو الحسن على بن إسماعيل الأشعرىّ وجماعة من أصحابه: إنه رأى الله ببصره وعينى «1» رأسه وقال: كل آية أوتيها نبىّ من الأنبياء عليهم السلام فقد أوتى مثلها نبيّنا، وخص من بينهم بتفضيل الرؤية. قال القاضى أبو الفضل عياض بن موسى رحمه الله: والحق الذى لا امتراء فيه أن رؤيته تعالى فى الدنيا جائزة عقلا، وليس فى العقل ما يحيلها، والدليل على جوازها فى الدنيا سؤال موسى عليه السلام لها، ومحال أن يجهل نبىّ ما يجوز على الله تعالى وما لا يجوز عليه، بل لم يسأل إلا جائزا غير مستحيل، ولكن وقوعه ومشاهدته من الغيب الذى لا يعلمه إلا من علّمه الله، فقال له الله تعالى: (لَنْ تَرانِي) أى لن تطيق ولا تحتمل رؤيتى، ثم ضرب له مثالا بما هو أقوى من نبيّه موسى وأثبت وهو الجبل. قال: وكل هذا ليس فيه ما يحيل رؤيته فى الدنيا، بل فيه جوازها على الجملة، وليس فى الشرع دليل قاطع على استحالتها ولا امتناعها، إذ كل موجود فرؤيته جائزة غير مستحيلة. قال: ولا حجة لمن يستدلّ على منعها بقوله: (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) لاختلاف التأويلات فى الآية، وقد استدل بعضهم بهذه الآية نفسها على جواز الرؤية، وعدم استحالتها على الجملة. وقد قيل: (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) ، أى لا تحيط به، وهو قول ابن عباس، وقد قيل: (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) . وإنما يدركه المبصرون. قال: وكل هذه التأويلات لا تقتضى منع الرؤية ولا استحالتها، وحيث تتطرّق التأويلات وتتسلط الاحتمالات، فليس للقطع سبيل، وكذلك وجوب الرؤية لنبينا صلى الله عليه وسلم، والقول بأنه رآه بعينه. فليس فيه قاطع أيضا ولا نصّ، إذ المعوّل فيه على آيتى النجم، والتنازع فيهما مأثور، والاحتمال لهما ممكن، ولا أثر قاطع متواتر عن النبىّ صلى الله عليه وسلم بذلك. والله تعالى أعلم بالصواب. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 297 وأما المناجاة والكلام والقرب والدنوّ وما جاء من الكلام على مشكل هذا الحديث؛ فقد اختلف فى الوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء بقوله: (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) ، وهل كان ذلك الوحى بواسطة أو بغير واسطة؟ فأكثر المفسرين على أن الموحى الله إلى جبريل، وجبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. [فذكر عن «1» ] جعفر بن محمد الصادق، قال: أوحى الله إليه بلا واسطة. ونحوه عن الواسطى، وإليه ذهب بعض المتكلمين وحكوه عن ابن مسعود وابن عباس، وأنكره آخرون. وحكى النقاش عن ابن عباس عنه عليه السلام فى قوله تعالى: (دَنا فَتَدَلَّى) ، قال: «فارقنى جبريل، وانقطعت الأصوات عنى فسمعت كلام ربى، وهو يقول: ليهدأ روعك يا محمد، ادن ادن» . وقد تقدم ذكر حديث الأذان، وقول الملك: الله أكبر الله أكبر، فقيل من وراء الحجاب: صدق عبدى، أنا أكبر، أنا أكبر. وقد احتجوا بقوله تعالى: (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) «2» ، فقالوا: هى ثلاثة أقسام؛ من وراء حجاب كتكليم موسى، وبإرسال الملائكة كحال جميع الأنبياء، وأكثر أحوال نبينا صلى الله عليه وسلم، الثالث قوله: (وَحْياً) . قالوا: ولم يبق من تقسيم صور الكلام إلا المشافهة مع المشاهدة، وقد قيل: الوحى هنا ما يلقيه فى قلب النبىّ صلى الله عليه وسلم دون واسطة، وكلام الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم ومن اختصه من أنبيائه جائز غير ممتنع. وأما قوله تعالى: (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى. فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) فأكثر المفسرين أن الدنوّ والتدلّى منقسم ما بين محمد وجبريل عليهما السلام، أو مختص الجزء: 16 ¦ الصفحة: 298 بأحدهما من الاخر، أو من سدرة المنتهى. وقال ابن عباس: هو محمد دنا فتدلى من من ربه. وقيل: معنى دنا قرب، وتدلّى: زاد فى الفرب، وقيل: هما بمعنى واحد أى قرب. وحكى مكىّ والماوردىّ عن ابن عباس، هو الربّ دنا من محمد فتدلى إليه، أى أمره وحكمه. وحكى النقاش عن الحسن، قال: دنا من عبده محمد صلى الله عليه وسلم، فقرب منه فأراه ما شاء أن يريه من قدرته وعظمته. قال وقال ابن عباس: هو مقدّم ومؤخر، تدلّى الرفرف «1» لمحمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، فجلس عليه، ثم رفع فدنا من ربه. وفى الصحيح عن أنس بن مالك: «عرج بى جبريل إلى سدرة المنتهى، ودنا الجبار ربّ العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إليه بما شاء، وأوحى إليه خمسين صلاة» . الحديث. وعن محمد بن كعب: هو محمد دنا من ربه، فكان قاب قوسين. وقال جعفر ابن محمد: أدناه ربه منه، حتى كان منه كقاب قوسين، قال جعفر: والدنوّ من الله لا حدّ له، ومن العباد بالحدود. وقال أيضا: انقطعت الكيفية عن الدنو، ألا ترى كيف حجب جبريل عن دنوّه، ودنا محمد إلى ما أودع قلبه من المعرفة والإيمان فتدلّى بسكون قلبه إلى ما أدناه، وزال عن قلبه الشك والارتياب! وقد تكلموا على مشكل هذا الحديث، فقال القاضى عياض رحمه الله: اعلم أن ما وقع من إضافة الدنوّ والقرب هنا من الله وإلى الله فليس بدنوّ مكان ولا قرب مدى، بل كما ذكرنا «2» عن جعفر الصادق ليس بدنوّ حدّ، وإنما دنوّ النبىّ صلى الله عليه وسلم من ربه، وقربه منه إبانة عظيم منزلته، وتشريف رتبته، وإشراق أنوار معرفته، ومشاهدة أسرار غيبه وقدرته، ومن الله تعالى له مسرة وتأنيس، وبسط الجزء: 16 ¦ الصفحة: 299 وإكرام، ويتأوّل فيه ما يتأوّل فى قوله: «ينزل ربنا إلى سماء الدنيا» على أحد الوجوه، نزول إفضال وإجمال، وقبول وإحسان. وقال الواسطى: من توهم أنه بنفسه دنا جعل ثمّ مسافة، بل كل ما دنا بنفسه من الحق تدلّى بعدا، يعنى عن درك حقيقته، إذ لا دنوّ للحقّ ولا بعد. وقوله: (قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) ، فمن جعل الضمير عائدا إلى الله لا إلى جبريل على هذا كان عبارة عن نهاية القرب، ولطف المحلّ، وإيضاح المعرفة، والإشراف على الحقيقة من محمد صلى الله عليه وسلم، وعبارة عن إجابة الرغبة، وقضاء المطالب، وإظهار التحفّى، وإنافة المنزلة والمرتبة من الله له، ويتأوّل [فيه «1» ] ما يتأوّل فى قوله: «من تقرّب منى شبرا تقرّبت منه ذراعا، ومن أتانى يمشى أتيته هرولة» ، قرب بالإجابة والقبول، وإتيان بالإحسان وتعجيل المأمول. وقد أخذ الكلام فى هذا المعنى حقّه، فلنذكر ما كان بعد الإسراء [من «2» ] الأخبار. ذكر ما كان بعد الإسراء من إنكار قريش لذلك وما أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، من وصفه لهم البيت المقدّس، وإخباره لهم بخبر عيرهم، وارتداد من ارتدّ روى الشيخ الإمام أبو بكر أحمد البيهقى بسنده عن شدّاد بن أوس رضى الله عنه، قال: قلنا يا رسول الله كيف أسرى بك؟ فذكر نحو ما تقدّم من خبر الإسراء، وفيه زيادة ونقص، قال: وفيه أن جبريل عليه السلام أنزله فصلى بيثرب، ثم صلى الجزء: 16 ¦ الصفحة: 300 بمدين عند شجرة موسى عليه السلام، ثم صلى ببيت لحم حيث ولد عيسى بن مريم عليه السلام، ثم صلى فى المسجد الأقصى، وأنه صلى الله عليه وسلم مرّ بعير لقريش بمكان كذا وكذا، قد أضلوا بعيرا قد جمعه فلان، قال: «فسلمت عليهم فقال بعضهم هذا صوت محمد» . قال: «ثم أتيت أصحابى قبل الصبح بمكة، فأتانى أبو بكر فقال: يا رسول الله، أين كنت الليلة فقد التمستك فى مظانّك؟ فقلت «1» : علمت أنّى أتيت بيت المقدس الليلة؟. فقال: يا رسول الله، مسيرة شهر! فصفه لى، قال: «ففتح لى صراط كأنى أنظر إليه، لا يسألنى عن شىء إلا أنبأته عنه» . فقال: أشهد أنك رسول الله حقا، فقال المشركون: انظروا إلى ابن أبى كبشة يزعم أنه أتى بيت المقدس الليلة، فقال: «إن من آية ما أقول لكم أنى مررت بعير لكم بمكان كذا وكذا، ينزلون بكذا وكذا، ويأتونكم يوم كذا وكذا، يقدمهم جمل آدم «2» عليه مسح «3» أسود، وغرارتان سوداوان» وإنهم أشرفوا ينظرون. فأقبلت العير نصف النهار على ما وصف لهم صلى الله عليه وسلم. وفى رواية يونس بن بكير فى زيادة المغازى: أنه صلى الله عليه وسلم لما أخبر قومه بالرفقة والعلامة التى فى العير، قالوا: متى يجىء؟ قال: «يوم الأربعاء» . فلما كان ذلك اليوم أشرفت قريش ينظرون، وقد ولى النهار ولم تجئ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزيد له فى النهار ساعة، وحبست عليه الشمس. وفى صحيح مسلم عن أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد رأيتنى فى الحجر وقريش تسألنى عن مسراى، فسألونى عن أشياء الجزء: 16 ¦ الصفحة: 301 من بيت المقدس، لم أثبتها «1» فكربت كربا ما كربت مثله قطّ، فرفعه الله لى أنظر إليه ما يسألونى عن شىء إلا أنبأتهم به» . وعن عائشة رضى الله عنها قالت: لما أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى أصبح الناس يتحدّثون بذلك، فارتد ناس ممن آمنوا به وصدّقوه، وسعوا إلى أبى بكر فقالوا: هل لك فى صاحبك؟ يزعم أنه أسرى به الليلة إلى بيت المقدس، وجاء قبل الصبح! قال: نعم، إنى لأصدّقه فيما هو أبعد من ذلك؛ أصدقه بخبر السماء فى غدوة أو روحة، فلذلك سمى أبو بكر رضى الله عنه الصدّيق. ذكر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قبائل العرب فى المواسم قال محمد بن عمر بن واقد بسند يرفعه إلى غير واحد، قالوا: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث سنين من أوّل نبوّته يدعو مستخفيا، ثم أعلن فى الرابعة، فدعا الناس إلى الإسلام عشر سنين؛ يوافى المواسم كل عام يتبع الحاجّ فى منازلهم بعكاظ ومجنّة، وذى المجاز «2» يدعوهم؛ حتى بلّغ رسالة ربه تعالى، وأبو لهب يمشى وراءه يقول: لا تطيعوه فإنه صابئ كاذب، فيقولون: أسرتك وعشيرتك أعلم بك حيث لم يتبعوك، فيقول: «اللهم لو شئت لم يكونوا هكذا» ، قال الواقدىّ: فكان من سمّى لنا من القبائل الذين أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعاهم وعرض نفسه عليهم: بنو عامر بن صعصعة، ومحارب بن خصفة «3» ، وفزارة، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 302 وغسّان «1» ، ومرّة، وحنيفة، وسليم، وعبس، وبنو نصر، وبنو البكّاء، وكندة، وكلب «2» ، والحارث بن كعب، وعذرة، والحضارمة، فلم يستجب منهم أحد. قال محمد بن إسحاق: حدّثنى حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس قال: سمعت ربيعة بن عبّاد يحدّث «3» أبى قال: إنّى لغلام شابّ مع أبى بمنى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقف على منازل القبائل من العرب، فيقول: «يا بنى فلان، إنى رسول الله إليكم، يأمركم أن تعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئا، وأن تخلعوا ما يعبد من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا بى وتصدّقونى وتمنعونى حتى أبين عن الله ما بعثنى به» ، قال: وخلفه رجل أحول وضىء له غديرتان، عليه حلّة عدنيّة، فإذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله وما دعا إليه قال ذلك الرجل: يا بنى فلان؛ إن هذا إنما يدعوكم إلى أن تسلخوا اللات والعزّى من أعناقكم، وحلفاءكم من الجنّ من بنى مالك بن أقيش؛ «4» إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه، قال: فقلت لأبى: يا أبت من هذا الرجل [الذى «5» ] يتبعه ويردّ عليه ما يقول؟ قال: هذا عمه عبد العزى بن عبد المطلب، أبو لهب. قال ابن إسحاق: حدّثنى الزهرىّ أنه صلّى الله عليه وسلّم أتى بنى عامر ابن صعصعة فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، فقال رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس: والله لو أنى أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 303 ثم قال له: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر بعدك؟ قال: الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء. فقال له: أفنهدف «1» نحورنا [للعرب دونك «2» ] ؛ فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا! لا حاجة لنا بأمرك، فأبوا عليه، فلما صدر الناس رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم، قد كانت أدركته السنّ، حتى لا يقدر أن يوافى معهم المواسم، فكانوا إذا رجعوا إليه حدّثوه بما يكون فى ذلك الموسم، فلما قدموا عليه فى ذلك العام، سألهم عما كان فى موسمهم، فقالوا: جاءنا فتى من قريش؛ ثم أحد بنى عبد المطلب، يزعم أنه نبىّ يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه، ونخرج به إلى بلادنا، قال: فوضع الشيخ يده على رأسه، ثم قال: يا بنى عامر، هل لها من تلاف! هل لذناباها من مطلب «3» ! والذى نفس فلان بيده، ما تقوّلها إسماعيلىّ قط، وإنها لحق، فأين رأيكم كان عنكم. قال: وحدّثنى عاصم بن عمر «4» عن قتادة الأنصارى عن أشياخ من قومه قالوا: قدم سويد بن الصامت أخو بنى عمرو بن عوف [مكة «5» ] حاجا أو معتمرا؛ وكان سويد إنما يسميه قومه فيهم: الكامل لجلده وشرفه ونسبه وشعره، فتصدّى له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به، فدعاه إلى الله وإلى الإسلام، فقال له سويد: فلعل الذى معك مثل الذى معى، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما الذى معك؟ قال: مجلة «6» لقمان (يعنى حكمة لقمان) فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اعرضها علىّ؛ فعرضها عليه، فقال: «إن هذا لكلام حسن، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 304 لكن الذى معى أفضل من هذا؛ قرآن أنزله الله علىّ هو هدى ونور» . فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، ودعاه إلى الإسلام فلم يبعد منه، وقال: إنّ هذا لقول حسن؛ ثم انصرف عنه، فقدم المدينة على قومه، فلم يلبث أن قتله الخزرج، قال: فإن كان رجال من قومه ليقولون: إنا لنراه قد قتل وهو مسلم، وكان قتله قبل بعاث «1» . قال ابن إسحاق أيضا: وحدّثنى الحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد ابن معاذ عن محمود بن لبيد، قال: لما قدم أبو الحيسر أنس بن رافع مكة ومعه فتية من بنى عبد الأشهل، فيهم إياس بن معاذ، يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من بنى الخزرج، سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأتاهم فجلس إليهم فقال: «هل لكم فى خير مما جئتم له» ؟، فقالوا: وما ذلك؟ قال: «أنا رسول الله، بعثنى إلى العباد أدعوهم إلى أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا، وأنزل علىّ الكتاب» . قال: ثم ذكر لهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن، فقال لهم إياس بن معاذ- وكان غلاما حدثا-: أى قوم، هذا والله خير مما جئتم له، فأخذ أبو الحيسر حفنة من [تراب «2» ] البطحاء، فضرب بها وجه إياس بن معاذ؛ وقال: دعنا منك، فلعمرى لقد جئنا لغير هذا، قال: فصمت إياس، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانصرفوا إلى المدينة، فكان وقعة بعاث بين الأوس والخزرج، ثم لم يلبث إياس ابن معاذ أن هلك. قال محمود بن لبيد: فأخبرنى من حضره من قومه عند موته أنهم لم يزالوا يسمعونه يهلل الله ويكبره، ويحمده ويسبحه حتى مات، فما كانوا يشكّون أنه قد مات مسلما، لقد كان استشعر الإسلام فى ذلك المجلس حين سمع من رسول الله ما سمع. والله أعلم. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 305 ذكر خبر مفروق بن عمرو وأصحابه وما أجابوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم عند دعائه قبائل العرب روى الشيخ أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقى بسنده عن عبد الله بن عباس، قال: حدّثنى «1» علىّ بن أبى طالب رضى الله عنهم من فيه، قال: لما أمر الله تبارك وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج وأنا معه وأبو بكر رضى الله عنه، فدفعنا إلى مجلس من مجالس العرب، فتقدّم أبو بكر، وكان مقدّما فى كل خير، وكان رجلا نسابة، فسلم وقال: ممن القوم؟ قالوا من ربيعة، قال: وأى ربيعة أنتم؟ من هامها «2» أم من لهازمها؟ فقالوا: بل من الهامة العظمى، [فقال أبو بكر: وأىّ هامتها العظمى «3» ] أنتم؟ قالوا: من ذهل الأكبر، قال: منكم عوف الذى يقال «4» [له] : «لا حرّ بوادى عوف» ؟ قالوا: لا، قال: فمنكم جسّاس بن مرّة، حامى الذمار، ومانع الجار؟ قالوا: لا، قال: فمنكم بسطام بن قيس، أبو اللواء، ومنتهى الأحياء؟ قالوا: لا، قال: فمنكم الحوفزان «5» قاتل الملوك، وسالبها أنفسها؟ قالوا: لا، قال: فمنكم المزدلف «6» صاحب العمامة الفردة، قالوا: لا؛ قال: فمنكم أخوال الملوك من كندة؟ قالوا: لا. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 306 قال فمنكم أصهار الملوك من لخم؟ قالوا: لا. قال أبو بكر: فلستم من ذهل الأكبر، أنتم من ذهل الأصغر. قال: فقام إليه غلام من بنى شيبان يقال له دغفل حين بقل «1» وجهه، فقال: إنّ على سائلنا أن نسأله ... والعبء لا نعرفه أو نحمله يا هذا، إنك قد سألتنا فأخبرناك، ولم نكتمك شيئا، فمن الرجل؟ قال أبو بكر: أنا من قريش، فقال الفتى: بخ بخ! أهل الشرف والرياسة، فمن أىّ القرشيين أنت؟ قال: من ولد تيم بن مرة. فقال الفتى: أمكنت والله الرّامى من سواء الثّغرة، أمنكم قصىّ الذى جمع القبائل من فهر؟ فكان يدعى فى قريش مجمعا؟ قال: لا، قال: فمنكم هاشم الذى هشم الثريد لقومه، ورجال مكة مسنتون عجاف «2» ؟ قال: لا، قال: فمنكم شيبة الحمد عبد المطلب، مطعم طير السماء، الذى كأنّ وجهه القمر يضىء فى الليلة الداجية؟ قال: لا، قال: فمن أهل الإفاضة بالناس أنت؟ قال: لا، قال: فمن أهل الحجابة أنت؟ قال: لا، قال: فمن أهل السقاية أنت؟ قال: لا، قال: فمن أهل الندوة أنت؟ قال: لا، قال: لا، قال: فمن أهل الرّفادة أنت؟ قال: لا، واجتذب أبو بكر زمام ناقته راجعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الغلام: صادف درّ السيل درءا «3» يدفعه ... يهيضه حينا وحينا يصرعه الجزء: 16 ¦ الصفحة: 307 أما والله لو شئت لأخبرتك من قريش، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال علىّ: فقلت: يا أبا بكر؛ لقد وقعت من الأعراب على باقعة «1» ، قال: أجل يا أبا الحسن، «ما من طامّة إلا وفوقها طامّة» ، و «البلاء موكل بالمنطق» . قال: ثم دفعنا إلى مجلس آخر عليهم السكينة والوقار، فتقدّم أبو بكر فسلم وقال: ممن القوم؟ قالوا: من شيبان بن ثعلبة، فالتفت أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: بأبى وأمى هؤلاء غرر الناس! وفيهم مفروق بن عمرو، وهانئ بن قبيصة، والمثنى بن حارثة، والنعمان بن شريك، وكان مفروق قد غلبهم جمالا ولسانا، وكانت له غديرتان تسقطان على تربيتيه «2» ، وكان أدنى القوم مجلسا، فقال أبو بكر: كيف العدد فيكم؟ فقال مفروق: إنا لنزيد على ألف، ولن تغلب ألف من قلة، فقال أبو بكر: فكيف المنعة فيكم؟ قال مفروق: علينا الجهد، ولكل قوم جدّ؛ فقال أبو بكر: فكيف الحرب بينكم وبين عدوكم؟ فقال مفروق: إنا لأشدّ ما نكون غضبا حين نلقى، وإنا لأشدّ ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد، والسلاح على اللّقاح «3» ، والنصر من عند الله، يديلنا مرة، ويديل علينا أخرى، لعلّك أخو قريش؟ فقال أبو بكر: قد بلغكم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا هو ذا، قال مفروق: بلغنا أنه يذكر ذلك، وإلام تدعو يا أخا قريش؟ فتقدّم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس، وقام أبو بكر يظلّه بثوبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 308 وأن محمدا عبده ورسوله، وإلى أن تأوونى وتنصرونى، فإنّ قريشا قد ظاهرت على أمر الله، وكذبت رسله، واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو الغنىّ الحميد» . فقال مفروق بن عمرو: وإلام تدعونا يا أخا قريش؟ فو الله ما سمعت كلاما أحسن من هذا، فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) إلى قوله: (وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) «1» ، فقال مفروق: وإلام تدعونا يا أخا قريش؟ فو الله ما هذا من كلام أهل الأرض، قال: فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) ، إلى قوله: (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ، «2» فقال مفروق: دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ولقد أفك «3» قوم كذبوك وظاهروا «4» عليك- وكأنه أحب أن يشركه فى الكلام هانئ بن قبيصة فقال: وهذا هانئ شيخنا وصاحب ديننا. قال هانئ: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، وإنى أرى إن تركنا ديننا واتبعناك على دينك بمجلس جلسته إلينا ليس له أوّل ولا آخر، إنه زلل فى الرأى، وقلة نظر فى العاقبة، وإنما تكون الزلّة مع العجلة، ومن ورائنا قوم نكره أن نعقد عليهم عقدا، ولكن ترجع ونرجع، وتنظر وننظر فى العاقبة، وكأنه أحب أن يشركه المثنى بن حارثة، فقال: وهذا المثنّى شيخنا وصاحب حربنا، فقال المثنّى: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، والجواب فيه جواب هانئ بن قبيصة فى تركنا ديننا، ومشايعتك على دينك، وإنا إنما نزلنا بين صيرين «5» : اليمامة والسّمامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما هذان الصّيران» ؟. فقال: أنهار كسرى ومياه العرب، فأمّا ما كان من أنهار كسرى؛ فذنب صاحبه غير مغفور، وعذره الجزء: 16 ¦ الصفحة: 309 غير مقبول، وأما ما كان مما يلى مياه العرب، فذنب صاحبه مغفور، وعذره مقبول، وإنا إنما نزلنا على عهد أخذه علينا؛ أنا لا نحدث حدثا، ولا نأوى محدثا، فإنى أرى أن هذا الأمر الذى تدعونا إليه يا أخا قريش مما يكره الملوك، فإن أحببت أن نأويك وننصرك مما يلى مياه العرب فعلنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أسأتم فى الرد إذ أفصحتم بالصدق، وإن دين الله لن ينصره إلّا من حاطه من جميع جوانبه. أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلا حتى يورثّكم الله أرضهم وديارهم وأموالهم ويفرشكم نساءهم، أتسبّحون الله وتقدّسونه» ؟ فقال النعمان بن شريك: اللهم فلك ذاك، قال: فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً. وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً) «1» ) ، ثم نهض قابضا على يد أبى بكر وهو يقول: «يا أبا بكر، أيّة أخلاق فى الجاهلية ما أشرفها! بها يدفع الله عز وجل بأس بعضهم من بعض، وبها يتحاجزون فيما بينهم» ، قال: فدفعنا إلى مجلس الأوس والخزرج، فما نهضنا حتى بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سرّ بما كان من أبى بكر، ومعرفته بأنسابهم. ذكر بيعة العقبة الأولى قال محمد بن إسحاق: فلما أراد الله تعالى إظهار دينه، وإعزاز نبيه، وإنجاز موعده له خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم [فى «2» ] الموسم الذى لقى فيه الأنصار «3» ، فعرض نفسه على قبائل العرب كما يصنع فى كل موسم، فبينما هو عند العقبة لقى رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا، فقال لهم: «من أنتم» ؟ قالوا: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 310 نفر من الخزرج، قال: «أمن موالى يهود» ؟ قالوا: نعم، قال «1» : «أفلا تجلسون أكلمكم» ؟ قالوا: بلى، فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله وعرض [عليهم «2» ] الإسلام، وتلا عليهم القرآن، قال: وكان يهود معهم فى بلادهم، وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا هم أهل شرك وأوثان، وكانوا قد غزوهم ببلادهم؛ فكانوا إذا كان بينهم شىء قالوا لهم: إن نبيّا مبعوث الآن قد أظل زمانه نتّبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر، ودعاهم إلى الله، قال بعضهم لبعض: يا قوم، تعلّموا والله أنه للنّبىّ الذى توعّد «3» به يهود، فلا تسبقنّكم إليه، فأجابوه فيما دعاهم إليه، بأن صدّقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، وقالوا: إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشرّ ما بينهم، وعسى أن يجمعهم الله بك، فتقدم عليهم فتدعوهم إلى أمرك، وتعرض عليهم الذى أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليه فلا رجل أعزّ منك. ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، راجعين إلى بلادهم، وقد آمنوا وصدّقوا. قال محمد بن سعد فى طبقاته الكبرى «4» : فاختلف علينا فى أوّل من أسلم من الأنصار وأجاب. فذكروا الرجل بعينه، وذكروا الرجلين، وذكروا أنه لم يكن أحد أوّل من الستة. وذكرهم. وقال محمد بن عمر بن واقد: هذا عندنا أثبت ما سمعنا فيهم، وهو المجمع عليه، وهم من بنى النجّار: أسعد بن زرارة بن عدس، وعوف بن الحارث [وهو «5» ] ابن عفراء. ومن بنى زريق: رافع بن مالك. ومن بنى سلمة بن سعد: قطبة الجزء: 16 ¦ الصفحة: 311 ابن عامر بن حديدة. ومن بنى حرام بن كعب: عقبة بن عامر بن نابى. ومن بنى عبيد بن عدى بن ساعدة: جابر بن عبد الله؛ ولم يذكر ابن إسحاق غيرهم. قال: ثم قدموا المدينة فدعوا قومهم إلى الإسلام، فأسلم من أسلم، ولم تبق دار من دور الأنصار إلا فيها ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الواقدى: وأوّل مسجد قرئ به القرآن بالمدينة مسجد بنى زريق. والله أعلم. ذكر بيعة العقبة الثانية (وقد ترجم عليها بعضهم بالأولى) قال: فلما كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلا. قال محمد بن سعد: ليس [فيهم «1» ] عندنا خلاف، فلقوه بالعقبة، وهى العقبة الأولى، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء، وذلك قبل أن يفرض عليهم الحرب، وكان من هؤلاء خمسة ممّن حضر البيعة الأولى من الستة المجمع عليهم، وهم: أسعد بن زرارة، وعوف بن الحارث، ورافع بن مالك، وعقبة بن عامر، وقطبة بن عامر بن حديدة، ومنهم من وقع الاختلاف فيه: هل شهد البيعة الأولى أو لم يشهدها؟ وهم ستة نفر: معاذ بن الحارث [وهو «2» ] ابن عفراء، أخو عوف، وذكوان بن [عبد «3» ] قيس بن خلدة، وعبادة بن الصامت ابن قيس، وأبو عبد الرحمن يزيد بن ثعلبة، وأبو الهيثم بن التيهان، واسمه مالك، وعويم بن ساعدة، وهما من الأوس. وممن لم يشهد البيعة الأولى بلا خلاف: العباس بن عبادة بن نضلة. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 312 روى محمد بن إسحاق عن عبادة بن الصامت قال: كنت ممن حضر العقبة الأولى، وكنا اثنى عشر رجلا، فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء- وذلك قبل أن تفترض الحرب- على ألّا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزنى، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتى ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه فى معروف، فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شيئا فأخذتم بحدّه فى الدنيا فهو كفّارة له، وإن سترتم عليه إلى يوم القيامة فأمركم إلى الله؛ إن شاء عذب، وإن شاء غفر. قال: فلما انصرف عنه القوم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب ابن عمير بن هاشم بن عبد مناف، وأمره أن يقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفقههم فى الدين، فكان يسمى المقرئ بالمدينة، وكان منزله على أسعد بن زرارة. قال محمد بن سعد: ثم انصرفوا إلى المدينة، فأظهر الله الإسلام، وكان أسعد ابن زرارة يجمّع «1» بالمدينة بمن أسلم، وروى أن مصعب كان يجمّع بهم. والله أعلم. ذكر بيعة العقبة الثالثة وهم السبعون (وترجم عليها ابن سعد بالثانية) قال محمد بن سعد فى طبقاته الكبرى، عن محمد بن عمر بن واقد، بإسناد إلى عبادة بن الصامت، وسفيان بن أبى العوجاء، وقتادة، ويزيد بن رومان، قال الواقدى: دخل حديث بعضهم فى حديث بعض، قالوا: لما حضر الحج مشى أصحاب النبىّ صلى الله عليه وسلم الذين أسلموا بعضهم إلى بعض يتواعدون المسير إلى الحج، وموافاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإسلام يومئذ فاش بالمدينة، فخرجوا وهم سبعون يزيدون رجلا أو رجلين فى خمر «2» الأوس والخزرج، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 313 وهم خمسمائة حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فسلّموا عليه، ثم وعدهم منى، وسط أيام التشريق ليلة النّفر الأوّل؛ إذا هدأت الرّجل [أن» ] يوافوه فى الشّعب الأيمن إذا انحدروا من منى بأسفل «2» العقبة، وأمرهم ألّا ينبهوا نائما، ولا ينتظروا غائبا. قال: فخرج القوم بعد هدءة يتسلّلون، الرجل والرجلان، وقد سبقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الموضع، معه العباس بن عبد المطلب، ليس معه غيره. وقال محمد بن إسحاق: إنهم سبقوه إلى الشّعب وانتظروه، وهم ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان: نسيبة بنت كعب، وأسماء بنت عمرو بن عدىّ، حتى أقبل ومعه عمّه العباس. قال ابن سعد: فكان أوّل من طلع على رسول الله صلى الله عليه وسلم: رافع ابن مالك الزّرقىّ، ثم توافى السبعون، ومعهم امرأتان، فكان أوّل من تكلم العباس ابن عبد المطلب، فقال: يا معشر الخزرج، إنكم قد دعوتم محمدا إلى ما دعوتموه إليه، ومحمد من أعزّ الناس فى عشيرته، يمنعه والله منا من كان على قوله، ومن لم يكن منا على قوله منعه للحسب والشرف، وقد أبى محمد الناس كلّهم غيركم «3» ، فإن كنتم أهل قوّة وجلد وبصر بالحرب؛ واستقلال بعداوة العرب قاطبة، ترميكم عن قوس واحدة، فارتئوا رأيكم «4» ، ولا تفرّقوا إلا عن ملأ منكم واجتماع، فإنّ أحسن الحديث أصدقه. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 314 وقال ابن إسحاق: «1» إنّ العباس قال: يا معشر الخزرج، إنّ محمدا منّا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممّن هو على مثل رأينا فيه، فهو فى عزّ من قومه، ومنعة فى بلده، وإنّه قد أبى إلا الانحياز إليكم، واللّحوق بكم؛ فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممّن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنّكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن فدعوه، فإنه فى عزّ ومنعة من قومه وبلده. قال ابن سعد: فقال البراء بن معرور: قد سمعنا ما قلت، وإنا والله لو كان فى أنفسنا غير ما ننطق به لقلناه، ولكنّا نريد الوفاء والصدق، وبذل مهج أنفسنا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن إسحاق- فيما رواه بسنده عن كعب بن مالك: فقلنا له: سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت، فتكلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلا القرآن، ودعا إلى الله، ورغّب فى الإسلام ثم قال: «أبايعكم على أن تمنعونى فيما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم» . قال: فأخذ البراء بن معرور بيده، ثم قال: نعم والذى بعثك بالحق لنمنعنّك مما نمنع منه أزرنا «2» - يعنى نساءنا- فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أهل «3» الحروب، وأهل الحلقة ورثناها كابرا عن كابر. قال ابن سعد: ويقال: إن أبا الهيثم بن التّيهان كان أوّل من تكلم فأجاب إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم «4» ، وقالوا: نقبله على مصيبة الأموال، وقتل الأشراف؛ قال: ولغطوا. فقال العباس وهو آخذ بيد رسول الله صلى الله عليه الجزء: 16 ¦ الصفحة: 315 وسلم: أخفوا جرسكم فإن علينا عيونا، وقدّموا ذوى أسنانكم فيكونون هم الذين يلون كلامنا منكم، فإنا نخاف قومكم عليكم، ثم إذا بايعتم فتفرّقوا إلى محالكم. فتكلّم البراء بن معرور، فأجاب العباس، ثم قال: ابسط يدك يا رسول الله، وكان أوّل من ضرب على يد رسول الله البراء بن معرور- ويقال: أبو الهيثم بن التيهان، ويقال: أسعد بن زرارة- ثم ضرب السبعون كلّهم على يده وبايعوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ موسى أخذ من بنى إسرائيل اثنى عشر نقيبا فلا يجدنّ منكم أحد فى نفسه أن يؤخذ غيره، فإنما يختار لى جبريل» ، ثم قال «1» للنقباء: «أنتم كفلاء على غيركم، ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم، وأنا كفيل على قومى» ، قالوا: نعم، قال: فلما بايعوا وكملوا، صاح الشيطان على العقبة بأبعد صوت سمع: يا أهل الأخاشب، هل لكم فى محمد والصّبأة معه قد اجتمعوا على حربكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انفضّوا إلى رحالكم» ، فقال العباس ابن عبادة بن نضلة: يا رسول الله، والذى بعثك بالحقّ لئن أحببت لنميلنّ على أهل منى بأسيافنا، وما أحد عليه سيف تلك الليلة غيره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنا لم نؤمر «2» بذلك فانفضّوا إلى رحالكم» ، فتفرّقوا إلى رحالهم، فلما أصبح القوم غدت عليهم جلّة قريش وأشرافهم حتى دخلوا شعب الأنصار، فقالوا: يا معشر الخزرج، إنا بلغنا أنكم لقيتم صاحبنا البارحة، وواعدتموه أن تبايعوه على حربنا، وايم الله ما حىّ من العرب أبغض إلينا إن شبّت «3» بيننا وبينه الحرب منكم، قال: فانبعث من كان هناك من الخزرج من المشركين يحلفون لهم الجزء: 16 ¦ الصفحة: 316 بالله ما كان هذا وما علمنا، وجعل ابن أبىّ يقول: هذا باطل، وما كان هذا، وما كان قومى ليفتاتوا علىّ بمثل هذا، لو كنت بيثرب ما صنع هذا قومى حتى يؤامرونى، فلما رجعت قريش من عندهم رحل البراء بن معرور؛ فتقدّم إلى بطن يأجج «1» ، وتلاحق أصحابه من المسلمين، وجعلت قريش تطلبهم فى كل وجه، ولا تعدّوا طريق «2» المدينة؛ وحزّبوا عليهم، فأدركوا سعد بن عبادة، فجعلوا يده إلى عنقه بنسعة «3» ، وجعلوا يضربونه ويجرّون شعره، وكان ذا جمّة «4» حتى دخلوا «5» مكة، فجاءه مطعم بن عدىّ، والحارث بن أمية بن عبد شمس فخلصاه من أيديهم، وائتمرت الأنصار حين فقدوا سعد بن عبادة أن يكّروا إليه، فإذا سعد قد طلع عليهم، فرحل القوم جميعا إلى المدينة. ذكر تسمية من شهد العقبة وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال محمد بن إسحاق: كانوا ثلاثة وسبعين رجلا وامرأتين، فكان من شهدها من الأوس أحد عشر رجلا، وهم أسيد بن الحضير، وأبو الهيثم بن التيّهان، وسلمة ابن سلامة بن وقش، وظهير بن رافع بن عدىّ، وأبو بردة هانئ بن نيار، ونهير ابن الهيثم بن نابى، وسعد بن خيثمة بن الحارث، ورفاعة بن عبد المنذر، وعبد الله ابن جبير بن النعمان، ومعن بن عدىّ بن الجدّ بن عجلان، وعويم بن ساعدة. وشهدها من الخزرج أحد وستون رجلا: منهم من بنى النجّار أحد عشر رجلا، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 317 وهم أبو أيوب خالد بن زيد بن كليب، ومعاذ بن الحارث بن رفاعة، وأخوه عوف ابن الحارث، وأخوه معوّذ بن الحارث، وعمارة بن حزم بن زيد، وأسعد بن زرارة ابن عدس «1» ، وسهل بن عتيك بن النعمان، وأوس بن ثابت بن المنذر بن حرام، وأبو طلحة زيد بن سهل بن الأسود، وقيس بن أبى صعصعة، وعمرو بن غزيّة ابن عمرو بن ثعلبة. ومن بنى الحارث بن الخزرج سبعة نفر، وهم: سعد بن الربيع بن عمرو، وخارجة بن زيد بن أبى زهير، وعبد الله بن رواحة، وبشير بن سعد بن ثعلبة، وعبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه، وخلّاد بن سويد بن ثعلبة بن عمرو، وعقبة ابن عمرو بن ثعلبة بن أسيرة «2» . ومن بنى بياضة بن عامر بن زريق ثلاثة نفر، وهم: زياد بن لبيد بن ثعلبة ابن سنان، وفروة [بن «3» ] عمرو بن ودقة «4» ، وخالد بن قيس بن مالك بن العجلان. ومن بنى زريق بن عامر بن زريق ثلاثة نفر: رافع بن مالك بن العجلان ابن عمرو، وذكوان بن عبد قيس بن خلدة بن مخلّد بن عامر بن زريق- وكان خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان معه بمكة فهاجر، فكان يقال له: مهاجرىّ أنصارى- وعبّاد بن قيس بن عامر بن خالد. ومن بنى سلمة بن سعد بن علىّ بن أسد أحد عشر رجلا: البراء بن معرور ابن صخر، وابنه بشر بن البراء، وسنان بن صيفىّ بن صخر، والطفيل بن النعمان الجزء: 16 ¦ الصفحة: 318 ابن خنساء، ومعقل بن المنذر بن سرح، ويزيد بن المنذر بن سرح، ومسعود ابن يزيد بن سبيع، والضحاك بن حارثة بن زيد، ويزيد بن حرام بن سبيع، وجبّار ابن صخر بن أمية بن خنساء، والطفيل بن مالك بن خنساء. ومن بنى سواد بن غنم بن كعب بن سلمة: كعب بن مالك بن أبى كعب عمرو بن القين بن كعب بن سواد، وهو الشاعر. ومن بنى غنم بن سواد بن غنم خمسة نفر، وهم: سليم بن حديدة، ويزيد ابن عامر بن حديدة، وهو أبو المنذر «1» ، وأبو اليسر، واسمه كعب بن عمرو، وصيفىّ ابن سواد بن عباد، وقطبة بن عامر بن حديدة، أخو يزيد. ومن بنى نابى بن عمرو بن سواد بن غنم خمسة نفر: ثعلبة بن غنمة بن عدىّ ابن نابى، وعمرو بن غنمة بن عدىّ، وعبس بن عامر بن عدىّ. وعبد الله بن أنيس حليف لهم من قضاعة، وخالد بن عمرو بن عدىّ. ومن بنى حرام بن كعب سبعة «2» نفر، وهم: عبد الله بن عمرو بن حرام، وابنه جابر بن عبد الله، ومعاذ بن عمرو بن الجموح، وثابت بن الجذع- والجذع ثعلبة ابن زيد-، وعمير بن الحارث بن ثعلبة، وخديج بن سلامة بن أوس، ومعاذ ابن جبل بن عمرو بن أوس، مات بعمواس عام الطاعون. ومن بنى عوف بن الخزرج أربعة نفر، وهم: عبادة بن الصامت بن قيس، والعباس بن عبادة بن نضلة- وكان ممن خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة فأقام «3» فكان يقال له: مهاجرىّ أنصارى، قتل يوم أحد- الجزء: 16 ¦ الصفحة: 319 وأبو عبد الرحمن يزيد بن ثعلبة حليف لهم من بنى عصيّة من بلىّ، وعمرو بن الحارث بن لبدة بن عمرو. ومن بنى سالم بن غنم بن عوف- وهم بنو الحبلىّ- رجلان: رفاعة بن عمرو ابن ثعلبة بن مالك، وعقبة بن وهب بن كلدة بن الجعد حليف لهم، وكان ممن خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرا إلى مكة، فكان يقال له: مهاجرى أنصارىّ. ومن بنى ساعدة بن كعب بن الخزرج رجلان: سعد بن عبادة بن دليم ابن حارثة، والمنذر بن عمرو بن خنيس، وامرأتان، وهما: نسيبة ابنة كعب ابن عمرو، وهى أم عمارة، وأم منيع، واسمها أسماء بنت عمرو بن عدىّ بن نابى، ولم يصافحهنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه كان لا يصافح النساء، وإنما كان يأخذ عليهن، فإذا أقررن قال: اذهبن، وكان النقباء من هؤلاء اثنى عشر رجلا، وهم: أسعد بن زرارة، وسعد بن الربيع بن عمرو، وعبد الله بن رواحة ابن امرئ القيس، ورافع بن مالك بن العجلان، والبراء بن معرور، وعبد الله ابن عمرو بن حرام، وعبادة بن الصامت بن قيس، وسعد بن عبادة بن دليم، والمنذر بن عمرو بن حنيس «1» ويقال: ابن خنيس، هؤلاء من الخزرج. ومن الأوس ثلاثة نفر: أسيد بن حضير، وسعد بن خيثمة بن الحارث، ورفاعة بن عبد المنذر. قال أبو محمد عبد الملك بن هشام: وأهل العلم يعدّون أبا الهيثم بن التيهان، ولا يعدّون رفاعة. والله أعلم بالصواب. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 320 ذكر أوّل آية أنزلت فى القتال قال محمد بن إسحاق: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بيعة العقبة الأولى لم يؤذن له فى الحرب، ولم تحلل له الدماء، وإنما أمر بالدعاء إلى الله، والصبر على الأذى، والصفح عن الجاهل، وكانت قريش قد اضطهدت من اتبعه من قومه حتى فتنوهم عن دينهم، وأخرجوهم من بلادهم، فلما عتت قريش على الله؛ أذن الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم فى القتال، فكانت أوّل آية أنزلت فى إذنه تعالى له فى الحرب، قوله تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ. الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) «1» . ثم أنزل الله تعالى: (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) ؛ أى حتى لا يفتن مؤمن عن دينه، (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) «2» ، أى حتى يعبد الله لا يعبد غيره. ذكر أوّل من هاجر من مكة إلى المدينة قال محمد بن إسحاق: لما أذن الله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم فى الحرب، وبايعه الأنصار على الإسلام، والنصرة له ولمن اتبعه وأوى إليهم من المسلمين، أمر النبىّ صلى الله عليه وسلم أصحابه من المهاجرين من قومه، ومن معه بمكة من المسلمين بالخروج إلى المدينة والهجرة إليها، واللّحوق بإخوانهم من الأنصار؛ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 321 وقال: «إن الله قد جعل لكم إخوانا، ودارا تأمنون بها» ، فخرجوا أرسالا «1» ، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكّة ينتظر الإذن من الله فى الهجرة إلى المدينة، فكان أوّل من هاجر من المهاجرين من قريش: أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد ابن هلال بن عبد الله المخزومىّ، وكانت هجرته قبل بيعة العقبة بسنة، وكان قد قدم من أرض الحبشة، فلما آذته قريش، وبلغه إسلام من أسلم من الأنصار هاجر إلى المدينة، فنزل بقرية بنى عمرو بن عوف بقباء على أحمد بن مبشّر ابن عبد المنذر، ثم كان أوّل من قدمها بعد أبى سلمة عامر بن ربيعة حليف بنى عدىّ بن كعب، معه امرأته ليلى بنت أبى حثمة بن غانم «2» ، ثم عبد الله بن حجش ابن رئاب، حليف بنى أمية ابن عبد شمس، احتمل بأهله وبأخيه عبد بن حجش، وهو أبو أحمد، وكان رجلا ضرير البصر، وكان يطوف مكّة بغير قائد، وكانت عنده الفرعة بنت أبى سفيان بن حرب، نزل هؤلاء كلهم بقباء على أحمد ابن مبشر أيضا، ثم قدم المهاجرون أرسالا، ثم خرج عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وعياش بن أبى ربيعة فى عشرين من المسلمين، منهم: زيد بن الخطّاب أخو عمر، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وخنيس ابن حذافة السهمىّ، وواقد بن عبد الله التميمىّ حليف بنى عدىّ، وعبد الله وعمرو ابنا سراقة بن المعتمر- ويقال: عمر بدل عمرو- وخولىّ بن أبى خولىّ، حليف الخطاب، وأخوه مالك- ويقال: هلال بن أبى خولىّ بدل مالك- وبنو البكير الأربعة: إياس، وعاقل، وخالد، وعامر. ويقال: وكان مع عمر ابنه عبد الله ابن عمر. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 322 قال ابن إسحاق: فنزل عمر بن الخطاب، وعيّاش بن أبى ربيعة فى بنى عمرو ابن عوف بقباء، فجاء أبو جهل والحارث ابنا هشام إلى عيّاش إلى المدينة، وكان ابن عمهما وأخاهما لأمهما، فكلماه فى الرجوع، وقالا: إن أمك قد نذرت أن لا يمشط رأسها مشط، ولا تستظلّ من شمس حتى تراك، فرقّ لها. قال عمر ابن الخطاب: فقلت له: يا عياش، إنه والله إن يريدك القوم إلا [ليفتنوك «1» ] عن دينك فاحذرهم، فو الله لو آذى أمّك القمل لامتشطت، ولو اشتد عليها حرّمكة لاستظلّت. فقال: أبرّ قسم أمى، ولى هناك مال فآخذه. قال عمر: فقلت له: يا عياش، والله إنك لتعلم أنى من أكثر قريش مالا، فلك نصف مالى ولا تذهب معهما. قال: فأبى إلا أن يخرج معهما، فقلت: أما إذ فعلت فخذ ناقتى هذه فإنها ناقة نجيبة ذلول، فالزم ظهرها، فإن رابك من القوم ريب فانج عليها، فخرج عليها معهما حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال له أبو جهل: يا أخى والله لقد استغلظت بعيرى هذا، أفلا تعقبنى «2» على ناقتك؟ قال: بلى، فأناخ وأناخا ليتحول عليها، فلما استووا بالأرض أوثقاه «3» رباطا، ثم دخلا به [مكة «4» ] ، وفتناه فافتتن. رواه ابن إسحاق عن نافع عن ابن عمر. قال ابن إسحاق: ودخلا به مكة نهارا موثقا، وقالا: يا أهل مكة، هكذا فافعلوا بسفهائكم كما فعلنا بسفيهنا هذا. قال ابن عمر فى حديثه فكنا نقول: ما الله بقابل ممن افتتن صرفا ولا عدلا ولا توبة، قوم عرفوا الله ثم رجعوا إلى الجزء: 16 ¦ الصفحة: 323 الكفر لبلاء أصابهم، وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل الله فيهم، وفى قولنا وقولهم لأنفسهم: (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ. وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) » ، قال عمر: فكتبتها بيدى فى صحيفة، وبعثت بها إلى هشام بن العاص، فلما قرأها لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة. قال أبو محمد عبد الملك بن هشام: حدّثنى من أثق به أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو بالمدينة: «من لى بعياش بن أبى ربيعة، وهشام بن أبى العاص» ؟ فقال الوليد بن الوليد بن المغيرة: أنا لك يا رسول الله بهما، فخرج إلى مكة، فقدمها مستخفيا، فلقى امرأة تحمل طعاما فقال لها: أين تريدين يا أمة الله؟ قالت: أريد هذين المحبوسين- تعنيهما- فتبعها حتى عرف موضعهما، وكانا قد حبسا فى بيت لا سقف له، فلما أمسى تسوّر عليهما، ثم أخذ مروة «2» فوضعها تحت قيديهما، ثم ضربهما بسيفه فقطعهما «3» ، ثم حملهما على بعيره وسار بهما، فعثر فدميت إصبعه فقال: هل أنت إلا إصبع دميت ... وفى سبيل الله ما لقيت نعود إلى تتمة أخبار عمر فى هجرته- قال ابن إسحاق: ونزل عمر بن الخطاب حين نزل «4» المدينة ومن لحق به من أهله وقومه، وأخوه زيد بن الخطاب، وعمرو وعبد الله الجزء: 16 ¦ الصفحة: 324 ابنا سراقة بن المعتمر، وخنيس بن حذافة السهمىّ- وكان صهره على ابنته حفصة خلف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده- وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وواقد بن عبد الله التميمىّ، حليف لهم، وخولىّ بن خولىّ، ومالك بن خولىّ، حليفان لهم، وبنو البكير الأربعة: إياس، وعاقل، وعامر، وخالد، حلفاؤهم، وهم من بنى سعد بن ليث، على رفاعة بن المنذر بقباء «1» ، ثم تتابع المهاجرون «2» ، فنزل طلحة بن عبيد الله، وصهيب بن سنان على خبيب بن إساف «3» أخى بلحارث بن الخزرج «4» ، ويقال: بل نزل طلحة على أسعد بن زرارة، ونزل حمزة بن عبد المطلب، وزيد بن حارثة، وأبو مرثد كنّاز بن حصين، وابنه مرثد الغنويّان حليفا حمزة ابن عبد المطلب، وأنسة وأبو كبشة موليا رسول الله صلى الله عليه وسلم على كلثوم ابن هدم «5» أخى بنى عمرو بن عوف بقباء- ويقال: بل نزلوا على سعد بن خيثمة، ويقال: بل نزل حمزة على أسعد بن زرارة- ونزل عبيدة بن الحارث بن المطلب، وأخواه الطّفيل والحصين، ومسطح بن أثاثة بن عبّاد بن المطلب، وسويبط بن سعد بن حريملة «6» ، أخو بنى عبد الدار، وطليب بن عمير أخو بنى عبد بن قصىّ، وخبّاب مولى عتبة بن غزوان على عبد الله بن سلمة أخى بلعجلان بقباء، ونزل الجزء: 16 ¦ الصفحة: 325 عبد الرحمن بن عوف فى رجال من المهاجرين على سعد بن الربيع أخى بلحارث ابن الخزرج فى دار بلحارث، ونزل الزبير بن العوام، وأبو سيرة بن أبى رهم بن عبد العزّى على منذر بن محمد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح بالعصبة «1» دار بنى جحجبى «2» . ونزل مصعب بن عمير بن هاشم أخو بنى عبد الدار على سعد بن معاذ ابن النعمان فى دار بنى عبد الأشهل. ونزل أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وسالم مولى أبى حذيفة، وعتبة بن غزوان بن جابر على عباد بن بشر بن وقش أخى بنى عبد الأشهل فى دار بنى عبد الأشهل. ونزل عثمان بن عفان على أوس بن ثابت ابن المنذر أخى حسان بن ثابت فى دار بنى النجار. وكان يقال: نزل العزاب من المهاجرين على سعد بن خيثمة، وذلك أنه كان عزبا. ذكر اجتماع قريش فى دار الندوة، وتشاورهم فى شأن النبى صلى الله عليه وسلم، واتفاقهم على قتله، وحماية الله تعالى له، وخبر الشيخ النجدىّ، وهو إبليس، خزاه الله قال محمد بن إسحاق، يرفعه إلى عبد الله بن عباس وغيره قالوا: لما «3» رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كانت له شيع وأصحاب من غيرهم من غير بلدهم، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم، عرفوا أنهم قد نزلوا دارا، وأصابوا منهم منعة، فحذروا خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، وعرفوا أنه قد أجمع لحربهم، فاجتمعوا فى دار الندوة- وهى دار قصىّ بن الجزء: 16 ¦ الصفحة: 326 كلاب التى كانت قريش لا تقضى أمرا إلا فيها- يتشاورون ما يصنعون فى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم «1» ، فلما اجتمعوا لذلك، واتّعدوا له، غدوا فى يوم الموعد، وهو اليوم المسمى يوم الزّحمة «2» ، فاعترضهم إبليس فى هيئة شيخ جليل عليه بتّ «3» - قال الواقدى: مشتمل «4» الصماء فى بتّ- قال: فوقف على باب الدار، فلما رأوه قالوا: من الشيخ؟ قال: شيخ من أهل نجد، سمع بالذى اتّعدتم له، فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى ألّا يعدمكم منه رأيا ونصحا، قالوا: أجل، فادخل، فدخل معهم، وقد اجتمع أشراف قريش، وهم: عتبة، وشيبة ابنا ربيعة، وأبو سفيان بن حرب، وطعيمة بن عدىّ، وجبير بن مطعم، والحارث بن عامر بن نوفل، والنّضر بن الحارث بن كلدة، وأبو البخترىّ ابن هشام، وزمعة بن الأسود بن المطلب، وحكيم بن حزام، وأبو جهل ابن هشام، ونبيه ومنّبه ابنا الحجاج، وأمية بن خلف، وغيرهم ممن لا يعدّ من قريش، فقال بعضهم لبعض: إنّ هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم، وإنا والله ما نأمنه على الوثوب علينا ممن قد اتبعه من غيرنا، فأجمعوا فيه رأيا، فتشاوروا، ثم قال قائل منهم: احبسوه فى الحديد، وأغلقوا عليه بابا، ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله: زهير والنابغة، ومن مضى منهم حتى يصيبه ما أصابهم، فقال الشيخ النجدىّ: لا والله، ما هذا لكم برأى، والله لئن حبستموه كما تقولون ليخرجنّ أمره من وراء الباب الذى أغلقتم الجزء: 16 ¦ الصفحة: 327 دونه إلى أصحابه، ولأوشكوا أن يثبوا عليكم فينتزعوه من أيديكم، ثم يكاثروكم حتى يغلبوكم على أمركم، ما هذا لكم برأى، فانظروا فى غيره، فتشاوروا، ثم قال قائل منهم: نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلادنا، فإذا خرج عنا فو الله [ما «1» ] نبالى أين ذهب، ولا حيث وقع، إذا غاب عنا وفرغنا منه، أصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت. قال الشيخ النجدىّ: لا والله ما هذا لكم برأى، ألم تروا حسن حديثه، وحلاوة منطقه، وغلبته على قلوب الرجال بما يأتى به، والله لئن فعلتم ذلك ما أمنتم أن يحل على حىّ من العرب، فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يتابعوه عليه، ثم ليسير بهم إليكم حتى يطأكم فيأخذ أمركم من أيديكم، ثم يفعل بكم ما أراد؛ دبّروا فيه رأيا غير هذا. فقال أبو جهل بن هشام: إنّ لى فيه رأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد، قالوا: وما هو يا أبا الحكم؟ قال: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابا جليدا نسيبا وسيطا فتيا، ثم نعطى كلّ فتى منهم سيفا صارما، ثم يعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه، فنستريح منه؛ فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه فى القبائل جميعا، [فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا «2» ] ، فرضوا منا بالعقل، فعقلناه لهم. فقال النجدىّ: القول ما قال الرجل؛ هذا الرأى لا أرى «3» غيره. وحكى أن هذا الرأى كان رأى الشيخ النجدىّ، وأنه لما أشار به قالوا: كلّهم: صدق النجدىّ، صدق النجدىّ! والله أعلم. قال: فتفرّق القوم وقد أجمعوا على ذلك. فأتى جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بالخبر، وقال له: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذى كنت تبيت عليه، قال: فلما كانت عتمة الجزء: 16 ¦ الصفحة: 328 من الليل اجتمعوا على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرصدونه حتى ينام، فيثبون عليه، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانهم قال لعلىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: «نم على فراشى، وتسجّ ببردى هذا الحضرمىّ الأخضر، فنم فيه؛ فإنه لن يخلص إليك شىء تكرهه منهم» . قال: فقال أبو جهل ومن معه على الباب: إن محمدا يزعم أنكم إذا تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم، ثم بعثتم من بعد موتكم، فجعلت لكم جنان كجنان الأردنّ، وإن لم تفعلوا كان له فيكم ذبح، ثم بعثتم من بعد موتكم، فجعلت لكم نار تحرقون فيها. قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ حفنة من تراب فى يده، ثم قال: «نعم أنا أقول ذلك، أنت أحدهم» ، وأخذ الله على أبصارهم فلا يرونه، فجعل ينثر التراب على رءوسهم وهو يتلو هذه الآيات من سورة يس: (يس. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) . إلى قوله: (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) «1» . ولم يبق منهم رجل إلا وضع على رأسه ترابا، ثم انصرف إلى حيث أراد، فأتاهم آت ممن لم يكن معهم، فقال: ما تنتظرون؟ قالوا: محمدا، قال: خيبكم الله، قد والله خرج عليكم محمد، ثم ما ترك منكم رجلا إلا وقد وضع على رأسه ترابا وانطلق لحاجته، أفما ترون ما بكم؟ قال: فوضع كلّ رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه تراب، ثم جعلوا ينظرون فيه فيرون عليا على الفراش متسجّيا ببرد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون: والله إن هذا لمحمد نائما عليه برده. فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا، فقام علىّ عن الفراش؛ فقالوا: والله لقد كان صدقنا الذى حدّثنا. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 329 قال ابن إسحاق: فكان مما أنزل من القرآن فى ذلك اليوم قوله تعالى: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) «1» وقوله تعالى: (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ. قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) «2» . ذكر ابتداء هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر رضى الله عنه قال محمد بن إسحاق: لمّا هاجر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، أقام هو بمكة بعدهم ينتظر الإذن من الله تعالى فى الهجرة، ولم يتخلف معه بمكة إلا أبو بكر الصديق، وعلىّ بن أبى طالب رضى الله عنهما، ومن حبس أو فتن. وكان أبو بكر يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الهجرة كثيرا فيقول له: «لا تعجل لعلّ الله أن يجعل لك صاحبا» ، فيطمع أبو بكر أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يعنى نفسه. وروى عن عائشة أم المؤمنين بنت أبى بكر الصديق رضى الله عنهما أنها قالت: كان لا يخطئ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتى بيت أبى بكر أحد طرفى النهار إما بكرة وإما عشية، [حتى «3» ] إذا كان اليوم الذى أذن الله تعالى فيه لرسوله فى الهجرة والخروج من مكة أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة فى ساعة كان لا يأتى فيها. قالت: فلما رآه أبو بكر قال: ما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الساعة إلا لأمر حدث، فلما دخل تأخر أبو بكر عن سريره، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 330 فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس عند أبى بكر إلا أنا وأختى أسماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أخرج عنّى من عندك» قال: يا رسول الله، إنما هما ابنتاى، وما ذاك فداك أبى وأمى؟ قال: «إن الله أذن لى فى الخروج» . فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله! قال: «الصحبة» . قالت: فو الله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدا يبكى من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكى يومئذ، ثم قال: يا نبىّ الله، إن هاتين راحلتان كنت أعددتهما لهذا. فاستأجرا عبد الله بن أرقط- وقيل: الأريقط- الليثى وكان مشركا، يدلّهما على الطريق، ودفعا إليه راحلتيهما، فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما. قال ابن إسحاق: ولم يعلم بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد حين خرج إلا أبو بكر وآل أبى بكر، وعلى بن أبى طالب، أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بخروجه، وأمره أن يتخلف بعده، حتى يؤدى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع التى كانت عنده للناس. ذكر خبر الغار وما قيل فيه قال: لما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج أتى أبا بكر فخرجا من خوخة لأبى بكر فى ظهر بيته، ثم عمدا إلى غار بثور- جبل بأسفل مكة- فدخلاه، وأمر أبو بكر ابنه عبد الله أن يتسمّع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره، ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون فى ذلك اليوم من الخبر، وأمر عامر بن فهيرة مولاه أن يرعى غنمه نهاره ثم يريحها عليهما إذا أمسى فى الغار، وكانت أسماء بنت أبى بكر تأتيهما من الطعام إذا أمست بما يصلحهما. قال ابن هشام: حدّثنى بعض أهل العلم أن الحسن بن أبى الحسن قال: لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى الغار ليلا دخل أبو بكر قبل الجزء: 16 ¦ الصفحة: 331 رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتمس الغار لينظر أفيه سبع أو حيّة بقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه. قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا، ومعه أبو بكر، وجعلت قريش فيه حين فقدوه مائة ناقة لمن يردّه عليهم. وكان عبد الله بن أبى بكر يكون فى قريش يسمع ما يأتمرون به، وما يقولون فى شأن النبىّ صلى الله عليه وسلم وأبى بكر، ثم يأتيهما إذا أمسى فيخبرهما الخبر، وكان عامر بن فهيرة مولى أبى بكر يرعى فى رعاء من أهل مكة، فإذا أمسى أراح عليهما غنم أبى بكر فاحتلبا وذبحا، فإذا غدا عبد الله بن أبى بكر من عندهما إلى مكة أتبع عامر بن فهيرة أثره الغنم حتى يعفّى عليه. وقال محمد بن سعد بسنده إلى زيد بن أرقم وأنس بن مالك، والمغيرة بن شعبة رضى الله عنهم: إن النبىّ صلى الله عليه وسلم ليلة الغار أمر الله شجرة فنبتت فى وجه النبىّ صلى الله عليه وسلم فسترته، وأمر العنكبوت فنسجت على وجهه فسترته، وأمر حمامتين وحشيتين فوقفتا بفم الغار، وأقبل فتيان قريش من كل بطن رجل بأسيافهم وعصيّهم وهراواتهم حتى إذا كانوا من النبى صلى الله عليه وسلم قدر أربعين ذراعا، نظر أوّلهم فرأى الحمامتين فرجع فقال له أصحابه: مالك لم تنظر فى الغار؟ قال: رأيت حمامتين وحشيتين بفم الغار، فعرفت أن ليس فيه أحد. فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله، فعرف أن الله عز وجل درأ عنه بهما. وقال بعض من حضر فى طلبه: إن عليه من العنكبوت ما هو قبل ميلاد محمد. وقال أبو بكر رضى الله عنه: فنظرت إلى أقدام المشركين ونحن فى الغار وهم على رءوسنا فقلت: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا، فقال: «يا أبا بكر، ما ظنّك باثنين الله ثالثهما» ! قال: ومكثا فى الغار ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبى بكر. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 332 قال محمد بن سعد: قالت عائشة رضى الله عنها: وجهزناهما أحبّ الجهاز، وصنعنا لهما سفرة فى جراب، فقطعت أسماء قطعة من نطاقها فأوكأت به الجراب، وقطعة أخرى صيرتها عصاما لفم القربة؛ فلذلك سميت أسماء ذات النّطاقين. قال محمد بن سعد بسند يرفعه إلى أسماء بنت أبى بكر رضى الله عنهما أنها قالت: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج أبو بكر معه احتمل ماله كلّه معه،- خمسة آلاف درهم أو ستة آلاف- فانطلق بها معه، فدخل علينا جدّى أبو قحافة وقد ذهب بصره، فقال: والله إنى لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه، قال فقلت: كلّا يا أبت، إنه ترك لنا خيرا كثيرا. قالت أسماء: فأخذت أحجارا فوضعتها فى كوّة البيت حيث كان أبى يضع فيها ماله، ثم وضعت عليها ثوبا، ثم أخذت بيده فقلت: ضع يا أبت يدك على هذا المال، فوضع يده عليه وقال: لا بأس إن كان ترك لكم هذا فقد أحسن، وفى هذا بلاغ لكم؛ فلا والله ما ترك لنا شيئا، ولكنى أردت أن أسكّن الشيخ بذلك. والله أعلم. ذكر خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر رضى الله عنه من الغار، وتوجههما إلى المدينة، وما كان من أمر سراقة بن مالك، وأم معبد وغير ذلك إلى أن انتهيا إلى المدينة كان خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر الصدّيق رضى الله عنه من الغار ليلة الاثنين لأربع خلون من شهر ربيع الأوّل، وذلك أنه لما مضت الأيام الثلاثة، وسكن عنهما الناس أتاهما عبد الله بن الأريقط براحلتيهما وبعير له، فقرّب أبو بكر رضى الله عنه الراحلتين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقدّم له أفضلهما «1» الجزء: 16 ¦ الصفحة: 333 ثم قال: اركب فداك أبى وأمى يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنى لا أركب بعيرا ليس لى» ، قال: فهى لك يا رسول الله بأبى أنت وأمى! قال: «لا ولكن ما الثمن الذى ابتعتها «1» به» ؟، قال: كذا وكذا، قال: «قد أخذتها بذلك» . قال محمد بن سعد: وكان أبو بكر اشتراهما بثمانمائة درهم من نعم بنى قشير، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إحداهما وهى القصواء. قال ابن إسحاق: فركبا وانطلقا، وأردف أبو بكر رضى الله عنه مولاه عامر بن فهيرة خلفه ليخدمهما فى الطريق. قال أبو بكر رضى الله عنه: أسرينا ليلتنا ويومنا حتى إذا قام قائم الظهيرة وانقطع الطريق، ولم يمرّ أحد، رفعت لنا صخرة لها ظلّ لم تأت عليه الشمس. قال: فسويت للنبىّ صلى الله عليه وسلم مكانا فى ظلها، وكان معى فرو ففرشته، وقلت للنبىّ صلى الله عليه وسلم: نم حتى أنفض ما حولك، فخرجت فإذا أنا براع قد أقبل يريد من الصخرة مثلما أردنا، وكان يأتيها قبل ذلك فقلت: يا راعى، لمن أنت؟ قال: لرجل من أهل المدينة يعنى مكة، قال: قلت: هل فى شائك من لبن؟ قال: نعم، قال: فجاءنى بشاة فجعلت أمسح الغبار عن ضرعها وحلبت فى إداوة معى كثبة «2» من لبن، وكان معى ماء للنبىّ صلى الله عليه وسلم فى إدواة فصببت على اللبن من الماء لأبرده، فوافيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قام من نومه فشرب وقال: «ما آن الرحيل» ؟ قلت: بلى، قال: فأرسلنا حتى إذا كنا بأرض صلبة جاء سراقة بن مالك بن جعشم، فبكى أبو بكر وقال: يا رسول الله قد أتينا، قال: «كلا» ، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فارتطم فرس سراقة- أى الجزء: 16 ¦ الصفحة: 334 احتبس إلى بطنه- فقال: قد أعلم أن قد دعوتما علىّ فادعوا لى، ولكما علىّ أن أردّ الناس عنكما ولا أضرّكما. قال: فدعا له فرجع ووفى وجعل يردّ الناس ويقول: قد كفيتم ما هاهنا. وقد روى عن سراقة أنه قال لأبى جهل بن هشام: أبا حكم والله لو كنت شاهدا ... لأمر جوادى إذ تسوخ قوائمه علمت ولم تشكك بأنّ محمدا ... رسول ببرهان فمن ذا يقاومه! عليك بكف القوم عنه فإننى ... أرى أمره يوما ستبدو معالمه بأمر يودّ الناس فيه بأسرهم ... بأنّ جميع الناس طرا «1» تسالمه وقال أبو محمد عبد الملك بن هشام: حدّثنى الزّهرى أنّ عبد الرحمن بن مالك ابن جعشم حدّثه عن أبيه عن عمه سراقة بن مالك قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكّة مهاجرا إلى المدينة، جعلت فيه قريش مائة ناقة لمن يردّه عليهم، فبينما أنا جالس فى نادى قومى أقبل رجل منا حتى وقف علينا فقال: والله لقد رأيت ركبة ثلاثة مرّوا علىّ آنفا، إنى لأراهم محمدا وأصحابه، قال: فأومأت إليه بعينى أن اسكت، ثم قلت: إنما هم بنو فلان يبتغون ضالّة لهم، قال: لعله «2» . ثم قمت فدخلت بيتى وأمرت بفرسى فقيد إلى بطن الوادى، وأمرت بسلاحى فأخرج من دبر حجرتى، ثم أخذت قداحى التى «3» أستقسم بها، ثم انطلقت فلبست لأمتى، ثم أخرجت قداحى فاستقسمت بها، فخرج السهم الذى أكره: «لا يضره» ، قال: وكنت أرجو أن أردّه على قريش فآخذ المائة، فركبت الفرس فى أثره، فبينما فرسى يشتدّ بى عثر فسقطت عنه، فقلت: ما هذا؟ ثم أخرجت قداحى فاستقسمت بها فخرج السهم الجزء: 16 ¦ الصفحة: 335 الذى أكره «لا يضره» ، قال فأبيت إلا أن أتبعه فركبت فى أثره، فلما بدا لى القوم ورأيتهم عثر بى فرسى فذهبت يداه فى الأرض وسقطت عنه، ثم انتزع يده من الأرض وتبعهما دخان كالإعصار، فعرفت حين رأيت ذلك أنه قد منع منّى وأنه ظاهر، فناديت القوم: أنا سراقة بن جعشم، أنظرونى أكلّمكم، فو الله لا يأتينكم منى شىء تكرهونه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبى بكر: «قل له وما تبتغى منا» ؟ فقال لى ذلك أبو بكر، قلت: تكتب لى كتابا يكون بينى وبينك، قال: «اكتب له يا أبا بكر» ، فكتب لى كتابا فى عظم أو فى رقعة أو فى خرقة ثم ألقاه إلىّ فأخذته فجعلته فى كنانتى، ثم رجعت فلم أذكر شيئا مما كان، حتى إذا كان فتح مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفرغ من حنين والطائف، فرحت ومعى الكتاب لألقاه فلقيته بالجعرّانة «1» ، فدخلت فى كتيبة من خيل الأنصار فجعلوا يقرعوننى بالرماح ويقولون: إليك إليك ماذا تريد؟ قال: فدنوت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته، والله إنى لأنظر إلى ساقه فى غرزه «2» كأنها جمارة، فرفعت يدى بالكتاب ثم قلت: يا رسول الله، هذا كتابك أنا سراقة بن جعشم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوم وفاء وبرّ، ادنه» ، قال فدنوت منه فأسلمت. والله الهادى للصواب. ومروا على خيمتى أم معبد الخزاعية، واسم أمّ معبد عاتكة بنت خالد بن منقذ ابن ربيعة، ويقال: عاتكة بنت خالد بن خليف» ، وكانت برزة «4» جلدة تجلس بفناء الجزء: 16 ¦ الصفحة: 336 القبة «1» تسقى وتطعم، فسألوها تمرا ولحما يشترونه منها، فلم يصيبوا عندها من ذلك شيئا، وكان القوم مرملين مسنتين «2» ، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة فى كسر الخيمة، فقال: «ما هذه الشاة يا أم معبد» ؟ قالت: شاة خلّفها الجهد عن الغنم، قال: «هل بها من لبن» ؟ قالت: هى أجهد من ذلك، قال: «أتأذنين أن أحلبها» ؟ قالت: نعم، بأبى أنت وأمى إن رأيت بها حلبا فاحلبها. فدعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح بيده ضرعها وسمّى الله، ودعا لها فى شاتها، فتفاجّت عليه- أى فتحت ما بين رجليها- ودرّت، ودعا بإناء يربض الرّهط- أى يرويهم- فحلب فيه ثجاّ «3» ثم سقاها حتى رويت، ثم سقى أصحابه حتى رووا، ثم شرب آخرهم، ثم حلب إناء حتى ملأه ثم غادره عندها، وبايعها وارتحلوا عنها، وأصبح صوت بمكة عال يسمعونه، ولا يدرون من صاحبه وهو يقول: جزى الله ربّ الناس خير جزائه ... رفيقين قالا «4» خيمتى أمّ معبد هما نزلا بالبرّ وارتحلا به ... فأفلح من أمسى رفيق محمد فيا لقصىّ ما زوى «5» الله عنكم ... به من فعال لا تجارى «6» وسودد ليهن بنى كعب مكان فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرضد سلوا أختكم عن شاتها وإنائها ... فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد دعاها بشاة حائل فتحلّبت ... له بصريح «7» ضرّة «8» الشاة مزبد فغادرها رهنا لديها لحالب ... تدرّ بها فى مصدر ثم مورد «9» الجزء: 16 ¦ الصفحة: 337 قال ابن إسحاق: ولما خرج بهما دليلهما عبد الله بن أرقط سلك بهما أسفل مكة، ثم مضى بهما على الساحل أسفل من عسفان «1» ، ثم سلك بهما أسفل أمج «2» ثم استجاز بهما حتى عارض الطريق بعد أن أجاز قديدا «3» ، ثم أجاز بهما من مكانه ذلك فسلك بهما الخرّار «4» ، ثم سلك بهما ثنية المرة «5» ، ثم سلك بهما لقفا «6» - ويقال لفتا «7» - ثم أجاز بهما مدلجة «8» لقف، ثم استبطن بهما مدلجة مجاج «9» ، ثم سلك بهما مرجح مجاج، ثم تبطّن بهما [مرجح «10» ] من ذى الغضوين «11» ، ويقال: العصوين، ثم بطن ذى كشر «12» ، ثم أخذ بهما على الجداجد «13» ، ثم على الأجرد «14» ، ثم سلك بهما ذا سلم «15» [من بطن «16» ] أعداء مدلجة تعهن «17» ، ثم على العبابيد- ويقال: العبابيب. ويقال: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 338 العثيانة- ثم أجاز بهما الفاجّة «1» ، ويقال: القاحة، ثم هبط بهما العرج «2» ، وقد أبطأ عليهم بعض ظهرهم فحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل يقال له: أوس بن حجر على جمل له إلى المدينة، وبعث معه غلاما له يقال له: مسعود بن هنيدة، ثم خرج بهما دليلهما من العرج، فسلك ثنية العائر عن يمين ركوبة «3» - ويقال الغابر- حتى هبط بهما [بطن «4» ] رئم، ثم قدم بهما قباء على بنى عمرو بن عوف. قال الشيخ شرف الدين الدمياطى: وكان عبد الله بن الأريقط على كفره، ولم يعلم له إسلام. ذكر قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر رضى الله عنه إلى المدينة قال محمد بن إسحاق: كان مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم قباء يوم الاثنين لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول حين الضّحا، وكادت الشمس تعتدل، وهو صلى الله عليه وسلم ابن ثلاث وخمسين سنة، وذلك بعد أن بعثه الله تعالى بثلاث عشرة سنة. وقال الخوارزمىّ: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجرا يوم الاثنين، وهو اليوم الثامن من شهر ربيع الأول سنة أربع وخمسين من عام الفيل، ويوم عشرين من أيلول، فكان من مبعثه إلى يوم هاجر ودخل المدينة ثلاث عشرة سنة كاملة. قال ابن إسحاق: وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمعوا بخروجه من مكة وتوكّفوا «5» قدومه، يخرجون إذا صلوا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 339 الصبح إلى ظاهر الحرّة ينتظرونه، فلا يبرحون حتى تغلبهم الشمس على الظلال فيدخلون، وذلك فى أيام حارة، حتى إذا كان اليوم الذى قدم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم جلسوا على عادتهم، حتى إذا لم يبق ظل دخلوا بيوتهم، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخلوا البيوت، فكان أول من رآه رجل من يهود، فصرخ بأعلى صوته: يا بنى قيلة «1» ، هذا جدكم قد جاء، قال: فخرجوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فى ظل نخلة، ومعه أبو بكر رضى الله عنه فى مثل سنّه، وأكثر الأنصار لم يكن يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، فأقبل الناس وما يعرفون من أبى بكر، حتى إذا زال الظل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام أبو بكر فأظله بردائه، فعرفوه عند ذلك، قال: فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على كلثوم بن هدم أخى بنى عمرو بن عوف، وهو الأصح، وكان إذا خرج من منزل كلثوم جلس للناس فى بيت سعد بن خيثمة، وذلك أنه كان عزبا لا أهل له، وكان منزل العزّاب من المهاجرين، ونزل أبو بكر الصديق رضى الله عنه على خبيب بن إساف أحد بنى الحارث بن الخزرج بالسّنح. وقيل: بل نزل على خارجة بن زيد. وأقام علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه بمكة ثلاث ليال، حتى أدّى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع التى كانت عنده للناس، ثم لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل معه على كلثوم بن هدم، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء من يوم الاثنين إلى آخر يوم الخميس أربعة أيام. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 340 ذكر خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من قباء وتحوله إلى المدينة، وصلاته الجمعة، ونزوله على أبى أيوب خالد بن زيد قال محمد بن إسحاق: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة من منزل كلثوم فأدركته الجمعة فى بنى سالم بن عوف، فصلاها فى المسجد الذى فى بطن الوادى، وادى رانوناء «1» ، وكانت أول جمعة صلاها بالمدينة. قال محمد بن سعد: صلاها بمن كان معه من المسلمين وهم مائة. قال ابن إسحاق: فأتاه عتبان بن مالك، وعباس بن عبادة بن نضلة، فى رجال من بنى سالم بن عوف، فقالوا: يا رسول الله، أقم عندنا فى العدد والعدّة والمنعة، قال: «خلوا سبيلها فإنها مأمورة» فخلوا سبيلها، فانطلقت حتى إذا مرت بدار بنى ساعدة، اعترضه سعد بن عبادة، والمنذر بن عمرو فى رجال من بنى ساعدة، فقالوا مثل ذلك، وقال مثل ما قال لأولئك، فخلوا سبيلها، فانطلقت، حتى إذا وازنت دار بنى الحارث بن الخزرج اعترضه سعد بن الربيع، وخارجة بن زيد، وعبد الله بن رواحة فى رجال من بلحارث من الخزرج، فقالوا مثل ذلك، وقال مثل ما قال، فخلوا سبيلها فانطلقت، حتى إذا مرت بدار بنى عدىّ بن النجار وهم أخواله اعترضه سليط بن قيس، وأبو سليط أسيرة بن أبى خارجة «2» فى رجال من بنى عدىّ بن النجار، فقالوا: يا رسول الله هلم إلى أخوالك إلى العدد والعدّة والمنعة، فقال كما قال لأولئك، فخلوا سبيلها فانطلقت، حتى إذا أتت دار بنى مالك بن النجار بركت على باب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يومئذ مربد «3» لغلامين يتيمين من بنى النجار، فى حجر الجزء: 16 ¦ الصفحة: 341 معاذ بن عفراء وهما سهل وسهيل ابنا عمرو، فلما بركت ثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينزل، فسارت غير بعيد، ثم التفتت خلفها فرجعت إلى مبركها أول مرة فبركت فيه، ثم تحلحلت «1» ورزمت ووضعت جرانها، فنزل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، واحتمل أبو أيوب خالد بن زيد رحله فوضعه فى بيته، ونزل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال محمد بن سعد فى طبقاته الكبرى: لما بركت الناقة جعل الناس يكلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم فى النزول عليهم، وجاء أبو أيوب خالد بن زيد بن كليب فحطّ رحله فأدخله منزله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المرء مع رحله» ، وجاء أسعد بن زرارة فأخذ بزمام راحلته فكانت عنده، قال زيد بن ثابت: فأول هدية دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى منزل أبى أيوب هدية دخلت بها إناء قصعة مثرود فيها خبز وسمن ولبن، فقلت: أرسلت بهذه القصعة أمّى، فقال: «بارك الله فيك» ، ودعا أصحابه فأكلوا، فلم أرم «2» الباب حتى جاءت قصعة سعد بن عبادة؛ ثريد وعراق «3» ، وما كان من ليلة إلا وعلى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم الثلاثة والأربعة يحملون الطعام، يتناوبون ذلك حتى تحول رسول الله صلى الله عليه وسلم من منزل أبى أيوب، وكان مقامه فيه سبعة أشهر. وقال ابن إسحاق: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من شهر ربيع الأول إلى صفر من السنة الداخلة، حتى بنى له فيها مسجده ومساكنه. والله أعلم. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 342 وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من منزل أبى أيوب زيد بن حارثة، وأبا رافع، وأعطاهما بعيرين وخمسمائة درهم، فقدما إلى مكة لفاطمة وأم كلثوم عليهما السلام ابنتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسودة بنت زمعة زوجته، وأسامة بن زيد، وحمل زيد بن خارثة امرأته أمّ أيمن مع ابنها أسامة بن زيد، وخرج عبد الله بن أبى بكر معهم بعيال أبى بكر فيهم عائشة، فقدموا المدينة فأنزلهم فى بيت حارثة بن النعمان، وكانت رقيّة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحبشة مع زوجها عثمان بن عفان. قال ابن إسحاق بسنده إلى أبى أيوب قال: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بيتى نزل فى السّفل، وأنا وأم أيوب فى العلو، فقلت له: يا نبىّ الله، بأبى أنت وأمى، إنى أكره وأعظم أن أكون فوقك وتكون تحتى، فاظهر أنت وكن فى العلو، وننزل نحن ونكون فى السّفل، فقال: «يا أبا أيوب، إنّ أرفق بنا ومن يغشانا أن نكون فى سفل البيت» ، قال: فلقد انكسر حبّ «1» لنا فيه ماء، فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا ما لنا لحاف غيرها، ننّشف بها الماء؛ تخوّفا أن يقطر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيؤذيه، قال: وكنا نصنع له العشاء ثم نبعث به إليه، فإذا ردّ علينا فضله تيمّمت أنا وأم أيوب موضع يده فأكلنا منه، نبتغى بذلك البركة حتى بعثنا إليه ليلة بعشائه، وقد جعلنا له فيه بصلا أو ثوما، قال: فردّه ولم أر ليده فيه أثرا، فجئته فزعا، فقلت: يا رسول الله بأبى أنت وأمى، رددت عشاءك ولم أر فيه موضع يدك؟ فكنت إذا رددته علينا تيممت أنا وأم أيوب موضع يدك للبركة، قال: «فإنى وجدت فيه ريح هذه الشجرة، وأنا رجل أناجى «2» فأما أنتم فكلوه» ، فأكلناه ولم نصنع له تلك الشجرة. والله المستعان. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 343 ذكر بناء مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيوته بالمدينة قال محمد بن سعد عن محمد بن عمر بن واقد قال: حدّثنى معمر بن راشد عن الزهرىّ قال: بركت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موضع المسجد، وهو يومئذ يصلى فيه رجال من المسلمين، وكان مربدا لسهل وسهيل غلامين يتيمين من الأنصار، وكانا فى حجر أبى أمامة أسعد بن زرارة، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغلامين فساومهما بالمربد ليتّخذه مسجدا فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى صلى الله عليه وسلم حتى ابتاعه منهما. قال ابن سعد: وقال غير معمر عن الزهرى: فابتاعه بعشرة دنانير، وأمر أبا بكر أن يعطيهما ذلك، فكان جدارا مجدّرا ليس عليه سقف، وقبلته إلى بيت المقدس، وكان أسعد بن زرارة بناه، فكان يصلى بأصحابه فيه، ويجمّع بهم فيه الجمعة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنخل الذى بالحديقة وبالغرقد الذى فيه أن تقطع، وأمر باللبن فضرب، وكان فى المربد قبور جاهلية فأمر بها فنبشت، وبالعظام أن تغيّب، وكان فى المربد ماء مستنجل «1» فسيّروه حتى ذهب، فأسّس رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وأسسوا معه، فجعلوا طوله مما يلى القبلة إلى مؤخّره مائة ذراع، وفى هذين الجانبين مثل ذلك فهو مربّع، ويقال: كان أقل من المائة، وجعلوا الأساس قريبا من ثلاثة أذرع على الأرض بالحجارة؛ ثم بنوه باللّبن، وبناه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وجعل ينقل الحجارة معهم بنفسه، ويقول: «اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرين، اللهم ارحم المهاجرين والأنصار» قال: وقال قائل من المسلمين يرتجز: لئن قعدنا والنبىّ يعمل ... لذاك منّا العمل المضلّل الجزء: 16 ¦ الصفحة: 344 قال: ودخل عمار بن ياسر وقد أثقلوه باللبن فقال: يا رسول الله، قتلونى؛ يحملون علىّ ما لا يحملون، قالت أم سلمة: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفض وفرته «1» بيده، وكان رجلا جعدا، ويقول: «ويح ابن سمية ليسوا بالذين يقتلونك إنما تقتلك الفئة الباغية» ، قال ابن سعد: وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلة المسجد إلى بيت المقدس، وجعل له ثلاثة أبواب: بابا فى مؤخره، وبابا يقال له: باب الرحمة، وهو الباب الذى يدعى باب عاتكة، والباب الثالث الذى يدخل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل طول الجدار بسطة، وعمده الجذوع، وسقفه جريدا، فقيل له: ألا تسقّفه؟ فقال: «عريش «2» كعريش موسى خشيبات وثمام «3» الشأن أعجل من ذلك» قال: وبنى بيوتا إلى جنبه باللبن، وسقفها بجذوع النخل والجريد، فلما فرغ من البناء، بنى لعائشة رضى الله عنها [فى البيت الذى يليه شارع إلى المسجد «4» ] على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وروى عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنخل فقطع، وبقبور المشركين فنبشت، وبالخرب فسويت، قال: فصفوا النخل قبلة، وجعلوا عضادتيه حجارة «5» . ذكر بناء المسجد الذى أسّس على التقوى وهو مسجد قباء قال محمد بن سعد فى طبقاته الكبرى بسنده إلى سهل بن سعد وأبى غزيّة وأبى سعيد الخدرىّ رضى الله عنهم قال: لما صرفت القبلة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد قباء فقدّم جدار المسجد إلى موضعه اليوم وأسّسه، وقال: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 345 «جبريل يؤمّ بى البيت» ، ونقل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الحجارة لبنائه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيه كل سبت ماشيا، وقال صلى الله عليه وسلم: «من توضأ فأسبغ الوضوء ثم جاء مسجد قباء فصلى فيه كان له أجر عمرة» ، وكان عمر بن الخطاب رضى الله عنه يأتيه يوم الاثنين ويوم الخميس، وقال: لو كان بطرف من الأطراف لضربنا إليه أكباد الإبل. قال: وكان أبو أيوب يقول: هذا المسجد الذى أسس على التقوى. وكان أبىّ بن كعب وغيره يقولون: بل هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكر ما أصاب المهاجرين من حمّى المدينة، ودعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم روى عن عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قدمها وهى أوبأ أرض الله من الحّمى، فأصاب أصحابه منها بلاء وسقم، وصرف الله تعالى ذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم. قالت: فكان أبو بكر رضى الله عنه، وعامر بن فهيرة وبلال، موليا أبى بكر مع أبى بكر فى بيت واحد فأصابتهم الحمى، فدخلت عليهم أعودهم، وذلك قبل أن يضرب علينا [الحجاب «1» ] وبهم ما لا يعلمه إلا الله من شدّة الوعك، فدنوت من أبى بكر فقلت: كيف تجدك يا أبت؟ فقال: كلّ امرئ مصبّح فى أهله ... والموت أدنى من شراك نعله قالت: فقلت والله ما يدرى أبى ما يقول، ثم دنوت إلى عامر بن فهيرة، فقلت: كيف تجدك يا عامر؟ فقال: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 346 لقد وجدت الموت قبل ذوقه ... إنّ الجبان حتفه من فوقه «1» كلّ امرئ مجاهد بطوقه ... كالثّور يحمى جلده بروقه «2» فقلت: والله ما يدرى عامر ما يقول؛ قالت: وكان بلال إذا تركته الحمّى اضطجع بفناء البيت، ثم يرفع عقيرته «3» فيقول: ألا البيت شعرى هل أبيتنّ ليلة ... بفجّ «4» وحولى إذخر «5» وجليل «6» وهل أردن يوما مياه مجنّة «7» ... وهل يبدون لى شامة «8» وطفيل قالت عائشة: فذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمعت منهم، فقلت: إنهم ليهذون، وما يعقلون من شدّة الحمى، فقال: «اللهم حبّب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة وأشدّ، وبارك لنا فى مدّها وصاعها، وانقل وباءها إلى مهيعة» ؛ وهى الحجفة. ذكر مؤاخاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار كان ذلك بعد مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ روى محمد بن سعد عن الزهرىّ وغيره قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة آخى بين المهاجرين بعضهم لبعض، وآخى بين المهاجرين والأنصار، آخى بينهم على الحقّ والمواساة، يتوارثون بعد الممات دون ذوى الأرحام، وكانوا تسعين رجلا؛ خمسة الجزء: 16 ¦ الصفحة: 347 وأربعون من المهاجرين، وخمسة وأربعون من الأنصار، قال ويقال: مائة؛ خمسون من المهاجرين، وخمسون من الأنصار، فلما كانت وقعة بدر وأنزل الله تعالى: (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) «1» . فنسخت هذه الآية ما كان قبلها، وانقطعت المؤاخاة فى الميراث. ذكر كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى أمر بكتبه بين المهاجرين والأنصار، وموادعة يهود، وإقرارهم على دينهم، وما اشترطه فيه عليهم ولهم كان مضمون الكتاب على ما أورده ابن هشام عن ابن إسحاق: «بسم الله الرحمن للرحيم، هذا كتاب من محمد النبىّ [صلى الله عليه وسلم «2» ] بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم ولحق بهم وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربعتهم «3» يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم «4» بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم «5» الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو الحارث على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تقدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون بينهم معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها الجزء: 16 ¦ الصفحة: 348 بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو جشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو النّجّار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، [وبنو النّبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين «1» ] وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وإن المؤمنين لا يتركون مفرحا» بينهم أن يعطوه بالمعروف فى فداء أو عقل، وإنه لا يحالف «3» مؤمن مولى مؤمن دونه، وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم، أو ابتغى «4» دسيعة ظلم، أو إثم، أو عدوان، أو فساد بين المؤمنين؛ وإن أيديهم عليه جميعا ولو كان ولد أحدهم، ولا يقتل مؤمن مؤمنا فى كافر، ولا ينصر كافرا على مؤمن، وإن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالى بعض دون الناس، وإنه من [تبعنا «5» من] يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم، وإن سلم المؤمنين واحدة «6» ، لا يسالم مؤمن دون مؤمن فى قتال فى سبيل الله عزّ وجل إلا على سواء وعدل بينهم، وإن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضا، وإن المؤمنين يبىء «7» بعضهم عن بعض؛ بما نال دماءهم فى سبيل الله عزّ وجل، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 349 وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه، وإنه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا ولا يحول دونه على مؤمن، وإن من اعتبط «1» مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود به، إلا أن يرضى ولىّ المقتول، وإن المؤمنين عليه كافّة، ولا يحل لهم [إلا «2» ] القيام عليه، وأنه لا يحل لمؤمن أقرّ بما فى هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثا ولا يؤويه، وإن من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل، وإنكم مهما اختلفتم فيه من شىء فإن مردّه إلى الله وإلى محمد [صلى الله عليه وسلم «3» ] وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين، وإن يهود بنى عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم؛ إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ «4» إلا نفسه وأهل بيته، وإن ليهود بنى النجار مثل ما ليهود بنى عوف، وإن ليهود بنى الحارث مثل ما ليهود بنى عوف، [وإن ليهود بنى ساعدة مثل ما ليهود بنى عوف، وإن ليهود بنى جشم مثل ما ليهود بنى عوف «5» ] ، وإن ليهود بنى الأوس مثل ما ليهود بنى عوف، وإن ليهود بنى ثعلبة مثل ما ليهود بنى عوف، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته، وإن جفنة بطن من بنى ثعلبة [كأنفسهم «6» ] وإن لبنى الشّطنّة مثل ما ليهود بنى عوف، وإن البرّ دون الإثم، وإن موالى ثعلبة كأنفسهم، وإنّ بطانة «7» يهود كأنفسهم، وإنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد، وإنه لا ينحجز على ثأر جرح، وإنه من قتل فبنفسه [فتك، وأهل بيته «8» ] إلا من ظلم، وإن الله على أبّر هذا «9» ، وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، [وإن بينهم النصح والنصيحة، والبرّ دون الإثم، وإنه لم يأثم امرؤ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 350 بحليفه، وإن النصر للمظلوم، وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة «1» ] ، وإن الجار كالنفس غير مضارّ ولا آثم، وإنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها، وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مردّه إلى الله وإلى محمد رسول الله، وإن الله على أتقى ما فى هذه الصحيفة وأبرّه، وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها، وإن بينهم النصر على من دهم يثرب، وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه، فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين، إلا من حارب فى الدين، على كل أناس «2» حصّتهم من جانبهم الذى قبلهم، وإن يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة، مع البرّ المحض من أهل هذه الصحيفة- ويقال مع البر المحسن- وإن البرّ دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه، وإن الله على أصدق ما فى هذه الصحيفة وأبرّه، وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم ولا آثم، وإنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة إلا من ظلم وأثم، وإن الله جار لمن برّ واتّقى ومحمد رسول الله» . ذكر أخبار المنافقين من الأوس والخزرج وما أنزل فيهم من القرآن وقد رأيت أن أجمع ما فرقه أهل السير من أخبار المنافقين، وأضم بعضه إلى بعض، وأورده جملة واحدة، فإن ذلك لم يكن فى وقت واحد ولا فى سنة بعينها، بل أورده أهل السير بحسب ما وقع، وفرقوه فى الغزوات وغيرها، فآثرت جمعه فى هذا الموضع، وما كان قد وقع فى غزاة أو حادثة نبهت عليه فى موضعه على ما تقف عليه إن شاء الله تعالى. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 351 قال محمد بن إسحاق رحمه الله: كان رجال من الأوس والخزرج ممن أسلم وهو على جاهليته، فكانوا أهل نفاق على دين آبائهم من الشرك والتكذيب بالبعثة، إلا أن الإسلام قهرهم بظهوره، واجتماع قومهم عليه، فظهروا بالإسلام، واتخذوه جنّة من القتل، ونافقوا فى السّر، وكان هواهم مع يهود؛ لتكذيبهم وجحودهم الإسلام، فكان منهم من الأوس من بنى عمرو بن عوف، ثم من بنى لوذان بن عمرو بن عوف: زوىّ بن الحارث، ومن بنى حبيب بن عمرو: جلاس بن سويد بن صامت، وأخوه الحارث بن سويد، قال: وجلاس هو الذى قال عند تخلفه عن غزوة تبوك: لئن كان هذا الرجل صادقا لنحن شرّ من الحمير، فرفع ذلك من قوله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عمير بن سعد، وكان فى حجر جلاس خلف على أمه بعد أبيه، فلما تكلم جلاس بهذا قال له عمير: والله يا جلاس، إنك لأحبّ الناس إلىّ، وأحسنهم عندى يدا، وأعزّهم علىّ أن يصيبه شىء يكرهه، ولقد قلت مقالة لئن رفعتها عليك لأفضحنّك، ولئن صمتّ عليها ليهلكن دينى، ولإحداهما أيسر علىّ من الأخرى، ثم مشى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ما قال، فحلف جلاس لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالله لقد كذب علىّ عمير، وما قلت ما قال، فأنزل الله تعالى فيه: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) «1» ، قال ابن إسحاق: فزعموا أنه تاب فحسنت توبته حتى عرف منه الإسلام والخير. والله أعلم بالصواب. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 352 وأما أخوه الحارث بن سويد فإنه قتل المجذّر بن ذياد البلوىّ فى يوم أحد ولحق بقريش، وكان المجذّر قتل سويد بن صامت فى بعض الحروب التى كانت بين الأوس والخزرج، فلما كان يوم أحد قتله بأبيه. قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم- فيما يذكرون- أمر عمر بن الخطاب رضى الله عنه بقتله إن هو ظفر به ففاته، وكان بمكة ثم بعث إلى أخيه جلاس يطلب التوبة ليرجع إلى قومه، فأنزل الله فيه- فيما حكى عن ابن عباس رضى الله عنهما: (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) «1» إلى آخر القصة. وكان من المنافقين من بنى ضبيعة ابن يزيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بجاد بن عثمان بن عامر. ونبتل ابن الحارث، وهو الذى قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما حكى: «من أحبّ أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث» ، وكان رجلا جسيما أدلم «2» ، ثائر شعر الرأس، أحمر العينين، أسفع «3» الخدّين، وكان يأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتحدث إليه ويسمع منه، ثم ينقل حديثه إلى المنافقين، وهو الذى قال: إنما محمد أذن، من حدثه شيئا صدقه. فأنزل الله تعالى فيه: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ، وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) «4» ، وأخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم به وبصفته فيما حكاه ابن إسحاق. وأبو حبيبة بن الأزعر، وكان ممن بنى مسجد الضّرار. وثعلبة بن حاطب، ومعتّب بن قشير، وهما اللذان عاهدا الله (لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ) «5» ، ومعتّب هو الذى الجزء: 16 ¦ الصفحة: 353 قال يوم أحد: لو كان لنا من الأمر شىء ما قتلنا ها هنا، فأنزل الله تعالى فى ذلك من قوله: (وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) «1» إلى آخر القصة. وهو الذى قال يوم الأحزاب: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يأمن أن يذهب إلى الغائط، فأنزل الله فيه: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) «2» . والحارث بن حاطب- وقال ابن هشام: ثعلبة والحارث ابنا حاطب، هما من بنى أمية بن زيد من أهل بدر، وليسا من المنافقين- والله أعلم. ومنهم عبّاد بن حنيف أخو سهل، وبحزج؛ وهو ممن بنى مسجد الضّرار، وعمرو بن خذام، وعبد الله بن نبتل، وجارية بن عامر ابن العطّاف وابناه زيد ومجّمع؛ وهم ممن بنى مسجد الضّرار. وكان مجمّع غلاما حدثا قد جمع من القرآن أكثره، فكان يصلى بهم فيه، فلما كان فى خلافة عمر بن الخطاب رضى الله عنه كلّم عمر فى مجمّع ليصلى ببنى عمرو بن عوف فى مسجدهم، فقال عمر: لا، أو ليس بإمام المنافقين فى مسجد الضّرار! فقال: يا أمير المؤمنين والله الذى لا إله إلا هو ما علمت بشىء من أمرهم إلا على أحسن ما ذكروا؛ فزعموا أن عمر تركه يصلى بقومه. ومن بنى أمية بن زيد بن مالك وديعة بن ثابت وهو ممن بنى مسجد الضّرار، وهو الذى قال: إنما كنا نخوض ونلعب، فأنزل الله فيه وفيمن قال بقوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ) «3» إلى آخر القصة. ومن بنى عبيد بن زيد بن مالك خذام بن خالد، وهو الذى أخرج مسجد الضّرار من داره، وبشر ورافع ابنا زيد. ومن بنى النّبيت مربع بن قيظىّ وهو الذى قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أجاز حائطه، ورسول الله الجزء: 16 ¦ الصفحة: 354 صلى الله عليه وسلم عامد إلى أحد: لا أحلّ لك يا محمد إن كنت نبيّا أن تمرّ بحائطى، وأخذ فى يده حفنة من تراب ثم قال: والله لو أعلم أنى لا أصيب بهذا التراب غيرك لرميتك به؛ فآبتدره القوم ليقتلوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعوه، فهذا الأعمى أعمى القلب، أعمى البصيرة» ، وضربه سعد بن زيد بالقوس فشجّه؛ وأخوه أوس بن قيظىّ، وهو الذى قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق: إن بيوتنا عورة، فأذن لنا أن نرجع إليها، فأنزل الله تعالى فيه: (يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً) «1» . ومن بنى ظفر- واسم ظفر كعب- حاطب بن أمية بن رافع، وبشير بن أبيرق، وهو أبو طعمة سارق الدّرعين الذى أنزل الله فيه: (وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً) «2» . وقزمان حليف لهم. قال ابن إسحاق بسنده: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «إنه لمن أهل النار» ، فلما كان يوم أحد قاتل قتالا شديدا حتى قتل تسعة من المشركين، وأثبتته الجراحة، فحمل إلى دار بنى ظفر، فقال له رجال من المسلمين: أبشر يا قزمان، فقد أبليت اليوم، وقد أصابك ما ترى فى الله، قال: بماذا أبشّر، والله ما قاتلت إلا حميّة عن قومى، فلما اشتدّت به جراحه أخذ سهما من كنانته، فقطع به رواهش يده فقتل نفسه. قال ابن إسحاق: ولم يكن فى بنى عبد الأشهل منافق ولا منافقة إلا أن الضحاك بن ثابت أحد بنى كعب رهط سعد بن زيد قد كان يتّهم بالنفاق وحبّ يهود. قال ابن إسحاق: وكان جلاس ابن سويد قبل توبته، ومعتب بن قشير، ورافع بن زيد، وبشر، هم الذين دعاهم رجال من قومهم من المسلمين فى خصومة كانت بينهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعوهم إلى حكّام الجاهلية فأنزل الله فيهم: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 355 أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً) «1» إلى آخر القصة. فهؤلاء الذين ذكرناهم من الأوس. ومن الخزرج من بنى النجار رافع بن وديعة، وزيد بن عمرو، وعمرو ابن قيس، وقيس بن عمرو بن سهل. ومن بنى جشم بن الخزرج الجدّ بن قيس، وهو الذى يقول: يا محمد ائذن لى ولا تفتنّى، فأنزل الله تعالى فيه: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) «2» ؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال له وهو فى جهازه إلى تبوك: «يا جدّ، هل لك العام فى جلاد بنى الأصفر» ؟ قال: يا رسول الله، أو تأذن لى ولا تفتنّى؟ فو الله لقد عرف قومى أنه ما من رجل أشد عجبا بالنساء منى، وإنى أخشى إن رأيت نساء بنى الأصفر ألا أصبر. فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «أذنت لك» ، فأنزل الله تعالى فيه ما أنزل. ومن بنى عوف بن الخزرج عبد الله بن أبىّ بن سلول، وكان رأس المنافقين وكانوا يجتمعون إليه. قال محمد بن إسحاق: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وسيد أهلها عبد الله بن أبىّ بن سلول، لا يختلف عليه فى شرفه من قومه اثنان، لم تجتمع الأوس والخزرج قبله ولا بعده على رجل من أحد الفريقين- حتى جاء الإسلام- غيره؛ قال: ومعه رجل من الأوس هو فى قومه شريف مطاع، وهو أبو عامر عبد الله ابن عمرو بن صيفىّ بن النعمان، أحد بنى ضبيعة بن زيد، وهو أخو حنظلة الغسيل «3» وكان قد ترهّب فى الجاهلية ولبس المسوح، وكان يقال له: الراهب، فشقيا بشرفهما. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 356 فأما عبد الله بن أبىّ فكان قومه قد نظموا له الخرز ليتوّجوه ثم يملّكوه عليهم، فجاءهم الله تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم وهم على ذلك، فلما انصرف قومه عنه إلى الإسلام ضغن، ورأى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استلبه ملكا، فلما رأى قومه قد أبوا إلا الإسلام دخل فيه كارها مصرّا على نفاق. وقد روى عن [أسامة ابن زيد «1» ] بن حارثة قال: ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن عبادة يعوده من شكوى أصابته، على حمار عليه إكاف فوقه قطيفة فدكية مختطمة بحبل من ليف، وأردفنى صلى الله عليه وسلم خلفه، قال: فمر بعبد الله بن أبىّ بن سلول، وهو فى ظلّ مزاحم «2» أطمه، وحوله رجال من قومه، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم تذمّم «3» من أن يجاوزه حتى ينزل، فنزل فسلّم ثم جلس فتلا القرآن، ودعا إلى الله عزّ وجلّ، وذكّر بالله وحذّر وبشّر وأنذر، قال: وهو زامّ «4» لا يتكلم، حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من مقالته، قال: يا هذا، إنه لا أحسن من حديثك هذا إن كان حقّا، فاجلس فى بيتك فمن جاءك له فحدّثه إياه، ومن لم يأتك فلا تغشه به، ولا تأته فى مجلسه بما يكره منه. فقال عبد الله بن رواحة فى رجال كانوا عنده من المسلمين: بلى فاغشنا به وأتنا فى مجالسنا ودورنا وبيوتنا، فهو والله ما نحبّ، وما أكرمنا الله به وهدانا له، فقال عبد الله حين رأى من خلاف قومه ما رأى: متى ما يكن مولاك خصمك لم تزل ... تذلّ ويصرعك الذين تصارع وهل ينهض البازى بغير جناحه ... وإن جذّ يوما ريشه فهو واقع قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل على سعد بن عبادة وفى وجهه ما قال عدوّ الله، فقال سعد: والله يا رسول الله، إنى لأرى فى وجهك شيئا؛ لكأنك الجزء: 16 ¦ الصفحة: 357 سمعت شيئا تكرهه. قال: «أجل» ، ثم أخبره بما قال ابن أبىّ، فقال: يا رسول الله ارفق به، فو الله لقد جاءنا الله بك، وإنا لننظم له الخرز لنتوّجه، فإنه ليرى أنك قد سلبته ملكا. وكانت مقالة عبد الله بن أبىّ هذه قبل تلفظه بالإسلام، وسنورد إن شاء الله تعالى من أخباره فى الغزوات، وانحيازه عن المسلمين بثلث الناس يوم أحد، وما قاله فى غزوة المريسيع وغيرها ما تقف عليه فى مواضعه، مما تستدل به على صحة نفاقه، وإصراره فى الباطن على كفره. وأما أبو عامر فإنه أبى إلا الإصرار على كفره، وفارق قومه حين اجتمعوا على الإسلام، فخرج إلى مكة ببضعة عشر رجلا، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق، وهو أوّل من أنشب الحرب يوم أحد على ما نذكره إن شاء الله تعالى. قال: وكان أبو عامر قد أتى النبى صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة فقال: ما هذا الذى جئت به؟ قال: «جئت بالحنيفية دين إبراهيم» ، قال: فأنا عليها، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنك لست عليها» ، قال: بلى، إنك أدخلت يا محمد فى الحنيفية ما ليس منها، قال: «ما فعلت ولكن جئت بها بيضاء نقية» ، قال: الكاذب أماته الله طريدا غريبا وحيدا- يعرّض برسول الله صلى الله عليه وسلم: أى إنك ما جئت بها كذلك! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أجل، فمن كذب يفعل الله به ذلك» ، فكان هو ذاك؛ خرج إلى مكة، فلما افتتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الطائف، فلما أسلم أهل الطائف لحق بالشام، فمات به طريدا غريبا وحيدا. ومن المنافقين من أحبار يهود ممن تعوّذ بالإسلام ودخل فيه مع المسلمين وأظهره وهو منافق: سعد ابن حنيف، وزيد بن اللّصيت، ونعمان بن «1» أوفى، وعثمان بن أبى أوفى. وزيد الجزء: 16 ¦ الصفحة: 358 ابن اللّصيت هو الذى قاتل عمر بن الخطاب بسوق بنى قينقاع، وهو الذى قال حين ضلت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى غزوة تبوك: يزعم محمد أنه يأتيه خبر السماء، ولا يدرى أين ناقته! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم- وجاءه الخبر بما قال ودلّه الله عليها-: «إن فلانا قال: يزعم محمد أنه يأتيه خبر السماء ولا يدرى أين ناقته، وإنى والله لا آتيكم إلا ما علمنى الله، وقد دلنى الله عليها، وهى فى هذا الشّعب، قد حبستها شجرة بزمامها» ، فذهب رجال من المسلمين فوجدوها حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وكما وصف. ومنهم رافع بن حريملة وهو الذى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات: «قد مات اليوم عظيم من عظماء المنافقين» . ورفاعة [بن زيد «1» ] بن التابوت، وهو الذى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هبت ريح وهو قافل من غزوة بنى المصطلق واشتدّت، حتى أشفق منها المسلمون: «لا تخافوا، فإنها هبت لموت عظيم من عظماء الكفار» ، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وجد رفاعة بن زيد مات ذلك اليوم الذى هبت فيه الريح. وسلسلة بن برهام، وكنانة بن صوريا. وكان هؤلاء يحضرون المسجد يسمعون أحاديث المسلمين، ويسخرون منهم، ويستهزئون بدينهم. قال ابن إسحاق: فاجتمع يوما منهم فى المسجد ناس، فرآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدّثون بينهم بأقصى أصواتهم «2» ، قد لصق بعضهم ببعض، فأمر بهم فأخرجوا من المسجد إخراجا عنيفا؛ فقام أبو أيوب خالد بن زيد إلى عمرو بن قيس احد بنى النجار- وكان صاحب آلهتهم فى الجاهلية- فأخذ برجله يسحبه حتى أخرجه من المسجد، وهو يقول: أتخرجنى يا أبا أيوب من مربد بنى ثعلبة! ثم أقبل أبو أيوب أيضا إلى رافع بن وديعة أحد بنى النجار فلبّبه الجزء: 16 ¦ الصفحة: 359 بردائه، ثم نتره «1» نترا شديدا، ولطم وجهه وأخرجه، وهو يقول: أفّ لك منافقا خبيثا! أدراجك «2» يا منافق من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقام عمارة ابن حزم إلى زيد بن عمرو- وكان رجلا طويل اللحية- فأخذ بلحيته فقاده بها قودا عنيفا حتى أخرجه، ثم جمع عمارة يديه فلدمه «3» بها فى صدره لدمة خرّ منها، فقال: خدشتنى يا عمارة، قال: أبعدك الله يا منافق، فما أعدّ الله لك من العذاب أشدّ من ذلك، فلا تقر بن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقام أبو محمد مسعود ابن أوس من بنى النجار إلى قيس بن عمرو بن سهل، وكان قيس غلاما شابا ولا يعلم فى المنافقين شاب غيره، فجعل يدفع فى قفاه حتى أخرجه. وقام عبد الله ابن الحارث من بلخدرة «4» رهط أبى سعيد الخدرىّ إلى الحارث بن عمرو، وكان ذا جمّة، فأخذ بجمّته فسحبه بها سحبا عنيفا على مامر به من الأرض حتى أخرجه، فقال له: لقد أغلظت يابن الحارث، فقال له: إنك أهل لذلك- أى عدوّ الله- لما أنزل فيك، فلا تقربن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنك نجس. وقام رجل من بنى عمرو بن عوف إلى أخيه زوىّ بن الحارث فأخرجه إخراجا عنيفا، وأفّف «5» منه، وقال: غلب عليك الشيطان وأمره. قال: فهؤلاء من حضر المسجد يومئذ من المنافقين؛ وفى هؤلاء من المنافقين، وفى أحبار يهود أنزل الله تعالى صدر سورة البقرة إلى المائة منها؛ والله أعلم. فالذى منها مما يختص بالمنافقين قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) «6» إلى قوله: (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) «7» . وقوله: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 360 (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً) «1» أى شك فزادهم الله شكا. وقوله: (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) «2» لأنهم كانوا يقولون: إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب. وقوله: (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ) أى من تهود (قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) أى على مثل ما أنتم عليه (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) «3» أى إنما نستهزئ بالقوم ونلعب بهم. ثم ضرب الله لهم مثلا فقال: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) «4» الآية؛ أى يبصرون الحقّ ويقولون به، حتى إذا خرجوا به من ظلمة الكفر أطفئوه بكفرهم ونفاقهم فيه، فتركهم الله فى ظلمات الكفر فهم لا يبصرون هدى، ولا يستقيمون على حقّ. ثم قال تعالى: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) «5» أى عن الخير، لا يرجعون إلى هدى. وقوله: (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) «6» الصّيّب: المطر. قال ابن إسحاق: أى هم من ظلمة ما هم فيه من الكفر والحذر من القتل، على الذى هم عليه من الخلاف والتخوف لكم، على مثل ما وصف، من الذى هو فى ظلمة الصّيّب، يجعل أصابعه فى أذنيه من الصواعق حذر الموت. (وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) أى منزل ذلك بهم من النقمة. قوله: (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) أى لشدة ضوء الحقّ (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) أى يعرفون الحقّ ويتكلمون به، فهم من قولهم على استقامة، فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر قاموا متحيرين. (وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) «7» أى لما تركوا الحقّ بعد معرفته. والله تعالى أعلم بالصواب. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 361 وحيث ذكرنا ما ذكرنا من أخبار المنافقين، فلنذكر أخبار يهود، ونجمع ما تفرق منها على نحو ما تقدّم. ذكر شىء من أخبار يهود الذين نصبوا العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أنزل فيهم من القرآن قال: لما أظهر الله تعالى دينه، واطمأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، اجتمع إليه إخوانه من المهاجرين والأنصار، واستحكم أمر الإسلام، نصبت احبار يهود العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بغيا وحسدا، مع تحققهم نبوته، وصحة رسالته، وأنه الذى نص الله تعالى عليه فى التوراة؛ فكانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتعنّتونه، وهم من بنى النضير: حيىّ بن أخطب، وأخواه أبو ياسر وحدىّ، وسلام بن مشكم، وكنانة بن الربيع بن أبى الحقيق، والربيع ابن الربيع بن أبى الحقيق، وعمرو بن جحاش، وكعب بن الأشرف، والحجاج بن عمرو حليف كعب بن الأشرف، وكردم بن قيس حليفه أيضا. ومن بنى ثعلبة بن الفطيون «1» - ويقال فيه الفطيوس- عبد الله بن صوريا الأعور، وهو أعلم أهل زمانه بالحجاز بالتوراة، وابن صلوبا، ومخيريق، وكان حبرهم. ومن بنى قينقاع: زيد بن الصّليت- ويقال فيه اللّصيت- وسعد بن حنيف، ومحمود بن سيحان، وعزيز ابن أبى عزيز، وعبد الله بن صيف- ويقال ابن ضيف- وسويد بن الحارث، ورفاعة بن قيس، وفنحاص، وأشيع، ونعمان بن أضا، وبحرىّ بن عمرو، وشاس ابن عدىّ بن قيس، وزيد بن الحارث، ونعمان بن عمرو، وسكين بن أبى سكين، وعدىّ بن زيد، ونعمان بن أبى أوفى، أبو أنس، ومحمود بن دحية، ومالك بن صيف، وكعب بن راشد، وعازر، ورافع بن أبى رافع، وخالد، وأزار بن الجزء: 16 ¦ الصفحة: 362 أبى أزار- ويقال فيه: آزر بن أبى آزر- ورافع بن حارثة، ورافع بن خارجة، ومالك بن عوف، ورفاعة بن زيد، وعبد الله بن سلام بن الحارث؛ وكان حبرهم وأعلمهم، وكان اسمه الحصين، فلما أسلم سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله. ومن بنى قريظة الزبير بن باطا بن وهب، وعزّال بن سموال، وكعب ابن أسد. وشمويل بن زيد، وجبل بن عمرو، والنّحّام بن زيد، وقردم بن كعب، ووهب بن زيد، ونافع بن أبى نافع، وأبو نافع، وعدىّ بن زيد، والحارث بن عوف، وكردم بن زيد، وأسامة بن حبيب، ورافع بن رميلة، وجبل بن أبى قشير، ووهب بن يهوذا. ومن يهود بنى زريق لبيد بن أعصم الساحر. ومن يهود بنى الحارثة: كنانة ابن صوريا. ومن يهود بنى عمرو بن عوف قردم بن عمرو. ومن يهود بنى النجار: سلسلة بن برهام؛ هؤلاء أحبار يهود، وأهل العداوة لله تعالى ولرسوله، لم يستثن منهم إلا عبد الله بن سلام ومخيريق، فإنهما أسلما. والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع. ذكر إسلام عبد الله بن سلام «1» ، ومخيريق أمّا عبد الله بن سلام فإنه كان عالما حبرا من أحبار يهود؛ حكى محمد بن إسحاق عن خبر إسلامه رواية عن بعض أهله عنه قال: لما سمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم عرفت صفته وإسلامه وزمانه الذى كنا نتوكّف «2» له، فكنت مسرّا لذلك صامتا عليه، حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 363 فلما نزل بقباء فى بنى عمرو بن عوف أقبل رجل حتى أخبر بقدومه، وأنا على رأس نخلة أعمل فيها، وعمتى خلدة «1» بنت الحارث تحتى جالسة، فلما سمعت الخبر كبّرت؛ فقالت عمتى حين سمعت تكبيرى: خيبك الله! والله لو كنت سمعت بموسى بن عمران قادما ما زدت. قال: قلت لها: أى عمة، هو والله أخو موسى بن عمران وعلى دينه، بعث بما بعث به؛ قالت: أى ابن أخى، هذا النبى الذى كنا نخبر به أنه يبعث مع نفس الساعة؟ قلت نعم؛ قالت: فذاك إذا؛ قال: ثم خرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت؛ فلما رجعت إلى أهل بيتى فأمرتهم فأسلموا، وكتمت إسلامى من يهود، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إنّ يهود قوم بهت «2» ، وإنى أحبّ أن تدخلنى بعض بيوتك فتغيّبنى عنهم، ثم تسألهم عنى حتى يخبروك كيف أنا فيهم قبل أن يعلموا بإسلامى، فإنهم إن علموا به بهتونى؛ قال: فأدخلنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض بيوته، ودخلوا عليه فكلموه وساءلوه ثم قال لهم: «أىّ رجل الحصين بن سلام فيكم» ؟ فقالوا: سيدنا وابن سيدنا وعالمنا؛ فلما فرغوا من قولهم خرجت عليهم فقلت لهم: يا معشر يهود، اتقوا الله واقبلوا ما جاءكم به، فو الله إنكم لتعلمون أنه لرسول الله تجدونه مكتوبا عندكم فى التوراة باسمه وصفته، فإنى أشهد أنه رسول الله، وأو من به، وأصدقه وأعرفه؛ فقالوا: كذبت، ثم وقعوا بى، فقلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم أخبرك يا رسول الله أنهم قوم بهت، أهل غدر وكذب وفجور؛؟ قال: وأظهرت إسلامى وإسلام أهل بيتى، وأسلمت عمتى خلدة بنت الحارث فحسن إسلامها. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 364 وأمّا مخيريق- قال ابن إسحاق: كان حبرا عالما، وكان غنيا كثير الأموال من النخل، وكان يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفته وما يجد فى علمه، وغلب عليه إلف دينه، فلم يزل على ذلك، حتى إذا كان يوم أحد وهو يوم السبت، قال: يا معشر يهود، والله إنكم لتعلمون أنّ نصر محمد عليكم لحقّ؛ قالوا: إنّ اليوم يوم السبت، قال: لا سبت لكم، ثم أخذ سلاحه فخرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بأحد، وعهد إلى من وراءه من قومه: إن قتلت فى هذا اليوم فأموالى لمحمد يصنع فيها ما أراه الله؛ فلما اقتتل الناس قاتل حتى قتل، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما حكى يقول: «مخيريق خير يهود» ، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أمواله، فعامّة صدقات رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة منها. قال: وكان مما أنزل الله تعالى فى أمر اليهود صدرا من سورة البقرة، من ذلك قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) «1» أى إنهم قد كفروا بما عندك من ذكر لهم، وجحدوا ما أخذ عليهم من الميثاق لك، فقد كفروا بما جاءك، وبما عندهم مما جاءهم به غيرك، فكيف يستمعون منك إنذارا أو تحذيرا! وقوله: (خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) أى عن الهدى لن يصيبوه أبدا، (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) «2» أى بما هم عليه من خلافك. وقوله تعالى: (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ. وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ. وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 365 وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) «1» ، أى لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولى وبما جاء به، وأنتم تجدونه عندكم فيما تعلمون من الكتب التى بأيديكم. ثم قال الله تعالى: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) «2» أى تنهون الناس عن الكفر بما عندكم من التوراة، وتتركون أنفسكم، وأنتم تكفرون بما فيها من عهدى إليكم فى تصديق رسولى، وتنقضون ميثاقى، وتجحدون ما تعلمون من كتابى. [ثم «3» ] عدّد عليهم أحداثهم فيما سلف، فذكر لهم العجل، وقولهم لموسى: (أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً) «4» وصعقتهم عند ذلك، ثم إحياء الله لهم وإظلالهم بالغمام، وإنزاله عليهم المنّ والسّلوى، وقوله لهم: (ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ) «5» أى قولوا ما آمركم به أحطّ به ذنوبكم عنكم؛ وتبديلهم ذلك، إلى ما ذكره الله تعالى من أخبارهم مع موسى. ثم قال الله تعالى والخطاب لنبيه صلى الله عليه وسلم ولمن معه من المؤمنين: (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) «6» قال الفريق الذى أخبر الله عنهم أنهم كانوا يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعدما عقلوه؛ وهم الذين قالوا لموسى صلى الله عليه وسلم: يا موسى، قد حيل بيننا وبين رؤية ربنا، فأسمعنا كلامه حين يكلمك، فطلب موسى ذلك من ربه لهم، فقال تعالى: مرهم فليتطهّروا ويطهّروا ثيابهم ويصوموا، ففعلوا، ثم خرج بهم حتى أتى الطور، فلما غشيهم الغمام أمرهم موسى فوقعوا سجودا وكلمه ربه، فسمعوا كلامه يأمرهم وينهاهم، حتى عقلوا ما سمعوا، ثم انصرف بهم موسى إلى بنى إسرائيل، فلما جاءهم حرّف فريق ممن سمع ما أمرهم به، وقالوا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 366 حين قال موسى لبنى إسرائيل: إنّ الله قد أمركم بكذا وكذا، قال ذلك الفريق: إنما قال كذا وكذا خلافا لما قال الله تعالى لهم، فهم الذين عنى الله تعالى. ثم قال: (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) «1» أى بصاحبكم رسول الله، ولكنه إليكم خاصة. وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا: لا تحدّثوا العرب بهذا، فإنكم قد كنتم تستفتحون به عليهم، فأنزل الله تعالى: (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ) «2» أى تقرون بأنه نبىّ، وهو يخبرهم أنه النبىّ الذى كنا ننتظره ونجده فى كتابنا، اجحدوه فلا تقرّوا لهم به، قال الله تعالى: (أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ. وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) «3» أى إلا تلاوة؛ والأمىّ هو الذى يقرأ ولا يكتب، معناه أنهم لا يعلمون الكتاب فلا يدرون ما فيه، فهم يجحدون نبوّتك بالظن. وقوله تعالى: (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ) «4» قال ابن عباس رضى الله عنهما: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة واليهود تقول: إنما مدة الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما يعذّب الله تعالى الناس فى النار بكل ألف سنة من ايام الدنيا يوما واحدا فى النار من أيام الآخرة، وإنما هى سبعة أيام، ثم ينقطع العذاب، فأنزل الله تعالى ذلك، ثم قال: (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) أى من عمل مثل أعمالكم، وكفر بمثل ما كفرتم به، حتى يحيط كفره بما له من حسنة (فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) «5» . ثم قال تعالى يذمّهم: (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 367 بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) «1» أى تركتم ذلك كله. (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) «2» . قال ابن إسحاق: أفررتم على أنّ هذا حقّ من ميثاقى عليكم، (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) «3» ، أى أهل الشرك، حتى يسفكوا دماءهم معهم، ويخرجوهم من ديارهم معهم، (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ) وقد عرفتم أن ذلك عليكم فى دينكم، (وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) أى أتفادونهم مؤمنين بذلك وتخرجونهم كفارا بذلك (فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ. أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) «4» فأنبهم بذلك من فعلهم، وقد حرّم عليهم فى التوراة سفك دمائهم، وافترض عليهم فيها فداء أسرائهم فكانوا فريقين، منهم بنو قينقاع ولفّهم «5» حلفاء الخزرج، والنّضير وقريظة، ولفّهم حلفاء الأوس، وكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج، وخرجت بنو النّضير وقريظة مع الأوس يظاهر كلّ واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه حتى يتسافكوا دماءهم بينهم، وبأيديهم الجزء: 16 ¦ الصفحة: 368 التوراة يعرفون منها ما عليهم وما لهم، والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان، لا يعرفون جنة ولا نارا، ولا بعثا ولا قيامة، ولا كتابا، ولا حلالا ولا حراما، فإذا وضعت الحرب [أوزارها «1» ] افتدوا أساراهم تصديقا لما فى التوراة وأخذا به، يفتدى بنو قينقاع ما كان من أسراهم فى أيدى الأوس، [و «2» ] يفتدى بنو النّضير وقريظة ما كان فى أيدى الخزرج منهم، ويطلّون «3» ما أصابوا من الدماء، وقتلى من قتلوا منهم فيما بينهم، مظاهرة لأهل الشرك عليهم؛ يقول الله تعالى: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) «4» أى تفاديه بحكم التوراة وتقتله، وفى حكم التوراة: ألا تفعل: [تقتله «5» ] ، وتخرجه من داره، وتظاهر عليه من يشرك بالله ويعبد الأوثان ابتغاء عرض الدنيا. ثم قال: (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ) أى الآيات التى كانت له من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله، والخبر بكثير من الغيوب مما يأكلون وما يدّخرون فى بيوتهم، ثم ذكر كفرهم بذلك كله، فقال: (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) «6» ثم قال: (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ. وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ) «7» ؛ وذلك أنهم كانوا يقولون للأنصار لما كانوا على جاهليتهم: إنّ نبيا يبعث الآن قد أظلّ زمانه، نتبعه، فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم اتبعه الأنصار الجزء: 16 ¦ الصفحة: 369 وكفر به يهود، قال الله تعالى: (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) ، ثم قال: (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) «1» ، غضب الله عليهم فيما صنعوا من مخالفتهم حكم التوراة، وغضب عليهم بكفرهم بهذا النبىّ الذى أرسل إليهم، ثم أنّبهم برفع الطور، واتخاذ العجل إلها من دون الله؛ ثم قال تعالى: (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) «2» أى ادعوا بالموت على أىّ الفريقين أكذب، فأبوا ذلك، فأعلمهم أنهم لم يتمنوه فقال: (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) «3» أى بما عندهم من العلم بك والكفر بذلك، فيقال: لو تمنوه يوم قال لهم ذلك ما بقى على الأرض يهودىّ إلا مات، ثم ذكر رغبتهم فى الحياة فقال: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ) «4» أى ما هو بمنجيه؛ وذلك أنّ المشرك لا يرجو بعثا بعد الموت، فهو يحب طول الحياة، وأنّ اليهودىّ قد عرف ماله فى الآخرة من الخزى بما صنع فيما عنده من العلم. والله تعالى الهادى للصواب، وإليه المرجع والمآب. ذكر سؤال أحبار يهود رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتراطهم على أنفسهم أنه إن أجابهم عما سألوه آمنوا به، ورجوعهم عن الشرط وذلك أنّ نفرا من أحبار يهود جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد، أخبرنا عن أربع نسألك عنهنّ، فإن فعلت اتبعناك وصدّقناك وآمنا بك؛ فقال: «عليكم بهذا عهد الله وميثاقه إن أخبرتكم بذلك لتصدقنّنى» ؟ قالوا: نعم؛ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 370 قال: «فآسألوا عما بدا لكم» قالوا: أخبرنا كيف يشبه الولد أمّه، وإنما النطفة من الرجل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنشدكم بالله وبأيّامه عند بنى إسرائيل هل تعرفون أن نطفة الرجل بيضاء غليظة، ونطفة المرأة صفراء رقيقة فأيتهما علت صاحبتها كان لها الشبه» ؟ قالوا: اللهم نعم، قالوا: فأخبرنا كيف نومك؟ قال: «أنشدكم بالله وبأيّامه عند بنى إسرائيل، هل تعلمون أن نوم الذى تزعمون أنى لست به تنام عينه وقلبه يقظان» ؟ [قالوا «1» : اللهم نعم، قال: «فكذلك نومى، تنام عينى وقلبى يقظان» ] قالوا: فأخبرنا عما حرّم إسرائيل على نفسه؟ قال: «أنشدكم بالله وبأيامه عند بنى إسرائيل، هل تعلمون أنه كان أحبّ الطعام والشراب إليه ألبان الإبل ولحومها، وأنه اشتكى شكوى فعافاه الله منها، فحرم على نفسه أحبّ الطعام والشراب إليه شكرا لله تعالى، فحرم على نفسه لحوم الإبل وألبانها» ؟ قالوا: اللهم نعم؛ قالوا: فأخبرنا عن الرّوح؟ قال: «أنشدكم بالله وبأيامه عند بنى إسرائيل، هل تعلمونه جبريل، وهو الذى يأتينى» ؟ قالوا: اللهم نعم، ولكنه يا محمد، لنا عدوّ، وهو ملك، إنما يأتى بالشدّة وبسفك الدماء، ولولا ذلك لاتبعناك، فأنزل الله فيهم: (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ. مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ. وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ. أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ. وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) الجزء: 16 ¦ الصفحة: 371 وذلك أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم لما ذكر سليمان فى المرسلين قال بعض أحبار يهود: ألا تعجبون من محمد! يزعم أن سليمان بن داود كان نبيا، وو الله ما كان إلا ساحرا، فأنزل الله تعالى فى ذلك من قولهم: (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا) أى باتباعهم السحر وعملهم به، (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ) «1» ، قال ابن إسحاق: وحدثنى من لا أتهم عن عكرمة، عن ابن عباس أنه كان يقول: الذى حرم إسرائيل على نفسه: زائدتا الكبد، والكليتان، والشحم، إلا ما على الظّهر، فإن ذلك كان يقرّب للقربان فتأكله النار. والله أعلم بالصواب. ذكر كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى كتبه إلى يهود خيبر عن ابن عباس رضى الله عنهما: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله صاحب موسى وأخيه، المصدّق بما جاء به موسى، ألا إنّ الله قد قال لكم: يا معشر أهل التوراة- وإنكم تجدون ذلك فى كتابكم: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) «2» ؛ وإنّى أنشدكم بالله، وأنشدكم بما أنزل عليكم، وأنشدكم بالذى أطعم من كان قبلكم من أسباطكم المنّ والسّلوى، وأنشدكم بالذى أيبس البحر لآبائكم حتى الجزء: 16 ¦ الصفحة: 372 أنجاهم من فرعون وعمله إلا اخبرتمونا هل تجدون فيما أنزل عليكم أن تؤمنوا بمحمد؟ فإن كنتم لا تجدون ذلك فى كتابكم فلا كره عليكم؛ (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) «1» فأدعوكم إلى الله وإلى نبيه» . ذكر ما قاله أحبار يهود فى قوله تعالى: (الم) * ، و (المص) و (الر) * ، و (المر) حكى محمد بن إسحاق أنّ أبا ياسر «2» بن أخطب مرّ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو: (الم. ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) «3» ، فأتى أخاه حيىّ بن أخطب فى رجال من يهود. فقال: تعلّموا، والله لقد سمعت محمدا يتلو فيما أنزل عليه: (الم. ذلِكَ الْكِتابُ) ، فقالوا: أنت سمعته؟ قال: نعم، فمشى حيىّ فى أولئك النفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد، ألم تذكر لنا أنك تتلو فيما أنزل عليك: (الم) * ؟ فقال: «بلى» ، قالوا: أجاءك بها جبريل من عند الله؟ قال: «نعم» ، فقالوا: لقد بعث الله قبلك أنبياء، ما نعلمه بيّن لنبىّ منهم ما مدّة ملكه، وما أكل أمته غيرك. فأقبل حيىّ بن أخطب على من معه، فقال لهم: الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون؛ فهذه إحدى وسبعون سنة، أفتدخلون فى دين إنما مدّة ملكه وأكل أمته إحدى وسبعون سنة؟ ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، هل مع هذا غيره؟ قال: «نعم» قال: ماذا؟ قال: (المص) قال: فهذه أثقل وأطول، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون؛ والصاد تسعون، فهذه إحدى وستون «4» ومائة، هل مع هذا يا محمد غيره؟ قال: «نعم (الر) * » . قال: هذه أثقل وأطول، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والراء مائتان، فهذه الجزء: 16 ¦ الصفحة: 373 إحدى وثلاثون ومائتان، هل مع هذا غيره يا محمد؟ قال: «نعم (المر) » قال: هذه أثقل وأطول، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والراء مائتان، فهذه إحدى وسبعون ومائتا سنة، ثم قال: لقد لبّس علينا أمرك يا محمد حتى ما ندرى أقليلا أعطيت أم كثيرا؟ ثم قاموا عنه؛ فقال أبو ياسر لأخيه حيىّ ولمن معه من الأحبار: ما يدريكم، لعله قد جمع هذا كلّه لمحمد؛ سبعمائة وأربع [وثلاثون «1» ] سنة، قالوا: لقد تشابه علينا أمره، فيقال: إنّ قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) «2» نزلت فيهم، وقيل: إنما نزلت فى وفد نجران، على ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر شىء من مقالات أحبار يهود، وما أنزل من القرآن فى ذلك كان من مقالاتهم ما قاله مالك بن الضّيف «3» حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر لهم ما أخذ عليهم من الميثاق، وما عهد إليهم فيه، فقال: والله ما عهد إلينا فى محمد عهد، وما أخذ له علينا ميثاق، فأنزل الله عزّ وجلّ فيه: (أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) «4» . وقال ابن صلوبا الفطيونى «5» لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد، ما جئتنا بشىء نعرفه، وما أنزل عليك من آية بينة فنتبعك بها؛ فأنزل الله تعالى: (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ) «6» . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 374 وقال رافع بن حريملة، ووهب بن زيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد، ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرؤه، وفجرّ لنا أنهارا نتبعك ونصدّقك، فأنزل الله تعالى: (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) «1» قال: وكان حيىّ بن أخطب [وأخوه أبو ياسر بن «2» أخطب] من أشدّ يهود للعرب حسدا؛ فكانا جاهدين فى ردّ الناس عن الإسلام بما استطاعا، فأنزل الله عزّ وجل فيهما: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) «3» قال: ولما قدم أهل نجران من النصارى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتتهم أحبار يهود، فتنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رافع بن حريملة: ما أنتم على شىء، وكفر بعيسى وبالإنجيل، فقال رجل من أهل نجران من النصارى لليهود: ما أنتم على شىء، وجحد نبوّة موسى، وكفر بالتوراة، فأنزل الله تعالى: (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) «4» . وقال رافع لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد، إن كنت رسولا من الله كما تقول فقل لله يكلمنا تكليما حتى نسمع كلامه، فأنزل الله تعالى فى ذلك: (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) «5» . وقال عبد الله بن صوريا الفطيونىّ الأعور لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الهدى الجزء: 16 ¦ الصفحة: 375 إلا ما نحن عليه، فاتبعنا يا محمد تهتد؛ وقالت النصارى مثل ذلك، فأنزل الله تعالى فى أقوالهم: (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) إلى قوله: (وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) «1» . وتكلموا عند صرف القبلة بما نذكره إن شاء الله فى حوادث السنة الثانية. قال: وسأل معاذ بن جبل، وسعد بن معاذ، وخارجة بن زيد، نفرا من أحبار يهود عن بعض ما فى التوراة، فكتموهم إياه وأبوا أن يخبروهم، فأنزل الله فيهم: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) «2» . ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود إلى الإسلام ورغّبهم فيه، وحذّرهم عذاب الله، فقال رافع بن خارجة، ومالك بن عوف: بل نتبع يا محمد ما وجدنا عليه آباءنا، فهم كانوا أعلم منا، وخيرا منا، فأنزل الله فى ذلك: (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) «3» . قال: ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزاة بدر جمع يهود فى سوق بنى قينقاع، وقال لهم: «يا معشر يهود، أسلموا قبل أن يصيبكم الله بمثل ما أصاب به قريشا» فقالوا: يا محمد، لا يغرّنك من نفسك أنك قتلت نفرا من قريش، كانوا أغمارا «4» لا يعرفون القتال، إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا، فأنزل الله عزّ وجل فى ذلك من قولهم: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ. قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 376 فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) «1» . قال: ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت «2» المدراس على جماعة من يهود، فدعاهم إلى الله عزّ وجلّ، فقال له النعمان بن عمرو، والحارث بن زيد: وعلى أى دين [أنت «3» ] يا محمد؟ قال: «على ملة إبراهيم ودينه» قالا: فإن إبراهيم كان يهوديا؛ فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فهلم إلى النوارة فهى بيننا وبينكم» ؛ فأنزل الله فيهما: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) «4» . وقال أحبار يهود ونصارى نجران حين اجتمعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنازعوا، فقال الأحبار: كان إبراهيم يهوديا، وقالت النصارى: كان نصرانيا؛ فأنزل الله تعالى: (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ. ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) «5» . وقال عبد الله بن صيف «6» ، وعدىّ بن زيد، والحارث بن عوف، بعضهم لبعض: تعالوا نؤمن بما أنزل على محمد وأصحابه غدوة، ونكفر به عشية، حتى نلبس عليهم دينهم، فأنزل الله تعالى فيهم: (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 377 تَعْلَمُونَ. وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) «1» . وقال أبو رافع القرظىّ حين اجتمعت الأحبار من يهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد، تريد منا أن نعبدك كما يعبد النصارى عيسى بن مريم؟ وقال رجل من أهل نجران يقال له الرئيس: أو ذاك تريد منا يا محمد، وإليه تدعونا؟ أو كما قال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «معاذ الله أن أعبد غير الله، أو آمر بعبادة غيره، ما بذلك بعثنى ولا أمرنى» فأنزل الله تعالى: (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ. وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) «2» ، والربانيون هم العلماء والفقهاء؛ ثم ذكر تعالى ما أخذ الله عليهم وعلى أنبيائهم من الميثاق بتصديقه إذا هو جاءهم، فقال: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ) «3» إلى آخر القصة. والله أعلم. ذكر ما ألقاه شأس بن قيس اليهودىّ بين الأوس والخزرج من الفتنة، ورجوعهم إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم قال محمد بن إسحاق: مرّ شأس بن قيس، وكان شيخا عظيم الكفر، شديد الضّغن على المسلمين، شديد الحسد لهم، على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج، قد اجتمعوا فى مجلس يتحدثون، فغاظه ما هم عليه الجزء: 16 ¦ الصفحة: 378 من الألفة والجماعة وصلاح ذات البين على الإسلام، بعد ما كان بينهم من العداوة فى الجاهلية، فقال: قد اجتمع ملا بنى قيلة «1» بهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار؛ فأمر شابا من يهود كان معه أن يجلس معهم «2» ، ثم يذكر يوم بعاث «3» وما كان قبله، وأن ينشدهم بعض ما كانوا قالوه من الأشعار يوم بعاث، وهو يوم اقتتلت فيه الأوس والخزرج، فكان الظّفر فيه للأوس، وكان عليهم يومئذ حضير بن سماك الأشهلىّ، أبو أسيد بن حضير، وعلى الخزرج عمرو ابن النعمان البياضىّ، فقتلا جميعا، ففعل الشاب ذلك، فتكلم القوم، وتنازعوا وتفاخروا، حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب؛ أوس بن قيظىّ الأوسىّ، وجبّار بن صخر الخزرجىّ، فتقاولا، ثم قال أحدهما للآخر: إن شئتم رددناها الآن «4» جذعة؛ فغضب الفريقان جميعا، وقالوا: قد فعلنا، موعدكم الظاهرة، وهى الحرّة، وقالوا: السلاح السلاح، وخرجوا إليها، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين، فقال: «يا معشر المسلمين، الله الله! أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله إلى الإسلام وأكرمكم به، وقطع عنكم به أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألّف به بينكم!» فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوّهم، فبكوا، وعانق بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى فى شأس بن قيس: (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ. قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) «5» الجزء: 16 ¦ الصفحة: 379 وأنزل فى أوس بن قيظىّ وجبّار بن صخر، ومن كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ. وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) «1» . ذكر ما تكلم به يهود فى شأن من أسلم منهم وما أنزل الله تعالى فى ذلك قال «2» : لما أسلم عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية، وأسد ابن عبيد، ومن أسلم معهم من يهود وآمنوا وصدّقوا، قال أهل الكفر من أحبار يهود: ما آمن بمحمد واتبعه إلا شرارنا، ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم وذهبوا إلى غيره، فأنزل الله تعالى فيهم: (لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ. يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) «3» ، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 380 قال: وكان رجال من المسلمين يواصلون رجالا من اليهود، لما كان بينهم من الجوار والحلف فى الجاهلية، فأنزل الله تعالى فيهم: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ. ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ) ، [أى تؤمنون بكتابكم وبما مضى من الكتب قبل ذلك وهم يكفرون بكتابكم، فأنتم كنتم أحقّ بالبغضاء لهم منهم لكم «1» ] ، (وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) «2» ، قال: ودخل أبو بكر الصديق رضى الله عنه إلى بيت المدراس «3» على يهود، فوجد جماعة كثيرة منهم قد اجتمعوا إلى حبر من أحبارهم يقال له فنحاص، ومعه حبر آخر يقال له أشيع؛ فقال أبو بكر لفنحاص: ويحك يا فنحاص! اتق الله وأسلم، فو الله إنك لتعلم أن محمدا لرسول الله، قد جاءكم بالحقّ من عنده، تجدونه مكتوبا عندكم فى التوراة والإنجيل، فقال لأبى بكر: والله يا أبا بكر، ما بنا إلى الله من فقر، وإنه إلينا لفقير، وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء، وما هو عنّا بغنىّ، ولو كان عنّا غنيا ما استقرضنا أموالنا كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الرّبا ويعطيناه، ولو كان عنا غنيا ما أعطانا الرّبا. فغضب أبو بكر وضرب وجه فنحاص ضربا شديدا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 381 وقال: والذى نفسى بيده لولا العهد الذى بيننا وبينك لضربت عنقك، أى عدوّ الله. فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، انظر ما صنع بى صاحبك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبى بكر: «ما حملك على ما صنعت» ؟. فقال: يا رسول الله، إنّ عدوّ الله قال قولا عظيما- وذكر قوله- فلما قال ذلك غضبت لله وضربت وجهه، فجحد فنحاص ذلك، وقال: ما قلت [ذلك «1» ] ، فأنزل الله فى ذلك تصديقا لأبى بكر رضى الله عنه: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) «2» ، وأنزل الله تعالى فى أبى بكر وغضبه فى ذلك: (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) «3» . قال: وكان كردم بن قيس، وأسامة بن حبيب ونافع بن أبى نافع، وبحرىّ بن عمرو، وحيىّ بن أخطب، ورفاعة بن زيد بن التّابوت، يأتون رجالا من الأنصار يتنصحون لهم فيقولون: لا تنفقوا أموالكم، فإنا نخشى عليكم الفقر فى ذهابها، ولا تسارعوا فى النفقة، فإنكم لا تدرون علام يكون، فأنزل الله تعالى فيهم: (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) أى من التوراة التى فيها تصديق ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً. وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً. وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً) «4» قال: وكان رفاعة بن زيد بن التابوت من عظماء يهود، إذا تكلم «5» رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزء: 16 ¦ الصفحة: 382 لوى لسانه وقال: أرعنا سمعك يا محمد حتى نفهمك، ثم طعن فى الإسلام وعابه، فأنزل الله تعالى فيه: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً. مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا) «1» . قال: وكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤساء من أحبار يهود، منهم عبد الله بن صوريا الأعور، وكعب ابن أسد، فقال: «يا معشر يهود، اتقوا الله وأسلموا، فو الله إنكم لتعلمون أنّ الذى جئتكم به لحقّ» ، قالوا: ما نعرف ذلك يا محمد، وأصرّوا على الكفر، فأنزل الله تعالى فيهم: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا) «2» . قال: وقال سكين، وعدىّ بن زيد: يا محمد، ما نعلم أن الله أنزل على بشر من شىء بعد موسى؛ فأنزل الله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً. وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً. رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) «3» . ودخلت طائفة منهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: «أما والله إنكم لتعلمون أنّى [رسول من الله إليكم «4» ] » ! قالوا: ما نعلمه: وما نشهد عليه، فأنزل الله تعالى فى ذلك قوله تعالى: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 383 (لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً) «1» . وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمان بن أضا، وبحرىّ بن عمرو، وشأس ابن عدىّ «2» ، فكلّموه وكلّمهم، ودعاهم إلى الله وحذّرهم نقمته، فقالوا: ما تخوّفنا يا محمد، نحن والله أبناء الله وأحباؤه، كقوله النصارى، فأنزل الله تعالى: (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) «3» . قال: ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود إلى الإسلام، ورغّبهم فيه، وحذّرهم عقوبة الله، فأبوا وكفروا وجحدوا، فقال لهم معاذ بن جبل، وسعد ابن عبادة، وعقبة بن وهب: يا معشر يهود، اتقوا الله، فو الله إنكم لتعلمون أنه رسول الله، ولقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه، وتصفونه بصفته، فقال رافع ابن حريملة، ووهب بن يهود: ما قلنا هذا لكم، وما أنزل الله من كتاب من بعد موسى ولا أرسل بشيرا ولا نذيرا بعده، فأنزل الله تعالى: (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) «4» . ذكر قصة الرّجم روى عن أبى هريرة رضى الله عنه أنه قال: إن أحبار يهود اجتمعوا فى بيت المدراس حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وقد زنى رجل بينهم «5» بعد إحصانه بامرأة من يهود قد أحصنت، فقالوا: ابعثوا بهذا الرجل وهذه المرأة إلى محمد، فاسألوه كيف الحكم فيهما، وولّوه الحكم عليهما، فإن عمل فيهما الجزء: 16 ¦ الصفحة: 384 بعملكم من التّجبية- والتجبية: الجلد بحبل من ليف قد طلى بقار، ثم تسوّد وجوههما، ثم يحملان على حمارين، وتجعل وجوههما من قبل أدبار الحمارين- فاتبعوه فإنما هو ملك، وصدّقوه، وإن هو حكم فيهما بالرجم فإنه نبىّ، فاحذروه على ما فى أيديكم أن يسلبكموه، فأتوه فقالوا: يا محمد، هذا رجل قد زنى بعد إحصانه بامرأة قد أحصنت، فآحكم فيهما، فمشى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى أحبارهم فى بيت المدراس، فقال: «يا معشر يهود أخرجوا إلىّ علماءكم» ، فأخرجوا إليه عبد الله بن صوريا وأبا ياسر بن أخطب، ووهب بن يهوذا، فقالوا: هؤلاء علماؤنا، فساءلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قالوا: هذا عبد الله بن صوريا أعلم من بقى بالتوراة، فخلا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان غلاما شابا من أحدثهم سنّا، فقال له: «يا بن صوريا، أنشدك الله، وأذكّرك بأيّامه عند بنى إسرائيل، هل تعلم أن الله حكم فيمن زنى بعد إحصانه بالرجم فى التوراة» ؟ قال: اللهم نعم، أما والله يا أبا القاسم إنهم ليعرفون أنك لنبىّ مرسل، ولكنهم يحسدونك، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر برجمهما، فرجما عند باب مسجده، ثم كفر بعد ذلك ابن صوريا، وجحد نبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) ، أى الرجم، (وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ. سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 385 وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ. إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) «1» إلى آخر القصة. وروى عن ابن عباس رضى الله عنه أنه قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجمهما، فرجما بباب مسجده، فلما وجد اليهودىّ مسّ الحجارة قام إلى صاحبته فجنأ «2» عليها يقيها مسّ الحجارة حتى قتلا جميعا. وعن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال: لما حكّموا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهما دعاهم بالتوراة، وجلس حبر منهم يتلوها، وقد وضع يده على آية الرّجم، فضرب عبد الله بن سلام يد الحبر، ثم قال: هذه يا نبىّ الله آية الرّجم، يأبى أن يتلوها عليك؛ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويحكم يا معشر يهود! ما دعاكم إلى ترك حكم الله وهو بأيديكم» ؟! فقالوا: أما إنه كان فينا يعمل به، حتى زنى رجل منا بعد إحصانه من بيوت الملوك وأهل الشرف فمنعه الملك من الرجم، ثم زنى رجل من بعده فأراد أن يرجمه فقالوا: لا والله، حتى ترجم فلانا، فلما قالوا ذلك اجتمعوا فأصلحوا أمرهم على التّجبية، وأماتوا ذكر الرّجم والعمل به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فأنا أوّل من أحيا أمر الله وكتابه وعمل به» . ثم أمر بهما فرجما عند باب مسجده، قال عبد الله ابن عمر رضى الله عنهما: [كنت «3» ] فيمن رجمهما. قال: واجتمع كعب بن أسد الجزء: 16 ¦ الصفحة: 386 وابن صلوبا، وعبد الله بن صوريا، وشأس بن قيس. وقال بعضهم لبعض: اذهبوا إلى محمد؛ لعلّنا نفتنه عن دينه، فإنما هو بشر، فأتوه فقالوا: يا محمد، إنك قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم، وأنا إن اتبعناك اتّبعك يهود ولم يخالفونا، وإن بيننا وبين بعض قومنا خصومة، أفنحاكمهم إليك فتقضى لنا عليهم، ونؤمن بك ونصدّقك؟ فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك؛ فأنزل الله فيهم: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ. أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) «1» . قال: وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحبار يهود أبو ياسر بن أخطب، ونافع بن أبى نافع، وعازر بن أبى عازر، وخالد بن زيد، وأزار بن أبى أزار «2» ، وأشيع، فسألوه عمن يؤمن به من الرسل، فقال صلى الله عليه وسلم: «نؤمن بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتى موسى وعيسى وما أوتى النبيون من ربهم لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون» . فلما ذكر عيسى جحدوا نبوّته، وقالوا: لا نؤمن بعيسى ولا بمن آمن به، فأنزل الله تعالى فيهم: (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ) «3» . قال: وأتاه صلى الله عليه وسلم رافع ابن حارثة، وسلام بن مشكم، ومالك بن الضّيف، ورافع بن حريملة فقالوا: يا محمد، ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه، وتؤمن بما عندنا من التوراة، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 387 وتشهد أنها من الله حقّ؟ قال: «بلى، ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها مما أخذ عليكم من الميثاق، وكتمتم منها ما أمرتم أن تبينوه للناس، فبرئت من أحداثكم» . قالوا: فإنا نأخذ بما فى أيدينا؛ فإنا على الهدى والحقّ، ولا نؤمن بك ولا نتبعك، فأنزل الله تعالى فيهم: (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) «1» . قال: وأتاه صلى الله عليه وسلم النّحّام بن زيد، وقردم بن كعب، وبحرىّ ابن عمرو، فقالوا: يا محمد، أما تعلم مع الله إلها غيره؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا إله غيره، بذلك بعثت، وإلى ذلك أدعو» ؛ فأنزل الله تعالى فيهم وفى قولهم: (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) «2» . قال: وكان رفاعة بن زيد بن التابوت، وسويد بن الحارث قد أظهرا الإسلام ونافقا، فكان رجال من المسلمين يوادّونهما، فأنزل الله تعالى فيهم: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) إلى قوله: (وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ) «3» . وقال جبل بن أبى قشير «4» ، وشمويل بن زيد لرسول الله صلى الله عليه الجزء: 16 ¦ الصفحة: 388 وسلم: أخبرنا متى الساعة إن كنت نبيا كما تقول؟ فأنزل الله تعالى: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) «1» . وقال محمود بن سيحان ونعمان بن أضاء، وبحرىّ بن عمرو، وعزير بن أبى عزير، وسلام بن مشكم، وفنحاص، وعبد الله بن صوريا، وابن صلوبا، وكنانة بن الربيع بن أبى الحقيق، وأشيع، وكعب بن أسد، لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أحقّ يا محمد أن هذا الذى جئت به حقّ من عند الله؟ فإنا لا نراه متسقا كما تتسق التوراة؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما والله إنكم لتعرفون أنه من عند الله، تجدونه مكتوبا عندكم، ولو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا به ما جاءوا به» فقالوا عند ذلك: يا محمد، أما يعلمك هذا إنس ولا جن؟ فقال: «أما والله إنكم لتعلمون أنه من عند الله، وأنى لرسول الله؛ تجدون ذلك مكتوبا عندكم فى التوراة» قالوا: يا محمد، فإن الله يصنع لرسوله إذا بعثه ما يشاء، ويقدر منه على ما أراد، فأنزل علينا كتابا من السماء نقرؤه ونعرفه، وإلا جئناك بمثل ما تأتى به. فأنزل الله تعالى: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) «2» ، والظهير: العون. قال: وأتى رهط من يهود إلى «3» رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: يا محمد، هذا الله خلق الخلق فمن خلقه؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزء: 16 ¦ الصفحة: 389 حتى انتقع «1» لونه، فجاءه جبريل عليه السلام فسكّنه، فقال: خفّض عليك يا رسول الله، وجاءه من الله بجواب ما سألوه عنه: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) «2» ، فلما تلاها عليهم قالوا: فصف لنا كيف خلقه؟ كيف ذراعه؟ كيف عضده؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد من غضبه الأول، فأتاه جبريل فقال له مثل ما قال له أول مرة، وجاءه من الله بجواب ما سألوه فقال: (وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) «3» ، وكانت سؤالات يهود وعنتهم وبغيهم وتحريفهم وتبديلهم كثيرة؛ قد نطق بذلك كله القرآن، وجاء بالردّ عليهم وبتكذيبهم وتفريقهم، ثم سلط الله عليهم المسلمين، وحكّم فيهم سيوفهم فقتلوهم وأجلوهم واستأصلوا شأفتهم، وأسروا وسبوا منهم، على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى فى الغزوات والسرايا، فلما أيسوا وأبلسوا عمدوا إلى تخيّلات أخر من السّحر والسّم. ذكر ما ورد من أن يهود سحروا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة الحديبية سنة ست من مهاجره، ودخل المحرم سنة سبع، جاءت رؤساء يهود الذين بقوا بالمدينة ممن يظهر الإسلام وهو منافق، إلى لبيد بن الأعصم اليهودىّ حليف بنى زريق، وكان ساحرا، قد علمت ذلك يهود أنه أعلمهم بالسّحر وبالسّموم، فقالوا له: يا أبا الأعصم أنت أسحر منا، وقد سحرنا محمدا، فسحره منا الرجال والنساء فلم نصنع شيئا، وأنت الجزء: 16 ¦ الصفحة: 390 ترى أثره فينا، وخلافه ديننا، ومن قتل منا وأجلى «1» ، ونحن نجعل لك على ذلك جعلا على أن تسحره لنا سحرا ينكؤه، فجعلوا له ثلاثة دنانير على أن يسحر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فعمد إلى مشط وما يمشط من الرأس من الشعر فعقد فيه عقدا وتفل فيه تفلا، وجعله فى جفّ طلعة «2» ذكر، ثم انتهى به حتى جعله تحت أرعوفة «3» البئر، فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرا أنكره، حتى يخيّل إليه أنه يفعل الشىء ولا يفعله، وأنكر بصره حتى دلّه الله على ذلك «4» ؛ فدعا جبير ابن إياس الزّرقىّ وكان ممن شهد بدرا فدله على موضع فى بئر ذروان «5» تحت أرعوفة البئر، فخرج جبير حتى استخرجه، ثم أرسل إلى لبيد بن الأعصم، فقال: «ما حملك على ما صنعت، فقد دلنى الله على سحرك وأخبرنى بما صنعت» ؟ فقال: حبّ الدنانير يا أبا القاسم. قال محمد بن سعد، قال إسحاق بن عبد الله: فأخبرت عبد الرحمن ابن كعب بن مالك بهذا الحديث، فقال: إنما سحره بنات أعصم أخوات لبيد، وكنّ أسحر من لبيد وأخبث، وكان لبيد هو الذى ذهب به فأدخله تحت أرعوفة البئر، قال: فلما عقدوا تلك العقد أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الساعة بصره، ودسّ بنات أعصم إحداهنّ، فدخلت على عائشة فخبّرتها عائشة- أو سمعت عائشة تذكر ما أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم من بصره- ثم خرجت إلى أخواتها وإلى لبيد فأخبرتهم، فقالت إحداهنّ: إن يكن نبيا فسيخبر، وإن يك الجزء: 16 ¦ الصفحة: 391 غير ذلك فسوف يدلّهه «1» هذا السحر حتى يذهب عقله، فيكون بما نال من قومنا وأهل ديننا. فدله الله عليه: وفى الصحيح عن عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها أن النبىّ صلى الله عليه وسلم سحر «2» ، حتى كان يخيل إليه أنه يصنع الشىء ولم يصنعه، حتى إذا كان ذات يوم رأيته يدعو، فقال: «أشعرت «3» أن الله قد أفتانى فيما استفتيته «4» ، أتانى رجلان فقعد أحدهما عند رأسى، والآخر عند رجلىّ، فقال أحدهما: ما وجع الرجل؟ فقال الآخر: مطبوب «5» ، فقال: من طبّه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: فيم؟ قال: فى مشط ومشاطة فى جفّ طلعة ذكر، قال: فأين هو؟ قال: فى ذى «6» ذروان» ، فآنطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رجع أخبر عائشة فقال: «كأنّ نخلها رءوس الشياطين، وكأنّ ماءها نقاعة الحنّاء» ، قالت فقلت: يا رسول الله، فأخرجه للناس، قال: «أمّا والله قد شفانى، وخشيت أن أثوّر على الناس منه شرا» «7» . وعن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما قال: مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخّذ «8» عن النساء وعن الطعام والشراب، فهبط عليه ملكان وهو بين النائم واليقظان فجلس أحدهما عند رأسه، والآخر عند رجليه؛ فقال: أحدهما لصاحبه: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 392 ما شكواه؟ قال: طبّ- يعنى «1» سحر- قال: ومن فعله؟ قال: لبيد بن أعصم اليهودىّ، قال: ففى أى شىء جعله؟ قال: فى طلعة، قال: فأين وضعها؟ قال: فى بئر ذروان تحت صخرة، قال: فما شفاؤه؟ قال تنزح البئر، وترفع الصخرة وتستخرج الطّلعة. وارتفع الملكان؛ فبعث النبى صلى الله عليه وسلم إلى علىّ وعمّار فأمرهما أن يأتيا الرّكىّ فيفعلا الذى سمع، فأتياها وماؤها كانه قد خضب بالحنّاء فنزحاها، ثم رفعا الصخرة فأخرجا طلعة، فإذا فيها إحدى عشرة عقدة، ونزلت هاتان السورتان: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما قرأ آية انحلت عقدة، حتى انحلت العقد، وانتشر نبىّ الله صلى الله عليه وسلم للنساء والطعام والشراب. وجاء فى حديث آخر أن جبريل وميكائيل عليهما السلام أخبرا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشأن السّحر، وأنه صلى الله عليه وسلم أخذ لبيدا، فاعترف فعفا عنه، روى عفوه عنه عن غير واحد؛ قال عكرمة: ثم [كان «2» ] يراه بعد عفوه فيعرض عنه. وحيث ذكرنا حديث السّحر فلا بأس أن نصله بالكلام على مشكله. والله أعلم بالصواب. ذكر الكلام على مشكل حديث السّحر وقد تكلم القاضى عياض بن موسى بن عياض على هذا الحديث فقال: هذا الحديث صحيح متفق على صحته، وقد طعنت فيه الملحدة، وتذرّعت به لسخف عقولها، وتلبيسها على أمثالها إلى التشكيك فى الشّرع، وقد نزّه الله الشّرع والنبى صلى الله عليه وسلم عما يدخل فى أمره لبسا، وإنما السّحر مرض من الأمراض الجزء: 16 ¦ الصفحة: 393 وعارض من العلل يجوز عليه كأنواع الأمراض، مما لا ينكر ولا يقدح فى نبوته، وأما ما ورد أنه كان يخيل إليه أنه فعل الشىء ولا يفعله، فليس فى هذا ما يدخل عليه داخلة «1» فى شىء من تبليغه وشريعته، ويقدح فى صدقه؛ لقيام الدليل والإجماع على عصمته من هذا، وإنما هذا فيما يجوز طروّه عليه فى أمر دنياه التى يبعث بسببها، ولا فضّل من أجلها، وهو فيها عرضة للافات كسائر البشر، فغير بعيد أن يخيّل إليه من أمورها ما لا حقيقة له، ثم يتجلى عنه كما كان. وأيضا فقد فسّر هذا الحديث الآخر من قوله: «حتى يخيّل إليه أنه يأتى أهله ولا يأتيهنّ» . وقد قال سفيان «2» : وهذا أشدّ ما يكون من السحر، ولم يأت فى خبر منها أنه نقل عنه فى ذلك قول، بخلاف ما أخبر أنه فعله ولم يفعله، وإنما كانت خواطر وتخيلات. وقد قيل: إن المراد بالحديث أنه كان يتخيل لشىء أنه فعله، وما فعله لكنه تخييل لا يعتقد صحته، فتكون اعتقاداته كلها على السّداد، وأقواله على الصحة. قال: هذا ما وقفت عليه لأئمتنا من الأجوبة عن هذا الحديث. قال: لكنه قد ظهر لى فى هذا الحديث تأويل أجلى وأبعد من مطاعين ذوى الأضاليل يستفاد من نفس الحديث، وهو أن عبد الرزاق قد روى هذا الحديث عن ابن المسيّب، وعروة بن الزبير، وقال فيه عنهما: سحر يهود بنى زريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلوه فى بئر حتى كاد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينكر بصره «3» . ثم دلّه الله على ما صنعوا، فاستخرجه من البئر. فقد استبان لك من مضمون هذه الروايات أن السحر إنما يسلّط على ظاهره وجوارحه، لا على قلبه واعتقاده وعقله، وأنه إنما أتى فى بصره، وحبسه عن وطء الجزء: 16 ¦ الصفحة: 394 نسائه، ويكون معنى قوله: «يخيل إليه أنه يأتى أهله ولا يأتيهنّ» ، أى يظهر له من نشاطه ومتقدّم عادته القدرة على النساء، فإذا دنا منهنّ أصابته أخذة بالسّحر، فلم يقدر على إتيانهنّ، كما يعترى من أخّذ واعترض، قال: ولعله لمثل هذا أشار سفيان بقوله: وهذا أشدّ ما يكون من السّحر. والله أعلم بالصواب. ذكر خبر الشاة التى سمّ فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ذلك فى غزاة خيبر، بعد أن افتتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه لما افتتح خيبر وحصونها واطمأنّ، أهدت إليه زينب ابنة الحارث امرأة سلام بن مشكم وهى ابنة أخى مرحب الذى بارز يوم خيبر، وقتل- على ما نذكره إن شاء الله- شاة مصليّة، وقد سألت: أىّ عضو من الشاة أحبّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقيل لها: الذّراع، وأكثرت فيها السّمّ، ثم سمّت سائر الشاة، ثم جاءت بها، فلما وضعتها بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم تناول الذراع، فلاك منها مضغة فلم يسغها، وكان معه بشر بن البراء بن معرور، فأخذ منها كما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما بشر فأساغها، وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلفظها. وروى الشيخ أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقىّ فى دلائل النبوّة أنه صلى الله عليه وسلم أساغها، ثم قال لأصحابه: «ارفعوا أيديكم فإنّ كتف هذه الشاة يخبرنى أنها قد بغيت فيه «1» » ، قال بشر بن البراء: والذى أكرمك لقد وجدت ذلك فى أكلتى التى أكلت، فما منعنى أن ألفظها إلا أنى أعظمت أن أنغصك طعامك، فلما أسغت الجزء: 16 ¦ الصفحة: 395 ما فى فيك لم أكن لأرغب بنفسى عن نفسك، ثم دعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعترفت، فقال: «ما حملك على ذلك» ؟ قالت: بلغت من قومى ما لم يخف عليك، فقلت: إن كان ملكا استرحت منه، وإن كان نبيا فسيخبر، فتجاوز عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومات بشر بن البراء. والصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتلها، قيل: سلّمها لأولياء بشر بن البراء فقتلوها. والله تعالى أعلم. وحيث ذكرنا من سيرته صلى الله عليه وسلم ما ذكرناه، فلنذكر هنا حوادث السنين بعد الهجرة خلا الغزوات والسّرايا والوفود، فإنا نورد ذلك إن شاء الله تعالى فيما بعد على ما تقف عليه. ذكر الحوادث بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة النبوية على حكم السنين؛ من السنة الأولى إلى السنة العاشرة خلا ما استثنيناه، وقدّمناه حوادث السنة الأولى فيها جعلت صلاة العصر أربع ركعات، وكانت ركعتين وذلك بعد مقدمه صلى الله عليه وسلم بشهر. وفيها صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة حين ارتحل من قباء إلى المدينة، صلاها فى طريقه ببنى سالم على ما تقدّم، وهى أوّل جمعة صلاها، وأوّل خطبة خطبها فى الإسلام. وفيها بنى صلى الله عليه وسلم مسجده ومساكنه، ومسجد قباء على ما تقدّم. وفيها آخى صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار بعد مقدمه بثمانية أشهر، وقد تقدّم ذكر ذلك. وفيها أسلم عبد الله بن سلام. وفيها ولد عبد الله بن الزبير بالمدينة. وفيها مات أبو قيس كلثوم بن الهدهد، وهو أوّل من مات من المسلمين بالمدينة. ومات سعد بن زرارة أبو أمامة. وفيها أعرس صلى الله عليه وسلم بعائشة رضى الله عنها. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 396 حوادث السنة الثانية فى هذه السنة توفيت رقيّة بنت النبى صلى الله عليه وسلم زوج عثمان بن عفان، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر، وتوفى عثمان بن مظعون بعد [رجوع «1» ] رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزاة بدر وشهدها عثمان. وفيها صرفت القبلة. ذكر صرف القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة وما تكلم به اليهود وما أنزل الله تعالى فى ذلك من القرآن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة يصلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا، أو سبعة عشر شهرا، كما ورد فى صحيح البخارى وغيره. وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، فقال: «يا جبريل وددت أن الله تعالى صرف وجهى عن قبلة يهود» ، فقال جبريل: إنما أنا عبد فادع ربك وسله. وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى إلى بيت المقدس رفع رأسه إلى السماء، فأنزل الله تعالى: (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) «2» . قال محمد بن سعد: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين من الظهر فى مسجده بالمسلمين، ثم أمر أن يوجّه إلى المسجد الحرام فاستدار إليه، ودار معه المسلمون، قال ويقال: بل زار رسول الله صلى الله عليه وسلم أمّ بشر بن البراء ابن معرور فى بنى سلمة، فصنعت له طعاما، وحانت الظهر، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه ركعتين، ثم أمر أن يوجّه إلى الكعبة، فاستدار إلى الكعبة، واستقبل الميزاب فسمى المسجد مسجد القبلتين، وذلك يوم الاثنين للنصف من شهر رجب على رأس سبعة عشر شهرا من مهاجره صلى الله عليه وسلم. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 397 وروى البخارىّ أن أوّل صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة صلاة العصر، وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن كان صلى معه، فمرّ على أهل المسجد وهم راكعون، قال: أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت. قال ابن إسحاق: ولما صرفت القبلة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رفاعة ابن قيس، وقردم بن عمرو، وكعب بن الأشرف، ورافع بن أبى رافع، والحجاج ابن عمرو، والربيع بن الربيع بن أبى الحقيق، وكنانة بن الربيع بن أبى الحقيق، فقالوا: يا محمد، ما ولّاك عن قبلتك التى كنت عليها، وأنت تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه؟! ارجع إلى قبلتك التى كنت عليها [نتّبعك «1» ] ونصدّقك- وإنما يريدون فتنته عن دينه- فأنزل الله: (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) «2» ، أى إيمانكم بالقبلة الأولى، وتصديقكم نبيكم، واتباعكم إياه الى القبلة الأخرى. ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ. وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 398 إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ. الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) «1» . والله أعلم. ذكر خبر الأذان قال محمد بن سعد بسنده إلى نافع «2» بن جبير، وعروة بن الزبير، وزيد بن أسلم، وسعيد بن المسيّب، قالوا: كان الناس فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم قبل أن يؤمر بالأذان ينادى منادى النبى صلى الله عليه وسلم: «الصلاة جامعة» ؛ فيجتمع الناس فلما صرفت القبلة إلى الكعبة أمر بالأذان، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أهمّه أمر الأذان، وأنهم ذكروا أشياء «3» يجمعون بها الناس للصلاة، فقال بعضهم: البوق، وقال بعضهم: الناقوس؛ فبينماهم على ذلك إذ نام عبد الله ابن زيد الخزرجىّ، فأرى فى المنام أن رجلا مرّ وعليه ثوبان أخضران وفى يده ناقوس، قال فقلت: أتبيع الناقوس؟ قال: ماذا تريد به؟ فقلت: أريد أن أبتاعه لكى أضرب به للصلاة لجماعة الناس، قال: فأنا أحدثك بخير لكم من ذلك؛ تقول: الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حىّ على الصلاة، حىّ على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله. فأتى عبد الله ابن زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: «قم مع بلال فألق عليه ما قيل لك وليؤذّن بذلك» ، ففعل. وجاء عمر بن الخطاب رضى الله عنه فقال: لقد رأيت مثل الذى رآه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فلله الحمد» الجزء: 16 ¦ الصفحة: 399 فذلك أثبت. قالوا: وأذّن بالأذان وبقى ينادى فى الناس: «الصلاة جامعة» ؛ للأمر يحدث، فيحضرون له يخبرون به، مثل فتح يقرأ، أو أمر يؤمرون به، فينادى: «الصلاة جامعة» ، وإن كان فى غير وقت الصلاة. وقد قدّمنا خبر الأذان من رواية على بن أبى طالب فى قصة الإسراء. والله أعلم. وفى هذه السنة فرض صوم رمضان فى شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا من الهجرة، وفرضت زكاة الفطر قبل العيد بيومين، وفيها ضحّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين، أحدهما عن أمته، والآخر عن محمد وآله، وفيها ولد النعمان بن بشير، وفيها أعرس علىّ بن أبى طالب بفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضى عنهما. والله أعلم. حوادث السنة الثالثة فيها تزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة بنت عمر بن الخطاب رضى الله عنهما. وفيها توفّى عثمان بن مظعون عند بعضهم. وفيها تزوّج عثمان بن عفان رضى الله عنه أمّ كلثوم بنت النبى صلى الله عليه وسلم فى جمادى الآخرة. وفيها ولد الحسن بن على رضى الله عنهما فى النصف من رمضان. حوادث السنة الرابعة فيها حرّمت الخمر فى شهر ربيع الأول، وقيل: حرّمت فى السنة الثالثة. وفيها صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف فى غزوة ذات الرّقاع. وفيها قصرت الصلاة. وفيها ولد الحسين بن على رضى الله عنهما. وفيها ماتت زينب بنت خزيمة الهلالية أم المؤمنين. وفيها تزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمّ سلمة الجزء: 16 ¦ الصفحة: 400 فى شوال، وتزوّج زينب بنت جحش فى ذى القعدة على الصحيح. وفيها نزل الحجاب. ذكر نزول الحجاب على أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم كان سبب نزول الحجاب ما رواه البخارى عن ابن شهاب قال: أخبرنى أنس بن مالك، قال: كان أول ما أنزل الحجاب فى مبتنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش؛ أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عروسا، فدعا القوم فأصابوا من الطعام، ثم خرجوا، وبقى منهم رهط عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطالوا المكث، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج وخرجت معه كى يخرجوا، فمشى صلى الله عليه وسلم ومشيت معه، حتى جاء عتبة حجرة عائشة رضى الله عنها، ثم ظنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم خرجوا، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجعت معه حتى دخل على زينب، فإذا هم جلوس لم يتفرقوا، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجعت معه حتى بلغ عتبة حجرة عائشة، فظنّ أن قد خرجوا فرجع ورجعت معه فإذا هم قد خرجوا؛ فأنزل الله الحجاب، فضرب بينى وبينه سترا، وأنزل الله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) الآية «1» . وعن عروة بن الزّبير أن عائشة رضى الله عنها قالت: كان عمر رضوان الله عليه يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: احجب نساءك يا رسول الله، قالت: فلم يفعل. وكان أزواج الجزء: 16 ¦ الصفحة: 401 النبىّ صلى الله عليه وسلم يخرجن ليلا إلى ليل قبل المناصع «1» فخرجت سودة بنت زمعة وكانت امرأة طويلة، فرآها عمر بن الخطاب وهو فى المجلس، فقال: عرفتك يا سودة- حرصا على أن ينزل الحجاب- فأنزل الله [الحجاب «2» ] . وفى هذه السنة فرضت الزكاة فى المال. حوادث السنة الخامسة فيها تزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم ريحانة بنت زيد النّضرية، وجويرية بنت الحارث المصطلقيّة. وفيها زلزلت المدينة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يستعتبكم فأعتبوه «3» » . وفيها سابق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الخيل. وقد تقدم ذكر ذلك فى الباب الأول من القسم الثالث من الفن الثالث فى الجزء التاسع من هذه النسخة. وفيها كانت غزوة بنى المصطلق بالمريسيع. وحدث فى هذه الغزوة وقائع نذكرها فى هذا الموضع؛ فيها ما وقع بين المهاجرين والأنصار، وحديث الإفك، وخبر التّيمّم. ذكر ما وقع بين المهاجرين والأنصار «4» فى غزوة المريسيع وما قاله عبد الله بن أبىّ بن سلول المنافق قال محمد بن إسحاق: لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم على المريسيع- وهو ماء لبنى المصطلق «5» - فى نزوله عن غزوته إياهم، وردت واردة الناس، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 402 ومع عمر بن الخطاب أجير له من بنى غفار، يقال له جهجاه بن مسعود يقود فرسه، فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهنىّ- حليف بنى عوف بن الخزرج- على الماء، فاقتتلا، فصرخ الجهنىّ: يا معشر الأنصار! وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين! فغضب عبد الله بن أبىّ، وعنده رهط من قومه، فيهم زيد بن أرقم- غلام حدث- فقال: أو قد فعلوها! قد نافرونا وكاثرونا فى بلادنا، والله ما أعدّنا وجلابيب قريش «1» هذه إلا كما قال الأول: سمّن كلبك يأكلك؛ أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذلّ. ثم أقبل على من حضره من قومه وقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم! أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم «2» أموالكم، والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم. قال: فمشى زيد بن أرقم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، وعنده عمر بن الخطاب، فقال عمر: مر به عبّاد بن بشر فليقتله؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فكيف يا عمر إذا تحدّث الناس أن محمدا يقتل أصحابه! لا، ولكن أذّن بالرحيل» ، فارتحل الناس فى ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها، وجاء عبد الله بن أبىّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلف بالله: ما قلت ما قال زيد بن أرقم عنّى، وما تكلمت به، فقال من حضر من الأنصار: يا رسول الله، عسى أن يكون الغلام أوهم فى حديثه، ولم يحفظ ما قال الرجل. فلما استقلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لقيه أسيد بن حضير فقال: يا نبىّ الله، والله لقد رحت فى ساعة منكرة ما كنت تروح فى مثلها. قال: «أو ما بلغك الجزء: 16 ¦ الصفحة: 403 ما قال صاحبكم» ؟ قال: أىّ صاحب؟ قال: «عبد الله بن أبىّ» قال، وما قال يا رسول الله؟ قال: «زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعزّ منها الأذل» قال: فأنت يا رسول الله تخرجه إن شئت، هو والله الذليل وأنت العزيز. ثم قال: يا رسول الله، ارفق به، فو الله لقد جاء الله بك وإنّ قومه لينظمون له الخرز ليتوّجوه، فإنه ليرى أنك استلبته ملكا. قال: ثم متن «1» رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس يومهم ذاك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم «2» الشمس، ثم نزل بالناس فلم يلبثوا إلا أن وجدوا مسّ الأرض فوقعوا نياما. قال: وإنما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ليشغل الناس عن الحديث الذى كان من عبد الله بن أبىّ. قال: ثم هبت ريح شديدة تخوّفها الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تخوّفوها فإنما هبت لموت عظيم من عظماء الكفار» . فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد بن التابوت أحد بنى قينقاع- وكان من عظماء يهود، وكهفا للمنافقين- مات ذلك اليوم. ونزلت السورة التى ذكر الله تعالى فيها المنافقين فى ابن أبىّ ومن قال بقوله، فلما نزلت أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذن زيد بن أرقم ثم قال: «هذا الذى أوفى لله بأذنه» . وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبىّ بن سلول ما كان من أمر أبيه، فقال: يا رسول الله، إنه بلغنى أنك تريد قتل عبد الله بن أبىّ فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلا فمرنى به فأنا أحمل إليك رأسه، إنى أخشى أن تأمر غيرى فيقتله فلا تدعنى نفسى أنظر إلى قاتل عبد الله يمشى فى الناس فأقتله، فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل الجزء: 16 ¦ الصفحة: 404 النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نترفّق به ونحسن صحبته ما بقى معنا» ، وكان بعد ذلك إذا أحاث حدثا كان قومه هم الذين يعاتبونه ويعنفّونه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك من شأنهم: «كيف ترى يا عمر؛ أما والله لو قتلته يوم قلت لى اقتله لأرعدت [له «1» ] آنف لو أمرتها اليوم [بقتله «2» ] لقتلته» ، فقال عمر: قد والله علمت لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمرى. ومن الحوادث فى هذه الغزوة حديث الإفك. ذكر حديث الإفك وما تكلم به من تكلم من المنافقين وغيرهم فيه وما أنزله الله تعالى من براءة عائشة، وفضل أبيها رضوان الله عليهما هذا الحديث قد تداوله الرواة وأهل الأخبار والسّير، فمنهم من زاد فيه زيادات كثيرة، وذكر تحامل من تحامل فى أمر الإفك، وتعصّب من تعصّب، فعلمت أن إيراد ذلك من أقوالهم يقتضى أن يصير فى نفس من سمعه من أهل السنّة شيئا ممن تكلم عليه بما تكلّم، ولعل ذلك لم يقع، فرأيت أن أقتصر منه على ما ثبت فى صحيح البخارىّ، واتصّل لنا بالرواية الصحيحة، وذكرت زيادات ذكرها ابن إسحاق- رحمه الله- ويحتاج إلى إيرادها مما لا ضرر فيه، نبهت عليها بعد مساق الحديث على ما تقف عليه إن شاء الله تعالى. ولنبدأ بحديث البخارىّ «3» : حدّثنا الشيخان المسندان المعمّران؛ شهاب الدين أبو العباس أحمد بن أبى طالب نعمة الصالحىّ الحجّار، وستّ الوزراء أمّ محمد وزيرة بنت القاضى شمس الدين عمر ابن أسعد بن المنجا التّنوخيّة الدّمشقيان قراءة عليهما وأنا أسمع، بالمدرسة المنصورية الجزء: 16 ¦ الصفحة: 405 التى هى بين القصرين بالقاهرة المعزّية، فى جمادى الأولى سنة خمس عشرة وسبعمائة، قالا: حدّثنا الشيخ سراج الدين أبو عبد الله الحسين بن المبارك بن محمد بن يحيى الزّبيدىّ، فى شوّال سنة ثلاثين وستمائة، بدمشق بالجامع المظفّرىّ بسفح جبل قاسيون، قال: حدّثنا أبو الوقت عبد الأوّل بن عيسى بن شعيب السّجزىّ «1» قراءة عليه ونحن نسمع ببغداد، فى آخر سنة اثنتين وأوّل سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة، قال: حدّثنا الشيخ أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد بن المظفّر الداودىّ «2» فى شوّال وذى القعدة سنة خمس وستين وأربعمائة، قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد ابن حمويه السّرخسىّ فى صفر سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة، قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن يوسف بن مطر الفربرىّ بفر «3» بر سنة ستّ عشرة وثلاثمائة، قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخارىّ قراءة عليه بتبريز سنة ثمان وأربعين ومائتين، ومرة فى سنة اثنتين وخمسين، قال: حدّثنا يحيى بن بكير، قال: حدّثنا الليث عن يونس عن ابن شهاب، قال: أخبرنى عروة بن الزّبير، وسعيد بن المسيّب، وعلقمة بن وقاص، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن حديث عائشة زوج النبىّ صلى الله عليه وسلم حين قال لها أهل الإفك ما قالوا، فبرأها الله مما قالوا، وكلّ حدّثنى طائفة من الحديث، وبعض حديثهم يصدّق بعضا، وإن كان بعضهم أوعى له من بعض؛ الذى حدّثنى عروة عن عائشة زوج النبىّ صلى الله عليه وسلم؛ أن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج الجزء: 16 ¦ الصفحة: 406 أقرع بين أزواجه، فأيتهنّ خرج سهمها خرج [بها «1» ] رسول الله صلى الله عليه وسلم معه، قالت عائشة: فأقرع بيننا فى غزوة «2» غزاها فخرج سهمى، فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما نزل الحجاب، فأنا أحمل فى هودجى وأنزل فيه، فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك وقفل، ودنونا من المدينة قافلين، آذن ليلة بالرّحيل، فقمت حين آذنوا بالرّحيل، فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأنى أقبلت إلى رحلى فإذا عقد لى من جزع ظفار «3» قد انقطع، فالتمست عقدى وحبسنى ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لى، فاحتملوا هودجى فرحلوه على بعيرى الذى كنت ركبت، وهم يحسبون أنّى فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلهنّ اللحم، إنما تأكل العلقة «4» من الطعام، فلم يستنكر القوم خفّة الهودج حين رفعوه، وكنت جارية حديثة السنّ، فبعثوا الجمل وساروا، فوجدت عقدى بعدما استمرّ الجيش، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب، فأممت منزلى الذى كنت به، وظننت أنهم سيفقدونى فيرجعون إلىّ، فبينما أنا جالسة فى منزلى غلبتنى عينى فنمت، وكان صفوان بن المعطّل السّلمىّ ثم الذّكوانىّ من وراء الجيش، فأدلج فأصبح عند منزلى، فرأى سواد إنسان نائم، فأتانى فعرفنى حين رآنى، وكان يرانى قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفنى، فخمّرت وجهى بجلبابى، وو الله ما كلّمنى كلمة، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حتى أناخ راحلته، فوطئ على يدها فركبتها، فانطلق يقود بى الراحلة حتى أتينا الجيش الجزء: 16 ¦ الصفحة: 407 بعد ما نزلوا موغرين «1» فى نحر الظهيرة، فهلك من هلك «2» - وكان الذى تولى الإفك عبد الله بن أبىّ بن سلول- فقدمنا المدينة، فاشتكيت حين قدمت شهرا، والناس يفيضون فى قول أصحاب الإفك، لا أشعر بشىء من ذلك، وهو يريبنى «3» فى وجعى؛ أنّى لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللّطف الذى كنت أرى منه حين أشتكى، إنما يدخل علىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلّم «4» ثم ينصرف، فذلك الذى يريبنى، ولا أشعر بالشّر حتى خرجت بعد ما نقهت، فخرجت معى أمّ مسطح قبل المناصع- وهو متبرّزنا- وكنا لا نخرج إلّا ليلا إلى ليل، وذلك قبل أن نتّخذ الكنف قريبا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول فى التبرز [قبل «5» ] الغائط، فانطلقت أنا وأمّ مسطح، وهى بنت أبى رهم بن عبد مناف، وأمها بنت صخر ابن عامر خالة أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه، وابنها مسطح بن أثاثة، فأقبلت أنا وأمّ مسطح قبل بيتى قد فرغنا من شأننا، فعثرت أمّ مسطح [فى مرطها «6» ] ، فقالت: تعس مسطح؛ فقلت لها: بئس ما قلت: أتسبّين رجلا قد شهد بدرا؟! قالت: أى هنتاه، أو لم تسمعى ما قال؟ قالت قلت: وما قال؟ فأخبرتنى بقول أهل الإفك، فازددت مرضا على مرضى، قالت: فلما رجعت إلى بيتى، ودخل علىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: «كيف تيكم» ؟ فقلت: أتأذن لى أن آتى أبوىّ؟ قالت: وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما؛ قالت: فأذن لى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجئت أبوىّ، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 408 فقلت لأمّى: يا أمّتاه، ما يتحدّث الناس؟ قالت: يا بنيّة، هوّنى عليك، فو الله لقلّما كانت امرأة قطّ وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها، قالت فقلت: سبحان الله! ولقد تحدّث الناس بهذا؟! قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ «1» لى دمع، ولا أكتحل بنوم حتى أصبحت أبكى، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علىّ بن أبى طالب وأسامة بن زيد رضى الله عنهما حين استلبث الوحى «2» يستأمرهما فى فراق أهله. قالت: فأما أسامة بن زيد، فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذى يعلم من براءة أهله، وبالذى يعلم لهم فى نفسه من الودّ، فقال: يا رسول الله، أهلك وما نعلم إلا خيرا. وأما علىّ بن أبى طالب- رضى الله عنه- فقال: يا رسول الله، لم يضيّق الله عليك، والنساء سواها كثير «3» ، وإن تسأل الجارية تصدقك. قالت: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة، فقال: «أى بريرة، هل رأيت من شىء يريبك» ؟ قالت بريرة: لا والذى بعثك بالحقّ، إن رأيت عليها أمرا أغمصه «4» عليها، أكثر من أنها جارية حديثة السنّ تنام عن عجين أهلها، فتأتى الداجن «5» فتأكله. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فآستعذر من عبد الله بن أبىّ بن سلول، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر: «يا معشر المسلمين، من يعذرنى «6» من رجل قد بلغنى أذاه فى أهل بيتى! فو الله ما علمت على أهلى إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلّا خيرا، وما كان الجزء: 16 ¦ الصفحة: 409 يدخل على أهلى إلّا معى» . فقام سعد بن معاذ الأنصارىّ فقال: يا رسول الله، أنا أعذرك منه؛ إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك. قالت: فقام سعد بن عبادة وهو سيّد الخزرج، وكان قبل ذلك رجلا صالحا، ولكن احتملته الحميّة «1» . فقال لسعد: كذبت، لعمر الله «2» لا تقتله، ولا تقدر على قتله، وقام أسيد بن حضير- وهو ابن عم سعد- فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين. فتثاور الحيّان: الأوس والخزرج حتى همّوا أن يقتتلوا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفّضهم «3» حتى سكتوا وسكت. قالت: فبكيت يومى ذلك لا يرقأ لى دمع، ولا أكتحل بنوم، قالت: وأصبح أبواى عندى، وقد بكيت ليلتين ويوما لا أكتحل بنوم ولا يرقأ لى دمع، يظنان أن البكاء فالق كبدى، فقالت: فبينما هما جالسان عندى وأنا أبكى فاستأذنت علىّ امرأة من الأنصار فأذنت لها، فجلست تبكى معى، قالت: فبينما نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلّم ثم جلس، قالت: ولم يجلس عندى منذ قيل ما قيل قبلها، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه فى شأنى، قالت: فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس، ثم قال: «أمّا بعد يا عائشة، فإنه قد بلغنى عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب، فاستغفرى الله وتوبى إليه، فإنّ العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه» . قالت: فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعى حتى ما أحسّ منه قطرة، فقلت لأبى: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال، قال: والله الجزء: 16 ¦ الصفحة: 410 ما أدرى ما اقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لأمّى: أجيبى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: ما أدرى ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: فقلت وأنا جارية حديثة السنّ لا أقرأ كثيرا من القرآن: إنّى والله لقد علمت؛ لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقرّ فى أنفسكم وصدّقتم به، فلئن قلت لكم إنّى بريئة لا تصدّقونى بذلك، ولئن اعترفت بأمر والله يعلم أنّى بريئة منه لتصدقنّى، والله ما أجد لكم مثلا إلا قول أبى يوسف، قال: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) . قالت: ثم تحوّلت فاضطجعت على فراشى، قالت: وأنا حينئذ أعلم أنى بريئة، وأن الله يبرئنى ببراءتى، ولكن والله ما كنت أظن أنّ الله منزل فى شأنى وحيا يتلى، ولشأنى فى نفسى كان أحقر من أن يتكلّم الله فىّ بأمر يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا يبرئنى الله بها. قالت: فو الله ما رام «1» رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه، فأخذه ما يأخذه من البرحاء «2» ، حتى إنه ليتحدّر منه مثل الجمان «3» من العرق- وهو فى يوم شات- من ثقل القول الذى ينزل عليه، قالت: فلما سرّى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سرّى عنه وهو يضحك، فكانت أوّل كلمة تكلّم بها: «يا عائشة، أمّا الله فقد برّاك» ، فقالت أمّى: قومى إليه، قالت فقلت: والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله عزّ وجل، وأنزل الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ. لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ. لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 411 فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ. إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ. وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ. يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) «1» ، قالت عائشة: فلما أنزل الله تعالى هذا فى براءتى، قال أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه، وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته وفقره: والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد الذى قال لعائشة- رضى الله عنها- ما قال، فأنزل الله سبحانه وتعالى: (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) «2» . قال أبو بكر رضى الله عنه: بلى والله إنى أحبّ أن يغفر الله لى، فرجع إلى مسطح النفقة التى كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبدا. قالت عائشة: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل زينب بنت جحش عن أمرى فقال: «يا زينب، ماذا علمت أو رأيت» ؟، فقالت: يا رسول الله، أحمى سمعى وبصرى، ما رأيت إلا خيرا، قالت: وهى التى كانت تسامينى «3» من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعصمها الله بالورع، وطفقت أختها حمنة تحارب لها، فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك. انتهى حديث البخارىّ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 412 وروى أبو محمد عبد الملك بن هشام بسنده إلى عروة بن الزّبير، وعبد الله ابن عبد الله بن عتبة، وعبد الله بن الزبير، وعمرة بنت عبد الرحمن، كلهم يحدّث عن عائشة- رضى الله عنهم- بنحو هذا الحديث، وزاد فيه من قول أسامة ابن زيد؛ فأثنى خيرا، وقاله؛ ثم قال: يا رسول الله، أهلك ولا نعلم إلا خيرا، وهذا هو الكذب والباطل. قال: وأمّا علىّ بن أبى طالب فإنه قال: يا رسول الله، إنّ النساء لكثير، وإنك لقادر على أن تستخلف، واسأل الجارية فإنها ستصدقك. قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة ليسألها، فقام إليها علىّ بن أبى طالب فضربها ضربا شديدا، وقال: اصدقى رسول الله. وساق نحو ما تقدم. وقال فى خبر الوحى: قالت فو الله ما برح رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه حنى تغشّاه من الله ما كان يتغشّاه، فسجّى بثوبه، ووضعت له وسادة من أدم تحت رأسه، فأمّا أنا حين رأيت ما رأيت فو الله ما فزعت ولا باليت؛ قد عرفت أنى منه بريئة، وأنّ الله غير ظالمى، وأمّا أبواى، فو الذى نفس عائشة بيده، ما سرّى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننت لتخرجنّ أنفسهما فرقا من أن يأتى من الله تحقيق ما قال الناس. وساق الحديث بنحو ما تقدم. ثم قال: قالت ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس فخطبهم، وتلا عليهم ما أنزل عليه من القرآن فى ذلك، ثم أمر بمسطح بن أثاثة، وحسّان بن ثابت، وحمنة بنت جحش، وكانوا ممن أفصح بالفاحشة فضربوا حدّهم؛ فقال رجل من المسلمين فى ذلك: لقد ذاق حسّان الذى كان أهله ... وحمنة إذ قالوا هجيرا ومسطح «1» تعاطوا برجم الغيب زوج نبيّهم ... وسخطة ذى العرش الكريم فأترحوا «2» الجزء: 16 ¦ الصفحة: 413 وآذوا رسول الله فيها فجلّلوا ... مخازى تبقى عمّموها وفضّحوا وصبّت عليهم محصدات كأنها ... شآبيب قطر من ذرى المزن تسفح «1» وحكى أبو عمر بن عبد البر فى ترجمة مسطح- وهو عوف بن أثاثة بن عبّاد ابن عبد المطلب بن عبد مناف بن قصىّ، وأمه سلمى بنت صخر بن عامر خالة أبو بكر الصدّيق. قال: وذكر الأموى عن أبيه عن ابن إسحاق قال قال أبو بكر يذكر مسطحا: يا عوف ويحك هلّا قلت عارفة ... من الكلام ولم تتبع بها طمعا وأدركتك حميّا معشر أنف ... ولم تكن قاطعا يا عوف من قطعا هلّا حربت من الأفوام إذ حسدوا ... فلا تقول ولو عاينته قذعا لمّا رميت حصانا غير مقرفة ... أمينة الجيب لم نعلم لها خضعا فيمن رماها وكنتم معشرا أفكا ... فى سىّء القول من لفظ الخنا شرعا فأنزل الله وحيا فى براءتها ... وبين عوف وبين الله ما صنعا فإن أعش أجز عوفا عن مقالته ... شرّ الجزاء إذا ألفيته تبعا ولعل هذا الشّعر إن صحّ عن أبى بكر فيكون قاله قبل نزول قوله تعالى: (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ) الآية. فإنه قد صح أن أبا بكر قال عند نزولها: والله إنّى أحبّ أن يغفر الله لى، ورجع إلى مسطح النفقة التى كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها عنه أبدا. وقال محمد بن إسحاق: حدّثنى أبى إسحاق بن يسار عن بعض رجال بنى النجار: أن أبا أيوب خالد بن زيد، قالت له امرأته أمّ أيوب: ألا تسمع ما يقول الجزء: 16 ¦ الصفحة: 414 الناس فى عائشة؟ قال: بلى، وذلك الكذب، أكنت يا أمّ أيوب فاعلة؟ قالت: لا والله ما كنت لأفعله؛ قال: فعائشة والله خير منك. فلما نزل القرآن بذكر من قال من أهل الفاحشة ما قال أهل الإفك، ثم قال: (لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً) ، أى فقالوا كما قال أبو أيوب وصاحبته. قال ابن إسحاق: وكان حسّان بن ثابت قال شعرا يعرّض فيه بصفوان بن المعطّل، فاعترضه صفوان فضربه بالسيف، ثم قال: تلقّ ذباب السّيف عنك فإنّنى ... غلام إذا هو جيت لست بشاعر فوثب ثابت بن قيس بن شمّاس على صفوان بن المعطّل حين ضرب حسّان فجمع يديه إلى عنقه بحبل، ثم انطلق به إلى دار بنى الحارث بن الخزرج، فلقيه عبد الله بن رواحة فقال: ما هذا؟ قال: أما أعجبك «1» ! ضرب حسّان بالسيف والله ما أراه إلا قد قتله؛ فقال له عبد الله بن رواحة: هل علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشىء مما صنعت؟ قال: لا والله؛ قال: لقد اجترأت، أطلق الرجل، فأطلقه، ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا ذلك له، فدعا حسّان وصفوان، فقال صفوان: يا رسول الله، آذانى وهجانى، فحملنى الغضب فضربته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا حسّان، أتشوّهت «2» على قومى أن هداهم الله للإسلام» ؟ ثم قال: «أحسن يا حسّان فى الذى قد أصابك» قال: هى لك؛ فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عوضا عنها بيرحا- وهى قصر بنى حديلة- كانت ما لا لأبى طلحة وتصدّق بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعطاها حسّان فى ضربته، وأعطاه الجزء: 16 ¦ الصفحة: 415 سيرين- أمة قبطيّة- فولدت له عبد الرحمن بن حسّان. قال: وكانت عائشة رضى الله عنها تقول: لقد سئل عن ابن المعطّل فوجدوه رجلا حصورا ما يأتى النساء، ثم قتل بعد ذلك شهيدا رضى الله عنه. وقال حسّان بن ثابت يعتذر من الذى كان منه فى شأن عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها: حصان رزان ما تزنّ بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل «1» عقيلة حىّ من لؤىّ بن غالب ... كرام المساعى مجدهم غير زائل «2» مهذّبة قد طيّب الله خيمها ... وطهّرها من كلّ سوء وباطل «3» فإن كنت قد قلت الذى قد زعمتم ... فلا رفعت سوطى إلىّ أناملى وكيف وودّى ما حييت ونصرتى ... لآل رسول الله زين المحافل له رتب عال على الناس كلّهم ... تقاصر عنها سورة «4» المتطاول فإنّ الذى قد قيل ليس بلائط «5» ... ولكنه قول امرئ بى ما حل «6» وقد روينا عن البخارىّ رحمه الله بالإسناد المتقدم، قال: حدثنا محمد بن يوسف، قال: حدثنا سفيان عن الأعمش عن أبى الضحى عن مسروق عن عائشة الجزء: 16 ¦ الصفحة: 416 رضى الله عنها قالت: جاء حسّان بن ثابت يستأذن عليها، قلت: أتأذنين لهذا؟ قالت: أو ليس قد أصابه عذاب عظيم؟ قال سفيان: تعنى ذهاب بصره، فقال: حصان رزان ما تزنّ بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل قالت: لكن أنت «1» . وعن مسروق أيضا قال: دخل حسّان على عائشة فشبّب فقال: حصان رزان ...... البيت. قالت: لست كذلك، قلت: تدعين هذا يدخل عليك وقد أنزل الله: (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ) ؟ قالت: وأىّ عذاب أشدّ من العمى! وقد كان يردّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكر خبر التيمم من أهل العلم من ذهب إلى أن آية التيمم أنزلت فى غزوة المريسيع «2» ، ومنهم من ذهب إلى أنها أنزلت فى غيرها. روى أبو عبد الله محمد البخارىّ رحمه الله بسنده عن عائشة زوج النبى صلى الله عليه وسلم قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء- أو بذات الجيش- انقطع عقد لى، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه، وأقام الناس معه وليسوا على ماء، فأتى الناس إلى أبى بكر الصّدّيق فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم والناس، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء. فجاء أبو بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذى قد نام، فقال: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 417 حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء! فقالت عائشة: فعاتبنى أبو بكر، وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعننى بيده فى خاصرتى، فلا يمنعنى من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذى، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصبح على غير ماء، فأنزل الله آية التّيمم فتيمّموا، فقال أسيد بن الحضير: ما هى بأوّل بركتكم يا آل أبى بكر. قالت: فبعثنا البعير الذى كنت عليه، فأصبنا العقد تحته. حوادث السنة السادسة «1» فيها كانت غزوة الحديبيّة، وبيعة الرّضوان، وهدنة قريش، على ما نذكر ذلك كله فى الغزوات إن شاء الله تعالى، وفيها قحط الناس، فاستسقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس فى شهر رمضان فسقوا، وفيها هاجرت أمّ كلثوم. ذكر هجرة أمّ كلثوم بنت عقبة بن أبى معيط، وما أنزل الله تعالى فى هجرة النساء لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة الحديبيّة، بعد أن حلت الهدنة، وتقررت القضيّة، وكان فيما وقع عليه الصّلح: أنه من جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من قريش بغير إذن وليّه ردّه إليهم، وردّ من ردّ من رجال المسلمين، على ما نذكر ذلك إن شاء الله فى الغزوات. ثم هاجرت أمّ كلثوم بنت عقبة بن أبى معيط إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى تلك المدة، فخرج أخواها عمارة والوليد، ابنا عقبة، حتى قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألانه أن يردّها عليهما بالعهد الذى بينه وبين قريش، فلم يفعل؛ وذلك أن الله عزّ وجل الجزء: 16 ¦ الصفحة: 418 أنزل: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) «1» ، فمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء لذلك، وأمر بردّ صدقاتهنّ إليهم إن هم ردّوا على المسلمين صدقات من حبسوا عنهم من نسائهم. قال ابن إسحاق: ولما أنزل الله تعالى قوله: (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) ، كان ممن طلّق عمر بن الخطاب رضى الله عنه، طلّق امرأتيه قريبة ابنة أبى أمية ابن المغيرة، فتزوّجها بعده معاوية بن أبى سفيان، وأمّ كلثوم بنت جرول أمّ عبيد الله ابن عمر الخزاعية، فتزوّجها أبو جهم بن حذيفة بن غانم، وكانوا إذ ذاك على شركهم. والله أعلم. [حوادث السنة السابعة «2» ] فيها تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمّ حبيبة بنت أبى سفيان، وصفيّة بنت حيىّ بن أخطب، وميمونة بنت الحارث الهلالية. وفيها أسلم أبو هريرة- واسمه فى الجاهلية عمير بن عامر بن عبد ذى الشّرى، وفى الإسلام عبد الرحمن بن صخر الدّوسىّ، وأسماؤه كثيرة بحسب ما ورد من اختلاف أقوال الرواة، وقد صححوا ما ذكرناه، والله أعلم- وعمران بن حصين. وفيها حرّمت الحمر الأهلية، ومتعة النساء الجزء: 16 ¦ الصفحة: 419 على ما نذكر ذلك إن شاء الله فى غزوة خيبر. وفيها بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الرّسل إلى الملوك، وقدم حاطب بن أبى بلتعة من عند المقوقس بمارية بنت شمعون القبطية أمّ إبراهيم عليه السلام وأختها شيرين. وفيها قدم جعفر بن أبى طالب ومن كان قد بقى من المهاجرين بأرض الحبشة، وقد تقدم ذكرهم. حوادث السنة الثامنة فيها ولد إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم من مارية. وفيها توفيت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيها وهبت سودة زوج النبى صلى الله عليه وسلم يومها لعائشة رضى الله عنها حين أراد طلاقها. وفيها عمل منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخطب عليه. ذكر اتخاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر وخطبته عليه روى محمد بن سعد فى طبقاته الكبرى بسنده عن أبى هريرة رضى الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إلى جذع فى المسجد قائما، فقال: «إن القيام قد شقّ علىّ» ، فقال له تميم الدارىّ: ألا أعمل لك منبرا كما رأيت يصنع بالشام؟، فشاور رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين فى ذلك، فرأوا أن يتخذه، فقال العباس بن عبد المطلب: إن لى غلاما يقال له كلاب أعمل الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مره أن يعمله» ، فأرسله إلى أثلة بالغابة فقطعها، ثم عمل منها درجتين ومقعدا، ثم جاء به فوضعه فى موضعه [اليوم «1» ] ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام عليه وقال: «منبرى هذا على ترعة من ترع الجنة، وقوائم منبرى رواتب فى الجنة» . وعن سهل بن سعد الجزء: 16 ¦ الصفحة: 420 وقد سئل عن منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أى عود هو؟ فقال: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فلانة- امرأة سماها- فقال: «مرى غلامك النجار يعمل لى أعوادا أكلّم الناس عليها» ، فعمل هذه الثلاث درجات من طرفاء الغابة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضعه فى هذا الموضع. وقد روى عن باقوم الرومىّ أنه قال: صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم منبرا من طرفاء، ثلاث درجات: القعدة ودرجتيه؛ رواه عنه صالح مولى التّوءمة «1» . حكاه أبو عمر فى ترجمة باقوم. ولما انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه كان من حنين الجذع ما نذكره إن شاء الله تعالى فى معجزاته صلى الله عليه وسلم. وفى هذه السنة أسلم عمرو بن العاص، وخالد بن الوليد، وعثمان بن طلحة، على ما نشرح ذلك. ذكر إسلام عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة كان سبب إسلامهم على ما حكاه محمد بن إسحاق بسنده يرفعه إلى عمرو بن العاص، قال عمرو: لما انصرفنا مع الأحزاب عن الخندق جمعت رجالا من قريش كانوا يرون رأيى، ويسمعون منّى، فقلت لهم: تعلّموا والله أنى أرى أمر محمد يعلو الأمور علوّا منكرا، وإنّى قد رأيت أمرا فما ترون فيه؟ قالوا: وماذا رأيت؟ قال: رأيت أن نلحق بالنّجاشى فنكون عنده، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النّجاشىّ، فإنّا أن نكون تحت يديه أحبّ إلينا من أن نكون تحت يدى محمد، وإن ظهر قومنا فنحن من قد عرفوا، فلن يأتينا منهم إلا خير. قالوا: إن هذا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 421 لرأى، قلت: فاجمعوا ما يهدى له، وكان أحبّ ما يهدى إليه من أرضنا الأدم، فجمعنا أدما كثيرا، ثم خرجنا حتى قدمنا عليه. فو الله إنا لعنده إذ جاء عمرو بن أمية الضّمرىّ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه إليه فى شأن جعفر وأصحابه، قال: فدخل عليه ثم خرج من عنده، فقلت لأصحابى: هذا عمرو بن أمية، ولو قد دخلت على النّجاشىّ وسألته إياه فأعطانيه فضربت عنقه، فإذا فعلت ذلك رأت قريش أنى قد أجزأت عنها، فدخلت عليه فسجدت له كما كنت أصنع، فقال لى: مرحبا بصديقى، أهديت لى من بلادك شيئا؟ قلت: نعم أيها الملك، قد أهديت لك أدما كثيرا، ثم قرّبته إليه فأعجبه، ثم قلت له: أيها الملك، إنى قد رأيت رجلا خرج من عندك، وهو رسول رجل عدوّ لنا، فأعطنيه لأقتله، فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا، قال: فعضب، ثم مدّ يده فضرب بها أنفه ضربة ظننت أنه قد كسره، فلو انشقت الأرض لدخلت فيها فرقا منه، ثم قلت له: أيها الملك، والله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه، قال: أتسألنى أن أعطيك رسول رجل يأتيه النّاموس الأكبر الذى كان يأتى موسى صلى الله عليه وسلم لتقتله! فقلت: أيها الملك، أكذاك هو؟ قال: ويحك يا عمرو، أطعنى واتّبعه، فإنه والله لعلى الحقّ، وليظهرنّ على من خالفه، كما ظهر موسى على فرعون وجنوده، قال: قلت: أفتبا يعنى له على الإسلام؟ قال: نعم، فبسط يده فبايعته على الإسلام، ثم خرجت إلى أصحابى وقد حال رأيى عما كان عليه، وكتمتهم إسلامى. ثم خرجت عامدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقيت خالد بن الوليد وهو مقبل من مكة، فقلت: إلى أين يا أبا سليمان؟ فقال: لقد استقام المنسم «1» ، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 422 وإن الرجل لنبىّ، أذهب والله فأسلم فحتى متى! قال قلت: والله ما جئت إلا لأسلم، قال: فقدمنا المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدم خالد بن الوليد فأسلم وبايع، ثم دنوت فقلت: يا رسول الله، إنى أبايعك على أن يغفرلى ما تقدّم من ذنبى ولا أذكر ما تأخر، فقال: «يا عمرو: بايع، فإن الإسلام يجبّ «1» ما كان قبله، وإن الهجرة تجبّ ما كان قبلها» ، فبايعت ثم انصرفت. قال ابن إسحاق: وحدثنى من لا أتهم أن عثمان بن طلحة بن أبى طلحة كان معهما فأسلم حين أسلما. حوادث السنة التاسعة فيها آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه، وأقسم ألّا يدخل عليهنّ شهرا. وكان سبب الإيلاء ما رواه البخارىّ بسنده عن عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبّ العسل والحلواء، وكان إذا انصرف من العصر دخل على نسائه فيدنو من إحداهنّ، فدخل على حفصة بنت عمر فاحتبس أكثر ما كان يحتبس فغرت، فسألت عن ذلك فقيل لى: أهدت لها امرأة من قومها عكّة عسل، فسقت النبىّ صلى الله عليه وسلم منه شربة، فقلت: أما والله لنحتالنّ له، فقلت لسودة بنت زمعة: إنه سيدنو منك، فإذا دنا منك فقولى له: أكلت مغافير، سيقول لك: لا، فقولى له: ما هذه الريح التى أجد؟ فإنه سيقول لك: سقتنى حفصة شربة عسل، فقولى له: جرست «2» نحله العرفط، وسأقول ذلك، وقولى أنت يا صفية ذلك، قالت: تقول سودة فو الله ما هو إلا أن قام على الجزء: 16 ¦ الصفحة: 423 الباب فأردت أن أبادئه بما أمرتنى به فرقا منك. ومن رواية مسلم- قالت تقول سودة: فو الذى لا إله إلا هو لقد كدت أبادئه بالذى قلت لى، وإنه لعلى الباب فرقا منك. قال البخارىّ: فلما دنا منها قالت له سودة: يا رسول الله، أكلت مغافير؟ قال: «لا» قلت: فما هذه الريح التى أجد منك؟ قال: «سقتنى حفصة شربة عسل» فقالت: جرست نحله العرفط، فلما دار الىّ قلت له نحو ذلك، فلما دار إلى صفية قالت له مثل ذلك، فلما دار إلى حفصة قالت له: ألا أسقيك منه؟ قال: «لا حاجة لى فيه» قالت: تقول سودة والله لقد حرمناه «1» ، قلت لها: اسكتى «2» . وفى رواية عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب عسلا عند زينب بنت جحش، ويمكث عندها، فتواطأت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها فلتقل له: أكلت مغافير، إنى أجد منك ريح مغافير، قال: «لا، ولكنى كنت أشرب عسلا عند زينب بنت جحش فلن أعود له، وقد حلفت لا تخبرى بذلك أحدا» ، فأنزل الله تعالى: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) «3» . وروى مسلم بن الحجاج فى صحيحه بسنده عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما، عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: كنا معشر قريش قوما نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلّمن من نسائهم، وكان منزلى فى بنى أمية بن زيد بالعوالى، فتغضّبت يوما على امرأتى، فإذا هى تراجعنى، فأنكرت أن تراجعنى، فقالت: ما تنكر أن أراجعك؟ فو الله إن أزواج النبىّ صلى الله عليه وسلم ليراجعنه، وتهجره إحداهنّ اليوم إلى الليل، فانطلقت فدخلت الجزء: 16 ¦ الصفحة: 424 على حفصة فقلت: أتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: نعم [فقلت: أتهجره إحدا كنّ إلى الليل؟ قالت: نعم، فقلت «1» ] : قد خاب من فعل ذلك منكنّ وخسر، أفتأمن إحدا كنّ أن يغضب الله عليها لغضب رسوله صلى الله عليه وسلم؟ فإذا هى قد هلكت، لا تراجعى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسأليه شيئا، وسلينى ما بدا لك، ولا يغرّنك أن كانت جارتك هى أوسم وأحبّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك، يريد عائشة. ومن رواية البخارىّ قال: خرجت حتى دخلت على أمّ سلمة لقرابتى منها فكلمتها، فقالت أمّ سلمة: عجبا لك يابن الخطّاب! دخلت فى كل شىء حتى تبتغى أن تدخل بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه، فأخذتنى والله أخذا كسرتنى عن بعض ما كنت أجد، فخرجت من عندها. رجعنا إلى حديث مسلم- قال عمر: وكان لى جار من الأنصار فكنا نتناوب النزول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فينزل يوما، وأنزل يوما، فيأتينى بخبر الوحى وغيره، وآتيه بمثل ذلك، وكنا نتحدّث أن غسّان تنعل الخيل لغزونا «2» ، فنزل صاحبى، ثم أتانى عشاء فضرب بابى، ثم نادانى فخرجت إليه، فقال: حدث أمر عظيم، فقلت: ماذا، أجاءت غسّان؟ قال: لا، بل أعظم من ذلك وأطول، طلّق النبىّ صلى الله عليه وسلم نساءه، فقلت: قد خابت حفصة وخسرت، وقد كنت أظنّ هذا كائنا، حتى إذا صلّيت الصبح شددت علىّ ثيابى، ثم نزلت فدخلت على حفصة وهى تبكى، فقلت: أطلقكنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: لا أدرى، ها هو ذا معتزل فى هذه المشربة، فأتيت غلاما له أسود فقلت: استأذن لعمر، فدخل ثم خرج إلىّ فقال: قد ذكرتك له فصمت، فانطلقت الجزء: 16 ¦ الصفحة: 425 حتى انتهيت إلى المنبر فجلست، فإذا عنده رهط جلوس يبكى بعضهم، فجلست قليلا ثم غلبنى ما أجد، ثم أتيت الغلام فقلت: استأذن لعمر، فدخل ثم خرج إلىّ، فقال: قد ذكرتك له فصمت، فولّيت مدبرا، فإذا الغلام يدعونى، فقال: ادخل فقد أذن لك، فدخلت فسلّمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو متّكئ على رمل «1» حصير قد أثّر فى جنبه، فقلت: أطلقت يا رسول الله نساءك؟ فرفع رأسه إلىّ وقال: «لا» فقلت: الله أكبر، لو رأيتنا يا رسول الله، وكنا معشر قريش قوما نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلّمن من نسائهم، فتغضّبت على امر أتى يوما فإذا هى تراجعنى، فأنكرت أن تراجعنى، فقالت: ما تنكر أن أراجعك؟ فو الله إنّ أزواج النبىّ صلى الله عليه وسلم ليراجعنه وتهجره إحداهنّ اليوم إلى الليل، فقلت: قد خاب من فعل ذلك منهنّ وخسر، أفتأمن إحداهنّ أن يغضب الله عليها لغضب رسوله صلى الله عليه وسلم فإذا هى قد هلكت، فتبسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، قد دخلت على حفصة فقلت: لا يغرّنك أن كانت جارتك هى أوسم منك وأحبّ إلى رسول الله منك، فتبسم أخرى. ومن رواية البخارىّ- قال عمر: فقصصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحديث، فلما بلغت حديث أمّ سلمة تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر التّبسم فيما قبلها. قال مسلم فى حديثه: فقلت أستأنس «2» يا رسول الله؟ قال: «نعم» فجلست فرفعت رأسى فى البيت، فو الله ما رأيت فيه شيئا يردّ البصر الجزء: 16 ¦ الصفحة: 426 إلا أهبا «1» ثلاثة، فقلت: ادع الله يا رسول الله أن يوسّع على أمتك، فقد وسّع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله، فاستوى جالسا ثم قال: «أفى شك أنت يابن الخطاب، أولئك قوم عجّلت لهم طيباتهم فى الحياة الدنيا» فقلت: استغفر لى يا رسول الله، قال: وكان أقسم ألّا يدخل عليهنّ شهرا من شدة موجدته «2» عليهنّ حتى عاتبه الله عزّ وجلّ. وعن عروة عن عائشة رضى الله عنها قالت: لما مضى تسع وعشرون ليلة دخل علىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم- بدأ بى- فقلت: يا رسول الله، إنك أقسمت ألّا تدخل علينا شهرا، وإنك دخلت من تسع وعشرين، أعدّهن؟ فقال: «إنّ الشهر تسع وعشرون» ثم قال: «يا عائشة، إنى ذاكر لك أمرا فلا عليك ألّا تعجلى حتى تستأمرى أبويك» ثم قرأ علىّ الآية: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ) حتى بلغ (أَجْراً عَظِيماً) » فقالت عائشة: قد علم والله أن أبوىّ لم يكونا ليأمرانى بفراقه، فقلت: أو فى هذا أستأمر أبوىّ؟ فإنى أريد الله ورسوله والدار الآخرة. وفيها هدم رسول الله مسجد الضّرار. ذكر خبر مسجد الضرار وهدمه ومن اتخذه من المنافقين وكان هدم مسجد الضّرار عند منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، وكان أصحابه الذين بنوه اثنى عشر رجلا: وهم خذام بن خالد ومن داره خرج، وثعلبة بن حاطب، ومعتّب بن قشير، وأبو حبيبة بن الأزعر، وعبّاد ابن حنيف، وجارية بن عامر، وابناه مجمّع وزيد، ونبتل بن الحارث، وبحزج من بنى ضبيعة، وبجاد بن عثمان من بنى ضبيعة، ووديعة بن ثابت، فأتوا رسول الله الجزء: 16 ¦ الصفحة: 427 صلى الله عليه وسلم وهو يتجهّز إلى تبوك، فقالوا: يا رسول الله، قد بنينا مسجدا لذى العلّة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية، وإنا نحبّ أن تأتينا فتصلى لنا فيه، فقال: «إنّى على جناح سفر وحال شغل- أو كما قال صلى الله عليه وسلم- ولو قد قدمنا إن شاء الله تعالى لأتيناكم فصلينا لكم فيه» فلما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك نزل بذى أوان- بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار- أتاه خبر المسجد، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدّخشم أخا بنى سالم بن عوف، ومعن بن عدىّ، أو أخاه عاصم بن عدىّ، فقال: «انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرّقاه» فخرجا سريعين حتى أتيا بنى سالم بن عوف، وهم رهط مالك بن الدّخشم، فقال مالك لمعن: أنظرنى حتى أخرج إليك بنار من أهلى، فدخل إلى أهله فأخذ سعفا من النّخل فأشعل فيه نارا، ثم [خرجا «1» ] يشتدّان حتى دخلاه وفيه أهله فحرّقاه وهدماه وتفرّقوا عنه، ونزل فيهم من القرآن قوله تعالى: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ. أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) «2» وفيها لا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين العجلانىّ وبين امرأته فى مسجده بعد صلاة العصر فى شعبان، وكان عويمر قدم من تبوك فوجدها حبلى. وفى شوّال منها الجزء: 16 ¦ الصفحة: 428 مات عبد الله بن أبىّ بن سلول المنافق، وصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يصلّ بعدها على منافق؛ لقوله تعالى: (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) «1» الآية. وفيها ماتت أمّ كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيها نعى رسول الله صلى الله عليه وسلم النجاشىّ فى اليوم الذى مات فيه بالحبشة، قيل: فى شهر رجب. وفيها أسلم كعب بن زهير. والله أعلم بالصواب. ذكر إسلام كعب بن زهير بن أبى سلمى وامتداحه رسول الله صلى الله عليه وسلم كان سبب إسلامه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انصرف عن الطائف كتب أخوه بجير بن زهير إليه يخبره أن النبى صلى الله عليه وسلم قتل رجلا بمكة ممن كان يهجوه ويؤذيه، وأن من بقى من شعراء قريش كابن الزّبعرى، وهبيرة بن أبى وهب قد هربوا فى كل وجه، فإن كانت لك فى نفسك حاجة فطر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يقتل أحدا جاءه تائبا، وإن أنت لم تفعل فابح إلى نجائك من الأرض. وكان كعب قد كتب إلى أخيه بجير لمّا بلغه إسلامه: ألا أبلغا عنّى بجيرا رسالة ... فهل لك فيما قلت ويحك هل لكا؟ شربت مع المأمون كأسا رويّة ... فأنهلك المأمون منها وعلّكا «2» وخالفت أسباب الهدى واتّبعته ... على أىّ شىء ويب غيرك دلّكا «3» على خلق لم تلف أمّا ولا أبا ... عليه ولم تدرك عليه أخا لكا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 429 ويروى: على خلق لم تلف يوما أبا له ... عليه وما تلفى عليه أبا لكا فإن أنت لم تفعل فلست بآسف ... ولا قائل إمّا عثرت: لعّا لكا «1» ! وبعث بها إليه، فلما أتت بجيرا كره أن يكتمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم [لما سمع «2» ] قوله «سقاك بها المأمون» : «صدق وإنه لكذوب، [أنا المأمون «3» ] » ولما سمع قوله «على خلق لم تلف أمّا ولا أبا عليه» قال: « [أجل «4» ] لم يلف عليه أباه ولا أمه» فكتب بجير إلى كعب: من مبلغ كعبا فهل لك فى التى ... تلوم عليها باطلا وهى أحزم إلى الله- لا العزّى ولا اللّات- وحده ... فتنجو إذا كان النّجاء وتسلم لدى يوم لا ينجو وليس بمفلت ... من الناس إلا طاهر القلب مسلم فدين زهير وهو لا شىء دينه ... ودين أبى سلمى علىّ محرّم قال: فلما بلغ كعبا كتاب أخيه ضاقت به الأرض، وأشفق على نفسه، وأرجف به من كان فى حاضره «5» من عدوّه، فقالوا: هو مقتول، فقال قصيدته التى يمدح فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر فيها خوفه، وإرجاف الوشاة به من عدوّه، وخرج حتى قدم المدينة، فنزل على رجل كانت بينه وبينه معرفة من جهينة، فغدا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلّى الصبح فصلّى معه، ثم أشار الجهنىّ لكعب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هذا رسول الله فقم إليه فاستأمنه، فقام حتى جلس إليه، فوضع يده فى يده، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزء: 16 ¦ الصفحة: 430 لا يعرفه، فقال: يا رسول الله إنّ كعب بن زهير قد جاء ليستأمن منك تائيا مسلما، فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم» فقال: أنا يا رسول الله كعب بن زهير، فوثب رجل من الأنصار وقال: يا رسول الله، دعنى وعدوّ الله أضرب عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعه عنك، فإنه قد جاء تائبا نازعا «1» » . قال: فغضب كعب على هذا الحىّ من الأنصار لما صنع به صاحبهم، وأنشد كعب قصيدته؛ وهى: بانت سعاد فقلبى اليوم متبول ... متيّم عندها لم يجز مكبول «2» وما سعاد غداة البين إذ برزت ... إلا أغنّ غضيض الطّرف مكحول «3» هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة ... لا يشتكى قصر منها ولا طول «4» تجلو عوارض ذى ظلم إذا ابتسمت ... كأنّه منهل بالرّاح معلول «5» شجّت بذى شبم من ماء محنية ... صاف بأبطح أضحى وهو مشمول «6» تنفى الرّياح القذى عنه وأفرطه ... من صوب غادية بيض يعاليل «7» الجزء: 16 ¦ الصفحة: 431 ويل أمّها خلّة لو أنّها صدقت ... بوعدها أو لو أنّ النّصح مقبول «1» لكنها خلّة قد سيط من دمها ... فجع وولع وإخلاف وتبديل «2» فما تقوم على حال تكون به ... كما تلوّن فى أثوابها الغول «3» كانت مواعيد عرقوب لها مثلا ... وما مواعيدها إلّا الأباطيل «4» وما تمسّك بالعهد التى زعمت ... إلّا كما يمسك الماء الغرابيل «5» أرجو وآمل أن يعجلن فى أبد ... وما لهنّ إخال الدهر تعجيل «6» فلا يغرنك ما منّت وما وعدت ... إنّ الأمانىّ والأحلام تضليل أمست سعاد بأرض ما يبلّغها ... إلا العتاق النّجيبات المراسيل «7» ولا يبلّغها إلا عذافرة ... فيها على الأين إرقال وتبغيل «8» الجزء: 16 ¦ الصفحة: 432 من كل نضّاخة الذّفرى إذا عرقت ... عرضتها طامس الأعلام مجهول «1» ترمى النّجاد بعينى مفرد لهق ... إذا توقّدت الحزّان والميل «2» ضخم مقلّدها فعم مقيّدها ... فى خلقها عن بنات الفحل تفضيل «3» حرف أخوها أبوها من مهجّنة ... وعمّها خالها قوداء شمليل «4» يمشى القراد عليها ثم يزلقه ... منها لبان وأقراب زهاليل «5» عيرانة قذفت بالنّحض من عرض ... مرفقها عن بنات الزّور مفتول «6» الجزء: 16 ¦ الصفحة: 433 قنواء فى حرّتيها للبصير بها ... عتق مبين وفى الخدّين تسهيل «1» كأنّ ما فات عينيها ومذبحها ... من خطمها ومن اللّحيين برطيل «2» تمرّ مثل عسيب النّخل ذا خصل ... فى غارز لم تخوّنه الأحاليل «3» تهوى على يسرات وهى لاهية ... ذوابل وقعهنّ الأرض تحليل «4» سمر العجايات يتركن الحصى زيما ... لم يقهنّ سواد الأكم تنعيل «5» يوما يظلّ به الحرباء مرتبئا ... كأنّ ضاحيه فى النار مملول «6» وقال للقوم حاديهم وقد جعلت ... بقع الجنادب يركضن الحصى قيلوا «7» الجزء: 16 ¦ الصفحة: 434 كأنّ أوب ذراعيها وقد عرقت ... وقد تلفّع بالقور العساقيل «1» أوب يدى فاقد شمطاء معولة ... قامت فجاوبها نكد مثاكيل «2» نوّاحة رخوة الضّبعين ليس لها ... لما نعى بكرها الناعون معقول «3» تفرى اللّبان بكفّيها ومدرعها ... مشقّق عن تراقيها رعابيل «4» تسعى الوشاة بجنبيها وقولهم ... إنك يابن أبى سلمى لمقتول «5» وقال كلّ صديق كنت آمله ... لا ألهينّك إنّى عنك مشغول «6» فقلت خلّوا طريقى لا أبا لكم ... فكلّ ما قدّر الرحمن مفعول كلّ ابن أنثى وإن طالت سلامته ... يوما على آلة حدباء محمول «7» نبّئت أنّ رسول الله أوعدنى ... والعفو عند رسول الله مأمول مهلا هداك الذى أعطاك نافلة ال ... قرآن فيها مواعيظ وتفصيل «8» الجزء: 16 ¦ الصفحة: 435 لا تأخذنّى بأقوال الوشاة ولم ... أذنب ولو كثرت فىّ الأقاويل لقد أقوم مقاما لو يقوم به ... أرى وأسمع ما لو يسمع الفيل لظلّ ترعد من وجد بوادره ... إن لم يكن من رسول الله تنويل «1» حتى وضعت يمينى ما أنازعها ... فى كفّ ذى نقمات قوله القيل «2» فلهو أخوف عندى إذ أكلّمه ... وقيل إنّك منسوب ومسئول «3» من ضيغم بضراء الأرض مخدره ... فى بطن عثّر غيل دونه غيل «4» يغدو فيلحم ضرغامين عيشهما ... لحم من الناس معفور خراذيل «5» إذا يساور قرنا لا يحلّ له ... أن يترك الفرن إلّا وهو مفلول «6» منه تظلّ حميرا الجوّ نافرة ... ولا تمشّى بواديه الأراجيل «7» الجزء: 16 ¦ الصفحة: 436 ولا يزال بواديه أخو ثقة ... مطرّح البزّ والدّرسين مأكول «1» إنّ الرسول لنور يستضاء به ... مهنّد من سيوف الله مسلول «2» أغرّ أبلج يستسقى الغمام به ... كأنّ طلعته فى الليل قنديل «3» فى عصبة من قريش قال قائلهم ... ببطن مكة لمّا أسلموا زولوا «4» زالوا فما زال أنكاس ولا كشف ... عند اللّقاء ولا ميل معازيل «5» يمشون مشى الجمال الزّهر يعصمهم ... ضرب إذا عرّد السّود التّنابيل «6» شمّ العرانين أبطال لبوسهم ... من نسج داود فى الهيجا سرابيل «7» بيض سوابغ قد شكّت لها حلق ... كأنّها حلق القفعاء مجدول «8» الجزء: 16 ¦ الصفحة: 437 ليسوا مفاريح إن نالت رماحهم ... قوما وليسوا مجازيعا إذا نيلوا لا يقع الطّعن إلّا فى نحورهم ... وما لهم عن حياض الموت تهليل «1» قال ابن إسحاق: فلما قال كعب فى قصيدته: «إذا عرّد السّود التنابيل» ، وإنما أراد معشر الأنصار، وخصّ المهاجرين من قريش بمدحته، غضبت الأنصار عليه، فقال بعد ذلك يمتدح الأنصار من قصيدة له: من سرّه كرم الحياة فلا يزل ... فى «2» مقنب من صالحى الأنصار ورثوا المكارم كابرا عن كابر ... إنّ الخيار «3» هم بنو الأخيار المكرهين السّمهرىّ بأذرع ... كسوالف «4» الهندىّ غير قصار والناظرين بأعين محمرّة ... كالجمر غير كليلة الإبصار والبائعين نفوسهم لنبيّهم ... للموت يوم تعانق وكرار «5» يتطهّرون «6» يرونه نسكا لهم ... بدماء من علقوا من الكفّار دربوا كما دربت ببطن خفيّة «7» ... غلب الرّقاب من الأسود ضوارى وإذا حللت ليمنعوك إليهم ... أصبحت عند معاقل الأغفار «8» الجزء: 16 ¦ الصفحة: 438 ضربوا عليّا يوم بدر ضربة ... دانت لوقعتها جميع نزار «1» لو يعلم الأقوام علمى كلّه ... فيهم لصدّقنى الذين أمارى قوم إذا خوت النجوم فإنهم ... للطارقين النازلين مقارى «2» قال ابن هشام: ويقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له حين أنشد «بانت سعاد فقلبى اليوم متبول» : «لولا ذكرت الأنصار بخير، فإنّ الأنصار لذلك أهل» . ذكر حج أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه بالناس وأذان علىّ رضى الله عنه بسورة براءة قال: وفى ذى القعدة سنة تسع من الهجرة، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصدّيق رضى الله عنه أميرا على الحاج ليقيم للمسلمين حجهم، والناس من أهل الشرك على منازلهم من حجهم، فخرج أبو بكر رضى الله عنه ومن معه من المسلمين، ثم نزلت سورة براءة فى نقض ما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين من العهد الذى كانوا عليه فيما بينهم وبينه، ألّا يصدّ عن البيت أحد جاءه ولا يخاف أحد فى الشهر الحرام، وكان عهدا عاما بينه وبين الناس من أهل الشرك، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه فقال: «اخرج بهذه القصة من صدر براءة، فأذّن فى الناس يوم النّحر إذا اجتمعوا بمنى الجزء: 16 ¦ الصفحة: 439 أنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو له إلى مدّته» فخرج علىّ ابن أبى طالب رضى الله عنه على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء حتى أدرك أبا بكر الصدّيق رضى الله عنه بالطريق، فلما رآه أبو بكر رضى الله عنه قال: أمير أو مأمور؛ قال: بل مأمور، ثم مضيا، فأقام أبو بكر رضى الله عنه للناس حجهم، وذلك فى ذى القعدة، حتى إذا كان يوم النحر قام علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، فأذن فى الناس بما أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: «أيها الناس، إنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحجّ بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو له إلى مدته» وأجّل الناس أربعة أشهر من يوم أذّن فيهم ليرجع كل قوم إلى مأمنهم وبلادهم «1» ، ثم لا عهد لمشرك ولا ذمّة إلا أحد كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى مدّة فهو له إلى مدته، فلم يحج بعد ذلك العام مشرك، ولم يطف بالبيت عريان، ثم قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم. حوادث السنة العاشرة فيها كانت حجّة الوداع، سنذكرها إن شاء الله تعالى فى حجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيها نزل فى يوم جمعة قوله عزّ وجلّ: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) «2» . وفيها نزلت: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ) «3» الجزء: 16 ¦ الصفحة: 440 الآية. وكانوا لا يفعلونه قبل ذلك. وفيها مات إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى شهر ربيع الأوّل. وفى كل سنة من هذه السنين العشر غزوات وسرايا ووقائع تذكر إن شاء الله تعالى فى مواضعها؛ والله المستعان الهادى. صورة ما ورد بآخر الجزء الرابع عشر فى الأصل الثانى المرموز له بحرف (ا) «كمل الجزء الرابع عشر من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب؛ للشيخ الإمام شهاب الدين أحمد النّويرىّ رحمه الله تعالى، على يد كاتبه أضعف الخلق وأحقرهم إلى الرحمة، نور الدين بن شرف الدين العاملىّ بلدا، الشافعىّ مذهبا، غفر الله له ولوالديه، ولمن يطالعه ويدعو له. آمين» . تم بعون الله تعالى تحقيق الجزء السادس عشر من كتاب «نهاية الأرب فى فنون الأدب» من تجزئة طبعة دار الكتب المصرية فى يوم الخميس 17 من جمادى الثانية سنة 1374 هـ الموافق 10 من فبراير سنة 1955 م. ويليه الجزء السابع عشر، وأوله: «ذكر غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم» . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 441 فهرس المراجع 1: الاستيعاب لابن عبد البر، حيدر آباد 1318 أسد الغابة فى معرفة الصحابة، الوهبية 1280 الاشتقاق لابن دريد، جوتنجن 1754 م لإصابة فى تمييز الصحابة، الشرفية 1327 الأصنام لابن الكلبى، دار الكتب المصرية 1343 الأغانى لأبى الفرج الأصفهانى، بولاق 1285 الاكتفا بما تضمنه من مغازى المصطفى، مخطوطة دار الكتب 2441 حديث. الإكمال لابن ماكولا، مخطوطة دار الكتب 8 مصطلح. الإنباه على قبائل الرواه لابن عبد البر نشره القدسى 1350 الأنساب للسمعانى، ليدن 1912 م. البداية والنهاية لابن كثير، السعادة 1351 تاريخ ابن الأثير، بولاق 1290 تاريخ الخميس للديار بكرى، الوهبية بمصر 1283 تاريخ دمشق لابن عساكر، مخطوط دار الكتب 1041 تاريخ تيمور. تاريخ الطبرى، الحسينية بالقاهرة 1336 تاريخ اليعقوبى، النجف 1358 تهذيب الأسماء واللغات للنووى، المنيرية بالقاهرة. تهذيب التهذيب، حيدر آباد 1327 تهذيب الكمال للمزى، مخطوطة دار الكتب المصرية 25 مصطلح. التيجان فى ملوك حمير، حيدر آباد 1347 ثمرات الأوراق لابن حجة، الوهبية 1300 الجامع الصغير للسيوطى، بولاق 1286 جمهرة الأنساب لابن حزم، المعارف 1948 م 2: حلية الأولياء لأبى نعيم، السعادة 1357 الحماسة بشرح التبريزى حياة الحيوان للدميرى، الباببى الحلبى 1305 الخبر عن البشر للمقريزى، مخطوطة دار الكتب 947 تاريخ. خزانة الأدب للبغدادى، بولاق 1219 خلاصة تذهيب تهذيب الكمال للخزرجى، بولاق 1301 خير البشر لابن ظفر، القاهرة 1280 خير البشر، مخطوطة دار الكتب 15 مجاميع دلائل النبوّة للبيهقى، مخطوطة دار الكتب المصرية 212 حديث. دلائل النبوّة لأبى نعيم، حيدر آباد 1320 الروض الأنف للسهيلى، الجمالية بمصر 1332 السيرة الحلبية، مصر 1320 السيرة النبوية لابن هشام، مصطفى الحلبى 1355، وجوتنجن 1860 م. شرح السيرة للخشنى، هندية 1329 شرح الشفاء للخفاجى نسيم الرياض. شرح الشفاء للشمنى مزيل الخلفا. شرح المواهب اللدنية للزرفانى، بولاق 1278 صفة الصفوة، حيدر آباد 1355 طبقات ابن سعد، ليدن 1321 طبقات القرّا، السعادة 1351 عيون الأثر لابن سيد الناس نشره القدسى 1356 الكامل فى الضعفاء لابن عدى، مخطوطة 96 مصطلح. كنوز الحقائق للمناوى، مصر 1305 مجمع الأمثال للميدانى، بولاق 1284 الجزء: 16 ¦ الصفحة: 443 1 المحبر لابن حبيب، حيدر آباد 1361 مزيل الخفا عن ألفاظ الشفاء للشمنى، مخطوطة دار الكتب 375 حديث. المعارف لابن قتيبة، الحسينية 1353 معجم البلدان، السعادة 1324 معجم الطبرانى، مخطوطة دار الكتب 1353 حديث. المعمرين لأبى حاتم، السعادة 1323 المقتفى من سيرة المصطفى لبدر الدين بن حبيب الموصلى، مخطوطة دار الكتب 309 تاريخ. 2 المقدّمة الفاضلية، مخطوطة دار الكتب 19 تاريخ. الميسر والقداح لابن قتيبة، السلفية نسب قريش، مخطوط دار الكتب 4151 تاريخ. نسب معد لابن الكلبى، مخطوطة 9959 تاريخ. نسيم الرياض، الآستانة 1267 النهاية لابن الأثير، بولاق 1311 الوافى بالوفيات، مخطوط دار الكتب 1219 تاريخ. وفيات الأعيان، بولاق 1299. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 444 فهرس الجزء السّابع عشر من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويرىّ غزوات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وما يتصل بذلك من الوقائع التى لم تذكر فى حوادث السنين لتعلقها بالغزوات 1 أوّل لواء عقده صلّى الله عليه وسلّم 2 سريّة عبيدة بن الحارث بن المطلب إلى بطن رابع 2 سرية سعد بن أبى وقاص إلى الخرار 3 غزوة الأبواء 4 غزوة بواط 4 غزوة بدر الأولى 5 غزوة ذى العشيرة 5 سرية عبد الله بن جحش الأسدى إلى نخلة 6 غزوة بدر الكبرى 10 رؤيا عاتكة بنت عبد المطلب وخروج قريش إلى بدر 11 خروج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومن معه من المسلمين إلى بدر 15 قتال الملائكة مع المسلمين 26 الجزء: مقدمةج 17 ¦ الصفحة: 1 ورود الخبر بمصاب أهل بدر على من بمكة من كفار قريش، وهلاك أبى لهب بن عبد المطلب 31 تسمية من شهد بدرا من المهاجرين والأنصار مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 33 تسمية من استشهد من المسلمين فى غزوة بدر 44 تسمية من قتل من المشركين فى غزوة بدر 44 تسمية من أسر من المشركين فى غزوة بدر 51 خبر أسارى بدر، وما كان من فدائهم، ومن منّ عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأطلقه منهم، ومن أسلم بسبب ذلك 54 خبر أبى سفيان فى أسر ابنه عمرو وإطلاقه 56 خبر أبى العاص بن الربيع فى فدائه، وإرساله زينب بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مكة إلى المدينة وإسلامه بعد ذلك 57 خبر الوليد بن الوليد بن المغيرة 61 من منّ عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أسارى بدر وأطلقه بغير فداء 61 خبر عمير بن وهب وإسلامه، وإطلاق ولده وهب بن عمير 62 سريّة عمير بن عدى بن خرشة الخطمى إلى عصماء بنت مروان من بنى أمية بن زيد 65 سرية سالم بن عمير العمرى إلى أبى عفك اليهودى 66 غزوة بنى قينقاع 67 غزوة السويق 70 غزوة قرقرة الكدر 71 الجزء: مقدمةج 17 ¦ الصفحة: 2 مقتل كعب بن الأشرف اليهودى 72 غزوة غطفان إلى نجد 77 غزوة بنى سليم ببحران 79 سرية زيد بن حارثة إلى القردة 80 غزوة أحد 81 خبر مقتل حمزة بن عبد المطلب رضى الله عنه 100 تسمية من استشهد من المسلمين يوم أحد 104 تسمية من قتل من المشركين يوم أحد 108 ما أنزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من القرآن فى غزوة أحد، وما ورد فى تفسير ذلك 111 غزوة حمراء الأسد 126 سرية أبى سلمة بن عبد الأسد المخزومى 127 سرية عبد الله بن أنيس إلى سفيان بن خالد الهذلى 128 سرية المنذر بن عمرو الساعدى إلى بئر معونة 130 سرية مرثد بن أبى مرثد الغنوى إلى الرجيع 133 غزوة بنى النضير 137 ما أنزل الله عز وجل فى بنى النضير 140 قصة برصيصا 148 غزوة بدر الموعد 154 غزوة ذات الرقاع، وخبر صلاة الخوف 158 خبر غورث بن الحارث المحاربى لما أراد أن يفتك برسول الله صلّى الله عليه وسلّم 159 الجزء: مقدمةج 17 ¦ الصفحة: 3 خبر جابر بن عبد الله فى جمله، واستغفار النبى صلّى الله عليه وسلّم لأبيه 160 غزوة دومة الجندل 162 غزوة بنى المصطلق، وهى غزوة المريسيع 164 غزوة الخندق وهى غزوة الأحزاب 166 تسمية من استشهد من المسلمين فى غزوة الخندق، ومن قتل من المشركين 178 ما أنزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من القرآن فى غزوة الخندق، وما ورد فى تفسير ذلك 179 غزوة بنى قريظة 186 نزول بنى قريظة على حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسؤال الأوس فيهم وتحكيم سعد بن معاذ وحكمه فيهم بحكم الله تعالى وقتلهم 190 سرية عبد الله بن عتيك إلى أبى رافع سلّام بن أبى الحقيق النضرى بخيبر 197 سرية محمد بن مسلمة إلى القرطاء 200 غزوة بنى لحيان 200 غزوة الغابة وهى غزوة ذى قرد 201 سرية عكاشة بن محصن الأسدى إلى الغمر 203 سرية محمد بن مسلمة إلى بنى ثعلبة بذى القصّة 204 سرية أبى عبيدة بن الجرّاح إلى ذى القصة 204 سرية زيد بن حارثة إلى بنى سليم بالجموم 205 سرية بن زيد بن حارثة إلى العيص 206 الجزء: مقدمةج 17 ¦ الصفحة: 4 سرية زيد بن حارثة إلى الطرف 206 سرية زيد بن حارثة إلى حسمى 207 سرية زيد بن حارثة إلى وادى القرى 208 سرية عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل 209 سرية على بن أبى طالب إلى بنى سعد بن بكر بفدك 209 سرية زيد بن حارثة إلى أم قرفة 210 سرية عبد الله بن رواحة إلى أسير بن رزام اليهودى بخيبر 211 سرية كرز بن جابر الفهرى إلى العرنيين 213 سريّة عمرو بن أمية الضمرى وسلمة بن أسلم إلى أبى سفيان بن حرب بمكة 214 غزوة الحديبية 217 تجمع قريش للحرب 218 بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خراش بن أمية الخزاعى إلى قريش بمكة 226 بيعة الرضوان 227 ذكر هدنة قريش، وما وقع فيها من الشروط 229 رجوع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة، ونزول سورة الفتح 234 خبر أبى بصير بن أسيد بن جارية 245 غزوة خيبر 248 خبر بنى سهم حين أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 255 فتح الوطيح والسلالم من حصون خيبر 257 الجزء: مقدمةج 17 ¦ الصفحة: 5 تسمية من استشهد من المسلمين فى غزوة خيبر 259 قسم غنائم خيبر 261 تسمية من قسم لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الكتيبة التى خرجت للخمس، وما أعطاهم منها 263 خبر الحجاج بن علاط وما أوصله إلى أهل مكة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى استوفى أمواله 266 انصراف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن خيبر إلى وادى القرى، ونومهم عن صلاة الصبح 268 سرية عمر بن الخطاب إلى تربة 270 سرية أبى بكر الصديق إلى بنى كلاب بنجد 271 سرية بشير بن سعد الأنصارى إلى فدك 272 سريّة غالب بن عبد الله الليثى إلى الميفعة 272 سرية بشير بن سعد الأنصارى إلى يمن وجبار 273 سرية ابن أبى العوجاء السلمى إلى بنى سليم 274 سرية غالب بن عبد الله الليثى إلى بنى الملوح بالكديد 274 سريته إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد بفدك 276 سرية شجاع بن وهب الأسدى إلى بنى عامر بالسىّ 276 سرية كعب بن عمير الغفارى إلى ذات أطلاح 277 سرية مؤتة 277 تسمية من استشهد من المسلمين يوم مؤتة 283 سرية عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل 283 الجزء: مقدمةج 17 ¦ الصفحة: 6 سرية أبى عبيدة بن الجرّاح، وهى سريّة الخبط 284 سرية أبى قتادة بن ربعى الأنصارى إلى خضرة 285 سريته إلى بطن إضم 286 غزوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عام الفتح 287 خبر حاطب بن أبى بلتعة فى كتابه إلى أهل مكة، وإعلام الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم بذلك وأخذه الكتاب، وما أنزل الله عز وجل فى ذلك من القرآن 291 خروج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المدينة إلى مكة 296 خبر أبى سفيان بن الحارث وعبد الله بن أبى أمية بن المغيرة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 297 محبىء العباس بأبى سفيان بن حرب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإسلام أبى سفيان، وخبر الفتح 299 دخول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه مكة صلحا، ودخول خالد بن الوليد ومن معه من القبائل عنوة 302 شعر ضرار بن الخطاب يوم الفتح 304 من أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقتلهم يوم فتح مكة وسبب ذلك، ومن قتل منهم، ومن نجا بإسلامه 307 إسلام أبى قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تميم ابن مرة بن كعب 310 إسلام عبد الله بن الزبعرى وشعره فى ذلك 311 دخول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسجد وطوافه بالبيت، ودخوله الكعبة، وما فعل بالأصنام 312 الجزء: مقدمةج 17 ¦ الصفحة: 7 سرية خالد بن الوليد إلى العزّى وهدمها 314 سرية عمرو بن العاص إلى سواع وكسره 315 سرية سعد بن زيد الأشهلى إلى مناة 315 سرية خالد بن الوليد إلى بنى جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة، وهو يوم الغميصاء 316 خبر عبد الله بن علقمة مع حبيشة ومقتله 317 غزوة حنين إلى هوازن وثقيف 323 سرية الطفيل بن عمرو الدوسى إلى ذى الكفّين 335 مسير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الجعرانة، وقسم مغانم حنين، وما أعطاه المؤلّفة 339 قدوم وفد هوازن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإسلامهم وردّ السبابا إليهم 341 تسمية من بايع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قريش وغيرها عند قسم مغانم حنين 345 مقالة الأنصار فى أمر قسم الفىء، وما أجابهم به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 346 استخلاف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عتّاب بن أسيد على مكة، ورجوعه إلى المدينة 348 سرية عيينة بن حصن الفزارى إلى بنى تميم 348 خبر الوليد بن عقبة بن أبى معيط مع بنى المصطلق 349 سرية قطبة بن عامر بن حديدة إلى خثعم 350 الجزء: مقدمةج 17 ¦ الصفحة: 8 سرية الضحاك بن سفيان الكلابى إلى بنى كلاب 350 سرية علقمة بن مجزّز المدلجى إلى الحبشة 351 سرية على بن أبى طالب رضى الله عنه إلى الفلس 352 سرية عكاشة بن محصن الأسدى إلى الجناب 352 غزوة تبوك 352 سرية خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك 356 خبر مرور رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالحجر وما قاله لأصحابه 358 أخبار المنافقين، وما تكلموا به فى غزوة تبوك، وما أنزل الله عز وجل فيهم من القرآن 359 خبر الثلاثة الذين خلّفوا، وما أنزل فيهم وفى المعذّرين من الأعراب 361 سرية على بن أبى طالب رضى الله عنه إلى اليمن 368 سرية أسامة بن زيد بن حارثة إلى أرض الشراة 370 حجّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعمره 371 خطبته فى حجة الوداع 373 عمرة القضاء 375 الجزء: مقدمةج 17 ¦ الصفحة: 9 الجزء السابع عشر [ تتمة الفن الخامس في التاريخ ] [ تتمة القسم الخامس من الفن الخامس في أخبار الملة الإسلامية ] [ تتمة الباب الأول من القسم الخامس في سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وبه التوفيق والإعانة ذكر غزوات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما يتصل بذلك من الوقائع التى لم تذكر فى حوادث السنين لتعلقها بالغزوات كانت غزوات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم التى حضرها بنفسه سبعا وعشرين غزّاة، كلّها بعد هجرته صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة وهى: غزوة الأبواء، وهى غزوة ودّان، ثم غزوة بواط، ثم غزوة بدر الأولى، ثم غزوة ذى العشيرة، ثم غزوة بدر الكبرى، ثم غزوة بنى قينقاع، ثم غزوة السّويق، ثم غزوة قرقرة الكدر، وهى غزوة بنى سليم، ثم غزوة غطفان إلى نجد، وهى غزوة ذى أمر «1» ، ثم غزوة بنى سليم ببحران، ثم غزوة أحد، ثم غزوة حمراء الأسد، ثم غزوة بنى النّضير، ثم غزوة بدر الموعد «2» ، ثم غزوة ذات الرّقاع، ثم غزوة دومة الجندل، ثم غزوة بنى المصطلق بالمريسيع، ثم غزوة الخندق، وهى غزوة الأحزاب، ثم غزوة بنى قريظة، ثم غزوة بنى لحيان، ثم غزوة الغابة، وهى غزوة ذى قرد، ثم غزوة الحديبية، ثم غزوة خيبر، ثم غزوة الفتح، ثم غزوة حنين، ثم غزوة الطّائف، ثم غزوة تبوك، ومنهم من عدّ عمرة القضاء مع الغزوات، وكانت بعد خيبر وقبل الفتح. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 1 قاتل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من هذه الغزوات فى تسع، وهى: بدر الكبرى، وأحد، والخندق، وقريظة، والمصطلق، وخيبر، والفتح، وحنين، والطّائف؛ وقيل: إنه قاتل فى بنى النّضير، والغابة. وسراياه صلّى الله عليه وسلّم نحو من ستّين سريّة «1» . ذكر أوّل لواء عقده صلّى الله عليه وسلّم كان أوّل لواء عقده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعمّه حمزة بن عبد المطلب فى شهر رمضان على رأس سبعة أشهر من مهاجره لواء أبيض، حمله أبو مرثد كنّاز بن الحصين الغنوىّ، حليف حمزة، وبعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى ثلاثين رجلا من المهاجرين يعترض لعير «2» قريش قد جاءت من الشام تريد مكة، وفيها أبو جهل بن هشام فى ثلاثمائة رجل، فبلغوا سيف «3» البحر من ناحية العيص «4» ، فالتّقوا، وصفّوا للقتال، فمشى مجدىّ بن عمرو الجهنىّ، وكان موادعا للفريقين جميعا، إلى هؤلاء مرة، وإلى هؤلاء مرة، حتى حجز بينهم. ذكر سرية عبيدة بن الحارث بن المطّلب إلى بطن رابغ بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شوّال على رأس ثمانية أشهر من مهاجره فى ستين رجلا من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد، وعقد له لواء أبيض، الجزء: 17 ¦ الصفحة: 2 حمله مسطح بن أثاثة بن المطّلب بن عبد مناف. حكاه محمد بن سعد. قال ابن إسحاق: أو ثمانين رجلا من المهاجرين، فسار حتى بلغ ماء بالحجاز بأسفل ثنيّة المرة، فلقى به جمعا عظيما من قريش. قال الشيخ شرف الدين الدمياطىّ رحمه الله: فلقى أبا سفيان بن حرب، وهو فى مائتين، على ماء يقال له أحياء، من بطن رابغ على عشرة أميال من الجحفة، فكان بينهم الرّمى ولم يسلّوا السيوف ولم يصطفّوا للقتال، وكان سعد بن أبى وقّاص أوّل من رمى بسهم فى سبيل الله، ثم انصرف الفريقان على حاميتهم «1» ؛ وكان على القوم عكرمة بن أبى جهل. وقال أبو محمد بن هشام: كان عليهم مكرز بن حفص ابن الأخيف. قال ابن إسحاق: وفرّ من المشركين إلى المسلمين المقداد بن عمرو البهرانىّ حليف بنى زهرة، وعتبة بن غزوان بن جابر المازنىّ حليف بنى نوفل بن عبد مناف، وكانا مسلمين، ولكنهما جاءا مع القوم ليتوصّلا بهم «2» . وقدّم ابن إسحاق هذه السّريّة على سرية حمزة. ذكر سريّة سعد بن أبى وقّاص إلى الخرّار «3» بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى ذى القعدة على رأس تسعة أشهر من مهاجره فى عشرين رجلا من المهاجرين، وعقد له لواء أبيض حمله المقداد بن عمرو البهرانىّ، وساروا يتعرضون لعير قريش، وعهد إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ألّا يجاوز الخرار. قال سعد: فخرجنا على أقدامنا، فكنا نكمن النهار ونسير الليل، حتى صبّحناها صبح خمس، فنجد العير قد مرّت بالأمس. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 3 ذكر غزوة الأبواء «1» وهى غزوة ودّان «2» وبينهما ستة أميال وهذه الغزوة أول غزاة غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنفسه، وكانت فى صفر على رأس اثنى عشر شهرا من مهاجره، وحمل لواءه حمزة بن عبد المطلب، وكان أبيض، واستخلف على المدينة سعد بن عبادة، وخرج فى المهاجرين ليس فيهم أنصارىّ حتى بلغ الأبواء يعترض لعير قريش، فلم يلق كيدا. وفى هذه الغزاة وادع مخشىّ بن عمرو الضّمرىّ، وكان سيّدهم فى زمانه، على ألّا يغزو بنى ضمرة ولا يغزوه، ولا يكثروا عليه جمعا، ولا يعينوا عدوا، وكتب بينه وبينهم كتابا. وكانت غيبته صلّى الله عليه وسلّم خمس عشرة ليلة. ذكر غزوة بواط غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شهر ربيع الأوّل على رأسه ثلاثة عشر شهرا من مهاجره «3» وحمل لواءه سعد «4» بن أبى وقّاص، وكان أبيض، واستخلف على المدينة سعد «5» بن معاذ. [وقال ابن هشام: استعمل عليها السائب بن عثمان بن مظعون.] الجزء: 17 ¦ الصفحة: 4 وخرج فى مائتين من أصحابه يعترض لعير قريش، فيها أميّة بن خلف الجمحىّ ومائة رجل من قريش وألف وخمسمائة بعير، فبلغ بواطا، وهى من جبال جهينة من ناحية رضوى، وهى قريب من ذى خشب مما يلى طريق الشام، وبين بواط والمدينة نحو من أربعة برد، فلم يلق كيدا، فرجع صلّى الله عليه وسلّم «1» . ذكر غزوة بدر الأولى «2» غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شهر ربيع الأول على رأس ثلاثة عشر شهرا من مهاجره، لطلب كرز بن جابر الفهرىّ، وحمل لواءه على بن أبى طالب، وكان أبيض، واستخلف على المدينة زيد بن حارثة، وكان كرز قد أغار على سرح «3» المدينة فاستاقه، وكان يرعى بالجمّاء، فطلبه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى بلغ واديا يقال له سفوان من ناحية بدر، وفاته كرز فلم يلحقه، فرجع إلى المدينة. ذكر غزوة ذى العشيرة العشيرة، بالشين المعجمة، وقيل بالسين المهملة، وقيل: العشيرا بالألف. غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى جمادى الآخرة، على رأس ستة عشر شهرا من مهاجره، وحمل لواءه حمزة بن عبد المطلب، وكان أبيض، واستخلف على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومىّ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 5 وخرج فى خمسين ومائة، ويقال فى مائتين من المهاجرين ممن انتدب، ولم يكره أحدا على الخروج، وخرجوا على ثلاثين بعيرا يعتقبونها «1» ، وخرج يعترض لعير قريش حين ابتدأت إلى الشام، فبلغ ذا العشيرة، وهى لبنى مدلج بناحية ينبع، فوجد العير التى خرج لها قد مضت قبل ذلك بأيام، وهى العير التى خرج أيضا يريدها حين رجعت من الشام، فكانت فيها وقعة بدر الكبرى. وفى هذه الغزاة وادع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنى مدلج وحلفاءهم من بنى ضمرة. وفيها كنّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليا رضى الله عنه أبا تراب «2» ، وقيل فى غيرها. ذكر سرّية عبد الله بن جحش الأسدى إلى نخلة بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شهر رجب على رأس سبعة عشر شهرا من مهاجره فى اثنى عشر رجلا من المهاجرين، كل اثنين يعتقبان بعيرا. قال ابن إسحاق: وكتب [له «3» ] رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتابا، وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين، ثم ينظر فيه، ويمضى لما أمره به، ولا يستكره أحدا من أصحابه. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 6 قال: وكان معه أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وعكّاشة بن محصن، وعتبة ابن غزوان بن جابر، وسعد بن أبى وقّاص، وعامر بن ربيعة، وواقد بن عبد الله التّميمىّ، وخالد بن البكير أحد بنى سعد بن ليث، وسهيل بن بيضاء. هؤلاء الذين عدّهم ابن إسحاق؛ وكان معهم المقداد بن عمرو، حكاه محمد بن سعد. قال ابن إسحاق: فلما سار عبد الله بن جحش يومين فتح الكتاب فإذا فيه: «إذا نظرت فى كتابى هذا فأمض حتى تنزل نخلة، بين مكة والطائف، فترصّد بها قريشا، وتعلّم لنا من أخبارهم» . فلما نظر عبد الله فى الكتاب قال: سمع وطاعة. ثم ذكر ذلك لأصحابه وقال لهم: قد نهانى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن أستكره أحدا منكم، فمن كان يريد الشّهادة ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع، فأما أنا فماض لأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فمضوا كلّهم، وسلك على الحجاز حتى إذا كان بمعدن فوق الفرع يقال له بحران، أضلّ سعد بن أبى وقّاص وعتبة بن غزوان بعيرهما، فتخلّفا فى طلبه، ومضى عبد الله وبقية أصحابه حتى نزل بنخلة، فمرّت به عير لقريش تحمل زبيبا وأدما «1» وتجارة من تجارة قريش- قال ابن سعد: وخمرا- وفيها عمرو بن الحضرمىّ، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، وأخوه نوفل، والحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة. فلما رآهم القوم هابوهم؛ وكان عكّاشة حلق رأسه ليطمئن «2» القوم؛ فأمنوا. وقال لهم «3» عثمان: لا بأس عليكم منهم. قال: فسّرحوا ركابهم، وصنعوا طعاما. قال: فتشاور القوم فيهم، وذلك آخر يوم من شهر رجب، فقالوا: والله لئن الجزء: 17 ¦ الصفحة: 7 تركتموهم فى هذه الليلة ليدخلنّ الحرم فليمتنعنّ منكم به، وإن قتلتموهم لتقتلنّهم فى الشهر الحرام. فتردّد القوم وهابوا الإقدام عليهم، ثم شجّعوا أنفسهم وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم وأخذ ما معهم؛ فخرج واقد بن عبد الله يقدم المسلمين، فرمى عمرو بن الحضرمىّ بسهم فقتله، واستأسر عثمان بن عبد الله، والحكم بن كيسان، وأفلت نوفل «1» بن عبد الله فأعجزهم. وأقبل عبد الله وأصحابه بالعير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فلما قدموا عليه قال: ما أمرتكم بقتال فى الشهر الحرام. ووقّف العير والأسيرين، وأبى أن يأخذ من ذلك شيئا؛ فأسقط «2» في يد القوم، وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنّفهم المسلمون فيما صنعوا. وقالت قريش: قد استحلّ محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدّم، وأخذوا فيه الأموال «3» ، وأسروا الرجال؛ وأكثر الناس فى ذلك، فأنزل الله تعالى: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ، قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) أى إن كنتم قتلتم فى الشهر الحرام فقد صدّوكم عن سبيل الله وعن المسجد الحرام، وإخراجكم منه وأنتم أهله أكبر عند الله من قتل من قتلتم منهم. (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) ؛ أى قد كانوا يفتنون المسلمين فى دينهم حتى يردّوهم إلى الكفر بعد إيمانهم، فذاك أكبر عند الله من القتل. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 8 قال: فلما نزلت الآيات قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العير والأسيرين، وبعثت إليه قريش فى فدائهما، فقال: لا. حتى يقدم صاحبانا، يعنى سعد ابن أبى وقّاص، وعتبة بن غزوان، فإنّا نخشاكم عليهما، فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم. فقدم سعد وعتبة، فأفداهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فأما الحكم بن كيسان فأسلم وحسن إسلامه، وأقام عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى قتل يوم بئر معونة شهيدا، وأما عثمان فلحق بمكة، فكان بها حتى مات كافرا. قال: فلما تجلّى عن عبد الله بن جحش وأصحابه ما كانوا فيه طمعوا فى الأجر، فقالوا: يا رسول الله، أنطمع أن تكون لنا غزوة نعطى فيها اجر المجاهدين؟ فأنزل الله تعالى فيهم: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، قال: وقسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الفىء فجعل أربعة أخماسه لمن أفاءه، وخمسه إلى الله ورسوله. قال ابن هشام: وهى أوّل غنيمة غنمها المسلمون، وعمرو بن الحضرمىّ أول من قتل المسلمون، وعثمان والحكم أول من أسر المسلمون. وفى هذه السريّة سمى عبد الله بن جحش أمير المؤمنين. وقال عبد الله بن جحش فى هذه الواقعة، ويقال إنها لأبى بكر الصدّيق رضى الله عنه؛ والذى صحّحه ابن هشام أنها لعبد الله بن جحش، أبياتا يخاطب بها قريشا: تعدّون قتلا فى الحرام عظيمة ... وأعظم منه لو يرى الرّشد راشد صدودكم عمّا يقول محمد ... وكفر به والله راء وشاهد الجزء: 17 ¦ الصفحة: 9 وإخراجكم من مسجد الله أهله ... لئلّا يرى لله فى البيت ساجد فإنّا وإن عيّرتمونا بقتله ... وأرجف بالإسلام باع وحاسد سقينا من ابن الحضرمىّ رماحنا ... بنخلة لمّا أوقد الحرب واقد دما وابن عبد الله عثمان بيننا ... ينازعه غلّ من القدّ عاند «1» ذكر غزوة بدر الكبرى «2» ، ويقال فيها بدر القتال، وما يتّصل بها كان سبب هذه الغزوة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سمع بإقبال أبى سفيان بن حرب من الشام فى العير التى لقريش، وهى التى خرج إليها فى غزوة ذى العشيرة، وكان فيها أموال قريش وتجاراتهم، وفيها منهم ثلاثون أو أربعون، منهم مخرمة بن نوفل، وعمرو بن العاص بن وائل، فندب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسلمين إليهم، وقال: هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعلّ الله ينفلكموها، فانتدب الناس، فخفّ بعضهم وثقل بعض. وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز يتحسّس «3» الأخبار، ويسأل من لقى من الرّكبان عن أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تخوّفا على ما معه؛ فأخبره بعض الركبان: أن الجزء: 17 ¦ الصفحة: 10 رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد استنفر أصحابه لقصده، فحذر عند ذلك، واستأجر ضمضم بن عمرو الغفارىّ؛ فبعثه إلى مكة، وأمره أن يستنفر قريشا إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمدا قد عرض لها فى أصحابه؛ فأسرع ضمضم إلى مكة. ذكر رؤيا عاتكة بنت عبد المطلب وخروج قريش إلى بدر قال محمد بن إسحاق رحمه الله بسنده إلى عبد الله بن عبّاس، وعروة بن الزبير رضى الله عنهم. قالا: ورأت عاتكة بنت عبد المطلب قبل قدوم ضمضم مكة بثلاث رؤيا أفزعتها، فبعثت إلى أخيها العباس، فقالت له: والله لقد رأيت رؤيا أفظعتنى وتخوّفت أن يدخل على قومك منها شرّ أو مصيبة، فاكتم عنى ما أحدّثك به، قال: وما رأيت؟ قالت: رأيت راكبا أقبل على بعير حتى وقف بالأبطح «1» ، ثم صرخ بأعلى صوته: ألا أنفروا يا آل غدر «2» ! لمصارعكم فى ثلاث، فأرى الناس اجتمعوا، ثم دخل المسجد والناس يتبعونه، فبينماهم حوله مثل به بعيره على ظهر الكعبة، ثم صرخ بمثلها: ألا انفروا يا آل غدر! لمصارعكم فى ثلاث، ثم مثل به بعيره على الجزء: 17 ¦ الصفحة: 11 رأس أبى قبيس «1» فصرخ بمثلها، ثم أخذ صخرة فأرسلها مكة «2» فلا دار منها إلا دخلتها منها فلقة؛ قال العباس: والله إنّ هذه لرؤيا! وأنت «3» فاكتميها. ثم خرج العباس فلقى الوليد بن عتبه بن ربيعة، وكان صديقا له؛ فذكرها له واستكتمه إياها، فذكرها الوليد لأبيه عتبة؛ ففشا الحديث حتى تحدّثت به قريش. قال العباس: فغدوت لأطوف بالبيت، وأبو جهل بن هشام فى رهط من قريش قعود يتحدّثون برؤيا عاتكة، فلما رآنى أبو جهل قال: يا أبا الفضل، إذا فرغت من طوافك فأت إلينا، فلما فرغت أقبلت حتى جلست معهم؛ فقال لى أبو جهل: يا بنى عبد المطلب، متى حدثت فيكم هذه النبيّة؟ قلت: وما ذاك؟ قال: تلك الرؤيا التى رأت عاتكة، فقلت: وما رأت؟ فقال: يا بنى عبد المطلب، أما رضيتم أن يتنبّأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم! فقد زعمت عاتكة فى رؤياها أنه قال: انفروا فى ثلاث، فسنتربّص بكم هذه الثلاث، فإن يك حقا ما تقول فسيكون، وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شىء نكتب عليكم كتابا أنكم أكذب أهل بيت فى العرب؛ قال العباس: فو الله ما كان منى إليه كبير إلا أنّى جحدت ذلك، وأنكرت أن تكون رأت شيئا، قال: ثم تفرّقنا. فلما أمسيت لم تبق امرأة من بنى عبد المطلب إلا أتتنى فقالت: أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع فى رجالكم، ثم قد تناول النساء وأنت تسمع؛ ثم لم تكن الجزء: 17 ¦ الصفحة: 12 عندك غيرة «1» لشىء مما سمعت! قال: قلت: قد والله فعلت، ما كان منّى إليه من كبير؛ وأيم الله لأتعرّضنّ له، فإن عاد لأكفينّكنّه. قال: فغدوت فى اليوم الثالث من رؤيا عاتكة، وأنا حديد مغضب أرى أنى قد فاتنى منه أمر أحب أن أدركه منه، فدخلت المسجد فرأيته، فو الله إنى لأمشى نحوه أتعرض له ليعود لبعض ما قال، فأوقع به، إذ خرج نحو باب المسجد يشتدّ «2» ، فقلت فى نفسى: ما له لعنه الله! أكلّ هذا فرق منى أن أشاتمه! وإذا هو قد سمع ما لم أسمع؛ صوت ضمضم بن عمرو وهو يصرخ ببطن الوادى واقفا على بعيره، قد جدع «3» بعيره وحوّل رحله، وشقّ قميصه وهو يقول: يا معشر قريش، اللّطيمة «4» اللّطيمة! أموالكم مع أبى سفيان قد عرض لها محمد فى أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث الغوث! قال العباس: فشغلنى عنه، وشغله عنّى ما جاء من الأمر. فتجهّز الناس سراعا وقالوا: أيظنّ محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمىّ؟ كلّا! والله ليعلمنّ غير ذلك، فكانوا بين رجلين: إمّا خارج، وإما باعث رجلا مكانه، وأوعبت «5» قريش فلم يتخلّف من أشرافها أحد، إلا أن أبا لهب بن عبد المطلّب تخلّف، وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة، استأجره بأربعة آلاف درهم كانت لأبى لهب عليه، فخرج عنه. وروى أبو الفرج علىّ بن الحسين الأصفهانىّ فى كتابه المترجم بالأغانى «6» بسند يرفعه إلى مصعب بن عبد الله قال: الجزء: 17 ¦ الصفحة: 13 قامر أبو لهب العاصى بن هشام فى عشرة من الإبل فقمره «1» ، ثم فى عشرة فقمره، [ثم فى عشرة فقمره «2» ] ، إلى أن خلعه من ماله فلم يبق له شيئا، فقال له: إنى أرى القداح قد حالفتك يابن عبد المطلب، فهلّم أقامرك يابن عبد المطلب، فأيّنا غلب كان عبد الصاحبه. قال: افعل، ففعل. فقمره أبو لهب، فكره أن يسترقّه فتغضب بنو مخزوم، فمشى إليهم فقال: افتدوه منى بعشرة من الإبل. فقالوا: لا والله ولا بوبرة. فاسترقّه، فكان يرعى له إبله إلى أن خرج المشركون إلى بدر. قال: وقال غير مصعب: فاسترقه واحتبسه قينا «3» يعمل [الحديد «4» ] . فلما خرج المشركون إلى بدر أخرجه أبو لهب عنه لأنه كان عليلا، على أنه إن عاد أعنقه، فقبل العاصى. قال ابن اسحاق: وكان أميّة بن خلف قد أجمع القعود [وكان شيخا «5» جليلا جسيما ثقيلا] فأتاه عقبة بن أبى معيط وهو جالس فى المسجد بين قومه بمجمرة «6» ، فوضعها بين يديه، وقال: يا أبا علىّ، استجمر، فإنما أنت من النساء. فقال: قبحك الله وقبح ما جئت به. ثم تجهّز وخرج مع الناس. قال: ولما فرغوا من جهازهم، وأجمعوا المسير، ذكروا ما كان بينهم وبين بنى بكر بن عبد مناة بن كنانة من الحرب، فقالوا: إنا نخشى أن يأتونا من خلفنا. فكادوا ينثنون؛ فتبدّى لهم إبليس فى صورة سراقة بن مالك المدلجىّ، وكان من أشراف كنانة، فقال: أنا جار لكم من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشىء مما تكرهونه فخرجوا سراعا. هذا ما كان من أمر قريش. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 14 ذكر خروج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومن معه من المسلمين إلى بدر قال محمد بن إسحاق: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المدينة لثمان خلون من شهر رمضان. وقال محمد بن سعد: خرج يوم السبت لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر رمضان، على رأس تسعة عشر شهرا من مهاجره، واستعمل على المدينة عمرو ابن أم مكتوم، واسمه عبد الله، ليصلّى بالناس، ثم ردّ أبا لبابة من الرّوحاء «1» واستعمله على المدينة، وخرج صلّى الله عليه وسلّم فى ثلاثمائة رجل وخمسة عشر رجلا، كان من المهاجرين منهم أربعة وسبعون، وسائرهم من الأنصار بعد أن ردّ من أصحابه من استصغرهم، ولم يكن غزا بالأنصار قبلها. قال محمد بن سعد: وتخلّف من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثمانية لعلّة، ضرب لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بسهامهم، وأجورهم؛ ثلاثة من المهاجرين: وهم عثمان بن عفان، خلّفه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على امرأته رقيّة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكانت مريضة، فأقام عليها حتى ماتت، وطلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد، بعثهما يتحسّسان خبر العير، وخمسة من الأنصار، وهم: أبو لبابة بن عبد المنذر، خلّفه على المدينة، وعاصم بن عدىّ، خلّفه على أهل العالية، والحارث بن حاطب، رده من الرّوحاء إلى بنى عمرو بن عوف لشىء بلغه عنهم، والحارث بن الصّمة، وخوّات بن جبير، كسرا بالرّوحاء. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 15 وكانت إبل أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ سبعين بعيرا يعتقبونها، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعلىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، ومرثد ابن أبى مرثد الغنوىّ يعتقبون بعيرا. قال محمد بن سعد يرفعه إلى ابن مسعود قال: كنا يوم بدر كلّ ثلاثة على بعير، وكان أبو لبابة، وعلىّ، زميلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكان إذا كانت عقبة النبى صلّى الله عليه وسلّم قالا له: اركب يا رسول الله حتى تمشى عنك، فيقول: «ما أنتما بأقوى على المشى منّى، وما أنا أغنى عن الأجر منكما.» قال ابن إسحاق: وكان حمزة بن عبد المطلب، وزيد بن حارثة، وأبو كبشة، وأنسة موليا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعتقبون بعيرا؛ وكان أبو بكر الصدّيق، وعمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف، يعتقبون بعيرا. قال ابن سعد: وكانت الخيل فرسين: فرس للمقداد بن عمرو، وفرس لمرثد ابن أبى مرثد الغنوىّ. قال ابن إسحاق: وفرس للزّبير بن العوّام. قال: ودفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اللّواء إلى مصعب بن عمير بن هاشم ابن عبد مناف بن عبد الدار، وكان أبيض، قال: وكان أمام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رايتان سوداوان، إحداهما مع على بن أبى طالب، والأخرى مع الأنصار. قال ابن سعد: وكان لواء الخزرج مع الحباب بن المنذر، ولواء الأوس مع سعد بن معاذ، وجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على السّاقة قيس بن أبى صعصعة أخا بنى مازن بن النجار. قال: ولما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الجزء: 17 ¦ الصفحة: 16 قريبا من الصّفراء» بعث بسبس بن عمرو، وعدىّ بن أبى الزّغباء الجهنيّين إلى بدر يتحسّسان له الأخبار عن أبى سفيان وعيره. ثم ارتحل صلّى الله عليه وسلّم إلى ذفران- واد يسار الصّفراء- وأتاه الخبر بمسير قريش ليمنعوا عيرهم، فاستشار الناس وأخبرهم، فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن، ثم قام عمر فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله، امض لما أمرك الله! فنحن معك فو الله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل: (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) ، ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون، فو الذى بعثك بالحق، لو سرت بنا إلى برك الغماد «2» لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه؛ فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خيرا، ودعا له. ثم قال: أشيروا علىّ أيها الناس- وإنما يريد الأنصار لأنهم عدد الناس- فقال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله، قال: أجل؛ قال: فقد آمنّا بك وصدّقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فو الذى بعثك بالحقّ لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلّف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدوّنا غدا، إنا لصبر فى الحرب، صدق فى اللّقاء، الجزء: 17 ¦ الصفحة: 17 لعلّ الله يريك منا ما تقرّ به عينك، فسر بنا على بركة الله، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «سيروا وأبشروا، فإن الله قد وعدنى إحدى الطائفتين، والله لكأنى الآن أنظر إلى مصارع القوم» . ثم ارتحل صلّى الله عليه وسلّم من ذفران «1» حتى نزل قريبا من بدر، فركب هو وأبو بكر الصديق حتى وقفا على شيخ من العرب، فسأله عن قريش، وعن محمد وأصحابه، وما بلغه عنهم، فقال الشيخ: لا أخبركما حتى تخبرانى من أنتما؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إذا أخبرتنا أخبرناك. قال: أو ذاك بذاك؟ قال نعم. قال الشيخ: فإنه بلغنى أن محمدا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن صدق الذى أخبرنى فهم «2» اليوم بمكان كذا وكذا- للمكان الذى ترك به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصحابه- وبلغنى أن قريشا خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان الذى أخبرنى صدقنى فهم اليوم بمكان كذا وكذا- للمكان الذى به قريش- ثم قال: من أنتما؟ فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: نحن من ماء. ويقال: إن الشيخ سفيان الضّمرىّ. قال: ثم رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أصحابه، فلما أمسى بعث علىّ بن أبى طالب، والزّبير بن العوّام، وسعد بن أبى وقّاص، فى نفر من أصحابه إلى ماء بدر يلتمسون له عليه الخبر، فأصابوا راوية «3» لقريش فيها أسلم، غلام بنى الحجاج، وعريض أبو يسار، غلام بنى العاص، فأتوا بهما؛ فسألهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن قريش، فقالا: هم وراء هذا الكئيب الذى ترى بالعدوة القصوى، فقال لهما: كم القوم؟ قالا: كثير؛ قال: ما عدّتهم؟ قالا: لا ندرى. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 18 قال: كم ينحرون كل يوم؟ قالا: تسعا، ويوما عشرا؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: القوم ما بين التسعمائة والألف، ثم قال لهما: فمن فيهم من أشراف قريش؟ قالا: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو البخترىّ بن هشام، وحكيم بن حزام، ونوفل بن خويلد، والحارث بن عامر بن نوفل، وطعيمة بن عدىّ بن نوفل، والنّضر بن الحارث، وزمعة بن الأسود، وأبو جهل بن هشام، وأميّة بن خلف، ونبيه ومنبّه ابنا الحجاج، وسهيل بن عمرو، وعمرو بن عبد ودّ، فأقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الناس فقال: هذه مكة قد ألقت أفلاذ كبدها. قال: وبلغ أبا سفيان الخبر بمقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد ورد ماء بدر، فرجع إلى أصحابه سريعا وصرف وجه عيره عن الطريق، فساحل بها «1» ، وترك بدرا يساره، وانطلق. وأقبلت قريش، فلما نزلوا الجحفة «2» ، رأى جهيم بن الصّلت بن مخرمة ابن عبد المطلب رؤيا فقال: إنّى فيما يرى النائم، أو إنى «3» لبين النائم واليقظان، إذ نظرت إلى رجل أقبل على فرس حتى وقف، ومعه بعير له، ثم قال: قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم بن هشام، وأمية بن خلف، وفلان وفلان، فعدد رجالا ممّن كان قتل يوم بدر من أشراف قريش، ورأيته ضرب فى لبّة بعيره، ثم أرسله فى العسكر، فما بقى خباء من أخبية العسكر إلا أصابه نضح «4» من دمه. قال: فبلغت أبا جهل بن هشام فقال: وهذا أيضا نبىّ آخر من بنى عبد المطلب! سيعلم غدا من المقتول إن نحن التقينا. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 19 قال: ولما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره أرسل إلى قريش: إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، فقد نجّاها الله فارجعوا؛ فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نرد بدرا؛ وكان بدر موسما من مواسم العرب يجتمع لهم فيه سوق فى كل عام، فنقيم عليه ثلاثا، فننحر الجزور، ونطعم الطعام، ونسقى الخمر، وتعزف علينا القيان «1» ، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعينا، فلا يزالون يهابوننا أبدا بعدها، فامضوا. فمضت قريش حتى نزلوا العدوة «2» القصوى من الوادى، والقلب «3» ببدر فى العدوة «4» الدنيا، قال: وبعث الله السماء، وكان الوادى دهسا «5» ، فأصاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه منها ما لبّد لهم الأرض، ولم يمنعهم من المسير. وقال ابن سعد: كان المسلمون يومئذ يميدون من النعاس ونزلوا على كثيب «6» أهيل، فمطرت السماء فصار مثل الصّفا «7» يسعون عليه سعيا. وأنزل الله تعالى: (إِذْ يُغَشِّيكُمُ «8» النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) . قال ابن إسحاق: وأصاب قريشا منها ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يبادرهم إلى الماء، حتى إذا جاء أدنى ماء الجزء: 17 ¦ الصفحة: 20 من ماء بدر نزل به، فأتاه الحباب بن المنذر بن الجموح فقال: يا رسول الله، هذا المنزل منزل أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدّمه، ولا نتأخر عنه، أم هو الرأى والحرب والمكيدة؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بل الرأى والحرب والمكيدة» . قال يا رسول الله: فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى تأتى أدنى ماء من القوم فنزله، ثم نعوّر «1» ما وراءه من القلب، ثم نبتنى عليه حوضا فنملأه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لقد أشرت بالرأى» ، فنهض بالناس وسار حتى [إذا «2» ] أتى أدنى ماء من القوم، نزل عليه؛ ثم أمر بالقلب فعوّرت، وبنى حوضا على القليب الذى نزل عليه، فملئ ماء، ثم قذفوا فيه الآنية. فقال سعد بن معاذ: يا نبىّ الله، نبتنى لك عريشا «3» تكون فيه، وتكون عندك ركائبك، ثم نلقى عدوّنا، فإن أعزّنا الله وأظهرنا على عدوّنا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك، فلحقت بمن وراءنا من قومنا، فقد تخلّف عنك أقوام ما نحن بأشدّ لك حبّا منهم، ولو ظنّوا أن تلقى حربا ما تخلّفوا عنك، يمنعك الله بهم يناصحونك ويجاهدون معك؛ فأثنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليه خيرا، ثم بنى لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم عريش، فمكان فيه. قال: وارتحلت قريش حين أصبحت فأقبلت، فلمّا رآها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها «4» وفخرها، تحادّك «5» وتكذّب رسولك، اللهم فنصرك الذى وعدتنى، اللهم أحنهم «6» الغداة.» الجزء: 17 ¦ الصفحة: 21 قال ابن سعد: كانت قريش تسعمائة وخمسين، وخيلهم مائة فرس، وكان لهم ثلاثة ألوية؛ لواء مع أبى عزيز بن عمير، ولواء مع النّضر بن الحارث، ولواء مع طلحة بن أبى طلحة. قال ابن إسحاق عن أبيه إسحاق بن يسار وغيره، عن أشياخ من الأنصار، قال: لما اطمأنّ القوم بعثوا عمير بن وهب الجمحىّ فقالوا: احزر «1» لنا أصحاب محمد، فجال بفرسه حول العسكر، ثم رجع إليهم، فقال: ثلاثمائة رجل يزيدون قليلا أو ينقصونه، ولكن أمهلونى حتى أنظر، أللقوم كمين أو مدد؟ قال: فضرب فى الوادى حتى أبعد، فلم ير شيئا، فرجع إليهم، فقال: ما رأيت شيئا، ولكنى رأيت يا معشر قريش البلايا «2» تحمل المنايا، نواضح «3» يثرب تحمل الموت الناقع «4» ، قوم ليس معهم [منعة «5» ] ولا ملجأ إلا سيوفهم، أما ترونهم خرصا لا يتكلّمون، يتلمّظون تلمّظ الأفاعى؛ والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجل منكم، فإذا أصابوا منكم أعدادهم، فما خير العيش بعد ذلك؟ فروا رأيكم. فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى فى الناس؛ فأتى عتبة بن ربيعة فقال: يا أبا الوليد إنك كبير قريش وسيّدها، والمطاع فيها، هل لك ألّا تزال تذكر منها بخير إلى آخر الدهر؟ قال: وما ذاك يا حكيم؟ قال: ترجع بالناس وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمىّ. قال: قد فعلت، علىّ عقله «6» ؛ فأت ابن الحنظليّة، يعنى أبا جهل بن هشام، قال: فأتيته فقلت: يا أبا الحكم، قد أرسلنى إليك عتبة الجزء: 17 ¦ الصفحة: 22 بكذا وكذا، فقال: انتفخ والله سحره «1» حين رأى محمدا وأصحابه، كلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، ثم بعث إلى عامر بن الحضرمى فقال: هذا حليفك يريد أن يرجع بالناس، وقد رأيت ثارك بعينك، فقم فأنشد خفرتك «2» ومقتل أخيك. فقام عامر فاكتشف «3» ثم صرخ: واعمراه! وا عمراه! فحميت الحرب» وحقب «5» أمر الناس، واستوسقوا «6» على ما هم عليه من الشر. قال: فخرج الأسود بن عبد الأسد المخزومىّ، وكان رجلا شرسا سيّء الخلق، فقال: أعاهد الله لأشربنّ من حوضهم أو لأهدمنّه، أو أموتنّ دونه، فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب، فلما التقيا ضربه حمزة فأطنّ «7» قدمه بنصف ساقه، وهو دون الحوض، فوقع على ظهره، ثم جاء إلى الحوض يريد أن يبرّ يمينه، وأتبعه حمزة فضربه حتى قتله. ثم خرج بعده عتبة بن ربيعة، بين أخيه شيبة بن ربيعة، وابنه الوليد بن عتبة، حتى إذا برز من الصفّ دعا إلى المبارزة، فخرج إليه ثلاثة من الأنصار، وهم: عوف ومعوّذ ابنا الحارث، وعبد الله بن رواحة، فقالوا: من أنتم؟ فقالوا: رهط من الأنصار؛ قالوا: ما لنا بكم من حاجة، ثم نادى مناديهم: يا محمد، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا، فأخرج لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الجزء: 17 ¦ الصفحة: 23 عمّه حمزة بن عبد المطلب، وعلىّ بن أبى طالب، وعبيدة بن الحارث، فلما دنوا منهم قالوا: من أنتم؟ فسمّى كل رجل منهم نفسه، قالوا: نعم أكفاء كرام؛ فبارز عبيدة- وكان أسنّ القوم- عتبة، وبارز حمزة شيبة، وبارز علىّ الوليد بن عتبة، فأما حمزة وعلىّ فإنهما لم يمهلا مبارزيهما أن قتلاهما، واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين كلاهما أثبت «1» صاحبه، وكرّ حمزة وعلىّ بأسيافهما على عتبة فذفّفا «2» عليه، واحتملا صاحبهما فحازاه «3» إلى أصحابه. قال محمد بن سعد: وفى عبيدة وعتبة نزل قوله تعالى: (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) . قال: ثم زحف الناس ودنا بعضهم من بعض. وكانت وقعة بدر يوم الجمعة صبيحة سبع عشرة من شهر رمضان، على رأس تسعة عشر شهرا من الهجرة. وعدّل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الصّفوف، ورجع إلى العريش، فدخله هو وأبو بكر الصدّيق ليس معه غيره فيه، وهو صلّى الله عليه وسلّم يناشد «4» ربه ما وعده من النصر، ويقول فيما يقول: اللهمّ إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد، وأبو بكر يقول: يا نبىّ الله، بعض مناشدتك ربّك، فإن الله منجزك ما وعدك. وخفق «5» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خفقة ثم انتبه، فقال: أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده، على ثناياه النّقع «6» . الجزء: 17 ¦ الصفحة: 24 قال ابن إسحاق: ورمى مهجع مولى عمر بن الخطاب بسهم فقتل، وكان أول قتيل قتل من المسلمين، ثم رمى حارثة بن سراقة، أحد بنى عدىّ بن النجّار، وهو يشرب فى الحوض بسهم، فأصاب نحره، فقتل. ثم خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الناس يحرّضهم، وقال: «والذى نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر، إلا أدخله الله الجنة» ، فقال عمير بن الحمام أخو بنى سلمة، وفى يده تمرات يأكلهن: بخ بخ «1» ! أفما بينى وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلنى هؤلاء؟ ثم قذف التمرات من يده، وأخذ سيفه وقاتل حتى قتل. وقال عوف بن الحارث- وهو ابن عفراء- يا رسول الله: ما يضحك «2» الربّ من عبده؟ قال: غمسه يده فى العدوة حاسرا. فنزع درعا كانت عليه، وأخذ سيفه فقاتل حتى قتل. قال: ثم أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حفنة من الحصباء فاستقبل بها قريشا، ثم قال: شاهت «3» الوجوه، ثم نفحهم بها، وأمر أصحابه فقال: شدّوا؛ فكانت الهزيمة على قريش، فقتل الله من صناديد قريش من قتل، وأسر من أسر. قال محمد بن سعد: قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: لما نزلت: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) ، قلت: وأىّ جمع يهزم ومن يغلب؟ فلما كان يوم بدر نظرت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يثب فى الدرع وثبا وهو يقول: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) ، فعملت أن الله تعالى سيهزمهم. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 25 قال: ولمّا وضع القوم أيديهم يأسرون، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم [فى العريش «1» ] وسعد بن معاذ قائم على باب العريش، متوشّح السيف، فى نفر من الأنصار يحرسون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يخافون عليه كرّة العدوّ، فرأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى وجه سعد بن معاذ الكراهية لما يصنع الناس فقال له: لكأنّى بك يا سعد تكره ما يصنع القوم؛ قال: أجل: والله يا رسول الله، كانت أوّل وقعة أوقعها الله بأهل الشّرك، فكان الإثخان فى القتل أحبّ إلىّ من استبقاء الرجال. وفى هذا اليوم أنزل الله تعالى الملائكة فقاتلوا مع المسلمين. قال محمد بن سعد: لما صفّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصحابه وعبّأهم للحرب، جاءت ريح لم ير مثلها شدّة ثم ذهبت، فجاءت ريح أخرى ثم ذهبت، فجاءت ريح أخرى، فكانت الأولى جبريل عليه السلام فى ألف من الملائكة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والثانية ميكائيل عليه السلام فى ألف من الملائكة عن ميمنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والثانية ميكائيل عليه السلام فى ألف من الملائكة عن ميسرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والثالثة إسرافيل فى ألف من الملائكة عن ميسرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان سيما الملائكة يومئذ عمائم قد أرخوها بين أكتافهم: خضر وصفر وحمر من نور، والصّوف فى نواصى خيلهم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: إنّ الملائكة قد سوّمت فسوّموا. فأعلموا بالصوف فى مغافرهم «2» وقلانسهم. قال: وكانت الملائكة يوم بدر على خيل بلق. وقال ابن إسحاق: حدّثنى عبد الله بن أبى بكر أنه حدّث عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: حدّثنى رجل من بنى غفار قال: الجزء: 17 ¦ الصفحة: 26 أقبلت أنا وابن عمّ لى حتى أصعدنا فى جبل يشرف [بنا «1» ] على بدر [ونحن مشركان «2» ] ننظر الوقعة على من تكون الدائرة «3» ، ننتهب مع من ينتهب، فبينما نحن فى الجبل إذ دنت منا سحابة، فسمعنا فيها حمحمة الخيل، فسمعت قائلا يقول: أقدم «4» حيزوم. قال: فأمّا ابن عمى فانكشف قناع قلبه، فمات مكانه. وأما أنا فكدت أن أهلك، ثم تماسكت. وروى ابن إسحاق عن أبى أسيد مالك بن ربيعة- وكان شهد بدرا- قال- بعد أن ذهب بصره-: لو كنت اليوم ببدر ومعى بصرى لأريتكم الشّعب «5» الذى خرجت منه الملائكة، لا أشكّ ولا أتمارى «6» . وعن أبى داوود المازنىّ، قال: إنى لأتبع رجلا من المشركين يوم بدر لأضربه، إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفى، فعرفت أنه قتله غيرى. وعن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما، قال: كانت سما الملائكة يوم بدر عمائم بيضا قد أرسلوها فى ظهورهم، ويوم حنين عمائم حمرا، وفى حديث آخر عن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيضا قد أرخوها على ظهورهم. إلا جبريل فإنه كانت عليه عمامة صفراء. وعن ابن عباس رضى الله عنهما، قال: لم تقاتل الملائكة فى يوم سوى يوم بدر، وكانوا فيما سواه من الأيام عددا ومددا لا يضربون. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 27 قال: وكان شعار أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم بدر: أحد أحد. قال ابن إسحاق: وأقبل أبو جهل يومئذ يرتجز وهو [يقاتل «1» و] يقول: ما تنقم الحرب العوان منّى ... بازل عامين حديث سنّى «2» . لمثل هذا ولدتنى أمّى قال: فلما فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من عدوّه أمر أن يلتمس أبو جهل بن هشام فى القتلى، فمرّ به عبد الله بن مسعود، قال: فوجدته بآخر رمق فعرفته، فوضعت رجلى على عنقه، فقال لى: لقد ارتقيت يا رويعى الغنم مرتقى صعبا، ثم قال: أخبرنى لمن الدائرة اليوم؟ فقلت: لله ولرسوله؛ ثم احتززت رأسه، ثم جئت به إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقلت: يا رسول الله، هذا رأس عدوّ الله أبى جهل؛ فقال: الله «3» الذى لا إله غيره؟ قلت: نعم والله الذى لا إله غيره، ثم ألقيت رأسه بين يدى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وعن عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها قالت: لما أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالقتلى أن يطرحوا فى القليب، طرحوا فيه إلا أميّة بن خلف فإنه انتفخ فى درعه فملأها فذهبوا ليحرّكوه فتزايل «4» ، فأقرّوه وألقوا عليه ما غيّبه من التراب والحجارة، قالت: ولما ألقوا فى القليب، وقف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يأهل القليب، هل وجدتم ما وعد ربكم حقا، فإنى قد وجدت ما وعدنى الجزء: 17 ¦ الصفحة: 28 ربى حقا» قالت: فقال له أصحابه: يا رسول الله، أتكلم قوما موتى؟ فقال لهم: «لقد علموا أنّ ما وعدهم ربهم حق» . وعن أنس رضى الله عنه نحوه، إلا أنّ فيه: فقال المسلمون: يا رسول الله، أتنادى قوما قد جيّفوا «1» ؟ قال: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم «2» ، ولكن لا يستطيعون أن يجيبونى» . قال ابن إسحاق: وكان الفتية الذين قتلوا ببدر- فنزل فيهم قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً) - الحارث بن زمعة بن الأسود، وأبو قيس بن الفاكه ابن المغيرة، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة، وعلى بن أميّة بن خلف، والعاص ابن منبّه. وذلك أنهم كانوا أسلموا بمكة، فلما هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حبسهم آباؤهم وعشائرهم بمكة وفتنوهم فافتتنوا، ثم خرجوا مع قومهم إلى بدر، فأصيبوا كلّهم. قال: ثم أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما فى العسكر ممّا جمع الناس فجمع، واختلف المسلمون فيه، فقال من جمعه: هو لنا؛ وقال الذين كفروا يقاتلون العدوّ: والله لولا نحن ما أصبتموه، لنحن شغلنا عنكم القوم حتى أصبتم ما أصبتم؛ وقال الذين كانوا يحرسون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مخافة أن يخالف إليه العدوّ: ما أنتم بأحقّ منّا، لقد رأينا أن نقتل العدوّ إذا منحنا الله الجزء: 17 ¦ الصفحة: 29 أكتافهم، ولقد رأينا أن نأخذ المتاع حين لم يكن دونه من يمنعه، ولكنّا خفنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كرّة العدوّ فقمنا دونه، فما أنتم أحقّ به منا. فأنزل الله تعالى: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) ، نزلت السورة بجملتها فى غزوة بدر. قال: ثم أقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قافلا إلى المدينة ومعه الأسارى من المشركين والنّفل «1» ، وجعل على النّفل عبد الله بن كعب المازنىّ، فلما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مضيق الصفراء، نزل على كثيب بين المضيق «2» وبين النازية «3» ، يقال له: سير، إلى سرحة «4» [به «5» ] وهو من المدينة على ثلاث ليال، فقسم هناك النّفل الذى أفاء الله على المسلمين على السواء. قال ابن سعد: وتنفّل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سيفه ذا الفقار، وكان لمنبّه بن الحجّاج، فكان صفيّه يومئذ؛ وأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سهمه مع المسلمين، وفيه جمل أبى جهل بن هشام، وكان مهريّا «6» ، وبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زيد بن حارثة بشيرا إلى المدينة، وبعث عبد الله بن رواحة إلى أهل العالية. قال ابن سعد يرفعه إلى عبد الله بن عمر رضى الله عنهما، قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم بدر بثلاثمائة وخمسة عشر من المقاتلة، كما خرج طالوت، الجزء: 17 ¦ الصفحة: 30 فدعا لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين خرجوا، فقال: «اللهم إنهم حفاة فاحملهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم، اللهم إنهم جياع فأشبعهم» . ففتح الله يوم بدر فانقلبوا حين انقلبوا، وما فيهم رجل إلا وقد رجع بجمل أو جملين، فاكتسبوا وشبعوا. وقال يرفعه إلى عكرمة قال: قيل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما فرغ من أهل بدر: عليك بالعير ليس دونها شىء، فناداه العباس: إنه لا يصلح ذلك لك، قال: لم؟: قال: لأنّ الله تعالى وعدك إحدى الطائفتين، فقد أعطاك ما وعدك. ذكر ورود الخير بمصاب أهل بدر على من بمكة من كفار قريش وهلاك أبى لهب بن عبد المطلب قال ابن إسحاق: كان أوّل من قدم مكة بمصاب قريش الحيسمان بن عبد الله الخزاعىّ، فقالوا له: ما وراءك؟ قال: قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم بن هشام، وأمية بن خلف، وزمعة بن الأسود، ونبيه ومنبّه ابنا الحجّاج، وأبو البخترىّ، وجعل يعدّد أشراف قريش، فقال صفوان بن أمية وهو قاعد فى الحجر،: والله إن يعقل هذا فاسألوه عنى، قالوا: ما فعل صفوان بن أمية؟ قال: هو ذاك جالس فى الحجر، قد والله رأيت أباه وأخاه حين قتلا. وقال أبو رافع مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كنت غلاما للعباس بن عبد المطلب، وكان الإسلام قد داخلنا أهل البيت، فأسلم العباس، وأسلمت أم الفضل، وأسلمت، وكان العباس يهاب قومه، ويكره خلافهم، وكان يكتم إسلامه [وكان الجزء: 17 ¦ الصفحة: 31 ذا مال كثير متفرّق فى قومه «1» ] . وكان أبو لهب قد تخلف عن بدر، وبعث مكانه العاص ابن هشام بن المغيرة [وكذلك كانوا صنعوا، لم يتخلف رجل إلا بعث مكانه رجلا «2» ] ، فلما جاء الخبر عن مصاب أصحاب بدر كتبه «3» الله وأخزاه، ووجدنا فى أنفسنا قوّة وعزا، وكنت رجلا ضعيفا، وكنت أنحت الأقداح فى حجرة زمزم، فو الله إنى لجالس فيها أنحت أقداحى وعندى أمّ الفضل جالسة، وقد سرّنا ما جاءنا من الخبر إذ أقبل أبو لهب يجرّ رجليه بشرّ، حتى جلس على طنب «4» الحجرة، وكان ظهري إلى ظهره، فبينما هو جالس إذ قال الناس «5» : هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب. فقال أبو لهب: هلمّ إلىّ، فعندك لعمرى الخير. قال: فجلس إليه والناس قيام عليه، فقال: يابن أخى، أخبرنى كيف كان أمر الناس؟ قال: والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاءوا، ويأسروننا كيف شاءوا، وايم الله مع ذلك ما لمت الناس، لقينا رجالا بيضا، على خيل بلق بين السماء والأرض، والله ما تليق «6» شيئا ولا يقوم لها شىء. قال أبو رافع: فرفعت طنب الحجرة [بيدى «7» ] ثم قلت: تلك والله الملائكة. قال: فرفع أبو لهب يده فضرب وجهى ضربة شديدة، فثاورته «8» فاحتملنى، فضرب بى الأرض، ثم برك على صدرى، وكنت رجلا ضعيفا، فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة فأخذته فضربته به ضربة فلقت «9» رأسه شجّة منكرة، وقالت: الجزء: 17 ¦ الصفحة: 32 أتستضعفه أن غاب عنه سيده؟ فقام مولّيا ذليلا، فو الله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة «1» فقتلته. وقالت قريش فى قتلى بدر مراثى كثيرة ذكرها ابن هشام وغيره، تركنا إيرادها رغبة فى الاختصار، ولأنه ليس تحت ذلك كبير فائدة فيما نحن بصدده، إلا أنها تشهد بقتل من قتل ممن نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر تسمية من شهد بدرا من المهاجرين والأنصار مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان جميع من شهد بدرا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المسلمين ومن ضرب له فيها بسهمه وأجره ثلاثمائة رجل وأربعة عشر رجلا، من المهاجرين ثلاثة وثمانون «2» ، ومن الأوس أحد وستون، ومن الخزرج مائة وسبعون. فأما من شهد بدرا من المهاجرين، ومن ضرب له بسهمه وأجره، فشهدها من بنى هاشم بن عبد مناف اثنا عشر رجلا، وهم: سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وحمزة بن عبد المطلب، وعلىّ بن أبى طالب، وزيد ابن حارثة، وأنسة الحبشى، وأبو كبشة الفارسى، موالى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأبو مرثد كنّاز بن حصين، وابنه مرثد، حليفا حمزة بن عبد المطلب، وعبيدة بن الحارث بن المطلب، وأخواه: الطفيل، والحصين، ومسطح، واسمه عوف بن أثاثة بن عبّاد بن المطّلب «3» . الجزء: 17 ¦ الصفحة: 33 ومن بنى عبد شمس بن عبد مناف وحلفائهم خمسة عشر رجلا، وهم: أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وسالم مولاه. ومن حلفائهم من بنى أسد ابن خزيمة عبد الله بن جحش بن رئاب، وعكّاشة بن محصن، وشجاع بن وهب ابن ربيعة، وأخوه عقبة، ويزيد بن رقيش «1» بن رئاب، وأبو سنان بن محصن ابن حرثان «2» أخو عكّاشة، وابنه سنان، ومحرز بن نضلة بن عبد الله وربيعة بن أكثم بن سخبرة بن عمرو. ومن حلفائهم بنى كبير «3» بن غنم بن دودان بن أسد: ثقف بن عمرو، وأخواه مالك، ومدلج «4» ، وهم من بنى حجر آل بنى سليم، وأبو مخشى، حليف لهم. ومن بنى نوفل بن عبد مناف رجلان، وهما: عتبة بن غزوان، وخبّاب مولاه. ومن بنى أسد بن عبد العزّى ثلاثة نفر، وهم: الزبير بن العوّام وحاطب بن أبى بلتعة، وسعد مولاه. ومن بنى عبد الدار رجلان، وهما: مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف ابن عبد الدار، وسويبط بن سعد بن حريملة، ويقال: ابن حرملة بن مالك بن عميلة بن السّبّاق بن عبد الدار. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 34 ومن بنى زهرة بن كلاب وحلفائهم تسعة نفر، وهم: عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبى وقّاص، وأبو وقّاص مالك بن أهيب «1» ، وأخوه عمير بن أبى وقّاص. ومن حلفائهم: المقداد بن عمرو بن ثعلبة، وعبد الله بن مسعود ابن الحارث، ومسعود بن ربيعة بن عمرو، وذو الشّمالين «2» عمير بن عبد عمرو بن نضلة، وخبّاب بن الأرتّ. ومن بنى تميم بن مرّة ومواليهم أربعة نفر، وهم: أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه، ومواليه، بلال بن رباح، وعامر بن فهيرة، وصهيب بن سنان. ومن بنى مخزوم خمسة نفر، وهم: أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد وشمّاس بن عثمان بن الشّريد، واسم شمّاس عثمان، والأرقم بن أبى الأرقم، وأبو الأرقم هو عبد مناف بن أسد، وعمّار بن ياسر، ومعتّب بن عوف بن عامر حليف لهم. ومن بنى عدىّ بن كعب وحلفائهم اثنا عشر رجلا، وهم: عمر بن الخطّاب رضى الله عنه، وأخوه زيد، ومهجع مولى عمر، وعمرو بن سراقة بن المعتمر وأخوه عبد الله، وواقد بن عبد الله بن عبد مناف بن عرين، حليف لهم، [وعامر «3» ابن البكير، وأخواه خالد، وإياس، حلفاء بنى عدىّ، وخولىّ بن أبى خولىّ، وأخوه مالك، حليفان لهم- ومنهم من عدّ هلال بن أبى خولى- وعامر بن أبى ربيعة، حليف لهم] . الجزء: 17 ¦ الصفحة: 35 ومن بنى جمح خمسة نفر، وهم: عثمان بن مظعون، وابنه السّائب وأخواه قدامة، وعبد الله، ابنا مظعون، ومعمر بن الحارث بن معمر. ومن بنى سهم بن عمرو: خنيس بن حذافة بن قيس. ومن بنى عامر بن لؤىّ خمسة نفر، وهم: [أبو سيرة «1» بن أبى رهم بن عبد العزّى، وعبد الله بن مخرمة بن عبد العزّى، وعبد الله بن سهيل بن عمرو- وكان قد خرج مع أبيه سهيل، فلما نزل الناس بدرا فرّ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فشهدها معه- وعمير بن عوف، مولى سهيل بن عمرو، وسعد ابن خولة، حليف لهم.] ومن بنى الحارث بن فهر خمسة نفر، وهم] : أبو عبيدة عامر بن عبد الله ابن الجراح، وعمرو بن الحارث بن زهير، وسهيل بن ربيعة بن هلال، وأخوه صفوان بن وهب «2» ، وهما ابنا بيضاء، وعمرو بن أبى سرح بن ربيعة. هؤلاء الذين شهدوا بدرا من المهاجرين. وأما من ضرب له بسهمه وأجره، فثلاثة نفر، وهم «3» : عثمان بن عفّان- وقد تقدّم خبره- وطلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وكانا قد بعثهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الشام يتحسّسان له خبر العير، فقد ما بعد غزوة بدر، فضرب لهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بسهميهما، قالا: يا رسول الله، وأجرنا؛ قال: وأجركما. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 36 وأما من شهدها من الأوس ومن غاب وضرب له فيها بسهمه وأجره، فهم أحد وستون رجلا، شهدها منهم ستة وخمسون رجلا، وهم: سعد بن معاذ ابن النعمان، وأخوه عمرو بن معاذ، والحارث بن أنس بن رافع «1» ، وسعد بن زيد ابن مالك، وسلمة بن سلامة بن وقش، وعبّاد بن بشر بن وقش، وسلمة بن ثابت بن وقش، ورافع بن يزيد بن كرز «2» ، والحارث بن خزمة بن عدىّ، حليف لهم، ومحمد بن مسلمة بن خالد، حليف لهم، [وسلمة «3» بن أسلم بن حريش، حليف لهم] ، وأبو الهيثم بن التّيّهان، وأخوه عبيد بن التيهان- قال ابن هشام: ويقال: عتيك بن التيهان- وعبد الله سهيل «4» ، وقتادة بن النعمان بن زيد، وعبيد ابن أوس بن مالك- وعبيد هو الذى يقال له: مقرّن، لأنه قرن أربعة أسرى فى يوم بدر، وهو الذى أسر عقيل بن أبى طالب يومئذ، [ونصر «5» بن الحارث بن عبد بن رزاح بن كعب] ، ومعتّب بن عبيد، وعبد الله بن طارق حليف لهما من بلىّ، ومسعود بن سعد بن عامر، ويقال فيه: مسعود بن عبد سعد، وأبو عبس بن جبر بن عمرو، وأبو بردة بن نيار، واسمه هانئ، حليف لهم من بلىّ، وعاصم بن ثابت بن قيس، ومعتّب بن قشير، وأبو مليل بن الأزعر بن زيد، وعمرو بن معبد بن الأزعر، وقيل فيه: عمير بن معبد، وسهل بن حنيف «6» بن واهب، ومبشّر بن عبد المنذر بن زنبر «7» ، وأخوه الجزء: 17 ¦ الصفحة: 37 رفاعة، وسعد بن عبيد بن النعمان، وعويم بن ساعدة، ورافع بن عنجدة، وعبيد ابن أبى عبيد، وثعلبة بن حاطب، وأنيس بن قتادة بن ربيعة. ومعن بن عدىّ ابن الجدّ من حلفائهم، وثابت بن ثعلبة، وعبد الله بن سلمة، وزيد بن أسلم بن ثعلبة، وربعىّ بن رافع بن زيد، هؤلاء الخمسة من حلفائهم من بلىّ، وعبد الله ابن جبير بن النعمان [وعاصم «1» بن قيس بن ثابت، وأبو ضيّاح ثابت بن النعمان وأخوه أبو حنّة- ويقال: أبو حيّة- وسالم بن عمير بن ثابت بن النعمان، والحارث ابن النعمان] بن أمية، ومنذر بن محمد بن عقبة، وأبو عقيل بن عبد الله بن ثعلبة من حلفائهم، وسعد بن خيثمة بن الحارث، ومنذر بن قدامة، ومالك بن قدامة ابن عرفجة، والحارث بن عرفجة، وتميم مولى بن غنم، وجبر» بن عتيك بن الحارث ومالك بن نميلة، حليف لبنى معاوية من مزينة، والنعمان بن عصر «3» ، حليف لبنى معاوية من بلىّ. هؤلاء الذين شهدوها من الأوس. وأما من ضرب له بسهمه وأجره منهم فخمسة نفر، وهم: أبو لبابة واسمه بشير بن عبد الله، والحارث بن حاطب، وحاطب بن عمرو بن عبيد وعاصم بن عدىّ بن الجدّ بن العجلان، وخوّات بن جبير بن النعمان. وأما من شهدها من الخزرج ومواليهم وحلفائهم فمائة وسبعون رجلا: خارجة بن زيد بن أبى زهير، وسعد بن ربيع بن عمرو بن أبى زهير وعبد الله بن رواحة بن امرئ القيس، وخلّاد بن سويد بن ثعلبة بن عمرو الجزء: 17 ¦ الصفحة: 38 وبشير بن سعد بن ثعلبة، وأخوه سماك «1» بن سعد، وسبيع بن قيس بن عيشة «2» بن أمية، وأخوه عبّاد بن قيس، وعبد الله بن عبس، ويزيد بن الحارث بن قيس وخبيب بن إساف بن عتبة، وعبد الله بن زيد بن ثعلبة، وأخوه حريث بن زيد، وسفيان بن نسر «3» بن عمرو بن الحارث، وتميم بن يعار «4» بن قيس، وعبد الله ابن عمير بن عدىّ، وزيد بن المزين «5» بن قيس، وعبد الله بن عرفطة بن عدىّ، وعبد الله بن ربيع بن قيس، وعبد الله بن عبد الله بن أبىّ [بن «6» ] مالك، وأوس ابن خولى بن عبد الله بن الحارث، وزيد بن وديعة بن عمرو بن قيس بن جزء وعقبة بن وهب بن كلدة، حليف لهم من بنى عبد الله بن غطفان، ورفاعة بن عمرو بن ثعلبة، وعامر بن سلمة بن عامر، حليف لهم من اليمن، وأبو حميضة «7» عبّاد بن قشير بن المقدّم، وعامر بن البكير، حليف لهم، ونوفل بن عبد الله بن نضلة، وعبادة بن الصامت بن قيس بن أصرم، وأخوه أوس بن الصّامت والنعمان بن مالك بن ثعلبة بن دعد، وهو الذى يقال له: قوقل «8» ؛ وثابت بن هزّال ابن عمرو بن قريوش، ويقال: قريوس، ومالك بن الدّخشم بن مالك، وربيع الجزء: 17 ¦ الصفحة: 39 ابن إياس، حليف لبنى لوذان من اليمن، والمجذّر بن زياد بن عمرو؛ واسم المجذر، عبد الله حليف لهم من بلىّ، وعباد «1» بن الخشخاش بن عمرو، حليف، ونجّاب بن ثعلبة بن خزمة «2» ويقال: بحّاث، وعبد الله بن ثعلبة بن خزمة، وعتبة بن ربيعة بن خالد بن معاوية، حليف لهم، وهو من بنى سليم، وأبو دجانة سماك بن خرشة. قال ابن هشام: سماك بن أوس بن خرشة، والمنذر بن عمرو بن خنيس بن حارثة، وأبو أسيد مالك بن ربيعة، ومالك بن مسعود البدىّ «3» ، وعبد ربه بن حقّ ابن أوس بن وقش بن ثعلبة بن طريف. ومن حلفائهم من «4» جهينة: كعب بن جمّاز بن ثعلبة- ويقال: حمار، وهو من غبشان- وضمرة، وبسبس، وزياد، بنو عمرو. وعبد الله بن عامر من بلىّ. وخراش بن الصّمة بن عمرو بن الجموح، وتميم مولى خراش بن الصّمة، وعبد الله بن عمرو بن حرام، ومعاذ بن عمرو بن الجموح، ومعوّذ بن عمرو بن الجموح، وخلّاد بن عمرو بن الجموح، وعقبة بن عامر بن نابى، وحبيب بن أسود، مولى لهم، وثابت بن ثعلبة بن زيد بن الحارث، وثعلبة الذى يقال له: الحذع، وعمير «5» بن الحارث بن ثعلبة بن الحارث، وبشر بن البراء ابن معرور بن صخر، والطّفيل بن مالك بن النعمان، وسنان بن صيفىّ بن صخر وعبد الله بن الجدّ بن قيس بن صخر، وخارجة بن حميّر، وعبد الله بن حمير، حليفان الجزء: 17 ¦ الصفحة: 40 لهم من أشجع من بنى دهمان، وجبّار بن صخر بن أمية بن خناس، ويزيد بن المنذر ابن سرح، وأخوه معقل بن المنذر، وعبد الله بن النّعمان بن بلدمة، ويقال: بلدمة وبلذمة، والضحّاك بن حارثة بن زيد بن ثعلبة، وسواد بن زريق بن ثعلبة؛ ومعبد بن قيس بن صخر، وأخوه عبد الله بن قيس، وعبد الله بن عبد مناف بن النعمان، والنعمان بن يسار مولى لبنى النعمان، وأبو المنذر بن يزيد بن عامر بن حديدة، وسليم بن عمرو بن حديدة، وقطبة بن عامر بن حديدة، وعنترة «1» مولى سليم ابن عمرو، وعبس بن عامر بن عدىّ، وثعلبة بن غنمة بن عدىّ، وأبو اليسر، وهو كعب بن عمرو بن عبّاد بن عمرو، وسهل «2» بن قيس [بن أبى «3» كعب، وعمرو بن طلق بن زيد بن أمية، ومعاذ بن جبل بن عمرو، وحارثة بن مالك بن غضب ابن جشم، وقيس بن محصن بن خالد بن مخلّد، ويقال: قيس] بن حصن، وأبو خالد، وهو الحارث بن قيس بن خالد بن مخلّد، وجبير بن إياس بن خالد بن مخلد، وأخوه عقبة بن عثمان بن خالدة بن مخلّد، وذكوان بن [عبد «4» ] قيس بن خلدة بن مخلّد، ومسعود ابن خالدة بن عامر بن مخلد، وعبّاد بن قيس بن عامر بن خالد، وأسعد بن مزيد ابن الفاكه بن زيد بن خلدة، والفاكه بن بشر بن الفاكه بن زيد، ومعاذ بن ماعص بن قيس بن خلدة، وأخوه عائذ بن ماعص، ومسعود بن سعد بن قيس ابن خلدة، ورفاعة بن رافع بن مالك بن العجلان، وأخوه خلّاد بن رافع، وعبيد ابن زيد بن عامر، وزياد بن لبيد بن ثعلبة بن سنان، وفروة بن عمرو بن ودفة «5» الجزء: 17 ¦ الصفحة: 41 ابن عبيد، وخالد بن قيس بن مالك بن العجلان، ورجيلة بن ثعلبة بن خالد بن ثعلبة، وعطية بن نويرة بن عامر بن عطية، ورافع بن المعلّى بن لوذان، وأبو أيوب خالد ابن زيد بن كليب «1» بن ثعلبة، وثابت بن خالد بن النّعمان، وعمارة بن حزم بن زيد ابن لوذان بن عمرو، وسراقة بن كعب بن عبد العزّى بن غزيّة، وحارثة بن النعمان ابن زيد بن عبيد، وسليم بن قيس بن فهد «2» ، وسهيل بن رافع بن أبى عمرو بن عائذ، وعدى بن أبى الزّغباء، حليف لبنى عائذ من جهينة، ومسعود بن أوس ابن زيد، وأبو خزيمة بن أوس بن زيد، ورافع بن الحارث بن سواد بن زيد، وعوف، ومعوّذ، ومعاذ، بنو الحارث بن رفاعة، وهم بنو عفراء بنت عبيد بن ثعلبة، والنعمان بن عمرو بن رفاعة بن سواد، ويقال: نعيمان؛ وعامر بن مخلّد بن الحارث ابن سواد، وعبد الله بن قيس بن خالد بن خلدة بن الحارث بن سواد، وعصيمة، حليف لبنى سواد من أشجع، وديعة بن عمرو، حليف لهم من جهينة، وثابت بن عمرو بن زيد بن عدّى بن سواد- قال ابن هشام: وزعموا أن أبا الحمراء مولى الحارث بن عفراء شهد بدرا- وثعلبة بن عمرو بن محصن بن عمرو بن عتيك، والحارث بن الصّمة بن عمرو بن عتيك، كسر بالرّوحاء، فضرب له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بسهمه، وأبىّ بن كعب بن قيس، وأنس بن معاذ بن أنس بن قيس، وأوس بن ثابت بن المنذر بن حرام، وأبو شيخ أبىّ بن ثابت «3» بن المنذر بن حرام. قال ابن هشام: أبو شيخ [أبىّ بن ثابت «4» ] أخو «5» حسان بن ثابت، وأبو طلحة زيد بن سهل بن الأسود بن حرام، وحارثة بن سراقة بن الحارث بن عدىّ، الجزء: 17 ¦ الصفحة: 42 وعمرو بن ثعلبة بن وهب بن عدىّ، وسليط بن قيس بن عمرو بن عتيك بن مالك، وأبو سليط- وهو أسيرة بن عمرو- وثابت بن خنساء بن عمرو بن مالك بن عدىّ، وعامر بن أمية بن زيد بن الحسحاس بن مالك، ومحرز بن عامر «1» بن مالك بن عدىّ، وسواد بن غزيّة بن أهيب، حليف لبنى عدىّ بن النجار. وأبو زيد قيس «2» بن سكن بن قيس، وأبو الأعور بن الحارث بن ظالم بن عبس ابن حرام، ويقال: أبو الأعور الحارث بن ظالم، وسليم بن ملحان، وأخوه حرام- واسم ملحان: مالك بن خالد بن زيد- وقيس بن أبى صعصعة- واسم أبى صعصعة: عمرو بن زيد بن عوف- وعبد الله بن كعب بن عمرو بن عوف، وعصيمة، حليف لبنى مازن بن النجار من بنى أسد بن خزيمة، وأبو داود عمير ابن عامر بن مالك بن خنساء، وسراقة بن عمرو بن عطيّة بن خنساء، وقيس بن مخلّد بن ثعلبة بن صخر بن حبيب، ومسعود بن عبد الأشهل بن حارثة بن دينار، وأخواه لأمه الضّحّاك، والنّعمان، ابنا عبد عمرو، وجابر بن خالد بن عبد الأشهل بن حارثة، وسعد بن سهيل بن عبد الأشهل، وكعب بن زيد بن قيس بن مالك، وبجير بن أبى بجير، حليف لبنى قيس بن مالك. هؤلاء الذين عدّهم محمد بن إسحاق. قال ابن هشام: وأكثر أهل العلم يذكرون فى الخزرج ممن شهد بدرا عتبان ابن مالك بن عمرو بن العجلان، ومليل بن وبرة بن خالد بن العجلان، وعصمة بن الحصين بن وبرة بن خالد بن العجلان، وهلال بن المعلّى بن لوذان بن حارثة. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 43 ذكر تسمية من استشهد من المسلمين فى غزاة بدر كان من استشهد من المسلمين فى غزاة بدر أربعة عشر رجلا، من المهاجرين ستة نفر، وهم: عبيدة بن الحارث بن المطلب، قتله عتبة بن ربيعة، قطع رجله فمات بالصفراء فى قفول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة، وعمير «1» بن أبى وقّاص، وهو أخو سعيد، وذو الشّمالين بن عبد عمرو بن نضلة الخزاعى، حليف لبنى زهرة، وعاقل بن البكير، حليف لبنى عدىّ بن كعب من بنى سعد بن ليث، ومهجع، مولى عمر بن الخطاب، وصفوان بن بيضاء، من بنى الحارث بن فهر. ومن الأنصار ثمانية وهم: سعد بن خيثمة، ومبشّر بن عبد المنذر بن زنبر، ويزيد بن الحارث، وعمير بن الحمام، ورافع بن المعلّى، وحارثة بن سراقة بن الحارث، وعوف، ومعوّذ، ابنا الحارث بن رفاعة. ذكر تسمية من قتل من المشركين فى غزوة بدر كانت عدّة من قتل من المشركين فى غزوة بدر سبعين رجلا من بنى عبد شمس ومواليهم وحلفائهم أربعة عشر رجلا، وهم: عقبة ابن أبى معيط، قتل صبرا «2» بعرق الظبية «3» عند قفول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة وقال- حين أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقتله-: فمن الجزء: 17 ¦ الصفحة: 44 للصّبيّة يا محمد؟ قال: النار! فقتله عاصم بن ثابت بن الأقلح، وحنظلة بن أبى سفيان بن حرب، قتله زيد بن حارثة، مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويقال: اشترك فيه حمزة بن عبد المطلب، وعلى بن أبى طالب، وزيد بن حارثة، والحارث بن الحضرمىّ، وعامر بن الحضرمى، حليفان لهم. قتل عامرا عمّار ابن ياسر، وقتل الحارث النّعمان بن عصر، حليف الأوس، وعمير بن أبى عمير، وابنه، موليان لهم. قتل عميرا سالم مولى أبى حذيفة، وعبيدة بن سعيد ابن العاص بن أميّة بن عبد شمس، قتله الزبير بن العوّام، والعاص بن سعيد بن العاص ابن أمية، قتله عاصم بن ثابت بن الأفلح، صبرا، وقيل: قتله علىّ بن أبى طالب، وعتبة بن ربيعة بن عبد شمس، اشترك فيه عبيدة بن الحارث، وحمزة بن عبد المطلب وعلىّ بن أبى طالب؛ وشيبة بن ربيعة بن عبد شمس، قتله حمزة بن عبد المطلب، والوليد بن عتبة بن ربيعة، قتله على بن أبى طالب، وعامر بن عبد الله، حليف لهم من بنى أنمار، قتله علىّ، ووهب بن الحارث، حليف لهم من بنى أنمار، وعامر ابن زيد، حليف لهم من اليمن. ومن بنى نوفل بن عبد مناف رجلان، وهما: الحارث بن عامر ابن نوفل، قتله خبيب بن إساف، وطعيمة بن عدىّ بن نوفل، قتله على، ويقال: حمزة؛ وروى أبو عمر بن عبد البر بسنده الى ابن عباس رضى الله عنهما أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قتل طعيمة بن عدى صبرا هو عقبة بن أبى معيط والنّضر بن الحارث. ومن بنى أسد بن عبد العزّى بن قصىّ سبعة نفر: زمعة بن الأسود ابن المطلب بن أسد، قتله ثابت بن الجذع، وقيل اشترك فيه حمزة وعلى، مع الجزء: 17 ¦ الصفحة: 45 ثابت، والحارث بن زمعة، قتله عمار بن ياسر، وعقيل بن الأسود بن المطلب قتله حمزة، وعلىّ، وأبو البخترىّ- وهو العاص بن هشام- قال ابن هشام: العاص ابن هاشم بن الحارث بن أسد، قتله المجذّر البلوىّ، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد نهى عن قتله، لأنه كان أكفّ الناس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لمّا كان بمكة، كان لا يؤذيه ولا يبلغه عنه شىء يكرهه، وكان ممن قام فى نقض الصحيفة كما تقدّم، فلما لقيه المجذّر قال له: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد نهانا عن قتلك، وكان مع أبى البخترى زميل له قد خرج معه من مكة، وهو جنادة بن مليحة- رجل من بنى ليث- فقال أبو البخترى، وزميلى، فقال المجذّر: لا والله ما نحن بتاركى زميلك، ما أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا بك وحدك. فقال: لا والله إذا لأموتنّ أنا وهو جميعا! لا تحدّث عنّى نساء مكة أنى تركت زميلى حرصا على الحياة، وقال يرتجز. لن يسلم ابن حرّة زميلة «1» ... حتى يموت أو يرى سبيله ثم اقتتلا، فقتل المجذر أبا البخترىّ، ثم أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: والذى بعثك بالحق، لقد جهدت «2» عليه أن يستأسر فآتيك به، فأبى إلا أن يقاتلنى، فقاتلته فقتلته. ونوفل بن خويلد بن أسد، قتله علىّ بن أبى طالب، وعقبة بن زيد، حليف لهم من اليمن، وعمير، مولى لهم. ومن بنى عبد الدار بن قصىّ أربعة نفر وهم: النضر بن الحارث الجزء: 17 ¦ الصفحة: 46 ابن علقمة بن كلدة، قتله علىّ صبرا بالصّفراء «1» ، ولما بلغ ابنته «2» قتيلة بنت النضر خبر مقتله كتبت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شعرا. يا راكبا إن الأثيل مظنّة ... من صبح خامسة وأنت موفّق «3» بلّغ به ميتا بأن تحيّة ... ما إن تزال بها النجائب تخفق «4» منى إليه وعبرة مسفوحة ... جادت لمائحها وأخرى تخنق «5» هل يسمعنّ النضر إن ناديته ... بل كيف يسمع ميّت لا ينطق ظلت سيوف بنى أبيه تنوشه ... لله أرحام هناك تشقّق «6» قسرا يقاد إلى المنيّة متعبا ... رسف المقيّد وهو عان موثق «7» أمحمد أولست ضنء نجيبة ... فى قومها والفحل فحل معرق «8» ما كان ضرّك لو مننت وربما ... منّ الفتى وهو المغيظ المحنق النضر أقرب من قتلت قرابة ... وأحقّهم إن كان عتق يعتق أو كنت قابل فدية فلينفقن ... بأعزّ ما يغلو به ما ينفق «9» الجزء: 17 ¦ الصفحة: 47 فلما سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك بكى حتى أخضلّت لحيته وقال: «لو بلغنى شعرها قبل أن أقتله لعفوت عنه» حكاه أبو عمر عن عبد الله ابن إدريس، وحكاه الزبير بن بكّار، وقال: فرّق لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى دمعت عيناه، وقال لأبى بكر: «يا أبا بكر لو كنت سمعت شعرها ما قتلت أباها» وزيد بن مليص، مولى عمير بن هاشم، قتله بلال بن رباح، مولى أبى بكر، ويقال: قتله المقداد بن عمرو. ونبيه بن زيد بن مليص، وعبيد بن سليط حليف لهم من قيس. ومن بنى تيم بن مرّة أربعة نفر وهم: عمير بن عثمان بن عمرو بن كعب ابن سعد بن تيم، قتله علىّ بن أبى طالب، ويقال: قتله عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن مالك بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب، قتله صهيب بن سنان. ومالك بن عبيد الله بن عثمان، أسر فمات فى الإسار، فعدّ فى القتلى. وعمرو بن عبد الله بن جدعان. ومن بنى مخزوم بن يقظة بن مرة أربعة وعشرون رجلا: أبو جهل- واسمه عمرو بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم- ضربه معاذ ابن عمرو بن الجموح فقطع رجله، وضرب ابنه [عكرمة «1» ] يد معاذ فطرحّها، ثم ضربه معوّذ بن عفراء حتى أثبته، وتركه وبه رمق، ثم وقف «2» عليه عبد الله بن مسعود واحتزّ رأسه كما تقدّم، والعاص بن هشام بن المغيرة، قتله عمر بن الخطاب، وكان خال عمر. ويزيد بن عبد الله، حليف لهم من بنى تميم، قتله عمّار بن ياسر. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 48 وأبو مسافع الأشعرىّ، حليف لهم، قتله أبو دجانة الساعدىّ. وحرملة بن عمرو حليف لهم، قتله خارجة بن زيد، ويقال: بل علىّ [بن أبى طالب «1» ] . ومسعود ابن أبى أميّة بن المغيرة، قتله على بن أبى طالب. وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة، قتله حمزة [بن عبد المطلب «2» ] ويقال: علىّ؛ وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة، قتله علىّ، ويقال: عمّار بن ياسر، ورفاعة بن أبى رفاعة بن عابد بن عبد الله بن عمر «3» ابن مخزوم، قتله سعد بن الربيع، والمنذر بن أبى رفاعة بن عابد، قتله معن بن عدىّ، وعبد الله بن المنذر بن أبى رفاعة، قتله علىّ بن أبى طالب، والسّائب ابن أبى السائب بن عائذ بن عبد الله بن عمر «4» بن مخزوم على ما حكاه ابن إسحاق. وقال ابن هشام بسند يرفعه إلى ابن عباس رضى الله عنهما: إن السائب هذا ممن بايع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قريش، وأعطاه يوم الجعرانة «5» من غنائم حنين، فقد وقع فيه الخلاف. والأسود بن عبد الأسد «6» بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، قتله حمزة، وحاجب، ويقال: حاجز «7» بن السائب بن عويمر بن عمرو بن عائذ، قتله على بن أبى طالب. وعويمر بن السائب بن عويمر، قتله النعمان ابن مالك القوقلىّ مبارزة، وعمرو بن سفيان، وجابر بن سفيان، حليفان لهم من طيئ، قتل عمرا يزيد بن رقيش، وقتل جابرا أبو بردة بن نيار. وحذيفة ابن أبى حذيفة بن المغيرة، قتله سعد بن أبى وقاص، وهشام بن أبى حذيفة الجزء: 17 ¦ الصفحة: 49 ابن المغيرة، قتله صهيب بن سنان. وزهير بن أبى رفاعة، قتله أبو أسيد مالك ابن أبى ربيعة. والسائب بن أبى رفاعة، قتله عبد الرحمن بن عوف. وعائذ بن السائب بن عويمر، أسر ثم افتدى فمات فى الطريق من جراحة جرحه إياها حمزة ابن عبد المطلب، وعمير، حليف لهم من طيّئ، وخيار «1» ، حليف لهم من القارة «2» . ومن بنى سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب لؤىّ سبعة نفر وهم: منبّه بن الحجاج بن عامر بن حذيفة بن سعد بن سهم، قتله أبو اليسر، أخو بنى سلمة وابنه العاص بن منبّه، قتله علىّ. ونبيه بن الحجاج، قتله حمزة بن عبد المطلب، وسعد بن أبى وقاص، اشتركا فيه، وأبو العاص بن قيس بن عدىّ بن سعد بن سهم، قتله علىّ، ويقال: النعمان القوقلىّ، وقال: أبو دجانة، وعاصم بن أبى عوف بن صبيرة «3» بن سعيد بن سعد بن سهم، قتله أبو اليسر أخو بنى سلمة. والحارث بن منبّه بن الحجاج، قتله صهيب بن سنان، وعامر بن أبى عوف بن صبيرة أخو عاصم، قتله عبد الله بن سلمة، ويقال: أبو دجانة. ومن بنى جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤىّ أربعة نفر، وهم: أميّة ابن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح، قتله رجل من الأنصار من بنى مازن ويقال: قتله معاذ بن عفراء، وخارجة بن زيد، وخبيب «4» بن إساف، اشتركوا فيه. وابنه علىّ بن أميّة بن خلف، قتله عمّار بن ياسر. وأوس بن معير بن لوذان بن سعد بن جمح، قتله علىّ بن أبى طالب، ويقال: قتله الحصين بن الحارث بن المطلب وعثمان بن مظعون، اشتركا فيه، وسبرة بن مالك، حليف لهم. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 50 ومن بنى عامر بن لؤىّ من حلفائهم رجلان، وهما: معاوية بن عامر حليف لهم من عبد القيس، قتله علىّ، ويقال: عكّاشة بن محصن. ومعبد بن وهب، حليف لهم من بنى كلب، قتله خالد وإياس ابنا البكير، ويقال: أبو دجانة. فجميع من انضبط لنا بالأسماء ممن قتل من المشركين يوم بدر ثمانية وستون على الشك فى السائب بن أبى السائب، والذى ثبت فى صحيح البخارىّ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه أصابوا من المشركين فى يوم بدر أربعين ومائة؛ سبعين أسيرا، وسبعين قتيلا. ذكر تسمية من أسر من المشركين فى غزوة بدر كانت عدّة من أسر من المشركين فى يوم بدر سبعين رحلاعا ما ورد فى الصحيح ودلّت عليه الآية [فى] قوله تعالى: (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها «1» ) يعنى يوم أحد، وكان قد قتل من المسلمين يوم أحد سبعون رجلا، والذى انضبط لنا بالأسماء من أسرى بدر ستة وستون رجلا. من بنى عبد المطلب بن هاشم أربعة نفر، وهم: العباس بن عبد المطلب بن هاشم، أسره أبو اليسر كعب بن عمرو بن عبّاد بن عمرو الخزرجىّ، وكان رجلا قصيرا، والعباس رجلا طويلا ضخما، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لقد أعانك عليه ملك كريم» . وعقيل بن أبى طالب بن عبد المطلب، أسره عبيد بن أوس بن مالك الأوسى، ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وعتبة، حليف لهم من بنى فهر، قال: وكان العباس وعقيل خرجا مكرهين. ومن بنى عبد المطلب بن عبد مناف خمسة نفروهم: السائب بن عبيد بن عبد يزيد ابن هاشم بن عبد المطّلب، ونعمان بن عمرو بن علقمة بن المطلب، وعقيل بن عمرو حليف لهم، وأخوه تميم بن عمرو، وابنه عمرو بن تميم. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 51 ومن بنى عبد شمس بن عبد مناف تسعة نفر وهم: عمرو بن أبى سفيان بن حرب بن أميّة بن عبد شمس، والحارث بن أبى وجزة- ويقال: وحرة بن أبى عمرو- ابن أمية، وأبو العاص بن نوفل بن عبد شمس، وأبو العاص بن الربيع بن عبد العزّى بن عبد شمس، وخالد بن أسيد بن أبى العيص. ومن حلفائهم: أبو ريشة بن أبى عمرو، وعمرو بن الأزرق، وعقبة بن عبد الحارث بن الحضرمى، وأبو العريض يسار، مولى العاص بن أمية. ومن بنى نوفل بن عبد مناف أربعة نفر، وهم: عدىّ بن الخيار بن نوفل وعثمان بن عبد شمس، حليف لهم من بنى مازن بن منصور، وأبو ثور، حليف لهم ونبهان، مولى لهم. ومن بنى عبد الدار بن قصىّ ثلاثة نفر وهم: أبو عزيز بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، والأسود بن عامر حليف لهم، وعقيل، حليف لهم من اليمن. ومن بنى أسد بن عبد العزى بن قصىّ أربعة نفروهم: السّائب بن أبى حبيش ابن المطلب بن أسد، والحويرث بن عبّاد بن عثمان بن أسد. قال ابن هشام: هو الحارث بن عائذ بن عثمان بن أسد، وعبد الله بن حميد بن زهير بن الحارث، وسالم بن شمّاخ، حليف لهم. ومن بنى تيم بن مرّة رجلان وهما: مسافع بن عياض بن صخر بن عامر ابن كعب بن سعد بن تيم، وجابر بن الزبير، حليف لهم. ومن بنى مخزوم بن يقظة بن مرة عشرة نفروهم: خالد بن هشام بن المغيرة ابن عبد الله بن عمر بن مخزوم، أسره سواد بن غزيّة، وأمية بن أبى حذيفة الجزء: 17 ¦ الصفحة: 52 ابن المغيرة، والوليد بن الوليد بن المغيرة، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، وصيفىّ ابن أبى رفاعة بن عابد بن عبد الله بن عمر «1» بن مخزوم، وأبو المنذر بن أبى رفاعة ابن عابد، وأبو عطاء عبد الله بن السائب بن عابد، وقيس بن السائب، والمطلب ابن حنطب بن الحارث بن عبيد بن عمر بن مخزوم، وخالد بن الأعلم، حليف لهم من خزاعة، ويقال: عقيلىّ. وزعموا أنه أوّل من فرّ منهزما «2» ، وهو الذى يقول: ولسنا على الأدبار تدمى كلومنا «3» ... ولكن على أعقابنا تقطر الدّما ومن بنى سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب خمسة نفروهم: أبو وداعة ابن صبيرة بن سعيد بن سعد بن سهم، وهو أوّل أسير افتدى من أسرى بدر، افتداه ابنه المطلب بن أبى وداعة، وفروة بن قيس بن عدىّ بن حذافة بن سعيد ابن سهم، وحنظلة بن قبيصة بن حذافة بن سعيد بن سهم، والحجّاج «4» بن الحارث ابن قيس بن عدى بن سعيد «5» بن سهم، وأسلم، مولى نبيه بن الحجاج. ومن بنى جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب أحد عشر نفرا وهم: عبد الله بن أبىّ بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح [وأخوه «6» عمرو بن أبىّ، وأبو عزّة عمرو ابن عبد الله بن عثمان بن وهب بن حذافة بن جمح] والفاكه، مولى أمية بن خلف ووهب بن عمير بن وهب بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح، وربيعة بن الجزء: 17 ¦ الصفحة: 53 درّاج بن العنبس بن أهبان بن وهب بن حذافة بن جمح، وأبو رهم بن عبد الله حليف لهم، وموليان لأميّة بن خلف، أحدهما: نسطاس، وأبو رافع، غلام أمية ابن خلف. قال ابن هشام: وحليف لهم ذهب عنى اسمه. ومن بنى عامر بن لؤىّ خمسة نفر وهم: سهيل بن عمرو بن عبد شمس بن عبدودّ ابن نصر بن مالك بن حسل بن عامر، أسره مالك بن الدّخشم أخو بنى سالم ابن عوف، وعبد بن زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبد ودّ، وعبد الرحمن بن مشنوء ابن وقدان بن قيس بن عبد شمس بن عبد ودّ، وحبيب بن جابر، والسائب ابن مالك. ومن بنى الحارث بن فهر أربعة نفر وهم: الطّفيل بن أبى قنيع، وعتبة بن عمرو ابن جحدم، وشافع، وشفيع، حليفان لهم من اليمن. ذكر خبر أسارى بدر وما كان من فدائهم، ومن منّ عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (وأطلقه منهم) ، ومن أسلم بسبب ذلك قال: لما قفل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من غزاة بدر ومعه الأسارى سمع العباس وهو يئنّ ويتأوّه، قد آلمه الوثاق، فقلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تلك الليلة لذلك، فاستأذنه أصحابه رضى الله عنهم، فى أن ينفّسوا عن العباس وثاقه، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «إن فعلتم ذلك بجميع الأسرى فنعم وإلا فلا» . أو كما قال: فنفّسوا عن جميع الأسرى. ولما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة فرّق الأسارى بين أصحابه وقال: «استوصوا بهم خيرا» . ثم جاءه جبريل عليه السلام فى أمر الأسارى الجزء: 17 ¦ الصفحة: 54 فقال: إن شئتم قتلتموهم، وإن شئتم أخذتم منهم الفداء، (واستشهد «1» قابلا منكم سبعون. قال: فنادى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى أصحابه، فجاءوا- أو من جاء منهم) - فقال: «هذا جبريل يخيّركم بين أن تقدّموهم فتقتلوهم، وبين أن تفادوهم ويستشهد قابلا منكم بعدّتهم» . فقالوا: بل نفاديهم ويدخل قابلا منا الجنة سبعون. ففادوهم. رواه محمد بن سعد. وروى ابن قتيبة عن ابن إسحاق أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال للعباس: «افد نفسك وابنى أخويك: عقيل بن أبى طالب، ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وحليفك، فإنك ذو مال» . فقال: يا رسول الله، إنى كنت مسلما ولكنّ القوم استكرهونى. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الله أعلم بإسلامك إن يكن ما تقول حقا فالله يجزيك به، وأما ظاهر [أمرك «2» ] فقد كان علينا» . قال: فإنه ليس لى مال. قال: «فأين المال الذى وضعته عند أم الفضل بمكة حين خرجت وليس معكما أحد؟ ثم قلت: إن أصبت فى سفرى هذا فللفضل كذا، ولعبد الله كذا» . قال: والذى بعثك بالحق ما علم بهذا أحد غيرها، وإنى لأعلم أنك رسول الله. ففدى نفسه بمائة أوقيّة، وكل واحد بأربعين أوقية، وقال: «تركتنى أسأل الناس فى كفّى» . قال: «وأسلم العباس، وأمر عقيلا فأسلم» . وروى محمد بن سعد قال: لما أسر نوفل بن الحارث ببدر قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «افد نفسك» . قال: ما لى شىء أفتدى به. قال: «افد نفسك الجزء: 17 ¦ الصفحة: 55 برماحك التى بجدّة» . فقال: والله ما علم أحد أن لى بجدّة رماحا غيرى بعد الله، أشهد أنك رسول الله. ففدى نفسه بها، وكانت ألف رمح. وقيل: كان إسلام نوفل وهجرته أيام الخندق. قال ابن إسحاق: وكانت قريش حين ورد عليهم الخبر بمصرع أصحاب بدر ناحوا على قتلاهم، ثم قالوا: لا تفعلوا فيبلغ محمدا وأصحابه فيشمتوا بكم، ولا تبعثوا فى أسراكم حتى تستأنوا «1» بهم لا يأرب «2» عليكم محمد وأصحابه فى الفداء. فقال المطلب ابن أبى وداعة: صدقتم، لا تعجلوا؛ وانسلّ من الليل فقدم المدينة، فأخذ أباه بأربعة آلاف درهم، وانطلق به. ثم بعثت قريش فى فداء الأسارى، فكان أعلى ما فدى به أسير أربعة آلاف درهم فما دونها إلى ألف درهم. وقال محمد بن سعد فى طبقاته: كان فداء أسارى يوم بدر أربعة آلاف إلى ما دون ذلك، فمن لم يجد عنده شيئا «3» أعطى عشرة من غلمان المدينة، فعلّمهم الكتابة، فإذا حذقوا فهو فداؤه. وكان أهل مكّة يكتبون، وأهل المدينة لا يكتبون. [قال «4» ] : فكان زيد بن ثابت ممن علّم. ذكر خبر أبى سفيان فى أسر ابنه عمرو بن أبى سفيان وإطلاقه قال محمد بن إسحاق: وكان عمرو بن أبى سفيان فى الأسارى، فقيل لأبى سفيان: افد ابنك عمرا، فقال: أيجمع علىّ دمى ومالى! قتلوا حنظلة، وأفدى عمرا! دعوه فى أيديهم يمسكوه ما بدالهم. فلم يزل كذلك حتى قدم سعد بن النعمان الجزء: 17 ¦ الصفحة: 56 ابن أكّال، أخو بنى عمرو بن عوف معتمرا، وكان شيخا مسلما، فى غنم له بالبقيع «1» ، وقد «2» كانت قريش عهدوا أنهم لا يعرضون لحاج أو معتمر إلا بخير، فعدا عليه أبو سفيان بمكة فحبسه بابنه عمرو، ثم قال أبو سفيان: أرهط ابن أكّال أجيبوا دعاءه ... تفاقدتم «3» لا تسلموا السيّد الكهلا فإنّ بنى عمرو لئام أذلّة ... إذا لم يفكّوا عن أسيرهم الكبلا «4» قال: فمشى بنو عمرو بن عوف إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبروه خبره، وسألوه أن يعطيهم عمرو بن أبى سفيان فيفتكّوا به صاحبهم، ففعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فبعثوا به إلى أبى سفيان، فحلّى سبيل سعد ابن النعمان. ذكر خبر أبى العاص بن الربيع فى فدائه وإرساله «5» زينب بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مكّة إلى المدينة وإسلامه بعد ذلك، وردّ زينب عليه بغير نكاح جديد. قال ابن إسحاق: وكان فى الأسارى أبو العاص بن الربيع بن عبد العزّى ابن عبد شمس، ختن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وزوج ابنته زينب. أسره خراش بن الصّمة، أحد بنى حرام. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 57 وكان أبو العاص من رجال مكة المعدودين مالا وأمانة وتجارة، وكان لهالة بنت خويلد أخت خديجة، فسألت خديجة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يزوجه زينب، فزوجه بها، وذلك قبل أن ينزل الوحى على رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، فكان معها وهو على شركه وهى مسلمة. فلما بعث أهل مكة فى فداء أسراهم بعثت زينب بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى فداء أبى العاص [بمال، وبعثت «1» فيه بقلادة لها كانت خديجة أدخلتها بها على أبى العاص] فلما رآها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رقّ لها رقّة شديدة وقال: «إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردّوا عليها [مالها «2» ] فافعلوا» . قالوا: نعم يا رسول الله. فأطلقوه وردّوا عليها الذى بعثت به، وأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليه أن يخلّى سبيل زينب، ولم يظهر ذلك، ثم بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زيد بن حارثة ورجلا من الأنصار، فقال: «كونا ببطن يأجج «3» حتى تمرّ بكما زينب، فتصحباها حتى تأتيانى بها» . فخرجا وذلك بعد بدر بشهر، فلما قدم أبو العاص مكة أمرها باللحوق بأبيها، فتجهّزت لذلك، وقدّم لها حموها كنانة بن الربيع أخو زوجها بعيرا فركبته، وأخذ قوسه وكنانته، ثم خرج بها نهارا يقود بها، وهى فى هودج لها، وتحدّث بذلك رجال قريش، فخرجوا فى طلبها، حتى أدركوها بذى طوى «4» ، فكان أوّل من سبق إليها هبّار بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزّى الفهرىّ، فروّعها بالرمح وهى فى هودجها، وكانت حاملا فطرحت، فنثر حموها كنانته ثم قال: والله لا يدنو منى الجزء: 17 ¦ الصفحة: 58 رجل إلا وضعت فيه سهما، فتكركر «1» الناس عنه. ثم جاء أبو سفيان بن حرب فى جلّة [من «2» ] قريش فقال: أيها الرجل، كفّ عنا نبلك حتى نكلّمك. فكفّ، فأقبل أبو سفيان حتى وقف عليه فقال: إنك لم تصب، خرجت بالمرأة على رءوس الناس علانية، وقد عرفت مصيبتنا ونكبتنا، وما دخل علينا من محمد، فيظن الناس إذا خرجت له ببنته علانية على رءوس الناس من بين أظهرنا أن ذلك على ذلّ أصابنا عن مصيبتنا التى كانت، وأن ذلك منا ضعف ووهن، ولعمرى ما لنا بحبسها عن أبيها من حاجة، وما لنا فى ذلك من ثؤرة «3» ، ولكن ارجع بالمرأة حتى إذا هدأت الأصوات وتحدّث الناس أن قد رددناها فسلّها سرا وألحقها بأبيها. قال: ففعل. فأقامت ليالى حتى إذا هدأت الأصوات خرج بها ليلا حتى أسلمها إلى زيد بن حارثة وصاحبه، فقدما بها على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأقامت عنده بالمدينة وفرّق بينهما الإسلام، حتى إذا كان قبيل الفتح خرج أبو العاص تاجرا إلى الشام- وكان رجلا مأمونا- بمال له وأموال رجال من قريش، فلما فرغ من تجارته وأقبل قافلا لقيته سريّة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأصابوا ما معه وأعجزهم هاربا، فلما قدمت السرية بما أصابوا من ماله أقبل أبو العاص تحت الليل حتى دخل على زينب بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاستجار بها، فأجارته، وجاء فى طلب ماله، فلما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لصلاة الصبح وكبّر وكبر الناس معه خرجت «4» زينب من صفّة النساء [وقالت] : أيها الناس، إنى قد أجرت أبا العاص ابن الربيع. فلمّا سلّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الصلاة أقبل على الناس فقال: «أيها الناس، هل سمعتم ما سمعت» ؟ فقالوا: نعم، قال: «أما والذى نفس محمد بيده الجزء: 17 ¦ الصفحة: 59 ما علمت بشىء حتى سمعت ما سمعتم، إنه يجير على المسلمين أدناهم» . ثم انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودخل على ابنته وقال: «أى بنيّة، أكرمى مثواه، ولا يخلص إليك فإنك لا تحلّين له» . قال: وبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى السريّة الذين أصابوا مال أبى العاص فقال لهم: «إن هذا الرجل منّا حيث قد علمتم، وقد أصبتم له مالا، فإن تحسنوا وتردّوا عليه الذى له فإنّا نحب ذلك، وإن أبيتم فهو فىء الله الذى أفاء عليكم، فأنتم أحقّ به» . قالوا: يا رسول الله، بل نردّه عليه، فردّوه عليه، حتى إنّ الرجل ليأتى بالدّلو، ويأتى الرجل بالشّتّة «1» والإداوة «2» ، حتى إنّ أحدهم ليأتى بالشّظاظ «3» ، حتى ردّوا عليه ماله بأسره لم يفقد منه شيئا، ثم احتمل إلى مكة، فأدّى إلى كلّ ذى مال من قريش ماله، ثم قال: يا معشر قريش، هل بقى لأحد منكم عندى مال لم يأخذه؟ قالوا: لا، فجزاك الله خيرا، فقد وجدناك وفيّا كريما؛ قال: فإنى أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، ما منعنى من الإسلام عنده إلا تخوّف أن يظنّوا أنى إنما أردت أن آكل أموالكم، فلما أدّاها الله إليكم وفرغت منها أسلمت. ثم خرج حتى قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فردّ عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زينب على النكاح «4» الأوّل، ولم يحدث شيئا. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 60 نرجع إلى تتمة أخبار أسارى بدر: ذكر خبر الوليد بن الوليد بن المغيرة قد تقدّم أنه كان ممن أسر يوم بدر، وكان الذى أسره عبد الله بن جحش ويقال: أسره سليط بن قيس المازنىّ الأنصارىّ، فقدم فى فدائه أخواه: خالد وهشام، فتمنّع عبد الله بن جحش حتى افتكّاه بأربعة آلاف درهم. فجعل خالد يريد ألا يبلغ ذلك، فقال هشام لخالد: إنه ليس بابن أمّك، والله لو أبى فيه إلا كذا وكذا لفعلت. ويقال: إن النبى صلّى الله عليه وسلّم قال لعبد الله بن جحش: لا تقبل فى فدائه إلا شكّة أبيه الوليد- وكانت درعا فضفاضة وسيفا وبيضة- فأبى ذلك خالد وأطاع هشام لأنه أخوه لأبويه، فأقيمت الشكة بمائة دينار، فطاعا بها وسلّماها إلى عبد الله، فلما افتدى أسلم، فقيل له: هلّا أسلمت قبل أن تفتدى وأنت مع المسلمين؟ قال: كرهت أن تظنوا أنى جزعت من الإسار. فحبسوه بمكة، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعو له فيمن دعا له من مستضعفى المؤمنين، ثم أفلت ولحق برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشهد عمرة القضيّة «1» . حكاه ابن عبد البرّ. ذكر من منّ عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أسارى بدر وأطلقه بغير فداء قال ابن إسحاق: وكان ممن منّ عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بغير فداء: أبو العاص بن الربيع هذا الذى تقدّم خبره. والمطّلب بن حنطب «2» بن الحارث الجزء: 17 ¦ الصفحة: 61 ابن عبيد المخزومىّ، وكان لبعض بنى الحارث بن الخزرج، فترك فى أيديهم حتى خلّوا سبيله، فلحق بقومه، وصيفىّ بن أبى رفاعة المخزومىّ، ترك فى يد أصحابه فلم يأت أحد فى فدائه، فأخذوا عليه العهد ليبعثنّ إليهم بفدائه وخلّوا سبيله، فلم يف لهم بشىء، وأبو عزّة عمرو بن عبد الله بن عثمان بن وهب بن حذافة بن جمح كان محتاجا ذا بنات فقال: يا رسول الله، لقد عرفت مالى من مال، وإنى لذو حاجة وذو عيال، فامنن علىّ، فمنّ عليه وأخذ عليه ألّا يظاهر عليه أحدا؛ فقال أبو عزّة فى ذلك: من مبلغ عنّى الرسول محمدا ... فإنك حقّ والمليك حميد وأنت امرؤ تدعو إلى الحقّ والهدى ... عليك من الله العظيم شهيد وأنت امرؤ بوّئت فينا مباءة ... لها درجات سهلة وصعود «1» فإنك من حاربته لمحارب ... شقىّ ومن سالمته لسعيد ولكن إذا ذكّرت بدرا وأهله ... تأوّب ما بى حسرة وقعود «2» ومنهم وهب بن عمير الجمحى، ولإطلاقه سبب نذكره. ذكر خبر عمير بن وهب وإسلامه، وإطلاق ولده وهب بن عمير. قال ابن إسحق فى سبب إطلاق وهب بن عمير: إنّ أباه عمير بن وهب بن خلف بن حذافة بن جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب جلس مع صفوان بن أميّة فى الحجر بعد مصاب أهل بدر بيسير- قال: وكان عمير بن وهب شيطانا من شياطين قريش، ممن كان يؤذى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، ويلقون منه عناء وهو بمكة- فذكر أصحاب القليب «3» ومصابهم. فقال صفوان: والله إن الجزء: 17 ¦ الصفحة: 62 فى العيش بعدهم خير، فقال عمير: صدقت والله، أما والله لولا دين علىّ ليس له [عندى «1» ] قضاء، وعيال أخشى عليهم الضّيعة «2» بعدى، لركبت إلى محمد حتى أقتله، فإن لى قبلهم علة؛ ابنى أسير فى أيديهم. فاغتنمها صفوان فقال: علىّ دينك، أنا أقصيه عنك، وعيالك مع عيالى أواسيهم ما بقوا لا يسعنى «3» شىء ويعجز عنهم؛ قال له عمير: فاكتم علىّ شأنى وشأنك؛ قال: أفعل. ثم أمر عمير بسيفه فشحذ له، ثم سمّ، ثم انطلق حتى قدم المدينة، فبينما عمر بن الخطاب رضى الله عنه فى نفر من المسلمين يتحدّثون عن يوم بدر، ويذكرون ما أكرمهم الله به، إذ نظر إلى عمير حين أناخ على باب المسجد متوشّحا السيف، فقال عمر: هذا الكلب عدوّ الله عمير بن وهب ما جاء إلا لشرّ، وهذا الذى حرّش «4» بيننا وحرزنا «5» للقوم يوم بدر. ثم دخل عمر على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا نبىّ الله، هذا عدوّ الله عمير بن وهب قد جاء متوشّحا بسيفه، قال: فأدخله علىّ، فأقبل عمر حتى أخذ بحمالة سيفه فى عنقه فلبّبه بها، وقال لرجال ممن كانوا معه من الأنصار: ادخلوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاجلسوا عنده، واحذروا عليه هذا الخبيث، فإنه غير مأمون؛ ثم دخل به على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فلما رآه قال: أرسله يا عمر، ادن يا عمير؛ فدنا ثم قال: انعموا صباحا- وكانت تحيّة أهل الجاهلية بينهم- فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قد أكرمنا الله بتحيّة خير من تحيّتك يا عمير، بالسلام تحيّة أهل الجنة؛ قال: أما والله إن كنت يا محمد بها لحديث عهد؛ قال: فما جاء بك يا عمير؟ قال: جئت لهذا الأسير الجزء: 17 ¦ الصفحة: 63 الذى فى أيديكم فأحسنوا فيه؛ قال: فما بال السيف فى عنقك؟ قال: قبحها الله من سيوف! وهل أغنت شيئا! قال: اصدقنى، ما الذى جئت له؟ قال: ما جئت إلا لذلك؛ قال: بل قعدت أنت وصفوان بن أميّة فى الحجر فذكرتما أصحاب القليب من قريش ثم قلت: لولا دين علىّ وعيال عندى لخرجت حتى أقتل محمدا، فتحمّل لك صفوان بدينك وعيالك على أن تقتلنى له، والله حائل بينك وبين ذلك. قال عمير: أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول الله نكذّبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء، وما ينزل عليك من الوحى، وهذا أمر لم يحضره «1» إلا أنا وصفوان فو الله إنى لأعلم ما أتاك به إلا الله، فالحمد لله الذى هدانى للإسلام، وساقنى هذا المساق، ثم شهد شهادة الحقّ. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فقّهوا أخاكم فى دينه، وأقرئوه القرآن، وأطلقوا له أسيره» ، ففعلوا. ثم قال: يا رسول الله، إنى كنت جاهدا على إطفاء نور الله، شديد الأذى لمن كان على دين الله، وأنا أحبّ أن تأذن لى فأقدم مكة، فأدعوهم إلى الله، وإلى رسوله، وإلى الإسلام، لعل الله يهديهم، وإلا آذيتهم فى دينهم كما كنت أوذى أصحابك فى دينهم. قال: فأذن له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلحق بمكة. وكان صفوان بن أمية يقول لقريش: أبشروا بوقعة تأتيكم الآن فى أيام، تنسيكم وقعة بدر، وكان يسأل عنه الرّكبان حتى قدم راكب فأخبره بإسلامه، فحلف ألا يكلمه أبدا، ولا ينفعه بنفع. فلما قدم عمير مكة أقام بها يدعو إلى الإسلام، ويؤذى من خالفه أذّى شديدا، فأسلم على يديه ناس كثير. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 64 قال ابن إسحاق: وعمير بن وهب أو الحارث بن هشام، قد ذكر أن أحدهما [الذى «1» ] رأى إبليس حين نكص على عقبيه يوم بدر، كما أخبر الله تعالى عنه فى قوله: (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) وكان إبليس قد تشبّه لقريش بسراقة بن مالك بن جعشم وقال: أنا جار لكم من بنى بكر بن عبد مناة بن كنانة، كما قدّمنا ذكر ذلك، قال: وكانوا يرونه فى كل منزل فى صورة سراقة لا ينكرونه. فلما التقى الجمعان يوم بدر ورأى إبليس الملائكة نكص على عقبيه وقال لهم ما قال. وقد أخذت هذه الغزوة حقّها من البسط والإطالة وإن كان ذلك على سبيل الاختصار، فلنذكر غيرها من الغزوات والسّرايا. والله المستعان. ذكر سرية عمير بن عدىّ بن خرشة الخطمىّ إلى عصماء بنت مروان من بنى أميّة بن زيد «2» قال محمد بن سعد: كانت سريّة عمير لخمس ليال بقين من شهر رمضان على رأس تسعة عشر شهرا من مهاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: وكانت عصماء عند يزيد بن زيد بن حصن «3» الخطمى، وكانت تعيب الإسلام وتؤذى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم وتحرّض عليه. وتقول الشعر، فجاءها عمير بن عدىّ فى جوف الليل حتى دخل عليها بيتها وحولها نفر من ولدها نيام، منهم من ترضعه فى صدرها، الجزء: 17 ¦ الصفحة: 65 فجسّها بيده- وكان ضرير البصر- ونحّى الصّبىّ عنها، ووضع سيفه على صدرها حتى أنفذه من ظهرها، ثم صلّى الصبح مع النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قتلت بنت مروان؟ قال: نعم، فهل علىّ فى ذلك شىء؟ قال: لا ينتطح فيها عنزان «1» . قال محمد بن إسحاق: فرجع عمير بن عدىّ إلى قومه، وبنو خطمة يومئذ كثير موجهم «2» في شأن ابنه مروان، ولها يومئذ بنون خمسة رجال، فقال: يا بنى خطمة، أنا قتلت ابنة مروان، فكيدونى جميعا ثم لا تنظرون «3» . قال: فذلك اليوم أوّل ما عزّ الإسلام فى دار بنى خطمة، وكان من أسلم منهم يستخفى بإسلامه، وعمير هو أوّل من أسلم من بنى خطمة. قال: وأسلم يوم قتلها رجال من بنى خطمة لما رأوا من عزّ الإسلام. ذكر سريّة سالم بن عمير العمرىّ إلى أبى عفك اليهودىّ قال ابن سعد: كانت سريّة سالم فى شوال على رأس عشرين شهرا من الهجرة، وكان أبو عفك «4» من بنى عمرو بن عوف شيخا كبيرا قد بلغ عشرين ومائة سنة، وكان «5» يحرّض على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويقول الشعر، فقال سالم الجزء: 17 ¦ الصفحة: 66 ابن عمير- وهو أحد البكّائين «1» وقد شهد بدرا-: علىّ نذر أن أقتل أبا عفك أو أموت دونه؛ فجاء وقد نام أبو عفك بالفناء فى ليلة صائفة، فوضع السيف على كبده، ثم اعتمد عليه حتى خشّ فى الفراش، فصاح [عدوّ الله «2» ] ، فثار إليه ناس ممن هم على قوله، فأدخلوه منزله وقبروه. ذكر غزوة بنى قينقاع (وهى بضم النون وقيل بكسرها «3» ) غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى يوم السبت النصف من شوّال على رأس عشرين شهرا من مهاجره. قال ابن سعد: وكانوا حلفاء عبد الله بن أبىّ بن سلول، وكانوا أشجع يهود، وكانوا صاغة، فوادعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما كانت وقعة بدر أظهروا البغى والحسد، ونبذوا العهد والمدّة، فأنزل الله تعالى على نبيّه صلّى الله عليه وسلّم: (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) «4» . وقال أبو عبد الله محمد بن إسحاق فى سبب غزوة بنى قينقاع: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جمعهم بسوق بنى قينقاع «5» ثم قال: يا معشر يهود، احذروا من الله الجزء: 17 ¦ الصفحة: 67 مثل ما نزل بقريش من النّقمة، وأسلموا، فإنكم قد عرفتم أنّى نبىّ مرسل، تجدون ذلك فى كتابكم وعهد الله إليكم؛ قالوا: يا محمد، لا يغرّنّك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة، إنّا والله لئن حاربناك لتعلمنّ أنّا نحن الناس. فأنزل الله تعالى فيهم: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ. قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ «1» ) . حكاه ابن إسحاق بسند يرفعه إلى ابن عباس. وقال ابن هشام فى سبب هذه الغزاة: إنّ امرأة من العرب حلّت بجلب «2» لها، فباعته بسوق بنى قينقاع، وجلست إلى صائغ بها، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوءتها، فضحكوا منها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهوديا، وشدّت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فأغضبهم، فوقع الشر بينهم وبين بنى قينقاع. عدنا إلى مساق حديث ابن سعد؛ قال: فسار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليهم، وحمل لواءه حمزة بن عبد المطلب، وكان أبيض، واستخلف على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر، ثم سار إليهم فحاصرهم خمس عشرة ليلة إلى هلال ذى القعدة، وكانوا أوّل من غدر من اليهود، وحاربوا وتحصّنوا فى حصنهم، فحاصرهم أشدّ الحصار، حتى قذف الله فى قلوبهم الرعب، ونزلوا على حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأن لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أموالهم، وأن لهم النساء والذّرّيّة، فأمر الجزء: 17 ¦ الصفحة: 68 بهم فكتفوا، واستعمل على كتافهم المنذر بن قدامة السّلمى. فكلّم عبد الله بن أبىّ فيهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وألحّ عليه، فقال: خذهم، لعنهم الله «1» ؛ وتركهم من القتل، وأمر بهم أن يجلوا من المدينة، وولّى إخراجهم منها عبادة بن الصامت، فلحقوا بأذرعات «2» ، فما كان أقلّ بقاءهم فيها. وقال ابن إسحاق فى خبر عبد الله بن أبىّ بن سلول: إنه قام إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين أمكنه الله من بنى قينقاع، فقال: يا محمد، أحسن فى موالىّ. وكانوا حلفاء الخزرج، فأبطأ عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا محمد، أحسن فى موالىّ. قال: فأعرض عنه. قال: فأدخل يده فى جيب درع «3» النبى صلّى الله عليه وسلّم، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أرسلنى، وغضب حتى ظهر ذلك فى وجهه، ثم قال: ويحك! أرسلنى؛ قال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن فى موالىّ، أربعمائة حاسر «4» وثلاثمائة دارع «5» ، قد منعونى من الأحمر والأسود، تحصدهم فى غداة واحدة، إنى والله امرؤ أخشى الدوائر. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هم لك. وحكى أيضا قال: كان لبنى قينقاع من عبادة بن الصامت من الحلف مثل الذى لهم من عبد الله بن أبىّ، فمشى عبادة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتبرّأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم، وقال: أتولّى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم. فأنزل الله تعالى فيه وفى عبد الله بن أبىّ: الجزء: 17 ¦ الصفحة: 69 (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ «1» ) إلى قوله: (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ «2» ) وذلك لعبادة بن الصامت. قال محمد بن سعد: وأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [من سلاحهم «3» ] ثلاث قسىّ، منها: الكتوم، كسرت بأحد، والرّوحاء، والبيضاء، وأخذ درعين: الصّغديّة، وأخرى فضّة؛ وأخذ ثلاثة أسياف: سيف قلعىّ «4» ، وسيف يقال له: بتّار؛ وسيف آخر؛ وثلاثة أرماح، ووجد فى حصنهم سلاحا كثيرا وآلة الصّياغة، فأخذ صلّى الله عليه وسلّم صفيّة «5» والخمس، وفضّ «6» أربعة أخماس على أصحابه، وكان الذى تولى قبض أموالهم محمد بن مسلمة. ذكر غزوة السّويق قال محمد بن سعد: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المدينة لخمس خلون من ذى الحجة على رأس اثنين وعشرين شهرا من مهاجره، واستخلف على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر، وذلك أن أبا سفيان بن حرب لما رجع المشركون من بدر إلى مكة حرّم الدّهن حتى يثأر من محمد وأصحابه. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 70 قال ابن إسحاق: نذر ألا يمسّ رأسه ماء من جنابة «1» حتى يغزو محمدا صلّى الله عليه وسلّم. قال ابن سعد: فخرج فى مائتى راكب، وقيل: فى أربعين راكبا، فمرّ بالعريض،- بينه وبين المدينة نحو من ثلاثة أميال- فقتل رجلا من الأنصار، وأجيرا له، وحرّق أبياتا هناك وتبنا، ورأى أن يمينه قد حلّت، ثم ولّى هاربا، وبلغ ذلك النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فخرج فى مائتى رجل من المهاجرين والأنصار فى أثرهم، وجعل أبو سفيان [وأصحابه «2» ] يتخفّفون للهرب «3» فيلقون جرّب السويق «4» وهى عامّة أزوادهم، فأخذها المسلمون؛ فسمّيت غزوة السويق، ولم يلحقهم وانصرف. وكانت غيبته عن المدينة خمسة أيام. قال محمد بن إسحاق: بلغ قرقرة الكدر «5» ثم انصرف راجعا، فقال المسلمون حين رجع بهم: يا رسول الله، أتطمع لنا أن تكون غزوة؟ قال: نعم. ذكر غزوة قرقرة الكدر ويقال قرارة الكدر وهى غزوة بنى سليم غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للنّصف من المحرّم على رأس ثلاثة وعشرين شهرا من مهاجره، وهى ناحية معدن بنى سليم، وبينه وبين المدينة ثمانية برد، واستخلف على المدينة عبد الله بن أمّ مكتوم، وحمل لواءه علىّ بن أبى طالب، وكان الجزء: 17 ¦ الصفحة: 71 قد بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن بهذا الموضع جمعا من بنى سليم وغطفان، فسار إليهم فلم يجد فى المحالّ أحدا، ووجد رعاء» منهم غلام يقال له: يسار، فانصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد ظفر بالنعم فانحدر به إلى المدينة، فاقتسموا غنائمهم بصرار، على ثلاثة أميال من المدينة، وكانت النّعم خمسمائة بعير، فأخرج خمسه وقسم أربعة أخماس على المسلمين، فأصاب كلّ رجل منهم بعيران، وصار يسار فى سهم النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فأعتقه حين رآه يصلى. وكانت غيبة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن المدينة خمس عشرة ليلة. ذكر مقتل كعب بن الأشرف اليهودىّ وخبر سريّته قال أبو عبد الله محمد بن إسحاق وأبو محمد عبد الملك بن هشام ومحمد بن سعد- دخل حديث بعضهم فى حديث بعض-: كانت سريّة قتل كعب بن الأشرف لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأوّل على رأس خمسة وعشرين شهرا من هجرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وذلك أنه كان رجلا شاعرا يهجو النبىّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه ويحرّض عليهم ويؤذيهم، وكان لما بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زيد بن حارثة إلى أهل السافلة وعبد الله بن رواحة إلى أهل العالية بشير بن إلى من بالمدينة من المسلمين بخبر بدر، فقال كعب بن الأشرف- وكان رجلا من طيئ، ثم أحد بنى نبهان، وكانت أمّه من بنى النّضير «2» -: أحقّ هذا؟ أترون محمدا قتل هؤلاء الذين يسمى هذان الرجلان؟ فهؤلاء أشراف العرب الجزء: 17 ¦ الصفحة: 72 وملوك الناس، والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها. فلما تيقّن الخبر خرج حتى قدم مكة فنزل على المطّلب بن أبى وداعة السّهمى، وجعل يحرّض على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وينشد الأشعار «1» ويبكى أصحاب القليب من قريش. ثم رجع إلى المدينة فشبّب «2» بنساء المسلمين حتى آذاهم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم اكفنى ابن الأشرف بما شئت» ؛ وقال: «من لى بابن الأشرف فقد آذانى» ؟ فقال محمد بن مسلمة، أخو بنى عبد الأشهل: أنا لك به يا رسول الله، أنا أقتله؛ قال: «فافعل إن قدرت «3» على ذلك» . فرجع [محمد بن «4» ] مسلمة فمكث ثلاثا لا يأكل ولا يشرب إلا ما يمسك رمقه؛ فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال له: «لم تركت الطعام والشّراب» ؟ فقال: يا رسول [الله «5» ] ؛ قلت لك قولا لا أدرى هل أفى لك به أولا؟ قال: «إنما عليك الجهد» قال: يا رسول الله؛ لا بدّ لنا من أن نقول «6» ، قال: «قولوا ما بدا لكم، فأنتم فى حلّ من ذلك» . فاجتمع على قتله محمد بن مسلمة، وأبو نائلة سلكان بن سلامة بن وقش- وكان أخا كعب من الجزء: 17 ¦ الصفحة: 73 الرّضاعة- وعبّاد بن بشر بن وقش، والحارث بن أوس بن معاذ، وأبو عبس بن جبر «1» ، أخو بنى حارثة، فقدّموا إليه سلكان بن سلامة، فجاءه فتحدّث معه ساعة، وتناشدا شعرا، ثم قال أبو نائلة سلكان: ويحك يابن الأشرف! إنى قد جئتك لحاجة أريد ذكرها لك، فاكتم عنى؛ قال: أفعل، قال: قد كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء من البلاء، عادتنا العرب ورمتنا «2» عن قوس واحدة، وقطعت عنا السّبل حتى ضاع العيال، وجهدت الأنفس، وأصبحنا قد جهدنا وجهد عيالنا؛ فقال كعب: أنا ابن الأشرف، والله لقد كنت أخبرك يابن سلامة أن الأمر سيصير إلى ما أقول؛ فقال له سلكان: إنّا نريد التّنحى منه، ومعى رجال من قومى على مثل رأيى، وقد أردت أن آتيك بهم، فنبتاع منك طعاما وتمرا، ونرهنك مايكون لك فيه ثقة ووفاء؛ فقال أترهنونى نساءكم؟ قال: كيف نرهنك نساءنا وأنت أشبّ أهل يثرب وأعطرهم؛ فقال: هذا رهينة وسق «3» ، وهذا رهينة وسقين، ولكنّا نرهنك سلاحنا وقد علمت حاجتنا إلى السلاح؛ فقال: نعم إن فى الحلقة «4» لوفاء، وإنما أراد سلكان ألا ينكر السلاح إذا جاءوا بها، ثم رجع سلكان إلى أصحابه، وأخبرهم الخبر وأمرهم أن يأخذوا السلاح، ثم ينطلقوا فيجتمعوا إليه عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ففعلوا. ومشى معهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى بقيع «5» الغرقد، ثم وجههم وقال: انطلقوا على اسم الله، اللهم أعنهم. ورجع صلّى الله عليه وسلّم إلى بيته، وتوجّهوا، الجزء: 17 ¦ الصفحة: 74 وكانت ليلة مقمرة، حتى انتهوا إلى حصنه، فهتف به أبو نائلة، وكان ابن الأشرف حديث عهد بعرس، فوثب فى ملحفته، فأخذت امرأته بناحيتها وقالت: إنك امرؤ محارب، وإن أصحاب الحرب لا ينزلون فى هذه الساعة؛ قال: إنّه أبو نائلة، لو وجدنى نائما ما أيقظنى؛ فقالت: والله إنى لأعرف فى صوته الشرّ، فقال لها: لو يدعى الفتى لطعنة لأجاب. وفى حديث البخارىّ من رواية سفيان «1» عن عمرو عن جابر بن عبد الله قالت: أسمع صوتا كأنه يقطر منه الدم؛ فقال: إنما هو أخى محمد بن مسلمة، ورضيعى أبو نائلة، إن الكريم لو دعى إلى طعنة بليل لأجاب؛ قالوا: ونزل إليهم فتحدّثوا معه ساعة ثم قالوا: هل لك يابن الأشرف أن نتماشى إلى شعب «2» العجوز فنتحدّث به بقيّة ليلتنا. فقال: إن شئتم. فخرجوا يتماشون، فمشوا ساعة، ثم وضع أبو نائلة [يده «3» ] فى فود رأس ابن الأشرف، ثم شمّ يده فقال: ما رأيت كالليلة طيبا أعطر قطّ من هذا! فقال: هذا عطر أمّ فلان، يريد امرأته، ثم مشى قليلا وعاد لمثلها حتى اطمأنّ، ثم عاد لمثلها، فأخذ بفود رأسه وقال: اضربوا عدوّ الله. فضربوه، فاختلفت عليه أسيافهم فلم تغن شيئا. قال محمد بن مسلمة: فذكرت مغولا «4» في سيفى حين رأيت أسيافنا لم تغن، فأخذته وقد صاح عدوّ الله صيحة لم يبق حولنا حصن إلا أوقدت عليه نار، فوضعته فى ثنّته «5» ، ثم تحاملت عليه حتى انتهى إلى عانته «6» . ثم حزّوا رأسه وحملوه معهم؛ وأصيب الحارث بن أوس، فجرح فى رأسه أو رجله، أصابه بعض أسياف أصحابه الجزء: 17 ¦ الصفحة: 75 قال محمد بن مسلمة: فخرجنا حتى سلكنا على بنى أمية بن زيد، ثم على بنى قريظة ثم على بعاث «1» حتى استندنا «2» في حرّة «3» العريض، وقد أبطأ علينا الحارث، ونزفه «4» الدم فوقفنا له ساعة حتى أتانا فاحتملناه وجئنا به. قال ابن سعد: فلما بلغوا بقيع الغرقد كبّروا، وقد قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تلك الليلة يصلى، فلما سمع تكبيرهم كبّر، وعرف أن قد قتلوه، ثم انتهوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أفلحت الوجوه» قالوا: وجهك «5» يا رسول الله؛ ورموا برأسه بين يديه، فحمد الله على قتله. قال ابن إسحاق، قال محمد بن مسلمة: وتفل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على جرح صاحبنا فبرأ، فرجعنا إلى أهلينا، فأصبحنا وقد خافت يهود لوقعتنا بعدوّ الله، فليس بها يهودىّ إلا وهو خائف على نفسه. وفى مقتل كعب بن الأشرف يقول عبّاد بن بشر: صرخت به فلم يعرض لصوتى ... وأوفى طالعا من رأس جدر «6» فعدت له فقال من المنادى ... فقلت أخوك عبّاد بن بشر وهذى درعنا رهنا فخذها ... لشهر إن وفى أو نصف شهر الجزء: 17 ¦ الصفحة: 76 فقال معاشر سغبوا وجاعوا ... وما عدموا الغنى من غير فقر فأقبل نحونا يهوى سريعا ... وقال: أما «1» لقد جئتم لأمر وفى أيماننا بيض حداد ... مجرّبة بها الكفار نفرى «2» فعانقه ابن مسلمة المردّى ... به الكفار كالليث الهزبر وشدّ بسيفه صلتا عليه ... فقطّره أبو عبس بن جبر «3» فكان الله سادسنا فأبنا ... بأنعم نعمة وأعزّ نصر وجاء برأسه نفر كرام ... هم ناهيك «4» من صدق وبرّ ذكر غزوة غطفان إلى نجد (وهى غزوة «5» ذى أمر؛ ناحية النّخيل، وقصة دعثور بن الحارث «6» غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شهر ربيع الأوّل «7» على رأس خمسة وعشرين شهرا من مهاجره، وذلك أنه بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن جمعا الجزء: 17 ¦ الصفحة: 77 من بنى ثعلبة ومحارب بذى أمر تجمّعوا يريدون أن يصيبوا من أطراف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. جمعهم رجل منهم يقال له: دعثور بن الحارث من بنى محارب، فندب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الناس، وخرج لاثنتى عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأوّل فى أربعمائة وخمسين رجلا، ومعهم أفراس، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان- رضى الله عنه- فأصابوا رجلا منهم بذى» القصّة يقال له جبار من بنى ثعلبة، فأدخل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره من خبرهم «2» وقال: لن يلاقوك، لو سمعوا بمسيرك هربوا فى رءوس الجبال، وأنا سائر معك. فدعاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الإسلام، فأسلم وضمّه إلى بلال، ولم يلاق صلّى الله عليه وسلّم أحدا. قال الشيخ الإمام أبو بكر أحمد البيهقىّ، رحمه الله: وهربت منه الأعراب فوق ذروة من الجبال، ونزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذا امر وعسكربه فأصابهم مطر كثير، فذهب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لحاجته، فأصابه ذلك المطر فبلّ ثوبه، وقد جعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وادى ذى أمر بينه وبين أصحابه، ثم نزع ثيابه فنشرها لتجفّ، وألقاها على شجرة ثم اضطجع تحتها، والأعراب ينظرون إلى كل ما يفعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فقالت الأعراب لدعثور، وكان سيّدها وأشجعها: قد أمكنك محمد، وقد انفرد من أصحابه حيث إن غوّث «3» بأصحابه لم يغث حتى تقتله؛ فاختار سيفا من سيوفهم صارما، ثم أقبل مشتملا على السيف حتى قام على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالسيف مشهورا، فقال: يا محمد، من يمنعك منّى اليوم؟ قال: الله. ودفع جبريل فى صدره فوقع الجزء: 17 ¦ الصفحة: 78 السيف من يده، فأخذه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقام على رأسه، فقال: من يمنعك منى؟ قال: لا أحد، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، لا أكثر عليك جمعا أبدا، فأعطاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سيفه، ثم أدبر، ثم أقبل بوجهه ثم قال: والله لأنت خير منى. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أنا أحق بذلك منك. فأتى قومه، فقالوا: أين ما كنت تقول وقد أمكنك والسيف فى يدك؟ قال: قد كان والله ذلك رأيى، ولكن نظرت إلى رجل أبيض «1» طويل فدفع فى صدرى فوقعت لظهرى، فعرفت أنه ملك، وشهدت أن محمدا رسول الله، والله لا أكثر عليه؛ وجعل يدعو قومه إلى الإسلام ونزلت هذه الآية: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ «2» ) الآية. ثم أقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة، ولم يلق كيدا، وكانت غيبته إحدى عشرة ليلة. ذكر غزوة بنى سليم بجران «3» غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لستّ خلون من جمادى الأولى على رأس سبعة وعشرين شهرا من مهاجره- وبحران من ناحية الفرع «4» ، وبين الفرع وبين المدينة ثمانية برد- وذلك أنه بلغه أن بها جمعا كثيرا من بنى سليم، فخرج فى ثلاثمائة رجل من أصحابه، واستخلف على المدينة ابن أمّ مكتوم وأغدّ «5» السير حتى ورد بحران فوجدهم قد تفرقوا فى مياههم، فرجع ولم يلق كيدا، وكانت غيبته عشر ليال. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 79 ذكر سريّة زيد بن حارثة إلى القردة (بالقاف، وضبطه ابن الفرات بالفاء وكسر الراء المهملة) بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لهلال جمادى الآخرة، على رأس ثمانية وعشرين شهرا من الهجرة، وهى أوّل سريّة خرج زيد فيها أميرا يعترض لعير قريش فيها صفوان بن أميّة، وحويطب بن عبد العزّى، وعبد الله بن أبى ربيعة، ومعه مال كثير، وكان دليلهم فرات بن حيّان العجلىّ، فخرج بهم على ذات عرق، طريق العراق. قال ابن إسحاق: وفيها أبو سفيان بن حرب، وكان من حديثها أن قريشا خافوا طريقهم الذى كانوا يسلكون إلى الشام حين «1» وقعة بدر فكانوا يسلكون طريق العراق، فخرج منهم تجّار، وفيهم أبو سفيان بن حرب معه فضّة كثيرة، وهى أعظم تجارتهم. قال ابن سعد: فبلغ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم ذلك، فوجّه زيد بن حارثة فى مائة راكب، فاعترضوا لها، فأصابوا العير وأفلت أعيان القوم، وقدموا بالعير على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فخمسّها، فبلغ الخمس قيمة عشرين ألف درهم، وقسم ما بقى بين «2» أهل السريّة، وأسر فرات بن حيّان، فأسلم، فترك من القتل. والقردة: من أرض نجد بين الرّبذة والغمرة. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 80 ذكر غزوة أحد قال محمد بن سعد فى طبقاته: كانت غزوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحدا يوم السبت لسبع خلون من شوّال، على رأس اثنين وثلاثين شهرا من مهاجره صلّى الله عليه وسلّم. وقال ابن إسحاق: كانت يوم السبت للنصف من شوّال. وذلك أن قريشا لما أصيب من أصيب منهم يوم بدر، ورجع من نجا منهم إلى مكة، وجدوا العير التى قدم بها أبو سفيان بن حرب موقوفة فى دار النّدوة، فمشت أشراف قريش إلى أبى سفيان، فقالوا: نحن طيّبوا أنفس أن تجهّزوا بربح هذه «1» العير جيشا إلى محمد؛ فقال أبو سفيان: وأنا أوّل من أجاب إلى ذلك، وبنو عبد مناف معى؛ فباعوها فكانت ألف بعير، والمال خمسين ألف دينار، فسلّم إلى أهل العير رءوس أموالهم وأخرجوا أرباحهم، وكانوا يربحون فى تجارتهم للدينار دينارا. قال ابن سعد وغيره: وفيهم نزل قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ «2» ) وبعثت قريش رسلهم إلى العرب يدعونهم «3» إلى نصرهم فأوعبوا «4» وألبوا «5» . قال ابن سعد: وكتب العبّاس بن عبد المطلب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بخبر قريش، فأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سعد بن الرّبيع بكتاب الجزء: 17 ¦ الصفحة: 81 العباس. وأرجف «1» المنافقون واليهود بالمدينة، وخرجت قريش من مكة بحدّها «2» وجدّها وأحابيشها «3» ، ومن تابعها من كنانة وأهل تهامة، وكان عددهم ثلاثة آلاف رجل، فيهم سبعمائة دارع، ومعهم مائتا فرس «4» وثلاثة آلاف بعير، وخرجوا معهم بالظّعن «5» التماس الحفيظة «6» ، وألا يفرّوا، وكان معهم خمس عشرة امرأة، فخرج أبو سفيان ابن حرب- وهو قائد الناس- «7» معهم بهند بنت عتبة، وخرج عكرمة بن أبى جهل بأم حكيم بنت الحارث بن هشام بن المغيرة، وخرج الحارث بن هشام بفاطمة بنت الوليد بن المغيرة، وخرج صفوان بن أميّة ببرّة «8» بنت مسعود بن عمرو ابن عمير الثّقفيّة، وهى أم عبد الله بن صفوان، وخرج عمرو بن العاص بريطة بنت منبّه بن الحجّاج، وهى أم عبد الله بن عمرو، وخرج طلحة بن أبى طلحة- عبد الله بن عبد العزّى بن عثمان بن عبد الدار- بسلافة بنت سعد بن شهيد «9» الأنصاريّة، وخرجت خناس بنت مالك بن المضرّب «10» الجزء: 17 ¦ الصفحة: 82 مع ابنها «1» أبى عزيز بن عمير، وخرجت عمرة بنت علقمة إحدى «2» نساء بنى الحارث ابن عبد مناة. قال محمد بن إسحاق: ودعا جبير بن مطعم غلاما له حبشيّا، يقال له: وحشىّ، يقذف بحربة له قذف الحبشة، قلّما يخطئ بها، فقال له: اخرج مع الناس، فإن أنت قتلت حمزة عمّ محمد بعمىّ طعيمة بن عدى فأنت عتيق. فكانت هند بنت عتبة كلّما مرّت بوحشىّ أو مر بها، قالت: ويها «3» أبا دسمة؛ اشف واستشف، وكان وحشىّ يكنى بأبى دسمة. قال ابن سعد: وشاع خبرهم ومسيرهم فى الناس حتى نزلوا ذا الحليفة، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنسا ومؤنسا ابنى فضالة، ليلة الخميس لخمس مضين من شوّال عينين له، فأتيا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بخبرهم، وأنهم قد خلّوا إبلهم وخيلهم فى الزرع الذى بالعريض «4» حتى تركوه ليس به خضراء، ثم بعث الحباب ابن المنذر [بن الجموح فدخل فيهم «5» ] فخزرهم، وجاءه بعلمهم، وبات سعد بن معاذ وأسيد بن حضير، وسعد بن عبادة، فى عدّة ليلة الجمعة، عليهم السلاح فى المسجد بباب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وحرست المدينة حتى أصبحوا، ورأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تلك الليلة كأنّه فى درع حصينة، وكأنّ سيفه ذا الفقار قد انقصم من عند ظبته، وكأن بقرا تذبح، وكأنه مردف كبشا فأخبر بها أصحابه وأوّلها، فقال: أما الدّرع الحصينة فالمدينة، وأما انقصام سيفى الجزء: 17 ¦ الصفحة: 83 فمصيبة فى نفسى، وأما البقر التى تذبح فقتل فى أصحابى، وأما مردف كبشا، فكبش الكتيبة يقتله [الله «1» ] إن شاء الله: فكان رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ألا يخرج من المدينة لهذه الرؤيا، فأحبّ أن يوافق على «2» رأيه، فاستشار أصحابه فى الخروج، فأشار عبد الله بن أبىّ بن سلول ألا يخرج، وكان ذلك رأى الأكابر من المهاجرين والأنصار، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: امكثوا فى المدينة، واجعلوا النساء والذرارىّ فى الآطام» . فقام فتيان أحداث لم يشهدوا بدرا، فطلبوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الخروج إلى عدوّهم ورغبوا فى الشهادة، وقالوا: اخرج بنا إلى عدوّنا لا يرون أنّا [قد «4» ] جبنّا عنهم وضعفنا. فغلبوا على الأمر، فصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الجمعة بالناس ووعظهم وأمرهم بالجدّ والجهاد «5» ، وأخبرهم أن لهم النصر ما صبروا، وأمرهم بالتّهيؤ لعدوّهم، ففرح الناس بالشخوص، ثم صلّى بالناس العصر، وقد حشدوا، وحضر أهل العوالى «6» ، ثم دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيته ومعه أبو بكر وعمر، فعمّاه وألبساه «7» ، وصفّ «8» الناس له ينتظرون خروجه، فقال لهم سعد ابن معاذ وأسيد بن حضير: استكرهتم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الخروج، والأمر ينزل عليه من السماء، فردّوا الأمر إليه. فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد لبس لأمته «9» ، وأظهر الدرع وحزم وسطها بمنطقة من أدم من حمائل سيفه «10» ، واعتمّ وتقلّد السيف، وألقى التّرس فى ظهره، فندموا جميعا على ما صنعوا، وقالوا: ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما بدا لك. فقال صلّى الله عليه وسلّم: لا ينبغى الجزء: 17 ¦ الصفحة: 84 لنبىّ إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه، فانظروا ما آمركم به فافعلوا وامضوا على اسم الله، فلكم النصر ما صبرتم. ثم دعا بثلاثة أرماح، فعقد ثلاثة ألوية، فدفع لواء المهاجرين إلى على بن أبى طالب، ويقال: إلى مصعب بن عمير، ودفع لواء الأوس إلى أسيد بن حضير، ودفع لواء الخزرج إلى الحباب بن المنذر، ويقال: إلى سعد بن عبادة، واستخلف على المدينة عبد الله بن أمّ مكتوم، ثم ركب فرسه وتنكّب «1» القوس وأخذ قناة بيده، والمسلمون عليهم السلاح قد أظهروا الدروع، فيهم مائة دارع، وخرج السّعدان أمامه يعدوان، سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، كل منهما دارع، والناس عن يمينه وشماله، فمضى حتى إذا كان بالشّيخين «2» - وهما أطمان، كان يهودى «3» ويهودية يقومان عليهما يتحدّثان، فلذلك سميّا بالشيخين، وهما فى طرف المدينة- التفت فنظر إلى كتيبة خشناء «4» لها زجل «5» ، فقال: ما هذه؟ قالوا: حلفاء ابن أبىّ من يهود. فقال صلّى الله عليه وسلّم: لا تستنصروا «6» بأهل الشّرك على أهل الشرك. وعرض من عرض بالشيخين، فردّ من ردّ، وأجاز من أجاز. قال محمد بن إسحاق: أجاز رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ سمرة «7» بن جندب الفزارىّ، ورافع بن خديج أحد بنى حارثة، وهما ابنا خمس عشرة سنة، وكان الجزء: 17 ¦ الصفحة: 85 قد ردّهما، فقيل له: يا رسول الله إن رافعا رام. فأجازه، فقيل له: إن سمرة يصرع رافعا، فأجازه. وردّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسامة بن زيد، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وزيد بن ثابت، والبراء بن عازب، وعمرو بن حزم، وأسيد بن ظهير، ثم أجازهم يوم الخندق، وهم أبناء خمس عشرة سنة. وردّ عرابة ابن أوس وهو الذى يقول فيه الشمّاخ «1» . إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقّاها عرابة باليمين قال ابن سعد: وبات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالشيخين، وكان نازلا فى بنى النّجار، واستعمل على الحرس تلك الليلة محمد بن مسلمة فى خمسين رجلا، يطيفون بالعسكر، وأدلج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى السّحر، ودليله أبو خيثمة «2» ، فانتهى إلى أحد، فخانت الصلاة، وهو يرى المشركين، فأمر بلالا فأذّن وأقام، فصلّى بأصحابه الصبح صفوفا. قال ابن إسحاق: ولما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالشّوط «3» بين المدينة وأحد، انخزل عنه عبد الله بن أبىّ بثلث الناس، وقال: أطاعهم وعصانى، ما ندرى علام نقتل أنفسناها هنا أيها الناس! فرجع بمن اتّبعه من قومه من أهل النّفاق، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام، أخو بنى سلمة، يقول: يا قوم، الجزء: 17 ¦ الصفحة: 86 أذكّركم الله أن تخذلوا «1» قومكم ونبيّكم عند ما حضر عدوّهم؛ قالوا: لو نعلم أنّكم تقاتلون لما أسلمناكم، ولكن لا نرى أنّه يكون قتال. قال: فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف عنهم، قال: أبعدكم الله أعداء الله، فيسغنى الله عنكم نبيّه صلّى الله عليه وسلّم. قال ابن سعد: انخزل عبد الله بن أبىّ بثلمائة، وبقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى سبعمائة ومعه فرسه وفرس لأبى بردة بن نيار. وأقبل يصفّ أصحابه ويسوّى الصّفوف على رجليه، وعليه درعان ومغفر «2» وبيضة، وجعل له ميمنة وميسرة، وجعل أحدا وراء ظهره، واستقبل المدينة؛ وجعل عينين «3» - جبلا- عن يساره، وجعل عليه خمسين من الرّماة، واستعمل عليهم «4» عبد الله بن جبير، وقال: قوموا على مصافّكم هذه «5» فاحموا ظهورنا، لا يأتونا من خلفنا، فإن رأيتمونا قد غنمنا، فلا تشركونا، وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا. وأقبل المشركون، وقد صفّوا صفوفهم، واستعملوا على الميمنة خالد بن الوليد، وعلى الميسرة عكرمة بن أبى جهل، ولهم مجنّبتان «6» مائتا فرس، وجعلوا على الخيل صفوان بن أميّة، ويقال: عمرو بن العاص. وعلى الرّماة عبد الله بن أبى ربيعة، وكانوا مائة رام، ودفعوا اللّواء إلى طلحة بن أبى طلحة- واسم أبى طلحة عبد الله ابن عبد العزّى بن عثمان بن عبد الدار- فسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من الجزء: 17 ¦ الصفحة: 87 يحمل لواء المشركين؟ فقيل: عبد الدار. فقال: نحن أحقّ بالوفاء منهم، أين مصعب ابن عمير؟ قال: هأنذا؛ قال: خذ اللّواء؛ فأخذه مصعب، فتقدّم به بين يدى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال ابن إسحاق: وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من يأخذ هذا السيف بحقّه؟ فقام رجال، فأمسكه عنهم، حتى قام أبو دجانة سماك بن خرشة أخو بنى ساعدة، فقال: وما حقّه يا رسول الله؟ قال: تضرب به فى العدوّ حتى ينحنى؛ قال: أنا آخذه يا رسول الله بحقّه. فأعطاه إيّاه. وكان أبو دجانة إذا أعلم بعصابة له حمراء علم الناس أنه سيقاتل، فلما أخذ السيف من يد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أخرج عصابته تلك فعصب بها رأسه، وجعل يتبختر بين الصّفين. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين رآه: إنها لمشية يبغضها الله ورسوله، إلا فى هذا الموطن. قال ابن هشام: إن الزّبير بن العوّام قال: وجدت «1» في نفسى حين سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم السيف فمنعنيه وأعطاه أبا دجانة، فقلت: والله لأنظرنّ ما يصنع. فاتّبعته، فأخرج عصابة حمراء فعصب بها رأسه. فقالت الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت. وجعل يقول: أنا الذى عاهدنى خليلى ... ونحن بالسّفح لدى النّخيل ألا أقوم الدهر فى الكيّول «2» ... أضرب بسيف الله والرّسول الجزء: 17 ¦ الصفحة: 88 قال الزّبير: فجعل لا يلقى أحدا إلا قتله. وكان فى المشركين رجل لا يدع لنا جريحا إلا ذفّف «1» عليه، فدعوت الله أن يجمع بينهما، فالتقيا، فاختلفا ضربتين، فضرب المشرك أبا دجانة، فاتّقاه بدرقته «2» ، وضربه أبو دجانة فقتله، ثم رأيته قد حمل السيف على مفرق رأس هند بنت عتبة، ثم عدله عنها، قال الزّبير، فقلت: الله ورسوله أعلم. قال أبو دجانة: رأيت إنسانا يحمش «3» الناس حمشا، فصمدت له، فلما حملت عليه السيف ولول، فإذا امرأة، فأكرمت سيف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن أضرب به امرأة. قالوا: وكان أوّل من أنشب الحرب يوم أحد أبو عامر عبد عمرو «4» بن صيفىّ ابن مالك بن النعمان، أحد بنى ضبيعة بن زيد، وكان قد خرج إلى مكة مباعدا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومعه خمسون غلاما من الأوس، وكان بعد قريشا أن لو قد لقى قومه لم يختلف عليه منهم رجلان، فلما التقى الناس كان أول من لقيهم أبو عامر فى الأحابيش وعبدان أهل مكة، فنادى: يا معشر الأوس، أنا أبو عامر. قالوا: فلا أنعم الله بك عينا يا فاسق- وكان فى الجاهلية يسمّى الراهب، فسماه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الفاسق، كما قدمنا من خبره- قال: فلما سمع ردّهم عليه، قال: لقد أصاب قومى بعدى شرّ. ثم قاتلهم قتالا شديدا، ثم راضخهم «5» بالحجارة فراضخوه، حتى ولّى هو وأصحابه هاربين. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 89 قال: وكان أبو سفيان قد قال لأصحاب اللواء من بنى عبد الدار يحرّضهم بذلك على القتال: يا بنى عبد الدّار، إنكم قد وليتم لواء «1» يوم بدر، فأصابنا ما قد رأيتم، وإنما يؤتى الناس من قبل راياتهم، إذا زالت زالوا، فإمّا أن تكفونا لواءنا «2» ، وإمّا أن تخلّوا بيننا وبينه فنكفيكموه؛ فهمّوا به وتواعدوه، وقالوا: نحن نسلم إليك لواءنا؟ ستعلم غدا إذا التقينا كيف نصنع! وذلك أراد أبو سفيان. قال: ولما التقى الناس، ودنا بعضهم من بعض، قامت هند بنت عتبة فى النّسوة اللاتى معها، وأخذن الدّفوف يضربن بها خلف الرجال ويحرّضنهم، فقالت هند فيما تقول: ويها بنى عبد الدار ... ويها حماة الأدبار ضربا بكلّ بتار «3» وقالت أيضا: نحن بنات طارق «4» ... نمشى على النّمارق «5» إن تقبلوا نعانق ... أو تدبروا نفارق فراق غير وامق «6» الجزء: 17 ¦ الصفحة: 90 قال. وكان شعار المسلمين يوم أحد. أمت، أمت. ودنا القوم بعضهم من بعض، والرّماة يرشقون خيل المشركين بالنّبل، فتولّى «1» هوارب، فبرز طلحة ابن أبى طلحة، صاحب لواء المشركين، وقال: من يبارز؟ فبرز له على بن أبى طالب، فالتقيا بين الصفّين، فبدره علىّ بضربة على رأسه حتى فلق هامته، فوقع وهو كبش الكتيبة، فسرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بذلك وكبّر، وكبّر المسلمون، وشدّوا على كتائب المشركين يضربونهم حتى نغضت «2» صفوفهم، ثم حمل لواء المشركين عثمان بن أبى طلحة، وجعل يرتجز وهو أمام النّسوة: إنّ على أهل اللواء حقّا ... أن يخضبوا الصّعدة أو تندقّا «3» فحمل عليه حمزة بن عبد المطلب، فضربه بالسيف على كاهله فقطع يده وكتفه حتى انتهى إلى مؤتزره، وبدا سحره «4» ، ثم رجع حمزة وهو يقول: أنا ابن ساقى الحجيج. فحمل اللواء أبو سعد بن أبى طلحة، فرماه سعد بن أبى وقّاص فأصاب حنجرته، فأدلع «5» لسانه إدلاع الكلب، فقتله. ثم حمله مسافع بن طلحة بن أبى طلحة، فرماه عاصم بن ثابت بن أبى الأقلح، فقتله. ثم حمله كلاب بن طلحة ابن أبى طلحة، فقتله الزّبير بن العوّام. ثم حمله الجلاس بن طلحة بن أبى طلحة فقتله طلحة بن عبيد الله. ثم حمله أرطاة بن شرحبيل، فقتله علىّ بن أبى طالب. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 91 ثم حمله شريح بن قاسط «1» ، فقتل. ثم حمله صؤاب غلامهم «2» ، وهو حبشىّ، فقاتل يومئذ حتى قطعت يده، فاعتنق اللواء حتى قتل عليه، وهو يقول: اللهمّ هل أعذرت، واختلف فى قاتله، فقيل: قتله سعد بن أبى وقّاص، وقيل: على بن أبى طالب، وقيل: قتله قزمان على الأصح. قال: فلما قتل أصحاب اللواء صار ملقى، حتى أخذته عمرة بنت علقمة الحارثيّة فدفعته لقريش، فلاثوا «3» به. ثم انكشف المشركون وانهزموا لا يلوون على شىء، ونساؤهم يدعون بالويل، وتبعهم المسلمون يضعون السلاح فيهم حيث شاءوا حتى أجهضوهم «4» عن العسكر، ووقعوا ينهبون العسكر، ويأخذون ما فيه من الغنائم. قال ابن إسحاق بسند يرفعه إلى الزّبير بن العوّام، أنه قال: والله لقد رأيتنى أنظر إلى خدم هند وصواحبها مشمّرات هوارب، ما دون أخذهنّ قليل ولا كثير. قال ابن سعد: وتكلّم الرّماة الذين على الجبل واختلفوا بينهم، وثبت أميرهم عبد الله بن جبير فى نفر يسير دون العشرة، وقال: لا أجاوز أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ووعظ أصحابه وذكّرهم أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: لم يرد رسول الله هذا، قد انهزم المشركون، فما مقامنا هاهنا؟ فانطلقوا يتبعون العسكر ينتهبون معهم، وتركوا الجبل. فنظر خالد بن الوليد إلى خلوّ الجبل وقلة أهله، الجزء: 17 ¦ الصفحة: 92 فكرّ بالخيل، وتبعه عكرمة بن أبى جهل، فحملوا «1» على المسلمين، واستدارت رحاهم، وحالت الريح فصارت دبورا، وكانت قبل ذلك صبا، ونادى إبليس- لعنه الله-: إن محمدا قد قتل. واختلط المسلمون فصاروا يقتتلون «2» على غير شعار، ويضرب بعضهم بعضا، ما يشعرون به من العجلة والدهش، وقتل مصعب ابن عمير، فأخذ اللواء ملك فى صورة مصعب، وحضرت الملائكة يومئذ ولم تقاتل، ونادى المشركون بشعارهم: يا للعزّى يا لهبل «3» . فقتل من أكرمه الله بالشهادة من المسلمين، حتى خلص العدوّ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وثبت صلّى الله عليه وسلّم معه «4» عصابة من أصحابه أربعة عشر رجلا، سبعة من المهاجرين، فيهم أبو بكر الصديق، رضى الله عنه، وسبعة «5» من الأنصار. ورمى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن قوسه حتى اندقّت سيتها «6» ، فأخذها قتادة بن النعمان فكانت عنده، ثم ذبّ بالحجارة. وكسرت يومئذ رباعيته «7» صلّى الله عليه وسلّم، وكلمت شفته، وشجّ فى وجهه، وجرح فى وجنته، وكسرت البيضة على رأسه، فسال الدم على وجهه، فجعل يمسحه ويقول: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيّهم، وهو يدعوهم إلى ربّهم؟ فأنزل الله تعالى فى ذلك: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ، أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ «8» ) . الجزء: 17 ¦ الصفحة: 93 وروى أبو محمد عبد الملك بن هشام بسنده إلى أبى سعيد الخدرى: أن عتبة بن أبى وقّاص رمى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ، فكسر رباعيته اليمنى السّفلى، وجرح شفته السفلى، وأن عبد الله بن شهاب الزّهرىّ شجّه فى جبهته، وأن ابن قمئة جرح وجنته، فدخل حلقتان من حلق المغفر فى وجنته، ووقع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى حفرة من الحفر التى عمل أبو عامر ليقع فيها المسلمون، فأخذ على بن أبى طالب بيده، ورفعه طلحة بن عبيد الله حتى استوى قائما، ومصّ مالك بن سنان أبو أبى سعيد الخدرىّ، الدّم من وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [ثم «1» ] ازدرده، فقال صلّى الله عليه وسلّم: من مسّ دمه دمى لم تمسّه النار. قال ابن إسحاق بسند يرفعه إلى محمود بن عمرو: لما غشى القوم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: من رجل يشترى لنا نفسه؟ فقام زياد بن السّكن [فى خمسة من الأنصار، وبعضهم يقول: إنما هو عمارة بن يزيد بن السكن «2» ] . فقاتلوا دون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلا رجلا يقتلون دونه، حتى كان آخرهم زياد أو عمارة، فقاتل حتى أثبتته الجراحة. ثم فاءت فئة المسلمين فأجهضوهم عنه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أدنوه منى. فأدنوه منه، فوسّده قدمه، فمات، وخدّه على قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال: وقاتلت أمّ عمارة نسيبة بنت كعب المازنيّة يومئذ، فحدّثت وقد سئلت عن خبرها، فقالت: خرجت أوّل النهار أنظر ما يصنع الناس، ومعى سقاء فيه ماء، فانتهيت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والدولة والرّيح للمسلمين، فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: أباشر القتال وأذبّ عنه بالسيف، حتى خلصت الجراحة إلىّ. وكان على عاتقها جرح أجوف له غور، الجزء: 17 ¦ الصفحة: 94 فقيل لها: من أصابك بهذا؟ فقالت: ابن قمئة «1» ، أقمأه «2» الله، لما ولّى الناس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أقبل يقول: دلّونى على محمد، فلا نجوت إن نجا، فاعترضت له أنا ومصعب بن عمير وأناس ممن ثبت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فضر بنى هذه الضربة، ولقد ضربته على ذلك ضربات «3» ، ولكنّ عدوّ الله كان عليه درعان. قال ابن إسحاق: وترّس دون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبو دجانة بنفسه، يقع النّبل فى ظهره وهو منحن عليه، حتى كثر فيه النّبل. ورمى سعد ابن أبى وقّاص دون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال سعد: فلقد رأيته يناولنى النبل ويقول: ارم فداك أبى وأمّى، حتى إنه ليناولنى السهم ما له من نصل، فيقول: ارم به. قال: وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان، حتى وقعت على وجنته، فردّها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيده، فكانت أحسن عينيه وأحدّهما. قال: وانتهى أنس بن النضر عمّ أنس بن مالك إلى عمر بن الخطاب، وطلحة بن عبيد الله فى رجال من المهاجرين والأنصار، قد «4» ألقوا بأيديهم، فقال: ما يجلسكم؟ فقالوا: قتل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه، ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل. قال أنس بن مالك: لقد وجدنا به سبعين ضربة؛ وأصيب عبد الرحمن بن عوف فى فمه فهتم، وجرح عشرين جراحة أو أكثر، فأصابه بعضها فى رجله فعرج. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 95 قال ابن إسحاق: وكان أوّل من عرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد الهزيمة، وقول الناس: قتل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كعب بن مالك، قال كعب: عرفت عينيه تزهران تحت «1» المغفر، فناديت بأعلى صوتى: يا معشر المسلمين، أبشروا، هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فأشار إلىّ: أن أنصت، قال: فلما عرف المسلمون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهضوا [به] ونهض معهم نحو الشّعب، معه أبو بكر، وعمر، وعلىّ، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوّام، والحارث بن الصّمة، ورهط من المسلمين، فلما أسند «2» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى الشعب أدركه أبىّ بن خلف، وهو يقول: أين محمد؟ لا نجوت إن نجا، فقال القوم: يا رسول الله، أيعطف عليه رجال منّا؟ قال رسول الله: دعوه. فلما دنا تناول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الحربة من الحارث بن الصّمة، قال: فلما أخذها انتفض ما انتفاضة تطايرنا عنه تطاير الشعراء «3» عن ظهر البعير إذا انتفض بها، ثم استقبله فطعنه بها طعنة فى عنقه تدأدأ» منها عن فرسه مرارا؛ وكان أبىّ بن خلف قبل ذلك يلقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيقول: إنّ عندى العود- فرسا- أعلفه كل يوم فرقا «5» من ذرة أقتلك عليه. فيقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: بل أنا أقتلك إن شاء الله. فلما رجع إلى قريش، وقد خدشه فى عنقه خدشا غير كبير، فاحتقن الدّم فيه، فقال: قتلنى والله محمد؛ قالوا: ذهب والله فؤادك! والله إن بك الجزء: 17 ¦ الصفحة: 96 بأس؛ قال: إنه قد قال لى بمكة: أنا أقتلك، [والله «1» ] لو بصق علىّ لقتلنى. فمات عدوّ الله بسرف «2» وهم قافلون إلى مكة، وفى ذلك يقول حسان بن ثابت: لقد ورث الضّلالة عن أبيه ... أبىّ يوم بارزه الرسول أتيت إليه تحمل رمّ عظم ... وتوعده وأنت به جهول «3» وقد قتلت بنو النّجار منكم ... أميّة إذ يغوّث: يا عقيل «4» وتبّ ابنا ربيعة إذ أطاعا ... أبا جهل، لأمّهما الهبول «5» وأفلت حارث لما شغلنا ... بأسر القوم، أسرته قليل وقال حسان أيضا فيه: ألا من مبلغ عنّى أبيّا ... فقد ألقيت فى سحق السعير «6» تمنّى بالضّلالة من بعيد ... وتقسم أن قدرت مع النّذور تمنّيك الأمانى من بعيد ... وقول الكفر يرجع فى غرور فقد لاقيت طعنة ذى حفاظ ... كريم البيت ليس بذى فجور «7» له فضل على الأحياء طرّا ... إذا نابت ملمّات الأمور قال: ولما انتهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى فم الشّعب خرج علىّ بن أبى طالب حتى ملأ درقته «8» من الماء، فجاء به إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليشرب منه، فوجد له ريحا، فعافه وغسل عن وجهه الدّم. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 97 قال: وبينما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالشّعب، معه أولئك النّفر من أصحابه، إذ علّت عالية من قريش الجبل، وكان على تلك الخيل خالد بن الوليد، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اللهمّ [إنه «1» ] لا ينبغى لهم أن يعلونا! فقاتل عمر بن الخطاب ورهط من المهاجرين حتى أهبطوهم من الجبل. ونهض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى صخرة من الجبل ليعلوها، وقد كان بدّن «2» وظاهر بين درعين، فلم يستطع، فجلس تحته طلحة بن عبيد الله، فنهض به حتى استوى عليها «3» . قال ابن هشام: وصلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الظهر يوم أحد قاعدا من الجراح التى أصابته، وصلّى المسلمون خلفه قعودا. قال ابن إسحاق: ولما أراد القوم الانصراف أشرف أبو سفيان على الجبل ثم صرخ بأعلى صوته: أنعمت «4» فعال، إن الحرب سجال، يوم بيوم بدر. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قم يا عمر فأجبه، فقل: الله أعلى وأجلّ، لا سواء «5» ، قتلانا فى الجنّة، وقتلاكم فى النار؛ فقال له أبو سفيان: هلمّ إلىّ يا عمر؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعمر: ايته فانظر ما شأنه؛ فأتاه، فقال له أبو سفيان: الجزء: 17 ¦ الصفحة: 98 أنشدك الله يا عمر، أقتلنا محمدا؟ قال عمر: اللهمّ لا، وإنه ليسمع كلامك الآن، قال: أنت أصدق عندى من ابن قمئة وأبرّ- لقول ابن قمئة لهم: إنى قتلت محمدا- قال: واسم ابن قمئة عبد الله. وروى البخارى عن البراء قال: وأشرف أبو سفيان فقال: أفى القوم محمد؟ فقال: لا تجيبوه، قال: أفى القوم ابن أبى قحافة؟ قال: لا تجيبوه، قال: أفى القوم ابن الخطاب؟ فقال: إن هؤلاء قتلوا، فلو كانوا أحياء لأجابوا. فلم يملك عمر- رضوان الله عليه- نفسه، فقال: كذبت يا عدو الله، أبقى الله لك ما يخزيك. قال أبو سفيان: أعل هبل «1» ، فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: أجيبوه، فقالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجلّ، قال أبو سفيان: لنا العزّى «2» ولا عزّى لكم، فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: أجيبوه، قالوا: ما تقول؟ قال قولوا: الله مولانا، ولا مولى لكم؛ قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال، وتجدون مثلة لم آمر [بها «3» ] ولم تسؤنى. قال ابن سعد: ثم نادى أبو سفيان عند انصرافه: إن موعدكم بدر العام القابل. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لرجل من أصحابه: قل له: نعم هو بيننا وبينك موعد. ثم بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على بن أبى طالب فقال: اخرج فى آثار القوم، فانظر ماذا يصنعون، وماذا يريدون، فإن كانوا قد جنبوا «4» الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فهم الجزء: 17 ¦ الصفحة: 99 يريدون المدينة، والذى نفسى بيده لئن أرادوها لأسيرنّ إليهم فيها، ثم لأناجزنّهم «1» . قال علىّ: فخرجت فى آثارهم فرأيتهم قد جنبوا الخيل وامتطوا الإبل، وتوجهوا إلى مكّة. ذكر خبر «2» مقتل حمزة بن عبد المطلب رضى الله عنه، وما فعلته هند بنت عتبة، وما قالته من الشعر، وما أجيبت به كان حمزة بن عبد المطلب رضى الله عنه، قد قتل من ذكرنا من المشركين آنفا، ومرّ به سباع بن عبد العزّى الغبشانىّ، وكان يكنى بأبى نيار، فقال له حمزة: هلّم إلىّ يابن مقطّعة البضور «3» - وكانت أمّة أم أنمار مولاة شريق بن عمر بن وهب الثقفىّ، وكانت ختّانة بمكة- فلما التقيا ضربه حمزة فقتله. فقال وحشىّ غلام جبير بن مطعم: والله إنى لأنظر إلى حمزة يهدّ الناس بسيفه هدّا ما يقوم له شىء، فو الله إنى لأتهيّأ أريده، وأستتر منه بشجرة أو بحجر ليدنو منى، إذ تقدمنى إليه سباع، فلما رآه حمزة قال له ما قال، فضربه حمزة فقتله، فهززت حربتى حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه، فوقعت فى ثنّته «4» ، حتى خرجت من بين رجليه، وذهب لينوء «5» نحوى فغلب، فتركته وإيّاها حتى مات، ثم أتيته فأخذت حربتى، ثم رجعت إلى العسكر فقعدت فيه، فلم يكن لى بغيره حاجة، إنما قتلته لأعتق. قال ابن إسحاق: ووقفت هند بنت عتبة والنسوة اللاتى معها يمثّلن بالقتلى من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يجد «6» عن الآذان والآنف، حتى الجزء: 17 ¦ الصفحة: 100 اتخذت هند من آذان الرجال وآنفهم قلائد وخدما «1» ، وأعطت قلائدها وخدمها وقرطها وحشيّا، وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها فلم تسطع أن تسيغها، فلفظتها، ثم علت على صخرة مشرفة فصرخت بأعلى صوتها، ثم قالت: نحن جزيناكم بيوم بدر ... والحرب بعد الحرب ذات سعر ما كان عن عتبة لى من صبر ... ولا أخى وعمّه وبكرى شفيت نفسى وقضيت وترى «2» ... شفيت وحشىّ غليل صدرى فشكر وحشىّ علىّ عمرى ... حتى ترمّ أعظمى فى قبرى «3» فأجابتها هند بنت أثاثة بن عبّاد بن المطلب «4» فقالت: خزيت فى بدر وبعد بدر ... يا بنت وقّاع عظيم الكفر «5» صبّحك الله غداة الفجر ... بالهاشميّين الطّوال الزّهر بكل قطّاع حسام يفرى ... حمزة ليثى وعلىّ صقرى «6» إذ رام شيب وأبوك غدرى ... فخضّبا منه ضواحى النّحر «7» ونذرك السّوء فشرّ نذر وقالت هند غير ذلك من الشعر وأجيبت بمثله، وتركنا ذلك اختصارا. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 101 قال ابن إسحاق: ومرّ الحليس بن زبّان «1» أخو بنى الحارث بن عبد مناة، وهو يومئذ سيد الأحابيش بأبى سفيان، وهو يضرب فى شدق حمزة بزجّ الرمح، ويقول: ذق عقق «2» . فقال الحليس: يا بنى كنانة، هذا سيّد قريش يصنع بابن عمه ما ترون لحما «3» ؛ قال: ويحك! اكتمها عنّى، فإنها كانت زلة. قال ولما فرغ الناس لقتلاهم خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يلتمس حمزة، فوجده ببطن الوادى قد بقر بطنه عن كبده، وجدع أنفه وأذناه. فقال حين رآه: لولا أن تحزن صفيّة وتكون ستّة من بعدى لتركتك حتى تكون فى بطون السّباع وحواصل الطير، ولئن أظهرنى الله على قريش فى موطن من المواطن لأمثّلن بثلاثين رجلا منهم، فلما رأى المسلمون حزن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وغيظه على من فعل بعمّه ما فعل، قالوا: والله لئن أظفرنا الله بهم يوما من الدهر لنمثّلن بهم مثلة لم يمثّلها أحد من العرب. فأنزل الله تعالى قوله: (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ، وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ. إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ «4» ) قال: فعفا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصبر. ونهى عن المثل «5» . الجزء: 17 ¦ الصفحة: 102 قال ابن هشام: ولما وقف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على حمزة قال: لن أصاب بمثلك أبدا! ما وقفت موقفا قطّ أغيظ إلىّ من هذا! ثم قال: جاءنى جبريل عليه السلام فأخبر أن حمزة بن عبد المطلب مكتوب فى أهل السموات السبع: حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله. قال ابن إسحاق يرفعه إلى ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحمزة فسجّى «1» ببرد، ثم صلّى عليه وكبّر سبع تكبيرات، ثم أتى بالقتلى يوضعون إلى حمزة، فصلّى عليهم وعليه معهم، حتى صلّى عليه ثنتين وسبعين صلاة «2» . قالت: وأقبلت صفيّة بنت عبد المطلب لتنظر إلى أخيها حمزة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لابنها الزّبير ابن العوام: القها فارجعها لا ترى ما بأخيها. فقال [لها «3» ] : يا أمّاه: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمرك أن ترجعى، فقالت: ولم؟ وقد بلغنى أنه قد مثّل بأخى، وذلك فى الله عزّ وجلّ، فما أرضانى «4» أنا بما كان من ذلك! لأحتسبنّ ولأصبرنّ «5» إن شاء الله تعالى. فلما جاء الزبير إلى رسول الله [صلّى الله عليه وسلّم «6» ] وأخبره بذلك قال: خلّ سبيلها، فأتته، فنظرت إليه، وصلّت عليه، واسترجعت، واستغفرت له، ثم أمر به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فدفن. قال: واحتمل ناس [من المسلمين «7» ] قتلاهم إلى المدينة، فدفنوهم بها. ثم نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك، وقال: ادفنوهم حيث صرعوا. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 103 ذكر [تسمية «1» ] من استشهد من المسلمين يوم أحد قال ابن إسحاق: استشهد من المسلمين يوم أحد سبعون رجلا، كان منهم من المهاجرين من بنى هاشم: حمزة بن عبد المطلب، رضى الله عنه، وقد تقدم خبر مقتله. ومن بنى أمية: عبد الله بن جحش، حليف لهم من بنى أسد بن خزيمة «2» قتله أبو الحكم «3» بن الأخنس بن شريق. ومن بنى عبد الدار بن قصىّ: مصعب ابن عمير، قتله عبد الله بن قمئة الليثىّ. ومن بنى مخزوم بن يقظة: شمّاس بن عثمان قتله [أبىّ «4» ] بن خلف. لم يذكر ابن إسحاق غير هؤلاء الأربعة. وقال محمد بن سعد فى طبقات الكبرى: وعبد الله، وعبد الرحمن، ابنا الهبيب، من بنى سعد بن ليث، ووهب بن قابوس المزنىّ، وابن أخيه الحارث بن عقبة ابن قابوس. وزاد الثعلبى سعدا مولى عتبة، ولم يذكر الأربعة الذين ذكرهم ابن سعد، بل عدّ المهاجرين خمسة. واستشهد من الأنصار، من بنى عبد الأشهل اثنا عشر رجلا، وهم: عمرو بن معاذ بن النّعمان أخو سعد، والحارث بن أنس بن رافع «5» ، وعمارة بن زياد بن السّكن، وسلمة بن ثابت بن وقش، وأخوه عمرو بن ثابت، وأبوهما ثابت، ورفاعة [بن «6» ] وقش، واليمان أبو حذيفة بن اليمان، واسمه حسيل بن الجزء: 17 ¦ الصفحة: 104 جابر، أصابه المسلمون فى المعركة ولا يدرون، وأراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يديه «1» ، فتصدّق ابنه حذيفة بديته على المسلمين، وصيفىّ بن قيظى، [وخباب ابن قيظى «2» ] ، وعبّاد بن سهل، والحارث بن أوس بن معاذ. ومن أهل راتج «3» ثلاثة نفر، وهم: إياس بن أوس بن عتيك، وعبيد بن التيّهان، ويقال: عتيك بن التيّهان. وحبيب بن زيد بن تيم. ومن بنى ظفر: يزيد «4» بن حاطب بن أميّة بن رافع. ومن بنى عمرو بن عوف، رجلان، وهما: أبو سفيان بن الحارث بن قيس بن زيد، وحنظلة بن أبى عامر بن صيفىّ بن النعمان، وهو غسيل الملائكة، وكان قد التقى هو وأبو سفيان، فلما استعلاه حنظلة رآه شدّاد بن الأسود فقتله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن صاحبكم لتغسله الملائكة. فسألوا أهله: ما شأنه؟ فسئلت صاحبته فقالت: خرج وهو جنب حين سمع الهاتفة؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لذلك غسّلته الملائكة. وقال شدّاد بن الأسود حين قتل حنظلة: لأحمينّ صاحبى ونفسى ... بطعنة مثل شعاع الشمس ومن بنى عبيد بن زيد «5» : أنيس بن قتادة. ومن بنى ثعلبة بن عمرو ابن عوف رجلان، وهما: أبو حيّة «6» بن عمرو بن ثابت، وعبد الله بن جبير الجزء: 17 ¦ الصفحة: 105 ابن النّعمان، وهو أمير الرّماة. ومن بنى السلّم بن امرئ القيس بن مالك: خيثمة أبو سعد بن خيثمة. ومن حلفائهم من بنى العجلان: عبد الله بن سلمة. ومن بنى معاوية بن مالك رجلان، وهما: سبيع بن حاطب بن الحارث، ويقال: سويبق «1» بن الحارث. ومالك بن نميلة، حليف لهم من مزينة. ومن بنى النّجار ثم «2» من بنى سواد بن مالك خمسة نفر، وهم: عمرو بن قيس بن زيد بن سواد، وابنه قيس بن عمرو، وثابت بن عمرو بن زيد، وعامر بن مخلّد، ومالك بن إياس. ومن بنى مبذول رجلان، وهما: أبو هبيرة بن الحارث ابن علقمة، وعمرو بن مطرف «3» بن علقمة. ومن بنى عمرو بن مالك بن النجار رجلان، وهما: أوس بن ثابت بن المنذر، وهو أخو حسان، وإياس بن عدىّ. ومن بنى عدىّ بن النجار رجل واحد، وهو: أنس بن النّضر بن ضمضم بن زيد ابن حرام بن جندب بن عامر بن عدىّ بن النجّار، وقد تقدّم خبره. ومن بنى مازن بن النجّار رجلان، وهما: قيس بن مخلّد، وكيسان عبدلهم. ومن بنى دينار بن النجار رجلان، وهما: سليم بن الحارث، ونعمان بن عبد عمرو. ومن بنى الحارث بن الخزرج ثلاثة نفر، وهم: خارجة بن زيد بن أبى زهير، وسعد ابن الربيع بن عمرو بن أبى زهير- حكى محمد بن سعد فى طبقاته أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال يوم أحد: من رجل ينظر ما فعل سعد بن الربيع، أفى الأحياء هو أم فى الأموات؟ فقال رجل من الأنصار: أنا أنظر لك يا رسول الله ما فعل، فنظر فوجده جريحا فى القتلى وبه رمق «4» ، قال الأنصارىّ: الجزء: 17 ¦ الصفحة: 106 فقلت له: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمرنى أن أنظر أفى الأحياء أنت أم فى الأموات؟ قال: أنا فى الأموات، فأبلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنى السلام، وقل له: إن سعد بن الربيع يقول: جزاك الله عنا خير ما جزى نبيّا عن أمته، وأبلغ قومك عنى السلام، وقل لهم: إن سعد بن الربيع يقول لكم: إنه لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى نبيّكم وفيكم عين تطرف «1» . قال الأنصارى: ثم لم أبرح حتى مات؛ فجئت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبرته خبره. وأوس بن الأرقم بن زيد، من بنى الأبجر، وهم بنو خدرة، ثلاثة نفر، وهم: مالك بن سنان بن عبيد بن ثعلبة بن عبد [بن «2» ] الأبجر، وهو أبو أبى سعيد الخدرىّ، وسعيد بن سويد بن قيس بن عامر بن عبّاد بن الأبجر، وعتبة بن ربيع ابن رافع بن معاوية. ومن بنى ساعدة بن كعب بن الخزرج رجلان، وهما: ثعلبة بن سعد بن مالك بن خالد، وثقيف «3» بن فروة بن البدىّ. ومن بنى طريف، رهط سعد بن عبادة رجلان، وهما: عبد الله بن عمرو بن وهب، وضمرة حليف لهم من جهينة. ومن بنى عوف بن الخزرج خمسة نفر، وهم: نوفل ابن عبد الله، وعبّاس بن عبادة بن نضلة، ونعمان «4» بن مالك بن ثعلبة، والمجذّر ابن زياد، حليف لهم من بلىّ، وعبادة بن الحسحاس. ومن بنى الحبلى، رفاعة الجزء: 17 ¦ الصفحة: 107 ابن عمرو، ومن بنى سلمة «1» ثم من بنى حرام أربعة نفر، وهم: عبد الله بن عمرو ابن حرام، وعمرو بن الجموح بن زيد بن حرام، وخلّاد بن عمرو بن الجموح، وأبو أيمن «2» مولى عمرو بن الجموح. ومن بنى سواد بن غنم ثلاثة نفر، وهم: سليم بن عمرو بن حديدة، ومولاه عنترة، وسهل «3» بن قيس بن أبى كعب بن القين. ومن بنى زريق [بن عامر «4» ] رجلان، وهما: ذكوان «5» بن عبد قيس، وعبيد بن المعلّى بن لوذان. ومن بنى خطمة من الأوس: الحارث بن عدىّ بن خرشة بن أمية. ومن بنى سالم «6» بن عوف: عمرو بن إياس. ذكر تسمية من قتل من المشركين يوم أحد قتل من المشركين يوم أحد اثنان وعشرون رجلا: من بنى عبد الدار بن قصىّ أحد عشر رجلا- وهم أصحاب اللواء- طلحة بن أبى طلحة، قتله على بن أبى طالب، وأبو سعيد بن أبى طلحة، قتله سعد بن أبى وقّاص، ويقال: على، وعثمان بن أبى طلحة، قتله حمزة بن عبد المطلب، ومسافع بن طلحة «7» بن أبى طلحة، قتله عاصم ابن ثابت بسهم، والجلاس بن طلحة، قتله عاصم أيضا كما تقدّم، وكلاب بن طلحة والحارث بن طلحة، قتلهما قزمان حليف لبنى ظفر، وأرطاة بن عبد بن شرحبيل ابن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، قتله حمزة، ويقال: قتله على، وأبو زيد «8» ابن عمير بن هاشم، قتله قزمان، وصؤاب غلام لهم حبشىّ، قتله قزمان، والقاسط الجزء: 17 ¦ الصفحة: 108 ابن شريح بن هاشم، قتله قزمان. ومن بنى أسد بن عبد العزّى بن قصىّ: عبد الله ابن حميد بن زهير بن الحارث بن أسد: قتله على بن أبى طالب. ومن بنى زهرة ابن كلاب رجلان، وهما. أبو الحكم بن الأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفى، حليف لهم، قتله على بن أبى طالب، وسبّاع بن عبد العزّى- واسم عبد العزى عمرو بن نضلة بن غبشان- حليف لهم من خزاعة، قتله حمزة كما تقدم. ومن بنى مخزوم أربعة نفر، وهم: هشام بن أبى أمية بن المغيرة، قتله قزمان، والوليد ابن العاص بن المغيرة، قتله قزمان أيضا، وأبو أمية بن أبى حذيفة بن المغيرة، قتله على بن أبى طالب، وخالد بن الأعلم حليف لهم، قتله قزمان. ومن بنى جمح رجلان، وهما: عمرو بن عبد الله بن عمير بن وهب بن حذافة بن جمح، وهو أبو عزّة، قتله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صبرا- وكان قد أسر يوم بدر، فمنّ عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأطلقه كما ذكرنا، فقال: لا أكثر عليك جمعا؛ فلم يف، وخرج يوم أحد مع المشركين فأسر، ولم يؤسر يومئذ غيره، فقال: منّ علىّ يا محمد؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن المؤمن لا يلدغ من حجر مرتين، لا ترجع إلى مكة تمسح عارضيك، تقول: سحرت «1» محمدا مرتين، ثم أمر عاصم بن ثابت ابن الأفلح فضرب عنقه- وأبىّ بن خلف بن حذافة بن جمح، قتله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيده كما تقدم. ومن بنى عامر بن لؤى رجلان، وهما: عبيدة «2» بن جابر وشيبة بن مالك بن المضرب، قتلهما قزمان، ويقال: قتل «3» عبيدة بن جابر عبد الله بن مسعود. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 109 قال محمد بن سعد فى طبقاته: ثم انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ من أحد، فصلى المغرب بالمدينة، وشمت عبد الله بن أبىّ بن سلول والمنافقون بما نيل من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى نفسه وأصحابه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لن ينالوا منّا مثل هذا اليوم حتى نستلم الرّكن. قال: وبكت الأنصار على قتلاهم، فسمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم البكاء فبكى، وقال: لكنّ حمزة لا بواكى له، فلما رجع سعد بن معاذ وأسيد بن حضير إلى دار بنى عبد الأشهل أمرا نساءهم أن يتحزّمن، ثم يذهبن فيبكين على عمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بكاءهنّ على حمزة خرج عليهنّ وهنّ على باب مسجده يبكين، فقال: ارجعن يرحمكنّ الله، فقد آسيتنّ بأنفسكن. ونهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [يومئذ «1» ] عن النوح. وروى عن سعد بن أبى وقّاص رضى الله عنه، قال: مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بامرأة من بنى دينار، وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأحد، فلما نعوا لها قالت: ما فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قالوا: خيرا يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبيّن؛ قالت: أرونيه حتى أنظر إليه؛ قال: فأشير لها إليه صلّى الله عليه وسلّم، حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل؛ رضى الله عنها. ولما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة كانت فاطمة- رضى الله عنها- تغسل جرحه؛ وعلىّ يسكب الماء عليها بالمجن، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدّم إلا كثرة، عمدت إلى قطعة من حصير فأحرقتها، وألصقت ذلك على الجرح فاستمسك الدّم، ولم يبت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة إلا تلك. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 110 الليلة، ثم أصبح فخرج فى طلب العدوّ إلى حمراء الأسد، على ما نذكره إن شاء الله. ولنصل غزوة أحد بتفسير ما أنزل الله تعالى فيها من القرآن. ذكر ما أنزل «1» على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من القرآن فى غزوة أحد، وما ورد فى تفسير ذلك قال محمد بن إسحاق، رحمه الله: وكان مما أنزل الله تعالى فى غزوة أحد من القرآن ستون آية من سورة آل عمران، أول ذلك قوله تعالى: (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ «2» الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) قال أبو إسحاق «3» أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبى النيسابورى- رحمه الله- فى تفسيره المترجم بالكشف والبيان عن تفسير القرآن: إن المشركين أقاموا بأحد يوم الأربعاء والخميس والجمعة، وذكر نحو ما قدمناه من خروج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة السبت للنصف من شوّال، وأنه صلّى الله عليه وسلّم جعل يصفّ أصحابه للقتال كما يقوم القدح، إذا رأى صدرا خارجا قال: تأخّر، فذلك قوله تعالى: (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ) الآية «4» ، وقوله تعالى: (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) تفشلا، أى تجبنا وتضعفا ومتخلّفا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهما بنو سلمة بن الخزرج، وبنو حارثة بن الأوس، الجزء: 17 ¦ الصفحة: 111 وكانا جناحى العسكر، وذلك أن عبد الله بن [أبىّ بن سلول «1» ] لما انخزل بثلث الناس كما قدمنا وقال هو ومن وافقه من أصحابه: (لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ) ؛ همّ «2» بنو سلمة وبنو حارثة بالانصراف معه، فعصمهم الله تعالى فلم ينصرفوا، ومضوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فذكّرهم الله تعالى عظيم نعمته، فقال: (وَاللَّهُ وَلِيُّهُما) أى ناصرهما وحافظهما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ* ثم ذكّرهم الله منّته عليهم إذا نصرهم «3» ببدر، فقال: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) إلى قوله: (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) قوله: (لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ) . «ليقطع طرفا» أى يهلك طائفة «أو يكبتهم» أى يهزمهم «فينقلبوا خائبين» أى لم ينالوا شيئا مما كانوا يرجون من الظفر بكم. قوله تعالى: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ) . اختلف العلماء فى سبب نزول هذه الآية، فقال عبد الله بن مسعود: أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يدعو على المنهزمين عنه من أصحابه يوم أحد، وكان عثمان بن عفان منهم، فنهاه الله تعالى عن ذلك، وتاب عليهم، وأنزل هذه الآية. وقال عكرمة، وقتادة، ومقسم: أدمى رجل من هذيل يقال له: عبد الله ابن قمئة وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد، فدعا عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكان حتفه أن سلّط الله عليه تيسا فنطحه حتى قتله، وشجّ عتبة بن أبى وقاص رأسه وكسر رباعيته صلّى الله عليه وسلّم، فدعا عليه وقال: اللهم الجزء: 17 ¦ الصفحة: 112 لا يحل «1» عليه الحول حتى يموت كافرا [قال: «2» فما حال الحول حتى مات كافرا] فأنزل الله تعالى عليه «3» هذه الآية. وقال الربيع والكلبىّ: نزلت هذه الآية على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد، وقد شجّ فى وجهه وأصيبت رباعيته، فهمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يلعن المشركين ويدعو عليهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية، لعلمه فيهم أن كثيرا منهم سيؤمنون. قوله تعالى: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) قيل: أمثال. وقيل: أمم. والسّنّة الأمّة، قال الشاعر: ما عاين الناس من فضل كفضلهم ... ولا رأوا مثلهم فى سالف السّنن وقيل: أهل سنن؛ وقيل: أهل شرائع؛ قال: معنى الآية: قد مضت وسلفت منّى فيمن قبلكم من الأمم الماضية المكذّبة الكافرة سنن بإمهالى واستدراجى إيّاهم حتى بلغ الكتاب فيهم أجلى الذى أجلت- لإدالة «4» أنبيائى- وأهلكتهم. (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) * أى منهم، فأنا أمهلهم وأستدرجهم حتى يبلغ الكتاب أجلى الذى أجّلت فى نصرة النبىّ وأوليائه وهلاك أعدائه. قوله تعالى: (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) قال: هذه الآية «5» تعزية من الله تعالى لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم وللمؤمنين على ما أصابهم من القتل والجرح يوم أحد، وحثّ منه إيّاهم على قتال عدوّهم، ونهى عن العجز الجزء: 17 ¦ الصفحة: 113 والفشل، فقال تعالى: «ولا تهنوا» أى لا تضعفوا ولا تجبنوا من جهاد أعدائكم [بما «1» نالكم يوم أحد من القتل والقرح. «ولا تحزنوا» على ظهور أعدائكم] ولا على ما أصابكم من الهزيمة والمصيبة «وأنتم الأعلون» أى لكم تكون العاقبة بالنصر «2» والظفر «إن كنتم مؤمنين» . قوله تعالى: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ) أى جرح يوم أحد فقد مسّ القوم جرح مثله يوم بدر. (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) يعنى إنما كانت هذه المداولة ليرى الله الذين آمنوا- يعنى منكم- ممن نافق، فيميز بعضهم من بعض. وقيل: المعنى «وليعلم الله الّذين آمنوا» بأفعالهم موجودة كما علمها منهم قبل أن كلّفهم. «ويتّخذ منكم شهدآء» يكرم أقواما بالشهادة، وذلك أن المسلمين قالوا: أرنا يوما كيوم بدر نقاتل فيه المشركين ونلتمس الشهادة. فلقوا المشركين يوم أحد، فاتّخذ الله منهم شهداء. قوله تعالى: (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ) يعنى يطهّر الذين آمنوا من ذنوبهم «ويمحق الكافرين» يفنيهم ويهلكهم وينقصهم. ثم عزّاهم الله تعالى فقال: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) . قوله تعالى: (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) الجزء: 17 ¦ الصفحة: 114 وذلك أنه لما قتل عبد الله بن قمئة مصعب بن عمير، وصرخ صارخ- يقال: هو إبليس، لعنه الله- ألا إن محمدا قد قتل. وانهزم الناس، فقال بعض المسلمين: ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبىّ فيأخذ لنا أمانا من بنى أبى سفيان. وجلس بعض الصحابة وألقوا «1» بأيديهم. وقال أناس من أهل النفاق: إن كان محمد قد قتل فالحقوا بدينكم الأوّل. فقال أنس بن النضر: يا قوم، إن كان قد قتل محمد فإن ربّ محمد لم يقتل، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله؟ فقاتلوا على ما قاتل عليه، وموتوا على ما مات عليه؛ ثم قال: اللهم إنى أعتذر إليك مما قال «2» هؤلاء- يعنى المسلمين- وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء- يعنى المنافقين- ثم قاتل حتى قتل. ثم إن رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- انطلق إلى الصخرة، وهو يدعو الناس، فانحدر إليه طائفة من أصحابه، فلامهم صلّى الله عليه وسلّم على الفرار، فقالوا: يا نبىّ الله، فديناك بآبائنا وأمهاتنا أتانا الخبر بأنك قتلت فرعبت «3» قلوبنا فولّينا مدبرين. فأنزل الله تعالى: «وما محمد إلّا رسول قد خلت من قبله الرّسل أفإن مات» أى على فراشه «أو قتل انقلبتم على أعقابكم» أى رجعتم إلى دينكم الأوّل الكفر «ومن ينقلب على عقبيه» فيرتدّ عن دينه «فلن يضرّ الله شيئا» بارتداده، وإنما يضرّ نفسه «وسيجزى الله الشّاكرين» أى المؤمنين. قوله تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ)) قيل: الربّيّون الألوف والرّبّة «4» الواحدة عشرة آلاف. وقيل: الربّيون العلماء والفقهاء. وقيل: الأتباع الجزء: 17 ¦ الصفحة: 115 وقيل: الرّبانيون الولاة، والربّيون الرعيّة. وقيل: الرّبيّون الذين يعبدون الرّب تعالى. قال: ومعنى الآية، فما ضعفوا عن الجهاد «لما أصابهم فى سبيل الله» لما نالهم من الجراح وقتل الأصحاب، وما عجزوا بقتل نبيهم «وما ضعفوا وما استكانوا» قال قتادة والربيع: يعنى وما ارتدوا عن بصيرتهم» ودينهم، ولكنهم قاتلوا على ما قاتل عليه نبيّهم حتى لحقوا بالله تعالى. قال السّدّى: وما ذلّوا. وقال عطاء: وما تضرّعوا. وقال مقاتل: وما استسلموا وما خضعوا لعدوّهم، ولكنّهم صبروا على أمر ربّهم، وطاعة نبيّهم، وجهاد عدوّهم «والله يحبّ الصّابرين» . قوله تعالى: (وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ)) [قال «2» : معنى الآية، «قولهم» عند قتل نبيهم «إلّا أن قالوا ربّنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا فى أمرنا» يعنى خطايانا «وثبّت أقدامنا» لئلا تزول «وانصرنا على القوم الكافرين» ] . قوله تعالى: (فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا)) يعنى النصر والغنيمة (وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ)) الجنّة «3» (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)) *. قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا)) قال علىّ، رضى الله عنه: يعنى المنافقين فى قولهم للمؤمنين عند الهزيمة: ارجعوا إلى إخوانكم، وادخلوا فى دينكم. (يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ)) أى ترجعوا على أوّل أمركم الشّرك (فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ)) * أى فتصيروا مغبونين (بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ)) أى ناصركم وحافظكم على دينكم (وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ)) . الجزء: 17 ¦ الصفحة: 116 قوله تعالى: (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ)) قال السدّى: لما ارتحل أبو سفيان والمشركون يوم أحد متوجهين نحو مكة انطلقوا حتى بلغوا بعض الطريق ثم إنهم ندموا، وقالوا: بئس ما صنعنا، قتلناهم حتى إذا لم يبق منهم إلا الشّريد تركناهم، ارجعوا فاستأصلوهم؛ فلما عزموا على ذلك ألقى الله تعالى «1» في قلوبهم الرعب، حتى رجعوا عما همّوا به، فأنزل الله تعالى: «سنلقى فى قلوب الّذين كفروا الرّعب» يعنى الخوف (بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً)) أى حجة وبيانا وعذرا وبرهانا، ثم أخبر الله «2» تعالى عن مصيرهم، فقال: (وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ)) أى مقام الكافرين. قوله تعالى: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ)) قال محمد بن كعب القرظىّ: لما رجع رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- وأصحابه إلى المدينة، وقد أصابهم ما أصابهم بأحد، قال ناس من أصحابه: من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر؟ [فأنزل «3» الله تعالى «ولقد صدقكم الله وعده» أى الذى وعد بالنصر] والظفر، وهو قوله تعالى: «بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا» ) الآية. وقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [للرّماة «4» ] : «لا تبرحوا مكانكم فلن تزال غالبين ما ثبتم مكانكم» وقوله [تعالى «5» ] : (إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ)) أى تقتلونهم قتلا ذريعا شديدا، وذلك عند هزيمتهم كما تقدّم. قوله: (حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ)) «فشلتم» : أى جبنتم وضعفتم «وتنازعتم» أى اختلفتم. وهو ما وقع بين الرّماة، ونزول أكثرهم لتحصيل الغنيمة كما تقدّم، فكانت الهزيمة بسبب ذلك. قوله: (مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ)) الجزء: 17 ¦ الصفحة: 117 وهو الظفر والغنيمة. قوله: (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا «1» ) يعنى الذين تركوا المركز وأقبلوا على النهب (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) يعنى الذين ثبتوا مع عبد الله بن جبير أمير الرماة حتى قتلوا. قوله: (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ) أى ردّكم عنهم بالهزيمة (لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) أى فلم يستأصلكم بعد المعصية والمخالفة (وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) . قوله تعالى: (إِذْ تُصْعِدُونَ) يعنى ولقد عفا عنكم إذ تصعدون هاربين (وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ) . ثم رجع إلى الخطاب، فقال: (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ) قال يقال: أصعدت إذا مضيت حيال وجهك، وصعدت إذا ارتقيت فى جبل أو غيره، والإصعاد: السير فى مستوى الأرض وبطون الأودية والشّعاب، والصعود: الارتفاع على الجبال وغيرها. وقال المبرد: أصعد إذا أبعد فى الذهاب. قال الشاعر: ألا أيّهذا السائلى أين أصعدت «2» ... فإن لها فى أهل يثرب موعدا وقال الفرّاء: الإصعاد الابتداء فى كل سفر، والانحدار الرجوع منه. وقوله: «ولا تلوون على أحد» يعنى ولا تعرجون ولا تقيمون على أحد منكم، ولا يلتفت بعضكم إلى بعض هربا وفرارا، قال الكلبى: «على أحد» يعنى محمدا صلّى الله عليه وسلّم. (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ) يعنى فى آخركم ومن ورائكم: إلىّ عباد الله، إلىّ عباد الله، فأنا رسول الله، من يكرّ فله الجنة. (فَأَثابَكُمْ) أى فجازاكم؛ جعل الإثابة بمعنى العقاب، كقوله: «فبشّرهم بعذاب أليم» ؛ معنى الآية: أى جعل مكان الثواب الذى كنتم ترجون (غَمًّا بِغَمٍّ) قال الحسن: يعنى بغمّ المشركين يوم بدر. وقال غيره: غما على غمّ. وقيل: غما متصلا بغم، فالغم الأوّل «3» ما فاتهم من الغنيمة الجزء: 17 ¦ الصفحة: 118 والظفر، والغم الثانى ما نالهم من القتل والهزيمة. وقيل: الغم الأوّل ما أصابهم من القتل والجراح، والغم الثانى ما سمعوا أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم قد قتل، فأنساهم الغم الأوّل. وقيل: غير هذه الأقوال. والله أعلم. قوله تعالى: (لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ) أى من الفتح والغنيمة (وَلا ما أَصابَكُمْ) من القتل والهزيمة؛ هذا أنساكم ذلك الغمّ، وهمّكم ما أنتم فيه عما كان قد أصابكم قبل. وقال المفضّل: «لا» صلة. معناه: لكى تحزنوا على ما فاتكم وما أصابكم عقوبة لكم فى خلافكم إياه، وترككم المركز (وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) *. قوله: (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) . روى عن عبد الله بن الزبير عن أبيه، رضى الله عنهما، قال: لقد رأيتنى مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين اشتدّ الخوف علينا أرسل الله تعالى علينا النوم، والله إنّى لأسمع قول معتّب بن قشير والنّعاس يغشانى ما أسمعه إلا كالحلم يقول: لو كان لنا من الأمر شىء ما قتلنا هاهنا، فأنزل الله عز وجل الآية. وقال عبد الله ابن عباس رضى الله عنهما. أمنهم يومئذ بنعاس يغشاهم بعد خوف، وإنما ينعس من يأمن والخائف لا ينام. وعن أنس عن أبى طلحة قال: رفعت رأسى الجزء: 17 ¦ الصفحة: 119 يوم أحد ما أرى أحدا من القوم إلا وهو يميد تحت حجفته «1» من النعاس. قال أبو طلحة: وكنت ممن ألقى الله «2» تعالى عليه النعاس يومئذ، فكان السيف يسقط من يدى فآخذه، ثم يسقط السوط من يدى فآخذه من النوم. «وطائفة» يعنى المنافقين [معتب «3» بن قشير وأصحابه] «قد أهمّتهم أنفسهم» أى حملتهم على الهمّ «يظنّون بالله غير الحقّ» أى لا ينصر محمدا، وقيل: ظنوا أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم قد قتل. «ظنّ الجاهليّة» أى كظن أهل الجاهلية والشّرك «يقولون هل لنا» أى ما لنا، لفظه استفهام ومعناه جحد «من الأمر من شىء» يعنى التّصرف «قل إنّ الأمر كلّه لله» وذلك أن المنافقين قال بعضهم لبعض: لو كانت لنا عقول لم نخرج مع محمد إلى قتال أهل مكة، ولم يقتل رؤساؤنا. فذلك قوله تعالى: (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا» ) فقال الله تعالى لنبيه- صلى الله عليه وسلّم- قل لهم (لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ» ) أى لخرج «الّذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم» أى مصارعهم «وليبتلى الله» أى ليختبر الله «ما فى صدوركم وليمحّص» أى يخرج ويظهر (ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» ) أى بما فى القلوب من خير أو شر «4» . قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ) أى انهزموا منكم يا معشر المؤمنين (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) * جمع المسلمين وجمع المشركين (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ) أى الجزء: 17 ¦ الصفحة: 120 حملهم على الزّلل. وقال الكلبى: زين لهم أعمالهم بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) أى بشؤم ذنوبهم. قال المفسرون: بتركهم المركز. وقال الحسن: بما كسبوا قبولهم من إبليس ما وسوس إليهم من الهزيمة. (وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) . قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا) يعنى المنافقين عبد الله بن أبىّ وأصحابه (وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ) في النفاق، وقيل: فى النسب. (إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ) ساروا وسافروا فيها للتجارة أو غيرها فماتوا (أَوْ كانُوا غُزًّى) غزاة فقتلوا (لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ) يعنى قولهم وظنّهم (حَسْرَةً) * وحزنا (فِي قُلُوبِهِمْ) * والحسرة: الاغتمام «1» على فائت كان يقدر «2» بلوغه. قال الشاعر: فوا حسرتى لم أقض منك لبانتى ... ولم نتمتّع بالجور وبالقرب «3» ثم أخبر تعالى أن الموت والحياة إلى الله، سبحانه، لا يتقدمان لسفر ولا يتأخران لحضر فقال عز وجل: (وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) . قوله تعالى: (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ) أى فى العاقبة (وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) أى من الغنائم (وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ) أى فى العاقبة. قوله تعالى: (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) أى سهلت لهم أخلاقك، وكثرة احتمالك فلم تسرع إليهم فيما كان منهم يوم أحد (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا) أى جافيا سيّىء الخلق قليل الاحتمال. (غَلِيظَ الْقَلْبِ) قال الكلبى: فظّا فى القول، غليظ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 121 القلب فى الفعل (لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) أى لتفرّقوا عنك، وأصل الفضّ الكسر، ومنه قولهم: لا يفضض الله فاك. قال أهل الإشارة فى هذه الآية: منه العطاء ومنه الثناء «1» . (فَاعْفُ عَنْهُمْ) * أى عمّا أتوا يوم أحد (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) * حتى أشفعك فيهم (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) أى استخرج آراءهم، واعلم ما عندهم، وهو مأخوذ من قول العرب: شرت الدابّة وشوّرتها إذا استخرجت جريها، وعلمت خبرها، قال: ومعنى الآية وشاورهم فيما ليس عندك فيه من الله عهد، ويدل عليه قراءة ابن عباس «وشاورهم فى بعض الأمر» . قال الكلبى: يعنى فأظهرهم فى لقاء العدوّ، ومكايدة الحرب عند الغزوة. روى عن ابن عباس رضى الله عنهما فى قوله: «وشاورهم فى الأمر» قال أبو بكر وعمر رضى الله عنهما، وقال مقاتل وقتادة والربيع: كانت سادات العرب إذا لم يشاوروا فى الأمر شقّ عليهم، فأمر الله تعالى نبيّه صلّى الله عليه وسلّم أن يشاورهم فى الأمر، فإن ذلك أعطف لهم عليه، وأذهب لأضغانهم، وأطيب لأنفسهم، فإذا شاورهم عليه السلام عرفوا إكرامه لهم. قال: (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) أى لا على مشاورتهم. وقرأ جعفر الصادق، وجابر ابن زيد، «فإذا عزمت» بضم التاء، أى عزمت لك ووفقتك وأرشدتك فتوكّل على الله (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) . قوله تعالى: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ) أى يعنكم ويمنعكم من عدوّكم (فَلا غالِبَ لَكُمْ) مثل يوم بدر (وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ) أى يترككم ولا ينصركم، والخذلان القعود عن النصر، والإسلام «2» للهلكة والمكروه، قال: وقرأ عبيد بن عمير «وإن يخذلكم» بضم الياء وكسر الذال، أى يجعلكم مخذولين، ويحملكم على الخذلان والتخاذل، الجزء: 17 ¦ الصفحة: 122 كما فعلتم بأحد (فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ) أى من بعد خذلانه (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) *. قوله تعالى: (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) أى بأحد (قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها) ببدر، وذلك أن المشركين قتلوا من المسلمين يوم أحد سبعين رجلا، وقتل المسلمون منهم يوم بدر سبعين، وأسروا سبعين (قُلْتُمْ أَنَّى هذا) أى من أين لنا هذا القتل والهزيمة، ونحن مسلمون، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم فينا، والوحى ينزل عليه، وهم مشركون؟ وقد تقدّم فى قصة أسارى بدر خبر التخيير قتلهم أو مفاداتهم، ويقتل منهم مثلهم فى العام القابل، واختيارهم الفداء، وذلك قوله: (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) أى بأخذكم الفداء واختياركم القتل، (إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) *. قوله تعالى: (وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) أى بأحد من القتل والجرح والهزيمة والمصيبة (فَبِإِذْنِ اللَّهِ) * أى بقضائه وقدره وعلمه (وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا) أى ليميز، وقيل: ليرى. وقيل: لتعلموا أنتم أن الله قد علم نفاقهم، وأنتم لم [تكونوا «1» ] تعلمون ذلك. (وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أى لأجل دين الله وطاعته (أَوِ ادْفَعُوا) أى عن أهلكم وبلدكم وحريمكم، وقيل: أى كثّروا سواد المسلمين ورابطوا إن لم تقاتلوا، ليكون ذلك دفعا وقمعا للعدوّ (قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ) وهو قول عبد الله بن أبىّ وأصحابه الذين انصرفوا معه، كما تقدّم من خبرهم عند اتباع عبد الله بن عمرو بن حرام أخو بنى سلمة لهم ومناشدته لهم فى الرجوع. قال الله تعالى: (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) وذلك أنهم كانوا يظهرون الإيمان ويضمرون الكفر، فبين الله تعالى نفاقهم (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) . الجزء: 17 ¦ الصفحة: 123 قوله تعالى: (الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ) قيل: فى النسب لا فى الدين، وهم شهداء أحد. (وَقَعَدُوا) يعنى وقعد هؤلاء القائلون عن الجهاد (لَوْ أَطاعُونا) وانصرفوا عن محمد، وقعدوا فى بيوتهم (ما قُتِلُوا) قال تعالى: (قُلْ) لهم يا محمد (فَادْرَؤُا) أى فادفعوا (عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أن الحذر لا يغنى عن القدر. قوله تعالى: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) روى عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما، قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لما أصيب إخوانكم يوم أحد جعل الله أرواحهم فى أجواف طيور «1» خضر، ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها، وتسرح من الجنة حيث شاءت، وتأوى إلى قناديل من ذهب تحت العرش، فلما رأوا طيب مقيلهم ومطعمهم ومشربهم، ورأوا ما أعدّ الله لهم من الكرامة، قالوا: يا ليت قومنا يعلمون ما نحن فيه من النعيم، وما صنع الله عز وجل بنا، كى يرغبوا فى الجهاد ولا ينكلوا عنه. فقال «2» عز وجل: أنا مخبر عنكم ومبلغ إخوانكم. ففرحوا بذلك واستبشروا، فأنزل الله تعالى: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) الآيات، [إلى «3» ] قوله «أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ» ) . وقال قتادة والربيع: ذكر لنا أن رجالا من أصحاب رسول الله «4» صلّى الله عليه وسلّم، قالوا: يا ليتنا نعلم ما فعل إخواننا الذين قتلوا بأحد؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 124 وعن مسروق قال: سألنا عبد الله بن مسعود عن هذه الآية، فقال: جعل الله تعالى أرواح شهداء أحد فى أجواف طير خضر، تسرح فى الجنة حيث شاءت، وتأوى إلى قناديل معلقة بالعرش، فاطّلع الله عز وجل إليهم اطّلاعة فقال: هل تشتهون شيئا فأزيدكموه؟ قالوا: ربنا، ألسنا نسرح فى الجنة فى أيها شئنا؛ ثم اطلع إليهم الثانية، فقال: هل تشتهون من شىء فأزيدكموه؟ فقالوا: ربنا، ألسنا نسرح فى الجنة فى أيها شئنا؛ ثم اطلع إليهم الثالثة، فقال: هل تشتهون من شىء فأزيدكموه؟ فقالوا: ليس فوق ما أعطيتنا شىء إلا أنا أحب أن تعيدنا أحياء، ونرجع إلى الدنيا فنقاتل فى سبيلك، فنقتل مرة أخرى فيك؛ قال: لا؛ قالوا: فتقرئ نبيّنا منا السلام، وتخبره بأن قد رضينا، ورضى عنا؛ فأنزل الله، عز وجل هذه الآية. وعن جابر بن عبد الله الأنصارى قال: قتل أبى يوم أحد، وترك علىّ بنات، فقال لى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ألا أبشرك يا جابر؟ قلت: بلى يا رسول «1» الله؛ قال: إن أباك حيث أصيب بأحد أحياه الله تعالى وكلّمه كفاحا «2» ؛ فقال: يا عبد الله سلنى ما شئت؛ فقال: أسألك أن تعيدنى إلى الدنيا فأقتل فيك ثانيا؛ فقال: يا عبد الله، إنى قضيت ألا أعيد إلى الدنيا خليقة قبضتها؛ قال: يا رب، فمن يبلغ قومى ما أنا فيه من الكرامة؟ قال الله تعالى: أنا؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقد روى أن هذه الآية نزلت فى أصحاب بئر معونة؛ وقيل: فى شهداء بدر. والأحاديث الواردة والأخبار تدل على أنها فى شهداء أحد، والله أعلم. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 125 ذكر غزوة حمراء الأسد «1» غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند منصرفه من أحد، قال ابن سعد: لثمان خلون من شوّال على رأس اثنين وثلاثين شهرا من مهاجره. وقال ابن إسحاق: كانت يوم الأحد لست عشرة خلت من شوّال. وهذا الخلاف مرتب على ما تقدّم فى غزوة أحد. قال ابن سعد وغيره: لما انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أحد مساء يوم السبت بات تلك الليلة على بابه ناس من وجوه الأنصار، وبات المسلمون يداوون جراحاتهم، فلما صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الصبح يوم الأحد أمر بلالا أن ينادى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمركم بطلب عدوّكم، ولا يخرج معنا إلا من شهد القتال بالأمس. فقال جابر بن عبد الله: إن أبى خلفنى يوم أحد على أخوات لى، فلم أشهد الحرب، فأذن لى أسير «2» معك؛ فأذن له، فلم يخرج معه أحد ممن لم يشهد أحدا غيره. ودعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلوائه، وهو معقود لم يحلّ، فدفعه إلى على بن أبى طالب، رضى الله عنه، ويقال: إلى أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه. وخرج رسول الله «3» صلّى الله عليه وسلّم، وهو مجروح، وحشد «4» أهل العوالى حيث أتاهم الصّريخ، فركب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرسه وخرج الناس معه، فبعث ثلاثة نفر من أسلم طليعة فى آثار القوم، فلحق اثنان منهم القوم بحمراء الأسد- وهى من المدينة على عشرة أميال- وهم يأتمرون بالرجوع، الجزء: 17 ¦ الصفحة: 126 وصفوان بن أميّة ينهاهم عن ذلك، فبصروا بالرجلين، فقطعوا عليهما فقتلوهما، ومضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأصحابه حتى عسكر بحمراء الأسد، فدفن الرجلين فى قبر واحد، وكان المسلمون يوقدون تلك الليالى خمسمائة نار، وذهب صوت معسكرهم ونيرانهم فى كل وجه، فكبت الله تعالى عدوّهم، وانصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، إلى المدينة فدخلها يوم الجمعة، وقد غاب خمس ليال، وكان قد استخلف على المدينة عبد الله بن أم مكتوم. وقال محمد بن إسحاق، ورفع الحديث إلى أبى السائب مولى عائشة بنت عثمان: إن رجلا من بنى عبد الأشهل قال: شهدت أحدا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أنا وأخ لى، فرجعنا جريحين، فلما أذن مؤذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالخروج فى طلب العدوّ، قلت لأخى، وقال لى: أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ ما لنا دابة نركبها، وما منا إلا جريح ثقيل، فخرجنا مع رسول الله وكنت أيسر جرحا من أخى، فكان إذا غلب حملته عقبة «1» ومشى عقبة، حتى انتيهنا إلى ما انتهى إليه المسلمون. قال: وأنزل الله تعالى على رسوله صلّى الله عليه وسلّم (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ) هم الذين ساروا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى حمراء الأسد، على ما بهم من ألم الجراح، إلى قوله: (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) . ذكر سريّة أبى سلمة بن عبد الأسد المخزومى بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى قطن- وهو جبل بناحية فيد، به ماء لبنى [أسد بن «2» ] خزيمة- فى هلال المحرم على رأس خمسة وثلاثين شهرا من مهاجره. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 127 وذلك أنه بلغه صلّى الله عليه وسلّم، أن طليحة وسلمة ابنى خويلد قد سارا فى قومهما ومن أطاعهما يدعوانهم إلى حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فبعث أبا سلمة وعقد له لواء، وبعث معه مائة وخمسين رجلا من المهاجرين والأنصار، فأصابوا إبلا وشاء «1» ، ولم يلقوا كيدا، فانحدر أبو سلمة بذلك كله إلى المدينة. ذكر سريّة عبد الله بن أنيس إلى سفيان بن خالد الهذلى بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فخرج من المدينة يوم الاثنين لخمس خلون من المحرم على رأس خمسة وثلاثين شهرا من الهجرة. وذلك أنه بلغ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، أن سفيان بن خالد «2» بن نبيح الهذلىّ ثم اللّحيانى- هكذا سماه محمد بن سعد فى طبقاته. وقال ابن إسحاق: خالد بن سفيان بن نبيح قد جمع الجموع لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فبعث إليه عبد الله بن أنيس وحده فقتله وجاء برأسه. وكانت غيبته ثمانى عشرة ليلة، وقدم يوم السبت لسبع بقين من المحرم. قاله ابن سعد. وقال محمد بن إسحاق: حدثنى محمد بن جعفر بن الزبير، قال قال عبد الله ابن أنيس: دعانى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: إنّه «3» قد بلغنى أن ابن «4» سفيان الهذلىّ جمع الناس ليغزونى وهو بنخلة أو بعرنة «5» فأته فاقتله. فقلت يا رسول الله انعته لى حتى أعرفه؛ قال: إنك إذا رأيته أذكرك الشيطان، وآية ما بينك وبينه الجزء: 17 ¦ الصفحة: 128 أنك إذا رأيته وجدت له قشعريرة. قال: فخرجت متوشّحا بسيفى، حتى دفعت [إليه «1» ] وهو فى ظعن يرتد لهن منزلا، وذلك وقت العصر، فلما رأيته وجدت له ما قال رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، فأقبلت نحوه، وخشيت أن يكون بينى وبينه مجاولة «2» تشغلنى عن الصلاة، فصليت وأنا أمشى نحوه، أومئ برأسى، فلما انتهيت إليه، قال: من الرجل؟ قلت: رجل من العرب سمع بك وبجمعك لهذا الرجل فجاءك لذلك. قال: أجل، أنا فى ذلك. قال: فمشيت معه شيئا حتى إذا أمكننى حملت عليه بالسيف فقتلته، ثم خرجت وتركت ظعائنه منكبّات عليه، فلما قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: أفلح الوجه؛ قلت: قد قتلته؛ قال صدقت. ثم قام بى فأدخلنى بيته فأعطانى عصا، فقال: أمسك هذه العصا عندك. قال: فخرجت بها على الناس، فقالوا: ما هذه؟ قلت: أعطانيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأمرنى أن أمسكها عندى؛ فقالوا: أفلا ترجع إليه فتسأله لم ذلك؟ قال: فرجعت إليه فقلت: يا رسول الله، لم أعطيتنى هذه العصا؟ قال: آية بينى وبينك يوم القيامة، إن أقل الناس المتخصّرون «3» يومئذ، قال: فقرنها عبد الله ابن أنيس بسيفه، فلم تزل معه حتى مات، ثم أمر بها فضمّت فى كفنه، ثم دفنا جميعا. قال ابن هشام: وقال عبد الله بن أنيس فى ذلك: تركت ابن ثور كالحوار وحوله ... نوائح تفرى كلّ جيب مقدّد «4» تناولته والظّعن خلفى وخلفه ... بأبيض من ماء الحديد مهنّد «5» الجزء: 17 ¦ الصفحة: 129 عجوم لهام الدّار عين كأنّه ... شهاب غضى من ملهب متوقّد «1» أقول له والسيف يعجم رأسه ... أنا ابن أنيس فارسا غير قعدد «2» أنا ابن الذى لم ينزل الدهر قدره ... رحيب فناء الدار غير مزنّد «3» فقلت له خذها بضربة ماجد ... حنيف على دين النبىّ محمد «4» وكنت إذا همّ النبىّ بكافر ... سبقت إليه باللسان وباليد. ذكر سرية المنذر بن عمرو السّاعدى إلى بئر معونة كانت فى صفر على رأس ستة وثلاثين شهرا من مهاجره. وذلك أن عامر بن مالك بن جعفر أبو براء ملاعب الأسنة «5» الكلابى وفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأهدى «6» له فلم يقبل منه، وعرض عليه الإسلام فلم يسلم، ولم يبعد «7» ، وقال: لو بعثت معى نفرا من أصحابك إلى قومى لرجوت أن يجيبوا دعوتك. قال: أخاف عليهم أهل نجد؛ قال: أنا لهم جار. فبعث معه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سبعين رجلا من الأنصار شببة «8» يسمون القرّاء «9» ، وأمّر الجزء: 17 ¦ الصفحة: 130 عليهم المنذر بن عمرو، فساروا حتى نزلوا بئر معونة- وهى بين أرض بنى عامر وحرّة بنى سليم، كلا البلدين منها قريب، وهى إلى حرّة بنى سليم أقرب- فلما نزلوها سرحوا ظهرهم، وقدّموا حرام بن ملحان بكتاب رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، إلى عامر بن الطّفيل، فوثب على حرام فقتله؛ واستصرخ عليهم بنى عامر فأبوا، وقالوا: لا نخفر «1» جوار أبى براء، فاستصرخ عليهم قبائل من بنى سليم، عصيّة ورعلا وذكوان، فنفروا معه. واستبطأ المسلمون حراما، فأقبلوا فى أثره، فلقيهم القوم فأحاطوا بهم، وكاثروهم «2» فاقتتلوا، فقتل أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وفيهم سليم بن ملحان، والحكم بن كيسان. قال ابن إسحاق: فقتلوا من عند آخرهم إلا كعب بن زيد أخا بنى دينار بن النجار فإنهم تركوه، وبه رمق بين القتلى، فعاش حتى قتل يوم الخندق. قال: وكان فى سرح القوم عمرو بن أمية الضّمرى، ورجل من الأنصار- قال ابن هشام: هو المنذر بن محمد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح- فلم ينبئهما بمصاب أصحابهما إلا الطير تحوم على العسكر، فقالا: والله إن لهذه «3» الطير لشأنا؛ فأقبلا لينظرا، فإذا القوم فى دمائهم، والخيل التى أصابتهم واقفة. فقال الأنصارى لعمرو بن أمية: ما ترى؟ قال: أرى أن نلحق برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنخبره الخبر؛ قال الأنصارى: ما كنت لأرغب بنفسى عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو؛ ثم قاتل القوم حتى قتل، وأخذ عمرو بن أمية أسيرا، فلما أخبرهم «4» أنه من مضر أطلقه عامر بن الطفيل، وجزّ ناصيته، وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أمّه. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 131 فخرج عمرو بن أمية حتى إذا كان بالقرقرة «1» من صدر قناة «2» أقبل رجلان من بنى عامر حتى نزلا معه، وكان معهما عقد من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجوار لم يعلم به عمرو، فأمهلهما حتى إذا ناما عدا عليهما فقتلهما، وهو يرى أنه قد أصاب بهما تؤرة من بنى عامر فيما أصابوا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال محمد بن سعد: وقدم عمرو بن أمية على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأخبره بقتل أصحاب بئر معونة، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «أبت من بينهم» ! ثم أخبره بقتل العامريين، فقال: «بئس ما صنعت، قد كان لهما منى أمان وجوار، لأدينّهما» ! وبعث بديتهما إلى قومهما، وقنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شهرا فى صلاة الصبح يدعو على رعل وذكوان وعصيّة وبنى لحيان. وروى عن أنس بن مالك، رضى الله عنه، قال: قرأنا بهم قرآنا زمانا، ثم إن ذلك رفع أو نسى: «بلّغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضى عنا وأرضانا «3» » . وقال أنس ابن مالك: ما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجد «4» على أحد ما وجد على أصحاب بئر معونة. قال ابن سعد: وجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فى تلك الليلة التى وصل إليه فيها خبر أصحاب بئر معونة مصاب خبيب بن عدىّ ومن معه، فدعا رسول الجزء: 17 ¦ الصفحة: 132 الله صلّى الله عليه وسلّم على قتلتهم بعد الركعة من الصبح، فقال: «اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم سنين كسنى يوسف، اللهم عليك ببنى لحيان وعضل والقارّة وزعب ورعل وذكوان وعصيّة، فإنهم عصوا الله ورسوله» «1» . ذكر سريّة مرثد بن أبى مرثد الغنوى إلى الرّجيع كانت فى صفر على رأس ستة وثلاثين شهرا من هجرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وذلك أنه قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، رهط من عضل والقارة، وهم إلى الهون بن خزيمة، فقالوا: يا رسول الله، إن فينا إسلاما، فابعث معنا نفرا [من أصحابك «2» ] يفقّهونا ويقرئونا القرآن، ويعلمونا شرائع الاسلام. فبعث صلّى الله عليه وسلّم معهم عاصم بن ثابت بن أبى الأقلح، ومرثد بن أبى مرثد الغنوى، وخبيب بن عدىّ؛ وزيد بن الدّثنة «3» ، وخالد بن البكير «4» الليثى، وعبد الله بن طارق، ومعتّب بن عبيد أخو عبد الله «5» لأمّه. وأمّر عليهم عاصما، وقيل: مرثدا؛ فخرجوا مع القوم حتى إذا كانوا على الرجيع- وهو ماء لهذيل بناحية الحجاز- غدروا [بهم «6» ] واستصرخوا عليهم هذيلا، فلم يرع القوم، وهم فى رحالهم الجزء: 17 ¦ الصفحة: 133 إلا الرجال بأيديهم السيوف قد غشوهم، فأخذوا أسيافهم ليقاتلوا، فقالوا: إنا ما نريد قتلكم، ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئا من أهل مكة، ولكم عهد الله وميثاقه ألا نقتلكم. فأما مرثد بن أبى مرثد، وخالد بن البكير، وعاصم بن ثابت، ومعتّب بن عبيد؛ فقالوا: والله لا نقبل من مشرك عهدا ولا عقدا أبدا. وقاتلوا حتى قتلوا، رضى الله عنهم. وأما زيد بن الدّثنة وخبيب بن عدى، وعبد الله بن طارق، فرغبوا فى الحياة، فأعطوا بأيديهم فأسروهم، ثم خرجوا بهم إلى مكة ليبيعوهم بها، حتى إذا كانوا بمرّ «1» الظّهران انتزع عبد الله بن طارق يده من القرآن «2» ، ثم أخذ سيفه واستأخر عنه القوم، فرموه بالحجارة حتى قتلوه؛ فقبر هناك. وأما خبيب بن عدى وزيد بن الدّثنة فقدموا بهما مكة، فأباعوهما «3» من قريش بأسيرين من هذيل كانا بمكة، فابتاع خبيبا حجر «4» بن أبى إهاب التميمى، حليف بنى نوفل، لعقبة بن الحارث ابن عامر بن نوفل ليقتله بأبيه. وابتاع زيد بن الدّثنة صفوان بن أميّة، ليقتله بأبيه أمية بن خلف، وبعثه مع مولى له يقال له: نسطاس؛ إلى التّنعيم «5» ، فأخرجوه من الحرم ليقتله، واجتمع لذلك رهط من قريش، فيهم أبو سفيان بن حرب، فقال له أبو سفيان حين قدم ليقتل: أنشدك الله يا زيد، أتحب أن محمدا عندنا الآن «6» مكانك نضرب عنقه، وأنك فى أهلك؟ قال: والله ما أحب أن محمدا الجزء: 17 ¦ الصفحة: 134 الآن فى مكانه الذى هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه، وأنى جالس فى أهلى. فقال أبوسفيان: ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا؛ ثم قتله نسطاس. وأما خبيب بن عدى فروى عن ماوية «1» مولاة حجر بن أبى إهاب، وكانت قد أسلمت، قالت: كان خبيب قد حبس فى بيتى، فلقد اطلعت عليه يوما وإن فى يده لقطفا من عنب مثل رأس الرجل يأكل منه، وما أعلم فى أرض الله عنبا يؤكل، قالت: وقال لى حين حضره القتل: ابعثى إلىّ بحديدة أتطهّر بها للقتل؛ فأعطيت غلاما من الحىّ الموسى، فقلت له: ادخل بها على هذا الرجل؛ قالت: فو الله ما هو إلا أن قد ولّى الغلام بها إليه؛ فقلت: ما صنعت! أصاب والله الرجل ثأره بقتل «2» هذا الغلام، فيكون رجلا برجل؛ فلما ناوله الحديدة أخذها من يده ثم قال: لعمرك، ما خافت أمك غدرتى حتى بعثك بهذه الحديدة! ثم خلّى سبيله «3» . ويقال: إن الغلام ابنها. قال ابن إسحاق: ثم خرجوا بخبيب، حتى إذا جاءوا به التنعيم ليصلبوه قال: إن رأيتم أن تدعونى حتى أركع «4» ركعتين فافعلوا. قالوا: دونك فاركع ركعتين. [فركع «5» ركعتين] أتمهما وأحسنهما، ثم أقبل على القوم فقال: أما والله لولا أن تظنوا أنى إنما طوّلت جزعا من القتل لاستكثرت من الصلاة. فكان خبيب أول من سنّ هاتين الركعتين عند القتل للمسلمين. قال: ثم رفعوه على خشبته، فلما أوثقوه، قال: الجزء: 17 ¦ الصفحة: 135 اللهم إنا قد بلّغنا رسالة رسولك، فبلغه الغداة ما يصنع بنا؛ ثم قال: اللهم أحصهم «1» عددا، واقتلهم بددا «2» ، ولا تغادر منهم أحدا «3» . ثم قتلوه، رحمه الله ورضى عنه. قال ابن «4» هشام: أقام خبيب فى أيديهم حتى انقضت الأشهر الحرم، ثم قتلوه. وروى ابن إسحاق أنه قال حين صلب «5» : لقد جمع الأحزاب حولى وألّبوا ... قبائلهم واستجمعوا كل مجمع «6» وقد قرّبوا «7» أبناءهم ونساءهم ... وقرّبت من جذع طويل ممنّع وكلّهم بيدى العداوة جاهدا ... علىّ لأنى فى وثاق بمضيع «8» إلى الله أشكو غربتى بعد كربتى ... وما جمّع الأحزاب لى عند مصرعى فذا العرش صبرنى على ما أصابنى ... فقد بضّعوا لحمى وقد ضلّ مطمعى «9» الجزء: 17 ¦ الصفحة: 136 وذلك فى ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزّع «1» وقد عرّضوا بالكفر والموت دونه ... وقد ذرفت عيناى من غير مدمع «2» وما بى حذار الموت، إنى لمّيت ... ولكن حذارى حرّ نار تلفع «3» فلست بمبد للعدوّ تخشّعا ... ولا جزعا إنّى إلى الله مرجعى ولست أبا لى حين أقتل مسلما ... على أى حال كان فى الله مضجعى وفى رواية ابن شهاب: على أى جنب كان فى الله مصرعى قالوا: وصلب بالتّنعيم، وكان الذى تولى صلبه عقبة بن الحارث، وأبو هبيرة العدوى «4» . ذكر غزوة بنى النّضير غزاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شهر ربيع الأوّل، سنة أربع، على رأس سبعة وثلاثين شهرا من مهاجره. وكان سبب هذه الغزوة على ما حكاه محمد بن سعد، ومحمد بن إسحاق، وعبد الملك بن هشام، دخل حديث بعضهم فى بعض، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، خرج إلى بنى النضير يستعينهم فى دية الكلابيّين أو العامريّين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضّمرى، فقالوا: نعم يا أبا القاسم، نعينك بما أحببت. وكان الجزء: 17 ¦ الصفحة: 137 رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قد جلس إلى جنب جدار من بيوتهم، وهو فى نفر من أصحابه، فيهم أبو بكر، وعمر، وعلىّ، رضوان الله عليهم، فخلا بعض بنى النضير إلى بعض، فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه، فمن رجل «1» يعلو هذا البيت، فيلقى عليه صخرة فيريحنا منه؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحاش «2» ابن كعب، أحدهم، فقال: أنا لذلك؛ فقال سلّام بن مشكم: لا تفعلوا، والله ليخبرنّ بما هممتم به، وإنه لنقض للعهد الذى بيننا وبينه. وجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الخبر من السماء بما أراد القوم، فنهض مسرعا كأنه يريد الحاجة فتوجه إلى المدينة، فلما أبطأ على أصحابه قاموا فى طلبه، فلقوا «3» رجلا مقبلا من المدينة فسألوه عنه صلّى الله عليه وسلّم، فقال: رأيته قد دخل المدينة. فأقبل أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى أتوه، فقالوا: يا رسول الله، قمت ولم نشعر. قال: همّت يهود بالغدر فأخبرنى الله بذلك فقمت. ثم بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليهم محمد بن مسلمة: «أن أخرجوا من بلدى فلا تساكنونى بها، وقد هممتم بما هممتم به من الغدر، وقد أجلتكم عشرا [أى من «4» الأيام] فمن رئى بعد ذلك ضربت عنقه» . فمكثوا أياما يتجّهزون، وأرسلوا إلى ظهر لهم بذى الجدر» وتكاروا إبلا من ناس من أشجع، فأرسل إليهم عبد الله بن أبىّ: أن أقيموا فى حصونكم، ولا تخرجوا من دياركم، فإن معى ألفين من قومى وغيرهم من العرب يدخلون معكم حصنكم فيموتون من عند آخرهم، وتمدّكم قريظة وحلفاؤكم من غطفان. ووافقه على ذلك وديعة «6» بن مالك بن أبى قوقل، وسويد وداعس، وقالوا الجزء: 17 ¦ الصفحة: 138 لهم: إن قوتلتم نصرناكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم؛ فطمع حيّى بن أخطب فيما قال ابن أبىّ، فأرسل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنا لا نخرج من ديارنا فاصنع ما بدا لك. فكبّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكبّر المسلمون لتكبيره، وقال: حاربت يهود. واستخلف على المدينة ابن أمّ مكتوم، وسار فى أصحابه، وعلى بن أبى طالب يحمل لواءه، فصلى العصر بفناء بنى النضير، فلما رأوه تحصنوا بحصونهم، وقاموا عليها معهم النبل والحجارة، واعتزلتهم قريظة فلم تعنهم، وخذلهم عبد الله بن أبىّ ومن وافقه فلم ينصروهم، فحاصرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ست ليال، ثم أمر بقطع النّخيل وتحريقها، فنادوه: يا محمد، قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه، فما بال قطع النخل وتحريقها! وكان الله عز وجل أمر رسوله، صلّى الله عليه وسلّم بذلك، فقذف الله فى قلوبهم الرعب، وقالوا: نخرج من بلادك. فقال: لا أقبله اليوم، ولكن اخرجوا منها، ولكم دماؤكم وما حملت الإبل إلا الحلقة «1» . فنزلوا على ذلك. وكانت مدّة حصرهم خمسة عشر يوما، وولى إخراجهم محمد بن مسلمة، فحملوا النساء والصبيان وتحملوا على سبعمائة بعير، وكان الرجل منهم يهدم بيته عن نجاف «2» بابه، فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به، فخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام، وكان من أشرافهم ممن سار إلى خيبر سلام بن أبى الحقيق، وكنانة بن الربيع ابن أبى الحقيق، وحيّى بن أخطب، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هؤلاء فى قومهم بمنزلة بنى المغيرة فى قريش. وحزن المنافقون [عليهم «3» ] حزنا شديدا، وقبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الأموال والحلقة، فوجد من الحلقة خمسين الجزء: 17 ¦ الصفحة: 139 درعا، وخمسين بيضة، وثلاثمائة سيف وأربعين سيفا، وكانت بنو النضير صفيّا «1» لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، خالصة له حبسا «2» لنوائبه، لم يخمّسها ولم يسهم منها لأحد، إلا أنه أعطى ناسا من أصحابه، ووسّع فى الناس، فكان ممن أعطاه رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم من المهاجرين أبو بكر [الصديق «3» ] رضى الله عنه، أعطاه بئر حجر، وعمر بن الخطاب بئر جرم «4» ، وعبد الرحمن بن عوف سوالة، وصهيب بن سنان الصراطة «5» ، والزبير بن العوّام وأبو سلمة بن عبد الأسد البويلة «6» ، وسهل بن حنيف وأبو دجانة مالا، يقال له: مال ابن خرشة. حكاه محمد بن سعد فى طبقاته. قال: ولما أجلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنى النضير، قال: امضوا فإن هذا أوّل الحشر وإنا على الأثر. وأنزل الله عز وجل فى بنى النضير سورة «الحشر» بكمالها. يقول الله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) . الجزء: 17 ¦ الصفحة: 140 قال الأستاذ أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبى النيسابورى، رحمه الله: «أهل الكتاب» بنو النضير «من ديارهم» التى كانت بيثرب «لأوّل الحشر» قال الزهرى: كانوا من سبط «1» لم يصبهم جلاء فيما مضى، وكان الله عز وجل قد كتب عليهم الجلاء، ولولا ذلك لعذبهم فى الدنيا، قال: وكانوا أوّل حشر فى الدنيا حشر إلى «2» الشام. وقال الكلبى: إنما قال: «لأوّل الحشر» لأنهم أوّل حشر من أهل الكتاب، ونفوا من الحجاز. وقال مرّة الهمدانىّ: كان هذا أوّل الحشر من أهل المدينة، والحشر الثانى من خيبر وجميع جزيرة العرب إلى أذرعات وأريحا «3» من الشام فى أيام عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وعلى يديه. وقال قتادة: كان هذا أوّل الحشر، والحشر الثانى: نار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا، وتأكل منهم من تخلّف. «ما ظننتم» أيها المؤمنون «أن يخرجوا» من المدينة «وظنّوا أنّهم مانعتهم حصونهم من الله» حيث درّبوها وحصنوها «فأتاهم الله» أى أمر الله وعذابه « [من «4» ] حيث لم يحتسبوا وقذف فى قلوبهم الرّعب» قيل: بقتل سيدهم كعب بن الأشرف. «يخربون بيوتهم بأيديهم» قال ابن إسحاق: وذلك لهدمهم بيوتهم عن نجف أبوابهم. وقال ابن زيد: كانوا يقتلون العمد، وينقضون السقوف وينقبون الجدران ويقلعون الخشب «5» ، حتى الأوتاد، يخربونها لئلا يسكنها المسلمون حسدا منهم وبغضا. وقال ابن عباس: كلما ظهر المسلمون على دار من دورهم «6» هدموها لتتسع لهم المقاتل، وجعل أعداء الله ينقبون دورهم من أدبارهم فيخرجون إلى التى الجزء: 17 ¦ الصفحة: 141 بعدها، فيتحصنون فيها ويكسرون ما يليهم منها، ويرمون بالتى خرجوا منها أصحاب رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم. وقال قتادة: كان المسلمون يخربون ما يليهم من ظاهرها، وتخربها اليهود من باطنها، فذلك قوله عز وجل: «يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ» .) ثم قال تعالى: (وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ) الآية «الْجَلاءَ» عن الوطن (لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا) بالقتل وبالسّبى «1» كما فعل ببنى قريظة «وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ.) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا «2» اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» . قوله تعالى: (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) قال ابن إسحاق: اللينة: ما خالف العجوة من النخل. وقال ابن هشام: ما لم تكن برنيّة «3» ولا عجوة. وقال عكرمة وزيد بن رومان وقتادة: النخل كلّه لينة ما خلا العجوة. وعن ابن عباس رضى الله عنهما، اللينة: النخلة والشجرة. وقال سفيان: هى كرام النخل. وقيل: هى النخلة القريبة من الأرض. وقال مقاتل: هو ضرب من النخل، يقال لثمرها «4» : اللّون، وهو شديد الصفرة، يرى نواه من خارج، يغيب فيه الضّرس، وكان من أجود ثمرهم وأعجبها إليهم، وكانت النخلة الواحدة ثمنها ثمن وصيف «5» ، وأحب إليهم من وصيف، فلما رأوا ذلك يقطع شق عليهم. قال: وجمع اللينة لين. وقيل: ليان «6» . الجزء: 17 ¦ الصفحة: 142 قال الثعلبى: لما نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلم ببنى النضير، وتحصنوا فى حصونهم، أمر بقطع نخيلهم وإحراقها، فجزع أعداء الله عند ذلك وقالوا: يا محمد زعمت أنك تريد الصلاح، أفمن الصلاح قطع النخيل، وعقر الشجر؟ وهل وجدت فيما زعمت أنه أنزل عليك الفساد فى الأرض؟ فشق ذلك على النبى صلّى الله عليه وسلّم، ووجد المسلمون فى أنفسهم من قولهم، وخشوا أن يكون «1» في ذلك فسادا، واختلف المسلمون فى ذلك، فقال بعضهم: لا تقطعوا، فإنه مما أفاء الله علينا. وقال بعضهم: بل نغيظهم بقطعها. فأنزل الله تعالى الآية بتصديق من نهى عن قطعه، وتحليل من قطع من الإثم، وأخبر أن قطعه وتركه بإذنه تعالى. وفى قطع نخيل بنى النضير يقول حسان بن ثابت: وهان على سراة بنى لؤىّ ... حريق بالبويرة مستطير وقوله تعالى: «وليخزى الفاسقين» أى وليذل اليهود ويخزيهم ويغيظهم. قوله تعالى: (وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) «أفآء الله» أى ردّ على رسوله ورجع إليه، ومنه فىء الظلّ [منهم «2» ] أى من بنى النضير من الأموال «فما أوجفتم» أوضعتم «3» «عليه من خيل ولا ركاب» وهى الإبل، يقول: لم تقطعوا إليها شقّة، ولم تنالوا فيها مشقة، ولم تكلفوا مؤنة «4» ، ولم تلقوا حربا. وإنما كانت بالمدينة فمشوا إليها مشيا، ولم يركبوا خيلا ولا إبلا إلا التى الجزء: 17 ¦ الصفحة: 143 صلّى الله عليه وسلّم، فإنه ركب جملا فافتتحها صلحا، وأجلاهم عنها وخزن أموالهم فسأل المسلمون النبى صلّى الله عليه وسلّم القسمة، فأنزل الله عز وجلّ الآية، فجعل أموال بنى النضير خاصة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يضعها حيث يشاء، فقسمها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة، وهم: أبو دجانة سماك بن خرشة، وسهل بن حنيف، والحارث بن الصّمة. قال: ولم يسلم من بنى النضير إلا رجلان، أحدهما سفيان ابن عمير بن وهب، والثانى سعد بن وهب، أسلما على أموالهما فأحرزاها. روى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال: إن أموال بنى النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف «1» المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكانت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم خالصة، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ينفق على أهله منه نفقة سنته، وما بقى جعله فى الكراع «2» والسلاح عدّة فى سبيل الله. قوله تعالى: (ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) قال ابن عباس رضى الله عنهما: القرى هى قريظة والنّضير، وهما بالمدينة، وفدك، وهى من المدينة على ثلاثة أميال، وخيبر، وقرى عرينة وينبع جعلها الله تعالى لرسوله صلّى الله عليه وسلّم، يحكم فيها ما أراد، فاحتواها كلها، فقال ناس: هلا قسمها؟ فأنزل الله عز وجل هذه الآية. قال: و (الْقُرْبى) * قرابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهم بنو هاشم وبنو المطلب. وقوله: (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) أى بين الجزء: 17 ¦ الصفحة: 144 الرؤساء والأغنياء والأقوياء، فيغلبوا عليه الفقراء والضعفاء، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا غنموا غنيمة أخذ الرئيس ربعها لنفسه، وهو المرباع، ثم يصطفى منها أيضا بعد المرباع ما شاء، وفيه يقول شاعرهم: لك المرباع منها والصّفايا ... وحكمك والنّشيطة والفضول «1» فجعل الله تعالى [هذا «2» ] لرسوله عليه السلام يقسمه فى المواضع التى أمر بها. وقوله تعالى: (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ) أى ما أعطاكم من الفىء والغنيمة «وما نهاكم عنه» من الغلول وغيره «فانتهوا» . قوله تعالى: (لِلْفُقَراءِ) * يعنى كى لا يكون ما أفاء الله على رسوله دولة بين الأغنياء منكم ولكن يكون (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) أى فى إيمانهم. قال قتادة: هم المهاجرون الذين تركوا الديار والأموال والأهلين والعشائر، وخرجوا حبّا لله ورسوله، واختاروا الإسلام على ما كانت فيه من شديدة، حتى ذكر لنا أن الرجل كان يعصب الحجر على بطنه ليقيم به صلبه من الجوع، وكان الرجل يتخذ الحفيرة فى الشتاء ماله دثار غيرها. وعن سعيد بن جبير، وسعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، قالا: كان ناس من المهاجرين لأحدهم الدار والزوجة والعبد والناقة، يحج عليها ويغزو، فنسبهم الله تعالى إلى أنهم فقراء، وجعل لهم سهما فى الزكاة. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 145 قوله تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) قال: قوله (تَبَوَّؤُا) توطنوا (الدَّارُ) * اتخذوا المدينة دار الإيمان والهجرة، وهم الأنصار، أسلموا فى ديارهم وابتنوا المساجد قبل قدوم النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فأحسن الله الثناء عليهم. وقوله: (مِنْ قَبْلِهِمْ) * أى من قبل قدوم المهاجرين عليهم، وقد آمنوا (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً» أى حزازة وغيظا وحسدا (مِمَّا أُوتُوا) أى مما أعطى المهاجرين من الفىء، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قسم أموال بنى النضير بين المهاجرين، ولم يعط الأنصار «1» منها شيئا إلا الثلاثة الذين ذكرناهم، فطابت أنفس الأنصار بذلك (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ) إخوانهم من المهاجرين بأموالهم ومنازلهم (وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) أى فاقة وحاجة إلى ما يؤثرون، وذلك أنهم قاسموهم ديارهم وأموالهم. وعن ابن عباس رضى الله عنهما، قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم النضير للأنصار: «إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وتشاركونهم فى هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسم عليكم شىء من الغنيمة» فقالت الأنصار: بل نقسم لهم من ديارنا «2» وأموالنا ونؤثرهم بالغنيمة ولم نشاركهم فيها. فأنزل الله عز وجل: (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) والشحّ فى كلام العرب: البخل ومنع الفضل. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 146 قوله تعالى: (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ «1» رَحِيمٌ) قال ابن أبى ليلى: الناس على ثلاث منازل: للفقراء المهاجرون، والذين تبوّءوا الدار والإيمان، والذين جاءوا من بعدهم، فاجهد ألا تكون خارجا من هذه المنازل. وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: أمر الله عز وجل بالاستغفار لأصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهو يعلم أنهم سيفتنون. وعن عائشة رضى الله عنها قالت: أمرتم بالاستغفار لأصحاب محمد عليه السلام فسببتموهم، سمعت نبيكم صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا تذهب هذه الأمة حتى يلعن آخرها أوّلها» . قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ. لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) نزلت هذه الآيات فى شأن عبد الله بن أبىّ ومن وافقه فى إرسالهم لبنى النضير وقعودهم عنهم، كما تقدّم آنفا، وقوله: (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ) يقول: يرهبونكم أشدّ من رهبتهم الله تعالى. (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) . قوله تعالى: (لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ «2» بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) أعلم الله تعالى المؤمنين أن اليهود لا يبرزون لهم بالقتال، ولا يقاتلونهم إلا فى قرى محصنة، أو من الجزء: 17 ¦ الصفحة: 147 وراء جدار (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) يعنى بعضهم فظّ على بعض، وبعضهم عدوّ لبعض، وعداوتهم بعضهم بعضا شديدة. وقيل: بأسهم فيما بينهم من وراء الحيطان والحصون شديد، فإذا خرجوا لكم فهم أجبن خلق الله. (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) قال قتادة: أهل الباطل مختلفة [أهواؤهم «1» ، مختلفة شهاداتهم، مختلفة] أعمالهم، وهم مجتمعون فى عداوة أهل الحق. وقال مجاهد: أراد أن دين المنافقين يخالف دين اليهود. (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) *. قوله تعالى: (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) يعنى مثل هؤلاء اليهود (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) وهم مشركو مكة (ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) * يوم بدر. قال مجاهد وقال ابن عباس: يعنى بنى قينقاع؛ وقيل: مثل قريظة كمثل بنى النضير. ثم ضرب مثلا للمنافقين واليهود فى تخاذلهم فقال تعالى: (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) وهى قصّة برصيصا العابد مع الشيطان. ذكر قصة برصيصا روى أبو إسحاق أحمد بن محمد الثعلبى بسند يرفعه إلى ابن عباس، رضى الله عنهما، فى قوله تعالى: (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ) الآية. قال: كان راهب فى الفترة يقال له برصيصا، قد تعبّد «2» في صومعة له سبعين سنة، لم يعص الله فيها طرفة عين، وإن إبليس أعياه فى أمره الحيل، فلم يستطع له بشىء، فجمع ذات يوم مردة الشيطان، فقال: ألا أحد منكم يكفينى أمر برصيصا؟ فقال الأبيض، وهو صاحب الأنبياء، وهو الذى تصدّى لرسول الله صلّى الله عليه الجزء: 17 ¦ الصفحة: 148 وسلّم، وجاءه فى صورة جبريل ليوسوس إليه على وجه الوحى، فجاء جبريل حتى دخل بينهما، فدفعه بيده دفعة هينة، فوقع من دفعة جبريل إلى أقصى الهند. فقال الأبيض لإبليس: أنا أكفيك. فانطلق فتزيّن بزينة الرهبان، وحلق وسط رأسه، ثم مضى حتى أتى صومعة برصيصا، فناداه، فلم يجبه برصيصا، وكان لا ينفتل عن صلاته إلا فى عشرة «1» أيام، ولا يفطر إلا فى عشرة أيام، فكان يواصل الصوم الأيام العشرة والعشرين والأكثر، فلما رأى الأبيض أنه لا يجيبه أقبل على العبادة فى أصل صومعته، فلما انقتل برصيصا اطلع من صومعته، فرأى الأبيض قائما منتصبا يصلى فى هيئة حسنة من هيئة الرهبان، فلما رأى ذلك من حاله تدبر فى نفسه حين لهى عنه فلم يجبه، فقال له: إنك ناديتنى وكنت مشغولا عنك، فحاجتك «2» ؟ قال: حاجتى أنى أحببت أن أكون معك فأتأدّب بك، وأقتبس من علمك، ونجتمع على العبادة، فتدعو لى وأدعو لك؛ قال: إنى لفى شغل عنك، فإن كنت مؤمنا فإن الله عز وجل سيجعل لك فيما أدعوه للمؤمنين والمؤمنات نصيبا إن استجاب لى. ثم أقبل على صلاته وترك الأبيض، فأقبل الأبيض يصلى، فلم يلتفت إليه برصيصا أربعين يوما بعدها، فلما انفتل رآه قائما يصلى، فلما رأى برصيصا شدّة اجتهاده، وكثرة تضرعه وابتهاله إلى الله عز وجل كلّمه، وقال له: حاجتك؟ قال: حاجتى أن تأذن لى فأرتفع إليك. فأذن له، فارتفع فى صومعته، فأقام الأبيض معه حولا يتعبد، لا يفطر إلا فى كل أربعين يوما [ولا ينفتل عن صلاته إلا فى كل أربعين يوما «3» ] مرة، وربما مدّ إلى الثمانين؛ فلما رأى برصيصا اجتهاده تقاصرت «4» إليه نفسه، وأعجبه شأنه، فلما حال الحول قال الأبيض لبرصيصا: إنى منطلق، فإن لى صاحبا الجزء: 17 ¦ الصفحة: 149 غيرك، ظننت أنك أشدّ اجتهادا مما أرى، وكان يبلغنا عنك غير الذى رأيت. قال: فدخل على برصيصا أمر عظيم، وكره مفارقته للذى رأى من شدّة اجتهاده، فلما ودعه قال له الأبيض: إن عندى دعوات أعلمكها تدعو بهن، فهن خير لك مما أنت فيه، يشفى الله بها السقيم، ويعافى بها المبتلى والمجنون؛ قال برصيصا: إنى أكره هذه المنزلة، لأن لى فى نفسى شغلا، وإنى أخاف إن علم بهذا الناس شغلونى عن العبادة؛ فلم يزل به الأبيض حتى علمه. ثم انطلق حتى أتى إبليس فقال: قد والله أهلكت الرجل. قال: فانطلق الأبيض فتعرض لرجل فخنقه، ثم جاءه فى صورة رجل متطبب، فقال لأهله: إن بصاحبكم جنونا فأعالجه؟ فقالوا: نعم؛ فقال لهم: إنى لا أقوى على جنيته، ولكنى سأرشدكم إلى من يدعو الله فيعافى؛ فقالوا له: دلّنا. قال: انطلقوا إلى برصيصا، فإن عنده اسم الله الذى إذا دعى به أجاب. قال: فانطلقوا إليه فسألوه ذلك، فدعا بتلك الكلمات فذهب عنه الشيطان. وكان يفعل الأبيض بالناس مثل هذا الذى فعل بالرجل، ثم يرشدهم إلى برصيصا فيدعو لهم فيعافون. قال: فانطلق الأبيض فتعرض لجارية من بنات الملوك بين ثلاثة إخوة، وكان أبوهم ملكا فمات فاستخلف أخاه، وكان عمها ملك بنى إسرائيل، فعذبها وخنقها، ثم جاء إليهم فى صورة رجل متطبب، فقال لهم: أعالجها؟ قالوا: نعم. فعالجها فقال: إن الذى عرض لها مارد لا يطاق، ولكن سأرشدكم إلى رجل تتقون به تدعونها عنده، فإذا جاء شيطانها دعا لها، حتى تعلموا أنها قد عوفيت وتردّونها «1» صحيحة، قد ذهب عنها شيطانها؛ قالوا: ومن هو؟ قال: برصيصا؛ قالوا: وكيف لنا أن يقبلها منا ويجيبنا إلى هذا؟ هو أعظم شأنا من ذلك. قال: انطلقوا وابتنوا صومعة إلى جانب صومعته حتى تشرفوا عليه، ولتكن الجزء: 17 ¦ الصفحة: 150 هذه الصومعة التى تبنون لزيقة صومعته، فإن قبلها وإلا تضعونها «1» في صومعتها، ثم قولوا له: هى أمانة عندك، فاحتسب فيها. قال: فانطلقوا إليه فسألوه ذلك، فأبى عليهم، فبنوا صومعة على ما أمرهم الأبيض، ثم اطلعوا عليه ووضعوا الجارية فى صومعتها، وقالوا له: يا برصيصا، هذه أختنا قد عرض لها عدوّ من أعداء الله، فهى أمانة عندك فاحتسب فيها. ثم انصرفوا، فلما انفتل برصيصا عن صلاته عاين تلك الجارية وما بها من الجمال، فأسقط «2» في يده، ودخل عليه أمر عظيم، قال: فجاءها الشيطان فخنقها؛ فلما رأى برصيصا ذلك انفتل عن صلاته، فدعا بتلك الدعوات، فذهب عنها الشيطان، ثم أقبل على صلاته، ثم جاءها الشيطان فخنقها، وكان يكشف عن نفسها ويتعرّض [بها «3» ] لبرصيصا، وجاءه الشيطان، فقال: ويحك! واقعها فلن تجد مثلها، فستتوب بعد، فتدرك ما تريد من الأمر الذى تريد؛ فلم يزل به حتى واقعها، فافترشها، فلم يزل على ذلك يأتيها حتى حملت وظهر حملها، فقال له الشيطان: ويحك! قد افتضحت، فهل لك أن تقتل هذه وتتوب؟ فإن سألوك فقل: جاء شيطانها فذهب بها ولم أقو عليه. قال: ففعل. فقتلها ثم انطلق بها فدفنها إلى جانب الجبل، فجاءه الشيطان وهو يدفنها ليلا فأخذ بطرف إزارها، فبقى طرف إزارها خارجا فى التراب، ثم رجع برصيصا إلى صومعته وأقبل على صلاته، فجاء إخوتها يتعاهدون أختهم، وكانوا يجيئون فى بعض الأيام يسألون عنها، ويطلبون إلى برصيصا ويوصونه بها، فقالوا: يا برصيصا، ما فعلت أختنا؟ قال: جاء شيطانها فذهب بها ولم أطقه. قال: فصدّقوه وانصرفوا. فلما أمسوا وهم مكروبون، جاء الشيطان إلى كبيرهم الجزء: 17 ¦ الصفحة: 151 فى المنام، فقال له: ويحك! إن برصيصا فعل بأختك كذا وكذا، وإنه دفنها فى موضع كذا وكذا من جبل كذا وكذا. فقال الأخ: هذا حلم وهو من عمل الشيطان، برصيصا خير من ذلك. قال: فتتابع عليه ثلاث ليال فلم يكترث، فانطلق إلى الأوسط بمثل ذلك، فقال الأوسط مثلما قال الأكبر، فلم يخبر به أحدا، فانطلق إلى أصغرهم بمثل ذلك، فقال أصغرهم لإخوته: والله لقد رأيت كذا وكذا. فقال الأوسط: وأنا والله لقد رأيت مثله. وقال الأكبر: وأنا والله لقد رأيت كذا وكذا، فانطلقوا بنا إلى برصيصا؛ فأتوه، فقالوا: يا برصيصا، ما فعلت أختنا؟ قال: أليس قد أعلمتكم بحالها وحال شيطانها! فكأنكم اتهمتمونى. فقالوا: لا والله لا نتهمك. فاستحيوا منه وانصرفوا عنه، فجاءهم الشيطان فقال، ويحكم! إنها لمدفونة فى موضع كذا، وإن طرف إزارها خارج من التراب. قال: فانطلقوا فرأوا أختهم على ما رأوا فى نومهم، قال: فمشوا فى مواليهم، ومواليهم معهم الفؤس والمساحى «1» ، فهدموا صومعته وأنزلوه ثم كتفوه وانطلقوا به إلى الملك، فأقرّ على نفسه؛ وذلك أن الشيطان أتاه فقال: تقتلها ثم تكابر، يجتمع عليك أمران قتل ومكابرة، اعترف. فلما اعترف أمر الملك بقتله وصلبه على خشبة، فلما صلب أتاه الأبيض عيانا، وذلك أن إبليس لعنه الله، قال للأبيض: وما يغنى عنك ما صنعت؟ إن قتل فهو كفارة لما كان منه. فقال الأبيض: أنا أكفيكه. فأتاه فقال: يا برصيصا، أتعرفنى؟ قال: لا. قال: أنا صاحبك الذى علمك الدعوات فاستجيب لك، ويحك! أما اتقيت الله فى أمانة خنت أهلها، وأنك أعبد بنى إسرائيل! أما استحيت! أما راقبت الله فى دينك! فلم يزل يعيره ويونجه، ثم قال له فى آخر ذلك: ألم يكفك الجزء: 17 ¦ الصفحة: 152 ما صنعت حتى أقررت على نفسك وفضحت أشباهك من الناس! فإن متّ على هذه الحال لم يفلح أحد من نظرائك بعدك. قال: فكيف أصنع؟ قال: تطيعنى فى خطة واحدة حتى أنجيك مما أنت فيه، وآخذ بأعينهم، وأخرجك من مكانك. قال: وما هى؟ قال: تسجد لى. قال: أفعل. فسجد له، فقال «1» : يا برصيصا، هذا الذى أردت منك، صارت عاقبة أمرك إلى أن كفرت بربك، إنى برىء منك، إنى أخاف الله رب العالمين. يقول الله تعالى: (فَكانَ عاقِبَتَهُما) يعنى الشيطان وذلك الإنسان. (أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) . قال ابن عباس رضى الله عنهما: فضرب الله هذا المثل ليهود بنى النضير والمنافقين من أهل المدينة، وذلك أن الله تعالى أمر نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، أن يحلى بنى النضير من المدينة، فدسّ المنافقون إليهم فقالوا: لا تجيبوا محمدا إلى ما دعاكم ولا تخرجوا من دياركم، فإن قاتلكم كنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم. قال: فأطاعوهم؛ فدرّبوا على حصونهم وتحصنوا فى ديارهم رجاء نصر المنافقين حتى جاءهم النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فناصبوه الحرب، يرجون نصر المنافقين، فخذلوهم وتبرءوا منهم كما تبرأ الشيطان من برصيصا وخذله. قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) قوله: (اتَّقُوا اللَّهَ) * أى فى أداء فرائضه واجتناب معاصيه (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) يعنى يوم القيامة. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 153 قوله: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (نَسُوا اللَّهَ) * أى نسوا حق الله وتركوا أوامره (فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) [يعنى «1» حظ أنفسهم] أن يقدموا لها خيرا (أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ. لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) . فقد أتينا- أكرمك الله- على تفسير ما أنزل من القرآن فى شأن بنى النضير مما يتعلق بشرح أخبارهم خاصة على حكم الاختصار، ولم نتعرض إلى ما سوى ذلك من التفسير. ذكر غزوة بدر الموعد غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لهلال ذى القعدة، على رأس خمسة وأربعين شهرا من مهاجره صلّى الله عليه وسلّم. حكاه محمد بن سعد. وقال محمد بن إسحاق: كانت فى شعبان. وجعلها بعد غزوة ذات الرقاع، فتكون على رأس اثنين وأربعين شهرا من الهجرة، والأشبه ما قاله ابن سعد، لأن الميعاد كان على «2» رأس الحول من غزوة أحد، وغزوة أحد كانت فى شوّال على ما اتفقا عليه، ولم يتخلفا فى الشهر وإنما فى أيام ذكرناها هناك. قال محمد بن سعد: لما دنا الموعد كره أبو سفيان الخروج، وقدم نعيم بن مسعود الأشجعى مكة، فقال له أبو سفيان: إنى قد واعدت محمدا وأصحابه أن نلتقى ببدر، وقد جاء ذلك الوقت، وهذا عام جدب، وإنما يصلحنا عام خصب غيداق «3» ، وأكره أن يخرج محمد ولا أخرج فيجترئ علينا، فنجعل لك عشرين فريضة «4» يضمنها «5» الجزء: 17 ¦ الصفحة: 154 إليك سهيل بن عمرو على أن تقدم المدينة فتخذل أصحاب محمد. قال: نعم. فحملوه على بعير، فأسرع السير حتى قدم المدينة، فأخبرهم بجمع أبى سفيان [لهم «1» ] وما معه من العدّة والسلاح، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: والذى نفسى بيده لأخرجنّ وإن لم يخرج معى أحد. واستخلف على المدينة عبد الله بن رواحة، وسار بالمسلمين وهم ألف وخمسمائة، والخيل عشرة أفراس، وحمل لواءه على بن أبى طالب، وخرج المسلمون ببضائع وتجارات لهم، وكانت بدر الصغرى مجتمعا يجتمع فيه العرب، وسوقا تقوم لهلال ذى القعدة إلى ثمان تخلو منه، ثم يتفرّق الناس إلى بلادهم. فانتهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه إلى بدر ليلة هلال ذى القعدة؛ وقامت السوق صبيحة الهلال فأقاموا بها ثمانية أيام، وباعوا ما خرجوا به من التجارات، فربحوا للدرهم درهما، وانصرفوا، وقد سمع الناس بمسيرهم، وخرج أبو سفيان بن حرب من مكة فى قريش، وهم ألفان ومعهم خمسون فرسا حتى انتهوا إلى مجنّة- وهى «2» مرّ الظهران- ومنهم من يقول: بلغوا عسفان «3» . ثم قال: ارجعوا فإنه لا يصلحنا إلا عام خصب غيداق، نرعى فيه الشجر ونشرب اللبن، وعامكم هذا عام جدب، وإنى راجع فارجعوا. فسمى أهل مكة هذا الجيش جيش السّويق، يقولون: خرجوا يشربون السويق. قال: وقدم معبد ابن أبى معبد الخزاعى مكة بخبر مسير رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- وأصحابه، فقال صفوان بن أمية لأبى سفيان: قد نهيتك يومئذ أن تعد القوم وقد اجترءوا علينا ورأوا أن قد أخلفناهم. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 155 وقال عبد الله بن رواحة: وعدنا أبا سفيان وعدا «1» فلم نجد ... لميعاده صدقا وما كان وافيا فأقسم لو وافيتنا فلقيتنا ... لأبت ذميما وافتقدت المواليا «2» تركنا به أوصال عتبة وابنه ... وعمرا أبا جهل تركناه ثاويا «3» عصيتم رسول الله أفّ لدينكم ... وأمركم السّىء «4» الذى كان غاويا فإنى وإن عنّفتمونى لقائل ... فدى لرسول الله أهلى وماليا أطعناه لم نعد له فينا بغيره ... شهابا لنا فى ظلمة الليل هاديا وانصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون، ورجعوا إلى المدينة. وأنزل الله عز وجل فى شأن هذه الغزوة قوله تعالى: (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) . قال السّدّى: لما تجهز رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه للمسير إلى بدر لميعاد أبى سفيان أتاهم المنافقون فقالوا: نحن أصحابكم الذين نهيناكم عن الخروج إليهم فعصيتمونا، وقد أتوكم فى دياركم [فقاتلوكم «5» ] وظفروا، فإن أتيتموهم فى ديارهم لا يرجع منكم أحد. فقالوا: (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) . فالناس فى هذه الآية أولئك المنافقون. وقال أبو معشر: دخل ناس من هذيل من أهل تهامة المدينة، فسألهم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أبى سفيان، فقالوا: قد جمعوا لكم جموعا. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 156 كثيرة فاخشوهم؛ فقالوا: (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) . فأنزل الله عز وجل (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ) يعنى أبا سفيان وأصحابه (قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) فخافوهم واحذروهم فإنه لا طاقة لكم بهم (فَزادَهُمْ «1» إِيماناً يعنى تصديقا ويقينا وجرأة وقوّة. وقوله: «فانقلبوا» فانصرفوا ورجعوا «بنعمة من الله» أى بعافية لم يلقوا بها عدوا، وبرأت جراحتهم «وفضل» أى ربح وتجارة، وهو «2» ما أصابوا من السوق فربحوا (لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) لم يصبهم قتل ولا جرح ولم ينلهم «3» أذى ولا مكروه (وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ) في طاعة الله وطاعة رسوله «4» صلّى الله عليه وسلّم، وذلك أنهم قالوا: هل يكون هذا غزوا؟ فأعطاهم الله تعالى ثواب الغزو ورضى عنهم. (وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) . [ثم «5» ] قال تعالى: (إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) يعنى ذلك الذى قال لكم: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم؛ من فعل الشيطان ألقى فى أفواهم لترهبوهم وتجبنوا عنهم «يخوّف أولياءه» أى يخوفكم «6» بأوليائه، يعنى يخوف المؤمنين بالكافرين، قال السدّى: يعظم أولياءه فى صدوركم لتخافوهم. وقرأ عبد الله بن مسعود «يخوّفكم أولياءه» قال: وكان أبىّ بن كعب [يقرأ «7» ] «يخوّفكم بأوليائه» «فلا تخافوهم وخافون» فى ترك أمرى «إن كنتم مؤمنين» مصدقين بوعدى فإنى متكفل لكم بالنصر والظفر. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 157 ذكر غزوة ذات الرّقاع «1» ، وخبر صلاة الخوف وقصة غورث بن الحارث المحاربى، وخبر جابر بن عبد الله واختلف فى تسمية ذات الرقاع، فقيل: جبل فيه بقع حمر وبيض وسود. وقيل: لأنهم رقعوا راياتهم. وقيل: ذات الرقاع، شجرة بذلك الموضع. وفى صحيح البخارى أنهم نقبت «2» أقدامهم، فلفّوا عليها الخرق، فسميت غزوة ذات الرقاع. والله أعلم. قال محمد بن سعد: كانت فى المحرم على رأس سبعة وأربعين شهرا من مهاجره صلّى الله عليه وسلّم. وقال ابن إسحاق: كانت غزوة ذات الرقاع بعد غزوة بنى النضير فى الجمادى الأولى، فتكرن على رأس تسعة وثلاثين شهرا من الهجرة، واستعمل على المدينة أبا ذرّ الغفارىّ، ويقال: عثمان بن عفان. ولم يقل ابن سعد غير «3» عثمان رضى الله عنه. وذلك أن قادما قدم المدينة يجلب «4» ، فأخبر أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أن أنمارا وثعلبة قد جمعوا لهم الجموع. فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فخرج ليلة السبت لعشر خلون من المحرم فى أربعمائة، ويقال: سبعمائة من أصحابه؛ فمضى حتى أتى محالّهم بذات الرقاع- وهو جبل فيه بقع فيها حمرة وسواد وبياض- فلم يجد فى محالّهم أحدا إلا نسوة، فأخذهن وفيهن جارية وضيئة، وهربت الأعراب إلى رءوس الجبال، وحضرت الصلاة، فخاف المسلمون أن يغيروا عليهم، فصلى بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاة الخوف. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 158 روى أبو محمد عبد الملك بن هشام بسنده إلى جابر بن عبد الله، قال: صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بطائفة ركعتين، ثم سلّم، وطائفة مقبلون على العدوّ، فجاءوا فصلى بهم ركعتين أخريين، ثم سلّم. وروى عنه أيضا من طريق آخر، قال: صفنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صفين، فركع بنا جميعا، ثم سجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بهم جميعا، ثم سجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسجد الذين يلونه معه، الصف الأوّل وتقدّم الصف الآخر حتى قاموا مقامهم، ثم ركع النبى صلّى الله عليه وسلّم جميعا، ثم سجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسجد الذين يلونه معه، فلما رفعوا رءوسهم سجد الآخرون بأنفسهم سجدتين، وركع النبى صلّى الله عليه وسلّم بهم جميعا، وسجد كل واحد منهما بأنفسهم سجدتين. هكذا روى عن جابر في صلاة الخوف بذات الرقاع. وروى ابن هشام أيضا بسنده إلى عبد الله بن عمر، رضى الله عنهما، فى صلاة الخوف، ولم يذكر ذات الرقاع، قال: يقوم الإمام وتقوم معه طائفة، وطائفة مما يلى عدوهم، فيركع بهم الإمام ويسجد بهم، ثم يتأخرون فيكونون مما بلى العدوّ، ويتقدّم الآخرون فيركع بهم الإمام ركعة ويسجد بهم، ثم تصلى كل طائفة بأنفسهم ركعة، فكانت لهم مع الإمام ركعة ركعة وصلوا بأنفسهم ركعة ركعة. ذكر خبر غورث «1» بن الحارث المحاربىّ لما أراد أن يفتك برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحماه الله منه وأمكن نبيه صلّى الله عليه وسلّم من عدوّه وعفوه عنه وكان من خبر غورث بن الحارث أنه قال لقومه من غطفان ومحارب: ألا أقتل لكم محمدا؟ قالوا: بلى، وكيف تقتله؟ قال: أفتك به. وكان رسول الجزء: 17 ¦ الصفحة: 159 الله صلّى الله عليه وسلّم إذا نزل منزلا اختار له أصحابه شجرة يقيل تحتها، فأتاه فاخترط «1» سيفه، ثم قال: من يمنعك منى؟ فقال: الله. فأرعدت يد غورث، وسقط سيفه، وضرب برأسه الشجرة حتى سال دماغه، فعفا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنه، فرجع إلى قومه وقال: جئتكم من عند خير الناس. ومن رواية الخطابىّ: أن غورث ابن الحارث المحاربىّ أراد أن يفتك برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلم يشعر به إلا وهو قائم على رأسه، منتضيا «2» سيفه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم اكفنيه بما شئت» . فانكبّ غورث من وجهه من زخلة «3» زلّخها بين كتفيه، وندر «4» سيفه من يده، وقيل: فيه نزل قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) الآية. وقيل: نزلت فى غير هذه القصة. ذكر خبر جابر بن عبد الله فى جمله، واستغفار النبىّ صلّى الله عليه وسلّم لأبيه روى محمد بن إسحاق بن يسار المطلبى عن وهب بن كيسان عن جابر بن عبد الله قال: خرجت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى ذات الرّقاع من نخل «5» على جمل لى ضعيف، فلما قفل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، جعلت الرّفاق تمضى، وجعلت أتخلّف، حتى أدركنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «مالك يا جابر» ؟ قلت: يا رسول الله، أبطأ علىّ «6» جملى هذا؛ قال: «أنخه» ؛ فأنخته، وأناخ رسول الله صلّى الله الجزء: 17 ¦ الصفحة: 160 عليه وسلّم، ثم قال: أعطنى هذه العصا من يدك، أو أقطع لى عصا من شجرة؛ قال: ففعلت. فأخذها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنخسه بها نخسات، ثم قال: اركب، فركبت، فخرج- والذى بعثه بالحق- يواهق «1» ناقته مواهقة. قال: وتحدّثت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أتبيعنى جملك هذا يا جابر» ؟ قلت: يا رسول الله، بل أهبه لك؛ قال: «لا، ولكن بعنيه» ؛ قال: قلت: فسمنيه؛ قال: «قد أخذته بدرهم» ؛ قلت: لا، إذا تغبنّى «2» يا رسول الله! قال: «فبدرهمين» ؛ قلت: لا. فلم يزل يرفع «3» لى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى بلغ الأوقيّة؛ قلت: فقد رضيت «4» ؟ قال: «نعم» ؛ قلت: هو لك؛ قال: «أخذته» . ثم قال: «يا جابر، هل «5» تزوجت بعد» ؟ قلت: نعم يا رسول الله؛ قال: «أثيّبا أم بكرا» ؟ قلت: بل ثيّبا؛ قال: «أفلا جارية تلاعبها وتلاعبك» ؟ قلت: يا رسول الله، إن أبى أصيب يوم أحد، وترك بنات له سبعا، فنكحت امرأة جامعة، تجمع رءوسهن وتقوم عليهن؛ قال: «أصبت إن شاء الله، أما إنّا لو جئنا صرارا «6» أمرنا بجزور فنحرت، وأقمنا عليها يومنا ذلك، وسمعت «7» بنا، فنفضت نمارقها» . قلت: يا رسول الله ما لنا من نمارق؛ قال: «إنها ستكون، فإذا أنت قدمت فاعمل عملا كيّسا» . فلما جئنا صرارا أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بجزور فنحرت، وأقمنا عليها يومنا ذاك، فلما أمسى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دخل ودخلنا؛ قال: فحدّثت المرأة الحديث وما قال لى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قالت: الجزء: 17 ¦ الصفحة: 161 فدونك، فسمع وطاعة. قال: فلما أصبحت أخذت برأس الجمل، فأقبلت به حتى أنخته على باب مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، [ثم «1» جلست فى المسجد قريبا منه، وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم] فرأى الجمل، فقال: «ما هذا» ؟ قالوا: هذا جمل جاء به جابر؛ قال: «فأين جابر» ؟ فدعيت له، فقال: «يابن أخى خذ برأس جملك فهو لك» ودعا بلالا فقال له: «اذهب بجابر فأعطه أوقيّة» . قال: فذهبت معه فأعطانى أوقية وزادنى شيئا يسيرا. قال: فو الله ما زال ينمى عندى ونرى مكانه من بيتنا حتى أصيب أمس فيما أصيب لنا؛ يعنى يوم الحرّة «2» . وقال محمد بن سعد: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سأل جابرا عن دين أبيه فأخبره، فاستغفر له رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى تلك الليلة خمسا وعشرين مرة. قال: وبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جعال «3» بن سراقة بشيرا إلى المدينة بسلامته وسلامة المسلمين، وقدم صرارا يوم الأحد لخمس بقين من المحرّم- وصرار على ثلاثة أميال من المدينة، وهى بئر جاهلية على طريق العراق- وغاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خمس عشرة ليلة. ذكر غزوة دومة الجندل وهى بضم الدال؛ سميت بدومى «4» بن إسماعيل لأنه كان نزلها، وهى غير دومة التى بفتح الدال. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 162 غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شهر ربيع الأوّل على رأس تسعة وأربعين شهرا من مهاجره، وذلك أنه بلغه صلّى الله عليه وسلّم أن «1» يومة الجندل جمعا كثيرا، وأنهم يظلمون من مرّ بهم، وأنهم يريدون أن يدنوا من المدينة- وهى طرف من أفواه الشام، بينها وبين دمشق خمس ليال، وبينها وبين المدينة خمس عشرة أوست عشرة ليلة- فندب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الناس، واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة الغفارى، وخرج لخمس ليال بقين من شهر ربيع الأوّل فى ألف من المسلمين، فكان يسير الليل ويكمن النهار، ومعه دليل من بنى عذرة، يقال له: مذكور؛ فلما دنا منهم إذا هم مغرّبون، وإذا آثار النّعم «2» والشاء، فهجم على ماشيتهم ورعائهم، فأصاب من أصاب، وهرب من هرب. وجاء الخبر أهل دومة الجندل، فتفرّقوا، ونزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بساحتهم، فلم يجد بها أحدا، فأقام بهاأياما، وبث السرايا وفرّقها، فرجعت ولم تصب منهم أحدا «3» وأخذ منهم رجل واحد، فسأله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنهم، فقال: هربوا حيث سمعوا أنك أخذت نعمهم؛ فعرض عليه الإسلام فأسلم، ورجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة لعشر بقين من شهر ربيع الآخر، ولم يلق كيدا. وفى هذه الغزوة وادع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عيينة بن حصن أن يرعى بتغلمين «4» وما والاه إلى المراض «5» ، والمراض على ستة وثلاثين ميلا من المدينة على طريق الرّبذة. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 163 ذكر غزوة بنى المصطلق «1» ، وهى غزوة المريسيع غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شعبان سنة خمس من الهجرة. حكاه محمد بن سعد. وقال ابن إسحاق: كانت فى شعبان سنة ست؛ وجعلها بعد غزوة ذى قرد. وكان سبب هذه الغزوة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلغه أن الحارث بن أبى ضرار سيّد بنى المصطلق سار فى قومه ومن قدر عليه من العرب، ودعاهم إلى حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأجابوه وتهيئوا للمسير، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بريدة بن الحصيب الأسلمى للوقوف على حقيقة الخبر، فأتاهم وكلم الحارث ورجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالخبر، فندب صلّى الله عليه وسلّم الناس، فأسرعوا فى الخروج، وقادوا الخيول، وهى ثلاثون فرسا، عشرة منها للمهاجرين وعشرون للأنصار، وخرج معه خلق كثير من المنافقين، لم يجتمعوا فى غزاة قط مثلها، واستخلف صلّى الله عليه وسلّم على المدينة زيد بن حارثة. وقال ابن هشام: استعمل عليها أبا ذرّ الغفارى. قال: ويقال: نميلة بن عبد الله الليثى. قال ابن سعد: وكان معه صلّى الله عليه وسلّم فرسان: لزاز، والظّرب، وخرج يوم الاثنين لليلتين خلتا من شعبان، فبلغ الحارث بن أبى ضرار ومن معه مسير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتفرّق عنه من كان معه من العرب وخافوا خوفا شديدا، وانتهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المريسيع- وهو ماء لبنى المصطلق بينه وبين الفرع نحو من يوم، وبين الفرع والمدينة ثمانية برد- فنزل به وضرب قبّته، ومعه صلّى الله عليه وسلّم من نسائه أمّهات المؤمنين رضى الله عنهنّ عائشة، وأم سلمة، وتهيّئوا للقتال، وصفّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصحابه، ودفع راية المهاجرين إلى أبى بكر. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 164 الصدّيق رضى الله عنه، ورواية الأنصار إلى سعد بن عبادة، فتراموا بالنّبل ساعة، ثم أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصحابه فحملوا حملة رجل واحد، فما أفلت من القوم إنسان، قتل منهم عشرة، وأسر سائرهم، وسبيت النساء والذّرارى، وغنمت النعم والشاء، ولم يستشهد من المسلمين إلّا رجل واحد، وأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالأسارى فكتفوا، واستعمل عليهم بريدة بن الحصيب، وأمر بجمع الغنائم فجمعت، واستعمل عليها شقران مولاه، وقسم السبى والنعم والشاء، فعدلت الجزور بعشر من الغنم، وبيعت الرّثّة» فيمن يريد «2» ، قال: وكانت الإبل ألفى «3» بعير والشاء خمسة آلاف شاة، والسبى مائتى أهل بيت، وصارت جويرية بنت الحارث ابن أبى ضرار فى سهم ثابت بن قيس بن شماس وابن عم له «4» . فكاتباها على تسع أواق من ذهب، فسألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى كتابتها، فأدّى «5» عنها، وتزوّجها على ما نذكر ذلك إن شاء الله فى أخبار أزواجه صلّى الله عليه وسلّم. قال ابن سعد: وكان من السبى من منّ عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بغير فداء، ومنهم من أفدى، فافتديت «6» المرأة والذرّيّة بست فرائض، وقدموا المدينة ببعض السبى، فقدم عليهم أهلوهم فافتدوهم، فلم تبق امرأة من بنى المصطلق إلّا رجعت إلى قومها. وكان شعار المسلمين يوم بنى المصطلق: يا منصور أمت أمت؛ وغاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى غزاته هذه ثمانية وعشرين يوما، وقدم المدينة لهلال رمضان. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 165 وفى هذه الغزاة تكلم عبد الله بن أبىّ بن «1» سلول المنافق بما تكلم به من قوله: (لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ) . ووقع حديث الإفك، وقد قدّمنا ذكر ذلك كلّه فى حوادث السنين بعد الهجرة، فى حوادث السنة الخامسة. ذكر غزوات الخندق، وهى غزوة الأحزاب وكانت فى ذى القعدة سنة خمس من مهاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. حكاه ابن سعد. وقال ابن إسحاق: كانت فى شوّال. قال محمد بن سعد ومحمد بن إسحاق وعبد الملك بن هشام، رحمهم الله تعالى، دخل حديث بعضهم فى حديث بعض، قالوا: لما أجلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنى النضير وساروا إلى خيبر، خرج نفر من أشرافهم ووجوههم، منهم سلام بن أبى الحقيق، وحيىّ بن أخطب، وكنانة بن الربيع بن أبى الحقيق، وهوذة بن قيس الوائلى، وأبو عمّار الوائلى، فى نفر من بنى النضير، ونفر من بنى وائل، وهم الذين حزّبوا الأحزاب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقدموا مكّة على قريش، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: إنا «2» سنكون معكم عليه حتى نستأصله؛ فقالت قريش لهم: يا معشر يهود، إنكم أهل الكتاب الأوّل والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا «3» خير أم دينه؟ فقالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه. فهم الذين أنزل الله تعالى فيهم (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ «4» وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا. أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 166 اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً. أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً. أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً. فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً) قالوا: فلما قالت اليهود [ذلك «1» ] لقريش سرّهم ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فاجتمعوا لذلك، ثم خرج أولئك النفر من يهود حتى جاءوا غطفان وسليما، ودعوهم إلى حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأعلموهم «2» أن قريشا قد بايعوهم على ذلك، فأجابوهم «3» واجتمعوا معهم؛ فتجهزت قريش وجمعوا أحابيشهم ومن تبعهم من العرب، وكانوا أربعة آلاف، وعقدوا اللواء فى دار الندوة، وحمله عثمان بن طلحة بن أبى طلحة، وقادوا معهم ثلاثمائة فرس، وكان معهم ألف وخمسمائة بعير، وخرجوا يقودهم أبو سفيان بن حرب، ووافتهم بنو سليم بمرّ الظّهران، وهم سبعمائة، يقودهم سفيان بن عبد شمس، حليف حرب بن أمية، وهو أبو أبى الأعور السّلمى الذى كان مع معاوية بصفّين، وخرجت بنو أسد يقودهم طليحة بن خويلد الأسدى، وخرجت غطفان وفزارة، معهما ألف بعير، يقودهم عيينة «4» بن حصن بن حذيفة ابن بدر، وخرجت بنو مرة وهم أربعمائة يقودهم الحارث بن عوف بن أبى حارثة المرّى، وخرجت أشجع وهم أربعمائة يقودهم مسعر «5» بن رخيلة بن نويرة بن طريف، وخرج معهم غيرهم. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 167 فكان جميع من وافى الخندق عشرة آلاف، وهم الأحزاب، وكانوا ثلاثة عساكر، ومرجع أمرهم إلى أبى سفيان بن حرب، فلما بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فصولهم «1» من مكة ندب «2» الناس، وأخبرهم خبر عدوّهم، وشاورهم فى أمرهم، فأشار عليه سلمان الفارسىّ بالخندق، فأعجب ذلك المسلمين، وعسكر بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى سفح سلع «3» ، وجعل سلعا خلف ظهره، وكان المسلمون يومئذ ثلاثة آلاف، واستخلف على المدينة عبد الله بن أم مكتوم، ثم ضرب الخندق على المدينة، وعمل فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ترغيبا للمسلمين فى الأجر، فعملوا وجدّوا فى العمل ودأبوا «4» ، وأبطأ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعن المسلمين فى ذلك العمل رجال من المنافقين، وجعلوا يورّون «5» بالضعف من العمل، ويتسلّلون إلى أهليهم بغير إذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة، ذكرها لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم واستأذنه، فيأذن له، فإذا قضى حاجته رجع إلى عمله فى الخندق، فأنزل الله تعالى فى أولئك من المؤمنين قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ثم قال تعالى فى المنافقين: (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً «6» فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 168 يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) ثم قال تعالى: (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) . قال: وعمل المسلمون فيه حتى أحكموه. وروى محمد بن سعد [بسند «1» ] يرفعه إلى سهل بن سعد قال: جاءنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ونحن نحفر الخندق وننقل التراب على أكتافنا، فقال «2» صلّى الله عليه وسلّم: «لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة «3» » . وعن البراء بن عازب قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الأحزاب ينقل معنا التراب، وقد وارى التراب بياض بطنه، وهو يقول: لا همّ «4» لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدّقنا ولا صلّينا فأنزلن سكينة علينا ... وثبّت الأقدام إن لاقينا إنّ الأولى لقد «5» بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا [أبينا «6» ] يرفع بها صوته صلّى الله عليه وسلّم. وكان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى حفر الخندق معجزات نذكرها إن شاء الله تعالى عند ذكرنا لمعجزاته، ومنها ما يتعيّن ذكره هاهنا، وهو ما حكاه محمد بن إسحاق عن جابر بن عبد الله قال: الجزء: 17 ¦ الصفحة: 169 اشتدت على الناس فى بعض الخندق كدية «1» ، فشكوها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فدعا بإناء من ماء فتفل فيه، ثم دعا بما شاء الله أن يدعو، ثم نضح ذلك الماء على تلك الكدية، فيقول من حضرها: فو لذى بعثه بالحق لأنهالت حتى عادت «2» كالكثيب، لا تردّ فأسا ولا مسحاة. قالوا: وفرغوا من حفر الخندق فى ستّة أيام، وكانوا يعلمون فيه نهارا وينصرفون ليلا، ورفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم النساء والصبيان فى الآطام، وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الاثنين لثمان مضين من ذى القعدة، وكان يحمل لواء المهاجرين زيد بن حارثة، ويحمل لواء الأنصار سعد بن عبادة. وأقبلت قريش ومن شايعها وتابعها، واجتمع إليها بعد فراغ الخندق، فصار الخندق بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبينهم، وظهور المسلمين إلى سلع، وخرج حيىّ ابن أخطب حتى أتى كعب بن أسد القرظى، صاحب «3» عقد بنى قريظة، وكان قد وادع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على قومه وعاقده، فأغلق كعب دون حيى باب حصنه، وأبى أن يفتح له، فناداه حيّى: ويحك يا كعب! افتح لى. قال: ويحك! إنك امرؤ مشئوم، وإنى قد عاهدت محمدا فلست بناقض ما بينى وبينه، ولم أر منه إلا وفاء وصدقا. فعادوه مرارا، وهو يأبى عليه حتى [قال «4» له حيىّ] : والله إن «5» أغلقت دونى إلا عن جشيشتك «6» أن آكل معك «7» . الجزء: 17 ¦ الصفحة: 170 فأحفظه «1» ذلك، ففتح له، فقال: ويحك يا كعب! جئتك بعزّ الدهر وببحر طام «2» ، جئتك بقريش على قادتها وسادتها، حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال، [ومن دونه «3» ] غطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب نقمى «4» على جانب أحد، وقد عاهدونى وعاقدونى على ألا يبرحوا حتى نستأصل محمدا ومن معه. فقال له كعب: جئتنى والله بذلّ الدهر، وبجهام «5» قد هراق ماءه، يرعد ويبرق، ليس فيه شىء، ويحك يا حيىّ! فدعنى وما أنا عليه، فإنى لم أر من محمد إلا صدقا ووفاء. فلم يزل به حيى حتى سمح له، أن أعطاه «6» عهدا من الله وميثاقا لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدا أدخل معك فى حصنك حتى يصيبنى ما أصابك. فنقض كعب بن أسد «7» عهده، وبرئ مما كان بينه وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما انتهى الخبر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإلى المسلمين وصحّ ذلك عنده كبّر، وقال: (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ قال: ونجم النفاق وفشل الناس، وعظم البلاء، واشتدّ الخوف، وخيف على الذرارىّ والنساء، وكانوا كما قال الله تعالى: (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا) قال: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يبعث سلمة بن أسلم فى مائتى رجل، وزيد بن حارثة فى ثلاثمائة يحرسون المدينة ويظهرون التكبير، وذلك أنه كان يخاف على الذرارى من بنى قريظة، وكان الجزء: 17 ¦ الصفحة: 171 عباد بن بشر على حرس قبة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، مع غيره من الأنصار يحرسونه كل ليلة، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون وجاه العدوّ لا يزالون يعتقبون خندقهم ويحرسونه، والمشركون يتناوبون بينهم، فيغدو أبو سفيان بن حرب فى أصحابه يوما، ويغدو خالد بن الوليد يوما، [ويغدو «1» عمرو بن العاص يوما] ، ويغدو هبيرة بن أبى وهب يوما، ويغدو ضرار بن الخطّاب الفهرى يوما، فلا يزالون يجيلون خيلهم، ويجتمعون مرّة ويتفرّقون أخرى، ويناوشون أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويقدّمون رماتهم فيرمون، فرمى حبّان بن العرقة سعد بن معاذ بسهم فأصاب أكحله «2» ، فقال: خذها وأنا ابن العرقة. ويقال: رماه أبو أسامة الجشمى. قال ابن هشام: ولما اشتدّ على الناس البلاء بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر، وإلى الحارث بن عوف بن أبى حارثة المرّى، وهما قائدا غطفان، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه، فجرى [بينه «3» و] بينهما الصلح، حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح، فلما أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يفعل بعث إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فذكر ذلك لهما، واستشارهما فيه، فقالا: يا رسول الله، أمر تحبّه فتصنعه، أم شىء أمرك الله به لا بدّ لنا من العمل به، أم شىء تصنعه لنا؟ قال: بل شىء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأنى رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم «4» من كلّ جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما. فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله، قد الجزء: 17 ¦ الصفحة: 172 كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوامنها تمرة إلا قراء «1» أو بيعا، أفحين «2» أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا وأعزّنا بك وبه، نعطيهم أموالنا! والله ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فأنت وذاك. فتناول سعد بن معاذ الصحيفة، فمحا ما فيها من الكتاب، ثم قال: ليجهدوا علينا. قال ابن سعد: ثم اجتمع رؤساؤهم أن يغدوا يوما، فغدوا جميعا ومعهم رؤساء سائر الأحزاب، وطلبوا مضيقا من الخندق يقتحمون «3» خيلهم إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه فلم يجدوا ذلك وقالوا: إن هذه لمكبدة ما كانت العرب تصنعها؛ فقيل لهم: إن معه رجلا فارسيا، فهو أشار عليه بذلك؛ قالوا: فمن هناك إذا، فصاروا إلى مكان ضيّق أغفله المسلمون، فعبر منه عكرمة بن أبى جهل، ونوفل بن عبد الله، وضرار بن الخطّاب، وهبيرة بن أبى وهب، وعمرو بن عبد ودّ [فجعل «4» عمرو بن عبد ودّ] يدعو إلى البراز، ويقول: ولقد بححت من النداء ... لجمعهم هل من مبارز وكان ابن تسعين سنة، فبرز إليه على بن أبى طالب رضى الله عنه، وقال له: يا عمرو، إنك قد كنت عاهدت الله ألا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلّتين إلّا أخذتها منه؛ قال له: أجل. قال له «5» : فإنى أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام؛ قال: لا حاجة لى بذلك؛ قال: فإنى أدعوك إلى النّزال؛ قال: يا بن الجزء: 17 ¦ الصفحة: 173 أخى، فو الله ما أحبّ أن أقتلك؛ فقال له علىّ: ولكنى والله أحبّ أن أقتلك؛ فحمى عمرو عند ذلك، فاقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه، ثم أقبل على علىّ فتنازلا وتجاولا، فقتله علىّ رضى الله عنه، وخرجت خيلهم منهزمة حتى اقتحمت من الخندق. وألقى عكرمة بن أبى جهل يومئذ رمحه وهو منهزم عن عمرو. فقال حسّان بن ثابت: فرّ وألقى لنا رمحه ... لعلك عكرم لم تفعل وولّيت تعدو كعدو الظّليم «1» ... منهم ما إن «2» تجور عن المعدل ولم تلق ظهرك مستأنسا ... كأنّ قفاك قفا فرعل «3» قال ابن سعد: وحمل الزبير بن العوّام على نوفل بن عبد الله بالسيف فضربه فشقّه باثنتين، ثم اتّعدوا أن يغدوا «4» من الغد، فباتوا «5» يعبّئون أصحابهم، وفرّقوا كتائبهم، ونحّوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتيبة غليظة فيها خالد بن الوليد، فقاتلوهم يومهم ذاك إلى هوىّ «6» من الليل، ما يقدرون أن يزولوا من موضعهم، ولم يصلّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولا أصحابه ظهرا ولا عصرا ولا مغربا ولا عشاء حتى كشفهم الله تعالى، فرجعوا متفرّقين إلى منازلهم وعسكرهم، وانصرف المسلمون إلى قبّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأقام أسيد بن حضير على الخندق فى مائتين من المسلمين، وكرّ خالد بن الوليد فى خيل من المشركين يطلبون غرّة من المسلمين فناوشوهم ساعة ومع المشركين وحشىّ، فزرق الطفيل بن النعمان بمزراقة فقتله وانكشفوا، وصار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى قبّته فأمر بلالا فأذّن وأقام للظهر فصلّى، ثم بعد الجزء: 17 ¦ الصفحة: 174 ذلك لكل صلاة إقامة إقامة، وصلّى هو وأصحابه ما فاتهم من الصلوات، وقال: «شغلونا عن الصلاة الوسطى- صلاة العصر- ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا» . ولم يكن لهم بعد ذلك قتال جميعا حتى انصرفوا، إلا أنهم لا يدعون الطلائع بالليل طمعا فى الغرّة، قال: وحصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه بضع عشرة ليلة. وقال ابن إسحاق: أقام عليه المشركون بضعا وعشرين ليلة قريبا من شهر. ثم إن نعيم بن مسعود بن عامر بن أنيف بن ثعلبة بن هلال بن حلاوة «1» بن الأشجع ابن ريث بن غطفان أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله إنى قد أسلمت، وإن قومى لم يعلموا بإسلامى، فمرنى بما شئت؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما أنت فينا رجل واحد، فخذّل «2» عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة» . فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بنى قريظة، وكان لهم نديما فى الجاهلية، فقال: يا بنى قريظة، قد عرفتم ودّى إياكم، وخاصّة ما بينى وبينكم؛ قالوا: صدقت، لست عندنا بمتّهم؛ فقال: إن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم؛ البلد بلدكم، به أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، لا تقدرون على أن تجلوا منه إلى غيره، وإن قريشا وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فليسوا كأنتم، فإن رأوا نهزة «3» أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم «4» ، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا «5» من أشرافهم، ليكونوا بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمدا حتى تناجزوه؛ قالوا: لقد أشرت علينا بالرأى. ثم خرج حتى أتى قريشا، الجزء: 17 ¦ الصفحة: 175 فقال لأبى سفيان ومن معه: قد عرفتم ودّى لكم وفراقى محمّدا، وإنه قد بلغنى أمر قد رأيت منه علىّ حقا أن أبلّغكموه نصحا لكم، فاكتموا عنى؛ قالوا: نفعل؛ فما هو؟ قال: تعلّموا أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه: إنا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ [لك «1» ] من القبيلتين: قريش وغطفان، رجالا من أشرافهم، ونعطيكهم فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك على من بقى منهم حتى نستأصلهم؟ فأرسل إليهم: نعم. فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهنا من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلا واحدا. ثم خرج حتى أتى غطفان، فقال: يا معشر غطفان، إنكم أهلى وعشيرتى، وأحبّ الناس إلىّ، ولا أراكم تتّهمونى «2» ؛ قالوا: صدقت، ما أنت عندنا بمتهم؛ قال: فاكتموا عنى؛ قالوا: نفعل. ثم قال لهم مثلما قال لقريش، وحذّرهم ما حذّرهم. فلما كانت ليلة السبت أرسل أبو سفيان بن حرب ورءوس غطفان إلى بنى قريظة عكرمة بن أبى جهل، فى نفر من قريش وغطفان، فقالوا لهم: إنا لسنا بدار مقام، قد هلك الخفّ والحافر، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدا، ونفرغ فيما بيننا وبينه. فأرسلوا إليهم: إن اليوم يوم السبت، وهو يوم لا نعمل فيه شيئا، وقد كان بعضنا أحدث فيه حدثا فأصابه ما لم يخف عليكم، ولسنا مع ذلك بالذى نقاتل معكم محمدا حتى تعطونا رهنا من رجالكم، يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى تناجز محمدا، فإنا نخشى إن ضرستكم «3» الحرب، واشتد عليكم القتال أن تنشمروا «4» إلى بلادكم وتتركونا، والرجل فى بلادنا، ولا طاقة لنا بذلك منه. فلما رجعت إليهم الرسل بما قالت بنو قريظة قالت قريش الجزء: 17 ¦ الصفحة: 176 وغطفان: والله إن الذى حدّثكم نعيم بن مسعود لحقّ، فأرسلوا إلى بنى قريظة: إنا والله لا ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا؛ فقالت بنو قريظة حين انتهت الرسل إليهم بهذا: إن الذى ذكر لكم نعيم ابن مسعود لحقّ، ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا، فإن رأوا فرصة انتهزوها، وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم وخلّوا بينكم وبين الرجل. فأرسلوا إلى قريش وغطفان: إنّا والله لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا. فأبوا عليهم، وقال أبو سفيان: ألا أرانى أستعين بإخوة القردة والخنازير! فوقع الاختلاف والخذلان بينهم، وبعث الله عزّ وجلّ عليهم ريحا فى ليلة شاتية شديدة البرد، فكفأت القدور وطرحت الأبنية. فلما انتهى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما وقع بينهم من الاختلاف أرسل حذيفة بن اليمان إليهم لينظر ما فعل القوم ليلا. قال حذيفة: دعائى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا حذيفة، اذهب فادخل فى القوم فانظر ماذا يفعلون ولا تحدثنّ شيئا. فذهبت فدخلت فيهم، والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل، لا تقرّ لهم قدرا ولا نارا ولا بناء. فقام أبو سفيان فقال: يا معشر قريش، لينظر امرؤ من جليسه؟ قال حذيفة: فأخذت بيد الرجل الذى كان إلى جنبى، فقلت: من أنت؟ فقال: فلان ابن فلان. ثم قال أبو سفيان: يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، ولقد هلك الكراع «1» والخفّ، وأخلفنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذى نكره، ولقينا من شدة الرّيح ما ترون، فارتحلوا فإنّى مرتحل. ثم قام إلى جمله وهو معقول فجلس عليه، ثم ضربه فوثب به على ثلاث، فما أطلق عقاله إلا وهو قائم، ولولا عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلىّ ألّا أحدث شيئا الجزء: 17 ¦ الصفحة: 177 حتى آتيه، ثم لو «1» شئت، لقتلته بسهم. قال: فرجعت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبرته الخبر. وسمعت غطفان ما فعلت قريش، فانشمروا راجعين إلى بلادهم وأصبح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فانصرف راجعا إلى المدينة والمسلمون ووضعوا السلاح. وكان شعار المسلمين فى غزوة الخندق ((حم لا ينصرون)) . ولما انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه عن الخندق قال لأصحابه: لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا، ولكنّكم تغزوهم «2» . فكان كذلك. قال ابن سعد: وكانت مدّة الحصار خمس عشرة ليلة، وانصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لسبع ليال بقين من ذى القعدة سنة خمس. وقد ذكرنا ما قاله غيره فى ذلك. ذكر تسمية من استشهد من المسلمين فى غزوة الخندق ومن قتل من المشركين قال محمد بن سعد فى طبقاته الكبرى: واستشهد من المسلمين فى غزوة الخندق أنس بن أوس بن عتيك من بنى عبد الأشهل، قتلة خالد بن الوليد؛ وعبد الله بن سهل «3» الأشهلىّ، وثعلبة بن عنمة بن عدىّ، قتله هبيرة بن أبى وهب؛ وكعب بن زيد الجزء: 17 ¦ الصفحة: 178 من بنى دينار، قتله ضرار بن الخطّاب. وسعد «1» بن معاذ مات من جراحة بعد بنى قريظة، والطّفيل بن النعمان بن جشم. وقتل من المشركين أربعة نفروهم: عثمان بن أمية بن منبّه بن عبيد بن السبّاق من بنى عبد الدار بن قصىّ، ونوفل بن عبد الله بن المغيرة، وعمرو بن عبد ودّ، ويقال: وابنه حسل بن عمرو، قتلهما على بن أبى طالب رضى الله عنه. ذكر ما أنزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من القرآن فى غزوة الخندق وما ورد فى تفسير ذلك أنزل الله عزّ وجلّ على رسوله- صلّى الله عليه وسلّم- فى أمر الخندق والأحزاب قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) قال أبو إسحاق أحمد ابن محمد بن إبراهيم الثعلبى رحمه الله: قوله: ( «إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ» ) يعنى الأحزاب: قريش وغطفان ويهود قريظة والنّضير. ( «فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً» ) * قال: وهى الصّبا «2» . قال عكرمة: قالت الجنوب للشّمال ليلة الأحزاب: انطلقى بنصرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت الشّمال: إن الحرّة «3» لا تسرى بالليل؛ وكانت الريح التى أرسلت الجزء: 17 ¦ الصفحة: 179 عليهم الصّبا، قال رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم-: «نصرت بالصّبا وأهلكت عاد بالدّبور» . قوله: «وجنودا لم تروها» هى الملائكة، ولم تقاتل يومئذ، قال المفسرون: بعث الله تعالى عليهم باللّيل ريحا باردة، وبعث الملائكة فقلعت الأوتاد، وقطّعت أطناب الفساطيط، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور، وجالت الخيل بعضها فى بعض، وأرسل الله عليهم الرعب، وكثر تكبير الملائكة فى جوانب عسكرهم حتى كان سيد كلّ حىّ يقول: يا بنى فلان، هلّم [إلى؛ فإذا اجتمعوا عنده قال: النّجاء النّجاء، أتيتم. لما بعث الله عليهم من الرعب، فانهزموا من غير قتال «1» ] . قوله تعالى: (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا) قال: قوله: ( «إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ» ) يعنى من فوق الوادى من قبل المشرق، عليهم مالك بن عوف النّصرىّ، وعيينة ابن حصن الفزارى فى ألف من غطفان، ومعهم طليحة بن خويلد الأسدى فى بنى أسد، وحيّى بن أخطب فى يهود بنى قريظة. ( «وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ» ) يعنى من بطن الوادى من قبل المغرب، وهو أبو سفيان بن حرب فى قريش ومن تبعه، وأبو الأعور السّلمى من قبل الخندق. وقال ابن إسحاق: الذين جاءوا من فوقهم بنو قريظة، والذين جاءوا من أسفل منهم قريش وغطفان. ( «وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ» ) أى مالت وشخصت ( «وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ» ) زالت عن أماكنها حتى بلغت الحلوق من الفزع. ( «وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا» ) قال: أما المنافقون فظنوا أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه سيغلبون ويستأصلون، وأما المؤمنون فأيقنوا أن ما وعدهم الله حقّ، وأنه سيظهر دينه على الدين كلّه ولو كره المشركون. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 180 قوله تعالى: (هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً) قال: أى اختبروا ومحّصوا، ليعرف المؤمن من المنافق «وزلزلوا» : حرّكوا وخوّفوا «زلزالا» تحريكا «شديدا» . قوله تعالى: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) قال: يعنى معتّب بن قشير وأصحابه ( «وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» ) * أى شكّ وضعف اعتقاد. وقد قدّمنا فى أخبار المنافقين ما تكلم به معتّب بن قشير فى هذه الغزوة. قوله تعالى: (وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً) . ( «قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ» ) أى من المنافقين: وهم أوس بن قيظىّ وأصحابه؛ قال مقاتل: هم بنو سالم. قال ابن عباس رضى الله عنهما: قالت اليهود لعبد الله بن أبىّ وأصحابه من المنافقين: ما الذى يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبى سفيان وأصحابه! فارجعوا إلى المدينة. (وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ) فى الرجوع إلى منازلهم بالمدينة، وهم بنو حارثة بن الحارث (يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ) أى خالية ضائعة، وهى مما يلى العدوّ، وإنا لنخشى عليها العدوّ والسّرّاق، قال: وقرأ ابن عباس وأبو رجاء العطاردىّ «عورة» بكسر الواو، يعنى قصيرة الجدران فيها خلل وفرجة. وأخبر تعالى أنها ليست بعورة، إن يريدون إلا الفرار. قوله تعالى: (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها «1» وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً) قال: يقول: لو دخل عليهم هؤلاء الجيوش الذين يريدون قتالهم المدينة (مِنْ أَقْطارِها) جوانبها ونواحيها (ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ) الشرك «لأتوها» أى لجاءوها وفعلوها ورجعوا عن الإسلام وكفروا (وَما تَلَبَّثُوا) وما احتبسوا الجزء: 17 ¦ الصفحة: 181 عن الفتنة (إِلَّا يَسِيراً) ولأسرعوا إلى الإجابة إليها طيبة بها أنفسهم، قال: هذا قول أكثر المفسرين. وقال الحسن والفرّاء: وما أقاموا بالمدينة بعد إعطاء الكفر إلا قليلا حتى هلكوا. قوله تعالى: (وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا) قال: (عاهَدُوا اللَّهَ) * أى من قبل غزوة الخندق «لا يولّون» عدوّهم «الأدبار» قال يزيد بن رومان: هم بنو حارثة همّوا يوم أحد أن يفشلوا مع بنى سلمة، فلما نزل فيهم ما نزل عاهدوا الله ألّا يعودوا لمثلها، فذكر الله لهم الذى أعطوه من أنفسهم. وقال قتادة: هم ناس كانوا قد غابوا عن وقعة بدر، ورأوا ما أعطى الله تعالى أهل بدر من الكرامة والفضيلة، فقالوا: لئن أشهدنا الله قتالا لنقاتلنّ. فساق الله تعالى ذلك إليهم فى ناحية المدينة. وقال مقاتل والكلبى: هم السبعون رجلا الذين بايعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة العقبة وقالوا له: اشترط لربك ولنفسك ما شئت؛ فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: «اشترط لربى أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسى أن تمنعونى مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأولادكم وأموالكم» . قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا يا رسول الله؟ قال: «لكم النصر فى الدنيا والجنة فى الآخرة» . قالوا: قد فعلنا. فذلك عهدهم (وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا) أى عنه. قوله تعالى: (قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا) قال «1» : أى الذى كتب عليكم «2» (وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا) إلى آجالكم، والدنيا كلّها قليل. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 182 قوله تعالى: (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً) أى نصرة (وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) *. قوله تعالى: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا) قال: «المعوّقين» المثبطين منكم للناس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «والقائلين لإخوانهم هلمّ إلينا) ودعوا محمدا فلا تشهدوا معه الحرب فإنا نخاف عليكم الهلاك (وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ) الحرب (إِلَّا قَلِيلًا) * دفعا وتعذيرا. قال قتادة: هؤلاء ناس من المنافقين كانوا يقولون لإخوانهم: ما محمد وأصحابه إلا أكلة «1» رأس، ولو كانوا لحما لألتهمهم أبو سفيان وأصحابه، دعوا هذا الرجل فإنه هالك. وقال مقاتل: نزلت فى المنافقين، وذلك أن اليهود أرسلوا إلى المنافقين وقالوا: ما الذى يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبى سفيان ومن معه! فإنهم إن قدروا عليكم هذه المرة لم يستبقوا منكم أحدا، وإنا لنشفق عليكم، أنتم إخواننا وجيراننا، هلمّ إلينا. فأقبل عبد الله بن أبىّ وأصحابه على المؤمنين يعوّقونهم ويخوّفونهم بأبى سفيان ومن معه، وقالوا: ما ترجون من محمد؟ فو الله ما يرفدنا «2» بخير، وما عنده خير، ما هو إلا [أن «3» ] يقتلنا هاهنا، انطلقوا إلى إخواننا وأصحابنا. يعنى اليهود، فلم يزدد «4» المؤمنون بقول المنافقين إلا إيمانا واحتسابا. وقال ابن زيد: لما كان يوم الأحزاب انطلق رجل من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فوجد أخاه، بين يديه شواء ورغيف ونبيذ، فقال: أنت هاهنا فى الشواء والرغيف والنبيذ ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين الرماح والسيوف! فقال: هلم إلى هذا، والذى يحلف به لا يستقبلها محمد أبدا؛ فقال: كذبت والذى الجزء: 17 ¦ الصفحة: 183 يحلف به- وكان أخاه من أبيه وأمه- أما والله لأخبرن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم أمرك. فذهب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليخبره، فوجده قد نزل جبريل عليه السلام بهذه الآية. قوله تعالى: (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً) قال: «أشحّة» بخلاء «عليكم» بالخير والنفقة فى سبيل الله، وصفهم الله تعالى بالجبن والبخل (فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ) في رءوسهم من الخوف والجبن، أى كدوران [أعين «1» ] الذى يغشى عليه من الموت (فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ) أى عضوكم ورموكم بألسنة حداد ذربة «2» ، وأصل السلق: الضرب. قال قتادة: يعنى بسطوا ألسنتهم فيكم وقت قسم الغنيمة، يقولون: أعطونا أعطونا، فإنا قد شهدنا معكم القتال، ولستم بأحق بالغنيمة منا؛ وأما عند الغنيمة فأشحّ قوم وأسوأ مقاسمة، وأما عند البأس فأجبن قوم وأخذله للحق. (أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ) يعنى الغنيمة (أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا) . قوله تعالى: (يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا) يعنى هؤلاء يحسبون الجماعات لم ينصرفوا عن قتالهم، وقد انصرفوا جبنا منهم وفرقا (وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ) أى يرجعوا إليهم كرّة ثانية (يَوَدُّوا) من الخوف والجبن (لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ) أى خارجون إلى البادية (فِي الْأَعْرابِ) أى معهم (يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ) أى يسأل بعضهم بعضا عن أخباركم، وما آل إليه أمركم (وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا) يعنى رياء من غير حسبة، ولو كان ذلك القليل لله تعالى لكان كثيرا. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 184 ثم قال تعالى مشيرا إلى المؤمنين: (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً. وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً) قال: قوله: (أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) * أى سنّة صالحة، [أن «1» ] تنصروه وتؤازروه، ولا تتخلّفوا عنه، ولا ترغبوا بأنفسكم عن نفسه وعن مكان نصرته كما فعل هو، إذ كسرت رباعيته وجرح، وقتل عمّه حمزة، وأوذى بضروب الأذى، فواساكم مع ذلك بنفسه، فافعلوا أنتم أيضا كذلك، واستنّوا «2» بسنّته (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) أى فى الرخاء والبلاء، ثم ذكر المؤمنين بوعود الله تعالى، فقال: (وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ) الآية، قال: ووعد الله إيّاهم قوله: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) . قوله تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) قال: قوله: «صدقوا» أى وفوا به. (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ) يعنى فرغ من نذره ووفى بعهده وصبر على الجهاد حتى استشهد. والنحب: النذر، والنحب أيضا: الموت، قال ذو الرمّة: عشيّة فرّ الحارثيّون بعد ما ... قضى نحبه فى ملتقى القوم هوبر «3» الجزء: 17 ¦ الصفحة: 185 أى مات، قال مقاتل: قضى نحبه، أى أجله، فقتل على الوفاء، يعنى حمزة وأصحابه الذين استشهدوا بأحد، رضوان الله عليهم. وقيل: قضى نحبه، أى بذل جهده فى الوفاء بعهده، من قول العرب: نحب فلان فى سيره يومه وليلته؛ إذ مدّ فلم ينزل، قال جرير: بطخفة جالدنا الملوك وخيلنا ... عشيّة بسطام جرين على نحب «1» (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) قال ابن إسحاق: ينتظر ما وعد الله به من نصره، والشهادة على [ما «2» ] مضى عليه أصحابه. (وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) أى ما شكّوا وما تردّوا فى دينهم، وما استبدلوا به غيره. ثم قال تعالى: (لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً. وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً) يعنى قريشا وغطفان (وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) أى بالملائكة والريح (وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً) ، وبيده الفضل والمنة. ذكر غزوة بنى قريظة غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى ذى القعدة سنة خمس من مهاجره. وقال ابن إسحاق: فى شوّال منها. قال محمد بن إسحاق، ومحمد بن سعد، دخل حديث بعضهما فى بعض، قالا: لما انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الخندق إلى المدينة هو والمسلمون، الجزء: 17 ¦ الصفحة: 186 ووضعوا السلاح، فلما كانت الظهر أتى جبريل- عليه السلام- النبىّ صلّى الله عليه وسلّم معتجرا «1» بعمامة من إستبرق، على بغلة عليها رحالة «2» عليها قطيفة من ديباج، فقال: أو قد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال: نعم؛ قال جبريل: فما وضعت الملائكة السلاح بعد، وما رجعت إلا من طلب القوم: إن الله عز وجل يأمرك يا محمد بالمسير «3» إلى بنى قريظة، فإنى عامد إليهم فمزلزل بهم. فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلالا فأذّن فى الناس: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمركم ألّا تصلّوا العصر إلّا فى بنى قريظة. واستعمل على المدينة ابن أمّ مكتوم، ودعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليّا، فأعطاه لواءه، وقدّمه إلى بنى قريظة، فسار [علىّ «4» ] حتى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فرجع حتى لقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالطريق، فقال: يا رسول الله، لا عليك ألا تدنو من هؤلاء الأخابث؛ قال: أظنّك سمعت منهم لى أذى؛ قال: نعم يا رسول الله؛ قال: لو رأونى لم يقولوا من ذلك شيئا. فلما دنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من حصونهم قال لهم: يا إخوان القردة، هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته؟ قالوا: يا أبا القاسم، ما كنت جهولا. ثم نزل صلّى الله عليه وسلّم على بئر من آبار بنى قريظة من ناحية أموالهم يقال لها: بئر أنّا؛ ويقال: بئر أنّى «5» ؛ وتلاحق به الناس، فأتى رجال من بعد العشاء «6» الآخرة لم يصلّوا العصر لقول رسول الله صلّى الله عليه الجزء: 17 ¦ الصفحة: 187 وسلّم. لا يصلّين أحد العصر إلا ببنى قريظة. فشغلهم ما لم يكن منه بدّ فى حربهم وأبوا أن يصلّوا لقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى يأتوا بنى قريظة، فصلوا العصر بها بعد العشاء الآخرة، وتخوّف ناس فوت الصلاة فصلّوا، فما عنّف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحدا من الفريقين، ولا عابهم الله تعالى فى كتابه. قال: وسار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليهم فى المسلمين، وهم ثلاثة آلاف والخيل ستة وثلاثون فرسا، فحاصرهم خمسة عشر يوما. قاله ابن سعد. وقال ابن إسحاق: خمسا وعشرين ليلة أشد حصار حتى جهدهم الحصار، وقذف الله فى قلوبهم الرعب. وكان حيىّ بن أخطب دخل مع بنى قريظة فى حصنهم، حين رجعت عنهم قريش وغطفان وفاء لكعب بن أسد، فلما أيقنوا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غير منصرف عنهم حتى يناجزهم، قال كعب بن أسد لهم: يا معشر يهود، قد نزل بكم ما ترون، وإنى عارض عليكم خلالا ثلاثا، فخذوا أيّها شئتم، قالوا: وما هى؟ قال: نتابع هذا الرجل [و «1» ] نصدّقه، وفو الله لقد تبين لكم أنه نبىّ مرسل، وأنه الذى تجدونه فى كتابكم، فتأمنون على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم؛ قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدا، ولا نستبدل به غيره؛ قال: فإذا أبيتم هذه فهلمّ فلنقتل أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالا مصلتين السيوف، لم نترك وراءنا ثقلا حتى يحكم الله بيننا وبينه، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا نسلا نخشى عليه، وإن نظهر فلعمرى لنجدنّ النساء والأبناء؛ قالوا: نقتل هؤلاء المساكين! فما خير العيش «2» بعدهم؟ قال: فإذا أبيتم علىّ هذه فإن الليلة ليلة السبت، وإنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنوا فيها، فانزلوا لعلّنا نصيب من محمد وأصحابه غرّة؛ قالوا: تفسد علينا سبتنا، وتحدث فيه ما لم يحدث الجزء: 17 ¦ الصفحة: 188 من كان قبلنا إلا من قد علمت، فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ؛ قال: ما بات منكم رجل منذ ولدته أمّه ليلة [واحدة «1» ] من الدهر حازما. ثم بعثوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن ابعث إلينا أبا لبابة «2» بن عبد المنذر لنستشيره فى أمرنا؛ فأرسله إليهم، فلما رأوه قام إليه الرجال، وجهش «3» إليه النساء والصبيان يبكون فى وجهه، فرقّ لهم وقالوا له: يا أبا لبابة، أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم. وأشار بيده إلى حلقه، أى إنه الذبح، قال أبو لبابة: فو الله ما زلّت «4» قدماى من مكانهما حتى عرفت أنى قد خنت الله ورسوله. ثم انطلق أبو لبابة على وجهه، ولم يأت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى ارتبط فى المسجد إلى عمود من عمده، وقال: لا أبرح مكانى هذا حتى يتوب الله علىّ. قال: فلما بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خبره وكان قد استبطأه قال: أما لو كان جاءنى لأستغفرت له، فأما إذ قد فعل ما فعل فما أنا بالذى أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه. فأنزل الله تعالى فيه: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) . قالت أم سلمة رضى الله عنها: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من السّحر وهو يضحك، فقلت: ممّ تضحك أضحك الله سنك يا رسول الله؟. قال: تيب على أبى لبابة. قالت: فقلت: أفلا أبّشره يا رسول الله؟ قال: بلى، إن شئت. فقامت على باب حجرتها، وذلك قبل أن يضرب عليهنّ الحجاب، فقالت: يا أبا لبابة، أبشر فقد تاب الله عليك. قالت: فثار الناس إليه ليطلقوه فقال: لا والله، حتى يكون رسول الله هو الذى يطلقنى بيده؛ فلما مرّ عليه خارجا إلى صلاة الصبح أطلقه. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 189 قال ابن هشام: أقام أبو لبابة مرتبطا فى الجذع ستّ ليال، تأتيه امرأته فى كلّ وقت صلاة، فتحلّه للصلاة، ثم تعود فتربطه. هذا ما كان من أمر أبى لبابة؛ وأما يهود فإن ثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية، وأسد «1» بن عبيد، وهم نفر من هدل، قال ابن إسحاق: ليسوا من بنى قريظة ولا النضير، نسبهم فوق ذلك، هم بنو عم القوم، أسلموا فى الليلة التى نزل بنو قريظة فى صبيحتها على حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وخرج تلك الليلة عمرو بن سعدى القرظىّ فمرّ بحرس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعليه محمد بن مسلمة، فلما رآه قال: من هذا؟ قال: أنا عمرو بن سعدى- وكان عمرو قد أبى أن يدخل مع بنى قريظة فى غدرهم برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال: لا أغدر بمحمد أبدا- فقال محمد بن مسلمة حين عرفه: اللهم لا تحرمنى عثرات «2» الكرام؛ ثم خلّى سبيله، فخرج على وجهه، فلم يدر أين توجّه من الأرض إلى آخر الدهر، فذكر ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: ذاك رجل نجّاه الله بوفائه؛ ومنهم من يزعم أنه أوثق. والله أعلم. ذكر نزول بنى قريظة على حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وسؤال الأوس فيهم؛ وتحكيم سعد بن معاذ وحكمه فيهم بحكم الله تعالى وقتلهم قال: ولما أصبح بنو قريظة نزلوا على حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتواثبت الأوس، فقالوا: يا رسول الله، إنهم موالينا دون الخزرج، وقد فعلت الجزء: 17 ¦ الصفحة: 190 فى موالى إخواننا بالأمس ما قد علمت. يعنون بنى قينقاع لما أطلقهم «1» صلّى الله عليه وسلّم لعبد الله بن أبىّ بن سلول «2» ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا: بلى؛ قال: فذاك سعد بن معاذ. وكان سعد فى مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فى خيمة لامرأة من أسلم يقال لها: رفيدة، كانت تداوى الجرحى محتسبة، فأتاه قومه فحملوه على حمار، ووطّئوا له بوسادة من أدم، ثم أتوا به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهم يقولون له: يا أبا عمرو، أحسن فى مواليك، فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنما ولّاك «3» ذلك لتحسن فيهم؛ فلما أكثروا عليه قال: لقد أنى لسعد ألا تأخذه فى الله لومة لائم. فرجع بعض من كان معه [من قومه «4» ] إلى دار بنى عبد الأشهل، فنعى لهم رجال بنى قريظة قبل أن يصل إليهم سعد، لكلمته التى سمع منه، فلما انتهى سعد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قوموا إلى سيّدكم» . فأما المهاجرون من قريش فيقولون: إنما أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الأنصار؛ والأنصار يقولون: قد عمّ بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فقاموا إليه، فقالوا: يا أبا عمرو، إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد ولّاك أمر مواليك لتحكم فيهم؛ فقال سعد: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه، أنّ الحكم فيهم لما حكمت؟ قالوا: نعم؛ قال: وعلى من هاهنا؟ فى الناحية التى فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو معرض عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إجلالا له، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: نعم؛ قال سعد: فإنى أحكم فيهم أن نقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبى الذرارىّ «5» والنساء. فقال الجزء: 17 ¦ الصفحة: 191 له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة «1» أرقعة. أى من فوق سبع سموات، ويقال: إن اليهود سألوا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ. والله تعالى أعلم. قال: ثم انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة يوم الخميس لسبع خلون من ذى الحجة، وأمر بهم فأدخلوا «2» المدينة، فحبسهم فى دار بنت الحارث امرأة من بنى النجار، ثم خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى سوق المدينة، فحفر بها خنادق، وجلس هو وأصحابه وبعث إليهم فأخرجوا إليه أرسالا «3» ، فضربت أعناقهم، وفيهم حيىّ بن أخطب، وكعب بن أسد، واختلف فى عددهم فقيل: كانوا ستمائة أو سبعمائة. وقيل: بين الثمانمائة والتسعمائة؛ قال: وقالوا لكعب بن أسد، وهم يذهب بهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أرسالا: يا كعب، ما تراه يصنع بنا؟ قال: أفى كل موطن لا تعقلون؟ ألا ترون الداعى لا ينزع، وأنه من ذهب [به «4» ] منكم لا يرجع؟ هو والله القتل! قال: وأتى بحيىّ ابن أخطب، وعليه حلّة [له «5» ] فقّاحية «6» قد شقها عليه من كل ناحية قدر أنملة، لئلا يسلبها، مجموعة يداه إلى عنقه بحبل. فلما نظر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: أما والله ما لمت نفسى فى عداوتك، ولكن من يخذل الله يخذل، ثم أقبل الجزء: 17 ¦ الصفحة: 192 على الناس فقال: أيها الناس، إنه لا بأس بأمر الله، كتاب وقدر وملحمة كتبت على بنى إسرائيل. ثم جلس فضربت عنقه، فقال جبل بن جوّال الثعلبىّ: لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه ... ولكنه من يخذل الله يخذل لجاهد حتى أبلغ النفس عذرها ... وقلقل «1» يبغى العزّ كلّ مقلقل وروى محمد بن إسحاق بسند يرفعه إلى عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها أنها قالت: لم يقتل من نسائهم إلا امرأة واحدة. قالت: والله إنها لعندى تحدّث معى، وتضحك ظهرا وبطنا، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقتل رجالها فى السوق، إذ هتف هاتف باسمها: أين فلانة؟ قالت: أنا والله؛ قلت لها: ويلك! مالك؟ قالت: أقتل؛ قلت: ولم؟ قالت: لحدث أحدثته؛ قالت: فانطلق بها، فضربت «2» عنقها، فكانت عائشة تقول: والله ما أنسى عجبا منها، طيب نفسها، وكثرة ضحكها، وقد عرفت أنها تقتل. قال الواقدىّ: واسم تلك المرأة: بنانة «3» امرأة الحكم القرظىّ؛ وكانت قتلت خلّاد بن سويد، طرحت عليه رحىّ، فضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنقها بخلاد بن سويد. قال: وكان علىّ بن أبى طالب والزبير بن العوّام رضى الله عنهما يضربان أعناق بنى قريظة، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالس هناك. وروى محمد بن إسحاق عن الزهرى أن الزّبير بن باطا القرظىّ، وكان يكنى أبا عبد الرحمن- وكان قد منّ على ثابت بن قيس بن شمّاس فى الجاهليّة [يوم بعاث «4» ] أخذه فجزّ ناصيته ثم خلّى سبيله- فجاءه «5» ثابت يوم قريظة، وهو شيخ كبير فقال: الجزء: 17 ¦ الصفحة: 193 يا أبا عبد الرحمن، هل تعرفنى؟ فقال: وهل يجهل مثلى مثلك؛ قال: إنى قد آن أن أجزيك بيدك عندى؛ قال: إنّ الكريم يجزى الكريم؛ ثم أتى ثابت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، قد كانت للزبير عندى يد، وله علىّ منّة، وقد أحببت أن أجزيه بها، فهب لى دمه؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هو لك؛ فأتاه فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد وهب لى دمك؛ قال: شيخ كبير لا أهل له ولا ولد، فما يصنع بالحياة؟ فأتى ثابت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، أهله وولده؛ قال: هم لك. فأتاه فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أعطانى امرأتك وولدك، فهم لك؛ قال: أهل بيت بالحجاز لا مال لهم، فما بقاؤهم على ذلك؟ فأتى ثابت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، ما له؛ فقال: هو لك؛ فأتاه فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أعطانى مالك فهو لك؛ قال: أى ثابت، ما فعل الذى كأنّ وجهه مرآة صينية يتراءى فيه «1» عذارى الحىّ، كعب بن أسد؟ قال: قتل؛ قال: فما فعل سيّد الحاضر والبادى حيىّ بن أخطب؟ قال: قتل؛ قال: فما فعل مقدّمتنا إذا شددنا، وحاميتنا إذا كررنا «2» ، عزّال بن سموءل «3» ؟ قال: قتل؛ قال: فما فعل المجلسان؟ يعنى بنى كعب بن قريظة، وبنى عمرو بن قريظة؛ قال: ذهبوا وقتلوا؛ قال: فإنى أسألك بيدى عندك «4» يا ثابت إلا ألحقتنى بالقوم، فو الله ما فى العيش الجزء: 17 ¦ الصفحة: 194 بعد هؤلاء من خير، وما أنا بصابر لله قبلة «1» دلو ناضح حتى ألقى الأحبّة. فقدّمه ثابت فضرب عنقه. فلما بلغ أبا بكر الصديق قوله «ألقى الأحبة» قال: يلقاهم والله فى نار جهنم خالدا فيها مخلدا أبدا. وفى هذه الواقعة يقول ثابت بن قيس: وفت ذمّتى أنّى كريم وأننى ... صبور إذا ما القوم حادوا «2» عن الصبر وكان زبير أعظم الناس منّة ... علىّ فلمّا شدّ كوعاه «3» بالأسر أتيت رسول الله كيما أفكّه ... وكان رسول الله بحرا لنا يجرى قالوا: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أمر بقتل من أنبت منهم؛ فسألته سلمى بنت قيس بن المنذر أخت سليط بن قيس- وكانت إحدى خالات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكانت قد صلّت معه القبلتين، وبايعته بيعة النساء- على رفاعة بن سموءل القرظىّ، وكان رجلا قد بلغ، فلاذ بها، وكان يعرفها، فقالت: يا نبى الله، بأبى أنت وأمّى، هب لى رفاعة بن سموءل، فإنه قد زعم أنه سيصلى ويأكل لحم الجمل. فوهبه لها، فاستحيته. قال: ثم أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالغنائم فجمعت، فاصطفى لنفسه ريحانة بنت عمرو بن خناقة إحدى نساء عمرو بن قريظة، ثم أخرج الخمس من الجزء: 17 ¦ الصفحة: 195 المتاع والسبى، ثم أمر بالباقى فبيع فيمن يزيد وقسمه بين المسلمين، وكانت السّهمان على ثلاثة آلاف واثنين وسبعين سهما، للفرس سهمان، ولصاحبه سهم، وصار الخمس إلى محمية «1» بن جزء الزبيدى، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعتق منه، ويهب، ويخدم منه من أراد، وكذلك صنع بما صار إليه من الرّثّة، وهى السّقط من متاع البيت. وقال محمد بن إسحاق: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سعد بن زيد الأنصارىّ أحد بنى عبد الأشهل بسبايا من سبايا بنى قريظة إلى نجد، فابتاع له بهم خيلا وسلاحا. واستشهد يوم بنى قريظة من المسلمين: خلّاد بن سويد بن ثعلبة بن عمرو الأنصارى الخزرجى، طرحت عليه رحى فشدخته شدخا شديدا، ومات أبو سنان ابن محصن بن حرثان، أخو بنى أسد بن خزيمة. وأنزل الله عزّ وجل فى شأن بنى قريظة قوله تعالى: (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) قال قوله: (الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ) يعنى قريظة ظاهروا قريشا وغطفان (مِنْ صَياصِيهِمْ أى حصونهم ومعاقلهم، واحدتها صيصية (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وهم الرجال (وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً) وهم النساء والذرارىّ (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها) قال يزيد بن رومان [وابن «2» ] الجزء: 17 ¦ الصفحة: 196 زيد ومقاتل: يعنى خيبر. وقال قتادة: كنا نحدث أنها مكة. وقال الحسن: فارس والروم. وقال عكرمة: كل أرض تفتح إلى يوم القيامة. والله تعالى أعلم. ذكر سرية عبد الله بن عتيك إلى أبى رافع سلّام ابن أبى الحقيق النضرىّ بخيبر قال محمد بن سعد فى طبقاته: كانت فى شهر رمضان سنة ستّ من مهاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقال ابن إسحاق: كانت هذه السريّة بعد غزوة بنى قريظة. فتكون فى ذى الحجة سنة خمس من الهجرة، وهو الصحيح إن شاء الله، ويدلّ عليه أن محمد بن سعد لما ذكر عبد الله بن عتيك فى الطبقات قال فى ترجمته: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعثه فى ذى الحجة سنة خمس إلى أبى رافع سلّام بن أبى الحقيق بخيبر. قال محمد بن إسحاق: لما أصابت الأوس كعب بن الأشراف قالت الخزرج: والله لا يذهبون بها فضلا علينا أبدا. فتذاكروا: من رجل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى العداوة كابن الأشرف؟ فذكروا ابن أبى الحقيق، فاستأذنوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى قتله، فأذن لهم، فخرج إليه من الخزرج خمسة نفر، وهم: عبد الله ابن عتيك، ومسعود بن سنان، وعبد الله بن أنيس، وأبو قتادة الحارث بن ربعى، وخزاعىّ «1» بن أسود، حليف لهم من أسلم. قالوا «2» : وكان أبو رافع بن أبى الحقيق قد أجلب فى غطفان ومن حوله من مشركى العرب، وجعل لهم الجعل العظيم لحرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، الجزء: 17 ¦ الصفحة: 197 فأمّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليهم عبد الله بن عتيك، ونهاهم أن يقتلوا وليدا أو امرأة، فخرجوا حتى قدموا خيبر فكمنوا، فلما هدأت الرّجل جاءوا إلى منزله فصعدوا درجة له، وقدّموا عبد الله بن عتيك لأنه كان يرطن باليهوديّة، فاستفتح وقال: جئت أبا رافع بهديّة. ففتحت له امرأته، فلما رأت السلاح أرادت أن تصيح، فأشار إليها بالسيف فسكتت، فدخلوا عليه فعلوه بأسيافهم «1» ، قال ابن أنيس: وكنت رجلا أعشى لا أبصر، فاتكأت بسيفى على بطنه حتى سمعت خشّة فى الفراش، وعرفت أنه [قد «2» ] قضى، وجعل القوم يضربونه جميعا، ثم نزلوا وصاحت امرأته، فتصايح أهل الدار. قال ابن إسحاق: وكان عبد الله بن [عتيك «3» ] سيئ البصر، فوقع من الدرجة فوثئت «4» يده وثئا شديدا، قال ابن هشام: ويقال: رجله؛ قالوا: فحملناه حتى أتينا منهرا من عيونهم- والمناهر؛ واحدتها منهرة، وهو فضاء يكون بين أفنية القوم يلقون فيها كناستهم- فدخلنا فيه. قال محمد بن سعد: وخرج الحارث أبو زينب فى ثلاثة آلاف فى آثارهم يطلبونهم بالنيران، فلم يروهم، فرجعوا، ومكث القوم فى مكانهم يومين حتى سكن الطلب. قال ابن إسحاق: فقلنا: فكيف لنا أن نعلم بأن عدوّ الله قد مات؟ فقال رجل منا: أنا أذهب فأنظر لكم. فانطلق حتى دخل فى الناس، فوجده ورجال من يهود حوله، وامرأته فى يدها مصباح تنظر فى وجهه وتحدّثهم وتقول: أما والله لقد سمعت صوت ابن عتيك، ثم أكذبت [نفسى «5» ] وقلت: ابن عتيك بهذه البلاد! الجزء: 17 ¦ الصفحة: 198 ثم أقبلت تنظر فى وجهه وتقول «1» : فاظ «2» وإله يهود. قال: فما سمعت كلمة كانت ألذّ فى نفسى منها؛ وجاءنا فأخبرهم بالخبر، قالوا: فاحتملنا صاحبنا، وقدمنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأخبرناه بقتل عدوّ الله، واختلفنا عنده فى قتله، كلنا يدّعيه، فقال: هاتوا أسيافكم. فجئناه بها، فنظر إليها، فقال لسيف عبد الله ابن أنيس: هذا قتله، أرى فيه أثر الطعام. قال الشيخ شرف الدين [عبد المؤمن «3» ] بن خلف الدّمياطى رحمه الله فى سيرته: وفى حديث آخر أن الذى قتله عبد الله بن عتيك وحده، قال: وهو الصواب. والله أعلم. وقال حسان بن ثابت الأنصارىّ فى قتل سلام بن أبى الحقيق وابن الأشرف: لله درّ عصابة لاقيتهم ... يابن الحقيق وأنت يا بن الأشرف يسرون بالبيض الخفاف إليكم ... مرحا كأسد فى عرين مغرف «4» حتى أتوكم فى محلّ دياركم ... فسقوكم حتفا ببيض ذفّف «5» مستنصرين «6» لنصر دين نبيّهم ... مستصغرين لكلّ أمر مجحف «7» الجزء: 17 ¦ الصفحة: 199 ذكر سرية محمد بن مسلمة إلى القرطاء، وهم بنو قرط وقريط من بنى كلاب بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعشر خلون من المحرم، على رأس تسعة وخمسين شهرا من مهاجره فى ثلاثين راكبا إلى القرطاء «1» ، وهم ينزلون بناحية ضرية «2» وبين ضريّة والمدينة سبع ليال، فقتل نفرا منهم، وهرب سائرهم، واستاق نعما وشاء، ولم يعرض للظّعن، وانحدر إلى المدينة، فخمس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما جاء به، وفضّ ما بقى على أصحابه، فعدلوا الجزور بعشرين من الغنم، وكانت النعم مائة وخمسين بعيرا، والغنم ثلاثة آلاف شاة. وغاب سبع عشرة ليلة، وقدم لليلة بقيت من المحرّم. ذكر غزوة بنى لحيان بناحية عسفان «3» غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شهر ربيع الأوّل سنة ست من مهاجره على ما أورده محمد بن سعد. وقال محمد بن إسحاق: فى جمادى الأولى سنة ست. وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجد على عاصم بن ثابت وأصحابه- أصحاب الرّجيع- وجدا شديدا، فأظهر أنه يريد الشام. قال ابن سعد: وعسكر لغرّة هلال شهر ربيع الأوّل فى مائتى رجل، معهم عشرون فرسا، واستخلف على المدينة عبد الله بن أمّ مكتوم، ثم أسرع المسير حتى انتهى إلى بطن غران، وبينها وبين عسفان خمسة أميال، حيث كان مصاب. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 200 أصحابه، فترحّم عليهم ودعا لهم، فسمعت [بهم «1» ] بنو لحيان، فهربوا «2» في رءوس الجبال فلم يقدر منهم على أحد، فأقام يوما أو يومين، فبعث السرايا فى كلّ ناحية، فلم يقدروا على أحد، ثم خرج حتى أتى عسفان، ثم انصرف صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة، وهو يقول: «آيبون تائبون عابدون، لربّنا حامدون، أعوذ بالله من وعثاء السفر وكآبة المنقلب وسوء المنظر فى الأهل والمال» . وغاب عن المدينة أربع عشرة ليلة. ذكر غزوة الغابة، وهى غزوة ذى «3» قرد وهى على بريد من المدينة فى طريق الشام غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شهر ربيع الأوّل سنة ست من مهاجره. قالوا: كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم عشرون لقحة «4» ترعى بالغابة، وكان أبو ذرّ فيها، فأغار عيينة بن حصن ليلة الأربعاء فى أربعين فارسا فاستاقوها وقتلوا ابن أبى ذرّ. وقال محمد بن إسحاق: وكان فيهم رجل من غفار وامرأة [له «5» ] ، فقتلوا الرجل وحملوا المرأة [فى اللقاح «6» ] . وجاء الصّريخ، فنودى: الفزع الفزع! فنودى: الجزء: 17 ¦ الصفحة: 201 «يا خيل الله اركبى» ؛ وكان أوّل ما نودى بها؛ وركب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فخرج غداة الأربعاء، فكان أوّل من أقدم المقداد بن عمرو، وعليه الدرع والمغفر شاهرا سيفه، فعقد له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لواء فى رمحه، وقال: امض حتى تلحقك الخيول، وأنا على أثرك. واستخلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على المدينة عبد الله بن أم مكتوم، وخلّف سعد بن عبادة فى ثلاثمائة من قومه يحرسون المدينة. قال المقداد: فخرجت فأدركت أخريات العدوّ، وقد قتل أبو قتادة الحارث بن ربعىّ حبيب بن عيينة بن حصن، وغشّاه برده، فلما أقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والناس، فرأوا حبيبا مسجّى «1» ببرد أبى قتادة [فاسترجع «2» الناس، وقالوا: قتل أبو قتادة؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ليس بأبى قتادة] ، ولكنه قتيل لأبى قتادة وضع عليه برده، لتعرفوا أنه صاحبه. وقال ابن سعد: إن الذى قتل حبيبا هو المقداد بن عمرو، قتله وقتل قرفة «3» بن مالك بن حذيفة بن بدر؛ وإن أبا قتادة قتل مسعدة، فأعطاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرسه وسلاحه، وأدرك عكاشة بن محصن أوبارا «4» وابنه عمرو بن أوبار، وهما على بعير واحد، فقتلهما. واستشهد من المسلمين يومئذ محرز بن نضلة، قتله مسعدة، وأدرك سلمة «5» بن الأكوع القوم وهو على رجليه، فجعل يراميهم بالنبل ويقول: خذها وانا ابن الأكوع ... واليوم يوم الرّضّع «6» الجزء: 17 ¦ الصفحة: 202 حتى انتهى إلى ذى قرد- وهى ناحية خيبر ممّا يلى المستناخ- قال سلمة: فلحقنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والناس والخيول عشاء، فقلت: يا رسول الله، إن القوم عطاش، فلو بعثتنى فى مائة رجل استنقذت ما فى أيديهم من السرح «1» ، وأخذت بأعناق القوم. فقال النبىّ صلّى الله عليه وسلّم: «ملكت فأسجح «2» » ؛ ثم قال: «إنهم الآن ليقرون «3» في غطفان» . وذهب الصريخ إلى بنى عمرو بن عوف، فجاءت الأمداد فلم تزل الخيل تأتى والرجال على أقدامهم وعلى الإبل حتى انتهوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بذى قرد، فاستنفذوا عشر لقاح، وأفلت القوم بما بقى، وهى عشرة، وصلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بذى قرد صلاة الخوف، وأقام يوما وليلة يتحسّس الخبر، وقسم فى كلّ مائة من أصحابه جزورا ينحرونها، وكانوا خمسمائة، وقيل: سبعمائة. ذكر سرية عكاشة بن محصن الأسدىّ إلى الغمر غمر «4» مرزوق، وهو ماء لبنى أسد على ليلتين من فيد قالوا: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عكاشة بن محصن إلى الغمر فى أربعين رجلا، فخرج سريعا، فنذر «5» به القوم فهربوا، فنزلوا عليا بلادهم، ووجدوا دارهم خلوفا «6» ، فبعث عكاشة شجاع بن وهب طليعة، فرأى أثر النعم، فتحمّلوا فأصابوا ربيئة «7» الجزء: 17 ¦ الصفحة: 203 لهم، فأمّنوه، فدلّهم على نعم لبنى عمّ له، فأغاروا عليها فاستاقوا مائتى بعير، وأرسلوا الرجل، وحدروا «1» النعم إلى المدينة، وقدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يلقوا كيدا. ذكر سرية محمد بن مسلمة إلى بنى ثعلبة بذى القصّة قالوا: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم محمد بن مسلمة إلى بنى ثعلبة، وهم بذى القصّة فى شهر ربيع الآخر سنة ستّ من مهاجره، وبين ذى القصة وبين المدينة أربعة وعشرون ميلا، طريق الرّبذة، بعثه فى عشرة نفر فوردوا عليهم [ليلا «2» ] فأحدق به القوم وهم مائة رجل، فتراموا ساعة من الليل، ثم حملت الأعراب عليهم بالرماح فقتلوهم، ووقع محمد بن مسلمة جريحا، يضرب كعبه فلا يتحرك، وجردوهم من الثياب، ومر رجل من المسلمين بمحمد بن مسلمة فحمله حتى ورد به المدينة، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبا عبيدة بن الجرّاح فى أربعين رجلا إلى مصارع القوم فلم يجدوا أحدا، ووجدوا نعما وشاء، فساقه ورجع. ذكر سرية أبى عبيدة بن الجرّاح إلى ذى القصّة بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شهر ربيع الآخر سنة ستّ من مهاجره فى أربعين رجلا من المسلمين، وسبب ذلك أن بلاد بنى ثعلبة وأنمار أجدبت، ووقعت سحابة بالمراض إلى تغلمين، والمراض على ستة وثلاثين ميلا من المدينة، فسارت بنو محارب وثعلبة وأنمار إلى تلك السحابة، واجتمعوا أن يغيروا على سرح المدينة وهو يرعى بهيفا- موضع على سبعة أميال من المدينة- فبعث رسول الله الجزء: 17 ¦ الصفحة: 204 صلّى الله عليه وسلّم أبا عبيدة ومن معه حين صلّوا المغرب، فمشوا ليلتهم حتى وافوا ذا القصّة مع عماية «1» الصبح- وهى «2» موضع فى طريق العراق- فأغاروا عليهم فأعجزوهم هربا فى الجبال، وأصاب رجلا واحدا فأسلم فتركه، وأخذ نعما من نعمهم فاستاقه ورثة «3» من متاعهم. وقدم المدينة بذلك، فخمسه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقسم ما بقى عليهم. ذكر سرية زيد بن حارثة إلى بنى سليم بالجموم قالوا: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زيد بن حارثة فى شهر ربيع الآخر سنة ست من الهجرة إلى بنى سليم، فسار هو ومن معه حتى ورد الجموم- ناحية بطن نخل عن يسارها، وبطن نخل من المدينة على أربعة برد- فأصابوا عليه امرأة من مزينة يقال لها: حليمة؛ فدلّتهم على محلّة من محالّ بنى سليم، فأصابوا فيها نعما وشاء وأسرى، فكان فيهم زوج حليمة المزنيّة، فلما قفل زيد بن حارثة بما أصاب وهب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للمزنيّة نفسها وزوجها، فقال بلال ابن الحارث المزنىّ فى ذلك: لعمرك ما أخنى «4» المسول ولا ونت «5» ... حليمة حتى راح ركبهما معا الجزء: 17 ¦ الصفحة: 205 ذكر سرية زيد بن حارثة إلى العيص لعير قريش بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى جمادى الأولى سنة ستّ من مهاجره فى سبعين ومائة راكب إلى العيص- وبينها وبين المدينة أربع ليال، وبينها وبين ذى المروة ليلة- وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلغه أن عيرا لقريش قد أقبلت من الشام، فبعثه ومن معه ليتعرض لها، فأخذوها وما فيها، وأخذ يومئذ فضة كثيرة لصفوان بن أمية، وأسروا ناسا ممّن كان فى العير، منهم أبو العاص بن الربيع، وقدم بهم المدينة، فاستجار أبو العاص بزينب بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأجارته، ونادت فى الناس حين صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الفجر: إنى قد أجرت أبا العاص. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: [ما علمت «1» بشىء من هذا] قد أجرنا من أجرت. ورد عليه ما أخذ «2» له كما تقدّم. ذكر سرية زيد بن حارثة إلى الطّرف إلى بنى ثعلبة بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى جمادى الآخرة سنة ستّ من مهاجره إلى الطّرف- وهو ماء قريب من المراض، دون النّخيل، على ستة وثلاثين ميلا من المدينة، طريق البقرة على المحجّة- فخرج إلى بنى ثعلبة فى خمسة عشر رجلا فأصاب نعما وشاء، وهربت الأعراب، وصبّح زيد بالنّعم المدينة، وهى عشرون بعيرا، ولم يلق كيدا، وغاب أربع ليال، وكان شعارهم «أمت أمت» . الجزء: 17 ¦ الصفحة: 206 ذكر سرية زيد بن حارثة إلى حسمى، وهى وراء وادى القرى قالوا: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زيد بن حارثة إلى حسمى فى جمادى الآخرة أيضا، وذلك أن دحية بن خليفة الكلبى أقبل من عند قيصر صاحب الروم حين بعثه إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بكتابه، وقد أجازه «1» وكساه، ومع دحية تجارة له، حتى إذا كان بواد يقال له: شنار أو شنان «2» ؛ أغار عليه الهنيد بن عارض، وقيل: [ابن «3» عوص؛ وابنه عارض بن الهنيد، وقيل:] عوص ابن الهنيد؛ الضّلعيّان «4» فى ناس من جذام بحسمى، فقطعوا عليه الطريق وأخذوا ما معه، فلم يتركوا عليه إلا سمل «5» ثوب، فسمع بذلك نفر من بنى الضّبيب-[رهط «6» رفاعة بن زيد ممن كان أسلم وأجاب- فنفروا إلى الهنيد وابنه، وفيهم من بنى الضّبيب] النعمان بن أبى جعال حتى لقوهم فاقتتلوا، وانتمى يومئذ قرّة بن أشقر الضّفارىّ «7» ثم الضّلعىّ، فقال: أنا ابن لبنى؛ ورمى النعمان بسهم فأصاب ركبته، وقال: خذها وأنا ابن لبنى؛ ولبنى أمّه، ثم استنقذوا لدحية متاعه، وقدم دحية على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره بذلك، فبعث زيد بن حارثة فى خمسمائة رجل وردّ معه دحية، فكان زيد يسير الليل ويكمن النهار ومعه دليل من بنى عذرة، فأقبل بهم حتى هجم بهم مع الصبح على القوم، فأغاروا عليهم، فقتلوا فيهم فأوجعوا، وقتلوا الهنيد الجزء: 17 ¦ الصفحة: 207 وابنه، وأغاروا على ماشيتهم ونعمهم ونسائهم، فأخذوا ألف بعير وخمسة آلاف شاة ومن النساء والصبيان مائة، فرحل رفاعة «1» بن زيد الجذامى فى نفر من قومه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فدفع إليه كتابه الذى كان كتب له ولقومه ليالى قدم عليه فأسلم، وقال: يا رسول الله، لا تحرّم علينا حلالا ولا تحلّ لنا حراما. فقال: كيف أصنع بالقتلى؟ فقال أبو يزيد بن عمرو: يا رسول الله، أطلق لنا من كان حيّا، ومن قتل فهو تحت قدمىّ هاتين. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: صدق أبو يزيد؛ فبعث معهم عليّا إلى زيد بن حارثة يأمره أن يخلّى بينهم وبين حرمهم وأموالهم، فتوجّه علىّ رضى الله عنه، فلقى رافع بن مكيث الجهنى بشير زيد بن حارثة على ناقة من إبل القوم، فردها علىّ عليهم، ولقى زيدا بالفحلتين «2» - وهى بين المدينة وذى المروة- فأبلغه [أمر «3» ] رسول «4» الله صلّى الله عليه وسلّم، فرد عليهم كلّ ما كان أخذ منهم. ذكر سرية زيد بن حارثة إلى وادى «5» القرى قال محمد بن سعد فى طبقاته الكبرى: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زيد ابن حارثة إلى وادى القرى أميرا فى شهر رجب سنة ست من الهجرة. ولم يذكر غير ذلك. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 208 ذكر سريّة عبد الرحمن بن عوف إلى دومة «1» الجندل قال محمد بن سعد رحمه الله: دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه فى شعبان سنة ست من مهاجره، فأقعده بين يديه وعمّه بيده وقال: اغز بسم الله، وقاتل «2» في سبيل الله، فقاتل من كفر بالله، لا تغلّ «3» ولا تغدر، ولا تقتل وليدا. وبعثه إلى كلب «4» بدومة الجندل، وقال: إن استجابوا لك فتزوج ابنة ملكهم. فسار عبد الرحمن حتى قدم دومة الجندل، فمكث ثلاثة أيام يدعوهم إلى الإسلام، فأسلم الأصبغ بن عمرو الكلبىّ، وكان نصرانيا وهو رأسهم، وأسلم معه ناس كثير من قومه، وأقام من أقام منهم على إعطاء الجزية، وتزوج عبد الرحمن تماضر بنت الأصبغ وقدم بها المدينة، وهى أم أبى سلمة «5» بن عبد الرحمن. ذكر سرية على بن أبى طالب رضى الله عنه إلى بنى سعد بن بكر بفدك قالوا: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على بن أبى طالب رضى الله عنه فى شعبان سنة ست من الهجرة إلى بنى سعد بن بكر بفدك فى مائة رجل، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلغه أن لهم جمعا يريدون أن يمدوا يهود خيبر، فسار على رضى الله عنه بمن معه، فكان يسير الليل ويكمن النهار حتى انتهى الجزء: 17 ¦ الصفحة: 209 إلى الهمج «1» - وهو ماء بين خيبر وفدك، وبين فدك والمدينة ست ليال- فوجدوا به رجلا فسألوه عن القوم فقال: أخبركم على أن تؤمّنونى؟ فأمّنوه فدلّهم، فأغاروا عليهم فأخذوا خمسمائة بعير وألفى شاة، وهربت بنو سعد بالظّعن ورأسهم وبربن عليم، فعزل علىّ رضى الله عنه صفىّ «2» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لقوحا تدعى الحفدة» ، ثم عزل الخمس وقسم الغنائم على أصحابه، وقدم المدينة ولم يلق كيدا. ذكر سريّة زيد بن حارثة إلى وادى القرى وقتل أم قرفة كانت هذه السرية فى شهر رمضان سنة ست من مهاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وذلك أن زيد بن حارثة خرج فى تجارة إلى الشام، ومعه بضائع لأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما كان دون وادى القرى لقيه ناس من فزارة من بنى بدر، فضربوه وضربوا أصحابه وأخذوا ما كان معهم، ثم استبلّ «4» زيد بن حارثة، وقدم على النبى صلّى الله عليه وسلّم، فبعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليهم. حكاه محمد بن سعد فى طبقاته. وقال محمد بن إسحاق: إن الذى أصاب زيد بن حارثة كان عند غزوة وادى القرى، فإنه أصيب بها ناس من أصحابه، وارتثّ «5» زيد من بين القتلى، ولعل هذه السرية هى التى كانت فى شهر رجب من السنة. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 210 قال ابن سعد: فخرج زيد بن حارثة بمن معه فكمنوا النهار وساروا الليل، ونذرت «1» بهم بنو بدر، ثم صبّحهم زيد وأصحابه وكبّروا وأحاطوا بالحاضر «2» ، وأخذوا أم قرفة، وهى فاطمة بنت ربيعة بن بدر، وابنتها جارية بنت مالك بن حذيفة ابن بدر، فكان الذى أخذ الجارية سلمة بن الأكوع، فوهبها لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فوهبها صلّى الله عليه وسلّم لحزن بن أبى وهب، قال: وعمد قيس ابن المحسّر إلى أم قرفة، وهى عجوز كبيرة، فربط بين رجليها حبلا، ثم ربطها بين بعيرين ثم زجرهما فذهبا فقطّعاها «3» ، وقتل النعمان وعبد الله ابنا مسعدة بن حكمة بن مالك ابن بدر، وقدم زيد بن حارثة من وجهه ذلك، فقرع باب النبى صلّى الله عليه وسلّم فقام إليه عريانا يجر ثوبه حتى اعتنقه وقبله، وسأله فأخبره بما ظفّره الله به. ذكر سريّة عبد الله بن رواحة إلى أسير «4» بن رزام «5» اليهودىّ بخيبر كانت هذه السريّة فى شوال سنة ستّ من مهاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وذلك أنه لما قتل أبو رافع سلّام بن أبى الحقيق كما ذكرنا أمرت يهود عليها أسير بن رزام، فسار فى غطفان وغيرهم يجمعهم لحرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فوجه عبد الله بن رواحة فى ثلاثة نفر من المسلمين فى شهر رمضان سرا الجزء: 17 ¦ الصفحة: 211 فسأل عن خبره وغرّته «1» ، فأخبر بذلك، فقدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره بذلك، فندب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الناس، فانتدب له ثلاثون رجلا، فبعث عليهم عبد الله بن رواحة فقدموا على أسير فقالوا له: نحن آمنون حتى نعرض عليك ما جئنا له؛ قال: نعم، ولى منكم مثل ذلك؛ قالوا: نعم؛ فقالوا له: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعثنا إليك لتخرج إليه فيستعملك على خيبر ويحسن إليك. فطمع أسير فى ذلك، فخرج وخرج معه ثلاثون رجلا من اليهود، مع كل رجل رديف «2» من المسلمين، حتى إذا كانوا بقرقرة «3» ثبار ندم أسير، قال عبد الله ابن أنيس- وكان فى السريّة: فأهوى بيده إلى سيفى، ففطنت له ودفعت بعيرى فقلت: غدرا أى عدوّ الله! فعل ذلك مرتين، فنزلت فسبقت القوم حتى انفردت إلى أسير فضربته بالسيف، فأندرت «4» عامة فخذه وساقه، وسقط عن بعيره وبيده مخرش «5» من شوحط «6» ، فضربنى به فشجّنى مأمومة «7» ، وملنا على أصحابه فقتلناهم كلهم غير رجل واحد أعجزنا شدّا، ولم يصب من المسلمين أحد، ثم أقبلنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحدّثناه الحديث، فقال: قد نجاكم الله من القوم الظالمين. وتفل صلّى الله عليه وسلّم على شجّة عبد الله بن أنيس فلم تقح ولم تؤذه. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 212 ذكر سريّة كرز بن جابر الفهرى إلى العرنيّين كانت هذه السرية فى شوّال سنة ست من مهاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قالوا: قدم نفر من عرينة ثمانية على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأسلموا واستوبئوا «1» المدينة، فأمر بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى لقاحه، وكانت ترعى بذى الجدر- ناحية قباء قريبا من عير، على ستة أميال من المدينة- فكانوا فيها حتى صحّوا وسمنوا، فعدوا على اللقاح فاستاقوها، فأدركهم يسار مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعه نفر، فقاتلهم، فقطعوا يده ورجله وغرزوا الشّوك فى لسانه وعينيه حتى مات، فبلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الخبر، فبعث فى أثرهم عشرين فارسا، واستعمل عليهم كرز بن جابر الفهرىّ، فأدركوهم فأحاطوا بهم وأسروهم «2» وربطوهم وأردفوهم على الخيل حتى قدموا بهم المدينة، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالغابة، فخرجوا بهم نحوه، فلقوه بالزّغابة «3» بمجتمع السّيول، فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم، وسملت أعينهم، وصلبوا هنالك. وأنزل الله تعالى على رسوله: (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) . فلم يسمل بعد ذلك عينا، وكانت اللقاح خمس عشرة لقحة غزارا فردوها إلى المدينة، ففقد منها لقحة تدعى الحناء، فسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنها، فقيل: نحروها. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 213 ذكر سرية عمرو بن أمية الضّمرىّ وسلمة بن أسلم إلى أبى سفيان بن حرب بمكة قال محمد بن سعد فى طبقاته: وذلك أن أبا سفيان بن حرب قال لنفر من قريش: ألا أحد يغترّ «1» محمدا فإنه يمشى «2» في الأسواق؟ فأتاه رجل [من «3» الأعراب] فقال: قد وجدت أجمع الرجال قلبا، وأشدّه «4» بطشا، وأسرعه «5» شدّا، فإن أنت قوّيتنى خرجت إليه حتى أغتاله، ومعى خنجر مثل خافية «6» النسر؛ قال: أنت صاحبنا؛ فأعطاه بعيرا ونفقة، وقال: اطو أمرك؛ فخرج ليلا فسار على راحلته خمسا وصبّح ظهر الحرّة صبح سادسة، ثم أقبل فسأل عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى دلّ عليه، فعقل راحلته، ثم أقبل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو فى مسجد بنى عبد الأشهل، فلما رآه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن هذا ليريد غدرا» . فذهب ليجنى على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فجدبه أسيد بن الحضير بداخلة «7» إزاره، فإذا بالخنجر، فسقط «8» في يده، وقال: دمى دمى! وأخذ أسيد بلبّته فذعته «9» ، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اصدقنى، ما أنت؟» قال: وأنا آمن؟ قال: نعم؛ فأخبره بخبره، فخلّى عنه صلّى الله عليه وسلّم. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 214 وبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عمرو بن أمية الضمرىّ، وسلمة بن أسلم ابن أبى «1» حريس إلى أبى سفيان بن حرب، وقال: إن أصبتما منه غرة فاقتلاه؛ فدخلا مكة، ومضى عمرو بن أمية يطوف بالبيت ليلا، فرآه معاوية بن أبى سفيان فعرفه، وأخبر قريشا بمكانه، فخافوه وطلبوه، وكان فاتكا فى الجاهلية، وقالوا: لم يأت عمرو لخير؛ فحشد له أهل مكة وتجمعوا، فهرب عمرو وسلمة، فلقى عمرو عبيد الله ابن مالك بن عبد الله «2» التميمى [فقتله «3» ] وقتل آخرين من بنى الدّيل، سمعه يتغنى ويقول: ولست بمسلم ما دمت حيّا ... ولست أدين دين المسلمينا ولقى رسولين لقريش بعثتهما يتحسّسان الخبر، فقتل أحدهما وأسر الآخر، [فقدم «4» به المدينة] فجعل يخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ورسول الله يضحك؛ هكذا حكى محمد بن سعد. وقال أبو محمد عبد الملك بن هشام رحمه الله: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث عمرو بن أميّة الضّمرى، ومعه جبّار بن صخر الأنصارىّ، وذلك بعد مقتل خبيب بن عدىّ وأصحابه، قال: فخرجا حتى قدما مكة، وحبسا جمليهما بشعب من شعاب يأجج «5» ، ثم دخلا مكة ليلا، فقال جبّار بن صخر لعمرو: لو أنا طفنا بالبيت وصلينا ركعتين؛ قال عمرو: فطفنا وصلينا، ثم خرجنا نريد أبا سفيان، فو الله إنا لنمشى بمكة إذ نظر إلىّ رجل فعرفنى، فقال: عمرو بن أمية، والله إن قدمها إلا لشرّ؛ فقلت لصاحبى: النجاء؛ فخرجنا نشتدّ حتى أصعدنا فى جبل، وخرجوا فى طلبنا، حتى إذا علونا الجبل يئسوا منا، فدخلنا كهفا الجزء: 17 ¦ الصفحة: 215 فى الجبل فبتنا، وقد رضمنا» دوننا حجارة، فلما أصبحنا غدا رجل من قريش يقود فرسا له، فغشينا ونحن فى الغار، فقلت: إن رآنا صاح بنا فنؤخذ فنقتل؛ قال: فخرجت إليه فضربته على ثدييه «2» بخنجر كنت قد أعددته لأبى سفيان، فصاح صيحة أسمع أهل مكة، ورجعت فدخلت مكانى، وجاءه الناس يشتدّون وهو بآخر رمق، فقالوا: من ضربك؟ قال: عمرو بن أمية. ومات لوقته، ولم يدلّ علينا، فاحتملوه، فقلت لصاحبى لما أمسينا: النجاء؛ فخرجنا ليلا من مكة نريد المدينة، فمررنا بالحرس وهم يحرسون جيفة خبيب، فقال أحدهم: والله ما رأيت كالليلة أشبه بمشية عمرو بن أمية، لولا أنه بالمدينة لقلت هو عمرو؛ قال: فلما حاذى عمرو الخشبة شدّ عليها واحتملها، وخرجا شدّا، وخرجوا وراءه، حتى أتى جرفا بمهبط مسيل يأجج، فرمى بالخشبة فى الجرف، فغيّبه الله عنهم، فلم يقدروا عليه. قال عمرو: وقلت لصاحبى: النجاء، حتى تأتى بعيرك فتقعد عليه، فإنى سأشغل عنك القوم؛ قال: ومضيت حتى خرجت على ضجنان «3» ، ثم أويت إلى جبل فدخلت كهفا، فبينا أنا فيه إذ دخل علىّ شيخ من بنى الدّيل أعور، فى غنيمة له؛ فقال: من الرجل؟ قلت: من بنى بكر، فمن «4» أنت؟ قال: من بنى بكر؛ فقلت: مرحبا؛ فاضطجع، ثم رفع عقيرته فقال: ولست بمسلم ما دمت حيّا ... ولست أدين دين المسلمينا الجزء: 17 ¦ الصفحة: 216 فقلت فى نفسى: ستعلم؛ فأمهلته حتى إذا نام أخذت قوسى فجعلت سيتها «1» في عينه الصحيحة، ثم تحاملت عليها حتى بلغت العظم، ثم خرجت حتى جئت العرج «2» ، ثم سلكت ركوبة «3» ، حتى إذا هبطت النّقيع «4» إذا رجلان من قريش من المشركين، كانت قريش بعثتهما عينا إلى المدينة يتحسّسان؛ فقلت: استأسرا؛ فأبيا، فرميت أحدهما بسهم فقتلته، ثم استأسر الآخر فأوثقته رباطا، وقدمت به المدينة. ولم يذكر أحد منهما تاريخ هذه السريّة، فى أى شهر كانت، فأذكره. ذكر غزوة الحديبية «5» وما وقع فيها من بيعة الرّضوان ومهادنة قريش وغير ذلك كانت غزوة الحديبية فى ذى الحجة سنة ست من مهاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال محمد بن سعد: استنفر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصحابه إلى العمرة، فأسرعوا وتهيئوا، ولبس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثوبين، وركب راحلته القصواء «6» وخرج، وذلك يوم الاثنين لهلال ذى القعدة، واستخلف على المدينة عبد الله بن أم مكتوم. وقال ابن إسحاق: استعمل على المدينة نميلة بن الجزء: 17 ¦ الصفحة: 217 عبد الله اللّيثى. قال ابن سعد: ولم يخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معه «1» بسلاح إلا سلاح المسافر، السيوف فى القرب، وساق بدنا «2» وساق أصحابه بدنا، فصلى الظهر بذى الحليفة: ثم دعا بالبدن التى ساق فجلّلت «3» ، ثم أشعرها «4» في الشقّ الأيمن وقلّدها «5» ، وأشعر أصحابه أيضا، وهى موجّهات إلى القبلة، وهى سبعون بدنة، فيها جمل أبى جهل الذى غنمه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم بدر، وأحرم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولبّى، وقدّم عبّاد بن بشر أمامه طليعة فى عشرين فارسا من خيل المسلمين، وفيهم رجال من المهاجرين والأنصار، وخرج معه صلّى الله عليه وسلّم من المسلمين ألف وأربعمائة على الصحيح، وقيل: ألف وستمائة؛ ويقال: ألف وخمسمائة وخمسة وعشرون رجلا؛ وأخرج معه من أزواجه أم سلمة رضى الله عنها، وبلغ المشركين خروجه، فأجمع رأيهم على صدّه عن المسجد الحرام، وعسكروا ببلدح «6» وقدّموا مائتى فارس إلى كراع «7» الغميم، عليهم خالد بن الوليد، ويقال: عكرمة ابن أبى جهل. قال محمد بن إسحاق: قال الزهرىّ: لما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبى- قال ابن هشام: ويقال: بسر- فقال: الجزء: 17 ¦ الصفحة: 218 يا رسول الله، هذه قريش قد سمعت بمسيرك، فخرجوا معهم العوذ «1» المطافيل، قد لبسوا جلود النور، وقد نزلوا بذى طوى، يعاهدون الله ألا ندخلها عليهم أبدا، وهذا خالد بن الوليد فى خيلهم قد قدموها إلى كراع الغميم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا ويح قريش! لقد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلّوا بينى وبين سائر العرب؟ فإن هم أصابونى كان ذلك الذى أرادوا، وإن أظهرنى الله عليهم دخلوا فى الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوّة، فما تظن قريش؟ والله لا أزال أجاهد على الذى بعثنى الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة «2» » . قال محمد بن سعد: ودنا خالد بن الوليد فى خيله حتى نظر إلى أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبّاد بن بشر فتقدم فى خيله، فأقام بإزائه وصفّ أصحابه، وحانت صلاة الظهر، فصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأصحابه صلاة الخوف، فلما أمسى صلّى الله عليه وسلّم قال لأصحابه: تيامنوا فى هذا الموضع العضل «3» - موضع منعطف فى الوادى- فإن عيون قريش بمرّ الظّهران وبضجنان. فسار حتى دنا من الحديبية، وهى طرف الحرم على تسعة أميال من مكة، فوقفت «4» يدا راحلته على ثنيّة تهبط على غائط القوم، فبركت. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 219 وقال أبو إسحاق أحمد بن محمد الثعلبىّ فى تفسيره: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما كان بغدير الأشطاط «1» قريبا من عسفان أتاه عينه الخزاعىّ، فقال: إنى تركت كعب بن لؤىّ وعامر بن لؤى قد جمعا لك الأحابيش «2» ، وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت؛ فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: أشيروا علىّ، أترون أن نميل على ذرارى هؤلاء الذين عاونوهم «3» فنصيبهم؟ فإن قعدوا قعدوا موتورين، وإن يحبئوا [تكن «4» ] عنقا قطعها الله، أو ترون أن نؤمّ البيت فمن صدّنا عنه قاتلناه؟ فقام أبو بكر رضى الله عنه فقال: يا رسول الله، إنا لم نأت لقتال أحد، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه. فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: فروحوا إذا؛ فراحوا، حتى إذا كان بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبى، وذكر من قوله ومن جواب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما قدمناه إلى قوله: أو تنفرد هذه السالفة. ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التى هم بها؟ فقال رجل من أسلم: أنا يا رسول الله. فخرج بهم على طريق وعر حزن بين شعاب، فلما خرجوا منه، وقد شق ذلك على المسلمين وأفضى إلى أرض سهلة عند منقطع الوادى، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قولوا: نستغفر الله ونتوب إليه. ففعلوا، الجزء: 17 ¦ الصفحة: 220 فقال: والله إنها للحطّة «1» التى عرضت على بنى إسرائيل فلم يقبلوها؛ ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للناس: اسلكوا ذات اليمين، فى طريق يخرجه على ثنية المرار «2» على مهبط من أسفل مكة، فسلك الجيش ذلك الطريق، فلما رأت خيل قريش قترة «3» الجيش، وأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد خالفهم عن طريقهم، ركضوا راجعين إلى قريش ينذرونهم، وسار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى إذا سلك ثنيّة المرار بركت به ناقته، فقال الناس: حل «4» حل؛ فقال: ما حل؛ قالوا: خلأت «5» القصواء؛ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «ما خلأت وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس «6» الفيل؛ ثم قال: والذى نفسى بيده لا تدعونى قريش إلى خطة يعظمون بها حرمات الله، وفيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها» ؛ ثم قال للناس: «انزلوا» فنزلوا بأقصى الحديبية على بئر قليلة الماء، إنما يتبرّضه «7» الناس تبرّضا، فلم يلبث الناس أن نزحوه، فشكا الناس إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم العطش، فنزع سهما من كنانته وأعطاه رجلا من أصحابه، يقال له: ناجية بن عمير بن يعمر بن دارم، وهو سائق بدن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزل فى تلك البئر فغرزه فى جوفها الجزء: 17 ¦ الصفحة: 221 فجاش «1» الماء بالرّى، حتى صدروا «2» عنه؛ ويقال: إن جارية من الأنصار أقبلت بدلوها، وناجية فى القليب يميح «3» على الناس، فقالت: يأيها المائح دلوى دونكا ... إنى رأيت الناس يحمدونكا يثنون خيرا ويمجّدونكا ... أرجوك للخير كما يرجونكا فقال ناجية: قد علمت جارية يمانية ... أنّى أنا المائح واسمى ناجية وطعنة ذات رشاش واهية ... طعنتها تحت صدور العادية «4» قال ابن إسحاق: ناجية بن جندب بن عمير الأسلمى؛ قال: وزعم بعض أهل العلم أن البراء بن عازب كان يقول: أنا الذى نزلت بسهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال محمد بن إسحاق والثعلبى: روى عن الزّهرى عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم: فلما اطمأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتاه بديل بن ورقاء الخزاعى فى نفر من قومه، وكانت خزاعة عيبة «5» نصح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أهل تهامة، فقال: إنى تركت كعب بن لؤى وعامر ابن لؤى قد نزلا أعداد «6» مياه الحديبية، معهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت. فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: إنا لم نأت لقتال أحد، ولكن جئنا معتمرين، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب، وأضرّت بهم، فإن شاءوا ماددناهم «7» مدة الجزء: 17 ¦ الصفحة: 222 ويخلوا بينى وبين الناس، فإن أظهر، فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلّا فقد جمّوا «1» ، فو الله لأقاتلنهم على أمرى هذا حتى تنفرد سالفتى، أو لينفذنّ الله أمره. قال بديل: سنبلغهم ما تقول. فانطلق حتى أتى قريشا فقال: إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل، وسمعناه يقول قولا، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا؛ فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا فى أن تحدثنا عنه بشىء؛ وقال ذوو الرأى منهم: هات كما سمعته يقول؛ قال: سمعته يقول كذا وكذا. فحدثهم بما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقال لهم: إنه لم يأت لقتال، وإنما جاء زائرا لهذا البيت. فاتهموه وجبهوه «2» وقالوا: إن كان جاء ولا يريد قتالا فو الله لا يدخلها علينا عنوة أبدا، ولا يحدّث «3» بذلك عنا العرب؛ ثم بعثوا إليه مكرز بن حفص بن الأخيف أخا بنى عامر ابن لؤىّ، فلما رآه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقبلا قال: هذا رجل غادر. وفى رواية: «فاجر» . فلما انتهى إليه وكلمه قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نحوا مما قال لبديل بن ورقاء وأصحابه، فرجع إلى قريش فأخبرهم بما قال النبى صلّى الله عليه وسلّم، ثم بعثوا إليه الحليس بن علقمة أو ابن زيّان «4» ، وكان يومئذ سيّد الأحابيش، وهو أحد بنى الحارث بن عبد مناة بن كنانة، فلما رآه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: هذا من قوم يتألّهون «5» ، فابعثوا الهدى فى وجهه حتى يراه. فلما رأى الهدى يسيل «6» عليه من عرض الوادى فى قلائده، قد أكل أو باره «7» من طول الحبس عن محلّه «8» رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إعظاما الجزء: 17 ¦ الصفحة: 223 لما رأى، فقال لهم ذلك؛ فقالوا له: يا حليس، إنما أنت أعرابى لا علم لك؛ فقال: يا معشر قريش، والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاهدناكم، أيصدّ عن بيت الله من جاءه معظّما له؟ والذى نفس الحليس بيده لتخلّنّ بين محمد وبين ما جاء له، أو لأنفرنّ بالأحابيش نفرة رجل واحد؛ فقالوا له: مه، كف عنا يا حليس، ودعنا حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به؛ قال: ثم بعثوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عروة بن مسعود الثقفى، فقال لهم: يا معشر قريش، إنى قد رأيت ما يلقى منكم من بعثتموه إلى محمد إذا جاءكم من التعنيف وسوء اللفظ، وقد عرفتم أنكم والد وأنى ولد- وكان عروة لسبيعة بنت عبد شمس- وقد سمعت بالذى نابكم، فجمعت من أطاعنى من قومى، ثم جئتكم حتى آسيتكم بنفسى؛ قالوا: صدقت، ما أنت عندنا بمتّهم. فخرج حتى أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجلس بين يديه ثم قال: يا محمد، أجمعت أوشاب «1» الناس ثم جئت بهم إلى بيضتك «2» لتفضّها بهم؟ يا محمد، أرأيت إن استأصلت قومك فهل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك؟ وإنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل، قد لبسوا جلود النمور، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عنوة [أبدا «3» ] وإنى لأرى وجوها وأوشابا من الناس خليفا «4» أن يفرّوا ويدعوك، وايم الله، لكأنى بهؤلاء قد انكشفوا غدا عنك. وأبو بكر الصديق رضى الله عنه خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلم قاعد، فقال لعروة: امصص بظر «5» اللات، أنحن ننكشف عنه؟ - واللات طاغية ثقيف التى كانوا الجزء: 17 ¦ الصفحة: 224 يعبدونها- فقال: من هذا يا محمد؟ قال: هذا ابن أبى قحافة؛ قال: أما والله لولا يد «1» كانت لك عندى لكافأتك بها، ولكن هذه بها. قال: ثم جعل يتناول لحية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يكلمه، والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى الحديد، فجعل يقرع يده إذا تناول لحية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويقول: اكفف يدك عن وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل ألا تصل إليك؛ قال: فيقول عروة: ويحك! ما أفظّك وما أغلظك «2» ! قال: فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال له عروة: من هذا يا محمد؟ قال: «هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة» قال: أى غدر، وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس؟ - وكان المغيرة بن شعبة قبل إسلامه قتل ثلاثة عشر رجلا من بنى مالك من «3» ثقيف، صحبهم فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أما الإسلام فقد قبلناه، وأما المال فإنه مال غدر، ولا حاجة لنا فيه» . قال: ولما قتلهم المغيرة تهايج الحيّان من ثقيف: رهط القتلى ورهط المغيرة، فودى عروة المقتولين ثلاث عشرة دية، وأصلح ذلك الأمر، فلذلك قال للمغيرة ما قال- قال: ثم كلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عروة بنحو ما كلم به أصحابه، فقام من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد رأى ما يصنع به أصحابه، لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه، ولا يبصق بصاقا إلا ابتدروه، ولا يسقط من شعره شىء إلا أخذوه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدّون «4» النظر إليه تعظيما الجزء: 17 ¦ الصفحة: 225 له. فرجع إلى قريش فقال: يا معشر قريش، والله لقد وفدت على الملوك؛ وفدت على قيصر فى ملكه، وكسرى فى ملكه، والنجاشىّ فى ملكه، وإنى والله ما رأيت ملكا فى قومه قطّ «1» يعظّمه أصحابه ما يعظّم أصحاب محمد محمدا، والله إن تنخّم نخامة إلا وقعت فى كفّ رجل منهم فذلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا عنده خفضوا أصواتهم، وما يحدّون النظر إليه تعظيما له، ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشىء أبدا، فروا رأيكم. وفى رواية قال: وإنه قد عرض عليكم خطّة رشد فاقبلوها. قال ابن إسحاق: وبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خراش بن أمية الخزاعىّ إلى قريش بمكة، وحمله على بعير يقال له: الثّعلب، ليبلّغ أشرافهم ما قد جاء له، فعقروا الجمل وأرادوا قتل خراش، فمنعته الأحابيش، فخلّوا سبيله. قال: وبعثت قريش أربعين رجلا منهم أو خمسين، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليصيبوا لهم من أصحابه أحدا، فأخذوا وأتى بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فعفا عنهم، وخلّى سبيلهم، وكانوا رموا فى العسكر بالحجارة والنّبل. ثم دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عمر بن الخطاب رضى الله عنه ليبعثه إلى مكة، فيبلّغ عنه أشراف قريش ما جاء له، فقال: يا رسول الله، إنى أخاف قريشا على نفسى، وليس بمكة من بنى عدىّ بن كعب أحد يمنعنى، وقد عرفت قريش عداوتى إيّاها، وغلظتى عليها، ولكنى أدلّك على رجل أعزّ بها منّى، عثمان بن عفان، فدعاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبعثه إلى أبى سفيان ابن حرب وأشراف قريش، يخبرهم أنه لم يأت لحرب، وإنما جاء زائرا لهذا الجزء: 17 ¦ الصفحة: 226 البيت ومعظما لحرمته. فخرج حتى أتى مكة، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة أو قبل أن يدخلها، فحمله بين يديه، ثم أجاره حتى بلّغ رسالة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فلما فرغ عثمان من الرسالة قال له: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف؛ فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فاحتبسته قريش عندها، فبلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن عثمان قتل. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا نبرح حتّى نناجز القوم» . ودعا الناس إلى البيعة. ذكر بيعة الرّضوان كانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، قال الثعلبىّ: وكانت سمرة «1» . قال: وكان سبب هذه البيعة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما بلغه أن عثمان بن عفّان قتل قال: «لا نبرح حتى نناجز القوم» ؛ ودعا الناس إلى البيعة، قال: فكان الناس يقولون: بايعهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الموت. وقال عبد الله ابن مغفّل: كنت قائما على رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك اليوم وبيدى غصن من السّمرة أذبّ عنه وهو يبايع الناس، فلم يبايعهم على الموت وإنما بايعهم على ألا يفرّوا. قال جابر بن عبد الله: فبايع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الناس، ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين حضرها إلا الجدّ بن قيس أخو بنى سلمة، لكأنى أنظر إليه لاصقا بإبط ناقته، مستترا بها عن الناس. وكان أول من بايع بيعة الرضوان رجل من بنى أسد يقال له: [أبو «2» ] سنان ابن وهب. ثم أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن الذى ذكروا من أمر عثمان باطل. واختلف فى عدد أهل بيعة الرضوان، وهو مبنىّ على الاختلاف فى عدد الجزء: 17 ¦ الصفحة: 227 أصحاب عمرة الحديبية كما تقدم، لم يتخلف منهم إلا الجدّ بن قيس، قالوا: ولما بايع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الناس بايع لعثمان، فضرب بإحدى يديه على الأخرى. روى أن رجلا جاء إلى عبد الله بن عمر بن الخطاب رضى الله عنهما، فسأله عن عثمان رضى الله عنه، أكان شهد بدرا؟ قال: لا؛ قال: أكان شهد بيعة الرضوان؟ قال: لا؛ قال: فكان من الذين تولّوا يوم التقى الجمعان؟ قال: نعم. قال: فانطلق الرجل؛ فقيل لعبد الله بن عمر: إن هذا يرى أنك قد عبته، قال: علىّ به؛ فأتى به فقال: أمّا بدر فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد ضرب له بسهمه [وأجره «1» ] ؛ وأما بيعة الرضوان فقد بايع له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خير من يد عثمان، وأما الذين تولّوا يوم التقى الجمعان فقد عفا الله عنهم، فاجهد علىّ جهدك «2» . وأنزل الله عزّ وجلّ فى الّذين بايعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه البيعة قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) . قال الكلبىّ: معناه نعمة الله عليهم فوق ما صنعوا من البيعة. وقال ابن كيسان: قوة الله ونصرته فوق قوّتهم ونصرتهم. ثم قال تعالى: (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) وهو الجنة. وقوله تعالى فى السورة أيضا: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ) من الصدق والوفاء (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) . قيل: فتح خيبر؛ روى عن جابر بن عبد الله رضى الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة» . الجزء: 17 ¦ الصفحة: 228 ذكر هدنة قريش وما وقع فيها من الشروط قال: ثم بعثت قريش إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سهيل بن عمرو أخا بنى عامر بن لؤىّ، فقالوا: إيت محمدا فصالحه، ولا يكن فى صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا. فأتاه سهيل بن عمرو، فلما رآه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «قد سهل أمركم، القوم مأتون إليكم بأرحامهم، وسائلوكم الصلح، فابعثوا الهدى وأظهروا التلبية، لعلّ ذلك يلين قلوبهم» . فلبّوا من نواحى العسكر حتى ارتجت أصواتهم بالتلبية، قال: وانتهى سهيل بن عمرو إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتكلم فأطال، وتراجعا، ثم جرى الصلح بينهما، فلما التأم الأمر ولم يبق إلا الكتاب، وثب عمر بن الخطاب رضى الله عنه إلى أبى بكر الصديق رضى الله عنه فقال: يا أبا بكر، أليس برسول الله صلّى الله عليه وسلّم حقا؟ قال: بلى؛ قال: أو لسنا بالمسلمين؟ قال: بلى؛ قال: أو ليسوا المشركين؟ قال: بلى؛ قال: فعلام نعطى الدّنية «1» في ديننا؟ قال أبو بكر: أيها الرجل، إنه رسول الله، وليس نعصى «2» رأيه، فاستمسك بغرزه «3» ، حتى تموت، فو الله إنه لعلى الحق؛ قال عمر: أو ليس كان يحدّثنا أنا سنأتى البيت نطوف به؟ قال: بلى؛ أفأخبرك أنك «4» تأتيه العام؟ قال: لا؛ قال: فإنك آتيه ومطوف به. قال: ثم جاء عمر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: ألست رسول الله؟ قال: «بلى» قال: ألسنا على الحق الجزء: 17 ¦ الصفحة: 229 وعدوّنا على الباطل؟ قال: «بلى» ؛ قال: فلم نعطى الدنيّة فى ديننا إذا؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنى رسول الله ولست أعصيه وهو ناصرى» . وفى رواية قال: «إنى عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره ولن يضيّعنى» . قال عمر: ألست تحدّثنا أنا سنأتى البيت فنطوف به؟ قال: «بلى، هل أخبرتك أنك تأتيه العام؟» قال عمر: لا؛ قال: «فإنك آتيه ومطوّف به» . قال عمر: والله ما شككت منذ أسلمت إلّا يومئذ، فما زلت أصوم وأتصدّق وأصلّى وأعتق من الذى صنعت [يومئذ «1» ] مخافة كلامى الذى تكلمت به حتى رجوت خيرا. قالوا «2» : ثم دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، فقال: «اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم» ؛ فقال سهيل: أما الرحمن فلا أدرى ما هو؟ ولكن اكتب: باسمك اللهم [كما كنت تكتب، قال المسلمون: لا والله لا تكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اكتب: باسمك اللهم «3» » ] فكتبها، ثم قال: «اكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو» . فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «والله إنى لرسول الله وإن كذّبتمونى» ؛ ثم قال لعلىّ: «امح رسول الله» . فقال: والله لا أمحوك أبدا. فأخذه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وليس يحسن يكتب فمحاه؛ ثم قال: «اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو، اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، يأمن فيها الناس، ويكف بعضهم عن الجزء: 17 ¦ الصفحة: 230 بعض، وعلى أنه من قدم مكّة من أصحاب محمّد حاجّا أو معتمرا أو يبتغى من فضل الله فهو آمن على نفسه وماله، ومن قدم المدينة من قريش مجتازا إلى مصر أو الشام، يبتغى من فضل الله فهو آمن على دمه وماله، وعلى أنه من أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قريش بغير إذن وليّه ردّه عليهم، ومن جاء قريشا ممن مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يردّوه عليه» . فاشتد ذلك على المسلمين، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من جاءهم منا فأبعده الله، ومن جاءنا منهم ورددناه إليهم فإن علم الله الإسلام من قلبه جعل له مخرجا» . وأن بيننا عيبة «1» مكفوفة، وأنه لا إسلال «2» ولا إغلال، وأنه من أحب أن يدخل فى عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل فى عقد قريش وعهدهم دخل فيه» . فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن فى عقد محمد وعهده. وتواثبت بنو بكر فقالوا: نحن فى عقد قريش وعهدهم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وعلى أن تخلّوا بيننا وبين البيت [فنطوف «3» به.] » فقال سهيل: والله لا تتحدث العرب أنك أخذتنا ضغطة «4» ، ولكن لك ذلك من العام المقبل؛ فكتب: وعلى أنك ترجع عنا عامك هذا فلا تدخل علينا مكة، فإذا كان عام قابل خرجنا عنها لك فدخلتها بأصحابك، فأقمت بها ثلاثا، ولا تدخلها بالسلاح إلا السيوف فى القرب، وسلاح الراكب، وعلى أنّ هذا الهدى حيثما حبسناه محلّه، لا تقدّمه علينا؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نحن نسوقه وأنتم تردّون وجوهه» ! قال: فبينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو، إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يوسف فى قيوده، الجزء: 17 ¦ الصفحة: 231 وقد انفلت وخرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فلما رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه وأخذ بتلبيبه، وقال: يا محمد، قد تمت القضيّة بينى وبينك قبل أن يأتيك هذا، وهذا أوّل من أقاضيك عليه أن تردّه إلينا؛ ثم جعل يجرّه ليردّه إلى قريش، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، أردّ إلى المشركين وقد جئت مسلما ليفتنونى عن دينى؟ ألا ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عذّب عذابا شديدا فى الله تعالى، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا أبا جندل، احتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، إنا قد عاقدنا بيننا وبين القوم عقدا وصلحا، وأعطيناهم على ذلك عهدا، وإنّا لا نغدر» . قال: فوثب عمر بن الخطاب رضى الله عنه إلى أبى جندل يمشى إلى جنبه، ويقول: اصبر يا أبا جندل، فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم دم كلب- ويدنى قائم السيف منه- قال: يقول عمر: رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه، فضنّ الرجل بأبيه. قال: وكان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرجوا وهم لا يشكّون فى الفتح، لرؤيا رآها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما رأوا ذلك دخل الناس أمر عظيم حتى كادوا يهلكون، وزادهم أمر أبى جندل شرّا إلى ما بهم، قالوا: فلما فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الكتاب، وفرغت القضيّة أشهد على الصلح رجالا من المسلمين ورجالا من المشركين: أبا بكر، وعمر، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن سهيل بن عمرو، وسعد بن أبى وقّاص، ومحمود بن مسلمة «1» أخا بنى عبيد الأشهل، ومكرز بن حفص بن الأخيف، وهو مشرك، وعلى بن أبى طالب، وكان هو كاتب الصحيفة. قال: فلما فرغ رسول الله صلّى الله عليه الجزء: 17 ¦ الصفحة: 232 وسلّم من قضيته سار مع الهدى، وسار الناس، فلما كان الهدى دون الجبال التى تطلع على وادى الثنّية عرض له المشركون، فردّوا وجوهه، فوقف النبى صلّى الله عليه وسلّم حيث حبسوه، وهى الحديبية، وقال لأصحابه: «قوموا فانحروا، ثم احلقوا» . قال: فو الله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرّات؛ فلما لم يقم منهم أحد قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فدخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقى من الناس؛ فقالت له أم سلمة رضى الله عنها: يا نبىّ الله، اخرج ولا تكلّم منهم أحدا كلمة حتى تنحر بدنتك، وتدعو حلّافك فيحلقك. فقام صلّى الله عليه وسلّم فخرج فلم يكلّم أحدا منهم كلمة حتى نحر بدنته ودعا حلّاقه فحلقه، وكان الذى حلقه ذلك اليوم خراش بن أمية بن الفضل الخزاعىّ، فلما رأى الناس ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا «1» غمّا. قال عبد الله ابن عمر وعبد الله بن عباس رضى الله عنهم: حلق رجال يوم الحديبية وقصر آخرون، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يرحم الله المحلّقين» . قالوا: يا رسول الله، والمقصّرين؟ قال: «يرحم الله المحلقين» ؛ قالوا: يا رسول الله، والمقصّرين؟ قال: «يرحم الله المحلقين» ؛ قالوا: يا رسول الله، والمقصّرين؟ [قال «2» : «يرحم الله المقصّرين» ] قالوا: يا رسول الله، فلم ظاهرت الترحّم على المحلّقين دون المقصّرين؟ قال: «لأنهم لم يشكّوا» . قال ابن عمر: وذلك أنه تربّص قوم قالوا: لعلّنا نطوف بالبيت. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 233 ذكر رجوع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة ونزول سورة الفتح قال الزّهرى: وانصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من وجهه ذلك قافلا حتى كان بين مكّة والمدينة نزلت سورة الفتح: (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) . روى قتادة، عن أنس قال: لما رجعنا من غزوة الحديبية قد حيل بيننا وبين نسكنا، فنحن بين الحزن والكآبة، فأنزل الله عزّ وجل: (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) الآية كلها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (لقد أنزلت علىّ آية هى أحبّ إلىّ من الدنيا كلها) . وعن زيد بن أسلم عن أبيه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يسير فى بعض أسفاره، وعمر بن الخطاب رضى الله عنه يسير معه ليلا، فسأله [عمر «1» ] عن شىء فلم يجبه، ثم سأله فلم يجبه، قال عمر رضى الله عنه: فحركت بعيرى حتى تقدمت أمام الناس، وخشيت أن يكون نزل فىّ قرآن، فجئت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسلمت عليه، فقال: «لقد أنزلت علىّ الليلة آية لهى «2» أحب إلىّ مما طلعت عليه الشمس» . ثم قرأ: (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) . وقد اختلف فى الفتح، ما هو؟ فقال قتادة عن أنس: فتح مكة، وقال مجاهد والعوفىّ: فتح خيبر، وقال آخرون: فتح الحديبية، ويدل عليه ما روى عن مجمّع بن جارية الأنصارى،- وكان أحد القراء الذين قرءوا القرآن- قال: شهدنا الحديبية مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما انصرفنا عنها إذا الناس يهزّون «3» الأباعر، فقال بعض الناس لبعض: ما بال الناس؟ قالوا: أوحى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال: فخرجنا نوجف «4» ، فوجدنا النبى صلّى الله عليه وسلّم الجزء: 17 ¦ الصفحة: 234 واقفا على راحلته عند كراع الغميم «1» ، فلما اجتمع إليه الناس قرأ: (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) فقال عمر: أو فتح هو يا رسول الله؟ قال: «نعم، والذى نفسى بيده إنه لفتح» . وقال الشعبىّ رحمه الله: فتح الحديبية، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، واطعموا نخل خيبر، وبلغ «2» الهدى محلّه، وظهرت الروم على فارس، وفرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس. وقال مقاتل بن حيّان: يسّرنا لك يسرا بيّنا. وقال مقاتل بن سليمان: لما نزل قوله تعالى: (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) فرح بذلك المشركون والمنافقون وقالوا: كيف نتبع رجلا لا يدرى ما يفعل به وبأصحابه، ما أمرنا وأمره إلا واحد؛ فأنزل الله عز وجل بعد ما رجع من الحديبية: (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) أى قضينا لك قضاء بينا (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) فنسخت هذه الآية تلك. قال سفيان الثورى: (ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ) ما عملت فى الجاهلية (وَما تَأَخَّرَ) كل شىء لم يعمله. وقال عطاء بن أبى مسلم الخراسانى: (ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ) يعنى ذنب أبويك آدم وحواء ببركتك (وَما تَأَخَّرَ) ذنوب أمتك بدعوتك. وقال الزيادىّ: أى لو كان لك ذنب قديم أو حديث لغفرناه. (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) * أى بالنبوة والحكمة (وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً أى ويثبتك عليه، وقيل: يهدى بك، (وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً) غالبا، وقيل: معزّا. قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) ، قال الثعلبىّ: أى الرحمة والطمأنينة. قال ابن عباس رضى الله عنهما: بعث الله عز وجل نبيّه عليه السلام بشهادة أن لا إله إلا الله، فلما صدّقوه زادهم الجزء: 17 ¦ الصفحة: 235 الصلاة، [فلما صدّقوه «1» زادهم الزكاة] ، الصيام، فلما صدّقوه زادهم الحجّ، ثم زادهم الجهاد، ثم أكمل لهم دينهم، فذلك قوله عز وجل: (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) أى تصديقا بشرائع الإيمان مع تصديقهم بالإيمان. وقال الضحّاك: يقينا مع يقينهم. وقال الكلبى: هذا فى أمر الحديبية. وروى عن أنس بن مالك رضى الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما قرأ على الناس قوله: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) قالوا: هنيئا مريئا يا رسول الله، قد بين الله ما يفعل بك، فما يفعل بنا؟ فأنزل الله تعالى: (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً) ثم قال تعالى (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ) إن لم ينصر محمد والمؤمنون (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) * بالذلّ والعذاب (وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) إلى قوله: (وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) ثم ذكر الله تعالى قصة البيعة، وقد تقدّمت. ثم قال تعالى: (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) قال ابن عباس ومجاهد: يعنى أعراب غفار ومزينة وجهينة وأشجع وأسلم والدّيل، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمرا استنفر من حول المدينة من الأعراب وأهل البوادى، ليخرجوا معه حذرا من قريش الجزء: 17 ¦ الصفحة: 236 أن يعرضوا له بحرب أو يصدّوه عن البيت، وأحرم هو صلّى الله عليه وسلّم بالعمرة وساق معه الهدى، ليعلم الناس أنه لا يريد حربا، فتثاقل عنه كثير من الأعراب وقالوا: نذهب معه إلى قوم قد جاءوه فقتلوا أصحابه فنقاتلهم؟ فتخلفوا عنه واعتلوا بالشغل، فأنزل الله تعالى: (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ) ، الآية. أى إذا انصرفت إليهم فعاتبتهم على التخلف عنك (شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا) ثم كذبهم فى اعتذارهم واستغفارهم، وأخبر عن إسرارهم وإضمارهم، فقال: «يقولون بألسنتهم ما ليس فى قلوبهم» . قوله تعالى: (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) وذلك أنهم قالوا: إن محمدا وأصحابه أكلة رأس، فلا يرجعون، فأين تذهبون؟ انتظروا ما يكون من أمرهم. (وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) أى هالكين فاسدين، لا تصلحون لشىء من الخير. قال تعالى: (وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً) . قوله تعالى: (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا) قال: (الْمُخَلَّفُونَ) * أى عن الحديبية إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ) يعنى غنائم خيبر (ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ) أى إلى خيبر، فنشهد معكم قتال أهلها (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ) معناه يريدون أن يغيّروا وعد الله الذى وعد أهل الحديبية، وذلك أن الله تعالى جعل لهم غنائم خيبر عوضا عن غنائم أهل مكة، إذا «1» انصرفوا عنها عن صلح ولم يصيبوا منها شيئا. وقال ابن زيد: الجزء: 17 ¦ الصفحة: 237 هو قوله عز وجل: (فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) قال: والأول أصوب، لأن قوله تعالى: (لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً) نزلت فى غزوة تبوك. قال: (كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ) أى من قبل مرجعنا إليكم: إن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية ليس لغيرهم فيها نصيب: (فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا) أى أن نصيب معكم من الغنائم. قوله تعالى: (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) ، قال ابن عباس وعطاء بن أبى رباح وعطاء الخراسانىّ وعبد الرحمن بن أبى ليلى ومجاهد: هم فارس. وقال كعب الأحبار: الروم. وقال الحسن: فارس والروم. وقال عكرمة: هوازن. وقال سعيد بن جيبر: هوازن وثقيف. وقال قتادة: هوازن وغطفان يوم حنين. وقال الزهرىّ ومقاتل: بنو حنيفة أهل اليمامة أصحاب مسيلمة الكذاب. وقال رافع بن خديج: والله لقد كنا نقرأ هذه الآية فيما مضى: (سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) ولا نعلم من هم حتى دعا أبو بكر رضى الله عنه إلى قتال بنى حنيفة فعلمنا أنهم هم. قوله تعالى: (فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) قال ابن عباس رضى الله عنهما: لما نزلت هذه الآية قال أهل الزّمانة: «1» فكيف بنا يا رسول الله؟ فأنزل الله عز وجل: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) * يعنى عن التخلف عن الجهاد والقعود عن الغزو (وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) * يعنى فى ذلك (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً) . الجزء: 17 ¦ الصفحة: 238 ثم أخبر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم برضاه عن أهل بيعة الرضوان، فقال تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) ، وقد تقدّم ذكر ذلك آنفا. ثم قال تعالى: (وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها) . وهى الفتوح التى تفتح لهم إلى يوم القيامة (فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ) يعنى خيبر. وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى عند ذكرنا لغزوة خيبر. ثم قال تعالى: (وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) قال: معناه «1» ووعدكم الله بفتح بلدة أخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها لكم حتى يفتحها عليكم. واختلفوا فيها، فقال ابن عباس وعبد الرحمن بن أبى ليلى والحسن ومقاتل: هى فارس والروم، وقال الضحاك وابن زيد وابن إسحاق: هى خيبر، وعدها الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يصيبها، ولم يكونوا يذكرونها ولا يرجونها حتى أخبرهم الله بها. وهى رواية عطية وباذان عن ابن عباس. وقال قتادة: هى مكة. وقال مجاهد: ما فتحوا حتى اليوم. قوله تعالى: (وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) ، قال: يعنى أسدا وغطفان وأهل خيبر. وقال قتادة: يعنى كفار قريش، (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) . وقوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) ؛ واختلفوا فى هؤلاء، فقال أنس: إن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه من جبل التنعيم «2» عند صلاة الفجر عام الحديبية ليقتلوهم، فأخذهم الجزء: 17 ¦ الصفحة: 239 رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سلما «1» فأعتقهم، فأنزل الله عز وجل الآية. وقال عكرمة عن ابن عباس: إن قريشا كانوا بعثوا أربعين رجلا منهم أو خمسين، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وقد قدمنا ذكرهم. وقال عبد الله بن مغفل: كنا مع النبى صلّى الله عليه وسلّم بالحديبية فى أصل الشجرة، وعلى ظهره غصن من أغصان تلك الشجرة، فرفعته عن ظهره، وعلى بن أبى طالب رضى الله عنه بين يديه يكتب كتاب الصلح وسهيل بن عمرو، فخرج علينا ثلاثون شابا عليهم السلاح، فثاروا فى وجوهنا، فدعا عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخذ الله بأبصارهم، فقمنا إليهم فأخذناهم، فخلى عنهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله عز وجل الآية. وقيل: غير ذلك. والله تعالى أعلم. ثم قال تعالى: (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) الآية. وهى قصة الحديبية وقد تقدم شرحها. وقوله تعالى: (وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) ، قال: قوله: (أَنْ تَطَؤُهُمْ) أى تقتلوهم (فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ) ، قال ابن زيد: إثم. وقال ابن إسحاق: غرم الدّية. وقيل: الكفارة، لأن الله عز وجل إنما أوجب على قاتل المؤمن فى دار الحرب إذا لم يكن هاجر منها ولم يعلم قاتله إيمانه الكفارة دون الدية. وقيل: هو أن المشركين يعيبونكم ويقولون: قتلوا أهل دينهم. والمعرّة المشقة، وأصلها من العرّ وهو الجرب. قال: فلولا ذلك لأذن لكم فى دخول مكة، ولكنه حال بينكم وبين ذلك. (لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ) الجزء: 17 ¦ الصفحة: 240 أى فى دين الإسلام «من يشاء» من أهل مكة قبل أن تدخلوها. قال: وقال بعض العلماء: قوله «لعذّبنا» جواب لكلامين أحدهما (وَلَوْلا رِجالٌ) والثانى (لَوْ تَزَيَّلُوا) أى تميّزوا. وقال قتادة فى قوله: (لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ) أى أن الله يدفع بالمؤمنين عن الكفار كما دفع بالمستضعفين من المؤمنين عن مشركى مكة. وعن على بن أبى طالب رضى الله عنه أنه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن قول الله عز وجل: (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) قال: «هم المشركون من أجداد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وممن كان بعدهم فى عصره، كان فى أصلابهم المؤمنون، فلو تزيل المؤمنون عن أصلاب الكافرين لعذب الله الكافرين عذابا أليما» . قوله تعالى: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ) ، قال ابن إسحاق: يعنى سهيل بن عمرو حين حمى «1» أن تكتب بسم الله الرحمن الرحيم. وأن محمدا رسول الله. (فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) ، قال: كلمة التقوى يعنى الإخلاص؛ وقد روى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال فى قوله تعالى: (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) : «لا إله إلا الله» . وهو قول ابن عباس وعمرو بن ميمون ومجاهد وقتادة والضحاك وسلمة بن كهيل وعبيد بن عمير وعكرمة وطلحة بن مصرّف والربيع والسدّىّ وابن زيد. وقال عطاء الخراسانىّ: هى لا إله إلا الله محمد رسول الله. وعن علىّ رضى الله عنه قال: كلمة التقوى: لا إله إلا الله والله أكبر، وهو قول ابن عمر. وقال عطاء بن أبى رباح: هى لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الجزء: 17 ¦ الصفحة: 241 له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير. وعن الزهرىّ: كلمة التقوى هى بسم الله الرحمن الرحيم. قوله تعالى: (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً) ، قال: الرؤيا التى أراها إياه فى مخرجه إلى الحديبية أنه يدخل هو وأصحابه المسجد الحرام. قوله: (فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا) أى أن الصلاح كان فى الصلح. (فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً) قيل: صلح الحديبية. ثم قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً) أى أنك نبىّ صادق فيما تخبر. ثم وصف تعالى رسوله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه فقال تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) . قال الثعلبىّ رحمه الله تعالى: قوله: «محمّد رسول الله» تم الكلام هاهنا، يعنى الكلام الأوّل، ثم قال مبتدئا: (وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) أى غلاظ لا تأخذهم فيهم رأفة. (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) أى متعاطفون متوادّون بعضهم على بعض. (يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ) * أى يدخلهم جنّته. «ورضوانا» يرضى عنهم. «سيماهم» علامتهم. (فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) واختلف العلماء فى هذه السيماء، فقال قوم: هو نور وبياض فى وجوههم يوم الجزء: 17 ¦ الصفحة: 242 القيامة، يعرفون بتلك العلامة أنهم سجدوا فى الدنيا؛ وهى رواية العوفى عن ابن عباس. وقال عطاء بن أبى رباح والربيع بن أنس: استنارت وجوههم من كثرة ما صلّوا. وقال شهر بن حوشب: يكون موضع السجود من وجوههم كالقمر ليلة البدر. وقال آخرون: هو السّمت الحسن والخشوع والتواضع. وقال منصور: سألت مجاهدا عن قوله تعالى: (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ) أهو الأثر يكون بين عينى الرجل؟ قال: لا، ربما يكون بين عينى الرجل مثل ركبة البعير، وهو أقسى قلبا من الحجارة، ولكنه نور فى وجوههم من الخشوع. وقال ابن جريح: هو الوقار والبهاء. وقال شمر بن عطية: هو التهيّج وصفرة الوجه وأثر السهر. وقال الحسن: إذا رأيتهم حسبتهم مرضى، وما هم بمرضى. وقال عكرمة وسعيد بن جبير: هو أثر التراب فى جباههم. وقال عطية الخراسانىّ: دخل فى هذه الاية كل من حافظ على الصلوات الخمس. (ذلِكَ مَثَلُهُمْ) أى ذلك الذى ذكرت «مثلهم» صفتهم (فِي التَّوْراةِ) * قال: وهاهنا تم الكلام. ثم قال: (وَمِثْلَهُمْ) * صفتهم (فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ) ؛ قال أنس: «شطأه» نباته. وقال ابن عباس: سنبله. وقال مجاهد والضحاك: ما يخرج تحت الحلقة «1» فينمو ويتم. وقال مقاتل: هو نبت واحد، فإذا خرج ما بعده فقد شطأه. وقال السدّى: هو أن يخرج معه الطاقة الأخرى. وقال الفراء: الأشطأ: الزرع إذا نبت سبعا أو ثمانيا أو عشرا. وقال الأخفش: فراخه، يقال: أشطأ الزرع فهو مشطئ إذا فرّخ، قال الشاعر: أخرج الشطء على وجه الثرى ... ومن الأشجار أفنان الثمر قال: وهذا مثل ضربه الله تعالى لأصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم، يعنى أنهم كانوا يكونون قليلا، ثم يزدادون ويكثرون ويقوون. قال قتادة: مثل أصحاب الجزء: 17 ¦ الصفحة: 243 محمد صلّى الله عليه وسلّم فى الإنجيل مكتوب أنه سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. «فآزره» قوّاه وأعانه وشدّ أزره. «فاستغلظ» ، فغلظ وقوى. «فاستوى» تم وتلاحق نباته وقام. (عَلى سُوقِهِ) أصوله. (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) يعنى أن الله تعالى فعل ذلك بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه رضى الله عنهم ليغيظ بهم الكفار. قال الثعلبىّ بسند يرفعه إلى الحسن فى قوله عز وجل: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) قال: محمد رسول الله. والّذين معه» ، أبو بكر. (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) عمر بن الخطاب. (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) عثمان بن عفان (تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) على بن أبى طالب. (يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً) * طلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد وسعيد وأبو عبيدة. (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) ، قال: هم المبشّرون، أولهم أبو بكر وآخرهم أبو عبيدة. (ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ) قال: نعتهم فى التوراة والإنجيل كمثل زرع. وقال: الزرع: محمد صلّى الله عليه وسلّم. (أَخْرَجَ شَطْأَهُ) أبو بكر الصديق. «فآزره» عمر بن الخطاب. «فاستغلظ» عثمان؛ يعنى استغلظ عثمان للإسلام. (فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ) على بن أبى طالب، يعنى استقام الإسلام بسيفه. (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) قال: المؤمنون. (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) قال: قول عمر لأهل مكة: لا نعبد الله سرّا بعد اليوم. رضوان الله عليهم أجمعين. ذكر خبر أبى بصير ومن لحق به وانضم إليه قد اختلف فى اسمه، فقيل: عبيد بن أسيد بن جارية. وقال ابن إسحاق: عتبة بن أسيد بن جارية. وعن أبى معشر قال: اسمه عتبة بن أسيد بن جارية بن الجزء: 17 ¦ الصفحة: 244 أسيد بن عبد الله بن سلمة بن عبد الله بن غيرة بن عوف بن قسىّ، وهو ثقيف ابن منبّه بن بكر بن هوازن، حليف لبنى زهرة. وخبره وإن لم يكن داخلا فى جملة الغزوات والسرايا فليس هو مناف لها، وموجب إيرادنا إياه فى هذا الموضع لتعلقه بغزوة الحديبية، ولأن ردّه كان من شروط الهدنة. ونحن نورده هاهنا على ما أورده الشيخ الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقى، رحمه الله تعالى، فى كتابه المترجم بدلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، وما أورده أبو محمد عبد الملك بن هشام عن محمد ابن إسحاق رحمهم الله تعالى، يدخل حديث بعضهم فى حديث بعض، قالوا: لما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة انفلّت رجل من أهل الإسلام من ثقيف، يقال له: أبو بصير بن أسيد بن جارية الثقفىّ من المشركين، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مسلما مهاجرا، وكان ممن حبس بمكة، فكتب فيه أزهر بن عبد عوف بن الحارث بن زهرة، والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفىّ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبعثا رجلا من بنى عامر بن لؤىّ، ومعه مولى لهم، ويقال: كانا من بنى منقذ، أحدهما مولى والآخر من أنفسهم، اسمه جحش بن جابر، وكان ذا جلد ورأى فى أنفس المشركين، وجعل لهما الأخنس فى طلب أبى بصير جعلا، فقدما على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا أبا بصير، إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصلح لنا فى ديننا الغدر، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، فانطلق إلى قومك» . فقال: يا رسول الله، أتردّنى إلى المشركين يفتنوثنى فى دينى؟ قال: «انطلق، فإن الله سيجعل لك فرجا الجزء: 17 ¦ الصفحة: 245 ومخرجا» ، ودفعه إليهما، فخرجا به، حتى إذا كانا بذى الحليفة «1» سلّ جحش سيفه، ثم هزّه وقال: لأضربنّ بسيفى هذا فى الأوس والخزرج يوما إلى الليل، فقال له أبو بصير: أو صارم سيفك هذا؟ قال: نعم؛ قال: ناولنيه أنظر إليه. فناوله إياه، فلما قبض عليه ضربه به حتى برد، ويقال: بل تناول أبو بصير سيف جحش بفيه، وهو نائم، فقطع به إساره، ثم ضربه به حتى برد؛ وطلب الآخر فجمز «2» مذعورا مستخفيا، حتى دخل المسجد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال صلّى الله عليه وسلّم حين رآه: «لقد رأى هذا ذعرا» ؛ فأقبل واستغاث برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «ويحك! مالك؟» فقال: قتل صاحبكم صاحبى. وجاء أبو بصير يتلوه، فسلم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: وفت ذمتك يا رسول الله، وأدّى الله عنك، دفعتنى إليهما فتعرفت أنهم سيعذبوننى ويفتنوننى عن دينى، فقتلت المنفذىّ، وأفلتنى هذا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ويل أمّه مسعر «3» حرب لو كان معه رجال!» ، وجاء أبو بصير بسلبه فقال: خمّس يا رسول الله؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنى إن خمسته لم أوف لهم بالذى عاهدتهم عليه، ولكن شأنك بسلب صاحبك، واذهب حيث شئت» . فخرج أبو بصير معه خمسة نفر كانوا قدموا مسلمين من مكة حيث قدم، ولم يطلبهم أحد، وساروا حتى نزلوا بين العيص وذى المروة من أرض جهينة، على طريق عيرات قريش مما يلى سيف البحر، لا تمر الجزء: 17 ¦ الصفحة: 246 بهم عير لقريش إلا أخذوها وقتلوا أصحابها، وانفلت أبو جندل بن سهيل بن عمرو- واسم أبى جندل العاص بن سهيل «1» على ما أورده الزبير بن بكار- فى سبعين راكبا أسلموا، فلحقوا بأبى بصير حين «2» بلغهم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ويل امه مسعر حرب لو كان معه رجال» ، فقطعوا مادة قريش من طريق الشام. وكان أبو بصير يصلى لأصحابه، فلما قدم عليه أبو جندل كان هو يؤمهم، واجتمع إلى أبى جندل ناس من بنى غفار وأسلم وجهينة وطوائف من الناس، حتى بلغوا ثلاثمائة مقاتل، وهم مسلمون، فأقاموا مع أبى جندل وأبى بصير، لا تمرّ بهم عير لقريش إلا أخذوها وقتلوا أصحابها، وقال أبو جندل فى ذلك: أبلغ قريشا عن أبى جندل ... أنّا بذى المروة بالساحل فى معشر تخفق راياتهم ... بالبيض فيها والقنا الذّبّل «3» يأبون أن تبقى لهم رفقة ... من بعد إسلامهم الواصل أو يجعل الله لهم مخرجا ... والحق لا يغلب بالباطل فيسلم المرء بإسلامه ... أو يقتل المرء ولم يأتل» فأرسلت قريش إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تسأله بأرحامهم «5» إلا آواهم، وقالوا: لا حاجة لنا بهم. قال البيهقىّ: وقالوا: من خرج منا إليك فأمسكه غير حرج أنت فيه، فإن هؤلاء الركب قد فتحوا علينا بابا لا يصلح إقراره. فلما كان ذلك من أمرهم، علم الذين كانوا أشاروا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يمنع الجزء: 17 ¦ الصفحة: 247 أبا جندل من أبيه بعد القضية أن طاعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خير لهم فيما أحبوا وكرهوا. وحكى البيهقى: أن هؤلاء هم الذين مرّ بهم أبو العاص بن الربيع فأخذوا ما معه، فلما بلغهم ما قاله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أطلقوا من أسروا من أصحاب أبى العاص، وردّوا إليهم جميع ما أخذوه حتى العقال، وقد تقدم خبر أبى العاص، وقيل: إنما أخذ فى غير هذه السّريّة. والله أعلم. قال: وكتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتابا إلى أبى بصير وأبى جندل يأمرهما أن يقدما عليه، ويأمر من معهما ممن اتبعهما من المسلمين أن يرجعوا إلى بلادهم وأهليهم، ولا يعترضوا لأحد مرّ بهم من قريش وعيراتهم. فقدم كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أبى جندل وأبى بصير، وأبو بصير قد أشرف على الموت، فمات وكتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى يده يقرؤه، فدفنه أبو جندل مكانه، وجعل عند قبره مسجدا، وقدم أبو جندل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعه ناس من أصحابه، ورجع سائرهم إلى أهليهم، وأمنت عيرات قريش. ذكر غزوة خيبر وفتحها وما يتصل بذلك قال محمد بن سعد: غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى جمادى الأولى سنة سبع من مهاجره. وقال محمد بن إسحاق وأبو بكر أحمد بن الحسين البيهقى: فى المحرم من السنة. وخيبر على ثمانية برد من المدينة. قالوا: أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصحابه بالتهيؤ لغزاة خيبر، واجلب «1» من حوله يريدون الغزاة معه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يخرجنّ معنا الجزء: 17 ¦ الصفحة: 248 إلا راغب فى الجهاد» ، وشقّ ذلك على من بقى بالمدينة من اليهود، فخرج واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة الغفارىّ، قاله ابن سعد والبيهقى. وقال ابن إسحاق: استخلف نميلة بن عبد الله الليثى؛ وأخرج معه من أزواجه أم سلمة رضى الله عنها. قال ابن إسحاق: لما سار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى خيبر قال فى مسيره لعامر بن الأكوع- وهو عم سلمة بن عمرو بن الأكوع، واسم الأكوع سنان-: «انزل يابن الأكوع، فخذ لنا من هناتك «1» » ، فنزل يرتجز برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدّقنا ولا صلّينا إنا إذا قوم بغوا علينا ... وإن أرادوا فتنة أبينا فأنزلن سكينة علينا ... وثبّت الأقدام إن لاقينا «2» فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يرحمك ربّك» . ومن رواية البيهقى: «غفر لك ربّك» . قال: وما خص بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحدا قط إلا استشهد. قال ابن إسحاق: فقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: وجبت والله يا رسول الله، لو متّعتنا بعامر؛ فقتل يوم خيبر شهيدا، رجع سيفه عليه وهو يقاتل، فكلمه كلما شديدا فمات. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 249 قال: ولما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المدينة سلك على عصر «1» فبنى له فيه «2» مسجدا، ثم على الصهباء «3» ، ثم أقبل بجيشه حتى نزل بواد يقال له: الرّجيع، فنزل بينهم وبين غطفان ليحول بينهم وبين أن يمدّوا أهل خيبر، وكانوا لهم مظاهرين على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: فلما سمعت غطفان بمنزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من خيبر جمعوا، ثم خرجوا ليظاهروا يهود عليه، حتى إذا ساروا منقلة «4» سمعوا خلفهم فى أموالهم وأهليهم حسّا، وظنوا أن القوم قد خالفوا إليهم، فرجعوا على أعقابهم فأقاموا فى أهليهم وأموالهم، وخلوا بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين خيبر. قال: ولما أشرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على خيبر قال لأصحابه: «قفوا» فوقفوا، ثم قال: «اللهم ربّ السموات وما أظللن، وربّ الأرضين وما أقللن، وربّ الشياطين وما أظللن، وربّ الرياح وما ذرين، فإنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها، وخير ما فيها، ونعوذ بك من شرها وشر ما فيها، أقدموا بسم الله» . قال: ولما نزل بساحتهم ولم يتحركوا تلك الليلة، ولم يصح لهم ديك حتى طلعت الشمس، وأصبحوا وأفئدتهم تخفق، وفتحوا حصونهم، وغدوا إلى أعمالهم، معهم المساحى «5» ، والكرازن- وهى الفئوس- والمكاتل- وهى الزنابيل- فلما نظروا إلى الجزء: 17 ¦ الصفحة: 250 رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالوا: محمد والخميس «1» - يعنون الجيش- فولوا هاربين إلى حصونهم، وجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «الله أكبر، خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين» ، ووعظ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الناس، وفرّق بينهم الرايات، ولم تكن الرايات إلا يوم خيبر، إنما كانت الأولوية «2» ، فكانت راية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم السوداء من برد لعائشة أم المؤمنين رضى الله عنها تدعى العقاب، ولواؤه أبيض، ودفعه إلى على بن أبى طالب، وراية إلى الحباب بن المنذر، وراية إلى سعد بن عبادة؛ وكان شعارهم: «يا منصور أمت» ، وكانت حصون خيبر حصونا ذوات عدد، منها النّطاة، وحصن الصّعب ابن معاذ، وحصن ناعم، وحصن قلعة الزّبير «3» ، هذه حصون النطاة. والشّقّ وبه حصون منها: حصن أبىّ، وحصن النّزار. وحصون الكتيبة منها: القموص، والوطيح، وسلالم. وسنذكر إن شاء الله فتحها حصنا حصنا. قال: وخرج مرحب اليهودىّ من حصنهم، قد جمع سلاحه وهو يقول: قد علمت خيبر أنّى مرحب ... شاكى «4» السلاح بطل مجرّب أطعن أحيانا وحينا أضرب ... إذا الليوث أقبلت تحرّب «5» إن حماى للحمى لا يقرب الجزء: 17 ¦ الصفحة: 251 ثم يقول: هل من مبارز؟ فأجابه كعب بن مالك وهو يقول: قد علمت خيبر أنى كعب ... مفرّج الغمّى جرىء صلب إذ شبّت الحرب تليها الحرب ... معى حسام كالعقيق عضب «1» نطاكم حتى يذال «2» الصعب ... نعطى الجزاء أو يفىء النّهب «3» بكفّ ماض ليس فيه «4» عتب فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من لهذا» ؟ فقال محمد بن مسلمة: أنا له يا رسول الله، أنا والله الموتور الثائر، قتل أخى بالأمس؛ قال: «فقم إليه، اللهم أعنه عليه» . فخرج إليه حتى دنا منه، فحمل مرحب عليه فضربه، فاتّقاه بالدّرقة، فأمسكت سيفه، وضربه محمد بن مسلمة فقتله. وقد روى أن الذى قتل مرحبا على بن أبى طالب رضى الله عنه، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعطى اللواء عمر بن الخطاب رضى الله عنه، ونهض من نهض معه من الناس، فلقوا أهل خيبر، فانكشف عمر وأصحابه، فرجعوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يجبنّه أصحابه ويجبنّهم، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أخذته الشقيقة «5» فلم يخرج إلى الناس، فأخذ أبو بكر رضى الله عنه راية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم نهض فقاتل قتالا شديدا ثم رجع، فأخذها عمر رضى الله عنه فقاتل قتالا شديدا أشدّ من القتال الأوّل، ثم رجع، فأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك، فقال: «أما والله لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله، يأخذها عنوة» . وفى رواية قال: «يفتح الله على الجزء: 17 ¦ الصفحة: 252 يديه» . فبات الناس يذكرون ليلتهم أيّهم يعظاها، فلما أصبحوا غدوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كلهم يرجو أن يعطاها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أين على بن أبى طالب» ؟ فقالوا: هو يا رسول الله يشتكى عينيه؛ قال: فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليه سلمة بن الأكوع فدعاه، فجاء على بعير له حتى أناخ قريبا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو أرمد، قد عصب عينيه بشقّة برد قطرىّ «1» ، قال سلمة: فجئت به أقوده إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مالك؟» قال: رمدت؛ فقال: «ادن منى» فدنا منه فتفل فى عينيه، ودعا له فبرئ حتى كأن لم يكن به وجع، وما وجعهما حتى مضى لسبيله، ثم أعطاه الراية وقال: «امض حتى يفتح الله عليك» قال: يا رسول الله، أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ قال: «انفذ على «2» رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله، فو الله لئن يهدى الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النّعم» روى هذا الحديث أو نحوه أهل الصحة. ومن رواية ابن إسحاق عن سلمة بن الأكوع قال: فنهض علىّ بالراية وعليه حلّة أرجوان حمراء، وقد أخرج خملها «3» ، فأتى مدينة خيبر، وخرج مرحب صاحب الحصن، وعليه مغفر معصفر، وحجر قد ثقبه مثل البيضة على رأسه، وهو يرتجز ويقول: قد علمت خيبر أنى مرحب ... شاكى السلاح بطل مجرّب أطعن أحيانا وحينا أضرب ... إذا الحروب أقبلت تلهّب كان حماى كالحمى لا يقرب الجزء: 17 ¦ الصفحة: 253 فبرز له علىّ بن «1» أبى طالب فقال: أنا الذى سمّتنى أمّى حيدرة «2» ... كليث غابات شديد قسورة «3» أكيلكم بالسّيف كيل السّندرة «4» فاختلفا ضربتين، فبدره علىّ رضى الله عنه فضربه، فقدّ الحجر والمغفر وفلق رأسه، حتى أخذ السيف فى الأضراس. ثم خرج بعد مرحب أخوه ياسر، وهو يرتجز ويقول: قد علمت خيبر أنى ياسر ... شاكى السلاح بطل مغاور «5» إذا الليوث أقبلت تبادر ... إن حماى فيه موت حاضر وهو يقول: هل من مبارز؟ فخرج إليه الزبير بن العوام رضى الله عنه، وهو يقول: قد علمت خيبر أنى زبّار ... قرم «6» لقوم غير نكس «7» فرّار أين حماة المجد «8» ؟ أين الأخيار؟ ... ياسر، لا يغررك جمع الكفّار فجمعهم مثل السّراب الختّار «9» فقالت أمه صفية بنت عبد المطلب: أيقتل ابنى يا رسول الله؟ قال: «بل ابنك يقتله إن شاء الله» ثم التقيا، فقتله الزبير. ومن رواية أخرى عن سلمة قال: فخرج الجزء: 17 ¦ الصفحة: 254 على رضى الله عنه يهرول هرولة وإنّا لخلفه نتبع أثره، حتى ركز رأيته فى رضم حجارة تحت الحصن، فاطّلع إليه يهودى من رأس الحصن فقال: من أنت؟ قال: أنا علىّ بن أبى طالب؛ فقال اليهودىّ: علوتم وما أنزل الله على موسى. وقال ابن إسحاق أيضا من رواية أبى رافع مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: خرجنا مع علىّ رضى الله عنه حين بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم برايته، فلما دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم، فضربه رجل من يهود فطرح ترسه من يده، فتناول علىّ بابا كان عند الحصن فترّس به عن نفسه، فلم يزل فى يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه، ثم ألقاه من يده حين فرغ، فلقد رأيتنى فى نفر معى سبعة، أنا ثامنهم» ، نجهد على أن نقلب ذلك الباب، فما نقلبه. قال محمد بن إسحاق وأبو بكر البيهقى وغيرهما: إن بنى سهم من أسلم أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا رسول الله، جهدنا وما بأيدينا من شىء؛ فلم يجدوا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئا يعطيهم إياه؛ فقال: «اللهم وإنك قد عرفت حالهم، وأن ليست بهم قوّة، وأن ليس بيدى شىء أعطيهم إياه، فافتح عليهم أعظم حصونها غناء، وأكثرها طعاما وودكا «2» » ، فغدا الناس، ففتح الله عليهم حصن الصّعب بن معاذ، وما بخيبر حصن كان أكثر منه طعاما وودكا. قال البيهقى: وافتتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حصن ناعم، فانتقل من كان من يهود بحصن مصعب بن معاذ وحصن ناعم إلى قلعة الزّبير، ويقال: حصن ناعم أوّل ما افتتح من حصونهم، وعنده قتل محمود بن مسلمة، ألقيت عليه رحى منه فمات. قال: وحصن الجزء: 17 ¦ الصفحة: 255 الزبير حصن منيع فى رأس «1» قلّة، فحاصرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم به ثلاثة أيام، فجاءه رجل من اليهود يقال له: غزال؛ فقال: يا أبا القاسم، تؤمننى على أن أدلك على ما تستريح به من أهل النّطاة، وتخرج إلى أهل الشّق؟ فإن أهل الشق قد هلكوا رعبا منك، فأمّته رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أهله وماله، فقال اليهودى: إنك لو أقمت شهرا ما بالوا، لهم دبول «2» تحت الأرض، يخرجون بالليل فيشربون منها ثم يرجعون إلى قلعتهم فيمتنعون منك، فإذا قطعت مشربهم عليهم أصحروا «3» لك. فسار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى دبولهم فقطعها، فلما قطع عليهم مشاربهم خرجوا فقاتلوا أشدّ قتال، وقتل من المسلمين يومئذ نفر، وأصيب من يهود فى ذلك اليوم عشرة، وافتتحه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكان آخر حصون النطاة؛ فلما فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من النطاة تحوّل إلى أهل الشّق، وبه حصون، فكان أوّل حصن بدأ به صلّى الله عليه وسلّم حصن أبىّ، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على قلعة يقال لها سموان؛ فقاتل عليها أهل الحصن قتالا شديدا، وخرج رجل من اليهود يقال له غزول؛ فدعا إلى البراز، فبرز له الحباب بن المنذر، فاختلفا ضربات، ثم حمل عليه الحباب فقطع يده اليمنى من نصف الذراع، فسقط السيف من يده وهرب إلى الحصن، فتبعه الحباب فقطع عرقوبيه، فوقع، فذفّف «4» عليه، فخرج آخر فصاح: من يبارز؟ فبرز له رجل الجزء: 17 ¦ الصفحة: 256 من المسلمين من آل جحش، فقتل الجحشىّ، وقام مكانه يدعو إلى البراز، فبرز له أبو دجانة، قد عصب رأسه بعصابة حمراء فوق المغفر، يختال فى مشيته، فبدره أبو دجانة فضربه فقطع رجليه، ثم ذفّف عليه وأخذ سلبه؛ درعه وسيفه: فنفله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك، وأحجموا عن البراز، فكبّر المسلمون، ثم تحاملوا على الحصن فدخلوه، يقدمهم أبو دجانة الأنصارىّ، فوجدوا فيه أثاثا ومتاعا وغنما وطعاما، وهرب من كان فيه من المقاتلة، وتقحموا الجدر كأنهم الظّبىّ إلى حصن النّزار، فعلّقوه وامتنعوا فيه، وزحف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى أصحابه فقاتلهم، فكانوا أشدّ أهل الشّق رميا بالنبل والحجارة، حتى أصاب النبل ثياب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعلقت به، فأخذ النبل فجمعها، ثم أخذ كفّا من حصباء، فحصب به حصنهم فرجف الحصن بهم، ثم ساخ فى الأرض حتى جاء المسلمون، فأخذوا أهله أخذا، ثم تحوّل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أهل الكتيبة، فافتتح القموص، حصن أبى الحقيق، وأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منه بصفيّة بنت حيىّ بن أخطب. قالوا: ولما افتتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من حصونهم ما افتتح، وحاز من الأموال ما حاز، انتهوا إلى حصنيهم: الوطيح والسّلالم، وكانا آخر حصون أهل خيبر افتتاحا، فحاصرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بضع عشرة ليلة حتى إذا أيقنوا بالهلكة سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يسيّرهم، وأن يحقن دماءهم. قال البيهقىّ: حصرهم أربعة عشر يوما وهم لا يطلعون من حصونهم، حتى همّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن ينصب المنجنيق «1» عليهم، فلما أيقنوا الجزء: 17 ¦ الصفحة: 257 بالهلكة سألوا الصلح، وأرسل ابن أبى الحقيق إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أنزل فأكملك؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نعم» ، فنزل كنانة بن الربيع ابن أبى الحقيق فصالح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على حقن دماء من فى حصونهم من المقاتلة، وترك الذريّة لهم، ويخرجون من خيبر وأرضها بذراريهم، ويخلّون بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين ما كان لهم من مال وأرض، وعلى الصفراء والبيضاء والكراع والحلقة «1» ، وعلى البزّ إلا ثوبا على ظهر إنسان؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وبرئت منكم ذمّة الله وذمّة رسوله إن كتمتونى شيئا» فصالحوه على ذلك. وكان عند كنانة بن الربيع بن أبى الحقيق كنز بنى النضير، فسأله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنه، فجحد أن يكون يعلم مكانه، وقال: نفد فى النفقة والحروب؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كان أكثر من ذلك» ، ثم جاء رجل من يهود إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسول الله، إنى رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لكنانة: «أرأيت إن وجدناه عندك، أقتلك؟» قال: نعم؛ فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالخربة فحفرت، فأخرج منها بعض كنزهم، ثم سأله عما بقى، فأبى أن يؤدّيه، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الزّبير بن العوام به، فقال: «عذّبه حتى تستأصل ما عنده» ، فكان الزبير يقدح بزند فى صدره حتى أشرف على نفسه، ثم دفعه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى محمد بن مسلمة، فضرب عنقه بأخيه محمود بن مسلمة. ويقال: كان ذلك بعد فتح حصن القموص، وقبل فتح الوطيح والسّلالم. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 258 قال محمد بن إسحاق: ولما نزل أهل خيبر على الصلح سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يعاملهم فى الأموال على النّصف؛ «على أنا إذا شئنا [أن «1» ] نخرجكم أخرجناكم» ، قال: ولما سمع أهل فدك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم افتتح حصون خيبر بعثوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يسألونه أن يسيّرهم، وأن يحقن دماءهم، ويخلّوا له الأموال، ففعل؛ وكان ممن مشى بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبينهم فى ذلك محيّصة بن مسعود أخو بنى حارثة، ثم سألوا أن يعاملهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على النّصف كما عامل أهل خيبر، فأجابهم إلى ذلك؛ «على أنا إذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم» ؛ فكانت خيبر فيئا بين المسلمين، وكانت فدك خالصة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لأنهم لم يجلبوا عليها بخيل ولا ركاب. ولما افتتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خيبر قدم عليه جعفر بن أبى طالب رضى الله عنه من أرض الحبشة ومن كان بقى بها من المسلمين، فقبّله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين عينيه والتزمه، وقال: «ما أدرى بأيهما أنا أسرّ، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر!» . ذكر تسمية من استشهد من المسلمين فى غزوة خيبر قالوا: استشهد من المسلمين فى غزوة خيبر تسعة عشر رجلا. من قريش وحلفائهم خمسة نفر، وهم رفاعة بن مسروح، من بنى أمية بن عبد شمس، ومن حلفائهم ربيعة بن أكثم بن سخبرة، وثقف بن عمرو بن سميط، ومن حلفاء بنى أسد الجزء: 17 ¦ الصفحة: 259 ابن عبد العزّى أبو عمير عبد الله بن الهبيب- ويقال ابن الهبيب- بن أهيب الليثىّ، ومسعود بن ربيعة، حليف لبنى زهرة، من القارة. ومن الأنصار أربعة عشر رجلا، وهم: بشر بن البراء بن معرور، مات من الشاة المسومة، وفضيل بن النعمان، ومسعود بن سعد بن قيس، ومحمود بن مسلمة، وأبو ضيّاح النعمان بن ثابت، والحارث بن حاطب، ممن شهد بدرا، وعروة بن مرّة بن سراقة، وأوس بن الفائد «1» ، وأنيف بن حبيب، وثابت بن إثلة «2» ، وطلحة، ومبشر، وعمارة بن عقبة، وعامر بن الأكوع الأسلمىّ، وكان قد برز له يهودى، فبرز إليه وهو يقول: قد علمت خيبر أنى عامر ... شاكى السلاح بطل مغامر واختلفا ضربتين، فوقع سيف اليهودىّ فى ترس عامر، ووقع سيف عامر عليه، فأصاب ركبة نفسه وساقه، فمات منها. قال سلمة بن الأكوع: فمررت على نفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهم يقولون: بطل عمل عامر؛ فأتيت نبى الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا شاحب أبكى، فقلت: يا رسول الله، أبطل عمل عامر؟ فقال: «ومن قال ذلك؟» قلت: بعض أصحابك؛ قال: «كذب من قاله، بل له أجره مرّتين، إنه لجاهد مجاهد» . واستشهد الأسود الراعى- واسمه أسلم، وهو من أهل خيبر- وكان من حديثه ما حكاه محمد بن إسحاق وأبو بكر البيهقى رحمهما الله: أنه أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو محاصر لبعض حصون خيبر، ومعه غنم كان فيها أجيرا لرجل من الجزء: 17 ¦ الصفحة: 260 يهود، فقال: يا رسول الله، اعرض علىّ الإسلام؛ فعرضه عليه، فقال: فماذا لى إن أنا شهدت وآمنت بالله؟ قال: «لك الجنة إن أنت متّ على ذلك» ، فأسلم وقال: يا رسول الله، إنى كنت أجيرا لصاحب هذه الغنم، وهى أمانة عندى، فكيف أصنع بها؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أخرجها من عسكرنا، واحصب «1» وجوهها، فإن الله سيؤدى عنك أمانتك، وسترجع إلى ربّها» . ففعل الأسود وقال: ارجعى إلى صاحبك، فو الله لا أصحبك، فخرجت مجتمعة كأن سائقا يسوقها حتى دخلت الحصن. ثم تقدم إلى ذلك الحصن ليقاتل مع المسلمين، فأصابه حجر فقتله، وما صلّى لله صلاة قطّ، فأتى به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوضع خلفه، وسجّى بشملة كانت عليه، فالتفت إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم أعرض عنه، فقالوا: يا رسول الله، لم أعرضت عنه؟ قال: «إن معه الآن زوجته من الحور العين» . وقتل من يهود ثلاثة «2» وأربعون، منهم: الحارث أبو زينب، ومرحب، وأسير، وياسر، وعامر، وكنانة بن أبى الحقيق، وأخوه. ذكر قسم غنائم خيبر قال محمد بن سعد: أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالغنائم فجمعت، واستعمل عليها فروة بن عمرو البياضىّ، وأمر بذلك فجزّئ خمسة أجزاء، وكتب فى سهم منها لله، وسائر السّهمان أغفال، فكان أوّل ما خرج سهم النبى صلّى الله عليه وسلّم، وأمر ببيع الأربعة أخماس فيمن يزيد، فباعها فروة، وقسم ذلك بين الجزء: 17 ¦ الصفحة: 261 أصحابه؛ وكان الذى ولى إحصاء الناس زيد بن ثابت، فأحصاهم ألفا وأربعمائة رجل، والخيل مائتى فرس، فكانت السّهمان على ثمانية عشر سهما، لكل مائة سهم، وكان الخمس الذى صار إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعطى منه على ما أراه الله. وقال محمد بن إسحاق: كانت المقاسم على أموال خيبر؛ على الشّق ونطاة والكتيبة، فكانت الكتيبة خمس الله، وسهم النبى صلّى الله عليه وسلّم وذوى القربى واليتامى والمساكين، وطعم أزواج النبى صلّى الله عليه وسلّم، وطعم رجال مشوا بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبين أهل فدك بالصلح، منهم محيّصة بن مسعود، أعطاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منها ثلاثين وسقا «1» من شعير، وثلاثين وسقا من تمر، وكانت الشق ونطاة فى سهمان المسلمين؛ قال: وقسمت خيبر على أهل الحديبية، من شهد منهم ومن غاب، ولم يغب عنها إلّا جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام، فقسم له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كسهم من حضرها. وقال: وكان وادياها: وادى السّرير ووادى خاص، وهما اللذان قسمت عليهما خيبر، فكانت نطاة والشّق ثمانية عشر سهما، نطاة خمسة أسهم، والشق ثلاثة عشر سهما، فقسمت الشق ونطاة على ألف سهم وثمانمائة سهم، فكان لكلّ سهم رأس جمع إليه مائة رجل؛ قال: ثم قسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الكتيبة- وهو وادى خاص- بين قرابته ونسائه ورجال من المسلمين ونساء أعطاهم منها. وروى بشير بن يسار قال: لما افتتح النبى صلّى الله عليه وسلّم خيبر أخذها عنوة، فقسمها على ستة وثلاثين سهما، فأخذ لنفسه ولنوائبه وما ينزل به ثمانية عشر سهما، وقسم بين الناس ثمانية عشر سهما. والله أعلم. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 262 وروى أبو داود فى سنته بسنده إلى عقبة بن عامر أن النبى صلّى الله عليه وسلّم قال لرجل: «أترضى أن أزوّجك فلانة؟» قال: نعم؛ وقال للمرأة: «أترضين أن أزوّجك فلانا؟» قالت: نعم. فزوج أحدهما صاحبه، فدخل بها الرجل، ولم يفرض لها صداقا ولم يعطها شيئا، وكان ممن شهد الحديبية، وكان من شهد الحديبية له سهم بخيبر، فلما حضرته الوفاة قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زوجنى فلانة، ولم أفرض لها صداقا، ولم أعطها شيئا، وإنّى أشهد كم أنّى أعطيتها من صداقها سهمى بخيبر. فأخذت سهما فباعته بمائة ألف. ذكر تسمية من قسم لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الكتيبة التى خرجت للخمس وما أعطاهم منها قسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الكتيبة- وهو وادى خاص «1» - لفاطمة ابنته رضى الله عنهامائتى وسق، ولعلىّ بن أبى طالب مائة وسق، ولأسامة بن زيد مائتى وسق، وخمسين وسقا نوى، ولعائشة أم المؤمنين رضى الله عنها مائتى وسق، ولأبى بكر الصديق رضى الله عنه مائة وسق، ولعقيل بن أبى طالب مائة وسق وأربعين وسقا، ولبنى جعفر خمسين وسقا، ولربيعة بن الحارث مائة وسق، وللصلت بن مخرمة وابنيه مائة وسق؛ للصلت منها أربعون وسقا. وقال أبو عمر بن عبد البر فى ترجمة قاسم بن مخرمة بن المطلب: أعطاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولأخيه الصلت مائة وسق من خيبر، ولأبى نبقة خمسين وسقا، ولركانة بن عبد يزيد خمسين وسقا، ولابن القاسم بن مخرمة أربعين وسقا، ولبنات عبيدة بن الحارث وابنه الحصين بن الحارث مائة وسق، ولبنى عبيد بن عبد يزيد ستين وسقا، ولابن الجزء: 17 ¦ الصفحة: 263 أوس بن مخرمة ثلاثين وسقا، ولمسطح بن أثاثة وابن إلياس خمسين وسقا، ولأم رميثة أربعين وسقا، ولنعيم «1» بن هند ثلاثين وسقا، ولبحينة بنت الحارث ثلاثين وسقا، ولعجير بن عبد يزيد ثلاثين وسقا، ولأم الحكم «2» بنت الزبير بن عبد المطلب ثلاثين وسقا، ولجمانة بنت أبى طالب ثلاثين وسقا، ولعبد الله بن الأرقم الزهرى خمسين وسقا، ولعبد الرحمن بن أبى بكر أربعين وسقا، ولحمنة بنت جحش ثلاثين وسقا، ولأم الزبير أربعين وسقا، ولضباعة بنت الزبير أربعين وسقا، ولابن أبى خنيس ثلاثين وسقا، ولأم طالب أربعين وسقا، ولأبى نضرة عشرين وسقا، ولنميلة الكلبىّ خمسين وسقا، ولعبد الله بن وهب وابنيه تسعين وسقا، لابنيه منها أربعون وسقا، ولأم حبيب بنت جحش ثلاثين وسقا، ولملكو بن عبدة ثلاثين وسقا، ولنسائه صلّى الله عليه وسلّم سبعمائة وسق. وقال ابن إسحاق أيضا: وقسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لنسائه من فتح خيبر مائة وسق وثمانين وسقا، ولفاطمة ابنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خمسة وثمانين وسقا، ولأسامة بن زيد أربعين وسقا، وللمقداد بن الأسود خمسة عشر وسقا، ولأمّ رميثة خمسة أوسق. شهد عثمان بن عفان وعباس وكتب. قال: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يبعث عبد الله بن رواحة إلى أهل خيبر خارصا «3» بين المسلمين ويهود فيخرص عليهم، فإذا قالوا: تعديت علينا؛ قال: إن شئتم فلكم، وإن شئتم قلنا؛ فتقول يهود: بهذا قامت السموات والأرض. ولم يخرص عليهم عبد الله إلا عاما واحدا ومات. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 264 وروى أبو داود رحمه الله فى سننه بسنده عن جابر بن عبد الله من رواية ابن جريج عن أبى الزبير عنه، قال: خرصها ابن رواحة أربعين ألف وسق، وإن اليهود لما خيرهم ابن رواحة أخذوا التمر وعليهم عشرون ألف وسق، ثم خرص «1» عليهم بعده جبّار بن صخر بن أمية بن خنساء، أخو بنى سلمة، فأقامت يهود على ذلك لا يرى بهم المسلمون بأسا فى معاملتهم، حتى عدوا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على عبد الله بن سهل، أخى بنى حارثة، فقتلوه، وكان قد خرج إليها فى أصحاب له يمتار «2» منها تمرا، فوجد فى عين قد كسرت عنقه، فاتهمهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون بقتله، وجاء أخوه عبد الرحمن بن سهل، وابنا عمه حويّصة ومحيّصة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتكلم عبد الرحمن- وكان أصغرهم، وهو صاحب الدم- فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كبّر «3» كبّر» فسكت، وتكلم حويّصة ومحيّصة، ثم تكلم بعدهما، فذكروا قتل صاحبهم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أتسمّون قاتلكم ثم تحلفون عليه خمسين يمينا فنسلمه إليكم؟» قالوا: يا رسول الله، ما كنا لنحلف على ما لا نعلم؛ قال: «أفيحلفون بالله خمسين يمينا ما قتلوه، ولا يعلمون له قاتلا، ثم يبرءون من دمه؟» ، فقالوا: يا رسول الله، ما كنا لنقبل أيمان يهود، ما هم فيه من الكفر أعظم أن يحلفوا على إثم. قال: فوداه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمائة ناقة. قال «4» : واستقرت خيبر بيد يهود على ما عاملهم عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مدة حياته، ثم أقرها أبو بكر رضى الله عنه بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأيديهم على المعاملة، ثم أقرهم عمر بن الخطاب رضى الله عنه صدرا من خلافته، الجزء: 17 ¦ الصفحة: 265 ثم بلغه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال فى وجعه الذى قبضه الله فيه: «لا يجتمعن بجزيرة العرب دينان» ؛ ففحص عمر عن ذلك حتى بلغه الثبت، فأرسل إلى يهود، فقال: إن الله قد أذن فى إجلائكم، قد بلغنى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يجتمعن بجزيرة العرب دينان» فمن كان عنده عهد من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من اليهود فليأتنى به أنفذه له، ومن لم يكن له عهد منه فليتجهز للجلاء. فأجلى عمر بن الخطاب من لم يكن عنده عهد من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. هذا ما كان من أمر خيبر على سبيل الاختصار، فلنذكر ما اتفق بعد فتح خيبر مما يتعين إلحاقه بهذه الغزوة لتعلقه بها، فمن ذلك خبر الشاة التى سمّ فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد قدّمنا ذكر ذلك فى أخبار يهود، وهو فى الجزء الرابع عشر من هذه النسخة «1» ، ومنه خبر الحجاج بن علاط. ذكر خبر الحجاج بن علاط وما أوصله إلى أهل مكة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى استوفى أمواله قالوا: وكان الحجاج بن علاط السّلمىّ ثم البهزىّ أسلم وشهد خيبر مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما فتحت خيبر قال: يا رسول الله، إن لى بمكة ما لا عند صاحبتى أم شيبة بنت أبى طلحة، ومال مفرّق فى تجار أهل مكة، فأذن لى يا رسول الله. فأذن له، فقال: إنه لا بدّ لى يا رسول الله من أن أقول. قال: «قل» ، قال الحجاج: فخرجت حتى إذا قدمت مكة وجدت بثنيّة البيضاء «2» رجالا من قريش يستمعون الأخبار، ويسألون عن أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد بلغهم أنه قد سار الجزء: 17 ¦ الصفحة: 266 إلى خيبر، وقد عرفوا أنها قرية الحجاز؛ ريفا ومنعة ورجالا، فهم يتحسسون الأخبار، ويسألون الرّكبان، فلما رأونى قالوا: الحجاج بن علاط عنده والله الخبر؛ قال: ولم يكونوا قد علموا بإسلامى، فقالوا: أخبرنا يا أبا محمد، فإنه بلغنا أن القاطع قد سار إلى خيبر، وهى بلد يهود وريف بالحجاز؛ قال: قلت: قد بلغنى ذلك وعندى من الخبر ما يسركم؛ فالتبطوا «1» بجنبى ناقتى يقولون: إيه يا حجاج! قال: قلت: هزم هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط، وقتل أصحابه قتلا لم تسمعوا بمثله قط، وأسر محمد أسرا، وقالوا: لا نقتله حتى نبعث به إلى مكة، فيقلتوه بين أظهرهم بمن أصاب من رجالهم. فقاموا وصاحوا بمكة، وقالوا: لقد جاءكم الخبر، وهذا محمد، إنما تنتظرون أن يقدم به عليكم فيقتل بين أظهركم. قال: قلت: أعينونى على جمع مالى بمكة على غرمائى، فإنى أريد أن أقدم خيبر، فأصيب من فلّ «2» محمد وأصحابه قبل أن يسبقنى التجار إلى ما هنالك. قال: فقاموا فجمعوا لى مالى كأحثّ «3» جمع سمعت به. قال: وجئت صاحبتى فقلت: مالى- وقد كان لى عندها مال موضوع- لعلى الحق بخيبر، فأصيب من فرص البيع قبل أن يسبقنى التجار؛ قال: فلما سمع العباس بن عبد المطلب الخبر وجاءه عنّى، أقبل حتى وقف إلى جنبى وأنا فى خيمة من خيم «4» التجار، فقال: يا حجاج، ما هذا الخبر الذى جئت به؟ قال: قلت: وهل عندك حفظ لما وضعت عندك؟ قال: نعم؛ قلت: فاستأخر عنى حتى أفرغ. قال: فلما فرغت من جمع كل شىء كان لى بمكة، وأجمعت الخروج لقيت العباس فقلت: احفظ علىّ حديثى يا أبا الفضل، فإنى أخشى الطلب ثلاثا، ثم قل ما شئت. قال: أفعل؛ قلت: فإنى والله تركت ابن أخيك الجزء: 17 ¦ الصفحة: 267 عروسا على بنت ملكهم- يعنى صفيّة بنت حيىّ بن أخطب- ولقد افتتح خيبر، وانتثل «1» ما فيها، وصارت له ولأصحابه؛ قال: ما تقول يا حجاج! قلت: إى والله، فاكتم عنى، ولقد أسلمت وما جئت إلا لآخذ ما لى فرقا من أن أغلب عليه، فإذا مضت ثلاث فأظهر أمرك، فهو والله على ما تحب. قال: وسرت حتى إذا كان اليوم الثالث لبس العباس حلّة له، وتخلّق «2» وأخذ عصاه، ثم خرج حتى أتى الكعبة، فطاف بها، فلما رأوه قالوا: يا أبا الفضل، هذا والله التجلّد لحرّ المصيبة؛ قال: كلا، والله الذى حلفتم به لقد افتتح محمد خيبر وترك عروسا على ابنة ملكهم، وأحرز أموالهم وما فيها، فأصبحت له ولأصحابه. قالوا: من جاءك بهذا الخبر؟ قال: الذى جاءكم بما جاءكم به، ولقد دخل عليكم مسلما فأخذ ماله، وانطلق ليلحق بمحمد وأصحابه فيكون معه؛ قالوا: يا لعباد الله! انفلت عدوّ الله، أما والله لو علمنا لكان لنا وله شأن. ولم يلبثوا أن جاءهم الخبر بذلك. ذكر انصراف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن خيبر إلى وادى القرى، ونومهم عن صلاة الصبح قالوا: ولما فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من خيبر انصرف إلى وادى القرى، فنزل به مع غروب الشمس، ومعه غلام له يقال له: مدعم؛ أهداه إليه رفاعة بن زيد الجذامىّ، فبينا هو يضع رحل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتاه سهم غرب «3» فقتله، فقال الناس: هنيئا له الجنة؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كلا والذى نفس محمد بيده إن شملته «4» لتحترق عليه فى النار» . كان غلّها الجزء: 17 ¦ الصفحة: 268 من فىء المسلمين يوم خيبر، فسمعها رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، أصبت شراكين لنعلين لى؛ فقال: «يقدّ لك مثلهما من النار» . قال أبو بكر أحمد البيهقىّ رحمه الله بسند يرفعه إلى أبى هريرة رضى الله عنه، وساق نحو الحديث فى قتل مدعم، ثم قال: وكانت يهود قد ثوى إليها ناس من العرب، فاستقبلونا بالرّمى حيث نزلنا، ولم نكن على تعبئة، وهم يصيحون من آطامهم، فعبأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصحابه وصفّهم للقتال، ودفع لواءه إلى سعد بن عبادة، وراية إلى الحباب بن المنذر، وراية إلى سهل بن حنيف، وراية إلى عبّاد بن بشر، ثم دعاهم إلى الإسلام، وأخبرهم أنهم إن أسلموا أحرزوا أموالهم، وحقنوا دماءهم، وحسابهم على الله. فبرز رجل منهم، فبرز إليه الزبير ابن العوام فقتله، ثم برز آخر، فبرز إليه على بن أبى طالب رضى الله عنه فقتله ثم برز آخر، فبرز إليه أبو دجانة الأنصارىّ رضى الله عنه فقتله، حتى قتل منهم اثنا «1» عشر رجلا، كلما قتل رجل منهم دعى من بقى إلى الإسلام. قال: ولقد كانت الصلاة تحضر يومئذ فيصلى بأصحابه، ثم يعود فيدعوهم إلى الله ورسوله، فقاتلهم صلّى الله عليه وسلّم حتى أمسى، وغدا عليهم فلم ترتفع الشمس قيد رمح حتى أعطوا بأيديهم، وفتحها عنوة، وغنم أموالهم، وأصابوا أثاثا ومتاعا كثيرا، فأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بوادى القرى أربعة أيام، وقسم ما أصاب على أصحابه، وترك الأرض والنخل بأيدى يهود، وعاملهم عليها، فلما بلغ يهود تيماء ما كان من أمر خيبر وفدك ووادى القرى صالحوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الجزية، الجزء: 17 ¦ الصفحة: 269 وأقاموا بأيديهم أموالهم، ثم انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم راجعا إلى المدينة؛ فلما كان ببعض الطريق قال من آخر الليل: «من رجل يحفظ علينا الفجر لعلنا ننام» ؟ وجاء فى الحديث: «من رجل يكلأ لنا الليل» ؟. فقال بلال: أنا يا رسول الله. فنزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونزل الناس فناموا، وقام بلال يصلى، فصلى ما شاء الله أن يصلى، ثم استند إلى بعيره واستقبل الفجر يرمقه فغلبته عينه فنام، فلم يوقظهم إلا مسّ الشمس، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أول أصحابه استيقاظا، فقال: «ماذا صنعت بنا يا بلال» ؟ فقال: يا رسول الله أخذ بنفسى الذى أخذ بنفسك. قال: «صدقت» . ثم اقتاد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [بعيره «1» ] غير كثير ثم أناخ، فتوضأ وتوضأ الناس، ثم أمر بلالا فأقام الصلاة «2» ، فصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالناس، فلما سلّم أقبل على الناس فقال: «إذا نسيتم الصلاة فصلوها إذا ذكرتموها، فإن الله عز وجل يقول: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) «3» » . وفى الحديث: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين استيقظ واستيقظ أصحابه أمرهم أن يركبوا حتى يخرجوا من ذلك الوادى، وقال: «إن هذا واد به شيطان» فركبوا حتى خرجوا من ذلك الوادى، ثم أمرهم أن ينزلوا وأن يتوضئوا ... الحديث بنحو ما تقدم. ذكر سريّة عمر بن الخطاب رضى الله عنه إلى تربة «4» بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شعبان سنة سبع من مهاجره فى ثلاثين رجلا إلى عجز هوازن بتربة- وهى ناحية العبلاء، على أربع ليال من مكة، طريق صنعاء ونجران- وهى ناحية العبلاء على أربع ليال من مكة، طريق صنعاء ونجران- فأتى الخبر هوازن فهربوا، وجاء عمر محالّهم «5» فلم يلق بها أحدا. فانصرف راجعا إلى المدينة. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 270 ذكر سرية أبى بكر الصديق رضى الله عنه إلى بنى كلاب بنجد بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شعبان سنة سبع من مهاجره. روى عن سلمة بن الأكوع قال: غزوت مع أبى بكر رضى الله عنه إذ بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علينا، فسبى ناسا من المشركين فقتلناهم، وكان شعارنا: أمت أمت. قال: فقتلت بيدى سبعة أهل أبيات من المشركين. وعنه أيضا قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبا بكر إلى فزارة. وهذا الذى صححه مسلم. وعن إياس بن مسلمة بن الأكوع قال: حدثنى أبى قال: غزونا فزارة وعلينا أبو بكر رضى الله عنه، أمّره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علينا، فلما كان بينه وبين القوم ساعة أمرنا أبو بكر فعرّسنا «1» ، ثم شنّ الغار فورد الماء، فقتل من قتل وسبى من سبى. ثم [قال «2» سلمة: فرأيت عنقا «3» ] من الناس فيهم الذرارىّ، فخشيت أن يسبقونى إلى الجبل، فرميت بسهم بينهم وبين الجبل، فلما رأوا السهم وقفوا، فجئت بهم أسوقهم، وفيهم امرأة من بنى فزارة، معها ابنة لها من أحسن العرب، فسقتهم حتى أتيت بهم أبا بكر رضى الله عنه فنفلنى ابنتها، فقدمنا المدينة وما كشفت لها ثوبا، فلقينى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى السوق، فقال: «يا سلمة، هب لى المرأة» . فقلت: يا رسول الله، قد أعجبتنى وما كشفت لها ثوبا؛ ثم لقينى من الغد فى السوق، فقال: «يا سلمة، هب لى المرأة، لله أبوك!» . فقلت: هى لك يا رسول الله؛ فبعث بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أهل مكة، ففدى بها ناسا من المسلمين كانوا أسروا بمكة. روى هذا الحديث مسلم. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 271 ذكر سريّة بشير بن سعد الأنصارى إلى فدك بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شعبان سنة سبع من مهاجره فى ثلاثين رجلا إلى بنى مرّة بفدك، فخرج فلقى رعاء الشاء، فسأل عن الناس فقيل: فى نواديهم، فاستاق النّعم والشاء، وانحدر إلى المدينة، فخرج الصريخ فأخبرهم فأدركهم «1» الدّهم «2» منهم عند الليل، فباتوا يرمونهم بالنبل حتى فنيت نبل أصحاب بشير وأصبحوا، فحمل المرّبون عليهم فأصابوا أصحاب بشير، وقاتل بشير حتى ارتثّ «3» وضرب كعبه، وقيل: قد مات. ورجعوا بنعمهم وشائهم، وقدم علبة بن زيد الحارثى يخبرهم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم قدم بعده بشير بن سعد. ذكر سريّة غالب بن عبد الله الليثى إلى الميفعة بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شهر رمضان سنة سبع من مهاجره إلى بنى عوال «4» ، وبنى عبد بن ثعلبة، وهم بالميفعة، وهى وراء بطن نخل إلى النّقرة قليلا بناحية نجد، وبينها وبين المدينة ثمانية برد. بعثه فى مائة وثلاثين رجلا، ودليلهم يسار، مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فهجموا عليهم جميعا، ووقعوا وسط محالّهم، فقتلوا من أشرف لهم، واستاقوا نعما وشاء فحدروه إلى المدينة، ولم يأسروا أحدا. وفى هذه السرية قتل أسامة بن زيد الرجل الذى قال لا إله إلا الله، وهو نهبك بن مرداس بن ظالم من بنى ذبيان بن بغيض، وقال ابن إسحاق: مرداس بن نهيك؛ حليف لهم من الحرقة من جهينة. ونقل أبو عمر بن عبد البر أنه عامر بن الأضبط الأشجعىّ، وأن رسول الله صلّى الله الجزء: 17 ¦ الصفحة: 272 عليه وسلّم وداه. قال أسامة: أدركته أنا ورجل من الأنصار، فلمّا شهرنا عليه السلاح قال: أشهد أن لا إله إلّا الله؛ فلم ننزع عنه حتّى قتلناه، فلمّا قدمنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخبرناه خبره؛ فقال: «يا أسامة، من لك بلا إله إلا الله؟ قال: قلت: يا رسول الله، إنه إنما قالها تعوّذا من القتل؛ قال: «فمن لك بها يا أسامة» ؟ قال: فو الّذى بعثه بالحقّ إنه ما زال يردّدها علىّ حتّى لوددت أنّ ما مضى من إسلامى لم يكن، وكنت أسلمت يومئذ، وأنّى لم أقتله. قال: قلت: أنظرنى يا رسول الله، إنى أعاهد الله ألّا أقتل رجلا يقول: «لا إله إلا الله» أبدا. قال: «يقول بعدى يا أسامة» ، قلت: بعدك، وفى بعض طرق هذا الحديث أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لأسامة حين قال: «يا رسول الله، إنما قالها تعوّذا من القتل» «هلا شققت عن قلبه فتعلم أصادق هو أم كاذب» !. ذكر سريّة بشير بن سعد الأنصارىّ إلى يمن «1» وجبار «2» كانت هذه السريّة فى شوّال سنة سبع من مهاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلغه أن جمعا من غطفان بالجناب «3» قد واعدهم عيينة بن حصن ليكون معهم ليزحفوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فدعا بشير بن سعد فعقد له لواء، وبعث معه ثلاثمائة رجل، فساروا حتى أتوا يمن وجبار، وهو نحو الجناب- والجناب يعارض سلاح «4» وخيبر ووادى القرى- فدنوا الجزء: 17 ¦ الصفحة: 273 من القوم فأصابوا لهم نعما كثيرا، وتفرّق الرّعاء فحدّروا الجمع، فتفرّقوا ولحقوا بعلياء بلادهم، وخرج بشير بن سعد فى أصحابه حتى أتى محالّهم فلم يجد فيها أحدا، فرجع بالنّعم، وأصاب منهم رجلين، فأسرهما وقدم بهما المدينة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأسلما، فأرسلهما صلّى الله عليه وسلّم. ذكر سريّة ابن أبى العوجاء السّلمىّ إلى بنى سليم بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى ذى الحجّة سنة سبع من مهاجره فى خمسين رجلا إلى بنى سليم، وذلك بعد انصراف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مكة بعد عمرة القضاء، فخرج إليهم وتقدّمه عين لهم كان معه، فحذّرهم، فتجمّعوا، فأتاهم ابن أبى العوجاء وهم معدّون له، فدعاهم إلى الإسلام، فقالوا: لا حاجة لنا إلى ما دعوتنا إليه. فتراموا ساعة بالنّبل، وجعلت الأمداد تأتى حتى أحدقوا بهم من كلّ ناحية، فقاتل القوم قتالا شديدا حتى قتل عامّتهم، وأصيب ابن أبى العوجاء جريحا مع القتلى، ثم تحامل حتّى بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقدموا المدينة فى أوّل يوم من صفر سنة ثمان من الهجرة. ذكر سريّة غالب بن عبد الله الليثىّ إلى بنى الملوح بالكديد «1» كانت فى صفر سنة ثمان من مهاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. روى عن جندب بن مكيث الجهنىّ قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غالب ابن عبد الله الليثىّ، ثم أحد بنى كلب بن عوف فى سريّة، فكنت فيهم، وأمرهم أن يشنّوا الغارة على بنى الملوّح بالكديد- وهم من بنى ليث- قال: فخرجنا الجزء: 17 ¦ الصفحة: 274 حتى إذا كنا بقديد «1» لقينا الحارث بن البرصاء، فأخذناه، فقال: إنما جئت أريد الإسلام. قلنا: إن تكن مسلما لم يضررك رباطنا يوما وليلة. قال: فشددناه وثاقا، وخلّفنا عليه رويجلا منّا أسود، وسرنا حتى أتينا الكديد عند غروب الشمس، فكمنّا فى ناحية الوادى، وبعثنى أصحابى ربيئة «2» ، فخرجت حتى آتى تلّا مشرفا على الحاضر «3» ، فاستندت فيه، فعلوت فى رأسه، فنظرت إلى الحاضر، فو الله إنّى لمنبطح على التلّ إذ خرج رجل منهم من خبائه، فقال لامرأته: إنى لأرى على التلّ سوادا ما رأيته فى أوّل يومى، فانظرى إلى أوعيتك، هل تفقدين منها شيئا؟ لا تكون الكلاب جرّت بعضها قال: فنظرت، فقالت: لا والله ما أفقد شيئا. قال: فناولينى قوسى وسهمين، فناولته، فأرسل سهما فو الله ما أخطأ جنبى، فأنزعه فأضعه، وثبّت مكانى، ثم أرسل الآخر فوضعه فى منكبى، فأنزعه فأضعه، وثبتّ مكانى، فقال لامرأته: لو كان ربيئة لقد تحرّك، لقد خالطه سهماى لا أبا لك! فإذا أصبحت فابتغيهما فخذيهما لا تمضغهما الكلاب؛ قال: ثمّ دخل، وأمهلناهم حتى اطمأنّوا وتأمّوا- وكان وجه السّحر- شننّا عليهم الغارة، واستقنا النعم، فخرج صريخ القوم فى قومهم، فجاء ما لا قبل لنا به، فخرجنا بها نحدرها حتى مررنا بابن البرصاء فاحتملناه واحتملنا صاحبنا، وأدركنا القوم حتّى نظروا إلينا، ما بيننا وبينهم إلّا الوادى- وادى قديد- فأرسل الله تعالى الوادى بالسّيل من حيث شاء تبارك وتعالى من غير سحابة نراها ولا مطر، فجاء بشىء ليس لأحد به قوّة، ولا يقدر على أن يجاوزه، فلقد رأيتهم وقوفا ينظرون إلينا، وإنّا لنسوق نعمهم الجزء: 17 ¦ الصفحة: 275 ما يستطيع رجل منهم أن يجيز إلينا، ونحن نحدوها سراعا حتى فتناهم، فلم يقدروا على طلبنا، قال: فقدمنا بها على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال ابن سعد: وكانوا بضعة عشر رجلا، وكان شعارهم يومئذ: أمت أمت! ذكر سريّة غالب بن عبد الله الّليثى أيضا إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد بفدك كانت فى صفر سنة ثمان من هجرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد هيّأ الزبير بن العوّام رضى الله عنه، وقال له: «سر حتى تنتهى إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد، فإن أظفرك الله بهم فلا تبق فيهم» ، وهيّأ معه مائتى رجل، وعقد له لواء، فقدم غالب بن عبد الله من الكديد، وقد أظفره الله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للزبير: «اجلس» . وبعث غالب بن عبد الله فى مائتى رجل، فيهم أسامة بن زيد، فسار حتى انتهى إلى مصاب أصحاب بشير، فأصابوا نعما، وقتلوا قتلى. ذكر سريّة شجاع بن وهب الأسدىّ إلى بنى عامر بالسّىّ «1» بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شهر ربيع الأوّل سنة ثمان من الهجرة فى أربعة وعشرين رجلا إلى جمع من هوازن بالسّىّ، من ناحية ركبة «2» ، من وراء المعدن «3» ، وهى من المدينة على خمس ليال، وأمره أن يغير عليهم، فسار حتى صبّحهم وهى غارّون، فأصابوا نعما كثيرا وشاء، فاستاقوا ذلك حتى قدموا المدينة، وغابت هذه السريّة خمس عشرة ليلة. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 276 ذكر سريّة كعب بن عمير الغفارىّ إلى ذات أطلاح «1» بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شهر ربيع الأوّل سنة ثمان من الهجرة فى خمسة عشر رجلا، فساروا حتى انتهوا إلى ذات أطلاح، من أرض الشام، وهى من وراء وادى القرى، فوجدوا جمعا كثيرا من جمعهم، فدعوهم إلى الإسلام، فلم يستجيبوا لهم، ورشقوهم بالنّبل، فلمّا رأى ذلك أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قاتلوهم أشدّ القتال حتى قتلوا، وأفلت منهم رجل جريح، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره الخبر، فشقّ ذلك عليه، وهمّ بالبعث إليهم، فبلغه أنهم قد ساروا إلى مواضع أخر، فتركهم. ذكر سريّة مؤتة ومؤتة «2» بأدنى البلقاء بالقرب من الكرك «3» . كانت هذه السريّة فى جمادى الأولى سنة ثمان من الهجرة. وسبب بعث هذه السريّة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث الحارث بن عمير الأزدىّ إلى ملك بصرى بكتاب، فلمّا نزل مؤتة عرض له شرحبيل بن عمرو الغسّانىّ، فقتله، ولم يقتل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم رسول غيره، فاشتدّ ذلك عليه، وندب الناس فأسرعوا وعسكروا بالجرف «4» ، وهم ثلاثة آلاف، الجزء: 17 ¦ الصفحة: 277 فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أمير القوم زيد بن حارثة، فإن قتل فجعفر بن أبى طالب، فإن قتل فعبد الله بن رواحة، فإن قتل فليرتض المسلمون بينهم رجلا فيجعلوه عليهم» ، وعقد لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لواء أبيض وسلّمه إلى زيد بن حارثة، وأوصاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير، وأن يدعوا من هناك إلى الإسلام «إن أجابوا، وإلّا فاستعينوا عليهم بالله وقاتلوهم» ، وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مشيّعا لهم حتّى بلغ ثنيّة الوداع «1» ، فوقف وودّعهم وانصرف عنهم. فقال عبد الله بن رواحة: خلف السلام على امرئ ودّعته ... فى النّخل خير مودّع «2» وخليل فلمّا ساروا من معسكرهم نادى المسلمون: دفع الله عنكم، وردّكم صالحين غانمين!. فقال ابن رواحة: لكنّنى أسأل الرحمن مغفرة ... وضربة ذات فرغ تقذف الزّبدا «3» فى أبيات «4» أخر. قال: فلمّا فصلوا «5» من المدينة سمع العدوّ بمسيرهم، فجمعوا لهم، وقام فيهم شرحبيل بن عمرو فجمع أكثر من مائة ألف، وقدّم الطلائع أمامه، الجزء: 17 ¦ الصفحة: 278 وقد نزل المسلمون معان «1» من أرض الشام، وبلغ الناس أن هرفل قد نزل مآب «2» من أرض البلقاء فى مائة ألف من بهراء ووائل وبكر ولخم وجذام والقين، عليهم رجل من بلىّ ثم أحد إراشة؛ يقال له: مالك بن زافلة «3» ، فأقاموا ليلتين لينظروا فى أمرهم، وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فشجّعهم عبد الله ابن رواحة، وقال: يا قوم، والله إنّ التى تكرهون للّتى خرجتم تطلبون؛ الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوّة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدّين الذى أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنّما هى إحدى الحسنين: إمّا ظهور «4» ، وإمّا شهادة. فقال الناس: قد والله صدق ابن رواحة. قال: فمضى الناس حتّى إذا كانوا بتخوم «5» البلقاء لقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب بقرية من قرى البلقاء يقال لها المشارف، ثم دنا العدوّ، وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة «6» ، ووافاهم المشركون، فجاء منهم ما لا قبل لأحد به من العدد والسلاح والكراع «7» والدّيباج والحرير والذهب الجزء: 17 ¦ الصفحة: 279 فعبّأ المسلمون، فجعلوا على ميمنتهم رجلا من بنى عدرة يقال له: قطبة بن قتادة، وعلى مسيرتهم رجلا من الأنصار يقال له: عباية بن مالك- ويقال: عبادة- ثم التقوا واقتتلوا، فقاتل زيد بن حارثة رضى الله عنه براية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى قتل طعنا بالرماح، ثم أخذ الراية جعفر بن أبى طالب، فنزل عن فرس له شقراء فعرقبها «1» ، فكانت أوّل فرس عرقبت فى الإسلام، وقاتل حتى قتل، ضربه رجل من الروم فقطعه نصفين فوجد فى أحد نصفيه بضعة وثمانون جرحا، ووجدنا فيما أقبل من بدنه «2» اثنتين وسبعين ضربة بسيف «3» وطعنة برمح. وحكى أبو محمد عبد الملك بن هشام أن جعفر بن أبى طالب أخذ اللّواء بيمينه فقطعت يده، فأخذه بشماله فقطعت، فاحتضنه بعضديه حتى قتل وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، فأثابه الله تعالى بذلك جناحين فى الجنّة يطير بهما حيث شاء. وقال محمد بن إسحاق: كان جعفر يقاتل وهو يقول: يا حبّذا الجنّة واقترابها ... طيّبة وباردا شرابها والرّوم روم قد دنا عذابها ... كافرة بعيدة أنسابها علىّ إن لاقيتها ضرابها قال: ولمّا قتل جعفر أخذ عبد الله بن رواحة الرّاية، ثم تقدّم بها وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه «4» ويتردّد بعض التردّد، ثم قال: أقسمت يا نفس لتنزلنّه ... لتنزلنّ أو لتكرّهنّه الجزء: 17 ¦ الصفحة: 280 إن أجلب الناس وشدّ والرّنّة «1» ... مالى أراك تكرهين الجنّة قد طال ما قد كنت مطمئنّة ... هل أنت إلّا نطفة فى شنّة «2» وقال أيضا رضى الله عنه: يا نفس إلّا تقتلى تموتى ... هذا حمام الموت قد صليت وما تمنّيت فقد أعطيت ... إن تفعلى فعلهما هديت وإن تولّيت فقد شقيت يريد بقوله: «فعلهما» صاحبيه زيدا وجعفرا؛ ثم نزل. فأتاه ابن عمّ له بعرق «3» من لحم، فقال: شدّ بهذا صلبك، فإنّك قد لقيت فى أيّامك هذه ما لقيت. فأخذه من يده فانتهس «4» منه نهسة، ثم سمع الحطمة «5» من ناحية الناس، فقال: وأنت فى الدنيا! ثم ألقاه من يده، وأخذ سيفه وتقدّم، فقاتل حتى قتل. ثم أخذ الراية ثابت بن أرقم، وقال: يا معشر الناس «6» ، اصطلحوا على رجل منكم؛ فقالوا: أنت؛ قال: ما أنا بفاعل. فاصطلح الناس على خالد بن الوليد، فلمّا أخذ الراية دافع القوم، وحاشى «7» بهم، ثم انحاز وانحيز عنه، وانكشف. فكانت الجزء: 17 ¦ الصفحة: 281 الهزيمة، فتبعهم المشركون، فقتل من قتل من المسلمين، ورفعت الأرض لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى نظر إلى معترك القوم، فلما أخذ خالد بن الوليد اللواء قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الآن حمى الوطيس «1» » . قال محمد بن إسحاق: ولمّا أصيب القوم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قتل شهيدا، ثم أخذها جعفر فقاتل بها حتى قتل شهيدا» ، ثم صمت حتى تغيّرت وجوه الأنصار، وظنّوا أنّه قد كان فى عبد الله ابن رواحة بعض ما يكرهون؛ فقال: «ثم أخذها عبد الله بن رواحة فقاتل بها حتى قتل شهيدا» . قال ابن إسحاق: وكان قطبة بن قتادة العذرىّ حمل على مالك بن زافلة فقتله وهو على المائة ألف الّتى اجتمعت من العرب، فقال فى ذلك: طعنت ابن زافلة بن الإراش ... برمح مضى فيه ثمّ انحطم «2» ضربت على جيده ضربة ... فمال كما مال غصن السلم «3» قال: ولمّا سمع أهل المدينة بإقبال جيش مؤتة تلقّوهم بالجرف، فجعل الناس يحثون فى وجوههم التراب ويقولون: يا فرّار، فررتم فى سبيل الله؟ فيقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ليسوا بفرّار، ولكنّهم كرّار إن شاء الله» . الجزء: 17 ¦ الصفحة: 282 ذكر تسمية من استشهد من المسلمين يوم مؤتة استشهد من قريش ومواليهم أربعة نفر، وهم: جعفر بن أبى طالب، وزيد ابن حارثة مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومسعود بن الأسود بن حارثة ابن نضلة، ووهب بن سعد بن أبى سرح. واستشهد من الأنصار: عبد الله ابن رواحة، وعبّاد بن قيس، والحارث بن النعمان بن إساف، وسراقة بن عمرو وأبو كليب وجابر ابنا عمرو بن زيد، وعمرو وعامر ابنا سعد بن الحارث بن عبّاد، رضوان الله عليهم أجمعين. ذكر سريّة عمرو بن العاص إلى ذات السّلاسل «1» وهى وراء وادى القرى، وبينها وبين المدينة عشرة أيام، وكانت فى جمادى الآخرة سنة ثمان من الهجرة. وسبب بعث هذه السريّة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلغه أنّ جمعا من قضاعة قد تجمّعوا يريدون أن يدنوا إلى أطراف «2» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فدعا عمرو بن العاص فعقد له لواء أبيض، وجعل معه راية سوداء، وبعثه فى ثلاثمائة من سراة «3» المهاجرين والأنصار، ومعهم ثلاثون فرسا، وأمره أن يستعين بمن يمرّ به من بلىّ «4» وعدرة وبلقين، فسار الليل وكمن النهار، فلمّا قرب من القوم بلغه أنّ لهم جمعا كثيرا، فبعث رافع بن مكيث «5» الجهنىّ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 283 إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يستمدّه، فبعث إليه أبا عبيدة بن الجرّاح فى مائتين، وعقد له لواء، وبعث معه سراة المهاجرين والأنصار، وفيهم أبو بكر وعمر، وأمره أن يلحق بعمرو، وأن يكونا جميعا ولا يختلفا، فلحق بعمرو؛ فأراد أبو عبيدة أن يؤمّ الناس، فقال عمرو: إنما قدمت علىّ مددا، وأنا الأمير، فأطاع له بذلك أبو عبيدة «1» ، وسار حتى وطئ بلاد بلىّ، ودوّخها حتى أتى إلى أقصى بلادهم وبلاد عذرة وبلقين، ولقى فى آخر ذلك جمعا، فحمل عليهم المسلمون، فهربوا فى البلاد وتفرّقوا، ثم قفل وبعث عوف بن مالك الأشجعىّ بريدا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فأخبره بقفولهم وسلامتهم وما كان فى غزاتهم. ذكر سريّة أبى عبيدة بن الجرّاح، وهى سريّة الخبط «2» بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبا عبيدة بن الجرّاح فى شهر رجب سنة ثمان من الهجرة فى ثلاثمائة من المهاجرين والأنصار، وفيهم عمر بن الخطّاب- رضى الله عنه- إلى حىّ من جهينة بالقبليّة مما يلى ساحل البحر، وبينها وبين المدينة خمس ليال، فأصابهم فى الطريق جوع شديد، فأكلوا الخبط، وابتاع قيس بن سعد جزورا ونحرها لهم. روى عن عبادة بن الصامت قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سريّة إلى سيف «3» البحر، عليهم أبو عبيدة بن الجرّاح، وزوّدهم جرابا من تمر، فجعل يقوتهم إيّاه حتى صاروا إلى أن يعدّه لهم عدّا، ثم نفد التمر حتى كان يعطى كلّ رجل منهم كلّ يوم تمرة، فقسمها يوما بيننا، فنقصت تمرة عن رجل، قال: فوجدنا فقدها ذلك الجزء: 17 ¦ الصفحة: 284 اليوم، فلمّا جهدنا الجوع أخرج الله لنا دابّة «1» من البحر فأصبنا من لحمها وودكها، «2» فأقمنا عليها عشرين ليلة حتى سمنّا وابتللنا «3» ، وأخذ أميرنا ضلعا من أضلاعها فوضعه على طريقه، ثم أمر بأجسم بعير معنا فحمل عليه أجسم رجل منّا، فخرج من تحتها وما مسّت رأسه، فلمّا قدمنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخبرناه خبرها، وسألناه عمّا صنعنا فى ذلك من أكلنا إيّاها، فقال: «رزق رزقكموه الله» . قال ابن سعد: وانصرفوا ولم يلقوا كيدا. ذكر سريّة أبى قتادة بن ربعىّ الأنصارىّ إلى خضرة وهى أرض محارب بنجد قالوا: بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شعبان سنة ثمان من الهجرة ومعه خمسة عشر رجلا إلى غطفان، وأمره أن يشنّ عليهم الغارة، فسار الليل وكمن النهار، فهجم على حاضر منهم عظيم، فأحاط به، فصرخ رجل منهم: يا خضرة وقاتل منهم رجال، فقتلوا من أشرافهم «4» ، واستاقوا النّعم، فكانت الإبل مائتى بعير، والغنم ألفى شاة، وسبوا سبيا كثيرا، وجمعوا الغنائم، فأخرجوا الخمس، وقسموا ما بقى على السريّة، فأصاب كلّ رجل منهم اثنا عشر بعيرا، وعدل البعير بعشر من الجزء: 17 ¦ الصفحة: 285 الغنم، وصارت فى سهم أبى قتادة جارية وضيئة، فاستوهبها منه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فوهبها له، فوهبها صلّى الله عليه وسلّم لمحميّة بن جزء. وغابوا فى هذه السريّة خمس عشرة ليلة. ذكر سريّة أبى قتادة بن ربعىّ الأنصارىّ إلى بطن إضم كانت هذه السريّة فى أوّل شهر رمضان سنة ثمان من هجرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قالوا: لمّا همّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بغزو أهل مكّة بعث أبا قتادة فى ثمانية نفر سريّة إلى بطن إضم- وهى فيما بين ذى خشب وذى المروة وبينها وبين المدينة ثلاثة برد- ليظنّ ظانّ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم توجّه إلى تلك الناحية، ولأن تذهب بذلك الأخبار، وكان فى السريّة محلّم بن جثّامة اللّيثى، فمرّ عامر بن الأضبط الأشجعىّ، فسلّم بتحيّة الإسلام، فأمسك عنه القوم، وحمل عليه محلّم بن جثّامة فقتله لشىء كان بينهما، وسلبه بعيره ومتاعه، فلمّا لحقوا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم نزل فيهم من القرآن قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ «1» ) الآية. فمضوا ولم يلقوا جمعا فانصرفوا حتى انتهوا إلى ذى خشب، فبلغهم أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد توجّه إلى مكّة، فأخذوا على يين «2» ، حتى لقوا النبىّ صلّى الله عليه وسلّم بالسّقيا. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 286 ذكر غزوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عام الفتح والسبب الّذى أوجب نقض العهد وفسخ الهدنة كانت هذه الغزوة فى شهر رمضان سنة ثمان من مهاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعلى رأس اثنين وعشرين شهرا من صلح الحديبية. وسبب ذلك أنّه لمّا دخل شعبان من هذه السنة كلّمت بنو نفاثة- وهم من بنى بكر- أشراف قريش أن يعينوهم على خزاعة بالرّجال والسلاح، وكانت خزاعة قد دخلت فى عقد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعهده يوم الحديبية كما قدّمنا ذكر ذلك، ودخلت بنو بكر فى عقد قريش وعهدها، قالوا: فلمّا سألوهم ذلك وعدوهم ووافوهم بالوتير «1» متنكّرين متنقّبين، فيهم صفوان بن أميّة، وحويطب بن عبد العزّى، ومكرز بن حفص بن الأخيف، فبيّتوا خزاعة ليلا، وهم غارّون «2» آمنون فقتلوا منهم عشرين رجلا، ثم ندمت قريش على ما صنعت، وعلموا أن هذا نقض للمدّة والعهد الّذى بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وخرج عمرو بن سالم الخزاعىّ فى أربعين راكبا من خزاعة، فقدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخبرونه بالّذى أصابهم ويستنصرونه. قال ابن إسحاق: قدم عمرو بن سالم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، فوقف ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالس فى المسجد بين ظهرانى الناس، فقال: يا ربّ إنّى ناشد محمّدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا «3» قد كنتم ولدا وكنّا والدا ... ثمّت أسلمنا فلم ننزع يدا «4» الجزء: 17 ¦ الصفحة: 287 فانصر هداك الله نصرا أبدا «1» ... وادع عباد الله يأتوا مددا فيهم رسول الله قد تجرّدا ... إن سيم خسفا وجهه تربّدا «2» فى فيلق «3» كالبحر يجرى مزبدا ... إن قريشا أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكّدا ... وجعلوا لى فى كداء رصّدا «4» وزعموا أن لست أدعو أحدا ... وهم أذلّ وأقلّ عددا هم بيّتونا بالوتير هجّدا ... وقتّلونا ركّعا وسجّدا «5» يقول: قتلنا وقد أسلمنا، ويروى بدل قوله: ... قد كنتم ولدا وكنّا والدا نحن ولدناكم فكنت ولدا قال: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نصرت يا عمرو بن سالم» . وروى محمد بن سعد فى طبقاته، قال: فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يجرّ رداءه ويقول: «لا نصرت إن لم أنصر بنى كعب ممّا أنصر منه نفسى» . ثم عرض له سحاب، فقال: إن هذا السحاب ليستهلّ بنصر بنى كعب. قال محمد بن إسحاق: وقدم بديل بن ورقاء فى نفر من خزاعة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأخبره بما أصيب منهم، وبمظاهرة قريش بنى بكر عليهم الجزء: 17 ¦ الصفحة: 288 ثم انصرفوا راجعين إلى مكّة، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: «كأنّكم بأبى سفيان قد جاءكم ليشدّ العقد ويزيد فى المدّة» ، ومضى بديل بن ورقاء وأصحابه حتى لقوا أبا سفيان بن حرب بعسفان «1» ، قد بعثته قريش إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليشدّ العقد، ويزيد فى المدّة، فقال له أبو سفيان: من أين أقبلت يا بديل؟ قال: تسيّرت فى خزاعة فى هذا الساحل وفى بطن هذا الوادى؛ قال: أو ما جئت محمّدا؟ قال: لا، وفارقه، فقال أبو سفيان: لئن كان بديل جاء إلى يثرب لقد علف النوى بها، فأتى مبرك راحلته فأخذ من بعرها ففتّه، فرأى فيه النوى، فقال: أحلف بالله لقد جاء بديل محمّدا؛ ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على محمّد صلّى الله عليه وسلّم، فدخل على ابنته أمّ حبيبة، وذهب ليجلس على فراش النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فطوته، فقال: يا بنيّة، ما أدرى أرغبت بى عن هذا الفراش، أم رغبت به عنّى، قالت: بل هو فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأنت رجل مشرك نجس، فلم أحبّ أن تجلس على فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فقال: والله لقد أصابك بعدى يا بنيّة شرّ، ثم خرج حتّى أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكلّمه، فلم يردّ عليه شيئا، ثم ذهب إلى أبى بكر وكلّمه أن يكلّم «2» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: ما أنا بفاعل؛ ثم أتى عمر بن الخطّاب فكلّمه، فقال: أنا أشفع لكم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فو الله لو لم أجد إلّا الذّرّ لجاهدتكم به؛ ثم دخل على علىّ بن أبى طالب، وعنده فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعندها الحسن ابنها غلام يدب بين يديها، فقال: يا علىّ، الجزء: 17 ¦ الصفحة: 289 إنّك أمسّ القوم بى رحما، وإنى قد جئت فى حاجة فلا أرجعنّ «1» كما جئت خائبا، فاشفع لى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: ويحك يا أبا سفيان، والله لقد عزم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أمر ما نستطيع أن نكلّمه فيه، فالتفت إلى فاطمة فقال: يا بنت محمّد، هل لك أن تأمرى بنيّك هذا فيجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟ قالت: والله ما بلغ بنىّ ذاك أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فقال: يا أبا الحسن، إنى أرى الأمور قد اشتدّت علىّ، فانصحنى، قال: والله ما أعلم شيئا يغنى عنك، ولكنّك سيّد بنى كنانة. فقم فأجر بين الناس، ثم الحق بأرضك، قال: أو ترى ذلك مغنيا عنّى شيئا؟ قال: لا والله، ما أظنّه، ولكن لا أجد لك غير ذلك، فقام أبو سفيان فى المسجد فقال: أيّها الناس، إنّى قد أجرت بين الناس، ثم ركب بعيره وانطلق، فلمّا قدم مكّة على قريش قالوا: ما وراءك؟ قال: جئت محمدا فكلّمته، فو الله ما ردّ علىّ شيئا، ثم جئت ابن أبى قحافة فلم أجد فيه خيرا، ثم جئت ابن الخطّاب فوجدته أعدى العدوّ، ثمّ جئت «2» عليّا فوجدته ألين القوم، وقد أشار علىّ بشىء صنعته، فو الله ما أدرى هل يغنى شيئا أم لا؟ قالوا: وبم أمرك؟ قال: أمرنى أن أجير بين الناس، ففعلت، قالوا: فهل أجاز ذلك محمد؟ قال: لا؛ قالوا: ويلك، والله إن زاد الرجل على أن لعب منك «3» ، فما يغنى عنك ما فعلت «4» ، ثم تجهّز الجزء: 17 ¦ الصفحة: 290 رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأخفى مقصده، ثم أعلم الناس أنه سائر إلى مكّة، وامرهم بالجدّ والتهيّؤ، وقال: «اللهمّ خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها فى بلادها» . والله المعين. ذكر خبر حاطب بن أبى بلتعة فى كتابه إلى أهل مكّة، وإعلام الله تعالى نبيّه صلّى الله عليه وسلّم بذلك، وأخذه الكتاب، وما أنزل الله عزّ وجلّ فى ذلك من القرآن قال: ولمّا أجمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسير إلى مكّة كتب حاطب ابن أبى بلتعة كتابا إلى قريش يخبرهم بالذى أجمع عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الأمر فى المسير إليهم، ثم أعطاه امرأة يقال إنها من مزينة- وقيل: هى سارة مولاة لبعض بنى عبد المطلب- وجعل لها جعلا على أن تبلغه قريشا، فجعلته فى رأسها ثم قتلت عليه قرونها وخرجت به، وأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الخبر من السماء بما صنع حاطب، فبعث علىّ بن أبى طالب، والزبير بن العوّام رضى الله عنهما، وقال: أدركا امرأة قد كتب معها حاطب كتابا إلى قريش يحذّرهم ما قد أجمعنا فى أمرهم، فخرجا فأدركاها بالخليفة، خليفة بنى أبى أحمد، فاستنزلاها والتمسا فى رحلها فلم يجدا شيئا، فقال لها علىّ: أحلف بالله لتخرجنّ لنا هذا الكتاب أو لنفتّشنّك، فقالت: أعرض عنّى، فأعرض، فحلّت قرون «1» رأسها فاستخرجت الكتاب ودفعته إليه، فأتيا به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فدعا حاطبا فقال: «ما حملك على هذا» ؟. قال: يا رسول الله، أما والله إنى لمؤمن بالله وبرسوله، ما غيّرت الجزء: 17 ¦ الصفحة: 291 وما بدّلت، ولكنّنى امرؤ ليس لى فى القوم من أصل ولا عشيرة، ولى بين أظهرهم ولد وأهل، فصانعتهم عليهم، فقال عمر: يا رسول الله، دعنى أضرب عنقه، فإنّ الرجل قد نافق، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وما يدريك يا عمر، لعلّ الله قد اطّلع على أصحاب بدر يوم بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» . هذه رواية محمد بن إسحاق. وقال الشيخ أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبىّ رحمه الله: إن المرأة سارة مولاة عمرو بن صيفىّ بن هاشم بن عبد مناف، وإنها أتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مكّة إلى المدينة ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتجهّز لفتح مكة، فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أمسلمة جئت» ؟ قالت: لا. قال: «أمهاجرة جئت» ؟ قالت: لا؛ قال: «فما حاجتك» ؟ قالت: كنت كثيرة العشيرة والأصل والموالى، وقد ذهبت موالى، واحتجت حاجة شديدة، فقدمت عليكم لتعطونى وتكسونى وتحملونى. قال لها: «فأين أنت من شباب أهل مكّة» ، وكانت مغنيّة نائحة، قالت: ما طلب منّى شىء بعد وقعة بدر: فحثّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم بنى عبد المطّلب وبنى المطّلب فكسوها وحملوها وأعطوها نفقة؛ فأتاها حاطب بن أبى بلتعة حليف بنى أسد بن عبد العزّى، فكتب معها إلى أهل مكّة كتابا، وأعطاها عشرة دنانير. قال الثعلبىّ: هذه رواية زاذان عن ابن عبّاس رضى الله عنهما، قال: وقال مقاتل بن حيّان: أعطاها عشرة دراهم وكساها بردا على أن توصل الكتاب إلى أهل مكّة، وكتب فى الكتاب: «من حاطب بن أبى بلتعة إلى أهل مكّة، إن الجزء: 17 ¦ الصفحة: 292 رسول الله يريدكم، فخذوا حذركم» . فخرجت سارة، ونزل جبريل، فأخبر النبىّ صلّى الله عليه وسلّم بما فعل حاطب، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليّا، وعمر، والزبير، وطلحة، وعمارا، والمقداد بن الأسود، وأبا مرثد، وكانوا كلّهم فرسانا، وقال لهم: «انطلقوا حتّى تأتوا روضة خاخ «1» فإنّ بها ظعينة معها كتاب من حاطب بن أبى بلتعة إلى المشركين، فخذوه منها، وخلّوا سبيلها، وإن لم تدفعه إليكم فاضربوا عنقها» فخرجوا حتى أدركوها فى ذلك المكان الّذى قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا لها: أين الكتاب؟ فحلفت بالله ما معها كتاب، فبحثوها، وفتّشوا متاعها فلم يجدوا معها كتابا، فهمّوا بالرجوع، فقال علىّ رضى الله عنه: والله ما كذبنا ولا كذبنا، وسلّ سيفه، وقال لها: أخرجى الكتاب وإلّا والله لأجردنّك، ولأضربنّ عنقك، فلمّا رأت الجدّ أخرجته من ذوائبها قد خبأته فى شعرها، فخلّوا سبيلها، ولم يتعرّضوا لما معها، ورجعوا بالكتاب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأرسل إلى حاطب فأتاه، فقال له: «هل تعرف الكتاب» ؟ قال: نعم، قال: «ما حملك على ما صنعت» ؟ فقال: يا رسول الله، ما كفرت منذ أسلمت، ولا غششتك من نصحتك، ولا أحببتهم منذ فارقتهم، ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلّا وله بمكة من يمنع عشيرته، وكنت غريبا فيهم، وكان أهلي بين ظهرانيهم، فخشيت على أهلى، فأردت أن أنخذ عندهم يدا، وقد علمت أن الله ينزل بهم بأسه، وأنّ كتابى لا يغنى عنهم شيئا، فصدّقه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعذره، فقام الجزء: 17 ¦ الصفحة: 293 عمر بن الخطّاب فقال: يا رسول الله، دعنى أضرب عنق هذا المنافق؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وما يدريك يا عمر، لعل الله قد اطلع على أهل بدر يوم بدر فقال لهم: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم يوم بدر» . وأنزل الله عزّ وجلّ فى شأن حاطب ومكاتبته المشركين قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ «1» ) ، قال: أى من مكّة لأن آمنتم بالله ربّكم؛ قال: فى الكلام تقديم وتأخير، ونظم الآية: (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ) ، ثم قال تعالى: (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) ، ثم قال تعالى: (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) قال: يثقفوكم يروكم ويظهروا «2» ، (وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ) أى بالقتل، (وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ) أى بالشتم، (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) فلا تناصحوهم فإنهم لا يناصحونكم ولا يوادّونكم. قوله تعالى: (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) قال: معنى الآية: لا تدعونّكم قراباتكم ولا أولادكم التى بمكة إلى خيانة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين، وترك مناصحتهم وموالاة أعدائهم، ومظاهرتهم، فلن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم التى عصيتم الله لأجلهم الجزء: 17 ¦ الصفحة: 294 (يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) فيدخل أهل طاعته والإيمان به الجنة، ويدخل أهل معصيته والكفر به النار. قوله تعالى: (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ «1» ) الآية، ثم قال تعالى: (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ «2» ) قال: قوله: (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ «3» ) يعنى فى إبراهيم ومن معه من الأنبياء والأولياء؛ قال: فلما نزلت هذه الآية عادى المؤمنون أقرباءهم من المشركين فى الله، وأظهروا لهم العداوة والبراءة، فعلم الله تعالى شدّة وجد المؤمنين بذلك، فأنزل: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ «4» ) ؛ قال: ففعل الله عزّ وجل ذلك بأن أسلم كثير من مشركى مكّة، فصاروا للمؤمنين أولياء وإخوانا، وخالطوهم وناكحوهم. قوله تعالى: (لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ «5» ) معناه: أن تعدلوا فيهم بالإحسان والبرّ، واختلف العلماء فيمن نزلت فيهم هذه الآية، فقال ابن عباس: نزلت فى خزاعة، منهم هلال بن عويمر، وخزيمة، وسراقة بن مالك ابن جعشم، وبنو مدلج، وكانوا صالحوا النبىّ صلّى الله عليه وسلّم على ألّا يقاتلوه ولا يعينوا عليه أحدا. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 295 وقال عبد الله بن الزبير: نزلت فى أسماء بنت أبى بكر رضى الله عنهم، وذلك أنّ أمّها قتيلة بنت عبد العزّى بن عبد أسعد من بنى مالك بن حسل قدمت عليها المدينة بهدايا وهى مشركة، فقالت أسماء: لا أقبل منك هديّة، ولا تدخلى علىّ بيتى حتى أستأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فسألت لها عائشة رضى الله عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية، فأمرها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن تدخلها عليها منزلها، وتقبل هديّتها، وتحسن إليها، وتكرمها. وقال مرّة الهمذانىّ وعطية العوفىّ: نزلت فى قوم من بنى هاشم، منهم العباس. ثم قال تعالى: (إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ «1» ) قال: وهم مشركو مكّة. فلنرجع إلى أخبار غزوة الفتح. ذكر خروج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المدينة إلى مكّة، ومن جاءه فى طريقه قبل دخوله مكّة قال: ولمّا تهيّأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للغزاة بعث إلى من حوله من العرب فجلبهم، وهم أسلم، وغفار، ومزينة، وجهينة، وأشجع، وسليم، فمنهم من وافاه بالمدينة، ومنهم من لحقه فى الطريق، وكان المسلمون فى غزوة الفتح عشرة آلاف، واستخلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على المدينة عبد الله بن أمّ مكتوم؛ قاله محمد بن سعد. وقال محمد بن إسحاق، وأبو بكر أحمد البيهقى: استخلف على المدينة أبا رهم كلثوم بن حصين بن عتبة بن خلف الغفارى، وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المدينة يوم الأربعاء لعشر ليال خلون من شهر رمضان بعد العصر، فلمّا انتهى الجزء: 17 ¦ الصفحة: 296 إلى الصلصل «1» قدم أمامه الزبير بن العوّام فى مائة من المسلمين، وصام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصام الناس حتى إذا كان بالكديد «2» بين عسفان «3» وأمج «4» أفطر، ونادى مناديه: من أحبّ أن يفطر فليفطر، ومن أحبّ أن يصوم فليصم. قال ابن سعد: فلما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقديد «5» عقد الألوية والرايات ودفعها إلى القبائل. قال محمد بن إسحاق: ثم مضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى نزل مرّ الظّهران «6» وهو فى عشرة آلاف من المسلمين، فسبّعت «7» سليم، وبعضهم يقول: ألّفت مزينة، وفى كلّ القبائل عدد وإسلام، وأوعب معه المهاجرون والأنصار. قال: ولما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى بعض الطريق لقيه عمّه العباس بن عبد المطلب. قال ابن هشام: لقيه بالجحفة «8» مهاجرا بعياله، وكان قبل ذلك بمكّة على سقايته، وقد قدّمنا أنه أسلم عند انصراف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من غزوة بدر، قال: ولقيه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وعبد الله بن أبى أمية بن المغيرة، لقياه بنيق العقاب «9» بين مكة والمدينة، والتمسا الدخول عليه، وكلّمته أمّ سلمة رضى الله عنها فيهما، فقالت: يا رسول الله، ابن عمك، وابن عمتك وصهرك. فقال: «لا حاجة لى بهما، أما ابن عمى فهتك عرضى، وأما ابن عمّتى وصهرى فهو الذى قال لى بمكة ما قال» ، فلما خرج الخبر بذلك إليهما ومع أبى سفيان بنىّ له الجزء: 17 ¦ الصفحة: 297 قال: والله لتأذننّ لى أو لآخذنّ بيد بنىّ هذا، ثم لنذهبنّ فى الأرض حتى نموت عطشا وجوعا؛ فلمّا بلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رقّ لهما، ثم أذن لهما فدخلا عليه، فأسلما، وأنشد أبو سفيان بن الحارث يتعذر ممّا كان قد مضى من فعله، فقال: لعمرك إنّى يوم أحمل راية ... لتغلب خيل اللّات خيل محمد لكا لمدلج الحيران أظلم ليله ... فهذا أوانى حين أهدى واهتدى هدانى هاد غير نفسى ودلّنى ... على الحقّ من طرّدت كلّ مطرّد «1» أصدّ وأنأى جاهدا عن محمد ... وأدعى وإن لم أنتسب من محمد هم ما هم من لم يقل بهواهم ... وإن كان ذا رأى يلم «2» ويفنّد أريد لأرضيهم ولست بلائط ... مع القوم ما لم أهد فى كلّ مقعد «3» فقل لثقيف: لا أريد قتالها ... وقل لثقيف تلك: غيرى أوعدى فما كنت فى الجيش الذى نال عامرا ... وما كان عن جرّا لسانى ولا يدى قبائل جاءت من بلاد بعيدة ... نزائع «4» جاءت من سهام «5» وسردد قال: ولمّا بلغ إنشاده قوله: «من طرّدت كل مطرّد» ضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى صدره وقال: «أنت طرّدتنى كل مطرّد» . قال: ولمّا نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرّ الظّهران نزلها عشيّا، وأمر أصحابه فأوقدوا عشرة آلاف نار، وقد عميت الأخبار عن قريش فلا يأتيهم خبر الجزء: 17 ¦ الصفحة: 298 عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال العباس بن عبد المطلب: واصباح قريش، والله لئن دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكّة عنوة قبل أن يأتوه فيستأمنوه إنّه لهلاك قريش إلى آخر الدهر. قال العبّاس: فجلست على بغلة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم البيضاء، فخرجت عليها حتى جئت الأراك «1» ، فقلت: لعلّى أجد بعض الحطّابة أو صاحب لبن، أو ذا حاجة يأتى مكّة، فيخبرهم بمكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ليخرجوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخلها عليهم عنوة. ذكر مجىء العبّاس بأبى سفيان بن حرب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإسلام أبى سفيان، وخبر الفتح قال العباس بن عبد المطلب رضى الله عنه: وكان أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء قد خرجوا فى تلك الليالى يتحسّسون الأخبار، وينظرون هل يجدون خبرا أو يسمعون به، فو الله إنّى لأسير على بغلة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ألتمس ما خرجت له، إذ سمعت كلام أبى سفيان وبديل ابن ورقاء وهما يتراجعان، وأبو سفيان يقول: ما رأيت كالليلة نيرانا قطّ ولا عسكرا، فيقول له بديل: هذه والله خزاعة قد حمستها «2» الحرب، فيقول أبو سفيان: خزاعة أذلّ وأقلّ أن تكون هذه نيرانها وعسكرها، قال العباس: فعرفت صوته، فقلت: يا أبا حنظلة، فعرف صوتى، فقال: يا أبا الفضل، قلت: نعم، قال: مالك فداك أبى وأمّى! قلت: ويحك يا أبا سفيان! هذا رسول الله فى الناس، واصباح قريش والله! الجزء: 17 ¦ الصفحة: 299 قال: فما الحيلة فداك أبى وأمّى!، قال: قلت: والله لئن ظفر بك ليضربنّ عنقك، فاركب فى عجز هذه البغلة حتى آتى بك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأستأمنه لك؛ قال: فركب خلفى، ورجع صاحباه؛ قال: فجئت به، كلّما مررت بنار من نيران المسلمين قالوا: من هذا؟ فإذا رأوا بغلة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا عليها قالوا: عمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على بغلته، حتى مررت بنار عمر ابن الخطّاب. قال ابن سعد: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد استعمل عمر تلك الليلة على الحرس؛ قال العباس: فقال عمر: من هذا؟ وقام إلىّ، فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابّة قال: أبو سفيان عدوّ الله! الحمد لله الذى أمكن منك بغير عقد ولا عهد، ثم خرج يشتدّ نحو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وركضت البلغة فسبقته، فاقتحمت عن البلغة، ودخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودخل عمر، فقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان قد أمكن منه بغير عقد ولا عهد، فدعنى أضرب عنقه. قال العبّاس، قلت: يا رسول الله، قد أجرته، ثم جلست إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأخذت برأسه وقلت: والله لا يناجيه الليلة رجل دونى، فلمّا أكثر عمر فى شأنه قلت: مهلا يا عمر، فو الله أن لو كان من رجال بنى عدىّ بن كعب ما قلت هذا، ولكنّك قد عرفت أنّه من رجال بنى عبد مناف؛ فقال عمر: مهلا يا عبّاس، فو الله لإسلامك يوم أسلمت كان أحبّ إلىّ من إسلام الخطّاب لو أسلم، وما بى إلا أنى قد عرفت أن إسلامك كان أحبّ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من إسلام الخطاب لو أسلم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اذهب به يا عبّاس إلى رحلك، فإذا أصبحت فأتنى به» ؛ قال: فذهبت به إلى رحلى، فبات عندى، فلما أصبح غدوت الجزء: 17 ¦ الصفحة: 300 به إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلمّا رآه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن «1» لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله» ، قال: بأبى أنت وأمّى! ما أحملك وأكرمك وأوصلك، والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى شيئا بعد؛ قال: «ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنى رسول الله» ؟؛ قال: بأبى أنت وأمى! ما أحملك وأكرمك وأوصلك! أما والله هذه فإنّ فى النفس منها حتّى الآن شيئا؛ فقال له العبّاس: ويحك! أسلم واشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله قبل أن تضرب عنقك؛ قال: فشهد شهادة الحقّ، فقلت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحبّ هذا الفخر، فاجعل له شيئا. قال: «نعم، من دخل دار أبى سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن» ؛ فلمّا ذهب لينصرف قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا عبّاس، احتبسه بمضيق الوادى عند خطم الجبل «2» حتى تمرّ به جنود الله فيراها» . قال: فخرجت به حتى حبسته حيث أمرنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن أحبسه؛ قال: ومرّت القبائل على راياتها كلّما مرّت قبيلة قال: يا عبّاس، من هذه؟. فأقول: سليم، فيقول: ما لى ولسليم، ثم تمرّ القبيلة، فيقول: من هذه؟ فأقول: مزينة، فيقول: ما لى ولمزينة، حتى مرّت القبائل، فما تمرّ قبيلة إلّا سألنى عنها، فإذا أخبرته بهم، قال: ما لى ولبنى فلان! حتى مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى كتيته الخضراء، فيها المهاجرون والأنصار- وإنّما سمّيت بالخضراء لكثرة الحديد وظهوره فيها- وهم لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد، فقال: سبحان الله يا عبّاس! من هؤلاء؟ قلت: هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الجزء: 17 ¦ الصفحة: 301 فى المهاجرين والأنصار، فقال: ما لأحد بهؤلاء من قبل ولا طاقة، والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما. قلت: ويحك! إنها النبوّة، قال: فنعم إذا، ثم قلت: النّجاة «1» إلى قومك، فسار حتى إذا جاءهم صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبى سفيان فهو آمن، فقامت إليه هند بنت عتبة فأخذت بشار به، فقالت: اقتلوا الحميت «2» الدّسم الأحمس، قبح من طليعة قوم! قال: ويلكم! لا تغرنّكم هذه من أنفسكم، فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به، فمن دخل دارى فهو آمن، قالوا: قاتلك الله! وما تغنى عنّا دارك؟ قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. فتفرّق الناس إلى دورهم وإلى المسجد. والله يؤيّد بنصره من يشاء. ذكر دخول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه مكّة شرّفها الله تعالى صلحا، ودخول خالد بن الوليد ومن معه من القبائل عنوة قال: ولما انتهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى ذى طوى «3» ، وقف على راحلته معتجرا «4» بشقّة برد حبرة حمراء وإنه ليضع رأسه تواضعا لله تعالى حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إنّ عثنونه ليكاد يمسّ واسط الرحل، ثم فرّق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الجيش من ذى طوى، وكانت راية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ مع سعد بن عبادة رضى الله عنه، فأمر رسول الله صلّى الله الجزء: 17 ¦ الصفحة: 302 عليه وسلّم الزبير بن العوّام، وكان على المجنّبة اليسرى أن يدخل فى بعض الناس من كدى «1» ، وأمر سعد بن عبادة أن يدخل ببعض الناس من كدء «2» ، فلمّا وجّه سعد للدخول قال: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحلّ الحرمة، وفى رواية تستحلّ الكعبة؛ فسمعها عمر بن الخطّاب رضى الله عنه فقال: يا رسول الله، اسمع ما قال سعد بن عبادة، ما نأمن أن يكون له فى قريش صولة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعلىّ بن أبى طالب: «أدركه فخذ الراية منه، فادخل أنت بها» . حكاه ابن إسحاق. وقال محمد بن سعد: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخذ الراية من سعد ودفعها لابنه قيس بن سعد. وذكر يحيى بن سعد الأموىّ فى السّير: أن سعد بن عبادة لمّا أخذ الراية مرّ على أبى سفيان، فقال سعد إذ نظر إليه: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحلّ الحرمة، اليوم أذلّ الله قريشا، فأقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى كتيبة الأنصار حتّى إذا حاذى أبا سفيان ناداه: يا رسول الله، أمرت بقتل قومك؟ فإنه زعم سعد ومن معه حين مرّ بنا أنه قاتلنا، وقال: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحلّ الحرمة، اليوم أذلّ الله قريشا؛ وإنى أنشدك الله فى قومك، فأنت أبرّ الناس وأوصلهم وأرحمهم. وقال عثمان وعبد الرحمن بن عوف: يا رسول الله، والله ما نأمن سعدا أن تكون منه فى قريش صولة؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا أبا سفيان، اليوم يوم المرحمة، اليوم أعزّ الله فيه قريشا» . وقال ضرار بن الخطّاب الفهرىّ يومئذ: الجزء: 17 ¦ الصفحة: 303 يا نبىّ الهدى إليك لجا «1» حىّ قريش ولات حين لجاء حين ضاقت عليهم سعة الأر ... ض وعاداهم إله السّماء والتقت حلقتا البطان على القوم ... ونودوا بالصيلم الصّلعاء «2» إنّ سعدا يريد قاصمة الظهر ... بأهل الحجون والبطحاء خزرجىّ لو يستطيع من الغيظ ... رمانا بالنّسر والعوّاء «3» وغر الصّدر لايهمّ بشىء ... غير سفك الدّما وهتك النساء قد تلظّى على البطاح وجاءت ... عنه هند بالسّوءة السّوآء إذ ينادى بذلّ حىّ قريش ... وآبن حرب بدا من الشّهداء فائن أقحم اللواء ونادى ... يا حماة اللّواء أهل اللّواء ثم ثابت إليه من بهم الخز ... رج والأوس أنجم الهيجاء لتكوننّ بالبطاح قريش ... فقعة القاع فى أكفّ الإماء «4» فانهينه فإنّه أسد الأس ... د لدى الغاب والغ فى الدماء إنّه مطرق يريد لنا الأم ... ر سكوتا كالحيّة الصّمّاء «5» قال: فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى سعد بن عبادة فنزع اللواء من يده، وجعله بيد قيس ابنه، ورأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن اللواء لم يخرج الجزء: 17 ¦ الصفحة: 304 عنه إذ صار إلى ابنه، وأبى سعد أن يسلّم اللواء إلّا بأمارة من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأرسل إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعمامته، فعرفها سعد، فدفع اللواء إلى ابنه قيس. قال: وأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خالد بن الوليد، وكان على المجنّبة اليمنى، أن يدخل ببعض الناس من اللّيط أسفل مكّة، وكان معه: أسلم، وسليم وغفار، ومزينة، وجهينة، وقبائل من العرب، وأقبل أبو عبيدة بن الجرّاح بالصفّ من المسلمين ينصبّ لمكّة بين يدى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ودخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أذاخر «1» ، حتى نزل بأعلى مكة، وضربت له هناك قبّة، ونهى عن القتال، وعبر أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الأماكن التى أمرهم صلّى الله عليه وسلّم أن يدخلوا منها، لم يلقوا كيدا، إلّا خالد بن الوليد فإن صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبى جهل، وسهيل بن عمرو جمعوا جمعا من قريش، ووقفوا بالخندمة «2» ليقاتلوا خالد بن الوليد، ويمنعوه من الدخول، وشهروا السلاح وروموا بالنّبل، فصاح خالد فى أصحابه وقاتلهم، فقتل أربعة وعشرون رجلا من قريش، وأربعة نفر من هذيل، وانهزموا أقبح هزيمة، فلما ظهر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ثنيّة أذاخر رأى البارقة «3» فقال: «ألم أنه عن القتال» ؟ فقيل: يا رسول الله، إنّ خالد بن الوليد قوتل فقاتل؛ فقال: «قضاء الله خير» ، وقتل من المسلمين رجلان كانا سلكا طريقا غير طريق خالد فقتلا، وهما كرز بن جابر الفهرىّ، وحبيش «4» بن خالد الخزاعىّ. قاله محمد بن سعد. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 305 وقال ابن إسحاق: قتل من المشركين يومئذ اثنا عشر أو ثلاثة عشر رجلا. وقال: وقد كان حماس بن قيس بن خالد أخو بنى بكر يعدّ سلاحا ويصلح منه قبل دخول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالت له امرأته: لماذا تعدّ ما أرى؟ قال: لمحمد وأصحابه، قالت: والله ما أراه يقوم لمحمّد وأصحابه شىء؛ قال: والله إنى لأرجو أن أخدمك بعضهم، ثم قال: إن يقبلوا اليوم فمالى علّه ... هذا سلاح كامل وألّه «1» وذو غرارين سريع السّلّة «2» ثم شهد يوم الخندمة، فلما انهزم القوم دخل على امرأته وقال: أغلقى علىّ بابى؛ قالت: فأين الذى كنت تقول؟ فقال: إنّك لو شهدت يوم الخندمة ... إذ فرّ صفوان وفرّ عكرمة وأبو يزيد قائم كالمؤتمة «3» ... واستقبلتهم بالسيوف المسلمه يقطعن كلّ ساعد وجمجمة ... ضربا فلا تسمع إلا غمغمه «4» لهم نهيت خلفنا وهمهمه ... لا تنطقى فى اللّوم أدنى كلمه «5» قال ابن هشام: ويروى للرعّاش الهذلىّ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 306 وكان ممن فرّ يومئذ هبيرة بن أبى وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، وهو زوج أمّ هانئ بنت أبى طالب أخت علىّ لأبويه؛ فأسلمت، وهرب هبيرة إلى نجران، وقال معتذرا من فراره: لعمرك ما ولّيت ظهرى محمّدا ... وأصحابه جبنا ولا خيفة القتل ولكننى قلّبت أمرى فلم أجد ... لسيفى غناء إن ضربت ولا نبلى وقفت فلمّا خفت ضيعة موقفى ... رجعت لعود كالهزير إلى الشّبل قال ابن هشام: وكان شعار أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم فتح مكة وحنين والطائف: شعار المهاجرين: يا بنى عبد الرحمن، وشعار الخزرج: يا بنى عبد الله، وشعار الأوس: يا بنى عبيد الله؛ وكان الفتح يوم الجمعة لعشر بقين من رمضان. ذكر من أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقتلهم يوم فتح مكّة وسبب ذلك، ومن قتل منهم، ومن نجا بإسلامه قالوا: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أمر أصحابه بقتل ستّة نفر وأربع نسوة، وإن وجدوا تحت أستار الكعبة، وهم: عكرمة بن أبى جهل، وهبّار ابن الأسود، وعبد الله بن سعد بن أبى سرح، ومقيس بن صبابة الليثى، والحويرث ابن نقيذ بن وهب، وعبد الله بن هلال بن خطل الأدرمىّ، وهند بنت عتبة، وسارة مولاة عمرو بن هشام، وفرتنى، وقريبة. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 307 فأمّا عكرمة بن أبى جهل فإنه هرب إلى اليمن، وأسلمت امرأته أمّ حكيم بنت الحارث بن هشام، فاستأمنن له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأمّنه، فخرجت فى طلبه إلى اليمن حتى أتت به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأسلم وحسن إسلامه. حكى الزبير بن بكّار قال: لما أسلم عكرمة قال: يا رسول الله، علّمنى خير شىء تعلمه أقواله؛ فقال له النبى صلّى الله عليه وسلّم: «شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله» ، فقال عكرمة: أنا أشهد بهذا، وأشهد بذلك من حضرنى، وأسألك يا رسول الله أن تستغفر لى؛ فاستغفر له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فقال عكرمة: والله لا أدع نفقة كنت أنفقها فى صدّ عن سبيل الله إلّا أنفقت ضعفها فى سبيل الله، ولا قتالا قاتلته إلّا قاتلت ضعفه؛ ثم اجتهد فى الجهاد والعبادة حتى استشهد رحمه الله فى خلافة عمر بن الخطّاب بالشام؛ وقيل: استشهد فى آخر خلافة أبى بكر، قيل: فى يوم اليرموك. وقيل: فى يوم مرج «1» الصّفّر، وقيل: أجنادين «2» . والله أعلم. وأما عبد الله بن سعد بن أبى سرح، فإنه كان قد أسلم، وكان يكتب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم الوحى؛ فارتدّ ورجع إلى قريش، فلما كان يوم الفتح فرّ إلى عثمان بن عفّان رضى الله عنه، وهو أخوه من الرضاعة، فغيّبه حتى أتى به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فاستأمن له بعد أن اطمأن الناس؛ فزعموا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صمت طويلا، ثم قال: «نعم» ؛ فلما انصرف عنه عثمان قال لمن حوله من أصحابه: «لقد صمّت ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه» ، الجزء: 17 ¦ الصفحة: 308 فقال رجل من الأنصار: فهلّا أو مأت إلىّ يا رسول الله؟ فقال: «إن النبىّ لا يقتل بالإشارة» ، ثم أسلم عبد الله بن سعد بعد ذلك. وأمّا مقيس بن صبابة، فإن أخاه هشام بن صبابة كان قد صحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى غزوة بنى المصطلق بالمريسيع، فأصابه رجل من الأنصار من رهط عبادة بن الصامت وهو يرى أنه من العدوّ، فقتله خطأ، فقدم مقيس هذا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مكة إلى المدينة، وأظهر الإسلام، وقال: يا رسول الله، جئتك مسلما، وجئتك أطلب دية أخى، فأمر له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بدية أخيه، فأقام غير كثير، ثم عدا على قاتل أخيه فقتله، ثم خرج إلى مكّة مرتدّا، فنذر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قتله لذلك، فقتله نميلة بن عبد الله؛ رجل من قومه. وأما الحويرث بن نقيذ فقتله على بن أبى طالب رضى الله عنه، لأنه كان يؤذى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان العباس بن عبد المطلب حمل بنتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاطمة وأمّ كلثوم من مكّة يريد بهما المدينة، فرمى بهما الحويرث إلى الأرض. وأمّا عبد الله بن خطل، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقتله لأنه كان مسلما، فبعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مصدّقا «1» ، وبعث معه رجلا من الأنصار، وكان معه مولى له يخدمه وهو مسلم، فنزل منزلا وأمر المولى أن يذبح له تيسا، فيصنع له طعاما، فنام واستيقظ ولم يصنع له شيئا، فقتله ثم ارتدّ، وكانت فرتنى وقريبة قينتاه تغنيّان بهجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقتل ابن خطل الجزء: 17 ¦ الصفحة: 309 سعيد بن حريث المخزومىّ، وأبو برزة الأسلمىّ، اشتركا فى دمه، وقتلت إحدى قينتيه وهربت الأخرى، حتى استؤمن لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأمّنها. وهند بنت عتبة أسلمت. ولما أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم البيعة على النساء، ومن الشرط فيها ألّا يسرقن ولا يزنين، قالت: وهل تزنى الحرّة أو تسرق يا رسول الله؟ فلما قال: «ولا تقتلن أولادكن» ، قالت: قد ربّيناهم صغارا، وقتّلتهم أنت ببدر كبارا، أو نحو هذا من القول، وشكت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّ زوجها أبا سفيان شحيح لا يعطيها من الطعام ما يكفيها وولدها، فقال: «خذى من ماله بالمعروف ما يكفيك أنت وولدك» . وأما سارة فاستؤمن لها، فأمّنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وأما هبّار فإنه هرب فلم يوجد، ثم أسلم بعد الفتح وحسن إسلامه. ذكر إسلام أبى قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرّة بن كعب روى محمد بن إسحاق بسنده إلى أسماء بنت أبى بكر الصدّيق رضى الله عنهما قالت: لما وقف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ذى طوى قال أبو قحافة لابنة له من أصغر ولده: أى بنيّة، اظهرى بى على جبل أبى قبيس- قالت: وكان قد كفّ بصره- فأشرفت به عليه فقال لها: أى بنيّة؛ ماذا ترين؟ قالت: أرى سوادا مجتمعا، قال: تلك الخيل؛ قالت: وأرى رجلا يسعى بين يدى ذلك السواد مقبلا ومدبرا؛ قال: أى بنيّه، ذلك الوازع،- يعنى الذى يأمر الخيل ويتقدّم إليها- ثم قالت: قد والله انتشر السواد؛ فقال: قد والله إذا دفعت الخيل، فأسرعى بى إلى بيتى؛ قالت: فانحطت به، وتلقاه الخيل قبل أن يصل الجزء: 17 ¦ الصفحة: 310 إلى بيته؛ قالت: وفى عنق الجارية طوق من ورق «1» ، فتلقّاها رجل فاقتطعه من عنقها، فلما دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المسجد أتى أبو بكر بأبيه يقوده، فلما رآه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «هلّا تركت الشيخ فى بيته حتى أكون أنا آتيه فيه» ؟ قال أبو بكر: يا رسول الله، هو أحقّ أن يمشى إليك من أن تمشى إليه أنت، فأجلسه بين يديه، ثم مسح صدره، ثم قال له: «أسلم» ، قالت: فأسلم؛ قالت: فدخل به أبو بكر وكأنّ رأسه ثغامة «2» ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «غيّروا هذا من شعره» ، ثم قام أبو بكر فأخذ بيد أخته فقال: أنشد الله والإسلام طوق أختى؛ فلم يجبه أحد؛ قالت: فقال: أى أخيّة، احتسبى طوقك، فو الله إنّ الأمانة فى الناس اليوم القليل. وأسلم عبد الله بن الزبعرى عام الفتح وحسن إسلامه، وكان ممن يؤذى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أشدّ الأذى فى الجاهلية، فأسلم واعتذر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقبل عذره، وكان شاعرا مجيدا، فقال يمدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وله فى مدحه أشعار كثيرة ينسخ بها ما قد مضى فى كفره، منها قوله: منع الرقاد بلابل وهموم ... والليل معتلج الرّواق بهيم «3» ممّا أتانى أنّ أحمد لامنى ... فيه فبتّ كأننى محموم يا خير من حملت على أوصالها ... عيرانة سرح اليدين غشوم «4» الجزء: 17 ¦ الصفحة: 311 إنى لمعتذر إليك من الذى ... أسديت إذ أنا فى الضّلال مقيم أيام تأمرنى بأغوى خطّة ... سهم، وتأمرنى بها مخزوم وأمدّ أسباب الردى ويقودنى ... أمر الغواة، وأمرهم مشئوم فاليوم آمن بالنبىّ محمّد ... قلبى ومخطئ هذه محروم مضت العداوة وانقضت أسبابها ... وأتت أواصر بيننا وحلوم فاغفر فدى لك والدىّ كلاهما ... وارحم فإنك راحم مرحوم وعليك من سمة المليك علامة ... نور أغرّ وخاتم مختوم أعطاك بعد محبّة برهانه ... شرفا وبرهان الإله عظيم ذكر دخول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسجد، وطوافه بالبيت ودخوله الكعبة، وما فعل بالأصنام قال: ولما نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة واطمأنّ النّاس، خرج حتى جاء البيت، فطاف به سبعا على راحلته يستلم الرّكن بمحجن فى يده، فلما قضى طوافه دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة، ففتحت له، فدخلها، فوجد فيها حمامة من عيدان، فكسرها بيده وطرحها، ثم وقف على باب الكعبة فقال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده ألا كلّ مأثره «1» أو دم أو مال يدّعى فهو تحت قدمىّ هاتين إلّا سدانة البيت وسقاية الحاجّ؛ ألا وقتيل الخطأ شبه العمد بالسوط والعصا، ففيه الدية مغلّظة، مائة من الإبل، أربعون منها فى بطونها أولادها؛ يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهليّة وتعظّمها بالآباء. الناس من آدم، وآدم من تراب» ، ثم تلا قوله الجزء: 17 ¦ الصفحة: 312 تعالى: (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ «1» ) ؛ ثم قال: «يا معشر قريش، ما ترون أنّى فاعل فيكم» ؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم؛ قال: «اذهبوا فأنتم الطّلقاء» ؛ ثم جلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى المسجد، فقام إليه علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه ومفتاح الكعبة فى يده، فقال: يا رسول الله، اجمع لنا الحجابة مع السّقاية؛ فقال: «أين عثمان بن طلحة» ؟ فدعى له، فقال: «هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم برّ ووفاء» ؛ حكاه محمد بن إسحاق. وقال محمد بن سعد: دفع إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المفتاح وقال: «خذوها يا بنى أبى طلحة تالدة خالدة، لا ينزعها منكم إلّا ظالم» ؛ ودفع السقاية إلى العبّاس بن عبد المطّلب. قال عبد الملك بن هشام: حدّثنى بعض أهل العلم أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دخل البيت يوم الفتح فرأى فيه صور الملائكة وغيرهم، فرأى إبراهيم عليه السلام مصوّرا فى يده الأزلام يستقسم بها، فقال: «قاتلهم الله، جعلوا شيخنا يستقسم بالأزلام، ما شأن إبراهيم والأزلام، (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ «2» ) ثم أمر بتلك الصور كلّها فطمست. قال: ودخل الكعبة ومعه بلال بن رباح، فأمره أن يؤذّن، فأذّن وأبو سفيان بن حرب وعتّاب بن أسيد والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة، فقال عتّاب بن أسيد: أكرم الله أسيدا ألّا يكون سمع هذا فيسمع ما يغيظه؛ فقال الحارث: أما والله لو أعلم أنه محقّ لاتّبعته؛ فقال أبو سفيان: لا أقول شيئا الجزء: 17 ¦ الصفحة: 313 لو تكملت لأخبرت عنّى هذه الحصى؛ فخرج عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «قد علمت الّذى قلتم» ، ثم ذكر ذلك لهم، فقال الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول الله، والله ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول: أخبرك. وقال أبو محمد بن هشام بسند يرفعه إلى ابن عباس رضى الله عنهما: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دخل مكّة يوم الفتح على راحلته، فطاف عليها وحول البيت أصنام مشدودة بالرّصاص، فجعل النبى صلّى الله عليه وسلّم يشير بقضيب فى يده إلى الأصنام ويقول: (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) «1» ، فما أشار صلّى الله عليه وسلّم إلى صنم منها فى وجهه إلّا وقع لقفاه، ولا لقفاه إلّا وقع لوجهه، حتى ما بقى منها صنم إلّا وقع. قال محمد بن سعد: كان حول الكعبة ثلاثمائة وستّون صنما، وكان أعظمها هبل، وساق الحديث نحو ما تقدّم، فقال تميم بن أسد الخزاعىّ فى ذلك: وفى الأصنام معتبر وعلم ... لمن يرجو الثواب أو العقابا قال: ولما كان من الغد يوم الفتح خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد الظهر فقال: «إن الله قد حرّم مكّة يوم خلق السموات والأرض، فهى حرام إلى يوم القيامة، ولم تحلّ لى إلّا ساعة من نهار، ثم رجعت لحرمتها بالأمس، فليبلّغ شاهدكم غائبكم، ولا يحلّ لنا من غنائمها شىء» ، وأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة خمس عشرة ليلة يصلّى ركعتين ركعتين، وبثّ السرايا، ثم خرج إلى حنين. ذكر سريّة خالد بن الوليد إلى العزّى وهدمها قالوا: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خالد بن الوليد إلى العزّى ليهدمها، وذلك بعد الفتح، لخمس ليال بقين من شهر رمضان سنة ثمان، فخرج فى ثلاثين فارسا الجزء: 17 ¦ الصفحة: 314 من أصحابه حتى انتهوا إليها فهدمها، ثم رجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره، فقال: «هل رأيت شيئا» ؟ قال: لا، قال: «فإنك لم تهدمها، فارجع إليها فاهدمها» ؛ فرجع خالد وهو متغيّظ، فجرّد سيفه، فخرجت إليه امرأة عربانة سوداء تاثرة «1» الرأس فجعل السادن يصيح بها، فضربها خالد فجزلها اثنتين، ورجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره، فقال: «نعم، تلك العزّى، وقد يئست أن تعبد ببلادكم أبدا» ، وكانت لقريش وجميع بنى كنانة، وكانت أعظم أصنامهم، وكان سدنتها بنو شيبان من بنى سليم. ذكر سريّة عمرو بن العاص إلى سواع وكسره بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شهر رمضان بعد الفتح أيضا إلى سواع، وهو صنم هذيل ليهدمه؛ قال عمرو: فانتهيت إليه وعنده السادن، فقال: ما تريد؟ قلت: أمرنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن أهدمه. قال: لا تقدر على ذلك؛ قلت: لم؟ قال: تمتّع؛ قلت: حتى الآن أنت فى الباطل ويحك! وهل يسمع أو يبصر؟ قال: فدنوت منه فكسرته، وأمرت أصحابى فهدموا بيت خزانته فلم يجدوا فيه شيئا؛ ثم قلت للسادن: كيف رأيت؟ قال: أسلمت لله. ذكر سريّة سعد بن زيد الأشهلىّ إلى مناة بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شهر رمضان أيضا إلى مناة- وكانت بالمشلّل «2» للأوس والخزرج وغسّان- ليهدمها، فخرج فى عشرين فارسا حتى انتهى إليها وعليها سادن، فقال له السادن: ما تريد؟ قال: هدم مناة؛ قال: أنت وذاك، فأقبل سعد يمشى إليها، وتخرج إليه امرأة عريانة سوداء ثائرة الرأس تدعو بالويل الجزء: 17 ¦ الصفحة: 315 وتضرب صدرها؛ فقال السادن: مناة دونك بعض غضباتك؛ ويضربها سعد بن زيد فيقتلها، ويقبل إلى الصنم معه أصحابه، ولم يجدوا فى خزانتها شيئا، وانصرف راجعا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان ذلك لست بقين من شهر رمضان. ذكر سريّة خالد بن الوليد إلى بنى جذيمة بن عامر ابن عبد مناة بن كنانة، وهو يوم الغميصاء قالوا: لما رجع خالد بن الوليد من هدم العزّى، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقيم بمكة، بعثه فى شوّال إلى بنى جذيمة بن عامر، وكانوا أسفل مكة على ليلة منها بناحية يلملم؛ داعيا إلى الإسلام، ولم يبعثه مقاتلا، فخرج فى ثلاثمائة وخمسين رجلا من المهاجرين والأنصار وبنى سليم، فانتهى إليهم خالد بن الوليد، فقال: ما أنتم؟ قالوا: مسلمون، قد صلّينا وصدّقنا بمحمد، وبنينا المساجد فى ساحاتنا، وأذّنّا فيها؛ قال: فما بال السلاح عليكم؟ فقالوا: إنّ بيننا وبين بعض العرب عداوة، فخفنا أن تكونوا هم، فأخذنا السلاح؛ قال: فضعوا السلاح؛ قال: فوضعوه، فقال لهم: استأسروا؛ فاستأسر القوم، فأمر بعضهم فكتف بعض وفرّقهم فى أصحابه، فلما كان فى السّحر نادى خالد: من كان معه أسير فليدافّه؛ أى فليجهز عليه بالسيف. فأمّا بنو سليم فقتلوا من كان فى أيديهم، وأمّا المهاجرون والأنصار فأرسلوا أساراهم، فبلغ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم ما صنع خالد، فقال: «اللهم إنى أبرأ إليك مما صنع خالد» ؛ وبعث علىّ بن أبى طالب فودى «1» لهم قتلاهم وما ذهب منهم. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 316 وقد حكى أبو الفرج على بن الحسين الأصفهانى «1» ، خبر هذه السريّة فى قصة عبد الله بن علقمة أحد بنى عامر بن عبد مناة بن كنانة وخبر مقتله، وذكر خبره مع حبيشة، فروى بسند رفعه إلى ابن دأب قال: كان من حديث عبد الله بن علقمة أنه خرج مع أمه وهو إذ ذاك يفعة: دون المحتلم، لتزور جارة لها، وكانت لها بنت يقال لها: حبيشة إحدى بنات عامر بن عبد مناة، فلما رآها عبد الله بن علقمة أعجبته ووقعت فى نفسه؛ فانصرف وترك أمّه عند جارتها، فبقيت عندها يومين، ثم أتاها ليرجعها إلى منزله، فوجد حبيشة قد زيّنت لأمر كان فى الحىّ، فازداد بها عجبا، وانصرف بأمّه فى غداة تمطر، فمشى معها وجعل يقول: فما أدرى بلى إنّى لأدرى ... أصوب القطر أحسن أم حبيش حبيشة والذى خلق الهدايا ... وما إن عندها للصبّ عيش «2» قال: فسمعت ذلك حبيشة، فتغافلت عنه، وكرهت قوله، ثم مشى مليّا فإذا هو بظبى على ربوة من الأرض، فقال: يا أمّتا خبّرينى غير كاذبة ... وما يريد مسول الحق بالكذب أأنت أحسن أم ظبى برابية ... لابل حبيشة فى عينى وفى أربى قال: فزجرته أمّه، وقالت: ما أنت وهذا، أنا مزوّجتك بنت عمّك، فهى أجمل من تلك، وأتت امرأة عمّه فأخبرتها خبره وقالت: زيّنى ابنتك له، ففعلت وأدخلتها عليه، فلما رآها أطرق، فقالت له أمّه: أيهما الآن أحسن؟ فقال: الجزء: 17 ¦ الصفحة: 317 إذا غيّبت عنّى حبيشه مرّة ... من الدهر لم أملك عزاء ولا صبرا كأنّ الحشا حرّ السعير يحشّه «1» ... وقود الغضى فالقلب مضطرم جمرا قال: وجعل يراسل الجارية وتراسله، حتى علقته كما علقها، وكثر قوله الشعر فيها، فمن ذلك قوله «2» : حبيشة هل جدّى وجدّك جامع ... بشملكم شملى وأهلكم أهلى؟ وهل أنا ملتّف بثوبك مرّة ... بصحراء بين الأيكتين إلى النّخل؟ ومرتشف من ريق ثغرك مرّة ... كراح ومسك خالطا عسل النّحل فلما بلغ أهلها خبره، حجبوها عنه مدّة، وهو يزيد غراما بها، ويكثر قوله الشعر فيها، فأتوها فقالوا لها: عديه السّرحة، فإذا أتاك فقولى له: نشدتك الله إن أحببتنى فما على الأرض شىء أبغض إلىّ منك، ونحن قريب نسمع ما تقولين؛ فواعدته، وجلسوا قريبا يسمعون، وجلست عند السرحة، وأقبل عبد الله لموعدها، فلمّا دنا منها دمعت عينها، والتفتت حيث أهلها جلوس، فعرف أنهم قريب، فرجع، وبلغه ما أمروها به أن تقوله، فأنشأ يقول: فلو قلت ما قالوا لزدت جوى جو «3» ... على أنه لم يبق ستر ولا صبر ولم يك حبّى عن نوال بذلته ... فيسلينى عنك التجلّد والهجر «4» وما أنس م الأشياء لم أنس دمعها ... ونظرتها حتى يغيّبنى القبر الجزء: 17 ¦ الصفحة: 318 قال: وبعث النبىّ صلّى الله عليه وسلّم على أثر ذلك خالد بن الوليد إنى بنى عامر، وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلّا قاتلهم، فصبحهم خالد بالغميصاء وقد علموا به وخافوه، وكانوا قد قتلوا الفاكه بن الوليد وعمّه الفاكه بن المغيرة فى الجاهلية، فلمّا صبحهم خالد ومعه بنو سليم وهم يطلبونهم بمالك ابن خالد بن صخهر بن الشريد، وإخوته كرز وعمرو والحارث، وكانوا قتلوهم فى موطن واحد. فلما صبحهم خالد ورأوا معه بنى سليم زادهم ذلك نفورا، فقال لهم خالد: أسلموا، فقالوا: نحن مسلمون؛ قال: فألقوا سلاحكم وانزلوا، قالوا: لا والله؛ فقال لهم حذيم «1» بن الحارث أحد بنى أقرم: يا قوم، لا تلقوا سلاحكم، فو الله ما بعد وضع السلاح إلّا القتل؛ قالوا: والله لا نلقى سلاحنا ولا ننزل، فما نحن لك ولا لمن معك بآمنين؛ قال خالد: فلا أمان لكم؛ فنزلت فرقة منهم فأسروهم، وتفرّق بقيّة القوم فرقتين؛ فأصعدت فرقة وسفلت أخرى. قال ابن دأب: فأخبرنى من لا أتّهم عن عبيد الله بن أبى حدود الأسلمىّ قال: كنت يومئذ فى جند خالد، فبعثنا فى إثر ظعن مصعدة يسوق بها فتية، فقال: أدركوا أولئك؛ فخرجنا فى أثرهم حتى أدركناهم، فمضوا ووقف لنا غلام على الطريق، فلما انتهينا إليه جعل يقاتلنا ويرتجز ويقول: أرخين أطراف الذّيول وارتعن «2» ... مشى حييّات كأن لم يفزعن إن يمنع اليوم نساء تمنعن فقاتلنا طويلا، فقتلناه ومضينا، حتى لحقنا الظّعن، فخرج إلينا غلام كأنه الأوّل، فجعل يقاتلنا ويقول: الجزء: 17 ¦ الصفحة: 319 أقسم ما إن خادر ذو لبدة «1» ... يرزم «2» بين أيكة ووهده يفرس ثنيان الرجال وحده ... بأصدق الغمداة منّى نجده فقاتلناه حتى قتلناه، وأدركنا الظّعن، وإذا فيهن غلام وضىء به صفرة فى لونه كالمنهوك، فربطناه بحبل، وقدّمناه لنقتله، فقال: هل لكم فى خير؟ قلنا: ما هو؟ قال: تدركون بى الظعن أسفل الوادى ثم تقتلوننى؛ قلنا: نفعل؛ فخرجنا حتى نعارض الظّعن بأسفل الوادى، فلمّا كان بحيث يسمعون الصوت، نادى بأعلى صوته: اسلمى حبيش، عند فقد العيش؛ فأقبلت إليه جارية بيضاء حسناء؛ فقالت: وأنت فأسلم على كثرة الأعداء، وشدّة البلاء؛ قال: سلام عليك دهرا، وإن بقيت عصرا؛ فقالت: وأنت سلام عليك عشرا، وشفعا ووترا، وثلاثة تترى؛ فقال: إن يقتلونى يا حبيش فلم يدع ... هواك لهم منّى سوى غلّة الصدر فأنت الّتى أخليت لحمى من دمى ... وعظمى وأسبلت الدموع على نحرى فقالت له: ونحن بكينا من فراقك مرّة ... وأخرى وآسيناك فى العسر واليسر وأنت فلا تبعد فنعم فتى الهوى ... جميل العفاف والمودّة فى ستر فقال لها: أريتك إن طالبتكم فوجدتكم ... بحرّة «3» أو أدركتكم بالخوانق «4» ألم يك حقّا أن ينوّل عاشق ... تكلّف إدلاج السّرى والودائق» الجزء: 17 ¦ الصفحة: 320 فقالت: بلى والله، فقال: فلا ذنب لى قد قلت إذ نحن جيرة ... أثيبى بودّ قبل إحدى الصّفائق «1» أثيبى بودّ قبل أن تشحط النّوى ... وينأى الخليط بالحبيب المفارق قال ابن أبى حدود: فقدّمناه فضربنا عنقه، فاقتحمت الجارية من خدرها حتى أهوت نحوه، فالتقمت فاه، فنزعنا منها رأسه، وإنها لتتبّع نفسها «2» حتى ماتت مكانها، وأفلت من القوم غلام من بنى أقرم يقال له السّميدع حتى اقتحم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأخبره ما صنع خالد وشكاه. قال ابن دأب: فأخبرنى صالح بن كيسان أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «هل أنكر عليه أحد ما صنع» ؟ قال: نعم، رجل أصفر «3» ربعة، ورجل طويل أحمر؛ فقال عمر رضى الله عنه: أنا والله يا رسول الله أعرفها، أمّا الأوّل فهو ابنى، وأمّا الآخر فمولى أبى حذيفة، وكان خالد قد أمر كلّ من أسر أسيرا أن يقتله، فأطلق عبد الله بن عمر وسالم مولى أبى حذيفة أسيرين كانا معهما، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علىّ بن أبى طالب بعد فراغه من حنين، وبعث معه بإبل وورق، وأمره أن يديهم، فوادهم. ورجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فسأله، فقال: قدمت عليهم فقلت لهم: هل لكم أن تقبلوا هذا بما أصيب منكم من القتلى والجرحى، وتحلّلوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ممّا علم وممّا لم يعلم؟، فقالوا: نعم، قال: فدفعته إليهم، وجعلت أديهم حتى إنّى لأدى ميلغ «4» الكلب، الجزء: 17 ¦ الصفحة: 321 وفضلت فضلة فدفعتها إليهم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أقبلوها» ؟ قلت: نعم؛ قال: «فو الذى أنا عبده لذاك أحبّ إلىّ من حمر النّعم» . وروى أبو الفرج أيضا «1» بسند رفعه إلى عمر بن شبّة، قال: قالوا: يروى أن خالدا أتى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فسئل عن غزاته بنى جذيمة، فقال: إن أذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تحدّثت، فقال: «تحدّث» ، فقال: لقيناهم بالغميصاء بعد وجه الصبح، فقاتلناهم حتى كاد قرن الشمس يغيب، فمنحنا الله عز وجل أكتافهم، فاتبعناهم نطلبهم، فإذا غلام له ذوائب على فرس فى أخريات الناس، فبوّأت «2» له الرمح فوضعته بين كتفيه. فقال: لا إله، فقبضت الرمح، فقال: إلّا اللّات أحسنت أو أساءت، فهشمته هشمة أرديته بها، ثم أخذته أسيرا، فشددته وثاقا، ثم كلّمته فلم يكلّمنى، واستخبرته فلم يخبرنى؛ فلما كان ببعض الطريق رأى نسوة من بنى جذيمة يسوق بهنّ المسلمون، فقال: يا خالد، فقلت: ما تشاء؟ فقال: هل أنت واقفى «3» على هذه النسوة؟ فأبيت، فآلى «4» علىّ أصحابى، ففعلت، وفيهنّ جارية تدعى حبيشة، فقال: لها: ناولينى يدك، فناولته يدها فى ثوبها، فقال: اسلمى حبيش. قبل نفاد العيش. فقالت: حييّت عشرا، وتسعا تترى، وثمانيا أخرى، فقال: أريتك إذ طالبتكم فوجدتكم ... بنخلة «5» أو أدركتكم بالخوانق ألم يك حقّا أن ينوّل عاشق ... تكلّف إدلاج السّرى والودائق الجزء: 17 ¦ الصفحة: 322 فقالت: بلى، فقال: فقد قلت إذ أهلى وأهلك جيرة ... أثيبى بودّ قبل إحدى الصّفائق أثيبى بودّ قبل أن تشحط النّوى ... وينأى الأمير بالحبيب المفارق فإنى لا ضيعت سرّ أمانة ... ولا راق عينى بعد عينك رائق «1» قال خالد: فغاظنى ما رأيت من غزله وشعره فى حاله تلك، فقدّمته فضربت عنقه، فأقبلت الجارية تسعى حتى أخذت برأسه فوضعته فى حجرها، وجعلت ترشفه وتقول: لا تبعدن يا عمرو حيّا وهالكا ... ولا يبعدنّ المدح مثلك من مثلى «2» ولا تبعدن يا عمرو حيّا وهالكا ... فقد عشت محمود الثّنا ماجد الفعل فمن لطراد الخيل تشجر بالقنا ... وللنّحر يوما عند قرقرة البزل «3» فما زالت تبكى وتردّد هذه الأبيات حتى ماتت، وإنّ رأسه لفى حجرها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لقد وقفت لى يا خالد وإن سبعين ملكا لمطيفون بك يحضّونك على قتل عمرو حتى قتلته» . والله أعلم. ذكر غزوة حنين، وهى إلى هوازن وثقيف غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شوّال سنة ثمان من مهاجره، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما فتح مكّة، مشت أشراف هوازن وثقيف بعضها إلى بعض، وحشدوا وأوعبوا وبغوا، وجمع أمرهم مالك بن عوف النّصرى، وهو يومئذ ابن ثلاثين سنة، وأمرهم فجاءوا معهم بأموالهم ونسائهم وأبنائهم حتى نزلوا بأوطاس «4» ، وجعلت الأمداد تأتيهم. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 323 قال محمد بن إسحاق: اجتمع إليه مع هوازن ثقيف كلّها، ونصر، وجشم كلها، وسعد بكر، وناس من بنى هلال، وهم قليل. قال: ولم يشهدها من قيس عيلان إلّا هؤلاء، وغابت عنها من هوازن كعب وكلاب، ولم يشهدها منهم أحد له اسم؛ قال: وفى بنى جشم دريد بن الصّمّة، وهو شيخ كبير ليس فيه شىء إلا التّيمّن برأيه ومعرفته بالحرب. قال: وفى ثقيف سيّدان لهم فى الأحلاف: قارب بن الأسود ابن مسعود بن معتّب، وفى بنى مالك ذو الخمار سبيع بن الحارث بن مالك، وأخوه «1» . وقال أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبى: كان على ثقيف كنانة بن عبد ياليل بن عمرو بن عمير الثقفىّ. قال: وكان المشركون أربعة آلاف من هوازن وثقيف. قال ابن إسحاق: وجماع أمر الناس إلى مالك بن عوف. قال: ولما نزل مالك بأوطاس، اجتمع إليه الناس وفيهم دريد بن الصّمّة، والصّمّة: معاوية الأصغر بن بكر ابن علقة، وقيل: علقمة بن خزاعة بن غزيّة بن جشم بن معاوية بن بكر بن هوازن فى شجار له يقاد به- والشّجار الهودج- فلما نزل دريد قال: بأىّ واد أنتم؟ قالوا: بأوطاس، قال: نعم مجال الخيل، لا حزن ضرس، ولا سهل دهس «2» ، ثم قال: مالى أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار «3» الشاء؟ قالوا: ساق مالك بن عوف مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم، قال: أين مالك؟ قيل: هذا مالك، فقال: يا مالك، إنك قد أصبحت رئيس قومك، وإن هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام، مالى أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار الجزء: 17 ¦ الصفحة: 324 الشاء؟ قال: سقت مع الناس أموالهم وأبناءهم ونساءهم، قال: ولم؟ قال: أردت أن أجعل خلف كلّ رجل أهله وماله ليقاتل عنهم، قال: فأنقض به،- أى صاح- ثم قال: راعى ضأن والله! وهل يردّ المنهزم شىء! إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت فى أهلك ومالك، ثم قال: ما فعلت كعب وكلاب؟ قالوا: لم يشهدها منهم أحد، قال: غاب الحدّ والجدّ؛ ولو كان يوم علاء ورفعة لم تغب عنه كعب وكلاب، ولوددت أنكم فعلتم كما فعلت، فمن شهدها منكم؟ قالوا: عمرو بن عامر، وعوف بن عامر، قال: ذانك الجذعان من «1» عامر لا ينفعان ولا يضرّان، يا مالك: إنك لم تصنع بتقديم البيضة، بيضة «2» هوازن إلى نحور الخيل شيئا، ادفعهم إلى ممتنع بلادهم، وعليا قومهم، ثم ألق الصّبّاء «3» على متون الخيل، فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك ألفاك ذلك، قد أحرزت أهلك ومالك، قال: لا والله، لا أفعل، إنك قد كبرت وكبر عقلك، والله لتطيعنىّ يا معشر هوازن أو لأتّكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهرى. وكره أن يكون لدريد بن الصّمّة فيها ذكر ورأى، قالوا: أطعناك، فقال دريد: هذا يوم لم أشهده ولم يفتنى. يا ليتنى فيها جذع ... أخبّ فيها وأضع أقود وطفاء الزّمع ... كأنها شاة صدع «4» الجزء: 17 ¦ الصفحة: 325 ثم قال مالك بن عوف للناس: إذا رأيتموهم فاكسروا جفون سيوفكم، ثم شدوا شدّة رجل واحد؛ قال: وبعث مالك بن عوف عيونا من رجاله، فأتوه وقد تفرّقت أوصالهم من الرّعب، فقال: ويلكم! ما شأنكم؟ قالوا: رأينا رجالا بيضا، على خيل بلق، فو الله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى، فلم يردّه ذلك عن وجهه أن مضى على ما يريد. قال ابن إسحاق: ولما سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بخبرهم بعث إليهم عبد الله بن أبى حدود الأسلمىّ، وأمره أن يدخل فى الناس فيقيم فيهم حتى يعلم علمهم، ثم يأتيه بخبرهم، ففعل؛ ثم أقبل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره الخبر، فأجمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسير إلى هوازن لقتالهم، وذكر له أن عند صفوان بن أمية أدراعا وسلاحا، فأرسل إليه وهو يومئذ مشرك فقال: «أعرنا سلاحك نلق به عدوّنا» ؛ فقال: أغصبا يا محمد؟ فقال: «بل عاريّة مضمونة حتى نؤدّيها إليك» ؛ قال: ليس بهذا بأس؛ فأعطاه مائة درع بما يكفيها من السلاح، ثم خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مكة يوم السبت لستّ ليال خلون من شوّال فى اثنى عشر ألفا من المسلمين: عشرة آلاف من أصحابه الذين خرجوا معه ففتح بهم مكة، وألفان من أهل مكة. قال الثعلبىّ: قال مقاتل: كانوا أحد عشر ألفا وخمسمائة. وقال الكلبىّ: كانوا عشرة آلاف، وكانوا يومئذ أكثر ما كانوا قطّ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لن نغلب اليوم من قلّة» ، حكاه ابن إسحاق. وقال محمد بن سعد: قال ذلك أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه. قال الثعلبىّ: ويقال: بل قال ذلك رجل من المسلمين يقال له: سلمة بن سلامة. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 326 قال ابن سعد: وخرج مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ناس من المشركين كثير، منهم صفوان بن أمية. قال محمد بن إسحاق بسند يرفعه إلى الحارث بن مالك قال: خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى حنين، ونحن حديثو عهد بالجاهلية، وكان لكفار قريش ومن سواهم من العرب سدرة «1» عظيمة خضراء يقال لها ذات أنواط. يأتونها كل سنة يعلّقون أسلحتهم عليها، ويذبحون عندها، ويعكفون عليها يوما؛ قال: فرأينا ونحن نسير مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سدرة خضراء عظيمة، فتنادينا من جنبات الطريق: يا رسول الله. جعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال: «الله أكبر، قلتم والذى نفس محمد بيده كما قال قوم موسى لموسى: (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) «2» إنها السّنن، لتركبن سنن من كان قبلكم» ، قالوا: وانتهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى حنين مساء ليلة الثلاثاء لعشر خلون من شوّال، فلما كان من الليل عمد مالك بن عوف إلى أصحابه فعبأهم فى وادى حنين، وأوعز إليهم أن يحملوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه حملة واحدة، وعبأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصحابه فى السحر. وصفّهم صفوفا، ووضع الألوية والرايات فى أهلها مع المهاجرين: لواء يحمله علىّ بن أبى طالب، وراية يحملها سعد بن أبى وقّاص، وراية يحملها عمر بن الخطّاب، ولواء الخزرج يحمله حباب بن المنذر- ويقال: سعد بن عبادة- ولواء الأوس مع أسيد بن حضير، وفى كل بطن من الأوس والخزرج لواء وراية يحملها رجل منهم مسمّى. وكذلك قبائل العرب فيها الألوية والرايات يحملها قوم منهم مسمّون، وكان رسول الله صلّى الله عليه الجزء: 17 ¦ الصفحة: 327 وسلّم قد قدم سليما من يوم خرج من مكة، واستعمل عليهم خالد بن الوليد، فلم يزل على المقدّمة حتى قدم الجعرّانة. قال: وانحدر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى وادى حنين على تعبئته، وركب بغلته البيضاء «دلدل» ، ولبس درعين والمغفر والبيضة، فاستقبلهم من هوازن شىء لم يروا مثله قطّ من السواد والكثرة، وذلك فى غبش «1» الصبح وخرجت الكتائب من مضيق الوادى وسعته، فحملوا حملة، وانكشفت الخيل خيل بنى سليم مولّيه، وتبعهم الناس منهزمين، وانحاز رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات اليمين، وجعل يقول: يا أنصار الله وأنصار رسوله، أنا عبد الله ورسوله، وثبت معه يومئذ أبو بكر، وعمر، والعباس بن عبد المطلب، وعلىّ بن أبى طالب، والفضل بن العباس، وأبو سفيان واسمه المغيرة بن الحارث بن عبد المطلب، وأخوه ربيعة بن الحارث، وأسامة بن زيد، وأيمن بن أمّ أيمن بن عبيد فى أناس من أهل بيته وأصحابه. قال الكلبىّ: كان حول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ ثلاثمائة من المسلمين، وانهزم سائر الناس عنه، وجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول للعباس: ناد، يا معشر الأنصار، يا أصحاب السّمرة «2» ، يا أصحاب سورة البقرة، فنادى- وكان صيّتا- فأقبلوا كأنهم الإبل إذا حنت على أولادها يقولون: يا لبّيك يا لبّيك! فحملوا على المشركين، فأشرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنظر إلى قتالهم فقال: «الآن حمى الوطيس «3» . أنا النبىّ لا كذب ... أنا ابن عبد المطّلب» الجزء: 17 ¦ الصفحة: 328 ثم قال للعباس بن عبد المطلب: ناولنى حصيات، فناوله حصيات من الأرض، ثم قال: «شاهت الوجوه» ورمى بها وجوه المشركين، وقال: «انهزموا وربّ الكعبة» وقذف الله فى قلوبهم الرعب، وانهزموا لا يلوى أحد منهم على أحد. قال محمد بن إسحاق: لما انهزم الناس، ورأى من كان مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من جفاة مكّة الهزيمة، تكلّم رجال بما فى أنفسهم من الضّغن، فقال أبو سفيان بن حرب: لا تنتهى هزيمتهم دون البحر، وإن الأزلام لمعه فى كنانته، وصرخ جبلة بن الحنبل وهو مع أخيه صفوان بن أمية: ألا بطل السّحر اليوم! فقال له صفوان: اسكت فضّ الله فاك! فو الله لأن يربّنى «1» رجل من قريش أحبّ إلىّ من أن يربّنى رجل من هوازن؛ وقال شيبة بن عثمان بن أبى طلحة: اليوم أدرك ثأرى من محمد- وكان أبوه قتل يوم أحد- اليوم أقتل محمدا. قال: فبادرت لأقتله، فأقبل شىء حتى غشّى فؤادى، فلم أطق ذلك، فعلمت أنه ممنوع منّى. وفى رواية أخرى، قال شيبة بن عثمان: استدبرت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم حنين وأنا أريد أن أقتله بطلحة بن عثمان، وعثمان بن طلحة. فأطلع الله رسوله على ما فى نفسى، فالتقت إلىّ وضرب فى صدرى وقال: «أعيذك بالله يا شيبة» ، فأرعدت فرائصى، فنظرت إليه وهو أحبّ إلىّ من سمعى وبصرى فقلت: أشهد أنك رسول الله، وأنّ الله أطلعك على ما فى نفسى. وروى محمد بن إسحاق بسنده إلى العبّاس قال: إنى لمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آخذ بحكمة «2» بغلته البيضاء وقد شجرتها «3» بها، وكنت امرأ جسيما شديد الصوت، الجزء: 17 ¦ الصفحة: 329 ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول حين رأى ما رأى من الناس « [أين «1» ] أيها الناس» ، فلم أر الناس يلوون على شىء، فقال: «يا عباس، اصرخ، يا معشر الأنصار، يا معشر أصحاب السّمرة» قال: فأجابوا لبّيك لبّيك، قال: فيذهب الرجل ليثنى بعيره فلا يقدر على ذلك، ويأخذ درعه فيقذفها فى عنقه، ويأخذ سيفه وترسه ويقتحم عن بعيره ويخلى سبيله، فيؤمّ الصوت حتى ينتهى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حتى إذا اجتمع إليه منهم مائة استقبلوا الناس فاقتتلوا؛ فأشرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى ركائبه، فنظر إلى مجتلد «2» القوم، فقال: «الآن حمى الوطيس» . قال جابر بن عبد الله: فو الله ما رجعت راجعة الناس من هزيمتهم حتى وجدوا الأسارى مكتّفين عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال ابن إسحاق: والتفت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرأى أمّ سليم ابنة ملحان، وكانت مع زوجها أبى طلحة، وهى حازمة وسطها ببرد لها. وإنها لحامل بعبد الله بن أبى طلحة، ومعها جمل أبى طلحة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أمّ سليم» ؟ قالت: نعم، بأبى وأمّى يا رسول الله! اقتل هؤلاء الذين ينهزمون عنك كما تقتل الذين يقاتلونك فإنهم لذلك أهل؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أو يكفى الله يا أمّ سليم» ؟ قال: ومعها خنجر، فقال لها أبو طلحة: ما هذا الخنجر معك يا أمّ سليم؟ قالت: خنجر أخذته إن دنا منّى أحد من المشركين بعجته «3» به. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 330 وقال محمّد بن إسحاق: حدّثنى أبى إسحاق بن يسار أنه حدّث عن جبير ابن مطعم قال: لقد رأيت قبل هزيمة القوم والناس يقتتلون مثل البجاد «1» الأسود أقبل من السماء حتى سقط بيننا وبين القوم، فنظرت، فإذا نمل أسود مبثوث قد ملأ الوادى، لم أشكّ أنها الملائكة، ولم تكن إلّا هزيمة القوم. قال ابن إسحاق: ولما انهزم المشركون أتوا الطائف ومعهم مالك بن عوف، وعسكر بعضهم بأوطاس، وتوجّه بعضهم نحو نخلة «2» ، وتبعت خيل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من سلك فى نخلة من الناس، ولم تتبع من سلك الثّنايا، فأدرك ربيعة بن رفيع بن أهبان- وهو ابن الدّغنّة- دريد بن الصّمّة وهو فى شجار له أى هودج، فأخذ بخطام جمله وهو يظنّ أنه امرأة، فأناخ به، فإذا هو شيخ كبير والغلام لا يعرفه، فقال له دريد: ما تريد بى؟ قال: أقتلك؛ قال: ومن أنت؟ قال: أنا ربيعة بن رفيع السّلمىّ، ثم ضربه بسيفه فلم يغن فيه شيئا، فقال: بئس ما سلّحتك أمّك! خذ سيفى هذا من مؤخر الرّحل فى الشّجار، ثم اضرب به، وارفع عن العظام، واخفض عن الدّماغ، فإنّى كذلك كنت أضرب الرجال، ثم إذا أتيت أمّك فأخبرها أنك قتلت دريد بن الصّمة. فربّ والله يوم قد منعت فيه نساءك؛ فقتله. ولمّا رجع ربيعة إلى أمّه أخبرها بقتله إيّاه، فقالت: أما والله لقد أعتق أمّهات لك ثلاثا. قال ابن هشام: ويقال إن الذى قتل دريد بن الصّمّة هو عبد الله بن قنيع ابن أهبان بن ثعلبة بن ربيعة؛ قال: وبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى آثار من توجّه قبل أوطاس أبا عامر الأشعرىّ، فأدرك بعص من انهزم، فناوشوه القتال، فقتل منهم أبو عامر تسعة مبارزة وهو يدعو كلّ واحد منهم إلى الإسلام الجزء: 17 ¦ الصفحة: 331 ويقول: اللهم اشهد؛ ثم برز له العاشر معلما بعمامة صفراء، فضرب أبا عامر فقتله. واستخلف أبو عامر أبا موسى الأشعرىّ، فقاتلهم حتى فتح الله عليه، وقتل قاتل أبى عامر، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم اغفر لأبى عامر واجعله من أعلى أمتى فى الجنّة» ، ودعا لأبى موسى. وقال ابن هشام فى خبر أبى عامر: إنه قتل تسعة مبارزة يدعو كل واحد منهم إلى الإسلام ويقول: اللهم اشهد عليه، فيقتله أبو عامر، وبقى العاشر، فحمل كلّ منهما على صاحبه، فدعاه أبو عامر إلى الإسلام وقال: اللهم اشهد عليه، فقال الرجل: اللهم لا تشهد علىّ، فكفّ عنه أبو عامر، فأقلت، ثم أسلم بعد فحسن إسلامه، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا رآه قال: «هذا شريد أبى عامر» ، ورمى أبا عامر أخوان: العلاء وأوفى ابنا الحارث من بنى جشم ابن معاوية، فأصاب أحدهما قلبه. والآخر ركبته، فقتلاه، وولى الناس أبو موسى فحمل عليهما فقتلهما. وقال أبو الفرج الأصفهانى: إن الذى رمى أبا عامر فأصاب ركبته هو سلمة ابن دريد «1» بن الصّمّة. وإنه ارتجز فقال: إن تسألوا عنّى فإنّى سلمه ... ابن سمادير «2» لمن توسّمه أضرب بالسيف رءوس المسلمة قال: وخرج مالك بن عوف عند الهزيمة فوقف فى فوارس من قومه على ثنيّة من الطريق، وقال لأصحابه: قفوا حتى تمضى ضعفاؤكم وتلحق أخراكم، فوقف حتى مضى من لحق بهم من منهزمة الناس. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 332 قال ابن هشام: وبلغنى أنّ خيلا طلعت ومالك وأصحابه على الثنيّة، فقال لأصحابه: ماذا ترون؟ قالوا ترى قوما واضعى رماحهم بين آذان خيلهم، طويلة بوادّهم «1» فقال: هؤلاء بنو سليم، ولا بأس عليكم منهم؛ فلمّا أقبلوا سلكوا بطن الوادى، ثم طلعت خيل أخرى تتبعها، فقال لأصحابه: ماذا ترون؟ قالوا: نرى قوما عارضى رماحهم أغفالا «2» على خيلهم، فقال: هؤلاء الأوس والخزرج، ولا بأس عليكم منهم؛ فلما انتهوا إلى أصل الثنيّة سلكوا طريق بنى سليم، ثم طلع فارس فقال لأصحابه: ماذا ترون؟ قالوا: نرى فارسا طويل البادّ واضعا رمحه على عاتقه، عاصبا رأسه بملاءة حمراء، فقال: هذا الزبير بن العوّام، وأحلف باللات ليخالطنّكم، فاثبتوا له، فلما انتهى الزبير إلى أصل الثنية، أبصر القوم فصمد لهم، فلم يزل يطاعنهم حتى أزاحهم عنها. قالوا: ولما انهزم القوم أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقتل من قدر عليه، فحنق المسلمون عليهم، فقتلوا الذرّيّة والنساء، فمرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ بامرأة قد قتلها خالد بن الوليد، فقال: «ما هذه» ؟ قالوا: امرأة قتلها خالد بن الوليد، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لبعض من معه: «أدرك خالد بن الوليد فقل له: إن رسول الله ينهاك أن تقتل وليدا أو امرأة» ؛ وأنزل الله تعالى فى يوم حنين قوله تعالى: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ. ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) «3» الجزء: 17 ¦ الصفحة: 333 قال الثعلبىّ: قال سعيد بن جبير: أمدّ الله تعالى نبيّه صلّى الله عليه وسلّم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين «1» . وقال الحسن ومجاهد: كانوا ثمانية آلاف. وقال الحسن: كانوا ستة عشر ألفا؛ قال سعيد بن جبير: حدثنى رجل كان فى المشركين يوم حنين قال: لما التقينا نحن وأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يقفوا لنا حلبة شاة، فلمّا كشفناهم جعلنا نسوقهم، حتى إذا انتهينا إلى صاحب البغلة الشّهباء- يعنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- فتلقّانا رجال بيض الثياب حسان الوجوه، فقالوا لنا: شاهت الوجوه، ارجعوا، فرجعنا، وركبوا أكتافنا، فكانت إيّاها. يعنى الملائكة. قال: وفى الخبر أنّ رجلا من بنى نصر يقال له شجرة قال للمؤمنين بعد القتال: أين الخيل البلق، والرجال عليهم ثياب بيض؟ ما كنا نراكم فيهم إلّا كهيئة الشامة، وما كان قتلنا إلّا بأيديهم، فأخبروا النبى صلّى الله عليه وسلّم بذلك فقال: «تلك الملائكة» . وقال محمد بن سعد: كان سيما الملائكة يوم حنين عمائم حمر قد أرخوها بين أكتافهم. قال ابن إسحاق: واستشهد من المسلمين يوم حنين من بنى هاشم أيمن بن عبيد، ومن بنى أسد يزيد بن زمعة بن الأسود، ومن الأنصار سراقة بن الحارث ابن عدىّ، ومن الأشعر بين أبو عامر. وقال ابن سعد: ورقيم بن ثعلبة بن زيد بن لوذان، واستحرّ القتل فى بنى نصر ابن معاوية، ثم فى بنى رئاب، فقال عبد الله بن قيس، وكان مسلما: هلكت الجزء: 17 ¦ الصفحة: 334 بنو رئاب، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم اجبر مصيبتهم» . قال: وأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالسبايا والأموال فجمعت، وحدرت إلى الجعرانة، وعليها مسعود بن عمرو الغفارىّ، فوقف بها بالجعرانة حتى انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من غزوة الطائف وهم فى حظائرهم يستظلّون بها من الشمس، ثم قسمها صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك، على ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر سرية الطّفيل بن عمرو الدّوسىّ إلى ذى الكفّين بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شوّال سنة ثمان عند منصرفه من غزوة حنين، وتوجّهه إلى الطائف ليهدم ذا الكفّين صنم عمرو بن حممة الدّوسىّ، وأمره أن يستمدّ قومه ويأتيه بالطائف، فخرج سريعا إلى قومه، فهدم ذا الكفّين وجعل يحشّ النار فى وجهه ويقول: يا ذا الكفّين لست من عبّادكا ... ميلادنا أقدم من ميلادكا إنى حششت «1» النار فى فؤادكا وانحدر معه من قومه أربعمائة سراعا، فوافوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالطائف بعد مقدمه بأربعة أيام، وقدم الطفيل معه بدبّابة «2» ومنجنيق. ذكر غزوة الطائف غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شوّال سنة ثمان من مهاجره، وذلك أنه لمّا انهزمت هوازن وثقيف يوم حنين، وجمعت السبايا والغنائم، سار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من حنين يريد الطائف، وقدّم خالد بن الوليد على مقدّمته، الجزء: 17 ¦ الصفحة: 335 وقد كانت ثقيف رمّوا حصنهم، وأدخلوا فيه ما يصلحهم لسنة، فلما انهزموا من أوطاس، دخلوا حصنهم وأغلقوه عليهم وتهيئوا للقتال، وسار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسلك على نخلة اليمانيّة، ثم على قرن، ثم على المليح، ثم على بحرة الرّغاء من ليّة «1» ، فابتنى بها مسجدا يصلّى فيه. قال ابن إسحاق: وأقاد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ ببحرة الرّغاء حين نزلها بدم، وهو أوّل دم أقيد به فى الإسلام رجل من بنى أسد قتل رجلا من هذيل فقتل به؛ قال: وأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بليّة بحصن مالك ابن عوف، فهدم، ثم سلك فى طريق يقال لها: الضّيفة، فسأل عن اسمها. فقال: «ما اسم هذه الطريق» ؟ فقالوا: الضّيقة، فقال: «بل هى اليسرى» ، ثم خرج منها على نخب «2» حتى نزل تحت سدرة يقال لها: الصادرة، قريبا من مال رجل من ثقيف، فأرسل إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يقول: «إمّا أن تخرج وإمّا أن نخرّب عليك حائطك» ؛ فأبى أن يخرج، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بإخرابه؛ ثم مضى حتى نزل قريبا من حصن الطائف وعسكر هناك، فرموا المسلمين بالنّبل رميا شديدا حتى أصيب ناس من المسلمين بجراحة، وقتل منهم اثنا عشر رجلا. قال ابن إسحاق: وهم «3» سعيد بن سعيد بن العاص، وعرفطة بن جناب، حليف لهم من أسد بن الغوث. وعبد «4» الله بن أبى بكر الصدّيق رضى الله عنهما، رمى فاندمل جرحه، ثم انتقض «5» بعد ذلك فمات منه فى خلافة أبيه. ومن بنى مخزوم عبد الله بن أبى أميّة بن المغيرة. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 336 ومن بنى كعب عبد الله بن عامر بن ربيعة، حليف لهم. ومن بنى سعد بن ليث جليحة بن عبد الله. ومن الأنصار ثابت بن الجذع، والحارث بن سهل بن أبى صعصعة، والمنذر بن عبد الله، ورقيم بن ثابت بن ثعلبة الأوسىّ. قال: فارتفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى موضع مسجد الطائف اليوم، وكان معه صلّى الله عليه وسلّم من نسائه أم سلمة وزينب، فضرب لهما قبّتين. وحاصرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثمانية عشر يوما، ويقال: خمسة عشر يوما، ونصب عليهم المنجنيق، ورمى عليهم به، وأهل الطائف أوّل من رمى بالمنجنيق فى الإسلام. قال ابن إسحاق: حتى إذا كان يوم الشّدخة «1» دخل نفر من المسلمين تحت دبّابة، ثم زحفوا بها إلى جدار الطائف ليخرقوه، فأرسلت عليهم ثقيف سكك الحديد محماة بالنار، فخرجوا من تحتها، فرمتهم ثقيف بالنّبل، فقتل منهم رجال، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقطع أعنابهم وتحريقها، فقطع المسلمون قطعا ذريعا، ثم سألوه أن يدعها لله وللرحم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنى أدعها لله وللرّحم» ، وندى منادى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أيّما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حرّ» ؛ فخرج منهم بضعة عشر رجلا، منهم: أبو بكرة، فأعتقهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ودفع كلّ رجل منهم إلى رجل من المسلمين يمونه، فشقّ ذلك على أهل الطائف، ولم يؤذن لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى فتح الطائف، فاستشار نوفل بن معاوية الدّيلىّ، فقال: «ما ترى» ؟ فقال: ثعلب فى حجر، إن أقمت عليه أخذته، وإن تركته لم يضررك. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 337 قال محمد بن إسحاق: وبلغنى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لأبى بكر رضى الله عنه: «يا أبا بكر؛ إنى رأيت أنّى أهديت لى قعبة مملوءة زبدا، فنقرها ديك فهراق ما فيها» ؛ فقال أبو بكر: ما أظن أن تدرك منهم يومك هذا ما تريد؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وأنا لا أرى ذلك» . قال: ثم إن خويلة بنت حكيم بن أميّة السّلميّة، وهى امرأة عثمان بن مظعون قالت: يا رسول الله، [أعطنى «1» ] إن فتح الله عليك الطائف حلىّ بادية بنت غيلان ابن سلمة، أو حلىّ الفارعة بنت عقيل، وكانتا من أحلى نساء قريش. قال: فذكر؟؟ لى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لها: «وإن كان لم يؤذن لى فى ثقيف يا خويلة» ؟ فخرجت خويلة فذكرت ذلك لعمر بن الخطّاب رضى الله عنه، فدخل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، ما حديث حدّثتنيه خويلة فزعمت أنك قد قلته؟؛ قال: «قد قلته» . قال: أو ما أذن فيهم يا رسول الله؟ قال: «لا» ، قال: أفلا أؤذّن بالرحيل؟ قال: «بلى» قال: فأذّن عمر فى الناس بالرحيل؛ فضجّ الناس من ذلك، وقالوا: نرحل ولم تفتح علينا الطائف؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فاغدوا على القتال» ؛ فغدوا، فأصابت المسلمين جراحات، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنا قافلون إن شاء الله» ؛ فسرّوا بذلك وأذعنوا، وجعلوا يرتحلون ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يضحك، وقال لهم: «قولوا لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» ؛ فلما ارتحلوا واستقلوا قال: «قولوا آيبون تائبون عابدون، لربنا حامدون» ؛ وقيل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا رسول الله، ادع على ثقيف؛ فقال: «اللهم اهد ثقيفا وأت بهم» . الجزء: 17 ¦ الصفحة: 338 ذكر مسير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الجعرانة وقسم مغانم حنين، وما أعطاه المؤلّفة قال ابن إسحاق: ولما انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الطائف رجع إلى الجعرانة فانتهى إليها ليلة الخميس لثلاث خلون من ذى القعدة، فأقام بها ثلاثة عشر يوما، وقسم الفىء. قال محمد بن سعد: كان السّبى ستة آلاف، والإبل أربعة وعشرين ألف بعير، والغنم أكثر من أربعين ألف شاة، والورق أربعة آلاف أوقية فضّة، فاستأنى «1» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالسّبى أن يقدم عليه وفدهم، وبدأ بالأموال فقسمها، وأعطى المؤلّفة قلوبهم أوّل الناس. قالوا: فأعطى أبا سفيان بن حرب أربعين أوقية ومائة من الإبل. قال: وابنى يزيد؟ قال: «أعطوه أربعين أوقيّة ومائة من الإبل» ؛ قال: وابنى معاوية؟ فأعطاه أربعين أوقيّة ومائة من الإبل، وأعطى حكيم بن حزام مائة من الإبل، ثم سأله مائة أخرى فأعطاه إياها، وأعطى النّضير بن الحارث بن علقمة بن كلدة مائة من الإبل، وأعطى أسيد بن جارية الثّقفىّ مائة من الإبل، وأعطى العلاء ابن جارية الثقفىّ خمسين بعيرا، وأعطى مخرمة بن نوفل خمسين بعيرا، وأعطى الحارث بن هشام مائة من الإبل، وأعطى سعيد بن يربوع خمسين من الإبل، وأعطى صفوان بن أميّة مائة من الإبل، وأعطى قيس بن عدىّ مائة من الإبل، وأعطى عثمان بن وهب خمسين من الإبل، وأعطى سهيل بن عمرو مائة من الإبل، وأعطى حويطب بن عبد العزّى مائة من الإبل، وأعطى هشام بن عمرو العامرىّ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 339 خمسين من الإبل، وأعطى الأقرع بن حابس التميمىّ مائة من الإبل، واعطى عيينة ابن حصن مائة من الإبل، وأعطى مالك بن عوف مائة من الإبل، وأعطى العبّاس بن مرداس أربعين من الإبل، وقيل: أربعة، فقال فى ذلك: كانت نهابا تلافيتها ... بكرىّ على المهر فى الأجزع «1» وإيقاظى القوم أن يرقدوا ... إذا هجع الناس لم أهجع فأصبح نهبى ونهب العبي ... د بين عيينة والأقرع «2» وقد كنت فى الحرب ذاتدرإ ... فلم أعط شيئا ولم أمنع «3» إلّا أفائل أعطيتها ... عديد قوائمها الأربع «4» وما كان حصن ولا حابس ... يفوقان مرداس فى المجمع «5» وما كنت دون امرئ منهما ... ومن تضع اليوم لا يرفع فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اقطعوا عنّى لسانه» ، فأعطوه حتى رضى، قيل: أعطاه مائة من الإبل. قال ابن سعد: أعطى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك كلّه من الخمس، وهو أثبت الأقاويل عندنا، ثم أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زيد بن ثابت بإحصاء الناس والغنائم، ثم فضّها «6» على الناس، فكانت سهامهم لكل رجل أربع من الإبل، وأربعون شاة، فإن كان فارسا أخذ اثنى عشر من الإبل، أو عشرين ومائة شاة، وإن كان معه أكثر من فرس لم يسهم للفرس الزائد. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 340 ذكر قدوم وفد هوازن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإسلامهم وردّ السبايا إليهم قال: وقدم وفد هوازن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهم أربعة عشر رجلا، ورأسهم زهير بن صرد، وفيهم أبو برقان عمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الرضاعة، فسألوه أن يمنّ عليهم بالسّبى. قال ابن إسحاق بسنده إلى عبد الله بن عمرو: إنّ وفد هوازن وفدوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد أسلموا، فقالوا: يا رسول الله، إنّا أصل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك، فامنن علينا. قال: وقام رجل من هوازن، أحد بنى سعد بن بكر يقال له: زهير، يكنى بأبى صرد، فقال: يا رسول الله، إنما فى الحظائر «1» عمّاتك وخالاتك وحواضنك اللّاتى كنّ معك يكفلنك، ولو أنا ملحنا «2» للحارث بن أبى شمر أو للنعمان بن المنذر ثم نزل منا بمثل الذى نزلت به، رجونا عطفه وعائدته علينا، وأنت خير المكفولين. وحكى أبو عمر بن عبد البرّ أن أبا صرد زهير بن صرد أنشد عند ذلك: امنن علينا رسول الله فى كرم ... فإنّك المرء نرجوه وننتظر «3» امنن على بيضة قد عاقها قدر ... ممزّق شملها، فى دهرها غير «4» يا خير طفل ومولود ومنتجب ... فى العالمين إذا ما حصّل البشر إن لم تداركهم نعماء تنشرها ... يا أرجح الناس حلما حين يختبر الجزء: 17 ¦ الصفحة: 341 فامنن على نسوة قد كنت ترضعها ... إذ فوك يملؤه من محضها درر إذ كنت طفلا صغيرا كنت ترضعها ... وإذ يزينك ما تأتى وما تذر لا تجعلّنا كمن شالت نعامته «1» ... واستبق منّا فإنّا معشر زهر يا خير من مرحت كمت الجياد به ... عند الهياج إذا ما استوقد الشرر إنا لنشكر آلاء وإن كفرت ... وعندنا بعد هذا اليوم مدّخر إنّا نؤمّل عفوا منك تلبسه ... هذى البريّة إذ تعفو وتنتصر فاغفر عفا الله عما أنت واهبه ... يوم القيامة إذ يهدى لك الظّفر قال ابن إسحاق: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أبناؤكم ونساؤكم أحبّ إليكم أم أموالكم» ؟ فقالوا: يا رسول الله، خيّرتنا بين أموالنا وأحسابنا، فردّ إلينا أبناءنا ونساءنا فهو أحبّ إلينا؛ فقال لهم: «أمّا ما كان لى ولبنى عبد المطلب فهو لكم، وإذا أنا صلّيت الظهر فقوموا فقولوا: إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول الله فى أبناءنا ونسائنا؛ فسأعطيكم عند ذلك وأسأل لكم» ، ففعلوا ما أمرهم به؛ فقال: «أمّا ما كان لى ولبنى عبد المطّلب فهو لكم» ، وقال المهاجرون: وما كان لنا فهو لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ وقالت الأنصار مثل ذلك؛ فقال الأقرع بن حابس: أمّا أنا وبنو تميم فلا، وقال عيينة بن حصن: أمّا أنا وبنو فزارة فلا، وقال عباس بن مرداس: أمّا أنا وبنو سليم فلا، فقالت بنو سليم: بلى، ما كان لنا فهو لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ قال: يقول عباس لبنى سليم: وهّنتمونى «2» ؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: الجزء: 17 ¦ الصفحة: 342 «إنّ هؤلاء القوم جاءوا مسلمين، وقد كنت استأنيت بسببهم، وخيّرتهم فلم يعدلوا بالأبناء والنساء شيئا، فمن كان عنده منهم شىء فطابت نفسه أن يردّه فسبيل ذلك، ومن أبى فليردّ عليهم، وليكن ذلك قرضا علينا، فله بكل إنسان ستّ فرائض من أوّل ما يفىء الله علينا» قالوا: رضينا وسلّمنا، فردّوا عليهم نساءهم وأبناءهم، ولم يتخلّف منهم أحد غير عيينة بن حصن، فإنّه أبى أن يردّ عجوزا صارت فى يده منهم، ثم ردّها بعد ذلك. وقد حكى محمد بن إسحاق سبب تمسّك عيينة بها وردّها، قال: فقال حين أخذها: أرى عجوزا إنى لأحسب لها فى الحىّ نسبا، وعسى أن يعظم فداؤها؛ فلما ردّ الناس السّبايا بستّ فرائض أبى أن يردّها، فقال له زهير بن صرد: خذها عنك، فو الله ما فوها ببارد، ولا ثديها بناهد، ولا بطنها بوالد، ولا زوجها بواجد ولا درّها بماكد «1» ؛ فردّها بستّ فرائض حين قال له زهير ما قال. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد كسا السبى قبطيّة قبطيّة، والقباطى: ثياب بيض تتّخذ من الكتّان بمصر. وحكى محمد بن سعد فى طبقاته الكبرى فى ترجمة عيينة بن حصن فى هذه القصة قال: لمّا قدم وفد هوازن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وردّ عليهم السبى، كان عيينة قد أخذ رأسها منهم، فنظر إلى عجوز كبيرة فقال: هذه أمّ الحىّ، لعلّهم أن يغلوا بفدائها، وعسى أن يكون لها فى الحىّ نسب. فجاء ابنها إلى عيينة فقال: هل لك فى مائة من الإبل؟ قال: لا، فرجع عنه، فتركه ساعة، وجعلت العجوز تقول لابنها: ما إربك فىّ بعد مائة ناقة، اتركه فما أسرع ما يتركنى بغير فداء؛ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 343 فلما سمعها عيينة قال: ما رأيت كاليوم خدعة، والله ما أنا من هذه إلا فى غرور؛ ولا جرم والله لأبعدنّ أثرك منّى؛ قال: ثم مرّ به ابنها فقال له عيينة: هل لك فيما دعوتنى إليه؟ فقال: لا أزيدك على خمسين؛ فقال عيينة: لا أفعل؛ ثم لبث ساعة، فمرّ به وهو معرض عنه، فقال له عيينة: هل لك فى الذى بذلت لى؟، قال له الفتى: لا أزيدك على خمس وعشرين فريضة؛ قال عيينة: والله لا أفعل، فلما تخوّف عيينة أن يتفرق الناس ويرتحلوا قال: هل لك إلى ما دعوتنى إليه إن شئت؟: فقال الفتى: هل لك إلى عشر فرائض؟ قال: لا أفعل؛ فلما رحل الناس ناداه عيينة: هل لك إلى ما دعوتنى إليه إن شئت؟ قال الفتى: أرسلها وأحمدك، قال: لا والله ما لى حاجة بحمدك؛ فأقبل عيينة على نفسه لائما لها ويقول: ما رأيت كاليوم أمر أنكد، قال الفتى: أنت صنعت هذا بنفسك، عمدت إلى عجوز كبيرة، والله ما ثديها بناهد، ولا بطنها بوالد، ولا فوها ببارد ولا صاحبها بواجد، فأخذتها من بين من ترى؛ فقال له عيينة: خذها لا بارك الله لك فيها؛ قال: فيقول الفتى: يا عيينة، إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد كسا السبى فأخطأها من بينهم الكسوة، فهل أنت كاسيها ثوبا؟ قال: لا، والله ما لها ذاك عندى، قال: لا تفعل؛ فما فارقه حتى أخذ منه سمل ثوب، ثم ولّى الفتى وهو يقول: إنك لغير بصير بالفرض، قال: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد كسا السبى قبطيّة قبطية، والقباطى: ثياب بيض تتّخذ من الكنّان بمصر. قال محمد بن إسحاق: وسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفد هوازن عن مالك بن عوف ما فعل؟ فقالوا: هو بالطائف مع ثقيف؛ فقال: «أخبروا مالكا إن هو أتانى مسلما رددت إليه أهله وماله، وأعطيته مائة من الإبل» ، فأخبر بذلك، الجزء: 17 ¦ الصفحة: 344 فخرج من الطائف فأدرك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالجعرانة أو بمكّة، فردّ عليه أهله وماله، وأعطاه مائة من الإبل، وأسلم فحسن إسلامه. وقال حين أسلم منشدا: ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ... فى الناس كلّهم بمثل محمّد أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتدى ... ومتى تشأ يخبرك عمّا فى غد وإذا الكتيبة عرّدت أنيابها ... بالسّمهرىّ وضرب كلّ مهنّد فكأنه ليث على أشباله ... وسط الهباءة خادر فى مرصد «1» فاستعمله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على من أسلم من قومه، وتلك القبائل: ثمالة، وسلمة، وفهم، فكان يقاتل بهم ثقيفا؛ لا يخرج لهم سرح «2» إلّا أغار عليه، حتى ضيّق عليهم، فقال أبو محجن بن حبيب بن عمرو الثقفىّ فى ذلك: هابت الأعداء جانبنا ... ثم تغزونا بنو سلمه وأتانا مالك بهم ... ناقضا للعهد والحرمه وأتونا فى منازلنا ... ولقد كنّا أولى نقمه ذكر تسمية من بايع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قريش وغيرها عند قسم مغانم حنين قال أبو محمد عبد الملك بن هشام رحمه الله: بايع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قريش وغيرهم وأعطاهم يوم الجعرانة من غنائم حنين: أبو سفيان ابن حرب، ومعاوية بن أبى سفيان، وطليق بن سفيان بن أميّة، وخالد بن أسيد الجزء: 17 ¦ الصفحة: 345 ابن أبى العيص «1» ، وشيبة بن عثمان بن أبى طلحة، وأبو السنابل بن بعكك بن الحارث، وعكرمة بن عامر بن هاشم، وزهير بن أبى أميّة بن المغيرة، والحارث بن هشام بن المغيرة، وخالد بن هشام بن المغيرة، وهشام بن الوليد بن المغيرة، وسفيان بن عبد الأسد بن عبد الله، والسائب بن أبى السائب بن عائذ، ومطيع بن الأسود بن حارثة بن نضلة، وأبو جهم بن حذيفة بن غانم؛ العدويّان، وصفوان بن أميّة بن خلف الجمحى، وأحيحة بن أميّة بن خلف، وعمير بن وهب بن خلف، وعدىّ بن قيس ابن حذافة السّهمى، وحويطب بن عبد العزّى، وهشام بن عمرو بن ربيعة، ونوفل ابن معاوية بن عروة بن صخر الدّيلى، وعلقمة بن علاثة بن عوف، ولبيد بن ربيعة بن مالك، وخالد بن هوذة بن ربيعة بن عمرو بن عامر، وحرملة بن هوذة ابن ربيعة، ومالك بن عوف بن سعيد بن يربوع، وعبّاس بن مرداس السّلمىّ، وعيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزارىّ، والأقرع بن حابس بن عقال المجاشعىّ ذكر مقالة الأنصار فى أمر قسم الفىء، وما أجابهم به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ورضّاهم به قال ابن إسحاق بسند يرفعه إلى أبى سعيد الخدرىّ رضى الله عنه أنه قال: لما أعطى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما أعطى من تلك العطايا فى قريش وفى قبائل العرب، ولم يكن فى الأنصار منها شىء، وجدوا فى أنفسهم حتى كثرت بهم القالة، حتى قال قائلهم: لقى والله رسول الله قومه، فدخل عليه سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله، إن هذا الحىّ من الأنصار قد وجدوا عليك فى أنفسهم لما صنعت فى هذا الفىء الذى أصبت؛ قسمت فى قومك، وأعطيت عطايا عظاما الجزء: 17 ¦ الصفحة: 346 فى قبائل العرب، ولم يكن فى هذا الحىّ من الأنصار منها شىء. قال: «فأين أنت من ذلك يا سعد» ؟ قال: يا رسول الله، ما أنا إلّا من قومى؛ قال: «فاجمع لى قومك فى هذه الحظيرة» ، فخرج سعد فجمعهم فيها، فأتاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: «يا معشر الأنصار، ما قالة بلغتنى عنكم، وجدة وجدتموها فى أنفسكم؟ ألم آتكم ضلّالا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألّف الله بين قلوبكم» ! قالوا: بلى، الله ورسوله أمنّ وأفضل ثم قال: «ألا تجيبوننى يا معشر الأنصار؟» ؛ قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟، لله ولرسوله المنّ والفضل، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أما والله لو شئتم لقلتم ولصدقتم: أتيتنا مكذّبا فصدّقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك، أوجدتم يا معشر الأنصار فى أنفسكم من لعاعة «1» من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاء والبعير وترجعوا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى رحالكم! فو الذى نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرا من الأنصار، ولو سلكت الناس شعبا «2» وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار» ؛ قال: فبكى القوم حتّى أخضلوا «3» لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم قسما وحظّا؛ ثم انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتفرّقوا، ثم خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الجعرانة معتمرا، وذلك ليلة الأربعاء لثنتى عشرة ليلة مضت من ذى القعدة، فأحرم بعمرة، ودخل مكّة، فطاف وسعى وحلق رأسه، ورجع إلى الجعرانة من ليلته. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 347 ذكر استخلاف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عتّاب بن أسيد على مكّة ورجوعه إلى المدينة قال محمد بن إسحاق: ولما فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من عمرته استخلف عتّاب بن أسيد على مكّة، وخلّف معه معاذ بن جبل يفقّه الناس فى الدّين ويعلّمهم القرآن. قال ابن هشام: لما استعمل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عتّاب بن أسيد على مكة رزقة كلّ يوم درهما، فقام فخطب الناس فقال: أيّها الناس، أجاع الله كبد من جاع على درهم، قد رزقنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم درهما كلّ يوم، فليست بى حاجة إلى أحد. قال: وحجّ عتّاب بالناس فى سنة ثمان على ما كانت العرب تحجّ عليه. قال ابن سعد: ولما انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة سلك فى وادى الجعرانة، حتى خرج على سرف «1» ، ثم أخذ الطريق إلى مرّ الظّهران «2» ، ثم إلى المدينة، فقدمها صلّى الله عليه وسلّم فى بقية ذى القعدة أو فى أوّل ذى الحجّة. وقال ابن هشام: لستّ بقين من ذى القعدة. والله أعلم. ذكر سريّة عيينة بن حصن الفزارىّ إلى بنى تميم بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى المحرم سنة تسع من مهاجره إلى بنى تميم فى خمسين فارسا من العرب، ليس فيهم مهاجرىّ ولا أنصارىّ، وكان يسير الليل ويكمن النهار، فهجم عليهم فى صحراء- وكانوا فيما بين السّقيا وأرض بنى تميم، وقد الجزء: 17 ¦ الصفحة: 348 حلّوا وسرّحوا ماشيتهم، فلما رأوا الجمع ولّوا- وأخذ منهم أحد عشر رجلا؛ ووجدوا فى المحلة إحدى عشرة امرأة وثلاثين صبيّا، فجلبهم إلى المدينة، فأمر بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحبسوا فى دار رملة بنت الحارث، فقدم فيهم عدّة من رؤسائهم: عطارد بن حاجب، والزّبرقان بن بدر، وقيس بن عاصم، ورباح بن الحارث بن مجاشع، والأقرع بن حابس، وقيس بن الحارث، ونعيم ابن سعد، وعمرو بن الأهتم، وربيعة بن رفيع، وسبرة بن عمرو، والقعقاع بن معبد، ووردان بن محرز، ومالك بن عمرو، وفراس بن حابس، وكان من شأنهم وكلام خطيبهم وشاعرهم ما نذكر ذلك فى أخبارهم فى وفادات العرب إن شاء الله تعالى، وذلك فى السفر السادس عشر من كتابنا هذا من هذه النسخة «1» . قال: وردّ عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الأسرى والسّبى. قال ابن إسحاق: وكان ممّن قتل يومئذ من بنى العنبر: عبد الله وأخوان له بنو وهب، وشدّاد بن فراس، وحنظلة بن دارم. وكان ممّن سبى يومئذ أسماء بنت مالك، وكأس بنت أرىّ، ونجوة بنت نهد، وجميعة بنت قيس، وعمرة بنت مطر. ذكر خبر الوليد بن عقبة بن أبى معيط مع بنى المصطلق قال محمد بن سعد: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الوليد بن عقبة ابن أبى معيط إلى بالمصطلق من خزاعة يصدّقهم، وكانوا قد أسلموا وبنوا المساجد، فلما سمعوا بدنوّ الوليد خرج منهم عشرون رجلا يتلقّونه بالجزور والغنم فرحا به، فلما رآهم ولّى راجعا إلى المدينة، فأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنهم لقوه الجزء: 17 ¦ الصفحة: 349 بالسلاح يحولون بينه وبين الصّدقة، فهمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يبعث إليهم من يغزوهم، وبلغ ذلك القوم، فقدم الرّكب الّذين لقوا الوليد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره الخبر على وجهه، فنزل فى ذلك قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) «1» ، فقرأ عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم القرآن، وبعث معهم عبّاد بن بشر يأخذ صدقات أموالهم، ويعلّمهم شرائع الإسلام، ويقرئهم القرآن، ففعل، وأقام عندهم عشرا، ثم انصرف إلى المدينة. ذكر سريّة قطبة بن عامر بن حديدة إلى خثعم بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى صفر سنة تسع من مهاجره إلى حىّ من خثعم بناحية تبالة فى عشرين رجلا، وأمره أن يشنّ الغارة عليهم، فخرجوا على عشرة أبعرة يعتقبونها، فأخذوا رجلا، فسألوه فاستعجم عليهم، وجعل يصبح بالحاضر ويحذّرهم، فضربوا عنقه، ثم أمهلوا حتى نام الحاضر، فشنّوا عليهم الغارة، فاقتتلوا قتالا شديدا، وساق المسلمون النّعم والشاء والنساء إلى المدينة، وجاء سيل فحال بينهم وبين قطبة، فما يجدون إليه سبيلا، وكانت سهامهم بعد الخمس لكلّ رجل أربعة أبعرة، والبعير يعدل بعشرة من الغنم. ذكر سريّة الضحّاك بن سفيان الكلابىّ إلى بنى كلاب كانت فى شهر ربيع الأوّل سنة تسع من الهجرة قالوا: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جيشا إلى القرطاء «2» عليهم الضحّاك ابن سفيان بن عوف الكلابىّ، ومعه الأصيد بن سلمة بن قرط، فلقوهم بالزّجّ «3» ، الجزء: 17 ¦ الصفحة: 350 زجّ لاوة، فدعوهم إلى الإسلام فأبوا، فقاتلوهم فهزموا، فلحق الأصيد أباه سلمة، وسلمة على فرس له فى غدير الزّجّ، فدعا أباه إلى الإسلام، وأعطاه الأمان، فسبّه وسبّ دينه، فضرب الأصيد عرقوبى فرس أبيه، فلمّا وقع الفرس على عرقوبيه ارتكز سلمة رمحه فى الماء، ثم استمسك به، حتى جاءه أحدهم فقتله، ولم يقتله ابنه، وفى هذه السريّة وفى الضحّاك بن سفيان يقول عبّاس بن مرداس: إنّ الذين وفوا بما عاهدتم ... جيش بعثت عليهم الضّحّاكا أمرته ذرب اللّسان «1» كأنه ... لمّا تكنّفه العدوّ يراكا طورا يعانق باليدين وتارة ... يفرى الجماجم صارما بتّاكا «2» ذكر سريّة علقمة بن مجزّز المدلجىّ إلى الحبشة كانت هذه السريّة فى شهر ربيع الآخر سنة تسع من الهجرة، وذلك أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلغه أنّ ناسا من الحبشة تراآهم أهل جدّة، فبعث إليهم علقمة بن مجزّز فى ثلاثمائة، فانتهى إلى جزيرة فى البحر وقد خاض إليهم، فهربوا منه، فلمّا رجع تعجّل «3» بعض القوم إلى أهليهم، فأذن لهم، وفيهم عبد الله بن حذافة السّهمىّ، فأمّره علقمة على من تعجّل، وكانت فيه دعابة، فنزلوا ببعض الطريق وأوقدوا نارا يصطلون عليها، فقال لهم: عزمت عليكم إلّا تواثبتم فى هذه النار، فقام بعض القوم حتى ظنّ أنهم واثبون فيها، فقال: اجلسوا، إنما كنت أضحك معكم؛ فذكروا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «من أمركم بمعصية فلا تطيعوه» . الجزء: 17 ¦ الصفحة: 351 ذكر سريّة علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه إلى الفلس صنم طيئ بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شهر ربيع الآخر سنة تسع فى خمسين ومائة رجل من الأنصار إلى الفلس (صنم طيئ) ليهدمه- (والفلس بضم الفاء وسكون اللام) - بعثهم على مائة بعير وخمسين فرسا، ومعه راية سوداء ولواء أبيض، فشنّوا الغارة على محلّة آل حاتم مع الفجر، فهدموا الفلس وخرّبوه وملأوا أيديهم من السّبى والنّعم والشاء، وفى السبى أخت عدىّ بن حاتم، وهرب عدىّ إلى الشام؛ وكان من خبره ما نذكره إن شاء الله فى أخبار الوفود. قال: ووجدوا فى خزانة الفلس ثلاثة أسياف: رسوب، والمخذم، واليمان؛ وثلاثة أدرع، فلمّا نزلوا ركك «1» اقتسموا الغنائم، وعزل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم صفيّة «2» : رسوب، والمخذم، ثم صار له بعد السيف الآخر، وعزل الخمس وعزل آل حاتم فلم يقسمهم، حتى قدم بهم المدينة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ذكر سريّة عكّاشة بن محصن الأسدى إلى الجناب بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شهر ربيع الآخر سنة تسع من مهاجره إلى الجناب، أرض عذرة وبلىّ، ولم يذكر ابن سعد من خبره غير ذلك. ذكر غزوة تبوك كانت غزوة تبوك فى شهر رجب سنة تسع من مهاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان سببها أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلغه أنّ الروم قد جمعت جموعا كثيرة بالشام، وأنّ هرقل قد رزق أصحابه لسنة، وأجلبت معه لحم، الجزء: 17 ¦ الصفحة: 352 وجدام، وعاملة، وغسان، وقدّموا مقدّماتهم إلى البلقاء، فندب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الناس إلى الخروج، وأعلمهم المكان الذى يريد ليتأهّبوا لذلك، وبعث إلى مكّة وإلى قبائل العرب يستنفرهم، وذلك فى حرّ شديد، وأمرهم بالصدقة، فحملوا صدقات كثيرة، وقووا فى سبيل الله. قال ابن هشام: أنفق عثمان بن عفّان رضى الله عنه فى جيش العسرة فى غزوة تبوك ألف دينار، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم ارض عن عثمان فإنّى عنه راض» . وجاء البكاءون وهم سبعة: سالم بن عمير، وهرمىّ بن عبد الله أخو بنى واقف، وعلبة بن زيد أخو بنى حارثة، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب المازنىّ، وعمرو بن عنمة، وسلمة بن صخر، والعرباض بن سارية الفزارىّ. قال: وفى بعض الرّواة من يقول: إنّ فيهم عبد الله بن مغفّل المزنىّ، ومعقل ابن يسار، وبعضهم يقول: البكاءون بنو مقرّن السبعة، وهم من مزينة، فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يستحملونه، فقال: «لا أجد ما أحملكم عليه» ؛ فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألّا يجدوا ما ينفقون، فعذرهم الله تعالى. قال: وبلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّ ناسا من المنافقين يجتمعون فى بيت سويلم اليهودىّ، يثبّطون الناس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليهم طلحة بن عبيد الله فى نفر من أصحابه، وأمره أن يحرق عليهم بيت سويلم، ففعل طلحة، فاقتحم الضّحاك بن خليفة من ظهر البيت، فانكسرت رجله، واقتحم أصحابه فأفلتوا، فقال الضحّاك فى ذلك: كادت وبيت الله نار محمّد ... يشيط بها الضحّاك وابن أبيرق الجزء: 17 ¦ الصفحة: 353 فظلت وقد طبّقت كبس سويلم ... أنوء على رجلى كسيرا ومرفقى «1» سلام عليكم لا أعود لمثلها ... أخاف، ومن تشمل به النار يحرق وجاء ناس من المنافقين يستأذنون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى التخلّف من غير علّة، فأذن لهم، وهم بضعة وثمانون رجلا. وجاء المعذّرون من الأعراب ليؤذن لهم، فاعتذروا إليه، فلم يعذرهم، وهم اثنان وثمانون رجلا؛ ذكر أنهم نفر من بنى غفار، وكان عبد الله بن أبىّ بن سلول قد عسكر على ثنيّة الوداع فى حلفائه من اليهود والمنافقين، فكان يقال: ليس عسكره بأقلّ العسكرين، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يستخلف على عسكره أبا بكر الصدّيق رضى الله عنه، فصلّى بالناس، واستخلف على المدينة محمد بن مسلمة، فلمّا سار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تخلّف عبد الله بن أبىّ، ومن كان معه، وتخلّف نفر من المسلمين من غير شكّ ولا ارتياب، منهم كعب بن مالك، وهلال بن أميّة، ومرارة بن الرّبيع، وأبو خيثمة مالك بن قيس السّالمى، وأبو ذرّ الغفارىّ؛ وأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كلّ بطن من الأنصار والقبائل من العرب أن يتّخذوا لواء أو راية، ومضى صلّى الله عليه وسلّم لوجهه يسير بأصحابه حتى قدم تبوك فى ثلاثين ألفا من الناس، والخيل عشرة آلاف فرس، فأقام بها عشرين ليلة يصلّى ركعتين ركعتين، ولحقه بها أبو خيثمة وأبو ذرّ. قال محمد بن إسحاق فى سبب مسير أبى خيثمة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنه جاء يوما إلى أهله بعد أن سار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أيّاما فى يوم الجزء: 17 ¦ الصفحة: 354 حارّ، فوجد امرأتين له فى عريشين «1» لهما فى حائطه، قد رشّت كلّ واحدة منهما عريشها وبردّت له فيه ماء، وهيّأت طعاما، فلمّا دخل قام على باب العريش، فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له، فقال: رسول الله فى الضّحّ «2» والرّيح والحرّ، وأبو خيثمة فى ظلّ بارد، وطعام مهيّأ، وامرأة حسناء، فى ماله مقيم، ما هذا بالنّصف! ثم قال: والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فهيّأ لى زادا، ففعلتا، ثم قدّم ناضحه «3» فارتحله، ثم خرج فى طلب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى أدركه حين نزل تبوك. قال: ولمّا دنا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال الناس: هذا راكب على الطريق مقبل؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كن أبا خيثمة» ؛ قالوا: يا رسول الله، هو والله أبو خيثمة؛ فلمّا أناخ أقبل فسلّم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال له: «أولى لك يا أبا خيثمة» !، ثم أخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الخبر، فقال: خيرا ودعا له. وأما أبو ذرّ الغفارىّ، فإنه أدرك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى أثناء الطريق، وكان بعيره قد أبطأ عليه، فحمل متاعه على ظهره، ثم خرج يتبع أثر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى أدركه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «رحم الله أبا ذرّ، يمشى وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده» فكان كذلك. قال: وقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تبوك وهرقل يومئذ بحمص، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خالد بن الوليد إلى أكيدر. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 355 ذكر سريّة خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك قالوا: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بتبوك خالد بن الوليد فى أربعمائة وعشرين فارسا سريّة إلى أكيدر بن عبد الملك بدومة الجندل، وأكيدر من كندة، قد ملكهم، وكان نصرانيّا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لخالد بن الوليد: «إنّك ستجده يصيد البقر» . فخرج خالد فى شهر رجب سنة تسع من الهجرة حتى كان من حصن أكيدر بمنظر العين فى ليلة مقمرة وصائفة، وهو على سطح له، ومعه امرأته، فبالت البقر تحكّ بقرونها باب القصر، فقالت له امرأته: ما رأيت مثل هذا قطّ؟ قال: لا والله؛ قالت: فمن يترك هذا؟ قال: لا أحد، فنزل فأمر بفرسه فأسرج له، وركب وركب معه نفر من أهل بيته، فيهم أخ له يقال له: حسّان، وخرجوا لمطاردة البقر، فلما خرجوا تلقّتهم خيل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فشدّت عليه، فاستأسر أكيدر، وامتنع أخوه حسان، وقاتل حتى قتل، وكان عليه قباء من ديباج مخوّص «1» بالذهب، فاستلبه خالد، وبعث به إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل قدومه عليه، فجعل المسلمون يلمسونه بأيديهم، ويتعجّبون منه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أتعجبون من هذا؟ فو الّذى نفسى بيده لمناديل سعد بن معاذ فى الجنة أحسن من هذا» . قال: ولما أسر أكيدر وقتل حسّان، هرب من كان معهما، فدخل الحصن، وأجار خالد أكيدر من القتل حتى يأتى به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أن يفتح له دومة الجندل، ففعل، وصالحه على ألفى بعير، وثمانمائة فرس، وأربعمائة درع وأربعمائة رمح، فعزل للنبى صلّى الله عليه وسلّم صفيّا خالصا، ثم أخرج الخمس، وقسم الجزء: 17 ¦ الصفحة: 356 ما بقى بين أصحابه، ثم خرج خالد بأكيدر وبأخيه مصاد. وكان فى الحصن- وبما صالحه عليه قافلا إلى المدينة، فقدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم بأكيدر، فأهدى له هديّة، وصالحه على الجزية، وحقّن دمه، ثم خلّى سبيله، فرجع إلى قريته، فقال بجير بن بجرة: تبارك سائق البقرات إنّى ... رأيت الله يهدى كلّ هاد فمن يك حائدا عن ذى تبوك ... فإنّا قد أمرنا بالجهاد قال محمد بن إسحاق: ولما انتهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى تبوك أتاه يحنّة ابن رؤبة صاحب أيلة «1» ، فصالح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأعطاه الجزية، وأتاه أهل جرباء «2» وأذرح «3» ، فأعطوه الجزية، وكتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليحنّة كتابا، وهو: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذه أمنة من الله ومحمد النبىّ رسول الله ليحنّة بن رؤبة وأهل أيلة؛ سفنهم وسيّارتهم فى البر والبحر، لهم ذمّة الله ومحمد النبى، ومن كان معهم من أهل الشام، وأهل اليمن، وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثا فإنّه لا يحول ماله دون نفسه. وإنّه طيّب لمن أخذه من الناس، وإنّه لا يحلّ أن يمنعوا ماء يردونه، ولا طريقا يريدونه من برّ أو بحر» . قال: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد استعمل على حرسه بتبوك عبّاد ابن بشر. ثم انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يلق كيدا. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 357 وقدم المدينة فى شهر رمضان من السنة، وجاءه من كان قد تخلّف عنه، فحلفوا له، فعذرهم، واستغفر لهم، وأرجأ أمر كعب بن مالك وصاحبيه حتى نزلت توبتهم، على ما نذكر ذلك إن شاء الله فى آخر هذه الغزوة. قال: وجعل المسلمون يبيعون أسلحتهم ويقولون: قد انقطع الجهاد، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنهاهم، وقال: «لا تزال عصابة من أمّتى يجاهدون على الحقّ حتّى يخرج الدجّال» . وكان فى غزوة تبوك وقائع غير ما قدّمناه، قد رأينا إيرادها فى هذا الموضع. منها خبر مرور رسول الله بالحجر. ومنها ما أنزل فى أمر المنافقين. ومنها خبر الثلاثة الّذين خلّفوا، وما أنزل من توبتهم. ذكر خبر مرور رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالحجر وما قاله لأصحابه قال محمد بن إسحاق: لمّا مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى سفره إلى تبوك بالحجر من مدين، نزلها، واستقى الناس من بئرها، فلمّا راحوا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. «لا تشربوا من مائها شيئا، ولا يتوضّأ منه للصلاة، وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه للإبل ولا تأكلوا منه شيئا، ولا يخرجن أحد منكم الليلة إلّا ومعه صاحب له» ، ففعل الناس ما أمرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، إلّا أنّ رجلين من بنى ساعدة خرج أحدهما لحاجته، وخرج الآخر فى طلب بعير له، فأما الّذى ذهب لحاجته فإنه خنق على مذهبه «1» ؛ وأما الذى ذهب فى طلب بعيره الجزء: 17 ¦ الصفحة: 358 فاحتملته الرّيح حتى طرحته بجبل طيئ، وأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بذلك فقال: «ألم أنهكم ألّا يخرج منكم أحد إلّا ومعه صاحبه» ! ثم دعا الّذى أصيب «1» فشفى، وأمّا الآخر فإن طيّئا أهدته لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين قدم المدينة. قال ابن هشام: بلغنى عن الزّهرىّ أنه قال: لما مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالحجر سجّى «2» ثوبه على وجهه، واستحثّ راحلته، ثم قال: «لا تدخلوا بيوت الّذين ظلموا إلّا وأنتم باكون خوفا أن يصيبكم مثل ما أصابهم» . قال ابن إسحاق: لمّا أصبح الناس ولا ماء معهم شكوا ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فدعا، فأرسل لله تعالى سحابة فأمطرت حتّى ارتوى الناس واحتملوا حاجتهم من الماء. وفى هذه الغزوة ضلّت ناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال زيد بن لصيب «3» ما قال، وأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما قال، فأخبر بشأنها، ووجدت كما وصف صلّى الله عليه وسلّم على ما قدّمنا ذلك فى أخبار المنافقين. ذكر أخبار المنافقين وما تكلّموا به فى غزوة تبوك وما أنزل الله عز وجل فيهم من القرآن كان ممّن أنزل الله عزّ وجلّ فيه من القرآن ما أنزل فى غزوة تبوك الجدّ ابن قيس، وهو الذى قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ائذن لى ولا تفتنّى؛ وقد تقدّم خبره مع أخبار المنافقين. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 359 وقال قوم منهم: لا تنفروا فى الحرّ زهادة فى الجهاد؛ فأنزل الله عزّ وجل فيهم: (وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ. فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) «1» ، وقال رهط من المنافقين: منهم وديعة ابن ثابت أخو بنى عمرو بن عوف، ورجل من أشجع، حليف لبنى سلمة يقال له: مخشّ بن حميّر- وقيل: مخشىّ «2» - وغيرهما بعضهم لبعض: أتحسبون جلاد بنى الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا، والله لكأنكم غدا بهم مقرّنين فى الحبال، يقولون ذلك إرجافا وترهيبا للمؤمنين. فقال مخشىّ: والله لوددت أن أقاضى على أن يضرب كلّ رجل منّا مائة جلدة، وأنا ننفلت أو ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعمار بن ياسر: «أدرك القوم فإنهم قد احترقوا، فاسألهم عما قالوا، فإن أنكروا فقل لهم: بلى قد قلتم كذا وكذا» ، فانطلق إليهم عمّار، فقال ذلك لهم، فأتوا رسول الله صلّى الله صلّى الله عليه وسلّم يعتذرون إليه، فقال وديعة بن ثابت: يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب. وقال مخشىّ: يا رسول الله، قعد بى اسمى واسم أبى، فأنزل الله تعالى قوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ. لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) «3» . فكان مخشىّ بن حمير ممن عفى عنه، فتسمى عبد الرحمن، وسأل الله أن يقتل شهيدا لا يعلم مكانه، فقتل يوم اليمامة، ولم يوجد له أثر. والله الموفق للصواب. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 360 ذكر خبر الثلاثة الذين خلّفوا، وما أنزل فيهم وفى المعذّرين من الأعراب والثلاثة الذين خلّفوا لم يتخلّفوا عن شكّ ولا نفاق، وهم: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أميّة، وكان من خبرهم ما حدّثنا به الشيخان المعمّران المسندان شهاب الدين أبو العباس أحمد بن أبى طالب نعمة الصالحىّ الحجّار، وست الوزراء أمّ محمد وزيرة بنت القاضى شمس الدين عمر بن أسعد بن المنجى التّنوخيّة الدّمشقيّان قراءة عليهما، وأنا أسمع فى جمادى الآخرة سنة خمس عشرة وسبعمائة بالمدرسة المنصورية بالقاهرة المعزّيّة، قالا: حدّثنا الشيخ سراج الدين أبو عبد الله الحسين بن المبارك بن محمد بن يحيى الزبيدى، قال: حدّثنا أبو الوقت عبد الأوّل بن عيسى بن شعيب السّجزى قراءة عليه ونحن نسمع، قال: حدّثنا الشيخ أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد بن المظفر الداودىّ، قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حمّويه السّرخسىّ، قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن يوسف ابن مطر الفربرىّ، قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخارىّ، قال: حدّثنا يحيى بن بكير، قال: حدّثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، أنّ عبد الله بن كعب بن مالك،- وكان قائد كعب من بنيه حين عمى- قال: سمعت كعب بن مالك يحدّث حين تخلّف عن قصّة تبوك قال كعب: لم أتخلّف عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى غزوة غزاها إلا فى غزوة تبوك، غير أنى كنت تخلفت فى غزوة بدر، ولم يعاتب أحدا تخلّف عنها، إنما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يريد عير قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوّهم على غير ميعاد؛ ولقد شهدت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الجزء: 17 ¦ الصفحة: 361 ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام، وما أحبّ أن لى بها مشهد بدر وإن كانت بدر أذكر فى الناس منها. كان من خبرى أنى لم أكن قطّ أقوى ولا أيسر منّى حين تخلفت عنه فى تلك الغزاة، والله ما اجتمعت عندى قبله راحلتان قطّ حتى جمعتهما فى تلك الغزوة، ولم يكن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يريد غزوة إلّا ورّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة، غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى حرّ شديد، واستقبل سفرا بعيدا ومفازا وعدوّا كثيرا، فجلا للمسلمين أمرهم ليتأهّبوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بوجهه الذى يريد، والمسلمون مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كثير، ولا يجمعهم كتاب حافظ- يريد الديوان. قال كعب: فما رجل يريد أن يتغيّب إلّا ظن أنّه سيخفى له ذلك، ما لم ينزل فيه وحى الله عزّ وجلّ، وغزا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظّلال، وتجهّز رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون معه، فطفقت أغدو لكى أتجهّز معهم، فأرجع ولم أقض شيئا، فأقول فى نفسى: أنا قادر عليه، فلم يزل يتمادى بى حتى شمّر بالناس الجدّ. فأصبح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون معه، ولم أفض من جهازى شيئا، فقلت: اتجهز بعده بيوم أو يومين، ثم ألحق بهم، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز، ورجعت فلم أقض شيئا، ثم غدوت، ثم رجعت، ولم أقض شيئا، فلم يزل بى حتّى أسرعوا وتفرّط «1» الغزو، وهممت أن أرتحل فأدركهم، وليتنى فعلت، فلم يقدر لى ذلك، فكنت إذا خرجت فى الناس بعد خروج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فطفت فيهم أحزننى أنّى لا أرى إلّا رجلا مغموصا «2» عليه بالنفاق، أو رجلا ممّن عذر الله من الضعفاء، ولم يذكرنى الجزء: 17 ¦ الصفحة: 362 رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس فى القوم بتبوك: «ما فعل كعب» ؟ فقال رجل من بنى سلمة: يا رسول الله، حبسه برداه ونظره فى عطفيه «1» . فقال معاذ بن جبل: بئس ما قلت! والله يا رسول الله، ما علمت عليه إلّا خيرا، فسكت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال كعب بن مالك: فلما بلغنى أنه توجه قافلا حضرنى همّى، وطفقت أتذكّر الكذب وأقول: بماذا أخرج من سخطه غدا، واستعنت على ذلك بكل ذى رأى من أهلى، فلما قيل إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أظلّ «2» قادما راح عنى الباطل، وعرفت أنّى لم أخرج منه أبدا بشىء فيه كذب، فأجمعت صدقه، وأصبح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قادما، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد، فركع فيه ركعتين، ثم يجلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المتخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلا، فقبل منهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله، فجئته، فلما سلّمت عليه تبسّم تبسّم المغضب، ثم قال: «تعال» ، فجئت أمشى حتى جلست بين يديه، فقال لى: «ما خلّفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك» ؟ فقلت: بلى والله، إنى لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أنى سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلا «3» ، ولكنّى والله لقد علمت لئن حدّثتك اليوم حديث كذب ترضى به عنّى ليوشكن الله أن يسخطك علىّ، ولئن حدّثتك حديث صدق تجد «4» علىّ فيه إنى لأرجو فيه عقبى الله، لا والله ما كان لى من عذر، والله ما كنت قطّ أقوى الجزء: 17 ¦ الصفحة: 363 ولا أيسر منّى حين تخلّفت عنك؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أمّا هذا فقد صدق، فقم حتى يقضى الله فيك» ، فقمت وثار رجال من بنى سلمة فاتبعونى، فقالوا لى: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا، ولقد عجزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما اعتذر إليه المتخلّفون، قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فو الله ما زالوا يؤنّبونى حتى أردت أن أرجع فأكذّب نفسى، ثم قلت لهم: هل لقى هذا معى أحدا؟ قالوا: نعم، رجلان قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل ما قيل لك؛ فقلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع العمرى، وهلال بن أمية الواقفىّ، فذكروا لى رجلين صالحين قد شهدا بدرا فيهما أسوة؛ فمضيت حين ذكروهما لى. ونهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسلمين عن كلامنا- أيّها الثلاثة- من بين من تخلّف عنه، فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا، حتى تنكّرت فى نفسى الأرض، فما هى بالتى أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة. فأمّا صاحباى فاستكانا وقعدا فى بيوتهما يبكيان، وأمّا أنا فكنت أشبّ القوم وأجلدهم، فكنت أخرج أشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف فى الأسواق، فلا يكلمنى أحد، وآتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأسلم عليه وهو فى مجلسه بعد الصلاة، فأقول فى نفسى: هل حرّك شفتيه بردّ السلام علىّ أم لا؟ ثم أصلّى قريبا منه فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتى أقبل إلىّ، وإذا التفتّ نحوه أعرض عنى، حتى إذا طال علىّ ذلك من جفوة الناس مشيت حتى تسوّرت جدار حائط أبى قتادة، وهو ابن عمّى، وأحبّ الناس إلىّ، فسلّمت عليه، فو الله ما ردّ علىّ السلام، فقلت: يا أبا قتادة، أنشدك الله، هل تعلمى أحبّ الله ورسوله؟ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 364 فسكت، فعدت له فنشدته، فسكت، فعدت له فنشدته، فقال: الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناى، وتولّيت حتى تسوّرت الجدار. قال: فبينا أنا أمشى بسوق المدينة إذا نبطىّ من أنباط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدلّ على كعب بن مالك؟، فطفق الناس يشيرون له، حتى إذا جاءنى دفع إلىّ كتابا من ملك غسّان، فإذا فيه: «أما بعد، فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك» . فقلت لما قرأتها: وهذا أيضا من البلاء، فتيمّمت «1» بها التنور، فسجرته «2» بها، حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأتينى، فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمرك أن تعتزل امرأتك. فقلت: أطلّقها؟ أم ماذا أفعل؟ قال: لا، بل اعتزلها ولا تقربنّها، وأرسل إلى صاحبى مثل ذلك، فقلت لامرأتى: الحقى بأهلك فكونى عندهم حتى يقضى الله فى هذا الأمر. قال كعب: فجاءت امرأة هلال بن أميّة- رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله، إن هلال بن أميّة شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ فقال: «لا، ولكن لا يقربنّك» قالت: إنه والله ما به حركة إلى شىء، والله مازال يبكى مذكان من أمره ما كان إلى يومه هذا. فقال لى بعض أهلى: لو استأذنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى امرأتك، كما أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه، فقلت: والله لا أستأذن فيها رسول الله، وما يدرينى ما يقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أستأذنته فيها وأنا رجل شابّ! فلبثت بعد ذلك عشر الجزء: 17 ¦ الصفحة: 365 ليال حتى كملت خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن كلامنا؛ فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة، وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التى ذكر الله، قد ضاقت علىّ نفسى، وضاقت علىّ الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخ أوفى «1» على جبل سلع بأعلى صوته: يا كعب بن مالك، أبشر، قال: فخررت ساجدا، وعرفت أن قد جاء فرج، وآذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بتوبة الله علينا حين صلّى صلاة الفجر، فذهب الناس يبشروننا، وذهب قبل «2» صاحبىّ مبشّرون، وركض رجل إلىّ فرسا، وسعى ساع من أسلم فأوفى على الجبل، وكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءنى الذى سمعت صوته يبشرنى، نزعت ثوبىّ فكسوته إباهما ببشراه، والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتلقّانى الناس فوجا فوجا يهنّئوننى بالتوبة، يقولون: ليهنك توبة الله عليك. قال كعب: حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالس حوله الناس، فقام إلىّ طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحنى وهنّأنى، والله ما قام إلىّ رجل من المهاجرين غيره، ولا أنساها لطلحة. قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يبرق وجهه من السرور: «أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمّك» ؛ قال: قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: الجزء: 17 ¦ الصفحة: 366 «لا، بل من عند الله» ، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا سرّ استتار وجهه حتى كأنه قطعة قمر، وكنّا نعرف ذلك منه، فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله، إنّ من توبتى أن أنخلع من مالى صدقة إلى الله وإلى رسول الله؛ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك» ، قلت: فإنى أمسك سهمى الذى بخيبر، وقلت: يا رسول الله، إن الله إنما نجّانى بالصدق، وإنّ من توبتى ألا أحدّث إلّا صدقا ما بقيت، فو الله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله فى صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحسن ممّا أبلانى، ما تعمّدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى يومى هذا كذبا، وإنى لأرجو أن يحفظنى الله فيما بقى «1» ، فأنزل الله تعالى على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) «2» . قال كعب: فو الله ما أنعم الله علىّ من نعمة قطّ بعد أن هدانى للإسلام أعظم فى نفسى من صدقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ألا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا، فإن الله تعالى قال للذين كذبوا حين أنزل الوحى شرّ ما قال لأحد، فقال تبارك وتعالى: (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 367 لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ. يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) «1» . قال كعب: وكنا تخلفنا- أيها الثلاثة- عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين حلفوا «2» فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمرنا حتى قضى الله فيه، فبذلك قال: (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا. وليس الذى ذكر الله مما خلّفنا تخلّفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه. انتهت غزوة تبوك، فلنذكر ما سواها من السرايا. ذكر سريّة خالد بن الوليد إلى بنى عبد المدان بنجران بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليهم فى شهر ربيع الأوّل سنة عشر من مهاجره، ولم يذكر من خبر هذه السريّة غير هذا فنذكره. ذكر سريّة على بن أبى طالب رضى الله عنه إلى اليمن يقال: بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرتين: إحداهما فى شهر رمضان سنة عشر من مهاجره صلّى الله عليه وسلّم، وعقد له لواء، وعمّه بيده، وقال: «امض لا تلتفت، فاذا نزلت بساحتهم فلا تقاتلهم حتى يقاتلوك» ، فخرج فى ثلاثمائة فارس، وكانت أوّل خيل دخلت إلى تلك البلاد، وهى بلاد مذحج، ففرق أصحابه، فأتوا بنهب وغنائم ونساء وأطفال ونعم وشاء وغير ذلك، وجعل على الغنائم بريدة بن الحصيب الأسلمىّ، فجمع إليه ما أصابوا، ثم لقى جمعهم الجزء: 17 ¦ الصفحة: 368 فدعاهم إلى الإسلام، فأبوا ورموا بالنّبل، ثم حمل عليهم علىّ رضى الله عنه بأصحابه فقتل منهم عشرين رجلا، فتفرقوا وانهزموا، فكفّ عن طلبهم، ثم دعاهم إلى الإسلام، فأسرعوا وأجابوا، وبايعه نفر من رؤسائهم على الإسلام، وقالوا: نحن على من وراءنا من قومنا، وهذه صدقاتنا فخذ منها حقّ الله، وجمع علىّ الغنائم فحمّسها، وقسم على أصحابه بقية المغنم، ثم قفل، فوافى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة حين قدمها للحج سنة عشر. حكاه ابن سعد «1» . وقال محمد بن إسحاق، لما رجع علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه من اليمن إلى مكة، دخل على فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فوجدها قد حلّت فقال: مالك يا بنت رسول الله «2» ؟ قالت: أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن نحلّ بعمرة فحللنا، ثم أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما فرغ من الخبر عن سفره، قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «انطلق فطف بالبيت وحلّ كما حلّ أصحابك» قال: يا رسول الله، إنى أهللت بما أهللت؛ قال: «فارجع فاحلل كما حلّ أصحابك» قال: يا رسول الله، إنّى قلت حين أحرمت: اللهم إنى أهلّ بما أهلّ به نبيّك وعبدك ورسولك محمد، قال: «فهل معك من هدى» ؟ قال: لا، فأشركه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى هديه، وثبت على إحرامه مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى فرغا من الحجّ، ونحر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الهدى. قال: ولما أقبل علىّ من اليمن تعجّل إلى رسول الله، واستخلف على جنده الذين معه رجلا من أصحابه، فعمد ذلك الرجل فكسا كلّ رجل من القوم حلة من البزّ الذى كان مع علىّ، فلما دنا جيشه خرج ليلقاهم، فإذا عليهم الحلل؛ قال: الجزء: 17 ¦ الصفحة: 369 ويلك ما هذا؟ قال: كسوت القوم ليتجمّلوا إذا قدموا فى الناس؛ قال: انزعها ويلك! قبل أن تنتهى بهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: فانتزع الحلل من الناس فردّها فى البزّ، فاشتكى الناس عليّا، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطيبا، فقال: «أيها الناس، لا تشتكوا عليّا، فو الله إنه لأخشن فى ذات الله» أو «فى سبيل الله «1» » . ذكر سريّة أسامة بن زيد بن حارثة إلى أرض الشّراة «2» ناحية البلقاء وهذه السريّة هى آخر سريّة جهّزها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومات قبل إنفاذها، وكانت لأربع ليال بقين من صفر سنة إحدى عشرة من هجرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان فيها أبو بكر، وعمر، وأبو عبيدة بن الجرّاح، وسعد بن أبى وقّاص، وسعيد بن زيد، وقتادة بن النعمان، وسلّم بن أسلم بن حريش، فتكلم قوم وقالوا: نستعمل هذا الغلام على المهاجرين الأوّلين، فغضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غضبا شديدا، فخرج وقد عصب على رأسه عصابة وعليه قطيفة، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «أما بعد أيها الناس، فما مقالة بلغتنى عن بعضكم فى تأميرى أسامة؟ ولئن طعنتم فى إمارتى أسامة لقد طعنتم فى إمارتى أباه من قبله، وايم الله إن كان للإمارة لخليقا، وإنّ ابنه من بعده لخليق للإمارة وإن كان لمن أحبّ الناس إلىّ، وإنهما لمخيلان لكلّ خير، فاستوصوا به خيرا، فإنه من خياركم» ، ثم نزل فدخل بيته، وذلك يوم السبت لعشر خلون من شهر ربيع الأوّل، وخرج الناس إلى الجرف، فتوفّى رسول الله صلّى الجزء: 17 ¦ الصفحة: 370 الله عليه وسلّم قبل خروج هذه السريّة، فلما ولّى أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه، كان أوّل ما بدأ به بعث أسامة. هذا ما أمكن إيراده من غزوات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسراياه. فلنذكر حجّه وعمره صلّى الله عليه وسلّم. ذكر حجّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعمره قالوا: حج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل هجرته إلى المدينة حجّتين، ولم يحجّ بعد الهجرة إلّا حجّة الوداع، وهى فى السنة العاشرة، وكانت فريضة الحجّ نزلت فى السنة السادسة من الهجرة، وفتحت مكّة فى سنة ثمان، فاستخلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عتّاب بن أسيد، فحج بالناس تلك السنة، وفى السنة التاسعة حج أبو بكر الصّدّيق رضوان الله عليه بالناس كما قدّمنا ذكر ذلك فى مواضعه، فلما كان فى السنة العاشرة أذّن فى الناس أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حاجّ، فقدم المدينة بشر كثير كلّهم يلتمس أن يأتمّ برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويعمل مثل عمله، وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المدينة مغتسلا مدّهنا مترجّلا متجرّدا فى ثوبين صحاربيّن: إزار ورداء، وذلك يوم السبت لخمس ليال بقين من ذى القعدة سنة عشر من مهاجره، واستعمل على المدينة أبا دجانة الساعدىّ- ويقال: سباع ابن عرفطة الغفارىّ- قالوا: وصلّى الظهر بذى الحليفة ركعتين، وأخرج معه نساءه كلهنّ فى الهوادج، وأشعر هديه وقلّده، ثم ركب ناقته، فلما استوى عليها بالبيداء أحرم من يومه، وكان على هديه ناجية بن جندب، وقيل: إنه أهلّ بالحج مفردا، وقيل: قرنه بعمرة، ومضى صلّى الله عليه وسلّم يسير المنازل ويؤمّ أصحابه فى الصلاة فى مساجد له قد بناها الناس، فكان يوم الاثنين بمرّ الظّهران، فغربت له الشمس بسرف، ثم أصبح فاغتسل ودخل مكة نهارا وهو على راحلته القصواء، وكان تحته الجزء: 17 ¦ الصفحة: 371 صلى الله عليه وسلّم رحل رثّ عليه قطيفة لا تساوى أربعة دراهم، وقال: «اللهم اجعله حجّا لا رياء فيه ولا سمعة» ، فدخل من أعلى مكة من كداء حتى انتهى إلى باب بنى شيبة، فلما رأى البيت رفع يديه فقال: «اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة، وزد من شرّفه وعظّمه ممّن حجّه واعتمره تشريفا وتكريما ومهابة وتعظيما وبرّا» ؛ ثم بدأ فطاف بالبيت، ورمل «1» ثلاثة أشواط من الحجر إلى الحجر، وهو مضطبع «2» بردائه، ثم صلّى خلف المقام ركعتين، ثم سعى بين الصفا والمروة على راحلته من فوره ذلك، وكان قد اضطرب بالأبطح، فرجع إلى منزله، فلما كان قبل يوم التروية بيوم خطب بمكة بعد الظهر، ثم خرج يوم التروية إلى منى، فبات بها، ثم غدا إلى عرفات، فوقف بالهضاب منها، وقال: «كلّ عرفة [موقف إلّا بطن عرنة «3» ] » ، فوقف على راحلته يدعو، فلما غربت الشمس دفع فجعل يسير العنق «4» حتى جاء المزدلفة، فنزل قريبا من الغار، فصلى المغرب والعشاء بأذان وإقامتين، ثم بات بها، فلما برق الفجر صلّى الصبح، ثم ركب راحلته، فوقف على قزح «5» وقال: «كلّ المزدلفة موقف إلّا بطن محسّر «6» » ، ثم دفع قبل طلوع الشمس، فلما بلغ إلى محسر أوضع «7» ، ولم يزل يلّبى حتى رمى جمرة العقبة، ثم نحر الهدى وحلق رأسه، وأخذ من شاربه وعارضيه، وقلم أظفاره، وأمر بشعره وأظفاره أن تدفن، ثم أصاب الطّيب، ولبس القميص، ونادى مناديه بمنّى: إنها أيّام أكل وشرب وباءة، وجعل يرمى الجمار فى كلّ يوم عند زوال الشمس، ثم خطب الغد من يوم النّحر بعد الظهر الجزء: 17 ¦ الصفحة: 372 على ناقته القصواء، ثم صدر يوم الصدر الآخر، وقال: «إنما هنّ ثلاث يقيمهنّ المهاجر بعد الصّدر» ، يعنى بمكة، ثم ودّع البيت، ثم انصرف راجعا إلى المدينة. ذكر الخطبة التى خطبها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال محمد بن إسحاق: خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطبته التى بيّن فيها ما بيّن، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «أيها الناس، اسمعوا قولى، فإنى لا أدرى لعلّى لا ألقاكم بعد عامى هذا بهذا الموقف أبدا. أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربّكم كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا، وإنكم ستلقون ربّكم فيسألكم عن أعمالكم، وقد بلّغت، فمن كانت عنده أمانة فليؤدّها إلى من ائتمنه عليها، وإن كلّ ربا موضوع، وإن لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، قضى الله أنه لا ربا، وأن ربا العبّاس بن عبد المطلب موضوع كله، وأن كلّ دم فى الجاهلية موضوع، وأن أوّل دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب- وكان مسترضعا فى بنى ليث، فقتلته هذيل- فهو أوّل ما أبدأ به من دماء الجاهلية» . «أما بعد، أيها الناس، فإن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه أبدا، ولكنّه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضى به، ممّا تحقرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم» . «أيها الناس، إن النّسىء زيادة فى الكفر يضلّ به الّذين كفروا يحلّونه عاما ويحرّمونه عاما ليواطئوا عدّة ما حرم الله فيحلّوا ما حرّم الله ويحرّموا ما أحلّ الله، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإنّ عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم، ثلاثة متوالية، ورجب مضر الّذى بين جمادى وشعبان» . الجزء: 17 ¦ الصفحة: 373 «اما بعد أيّها الناس، فإن لكم على نسائكم حقّا، ولهنّ عليكم حقّا، عليهنّ أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، وعليهنّ ألّا يأتين بفاحشة مبيّنة، فإن فعلن فإنّ الله قد أذن لكم أن تهجروهنّ فى المضاجع، وتضربوهنّ ضربا غير مبرّح، فإن انتهين فلهنّ رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف، واستوصوا بالنساء خيرا، فإنهنّ عندكم عوان، لا يملكن لأنفسهنّ شيئا، وإنكم إنما أخذتموهنّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهنّ بكلمات الله، فاعقلوا أيها الناس قولى، فإنّى قد بلّغت، وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلّوا أبدا، أمرا بيّنا: كتاب الله وسنّة نبيّه» . «أيها الناس، اسمعوا قولى واعقلوه، تعلّمن أن كلّ مسلم أخ للمسلم، وأن المسلمين إخوة، فلا يحل لأمرئ من أخيه إلّا ما أعطاه عن طيب نفس، فلا تظلمنّ أنفسكم، اللهم هل بلّغت» ، فقال الناس: اللهم نعم، فقال: «اللهم اشهد» . وقال ابن إسحاق أيضا: حدّثنى يحيى بن عبّاد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عبّاد، قال: كان الرجل الذى يصرخ فى الناس بقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بعرفة ربيعة بن أميّة بن خلف. قال: يقول له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قل يأيّها الناس إن رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- يقول: هل تدرون أىّ شهر هذا؟ فيقوله لهم، فيقولون: الشهر الحرام، فيقول لهم: «إن الله قد حرّم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربّكم كحرمة شهركم هذا» ، ثم يقول: «قل يأيّها الناس، إن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- يقول هل تدرون أىّ بلد هذا؟» قال: فيصرخ به؛ قال: فيقولون: البلد الحرام، قال: فيقول: «قل لهم: إن الله قد حرّم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة شهركم هذا» ، ثم يقول: «قل يأيّها الناس، إن رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- يقول هل تدرون أىّ يوم هذا» ؟ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 374 فيقولون: يوم الحجّ الأكبر؛ قال: فيقول: «قل لهم: إن الله قد حرّم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربّكم كحرمة يومكم هذا» . وعن عمرو بن خارجة قال: بعثنى عتّاب بن أسيد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى حاجة، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم واقف بعرفة، فبلغته، ثم وقفت تحت ناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإنّ لغامها «1» ليقع على رأسى، فسمعته وهو يقول: «أيها الناس؛ إن الله قد أدى إلى كل ذى حقّ حقّه، وإنه لا تجوز وصيّته لوارث، والولد للفراش، وللعاهر الحجر، ومن ادّعى إلى غير أبيه، أو تولّى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا» . وأمّا عمره صلّى الله عليه وسلّم فقد روى عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما، قال: اعتمر النبىّ صلّى الله عليه وسلّم أربع عمر: عمرة الحديبية، وهى عمرة الحصر، وعمرة القضاء من قابل، وعمرة الجعرانة، والرابعة التى مع حجّته. وعن قتادة: قلت لأنس بن مالك: كم اعتمر النبىّ صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: أربعا، عدّ منها عمرته مع حجّته، وقد قدّمنا ذكر عمرة الحديبية مع الغزوات، وذكرنا عمرة الجعرّانة عند ذكرنا لقسم مغانم حنين، وعمرته مع حجّته قد اختلف فيها. وأمّا عمرة القضاء فقد أوردها بعض أهل السّير فى الغزوات، وترجم عليها: «عمرة القضيّة» ، وحجّة من أوردها فى الغزوات أنه صلّى الله عليه وسلّم خرج معه السلاح، ولم يخرج به الجزء: 17 ¦ الصفحة: 375 صلى الله عليه وسلّم لقصد الغزاة، وإنما خرج به احتياطا. وكان من خبر هذه العمرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما استهل هلال ذى القعدة سنة سبع من مهاجره أمر أصحابه أن يعتمروا قضاء لعمرتهم التى صدّهم المشركون عنها بالحديبية، وألا يتخلف أحد ممن شهد الحديبية، فلم يتخلف منها إلا من مات أو قتل بخيبر، وخرج مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قوم من المسلمين عمّارا ممن لم يشهدا الحديبية، فكانوا فى عمرة القضيّة ألفين، واستخلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على المدينة أبا ذر الغفارىّ، حكاه ابن سعد- وقال ابن إسحاق: عويف بن الأضبط الدّيلىّ- وساق صلّى الله عليه وسلّم ستّين بدنة، وجعل على هدية ناجية بن جندب الأسلمىّ. قال ابن سعد: وحمل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم السلاح والبيض والدّروع والرماح، وقاد مائة فرس، فلما انتهى إلى ذى الحليفة، قدّم الخيل أمامه، عليها محمد بن مسلمة، وقدم السلاح، واستعمل عليه بشير بن سعد، وأحرم صلّى الله عليه وسلّم من باب المسجد، ولبّى والمسلمون معه يلبّون. ومضى محمد بن مسلمة فى الخيل إلى مرّ الظّهران فوجد بها نفرا من قريش، فسألوه، فقال: هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصبّح هذا المنزل غدا إن شاء الله، فأتوا قريشا بالخبر، ففزعوا، ونزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمرّ الظهران، وقدّم السلاح إلى بطن يأحج حيث [ينظر «1» ] إلى أنصاب الحرم، وخلّف عليه أوس بن خولىّ الأنصارى فى مائتى رجل، وخرجت قريش من مكة إلى رءوس الجبال، فقدّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الهدى أمامه، فحبس بذى طوى، وخرج على راحلته القصواء الجزء: 17 ¦ الصفحة: 376 والمسلمون متوشّحون السيوف، محدقون به صلّى الله عليه وسلّم يلبّون، فدخل على الثنية التى تطلعه على الحجون، وعبد الله بن رواحة آخذ بزمام راحلته وهو يقول: خلّوا بنى الكفّار عن سبيله ... خلّوا فكلّ الخير فى رسوله يا ربّ إنّى مؤمن بقيله ... أعرف حقّ الله فى قبوله نحن قتلناكم «1» على تأويله ... كما قتلناكم على تنزيله ضربا يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله قال ابن هشام: قوله «نحن قتلناكم على تأويله» إلى آخر الأبيات، لعمّار بن ياسر فى غير هذا اليوم. قال ابن سعد: ولما ارتجز ابن رواحة قال له عمر بن الخطّاب: إيّها «2» يابن رواحة! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا عمر، إنى أسمع» ؛ فأسكت عمر، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إيها «3» يابن رواحة!، قل لا إله إلا الله وحده، نصر عبده، وأعزّ جنده، وهزم الأحزاب وحده» ، فقالها ابن رواحة. ولم يزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يلبى حتى استلم الركن بمحجنه مضطبعا بثوبه، وطاف على راحلته، والمسلمون يطوفون معه وقد اضطبعوا بثيابهم، ثم طاف بين الصفا والمروة على راحلته، فلما كان الطواف السابع عند فراغه وقد وقف الهدى عند المروة قال: «هذا المنحر، وكلّ فجاج مكّة منحر» ، فنحر عند المروة، وحلق هناك، وكذلك فعل المسلمون، وأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ناسا منهم أن يذهبوا إلى أصحابهم ببطن يأجج فيقيموا على السلاح، ويأتى الآخرون فيقضوا نسكهم؛ ففعلوا، وأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة ثلاثا. وتزوج ميمونة بنت الحارث الهلاليّة، فلما كان عند الظهر من اليوم الرابع أتاه سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزّى الجزء: 17 ¦ الصفحة: 377 فقالا: قد انقضى أجلك، فاخرج عنّا، فأمر أبا رافع فنادى بالرحيل وقال: لا يمسينّ بها أحد من المسلمين، وأخرج عمارة بنت حمزة بن عبد المطلب من مكة، وركب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى نزل سرف وتتامّ الناس إليه، وأقام أبو رافع بمكة حتى أمسى، فحمل إليه ميمونة، فبنى عليها صلّى الله عليه وسلّم بسرف، ثم أدلج فسار حتى قدم المدينة، صلّى الله عليه وسلّم تسليما كثيرا. كمل الجزء السابع عشر من كتاب «نهاية الأرب فى فنون الأدب» للتويرىّ رحمه الله. ويليه الجزء الثامن عشر وأوّله: (وفادات العرب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم) . الجزء: 17 ¦ الصفحة: 378 [صورة ما جاء فى آخر هذا الجزء بنسخة ا] «كمل الجزء الخامس عشر من كتاب «نهاية الأرب فى فنون الأدب» للإمام النويرى رحمه الله، وكان الفراغ منه يوم الاثنين المبارك سلخ جمادى الأولى من شهور سنة سبع وستين وتسعمائة، وذلك على يد كاتبه نور الدين بن شرف الدين العاملىّ بلدا، الشافعىّ مذهبا، غفر الله له ذنوبه، وستر عيوبه، ولمن يدعو له بالمغفرة والرحمة ولوالديه. آمين» . [صورة ما جاء فى آخر هذا الجزء أيضا بنسخة ج] «كمل الجزء الخامس عشر من كتاب «نهاية الأرب فى فنون الأدب» على يد مؤلفه فقير رحمة ربه أحمد بن عبد الوهاب بن محمد بن عبد الدايم البكرى التيمى القرشى المعروف بالنويرى عفا الله عنهم، ووافق الفراغ من كتابته فى يوم الاثنين المبارك لسبع خلون من شهر رمضان المعظم عام اثنين وعشرين وسبعمائة أحسن الله تقضّيها بالقاهرة المعزّيّة. يتلوه إن شاء الله تعالى فى أوّل الجزء السادس عشر: ذكر وفادات العرب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» . الجزء: 17 ¦ الصفحة: 379 فهرس المراجع 1 الاستيعاب لابن عبد البر، حيدرآباد 1318 أسد الغابة فى معرفة الصحابة، الوهية 1280 الإصابة فى تمييز الصحابة، الشرفية بمصر 1325 الأغانى، طبع بولاق 1285 الأغانى، طبع دار الكتب المصرية. الإكمال لابن ماكولا، مخطوطة دار الكتب 17 مصطلح حديث إمتاع الأسماع للمقريزى، طبع لجنة التأليف والترجمة 1941 البداية والنهاية لابن كثير، السعادة بمصر 1351 تاريخ ابن الأثير، ليدن 1895 تاريخ الطبرى، ليدن 1889 م. تفسير الطبرى، بولاق. 1330 تفسير القرطبى، طبع دار الكتب المصرية. دلائل النبوّة للبيهقى، مخطوطة دار الكتب رقم 212 حديث ديوان الأعشين، بيانه 1927. ديوان حسان بن ثابت، الرحمانية 1347 2 ديوان الحماسة، طبع بن 1838 م. الروض الأنف للسهيلى، الجمالية 1332 السيرة النبوية لابن هشام، طبع الحلبى 1355 شرح السيرة لأبى ذر الخشنى، هندية بمصر 1329 شرح المواهب اللدنية للزرقانى، بولاق 1278 صحيح البخارى، بولاق 1296 صحيح مسلم، بولاق 1290 طبقات ابن سعد: ليدن 1322 الكشف والبيان للثعلبى، مخطوطة دار الكتب برقمى 256، 797 تفسير. عيون الأثر، القدسى 1356 معجم البلدان، جوتنجن 1899 م. معجم ما استعجم للبكرى، مطبعة لجنة التأليف والترجمة 1945 م. مغازى الواقدى، كلكتا 1855 م. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 381 استدراك ورد فى صفحة 53 سطر 6 البيت الآتى كما فى الأصلين: ولسنا على الأدبار تدمى كلومنا ... ولكن على أعقابنا تقطر الدّما وصوابه هكذا: فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أقدامنا تقطر الدّما وهو للحصين بن الحمام المرّى من قصيدة له أوّلها: تأخّرت أستبقى الحياة فلم أجد ... لنفسى حياة مثل أن أتقدما يقول: نحن لا نولّى فنجرح فى ظهورنا فتقطر دماؤنا على أعقابنا؛ ولكن نستقبل السيوف بوجوهنا؛ فإن إصابتنا جراح قطرت دماؤنا على أقدامنا. انظر لسان العرب (مادة دمى) ، والحماسة للتبريزى ص 93، والشعر والشعراء ص 630 الجزء: 17 ¦ الصفحة: 383 فهرس الجزء الثامن عشر من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويرىّ وفادات العرب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من وفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بمكة قبل الهجرة 1 وفد غفار، وقصة أبى ذرّ الغفارىّ، وسبب إسلامه وإسلام أخيه وأمّه، ثم إسلام غفار 2 طعام أبى ذرّ من ماء زمزم، وظهور فائدته وبركته، وما قال فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 4 وفد أزد شنوءة، وكيف كان إسلام ضماد 7 وفد همدان 8 عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لهمدان 11 وفادة الطّفيل بن عمرو الدّوسىّ وإسلامه، وذكر إحدى معجزاته صلّى الله عليه وسلّم 13 وفادة نصارى الحبشة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وما نزل فيهم من القرآن 15 من وفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد الهجرة وقبل الفتح 16 وفد عبس 17 وفد سعد العشيرة، وذكر صنمها فرّاص وتحطيمه 18 الجزء: مقدمةج 18 ¦ الصفحة: 1 وفد جهينة 18 وفد مزينة 19 وفد سعد بن بكر، وذكر ما كان من ضمام بن ثعلبة، رسول سعد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 20 وفد أشجع 22 وفد خشين والأشعرين وسليم وإسلام الخنساء 23 وفد دوس 26 وفد أسلم 27 وفد جذام 28 من وفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد فتح مكة وفد ثعلبة وأسد، وما نزل فى ذلك من القرآن 30 وفد تميم، وما وقع فى ذلك من مفاخرة بين تميم والأنصار بالخطب والشعر، وما نزل فى وفد تميم من القرآن 32 وفد فزارة، واستسقاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لهم 41 وفد مرّة 42 وفد محارب، وكلاب 43 وفد رؤاس بن كلاب 44 وفد عقيل بن كعب، وكتاب رسول الله لهم 45 وفد جعدة، وقشير بن كعب 47 وفد بنى البكّاء، وما ظهر فى ذلك من بركة رسول الله لبشر بن معاوية 48 وفد كنانة وبنى عبد بن عدىّ 49 وفد باهلة، وهلال بن عامر، ووفود زياد بن عبد الله 50 الجزء: مقدمةج 18 ¦ الصفحة: 2 وفد عامر بن صعصعة، وخبر عامر بن الطّفيل وأربد بن قيس، ومحاولة عامر وأربد اغتيال رسول الله، وما ظهر فى ذلك من عصمة الله رسوله، ونزول القرآن فى ذلك 51 خبر أحد طواغيت العرب 57 وفد ثقيف وإسلامها وهدم اللّات، وما فى ذلك من حصار الطائف، واستخدام الدبابات 59 عهد رسول الله لثقيف، وإرساله أبا سفيان لهدم اللّات 63 قضاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دينا من مال اللّات 65 وفد عبد القيس 65 وفد بكر بن وائل 67 خبر أعشى قيس، وذكر قصيدته التى مدح بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 68 وفد تغلب، وحنيفة 72 خبر مسيلمة الكذّاب، وادّعائه النبوة 73 وفد شيبان، وخبر قيلة بنت مخرمة مع حريث بن حسان فى شأن الدّهناء 74 وفادات أهل اليمن وفد طيئ وخبر زيد الخيل، وعدىّ بن حاتم 76 خبر عدىّ بن حاتم، وبعث رسول الله عليّا لهدم صنم طيئ وأسره سفّانة بنت حاتم 77 وفد تجيب 81 وفد خولان 82 وفد جعفىّ، وخبر الموءودة والوائدة التى سألوا عنهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 83 وفد مراد، وخبر فروة بن مسيك المرادىّ 84 الجزء: مقدمةج 18 ¦ الصفحة: 3 وفد زبيد، وأخبار عمرو بن معدى كرب 85 وفد كندة والهيئة الممتازة التى ظهروا بها 87 وفد الصّدف وسعد هذيم 89 وفد بلىّ وبهراء 90 وفد عذرة 91 وفد سلامان 92 وفد كلب، وعهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأهل دومة الجندل 93 وفد جرم، وخبر عمرو بن سلمة، وأنه كان يتلقّى القرآن من المسافرين وهو ابن ستّ 94 وفد الأزد وأهل جرش 96 وفد غسان، ووفد الحارث بن كعب 98 عهد رسول الله لعمرو بن حزم 100 وفد عنس 103 وفد الدارييّن وما كتب لهم به رسول الله، وما اختص به تميم الدارىّ وإخوته 104 وصف المؤلف للعهد النبوىّ الذى كتبه لتميم كما رآه فى بيت التميميين، ونص العهد 105 وفد الرّهاويّين 107 وفد غامد والنّخع، وذكر رؤيا رآها زراة بن عمر وفسّرها له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 108 وفد بجيلة، وبعث رسول الله جرير بن عبد الله البجلىّ لهدم ذى الخلصة وما ظهر من بركة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 110 وفد خثعم 111 وفد حضر موت، وذكر وائل بن حجر الحضرمىّ ملك الحضارم 112 الجزء: مقدمةج 18 ¦ الصفحة: 4 كتاب رسول الله لوائل بن حجر، وما فيه من جوامع الكلم، وأصول الأحكام 113 وفد مخوس بن معدى كرب أحد أقيال كندة 114 وفد أزد عمان، وإرسال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العلاء بن الحضرمىّ إلى عمان ليعلمهم الشرائع 114 وفد غافق وبارق، وكتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لبارق 115 وفد ثمالة والحدّان 116 وفد مهرة، وعهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لهم 117 وفد حمير، وعهد رسول الله لهم، وذكر رسل رسول الله إلى زرعة ذى يزن 118 وفد جيشان، وسلول 120 وفد نجران وسؤالهم رسول الله، وما أنزل الله فيهم من القرآن 121 ما يتوارثه رؤساء نجران من ذكر نبينا صلّى الله عليه وسلّم فى كتبهم 123 تفسير آيات من أوائل سورة آل عمران 124 ذكر آية المباهلة وتفسيرها، وما كان من تخوّف النصارى من المباهلة 134 كتاب أمير المؤمنين عمر لنجران 137 خبر إسلام الجنّ ودعائهم قومهم إلى الإيمان عند سماعهم القرآن 138 ذكر إخبار الجنّ أصحابهم بأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 141 خبر سواد بن قارب، وإخبار الجنّ له بمبعث رسول الله، وإنشادهم الشعر فى ذلك 142 خبر خفاف بن نضلة الثقفىّ 146 أول خبر قدم المدينة عن مبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان من الجنّ 147 الجزء: مقدمةج 18 ¦ الصفحة: 5 خبر تميم الدارىّ بما سمع من الجنّ 147 خبر أبى خريم فاتك، وما سمع من الجنّ عن مبعث رسول الله 147 خبر مالك بن نفيع 149 خبر ذباب وكلام الصنم فرّاص- أو فرّاض- وظهور جنىّ له فى صورة كلب وحديثه له 150 ما روى عن ربيعة بن أبى براء من إخبار الجنّ برسول الله صلّى الله عليه وسلّم 154 ذكر رسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الملوك وكتبه إليهم 156 ما نقش فى خاتمه عليه والسلام 157 ذكر تكلم رسله بلغة من أرسلوا إليهم بإلهام من الله، وخطبته فى رسله حين بعثهم 157 إرسال عمرو بن أمية الضّمرىّ إلى النجاشى ملك الحبشة 157 تزويج النجاشى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمّ حبيبة، وإصداقه إياها عنه 158 إرسال دحية الكلبىّ إلى قيصر ملك الروم، وكتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليه 158 حديث هرقل مع ركب قريش فى أمره عليه السلام 159 ما حصل من الروم عند سماعهم قراءة الكتاب النبوىّ، وقول ابن الناطور صاحب إيلياء 161 إرسال عبد الله بن حذافة السّهمىّ إلى كسرى 163 إرسال حاطب بن أبى بلتعة إلى المقوقس 164 إرسال شجاع بن وهب الأسدىّ إلى الحارث الغسانىّ ملك البلقاء 165 إرسال سليط بن عمرو العامرىّ إلى هوذة بن على ملك اليمامة 166 إرسال العلاء بن الحضرمىّ إلى المنذر ملك البحرين، ومعه أبو هريرة 166 الجزء: مقدمةج 18 ¦ الصفحة: 6 بعثه صلّى الله عليه وسلّم عمرو بن العاص إلى ملكى عمان 167 بعثه المهاجر بن أمية إلى ملك اليمن 168 بعثه أبا موسى الأشعرىّ ومعاذ بن جبل إلى اليمن، وجرير بن عبد الله البجلىّ إلى ذى الكلاع وذى عمرو 168 ذكر كتابه إلى جبلة بن الأيهم 169 إرساله الأمراء والعمال إلى الأقطار الإسلامية 169 أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمّ المؤمنين خديجة أوّل أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 170 سودة بنت زمعة 173 عائشة بنت أبى بكر الصدّيق 174 حكم من سبّ أبا بكر أو سبّ عائشة 175 حفصة بنت عمر بن الخطاب 176 زينب بنت خزيمة 178 أمّ سلمة هند بنت أبى أمية 179 زينب بنت جحش بن رئاب 180 ثناء عائشة على زينب بنت جحش 181 جويرية بنت الحارث 182 ريحانة بنت زيد بن عمر 184 أمّ حبيبة رملة بنت أبى سفيان، وذكر زواجها وهى بالحبشة 184 صفية بنت حيى بن أخطب 186 رؤيا صفية قبل زواجها برسول الله صلّى الله عليه وسلّم 187 ميمونة بنت الحارث 188 الجزء: مقدمةج 18 ¦ الصفحة: 7 ذكر من تزوّجهنّ صلّى الله عليه وسلّم ولم يدخل بهنّ ومن دخل بهنّ وطلقهنّ، ومن وهبت نفسها له فاطمة بنت الضحاك 190 عمرة بنت يزيد بن الجون 192 العالية بنت ظبيان، وأسماء بنت النعمان 192 أميمة بنت شراحيل 194 قتيلة بنت قيس 195 عمرة بنت معاوية الكندية، وأسماء بنت الصّلت 196 مليكة بنت كعب الليثى 197 ابنة جندب بن ضمرة الجندعىّ 197 الغفارية، وخولة بنت الهذيل، وشراف بنت خليفة الكلبية 198 خولة بنت حكيم، وليلى بنت الخطيم 199 ليلى بنت حكيم الأنصارية، وأم شريك غزية 201 الشّنباء 203 من خطبهنّ صلّى الله عليه وسلّم ولم يتفق تزويجهنّ أمّ هانئ بنت أبى طالب، وضباعة بنت عامر بن قرط 204 صفية بنت بشامة، وجمرة بنت الحارث، وسودة القرشية 205 أمامة بنت عمه حمزة 206 أزواجه صلّى الله عليه وسلّم من العرب وأزواجه من غيرهم 206 الخلاف فى عدد من تزوّجهنّ 207 سراريه صلّى الله عليه وسلّم 207 الجزء: مقدمةج 18 ¦ الصفحة: 8 أولاد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إبراهيم 208 وفاة إبراهيم وتأثره عليه السلام وما قاله حينئذ 210 زينب 211 رقية 212 فاطمة 213 أمّ كلثوم 214 ذكر أعمام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الحارث 215 قثم بن عبد المطلب، والزبير، وحمزة، والعباس 216 استسقاء عمر بالعباس 217 دعاء الاستسقاء 218 أولاد العباس 219 أبو طالب، وأبو لهب 220 عبد الكعبة، وحجل، وضرار، والغيداق 221 ذكر عمات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صفية 221 عاتكة بنت عبد المطلب، وأروى، وأميمة 222 برّة بنت عبد المطلب، وأمّ حكيم البيضاء 223 خدم رسول الله الأحرار وعددهم أنس بن مالك 223 هند وأسماء ابنا حارثة، وربيعة بن كعب 224 الجزء: مقدمةج 18 ¦ الصفحة: 9 عبد الله بن مسعود 225 عقبة بن عامر، وبلال بن رباح، وسعد مولى أبى بكر 226 ذو مخمر بن أخى النجاشى، وبكير بن شدّاخ، وأبو ذرّ الغفارىّ 227 أسلع بن شريك، وأبو سلام الهاشمىّ 228 موالى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زيد بن حارثة، وأسامة بن زيد، وثوبان بن بجدد 229 أبو كبشة، وأنسة، وشقران، ورباح، ويسار 230 أبو رافع، وأبو مويهبة، ورافع، وفضالة، ومدعم، وكركرة 231 زيد، وعبيد، وطهمان، ومابور، وواقد، وأبو ضميرة، وحنين 232 أبو عسيب، وسفينة، وأبو هند، وأنجشة 233 أنيسة، وأبو لبابة، ورويفع، وسعد 234 ذكر جماعة أخر من الموالى 234 موالى رسول الله من النساء 235 حراسه وكتّابه 236 رفقاؤه النجباء 237 صفاته الذاتية 237 وصف خاتم النبوّة 242 صفة شعره وطوله 242 عدد شيبه 243 ما كان يخضب به 244 صفاته المعنوية 245 ما ورد فى أكله وشربه ونومه والأصناف التى أكل منها، وأحبّ مأكول إليه 246 الجزء: مقدمةج 18 ¦ الصفحة: 10 نومه صلّى الله عليه وسلّم وضحكه 248 نكاحه صلّى الله عليه وسلّم وما يتصل به 249 خلقه، وحلمه، واحتماله، وعفوه، وبعض من عفا عنهم 250 جوده، وكرمه، وسخاؤه، وسماحته 253 شجاعته، ونجدته 254 حياؤه، وإغضاؤه 256 حسن عشرته وأدبه وبسط خلقه صلّى الله عليه وسلّم 256 عمله مع أصحابه 258 شفقته ورأفته ورحمته لجميع الخلق 259 وفاؤء وحسن عهده وصلته للرّحم 260 تواضعه صلّى الله عليه وسلّم 262 قصيدة فى شىء من صفاته 264 عدله وأمانته وعفته وصدق لهجته 265 وقاره وصمته وتؤدته ومروءته وحسن هديه 266 زهده فى الدنيا 267 خوفه من الله وطاعته له وشدة عبادته 268 نظافة جسمه، وطيب ريحه وعرقه، ونزاهته عن الأقذار، وعورات الجسد 270 حديث هند بن أبى هالة وما تضمنه من أوصافه الذاتية والمعنوية 271 مجلسه وما كان يصنع فيه 277 سيرته فى جلسائه 278 أحواله وما ناله من شدّة العيش فى دنياه 279 الجزء: مقدمةج 18 ¦ الصفحة: 11 تطيبه ولباسه وألوانه وأصنافه، وطوله وعرضه 283 الثياب الصّفر 284 الثياب الخضر والسواد من ثيابه، وأصناف لباسه وطولها وعرضها، والصوف وما ورد فيه 285 الحبرة من برود اليمن والسندس والحرير، وما ورد أنه لبسها ثم تركها 286 ما ورد فى ثيابه- صلى الله عليه وسلّم- القطنية وأنواعها 287 صفة إزرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودعائه عند لبسه جديدا 288 فراشه ووسادته 289 ما لبسه من الخواتم، والخلاف فى ذلك 290 نعله وخفاه ومرآته وقدحه وغير ذلك من أثاثه 292 ما ورد فى حجامته وحجّامه، وما قال فى الحجامة 294 سلاحه وأصنافه وأسماؤه 296 ذكر دوابه من الخيل والبغال والحمير وأسمائها 299 ذكر أنعامه من إبل وغنم وأسمائها وعددها 301 معجزاته 302 أعظم معجزاته صلّى الله عليه وسلّم وهى القرآن، ووجوه إعجازه 303 الكلام على انشقاق القمر 308 رجوع الشمس بعد غروبها، وحبسها 310 نبع الماء من بين أصابعه صلّى الله عليه وسلّم 311 تفجير الماء وانبعاثه وتكثيره ببركته ودعائه 312 تكثير الطعام ببركته ودعائه 314 كلام الشجرة وشهادتها له بالنبوّة 318 الجزء: مقدمةج 18 ¦ الصفحة: 12 قصة حنين الجذع إليه 320 نطق الجمادات له 321 كلام الحيوانات وسكونها إذا رأته صلّى الله عليه وسلّم 323 تسخير الأسد لسفينة مولاه صلّى الله عليه وسلّم 327 كلام الأموات والأطفال له 328 إبراء المرضى وذوى العاهات بريقه صلّى الله عليه وسلّم 330 شفاء الجراحات بتفله 332 إجابة دعائه 333 انقلاب الأعيان بلمسه ومباشرته 335 إخباره بالغيوب 337 عصمته من الناس 342 ما جمعه الله له من العلوم والمعارف 344 القصيدة الشّقراطيسية فى معجزاته، وصفاته صلّى الله عليه وسلّم 347 ما أنزل عليه عند اقتراب أجله 359 استغفاره صلّى الله عليه وسلّم لأهل البقيع 361 ذكر ابتداء وجعه واستئذانه نساءه أن يمرض فى بيت عائشة 363 خطبته وأمره بسد الأبواب إلى مسجده إلا باب أبى بكر 364 ما قاله فى مرضه لأبى بكر 366 أمره أبا بكر أن يصلى بالناس فى مرضه 367 ما اتفق فى مرضه ولدّه 372 الكتاب الذى أراد أن يكتبه ثم تركه لما وقع عنده من التنازع 373 وصية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند المرض 374 ما قاله عمر عند ما كثر اللغط، والاختلاف فى حضرته صلّى الله عليه وسلّم 374 الجزء: مقدمةج 18 ¦ الصفحة: 13 ذكر أقوال العلماء فى الاعتذار عن عمر 375 اختلاف العلماء فى معنى الحديث: «أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا» 376 ما وصّى به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى مرضه الذى مات فيه 378 الدنانير التى قسمها فى مرضه الذى مات فيه 380 تخيير رسول الله بين الدنيا والآخرة عند الموت 382 ما قاله رسول الله عند نزول الموت به 383 ذكر وفاته 383 وفاته فى حجر عائشة 384 ما حدث عند وفاته فى الناس من شك فى وفاته وهلع البعض، وخطبة أبى بكر فيهم 385 غسل رسول الله، وتعزية الحضر عليه السلام فيه 388 تكفينه 391 الصلاة عليه 392 قبره ولحده وفرشه، ومن دخل قبره، ووقت دفنه، ومدة حياته 393 وقت دفنه ومدة مرضه، وسنّه 395 ميراثه وما روى فيه 396 ما نال أصحابه من الحزن على فقده 398 رثاؤه صلّى الله عليه وسلّم والقصائد فى رثائه 399 الجزء: مقدمةج 18 ¦ الصفحة: 14 الجزء الثامن عشر [ تتمة الفن الخامس في التاريخ ] [ تتمة القسم الخامس من الفن الخامس في أخبار الملة الإسلامية ] [ تتمة الباب الأول من القسم الخامس في سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وبه توفيقى ذكر وفادات العرب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما يتّصل بذلك كانت أكثر وفادات العرب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى السنة التاسعة من الهجرة؛ ولذلك سمّيت سنة الوفود. وذلك أنّ العرب إنما كانوا ينتظرون فتح مكة وإسلام هذا الحىّ من قريش؛ فلما فتح الله عز وجل على رسوله صلّى الله عليه وسلّم مكة- شرفها الله تعالى- وأسلم من أسلم من قريش، وفدت عند ذلك وفادات العرب من كل قبيلة وجهة، ودخلوا فى دين الله أفواجا، كما قال الله تعالى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً. وقد رأينا إيراد ذلك على نحو ما أورده أبو عبد الله محمد بن سعد بن منيع فى طبقاته الكبرى، ونذكر ما أورده ابن سعد ممّن ذكرهم أبو محمد عبد الملك ابن هشام رحمه الله، إلا أنّا نبدأ من ذلك بذكر من وفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بمكة قبل هجرته إلى المدينة، ثم نذكر من وفد عليه صلّى الله عليه وسلّم بعد هجرته إلى المدينة وقبل فتح مكّة، نقدّمهم على حسب السابقة، ثم نذكر من عدا هؤلاء من الوفود الذين وفدوا فى سنة تسع وما بعدها؛ نرتّبهم على ما رتّبهم محمد ابن سعد فى طبقاته فى التقديم والتأخير، ونستثنى منهم من تقدّم ذكره؛ فنقول وبالله التوفيق: الجزء: 18 ¦ الصفحة: 1 ذكر من وفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بمكّة قبل الهجرة وفد عليه صلّى الله عليه وسلّم وهو بمكة غفار، وأزد شنوءة، وهمدان، والطّفيل بن عمرو الدّوسىّ، ونصارى الحبشة. ذكر وفد غفار وقصّة أبى ذرّ الغفارىّ فى سبب إسلامه روى الشّيخ الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقى رحمه الله فى كتابه المترجم ب «دلائل النبوة» بسنده إلى عبد الله بن الصّامت، قال قال أبوذرّ رضى الله عنه: خرجنا عن قومنا غفار، وكانوا يحلّون الشّهر الحرام، فخرجت أنا وأخى أنيس وأمنّا، فانطلقنا حتى نزلنا على خال لنا ذى مال وذى هيئة «1» ، فأكرمنا وأحسن إلينا، فحسدنا قومه، فقالوا له: إنك إذا خرجت عن أهلك خالف إليهم أنيس، قال: فجاء خالنا فنثا «2» علينا ما قيل له؛ فقلت له: أمّا ما مضى من معروفك فقد كدّرته، ولا جماع «3» لك فيما بعد. قال: فقرّبنا صرمتنا «4» فاحتملنا عليها [ويغطّى خالنا ثوبه فجعل يبكى «5» ] وانطلقنا حتى نزلنا بحضرة مكّة، فنافر أنيس عن صرمتنا وعن مثلها، فأتينا الكاهن فحبّر «6» أنيسا، فأتانا بصرمتنا ومثلها معها. قال أبو ذرّ: وقد صلّيت يا بن أخى قبل أن ألقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بثلاث سنين. قال ابن الصامت: فقلت لمن؟ قال: لله. قلت: فأين توجّه؟ قال: أتوجّه حيث وجّهنى «7» الله؛ أصلّى عشاء الجزء: 18 ¦ الصفحة: 2 حتى إذا كان من آخر الليل ألقيت كأنى خفاء «1» - يعنى الثوب- حتى تعلونى الشمس. فقال أنيس: إنّ لى صاحبا «2» بمكة فاكفنى حتى آتيك. فانطلق أنيس حتى أتى مكة فراث «3» علىّ، ثم أتانى فقلت: ما حبسك؟ قال: لقيت رجلا بمكة يزعم أن الله أرسله على دينك «4» . قال: قلت ماذا يقول الناس فيه؟ قال: يقولون إنه شاعر وساحر وكاهن. قال: وكان أنيس أحد الشّعراء- وفى رواية عنه: والله ما سمعت بأشعر من أخى أنيس- لقد ناقض اثنى عشر شاعرا فى الجاهلية أنا أحدهم. قال فقال أنيس: لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أقراء الشّعر «5» فلم يلتئم، وما يلتئم والله على لسان أحد بعدى أنه شعر، وو الله إنه لصادق وإنهم لكاذبون. قال: قلت له هل أنت كافىّ حتى أنطلق فأنظر؟ فقال: نعم! وكن من أهل مكة على حذر، فإنهم قد شنفوا «6» له وتجهّموا. فانطلقت حتى قدمت مكة، فتضعّفت «7» رجلا منهم فقلت: أين هذا الذى تدعونه الصابئ؟ قال: فأشار إلىّ، الصابئ «8» ! فمال علىّ أهل الوادى بكل مدرة وعظم حتى خررت مغشيا علىّ. قال: فارتفعت حين ارتفعت كأنّى نصب «9» أحمر، فأتيت زمزم فشربت من مائها، وغسلت عنّى الدّم، ودخلت بين الكعبة وأستارها، ولقد لبثت يا بن أخى ثلاثين من بين ليلة ويوم ومالى طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسّرت عكن بطنى، وما وجدت على كبدى سخفة جوع «10» . قال: فبينما أهل مكة فى ليلة الجزء: 18 ¦ الصفحة: 3 قمراء إضحيان «1» ، قد ضرب الله على أصمخة أهل مكة فما يطوف بالبيت أحد غير امرأتين وهما تدعوان إسافا ونائلة «2» ، فأتتا علىّ فى طوافهما فقلت: أنكحا إحداهما الأخرى، فما ثناهما ذلك عما قالتا «3» . فأتتا علىّ فقلت: هن مثل الخشبة غير أنّى لا أكنى، فانطلقتا تولولان وتقولان: لو كان ها هنا أحد من أنفارنا! قال: فاستقبلهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر وهما هابطان من الجبل، فقال لهما: ما لكما؟ قالتا: الصّابئ بين الكعبة وأستارها. قالا: ما قال لكما؟ قالتا: قال لنا كلمة تملأ الفم. فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو وصاحبه [فاستلم الحجر ثم طاف بالبيت هو وصاحبه «4» ] ثم صلّى، فلما قضى صلاته قال أبو ذرّ: فأتيته فكنت أوّل من حيّاه بتحيّة الإسلام؛ فقال: «وعليك ورحمة الله» ، ثم قال: «ممن أنت» ؟ قلت: من غفار، قال: فأهوى بيده فوضع يده على جبينه، فقلت فى نفسى: كره أنى انتميت إلى غفار، قال: فأهويت لآخذ بيده، فقدعنى «5» صاحبه وكان أعلم به منّى، ثم رفع رأسه فقال: «متى كنت هاهنا» ؟ قلت: منذ ثلاثين من ليلة ويوم «6» ، قال: «فمن كان يطعمك» ؟ قلت: ما كان لى من طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتّى تكسّرت عكن بطنى، وما وجدت على كبدى سخفة جوع، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنها مباركة، إنها طعام طعم «7» ، وشفاء سقم» فقال أبو بكر: يا رسول الله! إيذن لى فى إطعامه الليلة، ففعل، فانطلق رسول الله الجزء: 18 ¦ الصفحة: 4 صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر، وانطلقت معهما حتى فتح أبو بكر بابه، فجعل يقبض لنا من زبيب الطّائف، فكان ذاك أوّل طعام أكلته بها، قال: فغبرت «1» ما غبرت، ثم أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنى وجّهت إلى أرض ذات نخل لا أحسبها إلا يثرب، فهل أنت مبلغ عنّى قومك لعل الله أن ينفعهم بك، ويأجرك فيهم» ؛ قال: فانطلقت حتى أتيت أخى أنيسا فقال لى: ما صنعت؟ قلت: أسلمت وصدّقت، قال: فما بى رغبة عن دينك، فإنى قد أسلمت وصدّقت. ثم أتينا أمّنا، فقالت: مابى رغبة عن دينكما، فإنى قد أسلمت وصدقت، قال: ثم احتملنا حتى أتينا قومنا غفارا، فأسلم نصفهم قبل أن يقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، وكان يؤمّهم خفاف بن إيماء ابن رحضة الغفارىّ، وكان سيّدهم يومئذ «2» ، وقال بقيتهم: إذا قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسلمنا؛ فقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة فأسلم بقيّتهم؛ وجاءت أسلم، فقالوا: يا رسول الله! إخواننا «3» ؛ نسلم على الذى أسلموا عليه. فأسلموا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «غفار غفر الله لها وأسلم سالمها الله» . وهذه الرواية فى خبر إسلام أبى ذرّ؛ قد روى مسلم فى صحيحه نحوها، وهى تخالف رواية البخارىّ. وروى البيهقىّ عن أبى ذرّ قال: كنت ربع «4» الإسلام، أسلم قبلى ثلاثة نفر وأنا الرابع؛ أتيت النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فقلت: السلام عليك يا رسول الله، أشهد الجزء: 18 ¦ الصفحة: 5 أن لا إله إلا الله وأنّ محمدا عبده ورسوله، فرأيت الاستبشار فى وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وروى أبو عمر بن عبد البر بسنده إلى ابن عباس رضى الله عنهما، قال: لما بلغ أبا ذر مبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة قال لأخيه أنيس: اركب إلى هذا الوادى، فاعلم لى علم هذا الرجل الذى يزعم أنه يأتيه الخبر من السماء، واسمع من قوله، ثم ايتنى؛ فانطلق حتى قدم مكة وسمع من قوله ثم رجع، فقال: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وسمعت منه كلاما ما هو بالشعر. قال: ما شفيتنى فيما أردت، فتزوّد وحمل شنّة له فيها ماء حتى قدم مكة فأتى المسجد، فالتمس النبىّ صلّى الله عليه وسلّم ولا يعرفه، وكره أن يسأل عنه حتى أدركه الليل، فاضطجع فرآه علىّ بن أبى طالب؛ فقال: كأنّ الرجل غريب، قال: نعم، قال انطلق إلى المنزل، قال: فانطلقت معه لا يسألنى عن شىء ولا أسأله، فلما أصبحت من الغد رجعت إلى المسجد، وبقيت يومى حتى أمسيت وصرت إلى مضجعى، فمرّ بى علىّ بن أبى طالب، فقال: أما آن للرّجل أن يعرف منزله؟ فأقامه وذهب به معه، وما يسأل واحد منهما صاحبه عن شىء، حتى إذا كان اليوم الثالث فعل مثل ذلك، فأقامه علىّ معه، ثم قال: ألا تحدّثنى ما الذى أقدمك هذا البلد؟ قال: إن أعطيتنى عهدا وميثاقا لترشدنى فعلت؛ ففعل؛ فأخبره علىّ أنه نبىّ، وأنّ ما جاء به حقّ، وأنّه رسول الله، قال: فإذا أصبحت فاتّبعنى، فإنى إن رأيت شيئا أخاف عليك قمت كأنّى أريق الماء، فإن مضيت فاتبعنى حتى تدخل مدخلى، قال: فانطلقت أقفوه حتى دخل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ودخلت معه وحبيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بتحيّة الإسلام، فقلت: السلام عليك يا رسول الله! فكنت أوّل من حياه بتحية الإسلام، فقال: «وعليك السلام، من الجزء: 18 ¦ الصفحة: 6 أنت» ؟ قلت: رجل من غفار، فعرض علىّ الإسلام، فأسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فقال لى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ارجع إلى بلاد قومك، وأخبرهم، واكتم أمرك عن أهل مكة، فإنى أخشاهم عليك» ، فقلت: والذى نفسى بيده لأصرحنّ بها بين أظهرهم، فخرج حتى أتى المسجد فنادى بأعلى صوته! أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، فثاب «1» القوم إليه فضربوه حتى أضجعوه، وأتى العباس فأكبّ عليه وقال: ويلكم! أولستم تعلمون أنّه من غفار، وأنّ طريق تجاركم إلى الشام عليهم! وأنقذه منهم، ثم عاد إلى مثلها، وثاروا «2» إليه فضربوه، فأكب عليه العباس فأنقذه، ثم لحق بقومه. وكان هذا أوّل إسلام أبى ذرّ. ومن رواية الّليت بن سعد عن يزيد بن أبى حبيب قال: قدم أبو ذرّ على النبى صلّى الله عليه وسلّم وهو بمكة فأسلم، ثم رجع إلى قومه، فكان يسخر بآلهتهم، ثم إنه قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة، فلمّا رآه وهم فى اسمه، فقال: «أنت أبو نملة» ؟ قال: أنا أبو ذرّ، قال: «نعم أبو ذرّ» . ذكر وفد أزد شنوءة وكيف كان إسلام ضماد روى أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقىّ- رحمه الله- بسنده إلى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضى الله عنهم، قال: قدم ضماد «3» مكة، وهو رجل من أزد شنوءة، وكان يرقى من هذه الرياح، فسمع سفهاء الناس «4» يقولون: إنّ محمدا الجزء: 18 ¦ الصفحة: 7 مجنون، فقال: آتى هذا الرجل لعل الله أن يشفيه على يدىّ، قال: فلقيت محمدا، فقلت: إنى أرقى من هذه الرياح، وإن الله يشفى على يدى من يشاء، فهلمّ؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادى له، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله» ثلاث مرات، فقال: تالله لقد سمعت قول الكهنة، وقول السّحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل هؤلاء الكلمات، فهلمّ يدك أبايعك على الإسلام، فبايعه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال له: «وعلى قومك» ؟ فقال: وعلى قومى، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سريّة فمرّوا بقوم ضماد، فقال صاحب الجيش للسريّة: هل أصبتم من هؤلاء شيئا؟ فقال رجل منهم: مطهرة» ، فقال: «ردّوها عليهم فإنهم قوم ضماد» . رواه مسلم فى صحيحه. وروى القاضى عياض بن موسى فى كتابه المترجم ب (الشّفا، بتعريف حقوق المصطفى) : أن ضمادا قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أعد علىّ كلماتك هؤلاء فلقد بلغن قاموس البحر «2» ، هات يديك أبايعك. ذكر وفد همدان قال محمد بن سعد رحمه الله تعالى: أخبرنا هشام بن محمد، قال: حدثنا حبّان ابن هانئ بن مسلم بن قيس بن عمرو بن مالك بن لأى الهمدانىّ ثم الأرحبىّ «3» عن أشياخهم، قالوا: قدم قيس بن مالك بن سعد «4» بن مالك بن لأى الأرحبىّ على رسول الجزء: 18 ¦ الصفحة: 8 الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بمكة، فقال: يا رسول الله أتيتك لأومن بك وأنصرك؛ فقال له: «مرحبا بك، أتأخذونى بما فىّ يا معشر همدان» ؟ قال: نعم؛ بأبى أنت وأمّى، قال: «فاذهب إلى قومك، فإن فعلوا فارجع أذهب معك» ، فخرج قيس إلى قومه، فأسلموا واغتسلوا فى جوف المحورة «1» - وهو ماء يغتسلون فيه- وتوجّهوا إلى القبلة، ثم خرج «2» بإسلامهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: قد أسلم قومى وأمرونى أن آخذك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نعم وافد القوم قيس» ، وقال: «وفّيت وفّى الله بك» ، ومسح بناصيته، وكتب عهده على قومه همدان: أحمورها «3» وعربها وخلائطها ومواليها أن يسمعوا له ويطيعوا، فإنّ لهم ذمّة الله وذمّة رسوله ما أقمتم الصّلاة وآتيتم الزّكاة؛ وأطعمه ثلاثمائة فرق «4» ، من خيوان مائتان: زبيب وذرة شطران «5» ، ومن عمران الجوف «6» مائة فرق برّ، جارية أبدا من مال الله. ومن طريق آخر له قال: عرض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نفسه بالموسم على قبائل العرب، فمرّ به رجل من أرحب يقال له: عبد الله بن قيس بن أمّ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 9 غزال، فقال: «هل عند قومك من منعة» ؟ قال: نعم، فعرض عليه الإسلام، فأسلم، ثم إنه خاف أن يخفره قومه «1» فوعده الحجّ من قابل، ثم وجّه الهمدانىّ يريد قومه، فقتله رجل من بنى زبيد يقال له ذباب، ثم إن فتية من أرحب قتلوا ذبابا الزّبيدىّ بعبد الله بن قيس. هذا قبل الهجرة. وأما بعد الهجرة، فقد روى محمد بن إسحق رحمه الله، قال: قدم وفد همدان على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، منهم مالك بن نمط، وأبو ثور وهو ذو المشعار، ومالك بن أيفع، وضمام بن مالك السّلمانى، وعميرة بن مالك الخارفّى، فلقوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرجعه من تبوك، وعليهم مقطّعات الحبرات «2» والعمائم العدنيّة، برحال الميس «3» على المهريّة «4» والأرحبيّة «5» ، ومالك بن نمط، ورجل آخر؟؟ رتجزان بالقوم؛ يقول أحدهما: همدان خير سوقة وأقيال «6» ... ليس لها فى العالمين أمثال محلّها الهضب «7» ومنها الأبطال ... لها إطابات «8» بها وآكال الجزء: 18 ¦ الصفحة: 10 ويقول الآخر: إليك جاوزن سواد الرّيف ... فى هبوات «1» الصّيف والخريف مخطّمات بجبال اللّيف «2» فقام مالك بن نمط بين يديه، ثم قال: يا رسول الله! نصيّة «3» من همدان من كل حاضر وباد، أتوك على قلص نواج «4» ، متّصلة بحبائل الإسلام، لا تأخذهم فى الله لومة لائم، من مخلاف «5» خارف ويام وشاكر، أهل السّود «6» والقود، أجابوا دعوة الرسول، وفارقوا آلهات الأنصاب، عهدهم لا ينقض ما أقامت لعلع «7» ، وما جرى اليعفور «8» بضلع. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نعم الحىّ همدان، ما أسرعها إلى النّصر، وأصبرها على الجهد، ومنهم أبدال «9» ، وفيهم أوتاد الإسلام» ، وكتب لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتابا؛ فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم. كتاب من [محمد «10» ] رسول الله لمخلاف خارف وأهل جناب «11» الهضب وحقاف «12» الرّمل، مع الجزء: 18 ¦ الصفحة: 11 وافدها ذى المشعار مالك بن نمط، ومن أسلم من قومه، على أن لهم فراعها «1» ووهاطها «2» وعزازها «3» ، يأكلون علافها «4» ، ويرعون عافيها «5» ، لنا منهم من دفئهم «6» وصرامهم «7» ما سلّموا بالميثاق والأمانة، ولهم من الصّدقة الثّلب «8» والنّاب والفصيل «9» والفارض «10» والدّاجن «11» والكبش الحورىّ «12» ، وعليهم فيها الصّالغ «13» والقارح «14» ما أقاموا الصلاة وآتوا الزّكاة، لهم بذلك عهد الله وذمام رسول الله عليه السلام، وشاهدهم المهاجرون والأنصار «15» » . الجزء: 18 ¦ الصفحة: 12 ذكر وفادة الطّفيل بن عمرو الدّوسىّ وإسلامه قال محمد بن إسحق رحمه الله تعالى: كان الطّفيل بن عمرو الدّوسى يحدّث أنه قدم مكّة ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم بها، فمشى إليه رجال من قريش- وكان الطّفيل رجلا شريفا شاعرا لبيبا- فقالوا له: يا طفيل! إنك قدمت بلادنا، وهذا الرجل الذى بين أظهرنا قد أعضل بنا، قد فرّق بين جماعتنا، وشتّت أمرنا، وإنما قوله كالسّحر يفرّق بين الرجل وبين أبيه، وبين الرجل وبين أخيه، وبين الرجل وبين زوجته، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا، فلا تكلمنه، ولا تسمعن منه شيئا. قال الطّفيل: فو الله ما زالوا بى حتى أجمعت على ألّا أسمع منه شيئا ولا أكملّه، حتى حشوت فى أذنى حين غدوت إلى المسجد كرسفا «1» فرقا «2» من أن يبلغنى شىء من قوله، وأنا لا أريد أن أسمعه «3» ! قال: فغدوت إلى المسجد، فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قائم يصلّى عند الكعبة، فقمت منه قريبا، فأبى الله إلّا أن يسمعنى بعض قوله، فسمعت كلاما حسنا، فقلت فى نفسى: واثكل أمّى؛ والله إنّى لرجل لبيب شاعر، وما يخفى علىّ الحسن من القبيح، فما يمنعنى أن أسمع من هذا الرجل ما يقول؟ فإن كان الذى يأتى به حسنا قبلته، وإن كان قبيحا تركته، قال: فمكثت حتى انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى بيته، فاتبعته حتى إذا دخل بيته [دخلت عليه «4» ] فقلت: يا محمد إنّ قومك قد قالوا لى كذا وكذا- للذى قالوا- فو الله ما برحوا يخوّفوننى أمرك حتى سددت أذنى بكرسف ألا أسمع قولك، ثم أبى الله إلا أن يسمعنى قولك، فسمعت قولا حسنا، فاعرض علىّ أمرك. قال: الجزء: 18 ¦ الصفحة: 13 فعرض علىّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الإسلام، وتلا علىّ القرآن، فلا والله ما سمعت قولا قطّ أحسن منه، ولا أمرا أعدل منه، فأسلمت، وشهدت شهادة الحقّ، فقلت: يا نبىّ الله! إنى امرؤ مطاع فى قومى، وأنا راجع إليهم فداعيهم إلى الإسلام، فادع الله أن يجعل لى آية تكون لى عونا عليهم فيما أدعوهم إليه. فقال: «اللهم اجعل له آية» ، فخرجت إلى قومى، حتى إذا كنت بثنيّة تطلعنى على «1» الحاضر وقع نور بين عينى مثل المصباح؛ قلت: اللهم فى غير وجهى! إنّى أخشى أن يظنوا أنها مثلة وقعت فى وجهى لفراقى دينهم، قال: فتحوّل النّور فوقع فى رأس سوطى، فجعل الحاضر يتراءون ذلك النّور فى سوطى كالقنديل المعلّق، وأنا أهبط إليهم من الثّنية حتى جئتهم، فأصبحت فيهم، قال: فلما نزلت أتانى أبى وكان شيخا كبيرا، فقلت: إليك عنّى يا أبت، فلست منك ولست منّى، قال: لم يا بنىّ؟ قلت: أسلمت وتابعت دين محمد، قال: أى بنىّ! فدينى دينك، قلت: فاذهب واغتسل، وطهّر ثيابك، ثم تعال حتى أعلّمك مما علّمت، فذهب فاغتسل وطهّر ثيابه ثم جاء، فعرضت عليه الإسلام فأسلم، ثم أتتنى صاحبتى، فقلت: إليك عنّى فلست منك ولست منّى، قالت: لم؟ بأبى أنت وأمّى! قلت: فرّق بينى وبينك الإسلام، وتابعت دين محمد عليه السلام. قالت: فدينى دينك، قلت: فاذهبى إلى حنا ذى الشّرى «2» - قال ابن هشام: ويقال حمى ذى الشّرى- فتطهّرى منه. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 14 قال: وكان ذو الشّرى صنما لدوس، وكان الحنا حمى حموه له، وبه وشل من ماء يهبط من جبل، [قال] فقالت: بأبى أنت وأمّى، أتخشى على الصّبيّة «1» من ذى الشّرى شيئا؟ قلت: [لا، أنا ضامن لك «2» ] ، قال: فذهبت فاغتسلت، ثم جاءت، فعرضت عليها الإسلام فأسلمت، ثم دعوت دوسا إلى الإسلام فأبطئوا علىّ، ثم جئت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة، فقلت له: يا نبىّ الله! إنّه قد غلبنى على دوس الزّنى «3» ، فادع الله عليهم، فقال: «اللهمّ اهد دوسا، ارجع إلى قومك فادعهم وارفق بهم» ، قال: فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الإسلام، حتى هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة، ثم أسلموا بعد ذلك، ووفدوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ما نذكر ذلك- إن شاء الله تعالى- فيمن وفد بعد الهجرة. ذكر وفد نصارى الحبشة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإسلامهم قال محمد بن إسحق: قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بمكة عشرون رجلا أو قريب من ذلك من النّصارى حين بلغهم خبره من الحبشة، فوجدوه فى المسجد، فجلسوا إليه وكلّموه، وسألوه- ورجال من قريش فى أنديتهم حول الكعبة- فلما فرغوا من مسألته صلّى الله عليه وسلّم دعاهم إلى الله، وتلا عليهم القرآن، فلما سمعوه فاضت أعينهم من الدّمع، ثم استجابوا لله تعالى وآمنوا به الجزء: 18 ¦ الصفحة: 15 وصدّقوه، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم فى كتابهم من أمره، فلمّا قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام فى نفر من قريش، فقالوا لهم: خيّبكم الله من ركب! بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرّجل، فلم تطمئنّ مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم، وصدّقتموه بما قال، ما نعلم ركبا أحمق منكم! فقالوا لهم: سلام عليكم لا نجاهلكم، لنا ما نحن عليه، ولكم ما أنتم عليه، لم نأل أنفسنا خيرا. ويقال: إن النّفر من أهل نجران. والله أعلم. فيقال فيهم أنزل الله قوله: «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ» . إلى قوله: «لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ «1» » : وقيل: إنما نزلت هذه الآيات فى النّجاشى وأصحابه، والآيات التى فى سورة «المائدة» قوله تعالى: «ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ» . إلى «الشّاهدين «2» » ، وكان ممّن وفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بمكة الأوس والخزرج، وقد تقدم ذكرهم فى بيعة العقبة. ذكر من وفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد الهجرة وقبل الفتح وفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد الهجرة وقبل فتح مكّة: عبس، وسعد العشيرة، وجهينة، ومزينة، وسعد بن بكر، وأشجع، وخشين، والأشعرون، وسليم، ودوس، وأسلم، وجذام. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 16 ذكر وفد عبس قال محمد بن سعد: وفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تسعة رهط من بنى عبس فكانوا من المهاجرين الأوّلين، منهم ميسرة «1» بن مسروق، والحارث بن الربيع- وهو الكامل- وقنان «2» بن دارم، وبشر بن الحارث بن عبادة، وهدم «3» بن مسعدة، وسباع بن زيد، وأبو الحصن بن لقمان، وعبد الله بن مالك، وفروة بن الحصين بن فضالة فأسلموا؛ فدعا لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بخير، وقال: «أبغونى رجلا يعشركم أعقد لكم لواء» فدخل طلحة بن عبيد الله فعقد لهم لواء، وجعل شعارهم: يا عشرة. وقال من طريق آخر: بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن عيرا لقريش أقبلت من الشام [فبعث «4» ] بنى عبس فى سرية وعقد لهم لواء، فقالوا: يا رسول الله! كيف نقسم غنيمة إن أصبناها ونحن تسعة؟ قال: «أنا عاشركم» . وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قدم ثلاثة نفر من بنى عبس على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: إنه قدم علينا قوم «5» فأخبرونا أنه لا إسلام لمن لا هجرة له، ولنا أموال ومواش هى معاشنا، فإن كان لا إسلام لمن لا هجرة له بعناها وهاجرنا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اتقوا الله حيث كنتم، فلن يلتكم من أعمالكم شيئا، ولو كنتم بصمد «6» وجازان «7» » . الجزء: 18 ¦ الصفحة: 17 ذكر وفد سعد العشيرة قال محمد بن سعد بسنده إلى عبد الرحمن بن أبى سبرة الجعفىّ قال: لمّا سمعت سعد العشيرة بخروج النبى صلّى الله عليه وسلّم وثب ذباب- رجل من بنى أنس الله بن سعد العشيرة- إلى صنم يقال له فرّاص فحطمه، ثم وفد إلى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فأسلم، وقال: تبعت رسول الله إذ جاء بالهدى ... وخلّفت فرّاصا بدار هوان شددت عليه شدّة فتركته ... كأن لم يكن والدّهر ذو حدثان» فلمّا رأيت الله أظهر دينه ... أجبت رسول الله حين دعانى فأصبحت للإسلام ما عشت ناصرا ... وألقيت فيها كلكلى وجرانى «2» فمن مبلغ سعد العشيرة أنّنى ... شريت الّذى يبقى بآخر فانى ذكر وفد جهينة قال ابن سعد: لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، وفد إليه عبد العزّى بن بدر بن زيد بن معاوية الجهنىّ، ومعه أخوه لأمه أبو روعة وهو ابن عم له، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعبد العزّى: «أنت عبد الله» وقال لأبى روعة: «أنت رعت العدوّ إن شاء الله» وقال: «من أنتم» ؟ قالوا: بنو غيّان، قال: «أنتم بنو رشدان» وكان اسم واديهم غوى فسماه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رشدا، وقال لجبلى جهينة الأشعر والأجرد: «هما من جبال الجنة الجزء: 18 ¦ الصفحة: 18 لا تطؤهما فتنة» ، وخطّ لهم مسجدهم، وهو أوّل مسجد خطّ بالمدينة، وجاء من جهينة عمرو بن مرّة الجهنىّ. روى عنه محمد بن سعد بسنده إليه قال: كان لنا صنم، وكنا نعظّمه، وكنت سادنه، فلما سمعت برسول الله صلّى الله عليه وسلّم كسرته، وخرجت حتى أقدم المدينة على النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فقدمت فأسلمت وشهدت شهادة الحقّ، وآمنت بما جاء به من حلال وحرام، فذلك حين أقول: شهدت بأنّ الله حقّ وأنّنى ... لآلهة الأحجار أوّل تارك وشمّرت عن ساقى الإزار مهاجرا ... إليك أجوب الوعث بعد الدّكادك «1» لأصحب خير النّاس نفسا ووالدا ... رسول مليك النّاس فوق الحبائك «2» قال: فبعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام، فأجابوه إلّا رجلا واحدا ردّ عليه قوله، فدعا عليه عمرو بن مرّة فسقط فوه، فما كان يقدر على الكلام، وعمى واحتاج. ذكر وفد مزينة وهذا الوفد هو أوّل ما بدأ به محمد بن سعد من الوفود فى طبقاته، فقال: كان أول من وفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مضر أربعمائة من مزينة «3» ، وذلك فى شهر رجب سنة خمس، فجعل لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الهجرة فى دارهم وقال: «أنتم مهاجرون حيث كنتم فارجعوا إلى أموالكم» فرجعوا إلى بلادهم. وقال محمد بن سعد بسند يرفعه إلى أبى مسكين، وأبى عبد الرحمن العجلانىّ، «4» الجزء: 18 ¦ الصفحة: 19 قالا: قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نفر من مزينة، منهم خزاعىّ بن عبد نهم «1» فبايعه على قومه مزينة، وقدم معه عشرة منهم، فيهم بلال بن الحارث، والنعمان ابن مقرّن «2» ، ثم خرج إلى قومه فلم يجدهم كما ظنّ فأقام، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حسّان بن ثابت، فقال: «اذكر خزاعيّا ولا تهجه» فقال حسّان: ألا أبلغ خزاعيا رسولا ... بأنّ الذّمّ يغسله الوفاء وأنّك خير عثمان بن عمرو ... وأسناها إذا ذكر السّناء وبايعت الرّسول وكان خيرا ... إلى خير وآداك «3» الثّناء فما يعجزك أو ما لا تطقه ... من الأشياء لا تعجز عداء قال: و «عداء» بطنه الذى هو منه. فقام خزاعىّ فقال: يا قوم! قد خصّكم شاعر الرجل، فأنشدكم الله «4» . قالوا: فإنّا لا ننبو عليك «5» ؛ فأسلموا ووفدوا على النبى صلّى الله عليه وسلّم. فدفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لواء مزينة يوم الفتح إلى خزاعىّ، وكانوا يومئذ ألف رجل. ذكر وفد سعد بن بكر قال محمد بن إسحق: بعثت بنو سعد بن بكر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلا منهم يقال له ضمام «6» بن ثعلبة- قال ابن سعد: فى شهر رجب سنة خمس «7» - الجزء: 18 ¦ الصفحة: 20 قال ابن إسحق بسنده إلى ابن عباس: فقدم وأناخ بعيره على باب المسجد ثم عقله «1» ، ثم دخل المسجد ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالس فى أصحابه. قال: وكان ضمام رجلا جلدا «2» أشعر ذا غديريتين، فأقبل حتّى وقف على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى أصحابه، فقال أيّكم ابن عبد المطلب؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أنا ابن عبد المطلب» . قال: أمحمّد؟ قال: «نعم» . قال: يابن عبد المطلب! إنى سائلك ومغلظ عليك فى المسئلة، فلا تجد «3» في نفسك. قال: «لا أجد فى نفسى، فاسأل عما بدا لك» قال: أنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك، وإله من هو كائن بعدك، آلله بعثك إلينا رسولا؟ قال: «اللهمّ نعم» قال: فأنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك، وإله من هو كائن بعدك، آلله امرك أن تأمرنا أن نعبده وحده، لا نشرك به شيئا، وأن نخلع هذه الأنداد التى كان آباؤنا يعبدون معه؟ قال: «اللهمّ نعم» . قال: فأنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك، وإله من هو كائن بعدك، آلله أمرك أن نصلّى هذه الصلاة الخمس؟ قال: «نعم» . قال: ثم جعل يذكر فرائض الإسلام فريضة فريضة: الزّكاة، والصّيام، والحج وشرائع الإسلام كلّها، ينشده عن كلّ فريضة منها كما ينشده فى التى قبلها، حتى إذا فرغ قال: فإنّى أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وسأودّى هذه الفرائض، وأجتنب ما نهيتنى عنه، ثم لا أزيد ولا أنقص. ثم انصرف إلى بعيره راجعا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن صدق ذو العقيصتين «4» دخل الجنة» الجزء: 18 ¦ الصفحة: 21 قال: فأتى بعيره فأطلق عقاله، ثم خرج حتى قدم على قومه، فاجتمعوا إليه، فكان أوّل ما تكلم به: بئست اللّات والعزّى! فقالوا: مه يا ضمام! اتّق البرص، اتق الجذام، اتّق الجنون! قال: ويلكم! إنهما والله لا ينفعان ولا يضران، إن الله قد بعث رسولا وأنزل عليه كتابا، فاستنقذكم «1» به مما كنتم فيه، وإنى أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمّدا عبده ورسوله، وقد جئتكم من عنده بما أمركم به، ونهاكم عنه، قال: فو الله ما أمسى من ذلك اليوم فى حاضره «2» رجل أو امرأة إلا مسلما. قال: يقول عبد الله بن عباس- رضى الله عنهما- فما سمعنا بوافد قوم كان أفضل من ضمام بن ثعلبة. ذكر وفد أشجع قال «3» : وقدمت أشجع على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عام الخندق، وعام الخندق سنة خمس من الهجرة، وهم مائة، رأسهم مسعود «4» بن رخيلة بن نويرة ابن طريف، فنزلوا شعب سلع «5» ، فخرج إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأمر لهم بأحمال التمر، فقالوا: يا محمد! لا نعلم أحدا من قومنا أقرب دارا منك منّا، ولا أقلّ عددا، وقد ضقنا بحربك وبحرب قومك، فجئنا نوادعك، فوادعهم. ويقال: بل قدمت أشجع بعد ما فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من بنى قريظة، وهم سبعمائة فوادعهم. ثم أسلمو بعد ذلك. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 22 ذكر وفد خشين قال أبو عبد الله محمد بن سعد: قدم أبو ثعلبة الخشنىّ على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يتجهّز إلى خيبر، فأسلم وخرج معه فشهد خيبر، ثم قدم بعد ذلك سبعة نفر من خشين فنزلوا على أبى ثعلبة، فأسلموا وبايعوا ورجعوا إلى قومهم. ذكر وفد الأشعرين قالوا: وقدم الأشعرون «1» على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهم خمسون رجلا؛ منهم أبو موسى الأشعرى، ومعهم رجلان من عكّ. وقدموا فى سفن فى البحر، وخرجوا بجدّة، فلما دنوا من المدينة جعلوا يقولون: غدا نلقى الأحبّة ... محمّدا وحزبه ثم قدموا فوجدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى سفره بخيبر، فلقوه صلّى الله عليه وسلّم فبايعوه وأسلموا؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الأشعرون فى الناس كصرّة فيها مسك» «2» . ذكر وفد سليم قالوا: وقدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجل من بنى سليم، يقال له قيس ابن نسيبة «3» ، فسمع كلامه، وسأله عن أشياء فأجابه، ووعى ذلك كلّه، ودعاه رسول الله الجزء: 18 ¦ الصفحة: 23 صلى الله عليه وسلّم إلى الإسلام، فأسلم ورجع إلى قومه، فقال: قد سمعت برجمة «1» الروم، وهينمة «2» فارس، وأشعار العرب، وكهانة الكاهن، وكلام مقاول حمير، فما يشبه كلام محمد شيئا من كلامهم، فأطيعونى وخذوا بنصيبكم منه. فلما كان عام الفتح خرجت بنو سليم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلقوه بقديد «3» وهم سبعمائة. ويقال: كانوا ألفا. وفيهم العباس بن مرداس السّلمى، وأنس بن عبّاس بن رعل، وراشد بن عبد ربه «4» ، فأسلموا وقالوا: اجعلنا فى مقدّمتك، واجعل لواءنا أحمر، وشعارنا مقدّم «5» ، ففعل ذلك بهم. وأعطى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم راشدا رهاطا «6» وفيها عين يقال لها عين الرّسول. قال: وكان راشد يسدن «7» صنما لبنى سليم، فرأى يوما ثعلبين يبولان عليه، فقال: أربّ يبول الثّعلبان برأسه ... لقد ذلّ من بالت عليه الثّعالب ثم شدّ عليه فكسره. وأتى النبى صلّى الله عليه وسلّم، فقال له: «ما اسمك» ؟ قال: غاوى بن عبد العزّى، فقال: «أنت راشد بن عبد ربّه» فأسلم وحسن إسلامه وشهد الفتح. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خير بنى سليم راشد» وعقد له على قومه. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 24 وروى محمد بن سعد أيضا، عن هشام بن محمد، قال حدّثنى رجل من بنى سليم من بنى الشّريد، قال: وفد رجل منا يقال له قدد «1» بن عمّار على النبى صلّى الله عليه وسلّم، وعاهده على أن يأتيه بألف من قومه على الخيل؛ وأنشأ يقول: شددت يمينى إذ أتيت محمّدا ... بخير يد شدّت بحجزة مئزر وذاك امرؤ قاسمته نصف دينه ... وأعطيته كفّ «2» امرئ غير أعسر ثم أتى قومه فأخبرهم الخبر، فخرج معه تسعمائة، وخلّف فى الحىّ مائة، وأقبل يريد النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فنزل به الموت، فأوصى إلى ثلاثة رهط من قومه؛ وهم: عباس بن مرداس وأمّره على ثلاثمائة، وجبّار بن الحكم وأمره على ثلاثمائة، والأخنس بن يزيد وأمّره على ثلاثمائة. وقال: ايتوا هذا الرحل حتى تقضوا العهد الذى فى عنقى ثم مات، فمضوا حتى قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «أين الرجل الحسن الوجه، الطويل اللسان، الصادق الأيمان» ؟. قالوا: يا رسول الله! دعاه الله فأجابه، وأخبروه خبره؛ فقال: «أين تكملة الألف الذين عاهدنى عليهم» ؟. قالوا: خلّف مائة فى الحىّ مخافة حرب «3» كان بيننا وبين بنى كنانة، قال: «ابعثوا إليها فإنه لا يأتيكم فى عامكم هذا شىء تكرهونه» . فبعثوا إليها فأتته بالهدّة «4» وعليها المنقع «5» بن مالك بن أمية، فشهدوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الفتح وحنين. وللمنقع يقول العباس بن مرداس: القائد المائة التى وفّى بها ... تسع المئين فتمّ ألف أقرع «6» الجزء: 18 ¦ الصفحة: 25 وحكى أبو عمر بن عبد البر فى ترجمة خنساء بنت عمرو بن الشّريد السّلمية الشاعرة- واسمها تماضر بنت عمرو بن الشّريد بن رباح بن ثعلبة بن عصية بن خفاف بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم- أنها قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع قومها من بنى سليم فأسلمت معهم. قال: فذكروا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يستنشدها، ويعجبه شعرها، فكانت تنشده، وهو يقول: «هيه «1» يا خناس» ويومئ «2» بيده. وشهدت الخنساء القادسيّة مع بنيها الأربعة. وسنذكر إن شاء الله خبرها معهم يوم القادسية، ووصيتها لهم فى الحرب فى خلافة عمر بن الخطاب، عند ذكرنا لفتح القادسية. ذكر وفد دوس «3» قالوا: لمّا أسلم الطّفيل بن عمرو الدّوسىّ- كما تقدم- دعا قومه فأسلموا، وقدم معه منهم المدينة سبعون أو ثمانون أهل بيت. وفيهم أبو هريرة وعبد الله ابن أزيهر الدّوسىّ، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم بخيبر، فساروا إليه فلقوه هناك، فيقال: إنه قسم لهم من غنائم خيبر، ثم قدموا معه المدينة. فقال الطّفيل ابن عمرو: يا رسول الله! لا تفرّق بينى وبين قومى، فأنزلهم حرّة «4» الدّجاج، فقال أبو هريرة حين خرج من دار قومه: الجزء: 18 ¦ الصفحة: 26 يا طولها من ليلة وغنائها ... على أنّها «1» من بلدة الكفر نجّت وقال عبد الله بن أزيهر: يا رسول الله! إن لى فى قومى سلطة ومكانا فاجعلنى عليهم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا أخادوس، إن الإسلام بدأ غريبا، وسيعود غريبا، فمن صدق الله نجا، ومن آل إلى غير ذلك هلك. إن أعظم قومك ثوابا أعظمهم صدقا، ويوشك الحقّ أن يغلب الباطل» . وروى أبو عمر بسنده إلى محمد بن سيرين أنه قال: بلغنى أنّ دوسا إنّما أسلمت فرقا من قول كعب بن مالك الأنصارى الخزرجى: قضينا من تهامة كلّ وتر ... وخيبر ثم أغمدنا السّيوفا «2» نخيّرها ولو نطقت لقالت ... قواطعهنّ: دوسا أو ثقيفا [فقالت دوس: انطلقوا فخذوا لأنفسكم لا ينزل بكم ما نزل بثقيف «3» ] . ذكر وفد أسلم قالوا: قدم عمير بن أفضى فى عصابة من أسلم، فقالوا: لقد آمنا بالله ورسوله، واتّبعنا منهاجك، فاجعل لنا عندك منزلة، تعرف العرب فضيلتنا، فإنّا إخوة الأنصار، ولك علينا الوفاء، والنّصر فى الشّدّة والرّخاء، فقال رسول الجزء: 18 ¦ الصفحة: 27 الله صلّى الله عليه وسلّم: «أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها» . وكتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأسلم، ومن أسلم من قبائل العرب ممن يسكن السّيف «1» والسّهل كتابا؛ فيه ذكر الصدقة والفرائض فى المواشى. وكتب الصّحيفة ثابت ابن قيس، وشهد أبو عبيدة وعمر بن الخطاب رضى الله عنهم. ذكر وفد جذام قالوا: قدم رفاعة بن زيد بن عمير بن معبد الجذامىّ «2» ، ثم أحد بنى الضّبيب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى الهدنة قبل خيبر، وأهدى له عبدا وأسلم، فكتب له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتابا؛ فيه: «هذا كتاب من محمد رسول الله، لرفاعة بن زيد إلى قومه، ومن دخل معهم، يدعوهم إلى الله، فمن أقبل ففى حزب الله، ومن أبى فله أمان شهرين» فأجابه قومه وأسلموا. قال ابن إسحق وغيره: وبعث فروة بن عمرو بن النّافرة الجذامىّ، ثم النّفاثىّ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رسولا بإسلامه، وأهدى له بغلة بيضاء، واسم رسوله مسعود بن سعد وهو من قومه، فقرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتابه، وقبل هديته، وأجاز رسوله باثنتى عشرة أوقية ونشّ «3» ، وكتب إلى فروة جواب كتابه. وكان فروة عاملا للروم على من يليهم من العرب، وكان منزله معان «4» وما حولها من أرض الشام، فلما بلغ الروم إسلامه طلبوه فحبسوه عندهم؛ فقال: فى محبسه ذلك: الجزء: 18 ¦ الصفحة: 28 طرقت سليمى موهنا أصحابى ... والرّوم بين الباب والقروان «1» صدّ الخيال وساءه ما قد رأى ... وهممت أن أغفى «2» وقد أبكانى لا تكحلنّ العين بعدى إثمدا «3» ... سلمى ولا تدننّ للإتيان ولقد علمت أبا كبيشة أنّنى ... وسط الأعزّة لا يحصّ «4» لسانى فلئن هلكت لتفقدنّ أخاكم ... ولئن بقيت لتعرفنّ مكانى ولقد جمعت أجلّ ما جمع الفتى ... من جودة وشجاعة وبيان قال: فلما أجمعت الرّوم لصلبه على ماء لهم بفلسطين يقال له عفراء «5» قال: ألا هل أتى سلمى بأنّ حليلها ... على ماء عفرا فوق إحدى الرّواحل «6» على ناقة لم يضرب الفحل أمّها ... مشذّبة أطرافها بالمناجل قال: ولما قدّموه ليضربوا عنقه قال: أبلغ سراة المؤمنين بأنّنى ... سلم لربىّ أعظمى ومقامى فضربوا عنقه وصلبوه على ذلك الماء. هذا ما تلخص لنا من أخبار من وفد بعد الهجرة وقبل الفتح، فلنذكر من وفد بعد الفتح. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 29 ذكر من وفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد فتح مكة شرّفها الله تعالى وعظمها ولنبدأ من ذلك ب ذكر وفد ثعلبة ؛ لأنه أوّل وفد كان بعد الفتح. ثم نذكر من وفد فى سنة تسع من الهجرة وما بعدها، ونورده نحو ما أورده أبو عبد الله محمد بن سعد فى طبقاته، إلا أنا نستثنى منهم من قدّمنا ذكره بحكم سابقتهم، وتقدّم إسلامهم. ذكر وفد ثعلبة قال أبو عبد الله محمد بن سعد رحمه الله: لمّا قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الجعرانة «1» ، فى سنة ثمان من الهجرة، قدم عليه أربعة نفر، وقالوا: نحن رسل من خلفنا من قومنا، ونحن وهم مقرّون بالإسلام، فأمر لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بضيافة، وأقاموا أياما ثم جاءوا ليودّعوه فأمر بلالا أن يجيزهم، كما يجيز الوفد، فجاء بنقر «2» من فضّة فأعطى كل رجل منهم خمس أواق، وقال: «ليس عندنا دراهم» وانصرفوا إلى بلادهم. ذكر وفد أسد قال محمد بن سعد: قدم عشرة رهط من بنى أسد بن خزيمة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فى أوّل سنة تسع من الهجرة، فيهم حضرمىّ بن عامر، وضرار ابن الأزور، فقال حضرمىّ: يا رسول الله! أتيناك نتدرّع الليل البهيم «3» ، فى سنة الجزء: 18 ¦ الصفحة: 30 شهباء «1» ، ولم تبعث إلينا بعثا، فنزل فيهم قوله عز وجل: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «2» . قال: وكان معهم قوم من بنى الزّنية وهم بنو مالك بن مالك بن ثعلبة بن دودان ابن أسد، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أنتم بنو الرّشدة» . وقال أبو إسحق أحمد بن محمد الثعلبىّ رحمه الله: إنّ نفرا من بنى أسد، ثم من بنى الحلاف «3» بن الحارث بن سعيد، قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة فى سنة جدبة، فأظهروا شهادة أن لا إله إلا الله، ولم يكونوا مؤمنين فى السّر، وأفسدوا طرق المدينة بالعذرات، وأغلوا أسعارها، وكانوا يغدون ويروحون على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويقولون: أتتك الرب بأنفسها، على ظهور رواحلها، وجئناك بالأثقال والعيال والذّرارىّ- يمنّون على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان. ويريدون الصّدقة، ويقولون: أعطنا. فأنزل الله عز وجل فيهم: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا «4» الآيات. وقيل: نزلت فى الأعراب: مزينة، وجهينة، وأسلم، وأشجع، وغفار. وكانوا يقولون: آمنّا بالله؛ ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم، فلما استنفروا إلى الحديبية تخلّفوا، فأنزل الله فيهم: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا أى انقدنا واستسلمنا مخافة القتل والسّبى وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ فأخبر تعالى أن حقيقة الأيمان التصديق بالقلب، وأن الإقرار باللسان، وإظهار شرائعه بالأبدان، لا يكون إيمانا دون الإخلاص الذى محلّه القلب. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 31 ذكر وفد تميم قال أبو عبد الله محمد بن سعد: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد بعث بشر بن سفيان. ويقال: النّحّام «1» العدوىّ على صدقات بنى كعب من خزاعة، فجاء وقد حلّ بنو احيهم بنو عمرو بن جندب بن العنبر بن عمرو بن تميم، فجمعت خزاعة مواشيها للصدقة، فاستنكرت ذلك بنو تميم، وأبوا وابتدروا القسىّ، وشهروا السّيوف، فقدم المصدّق «2» على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره «3» ؛ فقال: «من لهؤلاء القوم» ؟ فانتدب لهم عيينة بن حصن، فبعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى خمسين فارسا من العرب، ليس فيهم مهاجرىّ ولا أنصارىّ فأغار عليهم، فأخذ منهم أحد عشر رجلا، وإحدى عشرة امرأة، وثلاثين صبيا، فجلبهم إلى المدينة، فقدم فيهم عدّة من رؤساء بنى تميم، منهم عطارد بن حاجب، والزّبرقان بن بدر، وقيس بن عاصم، وقيس بن الحارث، ونعيم بن سعد، والأقرع بن حابس، ورياح ابن الحارث، وعمرو بن الأهتم، وغيرهم كما ذكرنا ذلك فى الغزوات فى خبر سريّة عيينة. قال ويقال: كانوا تسعين أو ثمانين رجلا. قال ابن إسحق: والحتات بن يزيد أحد بنى دارم. قال: ومعهم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزارىّ، قالوا: فدخلوا المسجد وقد أذّن بلال بالظهر؛ والناس ينتظرون خروج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فعجلوا واستبطئوه، فنادوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من وراء حجراته: يا محمد! اخرج إلينا. فخرج رسول الجزء: 18 ¦ الصفحة: 32 الله صلّى الله عليه وسلّم، وأقام «1» بلال، فصلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الظهر، ثم أتوه؛ فقال الأقرع بن حابس: يا محمد، ايذن لى، فو الله إنّ حمدى لزين، وإنّ ذمّى لشين. فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كذبت، ذاك الله تبارك وتعالى» . حكاه ابن سعد. وحكى محمد بن إسحق أنهم قالوا: يا محمد، جئناك لنفاخرك، فأذن لشاعرنا وخطيبنا. قال: «قد أذنت لخطيبكم فليقل» ، فقام عطارد بن حاجب، فقال: الحمد لله الذى له علينا الفضل والمنّ؛ وهو أهله الذى جعلنا ملوكا، ووهب لنا أموالا عظاما، نفعل فيها المعروف، وجعلنا أعزّ أهل المشرق وأكثره عددا، وأيسره عدّة، فمن مثلنا فى الناس؟ ألسنا برءوس الناس وأولى فضلهم؟ فمن فاخرنا فليعدّد مثل ما عدّدنا، وإنّا لو نشاء لأكثرنا الكلام، ولكنا نحيا «2» من الإكثار فيما أعطانا، وإنّا نعرف [بذلك] «3» ] . أقول هذا «4» لأن تأتونا بمثل قولنا، وأمر أفضل من أمرنا. ثم جلس. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لثابت بن قيس بن الشّمّاس أخى بنى الحارث ابن الخزرج: «قم فأجب الرجل فى خطبته» . فقام ثابت فقال: الحمد لله الذى السموات والأرض خلقه، قضى فيهنّ أمره، ووسع كرسيّه علمه، ولم يك شىء قطّ إلا من فضله، وكان من قدرته أن جعلنا ملوكا، واصطفى من خير خلقه رسولا، أكرمه نسبا، وأصدقه حديثا، وأفضله حسبا، فأنزل عليه الجزء: 18 ¦ الصفحة: 33 كتابه، وائتمنه على [خلقه «1» ] فكان خيرة الله من العالمين، ثم دعا الناس إلى الإيمان به، فآمن برسول الله صلّى الله عليه وسلّم المهاجرون من قومه وذوى رحمه؛ أكرم الناس أحسابا، وأحسن الناس وجوها، وخير الناس فعالا. ثم كان أوّل الخلق إجابة، واستجاب لله حين دعاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نحن؛ فنحن أنصار الله، ووزراء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، نقاتل الناس حتى يؤمنوا بالله، فمن آمن بالله ورسوله منع ماله ودمه، ومن كفر جاهدناه فى الله أبدا، وكان قتله علينا يسيرا. أقول هذا وأستغفر الله لى وللمؤمنين والمؤمنات. والسلام عليكم. فقام الزّبرقان بن بدر، فقال: نحن الكرام فلا حىّ يعادلنا ... منّا الملوك وفينا تنصب البيع «2» [ويروى: «وفينا يقسم الرّبع» ، بدل «تنصب البيع «3» » ] . ... وكم قسرنا من الأحياء كلّهم عند النّهاب وفضل العزّ يتّبع ... ونحن يطعم عند القحط مطعمنا من الشّواء إذا لم يؤنس القزع «4» ... بما ترى الناس تأتينا سراتهم من كلّ أرض هويّا ثم نصطنع «5» [ويروى: من كلّ أرض هوانا ثم نتّبع «6» ] الجزء: 18 ¦ الصفحة: 34 فننحر الكوم عبطا فى أرومتنا ... للنّازلين إذا ما أنزلوا شبعوا «1» فلا ترانا إلى حىّ نفاخرهم ... إلّا استقادوا وكانوا الرأس يقتطع فمن يفاخرنا فى ذاك نعرفه ... فيرجع القوم والأخبار تستمع إنّا أبينا ولم يأبى «2» لنا أحد ... إنّا كذلك عند الفخر نرتفع قال محمد بن إسحق: وكان حسان بن ثابت غائبا، فبعث إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال حسان: جاءنى رسوله فأخبرنى أنه إنما دعانى لأجيب شاعر بنى تميم، فخرجت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا أقول: منعنا رسول الله إذ حلّ وسطنا ... على أنف راض من معدّ وراغم منعناه لمّا حلّ بين بيوتنا ... بأسيافنا من كلّ باغ وظالم ببيت حريد عزّه وثراؤه ... بجابية الجولان وسط الأعاجم «3» هل المجد إلّا السّودد «4» العود والنّدى ... وجاه الملوك واحتمال العظائم قال: فلما انتهيت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقام شاعر القوم فقال ما قال، عرضت فى قوله وقلت على نحو ما قال. قال: ولما فرغ الزّبرقان من إنشاده، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لحسّان بن ثابت: «قم فأجب الرجل» فقام حسّان فقال: الجزء: 18 ¦ الصفحة: 35 إنّ الذّوائب من فهر وإخوتهم ... قد بيّنوا سنّة للناس تتّبع «1» يرضى بها كلّ من كانت سريرته ... تقوى الإله وكلّ الخير يصطنع «2» [ويروى: يرضى بها كلّ من كانت سريرته ... تقوى الإله وبالأمر الذى شرعوا «3» ] قوم إذا جاربوا ضرّوا عدوّهم ... أو حاولوا النّفع فى أشياعهم نفعوا «4» سجيّة تلك منهم غير محدثة ... إنّ الخلائق فاعلم شرّها البدع «5» إن كان فى الناس سبّاقون بعدهم ... فكلّ سبق لأدنى سبقهم تبع لا يرقع النّاس ما أوهت أكفّهم ... عند الرّقاع ولا يوهون ما رقعوا «6» إن سابقوا الناس يوما فاز سبقهم ... أو وازنوا أهل مجد بالذّرى متعوا «7» أعفّة ذكرت فى الوحى عفّتهم ... لا يطبعون ولا يرديهم طمع «8» الجزء: 18 ¦ الصفحة: 36 لا يبخلون على جار بفضلهم ... ولا يمسّهم من مطمع طبع «1» إذا نصبنا لحىّ لا ندبّ لهم ... كما يدبّ إلى الوحشيّة الذّرع «2» تسمو إذا الحرب نالتنا مخالبها ... إذا الزّعانف من أظفارها خشعوا «3» لا يفخرون إذا نالوا عدوّهم ... وإن أصيبوا فلا خور ولا هلع «4» كأنّهم فى الوغى والموت مكتنع ... أسد بحلية فى أرساغها فدع «5» خذ منهم ما أتى عفوا إذا غضبوا ... ولا يكن همّك الأمر الذى منعوا «6» فإنّ فى حربهم فاترك عداوتهم ... شرّا يخاض عليه السّمّ والسّلع» أكرم بقوم رسول الله شيعتهم ... إذا تفاوتت الأهواء والشّيع «8» أهدى لهم مدحتى قلب يؤازره ... فيما أحبّ لسان حائك صنع «9» فإنّهم أفضل الأحياء كلّهم ... إن جدّ بالناس جدّ القول أو شمعوا «10» الجزء: 18 ¦ الصفحة: 37 وقال أبو محمد عبد الملك بن هشام رحمه الله: حدّثنى بعض أهل العلم بالشعر من بنى تميم أن الزّبرقان بن بدر لمّا قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى وفد بنى تميم، قام فقال: أتيناك كيما يعلم الناس فضلنا ... إذا اختلفوا عند احتضار المواسم «1» بأنّا فروع الناس فى كلّ موطن ... وأن ليس فى أرض الحجاز كدارم «2» وأنّا نذود المعلمين إذا انتخوا ... ونضرب رأس الأصيد المتفاقم «3» وأنّ لنا المرباع فى كلّ غارة ... نغير بنجد أو بأرض الأعاجم «4» فقام حسان بن ثابت فأجابه، فقال: هل المجد إلّا السّودد العود «5» والنّدى ... وجاه الملوك واحتمال العظائم نصرنا وآوينا النّبىّ محمدا ... على أنف راض من معدّ وراغم بحىّ حريد أصله وثراؤه «6» ... بجابية الجولان وسط الأعاجم نصرناه لمّا حلّ وسط ديارنا ... بأسيافنا من كلّ باغ وظالم الجزء: 18 ¦ الصفحة: 38 جعلنا بنينا دونه وبناتنا ... وطبنا له نفسا بفىء «1» المغانم ونحن ضربنا الناس حتّى تتابعوا ... على دينه بالمرهفات الصّوارم «2» ونحن ولدنا من قريش عظيمها ... ولدنا نبىّ الخير من آل هاشم «3» بنى دارم لا تفخروا إنّ فخركم ... يعود وبالا عند ذكر المكارم «4» هبلتم، علينا تفخرون وأنتم ... لنا خول من بين ظئر وخادم «5» فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم ... وأموالكم أن تقسموا فى المقاسم فلا تجعلوا لله ندّا وأسلموا ... ولا تلبسوا زيّا كزىّ الأعاجم «6» وأفضل ما نلتم من المجد والعلا ... ردافتنا عند احتضار المواسم «7» قالوا: فلما فرغ حسّان من قوله، قال الأقرع بن حابس: وأبى، إنّ هذا الرجل لمؤتّى له «8» ، لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا، ولأصواتهم أعلى من أصواتنا، ولهم أحلم منّا. ونزل فى وفد بنى تميم قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ. وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ «9» . الجزء: 18 ¦ الصفحة: 39 قال محمد بن سعد: وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى قيس بن عاصم: «هذا سيّد أهل الوبر» وردّ عليهم الأسرى والسّبى، وأمر لهم بالجوائز كما كان يجيز الوفد؛ ثنتى عشرة أوقية ونشّا «1» ، وهى خمسمائة درهم. قال ابن إسحق: وكان عمرو بن الأهمّ قد خلّفه القوم فى ظهرهم «2» ، وكان أصغرهم ستّا، فقال قيس بن عاصم، وكان يبغض عمرو بن الأهتم: يا رسول الله! إنه قد كان رجل منّا فى رحالنا وهو غلام حدث، وأزرى به، فأعطاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مثل ما أعطى القوم، فبلغ عمرو بن الأهتم ما قاله قيس فيه؛ فقال: ظللت مفترش الهلباء «3» تشتمنى ... عند النبىّ فلم تصدق ولم تصب إن تنقصونا فإنّ الرّوم «4» أصلكم ... والرّوم لا تملك البغضاء للعرب وإنّ سوددنا عود وسوددكم ... مؤخّر عند أصل العجب والذّنب «5» وروى أن الزّبر قان فخر يومئذ فقال: يا رسول الله، أنا سيّد تميم، والمطاع فيهم، والمجاب منهم، آخذ لهم بحقوقهم، وأمنعهم من الظّلم، وهذا يعلم ذلك. وأشار إلى عمرو بن الأهتم. فقال عمرو: إنه شديد العارضة، مانع لجانبه، مطاع فى أدانيه. فقال الزّبرقان: والله لقد كذب يا رسول الله، وما منعه من أن يتكلم إلا الحسد. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 40 فقال عمرو: أنا أحسدك؟! فو الله إنّك لئيم الخال، حديث المال، أحمق الولد، مبغض فى العشيرة، والله ما كذبت فى الأولى، ولقد صدقت فى الثانية. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ من البيان لسحرا» . ذكر وفد فزارة واستسقاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لهم قال ابن سعد: لمّا رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من تبوك، قدم عليه وفد بنى فزارة، بضعة عشر رجلا؛ فيهم خارجة بن حصن، والحرّ ابن قيس بن حصن، وهو أصغرهم، على ركاب عجاف، فجاءوا مقرّين بالإسلام. وسألهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن بلادهم، فقالوا: يا رسول الله، أسنتت بلادنا، وهلكت «1» مواشينا، وأجدب جنابنا، وغرث «2» عيالنا، فادع لنا ربك. فصعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المنبر ودعا، فقال: «اللهمّ اسق بلادك وبهائمك، وانشر رحمتك، فأحى بلدك الميت، اللهم اسقنا غيثا مغيثا «3» ، مريئا «4» مريعا «5» ، مطبقا «6» واسعا، عاجلا غير آجل، ناقعا غير ضارّ. اللهمّ اسقنا سقيا رحمة، لا سقيا عذاب ولا هدم ولا غرق ولا محق. اللهمّ اسقنا الغيث وانصرنا على الأعداء» فمطرت، فما رأوا السماء ستّا «7» ، فصعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المنبر، فدعا، فقال: «اللهمّ حوالينا ولا علينا، على الآكام والظّراب «8» ، وبطون الأودية، ومنابت الشّجر» . قال: فانجابت «9» السماء عن المدينة انجياب الثوب. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 41 وفى صحيح البخارىّ عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: أصابت الناس سنة «1» على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فبينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخطب على المنبر يوم الجمعة، قام أعرابى فقال: يا رسول الله، هلك المال، وجاع العيال، فادع الله لنا أن يسقينا، فرفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يديه، وما فى السماء قزعة «2» سحاب، قال: فثار «3» سحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته، قال: فمطرنا يومنا ذلك، ومن الغد، ومن بعد [الغد «4» ] والذى يليه إلى الجمعة الأخرى. فقام ذلك الأعرابى- أو رجل غيره «5» - فقال: يا رسول الله، تهدّم البناء، وغرق المال، فادع الله لنا، فرفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يديه، فقال: «اللهمّ حوالينا ولا علينا» قال: فما جعل يشير بيديه إلى ناحية من السماء إلّا تفرّجت «6» ، حتى صارت المدينة فى مثل الجوبة «7» ، حتى سال الوادى وادى قناة «8» شهرا. قال: فلم يأت أحد من جهة إلا حدّث بالجود «9» . ذكر وفد مرّة قال: قدم وفد بنى مرّة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند مرجعه من تبوك فى سنة تسع، وهم ثلاثة عشر رجلا، رأسهم الحارث بن عوف؛ فقالوا: يا رسول الله، إنّا قومك وعشيرتك، ونحن قوم من لؤىّ بن غالب. فتبسّم الجزء: 18 ¦ الصفحة: 42 رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم قال: «أين تركت أهلك» ؟ قال: بسلاح «1» وما والاها. قال: «كيف تركت البلاد» ؟ قال: والله إنّا لمسنتون «2» ، فادع الله لنا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهمّ اسقهم الغيث» وأمر بلالا أن يجيزهم، فأجازهم بعشرة أواق، عشرة أواق فضّة، وفضّل الحارث بن عوف، أعطاه ثنتى عشرة أوقية. فرجعوا إلى بلادهم فوجدوها قد مطرت فى اليوم الذى دعا فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ذكر وفد محارب قال: قدم وفد محارب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى سنة عشر، فى حجّة الوداع، وهم عشرة نفر، منهم سواء بن الحارث، وابنه خزيمة بن سواء، فأنزلوا دار رملة بنت الحارث، وكان بلال يأتيهم بغداء وعشاء؛ فأسلموا وقالوا: نحن على من وراءنا، ولم يكن أحد فى تلك المواسم أفظّ ولا أغلظ على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من بنى محارب. قال: ومسح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجه خزيمة «3» بن سواء، فصارت له غرّة بيضاء، وأجازهم كما يجيز الوفد، وانصرفوا إلى أهليهم. ذكر وفد كلاب قال: قدم وفد كلاب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى سنة تسع من الهجرة، وهم ثلاثة عشر رجلا، فيهم لبيد بن ربيعة، وجبّار بن سلمى، فأنزلهم الجزء: 18 ¦ الصفحة: 43 دار رملة بنت الحارث، فقالوا: يا رسول الله، إنّ الضحاك بن سفيان سار فينا بكتاب الله، وبسنّتك التى أمرته، وإنه دعانا إلى الله، فاستجبنا لله ولرسوله، وإنه أخذ الصّدقة من أغنيائنا فردّها على فقرائنا. ذكر وفد رؤاس بن كلاب روى عن أبى نفيع طارق بن علقمة الرؤاسىّ أنه قال: قدم رجل منّا يقال له عمرو بن مالك بن قيس الرّؤاسىّ على النبى صلّى الله عليه وسلّم فأسلم، ثم أتى قومه فدعاهم إلى الإسلام، فقالوا: حتى نصيب من بنى عقيل بن كعب مثل ما أصابوا منّا، فخرجوا يريدونهم، وخرج معهم عمرو بن مالك فأصابوا فيهم، ثم خرجوا يسوقون النّعم، فأدركهم فارس من بنى عقيل، يقال له ربيعة بن المنتفق بن عامر ابن عقيل، وهو يقول: أقسمت لا أطعن إلّا فارسا ... إذا الكماة لبسوا القوانسا «1» قال أبو نفيع: فقلت نجوتم يا معشر الرّجّالة سائر اليوم، فأدرك العقيلىّ رجلا من بنى عبيد بن رؤاس: يقال له المحرّش بن عبد الله بن عمرو بن عبيد بن رؤاس، فطعنه فى عضده فأخبلها «2» ، فاعتنق المحرّش فرسته، وقال: يا آل رؤاس! فقال ربيعة: رؤاس خيل أو أناس؟! فعطف على ربيعة عمرو بن مالك فطعنه فقتله. قال: ثم خرجنا نسوق النّعم، وأقبل بنو عقيل فى طلبنا حتى انتهينا إلى تربة «3» ، فقطع ما بيننا وبينهم وادى تربة، فجعل بنو عقيل ينظرون إلينا فلا يصلون الجزء: 18 ¦ الصفحة: 44 إلى شىء فمضينا. قال عمرو بن مالك: فأسقط فى يدى، وقلت: قتلت رجلا، وقد أسلمت وبايعت النبى صلّى الله عليه وسلّم! فشددت يدى فى غلّ إلى عنقى، ثم خرجت أريد النبى صلّى الله عليه وسلّم، وقد بلغه ذلك، فقال: «لئن أتانى لأضربنّ ما فوق الغلّ من يده» قال: فأطلقت يدى، ثم أتيته فسلّمت عليه فأعرض عنّى فأتيته عن يمينه فأعرض عنّى، فأتيته عن يساره فأعرض عنّى، فأتيته من قبل وجهه، فقلت: يا رسول الله، إن الربّ ليترضّى [فيرضى «1» ] ، فارض عنّى رضى الله عنك. قال: «قد رضيت عنك» . ذكر وفد عقيل بن كعب قال محمد بن السّائب: حدّثنا رجل من بنى عقيل بن كعب، عن أشياخ قومه، قالوا: وفد منّا من بنى عقيل بن كعب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ربيع ابن معاوية بن خفاجة بن عمرو بن عقيل، ومطرّف بن عبد الله، وأنس بن قيس ابن المنتفق، فبايعوا وأسلموا، وبايعوه على من وراءهم من قومهم، فأعطاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العقيق عقيق بنى عقيل، وهى أرض فيها عيون ونخل وكتب لهم بذلك كتابا فى أديم أحمر: «بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى محمد رسول الله ربيعا ومطرّفا وأنسا؛ أعطاهم العقيق ما أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وسمعوا وأطاعوا» . ولم يعطهم حقّا لمسلم، وكان الكتاب فى يد مطرّف. ووفد عليه أيضا لقيط بن عامر بن المنتفق بن عامر بن عقيل، فأعطاه ماء يقال له النّظيم وبايعه على قومه. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 45 قال: وقدم عليه أبو حرب بن خويلد بن عامر بن عقيل، فقرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليه القرآن، وعرض عليه الإسلام، فقال: أما وايم الله لقد لقيت الله أو لقيت من لقيه، فإنّك لتقول قولا لا نحسن مثله، ولكن سوف أضرب بقداحى هذه على ما تدعونى إليه، وعلى دينى الذى أنا عليه، وضرب بالقداح، فخرج على سهم الكفر، ثم أعاد فخرج عليه ثلاث [مرّات «1» ] . فقال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أبى هذا إلّا ما ترى، ثم رجع إلى أخيه عقال «2» بن خويلد، فقال له: قلّ خيسك. أى قلّ خيرك. فقال: هل لك فى محمد ابن عبد الله؟ يدعو إلى دين الإسلام، ويقرأ القرآن، وقد أعطانى العقيق إن أنا أسلمت، فقال له عقال: أنا والله أخطّك أكثر مما يخطّك محمد، ثم ركب فرسه وجرّ رمحه على أسفل العقيق، فأخذ أسفله وما فيه من عين، ثم إنّ عقالا قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فعرض عليه الإسلام، وجعل يقول له: «أتشهد أن محمدا رسول الله» ؟ فيقول: أشهد أن هبيرة بن النّفاضة نعم الفارس يوم قرنى لبان «3» . ثم قال: «أتشهد أن محمدا رسول الله» ؟ قال: «أشهد أنّ الصّريح تحت الرّغوة» «4» ، ثم قال له الثالثة: «أتشهد» ؟ قال: فشهد وأسلم. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 46 قال: ثم قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الحصين بن المعلّى بن ربيعة ابن عقيل، وذو الجوشن «1» الضّبابىّ فأسلما. ذكر وفد جعدة قال محمد بن سعد: وفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الرّقاد بن عمرو بن ربيعة بن جعدة بن كعب، فأعطاه صلّى الله عليه وسلّم بالفلج «2» ضيعة، وكتب له كتابا وهو عندهم. ذكر وفد قشير بن كعب قال: وفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نفر من بنى قشير، قبل حجة الوداع وبعد حنين، فيهم ثور بن عزرة بن عبد الله بن سلمة بن قشير فأسلم، فأقطعه رسول الله صلّى الله عليه وسلم قطيعة «3» ، وكتب له بها كتابا. وفيهم حيدة «4» بن معاوية ابن قشير، وفيهم قرّة بن هبيرة بن سلمة الخير بن قشير فأسلم، فأعطاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكساه بردا، وأمره أن يتصدّق على قومه؛ أى يلى الصدقة «5» . الجزء: 18 ¦ الصفحة: 47 ذكر وفد بنى البكّاء قال: وفد ثلاثة نفر من بنى البكّاء على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى سنة تسع، فيهم معاوية بن ثور بن عبادة بن البكّاء، وهو يومئذ ابن مائة سنة، ومعه ابن له يقال له بشر، والفجيع بن عبد الله، ومعهم عبد عمرو البكّائى وهو الأصمّ، فسماه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبد الرحمن، وكتب له بمائه الذى أسلم عليه «ذى القصّة «1» » . وكان عبد الرحمن من أصحاب الصّفّة «2» ، فأنزلهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمنزل وضيافة، وأجازهم ورجعوا إلى قومهم. وقال معاوية للنبى صلّى الله عليه وسلّم: إنى أتبرك بمسّك وقد كبرت، وابنى هذا برّ بى فامسح وجهه، فمسح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجه بشر بن معاوية، وأعطاه أعنزا عفرا «3» ، وبرّك عليهنّ «4» ، وكانت السّنة «5» تصيب بنى البكّاء ولا تصيبهم، وفى ذلك يقول محمد بن بشر بن معاوية: وأبى الذى مسح الرسول برأسه ... ودعا له بالخير والبركات أعطاه أحمد إذ أتاه أعنزا ... عفرا نواجل لسن باللّجبات «6» يملأن رفد الحىّ كلّ عشيّة ... ويعود ذاك الملء بالغدوات «7» بوركن من منح وبورك مانحا ... وعليه منّى ما حييت صلاتى «8» الجزء: 18 ¦ الصفحة: 48 ذكر وفد كنانة وبنى عبد بن عدى ّ قالوا: وفد واثلة بن الأسقع الليثىّ على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتجهز إلى تبوك، فصلّى معه الصّبح، فقال: «من أنت؟ وما جاء بك؟ وما حاجتك» ؟ فأخبره عن نسبه، وقال: أتيتك لأومن بالله ورسوله؛ [فقال رسول الله: «1» ] «فبايع على ما أحببت وكرهت» . فبايعه ورجع إلى أهله فأخبرهم؛ فقال أبوه: والله لا أكلّمك كلمة أبدا، وسمعت أخته كلامه فأسلمت وجهّزته، فخرج راجعا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فوجده قد سار إلى تبوك. فقال: من يحملنى عقبة «2» وله سهمى؟ فحمله كعب بن عجرة حتى لحق برسول الله صلّى الله عليه وسلم، وشهد معه تبوك. وبعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع خالد بن الوليد إلى أكيدر، فجاء بسهمه «3» إلى كعب بن عجرة، فأبى أن يقبله وسوّغه إياه، وقال: إنما حملتك لله تعالى. قال: وقدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفد بنى عبد بن عدى، وفيهم الحارث بن أهبان، وعويمر بن الأخرم، وحبيب وربيعة ابنا ملّة، ومعهم رهط من قومهم؛ فقالوا: يا محمد، نحن أهل الحرم وساكنوه «4» ، وأعزّ من به، ونحن لا نريد قتالك، ولو قاتلت غير قريش قاتلنا معك، ولكنا لا نقاتل قريشا. وإنا لنحبك ومن أنت منه، فإن أصبت منّا أحدا خطأ فعليك ديته، وإن أصبنا أحدا من أصحابك فعلينا ديته. فقال: «نعم» فأسلموا. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 49 ذكر وفد باهلة قال: وقدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مطرّف بن الكاهن الباهلىّ بعد الفتح وافدا لقومه، فأسلم وأخذ لقومه أمانا، وكتب له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتابا فيه فرائض الصّدقات. ثم قدم نهشل بن مالك الوائلىّ من باهلة على رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- وافدا لقومه، فأسلم وكتب له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولمن أسلم من قومه كتابا فيه شرائع الإسلام. كتبه عثمان بن عفّان. ذكر وفد هلال بن عامر قالوا: قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نفر من بنى هلال، فيهم عبد عوف بن أصرم بن عمرو بن شعيثة «1» فأسلم؛ فسمّاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبد الله. وفيهم قبيصة بن المخارق، فقال: يا رسول الله، إنّى حملت عن قومى حمالة «2» فأعنّى فيها؛ قال: «هى لك فى الصّدقات إذا جاءت» . قالوا: ووفد زياد بن عبد الله بن مالك، فلما دخل المدينة، توجه إلى منزل ميمونة بنت الحارث زوج النبى صلّى الله عليه وسلّم، وكانت خالة زياد- أمّه عزّة بنت الحارث، وهو يومئذ شاب- فدخل النبىّ صلّى الله عليه وسلّم وهو عندها، فلما رآه غضب ورجع، فقالت: يا رسول الله، هذا ابن أختى، فدخل إليها ثم خرج حتى أتى المسجد ومعه زياد، فصلّى الظهر، ثم أدنى زيادا فدعا له، ووضع يده على رأسه، ثم حدرها على طرف أنفه. فكانت بنو هلال تقول: مازلنا نتعرّف البركة فى وجه زياد. قال الشاعر لعلىّ بن زياد: الجزء: 18 ¦ الصفحة: 50 يابن الذى مسح النبىّ برأسه ... ودعا له بالخير عند المسجد أعنى زيادا لا أريد سواءه ... من غائر أو متهم أو منجد «1» ما زال ذاك النور فى عرنيه ... حتى تبوّأ بيته فى الملحد ذكر وفد عامر بن صعصعة وخبر عامر بن الطفيل وأربد بن قيس قال محمد بن سعد: قدم عامر بن الطّفيل بن مالك بن جعفر بن كلاب، وأربد بن ربيعة بن مالك بن جعفر.- قال ابن إسحق: وأربد بن قيس ابن جزء «2» بن خالد بن جعفر، وجبّار بن سلمى بن مالك بن جعفر -[على رسول الله «3» صلّى الله عليه وسلّم]- .- قال ابن سعد- فقال عامر بن الطّفيل: يا محمد، مالى إن أسلمت؟ قال: «لك ما للمسلمين، وعليك ما عليهم» . قال: أتجعل لى الأمر من بعدك؟ قال: «ليس ذلك لك ولا لقومك» قال: أفتجعل لى الوبر ولك المدر؟ «4» قال: «لا، ولكنّى أجعل لك أعنّة الخيل، فإنك امرؤ فارس» . قال: أو ليست لى؟! لأملأنها عليك خيلا ورجلا «5» . ثم ولّيا؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهمّ اكفنيهما، اللهمّ واهد بنى عامر وأغن الإسلام عن عامر» - يعنى ابن الطّفيل. وقال ابن إسحق: قدم عامر بن الطّفيل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو يريد الغدر به، وقد قال له قومه: يا عامر، إن الناس قد أسلموا فأسلم، الجزء: 18 ¦ الصفحة: 51 فقال: والله لقد كنت آليت ألّا أنتهى حتّى تتبع العرب عقبى، وأنا أتبع عقب هذا الفتى من قريش! ثم قال لأربد بن قيس: إذا قدمنا على الرجل فإنى سأشغل عنك وجهه، فإذا فعلت ذلك فاعله بالسيف. فلما قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال عامر بن الطّفيل. يا محمد، خالّنى «1» . قال: «لا والله حتى تؤمن بالله وحده» ، فجعل يكرر هذا القول ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعيد عليه مقالته، وهو فى ذلك ينتظر من أربد ما أمره به، فلم يصنع أربد شيئا، وكان آخر ما قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أما والله لأملأنّها عليك خيلا ورجلا، فلما ولّى قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم اكفنى عامر ابن الطّفيل» فلما خرجوا من عنده قال عامر لأربد: ويلك! أين ما كنت أمرتك به؟ والله ما كان على ظهر الأرض رجل هو أخوف عندى على نفسى منك، وايم الله لا أخافك بعد اليوم أبدا. قال له أربد: لا أبا لك! لا تعجل علىّ، والله ما هممت بالذى أمرتنى به من أمره إلا دخلت بينى وبين الرجل، حتى لا أرى غيرك! أفأضربك بالسيف! قال: وخرجوا راجعين إلى بلادهم، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، بعث الله على عامر بن الطّفيل الطاعون فى عنقه، فمال إلى بيت امرأة من بنى سلول، فجعل يقول: يا بنى عامر، غدّة كغدّة البكر، وموت فى بيت سلوليّة «2» ! قال: ومات فواراه أصحابه، وخرجوا حتى قدموا أرض بنى عامر، فأتاهم قومهم فقالوا: ما وراءك يا أربد؟ فقال: لا شىء، والله لقد الجزء: 18 ¦ الصفحة: 52 دعانا إلى عبادة شىء لوددت أنه عندى الآن فأرميه بالنّبل حتى أقتله، فخرج بعد مقالته بيوم أو يومين معه جمل له يبيعه «1» ، فأرسل الله عليه وعلى جمله صاعقة فأحرقتهما. وقال أبو إسحق أحمد بن محمد الثعلبىّ فى هذه القصة، بسند يرفعه إلى عبد الله ابن عباس رضى الله عنهما، قال: أقبل عامر بن الطّفيل وأربد بن ربيعة يريدان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو بالمسجد جالس فى نفر من أصحابه، فدخلا المسجد فاستشرف «2» الناس لجمال عامر، وكان أعور، وكان من أجمل الناس، فقال رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا رسول الله، هذا عامر ابن الطّفيل قد أقبل نحوك، فقال: «دعه فإن يرد الله به خيرا يهده» فأقبل حتى قام عليه. فقال: يا محمد، مالى إن أسلمت؟ فقال: «لك ما للمسلمين، وعليك ما على المسلمين» . قال: تجعل لى الأمر بعدك؟ قال: «ليس ذلك إلىّ، إنما ذلك إلى الله عز وجل، يجعله حيث يشاء» . قال تجعلنى على الوبر وأنت على المدر؟. قال: «لا» . قال: فماذا تجعل لى؟ قال: «أجعل لك أعنّة الخيل تغزو عليها» . قال: أو ليس ذلك لى اليوم؟! قم معى أكلّمك. فقام معه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان أوصى إلى أربد بن ربيعة إذا رأيتنى أكلّمه فدر من خلفه فاضربه بالسيف؛ فجعل يخاصم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويراجعه، فدار أربد خلف النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فاخترط من سيفه شبرا، ثم حبسه الله عزّ وجلّ عنه فلم يقدر على سلّه، وجعل عامر يومىء إليه، فالتفت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فرأى أربد وما يصنع بسيفه، فقال: «اللهم الجزء: 18 ¦ الصفحة: 53 اكفنيهما بما شئت» . فأرسل الله عزّ وجلّ على أربد صاعقة فى يوم صائف فأحرقته، وولّى عامر هاربا، وقال: يا محمد، دعوت ربّك فقتل أربد، والله لأملأنّها عليك خيلا جردا «1» ، وفتيانا مردا «2» ؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يمنعك الله ذلك وأبناء قيلة» يعنى الأوس والخزرج. فنزل عامر بيت امرأة سلوليّة وأنشأ يقول: تخيّر أبيت اللّعن إن شئت ودّنا ... وإن شئت حربا ذات بأس ومصدق وإن شئت فتيانا بكفّى أمرهم ... يكبّون كبش العارض المتألّق فلما أصبح ضمّ عليه سلاحه، وقد تغيّر لونه، وهو يقول: لعمرى وما عمرى علىّ بهينّ ... لقد شان حرّ الوجه طعنة مسهر «3» وقد علم المزنوق أنّى أكرّه ... على جمعهم كرّ المنيح المشهّر «4» إذا ازورّ من وقع السّنان زجرته ... وأخبرته أنّى امرؤ غير مقصر «5» وأخبرته أنّ الفرار خزاية ... على المرء ما لم يبد عذرا فيعذر «6» لقد علمت عليا هوازن أنّنى ... أنا الفارس الحامى حقيقة جعفر الجزء: 18 ¦ الصفحة: 54 فجعل يركض فى الصحراء ويقول: ابرز يا ملك الموت! ثم أنشأ يقول: ألا قرّب المزنوق «1» إذ جدّ ما أرى ... لتعريض يوم شرّه غير حامد ألا قرّباه إنّ غاية جرينا ... إذا قرب المزنوق بين الصّفائد بنو عامر قومى إذا ما دعوتهم ... أجابوا ولبىّ منهم كلّ ماجد ويقول: واللّات لئن أصحر «2» إلىّ وصاحبه- يعنى ملك الموت- لأنفذتهما برمحى. قال: فلما رأى الله عزّ وجلّ ذلك منه، أرسل ملكا فلطمه بجناحه، فأرداه فى التراب، وخرجت على ركبته غدّة عظيمة فى الوقت، فعاد إلى بيت السّلوليّة وهو يقول: غدّة كغدّة البعير، وموت فى بيت سلولية. ثم دعا بفرسه فركبه، ثم أجراه حتى مات على ظهره. قال: فرثى لبيد بن ربيعة أخاه أربد بجملة من المراثى؛ فمنها هذه الأبيات: قضّ اللّبانة لا أبا لك واذهب ... والحق بأسرتك الكرام الغيّب «3» ذهب الذين يعاش فى أكنافهم ... وبقيت فى خلف كجلد الأجرب «4» يتلذّذون ملاذة ومجانة ... ويعاب قائلهم وإن لم يشعب «5» فتعدّ عن هذا وقل فى غيره ... واذكر شمائل من أخ لك معجب «6» الجزء: 18 ¦ الصفحة: 55 إنّ الرّزيّة لا رزيّة مثلها ... فقدان كلّ أخ كضوء الكوكب» من معشر سنّت لهم أباؤهم ... والعزّ لا يأتى بغير تطلّب يا أربد الخير الكريم جدوده ... أفردتنى أمشى بقرن أعضب «2» وقال أيضا فيه: ما إن تعدّى المنون من أحد ... لا والد مشفق ولا ولد «3» أخشى على أربد الحتوف ولا ... أرهب نوء السّماك والأسد «4» يا عين هبلّا بكيت أربد إذ ... قمنا وقام الخصوم فى كبد «5» فجّعنى الرّعد والصّواعق بالفا ... رس يوم الكريهة النّجد «6» قال: وأنزل الله عزّ وجلّ فى هذه القصّة: سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ. لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يعنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يَحْفَظُونَهُ يعنى تلك المعقبات مِنْ أَمْرِ اللَّهِ . ثم قال تعالى مشيرا لهذين: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ «7» . الجزء: 18 ¦ الصفحة: 56 أى ملجإ يلجئون إليه. وقد قيل: والٍ يلى أمرهم، ويمنع العذاب عنهم. ثم قال تعالى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً . قال: خَوْفاً للمسافر يخاف أذاه ومشقّته. وَطَمَعاً للمقيم يرجو بركته ومنفعته. وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ. وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ «1» قال الحسن: شديد الحقد «2» . وقال علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: شديد الأخذ. وقد روى الثعلبىّ أيضا، عن إسحق الحنظلىّ، عن ريحان بن سعيد الشّامى، عن عبّاد بن منصور، قال سألت الحسن عن قوله عز وجل: وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ الآية. قال: كان رجل من طواغيت العرب، فبعث إليه النبىّ صلّى الله عليه وسلّم نفرا ليدعوه إلى الله عز وجل ورسوله أن يؤمن، فقال لهم: أخبرونى عن ربّ محمد هذا الذى تدعونى إليه ما هو؟ وممّ هو؟ من دهب أم فصّة أم حديد أم نحاس؟ فاستعظم القوم مقالته، وانصرفوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: يا رسول الله، ما رأينا رجلا أكفر قلبا، ولا أعتى على الله منه! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ارجعوا إليه» فرجعوا إليه فجعل لا يزيدهم على مثل مقالته الأولى وأخبث، «3» فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ارجعوا إليه» فرجعوا، فبيناهم عنده ينازعونه ويدعونه ويعظمون عليه، وهو يقول هذه المقالة؛ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 57 إذ ارتفعت سحابة فكانت فوق رءوسهم، فرعدت وبرقت فرمت بصاعقة فاحترق «1» الكافر وهم جلوس، فجاءوا يسعون ليخبروا النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فاستقبلهم قوم من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا لهم: احترق صاحبكم. قالوا لهم: من أين علمتم؟ قالوا: أوحى إلى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم الساعة: وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ الآية. والله أعلم فى أيهما نزلت. ولنرجع إلى تتمة خبر وفد عامر بن صعصعة. قال محمد بن سعد فى طبقاته: وكان فى الوفد عبد الله بن الشّخّير، فقال: يا رسول الله، أنت سيدنا، وذو الطّول علينا. قال: «السيّد الله، لا يستهوينّكم الشيطان» . قالوا: وقدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علقمة بن علاثة بن عوف، وهوذة بن خالد بن ربيعة وابنه، وكان عمر بن الخطاب رضى الله عنه جالسا إلى جنب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أوسع لعلقمة» فأوسع له، فجلس إلى جنبه، فقصّ عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شرائع الإسلام، وقرأ عليه قرآنا، فقال: يا محمد، إن ربّك لكريم، وقد آمنت بك، وبايعت على عكرمة بن خصفة أخى قيس، وأسلم هوذة وابنه وابن أخيه. وروى ابن سعد عن عون بن أبى جحيفة السّوائىّ عن أبيه قال: قدم وفد بنى عامر وكنت معهم إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم، فوجدناه بالأبطح فى قبّة حمراء، فسلّمنا عليه، فقال: «من أنتم» ؟ قلنا: بنو عامر بن صعصعة. قال: «مرحبا بكم أنتم منّ وأنا منكم» . الجزء: 18 ¦ الصفحة: 58 ذكر وفد ثقيف وإسلامها وهدم اللّات كان قدوم وفد ثقيف «1» على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإسلامها فى شهر رمضان سنة سبع من مهاجره «2» . قال أبو عبد الله محمد بن إسحق، وأبو محمد عبد الملك بن هشام، وأبو عبد الله محمد بن سعد رحمهم الله، دخل حديث بعضهم فى حديث بعض: لمّا حاصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الطائف لم يحضر عروة بن مسعود، ولا غيلان بن سلمة الحصار، بل كانا بجرش «3» يتعلّمان صنعة العرّادات «4» والمنجنيق والدّبابات، فقدما وقد انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الطّائف، فنصبا المنجنيق والعرّادات والدبّابات واعتدّا للقتال، ثم ألقى الله فى قلب عروة الإسلام، فخرج إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتبع أثره، حتى أدركه قبل أن يصل المدينة فأسلم، وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّهم قاتلوك» فقال عروة: يا رسول الله، أنا أحبّ إليهم من أبكارهم. قال: فكرر علىّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك ثلاثا، فقال: «إن شئت فاخرج» فخرج، وكان فيهم كذلك محبّبا مطاعا، فسار إلى الطائف، فسار خمسا الجزء: 18 ¦ الصفحة: 59 فقدم عشاء، فدخل منزله، فجاء قومه يحيّونه بتحيّة الشّرك، فقال: عليكم بتحية أهل الجنة «السّلام» . ودعاهم إلى الإسلام فخرجوا من عنده يأتمرون به، فلمّا طلع الفجر أوفى على غرفة له فأذّن بالصلاة، فخرجت ثقيف من كل ناحية، فرماه رجل يقال له أوس بن عوف أخو بنى سالم بن مالك- وقيل: بل هو وهب بن جابر رجل من الأحلاف- بسهم فأصاب أكحله «1» فلم يرقأ دمه، فقام أشراف قومه؛ وهم: غيلان بن سلمة، وكنانة بن عبد ياليل، والحكم بن عمرو ابن وهب، ووجوه الأحلاف، فلبسوا السّلاح وحشدوا، فلما رأى عروة ذلك قال: قد تصدّقت بدمى على صاحبه؛ لأصلح بذلك بينكم، وهى كرامة أكرمنى الله بها، وشهادة ساقها الله إلىّ. وقال: ادفنونى مع الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومات فدفنوه معهم، وبلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خبره فقال فيه: «إنّ مثله فى قومه لكمثل صاحب «يس» دعا قومه إلى الله فقتلوه» . قالوا: ولحق أبو المليح بن عروة، وقارب بن الأسود بن مسعود برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأسلما، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تولّيا من شئتما» فقالا: نتولّى الله ورسوله؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وخالكما أبا سفيان بن حرب» فقالا: وخالنا أبا سفيان. قال ابن إسحق: ثم أقامت ثقيف بعد ما قتل عروة أشهرا، ثم ائتمروا بينهم، ورأوا أنهم لا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب، وقد بايعوا وأسلموا. وكان الجزء: 18 ¦ الصفحة: 60 مالك بن عوف قد أسلم كما قدّمنا فى غزوة حنين، وجعل يغير على سرحهم «1» . قال: وكان عمرو بن أمية أخا بنى علاج مهاجرا «2» لعبد يا ليل «3» بن عمرو، وكان من أدهى العرب، فمشى إلى عبد ياليل بن عمرو حتى دخل داره، ثم أرسل إليه أن اخرج إلىّ، فاستعظم عبد ياليل مشيه إليه، وقال للرسول الذى جاءه: ويلك! أعمرو أرسلك إلىّ؟ قال: نعم، وها هو ذا واقفا فى دارك، فقال: إن هذا لشىء ما كنت أظنه، لعمرو كان أمنع فى نفسه من ذلك، وخرج إليه، فلمّا رآه رحّب به، فقال عمرو له: إنه قد نزل بنا أمر ليست معه هجرة «4» ، إنه قد كان من أمر هذا الرجل ما قد رأيت، وقد أسلمت العرب كلها، وليست لكم بحربهم طاقة، فانظروا فى أمركم. فعند ذلك ائتمرت ثقيف بينها، وقال بعضهم لبعض: ألا ترون أنه لا يأمن لكم سرب «5» ، ولا يخرج منكم أحد إلا اقتطع. فأجمعوا رأيهم أن يرسلوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلا منهم، كما أرسلوا عروة بن مسعود، فعرضوا ذلك على عبد ياليل بن عمرو بن عمير، فأبى أن يفعل، وخشى أن يصنع به إذا رجع كما صنع بعروة، فقال: لست فاعلا حتى يرسلوا معى رجالا، فأجمعوا أن يبعثوا معه رجلين من الأحلاف، وثلاثة من بنى مالك، فبعثوا معه الحكم بن عمرو بن وهب بن معتّب، وشرحبيل بن غيلان بن سلمة بن معتّب، ومن بنى مالك عثمان بن أبى العاص بن بشر أخا بنى يسار، وأوس بن عوف أخا بنى سالم، الجزء: 18 ¦ الصفحة: 61 ونمير بن خرشة بن ربيعة أخا بنى الحارث، فخرج بهم عبد ياليل وهو ناب «1» القوم وصاحب أمرهم. وقال ابن سعد: كانوا بضعة عشر رجلا، وهو أثبت. قال ابن إسحق: فلما دنوا من المدينة ونزلوا قناة «2» ، ألفوا بها المغيرة بن شعبة يرعى فى نوبته ركاب أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكانت رعيتها نوبا «3» على أصحابه، فلما رآهم ترك الرّكاب عند الثّقفيين، وخرج يشتدّ «4» ليبشّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقدومهم عليه، فلقيه أبو بكر الصديق رضى الله عنه قبل أن يدخل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأخبره عن ركب ثقيف أن قد قدموا يريدون البيعة والإسلام، فقال أبو بكر للمغيرة: أقسمت عليك بالله لا تسبقنى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حتى أكون أنا أحدّثه؛ ففعل المغيرة. فدخل أبو بكر على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأخبره بقدومهم عليه، ثم خرج المغيرة إليهم فعلّمهم كيف يحيّون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلم يفعلوا إلا بتحية الجاهلية. قال: ولما قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ضرب عليهم قبّة فى ناحية مسجده- كما يزعمون «5» -، وكان خالد بن سعيد بن العاص يمشى بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حتى كتبوا كتابهم، وكتبه خالد بيده، وهو: الجزء: 18 ¦ الصفحة: 62 «بسم الله الرحمن الرحيم من محمد النبىّ رسول الله، إلى المؤمنين: إنّ عضاه «1» وجّ «2» وصيده [حرام «3» ] لا يعضد «4» ، من وجد يفعل شيئا من ذلك فإنه يجلد وتنزع ثيابه، فإن تعدّى ذلك فإنه يؤخذ فيبلغ به النبىّ- محمدا صلّى الله عليه وسلّم- وأن هذا أمر النبىّ محمد رسول الله. وكتب خالد بن سعيد بأمر الرسول محمد بن عبد الله فلا يتعدّه أحد فيظلم نفسه فيما أمر به محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» . قال ابن إسحق: وكانوا لا يطعمون طعاما يأتيهم من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى يأكل منه خالد، حتى أسلموا وفرغوا من كتابهم. قال: وقد كان فيما سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يدع لهم الطّاغية وهى اللّات؛ لا يهدمها ثلاث سنين، فأبى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك عليهم، فما برحوا يسألونه حتى سألوه شهرا واحدا بعد مقدمهم، فأبى عليهم أن يدعها شيئا مسمّى. وإنما يريدون بذلك فيما يظهرون أن يسلموا «5» بتركها من سفهائهم ونسائهم وذراريهم، ويكرهون أن يروّعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الإسلام. فأبى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا أن يبعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة فهدماها. وقد كانوا سألوه مع ترك الطاغية أن يعفيهم من الصلاة، وألّا يكسروا أوثانهم بأيديهم؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أمّا كسر أوثانكم بأيديكم فسنعفيكم منه، وأما الصّلاة فإنه لا خير فى دين لا صلاة فيه» . فقالوا: يا محمد، فسنؤتيكها وإن كانت دناءة. فلما أسلموا الجزء: 18 ¦ الصفحة: 63 وكتب لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتابهم، أمر عليهم عثمان بن أبى العاص، وكان من أحدثهم سنّا، وكان أحرصهم على التّفقّه فى الإسلام وتعلّم القرآن، فقال أبو بكر الصدّيق ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم. روى عن عثمان بن أبى العاص قال: كان من آخر ما عهد إلىّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين بعثنى على ثقيف أن قال: «يا عثمان؛ تجاوز «1» في الصلاة واقدر الناس بأضعفهم فإن فيهم الكبير والصّغير والضّعيف وذا الحاجة» . قال ابن إسحق: ولما توجهوا إلى بلادهم بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معهم أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة فى هدم الطاغية، فخرجا مع القوم، حتى إذا قدموا الطائف أراد المغيرة أن يقدّم أبا سفيان فأبى ذلك عليه، وقال: ادخل أنت على قومك. وأقام أبو سفيان بماله بذى الهدم «2» ، فلما دخل المغيرة بن شعبة علاها يضربها بالمعول، وقام قومه بنو معتّب دونه خشية أن يرمى أو يصاب كما أصيب عروة بن مسعود، وخرج نساء ثقيف حسرا «3» يبكين ويقلن: لتبكينّ دفّاع «4» ... أسلمها الرّضّاع «5» لم يحسنوا المصاع «6» الجزء: 18 ¦ الصفحة: 64 قال: ويقول أبو سفيان بن حرب، والمغيرة يضربها بالفأس: واها لك! أهلا لك «1» ! فلما هدمها المغيرة بن شعبة وأخذ ما لها وحليّها، أرسل إلى أبى سفيان، وحلّيها مجموع، ومالها من الذّهب والجزع «2» . وقد كان أبو مليح بن عروة سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يقضى عن أبيه عروة بن مسعود دينا كان عليه من مال الطاغية، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نعم» فقال له قارب بن الأسود: وعن الأسود يا رسول الله فاقضه،- وعروة والأسود أخوان لأب وأمّ- فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الأسود مات مشركا» ، فقال قارب: يا رسول الله، لكن يصل مسلما ذا قرابة- يعنى نفسه- إنّما الدّين علىّ وأنا الذى أطلب به. فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبا سفيان أن يقضى دين عروة والأسود من مال الطّاغية؛ فلمّا جمع المغيرة مالها قال لأبى سفيان: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أمرك أن تقضى عن عروة والأسود دينهما. فقضى عنهما. قال المغيرة: فدخلت ثقيف فى الإسلام، فلا أعلم قوما من العرب بنى أب ولا قبيلة كانوا أصحّ إسلاما، ولا أبعد أن يوجد فيهم غشّ لله ولكتابه منهم. ذكر وفد عبد القيس «3» قال محمد بن سعد: كتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أهل البحرين أن يقدم عليه منهم عشرون رجلا، فقدموا؛ رأسهم عبد الله بن عوف الأشجّ، الجزء: 18 ¦ الصفحة: 65 وفيهم الجارود بن عمرو بن حنش، ومنقذ بن حبّان وهو ابن أخت الأشجّ، وكان قدومهم عام الفتح، فقيل: يا رسول الله، هؤلاء وفد عبد القيس، فقال: «مرحبا بهم نعم القوم عبد القيس» . قال: ونظر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الأفق صبيحة ليلة قدموا، فقال: «ليأتينّ ركب من المشرق لم يكرهوا على الإسلام، قد أنضوا الرّكاب، وأفنوا الزاد، بصاحبهم علامة، اللهمّ اغفر لعبد القيس، أتونى لا يسألون مالا، هم خير أهل المشرق» . قال: فجاءوا فى ثيابهم، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى المسجد، فسلّموا عليه، فقال: «أيكم عبد الله الأشجّ» ؟ فقال: أنا يا رسول الله. وكان رجلا دميما، فنظر إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «إنه لا يستقى «1» في مسوك «2» الرجال، إنما يحتاج من الرّجل إلى أصغريه لسانه وقلبه «3» » . فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فيك خصلتان يحبّهما الله تعالى» فقال عبد الله: وما هما؟ قال: «الحلم والأناة» «4» . قال: أشىء حدث أم جبلت عليه؟. قال: «بل جبلت عليه» . قال: وكان الجارود نصرانيا، فعرض عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الإسلام ورغّبه فيه. قال ابن إسحق: فقال يا محمد، إنّى قد كنت على دين، وإنى تارك دينى لدينك: أفتضمن لى دينى؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نعم، أنا ضامن لك أن قد هداك الله إلى ما هو خير منه» . فأسلم وأسلم أصحابه. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 66 قال ابن سعد: وأنزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفد عبد القيس فى دار رملة بنت الحارث، وأجرى عليهم ضيافة، وأقاموا عشرة أيام، وكان عبد الله الأشجّ يسائل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الفقه والقرآن، وأمر لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بجوائز، وفضّل عليهم عبد الله الأشجّ؛ فأعطاه اثنتى عشرة أوقية ونشّا، ومسح صلّى الله عليه وسلّم وجه منقذ بن حبّان. ذكر وفد بكر بن وائل قال ابن سعد: قدم وفد بكر بن وائل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان فى الوفد بشير بن الحصاصيّة «1» ، وعبد الله بن مرثد، وحسّان بن خوط؛ ولذلك يقول رجل من ولد حسّان «2» : أنا ابن حسّان بن خوط وأبى ... رسول بكر كلّها إلى النّبى قالوا: وقدم معهم عبد الله بن أسود بن شهاب بن عوف بن عمرو بن الحارث بن سدوس، وكان ينزل اليمامة، فباع ما كان له من مال باليمامة، وهاجر وقدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بجراب من تمر، فدعا له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالبركة. وحيث ذكرنا وفد بكر بن وائل فلنذكر خبر الأعشى. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 67 ذكر خبر أعشى بنى قيس وامتداحه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورجوعه قبل لقائه قال أبو محمد عبد الملك بن هشام: حدّثنى خلّاد بن قرّة بن خالد السّدوسىّ، وغيره من مشايخ بكر بن وائل من أهل العلم، أنّ أعشى «1» بنى قيس بن ثعلبة بن عكابة ابن صعب بن علىّ بن بكر بن وائل، خرج إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يريد الإسلام، فقال يمدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا ... وبتّ كما بات السّليم مسهّدا «2» وما ذاك من عشق النّساء وإنّما ... تناسيت قبل اليوم صحبة مهددا «3» ولكن أرى الدّهر الّذى هو خائن ... إذا أصلحت كفّاى عاد فأفسدا «4» كهولا وشبّانا فقدت وثروة ... فلله هذا الدّهر كيف تردّدا «5» الجزء: 18 ¦ الصفحة: 68 وما زلت أبغى المال مذ أنا يافع ... وليدا وكهلا حين شبت وأمردا «1» وأبتذل العيس المراقيل تغتلى ... مسافة ما بين النّجير فصرخدا «2» ألا أيّهذا السّائلى أين يمّمت ... فإنّ لها فى أهل يثرب موعدا «3» فإن تسألى عنّى فياربّ سائل ... حفىّ عن الأعشى به حيث أصعدا «4» أجدّت برجليها النّجاء وراجعت ... يداها خنافا ليّنا غير أحردا «5» وفيها إذا ما هجّرت عجرفيّة ... إذا خلت حرباء الظّهيرة أصيدا «6» الجزء: 18 ¦ الصفحة: 69 وأمّا إذا ما أدلجت فترى لها ... رقيبين جديا ما يغيب وفرقدا «1» فآليت لا آوى لها من كلالة ... ولا من حفى حتّى تلاقى محمّدا «2» متى ما تناخى عند باب ابن هاشم ... تراحى وتلقى من فواضله ندا «3» نبىّ يرى ما لا ترون وذكره ... أغار لعمرى فى البلاد وأنجدا «4» له صدقات ما تغبّ ونائل ... وليس عطاء اليوم مانعه غدا «5» أجدّك لم تسمع وصاة محمد ... نبىّ الإله حيث أوصى وأشهدا «6» الجزء: 18 ¦ الصفحة: 70 إذا أنت لم ترحل بزاد من التّقى ... ولا قيت بعد الموت من قد تزوّدا «1» ندمت على ألّا تكون كمثله ... فترصد للأمر الذى كان أرصدا «2» فإيّاك والميتات لا تقربنّها ... ولا تأخذن سهما حديدا لتفصدا «3» ولا النّصب المنصوب لا تنسكنّه ... ولا تعبد الأوثان والله فاعبدا «4» ولا تقربنّ جارة إنّ سرّها ... عليك حرام فانكحن أو تأبّدا «5» وذا الرّحم القربى فلا تقطعنّه ... لعاقبة ولا الأسير المقيّدا «6» وسبّح على حين العشيّات والضّحى ... ولا تحمد الشّيطان والله فاحمدا «7» ولا تسخرن من بائس ذى ضرارة ... ولا تحسبنّ المال للمرء مخلدا «8» الجزء: 18 ¦ الصفحة: 71 فلما كان بمكة أو قريبا منها، اعترضه بعض المشركين من قريش، فسأله عن أمره، فأخبره أنه جاء يريد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليسلم، فقال له: يا أبا بصير إنه يحرّم الزّنى. فقال الأعشى له: والله إن ذلك لأمر مالى فيه من أرب. فقال: يا أبا بصير فإنه يحرّم الخمر. فقال: أمّا هذه فو الله إنّ فى النفس منها لعلالات «1» ، ولكنّى منصرف فأتروّى منها عامى هذا ثم آتيه فأسلم. فانصرف فمات من عامه ذلك، ولم يعد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ذكر وفد تغلب قال: وقدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفد بنى تغلب «2» ، وهم ستة عشر رجلا مسلمين، ونصارى عليهم صلب الذّهب، فنزلوا دار رملة بنت الحارث، فصالح صلّى الله عليه وسلّم النّصارى على أن يقرّهم على ذمّتهم «3» ، على ألّا يصبغوا أولادهم فى النّصرانية، وأجاز المسلمين منهم بجوائزهم. ذكر وفد حنيفة قالوا: قدم وفد بنى حنيفة «4» على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهم بضعة عشر رجلا، فيهم رجّال «5» بن عنقوة، وسلمى بن حنظلة، وطلق بن علىّ بن قيس، الجزء: 18 ¦ الصفحة: 72 وحمران بن جابر، وعلىّ بن سنان، والأقعس بن مسلمة «1» ، وزيد بن عمرو «2» ، ومسيلمة ابن حبيب، وهو الكذّاب. وعلى الوفد سلمى بن حنظلة، فأنزلوا دار رملة بنت الحارث «3» ، وأجريت عليهم ضيافة. فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى المسجد، فسلّموا عليه وشهدوا شهادة الحقّ، وخلّفوا مسيلمة فى رحالهم. وأقاموا أياما يختلفون إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وكان رجّال بن عنفوة يتعلّم القرآن من أبىّ بن كعب، فلما أرادوا الرجوع إلى بلادهم، أمر لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بجوائزهم: خمس أواق لكل رجل، فقالوا: يا رسول الله، خلّفنا صاحبا لنا فى رحالنا يبصرها لنا، وفى ركابنا يحفظها علينا، فأمر له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمثل ما أمر لأصحابه. وقال: «ليس بشرّكم مكانا لحفظه ركابكم ورحالكم» . فقيل ذلك لمسيلمة فقال: عرف أنّ الأمر إلىّ من بعده. وأعطاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إداوة من ماء فيها فضل طهوره، فقال: «إذا قدمتم بلدكم فاكسروا بيعتكم «4» ، وانضحوا مكانها بهذا الماء، واتخذوا مكانها مسجدا» ففعلوا، وصارت الإداوة عند الأقعس بن مسلمة، وصار المؤذّن طلق بن علىّ، فأذّن فسمعه راهب البيعة، فقال: كلمة حقّ. وهرب فكان آخر العهد به. ثم ادّعى مسيلمة الكذّاب بعد ذلك النبوّة، وشهد له الرّجّال «5» أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أشركه فى الأمر، فافتتن الناس به، وكان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى فى خلافة أبى بكر الصّدّيق رضى الله عنه. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 73 ذكر وفد شيبان قال: وقدم من بنى شيبان حريث «1» بن حسّان الشّيبانىّ، فبايع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الإسلام وعلى قومه، وصحبه فى مسيره إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قيلة بنت مخرمة التّميميّة «2» ، وهى التى أرعدت من الفرق «3» لمّا أتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال لها: «يا مسكينة عليك السّكينة» [فهدأت «4» ] . روى عن قيلة بنت مخرمة أنها قالت: إنّ حريث بن حسّان قال: يا رسول الله، اكتب بيننا وبين بنى تميم بالدّهناء «5» لا يجاوزها إلينا منهم إلّا مسافر أو مجاور. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا غلام اكتب له بالدّهناء» ، قالت قيلة: فلما رأيته أمر له بأن يكتب له بها، قلت: يا رسول الله، إنه لم يسألك السويّة من الأرض إذ سألك، إنما هذه الدّهناء «6» عندك؛ مقيّد «7» الجمل، ومرعى الغنم، ونساء تميم وأبناؤها وراء ذلك. فقال [رسول الله «8» ] : «أمسك يا غلام، صدقت المسكينة، المسلم أخو المسلم يسعهما الماء والشجر، ويتعاونان على الفتّان «9» » . فلما رأى حريث أن قد حيل دون كتابه، ضرب بإحدى يديه على الأخرى، وقال: كنت أنا وأنت الجزء: 18 ¦ الصفحة: 74 [كما قيل «1» ] : «حتفها تحمل ضأن بأظلافها» » فقلت: أما والله أن كنت لدليلا فى الظّلماء، جوادا بذى الرّحل، عفيفا عن الرّفيقة، حتى قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولكن لا تلمنى على حظّى إذ سألت حظّك. فقال: وما حظّك فى الدّهناء لا أبا لك؟! قلت: مقيّد جملى تسأله لجمل امرأتك! قال: لا جرم، إنّى أشهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّى لك أخ ما حييت إذ أثبت «3» هذا علىّ عنده. فقلت: [أما «4» ] إذ بدأتها فلن أضيعها. وحديث قيلة فيه طول ليس هذا موضعه. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 75 ذكر وفادات أهل اليمن ذكر وفد طيّئ وخبر زيد الخيل وعدىّ بن حاتم قالوا: وفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفد طيّئ خمسة عشر رجلا، رأسهم، وسيّدهم زيد الخيل بن مهلهل، من بنى نبهان، وفيهم وزر بن جابر بن سدوس «1» النّبهانىّ، وهو قاتل عنترة، وقبيصة بن الأسود بن عامر من جرم طيّئ، ومالك بن عبد الله بن خيبرى «2» من بنى معن، وقعين «3» بن خلف من جديلة «4» ، ورجل من بنى بولان «5» ، فدخلوا المدينة ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى المسجد، فعقلوا رواحلهم بفناء المسجد، ثم دخلوا فدنوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فعرض عليهم الإسلام، فأسلموا وأجازهم بخمس أواق فضة لكل رجل منهم، وأعطى زيد الخيل اثنتى عشرة أوقية ونشّا. وقال صلّى الله عليه وسلّم: «ما ذكر لى رجل من العرب إلا رأيته دون ما ذكر لى إلّا ما كان من زيد الخيل، فإنه لم يبلغ كلّ ما كان فيه» . وسمّاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «زيد الخير» وقطع له فيد «6» وأرضين معه، وكتب له بذلك كتابا، فخرج مع قومه راجعا، فقال رسول الله صلّى الله الجزء: 18 ¦ الصفحة: 76 عليه وسلّم: «إن ينج زيد من حمّى المدينة فإنّه «1» » ، فلما انتهى زيد من بلد نجد إلى ماء من مياهه يقال له قردة «2» أصابته الحمّى فمات، فعمدت امرأته إلى ما كان النبىّ صلّى الله عليه وسلّم كتب له فحرقته بالنار. هذا ما كان من خبر زيد الخيل. وأمّا عدىّ بن حاتم فكان من خبره أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه إلى الفلس «3» - صنم طيّئ- ليهدمه ويشنّ الغارات، فخرج فأغار على حاضر آل حاتم، وأصابوا ابنة «4» حاتم، كما قدّمنا ذكر ذلك فى الغزوات والسّرايا، فقدم بها على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى سبايا طيّئ. وقيل: إنما سباها من خيل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خيل كان عليها خالد بن الوليد، وهرب عدىّ بن حاتم حتى لحق بالشام. حكى محمد بن إسحق رحمه الله قال: كان عدىّ بن حاتم يقول- فيما بلغنى-: ما من رجل من العرب كان أشدّ كراهية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين سمع به منّى، أمّا أنا فكنت امرأ شريفا، وكنت نصرانيا، وكنت أسير الجزء: 18 ¦ الصفحة: 77 فى قومى بالمرباع، أى آخذ منهم ربع مغانمهم التى يغنمونها، وكنت فى نفسى على دين، وكنت ملكا فى قومى لما كان يصنع بى، فلما سمعت برسول الله صلّى الله عليه وسلّم كرهته، فقلت لغلام كان لى عربىّ، وكان راعيا لإبلى: لا أبا لك! أعدد لى من إبلى جمالا ذللا سمانا فاحتبسها قريبا منّى، فإذا سمعت بجيش لمحمد قد وطئ هذه البلاد فآذنىّ. ففعل، ثم إنه أتانى ذات غداة فقال: يا عدىّ، ما كنت صانعا إذا غشيتك خيل محمد فاصنعه الآن، فإنى رأيت رايات فسألت عنها فقالوا: هذه جيوش محمد. فقلت: فقرّب إلىّ أجمالى. فقرّبها فاحتملت بأهلى وولدى، ثم قلت: ألحق بأهل دينى من النّصارى بالشام، فسلكت الجوشيّة- ويقال الحوشيّة «1» - وخلّفت بنتا لحاتم فى الحاضر، فلمّا قدمت الشام أقمت بها، وتخالفنى خيل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتصيب ابنة حاتم فيمن أصابت، فقدم بها على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى سبايا طيّئ، وقد بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هربى إلى الشام، قال: فجعلت ابنة حاتم فى حظيرة «2» بباب المسجد كانت السّبايا تحبس فيها، فمرّ بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقامت إليه، وكانت امرأة جزلة «3» ، فقالت: يا رسول الله، هلك الوالد، وغاب الوافد، فامنن علىّ، منّ الله عليك. قال: «ومن وافدك» ؟ قالت: عدىّ بن حاتم. قال: «الفارّ من الله ورسوله» ؟!. قالت: ثم مضى وتركنى، حتى إذا كان من الغد مرّ بى فقلت له مثل ذلك، فقال مثل ما قال بالأمس، قالت: حتى إذا كان بعد الغد مرّ بى وقد يئست، فأشار إلىّ رجل من خلفه أن قومى فكلّميه، الجزء: 18 ¦ الصفحة: 78 قالت: فقمت إليه، فقلت: يا رسول الله، هلك الوالد، وغاب الوافد، فامنن علىّ، منّ الله عليك. فقال: «قد فعلت فلا تعجلى بخروج حتى تجدى من قومك من يكون لك ثقة حتى يبلغك إلى بلادك ثم آذنينى» فسألت عن الرجل الذى أشار إلىّ أن كلّميه، فقيل علىّ بن أبى طالب، قالت: فأقمت حتى قدم ركب من بلىّ أو قضاعة «1» ، قالت: وإنما أريد أن آتى أخى بالشام، فجئت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: يا رسول الله، قد قدم رهط من قومى، لى فيهم ثقة وبلاغ، قالت: فكسانى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحملنى وأعطانى نفقة، فخرجت معهم حتى قدمت الشام، قال عدىّ: فو الله إنّى لقاعد فى أهلى إذ نظرت إلى ظعينة تصوب «2» إلىّ تؤمّنا، قال: قلت ابنة حاتم، فإذا هى هى، فلما وقفت علىّ انسلخت «3» تقول: القاطع الظّالم، احتملت بأهلك وولدك، وتركت بقيّة والديك عورتك! قال: قلت: أى أخيّة! لا تقولى إلّا خيرا، فو الله ما لى من عذر، لقد صنعت ما ذكرت. قالت: ثم نزلت فأقامت عندى، فقلت لها وكانت امرأة حازمة: ماذا ترين فى أمر هذا الرجل؟ قالت: أرى والله أن نلحق به سريعا، فإن يكن الرّجل نبيا فللسّابق إليه فضله، وإن يكن ملكا فلن تذل فى عز اليمن، وأنت أنت. قال: قلت والله إن هذا الرّأى. فخرجت حتى أقدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، فدخلت عليه وهو فى مسجده، فسلمت عليه فقال: «من الرّجل» ؟ فقلت: عدى بن حاتم. فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فانطلق بى إلى بيته، فو الله إنه لعامد بى إليه إذ لقيته امرأة ضعيفة كسيرة الجزء: 18 ¦ الصفحة: 79 فاستوقفته، فوقف لها طويلا تكلمه فى حاجتها، فقلت فى نفسى: والله ما هذا بملك. قال: ثم مضى حتى إذا دخل بى بيته تناول وسادة من أدم محشوّة ليفا فقذفها إلىّ فقال: «اجلس على هذه» قلت: بل أنت فاجلس عليها، قال: «بل أنت» فجلست عليها، وجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالأرض، فقلت فى نفسى: والله ما هذا بأمر ملك. ثم قال: «إيه يا عدىّ بن حاتم ألم تك ركوسيا «1» ؟» قلت: بلى، قال: «أولم تك تسير فى قومك بالمرباع «2» » ؟ قلت: بلى؛ قال: «فإنّ ذلك لم يك يحلّ لك فى دينك» . قال: قلت أجل والله، وعرفت أنه نبىّ مرسل يعلم ما يجهل، ثم قال: «لعلّك يا عدىّ إنما يمنعك من دخول فى هذا الدّين ما ترى من حاجتهم، فو الله ليوشكنّ المال يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه ما ترى من كثرة عدوّهم، وقلّة عددهم، فو الله ليوشكن أن يسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت لا تخاف، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه أنك ترى أن الملك والسلطان فى غيرهم، وايم الله ليوشكنّ أن يسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم» . قال عدىّ: فأسلمت. فكان عدىّ يقول: قد مضت اثنتان وبقيت الثالثة، والله لتكوننّ؛ قد رأيت القصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم، وقد رأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها لا تخاف حتى تحج هذا البيت، وايم الله لتكوننّ الثالثة؛ ليفيضنّ المال حتى لا يوجد من يأخذه. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 80 ذكر وفد تجيب قال ابن سعد: قدم وفد تجيب «1» على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى سنة تسع من مهاجره، وهم ثلاثة عشر رجلا، وساقوا صدقات أموالهم التى فرض الله عليهم، فسّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بهم، وقال: «مرحبا بكم» وأكرم منزلهم وحيّاهم، وأمر بلالا أن يحسن ضيافتهم وجوائزهم، وأعطاهم أكثر مما كان يجيز به الوفد، وقال: «هل بقى منكم أحد» قالوا: غلام خلفناه على رحالنا وهو أحدثنا سنّا. قال: «أرسلوه إلينا» ، فأقبل الغلام إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: إنى امرؤ من بنى أبناء الرّهط الذين أتوك آنفا، فقضيت حوائجهم فاقض حاجتى، قال: «وما حاجتك» ؟ قال: تسأل الله أن يغفر لى ويرحمنى ويجعل غناى فى قلبى. فقال: «اللهم اغفر له وارحمه واجعل غناه فى قلبه» . ثم أمر له بمثل ما أمر به لرجل من أصحابه، فانطلقوا راجعين إلى أهليهم، ثم وافوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى الموسم بمنى «2» في سنة عشر، فسألهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الغلام، فقالوا: ما رأينا مثله أقنع منه بما رزقه الله. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 81 ذكر وفد خولان قال: قدم وفد خولان «1» على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فى شعبان سنة عشر، وهم عشرة نفر، فقالوا: يا رسول الله، نحن مؤمنون بالله مصدّقون برسوله، ونحن على من وراءنا من قومنا، وقد ضربنا إليك آباط الإبل. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما فعل عمّ أنس» «2» صنم لهم؛ فقالوا: بشرّ وعرّ «3» ، أبدلنا الله به ما جئت به، ولو قد رجعنا إليه هدمناه. وسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أشياء من أمر دينهم، فجعل يخبرهم بها، وأمر من يعلّمهم القرآن والسّنن، وأنزلوا فى دار رملة بنت الحارث، وأجريت عليهم الضيافة، ثم جاءوا بعد أيام يودّعونه، فأمر لهم بجوائز ثنتى عشرة أوقية ونشّ، ورجعوا إلى قومهم، فلم يحلّوا عقدة حتى هدموا عمّ أنس. وممن أسلم من خولان أبو مسلم الخولانىّ العابد «4» ، واسمه عبد الله بن ثوب، ولم ير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإنما قدم المدينة بعد وفاته، وله خبر عجيب مع الأسود العنسىّ، نذكره فى أخباره فى خلافة أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 82 ذكر وفد جعفى قال ابن سعد: وفد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلان من جعفىّ «1» ، وهما قيس بن سلمة بن شراحيل، وسلمة بن يزيد، وهما أخوان لأم، وأمهما مليكة بنت الحلو بن مالك، فأسلما فقال لهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بلغنى أنكم لا تأكلون القلب» وكانوا يحرّمون أكله، فقالا: نعم، قال: «فإنه لا يكمل إسلامكم إلا بأكله» ودعا بقلب فشوى، ثم ناوله سلمة فلما أخذه أرعدت يده فقال له: «كله» فأكله، وقال: على أنّى أكلت القلب كرها ... وترعد حين مسّته بنانى ثم قالا: يا رسول الله، إنّ أمّنا مليكة بنت الحلو كانت تفكّ العانى، وتطعم البائس، وترحم المسكين، وأنها ماتت وقد وأدت «2» بنية لها صغيرة، فما حالها،؟ قال: «الوائدة والموءودة فى النار «3» » فقاما مغضبين، فقال: «إلىّ فارجعا» فقال: «وأمّى مع أمّكما «4» » فأبيا ومضيا، وهما يقولان: والله إنّ رجلا أطعمنا الجزء: 18 ¦ الصفحة: 83 القلب، وزعم أنّ أمّنا فى النار لأهل ألّا يتّبع، فلما كان ببعض الطريق، لقيا رجلا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، معه إبل من إبل الصّدقة، فأوثقاه وطردا الإبل، فبلغ ذلك النبى صلّى الله عليه وسلّم فلعنهما فيمن كان يلعن فى قوله: «لعن الله رعلا وذكوان وعصيّة ولحيان «1» وابنا مليكة» . قال محمد بن سعد: وقدم أبو سبرة وهو يزيد بن مالك بن عبد الله الجعفىّ على النبى صلّى الله عليه وسلّم ومعه ابناه سبرة وعزيز «2» فأسلموا. وسمى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عزيزا عبد الرحمن. وقال له أبو سبرة: يا رسول الله: إن بظهر كفّى سلعة «3» قد منعتنى من خطام راحلتى، فدعا بقدح، وجعل يضرب به على السّلعة. ويمسحها فذهبت، ودعا له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولابنيه، فقال: يا رسول الله، أقطعنى وادى قومى باليمن، وكان يقال له جردان «4» ففعل، قال: وعبد الرحمن هذا هو أبو خيثمة عبد الرحمن. ذكر وفد مراد قالوا: قدم فروة بن مسيك «5» المرادىّ «6» على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مفارقا لملوك كندة ومباعدا لهم، وقال فى ذلك: الجزء: 18 ¦ الصفحة: 84 لمّا رأيت ملوك كندة أعرضت ... كالرّجل خان الرّجل عرق نسائها «1» قرّبت راحلتى أؤمّ محمدا ... أرجو فواضلها وحسن ثرائها «2» وبايع النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، ونزل على سعد بن عبادة، وكان يتعلم القرآن وفرائض الإسلام وشرائعه، فأجازه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم باثنتى عشرة أوقية، وحمله على بعير وأعطاه حلّة من نسج عمان، واستعمله على مراد وزبيد ومذحج، وبعث معه خالد بن سعيد بن العاص على الصّدقات، وكتب له كتابا فيه فرائض الصّدقة، فلم يزل على الصّدقة حتى توفى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ذكر وفد زبيد قال ابن سعد: قدم وفد عمرو بن معدى كرب «3» الزّبيدىّ على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، فى عشرة نفر من زبيد، فنزل على سعد بن عبادة فأكرمه سعد وراح به إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأسلم هو ومن معه، وأقام أياما، ثم أجازه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وانصرف إلى بلاده، فأقام مع قومه على الإسلام، وعليهم فروة بن مسيك، فلما توفّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ارتدّ، ثم رجع إلى الإسلام، وأبلى يوم القادسية وغيرها. قال محمد بن إسحق: كان عمرو بن معدى كرب قد قال لقيس بن مكشوح المرادىّ حين انتهى إليهم أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا قيس، إنك سيد الجزء: 18 ¦ الصفحة: 85 قومك، وقد ذكر لنا أنّ رجلا من قريش يقال له محمد خرج بالحجاز، يقال إنه نبى، فانطلق بنا إليه حتى نعلم علمه، فإن كان نبيا كما يقول فإنه لن يخفى عليك، إذا لقيناه اتبعناه، وإن كان غير ذلك علمنا علمه، فأبى عليه قيس «1» ، فركب عمرو ابن معدى كرب حتى قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأسلم، فلما بلغ ذلك قيس بن مكشوح أوعد عمرا وتحطّم «2» عليه، وقال: خالفنى وترك رأيى، فقال عمرو فى ذلك: أمرتك يوم ذى صنعا ... ء أمرا بيّنا رشده «3» أمرتك باتّقاء الل ... هـ تأتيه وتتّعده «4» فكنت كذى الحميّر غر ... ره ممّا به وتده «5» تمنّانى على فرس ... عليه جالسا أسده «6» علىّ مفاضة كالنّه ... ى أخلص ماءه حدده «7» الجزء: 18 ¦ الصفحة: 86 تردّ الرّمح مثنىّ السّ ... نان عوائرا قصده «1» فلو لاقيتنى للقي ... ت ليثا فوقه لبده «2» تلاقى ضيغما شئن ال ... برائن ناشزا كتده «3» يسامى القرن إن قرن ... تيمّمه فيعتضده «4» فيأخذه فيرفعه ... فيخفضه فيقتصده «5» فيدمغه فيخطمه ... فيخضمه فيزدرده «6» ظلوم الشّرك فيما أح ... رزت أنيابه ويده «7» ذكر وفد كندة قالوا: قدم الأشعث بن قيس على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى بضعة عشر راكبا من كندة «8» . قاله ابن سعد- وقال ابن إسحق: فى ثمانين راكبا- فدخلوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسجد، وقد رجّلوا «9» جممهم وتكحّلوا، عليهم جبب الجزء: 18 ¦ الصفحة: 87 الحبرة «1» قد كففوها بالحرير، وعليهم الدّيباج ظاهر مخوّص «2» بالذّهب، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألم تسلموا» ؟ قالوا: بلى، قال: «فما بال هذا عليكم «3» » قال: فشقّوه وألقوه، ثم قال له الأشعث بن قيس: يا رسول الله، نحن بنو آكل المرار، وأنت ابن آكل المرار «4» . فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال: «ناسبوا بهذا النّسب العبّاس بن عبد المطلب وربيعة بن الحارث» . قال: وكانا تاجرين، و [كانا «5» ] إذا شاعا فى بعض العرب، فسئلا ممن هما، قالا: نحن بنو آكل المرار: يتعزّزان «6» بذلك. وآكل المرار هو الحارث بن عمرو بن حجر بن عمرو بن معاوية، وقد تقدم خبره فى وقائع العرب. قال: ثم قال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا، نحن بنو النّضر بن كنانة، لا نقفو «7» أمّنا ولا ننتفى من أبينا» فقال الأشعث بن قيس: يا معشر كندة، والله لا أسمع رجلا يقولها إلا ضربته ثمانين. قال محمد بن سعد: فلما أرادوا الرجوع إلى بلادهم أجازهم بعشرة أواق، وأعطى الأشعث ثنتى عشرة أوقية. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 88 ذكر وفد الصّدف قال ابن سعد: وفد وفد الصّدف «1» على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهم بضعة عشر رجلا، على قلائص «2» لهم، فى أزر وأردية، فصادفوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما بين بيته وبين المنبر، فجلسوا ولم يسلّموا فقال: «أمسلمون أنتم» ؟ قالوا: نعم. قال: «فهلّا سلّمتم» ، فقاموا فقالوا: السلام عليك أيّها النبىّ ورحمة الله، فقال: «وعليكم السلام، اجلسوا» فجلسوا، وسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أوقات الصلوات فأخبرهم بها. ذكر وفد سعد هذيم قال ابن سعد يرفعه إلى أبى النعمان عن أبيه قال: قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وافدا فى نفر من قومى، فنزلنا ناحية من المدينة، ثم خرجنا نؤمّ المسجد، فنجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلّى على جنازة فى المسجد، فانصرف فقال: «من أنتم» ؟ قلنا: من بنى سعد هذيم «3» ، فأسلمنا وبايعنا، ثم انصرفنا إلى رحالنا، فأمر بنا فأنزلنا وضيّفنا فأقمنا ثلاثا، ثم جئناه نودّعه، فقال: «أمّروا عليكم أحدكم» وأمر بلالا، فأجازنا بأواق من فضّة، ورجعنا إلى قومنا فرزقهم الله الإسلام. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 89 ذكر وفد بلى ّ روى عن رويفع بن ثابت البلوىّ «1» قال: قدم وفد قومى فى شهر ربيع الأول سنة تسع، فأنزلتهم علىّ فى منزلى ببنى جديلة، ثم خرجت بهم حتى انتهيت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو جالس مع أصحابه فى بقية من الغداة «2» ، فتقدم شيخ الوفد أبو الضّبيب «3» ، فجلس بين يدى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتكلم وأسلم، وأسلم القوم، وسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الضّيافة، وعن أشياء من أمر دينهم فأجابهم، ثم رجعت بهم إلى منزلى، فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأتى [منزلى «4» ] يحمل تمرا يقول: «استعن بهذا التّمر» فكانوا يأكلون منه ومن غيره، فأقاموا ثلاثا، ثم جاءوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يودّعونه، فأمر لهم بجوائز كما كان يجيز الوفد، ثم رجعوا إلى بلادهم. ذكر وفد بهراء قال ابن سعد: قدم وفد بهراء «5» من اليمن، وهم ثلاثة عشر رجلا، فأقبلوا يقودون رواحلهم، حتى انتهوا إلى باب المقداد بن عمرو ببنى جديلة فخرج إليهم، فرحّب بهم وأنزلهم، وأتوا النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فأسلموا وتعلّموا الفرائض وأقاموا أياما، ثم جاءوا يودّعونه فأمر لهم بجوائزهم، وانصرفوا إلى أهلهم. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 90 ذكر وفد عذرة قالوا: قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفد عذرة، فى صفر سنة تسع من مهاجره، وهم اثنا عشر رجلا، فيهم حمزة بن النعمان العذرىّ، وسليم وسعد ابنا مالك، ومالك بن أبى رياح، فنزلوا دار رملة بنت الحارث، ثم جاءوا النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فسلّموا بسلام الجاهلية، وقالوا: نحن إخوة قصىّ لأمه، ونحن الذين أخرجوا خزاعة وبنى بكر عن مكة، ولنا قرابات وأرحام، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مرحبا بكم وأهلا، ما أعرفنى بكم، ما منعكم من تحية الإسلام» ؟ قالوا: قدمنا مرتادين لقومنا «1» . وسألوا النبىّ صلّى الله عليه وسلّم عن أشياء من أمر دينهم فأجابهم فيها، فأسلموا وأقاموا أياما، ثم انصرفوا إلى أهليهم، وأمر لهم بجوائز كما كان يجيز الوفد، وكسا أحدهم بردا. قال: ووفد زمل «2» بن عمرو العذرىّ على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأنشأ يقول حين وفد: إليك رسول الله أعلمت نصّها ... أكلّفها حزنا وقوزا من الرّمل «3» لأنصر خير النّاس نصرا مؤزّرا ... وأعقد حبلا من حبالك فى حبلى «4» وأشهد أنّ الله لا شىء غيره ... أدين له ما أثقلت قدمى نعلى «5» الجزء: 18 ¦ الصفحة: 91 قال: وأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما سمع من صنمه، فقال: «ذلك مؤمن الجن «1» » وعقد له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لواء على قومه، فشهد به بعد ذلك صفّين «2» مع معاوية، ثم شهد به المرج «3» فقتل. ذكر وفد سلامان قال ابن سعد: وفد سبعة من سلامان «4» على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شوّال سنة عشر، فصادفوه وهو خارج من المسجد إلى جنازة؛ فقالوا: السلام عليك يا رسول الله، قال: «وعليكم [السلام «5» ] من أنتم» ؟ قالوا: نحن من سلامان، قدمنا لنبايعك على الإسلام، ونحن على من وراءنا من قومنا. فأمر ثوبان «6» فأنزلهم حيث ينزل الوفد «7» ، فلمّا صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الظّهر جلس بين بيته وبين المنبر، فقدموا إليه فسألوه عن أشياء من أمر الصّلاة وشرائع الإسلام، وعن الرّقى «8» فأجابهم وأسلموا، وأجاز كلّ رجل منهم خمس أواق، ورجعوا إلى بلادهم. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 92 ذكر وفد كلب قال محمد بن سعد بسنده إلى عبد بن «1» عمرو بن جبلة بن وائل بن الجلاح الكلبىّ، «2» قال: شخصت أنا وعصام «3» - رجل من بنى رقاش من بنى عامر- حتى أتينا النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فعرض علينا الإسلام فأسلمنا. وقال بسند آخر إلى ربيعة بن إبراهيم الدمشقى قال: وفد حارثة بن قطن بن زابر بن «4» حصن بن كعب بن عليم الكلبىّ، وحمل «5» بن سعدانة بن حارثة بن مغفّل ابن كعب بن عليم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأسلما، فعقد لحمل بن سعدانة لواء، فشهد به صفّين مع معاوية، وكتب لحارثة بن قطن كتابا فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من محمد رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- لأهل دومة الجندل «6» وما يليها من طوائف كلب مع حارثة بن قطن، لنا الضّاحية «7» الجزء: 18 ¦ الصفحة: 93 من البعل، ولكم الضّامنة من النّخل؛ على الجارية العشر، وعلى الغائرة «1» نصف العشر، لا يجمع سارحكم «2» ، ولا تعدّ فاردتكم» ، تقيمون الصلاة لوقتها، وتؤتون الزكاة بحقّها، [ولا يحظر «4» عليكم] النّبات، ولا يؤخذ منكم عشر البتات «5» ، لكم بذلك العهد والميثاق، ولنا عليكم النّصح والوفاء، وذمّة الله ورسوله، شهد الله ومن حضر من المسلمين» . ذكر وفد جرم قال ابن سعد: وفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلان من جرم «6» ، يقال لأحدهما: الأسقع «7» بن شريح بن صريم بن عمرو بن رياح «8» بن عوف بن عميرة بن الهون ابن أعجب بن قدامة بن جرم [بن ربّان «9» ] بن حلوان بن عمران بن الحاف «10» بن قضاعة. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 94 والآخر: هوذة بن عمرو بن يزيد بن عمرو بن رياح، فأسلما وكتب لهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتابا. وروى عن أبى يزيد- وقد قيل فيه بالباء الموحّدة أبو بريد- عمرو بن سلمة الجرمىّ أن أباه ونفرا من قومه، وفدوا إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم حين أسلم الناس، وتعلّموا القرآن وقضوا حوائجهم، فقالوا: يا رسول الله من يصلّى بنا؛ أو لنا؟ فقال: «ليصلّ «1» بكم أكثركم جمعا- أو أخذا- للقرآن» . قال: فجاءوا إلى قومهم فلم يجدوا فيهم أحدا أكثر أخذا، أو جمع من القرآن ما جمعت، أو أخذت، قال: وأنا يومئذ غلام علىّ شملة «2» ، فقدّمونى فصلّيت بهم، فما شهدت مجمعا من جرم إلا وأنا إمامهم إلى يومى هذا. وعن عمرو بن سلمة أيضا قال: كنا بحضرة ماء ممرّ الناس عليه، وكنا نسألهم، ما هذا الأمر؟ فيقولون: رجل يزعم أنه نبىّ، وأنّ الله أرسله، وأنّ الله أوحى إليه كذا وكذا، فجعلت يومئذ لا أسمع شيئا من ذلك إلّا حفظته، كأنما يغرى «3» في صدرى بغراء، حتى جمعت فيه قرآنا كثيرا، وكانت العرب تلوّم «4» بإسلامها الفتح، يقولون: انظروا فإن ظهر عليهم فهو صادق، وهو نبىّ. فلما جاءتنا وقعة الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، فانطلق أبى بإسلام حوائنا ذلك، وأقام مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما شاء الله أن يقيم، ثم أقبل فلمّا دنا منّا تلقّيناه، فقال: جئتكم والله من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حقّا، ثم قال: إنه يأمركم بكذا وكذا، الجزء: 18 ¦ الصفحة: 95 وينهاكم عن كذا وكذا، وأن تصلوا صلاة كذا فى حين كذا، وصلاة كذا فى حين كذا، إذا حضرت الصلاة فليؤذّن أحدكم، وليؤمّكم أكثركم قرآنا. فنظر أهل حوائنا «1» فما وجدوا أحدا أكثر قرآنا منّى للّذى كنت أحفظه من الرّكبان، فقدّمونى بين أيديهم، فكنت أصلّى بهم وأنا ابن ستّ سنين «2» ، وكان علىّ بردة كنت إذا سجدت تقلّصت «3» عنّى، فقالت امرأة من الحىّ: ألا تغطون عنّا است قارئكم؟ فكسونى قميصا من معقّد «4» البحرين، فما فرحت بشىء أشدّ من فرحى بذلك القميص. ومن رواية أخرى عنه: فعلّمونى الركوع والسجود، فكنت أصلّى بهم. ذكر وفد الأزد وأهل جرش قالوا: قدم صرد بن عبد الله الأزدىّ «5» في بضعة عشر رجلا من قومه، وفدا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزلوا على فروة بن عمرو، وأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأسلموا، وأقاموا عشرة أيام، وكان صرد أفضلهم، فأمّره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على من أسلم من قومه، وأمره أن يجاهد بهم من يليه، من أهل الشّرك من قبائل اليمن؛ فخرج حتى نزل جرش «6» وهى مدينة حصينة مغلقة، وبها الجزء: 18 ¦ الصفحة: 96 قبائل من قبائل اليمن. وقد ضوت «1» إليهم خثعم، فدخلوا معهم حين سمعوا بمسير المسلمين إليهم، فحاصرهم صرد ومن معه فيها شهرا، ثم رجع قافلا، حتى إذا كان إلى جبل لهم يقال له شكر، ظنّ أهل جرش أنه إنما ولّى عنهم منهزما، فخرجوا فى طلبه حتى إذا أدركوه صفّ صفوفه، وحمل عليهم هو والمسلمون، ووضعوا سيوفهم فيهم حيث شاءوا، وأخذوا من خيلهم عشرين فرسا، فقاتلوهم عليها نهارا طويلا. وكان أهل جرش بعثوا رجلين منهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة يرتادان وينظران، فبينما هما عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عشية بعد العصر؛ إذ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بأىّ بلاد الله شكر» ؟ فقام الجرشيّان فقالا: يا رسول الله، ببلادنا جبل يقال له كشر، وكذلك نسميّه أهل جرش، فقال: «إنه ليس بكشر ولكنه شكر» ، قالا: فما شأنه يا رسول الله؟ قال: «إنّ بدن الله لتنحر عنده الآن» قال: فجلس الرجلان إلى أبى بكر، أو إلى عثمان. «2» فقال لهما: ويحكما! إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الآن لينعى لكما قومكما، فقوما إلى رسول الله فسلاه أن يدعو الله أن يرفع عن قومكما. فقاما إليه فسألاه ذلك. فقال: «اللهم ارفع عنهم» فخرجا من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم راجعين إلى قومهما، فوجدا قومهما قد أصيبوا من صرد فى اليوم الذى قال فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما قال فى تلك الساعة، فقصّا على قومهما القصّة، فخرج وفدهم حتى قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأسلموا، فقال: «مرحبا بكم، الجزء: 18 ¦ الصفحة: 97 أحسن الناس «1» وجوها، وأصدقه لقاء، وأطيبه كلاما، وأعظمه أمانة، أنتم منى وأنا منكم» وجعل شعارهم مبرورا، وحمى لهم حمى حول قريتهم، على أعلام «2» معلومة للفرس والراحلة وللمثيرة- بقرة الحرث- فمن رعاه من الناس فماله سحت «3» . ذكر وفد غسّان قال محمد بن سعد بسنده إلى محمد بن بكير الغسّانىّ، عن قومه من «4» غسّان، قالوا: قدمنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شهر رمضان سنة عشر، المدينة ونحن ثلاثة نفر، فنزلنا دار رملة بنت الحارث، ثم أتينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأسلمنا وصدّقنا، فأجازهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بجوائز وانصرفوا راجعين، فقدموا على قومهم فلم يستجيبوا لهم، فكتموا إسلامهم حتى مات منهم رجلان مسلمين «5» ، وأدرك الثالث عمر بن الخطاب عام اليرموك، فلقى أبا عبيدة فخبّره بإسلامه فأكرمه «6» . ذكر وفد الحارث بن كعب وما كتب به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليهم قال ابن سعد: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خالد بن الوليد فى أربعمائة من المسلمين، فى شهر ربيع الأوّل سنة عشر إلى بنى الحارث بن كعب بنجران «7» ، الجزء: 18 ¦ الصفحة: 98 وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام ثلاثا قبل أن يقاتلهم ففعل، فاستجاب له من هناك من بلحارث «1» بن كعب، ودخلوا فى الإسلام، ونزل خالد بن الوليد بين أظهرهم، فعلمهم الإسلام وشرائعه، وكتاب الله وسنة نبيه صلّى الله عليه وسلّم، وكتب بذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى خالد: «أن بشّرهم وأنذرهم واقدم ومعك وفدهم» ، فقدم خالد ومعه وفدهم؛ فيهم قيس بن الحصين، ويزيد بن عبد المدان، وعبد الله بن عبد المدان، ويزيد بن المحجّل، وعبد الله بن قراد «2» ، وشدّاد بن عبد الله القنانىّ، وعمرو بن عبد الله، وأنزلهم خالد عليه، ثم جاء بهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «من هؤلاء الذين كأنهم رجال الهند» ؟ فقيل: بنو الحارث بن كعب، فسلّموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فأجازهم بعشر أواق، وأجاز قيس بن الحصين باثنتى عشرة أوقية ونشّ، وأمّره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على بنى الحارث، ثم انصرفوا إلى قومهم فى بقية شوّال. هذا ما حكاه ابن سعد فى طبقاته. وقال ابن إسحق: لما وقفوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سلّموا عليه، وقالوا: نشهد أنك لرسول الله، وأنه لا إله إلا الله. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أنتم الذين إذا زجروا استقدموا «3» » ؟ فسكتوا، فلم يراجعه منهم أحد، فأعادها عليهم الثانية والثالثة، فلما أعادها الرابعة قال يزيد بن عبد المدان: نعم يا رسول الله، نحن الذين إذا زجروا استقدموا، قالها أربع مرار، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: الجزء: 18 ¦ الصفحة: 99 «لو أنّ خالدا لم يكتب إلىّ أنكم أسلمتم ولم تقاتلوا لألقيت رءوسكم تحت أقدامكم» فقال يزيد بن عبد المدان: أما والله ما حمدناك ولا حمدنا خالدا، قال: «فمن حمدتم» ؟ قالوا: حمدنا الله الذى هدانا بك يا رسول الله. قال: «صدقتم» ، ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بم كنتم تغلبون من قاتلكم فى الجاهلية» ؟ قالوا: لم نكن نغلب أحدا. قال: «بلى قد كنتم تغلبون من قاتلكم» قالوا: كنا نغلب من قاتلنا يا رسول الله أنا كنا نجتمع ولا نتفرق، ولا نبدأ أحدا بظلم، قال: «صدقتم» . وأمّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على بنى الحارث قيس بن الحصين، وأجازهم بعشر أواق عشر أواق، وأجاز قيس بن الحصين باثنتى عشرة أوقية ونشّ، ثم انصرفوا إلى قومهم فى بقية شوّال، أو فى صدر ذى القعدة، فلم يمكثوا بعد أن رجعوا إلى قومهم إلا أربعة أشهر حتى توفى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال: وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث إليهم بعد أن ولى وفدهم عمرو بن حزم ليفقّههم فى الدّين ويعلّمهم السّنة، ويعلّمهم «1» الإسلام، ويأخذ منهم صدقاتهم. وكتب له كتابا وهو: «بسم الله الرحمن الرحيم. هذا بيان من الله ورسوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ «2» عهد من محمد النبى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- لعمرو بن حزم حين الجزء: 18 ¦ الصفحة: 100 بعثه إلى اليمن أمره بتقوى الله فى أمره كله ف إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ، وأمره أن يأخذ الحق كما أمره الله، وأن يبشر الناس بالخير ويأمرهم به، ويعلّم الناس القرآن ويفقّههم فيه، وينهى الناس، ولا يمس القرآن إنسان إلا وهو طاهر، ويخبر الناس بالذى لهم والذى عليهم، ويلين للناس فى الحق، ويشتدّ عليهم فى الظّلم، فإنّ الله كره الظّلم، ونهى عنه، فقال: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ، ويبشّر الناس بالجنة وبعملها، وينذر الناس النار وعملها، ويستألف «1» الناس حتى يفقّهوا فى الدّين، ويعلّم الناس معالم الحج وسنّته وفريضته، وما أمر الله به، والحج الأكبر: الحج الأكبر، والحج الأصغر هو العمرة، وينهى الناس أن يصلّى أحد فى ثوب واحد صغير، إلا أن يكون ثوبا يثنى طرفيه على عاتقيه، وينهى أن يحتبى «2» أحد فى ثوب واحد يفضى بفرجه إلى السماء، وينهى أن يعقص «3» أحد شعر رأسه فى قفاه، وينهى إذا كان بين الناس هيج «4» عن الدعاء إلى القبائل والعشائر، وليكن دعواهم إلى الله وحده لا شريك له، فمن لم يدع إلى الله ودعا إلى القبائل والعشائر فليقطفوا «5» بالسّيف، حتى تكون دعواهم إلى الله وحده الجزء: 18 ¦ الصفحة: 101 لا شريك له، ويأمر الناس بإسباغ الوضوء وجوههم وأيديهم إلى المرافق، وأرجلهم إلى الكعبين، ويمسحون برءوسهم كما أمرهم الله، وأمر بالصلاة لوقتها، وإتمام الركوع والخشوع، يغلّس بالصّبح، «1» ويهجّر بالهاجرة «2» حين تميل الشّمس، وصلاة العصر والشمس فى الأرض مدبرة، والمغرب حين يقبل الليل، لا تؤخّر حتى تبدو النجوم فى السماء، والعشاء أوّل الليل، وأمر بالسّعى إلى الجمعة إذا نودى لها، والغسل عند الرّواح إليها، وأمره أن يأخذ من المغانم خمس الله، وما كتب على المؤمنين فى الصّدقة من العقار «3» عشر ما سقت العين وسقت السماء، وعلى ما سقى الغرب «4» نصف العشر، وفى كل عشر من الإبل شاتان، وفى كل عشرين من البقر بقرة، وفى كل ثلاثين من البقر تبيع «5» : جذع أو جذعة، وفى كل أربعين من الغنم سائمة «6» وحدها شاة، فإنها فريضة الله التى افترض على المؤمنين فى الصّدقة، فمن زاد خيرا فهو خير له، وأنه من أسلم من يهودىّ أو نصرانىّ إسلاما خالصا من نفسه، ودان بدين الإسلام فإنه من المؤمنين، له مثل ما لهم وعليه مثل الجزء: 18 ¦ الصفحة: 102 ما عليهم، ومن كان على نصرانيته أو يهوديته، فإنه لا يردّ عنها، وعلى كل حالم «1» ذكر أو أنثى حرّ أو عبد دينار واف، أو عوضه ثيابا، فمن أدّى ذلك فإن له ذمّة الله وذمّة رسوله، ومن منع ذلك فإنه عدوّ لله ولرسوله وللمؤمنين جميعا، صلوات الله على محمد والسلام عليه ورحمة الله وبركاته» . ذكر وفد عنس قال محمد بن السّائب الكلبىّ: حدّثنا أبو زفر الكلبىّ عن رجل من عنس «2» ، قال: كان منّا رجل وفد على النبى صلّى الله عليه وسلّم فأتاه وهو يتعشّى، فدعا به إلى العشاء فجلس «3» ، فلما تعشّى أقبل عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «اشهد «4» أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله» فقال العنسىّ: اشهد أن لا أله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله. فقال: «أراغبا جئت أم راهبا» فقال: أمّا الرّغبة فو الله ما فى يديك مال، وأمّا الرّهبة فو الله إنى لببلد ما تبلغه جيوشك، ولكنّى خوّفت فخفت، وقيل لى: آمن بالله فآمنت. فأقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على القوم فقال: «ربّ خطيب من عنس» فمكث يختلف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاء يودّعه، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اخرج» وبتّته «5» ، أى أعطاه شيئا، وقال: «إن أحسست شيئا فوائل «6» إلى أدنى «7» الجزء: 18 ¦ الصفحة: 103 قرية» . فخرج فوعك «1» في بعض الطريق، فوأل إلى أدنى قرية فمات رحمه الله، واسمه ربيعة «2» . ذكر وفد الداريّين وما كتب لهم به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما اختصّ به تميم الدارىّ وإخوته قال محمد بن سعد بسنده إلى عبيد الله بن عبد الله، وروح بن زنباع الجذامىّ عن أبيه قالا: قدم وفد الدّاريّين «3» على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منصرفه من تبوك وهم عشرة نفر؛ فيهم تميم ونعيم ابنا أوس بن خارجة بن سود «4» بن جذيمة «5» ابن ذراع بن عدىّ بن الدّار بن هانئ بن حبيب بن نمارة بن لخم، ويزيد بن قيس ابن خارجة، والفاكه بن النّعمان بن جبلة بن صفّارة بن ربيعة بن ذراع بن عدىّ ابن الدّار، وجبلة بن مالك بن صفّارة، وأبو هند والطّيّب ابناذرّ- قال ابن [إسحق «6» ] : برّ- وهو عبد الله بن ذرّ بن عمّيت بن ربيعة بن ذراع، وهانئ بن حبيب، وعزيز ومرّة ابنا مالك بن سواد. «7» قال ابن إسحق: عرفة. وقال ابن هشام: عزّة. وقال ابن إسحق فى مرّة: مروان «8» . قال ابن سعد: فأسلموا وسمّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الطيب عبد الله، وسمّى عزيزا عبد الرحمن. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 104 قال: وأهدى هانئ بن حبيب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم راوية خمر وأفراسا وقباء «1» مخوّصا بالذهب، فقبل الأفراس والقباء وأعطاه العباس بن عبد المطلب، فقال: ما أصنع به؟ قال: «تنزع الذهب فتحليه نساءك، أو تستنفقه، ثم تبيع الدّيباج فتأخذ ثمنه» ، فباعه العباس من رجل من يهود بثمانية آلاف درهم. قال وقال تميم: لناجيرة من الرّوم، لهم قريتان يقال لأحداهما حبرى «2» والأخرى بيت عينون، فإن فتح الله عليك الشام فهبهما لى، قال: «فهما لك» فلما قام أبو بكر رضى الله عنه أعطاه ذلك، وكتب له به كتابا، وأقام وفد الدّاريّين حتى توفّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأوصى لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بجادّ «3» مائة وسق من خيبر، هكذا حكى ابن سعد فى طبقاته. وشاهدت أنا عند ورثة الصاحب الوزير فخر الدين أبى حفص عمر، ابن القاضى المرحوم الرئيس مجد الدين عبد العزيز المعروف بابن الخليلى التميمىّ رحمه الله، كتابا يتوارثونه كابرا عن كابر، يقولون: هو كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذى كتبه لتميم الدارىّ وإخوته، وهو فى قطعة من أدم مربّعة دون الشّبر قد غلّفت بالأطلس «4» الأبيض، يزعمون أن ذلك من خفّ كان لأمير المؤمنين علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، وقد بقى بهذه القطعة الأدم آثار أحرف خافية، لا تكاد تبين إلا بعد إمعان التأمّل، وتحقيق النظر، وعلى هذه القطعة الجزء: 18 ¦ الصفحة: 105 الأدم من الجلالة ولها من الموقع فى النفوس والمهابة ما يقوّى أنها صادرة عن المحل المنيف «1» ، وقرين هذه القطعة الأدم قرطاس أبيض قديم، يزعمون أن أسلافهم نقلوا ما فيه من الكتابة من كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قبل أن تزول حروفه. وفيه تسعة أسطر بما فى ذلك من البسملة، وقد رأينا أن نضع ذلك فى هذا الكتاب على هيئته فى العدد، وإن لم يوافق الخط، وهو: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* هذا ما انطا «2» محمد رسول الله لتميم الدارىّ واخوته حبرون والمرطوم «3» وبيت عينون وبيت ابراهيم وما فيهن نطيه بتّ بذمتهم ونفذت وسلمت ذلك لهم ولأعقابهم فمن اذاهم اذاه الله فمن اذاهم لعنه الله شهد عتيق ابن ابو قحافة «4» وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفّان وكتب على بن ابو طالب وشهد. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 106 هكذا شاهدت تلك الورقة التى هى قرين الكتاب، والكتاب بأيديهم إلى وقتنا هذا؛ وهو العشر الآخر من ذى القعدة سنة ستّ عشرة وسبعمائة. وهذه الضّياع الأربعة المذكورة بأيديهم إلى وقتنا هذا، لا ينازعون فيها. وكان الصاحب الوزير فخر الدين عمر بن الخليلى رحمه الله، إذا نابته نائبة، أو صودر أو أوذى بوجه من وجوه الأذى، توسّل إلى الله تعالى بكتاب نبيه صلّى الله عليه وسلّم، وأظهره للملوك، فكفوا عن طلبه، وأفرجوا عنه. ولنرجع إلى أخبار الوفود. ذكر وفد الرّهاويّين والرّهاويّون حىّ من مذحج «1» ، قال ابن سعد: وفد خمسة عشر رجلا من مذحج على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سنة عشر، فنزلوا دار رملة بنت الحارث، فأتاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتحدّث عندهم طويلا. وأهدوا الرسول صلّى الله عليه وسلّم هدايا؛ منها فرس يقال له المرواح، فأمر به فشوّر «2» بين يديه فأعجبه. فأسلموا وتعلّموا القرآن والفرائض. وأجازهم كما يجيز الوفد؛ أرفعهم ثنتى عشرة أوقية ونسّا، وأخفضهم خمس أواق. ثم رجعوا إلى بلادهم. ثم قدم منهم نفر فحجّوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأوصى لهم بجادّ مائة وسق من خيبر فى الكتيبة جارية عليهم، وكتب لهم بها كتابا، فباعوا ذلك فى زمن معاوية. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 107 ذكر وفد غامد قال: قدم وفد غامد «1» على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شهر رمضان وهم عشرة، فنزلوا ببقيع الغرقد «2» ، ثم لبسوا من صالح ثيابهم، ثم انطلقوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فسلّموا عليه وأقرّوا بالإسلام. وكتب لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتابا فيه شرائع الإسلام، وأتوا أبىّ بن كعب فعلّمهم قرآنا. وأجازهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما كان يجيز الوفد وانصرفوا. ذكر وفد النّخع قالوا: بعث النّخع «3» رجلين منهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وافدين بإسلامهم، وهما أرطاة بن شراحيل بن كعب، من بنى حارثة بن سعد بن مالك بن النّخع، والجهيش واسمه الأرقم، من بنى بكر بن عوف من النّخع، فخرجا حتى قدما على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فعرض عليهما الإسلام فقبلاه وبايعا عن قومهما، فأعجب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شأنهما، وحسن هيئتهما؛ فقال: «هل خلّفتما وراء كما من قومكما مثلكما» ؟ قالا: يا رسول الله، قد خلّفنا وراءنا من قومنا سبعين رجلا كلهم أفضل منا، وكلهم يقطع الأمر وينفّذ الأشياء، ما يشار كوننا فى الأمر إذا كان، فدعا لهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولقومهما بخير، وقال: «اللهمّ بارك فى النّخع» . وعقد لأرطاة لواء على قومه، وكان فى يده يوم الفتح، فشهد الجزء: 18 ¦ الصفحة: 108 به القادسيّة فقتل يومئذ، فأخذه أخوه دريد فقتل- رحمهما الله- فأخذه سيف ابن الحارث من بنى جذيمة، فدخل به الكوفة. قال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمر الأسلمىّ، قال: كان آخر من قدم من الوفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفد النّخع، وقدموا من اليمن للنّصف من المحرم، سنة إحدى عشرة، وهم مائتا رجل، فنزلوا دار رملة بنت الحارث، ثم جاءوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقرّين بالإسلام، وقد كانوا بايعوا معاذ بن جبل باليمن، وكان فيهم زرارة بن عمرو. وحكى أبو عمر بن عبد البرفى ترجمة زرارة بن عمرو، والد عمرو بن زرارة، قال: قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى وفد النّخع، فقال: يا رسول الله، إنى رأيت فى طريقى رؤيا هالتنى. قال: «وما هى» ؟ قال: رأيت أتانا «1» خلّفتها فى أهلى ولدت جديا أسفع أحوى «2» ، ورأيت نارا خرجت من الأرض فحالت بينى وبين ابن لى- يقال له عمرو- وهى تقول: لظى لظى، بصير وأعمى «3» . فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: «أخلّفت فى أهلك أمة مسرّة «4» ولدا» . قال: نعم. قال: «فإنها قد ولدت غلاما وهو ابنك «5» » قال: فما باله أسفع أحوى؟ قال: «ادن منّى، أبك الجزء: 18 ¦ الصفحة: 109 برص تكتمه» ؟ قال: والذى بعثك بالحق، ما علمه أحد قبلك. قال: «فهو ذاك، وأما النار فإنها فتنة تكون بعدى» . قال: وما الفتنة يا رسول الله؟ قال: يقتل الناس إمامهم، يشتجرون اشتجار أطباق الرأس «1» - وخالف بين أصابعه- دم المؤمن عند المؤمن أحلى من الماء، يحسب المسىء أنه محسن، إن متّ أدركت ابنك، وإن مات ابنك أدركتك» . قال: فادع الله لى ألّا تدركنى. فدعا له. قال: وكان قدوم زرارة بن عمرو هذا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى النّصف من شهر رجب سنة تسع. وقال الطبرى: قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفد النّخع وهم مائتا رجل، وفيهم زرارة بن قيس بن الحارث بن عدىّ بن الحارث بن عوف بن جشم ابن كعب بن قيس بن منقذ بن مالك بن النّخع فأسلموا. ذكر وفد بجيلة قال ابن سعد: قدم جرير بن عبد الله البجلىّ «2» سنة عشر المدينة، ومعه من قومه مائة وخمسون رجلا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يطلع عليكم من هذا الفجّ من خير ذى يمن على وجهه مسحة «3» ملك» فطلع جرير على راحلته ومعه قومه فأسلموا وبايعوا. قال جرير: فبسط رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يده فبايعنى، وقال: «على أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأنى رسول الله، ثم [تقيم «4» ] الصلاة، وتؤتى الزكاة، وتصوم شهر رمضان، وتنصح للمسلم، وتطيع الوالى وإن كان عبدا حبشيا» فقال: نعم، فبايعه. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 110 وقدم قيس بن [أبى «1» ] غرزة الأحمسىّ- وقيل غرزة بن قيس البجلىّ- فى مائتين وخمسين رجلا من أحمس، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أنتم» ؟ فقالوا: نحن أحمس «2» الله. وكان يقال لهم ذاك فى الجاهلية. فقال لهم: «وأنتم اليوم لله» . وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لبلال: «أعط ركب بجيلة وابدأ بالأحمسيّين» ففعل. وسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جرير ابن عبد الله «ما فعل ذو الخلصة «3» » ؟ قال: هو على حاله، قد بقى والله، نريح منه إن شاء الله، فبعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى هدمه، وعقد له لواء فقال: إنى لا أثبت على الخيل فمسح صدره، وقال: «اللهم اجعله هاديا مهديا» فخرج فى قومه وهم زهاء مائتين، فما أطال الغيبة حتى رجع؛ فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هدمته» ؟ قال: نعم، والذى بعثك بالحقّ، وأخذت ما عليه وأحرقته بالنار، فتركته كما يسوء من يهوى هواه، وما صدّنا عنه أحد. قال فبرّك «4» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ على خيل أحمس ورجالها. ذكر وفد خثعم قالوا: وفد عثعث بن زحر، وأنس بن مدرك، فى رجال من خثعم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد ما هدم جرير بن عبد الله ذا الخلصة، وقتل من قتل من خثعم، فقالوا: آمنا بالله ورسوله، وما جاء من عند الله، فاكتب لنا كتابا نتبع ما فيه؛ فكتب لهم كتابا شهد فيه جرير بن عبد الله ومن حضر. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 111 ذكر وفد حضرموت قالوا: قدم وفد حضر موت مع وفد كندة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهم بنو وليعة ملوك حضر موت؛ جمد «1» ، ومخوس، ومشرح «2» ، وأبضعة، فأسلموا، وقال مخوس: يا رسول الله، ادع الله أن يذهب عنى هذه الرّتّة «3» من لسانى. فدعا له، وأطعمه طعمة من صدقة حضر موت. وقدم وائل بن حجر الحضرمىّ وافدا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال: جئت راغبا فى الإسلام والهجرة، فدعا له ومسح رأسه ونودى: «الصلاة جامعة» سرورا بقدوم وائل بن حجر. وأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معاوية بن أبى سفيان أن ينزله بالحرّة، فمشى معه، ووائل راكب، فقال له معاوية: ألق إلىّ نعليك أتوقّى بهما الرّمضاء «4» . قال: لا، إنى لم أكن لألبسهما وقد لبستهما. ومن رواية: لا يبلغ أهل اليمن أن سوقة «5» لبس نعل ملك. قال: فأردفنى، قال: لست من أرداف الملوك، قال: إنّ الرمضاء قد أحرقت قدمى، قال: امش فى ظلّ ناقتى، كفاك به شرفا. ويقال: إن وائل بن حجر هذا وفد بعد ذلك إلى معاوية فى خلافته فأكرمه معاوية. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 112 قال: ولما أراد وائل بن حجر الشّخوص إلى بلاده، كتب له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتابا وهو: «بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من محمد النبى لوائل بن حجر قيل حضر موت، إنك أسلمت وجعلت لك ما فى يدك من الأرضين والحصون، وأن يؤخذ منك من كل عشرة واحد. ينظر فى ذلك ذوو «1» عدل وجعلت لك ألا تظلم فيها ما قام الذين. والنبى- صلى الله عليه وسلّم- والمؤمنون عليه أنصار» . قال القاضى عياض بن موسى بن عياض- رحمه الله- وفيه: «إلى الأقيال «2» العباهلة «3» ، والأرواع «4» المشابيب «5» » . وفيه: «فى التّيعة «6» شاة لا مقوّرة الألياط «7» ولا ضناك «8» ، وأنطوا الثّبجة «9» ، وفى السّيوب «10» الخمس ومن زنى من امبكر «11» فاصقعوه مائة واستوفضوه «12» عاما، ومن زنى من امثيّب الجزء: 18 ¦ الصفحة: 113 فضرّجوه بالأضاميم «1» ، ولا توصيم فى الدّين «2» ، ولا غمّة «3» فى فرائض الله؛ وكل مسكر حرام، ووائل بن حجر يترفّل «4» على الأقيال» . قال محمد بن سعد بسنده إلى أبى عبيدة من ولد عمّار بن ياسر قال: وفد مخوس ابن معدى كرب بن وليعة فيمن معه على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم خرجوا من عنده فأصاب مخوس اللّقوة «5» فرجع منهم نفر، فقالوا: يا رسول الله، سيّد العرب ضربته اللّقوة، فادللنا على دوائه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خذوا مخيطا «6» فأحموه فى النار، ثم اقلبوا شفر عينيه، ففيها شفاؤه، وإليها مصيره، فالله أعلم ما قلتم حين خرجتم من عندى» . فصنعوه به فبرئ. ذكر وفد أزد عمان قالوا: أسلم أهل عمان «7» ، فبعث إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العلاء بن الحضرمىّ ليعلّمهم شرائع الإسلام، ويصدّق أموالهم «8» ، فخرج وفدهم إلى رسول الله الجزء: 18 ¦ الصفحة: 114 صلى الله عليه وسلّم، فيهم أسد بن بيرح «1» الطاحىّ، فلقوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسألوه أن يبعث معهم رجلا يقيم أمرهم، فقال مخرمة «2» العبدىّ واسمه مدرك بن خوط: ابعثنى إليهم فإن لهم علىّ منّة؛ أسرونى فى يوم جنوب «3» فمنّوا علىّ. فوجّهه معهم إلى عمان، وقدم بعدهم سلمة بن عبّاد «4» الأزدىّ فى ناس من قومه، فسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عما يعبد وما يدعو إليه، فأخبره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: ادع الله أن يجمع كلمتنا وألفتنا. فدعا لهم، وأسلم سلمة ومن معه. ذكر وفد غافق «5» قالوا: وقدم جليحة بن شجّار بن صحار الغافقىّ، على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى رجال من قومه، فقالوا: يا رسول الله، نحن الكواهل «6» من قومنا، وقد أسلمنا وصدقاتنا محبوسة بأفنيتنا. فقال: «لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم» فقال عوذ بن سرير الغافقىّ: آمنا بالله واتبعنا رسول الله. ذكر وفد بارق قالوا: قدم وفد بارق «7» ، فدعاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الإسلام فأسلموا وبايعوا، وكتب لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: الجزء: 18 ¦ الصفحة: 115 «هذا كتاب من محمد رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- لبارق ألا تجذّ ثمارهم، ولا ترعى بلادهم فى مربع «1» ولا مصيف إلا بمسألة من بارق. ومن مرّبهم من المسلمين فى عرك «2» أو جدب فله ضيافة ثلاثة أيام. وإذا أينعت «3» ثمارهم فلابن السّبيل اللّقاط «4» بوسع بطنه من غير أن يقيه «5» » . ثم شهد أبو عبيدة بن الجرّاح، وحذيفة بن اليمان، وكتب أبىّ بن كعب. ذكر وفد ثمالة «6» والحدّان قالوا: قدم عبد الله بن غلس «7» الثّمالىّ ومسلمة بن هاران «8» الحدّانى على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى رهط من قومهما بعد فتح مكة، فأسلموا وبايعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على قومهم، وكتب لهم كتابا بما فرض عليهم من الصدقة فى أموالهم، كتبه ثابت بن قيس بن شمّاس، وشهد فيه سعد بن عبادة ومحمد ابن مسلمة. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 116 ذكر وفد مهرة قالوا: قدم وفد مهرة «1» على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، عليهم مهرىّ «2» بن الأبيض، فعرض عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الإسلام فأسلموا، وكتب لهم: «بسم الله الرحمن الرحيم. هذا الكتاب من محمد رسول الله لمهرىّ بن الأبيض على من آمن به من مهرة ألّا يؤكلوا» ولا يعركوا «4» . وعليهم إقامة شعائر الإسلام، فمن بدّل فقد حارب، ومن آمن به فله ذمّة الله وذمّة رسوله. اللّقطة «5» مؤدّاة، والسّارحة «6» مندّاة، والتّفث «7» السّيّئة، والرّفث «8» الفسوق» . وكتب محمد بن مسلمة الأنصارى. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 117 قالوا: ووفد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجل من مهرة، يقال له زهير «1» ابن قرضم بن الجعيل من الشّحر «2» ، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدنيه لبعد مسافته، فلما أراد الانصراف بتّته «3» ، وحمله، وكتب له كتابا. ذكر وفد حمير قالوا: قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مالك بن مرارة «4» الرّهاوى، رسول ملوك حمير بكتابهم وإسلامهم، وذلك فى شهر رمضان سنة تسع عند مقدمه من تبوك، وهم: الحارث بن عبد كلال، ونعيم بن عبد كلال، والنّعمان قيل ذى رعين، ومعافر، وهمدان. قال ابن إسحق: وبعث إليه زرعة ذو يزن مالك بن مرّة الرّهاوىّ فكتب إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى الحارث بن عبد كلال وإلى نعيم بن عبد كلال، وإلى النعمان قيل ذى رعين ومعافر وهمدان- أما بعد ذلكم- فإنى أحمد الله إليكم الذى لا إله إلا هو- أما بعد- فإنه قد وقع بنا رسولكم منقلبنا من أرض الروم، فلقينا بالمدينة، فبلّغ ما أرسلتم به، وخبّر ما قبلكم، وأنبأنا بإسلامكم وقتلكم المشركين، وأنّ الله قد هداكم بهداه إن أصلحتم وأطعتم الله ورسوله، وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة، وأعطيتم من المغانم خمس الله، وسهم الجزء: 18 ¦ الصفحة: 118 النبىّ وصفيّه «1» ، وما كتب على المؤمنين من الصّدقة، من العقار «2» عشر ما سقت العين وسقت السماء، وعلى ما سقى الغرب «3» نصف العشر، وإن فى الإبل الأربعين ابنة لبون، وفى ثلاثين من الإبل ابن لبون ذكر، وفى كل خمس من الإبل شاة، وفى كل عشر من الإبل شاتان، وفى كل أربعين من البقر بقرة، وفى كل ثلاثين من البقر تبيع جذع أو جذعة، وفى كل أربعين من الغنم سائمة وحدها شاة، وأنّها فريضة الله التى فرض على المؤمنين فى الصّدقة، فمن زاد خيرا فهو خير له، ومن أدّى ذلك، وأشهد على إسلامه، وظاهر «4» المؤمنين على المشركين، فهو من المؤمنين، له ما لهم، وعليه ما عليهم وله ذمّة الله وذمّة رسوله، وإنّه من أسلم من يهودىّ أو نصرانىّ فإنّه من المؤمنين، له ما لهم، وعليه ما عليهم، ومن كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه لا يردّ عنها، وعليه الجزية على كل حالم ذكر أو أنثى، حرّ أو عبد دينار واف، من قيمة المعافر «5» أو عوضه ثيابا، فمن أدّى ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإن له ذمّة الله وذمّة رسوله، ومن منعه فإنه عدوّ لله ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم. أما بعد- فإن رسول الله محمدا النبىّ أرسل إلى زرعة ذى يزن أن إذا أتاكم رسلى فأوصيكم بهم خيرا: معاذ بن جبل، وعبد الله بن زيد، ومالك بن عبادة، وعقبة ابن نمر، ومالك بن مرّة، وأصحابهم، وأن اجمعوا له ما عندكم من الصّدقة، والجزية من مخالفيكم، وأبلغوها رسلى، وأنّ أميرهم معاذ بن جبل فلا ينقلبنّ إلا راضيا. أما بعد- فإن محمدا يشهد أن لا إله إلا الله وأنّه عبده ورسوله، ثم إن مالك ابن مرّة الرّهاوىّ قد حدّثنى أنك أسلمت من أوّل حمير وقتلت المشركين، فأبشر الجزء: 18 ¦ الصفحة: 119 بخير، وآمرك بحمير خيرا، ولا تخونوا ولا تخاذلوا، فإنّ رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- هو مولى غنيّكم وفقيركم، وأنّ الصّدقة لا تحلّ لمحمد ولا لأهل بيته، إنما هى زكاة يزكّى بها على فقراء المسلمين وابن السبيل، وأن مالكا قد بلّغ الخبر، وحفظ الغيب وآمركم به خيرا، وأنّى أرسلت إليكم من صالحى أهلى وأولى دينهم وأولى علمهم، وآمركم بهم خيرا، فإنهم «1» منظور إليهم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته» . ذكر وفد جيشان قال محمد بن سعد: قدم أبو وهب الجيشانىّ على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى نفر من قومه، فسألوه عن أشربة تكون باليمن، فسمّوا له البتع «2» من العسل، والمزر «3» من الشّعير، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هل تسكرون منهما» قالوا: إن أكثرنا سكرنا، قال: «فحرام قليل ما أسكر كثيره» ، وسألوه عن الرجل يتخذ الشراب فيسقيه عمّا له، فقال: «كلّ مسكر حرام» . ذكر وفد سلول قال أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر النّمرىّ رحمه الله: قدم قردة بن نفاثة السّلولىّ، من بنى عمرو بن مرّة بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى جماعة من بنى سلول، فأمّره عليهم بعد ما أسلم الجزء: 18 ¦ الصفحة: 120 وأسلموا؛ فأنشأ يقول: بان الشّباب فلم أحفل به بالا ... وأقبل الشّيب والإسلام إقبالا وقد أروّى نديمى من مشعشعة «1» ... وقد أقلّب أوراكا وأكفالا الحمد لله إذ لم يأتنى أجلى ... حتى اكتسيت من الإسلام سربالا قال وقد قيل: إن البيت الثالث للبيد، قال أبو عبيدة: لم يقل لبيد فى الإسلام غيره، وكان قد عمّر مائة وخمسين سنة. قال أبو عمر: وقردة هذا هو الذى يقول: أصبحت شيخا أرى الشّخصين أربعة ... والشّخص شخصين لمّا مسّنى الكبر لا أسمع الصّوت حتّى أستدير له ... وحال بالسّمع دونى المنظر القصر «2» وكنت أمشى على السّاقين معتدلا ... فصرت أمشى على ما تنبت الشّجر إذا أقوم عجنت الأرض متّكئا ... على البراجم حتّى يذهب النّفر «3» ذكر وفد نجران وسؤالهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وما أنزل الله عزّ وجلّ فيهم من القرآن قال محمد بن إسحق: قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفد نصارى نجران ستّون راكبا، فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم، وهم: العاقب عبد المسيح، والسّيد وهو الأيهم، وأبو حارثة بن علقمة، وأوس، والحارث، وزيد، وقيس، الجزء: 18 ¦ الصفحة: 121 ويزيد، ونبيه وخويلد، وعمرو، وخالد، وعبد الله، ويحنّس. ومن هؤلاء الأربعة عشر ثلاثة نفر إليهم يؤول أمرهم، وهم العاقب أمير القوم وذو رأيهم، وصاحب مشورتهم، والذى لا يصدرون إلا عن رأيه، واسمه عبد المسيح. قال محمد بن سعد: هو رجل من كندة والسّيد ثمالهم «1» ، وصاحب رحلهم ومجتمعهم، واسمه الأيهم، وأبو حارثة بن علقمة أحد بكر بن وائل أسقفهم «2» وحبرهم وإمامهم، وصاحب مدراسهم «3» . قال ابن سعد: وكان من الأربعة عشر كوز وهو أخو الحارث بن علقمة، وأوس أخو السّيد. قال: فتقدمهم كوز وهو يقول: إليك تعدو قلقا وضينها ... معترضا فى بطنها جنينها «4» مخالفا دين النّصارى دينها وقدم على النبى صلّى الله عليه وسلّم، ثم قدم الوفد بعده، فدخلوا [عليه «5» ] المسجد، عليهم ثياب الحبرة «6» وأردية مكفوفة بالحرير، فقاموا يصلّون فى المسجد نحو الشّرق، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «دعوهم» ، ثم أتوا النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فأعرض عنهم ولم يكلّمهم، فقال لهم عثمان: ذلك من أجل زيّكم هذا، فانصرفوا يومهم ذلك، ثم غدوا عليه، بزىّ الرّهبان فسلّموا عليه فردّ عليهم. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 122 قال محمد بن إسحق: وكان أبو حارثة قد شرف فيهم، ودرس كتبهم، حتى حسن علمه فى دينهم، فكانت ملوك الرّوم من أهل النّصرانية قد شرّفوه وموّلوه وأخدموه، وبنوا له الكنائس، وبسطوا عليه الكرامات؛ لما يبلغهم عنه من علمه واجتهاده فى دينهم، فلما وجّهوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من نجران، جلس أبو حارثة على بغلة له، وإلى جنبه أخوه كوز،- ويقال فيه كرز «1» - فعثرت بغلة أبى حارثة، فقال كوز: تعس الأبعد، يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له أبو حارثة: بل أنت تعست. فقال: ولم يا أخى؟ قال: والله إنّه للنبىّ الذى كنا ننتظره. فقال له كوز: فما يمنعك منه وأنت تعلم هذا؟ قال: ما صنع بنا هؤلاء القوم؛ شرّفونا وموّلونا وأكرمونا، وقد أبوا إلّا خلافه، فلو فعلت نزعوا منا كل ما ترى. فأضمر عليها منه كوز بن علقمة حتى أسلم بعد ذلك، فكان يحدّث عنه هذا الحديث. قال أبو محمد عبد الملك بن هشام: وبلغنى أنّ رؤساء نجران كانوا يتوارثون كتبا عندهم، فكلما مات رئيس منهم وأفضت الرياسة إلى غيره، ختم على تلك الكتب خاتما مع الخواتم التى قبله ولم يكسرها، فخرج الرئيس الذى كان على عهد النبى صلّى الله عليه وسلّم يمشى فعثر، فقال ابنه: تعس الأبعد- يريد النبىّ صلّى الله عليه وسلّم- فقال له أبوه: لا تفعل فإنه نبىّ واسمه فى الوضائع- يعنى الكتب- فلما مات لم يكن لابنه همّة إلا أن كسر الخواتم، فوجد فى الكتب ذكر النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فأسلم وحسن إسلامه فحجّ، وهو الذى يقول: إليك تعدو قلقا وضينها الجزء: 18 ¦ الصفحة: 123 قال ابن إسحق: ولما قدموا صلّوا فى المسجد نحو الشّرق، وكلّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منهم الثلاثة نفر: العاقب، والسيّد، وأبو حارثة، وهم من النصرانية على دين الملك، مع اختلاف من أمرهم، يقولون فى المسيح: هو الله، ويقولون: هو ابن الله، ويقولون: هو ثالث ثلاثة، فهم يحتجّون فى قولهم: هو الله بأنه كان يحيى الموتى، ويبرئ من الأسقام، ويخبر بالغيوب، ويخلق من الطين كهيئة الطير، ثم ينفخ فيه فيكون طائرا، ويحتجون فى قولهم إنه ابن الله بأنهم يقولون: لم يكن له أب يعلم، وقد تكلم فى المهد، [وهذا «1» ] شىء لم يصنعه أحد من ولد آدم قبله. ويحتجون فى قولهم إنه ثالث ثلاثة، بقول الله فعلنا، وأمرنا، وخلقنا، وقضينا، فيقولون: لو كان واحدا ما قال إلا فعلت وقضيت وأمرت وخلقت، ولكنه هو، وعيسى، ومريم. قال: فلما كلّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الحبران قال لهما: «أسلما» ، قالا: قد أسلمنا قبلك. قال: «كذبتما، يمنعكما من الإسلام دعا كما لله ولدا، وعبادتكما الصّليب، وأكلكما الخنزير» قالا: فمن أبوه يا محمد؟ فصمت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلم يجبهما، فأنزل الله تعالى عليه فى اختلاف أمرهم كلّه صدر سورة آل عمران، إلى بضع وثمانين آية منها. فقال تعالى: (الم. اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) قال «2» : افتتح السورة بتنزيه نفسه عما قالوا وتوحيده، ليس معه شريك فى أمره: «الحىّ» أى الذى لا يموت، وقد مات عيسى وصلب فى قولكم. «القيّوم» القائم على مكانه من سلطانه الجزء: 18 ¦ الصفحة: 124 فى خلقه لا يزول، وقد زال عيسى. ثم قال تعالى: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ أى بالصدق فيما اختلفوا فيه وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ. مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ أى الفصل بين الحقّ والباطل فيما اختلف فيه الأحزاب من أمر عيسى وغيره، ثم قال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ أى إنّ الله منتقم ممن كفر بآياته بعد علمه بها ومعرفته. إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ أى قد علم ما يريدون وما يكيدون وما يضاهون بقولهم فى عيسى؛ إذ جعلوه إلها وعندهم من علمه غير ذلك. هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ أى قد كان عيسى ممن صوّر فى الأرحام لا يدفعون ذلك ولا ينكرونه، كما صوّر غيره من ولد آدم، فكيف يكون إلها وقد كان بذلك المنزل. ثم قال تعالى تنزيها لنفسه وتوحيدا لها: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أى «العزيز» فى انتصاره ممّن كفر به إذا شاء «الحكيم» فى حجته وعذره إلى عباده. ثم قال: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ أى فيهنّ حجة الربّ وعصمة العباد، ودفع الخصوم والباطل، ليس لهنّ تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه. وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ أى لهنّ تصريف وتأويل، ابتلى الله فيهنّ العباد، كما ابتلاهم فى الحلال والحرام، ألا يصرفن إلى الباطل ولا يحرّفن عن الحق. قال الله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ أى ميل عن الهدى. فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ أى ما تصرّف منه؛ ليصدّقوا به ما ابتدعوا وأحدثوا لتكون لهم حجّة وشبهة على ما قالوا «1» . ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ أى اللّبس وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ أى تأويل ذلك على الجزء: 18 ¦ الصفحة: 125 ماركبوا من الضلالة فى قولهم: خلقنا وقضينا. يقول تعالى: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا فكيف يختلف وهو قول واحد، من ربّ واحد. يقول: وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ أى فى مثل هذا. ثم قال تعالى: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ «1» . ثم قال تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ يشهدون بذلك. قائِماً بِالْقِسْطِ أى بالعدل لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ أى ما أنت عليه يا محمد من التوحيد للربّ والتصديق للرسل. قال تعالى: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ أى العلم الذى جاءك أنّ الله الواحد الذى ليس له شريك. ثم قال: وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ يقول تعالى: فَإِنْ حَاجُّوكَ أى فيما يأتون به من الباطل من قولهم: خلقنا وفعلنا وأمرنا، فإنما هى شبهة باطل قد عرفوا ما فيها من الحقّ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أى الذين لا كتاب لهم أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ. ثم جمع تعالى أهل الكتابين من اليهود والنصارى فيما أحدثوا وابتدعوا، فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ إلى قوله: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ أى ربّ العباد والملك الذى لا يقضى فيهم غيره. تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أى الجزء: 18 ¦ الصفحة: 126 لا يقدر على هذا غيرك بسلطانك وقدرتك تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ أى بتلك القدرة. وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ أى لا يقدر على ذلك غيرك ولا يصنعه إلّا أنت، أى إن كنت سلّطت عيسى على الأشياء التى بها يزعمون أنه إله، من إحياء الموتى، وإبراء الأسقام، والخلق من الطّين، والإخبار عن الغيوب؛ لأجعله به آية للناس، وتصديقا له فى نبوّته التى بعثته بها إلى قومه، فإن من سلطانى وقدرتى ما لم أعطه؛ «1» من إيلاج الليل فى النهار والنهار فى الليل، وإخراج الحىّ من الميّت، وإخراج الميت من الحىّ؛ ورزق من شئت من برّ أو فاجر بغير حساب، فكلّ ذلك لم أسلّط عيسى عليه، ولم أملّكه إياه، أفلم يكن لهم فى ذلك عبرة وبينة! أن لو كان إلها كان ذلك كلّه إليه، وهو فى قولهم يهرب من الملوك ويتنقل منهم فى البلاد، من بلد إلى بلد. ثم وعظ المؤمنين وحذّرهم فقال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ أى ما مضى من كفركم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ يقول: أطيعوا الله والرسول فأنتم تعرفونه وتجدونه فى كتابكم، فَإِنْ تَوَلَّوْا أى على كفرهم. ثم استقبل أمر عيسى عليه السلام، وكيف كان بدء ما أراد الله تعالى به فقال: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . ثم ذكر أمر امرأة عمران فقال: إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً أى جعلته عتيقا يعبد الله عزّ وجل، لا ينتفع به لشىء من الدنيا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 127 إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى [أى ليس الذكر كالأنثى لما جعلتها محرّرا لك نذيرة «1» ] وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ . يقول الله تعالى: فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا أى كفلها بعد أبيها وأمها؛ يذكرها باليتم، ثم قصّ خبرها وخبر زكريا، وما دعا به وما أعطاه؛ إذ وهب له يحيى، ثم ذكر مريم، وقول الملائكة لها، فقال تعالى: وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ قال الثعلبىّ: القائل من الملائكة جبريل وحده، «اصطفاك» بولادة عيسى عليه السلام من غير أب، «وطهّرك» من مسيس الرجال. وقيل: كانت مريم عليها السلام لا تحيض و «اصطفاك» بالتحرير فى المسجد «على نساء العالمين» قال: على عالمى زمانها، ولم تحرّر أنثى غيرها. يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ قال الثعلبى: قوله «اقنتى» أطيعى وأطيلى الصلاة لربك، قال: كلّمتها الملائكة شفاها. قال الأوزاعىّ: لما قالت لها الملائكة ذلك، قامت فى الصلاة حتى ورمت قدماها وسالتا دما وقيحا. ثم قال تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ قال ابن إسحق: كفلها ها هنا جريج الراهب رجل من بنى إسرائيل نجّار، خرج السّهم عليه فحملها، وكان زكريّا قد كفلها قبل ذلك، فأصابت بنى إسرائيل أزمة شديدة، فعجز زكريا عن حملها، فاستهموا عليها، فخرج السّهم على جريح الراهب فكفلها. يقول تعالى: وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ أى ما كنت معهم إذ يختصمون فى كفالتها، فخبّره تعالى الجزء: 18 ¦ الصفحة: 128 بخفىّ ما كتموا منه من العلم عندهم؛ لتحقيق نبوّته، والحجة عليهم بما يأتيهم به مما أخفوا منه. ثم قال تعالى: إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ أى هكذا كان أمره، لا كما يقولون فيه. وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ «وجيها» أى شريفا ذا جاه وقدر «ومن المقرّبين» عند الله وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ يخبرهم بحالاته التى يتقلب فيها فى عمره؛ كنقلب بنى آدم فى أعمارهم صغارا وكبارا، إلّا أنّ الله تعالى خصّه بالكلام فى مهده آية لنبوّته وتنزيها لأمّه. وقوله: «وكهلا» قال مقاتل: إذا اجتمع «1» قبل أن يرفع إلى السماء. وقال الحسين بن الفضل: «كهلا» بعد نزوله من السماء. وقال ابن كيسان: أخبرها أنه يبقى حتى يكتهل. وقيل: يكلّم الناس فى المهد صبيّا وكهلا؛ بشّرها بنبوته، فلأمه فى المهد معجزة وفى الكهولة دعوة. وقال مجاهد: «وكهلا» أى حليما «2» . قال تعالى إخبارا عن مريم: قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ثم أخبرها بما يريد به فقال تعالى: وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ قوله «الكتاب» أى الكتابة والخطّ. «والحكمة والتّوراة» التى كانت فيهم من عهد موسى قبله «والإنجيل» كتابا آخر أنزله الله إليه، لم يكن عندهم إلّا ذكره أنه كائن. يقول تعالى: وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أى يحقّق بها نبوّتى أنّى رسول منه إليكم. أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 129 قال الثعلبىّ: قراءة العامة بالجمع؛ لأنه خلق طيرا كثيرة، وقرّاء أهل المدينة «طائرا» ذهبوا إلى أنه نوع واحد من الطّير؛ لأنه لم يخلق غير الخفّاش، قال: وإنما خصّ الخفّاش لأنه أكمل الطير خلقا؛ ليكون أبلغ فى القدرة؛ لأن لها ثديا وأسنانا وهى تحيض وتطير، قال وهب: كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتا؛ ليتميز فعل الخلق من فعل الله عزّ وجل؛ وليعلم أن الكمال لله. وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ «الأكمه» الذى يولد أعمى وجمعه كمه. وقيل: هو الأعمى وهو المعروف من كلام العرب؛ قال سويد بن أبى كاهل: كمهت عيناه حتّى ابيضّتا ... فهو يلحى نفسه حتى نزع «1» والأبرص الذى فيه وضح، قال: وإنما خصّ هذين؛ لأنهما عياءان وكان الغالب على زمن عيسى عليه السلام الطّب؛ فأراهم الله تعالى المعجزة من جنس ذلك. قال وهب: ربما اجتمع على عيسى عليه السلام من المرضى فى اليوم الواحد خمسون ألفا، من أطاق منهم أن يبلغه بلغه، ومن لم يطق أتاه عيسى عليه السلام، وإنما كان يداويهم بالدعاء، على شرط الإيمان. وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ قال الثعلبىّ: أحيا أربعة أنفس العازر وكان صديقا له، فأرسلت أخته إلى عيسى: إنّ أخاك العازر يموت فأته، وكان بينه وبينه مسيرة ثلاثة أيام، فأتاه هو وأصحابه، فوجدوه قد مات منذ ثلاثة أيام، فقال لأخته: انطلقى بنا إلى قبره. فانطلقت معهم إلى قبره وهو فى صخرة مطبقة، فقال عيسى عليه السلام: «اللهمّ ربّ السموات السّبع، إنك أرسلتنى إلى بنى إسرائيل أدعوهم إلى دينك، وأخبرهم أنى أحيى الموتى بإذنك، فأحى العازر» ، قال: فقام عازر وودكه يقطر، فخرج من قبره وبقى وولد له. وأحيا ابن العجوز، مرّ به ميتا على عيسى عليه السلام، الجزء: 18 ¦ الصفحة: 130 وهو يحمل على سرير، فدعا الله تعالى عيسى، فجلس على سريره، ونزل عن أعناق الرجال، ولبس ثيابه، وحمل السّرير على عنقه، ورجع إلى أهله، فبقى وولد له، وابنة العاشر «1» قيل له: أتحييها وقد ماتت بالأمس؟ فدعا الله عزّ وجلّ فعاشت وبقيت وولدت، وسام بن نوح عليهما السلام، ودعا عيسى باسم الله الأعظم، فخرج من قبره وقد شاب نصف رأسه، فقال: قد قامت القيامة؟ قال: لا، ولكنّى دعوتك باسم الله الأعظم، ثم قال له: مت، قال: بشرط أن يعيذنى الله من سكرات الموت، فدعا الله سبحانه ففعل. قال الكلبىّ: كان يحيى الأموات ب «يا حىّ يا قيّوم» . قال [تعالى «2» ] : وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أى آية لكم أنى رسول من الله إليكم. يقول [تعالى] : وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ أى لما سبقنى منها. وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ أى أخبركم أنه كان عليكم حراما فتركتموه، ثم أحلّه لكم تخفيفا عنكم، فتصيبون يسره وتخرجون من تباعته «3» . يقول [تعالى] : وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ أى هذا الهدى قد حملتكم عليه وجئتكم به. يقول تعالى: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ. رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 131 فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ أى هكذا كان قولهم وإيمانهم، لا كما يقول هؤلاء الذين يحاجّونك، ثم ذكر تعالى رفعه عيسى إليه حين اجتمعوا لقتله، فقال: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ قال أهل المعانى: المكر السّعى بالفساد فى ستر ومداجاة. وقال الفرّاء: المكر من المخلوقين الخبّ والخديعة والحيلة، وهو من الله استدراجه العباد. ثم أخبرهم تعالى، وردّ عليهم فيما أقرّوا به لليهود من صلبه، وأنّ الله عصمه منهم، ورفعه إليه، فقال تعالى: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ. فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ. وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ قال الثعلبىّ: اختلفوا فى معنى التوفى ها هنا؛ فقال كعب والحسن والكلبىّ ومطر الورّاق ومحمد بن جعفر بن الزبير وابن جريح وابن زيد: معناه إنى قابضك ورافعك من الدنيا إلىّ من غير موت. قال: وعلى هذا القول تأويلان: أحدهما- إنى رافعك إلىّ وافيا لم ينالوا منك شيئا؛ من قولهم توفّيت هذا، واستوفيته أى أخذته تامّا. والآخر- إنى مسلّمك؛ من قولهم توفّيت منه كذا أى تسلّمته. وقال الربيع ابن أنس: معناه إنى منيمك ورافعك إلىّ فى نومك؛ ويدل عليه قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ أى ينيمكم؛ لأنّ النوم أخو الموت. وقوله تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ الآية. وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: إنى مميتك. ويدل عليه قوله تعالى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ وقوله: أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ* قال: وله على هذا القول تأويلان: أحدهما- ما قال وهب: توفّى الله تعالى الجزء: 18 ¦ الصفحة: 132 عيسى عليه السلام ثلاث ساعات من النهار ثم رفعه إليه. وقال ابن إسحق: النصارى يزعمون أنّ الله تعالى توفاه سبع ساعات من النهار، ثم أحياه ورفعه. والآخر- ما قال الضحاك وجماعة من أهل المعانى: إنّ فى الكلام تقديما وتأخيرا، معناه إنّى رافعك إلىّ ومطهّرك من الذين كفروا، ومتوفّيك بعد أن أنزلك من السماء. وقال أبو بكر بن محمد بن موسى الواسطىّ: معناه «إنّى متوفّيك» عن شهواتك وحظوظ نفسك. قال: وذلك أنه لمّا رفع إلى السماء صار حاله حال الملائكة. وقوله: «ورافعك إلىّ» قال البنانىّ والشّيبانىّ: كان عيسى عليه السلام على طور زيتا فهبّت ريح، فهرول عيسى، فرفعه الله عزّ وجلّ فى هرولته، وعليه مدرعة من شعر. وقيل: معناه ورافعك بالدرجة فى الجنة، ومقرّبك إلىّ بالإكرام. وقوله: وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أى مخرجك من بينهم ومنجيك منهم. وقوله: وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ قال قتادة والربيع والشّعبىّ ومقاتل والكلبىّ: هم أهل الإسلام الذين اتبعوا دينه وسنّته من أمّة محمد صلّى الله عليه وسلّم، فو الله ما اتبعه من دعاه ربّا. «فوق الّذين كفروا» ظاهرين قاهرين بالعزّ والمنعة والدليل والحجّة. وقال الضحاك وعلىّ ومحمد بن أبان: يعنى الحواريين فوق الذين كفروا. وقيل: هم الرّوم. وقال ابن زيد: وجاعل النصارى فوق اليهود، فليس بلد فيه أحد من النصارى إلا وهم فوق اليهود، واليهود مستدلّون مقهورون. قال: وعلى هذين القولين يكون معنى الاتباع: الادّعاء والمحبة لا اتباع الدّين والملّة. ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ أى فى الآخرة. فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ أى من الدّين وأمر عيسى. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 133 قوله: فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا بالقتل والسّبى والجزية والذّلّة. وَالْآخِرَةِ بالنار. وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ . قوله: وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا الآية ظاهرة المعنى. قوله: ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ أى هذا الذى ذكرته لك، قال النبىّ صلّى الله عليه وسلّم: «هو القرآن» . وقيل: هو اللّوح المحفوظ، وهو معلّق بالعرش، من درّة بيضاء، و «الحكيم» هو المحكم من الباطل؛ قاله مقاتل. وقال ابن إسحق: أى القاطع الفاصل، الحقّ الذى لا يخالطه الباطل، من الخبر عن عيسى، وعما اختلفوا فيه من أمره، فلا تقبلنّ خبرا غيره. فقال: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ أى قد جاءك الحقّ فلا تمترينّ فيه، وإن قالوا خلق عيسى من غير [ذكر «1» ] ، فقد خلقت آدم [من تراب «2» ] بتلك القدرة من غير أنثى ولا ذكر؛ فكان لحما ودما وعظما وشعرا وبشرا، كما كان عيسى، فليس خلق عيسى من غير ذكر بأعجب من هذا. ثم قال تعالى: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ أى من بعد ما قصصت عليك من خبره فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ قوله: «نبتهل» أى نتضرع فى الدعاء. وقيل: نخلص فى الدعاء. وقيل: نجتهد ونبالغ فنقول لعن الله الكاذب منّا ومنكم. قال ابن إسحق: إِنَّ هذا الذى جئت به من الخبر عن عيسى لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُ من أمره. وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. فَإِنْ تَوَلَّوْا أى إن أعرضوا عن الإيمان فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ أى الذين يعبدون غير الله تعالى، ويدعون الناس إلى عبادة غير الله. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 134 ثم قال تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ فدعاهم إلى النّصف، وقطع عنهم الحجّة، قال: فلما أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الخبر من الله عزّ وجلّ عن عيسى، والفصل من القضاء بينه وبينهم، وأمره به من ملاعتهم إن ردّوا ذلك عليه، دعاهم إلى ذلك؛ فقالوا: يا أبا القاسم، دعنا ننظر فى أمرنا، ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه، فانصرفوا عنه، ثم خلوا بالعاقب، فقالوا: يا عبد المسيح، ما ترى؟ فقال: والله يا معشر النّصارى لقد عرفتم أنّ محمدا لنبىّ مرسل، لقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علمتم ما لا عن قوم نبيّا قطّ فبقى كبيرهم، ولا نبت صغيرهم، وأنه الاستئصال منكم إن فعلتم، فإن كنتم قد أبيتم إلا إلف دينكم، والإقامة على ما أنتم عليه من القول فى صاحبكم، فوادعوا الرجل، ثم انصرفوا إلى بلادكم. فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا أبا القاسم، قد رأينا ألّا نلاعنك، وأن نتركك على دينك، ونرجع على ديننا، ولكن ابعث معنا رجلا من أصحابك، ترضاه لنا، يحكم بيننا فى أشياء اختلفنا فيها من أموالنا، فإنكم عندنا رضا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ائتونى العشيّة أبعث معكم القوىّ الأمين» فكان عمر بن الخطاب رضى الله عنه يقول: ما أحببت الإمارة قطّ حبّى إياها يومئذ رجاء أن أكون صاحبها، فخرجت إلى الظّهر مهجّرا «1» ، فلمّا صلّى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الظهر، سلّم ثم نظر عن يمينه ويساره، فجعلت أتطاول له ليرانى، فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجرّاح فدعاه له، وذلك قبل الهجرة. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 135 فقال: «اخرج فاقض بينهم بالحقّ فيما اختلفوا فيه» قال عمر: فذهب بها أبو عبيدة. هذا ما رواه ابن هشام عن ابن إسحق. وقال محمد بن سعد فى طبقاته: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما عرض عليهم المباهلة انصرفوا عنه، ثم أتاه عبد المسيح ورجلان من ذوى رأيهم، فقال: قد بدا لنا ألا نباهلك، فاحكم علينا بما أحببت نعطك ونصالحك. فصالحهم على ألفى حلّة: ألف فى شهر رجب، وألف فى صفر، أو قيمة كل حلّة من الأواقى، وعلى عارية ثلاثين درعا، وثلاثين رمحا وثلاثين بعيرا، وثلاثين فرسا: إن كان باليمن كيد «1» . ولنجران وحاشيتهم جوار الله وذمة محمد النبىّ رسول الله، على أنفسهم وملّتهم وأرضهم وأموالهم وغائبهم وشاهدهم وبيعهم، لا يغيّر أسقف من سقّيفاه «2» ، ولا راهب من رهبانيّة، ولا واقف من وقفانيّته «3» ، وفى بعض الروايات لا يغيّر «4» وافه من وفهيّته، ولا قسيس من قسّيسيّته. والوافه: قيّم الكنيسة. قال: وأشهد على ذلك شهودا. منهم أبو سفيان بن حرب، والأقرع بن حابس والمغيرة بن شعبة، ورجعوا إلى بلادهم، فلم يلبث السيّد والعاقب إلّا يسيرا حتى رجعا إلى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فأسلما وأنزلهما فى دار أبى أيوب الأنصارىّ، الجزء: 18 ¦ الصفحة: 136 وأقام أهل نجران على ما كتب لهم به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى قبضه الله تعالى. ثم ولّى أبو بكر فكتب بالوصاة بهم عند وفاته، ثم أصابوا ربا فأخرجهم عمر بن الخطاب من أرضهم، وكتب لهم: «هذا ما كتب عمر أمير المؤمنين لنجران. من سار منهم إنه آمن بأمان الله، لا يضرّهم أحد من المسلمين؛ وفاء لهم بما كتب لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر- أما بعد- فمن وقعوا «1» به من أمراء الشام وأمراء العراق فليوسعهم من جريب «2» الأرض، ما اعتملوا من ذلك فهو لهم صدقة، وعقبة لهم بمكان أرضهم، لا سبيل عليهم فيه لأحد ولا مغرم- أمّا بعد- فمن حضرهم من رجل مسلم فلينصرهم على من ظلمهم، فإنهم أقوام لهم الذّمّة. وجزيتهم عنهم متروكة أربعة وعشرين شهرا بعد أن يقدموا، ولا يكلّفوا إلّا من ضيعتهم «3» ، غير مظلومين ولا معنوف «4» عليهم. شهد عثمان بن عفان ومعيقيب بن أبى فاطمة. قال: فوقع ناس منهم بالعراق، فنزلوا النّجرانيّة التى هى ناحية الكوفة. وحيث ذكرنا وفادات العرب، فلا بأس أن نصل هذا الفصل بما يناسبه من خبر الجنّ فى إسلامها، ونلحق ذلك بما يتعلق به من إخبار الجنّ أصحابهم بأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومن أسلم بسبب ذلك، فإنا عند ذكرنا للمبشّرات برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ذكرنا من ذلك طرفا، وأخّرنا بقيته لنذكره فى هذا الفصل، ونبهنا عليه هناك. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 137 ذكر خبر إسلام الجنّ ودعائهم قومهم إلى الإيمان عند سماعهم القرآن قال الله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ. قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ. يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ. وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ «1» . وكان من خبر الجنّ ما روى عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما، قال: انطلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى طائفة من أصحابه، عامدين إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشّياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشّهب، فرجعت الشياطين، فقالوا: ما لكم؟ فقالوا: قد حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشّهب، قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلّا ما قد حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا ما هذا الأمر الذى قد حدث، فانطلقوا فضربوا مشارق الأرض ومغاربها، ينظرون ما هذا الأمر الذى حال بينهم وبين خبر السماء، وانطلق الذين توجّهوا إلى نحو تمامة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنخلة «2» وهو عامد إلى سوق عكاظ، وهو يصلّى بأصحابه صلاة الفجر، فلمّا سمعوا القرآن تسمّعوا «3» له فقالوا: هذا الجزء: 18 ¦ الصفحة: 138 الذى حال بينكم وبين خبر السماء. فهنالك رجعوا إلى قومهم فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً «1» . وأنزل الله تعالى على نبيه صلّى الله عليه وسلّم: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ وإنما أوحى إليه قول الجنّ، رواه البخارىّ فى صحيحه عن موسى بن إسمعيل، عن أبى عوانة، عن أبى بشر عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وذهب محمد بن سعد إلى أن استماع الجنّ كان بنخلة، عند عود رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الطّائف، لما توجّه يدعوهم إلى الإسلام فلم يستجيبوا له، وذلك قبل الهجرة. وقال الشيخ أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقىّ فى كتابه المترجم «بدلائل النبوّة، ومعرفة أحوال صاحب الشريعة» بعد أن ساق حديث البخارىّ قال: وهذا الذى حكاه عبد الله بن عباس إنما هو فى أول ما سمعت الجنّ قراءة النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، وعلمت بحاله، وفى ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ولم يرهم كما حكاه، ثم أتاه داعى الجنّ مرّة أخرى، فذهب معه، وقرأ عليهم القرآن، كما حكاه عبد الله ابن مسعود. وقد روى البيهقىّ بسنده إلى عبد الله بن مسعود خبر الجنّ فى القصّتين: أمّا الأولى فإنه قال: هبطوا على النبى صلّى الله عليه وسلّم وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة، فلما سمعوه قالوا: أنصتوا- قالوا صه- وكانوا سبعة، أحدهم زوبعة، فأنزل الله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا إلى قوله: أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ . وعن ابن مسعود أن النبى صلّى الله عليه وسلّم آذنته بالجنّ شجرة؛ رواه البخارىّ ومسلم فى الصحيحين. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 139 وأما القصة الثانية، فرواها عن الشّعبىّ عن علقمة قال: قلت لعبد الله بن مسعود هل صحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة الجنّ منكم أحد؟ فقال: ما صحبه منّا أحد، ولكنا فقدناه ذات ليلة بمكة فقلنا: اغتيل؟ استطير؟ ما فعل؟ قال: فبتنا بشرّ ليلة بات بها قوم، فلما كان فى وجه الصّبح أو قال فى السّحر، إذا نحن به يجىء من قبل حراء، فقلنا: يا رسول الله، فذكروا الذى كانوا فيه، فقال: «إنه أتانى داعى الجنّ فأتيتهم فقرأت عليهم» قال: فانطلق فأرانا آثارهم، وآثار نيرانهم، قال: وقال الشّعبىّ فسألوه الزّاد، وقال ابن أبى زائدة: قال عامر سألوه ليلتئذ الزّاد، وكانوا من جنّ الجزيرة، فقال: «كلّ عظم ذكر اسم الله عليه يقع فى أيديكم أوفر ما كان لحما، وكلّ بعرة أوروثة علف لدوابّكم- قال- فلا تستنجوا بهما فإنهما زاد إخوانكم من الجنّ» رواه مسلم فى صحيحه. وكان فيما قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليهم: «الرَّحْمنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ» السورة؛ ويدل على ذلك ما رواه محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال: لما قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «الرّحمن» على الناس سكتوا فلم يقولوا شيئا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «للجنّ كانوا أحسن جوابا منكم لمّا قرأت عليهم «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» * قالوا لا «1» ولا بشىء من آلاء ربّنا نكذّب» . ومن رواية أخرى عنه: «قالوا ولا بشىء من نعمك ربّنا نكذّب فلك الحمد» . وعن أبى المليح الهذلىّ أنه كتب إلى عبيدة بن عبد الله بن مسعود: أين قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الجنّ؟ فكتب إليه: إنه قرأ عليهم بشعب يقال له المحجون. وروى عن عبد الله بن مسعود عن النبى صلّى الله عليه وسلّم «أنّ نفرا الجزء: 18 ¦ الصفحة: 140 من الجنّ خمسة عشر بنى إخوة وبنى عمّ يأتوننى الليلة فأقرأ عليهم القرآن» . وقيل: كانوا أكثر من هذا. وقد جاء عنه: أنه ذهب إلى موضعهم، قال: فرأيت موضع مبرك ستين بعيرا. ولما رأى عبد الله بن مسعود رجال الزّطّ «1» قال: ما رأيت شبههم إلا الجنّ ليلة الجنّ، وكانوا مستنفرين يتبع بعضهم بعضا. ذكر إخبار الجنّ أصحابهم بأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإسلامهم بسبب ذلك روى أبو عبد الله محمد بن إسمعيل البخارى رحمه الله فى صحيحه، بسنده عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال: ما سمعت عمر رضى الله عنه لشىء قطّ يقول، إنى لأظنّه كذا إلا كان كما يظنّ «2» ؛ بينا عمر جالس إذ مرّ رجل جميل «3» ، فقال: لقد أخطأ ظنى أو إنّ هذا على دينه فى الجاهلية «4» ، ولقد كان كاهنهم؛ علىّ الرجل، فدعى له، فقال له عمر: لقد أخطأ ظنّى أو إنّك على دينك فى الجاهلية أو لقد كنت كاهنهم، فقال: ما رأيت كاليوم استقبل به رجل مسلم. قال: فإنى أعزم عليك «5» إلا ما أخبرتنى. قال: كنت كاهنهم فى الجاهلية. قال: فما أعجب ما جاءتك به جنّيتك؟ قال: بينا أنا يوما فى سوق جاءتنى أعرف فيها الفزع، قالت: الجزء: 18 ¦ الصفحة: 141 ألم تر الجنّ وإبلاسها ... ويأسها بعد وإبلاسها «1» ولخوقها بالقلاص وأحلاسها ... ويأسها بعد من أنساكها «2» قال عمر: صدق، بينا أنا نائم عند آلهتهم، إذ جاء رجل بعجل فذبحه، فصرخ منه صارخ لم أسمع صارخا قطّ أشدّ صوتا منه يقول: يا جليح «3» ، أمر نجيح، رجل يصيح، يقول لا إله إلا الله، فوثب القوم، قلت: لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا، ثم نادى: يا جليح، أمر نجيح، رجل يصيح، يقول لا إله إلا الله، فقلت لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا، ثم نادى: يا جليح، أمر نجيح، رجل يصيح، يقول لا إله إلا الله. فقمت فما نشبت أن قيل هذا نبىّ. قال البيهقىّ: ظاهر هذه الرواية يوهم أنّ عمر رضى الله عنه بنفسه سمع الصّارخ يصرخ من العجل الذى ذبح، وكذلك هو صريح فى رواية ضعيفة عن عمر فى إسلامه، وسائر الروايات تدل على أن الكاهن أخبر بذلك عن رؤيته وسماعه، والله تعالى أعلم. ذكر خبر سواد بن قارب روى البيهقىّ رحمه الله تعالى بسنده عن البراء، قال: بينما عمر بن الخطاب رضى الله عنه يخطب الناس على منبر النبىّ صلّى الله عليه وسلّم؛ إذ قال: أيها الناس، أفيكم سواد بن قارب؟ قال: فلم يجبه أحد تلك السّنة، فلما كانت السّنة المقبلة، الجزء: 18 ¦ الصفحة: 142 قال: أيها الناس، أفيكم سواد بن قارب؟ قال فقلت: يا أمير المؤمنين، وما سواد ابن قارب؟ فقال: إنّ سواد بن قارب كان بدء إسلامه شيئا عجيبا! قال: فبينا نحن كذلك؛ إذ طلع سواد بن قارب، فقال له عمر: يا سواد، أخبرنى ببدء إسلامك كيف كان؟ قال سواد: فإنّى كنت نازلا بالهند وكان لى رئىّ من الجنّ، قال: فبينا أنا ذات ليلة نائم؛ إذ جاءنى فى منامى ذلك، قال: قم فافهم واعقل إن كنت تعقل، قد بعث رسول من لؤىّ بن غالب، ثم أنشأ يقول: عجبت للجنّ وأنجاسها ... وشدّها العيس بأحلاسها «1» تهوى إلى مكّة تبغى الهدى ... ما مؤمنوها مثل أرجاسها فانهض إلى الصّفوة من هاشم ... واسم بعينيك إلى راسها ثم أنبهنى وأفزعنى، وقال: يا سواد بن قارب، إنّ الله عز وجل بعث نبيا فانهض إليه تهتد وترشد، فلما كان فى الليلة الثانية أتانى فأنبهنى، ثم أنشا يقول كذلك: عجبت للجنّ وتطلابها ... وشدّها العيس بأقتابها تهوى إلى مكة تبغى الهدى ... ليس قداماها كأذنابها «2» فانهض إلى الصّفوة من هاشم ... واسم بعينيك إلى نابها «3» الجزء: 18 ¦ الصفحة: 143 فلما كان فى الليلة الثالثة أتانى فأنبهنى، ثم قال كذلك: عجبت للجنّ وتخبارها ... وشدّها العيس بأكوارها تهوى إلى مكة تبغى الهدى ... ليس ذوو الشّرّ كأخيارها «1» فانهض إلى الصّفود من هاشم ... ما مؤمنو الجنّ ككفّارها قال: فلما سمعته يكرر ليلة بعد ليلة وقع فى قلبى حبّ الإسلام من أمر النبىّ صلّى الله عليه وسلّم ما شاء الله، فانطلقت إلى رحلى فشددته على راحلتى، فما حللت نسعة «2» ولا عقدت أخرى حتى أتيت النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فإذا هو بالمدينة والناس عليه كعرف الفرس «3» ، فلما رآنى قال: «مرحبا بك يا سواد بن قارب، قد علمنا ما جاء بك» قال قلت: يا رسول الله قد قلت شعرا فاسمعه منى، قال سواد فقلت: أتانى رئيىّ بعد ليل وهجعة ... ولم يك فيما قد بلوت بكاذب «4» ثلاث ليال قوله كلّ ليلة ... أتاك نبىّ من لؤىّ بن غالب فشمّرت عن ساقى الإزار ووسّطت ... بى الذّعلب الوجناء عند السّباسب «5» الجزء: 18 ¦ الصفحة: 144 فأشهد أنّ الله لا شىء غيره ... وأنّك مأمون على كلّ غائب وأنّك أدنى المرسلين شفاعة ... إلى الله يابن الأكرمين الأطايب فمرنا بما يأتيك يا خير من مشى ... وإن كان فيما جاء شيب الذّوائب «1» فكن لى شفيعا يوم لا ذو شفاعة ... سواك بمغن عن سواد بن قارب «2» قال: فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى بدت نواجذه «3» ، وقال لى: «أفلحت يا سواد» فقال عمر: هل يأتيك رئيّك الآن؟ فقال: منذ قرأت القرآن لم يأتنى، ونعم العوض كتاب الله عزّ وجلّ من الجنّ. قال البيهقىّ: ويشبه أن يكون هذا هو الكاهن، الذى لم يذكر اسمه فى الحديث الصحيح، وهو الحديث الذى ذكرناه آنفا قبل خبر سواد. وقد روى أيضا عن سواد بن قارب، من رواية سعيد بن جبير بنحو هذا، إلا أنه قال: كان سواد فى جبل من جبال الشّراة «4» ، وقال: أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بمكة، وقد ظهر، فأخبرته الخبر، وبايعته. قال البيهقىّ رحمه الله: وقوله أتيت مكة أقرب إلى الصّحة [مما رويناه فى الروايتين الأوليين «5» ] . والله تعالى أعلم. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 145 ذكر خبر خفاف بن نضلة الثّقفىّ روى أبو بكر البيهقىّ رحمه الله بسنده إلى ذابل بن طفيل بن عمرو الدّوسىّ، أن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم قعد فى مسجده ذات يوم، فقدم عليه خفاف بن نضلة ابن عمرو بن بهدلة الثّقفىّ، فأنشد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كم قد تحطّمت القلوص بى الدّجى ... فى مهمة قفر من الفلوات «1» فلّ من التّوريس ليس بقاعه ... نبت من الإسنات والأزمات «2» إنّى أتانى فى المنام مساعد ... من جنّ وجرة كان لى وموات «3» يدعو إليك لياليا ولياليا ... ثمّ احزألّ وقال لست بآت «4» فركبت ناجية أضرّ بنيّها ... جمر تخبّ به على الأكمات «5» حتّى وردت إلى المدينة جاهدا ... كيما أراك فتفرج الكربات قال: فاستحسنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال: «إنّ من البيان كالسّحر، وإنّ من الشّعر كالحكم» . الجزء: 18 ¦ الصفحة: 146 ومن ذلك ما روى عن علىّ بن حسين، قال: أول خبر قدم المدينة، أن امرأة من أهل يثرب تدعى فاطمة «1» ، كان لها تابع من الجنّ فجاءها يوما فوقع على جدارها، فقالت: مالك لا تدخل؟ فقال: إنه قد بعث نبىّ يحرّم الزّنى، فحدثت بذلك المرأة عن تابعها من الجنّ، وكان أول خبر يحدّث به بالمدينة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وعن جابر قال: أول خبر قدم المدينة عن النبى صلّى الله عليه وسلّم، أن امرأة من أهل المدينة كان لها تابع، فجاء فى صورة طائر حتى وقع على حائط دارهم، فقالت له المرأة: انزل نخبرك وتخبرنا، قال: لا، إنه بعث بمكة نبىّ منع منا القرار، وحرّم علينا الزّنى. ومنه ما روى عن محمد بن عمر بن واقد، عن تميم الدّارىّ أنه قال: سرت إلى الشّام فأدركنى الليل، فأتيت واديا فقلت: أنا فى جوار عظيم هذا الوادى اللّيلة، فلما أخذت مضجعى إذا قائل لا أراه يقول: عذ بالله الأحد، فإنّ الجنّ لا تجير على الله أحدا، وأنه قد بعث رسول الأمّيّين، وصلّينا خلفه بالحجون، وأسلمنا واتبعناه، وآمنا به وصدّقناه، فأسلم تسلم. قال تميم: فلما أصبحت ذهبت إلى دير أيوب «2» ، فسألت راهبه عما سمعت من الهاتف، فقال: صدق. وكان ذلك سبب إسلام تميم. ومنه ما روى عن أبى خريم «3» فاتك أنه قال: خرجت فى الجاهلية أطلب إبلا الجزء: 18 ¦ الصفحة: 147 أضللتها، فلما كنت بأبرق «1» العزّاف، عقلت ناقتى وتوسّدت ذراعها، وقلت: أعوذ بعظيم هذا المكان، فسمعت هاتفا يقول: تعوّذن بالله ذى الجلال ... ووحّد الله ولا تبالى ما هوّل الجنّ «2» من الأهوال قال فقلت: بيّن لى يرحمك الله، فقال: هذا رسول الله ذو الخيرات ... يدعو إلى الجنّة والنّجاة يأمر بالصّوم وبالصّلاة قال: فوقع فى قلبى الإسلام، فقلت: من أنت أيها الهاتف؟ فقال: أنا مالك بن مالك، إن أردت الإسلام فأنا أكفيك طلب ضالّتك حتى أردّها إلى أهلك، قال: فركبت راحلتى وقصدت المدينة، فقدمتها فى يوم جمعة، فأتيت المسجد فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخطب، فأنخت بباب المسجد قلت ألبث حتى يفرغ من خطبته، وإذا أبو ذرّ قد خرج فقال لى: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أرسلنى إليك وهو يقول لك: «مرحبا قد بلغنى إسلامك فادخل فصلّ مع الناس» قال: فتطهرت ودخلت فصلّيت، ثم دعانى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فبايعنى وأخبرنى بالخبر قبل أن أذكره له، وقال لى: «أمّا إبلك فقد بلغت أهلك، وقد وفى لك صاحبك» فقلت: جزاه الله خيرا ورحمه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «آمين» . الجزء: 18 ¦ الصفحة: 148 ومنه ما روى عن مالك بن نفيع أنه قال: ندّ بعير لى، فركبت نجيبة وطلبته، حتى ظفرت به، فأخذته وانكفأت راجعا إلى أهلى، فأسريت ليلة حتى كدت أصبح، فأنخت النّجيبة والجمل وعقلتهما، واضطجعت فى ذرى كثيب رمل، فلما كحلنى الوسن سمعت هاتفا يقول: يا مالك، يا مالك، لو فحصت عن مبرك العود «1» البارك، لسرّك ما هنالك، قال: فثرت وأثرت البعير عن مبركه، واحتفرت «2» ، وإذا صنم بصورة امرأة، من صفاة صفراء كالورس، مجلوة كالمرآة، فآستخرجتها ومسحتها بثوبى ونصبتها، فاستوت قائمة، فما تمالكت أن خررت ساجدا لها، ثم قمت فنحرت البعير لها ورششتها بدمه، وسميتها غلاب، ثم حملتها على النّجيبة وأتيت بها أهلى، فحسدنى كثير من قومى عليها، وسألونى نصبها لهم ليعبدوها معى، فأبيت عليهم، فانفردت بعبادتها، وجعلت لها على نفسى كل يوم عتيرة «3» ، وكانت لى ثلّة من الضأن فأتيت على آخرها، وأصبحت يوما وليس لى ما أعتره، وكرهت الإخلاف بنذرى، فأتيتها فشكوت إليها ذلك، فإذا هاتف من جوفها يقول: يا مال يا مال «4» ، لا تأس على المال، سر إلى طوىّ «5» الأرقم، فخذ الكلب الأسحم، الوالغ فى الدّم، ثم صد به نعم «6» . قال مالك: فخرجت من فورى إلى طوىّ الأرقم، فإذا كلب أسحم هائل المنظر، قد وثب على قرهب- يعنى ثورا وحشيا- فصرعه وأنا أنظر إليه، ثم بقر بطنه، وجعل يلغ فى دمه، قال: فتهيبته، ثم أقدمت عليه وهو مقبل على عقيرته لم يلتفت إلىّ، فشددت فى عنقه حبلا، ثم جذبته فتبعنى، فأتيت راحلتى فأثرتها، وقدتها إلى الجزء: 18 ¦ الصفحة: 149 القرهب، فأنختها وجررته وحملته عليها، ثم قدتها قاصدا إلى الحىّ، والكلب يلوذ بى فعنّت لى ظبية، فجعل الكلب يثب ويجاذبنى المرس» ، فتردّدت فى إرساله ثم أرسلته، فمرّ كالسهم حتى اختطفها، فأتيته فجاذبته إياها فأرسلها فى يدى، فاستفزنى السّرور، وأتيت أهلى فعترت الظبية لغلاب، ووزعت لحم القرهب، وبتّ بخير ليلة، ثم باكرت به الصّيد، فلم يفته حمار، ولا ما طله ثور، ولا اعتصم منه وعل، ولا أعجزه ظبى، فتضاعف سرورى به، وبالغت فى إكرامه، وسميته سحاما، فلبث بذلك ما شاء الله، فإنى لذات يوم أصيد به، فبصرت بنعامة على أدحيّها «2» ، وهى قريبة منى، فأرسلته عليها، فأجفلت أمامه، واتّبعتها على فرس جواد، فلما كاد الكلب يثب عليها، انقضّت عليه عقاب من الجوّ فكر راجعا نحوى فصحت به فما كذّب «3» ، وأمسكت الفرس فجاء سحام حتى دخل بين قوائمها، ونزلت العقاب أمامى على صخرة، وقالت: سحام، قال الكلب: لبّيك، قالت: هلكت الأصنام، وظهر الإسلام، فأسلم تنج بسلام، وإلا فليست بدار مقام. ثم طارت العقاب، وتبصّرت سحاما فلم أره، وكان آخر عهدى به. ومنه مما يشبه هذه القصة ما روى عن قتادة عن عبد الله بن أبى ذباب «4» عن أبيه، أنه قال: كنت مولعا بالصيد، وكان لنا صنم اسمه فرّاض، كنت كثيرا الجزء: 18 ¦ الصفحة: 150 ما أذبح له، ولم أكن أتخذ جارحا للصيد إلّا رمى بآفة، قلّما أدخل الحىّ صيدا حيّا؛ لأنى كنت لا أدركه إلا وقد أشفى على الهلاك، فلمّا طال بى ذلك أتيت فرّاضا، فعترت له عتيرة، ولطّخته من دمها، وقلت: فرّاض أشكو نكد «1» الجوارح ... من طائر ذى مخلب ونابح وأنت للأمر الشّديد الفادح «2» ... فافتح فقد أسهلت المفاتح فأجابنى مجيب من الصّنم؛ فقال: دونك كلبا جارحا مباركا ... أعدّ للوحش سلاحا شابكا «3» يفر حزون الأرض والدّ كادكا «4» قال: فانقلبت إلى خبائى، فوجدت به كلبا خلاسيّا «5» بهيما «6» عظيما؛ أهرت «7» الشّدقين، شابك الأنياب، شئن «8» البراثن، أشعر مهول المنظر، فصفرت به فأتانى، فلاذ بى وبصبص «9» ، فسميته حياضا «10» ، فاتخذت له مربطا بإزاء فراشى وأكرمته، ثم خرجت به إلى الصيد، فإذا هو أبصر بالصّيد منّى، وكان لا يثبت له شىء من الوحش، فقلت فيه: حياض إنك مأمول منافعه ... وقد جعلتك موقوفا لفرّاض الجزء: 18 ¦ الصفحة: 151 وكنت أعتر لفرّاض من صيده، وأقرى الضّيف، فلم أزل به من أوسع العرب رحلا «1» ، وأكثرها ضيفا، إلى أن ظهر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزل بى ضيف كان زار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وسمع منه القرآن، فحدّثنى عنه، ورأيت حياضا كأنه ينصت لحديثه، ثم إنّى غدوت أقتنص بحياض، فجعل يجاذبنى ويأبى أن يتبعنى فأجذبه وأمسحه، إلى أن عنّ لى تولب- يعنى جحشا من حمير الوحش- قال: فأرسلته عليه فقصده، حتى إذا قلت قد أخذه حاد عنه، فساءنى ذلك، ثم أرسلته على رأل- يعنى فرخ نعامة- فصنع مثل ذلك، ثم أرسلته على بقرة، ثم على خشف «2» ، كل ذلك لا يأتى بخير، فقلت: ألا ما لحياض يحيد كأنما ... رأى الصّيد ممنوعا بزرق اللهاذم «3» قال: فأجابنى هاتف لا أراه: يحيد لأمر لو بدا لك عينه ... لكنت صفوحا عاذلا غير لائم قال: فأخذت الكلب وانكفأت راجعا، فإذا شخص إنسان عظيم الخلق، قد ركب حمارا وحشيا، فتربع على ظهره، وهو يساير شخصا مثله راكبا على قرهب، وخلفهما عبد أسود يقود كلبا عظيما بساجور «4» ، فأشار أحد الراكبين إلى حياض وأنشد: ويلك يا حياض لم تصيد ... اخنس وحد عمّا حوته البيد «5» الله أعلى وله التوحيد ... وعبده محمد السّديد سحقا لفرّاض وما يكيد ... قد ظلّ لا يبدى ولا يعيد الجزء: 18 ¦ الصفحة: 152 قال: فملئت رعبا، وذلّ «1» الكلب فما يرفع رأسا، وأتيت أهلى مغموما كاسف البال، فبتّ أتململ على فراشى، ثم خفتّ من آخر الليل فإذا نغمة «2» ، ففتحت عينى فرأيت الكلب الذى كان الأسود يقوده، وإذا حياض يقول له: أحسب صاحبى يقظان، قال: فتناومت، ثم قصدنى فتأمّلنى ورجع إليه، فقال: قد نام، فلا عين ولا سمع، قال: أرأيت العفريتين؟ وسمعت ما قالا، قال حياض: نعم، قال: إنهما قد أسلما واتبعا محمدا، وقد سلّطا على شياطين الأوثان، فما يتركان لوثن شيطانا، وقد عذّبانى عذابا شديدا، وأخذا علىّ موثقا ألّا أقرب وثنى، وأنا خارج إلى جزائر الهند، فما رأيك لنفسك؟ قال حياض: ما أمرنا إلا واحد، وذهبا، فقمت أنظر فلا عين ولا أثر، فلما أصبحت أخبرت قومى بما رأيت وسمعت، وقلت لهم: تخيروا من ينطلق معى إلى هذا النبى من حلمائكم وخطبائكم؛ فقالوا لى: أترغب عن دين آبائك؟ فقلت لهم: إذا كرهتم شيئا كرهته، فما أنا إلا واحد منكم، ثم انسللت منهم فكسرت الصنم، ثم قصدت المدينة فأتيتها ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخطب، فجلست بإزاء منبره فعقّب خطبته بأن قال: «بإزاء منبرى رجل من سعد العشيرة، قدم علينا راغبا فى الإسلام، ولم يرنى ولم أره إلا ساعتى هذه، ولم أكلّمه ولم يكلّمنى قطّ، وسيخبركم خبرا عجيبا» ونزل فصلّى، ثم قال: «ادن يا أخا سعد العشيرة» فدنوت فقال: «أخبرنا عن حياض وفرّاض وما رأيت وسمعت» قال: فقمت على قدمىّ وقصصت القصّة، والمسلمون يسمعون، فسرّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، ودعانى إلى الإسلام، وتلا علىّ القرآن فأسلمت، وقلت فى ذلك: تبعت رسول الله إذ جاء بالهدى ... وخلّفت فرّاضا بدار هوان شددت عليه شدّة فتركته ... كأن لم يكن والدّهر ذو حدثان الجزء: 18 ¦ الصفحة: 153 رأيت له كلبا يقوم بأمره ... فهدّد بالتّنكيل والرّجفان ولما رأيت الله أظهر دينه ... أجبت رسول الله حين دعانى وأصبحت للإسلام ما عشت ناصرا ... وألقيت فيه كلكلى وجرانى فمن مبلغ سعد العشيرة أننى ... شريت الذى يبقى بما هو فانى وقد تقدم فى خبر وفد سعد العشيرة ذكر هذه الأبيات، وأنها لذباب، وأنه الذى كسر الصّنم، إلا أنه لم يذكر البيت الذى فيه ذكر الكلب «1» ، والله تعالى أعلم. ومنه: ما روى أن ربيعة بن أبى براء، قال أخبرنى خالى فقال: لما أظهر الله علينا رسوله صلّى الله عليه وسلّم بحنين انشعبنا فى كل مشعب، لا يلوى حميم على حميم، فبينا أنا فى بعض الشّعاب، رأيت ثعلبا قد تحوّى «2» عليه أرقم، والثعلب يعدو عدوا شديدا، فانتحيت «3» له بحجر فما أخطأه، وانتهيت إليه، فإذا الثعلب قد سبقنى بنفسه- أى هلك قبل أن أصل إليه- وإذا الأرقم قد تقطّع وهو يضطرب، فقمت لأنظر إليه، فهتف هاتف ما سمعت أفظع «4» من صوته يقول: تعسا لك وبؤسا، فقد قتلت رئيسا، وورثت بئيسا «5» ، ثم قال: يا داثر يا داثر، فأجابه مجيب من العدوة «6» الأخرى بلبّيك لبّيك، فقال: بادر بادر، إلى بنى العذافر، وأخبرهم بما صنع الكافر، فناديت: إنى لم أشعر، وأنا عائذ بك فأجرنى. قال: كلّا، والحرم الأمين، لا أجير من قاتل المسلمين، وعبد غير ربّ العالمين. قال: فناديت؛ إنّى أسلم، فقال: إن أسلمت سقط عنك القصاص، وألبثك «7» الخلاص، الجزء: 18 ¦ الصفحة: 154 وإلّا فلا مناص. قال فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنّ محمدا رسول الله، فقال: نجوت وهديت، لولا ذاك لرديت «1» ، فارجع من حيث جيت. قال: فرجعت أقفو أدراجى «2» ، فإذا هو يقول: امتط السّمع «3» الأزلّ، يعل بك التّلّ، فهناك أبو عامر «4» يتبع الفلّ «5» . قال: فالتفت فإذا سمع كالأسد النّهد «6» ، فركبته ومرّ ينسل «7» ، حتى انتهى إلى تلّ عظيم، فتوقّل «8» فيه إلى أن تسنّمه، فأشرفت منه على خيل المسلمين، فنزلت عنه وصوّبت الحدور «9» نحوهم، فلما دنوت منهم خرج إلىّ فارس، كالفالج «10» الهاتج، فقال: ألق سلاحك لا أمّ لك، فألقيت سلاحى. فقال: ما أنت؟ قلت: مسلم، قال: فسلام عليك ورحمة الله، قلت: وعليك السلام والرحمة والبركة، من أبو عامر؟ قال: أنا هو، قلت: الحمد لله، قال: لا بأس عليك؛ هؤلاء إخوانك المسلمون، أما رأيتك بأعلى التّل فارسا فأين فرسك؟ قال: فقصصت عليه القصّه، فأعجبه ما سمع منى: وسرت مع القوم أقفو بهم آثار هوازن حتى بلغوا من ذلك ما أرادوه. والأخبار فى مثل ذلك كثيرة، وقد أتينا منها بما نكتفى به، فنلذكر خلاف ذلك من سيرة سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 155 ذكر رسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذين بعثهم إلى الملوك وغيرهم، وما كتب به إليهم، وما أجابوا به كانت رسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، على ما أورده الشيخ أبو محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطى رحمه الله، أحد عشر رجلا؛ وهم: عمرو بن أمية الضّمرىّ، ودحية بن خليفة الكلبىّ، وعبد الله بن حذافة السّهمىّ، وحاطب بن أبى بلتعة اللحمىّ، وعمرو بن العاص، وسليط بن عمرو العامرىّ، وشجاع بن وهب الأسدىّ، والمهاجرين أبى أمية المخزومىّ، والعلاء بن الحضرمىّ، وأبو موسى الأشعرىّ، ومعاذ بن جبل. هؤلاء الذين أثبتهم. وقد ورد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث الحارث بن عمير الأزدى إلى ملك بصرى بكتاب، فلما نزل مؤتة «1» قتله شرحبيل بن عمرو الغسّانىّ، وبسبب قتله بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سريّة مؤتة على ما قدمنا ذكره. ولعل الشيخ رحمه الله، إنما أثبت من الرسل من بلّغ الرسالة. وهذا لم يمهل حتى يبلّغها، ولم يقتل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم رسول غيره. وقد ورد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث غير هؤلاء، ممن نذكرهم إن شاء الله تعالى. فكان أوّل ما بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الرسل فى المحرم، سنة سبع من مهاجره؛ أرسل ستّة من هؤلاء الرسل إلى ستّة ملوك، وذلك أنه صلّى الله عليه وسلّم لما رجع من الحديبية فى ذى الحجة سنة خمس جهّز الرسل إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام، وكتب إليهم كتبا، فقيل له: يا رسول الله، إن الملوك لا يقرءون كتابا إلا مختوما، فاتخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ خاتما من الجزء: 18 ¦ الصفحة: 156 فضّة فصّه منه، نقشه ثلاثة أسطر: «محمد» سطر «رسول» سطر «الله» سطر. وختم به الكتب، فخرج ستة نفر منهم فى يوم واحد وذلك فى المحرم سنة سبع، وأصبح كل رجل منهم يتكلم بلسان القوم الذين بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليهم؛ حكاه محمد بن سعد فى طبقاته بسنده. وقال أبو عبد الله محمد بن إسحق بن يسار: حدّثنى يزيد بن أبى حبيب المصرىّ أنه وجد كتابا فيه ذكر من بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى البلدان، وملوك العرب والعجم، وما قال لأصحابه حين بعثهم، قال: فبعثت به إلى محمد بن شهاب الزّهرىّ، فعرفه، وفيه: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج على أصحابه فقال لهم: «إن الله بعثنى رحمة وكافة، فأدّوا عنّى يرحمكم الله، ولا تختلفوا علىّ كما اختلف الحواريون على عيسى بن مريم» قالوا: يا رسول الله، وكيف كان اختلافهم؟ قال: «دعاهم لمثل ما دعوتكم له، فأمّا من قرّب «1» به فأحبّ وسلّم، وأمّا من بعّد «2» به فكره وأبى، فشكا ذلك عيسى منهم إلى الله، فأصبحوا وكل رجل منهم يتكلم بلغة القوم الذين وجّه إليهم» . قال أبو محمد عبد الملك بن هشام: حدّثنى من أثق به عن أبى بكر الهذلىّ، قال: بلغنى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج على أصحابه. وساق نحو الحديث ذكر إرسال عمرو بن أمية الضّمرىّ إلى النّجاشى ملك الحبشة وإسلامه بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى النجاشىّ، وكتب معه كتابين، يدعوه فى أحدهما إلى الإسلام، ويتلو عليه القرآن، فأخذ النجاشىّ كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوضعه على عينيه، ونزل عن سريره فجلس على الأرض، ثم أسلم الجزء: 18 ¦ الصفحة: 157 وشهد شهادة الحقّ، وقال: لو كنت أستطيع أن آتيه لأتيته، وكتب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بإجابته، وتصديقه وإسلامه على يدى جعفر بن أبى طالب لله رب العالمين. وكان جعفر ممن هاجر إلى الحبشة كما قدّمنا ذكر ذلك. وفى الكتاب الثانى، يأمره أن يزوّجه أمّ حبيبة بنت أبى سفيان بن حرب، وكانت قد هاجرت إلى أرض الحبشة مع زوجها عبد الله بن جحش الأسدىّ، فتنصر هناك ومات، وأمره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يبعث إليه من قبله من أصحابه الذين هاجروا إلى الحبشة وأن يحملهم، ففعل، وزوّج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمّ حبيبة، وأصدقها أربعمائة دينار، وأمر بجهاز المسلمين وما يصلحهم، وحملهم فى سفينتين مع عمرو بن أمية، وجعل كتابى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى حقّ من عاج، وقال: لن تزال الحبشة بخير ما كان هذان الكتابان بين أظهرها. ذكر إرسال دحية بن خليفة الكلبىّ إلى قيصر ملك الروم بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليه، وكتب إليه: «بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى- أما بعد- فإنّى أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم اليريسين «1» ، ويا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 158 وبإسنادنا المتقدّم، إلى أبى عبد الله محمد بن إسمعيل بن إبراهيم البخارىّ، قال: حدّثنا الحكم بن نافع أبو اليمان، قال حدّثنا شعيب، عن الزهرىّ، قال أخبرنا عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أن عبد الله بن عباس أخبره، أن أبا سفيان بن حرب أخبره، أنّ هرقل أرسل إليه فى ركب من قريش، وكانوا تجارا بالشام، فى المدّة التى كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مادّ فيها أبا سفيان وكفّار قريش «1» ، فأتوه وهم بإيليا، فدعاهم فى مجلسه، وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا بترجمانه فقال: أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذى يزعم أنه نبىّ؟ قال أبو سفيان: فقلت أنا أقربهم نسبا، فقال: أدنوه منى، وقرّبوا أصحابه، فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم إنى سائل هذا عن هذا الرجل، فإن كذبنى فكذّبوه، فو الله لولا الحياء من أن يأثروا علىّ كذبا لكذبت عنه «2» . ثم كان أوّل ما سألنى عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب، قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قطّ قبله؟ قلت: لا، قال: فهل كان من آبائه من ملك «3» ؟ قلت: لا، قال: فأشراف الناس يتّبعونه أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم، قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون، قال: فهل يرتدّ أحد منهم سخطة «4» لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا، قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا، قال: فهل يغدر «5» ؟ قلت: لا، ونحن منه فى مدّة «6» لا ندرى ما هو فاعل فيها، قال: ولم تمكنّى كلمة الجزء: 18 ¦ الصفحة: 159 أدخل فيها شيئا «1» غير هذه الكلمة، قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم، قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال «2» ، ينال منا وننال منه «3» ، قال: ماذا يأمركم؟ قلت: يقول اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصّلاة، والصّدق، والعفاف، والصّلة، فقال لترجمانه: قل له سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث فى نسب قومها، وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول، فذكرت أن لا، فقلت «4» : لو كان أحد قال هذا القول قبله، لقلت رجل يأتسى «5» بقول قيل قبله، وسألتك هل كان من آبائه من ملك، فذكرت أن لا، قلت: فلو كان من آبائه من ملك، قلت رجل يطلب ملك أبيه، وسألتك هل كنتم تتّهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال، فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس، ويكذب على الله، وسألتك أأشراف الناس اتّبعوه أم ضعفاؤهم، فذكرت أنّ ضعفاءهم اتّبعوه، وهم أتباع الرسل، وسألتك أيزيدون أم ينقصون، فذكرت أنهم يريدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتمّ، وسألتك أيرتدّ أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه، فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب، وسألتك هل يغدر، فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر، وسألتك بم يأمركم، فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصّلاة والصّدق والعفاف، فإن كان ما يقول حقّا، فسيملك موضع قدمىّ هاتين، وقد الجزء: 18 ¦ الصفحة: 160 كنت أعلم أنه خارج «1» ، لم أكن أظنّ أنّه منكم، فلو أنى أعلم أنّى أخلص إليه لتجشّمت «2» لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه «3» . ثم دعا بكتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، الذى بعث به دحية إلى عظيم بصرى، فدفعه إلى هرقل فقرأه، فإذا فيه «بسم الله الرحمن الرحيم» وذكره كما تقدّم. قال أبو سفيان: فلما قال ما قال وفرغ من قراءة الكتاب، كثر عنده الصّخب، وارتفعت الأصوات «4» ، وأخرجنا، فقلت لأصحابى حين أخرجنا: لقد أمر أمر ابن أبى كبشة «5» ، إنه ليخافه ملك بنى الأصفر «6» ، فما زلت موقنا أنه سيظهر حتى أدخل الله علىّ الإسلام. قال: وكان ابن النّاطور صاحب «7» إيلياء وهرقل أسقفا «8» على نصارى الشام يحدّث أن هرقل حين قدم إيلياء أصبح يوما خبيث النفس «9» ، فقال بعض بطارقته: قد استنكرنا هيئتك، فقال ابن الناطور، وكان هرقل حزّاء «10» : ينظر فى النّجوم، فقال لهم حين سألوه: إنى رأيت الليلة حين نظرت فى النجوم ملك الختان قد ظهر، فمن يختتن من هذه الأمة؟ قالوا: ليس يختتن إلا اليهود، فلا يهمنّك شأنهم، الجزء: 18 ¦ الصفحة: 161 واكتب إلى مدائن ملكك فليقتلوا من فيهم من اليهود، فبينما هم على أمرهم، إذ أتى هرقل برجل، أرسل به ملك غسّان، يخبر عن خبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما استخبره هرقل قال: اذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا، فنظروا إليه، فحدّثوه أنه مختتن، وسأله عن العرب، فقال: هم يختتنون، فقال هرقل: هذا ملك هذه الأمة قد ظهر. ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية «1» ، وكان نظيره فى العلم، وسار هرقل إلى حمص «2» ، فلم يرم «3» حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه، يوافق رأى هرقل على خروج النبى صلّى الله عليه وسلّم، وأنه نبىّ، فأذن هرقل لعظماء الروم فى دسكرة «4» له بحمص، ثم أمر بأبوابها فغلّقت، ثم اطّلع فقال: يا معشر الروم هل لكم فى الفلاح والرّشد؟ وأن يثبت ملككم فتبايعوا لهذا النبىّ، فحاصوا حيصة «5» حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غلّقت، فلما رأى هرقل نفرتهم، وأيس من الإيمان، قال: ردّوهم علىّ، وقال: إنى قلت مقالتى آنفا أختبر بها شدّتكم على دينكم فقد رأيت «6» . فسجدوا له ورضوا عنه، فكان ذلك آخر شأن هرقل. رواه صالح بن كيسان ويونس ومعمر عن الزّهرى. وقد قدّمنا من خبر هرقل فى شأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتحقيق نبوءته عنده، فى فصل من بشّر برسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما تقف عليه هناك. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 162 ذكر إرسال عبد الله بن حذافة السّهمىّ إلى كسرى ملك الفرس بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليه، يدعوه إلى الإسلام، وكتب معه كتابا؛ قال عبد الله: فدفعت إليه كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقرئ عليه ثم أخذه فمزّقه، فلما بلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «اللهم مزّق ملكه» . وكتب كسرى إلى باذان عامله على اليمن: أن ابعث من عندك رجلين جلدين إلى هذا الرجل الذى بالحجاز، فليأتيا بخبره. فبعث باذان قهرمانه «1» ، ورجلا آخر، وكتب معهما كتابا، فقدما المدينة، فدفعا كتاب باذان إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودعاهما إلى الإسلام، وفرائصهما ترعد، وقال: «ارجعا عنى يومكما هذا حتى تأتيانى الغد فأخبركما بما أريد» فجاءاه الغد، فقال لهما: «أبلغا صاحبكما أن ربّى قد قتل ربّه كسرى فى هذه الليلة لسبع «2» ساعات مضت منها- وهى ليلة الثلاثاء لعشر ليال مضين من جمادى الأولى سنة سبع من الهجرة- وأن الله تعالى سلّط عليه ابنه شيرويه فقتله» فرجعا إلى باذان بذلك، فأسلم هو والأبناء «3» الذين باليمن. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 163 ذكر إرسال حاطب بن أبى بلتعة إلى المقوقس صاحب الإسكندريّة عظيم القبط، واسمه جريج بن مينا بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليه، يدعوه إلى الإسلام، وكتب معه كتابا فأتاه، وأوصل إليه كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقرأه، وقال خيرا، وجعل الكتاب فى حقّ من عاج، وختم عليه ودفعه إلى جاريته، وكتب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم: قد علمت أن نبيا قد بقى، وكنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك، وبعث إليك بجاريتين لهما مكان فى القبط عظيم، وقد أهديت لك كسوة وبغلة تركبها. ولم يزد على هذا، ولم يسلم المقوقس، فقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هديّته، وأخذ الجاريتين، وهما مارية أمّ إبراهيم بن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأختها شيرين، وبغلة بيضاء، لم يكن فى العرب يومئذ غيرها، وهى دلدل، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى المقوقس: «ضنّ الخبيث بملكه ولا بقاء لملكه «1» » . قال حاطب: كان المقوقس مكرما لى فى الضّيافة، وقلّة اللّبث ببابه، وما أقمت عنده إلا خمسة أيام. وقال أبو عمر بن عبد البر: إن المقوقس أهدى لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم خصيّا اسمه مأبور، وذكر ذلك فى ترجمة مارية، ويقال: هو ابن عمّ مارية، والله أعلم. وقد ذكرنا فى (الحجّة البالغة، والأجوبة الدّامغة) ما كان بينهما من المحاورات، وذلك فى الباب الرابع عشر، من القسم الخامس، من الفنّ الثانى، فى السّفر الثّامن من هذه النسخة. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 164 ذكر إرسال شجاع بن وهب «1» الأسدى إلى الحارث بن أبى شمر قالوا: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شجاع بن وهب الأسدى، إلى الحارث بن أبى شمر الغسّانى، ملك البلقاء من أرض الشام، يدعوه إلى الإسلام، وكتب معه كتابا، قال شجاع: فأتيته وهو بغوطة دمشق، وهو مشغول بتهيئة الأنزال «2» والألطاف لقيصر، وهو جاء من حمص إلى إيلياء، فأقمت على بابه يومين أو ثلاثة، فقلت لحاجبه: إنى رسول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليه، فقال: لا تصل إليه حتى يخرج يوم كذا وكذا. وجعل حاجبه- وكان روميّا اسمه مرى «3» - يسألنى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكنت أحدّثه عن صفته، وما يدعو إليه، فيرقّ حتى يغلبه البكاء، ويقول: إنى قرأت الإنجيل فأجد صفة هذا النبىّ بعينه، فأنا أو من به وأصدّقه، وأخاف من الحارث أن يقتلنى، وكان يكرمنى ويحسن ضيافتى، وخرج الحارث يوما فجلس، ووضع التّاج على رأسه، فأذن لى عليه، فدفعت إليه كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقرأه ثم رمى به، وقال: من ينتزع منّى ملكى؟ أنا سائر إليه، ولو كان باليمن جئته، علىّ بالناس! فلم يزل يفرض «4» حتى قام، وأمر بالخيول تنعل، ثم قال: أخبر صاحبك ما ترى. وكتب إلى قيصر يخبره خبرى وما عزم عليه، فكتب إليه قيصر: ألا تسير إليه، واله عنه، ووافنى بإيلياء. فلما جاءه جواب كتابه دعانى فقال لى: متى تريد أن تخرج إلى صاحبك؟ فقلت: غدا، فأمر لى بمائة مثقال ذهب، ووصلنى مرى، الجزء: 18 ¦ الصفحة: 165 وأمر لى بنفقة وكسوة، وقال: اقرأ على رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- منّى السلام. فقدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبرته، فقال: «باد ملكه» وأقرأته من مرى السلام، وأخبرته بما قال، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «صدق» ومات الحارث بن أبى شمر عام الفتح. ذكر إرسال سليط بن عمرو العامرىّ إلى هوذة «1» بن علىّ الحنفى باليمامة بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليه، يدعوه إلى الإسلام، وكتب معه كتابا، فقدم عليه فأنزله وحباه، وقرأ كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكتب إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم: ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله، وأنا شاعر قومى وخطيبهم والعرب تهاب مكانى، فآجعل لى بعض الأمر أتّبعك. وأجاز سليط بن عمرو بجائزة وكساه أثوابا من نسج هجر، فقدم بذلك كله على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأخبره عنه بما قال، فقرأ كتابه وقال: «لو سألنى سيابة «2» من الأرض ما فعلت، باد «3» وباد ما فى يديه» فمات عام الفتح. فهؤلاء السّتّة الذين بعثهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى المحرم سنة سبع «4» . وبعث صلّى الله عليه وسلّم العلاء بن الحضرمى إلى المنذر بن ساوى العبدىّ ملك البحرين. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 166 قال محمد بن سعد: بعثه عند منصرفه من الجعرانة «1» إليه، يدعوه إلى الإسلام، وكتب إليه كتابا. فكتب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بإسلامه وتصديقه، و «أنى قرأت كتابك على أهل هجر، فمنهم من أحبّ الإسلام، وأعجبه ودخل فيه، ومنهم من كرهه، وبأرضى مجوس ويهود، فأحدث إلىّ فى ذلك أمرك» فكتب إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنك مهما تصلح فلن نعزلك عن عملك، ومن أقام على يهوديته أو مجوسيته فعليه الجزية، وبألا تنكح نساؤهم ولا تؤكل ذبائحهم «2» » . وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث أبا هريرة مع العلاء بن الحضرمى، وأوصاه به خيرا، وكتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى العلاء فرائض الإبل، والبقر والغنم، والثمار والأموال، فقرأ العلاء كتابه على الناس وأخذ صدقاتهم. وبعث صلّى الله عليه وسلّم عمرو بن العاص إلى ملكى عمان. قال محمد بن سعد: بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى ذى القعدة، سنة ثمان من مهاجره، إلى جيفر وعبد ابنى الجلندى «3» ، وهما من الأزد، والملك منهما جيفر، يدعوهما إلى الإسلام، وكتب معه إليهما كتابا، قال عمرو: لما قدمت عمان عمدت إلى عبد، وكان أحلم الرجلين وأسهلهما خلقا، فقلت: إنى رسول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليك وإلى أخيك، فقال: أخى المقدّم علىّ بالسّنّ والملك وأنا أوصلك إليه حتى تقرأ كتابك، فمكشت أياما ببابه، ثم دعانى فدخلت عليه الجزء: 18 ¦ الصفحة: 167 فدفعت إليه الكتاب مختوما، ففضّ خاتمه وقرأه حتى انتهى إلى آخره، ثم دفعه إلى أخيه فقرأه مثل قراءته، إلا أنّى رأيت أخاه أرقّ منه، فقال: دعنى يومى هذا وأرجع إلىّ غدا، فلما كان من الغد رجعت إليه، فقال: إنى فكّرت فيما دعوتنى إليه، فإذا أنا أضعف العرب إن ملّكت رجلا ما فى يدى، قلت: فإنى خارج غدا، فلما أيقن بمخرجى أصبح فأرسل إلىّ، فدخلت عليه فأجاب إلى الإسلام هو وأخوه جميعا، وصدّقا بالنبىّ صلّى الله عليه وسلّم، وخليا بينى وبين الصّدقة، وبين الحكم فيما بينهم، وكانا لى عونا على من خالفنى، فأخذت الصدقة من أغنيائهم، فرددتها فى فقرائهم، ولم أزل مقيما بينهم حتى بلغنا وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وبعث صلّى الله عليه وسلّم المهاجر بن أبى أمية المخزومى إلى الحارث الحميرى، وهو الحارث بن عبد كلال ملك اليمن. وبعث صلّى الله عليه وسلم أبا موسى الأشعرى، ومعاذ بن جبل إلى اليمن. وكانا جميعا داعين إلى الإسلام، فأسلم عامّة أهل اليمن، ملوكهم وعامّتهم طوعا. هؤلاء الرسل الذين ذكرهم الشيخ أبو محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطى فى مختصر السيرة. وقد ذكر محمد بن سعد بن منيع فى طبقاته الكبرى، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث جرير بن عبد الله البجلى إلى ذى الكلاع بن ناكور بن حبيب ابن مالك بن حسّان بن تبّع، وإلى ذى عمرو يدعوهما إلى الإسلام، فأسلما وأسلمت ضريبة بنت أبرهة بن الصّبّاح «1» . وتوفى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجرير عندهم، فأخبره ذو عمرو بوفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فرجع جرير إلى المدينة. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 168 ولم يذكر محمد بن سعد المهاجر، وقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث إلى اليمن مع معاذ بن جبل مالك بن مرارة. وذكر أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمرىّ، فى كتابه المترجم بالاستيعاب، فى ترجمة بن أبى أمية، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعثه إلى الجارث كما قدّمنا. قال ابن سعد: وكتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى جبلة بن الأيهم ملك غسّان يدعوه إلى الإسلام فأسلم، وكتب بإسلامه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأهدى له هدية، ولم يذكر اسم المرسل إليه، ثم كان من أمر جبلة بن الأيهم، وخبر ارتداده ما نذكره إن شاء الله تعالى، فى خلافة عمر بن الخطاب رضى الله عنه. وقال محمد بن إسحق رحمه الله: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد بعث أمراءه وعمّاله على الصّدقات، إلى كل ما أوطأ «1» الإسلام من البلدان. فبعث المهاجر بن أبى أميّة بن المغيرة إلى صنعاء، فخرج عليه العنسىّ وهو بها. وبعث زياد بن لبيد، أخا بنى بياضة الأنصارى، إلى حضر موت وعلى صدقاتها. وبعث عدىّ بن حاتم على طيّىء وصدقاتها، وعلى بنى أسد. وبعث مالك بن نويرة اليربوعى على صدقات بنى حنظلة، وفرّق صدقات بنى سعد على رجلين منهم؛ فبعث الزّبرقان بن بدر على ناحية منها، وقيس بن عاصم على ناحية. قال: وكان قد بعث العلاء بن الحضرمىّ على البحرين، وبعث علىّ بن أبى طالب إلى أهل نجران ليجمع صدقتهم، ويقدم عليه بجزيتهم. هذا ما وقفنا عليه من أخبار رسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلنذكر من أخباره صلّى الله عليه وسلّم خلاف ذلك. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 169 ذكر أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهنّ: خديجة بنت خويلد ، وسودة بنت زمعة، وعائشة بنت أبى بكر الصّدّيق، وحفصة بنت عمر بن الخطاب، وزينب بنت خزيمة بن الحارث، وأمّ سلمة هند بنت أبى أمية، وزينب بنت جحش، وجويرية بنت الحارث، وريحانة بنت زيد، وأم حبيبة رملة بنت أبى سفيان بن حرب، وصفيّة بنت حيىّ ابن أخطب، وميمونة بنت الحارث؛ هؤلاء المدخول بهنّ، وهنّ ثنتا عشرة امرأة رضوان الله عليهنّ. وسنذكر إن شاء الله تعالى، بعد أن نذكر أخبار هؤلاء، من تزوّجهنّ صلّى الله عليه وسلّم، ولم يدخل بهنّ، ومن وهبت نفسها له، ومن خيرها فاختارت الدّنيا، ومن فارقها صلّى الله عليه وسلّم، ولنذكر أخبارهنّ على حسب اتصالهنّ به صلّى الله عليه وسلّم. فأوّل امرأة تزوّج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: خديجة بنت خويلد ابن أسد بن عبد العزّى بن قصىّ بن كلاب القرشية، رضى الله عنها، وكانت تدعى فى الجاهلية الطّاهرة «1» ، وأمّها فاطمة بنت زائدة بن الأصمّ، واسم الأصمّ جندب ابن هرم بن رواحة بن حجر بن معيص بن عامر بن لؤىّ. وكانت خديجة عند أبى هالة بن زرارة بن نبّاش بن عدىّ بن حبيب بن صرد بن سلامة بن جروة بن أسيّد بن عمرو بن تميم التّميمى. قال أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر ابن عاصم النّمرى: هكذا نسبه الزّبير، وأمّا الجرجانىّ النّسّابة فقال: كانت خديجة قبل عند أبى هالة هند بن النّبّاش بن زرارة بن وقدان بن حبيب بن سلامة بن عدى الجزء: 18 ¦ الصفحة: 170 ابن جروة بن أسيّد بن عمرو بن تميم، فولدت له هندا، قال: ثم اتفقا فقالا: ثم خلف عليها بعد أبى هالة عتيق بن عابد «1» بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، ثم خلف عي؟؟ ها بعد عتيق المخزومى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقال قتادة: كانت خديجة تحت عتيق بن عابد المخزومى، ثم خلف عليها بعده أبو هالة هند بن زرارة، قال أبو عمر: والأوّل أصح. وقال أبو محمد عبد المؤمن بن خلف: إنها ولدت لعتيق جارية تدعى هند، ثم هلك عنها فخلف عليها أبو هالة فولدت له ابنا وبنتا. وقال ابن إسحق: ولدت هند بن أبى هالة، وزينب بنت أبى هالة، وولدت لعتيق عبد الله وجارية، قال: ثم هلك فتزوّجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد قدّمنا ذكر زواجه صلّى الله عليه وسلّم بها، فلا حاجة إلى إعادته. وولدت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم جميع أولاده، إلا إبراهيم. وقال أبو عمر: لا يختلفون أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يتزوج فى الجاهلية «2» غير خديجة، ولا تزوّج عليها أحدا من نسائه حتى ماتت، وهى أوّل من آمن بالله عزّ وجلّ، وبرسوله صلّى الله عليه وسلّم على الإطلاق. قال ابن إسحق رحمه الله: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يسمع من المشركين شيئا يكرهه، من ردّ عليه وتكذيب له إلا فرّج الله عنه بخديجة، تثبّته وتصدّقه وتخفّف عنه وتهوّن عليه ما يلقى من قومه، وقد تقدّم من أخبارها فى ابتداء الوحى وامتحانها الأمر «3» ، وقولها لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن الذى يأتيه ملك، الجزء: 18 ¦ الصفحة: 171 وغير ذلك ما تقف عليه هناك، مما يستدل به على أنها رضى الله عنها أوّل من آمن بالله تعالى وبرسوله، وقد جاءت الأحاديث الصحيحة المنتشرة، بفضل خديجة رضى الله عنها؛ فمن ذلك ما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سيّدة نساء أهل الجنة بعد مريم بنت عمران فاطمة وخديجة وآسية امرأة فرعون» . وعن عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها قالت: ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة، وما بى أن أكون أدركتها، ولكن ذلك لكثرة ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إياها، وأن كان ليذبح الشاة فيتتبع بذلك صدائق خديجة يهديها لهنّ. وعنها رضى الله عنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة فيحسن عليها الثناء، فذكرها يوما من الأيام فأدركتنى الغيرة فقلت: هل كانت إلا عجوزا قد أبدلك الله خيرا منها؟ فغضب حتى اهتز مقدّم شعره من الغضب، ثم قال: «لا والله ما أبدلنى الله خيرا منها، آمنت بى إد كفر الناس، وصدّقتنى إذ كذّبنى الناس، وواستنى فى مالها إذ حرمنى الناس، ورزقنى الله منها أولادا إذ حرمنى أولاد النساء» قالت عائشة: فقلت فى نفسى لا أذكرها بسيّئة أبدا. وقد قدّمنا من فضلها وما بشّرها به جبريل عليه السلام، وذكر وفاتها عند ذكرنا لزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لها ما يستغنى عن إيراده فى هذا الموضع، وهو فى الجزء الرابع عشر من كتابنا هذا من هذه النسخة. ولما ماتت خديجة تزوّج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد وفاتها بأيام: الجزء: 18 ¦ الصفحة: 172 سودة بنت زمعة بن قيس ابن عبد شمس بن عبدودّ بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤىّ، ويقال فى حسل: حسيل. وأمها الشّموس بنت قيس بن زيد بن عمرو بن لبيد ابن خداش بن عامر بن غنم بن عدىّ بن النّجّار، تزوّجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة، بعد موت خديجة، وقبل العقد على عائشة على المشهور، وكانت قبل عند ابن عمّ لها يقال له السّكران بن عمرو، وهو أخو سهيل بن عمرو، من بنى عامر ابن لؤىّ. وأسنّت سودة عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فهمّ بطلاقها، فقالت له: لا تطلقنى وأنت فى حلّ من شأنى، فإنما أريد أن أحشر فى أزواجك، وإنّى قد وهبت يومى لعائشة، وإنى ما أريد ما تريد النساء. فأمسكها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصار يقسم لبقية أزواجه دونها، ونوبتها لعائشة، فكانت كذلك حتى توفّى عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع من توفّى عنهن من أزواجه. قال أبو عمر: وفى سودة نزل قوله تعالى: «وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ» «1» . وقيل: نزلت فى عمرة «2» ، ويقال: خولة بنت محمد بن مسلمة، وفى زوجها سعد بن «3» الرّبيع. ويقال فى غيرها. والله أعلم. وكانت وفاة سودة فى آخر زمان عمر بن الخطاب، ثم تزوّج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد سودة: الجزء: 18 ¦ الصفحة: 173 عائشة بنت أبى بكر الصّدّيق رضى الله عنهما وأمها أمّ رومان ابنة عامر بن عويمر بن عبد شمس بن عتّاب بن أذينة بن سبيع بن دهمان بن الحارث بن غنم بن مالك بن كنانة، تزوّجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة، فى شوّال سنة عشر من النبوّة، قبل الهجرة بثلاث سنين، وهى بنت ستّ أو سبع، وبنى بها بالمدينة على رأس سبعة أشهر من الهجرة، وهى ابنة تسع سنين، وتوفى عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهى بنت ثمانى عشرة سنة، ولم يتزوّج صلّى الله عليه وسلّم بكرا غيرها، وكانت عائشة رضى الله عنها تذكر لجبير ابن مطعم بن عدىّ وتسمّى «1» له، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أرى عائشة فى المنام فى سرقة «2» من حرير متوفّى خديجة، فقال: «إن يكن هذا من عند الله يمضه» فتزوّجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شوّال وابتنى بها فى شوّال، فكانت تحبّ أن تدخل النساء من أهلها وأحبّتها فى شوّال على أزواجهنّ، وتقول: هل كان فى نسائه عنده أحظى منّى، وقد نكحنى وابتنى بى فى شوّال. قال أبو عمر: فكان مكثها مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تسع سنين، روى عنها أنها قالت: تزوّجنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا بنت سبع سنين، وبنى بى وأنا بنت تسع، وقبض عنّى وأنا بنت ثمانى عشرة. قال أبو عمر: واستأذنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى الكنية فقال لها: «اكتنى بابنك عبد الله بن الزبير» يعنى ابن أختها، وكان مسروق إذا حدّث عن عائشة يقول: حدّثنى الصّادقة ابنة الصّدّيق، البريئة المبرّأة بكذا وكذا. ذكره الشّعبى عن مسروق. وقال أبو الضّحا عن مسروق: رأيت مشيخة أصحاب محمد الجزء: 18 ¦ الصفحة: 174 صلى الله عليه وسلّم الأكابر يسألونها عن الفرائض. وقال عطاء بن أبى رباح: كانت عائشة أفقه الناس، وأعلم الناس، وأحسن الناس رأيا فى العامّة. وقال هشام ابن عروة عن أبيه: ما رأيت أحدا أعلم بفقه ولا بطبّ ولا بشعر من عائشة» . وعن عبد الرحمن بن أبى الزّناد عن أبيه، قال: ما رأيت أحدا أروى لشعر من عروة، فقيل له: ما أرواك يا أبا عبد الله! قال: وما روايتى فى رواية عائشة، ما كان ينزل بها شىء إلا أنشدت فيه شعرا. قال الزهرىّ: لو جمع علم عائشة إلى جميع علم أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعلم جميع النساء، لكان علم عائشة أفضل. وروى عن عمرو بن العاص قال: قلت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أىّ الناس أحب إليك؟ قال: «عائشة» ، قلت: فمن الرجال؟ قال: «أبوها» . ومن حديث أبى موسى الأشعرى، وأنس بن مالك عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «فضل عائشة على النساء كفضل الثّريد على سائر الطعام «2» » . ومن فضل عائشة أن الله عز وجل أنزل فى براءتها ما أنزل، وقد ذكرنا ذلك فى حديث الإفك، فى حوادث سنة خمس من الهجرة، وهو فى الجزء الرابع عشر من كتابنا هذا، من هذه النسخة. وروى عن مالك بن أنس رحمه الله أنه قال: من سبّ أبا بكر جلد، ومن سبّ عائشة قتل، فقيل له: لم؟ قال: من رماها فقد خالف القرآن؛ لأن الله تعالى يقول: «يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» «3» فمن عاد لمثله فقد كفر. وعن القاضى أبى بكر بن الطيّب قال: إن الله تعالى إذا ذكر فى القرآن ما نسبه إليه المشركون سبّح نفسه لنفسه؛ كقوله: الجزء: 18 ¦ الصفحة: 175 «وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ» «1» فى آى كثير. وذكر تعالى ما نسبه المنافقون إلى عائشة فقال: «وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ» «2» سبح نفسه فى تنزيهها من السّوء، كما سبّح نفسه فى تنزيهه من السّوء. وفضائلها رضى الله عنها كثيرة مشهورة. وسنذكر إن شاء الله تعالى، عند ذكرنا لوفاة سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما خصّها به صلّى الله عليه وسلّم، فى مرضه الذى مات فيه، من تمريضه فى بيتها، وأنه مات صلّى الله عليه وسلّم فى بيتها وفى نوبتها، وبين سحرها ونحرها «3» ، وآخر ما دخل فمه ريقها، وناهيك بها فضيلة وخصوصية. وكانت وفاة عائشة رضى الله عنها بالمدينة، فى سنة سبع وخمسين، وقيل: فى سنة ثمان وخمسين، ليلة الثلاثاء، لسبع عشرة خلت من شهر رمضان، وأمرت أن تدفن ليلا، فدفنت بعد الوتر بالبقيع، وصلّى عليها أبو هريرة، ونزل فى قبرها خمسة: عبد الله، وعروة ابنا الزّبير، والقاسم بن محمد، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبى بكر، وعبد الله بن محمد بن أبى بكر، والله أعلم. وتزوّج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد زواج عائشة: حفصة بنت عمر بن الخطاب رضى الله عنها وهى أخت عبد الله بن عمر لأبيه وأمه، وأمّها زينب بنت مظعون بن حبيب ابن وهب بن حذافة بن جمح، وكانت حفصة من المهاجرات، وكانت قبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند خنيس بن حذافة بن قيس بن عدىّ السّهمىّ، وكان الجزء: 18 ¦ الصفحة: 176 بدريا، فلما مات عنها وتأيّمت، ذكرها عمر لأبى بكر وعرضها عليه، فلم يرجع إليه أبو بكر كلمة، فغضب من ذلك عمر، ثم عرضها على عثمان حين مائت رقيّة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال عثمان: ما أريد أن أتزوّج اليوم، فانطلق عمر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فشكا إليه عثمان، وأخبره بعرضه حفصة عليه، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يتزوّج حفصة من هو خير من عثمان، ويتزوّج عثمان من هى خير من حفصة» ثم خطبها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى عمر فتزوّجها، فلقى أبو بكر الصديق عمر بن الخطاب فقال: لا تجد علىّ فى نفسك، فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان ذكر حفصة، فلم أكن لأفشى سرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولو تركها لتزوّجتها. وتزوّجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على رأس ثلاثين شهرا من مهاجره. قال أبو عمر: وطلقها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تطليقة ثم ارتجعها؛ وذلك أن جبريل عليه السلام قال له: «راجع حفصة فإنها صوّامة قوّامة، وأنها زوجتك فى الجنة» . وروى عن عقبة بن عامر قال: طلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حفصة بنت عمر، فبلغ ذلك عمر فحثى على رأسه التراب، وقال: ما يعبأ الله بعمر وابنته بعد هذا، فنزل جبريل من الغد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال: «إنّ الله يأمرك أن تراجع حفصة بنت عمر رحمة لعمر» . قال أبو عمر: وأوصى عمر بعد موته إلى حفصة، وأوصت حفصة إلى عبد الله ابن عمر بما أوصى به إليها عمر، وبصدقة تصدّقت بها [بمال «1» ] وقفته بالغابة. واختلف فى وفاتها، فقال الدّولابىّ: عن أحمد بن محمد بن أيوب، توفيت الجزء: 18 ¦ الصفحة: 177 فى سنة سبع وعشرين، وقال أبو معشر: توفيت فى جمادى الأولى سنة إحدى وأربعين، وقال غيره: توفيت فى شعبان سنة خمس وأربعين بالمدينة، وصلّى عليها مروان بن الحكم، وحمل سريرها، وهو إذ ذاك أمير المدينة لمعاوية بن أبى سفيان، وهذا الذى أشار إليه الشيخ أبو محمد الدمياطى فى مختصر السيرة. قال: ثم تزوّج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد زواج حفصة بنت عمر: زينب بنت خزيمة بن الحارث ابن عبد الله بن عمرو بن عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة بن معاوية ابن بكر بن هوازن القيسيّة الهوازنيّة العامرية الهلالية، وكانت تدعى فى الجاهلية «1» أمّ المساكين، وكانت قبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند الطفيل بن الحارث ابن المطلب بن عبد مناف فطلقها، فخلف عليها أخوه عبيدة بن الحارث فقتل عنها يوم بدر شهيدا، فخلف عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شهر رمضان على رأس أحد وثلاثين شهرا من مهاجره. وقيل: كانت تحت عبد الله بن جحش فقتل عنها يوم أحد، فتزوّجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وعلى الأول اعتمد الشيخ أبو محمد، قال: ومكثت عنده ثمانية أشهر، وتوفيت فى آخر شهر ربيع الآخر، وصلّى عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ودفنها بالبقيع، وقد بلغت ثلاثين سنة أو نحوها، ولم يمت من أزواجه فى حياته غيرها، وغير خديجة، قال: وفى ريحانة «2» خلاف. وقال أبو الحسن على بن عبد العزيز الجرجانى النّسّابة: كانت زينب بنت خزيمة أخت ميمونة لأمها، قال أبو عمر: ولم أر ذلك لغيره، والله أعلم. ثم تزوّج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد زينب بنت خزيمة: الجزء: 18 ¦ الصفحة: 178 أمّ سلمة هند بنت أبى أمية حذيفة المعروف بزاد الرّاكب بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة ابن مرّة بن كعب بن لؤىّ القرشية المخزومية. وكان أبوها أحد أجواد قريش المشهورين بالكرم. وأمها عاتكة بنت عامر بن ربيعة بن مالك بن خزيمة بن علقمة ابن فرّاس. وكانت قبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند أبى سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهو ابن برّة بنت عبد المطلب عمّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وولدت له عمر وزينب، فكانا ربيبى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال أبو عمر: ولدت له عمر وسلمة ودرّة «1» وزينب. قال، وكانت هى وزوجها أول من هاجر إلى أرض الحبشة، ويقال أيضا: أمّ سلمة أول ظعينة دخلت المدينة مهاجرة، وقيل: بل ليلى بنت أبى حثمة زوج عامر بن ربيعة. تزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمّ سلمة فى ليال بقين من شوّال سنة أربع من مهاجره، وقال أبو عمر: تزوجها فى سنة اثنتين «2» من الهجرة بعد وقعة بدر، عقد عليها فى شوّال، وابتنى بها فى شوّال، وقال لها: «إن شئت سبّعت عندك، وسبعت لنسائى، وإن شئت ثلّثت ودرت» فقالت: ثلّث. قال ابن هشام: زوجه إياها ابنها سلمة بن أبى سلمة، وأصدقها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فراشا حشوه ليف وقدحا وصحفة ومجشّة «3» . وقد اختلف فى وفاتها؛ فقيل: توفيت فى سنة ستين من الهجرة، وقيل: فى شهر رمضان أو شوال سنة تسع وخمسين، الجزء: 18 ¦ الصفحة: 179 وقال الشيخ أبو محمد عبد المؤمن: توفيت فى سنة اثنتين وستين. قال أبو عمر: وصلّى عليها أبو هريرة، وقيل: سعيد بن زيد «1» بوصية منها، ودخل قبرها عمر وسلمة ابنا أبى سلمة، وعبيد الله بن عبد الله بن أبى أمية، وعبد الله بن وهب بن ربيعة، ودفنت بالبقيع رحمها الله، وهى آخر أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم موتا، وقيل: بل ميمونة آخرهن. والله أعلم. ثم تزوّج صلّى الله عليه وسلّم بعدها: زينب بنت جحش بن رئاب ابن يعمر بن صبرة بن مرّة بن كبير- بالباء الموحّدة- ابن غنم بن دودان ابن أسد بن خزيمة. وكان اسم زينب برّة، فسماها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زينب، وأمها أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم، عمّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ قال الشيخ أبو محمد عبد المؤمن: تزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لهلال ذى القعدة سنة أربع على الصّحيح «2» ، وهى يومئذ بنت خمس وثلاثين سنة، وكانت قبل ذلك عند زيد بن حارثة مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم فارقها، فلما حلّت «3» زوّجه الله إياها، وهى التى قال الله تعالى فيها: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها «4» ولما تزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تكلم فى ذلك المنافقون، وقالوا حرّم الجزء: 18 ¦ الصفحة: 180 محمد نساء الولد وقد تزوج امرأة ابنه، فأنزل الله عز وجل: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ «1» . وقال تعالى: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ «2» ، فدعى زيد يومئذ زيد بن حارثة، وكان قبل ذلك يدعى زيد بن محمد. قالت عائشة رضى الله عنها: لم يكن أحد من نساء النبى صلّى الله عليه وسلّم يسامينى «3» في حسن المنزلة عنده غير زينب بنت جحش، وكانت تفخر على نساء النبىّ صلّى الله عليه وسلّم؛ تقول: إن آباء كنّ أنكحوكنّ وأن الله أنكحنى إياه من فوق سبع سموات. وعن أنس بن مالك رضى الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لزيد بن حارثة: «اذكرها علىّ» قال زيد: فانطلقت فقلت لها: يا زينب، أبشرى، فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أرسل يذكرك. فقالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أوامر «4» ربى؛ فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآن، وجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لعمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه: «إن زينب بنت جحش أوّاهة» فقال رجل: يا رسول الله، ما الأوّاه؟ قال: «الخاشع المتضرع، وإِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ «5» . وعن عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها؛ قالت قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوما لنسائه: «أسرعكنّ لحاقا بى أطو لكنّ «6» يدا» ، قالت: فكنّ يتطاولن أيهنّ أطول يدا، قالت: فكانت أطولنا يدا زينب؛ لأنها كانت تعمل بيديها وتتصدق. وعن عائشة رضى الله عنها أيضا، قالت كانت زينب بنت جحش الجزء: 18 ¦ الصفحة: 181 تسامينى فى المنزلة عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وما رأيت امرأة قطّ خيرا فى الدين من زينب، وأتقى لله وأصدق حديثا؛ وأوصل للرحم، وأعظم صدقة. ومن رواية أخرى عنها أنها ذكرت زينب فقالت: ولم تكن امرأة خيرا منها فى الدين، وأتقى لله، وأصدق حديثا، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة، وأشد تبذلا «1» في نفسها فى العمل الذى تتصدق به وتتقرب إلى الله عز وجل. وكانت وفاة زينب بالمدينة فى سنة عشرين من الهجرة، فى خلافة عمر، وقيل: فى سنة إحدى وعشرين، ودفنت بالبقيع رضى الله عنها. ثم تزوّج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد زينب: جويرية بنت الحارث ابن أبى ضرار بن حبيب بن عائذ بن مالك بن جذيمة، وهو المصطلق بن سعد ابن كعب بن عمرو بن ربيعة، وهو لحىّ بن حارثة بن عمرو مزيقياء «2» بن عامر ماء السّماء؛ الأزدية الخزاعية المصطلقية. سباها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم المريسيع «3» فوقعت جويرية فى سهم ثابت بن قيس بن شمّاس، وكاتبها على تسع أواق، فأدّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنها كتابتها وتزوّجها. وقيل: جاء أبوها فافتداها، ثم أنكحها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى سنة ست من الهجرة. وروى عن عائشة رضى الله عنها قالت: لما قسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سبايا بنى المصطلق، وقعت جويرية بنت الحارث فى السّهم لثابت بن قيس بن شمّاس- أو لابن عم له- الجزء: 18 ¦ الصفحة: 182 فكاتبته على نفسها، وكانت امرأة حلوة ملاحة «1» ، لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه، فأتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تستعينه فى كتابتها، قالت عائشة: فو الله ما هو إلا أن رأيتها على باب حجرتى فكرهتها، وعرفت أنه سيرى منها ما رأيت، فدخلت عليه، فقالت: يا رسول الله، أنا جويرية بنت الحارث بن أبى ضرار سيّد قومه وقد أصابنى من البلاء ما لم يخف عليك، فوقعت فى السّهم لثابت بن قيس بن شمّاس- أولا بن عمّ له- فكاتبته على نفسى، فجئتك أستعينك على كتابتى، قال: «فهل لك فى خير من ذلك» ؟ قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: «أقض عنك كتابتك وأتزوجك» ، قالت: نعم يا رسول الله، قال: «قد فعلت» ؛ قالت: وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد تزوج بجويرية بنت الحارث فقال الناس: أصهار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأرسلوا ما بأيديهم، فلقد أعتق بتزويجه إياها مائة أهل بيت من بنى المصطلق، فما أعلم امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها. قال أبو عمر: وكانت جويرية قبل تحت مسافع بن صفوان المصطلقى، قال: وكان اسمها برّة، فغيّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اسمها وسماها جويرية، وحفظت جويرية عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وروت عنه، وتوفيت بالمدينة فى شهر ربيع الأول سنة ست وخمسين، وصلّى عليها مروان بن الحكم وهو والى المدينة وقد بلغت سبعين سنة؛ لأنه صلّى الله عليه وسلّم تزوجها وهى بنت عشرين سنة. وقيل: توفيت فى سنة خمسين. والله أعلم. ثم تزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد جويرية: الجزء: 18 ¦ الصفحة: 183 ريحانة بنت زيد بن عمر بن خنافة بن شمعون قال أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النّمرى رحمه الله: هى ريحانة بنت شمعون بن زيد بن خنافة «1» من بنى قريظة، وقيل من بنى النّضير. قال: والأكثر من بنى قريظة. قال الشيخ أبو محمد عبد المؤمن بن خلف رحمه الله: وكانت متزوجة رجلا من بنى قريظة، يقال له الحكم، وكانت قد وقعت فى السبى يوم بنى قريظة، وذلك فى ليال من ذى القعدة سنة خمس من الهجرة، فكانت صفىّ «2» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فخيرها بين الإسلام ودينها فاختارت الإسلام فأعتقها وتزوجها، وأمهرها اثنتى عشرة أوقية ونشّا، وأعرس بها فى المحرّم سنة ستّ، فى بيت أمّ المنذر سلمى بنت قيس من بنى النجار، وضرب عليها الحجاب، فغارت عليه غيرة شديدة، فطلقها تطليقة، فأكثرت البكاء فراجعها، فكانت عنده حتى ماتت بعد رجعته من حجّة الوداع، فدفنها بالبقيع. وقيل: إنه لم يتزوّجها وكان يطؤها بملك اليمين، وأنه خيّرها بين العتق والتزويج، أو تكون فى ملكه، فقالت: أكون فى ملكك أخف علىّ وعليك، فكانت فى ملكه حتى توفّى عنها. قال: والأوّل أثبت. ثم تزوّج صلّى الله عليه وسلّم: أمّ حبيبة رملة بنت أبى سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصىّ القرشية الأموية، وأمها صفيّة بنت أبى العاص بن أمية عمة عثمان بن عفان، هاجرت أمّ حبيبة مع زوجها عبيد الله «3» بن جحش إلى أرض الحبشة فى الهجرة الثانية، فولدت له هناك الجزء: 18 ¦ الصفحة: 184 حبيبة فكنيت بها، وتنصّر عبيد الله زوجها، وارتدّ عن الإسلام، ومات على ذلك، وثبتت أمّ حبيبة على دين الإسلام، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عمرو بن أمية الضّمرىّ إلى النجاشىّ، كما قدّمنا ذكر ذلك فزوّجه إياها، وكان الذى عقد عليها خالد بن سعيد بن العاص بن أمية على الأصح، وأصدقها النجاشىّ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أربعمائة دينار، وبعث بها مع شرحبيل بن حسنة «1» وجهّزها إلى المدينة، وذلك فى سنة سبع من الهجرة، وهذا هو المعروف المشهور. وقيل: إن الذى زوّجها عثمان بن عفان، وأن العقد كان بالمدينة بعد رجوعها من أرض الحبشة. والأوّل أثبت. وروى الزبير بن بكّار قال: حدّثنى محمد بن حسن عن عبد الله بن عمرو بن زهير، عن إسمعيل بن عمرو أن أمّ حبيبة قالت: ما شعرت وأنا بأرض الحبشة إلا برسول النجاشى جارية يقال لها أبرهة، كانت تقوم على ثيابه ودهنه، فاستأذنت علىّ فأذنت لها، فقالت: إن الملك يقول لك إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد كتب إلىّ أن أزوّجكه «2» فقلت: بشّرك الله بخير، وقالت: يقول لك الملك وكلّى من يزوّجك، فأرسلت إلى خالد بن سعيد فوكّلته، وأعطيت أبرهة سوارى فضّة كانتا علىّ، وخواتم فضة كانت فى أصابعى سرورا بما بشّرتنى، فلما كان العشىّ أمر النجاشىّ جعفر بن أبى طالب ومن هناك من المسلمين يحضرون، وخطب النجاشى فقال: الحمد لله الملك القدّوس، السلام المؤمن المهيمن، العزيز الجبّار، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأنه الذى بشر به عيسى بن مريم- أمّا بعد- فإنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتب إلىّ أن أزوجه أمّ حبيبة بنت الجزء: 18 ¦ الصفحة: 185 أبى سفيان، فأجبت إلى ما دعا إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد أصدقتها أربعمائة دينار. ثم سكب الدنانير بين يدى القوم، فتكلم خالد بن سعيد، فقال: الحمد لله أحمده وأستعينه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون- أما بعد- فقد أجبت إلى ما دعا إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وزوّجته أمّ حبيبة بنت أبى سفيان، فبارك الله لرسوله. ودفع النجاشى الدّنانير إلى خالد بن سعيد فقبضها؛ ثم أرادوا أن يقوموا، فقال النجاشى: اجلسوا فإن سنة الأنبياء عليهم السلام إذا تزوّجوا أن يؤكل طعام على التزويج، فدعا بطعام فأكلوا ثم تفرّقوا. وماتت أمّ حبيبة سنة أربع وأربعين «1» . وروى عن علىّ بن حسين قال: قدمت منزلى فى دار علىّ بن أبى طالب، فحفرنا فى ناحية منه فأخرجنا منه حجرا فإذا فيه مكتوب، هذا قبر رملة بنت صخر، فأعدناه مكانه، حكاه أبو عمر بن عبد البر فى الاستيعاب فى ترجمة أم حبيبة «2» . ثم تزوّج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد أم حبيبة: صفيّة بنت حيىّ بن أخطب ابن سعية بن ثعلبة بن عبيد بن كعب بن الحارث بن أبى حبيب بن النّضير بن النّحّام بن نحوم «3» ، من بنى إسرائيل من سبط هرون بن عمران عليه السلام. كان أبوها سيّد بنى النّضير، وأمّها برّة «4» بنت سموءل، أخت رفاعة «5» ، وكانت صفيّة عند سلام بن مشكم القرظىّ الشاعر، ففارقها فخلف عليها كنانة بن الربيع الجزء: 18 ¦ الصفحة: 186 ابن أبى الحقيق النّضرىّ «1» الشاعر، فقتل يوم خيبر، ولم تلد لأحد منهما شيئا، فاصطفاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لنفسه فأعتقها وتزوّجها وجعل عتقها صداقها، ولم تبلغ يومئذ سبع عشرة سنة. وحكى محمد بن إسحق فى مغازيه، وأبو بكر أحمد بن الحسين البيهقى فى دلائل النبوة، فى غزاة خيبر: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما افتتح القموص: - حصن ابن أبى الحقيق- أتى بصفيّة بنت حيىّ بن أخطب، وبأخرى معها، فمر بهما بلال على قتلى من قتلى يهود، فلما رأتهم التى مع صفية صاحت وصّكّت وجهها وحثت التراب على رأسها، فلما رآها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أغربوا «2» عنى هذه الشيطانة» وأمر بصفية فحيزت خلفه، وألقى عليها رداءه، فعرف المسلمون أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد اصطفاها لنفسه، وكانت صفية قد رأت فى المنام، وهى عروس بكنانة بن الربيع، أن قمرا وقع فى حجرها، فعرضت رؤياها على زوجها «3» ، فقال: ما هذا إلا أنك تمنّين ملك الحجاز محمدا: فلطم وجهها لطمة خضّر «4» عينها منها، فأتى بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبها أثر منه، فسألها ما هو فأخبرته هذا الخبر. وروى عن أنس بن مالك من رواية صهيب، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما جمع سبى خيبر جاءه دحية فقال: أعطنى جارية من السّبى، قال: «اذهب فخذ جارية» فأخذ صفيّة بنت حيىّ، فقيل: يا رسول الله، إنها سيّدة قريظة والنّضير، الجزء: 18 ¦ الصفحة: 187 ما تصلح إلا لك، فقال له النبىّ صلّى الله عليه وسلّم: «خذ جارية من السّبى غيرها» . وقال ابن شهاب: كانت مما أفاء الله عليه، حجبها وأولم عليها بتمر وسويق، وقسم لها، وكانت إحدى أمهات المؤمنين، قال أبو عمر: روى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دخل على صفية وهى تبكى، فقال لها: «ما يبكيك» ؟ قالت: بلغنى أن عائشة وحفصة تنالان منى، وتقولان نحن خير من صفية، نحن بنات عمّ رسول الله وأزواجه، قال: «ألا قلت لهنّ كيف تكنّ خيرا منّى وأبى هرون، وعمّى موسى، وزوجى محمد صلّى الله عليه وسلّم» . وكانت صفية حليمة عاقلة فاضلة؛ روى أن جارية لها أتت عمر بن الخطاب رضى الله عنه، فقالت: إن صفية تحب السّبت وتصل اليهود، فبعث إليها عمر يسألها، فقالت: أما السّبت فإنى لم أحبّه منذ أبدلنى الله به يوم الجمعة، وأما اليهود فإن لى فيهم رحما فأنا أصلها، ثم قالت للجارية: ما حملك على ما صنعت؟ قالت: الشيطان، قالت: فاذهبى فأنت حرة. وتوفّيت صفية فى شهر رمضان سنة خمسين، وقيل: سنة اثنتين وخمسين. ودفنت بالبقيع، وورثت مائة ألف درهم بقيمة أرض وعرض، وأوصت لابن أختها بثلثها، وكان يهوديا. ثم تزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعدها: ميمونة بنت الحارث ابن حزن بن بجير بن هزم «1» بن رويبة بن عبد الله بن هلال بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن مضر. وأمها هند بنت عوف بن زهير بن الحارث بن حماطة بن حمير، وقيل: من كنانة، وأن زهير بن الحارث بن كنانة. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 188 وأخوات ميمونة لأبيها وأمها: أمّ الفضل لبابة الكبرى بنت الحارث، زوج العباس بن عبد المطلب. ولبابة الصّغرى زوج الوليد بن المغيرة، أمّ خالد بن الوليد. وعصماء بنت الحارث، كانت تحت أبىّ بن خلف الجمحىّ. وعزّة بنت الحارث، كانت عند زياد بن عبد الله بن مالك الهلالى. وأخواتها لأمها: أسماء بنت عميس؛ كانت تحت جعفر بن أبى طالب، فولدت له عبد الله، وعونا ومحمدا، ثم خلف عليها أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه، فولدت له محمدا، ثم خلف عليها على بن أبى طالب، فولدت له يحيى، وقيل: إن أسماء كانت تحت حمزة بن عبد المطلب، فولدت له أمة الله بنت حمزة، ثم خلف عليها بعده شدّاد بن أسامة بن الهاد اللّيثىّ، فولدت له عبد الله، وعبد الرحمن. وسلامة بنت عميس أخت أسماء. وسلمى بنت عميس كانت تحت عبد الله بن كعب بن منبّه الخثعمى. وزينب بنت خزيمة أخت ميمونة لأمّها. قال أبو عمر بسنده إلى ابن عباس رضى الله عنهما: كان اسم ميمونة برّة، فسماها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ميمونة، وقال: لما توجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى مكة معتمرا فى سنة سبع؛ وهى عمرة القضاء، خطب جعفر بن أبى طالب عليه ميمونة بنت الحارث الهلاليّة، وكانت أختها لأمها أسماء بنت عميس عند جعفر، وسلمى بنت عميس عند حمزة، وأم الفضل عند العباس، فأجابت جعفر ابن أبى طالب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وجعلت أمرها إلى العباس بن عبد المطلب، فأنكحها النبىّ صلّى الله عليه وسلّم وهو محرم، فلما رجع بنى بها بسرف «1» حلالا، وكانت قبله عند أبى رهم بن عبد العزّى بن أبى قيس بن عبدودّ بن الجزء: 18 ¦ الصفحة: 189 نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤىّ، ويقال: بل كانت عند سبرة بن أبى رهم. حكاه أبو عبيدة، وقال عبد الله بن محمد بن عقيل: كانت ميمونة قبل النبى صلّى الله عليه وسلّم عند حويطب بن عبد العزّى، وقيل: كانت فى الجاهلية عند مسعود بن عمرو بن عمير الثقفى ففارقها، وخلف عليها أبو رهم أخو حويطب فتوفّى عنها، فتزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال ابن شهاب: وهى التى وهبت نفسها للنبى صلّى الله عليه وسلّم، وكذلك قال قتادة، قال: وفيها نزلت وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها «1» للنّبىّ الآية، وقد قيل: إن الواهبة خولة وقيل: أمّ شريك. قال قتادة: وكانت ميمونة قبله عند فروة بن عبد العزّى بن أسد بن غنم بن دودان، قال أبو عمر: هكذا قال قتادة وهو خطأ، والصواب ما تقدم. والله أعلم. قال الشيخ أبو محمد الدمياطى: وماتت ميمونة بسرف فى سنة إحدى وخمسين على الأصح؛ وقد بلغت ثمانين سنة. فهؤلاء نساؤه المدخول بهنّ، ومات صلّى الله عليه وسلّم عن تسع منهنّ؛ وهنّ: عائشة بنت أبى بكر الصّدّيق، وحفصة بنت عمر، وسودة بنت زمعة، وأمّ سلمة بنت أبى أمية، وزينب بنت جحش، وجويرية بنت الحارث وأمّ حبيبة بنت أبى سفيان؛ وصفيّة بنت حيىّ بن أخطب، وميمونة بنت الحارث رضوان الله عليهم أجمعين. ذكر من تزوجهنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من النساء ولم يدخل بهنّ، ومن دخل بهنّ وطلّقهنّ، ومن وهبت نفسها له صلّى الله عليه وسلّم: فاطمة بنت الضّحّاك ابن سفيان بن عوف بن كعب بن أبى بكر، وهو عبيد بن كلاب بن ربيعة ابن عامر الكلابية. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 190 تزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى ذى القعدة، سنة ثمان من الهجرة منصرفه من الجعرانة، فلما دنا منها قالت: أعوذ بالله منك، فقال: «لقد عذت بعظيم الحقى بأهلك «1» » فكانت إذا استأذنت على أزواج النبى صلّى الله عليه وسلّم تقول: أنا الشّقيّة إنما خدعت. ودلهت «2» وذهب عقلها، وماتت سنة ستين. وروى عن ابن إسحق أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تزوجها بعد وفاة ابنته زينب، وخيّرها حين أنزلت آية التخيير «3» فاختارت الدنيا ففارقها، فكانت بعد تلقط البعر «4» ، وتقول: أنا الشّقية اخترت الدنيا. قال أبو عمر بن عبد البر: وهذا عندى غير صحيح؛ لأن ابن شهاب يروى عن أبى سلمة وعروة عن عائشة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين خيّر أزواجه بدأ بها فاختارت الله ورسوله قالت وتتابع أزواج النبى صلّى الله عليه وسلّم على ذلك، قال قتادة وعكرمة: كان عنده حين خيّرهن تسع نسوة وهنّ اللواتى توفّى عنهن، قال الشيخ أبو محمد عبد المؤمن: وقيل إنما طلقها لبياض «5» كان بها. وقيل: إنما فارقها لأنه كان إذا خرج طلعت إلى المسجد. وقيل: إن الضحّاك عرض ابنته فاطمة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: إنها لم تصدّع «6» قطّ، فقال: «لا حاجة لى بها» . وروى عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال: كان فى نساء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سناء «7» بنت سفيان بن عوف بن كعب ابن أبى بكر بن كلاب. ومنهن: الجزء: 18 ¦ الصفحة: 191 عمرة بنت يزيد بن الجون الكلابية وقيل: عمرة بنت يزيد بن عبيد بن رواس بن كلاب الكلابية، وهو أصحّ. وفى رواية قال أبو عمر: تزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فبلغه أن بها برصّا فطلّقها، ولم يدخل بها. وقيل: إنها التى تعوذت منه حين أدخلت عليه. وقيل غيرها. ومنهن: العالية بنت ظبيان بن الجون ابن عوف بن كعب بن أبى بكر بن عبيد بن كلاب الكلابية. قال أبو عمر: تزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكانت عنده ما شاء الله ثم طلّقها، قال: وقلّ من ذكرها. هؤلاء اللاتى ذكرن من بنى كلاب بن ربيعة بن عامر. قال أبو محمد: ومن الناس من جعل التى تزوجها من بنى عامر واحدة، اختلف فى اسمها، وأنه لم يتزوج من بنى عامر غيرها، قال: ومنهم من جعلهن جمعا، وذكر لكل واحدة منهن قصّة، وهؤلاء اللاتى ذكرناهن، هن المشهورات من بنى عامر. وممن ذكرن فى أزواجه صلّى الله عليه وسلّم فاطمة بنت شريح. ذكرها أبو عبيدة فى أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ومنهن: أسماء بنت النّعمان بن أبى الجون ابن الأسود بن الحارث بن شراحيل بن الجون بن آكل المرار الكندى، تزوج بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى سنة تسع من الهجرة، زوجه إياها أبوها حين قدم «1» ، على اثنتى عشرة أوقية ونشّ، وبعث معه أبا أسيد؛ فحملها من الجزء: 18 ¦ الصفحة: 192 نجد حتى نزل بها فى أطم «1» بنى ساعدة، فقالت عائشة: قد وضع يده فى الغرائب «2» يوشك أن يصرفن وجهه عنا، وكانت من أجمل النساء، فقالت حفصة لعائشة، أو عائشة لحفصة: اخضبيها أنت وأنا أمشطها، ففعلتا، ثم قالت لها إحداهما: إنه يعجبه من المرأة إذا دخلت عليه أن تقول: أعوذ بالله منك؛ فلما دخلت عليه وأغلق الباب، وأرخى الستر، مدّ يده إليها، فقالت: أعوذ بالله منك، فقال: «لقد عذت بمعاذ الحقى بأهلك» وأمر أبا أسيد أن يردّها إلى أهلها؛ وقال: «متّعها برازقيتين «3» » يعنى كرباسين، فكانت تقول: ادعونى الشّقية، وإنما خدعت؛ لما رؤى من جمالها وهيئتها، وذكر لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم من حملها على ما قالت، فقال: «إنهنّ صواحب يوسف وكيدهنّ عظيم» قال: فلما طلع بها أبو أسيد على أهلها تصايحوا؛ وقالوا: إنك لغير مباركة، ما دهاك؟ فقالت: خدعت، وقيل لى كيت وكيت، فقالوا: لقد جعلتنا فى العرب شهرة، فقالت: يا أبا أسيد قد كان ما كان فما الذى أصنع؟ قال: أقيمى فى بيتك واحتجى إلا من ذى رحم، ولا يطمع فيك طامع بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإنك من أمهات المؤمنين؛ فأقامت لا يطمع فيها طامع، ولا ترى إلا لذى محرم، حتى توفّيت فى خلافة عثمان بن عفّان عند أهلها بنجد. وقال أبو عمر: أجمعوا على أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تزوّجها، واختلفوا فى قصّة فراقه لها، فقال بعضهم: لما دخلت عليه دعاها فقالت: تعال أنت، وأبت أن تجىء، هذا قول قتادة وأبى عبيدة. وزعم بعضهم أنها قالت: أعوذ بالله الجزء: 18 ¦ الصفحة: 193 منك، فقال: «لقد عذت بمعاذ، وقد أعاذك الله منّى» فطلقها، قال قتادة: وهذا باطل إنما قال هذا لامرأة جميلة تزوّجها من بنى سليم. وقال أبو عبيدة: كلتاهما عاذتا بالله عز وجل منه صلّى الله عليه وسلّم. والله تعالى أعلم. وروى البخارىّ فى صحيحه حديث أبى أسيد السّاعدىّ قال: تزوّج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أميمة بنت شراحيل فلما دخلت عليه بسط يده إليها، فكأنها كرهت ذلك، فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين، وفى لفظ آخر، قال أبو أسيد: أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالجونية، فلما دخل عليها قال: «هبى لى نفسك» فقالت: وكيف تهب الملكة نفسها للسّوقة؟ فأهوى بيده إليها ليسكتها فقالت: أعوذ بالله منك، قال: «قد عذت بمعاذ» ثم خرج عليه السلام فقال: «يا أبا أسيد اكسها رازقيتين وألحقها بأهلها» . وروى عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: خلف عليها المهاجر بن أبى أميّة بن المغيرة؛ فأراد عمر أن يعاقبهما، فقالت: والله ما ضرب علىّ الحجاب ولا سميت بأمّ المؤمنين، فكف عنهما، وقيل: تزوّجها عكرمة ابن أبى جهل فى الرّدة، وقيل: خلف عليها بعد المهاجر قيس بن مكشوح المرادى، وقال ابن أبزى: الجونيّة التى استعاذت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولم تستعذ منه امرأة غيرها. قال أبو عمر رحمه الله: الاختلاف فى الكندية كبير جدا، منهم من يقول: هى أسماء بنت النّعمان، ومنهم من يقول: أميمة بنت النّعمان، ومنهم من يقول: أمامة بنت النّعمان، قال: واختلافهم فى سبب فراقها على ما رأيت، والاضطراب فيها وفى صواحباتها اللواتى لم يجتمع عليهنّ من أزواجه صلّى الله عليه وسلّم عظيم. ومنهنّ: الجزء: 18 ¦ الصفحة: 194 قتيلة بنت قيس أخت الأشعث بن قيس بن معديكرب بن معاوية الكندية. روى عن عبد الله ابن عباس رضى الله عنهما قال: لما استعاذت أسماء بنت النعمان من النبى صلّى الله عليه وسلم خرج والغضب يعرف فى وجهه، فقال له الأشعث بن قيس: لا يسؤك الله يا رسول الله، ألا أزوّجك من ليس دونها فى الجمال والحسب؟ قال: «من» ؟ قال: أختى قتيلة، قال: «قد تزوجتها» قال: فانصرف الأشعث إلى حضر موت، ثم حملها حتى إذا فصل من اليمن، بلغه وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فردّها إلى بلاده وارتدّ وارتدّت معه فيمن ارتد؛ فلذلك تزوجت؛ لفساد النكاح بالارتداد. قال الشيخ أبو محمد: وكان تزوجها قيس بن مكشوح المرادىّ، وقيل: تزوجها عكرمة ابن أبى جهل، فوجد أبو بكر من ذلك وجدا شديدا، وقال: لقد هممت أن أحرق عليهما بيتهما. فقال له عمر: يا خليفة رسول الله، إنها والله ما هى من أزواجه، ما خيّرها ولا حجبها، ولقد برّأها الله منه بالارتداد الذى ارتدت مع قومها. وكان تزوّجه إياها سنة عشر، وقيل: قبل موته بشهرين، وقيل: تزوّجها فى مرضه. وقال قائلون: إنه صلّى الله عليه وسلم أوصى أن تخيّر، فإن شاءت ضرب عليها الحجاب وتحرم على المؤمنين، وإن شاءت طلقها فلتنكح من شاءت، فاختارت النكاح، فتزوجها عكرمة بن أبى جهل. وكان عروة بن الزّبير ينكر ذلك، ويقول: لم يتزوج النبى صلّى الله عليه وسلم قتيلة بنت قيس، ولا تزوج كندية إلا أخت بنى الجون؛ ملكها، وأتى بها فلما نظر إليها طلّقها، ولم يبن بها صلّى الله عليه وسلّم. ومنهنّ: الجزء: 18 ¦ الصفحة: 195 عمرة بنت معاوية الكندية تزوّجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال الشعبىّ: تزوّج امرأة من كندة، فجىء بها بعد وفاته صلّى الله عليه وسلّم. ذكر ذلك أبو الفرج بن الجوزىّ فى التلقيح. ومنهن: أسماء بنت الصّلت وقيل: سناء بنت الصّلت، قال أبو عمر: وهو الصواب؛ قال: وقال علىّ ابن عبد العزيز بن على بن الحسن الجرجانى النّسابة: هى وسناء بنت الصّلت ابن حبيب بن حارثة بن هلال بن حرام بن سماك بن عوف بن امرىء القيس ابن بهثة بن سليم السّلمية؛ تزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فماتت قبل أن تصل إليه. وقال غيره: فلما بشّرت بذلك ضحكت، وماتت من الفرح. وقال ابن إسحق: سناء بنت أسماء بن الصّلت السّلمىّ، تزوّجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم طلقها. وقال أبو نصر ابن ماكولا: سناء بنت أسماء ماتت قبل أن يدخل بها. وقيل: لما مات إبراهيم بن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قالت أسماء: لو كان نبيا ما مات حبيبه، فخلّى سبيلها. وقال عبد الله بن عبيد بن عمير الليثى: جاء رجل من بنى سليم إلى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، إن لى ابنة من جمالها وعقلها ما إنى لأحسد الناس عليها غيرك، فهمّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم أن يتزوّجها، ثم قال: وأخرى يا رسول الله، لا والله ما أصابها عندى مرض قطّ، فقال له النبى صلّى الله عليه وسلّم: «لا حاجة لنا فى ابنتك، تجيئنا نحمل خطاياها! لا خير فى مال لا يرزأ «1» منه، ولا جسم لا ينال منه» . وقال أبو عمر ابن عبد البر: وفى سبب فراقها اختلاف، ولا يثبت فيها شىء من جهة الإسناد. ومنهنّ: الجزء: 18 ¦ الصفحة: 196 مليكة بنت كعب الليثى ّ روى محمد بن عمر الواقدى، عن أبى معشر، قال: تزوج النبىّ صلّى الله عليه وسلّم مليكة بنت كعب، وكانت تذكر بجمال بارع، فدخلت عليها عائشة فقالت: أما تستحيين أن تنكحى قاتل أبيك؟ فاستعاذت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فطلقها، فجاء قومها إلى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا رسول الله، إنها صغيرة ولا ولىّ «1» لها، وأنها خدعت فارتجعها، فأبى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فاستأذنوه أن يزوّجوها قريبا لها من بنى عذرة، فأذن لهم فتزوّجها العذرىّ، وكان أبوها قتل يوم فتح مكة، قتله خالد بن الوليد بالخندمة «2» . قال محمد بن عمر: مما يضعف هذا الحديث، ذكر عائشة أنها قالت: ألا تستحيين، وعائشة لم تكن مع النبىّ صلّى الله عليه وسلّم عام الفتح، وعن عطاء بن يزيد الجندعى قال: تزوّج رسول الله صلّى الله عليه وسلم مليكة بنت كعب الليثى فى شهر رمضان، سنة ثمان، ودخل بها فماتت عنده، قال محمد بن عمر: وأصحابنا ينكرون ذلك، ويقولون لم يتزوّج كنانية قطّ، وعن الزّهرى مثل ذلك. ومنهنّ: ابنة جندب بن ضمرة الجندعى قال أبو محمد الدمياطى رحمه الله: روى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تزوج ابنة جندب بن ضمرة الجندعىّ، وأنكر ذلك الواقدى، وقال: لم يتزوّج كنانية قط. ومنهنّ: الجزء: 18 ¦ الصفحة: 197 الغفارية قال أبو محمد الدمياطى: قال بعضهم تزوّج النبى صلّى الله عليه وسلّم امرأة من غفار، فأمرها فنزعت ثيابها، فرأى بها بياضا، فقال: «الحقى بأهلك» ويقال: إنما رأى البياض بالكلابية. ومنهن: خولة بنت الهذيل بن هبيرة ابن قبيصة بن الحارث بن حبيب بن حرقة بن ثعلبة بن بكر بن حبيب بن عمرو ابن غنم بن ثعلبة. وأمها [خرنق «1» ] بنت خليفة بن فروة بن فضالة بن زيد بن امرئ القيس الكلبىّ، أخت دحية بن خليفة. تزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فهلكت فى الطريق قبل وصولها إليه. حكاه أبو عمر بن عبد البرعن الجرجانىّ النسّابة. ومنهنّ: شراف «2» بنت خليفة بن فروة الكلبية، أخت دحية بن خليفة الكلبىّ قال أبو محمد الدمياطى: قال ابن الكلبى حدّثنا الشّرقىّ بن القطامى «3» قال: لما هلكت خولة بنت الهذيل، تزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شراف بنت خليفة أخت دحية، ثم لم يدخل بها. وقال أبو عمر بن عبد البر: فهلكت قبل دخوله بها. وروى عن عبد الرحمن بن سابط، قال: خطب رسول الله صلّى الجزء: 18 ¦ الصفحة: 198 الله عليه وسلّم امرأة من كلب، فبعث عائشة تنظر إليها، فذهبت ثم رجعت، فقال لها: «ما رأيت» ؟ فقالت ما رأيت طائلا. فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لقد رأيت خالا بخدّها اقشعرت كل شعرة منك» فقالت: يا رسول الله، ما دونك سرّ. ومنهنّ: خولة بنت حكيم ابن أميّة بن حارثة بن الأوقص بن مرّة بن هلال بن فالح بن ثعلبة بن ذكوان ابن امرئ القيس «1» بن سليم. ويقال فيها: خويلة بنت حكيم، وأمها صفيّة «2» بنت العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصىّ. قال ابن الكلبىّ: كانت خولة بنت حكيم من اللائى وهبن أنفسهنّ للنبىّ صلّى الله عليه وسلّم فأرجأها وكانت تخدم النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، وكانت عند عثمان بن مظعون فمات عنها. وعن عروة قال: خولة بنت حكيم ممن وهبت نفسها للنبى صلّى الله عليه وسلّم. وقال أبو عمر بن عبد البر: خولة تكنى أمّ شريك، وهى التى وهبت نفسها للنبىّ، فى قول بعضهم، وكانت امرأة فاضلة صالحة، روى عنها سعد بن أبى وقّاص، وسعيد بن المسيّب، وهى التى قالت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن فتح الله عليك الطائف فأعطنى حلىّ بادية بنت غيلان، أو حلىّ الفارعة بنت عقيل كما تقدّم. ومنهنّ: ليلى بنت الخطيم بن عدى ّ ابن عمرو بن سواد بن ظفر بن الحارث بن الخزرج بن عمرو، وهو النّبيت بن مالك بن الأوس، وهى أخت قيس بن الخطيم، واسم الخطيم ثابت، واسم ظفر كعب. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 199 قال محمد بن سعد: عن عاصم بن عمر بن قتادة «1» قال: كانت ليلى بنت الخطيم وهبت نفسها للنبىّ صلّى الله عليه وسلّم فقبلها، وكانت تركب بعولتها «2» ركوبا شديدا، وكانت سيئة الخلق، فقالت: لا والله، لأجعلنّ محمدا لا يتزوّج فى هذا الحىّ من الأنصار، والله لآتيّنه، ولأهبنّ نفسى له، فأتت النبى صلّى الله عليه وسلّم وهو قائم مع رجل من أصحابه، فما راعه إلا بها واضعة يديها عليه، فقال: «من هذا؟ أكله الأسد» فقالت: أنا ليلى بنت سيّد قومها، قد وهبت نفسى لك، قال: «قد قبلتك؛ ارجعى حتى يأتيك أمرى» فأتت قومها فقالوا: أنت امرأة ليس لك صبر على الضّرائر، وقد أحل الله لرسوله أن ينكح ما شاء، فرجعت فقالت: إنّ الله أحل لك النّساء، وأنا امرأة طويلة اللسان لا صبر لى على الضّرائر، واستقالته فقال: «قد أقلتك» . وروى عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: أقبلت ليلى بنت الخطيم إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم، وهو مولّ ظهره إلى الشمس، فضربت على منكبيه، فقال: «من هذا؟ أكله الأسد» وكان كثيرا ما يقولها، فقالت: أنا بنت مطعم الطّير ومبارى الريح، أنا ليلى بنت الخطيم، جئتك لأعرض عليك نفسى، تزوّجنى، قال: «قد فعلت» فرجعت إلى قومها، فقالت: قد تزوّجنى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: بئس ما صنعت، أنت امرأة غيرى، والنبىّ صلّى الله عليه وسلّم صاحب نساء، تغارين عليه فيدعو الله عليك، فاستقيليه نفسك، فرجعت فقالت: يا رسول الله، أقلنى، قال: «قد أقلتك» قال: فتزوّجها مسعود بن أوس بن سواد بن ظفر، فولدت له، فبينا هى فى حائط من حيطان المدينة تغتسل، إذ وثب عليها ذئب فأكل بعضها، وأدركت فماتت. ومنهنّ: الجزء: 18 ¦ الصفحة: 200 ليلى بنت حكيم الأنصارية الأوسية، التى وهبت نفسها للنبىّ صلّى الله عليه وسلّم، قال أبو عمر بن عبد البر: ذكرها أحمد بن صالح المصرى فى أزواج النبى صلّى الله عليه وسلّم؛ ولم يذكرها «1» غيره فيما علمت. والله تعالى أعلم. ومنهنّ: أمّ شريك واسمها غزيّة بنت دودان بن عوف بن عمرو بن عامر بن رواحة بن منقذ بن عمير بن معيص ابن عامر بن لؤىّ. وقال أبو عمر: غزيلة «2» الأنصارية من بنى النجّار. قال الشيخ أبو محمد عبد المؤمن رحمه الله: اختلف فيها، فكان محمد بن عمر يقول: هى من بنى معيص بن عامر بن لؤىّ، وكان غيره يقول: هى دوسيّة من الأزد، وقيل: هى أنصارية. وروى ابن سعد، عن محمد بن عمر، عن موسى بن محمد ابن إبراهيم التيمى، عن أبيه قال: كانت أمّ شريك امرأة من بنى عامر بن لؤىّ، معيصية وهبت نفسها لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلم يقبلها، فلم تتزوّج حتى ماتت. وروى عن وكيع عن زكريّا عن عامر فى قوله عز وجل: «ترجى من تشاء منهنّ «3» » ؛ قال: كل نساء وهبن أنفسهن للنبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فدخل ببعضهنّ وأرجأ بعضا فلم ينكحن بعده، منهنّ: أمّ شريك. وعن الشّعبى قال: المرأة التى عزل «4» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمّ شريك الأنصارية. وعن على بن الحسين: الجزء: 18 ¦ الصفحة: 201 أن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم تزوّج أمّ شريك الدّوسية، ومثله عن عكرمة. وروى محمد بن سعد عن محمد بن عمر قال: حدّثنى الوليد بن مسلم، عن منير بن عبد الله الدّوسىّ قال: أسلم زوج «1» أمّ شريك- وهى غزيّة بنت جابر بن حكيم الدّوسية من الأزد- وهو أبو بكر، فهاجر إلى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم مع أبى هربرة، ومع دوس حين هاجروا، قالت أمّ شريك: فجاءنى أهل أبى العكر فقالوا: لعلك على دينه، قلت: إى والله، إنى لعلى دينه، قالوا: لا جرم، والله لنعذبك عذابا شديدا، فارتحلوا بنا من دارنا، ونحن كنا بذى الخلصة، فساروا يريدون منزلا، وحملونى على جمل ثفال «2» ، شرّ ركابهم وأغلظه، يطعمونى «3» الخبر بالعسل، ولا يسقونى قطرة من ماء، حتى إذا انتصف النهار وسخنت الشمس، ونحن قائظون «4» ، فنزلوا فضربوا أخيبتهم وتركونى فى الشمس حتى ذهب عقلى وسمعى وبصرى، ففعلوا بى ذلك ثلاثة أيام، فقالوا لى فى اليوم الثالث: اتركى ما أنت عليه، قالت: فما دريت ما يقولون إلا الكلمة بعد الكلمة، فأشير بإصبعى إلى السماء بالتوحيد، قالت: فو الله إنى لعلى ذلك، وقد بلغنى الجهد، إذ وجدت برد دلو على صدرى، فأخذته فشربت منه نفسا «5» واحدا، ثم انتزع منّى، فذهبت أنظر فإذا هو معلّق بين السماء والأرض، فلم الجزء: 18 ¦ الصفحة: 202 أقدر عليه، ثم دلّى الثانية فشربت منه نفسا، ثم رفع، فذهبت أنظر، فإذا هو بين السماء والأرض، ثم دلّى الثالثة فشربت منه حتى رويت، فأهرقت على رأسى ووجهى وثيابى، قالت: فخرجوا فنظروا، فقالوا: من أين لك هذا يا عدوّة الله؟ قالت فقلت لهم: إنّ عدوّ الله غيرى؛ من خالف دينه، فأما قولكم من أين هذا فمن عند الله رزقا رزقنيه الله، قالت: فانطلقوا سراعا إلى قربهم فوجدوها موكأة لم تحلّ، فقالوا: نشهد أن ربك هو ربنا، فإن الذى رزقك ما رزقك فى هذا الموضع بعد أن فعلنا بك ما فعلنا، هو الذى شرع الإسلام، فأسلموا وهاجروا جميعا إلى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، وكانوا يعرفون فضلى عليهم، وما صنع الله إلىّ، قال: وهى التى وهبت نفسها للنبىّ صلّى الله عليه وسلّم، وكانت جميلة وقد أسنّت، فقالت: إنى وهبت نفسى لك، وأتصدّق بها عليك، فقبلها النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فقالت عائشة: ما فى امرأة حين تهب نفسها لرجل خير، قالت أمّ شريك: فأنا تلك؛ فسماها الله مؤمنة، فقال تعالى: «وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ «1» » . فلما نزلت هذه الآية قالت عائشة: إنّ الله ليسرع لك فى هواك «2» يا رسول الله. ومنهنّ: الشّنباء ذكرها الشيخ أبو محمد عبد المؤمن بن خلف الدّمياطى رحمه الله، فى أزواج النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، ولم يذكر لها ترجمة. فلنذكر من خطبهنّ صلّى الله عليه وسلّم. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 203 ذكر من خطبهنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من النساء ولم يتّفق تزويجهنّ. منهنّ: أمّ هانىء بنت أبى طالب ابن عبد المطلب بن هاشم، واسمها فاختة، وقال ابن الكلبى: اسمها هند، وهى أخت على بن أبى طالب، وعقيل وجعفر وطالب، شقيقتهم، وأمهم فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف. روى عن عبد الله بن عباس رضى الله عنه، قال: خطب النبى صلّى الله عليه وسلّم إلى أبى طالب ابنته أمّ هانئ فى الجاهلية، وخطبها هبيرة بن أبى وهب «1» بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، فزوجها هبيرة، فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: «يا عمّ، زوّجت هبيرة وتركتنى» ! فقال: يابن أخى إنا قد صاهرنا إليهم، والكريم يكافئ الكريم. ثم أسلمت ففرّق الإسلام بينها وبين هبيرة، فخطبها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى نفسها فقالت: والله إن كنت لأحبك فى الجاهلية، فكيف فى الإسلام، ولكنى امرأة مصبية وأكره أن يؤذوك. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خير نساء ركبن المطايا نساء قريش، أحناه «2» على ولد فى صغره، وأرعاه على زوج فى ذات يده» . ومنهنّ: ضباعة بنت عامر بن قرا ابن سلمة بن قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. روى هشام بن محمد الكلبى، عن أبيه عن أبى صالح عن ابن عباس قال: كانت ضباعة بنت عامر عند هوذة بن على الحنفى، فهلك عنها فورّثها مالا كثيرا، الجزء: 18 ¦ الصفحة: 204 فتزوجها عبد الله بن جدعان التّيمىّ، وكان لا يولد له فسألته الطلاق فطلقها، فتزوجها هشام بن المغيرة فولدت له سلمة، وكان من خيار المسلمين، فتوفى عنها هشام، وكانت إذا جلست أخذت من الأرض شيئا كثيرا، وكانت تغطى جسدها بشعرها، فذكر جمالها عند النبى صلّى الله عليه وسلّم، فخطبها إلى ابنها سلمة بن هشام ابن المغيرة، فقال: حتى أستأمرها، وقيل للنبى صلّى الله عليه وسلّم: إنها قد كبرت فأتاها ابنها فقالت: ما قلت له؟ قال: قلت حتى أستأمرها، فقالت: وفى النبى صلّى الله عليه وسلّم يستأمر! ارجع فزوّجه، فرجع إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم فسكت عنه. ومنهنّ: صفيّة بنت بشامة «1» بن نضلة العنبرىّ قال أبو محمد: كان أصابها سباء، فخيّرها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «إن شئت أنا، وإن شئت زوجك» فقالت: بل زوجى، فأرسلها فلعنتها بنو تميم. ومنهنّ: جمرة بنت الحارث بن عوف المزنى ّ خطبها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال أبوها: إن بها سوءا ولم يكن بها، فرجع إليها أبوها وقد برصت، وهى أمّ شبيب بن البرصاء الشاعر. ومنهنّ: سودة القرشيّة خطبها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكانت مصبية فقالت: أكره أن تصغو «2» صبيتى عند رأسك، فحمدها ودعا لها، ذكرها والتى قبلها ابن الجوزىّ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 205 فى التّلقيح. وروى عن مجاهد قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا خطب فردّ لم يعد، فخطب امرأة، فقالت: حتى أستأمر أبى، فلقيت أباها فأذن لها، فلقيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت له، فقال: «قد التحفنا لحافا غيرك» ولم يسم مجاهد اسم هذه المرأة. وعرض على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أمامة بنت عمّة حمزة ابن عبد المطلب، وقيل: اسمها عمارة، فأتاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال: «تلك ابنة أخى من الرضاعة» . وعرضت عليه أمّ حبيبة أختها. فجميع من ذكر من أزواج النبى صلّى الله عليه وسلّم المدخول بهنّ، وغير المدخول بهنّ، ومن وهبت نفسها له، أو خطبها ولم يتفق تزويجها، أو عرضت عليه فأباها، نحو أربعين امرأة على ما ذكرناه من الاختلاف، ومن أهل العلم من ينكر بعضهنّ، ويقول: إنما تزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أربع عشرة امرأة، ست منهنّ قرشيات لا شك فيهنّ، وهنّ: خديجة، وعائشة، وسودة، وأم سلمة، وأم حبيبة، وحفصة. ومن العرب: زينب بنت جحش، وميمونة بنت الحارث، وجويرية بنت الحارث، وأسماء بنت النّعمان، وفاطمة بنت الضّحّاك، وزينب بنت خزيمة. ومن غيرهم: ريحانة بنت زيد من بنى النّضير، وصفيّة بنت حيىّ بن أخطب. وعن محمد بن يحيى بن حبّان قال: تزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خمس عشرة امرأة، فسمى هؤلاء، وزاد مليكة بنت كعب اللّيثية. وقال أبو عبيدة: تزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثمانى عشرة امرأة. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 206 وقال محمد بن عمر الواقدىّ: المجمع عليه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تزوج أربع عشرة امرأة، وهنّ اللائى سمّين، وفارق منهن الجونيّة والكلابية، ومات عنده خديجة، وزينب بنت خزيمة، وريحانة بنت زيد، وقبض عن تسع، وهنّ المذكورات اللاتى قدمنا ذكرهنّ. وقال أبو سعيد فى شرف النبوّة: إن جملة أزواج النبى صلّى الله عليه وسلّم إحدى وعشرين امرأة، طلّق منهنّ ستّا، ومات عنده خمس، وتوفّى عن عشر؛ واحدة لم يدخل بها، وكان صداقه لنسائه لكل واحدة خمسمائة درهم، إلا صفيّة فإنه جعل عتقها صداقها، وأمّ حبيبة أصدقها عنه النجاشىّ. ذكر سرارى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهنّ: مارية بنت شمعون القبطية وهى أم ولده إبراهيم، وكانت من جفن «1» من كورة أنصنا من صعيد مصر، أهداها له المقوقس جريح بن مينا، ولما ولدت مارية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ابنه إبراهيم قال: «أعتقها ولدها» . وتوفيت مارية فى المحرم سنة ست عشرة، فى خلافة عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وكان عمر يحشر الناس بنفسه لشهود جنازتها، وصلّى عليها عمر، ودفنت بالبقيع. وريحانة بنت زيد النّضرية، وقد تقدّم خبرها فى الزوجات. وقال أبو عبيدة: كان له أربع؛ وهنّ مارية وريحانة، وأخرى جميلة أصابها فى السّبى، وجارية وهبتها له زينب بنت جحش. وقال قتادة: كان للنبى صلّى الله عليه وسلّم وليدتان مارية وريحانة، وبعضهم يقول: ربيحة «2» القرظية. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 207 ذكر أولاد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم روى عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما قال: كان أول من ولد لرسول الله صلّى الله عليه وسلم بمكة قبل النبوّة القاسم وبه كان يكنى، ثم ولدت له زينب، ثم رقيّة، ثم فاطمة، ثم أمّ كلثوم، ثم ولد له فى الإسلام «1» عبد الله فسمى الطّيّب والطّاهر، وأمهم كلهم خديجة رضى الله عنها. وكان أول من مات من ولده القاسم، ثم عبد الله ماتا بمكة، فقال العاصى بن وائل السّهمىّ: قد انقطع ولده فهو أبتر؛ فأنزل الله تعالى: «إنّ شانئك «2» هو الأبتر» وقيل: الطّيّب والطّاهر اثنان سوى عبد الله. وقيل: كان له الطّاهر والمطهّر ولدا فى بطن. وقيل: كان له الطّيّب والمطيّب ولدا أيضا فى بطن. وقيل: إنهم كلهم ماتوا قبل النبوّة، وكان بين كل ولدين لها سنة، وكانت تسترضع لهم. وأمّا البنات فكلهن أدركن الإسلام، وأسلمن وهاجرن، وسنذكر إن شاء الله تعالى أخبارهنّ ومن تزوجهنّ، وما ولدن على ما تقف عليه، وهؤلاء كلهم أولاد خديجة ولدوا بمكة، ثم ولدت له مارية القبطية: إبراهيم بن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولد فى ذى الحجة، سنة ثمان من الهجرة؛ قال أبو عمر بن عبد البر: ذكر الزّبير عن أشياخه، أن أمّ إبراهيم مارية ولدته بالعالية، فى المال «3» الذى يقال له اليوم (مشربة «4» إبراهيم) بالقفّ «5» ، وكانت قابلتها «6» سلمى مولاة النبى صلّى الله عليه وسلّم، الجزء: 18 ¦ الصفحة: 208 امرأة أبى رافع، فبشّر به أبو رافع النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فوهب له عبدا، فلما كان يوم سابعه عقّ «1» عنه بكبش وحلق رأسه؛ حلقه أبو هند، وسماه يومئذ، وتصدق بوزن شعره ورقا على المساكين، وأخذوا شعره فدفنوه فى الأرض. وعن أنس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ولد لى الليلة غلام فسميته باسم أبى إبراهيم» هذا يدل على أنه سمّاه فى وقت ولادته، قال الزبير: ثم دفعه إلى أمّ سيف امرأة قين «2» بالمدينة، يقال له: أبو سيف، قال الزبير: وتنافست الأنصار فيمن يرضعه، فجاءت أمّ بردة بنت المنذر بن زيد الأنصارىّ، زوجة البراء بن أوس، فكلمت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى أن ترضعه، فكانت ترضعه بلبن ابنها فى بنى مازن بن النجار، وترجع به إلى أمّه، وأعطى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمّ بردة قطعة من نخل، فناقلت «3» بها إلى مال عبد الله بن زمعة. وتوفى إبراهيم فى شهر ربيع الأول سنة عشر، وقد بلغ ستة عشر شهرا؛ مات فى بنى مازن عند ظئره «4» أمّ بردة، وهى خولة بنت المنذر بن لبيد، وغسّلته ودفن بالبقيع. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو عاش لوضعت «5» الجزية عن كل قبطىّ» . وقال أيضا: «لو عاش إبراهيم ما رقّ «6» له خال» . وفى حديث أنس بن مالك تصريح أن إبراهيم إنما مات عند ظئره أمّ سيف؛ فإنه يقول: فانطلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وانطلقت معه، فصادفنا أبا سيف ينفخ فى كيره، وقد امتلأ البيت دخانا، فأسرعت فى المشى بين يدى رسول الله الجزء: 18 ¦ الصفحة: 209 صلى الله عليه وسلّم، حتى أنتهيت إلى أبى سيف فقلت: يا أبا سيف، أمسك، جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأمسك، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالصّبى فضمه إليه وقال ما شاء الله أن يقول، قال: فلقد رأيته يكيد «1» بنفسه، فدمعت عينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: «تدمع العين ويحزن القلب ولا تقول إلا ما يرضى الربّ، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون» وقال أبو عمر بن عبد البر: ثبت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بكى على ابنه إبراهيم من غير رفع صوت، وقال: «تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضى الربّ، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون» . وعن عطاء، عن جابر قال: أخذ النبى صلّى الله عليه وسلّم بيد عبد الرحمن بن عوف، فأتى به النخل «2» ، فإذا ابنه إبراهيم فى حجر أمّه وهو يجود بنفسه، فأخذه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوضعه فى حجره، ثم قال: «يا إبراهيم إنا لا نغنى عنك من الله شيئا» ؛ ثم ذرفت «3» عيناه، ثم قال: «يا إبراهيم لولا أنه أمر حقّ ووعد صدق، وأن آخرنا سيلحق أوّلنا لحزنا عليك حزنا هو أشد من هذا، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون، تبكى العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الربّ» . قالوا: ووافق موت إبراهيم كسوف الشمس، فقال قوم: إن الشمس انكسفت لموته، فخطبهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته؛ فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله وإلى الصلاة» . وقال صلّى الله عليه وسلّم حين توفّى إبراهيم: «إن له مرضعا فى الجنة تتم رضاعه» . وصلّى عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكبّر أربعا، قال ابن عبد البر: هذا قول جمهور العلماء، الجزء: 18 ¦ الصفحة: 210 وهو الصحيح، قال: وقد قيل إن الفضل بن عباس غسّل إبراهيم، ونزل فى قبره مع أسامة بن زيد، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالس على شفير القبر، قال الزبير: ورشّ قبره، وأعلم فيه بعلامة، وهو أول قبر رشّ عليه «1» . فلنذكر بنات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومن تزوجهنّ، وما ولدن ووفاتهنّ، وهنّ أربع: زينب بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هى أسنّ بناته رضى الله عنهنّ. قال أبو عمر بن عبد البر: ولدت زينب بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى سنة ثلاثين من مولد النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، حكاه عن محمد بن إسحق السّرّاج عن عبيد الله بن محمد بن سليمان الهاشمى، وتزوج زينب أبو العاص بن ربيع بن عبد العزّى بن عبد شمس، وهو ابن خالتها- أمه هالة بنت خويلد- قبل أن ينزّل «2» على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وفرّق بينهما الإسلام. وقد ذكرنا من خبر ابن العاص وأسره فى غزوة بدر وإطلاقه، وسقنا ذلك كله هناك، وخبر إسلامه، وأنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ردّ زينب عليه بغير مهر جديد، ولا نكاح جديد. وقيل: بل بمهر جديد ونكاح جديد- والله تعالى أعلم- وولدت له عليّا مات صغيرا، وأمامة وهى التى حملها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى الصلاة، وعاشت أمامة حتى تزوجها على بن أبى طالب بعد موت فاطمة، فكانت عنده حتى أصيب، فخلف عليها المغيرة بن يزيد بن الحارث بن عبد المطلب، فتوفيت عنده، وماتت زينب فى سنة ثمان من الهجرة. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 211 قال أبو عمر: وكان سبب موتها أنها لما خرجت من مكة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، عمد لها هبّار بن الأسود ورجل آخر فدفعها أحدهما فيما ذكروا، فسقطت على صخرة فأسقطت واهراقت الدماء، فلم يزل بها مرضها ذلك حتى ماتت رضى الله عنها. ورقيّة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال أبو عمر بن عبد البر: ذكر أبو العباس محمد بن إسحق السّراج، قال سمعت عبيد الله بن محمد بن سليمان بن جعفر بن سليمان الهاشمى يقول: ولدت رقية بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم ابن ثلاث وثلاثين سنة، وكانت رقية عند عتبة بن أبى لهب، وأختها أمّ كلثوم عند عتيبة بن أبى لهب، فلما أنزل الله تعالى: «تبّت يدا أبى لهب» - السورة- قال لهما أبوهما أبو لهب وأمهما أمّ جميل بنت حرب بن أمية، حمّالة الحب: فارقا ابنتى محمد، وقال أبو لهب: رأسى من رأسيكما حرام إن لم تفارقا ابنتى محمد، ففارقاهما، فتزوّج عثمان بن عفّان رقية بمكة، وهاجرت معه إلى أرض الحبشة، وولدت له هناك ابنا فسماه عبد الله وبه كان يكنى، فبلغ الغلام ستّ سنين، فنقر عينه ديك وتورّم وجهه فمرض ومات. وماتت رقية رضى الله عنها فى شهر رمضان، على رأس تسعة عشر شهرا من مهاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى غزوة بدر، ودفنت عند وصول زيد بن حارثة بالبشارة بوقعة بدر، وكانت قد أصابتها الحصبة، وتخلّف عثمان بن عفّان رضى الله عنه عن غزوة بدر بسبب مرضها، بأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 212 وفاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال أبو عمر بن عبد البر: كانت فاطمة هى وأختها أمّ كلثوم أصغر بنات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، واختلف فى الصّغرى منهما. وقال ابن السّراج: سمعت عبيد الله الهاشمى يقول: ولدت فاطمة رضى الله عنها فى سنة إحدى وأربعين من مولد النبى صلّى الله عليه وسلّم، وزوّجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه بعد وقعة أحد. وقيل: إنه تزوجها بعد أن ابتنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعائشة رضى الله عنها، بأربعة أشهر ونصف، وبنى بها بعد تزويجه إباها بتسعة أشهر ونصف، وكانت سنّها يوم تزوجها خمس عشرة سنة وخمسة أشهر ونصف. قال أبو عمر: واختلف فى مهره إياها، فروى أنه مهرها درعه، وأنه لم يكن له ذلك الوقت صفراء ولا بيضاء، وقيل: تزوجها على أربعمائة وثمانين درهما فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يجعل ثلثها فى الطّيب، قال: وزعم أصحابنا أن الدّرع قدّمها علىّ من أجل الدخول، بأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إياه بذلك، فولدت رضى الله عنها له حسنا وحسينا ومحسنا فذهب محسن صغيرا. وروى أبو عمر بن عبد البر بسنده إلى علىّ رضى الله عنه قال: لما ولد الحسن جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أرونى ابنى ما سميتموه» ؟ قلت: سميته حربا، قال: «بل هو حسن» فلما ولد الحسين قال: «أرونى ابنى ما سميتموه» ؟ قلت: سميته حربا، قال: «بل هو حسين» فلما ولد الثالث جاء النبى صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أرونى ابنى ما سميتموه» ؟ قلت سميته حربا، قال: «بل محسن» ، ثم قال: «إنى سميتهم بأسماء ولد هارون شبّر وشبير ومشبّر «1» » . وولدت له رقيّة وزينب الجزء: 18 ¦ الصفحة: 213 وأمّ كلثوم، فهلكت رقيّة، ولم تبلغ، وتزوج زينب عبد الله بن جعفر فماتت عنده، وولدت له على بن عبد الله بن جعفر، وتزوج أمّ كلثوم عمر بن الخطاب فولدت له زيد بن عمر، ثم خلف عليها بعده عون بن جعفر فلم تلد له حتى مات، وخلف عليها بعده محمد بن جعفر فولدت له حارثة ومات عنها. فخلف عليها عبد الله ابن جعفر فلم تلد له شيئا وماتت عنده، وقيل: بل توفّى عنها، وماتت فاطمة رضى الله عنها بعد وفاة أبيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بثلاثة أشهر، وقيل: بستة أشهر، وقيل: بثمانية. وأمّ كلثوم بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد ذكرنا الاختلاف فى أيهما أصغر سنّا هى أو فاطمة، وكانت عند عتيبة بن أبى لهب، فلما قال له أبواه ولأخيه ما قالا طلقّا بنتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يبنيا بهما، وجاء عتيبة حين فارق أمّ كلثوم إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم وقال: كفرت بدينك وفارقت ابنتك وسطا عليه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أما إنى أسأل الله أن يسلط عليك كلبا من كلابه» وكان خارجا إلى الشام تاجرا مع نفر من قريش، حتى نزلوا مكانا من الشام يقال له الزّرقاء ليلا، فأطاف «1» بهم الأسد تلك الليلة، فجعل عتيبة يقول: يا ويل أمّه «2» ، هو والله آكله بدعوة محمد، قاتلى «3» ابن أبى كبشة وهو بمكة وأنا بالشام. وقال أبو لهب: يا معشر قريش، أعينونا هذه الليلة، فإنى أخاف دعوة محمد، فجمعوا أحمالهم وفرشوا لعتيبة فى أعلاها وناموا حوله، فقيل: إن الأسد انصرف عنهم حتى ناموا وعتيبة الجزء: 18 ¦ الصفحة: 214 فى وسطهم، ثم أقبل يتخطّاهم ويتشمّمهم حتى أخذ برأس عتيبة ففدغه «1» . قال أبو عمر: ولما ماتت رقية تزوج عثمان بن عفّان بأمّ كلثوم فى شهر ربيع الأول من السنة الثالثة من الهجرة، وبنى عليها فى جمادى الآخرة من السنة، وتوفيت أمّ كلثوم رضى الله عنها فى السنة التاسعة من الهجرة، ولم تلد لعثمان شيئا، وكانت وفاتها فى شعبان، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعثمان: «لو كانت عندنا ثالثة زوّجنا كها يا عثمان» وصلّى عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونزل فى حفرتها على بن أبى طالب، والفضل بن العباس وأسامة بن زيد. وقد روى أن أبا طلحة الأنصارى استأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن ينزل معهم فى قبرها فأذن له. وغسّلتها أسماء بنت عميس وصفيّة بنت عبد المطلب، وهى التى شهدت أمّ عطيّة غسلها، وحكت قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اغسلنها وترا ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك» الحديث «2» . قال: وجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على قبر أم كلثوم. ذكر أعمام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم من العمومة أحد عشر، أولاد عبد المطلب ابن هاشم، وهم: الحارث - وبه كان يكنى؛ لأنه أكبر ولده، ومن ولد الحارث وولد ولده جماعة لهم صحبة من النبى صلّى الله عليه وسلّم، منهم أبو سفيان بن الحارث، الجزء: 18 ¦ الصفحة: 215 أسلم عام الفتح كما ذكرنا فى غزوة الفتح وشهد حنينا، ونوفل بن الحارث هاجر وأسلم أيام الخندق، وعبد شمس وسماه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبد الله. وقثم بن عبد المطلب - وهو أخو الحارث لأبويه؛ مات صغيرا. الثالث- الزبير بن عبد المطلب ، وكان من أشراف قريش. وابنه عبد الله ابن الزبير شهد حنينا وثبت يومئذ واستشهد بأجنادين «1» ، وضباعة بنت الزبير، لها صحبة، وأمّ الحكم بنت الزبير، روت عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم. الرابع حمزة بن عبد المطلب كان يقال له: أسد الله وأسد رسوله، ويكنى أبا عمارة وأبا يعلى «2» . وهو أخو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الرّضاع «3» . وقد قدّمنا فى أنباء هذه السيرة خبر إسلامه ومقتله فى غزوة أحد. ولم يكن له إلا ابنة واحدة. وقيل: ابنتان. وقد ذكرنا هما فيمن عرض على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من النساء فأباهنّ. والخامس العبّاس بن عبد المطّلب كان يكنى أبا الفضل بابنه الفضل بن العبّاس، وكان العباس أسنّ من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بسنتين، وقيل: بثلاث سنين، وأمّه نتلة، ويقال: نتيلة بنة جناب بن كليب بن مالك بن عمرو بن عامر بن زيد مناة بن عامر وهو الجزء: 18 ¦ الصفحة: 216 الضّحيان بن سعد بن الخزرج بن تيم الله بن النّمر بن قاسط. وهى أوّل عربية «1» كست البيت الحرام الحرير والدّيباج وأصناف الكسوة. وذلك أن العباس ضلّ وهو صبىّ، فنذرت إن وجدته أن تكسو البيت الحرام، فوجدته ففعلت. وقد تقدّم من خبر العباس فى غزوة بدر عند أسره، وقوله لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنّى كنت مسلما، وإن القوم استكرهونى على الخروج. وقال أبو عمر بن عبد البر: أسلم العباس قبل خيبر وكان يكتم إسلامه. قال: ويقال إنه أسلم قبل بدر، وكان يكتب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأخبار المشركين، وكان يحبّ أن يقدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكتب إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن مقامك بمكة خير» فلذلك قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم بدر: «من لقى منكم العباس فلا يقتله فإنه أخرج كرها» . وكان العباس أنصر الناس لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد أبى طالب، وولى السّقاية بعد أبى طالب وقام بها، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكرم العباس بعد إسلامه ويعظّمه ويجلّه، ويقول: «هذا عمى وصنو أبى» . وكان العباس جواد مطعما، وصولا للرّحم، ذا رأى حسن، ودعوة مرجوّة. وروى أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه استسقى بالعباس فى سنة سبع عشرة وذلك عام الرّمادة «2» ، وكانت الأرض أجدبت إجدابا شديدا. فقال كعب لعمر: يا أمير المؤمنين، إن بنى إسرائيل كانوا إذا أصابهم مثل هذا استسقوا بعصبة الجزء: 18 ¦ الصفحة: 217 الأنبياء. فقال عمر رضى الله عنه: هذا عمّ النبى صلّى الله عليه وسلّم وصنو أبيه، وسيّد بنى هاشم. فمشى إليه عمر فشكا إليه ما فيه الناس. ثم قال: اللهم إنا قد توجّهنا إليك بعمّ نبينا وصنو أبيه، فاسقنا الغيث، ولا تجعلنا من القانطين. ثم قال: يا أبا الفضل قم فادع. فقام العباس فقال بعد حمد الله والثناء عليه: اللهم إن عندك سحابا وعندك ماء، فانشر السحاب، ثم أنزل الماء منه علينا، فاشدد [به «1» ] الأصل، وأطل به الفرع، اللهم إنك لم تنزل بلاء إلا بذنب، ولم تكشفه إلا بتوبة، وقد توجّه القوم بى إليك فاسقنا الغيث، اللهم شفّعنا فى أنفسنا وأهلينا، اللهم إنا شفعاء عمن لا ينطق من بهائمنا وأنعامنا، اللهم اسقنا سقيا وادعا، نافعا طبقا سحّا «2» عامّا. اللهم لا نرجو إلا إيّاك، ولا ندعو غيرك، ولا نرغب إلا إليك. اللهم إليك نشكو جوع كل جائع، وعرى كل عار، وخوف كل خائف، وضعف كل ضعيف. فى دعاء كثير. قال ابن عبد البر: وهذه الألفاظ كلها لم تجىء فى حديث واحد، ولكن جاءت فى أحاديث جمعتها واختصرتها ولم أخالف شيئا منها، وفى بعضها: فسقوا والحمد لله. وفى بعضها قال: فأرخت السماء عزاليها «3» فجاءت بأمثال الجبال، حتى استوت الجفر «4» بالآكام، وأخصبت الأرض، وعاش الناس. فقال عمر: هذا والله الوسيلة إلى الله والمكان منه. وقال حسّان بن ثابت فى ذلك: الجزء: 18 ¦ الصفحة: 218 سأل الإمام وقد تتابع جدبنا ... فسقى الغمام بغرّة العبّاس عمّ النبى وصنو والده الذى ... ورث النّبىّ بذاك دون النّاس أحيا الإله به البلاد فأصبحت ... مخضرّة الأجناب بعد الياس وقال الفضل بن عباس بن عتبة بن أبى لهب: بعمّى سقى الله الحجاز وأهله ... عشيّة يستسقى بشيبته عمر توجّه بالعباس فى الجدب راغبا ... فما كرّ حتّى جاء بالدّيمة المطر وتوفى العباس- رضى الله عنه- بالمدينة يوم الجمعة لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر رجب. وقيل: من شهر رمضان سنة اثنتين وثلاثين فى خلافة عثمان بن عفّان وصلّى عليه عثمان، ودفن بالبقيع وهو ابن ثمان وثمانين سنة. وقيل: تسع وثمانين سنة. وقال خليفة بن خيّاط: كانت وفاة العباس سنة ثلاث وثلاثين، ودخل قبره ابنه عبد الله. وكان للعباس من الولد: الفضل وهو أكبر أولاده وبه كنّى، وعبد الله، وعبيد الله، وقثم. ولهم صحبة. وعبد الرحمن ومعبد ولدا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استشهدا بإفريقيّة فى خلافة عثمان بن عفّان، وأمّ حبيب، كلهم من أمّ الفضل لبابة بنت الحارث بن حزن الهلالية، وهى أخت ميمونة زوج النبى صلّى الله عليه وسلّم، يقال: إنها أول امرأة أسلمت بعد خديجة، وكانت من المنجبات، وفيها يقول عبد الله بن يزيد الهلالى: ما ولدت نجيبة من فحل ... بجبل نعلمه وسهل كستّة من بطن أمّ الفضل ... أكرم بها من كهلة وكهل عمّ النبى المصطفى ذى الفضل ... وخاتم الرّسل وخير الرّسل الجزء: 18 ¦ الصفحة: 219 وكان له من غير أمّ الفضل أربعة ذكور، وهم: عون «1» ، والحارث أمّه من هذيل. وكثير وتمّام أمهما أمّ ولد «2» ، وكان أصغر أولاد العباس فكان العباس يحمله ويقول: تمّوا بتمّام فصاروا عشرة ... يا ربّ فاجعلهم كراما برره واجعل لهم ذكرا وأنم الثّمرة ويقال: ما رؤيت قبور أشد تباعدا بعضها من بعض من قبور بنى العباس، ولدتهم أمهم أمّ الفضل فى دار واحدة، استشهد الفضل بأجنادين، ومات معبد وعبد الرحمن بإفريقية، وتوفّى عبد الله بالطائف، وعبيد الله باليمن، وقثم بسمرقند وكثير بينبع. وتوفّى العباس بعد أن كفّ بصره. ولم يسلم من أعمام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا حمزة والعباس رضى الله عنهما. والسادس من عمومته صلّى الله عليه وسلّم- أبو طالب واسمه عبد مناف وهو أخو عبد الله أبى النبى صلّى الله عليه وسلّم لأبويه. وعاتكة صاحبة الرّؤيا فى شأن بدر، أمهم فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم. وقد تقدّم من أخباره ونصرته لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما نستغنى عن إعادته فى هذا الموضع. وكان له من الولد طالب مات كافرا، وعقيل وجعفر وعلىّ وأمّ هانىء لهم صحبة، وجمانة. وحكى أبو عمر بن عبد البر: كان علىّ بن أبى طالب أصغر من أخيه جعفر بعشر سنين، وكان جعفر أصغر من عقيل بعشر سنين، وكان عقيل أصغر من طالب بعشر سنين. والسابع من عمومة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- أبو لهب. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 220 واسمه عبد العزى كنّاه أبوه بذلك لحسن وجهه، ومن أولاده عتبة، ومعتّب ثبتا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم حنين، وعتيبة قتله الأسد بالزّرقاء كما تقدّم «1» . الثامن- عبد الكعبة ، وقيل: هو المقوّم «2» ، ومنهم من جعل المقوّم غير عبد الكعبة فجعل عمومته اثنى عشر. والتاسع- حجل «3» واسمه المغيرة. والعاشر- ضرار وهو أخو العباس لأبويه. والحادى عشر- الغيداق «4» سمى بذلك لأنه كان أكرم قريش، وأكثرهم إطعاما. ومنهم من جعل الغيداق حجلا وعدّهم عشرة. حكاه ابن عبد البر. وقد عدّ الزبير ابن بكّار أولاد عبد المطلب ثلاثة عشر، وعدّ المقوّم غير عبد الكعبة، وجعله شقيق حمزة وحجل وصفيّة. والله أعلم بالصواب. ذكر عمّات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان له من العمات صلّى الله عليه وسلّم ستّ: الأولى- صفيّة بنت عبد المطلب ، وأمّها هالة بنت وهيب بن عبد مناف بن زهرة، وهى شقيقة حمزة والمقوّم وحجل، كانت صفية فى الجاهلية تحت الحارث بن حرب بن أمية بن عبد شمس، ثم هلك عنها وتزوّجها العوّام بن خويلد بن أسد فولدت له الزّبير والسّائب وعبد الكعبة. وتوفيت فى خلافة عمر بن الخطاب سنة عشرين من الهجرة ولها ثلاث وسبعون سنة. ودفنت بالبقيع بفناء دار المغيرة بن شعبة، ولها هجرة. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 221 وعاتكة بنت عبد المطّلب اختلف فى إسلامها، وهى صاحبة الرؤيا «1» ، وكانت عند أبى أمية بن المغيرة ابن عبد الله المخزومى، فولدت له عبد الله أسلم وله صحبة «2» ، وزهيرا، وقريبة الكبرى. وأروى بنت عبد المطلب وقد اختلف أيضا فى إسلامها، وكانت عند عمير بن وهب بن عبد الدّار ابن قصىّ، فولدت له طليب بن عمير، وكان من المهاجرين الأوّلين، شهد بدرا وقتل بأجنادين شهيدا. وأميمة بنت عبد المطلب كانت عند جحش بن رياب، ولدت له عبد الله بن جحش قتل بأحد شهيدا، وأبا أحمد الأعمى الشاعر واسمه عبد «3» ، وزينب زوج النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، وأمّ حبيبة «4» وحمنة، كلهم له صحبة، وعبيد الله بن جحش، أسلم ثمّ تنصّر ومات بالحبشة كافرا. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 222 وبرّة بنت عبد المطلب وكانت عند عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، فولدت له أبا سلمة واسمه عبد الله، وكان زوج أمّ سلمة قبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وأمّ حكيم البيضاء بنت عبد المطلب وكانت عند كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف، فولدت له أروى بنت كريز، وهى أمّ عثمان بن عفان. هؤلاء أعمامه صلّى الله عليه وسلّم وعمّاته؛ أسلم منهم حمزة والعباس وصفية بلا اختلاف، واختلف فى عاتكة وأروى، وبقيتهم ماتوا على شركهم. قال أبو عمر ابن عبد البر: كان عبد الله أبو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو طالب والزّبير وعبد الكعبة وأمّ حكيم وأميمة وأروى وعاتكة، أمهم كلهم فاطمة بنت عمرو ابن عائذ بن عمران بن مخزوم، وكان حمزة والمقوّم وجحل وصفية أمهم هالة بنت وهيب، وكان العباس وضرار وقثم أمّهم نتيلة، وأمّ الحارث سمراء بنت جنيدب ابن جندب بن حرثان بن سواءة بن عامر بن صعصعة، وقيل: صفية بنت جندب ابن حجير بن رياب بن حبيب بن سواءة، وأمّ أبى لهب لبنى بنت هاجر بن خزاعة. والله تعالى أعلم. فلنذكر خدمه صلّى الله عليه وسلّم: ذكر خدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الأحرار وهم أحد عشر رجلا أنس بن مالك بن النّضر ابن ضمضم بن زيد الأنصارى النجّارى، كان يكنى أبا حمزة، وأمّه أمّ سليم بنت ملحان الأنصارية. خدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو ابن عشر سنين، عند مقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة للهجرة، واختلف فى وقت الجزء: 18 ¦ الصفحة: 223 وفاته فقيل: مات فى سنة إحدى وتسعين، وقيل: سنة اثنتين وتسعين، وقيل: سنة ثلاث وتسعين. قال خليفة ابن خياط: مات أنس وله مائة وثلاث سنين، وقيل: كانت سنة إذ مات مائة وعشر سنين، وقيل: غير ذلك. وأقل ما قيل فيه مائة سنة إلا سنة، حكى هذه الأقوال أبو عمر بن عبد البر؛ قال: ويقال إنه آخر من مات بالبصرة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويقال: إنه قدّم من صلبه وولد ولده نحوا من مائة قبل موته، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دعا له فقال: «اللهم ارزقه مالا وولدا وبارك له» قال أنس: فإنى لمن أكثر الأنصار مالا. ويقال: إنه ولد لأنس ثمانون ولدا منهم ثمانية وسبعون ذكرا وأنثيان. وهند وأسماء ابنا حارثة ابن هند الأسليمان؛ شهدا بيعة الرضوان فى إخوة لهما ستة، وهم: هند وأسماء وخراش وذؤيب وفضالة وسلمة ومالك وحمران، ولم يشهدها أخوة فى عددهم غيرهم، ولزم منهم النبىّ صلّى الله عليه وسلّم هند وأسماء، وكانا من أهل الصّفّة، ومات هند بالمدينة فى خلافة معاوية، وتوفى أسماء فى سنة ست وستين. بالبصرة وهو ابن ثمانين سنة. وربيعة بن كعب الأسلمى وهو ربيعة بن كعب بن مالك بن يعمر الأسلمىّ ابو فراس، وكان من أهل الصّفّة، وكان يلزم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى السفر والحضر، وصحبه قديما، ومات فى سنة ثلاث وستين بعد الحرّة. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 224 وعبد الله بن مسعود ابن غافل بن حبيب بن شمخ بن فار «1» بن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحارث ابن تميم الهذلىّ، وكنيته أبو عبد الرحمن، وهو حليف بنى زهرة، وأمه: أمّ عبد بنت عبدودّ بن سواء «2» بن قويم «3» بن صاهلة بن كاهل بن هذيل. أسلم عبد الله فى أوّل الإسلام، وكان سبب إسلامه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرّ به وهو يرعى غنما لعقبة بن أبى معيط، فأخذ شاة حائلا من تلك الغنم فدّرت عليه لبنا غزيرا فأسلم، ثم ضمّه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليه، وكان يلبسه نعليه إذا قام، وإذا جلس جعلهما فى درّاعته «4» حتى يقوم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان يمشى أمام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا مشى، ويستره إذا اغتسل، ويوقظه إذا نام، وقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذنك علىّ أن يرفع الحجاب وأن تسمع» سوادى «6» حتى أنهاك» . وكان يعرف فى الصحابة بصاحب السّواد والسّواك، وهو أحد من شهد لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالجنة، ومات ابن مسعود بالمدينة فى سنة اثنتين وثلاثين، وصلّى عليه عثمان بن عفان، وقيل: عمّار، وقيل: الزبير بن العوّام ودفنه بالبقيع ليلا بإيصائه إليه بذلك، ولم يعلم عثمان فعاتب الزبير، وكان يوم توفّى ابن بضع وستين سنة. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 225 وعقبة بن عامر بن عبس الجهنى من جهينة بن زيد «1» بن سود بن أسلم بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، وكان يكنى أبا حمّاد، وقيل: أبا أسد «2» ، وقيل: أبا عمرو، وقيل: أبا سعاد، وقيل: أبا الأسود، وقيل: أبا عمّار، وأبا عامر. وكان عقبة بن عامر صاحب بغلة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يقودها به فى الأسفار. قال أبو عمر: سكن عقبة بن عامر مصر، وكان واليا عليها، وابتنى بها دارا، وتوفّى فى آخر خلافة معاوية. وبلال بن رباح المؤذّن مولى أبى بكر الصدّيق رضى الله عنهما، وكان يكنى أبا عبد الله، ويقال: أبا عبد الكريم، وقيل: أبا عبد الرحمن، وقيل: أبا عمرو، وقد تقدّم خبره فى أوّل السيرة. وأمه حمامة، وكان خازنا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وآخى بينه وبين عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، وكان بلال رضى الله عنه صادق الإسلام طاهر القلب، وكان من مولّدى السّراة «3» . مات بدمشق سنة عشرين، وهو ابن ثلاث وستين سنة، ودفن بمقبرتها عند الباب الصغير، وقيل: مات سنة إحدى وعشرين [وهو ابن سبعين سنة «4» ] . وسعد مولى أبى بكر الصدّيق رضى الله عنهما، خدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وروى عنه الحسن البصرىّ، ويعدّ فى أهل البصرة. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 226 وذو مخمر بن أخى النّجاشى ويقال: ابن أخته، ويقال فيه: ذو مخبر، خدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال ابن عبد البر: وقد عدّه بعضهم فى موالى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، له أحاديث خرّجها أهل الشام وهو معدود فيهم. وبكير بن شدّاخ اللّيثى وقيل فيه: بكر، عدّه الشيخ أبو محمد الدمياطى فى خدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «1» . وأبو ذرّ الغفارىّ ويقال: أبو الذرّ، والأوّل أشهر. واختلف فى اسمه اختلافا كثيرا، فقيل: جندب بن جنادة، وهو أصحّ ما قيل فيه إن شاء الله. وذكر أبو عمر بن عبد البر الاختلاف فى اسمه، وترجم عليه بعد ذلك: جندب «2» بن جنادة بن سفيان بن عبيد ابن الواقفة بن حرام بن غفار بن مليل بن ضمرة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة ابن إلياس بن مضر بن نزار الغفارىّ، وأمّه رملة بنت الوقيعة، من بنى غفار، تقدّم خبر إسلامه فى وفد غفار فى أوّل هذا «3» السّفر، وأقام أبو ذرّ عند قومه بعد إسلامه حتى مضت بدر وأحد والخندق، ثم قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الجزء: 18 ¦ الصفحة: 227 فصحبه إلى أن مات. وقد ذكرنا قصة أبى ذرّ فى غزوة تبوك، وقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «رحم الله أبا ذرّ يمشى وحده ويموت وحده ويبعث وحده» وكان من خبره أنه خرج بعد وفاة أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه إلى الشام، فلم يزل به حتى كانت خلافة عثمان بن عفان، فاستقدمه عثمان لشكوى معاوية، وأسكنه الرّبذة «1» ، فمات بها وصلّى عليه عبد الله بن مسعود، وكان قد أقبل من الكوفة فدعى إلى الصلاة عليه، فقال: من هذا؟ فقيل: أبو ذرّ، فبكى طويلا وقال: أخى وخليلى عاش وحده، ومات وحده، ويبعث وحده، طوبى له. وذلك فى سنة ست وثلاثين من الهجرة. روى عن أبى ذرّ جماعة من الصحابة، وكان من أوعية العلم المبرّزين فى الزهد والورع والقول بالحق؛ سئل علىّ رضى الله عنه عن أبى ذرّ فقال: ذاك رجل وعى علما عجز عنه الناس، ثم أوكأ «2» عليه ولم يخرج شيئا منه. وروى عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما أظلّت الخضراء «3» ولا أقلّت الغبراء من ذى لهجة «4» أصدق من أبى ذرّ» و «من سرّه أن ينظر إلى تواضع عيسى بن مريم فلينظر «5» إلى تواضع أبى ذرّ» . وفضائله كثيرة رضى الله عنه. وذكر أبو عمر بن عبد البر فى خدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أسلع ابن شريك» الأعوجى التميمى خادم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وصاحب راحلته، وأبو سلام الهاشمى، خادم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومولاه. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 228 ذكر موالى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال الشيخ «1» أبو محمد الدمياطى رحمه الله تعالى: ومواليه من الرجال أحد وثلاثون، وهم: زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبى - وكان لخديجة فاستوهبه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منها وأعتقه، وقد تقدّمت أخباره ومقتله فى مؤتة «2» . وأسامة بن زيد بن حارثة - وأمه أمّ أيمن، بركة مولاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومات أسامة فى خلافة معاوية، فى سنة ثمان وخمسين، وقيل: سنة تسع، وقيل: سنة أربع وخمسين، وصححه أبو عمر. وكان عمره يوم مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تسع عشرة سنة، وقيل: عشرين، وقيل: ثمانى عشرة، وسكن بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وادى القرى، ثم رجع إلى المدينة فمات بالجرف. وثوبان بن بجدد - وكنيته أبو عبد الله على الأصح، وهو من أهل السّراة «3» ، والسراة موضع بين مكة واليمن، وقيل: من حمير، وقيل: إنه من حكم بن سعد العشيرة، أصابه سباء فاشتراه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأعتقه، ولم يزل معه فى السفر والحضر إلى أن توفى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فخرج إلى الشام فنزل الرّملة، ثم انتقل إلى حمص فابتنى بها دارا: وتوفى بها سنة أربع وخمسين، الجزء: 18 ¦ الصفحة: 229 وكان ممن حفظ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأدّى ما وعى. روى عنه جماعة من التابعين. وأبو كبشة سليم - شهد بدرا والمشاهد كلها، قيل: هو من فارس، وقيل: من مولّدى أرض دوس، وقيل: من مولّدى مكة، ابتاعه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأعتقه، وتوفى فى سنة ثلاث عشرة، فى اليوم الذى استخلف فيه عمر بن الخطاب، وقيل: توفى فى سنة ثلاث وعشرين، فى اليوم الذى ولد فيه عروة بن الزبير. والله تعالى أعلم. وأنسة - ويكنى أبا مسرح، ويقال أبو مسروح- وكان من مولّدى السّراة- اشتراه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأعتقه. ذكره موسى بن عقبة فيمن شهد بدرا، وقال ابن إسحق: كان يأذن على النبى صلّى الله عليه وسلّم إذا جلس فيما حكاه مصعب الزبيرى، ومات فى خلافة أبى بكر رضى الله عنه. وشقران - واسمه صالح، وكان حبشيا، قيل: ورثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أبيه وأعتقه بعد بدر، قيل: اشتراه من عبد الرحمن بن عوف وأعتقه، وقيل وهبه له فأعتقه وأوصى به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند موته «1» . ورباح - وكان أسود نوبيّا اشتراه من وفد عبد القيس وأعتقه، قال أبو عمر: وربما أذن على النبى صلّى الله عليه وسلّم أحيانا؛ إذا انفرد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يأخذ عليه الإذن. ويسار - وكان نوبيّا أصابه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى بعض غزواته، وهو الذى قتله العرنيّون كما تقدّم. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 230 وأبو رافع - واسمه أسلم، وقيل؛ إبراهيم، وكان عبدا للعباس، فوهبه للنبى صلّى الله عليه وسلّم، فلما أسلم العباس بشّر أبو رافع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بإسلامه، فأعتقه وزوّجه سلمى مولاته، فولدت له عبيد الله، وكان عبيد الله كاتبا لعلى بن أبى طالب رضى الله عنه فى خلافته كلها، قيل: وخازنا أيضا. ومات أبو رافع فى آخر خلافة عثمان بالمدينة، وقيل: فى خلافة علىّ، قيل: وكان أبو رافع قبطيّا. وأبو موبهبة - وكان من مولّدى مزينة، اشتراه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأعتقه. ورافع «1» - قال الشيخ أبو محمد عبد المؤمن رحمه الله: كان مولى لسعيد بن العاص، فورثه ولده، فأعتقه بعضهم وتمسّك بعضهم، فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يستعينه فوهب له، فكان يقول: أنا مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقد حكى أبو عمر ذلك فى أحد القولين عن أبى رافع المقدّم ذكره. والله أعلم. وفضالة - وهو مذكور فى موالى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ قال ابن عبد البر: لا أعرفه بغير ذلك، قيل: إنه مات بالشام. ومدعم - أسود، وهبه لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم رفاعة بن زيد الجذامى، وهو الذى قتل بوادى القرى، وقال فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الشّملة التى غلّها تشعل عليه نارا» «2» » . وكركرة «3» - وكان على بغلة النبى صلّى الله عليه وسلّم وكان نوبيّا أهداه له هوذة ابن على فأعتقه. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 231 وزيد - وهو جد «1» بلال بن يسار بن زيد. وعبيد، وطهمان - موليا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، واختلف فى طهمان، فقيل: طهمان، وقيل: طهوان، وقيل: ذكوان، وأما عبيد فروى عنه سليمان التّيمى. ومابور - أهداه إليه المقوقس، وقيل: كان خصيّا. وواقد، وأبو واقد «2» ، وهشام ، وهو الذى قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا رسول الله إن امرأتى لا تمنع يد «3» لامس، قال: «طلقها» قال: إنها تعجبنى. قال: «فاستمع بها» . وأبو ضميرة - قيل: اسمه سعد الحميرىّ، قال البخارى: وقيل فى اسمه غير ذلك. وكان مما أفاء الله على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو جد حسين ابن عبد الله بن ضميرة، وقيل: وكان من العرب فأعتقه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكتب له كتابا يوصى به فهو بيد ولده، قال أبو عمر: وقدم حسين ابن عبد الله بن ضميرة على المهدى بكتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالإيصاء بأبى ضميرة وولده، فوضعه المهدى على عينيه، ووصله بثلاثمائة دينار. وحنين - قال أبو عمر بن عبد البر: كان عبدا وخادما للنبى صلّى الله عليه وسلّم، فوهبه لعمه العباس فأعتقه العباس قال: وقد قيل إنه مولى على بن أبى طالب، وعدّه الشيخ أبو محمد فى موالى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 232 وأبو عسيب - واسمه أحمر. وأبو عبيدة «1» سفينة - فكان عبد الأمّ سلمة زوج النبى صلّى الله عليه وسلّم فأعتقته، واشترطت عليه أن يخدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مدّة حياته، فقال: لو لم تشترطى علىّ ذلك ما فارقته، وكان اسمه رباح، وقيل: عمير، وقيل: رومان. وقيل: مهران. قال الوافدى: وقال أبو عمر: مهران مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غير سفينة. سمى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سفينة بهذا الاسم؛ لأنه كان معه فى سفر؛ فكان كل من أعيا ألقى عليه متاعه سيفا أو ترسا، فمرّ النبى صلّى الله عليه وسلّم به فقال: «أنت سفينة» وكان أسود من مولّدى الأعراب. وأبو هند - وهو الذى قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى حقه زوجوا أبا هند وتزوجوا إليه، قال أبو محمد: ابتاعه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منصرفه من الحديبية وأعتقه. وأنجشة - وكان حاديا للجمال، وهو الذى قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم له «يا أنجشة رفقا بالقوارير «2» » . الجزء: 18 ¦ الصفحة: 233 وأنيسة - وكان حبشيا فصيحا شهد بدرا، وأعتقه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة. وأبو لبابة - كان لبعض عمّات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأعتقه، وهو معدود فى موالى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ورويفع - سباه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من هوازن فأعتقه. وسعد - وهو الذى روى عنه أبو عثمان النهدى. ذكره أبو عمر بن عبد البر. هؤلاء المشهورون من موالى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال أبو محمد عبد المؤمن رحمه الله: وقد قيل إنهم أربعون، وزاد يوسف بن الجوزى: أبا كندير، وسلمان الفارسى، وسالما، وسابقا- ذكره أبو عمر- خادم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وزيد بن رصولا «1» ، وعبيد الله بن أسلم، ونبيه: وقيل فيه: النّبيه، وقيل النّبيه، بضم النون وفتحها، ووردان. وذكر أبو عمر بن عبد البر فى موالى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جماعة أخر، منهم أبو الحمراء واسمه هلال بن الحارث، ويقال: هلال بن ظفر، وأفلح، وذكوان، وفى اسمه خلاف، وأبو عبيد، له رواية، وأبو لقيط، وأبو السّمح أياد «2» ، وقيل: خادم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وضميرة بن أبى ضميرة، قال أبو عمر: مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأمّ ضميرة وهى تبكى فقال: «ما يبكيك أجائعة أنت أم عارية» ؟ فقالت: يا رسول الله، فرق بينى وبين ابنى، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يفرق بين والدة وولدها» ثم أرسل إلى الذى عنده ضميرة فابتاعه منه. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 234 وكيسان، أو مهران - واسمه هرمز يكنى أبا كيسان، اختلف فيه على عطاء ابن السائب، فقيل: كيسان، وقيل: طهمان، وقيل: ذكوان، وأبو بكرة نفيع ابن مسروح، وهو ابن سميّة جارية الحارث بن كلدة الثّقفى، معدود فى موالى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعتقه لما نزل إليه من حصن الطّائف، وأسلم فكان يقول: أنا مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإن أبى الناس إلا أن ينسبونى فأنا نفيع بن مسروح، وكنّاه رسول الله أبا بكرة؛ لأنه تدلّى إليه من بكرة من الحصن. وأبو سلمى - راعى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قيل: اسمه حارث، فهؤلاء عشرة أخر لتكملة خمسين. والله أعلم. ومن النساء ... «1» : أمّ عياش «2» ، وأميمة «3» ؛ وأمّ رافع سلمى «4» ، وبركة أمّ أيمن «5» ، ومارية «6» ، وريحانة «7» ، وربيحة، وميمونة بنت [أبى «8» ] عسيب، وخضرة «9» ، ورضوى، وأمّ ضميرة «10» . وذكر أبو عمر بن عبد البر أميمة لها رواية، وميمونة بنت أبى عنبسة غير ميمونة المذكورة آنفا، والله أعلم. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 235 ذكر حرّاس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى غزواته، وهم ثمانية: سعد بن معاذ حرسه يوم بدر حين نام بالعريش، وذكوان بن عبد الله بن قيس، ومحمد بن مسلمة الأنصارى حرسه بأحد، والزّبير ابن العوّام حرسه يوم الخندق، وعبّاد بن بشر، وسعد بن أبى وقّاص، وأبو أيّوب الأنصارىّ حرسه بخيبر ليلة بنى بصفيّة، وبلال حرسه بوادى القرى. ولما أنزل الله تعالى: «يأيّها الرّسول بلّغ ما أنزل إليك من ربّك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته والله يعصمك من النّاس «1» » ترك عند ذلك الحرس. ذكر كتّاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهم: أبو بكر الصّدّيق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلى بن أبى طالب وعامر بن فهيرة، وعبد الله بن الأرقم، وأبىّ بن كعب، وثابت بن قيس بن شمّاس، وخالد بن سعيد بن العاص، وحنظلة بن الربيع الأسدى، وزيد بن ثابت، ومعاوية ابن أبى سفيان، وشرحبيل بن حسنة، وكان معاوية وزيد يكتبان الوحى. قال الشيخ الإمام الفاضل محمد بن أحمد بن أبى بكر بن فرح الأنصارى الخزرجى الأندلسى ثم القرطبى رحمه الله تعالى فى كتاب الأعلام له: والعلاء بن الحضرمى، قال: وكان المداويم على الكتابة زيد ومعاوية، قال: ويقال إن معاوية لم يكتب له من الوحى شيئا، وإنما كان يكتب إلى الأطراف، وكتب له عبد الله بن سرح ثم ارتدّ، فلما كان يوم الفتح أسلم وحسن إسلامه، وذكر القضاعى: وكان الزبير ابن العوّام وجهم بن سعد يكتبان أموال الصدقة، وكان حذيفة بن اليمان يكتب خرص النخل، وكان المغيرة بن شعبة والحصين بن نمير يكتبان المداينات والمعاملات. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 236 وذكر الحافظ أبو الخطاب بن دحية: أن كتابه عليه السلام ينتهون إلى ستة وعشرين، والله أعلم. قال: وقد قدّمنا ذكر رسله صلّى الله عليه وسلّم. ذكر رفقاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم النّجباء وهم اثنا عشر: أبو بكر، وعمر، وحمزة، وعلىّ، وجعفر، وأبو ذرّ، والمقداد، وسلمان، وحذيفة، وابن مسعود، وعمّار بن ياسر، وبلال بن رباح. وكان على بن أبى طالب والزبير بن العوام ومحمد بن مسلمة وعاصم بن «1» أبى الأقلح والمقداد، رضوان الله عليهم أجمعين يضربون الأعناق بين يديه صلّى الله عليه وسلّم، وحيث ذكرنا من سيرته صلّى الله عليه وسلّم ما ذكرنا، فلنأخذ الآن فى ذكر صفاته الذاتية والمعنوية وأحواله صلّى الله عليه وسلّم. ذكر صفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذاتية قد وردت الأخبار الصحيحة والمشهورة من حديث علىّ بن أبى طالب وأنس ابن مالك وأبى هريرة والبراء بن عازب وعائشة أمّ المؤمنين وابن أبى هالة وأبى جحيفة وجابر بن سمرة وأمّ معبد «2» وابن عباس، ومعرّض بن معيقيب وأبى الطّفيل، والعدّاء بن خالد وخريم بن فاتك وحكيم بن حزام، وغيرهم رضوان الله عليهم: أنه كان صلّى الله عليه وسلّم ربعة «3» من القوم: لا بائن «4» من طول، ولا تقتحمه «5» عين من قصر، الجزء: 18 ¦ الصفحة: 237 غصن بين غصنين، بعيد ما بين المنكبين، أبيض اللون، مشرب حمرة، وفى رواية أزهر اللون، ليس بالأبيض الأمهق «1» ، ولا بالآدم، له شعر رجل «2» ، يبلغ شحمة أذنيه إذا طال، وإذا قصر إلى أنصافهما، لم يبلغ شيبه فى رأسه ولحيته عشرين شعره، كأن عنقه جيد «3» دمية، فى صفاء الفضّة، وظاهر الوضاءة «4» مبلج «5» الوجه، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر، حسن الخلق معتدله، لم تعبه ثجلة «6» ولم تزر به صعلة «7» ، وسيما قسيما «8» ، فى عينيه دعج «9» ، وفى بياضهما عروق رقاق حمر، وفى أشفاره غطف «10» ، وفى صوته صهل «11» ، وروى صحل، وفى عنقه سطع «12» ، وفى لحيته كثاثة «13» ، إذا صمت فعليه الوقار «14» ، وإن تكلم سما «15» وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاه من بعيد، الجزء: 18 ¦ الصفحة: 238 وأحلاه وأحسنه من قريب، حلو المنطق «1» فصل: لا نزر ولا هذر «2» كأنّ منطقه خرزات «3» نظم ينحدرن، واسع الجبين «4» ، أزجّ» الحواجب فى غير قرن، بينهما عرق يدرّه الغضب، أقنى «6» العرنين، له نور يعلوه، يحسبه من لم يتأمله أشمّ «7» ، سهل «8» الخدّين، ضليع «9» الفم، أشنب «10» ، مفلّج «11» الأسنان، دقيق المسربة «12» ، من لبّته «13» إلى سرّته شعر يجرى كالقضيب، ليس فى بطنه ولا صدره شعر غيره، أشعر الذراعين والمنكبين، بادن «14» متماسك، سواء «15» سواء الصدر والبطن، سبيح «16» الصدر، ضخم الكراديس «17» ، أنور المتجرّد «18» الجزء: 18 ¦ الصفحة: 239 عريض الصدر، طويل الزّندين، رحب الراحة، شثن «1» الكفّين والقدمين، سائل الأطراف، سبط «2» القصب، خمصان «3» الأخمصين؛ مسيح القدمين، ينبو عنهما الماء، إذا زال زال قلعا «4» ، وفى رواية: إذا مشى يقلع- كناية عن قوّة الخطو كالذى يمشى فى طين- ويخطو تكفّيا «5» ويمشى هونا، ذريع «6» المشية، إذا مشى كأنما ينحطّ من صبب «7» ، وإذا التفت التفت جميعا، بين كتفيه خاتم النبوّة كأنه زرّ «8» حجلة أو بيضة حمامة، لونه كلون جسده عليه خيلان «9» ، كأن عرقه الّلؤلؤ، ولريح عرقه أطيب من ريح المسك الأذفر «10» ، يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله صلّى الله عليه وسلّم، قال البراء: ما رأيت من ذى لمّة «11» في حلّة حمراء أحسن من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال أبو هريرة: ما رأيت شيئا أحسن من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كأنّ الشمس تجرى فى وجهه، وإذا ضحك يتلألأ فى الجذر «12» ، الجزء: 18 ¦ الصفحة: 240 وقال جابر بن سمرة، وقد قال له رجل كأنّ وجهه صلّى الله عليه وسلّم مثل السيف، فقال: لا، بل مثل الشمس والقمر. وكان مستديرا، وكان عمر بن الخطاب ينشد قول زهير بن أبى سلمى فى هرم بن سنان: لو كنت من شىء سوى بشر ... كنت المضىء لليلة «1» البدر ثم يقول عمر وجلساؤه: كذلك كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولم يكن كذلك غيره. وفيه عليه السلام يقول عمه العباس «2» رضى الله عنه وأرضاه: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ربيع اليتامى عصمة للأرامل «3» تطيف به الهلّاك من آل هاشم ... فهم عنده فى نعمة وفضائل «4» وميزان حقّ لا يخيس شعيرة ... ووزّان عدل وزنه غير عائل «5» الجزء: 18 ¦ الصفحة: 241 ذكر صفة خاتم النبوّة الذى كان بين كتفى النبى صلّى الله عليه وسلّم روى عن جابر بن سمرة. وقد وصف النبى صلّى الله عليه وسلّم، فقال: ورأيت خاتمه عند كتيفه مثل بيضة الحمامة يشبه جسمه، وعن أبى رمثة قال قال لى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا أبا رمثة ادن منّى امسح ظهرى» فدنوت منه «1» فمسحت ظهره، ثم وضعت أصابعى على الخاتم فغمزتها «2» ، فقيل له: وما الخاتم؟ فقال: شعر مجتمع عند كتفيه. وعنه قال: أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فالتفت فإذا خلف كتفيه مثل النّفّاخة «3» ، قلت: يا رسول الله، إنى أداوى فدعنى حتى أبطّها «4» وأداويها، قال: «طبّبها الذى خلقها» . وعنه من طريق آخر قلت: يا رسول الله إنى طبيب من أهل بيت أطبّاء، وكان أبى طبيبا فى الجاهلية، معروفا ذلك لنا فأذن لى فى التى بين كتفيك، فإن كانت سلعة «5» بططتها فشفا الله نبيه؛ فقال: «لا طبيب لها إلا الله» وهى مثل بيضة الحمامة. ذكر صفة شعر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وطوله روى عن أبى إسحق قال: سمعت البراء يصف شعر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: كان شعره إلى شحمة أذنيه. وعنه قال: سمعت البراء يقول: ما رأيت أحدا من خلق الله أحسن فى حلّة حمراء من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، الجزء: 18 ¦ الصفحة: 242 إن جمّته لتضرب قريبا من منكبيه، وفى لفظ، من عاتقيه. وعن قتادة قال: قلت لأنس بن مالك كيف كان شعر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: كان شعرا رجلا ليس بالسّبط ولا بالجعد بين أذنيه وعاتقه. وعن أنس: كان لا يجاوز شعره أذنيه، وعنه: كان إلى أنصاف أذنيه. وعن على رضى الله عنه قال: كان شعر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوق الوفرة «1» ودون الجمّة. وعن أمّ هانئ قالت: رأيت فى رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ضفائر أربعا. وعنها قالت: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قدم مكة وله أربع غدائر. وعن جابر بن سمرة قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كثير شعر اللحية «2» . وعن جابر بن عبد الله قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسجد على قصاص «3» شعره. ذكر عدد شيب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومن قال إنه خضب روى عن حميد الطويل قال: سئل أنس بن مالك هل خضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: ما شانه الله بالشّيب، وما كان فيه من الشّيب ما يخضب، إنما كانت شعرات فى مقدّم لحيته، ولم يبلغ الشّيب الذى كان به عشرين شعرة. وفى رواية عن أنس أيضا: ما كان فى رأسه ولحيته إلا سبع عشرة أو ثمان عشرة. وعن جابر بن سمرة، وقد سئل عن شيب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: كان إذا دهن رأسه لم يتبيّن، وإذا لم يدهنه تبيّن. وعن محمد بن واسع؛ قيل: الجزء: 18 ¦ الصفحة: 243 يا رسول الله، لقد أسرع إليك الشّيب، فقال: «شيبتنى الر. كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ «1» وأخواتها» . وعن أبى سلمة؛ قيل: يا رسول الله، نرى فى رأسك شيبا، قال: «مالى لا أشيب وأنا أقرأ هودا وإذا الشّمس كوّرت «2» » وفى رواية «وما فعل بالأمم قبلى» . وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال قال أبو بكر: أراك قد شبت يا رسول الله، قال: «شيبتنى هود والواقعة والمرسلات وعمّ يتساءلون وإذا الشّمس كوّرت» ومن رواية «وأخواتها اقتربت السّاعة، والمرسلات وإذا الشّمس كوّرت» وفى رواية أخرى عن أنس قال قال أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه: بأبى وأمى يا رسول الله، وما أخواتها «3» ؟ قال: «الواقعة والقارعة وسأل سائل وإذا الشّمس كوّرت» هذا ما رأيناه مما ورد فى شيبه وسببه. وأما من قال إنه خضب صلّى الله عليه وسلّم فقد روى عن عبد الله بن موهبة «4» قال: دخلنا على أمّ سلمة رضى الله عنها، فأخرجت إلينا صرّة فيها شعر من شعر رسول الله صلّى الله عليه وسلم مخضوبا بالحنّاء والكتم «5» . وعن ربيعة بن أبى عبد الرحمن قال: رأيت شعرا من شعره- يعنى النبى صلّى الله عليه وسلّم- فإذا هو أحمر، فسألت عنه فقيل لى: أحمر من الطّيب. وعن أبى جعفر قال: شمط «6» عارضا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فخضبه بحنّاء وكتم، الجزء: 18 ¦ الصفحة: 244 وعن أبى رمثة أنه وصف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: ذو وفرة وبها ردع «1» من حنّاء، وكان عبد الله بن عمر رضى الله عنهما يصفّر لحيته بالخلوق «2» ، ويحدّث أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يصفّر، وعن عبد الرحمن الثّمالى قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يغيّر لحيته بماء السّدر، ويأمر بتغيير الشّعر مخالفة للأعاجم. هذا ما أمكن إيراده من صفاته الذاتية، وسنذكر إن شاء الله بعد ذكر صفاته المعنوية، حديث هند بن أبى هالة؛ لجمعه بين صفاته الذاتية والمعنوية. ذكر صفات رسول الله المعنوية صلّى الله عليه وسلّم وما ورد فى أكله وشربه، ونومه وضحكه وعبادته ونكاحه، وخلقه وحلمه واحتماله، وعفوه وصبره على ما يكره، وجوده وكرمه. وسخائه وسماحته، وشجاعته ومجدته، وحيائه وإغضائه، وحسن عشرته وأدبه، وبسط خلقه، وشفقته ورأفته ورحمته، ووفائه وحسن عهده، وصلته للرحم، وتواضعه وعدله وأمانته وعفّته، وصدق لهجته، ووقاره وصمته وتؤدته «3» ، ومروءته، وحسن هديه وزهده وخوفه ربه تعالى، وطاعته له وشدة عبادته صلّى الله عليه وسلّم تسليما كثيرا. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 245 فأما ما ورد فى أكله وشربه ونومه وضحكه وعبادته فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أخذ من الأكل والشرب بالأقل، واعتمد من ذلك على ما يمسك الرّمق ويسدّ الخلّة، وقد جاءت الأخبار الصحيحة بذلك، ولم تزل العرب والحكماء تتمادح بقلتهما وتذم بكثرتهما؛ لأن كثرة الأكل والشرب دليل على النّهم والحرص والشّره، وقلة ذلك دليل على القناعة وملك النفس وقمع الشهوة. وقد روينا بإسناد متصل عن المقدام بن معدى كرب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه» . ولأن كثرة النوم من كثرة الأكل والشرب. وقد روى عنه عليه السلام أنه كان أحب الطعام إليه ما كان على ضفف؛ أى كثرة الأيدى «1» . وعن عائشة رضى الله عنها قالت: لم يمتلئ جوف النبى صلّى الله عليه وسلّم شبعا قط، وإنه كان فى أهله ولا يسألهم طعاما ولا يتشهاه، إن أطعموه أكل، وما أطعموه قبل، وما سقوه شرب. قال أهل العلم: ولا يعترض على هذا بحديث بريرة، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «ألم أر البرمة فيها لحم» ؟ إذ لعل سبب سؤاله ظنّه اعتقادهم أنه لا يحل له، فأراد بيان سنته، إذ رآهم لم يقدّموا إليه مع علمه أنهم لا يستأثرون به عليه، فصدق عليهم ظنه، وبين لهم ما جهلوه من أمره، بقوله: «هو لها صدقة ولنا هدية» . وكان جلوسه صلّى الله عليه وسلّم للأكل جلوس المستوفز «2» ، مقعيا، ويقول: «إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد» . وفى حديث صحيح قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أما أنا فلا آكل متكئا» وليس معنى الاتّكاء الجزء: 18 ¦ الصفحة: 246 عند المحققين الميل على شقّ، وإنما الاتكاء هو التمكن للأكل، والتقعدد فى الجلوس له، كالمترّبع وشبهه من تمكن الجلسات التى يعتمد فيها الجالس على ما تحته، والجالس على هذه الهيئة يستدعى الأكل ويستكثر منه، وكان صلّى الله عليه وسلّم بخلاف ذلك. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا رفع الطّعام من بين يديه قال: «الحمد لله الذى أطعمنا وسقانا وآوانا وجعلنا مسلمين» . وفى رواية يقول: «الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه غير مودّع «1» ولا مستغنى عنه ربّنا» . وكان لا يأكل على خوان «2» ، ولا يمتنع من مباح، ولا يتأنّق فى مأكل، يأكل ما وجد، إن وجد تمرا أكله، أو خبزا أكله أو شواء أكله، وإن وجد لبنا اكتفى به، ولم يأكل خبزا مرقفا «3» ، وأكل صلّى الله عليه وسلّم الخبز بالخل وقال: «نعم الإدام الخل» وأكل لحم الدجاج ولحم الحبارى «4» . وكان يحب الدّبّاء «5» ويأكله، ويعجبه الذّراع من الشاة، وقال: «إن أطيب اللحم لحم الظّهر» وقال: «كلوا الزيت وادّهنوا به فإنه من شجرة مباركة» وكان يأكل بأصابعه الثلاث ويلعقهنّ، وأكل صلّى الله عليه وسلّم خبز الشعير بالتمر، وقال: «هذا أدم هذا» وأكل البطيخ بالرّطب والقثّاء بالرّطب والتّمر بالزّبد، وكان يحب الحلواء والعسل، وكان يشرب قاعدا، وربما شرب قائما، ويتنفس ثلاثا وإذا فضلت منه فضلة وأراد أن يسقيها بدأ بمن عن يمينه، وشرب صلّى الله عليه وسلّم لبنا، وقال: «من أطعمه الله طعاما فليقل اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه، ومن سقاه الله لبنا فليقل اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه» وقال: «ليس شىء يجزى مكان الطعام والشراب غير اللبن» . الجزء: 18 ¦ الصفحة: 247 وأما نومه صلّى الله عليه وسلّم فكان قليلا، جاءت بذلك الآثار الصحيحة، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «إن عينىّ تنامان ولا ينام قلبى» وكان نومه على جانبه الأيمن استظهارا على قلة النوم لأن النوم على الجانب الأيسر أهنأ؛ لهدوّ القلب وما يتعلق به من الأعضاء الباطنة؛ لميلها إلى الجانب الأيسر، فيستدعى ذلك الاستثقال فيه والطول، وإذا نام النائم على الجانب الأيمن تعلق القلب وقلق، فأسرع الإفاقة ولم يغمره الاستغراق. وكان صلّى الله عليه وسلّم ينام أول الليل ثم يقوم من السّحر، ثم يوتر ثم يأتى فراشه، فإذا سمع الأذان وثب، وكان إذا نام نفخ، ولا يغطّ غطيطا، وإذا رأى فى منامه ما يروعه قال: «هو الله لا شريك له» وإذا أخذ مضجعه وضع كفّه اليمنى تحت خدّه، وقال: «ربّ قنى عذابك يوم تبعث عبادك» وكان يقول: «اللهم باسمك أموت وأحيا» وإذا استيقظ قال: «الحمد لله الذى أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النّشور» . وأما ضحكه صلّى الله عليه وسلّم فكان جلّه التّبسم، وربما ضحك من شىء معجب حتى تبدو نواجذه من غير قهقهة صلّى الله عليه وسلّم، وأما عبارته صلّى الله عليه وسلّم فكان أفصح الناس، يخاطب كل أمة بلسانها، ويحاورها بلغتها، يباريها فى منزع بلاغتها، وقد تقدم من كلامه فى كتبه إلى ملوك اليمن وغيرها ما يدل على ذلك، وإن كان ذلك لا يحتاج فيه إلى إقامة دليل بعد أن أنزل القرآن بلغته. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا تكلم بيّن كلامه حتى يحفظه من جلس إليه، ويعيد الكلمة ثلاثا لتعقل عنه، الجزء: 18 ¦ الصفحة: 248 ويخزن لسانه لا يتكلم فى غير حاجة، ويتكلم بجوامع الكلم، فصل لا فضول ولا تقصير، وكان يتمثّل بشىء من الشّعر ويتمثل بقوله «1» : ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد وبغير ذلك، صلّى الله عليه وسلّم. وأما النكاح وما يتعلق به فهو مما يكثر التّمدح بكثرته وذلك؛ لأنه دليل الكمال وصحة الذكورية، ولم يزل التفاخر بكثرته عادة معروفة، والتمادح به سيرة ماضية وسنة مأثورة، قال ابن عباس رضى الله عنهما: أفضل هذه الأمة أكثرها نساء. مشيرا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «تناكحوا «2» فإنى مباه بكم الأمم» وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ممن أقدره الله تعالى على ذلك وحببه له، فكان صلّى الله عليه وسلّم يدور على نسائه فى الساعة من الليل «3» والنهار، وهنّ إحدى «4» عشرة، رواه أنس، قال: وكنا نتحدث أنه أعطى قوة ثلاثين، خرّجه النّسائى. وعن طاوس: أعطى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قوة أربعين رجلا فى الجماع، ومثله عن صفوان بن سليم. وقالت سلمى مولاته: طاف النبى صلّى الله عليه وسلّم ليلة على نسائه التسع، ويطهر من كل واحدة قبل أن يأتى الأخرى. وقال: «هذا أطهر وأطيب» . الجزء: 18 ¦ الصفحة: 249 وأما خلقه صلّى الله عليه وسلّم فقد قال الله عز وجل فيه مخاطبا له صلّى الله عليه وسلّم: «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» «1» قالت عائشة رضى الله عنها: كان خلقه القرآن يرضى برضاه ويسخط بسخطه، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق» قال علىّ وأنس رضى الله عنهما: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحسن الناس خلقا. وكان صلّى الله عليه وسلّم- فيما ذكره المحققون- مجبولا على ذلك فى أصل خلقته وأوّل فطرته، لم يحصل ذلك له باكتساب ولا رياضة، إلا بجود إلهى وخصوصيّة ربانيّة، ومن طالع سيرته منذ صباه وإلى آخر عمره، حقّق ذلك وكذلك سائر الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه. وأما حلمه واحتماله وعفوه مع القدرة، والصبر على ما يكره، فقد جعلوا بين هذه الألقاب فرقا، فقالوا: الحلم حالة توقير وثبات عند الأسباب المحرّكات، والاحتمال حبس النفس عند الآلام والمؤذيات، ومثله الصبر، ومعانيها متقاربة، وأما العفو فهو ترك المؤاخذة، وهذا كله مما أدّب الله تعالى به نبيه صلّى الله عليه وسلّم فقال: «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ «2» » روى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما نزلت عليه هذه الآية سأل جبريل عن تأويلها فقال له: حتى أسأل العالم، ثم ذهب فأتاه فقال: «يا محمد إن الله يأمرك أن تصل من قطعك وتعطى من حرمك وتعفو عمن ظلمك» . وقال تعالى مخاطبا له صلّى الله عليه وسلّم: «وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 250 مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ «1» » وقال: «فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ «2» » . وقد روى فى حلمه واحتماله وعفوه وصبره أحاديث كثيرة وقصص مشهورة، قد تقدم منها فى أخباره، فى أثناء هذه السيرة جملة كافية، ونحن نشير الآن فى هذا الموضع إليها، وننبّه فى هذه الترجمة عليها، منها قصة أحد حين ناله من أذى كفار قريش ما ناله مما قدمنا ذكره، فشق ذلك على أصحابه، وقالوا: يا رسول الله، لو دعوت عليهم، فقال: «إنى لم أبعث لعّانا ولكنّى بعثت داعيا ورحمة اللهم اهد قومى فإنهم لا يعلمون» روى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه، أنه قال فى بعض كلامه: بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لقد دعا نوح على قومه فقال: «ربّ لا تذر على الأرض من الكافرين» ديّارا» ولو دعوت علينا مثلها لهلكنا من عند آخرنا، فلقد وطئ ظهرك وأدمى وجهك وكسرت رباعيتك، فأبيت أن تقول إلا خيرا، فقلت: «اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون» . ومنها قصتا غورث «4» بن الحارث، ودعثور بن الحارث حين أرادا أن يفتكا به، وأظفره الله بهما، وأمكنه منهما فعفا عنهما، كما تقدم ذكر ذلك فى غزوتى غطفان وذات الرّقاع، ومنها عفوه عن الذين هبطوا عليه فى عمرة الحديبية، وأرادوا قتله فأخذوا فأعتقهم صلّى الله عليه وسلم، ومنها صفحه عن قريش حين أمكنه الله منهم يوم الفتح، وهم لا يشكون فى استئصال شأفتهم وإبادة خضرائهم؛ لما تقدم من أذاهم له، فمازاد على أن عفا وصفح، وقال: «ما تقولون إنى فاعل بكم» قالوا: خيرا؛ أخ كريم وابن أخ كريم، فقال: «أقول كما قال أخى الجزء: 18 ¦ الصفحة: 251 يوسف «لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» «1» . ومما لم نذكره فيما أتينا عليه من سيرته صلّى الله عليه وسلّم، ما ورد فى الحديث الصحيح من قول الرجل له: اعدل فإن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله. فلم يزده صلّى الله عليه وسلم فى جوابه إلا أن بين له ما جهله، ووعظ نفسه وذكّرها بما قال له، فقال: «ويحك فمن يعدل إن لم أعدل خبت وخسرت إن لم أعدل» ونهى من أراد قتله من أصحابه. ومنه ما روى عن أنس رضى الله عنه قال: كنت مع النبى صلّى الله عليه وسلّم وعليه برد غليظ الحاشية، فجبذه أعرابىّ بردائه جبذة شديدة حتى أثّرت حاشية البرد فى صفحة عاتقه. ثم قال: يا محمد، احمل لى على بعيرىّ هذين من مال الله الذى عندك، فإنك لا تحمل لى من مالك ولا من مال أبيك، فسكت النبىّ صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: «المال مال الله وأنا عبده» ثم قال: «ويقاد «2» منك يا أعرابى ما فعلت بى» ؟ قال: لا، قال «لم» ؟ قال: لأنك لا تكافئ بالسّيئة السّيئة، فضحك النبى صلّى الله عليه وسلّم، ثم أمر أن يحمل له على بعير شعير وعلى الآخر تمر. ومنه خبر زيد بن سعنة «3» حين أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل إسلامه، وكان من أحبار يهود، فجاءه يتقاضاه دينا عليه، فجبذ ثوبه عن منكبه، وأخذ بمجامع ثيابه وأغلظ له، ثم قال: إنكم يا بنى عبد المطلب مطل «4» فانتهره عمر بن الخطاب رضى الله عنه وشدّد له فى القول، والنبى صلّى الله عليه وسلّم يتبسّم، فقال رسول الله الجزء: 18 ¦ الصفحة: 252 صلى الله عليه وسلّم: «أنا وهو كنا إلى غير هذا منك أحوج يا عمر، تأمرنى بحسن القضاء وتأمره بحسن التقاضى» ثم قال: «لقد بقى من أجله ثلاث» وأمر عمر يقضيه ماله ويزيده عشرين صاعا لما روّعه، فكان سبب إسلامه؛ وذلك أنه كان يقول: ما بقى من علامات النبوّة شىء إلا وقد عرفتها فى محمد إلا اثنتين؟ لم أخبرهما؛ يسبق حلمه جهله «1» ، ولا يزيده شدة الجهل إلا حلما؛ فاختبرته بهذا فوجدته كما وصف. والحديث عن حلمه وصبره وعفوه كثير؛ روى عن عائشة رضى الله عنها قالت: ما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منتصرا من مظلمة ظلمها قطّ ما لم تكن حرمة من محارم الله، وما ضرب بيده شيئا قط إلا أن مجاهد فى سبيل الله، وما ضرب خادما ولا امرأة. وجىء إليه برجل فقيل: هذا أراد أن يقتلك، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لن تراع «2» لن تراع ولو أردت ذلك لم تسلّط علىّ» صلّى الله عليه وسلّم. وأما جوده وكرمه وسخاؤه وسماحته صلّى الله عليه وسلّم ومعانيها متقاربة، وقد فرق بعضهم بينها بفروق فجعلوا الكرم: الإنفاق بطيب النفس فيما يعظم خطره ونفعه- وسموه أيضا حرّية «3» - وهو ضدّ النّذالة. والسّماحة: التّجافى عما يستحقه المرء عند غيره بطيب نفس، وهو ضد الشّكاسة. والسّخاء: سهولة الإنفاق وتجنّب اكتساب ما لا يحمد، وهو الجود، وهو ضد التّقتير؛ فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم من ذلك بالمحل الأرفع، بهذا جاءت الأحاديث الصحيحة، منها ما رويناه فى صحيح البخارىّ عن ابن المنكدر الجزء: 18 ¦ الصفحة: 253 قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: ما سئل النبى صلّى الله عليه وسلّم شيئا فقال لا. وعن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما: كان النبى صلّى الله عليه وسلّم أجود الناس بالخير، وأجود ما كان فى شهر رمضان، وكان إذا لقيه جبريل عليهما السلام أجود بالخير من الرّيح المرسلة. وعن أنس أن رجلا سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأعطاه غنما بين جبلين، فرجع إلى بلده وقال: أسلموا فإن محمدا يعطى عطاء من لا يخشى فاقة. وقد ذكرنا ما أعطاه صلّى الله عليه وسلّم من غنائم هوازن. وأخباره صلّى الله عليه وسلّم فى ذلك كثيرة، وعطاياه فاشية، لو استقصيناها لطال بها التأليف، وكان لا يبيت فى بيته دينار ولا درهم. فإن فضل ولم يجد من يعطيه وفجئه «1» الليل لم يأو إلى منزله حتى يتبرأ منه إلى من يحتاج إليه، لا يأخذ مما آتاه الله إلا قوت أهله عاما فقط، من أيسر ما يجد من التّمر والشّعير، ويضع سائر ذلك فى سبيل الله، ثم يؤثر «2» من قوت أهله حتى يحتاج قبل انقضاء العام؛ صلّى الله عليه وسلّم تسليما كثيرا دائما إلى يوم الدين. وأما شجاعته ونجدته صلّى الله عليه وسلّم فقد قالوا: الشّجاعة فضيلة قوة الغضب، وانقيادها للعقل، والنّجدة: ثقة النفس عند استرسالها إلى الموت حيث يحمد فعلها دون خوف؛ فكان النبى صلّى الله عليه وسلّم منهما بالمكان الذى لا يجهل، قد شهد المواقف الصّعبة، وفرّ الكماة والأبطال عنه، وهو ثابت لا يبرح، ومقبل لا يدبر، وقد قدّمنا من أخباره وثباته وحملاته فى يومى أحد وحنين ما تقف عليه هناك. وقد روينا بإسناد متّصل عن البراء، وقد سأله رجل: أفررتم يوم حنين عن رسول الله الجزء: 18 ¦ الصفحة: 254 صلى الله عليه وسلّم؟ قال: لكن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يفرّ، ثم قال: لقد رأيته على بغلته البيضاء وأبو سفيان آخذ بلجامها، والنبى صلّى الله عليه وسلّم يقول: «أنا النبىّ لا كذب» وزاد غيره «أنا ابن عبد المطلب» قيل: فمارىء يومئذ أحد كان أشد منه. وقال غيره: نزل النبى صلّى الله عليه وسلّم عن بغلته. وذكر مسلم عن العباس قال: فلما التقى المسلمون والكفار ولّى المسلمون مدبرين فطفق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يركض بغلته نحو الكفار وأنا آخذ بلجامها أكفّها إرادة ألا تسرع وأبو سفيان آخذ بركابه، ثم نادى يا للمسلمين «1» . الحديث. وقال ابن عمر: ما رأيت أشجع ولا أنجد ولا أجود ولا أرضى من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقال على بن أبى طالب رضى الله عنه: إنا كنا إذا حمى البأس- ويروى اشتدّ البأس- واحمرت الحدق، اتقينا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فما يكون أحد أقرب إلى العدوّ منه، ولقد رأيتنى يوم بدر، ونحن نلوذ بالنبى صلّى الله عليه وسلّم، وهو أقربنا إلى العدوّ، وكان من أشد الناس يومئذ بأسا. وقيل: كان الشجاع الذى يقرب منه صلّى الله عليه وسلّم إذا دنا العدوّ لقربه منه. وعن أنس قال: كان النبىّ صلّى الله عليه وسلّم أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس؛ لقد فزع أهل المدينة ليلة فانطلق ناس قبل الصّوت، فتلقاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم راجعا قد سبقهم إلى الصوت واستبراء «2» الخبر، على فرس لأبى طلحة عرى «3» ، والسّيف فى عنقه، وهو يقول: «لن تراعوا» «4» . وقال عمران ابن حصين: ما لقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتيبة إلّا كان أول من يضرب. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 255 وأما حياؤه وإغضاؤه صلّى الله عليه وسلّم والحياء: رقّة تعترى وجه الإنسان عند فعل ما يتوقّع كراهته أو ما يكون تركه خيرا من فعله. والإغضاء: التغافل عما يكره الإنسان بطبيعته، وكان النبى صلّى الله عليه وسلّم أشدّ الناس حياء، وأكثرهم عن العورات إغضاء، وقد أخبر الله تعالى بحيائه فقال: «إنّ ذلكم كان يؤذى النّبىّ فيستحيى منكم» «1» وعن أبى سعيد الخدرىّ: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أشدّ حياء من العذراء فى خدرها، وكان إذا كره شيئا عرفناه فى وجهه. وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يشافه أحدا بما يكره حياء وكرم نفس. وعن عائشة رضى الله عنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا بلغه عن أحد ما يكرهه لم يقل ما بال فلان يقول كذا، ولكن يقول: «ما بال أقوام يصنعون- أو يقولون- كذا» ينهى عنه ولا يسمّى فاعله. وروى أنس رضى الله عنه أنه دخل عليه رجل به أثر صفرة، فلم يقل له شيئا- وكان لا يواجه أحدا بما يكره- فلما خرج قال: «لو قلتم له يغسل هذا» ويروى «ينزعها» . وروى عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه كان من حيائه لا يثبت بصره فى وجه أحد، وأنه كان يكنى عما اضطره الكلام إليه مما يكره، صلّى الله عليه وسلّم. وأما حسن عشرته وأدبه وبسط خلقه صلّى الله عليه وسلّم فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أكرم الناس عشرة، وأكثرهم أدبا، وأبسطهم خلقا مع أصناف الخلق، انتشرت بذلك الأخبار الصحيحة، منها ما رويناه بسند متصل عن قيس بن سعد قال: زارنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وذكر قصة فى آخرها، فلما أراد الانصراف قرب له سعد حمارا الجزء: 18 ¦ الصفحة: 256 ووطّأ عليه بقطيفة، فركب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم قال سعد: يا قيس، أصحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال قيس: فقال لى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «اركب» فأبيت، فقال: «إما أن تركب وإما أن تنصرف» فانصرفت، وفى رواية أخرى: «اركب أمامى فصاحب الدابة أولى بمقدّمها» . وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يدع أحدا يمشى معه وهو راكب حتى يحمله، فإن أبى قال: «تقدّمنى إلى المكان الذى تريد» وركب صلّى الله عليه وسلّم حمارا عريا إلى قباء، وأبو هريرة معه، فقال: «يا أبا هريرة أحملك» ؟ فقال: ما شئت يا رسول الله، فقال: «اركب» وكان فى أبى هريرة ثقل، فوثب ليركب فلم يقدر، فاستمسك برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوقعا جميعا، ثم ركب صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يا أبا هريرة أحملك» ؟ فقال: ما شئت يا رسول الله، فقال: «اركب» فلم يقدر على ذلك، فتعلق برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوقعا جميعا، ثم قال: «يا أبا هريرة أحملك» ؟ فقال: لا، والذى بعثك بالحق لا صرعتك ثالثا. وكان لا يدع أحدا يمشى خلفه ويقول: «خلوا ظهرى للملائكة» . وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يؤلّف أصحابه ولا ينفّرهم، ويكرم كريم كلّ قوم ويولّيه عليهم، ويحذر الناس ويحترس منهم، من غير أن يطوى عن أحد منهم بشره ولا خلقه، يتفقّد أصحابه، ويعطى كلّ جلسائه نصيبه، لا يحسب جليسه أنّ أحدا أكرم عليه منه، من جالسه أو قاربه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه، ومن سأله حاجة لم يردّه إلا بها، أو بميسور من القول، قد وسع الناس بسطه وخلقه فصار لهم أبا وصاروا عنده فى الحق سواء، هكذا وصفه ابن أبى هالة، قال: وكان دائم البشر سهل الخلق ليّن الجانب، ليس بفظّ ولا غليظ، ولا سخّاب «1» ولا فحّاش، الجزء: 18 ¦ الصفحة: 257 ولا عيّاب ولا مدّاح، يتغافل عما لا يشتهى ولا يؤيس منه. وكان صلّى الله عليه وسلّم يجيب من دعاه، ويقبل الهدية، ولو كانت كراعا «1» ، ويكافئ عليها، قال أنس: خدمت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عشر سنين فما قال لى أفّ قطّ، وما قال لشىء صنعته لم صنعته، ولا لشىء تركته لم تركته، ومن رواية أخرى عنه قال: خدمته نحوا من عشر سنين فو الله ما صحبته فى سفر ولا حضر لأخدمه إلا وكانت خدمته لى أكثر من خدمتى له، وما قال لى أفّ قطّ، ولا قال لشىء فعلته لم فعلت كذا، ولا لشىء لم أفعله ألّا فعلت كذا؟. وكان صلّى الله عليه وسلّم فى بعض أسفاره فأمر بإصلاح شاة فقال رجل: يا رسول الله، علىّ ذبحها، وقال آخر: علىّ سلخها، وقال آخر: علىّ طبخها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وعلىّ جمع الحطب» قالوا: يا رسول الله، نحن نكفيك، فقال: «علمت أنكم تكفونى ولكنى أكره أن أتميز عليكم فإن الله يكره من عبده أن يراه مميزا بين أصحابه» وقام فجمع الحطب. وعن عائشة رضى الله عنها قالت: ما كان أحد أحسن خلقا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما دعاه أحد من أصحابه ولا أهل بيته إلا قال: «لبيك» وكان يمازج أصحابه ويخالطهم ويحادثهم ويداعب صبيانهم ويجلسهم فى حجره، ويجيب دعوة الحرّ والعبد والأمة والمسكين، ويعود المرضى فى أقصى المدينة، ويقبل عذر المعتذر، قال أنس: ما التقم «2» أحد أذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فينحّى رأسه حتى يكون الرجل هو الذى ينحّى رأسه، وما أخذ أحد بيده فيرسل يده حتى يرسلها الآخذ، ولم ير مقدّما ركبتيه بين يدى جليس له، وكان يبدأ من لقيه بالسلام، ويبدأ أصحابه بالمصافحة، لم يرقط مادا رجليه بين أصحابه حتى يضيّق بهما على الجزء: 18 ¦ الصفحة: 258 أحد، يكرم من يدخل عليه، وربما بسط له ثوبه، ويؤثره بالوسادة التى تحته، ويعزم عليه فى الجلوس عليها إن أبى، ويكنّى أصحابه، ويدعوهم بأحب أسمائهم تكرمة لهم، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يتجوّز فيقطعه بنهى أو قيام، ويروى: بانتهاء أو قيام، ويروى: أنه كان لا يجلس إليه أحد وهو يصلى إلا خفّف صلاته وسأله عن حاجته، فإذا فرغ عاد، إلى صلاته، وكان أكثر الناس تبسّما، وأطيبهم نفسا، ما لم ينزل عليه قرآن أو يعظ أو يخطب. وأما شفقته ورأفته ورحمته صلّى الله عليه وسلّم لجميع الخلق فقد أخبر الله تعالى بذلك ووصفه بهذه الأوصاف؛ فقال تعالى: «لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ «1» بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» وقال تعالى: «2» وما أرسلناك إلّا رحمة للعالمين» فكان من شفقته على أمته صلّى الله عليه وسلّم تخفيفه وتسهيله عليهم، وكراهته أشياء مخافة أن تفرض عليهم؛ كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لولا أن أشقّ على أمتى لأمرتهم بالسّواك مع كل وضوء» وخبر صلاة «3» الليل، ونهيهم عن الوصال، وكراهيته دخول الكعبة لئلا يعنت «4» أمّته، ورغبته لربه أن يجعل سبّه ولعنه لهم رحمة، وأنه كان يسمع بكاء الصّبى فيتجوّز «5» فى صلاته. ومن شفقته صلّى الله عليه وسلّم أن دعا ربه وعاهده فقال: «أيّما رجل سببته أو لعنته فاجعل ذلك له زكاة ورحمة وصلاة «6» وطهورا وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة» . ومن ذلك أنه لما كذّبه قومه أتاه جبريل عليه السلام فقال له: الجزء: 18 ¦ الصفحة: 259 إن الله تعالى قد سمع قول قومك لك وما ردّوا عليك، وقد أمر ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداه ملك الجبال وسلّم عليه، فقال: مرنى بما شئت، إن شئت أن أطبق «1» عليهم الأخشبين، قال النبى صلّى الله عليه وسلّم: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا» . وروى ابن المنكدر: أن جبريل عليه السلام قال للنبى صلّى الله عليه وسلّم: إن الله أمر السماء والأرض والجبال أن تطيعك، فقال: «أؤخّر عن أمتى لعل الله أن يتوب عليهم» . ومن ذلك ما روى أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يبلغنى أحد منكم عن أحد من أصحابى شيئا، فإنى أحبّ أن أخرج إليكم وأنا سليم الصّدر» . وقال ابن مسعود: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتخوّلنا «2» بالموعظة مخافة السّآمة علينا، صلّى الله عليه وسلّم تسليما كثيرا. وأما وفاؤه وحسن عهده وصلته للرحم صلّى الله عليه وسلّم فكان صلّى الله عليه وسلّم قد بلغ من ذلك الغاية التى لا يدرك شأوها، ولا يبلغ مداها، ولا يطمع طامع سواه بالاتّصاف بها، جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة والأخبار الصريحة، من ذلك ما رويناه بإسناد متّصل عن عبد الله بن أبى الحمساء قال: بايعت النبى صلّى الله عليه وسلّم ببيع قبل أن يبعث، وبقيت له بقية فوعدته أن آتيه بها فى مكانه فنسيت، ثم ذكرت بعد ثلاث، فجئت فإذا هو فى مكانه، فقال: «يا فتى لقد شققت علىّ أنا هاهنا منذ ثلاث أنتظرك» . وعن أنس رضى الله عنه قال: كان النبى صلّى الله عليه وسلّم إذا أتى بهدية قال: «اذهبوا بها إلى بيت فلانة فإنها كانت صديقة لخديجة، إنها كانت تحبّ خديجة» . وعن عائشة الجزء: 18 ¦ الصفحة: 260 أمّ المؤمنين رضى الله عنها قالت: ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة؛ لما كنت أسمعه يذكرها، وإن كان ليذبح الشاة فيهديها إلى خلائلها «1» ، واستأذنت عليه أختها فارتاح إليها، ودخلت عليه امرأة فهشّ لها، وأحسن السؤال عنها، فلما خرجت قال: «إنها كانت تأتينا أيام خديجة، وإنّ حسن العهد «2» من الإيمان» . وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن آل أبى فلان ليسوا لى بأولياء غير أن لهم رحما سأبلّها ببلالها «3» » . وعن أبى قتادة قال: وفد وفد للنجاشى، فقام النبى صلّى الله عليه وسلّم يخدمهم، فقال له أصحابه: نكفيك، فقال: «إنهم لأصحابنا مكرمين وإنى أحبّ أن أكافئهم» . ولما جىء بالشّيماء أخته من الرضاعة فى سبايا هوزان وتعرفت له، بسط لها رداءه، وقال لها: «إن أحببت أقمت عندى مكرّمة محبّة أو متّعتك ورجعت إلى قومك» فاختارت قومها فمتعها. وقال أبو الطّفيل: رأيت النبى صلّى الله عليه وسلّم وأنا غلام، إذ أقبلت امرأة حتى دنت منه، فبسط لها رداءه فجلست عليه، فقلت من هذه؟ قالوا: أمه التى أرضعته. وعن عمرو «4» بن السائب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان جالسا يوما فأقبل أبوه من الرّضاعة، فوضع له بعض ثوبه فقعد عليه، ثم أقبلت أمّه فوضع لها شقّ ثوبه من جانبه الآخر فجلست عليه، ثم أقبل أخوه من الرضاعة فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأجلسه بين يديه. وكان يبعث إلى ثوبية مولاة أبى لهب مرضعته بصلة وكسوة، فلما ماتت سأل من بقى من قرابتها فقيل: لا أحد. وفى حديث خديجة رضى الله عنها الجزء: 18 ¦ الصفحة: 261 أنها قالت له صلّى الله عليه وسلّم فى ابتداء النبوّة: أبشر فو الله لا يخزيك «1» الله أبدا، إنك لتصل الرّحم، وتحمل الكلّ «2» ، وتكسب «3» المعدوم، وتقرى الضّيف، وتعين على نوائب «4» الحقّ. وأما تواضعه صلّى الله عليه وسلّم مع علوّ منصبه ورفعة مرتبته فكان صلّى الله عليه وسلّم أشدّ الناس تواضعا، وأقلهم كبرا، وقد جاء أنه خيّر بين أن يكون نبيّا ملكا، أو نبيّا عبدا، فاختار أن يكون نبيّا عبدا، فقال له إسرافيل عند ذلك: فإن الله قد أعطاك بما تواضعت له أنك سيّد ولد آدم يوم القيامة، وأول من تنشقّ الأرض عنه، وأول شافع. ومما رويناه بسند متّصل عن أبى أمامة قال: خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متوكّئا على عصا، فقمنا له فقال: «لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظّم بعضها بعضا» . وقال: «إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد» وكان يركب الحمار، ويردف خلفه، ويعود المساكين، ويجالس الفقراء، ويجيب دعوة العبد، ويجلس بين أصحابه مختلطا بهم، حيث ما انتهى به المجلس جلس، وعن أنس: أن امرأة كان فى عقلها شىء جاءته فقالت: إن لى إليك حاجة، قال: «اجلسى يا أمّ فلان فى أى طرق المدينة شئت أجلس إليك حتى أقضى حاجتك» قال: فجلست فجلس النبى صلّى الله عليه وسلّم إليها حتى فرغت من حاجتها. قال أنس: حجّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على رحل رثّ وعليه قطيفة ما تساوى أربعة دراهم، فقال: الجزء: 18 ¦ الصفحة: 262 «اللهم اجعله حجّا لا رياء فيه ولا سمعة» . هذا وقد أهدى فى حجه ذلك مائة بدنة، ولما فتحت عليه مكة دخلها وقد طأطأ رأسه على رحله حتى كاد يمسّ قادمته تواضعا لله تعالى. ومن تواضعه صلّى الله عليه وسلّم أنه لما دخل مكة جاءه أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه بأبيه ليسلم فقال: «لم عنّيت «1» الشيخ يا أبا بكر ألا تركته حتى أكون أنا آتيه فى منزله» وقد تقدّم ذكر ذلك فى الفتح. وعن عائشة والحسن وأبى سعيد وغيرهم رضى الله عنهم، فى صفته صلى الله عليه وسلّم، وبعضهم يزيد على بعض، أنه كان صلّى الله عليه وسلّم فى بيته فى مهنة «2» أهله، يفلى «3» ثوبه، ويحلب شاته، ويرقّع ثوبه، ويخصف «4» نعله، ويخدم نفسه، ويقمّ «5» البيت، ويعقل البعير، ويعلف ناضحه «6» ، ويأكل مع الخادم، ويعجن معها ويحمل بضاعته من السّوق. وعن أنس: أن كانت الأمة من إماء المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتنطلق به حيث شاءت حتى يقضى حاجتها. ودخل عليه رجل فأصابته من هيبته رعدة فقال له: «هوّن عليك فإنى لست بملك إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد» «7» . وعن أبى هريرة قال: دخلت السّوق مع النبى صلّى الله عليه وسلّم فاشترى سراويل، وقال للوزّان «زن وأرجح» وذكر القصّة، قال: فوثب إلى يد النبى صلّى الله عليه وسلّم يقبّلها فجذب يده، وقال: «هذا يفعله الأعاجم بملوكها ولست بملك إنما الجزء: 18 ¦ الصفحة: 263 أنا رجل منكم» ثم أخذ السّراويل فذهبت لأحمله فقال: «صاحب الشىء أحق بشيئه أن يحمله» . وقد ذكر الأمين العاصمىّ بعض ذلك فى قصيدة له فقال: يا جاعلا سنن النبى ... شعاره ودثاره «1» متمسّكا بحديثه ... متتبّعا أخباره سنن الشّريعة خذ بها ... متوسّما «2» آثاره وكذا الطريقة فاقتبس ... فى سبلها أنواره قد كان يقرى «3» ضيفه ... كرما ويحفظ جاره ويجالس المسكين يؤ ... ثر قربه وجواره الفقر كان رداءه ... والجوع كان شعاره يلقى بغرّة «4» ضاحك ... مستبشرا زوّاره بسط الرّداء كرامة ... لكريم قوم زاره ما كان مختالا ولا ... مرحا «5» يجرّ إزاره قد كان يركب بالرّدد ... فمن الخضوع حماره فى مهنة «6» هو أو صلا ... ة ليله ونهاره فتراه يحلب شاة من ... زله ويوقد ناره ما زال كهف مهاجري ... هـ ومكرما أنصاره برّا بمحسنهم مقي ... لا للمسىء عثاره يهب الذى تحوى يداه ... لطالب إيثاره الجزء: 18 ¦ الصفحة: 264 زكّى عن الدنيا الدّن ... يّة ربّه مقداره جعل الإله صلاته ... أبدا عليه نثاره «1» فاختر من الأخلاق ما ... كان الرسول اختاره لتعدّ سنّيّا وتو ... شك أن تبوّأ «2» داره وأما عدله وأمانته وعفّته وصدق لهجته صلّى الله عليه وسلّم فكان صلّى الله عليه وسلّم أعدل الناس، وآمن الناس، وأعفّ الناس، وأصدق الناس لهجة منذ كان، وكان يسمى قبل نبوّته الأمين، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «والله إنى لأمين فى السماء أمين فى الأرض» وقد صدّقه عداه فى مواطن كثيرة تقدّم ذكرها، وقد قدّمنا قوله صلّى الله عليه وسلّم للرجل: «ويحك إن لم أعدل فمن يعدل خبت وخسرت إن لم أعدل» . وقال ابن خالويه: جزّأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهاره ثلاثة أجزاء: جزءا لله، وجزءا لأهله، وجزءا لنفسه، ثم جزّأ جزأه بينه وبين الناس، فكان يستعين بالخاصة على العامّة، ويقول: «أبلغوا حاجة من لا يستطيع إبلاغى فإنه من أبلغ حاجة من لا يستطيع أمّنه الله يوم الفزع الأكبر» . وعن الحسن قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لا يأخذ أحدا بقرف «3» أحد ولا يصدّق أحدا على أحد» صلّى الله عليه وسلّم، ولم تمس يده امرأة قطّ لا يملك رقّها أو نكاحها أو تكون ذات محرم» . الجزء: 18 ¦ الصفحة: 265 وأما وقاره وصمته وتؤدته ومروءته وحسن هديه صلّى الله عليه وسلّم فقد روينا بإسناد متّصل عن خارجة بن زيد قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أوقر الناس فى مجلسه لا يكاد يخرج شيئا من أطرافه. وروى أبو سعيد الخدرىّ رضى الله عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا جلس فى المجلس احتبى بيديه، وكذلك كان أكثر جلوسه محتبيا «1» . وعن جابر بن سمرة: أنه تربّع، وربما جلس القرفصاء «2» ، وكان كثير السّكوت، لا يتكلم فى غير حاجة، يعرض عمن تكلم بغير جميل، وكان ضحكه تبسّما وكلامه فصلا «3» لا فضول ولا تقصير، وكان ضحك أصحابه عنده التّبسّم توقيرا له واقتداء به، مجلسه مجلس حلم وحياء وخير وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تؤبن «4» فيه الحرم، إذا تكلّم أطرق جلساؤه كأنما على رءوسهم الطّير. وفى صفته: يخطو تكفّؤا «5» ويمشى هونا «6» كأنما ينحطّ من صبب. «7» وفى الحديث الآخر: «إذا مشى مشى مجتمعا، يعرف فى مشيته أنه غير غرض ولا وكل؛ أى غير ضجر ولا كسلان. وقال عبد الله بن مسعود: إنّ أحسن الهدى هدى محمد صلّى الله عليه وسلّم. وعن جابر بن عبد الله: كان فى كلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ترتيل «8» أو ترسيل، قال ابن أبى هالة: كان سكوته على أربع: على الحلم، الجزء: 18 ¦ الصفحة: 266 والحذر، والتقدير، والتفكر. وقالت عائشة رضى الله عنها: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحدث حديثا لو عدّه العادّ لأحصاه. وكان صلّى الله عليه وسلّم يحب الطّيب والرائحة الحسنة ويحض عليها ويقول: «حبّب إلى من دنياكم النّساء، والطّيب وجعلت قرّة عينى فى الصلاة» . ومن مروءته صلّى الله عليه وسلّم نهيه عن النفخ فى الطعام والشراب، والأمر بالأكل مما يلى، والأمر بالسّواك، وإنقاء البراجم «1» والرّواجب، واستعمال خصال الفطرة «2» . صلّى الله عليه وسلّم تسليما كثيرا أبدا دائما إلى يوم الدين، آمين. وأما زهده فى الدنيا صلّى الله عليه وسلّم فحسبك من ذلك أنه صلّى الله عليه وسلّم توفّى ودرعه مرهونة عند يهودىّ فى نفقة عياله، بعد أن فتح الله عليه من الفتوحات ما ذكرناه، وآتاه من الأخماس والصفايا «3» ما قدمناه، فآثر «4» بذلك كله، وكان يقول: «اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا «5» » وسنذكر إن شاء الله تعالى فى أحواله ما ناله من شدّة العيش والجوع ما تقف عليه هناك. قالت عائشة رضى الله عنها: لقد مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما فى بيتى شىء يأكله ذو كبد إلا شطر «6» شعير فى رفّ لى، وقال لى: «إنّى عرض علىّ أن تجعل لى الجزء: 18 ¦ الصفحة: 267 بطحاء مكة ذهبا، فقلت لا يا ربّ أجوع يوما وأشبع يوما، فأمّا اليوم الذى أجوع فيه فأتضرّع إليك وأدعوك، وأما اليوم الذى أشبع فأحمدك وأثنى عليك» . وفى حديث آخر: «إن جبريل عليه السلام نزل عليه فقال له: إن الله يقرئك السلام ويقول لك: أتحب أن أجعل هذه الجبال ذهبا، وتكون معك حيثما كنت؟» فأطرق ساعة ثم قال: «يا جبريل، إن الدنيا دار من لا دار له ومال من لا مال له قد يجمعها من لا عقل له» فقال له جبريل: ثبتك الله يا محمد بالقول الثابت. صلّى الله عليه وسلّم. وأما خوفه ربّه، وطاعته له، وشدّة عبادته صلّى الله عليه وسلّم فكان ذلك على قدر علمه بربه تبارك وتعالى؛ ولذلك قال فيما رويناه بسند متصل عن سعيد بن المسيّب: إن أبا هريرة كان يقول قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا» . ومن رواية عن أبى عيسى الترمذىّ عن أبى ذرّ: «إنى أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون أطّت السماء «1» وحقّ لها أن تئطّ ما فيها موضع أربع أصابع إلا وفيها ملك ساجد لله واضع جبهته، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا وما تلذّذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصّعدات «2» تجأرون إلى الله، لوددت أنى شجرة تعضد «3» » . روى هذا الكلام: «وددت أنى شجرة تعضد» من قول أبى ذر الجزء: 18 ¦ الصفحة: 268 نفسه وهو أصح. وفى حديث آخر: صلّى رسول الله عليه وسلّم حتى انتفخت قدماه. وفى رواية: كان يصلى حتى ترم قدماه، فقيل له أتكلف هذا وقد غفر لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟، قال: «أفلا أكون عبدا شكورا» . وقالت عائشة رضى الله عنها: كان عمل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ديمة «1» ، وأيّكم يطيق ما كان يطيق. وقالت: كان يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم. وكان صلّى الله عليه وسلّم يصوم الاثنين والخميس، وثلاثة أيام من كل شهر، ويوم عاشوراء، وقلّ ما كان يفطر يوم الجمعة، وأكثر صيامه فى شعبان. وقال عوف بن مالك: كنت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة فاستاك ثم توضأ ثم قام فصلى فقمت معه، فبدأ فاستفتح البقرة، فلا يمرّ بآية رحمة إلا وقف فسأل، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف فتعوّذ، ثم ركع فمكث بقدر قيامه يقول: «سبحان ذى الجبروت والملكوت والعظمة» ثم سجد، وقال مثل ذلك، ثم قرأ آل عمران ثم سورة سورة يفعل مثل ذلك. وعن حذيفة مثله، وقال: سجد نحوا من قيامه، وجلس بين السجدتين نحوا منه، وقال: حتى قرأ البقرة وآل عمران والنساء والمائدة. وعن عائشة رضى الله عنها قالت: قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بآية من القرآن ليلة. وعن عبد الله بن الشّخّير قال: أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولجوفه أزيز كأزيز «2» المرجل. وقال ابن أبى هالة: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة. وقال صلّى الله عليه وسلّم: إنى لأستغفر الله فى اليوم مائة مرة، وروى سبعين مرة. وعن علىّ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 269 ابن أبى طالب رضى الله عنه قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن سنته فقال: «المعرفة رأس مالى، والعقل أصل دينى، والحبّ أساسى، والشوق مركبى، وذكر الله أنيسى، والثقة كنزى، والحزن رفيقى، والعلم سلاحى، والصّبر زادى، والرّضا غنيمتى، والعجز فحرى، والزهد حرفتى، واليقين قوتى، والصدق شفيعى، والطاعة حسبى «1» ، والجهاد خلقى، وقرّة عينى فى الصلاة» . وفى حديث آخر: «وثمرة فؤادى فى ذكره، وغمّى لأجل أمتى، وشوقى إلى ربى» . ولنصل هذه الفصول التى شرحناها فى صفاته المعنوية صلّى الله عليه وسلّم بما ورد من طيب ريحه، وعرقه، وما يجرى هذا المجرى. ذكر نبذة مما ورد فى نظافة جسمه، وطيب ريحه، وعرقه ونزاهته عن الأقذار وعورات الجسد صلّى الله عليه وسلّم كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد خصّه الله عز وجل من ذلك بخصائص لم توجد فى غيره، ومنحه منحا لم تكن فى سواه؛ من ذلك ما رويناه عن مسلم ابن الحجاج بإسناده، عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: ما شممت عنبرا قطّ ولا مسكا ولا شيئا أطيب من ريح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وعن جابر ابن سمرة أنه صلّى الله عليه وسلّم مسح خدّه، قال: فوجدت ليده بردا وريحا كأنّما أخرجها من جونة «2» عطّار. قال غيره: مسّها بطيب أو لم يمسّها، يصافح المصافح فيظل يومه يجد ريحها، ويضع يده على رأس الصبىّ فيعرف من بين الصبيان بريحها. وروى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نام فى دار أنس فعرق، فجاءت أمّ أنس بقارورة تجمع فيها عرقه، فسألها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك الجزء: 18 ¦ الصفحة: 270 فقالت: نجعله فى طيبنا وهو من أطيب الطّيب. وذكر البخارى فى تاريخه الكبير عن جابر: لم يكن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم يمرّ فى طريق فيتبعه أحد إلا عرف أنه سلكه من طيبه. وذكر إسحق بن راهويه: أن تلك كانت رائحته بلا طيب صلّى الله عليه وسلّم. وروى المزنىّ «1» عن جابر قال: أردفنى النبى صلّى الله عليه وسلّم فالتقمت خاتم النبوّة بفمى وكان ينمّ علىّ مسكا. ونقل القاضى عياض بن موسى قال: حكى بعض المعتنين بأخباره وشمائله صلّى الله عليه وسلّم أنه كان إذا أراد أن يتغوّط انشقت الأرض فابتلعت غائطه وبوله، وفاحت لذلك رائحة طيبة. وأسند محمد بن سعد فى هذا خبرا عن عائشة رضى الله عنها، أنها قالت للنبىّ صلّى الله عليه وسلّم: إنك تأتى الخلاء ولا يرى منك شىء من الأذى. فقال: «يا عائشة أو ما علمت أن الأرض تبتلع ما يخرج من الأنبياء فلا يرى منه شىء» قال القاضى عياض: وهذا الخبر وإن لم يكن مشهورا فقد قال قوم من أهل العلم بطهارة الحدثين منه صلّى الله عليه وسلّم. ومن ذلك حديث علىّ بن أبى طالب فى الوفاة وسنذكره إن شاء الله تعالى. وقد جاء عن أمه آمنة أنها قالت: ولدته نظيفا ما به قذر. صلّى الله عليه وسلّم. ولنختم هذه الفصول بحديث هند بن أبى هالة لجمعه بين صفاته صلّى الله عليه وسلّم الذاتية والمعنوية. والله أعلم. ذكر حديث هند بن أبى هالة وما تضمن من أوصاف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذاتية والمعنوية حدّثنا الشيخان المحدّثان شرف الدّين أبو يوسف يعقوب بن أحمد بن يعقوب الحلبىّ، وزين الدين أبو محمد عبد الحقّ بن قينان بن عبد المجيد القرشىّ- رحمهما الله- قراءة عليهما وأنا أسمع فى شهر رجب عام ثمانية وسبعمائة، قالا: حدّثنا الشيخ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 271 أبو الحسن محمد بن أبى علىّ الحسين بن عتيق بن رشيق الرّبعى المالكى سماعا فى شوّال سنة ثمان وستين وستمائة بمصر، وبقراءة الشيخ زين الدين الثانى على الشيخ نظام الدين الحسين بن محمد بن الحسن بن الخليلى، وبإجازتهما من الحافظ أبى الحسين يحيى ابن على بن عبد الله القرشىّ، وتاج الدين على بن أحمد بن القسطلانىّ، قالوا أخبرنا أبو الحسين محمد بن أبى جعفر أحمد بن جبير الكنانى، قال أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن عيسى التميمىّ إجازة، قال أخبرنا القاضى أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض اليحصبىّ رحمه الله تعالى، قال ابن القسطلانىّ: وأخبرنا أبو جعفر أحمد بن عبد الرحمن بن مضاء إجازة، قال أخبرنا أبو الفضل عياض إجازة، قال القاضى أبو الفضل حدّثنا القاضى أبو على الحسين بن محمد الحافظ رحمه الله بقراءتى عليه سنة ثمان وخمسمائة، قال حدّثنا الإمام أبو القاسم عبد الله ابن طاهر التميمىّ، قال قرأت عليه: أخبركم الفقيه الأديب أبو بكر محمد بن الحسن النيسابورىّ، والشيخ الفقيه أبو عبد الله محمد بن أحمد بن الحسن المحمدىّ، والقاضى أبو علىّ الحسن بن على بن جعفر الوخشىّ «1» ، قالوا: حدّثنا أبو القاسم على بن أحمد بن محمد بن الحسن الخزاعىّ، قال أخبرنا أبو سعيد الهيثم بن كليب الشاشى، قال أخبرنا أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الحافظ؛ قال حدّثنا سفيان بن وكيع، قال حدّثنا جميع بن عمر بن عبد الرحمن العجلىّ إملاء من كتابه، قال حدّثنى رجل من بنى تميم من ولد أبى هالة زوج خديجة أمّ المؤمنين رضى الله عنها، يكنى أبا عبد الله عن ابن لأبى هالة عن الحسن بن على بن أبى طالب رضى الله عنه، قال سألت خالى هند بن أبى هالة. قال القاضى أبو علىّ رحمه الله: وقرأت على الشيخ أبى طاهر أحمد بن الحسن بن أحمد بن خذاداذ الكرخى الباقلّانى، قال الجزء: 18 ¦ الصفحة: 272 وأجاز لنا الشيخ الأجل أبو الفضل أحمد بن الحسن بن خيرون، قالا أخبرنا أبو على الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن الحسن بن محمد بن شاذان بن حرب بن مهران الفارسىّ، قراءة عليه، فأقرّ به، قال أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد بن يحيى ابن الحسن بن جعفر بن عبيد الله بن الحسين بن على بن الحسين بن على ابن أبى طالب المعروف بابن أخى طاهر العلوى، قال حدّثنا إسمعيل بن محمد ابن إسحق بن جعفر بن محمد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب، قال: حدّثنى على بن جعفر بن محمد بن على بن الحسين، عن أخيه موسى بن جعفر ابن محمد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن على، عن على بن الحسين قال قال الحسن بن على- واللفظ لهذا السند-: سألت خالى هند بن أبى هالة عن حلية «1» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان وصّافا، وأنا أرجو أن يصف لى منها شيئا أتعلق به، قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم فخما «2» مفخّما يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر، أطول من المربوع، وأقصر من المشذّب «3» ، عظيم الهامة «4» ، رجل «5» الشعر، إن انفرقت عقيقته «6» فرق، وإلا فلا يجاوز شعره شحمة أذنه إذا هو وفّر، أزهر «7» اللون، واسع الجبين «8» ، أزجّ «9» الحواجب، سوابغ «10» من غير قرن، بينهما عرق الجزء: 18 ¦ الصفحة: 273 يدرّه «1» الغضب، أقنى «2» العرنين، له نور يعلوه، ويحسبه من لم يتأمله أشمّ «3» ، كثّ «4» اللحية، أدعج «5» ، سهل الخدّين، ضليع «6» الفم، أشنب «7» مفلّج «8» الأسنان، دقيق المسربة «9» ، كأنّ عنقه جيد دمية «10» في صفاء الفضة، معتدل الخلق، بادنا متماسكا، «11» سواء البطن والصّدر، مشيح «12» الصّدر، بعيد ما بين المنكبين، ضخم الكراديس «13» ، أنور المتجرد «14» ، موصول ما بين اللّبّة والسّرة بشعر يجرى كالخطّ، عارى الثديين «15» ، ما سوى ذلك، أشعر الذراعين والمنكبين وأعالى الصدر، طويل الزندين، رحب الراحة، شثن «16» الكفّين والقدمين، سائل «17» الأطراف، أو قال سائن الأطراف، سبط القصب «18» ، الجزء: 18 ¦ الصفحة: 274 خمصان «1» الأخمصين، مسيح «2» القدمين ينبو عنهما الماء، إذا زال «3» زال تقلّعا، ويخطو تكفّؤا «4» ، ويمشى «5» هونا، ذريع «6» المشية، إذا مشى كأنما ينحطّ من صبب «7» ، وإذا التفت التفت جميعا، خافض الطّرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جل نظره الملاحظة «8» ، يسوق أصحابه، ويبدأ من لقيه بالسلام. قلت: صف لى منطقه، قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متواصل الأحزان، دائم الفكرة، وليست له راحة، ولا يتكلم فى غير حاجة، طويل السكوت، يفتتح الكلام ويختتمه بأشداقه «9» ، ويتكلم بجوامع الكلم، فصلا «10» لا فضول فيه ولا تقصير، دمثا «11» ليس بالجافى «12» ولا المهين، يعظّم النّعمة وإن دقّت، لا يذمّ شيئا لم يكن يذمّ ذواقا ولا يمدحه، ولا يقام لغضبه إذا تعرّض للحقّ بشىء حتى ينتصر له، ولا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها، إذا أشار أشار بكفّه كلها، وإذا تعجب الجزء: 18 ¦ الصفحة: 275 قلبها، وإذا تحدّث اتصل «1» بها فضرب بإبهامه اليمنى راحته اليسرى، وإذا غضب أعرض وأشاح «2» ، وإذا فرح غضّ طرفه، جلّ ضحكه التبسم، ويفترّ «3» عن مثل حبّ الغمام. قال الحسن: فكتمتها الحسين بن على زمانا، ثم حدثته فوجدته قد سبقنى إليه، فسأل أباه عن مدخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومخرجه ومجلسه وشكله، فلم يدع منه شيئا، قال الحسين: سألت أبى- عليه السلام- عن دخول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: كان دخوله لنفسه مأذونا له فى ذلك، فكان إذا آوى إلى منزله جزّأ دخوله ثلاثة أجزاء: جزء لله تعالى، وجزء لأهله، وجزء لنفسه. ثم جزأ جزءه بينه وبين الناس، فيردّ ذلك على العامة بالخاصة، ولا يدّخر عنهم شيئا، فكان من سيرته فى جزء الأمة إيثار أهل الفضل بإذنه، قسمته على قدر فضلهم فى الدّين، منهم ذو الحاجة، ومنهم ذو الحاجتين، ومنهم ذو الحوائج، فيتشاغل بهم، ويشغلهم فيما أصلحهم والأمة من مسألته عنهم، وإخبارهم بالذى ينبغى لهم، ويقول: «ليبلغ الشاهد منكم الغائب، وأبلغونى حاجة من لا يستطيع إبلاغى حاجته، فإنه من أبلغ سلطانا حاجة من لا يستطيع إبلاغها ثبت الله قدميه يوم القيامة» لا يذكر عنده إلا ذلك ولا يقبل من أحد غيره. قال فى حديث سفيان بن وكيع: «يدخلون روّادا «4» ، ولا يتفرّقون إلا عن ذواق «5» ، ويخرجون أدلة «6» » ، يعنى فقهاء، قلت: فأخبرنى عن مخرجه كيف كان يصنع فيه، قال: الجزء: 18 ¦ الصفحة: 276 كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخزن لسانه إلا مما يعنيهم، ويؤلّفهم ولا يفرقهم، يكرم كريم كل قوم وبولّيه عليهم، ويحذر الناس ويحترس منهم من غير أن يطوى عن أحد بشره وخلقه، ويتفقّد أصحابه، ويسأل الناس عما فى الناس، ويحسّن الحسن ويصوّبه، ويقبّح القبيح ويوهنه، معتدل الأمر غير مختلف، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يملّوا؛ لكل حال عنده عتاد «1» ، لا يقصّر عن الحقّ ولا يجاوزه إلى غيره، الذين يلونه من الناس خيارهم، وأفضلهم عنده أعمّهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة. فسألته عن مجلسه عما كان يصنع فيه، فقال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر، ولا يوطّن «2» الأماكن، وينهى عن إيطانها، وإذا انتهى إلى القوم جلس حيث ينتهى به المجلس ويأمر بذلك، ويعطى كل جلسائه نصيبه حتى لا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه منه، من جالسه أو قاربه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه، من سأله حاجة لم يردّه إلا بها أو بميسور من القول، قد وسع الناس بسطه وخلقه فصار لهم أبا، وصاروا عنده فى الحقّ متقاربين متفاضلين فيه بالتقوى. وفى الرواية الأخرى: صاروا عنده فى الحقّ سواء، مجلسه مجلس حلم وحياء وصبر وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات ولا تؤبن فيه الحرم، ولا تنثى «3» فلتاته- وهذه الكلمة من غير الروايتين- يتعاطفون، الجزء: 18 ¦ الصفحة: 277 بالتقوى متواضعين، يوقّرون فيه الكبير ويرحمون الصغير، ويرفدون «1» ذا الحاجة ويرحمون الغريب. فسألته عن سيرته صلّى الله عليه وسلم فى جلسائه، فقال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دائم البشر، سهل الخلق، ليّن الجانب، ليس بفظّ ولا غليظ، ولا سخّاب «2» ولا فحاش، ولا عيّاب، ولا مدّاح، يتغافل عما لا يشتهى ولا يؤيس منه، قد ترك نفسه من ثلاث: الرياء، والإكثار، وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث: كان لا يذمّ أحدا ولا يعيّره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رءوسهم الطير، وإذا سكت تكلموا، لا يتنازعون عنده الحديث، من تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغ، حديثهم حديث أوّلهم، يضحك مما يضحكون منه، ويعجب مما يعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة فى المنطق، ويقول: «إذا رأيتم صاحب الحاجة يطلبها فأرفدوه» ولا يطلب الثناء «3» إلا من مكافئ، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يتجوزه فيقطعه بانتهاء أو قيام. هنا انتهى حديث سفيان بن وكيع. وزاد الآخر؛ قلت: كيف كان سكوته صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: كان سكوته على أربع: على الحلم والحذر والتقدير والتفكّر، فأما تقديره ففى تسوية النظر والاستماع بين الناس، وأما تفكره ففيما يبقى ويفنى، وجمع له الحلم صلّى الله عليه وسلّم فى الصبر، فكان لا يغضبه شىء يستفزّه. وجمع له فى الحذر أربع: أخذه بالحسن، ليقتدى به، وتركه القبيح لينتهى عنه، واجتهاد الرأى بما أصلح أمّته، والقيام لهم بما جمع لهم أمر الدنيا والآخرة. صلّى الله عليه وسلّم. فهذه جملة كافية من أوصافه صلّى الله عليه وسلّم، فلنذكر أحواله. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 278 ذكر أحوال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى دنياه، وما ناله من شدّة العيش فيها، وما روى من أحواله فى تطيّبه ولباسه وفراشه، ووسادته، وتختّمه وتنعّله، وخفّيه. وسواكه، ومشطه، ومكحلته ومرآته وقدحه، وما ورد فى حجامته، وما ملكه من السّلاح والدّواب وغير ذلك. صلّى الله عليه وسلّم أما ما ناله صلّى الله عليه وسلّم من شدة العيش فى دنياه فقد تقدّم من صفاته المعنوية زهده فى الدنيا وتقلّله منها، وأحلنا هناك على ما نورده فى هذا الموضع. وسنورد منه ما تقف عليه إن شاء الله. فمن ذلك ما روى عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يبيت الليالى المتتابعة طاويا، وأهله لا يجدون عشاء، وكان عامة خبزهم الشعير. وعن أنس بن مالك أن فاطمة رضى الله عنها جاءت بكسرة خبز إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «ما هذه الكسرة» ؟ قالت: قرص خبزته فلم تطب نفسى حتى أتيتك بهذه الكسرة. فقال: «أما إنه أول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاثة أيام» . وعن أبى هريرة: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يشدّ صلبه بالحجر من الغرث» «1» . وعن مسروق قال: بينهما عائشة تحدّثنى ذات يوم إذ بكت؛ فقلت: ما يبكيك يا أم المؤمنين؟ قالت: ما ملأت بطنى من طعام فشئت أن أبكى إلا بكيت؛ أذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما كان فيه من الجهد. وعنه قال: دخلت على عائشة أمّ المؤمنين وهى تبكى، فقلت: يا أمّ المؤمنين ما يبكيك؟ قالت: ما أشبع فأشاء أن أبكى إلا بكيت؛ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 279 وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يأتى عليه أربعة أشهر ما يشبع من خبز برّ. وعنها رضى الله عنها قالت: ما شبع آل محمد غداء وعشاء من خبز الشعير ثلاثة أيام متتابعات حتى لحق بالله. ومن رواية عنها: ما رفع عن مائدته كسرة فضلا حتى قبض. وعن أبى هريرة قال: كان يمرّ بآل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هلال، ثم هلال، ثم هلال، لا يوقد فى شىء من بيوته نار، لا لخبز ولا لطبيخ، قالوا: بأى شىء كانوا يعيشون يا أبا هريرة؟ قال: بالأسودين التمر والماء. قال: وكان له جيران من الأنصار- جزاهم الله خيرا- لهم منائح» يرسلون إليه بشىء من لبن. وعن الحسن قال: خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «والله ما أمسى فى آل محمد صاع من طعام وإنها لتسعة أبيات» والله ما قالها استقلالا لرزق الله، ولكن أراد أن تأسّى به أمته. وعن عائشة رضى الله عنها قالت: ما شبع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى يوم مرتين حتى لحق بالله، ولا رفعنا له فضل طعام عن شبع حتى لحق بالله، إلا أن نرفعه لغائب. فقيل لها: ما كانت معيشتكم؟ قالت: الأسودان الماء والتمر. قالت: وكان لنا جيران من الأنصار لهم ربائب «2» يسقونا من لبنها؛ جزاهم الله خيرا. وعن ابن شهاب: أن أبا هريرة كان يمرّ بالمغيرة بن الأخنس وهو يطعم الطعام، فقال: ما هذا الطعام؟ قال: خبز النّقىّ «3» واللحم السّمين، قال: وما النّقىّ؟ قال: الدقيق. فتعجب أبو هريرة ثم قال: عجبا لك يا مغيرة! رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبضه الجزء: 18 ¦ الصفحة: 280 الله عز وجل، وما شبع من الخبز والزيت فى يوم مرتين، وأنت وأصحابك تهذرون «1» ها هنا الدنيا بينكم. وعن قتادة قال: كنا نأتى أنس بن مالك وخبّازه قائم، فقال يوما: كلوا فما أعلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى رغيفا مرقّفا «2» حتى لحق بربه، ولا شاة سميطا «3» قطّ. وعن عائشة رضى الله عنها قالت: ما اجتمع فى بطن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم طعامان فى يوم قطّ، إن أكل لحما لم يزد عليه، وإن أكل تمرا لم يزد عليه، وإن أكل خبزا لم يزد عليه. وعن عائشة رضى الله عنها قالت: أرسل أبو بكر رضى الله عنه قائمة شاة ليلا فقطعت، وأمسك علىّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أو قطع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأمسكت عليه، فقيل لها: على غير مصباح؟ قالت عائشة: لو كان عندنا مصباح لأتدمنا به، كان يأتى على آل محمد شهر ما يختبزون خبزا ولا يطبخون قدرا. وعن عمران بن زيد المدينى قال: حدّثنى والدى، قال: دخلنا على عائشة، فقلنا: سلام عليك يا أمّاه، قالت: وعليك، ثم بكت، فقلنا: ما بكاؤك يا أمّاه؟ قالت: بلغنى أن الرجل منكم يأكل من ألوان الطعام حتى يلتمس لذلك دواء، فذكرت نبيكم صلّى الله عليه وسلّم، فذلك الذى أبكانى، خرج من الدنيا ولم يملأ بطنه فى يوم من طعامين، كان إذا شبع من التمر لم يشبع من الخبز، وإن شبع من الخبز لم يشبع من التمر، فذلك الذى أبكانى. وعن أسماء بنت يزيد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم توفّى يوم توفّى، ودرعه مرهونة عند رجل من اليهود يوسق من شعير. وسئل سهل بن سعد: الجزء: 18 ¦ الصفحة: 281 أكانت المناخل على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: ما رأيت منخلا فى ذاك الزمان، وما أكل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الشعير منخولا حتى فارق الدنيا. فقيل له: كيف كنتم تصنعون؟ قال: كنا نطحنها ثم ننفخ قشرها، فيطير ما طار ويستمسك ما استمسك. وعن الأعرج، عن أبى هريرة أن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم كان يجوع، قال قلت لأبى هريرة: وكيف ذلك الجوع؟ قال: لكثرة من يغشاه وأضيافه، وقوم يلزمونه لذلك، فلا يأكل طعاما أبدا إلا ومعه أصحابه وأهل الحاجة يتتبعون من المسجد، فلما فتح الله تعالى خيبر اتّسع الناس بعض الاتساع، وفى الأمر بعد «1» ضيق، والمعاش شديد فى بلاد ظف «2» ، لا زرع فيها، إنما طعام أهلها التمر وعلى ذلك أقاموا. قال مخرمة بن سليمان: وكانت جفنة سعد تدور على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منذ يوم نزل المدينة فى الهجرة إلى يوم توفّى، وغير سعد بن عبادة من الأنصار يفعلون ذلك. وكان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كثيرا يواسون، ولكن الحقوق تكثر والعدّام «3» يكثرون، والبلاد ضيقة ليس فيها معاش، إنما تخرج ثمرتهم من ماء ثمد «4» يحمله الرجال على أكتافهم، أو على الإبل، والإبل أقل ذلك، وربما أصاب نخلهم القشام «5» فتذهب ثمرتهم تلك السنة، والقشام: شىء يصيب البلح مثل الجدرى فينتثر؛ فهذه كانت حاله صلّى الله عليه وسلّم فى عيشه فى غالب أوقاته، وهى سنّة الأنبياء صلوات الله عليهم. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 282 وأما تطيبه صلّى الله عليه وسلّم فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحبّ الطّيب، وكان يتطيب بالغالية «1» وبالمسك، حتى يرى وبيصه «2» في مفارقه، ويتبخّر بالعود ويطرح معه الكافور، وكان يعرف فى الليلة المظلمة بطيب ريحه صلّى الله عليه وسلّم. وأما لباسه صلّى الله عليه وسلّم وما روى من ألوانه وأصنافه وطوله وعرضه فقد روى أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يتجمّل لأصحابه، فضلا عن تجمّله لأهله، ويقول: «إن الله يحب من عبده إذا خرج إلى إخوانه أن يتهيّا لهم ويتجمّل» ولبس صلّى الله عليه وسلّم من الثياب البياض والحمرة والصّفرة والخضرة والسّواد. أما البياض وما جاء فيه- فقد روى عن سمرة بن جندب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «عليكم بالبياض من الثياب فليلبسها أحياؤكم وكفّنوا فيها موتاكم فإنها من خير ثيابكم» وفى رواية عنه «البسوا الثياب البيض فإنها أطهر وأطيب وكفّنوا فيها موتاكم» . وعن أبى قلابة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ من أحبّ ثيابكم إلى الله البياض، فصلّوا فيها وكفّنوا فيها موتاكم» . وأما الثياب الحمر- فروى عن البراء قال: ما رأيت أحدا كان أحسن فى حلّة حمراء من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وعنه: ما رأيت من ذى لمّة «3» أحسن فى حلّة حمراء من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وعن عون بن أبى جحيفة عن أبيه الجزء: 18 ¦ الصفحة: 283 قال: أتيت النبىّ صلّى الله عليه وسلّم بالأبطح، وهو فى قبّة حمراء، فخرج وعليه جبّة له حمراء وحلّة عليه حمراء. وعن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يلبس يرده الاحمر «1» في العيدين والجمعة. وعن أبى جعفر محمد بن علىّ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يلبس يوم الجمعة برده الأحمر؛ ويعتمّ «2» يوم العيدين، صلّى الله عليه وسلّم تسليما كثيرا. وأما الثياب الصّفر- فقد روى عن قيس بن سعد بن عبادة قال: أتانا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوضعنا له غسلا فاغتسل، ثم أتيناه بملحفة ورسيّة «3» فاشتمل بها، فكأنى أنظر إلى أثر الورس على عكنه «4» . وعن بكر بن عبد الله المزنى قال: كانت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ملحفة مورّسة، فإذا دار على نسائه رشّها بالماء. وعن أمّ سلمة رضى الله عنها قالت: ربما صبغ لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم قميصه ورداؤه وإزاره بزعفران وورس، ثم يخرج فيها. وعن عبد الله بن مالك قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصبغ ثيابه بالزعفران: قميصه ورداءه وعمامته. وعن عبد الله بن جعفر عن أبيه قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليه رداء وعمامة مصبوغين بالعبير «5» ، والعبير عندهم الزّعفران. وعن زيد بن أسلم قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصبغ ثيابه كلها بالزعفران حتى العمامة. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 284 وأما الثياب الخضر- فقد روى أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يعجبه الثياب الخضر. وعن أبى رمثة قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعليه بردان أخضران. والله المنعم. وأما السّواد وما ورد فيه- فقد روى عن جابر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دخل مكة، وعليه عمامة سوداء. وعن حريث عن أبيه أن النبى صلّى الله عليه وسلّم خطب الناس، وعليه عمامة سوداء، هذا ما وقفنا عليه من ألوان لباسه صلّى الله عليه وسلّم. فأما أصناف لباسه صلّى الله عليه وسلّم وطولها وعرضها، فإنه عليه الصلاة والسلام لبس الصوف والحبرة والقطن، ولبس السّندس «1» والحرير، ثم تركه، وورد فى ذلك أخبار نذكر منها ما أمكن. أما الصوف وما ورد فيه- فقد روى عن أبى بردة قال: دخلت على عائشة رضى الله عنها فأخرجت إلينا إزارا غليظا مما يصنع باليمن، وكساء من هذه الملبّدة، فأقسمت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبض فيهما. وعنها رضى الله عنها قالت: جعل للنبىّ صلّى الله عليه وسلّم بردة سوداء من صوف فلبسها. وعن سهل بن سعد: قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ببردة منسوجة، فيها حاشيتاها. قال سهل: وتدرون ما البردة؟ قالوا: الشّملة، قال: نعم، هى الشّملة، فقالت: يا رسول الله، نسجت هذه البردة بيدى فجئت بها أكسوكها، قال: فأخذها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم محتاجا إليها، فخرج علينا وإنها لإزاره، فحسّنها فلان- لرجل من القوم سماه- فقال: يا رسول الله، ما أحسن هذه البردة! الجزء: 18 ¦ الصفحة: 285 أكسنيها، فقال: «نعم» فجلس ما شاء الله فى المجلس ثم رجع، فلما دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طواها ثم أرسل بها إليه، فقال له القوم: ما أحسنت، كسيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم محتاجا إليها ثم سألته إياها، وقد علمت أنه لا يرد سائلا! فقال الرجل: والله ما سألته إياها لألبسها، ولكن لتكون كفنى يوم أموت، قال سهل: فكانت كفنه. وأما الحبرة وهى من برود اليمن فيها حمرة وبياض فكانت من أحبّ اللباس إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وروى عن قتادة قال قلت لأنس بن مالك: أىّ اللباس كان أحبّ وأعجب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: الحبرة. وعن محمد بن هلال قال: رأيت على هشام بن عبد الملك برد النبى صلّى الله عليه وسلّم من حبرة له حاشيتان. وأما السّندس والحرير- فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لبس ذلك ثم تركه. روى عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: أهدى ملك الروم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مستقة «1» من سندس فلبسها، فكأنّى أنظر إلى يديها تذبذبان «2» من طولها. فجعل القوم يقولون: يا رسول الله، أنزلت عليك من السماء؟ فقال: «وما تعجبون منها، فو الذى نفسى بيده إن منديلا من مناديل سعد بن معاذ فى الجنة خير منها» ثم بعث بها إلى جعفر بن أبى طالب فلبسها، فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: «إنى لم أعطكها لتلبسها» قال: فما أصنع بها؟ قال: «ابعث بها الجزء: 18 ¦ الصفحة: 286 إلى أخيك النجاشى» . وعن عقبة بن عامر قال: أهدى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرّوج- يعنى قباء حرير- فلبسه، ثم صلّى فيه، ثم انصرف فنزعه نزعا شديدا كالكاره له، ثم قال: «لا ينبغى هذا للمتقين» . وعن عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلّى فى خميصة لها أعلام، فنظر إلى أعلامها نظرة، فلما سلّم قال: «اذهبوا بخميصتى هذه إلى أبى جهم فإنها ألهتنى آنفا عن صلاتى وأتونى بأنجبانىّ «1» أبى جهم» . وأما القطن وما ورد فى أطوال ثياب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعرضها فروى عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: كنت يوما أمشى مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعليه برد بحرانىّ «2» غليظ الحاشية. وعنه: كان قميص رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قطنيا قصير الطول قصير الكمّين. وعن بديل «3» قال: كان كمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الرّسغ. وعن عروة بن الزبير رضى الله عنهما: أن طول رداء النبى صلّى الله عليه وسلّم أربع أذرع، وعرضه ذراعان وشبر. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 287 وعنه: أن ثوب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذى كان يخرج فيه إلى الوفد- ورداؤه حضرمىّ- طوله أربع أذرع، وعرضه ذراعان وشبر، فهو عند الخلفاء قد خلق، فطووه بثوب يلبسونه يوم الأضحى والفطر. وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يلبس قميصا قصير اليدين والطول. وعن عبد الرحمن بن أبى ليلى قال: كنت مع عمر، فى حديث رواه عنه قال فقال: رأيت أبا القاسم وعليه جبّة شاميّة ضيقة الكمّين. ذكر صفة إزرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما كان يقوله إذا لبس ثوبا جديدا روى عن يزيد بن أبى حبيب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يرخى الإزار من بين يديه، ويرفعه من ورائه. وعن عكرمة مولى ابن عباس، قال: رأيت ابن عباس إذا ائتزر أرخى مقدّم إزاره، حتى تقع حاشيتاه على ظهر قدميه؛ ويرفع الإزار مما وراءه، فقلت له: لم تأتزر هكذا؟ قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأتزر هذه الإزرة. وعن أبى سعيد الخدرىّ قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا استجدّ ثوبا سمّاه باسمه؛ قميصا أو إزارا أو عمامة، ويقول: «اللهم لك الحمد أنت كسوتنيه، أسألك من خيره وخير ما صنع له، وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له» . وعن عبد الرحمن بن أبى ليلى قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إذا لبس ثوبا- أو قال- إذا لبس أحدكم ثوبا فليقل الحمد لله الذى كسانى ما أوارى به عورتى، وأتجمّل به فى حياتى» . وكان صلّى الله عليه وسلّم يلبس الكساء الصوف وحده فيصلى فيه، وربما ليس الإزار الواحد ليس عليه غيره، ويعقد طرفيه بين كتفيه يصلى فيه. وكان يلبس القلانس الجزء: 18 ¦ الصفحة: 288 تحت العمائم، ويلبسها دونها [ويلبس العمائم «1» دونها] ويلبس القلانس ذات الآذان فى الحرب، وربما نزع قلنسوته، وجعلها سترة بين يديه وصلّىّ إليها، وربما مشى بلا قلنسوة ولا عمامة ولا رداء، راجلا يعود المرضى كذلك فى أقصى المدينة. وكان يعتمّ ويسدل طرف عمامته بين كتفيه. وعن علىّ أنه قال: عمّمنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعمامة، وسدل طرفها على منكبى، وقال: «إنّ العمامة حاجز بين المسلمين والمشركين» . ذكر فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ووسادته روى عن عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها، قالت: دخلت امرأة من الأنصار علىّ فرأت فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عباءة مثنيّة، فانطلقت فبعثت إلىّ «2» بفراش حشوه صوف، فدخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علىّ فقال: «ما هذا» ؟ قلت: يا رسول الله؛ فلانة الأنصارية، دخلت علىّ فرأت فراشك فذهبت فبعثت هذا. فقال: «ردّيه» فلم أردّه، وأعجبنى أن يكون فى بيتى، حتى قال ذلك ثلاث مرات، فقال: «والله يا عائشة لو شئت لأجرى الله معى جبال الذهب والفضة» . وعنها: أنها كانت تفرش لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم عباءة باثنتين «3» فجاء ليلة وقد ربّعتها فنام عليها، فقال: «يا عائشة ما لفراشى الليلة ليس كما كان يكون» ؟ قالت قلت: يا رسول الله، ربّعتها، قال: «فأعيديه كما كان» . وعنها قالت: كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسادة من أدم محشوّة ليفا، ودخل عمر بن الخطاب رضى الله عنه على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو على سرير الجزء: 18 ¦ الصفحة: 289 مرمول «1» بشريط، وتحت رأسه مرفقة «2» من أدم محشوّة بليف، وقد أثّر الشّريط بجنبه، فبكى عمر، فقال: «ما يبكيك» ؟ قال: يا رسول الله، ذكرت كسرى وقيصر يجلسون على سرر الذّهب ويلبسون السّندس والإستبرق، فقال: «أما ترضون أن تكون لكم الآخرة ولهم الدنيا» . وعن عبد الله بن مسعود قال: اضطجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على حصير فأثر الحصير بجلده، فلما استيقظ جعلت أمسح عنه وأقول: يا رسول الله، ألا آذنتنا نبسط لك على هذا الحصير شيئا يقيك منه؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مالى وللدنيا، وما أنا والدنيا، ما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها» ، وعن المغيرة ابن شعبة قال: كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فروة، وكان يستحب أن تكون له فروة مدبوغة يصلى عليها، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلى على الحصير والخمرة «3» ، كما روى فى الصحيحين. ذكر ما لبسه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الخواتم، ومن قال لم يتختّم قد قدّمنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اتخذ الخاتم فى سنة سبع من الهجرة عند ما بعث رسله إلى الملوك، وختم به الكتب التى سيّرها إليهم؛ فلنذكر هنا ما لبسه من الخوانم. وقد روى أنه تختم بالذهب والفضة والحديد الملوىّ عليه الفضة، على ما نذكر ذلك من أقوالهم. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 290 روى عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال: اتخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خاتما من ذهب، فكان يجعل فصّه فى بطن كفه إذا لبسه فى يده اليمنى؛ فصنع الناس خواتيم من ذهب، فجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على المنبر فنزعه، وقال: «إنى كنت ألبس هذا الخاتم وأجعل فصّه من باطن كفى» فرمى به، وقال: «والله لا ألبسه أبدا» ونبذ النبى صلّى الله عليه وسلّم الخاتم، فنبذ الناس خواتيمهم. ثم اتخذ خاتما من فضّة فصّه منه، ونقش عليه «محمد رسول الله» ثلاثة أسطر، كان يختم به الكتب إلى الملوك. وقد روى أن خاتمه كان من حديد، ملوىّ عليه فضّة، وقيل: إنه رآه فى يد عمرو بن سعيد بن العاص حين قدم من الحبشة فقال: «ما هذا الخاتم فى يدك يا عمرو» ؟ قال: هذه حلقة يا رسول الله، قال: «فما نقشها» ؟ قال: محمد رسول الله، فأخذه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منه فتختمه، فكان فى يده حتى قبض، ثم فى يد أبى بكر حتى قبض، ثم فى يد عمر حتى قبض، ثم فى يد عثمان ستّ سنين، وفى السابعة وقع فى بئر أريس «1» . قال أنس ابن مالك: فطلبناه مع عثمان ثلاثة أيام فلم نقدر عليه. وروى عن ابن سيرين: أن نقشه كان «بسم الله، محمد رسول الله» . وقد روى محمد بن سعد فى طبقاته قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن الوليد الأزرقىّ، قال حدّثنا عطّاف بن خالد، عن عبد الأعلى بن عبد الله بن أبى فروة، عن سعيد بن المسيّب، قال: ما تختم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى لقى الله، ولا أبو بكر حتى لقى الله، ولا عمر حتى لقى الله، ولا عثمان حتى لقى الله، هكذا روى. والصحيح أنه تختّم صلّى الله عليه وسلّم، وتختموا رضوان الله عليهم أجمعين كما ذكرنا. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 291 ذكر نعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم وخفّيه روى عن أنس بن مالك رضى الله عنه: أن النبى صلّى الله عليه وسلّم كان لنعله قبالان «1» . وعن عبد الله بن الحارث قال: كان نعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لها رمالان «2» شراكهما مثنىّ فى العقدة. وعن سلمة عن هشام بن عروة قال: رأيت نعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مخصّرة «3» معقّبة ملسّنة لها قبالان. وعن عبيد ابن جريح قال قلت لابن عمر: يا أبا عبد الرحمن، أراك تستحب هذه النّعال السّبتيّة «4» ، قال: إنى رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يلبسهما ويتوضأ فيهما. وعن عبد الله بن بريدة عن أبيه: أن صاحب الحبشة أهدى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خفّين ساذجين «5» فمسح عليهما، وفى رواية: أن النجاشى أهدى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خفين أسودين ساذجين فلبسهما ومسح عليهما. ذكر سواك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومشطه، ومكحلته، ومرآته، وقدحه، وغير ذلك من أثاثه روى عن عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان لا يرقد ليلا ولا نهارا فيستيقظ إلا تسوّك قبل أن يتوضأ. وعن قتادة عن الجزء: 18 ¦ الصفحة: 292 عكرمة قال: استاك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بجريد رطب وهو صائم، فقيل لقتادة: إن أناسا يكرهونه، فقال: استاك والله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بجريد رطب وهو صائم. وعن ابن جريج قال: كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم مشط عاج «1» يمتشط به. وعن ثور عن خالد «2» بن معدان قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسافر بالمشط والمرآة والدّهن والمكحل «3» والسّواك. وعن أنس قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكثر دهن رأسه، ويسّرح لحيته بالماء. وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: كانت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكحلة «4» يكتحل بها عند النوم ثلاثا فى كل عين. وعن أنس قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكتحل فى عينه اليمنى ثلاث مرات، واليسرى مرتين. وعن أبى رافع قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكتحل بالإثمد وهو صائم. وعن عبد الله بن عباس- رضى الله عنهما- قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «عليكم بالإثمد فإنه يجلو البصر، وينبت الشعر، وإنه من خير أكحالكم» . وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال: أهدى المقوقس إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قدح زجاج، كان يشرب فيه. وعن عطاء قال: كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم قدح زجاج، فكان يشرب فيه. وعن حميد قال: رأيت قدح الجزء: 18 ¦ الصفحة: 293 النبى صلّى الله عليه وسلّم عند أنس فيه فضّة، أو شدّ بفضّة. وقد جاء أنه صلّى الله عليه وسلّم كان له ربعة «1» فيها مرآة ومشط عاج ومكحلة ومقراض «2» وسواك. وكان له قدح مضبّب «3» بثلاث ضبّات من فضّة- وقيل من حديد- وفيه حلقة يعلّق بها، وهو أكبر من نصف المدّ وأصغر من المدّ، وكان له قدح آخر يدعى الرّيّان، وتور «4» من حجارة يدعى المخضب. ومخضب «5» من شبه «6» يكون فيه الحنّاء والكتم «7» توضع عند رأسه إذا وجد فيه حرا، ومغسل من صفر «8» ، وقصعة، وصاع يخرج به فطرته، ومدّ، وكان له سرير، وقطيفة، وكان له كساء أسود كساه فى حياته، وكان له ثوبان للجمعة، غير سائر ثيابه التى يلبسها فى سائر الأيام، وكان له منديل يمسح به وجهه من الوضوء، وربما مسح بطرف ردائه صلّى الله عليه وسلّم. ذكر ما ورد فى حجامة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحجّامه روى عن أنس بن مالك قال: احتجم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وحجمه أبو طيبة، وأمر له بصاعين؛ وأمرهم أن يخفّفوا عنه من ضريبته. واختلف فى اسم أبى طيبة، فقيل: دينار، وقيل: نافع، وقيل: ميسرة، وهو مولى الجزء: 18 ¦ الصفحة: 294 بنى حارثة. وعن جابر بن عبد الله قال: أخرج «1» إلينا أبو طيبة المحاجم لثمان عشرة من شهر رمضان نهارا، فقلت: أين كنت؟ قال: كنت عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحجمه. وعن أنس قال: احتجم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حجمه أبو طيبة مولى كان لبعض الأنصار، فأعطاه صاعين من طعام، وكلّم أهله أن يخفّفوا عنه من ضريبته، وقال: «الحجامة من أفضل دوائكم» . وعن ابن عباس- رضى الله عنهما- قال: احتجم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو صائم، فغشى عليه يومئذ، فلذلك: كرهت الحجامة للصائم. وعن سمرة بن جندب قال: كنت عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فدعا حجّامه فحجمه بمحاجم من قرون، وجعل يشرطه بطرف شفرة، فدخل أعرابىّ فرآه ولم يكن يدرى الحجامة، ففزع وقال: يا رسول الله، علام تعطى هذا يقطع جلدك؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هذا الحجم» قال: يا رسول الله، وما الحجم؟ قال: «هو خير ما تداوى به الناس» . وعن عطاء وابن عباس- رضى الله عنهم- قالا: احتجم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو محرم من وجع. وعن أنس قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحتجم ثلاثا، على الأخدعين «2» ثنتين، وعلى الكاهل واحدة. وعن سعد ابن أبى وقاص: أنه وضع يده على المكان الناتئ من الرأس فوق اليافوخ، فقال: هذا موضع محجم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذى كان يحتجم، وجاء أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يسميها المغيثة. وكان خالد بن الوليد يحتجم الجزء: 18 ¦ الصفحة: 295 على هامته وبين كتفيه، فقيل له: ما هذه الحجامة؟ فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يحتجمها، وقال: «من أهراق منه هذه الدماء فلا يضره ألّا يتداوى بشىء لشىء» . وروى: أن الأقرع بن حابس دخل على النبىّ صلّى الله عليه وسلّم وهو يحتجم فى القمحدوة: وهى آخر الرأس، فقال: لم احتجمت وسط رأسك؟ قال: «يابن حابس إن فيها شفاء من وجع الرأس والأضراس والنعاس والمرض» وشك الراوى فى الجنون. وعن أنس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الحجامة فى الرأس هى المغيثة أمرنى بها جبريل حين أكلت طعام اليهودية» . وعنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ليلة أسرى بى ما مررت بملأ من الملائكة إلا قالوا يا محمد مر أمتك بالحجامة» . وعن معقل بن يسار قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الحجامة يوم الثلاثاء لسبع عشرة فى الشهر دواء لداء السّنة» . وقد كان صلّى الله عليه وسلّم يحتجم لسبع عشرة وتسع عشرة وإحدى وعشرين. وعن الأوزاعى، عن هرون بن رئاب: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم احتجم، ثم قال لرجل: «ادفنه لا يبحث عنه كلب» . ذكر ما ملكه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من السلاح كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم تسعة أسياف: ذو الفقار تنفّله «1» يوم بدر، وهو الذى رأى فيه الرؤيا فى غزوة أحد، وكان قبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لمنبّه بن الحجاج السّهمى، وثلاثة أسياف، أصابها من سلاح بنى قينقاع، سيف الجزء: 18 ¦ الصفحة: 296 قلعىّ «1» ، وسيف يدعى البتّار «2» ، وسيف يدعى الحتف «3» ، وسيفان أصابهما من الفلس «4» ، سيف يدعى المخذم «5» ، وآخر يدعى الرّسوب «6» ، وسيف ورثه من أبيه «7» ، وسيف يقال له العضب «8» ، أعطاه إياه سعد بن عبادة، وآخر يدعى القضيب «9» ، وهو أوّل سيف تقلّد به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال أنس: كان نعل سيف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فضّة، وقبيعته فضّة «10» ، وما بين ذلك حلق الفضّة. وكان له صلّى الله عليه وسلّم أربعة أرماح، ثلاثة أصابها من سلاح بنى قينقاع، وواحد يقال له المثنىّ. وكان له عنزة: وهى حربة دون الرّمح يمشى بها فى يده، وتحمل بين يديه فى العيدين، حتى تركز أمامه فيتخذها سترة يصلى إليها. وكان له أربعة «11» قسى: قوس من شوحط «12» تدعى الرّوحاء، وأخرى من شوحط تدعى البيضاء، وأخرى الجزء: 18 ¦ الصفحة: 297 من نبع «1» تدعى الصّفراء، وقوس تدعى الكتوم «2» كسرت يوم بدر. وكان له جعبة «3» تدعى الكافور، وكان له مخصرة «4» تسمى العرجون، وكان له محجن «5» قدر الذراع أو نحوه يتناول به الشىء، وهو الذى استلم به الرّكن «6» في حجة الوداع، وكان له درعان أصابهما من سلاح بنى قينقاع: درع يقال لها السّعدية «7» ، وأخرى يقال لها فضة. وعن محمد بن مسلمة قال: رأيت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد درعين، درعه ذات الفضول، ودرعه فضّة، ورأيت عليه يوم حنين درعين، ذات الفضول والسّعدية، ويقال: كانت عنده درع داود عليه السلام التى لبسها لما قتل جالوت، وكان له مغفر يقال له السّبوغ «8» ، وكان له صلّى الله عليه وسلّم ترس؛ روى محمد بن سعد فى طبقاته قال: أخبرنا عتّاب بن زياد، قال حدّثنا عبد الله بن المبارك، قال أخبرنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، قال سمعت مكحولا يقول: كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ترس فيه تمثال رأس كبش، فكره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكانه، فأصبح وقد أذهبه الله تعالى. وفى رواية أخرى: كان له صلّى الله عليه وسلّم ترس عليه تمثال عقاب، أهدى له فوضع يده عليه فأذهبه الله، وكان له منطقة من أديم مبشور «9» فيها ثلاث حلق من الجزء: 18 ¦ الصفحة: 298 فضّة، والإبزيم «1» من فضّة، والطّرف من فضّة، وكان له راية سوداء مخملة، يقال لها العقاب، ولواء أبيض وربما جعل الألوية من خمر نسائه صلّى الله عليه وسلّم، ورضى عنهنّ. ذكر دوابّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الخيل والبغال والحمير أما خيله صلّى الله عليه وسلّم، فقد ذكرنا فى الباب الأول من القسم الثالث من الفنّ الثالث من كتابنا هذا، وهو فى السّفر التاسع من هذه النّسخة، أن خيل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم التى ملكها، على ما ظهر من مجموع الروايات التى أوردناها هناك تسعة عشر فرسا: وهى السّكب «2» ، والمرتجز «3» ، والبحر «4» ، وسبحة «5» ، وذو اللّمّة «6» ، وذو العقال «7» ، والّلحيف «8» ، ويقال فيه: الّلخيف بالخاء المعجمة، وقيل: النّحيف بالنون، واللّزاز «9» ، والظّرب «10» ، والورد «11» ، والسّجل «12» ، والشّحّا «13» ، والسّرحان «14» ، الجزء: 18 ¦ الصفحة: 299 والمرتجل «1» ، والأدهم «2» ، وملاوح «3» ، والعيسوب «4» ، واليعبوب «5» ، والمرواح «6» ، وقد يكون الأدهم هو السّكب أو البحر، فتكون ثمانية عشر فرسا. وذكرنا هناك أخبار هذه الخيل ومن ذكرها. وذهب بعضهم إلى أن خيله صلّى الله عليه وسلّم كانت عشرة أفراس: السّكب، والمرتجز، ولزاز، واللّخيف، والظّرب، والورد، والضّرس «7» ، وملاوح، وسبحة، والبحر، ولم يذكر ما عداها، والله عز وجل أعلم. وأما بغلات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحمره فقد ذكرنا أيضا فى الباب الثانى من القسم الثالث من الفن الثالث فى السفر التاسع من كتابنا هذا، أن بغلات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اللاتى ملكهنّ كنّ سبعا، على ما ظهر من مجموع الروايات التى ذكرناها هناك، وهنّ دلدل التى أهداها له المقوقس، وفضّة التى أهداها له فروة بن عمرو، وبغلة أهداها له كسرى، وبغلته الأيليّة التى أهداها له ابن العلماء «8» صاحب أيلة، وبغلة بعثها له صاحب دومة الجندل، الجزء: 18 ¦ الصفحة: 300 وبغلة أهداها له يوحنّا بن روزيه «1» ، وبغلة أهداها له النجاشى صاحب الحبشة، وفى البغلة التى ذكر أن كسرى أهداها له صلّى الله عليه وسلّم نظر، لما قدمناه من أنه مزّق كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يجبه. ومن أهل العلم من ذهب إلا أنهنّ كنّ ثلاثة: دلدل التى أهداها له المقوقس، وفضة وهبها لأبى بكر الصديق رضى الله عنه، وبغلة أهداها له صاحب أيلة. وكان له صلّى الله عليه وسلّم من الحمر: يعفور، وعفير، وقد ذكرناهما فى الباب المقدّم ذكره فى السّفر التاسع. ذكر نعم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم عشرون لقحة «2» بالغابة، يراح له منها كل ليلة بقربتين عظيمتين من اللّبن، وكانت له لقحة تدعى بردة، أهداها له الضحّاك ابن سفيان، كانت تحلب كما تحلب لقحتان غزيرتان، وكانت له مهريّة «3» أرسلها إليه سعد بن عبادة من نعم بنى عقيل، وكانت له القصواء «4» ، وهى التى هاجر عليها، وكان لا يحمله إذا نزل عليه الوحى غيرها، وهى العضباء «5» ، والجدعاء «6» ، وقيل: العضباء غير القصواء، وقد ذكرنا فى الباب الثالث من القسم الثالث من الفن الثالث نعمه بأبسط من هذا. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 301 وكان له صلّى الله عليه وسلّم مائة من الغنم. وكانت له سبع منائح «1» : عجرة، وزمزم، وسقيا، وبركة، وورشة «2» ، وأطلال. وأطراف، وكانت أمّ أيمن ترعاهنّ، وكانت له شاة يختصّ بشرب لبنها، تدعى غيثة، وكان له ديك أبيض، هذا ما أمكن إيراده فى هذه الفصول، وهو بحسب الاختصار. وقد آن أن نأخذ فى ذكر معجزاته صلّى الله عليه وسلّم، وإنما أخّرنا ذكر المعجزات إلى هذه الغاية لأمور: منها أنّ معجزاته صلّى الله عليه وسلّم كانت فى مدة حياته، تقع خلال غزواته، وغالب أوقاته، فلو ذكرناها قبل نهاية ذكر أحواله صلّى الله عليه وسلّم، لكنّا قد قدّمنا منها شيئا قبل وقته الذى وقع فيه. ومنها أنّا لمّا ذكرنا صفاته صلّى الله عليه وسلّم فيما تقدّم، استلزم إيراد أحواله تلو صفاته، وصار الكلام يتلو بعضه بعضا، ولو ذكرنا المعجزات فى خلال ذلك لانقطع الكلام وانفرط النظام، وأهمّ الأسباب فى تأخير ذكر المعجزات إلى هذه الغاية، أنا أردنا أن تكون معجزاته صلّى الله عليه وسلّم خاتمة لهذه السّيرة الشريفة، وتالية لهذه المناقب المنيفة «3» لا يجعل بعدها من أخباره صلّى الله عليه وسلّم إلا أخبار وفاته عليه السلام. ذكر معجزات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعنى المعجزة أن الخلق عجزوا عن الإتيان بمثلها، ولا تكون معجزة إلا مع وجود التّحدى بالنبوّة، وأما مع عدم التحدى فهى كرامة، كأحوال الأولياء. والمعجزة على ضربين: ضرب هو من نوع قدرة البشر فعجزوا عن الإتيان بمثله؛ كالقرآن على رأى من رأى أن من قدرة البشر أن يأتوا بمثله، ولكن الله تعالى الجزء: 18 ¦ الصفحة: 302 صرفهم عن ذلك، فعجزوا عنه، وكصرف يهود عن تمنّى الموت، ونحو ذلك. وضرب هو خارج عن قدرة البشر كإحياء الموتى، وتسبيح الحصى، وانشقاق القمر، ونبع الماء من بين الأصابع، وتكثير الطعام، وحبس الشمس، وردّها بعد غروبها. وها نحن نورد فى هذا الفصل من مشاهير معجزاته، وباهر آياته، ما تقف إن شاء الله تعالى عليه، وقد تقدم من معجزاته صلّى الله عليه وسلّم فى اثناء هذه السيرة ما تقدم، مما ننبّه عليه فى هذا الفصل، ونحيل عليه فى مواضعه، ونشرح ونبين ما أدمجناه قبل إن شاء الله تعالى. ومعجزاته صلّى الله عليه وسلّم كثيرة: منها القرآن العظيم، وهو أكبرها آية، وأعظمها دلالة على صدق نبوته صلّى الله عليه وسلّم، ومنها انشقاق القمر، وحبس الشمس، وردّها، وتفجير الماء وانبعاثه ونبعه من بين أصابعه وتكثير الطعام، وكلام الشّجر، وسعيها إليه، وحنين الجذع، وتسبيح الطعام والحصى، وكلام الجمادات، وشهادة الحيوانات له صلّى الله عليه وسلّم بالنبوة، وكلام الموتى، وإبراء المرضى، وإجابة الدعاء، وانقلاب الأعيان، وما أطلعه الله تعالى عليه من علم الغيوب، والإخبار بما كان ويكون، وما جمع له من المعارف والعلوم ومصالح الدنيا والدين، وسياسة العالم، والعصمة من الناس، وغير ذلك مما نشرحه ونبيّنه إن شاء الله تعالى. فأما القرآن العظيم وما انطوى عليه من المعجزات، فمعجزاته كثيرة نحصرها فى عشرة أوجه: الجزء: 18 ¦ الصفحة: 303 الوجه الأوّل- حسن تأليفه والتئام كلمه وفصاحته، ووجوه إيجازه، وبلاغته الخارقة عادة «1» العرب، وذلك أنهم خصّوا من البلاغة والحكم ما لم يخصّ به غيرهم من الأمم، وحسبك أن القرآن أنزل بلغتهم، ومع ذلك فقد قرعهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم به، ووبّخهم وسفّه أحلامهم، وسبّ آلهتهم، وذمّ آباءهم، وشتت نظامهم، وفرّق جماعتهم، وأنزل الله تعالى فيهم ما أنزل من قوله عز وجل: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «2» وقوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا «3» وقوله تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً «4» وغير ذلك، فنكصوا عن معارضته، وأحجموا عن مماثلته، ورضوا بقولهم قُلُوبُنا غُلْفٌ* وفِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ «5» . ولا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ «6» . واعترف فصحاؤهم عند سماعه أنه ليس من كلام البشر؛ كالوليد بن المغيرة وعتبة ابن ربيعة، على ما قدّمنا ذكر ذلك. الوجه الثانى من إعجازه- صورة نظمه العجيب، المخالف لأساليب كلام العرب ومناهج نظمها ونثرها، وسجعها ورجزها «7» وهزجها «8» وقريضها «9» ، ومبسوطها «10» الجزء: 18 ¦ الصفحة: 304 ومقبوضها «1» ، كما قال الوليد بن المغيرة لقريش عند اجتماعهم كما قدمناه، ومن ذلك جمعه بين الدليل والمدلول، وذلك أنه احتجّ بنظم القرآن، وحسن وصفه وإيجازه وبلاغته، وأثناء هذه البلاغة أمره ونهيه ووعده ووعيده، فالتّالى له يفهم موضع الحجّة والتّكليف معا من كلام واحد. الوجه الثالث من إعجازه- ما انطوى عليه من الإخبار بالمغيبات، وما لم يكن ولم يقع فوجد، كما جاء فى قوله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ «2» . وقوله فى الروم: وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ «3» . وقوله: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ* «4» . وقوله: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ «5» الآية. وقوله: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ «6» السورة، فكان جميع ذلك: فتح الله مكة، وغلبت الروم فارس، وأظهر الله رسوله، ودخل الناس فى دين الله أفواجا، واستخلف الله المؤمنين فى الأرض، ومكّن دينهم وملّكهم أقصى المشارق والمغارب، وما فيه من الإخبار بحال المنافقين واليهود، وكشف أسرارهم، وغير ذلك. الوجه الرابع- ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة، والأمم البائدة والشرائع الداثرة «7» ، مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا من مارس العلوم من أهل الكتاب، واطلع على الكتب المنزلة القديمة، كقصص الأنبياء مع قومهم، وخبر موسى والخضر وذى القرنين ولقمان وابنه وبدء الخلق، وغير ذلك مما فى كتبهم القديمة مما اعترف بصحته العلماء من أحبار يهود، فمنهم من آمن به، ومنهم من صدّ عنه مع عدم إنكارهم لصحته، قال الله تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ «8» . الجزء: 18 ¦ الصفحة: 305 الوجه الخامس- الرّوعة التى تلحق قلوب سامعيه، وأسماعهم عند سماعه، والهيبة التى تعتريهم عند تلاوته؛ قال الله عز وجل: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ «1» ، وقال تعالى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ «2» هذا فى حق المؤمنين به، وأما من كذّب به فكانوا يستثقلون سماعه، ويودّون انقطاعه؛ ولهذا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «القرآن صعب مستصعب على من كرهه، وهو الحكم» وقد تقدّم أن عتبة بن ربيعة لما سمع القرآن من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبلغ قوله: صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ «3» أمسك على فى «4» النبىّ صلّى الله عليه وسلّم وناشده الرّحم أن يكفّ. الوجه السادس- كونه آية باقية لا تعدم ما بقيت الدنيا، وقد تكفل الله تعالى بحفظه فقال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ «5» . وقال تعالى: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ «6» وسائر معجزات الأنبياء انقضت بانقضاء أوقاتها، فلم يبق إلا خبرها، والقرآن العزيز باق منذ أنزله الله تعالى وإلى وقتنا هذا، وما بعده إن شاء الله إلى آخر الدهر، حجته قاهرة، ومعارضته ممتنعة. الوجه السابع- أن قارئه لا يملّ قراءته، وسامعه لا تمجّه مسامعه، بل الإكباب على تلاوته وترديده يزيده حلاوة ومحبة، لا يزال غضّا طريا، وغيره من الكلام ولو بلغ ما عساه أن يبلغ من البلاغة والفصاحة يملّ مع الترديد، ويسأم إذا الجزء: 18 ¦ الصفحة: 306 أعيد، وكذلك غيره من الكتب «1» لا يوجد فيها ما فيه من ذلك، وقد وصف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم القرآن «أنه لا يخلق «2» على كثرة الردّ ولا تنقضى عبره، ولا تفنى عجائبه، هو الفضل ليس بالهزل» . الوجه الثامن- أن الله تعالى يسر حفظه لمتعلّميه، وقرّبه على متحفّظيه، قال الله تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ* «3» فلذلك إن سائر الأمم لا يحفظ كتبها الواحد منها، وإن لازم قراءتها، ودوام مدارستها، لم يسمع بذلك عن أحد منهم، والقرآن قد يسر الله تعالى حفظه على الغلمان فى المدّة القريبة والنّسوان، وقد رأينا من حفظه على كبر سنه، وهذا من معجزاته. الوجه التاسع- مشاكلة بعض أجزائه بعضا، وحسن ائتلاف أنواعها، والتئام أقسامها، وحسن التخلص من قصة إلى أخرى، والخروج من باب إلى غيره على اختلاف معانيه، وانقسام السورة الواحدة على أمر ونهى، وخبر واستخبار ووعد ووعيد، وإثبات نبوّة وتوحيد، وتقرير وترغيب وترهيب، إلى غير ذلك، دون خلل يتخلل فصوله، والكلام الفصيح إذا اعتوره مثل هذا ضعفت قوّته، ولانت جزالته، وقلّ رونقه، وتقلقلت ألفاظه، وهذا من الأمور الظاهرة التى لا يحتاج عليها إقامة دليل، ولا تقرير حجة، ولا بسط مقال. الوجه العاشر- جمعه لعلوم ومعارف لم تعهدها العرب، ولا علماء أهل الكتاب، ولا اشتمل عليها كتاب من كتبهم، فجمع فيه من بيان علم الشرائع، والتنبيه على طرق الحجج العقليات، والردّ على فرق الأمم بالبراهين الواضحة، والأدلة البينة السهلة الألفاظ، الموجزة المقاصد؛ لقوله تعالى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 307 السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ «1» وقوله: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ «2» وقوله: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا «3» إلى غير ذلك مما اشتمل عليه من المواعظ والحكم وأخبار الدار الآخرة، ومحاسن الآداب، وغير ذلك مما لا يحصيه وآصف، ولا يعده عاد، قال الله تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ «4» ، وقال تعالى: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ* «5» وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله أنزل علىّ القرآن آمرا وزاجرا، وسنّة خالية، ومثلا مضروبا، فيه نبأكم وخبر ما كان قبلكم، ونبأ ما بعدكم، وحكم ما بينكم، لا يخلقه طول الرّدّ، ولا تنقضى عجائبه، هو الحقّ ليس بالهزل، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن خاصم به فلج «6» ومن قسم به أقسط، ومن عمل به أجر، ومن تمسك به هدى إلى صراط مستقيم، ومن طلب الهدى من غيره أضلّه الله، ومن حكم بغيره قصمه الله، هو الذكر الحكيم، والنّور المبين، والصراط المستقيم، وحبل الله المتين، والشّفاء النافع، عصمة لمن تمسّك به، ونجاة لمن اتّبعه، لا يعوج فيقوّم، ولا يزيغ فيستعتب، ولا تنقضى عجائبه، ولا يخلق على كثرة الرّدّ» . وفى الحديث: «قال الله تعالى لمحمد- صلى الله عليه وسلّم- إنى منزّل عليك توراة حديثة تفتح بها أعينا عميا وآذانا صمّا، وقلوبا غلفا، وفيها ينابيع العلم، وفهم الحكمة، وربيع القلوب» . وقد عدّوا فى إعجازه وجوها كثيرة غير ما ذكرناه فلا نطوّل بسردها. وأما انشقاق القمر، وحبس الشمس ورجوعها - فكان ذلك من معجزات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ قال الله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 308 وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ «1» . وقد رويت قصة انشقاق القمر عن ابن مسعود، وأنس بن مالك، وابن عباس، وعلى بن أبى طالب، وعبد الله ابن عمر، وحذيفة، وجبير بن مطعم رضى الله عنهم، قال ابن مسعود: انشق القمر على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرقتين، فرقة فوق الجبل، وفرقة دونه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اشهدوا» قال ابن مسعود: حتى رأيت الجبل بين فرجتى القمر، وفى بعض طرقه: ومن رواية مسروق عنه أنه كان بمكة، وزاد: فقال كفّار قريش سحركم ابن أبى كبشة، فقال رجل منهم: إن محمدا إن كان قد سحر القمر فإنه لا يبلغ من سحره أن يسحر الأرض كلها، فآسألوا من يأتيكم من بلد آخر هل رأوا هذا؟ فأتوا فسألوا فأخبروهم أنهم رأوا مثل ذلك. وحكى السّمرقندى عن الضحاك نحوه. وقال: فقال أبو جهل هذا سحر فابعثوا إلى أهل الآفاق حتى ينظروا أرأوا ذلك أم لا؟ فأخبر أهل الآفاق أنهم رأوه منشقا، فقالوا- يعنى الكفار-: هذا سحر مستمر. وقال على رضى الله عنه، من رواية أبى حذيفة الأرحبى: انشق القمر، ونحن مع النبى صلّى الله عليه وسلّم. وعن أنس: سأل أهل مكة النبى صلّى الله عليه وسلّم أن يريهم آية، فأراهم انشقاق القمر مرتين، حتى رأوا حراء بينهما، وفى رواية معمر، وغيره عن قتادة عنه: أراهم القمر مرتين انشقاقه «2» ، فنزلت الآية اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ . وحكى الإمام أبو عبد الله الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم الحليمىّ «3» الجرجانىّ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 309 فى منهاجه قال: رأيت ببخارى الهلال وهو ابن ليلتين منشقّا بنضفين، عرض كل واحد منهما كعرض القمر ليلة أربع أو خمس، وما زلت أنظر إليهما حتى اتصلا، ثم لم يعودا كما كانا، ولكنهما صارا فى شكل أترجّة، ولم أمل طرفى عنهما إلى أن غاب، قال: وكان معى ليلتئذ جماعة كثيفة، من بين شريف وفقيه وكاتب وغيرهم من طبقات الناس، وكلّ رأى ما رأيت. قال: وأخبرنى من وثقت به، وكان خبره عندى كعيانى أنه رأى الهلال وهو ابن ثلاث منشقا بنصفين، قال: وإذا كان هكذا، ظهر أن قول الله عز وجل: وَانْشَقَّ الْقَمَرُ إنما هو على الانشقاق الذى هو من أشراط الساعة، دون الانشقاق الذى جعله الله تعالى آية لرسوله صلّى الله عليه وسلّم، وحجة على أهل مكة. وبالله التوفيق. وأما رجوع الشّمس - فقد روى عن أسماء بنت عميس أن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم كان يوحى إليه ورأسه فى حجر علىّ، فلم يصلّ العصر حتى غربت الشمس، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أصليت يا على» ؟ قال: لا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم إنه كان فى طاعتك وطاعة رسولك فآردد عليه الشمس» قالت أسماء: فرأيتها غربت، ثم رأيتها طلعت بعد ما غربت، ووقفت على الجبال والأرض، وذلك بالصّهباء فى خيبر. خرّجه الطحاوى فى مشكل الحديث عن أسماء من طريقين، قال وكان أحمد بن صالح يقول: لا ينبغى لمن سبيله العلم التخلف عن حفظ حديث أسماء؛ لأنه من علامات النبوّة. وأما حبسها - فقد روى يونس بن بكير فى زيادة المغازى عن ابن إسحق: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما أسرى به، وأخبر قومه بالرفقة والعلامة التى فى العير، قالوا: متى تجىء؟ قال: «يوم الأربعاء» فلما كان ذلك اليوم أشرفت قريش ينظرون، وقد ولّى النهار ولم يجئ، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فزيد له فى النهار ساعة، وحبست عليه الشمس صلّى الله عليه وسلّم. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 310 وأما نبع الماء من بين أصابعه صلّى الله عليه وسلّم فقد روى عن أنس بن مالك، وجابر، وعبد الله بن مسعود؛ قال أنس من رواية إسحق بن عبد الله بن أبى طلحة: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد حانت صلاة العصر، فالتمس الناس الوضوء «1» فلم يجدوه، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بوضوء «2» ، فوضع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى ذلك الإناء يده، وأمر الناس أن يتوضئوا منه، قال: فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه، فتوضأ الناس حتى توضئوا من عند آخرهم. ورواه أيضا عن أنس قتادة، وقال: بإناء فيه ماء ما يغمر أصابعه، ولا يكاد يغمر «3» ، قال: كم كنتم؟ قال: زهاء ثلاثمائة، وفى رواية عنه: وهم بالزّوراء عند السوق. وأما ابن مسعود، ففى الصحيح عنه من رواية علقمة: بينهما نحن مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وليس معنا ماء، فقال لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اطلبوا من معه فضل ماء» فأتى بإناء فصبه فى إناء، ثم وضع كفّه فيه، فجعل الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وفى الصحيح عن سالم بن أبى الجعد عن جابر قال: «عطش الناس يوم الحديبية، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين يديه ركوة «4» فتوضأ منها، وأقبل الناس نحوه، وقالوا: ليس عندنا ماء، إلا ما فى ركوتك، فوضع النبى صلّى الله عليه وسلّم يده فى الرّكوة، فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون، وفيه: فقلت كم كنتم؟ قالوا: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة. وفى صحيح مسلم الجزء: 18 ¦ الصفحة: 311 فى ذكر غزوة بواط «1» ، قال جابر قال لى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا جابر ناد الوضوء» وذكر الحديث بطوله: وأنه لم يحد إلا قطرة فى عزلاء «2» شجب، فأتى به النبى صلّى الله عليه وسلّم فغمزه «3» ، وتكلم بشىء لا أدرى ما هو، وقال: «ناد بجفنة «4» الرّكب» فأتيت بها فوضعتها بين يديه، وذكر أن النبى صلّى الله عليه وسلّم بسط يده فى الجفنة، وفرق أصابعه، وصبّ جابر عليه، وقال: «بسم الله» قال: فرأيت الماء يفور من بين أصابعه، ثم فارت الجفنة، واستدارت حتى امتلأت، وأمر الناس بالاستقاء فاستقوا حتى رووا، فقلت «5» : هل بقى أحد له حاجة؛ فرفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يده من الجفنة وهى ملأى. هذا مختصر ما روى من تفجير الماء من بين أصابعه صلّى الله عليه وسلّم. وأما تفجيره وانبعاثه وتكثيره ببركته ودعائه صلّى الله عليه وسلّم فمن ذلك ما رواه مالك بن أنس رحمه الله فى الموطأ، عن معاذ بن جبل فى قصة غزوة تبوك، وأنهم وردوا العين، وهى تبضّ «6» بشىء من ماء مثل الشّراك «7» ، فغرفوا من العين بأيديهم حتى اجتمع فى شىء، ثم غسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الجزء: 18 ¦ الصفحة: 312 فيه وجهه ويديه، وأعاده فيها فجرت بماء كثير فاستقى الناس. وفى حديث ابن إسحق: فانحرق «1» من الماء ما له حسّ كحسّ الصواعق، ثم قال: «يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما ها هنا قد ملئ جنانا» . ومنه قصة «2» الحديبية، وقد تقدّم ذكرها فى الغزوات. ومن ذلك خبر صاحبة المزادتين، وهو مما روى عن عمران بن حصين، قال: أصاب النبى صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه عطش فى بعض أسفارهم، فوجّه رجلين من أصحابه، وأعلمهما أنهما يجدان امرأة بمكان كذا، معها بعير عليه مزادتان، الحديث «3» . فوجداها وأتيا بها النبى صلّى الله عليه وسلّم، فجعل فى إناء من مزادتها، وقال فيه ما شاء الله أن يقول، ثم أعاد الماء فى المزادتين، ثم فتحت عزاليهما، وأمر الناس فملأوا أ؟؟؟ قيتهم حتى لم يدعوا شيئا إلا ملأوه، قال عمران: ويخيل لى أنهما لم تزدادا إلا امتلاء، ثم أمر فجمع للمرأة من الأزواد حتى ملأ ثوبها، وقال: «اذهبى فإنا لم نأخذ من مائك شيئا ولكن الله سقانا» . وعن عمرو بن شعيب أن أبا طالب قال للنبى صلّى الله عليه وسلّم وهو رديفه بذى المجاز: عطشت وليس عندى ماء، فنزل النبى صلّى الله عليه وسلّم وضرب بقدمه الأرض فخرج الماء فقال: «اشرب» . وعن سلمة بن الأكوع؛ قال نبىّ الله صلّى الله عليه وسلّم: «هل من وضوء؟» فجاء رجل بإداوة «4» فيها نطفة «5» الجزء: 18 ¦ الصفحة: 313 فأفرغها فى قدح فتوضأنا كلنا، ندغفقه دغفقة أربع عشرة «1» مائة. وفى حديث غزوة تبوك، وما أصاب الناس من العطش، ودعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأن الله تعالى أرسل سحابة فأمطرت حتى ارتوى الناس، واحتملوا حاجتهم من الماء، وقد تقدّم ذكره. ومن طريق آخر فى هذه القصة عن عمر: وذكر ما أصابهم من العطش فى جيش العسرة، حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه، فرغب أبو بكر رضى الله عنه إلى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فى الدّعاء، فرفع يديه فلم يرجعهما حتى قالت «2» السماء، فانسكبت فملأوا ما معهم من آنية، ولم يجاوز العسكر. والحديث فى هذا الباب كثير. وأما تكثير الطعام ببركته ودعائه صلّى الله عليه وسلّم فقد روينا من ذلك أحاديث كثيرة بأسانيد صحيحة متّصلة، رأينا حذفها هاهنا اختصارا لاشتهارها وانتشارها، منها ما رويناه عن جابر رضى الله عنه: أن رجلا أتى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم يستطعمه فأطعمه شطر وسق شعير، فما زال يأكل منه وامرأته وضيفه حتى كاله، فأتى النبى صلّى الله عليه وسلّم فأخبره فقال: «لو لم تكله لأكلتم منه وقام بكم» . ومن ذلك حديث أبى طلحة المشهور، وإطعام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثمانين أو سبعين رجلا من أقراص من شعير جاء بها أنس تحت يده- أى إبطه- فأمر بها ففتّت، وقال فيها ما شاء الله أن يقول. وحديث جابر- رضى الله عنه- فى إطعام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الخندق ألف رجل من صاع شعير، وعناق «3» ، قال جابر: فأقسم بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا» ، وإن الجزء: 18 ¦ الصفحة: 314 برمتنا لتغطّ «1» كما هى، وإن عجيننا ليخبز، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصق فى العجين والبرمة وبارك. ومن ذلك حديث أبى أيوب الأنصارى: أنه صنع لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولأبى بكر رضى الله عنه من الطعام زهاء «2» ما يكفيهما، فقال له النبى الله صلّى الله عليه وسلّم: «ادع ثلاثين من أشراف الأنصار» فدعاهم فأكلوا حتى تركوه، ثم قال: «ادع ستين» فكان مثل ذلك، ثم قال: «ادع سبعين» فأكلوا حتى تركوا، وما خرج منهم أحد حتى أسلم وبايع، قال أبو أيوب: فأكل من طعامى مائة وثمانون رجلا. وعن سمرة بن جندب قال: أتى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم بقصعة فيها لحم فتعاقبوها من غدوة حتى الليل يقوم قوم ويقعد آخرون. ومن ذلك حديث عبد الرحمن بن أبى بكر رضى الله عنهما قال: كنا مع النبىّ صلّى الله عليه وسلّم ثلاثين ومائة، وذكر فى الحديث: عجن صاع من طعام، وصنعت شاة فشوى سواد «3» بطنها، قال: وأيم الله ما من الثلاثين والمائة إلا وقد حزّله حزّة من سواد بطنها، ثم جعل منها قصعتان فأكلنا أجمعون، وفضل فى القصعتين فحملته على البعير. ومن ذلك حديث عمر بن الخطاب، وأبى هريرة وسلمة بن الأكوع رضى الله عنهم، فذكروا مخمصة أصابت الناس مع النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فى بعض مغازيه، فدعا ببقية الأزواد، فجاء الرجل بالحثية من الطعام وفوق ذلك، وأعلاهم الذى أتى بالصّاع من التمر، فجمعه على نطع، قال سلمة: فحزرته كربضة «4» البعير، ثم دعا الناس بأوعيتهم، فما بقى فى الجيش وعاء إلا ملأوه وبقى منه. وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: أمرنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن أدعو له أهل الصّفّة فتتّبعتهم حتى جمعتهم، فوضعت بين أيدينا صحفة فأكلنا ما شئنا وفرغنا، وهى مثلها الجزء: 18 ¦ الصفحة: 315 حين وضعت، إلا أن فيها أثر الأصابع. وعن على بن أبى طالب رضى الله عنه قال: جمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنى عبد المطلب وكانوا أربعين، منهم قوم يأكلون الجذعة ويشربون الفرق «1» فصنع لهم مدّا من طعام، فأكلوا حتى شبعوا وبقى كما هو، ثم دعا بعسّ «2» فشربوا حتى رووا وبقى كأنه لم يشرب. وقال أنس ابن مالك: إن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم لما ابتنى بزينب أمره أن يدعو له قوما سمّاهم، وكل من لقيت حتى امتلأ البيت والحجرة، وقدّم إليهم تورا «3» فيه قدر مدّ من تمر جعل حيسا «4» ، فوضعه قدّامه وغمس ثلاث أصابعه، وجعل القوم يتغدّون ويخرجون، وبقى التور نحوا مما كان، وكان القوم أحدا أو اثنين وسبعين. وفى رواية أخرى فى هذه القصة أو مثلها: أن القوم كانوا زهاء ثلاثمائة، وأنهم أكلوا حتى شبعوا، وقال لى: «ارفع» فلا أدرى حين وضعت كان أكثر أم حين رفعت. وفى حديث جعفر بن محمد عن آله، عن على رضى الله عنهم أن فاطمة رضى الله عنها طبخت قدرا لغدائها، ووجهت عليّا إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم ليتغدّى معها، فأمرها فغرفت منها لجميع نسائه صحفة صحفة، ثم له عليه السلام ولعلىّ، ثم لها، ثم رفعت القدر، وإنها لتفيض، قالت: فأكلنا منها ما شاء الله. ومن ذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمر عمر بن الخطاب رضى الله عنه أن يزوّد أربعمائة راكب من أحمس، فقال: يا رسول الله، ما هى إلا أصوع، قال: «اذهب» فذهب فزوّدهم منه، وكان قدر الفصيل الرّابض من التمر وبقى بحاله. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 316 ومن ذلك حديث جابر بن عبد الله رضى الله عنه فى دين أبيه، وقد كان بذل لغرماء أبيه أصل ما له فلم يقبلوه، ولم يكن فى ثمرها سنين كفاف دينهم، فأمره النبى صلّى الله عليه وسلّم بجذّها وجعلها بيادر «1» في أصولها، ثم جاءه فمشى فيها ودعا، فأوفى جابر غرماء أبيه من ذلك، وفضل مثل ما كانوا يجذّون كل سنة. وفى رواية: مثل ما أعطاهم. قال: وكان الغرماء يهودا فعجبوا من ذلك. وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: أصاب الناس مخمصة فقال لى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «هل من شىء» ؟ قلت: نعم، شىء من التمر فى المزود، قال: «فأتنى به» فأتيته به فأدخل يده فأخرج قبضة فبسطها، ودعا بالبركة، ثم قال: «ادع لى عشرة» فأكلوا حتى شبعوا، ثم عشرة كذلك، حتى أطعم الجيش كلهم وشبعوا، قال: «خذ ما جئت به وأدخل يدك واقبض منه ولا تكبّه» فقبضت على أكثر مما جئت به فأكلت منه وأطعمت منه «2» حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبى بكر وعمر، إلى أن قتل عثمان فانتهب منى فذهب. وفى رواية: فقد حملت من ذلك التمر كذا وكذا من وسق فى سبيل الله. وذكر مثل هذه الحكاية فى غزوة تبوك، وأن التمر كان بضع عشرة تمرة. ومنه أيضا حديث أبى هريرة رضى الله عنه حين أصابه الجوع، فاستتبعه النبى صلّى الله عليه وسلّم فوجد لبنا فى قدح قد أهدى إليه، وأمره أن يدعو أهل الصّفّة، قال فقلت: ما هذا اللبن «3» فيهم! كنت أحقّ أن أصيب منه شربة أتقوّى بها، فدعوتهم، وذكر أمر النبى صلّى الله عليه وسلّم له أن يسقيهم، قال: فجعلت أعطى الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يأخذ الآخر حتى روى جميعهم، فأخذ النبى الجزء: 18 ¦ الصفحة: 317 صلى الله عليه وسلّم القدح وقال: «بقيت أنا وأنت اقعد فاشرب» فشربت ثم قال: «اشرب» وما زال يقولها وأشرب حتى قلت: لا والذى بعثك بالحقّ ما أجد له مسلكا، فأخذ القدح فحمد الله وسمّى وشرب الفضلة، صلّى الله عليه وسلّم. وأما كلام الشجر وشهادتها له بالنبوة وانقيادها إليه وإجابتها دعوته صلّى الله عليه وسلّم فمن ذلك ما رويناه بسند متصل عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما، قال: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى سفر فدنا منه أعرابىّ، فقال: «يا أعرابى أين تريد» ؟ قال: إلى أهلى، قال: «هل لك إلى خير» ؟ قال: وما هو؟ قال: «تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله» قال: من يشهد لك على ما تقول؟ قال: «هذه الشجرة السّمرة» «1» وهى بشاطئ الوادى، فأقبلت تخدّ «2» الأرض حتى قامت بين يديه، فاستشهدها ثلاثا فشهدت أنه كما قال، ثم رجعت إلى مكانها. وعن بريدة قال: سأل أعرابى النبى صلّى الله عليه وسلّم آية فقال له: «قل لتلك الشجرة رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- يدعوك» قال: فمالت الشجرة عن يمينها وشمالها وبين يديها وخلفها فتقطعت عروقها، ثم جاءت تخد الأرض، تجرّ عروقها مغيرة «3» حتى وقفت بين يدى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالت: السلام عليك يا رسول الله، قال الأعرابى: مرها فلترجع إلى منبتها فاستوت، فقال الأعرابى: إيذن لى أسجد لك، قال: «لو أمرت أحدا الجزء: 18 ¦ الصفحة: 318 أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» قال: فأذن لى أقبّل يديك ورجليك، فأذن له. ومن ذلك ما روى فى الصحيح من حديث جابر بن عبد الله قال: ذهب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقضى حاجته فلم ير شيئا يستتر به، فإذا بشجرتين بشاطئ الوادى، فانطلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى إحداهما فأخذ بغصن من غصانها فقال: «انقادى علىّ بإذن الله» فانقادت معه كالبعير المخشوش «1» الذى يصانع قائده. وذكر أنه فعل بالأخرى مثل ذلك، حتى إذا كان بالمنصف «2» بينهما قال: «التئما علىّ بإذن الله» فالتأمتا. وفى رواية أخرى؛ فقال: «يا جابر قل لهذه الشجرة يقول لك رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- الحقى بصاحبتك حتى أجلس خلفكما» ففعلت فرجعت حتى لحقت بصاحبتها، فجلس خلفهما، فخرجت أحضر «3» ، وجلست أحدّث نفسى، فالتفت فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقبل «4» والشجرتان قد افترقثا، فقامت كل واحدة منهما على ساق، فوقف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقفة فقال «5» برأسه- هكذا- يمينا وشمالا. وروى أسامة بن زيد نحوه، قال قال لى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى بعض مغازيه: «هل» «6» ؟ يعنى مكانا لحاجة رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- فقلت: الجزء: 18 ¦ الصفحة: 319 إن الوادى ما فيه موضع بالناس «1» ، فقال: «هل ترى من نخل أو حجارة» ؟ قلت: أرى نخلات متقاربات، فقال: «انطلق وقل لهن إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمركنّ أن تأتين لمخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقل للحجارة مثل ذلك» فقلت ذلك لهنّ، فو الذى بعثه بالحق لقد رأيت النخلات يتقاربن حتى اجتمعن، والحجارة يتعاقدن حتى صرن ركاما خلفهنّ، فلما قضى حاجته قال لى: «قل لهنّ يفترقن» فو الذى نفسى بيده لرأيتهن والحجارة يفترقن حتى عدن إلى مواضعهنّ. وعن ابن مسعود مثله فى غزاة حنين. وعن يعلى بن مرة- وهو ابن سيّابة «2» - وذكر أشياء رآها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكر أن طلحة- أو سمرة- جاءت فأطافت به، ثم رجعت إلى منبتها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنها استأذنت أن تسلم علىّ» . وفى حديث ابن مسعود: آذنت «3» النبىّ صلّى الله عليه وسلّم بالجنّ ليلة استمعوا له شجرة. وذكر أبو بكر بن فورك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سار فى غزوة الطّائف ليلا وهو وسن، «4» فآعترضته سدرة فانفرجت له نصفين، حتى جاز بينهما، وبقيت على ساقين إلى وقتنا هذا، وهى هناك معروفة. وقد روى فى مثل ذلك أحاديث كثيرة. ومن ذلك قصّة حنين الجذع، والخبر بذلك مشهور منتشر خرّجه أهل الصحيح، ورواه جماعة من الصحابة رضى الله عنهم، قال جابر بن عبد الله: كان المسجد مسقوفا على جذوع نخل، فكان النبى صلّى الله عليه وسلّم إذا خطب يقوم على جذع منها، فلما صنع له المنبر سمعنا لذلك الجذع صوتا كصوت العشار «5» ، وفى رواية أنس: الجزء: 18 ¦ الصفحة: 320 حتى ارتجّ المسجد بخواره «1» . وفى رواية سهل بن سعد: وكثر بكاء الناس لما رأوا به. وفى رواية المطلب بن أبى وداعة: حتى تصدّع وانشقّ، حتى جاء النبى صلّى الله عليه وسلّم فوضع يده عليه فسكت. وزاد غيره: فقال النبىّ صلّى الله عليه وسلّم «إن هذا بكى لما فقد من الذّكر» . وزاد غيره «2» : «والذى نفسى بيده لو لم ألتزمه «3» لم يزل هكذا إلى يوم القيامة تحزّنا على رسول الله» صلّى الله عليه وسلّم، فأمر به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فدفن تحت المنبر. وفى حديث أبىّ بن كعب: فكان إذا صلّى النبى صلّى الله عليه وسلّم صلّى إليه، فلما هدم المسجد أخذه أبىّ فكان عنده إلى أن أكلته الأرض وعاد رفاتا. وذكر الإسفراينىّ: أن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم دعاه إلى نفسه فجاءه يخرق الأرض فالتزمه، ثم أمره فعاد إلى مكانه. وفى حديث بريدة فقال النبىّ صلّى الله عليه وسلّم: «إن شئت أردك إلى الحالط الذى كنت فيه، تنبت لك عروقك، ويكتمل خلقك ويجدّد لك خوص وثمرة، وإن شئت أغرسك فى الجنة فيأكل أولياء الله من ثمرك» ، ثم أصغى له النبى صلّى الله عليه وسلّم يستمع ما يقول فقال: بل تغرسنى فى الجنة فيأكل منى أولياء الله وأكون فى مكان لا أبلى فيه. فسمعه من يليه «4» ، فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: «قد فعلت- ثم قال- اختار دار البقاء على دار الفناء» . ومن معجزاته صلّى الله عليه وسلّم نطق الجمادات كتسبيح الطعام فى جوفه، وتسبيح الحصى فى كفّه وكفّ من صبّه فى كفّه من أصحابه، وسلام الجبال والأحجار والأشجار عليه، وسجودها له، وغير ذلك مما يلتحق به على ما نشرحه إن شاء الله تعالى. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 321 فمن ذلك ما رويناه بإسناد متصل عن البخارىّ بسنده، عن علقمة [عن «1» ] عبد الله قال: لقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل، وفى غير هذه الرواية عن عبد الله ابن مسعود قال: كنا نأكل مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الطعام، ونحن نسمع تسبيحه. وقال أنس بن مالك: أخذ النبى صلّى الله عليه وسلّم كفّا من حصى فسبّحن فى يد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى سمعنا التسبيح، ثم صبهنّ فى يد أبى بكر فسبحن، ثم فى أيدينا فما سبحن. وروى أبو ذرّ مثله، وذكر أنهنّ سبحن فى كفّ عمر وعثمان. وقال على بن أبى طالب رضى الله عنه: كنا بمكة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فخرج إلى بعض نواحيها فما استقبله شجر ولا جبل إلا قال: السلام عليك يا رسول الله. وعن جابر بن سمرة عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إنى لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علىّ» قيل: إنه الحجر الأسود. وعن عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها، عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لما استقبلنى جبريل بالرسالة جعلت لا أمر بحجر ولا شجر إلا قال السلام عليك يا رسول الله» . وعن جابر بن عبد الله قال: لم يكن صلّى الله عليه وسلّم يمر بحجر ولا شجر إلا سجد له. وفى حديث العباس بن عبد المطلب إذ اشتمل «2» عليه النبى صلّى الله عليه وسلّم وعلى بنيه بملاءته فأمّنت أسكفّة «3» الباب وحوائط البيت آمين آمين. وعن جعفر ابن محمد عن أبيه قال: مرض النبى صلّى الله عليه وسلّم فأتاه جبريل بطبق فيه رمّان وعنب، فأكل منه صلّى الله عليه وسلّم فسبّح. وعن أنس رضى الله عنه قال: صعد الجزء: 18 ¦ الصفحة: 322 النبى صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر وعمر وعثمان أحدا فرجف بهم فقال: «اثبت أحد، فإنما عليك نبىّ وصديق وشهيدان» ، ومثله عن أبى هربرة فى حراء «1» ، وزاد فيه: ومعه علىّ وطلحة والزّبير، وقال: «إنما عليك نبىّ أو صدّيق أو شهيد «2» » ، والخبر فى حراء أيضا عن عثمان قال: ومعه عشرة من أصحابه أنا فيهم، وزاد عبد الرحمن وسعدا، قال: ونسيت الاثنين. وقد روى أنه صلّى الله عليه وسلّم حين طلبته قريش قال له ثبير «3» : اهبط يا رسول الله، فإنى أخاف أن يقتلوك على ظهرى فيعذبنى الله، فقال حراء: إلىّ يا رسول الله. وقد تقدّم ذكر خبر الأصنام، وسقوطها عند ما أشار إليها بالقضيب، حين فتح الله تعالى مكة عليه، صلّى الله عليه وسلّم تسليما كثيرا أبدا دائما. ومن معجزاته صلّى الله عليه وسلّم كلام الحيوانات وسكونها وثباتها إذا رأته؛ كقصة الدّاجن «4» ، وكلام الضّبّ والذّئب، والطائر والظّبية، وسجود الغنم والبعير، وخبر سفينة مولاه مع الأسد، وخبر العنز، وغير ذلك مما نورده إن شاء الله تعالى. فمن ذلك ما رويناه بسند متصل عن عائشة رضى الله عنها قالت: كان عندنا داجن، فإذا كان عندنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرّ وثبت مكانه، فلم يجىء ولم يذهب، فإذا خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاء وذهب. ومنه ما روى عن عمر رضى الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان فى محفل من أصحابه إذ جاء أعرابى قد صاد ضبّا فقال: من هذا؟ قالوا: نبىّ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 323 الله، فقال: واللّات والعزّى لا آمنت بك أو يؤمن «1» هذا الضّبّ. وطرحه بين يدى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: «يا ضبّ» فأجابه بلسان مبين يسمعه القوم جميعا: لبيك وسعديك يا زين من وافى القيامة، قال: «من تعبد» ؟ قال: الذى فى السماء عرشه، وفى الأرض سلطانه، وفى البحر سبيله، وفى الجنة رحمته، وفى النار عقابه، قال: «فمن أنا» ؟ قال: رسول رب العالمين، وخاتم النبيين؛ وقد أفلح من صدّقك، وخاب من كذّبك. فأسلم الأعرابىّ. ومن ذلك قصة كلام الذئب المشهورة عن أبى سعيد الخدرىّ قال: بينا راع يرعى غنما له، عرض الذئب لشاة منها فأخذها الراعى منه، فأقعى الذئب وقال للراعى: ألا تتّقى الله، حلت بينى وبين رزقى! قال الراعى: العجب من ذئب يتكلم بكلام الإنس، فقال الذئب: ألا أخبرك بأعجب من ذلك؛ رسول الله بين الحرّتين يحدّث الناس بأنباء «2» ما قد سبق، فأتى الراعى النبى صلّى الله عليه وسلّم فأخبره، فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: «قم فحدّثهم» ؛ ثم قال: «صدق» . وروى حديث الذئب عن أبى هريرة. وفى بعض الطرق عنه قال الذئب: أنت أعجب! واقفا على غنمك، وتركت نبيا لم يبعث الله نبيّا قطّ أعظم منه عنده قدرا، قد فتحت له أبواب الجنة، وأشرف أهلها على أصحابه ينظرون قتالهم، وما بينك وبينه إلا هذا الشّعب فتصير فى جنود الله، قال الراعى: من لى بغنمى؟ قال الذئب: أنا أرعاها حتى ترجع، فأسلم الرجل إليه غنمه ومضى، وذكر قصته وإسلامه ووجوده النبى صلّى الله عليه وسلّم يقاتل، فقال له النبى صلّى الله عليه وسلّم: «عد إلى غنمك تجدها بوفرها «3» » فوجدها كذلك، وذبح للذئب شاة منها. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 324 وروى أن أهبان بن أوس هو صاحب القصة ومكلّم الذئب. وروى أيضا أن صاحب القصة سلمة بن عمرو بن الأكوع، وأنها سبب إسلامه. وحكى أبو عمر بن عبد البر فى ترجمة رافع بن عميرة الطائى أنه كلمه الذئب، وهو فى ضأن له يرعاها، فدعاه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واللحاق به. قال: وزعموا أن رافع بن عميرة قال فى كلام الذئب إياه. رعيت الضّأن أحميها بكلبى ... من الضّبع الحفىّ وكل ذيب «1» فلمّا أن سمعت الذئب نادى ... يبشّرنى بأحمد من قريب سعيت إليه قد شمّرت ثوبى ... على السّاقين قاصدة الرّكيب فألفيت النّبىّ يقول قولا ... صدوقا ليس بالقول الكذوب يبشّرنى بدين الحقّ حتى ... تبيّنت الشّريعة للمنيب «2» وأبصرت الضّياء يضىء حولى ... أمامى إن سعيت ومن جنوبى فى أبيات أخر. وروى ابن وهب: أن مثل هذه القصة وقع لأبى سفيان بن حرب، وصفوان ابن أمية مع ذئب وجداه قد أخذ ظبيا، فدخل الظّبى الحرم فانصرف الذئب فعجبا من ذلك، فقال الذئب: أعجب من ذلك محمد بن عبد الله بالمدينة يدعوكم إلى الجنة وتدعونه إلى النار. فقال أبو سفيان: واللّات والعزّى لئن ذكرت هذا بمكة لتتركنا خلوفا «3» . وقد روى أيضا مثل هذا الخبر، وأنه جرى لأبى جهل وأصحابه. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 325 وعن عباس بن مرداس السّلمىّ أنه لمّا تعجّب من كلام صنمه ضمار، وإنشاده الشعر الذى ذكرناه، فإذا طائر سقط، فقال: يا عباس، أتعجب من كلام ضمار، ولا تعجب من نفسك؟ إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعو إلى الإسلام، وأنت جالس! وعن أنس رضى الله عنه قال: دخل النبىّ صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر وعمر ورجل من الأنصار حائط «1» أنصارىّ، وفى الحائط غنم، فسجدت له فقال أبو بكر: نحن أحقّ بالسجود لك منها ... الحديث. وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: دخل النبى صلّى الله عليه وسلّم حائطا فجاء بعير فسجد له، وذكر مثله. ومثله فى الجمل عن ثعلبة بن مالك، وجابر بن عبد الله، ويعلى بن مرّة، وعبد الله بن جعفر قال: «2» وكان لا يدخل أحد الحائط إلا شدّ عليه الجمل، فلما دخل عليه النبى صلّى الله عليه وسلّم دعاه، فوضع مشفره فى الأرض وبرك بين يديه فحطمه؛ وقال: «ما بين السماء والأرض شىء إلا يعلم أنى رسول الله إلا عاصى الجنّ والإنس» . وفى حديث آخر: أن النبى صلّى الله عليه وسلّم سألهم عن شأنه فأخبروه أنهم أرادوا ذبحه. وفى رواية: أن النبى صلّى الله عليه وسلّم قال لهم: «إنه اشتكى كثرة العمل وقلة العلف» . وفى رواية: «إنه شكا إلىّ أنكم أردتم ذبحه بعد أن استعملتموه فى شاقّ العمل من صغره» فقالوا: نعم. وقد روى فى قصة العضباء وكلامها النبى صلّى الله عليه وسلّم، وتعريفها له بنفسها، ومبادرة العشب إليها فى الرّعى، وتجنّب الوحوش عنها، وندائهم لها أنّك لمحمد، وأنها لم تأكل ولم تشرب بعد موته حتى ماتت. ذكره الإسفرائنى. وروى ابن وهب: أن حمام مكة أظلت الجزء: 18 ¦ الصفحة: 326 النبى صلّى الله عليه وسلّم يوم فتحها، فدعا لها بالبركة. وقد ذكرنا قصة الغار وخبر الحمامتين والعنكبوت. وعن عبد الله بن قرط قال: قرّب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بدنات خمس أو ستّ أو سبع لينحرها يوم عيد، فازدلفن «1» إليه بأيّتهنّ يبدأ. وعن أمّ سلمة قالت: كان النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فى صحراء فنادته ظبية: يا رسول الله، قال: «ما حاجتك» ؟ قالت: صادنى هذا الأعرابىّ ولى خشفان فى ذلك الجبل، فأطلقنى حتى أذهب فأرضعهما وأرجع، قال: «وتفعلين» ؟ قالت: نعم، فأطلقها فذهبت ورجعت فأوثقها، فانتبه الأعرابى. فقال: يا رسول الله، ألك حاجة؟ قال: «تطلق هذه الظّبية» فأطلقها، فخرجت تعدو فى الصحراء وتقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. ومنه ما روى من تسخير الأسد لسفينة مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ وجّهه إلى معاذ باليمن، فلقى الأسد فعرّفه أنه مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعه كتابه، فهمهم وتنحّى عن الطريق، وذكر فى منصرفه مثل ذلك. وفى رواية أخرى عنه: أن سفينة تكسرت به، فخرج إلى جزيرة فإذا الأسد؛ قال فقلت: أنا مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجعل يغمزنى بمنكبه حتى أقامنى على الطريق. وروى أنه صلّى الله عليه وسلّم أخذ بأذن شاة لقوم من عبد القيس بين إصبعيه ثم خلّاها، فصار لها ميسما، وبقى ذلك الأثر فيها وفى نسلها. وقد روى عن إبراهيم بن حمّاد بسنده كلام الحمار الذى أصابه بخيبر، وقال له: الجزء: 18 ¦ الصفحة: 327 [ما اسمك «1» قال] : اسمى يزيد بن شهاب، فسماه النبى صلّى الله عليه وسلّم يعفورا وأنه كان يوجهه إلى دور أصحابه فيضرب عليهم الباب برأسه ويستدعيهم، وأن النبى صلّى الله عليه وسلّم لما مات، تردّى فى بئر جزعا وحزنا فمات. وخبر الناقة التى شهدت عند النبى صلّى الله عليه وسلّم لصاحبها أنه ما سرقها وأنها ملكه. وخبر العنز التى أتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى عسكره، وقد أصابهم عطش ونزلوا على غير ماء وهم زهاء ثلاثمائة، فحلبها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأروى الجند، ثم قال لرافع: «املكها وما أراك «2» » فربطها فوجدها قد انطلقت. رواه ابن قانع وغيره، وفيه: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الذى جاء بها هو الذى ذهب بها» . وقال عليه السلام لفرسه، وقد قام إلى الصلاة فى بعض أسفاره: «لا تبرح بارك الله فيك حتى نفرغ من صلاتنا» وجعله قبلته «3» فما حرّك عضوا حتى فرغ من صلاته صلّى الله عليه وسلّم. ومن معجزاته صلّى الله عليه وسلّم ما روى من كلام الأموات والأطفال وشهادتهم له بالنبوّة. فمن ذلك ما روى عن فهد «4» بن عطية: أن النبى صلّى الله عليه وسلّم أتى بصبىّ قد شبّ لم يتكلم قطّ، فقال له: «من أنا» ؟ فقال: رسول الله. وعن معرّض بن معيقيب قال: رأيت من النبى صلّى الله عليه وسلّم عجبا، جىء الجزء: 18 ¦ الصفحة: 328 بصبىّ يوم ولد، فذكر مثله، وهو حديث مبارك اليمامة، ويعرف بحديث شاصونه «1» اسم راويه، وفيه؛ فقال له النبى صلّى الله عليه وسلّم: «صدقت بارك الله فيك» ثم إن الغلام لم يتكلم بعدها حتى شبّ، فكان يسمى مبارك اليمامة، وكانت هذه القصة بمكة فى حجة الوداع. وعن الحسن رضى الله عنه: أتى رجل النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فذكر له أنه طرح بنيّة له فى وادى كذا، فانطلق معه إلى الوادى وناداها باسمها «يا فلانة احيى بإذن الله» فخرجت وهى تقول: لبّيك وسعديك، فقال لها: «إن أبويك قد أسلما فإن أحببت أن أردّك عليهما» قالت: لا حاجة لى فيهما، وجدت الله خيرا لى منهما. وعن أنس رضى الله عنه أن شابا من الأنصار توفّى وله أمّ عجوز عمياء قال: فسجّيناه وعزّيناها فقالت: مات ابنى؟ قلنا: نعم، قالت: اللهم إن كنت تعلم أنى هاجرت إليك وإلى نبيك رجاء أن تعيننى على كل شدّة، فلا تحمّلنّ علىّ هذه المصيبة «2» ، قال: فما برحنا أن كشف الثوب عن وجهه فطعم وطعمنا. وروى عن عبد الله بن عبيد الله الأنصارى قال: كنت فيمن دفن ثابت بن قيس ابن شمّاس- وكان قتل باليمامة- فسمعناه حين أدخلناه القبر يقول: محمد رسول الله، أبو بكر الصدّيق، عمر الشهيد، وعثمان البرّ الرحيم «3» ، فنظرنا فإذا هو ميّت. وذكر عن النعمان بن بشير: أن زيد بن خارجة خرّ «4» ميتا فى بعض أزقة الجزء: 18 ¦ الصفحة: 329 المدينة، فرفغ وسجّى إذ سمعوه بين العشاءين والنساء يصرخن حوله يقول: أنصتوا أنصتوا، فحسر عن وجهه، فقال: محمد رسول الله، النبىّ الأمىّ، وخاتم النبيين، كان ذلك فى الكتاب الأوّل، ثم قال: صدق صدق، وذكر أبا بكر وعمر وعثمان ثم قال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، ثم عاد ميتا. ومن ذلك قصة الذّراع وقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: ارفعوا أيديكم فإنها أخبرتنى أنها مسمومة. وقد تقدّم خبر الذراع. والله منجى المتقين ووليهم. ومن معجزاته صلّى الله عليه وسلّم إبراء المرضى وذوى العاهات، كردّ عين قتّادة، وكشف بصر الضرير، وتفله صلّى الله عليه وسلّم على جراحات فبرأت، وغير ذلك مما نشرحه إن شاء الله تعالى. أما عين قتادة بن النعمان فقد روينا بإسناد متّصل عن سعد بن أبى وقّاص: أن قتادة بن النعمان أصيبت عينه يوم أحد حتى وقعت على وجنته، فردّها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكانت أحسن عينيه. وذكر الأصمعى عن أبى معشر المدنى قال: أوفد أبو بكر محمد بن عمرو بن حزم، بديوان المدينة إلى عمر بن عبد العزيز رجلا من ولد قتادة بن النعمان، فلما قدم عليه قال له: ممن الرجل؟ قال: أنا ابن الذى سالت على الخدّ عينه ... فردّت بكفّ المصطفى أحسن الرد «1» فعادت كما كانت لأوّل أمرها ... فياحسن ما عين ويا حسن ما ردّ «2» فقال عمر بن عبد العزيز: تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا «3» الجزء: 18 ¦ الصفحة: 330 حكاه ابن عبد البر. وروى النّسائىّ عن عثمان بن حنيف أن أعمى قال: يا رسول الله، ادع الله أن يكشف لى عن بصرى. قال «1» : «فانطلق فتوضأ ثم صلّ ركعتين، ثم قل اللهم إنى أسألك وأتوجه إليك بنبيّى «2» محمد نبى الرحمة يا محمد إنى أتوجّه بك إلى ربك أن يكشف عن بصرى اللهم شفعه فىّ» قال: فرجع وقد كشف الله عن بصره. وروى أن ابن ملاعب «3» الأسنّة أصابه استسقاء فبعث إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم، فأخذ بيده حثوة من الأرض فنقل عليها، ثم أعطاها رسوله، فأخذها متعجبا- يرى أنه قد هزئ به- فأتاه بها وهو على شفا فشربها «4» فشفاه الله. وذكر العقيلىّ عن حبيب بن فديك- ويقال فويك «5» - أن أباه ابيضّت عيناه، فكان لا يبصر بهما شيئا، فنفث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى عينيه فأبصر، فرأيته يدخل الخيط فى الإبرة وهو ابن ثمانين. وأتنه امرأة من خثعمّ معها صبىّ به بلاء «6» لا يتكلم، فأتى بماء فمضمض فاه وغسل يديه ثم أعطاها إباه وأمرها بسقيه ومسّه به، فبرأ الغلام، وعقل عقلا، يفضل عقول الناس. وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: جاءت امرأة بابن لها به جنون، فمسح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صدره فثع» ثعّة فخرج الجزء: 18 ¦ الصفحة: 331 من جوفه مثل الجرو الأسود فشفى. وكانت فى كفّ شرحبيل الجعفى سلعة، تمنعه القبض على السيف وعنان الدابة، فشكاها إلى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فما زال يطحنها بكفّه حتى رفعها ولم يبق لها أثر. وسألته جارية طعاما وهو يأكل، فناولها من بين يديه، وكانت قليلة الحياء، فقالت: إنما أريد من الذى فى فيك، فناولها ما فى فيه، ولم يكن يسأل شيئا فيمنعه، فلما استقر فى جوفها ألقى عليها من الحياء ما لم تكن امرأة بالمدينة أشدّ حياء منها. وأما الجراحات التى تفل عليها فبرأت فكثير منها أنه صلّى الله عليه وسلّم بصق على أثر سهم فى وجه أبى قتادة، فى يوم ذى قرد «1» ، قال: فما ضرب علىّ، ولا قاح «2» . ومنها أن كلثوم بن الحصين رمى يوم أحد فى نحره، فبصق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيه فبرأ، وتفل على شجّة عبد الله ابن أنيس فلم تمدّ «3» . وتفل فى رجل زيد بن معاذ حين أصابها السيف إلى الكعب حين قتل ابن الأشرف فبرئت، وعلى ساق على بن الحكم يوم الخندق، إذ انكسرت فبرئ مكانه وما نزل عن فرسه. وقطع أبو جهل يد معوّذ بن عفراء «4» في يوم بدر، فجاء يحمل يده فبصق عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وألصقها فلصقت. رواه ابن وهب، ومن روايته: أن خبيب «5» بن يساف أصيب يوم بدر مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بضربة على عاتقه حتى مال شقّه، فردّه رسول الله صلّى الله عليه الجزء: 18 ¦ الصفحة: 332 وسلّم، ونفث عليه حتى صح. ونفث على ضربة بساق سلمة بن الأكوع يوم خيبر فبرئت. وتفل فى عينى علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه يوم خيبر وكان رمدا فأصبح بارثا. واشتكى علىّ مرة فجعل يدعو، فقال النبىّ صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم اشفه أو عافه «1» » ثم ضربه برجله فما اشتكى ذلك الوجع بعد ذلك. ومن معجزاته صلّى الله عليه وسلّم إجابة دعائه وهذا فصل متسع جدّا، نذكر منه ما اشتهر وانتشر، وتواترت به الأخبار وتداولته الرّواة، ونقله أصحاب السّير، ولا شك ولا خلاف بين أحد من الأمة فى إجابة دعائه صلّى الله عليه وسلّم؛ وقد روى عن حذيفة أنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا دعا لرجل أدركت الدعوة ولده وولد ولده. روى عن أنس بن مالك قال: قالت أمى يا رسول الله، خادمك أنس ادع الله له؛ قال: «اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما آتيته» قال أنس: فو الله إن مالى لكثير، وإن ولدى وولد ولدى ليعادّون اليوم على نحو المائة، وما أعلم أحدا أصاب من رخاء العيش ما أصبت، ولقد دفنت بيدى هاتين مائة من ولدى، لا أقول سقطا ولا ولد ولد. ودعا صلّى الله عليه وسلّم لعبد الرحمن بن عوف بالبركة، قال عبد الرحمن: فلو رفعت حجر لرجوت أن أصيب تحته ذهبا، ولما مات حفر الذهب من تركته بالفؤس حتى مجلت «2» فيه الأيدى، وأخذت كل زوجة ثمانين ألفا، وكنّ أربعا، وقيل: مائة ألف، وقيل: بل صولحت إجداهن- لأنه طلقها فى مرضه- على نيف وثمانين ألفا، وأوصى بخمسين ألفا بعد صدقاته الفاشية فى حياته. ودعا لمعاوية بالتمكين فى البلاد فنال الخلافة. ولسعد بن أبى وقّاص أن الجزء: 18 ¦ الصفحة: 333 يجيب الله دعوته، فما دعا على أحد إلا استجيب له. ودعا أن يعزّ الله الإسلام بعمر أو بأبى جهل فاستجيب له فى عمر رضى الله عنه؛ قال ابن مسعود: ما زلنا أعزّة منذ أسلم عمر. وقال لأبى قتادة: «أفلح وجهك، اللهم بارك له فى شعره وبشره «1» » فمات وهو ابن سبعين سنة وكأنّه ابن خمس عشرة. وقال للنابغة: «لا يفضض «2» الله فاك» قال: فما سقطت له سنّ، وكان، أحسن الناس ثغرا «3» ، إذا سقطت له سنّ نبتت له أخرى، وعاش عشرين ومائة سنة، وقيل: أكثر. ودعا لعبد الله بن عباس رضى الله عنهما: «اللهم فقّهه فى الدين وعلمه التأويل» فسمى بعد الحبر وترجمان «4» القرآن. ودعا لعبد الله بن جعفر بالبركة فى صفقة «5» يمينه؛ فما اشترى شيئا إلا ربح فيه. ودعا للمقداد بالبركة؛ فكان عنده غرائر من المال. ودعا كذلك لعروة بن أبى الجعد، قال: فلقد كنت أقوم بالكناسة «6» فما أرجع حتى أربح أربعين ألفا. ودعا لعلىّ أن يكفى الحرّ والقرّ، فكان يلبس فى الشتاء ثياب الصيف، وفى الصيف ثياب الشتاء، ولا يصيبه حرّ ولا برد. ودعا على مضر فأقحطوا حتى استعطفته قريش فدعا لهم فسقوا. وتقدم خبره فى دعائه فى الاستسقاء والاستضحاء «7» . ودعا على كسرى أن يمزّق ملكه فلم يبق له باقية، ولم تعد لفارس مملكة. وقال لرجل رآه يأكل بشماله: «كل بيمينك» قال: لا أستطيع، فقال: «لا استطعت» «8» فلم يرفعها إلى فيه بعد. وقال فى عتبة بن أبى لهب: «اللهم سلّط الجزء: 18 ¦ الصفحة: 334 عليه كلبا من كلابك» فأكله الأسد كما تقدم. ودعا على مجلّم بن جثّامة، فمات لسبع فلفظته الأرض ثم ووروى فلفظته، فألقوه فى صدّين ورضموا «1» عليه بالحجارة، والصّدّ جانب الوادى. ودعواته صلّى الله عليه وسلّم كثيرة عليه أفضل الصلاة والسلام. ومن معجزاته صلّى الله عليه وسلّم انقلاب الأعيان فيما لمسه أو باشره؛ كسيف عكاشة بن محصن، وعبد الله بن جحش، وغير ذلك، وكان من خبر عكاشة أن سيفه انكسر يوم بدر فأعطاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جذل «2» حطب، وقال: «اضرب به» فعاد فى يده سيفا صارما طويلا أبيض شديد المتن، فقاتل به، ثم لم يزل عنده يشهد به المواقف إلى أن استشهد فى قتال أهل الردّة، وكان هذا السيف يسمى العون. ودفع لعبد الله بن جحش- وقد ذهب سيفه يوم أحد- عسيب «3» نخل فرجع فى يده سيفا. ومن ذلك أنه صلّى الله عليه وسلّم مرّ على ماء «4» فسأل عنه، فقيل له اسمه بيسان وماؤه ملح، فقال: «بل هو نعمان وماؤه طيّب» فكان كذلك. ومنه أنه صلّى الله عليه وسلّم أعطى قتادة بن النعمان- وكان قد صلّى معه العشاء فى ليلة مظلمة مطيرة- عرجونا، وقال: «انطلق به فإنه سيضىء لك من بين يديك عشرا، ومن خلفك عشرا «5» ، فإذا دخلت بيتك فسترى سوادا فاضربه به حتى يخرج فإنه الشيطان» الجزء: 18 ¦ الصفحة: 335 فانطلق فأضاء له العرجون، ووجد السواد فضربه حتى خرج. ومن ذلك أنه صلّى الله عليه وسلّم زوّد أصحابه سقاء من ماء بعد أن أوكأه ودعا فيه، فلما حضرتهم الصلاة نزلوا فحلوه فإذا به لبن طيب وفى فمه زبدة. رواه حمّاد بن سلمة. ومما يلتحق بهذا الفصل أنه صلّى الله عليه وسلّم ركب فرسا لأبى طلحة، كان يقطف «1» - أو- به قطاف، فلما رجع قال: وجدنا فرسك بحرا، فكان بعد لا يجارى. ونخس «2» جمل جابر بن عبد الله، وكان قد أعيا فنشط حتى كان ما يملك زمامه، وقد تقدم خبره. وخفق فرس جعيل الأشجعى بمخفقه «3» معه وبرّك عليها فلم يملك رأسها نشاطا، وباع من بطنها باثنى عشر ألفا. وركب صلّى الله عليه وسلّم حمارا قطوفا لسعد بن عبادة فرده هملاجا «4» لا يساير. ومن ذلك بركة يده صلّى الله عليه وسلّم فيما لمسه كقصة سلمان فى كتابته، وما غرس له صلّى الله عليه وسلّم من الودىّ «5» فأطعمت كلها من عامها، والذّهب الذى أعطاه، وقد تقدم ذكر ذلك فى إسلام سلمان. ومنه أنه صلّى الله عليه وسلّم مسح على رأس عمير بن سعد وبرّك فمات وهو ابن ثمانين سنة وما شاب. وكذلك السّائب ابن يزيد، ومدلوك «6» ، وكان يوجد لعتبة بن فرقد طيب يغلب طيب نسائه، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مسح بيده على بطنه وظهره. ومسح على الجزء: 18 ¦ الصفحة: 336 رأس قيس بن زيد الجذامىّ، ودعا له فهلك وهو ابن مائة سنة، ورأسه أبيض، وموضع كفّ النبى صلّى الله عليه وسلّم وما مرّت يده عليه من شعره أسود، فكان يدعى الأغرّ. وروى مثل ذلك لعمرو بن ثعلبة الجهنىّ. ومسح وجه آخر فما زال على وجهه نور. ومسح وجه قتادة بن ملحان، فكان لوجهه بريق، حتى كان ينظر فيه كما ينظر فى المرآة. ونضح فى وجه زينب بنت أمّ سلمة نضحة من ماء، فما نعرف كان فى وجه امرأة من الجمال ما بها. ومسح على رأس صبى به عاهة فبرأ واستوى شعره، وعلى غير واحد من الصبيان المرضى والمجانين فبرءوا. وأتاه رجل به أدرة «1» فأمره أن ينضحها بماء من عين مجّ «2» فيها ففعل فبرأ. وعن طاوس: لم يؤت النبى صلّى الله عليه وسلّم بأحد به مسّ فصكّ فى صدره إلا ذهب. والمس: الجنون. ومجّ فى دلو من بئر ثم صبّ فيها ففاح منها ريح المسك. وشكا إليه أبو هريرة النسيان فأمره أن يبسط ثوبه، وغرف بيده فيه ثم أمره بضمه ففعل فما نسى شيئا بعد. ومن ذلك درور الشياه الحوائل «3» باللبن الكثير؛ كقصة شاة أمّ معبد، وأعنز معاوية بن ثور، وشاة أنس، وغنم حليمة، وشارفها «4» ، وشاة عبد الله بن مسعود، وشاة المقداد، والله أعلم. ومن معجزاته صلّى الله عليه وسلّم ما أخبر به من الغيوب، وما يكون قبل وقوعه، فكان كما أخبر به صلّى الله عليه وسلّم؛ روى عن حذيفة قال: قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقاما، فما ترك شيئا يكون فى مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدّثه «5» ، حفظه من حفظه ونسيه من نسيه، قد علمه أصحابى هؤلاء، الجزء: 18 ¦ الصفحة: 337 وإنه ليكون منه الشىء فأعرفه فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه، ثم إذا رآه عرفه، ثم قال حذيفة: ما أدرى أنسى أصحابى أم تناسوه، والله ما ترك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قائد فتنة إلى أن تنقضى الدنيا، يبلغ من معه ثلاثمائة فصاعدا إلا قد سمّاه لنا باسمه واسم أبيه وقبيلته. وقال أبو ذرّ: لقد تركنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما يحرك طائر جناحيه فى السماء إلا ذكرنا منه علما «1» . ومما أخبر به صلّى الله عليه وسلّم مما يكون فكان، ما أخرجه أهل الصحيح والأئمة، مما وعد به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصحابه من الظّهور على أعدائه، وفتح مكة وبيت المقدس واليمن والشام والعراق، وظهور الأمن حتى تظعن «2» المرأة من الحيرة إلى مكة لا تخاف إلا الله، وأن المدينة ستغزى «3» ، وتفتح خيبر على يدى علىّ فى غد يومه، وما يفتح الله على أمته من الدنيا، وما يؤتون من زهرتها «4» ، وقسمتهم كنوز كسرى وقيصر، وما يحدث بينهم من الفتون «5» والاختلاف والأهواء، وسلوك سبيل من قبلهم وافتراقهم على ثلاث وسبعين فرقة، الناجية منها واحدة، وأنه ستكون لهم أنماط «6» ، ويغدو أحدهم فى حلّة ويروح فى أخرى، وتوضع بين يديه صحفة «7» وترفع أخرى، ويسترون بيوتهم كما تستر الكعبة، ثم قال آخر الحديث: «وأنتم اليوم خير منكم يومئذ» وأنهم إذا مشوا المطيطاء «8» ، وخدمتهم بنات الجزء: 18 ¦ الصفحة: 338 فارس والروم، ردّ الله بأسهم بينهم، وسلّط شرارهم على خيارهم، وما أخبر به صلّى الله عليه وسلّم من قتالهم التّرك والخزر والرّوم، وذهاب كسرى وفارس، حتى لا كسرى ولا فارس بعده، وذهاب قيصر حتى لا قيصر بعده، وأن الروم ذات قرون إلى آخر الدهر، وأخبر بذهاب الأمثل فالأمثل من الناس، وتقارب الزمان، وقبض العلم، وظهور الفتن والهرج، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «زويت «1» لى الأرض فأريت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتى ما زوى لى منها» فكان كذلك؛ امتدت فى المشارق والمغارب، ما بين أرض الهند أقصى المشرق إلى بحر طنجة «2» حيث لا عمارة وراءه، ولم تمتدّ فى الجنوب والشمال مثل ذلك. وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «ويل للعرب من شرّ قد اقترب» . وقوله: «لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحقّ حتى تقوم الساعة» ذهب ابن المدينى إلى أنهم العرب؛ لأنهم المختصّون بالسّقى بالغرب وهو الدّلو، وقيل: بل هم أهل المغرب، ومن رواية أبى أمامة: «لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق قاهرين لعدوهم حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك» قيل: يا رسول الله وأين هم؟ قال: «ببيت المقدس» . وأخبر صلّى الله عليه وسلّم بملك بنى أمية، وولاية معاوية، ووصاه، واتخاذ بنى أمية مال الله دولا «3» . وأخبر بخروج ولد العباس بالرايات السود، وملكهم أضعاف ما ملكوا، وأخبر بقتل علىّ رضى الله عنه، وأن أشقاها الذى يخضب هذه من هذه؛ أى لحيته من رأسه. وقال: يقتل عثمان وهو يقرأ المصحف، وأن الله عسى أن الجزء: 18 ¦ الصفحة: 339 يلبسه قميصا، وأنهم يريدون خلعه، وأنه سيقطر دمه على قوله تعالى: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ «1» . وأن الفتن لا تظهر مادام عمر حيّا، وأخبر بمحاربة الزبير لعلىّ، ونباح كلاب الحوأب «2» على بعض أزواجه، وأنه يقتل حولها قتلى كثيرة، وتنجو بعد ما كادت، وأن عمّارا تقتله الفئة الباغية، وقال لعبد الله بن الزبير: «ويل للناس منك، وويل لك من الناس» وقال فى قزمان «3» وقد أبلى بلاء حسنا مع المسلمين: «إنه من أهل النار» فقتل نفسه. وقال صلّى الله عليه وسلّم: «يكون فى ثقيف كذّاب ومبير «4» » فكان الكذاب المختار بن أبى عبيد، والمبير الحجاج بن يوسف. وأخبر بالردّة، وأن الخلافة بعده ثلاثون، ثم ملكا، وقال: «إن هذا الأمر بدأ نبوّة ورحمة، ثم يكون رحمة وخلافة، ثم يكون ملكا عضوضا «5» ، ثم يكون عتوّا وجبروّة وفسادا فى الأئمة» فكان كل ذلك كما أخبر. وأخبر أن سيكون فى أمته ثلاثون كذّابا فيهم أربع نسوة، وفى حديث آخر: «ثلاثون دجالا كذّابا آخرهم الدّجّال الكذّاب كلهم يكذب على الله ورسوله» . وقال صلّى الله عليه وسلّم: «يوشك أن يكثر فيكم العجم يأكلون فيئكم «6» ، ويضربون رقابكم» فكان كذلك. وقال: «لا تقوم الساعة حتى يسوق الناس بعصاه رجل من قحطان» «7» . وقال: «هلاك أمتى على يدى أغيلمة من قريش» قال أبو هريرة راوى الحديث: لو شئت سميتهم لكم، الجزء: 18 ¦ الصفحة: 340 بنو فلان وبنو فلان. وأخبر بظهور القدريّة والرافضة، وسبّ آخر هذه الأمة أوّلها. وأخبر بشأن الخوارج وصفتهم، والمخدج «1» الذى فيهم، وأن سيماهم التّحليق «2» . وقال: «خيركم قرنى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يأتى بعد ذلك قوم يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يفون» . وقال: «لا يأتى زمان إلا والذى بعده شر منه» . وأخبر صلّى الله عليه وسلّم بالموتان «3» الذى يكون بعد فتح المقدس. وما وعد من سكنى البصرة، وأن أمته يغزون فى البحر كالملوك على الأسرّة؛ فكان فى زمن يزيد بن معاوية. وقال: «إن الدّين لو كان منوطا «4» بالثريا لناله رجال من ابناء فارس» . وقال صلّى الله عليه وسلّم فى الحسن بن على رضى الله عنهما: «إن ابنى هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين» . وأخبر بقتل الحسين بالطّف «5» ، وأخرج بيده تربة، وقال: فيها مضجعه. وقال فى زيد بن صوحان: يسبقه عضو منه إلى الجنة، فقطعت يده فى الجهاد. وقال لسراقة: «كيف بك إذا لبست سوارى كسرى» فلما أتى بهما لعمر ألبسهما إياه، وقال: الحمد لله الذى سلبهما كسرى وألبسهما سراقة. وقال: «تبنى مدينة بين دجلة ودجيل وقطربّل والصّراة «6» تجبى إليها خزائن الأرض يخسف بها» . فبنيت بغداد. وقال: «لا تقوم الساعة حتى تقتتل طائفتان دعواهما واحدة» . وقال لعمر فى سهيل بن عمرو: «عسى أن يقوم مقاما يسرك يا عمر» فقام بمكة مقام أبى بكر يوم بلغهم موت النبى صلّى الله عليه وسلّم، وخطب بنحو خطبته، وثبّت الناس الجزء: 18 ¦ الصفحة: 341 وقوّى بصائرهم، وقال لخالد حين وجهه إلى أكيدر: «إنك بحده يصيد البقر» فكان كذلك. وقد تقدّم خبره. وأخبر صلّى الله عليه وسلّم بوقائع نحن نترقب وقوعها؛ كقوله: «عمران بيت المقدس خراب يثرب، وخراب يثرب خروج الملحمة، وخروج الملحمة فتح القسطنطينيّة» . وأخبر بغير ذلك من الأمور التى وقعت فى حياته فى أماكن بعيدة، وأخبر بها حال وقوعها كموت النجاشى، وقتل أمراء مؤته، وغير ذلك صلّى الله عليه وسلّم. ومن معجزاته عصمة الله تعالى له من الناس وكفايته إياه مع كثرة أعدائه وتحزبهم واجتماعهم على أذاه قال الله عز وجل: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ «1» . وقال تعالى: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا «2» . وقال: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ «3» . وقال: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ. الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ «4» . وقال تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ «5» . روى عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحرس حتى نزلت هذه الآية: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ فأخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأسه من القبّة، فقال لهم: «يأيها الناس انصرفوا فقد عصمنى الله ربى عزّ وجل» . وقيل: كان النبى صلّى الله عليه وسلّم يخاف قريشا، فلما نزلت هذه الآية استلقى، ثم قال: «من شاء فليخذلنى» . وقد تقدم من عصمة الله له وكفايته قصتا دعثور وغورث، وخبر الجزء: 18 ¦ الصفحة: 342 حمّالة الحطب، وأخذ الله تعالى على بصرها حين أرادته بالفهر «1» ، وخبر أبى جهل حين أراده بالحجر، وغير ذلك. وها نحن نورد فى هذا الموضع من ذلك خلاف ما قدّمناه؛ فمن ذلك ما روى عن الحكم بن العاص أنه قال: تواعدنا على النبى صلّى الله عليه وسلّم، حتى إذا رأيناه سمعنا صوتا خلفنا ما ظننا أنه بقى بتهامة أحد، فوقعنا مغشيا علينا، فما أفقنا حتى قضى صلاته ورجع إلى أهله، ثم تواعدنا ليلة أخرى، فخرجنا حتى إذا رأيناه جاءت الصفا والمروة فحالت بيننا وبينه. وعن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: تواعدنا أنا وأبو جهم بن حذيفة ليلة قتل «2» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فجئنا منزله فسمعنا له، فافتتح وقال: الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ إلى: فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ «3» فضرب أبو جهم على عضد عمر وقال: انج، وفرّا هاربين، فكانت من مقدّمات إسلام عمر. ومن ذلك خروجه صلّى الله عليه وسلّم على قريش حين اجتمعوا لقتله، فأخذ الله على أبصارهم حتى ذرا «4» التراب على رءوسهم وخلص منهم. وقصة الغار، وأخذ الله على أبصارهم، وخبر سراقة بن مالك بن جعشم، وقد تقدّم ذكر ذلك. وفى خبر آخر أنّ راعيا عرف خبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبى بكر حين هاجرا، فخرج يشتدّ «5» ليعلم قريشا بشأنهما، فلما دخل مكة ضرب على قلبه فما يدرى ما يصنع، وأنسى ما خرج له حتى رجع إلى موضعه. وذكر السّمرقندىّ: أن رجلا من بنى المغيرة أتى النبى صلّى الله عليه وسلّم ليقتله، فطمس الله بصره فلم الجزء: 18 ¦ الصفحة: 343 ير النبى صلّى الله عليه وسلّم وسمع قوله، فرجع إلى أصحابه ولم يرهم حتى نادوه، وذكر أنّ فيه وفى أبى جهل نزلت: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ. وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ «1» . وقد روى عن أبى هريرة أن أبا جهل وعد قريشا: لئن رأى محمدا- صلى الله عليه وسلّم- يصلّى ليطأنّ رقبته، فلما صلّى النبى صلى الله عليه وسلّم أعلموه فأقبل، فلما قرب منه ولّى هاربا ناكصا على عقبيه متّقيا بيديه، فسئل فقال: لما دنوت منه أشرفت على خندق مملوء نارا كدت أهوى فيه، وأبصرت هولا عظيما، وخفق أجنحة قد ملأت الأرض. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تلك الملائكة لودنا لا ختطفته عضوا عضوا» ثم أنزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى «2» إلى آخر السورة. وقد ذكرنا أيضا قصة شيبة بن عثمان بن أبى طلحة فى غزوة حنين. وعن فضّالة بن عمرو قال: أردت قتل النبى صلّى الله عليه وسلّم عام الفتح وهو يطوف بالبيت، فلما دنوت منه قال: «أفضالة» ؟ قلت: نعم، قال: «ما كنت تحدّث به نفسك» ؟ قلت: لا شىء، فضحك واستغفر لى ووضع يده على صدرى فسكن قلبى، فو الله ما رفعها حتى ما خلق الله شيئا أحبّ إلىّ منه. ومنه خبر عامر بن الطّفيل، وأربد بن قيس، وقد تقدم ذكر قصتهما «3» . ومن معجزاته صلّى الله عليه وسلّم ما جمعه الله تعالى له من المعارف والعلوم، وخصه به من الاطلاع على جميع مصالح الدنيا والدين، ومعرفته بأمور الشرائع وغير ذلك، كاطلاعه صلّى الله عليه وسلّم على أخبار من سلف من الأمم، وقصص الأنبياء والرسل، وأخبار الجبابرة والقرون الجزء: 18 ¦ الصفحة: 344 الماضية، وحفظ شرائعهم، وسرد أنبائهم، وأيّام الله فيهم، ومعارضة كل فرقة من أهل الكتاب بما فى كتبهم، وإعلامهم بأسرارها ومخبآت علومها، وإخبارهم بما كتموه من ذلك وغيّروه، واحتوائه صلّى الله عليه وسلّم على لغات العرب وغريب ألفاظها، والحفظ لأيامها وأمثالها وحكمها، ومعانى أشعارها، وما خصه الله تعالى به من جوامع الكلم، وما علمه من ضروب العلوم وفنون المعارف؛ كالطبّ والعبارة «1» والفرائض والحساب والأنساب وغير ذلك، مما جعل أهل هذه العلوم كلامه صلّى الله عليه وسلّم فيها قدوة وحجة وأصولا يرجعون إليها فى علومهم؛ كقوله عليه السلام: «الرؤيا لأوّل عابر وهى على رجل طائر» وقوله: «الرؤيا ثلاث؛ رؤيا حق، ورؤيا يحدّث بها الرجل نفسه، ورؤيا تحزين من الشيطان» . وقوله: «إذا تقارب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب» . وقوله: «أصل كل داء البردة «2» » وقوله: «المعدة حوض البدن، والعروق إليها واردة» وقوله: «خير ما تداويتم به السّعوط «3» ، واللّدود «4» ، والحجامة، والمشىّ «5» ، وخير الحجامة يوم سبع عشرة وتسع عشرة وإحدى وعشرين، وفى العود «6» الهندى سبعة أشفية» وقوله: «ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه» . وقوله لكاتبه: «ضع القلم على أذنك فإنه أذكر للمملى» . وقد وردت آثار بمعرفته حروف الجزء: 18 ¦ الصفحة: 345 الخطّ، وحسن تصويرها؛ كقوله: «لا تمدّوا بسم الله الرحمن الرحيم» رواه ابن شعبان من طريق ابن عباس، وقوله فى الحديث الآخر الذى يروى عن معاوية أنه كان يكتب بين يديه- صلى الله عليه وسلّم- فقال له: «ألق «1» الدّواة، وحرّف القلم، وأقم الباء، وفرّق السين، ولا تعوّر «2» الميم، وحسّن الله، ومدّ الرحمن، وجوّد الرحيم» وإن لم تصح الرواية أنه صلّى الله عليه وسلّم كتب، فلا يبعد أن يكون قد رزق علم الخطّ، ومنع الكتابة والقراءة. وكذلك حفظه صلّى الله عليه وسلّم لكثير من لغات الأمم؛ كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «سنه سنه «3» » وهى حسنة بالحبشية، وقوله: و «يكثر الهرج» وهو القتل بها، وقوله فى حديث أبى هريرة: «اشكنب «4» دردم» أى وجع البطن بالفارسية، وغير ذلك مما لا يعلمه إلا من دارس العلوم، ومارس الكتب، وداوم المطالعة، وعكف على الاشتغال. وكان صلّى الله عليه وسلّم بخلاف ذلك لا يقرأ ولا يكتب؛ كما أخبر الله تعالى عنه بقوله عز وجل: «وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطّه بيمينك إذا لارتاب المبطلون» «5» وفى هذا أكبر آية، وأعظم دلالة، وأبين حجة، وأبهر معجزة له صلّى الله عليه وسلّم. وقد رأينا أن نختم هذه الفصول بذكر القصيدة التى ابتسمت ثغورها بوصف معجزاته، وتحلّت نحورها بجواهر صفاته، ورفلت فى حلل الفخار من باهر آياته، وسحبت ذيول الافتخار بإشارات إلى غزواته، وفاح أرجها فأخجل المسك الدّارىّ «6» ، وأشرقت أنوارها على النيرين الجزء: 18 ¦ الصفحة: 346 فما ظنك بالدرارىّ، وهى قصيدة الشيخ الإمام العلامة أبى محمد عبد الله بن زكريا الشّقراطيسىّ «1» رحمه الله تعالى، وإنما اقتصرنا عليها وصرفنا الرغبة دون غيرها إليها لاشتمالها على جمل من أخباره السنية، ونكت من آثاره التى هى بكل خير ملية، وهى: الحمد لله منّا باعث الرسل ... هدى بأحمد منّا أحمد السّبل «2» خير البرية من بدو ومن حضر ... وأكرم الخلق من حاف ومنتعل «3» توراة موسى أتت عنه فصدّقها ... إنجيل عيسى بحقّ غير مفتعل «4» أخبار أحبار أهل الكتب قد وردت ... عما رأوا ورووا فى الأعصر الأول ضاءت لمولده الآفاق وانصلت ... بشرى الهواتف فى الإشراق والطّفل «5» وصرح كسرى تداعى من قواعده ... وانقاض منكسر الأرجاء ذا ميل «6» ونار فارس لم توقد وما خمدت ... مذ ألف عام ونهر القوم لم يسل خرّت لمبعثه الأوثان وانبعثت ... ثواقب الشهب ترمى الجنّ بالشّعل ومنطق الذئب بالتصديق معجزة ... مع الذراع ونطق العير والجمل «7» وفى دعائك بالأشجار حين أتت ... تسعى بأمرك فى أغصانها الذّلل وقلت عودى فعادت فى منابتها ... تلك العروق بإذن الله لم تمل الجزء: 18 ¦ الصفحة: 347 والسّرح بالشام لما جئتها سجدت ... شمّ الذوائب فى أغصانها الخضل «1» والجذع حنّ لأن فارقته أسفا ... حنين ثكلى شجتها لوعة الثّكل «2» ما صبر من صار من عين على أثر ... وحال من حال من حال إلى عطل «3» حيى فمات سكونا ثم مات لدن ... حيى حنينا فأضحى غاية المثل والشاة لمّا مسحت الكفّ منك على ... جهد الهزال بأوصال لها قحل «4» سحّت ودرّت بشكر الضرع حافلة ... فروّت الركب بعد النّهل بالعلل «5» وآية الغار إذ وقّيت فى حجب ... عن كل رجس لرجس الكفر منتحل «6» وقال صاحبك الصّدّيق كيف بنا ... ونحن منهم بمرأى الناظر العجل فقلت لا تحزن ان الله ثالثنا ... وكنت فى حجب ستر منه منسدل حمّت لديك حمام الوحش جاثمة ... كيدا لكل غوىّ القلب مختبل «7» والعنكبوت أجادت حوك حلّتها ... فما يخال خلال النّسج من خلل قالوا: وجاءت إليه سرحة سترت ... وجه النبىّ بأغصان لها هدل» الجزء: 18 ¦ الصفحة: 348 وفى سراقة آيات مبنيّة ... إذ ساخت الحجر فى وحل بلا وحل «1» عرجت تخترق السبع الطّباق إلى ... مقام زلفى كريم قمت فيه عل «2» عن قاب قوسين أو أدنى هبطت ولم ... تستكمل الليل بين المرّ والقفل «3» دعوت للخلق عام المحل مبتهلا ... أفديك بالخلق من داع ومبتهل «4» صعّدت كفّيك إذ كفّ الغمام فما ... صوّبت إلّا بصوب الواكف الهطل «5» أراق بالأرض ثجّا صوب ريّقه ... فحلّ بالأرض نسجا رائق الحلل «6» زهر من النّور حلّت روض أرضهم ... زهرا من النّور ضافى النبت مكتهل «7» من كل غصن نضير مورق خضر ... وكل نور نضيد مونق خضل «8» تحية أحيت الأحياء من مضر ... بعد المضرة تروى السّبل بالسّبل «9» دامت على الأرض سبعا غير مقلعة ... لولا دعاؤك بالإقلاع لم تزل الجزء: 18 ¦ الصفحة: 349 ويوم زورك بالزّوراء إذ صدروا ... من يمن كفّك عن أعجوبة مثل «1» والماء ينبع جودا من أناملها ... وسط الإناء بلا نهر ولا وشل «2» حتى توضأ منه القوم واغترفوا ... وهم ثلاث مئين جمع محتفل أشبعت بالصاع ألفا مرملين كما ... رؤيت ألفا ونصف الألف من سمل «3» وعاد ما شبع الألف الجياع به ... كما بدوا فيه لم ينقص ولم يحل أعجزت بالوحى أصحاب البلاغة فى ... عصر البيان فضلّت أوجه الحيل سألتهم سورة فى مثل حكمته ... فتلّهم عنه حين العجز حين تلى «4» ورام رجس كذوب أن يعارضه ... بعىّ غىّ فلم يحسن ولم يطل «5» مثبّج بركيك الإفك ملتبس ... ملجلج بزرىّ الزّور والخطل «6» يمجّ أول حرف منه سامعه ... ويعتريه كلال العجز والملل «7» كأنّه منطق الورهاء شذّبه ... لبس من الخبل أو مسّ من الخبل «8» أمرّت البئر واغورّت لمجّته ... فيها وأعمى بصير العين بالتّفل «9» الجزء: 18 ¦ الصفحة: 350 وأيبس الضّرع منه شؤم راحته ... من بعد إرساله بالرّسل منهمل «1» برئت من دين قوم لا قوام لهم ... عقولهم من وثاق الغىّ فى غلل «2» يستخبرون خفىّ الغيب من حجر ... صلد ويرجون غوث النصر من هبل «3» نالوا أذّى منك- لولا حلم خالقهم ... وحجّة الله بالإنذار لم تنل «4» واستضعفوا أهل دين الله فاصطبروا ... لكل معضل خطب فادح جلل «5» لاقى بلال بلاء من أميّة قد ... أحلّه الصبر فيه أكرم النّزل إذ أجهدوه بضنك الضّنك وهو على ... شدائد الأزل ثبت الأزر لم يزل «6» ألقوه بطحا برمضاء البطاح وقد ... عالوا عليه صخورا جمّة الثّقل «7» فوحّد الله إخلاصا وقد ظهرت ... بظهره كنده ب الطّلّ فى الطّلل «8» إن قدّ ظهر ولىّ الله من دبر ... قد قدّ قلب عدوّ الله من قبل «9» نفرت فى نفر لم ترض أنفسهم ... إذ نافروا الرّجس إلّا القدس من نفل «10» الجزء: 18 ¦ الصفحة: 351 بأنفس بدّلت فى الخلد إذ بذلت ... عن صدق بذل ببدر أكرم البدل قالوا: محمد قد حلّت كتائبه ... كالأسد تزأر فى أنيابها العصل «1» فويل مكّة من آثار وطأته ... وويل أمّ قريش من جوى الهبل «2» فجدت عفوا بفضل العفو منك ولم ... تلمم ولا بأليم اللّوم والعذل أضربت بالصّفح صفحا عن طوائلهم ... طولا أطال مقيل القوم فى المقل» رحمت واشج أرحام أتيح لها ... تحت الوشيج نشيج الرّوع والوجل «4» عاذوا بظل كريم العفو ذى لطف ... مبارك الوجه بالتوفيق مشتمل «5» أحبب بخيل من التّكوين قد جنبت ... لجانب عن جناب الحقّ معتزل «6» أعميت جيشا بكفّ من حصى فجثوا ... وعطّلوا عن حراك النّفل بالنّقل «7» ودعوة بفناء البيت صادقة ... غدا أميّة منها شرّ منخزل «8» الجزء: 18 ¦ الصفحة: 352 غادرت جهل أبى جهل بمجهلة ... وشاب شيبة قبل الموت من وجل «1» وعتبة الشّرّ لم يعتب فتعطفه ... منك العواطف قبل الفوت فى مهل «2» وعقبة الغمر عقباه لشقوته ... قد ظلّ من غمرات الغىّ فى ظلل «3» وكلّ أشوس عاتى القلب منقلب ... جعلته بقليب البئر كالجعل «4» وجاثم بمثار النّقع مشتغل ... بجاحم من أوار النار مشتعل «5» عقدت بالحزى فى عطفى مقلّدهم ... طوق الحمامة باق غير منتقل «6» أمسى خليل صغار بعد نخوته ... بالأمس فى خيلاء الخيل والخول «7» دام يديم زفيرا فى جوانحه ... جنح من الشّكّ لم يجنح ولم يمل «8» يقاد فى القدّ خنقا مشربا حنقا ... يمشى به الذّعر مشى الشارب الثّمل «9» الجزء: 18 ¦ الصفحة: 353 أوصاله من صليل الغلّ فى علل ... وقلبه من غليل الغلّ فى غلل «1» يظلّ يحجل ساجى الطرف خافضه ... بمسكة الحجل لا من مسكة الحجل «2» أرحت بالسيف ظهر الأرض من نفر ... أزحت بالصدق منهم كاذب العلل «3» تركت بالكفر صدعا غير ملتئم ... وآب منك بقرح غير مندمل «4» وأفلت السيف منهم كلّ ذى أسف ... على الحمام حماه آجل الأجل «5» قد أعتقته عتاق الخيل وهو يرى ... به إلى رقّ موت رقّة الغزل «6» فكم بمكة من باك وباكية ... بفيض سجل من الآماق منسجل «7» وكاسف البال بالى الصبر جدت له ... بوابل من وبال الخزى متّصل «8» فؤاده من سعير الغيظ فى غلل ... وعينه من غزير الدمع فى غلل «9» الجزء: 18 ¦ الصفحة: 354 قد أسعرت منه صدرا غير مصطبر ... وحمّلت منه قلبا غير محتمل «1» ويوم مكة إذ أشرفت فى أمم ... يضيق عنها فجاج الوعر والسّهل «2» خوافق ضاق ذرع الخافقين بها ... فى قاتم من عجاج الخيل والإبل «3» وجحفل قذف الأرجاء ذى لجب ... عرمرم كزهاء الليل منسدل «4» وأنت- صلى عليك الله- تقدمهم ... فى بهو إشراق نور منك مكتمل «5» ينير فوق أغرّ الوجه منتجب ... متوّج بعزيز النصر مقتبل «6» تسمو أمام جنود الله مرتديا ... ثوب الوقار لأمر الله ممتثل خشعت تحت لواء العزّحين سمت ... بك المهابة فعل الخاضع الوجل «7» وقد تباشر أملاك السماء بما ... ملّكت إذ نلب منه غاية الأمل والأرض ترجف من زهو ومن فرق ... والجوّ يزهر إشراقا من الجذل «8» والخيل تختال ميلا فى أعنّتها ... والعيس تنثال رهوا من ثنى الجدل «9» الجزء: 18 ¦ الصفحة: 355 لولا الذى خطّت الأقلام من قدر ... وسابق من قضاء غير ذى حول أهلّ ثهلان بالتهليل من طرب ... وذاب يذبل تكبيرا من الذّبل «1» الملك لله هذا عزّ من عقدت ... له النبوّة فوق العرش فى الأزل شعبت صدع قريش بعد ما قذفت ... بهم شعوب شعاب السّهل والقلل «2» من كل مهتصر لله منتصر ... بالسيف مختصر بالرّمح معتقل «3» يمشى إلى الموت عالى الكعب معتقلا ... أظمى الكعوب كمشى الكاعب الفضل «4» قد قاتلوا دونك الأقيال عن جلد ... وجالدوا بجلاء البيض والجدل «5» وصلتهم وقطعت الأقربين معا ... فى الله لولاه لم تقطع ولم تصل وجاء جبريل فى جند لهم عدد ... لم يبتذلها أكفّ الخلق بالعمل بيض من العون لم تستلّ من عمد ... خيل من الكون لم تستنّ فى طيل «6» الجزء: 18 ¦ الصفحة: 356 أزكى البرية أخلاقا وأطهرها ... وأكثر الناس صفحا عن ذوى الزّلل زان الخشوع وقار منه فى خفر ... أرقّ من خفر العذراء فى الكلل «1» وطفت فى البيت محبورا وطاف به ... من كان عنه قبيل الفتح فى شغل والكفر فى ظلمات الرّجس مرتكس ... ثاو بمنزلة البهموت من زحل «2» حجزت بالأمن أقطار الحجاز معا ... وملت بالخوف عن خيف وعن ملل «3» وحلّ أمن ويمن منك فى يمن ... لما أجابت إلى الإيمان فى عجل وأصبح الدين قد حفّت جوانبه ... بعزة النصر واستعلى على الملل «4» قد طاع منحرف منهم لمعترف ... وانقاد منعدل منهم لمعتدل أحبب بخلّة أهل الحقّ فى الخلل ... وعزّ دولته الغرّاء فى الدول أمّ اليمامة يوم منه مصطلم ... وحلّ بالشام شؤم غير مرتحل «5» تعرّقت منه أعراق العراق ولم ... يترك من التّرك عظما غير منتثل «6» الجزء: 18 ¦ الصفحة: 357 لم يبق للفرس ليث غير مفترس ... ولا من الحبش جيش غير منجفل «1» ولا من الصّين صون غير مبتذل ... ولا من الروم مرمى غير منتضل «2» ولا من النّوب جذم غير منجذم ... ولا من الزّنج جذل غير منجذل «3» ونيل بالسّيف سيف النّيل واتصلت ... دعوى الجنود فكلّ بالجلاد صلّى «4» وسلّ بالغرب غرب السيف إذ شرقت ... بالشرق قبل صدور البيض والأسل «5» وعاد كل عدوّ عزّ جانبه ... قد عاذ منك ببذل منه مبتذل «6» بذمّة الله والإيمان متّصل ... أو من شبا النّصل بالأموال منتصل «7» يا صفوة الله قد صافيت فيك صفا ... صفو الوداد بلا شوب ولا دخل «8» ألست أكرم من يمشى على قدم ... من البرية فوق السهل والجبل وأزلف الحلق عند الله منزلة ... إذ قيل فى مشهد الأشهاد والرسل قم يا محمد فاشفع فى العباد وقل ... تسمع وسل تعط واشفع عائدا وسل والكوثر الحوض يروى الناس من ظمأ ... برح وينقع منه لاعج الغلل «9» الجزء: 18 ¦ الصفحة: 358 أصفى من الثلج إشراقا مذاقته ... أحلى من اللبن المضروب بالعسل نحلتك الودّ علىّ إذ نحلتكه ... أحبى بفضلك منه أفضل النّحل «1» فما لجلدى بنضج النار من جلد ... ولا لقلبى بهول الحشر من قبل يا خالق الخلق لا تخلق بما اجترمت ... يداى وجهى من حوب ومن زلل «2» واصحب وصلّ وواصل كلّ صالحة ... على صفيّك فى الإصباح والأصل صلّى الله عليه وسلّم وقد آن أن نأخذ فى ذكر أخبار وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ونبدأ من ذلك بما أنزل عليه عند اقتراب أجله، ثم نذكر ابتداء وجعه والحوادث التى انفقت فى أثناء مرضه إلى حين وفاته صلّى الله عليه وسلّم. ذكر ما أنزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند اقتراب أجله، وما كان يقوله مما استدل به على اقترابه كان مما استدل به على اقتراب أجل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، نزول سورة الفتح، وتتابع الوحى، وتكرار عرض القرآن على جبريل، واستغفار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأهل البقيع والشهداء. روى عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما: أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه سأل عن قول الله عز وجل: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً «3» فقال بعض أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا الله وفتح علينا. وقال بعضهم: فتح المدائن والقصور. وسكت بعضهم فلم يقل شيئا، قال عمر: كذاك تقول يابن عباس؟ فقلت: لا، قال: فما تقول؟ قلت: هو الجزء: 18 ¦ الصفحة: 359 أجل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعلمه له؛ قال: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وذاك علامة أجلك فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً «1» فقال عمر رضى الله عنه: ما أعلم منها إلا ما تقول. وعن عائشة رضى الله عنها قالت: ما صلّى النبى صلّى الله عليه وسلّم صلاة بعد أن نزلت عليه: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ إلا يقول فيها: «سبحانك ربّنا وبحمدك اللهم اغفرلى» . وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ داع من الله ووداع من الدنيا. وعنه رضى الله عنه قال: لما نزلت إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فاطمة فقال: «إنه نعيت إلىّ نفسى» قالت: فبكيت، فقال: «لا تبكى فإنك أوّل أهلى بى لحوقا» فضحكت. وروى محمد بن سعد بسنده إلى أنس بن مالك: أن الله تبارك وتعالى تابع الوحى على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل وفاته حتى توفّى، وأكثر ما كان الوحى فى يوم توفّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وروى ابن سعد أيضا بسنده إلى عكرمة قال قال العباس: لأعلمنّ بقاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فينا، فقال له: يا رسول الله، لو اتخذت عرشا فإن الناس قد آذوك، قال: «والله لا أزال بين ظهرانيهم ينازعونى رداتى ويصيبنى غبارهم حتى يكون الله يريحنى منهم» قال العباس: فعرفنا أن بقاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم فينا قليل. وعن واثلة بن الأسقع قال: خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: «أتزعمون أنى من آخركم وفاة، ألا وإنى من أوّلكم وفاة، وتتبعونى أفنادا «2» يهلك بعضكم بعضا» . وعن أبى صالح قال: كان جبريل يعرض القرآن كل سنة مرة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما كان العام الذى الجزء: 18 ¦ الصفحة: 360 قبض فيه عرضه عليه مرتين. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعتكف فى شهر رمضان العشر الأواخر، فلما كانت السنة التى قبض فيها اعتكف عشرين يوما. وعن عائشة وابن عباس رضى الله عنهم نحوه. ذكر استغفار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأهل بقيع الغرقد «1» والشّهداء، وما روى من تخييره بين البقاء ولقاء الله تعالى، واختياره لقاء ربه عز وجل روى عن عائشة رضى الله عنها قالت: قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة فلبس ثيابه ثم خرج، فأمرت جاريتى بريرة فتبعته، حتى إذا جاء البقيع وقف فى أدناه ما شاء الله أن يقف، ثم انصرف فسبقته بريرة فأخبرتنى فلم أذكر له شيئا حتى أصبح، ثم ذكرت ذلك له فقال: «إنى بعثت لأهل البقيع لأصلى عليهم» . وعنها رضى الله عنها قالت: افتقدت النبىّ صلّى الله عليه وسلّم من الليل فتبعته فإذا هو البقيع فقال: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين أنتم لنا فرط،» وإنابكم لاحقون، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنّا بعدهم» قالت: ثم التفت إلىّ فقال: «ويحها لو تستطيع ما فعلت» . وعنها رضى الله عنها قالت: وثب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مضجعه من جوف الليل، فقلت: إلى أين بأبى أنت وأمى يا رسول الله؟ قال: «أمرت أن أستغفر لأهل البقيع» قالت: فخرج وخرج معه مولاه أبو رافع، وكان أبو رافع يحدّث قال: استغفر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لهم طويلا ثم انصرف، وجعل يقول: «يا أبا رافع إنى خيّرت بين خزائن الجزء: 18 ¦ الصفحة: 361 الدنيا والخلد ثم الجنة وبين لقاء ربى والجنة فاخترت لقاء ربى» . وعن أبى مويهبة مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال قال لى رسول الله صلّى الله عليه وسلم من جوف الليل: «يا أبا مويهبة إنى قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع فانطلق معى» فخرج وخرجت معه حتى جاء البقيع فاستغفر لأهله طويلا، ثم قال: «ليهنئكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع بعضها بعضا، يتبع آخرها أوّلها، الآخرة شر من الأولى» ثم أقبل علىّ فقال: «يا أبا مويهبة إنى قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها، ثم الجنة، فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربى والجنة» فقلت: بأبى أنت وأمى، فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، فقال: «لا والله يا أبا مويهبة لقد اخترت لقاء ربى والجنة» ثم استغفر لأهل البقيع وانصرف. والجمع بين هذه الأحاديث كلها غير مناف؛ لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ربما استغفر لأهل البقيع ليالى، ويؤيد هذا ويعضده ما رواه عطاء بن يسار عن عائشة رضى الله عنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كلما كانت ليلتها منه يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، أتانا وإياكم ما توعدون، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد» . وعن عطاء بن يسار أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتى فقيل له: اذهب فصلّ على أهل البقيع، ففعل ذلك ثم رجع فرقد، فقيل له اذهب فصلّ على الشهداء، فذهب إلى أحد فصلى على قتلى أحد، فرجع معصوب الرأس، فكان بدوّ الوجع الذى مات فيه صلّى الله عليه وسلّم. وعن عقبة بن عامر الجهنىّ: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلى على قتلى أحد بعد ثمان سنين كالمودّع للأحياء والأموات، ثم طلع المنبر فقال: «إنى بين أيديكم فرط وأنا عليكم شهيد، وإنّ موعدكم الحوض، وإنى لأنظر إليه وأنا فى مقامى هذا، وإنى لست أخشى عليكم أن تشركوا ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تنانسوها» . الجزء: 18 ¦ الصفحة: 362 ذكر ابتداء وجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واستئذانه نساء أن يمرض فى بيت عائشة رضى الله عنها كان ابتداء وجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى يوم الأربعاء، قيل: لإحدى عشرة بقيت من صفر سنة إحدى عشرة من الهجرة. وقيل: لليلة بقيت من صفر. روى عن ابن شهاب، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود- دخل حديث أحدهما فى حديث الآخر- عن عائشة رضى الله عنها قالت: بدا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم شكوة الذى توفّى فيه وهو فى بيت ميمونة، فخرج فى يومه ذلك حتى دخل علىّ، قال ابن مسعود عنها: رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من البقيع فوجدنى وأنا أجد صداعا فى رأسى، وأنا أقول: وارأساه، فقال: «بل أنا يا عائشة وارأساه» قالت ثم قال، «وما ضرّك لو متّ قبلى فقمت عليك وكفّنتك وصليت عليك ودفنتك» قالت قلت: والله لكأنى بك لو قد فعلت ذلك لرجعت إلى بيتى فأعرست فيه ببعض نسائك. قالت: فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتتامّ «1» به وجعه وهو يدور على نسائه، حتى استعزّ «2» به وهو فى بيت ميمونة، فدعا نساءه فاستأذنهن أن يمرّض فى بيتى فأذنّ له، قالت: فخرج يمشى بين رجلين من أهله، أحدهما الفضل بن العباس ورجل آخر، عاصب رأسه تخطّ قدماه حتى دخل بيتى، قال عبيد الله: فحدثت بهذا الحديث عبد الله بن عباس فقال: هل تدرى من الرجل الآخر؟ قال قلت: لا، قال: على بن أبى طالب قالت عائشة: ثم غمر «3» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، واشتدّ به وجعه، فقال: الجزء: 18 ¦ الصفحة: 363 «هريقوا علىّ من سبع قرب من آبار شتّى» وفى رواية: «لم تحلل أو كيتهنّ «1» لعلى أعهد إلى الناس» قالت: فأجلسناه فى مخضب «2» لحفصة بنت عمر، ثم طفقنا نصبّ عليه من تلك القرب حتى جعل يشير إلينا بيده أن قد فعلتنّ، ثم خرج إلى الناس وصلّى بهم وخطبهم صلّى الله عليه وسلّم. ذكر خطبة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما أمر به من سدّ الأبواب التى تشرع إلى مسجده إلا باب أبى بكر الصديق ووصيته بالأنصار روى عن أبى سعيد الخدرىّ رضى الله عنه، قال: خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «إن الله خيّر عبدا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ذلك العبد ما عند الله» فبكى أبو بكر فقلت فى نفسى: ما يبكى هذا الشيخ أن يكون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخبرنا عن عبد خيّر فاختار؟ قال: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو المخيّر، وكان أبو بكر أعلمنا به، قال فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا أبا بكر لا تبك، أيها الناس، إنّ أمنّ الناس علىّ فى صحبته وما له أبو بكر، ولو كنت متخذا من الناس خليلا كان أبو بكر، ولكن أخوّة الإسلام ومودّته، لا يبقين فى المسجد باب إلا سدّ إلا باب أبى بكر» . وعن قتيبة بن سعيد عن الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد؛ أن النبى صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن أعظم الناس علىّ منّا فى صحبته وذات يده أبو بكر، فأغلقوا هذه الأبواب الشارعة كلها فى المسجد إلا باب أبى بكر» قال قتيبة: قال الليث بن سعد، قال معاوية ابن صالح، فقال ناس: أغلق أبوابنا وترك باب خليله، فقال رسول الله صلّى الله الجزء: 18 ¦ الصفحة: 364 عليه وسلّم: «قد بلغنى الذى قلتم فى باب أبى بكر، وإنى أرى على باب أبى بكر نورا، وأرى على أبوابكم ظلمة» رواه محمد بن سعد فى طبقاته الكبرى. وروى بسنده إلى عكرمة عن ابن عباس قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى مرضه الذى مات فيه عاصبا رأسه فى خرقة، فقعد على المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال: «إنه ليس أحد أمنّ علىّ فى نفسه وماله من أبى بكر بن أبى قحافة، ولو كنت متّخذا من الناس خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن خلّة الإسلام أفضل، سدّوا عنى كلّ خوخة فى هذا المسجد غير خوخة أبى بكر» وعن أبى الحويرث قال: لما أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالأبواب تسدّ إلا باب أبى بكر، قال عمر: يا رسول الله، دعنى أفتح كوّة أنظر إليك حين تخرج إلى الصلاة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا» . وعن أبى البدّاح بن عاصم بن عدىّ، قال قال العباس بن عبد المطلب: يا رسول الله، ما بالك فتحت أبواب رجال إلى المسجد، ومالك سددت أبواب رجال؟ فقال: «يا عباس، ما فتحت عن أمرى ولا سددت عن أمرى» قالت عائشة رضى الله عنها فى حديثها: وأوصى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالأنصار، فقال: «يا معشر المهاجرين، إنكم أصبحتم تزيدون والأنصار لا تزيد على هيئنها [التى هى عليها «1» ] اليوم، هم عيبتى «2» التى أويت إليها، أكرموا كريمهم، وتجاوزوا عن مسيئهم» . ومن رواية: «احفظونى فيهم؛ اقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم» . الجزء: 18 ¦ الصفحة: 365 ذكر ما قاله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأبى بكر الصديق رضى الله عنه، وفيه روى عن أبى أمامة، عن كعب بن مالك قال: إنّ أحدث عهدى بنبيّكم صلّى الله عليه وسلّم قبل وفاته بخمس، فسمعته [يقول «1» ] ويحرّك كفّه «إنه لم يكن نبىّ قبلى إلا وقد كان له من أمته خليل، ألا وإنّ خليلى أبو بكر، إنّ الله اتخذنى خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا» . وعن أبى مليكة قال قال النبى صلّى الله عليه وسلّم فى مرضه الذى مات فيه: «ادعوا إلىّ أبا بكر» فقالت عائشة: إن أبا بكر رجل يغلبه البكاء، ولكن إن شئت دعونا لك ابن الخطاب، قال: «ادعوا إلىّ أبا بكر» قالت: إن أبا بكر يرقّ، ولكن إن شئت دعونا لك ابن الخطاب. فقال: «إنكنّ صواحب يوسف، ادعوا إلىّ أبا بكر وابنه «2» ، فليكتب «3» أن يطمع فى أمر أبى بكر طامع أو يتمنّى متمنّ «4» » ثم قال: «يأبى الله ذلك والمؤمنون، يأبى الله ذلك والمؤمنون» قالت عائشة: فأبى الله ذلك والمؤمنون، فأبى الله ذلك والمؤمنون. وروى محمد بن سعد بسنده إلى عروة، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، والقاسم بن محمد، كلهم يحدّث عن عائشة رضى الله عنها- دخل حديث بعضهم فى حديث بعض- قالت: بدئ برسول الله صلّى الله عليه وسلّم «5» في بيت ميمونة فدخل علىّ وأنا أقول: وارأساه، فقال: «لو كان ذلك وأنا حىّ فأستغفر لك وأدعو لك وأكفّنك وأدفنك» فقلت: واثكلاه، فو الله إنك لتحبّ موتى، ولو كان ذلك لظلمت يومك معرّسا ببعض الجزء: 18 ¦ الصفحة: 366 أزواجك. فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: «بل أنا وارأساه لقد هممت- أو أردت- أن أرسل إلى أبيك وإلى أخيك فأفضى أمرى، وأعهد عهدى، فلا يطمع فى الأمر، طامع ولا يقول القائلون: أو يتمنى المتمنون» . وقال بعضهم فى حديثه: «وبأبى الله إلا أبا بكر» . وعن محمد بن جبير قال: جاء رجل إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم يذاكره فى الشىء، فقال: إن جئت فلم أجدك؟ قال: «فأت أبا بكر» . وعن عاصم بن عمرو بن قتادة، قال: ابتاع النبى صلّى الله عليه وسلّم بعيرا من رجل إلى أجل فقال: يا رسول الله، إن جئت فلم أجدك؟ يعنى بعد الموت، قال: «فأت أبا بكر» ، قال: فإن جئت فلم أجد أبا بكر، بعد الموت؟ قال: «فأت عمر» ، قال: فإن جئت فلم أجد عمر؟ قال: «إن استطعت أن تموت إذا مات عمر فمت» . ذكر أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبا بكر أن يصلّى بالناس فى مرضه، وخروج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما كلّم به الناس، وكم صلّى أبو بكر بالناس صلاة، وما روى من أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ائتم بأبى بكر رضى الله عنه عن عائشة رضى الله عنها قالت: لما ثقل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاء بلال يؤذنه بالصلاة فقال: «مروا أبا بكر يصلّى بالناس» فقلت: يا رسول الله، إن أبا بكر رجل أسيف، وأنه متى ما يقوم مقامك لا يسمع الناس، فلو أمرت عمر، فقال: «مروا أبا بكر يصلى بالناس» فقلت لحفصة: قولى له إن أبا بكر رجل أسيف، وأنه متى يقوم مقامك لا يسمع الناس، فلو أمرت عمر، فقال: «إنكنّ لأتنّ صواحب يوسف، مروا أبا بكر يصلى بالناس» فلما دخل أبو بكر الجزء: 18 ¦ الصفحة: 367 فى الصلاة وجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى نفسه خفة فقام يهادى «1» بين رجلين، ورجلاه تخطّان فى الأرض حتى دخل المسجد، فلما سمع أبو بكر حسّه ذهب أبو بكر يتأخّر، فأوما إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فجاء النبى صلّى الله عليه وسلّم حتى جلس عن يسار أبى بكر، فكان أبو بكر يصلى قائما، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلى قاعدا؛ يقتدى أبو بكر بصلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والناس يقتدون بصلاة أبى بكر. رواه البخارى فى صحيحه. وروى محمد ابن سعد بسنده عن عبيد بن عمير الليثى نحوه. وقال: فلما فرغا من الصلاة قال أبو بكر: أى رسول الله، أراك أصبحت بحمد الله صالحا، وهذا يوم ابنة خارجة- امرأة لأبى بكر من الأنصار- فأذن له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى مصلّاة أو إلى جنب المنبر، فحذّر الناس الفتن، ثم نادى بأعلى صوته، حتى إن صوته ليخرج من باب المسجد، فقال: «إنى والله لا يمسك الناس علىّ بشىء؛ لا أحلّ إلا ما أحلّ الله فى كتابه، ولا أحرّم إلا ما حرّم الله فى كتابه» ثم قال: «يا فاطمة بنت محمد ويا صفية عمة رسول الله اعملا لما عند الله فإنى لا أغنى عنكما من الله شيئا» ثم قام من مجلسه ذلك، فما انتصف النهار حتى قبضه الله تعالى. وعن سعيد بن المسيّب قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا بنى عبد مناف لا أغنى عنكم من الله شيئا، يا عباس ابن عبد المطلب لا أغنى عنك من الله شيئا، يا فاطمة بنت محمد لا أغنى عنك من الله شيئا، سلونى ما شئتم» . وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال: دخلت على عائشة فقلت لها حدّثينى عن مرض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قالت: لما ثقل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أصلّى الناس» ؟ فقلت: الجزء: 18 ¦ الصفحة: 368 لا، هم ينتظرونك يا رسول الله، قال: «ضعوا لى ماء فى المخضب» قالت: ففعلنا فاغتسل ثم ذهب لينوء «1» فأغمى عليه ثم أفاق، فقال: «أصلّى الناس» ؟ فقلت: لا، هم ينتظرونك، فقال: «ضعوا لى ماء فى المخضب» قالت: ففعلنا فذهب فاغتسل فقال: «أصلّى الناس» ؟ قلت: لا، هم ينتظرونك، والناس عكوف فى المسجد ينتظرون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لصلاة العشاء الآخرة، قالت: فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أبى بكر بأن يصلى بالناس، فأتاه الرسول فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمرك أن تصلّى بالناس، فقال أبو بكر- وكان رجلا رقيقا-: يا عمر، صلّ بالناس، فقال له عمر: أنت أحقّ بذلك، فصلى أبو بكر تلك الأيام. ثم إن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم وجد فى نفسه خفّة فخرج بين رجلين أحدهما العباس، فصلى الظهر وأبو بكر يصلّى بالناس، قالت: فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر، فأومأ إليه النبىّ صلّى الله عليه وسلّم ألّا يتأخر، وقال لهما: «أجلسانى إلى جنبه» فأجلساه إلى جنب أبى بكر فجعل أبو بكر يصلى، وهو قائم بصلاة النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، والناس يصلون بصلاة أبى بكر، والنبىّ صلّى الله عليه وسلّم قاعد، قال عبيد الله: فدخلت على عبد الله بن عباس فقلت له: ألا أعرض عليك ما حدّثتنى به عائشة عن مرض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: هات، فعرضت [حديثها «2» ] عليه فما أنكر منه شيئا غير أنه قال: سمّت لك الرجل الذى كان مع العباس؟ قلت: لا، قال: هو علىّ بن أبى طالب. وروى محمد بن سعد، عن محمد بن عمر، عن عبد الرحمن بن عبد العزيز، وعبد العزيز بن محمد عن عمارة بن غزيّة عن محمد بن إبراهيم قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو مريض لأبى بكر: «صلّ بالناس» فوجد رسول الله صلّى الله الجزء: 18 ¦ الصفحة: 369 عليه وسلّم خفّة فخرج وأبو بكر يصلّى بالناس، فلم يشعر حتى وضع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يده بين كتفيه، فنكص أبو بكر، وجلس النبىّ صلّى الله عليه وسلّم عن يمينه، فصلّى أبو بكر وصلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بصلاته، فلما انصرف قال: «لم يقبض نبىّ قطّ حتى يؤمّه رجل من أمته» . وروى نحوه عن أبى معشر، عن محمد ابن قيس. وعن أمّ سلمة رضى الله عنها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان فى وجعه إذا خف عنه ما يجد خرج فصلّى بالناس، وإذا وجد ثقله قال: «مروا الناس فليصلّوا» فصلّى بهم ابن أبى قحافة يوما الصبح فصلّى ركعة، ثم خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجلس إلى جنبه فأتمّ بأبى بكر، فلما قضى أبو بكر الصلاة أتمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما فاته. وعن أبى سعيد الخدرىّ رضى الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلّى فى مرضه بصلاة أبى بكر ركعة من الصبح ثم قضى الركعة الباقية. قال الواقدى: ورأيت هذا الثّبت عند أصحابنا؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلّى خلف أبى بكر. وروى محمد بن سعد بسنده إلى عبد الله بن زمعة بن الأسود قال: عدت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى مرضه الذى توفّى فيه، فجاءه بلال يؤذنه بالصلاة، فقال لى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مر الناس فليصلوا» قال عبد الله: فخرجت فلقيت ناسالا أكلمهم، فلما لقيت عمر بن الخطاب لم أبغ من وراءه، وكان أبو بكر غائبا فقلت له: صلّ بالناس يا عمر، فقام عمر فى المقام وكان عمر رجلا مجهرا، فلما كبّر سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صوته، فأخرج رأسه حتى أطلعه للناس من حجرته، فقال: «لا، لا، لا، ليصل بهم ابن أبى قحافة» قال: يقول ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مغضبا، قال: فانصرف عمر فقال لعبد الله بن زمعة: يابن أخى أمرك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن تأمرنى؟ قال فقلت: لا، ولكنى لما رأيتك لم أبغ من وراءك، فقال عمر: ما كنت أظنّ حين أمرتنى الجزء: 18 ¦ الصفحة: 370 إلا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمرك بذلك، ولولا ذلك ما صلّيت بالناس، فقال عبد الله: لمّا لم أر أبا بكر رأيتك أحقّ من حضر بالصلاة. وعن عبد الله ابن عباس قال: حضرت الصلاة فقال النبىّ صلّى الله عليه وسلّم: «مروا أبا بكر يصلّى بالناس» فلما قام أبو بكر مقام النبىّ صلّى الله عليه وسلّم اشتدّ بكاؤه وافتتن، واشتدّ بكاء من خلفه، لفقد نبيهم صلّى الله عليه وسلّم، فلما حضرت الصلاة جاء المؤذّن إلى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: قولوا للنبىّ صلّى الله عليه وسلّم يأمر رجلا يصلّى بالناس، فإن أبا بكر قد افتتن من البكاء والناس خلفه، فقالت حفصة زوج النبىّ صلّى الله عليه وسلّم: مروا عمر يصلى بالناس حتى يرفع الله رسوله، قال: فذهب إلى عمر فصلّى بالناس، فلما سمع النبىّ صلّى الله عليه وسلّم تكبيره قال: «من هذا الذى أسمع تكبيره» ؟ فقال له أزواجه: عمر بن الخطاب، وذكروا له ما قاله المؤذّن، وما قالت حفصة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنكنّ لصواحب يوسف، قولوا لأبى بكر فليصلّ بالناس» قال: فلو لم يستخلفه ما أطاع له الناس. وعن أبى سعيد الخدرىّ رضى الله عنه قال: لم يزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى وجعه إذا وجد خفّة خرج، وإذا ثقل وجاءه المؤذّن قال: «مروا أبا بكر يصلى بالناس» فخرج من عنده يوما الآمر يأمر الناس يصلون وابن أبى قحافة غائب، فصلى عمر بن الخطاب بالناس فلما كبّر قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا، لا، أين ابن أبى قحافة» ؟ قال: فانتقضت الصفوف وانصرف عمر، قال: فما برحنا حتى طلع ابن أبى قحافة وكان بالسّنح «1» فتقدّم فصلّى بالناس. وعن أنس بن مالك: أن أبا بكر- رضى الله عنهما- كان يصلى بهم فى وجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذى توفّى فيه، حتى إذا كان يوم الاثنين الجزء: 18 ¦ الصفحة: 371 وهم صفوف فى الصلاة، كشف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ستر الحجرة ينظر إلينا، وهو قائم كأنّ وجهه ورقة مصحف، ثم تبسّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ضاحكا ونحن فى الصلاة من الفرح. قال: ونكص أبو بكر على عقبيه، فأشار إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أن أتموا صلاتكم» قال: ثم دخل وأرخى الستر، فتوفّى من يومه صلّى الله عليه وسلّم. وقال محمد بن سعد: أخبرنا محمد بن عمر، قال سألت أبا بكر بن عبد الله بن أبى سبرة: كم صلّى أبو بكر بالناس؟ قال: صلّى بهم سبع عشرة صلاة، قلت: من حدّثك ذلك؟ قال قال: حدّثنى أيوب بن عبد الرحمن ابن صعصعة، عن عبّاد بن تميم، عن رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: صلّى بهم أبو بكر ذلك. ذكر ما اتفق فى مرض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خلاف ما ذكرناه، من الّلدود الذى لدّ به، والكتاب الذى أراد أن يكتبه، والوصية التى أمر بها، والدنا نير التى قسمها، والسواك الذى استنّ به صلّى الله عليه وسلّم. فأمّا الّلدود «1» الذى لدّ به صلّى الله عليه وسلّم وما قال فيه- روى عن أمّ سلمة رضى الله عنها قالت: تخوّفنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات «2» الجنب وثقل فلددناه، فوجد خشونة اللّدّ فأفاق، فقال: «ما صنعتم بى» ؟ قالوا: لددناك، قال: «بماذا» ؟ قلنا: بالعود الهندى، وشىء من ورس وقطرات زيت، فقال: «من أمركم بهذا» ؟ قالوا: أسماء بنت عميس، قال: «هذا طبّ أصابته بأرض الحبشة، لا يبقى أحد فى البيت إلا التدّ إلا ما كان من عمّ رسول الله الجزء: 18 ¦ الصفحة: 372 صلى الله عليه وسلّم» يعنى العباس، ثم قال: «ما الذى كنتم تخافون علىّ» ؟ قالوا: ذات الجنب، قال: «ما كان الله ليسلطها علىّ» . وفى رواية عن أمّ بشر بن البراء؛ قال: «ما كان الله ليسلطها على رسوله، إنها همزة من الشيطان، ولكنها من الأكلة التى أكلتها أنا وابنك، هذا أوان قطعت أبهرى» «1» . ومن حديث عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: فجعل بعضهم يلدّ بعضا. وعن هشام «2» قال: كانت أمّ سلمة وأسماء بنت عميس هما لدّتاه، قال: فالتدّت يومئذ ميمونة وهى صائمة؛ لقسم النبى صلّى الله عليه وسلّم، قال: وكان منه عقوبة لهم. وأما الكتاب الذى أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يكتبه ثم تركه لما وقع عنده من التازع فقد اختلفت الروايات فى هذا الحديث عن عبد الله بن عباس وغيره، فمن رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس رضى الله عنهم أنه قال: اشتكى النبى صلّى الله عليه وسلّم يوم الخميس فجعل- يعنى ابن عباس- يبكى ويقول: يوم الخميس وما يوم الخميس، اشتد بالنبى صلّى الله عليه وسلّم وجعه فقال: «ايتونى بدواة وصحيفة أكتب لكم كتابا لا تضلّوا «3» بعده أبدا» قال فقال بعض من كان عنده: إنّ نبىّ الله هجر «4» ، قال فقيل له: ألا نأتيك بما طلبت؟ قال: «أو بعد ماذا» ؟ فلم يدع به. ومن طريق آخر عن سليمان «5» بن أبى مسلم عن سعيد بن جبير قال: فتنازعوا ولا ينبغى عند نبىّ تنازع. فقالوا: ما شأنه أهجر؟ استفهموه، فذهبوا الجزء: 18 ¦ الصفحة: 373 يعيدون عليه. فقال: «دعونى فالذى أنا فيه خير مما تدعوننى إليه» . قال: وأوصى بثلاث، قال: «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم» وسكت عن الثلاثة، فلا أدرى قالها «1» فنسيتها، أو سكت عنها عمدا؟. ومن رواية طلحة بن مصرّف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضى الله عنهما قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ايتونى بالكتف والدّواة أكتب لكم كتابا لا تضلّوا بعده أبدا» . قال فقالوا: إنما يهجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. هذه الروايات عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضى الله عنهما. وروى عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس قال: لما حضرت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الوفاة، وفى البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هلّم أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده» فقال عمر: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد غلبه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله. فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قرّبوا يكتب لكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومنهم من يقول ما قال عمر؛ فلما كثر اللّغط والاختلاف وغمر «2» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «قوموا عنى» . قال عبيد الله: فكان ابن عباس يقول: إن الرّزيّة كلّ الرزية ما حال بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم. وعن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال فى مرضه: «ايتونى بدواة وصحيفة أكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعده أبدا» . فقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: من لفلانة وفلانة- من مدائن الروم- إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لن يموت حتى يفتتحها، ولو مات لانتظرناه كما انتظرت بنو إسرائيل موسى؛ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 374 فقالت زينب زوج النبىّ صلّى الله عليه وسلّم: ألا تسمعون للنبىّ صلّى الله عليه وسلّم يعهد إليكم؟ فلغطوا فقال: «قوموا» فلما قاموا قبض النبىّ صلّى الله عليه وسلّم مكانه. وعن جابر بن عبد الله الأنصارى قال: لما كان فى مرض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذى توفّى فيه، دعا بصحيفة ليكتب فيها لأمته كتابا لا يضلون ولا يضلّون، فكان فى البيت لغط وكلام، وتكلم عمر بن الخطاب، قال: فرفضه النبىّ صلّى الله عليه وسلّم. وعن محمد بن عمر الواقدىّ عن هشام بن سعيد عن زيد بن أسلم عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه، قال: كنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبيننا وبين النساء حجاب، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اغسلونى بسبع قرب وأتونى بصحيفة ودواة أكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعده أبدا» فقال النسوة: ايتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحاجته. قال عمر فقلت: اسكتن فإنكن صواحبه إذا مرض عصرتنّ أعينكنّ، وإذا صح أخذتن بعنقه. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هنّ خير منكم» . هذا ما وقفنا عليه من الروايات المسندة فى هذا الحديث، وقد تذرّعت به طائفة من الروافض، وتكلموا فيه وطعنوا على من لغط عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى امتنع من الكتابة. وقد تكلم القاضى أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض رحمه الله على هذا الحديث، وذكر أقوال العلماء وما أبدوه من الاعتذار عن عمر رضى الله عنه فيما قال، فقال رحمه الله تعالى، قال أتمنا فى هذا الحديث: النبىّ صلّى الله عليه وسلّم غير معصوم من الأمراض، وما يكون من عوارضها من شدّة وجع وغشى ونحوه، مما يطرأ على جسمه، معصوم أن يكون منه من القول أثناء ذلك الجزء: 18 ¦ الصفحة: 375 ما يطعن فى معجزته، ويؤدّى إلى فساد فى شريعته، من هذيان أو اختلال فى كلام، وعلى هذا لا يصح ظاهر رواية من روى فى الحديث «هجر» إذ معناه هذى يقال: هجر هجر إذا أفحش، وأهجر تعدية هجر، وإنما الأصح والأولى «أهجر» ؟ على طريق الإنكار على من قال لا نكتب، قال: وهكذا روايتنا فيه فى صحيح البخارى من رواية جميع الرواة فى حديث الزهرى ومحمد بن سلّام عن ابن عيينة، قال: وكذا ضبطه الأصيلى بخطه فى كتابه وغيره من هذه الطرق، وكذا رويناه عن مسلم فى حديث سفيان وعن غيره، قال: وقد تحمل عليه رواية من رواه هجر على حذف ألف الاستفهام، والتقدير: أهجر؟ أو أن يحمل قول القائل: «هجر» أو أهجر دهشة من قائل ذلك وحيرة؛ لعظيم ما شاهد من حال الرسول صلّى الله عليه وسلّم وشدّة وجعه، وهول المقام الذى اختلفت فيه عليه، والأمر الذى همّ بالكتاب فيه، حتى لم يضبط هذا القائل لفظه وأجرى الهجر مجرى شدّة الوجع؛ لأنه اعتقد أنه يجوز عليه الهجر، كما حملهم الإشفاق على حراسته، والله تعالى يقول: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ونحو هذا. وأما على رواية: «أهجرا» ، وهى رواية أبى إسحاق المستملى فى الصحيح، فى حديث ابن جبير، عن ابن عباس من رواية قتيبة، فقد يكون هذا راجعا إلى المختلفين عنده صلّى الله عليه وسلّم، ومخاطبة لهم من بعضهم، أى جئتم باختلافكم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين يديه هجرا ومنكرا من القول! والهجر بضم الهاء الفحش فى المنطق. وقد اختلف العلماء فى معنى هذا الحديث، وكيف اختلفوا بعد أمره لهم عليه السلام أن يأتوه بالكتاب، فقال بعضهم: أوامر النبىّ صلّى الله عليه وسلّم يفهم إيجابها من ندبها من إباحتها بقرائن، فلعل قد ظهر من قرائن قوله صلّى الله عليه وسلّم لبعضهم ما فهموا أنه لم يكن منه عزمة، بل أمر ردّه إلى اختيارهم، وبعضهم الجزء: 18 ¦ الصفحة: 376 لم يفهم ذلك، فقال: استفهموه، فلما اختلفوا كفّ عنه إذ لم تكن عزمة، ولما رأوه من صواب رأى عمر رضى الله عنه. ثم هؤلاء قالوا: ويكون امتناع عمر إمّا إشفاقا على النبىّ صلّى الله عليه وسلّم من تكليفه فى تلك الحال، وإما إملاء الكتاب، وأن يدخل عليه مشقة من ذلك كما قال: إنّ النبىّ اشتدّ به الوجع. وقيل: خشى عمر أن يكتب أمورا يعجزون عنها فيحصلون «1» في الحرج بالمخالفة، ورأى أن الأرفق بالأمة فى تلك الأمور سعة الاجتهاد، وحكم النّظر، وطلب الصواب، فيكون المصيب والمخطئ مأجورا، وقد علم عمر تقرر الشرع وتأسيس الملّة، وأن الله تعالى قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ «2» وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أوصيكم بكتاب الله وعترتى» . وقول عمر: حسبنا كتاب الله، ردّ على من نازعه، لا على أمر النبى صلّى الله عليه وسلّم. وقد قيل: إن عمر خشى تطرّق المنافقين، ومن فى قلبه مرض لما كتب فى ذلك الكتاب فى الخلوة، وأن يتقوّلوا فى ذلك الأقاويل كادّعاء الرافضة الوصية وغير ذلك. وقيل: إنه كان من النبى صلّى الله عليه وسلّم على طريق المشورة والاختبار، هل يتفقون على ذلك أم يختلفون، فلما اختلفوا تركه. وقالت طائفة أخرى: إن معنى الحديث أن النبى صلّى الله عليه وسلّم كان مجيبا فى هذا الكتاب لما طلب منه لا أنه ابتداء بالأمر به، بل اقتضاه منه بعض أصحابه، فأجاب رغبتهم وكره ذلك غيرهم للعلل التى ذكرناها، واستدل فى مثل هذه القضية بقول العباس لعلىّ: انطلق بنا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإذا كان الأمر فينا علمناه، وكراهة علىّ هذا وقوله: «والله لا أفعل» الحديث. واستدل بقوله: «دعونى فإن الذى أنا فيه «3» خير» أى الذى أنا فيه خير من إرسال الجزء: 18 ¦ الصفحة: 377 الأمر وترككم، وكتاب الله «1» . وأن تدعونى مما طلبتم. وذكر أن الذى طلب كتابه «2» فى أمر الخلافة بعده وتعيين ذلك. هذا ما أورده فى معنى هذا الحديث. والله تعالى أعلم. وأمّا ما وصّى به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى مرضه الذى مات فيه فقد روى عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: كان عامة وصية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين حضره الموت «الصلاة، وما ملكت أيمانكم» ، حتى جعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يغر غربها فى صدره، وما يكاد يفيض بها لسانه. وعن أمّ سلمة نحوه. وعن كعب بن مالك قال: أغمى على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ساعة ثم أفاق، فقال: «الله الله فيما ملكت أيمانكم، ألبسوا ظهورهم، وأشبعوا بطونهم، وألينوا لهم القول» . وعن الزهرىّ عن عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آخر عهده أوصى ألا يترك بأرض العرب دينان. وعن مالك بن أنس عن إسمعيل بن أبى حكيم، عن عمر بن عبد العزيز قال: آخر ما تكلم به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، لا يبقينّ دينان بأرض العرب» . وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أنه كان آخر ما عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أوصى بالرّهاويين الذين هم من أهل الرّهاء، قال: وأعطاهم من خيبر وجعل يقول: «لئن بقيت لا أدع بجزيرة العرب دينين» . وعن علىّ بن عبد الله بن عباس رضى الله عنهم أنه قال: أوصى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالداريّين وبالرّهاويّين الجزء: 18 ¦ الصفحة: 378 وبالدّوسيين خيرا. وعن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل موته بثلاث وهو يقول: «ألا لا يموت أحد منكم إلا وهو يحسن بالله الظنّ» . وعن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال: نعى لنا نبينا وحبيبنا نفسه قبل موته بشهر، بأبى هو وأمّى ونفسى له الفداء، فلما دنا الفراق جمعنا فى بيت أمّنا عائشة وتشدد لنا فقال: «مرحبا بكم، حيّاكم «1» الله بالسلام، رحمكم الله، حفظكم الله، جبركم الله، رزقكم الله، رفعكم الله، نفعكم الله، آداكم الله» وقاكم الله، أوصيكم بتقوى الله وأوصى الله بكم؛ وأستخلفه عليكم، وأحذركم الله إنى لكم منه نذير مبين ألّا تعلوا على الله فى عباده وبلاده فإنه قال لى ولكم: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ «3» . وقال: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ «4» قلنا: يا رسول الله متى أجلك؟ قال: «دنا الفراق، والمنقلب إلى الله، وإلى جنة المأوى، وإلى سدرة المنتهى، وإلى الرفيق الأعلى والكأس الأوفى والحظ والعيش المهنّى» قلنا: يا رسول الله من يغسلك؟ قال: «رجال من أهلى الأدنى «5» فالأدنى» قلنا: يا رسول الله ففيم نكفّنك؟ قال: «فى ثيابى هذه إن شئتم أو فى ثياب مصر أو فى حلّة يمانية» قال قلنا: يا رسول الله، من يصلّى عليك؟ وبكينا وبكى، فقال: «مهلا رحمكم الله وجزاكم عن نبيكم خيرا، إذا أنتم غسلتمونى وكفنتمونى فضعونى على سريرى هذا على شفة قبرى فى بيتى هذا، ثم اخرجوا عنى ساعة، فإن أول من يصلى علىّ حبيبى وخليلى جبريل ثم ميكائيل ثم إسرافيل ثم ملك الموت معه جنوده من الملائكة بأجمعهم، ثم ادخلوا علىّ فوجا فوجا، فصلوا الجزء: 18 ¦ الصفحة: 379 علىّ وسلموا تسليما، ولا تؤذونى بتزكية ولا برنّة، وليبدأ بالصلاة علىّ رجال «1» من أهلى ثم نساؤهم ثم أنتم بعد، وأقرئوا السلام على من غاب من أصحابى، وأقرئوا السلام على من يتبعنى على دينى من قومى إلى يوم القيامة» . قلنا: يا رسول الله، فمن يدخلك قبرك؟ قال: «أهلى مع ملائكة كثيرة يرونكم من حيث لا ترونهم» . وأما الدّنانير التى قسمها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى مرضه الذى مات فيه فقد روى عن عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها قالت: أصاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دنانير فقسمها إلا ستة، فدفع الستة إلى بعض نسائه، فلم يأخذه النوم حتى قال: «ما فعلت الستة» ؟ قالوا: دفعتها إلى فلانة، قال: «ايتونى بها» فقسم منها خمسة فى خمسة أبيات من الأنصار، ثم قال: «استنفقوا هذا الباقى» وقال: «الآن استرحت» فرقد. وعن المطلب بن عبد الله أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لعائشة، وهى مسندته إلى صدرها: «يا عائشة ما فعلت تلك «2» الذهب» ؟ قالت: هى عندى، قال: «فأنفقيها» ثم غشى على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو على صدرها، فلما أفاق قال: «هل أنفقت تلك الذهب يا عائشة» ؟ قالت: لا والله يا رسول الله، قالت: فدعا بها فوضعها فى كفّه، فعدّها فإذا هى ستة دنانير، فقال: «ما ظنّ محمد بربه أن لو لقى الله وهذه عنده» ! فأنفقها كلها، ومات من ذلك اليوم. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 380 وأما السّواك الذى استنّ به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند موته فقد روى عن عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها قالت: دخل عبد الرحمن بن أبى بكر على النبى صلّى الله عليه وسلّم فى شكواه، وأنا مسندته إلى صدرى، وفى يد عبد الرحمن سواك فأمرها أن تقضمه، فقضمته ثم أعطته رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ومن حديث آخر عنها قالت: فنظر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليه وهو فى يده نظرا عرفت أنه يريده، فقلت: يا رسول الله، تريد أن أعطيك هذا السّواك؟ فقال: «نعم» فأخذته فمضغته حتى ليّنته ثم أعطيته إياه، فاستنّ به كأشدّ ما رأيته استنّ بسواك قبله ثم وضعه، فكانت عائشة تقول: كان من نعمة الله علىّ وحسن بلائه عندى، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مات فى بيتى، وفى يومى وبين سحرى «1» ونحرى، وجمع بين ريقى وريقه عند الموت. فقال لها القاسم بن محمد: قد عرفنا كل الذى تقولين، فكيف جمع بين ريقك وريقه؟ قالت: دخل عبد الرحمن بن أمّ رومان أخى على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعوده، وفى يده سواك رطب، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مولعا بالسّواك، فرأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يشخص بصره إليه، فقلت: يا عبد الرحمن، اقضم السواك فناولنيه، فمضغته ثم أدخلته فى فى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتسوّك به، فجمع بين ريقى وريقه. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 381 ذكر تخيير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين الدنيا والآخرة عند الموت روى عن عروة بن الزبير عن عائشة رضى الله عنها قالت: كنت سمعت أنه لا يموت نبىّ حتى يخيّر بين الدنيا والآخرة، فأصابت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحّة شديدة فى مرضه، فسمعته يقول: مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً «1» فظننت أنه خيّر. وعن المطلب بن عبد الله، قال قالت عائشة: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «ما من نبىّ إلا تقبض نفسه ثم تردّ إليه فيخيّر بين أن تردّ إليه إلى أن يلحق» قالت: فكنت قد حفظت ذلك منه، فإنى لمسندته إلى صدرى فنظرت إليه حتى مالت عنقه، فقلت قد قضى وعرفت الذى قال، فنظرت إليه حتى ارتفع ونظر، قالت: قلت إذا والله لا تختارنا، فقال: «مع الرفيق الأعلى فى الجنة» مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً . وعن سعيد بن المسيّب وغيره أن عائشة زوج النبى صلّى الله عليه وسلّم قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنه لم يقبض نبىّ حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخيّر» قالت عائشة: فلما نزل برسول «2» الله صلّى الله عليه وسلّم ورأسه على فخذى غشى عليه ساعة، ثم أفاق فأشخص بصره إلى السّقف سقف البيت، ثم قال: «اللهم الرفيق الأعلى» قالت: فقلت الآن لا يختارنا، وعرفت أنه الحديث الذى كان يحدّثنا وهو صحيح، فكانت تلك آخر كلمة تكلم بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وعن أبى بردة بن أبى موسى قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أسندته عائشة إلى صدرها فأفاق، وهى تدعو له بالشفاء فقال: «لا، بل أسأل الله الرفيق الأعلى الأسعد مع جبريل وميكائيل وإسرافيل» . الجزء: 18 ¦ الصفحة: 382 ذكر ما قاله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند نزول الموت به روى عن جعفر بن محمد بن أبيه قال: لما نزل بالنبىّ صلّى الله عليه وسلّم الموت دعا بقدح من ماء فجعل يمسح به وجهه، ويقول: «اللهم أعنّى على سكرات الموت» وجعل يقول: «ادن منّى يا جبريل، ادن منّى يا جبريل، ادن منّى يا جبريل» . وعن عبد الله بن عباس وعائشة رضى الله عنهم قالا: لما نزل بالنبىّ صلّى الله عليه وسلّم طفق يلقى خميصته «1» على وجهه، فإذا اغتمّ بها ألقاها عن وجهه ويقول: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» . ذكر وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم روى عن محمد بن جعفر عن أبيه قال: لما بقى من أجل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثلاث نزل عليه جبريل فقال: يا أحمد، إن الله أرسلنى إليك إكراما لك، وتفضيلا لك، وخاصّة لك، يسألك عما هو أعلم به منك، يقول لك: كيف تجدك؟ قال: «أجدنى يا جبريل مغموما، وأجدنى يا جبريل مكروبا» فلما كان فى اليوم الثانى هبط إليه جبريل فقال له مثل ذلك، وأجابه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمثل ما أجابه به بالأمس، فلما كان اليوم الثالث نزل إليه جبريل، وهبط معه ملك الموت، ونزل معه ملك يقال له إسمعيل، يسكن الهواء لم يصعد إلى السماء قطّ ولم يهبط إلى الأرض منذ يوم كانت الأرض على سبعين ألف ملك، ليس منهم ملك إلا على سبعين ألف ملك، فسبقهم جبريل، فقال: يا أحمد، إن الله أرسلنى إليك إكراما لك، وتفضيلا لك، وخاصّة لك، يسألك عما هو أعلم به منك، يقول لك: كيف الجزء: 18 ¦ الصفحة: 383 تجدك؟ قال: «أجدنى يا جبريل مغموما، وأجدنى يا جبريل مكروبا» ثم استأذن ملك الموت فقال جبريل: يا أحمد، هذا ملك الموت يستأذن عليك، ولم يستأذن على آدمىّ كان قبلك، ولا يستأذن على آدمىّ بعدك، قال: «ائذن له» فدخل ملك الموت فوقف بين يدى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يا رسول الله، يا أحمد، إن الله أرسلنى إليك وأمرنى أن أطيعك فى كل ما تأمرنى به، إن أمرتنى أن أقبض نفسك قبضتها، وإن أمرتنى أن أتركها تركتها، قال: «وتفعل يا ملك الموت» ؟ قال: بذلك أمرت أن أطيعك فى كل ما أمرتنى، فقال جبريل: يا أحمد، إن الله قد اشتاق إليك، قال: «فامض يا ملك الموت لما أمرت به» قال جبريل: السلام عليك يا رسول الله، هذا آخر موطئى الأرض إنما كنت حاجتى من الدنيا، فتوفى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وجاءت التعزية يسمعون الصوت والحسّ، ولا يرون الشخص: السلام عليكم يأهل البيت ورحمة الله وبركاته «كلّ نفس ذائقة الموت وإنّما توفّون أجوركم يوم القيامة» إن فى الله عزاء من كل مصيبة، وخلفا من كل هالك، ودركا من كل ما فات، فبالله فثقوا، وإياه فارجوا، إنما المصاب من حرم الثواب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وكانت وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما جاء فى الأحاديث الصحيحة فى حجر عائشة وبين سحرها ونحرها. وقد قيل: إنه توفّى فى حجر علىّ، والصحيح الأوّل. وذلك فى يوم الاثنين حين اشتدّ «1» الضّحى، لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأوّل، وقيل: لليلتين خلتا منه. ولما مات صلّى الله عليه وسلّم سجّى بثوب حبرة، كما روى عن عائشة وأبى هريرة رضى الله عنهما، ودخل أبو بكر رضى الله عنه على الجزء: 18 ¦ الصفحة: 384 رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: بأبى وأمى ما أطيب محياك ومماتك. وفى لفظ: طبت حيا وميتا. وعن عائشة رضى الله عنها قالت: لما توفّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاء أبو بكر فدخل عليه فرفعت الحجاب، فكشف الثوب عن وجهه، فاسترجع فقال: مات والله رسول الله، ثم تحوّل من قبل رأسه فقال: وانبياه، ثم حدر فمه فقبّل وجهه ثم رفع رأسه، فقال: واخليلاه، ثم حدر فمه فقبّل جبهته ثم رفع رأسه، فقال: واصفيّاه، ثم حدر فمه فقبّل جبهته، ثم سجّاه بالثوب ثم خرج. وعن عبد الرحمن بن عوف: أن عائشة أخبرته أن أبا بكر أقبل على فرس من مسكنه بالسّنح «1» حتى نزل، فدخل المسجد فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة فتيمّم «2» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو مسجّى ببرد حبرة فكشف عن وجهه ثم أكبّ عليه يقبّله وبكى، ثم قال: بأبى أنت، والله لا يجمع الله عليك موتتين أبدا، أما الموتة التى كتبت عليك فقد متّها. ذكر ما تكلم به الناس حين شكّوا فى وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وخطبة أبى بكر رضى الله عنه روى عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: لما توفّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بكى الناس فقام عمر بن الخطاب رضى الله عنه فى المسجد خطيبا فقال: لا أسمعنّ أحدا يقول إن محمدا قد مات، ولكنه أرسل إليه كما أرسل إلى موسى ابن عمران، فلبث عن قومه أربعين ليلة، وإنى والله لأرجو أن تقطع أيدى رجال وأرجلهم يزعمون أنه مات. وعن عكرمة قال: لما توفّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: إنما عرج بروحه كما عرج بروح موسى، قال: وقام عمر خطيبا فوعد الجزء: 18 ¦ الصفحة: 385 المنافقين، وقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يمت، ولكن إنما عرج بروحه كما عرج بروح موسى، لا يموت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى يقطع أيدى أقوام وألسنتهم، قال: فما زال عمر يتكلم حتى أزبد شدقاه، فقال العباس: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأسن «1» كما يأسن البشر، وإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد مات فادفنوا صاحبكم، أيميت أحدكم إماتة ويميته إماتتين؟ هو أكرم على الله من ذلك، فإن كان كما تقولون فليس على الله بعزيز أن يبحث عنه التراب فيخرجه إن شاء الله، ما مات حتى ترك السبيل نهجا واضحا، أحلّ الحلال، وحرّم الحرام، ونكح وطلّق، وحارب وسالم، وما كان راعى غنم يتبع بها صاحبها رءوس الجبال، يخبط عليها العضاة «2» بمخبطه ويمدر حوضها بيده، بأنصب ولا أرأب من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان فيكم. وعن عائشة رضى الله عنها قالت: لما توفّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استأذن عمر والمغيرة بن شعبة فدخلا عليه فكشفا الثوب عن وجهه فقال عمر: أغشيا؟ ما أشدّ غشى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم! ثم قاما فلما انتهيا إلى الباب، قال المغيرة: يا عمر، مات والله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال عمر: كذبت ما مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولكنك رجل تحوسك «3» فتنة، ولن يموت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى يفنى المنافقين، ثم جاء أبو بكر وعمر يخطب الناس فقال له أبو بكر: اسكت؛ فسكت، فصعد أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قرأ: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ «4» ثم قرأ: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى الجزء: 18 ¦ الصفحة: 386 أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ «1» ثم قال: من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حىّ لا يموت. فقال عمر: هذا فى كتاب الله؟ قال: نعم، قال: أيها الناس، هذا أبو بكر وذو شيبة المسلمين فبايعوه فبايه الناس. وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: دخل أبو بكر المسجد وعمر بن الخطاب يكلّم الناس، فمضى حتى دخل بيت النبىّ صلّى الله عليه وسلم الذى توفّى فيه، وهو بيت عائشة، وكشف عن وجه النبى صلى الله عليه وسلّم برد حبرة، كان مسجّى به فنظر إلى وجهه ثم أكبّ عليه فقبّله، فقال: بأبى أنت؛ والله لا يجمع الله عليك موتتين، لقد متّ الموتة التى لا تموت بعدها، ثم خرج أبو بكر إلى الناس، وعمر يكلمهم فقال: اجلس يا عمر، فأبى عمر أن يجلس، فكله أبو بكر مرتين أو ثلاثا، فلما أبى عمر أن يجلس قام أبو بكر فتشهد، فأقبل الناس إليه وتركوا عمر، فلما قضى أبو بكر تشهده قال: أما بعد؛ فمن كان منكم يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حىّ لا يموت، قال الله تبارك وتعالى: «ومامحمّد إلّا رسول قد خلت من قبله الرّسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ الله شيئا وسيجزى الله الشّاكرين» . قال: فلما تلاها أبو بكر أيقن الناس بموت النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، وتلقاها الناس من أبى بكر حين تلاها أو كثير منهم، حتى قال قائل من الناس: والله لكأنّ الناس لم يعلموا أن هذه الآية أنزلت حتى تلاها أبو بكر. فزعم سعيد ابن المسيّب أن عمر بن الخطاب قال: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر يتلوها فعقرت «2» وأنا قائم حتى خررت إلى الأرض، وأيقنت أن النبى صلّى الله عليه وسلّم قد الجزء: 18 ¦ الصفحة: 387 مات. وعن الحسن قال: لما قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم انتمر أصحابه فقالوا: تربصوا بنبيكم صلّى الله عليه وسلّم لعله عرج به، قال: فتربصوا به حتى ربا بطنه، فقال أبو بكر: من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حىّ لا يموت. وعن القاسم بن محمد بن أبى بكر رضى الله عنه أنه لما شك فى موت النبى صلّى الله عليه وسلّم قال بعضهم: قد مات، وقال بعضهم: لم يمت، وضعت أسماء بنت عميس يدها بين كتفيه، وقالت: قد توفّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قد رفع الخاتم من بين كتفيه. وكان من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أخرس عن الكلام لما راعه من موت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فما تكلم إلا بعد الغد، وأقعد آخرون، منهم على بن أبى طالب، ولم يكن فيهم أثبت من أبى بكر والعباس رضى الله عنهما، قالوا: وعزّى الناس بعضهم بعضا برسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد ذكر ذلك للناس قبل موته، كما روى عن سهل بن سعد؛ قال قال رسول الله صلّى الله وسلّم: «سيعزّى الناس بعضهم بعضا من بعدى التّعزية بى» فكان الناس يقولون ما هذا؟ فلما قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لقى الناس بعضهم بعضا يعزّى بعضهم بعضا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ذكر غسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومن غسّله، وتكفينه وحنوطه روى أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما ذكروا غسله سمعوا من باب الحجرة: لا تغسلوه فإنه طاهر مطهّر، ثم سمعوا صوتا بعده: اغسلوه فإن ذلك إبليس وأنا الخضر، وعزّاهم فقال: إن فى الله عزاء من كل مصيبة، وخلفا من كل هالك، ودركا من كل فائت، فبالله فثقوا وإياه فآرجوا، فإن المصاب من الجزء: 18 ¦ الصفحة: 388 حرم الثواب. وعن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما قال: لما توفّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اختلف الذين يغسلونه، فسمعوا قائلا لا يدرون من هو، يقول: اغسلوا نبيكم وعليه قميصه، فغسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى قميصه. وعن عبّاد بن عبد الله عن عائشة قالت: لو استقبلت من أمرى ما استدبرت، ما غسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا نساؤه، إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما قبض اختلف أصحابه فى غسله، فقال بعضهم: اغسلوه وعليه ثيابه، فبينما هم كذلك إذ أخذتهم نعسة، فوقع لحى كل إنسان منهم على صدره، فقال قائل منهم لا يدرى من هو: اغسلوه وعليه ثيابه، قالوا: وكان الذى تولى غسل رسول الله صلّى الله عليه وسلم علىّ بن أبى طالب، والفضل بن العباس، وأسامة بن زيد، وكان علىّ يغسله ويقول: بأبى أنت وأمى، طبت ميتا وحيا. وقيل: كان علىّ يغسل النبى صلّى الله عليه وسلّم والفضل وأسامة يحجبانه، وقيل: غسل والعباس قاعد والفضل محتضنه، وعلىّ يغسله، وأسامة يختلف، وقيل: ولى غسله العباس بن عبد المطلب وعلى بن أبى طالب رضى الله عنه، والفضل بن العباس وصالح مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وعن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: أوصى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ألا يغسله أحد غيرى، فإنه «1» «لا يرى أحد عورتى إلا طمست عيناه» . قال علىّ: فكان الفضل وأسامة يناولانى الماء من وراء الستر، وهما معصوبا العين. قال علىّ: فما تناولت عضوا إلا كأنما يقلبه معى ثلاثون رجلا حتى فرغت من غسله. وقيل: كان معهم شقران مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وعن سعيد بن المسيّب قال: غسل النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، وكفّنه أربعة علىّ والعباس والفضل وشقران، وقيل: لم يحضره العباس، بل كان بالباب، الجزء: 18 ¦ الصفحة: 389 وقال: لم يمنعنى أن أحضر غسله إلا أنى كنت أراه يستحى أن أراه حاسرا. وقيل: حضره عقيل بن أبى طالب، وأوس بن خولىّ، وذلك أن أوس بن خولىّ قال: يا علىّ، أنشدك الله فى حظّنا من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال له علىّ: ادخل، فدخل فجلس، وقيل: إنما دخل لأن الأنصار قالت: نناشدكم الله فى نصيبنا من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأدخلوا رجلا منهم يقال له أوس بن خولىّ يحمل جرّة بإحدى يديه. والذى أثبته الشيخ أبو محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطى رحمه الله فى مختصر السيرة قال: تولى غسله علىّ والعبّاس والفضل وقثم ابنا العباس وأسامة بن زيد وشقران موليا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: وحضره أوس ابن خولىّ الأنصارىّ. وعن علىّ رضى الله عنه قال: لما أخذنا فى جهاز رسول الله صلّى الله عليه وسلم أغلقنا الباب دون الناس جميعا، فنادت الأنصار نحن أخواله، ومكاننا من الإسلام مكاننا، ونادت قريش نحن عصبته، فصاح أبو بكر: يا معشر المسلمين، كل قوم أحقّ بجنازتهم من غيرهم، فنشدتكم الله فإنكم إن دخلتم أخرتموهم عنه، والله لا يدخل عليه أحد إلا من دعى. وعن أبى جعفر محمد بن على قال: غسل النبى صلّى الله عليه وسلّم ثلاث غسلات بماء وسدر، وغسل فى قميص، وغسل من بئر يقال لها الغرس لسعد بن خيثمة بقباء، وكان يشرب منها وولى [غسل «1» ] سفلته علىّ، والعباس يصبّ الماء، والفضل محتضنه يقول: أرحنى أرحنى، قطعت وتينى! إنى أجد شيئا ينزل علىّ مرتين. وعن عبد الله ابن الحارث: أن عليا غسله، يدخل يده تحت القميص، والفضل يمسك الثوب عليه، والأنصارىّ ينقل الماء وعلى يد علىّ خرقة تدخل يده وعليه القميص. وعن عبد الله بن جعفر الزهرى عن عبد الواحد بن أبى عون، قال قال رسول الله صلّى الجزء: 18 ¦ الصفحة: 390 الله عليه وسلّم لعلّى فى مرضه الذى توفى فيه: «اغسلنى يا علىّ إذا متّ» فقال: يا رسول الله، ما غسلت ميتا قط، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنك ستهيّأ، أو تيسّر» قال على: فغسلته فما آخذ عضوا إلا تبعنى، والفضل أخذ بحضنه يقول: أعجل يا علىّ انقطع ظهرى. وعن سعيد بن المسيّب قال: التمس علىّ من النبى صلّى الله عليه وسلم عند غسله ما يلتمس من الميت فلم يجد شيئا، فقال: بأبى أنت وأمى؛ طبت حيا وميتا. هذا ما لخصناه فى غسله صلّى الله عليه وسلّم مما أورده محمد بن سعد فى طبقاته على سبيل الاختصار وحذف الأسانيد. والله أعلم. وأما تكفينه صلّى الله عليه وسلّم فقد اختلف فيه؛ فقيل: كفّن فى ثلاثة أثواب بيض كرسف «1» ، وقيل: فى ثلاثة أثواب أحدها حبرة، وقيل: فى ريطتين «2» وبرد نجرانىّ «3» . وقيل: فى ثلاثة أثواب برود يمانية غلاظ إزار ورداء ولفافة. وقيل: فى حلّة حمراء وقبطية «4» . وقيل: فى حلّة يمانية وقميص. وقيل: فى حلّة حبرة وقميص. وقيل: فى سبعة أثواب. والذى ورد فى الصحيح أنه صلّى الله عليه وسلم كفّن فى ثلاثة أثواب بيض سحوليّة من ثياب سحول- بلدة باليمن- ليس فيها قميص ولا عمامة، بل لفائف من غير خياطة. وحنّط رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان فى حنوطه المسك، وأبقى منه علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه شيئا ادّخره لحنوطه إذا مات. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 391 ذكر الصّلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم روى عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما قال: أول من صلّى على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العباس بن عبد المطلب، وبنو هاشم، ثم خرجوا، ثم دخل المهاجرون والأنصار، ثم الناس رفقا رفقا «1» ، فلما انقضى الناس دخل عليه الصبيان صفوفا، ثم النساء، وقيل: النساء والصبيان. وذكر البيهقى عن الواقدىّ عن موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمى قال: وجدت هذا فى صحيفة بخط أبى، فيها: لما كفّن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ووضع على سريره، دخل أبو بكر وعمر فقالا: السلام عليك أيها النبى ورحمة الله وبركاته، ومعهما نفر من المهاجرين والأنصار قدر ما يسع البيت، فسلّموا كما سلم أبو بكر [وعمر «2» ] وصفّوا صفوفا لا يؤمّهم عليه أحد، فقال أبو بكر وعمر وهما فى الصفّ الأول حيال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اللهم إنا نشهد أن قد بلّغ ما أنزل إليه، ونصح لأمته، وجاهد فى سبيل الله حتى أعزّ الله به دينه، وتمّت كلماته، فأومن به وحده لا شريك له، فاجعلنا يا إلهنا ممن يتّبع القول الذى أنزل معه، واجمع بيننا وبينه حتى يعرفنا ونعرّفه «3» بنا فإنه كان بالمؤمنين رءوفا رحيما، لا نبتغى بالإيمان بدلا، ولا نشترى به ثمنا أبدا. فيقول الناس آمين آمين، ثم يخرجون ويدخل آخرون حتى صلّوا عليه: الرجال والنساء ثم الصبيان. وعن عبد الله بن محمد بن عمر بن على بن أبى طالب عن أبيه عن جده عن علىّ رضى الله عنهم قال: لما وضع رسول الله صلّى الله عليه وسلم على السرير قال علىّ: لا يؤمّ أحد؛ هو إمامكم حيّا وميتا، فكان يدخل الناس رسلا الجزء: 18 ¦ الصفحة: 392 رسلا «1» ، فيصلّون عليه صفّا صفّا، ليس لهم إمام ويكبّرون، وعلىّ قائم بحيال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: سلام عليك أيها النبى ورحمة الله وبركاته، اللهم إنا نشهد أنه قد بلّغ ما أنزل إليه ونصح لأمته، وجاهد فى سبيل الله حتى أعز الله دينه وتمّت كلمته، اللهم فاجعلنا ممن يتبع ما أنزل إليه، وثبتنا بعده واجمع بيننا وبينه. فيقول الناس: آمين، آمين. وقد قيل فى سبب صلاة الناس عليه أفذاذا: إنما فعلوا ذلك ليكون كل منهم فى الصلاة أصلا لا تابعا لأحد. وقيل: ليطول وقت الصلاة فيلحق من يأتى من حول المدينة. ذكر قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولحده وما فرش تحته ومن فرشه، ومن دخل قبره، ووقت دفنه، ومدّة حياته صلّى الله عليه وسلّم روى أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأهل بيته اختلفوا فى مكان دفنه؛ فقال بعضهم: ندفنه فى مصلّاه. وقال بعضهم: عند المنبر. وقال بعضهم: ادفنوه مع أصحابه بالبقيع. فقال أبو بكر الصديق رضى الله عنه: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما دفن نبىّ قط إلّا فى المكان الذى توفّى فيه» . وقيل: قال «ما مات نبىّ إلا دفن حيث يقبض» فرفع فراش النبىّ صلّى الله عليه وسلّم الذى توفّى عليه وحفر له تحته، وذلك فى بيت عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها. ثم اختلفوا أيلحد له أم لا؟ وكان فى المدينة حفّاران أحدهما يلحد وهو أبو طلحة، والآخر لا يلحد وهو أبو عبيدة. فاتفقوا على أن من جاء منهما أوّلا عمل عمله «2» ، فجاء الذى يلحد فلحد لرسول الله صلّى الله الجزء: 18 ¦ الصفحة: 393 عليه وسلّم. وروى عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: لما أرادوا أن يحفروا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كان بالمدينة رجلان: أبو عبيدة ابن الجرّاح يضرح حفر أهل مكة، وأبو طلحة الأنصارىّ هو الذى يحفر لأهل المدينة، وكان يلحد. فدعا العباس رجلين فقال لأحدهما: اذهب إلى أبى عبيدة، وقال للآخر: اذهب إلى أبى طلحة، وقال: اللهم خر لرسولك، فوجد صاحب أبى طلحة أبا طلحة فجاء به فلحد له. وقد روى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «الّلحد لنا والشّقّ لغيرنا» . وقيل قال: «والشّقّ لأهل الكتاب» . قيل: وكان صلّى الله عليه وسلّم يرى اللحد فيعجبه فألحد له، وأطبق له تسع لبنات وفرش تحته فى قبره قطيفة حمراء كان يغطّى بها صلّى الله عليه وسلّم نزل بها شقران. وأما من نزل قبره صلّى الله عليه وسلّم فالعباس بن عبد المطلب، وعلى بن أبى طالب، والفضل وقثم ابنا العباس، وشقران مولاه، وقيل: أدخلوا معهم عبد الرحمن ابن عوف، قيل: وعقيل وأسامة بن زيد، وصالح «1» ، وأوس بن خولىّ. والذى صححه الشيخ أبو محمد عبد المؤمن بن خلف رحمه الله: العباس وعلىّ والفضل وقثم وشقران. وزعم المغيرة بن شعبة أنه نزل قبر النبى صلّى الله عليه وسلّم، وأنه آخر الناس عهدا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى قبره. روى عن الشعبى قال: كان المغيرة يحدّثنا ها هنا، يعنى [بالكوفة] قال: [أنا «2» ] آخر الناس عهدا بالنبى صلّى الله عليه وسلّم لما دفن وخرج علىّ من القبر ألقيت خاتمى فقلت: يا أبا الحسن خاتمى، قال: انزل فخذ خاتمك، فنزلت فأخذت خاتمى، ووضعت يدى على اللّبن ثم خرجت. وعن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال: لما وضع رسول الله صلّى الله عليه الجزء: 18 ¦ الصفحة: 394 وسلّم فى لحده، ألقى المغيرة بن شعبة خاتمة فى القبر، ثم قال: خاتمى، خاتمى! فقالوا: ادخل فخذه، فدخل ثم قال: أهيلوا علىّ التراب، فأهالوا عليه التراب حتى بلغ أنصاف ساقيه فخرج، فلما سوّى على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: اخرجوا عنى «1» حتى أغلق الباب، فإنّى أحدثكم عهدا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: لعمرى لئن كنت أردتها لقد أصبتها. وأنكر على بن عبد الله بن عباس هذا، وقال: كان آخر الناس عهدا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم قثم بن العباس، كان أصغر من كان فى القبر، وكان آخر من صعد. والله أعلم. وأما وقت دفنه صلّى الله عليه وسلّم ومدة مرضه فقيل: دفن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة الأربعة، وقيل: ليلة الثلاثاء، وقيل: يوم الثلاثاء حين زاغت الشمس. والله أعلم. وسنّم «2» قبره ورشّ عليه الماء. وكانت مدّة مرضه اثنى عشر يوما. وقيل: أربعة عشر يوما. وكان مرضه بالصّداع صلّى الله عليه وسلّم. وأما سنّه صلّى الله عليه وسلّم ومدّة مقامه بالمدينة من حين هجرته إلى يوم وفاته صلّى الله عليه وسلّم فقد روى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم توفى، وقد بلغ من السّن ثلاثا وستين سنة، وقيل: خمسا وستين، وقيل: ستين. وروى محمد بن سعد قال: أخبرنا هشام بن القاسم، قال حدّثنا أبو معشر عن يزيد بن زياد قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعائشة فى السنة التى قبض فيها: «إن جبريل كان يعرض علىّ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 395 القرآن فى كل سنة مرة، فقد عرض علىّ العام مرتين، وأنه لم يكن نبىّ إلا عاش نصف عمر أخيه الذى كان قبله، عاش عيسى بن مريم مائة وخمسا وعشرين سنة، وهذه اثنتان وستون سنة» ومات فى نصف السنة. والذى نقلناه أوّلا هو الذى صححه العلماء. والله أعلم. وكان مقامه بالمدينة من لدن الهجرة إلى أن توفّى صلّى الله عليه وسلّم عشر سنين. ذكر ميراث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما روى فيه روى عن أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنا لا نورث، ما تركناه صدقة» . وروى محمد بن سعد قال: أخبرنا محمد بن عمر بن واقد، قال حدّثنا معمر ومالك وأسامة بن زيد عن الزهرىّ عن عروة عن عائشة؛ قال محمد بن عمر: وحدّثنى معمر وأسامة بن زيد وعبد الرحمن ابن عبد العزيز عن الزهرى عن مالك بن أوس بن الحدثان عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلى بن أبى طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبى وقّاص وعباس بن عبد المطلب قالوا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا نورث ما تركناه فهو صدقة» يريد بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نفسه. وعن أبى هريرة رضى الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تقتسم «1» ورثنى دينارا ولا درهما، ما تركت بعد نفقة نسائى ومؤنة عاملى فإنه صدقة» . وعن عائشة: إن فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورضى عنها أرسلت إلى أبى بكر تسأله ميراثها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما أفاء الله على رسوله، وفاطمة حينئذ تطلب صدقة النبى صلّى الله عليه وسلّم التى بالمدينة وفدك، وما بقى من خمس خيبر، فقال أبو بكر الجزء: 18 ¦ الصفحة: 396 رضى الله عنه: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا نورث، ما تركنا صدقة» إنما يأكل آل محمد فى هذا المال، وإنى والله لا أغيّر شيئا من صدقات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن حالها التى كانت عليها فى عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولأعملنّ فيها بما عمل فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئا، فوجدت فاطمة على أبى بكر، فهجرته ولم تكلمه حتى توفيت، وعاشت بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ستة أشهر. وعن أبى جعفر «1» قال: جاءت فاطمة إلى أبى بكر تطلب ميراثها، وجاء العباس بن عبد المطلب يطلب ميراثه، وجاء معهما علىّ بن أبى طالب، فقال أبو بكر: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لا نورث، ما تركنا صدقة» وما كان النبى يعول فعلىّ، فقال علىّ: «وورث سليمن داود «2» » وقال زكريا: «يرثنى ويرث من آل يعقوب «3» » قال أبو بكر: هو هذا، والله تعلم مثل ما أعلم. فقال علىّ: هذا كتاب الله ينطق، فسكتوا وانصرفوا. وعن زيد بن أسلم عن أبيه، قال سمعت عمر بن الخطاب يقول: لما كان اليوم الذى توفى فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بويع لأبى بكر فى ذلك اليوم، فلما كان من الغد جاءت فاطمة إلى أبى بكر- رضى الله عنهما- معها علىّ رضى الله عنه فقالت: ميراثى من رسول الله أبى، صلّى الله عليه وسلّم، فقال أبو بكر: أمن الرّثّة «4» أو من العقد «5» ؟ قالت: فدك وخيبر وصدقاته بالمدينة أرثها كما ترثك بناتك إذا متّ، فقال أبو بكر: أبوك والله خير منى، وأنت والله خير من بناتى، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا نورث، ما تركنا الجزء: 18 ¦ الصفحة: 397 صدقة» يعنى هذه الأموال القائمة، فتعلمين أن أباك أعطاكها؟ فو الله لئن قلت نعم لأقبلنّ قولك وء لأصدقنك. قالت: جاءتنى أمّ أيمن فأخبرتنى أنه أعطانى فدك. قال: فسمعته يقول هى لك؟ فإذا قلت قد سمعته فهى لك، فأنا أصدّقك وأقبل قولك. قال: قد أخبرتك ما عندى. وعن عمرو بن الحارث ختن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخى ميمونة قال: والله ما ترك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند موته درهما ولا دينارا، ولا عبدا ولا أمة، ولا شيئا إلا بغلته البيضاء وسلاحه، وأرضا تركها صدقة. وعن زرّبن حبيش: أن إنسانا سأل عائشة رضى الله عنها عن ميراث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: عن ميراث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تسألنى؟ لا أبا لك! توفّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يدع دينارا ولا درهما، ولا عبدا ولا أمة ولا شاة ولا بعيرا. وعن ابن عباس نحوهن، قال: وترك درعه رهنا عند يهودىّ بثلاثين صاعا من شعير. وقد روى أنه صلّى الله عليه وسلّم ترك يوم مات ثوبى حبرة وإزارا عمانيا «1» ، وثوبين صحاريين، وقميصا صحاريا، وجبّة يمنية، وخميصة وكساء أبيض، وقلانس صغارا لاطئة «2» ثلاثا أو أربعا، وإزارا طوله خمسة أشبار، وملحفة مورّسة. صلّى الله عليه وسلّم. هذا الذى أورده الشيخ محب الدين الطبرىّ فى مختصر السيرة. ذكر ما نال أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وآله من الحزن على فقده، ونبذة مما رثوه به صلّى الله عليه وسلّم روى عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: لما ثقل النبى صلّى الله عليه وسلّم جعل يتغشاه الكرب، فقالت فاطمة: واكرب أبتاه، فقال لها صلّى الله عليه وسلّم: الجزء: 18 ¦ الصفحة: 398 «ليس على أبيك كرب بعد اليوم» . فلما مات صلّى الله عليه وسلّم قالت فاطمة: يا أبتاه أجاب ربّا دعاه، يا أبتاه جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ينعاه، يا أبتاه من ربه ما أدناه! قال: فلما دفن قالت فاطمة: يا أنس أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم التراب؟. وعن عكرمة قال: لما توفّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بكت أمّ أيمن، فقيل لها أتبكين على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فقالت: أما والله ما أبكى عليه ألّا أكون أعلم أنه ذهب إلى ما هو خير له من الدنيا، ولكن أبكى على خبر السماء انقطع. وعن عبد الرحمن ابن سعد بن يربوع قال: جاء علىّ بن أبى طالب يوما متقنعا متحازنا، فقال أبو بكر: أراك متحازنا، فقال علىّ: إنه عنانى ما لم يعنك، قال يقول أبو بكر: اسمعوا ما يقول! أنشدكم الله أترون أحدا كان أحزن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منّى؟. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت عثمان بن عفان يقول: توفّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحزن عليه رجال من أصحابه حتى كاد بعضهم يوسوس. وعن القاسم بن محمد: أن رجلا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذهب بصره فدخل عليه أصحابه يعودونه، فقال: إنما كنت أريدهما لأنظر بهما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأمّا إذ قبض الله نبيّه فما يسرّنى «1» أن ما بهما بظبى من ظباء تبالة «2» . وأمّا عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها فإنها لازمت قبره صلّى الله عليه وسلّم. ورثى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جماعة من أصحابه وعمّاته رضى الله عنهم فقال أبو بكر الصّدّيق رضى الله عنه: الجزء: 18 ¦ الصفحة: 399 يا عين فابكى ولا تسأمى ... وحقّ البكاء على السّيّد على خير خندف «1» عند البلا ... ء أمسى يغيّب فى الملحد فصلّى المليك ولىّ العباد ... وربّ البلاد على أحمد فكيف الحياة لفقد الحبيب ... وزين المعاشر فى المشهد فليت الممات لنا كلّنا ... وكنّا جميعا مع المهتدى وقال أيضا رضوان الله عليه: لمّا رأيت نبيّنا متجدّلا ... ضاقت علىّ بعرضهنّ الدّور وارتعت روعة مستهام واله ... والعظم منّى واهن مكسور «2» أعتيق ويحك إنّ حبّك قد ثوى ... وبقيت منفردا وأنت حسير «3» يا ليتنى من قبل مهلك صاحبى ... غيّبت فى جدث علىّ صخور «4» فلتحدثنّ بدائع من بعده ... تعيا بهنّ جوانح وصدور وقال أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب: ارقت فبات ليلى لا يزول ... وليل أخى المصيبة فيه طول «5» وأسعدنى البكاء وذاك فيما ... أصيب المسلمون به قليل لقد عظمت مصيبتنا وجلّت ... عشيّة قيل قد قبض الرسول وأضحت أرضنا مما عراها ... تكاد بنا جوانبها تميل فقدنا الوحى والتنزيل فينا ... يروح به ويغدو جبرئيل الجزء: 18 ¦ الصفحة: 400 وذاك أحقّ ما سالت عليه ... نفوس الناس أو كربت تسيل نبىّ كان يجلو الشكّ عنها «1» ... بما يوحى إليه وما يقول ويهدينا فلا نخشى ضلالا ... علينا والرسول لنا دليل أفاطم إن جزعت فذاك عذر ... وإن لم تجزعى ذاك السّبيل فقبر أبيك سيّد كلّ قبر ... وفيه سيّد النّاس الرسول وقال عبد الله بن أنيس: تطاول ليلى واعترتنى القوارع ... وخطب جليل للبليّة جامع غداة نعى الناعى إلينا محمدا ... وتلك التى تستكّ منها المسامع فلو ردّ ميتا قتل نفسى قتلها ... ولكنّه لا يدفع الموت دافع فآليت لا آسى على هلك هالك ... من الناس ما اوفى ثبير وفارع ولكنّنى باك عليه ومتبع ... مصيبته إنّى إلى الله راجع وقد قبض الله النبيّين قبله ... وعاد أصيبت بالرّزى والتّبايع «2» فياليت شعرى من يقوم بأمرنا ... وهل فى قريش من إمام ينازع ثلاثة رهط من قريش هم هم ... أزمّة هذا الأمر والله صانع «3» علىّ أو الصّدّيق أو عمر لها ... وليس لها بعد الثلاثة رابع فإن قال منّا قائل غير هذه ... أبينا وقلنا الله راء وسامع فيالقريش قلّدوا الأمر بعضهم ... فإنّ صحيح القول للناس نافع ولا تبطئوا عنها فواقا فإنّها ... إذا قطعت لم تمن فيها المطامع «4» الجزء: 18 ¦ الصفحة: 401 وقال حسان بن ثابت الأنصارىّ: آليت حلفة برّ غير ذى دخل ... منّى أليّة حقّ غير إفناد «1» تالله ما حملت أنثى ولا وضعت ... مثل النّبى نبىّ الرّحمة الهادى ولا مشى فوق ظهر الأرض من أحد ... أوفى بذمّة جار أو بميعاد من الذى كان نورا يستضاء به ... مبارك الأمر ذا حزم وإرشاد مصدّقا للنّبيين الألى سلفوا ... وأبذل الناس للمعروف للجادى «2» خير البريّة إنّى كنت فى نهر ... جار فأصبحت مثل المفرد الصّادى «3» أمسى نساؤك عطّلن البيوت فما ... يضربن خلف قفا ستر بأوتاد مثل الرّواهب يلبسن المسوح وقد ... أيقنّ بالبؤس بعد النّعمة البادى «4» وقال أيضا: ما بال عينك لا تنام كأنّما ... كحلت مآفيها بكحل الأرمد جزعا على المهدىّ أصبح ثاويا ... يا خير من وطئ الحصى لا تبعد يا ويح أنصار النبىّ ورهطه ... بعد المغيّب فى سواء الملحد جنبى يقيك التّرب لهفى ليتنى ... غيّبت قبلك فى بقيع الغرقد «5» يا بكر آمنة المبارك ذكره ... ولدته محصنة بسعد الأسعد «6» نورا أضاء على البريّة كلّها ... من يهد للنّور المبارك يهتدى الجزء: 18 ¦ الصفحة: 402 أأقيم بعدك بالمدينة بينهم ... يا لهف نفسى ليتنى لم أولد بأبى وأمىّ من شهدت وفاته ... فى يوم الاثنين النّبىّ المهتدى وظللت بعد وفاته متبلّدا «1» ... يا ليتنى صبّحت سمّ الأسود «2» أو حلّ أمر الله فينا عاجلا ... فى روحة من يومنا أو فى غد فتقوم ساعتنا فنلقى سيّدا ... محضا مضاربه كريم المحتد «3» يا ربّ فاجمعنا معا ونبيّنا ... فى جنة تفقى «4» عيون الحسّد فى جنّة الفردوس فاكتبها لنا ... يا ذا الجلال وذا العلا والسّؤدد والله أسمع «5» ما حيبت بها لك ... إلّا بكيت على النبىّ محمّد ضاقت بالأنصار البلاد فأصبحوا ... سودا وجوههم كلون الإثمد ولقد ولدناه وفينا قبره ... وفضول نعمته بنا لم يجحد «6» والله أهداه لنا وهدى به ... أنصاره فى كلّ ساعة مشهد صلّى الإله ومن يحفّ بعرشه ... والطّيبون على المبارك أحمد ووقفت فاطمة الزّهراء رضى الله عنها على قبره صلّى الله عليه وسلّم فقالت: ما ضرّ من قد شمّ تربة أحمد ... ألا يشمّ مدى الزّمان غواليا «7» صبّت علىّ مصائب لو أنها ... صبّت على الأيّام صرن لياليا وقالت رضى الله عنها: أغبرّ آفاق السّماء وكوّرت ... شمس النّهار وأظلم العصران الجزء: 18 ¦ الصفحة: 403 والأرض من بعد النبىّ كئيبة ... أسفا عليه كثيرة الرّجفان فلتبكه شرق البلاد وغربها ... ولتبكه مضر وكلّ يمانى وليبكه الطّود المعظّم جوّه ... والبيت ذو الأستار والأركان «1» يا خاتم الرّسل المبارك صنوه «2» ... صلّى عليك منزّل الفرقان نفسى فداؤك ما لرأسك مائلا ... ما وسّدوك وسادة الوسنان وقالت صفية بنت عبد المطلب: أفاطم بكّى ولا تسأمى ... بصبحك «3» ما طلع الكوكب هو المرء يبكى وحقّ البكا ... على الماجد السّيد الطيّب «4» فأوحشت الأرض من فقده ... وأىّ البريّة لا ينكب فمالى بعدك حتى المما ... ت إلّا الجوى الدّاخل المنصب «5» فبكّى الرسول وحقّت له ... شهود المدينة والغيّب لتبكيك شمطاء مضرورة ... إذا حجت الناس لا تحجب «6» ليبكيك شيخ أبو ولدة ... يطوف بعقوته أشهب «7» ويبكيك ركب إذا أرملوا ... فلم يلف ما طلب الطّلّب «8» وتبكى الأباطح من فقده ... وتبكيه مكّة والأخشب «9» فعينى مالك لا تدمعين ... وحقّ لدمعك يستسكب الجزء: 18 ¦ الصفحة: 404 وقالت صفية أيضا: عين جودى بدمعة تسكاب ... للنّبىّ المطّهر الأوّاب عين من تندبين بعد نبىّ ... خصّه الله ربّنا بالكتاب فاتح خاتم رءوف رحيم ... صادق القيل طيّب الأثواب مشفق ناصح شفيق علينا ... رحمة من إلهنا الوهّاب رحمة الله والسّلام عليه ... وجزاه المليك حسن الثّواب وقالت أروى بنت عبد المطلب: ألا يا عين ويحك أسعدينى ... بدمعك ما بقيت وطاوعينى ألا يا عين ويحك واستهلىّ ... على نور البلاد وأسعدينى فإن عذلتك عاذلة فقولى ... علام وفيم ويحك تعذلينى «1» على نور البلاد معا جميعا ... رسول الله أحمد فاتركينى فإلّا تقصرى بالعذل عنّى ... فلومى ما بدا لك أو دعينى لأمر هدّنى وأذلّ ركنى ... وشيّب بعد جدّتها قرونى وقالت عاتكة بنت عبد المطلب: يا عين جودى ما بقيت بعبرة ... سحّا على خير البريّة أحمد يا عين فاحتفلى وسحىّ واسمحى ... فابكى على نور البلاد محمّد «2» أنّى لك الويلات مثل محمّد ... فى كلّ نائبة تنوب ومشهد فابكى المبارك والموفّق ذا التّقى ... حامى الحقيقة ذا الرّشاد المرشد من ذا يفكّ عن المغلّل غلّه ... بعد المغيّب فى الضّريح الملحد الجزء: 18 ¦ الصفحة: 405 أم من لكلّ مدفّع ذى حاجة ... ومسلسل يشكو الحديد مقيّد «1» أم من لوحى الله ينزل بيننا ... فى كلّ ممسى ليلة أو فى غد فعليك رحمة ربّنا وسلامه ... يا ذا الفواضل والنّدى والسّؤد وقالت هند بنت أثاثة بن عباد بن المطّلب بن عبد مناف أخت مسطح: أشاب ذوائبى وأذاب ركنى ... بكاؤك فاطم الميت الفقيدا «2» فأعطيت العطاء فلم تكدّر ... وأخدمت الولائد والعبيدا «3» وكنت ملاذنا فى كلّ لزب ... إذا هبّت شآمية برودا «4» وإنّك خير من ركب المطايا ... وأكرمهم إذا نسبوا جدودا رسول الله فارقنا وكنّا ... نرجّى أن يكون لنا خلودا أفاطم فاصبرى فلقد أصابت ... رزيّتك التّهائم «5» والنّجودا وأهل البرّ والأبحار طرّا ... فلم تخطئ مصيبته وحيدا وكان الخير يصبح فى ذراه «6» ... سعيد الجدّ قد ولد السّعودا ورثاه صلّى الله عليه وسلّم غير هؤلاء مما لو استقصينا ذلك لطال، واتّسع فيه المجال، ومراثيه صلّى الله عليه وسلّم ومدائحه كثيرة تزداد فى كل عصر، وتتضاعف فى كلّ دهر، صلّى الله عليه وسلّم تسليما كثيرا دائما أبدا. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 406 [صورة ما هو مكتوب بآخر هذا الجزء بنسخة] كمل الجزء السادس عشر من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب، للنويرى رحمه الله تعالى. وكان الفراغ منه فى يوم الاثنين المبارك تاسع جمادى الأولى سنة سبع وستين وتسعمائة، على يد كاتبه أفقر الخلق إلى رحمة ربه نور الدين بن شرف الدين العاملىّ، غفر الله له ولوالديه، ولمن يقرأ له ولهم الفاتحة آمين. [صورة ما هو مكتوب فى آخر هذا الجزء أيضا بنسخة ج] كمل الجزء السادس عشر من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب على يد مؤلفه فقير رحمة ربه: أحمد بن عبد الوهاب بن محمد بن عبد الدائم البكرىّ التيمىّ القرشىّ المعروف بالنويرىّ عفا الله عنهم. ووافق الفراغ من كتابته فى يوم السبت المبارك لأربع بقين من شهر رمضان المعظم عام اثنين وعشرين وسبعمائة؛ أحسن الله تقضيها، بالقاهرة المعزية عمرها الله تعالى. يتلوه إن شاء الله تعالى فى أوّل الجزء السابع عشر الباب الثانى من القسم الخامس من الفن الخامس فى أيام الخلفاء الراشدين رضى الله عنهم أجمعين. والحمد لله وحده، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم تسليما كثير. وحسبنا الله ونعم الوكيل. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 407 أتممنا بعون الله تعالى تحقيق الجزء الثامن عشر من كتاب «نهاية الأرب فى فنون الأدب» من تجزئة طبعة الدار، فى يوم السبت 14 من ربيع الثانى سنة 1374 هـ (11 من ديسمبر سنة 1954 م) . يتلوه إن شاء الله تعالى الجزء التاسع عشر، وأوّله: «الباب الثانى من القسم الخامس فى أخبار الخلفاء الراشدين» . محمد محمد حسنين إبراهيم إطفيش المصحح بالقسم الأدبى المصحح بالقسم الأدبى الجزء: 18 ¦ الصفحة: 408 فهرس المراجع 1 أسباب النزول للواحدى، هندية 1315 الاستيعاب لأبى عمر بن عبد البر، حيدرآباد 1318 أسد الغابة فى معرفة الصحابة لابن الأثير؛ الوهبية سنة 1280 الاشتقاق لابن دريد، جوتنجن 1854 م. الإصابة فى تمييز الصحابة لابن حجر، السعادة والشرفية سنة 1323 الأصنام لابن الكلبى دار الكتب 1343 البداية والنهاية لابن كثير، السعادة 1348 تاريخ الطبرى، ليدن 1889 م. تفسير الثعلبى مخطوط، رقم 1246 تفسير. تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلانى، حيدرآباد 1327 الجامع لأحكام القرآن تفسير القرطبى، دار الكتب المصرية. الجامع الصغير للسيوطى، بولاق سنة 1286 دلائل النبوة للبيهقى مخطوط، رقم 212 حديث. دلائل النبوّة لأبى نعيم الأصفهانى، حيدرآباد 1320 ديوان الأعشين، بيانة 1927 م. ديوان حسان بن ثابت الأنصارى، الرحمانية 1347 ديوان لبيد بن ربيعة، ليدن 1891 م. ومخطوط دار الكتب 547 أدب. الروض الأنف لأبى القاسم السهيلى، الجمالية 1332 سنن النسائى، الميمنة 1312 السيرة الحليية، بولاق 1292 2 شرح أبى شامة على القصيدة الشقراطيسية مخطوط رقم 247 أدب بدار الكتب. ورقم 16116 ز. سيرة ابن هشام، جوتنجن 1858 م. والحلبى بمصر 1355 شرح بانت سعاد لابن هشام، بولاق سنة 1290 شرح البخارى للقسطلانى، بولاق 1293 شرح ديوان زهير بن أبى سلمى، دار الكتب 1363 شرح ديوان كعب، دار الكتب 1369 شرح ديوان ليبد برواية الطوسى، فينّا 1880 م. شرح السيرة النبوية لأبى ذر، الخشنى، مطبعة هندية 1329 شرح الشفا للشهاب الخفاجى، الآستانة 1267 شرح قصيدة الأعشى الدالية مخطوط رقم 1736 أدب بدار الكتب. شرح المواهب للزرقانى، المطبعة الأميرية بولاق 1278 الشفا للقاضى عياض، الآستانة 1290 صحيح البخارى، المطبعة الأميرية 1296 صحيح الترمذى، بولاق 1292 صحيح ابن ماجه، مصر 1313 صحيح مسلم: بولاق 1290 والآستانة 1331 الطبقات الكبرى لمحمد بن سعد، ليدن 1322 عقد الجمان، فى تاريخ أهل الزمان نسخة مصورة بدار الكتب رقم 71 م. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 409 1 الكتاب لسيبويه، بولاق 1316 لباب النقول، فى أسباب النزول للسيوطى، الحلبى 1302 مجمع الأمثال للميدانى، بولاق 1284 المعارف لابن قتيبة، جوتنجن 1850 م. معجم البلدان لياقوت الحموى، ليبزج 1868 م. مغنى اللبيب لابن هشام، الحلبى سنة 1302 2 المفردات فى غريب القرآن للراغب الأصفهانى، الحلبى مصر 1324 المقتضب من كتاب جمهرة النسب لياقوت الحموى- مخطوط بدار الكتب رقم 2785 تاريخ. الموطأ فى الحديث للإمام مالك بن أنس، السعادة 1331 النهاية فى غريب الحديث لابن الأثير، مصر 1311 الجزء: 18 ¦ الصفحة: 410 الجزء التاسع عشر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تصدير هذا هو الجزء التاسع عشر من كتاب «نهاية الأرب» لشهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب النويرى، تصدره الهيئة المصرية العامة للكتاب، بعد أن أصدرت دار الكتب منه ثمانية عشر جزءا. ويشتمل هذا الجزء على تاريخ الثلاثة الأوائل من الخلفاء الراشدين: أبى بكر وعمر وعثمان رضى الله عنهم، وذكر صفاتهم ومناقبهم والأحداث التى عاصرت حياتهم، والفتوح التى كانت فى أثناء خلافتهم. وقد سرت فى تحقيقه على المنهج الذى سار عليه القسم الأدبى بدار الكتب فيما أخرج من أجزاء؛ من الاعتماد على ما يقابل كل جزء من النسخ المخطوطة والمصورة بها. وقد وافق هذا الجزء من هذه النسخ نسختان: الأولى: النسخة المصورة عن مكتبة كبريلى بالأستانة، وهى نسخة كاملة تقع فى واحد وثلاثين جزءا؛ محفوظة بالدار برقم (549- معارف عامة) . والثانية: نسخة مصورة عن نسخة محفوظة بمكتبة أيا صوفيا بالأستانة، وهذه النسخة كسابقتها تقع فى واحد وثلاثين جزءا أيضا. ويظن أنها بخط المؤلف؛ إلا أنها نسخة ناقصة، والأجزاء الموجودة منها بدار الكتب ثمانية عشر جزءا غير متصلة، محفوظة بدار الكتب برقم (551- معارف عامة) الجزء: 19 ¦ الصفحة: 5 وقد سبق أن وصفت هاتان النسختان فى مقدمة الجزء السادس عشر. وقد رمزت إلى النسخة الأولى بالحرف (ك) وإلى الثانية بالحرف (ص) . وقد رجعت فى التحقيق أيضا إلى تاريخ اليعقوبى، وتاريخ الطبرى، والمسعودى، وابن الأثير، وابن كثير، وكتاب الرياض النضرة للمحبّ الطبرى؛ إذ كانت هذه الكتب هى المادة نقل عنها المؤلف فى هذا الفن؛ فن التاريخ. ووشيت حواشيه بالقدر من التعليقات الذى يعين على تحرير النص وفهمه. وأسأل الله أن يوفق لإتمام نشر بقية أجزائه وطبعها، كما أسأله جلّ شأنه أن يجعل هذا العمل نافعا مقبولا. محمد أبو الفضل إبراهيم الجزء: 19 ¦ الصفحة: 6 [ تتمة الفن الخامس في التاريخ ] [ تتمة القسم الخامس من الفن الخامس في أخبار الملة الإسلامية ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* اللهمّ يسّر ولا تعسّر، واختم بخيراتك إنّك على كل شىء قدير، وصلّى الله على سيّدنا محمد. الباب الثانى من القسم الخامس فى أخبار الخلفاء الراشدين أبى بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلىّ ابن أبى طالب، وأيّام الحسن بن علىّ رضوان الله عليهم أجمعين الجزء: 19 ¦ الصفحة: 7 ذكر خلافة أبى بكر الصديق وشىء من أخباره وفضائله هو أبو بكر، واسمه عبد الله بن أبى قحافة عثمان بن عامر بن عمرو ابن كعب بن سعد بن تيم [1] بن مرّة بن كعب بن لؤىّ بن غالب، ومجتمع نسبه مع نسب رسول الله صلى الله عليه وسلّم عند مرّة بن كعب. وأمه سلمى- وكنيتها أمّ الخير- بنت صخر بن كعب بن سعد ابن تيم [1] بن مرّة، وهى بنت عمّ أبيه. وكان رضى الله عنه ينعت بعتيق، وقد اختلف فى سبب نعته بذلك؛ فقال اللّيث بن سعد، وجماعة معه: إنّما قيل له عتيق لجماله وعتاقة وجهه. وقال مصعب الزّبيرىّ وطائفة من أهل النّسب: إنّما سمّى عتيقا لأنّه لم يكن فى نسبه شىء يعاب. وقال آخرون: كان له أخوان: أحدهما يسمّى عتيقا، والآخر عتيقا؛ مات عتيق قبله، فسمّى باسمه. وروى عن موسى بن طلحة، قال: سألت أبى طلحة بن عبيد الله، قلت له: يا أبت، بأىّ شىء سمّى أبو بكر عتيقا؟ قال: كانت أمّه لا يعيش لها ولد، فلمّا ولدته استقبلت به البيت، وقالت: اللهمّ إنّ هذا عتيقك من الموت فهبه لى.   [1] ك: «تميم» وصوابه ما أثبته من ص. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 8 وقال آخرون: إنّما سمّى عتيقا لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «من سرّه أن ينظر إلى عتيق من النّار فلينظر إلى هذا» ، فسمّى عتيقا بذلك. وروى عن عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها، قالت: إنّى لفى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وأصحابه بالفناء:؛ وبينهم الستر، إذ أقبل أبو بكر رضى الله عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سرّه أن ينظر إلى عتيق من النار فلينظر إلى هذا» . قالت: وإنّ اسمه الذى سمّاه أهله لعبد الله بن عثمان، وسمّى رضى الله عنه بالصّدّيق؛ لمبادرته إلى تصديق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى كلّ ما جاء به. وقيل: بل قيل له الصديق؛ لتصديقه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى خبر الإسراء. وقال أبو محجن الثقفىّ فى أبى بكر رضى الله عنه: وسمّيت صدّيقا، وكلّ مهاجر ... سواك تسمّى باسمه غير منكر [1] سبقت إلى الإسلام، والله شاهد، ... وكنت جليسا بالعريش المشهّر وبالغار إذ سمّيت بالغار صاحبا ... وكنت رفيقا للنّبىّ المطهّر يعنى بقوله: «بالعريش» فى يوم بدر؛ لأنه رضى الله عنه كان مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى العريش؛ لم يكن معه فيه غيره. وبقوله: وبالغار إذ سمّيت بالغار صاحبا   [1] الاستيعاب 965. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 9 قوله تعالى: ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا . [1] ولنبدأ من أخباره رضى الله عنه بذكر شىء من فضائله، والله المستعان، وعليه التّكلان. ذكر نبذة من فضائل أبى بكر الصديق ومآثره فى الجاهلية والإسلام كان رضى الله عنه فى الجاهلية وجيها، رئيسا من رؤساء قريش، وإليه كانت الأشناق فى الجاهلية- والأشناق الدّيات- فكان إذ حمل شيئا قالت فيه قريش: صدّقوه، وامضوا حمالته [2] وحمالة من قام معه أبو بكر، وإن احتملها غيره خذلوه ولم يصدّقوه. وكان رضى الله عنه ممّن حرّم الخمر على نفسه، وتنزّه عنها فى الجاهليّة، وكانت أشراف قريش تختلف إليه وتزوره، وتستشيره وتقتدى برأيه، وتتربص فى الأمور المعضلة إذا غاب إلى أن يقدم، ويدلّ على ذلك ما قدّمناه فى أوائل السّيرة النبويّة من خبره مع الشيخ الكبير الأزدىّ فى سفره إلى اليمن، وما بشّره الأزدىّ به من مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وأنّه يعاونه على أمره، وأنّ أبا بكر رضى الله عنه لمّا رجع إلى مكّة، جاءه شيبة بن ربيعة وأبو جهل ابن هشام وأبو البخترىّ، وعقبة بن أبى معيط، ورجالات قريش   [1] سورة التوبة 40. [2] الحمالة بالفتح: الدية يحملها قوم عن غيرهم. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 10 مسلمين عليه. وقولهم له: حدث أمر عظيم؛ هذا محمد بن عبد الله يزعم أنه نبىّ أرسله الله إلى الناس، ولولا أنت ما انتظرنا به؛ فإذ جئت فأنت النّهية [1] ، وقد تقدم ذكر هذه القصة فى المبشرات برسول الله صلى الله عليه وسلم [2] . ومثل ذلك لا ينتظر به إلا من لا يمكن أن يقطع الأمر دونه. وفى هذا أقوى دلالة على فضله وشرفه، ومكانته لديهم. وكان أنسب قريش لقريش، وأعلم قريش بما فيها من خير وشر. وأما فضائله رضى الله عنه ومناقبه فى الإسلام فكثيرة جدا، قد أبانه رسول الله صلى الله عليه وسلم بفضائل ومناقب، وخصّه بمزايا لم يخصّ بها غيره، وذكره فى مواطن لم يذكر فيها سواه. وقد تقدم من ذلك جملة فى أثناء السيرة النبوية فنشير الآن إليها، ونذكر ما سواها ممّا تقف عليه إن شاء الله تعالى. فمن فضائله التى تقدم ذكرها سابقته فى الإسلام، وأنّه رضوان الله عليه أول من أسلم من الذكور، وأول من صلّى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. روى أبو عمر بن عبد البرّ بسنده إلى الشعبىّ، قال: سألت ابن عباس- أو سئل ابن عباس رضى الله عنهما: أىّ الناس كان أوّل إسلاما؟ فقال: أما سمعت قول حسان بن ثابت:   [1] فى السيرة الحلبية 1: 275: «فأنت الغاية والكفاية» . [2] نهاية الأرب 16: 148. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 11 إذا تذكّرت شجوا من أخى ثقة ... فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا [1] خير البرية، أتقاها وأعدلها [2] ... بعد النبىّ، وأوفاها بما حملا الثانى التالى المحمود مشهده [3] ... وأوّل الناس حقّا صدّق الرّسلا [4] ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لحسان بن ثابت: هل قلت فى أبى بكر شيئا؟ قال: نعم؛ وأنشده هذه الأبيات، وفيها بيت رابع، وهو: وثانى اثنين فى الغار المنيف وقد ... طاف العدوّ به إذ صعّدوا الجبلا فسرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: «أحسنت يا حسان» . وروى أنّ فيها بيتا خامسا، وهو: وكان حبّ رسول الله إذ علموا [5] ... خير البرية لم يعدل به رجلا [6] ومما يؤيد أنه رضوان الله عليه أول من أسلم ما رواه الجريرىّ، عن أبى نضرة، قال: قال أبو بكر لعلىّ رضى الله عنهما: أنا أسلمت قبلك ... ، فى حديث ذكره، فلم ينكر عليه. ومن ذلك أنه رضى الله عنه فدى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه. روى عن أسماء بنت أبى بكر الصديق رضى الله عنهما: أنها قالت، وقد قيل لها: ما أشدّ ما رأيت المشركين بلغوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: كان المشركون قعودا فى المسجد الحرام، فتذكّروا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وما يقول فى آلهتهم، فبينما هم كذلك إذ دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم،   [1] ديوانه 299. [2] الديوان: «أتقاها وأرأفها» . [3] الديوان: «المحمود شيمته» . [4] الديوان: «وأول الناس طرا» . [5] الديوان: «قد علموا» . [6] الاستيعاب 3: 963- 965. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 12 فقاموا إليه، وكانوا إذا سألوه عن شىء صدقهم، فقالوا: ألست تقول فى آلهتنا كذا وكذا؟ قال: بلى، قال: فتشبّثوا به بأجمعهم، فأتى الصّريخ إلى أبى بكر، فقيل له: أدرك صاحبك، فخرج أبو بكر حتى دخل المسجد، فوجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والناس مجتمعون عليه، فقال: ويلكم! أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ [1] ! فلهوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأقبلوا يضربونه. قالت: فرجع إلينا فجعل لا يمسّ شيئا من غدائره إلا جاء معه وهو يقول: تباركت يا ذا الجلال والإكرام. ومنها، أنه رضى الله عنه أنفق على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يملكه، طيّبة بذلك نفسه. روى عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: أسلم أبو بكر وله أربعون ألفا، أنفقها كلّها على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وفى سبيل الله. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما نفعنى مال مثل ما نفعنى مال أبى بكر» . ومن رواية أخرى عنه قال: أسلم أبو بكر يوم أسلم وله أربعون ألف دينار، وأعتق سبعة كلّهم يعذّب فى الله، أعتق بلالا، وعامر ابن فهيرة، وزنّيرة، والنّهدية [2] وابنتها، وجارية بنى نوفل، وأم عبيس. وقد تقدّم خبرهم فى السيرة النبوية. ومنها، أنه رضى الله عنه أسلم على يديه بدعائه نصف العشرة   [1] سورة غافر 28. [2] ص: «والهدية» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 13 المشهود لهم بالجنة، وهم: الزّبير بن العوّام، وعثمان بن عفّان، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبى وقّاص، رضوان الله عليهم أجمعين. وأسلم أبواه، وصحبا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأسلم بنوه كلّهم، وصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأبوه أبو قحافة، وابنه عبد الرحمن بن أبى بكر، وابن ابنه محمد ابن عبد الرحمن، وليست هذه المنقبة لأحد من الصحابة غيره. ومن ذلك أنه رضى الله عنه كان مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى الغار، ورفيقه فى هجرته، وناهيك بهما! وسمّاه عز وجل فى كتابه: «صاحبه» . فقال تعالى: إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [1] . روى عن على بن أبى طالب رضى الله عنه، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج أبو بكر معه؛ لم يأمن على نفسه غيره حتى دخلا الغار. وعن حبيب بن أبى ثابت فى قوله تعالى: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ [2] . قال: على أبى بكر؛ فأمّا النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فقد كانت عليه السّكينة. وعن أبى هريرة رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبى بكر: «أنت صاحبى على الحوض، وصاحبى فى الغار» . وعن سفيان بن عيينة، قال: عاتب الله عز وجلّ المسلمين   [1] سورة التوبة 40. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 14 كلّهم فى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلّا أبا بكر، فإنه خرج من المعاتبة، قال الله تعالى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ. ومن فضائله ومزاياه رضى الله عنه، أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قدمه للصّلاة [1] بالمسلمين فى حياته، وأمر بسدّ الأبواب الشارعة إلى المسجد، إلّا باب أبى بكر، وقد تقدّم ذلك [2] . ومنها ما روى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أنه قال: «رأيت فى المنام أنّى وزنت بأمّتى فرجحت، ثم وزن أبو بكر فرجح، ثمّ وزن عمر فرجح» . وهذا دليل على أنه رضوان الله عليه أرجح من الأمة أكثر من مرتين، فإنه رجح الأمة، وعمر رضى الله عنه فيهم، ورجح عمر الأمة. ورؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم حقّ لا محالة. وروى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال: ما سابقت أبا بكر إلى خير قطّ. إلّا سبقنى إليه؛ ولوددت أنى شعرة فى صدر أبى بكر. وعن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما، أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم أمر بالصدقة، قال عمر بن الخطاب وكان عندى مال كثير. فقلت: والله لأفضلنّ أبا بكر هذه المرّة، فأخذت نصف مالى وتركت نصفه، فأتيت به النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «هذا مال كثير، فما تركت لأهلك» ؟ قال: تركت لهم نصفه؛ وجاء أبو بكر بمال كثير، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما تركت لأهلك» ؟ قال: تركت لهم الله ورسوله.   [1] ص: «فى الصلاة» . [2] ص: «ذكر ذلك» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 15 وفى رواية: قلت: لا أسابقك إلى شىء أبدا. وعن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما فى قوله عزّ وجلّ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى [1] ؛ نزلت فى أبى بكر الصديق رضى الله عنه. وعن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما، قال: كنت عند النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، وعنده أبو بكر الصديق، وعليه عباءة قد خلّها [2] فى صدره بخلال، فنزل عليه جبريل، فقال: يا محمد، مالى أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلّها فى صدره بخلال! فقال: «يا جبريل، أنفق ماله علىّ قبل الفتح» ، قال: فإنّ الله عزّ وجل يقرأ عليك السّلام، ويقول: قل له: أراض أنت علىّ فى فقرك هذا، أم ساخط؟ فقال أبو بكر: أسخط على ربّى! أنا عن ربّى راض، أنا عن ربى راض، أنا عن ربى راض. وعن ابن عبّاس رضى الله عنهما، عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، قال: هبط علىّ جبريل وعليه طنفسة، وهو متخلّل بها، فقلت: يا جبريل، لم نزلت إلىّ فى مثل هذا الزّىّ [3] ؟ قال إنّ الله أمر الملائكة أن تتخلّل فى السماء كتخلل أبى بكر فى الأرض. وعن أبى هريرة رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أصبح منكم صائما اليوم؟» قال أبو بكر رضى الله عنه: أنا، قال: «من أطعم اليوم مسكينا؟» قال أبو بكر: أنا،   [1] سورة الليل 5، 6. [2] خلها فى صدره، يريد ربطها فى صدره. [3] ك: «الرى» تحريف. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 16 قال: «من عاد اليوم مريضا؟» قال أبو بكر: أنا، فقال: «من شهد اليوم منكم جنازة؟» [فقال أبو بكر: أنا] [1] ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما اجتمعت هذه الخصال فى رجل قطّ إلّا دخل الجنة» . وعن ابن أبى أوفى، قال: خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأقبل على أبى بكر وقال: «إنى لأعرف اسم رجل واسم أبيه، واسم أمّه؛ إذا دخل الجنّة لم تبق غرفة من غرفها، ولا شرفة من شرفها إلا قال: مرحبا مرحبا!» ، فقال سلمان: إن هذا لغير خائب» : فقال: «ذاك أبو بكر بن أبى قحافة» . وعن سلمان بن يسار، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبو بكر وعمر خير الأرض إلّا أن يكون نبيا» . قال: وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الخير ثلاثمائة وستون خصلة، إذا أراد الله بعبد خيرا جعل فيه واحدة منهنّ يدخل بها الجنة» ، قال: فقال أبو بكر: يا رسول الله، هل فىّ شىء منهنّ؟ قال: «نعم، جميعا من كلّ» . وعن أبى هريرة رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أتانى جبريل فأخذ بيدى، فأرانى باب الجنّة الذى تدخل منه [2] أمّتى، فقال أبو بكر: وددت أنى كنت معك حتى أنظر إليه! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنك يا أبا بكر أوّل من يدخل الجنّة من أمّتى» . وعن أبى أمامة قال: استطال أبو بكر ذات يوم على عمر، فقام   [1] تكملة من ص [2] ص: عنه. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 17 عمر مغضبا، فقام أبو بكر فأخذ بطرف ثوبه، فجعل يقول: ارض عنى، اعف عنّى، عفا الله عنك! حتى دخل عمر الدّار وأغلق الباب دون أبى بكر ولم يكلّمه؛ فبلغ ذلك النبىّ صلّى الله عليه وسلم فغضب لأبى بكر، فلمّا صلّى الظهر جاء عمر، فجلس بين يديه، فصرف النبىّ صلّى الله عليه وسلم وجهه عنه، فتحوّل يمينا فصرف وجهه عنه، فلمّا رأى ذلك ارتعد وبكى، ثم قال: يا رسول الله، قد أرى إعراضك عنى، وقد علمت أنك لم تفعل هذا إلّا لأمر قد بلغك عنى، موجدة علىّ فى نفسك [1] ، وما خير حياتى وأنت علىّ ساخط، وفى نفسك علىّ شىء! فقال: «أنت القائل لأبى بكر كذا وكذا، ثم يعتذر إليك فلا تقبل منه!» ثم قام النبىّ صلى الله عليه وسلم، فقال: «إنّ الله عز وجل بعثنى إليكم جميعا، فقلتم: كذبت، وقال صاحبى: صدقت؛ فهل أنتم تاركون لى صاحبى! فهل أنتم تاركون لى صاحبى! فهل أنتم تاركون لى صاحبى!» ثلاثا. فقام عمر بن الخطاب، فقال: يا رسول الله، رضيت بالله ربّا. وبالإسلام دينا، وبمحمّد نبيا. فقام أبو بكر فقال: والله لأنا بدأته، ولأنا كنت أظلم، فأقبل عمر على أبى بكر فقال: ارض عنى رضى الله عنك، فقال أبو بكر: يغفر الله لك! فذهب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبه. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لقد هممت أن أبعث رجالا من أصحابى إلى ملوك الأرض يدعونهم إلى الإسلام كما بعث عيسى بن مريم الحواريّين» .   [1] كذا فى ص وفى ك: «نفسى» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 18 قالوا: يا رسول الله، أفلا تبعث أبا بكر وعمر فهما أبلغ! فقال: «لا غنى لى عنهما؛ إنما منزلتهما من الدّين منزلة السمع والبصر من الجسد» . وعن أبى أروى الدّوسىّ، قال: كنت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم جالسا، فطلع أبو بكر وعمر، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الحمد لله الذى أيّدنى بكما» . وعن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لأبى بكر: «يا أبا بكر، إنّ الله أعطانى ثواب من آمن بى منذ خلق آدم إلى أن تقوم الساعة، وإن الله أعطاك يأبا بكر ثواب من آمن بى منذ بعثنى إلى يوم تقوم الساعة» وعن أبى سعيد الخدرىّ رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لى وزيران من أهل السماء: جبريل وميكائيل، ووزيران من أهل الأرض: أبو بكر وعمر» . وعن ابن عبّاس رضى الله عنهما: أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلّم قال لأبى بكر [وعمر] [1] : «ألا أخبر كما بمثلكما من الملائكة، ومثلكما فى الأنبياء؟ أمّا مثلك أنت يا أبا بكر فى الملائكة فمثل ميكائيل، ينزل بالرحمة، ومثلك أيضا فى الأنبياء كمثل إبراهيم إذ كذّبه قومه، وصنعوا به ما صنعوا، فقال: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [2] . ومثلك يا عمر فى الملائكة كمثل جبريل، ينزل بالبأس والشدّة والنّقمة على أعداء الله؛ ومثلك فى الأنبياء كمثل نوح إذ قال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [3]   [2] تكملة من ص. [1] سورة إبراهيم 36. [3] سورة نوح 26. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 19 وعن عمّار بن ياسر، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أتانى جبريل آنفا، فقلت له: يا جبريل، حدّثنى بفضائل عمر ابن الخطاب فى السماء. فقال: يا محمد، لو حدّثتك بفضائل عمر بن الخطاب فى السّماء مثل ما لبث نوح فى قومه ألف سنة إلا خمسين عاما ما نفدت فضائل عمر، وإنّ عمر حسنة من حسنات أبى بكر» . وعن أبى هريرة رضى الله عنه، قال: هبط جبريل على النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فوقف ثلاثا يناجيه؛ فمرّ أبو بكر الصديق فقال جبريل: يا محمّد، هذا ابن أبى قحافة؛ قال: يا جبريل، وتعرفونه فى السماء؟ قال: إى والذى بعثك بالحقّ؛ لهو أشهر فى السماء منه فى الأرض، وإن اسمه فى السماء للحليم» . وعن ابن عمر رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه سلم: «لو وزن إيمان أبى بكر بإيمان أهل الأرض لرجح» . وعن عبد الرحمن بن أبى بكر؛ أنّه كان يوم بدر مع المشركين، فلمّا أسلم قال لأبيه: لقد اهتدفت [1] لى يوم بدر، فصرفت، عنك ولم أقتلك؛ فقال أبو بكر: لكنّك لو اهتدفت لى لم أنصرف [2] عنك. وعن ابن غنم، أن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم قال لأبى بكر، وعمر: «لو اجتمعتما فى مشورة ما خالفتكما» . وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «أتانى جبريل فقال: يا محمّد، إنّ الله يأمرك أن تستشير أبا بكر» .   [1] ك: «اهتديت» . [2] ص: «أصرف» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 20 وعن أنس قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج إلى المسجد ومعه المهاجرون والأنصار، ما أحد منهم يرفع رأسه من حبوته إلا أبو بكر وعمر، فإنّه كان يبتسم إليهما ويبتسمان إليه. وعن الزّبير بن العوّام، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى غزوة تبوك: «اللهمّ بارك لأمّتى فى أصحابى، فلا تسلبهم البركة، وبارك لأصحابى فى أبى بكر، فلا تسلبه البركة، واجمعهم عليه، ولا تشتّت أمره؛ فإنه لم يزل يؤثر أمرك على أمره. اللهم أعن عمر ابن الخطاب، وصبّر عثمان بن عفّان، ووفّق علىّ بن أبى طالب، وثبّت الزبير، واغفر لطلحة، وسلّم سعدا، ووقّر عبد الرحمن، وألحق بى [1] السّابقين الأوّلين من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان. وقيل: لمّا قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من حجّة الوداع صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «يأيّها الناس، إنّ أبا بكر لم يسؤنى قطّ، فاعرفوا ذلك له. يأيّها الناس، إنّى راض عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلىّ بن أبى طالب، وطلحة ابن عبيد الله والزّبير بن العوام وسعد بن مالك وعبد الرحمن ابن عوف والمهاجرين الأولين، فاعرفوا ذلك لهم. يأيّها الناس، إنّ الله قد غفر لأهل بدر والحديبية. يأيّها الناس، احفظونى فى أحبابى وأصهارى وفى أصحابى، لا يطلبنّكم الله بمظلمة أحد منهم، فإنها ليست فيما يوهب. يأيّها النّاس، ارفعوا ألسنتكم عن المسلمين، إذا مات الرجل، فلا تقولوا فيه إلا خيرا» ، ثم نزل صلّى الله عليه وسلّم.   [1] ك: «فى» تحريف. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 21 وعن عمرو بن العاص، أنّه أتى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال: أىّ الناس أحب إليك يا رسول الله؟ قال: عائشة، قال: من الرجال، قال: أبوها. قال: ثم من؟ قال: عمر . وعن عبد الله بن أبى أوفى، قال: كنّا مع النبىّ صلّى الله عليه وسلم، فقال: «إنّى مشتاق إلى إخوانى» ، فقلنا: أو لسنا إخوانك يا رسول الله! قال: «كلّا، أنتم أصحابى وإخوانى» ، فجاء أبو بكر الصديق، فقال عمر: إنه قال: «إنى لمشتاق إلى إخوانى، فقلنا: ألسنا إخوانك؟ فقال: لا، إخوانى قوم يؤمنون بى ولم يرونى. فقال النبى صلى الله عليه وسلم: «ألا تحبّ قوما بلغهم أنّك تحبنى فأحبوك لحبّك إياى، فأحبهم الله» ! وعنه قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متّكئا على علىّ، وإذا أبو بكر وعمر قد أقبلا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أحبّهما فحبّهما يدخل الجنّة» . وعن أنس بن مالك رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «حبّ أبى بكر وشكره واجب على أمتى» . وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «حبّ أبى بكر وعمر إيمان، وبغضهما كفر» . وعن ابن عمر رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لمّا ولد أبو بكر الصّديق أقبل الله تعالى على جنّة عدن، فقال: وعزّتى وجلالى لا أدخلك إلّا من يحبّ هذا المولود» - يعنى أبا بكر. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 22 وعن أبى هريرة رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنّ فى السماء الدنيا ثمانين ألف ملك يستغفرون الله تعالى لمن أحبّ أبا بكر وعمر؛ وفى السماء الثانية ثمانين ألف ملك يلعنون من أبغض أبا بكر وعمر» وعن ابن عمر رضى الله عنهما، قال: دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسجد بين أبى بكر وعمر، وهو معتمد عليهما، فقال: «هكذا ندخل الجنة جميعا» . وعن عائشة رضى الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أوّل من يعطى كتابه من هذه الأمّة أبو بكر؛ الناس كلهم يحاسبون إلا أبا بكر» . وعن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تأتى الملائكة بأبى بكر الصديق مع النبيّين والصّدّيقين تزفّه إلى الجنة زفّا» . وعن ثابت، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أوّل من يعطى كتابه من هذه الأمّة عمر بن الخطاب، وله شعاع كشعاع الشمس» فقيل له: فأين أبو بكر يا رسول الله؟ قال: «هيهات! زفّته الملائكة إلى الجنة» . وعن أنس بن مالك رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كأنّى بك يا أبا بكر على باب الجنّة تشفع لأمّتى» . وعن ابن عباس رضى الله عنهما، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا كان يوم القيامة نادى مناد من تحت العرش: الجزء: 19 ¦ الصفحة: 23 ألا هاتوا أصحاب محمد» ، قال: فيؤتى بأبى بكر الصديق وعمر ابن الخطاب وعثمان بن عفان، فيقال لأبى بكر: قف على باب الجنّة، فأدخل الجنة من شئت برحمة الله، ودع من شئت بعلم الله، ويقال لعمر بن الخطاب: قف على الميزان فثقّل من شئت برحمة الله، وخفّف من شئت بعلم الله، ويعطى عثمان بن عفّان عصا آس، التى غرسها الله عزّ وجل فى الجنة، ويقال له: ذد النّاس عن الحوض» . وقد ورد فى الصحيحين من فضائل أبى بكر رضى الله عنه ما فيه مقنع، وفضائله رضوان الله عليه كثيرة، وقد ذكرنا جملة كافية، فلنذكر صفته. ذكر صفة أبى بكر الصديق كان رجلا نحيفا [1] طويلا أبيض، خفيف العارضين أجنأ [2] ، لا يستمسك إزاره، يسترخى عن حقويه [3] ، معروق الوجه [4] ، غائر العينين، ناتئ الجبهة، عارى الأشاجع [5] . هكذا وصفته عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها. وكان يخضب بالحنّاء والكتم [6] .   [1] ك: «منحفا» تحريف. [2] أجنأ: أشرف كاهله على صدره. [3] الحقو، بالفتح ويكسر: الكشح والإزار أو معقد. [4] معروق الوجه: قليل اللحم فيه. [5] الأشاجع: أصول الأصابع التى تتصل بعصب ظاهر الكف. [6] الكتم: نبت يخلط بالحناء ويخضب به الشعر فيبقى لونه. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 24 ذكر ما ورد من أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم استخلف أبا بكر على أمته من بعده وحجة من قال ذلك قال الفقيه الحافظ أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البرّ النمرىّ رحمه الله: استخلف [1] رسول الله صلى الله عليه وسلّم أبا بكر الصديق رضى الله عنه على أمته من بعده؛ بما أظهر من الدلائل البينّة على محبّته فى ذلك، وبالتعريض الذى يقوم مقام التّصريح، ولم يصرّح بذلك لأنه لم يؤمر فيه بشىء. وكان صلى الله عليه وسلّم لا يصنع شيئا فى دين الله إلا بوحى، والخلافة ركن من أركان الدين. قال: ومن الدليل الواضح [2] على ما قلنا، ما حدّثنا سعيد ابن نصر وعبد الوارث بن سفيان، قالا: حدّثنا قاسم بن أصبغ، قال: حدّثنا أحمد بن زهير، قال: حدّثنا منصور بن سلمة. وأخبرنا أحمد بن عبد الله، قال: حدثنا الميمون بن حمزة الحسينىّ بمصر، قال: حدثنا الطّحاوىّ؛ قال: حدثنا المزنىّ، قال: حدّثنا الشافعىّ؛ قال: حدّثنا إبراهيم بن سعد بن أبى وقّاص عن أبيه عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، قال: أتت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فسألها عن شىء، فأمرها أن ترجع إليه. فقالت: يا رسول الله، أرأيت إن جئت ولم أجدك؟ - تعنى الموت- فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لم تجدينى فأت أبا بكر» .   [1] الاستيعاب 969 وما بعدها. [2] الاستيعاب: «الدلائل الواضحة» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 25 قال الشافعىّ رحمه الله: فى هذا الحديث دليل على أن الخليفة بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبو بكر. وقد تقدم فى السيرة النبويّة عن عاصم، عن قتادة، قال: ابتاع النبى صلى الله عليه وسلّم بعيرا من رجل إلى أجل، فقال: يا رسول، إن جئت فلم أجدك؟ - يعنى الموت-، قال: فائت أبا بكر، قال: فإن جئت فلم أجد أبا بكر؟ [يعنى] [1]- بعد الموت، قال: فائت عمر، قال: إن جئت فلم أجد عمر؟ قال: إن استطعت أن تموت إذا مات عمر، فمت. وساق أبو عمر [2] بن عبد البرّ فى أدلّته على استخلاف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم له أحاديث الصلاة، وكونه استخلفه أن يصلّى بالناس فى مرضه. وقد قدمنا ذكر ذلك كلّه فى خبر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وممّا يؤيد ذلك ويعضّده ما قدّمناه من حديث عائشة رضى الله عنها، وقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لها: «لقد هممت- أو أردت- أن أرسل إلى أبيك، أو أخيك فأقضى أمرى، وأعهد عهدى؛ فلا يطمع فى الأمر طامع، ولا يقول القائلون، أو يتمنّى المتمنّون» ثم قال: «كلا يأبى الله ويدفع المؤمنون» ، أو «يدفع الله ويأبى المؤمنون» . وقال بعضهم فى حديثه: «ويأبى الله إلا أبا بكر» . وفى الحديث الآخر عن أبى مليكة، قال: قال النبىّ صلّى الله   [1] تكملة يقتضيها السياق. [2] ك: «أبو بكر» وهو خطأ. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 26 عليه وسلّم فى مرضه الذى مات فيه: «ادعوا إلىّ أبا بكر» ، فقالت عائشة: إنّ أبا بكر رجل يغلبه البكاء؛ ولكن إن شئت دعونا لك ابن الخطاب؛ قال: «ادعوا إلىّ أبا بكر، قالت: إن أبا بكر يرقّ، ولكن إن شئت دعونا لك ابن الخطاب، فقال: «إنكن صواحب يوسف، ادعوا أبا بكر وابنه؛ فليكتب؛ أن يطمع فى أمر أبى بكر طامع، أو يتمنى متمنّ» . ثم قال: «يأبى الله ذلك والمؤمنون، يأبى الله ذلك والمؤمنون!» . قالت عائشة: فأبى الله ذلك والمؤمنون. وفى هذا الحديث والذى قبله تصريح [1] على أنه الخليفة بعده، ودليل على أن الكتاب الّذى أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يكتبه، وتركه لما كثر عنده التنازع؛ إنما كان المراد به أن ينصّ على أبى بكر فى الخلافة. والله تعالى أعلم. وروى أبو عمر بسنده إلى عبد الله بن مسعود، أنه قال: اجعلوا إمامكم خيركم؛ فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جعل إمامنا خيرنا بعده. وروى الحسن البصرىّ، عن قيس بن عباد، قال: قال لى علىّ ابن أبى طالب رضى الله عنه: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرض ليالى وأياما، ينادى بالصلاة فيقول: «مروا أبا بكر يصلّى بالناس» ؛ فلما قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، نظرت، فإذا الصّلاة علم الإسلام، وقوام الدّين، فرضينا لدنيانا ما رضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لديننا، فبايعنا أبا بكر [2] .   [1] ص: «التصريح» . [2] الاستيعاب 971. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 27 وكان أبو بكر رضى الله عنه يقول: أنا خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ ولذلك كان يدعى: يا خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وروى عن ابن أبى مليكة، قال: قال رجل لأبى بكر يا خليفة الله، قال: لست خليفة الله؛ ولكن أنا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وأنا راض بذلك. وروى أبو عمر بسنده، عن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، أنه قال: خير هذه الأمة بعد نبيّها أبو بكر وعمر رضى الله عنهما. وكان علىّ رضى الله عنه يقول: سبق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وصلّى أبو بكر، وثلّث عمر، ثم خبطتنا [1] فتنة يغفر الله فيها عمّن يشاء. وقال: رحم الله أبا بكر! كان أول من جمع بين اللّوحين [2] . وقال أبو عمر بن عبد البر: وروينا من وجوه، عن عبد الله ابن جعفر بن أبى طالب، أنه قال: ولينا أبو بكر فخير خليفة، أرحمه بنا؛ وأحناه علينا [3] . وقال مسروق: حبّ أبى بكر وعمرو معرفة فضلهما من السنّة. وروى عن علىّ رضى الله أنه قال: لا يفضّلنى أحد على أبى بكر وعمر إلّا جلدته جلد المفترى. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.   [1] كذا فى ك، وفى ص «خبطنا» وفى الاستيعاب: «حفتنا» . [2] الاستيعاب 972. [3] الاستيعاب 972. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 28 ذكر بيعة أبى بكر الصديق رضى الله عنه وخبر السقفية، وما وقع بين المهاجرين والأنصار من التراجع فى الإمارة بويع أبو بكر الصّديق رضى الله عنه بالخلافة فى يوم الاثنين من شهر ربيع الأوّل، سنة إحدى عشرة من الهجرة؛ وهو اليوم الّذى مات فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فى سقيفة [1] بنى ساعدة، وذلك قبل أن يشرع فى جهاز رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وكان من خبر سقيفة بنى ساعدة، أنّه لمّا توفّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، اجتمعت الأنصار فى سقيفة بنى ساعدة، وقالوا: نولّى هذا الأمر بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سعد ابن عبادة، وأخرجوا سعدا إليهم وهو مريض، فلمّا اجتمعوا قال سعد لأبيه- أو لبعض بنى عمّه: إنى لا أقدر أشكو، أى أن أسمع القوم كلهم كلامى؛ ولكن تلقّ منى قولى فأسمعهموه [2] ، فكان سعد يتكلّم ويحفظ الرجل قوله، فيرفع به صوته، فيسمع أصحابه، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: يا معشر الأنصار، إنّ لكم سابقة فى الدين، وفضيلة فى الإسلام ليست لقبيلة من العرب؛ إن محمدا صلّى الله عليه وسلّم لبث بضع عشرة سنة فى قومه يدعوهم إلى عبادة   [1] ك: «فى السقيفة» . [2] ص: «فاستمعوه» ، وخبر يوم السقيفة فى تاريخ الطبرى 3: 203- 223 الجزء: 19 ¦ الصفحة: 29 الرحمن، وخلع الأوثان، فما آمن به من قومه إلّا رجال قليل؛ والله ما كانوا يقدرون على أن يمنعوا رسوله، ولا أن يعزّوا دينه، ولا أن يدفعوا عن أنفسهم فيما عمّوا به؛ حتى إذا أراد بكم الفضيلة؛ ساق إليكم الكرامة، وخصّكم بالنعمة، ورزقكم الإيمان به وبرسوله، والمنع له ولأصحابه، والإعزاز له ولدينه، والجهاد لأعدائه. فكنتم أشدّ الناس على عدوّه من غيركم؛ حتى استقامت العرب لأمر الله طوعا وكرها، وأعطى البعيد المقادة صاغرا داخرا [1] ؛ وحتى أثخن [2] الله لرسوله بكم الأرض، ودانت بأسيافكم له العرب. وتوفّاه الله إليه وهو عنكم راض، وبكم قرير العين. استبدّوا بهذا الأمر دون النّاس؛ فإنه لكم دون الناس. فأجابوه بأجمعهم، أن قد وفّقت فى الرأى، وأصبت فى القول، ولن نعدو ما رأيت؛ نولّيك هذا الأمر؛ فإنك فينا رفيع، ولصالح المؤمنين رضا. ثم إنهم ترادّاوا الكلام، فقالوا: فإن أبت مهاجرة قريش؟ فقالوا: نحن المهاجرون وصحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الأولون. ونحن عشيرته وأولياؤه؛ فعلام تنازعوننا الأمر من بعده؟ فقالت طائفة منهم: فإنا نقول إذا فمنّا أمير ومنكم أمير، ولن نرضى بدون هذا أبدا. فقال سعد بن عبادة حين سمعها: هذا أول الوهن! وأتى عمر رضى الله عنه الخبر، فأقبل إلى منزل النبىّ صلّى الله   [1] داخرا، أى ذليلا. [2] أثخن: أو غل. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 30 عليه وسلّم، فأرسل إلى أبى بكر، وأبو بكر فى الدار، وعلىّ بن أبى طالب دائب فى جهاز النبىّ صلّى الله عليه وسلّم؛ فأرسل إلى أبى بكر، أن اخرج إلىّ؛ فأرسل إليه: إنّى مشتغل، فأرسل إليه: إنه قد حدث [1] أمر لا بدّ لك من حضوره، فخرج إليه، فقال: أما علمت أنّ الأنصار قد اجتمعت فى سقيفة بنى ساعدة، يريدون أن يولّوا هذا الأمر سعد بن عبادة؛ وأحسنهم مقالة من يقول: منّا أمير ومن قريش أمير! فخرجا [2] مسرعين نحوهم، فلقيا أبا عبيدة بن الجراح، فتماشوا إليهم ثلاثتهم، فلقيهم عاصم بن عدىّ وعويم بن ساعدة، فقالا لهم: أين تريدون؟ قالوا: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار. قالا: فارجعوا. فاقضوا أمركم بينكم؛ فإنّه لم يكن إلا ما تحبون، فقالوا: لا نفعل. قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه فى حديثه: فقلت: والله لنأتينّهم! قال: فأتيناهم [3] وهم مجتمعون فى سقيفة بنى ساعدة وإذا بين أظهرهم رجل مزمّل، فقلت: من هذا؟ قالوا: سعد ابن عبادة. قلت: ما شأنه؟ قالوا: وجع، فقام رجل منهم، فحمد الله وقال: أمّا بعد، فنحن الأنصار، وكتيبة الإسلام، وأنتم يا معشر قريش رهطنا، وقد دفّت إلينا من قومكم دافّة. قال: فلما رأيتهم يريدون أن يختزلونا من أصلنا، ويغصبونا   [1] ك: «قد حدث لك أمر» . [2] ص: «فخرجنا» . [3] ص: «خلفناهم» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 31 الأمر. وقد كنت زوّرت فى نفسى مقالة أقدّمها بين يدى أبى بكر، وكنت أدارى منه بعض الحدّ، وهو كان أوقر منى وأحلم، فلمّا أردت أن أتكلّم قال لى: على رسلك! وكرهت أن أغضبه، فقام، فحمد الله، وأثنى عليه، فما ترك شيئا زوّرت فى نفسى أن أتكلم به لو تكلمت، إلا قد جاء به، أو بأحسن منه. وقال: أمّا بعد، يا معشر الأنصار، فإنّكم لا تذكرون منكم فضلا إلّا أنتم له أهل، وإنّ العرب لا تعرف هذا الأمر إلّا لهذا الحىّ من قريش؛ هم أوسط العرب دارا ونسبا، وإنّى قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا أيّهما شئتم. وأخذ بيدى وبيد أبى عبيدة بن الجراح. يقول عمر وهو على المنبر: وإنّى والله ما كرهت من كلامه شيئا غير هذه الكلمة، أن كنت أقدّم فتضرب عنقى أحبّ إلىّ من أن أؤمّر على قوم فيهم أبو بكر. قال: فلما قضى أبو بكر كلامه قام منهم رجل، فقال: أنا جذيلها المحكّك، وعذيقها المرجّب؛ منّا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش. قال عمر: وارتفعت الأصوات، وكثر اللغظ، فلما أشفقت الاختلاف قلت لأبى بكر: ابسط يدك نبايعك، فبسط يده فبايعته، وبايعه المهاجرون، وبايعه الأنصار، ثمّ نزوا على سعد؛ حتى قال قائلهم: قتلتم سعد بن عبادة. فقلت: قتل الله سعدا! وإنا والله ما وجدنا أمرا هو أقوى من مبايعة أبى بكر، إنّا خشينا إن الجزء: 19 ¦ الصفحة: 32 فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة، فإما أن نبايعهم على ما نرضى، أو نخالفهم فيكون فشل. ومن رواية عبد الله بن عبد الرحمن بن أبى عمر الأنصارىّ، وذكر ما تكلّم به أبو بكر الصديق رضى الله عنه، وما قاله الأنصار، فقال بعد أن ساق ما تقدم أو نحوه، ثم قال: فبدأ أبو بكر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: إنّ الله بعث محمّدا صلى الله عليه وسلّم رسولا إلى خلقه، وشهيدا على أمّته؛ ليعبدوا الله ويوحّدوه وهم يعبدون من دونه آلهة شتى، يزعمون أنّها لهم عنده شافعة، ولهم نافعة، وإنّما هى حجر منحوت، وخشب منجور. ثم قرأ: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [1] ، وقالوا: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [2] فعظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم، فخصّ الله المهاجرين الأولين من قومه بتصديقه والإيمان به، والمواساة [له] [3] والصبر معه، على شدّة أذى قومهم لهم، وتكذيبهم إيّاهم، وكلّ الناس لهم مخالف، وعليهم زار [4] ، فلم يستوحشوا لقلة عددهم، وشنف النّاس لهم، وإجماع قومهم عليهم، فهم أوّل من عبد الله فى الأرض، وآمن بالله والرّسول، وهم أولياؤه وعشيرته، وأحقّ الناس بهذا الأمر من بعده، ولا ينازعهم   [1] سورة يونس 18. [2] سورة الزمر 3. [3] تكملة من ص. [4] زار: محتقر. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 33 ذلك إلا ظالم. وأنتم يا معشر الأنصار، أنتم من لا ينكر فضلهم فى الدّين، ولا سابقتهم العظيمة فى الإسلام، رضيكم الله أنصارا لدينه ورسوله، وجعل إليكم هجرته، وفيكم جلّة أزواجه وأصحابه، فليس بعد المهاجرين الأولين عندنا أحد بمنزلتكم، فنحن الأمراء، وأنتم الوزراء، لا تفاتون بمشورة ولا تقضى دونكم الأمور. قال: فقام الحباب بن المنذر بن الجموح، فقال: يا معشر الأنصار، املكوا على أيديكم. فإنّ الناس فى فيئكم وفى ظلّكم، ولن يجترئ مجترئ على خلافكم، ولن يصدر الناس إلا عن رأيكم؛ وأنتم أهل العزّ والثّروة، وأولو العدد والتجربة، وذوو البأس والنّجدة؛ وإنما ينظر الناس إلى ما تصنعون، فلا تختلفوا فيفسد عليكم رأيكم، وتنتقض [عليكم] [1] أموركم، فإن أبى هؤلاء إلا ما سمعتم، فمنا أمير ومنهم أمير. فقال عمر: هيهات! لا يجتمع اثنان فى قرن! إنه والله لا يرضى العرب أن يؤمّروكم ونبيّها صلى الله عليه وسلّم من غيركم؛ ولكن العرب لا تمتنع أن تولّى أمورها من كانت النبوّة فيهم، وولىّ أمورهم منهم؛ ولنا بذلك على من أبى من العرب الحجّة الظاهرة والسلطان المبين. من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته؛ ونحن أولياؤه وعشيرته إلا مدل بباطل، أو متجانف لإثم أو متوّرط. فى هلكة!. فقام الحباب بن المنذر، فقال: يا معشر الأنصار، املكوا على أيديكم، ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه، فيذهبوا بنصيبكم من   [1] زيادة من تاريخ الطبرى. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 34 هذا الأمر، فإن أبوا عليكم ما سألتموه، فأجلوهم عن هذه البلاد، وتولّوا عليهم هذه الأمور؛ فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم؛ فإنه بأسيافكم دان [1] لهذا الدّين من لم يكن يدين، أنا جذيلها المحكّك وعذيقها المرّجّب؛ أما والله لئن شئتم لنعيدنّها جذعة [2] ! فقال له عمر: إذن يقتلك الله! قال: بل إياك يقتل. فقال أبو عبيدة: يا معشر الأنصار، إنّكم أوّل من نصر وآزر، فلا تكونوا أوّل من بدّل وغيّر. فقال بشير بن سعد، أبو النعمان بن بشير: يا معشر الأنصار، إنّا والله لئن كنّا أولى فضيلة فى جهاد المشركين، وسابقة فى هذا الدّين، ما أردنا به إلا رضا ربّنا، وطاعة نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم، والكدح لأنفسنا؛ ما ينبغى لنا أن نستطيل بذلك على الناس، ولا نبتغى به من الدنيا عرضا، فإن الله ولىّ المنة علينا بذلك؛ ألا إن محمدا صلّى الله عليه وسلّم من قريش، وقومه أحقّ به وأولى. وايم الله لا يرانى الله أنازعهم هذا الأمر أبدا! فاتقوا الله ولا تخالفوهم، ولا تنازعوهم. فقال أبو بكر رضى الله عنه: هذا عمر وأبو عبيدة، فأيّهما شئتم فبايعوا؛ فقالا: والله لا نتولّى هذا الأمر عليك، وأنت أفضل المهاجرين، وثانى اثنين إذ هما فى الغار، وخليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الصلاة، والصّلاة أفضل دين المسلمين،   [1] دان: خضع. [2] جذعة: فتية. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 35 فمن ذا ينبغى له أن يتقدّمك أو يتولّى هذا الأمر عليك! ابسط نيايعك [1] فلمّا ذهبا ليبايعاه سبقهما إليه بشير بن سعد فبايعه، فناداه المنذر بن الحباب: يا بشير بن سعد، عققت عقاق [2] ! ما أحوجك [3] إلى ما صنعت! أنفست على ابن عمّك الإمارة! قال: لا والله، ولكن كرهت أن أنازع قوما [حقا] [4] جعله الله لهم. قال: ولما رأت الأوس ما صنع بشير بن سعد، وما تدعو إليه قريش، وما تطلب الخزرج من تأمير سعد بن عبادة، قال بعضهم لبعض- وفيهم أسيد بن حضير: والله لئن وليتها الخزرج عليكم مرّة، لازالت لهم عليكم بذلك الفضيلة، ولا جعلوا لكم معهم فيها نصيبا أبدا [فقوموا] [4] فبايعوا أبا بكر. فقاموا إليه فبايعوه، وانكسر على سعد بن عبادة وعلى الخزرج ما كانوا اجتمعوا له من أمرهم. قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبرى فى تاريخه: فروى عن أبى بكر بن محمد الخزاعىّ: إنّ أسلم أقبلت بجماعتها حتى تضايقت بها السكك ليبايعوا أبا بكر، فكان عمر يقول: ما هو إلّا أن رأيت أسلم، فأيقنت بالنّصر. قال عبد الله بن عبد الرحمن: فأقبل النّاس من كلّ جانب يبايعون أبا بكر، وكادوا يطئون سعد بن عبادة، فقال ناس من أصحاب سعد: اتقوا سعدا لا تطئوه، فقال عمر: اقتلوه، اقتلوه، قتله الله! ثم قام   [1] ص: «ابسط يدك نبايعك» . [2] ك: «عقتك عقاق» . [3] ص: «ما أخرجك إلى ما صنعت» . [4] تكملة من تاريخ الطبرى. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 36 على رأسه فقال: لقد هممت أن أطأك حتى تندر عضوك [1] ؛ فأخذ قيس بن سعد بلحية عمر، ثم قال: والله لو حصصت منها شعرة ما رجعت وفى فيك واضحة [2] . فقال أبو بكر: مهلا يا عمر، الرفق هاهنا أبلغ! فأعرض عنه عمر؛ وقال سعد: أما والله لو أنّ بى من قوتى ما أقوى على النهوض لسمعتم منى فى أقطارها وسككها زئيرا يجحرك [3] وأصحابك. أما والله إذا لألحقنّك بقوم كنت فيهم تابعا غير متبوع. احملونى عن هذا المكان، فحملوه فأدخلوه داره، وترك أياما ثم بعث إليه أن أقبل فبايع؛ فقد بايع الناس وبايع قومك؛ فقال: أما والله حتّى أرميكم بما فى كنانتى من نبل، وأخضب منكم سنان رمحى، وأضربكم بسيفى ما ملكته يدى، وأقاتلكم بأهل بيتى ومن أطاعنى من قومى، فلا أفعل وايم الله: لو أن الجنّ اجتمعت لكم مع الإنس ما بايعتكم حتى أعرض على ربى وأعلم ما حسابى. فلما أتى أبو بكر بذلك قال له عمر: لا تدعه حتى يبايع؛ فقال له بشير بن سعد: إنه قد لجّ [وأبى] [4] وإنه ليس يبايعكم حتى يقتل، وليس بمقتول حتى يقتل معه ولده وأهل بيته وطائفة من عشيرته. فاتركوه، فليس تركه يضارّكم، إنما هو رجل واحد. فتركوه، وقبلوا مشورة بشير بن سعد، واستنصحوه   [1] أى تزال عن موضعها، وفى الطبرى: «عضدك» . [2] الواضحة من الأسنان: التى تبدو عند الضحك. [3] يجحرك وأصحابك، أى يدخلكم المضايق. [4] زيادة من تاريخ الطبرى. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 37 لما بدا لهم منه؛ فكان سعد بن عبادة لا يصلّى بصلاتهم، ولا يجمع معهم، ويحجّ ولا يفيض معهم بإفاضتهم، فلم يزل كذلك حتى هلك أبو بكر الصديق رضى الله عنه. وعن الضّحاك بن خليفة، أنّ سعد بن عبادة بايع. وعن جابر، قال: قال سعد بن عبادة يومئذ لأبى بكر: إنّكم يا معشر المهاجرين حسدتمونى على الإمارة، وإنّك وقومى أجبرتمونى على البيعة؛ فقال أبو بكر: إنّا لو أجبرناك على الفرقة فصرت إلى الجماعة كنت فى سعة، ولكنّا أجبرناك على الجماعة فلا إقالة فيها؛ لئن نزعت يدا من طاعة، أو فرّقت جماعة لأضربنّ الذى فيه عيناك. وحكى أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله؛ أنّ عمر رضى الله عنه قال: نشدتكم الله! هل تعلمون أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمر أبا بكر أن يصلّى بالناس! فقالوا: اللهمّ نعم، قال: فأيّكم تطيب نفسه أن يزيله عن مقام أقامه فيه رسول الله صلى الله عليه وسلّم! فقالوا: كلنا لا تطيب نفسه، ونستغفر الله. وبايعوه [1] . قال: ثم بويع البيعة العامة يوم الثلاثاء من غد ذلك اليوم، وتخلّف عن بيعته سعد بن عبادة، وطائفة من الخزرج، وفرقة من قريش، ثم بايعوه بعد غير سعد.   [1] الاستيعاب 970. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 38 وقيل: إنه لم يتخلّف عن بيعته يومئذ أحد من قريش. وقيل: تخلّف عنه من قريش: علىّ، والزّبير، وطلحة، وخالد ابن سعد بن العاص. ثم بايعوه بعد. وقد قيل: إن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه لم يبايعه إلا بعد موت فاطمة رضى الله عنها، ثم لم يزل سامعا مطيعا له؛ يثنى عليه ويفضّله. وقيل: إنه تخلّف علىّ وبنو هاشم والزّبير وطلحة عن البيعة، وقال الزّبير: لا أغمد سيفى حتى يبايع علىّ، فقال عمر: خذوا سيفه، فاضربوا به الحجر؛ ثم أتاهم عمر فأخذهم للبيعة. وقيل: إنّ عليّا لما سمع ببيعة أبى بكر خرج فى قميص، ما عليه إزار ولا رداء، عجلا حتى بايعه، ثم استدعى إزاره ورداءه. وحكى محمد بن إسحاق رحمه الله؛ عن عبد الله بن أبى بكر، أنّ خالد بن سعيد بن العاص قدم من اليمن بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتربّص ببيعته لأبى بكر شهرين، وكان يقول: قد أمّرنى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولم يعزلنى، ثم بايع أبا بكر. فلمّا بعث أبو بكر الجنود إلى الشام، كان أول من بعث على ربع منها خالد بن سعيد، فلم يزل به عمر حتى عزله، وأمّر يزيد ابن أبى سفيان، وكان عمر رضى الله عنه قد اضطغن عليه تأخره عن بيعة أبى بكر. وعن عكرمة، قال: لمّا بويع لأبى بكر تخلّف عن بيعته علىّ، وجلس فى بيته، فلقيه عمر، فقال: تخلّفت عن بيعة أبى بكر، الجزء: 19 ¦ الصفحة: 39 فقال: إنّى أكتب بيمين حين قبض رسول الله صلى الله عليه وسلّم ألّا أرتدى برداء إلّا إلى الصلاة المكتوبة؛ حتى أجمع القرآن؛ فإنى خشيت أن ينفلت، ثم خرج فبايع. وعن مالك بن مغول [1] ، عن ابن أبجر، قال: لما بويع لأبى بكر الصديق جاء أبو سفيان بن حرب إلى علىّ، فقال: غلبكم على هذا الأمر أرذل بيت فى قريش! أما والله لأملأنّها خيلا ورجلا! فقال له علىّ: ما زلت عدوّ الإسلام وأهله، فما ضرّ ذلك الإسلام وأهله شيئا. إنّا رأينا أبا بكر لها أهلا. ورواه عبد الرزاق، عن ابن المبارك. وروى أبو عمر بن عبد البر بسنده، عن زيد بن أسلم، عن أبيه: أن عليّا والزبير كانا حين بويع [2] لأبى بكر يدخلان على فاطمة فيشاورانها فى أمرهم، فبلغ ذلك عمر، فدخل عليها فقال: يا بنت رسول الله، ما كان من الخلق أحد أحبّ إلينا من أبيك، وما أحد أحبّ إلينا بعده منك، وقد بلغنى أن هؤلاء النّفر يدخلون عليك، ولئن بلغنى لأفعلنّ ولأفعلنّ! ثم خرج وجاءوها فقالت لهم: إن عمر قد جاءنى وحلف إن عدتم ليفعلنّ، وايم الله ليفينّ بها، فانظروا فى أمركم، ولا تنظروا إلىّ؛ فانصرفوا ولم يرجعوا حتى بايعوا لأبى بكر. رضى الله عنهم أجمعين [3] . وهذا الحديث يردّ قول من زعم أن علىّ بن أبى طالب لم يبايع إلا بعد وفاة فاطمة رضى الله عنها.   [1] ص: «معول» . [2] ص: «بايع» . [3] الاستيعاب 975. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 40 ولما بويع لأبى بكر رضى الله عنه، قال ابن [أبى] [1] عزّة القرشى الجمحىّ: شكرا لمن هو بالثّناء خليق ... ذهب الّلجاج وبويع الصّدّيق من بعد ما ذهبت بسعد بغله ... ورجا رجاء دونه العيّوق جاءت به الأنصار عاصب رأسه ... فأتى به الصديق والفاروق [2] وأبو عبيدة والّذين إليهم ... نفس المؤمّل للبقاء تتوق كنّا نقول لها علىّ والرضا ... عمر وأولاهم بتلك عتيق فدعت قريش باسمه فأجابها ... إنّ المنوّة باسمه الموثوق وروى عن سعيد بن المسيّب، قال: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلّم ارتجّت مكة، فسمع أبو قحافة، فقالوا: ما هذا؟ فقالوا: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلّم، قالوا: أمر جلل، فمن ولى بعده؟ قالوا: ابنك، قال: فهل رضيت بذلك بنو عبد مناف وبنو المغيرة؟ قالوا: نعم. قال: لا مانع لما أعطى الله، ولا معطى لما منع الله. والله تعالى أعلم، والحمد لله وحده، وحسبنا الله ونعم الوكيل.   [1] من الاستيعاب 976. [2] ص: «فأتاهم الصديق» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 41 ذكر ما تكلم به أبو بكر الصديق بعد بيعته وما قاله عمر بن الخطاب بعد البيعة الأولى وقبل البيعة الثانية العامة روى [1] أنس بن مالك، قال: لما بويع أبو بكر رضى الله عنه فى السّقيفة، وكان الغد، جلس أبو بكر على المنبر، فقام عمر فتكلّم قبل أبى بكر، فحمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله، وقال: أيها الناس، إنّى قد كنت قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت إلّا عن رأيى، وما وجدتها فى كتاب الله، ولا كانت عهدا عهده إلينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولكن قد كنت أرى أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سيدبّر أمرنا حتى يكون آخرنا، وإنّ الله قد أبقى فيكم كتابه الّذى هدى به رسوله، فإن اعتصتم به هداكم الله لما كان هداه له، وإنّ الله قد جمع أمركم على خيركم، صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وثانى اثنين إذ هما فى الغار؛ فقوموا فبايعوا. فبايع الناس أبا بكر بيعة العامّة بعد بيعة السقيفة. ثم تكلّم أبو بكر، فحمد الله وأثنى عليه بالّذى هو أهله، ثم قال: أمّا بعد؛ أيها النّاس، فإنّى قد ولّيت عليكم، ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينونى، وإن أسأت فقوّمونى، الصّدق أمانة، والكذب خيانة، والضّعيف فيكم قوىّ عندى حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوىّ منكم الضعيف عندى، حتى آخذ الحق منه إن شاء الله. لا يدع قوم الجهاد فى سبيل الله، فإنّه لا يدعه قوم إلّا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة فى قوم إلّا عمّهم الله بالبلاء.   [1] تاريخ الطبرى 3: 210. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 42 أطيعونى ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لى عليكم؛ قوموا إلى صلاتكم، يرحمكم الله. - يعنى بالصّلاة هنا، الصّلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- فإن خطبته هذه كانت قبل دفنه صلّى الله عليه وسلّم. وقول عمر بن الخطاب فى كلامه: «إنى قد كنت قلت لكم بالأمس مقالة» ، إشارة إلى ما كان قد تكلّم به عند وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من إنكاره أنّه مات، على ما قدّمنا ذكره فى خبر وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ وإنّما أوضحنا هذا الكلام فى هذا الموضع لئلا يتبادر إلى ذهن من يسمعه ممنّ لم يطالع ما قبله، ولا علم الواقعة فيتوهّم أن كلامه بذلك رجوع عمّا تكلّم به بالأمس فى شأن بيعه أبى بكر رضى الله تعالى عنه. وعن عاصم بن عدىّ، أنه قال [1] : وقام أبو بكر رضى الله عنه من بعد الغد- يعنى من يوم بيعته- فحمد الله، وأثنى عليه، ثمّ قال: يأيّها الناس؛ إنما أنا مثلكم، وإنّى لا أدرى لعلكم ستكلّفوننى ما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يطيق، إنّ الله اصطفى محمّدا على العالمين، وعصمه من الآفات، فإنّما أنا متّبع ولست بمبتدع فإن استقمت فاتّبعونى، وإن زغت فقوّمونى، وإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبض، وليس أحد من هذه الأمة يطلبه بمظلمة؛ ضربة سوط فما دونها؛ ألا وإنما لى شيطان يعترينى، فإذا أتانى فاجتنبونى، لا أؤثّر فى أشعاركم وأبشاركم، وإنكم تغدون وتروحون   [1] تاريخ الطبرى 3: 223، 224. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 43 فى أجل قد غيّب عنكم علمه، فإن استطعتم ألّا يمضى هذا الأجل إلّا وأنتم فى عمل صالح فافعلوا، ولن تستيطعوا ذلك إلّا بالله. فسابقوا فى مهل آجالكم من قبل أن تسلمكم آجالكم إلى انقطاع الأعمال، فإنّ قوما نسوا آجالهم، وجعلوا أعمالهم لغيرهم، فأنهاكم أن تكونوا أمثالهم. الجدّ الجدّ، والوحى الوحى [1] ، والنّجاة النّجاة، وإنّ وراءكم طالبا حثيثا، أجلا مرّه سريع. واحذروا الموت، واعتبروا بالآباء والأبناء والإخوان، ولا تغبطوا الأحياء إلا بما تغبط به الأموات. وقام أيضا رضى الله عنه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إنّ الله لا يقبل من الأعمال إلّا ما أريد به وجهه، فأريدوا الله بأعمالكم، واعلموا أنّ ما أخلصتم لله من أعمالكم، فطاعة أتيتموها، وحظّ ظفرتم به، وضرائب أدّيتموها، وسلف قدّمتموه من أيام فانية لأخرى باقية، لحين فقركم وحاجتكم، واعتبروا يا عباد الله بمن مات منكم، وفكّروا فيمن كان قبلكم. أين كانوا أمس وأين هم اليوم! أين الجبّارون الذين كان لهم ذكر القتال والغلبة ومواطن الحروب؟ قد تضعضع بهم الدّهر وصاروا رميما، قد تركت عليهم القالات [2] ؛ الخبيثات للخبيثين، والخبيثون للخبيثات.   [1] الوحى: الإسراع. [2] ص: «المقالات» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 44 وأين الملوك الّذين أثاروا الأرض وعمروها، قد بعدوا، ونسى ذكرهم، وصاروا كلا شىء. ألا إنّ الله قد أبقى عليهم التّبعات، وقطع عنهم الشّهوات، ومضوا والأعمال أعمالهم، والدّنيا دنيا غيرهم، وبقينا خلفا بعدهم، فإن نحن اعتبرنا بهم نجونا. أين الوضّاء الحسنة وجوههم، المعجبون بشبابهم! صاروا ترابا، وصار ما فرّطوا فيه حسرة عليهم. أين الذين بنوا المدائن؛ وحصّنوها بالحوائط، وجعلوا فيها الأعاجيب! قد تركوها لمن خلفهم، فتلك مساكنهم خاوية وهم فى ظلمات القبور، هل تحسّ منهم من أحد، أو تسمع لهم ركزا [1] ! أين من تعرفون من أبنائكم وإخوانكم؟ قد انتهت بهم آجالهم؛ فوردوا على ما قدّموا، فحلّوا عليه، وأقاموا للشّقوة أو السّعادة فيما بعد الموت؛ ألا إنّ الله لا شريك له، ليس بينه وبين أحد من خلقه سبب يعطيه به خيرا، ولا يصرف به عنه شرّا إلا بطاعته واتّباع أمره. واعلموا أنكم عبيد مذنبون، وأنّ ما عنده لا يدرك إلّا بطاعته. ألا وإنّه لا خير بخير بعده النّار، ولا شرّ بشرّ بعده الجنة. والله سبحانه وتعالى أعلم.   [1] الركز: الصوت الخفى. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 45 ذكر انفاذ جيش أسامة قد ذكرنا فى السّيرة النبويّة فى الغزوات والسّرايا؛ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان قد جهّز أسامة بن زيد قبل وفاته، وندب معه جماعة من أعيان المهاجرين والأنصار، منهم أبو بكر وعمر. وذكرنا أيضا ما تكلّم به من تكلّم من الصحابة فى شأنه، وما قاله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند ما بلغه ذلك، من الثناء على أسامة ابن زيد وعلى أبيه زيد بن حارثة، واستخلافه للإمارة، وأنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبض وجيش أسامة بالجرف. فلمّا [1] بويع أبو بكر الصديق رضى الله عنه، كان أوّل ما بدأ به أن أمر مناديه فنادى فى الناس من بعد الغد من متوفّى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتمّم بعث أسامة: ألا لا يبقينّ فى المدينة أحد من جند أسامة إلّا خرج إلى عسكره بالجرف. روى ذلك عن عاصم بن عدىّ. وعن هشام بن عروة بن الزبير، عن أبيه، قال: لما بويع أبو بكر الصّديق رضى الله عنه، وجمع الأنصار على الأمر الذى افترقوا عنه، قال: ليتمّ بعث أسامة، وقد ارتدّت العرب، إمّا عامّة، وإمّا خاصّة فى كلّ قبيلة، ونجم النّفاق، واشرأبّت اليهوديّة والنّصرانية، والمسلمون كالغنم المطيرة، فى اللّيلة الشاتية؛ لفقد نبيّهم وقلّتهم، وكثرة عدوّهم. فقال له النّاس: إن هؤلاء جلّ المسلمين، والعرب على ما ترى قد انتقضت بك، فليس ينبغى لك أن تفرّق عنك جماعة المسلمين.   [1] تاريخ الطبرى 3: 225 وما بعدها. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 46 فقال أبو بكر: والذى نفس أبى بكر بيده، لو ظننت أنّ السّباع تخطفنى لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولو لم يبق فى القرى غيرى لأنفذته. وعن الحسن بن أبى الحسن، قال: ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلّم قبل وفاته بعثا على أهل المدينة ومن حولهم، وفيهم عمر ابن الخطاب، وأمّر عليهم أسامة بن زيد، فلم يجاوز آخرهم الخندق حتى قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فوقف أسامة بالناس، ثم قال [1] لعمر بن الخطاب: ارجع إلى خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فاستأذنه، يأذن لى [أن] [2] أرجع بالناس، فإنّ معى وجوه الناس وحدهم، ولا آمن على خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وثقل رسول الله وأثقال المسلمين أن يتخطّفهم المشركون. وقالت الأنصار: فإن أبى إلّا أن نمضى؛ فأبلغه عنّا، واطلب إليه أن يولّى أمرنا رجلا أقدم سنّا من أسامة. فخرج عمر بأمر أسامة، فأتى أبا بكر، فأخبره بما قال أسامة، فقال أبو بكر: لو خطفتنى الكلاب أو الذّئاب لم أردّ قضاء قضى به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: فإنّ الأنصار أمرونى أن أبلغك أنّهم يطلبون إليك أن تولّى أمرهم رجلا أقدم سنّا من أسامة. فوثب أبو بكر وكان جالسا. فأخذ بلحية عمر، وقال: ثكلتك أمّك وعدمتك يابن الخطاب! استعمله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتأمرنى أن أنزعه!   [1] ص: «ثم قام» . [2] تكملة من ص. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 47 فخرج عمر إلى النّاس، فقالوا: ما صنعت؟ فقال: امضوا ثكلتكم أمّهاتكم! ما لقيت فى سببكم اليوم من خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم! ثم خرج أبو بكر رضى الله عنه حتى أتاهم، فأشخصهم وشيّعهم وهو ماش؛ وأسامة راكب، وعبد الرحمن بن عوف يقود دابّة أبى بكر، فقال له أسامة: يا خليفة رسول الله، والله لتركبن أو لأنزلنّ! فقال: والله لا تنزل وو الله لا أركب، وما علىّ أن أغبّر قدمىّ فى سبيل الله ساعة؛ فإنّ للغازى بكلّ خطوة يخطوها سبعمائة حسنة تكتب له، وسبعمائة درجة ترفع له، وتمحى عنه سبعمائة خطيئة؛ حتى إذا انتهى أبو بكر، قال لأسامة: إن رأيت أن تعيننى بعمر فافعل، فأذن له. ثم قال: يأيّها الناس، قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عنّى: لا تخونوا ولا تغلّوا [1] ولا تغدروا، ولا تمثّلوا، ولا تقتلوا طفلا صغيرا، ولا شيخا كبيرا، ولا امرأة، ولا تعقروا [2] نخلا، ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا إلّا لمأكلة، وسوف تمرّون بأقوام قد فرّغوا أنفسهم بالصوامع فدعوهم وما فرّغوا أنفسهم له، وسوف تقدمون على أقوام يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام، فإذا أكلتم منها شيئا بعد شىء فاذكروا اسم الله عليها. وسوف تلقون أقواما قد فحصوا أوساط رءوسهم [3] ،   [1] الغلول: أخذ شىء من الغنيمة خفية قبل القسمة. [2] عقر النخلة: قطعها من أصلها فسقطت. [3] فحصوا رءوسهم. أى أن الشيطان جعلها مفاحص كما تستوطن القطا مفاحصها. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 48 وتركوا حولها مثل العصائب، فاخفقوهم بالسيف خفقا، اندفعوا باسم الله. ثم أوصى أسامة أن يفعل ما أمره به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فسار وأوقع بقبائل قضاعة الّتى ارتدّت، وغنم وعاد، وكانت غيبته أربعين يوما، وقيل: سبعين يوما، وقيل: أربعين؛ سوى مقامه ومقفله راجعا. وكان إنفاذ جيش أسامة من أعظم الأمور نفعا للمسلمين، فإنّ العرب قالوا: لو لم تكن لهم قوّة ما أرسلوا هذا الجيش؛ فكفّوا عن كثير مما كانوا عزموا على فعله. وذلك ببركة اتّباع أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ذكر أخبار من ادعى النبوة من الكذابين وما كان من أمرهم، وتجهيز أبى بكر الصديق الجيوش إليهم، وإلى من ارتدّ من قبائل العرب قال المؤرّخون: كان ادّعى النبوّة فى حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثلاثة، وهم: الأسود العنسى، وطليحة الأسدىّ، ومسيلمة الكذّاب، وادّعت النبوّة سجاح بنت الحارث التميميّة. فأما [1] الأسود العنسى، واسمه عبهلة بن كعب بن عوف العنسىّ- بالنّون الساكنة. وعنس بطن من مذحج- فكان يلقّب ذا الخمار لأنه كان متخمّرا أبدا.   [1] تاريخ الطبرى 3: 227 وما بعدها. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 49 وقال أحمد بن يحيى بن جابر البلاذرىّ: إنه كان له حمار [1] معلم يقول له: اسجد لربك، فيسجد. ويقول له: ابرك فيبرك. فقيل له: ذا الحمار. والله تعالى أعلم. وكانت ردّته أوّل ردّة كانت فى الإسلام، وغلب على صنعاء إلى عمان إلى الطائف وكان من خبره ما روى عن الضحّاك بن فيروز الدّيلى عن أبيه؛ قال: أوّل ردّة كانت فى الإسلام باليمن، ردّة كانت على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، على يد ذى الخمار عبهلة بن كعب- وهو الأسود- فى عامّة مذحج، خرج بعد الوداع. وكان الأسود كاهنا مشعبذا [2] ، وكان يريهم الأعاجيب، ويسبى قلوب من سمع منطقه، وكان أول ما خرج أن خرج من كهف خبّان- وهى كانت موطنه وداره، وبها ولد ونشأ- فكاتبته مذحج وواعدوه نجران، فوثبوا عليها، وأخرجوا عمرو بن حزم وخالد بن سعيد بن العاص، ثم أنزلوه منزلهما، ووثب قيس بن عبد يغوث على فروة بن مسيك فأجلاه، ونزل منزله، فلم يلبث عبهلة بنجران أن سار إلى صنعاء فأخذها، وكتب بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جمع لباذام، حين أسلم، وأسلمت اليمن كلّها على جميع مخالفيها، فلم يزل عامل رسول الله صلى الله عليه وسلّم أيام حياته لم يعزله عنها ولا عن شىء منها،   [1] ك: «جمار» تحريف. [2] الشعوذة والشعبذة: أخذ كالسحر، يرى شىء بغير ما عليه. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 50 ولا أشرك معه فيها شريكا حتى مات باذام، ففرّق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عمل اليمن على جماعة من أصحابه، وهم: شهر بن باذام، وعامر بن شهر الهمدانىّ، وعبد الله بن قيس أبو موسى، وخالد ابن سعيد بن العاص، والطّاهر بن أبى هالة، ويعلى بن أميّة، وعمرو ابن حزم. وعلى بلاد حضرموت زياد بن لبيد البياضىّ، وعكّاشة ابن ثور بن أصغر الغوثىّ؛ على السّكاسك والسّكون، ومعاوية بن كندة. وبعث معاذ بن جبل معلّما لأهل البلدين: اليمن وحضرموت. وروى عن عبيد بن صخر، قال: بينما نحن بالجند؛ قد أقمناهم على ما ينبغى، وكتبنا بيننا وبينهم الكتب؛ إذ جاءنا كتاب من الأسود: أيها المتورّدون علينا، أمسكوا علينا ما أخذتم من أرضنا، ووفّروا ما جمعتم، فنحن أولى به. وأنتم على ما أنتم عليه، فقلنا للرسول: من أين جئت؟ قال: من كهف خبّان؛ ثم كان وجهه إلى نجران حتى أخذها فى عشر لمخرجه، وطابقه عوامّ مذحج؛ فبينا نحن ننظر فى أمرنا، ونحن نجمع جمعنا إذ أتينا. فقيل: هذا الأسود بشعوب [1] ، وقد خرج إليه شهر بن باذام، وذلك لعشرين ليلة من منجمه؛ فبينا نحن ننتظر الخبر على من تكون الدّبرة [2] ؛ إذ أتانا أنه قتل شهرا، وهزم الأبناء، وغلب على صنعاء، لخمس وعشرين ليلة من منجمه. وخرج معاذ هاربا حتى مرّ بأبى موسى وهو بمأرب، فاقتحما حضرموت، فأمّا معاذ فإنه نزل فى السّكون، وأما أبو موسى فإنّه   [1] شعوب: قصر باليمن معروف بالارتفاع، أو بساتين بظاهر صنعاء- ياقوت. [2] الدبرة: الهزيمة فى القتال، وفى ص: «الدائرة» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 51 نزل فى السّكاسك، وانحاز سائر أمراء اليمن إلى الطّاهر [1] إلّا عمرا وخالدا، فإنّهما رجعا إلى المدينة، والطّاهر يومئذ فى وسط بلادعك بحيال صنعاء؛ وغلب الأسود على ما بين صهيد- مفازة حضرموت- إلى عمل الطائف، إلى البحرين قبل عدن، وطابقت عليه اليمن، وعكّ بتهامة معترضون عليه، وجعل يستطير استطارة الحريق، وكان معه يوم لقى شهر بن باذام سبعمائة فارس سوى الرّكبان، واستغلظ أمره، ودانت له سواحل من السواحل وعدن والجند؛ ثم صنعاء إلى عمل الطائف إلى الأحسية وغيرها. وعامله المسلمون بالبقيّة، وعامله أهل الرّدة بالكفر، والرجوع عن الإسلام. وكان خليفته فى مذحج عمرو بن معدى كرب، وأسند أمر جنده إلى قيس بن عبد يغوث، وأسند أمر الأبناء إلى فيروز وداذويه. فلمّا أثخن فى الأرض استخفّ بقيس وبفيروز وبداذويه وتزوّج امرأة شهر، وهى ابنة عم فيروز. قال أبو عبيد بن صخر: فبينا نحن كذلك بحضرموت، ولا نأمن أن يسير إلينا الأسود، أو أن يبعث إلينا جيشا، أو يخرج بحضرموت خارج يدّعى بمثل ما ادّعى به الأسود، فنحن على ظهر، تزوّج معاذ إلى بنى بكرة- حىّ من السّكون- امرأة يقال لها: رملة، فحدبوا لصهره علينا- وكان معاذ بها معجبا- فإن كان يقول فيما يدعو الله به: اللهم ابعثنى يوم القيامة مع السّكون، ويقول أحيانا:   [1] هو الطاهر بن أبى هالة وانظر الصفحة السابقة. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 52 اللهم اغفر للسّكون؛ إذ جاءتنا كتب النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، يأمرنا [فيها] [1] أن نبعث الرجال لمجاولته ومصاولته، وأن نبلغ كلّ من رجا عنده شيئا من ذلك عن النبى صلى الله عليه وسلم. فقام معاذ فى ذلك بالّذى أمره به، فعرفنا القوّة، ووثقنا بالنّصر. وعن جشيش بن الدّيلمىّ، قال: لمّا قدم علينا وبر بن يحنّس بكتاب النبىّ صلى الله عليه وسلّم يأمرنا فيه بالقيام على ديننا، والنّهوض فى الحرب، والعمل فى الأسود، إمّا غيلة، وإمّا مصادمة، وأن نبلغ عنه من رأينا أنّ عنده نجدة [ودينا] [2] ، فعملنا فى ذلك، فرأينا أمرا كثيفا، ورأيناه قد تغيّر لقيس بن عبد يغوث- وكان على جنده- فقلنا: يخاف على دمه [فهو لأول دعوة] [2] ، فدعوناه وأنبأناه الشأن، وأبلغناه عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فكأنّما وقعنا عليه من السّماء، وكان فى غمّ وضيق بأمره، فأجابنا إلى ما أحببنا من ذلك، وكاتبنا النّاس، ودعوناهم. فأخبره الشيطان بشىء، فأرسل إلى قيس وقال: يا قيس، ما يقول هذا؟ قال: وما يقول؟ قال: يقول: عمدت إلى قيس فأكرمته؛ حتى إذا دخل منك كل مدخل، وصار فى العزّ مثلك؛ مال ميل عدوّك، وحاول ملكك، وأضمر على الغدر، إنه يقول: يا أسود يا أسود! يا سوءة، يا سوءة! اقطف قنّته، وخذ من قيس أعلاه؛ وإلّا سلبك، أو قطف قنّتك.   [1] تكملة من ص. [2] تكملة من تاريخ الطبرى. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 53 فقال قيس وحلف به؛ كذب وذى الخمار؛ لأنت أعظم فى نفسى، وأرجى عندى من أن أحدّث بك نفسى! فقال: ما أجفاك! أتكذّب الملك! صدق الملك، وعرفت الآن أنّك تائب مما اطّلع عليه منك، ثم خرج فأتانا فقال: يا جشيش، يا فيروز، يا داذويه! إنه قد قال وقلت: فما الرأى؟ فقلنا: نحن على حذر؛ فإنا فى ذلك، إذ أرسل إلينا؛ فقال: ألم أشرّفكم على قومكم! ألم يبلّغنى عنكم! فقلنا: أقلنا مرّتنا هذه؛ فنجونا، ولم نكد، وهو فى ارتياب من أمرنا وأمر قيس، ونحن فى ارتياب وعلى خطر عظيم؛ إذ جاءنا اعتراض عامر بن شهر وذى زود وذى مرّان وذى الكلاع وذى ظليم عليه، وكاتبونا وبذلوا لنا النّصر، وكاتبناهم؛ وأمرناهم ألا يحرّكوا شيئا حتى نبرم الأمر، وإنما اهتاجوا لذلك حين جاء كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليهم. وكتب النبى صلى الله عليه وسلم إلى أهل نجران، إلى عربهم وساكنى الأرض من غير عربهم، فتنحّوا، وانضمّوا إلى مكان [واحد] [1] . وبلغه [2] ذلك، وأحسّ بالهلاك، وفرق لنا الرأى، فدخلت على آزاد- وهى امرأته- فقلت: يا بنت عمّ، قد عرفت بلاء هذا الرجل عند قومك؛ قتل زوجك، وطأطأ فى قومك القتل، وسفل بمن بقى منهم، وفضح النساء، فهل عندك من ممالأة عليه؟ فقالت: على أىّ أمره؟ قلت: إخراجه، فقالت: أو قتله! قلت: أو قتله، قالت: نعم والله ما خلق الله شخصا أبغض إلىّ منه؛ ما يقوم لله على حقّ، ولا ينتهى له   [1] من ص والطبرى. [2] ص: «وبلغهم» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 54 عن حرمة، فإذا عزمتم فأعلمونى أخبركم بمأتى هذا الأمر. فأخرج فإذا فيروز وداذويه ينتظراننى، وجاء قيس ونحن نريد أن نناهضه، فقال له رجل قبل أن يجلس إلينا: الملك يدعوك، فدخل فى عشرة من مذحج وهمدان فلم يقدر على قتله معهم. فقال: يا عبهلة بن كعب بن غوث، أمنّى تحصّن بالرجال! ألم أخبرك الحقّ وتخبرنى الكذابة [1] ! إنه يقول: يا سوءة، إلّا تقطع من قيس يده، يقطع قنّتك العليا، حتى ظنّ أنه قاتله. فقال: إنه ليس من الحقّ أن أقتلك وأنت رسول الله؛ فمرنى بما أحببت، فأمّا الخوف والفزع فأنا فيهما مخافة أن تقتلنى، وإمّا قتلتنى فموتة أهون علىّ من موتات أموتها كلّ يوم. فرقّ له وأخرجه؛ فخرج إلينا، فأخبرنا. وقال: اعملوا عملكم، وخرج إلينا فى جمع، فقمنا مثولا له، وبالباب مائة ما بين بقرة وبعير، فقام وخطّ خطّا، وأقيمت من ورائه، وقام من دونها فنحرها غير محبّسة ولا معقّلة، ثم خلّاها ما يقتحم الخطّ منها شىء، ثمّ خلاها فجالت إلى أن زهقت. فما رأيت أمرا كان أفظع منه، ولا يوما أو حش منه، ثم قال: أحقّ ما بلغنى عنك يا فيروز؟ - وبوّأ له الحربة- لقد هممت أن أنحرك فأتبعك هذه البهيمة؛ فقال: اخترتنا لصهرك، وفضّلتنا على الأبناء، فلو لم تكن نبيّا ما بعنا نصيبنا منك بشىء، فكيف وقد اجتمع لنا بك أمر آخرة ودينا! لا تقبلنّ علينا أمثال ما يبلغك؛ فإنّا بحيث تحبّ؛ فقال: اقسم هذه، فأنت أعلم بمن هنا.   [1] ك: «وتخبرنى الكذبة» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 55 فاجتمع إلىّ أهل صنعاء، وجعلت آمر للرهط بالجزور، ولأهل البيت بالبقرة، ولأهل الحلّة بعدّة، حتى أخذ أهل كلّ ناحية بقسطهم. فلحق به قبل أن يصل إلى داره- وهو واقف علىّ- رجل يسعى إليه بفيروز، فاستمع له، واستمع له فيروز، وهو يقول: أنا قاتله غدا وأصحابه، فاغد علىّ، ثم التفت فإذا به؛ فقال: مه! فأخبره بالّذى صنع؛ فقال: أحسنت، وضرب دابّته داخلا، فرجع إلينا فأخبرنا بالخبر، فأرسلنا إلى قيس، فجاءنا، فأجمع ملؤهم أن أعود إلى المرأه؛ فأخبرها بعزيمتنا لتخبرنا بما تأمر، فأتيت المرأة، وقلت: ما عندك؟ قالت: هو متحرز متحرّس، وليس من القصر شىء إلا والحرس محيطون به غير هذا البيت؛ فإن ظهره إلى مكان كذا وكذا من الطّريق، فإذا أمسيتم فانقلبوا عليه، فإنّكم من دون الحرس؛ وليس دون قتله شىء. وقالت: إنكم سترون فيه سراجا وسلاحا، فخرجت فتلقّانى الأسود خارجا من بعض منازله؛ فقال: ما أدخلك علىّ؟ ووجأ [1] رأسى حتى سقطت؛ وكان شديدا، وصاحت المرأة فأدهشته عنّى؛ ولولا ذلك لقتلنى؛ وقالت: ابن عمى جاءنى زائرا؛ فقال: اسكتى لا أبا لك! فقد وهبته لك [فتزيّلت عنى] [2] ، فأتيت أصحابى، فقلت: النّجاء! الهرب! وأخبرتهم الخبر، فإنّا على ذلك حيارى إذ جاءنى رسولها: لا تدعنّ ما فارقتك عليه، فإنى لم أزل به حتى اطمأنّ. فلمّا أمسينا عملنا فى أمرنا، وقد واطأنا أشياعنا، وعجلنا   [1] وجأر رأسه: ضربه. [2] من ص، وفى الطبرى: «فتزايلت» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 56 عن مراسلة الهمدانيّين والحميريّين، فنقبنا البيت من خارج، ثم دخلنا وفيه سراج تحت جفنة، والتقينا [1] بفيروز- وكان أنجدنا وأشدّنا- فقلنا: انظر ماذا ترى؟ فخرج ونحن بينه وبين الحرس معه فى مقصورته، فلمّا دنا من باب البيت سمع غطيطا شديدا، فإذا المرأة جالسة، فلمّا قام على الباب أجلسه الشيطان، فكلّمه على لسانه وإنه ليغطّ جالسا. وقال أيضا: مالى ولك يا فيروز! فخشى إن رجع أن يهلك وتهلك المرأة، فعاجله فخالطه وهو مثل الجمل، فأخذ برأسه فقتله، فدقّ عنقه، ووضع ركبتيه فى ظهره فدقّه، ثمّ قام ليخرج، فأخذت المرأة بثوبه، وهى ترى أنّه لم يقتله، فقالت: أين تدعنى؟ قال: أخبر أصحابى بمقتله؛ فأنانا، فقمنا معه، فأردنا حزّ رأسه، فحرّكه الشيطان فاضطرب فلم يضبطه. فقلت: اجلسوا على صدره، فجلس اثنان على صدره، وأخذت المرأة بشعره، وسمعنا بربرة [2] ، فأمرّ الشّفرة على حلقه، فخار كأشدّ خوار ثور سمعته قطّ. فابتدر الحرس الباب وهم حول المقصورة، فقالوا: ما هذا، ما هذا؟ فقالت المرأة: النبىّ يوحى إليه؛ فخمد، ثم سمرنا ليلتنا ونحن نأتمر كيف نخبر أشياعنا؛ ليس غيرنا ثلاثتنا [فيروز وداذويه وقيس] [3] ، فاجتمعنا على النداء بشعارنا الذى بيننا   [1] ص: «واتقينا» . [2] البربرة: الصوت المختلط. [3] من ص والطبرى. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 57 أو بين أشياعنا، ثم ينادي بالأذان فلمّا سمع بذلك، وطلع [1] الفجر، نادى داذويه بالشّعار، ففزع المسلمون والكافرون، وتجمّع الحرس فأحاطوا بنا. ثم ناديت بالأذان، وتوافت خيولهم إلى الحرس، فناديتهم، أشهد أنّ محمدا رسول الله، وأن عبهلة كذّاب، وألقينا إليهم رأسه؛ فأقام وبر الصلاة، وشنّها القوم غارة، ونادينا: يا أهل صنعاء؛ من دخل عليه داخل فتعلّقوا به، ومن كان عنده منهم أحد لم يخرج، فتعلّقوا به، ونادينا بمن فى الطريق: تعلّقوا بمن استطعتم، فاختطفوا صبيانا كثيرا، وانتهبوا ما انتهبوا، ثم مضوا خارجين. فلمّا برزوا فقدوا منهم سبعين فارسا ركبانا، وإذا أهل الطريق والدّور قد وافونا بهم، وفقدنا سبعمائة عيّل، ثم راسلونا وراسلناهم على أن يتركوا لنا ما فى أيديهم، ونترك لهم ما فى أيدينا، ففعلوا؛ فخرجوا لم يظفروا بشىء. وتردّدوا فيما بين صنعاء ونجران، وخلصت صنعاء والجند، وأعزّ الله الإسلام وأهله، وتنافسنا الإمارة، وتراجع أصحاب النبىّ صلّى الله عليه وسلّم إلى أعمالهم، فاصطلحنا على معاذ بن جبل فكان يصلّى بنا، وكتبنا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالخبر، وذلك فى حياة النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فأتاه الخبر من ليلته، وقدمت رسلنا، وقد مات النبىّ صلّى الله عليه وسلّم صبيحة تلك الليلة، فأجابنا أبو بكر رضى الله عنه [2] .   [1] ص: «فأطلع» . [2] تاريخ الطبرى 3: 231- 236. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 58 وروى عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما، قال: أتى الخبر النبىّ صلّى الله عليه وسلّم من السماء الليلة التى قتل فيها العنسىّ ليبشّرنا فقال: قتل الأسود البارحة، قتله رجل مبارك من أهل بيت مباركين قيل: ومن هو؟: قال: فيروز. وعن فيروز؛ قال: قتلنا الأسود، وعاد أمرنا كما كان، إلّا أنّا أرسلنا إلى معاذ؛ فتراضينا عليه، فكان يصلّى بنا فى صنعاء، فو الله ما صلّى بنا إلا ثلاثا ونحن راجعون مؤمّلون، حتى أتى الخبر بوفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فانتقضت الأمور، وأنكرنا كثيرا ممّا كنا نعرف، واضطربت [1] الأرض. وكانت مدّة العنسىّ من حين ظهور أمره إلى أن قتل ثلاثة أشهر. وعن الضحاك بن فيروز، قال: كان ما بين خروجه بكهف خبّان إلى مقتله نحوا من أربعة أشهر، وقد كان قبل مستسرّا بأمره حتى نادى بعد. وقال أبو بشر الدّولابىّ: إنّه قتل فى خلافة أبى بكر رضى الله عنه. والله أعلم. وقيل: أتى الخير بمقتله إلى المدينة فى آخر ربيع الأوّل، سنة إحدى عشرة، بعد إنفاذ جيش أسامة بن زيد، فكان ذلك أول فتح لأبى بكر الصديق رضى الله عنه. روى أبو عمر بن عبد البر بسند يرفعه إلى شرحبيل بن مسلم   [1] ص: «واضطرمت» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 59 الخولانىّ أنّ الأسود بعث إلى أبى مسلم عبد الله الخولانىّ، فلما جاءه قال: أتشهد أنّى رسول الله؟ قال: ما أسمع، قال: أتشهد أنّ محمدا رسول الله؟ قال: نعم، فردّد ذلك عليه؛ كلّ ذلك يقول مثل ذلك. قال: فأمر بنار عظيمة فأجّجت، ثم ألقى فيها أبا مسلم، فلم تضرّه شيئا. فقيل له: انفه عنك والّا أفسد عليك من اتبعك، فأمره بالرّحيل، فأتى أبو مسلم المدينة وقد قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واستخلف أبو بكر الصديق رضى الله عنه، فأناخ أبو مسلم راحلته بباب المسجد، وقام فصلّى إلى سارية، وبصربه عمر بن الخطاب رضى الله عنه فقال: ممّن الرجل؟ فقال: من أهل اليمن، قال: ما فعل الذى أحرقه الكذّاب بالنار؟ قال: ذاك عبد الله بن ثوب، قال: أنشدك الله أنت هو! قال: اللهمّ نعم، قال: فاعتنقه عمر، وبكى. ثم ذهب [به] [1] حتى أجلسه فيما بينه وبين أبى بكر، ثم قال: الحمد لله الذى لم يمتنى حتى أرى فى أمّة محمد صلّى الله عليه وسلّم من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الله صلّى الله عليه وسلّم [2] . هذا ما كان من أمر العنسىّ، وأمّا بقية الكذّابين؛ فسنذكر أخبارهم عند ذكرنا تجهيز أبى بكر الجيوش إن شاء الله تعالى.   [1] تكملة من ص. [2] الاستيعاب 1758. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 60 ذكر غزوة أبى بكر وقتاله أهل الردة وعبس وذبيان قالوا: لما قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ارتدّت العرب كلّها إلا قريشا وثقيفا، وأتت وفود العرب إلى أبى بكر الصّديق رضى الله عنه مرتدّين يقرّون بالصّلاة، ويمنعون الزكاة، فلم يقبل ذلك منهم وردّهم، وقال: والله لو منعونى عقالا [1] كانوا يؤدّونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم لقاتلتهم عليها. وخرج فى جمادى الآخرة منها، واستخلف على المدينة أسامة بن زيد، وقيل: سنانا الضّمرىّ، وسار فنزل بذى القصّة [2] . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعث نوفل بن معاوية الدّيلمىّ [3] على الصّدقة، فلقيه خارجة بن حصين بالشّربّة [4] ، فأخذ ما فى يديه وردّه على بنى فزارة، ورجع نوفل إلى أبى بكر بالمدينة. فأوّل حرب كانت فى الرّدة بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حرب العنسىّ باليمن، ثم حرب خارجة بن حصين ومنظور بن زبان بن سيار فى غطفان، والمسلمون غارّون [5] ، فانحاز أبو بكر إلى أكمة فاستتر بها، ثم هزم الله المشركين.   [1] العقال: الحبل الذى يعقل به البعير الذى كان يؤخذ فى الصدقة. [2] ذو القصة: موضع بينه وبين المدينة أربعة وعشرون ميلا. [3] ص: «الديلى» . [4] الشربة: موضع فى بلاد نجد. [5] غارون: غافلون، وفى ك: «غازون» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 61 وروى أن أوّل غزاة غزاها أبو بكر، كانت إلى بنى عبس وذبيان، وأنه قاتلهم وهزمهم، وأتبعهم حتى نزل بذى القصّة، وكان ذلك أول الفتح، ووضع أبو بكر رضى الله عنه بها النعمان بن مقرّن فى عدد ورجع إلى المدينة، فوثب بنو عبس وذبيان على من فيهم من المسلمين فقتلوهم. فحلف أبو بكر رضى الله عنه: ليقتلنّ فى المشركين بمن قتلوا من المسلمين وزيادة. وقدمت رسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من اليمن واليمامة وبلاد بنى أسد، ووفود من كان كاتبه النبى صلى الله عليه وسلّم. وأمر أمره فى الأسود ومسيلمة وطلحة بالأخبار والكتب، فدفعوا كتبهم إلى أبى بكر، وأخبروه الخبر؛ فقال لهم: لا تبرحوا حتى تجىء رسل أمرائكم وغيرهم بأدهى مما وصفتم، وأمرّ بانتقاض الأمور؛ فلم يلبثوا أن قدمت كتب أمراء النبى صلّى الله عليه وسلّم الله عليه وسلّم من كلّ مكان بانتقاض، عامة أو خاصّة، وتبسّط [1] من ارتدّ على المسلمين بأنواع الميل. فحاربهم أبو بكر رضى الله عنه بما كان النبىّ صلّى الله عليه وسلّم [يحاربهم] [2] ، حاربهم بالرسل، فردّ رسلهم، وأتبع الرسل رسلا، وانتظر بمصادمتهم قدوم أسامة بن زيد، وطرقت المدينة صدقات نفر كانوا على الصّدقة؛ وهم صفوان بن صفوان، والزّبرقان بن   [1] ك: «وبسط» . [2] تكملة من ص. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 62 بدر، وعدىّ بن حاتم؛ فازداد المسلمون قوّة، ثم قدم أسامة بن زيد، فاستخلفه أبو بكر على المدينة ومعه جنده ليستريحوا. ثم خرج بمن كان معه، فناشده المسلمون ليقيم، فأبى وقال: لأواسينّكم بنفسى، فسار إلى حسى وذى القصّة حتى نزل بالأبرق، فقاتل من به من المشركين فهزمهم، وأخذ الحطيئة أسيرا، وأقام بالأبرق أياما ثم رجع إلى المدينة، ولحق من انهزم من عبس وذبيان وطليحة. وروى عن هشام بن عروة عن أبيه أنّ أوّل من صادم أبو بكر رضى الله عنه بنى عبس وذبيان، عاجلوه، فقاتلهم قبل رجوع أسامة. ولما قدم أسامة استخلف على المدينة، ومضى حتى انتهى إلى الرّبذة، فتلقّى بنى عبس وذبيان وجماعة من بنى عبد مناة بن كنانة، فلقيهم بالأبرق، فقاتلهم فهزمهم الله عزّ وجلّ وفلّهم، ثم رجع إلى المدينة فعقد الألوية [1] . والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.   [1] تاريخ الطبرى 3: 241- 249. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 63 ذكر عقد أبى بكر رضى الله عنه الألوية وتجهيزه الجيوش لقتال أهل الردة وما كاتب به من ارتد وما عهد. قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبرىّ رحمه الله فى تاريخه [1] ما مختصره ومعناه: لما رجع أبو بكر رضى الله عنه إلى المدينة، وأراح أسامة وجنده ظهرهم [وجمّوا] [2] ، وقد جاءت صدقات كثيرة تفضل عنهم، قطع أبو بكر البعوث وعقد الألوية، فعقد أحد عشر لواء: عقد لخالد بن الوليد، وأمره بطليحة؛ فإذا فرغ سار إلى مالك ابن نويرة بالبطاح إن أقام له. وعقد لعكرمة وأمره بمسيلمة الكذّاب باليمامة. وعقد للمهاجر بن أبى أميّة، وأمره بجنود العنسى ومعونة الأبناء على قيس بن المكشوخ، ومن أعانه من أهل اليمن عليهم، ثم يمضى إلى كندة بحضرموت. وعقد لخالد بن سعيد بن العاص، وبعثه إلى الحمقتين من مشارف الشام. وعقد لعمرو بن العاص وأرسله إلى جماع قضاعة ووديعة والحارث. وعقد لحذيفة بن محصن الغلفانىّ، وأمره بأهل دبا.   [1] تاريخ الطبرى 3: 249 وما بعدها. [2] زيادة من تاريخ الطبرى. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 64 ابن هرثمة، وأمره بمهرة وأمرهما أن يجتمع كل واحد منها فى عمله. وبعث شرحبيل بن حسنة فى أثر عكرمة بن أبى جهل وقال: إذا فرغ من اليمامة فالحق بقضاعة؛ وأنت على خيلك تقاتل أهل الرّدّة. وعقد لمعن بن حاجز- ويقال: لطريفة بن حاجز- وأمره ببنى سليم ومن معهم من هوازن. وعقد لسويد بن مقرّن؛ وأمره بتهامة اليمن. وعقد للعلاء بن الحضرمىّ، وأمره بالبحرين. ففصلت الأمراء من ذى القصّة، ولحق بكلّ أمير جنده، وعهد إلى كلّ أمير منهم، وكتب رضى الله عنه إلى سائر من ارتد نسخة واحدة، وهى: بسم الله الرّحمن الرّحيم من أبى بكر خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى من بلغه كتابى هذا من عامّة أو خاصة. أقام على إسلامه أو رجع عنه. سلام على من اتبع الهدى، ولم يرجع بعد الهدى إلى الضّلالة والعمى، فإنى أحمد الله إليكم الذى لا إله إلّا هو، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمدا عبده ورسوله، وأقرّ بما جاء به. أما بعد؛ فإنّ الله أرسل محمدا بالحقّ من عنده إلى خلقه بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا؛ لينذر من كان حيّا. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 65 ويحقّ القول على الكافرين، فهدى الله للحقّ من أجاب إليه، وضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بإذنه من أدبر عنه؛ حتّى صار إلى الإسلام طوعا وكرها، ثم توفّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد نفذ لأمر الله، ونصح لأمّته، وقضى الذى عليه. وكان الله قد بيّن له ذلك ولأهل الإسلام فى الكتاب الذى أنزله؛ فقال: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [1] ، وقال: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ [2] ، وقال للمؤمنين: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ . [3] فمن كان إنما يعبد محمدا، صلّى الله عليه وسلّم؛ فإنّ محمدا قد مات، ومن كان إنّما يعبد الله وحده لا شريك له، فإنّ الله له بالمرصاد، حىّ قيّوم لا يموت، ولا تأخذه سنة ولا نوم، حافظ لأمره، منتقم من عدوّه، يجزيه. وإنى أوصيكم بتقوى الله، وحظّكم ونصيبكم من الله، وما جاء به نبيكم، وأن تهتدوا بهداه، وأن تعتصموا بدين الله، فإنّ كل من لم يهده الله ضالّ، وكل من لم يعافه الله مبتلى، وكل من لم يعنه الله مخذول. فمن هداه الله كان مهتديا، ومن أضلّه الله كان ضالّا، فإنّه قال   [1] سورة الزمر 30. [2] سورة الأنبياء 34. [3] سورة آل عمران 144. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 66 مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً [1] . ولم يقبل منه فى الدّنيا عمل حتى يقرّبه، ولم يقبل له فى الآخرة صرف ولا عدل. وقد بلغنى رجوع من رجع منكم عن دينه بعد أنّ أقرّ بالإسلام، وعمل به اغترارا بالله وجهالة بأمره، وإجابة للشيطان. وقال الله جلّ ثناؤه: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ، أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا . [2] وقال: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ [3] . وإنّى بعثت إليكم فلانا فى جيش من المهاجرين والأنصار والتّابعين لهم بإحسان، وأمرته ألّا يقاتل أحدا ولا يقتله حتى يدعوه إلى داعية الله، فمن استجاب له وأقرّ وكفّ، وعمل صالحا قبل منه، وأعانه عليه، ومن أبى أمرت أن يقاتله على ذلك، ثم لا يبقى على أحد منهم قدر عليه، وأن يحرقهم بالنيران ويقتلهم كل قتلة، ويسبى النساء والذرارىّ، ولا يقبل من أحد إلا الإسلام. فمن اتّبعه فهو خير له، ومن تركه فلن يعجز الله، وقد أمرت رسولى أن يقرأ كتابى فى كلّ مجمع لكم. والدّاعية الأذان؛ فإذا أذّن المسلمون فأذّنوا كفّوا عنهم، وإن لم   [1] سورة الكهف 17. [2] سورة الكهف 50. [3] سورة فاطر 6. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 67 يؤذّنوا عاجدوهم؛ وإن أذّنوا اسألوهم ما علّتهم، فإن أبوا عاجلوهم، وإن أقرّوا قبل منهم وحملهم على ما ينبغى لهم. قال: فنفذت الرّسل بالكتب أمام الجنود، وخرجت الأمراء ومعهم العهود. بسم الله الرحمن الرحيم هذا عهد من أبى بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى فلان؛ حين بعثه فيمن بعث لقتال من رجع عن الإسلام؛ عهد [1] إليه أن يتّقى الله ما استطاع فى أمره كلّه؛ سرّه وعلانيته، وأمره بالجدّ فى الله ومجاهدة من تولّى عنه، ورجع عن الإسلام، فإن أجابوه أمسك عنهم، وإن لم يجيبوه شنّ غارته عليهم حتى يقرّوا له، ثم ينبّئهم بالّذى عليهم والذى لهم، ويأخذ ما عليهم، ويعطيهم الذى لهم؛ لا ينظرهم، ولا يردّ المسلمين عن قتال عدوّهم، فمن أجاب إلى أمر الله وأقرّ له قبل ذلك منه، وأعانه عليه بالمعروف [وإنّما يقاتل من كفر بالله على الإقرار بما جاء من عند الله] [2] ، وإذا أجاب الدّعوة لم يكن عليه سبيل، وكان الله حسيبه فيما استسر به، ومن لم يجب داعية الله قتل وقوتل حيث كان، وحيث بلغ مراغمه [3] ؛ لا يقبل من أحد شيئا أعطاه إلّا الإسلام، فمن أجابه وأقرّ قبل منه وعلّمه، ومن أبى قاتله؛ فإن أظهره الله [عليه] [2] قتل منهم كلّ   [1] الطبرى: «وعهد إليه» . [2] زيادة من تاريخ الطبرى. [3] المراغم: المهرب والمذهب ولحصن. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 68 قتلة، بالسلاح والنّيران، ثم قسم ما أفاء الله عليه إلّا الخمس. فإنه يبلّغناه، وأن يمنع أصحابه العجلة والفساد، وألّا يدخل [فيهم حشوا حتى يعرفهم ويعلم ما هم؛ لا يكونوا عيونا، ولئلّا يؤتى المسلمون من قبلهم وأن يقتصد] [1] بالمسلمين، ويرفق بهم فى السير والمنزل، ويتفقدهم ولا يعجل بعضهم عن بعض، ويستوصى بالمسلمين فى حسن الصحبة ولين القول. والله تعالى أعلم بالصواب، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله على سيدنا محمد. ذكر خبر طليحة الأسدى وما كان من أمره وأمر من اتبعه من قيائل العرب وما آل إليه أمره بعد ذلك كان [2] خبر طليحة بن خويلد الأسدىّ؛ أسد خزيمة، أنّه ارتدّ فى حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وادّعى النّبوّة، فلمّا ظهر أمره وجّه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ضرار بن الأزور إلى عمّاله على بنى أسد، وأمرهم بالقيام فى أمر طليحة ومن ارتدّ معه، ونزل المسلمون بواردات، ونزل المشركون بسميراء. فضعف أمر طليحة، وما زال المسلمون فى نماء، والمشركون فى نقصان حتى همّ ضرار بن الأزور أن يسير إلى طليحة، ولم يبق أحد   [1] زيادة من تاريخ الطبرى. [2] انظر تاريخ الطبرى 3: 259 وما بعدها. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 69 إلّا أخذه سلما [1] ، فاتّفق أنّه ضرب ضربة بسيف فنباعنه، وشاعت تلك الضربة فى النّاس، وقالوا: إنّ السلاح لا يعمل فى طليحة، فبينما الناس على ذلك إذ ورد الخبر بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما أمسى المسلمون من ذلك اليوم حتّى عرفوا النقصان، وكثر جمع طليحة واستطار أمره، وادّعى أنّ جبريل يأتيه، وسجع للناس الأكاذيب فكان مما أتى به قوله: «والحمام واليمام، والصّرد الصّوّام، قد ضمن قبلكم بأعوام، ليبلغنّ ملكنا العراق والشام» . وأمر طليحة الناس بترك السجود فى الصّلاة، وتبعه كثير من العرب، وكان أكثر أتباعه أسد وغطفان وطيّىء، ولما انهزمت عبس وذبيان التحقوا به ببزاخة، وأرسل طليحة إلى جديلة والغوث- وهما حيّان من طيّىء- أن ينضموا إليه، فتعجّل إليه أناس من الحيّين، وأمروا قومهم باللّحاق بهم، فقدموا على طليحة وكانوا معه. وبعث أبو بكر رضى الله عنه عدىّ بن حاتم الطّائىّ قبل توجيهه [2] خالد بن الوليد إلى قومه، وقال: أدركهم لا يؤكلوا؛ فخرج عدىّ إليهم؛ [ففتلهم فى الذّروة والغارب] [3] ، وخرج خالد بن الوليد فى أثره، وأمره أبو بكر رضى الله عنه أن يبدأ بطيّىء على الأكناف؛ ثم يكون وجهه إلى البزاخة، ثم يثلّث بالبطاح، ولا يبرح إذا فرغ من قوم حتى يأذن [4] له، وأظهر أبو بكر أنّه خارج إلى خيبر ومنصبّ عليهم منها، حتى يلاقيه بالأكناف، أكناف سلمى.   [1] السلم: الاستسلام. [2] الطبرى: «قبل توجيه خالد» . [3] زيادة من تاريخ الطبرى. [4] الطبرى: «يتحدّث إليه» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 70 قال ابن الكلبىّ: وإنّما قال ذلك أبو بكر مكيدة حتى يبلغ ذلك عدوّه فيرعبهم، وكان قد أوعب [1] مع خالد الناس، فخرج خالد، فازوار عن البزاخة وجنح إلى أجأ، وقدم عدىّ بن حاتم عليهم؛ ودعاهم إلى الإسلام؛ فأجابوه بعد امتناع، وقالوا له: أخّر عنّا الجيش حتى نستخرج من ألحق بالبزاخة منّا، فإنّا إن خالفنا طليحة وهم فى يديه قتلهم أو ارتهنهم، فاستقبل عدىّ خالدا وهو بالسّنح، فقال: يا خالد، أمسك عنى ثلاثا؛ تجتمع لك خمسمائة مقاتل تضرب بهم عدوّك؛ خير من أن تعجلهم إلى النّار. وتشاغل بهم، ففعل وعاد إليهم وقد أرسلوا إلى إخوانهم؛ فأتوهم من بزاخة كالمدد، ولولا ذلك لم يتركوا، فعاد عدىّ بإسلامهم إلى خالد، وارتحل خالد يريد جديلة، فقال له عدىّ: إنّ طيّئا كالطائر، وإنّ جديلة أحد جناحى طيّىء، فأجّلنى لعلّ الله أن ينقذ جديلة لك كما أنقذ الغوث؛ ففعل، وأتاهم عدىّ؛ فلم يزل بهم حتى بايعوه؛ فجاء بإسلامهم، ولحق بالمسلمين منهم ألف راكب، فكان خير مولود ولد فى أرض طيّىء وأعظمه عليهم بركة. قال هشام الكلبى: وسار خالد بن الوليد إلى طليحة، وكان أبو بكر رضى الله عنه قد جعل ثابت بن قيس على الأنصار وأمره إلى خالد، فلمّا دنا خالد من القوم، بعث عكّاشة بن محصن، وثابت ابن أقرم بن ثعلبة العجلانىّ البلوىّ حليف الأنصار [2] طليعة؛ حتى إذا   [1] أوعب الناس: جمعهم. [2] الطبرى: «أحد بنى العجلان» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 71 دنوا من القوم خرج طليحة وأخوه سلمة ينظران ويسألان، فلقياهما فبرز سلمة لثابت، وبرز عكّاشة لطليحة، فأما سلمة، فلم يمهل ثابتا أن قتله، ونادى طليحة أخاه حين رأى أن قد فرغ من صاحبه أن أعنّى على الرّجل [فإنّه آكل] [1] ، فاعتونا على عكّاشه [2] ، فقتلاه ثم رجعا، وأقبل خالد بالناس، فمروا بثابت بن أقرم قتيلا، فلم يفطنوا له حتى وطئته المطىّ بأخفافها، فكبر ذلك على المسلمين، ثم نظروا فإذا هم بعكّاشة صريعا، فجزع لذلك المسلمون وقالوا: قتل سيّدان من سادات المسلمين، وفارسان من فرسانهم. قال: ثمّ التقى المسلمون بطليحة ومن معه على بزاخة، واقتتلوا أشدّ قتال، وطليحة متلفّف فى كسائه بفناء بيته يتنبّأ لهم بزعمه، وكان عيينية ابن حصن بن حذيفة الفزارىّ مع طليحة فى سبعمائة من بنى فزارة يقاتل قتالا شديدا، فلما اشتدّ القتال كرّ عيينة على طليحة، فقال: هل جاءك جبريل بعد؟ قال: لا؛ فرجع فقاتل حتى إذا ضرس [3] القتال، وهزّته الحرب كرّ عليه، فقال له: لا أبا لك! هل جاءك جبريل بعد؟ فقال: لا، فقال عيينة: حتى متى؛ قد والله بلغ منّا! ثم رجع فقاتل؛ حتى إذا بلغ كرّ عليه فقال: هل جاءك جبريل بعد؟ قال: نعم؛ قال: فما قال لك؟ قال: قال لى: «إنّ لك رحا كرحاه. وحديثا لا تنساه» . قال عيينة: قد علم الله أن سيكون لك حديث لا تنساه، ونادى عيينة: يا بنى فزارة؛ هكذا فانصرفوا، فهذا   [1] زيادة من الطبرى. [2] اعتونا: تعاونا. [3] ضرس القتال: اشتد، وفى ك: «ضرس من القتال» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 72 والله كذّاب، فانصرفوا وانهزم الناس فغشوا طليحة، يقولون: ماذا تأمرنا؟ وكان طليحة قد أعدّ فرسه وراحلته عنده، فلمّا غشيه النّاس قام فوثب على فرسه، وحمل امرأته النّوار على الراحلة فنجا بها، وقال للناس: من استطاع منكم أن يفعل مثل ما فعلت وينجو بأهله فليفعل، ثم سلك الجوشيّة ولحق بالشام فارفضّ جمعه، وقتل الله من قتل منهم، وأتت قبائل سليم وهوازن وفزارة وأسد وغطفان، وتلك القبائل يقولون: ندخل فيما خرجنا منه، ونؤمن بالله وبرسوله ونسلّم لحكمه فى أموالنا وأنفسنا. فبايعهم خالد بن الوليد على الإسلام، ثمّ أقبلت بنو عامر بعد هزيمة أهل بزاخة، يقولون: ندخل فيما خرجنا منه، فبايعهم خالد على ما بايع عليه أهل البزاخة من أسد وغطفان وطيّىء قبلهم، وأعطوه بأيديهم على الإسلام. قال أبو الحسن علىّ المعروف بابن الأثير: وكانت [1] بيعته: عليكم عهد الله وميثاقه لتؤمننّ بالله ورسوله، ولتقيمنّ الصلاة، ولتؤتنّ الزكاة، وتبايعون على ذلك أبناءكم ونساءكم! فيقولون: نعم، ولم يقبل من أحد [2] منهم إلا أن يأتوه بالذين حرّقوا ومثّلوا، وعدوا على المسلمين [3] فى حال ردّتهم، فأتوه بهم، فقبل منهم إلّا قرّة بن هبيرة سيّد بنى عامر ونفر معه أوثقهم، ومثّل بالذين عدوا على المسلمين فأحرقهم بالنيران بالحجارة، ورمى بهم من الجبال، ونكّسهم فى   [1] الكامل لابن الأثير 2: 236 وما بعدها. [2] ابن الأثير: من أسد وغطفان وطيىء وسليم» . [3] ابن الأثير: على الإسلام» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 73 الآبار [وأرسل إلى أبى بكر يعلمه ما فعل] [1] ، ورضخهم، وبعث بقرّة وبالأسارى إلى أبى بكر رضى الله عنه وكتب إليه: إنّ بنى عامر أقبلت بعد إعراض، ودخلت فى الإسلام بعد تربّص، وإنّى لم أقبل من أحد سألنى شيئا حتى يجيئونى بمن عدا على المسلمين، فقتلتهم كلّ قتلة، وبعثت إليك [2] بقرّة وأصحابه. فكتب أبو بكر إليه: ليزدك ما أنعم لله به عليك خيرا، فاتّق الله فى أمرك، فإنّ الله مع الّذين اتّقوا والّذين هم محسنون، جدّ فى أمر الله ولا تنينّ ولا تظفرنّ بأحد قتل المسلمين إلا قتلته، ونكّلت به غيره. وكان عيينة بن حصن ممن أسر، روى عن عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة بن مسعود. قال: أخبرنى من نظر إلى عيينة بن حصن مجموعة يداه إلى عنقة فى حبل، ينخسه غلمان المدينة بالجريد يقولون: أى عدوّ الله، أكفرت بالله بعد إيمانك! فيقول: والله ما كنت آمنت بالله قطّ؛ حكاه أبو جعفر الطبرىّ [3] . قال: فتجاوز أبو بكر رضى الله عنه، وحقن له دمه. والله سبحانه وتعالى أعلم. وأمّا طليحة وما آل إليه أمره؛ فإنّه لحق بالشام، ثم نزل على كلب، فأسلم حين بلغه إسلام أسد وغطفان، ولم يزل فى بنى كلب حتى مات أبو بكر الصديق رضى الله عنه. وخرج فى خلافة أبى بكر   [1] زيادة من ان الأثير. [2] ص: «وبعث إليه» . [3] تاريخ الطبرى 3: 260. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 74 إلى مكة معتمرا، ومرّ بجنبات المدينة. فقيل لأبى بكر هذا: طليحة، فقال: ما أصنع به؟ خلّوا عنه، فقد هداه الله للإسلام. فمضى نحو مكة، فقضى عمرته، ثم أتى عمر بن الخطاب رضى الله عنه للبيعة حين استخلف: فقال له عمر: أنت قاتل عكّاشة وثابت! والله لا أحبّك أبدا؛ فقال: يا أمير المؤمنين ما تنقم من رجلين أكرمهما الله بيدىّ، ولم يهنّى بأيديهما! فبايعه عمر ورجع إلى دار قومه فأقام حتى خرج إلى العراق. ذكر خبر تميمم وأمر سجاح ابنة الحارث بن سويد كان [1] من خبر بنى تميم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته فرّق عمّاله فيهم، فكان الزّبرقان بن بدر على الرّباب وعوف والأبناء؛ وكان سهم بن منجاب وقيس بن عاصم على مقاعس والبطون، وصفوان بن صفوان وسبرة بن عمرو على بنى عمرو، هذا على بهدى، وهذا على خضّم (قبيلتين من بنى تميم) ، ووكيع بن مالك ومالك بن نويرة على بنى حنظلة، هذا على بنى مالك، وهذا على بنى يربوع. فأمّا صفوان فإنّه لما أتاه الخبر بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب إلى أبى بكر الصّديق رضى الله عنه بصدقات بنى عمرو وما ولى منها وبما ولى سبرة، وأقام سبرة فى قومه لحدث إن ناب. وأمّا قيس بن عاصم فإنه قسّم ما وليه من الصّدقات فى مقاعس والبطون؛ وإنّما فعل ذلك مخالفة للزّبرقان.   [1] تاريخ الطبرى 3: 267 وما بعدها. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 75 وأمّا الزبرقان فإنّه أتبع صفوان بالصّدقات التى أخذها ممّن كانت تليه، وقدم بها إلى المدينة على أبى بكر وهو يقول ويعرّض بقيس بن عاصم: وفيت بأذواد الرّسول وقد أبت ... سعاة فلم يردد بعيرا مجيرها ثم ندم قيس بن عاصم على ما كان منه، فلما أظلّه العلاء بن الحضرمىّ تلقّاه بالصّدقة، وخرج معه؛ وقال فى ذلك: أبلغا عنّى قريشا رسالة ... إذا ما أتتها بيّنات الودائع قال: وتشاغل الناس فى تلك الحال بعضهم ببعض، ونشب الشّرّ، فتشاغلت عوف والأبناء بالبطون والرّباب بمقاعس، وتشاغلت عمرو وخضّم بمالك وبهدى بيربوع؛ فبينا الناس فى بلاد تميم على ذلك قد شغل بعضهم بعضا، فمسلمهم بإزاء من قدّم رجلا وأخّر أخرى، وتربّص وارتاب؛ إذ فجئتهم سجاح ابنة الحارث، قد أقبلت من الجزيرة؛ وكانت ورهطها فى بنى تغلب، فأتت تقود أفناء ربيعة، معها الهذيل بن عمران فى بنى تغلب، وعقّة بن هلان فى النّمر، وزياد بن فلان فى إياد، والسّليل بن قيس فى بنى شيبان، فأتاهم أمر دهىّ؛ هو أعظم مما فيه الناس؛ لهجومها عليهم، ولما هم فيه من اختلاف الكلمة والتشاغل بما بينهم. وكانت سجاح ابنة الحارث ابن سويد بن عقفان هى وبنو أبيها بنو عقفان فى بنى تغلب، فاستجاب لها الهذيل، وترك النّصرانية، فراسلت مالك بن نويرة ودعته إلى الموادعة، فأجابها وحملها على أحياء بنى تميم، فقالت: نعم الجزء: 19 ¦ الصفحة: 76 فشأنك بمن رأيت، فإنما أنا امرأة من بنى يربوع، فإن كان ملك فالملك ملككم. وأرسلت إلى بنى مالك وحنظلة تدعوهم إلى الموادعة. فخرج عطارد بن حاجب، وسروات بنى مالك، حتى نزلوا فى بنى العنبر على سبرة بن عمرو هرّابا، وخرج أشباههم من بنى يربوع حتى نزلوا على الحصين بن نيار فى بنى مازن، وقد كرهوا ما صنع مالك، فلما جاءت رسلها إلى بنى مالك تطلب الموادعة أجابها إلى ذلك وكيع بن مالك، فاجتمع وكيع ومالك بن نويرة وسجاح، وقد وادع بعضهم بعضا، واجتمعوا على قتال الناس، وقالوا: بمن نبدأ؟ بخضّم أم ببهدى، أم بعوف والأبناء، أم بالرّباب؟ وكفّوا عن قيس بن عاصم لما رأوا من تردّده وطمعوا فيه. فقالت سجاح: «أعدّوا الركاب، واستعدّوا للنّهاب، ثم أغيروا على الرّباب، فليس دونهم حجابّ» ، وصمدت سجاح للأحفار حتى تنزل بها، وقالت لهم: «إنّ الدّهناء حجاز بنى تميم، ولن تعدو الرّباب، إذا شدّها المصاب، أن تكون بالدّجانى والدّهانى، فلينزلها بعضكم» . فتوجّه مالك بن نويرة إلى الدّجانى فنزلها، وسمعت بهذا الرّباب، فاجتمعوا لها: ضبّتها وعبد مناتها، فولى وكيع وبشر بنى بكر بن ضبّة، وولى ثعلبة بن سعد عقّة، وولى عبد مناة الهذيل، فالتقى وكيع وبشر وبنو بكر من بنى ضبّة فهزما، وأسر سماعة ووكيع وقعقاع، وقتلت قتلى كثيرة، فاجتمع بعد ذلك رؤساء أهل الجزيرة، وقالوا لسجاح: ماذا تأمريننا؛ فقد صالح مالك ووكيع قومهما فلا ينصروننا؟ فقالت: اليمامة؛ فقالوا: إنّ شوكة أهل اليمامة شديدة، وقد غلظ أمر مسيلمة فقالت: «عليكم باليمامة، ودفّوا الجزء: 19 ¦ الصفحة: 77 دفيف الحمامة [1] ، فإنها غزوة صرّامة، ولا يلحقكم بعدها ملامة» ، فنهدت [2] لبنى حنيفة، وبلغ ذلك مسيلمة فهابها، وخاف إن هو شغل بها أن يدهمه شرحبيل بن حسنة والقبائل، فأهدى لها، ثم أرسل إليها يستأمنها على نفسه حتى يأتيها. فأنزلت الجنود على الأمواه له وأمّنته، فجاءها فى أربعين من بنى حنيفة. وكانت سجاح راسخة فى النّصرانية، قد علمت من علم نصارى تغلب، فقال لها مسيلمة: لنا نصف الأرض، وكان لقريش نصفها لو عدلت، وقد ردّ الله عليك النصف الذى ردّت قريش، فحباك [3] به، وكان لها لو قبلت؛ فقالت: «لا يردّ النّصف إلّا من حنف، فاحمل النّصف إلى خيل تراها كالسّهف» . فقال مسيلمة: «سمع الله لمن سمع، وأطمعه بالخير إذا طمع، ولا زال أمره فى كلّ ما سرّ نفسه يجتمع. رآكم ربّكم فحيّاكم، ومن وحشة خلّاكم، ويوم دينه أنجاكم فأحياكم، علينا من صلوات معشر أبرار؛ لا أشقياء ولا فجّار، يقومون الليل ويصومون النهار، لربّكم الكبار، ربّ الغيوم والأمطار» . وقيل: إنّ مسيلمة لما نزلت به سجاح أغلق الحصن دونها. فقالت له: انزل. قال: فنحّى عنك أصحابك، ففعلت. فقال مسيلمة: اضربوا لها قبّة وجمّروها لعلها تذكر الباه، ففعلوا، فلمّا دخلت القّبّة نزل مسيلمة. فقال لأصحابه: ليقف ها هنا عشرة،   [1] الدقيف: تحريك الجناحين والرجلين. [2] نهدت: نهضت. [3] ك: «فحياك» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 78 ثمّ دارسها. فقالت: ما أوحى إليك؟ فقال: «ألم تر إلى ربّك كيف فعلى بالحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق [1] وحشى» قالت: وماذا أيضا؟ قال: أوحى إلىّ «إنّ الله خلق النساء أفراجا، وجعل الرجال لهن أزواجا، فنولج فيهنّ قعسا إيلاجا، ثم نخرجها إذا شئنا إخراجا، فينتجن لنا سخالا إنتاجا» . قالت: أشهد أنّك نبىّ. قال: هل لك أن أتزوّجك، وأذلّ [2] بقومى وقومك العرب؟ قالت: نعم، فقال: الا قومى إلى النّيك ... فقد هيّى لك المضجع فإن شئت ففى البيت ... وإن شئت ففى المخدع وإن شئت سلقناك [3] ... وإن شئت على أربع وإن شئت بثلثيه ... وإن شئت به أجمع قالت: بل به أجمع. قال: بذلك أوحى إلىّ، فأقامت عنده ثلاثة أيام، ثم انصرفت إلى قومها. فقالوا لها: ما عندك؟ قالت: كان على حقّ، فاتّبعته فتزوّجته، قالوا: هل أصدقك شيئا؟ قالت: لا. قالوا: فارجعى إليه، فقبيح على مثلك أن ترجع بغير صداق، فرجعت. فلما رآها مسيلمة أغلق الحصن وقال: مالك؟ قالت: أصدقنى صداقا. قال: من مؤذّنك؟ قالت: شبث بن ربعىّ. قال: علىّ به، فأتاه. فقال: ناد فى أصحابك: إنّ مسيلمة رسول الله قد وضع عنكم صلاتين مما أتاكم به محمّد: صلاة الفجر، وصلاة العشاء الآخرة.   [1] الصفاق: الجلد الأسفل الذى تحت الجلد الذى عليه الشعر. [2] الطبرى: «فآكل» . [3] سلق الجارية: بسطها وجامعها، وفى ص: «صلقناك، وهما بمعنى. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 79 قال: وكان من أصحابها الزّبرقان بن بدر وعطارد بن حاجب ونظراؤهم. فقال: إنّ عامّة بنى تميم بالرّمل لا يصلّونها، فانصرفت سجاح ومعها أصحابها، فقال عطارد بن حاجب: أمست نبيّتنا أنثى نطيف بها ... وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا وقيل: إنّها صالحت مسيلمة على أن يحمل لها النّصف من غلّات اليمامة: وأبت إلا السنة المقبلة يسلفها، فأعطى لها النصف وقال: خلّفى على السّلف من يجمعه لك، وانصرفى أنت بنصف العام، فانصرفت بالنّصف إلى الجزيرة، وخلّفت الهذيل وعقّة وزيادا؛ لينجزوا النّصف الثانى، فلم يفجأهم إلا دنوّ خالد بن الوليد، فارفضّوا. وكان من أمر مسيلمة وقتله ما نذكره بعد إن شاء الله تعالى. قال: ولم تزل سجاح بالجزيرة فى أخوالها من بنى تغلب حتى نقلهم معاوية بن أبى سفيان عام الجماعة، وجاءت معهم وحسن إسلامها وإسلامهم، وانتقلت إلى البصرة وماتت بها. وقيل: بل لمّا قتل مسيلمة سارت إلى أخوالها بالجزيرة، فماتت عندهم، ولم يسمع لها بذكر، والله تعالى أعلم. قال أبو جعفر الطبرىّ رحمه الله: وخرج [1] الزّبرقان والأقرع إلى أبى بكر؛ وقالا: اجعل لنا خراج البحرين؛ ونضمن لك ألّا يرجع من قومنا أحد، ففعل. وكتب الكتاب، وكان الذى يختلف بينهم طلحة بن عبيد الله، وأشهد شهودا، منهم عمر بن الخطاب،   [1] تاريخ الطبرى 3: 275. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 80 فلما أتى عمر بالكتاب فنظر فيه لم يشهد، ثم قال: لا والله ولا كرامة! ومزّقه ومحاه، فغضب طلحة، وأتى أبا بكر، فقال: أنت الأمير أم عمر؟ فقال: عمر؛ غير أن الطاعة لى، فسكت. وشهد الزّبرقان والأقرع مع خالد المشاهد كلّها حتى اليمامة، ثم مضى الأقرع ومعه شرحبيل إلى دومة الجندل. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 81 ذكر مسير خالد الى البطاح ومقتل مالك بن نويرة قال أبو جعفر رحمه الله: لمّا [1] انصرفت سجاح إلى الجزيرة ارعوى مالك بن نويرة، وندم وتحيّر فى أمره، وعرف وكيع وسماعة قبح ما أتيا، فرجعا رجوعا حسنا؛ [ولم يتجبّرا] [2] ، وأخرجا الصّدقات واستقبلا بها خالد بن الوليد، فقال خالد: ما حملكما على موادعة هؤلاء القوم؟ فقالا: ثأركنّا نطلبه فى بنى ضبّة، فسار خالد يريد البطاح دون الحزن، وعليها مالك بن نويرة، وقد تردّدت الأنصار على خالد، وتخلّفت عنه. وقالوا: ما هذا بعهد الخليفة إلينا، إنّ الخليفة عهد إلينا إن نحن فرغنا من البزاخة واستبرأنا بلاد القوم أن نقيم حتى يكتب إلينا؛ فقال خالد: إن يك عهد اليكم هذا، فقد عهد إلىّ أن أمضى، وأنا الأمير، وإلىّ تنتهى الأخبار، ولو أنّه لم يأتنى له كتاب ولا أمر، ثم رأيت فرصة فكنت إن أعلمته فاتتنى لم أعلمه حتى أنتهزها، وكذا لو ابتلينا بأمر ليس منه عهد إلينا فيه لم ندع أن نرى أفضل ما بحضرتنا ثم نعمل به، وهذا مالك بن نويرة بحيالنا، وأنا قاصد له ومن معى من المهاجرين والتابعين بإحسان، ولست أكرهكم.   [1] تاريخ الطبرى 3: 276 وما بعدها. [2] زيادة من الطبرى. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 82 ومضى خالد، وندمت الأنصار وتذامروا، وقالوا: إن أصاب القوم خيرا، إنّه لخير حرمتموه، وإن أصابتهم مصيبة ليجتنبنّكم الناس، فأجمعوا اللّحاق بخالد، وجرّدوا إليه رسولا، فأقام عليهم حتى لحقوا به، ثم سار حتى لحق البطاح، فلم يجدوا به أحدا. ووجد مالك بن نويرة قذ فرّقهم فى أموالهم، ونهاهم عن الاجتماع حين تردّد عليه أمره، وقال: يا بنى يربوع، إنّا قد كنّا عصينا أمراءنا إذ دعونا إلى هذا الدّين، وبطّأنا الناس عنه فلم نفلح ولم ننجح، وإنّى قد نظرت فى هذا الأمر فوجدت الأمر لا يتأتّى لهم بغير سياسة، فإيّاكم ومناوأة قوم صنع لهم، فتفرّقوا إلى دياركم، [وادخلوا فى هذا الأمر] . [1] فتفرّقوا على ذلك إلى أموالهم. وخرج مالك بن نويرة حتى رجع إلى منزله. فلمّا قدم خالد البطاح بثّ السّرايا وأمرهم بداعية الإسلام، أن يأتوه بكلّ من لم يجب، وإن امتنع أن يقتلوه. فجاءته الخيل بمالك بن نويرة فى نفر معه من بنى ثعلبة بن يربوع، من عاصم وعبيد، وعرين وجعفر، فاختلفت السّرية فيهم، وفيهم أبو قتادة- وكان ممّن شهد أنّهم قد أذّنوا وأقاموا وصلّوا- فلمّا اختلفوا فيهم أمر بهم خالد فحبسوا فى ليلة باردة لا يقوم لها شىء، وجعلت تزداد بردا. فأمر خالد مناديا فنادى: أدفئو أسراكم. وكانت فى لغة كنانة إذا قالوا: دثّروا الرجل فأدفئوه، كان دفؤه قتله، فظنّ القوم- وهى فى لغتهم القتل- أنّه أراد القتل، فقتلوهم، فقتل ضرار بن الأزور مالكا. وسمع خالد الواعية [2] . فخرج وقد فرغ منهم فقال: إذا أراد الله أمرا أصابه.   [1] تكملة من تاريخ الطبرى. [2] الواعية: الصراخ والصوت على الميت. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 83 وقد اختلف القوم فيهم؛ فقال أبو قتاده: هذا عملك! فزبره [1] خالد فغضب، ومضى حتى أتى أبا بكر، فغضب عليه أبو بكر حتى كلّمه عمر فيه، فلم يرض إلّا أن يرجع إلى خالد، فرجع إليه حتى قدم معه المدينة. وتزوّج خالد أمّ تميم ابنة المنهال، وتركها لينقضى طهرها، وكانت العرب تكره النّساء فى الحرب، فقال عمر لأبى بكر: إنّ فى سيف خالد رهقا [2] ، فإن لم يكن هذا حقّا حقّ عليه أن تقيده، وأكثر عليه فى ذلك، وكان أبو بكر لا يقيد من عمّاله- فقال: هبه يا عمر تأوّل فأخطأ، فارفع لسانك عن خالد. وودى مالكا، وكتب إلى خالد أن يقدم ففعل. فأخبره خبره فعذره وقبل منه، وعنّفه فى التّزويج الذى كانت [تعيب] [3] عليه العرب. وقيل: إنّ عمر بن الخطاب ألحّ على أبى بكر فى عزل خالد. وقال: إنّ فى سيفة رهقا. فقال: يا عمر، لم أكن أشيم [4] سيفا سلّه الله على الكافرين. وقيل: ولما أقبل خالد قافلا دخل المسجد وعليه قبالا، عليه صدأ الحديد، معتجرا [5] بعمامة له. قد غرز فيها أسهما، فقام إليه عمر فانتزع الأسهم من رأسه فحطّمها، ثم قال: أقتلت أمرأ مسلما ثم نزوت على امرأته! والله لأرجمنّك بأحجارك. وخالد لا يكلّمه   [1] زبره: نهره. [2] الرهق: السفه والخفة وركوب الظلم. [3] تكملة من تاريخ الطبرى. [4] شام السيف: أغمده. [5] الاعتجار: لف العمامة. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 84 ولا يظنّ إلّا أنّ رأى بكر على مثل رأى عمر فيه، حتى دخل على أبى بكر فأخبره الخبر، فاعتذر إليه، فعذره أبو بكر وتجاوز عنه ما كان فى حربه تلك. وخرج خالد حين رضى عنه أبو بكر وعمر جالس فى المسجد، فقال: هلمّ إلىّ يابن أمّ شملة؛ فعرف عمر أن أبا بكر قد رضى عنه فلم يكلّمه، ودخل بيته. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبى، ونعم الوكيل. ذكر خبر مسيلمة الكذاب وقومه من أهل اليمامة كان [1] من خبر مسيلمة أنّه لما قدم وفد بنى حنيفة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ كما قدّمناه فى السيرة النبوية فى أخبار الوفود، وكان مسيلمه فى رحالهم، فلمّا أجازهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قالوا: يا رسول الله، خلّفنا صاحبا لنا فى رحالنا يبصرها لنا، وفى ركابنا يحفظها علينا؛ فأمر له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمثل ما أمر لأصحابه، وقال: «ليس بشرّكم مكانا لحفظه ركابكم ورحالكم» ، فقيل ذلك لمسيلمة. فقال: عرف أنّ الأمر إلىّ من بعده. ثم ادّعى النبوّة بعد ذلك، وكان الرّجّال [2] بن عنفوة قد هاجر إلى   [1] تاريخ الطبرى 3: 281 وما بعدها. [2] ك «الرحال» ، بالحاء، صوابه من ص وتاريخ الطبرى. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 85 رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتعلّم القرآن من أبىّ بن كعب، وفقه فى الدّين، فبعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معلّما لأهل اليمامة، وليشغب على مسيلمة؛ ويشدّد من أمر المسلمين، وكان أعظم فتنة على بنى حنيفة من مسيلمة، شهد له أنّه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: إنه قد أشرك معه؛ فصدّقوه واستجابوا له، وأمروه بمكاتبة النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، ووعدوه إن هو لم يقبل أن يعينوه عليه. وقبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ والأمر على ذلك، فقويت شوكة مسيلمة، واشتدّ أمره، وكثرت جموعه، وتمكّن الرّجّال بن عنفوة من مسيلمة، وعظم شانه عنده، فكان لا يخالفه فى أمر ولا يقول شيئا إلا تابعه عليه، وكان مسيلمة يصانع كلّ أحد ممّن اتّبعه، ويتابعه على رأيه، ولا يبالى أن يطّلع الناس منه على قبيح، وضرب حرما باليمامة؛ فكان محرّما، فوقع ذلك الحرم فى الأحاليف، (أفخاذ من بنى أسيّد كانت دارهم اليمامة) ، فصار مكان دارهم الحرم، والأحاليف: سبحان ونمارة، وبنو جروة، فكانوا يغيرون على ثمار أهل اليمامة، فإن نذروا [1] بهم فدخلوا الحرم أحجموا عنهم، وإن لم ينذروا بهم فذاك ما يريدون؛ فكثر ذلك منهم، حتى استعدوا عليهم مسييلمة، فقال: انظروا الذى يأتى من السماء فيكم وفيهم، ثم قال لهم: «والليل الأطحم [2] ، والذئب الأدلم [3] ، ما انتهكت   [1] نذروا: علموا. [2] الطحمة: سواد الليل. [3] الأدلم: الأسود الطويل. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 86 أسيّد من محرم» ، ثم عادوا للغارة والعدوى [1] ، فقال: انتظروا الّذى يأتينى. ثم قال: «والليل الدّامس، والذئب الهامس [2] ، ما قطعت أسيّد من رطب ولا يابس» ؛ فقالوا: أمّا النخيل فمرطبة [3] وقد جدّوها [4] ، وأمّا الجدران فيابسة وقد هدموها، فقال: اذهبوا وارجعوا فلا حقّ لكم. وكان فيما يقرؤه لهم فيهم: إنّ بنى تميم قوم طهر لقاح [5] ، لا مكروه عليهم ولا إتارة، نجاورهم ما حيينا بإحسان، نمنعهم من كلّ إنسان، فإذا متنا فأمرهم إلى الرحمن» . وكان يقول: والشّاء وألوانها، وأعجبها السّود وألبانها، والشاة السوداء، واللبن الأبيض؛ إنّه لعجب [محض] [6] ، وقد حرّم المذق، فما لكم تمجّعون [7] !. وكان يقول: «يا ضفدع ابنة ضفدع، نقّى ما تنقّين، أعلاك فى الماء وأسفلك فى الطين، لا الشارب تمنعين، ولا الماء تكدّرين» . وقال أيضا: «والمبذّرات زرعا، والحاصدات حصدا، والزّارعات قمحا، والطّاحنات طحنا، والخابزات خبزا، والثّاردات ثردا [8] ، واللّاقمات لقما، إهالة وسمنا، لقد فضّلّتم على الوبر،   [1] العدوى: العدوان والظلم. [2] الذئب الهامس: الشديد. [3] الطبرى: مرطبة. [4] جدوها: قطعوها. [5] قوم لقاح: لم يدينوا الملوك. [6] زيادة من الطبرى. [7] الطبرى: «لا تمجعون» . [8] ثرد الخبز: فتنة ثم بله بمرق. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 87 وما سبقكم أهل المدر؛ ريفكم فامنعوه، والمعترّ فآووه [1] ، والباغى فناوئوه» . قالوا: وأتته امرأة فقالت: إنّ نخلنا لسحق [2] ، وإن آبارنا لجرز [3] فادعى الله لمائنا ونخلنا، كما دعا محمّد لأهل هزمان، ففعل كما فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ودعا للنخل، وتمضمض من الماء، ومجّه فى الآبار، فيبست النخل، وغارت الآبار. وقيل: إنّه نزل على أولاد بنى حنيفة كما فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فمرّ بيده على رءوسهم، وحنّكهم، فقرع ولثغ من فعل به ذلك، وظهر ذلك كلّه بعد مهلكه. قالوا: وجاء طلحة النّمرىّ، فقال: أين مسيلمة؟ فقالوا: مه رسول الله! فقال: لا، حتى أراه، فلما جاءه قال: أنت مسيلمة؟ قال: نعم، قال: من يأتيك؟ قال: رحمن. قال: أفى نور أو فى ظلمة؟ فقال: فى ظلمة، فقال: أشهد أنّك كذّاب، وأنّ محمدا صادق، ولكنّ كذّاب ربيعة أحبّ إلىّ من صادق مضر. والله سبحانه أعلم، وصلّى الله على سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.   [1] المعتر: الفقير. [2] سحق: جمع سحوق؛ وهى الطويلة من النخل. [3] لجرز: الأرض جدية. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 88 ذكر الحروب الكائنة بين بين المسلمين وبين مسيلمة وبين أهل اليمامه وقتل مسيلمة قد ذكرنا أنّ أبا بكر الصدّيق لمّا عقد الألوية، عقد لعكرمة ابن أبى جهل، وأمره بمسيلمة، ثم أردفه شرحبيل بن حسنة، فعجّل عكرمة، وبادر الحرب ليذهب بصوتها، فواقعهم، فنكبوه، وأقام شرحبيل فى الطريق حتى أدركه الخبر. وكتب [1] أبو بكر رضى الله عنه إلى عكرمة: يابن أمّ عكرمة؛ لا أرينّك ولا ترانى على حالها، ولا ترجع فتوهن الناس، امض على وجهك حتى تساند حذيفة وعرفجة، فقاتل معهما أهل عمان ومهرة، وإن شغلا فامض أنت، ثم تسير ويسير جندك؛ تستبرئون من مررتم به حتى تلتقوا أنتم والمهاجر بن أبى أميّة باليمن وحضرموت. وكتب إلى شرحبيل يأمره بالمقام حتّى يأتيه أمره، ثم كتب إليه قبل أن يوجّه خالد بن الوليد بأيّام إلى اليمامة: إذا قدم عليك خالد ثم فرغتم- إن شاء الله- فالحق بقضاعة حتى تكون أنت وعمرو بن العاص على من أبى منهم وخالف. فلمّا قدم خالد على أبى بكر الصّديق رضى الله عنه من البطاح رضى عنه، وقبل عذره كما ذكرنا، ووجّهه إلى مسيلمة، وأوعب معه الناس، وجعل على كلّ قبيلة رجلا، وجعل على المهاجرين أبا حذيفة بن عتبة، وجعل على الأنصار ثابت بن قيس بن شماس،   [1] تاريخ الطبرى 3: 314- 316، وابن الأثير 2: 246. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 89 وتعجّل خالد حتّى قدم على أهل العسكر بالبطاح، وانتظر البعث الذى ضرب بالمدينة، فلمّا قدم عليه نهض حتى أتى اليمامة، وبنو حنيفة يومئذ تزيد عدّتهم على أربعين ألف مقاتل. وعجّل شرحبيل بن حسنة، وبادر بالقتال قبل وصول خالد كما فعل عكرمة، فنكب كما نكب، فلما قدم خالد لامه، وسار خالد حتى إذا أطلّ على بنى حنيفة أسند خيولا لعقّة والهذيل وزياد، وقد كانوا أقاموا على خرج أخرجه لهم مسيلمة ليلحقوا به سجاح، وإنّما أسند خالد تلك الخيول مخافة أن يأتوه من خلفه، وأمدّ أبو بكر رضى الله عنه خالدا بسليط بن عمرو بن عبد شمس العامرىّ القرشىّ ليكون ردءا له من أن يأتيه أحد من خلفه؛ فخرج. فلمّا دنا من خالد وجد تلك الخيول التى انتابت تلك البلاد قد فرّقوا فهربوا، فكان منهم قريبا لهم، وأمّا مسيلمة فإنّه لما بلغه دنوّ خالد بن الوليد منه عسكر بعقرباء، واستنفر النّاس، فجعل النّاس يخرجون إليه، وخرج مجاعة بن مرارة بن سلمى الحنفىّ اليمامىّ- وكان رئيسا من رؤساء بنى حنيفة- فى سريّة يطلب بثأر له فى بنى عامر وبنى تميم، فلمّا كان خالد من عسكر مسيلمة على ليلة، إذا مجّاعة وأصحابه وقد غلبهم الكرى- وكانوا راجعين من بلاد بنى غامر- فعرّسوا دون ثنيّة اليمامة، فوجدوهم نياما وأرسان خيولهم بأيديهم تحت خدودهم، ولا يشعرون بقرب الجيش منهم، فأنبهوهم، وقالوا: من أنتم؟ قالوا: مجّاعة، وهذه حنيفة، فأوثقوهم، وأقاموا إلى أن جاءهم خالد فأتوه بهم، فظنّ أنّهم جاءوه الجزء: 19 ¦ الصفحة: 90 ليستقبلوه، فقال: متى سمعتم بنا؟ قالوا: ما شعرنا بك، إنّما خرجنا لثأر لنا فيمن حولنا من بنى عامر وتميم، فأمر بهم أن يقتلوا، فقالوا: إن كنت تريد بأهل اليمامة غدا خيرا أو شرّا فاستبق هذا، ولا تقتله- يريدون مجّاعة- فقتلهم كلّهم دونه، وكانوا ثلاثة وعشرين راكبا- وقيل: أربعين. وقيل: ستّين- وصبر مجّاعة، وسار إلى اليمامة، فخرج مسيلمة وبنو حنيفة، فنزلوا بعقرباء، وهى طرف اليمامة؛ دون الأموال، وريف اليمامة وراء ظهورهم. وقال شرحبيل بن مسيلمة [1] : يا بنى حنيفة، اليوم يوم الغيرة، اليوم إن هزمتم تستردف النساء سبيّات، وينكحن غير حظيّات، فقاتلوا عن أحسابكم، وامنعوا نساءكم. فالتقوا بعقرباء واقتتلوا، وكانت راية المهاجرين يومئذ مع سالم مولى أبى حذيفة. وقيل: بل كانت مع زيد بن الخطاب، فلما قتل أخذها سالم، فقالوا له: تخشى علينا من نفسك شيئا؟ فقال: بئس حامل القرآن إنا إذا! وكانت راية الأنصار مع ثابت ابن قيس بن شمّاس، وكانت العرب على راياتها، وسجّاعة فى الأسر مع أمّ تميم زوجة خالد فى فسطاطها، واقتتل النّاس أشدّ قتال، ولم يلق المسلمون حربا مثلها، فانهزم المسلمون وخلص بنو حنيفة إلى خالد، فزال عن الفسطاط، ووصلوا إليه وقطعوه، ودخل أناس من بنى حنيفة على أمّ تميم، فأرادوا قتلها، فمنعها مجّاعة. وقال: أنا لها جار، فنعمت الحرّة! فدفعهم عنها.   [1] ص: «مسلمة» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 91 ثم إنّ المسلمين تداعوا؛ فقال ثابت بن قيس: بئسما دعوتم أنفسكم إليه يا معشر المسلمين، اللهمّ إنّى أبرأ إليك ممّا يعبد هؤلاء- يعنى أهل اليمامة- وأعتذر إليك ممّا يصنع هؤلاء- يعنى المسلمين- ثم قاتل حتى قتل، قطعت رجله فرمى بها قاتله فقتله. - وله رضى الله عنه خبر عجيب نذكره إن شاء الله تعالى فى آخر هذه الوقعة- قالوا: وحمل خالد فى الناس حتى ردّهم أبعد ما كانوا، واشتدّ القتال، وكانت الحرب يومئذ تارة للمسلمين، وتارة عليهم، وقتل سالم وأبو حذيفة وزيد بن الخطاب وغيرهم. فلما رأى خالد ما النّاس فيه، قال: امتازوا اليوم أيّها الناس، لنعلم بلاء كلّ حىّ، ولنعلم من أين نؤتى! فلمّا امتازوا قال بعضهم لبعض: اليوم نستحيى من الفرار. وقاتل الناس قتالا عظيما، وثبت مسيلمة، فعرف خالد أنّ الفتنة لا تركد إلّا بقتل مسيلمة، فبرز ودعا إلى البراز، فما يبرز له أحد إلا قتله، ودعا مسيلمة فأجابه؛ وعرض عليه أشياء، فكان إذا همّ بجوابه أعرض بوجهه يستشير شيطانه، فينهاه أن يقبل، فأعرض بوجهه مرة، فركبه خالد وأرهقه فأدبر، وزال أصحابه، فكانت هزيمتهم، وقالوا لمسيلمة: أين ما كنت تعدنا؟ فقال: قاتلوا عن أحسابكم. ونادى المحكّم بن الطّفيل: يا بنى حنيفة، الحديقة الحديقة! فدخلوها، وأغلقوا بابها عليهم. قال: وكان البراء بن مالك أخو أنس؛ إذا حضر الحرب أخذته رعدة حتى يقعد الرجال عليه، ثم يبول، فإذا بال ثار كما يثور الجزء: 19 ¦ الصفحة: 92 الأسد، فأصابه ذلك، فقال: إلىّ أيها الناس؛ أنا البراء بن مالك؛ وقاتل قتالا شديدا، فلمّا دخل بنو حنيفة الحديقة، قال البراء: يا معشر المسلمين، ألقونى عليهم فيها. فقالوا: لا نفعل، فاحتمل حتى أشرف على الجدار واقتحمها عليهم، وقاتل على الباب، وفتحه المسلمون، ودخلوا عليهم، فاقتتلوا أشدّ قتال، وكثر القتل فى الفريقين، فلم يزالوا كذلك حتى قتل مسيلمة، واشترك فى قتله وحشىّ، مولى جبير بن مطعم قاتل حمزة بن عبد المطّلب، ورجل من الأنصار، فولّت حنيفة عند قتله منهزمة، وأخذهم السّيف من كلّ جانب. وقتل محكّم اليمامة، قتله عبد الرحمن بن أبى بكر الصّديق، رضى الله عنه؛ رماه بسهم فى نحره وهو يخطب ويحرّض الناس فقتله، وقتل من المهاجرين والأنصار من أهل المدينة ثلاثمائة وستّون، ومن المهاجرين من غير المدينة ثلاثمائة، وقتل من بنى حنيفة بعقرباء سبعة آلاف، وفى حديقة الموت مثلها، وفى الطّلب نحو منها؛ وخرج خالد بمجّاعة يرسف فى الحديد ليدلّه على مسيلمة، فجعل يكشف القتلى حتى مرّ بمحكّم بن الطّفيل، وكان رجلا جسيما وسيما، فلمّا رآه خالد قال: هذا صاحبكم؟ قال: لا، هذا والله خير منه وأكرم؛ هذا محكّم اليمامة. ثم مضى حتّى دخل الحديقة، فقلّب له القتلى، فإذا رويجل أصيفر أخينس [1] . فقال مجّاعة: هذا صاحبكم قد فرغتم منه؛ فقال خالد لمجّاعة: هذا فعل بكم ما فعل! قال؛ قد كان ذلك يا خالد. وإنّه والله ما جاءك إلّا سرعان [2] الناس،   [1] أخينس، تصغير أخنس، والخنس محركة: تأخر الأنف عن الوجه مع ارتفاع قليل فى الأرنبة. [2] سرعان الناس: أوائلهم. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 93 وإنّ جماهير النّاس لفى الحصون، فقال: ويلك، ما تقول! قال: هو والله الحقّ، فهلمّ لأصالحكم على قومى. وجاء عبد الرحمن بن أبى بكر وعبد الله بن عمر إلى خالد، فقالا له: ارتحل بالنّاس، فانزل على الحصون، فقال: دعانى أبثّ الخيول فألتقط من ليس فى الحصون ثم أرى؛ فبثّ الخيول فحووا ما وجدوا من مال وصبيان، فضمّوهم إلى العسكر، ونادى بالرحيل لينزل على الحصون، فقال له مجّاعة: إنّه والله ما جاءك إلّا سرعان النّاس، فإنّ الحصون لمملوءة رجالا، فهلمّ إلى الصلح على ما ورائى، فصالحه على كلّ شىء دون النّفوس؛ ثمّ قال مجّاعة: أنطلق إليهم فأشاورهم، وننظر فى هذا الأمر، ثم أرجع إليك، فدخل مجّاعة الحصون وليس فيها إلا النّساء والصّبيان ومشيخة فانية، ورجال ضعفى [1] ، فظاهر الحديد على النّساء، وأمرهنّ بنشر شعورهنّ، وأن يشرفن على رءوس الحصون حتى يرجع إليهم، ثم رجع إلى خالد، فقال: قد أبوا أن يجيزوا ما ضيّعت، وقد أشرف لك بعضهم نقضا علىّ، وهم منّى براء، فنظر خالد إلى رءوس الحصون: وقد اسودّت وقد نهكت المسلمين الحرب، وأحبوا أن يرجعوا على الظّفر. فقال مجّاعة لخالد: إن شئت صنعت شيئا، فعزمت على القوم؛ تأخذ منى ربع السّبى وتدع ما بقى؛ فقال خالد: قد فعلت. قال: قد صالحتك، فلما فرغا فتحت الحصون، فإذا ليس فيها إلّا النساء والصّبيان. فقال خالد لمجّاعة: ويحك! خدعتنى. فقال: قومى، ولم أستطع إلا ما صنعت.   [1] الطبرى: «ضعفاء» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 94 وقيل: إنّ خالدا صالح مجّاعة على نصف السّبى، والصّفراء، والبيضاء، والحلقة، والكراع، وحائط [1] من كل قرية يختار [2] خالد، ومزرعة يختارها، فتقاضوا على ذلك. ثم سرّحه وقال: أنتم بالخيار ثلاثا، والله لئن لم تتمّوا وتقبلوا لأنهدنّ إليكم ثم قال: لا أقبل منكم خصلة أبدا إلّا القتل، فأتاهم مجّاعة، فقال: أمّا الآن فاقبلوا. فقال سلمة بن عمير الحنفى: لا والله لا نقبل؛ تبعث إلى أهل القرى والعبيد. فنقاتل ولا نقاضى خالدا؛ فإنّ الحصون حصينة، والطعام كثير، والشتاء قد حضر. فقال له مجّاعة: إنّك امرؤ مشئوم، وغرّك أنى خدعت القوم حتى أجابونى إلى الصّلح، وهل بقى منكم أحد فيه خير وبه دفع! وإنّما أنا بادرتكم. فخرج مجّاعة سابع سبعة حتى أتى خالدا. فقال: بعد شرّ ما رضوا اكتب كتابك. فكتب: بسم الله الرّحمن الرّحيم هذا ما قاضى عليه خالد بن الوليد مجّاعة بن مرارة وسلمة ابن عمير، وفلانا وفلانا. قاضاهم على الصّفراء والبيضاء ونصف السّبى. والحلقة والكراع. وحائط من كلّ قرية ومزرعة، على أن يسّلموا. ثم أنتم آمنون بأمان الله، لكم ذمّة خالد بن الوليد، وذمة أبى بكر خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وذمم المسلمين على الوفاء.   [1] الحائط هنا: البستان. [2] ص «يختاره خالد. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 95 ووصل كتاب أبى بكر إلى خالد بقتل كلّ محتلم، وكان قد صالحهم فوفى لهم. ثمّ إنّ خالد بن الوليد قال لمجّاعة: زوّجنى ابنتك، فقال مجّاعة: مهلا، إنّك قاطع ظهرك وظهرى معك عند صاحبك. قال: أيّها الرجل، زوّجنى، فزوّجه، فبلغ ذلك أبا بكر فكتب، إليه كتابا يقطر الدّم؛ يقول: يابن أمّ خالد؛ إنك لفارغ، تنكح النساء وبفناء بيتك دم ألف ومائتى رجل من المسلمين لم يجفف بعد! فلما نظر خالد فى الكتاب جعل يقول: هذا عمل الأعيسر- يعنى عمر بن الخطاب رضى الله عنه. وبعث خالد وفدا من بنى حنيفة إلى أبى بكر، فقدموا عليه. فقال لهم: ويحكم! ما هذا الذى استنزل منكم ما استنزل؟ قالوا: يا خليفة رسول الله، قد كان الذى بلغك مما أصابنا، كان أمرا لم يبارك الله له، ولا لعشيرته فيه. قال: على ذلك، ما الذى دعاكم به؟ قالوا: كان يقول: «يا ضفدع نقّى نقّى، لا الشارب تمنعين، ولا الماء تكدّرين، لنا نصف الأرض، ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشا قوم يعتدون» . فقال أبو بكر رضى الله عنه: سبحان الله، ويلكم! إن هذا الكلام ما خرج من إلّ ولا برّ [1] . فأين يذهب بكم! قال أبو جعفر: لما فرغ خالد من اليمامة. وكان منزله الذى   [1] الإل: العهد والقرابة. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 96 به التقى الناس أباض (واد من أودية اليمامة) ؛ ثم تحوّل إلى واد من أوديتها يقال له: الوبر، فكان منزله بها [1] . ذكر خبر ثابت بن قيس بن شماس فى مقتله وتنفيذ وصيته للرؤيا التى رئيت بعد مقتله قد أشرنا عند ذكر مقتله أن له خبرا عجيبا نذكره، ورأينا إيراده هاهنا توفية للشرط. حكى الحافظ أبو عمر بن عبد البر رحمه الله، قال: لما [2] انكشف المسلمون يوم اليمامة. قال ثابت بن قيس وسالم مولى أبى حذيفة: ما هكذا كنّا نقاتل مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم حفر كلّ واحد منهما له حفرة، وثبتا وقاتلا حتى قتلا. وكان على ثابت يومئذ درع له نفيسة، فمرّ به رجل من المسلمين فأخذها، فبينا رجل من المسلمين نائم إذ أتاه ثابت فى منامه، فقال له: إنّى أوصيك بوصية، فإيّاك أن تقول هذا حلم فتضيّعه؛ إنى لمّا قتلت أمس مرّ بى رجل من المسلمين، فأخذ درعى، ومنزله فى أقصى النّاس، وعند خبائه فرس يستنّ فى طوله [3] ، وقد كفأ على الدّرع برمة، وفوق البرمة رحل، فأت خالدا فمره أن يبعث إلى درعى فيأخذها، وإذا قدمت المدينة على خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم- يعنى أبا بكر- فقل له: إنّ علىّ من الدّين كذا وكذا، وفلان من رقيقى عتيق. فأتى الرجل خالدا فأخبره. فبعث إلى الدرع فأتى بها.   [1] تاريخ الطبرى 3: 300. 301. [2] الاستيعاب لابن عبد البر 200 وما بعدها. [3] يستن: يقمص. والطول: الحبل. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 97 وحدّث أبا بكر برؤياه، فأجاز وصيّته [من بعد موته] [1] . قال: ولا نعلم أحدا أجيزت وصيّته بعد موته غير ثابت بن قيس رحمه الله تعالى. ذكر أهل البحرين ومن ارتد منهم وانضم إلى الحطم وما كان من أمرهم والحطم اسمة شريح بن ضبيعة. قال أبو عبيدة فى سبب تسميته بالحطم: إنّه [2] كان غزا اليمن فى جموع جمعها من ربيعة، فغنم وسبى بعد حرب كانت بينه وبين كندة، أسر فيها فرعان ابن مهدىّ بن معدى كرب عمّ الأشعث بن قيس، وأخذ على طريق مفازة؛ فضلّ بهم دليلهم، ثم هرب منهم، ومات فرعان عطشا، وهلك منهم ناس كثيرون بالعطش، وجعل شريح يسوق بأصحابه سوقا حثيثا حتى نجوا، ووردوا الماء؛ فقال فيه رشيد بن رميض هذه الأبيات: بات يقاسيها غلام كالزّلم ... نام الحداة وابن هند لم ينم هذا أوان الشّدّ فاشتدّى زيم ... قد لفّها الليل بسوّاق حطم خدلّج الساقين خفّاق القدم ... ليس براعى إبل ولا غنم ولا بجزّار على ظهر وضم فلقّب يومئذ الحطم لذلك.   [1] زيادة من الاستيعاب: [2] ك: «أنه كان عن اليمن فى جموع جمعها» ، والمثبت من ص. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 98 قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبرى رحمه الله: كان [1] من حديث أهل البحرين أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اشتكى هو والمنذر ابن ساوى فى شهر واحد، ثم مات المنذر بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقليل، وارتدّ [2] بعده أهل البحرين، فأما عبد القيس ففاءت، وأمّا بكر فتمّت على الردّة، وكان الذى ثنى عبد القيس الجارود بن المعلّى. وقيل فيه: الجارود بن عمرو بن حبيش بن يعلى [3] ، واسمه- فيما يقال- بشر بن عمرو، وإنّما قيل له الجارود؛ لأنّه أغار فى الجاهلية على بكر بن وائل، فأصابهم فجرّدهم. - وهذه الزيادة فى اسم الجارود عن غير الطبرى- قال أبو جعفر: وكان الجارود قد قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان نصرانيّا فأسلم، ومكث بالمدينة حتى فقه، ثم رجع إلى قومه فكان فيهم؛ فلم يلبث إلا قليلا حتى قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فقالت عبد القيس: لو كان محمد نبيّا لما مات؛ وارتدّوا؛ فبعث إليهم فجمعهم، وقال: يا معشر عبد القيس؛ إنّى سائلكم عن أمر فأخبرونى به إن علمتموه، ولا تجيبونى إن لم تعلموا؛ قالوا: سل عمّا بدا لك. قال: تعلمون أنّه كان لله تعالى أنبياء فيما مضى؟ قالوا: نعم، قال: ترونه أو تعلمونه؟ قالوا: لا، بل نعلمه. قال: فما فعلوا؟ قالوا: ماتوا؛ قال: فإنّ محمدا صلى الله عليه وسلم مات كما ماتوا، وأنا أشهد أنّ لا إله إلّا الله،   [1] تاريخ الطبرى 3: 301 وما بعدها، الأغانى 15: 255. [2] ص: «وارتدت» . [3] ص: «حنش بن يعلى» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 99 وأن محمدا عبده ورسوله؛ قالوا: ونحن نشهد أنّ لا إله إلّا الله، وأنّ محمدا عبده ورسوله، وأنّك ضف؟؟؟ سيدنا وألنا؟؟؟. وثبتوا على إسلامهم وخلّوا بين سائر ربيعة وبين المنذر بن ساوى، فكان المنذر مشتغلا بهم حياته، فلمّا مات حصر أصحابه فى مكانين، فكانوا كذلك حتى أنقذهم [1] العلاء بن الحضرمىّ. قال: ولما ارتدّت ربيعة ومن تابعها. قالوا: نردّ الملك فى آل المنذر، فملّكوا المنذر بن النّعمان بن المنذر، وكان يسمّى الغرور، فكان يقول بعد ذلك حين أسلم الناس وغلبهم السيف: لست بالغرور، ولكنى المغرور [2] . قال: ولمّا مات النبىّ صلّى الله عليه وسلّم خرج الحطم بن ضبيعة أخو قيس بن ثعلبة فيمن اتّبعه من بكر بن وائل على الرّدة، ومن تأشّب [3] إليه من غير المرتدّين؛ ممّن لم يزل كافرا حتى نزل القطيف [4] وهجر، وبعث بعثا إلى دارين، فأقاموا به ليجعل عبد القيس بينه وبينهم، وكانوا مخالفين لهم، يمدّون المنذر والمسلمين، وأرسل إلى الغرور ابن أخى [5] النعمان بن المنذر، فبعثه إلى جؤاثى، وقال له: اثبت، فإنّى إن ظفرت ملّكتك بالبحرين حتى تكون كالنّعمان بالحيرة، وبعث إلى جواثى فحصرهم، وألحّوا عليهم، وفى المسلمين المحصورين رجل من صالحى المسلمين. يقال له: عبد الله بن حذف،   [1] ص: «أنقدهم» تحريف. [2] ك: «الفرور» . [3] تأشب: تجمع إليه من هنا وهنا. [4] القطيف: مدينة بالبحرين. [5] فى الطبرى أخ: ى» «. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 100 أحد بنى بكر بن كلاب، فاشتدّ عليه وعليهم الجوع حتى كادوا يهلكوا؛ فقال عبد الله بن حذف فى ذلك: ألا أبلغ أبا بكر رسولا ... وفتيان المدينة أجمعينا [1] فهل لكم إلى قوم كرام ... قعود فى جؤاثى محصرينا كأنّ دماءهم فى كلّ فجّ ... شعاع الشمس يغشى النّاظرينا توكّلنا على الرّحمن إنّا ... وجدنا الصّبر للمتوكّلينا وكان أبو بكر الصّديق رضى الله عنه قد عقد للعلاء بن الحضرمىّ، وأمّره بالبحرين كما قدّمنا ذكر ذلك، فسار العلاء فيمن معه، فلمّا كان بحيال اليمامة لحق به ثمامة بن أثال فى مسلمة بنى حنيفة، وخرج مع العلاء من بنى عمرو وسعد والرّباب مثل عسكره، وسلك الدّهناء فنزل، وأمر النّاس بالنزول، فنزلوا، فنفرت الإبل فى جوف الليل، فما بقى بعير ولا زاد ولا مزاد ولا بناء إلّا ذهب عليها فى عرض الرّمل، وذلك حين نزل الناس، وقبل أن يحطّوا، فما هجم على جمع من الغمّ ما هجم عليهم، وأوصى بعضهم إلى بعض، ونادى منادى العلاء: اجتمعوا، فاجتمعوا إليه؛ فقال: ما هذا الذى قد ظهر فيكم، وغلب عليكم؟ فقال النّاس: وكيف نلام ونحن إن بلغنا غدا لم تحم شمسه [2] حتى نصير حديثا، فقال: أيّها النّاس، لا تراعوا، ألستم مسلمين! ألستم فى سبيل الله.! ألستم أنصار الله! قالوا: بلى. قال: فابشروا فو الله لا يخذل الله من كان فى مثل حالكم.   [1] الأبيات فى الأغانى 15: 256. [2] ص: «شمسها» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 101 ونادى المنادى بصلاة الصّبح حين طلع الفجر، فصلّى بهم، منهم المتيمّم، ومنهم من لم يزل على طهره، فلمّا قضى صلاته جثا لركبتيه، وجثا النّاس، فنصب فى الدّعاء، ونصبوا معه، فلمع لهم سراب [1] الشّمس، فالتفت إلى الصفّ. فقال: رائد ينظر ما هذا، ففعل، ثم رجع فقال: سراب. فأقبل على الدعاء، ثم لمع لهم آخر، فكذلك، ثم لمع لهم آخر، فقال: ماء، فقام وقام الناس معه، فمشوا حتى نزلوا عليه، فشربوا واغتسلوا، فما تعالى النهار حتى أقبلت الإبل تكرد [2] من كلّ وجه، فأناخت عليهم، فأقام كلّ رجل إلى ظهره، فأخذه. قال منجاب بن راشد: فما فقدمنا سلكا [3] ؛ فأرويناها وأسقيناها العلل بعد النّهل [4] ، وتروّينا، ثم تروّحنا. وكان أبو هريرة رفيقى فلمّا غبنا عن ذلك المكان. قال لى: كيف علمك بموضع ذلك الماء؟ فقلت: أنا من أهدى العرب بهذه البلاد. قال: فكن معى حتى تقيمنى عليه، فكررت به، فأتيت به على ذلك المكان، فقلت: لولا أنّى [لا أرى] [5] الغدير لأخبرتك أنّ هذا هو المكان، وما رأيت بهذا المكان ماء ناقعا [6] قبل اليوم، وإذا إداوة مملوءة، فقال: يا أبا سهم، هذا والله المكان، ولهذا رجعت بك، وملأت إدواتى ثم وضعتها على شفيره. فقلت: إن كان منّا من المنّ وكانت   [1] ك: «شراب» تصحيف. [2] الكرد: الطرد، وفى الأصول: «يرتكد» تصحيف، صوابه من تاريخ الطبرى. [3] السلك: جمع سلكة، وهو الخيط الذى يخاط به الثوب. [4] العلل: الشراب الثانى، والنهل: الشراب الأول. [5] من الطبرى. [6] كذا فى الطبرى، وفى الأصول: «نافعا» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 102 آية عرفتها، وإن كان غياثا عرفته، فإذا منّ من المنّ؛ فحمد الله. ثم سرنا حتى ننزل هجر. قال: فأرسل العلاء بن الحضرمىّ إلى الجارود ورجل آخر: أن انضما فى عبد القيس حتى تنزلا على الحطم مما يليكما، وخرج هو فيمن جاء معه، وفيمن قدم عليه حتّى ينزل عليه ما يلى هجر، وتجمّع المشركون كلّهم إلى الحطم إلّا أهل دارين، وتجمّع المسلمون كلّهم إلى العلاء، وخندق المسلمون والمشركون، فكانوا يتراوحون القتال ويرجعون إلى خندقهم، فكانوا كذلك شهرا. فبينا الناس ليلة إذ سمع المسلمون فى عسكر المشركين ضوضاء شديدة، كأنها ضوضاء هزيمة أو قتال، فقال العلاء: من يأتينا بخبر القوم؟ فقال عبد الله بن حذف: أنا آتيكم بخبر القوم؛ فخرج حتّى إذا دنا من خندقهم أخذوه؛ فقالوا له: من أنت؟ فانتسب لهم، وجعل ينادى: يا أبجراه! فجاء أبجر فعرفه فقال: ما شأنك؟ فقال: لا أصغّر بين اللهازم [1] ، فقال: والله إنى لأظنّك بئس ابن الأخت لأخوالك الليلة. فقال: دعنى من هذا، وأطعمنى؛ فإنّى قد متّ جوعا؛ فقرّب له طعاما فأكل، ثم قال: زوّدنى [2] واحملنى، فحمله على بعير، وخرج عبد الله بن حذف حتّى دخل عسكر المسلمين، فأخبرهم أنّ القوم سكارى، فخرج المسلمون عليهم حتى اقتحموا عسكرهم، فوضعوا السّيوف فيهم حيث شاءوا، واقتحوا الخندق   [1] ص: «اللهاذم» تصحيف. وفى تاريخ الطبرى: «لا أضيعن الليلة» . [2] ك: «زدنى» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 103 هرّابا فمتردّ وناج، ودهش ومقتول أو مأسور، واستولى المسلمون على ما فى العسكر، ولم يسلم رجل إلا بما عليه، فأمّا أبجر فأفلت؛ وأمّا الحطم فإنّه دهش، وطار فؤاده، فقام إلى فرسه- والمسلمون خلالهم- فلمّا وضع رجله فى الرّكاب انقطع به فمرّ به، عفيف بن المنذر والحطم يستغيث؛ يقول: ألا رجل يعقلنى! فعرف صوته، فقال: أعطنى رجلك، فأعطاه رجله فنفحها فأطنّها [1] من الفخذ، وتركه، فقال: أجهز علىّ؛ فقال: لا، إنّى أحبّ [2] ألّا تموت حتى أمضّك [3] . وجعل الحطم لا يمرّ به أحد من المسلمين فى الليل إلا قال: هل لك فى الحطم أن تقتله! حتى مرّ عليه قيس بن عاصم فقتله، فلمّا رأى فخذه نادرة [4] ، قال: وا سوأتاه لو علمت الذى به لم أحرّكه! وخرج المسلمون بعد ما أخذوا الخندق على القوم يطلبونهم، فلحق قيس بن عاصم أبجر، فطعنه قيس فى العرقوب فقطعه، فكانت رادّة، وأصبح العلاء فقسّم الأنفال، ونفّل رجالا من أهل البلاء ثيابا. وأما أهل عمان ومهرة واليمن، فإنّ حذيفة بن محصن الحميرىّ وعرفجة سارا إلى القوم، فاقتتل المسلمون وأهل عمان قتالا شديدا فهزم المسلمون [المرتدين] [5] ، وقتلوا منهم فى المعركة عشرة آلاف، وسبوا الذّاررىّ، وجمعوا الغنائم، وبعثوا الخمس إلى أبى بكر، وقسّموا ما بقى، ثم خرجوا نحو مهرة، فكشف الله جنود المرتدّين، وقتل   [1] أطنها: قطعها. [2] ص: «أحبك» . [3] ك: «أفضك» . [4] نادرة: ساقطة. [5] تكملة من ص. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 104 رئيسهم، وركبهم المسلمون، فقتلوا منهم من شاءوا، وأصابوا من شاءوا، وخمّسوا الغنائم، وبعثوا بالخمس إلى أبى بكر الصّديق رضى الله عنه، وقسّموا ما بقى. وأمّا من بقى من بقية الأمراء الذين عقد لهم أبو بكر رضى الله عنه، وبعثهم إلى من ارتدّ من قبائل العرب، فإنّ كل أمير سار إلى من بعثه إليه فمن رجع عن الردة، وفاء إلى الإسلام قبل منه ومن أبى قتل، وأطفأ الله تلك النيران. روى عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه أنّه قال: لقد أقمنا بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقاما كدنا نهلك فيه، لولا أنّ الله تعالى منّ علينا بأبى بكر، جمعنا على أن نقاتل على ابنة مخاض وابنة لبون، وأن نأكل قرى عرينة، ونعبد الله حتى يأتينا اليقين. فعزم الله لأبى بكر على قتالهم، فو الله ما رضى منهم إلا بالخطّة المخزية أو الحرب المجلّية، فأما الخطة المخزية فأن يقرّوا بأنّ من قتل منهم فى النار، وأنّ من قتل منّا فى الجنة، وأن يدوا قتلانا، ونغنم ما أخذنا منهم، وما أخذوا منّا مردود علينا، وأمّا الحرب المجلّية فأن يخرجوا من ديارهم. وكانت هذه الحروب التى ذكرناها. وهذه الوقائع كلّها فى سنة إحدى عشرة، وكان فيها حوادث أخر غير ما ذكرناها، نذكرها إن شاء الله تعالى فى حوادث السنين فى خلافة أبى بكر رضى الله عنه بعد نهاية الغزوات. والله أعلم. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 105 ذكر مسير خالد بن الوليد الى العراق وما افتتحه وما صالح عليه وما قرره من الجزية كان إرسال خالد بن الوليد إلى العراق فى المحرم سنة ثلاث عشرة من الهجرة [1] . قالوا: وكان الّذى هاج أبا بكر رضى الله عنه؛ أن المثنّى بن حارثة الشّيبانىّ كان يغير على أهل فارس بالسواد، فبلغ أبا بكر والمسلمين خبره، فقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: من هذا الذى تأتينا وقائعه قبل معرفة نسبه؟ فقال قيس بن عاصم: أما إنّه غير خامل الذّكر، ولا مجهول النّسب، ولا قليل العدد، ولا ذليل العمارة [2] ، ذلك المثنّى بن حارثة الشيبانى. ثم قدم المثنّى على أبى بكر، فقال: يا خليفة رسول الله، ابعثنى على قومى، فإنّ فيهم إسلاما. أقاتل بهم أهل فارس، وأكفيك أهل ناحيتى من العدوّ؛ ففعل أبو بكر رضى الله عنه ذلك. وقدم المثنّى إلى العراق، فقاتل، وأغار على أهل فارس ونواحى السواد حولا، ثم بعث أخاه مسعود بن حارثة إلى أبى بكر يسأله المدد ويقول: إن أمددتنى وسمعت بذلك العرب أسرعوا إلىّ، وأذلّ الله المشركين، مع أنّى أخبرك يا خليفة رسول الله أنّ الأعاجم تخافنا وتتّقينا. فقال له عمر: يا خليفة رسول الله، ابعث خالد بن الوليد مددا للمثنّى بن حارثة، يكون قريبا من أهل الشام، فإن استغنى عنه أهل   [1] تاريخ ابن الأثير 2: 261. وذكر الخبر فى سنة 12، وانظر الاستيعاب 1456. [2] العمارة: الحى العظيم، وفى الاستيعاب: «الغارة» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 106 الشام ألحّ على أهل العراق؛ حتى يفتح الله عليه. حكاه أبو عمر بن عبد البر من حديث الأصمعى عن سلمة بن بلال عن أبى رجاء العطاردى [1] . قال: كتب أبو بكر الصّديق رضى الله عنه إلى المثنّى بن حارثة: إنّى قد ولّيت خالد بن الوليد، فكن معه؛ وكان المثنّى بسواد الكوفة، فخرج خالد فتلقّاه، وقدم معه البصرة. وحكى أبو الحسن علىّ بن محمد الموصلى المعروف بابن الأثير فى تاريخه: «الكامل. قال: أرسل [2] أبو بكر رضى الله عنه خالد بن الوليد من اليمامة إلى العراق، وقيل: بل قدم إلى المدينة من اليمامة، فأرسله إلى العراق، وأوصاه أن يبدأ بفرج الهند، وهو الأبلّة، وأن يتألّف أهل فارس، وكلّ من كان فى ملكهم من الأمم، فصار حتى نزل بيانقيا، وباروسما وألّيس، فصالحه أهلها على عشرة آلاف دينار سوى جزية [3] كسرى، وكان على كلّ رأس أربعة دراهم فأخذ منهم الجزية، ثم سار حتّى نزل الحيرة، فخرج إليه أشرافها مع قبيصة بن إياس الطائىّ، وكان أميرا عليها بعد النّعمان بن المنذر، فدعاهم إلى الإسلام، أو الجزية، أو المحاربة فاختاروا الجزية، فصالحهم على تسعين ومائة ألف درهم، فكانت أوّل جزية أخذت من الفرس فى الإسلام، هى والقريّات التى صالح عليها، واشترط على أهل الحيرة أن يكونوا عيونا للمسلمين، فأجابوا إلى ذلك. ثم سار خالد لقتال هرمز، فلمّا سمع هرمز بهم كتب إلى أردشير   [1] الاستيعاب 1457. [2] الكامل لابن الأثير 2: 261 وما بعدها. [3] ابن الأثير «خرزة» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 107 الملك بالخبر واستمدّه والتقيا، وخرج هرمز، ودعا خالدا للبراز ووطّأ أصحابه على الغدر به، فبرز إليه خالد، ومشى نحوه راجلا، وبرز هرمز، واقتتلا، فاحتضنه خالد، وحمل أصحاب هرمز، فما شغله ذلك عن قتله، وحمل القعقاع بن عمرو، فأنهى أهل فارس وركبهم المسلمون؛ وسمّيت هذه الوقعة: ذات السّلاسل، وكانت عدّة أصحاب خالد ثمانية عشر ألفا، ونجا قباذ وأنوشجان، وأخذ خالد سلب هرمز، وكانت قلنسوته بمائة ألف، وبعث بالفتح والأخماس إلى أبى بكر، وسار حتى نزل بموضع الجسر الأعظم بالبصرة، وبعث المثنّى بن حارثة فى آثارهم، وبعث مقرّن إلى الأبلّة ففتحها، وجمع الأموال بها والسّبى. وقيل: إن الأبلّة فتحت فى خلافة عمر على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وحاصر المثنّى حصن المرأة، فافتتحه، وأسلمت المرأة. ذكر وقعة الثنى قال [1] : ولما وصل كتاب هرمز إلى أردشير بخبر خالد، أمدّه بقارن بن قريانس، فلقيه المنهزمون، فرجعوا معه وفيهم قباذ وأنوشجان، فنزلوا الثّنى- وهو النهر- وسار إليهم خالد، والتقوا، واقتتلوا، فبرز قارن فقتله معقل بن الأعشى، وقتل عاصم أنوشجان وقتل عدىّ قباذ، وقتل من الفرس مقتلة عظيمة يبلغون ثلاثين ألفا؛ سوى من غرق فى الماء، فقسّم خالد الفئ، بعد أن خمّسه،   [1] ساير المؤلف فى هذه التسمية ابن الأثير 2: 263. وأما الطبرى فقد أسماها «وقعة المذار» . والعرب تسمى كل نهر ثنيا. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 108 وأرسل بالأخماس إلى المدينة، وأعطى الأسلاب من سلبها، وكانت غنيمة عظيمة، وأخذ الجزية من الفلاحين، وكانوا ذمّة، وكان فى السّبى أبو الحسن البصرى، وكان نصرانيّا. ذكر وقعة الولجة قال: [1] ولمّا وصل الخبر إلى أردشير بعث الأندرزغر [وكان فارسا من مولدى السّواد، وأرسل بهمن جازويه فى أثره فى جيش، وكان مع الأندرزغر] [2] الفرس والعرب الضّاحية والدهاقين، فعسكروا بالولجة، فجاءهم خالد إليها وكمن لهم كمينا، وقاتلهم قتالا شديدا، وخرج كمين خالد من خلفهم فانهزمت الأعاجم، وأخذهم خالد من أمامهم، والكمين من خلفهم، فقتل منهم خلق كثير. [ومضى] [2] الأندرزغر منهزما، فمات عطشا. وكانت هذه الوقعة فى صفر سنة اثنتى عشرة، فأصاب خالد ابنا لجابر بن بجير، وابنا لعبد الأسود [3] من بكر بن وائل. ذكر وقعة أليس قال: لمّا أصاب خالد بن الوليد يوم الولجة ما أصاب من نصارى بكر بن وائل، الّذين أعانوا الفرس، غضب لهم نصارى قومهم، فكاتبوا الفرس، واجتمعوا على ألّيس [4] ، وعليهم عبد الأسود   [1] ابن الأثير. 3: 263. [2] تكملة من ص. [3] ك: «بن بكر بن وائل» . [4] ك: «اجتمعوا على الفرس» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 109 العجلىّ، وكتب أردشير إلى بهمن جاذويه، وأمره بالقدوم على نصارى العرب، فقدم عليهم بهمن جابان، وأمره بالتوقف عن المحاربة حتى يقدم عليه، وسار بهمن إلى أردشير يشاوره فيما يفعل، فوجده مريضا فتوقّف؛ واجتمع على جابان نصارى عجل، وهم اللّات وضبيعة وجابر بن بجير، وعرب الضّاحية من أهل الحيرة، فسار إليهم خالد والتقوا، واقتتلوا قتالا شديدا؛ فقال خالد: اللهمّ إن هزمتهم فعلىّ ألّا أستبقى منهم من قدرت عليه؛ حتّى أجرى من دمائهم نهرهم، فانهزمت فارس، فنادى منادى خالد: الأسر الأسر! إلا من امتنع فاقتلوه، فأقبل بهم المسلمون أسراء، ووكّل بهم من يضرب أعناقهم، فضرب أعناقهم يوما وليلة؛ فقال له القعقاع: لو قتلت أهل الأرض لم تجر دماؤهم، فأجرى عليه [الماء] [1] فسمّى ذلك الماء نهر الدم، وبلغ عدد القتلى سبعين ألفا، وكانت الوقعة فى صفر أيضا. ثم سار إلى أمغيشيا، وأصاب فيها ما لم يصب مثله من الغنائم، وأخربها، وبعث إلى أبى بكر بالسّبى والغنائم؛ فقال أبو بكر: عجز النّساء أن يلدن مثل خالد. رضى الله تعالى عنهما.   [1] من ابن الأثير. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 110 ذكر وقعة فرات بادقلى وفتح الحيرة قال: [1] ثم سار خالد من أمغيشيا إلى الحيرة، وحمل الرّجال والأثقال فى السفن، فخرج مرزبان الحيرة، وهو الأزادبه، فعسكر عند الغريّين وأرسل ابنه، فقطع الماء عن السّفن، فبقيت على الأرض، فسار خالد نحوه فلقيه على فرات بادقلى، فقتله، وقتل أصحابه، فلما بلغ الأزاذبة قتل ابنه هرب بغير قتال، ونزل المسلمون على الغريّين، وتحصّن أهل الحيرة فحصرهم فى قصورهم، وافتتح المسلمون الدّروب والدّور، وأكثروا القتل، فنادى القسّيسون والرّهبان: يا أهل القصور! ما يقتلنا غيركم! فنادى أهل القصور المسلمين: قد قبلنا واحدة من ثلاث: إمّا الإسلام، أو الجزية، أو المحاربة، فكفّوا عنهم، وصالحهم على مائة ألف وتسعين ألفا. وقيل: مائتى ألف وتسعين ألفا. وكان فتح الحيرة فى شهر ربيع الأوّل، وكتب لهم خالد كتابا، فلمّا كفر أهل السواد ضيّعوه، فلما افتتحها المثنّى ثانية عاد بشرط آخر، فلمّا عادوا كفروا، وافتتحها سعد بن أبى وقاص، ووضع عليهم [أربعمائة] [2] ألف. فقال خالد: ما لقيت قوما كأهل فارس، وما لقيت من أهل فارس كأهل ألّيس.   [1] ابن الأثير 2: 265، 266. [2] من ابن الأثير. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 111 ذكر ما كان بعد فتح الحيرة قال [1] : وكان الدّهاقين يتربّصون بخالد، ما يصنع أهل الحيرة، فلمّا صالحهم واستأمنوا له أتته الدّهاقين من تلك النّواحى، فصالحوه على ألفى ألف. وقيل: ألف ألف، سوى ما كان لآل كسرى. وكتب إلى أهل فارس يدعوهم إلى الإسلام أو الجزية، فإن أجابوه وإلّا حاربهم. وجبى الخراج فى خمسين ليلة، وأعطاه للمسلمين، ولم يبق لأهل فارس فيما بين الحيرة ودجلة أمر، لاختلافهم بموت أردشير، إلّا أنّهم مجمعون على حرب خالد، وهو مقيم بالحيرة. ذكر فتح الأنبار قال: ثم [2] سار خالد إلى الأنبار، وإنّما سمّيت الأنبار، لأن أهراء [3] الطعام كانت بها أنابير، وكان [على] [4] من بها من الجند شيرزاد صاحب ساباط، فلمّا التقوا أمر خالد رماته برشق السّهام، وأن يقصد واعيونهم، فرشقوا رشقا واحدا، ثم تابعوا، فأصابوا ألف عين، فسمّيت هذه الواقعة ذات العيون، فلما رأى شيرزاد ذلك، أرسل فى طلب الصّلح، فصالحه خالد على أن يلحقه مأمنه فى جريدة، وليس معهم من المتاع شىء.   [1] ابن الأثير 2: 268. [2] الكامل لابن الأثير 2: 269. [3] الأهراء: مخازن الغلال. [4] تكملة من ص. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 112 وخرج شيرزاد إلى بهمن جاذويه، ثم صالح خالد من حول الأنبار وأهل كلواذى. والله سبحانه وتعالى أعلم والحمد لله وحده. ذكر فتح عين التمر قال: ولما [1] فرغ خالد من الأنبار، استخلف عليها الزّبرقان اين بدر، وسار إلى عين التّمر، وبها مهران بن بهرام جوبين فى جمع عظيم من العجم، وعقّة بن أبى عقّة فى جمع عظيم من العرب؛ من النّمر، وتغلب، وإياد؛ وغيرهم. فقال عقّة لمهران: إنّ العرب أعلم بقتال العرب منكم، فدعنا وخالدا؛ فقال: نعم، وإن احتجتم إلينا أعنّاكم، فالتقى عقّة بخالد، فحمل خالد عليه وهو يقيم صفوفه، فاحتضنه وأسره، فانهزم أصحابه من غير قتال، وأسر أكثرهم. فلما بلغ الخبر مهران، هرب فى جنده وترك الحصن [2] ، فانتهى المنهزمون إليه وتحصّنوا به، فنازلهم خالد، فسألوا الأمان، فأبى، فنزلوا على حكمه، فأخذهم أسرى، وقتل عقّة، ثم قتلهم عن آخرهم، وسبى [كلّ من] [3] بالحصن وغنم ما فيه، ووجد فى بيعتهم أربعين غلاما يتعلّمون الإنجيل، عليهم باب مغلق، فكسره وقال: ما أنتم؟ قالوا: رهن، فقسّمهم فى أهل البلاد، منهم: أبو زياد مولى ثقيف، وأبو عمرة جدّ عبد الله بن عبد الأعلى   [1] ابن الأثير 2: 369. [2] ص: «ونزل الحصن» . [3] من ص. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 113 الشاعر، وسيرين أبو محمد، ونصير أبو موسى، وحمران مولى عثمان بن عفان. وأرسل إلى أبى بكر بالخبر والخمس والسّبى، فكان أول سبى قدم المدينة من العجم، وجعل خالد على عين التمر عويمرا السّلمىّ. ذكر خبر دومة الجندل قال: ولمّا [1] فرغ خالد من عين التّمر أتاه كتاب عياض بن غنم؛ يستمده على من بإزائه من المشركين، فسار إليه، وكان بإزائه بهراء وكلب، وغسّان، وتنوخ، والضجاعم، وكانت دومة الجندل على رئيسين: أكيدر بن عبد الملك، والجودى بن ربيعة، فأمّا أكيدر فأشار بالصّلح، ولم ير قتال خالد، فلم يقبلوا منه، فخرج عنهم، وسمع خالد بمسيره، فأرسل إلى طريقه، وأخذه أسيرا وقتله وأخذ ما كان معه، وسار حتى نزل بدومة، وجعلها بينه وبين عياض، وخرج الجودى إلى خالد فى جمع ممّن عنده من العرب، وأخرج طائفة إلى عياض، فهزمهم عياض، وهزم خالد من يليه، وأسر الجودى، وانهزموا إلى الحصن، فلما امتلأ أغلقوا الباب دون أصحابهم، فبقوا حوله، فقتلهم خالد، وقتل الجودى وقتل الأسرى إلّا أسرى كلب، فإنّ بنى تميم قالوا لخالد: قد أمّنّاهم، وكانوا حلفاءهم، فتركهم لهم، ثم أخذ الحصن فقتل المقاتلة، وسبى الذّريّة، فاشترى خالد ابنة الجودى، وكانت موصوفة بالجمال. وأقام خالد بدومة الجندل، فطمع الأعاجم، وكاتبهم عرب   [1] ابن الأثير 2: 270. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 114 الجزيرة غضبا لعقّة، فكانت وقعة حصيد والخنافس، بين القعقاع بن عمرو، خليفة خالد على الحيرة، وبين روزبة وزرمهر. فقتل روزبه بحصيد، وانهزم الأعاجم إلى الخنافس؛ فتبعهم المسلمون، وهربوا إلى المصيّخ، إلى الهذيل بن عمران. ثم كانت وقعة مصيخ قال: [1] ولما انتهى الخبر إلى خالد كتب إلى القعقاع وأبى ليلى، وواعدهم فى وقت معلوم يجتمعون بالمصيّخ لقتال هذيل بن عمران ومن معه، فأغاروا عليه من ثلاثة أوجه وهم نائمون فقتلوهم، وأفلت الهذيل فى نفر قليل، وكثر فيهم القتل. وقعة الثنى والزميل وكان [2] ربيعة بن بجير بالثّنى والزّميل- وهما شرقىّ الرّصافة- قد خرج غضبا لعقّة، فلمّا أصاب خالد أهل المصيّخ سار إلى الثّنى وبيّتهم من ثلاثة أوجه، وأوقع بهم وقتلهم، فلم يفلت منهم مخبر، وسبى وغنم، وبعث بالخبر والخمس إلى أبى بكر الصّديق رضى الله عنه، فاشترى علىّ بن أبى طالب- كرم الله وجهه- بنت ربيعة [ابن بجير] [3] التّغلبىّ، فولدت له عمر ورقيّة.   [1] ابن الأثير 2: 272. [2] ابن الأثير 2: 273. [3] من ص وابن الأثير. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 115 ذكر وقعة الفراض قال: ثم [1] سار خالد إلى الفراض، وهى تخوم الشّام والجزيرة، فأفطر فيها شهر رمضان لاتّصال الغزوات، وحميت الرّوم، واستعانوا بمن يليهم من الفرس فأعانوهم، واجتمع معهم تغلب وإياد والنّمر، وساروا إلى خالد، وبلغوا الفرات، واقتتلوا قتالا شديدا، فانهزمت الرّوم ومن معهم، وأمر خالد ألّا يرفع عنهم السيف، فقتل فى المعركة، وفى الطلب مائة ألف، وأقام خالد على الفراض عشرا، ثم أذن بالرّجوع إلى الحيرة لخمس بقين من ذى القعدة سنة ثنتى عشرة، وخرج من الفراض سرّا، ومعه عدّة من أصحابه يعسف [2] البلاد، حتى أتى مكّة فحجّ ورجع، وكانت غيبته عن الجند يسيرة؛ ولم يعلم بحجّه إلّا من أفضى إليه بذلك. ذكر فتوح الشام قال: وفى [3] سنة ثلاث عشرة وجه أبو بكر رضى الله عنه الجنود إلى الشأم، بعد منصرفه من مكّة إلى المدينة، فبعث عمرو بن العاص قبل فلسطين، وبعث يزيد بن أبى سفيان وأبا عبيدة بن الجراح وشرحبيل بن حسنة، وأمرهم أن يسلكوا على البلقاء من علياء الشام. وقيل: أوّل لواء عقده أبو بكر رضى الله عنه، عند توجيهه الجنود إلى الشام لواء خالد بن سعيد بن العاص، ثم عزله قبل أن يسير،   [1] تاريخ ابن الأثير 2: 274. [2] يعسف البلاد: يضرب فيها سيرا. [3] تاريخ ابن الأثير 2: 275 وما بعدها. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 116 وولّى يزيد بن أبى سفيان- وكان عزله عن رأى عمر- وقدم عكرمة ابن أبى جهل على أبى بكر فيمن كان معه من تهامة وعمان والبحرين، فجعل أبو بكر عكرمة ردءا للنّاس. وبلغ الرّوم ذلك، فكتبوا إلى هرقل، فخرج هرقل حتى أتى حمص، فأعدّ لهم الجنود، وأرسل أخاه إلى عمرو، فخرج نحوه فى تسعين ألفا، فهابهم المسلمون، وجميع فرق المسلمين واحد وعشرون ألفا سوى عكرمة؛ فإنّه فى ستة آلاف، فكتبوا إلى عمرو بن العاص: ما الرأى؟ فكاتبهم أنّ الرأى الاجتماع، وذلك أنّ مثلنا إذا اجتمع لا يغلب من قلّة. فاتّعدوا اليرموك ليجتمعوا به، وكان المسلمون كتبوا إلى أبى بكر بمثل ما كتبوا به إلى عمرو، فجاءهم كتابه بمثل ما رأى عمرو. وبلغ ذلك هرقل، فكتب إلى بطارقته أن اجتمعوا لهم، وانزلوا بالرّوم منزلا واسع المطرّد ضيق المهرب، ففعلوا، ونزلوا الواقواصة، وهى على ضفّة اليرموك، وصار الوادى خندقا لهم، وأقبل المسلمون، فنزلوا عليهم بحذائهم، فأقاموا صفر وشهرى ربيع لا يقدرون من الروم على شىء، حتى إذا انسلخ شهر ربيع الأول، كتبوا إلى أبى بكر يستمدونه، فكتب إلى خالد بن الوليد يلحق بهم، وأن يسير فى نصف العسكر، ويستخلف على النّصف الآخر المثنّى ابن حارثة الشّيبانىّ، ففعل. والله تعالى أعلم بالصواب. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 117 ذكر مسير خالد بن الوليد الى الشام وما فعل فى مسيره إلى أن التقى بجنود المسلمين بالشام لما [1] ورد كتاب أبى بكر الصّديق رضى الله عنه إلى خالد بن الوليد، يأمره بالمسير إلى الشام فى نصف العسكر سار كما أمره، فلما انتهى إلى سوى أغار على أهله، وهم بهراء، وأتاهم وهم يشربون الخمر، ومغنيهم يقول: ألا علّلانى قبل جيش أبى بكر ... لعلّ منايانا قريب وما ندرى ألا علّلانى بالزّجاج وكرّرا ... علىّ كميت اللّون صافية تجرى ألا علّلانى من سلافة قهوة ... تسلّى هموم النفس من جيّد الخمر أظنّ خيول المسلمين وخالدا ... ستطرقكم قبل الصّباح مع النّسر فهل لكم فى السّير قبل قتالهم ... وقبل خروج المعصرات من الخدر [2] فقتل المسلمون مغنّيهم، وسال الدّم فى تلك الجفنة، وأخذوا أموالهم، وقتل حرقوص بن النعمان البهرانىّ. ثم سار خالد حتى أتى أرك، فصالحوه، ثم أتى تدمر فتحصن أهلها، ثم صالحوه، ثم أتى القريتين، فقاتل أهلها وظفر بهم وغنم،   [1] ابن الأثير 2: 279 وما بعدها. [2] المعصرات: جمع معصر؛ وهى الفتاة التى دخلت فى شبابها. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 118 وأتى حوارين [1] فقاتل أهلها فهزمهم، وسار حتى نزل ثنيّة العقاب، بالقرب من دمشق ناشرا رايته، وهى راية سوداء كانت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، تسمّى العقاب، فسمّيت الثّنيّة بها، ثم سار فأتى مرج راهط [2] ، فأغار على غسّان، فقتل، وسبى، وأرسل سريّة إلى كنيسة بالغوطة، فقتلوا الرّجال، وسبوا النّساء، ثم سار حتى وصل إلى بصرى، وعليها أبو عبيدة ابن الجراح، وشرحبيل بن حسنة، ويزيد بن أبى سفيان، فجمع له صاحب بصرى، فسار إليه خالد هو وأبو عبيدة، فلقيهم خالد، فظفر بهم وهزمهم، فدخلوا حصنهم وطلبوا الصّلح، فصالحهم على كلّ رأس دينار فى كلّ عام، وجريب حنطة، فكانت بصرى أوّل مدينة فتحت بالشّام على يد خالد بن الوليد، وأهل العراق. وبعث الأخماس إلى أبى بكر الصّديق رضى الله عنه. ثم سار فطلع على المسلمين فى شهر ربيع الآخر، وطلع باهان على الروم منذرا لهم. واتفق قدوم خالد وقدوم باهان، ومع باهان القسيسون والشمامسة والرّهبان يحرّضون الرّوم على القتال، وخرج باهان، فولى خالد قتاله، وقاتل الأمراء من بإزائهم، ورجع [3] ماهان والرّوم إلى خندقهم، وقد نال المسلمون منهم، فلزموا خندقهم غاية شهرهم. والله سبحانه وتعالى أعلم.   [1] حوارين، من قرى حلب. [2] مرج راهط، بنواحى دمشق. [3] ك: «وجمع باهان والروم» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 119 ذكر وقعة أجنادين هذه الوقعة قد ذكرها ابن الأثير [1] رحمه الله بعد وقعة اليرموك، واعتمد فى ذلك على أبى جعفر الطبرى رحمه الله، فإنّه أوردها على منواله، ويقتضى سياق التاريخ أن تكون مقدّمة على وقعة اليرموك؛ وذلك أن خالد بن الوليد لما قدم بصرى وعليها أبو عبيدة وشرحبيل ابن حسنة ويزيد بن أبى سفيان، صالح أهلها على الجزية على ما تقدّم، ثم ساروا جميعا إلى فلسطين مددا لعمرو بن العاص، وهو مقيم بالعربات، واجتمعت الروم بأجنادين- وهى بين اليرموك وبيت جبرين من أرض فلسطين- وعليهم تذارق أخو هرقل لأبويه. وقيل: كان على الرّوم القبقلار. وسار عمرو بن العاص حين سمع بالمسلمين فلقيهم، فنزلوا بأجنادين، فبعث القبقلار عربيّا إلى المسلمين يأتيه بخبرهم، فعاد إليه، فقال له: ما وراءك؟ فقال: باللّيل رهبان، وبالنهار فرسان، ولو سرق ابن ملكهم قطعوه، ولو زنى رجموه، لإقامة الحقّ فيهم، فقال: إن كنت صدقتنى فبطن الأرض خير من لقاء هؤلاء على ظهرها. ثم التقوا يوم السبت لليلتين بقيتا من جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة، وظهر المسلمون عليهم، وانهزم الروم، وقتل القبقلار وتذارق، واستشهد رجال من المسلمين. ثم جمع هرقل للمسلمين، فالتقوا باليرموك. والله سبحانه أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلّم.   [1] ابن الأثير 2: 286. 287، وانظر تاريخ الطبرى 3: 415- 418. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 120 ذكر وقعة اليرموك قال: واجتمع [1] المسلمون باليرموك، وقد تكامل عددهم ستّة وثلاثين ألفا، منهم جيش خالد تسعة آلاف، وجيش عكرمة ستّة آلاف. وقيل فى عددهم غير ذلك. وكان الرّوم فى مائتى ألف وأربعين ألف مقاتل، منهم: ثمانون ألف مقيّد، وأربعون ألف مسلسل للموت، وأربعون ألفا مربوطون بالعمائم، وثمانون ألف راجل. وذلك فى جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة، وخرجوا للّقاء، فلما أحسّ المسلمون بخروجهم، قام خالد بن الوليد، فحمد الله تعالى، وأثنى عليه؛ وقال: إنّ هذا يوم من أيّام الله، لا ينبغى فيه الفخر. أخلصوا بجهادكم، وأريدوا الله بعملكم، وهلمّوا فلنتعاور [2] الإمارة، فليكن عليها بعضنا اليوم، والآخر غدا، والآخر بعد غد، حتى يتأمّر كلّكم؛ ودعونى أميركم اليوم. فأمّروه، وهم يرون أنّ الأمر أطول مما صاروا إليه، وخرجت الروم فى تعبئة لم ير الرّاءون مثلها قطّ، وخرج خالد فى تعبئة لم يعبّئها العرب قبل ذلك، فخرج فى ستة وثلاثين كردوسا [3] إلى أربعين، وجعل القلب كراديس، وأقام فيه أبا عبيدة، وجعل الميمنة كراديس، وجعل عليها عمرو بن العاص، وفيها شرحبيل بن حسنة، وجعل الميسرة كراديس، وعليها يزيد بن أبى سفيان، وجعل على كردوس   [1] تاريخ الطبرى 3: 394 وما بعدها. ابن الأثير 2: 281 وما بعدها. [2] ص: «فلتتعاون» . [3] الكردوس: القطعة العظيمة من الخبل. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 121 من كراديس العراق إنسانا، وشهد اليرموك ألف رجل من الصحابة، فيهم من أهل بدر نحو المائة. فقال رجل لخالد: ما أكثر الروم وأقلّ المسلمين! فقال خالد: ما أكثر المسلمين وأقلّ الروم! وإنّما تكثر الجنود بالنّصر، وتقلّ بالخذلان، لا بعدد الرّجال. ثم أمّر خالد عكرمة والقعقاع بن عمرو- وكانا مجنّبنى القلب- فأنشبا القتال، فنشب والتحم الناس، وتطارد الفرسان؛ فإنّهم على ذلك إذ قدم البريد من المدينة، فسأله النّاس عن الخبر، فأخبرهم بسلامة وأمداد تقبل إليهم؛ وإنّما كان قد جاء بموت أبى بكر وتأمير أبى عبيدة، فأبلغوه خالدا، فأخبره بوفاة أبى بكر سرّا، وأخبره بالّذى أخبر به الجند، فشكره وأخذ الكتاب، فجعله فى كنانته. وخرج جرجة [1] من عسكر الرّوم، وكان أحد عظمائهم، فوقف بين الصّفّين ليخرج إلى خالد، فخرج إليه، وأقام أبا عبيدة مكانه، فواقفه بين الصفّين حتى اختلفت أعناق دابّتيهما، وقد أمن كلّ منهما صاحبة. فقال جرجة: يا خالد، اصدقنى ولا تكذبنى، فإن الحرّ لا يكذب، ولا تخادعنى، فإن الكريم لا يخادع المسترسل، قد أنزل الله على نبيكم سيفا، فأعطاه لك، فلا تسلّه على قوم إلّا هزمهم الله! قال: لا، قال: ففيم سمّيت سيف الله؟ قال: إنّ الله بعث فينا نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، فدعانا، فنفرنا منه، ثم إن بعضنا صدّقه وبعضنا باعده وكذّبه، فكنت ممّن كذّبه وقاتله   [1] ص: «جرحة» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 122 ثم هدانى الله فتابعته؛ فقال: أنت سيف من سيوف الله سلّه الله على المشركين، ودعا لى بالنصر، فسمّيت سيف الله بذلك، فأنا أشدّ المسلمين على الكافرين المشركين؛ فقال: صدقت، فأخبرنى، إلام تدعونى؟ قال خالد: إلى الإسلام أو الجزية، أو الحرب. قال فما منزلة الذى يجيبكم ويدخل فيكم؟ قال: منزلتنا واحدة، قال: فهل له فى الأجر والذّخر مثلكم؟ قال: نعم، وأفضل؛ لأنّنا اتّبعنا نبيّنا وهو حىّ يخبرنا بالغيب، ونرى منه العجائب، وأنتم لم تروا مثلنا، ولم تسمعوا ما سمعنا، فمن دخل بنيّة وصدق، كان أفضل منّا. فقلّب جرجة ترسه، ومال مع خالد يعلّمه الإسلام، وأسلم، فمال به خالد إلى فسطاطه، فشنّ [1] عليه قربة من الماء وصلّى به ركعتين. وحملت الروم مع انقلابه إلى خالد، وهم يرون أنّها منه حيلة، فأزالوا المسلمين عن مواقفهم، فقال عكرمة بن أبى جهل: قاتلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم فى كلّ موطن، وأفرّ منكم! ثم نادى: من يبايع على الموت؟ فبايعه الحارث بن هشام، وضرار ابن الأزور فى أربعمائة من وجوه المسلمين وفرسانهم، فقاتلوا أمام فسطاط خالد حتى أثبتوا [2] جميعا جراجا، فمنهم من برئ، ومنهم من استشهد. وحمل خالد ومعه جرجة- والرّوم خلال المسلمين- فنادى الناس   [1] شن: صب. [2] أثبتو: جرحوا وبهم رمق. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 123 فثابوا، وتراجعت الرّوم إلى مواقعهم، وزحف خالد بالمسلمين إليهم حتى تصافحوا بالسيوف، وضرب فيهم خالد وجرجة من لدن ارتفاع النّهار إلى جنوح الشمس للغروب، ثم أصيب جرجة، ولم يصلّ صلاة سجد فيها إلّا الركعتين مع خالد، وصلّى الناس الظّهر والعصر إيماء، وتضعضع الرّوم، ونهد خالد بالقلب حتى كان بين خيلهم ورجلهم، فانهزم الفرسان، وخرجت خيلهم تشتدّ فى الصحراء. ولما رأى المسلمون خيل الروم أفرجوا لها، فذهبت، فتفرّقت فى البلاد، وأقبل خالد ومن معه على الرّجل، ففضّوهم؛ فكأنّما هدم بهم حائط، واقتحموا فى خندقهم، فاقتحمه عليهم، فعمدوا إلى الواقوصة، فهوى فيها المقترنون وغيرهم، فتهاوى فيها عشرون ومائة ألف، ثمانون ألف مقترن، وأربعون ألف مطلق، سوى من قتل فى المعركة من الفرسان والرجال، وقاتل النساء يومئذ، وكانت هزيمة الرّوم مع اللّيل. وصعد المسلمون العقبة وأصابوا ما فى عسكر الرّوم، قتل الله صناديد الرّوم ورءوسهم وأخا هرقل؛ وانتهت الهزيمة إلى هرقل وهو دون مدينة حمص- أو بحمص- فنادى بالرّحيل عنها، وجعلها بينه وبين المسلمين، وأمّر عليها أميرا كما أمّر على دمشق. هذا ما كان من واقعة اليرموك على سبيل الاختصار روى عن عبد الله بن الزّبير، قال: كنت مع أبى باليرموك وأنا صبىّ لا أقاتل؛ فلمّا اقتتل النّاس نظرت إلى أناس على تلّ لا يقاتلون، فركبت فذهبت إليهم؛ فإذا أبو سفيان بن حرب ومشيخة من قريش الجزء: 19 ¦ الصفحة: 124 من مهاجرة الفتح، فرأونى حدثا فلم يتقونى. قال: فجعلوا إذا مال المسلمون، وركبهم الرّوم يقولون: إيه بنى الأصفر! وإذا مالت الرّوم، وركبهم المسلمون قالوا: ويح بنى الأصفر! فلما هزمت الرّوم أخبرت أبى بذلك، فضحك وقال. قاتلهم الله! أبوا إلا ضغنا! لنحن خير لهم من الرّوم. وقد حكى أبو جعفر الطّبرىّ رحمه الله، أنّ أبا سفيان يوم اليرموك كان يسير فيقف على الكراديس فيقول: الله، الله! إنّكم ذادة العرب وأنصار الإسلام، وإنّهم ذادة الرّوم وأنصار الشّرك! اللهم إنّ هذا يوم من أيّامك، الّلهم أنزل نصرك على عبادك. والله أعلم. هذا ما وقع فى خلافة أبى بكر الصّديق رضى الله عنه من الغزوات والحروب، والفتوحات، فلنذكر ما هو خلاف ذلك من الحوادث على السنين، إن شاء الله تعالى، والحمد لله وحده. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 125 ذكر ما وقع فى خلافة أبى بكر غير ما ذكرناه سنة إحدى عشرة فيها كانت وفاة فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورضى عنها، وذلك فى ليلة الثلاثاء لثلاث خلون من شهر رمضان، وهى يومئذ ابنة تسع وعشرين سنة، أو نحوها. وقيل: توفّيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلّم بثلاثة أشهر؛ قاله أبو جعفر [1] . ثم قال: والثّبت عندنا أنها توفّيت بعد ستة أشهر، وغسّلها علىّ بن أبى طالب، وأسماء بنت عميس، وصلّى عليها العباس ابن عبد المطلب، ودخل قبرها العباس وعلىّ والفضل بن عباس؛ قاله الواقدىّ. قال أبو عمر: فاطمة [2] أوّل من غطّى نعشها من النّساء فى الإسلام؛ وذلك أنّها قالت لأسماء بنت عميس: يا أسماء، إنّى قد استقبحت ما يصنع بالنساء، إنه يطرح على المرأة الثوب، فيصفها. فقالت أسماء يا بنت رسول الله، ألا أريك شيئا رأيته بأرض الحبشة؟ فدعت بجرائد رطبة فحنتها، ثم طرحت عليها ثوبا. فقالت فاطمة: ما أحسن هذا وأجمله! تعرف به المرأة من الرجل، فإذا أنا متّ فاغسلينى أنت وعلىّ، ولا تدخلى علىّ أحدا، فلمّا توفيت جاءت عائشة تدخل؛ فقالت أسماء: لا تدخلى، فشكت إلى أبى بكر. فقالت: إنّ هذه الخثعميّة تحول بيننا وبين بنت رسول الله، وقد جعلت لها مثل   [1] تاريخ الطبرى 3: 240. [2] الاستيعاب 1897، 1898. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 126 هودج العروس؛ فجاء أبو بكر، فوقف على الباب. فقال: يا أسماء، ما حملك على أن [منعت] [1] أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يدخلن على بنت رسول الله، وجعلت لها مثل هودج العروس؟. قالت: أمرتنى ألّا يدخل عليها أحد، وأريتها هذا الذى صنعت وهى حيّة، فأمرتنى أن أصنع ذلك لها. قال أبو بكر: فاصنعى ما أمرتك، ثم انصرف [2] . وفيها انصرف معاذ بن جبل عن اليمن. واستقضى أبو بكر عمر بن الخطاب رضى الله عنهم. وفيها أمّر أبو بكر رضى الله عنه على الموسم عتّاب بن أسيد؛ وقيل: بل حجّ بالنّاس عبد الرّحمن بن عوف عن تأمير أبى بكر إيّاه. سنة اثنتى عشرة فيها مات أبو مرثد الغنوىّ، واسمه كنّاز بن حصن- ويقال ابن حصين- حليف حمزة بن عبد المطلب؛ صحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو وابنه مرثد، وابنه أنيس بن مرثد؛ وشهد بدرا هو وابنه مرثد، وشهد هو المشاهد كلّها مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ومات وهو ابن ستّ وستين سنة. وفيها، فى ذى الحجّة مات أبو العاص بن الربيع، واختلف فى اسمه، فقيل: لقيط، وقيل مهشم، وقيل: هشيم، والأكثر لقيط بن الرّبيع بن عبد العزّى بن عبد مناف بن قصىّ القرشىّ   [1] من الاستيعاب 1898. [2] بعدها فى الاستيعاب: «فغسلتها» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 127 العبشّمىّ ويسمى جرو [1] البطحاء، وهو صهر رسول الله صلّى الله عليه وسلم على ابنته زينب، وأمّه هالة بنت خويلد، أخت خديجة أمّ المؤمنين، وأوصى إلى الزّبير بن العّوام، وتزوّج علىّ ابنته. وحجّ بالنّاس فى هذه السّنة أبو بكر الصّديق رضى الله عنه، واستخلف على المدينة عثمان بن عفّان رضى الله عنه. وقيل: بل حجّ عمر بن الخطّاب رضى الله تعالى عنه. والله تعالى أعلم بالصّواب. ذكر وفاة أبى بكر الصديق رضى الله عنه ومدة خلافتة قد اختلف فى وقت وفاته رضى الله عنه؛ فقال ابن اسحاق: فى يوم الجمعة لتسع [2] من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة. وقال غيره: إنّه مات عشىّ يوم الاثنين. وقيل: ليلة الثلاثاء. وقيل: عشىّ يوم الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة. قال ابن عبد البر: هذا قول أكثرهم [3] . وقيل: مكث فى خلافته سنتين وثلاثة أشهر وسبع ليال. وقال ابن اسحاق: سنتين وثلاثة أشهر إلا خمس ليال. وقيل: سنتين وثلاثة أشهر واثنتى عشرة ليلة. وقال غيره: وعشرة أيام. وقال آخرون: وعشرين يوما. واختلف أيضا فى السّبب الذى مات منه، فذكر الواقدىّ: أنّه اغتسل فى يوم بارد، فحمّ. ومرض خمسة عشر يوما.   [1] ك: «قرم» . [2] ص: «لسبع ليال بقين» . [3] الاستيعاب 977. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 128 وقال الزبير بن بكّار: كان به طرف من السّل. وروى عن سلّام ابن [أبى] [1] مطيع: أنه سمّ، وأن اليهود سمّته فى حريرة، وهى الحسو، فأكل هو والحارث بن كلدة، فكفّ الحارث، وقال لأبى بكر: أكلنا طعاما مسموما، سمّ سنة، فمات بعد سنة. وقيل: أصل مرضه الغمّ على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وانتهت سنّه رضى الله عنه عند وفاته إلى سنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثلاثا وستين سنة. قال أبو عمر بن عبد البر: لا يختلفون فى أن سنّه انتهت إلى ذلك، إلّا ما لا يصح [2] . وقد كان آخر ما تكلّم به: توفّنى مسلما، وألحقنى بالصالحين. وغسّلته زوجته أسماء بنت عميس بوصيّة منه وابنه عبد الرحمن، وأوصى أن يكفّن فى ثوبيه، ويشترى معهما ثوب ثالث، وقال: الحىّ أحوج إلى الجديد من الميّت، إنّما هو للمهملة [3] والصّديد. وصلّى عليه عمر بن الخطاب فى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وكبّر أربعا، وحمل على السّرير الذى حمل عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو سرير عائشة رضى الله عنها، وكان من خشبتى ساج منسوجا باللّيف فى ميراث عائشة، بأربعة آلاف درهم اشتراه مولى لمعاوية، وجعله للمسلمين. ودخل قبره ابنه عبد الرحمن وعمر بن الخطاب وعثمان وطلحة، وجعل رأسه عند كتفى النّبى صلّى الله عليه وسلّم، وألصقوا لحده بلحده، ودفن رضى الله عنه ليلا.   [1] تكملة من ص. [2] الاستيعاب 977. [3] المهملة: القيح. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 129 ذكر نبذة من أخباره وأحواله ومناقبه رضى الله عنه غير ما تقدّم قد ذكرنا فيما تقدّم من كتابنا هذا فى هذا السّفر وما قبله نبذة من أخباره، ولمعة من آثاره، وطرفا من مآثره السنيّة، وجملة من فضائله التى هى بجزيل الخيرات مليّة، وأحببنا أن نورد فى هذا الموضع نبذة أخرى غير ما قدّمنا، ونختم هذا الفصل بشىء من مناقبه كما بدأنا، ولا نشترط الاستيعاب لمناقبه ومآثره لتوفّرها، ولا الحصر لفضائله الجزيلة لتعدّدها وتكرّرها، بل نورد من كل نوع منها طرفا يحتوى على خصال منيعة، وأخلاق شريفة، ويتحقّق سامعه أنّه لو أنفق ملء أحد ذهبا ما بلغ مدّه ولا نصيفه. كان رضى الله تعالى عنه قد تقلّل من الدنيا جهد طاقته، واقتصر منها على بعض ما يسدّ به بعض خلّته وفاقته، وتجنّب أموال المسلمين جهده، وأنفق فى سبيل الله وعلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما كان عنده؛ نطق بفضله القرآن، جاهد فى دين الله فأذّلّ الله له وبه أهل الشّرك والطّغيان، وشمّر عن السّاعد فى قتال أهل الرّدّة حين استذلّهم الشيطان، وأقدم على حربهم بنفسه وجيوشه حين اشرأبّ النفاق ولمعت بوارقه، وناضلهم بكتبه وكتائبه حين ظهر الكفر ونشرت خوافقه، فأخمد الله تعالى به ما كان قد اضطرم من نيران الرّدة، وأفاء تلك القبائل التى كانت لحرب الإسلام مستعدة؛ إلّا من استمرّ منهم على كفره، وما نزع عن شرّه ومكره، وأبى إلّا جحود هذا الدّين الجزء: 19 ¦ الصفحة: 130 وقتال شعبه، ونفر عن الرّجوع والانضمام إلى حزبه؛ فإن الله تعالى قتله شرّ قتلة، وأباح للمسلمين ماله وأهله ونسله. روى أنّه لما ارتدت العرب، خرج أبو بكر رضى الله عنه شاهرا سيفه إلى ذى القصّة، فجاءه علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، فأخذ بزمام راحلته، وقال: إلى أين يا خليفة رسول الله؟ أقول لك كما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم أحد: شم سيفك [1] لا تفجعنا بنفسك، فو الله لئن أصبنا بك لا يكون للإسلام نظام ، وكان له رضى الله عنه بيت مال بالسّنح، وكان يسكنه إلى أن انتقل إلى المدينة؛ فقيل له: ألا تجعل عليه من يحرسه؟ قال: لا، فكان ينفق جميع ما فيه على المسلمين، فلا يبقى فيه شىء، فلمّا انتقل إلى المدينة جعل بيت المال معه فى داره. ولما توفّى جمع عمر الأمناء، وفتح بيت المال فلم يجد فيه شيئا غير دينار سقط من غرارة، فترحّموا عليه. وفى خلافته رضى الله عنه: انفتح معدن بنى سليم، فكان يسوّى فى قسمته بين السّابقين الأوّلين والمتأخّرين فى الإسلام، وبين الحرّ والعبد، والذّكر والأنثى. فقيل له: ليقدّم أهل السّبق على قدر منازلهم. فقال: إنّما أسلموا لله، ووجب أجرهم عليه، يوفّيهم ذلك فى الآخرة، وإنما هذه الدنيا بلاغ. وكان يشترى الأكسية ويفرّقها فى الأرامل فى الشتاء. قال أبو صالح الغفارىّ: كان عمر رضى الله عنه يتعهّد امرأة   [1] شم: اغمد. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 131 عمياء فى المدينة بالليل، فيقوم بأمرها، فكان إذا جاءها وجد غيره قد سبقه إليها، ففعل ما أرادت، فرصده عمر، فإذا هو أبو بكر رضى الله عنه، كان يأتيها ويقضى أشغالها سرّا وهو خليفة؛ فقال: أنت هو لعمرى! وكان منزل أبى بكر رضى الله عنه بالسّنح [1] عند زوجته حبيبة بنت خارجة، فأقام هناك ستة أشهر بعد ما بويع، وكان يغدو على رجليه إلى المدينة، وربّما ركب فرسه، فيصلّى بالنّاس؛ فإذا صلّى العشاء رجع إلى السّنح. وكان إذا غاب صلّى بالنّاس عمر، وكان يغدو كلّ يوم إلى السّوق فيبيع ويبتاع، وكانت له قطعة غنم تروح عليه، وربّما خرج هو بنفسه فيها، وربّما رعيت له، وكان يحلب للحىّ أغنامهم، فلما بويع بالخلافة قالت جارية منهم: الآن لا يحلب لنا منائح [2] دارنا، فسمعها، فقال: بل لعمرى لأحلبنّها لكم، وإنى لأرجو ألا يغيّرنى ما دخلت فيه عن خلق كنت عليه، فكان يحلب لهم، ثمّ تحوّل إلى المدينة بعد ستة أشهر من خلافته. وقال: لا تصلح أمور النّاس مع التجارة، وما يصلح إلا التّفرغ لهم؛ والنظر فى شأنهم، فترك التجارة، وأنفق من مال المسلمين، ما يصلحه ويصلح عياله يوما بيوم، ويحجّ ويعتمر؛ فكان الذى فرضوا له فى كلّ سنة ستة آلاف درهم. فلما حضرته الوفاة قال: ردّوا ما عندنا من مال المسلمين، فإنّى لا أصيب من هذا المال شيئا، وإنّ أرضى الذى بكذا وكذا للمسلمين   [1] السنح، إحدى محال المدينة. [2] المنيحة: الناقة تدر اللبن؛ وجمعها منائح. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 132 بما أصبت من أموالهم، فدفع ذلك إلى عمر. وقيل: إنّه قال: انظروا كم أنفقت منذ ولّيت من بيت المال؟ فاقضوه عنّى، فوجدوا مبلغه ثمانية آلاف. وقيل: إنّه قال لعائشة رضى الله عنها: أما إنّا منذ ولّينا أمر المسلمين لم نأكل لهم دينارا ولا درهما، ولكنّا قد أكلنا من جريش طعامهم، ولبسنا من خشن ثيابهم، وليس عندنا من فىء المسلمين إلّا هذا العبد، وهذا البعير، وهذه القطيفة، فإذا متّ فابعثى بالجميع إلى عمر؛ فلما مات بعثته إليه، فلما رآه بكى حتى سالت دموعه على الأرض؛ وجعل يقول: رحم الله أبا بكر! لقد أتعب من بعده، يكرّر ذلك، وأمر برفعه. فقال له عبد الرحمن ابن عوف: سبحان الله! تسلب عيال أبى بكر عبدا، وناضحا [1] ، وشقّ قطيفة ثمنها خمسة دراهم! فلو أمرت بردّها عليهم. فقال: لا، والذى بعث محمدا لا يكون هذا فى ولايتى، ولا خرج أبو بكر منه وأتقلّده أنا. وقد قيل: إنّه رضى الله عنه، كان يأخذ من بيت المال فى كلّ يوم ثلاثة دراهم أجرة، وإنه قال لعائشة: انظرى يا بنيّة ما زاد فى مال أبيك منذ ولى هذا الأمر فردّيه على المسلمين. فنظرت فإذا بجرد [2] قطيفة لا تساوى خمسة دراهم، ومحشّة [3] ، فجاء الرّسول إلى عمر بذلك والنّاس حوله، فبكى عمر، وبكى النّاس؛ وقال: رحمك الله أبا بكر! لقد كلّفت من بعدك تعبا طويلا! فقال الناس: اردده يا أمير المؤمنين إلى أهله.   [1] الناضح: البعير الذى يستقى عليه الماء. [2] جرد قطيفة، قطيفة بالية. [3] المحشة: حديدة تحرك بها النار. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 133 قال: كلّا، لا يخرجه من عنقه فى حياته، وأردّه إلى عنقه بعد وفاته. ثم أمر بذلك، فحمل إلى بيت المال. وحكى أنّ زوجته اشتهت حلوا، فقال: ليس لنا ما نشترى به. فقالت: أنا أستفضل من نفقتنا فى عدّة أيام ما نشترى به؛ قال: افعلى، ففعلت ذلك؛ فاجتمع لها فى أيام كثيرة شىء يسير، فلمّا عرّفته ذلك أخذه، فردّه فى بيت المال. وقال: هذا يفضل عن قوتنا، وأسقط من نفقته بمقدار ما استفضلت فى كلّ يوم، وغرامة لبيت المال فى المدة الماضية من ملك كان له. قيل: ولمّا حضرته الوفاة أتته عائشة رضى الله عنها وهو يعالج الموت، فتمثّلت: لعمرك ما يغنى الثّراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصّدر [1] فنظر إليها كالغضبان، ثم قال: ليس كذلك، ولكن قولى: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [2] . إنّى قد نحلتك حائط كذا، وفى نفسى منه! فردّيه على الميراث؛ وقال: إنّما هو أخواك وأختاك! قالت: من الثانية؟ إنّما هى أسماء. قال: ذات بطن بنت خارجه- يعنى زوجته- وكانت حاملا، فولدت أمّ كلثوم بعد موته. وهو رضى الله عنه أوّل وال فرضت له رعيّته نفقته، وأوّل خليفة ولّى وأبوه حىّ، وأوّل من جمع القرآن بين اللّوحين بمشورة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وسماه مصحفا، وهو أوّل من سمّى خليفة؛ رضوان الله عليه.   [1] البيت لحاتم الطائى، ديوانه 18. [2] سورة ق 19. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 134 ذكر أولاد أبى بكر وأزواجه تزوّج رضى الله عنه فى الجاهلية قتلة- ويقال: قتيلة- بنت عبد العزّى بن عبد [بن] [1] أسعد بن مضر بن مالك بن حسل ابن عامر بن لؤىّ، فولدت له عبد الله وأسماء. وتزوّج أيضا فى الجاهلية أمّ رومان- بفتح الراء وضمها- واسمها زينب بنت عامر بن عويمر بن عبد شمس بن عتّاب ابن أذينه بن سبيع بن دهمان بن الحارث بن غنم بن مالك بن كنانة. أسلمت وهاجرت؛ وكانت قبل أبى بكر تحت عبد الله بن الحارث ابن سخبرة بن جرثومة الخير بن عادية بن مرّة الأزدىّ، وكان قدم بها مكّة، فحالف أبا بكر قبل الإسلام، ثم توفّى عن أمّ رومان، فولدت له الطّفيل، ثم خلف عليها أبو بكر، فولدت له عبد الرحمن وعائشة؛ فالطّفيل أخوهما لأمّهما، توفيت أم رومان فى ذى الحجة سنة أربع، أو سنة خمس، فنزل رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى قبرها، واستغفر لها. وقال: اللهمّ لم يخف عليك ما لقيت أمّ رومان فيك وفى رسولك. وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنّه قال: «من سرّه أن ينظر إلى امرأة من الحور العين فلينظر إلى أمّ رومان» . وتزوّج رضى الله عنه فى الإسلام أسماء بنت عميس الخثعميّة؛ وهى أخت ميمونة زوج النبىّ صلى الله عليه وسلّم لأمّها، وكانت   [1] من ص، وفى ابن الأثير: قتيلة بنت عبد العزى بن عامر بن لؤى. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 135 عند جعفر بن أبى طالب، وهاجرت معه إلى أرض الحبشة، فولدت له هناك محمد بن أبى بكر، ثم تزوّجها بعده علىّ بن أبى طالب، فولدت له يحيى بن علىّ. وزعم ابن الكلبى أن عون بن علىّ، أمّه أسماء، ولم يقله غيره. وقيل: كانت أسماء بنت عميس تحت حمزة بن عبد المطلب، فولدت له ابنة تسمّى أمة الله. وقيل: أمامة، ثم خلف عليها بعده شدّاد بن الهاد الليّثى، ثم العتوارىّ، حليف بنى هاشم، فولدت له عبد الله وعبد الرحمن بن شدّاد، ثم خلف عليها بعد شدّاد جعفر بن أبى طالب. وقيل: التى كانت تحت حمزة وشدّاد سلمى بنت عميس أختها أسماء، والله تعالى أعلم بالصواب. وتزوّج رضى الله عنه فى الإسلام أيضا أمّ حبيبة بنت خارجة ابن زيد بن أبى زهير الأنصارية، من بنى الحارث بن الخزرج، فولدت له بعد وفاته أمّ كلثوم. ولنصل هذا الفصل بذكر شيىء من أولاد أبى بكر رضى الله عنهم. وأمّا عبد الله بن أبى بكر رضى الله عنهما، فكان قديم الإسلام إلّا أنّه لم يسمع له بمشهد إلّا شهوده الفتح وحنينا والطائف. ورمى بالطائف بسهم؛ قيل: رماه به أبو محجن، فاندمل جرحه، ثم انتقض عليه، فمات فى شوّال سنة إحدى عشرة. وكان قد ابتاع الحلّة التى أرادوا دفن رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيها بسبعة دنانير ليكفّن فيها، فلما حضرته الوفاة، قال: لا تكفّنونى فيها، فلو كان فيها خير كفّن رسول الله الجزء: 19 ¦ الصفحة: 136 صلّى الله عليه وسلم فيها، ودفن بعد الظهر، وصلّى عليه أبوه، ونزل قبره عمر بن الخطاب وطلحة وعبد الرحمن أخوه. وكان عبد الله رضى الله عنه زوج عاتكة بنت زيد بن عمرو ابن نفيل العدويّة، أخت سعيد بن زيد، وكانت من المهاجرات، وكانت حسناء جميلة بارعة، فأولع بها، وشغلته عن مغازيه، فأمره أبوه بطلاقها لذلك؛ فقال: هذه الأبيات: يقولون طلقها وخيّم مكانها ... مقيما، تمنّى النّفس أحلام نائم وإنّ فراقى أهل بيت جميعهم ... على كبرة منّى لإحدى العظائم أرانى وأهلى كالعجول تروّحت ... إلى بوّها قبل العشار الرّوائم فعزم عليه أبوه حتى طلقها، ثم تبعتها نفسه، فهجم عليه أبو بكر رضى الله عنه وهو يقول: أعاتك لا أنساك ماذرّ شارق ... وما ناح قمرىّ الحمام المطوّق أعاتك قلبى كلّ يوم وليلة ... إليك بما تخفى النفوس معلّق فلم أر مثلى طلّق اليوم مثلها ... ولا مثلها فى غير جرم تطلّق لها خلق جزل ورأى ومنصب ... وخلق سوىّ فى الحياء ومصدق فرقّ له أبوه، وأمره بمراجعتها فارتجعها؛ وقال هذه الأبيات: أعاتك قد طلّقت فى غير ريبة ... وروجعت للأمر الذى هو كائن كذلك أمر الله غاد ورائح ... على النّاس فيه ألفة وتباين وما زال قلبى للتفرّق طائرا ... وقلبى لما قد قرّب الله ساكن الجزء: 19 ¦ الصفحة: 137 فإنّك ممّن زيّن الله وجهه ... وليس لوجه زانه الله شائن فلما مات عبد الله صارت عاتكة ترثية بهذه الأبيات: رزئت بخير النّاس بعد نبيّهم ... وبعد أبى بكر وما كان قصّرا فآليت لا تنفكّ عينى حزينة ... عليك، ولا ينفك جلدى أغبرا فلله عينا من رأى مثله فتى ... أكرّ وأحمى فى الهياج وأصبرا إذا شرعت فيه الأسنّة خاضها ... إلى الموت حتى يترك الرّمح أحمرا ثم تزوّجت بعده زيد بن الخطاب، على اختلاف فى ذلك؛ فقتل عنها يوم اليمامة شهيدا، فتزوّجها عمر بن الخطاب فى سنة اثنتى عشرة، فأولم عليها، ودعا عمر بن الخطاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيهم علىّ بن أبى طالب؛ فقال له: دعنى أكلّم عاتكة: قال: نعم، فأخذ بجانب الحذر. ثم قال: يا عديّة نفسها، أين قولك: فآليت لا تنفكّ عينى حزينة ... عليك ولا ينفك جلدى أغبرا فبكت. فقال عمر: ما دعاك إلى هذا يا أبا الحسن؟! كلّ النساء يفعلن هذا، ثم قتل عنها عمر، فقالت تبكيه: عين جودى بعبرة ونحيب ... لا تملّى على الجواد النّجيب فجعتنى المنون بالفارس المعلم ... يوم الهياج والتّثويب قل لأهل الضّرّاء والبؤس موتوا ... قد سقته المنون كأس شعوب وقالت أيضا ترثيه بهذه الأبيات: منع الرقاد فعاد عينى عائد ... مما تضمّن قلبى المعمود الجزء: 19 ¦ الصفحة: 138 يا ليلة حبست علىّ نجومها ... فسهرتها والشّامتون رقود قد كان يسهرنى حذارك مرّة ... فاليوم حقّ لعينى التّسهيد أبكى أمير المؤمنين ودونه ... للزائرين صفائح وصعيد ثم تزوّجها الزّبير بن العوّام فقتل عنها؛ فقالت ترثيه بهذه الأبيات: غدر ابن جرموز بفارس بهمّة ... يوم اللّقاء وكان غير معرّد يا عمرو لو نبّهته لوجدتة ... لا طائشا رعش الجنان ولا اليد كم غمرة قد خاضها لم يثنه ... عنها طرادك يا بن فقع القردد ثكلتك أمّك إن ظفرت بمثله ... فيما مضى ممن يروح ويغتدى والله ربّك إن قتلت لمسلما ... حلّت عليك عقوبة المتعمّد ثم خطبها علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه بعد انقضاء عدّتها، فأرسلت إليه. إنّى لأضنّ بك يا بن عمّ رسول الله عن القتل! وإنما ذكرنا ما ذكرنا من خبر عاتكة فى هذا الموضع على سبيل الاستطراد؛ فالشّىء بالشىء يذكر، فلنذكر عبد الرحمن ابن أبى بكر. وأمّا عبد الرحمن بن أبى بكر رضى الله عنه؛ فهو أسنّ ولد أبى بكر، وكان يكنى أبا عبد الله. وقيل: أبا محمد، بابنه محمد الذى يقال له: أبو عتيق، والد عبد الله بن أبى عتيق، وأدرك أبو عتيق محمد بن عبد الرحمن رسول الله صلّى الله عليه وسلم هو وأبوه وجدّه، وجدّ أبيه؛ أربعتهم، أجمعوا على أنّ هذه المنقبة ليست الجزء: 19 ¦ الصفحة: 139 لغيرهم، روى البخارىّ رحمه الله، قال: قال موسى بن عقبة: ما نعلم أحدا فى الإسلام أدركوا هم وأبناؤهم النّبىّ صلى الله عليه وسلم أربعة إلّا هؤلاء الأربعة: أبو قحافة، وابنه أبو بكر، وابنه عبد الرحمن ابن أبى بكر، وابنه عتيق بن عبد الرحمن. وعبد الرحمن شقيق عائشة؛ شهد عبد الرحمن بدرا وأحدا مع قومه، ودعا إلى البراز، فقام إليه أبو بكر ليبارزه، فذكر أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم قال له: «متّعنى بنفسك» . ثم أسلم عبد الرحمن، وحسن إسلامه، وصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى هدنة الحديبية. وكان اسمه فى الجاهلية عبد الكعبة، فسمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن، وكان رضى الله عنه من أشجع رجال قريش وأرماهم بسهم، حضر اليمامة مع خالد بن الوليد، فقتل سبعة من كبارهم، منهم محكّم اليمامة طفيل، رماه بسهم فى نحره فقتله. ولما فتحت دمشق نفله عمر ليلى بنت الجودى، وكان قد رآها قبل ذلك، وكان يتشبّب بها. وشهد عبد الرحمن الجمل مع عائشة، وكان ابنه محمد يومئذ مع علىّ. قال أبو عمر بن عبد البر: ولما [1] قعد معاوية على المنبر، ودعا إلى بيعة يزيد، كلّمه الحسين بن علىّ وعبد الله بن الزّبير، وعبد الرّحمن بن أبى بكر، فكان كلام عبد الرحمن: أهرقليّة! إذا مات كسرى كان كسرى مكانه! لا نفعل والله ابدا. وبعث إليه معاوية   [1] الاستيعاب 825. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 140 بمائة ألف درهم بعد أن أبى البيعة ليزيد فردّها عبد الرحمن. وقال: أبيع دينى بدنياى! وخرج إلى مكة، فمات بها قبل أن تمّ البيعة ليزيد. ويقال: إنه [مات] فجأة بموضع يقال له: الحبشىّ [1] على نحو عشرة أميال من مكّة، وحمل إلى مكة فدفن بها. وقيل: إنّه توفى فى نومة نامها، وكانت وفاته فى سنة ثلاث وخمسين. وقيل: سنة خمس وخمسين، والأول أشهر. ولما اتّصل خبر وفاته بعائشة أمّ المؤمنين أخته، ظعنت من المدينة حاجّة حتى وقفت على قبره، وتمثّلت بهذه الأبيات: وكنّا كندمانى جذيمة حقبة ... من الدّهر حتى قبل لن يتصدّعا [2] فلمّا تفرّقنا كأنّى ومالكا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا وقالت: أما والله لو حضرتك لدفنتك حيث متّ مكانك، ولو حضرتك ما بكيتك! رضى الله عنهما. وأما محمّد بن أبى بكر رضى الله عنهما، فإنه ولد فى عقب ذى الحجة سنة عشر من الهجرة بذى الحليفة، أو بالشجرة، وسمّته عائشة محمدا، وكنّته أبا القاسم، ثم كان محمد بعد وفاة أبى بكر فى حجر علىّ بن أبى طالب لما تزوّج أمّه أسماء بنت عميس، وكان محمّد على رجّالة علىّ يوم الجمل، وشهد معه أيام صفّين، ثم ولّاه مصر، فقتل بها. واختلفوا فى قتله، فقيل: قتله معاوية بن حديج صبرا،   [1] الحبشى: جبل بأسفل مكة. [2] البيتان لمتمم بن نورة من قصيدة مفضلية. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 141 وذلك فى سنة ثمان وثلاثين؛ وقيل: إنّه لمّا ولّاه على مصر سار إليه عمرو بن العاص من قبل معاوية فاقتتلوا، فانهزم أصحاب محمد وفرّ هو، فدخل خربة فيها حمار ميّت، فدخل فى جوفه، فأحرق فى جوف الحمار؛ وقيل: بل قتله معاوية بن حديج فى المعركة، ثم أحرق فى جوف الحمار بعد ذلك، وقيل: إنّه أتى عمرو بن العاص فقتله صبرا بعد أن قال له: هل معك عهد؟ هل معك عقد من أحد؟ فقال: لا، فأمر به فقتل. وكان علىّ يثنى على محمد خيرا، ويفضّله؛ لانه كانت له عبادة واجتهاد؛ وكان ممّن دخل على عثمان حين أرادوا قتله، فقال له عثمان: لو رآك أبوك لم يرض بهذا المقام منك! فخرج عنه وتركه، روى محمد بن طلحة، عن كنانة مولى صفيّة بنت حيىّ- وكان شهد يوم الدّار- أنّه لم ينل محمد بن أبى بكر دم عثمان بشىء. قال: محمد بن طلحة: فقلت: لكنانة: فلم قيل: إنّه قتله؟ قال: معاذ الله أن يكون قتله! إنّما دخل عليه، فقال له عثمان: يا بن أخى، لست بصاحبى، وكلّمه عثمان بكلام فخرج ولم ينل دمه بشىء. فقلت لكنانة: فمن قتله؟ قال: رجل من أهل مصر يقال له: جبلة ابن الأيهم. وأمّا عائشة رضى الله عنها فقد تقدّم ذكرها فى السيرة النبوية فى أزواج النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، أمّهات المؤمنين رضى الله عنهنّ. وأما أسماء بنت أبى بكر رضى الله عنه فهى قديمة الإسلام. قال ابن إسحاق: أسلمت بعد سبعة عشر، وكانت تحت الزّبير الجزء: 19 ¦ الصفحة: 142 ابن العوام رضى الله عنه، وهاجرت إلى المدينة وهى حامل بعبد الله ابن الزبير، فوضعته بقباء، وكانت تسمّى ذات النّطاقين، وقد تقدّم الخبر فى تسميتها بذلك فى سيرة سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم عند خروجه من مكة إلى الهجرة. توفيت أسماء بمكّة فى جمادى الآخرة، سنة ثلاث وسبعين بعد مقتل ابنها عبد الله، وقد بلغت مائة سنة. وأمّ كلثوم [1] بنت أبى بكر رضى الله عنه، تزوّجها طلحة بن عبيد الله رضى الله عنهما، فولدت له عائشة بنت طلحة، فتزوجها عبد الله ابن عبد الرحمن بن أبى بكر الصّديق. ولعائشة بنت طلحة أخبار تقدّم ذكرها، وتزوّجت عائشة بعد عبد الله مصعب بن الزبير، ولم تلد من أحد من أزواجها غير عبد الله، ولدت له عمران، وعبد الرحمن، وأبا بكر، وطلحة، ونفيسة، تزوجها الوليد بن عبد الملك، وكان ابنها طلحة أجود أجواد قريش، وله يقول الحزين الدّيلىّ: فإن تك با طلح أعطيتنى ... عذافرة تستخفّ الضّفارا فما كان نفعك مرّة ... ولا مرّتين ولكن مرارا أبوك الذى صدّق المصطفى ... وسار مع المصطفى حيث سارا وأمّك بيضاء تيميّة ... إذا نسب الناس كانت نضارا وطلحة هذا، ابن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبى بكر الصّديق رضى الله عنه. وطلحة هذا هو جدّى الذى أنسب إليه. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.   [1] ص: «وأما أم كلثوم» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 143 ذكر أسماء قضاته وعماله وكتابه وحاجبه وخادمه لمّا ولّى أبو بكر رضى الله عنه، قال له أبو عبيدة: أنا أكفيك المال. وقال له عمر: أنا أكفيك القضاء، فاستعملهما. فمكث عمر سنة لا يأتية رجلان فى محاكمة، وكان يكتب لأبى بكر عثمان بن عفان وزيد بن ثابت ومن حضر، وكان حاجبه شديد مولاه، وكان عامله على مكّة عتّاب بن أسيد، ومات فى اليوم الّذى مات فيه أبو بكر. وقيل: مات بعده. وكان على الطّائف عثمان بن أبى العاص، وعلى صنعاء المهاجر ابن أبى أميّة، وعلى حضرموت زياد بن لبيد، وعلى خولان يعلى بن أمية، وعلى زبيد أبو موسى الأشعرىّ، وعلى الجند معاذ بن جبل، وعلى البحرين العلاء الحضرمىّ. وبعث جرير بن عبد الله إلى نجران، وعبد الله بن ثور إلى جرش، وعياض بن غنم إلى دومة الجندل. وكان على الشام أبو عبيدة بن الجراح. وشرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبى سفيان، وعمرو بن العاص؛ كلّ رجل منهم على جند وعليهم خالد بن الوليد رضى الله عنه. وكان خاتمة خاتم رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وقال الزّبير بن بكّار: وكان نقش خاتمه: «نعم القادر الله» . وقال غيره: كان نقش خاتمه: «عبد ذليل لربّ جليل» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 144 وعاش أبو قحافة بعده ستة أشهر وأياما. وفى المعجم الكبير للطّبرانىّ، قال: ومات أبو بكر، فورثه أبواه، وكانا قد أسلما، وماتت أمّ أبى بكر قبل أبيه، ومات أبوه وله سبع وتسعون سنة. والحمد لله وحده، وصلّى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين وسلم. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 145 ذكر خلافة عمر بن الخطاب رضى الله عنه هو أبو حفص عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزّى بن رياح من عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدىّ بن كعب بن لؤىّ ابن غالب القرشىّ العدوىّ، ويجتمع نسبه مع نسب رسول الله صلّى الله عليه وسلم عند كعب بن لؤىّ. وأمة حنتمة بنت هاشم بن المغيرة ابن عبد الله بن عمر بن مخزوم- على ما صححه أبو عمر بن عبد البر-[1] وخطّأ من قال: إنّها بنت هشام بن المغيرة، وقال: لو كانت بنت هشام لكانت أخت أبى جهل، وإنما هى بنت عمّه لأن هاشما وهشاما أخوان، فهاشم والد حنتمة أمّ عمر، وهشام والد الحارث، وأبى جهل، وهاشم ابن المغيرة جدّ عمر لأبيه يقال له: ذو الرّمحين. ولد عمر بن الخطاب رضى الله عنه بعد الفيل بثلاث عشرة سنة، وروى أسامة بن زيد بن أسلم عن أبيه، عن جده، قال: سمعت عمر يقول: ولدت بعد الفجار الأعظم بأربع سنين. قال الزّبير بن بكّار: كان عمر بن الخطاب رضى الله عنه من أشرف قريش، وإليه كانت السّفارة فى الجاهلية؛ وذلك أنّ قريشا كانت إذا وقعت بينهم حرب، أو بينهم وبين غيرهم بعثوه سفيرا، وإن نافرهم منافر، أو فاخرهم مفاخر بعثوه منافرا ومفاخرا، ورضوا به. وقد تقدم خبر إسلامه، وإظهار الله تعالى الإسلام به، وإجابة دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه حين قال: «اللهم أعزّ   [1] الاستيعاب 1144 وما بعدها. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 146 الإسلام بأحدا الرجلين عمر بن الخطاب، أو بأبى جهل بن هشام» . فاستجيب فى عمر. قال ابن مسعود: مازلنا أعزّة منذ أسلم عمر. ولقّب بالفاروق لإعلانه بالإسلام، ففرق بين الحقّ والباطل لمّا أسلم؛ رضى الله عنه. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 147 ذكر نبذة من فضائل عمر رضى الله عنه ومناقبه وفضائله رضى الله عنه كثيرة، ومناقبه جمّة مشهورة، قد قدّمنا منها فى ترجمة أبى بكر الصّديق رضى الله عنهما ما تقدّم، ولنورد فى هذا الفصل من مناقبه خلاف ذلك: روى عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله جعل الحقّ على لسان عمر وقلبه» . ونزل القرآن بموافقته فى أشياء؛ منها ما رآه فى أسرى بدر، وفى تحريم الخمر، وفى حجاب أزواج النبى صلّى الله عليه وسلم، وفى مقام إبراهيم. وروى عن عقبة بن عامر وأبى هريرة رضى الله عنهما، أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لو كان بعدى نبىّ لكان عمر» . وعن عائشة رضى الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «قد كان فى الأمم قبلكم محدّثون، فإن كان فى هذه الأمة أحد فعمر بن الخطاب» . وعن عبد الله بن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «بينا أنا نائم أتيت بقدح لبن فشربت منه حتى رأيت الرّىّ يخرج من أظفارى، ثم أعطيت فضلى عمر» . قالوا: فما أوّلت ذلك يا رسول الله؟ قال: العلم . وعن جابر رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: الجزء: 19 ¦ الصفحة: 148 «دخلت الجنّة، فرأيت فيها دارا- أو قال: قصرا- وسمعت فيه ضوضأة، فقلت: لمن هذا؟ فقالوا: لرجل من قريش، فظننت أنى أنا هو؛ فقلت: من هو؟ قالوا: عمر بن الخطاب، فلولا غيرتك يا أبا حفص لدخلته. فبكى عمر وقال: عليك يغار يا رسول الله! أو قال عليك أغار!» . وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «رأيتنى فى المنام، والنّاس يعرضون علىّ، وعليهم قمص منها إلى كذا، ومنها إلى كذا، ومرّ علىّ عمر بن الخطاب يجرّ قميصه، فقيل: يا رسول الله، ما أولّت ذلك؟ قال: الدّين» . ومن رواية الّليث بن سعد، عن أبى سعيد الخدرىّ رضى الله عنه أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، يقول: «بينا أنا نائم والنّاس يعرضون علىّ، وعليهم قمص، منها ما يبلغ الثّدى ومنها دون ذلك، وعرض علىّ عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه، وعليه قميص يجرّه» ، قالوا: فما أوّلت ذلك يا رسول الله؟ قال: الدّين» . وقال علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: خير النّاس بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر، وقال: ما كنّا نبعد أنّ السّكينة [1] تنطق على لسان عمر. وقال ابن مسعود رضى الله عنه: لو وضع علم أحياء العرب فى كفّة ميزان، ووضع علم عمر لرجح عليهم علم عمر. ولقد كانوا يرون أنّه ذهب بتسعة أعشار العلم، ولمجلس كنت أجلسه مع عمر أوثق فى نفسى من عمل سنة.   [1] السكينة، هنا: الإلهام. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 149 ذكر صفة عمر رضى الله عنه قد اختلف الناس فى صفة عمر رضى الله عنه؛ فقيل: كان شديد الأدمة [1] طوالا أكثّ اللحية، أصلع أعسر يسرا، يعمل بيديه جميعا، يخضب بالحناء والكتم [2] ، هكذا وصفه زرّ بن حبيش وغيره بأنّه كان شديد الأدمة. قال أبو عمر: وهو الأكثر عند أهل العلم بأيّام الناس وسيرهم وأخبارهم. قال [3] : ووصفه أبو رجاء العطاردىّ- وكان مغفلا- فقال: كان عمر طويلا جسيما أصلع شديد الصّلع، أبيض شديد حمرة العينين، فى عارضيه خفّة، سبلته [4] كثيرة الشعر، فى أطرافها صهبة [5] . وذكر الواقدىّ من حديث عاصم بن عبيد الله بن عمر عن، أبيه، قال: إنّما جاءتنا الأدمة من قبل أخوالى بنى مظعون، قال: وكان أبيض، لا يتزوج إلا لطلب الولد. قال أبو عمر: وعاصم بن عبيد الله لا يحتجّ بحديثه، ولا بأحاديث الواقدىّ. قال: زعم الواقدىّ أنّ سمرة عمر وأدمته   [1] الأدمة: السمرة. [2] الكتم: نبت يخلط بالحناء ويخضب به الشعر. [3] الاستيعاب 1144: وما بعدها. [4] السبلة: ما على الشارب من الشعر. [5] الصهب، محركة والصهبة: حمرة أو شقرة فى الشعر. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 150 إنّما جاءت من أكله الزّيت عام الرّمادة [1] قال: وهذا منكر من القول. وأصحّ ما فى هذا الباب حديث سفيان الثّورىّ، عن عاصم بن بهدلة، عن زرّ بن حبيش، قال: رأيت عمر شديد الأدمة. وقال أنس: كان أبو بكر يخضب بالحناء والكتم، وكان عمر يخضب بالحناء بحتا. وعن مجاهد أنّ عمر كان لا يغيّر شيبه. وقال هلال بن عبد الله: رأيت عمر بن الخطّاب رضى الله عنه، رجلا آدم ضخما كأنّه من رجال سدوس، فى رجليه روح [2] . وقال بعضهم فى صفته: كان طويلا من النّاس كراكب الجمل، أمهق [3] أصلع. استخلفه أبو بكر رضى الله عنه قبل وفاته؛ وذلك أنه لمّا نزل به الموت دعا عبد الرحمن بن عوف. فقال: أخبرنى عن عمر، فقال: إنّه أفضل من رأيك فيه إلّا أنّ فيه غلظة؛ فقال أبو بكر: ذلك لأنّه يرانى رقيقا، ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيرا ممّا هو عليه، وقد رمقته، فكنت إذا غضبت على رجل أرانى الرّضا عنه، وإذا لنت له أرانى الشّدة عليه. ودعا عثمان فقال له: أخبرنى عن عمر، فقال: سريرته خير من علانيته، وليس فينا مثله. فقال أبو بكر لهما:   [1] قال فى القاموس: عام الرمادة فى أيام عمر هلكت فيه الناس والأموال. [2] قال فى القاموس: «الروح، بالتحريك: وسعة فى الرجلين دون الفجح، وكان عمر رضى الله عنه أروح» . [3] الأمهق: الأبيض كالجص لا يخالطه حمرة، وليس بنير. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 151 لا تذكرا مما قلت لكما شيئا، ولو تركته ما عدوت عثمان، ولا أدرى لعله تارك، والخيرة له ألّا يلى من أموركم شيئا، ولوددت أنّى كنت من أموركم خلوا، وكنت فيمن مضى من سلفكم. ودخل طلحة على أبى بكر فقال: استخلفت على الناس عمر، وقد رأيت [1] ما يلقى الناس منه وأنت معه، فكيف به إذا خلا بهم! وأنت لاق ربّك فسائلك عن رعيّتك؛ فقال: أجلسونى؛ فأجلسوه، فقال: بالله تفرّقنى، أو بالله تخوّفنى! إذا لقيت ربّى فساءلنى قلت: استخلفت على أهلك خير أهلك. ثم أحضر أبو بكر عثمان بن عفان خاليا، فقال: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد أبو بكر بن أبى قحافة إلى المسلمين؛ أمّا بعد- ثم أغمى عليه- فكتب عثمان: أما بعد؛ فقد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ولم آلكم خيرا، ثم أفاق أبو بكر فقال: اقرأ علىّ، فقرأ عليه، فكبرّ أبو بكر وقال: خفت أن يختلف الناس إن متّ فى غشيتى، قال: نعم، قال: جزاك الله خيرا عن الإسلام وأهله. فلمّا كتب العهد أمر به أن يقرأ على النّاس، فجمعهم، وأرسل الكتاب مع مولى له، ومعه عمر، فكان عمر يقول للناس: أنصتوا واسمعوا لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنّه لم يألكم نصحا، فسكت النّاس، فلما قرئ عليهم الكتاب سمعوا وأطاعوا. وكان أبو بكر قد أشرف على الناس، وقال: أترضون بمن   [1] ك: «وقد لقيت» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 152 استخلفت عليكم؟ فإنّى ما استخلفت ذا قرابة، وإنّى قد استخلفت عليكم عمر، فاسمعوا له وأطيعوا، وإنّى والله ما ألوت من جهد الرأى، فقالوا: سمعنا وأطعنا، ثم أحضر أبو بكر عمر، فقال: قد استخلفتك على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأوصاه بتقوى الله، ثم قال: يا عمر؛ إنّ لله حقّا باللّيل لا يقبله فى النّهار، وحقّا فى النّهار لا يقبله فى الليل، وإنه لا يقبل نافلة حتى تؤدّى الفريضة، ألم تر يا عمر أنّما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتّباعهم الحقّ وثقله عليهم! وحقّ الميزان لا يوضع فيه غدا حقّ إلّا أن يكون ثقيلا! ألم تر يا عمر أنّما خفّت موازين من خفّت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل، وخفّته عليهم، وحقّ الميزان لا يوضع فيه غدا باطل إلّا أن يكون خفيفا! ألم تر يا عمر أنّما نزلت آية الرخاء مع آية الشّدة، وآية الشدّة مع آية الرّخاء ليكون المؤمن راغبا راهبا؛ لا يرغب رغبة يتمنى فيها على الله ما ليس له، ولا يرهب رهبة يلقى فيها بيديه! ألم تر يا عمر أنما ذكر الله أهل النار بأسوإ أعمالهم، فإذا ذكرتهم قلت: إنّى لأرجو ألّا أكون منهم، وأنه إنما ذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم لأنّه تجاوز [1] لهم ما كان من شىء، فإذا ذكرتهم قلت: أين عملى من أعمالهم! فإن حفظت وصيتى، فلا يكون غائب أحبّ إليك من الموت، ولست بمعجزه. وتوفّى أبو بكر رضى الله عنه، فلما دفن صعد عمر المنبر، فخطب النّاس ثم قال: إنّما مثل العرب مثل جمل أنف [2]   [1] ك: «تجاوزتم لهم» . [2] الجمل الأنف: المأنوف. وفى نهاية ابن الأثير: وهو الذى عقر الخشاش أنفه فهو لا يمتنع على قائده للوجع الذى به. وقيل: الذلول» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 153 اتّبع قائده، فلينظر قائده حيث يقود. وأمّا أنا فو ربّ الكعبة لأحملنّكم على الطريق. وكان أول كتاب كتبه إلى أبى عبيدة بن الجراح بتوليته جند خالد بن الوليد، وبعزل خالد لأنّه كان عليه ساخطا خلافة أبى بكر كلها لوقعته بابن نويرة، وما كان يعمل فى حربه، وأوّل ما تكلم به عزل خالد، وقال: لا يلى لى عملا أبدا. ذكر الفتوحات والغزوات فى خلافة عمر بن الخطاب رضى الله عنه وفى خلافته رضى الله عنه كثرت الفتوحات على المسلمين، ولنبدأ من ذلك بذكر فتوح دمشق، وما والاه من المدن والثغور والحصون، ثم نذكر فتوحات العراق، وما والاه، ثم فتوح مصر، وما والاها، لتكون الفتوحات متوالية، ولا ينقطع خبرها بأخبار غيرها، ولا يتداخل فتوح بفتوح، ثم نذكر الغزوات إلى أرض الروم، ثم نذكر الوقائع بعد ذلك خلاف الفتوحات والغزوات على حكم السنين على ما ستقف عليه، إن شاء الله تعالى على ذلك. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 154 ذكر فتوح مدينة دمشق قال: لمّا [1] هزم الله تعالى أهل اليرموك استخلف أبو عبيدة على اليرموك بشير بن كعب الحميرىّ، وسار حتى نزل بالصّفّر؛ فأتاه الخبر أن الذين انهزموا من الرّوم اجتمعوا بفحل [2] ، وأن المدد قد أتى أهل دمشق من حمص؛ فكتب إلى عمر بذلك، فأمره أن يبدأ بدمشق فإنّها حصن الشام وبيت المملكة، وأن يشغل أهل فحل بخيل تكون بإزائهم، فإذا فتحت دمشق سار إلى فحل، ثم يسير إلى حمص هو وخالد ابن الوليد، ويترك شرحبيل بن حسنة، وعمرو بن العاص بالأردنّ وفلسطين، فأرسل أبو عبيدة طائفة من المسلمين، فنزلوا بالقرب منها، وبثق [3] الرّوم الماء حول فحل، فوحلت الأرض، ونزل عليهم المسلمون، فكان أوّل محصور بالشام أهل فحل، ثم أهل دمشق. وبعث أبو عبيدة أيضا جندا، فنزلوا بين حمص ودمشق، وأرسل جندا فكانوا بين دمشق وفلسطين وسار هو وخالد بن الوليد، فقدما دمشق، وعليها نسطاس [4] ؛ فنزل أبو عبيدة على ناحية، وخالد على ناحية؛ ويزيد بن أبى سفيان على ناحية، وحصرهم المسلمون سبعين ليلة، وقاتلوهم بالزّحف والمجانيق، فكان هرقل بالقرب من حمص، فأمّد أهل دمشق بخيل، فمنعتها خيول المسلمين، وخذل   [1] تاريخ ابن الأثير 2: 293، وما بعدها وتاريخ الطبرى: 434 وما بعدها. [2] فحل: اسم موضع بالشام. [3] بشق السيل موضع كذا: خرقه وشقه فانبثق. [4] ك: «فطاس» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 155 أهل دمشق. وولد للبطريق الذى على دمشق مولود، فصنع وليمة، فأكل القوم وشربوا، فعلم خالد بذلك دون غيره، وكان قد اتّخذ حبالا كهيئة السلاليم، فلمّا أمسى ذلك اليوم نهض بمن معه وتقدّمهم هو والقعقاع بن عمرو ومذعور بن عدىّ وأمثاله، وقالوا: إذا سمعتم تكبيرنا على السّور فارتقوا إلينا، واقصدوا [1] الباب؛ وارتقى هو وأصحابه على السّور فى تلك الحبال، ثم انحدر ببعض من معه، وترك بذلك المكان الذى صعد منه من يحميه، وأمرهم بالتكبير، وجاء المسلميون إلى الباب وإلى الحبال، وقصد خالد الباب، وقتل من دونه، ثم قتل البوّابين، وفتح الباب، وقتل من عنده من الروم، ودخل أصحابه المدينة، وثار أهلها لا يدرون ما الخبر، فلما رأوا ذلك قصدوا أبا عبيدة، وبذلوا له الصلح، فقبله منهم، وفتحوا له الباب، وقالوا: ادخل وامنعنا من أهل ذلك الجانب، ودخل أهل كلّ باب بصلح ممّن يليهم، ودخل خالد عنوة، والتقى والقوّاد وسط المدينه هذا قتلا ونهبا، وهذا صفحا وتسكينا، فأجروا جهة خالد مجرى الصلح، وكان صلحهم على المقاسمة؛ الدينار والعقار ودينار عن كل رأس، واقتسموا الأسلاب. وأرسل أبو عبيدة إلى عمر بالفتح، وأنّه قسّم الغنيمة على من حضر الفتح، وعلى الجنود التى على فحل وحمص وغيرهم، فجاء كتاب عمر إلى أبى عبيدة يأمره بإرسال جند العراق إلى سعد بن أبى وقاص، فأرسلهم، وأمّر عليهم هاشم بن عتبة، وسار أبو عبيدة إلى فحل. والله أعلم.   [1] ك: «وانضدوا» تحريف. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 156 ذكر شىء مما قبل فى أمر مدينة دمشق ومن بناها حكى عن كعب الأحبار، قال: أوّل حائط وضع على وجه الأرض بعد الطّوفان حائط حرّان ودمشق ثم بابل. واختلف فيمن اختطّ دمشق؛ فقيل: إن نوحا عليه السلام اختطها بعد حرّان. وقيل: نزل جيرون بن سعد بن عاد بن عوص دمشق، وبنى مدينتهم وسمّاها جيرون. وقيل: هى إرم ذات العماد. وقيل: إن جيرون وبريد كانا أخوين، وهما ابنا سعد بن لقمان ابن عاد، وهما اللذان يعرف جيرون وباب البريد بدمشق بهما. وعن وهب بن منبّه، قال: دمشق بناها العازر غلام إبراهيم الخليل، وكان حبشيّا، وهبه له نمرود حين خرج إبراهيم من النار، وكان اسم الغلام دمشق، فسماها على اسمه، وكان إبراهيم جعله على كل شىء له، وسكنها الرّوم بعد ذلك بزمان. وقيل: إنّ بيور اسب الملك بنى مدينة بابل، وبنى مدينة صور، وبنى مدينة دمشق. وقيل: كان زمن معاوية رجل صالح [بدمشق] [1] ، كان الخضر عليه السلام يأتيه فى أوقات، فبلغ ذلك معاوية، فجاء إلى الرجل وسأله أن يجمع بينه وبين الخضر، فذكر الرجل ذلك للخضر،   [1] تكملة من ص. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 157 فأبى؛ فقال معاوية: قل له: قد قعدنا مع من هو خير منك؛ وحدّثناه، وهو محمّد صلّى الله عليه وسلم ولكن اسأله عن ابتداء بناء دمشق كيف كان، فسأله؛ فقال: نعم صرت إليها، فرأيت موضعها بحرا مستجمعا فيه المياه، ثم غبت عنها خمسمائة سنة، ثم صرت إليها فرأيتها غيضة، ثم غبت عنها خمسمائة سنة، ثم صرت إليها، فرأيتها بحرا كعادتها الأولى، ثم غبت عنها خمسمائة عام، وصرت إليها فرأيتها قد ابتدىء فيها بالبناء ونفر يسير فيها. وعن أبى البخترىّ قال: ولد إبراهيم عليه السلام على رأس ثلاثة آلاف ومائة وخمسين سنة من جملة الدهر الذى هو سبعة آلاف سنة، وذلك بعد بنيان دمشق بخمس سنين، وقال: جيرون عند باب مدينة دمشق من بناء سليمان، بنته الشياطين، وكان الشيطان الذى بناه يقال له: جيرون فسمّى به. وقيل: إن دمشق بناها دمشقين [1] غلام كان مع الإسكندر. وقيل: إنّ الذى بنى دمشق بناها على الكواكب السبعة، وجعل لها سبعة أبواب، وصوّر على باب كيسان زحل، وقيل: وجد فى كتاب: باب كيسان لزحل، وباب شرقى للشمس، وباب توما للزّهرة، وباب الصغير للمشترى، وباب الجابية للمرّيخ، وباب الفراديس لعطارد، وباب الفراديس الآخر المسدود للقمر. وقيل: إن ملك مصر بنى حصن دمشق؛ الذى هو حول المسجد، وداخل المدينة على مساحة مسجد بيت المقدس، وحمل أبواب مسجد   [1] معجم البلدان: «دماشق» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 158 بيت المقدس، فوضعها على أبوابه؛ فهذه الأبواب التى على الحصن هى أبواب بيت المقدس. حكاه أبو القاسم علىّ بن الحسن بن هبة الله الدمشقى المعروف بابن عساكر فى تاريخ دمشق. ونعود إلى فتوح الشام. ذكر غزوة فحل وفحل [1] بكسر الفاء وسكون الحاء المهملة وبعده لام، وهو بلد معروف بغور الشّام. قال: لما فتحت دمشق فى سنة ثلاث عشرة استخلف أبو عبيدة عليها يزيد بن أبى سفيان، وسار إلى فحل، وكان أهل فحل قد قصدوا بيسان. وكانت العرب تسمى هذه الغزوة ذات الرّدغة وبيسان وفحل. وكان خالد بن الوليد على المقدّمة، وعلى النّاس شرحبيل بن حسنة وعلى المجنّبتين أبو عبيدة وعمرو بن العاص، وعلى الخيل ضرار ابن الأزور، وعلى الرّجل عياض بن غنم. فنزل شرحبيل بالنّاس على فحل، وبينهم وبين الروم تلك الأوحال، وكتبوا إلى عمر، وأقاموا ينتظرون جوابه، فخرج عليهم الرّوم، وعليهم سقلار بن مخراق فأتوهم، والمسلمون حذرون، وكان شرحبيل لا يبيت ولا يصبح إلا على تعبئة؛ فاقتتلوا قتالا شديدا حتى الصباح، ويومهم إلى الليل، فانهزم الرّوم، وقد أظلم الليل عليهم، فحاروا، وأصيب رئيسهم سقلار والذى يليه [فيهم] [2] نسطورس، وظفر المسلمون بهم، وركبوهم، فلم يعرف   [1] تاريخ الطبرى 3: 442: وتاريخ بن الأثير 2: 295. [2] تكملة من ابن الأثير. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 159 الروم مأخذهم، فانتهت بهم الهزيمة إلى تلك الأوحال التى كانوا أعدّوها مكيدة للمسلمين، فلحقهم المسلمون، فوخزوهم بالرماح، فكانت الهزيمة بفحل، والقتل بالرّداغ، فأصيبت الروم، وهم ثمانون ألفا، لم يفلت منهم إلّا الشّريد، فصنع الله للمسلمين وهم كارهون؛ كرهوا البثوق والأوحال، فكانت عونا لهم على عدوّهم، وغنموا أموالهم، وانصرف أبو عبيدة وخالد بن الوليد إلى حمص. وقد اختلف فى فتح فحل ودمشق، وذكروا أن المسلمين لما فرغوا من أجنادين على رأى من جعلها بعد اليرموك؛ اجتمع الروم بفحل، فقصدها المسلمون فحاصروها وفتحت، وكانت فحل فى ذى القعدة سنة ثلاث عشرة، وفتح دمشق فى شهر رجب سنة أربع عشرة. وقيل: كانت وقعة اليرموك فى سنة خمس عشرة، ولم يكن للروم بعدها وقعة. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. ذكر فتح بلاد ساحل دمشق هذه الفتح أورده ابن الأثير [1] فى حوادث سنة ثلاث عشرة، قال: لما استخلف أبو عبيدة يزيد بن أبى سفيان على دمشق، وسار إلى فحل، وسار يزيد إلى مدينة صيداء وبيروت، وجبيل وعرقة [2] ، وعلى مقدّمته أخوه معاوية، ففتحها فتحا يسيرا، وجلا كثير من أهلها، وتولّى فتح عرقة معاوية بنفسه فى ولاية يزيد. ثم غلب الروم على بعض هذه السواحل فى آخر خلافة عمر، وأول خلافة عثمان، وفتحها معاوية، ثم رمّها وشحنها [3] بالمقاتلة.   [1] الكامل لابن الأثير 2: 296. [2] بعدها فى ابن الأثير: «وهى سواحل دمشق» . [3] شحنها: جعل فيها الكفاية لضبطها. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 160 ذكر فتح بيسان وطبرية قال: لما [1] قصد أبو عبيدة حمص من فحل، أرسل شرحبيل ومن معه إلى بيسان، فقاتلوا أهلها، وقتلوا منها خلقا كثيرا، ثم صالحهم من بقى على صلح دمشق، وكان أبو عبيدة قد بعث بالأعور إلى طبريّة، فصالحه أهلها على صلح دمشق أيضا، وأن يشاطروا المسلمين المنازل، فنزلها الناس، وكتبوا بالفتح إلى عمر بن الخطاب، رضى الله تعالى عنه. ذكر الوقعة بمرج الروم كانت [2] هذه الوقعة فى سنة خمس عشرة؛ وذلك أنّ أبا عبيدة وخالدا سارا بمن معهما إلى حمص، فنزلا على ذى الكلاع، وبلغ هرقل الخبر فبعث توذر البطريق حتى نزل بمرج الرّوم غرب دمشق، ونزل أبو عبيدة بالمرج أيضا، ونازله يوم نزوله شنس الرّومىّ فى مثل خيل توذر مددا لتوذر، وردءا لأهل حمص، فكان خالد بإزاء توذر، وأبو عبيدة بإزاء شنس، فسار توذر يقصد دمشق، فاتّبعه خالد فى جريدة وبلغ يزيد بن أبى سفيان الخبر [3] ، فاستقبله فاقتتلوا، ولحق بهم خالد فأخذهم من خلفهم، فقتل توذر،   [1] تاريخ ابن الأثير 3: 296 وتاريخ الطبرى 3: 443. [2] تاريخ ابن الأثير 2: 340 وتاريخ الطبرى 3: 598. [3] ك: «خالد بن أبى سفيان» والمثبت يوافق ما فى ابن الأثير. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 161 ولم يفلت من عسكره إلا الشّريد، وغنم المسلمون ما معهم، فقسّمه يزيد فى أصحابه وأصحاب خالد، وعاد يزيد إلى دمشق، ورجع خالد إلى أبى عبيدة، فوجده قد قاتل شنس بمرج الروم، فقتلت الروم مقتلة عظيمة، وقتل شنس، وتبعهم المسلمون إلى حمص بالسير إليها، وسار هو إلى الرّيف، وسار أبو عبيدة إلى حمص. ذكر فتح بعلبك وحمص وحماة وشيرز ومعرة النعمان وسلمية واللاذقية وأنطرسوس قال [1] : وفى سنة خمس عشرة سار أبو عبيدة إلى حمص بعد وقعة ملك الروم، فسلك طريق بعلبك وحصرها، فطلب أهلها الأمان فأمّنهم وصالحهم، وسار عنهم ونزل حمص ومعه خالد بن الوليد، فقاتل أهلها، ولقى المسلمون بردا شديدا، وحاصر الرّوم حصارا طويلا، وكان هرقل قد أرسل إليهم يعدهم المدد، وأمر أهل الجزيرة جميعها بالتّجهيز إلى حمص، وسيّر سعد بن أبى وقاص السرايا من العراق إلى هيت فحصرها، وسار بعضهم إلى قرقيسياء فتفرق أهل الجزيرة، وعادوا عن نجدة أهل حمص، وكان أهل حمص يقولون: تمسّكوا بالمدينة [2] فإنّهم حفاة، فإذا أصابهم البرد تقطّعت أقدامهم، فكانت أقدام الروم تسقط ولا يسقط للمسلمين إصبع، فلما خرج الشتاء قام شيخ من الرّوم، ودعاهم إلى مصالحة المسلمين، فلم يجيبوه، وقام آخر فلم يجيبوه، فكبّر المسلمون تكبيرة   [1] ابن الأثير 2: 341. [2] ابن الأثير: «بمدينتكم» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 162 فانهدم كثير من دور حمص، وتزلزلت حيطانهم، وكبّروا الثانية والثالثة، فأصابهم أعظم من ذلك، وخرج أهلها يطلبون الصلح، ولم يعلم المسلمون بما حدث فيهم، فصالحوهم على صلح دمشق. وأنزلها أبو عبيدة السّمط بن الأسود الكندىّ فى بنى معاوية، والأشعث ابن ميناس فى السّكون، والمقداد فى بلىّ؛ وغيرهم، وبعث بالأخماس إلى عمر مع عبد الله بن مسعود. ثم استخلف أبو عبيدة على حمص عبادة بن الصّامت. وسار إلى حماة، فتلقاه أهلها مذعنين، فصالحهم على الجزية عن رءوسهم، والخراج عن أرضهم، ومضى نحو شيزر، فخرجوا إليه فصالحهم على مثل صلح أهل حماة. وسار إلى معرّة النعمان- وكانت تعرف بمعرّة حمص، ونسبت بعد ذلك إلى النّعمان بن بشير الأنصارى، فصالحوه على مثل صلح أهل حمص. ثم أتى اللّاذقية فقاتله أهلها، وكان لها باب عظيم يفتحه جمع من الناس، فعسكر المسلمون على بعد منها، ثم أمر فحفر حفائر عظيمة، تستر الحفرة منها الفارسين، ثم أظهروا أنهم عائدون عنها، ورحلوا، فلمّا أجنّهم الليل عادوا، واستتروا فى تلك الحفائر، وأصبح أهل اللاذقيّة [وهم يرون أن المسلمين قد انصرفوا] [1] ، فأخرجوا سرحهم، وانتشروا بظاهر البلد، فلم يرعهم إلّا والمسلمون يصيحون بهم، ودخلوا المدينة معهم،   [1] تكملة من ص. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 163 وملكت عنوة، وهرب قوم من النّصارى، ثم طلبوا الأمان على أن يرجعوا إلى أرضهم على خراج يؤدونه قلّوا أو كثروا، فردّت لهم كنيستهم، وبنى المسلمون بها مسجدا جامعا؛ بناه عباده بن الصامت، ثم وسّع فيه بعد ذلك. ولما فتح المسلمون اللّاذقية جلا أهل جبلة من الرّوم عنها، وفتح المسلمون مع عبادة بن الصّامت أنطرطوس، وكان حصنا فجلا عنه أهله، وبنى معاوية أنطرطوس ومصّرها، وأقطع بها القطائع للمقاتلة، وكذلك فعل ببانياس، وفتحت سلمية؛ وقيل: إنها سميت سلمية لأنّه كان بقربها مدينة تدعى المؤتفكّة، انقلبت بأهلها، ولم يسلم منها غير مائة نفس، فبنوا لأنفسهم مائة منزل، وسميت «سل مائة» ، ثم حرّفها النّاس. فقالوا: سلمية، ثم مصّرها صالح بن علىّ بن عبد الله بن عباس. ذكر فتح قنسرين ودخول هرقل القسطنطينية وما تكلم به عند ذلك قال [1] : ثم أرسل أبو عبيدة خالد بن الوليد إلى قنّسرين، فلما زحف ونزل الحاضر زحف إليه الروم، وعليهم ميناس، وكان أعظمهم بعد هرقل، فقتل هو ومن معه على دم واحد. وسار خالد حتى نزل قنّسرين فتحصّن أهلها منه، ثم صالحوه على صلح أهل حمص، فأبى خالد إلّا إخراب المدينة، فأخربها، فلمّا بلغ ذلك هرقل- وكان بالرّها- سار إلى سميساط، ثم منها   [1] تاريخ ابن الأثير 2: 343 وتاريخ الطبرى 3: 601. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 164 إلى القسطنطينية، ولمّا سار علا نشزا، ثم التفت إلى الشّام. فقال: سلام عليك يا سوريّه، سلام لا اجتماع بعده ولا يعود إليك رومىّ أبدا إلا خائفا، حتى يولد الولد المشئوم وليته لا يولد، فما أحلى فعله، وأمرّ فتنته على الرّوم. ثم سار وأخذ أهل الحصون التّى بين إسكندونه وطرسوس معه لئلّا يسير المسلمون فى عمارة ما بين أنطاكية وبلاد الروم، وخلت تلك الحصون وشتّتها هرقل، فكان المسلمون إذا مرّوا بها لا يجدون بها أحدا، وربّما كمن عندها الرّوم، فأصابوا غرّة ممّن يتخلف من المسلمين، فاحتاط المسلمون لذلك. والله تعالى أعلم بالصواب وإليه المّآب. ذكر فتح حلب وأنطاكية وغيرهما من العواصم وهى [1] سرمين، وقورس، وتلّ عزاز، ومنبج، ودلوك، ورعبان وبالس، وقاصرين، وجرجومة، ودرب بغراس، ومرعش، وحصن الحدث. قال: ولما فرغ أبو عبيدة من قنّسرين سار إلى حلب فبلغه أنّ أهل قنّسرين مضوا، وغدروا، فوجّه إليهم السّمط الكندىّ فحصرهم وفتحها، ووصل أبو عبيدة إلى حاضر حلب، وهو قريب منها يجمع أصنافا من العرب، فصالحهم على الجزية، ثم أسلموا بعد ذلك، وأتى حلب وعلى مقدّمته عياض بن الفهرىّ، فتحصّن أهلها، وحصرهم المسلمون، فلم يلبثوا أن طلبوا الصّلح والأمان على أنفسهم وأولادهم ومدينتهم وحصنهم وكنائسهم، فأعطوا ذلك، واستثنى عليهم موضع المسجد.   [1] تاريخ بن الأثير 2: 344. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 165 وكان عياض بن غنم هو الذى صالح، فأجاز أبو عبيدة ذلك وقيل: صولحوا على أن يقاسموا منازلهم وكنائسهم، وقد قيل: إنّ أبا عبيدة لم يصادف بحلب أحدا؛ لأنّ أهلها انتقلوا إلى أنطاكية، وتراسلوا فى الصّلح، فلمّا تم الصّلح رجعوا، وسار أبو عبيدة من حلب إلى أنطاكية، وقد تحصّن بها خلق كثير من قنّسرين وغيرها، فلما فارقها لقيه جمع العدوّ فهزمهم، وألجأهم إلى المدينة، وحصرها من نواحيها، فصالحوه على الجزية أو الجلاء، فجلا بعضهم وأقام بعضهم ثم نقضوا، فوجّه إليهم عياض بن غنم وحبيب بن مسلمة، ففتحاها على الصّلح الأول. وكانت أنطاكية عظيمة الذّكر عند المسلمين، فلما فتحت كتب عمر إلى أبى عبيدة أن يرتّب جماعة من المسلمين بها مرابطة، ولا يحبس عنهم العطاء. وبلغ أبا عبيدة أنّ جمعا من الرّوم بين معّرة مصرين وحلب، فسار إليهم فهزمهم، وقتل عدة من البطارقة، وسبى وغنم، وفتح معرّة مصرين على مثل صلح حلب، وجالت خيوله، فبلغت بوقة، وفتحت قرى الجومه وسرمين وتبرين، وغلبوا على جميع أرض قنّسرين وأنطاكية. ثم أتى أبو عبيدة حلب، وقد التاث أهلها، فلم يزل بهم حتى أذعنوا وفتحوا المدينة، وسار يريد قورس، وعلى مقدّمته عياض ابن غنم، فلقيه راهب من أهلها، فسأله الصلح، فبعث به إلى أبى عبيدة، فصالحه على صلح أنطاكية، وبثّ خيله، فغلبوا على جمع أرض قورس، وفتح تلّ عزاز. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 166 وكان سلمان بن ربيعة الباهلىّ فى جيش أبى عبيدة، فنزل فى حصن بقورس، يعرف بحصن سلمان، ثمّ سار أبو عبيدة إلى منبج، وعياض على مقدّمته، فلحقه، وقد صالح أهلها على مثل صلح أنطاكية، وسيّره إلى ناحية دلوك ورعبان، فصالحه أهلها على مثل صلح أهل منبح، واشترط عليهم أن يخبروا المسلمين بخبر الرّوم. وولّى أبو عبيدة كلّ كورة فتحها عاملا، وضمّ إليه جماعة، وشحن النواحى المخوفة، وسار إلى بالس، وبعث جيشا مع حبيب ابن مسلمة إلى قاصرين فصالحه أهلها على الجزية والجلاء، فجلا أكثرهم إلى بلاد الرّوم، وأرض الجزيرة، واستولى المسلمون على الشام من هذه النّاحية إلى الفرات، وعاد أبو عبيدة إلى جهة فلسطين وكان بجبل اللّكام مدينة يقال لها: جرجومة، ففتحها حبيب من أنطاكيه صلحا على أن يكونوا أعوانا للمسلمين، وسيّر أبو عبيدة جيشا مع ميسرة بن مسروق العبسىّ، فسلكوا درب بغراس من أعمال أنطاكية إلى بلاد الروم، وهو أوّل من سلكه، فلقى جمعا من الرّوم، ومعهم عرب من غسّان [وتنوخ] [1] وإياد يريدون اللّحاق بهرقل فأوقع بهم، وقتل منهم مقتلة عظيمة. وسيرّ جيشا آخر إلى مرعش مع خالد بن الوليد، ففتحها بالأمان على إجلاء أهلها، فجلاهم وأخربها، وسيّر جيشا مع حبيب بن مسلمة إلى حصن الحدث ففتحه؛ وإنما سمّى الحدث لأنّ المسلمين لقوا عليه غلاما حدثا، فقاتلهم فى أصحابه، فقيل: درب الحدث. وقيل: لأنّ المسلمين أصيبوا به فسمّىّ بذلك، وكان بنو أميّة يسمّونه درب السّلامة، والله أعلم.   [1] من ص. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 167 ذكر فتح قيسارية وحصن غزة وفى [1] سنة خمس عشرة أيضا فتحت قيساريّة. وقيل فى سنة تسع عشرة، وقيل: سنة عشرين. وذلك أنّ عمر رضى الله عنه كتب إلى يزيد بن أبى سفيان: أن يرسل معاوية أخاه إلى قيساريّة، وكتب عمر إلى معاوية يأمره بذلك، فسار معاوية إليها وحصر أهلها، فرجعوا إليه، وقاتلوه، فبلغت قتلاهم فى المعركة ثمانين ألفا، ثم كملت فى الهزيمة مائة ألف وفتحها، وكان علقمة بن مجزّز قد حصر القيقار بغزّة وجعل يراسله فلم يشفه أحد ممّا يريد، فأتاه كأنّه رسول علقمة وكلّمه، فأمر القيقار رجلا أن يقعد له فى الطريق، فإذا مرّ به قتله، ففطن به علقمة، فقال: إنّ معى نفرا يشركوننى فى الرّأى فأنطلق فآتيك بهم، فبعث القيقار إلى ذلك الرّجل ألّا يتعرّض له. فخرج علقمة من عنده، ولم يعد إليه، وفعل كما فعل عمرو بن العاص رضى الله عنه مع الأرطبون.   [1] تاريخ، ابن الأثير 2: 346، وتاريخ الطبرى 3: 603، 604. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 168 ذكر بيسان ووقعة أجنادين وفتح غزة وسبسطية ونابلس وتبنى واللد وعمواس وبيت جبرين ويافا قال: لمّا [1] انصرف أبو عبيدة وخالد بن الوليد بعد فحل إلى حمص- كما قدّمنا- نزل عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة على بيسان فافتتحها، وصالحه أهل الأردنّ، واجتمع عسكر الرّوم بعزّة وأجنادين وبيسان إلى الأرطبون بأجنادين، فسار عمرو وشرحبيل إليهم بها، واستخلف عمرو على الأردنّ أبا الأعور، وكان الأرطبون أدهى الرّوم وأبعدها غورا، وكان قد وضع بالرّملة جندا عظيما، وبإيلياء كذلك، فلمّا بلغ عمر بن الخطّاب الخبر قال: قد رمينا أرطبون الرّوم بأرطبون العرب، فانظروا عمّ تنفرج. وكان معاوية قد شغل أهل قيساريّة عن عمرو، وجعل عمرو علقمة بن حكيم، ومسروقا العكّى على قتال [أهل] [2] إيلياء، فشغلوا من بها عنه، وتتابعت الأمداد من عمر رضى الله عنه إلى عمرو، فأقام عمرو على أجنادين لا يقدر من الأرطبون على شىء، ولا تشفيه الرّسل، فسار إليه بنفسه، ودخل إليه كأنّه رسول، ففطن به أرطبون، وقال: لا شكّ أن هذا الأمير، أو من يأخذ الأمير   [1] تاريخ ابن الأثير 2: 346 وما بعدها. [2] من ص. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 169 برأيه، فأمر إنسانا أن يقعد على طريقة، فإذا مرّ به يقتله؛ فأدرك عمرو، فقال له: قد سمعت منىّ، وسمعت منك، وقد وقع قولك منىّ بموقع، وأنا واحد من عشرة، بعثنا عمر إلى هذا الوالى لنكاتفه فأرجع وآتيك بهم، فإن رأوا ما رأيت فقد رآه الأمير وأهل العسكر، وإن لم يروه رددتهم إلى مأمنهم. فقال: نعم، وردّ الرجل الّذى أمره بقتله، فخرج عمرو من عنده، وعلم الرّومىّ بعد مفارقته أنّه خدعه. فقال: هذا أدهى الخلق، وبلغت هذه الواقعة عمر. فقال: لله درّ عمرو! ثم التقوا، واقتتلوا بأجنادين قتالا شديدا كقتال اليرموك، فانهزم أرطبون إلى إيلياء، ففتح عمرو غزّة، وقيل: فتحت غزّة فى خلافة أبى بكر رضى الله عنه، ثم فتح سبسطية ونابلس بأمان على الجزية، وفتح مدينة لدّوتبنى وعمواس، وبيت جبرين ويافا. وقيل: فتحها معاوية رضى الله عنه، وفتح رفح. والله سبحانه وتعالى أعلم. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 170 ذكر فتح بيت المقدس وهو ايلياء كان [1] فتح بيت المقدس على يد عمر بن الخطاب رضى الله عنه، سنة خمس عشرة. وقيل: ستّ عشرة، وذلك أن عمرو بن العاص لما فتح هذه الجهات الّتى ذكرناها، أرسل إلى أرطبون رجلا يتكلّم بالرّوميّه، وقال له: اسمع ما يقول، وكتب معه كتابا، فوصل إليه، وأعطاه الكتاب، وعنده وزراؤه، فقال لهم: لا يفتح عمرو شيئا من فلسطين بعد أجنادين. فقالوا له: من أين علمت ذلك؟ فقال: صاحبها صفته كذا وكذا، وذكر صفة عمر، فعاد الرسول إلى عمرو، وأخبره بذلك، فكتب عمرو إلى عمر رضى الله عنهما، يقول: إنى أعالج عدوّا شديدا، وبلادا قد ادّخرت لك، فرأيك. فعلم عمر أن عمرا لم يقل ذلك إلا لشىء سمعه، فسار عن المدينة. وقيل: كان سبب قدوم عمر إلى الشام، أنّ أبا عبيدة حصر بيت المقدس، فطلب أهله أن يصالحهم على صلح أهل مدن الشّام، وأن يكون المتولّى للعقد عمر بن الخطّاب، فكتب إليه بذلك، فسار عن المدينة، واستخلف عليها علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، وكتب عمر إلى أمراء الأجناد بموافاته بالجابية ليوم سمّاه لهم، وأن يستخلفوا على أعمالهم، فوافوه، وكان أوّل من لقيهم يزيد بن أبى سفيان وأبو عبيدة ثم خالد بن الوليد على الخيول، عليهم الدّيباج والحرير، فنزل عن فرسه، ورماهم بالحجارة، وقال: ما أسرع ما رجعتم عن رأيكم! إيّاى تستقبلوننى فى هذا   [1] تاريخ ابن الأثير 2: 347، تاريخ الطبرى 3: 607. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 171 الزّى! وانّما شبعتم منذ سنتين [1] ، وتالله لو فعلتم ذلك على رأس المائتين لاستبدلت بكم غيركم. فاعتذروا بالسلاح. ودخل عمر الجابية وعمرو وشرحبيل لم يقدما عليه، فبينما عمر بالجابية إذ فزع الناس إلى السّلاح. فقال: ما شانكم؟ قالوا: ألا ترى إلى الخيول والسّيوف! فنظر فإذا كردوسة [2] ، فقال: مستأمنة فلا تراعوا، فإذا هم أهل إيلياء يصالحونه على الجزية، وكان الّذى صالحه العوّام، لأن أرطبون والتّذارق دخلا مصر لمّا بلغهما مقدم عمر. وأخذوا كتابه على إيلياء وحيّزها، والرّملة وحيّزها. وجعل عمر رضى الله عنه علقمة بن حكيم على نصف فلسطين، وأسكنه الرّملة، وجعل علقمة بن مجزّز على نصفها الآخر، وأسكنه إيلياء، وضمّ عمرو بن العاص وشرحبيل إليه بالجابية، فلقياه راكبا، فقبّلا ركبته، فضمّ كلّ واحد منهما محتضنا [3] ، ثم سار إلى البيت المقدس وركب فرسه، فرأى به عرجا، فنزل عنه، وأتى ببرذون فركبه، فجعل يتجلجل به، فنزل وضرب وجهه وقال: لا أعلم من علّمك هذه الخيلاء؟ ثم لم يركب برذونا بعده، ولا كان ركبه قبله، وفتحت إيلياء على يديه، ولحق أرطبون ومن أبى الصلح بمصر، فلما ملكها المسلمون قتل. وقيل: بل لحق بالرّوم، فكان على صوائفهم، والتقى هو وصاحب صائفة [4]   [1] ك: «سنتان» . [2] الكردوسة: القطعة من الخيل، وفى ك وابن الأثير: «كردوس» . [3] ابن الأثير: «محتضنهما» . [4] الصائفة: غزوة الروم لأنهم كانوا يغزون صيفا لمكان البرد والثلج من الروم. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 172 المسلمين، ومع المسلمين رجل من قريش [1] ، فقطع أرطبون يده، وقتله القرشى [2] ، وفيه يقول ويشير إلى يده: فإن يكن أرطبون الرّوم أفسدها ... فإنّ فيها بحمد الله منتفعا وإن يكن أرطبون الرّوم قطّعها ... فقد تركت بها أوصاله قطعا ذكر خبر حمص حين قصد هرقل من بها من المسلمين قال [3] : وفى سنة سبع عشرة قصد الرّوم أبا عبيدة بن الجراح، ومن معه من المسلمين بحمص، وكان المهيّج للرّوم على ذلك أنّ أهل الجزيرة أرسلوا إلى ملكهم، وبعثوه على إرسال الجنود إلى الشام ووعدوه المعونة بأنفسهم. ففعل ذلك. فلما سمع المسلمون باجتماعهم، ضمّ أبو عبيدة إليه مسالحه، وعسكر بفناء مدينة حمص، وأقبل خالد من قنّسرين إليهم، فاستشاره أبو عبيدة فى المناجزة أو التحصن، فأشار بالمناجزة، وأشار سائرهم بالتحصين ومكاتبة عمر، فأطاعهم، وكتب إلى عمر بذلك. وكان عمر قد اتخذ بكل مصر خيولا على قدره من فضول أموال المسلمين عدّة لكون إن كان، فكان بالكوفة أربعة آلاف فرس، والقيّم عليها سلمان بن ربيعة الباهلىّ، وفى كل مصر من الأمصار   [1] ابن الأثير والطبرى: «من قيس يقال له ضريس» . [2] الطبرى وابن الأثير: «القيسى» . [3] ابن الأثير 2: 370، وتاريخ الطبرى 3: 599. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 173 الثمانية على قدره، فإن كانت ثابتة ركبها المسلمون وساروا إلى أن يتجهز الناس. وكتب عمر إلى سعد بن أبى وقّاص: أن أندب النّاس مع القعقاع ابن عمرو وسرّحهم من يومهم؛ فإنّ أبا عبيدة قد أحيط به. وكتب إليه أيضا: سرّح سهيل بن عدىّ إلى الرّقّة؛ فإن أهل الجزيرة هم الّذين استثاروا الرّوم على أهل حمص، وأمره أن يسرّح عبد الله بن عتبان إلى نصبين، ثم ليقصدا حرّان والرّها، وأن يسرّح الوليد بن عقبة على عرب الجزيرة من ربيعة وتنوخ، وأن يسرّح عياض بن غنم، فإن كانت حرب فأمرهم إلى عياض. فمضى القعقاع فى أربعة آلاف من يومه نحو حمص. وخرج عياض بن غنم ومن ندب إلى الجزيرة، وتوجّه كلّ أمير منهم إلى الكورة الّتى أمّر عليها، وخرج عمر من المدينة، وأتى الجابية إعانة لأبى عبيدة، فلمّا بلغ أهل الجزيرة الّذين أعانوا الرّوم على أهل حمص خبر الجنود الإسلاميّة تفرقوا إلى بلادهم، فأشار خالد على أبى عبيدة بالخروج إلى الرّوم، فخرج إليهم وقاتلهم، وفتح الله عليه، وقدم القعقاع بعد ثلاثة أيام، فكتبوا إلى عمر بالفتح وبقدوم المدد عليهم والحكم فى ذلك. فكتب إليهم: أن أشركوهم فى المغنم، فإنّهم نفروا إليكم، وانفرق لهم عدوّكم، وقال: جزى الله أهل الكوفة خيرا؛ يكفون حوزتهم ويمدّون الأمصار؛ فلمّا فرغوا رجعوا. والله أعلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 174 ذكر فتح الجزيرة وأرمينية قد اختلف أصحاب التّواريخ فى فتح الجزيرة وإرمينية، فمنهم من يقول: إن ذلك من فتوح أهل العراق، ومنهم من يقول: إنّها من فتوح أهل الشام. والأكثر على أنّها من فتوح أهل الشّام، ونحن نذكر القولين إن شاء الله تعالى: فأمّا من قال: إنّها من فتوح العراق فإنّه يقول [1] : إنّ سعد بن أبى وقّاص لمّا أمره عمر رضى الله عنه أن يبعث الجنود التى ذكرناها آنفا إلى نصيبن وحرّان والرّها والجزيرة مع من ذكرنا، وإن كان قتال فأمرهم إلى عياض بن غنم. فخرج عياض ومن معه؛ فأرسل سهيل بن عدىّ إلى الرّقّة، فصالحوه على الذّمّة، وخرج عبد الله بن عتبان على الموصل إلى نصيبين، فلقوه وفعلوا كفعل أهل الرّقّة، وخرج الوليد بن عقبة، فقدم على عرب الجزيرة من ربيعة وتنوخ، فنهض معهم مسلمهم وكافرهم إلّا إياد بن نزار، فإنّهم دخلوا إلى أرض الرّوم، ولما أخذوا الرّقّة ونصيبين ضمّ عياض إليه سهيلا وعبد الله، وسار بالنّاس إلى حرّان، فأجابه أهلها إلى الجزية، فقبل منهم. ثمّ إنّ عياضا سرّح سهيلا وعبد الله إلى الرّها، فأجابوهما إلى الجزية، وأجروا كلّ ما أخذوا من الجزيرة عنوة مجرى الذّمّة، فكانت الجزيرة أسهل البلدان فتحا، ورجع سهيل وعبد الله إلى الكوفة.   [1] ابن الأثير 2: 372، تاريخ الطبرى 4: 53. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 175 قال: ولمّا بلغ عمر رضى الله عنه أن إيادا دخلت الرّوم، كتب إلى ملك الرّوم يتهدّده إن لم يخرجهم، فأخرجهم، فخرج منهم أربعة آلاف، وتفرّقت [بقيتهم] [1] ممّا يلى الشّام والجزيرة من أرض الرّوم، فكلّ إيادىّ فى أرض العرب من أولئك الأربعة آلاف. وقال ابن إسحاق: إنّ فتح الجزيرة كان فى سنة تسع عشرة، وقال: إنّ عمر كتب إلى سعد بن أبى وقّاص: إذا فتح الله الشّام والعراق فابعث جندا إلى الجزيرة. فبعث عياض بن غنم، و [بعث] [2] معه جيشا فيه أبو موسى الأشعرىّ، وعمر بن سعد ليس له فى الأمر شىء، فسار عياض ونزل على الرّها، فصالحه أهلها وأهل حرّان، ثم بعث أبا موسى الأشعرىّ إلى نصيبين فافتتحها، وسار عياض إلى دارا فافتتحها. ووجّه عثمان بن أبى العاص إلى إرمينية الرابعة فقاتل أهلها، ثم صالحوه على الجزية، فعلى هذه الأقوال تكون الجزيرة وإرمينية من فتوح العراق. وأمّا من قال إنّها من فتوح الشام، فإنه يقول: إنّ أبا عبيدة سيّر عياض بن غنم إليها ففتحها، وكان قد كتب إلى عمر بن الخطّاب بعد انصرافه من الجابية يسأله أن يضمّ إليه عياض ابن غنم- إذ أخذ خالد بن الوليد إلى المدينة- فصرفه إليه، فسيّره أبو عبيدة إلى المدينة ففتحها، وذلك فى سنة سبع عشرة. وقيل: إن أبا عبيدة لمّا توفّى استخلف عياضا، فورد عليه   [1] من ص. [2] من ص. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 176 كتاب عمر بولاية حمص وقنّسرين والجزيرة، فسار إلى الجزيرة فى سنة ثمانى عشرة للنّصف من شعبان فى خمسة آلاف، وعلى ميمنته سعيد بن عامر الجمحىّ، وعلى ميسرته صفوان بن المعطّل، وعلى مقدّمته ميسرة بن مسروق، فانتهت طليعة عياض إلى الرّقّة، فأغاروا على الفلّاحين، وحصروا المدينة، وبثّ عياض السّرايا، فأتوه بالأسرى والأطعمة، وحصرها ستّة أيام، فطلب أهلها الصّلح، فصالحهم على أنفسهم وذراريّهم وأموالهم ومدينتهم. وقال عياض: الأرض لنا، قد وطئناها وملكناها، فأقرّها فى أيديهم على الخراج، ووضع عنهم الجزية. ثم سار إلى حرّان فجعل عليها عسكرا، عليهم صفوان وحبيب بن مسلمة، فحصراها، وسار هو إلى الرّها، فقاتله أهلها ثم انهزموا، فحصرهم فى مدينتهم، فطلبوا الصلح فصالحهم، وعاد إلى حرّان، فوجد صفوان وحبيبا قد غلبا على حصون وقرى من أعمالها، فصالحه أهل حرّان على مثل صلح الرّها، وفتح سميساط، وأتى سروج وراس كيفا والأرض البيضاء، فصالحه أهلها على مثل صلح الرّها، ثم غدر أهل سميساط، فرجع إليهم وفتحها، ثم أتى قريّات الفرات، وهى جسر منبج وما يليها ففتحها، وبعث حبيب بن مسلمة إلى ملطية ففتحها عنوة، على يد حبيب أيضا، ورتّب فيها جندا من المسلمين مع عاملها. قال: وسار عياض إلى رأس عين، وهى عين الوردة، فامتنعت عليه، فتركها، وسار إلى تل موزن ففتحها على صلح الرّها سنة تسع عشرة. وسار إلى آمد، فصالحه أهلها بعد قتال، وفتح ميّافارقين على صلح الرّها ثم سار إلى نصيبين، فقاتله أهلها، ثم صالحوه على مثل ذلك، الجزء: 19 ¦ الصفحة: 177 وفتح طور عبدين، وحصن ماردين. وقصد الموصل، ففتح أحد الحصنين. وقيل: لم يصلها، وأتاه بطريق الزّوزان فصالحه، ثم سار إلى أرزن ففتحها، ودخل الدرب إلى بدليس، وبلغ خلاط فصالحه بطريقها، وانتهى إلى العين الحامضة من إرمينية، ثم عاد إلى الرّقّة ومضى منها إلى مدينة حمص، ومات فى سنة عشرين؛ فعلى هذا الخبر يكون ذلك من فتوح أهل الشام. وعلى كلا القولين ففتحها على يد عياض بن غنم. قال: ولما مات عياض استعمل عمر بن الخطّاب سعيد بن عامر ابن حذيم، فلم يلبث إلّا قليلا ومات، فاستعمل عمير بن سعد الأنصارىّ، ففتح رأس عين بعد قتال شديد. وقيل: إنّ عياضا أرسل عمير بن سعد إليها ففتحها. وقيل: إنّ عمر رضى الله عنه أرسل أبا موسى الأشعرىّ إلى رأس عين بعد وفاة عياض، والله سبحانه وتعالى أعلم. انتهى فتوح الشام فى خلافة عمر رضى الله عنه؛ فلنذكر فتوح العراق، وما والاه. وإذا انتهت الفتوحات إن شاء الله تعالى ذكرنا الغزوات إلى أرض الرّوم من الشام. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 178 ذكر فتوح العراقين وما والاها من بلاد فارس وغيرها وغزو الترك وفتح خراسان وسجستان وغير ذلك من الوقائع كان ابتداء أمر العراق أن المثنّى بن حارثة الشّيبانىّ قدم على أبى بكر الصّدّيق رضى الله عنه فى مرضه الّذى مات فيه، فأوصى أبو بكر عمر بالمبادرة إلى إرسال الجيوش معه إلى العراق، فلمّا أصبح عمر من اللّيلة الّتى مات فيها أبو بكر ندب النّاس إلى الخروج مع المثنّى بن حارثة، ثم بايع النّاس، وندبهم وهو يبايع ثلاثا، فلم ينتدب أحد إلى فارس، وكانوا أثقل الوجوه على المسلمين، وأكرهها إليهم لشدّة سلطانهم وشوكتهم، فلمّا كان اليوم الرابع ندب النّاس إلى العراق، فكان أوّل منتدب أبو عبيد بن مسعود الثّقفىّ، وهو والد المختار، وسعد بن عبيدة الأنصارىّ، وسليط بن قيس، وهو بدرىّ. وتتابع النّاس، وتكلّم المثنّى بن حارثة، فقال: أيّها النّاس، لا يعظمنّ عليكم هذا الوجه، فإنا قد فتحنا ريف فارس، وغلبناهم على خير شقّى السّواد، ونلنا منهم، واجترأنا عليهم، ولها إن شاء الله ما بعدها. فأجتمع النّاس. وقيل لعمر: أمّرّ عليهم رجلا من التّابعين من المهاجرين والأنصار، فقال:: والله لا أفعل، إنّما رفعهم الله تعالى بسبقهم ومسارعتهم إلى العدوّ، فإذا فعل فعلهم قوم، وتثاقلواهم، كان الّذين ينفرون خفافا وثقالا ويسبقون أولى بالرّياسة، والله لا أؤمّر عليهم إلّا أوّلهم أنتدابا، ثم دعا أبا عبيد وسعدا وسليطا. وقال لسعد وسليط: لو سبقتماه لولّيتكما، وأمّر أبا عبيد، وقال له: اسمع من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأشركهم فى الأمر، الجزء: 19 ¦ الصفحة: 179 ولم يمنعنى أن أؤمرّ سليطا إلّا سرعته إلى الحرب، وفى التسرّع إلى الحرب ضياع، وأوصى أبا عبيد بجنده. وأمر عمر المثنّى بالتقدّم حتى يقدم عليه أصحابه، وأمرهم باستنفار من حسن إسلامه من أهل الرّدة، ففعلوا، وسار المثنّى فقدم الحيرة فى عشر، وقدم أبو عبيد بعده بشهر. والله سبحانه وتعالى أعلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل. ذكر وقعة النمارق كانت [1] هذه الوقعة فى سنة ثلاث عشرة، وذلك أن بوران كانت يومئذ على الفرس، فأرسلت إلى رستم بن الفرّخزاذ- وكان على فرج خراسان- فحضر، فتوّجته، ودعت مرازبة فارس أن يسمعوا له ويطيعوا، فدانت له فارس، فكتب رستم إلى الدّهاقين أن يثوروا بالمسلمين، وبعث فى كلّ رستاق رجلا يثور بأهله، فبعث جابان إلى فرات بادقلى، وبعث نرسى إلى كسكر، وواعدهم يوما، وبعث جندا لمصادمة المثنّى، وبلغ المثنّى الخبر فحذر، وعجل جابان ونزل النّمارق، وثاروا، وخرج أهل الرّساتيق من أعلى الفرات إلى أسفله، وخرج المثنّى من الحيرة، فنزل خفّان لئلّا يؤتى من خلفه، وأقام حتى قدم عليه أبو عبيد، فلمّا قدم أقام أيّاما ليستريح هو وأصحابه، واجتمع إلى جابان بشر كثير بالنّمارق، فسار إليه أبو عبيد، وجعل المثنّى على الخيل، وكان على مجنّبتى جابان جشنس ماه ومردانشاه، فالتقوا واقتتلوا بالنّمارق قتالا شديدا،   [1] ابن الأثير: 3: 298، الطبرى 3: 446. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 180 فهزم الله الفرس، وأسر جابان؛ أسره مطر بن فضّة التّيمى، وأسر مردانشاه، أسره أكتل بن شمّاخ العكلىّ فقتله. وأمّا جابان فإنّه خدع مطرا، وقال: هل لك أن تؤمنّنى، وأعطيك غلامين أمردين خفيفين فى عملك، وكذا وكذا؟ فخلّى عنه، فأخذه المسلمون، وأتوا به أبا عبيد، وأخبروه أنّه جابان، وأشاروا عليه بقتله؛ فقال: إنّى أخاف الله أن أقتله، وقد أمّنه رجل مسلم، والمسلمون كالجسد الواحد، ما لزم بعضهم فقد لزم كلّهم، وتركه. وأرسل فى طلب من انهزم حتى أدخلوهم عسكر نرسى وقتلوا منهم. والله سبحانه وتعالى أعلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل. ذكر وقعة السقاطية بكسكر ولما [1] لحق من انهزم من الفرس بكسكر وبها نرسى، وهو ابن خالة الملك، سار أبو عبيد إليهم من النّمارق، والمثنّى فى تعبئته التى قاتل فيها، وكان على مجنّبتى نرسى بندويه وتيرويه ابنا بسطام خال الملك، ومعه أهل باروسما والزّوابى، وكانت بوران ورستم قد بلغهما خبر هزيمة جابان، فبعثا الجالينوس إلى نرسى مددا، فعاجلهم أبو عبيد، فالتقوا من مكان يدعى السّقاطية، فاقتتلوا قتالا شديدا، ثم انهزمت الفرس، وهرب نرسى وغلب المسلمون على عسكره وأرضه، وجمعوا الغنائم. وأقام أبو عبيد وبعث المثنّى إلى باروسما، وبعث والقا إلى   [1] ابن الأثير 2: 399، تاريخ الطبرى 3: 450. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 181 الزّوابى، وعاصما إلى نهر جور، فهزموا من كان قد تجمّع هناك وأخربوا، وسبوا أهل زندورد وغيرها، وبذل لهم فرّوخ وفرونداذ على أهل باروسما والزّوابى وكسكر ونهر جوبر الخراج معجّلا، فأجابوه إلى ذلك وصاروا صلحا. والله سبحانه وتعالى أعلم، والحمد لله وحده، وصلّى الله على سيّدنا محمد. ذكر وقعة الجالينوس قال: ولمّا [1] بعث رستم الجالينوس سار فنزل بباقسياثا من باروسما، فسار إليه أبو عبيد، وهو على تعبئته فالتقوا بها واقتتلوا، فهزم الله الفرس، وهرب الجالينوس، وغلب أبو عبيد على تلك النّواحى، ثمّ ارتحل حتى قدم الحيرة. ذكر وقعة قس الناطف ويقال لها: وقعة الجسر ووقعة المروحة ومقتل أبى عبيد وغيره لما [2] رجع الجالينوس إلى رستم منهزما، قال رستم: أىّ العجم أشدّ على العرب؟ قالوا: بهمن جاذوبه المعروف بذى الحاجب- وإنّما قيل له ذو الحاجب لأنّه كان يعصب حاجبيه بعصابة ليرفعها كبرا- فوجّهه ومعه فيله، وردّ الجالينوس، وقال لبهمن: إن انهزم   [1] ابن الأثير 2: 300، وذكرها الطبرى فى الموقعة التى قبلها. [2] تاريخ بن الأثير 2: 301، تاريخ الطبرى 3: 454. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 182 الجالينوس مرّة ثانية فأضرب عنقه. فأقبل بهمن جاذويه ومعه «درفس كابيان» راية كسرى، وكانت من جلود النّمور، طولها أثنا عشر ذراعا فى عرض ثمانية أذرع، فنزل بقسّ النّاطف، وأقبل أبو عبيد فنزل بالمروحة، فرأت امرأته دومة أمّ المختار أنّ رجلا نزل من السماء بإناء فيه شراب، فشرب أبو عبيد ومعه نفر، فأخبرت أبا عبيد بما رأت؛ فقال: هذه إن شاء الله الشّهادة، وعهد إلى النّاس وقال: إن قتلت فعلى النّاس فلان، فإن قتل ففلان ... حتى أمّر الّذين شربوا من الإناء، ثم قال: إن قتل [أبو القاسم] [1] فعلى النّاس المثنّى. وبعث إليهم بهمن جاذويه يقول: إمّا أن تعبروا إلينا وندعكم والعبور، وإمّا أن تدعونا نعبره إليكم؛ فنهاه الناس عن العبور، فأبى وترك الرأى، وقال: لا تكونوا أجرأ على الموت منّا، فعبر إليهم على جسر عقده ابن صلوبا للفريقين، فالتقوا واقتتلوا، فلمّا نظرت الخيول إلى الفيلة وإلى خيل الفرس، عليهم التّجافيف، رأت شيئا منكرا لم يكن رأت مثله، فلم تقدم عليهم، فاشتدّ الأمر على المسلمين، فترجّل أبو عبيد والناس، ثم مشوا إليهم فصافحوهم بالسّيوف، فجعلت الفيلة لا تحمل على جماعة إلّا دفعتهم، فنادى أبو عبيد: احتوشوا الفيلة واقطعوا بطنها، واقلبوا عنها أهلها؛ ووثب هو على الفيل الأبيض فقطع بطانه ودفع الّذين عليه، وفعل القوم مثل ذلك، فما تركوا فيلا إلّا حطّوا رحله، وقتلوا أصحابه. وأهوى الفيل لأبى عبيد فضربه أبو عبيد بالسّيف، وخبطه الفيل بيده فوقع فوطئه وقام عليه، فلمّا بصر به   [1] من ص. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 183 الناس تحت الفيل خشعت أنفس بعضهم، ثمّ أخذ الّلواء الّذى كان أمّره بعده، فقاتل الفيل حتى تنحّى عن أبى عبيد، فاجترّه المسلمون فأحرزوه، ثم قتل الفيل الأمير الّذى بعد أبى عبيد، وتتابع سبعة من ثقيف كلهم يأخذ الّلواء ويقاتل حتّى يموت، ثم أخذ المثنّى اللواء فهرب عنه النّاس، فلمّا رأى عبد الله بن مرثد الثّقفىّ ذلك بادر إلى الجسر فقطعه، وقال: أيها النّاس، موتوا على مامات عليه أمراؤكم أو تظفروا. وحاز المشركون المسلمين إلى الجسر، فتواثب بعضهم إلى الفرات فغرق، وحمى المثنّى وفرسان من المسلمين الناس، وقاتل أبو زبيد الطائىّ حميّة للعرب، وكان نصرانيّا، ثم جاء العلوج وعقدوا الجسر، وعبر النّاس، وكان آخر من قتل عند الجسر سليط بن قيس، وعبر المثنّى وحمى جانبه، فلما عبر ارفضّ عنه أهل المدينة، وبقى المثنّى فى قلة، وكان قد جرح وأثبت فيه حلق من درعه. وهلك من المسلمين أربعة آلاف بين قتيل وغريق، وهرب ألفان وبقى ثلاثة آلاف، وقتل من الفرس ستّة آلاف، وأخبر عمر عمّن سار فى البلاد استحياء من الهزيمة، فاشتدّ ذلك عليه، وقال: الّلهم إنّ كلّ مسلم فى حلّ منىّ، أنا فئة كلّ مسلم، يرحم الله أبا عبيد! لو كان أنحاز إلىّ لكنت له فئة [1] . قال: وأراد بهمن جاذويه العبور خلف المسلمين فأتاه الخبر باختلاف الفرس، وأنّهم قد ثاروا برستم، فرجع إلى المدائن. وكانت هذه الوقعة فى شعبان سنة ثلاث عشرة. والله سبحانه وتعالى أعلم.   [1] فئة، أى موئل. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 184 ذكر وقعة أليس الصغرى قال [1] : لمّا عاد ذو الحاجب لم يشعر جابان ومردانشاه بما جاء به من الخبر، فخرجا حتى إذا أخذا بالطريق، وبلغ المثنّى فعلهما، فاستخلف على النّاس عاصم بن عمر، وخرج فى جريدة [2] خيل يريدهما، فظنّا أنّه هارب، فاعترضاه، فأخذهما أسيرين. وخرج أهل ألّيس على أصحابهما فأتوه بهم أسرى، فعقد لهم بها ذمّة، وقتلهما وقتل الأسرى. والله تعالى أعلم. ذكر وقعة البويب ولما [3] بلغ عمر بن الخطّاب- رضى الله عنه- وقعة الجسر، ندب الناس إلى المثنّى، وكان فيمن ندب بجيلة، وأمرهم إلى جرير بن عبد الله، فأتوا العراق، وقالوا: لا نكون إلّا بالشّام، فعزم عليهم عمر ونفّلهم ربع الخمس، فأجابوا، وسيّرهم إلى المثنّى، وبعث عصمة بن عبد الله الضّبّىّ فيمن معه، وكتب إلى أهل الرّدّة فلم يأته أحد إلّا رمى به المثنّى. وبعث المثنّى الرّسل إلى من يليه من العرب، فتوافوا إليه فى جمع عظيم، وكان فيمن جاءه أنس بن هلال النّمرىّ فى جمع عظيم من النّمر، نصارى، وقالوا: نقاتل مع قومنا. وبلغ الخبر رستم والفيرزان فبعثا مهران الهمذانىّ إلى الحيرة، فسمع المثنّى ذلك وهو بين القادسيّة وخفّان، فاستبطن فرات بادقلى،   [1] ابن الأثير 2: 303، تاريخ الطبرى 3: 459. [2] الجريدة: خيل لا رجالة فيها. [3] تاريخ ابن الأثير 2: 303، تاريخ الطبرى 3: 460. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 185 وكتب إلى جرير وعصمة ومن أتاه من الأمداد بالخبر، وأمرهم بقصد البويب، ومهران بإزائه من وراء الفرات، فأجتمع المسلمون بالبويب ممّا يلى الكوفة اليوم، وأرسل مهران إلى المثنّى يقول: إما أن تعبر إلينا، وإمّا أن نعبر إليك، فقال المثنّى: اعبروا، فعبر مهران فنزل بشاطئ الفرات، وعبّى المثنّى أصحابه، وكان فى شهر رمضان، فأمرهم بالإفطار ليقووا على عدوّهم، فأفطروا، وأقبل الفرس فى ثلاثة صفوف، مع كلّ صفّ فيل، ورجّالتهم أمام فيلهم، ولهم زجل [1] . فقال المثنّى: إنّ الذى تسمعون فشل، فالزموا الصّمت، ثم التقوا، واقتتلوا أشدّ قتال وأعظمه، فقتل مهران؛ قتله غلام نصرانىّ من تغلب، واستولى على فرسه، فجعل المثنّى سلبه لصاحب خيله، وكان التّغلبى قد جلب خيلا هو وجماعة من تغلب، فلمّا رأوا القتال قاتلوا مع العرب، وانهزمت الفرس، وسبقهم المثنّى إلى الجسر فأفترق الأعاجم مصعدين ومنحدرين، وأخذتهم خيول المسلمين، وقتل منهم قتلى كثيرة، فكانوا يحزرون [2] القتلى مائة ألف، وسمّى ذلك اليوم يوم الأعشار، وأحصى مائة رجل، قتل كلّ رجل منهم عشرة. وتبعهم المسلمون إلى الّليل، ومن الغد إلى الّليل، وأرسل المثنّى الخيل فى طلب العجم، فبلغوا السّيب، وغنموا من الغنائم والسّبى والبقر شيئا كثيرا، فقسّمه المثنّى فيهم، ونفّل أهل البلاء، وأعطى بجيلة ربع الخمس. وأرسل إليه الّذين تبعوا   [1] زجل، أى صوت. [2] الحزر: التخمين. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 186 من انهزم يعرّفونه بسلامتهم، وأنّه لا مانع دون القوم، ويستأذنونه فى الإقدام، فأذن لهم، فأغاروا حتى بلغوا ساباط؛ فتحصّن أهله منهم، وأستباحوا القرى، ورجعت مسالح الفرس إليهم، وسرّهم أن يتركوا ما وراء دجلة. ذكر خبر سوقى الخنافس وبغداد قال [1] : ثم خلّف المثنّى بالحيرة بشير بن الخصاصيّة، وسار يمخر السّواد، وأرسل إلى ميسان ودست ميسان، وأدنى المسالح، ونزل ألّيس (قرية من قرى الأنبار) ، وجاء المثنّى رجلان أحدهما أنبارىّ فدلّه على سوق الخنافس، والثانى حيرىّ ودلّه على سوق بغداد، فبدأ بسوق الخنافس؛ لأنّها كانت تقوم قبل سوق بغداد، وكان يجتمع بها تجّار مدائن كسرى والسّواد، وتخفرهم ربيعة وقضاعة؛ فأغار المثنّى على الخنافس يوم سوقها، فانتسف السّوق وما فيها، وسلب الخفراء، ثم رجع فأتى الأنبار، فنزل أهلها إليه، وأتوه بالأعلاف والزّاد، وأخذ منهم الأدلّاء على سوق بغداد، وسار ليلا، فصبّحهم فى أسواقهم فوضع السّيف فيهم، وأخذ ما شاء، وقال لأصحابه: لا تأخذوا إلّا الذهب والفضّة والحرّ من كلّ شىء، ثم عاد راجعا حتى أتى الأنبار، وكان من خلفه من المسلمين يمخرون السّواد، ويشنّون الغارات ما بين أسفل كسكر وأسفل الفرات، وجسور مثقب إلى عين التّمر، ولمّا رجع المثنّى إلى الأنبار بعث المضارب [2] إلى الكباث، وعليه فارس العنّاب التّغلبىّ، ثم لحقهم   [1] تاريخ ابن الأثير 2: 306، الطبرى 3: 472. [2] ابن الأثير: «المضارب العجلى» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 187 المثنّى فسار معهم، فوجدوا الكباث وقد سار من كان به عنه، فسار المسلمون خلفهم، فقتلوا فى أخريات أصحاب فارس العناب، وأكثروا القتل ورجعوا إلى الأنبار، وسرّح المثنّى فرات بن حيّان التغلبى وعتيبة بن النّهاس، وأمرهما بالغارة على أحياء بنى تغلب بصفّين، ثم اتّبعهما واستخلف على النّاس عمرو بن أبى سلمى الهجيمىّ، فلما دنوا من صفّين فرّ من بها، وعبروا الفرات إلى الجزيرة وفنى الزّاد الّذى كان مع المثنّى وأصحابه، فأكلوا رواحلهم إلّا ما لا بدّ منه حتّى جلودها، ثم أدركوا عيرا من أهل دبا وحوران فقتلوا من بها، وأخذوا ثلاثة نفر من تغلب كانوا خفراء، وأخذوا العير فقال لهم المثنّى: دلّونى؛ فقال أحدهم: أمّنونى على أهلى ومالى، وأدلّكم على حىّ من تغلب، فأمّنه المثنّى، وسار بهم يومه، فهجم العشىّ على القوم والنّعم صادرة عن الماء، وأصحابها جلوس بأفنية البيوت، فقتل المقاتلة، وسبى الذّرّية، واستاق الأموال. وأخبر المثنّى أنّ جمهور من سلك البلاد قد انتجع شاطئ دجلة؛ فخرج المثنّى وعلى مجنّبتيه النّعمان بن عوف ومطر الشّيبانيّان، وعلى مقدّمته حذيفة بن محصن الغلفانىّ، فساروا فى طلبهم فأدركوهم بتكريت، فأصابوا ما شاءوا من النّعم، وعادوا إلى الأنبار. ومضى عتيبة وفرات ومن معهما حتّى أغاروا على صفّين، وبها النمر وتغلب متساندين، فأغاروا عليهم حتى رموا طائفة منهم فى الماء، فجعلوا ينادونهم: الغرق الغرق! وجعل عتيبة وفرات يذمران [1]   [1] يذمران: يحضان. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 188 الناس ويناديانهم: تغريق بتحريق! يذكّرانهم يوما من أيّام الجاهليّة، كانوا حرّقوا فيه قوما من بكر بن وائل فى غيضة من الغياض. ثم رجعوا إلى المثنّى وقد غرّقوهم. فبلغ ذلك عمر، فبعث إلى عتيبة وفرات، فاستدعاهما وسألهما عن قولهما، فأخبراه أنّهما لم يفعلا ذلك على وجه طلب ذحل [1] ، إنّما هو مثل، فاستحلفهما على ذلك وردّهما إلى المثنّى. وكانت هذه الوقائع الّتى ذكرناها بالعراق فى سنة ثلاث عشرة. ثمّ كانت وقعة القادسيّة، والله أعلم. ذكر خبر القادسية وأيامها كان [2] ابتداء أمر القادسيّة أنّ الفرس لمّا مات ملكها أزدشير تفرّقت آراؤها، وكان المسلمون قد فتحوا من بلادهم ما ذكرناه فى خلافة أبى بكر الصّدّيق- رضى الله عنه- فى حياة أزدشير، ثم تابعوا الغارات عليهم، فاجتمعت الفرس وقالوا لرستم والفيرزان- وهما على أهل فارس-: لا زال بكما الاختلاف حتى أوهنتما [3] أهل فارس، وأطمعتما فيهم عدوّهم. فاجتمعوا واستدعوا نساء كسرى وسراريّه، وكشفوا عمّن بقى من نسل الملوك الأكاسرة، فدلّوهم على يزدجرد، من ولد شهريار ابن كسرى، فاستدعوه وملّكوه عليهم وأطاعوه. فبلغ خبرهم المثنّى ابن حارثة، فكتب بذلك إلى عمر، فلم يصل الكتاب حتّى نقض   [1] ذحل، أى وتر، وفى ك: «دحل» تحريف. [2] ابن الأثير 2: 309 وما بعدها، تاريخ الطبرى 3: 477 وما بعدها، وذكر ذلك فى حوادث سنة 14. [3] ص: «أوهيتما» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 189 من كان له عهد من أهل السّواد، فخرج المثنّى حتّى نزل بذى قار، ونزل النّاس بالطّفّ فى عسكر واحد. ولما وصل كتاب المثنّى إلى عمر قال: والله لأضربنّ ملوك العجم بملوك العرب؛ وكتب إلى عمّاله على العرب: ألّا يدعوا من له نجدة أو رأى، أو فرس، أو سلاح إلّا وجّهوه إليه، وذلك فى ذى القعدة سنة ثلاث عشرة. فاجتمع إليه النّاس، ولم يدع رئيسا ولا ذا رأى وشرف، ولا خطيبا ولا شاعرا إلّا استشارهم فى الخروج بنفسه لغزو الفرس، وأجمع رأى وجوه أصحاب النّبىّ صلّى الله عليه وسلّم أن يبعث رجلا من المسلمين ويضمّ إليه الجنود، واتّفق رأيهم على سعد بن أبى وقّاص، وكان على صدقات هوازن، فكتب إليه عمر بانتخاب ذوى الرأى والنّجدة والسّلاح، فجاء كتابه إلى عمر يقول: قد انتخبت لك ألف فارس، كلّهم له نجدة ورأى؛ إليهم انتهت أحسابهم. فأمره بحرب العراق وضمّ إليه الجيوش، فخرج فى أربعة آلاف، وأمدّه عمر بعد خروجه بألفى يمانىّ، وألفى نجدىّ. وكان المثنّى بن حارثة فى ثمانية آلاف، فلمّا سار سعد توفّى المثنّى قبل وصوله، واجتمع مع سعد ثمانية آلاف، ثم أتته قبائل العرب، فكان جميع من شهد القادسيّة بضعة وثلاثين ألفا؛ منهم تسعة وتسعون بدريا، وثلاثمائة وبضعة عشر ممّن كانت له صحبة فيما بين بيعة الرّضوان إلى ما فوق ذلك، وثلاثمائة ممّن كان شهد الفتح، وسبعمائة من أبناء الصّحابة، فعبّأهم سعد بن أبى وقّاص، وأمّر الأمراء، وعرّف على الجزء: 19 ¦ الصفحة: 190 كلّ عشرة عريفا، وجعل أهل السّابقة على الرّايات؛ وسار بالجيوش حتى نزل القادسيّة بين العتيق والخندق بحيال القنطرة، وأقام بها شهرا لم يأته من الفرس أحد، فأرسل عاصم بن عمرو يطلب غنما أو بقرا، فلم يقدر عليها، وتحصّن منه من هناك، فأصاب رجلا بجانب أجمة، فسأله عن البقر والغنم، فقال: لا أعلم؛ فصاح ثور من الأجمة: كذب عدوّ الله، ها نحن، فدخل عدوّ الله، فاستاق البقر وأتى بها العسكر، فقسّمها سعد على النّاس. ثم بثّ الغارات بين كسكر والأنبار، فحووا من الأطعمة ما قام بهم زمانا، فاستغاث أهل السّواد إلى يزدجرد وقالوا: إمّا أن تدفع العرب، وإمّا أن نعطيهم ما بأيدينا، فأرسل إلى رستم وأمره بالمسير للقاء المسلمين، فاستعفاه من ذلك وسأله أن يجهّز الجالينوس، فأبى يزدجرد إلّا مسيره، فعسكر بساباط، ثم استعفاه ثانية من المسير، فأبى عليه. واتّصلت الأخبار بسعد، فكتب إلى عمر فأجابه: لا تكربنّك ما يأتيك عنهم، واستعن بالله، وتوكّل عليه، وابعث إليه رجالا من أهل المناظرة والجلد يدعونه، فإنّ الله تعالى جاعل دعاءهم توهينا لهم؛ فأرسل نفرا، منهم: النّعمان بن مقرّن، وبسر بن أبى رهم، وحملة بن جويّة، وحنظلة بن الربيع، وفرات بن حيّان، وعدىّ بن سهيل، وعطارد بن حاجب، والمغيرة بن زرارة الأسدىّ، والأشعث بن قيس، والحارث بن حسّان، وعاصم بن عمرو، وعمرو بن معدى كرب، والمغيرة بن شعبة، والمثنّى بن حارثة، إلى الجزء: 19 ¦ الصفحة: 191 يزدجرد دعاة، فقدموا عليه، فأحضر وزراءه، وأحضر رستم، واستشارهم فيما يقول لهم، وأجتمع النّاس ينظرون إليهم، ثم أذن إليهم، وأحضر التّرجمان، وقال له: سلهم ما جاء بكم؟ وما دعاكم إلى غزونا، والولوع ببلادنا؟ من أجل أنّنا تشاغلنا عنكم أجترأتم علينا! فقال النّعمان بن مقرّن لأصحابه: إن شئتم تكلّمت عنكم، ومن شاء آثرته. قالوا: بل تكلّم؛ فقال: إنّ الله رحمنا، فأرسل إلينا رسولا يأمرنا بالخير. وينهانا عن الشّرّ، ووعدنا على إجابته خير الدنيا والآخرة، فلم يدع قبيلة إلّا وقاربه منها فرقة، وتباعد عنه فرقه، ثم أمر أن نبتدئ إلى من خالفه من العرب فبدأنا بهم، فدخلوا معه على وجهين؛ مكره عليه فاغتبط، وطائع فازداد، فعرّفنا جميعا فضل ما جاء به على الّذى كنّا عليه من العداوة والضّيق، ثم أمرنا أن نبدأ بمن يلينا من الأمم فندعوهم إلى الإنصاف، فنحن ندعوكم إلى ديننا، وهوين حسّن الحسن، وقبّح القبيح كلّه، فإن أبيتم فأمر من الشّر هو أهون من آخر شرّ منه، الجزية، فإن أبيتم فالمناجزة، وإن أجبتم إلى ديننا خلّفنا فيكم كتاب الله وأقمنا عليه. على أن تحكموا بأحكامه، ونرجع عنكم وشأنكم وبلادكم. وإن بذلتم الجزية قبلنا ومنعناكم، وإلّا قاتلناكم. فتكلّم يزدجرد فقال: إنّى لا أعلم أمّة فى الأرض أشقى ولا أقلّ عددا، ولا أسوأ ذات بين منكم، قد كنّا نوكل بكم قرى الضّواحى فيكفوننا أمركم، ولا تطمعوا أن تقوموا لفارس، فإن كان غدر لحقكم فلا يغرّنكم منّا، وإن كان الجهد فرضنا لكم قوتا إلى خصبكم، الجزء: 19 ¦ الصفحة: 192 وأكرمنا وجوهكم وكسوناكم، وملّكنا عليكم ملكا يرفق بكم. فأسكت [1] القوم. فقام المغيرة بن زرارة فقال: أيّها الملك؛ إنّ هؤلاء رءوس العرب ووجوههم، وهم أشراف يستحيون من الأشراف، وليس كلّ ما أرسلوا به قالوه، ولا كلّ ما تكلّمت به أجابوك عليه، فجاوبنى لأكون الّذى أبلغك وهم يشهدون على ذلك. وأمّا ما ذكرت من سوء الحال فهى على ما وصفت أو أشدّ، ثمّ ذكر من سوء عيش العرب، وإرسال النبىّ صلّى الله عليه وسلم إليهم نحو قول النّعمان، وقتال من خالفهم أو الجزية؛ ثم قال: اختر إن شئت الجزية عن يد وأنت صاغر، وإن شئت السيف، أو تسلم فتنحّى نفسك. فقال: لولا أن الرّسل لا تقتل لقتلتكم، ثم قال: لا شىء لكم عندى؛ واستدعى بوقر [1] من تراب، فقال: احملوه على أشرف هؤلاء ثمّ سوقوه حتّى يخرج من باب المدينة. ارجعوا إلى صاحبكم فأعلموه أنّى مرسل إليكم [رستم] [3] حتى يدفنكم ويدفنه معكم فى خندق القادسيّة، ثم أورده بلادكم حتّى أشغلكم فى أنفسكم بأشدّ مما نالكم من سابور. فقام عاصم بن عمرو ليأخذ التراب، وقال: أنا أشرفهم، أنا سيّد هؤلاء؛ فحمله على عنقه وخرج إلى راحلته فركبها وأخذ التراب، وقال لسعد عند عوده: أبشر فقد والله أعطانا الله أقاليد ملكهم [4] .   [1] أسكت، مثل سكت. [2] الوقر: الحمل الثقيل. [3] من ص. [4] الأقاليد: جمع أقلود وهو المفتاح. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 193 وقال يزدجرد لرسنم: ما كنت أرى أنّ فى العرب مثل هؤلاء، ما أنتم بأحسن جوابا منهم، ولقد صدقنى القوم، لقد وعدوا أمرا ليدركنّه أو ليموتنّ عليه، على أنّى وجدت أفضلهم أحمقهم حيث حمل التّراب على رأسه. فقال رستم: أيّها الملك؛ إنّه أعقلهم. وخرج رستم وبعث فى أثر الوفد، وقال لثقته: إن أدركهم الرّسول تلافينا أرضنا، وإن أعزوه سلبكم الله أرضكم. فرجع الرسول من الحيرة بفواتهم. فقال: ذهب القوم بأرضكم من غير شكّ، وكان منجّما كاهنا. ولما سار الوفد أغار سواد بن مالك التّميمىّ على النّجاف والفراض، فاستاق ثلاثمائة دابّة من بعير وحمار وثور، وأوقرها سمكا، وصبّح العسكر، فقسّمه سعد بين النّاس؛ فسمّى يوم الحيتان. وكانت السّرايا تسرى إلى طلب الّلحوم، فإنّ الطّعام كان كثيرا عندهم. وكانوا يسمّون الأيّام بها، منها يوم الأباقر ويوم الحيتان. وبعث سعد سريّة أخرى، فأغاروا فأصابوا إبلّا لبنى تغلب والنّمر فأستاقوها. وسار رستم من ساباط، وبعث على مقدّمته الجالينوس فى أربعين ألفا، وخرج هو فى ستّين ألفا، وساقته فى عشرين ألفا، وجعل فى الميمنة الهرمزان، وفى الميسرة مهران بن بهرام الرازىّ. وأرسل سعد السّرايا ورستم بالنّجف، والجالينوس بين النّجف والسّيلحين. وطاف فى السّواد، فبعث سوادا وحميضة كلّ منهما فى مائة، فأغاروا على النّهرين، وبلغ رستم الخبر، فأرسل إليهم خيلا، وسمع سعد أنّ خيله قد وغلت، فأرسل عاصم بن عمرو وجابرا الأزدىّ فى آثارهم، الجزء: 19 ¦ الصفحة: 194 فلحقهم عاصم وخيل فارس تحوشهم ليخلّصوا ما بأيديهم، فلمّا رأته الفرس هربوا، ورجع المسلمون بالغنائم. وأرسل سعد عمرو ابن معدى كرب وطليحة الأسدىّ طليعة، فسارا فى عشرة، فلم يسيروا إلّا فرسخا وبعض آخر حتى رأوا مسالحهم وسرحهم على الطّفوف قد ملئوها، فرجع عمرو ومن معه، وأبى طليحة إلّا التقدّم، ومضى حتّى دخل عسكر رستم، وبات فيه، فهتك أطناب بيت رجل واقتاد فرسه، ثم هتك على آخر بيته وحلّ فرسه، ثم فعل بآخر كذلك، ثم خرج يعدو به فرسه، ونذر به [1] النّاس، فركبوا فى طلبه، فأصبح وقد لحقه فارس من الجند فقتله طليحة، ثم آخر فقتله، ثم ثالث، فرأى مصرع صاحبيه وهما أبنا عمّه، فازداد حنقا، فلحق به طليحة، فكرّ عليه طليحة فأسره، ولحق النّاس، فرأوا فارسى الجند قد قتلا وأسر الثالث، وقد شارف طليحة عسكره فأحجموا عنه، ودخل طليحة على سعد ومعه الفارس وأخبره الخبر، فسأل التّرجمان الفارسىّ فطلب الأمان، فأمّنه سعد، فقال: أخبركم عن صاحبكم هذا قبل أن أخبركم عمّن قتل؛ باشرت الحروب منذ أنا غلام إلى الآن، وسمعت بالأبطال، ولم أسمع بمثل هذا، أنّ رجلا قطع عسكرين إلى عسكر فيه سبعون ألفا يخدم الرجل منهم الخمسة والعشرة، فلم يرض أن يخرج كما دخل حتى سلب فرسان الجند، وهتك عليهم البيوت، فلمّا أدركناه قتل الأوّل، وهو يعدّ بألف فارس، ثم الثّانى وهو نظيره، ثم أدركته أنا، وما خلّفت بعدى من يعدلنى، وأنا الثّائر بالقتيلين، فرأيت الموت   [1] نذر به: علم به. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 195 واستؤسرت، ثم أخبره عن الفرس. وأسلم ولزم طليحة، وكان من أهل البلاء بالقادسيّة، وسمّاه سعد مسلما. ثم سار رستم وقدّم الجالينوس وذا الحاجب حتى وصل إلى القادسيّة، وكان بين مسيره من المدائن ووصوله أربعة أشهر، رجاء أن يضجروا فينصرفوا، ووقف على العتيق بحيال [عسكر] [1] سعد، وكان معه ثلاثة وثلاثون فيلا، منها فيل سابور الأبيض، وكانت الفيلة تألفه. وبات رستم ليلته. ثم أصبح وأرسل إلى سعد أن أرسل إلينا رجلا نكلّمه ويكلمنا، فأرسل إليه ربعىّ بن عامر، فأظهر رستم زينته، وجلس على سرير من ذهب، وبسط البسط والنّمارق والوسائد المنسوجة بالذّهب، وأقبل ربعىّ على فرسه، وسيفه فى خرقة، ورمحه مشدود بعصب [وقدّ] [1] ، فلما انتهى إلى البسط قيل له: انزل، فحمل فرسه عليها، ونزل وسطها بوسادتين شقّهما، وأدخل الحبل فيهما، فلم ينهوه وأروه التّهاون، وعليه درع؛ وأخذ عباءة بعيره فتدرّعها وشدّها على وسطه، فقالوا له: ضع سلاحك؛ فقال: لم آتكم فأضع سلاحى بأمركم، أنتم دعوتمونى، فأخبروا رستم؛ فقال: ائذنوا له. فأقبل يتوكّأ على رمحه ويقارب خطوة، فلم يدع نمرقة ولا بساطا إلّا أفسده وهتكه، فلمّا دنا من رستم جلس على الأرض، وأركز رمحه على البسط؛ فقيل له: ما حملك على هذا؟ فقال: إنّا لا نستحلّ العقود على زينتكم، فقال له التّرجمان- واسمه عبود   [1] من ص. [2] من ص. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 196 من أهل الحيرة- ما جاء بكم؟ قال: الله، وهو بعثنا لنخرج من يشاء من عباده من ضيق الدّنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه، فمن قبل ذلك قبلنا منه، ورجعنا عنه، وتركناه وأرضه، ومن أباه قاتلناه حتى يقضى الله إلى الجنّة أو الظّفر. فقال رستم: قد سمعنا قولكم، فهل لكم أن تؤخّروا هذا الأمر حتّى ننظر فيه؟ قال: نعم، وإنّ ممّا سنّ لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ألّا نمكّن الأعداء أكثر من ثلاث، فنحن متردّدون عنكم ثلاثا فانظر فى أمرك، واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل: إمّا الإسلام وندعك وأرضك، أو الجزية فتقبل؟؟؟ فنكفّ عنك، وإن احتجت إلينا نصرناك؛ أو المنابذة فى اليوم الرّابع إلّا أن تبدأنا، وأنا كفيل بذلك عن أصحابى. فقال: أسيّد أصحابك أنت؟ قال: لا، ولكنّا كالجسد الواحد، بعضنا من بعض، يجير أدنانا على أعلانا. فخلا رستم برؤساء قومه، فقال: هل رأيتم أو سمعتم كلاما قطّ أعزّ وأوضح من كلام هذا الرّجل؟ فقالوا: معاذ الله أن نميل إلى دين هذا الكلب، أما ترى إلى ثيابه! فقال: ويحكم! لا تنظروا إلى الثياب، ولكن انظروا إلى الرأى والكلام والسّيرة؛ إنّ العرب تستخفّ بالّلباس، وتصون الأحساب؛ ليسوا مثلكم. فلمّا كان من الغد أرسل رستم إلى سعد: أن أبعث إلينا ذلك الرجل، فبعث إليهم حذيفة بن محصن، فأقبل فى نحو من ذلك الجزء: 19 ¦ الصفحة: 197 الزّىّ، فلم ينزل عن فرسه حتّى وقف على رستم. فقال له: انزل، قال: لا أفعل، فقال: ما جاء بك ولم يأت الأوّل؟ قال: إنّ أميرنا يحبّ أن يعدل بيننا فى الشّدة والرّخاء، وهذه نوبتى. فقال: ما جاء بكم؟ فأجابه نحو الأوّل. فطلب رستم الموادعة إلى يوم ما. فقال: نعم، ثلاثا من أمس، فردّه. وأقبل رستم على أصحابه فقال: ويحكم! ألا ترون ما أرى؟ جاءنا الأوّل بالأمس فغلبنا على أرضنا، وحقّر ما نعظّم، وأقام فرسه على زبرجنا [1] ؛ وجاء هذا اليوم فوقف علينا وهو فى يمن الطائر، يقوم على أرضنا دوننا. فلمّا كان الغد أرسل أن ابعثوا لنا رجلا، فبعث إليهم المغيرة بن شعبة، فأقبل عليهم، وعليهم التّيجان والثياب المنسوجة بالذهب، وبسطهم على غلوة سهم [2] ، لا يوصل إلى صاحبهم حتى يمشى عليها، فأقبل المغيرة حتى جلس مع رستم على سريره، فوثبوا عليه وأنزلوه ومعكوه [3] ؛ فقال: قد كان يبلغنا عنكم الأحلام [4] ، ولا أرى قوما أسفه منكم؛ إنّا معشر العرب لا يستعبد بعضنا بعضا، فظننت أنّكم تواسون قومكم كما نتواسى، فكان أحسن من الّذى صنعتم أن تخبرونى أنّ بعضكم أرباب بعض؛ وأنّ هذا الأمر لا يستقيم فيكم ولا يصنعه أحد، وأنا لم آتكم ولكن دعوتمونى، اليوم علمت   [1] الزبرج: الزينة من وشى أو جوهر. [2] الغلوة: مقدار مرمى السهم. [3] معكوه: دلكوه بالتراب. [4] الأحلام: جمع حلم وهو العقل. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 198 أنّكم مغلوبون، وأنّ ملكا لا يقوم على هذه السّيرة ولا [على] [1] هذه العقول. فقالت السّفلة: صدق والله الأعرابىّ. وقالت الدّهاقين [2] : والله لقد رمى بكلام لا يزال عبيدنا ينزعون إليه، قاتل الله أوّلينا حين كانوا يصغّرون أمر هذه الأمّة! ثمّ تكلّم رستم، فحمد قوته، وعظّم أمرهم، وذكر تمكّنهم فى البلاد، وقوّة سلطانهم، وذكر معيشة العرب وما هم عليه من الفاقة، وقال: كنتم تقصدوننا إذا قحطت بلادكم، فنأمر لكم بشىء من التّمر والشّعير، ثم نردّكم، وقد علمت أنّه لم يحملكم على ما صنعتم إلّا الجهد فى بلادكم، فأنا آمر لأميركم بكسوة وبغل وألف درهم، وآمر لكلّ رجل منكم بوقر [3] تمر وتنصرفون عنا؛ فإنّى لست أشتهى أن أقتلكم. فتكلّم المغيرة، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: إنّ الله خلق كلّ شىء ورزقه، فمن صنع شيئا فإنّما هو بصنعه. فأمّا الّذى ذكرت به نفسك وأهل بلادك فنحن نعرفه، والله صنعه بكم، ووضعه فيكم، وهو له دونكم؛ وأمّا الّذى ذكرت فينا من سوء الحال والضيق فلسنا ننكره، والله ابتلانا به، والدّنيا دول، ولم يزل أهل الرّخاء يتوقّعون الشدائد حتى تنزل بهم، ولو شكرتم ما آتاكم الله تعالى لكان شكركم يقصر عمّا أوتيتم، فأسلمكم ضعف الشكر   [1] من ص وابن الأثير. [2] الدهاقين: جمع دهقان. وهو زعيم فلا حى العجم، أو رئيس الإقليم. [3] الوقر، بالكسر: الحمل. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 199 إلى تغيّر الحال، ولو كنّا فيما ابتلينا به أهل الكفر لكان عظيم ما أبتلينا به مستجلبا من الله رحمة يردّه بها عنّا؛ إنّ الله تبارك وتعالى بعث فينا رسولا؛ ثم ذكر مثل ما تقدّم من ذكر الإسلام، أو الجزية، أو القتال، وقال: إنّ عيالنا قد ذاقوا طعام بلادكم، فقالوا: لا صبر لنا عنه. فقال رستم إذا تموتون دونه! فقال المغيرة: يدخل من قتل منّا الجنّة، ومن قتل منكم النار، ويظفر من بقى منّا بمن بقى منكم. فاستشاط رستم غضبا، ثم حلف ألّا يرتفع الصّبح غدا حتى أقتلكم أجمعين. وأنصرف المغيرة، وخلا رستم بأهل فارس وقال: أين هؤلاء منكم! هؤلاء والله الرّجال، صادقين كانوا أم كاذبين! والله لئن كان بلغ من عقلهم وصونهم لسرّهم ألّا يختلفوا، فما قوم أبلغ لما أرادوا منهم، وإن كانوا صادقين فما يقوم لهؤلاء شىء. فلجّوا وتجلّدوا، فقال: أطيعونى يا أهل فارس؛ إنّى لأرى لله فيكم نقمة لا تستطيعون ردّها. ثم أرسل إليه سعد ثلاثة من ذوى الرّأى، فقالوا له: إنّ أميرنا يدعوك لما هو خير لنا ولك؛ والعافية أن تقبل ما دعاك إليه، ونرجع إلى أرضنا وترجع إلى أرضك، وداركم لكم وأمركم فيكم، وما أصبتم كان زيادة لكم دوننا، وكنّا عونا لكم على من أرادكم، فاتّق الله ولا يكوننّ هلاك قومك على يديك، وليس بينك وبين أن نغتبط بهذا الأمر إلّا أن تدخل فيه، وتطرد [به] [1] الشيطان عنك؛ فقال   [1] من ص. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 200 لهم: إنّ الأمثال أوضح من كثير من الكلام، إنّكم كنتم أهل جهد وقشف [1] ، لا تنتصفون ولا تمتنعون، فلم نسىء جواركم، وكنّا نميركم [2] ونحسن إليكم، فلمّا طعمتم طعامنا، وشربتم شرابنا، وصفتم لقومكم ذلك، ووعدتموهم ثم أتيتمونا، وإنّما مثلكم ومثلنا كمثل رجل كان له كرم، فرأى فيه ثعلبا، فقال: وما ثعلب! فانطلق الثّعلب فدعا الثّعالب إلى ذلك الكرم، فلمّا اجتمعوا إليه شدّ صاحب الكرم النقب الذى كنّ يدخلن منه فقتلهنّ. فقد علمت أن الذى حملكم على هذا الحرص والجهد، فارجعوا ونحن نميركم؛ فإنّى لا أشتهى أن أقتلكم. ومثلكم أيضا كالذّباب يرى العسل فيقول: من يوصلنى إليه وله درهمان، فإذا دخله غرق ونشب [3] ، فيقول: من يخرجنى وله أربعة دراهم؟ وقال: ما دعاكم إلى ما صنعتم، ولا أرى عددا ولا عدّة! قال: فتكلّم القوم، وذكروا سوء حالهم، وما منّ الله تعالى عليهم من إرسال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، واختلافهم أوّلا، واجتماعهم على الإسلام، وما أمرهم به من الجهاد، وقالوا: وأمّا ما ضربت لنا من الأمثال فليس كذلك، ولكن إنّما مثلكم كمثل رجل غرس أرضا واختار لها الشّجر، وأجرى إليها الأنهار وزيّنها بالقصور، وأقام فيها فلّاحين يسكنون قصورها ويقومون على جنّاتها، فخلا   [1] : القشف قذر الجلد وسوء الحال. [2] نميركم: نطعمكم. [3] نشب، أى وقع فيما لا مخلص منه. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 201 الفلّاحون فى القصور على ما لا يحبّ، فأطال إمهالهم فلم يستجيبوا [1] ، فدعا إليها غيرهم وأخرجهم منها، فان ذهبوا عنها يختطفهم الناس، وإن أقاموا فيها صاروا خولا [2] لهؤلاء، فيسومونهم الخسف أبدا، والله لو لم يكن ما نقول حقا ولم يكن إلّا الدّنيا لما صبرنا عن الّذى نحن فيه من لذيذ عيشكم، ورأينا من زبرجكم، ولقارعناكم [3] عليه؛ فقال رستم: أتعبرون إلينا أم نعبر إليكم؟ فقالوا: بل أعبروا إلينا. ورجعوا من عنده عشيّا، وأرسل سعد إلى النّاس أن يقفوا مواقفهم، وأرسل إليهم شأنكم والعبور، فأرادوا الجواز على القنطرة فمنعهم المسلمون، وقالوا: أمّا شىء غلبناكم عليه فلا نردّه عليكم، فباتوا يسكرون [4] العتيق بالتّراب والقصب والبراذع حتّى الصباح، وجعلوا طريقا، واستتم بعد ما ارتفع النهار. ورأى رستم من اللّيل كأنّ ملكا نزل من السّماء، فأخذ قسىّ أصحابه فختم عليها، ثم صعد بها إلى السّماء، فاستيقظ مهموما، واستدعى خاصّته فقصّها عليهم، وقال: إنّ الله ليعظنا لو أتّعظنا، ثمّ ركب، وعبر وعليه درعان ومغفر، وأخذ سلاحه وعبر الفرس العتيق، ثم كانت الحرب. والله تعالى أعلم بالصّواب، وإليه المرجع والمآب.   [1] ابن الأثير: «فلم يستحيوا» . [2] خولا: خدما. [3] قارعناكم: قاتلناكم. [4] سكر النهر: سد فاه بالتراب. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 202 ذكر يوم أرماث كان [1] يوم أرماث يوم الاثنين من المحرّم سنة أربع عشرة؛ وذلك أن الفرس لمّا عبروا العتيق، جلس رستم على سريره وضرب عليه عليه طيّاره، وعبّى فى القلب ثمانية عشر فيلا، عليها الصناديق والرّجال، وفى المجنّبتين خمسة عشر [2] ؛ ثمانية وسبعة، وأقام الجالينوس بينه وبين ميمنته، والفيرزان بينه وبين ميسرته، وكان يزدجرد قد وضع بينه وبين رستم رجالا على كلّ دعوة رجلا [3] ، أوّلهم على باب إيوانه، وآخرهم مع رستم، فكلّما فعل شيئا قال الّذى معه للّذى يليه: كان كذا وكذا، ثم يقول الثانى ذلك للثالث، وهكذا إلى أن ينتهى إلى يزدجرد فى أسرع وقت. قال: وأخذ المسلمون مواقفهم، وكان بسعد دماميل وعرق النّسا، فلا يستطيع الجلوس؛ إنّما هو مكبّ على وجهه، وفى صدره وسادة، وهو على سطح القصر يشرف على النّاس، فذكر النّاس ذلك، وعابه بعضهم فقال فى ذلك شعرا: نقاتل حتّى أنزل الله نصره [4] ... وسعد بباب القادسيّة معصم فأبنا وقد آمت نساء كثيرة ... ونسوة سعد ليس فيهنّ أيّم   [1] ابن الأثير 2: 324، وأرماث هو اليوم الأول من أيام القادسية. [2] ابن الأثير: «وفى المجنبتين ثمانية أو سبعة» . [3] كذا فى ابن الأثير وفى ك «رجل» . [4] فى ياقوت: «ألم تر أن الله أنزل نصره» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 203 فبلغت أبياته سعدا، فقال: اللهم إن كان كاذبا وقال الّذى قاله رياء وسمعة فاقطع عنّى لسانه، فإنّه لواقف فى الصّفّ يومئذ أتاه سهم غرب [1] ، فأصاب لسانه، فما تكلّم بكلمة حتّى لحق بالله تعالى. ونزل سعد إلى النّاس فاعتذر إليهم، وأراهم ما به من القروح فى فخذيه وأليتيه، فعذره النّاس وعلموا حاله. ولمّا عجز عن الرّكوب استخلف خالد بن عرفطة على النّاس، فاختلف عليه، فأخذ نفرا ممّن شغب عليه فحبسهم فى القصر، منهم أبو محجن الثّقفىّ، وقيل: بل كان قد حبس فى الخمر. وأعلم سعد النّاس أنّه قد استخلف خالدا، وإنّما يأمرهم خالد بأمره، فسمعوا وأطاعوا. وأرسل سعد نفرا من ذوى الرأى والنّجدة، منهم المغبرة، وحذيفة، وعاصم، وطليحة، وقيس الأسدىّ، وغالب، وعمرو بن معدى كرب وأمثالهم، ومن الشعراء: الشمّاخ، والحطيئة وأوس بن معراء، وعبدة بن الطبيب وغيرهم، وأمرهم بتحريض النّاس على القتال ففعلوا، وكان صفّ المشركين على شفير العتيق، وصفّ المسلمين على حائط قديس، والخندق من ورائهم، وكان المسلمون والمشركون بين الخندق والعتيق، وأمر سعد النّاس فقرءوا سورة الجهاد، وهى الأنفال، فلمّا فرغ القرّاء منها قال سعد: الزموا مواقفكم حتى تصلّوا الظهر فإذا صلّيتم فانّى مكبّر فكبّروا واستعدّوا، فإذا سمعتم الثانية فكبّروا ولتستتمّ عدّتكم [2] ، ثم إذا كبّرت الثالثة فكبّروا، ولينشّط فرسانكم النّاس، فإذا كبّرت الرابعة فازحفوا   [1] سهم غرب: لا يدرى راميه. [2] ابن الأثير: «والبسوا عدتكم» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 204 حتّى تخالطوا عدوّكم، وقولوا: لا حول ولا قوّة إلّا بالله. فلما كبّر سعد الثالثة برز أهل النّجدات فأنشبوا القتال، وخرج إليهم من الفرس أمثالهم [1] . فبرز غالب بن عبد الله الأسدى، فخرج إليه هرمز، وكان من ملوك الباب، وكان متوّجا، فأسره غالب وأتى به سعدا. وخرج عاصم ابن عمرو [2] فطارد فارسيّا، فانهزم، فاتّبعه عاصم حتى خالط صفّهم فحموه، فأخذ عاصم رجلا على بغل وعاد به، فإذا هو خبّاز الملك، معه طعام من طعام الملك وخبيصة [2] ، فأتى به سعدا فنفّله [3] أهل موقفه. وخرج فارسىّ يطلب البراز، فبرز إليه عمرو بن معدى كرب، فأخذه وجلد به الأرض وذبحه، وأخذ سواريه ومنطقته. وحملت الفيلة على المسلمين، ففرّقت بين الكتائب، فنفرت الخيل، وكانت الفرس قد قصدت بجيلة بسبعة عشر فيلا، فنفرت خيل بجيلة، فكادت بجيلة تهلك لنفار خيلها عنها وعمّن معها.   [1] بعدها فى ابن الأثير: «فاعتوروا الطعن والضرب» ، وقال غالب بن عبد الله الأسدى: قد علمت واردات المسائح ... ذات اللسان والبيان الواضح أنى سمام البطل المسالح ... وفارج الأمر المهم الفادح [2] فى ابن الأثير: وهو يقول: قد علمت بيضاء صفراء اللبب ... مثل اللجين إذ تغشاه الذهب أنى امرؤ يعانيه السبب ... مثل على مثلك يغريه العتب [2] الخبيصة: نوع من الحلوى. [3] نفله: أعطاه، والنفل الغنيمة. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 205 فأرسل سعد إلى بنى أسد أن دافعوا عن بجيلة ومن معها، فخرج طليحة بن خويلد، وحمّال بن مالك فى كتائبهما، فباشروا الفيلة حتّى عدلها ركبانها، وخرج إلى طليحة عظيم منهم، فقتله طليحة. وقام [1] الأشعث بن قيس فى كندة، فأزالوا من بإزائهم من الفرس، ثم حمل الفرس، وفيهم ذو الحاجب والجالينوس، والمسلمون ينتظرون التكبيرة الرّابعة من سعد، فاجتمعت الفرس على أسد ومعهم تلك الفيلة فثبتوا لهم، وكبّر سعد الرابعة، فزحف المسلمون إليهم، ورحا الحرب تدور على أسد، وحملت الفيول على الميمنة والميسرة، فحادت الخيول عنها، فأرسل سعد إلى عاصم بن عمرو، فقال: يا معشر بنى تميم، أما عندكم لهذه الفيلة من حيلة؟ قالوا: بلى والله. ثمّ نادى عاصم فى رجال من قومه رماة وآخرين، [لهم] [2] ثقافة، فقال: يا معشر الرّماة؛ ذبّوا ركبان الفيلة عنهم بالنّبل، ويا معشر [أهل] [2] الثّقافة؛ استدبروا الفيلة، فقطّعوا وضنها [3] . وخرج يحميهم وقد جالت الميمنة والميسرة، وأقبل أصحاب عاصم، فأخذوا بأذناب الفيلة فقطّعوا وضنها، وأرتفع عواؤهم، فما بقى فيل إلّا عوى، وقتل أصحابها، ونفّس عن أسد، وردّ الفرس عنهم إلى مواقفهم، ودام القتال حتّى غربت الشمس، وحتّى ذهبت هدأة [4]   [1] ك: «وبهذا قام» . [2] من ص. [3] الوضن: جمع وضين؛ وهو بطان منسوج بعضه على بعض يشد به الرحل على البعير كالحزام للسرج. [4] هدأة من الليل: جزء منه. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 206 من اللّيل، ثم رجع هؤلاء وهؤلاء، وقد أصيب من أسد تلك الليلة خمسمائة، وكانوا ردءا للنّاس، وكان عاصم حامية للنّاس. وكان سعد تزوّج سلمى امرأة المثنّى بن حارثة بعده، فلما جال النّاس فى هذا اليوم، جعل سعد يتململ جزعا على النّاس وهو لا يطيق الجلوس، فلمّا رأت ما يصنع الفرس، قالت: وامثنّاه، ولا مثنّى للخيل اليوم! فلطم وجهها وقال: أين المثنّى عن [1] هذه الكتيبة الّتى تدور عليها الرحا؟ يعنى أسدا وعاصما؛ فقالت: أغيرة وجبنا! فقال: والله لا يعذرنى أحد ان لم تعذرينى، وأنت ترين مابى ... والله تعالى أعلم بالصّواب، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلّى الله على سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم. ذكر أغواث قال: [2] لما أصبح سعد وكّل بالقتلى من ينقلهم ليدفنوا، وأسلم الجرحى إلى النّساء يقمن عليهم، فبينا الناس على ذلك إذ طلعت نواصى الخيل من الشّام، وكان عمر لمّا فتحت دمشق قد كتب إلى أبى عبيدة يأمره بإرسال أهل العراق، فأرسلهم وأمّر عليهم هاشم بن عتبة بن أبى وقّاص، وعلى مقدّمته القعقاع بن عمرو، فتعجّل القعقاع، فقدم على الناس صبيحة هذا اليوم، وقد عهد إلى أصحابه أن يتقطّعوا أعشارا وهم ألف، كلّما بلغ عشرة مدّ البصر سرّحوا عشرة، وتقدّم هو فى عشرة، فأتى الناس فسلّم عليهم،   [1] ك: «من» . [2] هو اليوم الثانى من أيام القادسية. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 207 وبشّرهم بالجنود، وحرّضهم على القتال؛ وقال: اصنعوا كما أصنع، وطلب البزاز، فخرج إليه ذو الحاجب، فعرفه القعقاع، ونادى: بالثارات أبى عبيد وسليط وأصحاب الجسر! واقتتلا، فقتله القعقاع. وجعلت خيله ترد إلى اللّيل، ونشط الناس، وكأن لم تكن بالأمس مصيبة، وانكسرت الأعاجم لقتل ذى الحاجب، فطلب القعقاع البراز، فخرج إليه الفيرزان والبندوان، فانضمّ إلى القعقاع الحارث بن ظبيان، ونادى القعقاع: يا معشر المسلمين، باشروهم بالسّيوف، فإنما يحصد الناس بها، فاقتتلوا حتى المساء، فلم ير أهل فارس فى هذا اليوم ما يعجبهم، وأكثر المسلمون فيهم القتل، ولم يقاتلوا فى هذا اليوم على فيلة؛ كانت توابيتها قد تكسّرت بالأمس، فاستأنفوا عملها، وحمل بنو عمّ القعقاع عشرة عشرة على إبل قد ألبسوها وجلّلوها وبرقعوها، وطافت بهم خيولهم تحميهم، وأمرهم القعقاع أن يحملوا على خيل الفرس يتثبّهون بالفيلة، ففعلوا فى يوم أغواث، كما فعل الفرس فى يوم أرماث، فنفرت خيل الفرس من الإبل، فلقوا منها أعظم ما لقى المسلمون من الفيلة، وحمل القعقاع يومئذ ثلاثين حملة، كلّما طلعت قطعة حمل حملة، وأصاب فيها، وقيل: وكان آخرهم يزرجمهر الهمذانىّ. وكان أبو محجن الثّقفىّ، واسمه مالك بن حبيب، وقيل: عبد الله بن حبيب بن عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن غبرة الجزء: 19 ¦ الصفحة: 208 ابن عوف بن قسىّ، وهو ثقيف، قد حبس فى القصر وقيّد. واختلف فى سبب ذلك؛ فقيل: كان قد خالف على خالد بن عرفطة خليفة سعد، وقيل: بل كان عمر قد جلده فى الخمر مرارا ثمانية وهو لا يتوب ولا يقلع، فنفاه إلى جزيرة فى البحر، وبعث معه رجلا، فهرب منه ولحق بسعد، فكتب إليه عمر بحبسه. وقيل: بل كان مع سعد، فأتى به وهو سكران، فأمر به إلى القيد، فلما التحم القتال قال: كفى حزنا أن تردى الخيل بالقنا ... وأترك مشدودا على وثاقيا إذا قمت عنّانى الحديد وأغلقت ... مصارع من دونى تقيم المناديا وقد كنت ذا مال كثير وإخوة ... فقد تركونى واحدا لا أخاليا وقد شفّ جسمى أنّنى كلّ شارق ... أعالج كبلا مصمتا قد برانيا فلّله درّى يوم أترك موثقا ... وتذهل عنّى أسرتى ورجاليا حبيسا عن الحرب العوان وقد بدت ... وإعمال غيرى يوم ذاك العواليا ولله عهد لا أخيس بعهده ... لئن فرجت ألّا أزور الحوانيا ثم قال لسلمى أبنه خصفة امرأة سعد: ويحك! خلّينى، ولك عهد الله إن سلّمنى الله أن أجىء حتى أضع رجلى فى القيد، وإن قتلت استرحتم منّى، فحلّت عنه، فوثب على فرس لسعد يقال لها: البلقاء، ثم أخذ الرّمح وانطلق حتى كان بحيال الميمنة كبّر، ثم حمل على ميسرة الفرس، ثم رجع من خلف المسلمين وحمل على الجزء: 19 ¦ الصفحة: 209 ميمنتهم، وكان يقصف [1] النّاس قصفا منكرا، فتعجب النّاس منه وهم لا يعرفونه، فقال بعضهم: هو من أصحاب هاشم، أو هاشم نفسه. وقال بعض الناس: هو الخضر. وقال بعضهم: لولا أنّ الملائكة لا تباشر الحرب لقلنا إنّه ملك. وجعل سعد يقول حين ينظر إليه وإلى الفرس: الصّبر صبر البلقاء، والطعن طعن أبى محجن. وأبو محجن فى القيد، فلما انتصف الّليل وتراجع المسلمون والفرس، أقبل أبو محجن فدخل القصر، وأعاد رجليه فى القيد، وقال: لقد علمت ثقيف غير فخر ... بأنّا نحن أكرمهم سيوفا وأكثرهم دروعا سابغات ... وأصبرهم إذا كرهوا الحتوفا [2] وأنّا وفدهم فى كلّ يوم ... فإن عميوا فسل بهم عريفا [3] وليلة قادس لم يشعروا بى ... ولم أشعر بمخرجى الزّحوفا فإن أحبس فذلكم بلائى ... وإن أترك أذيقهم الحتوفا فقالت له سلمى: فى أىّ شىء حبسك؟ فقال: أما والله ما حبسنى بحرام أكلته ولا شربته؛ ولكنّى كنت صاحب شراب فى الجاهليّة، وأنا امرؤ شاعر يدبّ الشّعر على لسانى، فقلت مرتجلا فى ذلك أبياتا: إذا متّ فادفنّى إلى أصل كرمة ... تروّى عظامى بعد موتى عروقها ولا تدفننّى بالفلاة فإنّنى ... أخاف إذا ما متّ ألّا أذوقها   [1] يقصف الناس: يضربهم ضربا منكرا. [2] الحتوف: القتل. [3] العريف: رئيس الجماعة. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 210 فلذلك حبسنى، فلمّا أصبحت أتت سعدا فصالحته وأخبرته بخبر أبى محجن، فأطلقه، وقال: اذهب، فما أنا بمؤاخذك بشىء تقوله حتّى تفعله، قال: لا جرم [والله] [1] لا أجيب لسانى إلى قبيح أبدا. وقد قيل: إنّ سعدا لمّا أخبر بأمره دعاه وحلّ قيوده، وقال: لا تجلدنّ على الخمر أبدا: فقال أبو محجن: وأنا والله لا أشربها أبدا، فقد كنت آنف أن أدعها من أجل جلدكم. وقيل: بل قال: قد كنت أشربها إذ يقام علىّ الحدّ وأطهر منها، فأمّا إذ بهرجتنى [2] فو الله لا أشربها أبدا. ذكر يوم عماس، وهو اليوم الثالث قال: [3] وأصبح الناس فى هذا اليوم وبين الصفّين من صرعى المسلمين ألفان من جريح وقتيل، ومن المشركين عشرة آلاف، فنقل المسلمون قتلاهم إلى المقابر، وجرحاهم إلى النّساء، [وكان النساء] [4] والصّبيان يحفرون القبور ويداوون الجرحى. وأمّا قتلى المشركين فبين الصّفّين لم ينقلوا، وبات القعقاع تلك الليلة يسرّب أصحابه إلى المكان الّذى كان فارقهم فيه، وقال: إذا طلعت الشّمس فاقتلوا مائة مائة، فإن جاء هاشم فذاك، وإلّا جدّدتم للنّاس رجاء جديدا. ولم يشعر به أحد، وأصبح النّاس على مواقفهم.   [1] من ص. [2] بهرجتنى: زيفتنى ولم تسمع قولى. [3] ابن الأثير 2: 331 وما بعدها، وتاريخ الطبرى 3: 550 وما بعدها [4] من ص. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 211 فلما بزغت الشمس أقبل أصحاب القعقاع، فحين رآهم كبّر وكبّر المسلمون، وتقدّموا وتكتّبت [1] الكتائب، واختلف الطّعن والضّرب، والمدد متتابع، فما جاء آخر أصحابه حتّى انتهى إليهم هاشم، فأخبر بما صنع القعقاع، فعبّى أصحابه سبعين سبعين، وكان فيهم قيس بن هبيرة المعروف بابن المكشوح المرادىّ، فكبّر وكبّر المسلمون، ثم حمل على الفرس فقاتلهم حتى خرق صفّهم إلى العتيق ثمّ عاد، وكانت الفرس قد أصلحوا توابيتهم وأعادوها على الفيلة، وأقبلت الرّجّاله حول الفيلة يحمونها أن تقطع وضنها، ومع الرّجّالة فرسان يحمونهم، فلم تنفر الخيل منهم كما كانت؛ لاختلاط خيل الفرس ورجالها بها. قال: ولما رأى سعد الفيول، وقد فرّقت الكتائب وعادت لفعلها، أرسل إلى القعقاع وعاصم ابنى عمرو: أن اكفيانى الفيل الأبيض، وكان بإزائهما والفيول كلّها آلفة له. وقال لحمّال والرّبيل: اكفيانى الفيل الأجرب وكان بإزائهما، فحمل القعقاع وعاصم برمحيهما وتقدّما فى خيل ورجل حتّى وضعاهما فى عينى الفيل الأبيض، فنفض رأسه، وطرح ساسته، ودلّى مشفره. فضربه القعقاع، فرمى به ووقع لجنبه، وقتلوا من كان عليه. وحمل حمّال والرّبّيل الأسديّان على الفيل الأجرب، فطعنه حمّال فى عينه فأقعى، ثم استوى، وضربه الرّبيل فأبان مشفره، فتحيّر الفيل؛ إذا جاء إلى صفّ المسلمين زجروه بالرّماح ليرجع، وإذا أتى صفّ الفرس نخسوه ليتقدّم، فولّى الفيل وألقى نفسه فى العتيق،   [1] تكتبت: اجتمعت. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 212 وتبعته الفيلة فخرقت صفوف الأعاجم. واقتتل الفريقان حتّى المساء وهم على السّواء، فلما أمسى النّاس اشتدّ القتال، وصبر الفريقان فخرجا على السّواء. ثم كانت ليلة الهرير. والله سبحانه وتعالى أعلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلّى الله على سيدنا محمد. ذكر ليلة الهرير قيل: [1] وإنّما سمّيت بذلك لتركهم الكلام، وإنّما كانوا يهرّون هريرا، وهى الّليلة الّتى تلى يوم عماس. قال: وخرج مسعود بن مالك الأسدىّ، وعاصم بن عمرو، وقيس بن هبيرة وأشباههم، فطاردوا القوم، فإذا هم لا يشدّون ولا يريدون غير الزّحف، فقدّموا صفوفهم، وزاحفهم النّاس بغير إذن سعد، فكان أوّل من زاحفهم القعقاع، فقال سعد: الّلهم اغفرها له وانصره، قد أذنت له إذ لم يستأذنّى. ثم قال: أرى الأمر ما فيه هذا، فإذا كبّرت ثلاثا فاحملوا، فكبّر واحدة، فحملت أسد ثم النّخع، ثم بجيلة، ثم كندة، وسعد يقول عند حملة كلّ منهم: الّلهم اغفرها لهم، وانصرهم؛ ثم زحف الرؤساء، ورحا الحرب تدور على القعقاع، ولمّا كبّر الثّالثة لحق النّاس بعضهم بعضا، وخالطوا القوم، فاستقبلوا اللّيل بعد ما صلّوا العشاء، واقتتلوا ليلتهم إلى الصّباح، فلمّا كان عند الصّبح انتهى النّاس، فاستدلّ سعد بذلك على أنّهم الأعلون.   [1] تاريخ ابن الأثير 2: 334. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 213 ذكر يوم القادسية وقتل رستم وهزيمة الفرس قال: وأصبح النّاس من ليلة الهرير- وتسمّى ليلة القادسيّة- وهم حسرى، لم يغمضوا ليلتهم كلّها؛ فسار القعقاع فقال: إنّ الدائرة بعد ساعة لمن بدأ القوم، فاصبروا ساعة واحملوا؛ فإنّ النّصر مع الصّبر. فاجتمع إليه جماعة من الرؤساء صمدوا لرستم حتى خالطوا الّذين دونه، فلمّا رأت ذلك القبائل قام فيهم رؤساؤهم، وقالوا: لا يكوننّ هؤلاء أجدّ فى أمر الله منكم، ولا هؤلاء- يعنى الفرس- أجرأ على الموت منكم، وحملوا وخالطوا من بإزائهم، فاقتتلوا حتى قام قائم الظّهيرة، فكان أوّل من زال الفيرزان والهرمزان، فتأخّرا وثبتا حيث انتهيا، وانفرج القلب وركد عليهم النّقع [1] ، وهبّت ريح عاصف دبور، فقلعت طيّار رستم عن سريره، فهوى فى العتيق، ومال الغبار على الفرس، وانتهى القعقاع ومن معه إلى السّرير فعثروا به، وقد قام رستم عنه حين أطارت الرّيح الطيّار، واستظلّ بظلّ بغل من بغال كانت قد قدمت عليها حمول، فضرب هلال بن علّفة [2] حمل البغل الّذى تحت رستم، فقطع حباله وسقط عليه، فأزاله رستم عن ظهره، ثمّ ضربه هلال ضربة، ففرّ نحو العتيق، وألقى نفسه فيه، فاقتحمه هلال عليه، وأخذ يرجله   [1] النقع: التراب. [2] ك: «علقمة» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 214 ثم خرج به، وضرب جبينه بالسّيف حتّى قتله، ثم صعد على السّرير وقال: قتلت رستم وربّ الكعبة؛ إلىّ إلىّ! فنفله سعد سلبه، وكان قد أصابه الماء، ولم يظفر بقلنسوته، وكانت بمائة ألف. وقيل: إنّ هلال بن علّفة لمّا قصد رستم رماه بنشابة أثبتت قدمه بالرّكاب، فحمل عليه هلال فضربه فقتله، ثم احتزّ رأسه فعلّقه ونادى: قتلت رستم! فانهزم قلب المشركين، وقام الجالينوس على الردم [1] ، ونادى الفرس إلى العبور، وانهزموا وأخذهم السيف والإسار، وأخذ ضرار بن الخطّاب الدّرفس، وهو العلم الأكبر الّذى كان للفرس، فعوّض عنه بثلاثين ألفا، وكانت قيمته ألف ألف ومائتى ألف، وجعل فى بيت المال. وقتل فى هذه المعركة من الفرس عشرة آلاف سوى من قتل قبلها، وأما المقترنون فما أفلت منهم مخبر، وهم ثلاثون ألفا. وقتل من المسلمين قبل ليلة الهرير ألفان وخمسمائة، وقتل فى ليلة الهرير ويوم القادسيّة ستّة آلاف، فدفنوا بالخندق، ودفن من كان قبل ليلة الهرير على مشرّق. وكان ممن استشهد فى حرب القادسيّة بنو خنساء الأربعة، وكان من خبرهم أنّ أمّهم الخنساء الشاعرة بنت عمرو بن الشّريد السّلميّة، حضرت القادسيّة ومعها بنوها الأربعة، وهم رجال، فقالت لهم من أوّل الّليل: يا بنىّ، إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين،   [1] كذا فى ابن الأثير، وفى الأصول: الرمرم. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 215 وو الله الذى لا إله إلّا هو، إنّكم لبنو رجل واحد، كما أنّكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم، ولا فضحت خالكم، ولا هجّنت حسبكم، ولا غيّرت نسبكم؛ وقد تعلمون ما أعدّ الله للمسلمين من الثّواب الجزيل فى حرب الكافرين، واعلموا أنّ الدار الباقية، خير من الدّار الفانية؛ يقول الله عزّ وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [1] ، فإذا أصبحتم غدا إن شاء الله سالمين، فاغدوا إلى قتال عدوّكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين، فإذا رأيتم الحرب قد شمرّت عن ساقها، واضطرمت لظّى على سبّاقها [2] ، وجلّلت نارا على أوراقها، فتيمّموا وطيسها، وجالدوا رئيسها؛ عند احتدام خميسها، [3] تظفروا بالغنم والكرامة، فى دار الخلد والمقامة. فخرج بنوها قابلين لنصحها، عازمين على قولها، فلمّا أضاء لهم الصّبح باكروا مراكزهم، وأنشأ أوّلهم يقول: يا إخوتى إنّ العجوز النّاصحه ... قد نصحتنا إذ دعتنا البارحه مقالة ذات تبيان واضحه ... فباكروا الحرب الضّروس الكالحه وإنّما تلقون عند الصّائحه ... من آل ساسان كلابا [4] نابحه قد أيقنوا منكم بوقع الجائحه ... وأنتم بين حياة صالحه أو موتة تورث غنما رابحه   [1] سورة آل عمران 200. [2] الاستيعاب: «سياقها» . [3] الخميس: الجيش. [4] الاستيعاب: «الكلاب» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 216 وتقدّم فقاتل حتّى قتل، ثم حمل الثّانى وهو يقول: إنّ العجوز ذات حزم وجلد ... والنّظر الأوفق والرّأى السّدد قد أمرتنا بالسّداد والرّشد ... نصيحة منها وبرّا بالولد فبادروا الحرب حماة فى العدد ... إمّا لفوز بارد على الكبد أو ميتة تورثكم غنم الأبد [1] ... فى جنّة الفردوس والعيش الرّغد وقاتل حتى استشهد. ثم حمل الثالث وهو يقول: والله لا نعصى العجوز حرفا ... قد أمرتنا حدبا وعطفا نصحا وبرّا صادقا ولطفا ... فباكروا الحرب الضّروس زحفا حتى تلفّوا آل كسرى لفّا ... أو تكشفوهم عن حساكم كشفا إنّا نرى التّقصير منكم ضعفا ... والقتل منكم نجدة وعرفا [2] وقاتل حتّى استشهد. ثم حمل الرابع وهو يقول: لست لخنساء ولا للأخرم ... ولا لعمرو ذى السّناء الأقدم إن لم أرد فى الجيش جيش الأعجم ... ماض على الهول خضمّ خضرم إمّا لفوز عاجل ومغنم ... أو لوفاة فى السّبيل الأكرم وقاتل حتى قتل؛ رحمهم الله [3] . فبلغها الخبر، فقالت: الحمد لله الذى شرّفنى بقتلهم، وأرجو من ربّى أن يجمعنى بهم فى مستقرّ رحمته. فكان عمر بن الخطّاب- رضى الله عنه- يعطى الخنساء أرزاق   [1] الاستيعاب: «عز الأبد» . [2] الاستيعاب: «فيكم نجدة وزلفى» . [3] الاستيعاب 4: 827 أو ما بعدها. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 217 أولادها الأربعة؛ لكلّ واحد مائتى درهم؛ حتى قبض رضى الله عنه. حكاه أبو عمر بن عبد البرّ فى ترجمة الخنساء. تعود إلى بقيّة أخبار القادسيّة؛ قال: وجمع من الأسلاب والأموال ما لم يجمع قبله مثله، وأمر سعد القعقاع وشرحبيل باتّباعهم، وخرج زهرة بن الحويّة التّميمىّ فى آثارهم فى ثلاثمائة فارس، فلحق الجالينوس، فقتله زهرة وأخذ سلبه، وقتلوا أكثر الفرس وأسروهم. قيل: رئى شابّ من النّخع وهو يسوق ثمانين أسيرا من الفرس، وكان الرجل يشير إلى الفارسىّ فيأتيه فيقتله؛ وربّما أخذ سلاحه فقتله به؛ وربّما أمر الرجل فقتل صاحبه. ولحق سلمان بن ربيعة الباهلىّ وعبد الرحمن بن ربيعة بطائفة من الفرس قد نصبوا راية وقالا: لا نبرح حتّى نموت. فقتلهم سلمان ومن معه، وكان قد ثبت بعد الهزيمة بضعة وثلاثون كتيبة من الفرس، استحيوا من الفرار، فقصدهم بضعة وثلاثون من رؤساء المسلمين، لكلّ كتيبة منها رئيس، فقتلهم المسلمون. وكتب سعد إلى عمر بالفتح، وبعدّة من قتلوا، ومن أصيبب من المسلمين، وسمّى من يعرف، وبعث بذلك سعد بن عميلة الفزارىّ، واستأذنه فيما يفعل. وأقام بالقادسيّة ينتظر جوابه، فأمره بالمسير إلى المدائن، وأن يخلّف النساء والصّبيان بالعتيق، ويجعل الجزء: 19 ¦ الصفحة: 218 معهم جندا كثيفا، ويشركهم فى كلّ مغنم؛ ما داموا يخلفون المسلمين فى عيالاتهم؛ ففعل. قيل: وكانت وقعة القادسية فى سنة ستّ عشرة. وقيل: فى سنة خمس عشرة، وأوردها أبو جعفر الطّبرىّ فى سنة أربع عشرة، وأوردها أبو الحسن بن الأثير فى تاريخه الكامل، فى حوادث سنة أربع عشرة؛ وذكر الخلاف فيهما. والله سبحانه وتعالى أعلم. فلنذكر ما كان بعد القادسية والله تعالى أعلم. ذكر ما كان بعد القادسية من الحروب والأيام يوم برس، ويوم بابل، ويوم كوثى. وهذه الوقائع والأيّام الّتى نذكرها فى هذا الموضع تحت هذه التّرجمة، قد أوردها أبو الحسن علىّ بن الأثير- رحمه الله- فى تاريخه (الكامل) [1] فى حوادث سنة خمس عشرة، كأنّه رجّح قول أهل الكوفة: إنّ وقعة القادسيّة كانت فى سنة خمس عشرة. قال: لمّا فرغ سعد من القادسيّة أقام بها بعد الفتح شهرين، وكاتب عمر فيما يفعل، فكتب إليه بالمسير إلى المدائن كما قدّمنا، فسار من القادسيّة لأيّام بقين من شوّال، وكلّ الناس فارس [2] ، قد نقل الله إليهم ما كان فى عسكر الفرس، فوصلت مقدّمة المسلمين برس وعليها عبد الله بن المعتمّ، وزهرة بن الحويّة وشرحبيل   [1] الكامل 2: 354. [2] ابن الأثير: «وكل الناس مؤد» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 219 ابن السّمط، فلقيهم بها بصبهرى فى جمع من الفرس، فهزمهم المسلمون إلى بابل، وبها رؤساء القادسية: النّخيرجان، ومهران الرّازىّ، والهرمزان وأشباههم. وقد استعملوا عليهم الفيرزان، وقدم عليهم بصبهرى منهزما من برس، فوقع فى النهر، ومات من طعنة، كان طعنه زهرة، ولما هزم بصبهرى أقبل بسطام دهقان برس، فصالح زهرة، وعقد للمسلمين الجسور، وأخبرهم بمن اجتمع ببابل من الفرس، فأرسل زهرة إلى سعد يعرّفه بذلك، فقدم سعد إلى برس، وسيّر زهرة فى المقدّمة، وأتبعه عبد الله وشرحبيل وهاشما، فنزلوا على الفيرزان ببابل، واقتتلوا، وانهزم الفرس، وانطلقوا على وجهين: فسار الهرمزان نحو الأهواز، فأخذها، وأخرج الفيرزان نحو نهاوند، فأخذها وبها كنوز كسرى. وسار النّخيرجان ومهران إلى المدائن، وقطع الجسر، وأقام سعد ببابل، وقدّم زهرة بين يديه بكير بن عبد الله اللّيثى، وكثير بن شهاب السّعدىّ حين عبرا الصراة، فلحقا بأخريات القوم، وفيهم فيومان والفّرخان فقتلاهما، وجاء زهرة فجاز سورا، وتقدّم نحو الفرس وقد نزلوا بين كوثى والدّير، وقد استخلف النّخيرجان ومهران على جنودهما شهريار، فنازلهم زهرة، فبرزوا لقتاله، وطلب شهريار المبارزة، فخرج إليه أبو نباتة نايل بن جعشم الأعرجىّ، وكان من شجعان تميم، فظفر به وقتله، وأخذ فرسه وسواريه الجزء: 19 ¦ الصفحة: 220 وسلبه، وانهزم أصحابه، وأقام زهرة بكوثى حتى قدم عليه سعد، فقدّم إليه نايلا وألبسه سلاح شهريار وسواريه، وأركبه برذونه، فكان أوّل عربىّ سوّر بالعراق. وأقام سعد بها أيّاما. وقيل: كانت هذه الوقائع فى سنة ستّ عشرة. والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. ذكر خبر بهرسير وهى المدينة الغربية قال [1] : ثم مضى زهرة إلى بهرسير فى المقدّمات، فتلقّاه شيرزاد دهقان ساباط بالصّلح، فأرسله إلى سعد فصالحه على الجزية، ولقى سعد كتيبة كسرى الّتى تدعى بوران، وكانوا يحلفون كلّ يوم ألّا يزول ملك فارس ما عشنا، فهزمهم، فقتل هاشم بن عتبة المقرّط، وهو أسد كان كسرى قد ألفه، فقبّل سعد رأس هاشم وبعثه فى المقدّمة إلى بهرسير، ووصلها سعد والمسلمون، فلمّا رأوا إيوان كسرى، كبّر ضرار بن الخطّاب، وقال: هذا ما وعدنا الله ورسوله، وكبّر النّاس معه، فكانوا كلّما وصلت طائفة كبّروا، ثم نزلوا على المدينة، وكان نزولهم فى ذى الحجّة سنة خمس عشرة. والله أعلم.   [1] ابن الأثير 2: 354. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 221 ذكر فتح المدائن الغربية وهى بهرسير كان [1] فتحها فى صفر سنة ستّ عشرة. وذلك أنّ سعد بن أبى وقّاص نزل عليها وحاصرها شهرين، ونصب عليها عشرين منجنيقا، وقاتل أهلها قتالا شديدا، وأرسل سعد الخيول، فأغارت على من ليس له عهد، فأصابوا مائة ألف فلّاح، فأرسل سعد إلى عمر يستأذنه، فقال: من جاءكم ممّن يعين عليكم فهو أمانهم، ومن هرب فأدركتموه فشأنكم به، فخلّى سعد عنهم، وأرسل إلى الدّهاقين ودعاهم إلى الإسلام أو الجزية ولهم الذّمّة؛ فتراجعوا. قال: واشتدّ الحصار على أهل المدائن الغربيّة، حتى أكلوا السّنانير والكلاب، فبينما هم يحاصرونهم إذ أشرف عليهم رسول، فقال: يقول لكم الملك: هل لكم إلى المصالحة على أنّ لنا مايلينا من دجلة إلى جبلنا، ولكم ما يليكم من دجلة إلى جبلكم؟ أما شبعتم! لا أشبع الله بطونكم! فقال له أبو مفزّر الأسود بن قطبة، وقد أنطقه الله عزّ وجلّ بما لا يدرى لا هو ولا من معه، فرجع الرّجل، فقطع الفرس دجلة إلى المدائن الشّرقيّة الّتى فيها الإيوان، فقال له من معه: يا أبا مفزّر، ما قلت للرّسول؟ قال: والله ما أدرى [2] ، وأرجو أن أكون قد نطقت بالّذى هو خير [3] ، فنادى سعد فى   [1] أبن الأثير 2: 354، 355. [2] ابن الأثير: «والذى بعث محمدا يا لحق ما أدرى» . [3] بعدها فى ابن الأثير: «وسأله سعد والناس عما قال فلم يعلم» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 222 النّاس، فنهدوا إليهم [1] ، فما ظهر على المدينة [أحد] [1] ولا خرج إلّا رجل ينادى بالأمان، فأمّنوه؛ فقال لهم: ما بقى فى المدينة أحد يمنعكم؛ فدخلوا فما وجدوا فيها غير الأسارى وذلك الرّجل، فسألوه: لأىّ شىء هربوا؟ فقال: بعث إليكم الملك بالصّلح فأجبتموه: ألّا صلح بيننا وبينكم أبدا حتى نأكل عسل أفريدون بأترجّ كوثى؛ فقال الملك: يا ويلتيه [3] ، إنّ الملائكة تكلّم على ألسنتهم ترّدّ علينا، فساروا إلى المدينة القصوى، ودخل المسلمون المدينة، وأنزلهم سعد المنازل. والله أعلم.   [1] نهدوا: هموا. [2] من ابن الأثير. [3] فى الأصول: «تأويله» ، وصوابه من ابن الأثير. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 223 ذكر فتح المدائن الشرقية التى فيها إيوان كسرى قال [1] : وأقام سعد ببهرسير أيّاما من صفر، ثم قصد المدائن، وقطع دجلة، وهى تقذف بالزّبد لكثرة المدّ؛ وكان سبب عبوره أنّ علجا [2] جاءه فقال: ما مقامك؟ لا يأتى عليك ثالث حتى يذهب يزدجرد بكلّ شىء فى المدائن، فهيّجه ذلك على العبور، فقام وخطب النّاس، وقال: إنّ عدوّكم قد اعتصم منكم بهذا البحر، فلا تخلصون إليه معه، ويخلصون إليكم فى سفنهم إذا شاءوا، وليس وراءكم ما تخافون منه، فقد كفاكم الله أهل الأيّام، وقد رأيت من الرّأى أن تجاهدوا العدوّ؛ إلّا أنّى قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم؛ فقالوا جميعا: عزم الله لنا ولك على الرّشد، فافعل. فندب الناس على العبور، وقال: من يبدأ ويحمى لنا الفراض [3] حتى تتلاحق به النّاس؛ لكيلا يمنعوهم من العبور؟ فانتدب له عاصم بن عمرو ذو البأس فى ستّمائة من أهل النّجدات، فاستعمل عليهم عاصما، فتقدّمهم عاصم فى ستين فارسا، قد اقتحموا دجلة، فلمّا رآهم الأعاجم، وما صنعوا أخرجوا للخيل الّتى تقدّمت مثلها، فاقتحموا عليهم دجلة، فلقوا عاصما وقد دنا من الفراض، فقال عاصم: الرّماح الرّماح! أشرعوها، وتوخّوا العيون، فالتقوا،   [1] ابن الأثير 2: 256. [2] العلج: الرجل من كفار العجم. [3] الفراض: جمع فرضة، وهى محطة السفن من النهر. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 224 فطعنهم المسلمون فى عيونهم، فولّوا ولحقهم المسلمون، فقتلوا أكثرهم، ومن نجا صار أعور، وتلاحق الستمائة بالسّتين [1] . ولما رأى سعد عاصما على الفراض قد منعها؛ أذن للنّاس فى الأقتحام، وقال: نستعين بالله، ونتوكّل عليه، حسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العلّى العظيم. واقتحم الناس دجلة يتحدّثون كما يتحدّثون فى البرّ، وطبّقوا دجلة حتّى ما يرى من الشّاطىء شىء. قال: ولم يكن بالمدائن أعجب من دخول الماء، وكان يدعى يوم الجراثيم، لا يبقى أحد إلّا انتشرت [2] له جرثومة من الأرض يستريح عليها؛ حتى ما يبلغ الماء حزام فرسه، فعبروا سالمين، لم يعدم منهم أحد، ولا عدم لأحد شى إلّا قدح لمالك بن عامر سقط منه فجرى فى الماء، ثم ألقته الرّيح إلى الشّاطىء، فأخذه صاحبه، فلمّا رأى الفرس عبورهم خرجوا هرّابا نحو حلوان، وكان يزدجرد قد قدم عياله إليها قبل ذلك. ولمّا هرب حمل أصحابه من بيت المال ما قدروا عليه ممّا خفّ، ومن النّساء والذّرارىّ، وتركوا فى الخزائن من المتاع والثّياب والألطاف ما لا تدرك قيمته، وتركوا ما قد أعدّوه للحصار من الأطعمة والغنم والبقر، وكان فى بيت المال ثلاثة آلاف ألف، أخذ منها رستم عند مسيره إلى القادسيّة النصف، وبقى النّصف. وكان أوّل من دخل المدائن كتيبة الأهوال، وهى كتيبة   [1] بعدها فى ابن الأثير: «غير متعتعين» . [2] ابن الأثير: «اشمخرت» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 225 عاصم بن عمرو، ثم كتيبة الخرساء وهى كتيبة القعقاع بن عمرو، فأخذوا فى سككها وأحاطوا بالقصر الأبيض وبه من بقى من الفرس، فأجابوا [1] إلى الجزية والذّمّة، فتراجع إليهم أهل المدائن على مثل عهدهم، ونزل سعد القصر الأبيض، وسرّح زهرة فى آثارهم إلى النّهروان، و [سرّح] [2] مقدار ذلك فى كلّ جهة. وكان سلمان الفارسىّ رائد المسلمين وراعيهم. دعا أهل بهرسير ثلاثا، وأهل القصر الأبيض ثلاثا. واتّخذ سعد إيوان كسرى مصلّى، ولم يغيّر ما فيه من التماثيل، ولمّا دخل الإيوان، قرأ: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ. وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ. كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ [3] . وصلّى فيه صلاة الفتح ثمانى ركعات لا يفصل بينهنّ [4] ، وأتمّ الصلاة لأنّه نوى الإقامة، وكانت أوّل جمعة أقيمت بالمدائن فى صفر سنة ستّ عشرة.   [1] فى ابن الأثير: «ودعوهم فاستجابوا على تأدية الجزية» . [2] زيادة من ابن الأثير. [3] سورة الدخان 25- 28. [4] بعدها فى ابن الأثير: «ولا يصلى جماعة» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 226 ذكر ما جمع من غنائم أهل المدائن وقسمتها قال: [1] وجعل سعد على الأقباض عمرو بن عمرو بن مقرّن، وعلى القسمة سلمان بن ربيعة الباهلىّ، فجمع ما فى القصر والإيوان والدور، وأحصى ما يأتيه به أهل الطّلب، ووجدوا بالمدائن قبابا تركيّة مملؤءة سلالا مختومة برصاص فيها آنية الذهب والفضّة، فكان الرجل يطوف ويبيع الذّهب بالفضّة مثلا [2] بمثل، ورأوا كافورا كثيرا فحسبوه ملحا فعجنوا به فوجدوه مرّا. وأدرك الطّلب مع زهرة جماعة من الفرس على جسر النّهروان فازدحموا عليهم، فوقع منهم بغل فى الماء فأخذه المسلمون وفيه حلية كسرى وثيابه، وخرزاته ووشاحه، ودرعه المجوهر. ولحق بعض المسلمين بغلين مع فارسين فقتلهما، وأخذ البغلين فأوصلهما إلى صاحب الأقباض، وهو يكتب ما يأتيه به النّاس، فاستوقفه حتّى ينظر ما جاء به؛ فإذا على أحدهما سفطان [3] فيهما تاج كسرى مفسّخا [4] ، وكان حمله على أسطوانتين، وفيه الجوهر، وعلى البغل الثّانى سفطان فيهما ثياب كسرى من الدّيباج المنسوج بالذّهب المنظوم بالجوهر، وغير الدّيباج منسوجا منظوما. وأدرك القعقاع فارسيّا فقتله وأخذ منه عيبتين فى إحدهما   [1] ابن الأثير 2: 358. [2] ابن الأثير: «متماثلين» . [3] السفط: وعاء كالجوالق، وفى الأصلين «يسقطان» تحريف؛ صواب من ابن الأثير. [4] ابن الأثير: «مرصعا» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 227 خمسة أسياف، وفى الأخرى ستّة أسياف، وأدرع منها درع كسرى، ومغافره وسيفه، ودرع هرقل وسيفه، ودرع شوبين وسيفه، ودرع سياوخش وسيفه، ودرع النعمان وسيفه، وبقيّة السّيوف لهرمز وقباذ وفيروز. وكان الفرس قد استلبوا أدراع ملوك الهند والترك والرّوم وسيوفهم لمّا غزوهم، فأحضر القعقاع ذلك إلى سعد فخيّره فى الأسياف فاختار سيف هرقل، وأعطاه درع بهرام، ونفّل سائرها إلّا سيف كسرى [وسيف] [1] النعمان، فبعث بهما إلى عمر بن الخطاب؛ لتسمع العرب بذلك بعد أن حسبهما فى الأخماس، وبعث بتاج كسرى وحليته وثيابه إلى عمر ليراه المسلمون. قال: وأدرك عصمة بن خالد الضّبىّ رجلين معهما حماران، فقتل أحدهما وهرب الآخر، وأخذ الحمارين وأتى بهما إلى صاحب الأقباض، فإذا على أحدهما سفطان فى أحدهما فرس من ذهب بسرج من فضّة على ثفره ولبّته [2] الياقوت والزّبرجد، ولجام كذلك، وفارس من فضّة مكلّلة بالجوهر. وفى الآخر ناقة من فضّة عليها شليل [3] من ذهب، وكلّ ذلك منظوم بالياقوت، وعليها رجل من ذهب مكلّل بالجوهر، كان كسرى يصنعها على أسطوانتى التّاج. وأدّى المسلمون الأمانة فى المغنم، ولما جمعت الغنائم خمّسها سعد، وقسّم ما بقى من الخمس والنّفل [4] بين الناس، وكانوا ستّين ألفا كلّهم فارس،   [1] من ص. [2] ابن الأثير: «ولبابه» . [3] الشليل: مسح من صوف أو شعر يجعل على عجز البعير من وراء الرحل. [4] النفل بالفتح: الغنيمة. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 228 أصاب كلّا منهم اثنا عشر ألفا، ونفّل من الأخماس فى أهل البلاء، وقسّم المنازل بين الناس، وأحضر العيالات فأنزلهم فى الدّور، فأقاموا بالمدائن؛ حتّى نزلوا إلى الكوفة بعد فراغهم من جلولاء، وتكريت، والموصل. قال: وأرسل سعد فى الخمس كلّ شىء يتعجّب منه العرب، وأراد أن يخرج خمس القطيف فلم تعتدل قسمته، فقال للمسلمين: هل تطيب نفوسكم بأربعة أخماسه، ونبعث به إلى أمير المؤمنين [يضعه] [1] حيث يشاء؟ قالوا: نعم، فبعث به إلى عمر. والقطيف: بساط واحد طوله ستّون ذراعا، وعرضه مثل ذلك مقدار جريب. كانت الأكاسرة إذا ذهبت الرّياحين بعد الشّتاء شربوا عليه، فكأنّهم فى رياض، فيه طرق كالقصور، وفصوص كالأنهار، أرضه مذهبة، وخلال ذلك فصوص كالدرّ، وفى حافاته كالأرض المزروعة والمبقلة بالنّبات والورق من الحرير على قضبان الذّهب، وأزهاره الذّهب والفضّة، وثماره الجوهر وأشباه ذلك. فلمّا وصل إلى عمر استشار المسلمين فيه، فأشاروا بقطعه، فقطّعه بينهم، فأصاب علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه قطعة منه، فباعها بعشرين ألفا، ولم تكن أجود من غيرها.   [1] زيادة من ابن الأثير. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 229 ذكر وقعة جلولاء وفتح حلوان كانت [1] وقعة جلولاء فى أول ذى القعدة سنة ستّ عشرة، بينها وبين المدائن تسعة أشهر، وسببها أنّ الفرس لمّا هربوا من المدائن انتهوا إلى جلولاء، فافترقت الطّرق بأهل أذربيجان والباب، وأهل الجبال وفارس، فقالوا: إن افترقتم لم تجتمعوا أبدا، وهذا مكان يفرّق بيننا، فهلمّوا فلنجتمع للعرب به، ولنقاتلهم فإن كانت لنا فهو الّذى نحبّ، وإن كانت الأخرى كنّا قد قضينا الّذى علينا، وأبلينا عذرا. فاجتمعوا واحتفروا خندقا، واجتمعوا فيه على مهران الرازىّ، وتقدّم يزدجرد إلى حلوان، فبلغ ذلك سعدا، فأرسل إلى عمر، فبعث إليه أن سرّح هاشم بن عتبة بن أبى وقّاص إلى جلولاء، واجعل على مقدّمته القعقاع بن عمرو، وإن هزم الله الفرس فاجعل القعقاع بين السّواد والجبل، وليكن الجند اثنى عشر ألفا. ففعل سعد ذلك. وسار هاشم من المدائن فى وجوه المهاجرين والأنصار وأعلام العرب، فمرّ ببابل مهروذ، فصالحه دهقانها؛ على أن يفرش له جريب الأرض دراهم ففعل، ثم قدم جلولاء فحاصرهم فى خنادقهم، وأحاط بهم، وطاولهم الفرس وجعلوا لا يخرجون إلّا إذا أرادوا، وراجعهم المسلمون نحو ثمانين يوما، كلّ ذلك ينصر المسلمون   [1] تاريخ الطبرى 4: 24 وما بعدها ابن الأثير 2: 361 وما بعدها. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 230 عليهم، وجعلت الأمداد ترد من يزدجرد إلى مهران، ومن سعد إلى المسلمين. وخرج الفرس يوما فقاتلوا قتالا شديدا، وأرسل الله عليهم ريحا حتى أظلمت عليهم البلاد، فسقط فرسانهم فى الخندق، فجعلوا فيه طرقا تصعد منها خيلهم، ففسد الخندق، فنهض المسلمون واقتتلوا قتالا شديدا لم يقتتلوا مثله، ولا ليلة الهرير، إلّا أنّه كان أعجل. وانتهى القعقاع من الوجه الذى زحف منه إلى باب الخندق، وأمر مناديا فنادى: يا معشر المسلمين، هذا أميركم قد دخل الخندق، فأقبلوا إليه، ولا يمنعكم من بينكم وبينه من دخوله، فحملوا وهم لا يشكّون أنّ هاشما فى الخندق، فإذا هم بالقعقاع، فانهزم الفرس يمنة ويسرة، واتّبعهم المسلمون، فلم يفلت منهم إلّا القليل، وقتل منهم يومئذ مائة ألف، فجلّلت القتلى المجال، وما بين يديه وما خلفه، فسميّت جلولاء بما جلّلها من قتلاهم [1] ، وسار القعقاع فى الطلب حتى بلغ خانقين، فأدرك مهران الرازىّ فقتله، وأدرك الفيرزان، فنزل وتوقّل [2] فى الجبل فنجا، وأصاب القعقاع سبايا فأرسلهنّ إلى هاشم فقسّمهنّ، فاستولدهنّ المسلمون، وممّن ينسب إلى ذلك السّبى أمّ الشّعبىّ. قال: ولمّا بلغت الهزيمة يزدجرد سار من حلوان نحو الرّىّ، واستخلف على حلوان خسرشنوم [3] ، فلمّا وصل القعقاع قصر   [1] بعدها فى ابن الأثير: «فهى جلولاء الوقيعة» . [2] وقل فى الجبل: صعد، كتوقل. [3] ابن الأثير: «خسر سنوم» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 231 شيرين خرج إليه خسرشنوم، وقدم إليه الزّينبىّ دهقان حلوان، فقتله القعقاع، وهرب خسرشنوم، واستولى المسلمون على حلوان، وكان فتحها فى ذى القعدة، وبقى القعقاع بها إلى أن تحوّل سعد إلى الكوفة، فلحقه، واستخلف على حلوان قباذ، وكان أصله خراسانيّا، وكتبوا إلى عمر بالفتح، واستأذنوه فى العبور فأبى، وقال: لوددت أنّ بين السّواد والجبل سدّا لا يخلصون إلينا ولا نخلص إليهم، حسبنا من الرّيف السّواد، إنّى آثرت سلامة المسلمين [على الأنفال] [1] . قال: وجمعت الغنائم وقسّمت بعد الخمس، فأصاب كلّ فارس تسعة آلاف، وتسعة من الدّوابّ، وقسّم الفىء على ثلاثين ألفا. وقيل: إنّ الغنيمة كانت ثلاثين ألف ألف، وبعث سعد بالخمس إلى عمر، وهو ستّة آلاف ألف، وبعث الحساب مع زياد بن أبيه، فكلّمه عمر فيما جاء له، فوصفه له، فقال له عمر: هل تستطيع أن تقوم فى النّاس بمثل ما كلّمتنى؟ فقال: والله ما على الأرض شخص أهيب فى صدرى منك، فكيف لا أقوى على هذا مع غيرك! فقام فى النّاس فتكلّم بما أصابوا وبما صنعوا، وبما يستأنفون من من الانسياح فى البلاد. فقال عمر: هذا الخطيب المصقع، فقال: إنّ جندنا [بالفعال] [1] أطلقوا ألسنتنا.   [1] من ابن الأثير. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 232 قال: ولمّا قدم الخمس على عمر قال: والله لا يجنّه سقف حتى أقسمه، فبات عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن الأرقم يحرسانه فى المسجد، فلمّا أصبح عمر جاء فى النّاس فكشف عنه، فلمّا جاء ونظر إلى ياقوته وزبرجده وجوهره بكى، فقال عبد الرحمن ابن عوف: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ فو الله انّ هذا لموطن شكر. فقال عمر: [والله ما ذاك يبكينى، وبالله] [1] ما أعطى الله هذا قوما إلّا تحاسدوا وتباغضوا، ولا تحاسدوا إلّا ألقى الله بأسهم بينهم. ومنع عمر رضى الله عنه من قسمة السّواد لتعذّر ذلك بسبب الآجام والغياض، ومفيض [2] المياه، وما كان لبيوت النّار، ولسكك البرد، وما كان لكسرى ومن معه، وخاف الفتنة بين المسلمين فلم يقسّمه، ومنع من بيعه، فلا يحلّ بيع شىء من أرض السّواد ما بين حلوان والقادسيّة. قال: واشترى جرير أرضا على شاطىء الفرات، فردّ عمر ذلك الشراء وكرهه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وحسبنا الله ونعم الوكيل.   [1] من ابن الأثير. [2] ابن الأثير: «وتبعيض المياه» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 233 ذكر ولاية عتبة بن غزوان البصرة وفتحه الأبلة قد اختلف المؤرّخون فى وقت ولايته البصرة، وهل كانت من قبل عمر بن الخطّاب أو من قبل سعد بن أبى وقّاص بأمر عمر. فأمّا من يقول: إنّ ولايته من قبل عمر، فإنّه جعلها فى سنة أربع عشرة، وأنّ نزوله البصرة كان فى شهر ربيع الأوّل أو الآخر، بعثه عمر إليها، وكان بالبصرة قطبة بن قتادة السّدوسىّ يغير بتلك النّواحى، كما يغير المثنّى بالحيرة، فكتب إلى عمر يعلمه مكانه؛ وأنه لو كان معه عدد يسير لظفر بمن قبله من العجم، فنفاهم عن بلادهم. فكتب إليه عمر يأمره بالمقام والحذر، ووجّه إليه شريح بن عامر أحد بنى سعد بن بكر، فأقبل إلى البصرة ونزل بها قطبة، ومضى إلى الأهواز حتى انتهى إلى دارس، وفيها مسلحة الأعاجم، فقتلوه. فبعث عمر عتبة بن غزوان، وقال له: إنّى قد استعملتك على أرض الهند وهى حومة من حومات العدوّ، وأرجو أن يكفيك الله ما حولها، ويعينك عليها. وقد كتبت إلى العلاء بن الحضرمىّ أن يمدّك بعرفجة بن هرثمة، وهو ذو مجاهدة ومكايدة للعدو، فإذا قدم عليك فاستشره وادع إلى الله، فمن أجابك فاقبل منه، ومن أبى فالجزية، وإلّا فالسّيف، وأوصاه ثم قال له: انطلق أنت ومن معك؛ حتى إذا كنتم فى [أقصى] [1] أرض العرب، وأدنى أرض العجم فأقيموا.   [1] من ص. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 234 فسار عتبة ومن معه حتى إذا كانوا بالمربد [1] تقدّموا حتّى بلغوا حيال الجسر، فنزلوا، فبلغ صاحب الفرات خبرهم، فأقبل فى أربعة آلاف، فالتقوا فقاتلهم، عتبة بعد الزّوال وهو فى خمسمائة، فقتلهم أجمعين، ولم يبق إلّا صاحب الفرات، فأخذ أسيرا. وأمّا من يقول: إنّ سعد بن أبى وقّاص أرسله، فقال: إنّ البصرة مصّرت فى سنة ستّ عشرة بعد جلولاء وتكريت، فأرسله سعد إليها بأمر عمر، وإنّ عتبة لمّا نزل البصرة أقام بها نحو شهر، فخرج إليه أهل الأبلّة، وكان بها خمسمائة أسوار [2] يحمونها، وكانت مرفأ السّفن من الصّين، فقاتلهم عتبة فهزمهم؛ حتّى دخلوا المدينة، ورجع عتبة إلى عسكره، وألقى الله الرّعب فى قلوب الفرس، فخرجوا عن المدينة وحملوا ما خفّ، وعبروا الماء، وأخلوا المدينة ودخلها المسلمون وأصابوا متاعا وسلاحا وسبيا، فاقتسموه بعد أن خمّسه عتبة، وكان المسلمون ثلاثمائة، وكان فتحها فى شهر رجب أو شعبان، ثم نزل موضع مدينة الرّزق، وخطّ موضع المسجد، وبناه بالقصب. وكان أوّل مولود ولد بالبصرة عبد الرحمن بن أبى بكرة، فلمّا ولد نحر أبوه جزورا فكفتهم لقلّة الناس، ثم جمع الله أهل دستميسان، فلقيهم عتبة فهزمهم وأخذ مرزبانها أسيرا، وأخذ قتادة منطقته فبعث بها إلى عمر مع أنس بن حجيّة. فقال له عمر: كيف النّاس؟ فقال: انهالت عليهم الدّنيا، فهم يهيلون الذّهب والفضّة، فرغّب النّاس فى البصرة فأتوها، واستعمل عتبة مجاشع بن مسعود على جماعة وسيّرهم إلى   [1] المربد: سوق بالبصرة. [2] الأسوار، بضم الهمزة، الفارس من فرسان العجم، وجمعه أساورة. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 235 الفرات واستخلف المغيرة بن شعبة على الصّلاة؛ إلى أن يقدم مجاشع فإذا قدم فهو الأمير. وسار عتبة إلى عمر، فطفر مجاشع بأهل الفرات. وجمع الفيلكان (عظيم من الفرس) ، فخرج إليه المغيرة بن شعبة، فلقيه بالمرغاب فاقتتلوا. فقال نساء المسلمين: لو لحقنا بهم، فكنّا معهم؛ فاتّخذن من خمرهنّ رايات، وسرن إلى المسلمين. وكتب المغيرة إلى عمر بالفتح، فقال عمر لعتبة: من استعملت بالبصرة؟ فقال: مجاشع بن مسعود. قال: أتستعمل رجلا من أهل الوبر على أهل المدر! وأخبره ما كان من المغيرة، وأمره أن يرجع إلى عمله، فمات بالطّريق. وقيل فى وفاته غير ذلك: وكان ممّن سبى من ميسان يسار أبو الحسن البصرى، وأرطبان جدّ عبد الله بن عون بن أرطبان. والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. ذكر فتح تكريت والموصل وفى [1] سنة ستّ عشرة فى جمادى فتحت تكريت؛ وذلك أنّ الأنطاق سار من الموصل إلى تكريت، وخندق عليه ليحمى أرضه ومعه الرّوم وإياد، وتغلب، والنّمر، والشّهارجة، فبلغ ذلك سعدا فكتب إلى عمر، فأمره: أن سرّح عبد الله بن المعتمّ، واستعمل على مقدّمته ربعىّ بن الأفكل، وعلى الخيل عرفجة ابن هرثمة.   [1] ابن الأثير 2: 364. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 236 فسار عبد الله إلى تكريت، وحصر الأنطاق ومن معه أربعين يوما، وتزاحفوا فى المدّة أربعة وعشرين زحفا، ثم أرسل عبد الله إلى العرب الّذين مع الأنطاق يدعوهم إلى الإسلام، فأسلموا، وأعلموا أنّ الرّوم قد نقلوا متاعهم إلى السّفن، فأرسل إليهم: إذا سمعتم التكبير فاعلموا أنّا على أبواب الخندق، فخذوا الأبواب التى تلى دجلة، وكبّروا، واقتلوا من قدرتم عليه، ففعلوا ذلك، وأخذت الرّوم السيوف من كلّ جانب. وأرسل عبد الله ربعىّ بن أفكل إلى الحصنين وهما نينوى وهو الحصن الشّرقىّ، والموصل وهو الحصن الغربىّ، وقال: اسبق الخبر، وسرّح معه تغلب، وإياد، والنّمر، فأظهروا الظّفر والغنيمة، وبشروهم، ووقفوا بالأبواب. وأقبل ابن الأفكل فاقتحم الحصن فسألوا الصّلح، وصاروا ذمّة، وقسّمت الغنيمة، فكان سهم الفارس ثلاثة آلاف، وسهم الرّاجل ألف درهم، وبعثوا بالأخماس إلى عمر، وولّى الموصل ربعىّ بن الأفكل، والخراج عرفجة بن هرثمة. وقيل: إنّ فتح الموصل كان فى سنة عشرين لمّا استعمل عمر عتبة بن فرقد لقصدها، وأنه فتح المرج، وبانهذرا، وباعذرا، وحبتون، وداسن وجميع معاقل الأكراد، وقردى وبازبدى، وجميع أعمال الموصل. وقيل: إنّ عياض بن غنم لمّا فتح بلد أتى الموصل ففتح أحد الحصنين، وبعث عتبة بن فرقد إلى الحصن الآخر، ففتحه على الجزية والخراج، والله سبحانه وتعالى أعلم. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 237 ذكر فتح ما سيذان لما [1] رجع هاشم بن عتبة بن أبى وقّاص من جلولاء إلى المدائن بلغ سعدا أنّ آذين بن الهرمزان قد جمع جمعا وخرج بهم إلى السّهل، فأرسل إليهم ضرار بن الخطّاب فى جيش، فالتقوا بسهل ماسبذان واقتتلوا، فأسرع المسلمون فى المشركين، وأخذ ضرار آذين أسيرا فقتله، ثم خرج فى الطّلب حتى انتهى إلى السّيروان، فأخذ ماسبذان عنوة، وهرب أهلها فى الجبال، فدعاهم فاستجابوا له، وأقام بها حتى تحوّل سعد إلى الكوفة، فسار إليه، واستخلف على ماسبذان ابن الهذيل الأسدىّ، فكانت أحد فروج الكوفة. وقيل: إنّ فتحها كان بعد وقعة نهاوند، والله أعلم. ذكر فتح قرقيسيا وفى [2] سنة ستّ عشرة أيضا، أرسل سعد بن أبى وقّاص عمر بن مالك بن عتبة فى جند، وجعل على مقدّمته الحارث بن يزيد العامرىّ، فخرج نحو هيت، فنازل من بها، وقد خندقوا عليهم، وكان أهل الجزيرة لمّا أمدّوا هرقل على أهل حمص كما ذكرنا، بعثوا جندا إلى أهل هيت، فلمّا رأى عمر اعتصامهم بخندقهم، ترك الأخبية على حالها، وخلّف عليهم الحارث [3] فى نصف النّاس،   [1] ابن الأثير 2: 366. [2] تاريخ ابن الأثير 2: 366. [3] ابن الأثير: «الحارث بن يزيد» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 238 وسار بالنّصف الثانى إلى قرقيسيا، فجاءها على غرّة فأخذها عنوة، فأجابوا إلى الجزية. وكتب إلى الحارث: إن هم استجابوا فخلّ عنهم فليخرجوا وإلا خندق على خندقهم خندقا، واجعل أبوابه ممّا يليك حتى أرى رأيى. فراسلهم، فأجابوا إلى العود إلى بلادهم، فتركهم، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. ذكر فتح الأهواز ومناذر ونهر تيرى وفى [1] سنة سبع عشرة فتحت الأهواز، ومناذر ونهر تيرى، وقيل: كان فى سنة ستّ عشرة [2] ، وكان سبب هذا الفتح: أنّ الهرمزان، وهو أحد البيوتات السّبعة من أهل فارس لمّا انهزم يوم القادسيّة قصد خوزستان فملكها، وكان يغير على أهل بيسان، ودستميسان من مناذر، ونهر تيرى، فاستمدّ عتبة بن غزوان أمير البصرة سعدا، فأمدّه بنعيم بن مقرّن ونعيم بن مسعود، وأمرهما أن يأتيا أعلى ميسان ودستميسان حتى يكونا بينهم وبين نهر تيرى، ووجّه عتبة بن غزوان سلمى بن القين، وحرملة بن مريطة- وكانا من المهاجرين- فنزلا على حدود ميسان، ودستميسان بينهم وبين مناذر، ودعوا بنى العمّ، فخرج إليهما غالب الوائلىّ، وكليب ابن وائل والكليبىّ، تواعدوا فى يوم، أنّ سلمى وحرملة يخرجان إلى الهرمزان، وأنّ غالبا وكليبا يثور أحدهما بمناذر، والآخر بنهر تيرى،   [1] تاريخ ابن الأثير 2: 379 وما بعدها. [2] ابن الأثير: «وقيل سنة عشرين» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 239 فلمّا: كان فى ليلة الموعد خرج سلمى وحرملة صبيحتها، وأنهضا نعيما ومن معه، والتقوا هم والهم مزان بين دلث ونهر تيرى، واقتتلوا؛ فبينما هم على ذلك أقبل المدد من قبل غالب وكليب، وأتى الهرمزان الخبر بأخذ مناذر ونهر تيرى، فانهزم بمن معه، فقتل المسلمون منهم ما شاءوا، واتّبعوهم حتى وقفوا على شاطىء دجيل، وأخذوا ما دونه، وعسكروا بجبال سوق الأهواز، وصار دجيل بين الهرمزان والمسلمين، فعندها طلب الهرمزان الصّلح، فاستأمروا عتبة، فأجاب إلى ذلك على الأهواز كلّها ومهرجان قذق ما خلا نهر تيرى ومناذر، وما غلبوا عليه من سوق الأهواز؛ فإنه لا يردّ عليهم، وجعل عتبة سلمى بن القين على مناذر مسلحة، وأمرها إلى غالب، وجعل حرملة على نهر تيرى، وأمرها إلى كليب، فكان سلمى وحرملة على مسالح البصرة، ثم وقع بين غالب وكليب وبين الهرمزان اختلاف فى حدود الأرضين، فحضر سلمى وحرملة لينظرا [1] فيما بينهم، فوجدا [2] الحقّ بيد غالب وكليب فحالا [3] بينه وبينهما، فكفر الهرمزان ومنع ما قبله، واستعان بالأكراد وكثف [جنده] [4] . فكتب سلمى ومن معه إلى عتبة بذلك، فكتب إلى عمر فأمره بقصده، وأمدّ المسلمين بحرقوص بن زهير السّعدىّ، وكانت له صحبة، وأمّره على القتال، وما غلب عليه.   [1] ك، ص: «لينظروا؛» والصواب ما أثبته من ابن الأثير. [2] ك: «فوجدوا» . [3] ك: «فجالا» بالجيم. [4] من ابن الأثير. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 240 وسار الهرمزان ومن معه، وسار المسلمون إلى جسر سوق الأهواز وأرسلوا إليه: [إمّا] [1] أن تعبر إلينا أو نعبر إليك. قال: اعبروا إلينا، فعبروا فوق الجسر، واقتتلوا ممّا يلى سوق الأهواز، فانهزم الهرمزان وسار إلى رامهرمز، وفتح حرقوص سوق الأهواز ونزل بها، واتّسقت له بلادها إلى تستر، ووضع الجزية، وكتب بالفتح إلى عمر بن الخطّاب- رضى الله عنه- وبعث إليه بالأخماس. ذكر صلح الهرمزان وأهل تستر مع المسلمين ولما [2] انهزم الهرمزان من سوق الأهواز، جهّز حرقوص جزء ابن معاوية فى أثره، فاتّبعه وقتل من أصحابه حتى انتهى إلى قرية الشغر، فأعجزه الهرمزان، فمال جزء إلى دورق، وهى مدينة سرّق، فأخذها صافية، ودعا من هرب إلى الجزية، فأجابوه. وكتب إلى عمر وعتبة بذلك، فكتب عمر إليه وإلى حرقوص بالمقام فيما غلبا عليه حتى يأمرهما بأمره، فعمّر جزء البلاد، وشقّ الأنهار، وأحيا الموات، وراسلهم الهرمزان فى طلب الصّلح، فأجاب عمر إلى ذلك، وأن يكون ما أخذه المسلمون بأيديهم، فاصطلحوا على ذلك. ونزل حرقوص جبل الأهواز، فشقّ على النّاس الاختلاف إليه،   [1] من ص. [2] ابن الأثير 2: 382. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 241 فبلغ ذلك عمر، فأمره بنزول السّهل، وألا يشقّ على مسلم ولا معاهد، وبقى حرقوص إلى يوم صفّين، ثم صار حروريّا وشهد النّهروان مع الخوارج. والله تعالى أعلم بالصّواب، وحسبنا الله ونعم الوكيل. ذكر فتح رامهرمز قد [1] اختلف النّاس فى وقت هذا الفتح، فقيل: كان فى سنة سبع عشرة. وقيل: سنة تسع عشرة. وقيل: فى سنة عشرين. وكان سببه أن يزدجرد وهو بمرو لم يزل يثير أهل فارس، أسفا على ما خرج من ملكهم، فتحرّكوا وتكاتبوا هم وأهل الأهواز وتعاقدوا على النّصرة، فنمى الخبر إلى حرقوص بن زهير، وجزء وسّلمى وحرملة، فكتبوا إلى عمر بن الخطّاب رضى الله عنه بذلك. فكتب عمر إلى سعد: أن ابعث إلى الأهواز جندا كثيفا مع النّعمان ابن مقرّن وعجّل، فلينزلوا بإزاء الهرمزان ويتحقّقوا أمره. وكتب إلى أبى موسى الأشعرى، وهو على البصرة: أن ابعث إلى الأهواز جندا كثيفا، وأمّر عليهم سهل بن عدىّ، أخا سهيل، وابعث معه البراء بن مالك وعرفجة بن هرثمة وغيرهم، وعلى أهل الكوفة والبصرة جميعا أبو سبرة بن أبى رهم. فخرج النّعمان بن مقرّن فى أهل الكوفة، وسار إلى الأهواز على   [1] تاريخ الطبرى 4: 83، ابن الأثير 2: 382. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 242 البغال، يجنبون [1] الخيل، فخلف حرقوصا وسلمى وحرملة، وسار نحو الهرمزان وهو برامهرمز. فلمّا سمع الهرمزان بمسير النعمان إليه، بادر رجاء أن يقتطعه، فالتقيا بأربك (موضع عند الأهواز) ، واقتتلوا قتالا شديدا، فهزم الله عزّ وجلّ الهرمزان، فترك رامهرمز، ونزل تستر، وسار النعمان إلى رامهرمز فنزلها وصعد على إيذج [2] فصالحه تيرويه عليها ورجع إلى رامهرمز، وأقام بها، ووصل أهل البصرة فنزلوا سوق الأهواز، وهم يريدون رامهرمز. فأتاهم خبر الوقعة ومسير الهرمزان إلى تستر، فساروا نحوه، وسار أيضا النّعمان وحرقوص وسلمى وحرملة وجزء، فاجتمعوا على تستر، وبها الهرمزان وجنوده من أهل فارس والجبال والأهواز، وهم فى الخنادق، وأمدّهم عمر رضى الله عنه بأبى موسى الأشعرىّ، وجعله على أهل البصرة، وعلى جميع النّاس أبو سبرة، فحاصروهم أشهرا، وأكثروا فيهم القتل. وقتل البراء بن مالك فى هذا الحصار مائة مبارز سوى من قتل فى غير المبارزة، وقتل مثله مجزأة بن ثور وكعب بن ثور، وزاحفهم المسلمون [3] أيام تستر ثمانين زحفا يكون مرّة لهم ومرّة عليهم، فلمّا كان آخر زحف فيها، واشتدّ القتال، قال المسلمون: يا براء، اقسم على ربّك ليهزمنّهم، وكان مجاب الدّعوة فقال: اللهمّ اهزمهم لنا، واستشهدنى، فهزموهم حتى أدخلوهم   [1] يقال: جنب الدابة إذا قادها إلى جنبه. [2] الطبرى: «ثم صعد لا يذج» . [3] الطبرى: «المشركون» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 243 خنادقهم، ثم اقتحموها عليهم، فدخلوا مدينتهم [1] ، وأحاط بها المسلمون، فضاقت المدينة بهم. فبينما هم كذلك إذ خرج إلى النعمان رجل يستأمنه على أن يدلّه على مدخل يدخلون منه، ورمى فى ناحية أبى موسى بسهم مكتوب عليه: إن أمّنتمونى دللتكم على مكان تأتون منه المدينة، فأمّنوه فى سهم، ورمى إليهم بسهم آخر وقال: اسلكوا من قبل مخرج الماء؛ فإنّكم ستفتحونها. فندب أبو موسى النّاس فانتدبوا، وندب النّعمان أصحابه مع الرّجل الّذى جاءهم، فالتقوا هم وأهل البصرة على مخرج الماء، فدخلوا فى السّرب، ولمّا دخلوا المدينة كبّروا وكبّر المسلمون من خارج، وفتحت الأبواب فاجتلدوا فيها، فأناموا كل مقاتل. وقصد الهرمزان القلعة، فتحصّن بها، ولحق به جماعة، وطاف به الّذين دخلوا البلد، فنزل إليهم على حكم عمر بن الخطّاب رضى الله عنه، فأوثقوه واقتسموا ما أفاء الله عليهم، فكان قسم الفارس ثلاثة آلاف، والرّاجل ألفا. وجاء صاحب السّهم والرّجل الذى خرج بنفسه فأمّنوهما، ومن أغلق بابه معهما. وخرج أبو سبرة فى أثر المنهزمين إلى السّوس، فنزل عليها، ومعه النّعمان وأبو موسى، وكتبوا إلى عمر، فكتب بردّ أبى موسى إلى البصرة، فانصرف إليها، وأرسل أبو سبرة وفدا إلى عمر رضى الله عنه، فيهم: أنس بن مالك والأحنف بن قيس، ومعهم   [1] الطبرى: «وأرزوا إلى مدينتهم» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 244 الهرمزان فقدموا به المدينة وألبسوه كسوته من الدّيباج المذهب، وتاجه كان مكلّلا بالياقوت و [عليه] [1] حليته؛ ليراه عمر والمسلمون. فوجدوا عمر فى المسجد متوسّدا برنسه، وكان قد لبسه لوفد قدم عليه من الكوفة، فلمّا انصرفوا توسّده ونام، فجلسوا وهو نائم والدّرة فى يده. فقال الهرمزان: أين عمر؟ فقالوا: هو ذا، فقال: أين حرسه وحجّابه؟ فقالوا: ليس له حارس ولا حاجب ولا كاتب. فقال: ينبغى أن يكون نبيّا، قالوا: بل يعمل بعمل الأنبياء [وكثر الناس] [1] . فاستيقظ عمر واستوى جالسا، ثم نظر إليه، وقال: ألهرمزان؟ قالوا: نعم، فقال: الحمد لله الذى أذلّ بالإسلام هذا وأشباهه، فأمر بنزع ما عليه، فنزعوه وألبسوه ثوبا صفيقا [2] . فقال له عمر: كيف رأيت عاقبة الغدر، وعاقبة أمر الله! فقال: يا عمر، إنّا وإيّاكم فى الجاهليّة، كان الله قد خلّى بيننا وبينكم [فغلبناكم] ، [3] فلمّا كان الأمر معكم غلبتمونا. ثم قال له عمر: ما حجّتك وما عذرك فى انتقاضك مرّة بعد أخرى؟ قال: أخاف أن تقتلنى قبل أن أخبرك. قال: لا تخف ذلك، واستسقى ماء، فأتى به فى قدح غليظ. فقال: لو متّ عطشا لم أستطع أن أشرب فى مثل هذا، فأتى به فى   [1] من تاريخ الطبرى. [2] ثوب صفيق: ثخين كثير الغزل، ضد السخيف. [3] تكملة من ص. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 245 إناء يرضاه. فقال: إنّى أخاف أن أقتل وأنا أشرب. فقال له عمر: لا بأس عليك حتى تشربه، فأكفأه؛ فقال عمر: أعيدوا عليه ولا تجمعوا عليه بين القتل والعطش. فقال: لا حاجة لى فى الماء؛ وإنما أردت أن أستأمن به. قال: فإنّى قاتلك، قال: قد أمّنتنى. قال: كذبت، قال أنس: صدق يا أمير المؤمنين، قد أمّنته. فقال: يا أنس، أنا أؤمّن قاتل مجزأة ابن ثور والبراء بن مالك! وكان الهرمزان قتلهما بيده فى هذه الوقعة، ثم قال: والله لتأتينّى بمخرج أو لأعاقبنّك، قال: قد قلت لا بأس عليك حتى تخبرنى وحتى تشرب، فقال عمر رضى الله عنه: خدعتنى، والله لا أنخدع إلّا أن تسلم، فأسلم، ففرض له فى ألفين فى كلّ سنة، وأنزله المدينة. والله أعلم. ذكر فتح السوس ولما [1] نزل أبو سبرة على السّوس فى سنة سبع عشرة بعد فتح تستر كان بها شهريار أخو الهرمزان، فأحاط المسلمون بها وناوشوهم القتال مرّات، كل ذلك يصيب أهل السوس فى المسلمين، فأشرف عليهم الرّهبان والقسّيسون، فقالوا: يا معشر العرب، إنّ ممّا عهد إلينا علماؤنا أنّ السّوس لا يفتحها إلّا الدّجّال، أو قوم فيهم الدّجّال، فإن كان فيكم فستفتحونها، وكان صاف بن صيّاد مع المسلمين فى خيل النّعمان. ثم ناوش أهلها المسلمين مرّة، وصاحوا بهم   [1] تاريخ الطبرى 4: 89 وما بعدها، تاريخ ابن الأثير 2: 386 وما بعدها. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 246 وغاظوهم، فأتى صاف باب السّوس فدقّه برجله، فقال: انفتح، وهو غضبان فتقطّعت السلاسل، وتكسّرت الأغلاق، وتفتّحت الأبواب، ودخل المسلمون، وألقى المشركون بأيديهم، وتنادوا: الصّلح الصّلح! فأجابهم المسلمون إلى ذلك بعد أن دخلوها عنوة، واقتسموا ما أصابوا، ثم افترقوا. فسار النعمان حتى أتى أهل نهاوند، وكان كتاب عمر قد ورد بصرفه إليها لمّا تجمّعت الأعاجم بها، وسار المقترب، فنزل على جنديسابور. والله سبحانه وتعالى أعلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل. ذكر مصالحة جنديسابور قال [1] : وسار المسلمون عن السّوس فى سنة سبع عشرة، فنزلوا جنديسابور وزرّ [2] بن عبد الله يحاصرهم، فأقاموا بها، فلم يفجأ النّاس إلّا وقد فتحت الأبواب، وأخرجوا أسواقهم، وخرج أهلها، فسألهم المسلمون، فقالوا: أرسلتم إلينا بالأمان فقبلناه وأقررنا بالجزية [على أن تمنعونا] [3] فقالوا: ما فعلنا، فإذا عبد يدعى مكنفا [4] كان أصله منها، فعل هذا، فقال المسلمون: هو عبد؟ قالوا: نعم، قالوا: نحن لا نعرف العبد من الحرّ، فإن شئتم فاغدروا، فكتبوا بذلك إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه، فأجاز ذلك، وانصرفوا عنهم. والله تعالى أعلم وحسبنا الله ونعم الوكيل.   [1] ابن الأثير 2: 387. [2] ابن الأثير: «ربن» . [3] من ص وابن الأثير. [4] ابن الأثير: «مكثفا» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 247 ذكر انسياح الجيوش الاسلامية فى بلاد الفرس وفى سنة سبع عشرة أذن عمر رضى الله عنه للمسلمين فى الانسياج فى بلاد الفرس، وكان سبب ذلك أنّ عمر لما أتى بالهرمزان قال للوفد: لعلّ المسلمين يؤذون أهل الذّمّة، فلهذا ينتقضون بكم! قالوا: ما نعلم لا وفاء. قال: فكيف هذا! فلم يشفه أحد، قال له الأحنف: يا أمير المؤمنين، إنّك نهيتنا عن الانسياح فى البلاد، وإنّ ملك فارس بين أظهرهم، ولا يزالون يقاتلوننا مادام ملكهم فيهم، ولم يجتمع ملكان متفقان حتى يخرج أحدهما صاحبه، وقد رأيت أنا لم نأخذ شيئا بعد شىء إلا بانبعاثهم وغدرهم، وأنّ ملكهم هو الذى يبعثهم، ولا يزال هذا دأبهم حتى تأذن لنا فنسيح فى بلادهم، ونزيل ملكهم، فهناك ينقطع رجاء أهل فارس. فقال: صدقتنى والله، ورجع إلى قوله، وانتهى إلى رأيه، وأذن للمسلمين فى الانسياح. فأمر أبا موسى الأشعرىّ أن يسير من البصرة إلى منقطع ذمّة البصرة، فيكون هنالك حتى يأتيه أمره، وبعث بألوية من ولّاه مع سهيل بن عدىّ، فدفع لواء خراسان إلى الأحنف بن قيس، ولواء أردشير خرّة وسابور إلى مجاشع بن مسعود السّلمىّ، ولواء إصطخر إلى عثمان بن أبى العاص الثّقفى ولواء فساودرا بجرد إلى سارية ابن زنيم الكنانىّ، ولواء كرمان إلى سهيل بن عدىّ، ولواء سجستان، إلى عاصم بن عمرو، ولواء مكران إلى الحكم بن عمير التّغلبىّ، فخرجوا ولم يتهيّأ مسيرهم إلى سنة ثمانى عشرة، وأمدّهم عمر بنفر من أهل الكوفة، فأمدّ سهيل بن عدىّ بعبد الله بن عبد الله بن الجزء: 19 ¦ الصفحة: 248 عتبان، وأمدّ الأحنف بعلقمة بن النّضر وبعبد الله بن عقيل وبربعىّ بن عامر، وأمدّ عاصم بن عمرو بعبد الله بن عمير الأشجعىّ، وأمدّ الحكم بن عمير بشهاب بن المخارق. وقيل: كان ذلك فى سنة إحدى وعشرين. وقيل: فى سنة اثنتين وعشرين، وسنذكره إن شاء الله تعالى عند ذكرنا لفتوح هذه الجهات والمسير إليها، والله تعالى أعلم. ذكر غزوة فارس من البحرين كانت هذه الغزوة فى سنة سبع عشرة، وكان عمر رضى الله عنه يقول لمّا أخذت الأهواز وما يليها: وددت أن بيننا وبين فارس جبلا من نار لا نصل إليهم منه، ولا يصلون إلينا. وكان العلاء بن الحضرمىّ على البحرين فى خلافة أبى بكر رضى الله عنه فعزله عمر، ثم أعاده، وكان يناوئ سعد بن أبى وقّاص، ففاز العلاء فى قتال أهل الرّدّة بالفضل، فلمّا ظفر سعد بأهل القادسيّة، وأزاح الأكاسرة جاء بأعظم ممّا فعله العلاء. فأراد العلاء أن يصنع فى الفرس شيئا، فلم ينظر فى الطاعة والمعصية بجدّ، وكان عمر رضى الله عنه نهاه وغيره عن الغزو فى البحر. فندب العلاء الناس إلى فارس، فأجابوه، وفرّقهم جندا، فجعل على أحدها الجارود بن المعلّى، وعلى الآخر سوّار بن همّام، وعلى الآخر خليد بن المنذر بن ساوى، وخليد على جميع النّاس، وحملهم فى البحر إلى فارس، فخرجوا من البحر إلى إصطخر، وبإزائهم أهل الجزء: 19 ¦ الصفحة: 249 فارس، وعليهم الهربذ، فحالت الفرس بين المسلمين وبين سفنهم، فاقتتلوا قتالا شديدا بمكان يدعى طاوس، فقتل ابن السّوّار والجارود، وكان خليد أمر أصحابه أن يقاتلوا رجّالة، فقتلوا من الفرس مقتلة عظيمة، ثم خرجوا يريدون البصرة، ولم يجدوا فى الرجوع إلى البحر سبيلا، وأخذت الفرس عليهم طريقهم، فعسكروا وامتنعوا. فلمّا بلغ عمر ما صنع العلاء، أرسل إلى عتبة بن غزوان يأمره بإنفاذ جيش كثيف إلى المسلمين بفارس قبل أن يهلكوا، وقال: إنّى قد ألقى فى روعى كذا وكذا، نحو الّذى وقع، وأمر العلاء بأثقل الأشياء عليه، وهو تأمير سعد عليه. فشخص العلاء إلى سعد بمن معه، وأرسل عتبة اثنى عشر ألف مقاتل، فيهم: عاصم بن عمرو، وعرفجة بن هرثمة والأحنف ابن قيس وغيرهم، فخرجوا على البغال يجنبون الخيل، وعليهم أبو سبرة بن أبى رهم حتى التقى بخليد، وتوالت الأمداد، ففتح الله على المسلمين، وأصابوا من المشركين ما شاءوا. والله تعالى أعلم. ذكر وقعة نهاوند وفتحها كانت [1] هذه الوقعة فى سنة إحدى وعشرين. وقيل: فى سنة ثمانى عشرة. وقيل: فى سنة تسع عشرة. وكان الذى هيّج أمر نهاوند أنّ المسلمين لمّا خلّصوا جند العلاء، وفتحوا الأهواز، كاتب الفرس ملكهم، وهو بمرو، وحرّكوه،   [1] ابن الأثير 3: 2 وما بعدها، وتاريخ الطبرى 4: 114 وما بعدها. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 250 فكاتب الملوك ما بين الباب والسّند وخراسان وحلوان، فاجتمعوا بنهاوند، ولمّا وصلها أوائلهم بلغ سعدا الخبر، فكتب به إلى عمر؛ وثار بسعد أقوام ووشوا به، وألّبوا عليه، وسعوا إلى عمر ولم يشغلهم ما نزل بالنّاس عنه. فقال عمر: والله لا يمنعنى ما نزل بكم من النّظر فيما لديكم، وكان من عزل سعد ما نذكره إن شاء الله تعالى فى حوادث السّنين. وقدم سعد على عمر، وقد استخلف على الكوفة عبد الله بن عبد الله عتبان، فأقرّه عمر. قال: ونفرت ملوك الأعاجم لكتاب يزدجرد، واجتمعوا بنهاوند على الفيرزان فى خمسين ومائة ألف مقاتل. وكان سعد قد كاتب عمر بالخبر كما ذكرنا، ثم شافهه به لمّا قدم عليه، وقال له: إنّ أهل الكوفة يستأذنونك فى الانسياح، وأن يبدءوهم ليكون أهيب لهم على عدوّهم. فجمع عمر النّاس واستشارهم، وقال: هذا يوم له ما بعده، وقد هممت أن أسير فيمن قبلى ومن قدرت عليه، فأنزل منزلا وسطا بين هذين المصرين، ثم أستنفرهم فأكون لهم ردءا؛ حتى يفتح الله عليهم ويقضى ما أحبّ؛ فإنّ فتح الله تعالى عليهم صببتهم فى بلدانهم. فقال له طلحة بن عبيد الله: يا أمير المؤمنين، قد أعلمتك الأمور، وعجمتك البلايا [1] ، واحتنكتك التّجارب، وأنت وشأنك، وأنت ورأيك، لا ننبو فى يديك، ولا نكلّ عليك، إليك هذا الأمر،   [1] ابن الأثير: «البلابل» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 251 فمرنا نطع، وادعنا نجب، واحملنا نركب، وقدنا ننقذ؛ فإنّك ولىّ هذا الأمر؛ وقد بلوت وجرّبت واختبرت، فلم ينكشف شىء من عواقب قضاء الله لك إلا عن خيار. ثم عاد فجلس. فعاد عمر لمقالته، فقام عثمان بن عفّان رضى الله عنه، فقال: أرى يا أمير المؤمنين أن تكتب إلى أهل الشّام فيسيروا من شامهم، وإلى أهل اليمن فيسيروا من يمنهم، ثم تسير أنت بأهل الحرمين إلى الكوفة والبصرة، فتلقى جمع المشركين بجمع المسلمين؛ فإنّك إذا سرت [1] قلّ عندك ما قد تكاثر من عدد القوم. وقد كنت أعزّ عزا، وأكثر. يا أمير المؤمنين إنّك لا تستبقى بعد نفسك من العرب باقية، ولا تمتنع من الدنيا بعزيز، ولا تلوذ منها بحريز. إنّ هذا يوم له ما بعده من الأيّام، فاشهده برأيك وأعوانك، ولا تغب عنه. وجلس. فعاد عمر بن الخطّاب رضى الله عنه لمقالته، فقام إليه علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، فقال: أمّا بعد، يا أمير المؤمنين، فإنّك إن أشخصت أهل الشّام من شامهم، سارت الرّوم إلى ذراريّهم، وإن أشخصت أهل اليمن من يمنهم، سارت الحبشة إلى ذراريّهم، وإن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها، وأقطارها، حتى يكون ما تدع وراءك أهمّ إليك ممّا بين يديك من العورات، والعيالات. [أقرر هؤلاء] [2] فى أمصارهم، واكتب لأهل   [1] ابن الأثير: «إذا سرت بمن معك» . [2] من ابن الأثير. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 252 البصرة أن يتفرّقوا ثلاث فرق، فرقة فى حرمهم وذراريّهم، وفرقة فى أهل عهدهم؛ حتى لا ينتقضوا، ولتسر فرقة إلى إخوانهم بالكوفة مددا لهم. إنّ الأعاجم إن ينظروا إليك قالوا: هذا أمير العرب فى أصلها، فكان ذلك أشدّ لكلبهم [1] عليك. وأمّا ما ذكرت من مسير القوم فالله هو أكره لمسيرهم منك، وهو أقدر على تغيير ما تكره. وأمّا عددهم، فإنّا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة؛ ولكن بالنصر. فقال عمر: هذا هو الرأى، وكنت أحبّ أن أتابع عليه. وقيل: إنّ طلحة وعثمان أشارا عليه بالمقام، والله تعالى أعلم. ثم قال عمر: أشيروا علىّ برجل أولّيه ذلك الثّغر، وليكن عراقيّا. فقالوا: أنت أعلم بجندك، وقد وفدوا عليك. فقال: والله لأولّينّ أمرهم رجلا ليكونّن أوّل الأسنّة إذا لقيها غدا. فقيل: من هو؟ قال: النّعمان بن مقرّن المزنىّ. فقالوا: هو لها. وكان النّعمان يومئذ معه جمع من أهل الكوفة قد افتتحوا جنديسابور والسّوس كما قدّمنا، فكتب إليه عمر رضى الله عنه يأمره بالمسير إلى ماه، فيجمع [2] الجيوش عليه، فإذا اجتمعوا سار بهم إلى الفيرزان ومن معه. وقيل: بل كان النّعمان بكسكر، فسأله أن يعزله ويبعثه إلى جيش من المسلمين، فكتب إليه عمر يأمره بنهاوند، فسار، وكتب عمر   [1] ك: «لكلمتهم» . [2] ابن الأثير: «لتجتمع» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 253 إلى عبد الله بن عبد الله بن عتبان أن يستنفر [1] الناس مع النّعمان. فندب النّاس، فخرجوا وعليهم حذيفة بن اليمان، ومعه نعيم ابن مقرّن، فقدموا على النّعمان، وتقدّم عمر إلى الجند الّذين كانوا بالأهواز أن يشغلوا الفرس عن المسلمين، وعليهم المقترب، وحرملة، وورقاء، فأقاموا بتخوم أصفهان، وقطعوا أمداد فارس عن أهل نهاوند، واجتمع النّاس على النّعمان، وفيهم حذيفة بن اليمان، وابن عمر، وجرير بن عبد الله البجلىّ والمغيرة بن شعبة، وغيرهم. فرحل [النّعمان] [2] وعبّى أصحابه وهم ثلاثون ألفا، فجعل على مقدّمته نعيم بن مقرّن، وعلى مجنّبته حذيفة وسويد بن مقرّن، وعلى المجرّدة القعقاع بن عمرو، وعلى الساقة مجاشع بن مسعود. وقد توافت إليه أمداد المدينة، فيهم المغيرة بن شعبة، فانتهوا إلى الأسبيذهان، والفرس وقوف على تعبيتهم، وأميرهم الفيرزان، وعلى مجنّبته الزردق ويهمن جاذويه، وقد توافى إليه بنهاوند كلّ من غاب عن القادسيّة. فلمّا رآهم النعمان كبّر وكبّر معه النّاس، فتزلزلت الأعاجم، وحطّت العرب الأثقال، وضرب فسطاط النّعمان، فابتدره أصحاب الكوفة، من كان من أشرافها، فضربوه، منهم: حذيفة ابن اليمان، وعقبة بن عمرو، والمغيرة بن شعبة، وبشير بن الخصاصيّة، وحنظلة الكاتب، وجرير بن عبد الله البجلىّ، والأشعث بن قيس الكندى وسعيد بن قيس الهمدانىّ، ووائل   [1] ابن الأثير: «ليستنفر» . [2] من ص. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 254 ابن حجر وغيرهم، فلم ير بناة فسطاط بالعراق كهؤلاء، وأنشب النّعمان القتال بعد حطّ الأثقال فاقتتلوا يومى الأربعاء والخميس، والحرب بينهم سجال، ثم انجحروا فى خنادقهم يوم الجمعة، وحصرهم المسلمون، وأقاموا عليهم ما شاء الله، والفرس بالخيار إن شاءوا خرجوا، وإن شاءوا أقاموا، فخاف المسلمون أن يطول أمرهم؛ حتى إذا كان يوم الجمعة تجمّع أهل الرأى من المسلمين، وقالوا: نراهم علينا بالخيار، وأتوا النعمان فى ذلك، وهو يروّى فى الّذى رأوا فيه، فأخبروه، فبعث إلى من بقى من أهل النّجدات والرأى، فأحضرهم، وقال: قد ترون المشركين واعتصامهم بخنادقهم ومدنهم، وأنّهم لا يخرجون إلينا إلّا إذا شاءوا، ولا يقدر المسلمون على إخراجهم، وقد ترون الّذى فيه المسلمون من التّضايق، فما الرأى الذى به نستخرجهم إلى المناجزة، وترك التطويل؟ فتكلّم عمرو بن ثبىّ، وكان أكبر النّاس [يومئذ سنّا] [1] ، وكانوا يتكلّمون على الأسنان، فقال: التّحصّن عليهم أشدّ من المطاولة عليكم، فدعهم وقاتل من أتاك منهم، فردّوا عليه رأيه [جميعا] [2] . وتكلّم عمرو بن معدى كرب فقال: ناهدهم وكاثرهم ولا تخفهم، فردّوا جميعا عليه رأيه، وقالوا: إنّما تناطح بنا الجدران، وهى أعوان علينا.   [1] من ابن الأثير. [2] من ابن الأثير. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 255 فقال طليحة بن خويلد الأسدىّ: أرى أن تبعث خيلا مؤدية لينشبوا القتال، فإذا اختلطوا بهم رجعوا إلينا استطرادا، فإنّا لم نستطرد لهم فى طول ما قاتلناهم، فإذا رأوا ذلك طمعوا وخرجوا إلينا. فقاتلناهم حتّى يقضى الله فيهم وفينا ما أحبّ، فأمر [النعمان] القعقاع بن عمرو، وكان على المجرّدة، فأنشب القتال، وأخرجهم من خنادقهم كأنّهم جبال من حديد، وقد تواثقوا [1] ألّا يفرّوا وقرن بعضهم ببعض، كلّ سبعة فى قران، وألقوا حسبك الحديد بينهم؛ لئلّا ينهزموا، فلمّا خرجوا نكص القعقاع، فاغتنمتها الأعاجم ففعلوا كما ظنّ طليحة. وقالوا: هى هى. ولحق القعقاع بالنّاس، وانقطع الفرس عن حصنهم، وأمر النّعمان أصحابه أن يلزموا الأرض ولا يقاتلوا حتى يأذن لهم، ففعلوا، واستتروا بالحجف [2] من الرّمى، وأقبل المشركون يرمونهم حتى أفشوا فيهم الجراح، والنّعّمان ينتظر بالقتال أحبّ السّاعات كانت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ وذلك عند الزّوال، فلمّا كان قريبا من تلك الساعة ركب النّعمان فرسه، وسار فى النّاس يحرّضهم على القتال، ويذكّرهم ويمنّيهم الظّفر، وقال: إنّى مكبّر ثلاثا، فإذا كبّرت الثالثة فإنّى حامل، فاحملوا، فإن قتلت فالأمير بعدى حذيفة، فإن قتل ففلان، حتى عدّ سبعة آخرهم المغيرة، ثم قال: اللهمّ أعزز دينك بنصر عبادك. وقيل: بل قال: اللهمّ إنّى أسألك أن تقرّ عينى اليوم بفتح يكون فيه عزّ الإسلام، واقبضنى شهيدا.   [1] ابن الأثير: «توافقوا» . [2] الحجف: التروس من جلود بلا خشب. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 256 فبكى النّاس ثم رجع إلى موقفه، فكبّر ثلاثا، والنّاس سامعون مطيعون مستعدّون للقتال، وحمل وحمل النّاس، وانقضّت رايته نحوهم انقضاض العقاب، فاقتتلوا قتالا شديدا لم يسمع بوقعة كانت أشدّ منها، وصبر المسلمون صبرا عظيما، وانهزم الأعاجم، وقتل منهم ما بين الزّوال والإعتام ما طبّق أرض المعركة حتى زلق النّاس والدّوابّ فى الدماء، فلمّا أقرّ الله عين النّعمان بالفتح استشهد، زلق به فرسه فصرع. وقيل: بل رمى بسهم فى خاصرته فمات، فسجّاه أخوه نعيم بن مقرّن بثوب، وأخذ الرّاية وناولها حذيفة، وتقدّم إلى موضع النّعمان. وقال المغيرة: اكتموا مصاب أميركم، لئلا يهن الناس، ودام القتال فى الفرس حتى أظلم اللّيل، فانهزموا، ولزمهم المسلمون وعمى عليهم قصدهم، فأخذوا نحو اللهب [1] الّذى كانوا دونه، فوقعوا فيه، فكان الواحد منهم يقع فيقع عليه ستّة، بعضهم على بعض فى قياد واحد فيقتلون جميعا، وعقرهم حسك الحديد، فمات منهم فى اللهب مائة ألف أو يزيدون سوى من قتل منهم فى المعركة. وقيل: قتل فى اللهب ثمانون ألفا، وفى المعركة ثلاثون ألفا سوى من قتل فى الطّلب، ولم يفلت [2] إلّا الشّريد، ونجا الفيرزان من الصّرعى، فهرب نحو همذان، واتّبعه [3] نعيم بن مقرّن، وقدم   [1] اللهب: شق فى الجبل. [2] كذا فى ابن الأثير، وفى الأصول: «لم يقتل» . [3] ابن الأثير: «فاتبعه» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 257 القعقاع أمامه، فأدركه بثنيّة همذن، وهى إذ ذاك مشحونة من بغال وحمر موقرة عسلا. فحبسه الدّوابّ [1] فلمّا لم يجد طريقا نزل عن دابّته، وصعد فى الجبل، فأدركه القعقاع، فقتله المسلمون على الثّنيّة، وقالوا: إنّ لله جنودا منها العسل، واستاقوا تلك الدّوابّ بأحمالها، وسمّيت الثّنيّة ثنيّة العسل، ودخل المنهزمون همذان، والمسلمون فى آثارهم، فنزلوا عليها، وأخذوا ما جولها، فلمّا رأى ذلك خسر شنوم استأمتهم. ولمّا تمّ الظّفر للمسلمين جعلوا يسألون عن أميرهم النّعمان، فقال لهم أخوه معقل: قد أقرّ الله عينه [بالفتح] [2] وختم له بالشّهادة، فاتّبعوا حذيفة، ودخل المسلمون نهاوند يوم الوقعة [بعد الهزيمة] [2] واحتووا على ما فيها من الأمتعة وغيرها وما حولها من الأسلاب والأثاث وجمعوه إلى صاحب الأقباض، وهو السائب بن الأقرع. وانتظروا إخوانهم الّذين على همذان مع نعيم والقعقاع، فأتاهم الهربذ صاحب بيت النّار، وقال لحذيفة، أتؤمّننى ومن شئت، على أن أخرج لك ذخيرة لكسرى تركت عندى لنوائب الزّمان؟ قال نعم، فأحضر جوهرا نفيسا فى سفطين، فأرسلوهما [3] مع الأخماس إلى عمر رضى الله عنه بعد أن نفّل حذيفة منها، وأرسل ما بقى [4] مع السائب بن الأقرع الثّقفىّ.   [1] بعدها فى ابن الأثير: على أجله» . [2] من ابن الأثير. [3] ابن الأثير: «فأرسلهما» . [4] ابن الأثير: «البافى» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 258 قال السائب: فلمّا فرغت القسمة احتملت السّفطين، وجئت بهما إلى عمر، فإذا هو قد خرج يتوقّع الأخبار، وكان قد رأى الواقعة فبات يتململ، فقال ما وراءك؟ فقلت: فتح الله على المسلمين، واستشهد النّعمان بن مقّرن، فأعظم الفتح، واسترجع على النّعمان وبكى حتى نشج [1] ، ثمّ أخبرته بالسّفطين فقال لى: أدخلهما بيت المال حتّى ننظر فى شأنهما، والحق بجندك. قال: ففعلت، وخرجت مسرعا إلى الكوفة، وبات عمر، فلمّا أصبح بعث فى أثرى رسولا، فما أدركنى حتى دخلت الكوفة، فأنخت بعيرى، وأناخ بعيره على عرقوب بعيرى، وقال، الحق بأمير المؤمنين. قال: فركبت معه، وقدمت على عمر، فلمّا رآنى قال: مالى وللسائب! قلت: وماذا؟ قال: ويحك، والله ما هو إلّا أن نمت اللّيلة التى خرجت فيها، فأتت الملائكة تستحثّنى إلى السّفطين يشتعلان نارا، يقولون، لنكوينّك بهما، فأقول: إنى سأقسمهما بين المسلمين، فخذهما عنّى فبعهما فى أعطية المسلمين وأرزاقهم. قال: فخرجت بهما فوضعتهما فى مسجد الكوفة، فابتاعهما منّى عمرو بن حريث المخزومىّ بألفى ألف درهم، ثم خرج بهما إلى أرض الأعاجم فباعهما بأربعة آلاف ألف، فما زال أكثر أهل الكوفة مالا. قال: وكان سهم الفارس بنهاوند ستّة آلاف، والرّاجل ألفين.   [1] نشج الباكى: غص بالبكاء من غير انتحاب. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 259 ولمّا قدم سبى نهاوند المدينة، جعل أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة لا يلقى منهم صغيرا إلّا مسح رأسه وبكى، وقال: أكل عمر كبدى، وكان من نهاوند، فأسرته الرّوم، وأسره المسلمون. وكان المسلمون يسمّون [فتح] [1] نهاوند فتح الفتوح؛ لأنّه لم يكن للفرس بعده اجتماع، وملك المسلمون بلادهم. والله سبحانه وتعالى أعلم والحمد لله وحده. ذكر فتح دينور والصيمرة وغيرهما لما [2] انصرف أبو موسى الأشعرىّ من نهاوند، وكان قد جاء مددا على بعث أهل البصرة، فمرّ بالدّينور، فأقام عليها خمسة أيّام، وصالحه أهلها على الجزية، ومضى، فصالحه أهل الشّيروان على مثل صلحهم، وبعث السائب الأقرع إلى الصّيمرة وهى مدينة مهرجان قذق ففتحها صلحا، والحمد لله وحده، وصلّى الله على سيّدنا محمّد. ذكر فتح همذان والماهين وغيرهما لما [3] انهزم المشركون من نهاوند دخل من سلم منهم همذان، فحاصرهم نعيم بن مقرّن والقعقاع بن عمرو، فلمّا رأى ذلك خسرشنوم استأمنهم، وقبل الجزية على أن يضمن همذان ودستبى، وألّا يؤتى المسلمون منهم، فأجابوه إلى ذلك وأمّنوه هو ومن معه   [1] من ص. [2] ابن الأثير 3: 7. [3] ابن الأثير 3: 7. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 260 من الفرس، وأقبل كلّ من كان هرب، وبلغ الخبر أهل الماهين، فاقتدوا بخسرشنوم، وراسلوا حذيفة، فأجابهم، ودخل ماه دينار، وبهراذان على مثل ذلك. وكان قد وكّل النّسير بن ثور بقلعة قد لجأ إليها قوم، فحاصرهم وافتتحها، فنسبت إلى النّسير. ولمّا رجع نعيم والقعقاع، كفر أهل همذان مع خسرشنوم، فخرج نعيم بن مقرّن إليها فى سنة اثنتين وعشرين، واستولى على جميع بلادها وحاصرها، فسأله أهلها الصلح ففعل، وفتحها الثانية، وقبل منهم الجزية. وقيل إن فتحها كان فى سنة أربع وعشرين، بعد وفاة عمر بستّة أشهر. والله أعلم. قال: وبينما نعيم بهمذان فى الفتح الثّانى، وهو فى اثنى عشر ألفا من الجند، فكاتب الديلم، وأهل الرّىّ، وأذربيجان، إذ خرج موتى فى الدّيلم، ونزل بواج الرّوذ، وأقبل الزّينبىّ أبو الفرّخان فى أهل الرّىّ وأقبل إسفنديار أخو رستم فى أهل أذربيجان، فاجتمعوا وتحصّن منهم أمراء المسالح، وبعثوا إلى نعيم بالخبر، فاستخلف يزيد بن قيس الهمذانىّ، وخرج إليهم، فاقتتلوا بواج الرّوذ قتالا شديدا، وكانت وقعة عظيمة تعدل وقعة نهاوند، فانهزم الفرس أقبح هزيمة، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وأرسل نعيم إلى عمر بقصد الرّىّ، وقتال من بها، والمقام بها بعد فتحها. وقيل: إنّ المغيرة بن شعبة، وهو عامل الكوفة أرسل جرير ابن عبد الله إلى همذان، فقاتله أهلها، وأصيب بسهم فى عينه، فقال: أحتسبها عند الله الّذى زيّن بها وجهى. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 261 وقيل: كان فتحها على يد المغيرة نفسه. وقيل: فتحها قرظة ابن كعب الأنصارىّ رضى الله عنه، والله تعالى أعلم وهو حسبنا ونعم الوكيل. ذكر فتح أصبهان وقم وكاشان وفى [1] سنة إحدى وعشرين بعث عمر رضى الله عنه عبد الله ابن عبد الله بن عتبان إلى أصبهان، وكان شجاعا من أشراف الصّحابة، ووجوه الأنصار، وأمدّه بأبى موسى الأشعرىّ، وجعل على مجنّبتيه عبد الله بن ورقاء الرّياحىّ وعصمة بن عبد الله، فسار إلى نهاوند ورجع حذيفة إلى عمله على ما سقت دجلة وما وراءها. وسار عبد الله فيمن كان معه ومن تبعه من جند النّعمان الّذين بنهاوند نحو أصبهان، وعلى جندها الأسبيذان، وعلى مقدّمته شهريار بن جاذويه (شيخ كبيرفى جمع عظيم، فالتقى المسلمون ومقدّمة المشركين برستاق لأصبهان، فاقتتلوا قتالا شديدا، فبرز الشيخ ودعا إلى البراز، فبرز له عبد الله بن ورقاء فقتله عبد الله، وانهزم الفرس؛ فسمّى ذلك الرّستاق برستاق الشّيخ، وصالحهم الأسبيذان على الرّستاق، وهو أوّل رستاق أخذ من أصبهان. ثم سار عبد الله إلى مدينة جىّ، وهى مدينة أصبهان، والملك بأصبهان الفاذوسفان، فنزل بها، وحاصرها، فصالحه   [1] ابن الأثير 3: 8. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 262 الملك عليها، على الجزية على من أقام، وأن يجزى من أخذت أرضه عنوة مجزاهم ومن أبى وذهب كانت أرضه للمسلمين. وقدم أبو موسى على عبد الله من ناحية الأهواز، وقد صالح القوم، فدخل القوم فى الذّمة إلا ثلاثين رجلا من أهل أصبهان لحقوا بكرمان، ودخل عبد الله ومن معه المدينة، وكتب بذلك إلى عمر، فكتب إليه: أن سرحتّىّ تقدم على سهيل بن عدىّ؛ حتى تكون معه على قتال من بكرمان. فاستخلف على أصبهان السّائب بن الأقرع، ولحق بسهيل قبل وصوله إلى كرمان، وافتتح أبو موسى قمّ وقاشان. ذكر فتح قزوين وأبهر وزنجان وفى [1] سنة اثنتين وعشرين بعث المغيرة بن شعبة وهو أمير الكوفة البراء بن عازب فى جيش إلى قزوين، وأمره إن فتحها أن يغزو الدّيلم. فسار حتّى أتى أبهر، وهو حصن، فقاتلوه، ثم طلبوا الأمان، فأمّنهم وصالحهم، ثم غزا قزوين، فأرسل أهلها إلى الدّيلم يطلبون النّصرة منهم، فوعدوهم، فوصل المسلمون إليهم، فخرجوا لقتالهم والدّيلم وقوف على الجبل لا يمدّون يدا، فلمّا رأى أهل قزوين ذلك طلبوا الصّلح، فصالحهم على مثل صلح أبهر. وغزا الدّيلم حتّى أدّوا إليه الإتاوة، وغزا جيلان والطيّلسان، وفتح زنجان عنوة. ولمّا ولّى الوليد بن عقبة الكوفة، غزا الدّيلم، وجيلان، وموقان، والبير والطّيلسان، والله سبحانه وتعالى أعلم.   [1] ابن الأثير 3: 11. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 263 ذكر فتح الرى قال [1] : وسار نعيم بن مقرّن من واج الرّوذ بأمر عمر حتّى قدم الرّىّ، وخرج الزّينبىّ أبو الفرّخان منها، فلقى نعيما طالبا ومسالما ومحالفا لملك الرّىّ وهو سياوخش بن مهران بن بهرام بن جوبين، فاستمدّ سياوخش أهل دنباوند وطبرستان وقومس، وجرجان، فأمدّوه، والتقوا مع المسلمين فى سفح جبل الرّىّ الّذى بجانب مدينتها، فاقتتلوا. وكان الزينبىّ قال لنعيم: إنّ القوم قد كثروا وأنت فى قلّة، فابعث معى خيلا لأدخل بها مدينتهم من مدخل لا يشعرون به، وناهدهم أنت، فإذا خرجنا نحن عليهم فإنّهم لا يثبتون لك. فبعث معه خيلا من اللّيل، عليهم ابن أخيه المنذر بن عمرو، فأدخلهم الزينبىّ المدينة، والقوم لا يشعرون، وبيّتهم نعيم، فشغلهم عن مدينتهم، واقتتلوا وصبروا حتى سمعوا التكبير من ورائهم، فانهزموا، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وأفاء الله تعالى على المسلمين بالرّىّ نحوا مما فى المدائن، وصالحهم الزينبىّ على الرّىّ، وأخرب نعيم مدينتهم، وهى الّتى يقال لها: العتيقة. فأمر الزينبىّ فبنى مدينة الرّىّ، وكتب نعيم إلى عمر بالفتح، وبعث بالأخماس، وراسله المصمغان فى الصّلح على شىء يفتدى به منه على دنباوند، فأجابه إلى ذلك. وقد قيل: إنّ فتح الرّىّ كان على يد قرظة بن كعب بن ثعلبة   [1] ابن الأثير 3: 11. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 264 الخزرجىّ فى سنة ثلاث وعشرين، حكاه أبو عمر بن عبد البرّ. وقيل: فى سنة إحدى وعشرين. وقيل غير ذلك، والله تعالى أعلم. بالصّواب، وإليه المرجع والمآب. ذكر فتح قومس وجرجان وطبرستان قال [1] : لمّا أرسل نعيم بن مقرّن إلى عمر بن الخطّاب رضى الله عنه بالفتح والأخماس كتب إليه عمر رضى الله عنه بإرسال سويد بن مقرّن ومعه هند بن عمرو وغيره إلى قومس، فسار سويد نحوها، فلم يقم له أحد، فأخذها سلما، وعسكر بها، وكاتبه الّذين لجئوا إلى طبرستان منهم، والّذين أخذوا المفاوز، فأجابهم إلى الصّلح والجزية، وكتب لهم بذلك. ثم سار سويد إلى جرجان، فعسكر ببسطام، وكتب إلى ملك جرجان وهو رزبان صول، فصالحه على الجزية وكفاية حرب جرجان، وأن يعينه سويد إن غلب، فأجابه سويد إلى ذلك، وتلقّاه رزبان قبل دخوله جرجان، ودخل معه، وعسكر سويد بها حتى جبى الخراج، وسدّ فروجها بترك دهستان، ورفع الجزية عمّن قام معه بمنعها، وأخذها من الباقين. وقيل: كان فتحها فى سنة ثمانى عشرة. وقيل: فى سنة ثلاثين فى خلافة عثمان. قال: وأرسل الإصبهبذ صاحب طبرستان إلى سويد فى الصّلح، على أن يتوادعا بها ويجعل له شيئا على غير نصر ولا معونة على أحد،   [1] ابن الأثير 3: 12. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 265 فقبل ذلك منه، وكتب له كتابا، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصّواب، وإليه المرجع والمآب. ذكر فتح أذربيجان كان [1] عمر بن الخطّاب رضى الله عنه، بعث بكير بن عبد الله إلى أذربيجان، وأمر نعيم بن مقرّن أن يمدّه بسماك بن خرشة، فأمّده به بعد فتح الرّىّ، فسار بكير حتى طلع بجبال جرميذان، فطلع عليه إسفنديار بن الفرّخزاذ مهزوما من واج الرّوذ، فاقتتلوا، فهزم الله الفرس وأخذ إسفنديار أسيرا، فقال له إسفنديار: الصّلح أحبّ إليك أم الحرب؟ قال: بل الصّلح. قال: أمسكنى عندك؛ فإنّ أهل أذربيجان إن لم أصالح عليهم، أو أجىء لهم لم يقوموا لك، وجلوا إلى الجبال الّتى حولها، ومن كان على التحصين تحصّن ليوم ما، فأمسكه عنده وصارت إليه البلاد [2] إلّا ما كان من حصن. وقدم عليه سماك بن خرشة، وإسفنديار فى أسره، وقد افتتح [3] ما يليه، وافتتح عتبة بن فرقد ما يليه. وكتب بكير إلى عمر يستأذنه فى التّقدّم، فأذن له أن يتقدّم نحو الباب، وأن يستخلف على ما افتتحه، فاستخلف عتبة بن فرقد، فأقرّ عتبة سماك بن خرشة على عمل بكير الّذى كان افتتحه، وجمع عمر أذربيجان كلّها لعتبة بن فرقد. وكان بهرام بن الفرّخزاذ قصد   [1] ابن الأثير 3: 13. [2] من ابن الأثير. [3] ك: «انفتح» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 266 طريق عتبة، فاقتتلوا، فانهزم بهرام، فلمّا بلغ خبره إسفنديار وهو فى الإسار عند بكير، قال: الآن تمّ الصّلح، وطفئت نيران الحرب، فصالحه وأجاب أهل أذربيجان إلى ذلك، وعادت سلما، وكتب بكير وعتبة بذلك إلى عمر، وبعثا بالخمس. ولمّا جمع عمر لعتبة عمل بكير، كتب لأهل أذربيجان كتابا بالصّلح. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 267 ذكر فتح الباب كان [1] فتح الباب فى سنة اثنتين وعشرين، وكان عمر رضى الله تعالى عنه ردّ أبا موسى الأشعرىّ إلى البصرة، وبعث سراقة بن عمرو، وكان يدعى ذا النّور [2] إلى الباب، وجعل على مقدّمته عبد الرحمن ابن ربيعة، وكان يدعى ذا النّور أيضا، وعلى مجنّبتيه [3] حذيفة بن أسيد الغفارىّ وبكير بن عبد الله اللّيثىّ، وكان بكير قد سبقه إلى الباب عند منصرفه من أذربيجان، وجعل على المقاسم سلمان بن ربيعة الباهلىّ. وكان عمر قد أمدّ سراقة بحبيب بن مسلمة من الجزيرة، وجعل مكانه زياد بن حنظلة، فسار سراقة وعبد الرحمن بن أمامة، فلمّا أطلّ عبد الرحمن على الباب كاتبه ملكها شهريار، (من ولد شهريار الملك) ، واستأمنه على أن يأتيه، ففعل، فأتاه فقال له: إنّى نازل بإزاء عدوّ كلب، وأمم مختلفة ليس لهم أحساب [4] ، ولا ينبغى لذى الحسب والعقل أن يعينهم على ذى الحسب، وأنتم قد غلبتم على بلادى وأنا منكم، ويدى فى أيديكم، وجزيتى إليكم، والنّصر لكم، والقيام بما تحبّون، فلا تسومونا الجزية، فتوهّنونا لعدوّكم، فسيّره عبد الرحمن إلى سراقة، فلقيه بمثل ذلك، وقال: لا بدّ من الجزية ممّن يقيم ولا يحارب العدوّ، فأتّفقا على ذلك، وأجازه عمر رضى الله عنه- وأرضاه واستحسنه.   [1] ابن الأثير 3: 14. [2] ك: «ذا النون» . [3] ك: «مجنبته» . [4] ك: «حساب» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 268 ذكر فتح موقان ولما [1] فرغ سراقة من الباب أرسل بكير بن عبد الله، وسلمان ابن ربيعة، وحبيب بن مسلمة وحذيفة بن أسيد إلى أهل تلك الجبال المحيطة بأرمينية، فوجّه بكيرا إلى موقان، وحبيبا إلى تفليس، وحذيفة إلى جبال اللّان، وسلمان إلى الوجه الآخر، وكتب سراقة بالفتح وبإرسالهم إلى عمر، فسرّ بذلك. ثم مات سراقة بعد أن استوثق له الأمر، واستخلف عبد الرحمن ابن ربيعة، ولم يفتتح أحد من القوّاد إلا بكير بن عبد الله؛ فإنّه صالح أهل موقان على الجزية؛ على كل محتلم دينار، وذلك بعد أن فضّ أهل موقان، ثم تراجعوا. وقيل: كان الفتح فى سنة إحدى وعشرين، وأقرّ عمر عبد الرحمن على فرج الباب، وأمره بغزو التّرك. والله تعالى أعلم، وصلّى الله على سيّدنا محمد وعلى آله الطيّبين الطاهرين، وحسبنا الله ونعم الوكيل. ذكر غزو الترك قال [2] : ولمّا أمر عمر رضى الله عنه عبد الرحمن بن ربيعة بغزو التّرك خرج بالنّاس [حتى قطع الباب] [3] فقال له شهريار: ما تريد أن تصنع؟ قال: أريد بلنجر والترك. قال: إنّا لنرضى منهم   [1] ابن الأثير 3: 14. [2] ابن الأثير 3: 14. [3] من ابن الأثير. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 269 أن يدعونا من دون الباب. قال عبد الرحمن: لكنّا لا نرضى حتى نغزوهم فى ديارهم، وتالله إنّ معنا أقواما لو يأذن لنا أميرنا فى الإمعان لبلغت بهم الرّوم. قال: وما هم؟ قال: أقوام صحبوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ودخلوا فى هذا الأمر بنيّة فلا يزال النّصر معهم، فغزا بلنجر، فقالوا: ما اجترأ علينا إلّا ومعه الملائكة تمنعهم من الموت، فهربوا وتحصّنوا، ورجع بالغنيمة والظّفر. وقد بلغت خيله البيضاء على رأس مائتى فرسخ من بلنجر، وعاد ولم يقتل منهم أحد، ثم غزاها أيّام عثمان بن عفّان رضى الله عنه غزوات، فظفر كما كان يظفر. ثم غزاهم بعد أن كان من أهل الكوفة فى حقّ عثمان رضى الله عنه ما نذكره، فتذامرت التّرك واجتمعوا فى الغياض، فرمى رجل منهم رجلا من المسلمين بسهم على غرّة، فقتله، وهرب الرّامى عن أصحابه، فلمّا نظر التّرك إلى المسلم وقد قتل خرجوا على عبد الرحمن ومن معه، واقتتلوا أشدّ قتال، ونادى مناد من الجوّ: صبرا عبد الرّحمن، وموعدكم الجنّة! فقاتل حتى قتل، وانكشف أصحابه، وأخذ الراية أخوه سلمان بن ربيعة، فنادى مناد من الجوّ: صبرا سلمان. فقال سلمان: أو ترى جزعا! وخرج بالنّاس على جيلان إلى جرجان، ولم تمنعهم هذه الحرب من [اتخاذ جسد] [1] عبد الرّحمن، فهم يستسقون به حتّى الآن. والحمد لله وحده، وصلّى الله على من لا نبىّ بعده.   [1] من ابن الأثير. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 270 ذكر غزو خراسان وفى [1] سنة اثنتين وعشرين غزا الأحنف بن قيس خراسان، على قول بعضهم. وقيل: بل كان فى سنة ثمان عشرة، وسبب ذلك أنّ يزدجرد لمّا سار إلى الرّىّ بعد هزيمة أهل جلولاء، انتهى إليها، وبها أبان جاذويه، فوثب أبان عليه وأخذه. فقال يزدجرد: يا أبان، تغدر بى! قال: لا؛ ولكن قد تركت ملكك، فصار فى يد غيرك، فأحببت أن أكتتب على ما كان لى من شىء، وأخذ خاتم يزدجرد واكتتب الصّكاك بكلّ ما أعجبه، وختم عليها وردّ الخاتم، ثم أتى بعد ذلك سعدا فردّ عليه كلّ شىء فى كتابه. وسار يزدجرد من الرّىّ إلى أصبهان، ثم إلى كرمان والنّار معه، ثم قصد خراسان والنّار معه، فنزل مرو، وبنى للنّار بيتا، واطمأنّ وأمن أن يؤتى، ودان له من بقى من الأعاجم. وكاتب الهرمزان، وأثار أهل الجبال والفيرزان، فنكثوا، فأذن عمر رضى الله عنه للمسلمين فدخلوا بلاد الفرس، فسار الأحنف إلى خراسان فدخلها من الطّبسين، فافتتح هراة عنوة، واستخلف عليها صحار بن صخر العبدى. وقيل فيه: صحار بن عبّاس بن شراحبيل، ثم سار نحو مرو الشّاهجان، فأرسل إلى نيسابور مطرّف بن عبد الله ابن الشّخّير، وإلى سرخس الحارث بن حسّان.   [1] ابن الأثير 3: 16. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 271 فلمّا دنا الأحنف من مرو، خرج يزدجرد منها إلى مرو الرّوذ، ونزل الأحنف مرو الشّاهجان. وكتب يزدجرد إلى خاقان ملك التّرك وإلى ملك الصّغد وإلى ملك الصّين يستمدّهم. وخرج الأحنف من مرو الشّاهجان، واستخلف عليها خالد ابن النّعمان الباهلىّ بعد أن لحقته أمداد الكوفة. فلمّا سمع به يزدجرد سار من مرو الرّوذ إلى بلخ، ونزلها الأحنف، والتقى أهل الكوفة ويزدجرد ببلخ، فانهزم يزدجرد، وعبر النّهر، ولحق الأحنف بأهل الكوفة، وقد فتح الله عليهم، وافتتح ما بين نيسابور إلى طخارستان، وعاد إلى مرو الرّوذ، واستخلف على طخارستان ربعىّ ابن عامر، وكتب إلى عمر بالفتح. فقال عمر: وددت أنّ بيننا وبينها بحرا من نار. فقال علىّ: ولم يا أمير المؤمنين؟ قال: لأنّ أهلها سينقضّون [منها] [1] ثلاث مرّات، وكتب إلى الأحنف أن يقتصر على ما دون النّهر ولا يجوزه. قال: ولمّا عبر يزدجرد مهزوما، أنجده خاقان التّرك، وأهل فرغانة والصّغد، فرجع يزدجرد وخاقان إلى خراسان، فنزلا بلخ. ورجع أهل الكوفة إلى الأحنف بمروالرّوذ، فنزل المشركون عليه بها، وكان الأحنف لما بلغه خبر عبور يزدجرد وخاقان النّهر إليه، خرج ليلا يتسمّع؛ لعلّه يسمع برأى ينتفع به، فمرّ برجلين ينقّيان علفا، وأحدهما يقول لصاحبه: أسندنا الأسير إلى هذا الجبل؛   [1] من ابن الأثير. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 272 فكان النّهر بيننا وبين عدوّنا خندقا، وكان الجبل فى ظهورنا [1] ، فلا يأتونا من خلفنا، وكان قتالنا من وجه واحد رجوت أن ينصرنا الله عزّ وجلّ. فرجع، فلمّا أصبح جمع النّاس ورحل بهم إلى سفح الجبل، وكان معه من البصرة عشرة آلاف، ومن الكوفة نحو منهم. وأقبلت التّرك ومن معها فنزلوا بهم، وجعلوا ينادونهم ويراوحونهم وينجحرون فى اللّيل. فخرج الأحنف ليلة طليعة لأصحابه؛ حتّى إذا كان قريبا من عسكر خاقان وقف، فلمّا كان وجه الصّبح خرج فارس من التّرك وهو مطوّق، فضرب بطبله، ثم وقف، فحمل عليه الأحنف، فاقتتلا، فقتله الأحنف، وأخذ طوقه، ووقف واحد آخر وآخر بعده، ففعل بهما كذلك، ثم انصرف إلى سكره. وكانت عادة التّرك أنّهم لا يخرجون حتى يخرج ثلاثة من رجالهم أكفاء، كلّهم يضرب بطبله، ثم يخرجون بعدهم، فلمّا خرجوا وجدوا فرسانهم، فتطيّر خاقان من ذلك، وقال: قد طال مقامنا، وأصيب فرساننا، وليس لنا فى قتال هؤلاء القوم خير، ورجع. وارتفع النّهار ولم ير المسلمون أحدا، وأتاهم الخبر بانصراف التّرك إلى بلخ، وكان يزدجرد ترك خاقان يقاتل بمروالرّوذ، وانصرف إلى مرو الشّاهجان، فلمّا وصلها تحصّن حارثة بن النّعمان ومن معه، فحصرهم، واستخرج خزائنه من موضعها. وأراد أن يلحق خاقان لمّا بلغه انصرافه عن مرو الرّوذ إلى بلخ؛ فأشار عليه أهل فارس بمصالحة المسلمين، فأبى ذلك، فاعتزلوه   [1] ك: «ظهورها» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 273 وقاتلوه، فانهزم، واستولوا على خزائنه، وتوجّه هو نحو خاقان وعبر النّهر إلى فرغانة، وأقام ببلد التّرك مدّة خلافة عمر- رضى الله عنه- إلى أن كفر أهل خراسان فى زمن عثمان، فكاتبوه وكاتبهم، ثم قتل على ما سنذكره- إن شاء الله تعالى- فى خلافة عثمان. قال: ثم أقبل أهل فارس بعد انهزام يزدجرد على الأحنف، وصالحوه ودفعوا له الخزائن، وتراجعوا إلى بلادهم، واغتبطوا بالمسلمين، فأصاب الفارس يوم يزدجرد كسهمه يوم القادسيّة. وسار الأحنف إلى بلخ ونزلها، ثم رجع إلى مرو الرّوذ، وكتب بهذا الفتح إلى عمر. قال: ولمّا عبر خاقان ويزدجرد إلى النّهر، لقيا [1] رسول يزدجرد الّذى كان أرسله إلى ملك الصّين، فأخبره أن ملك الصّين قال له: صف لى هؤلاء القوم الّذين أخرجوكم من بلادكم، فإنّى أراك تذكر قلّة منهم، وكثرة منكم، ولا يبلغ أمثال هؤلاء القليل منكم مع كثرتكم إلّا بخير عندهم وشرّ فيكم. فقال: سلنى عمّا أحببت. فقال: أيوفون بالعهد؟ قال: نعم. قال: وما يقولون لكم قبل القتال؟ قال: يدعوننا إلى واحدة من ثلاث: إمّا دينهم فان أحببنا أجرونا مجراهم، أو الجزية، أو المنابذة. قال: فكيف طاعتهم فى أمرائهم؟ قلت: أطوع قوم لرشيدهم. قال: فما يحلّون وما يحرّمون؟ فأخبره. قال: هل يحلّون ما حرّم عليهم، أو يحرّمون ما أحلّ لهم؟ قال: لا. قال: هؤلاء القوم لا يزالون على الظّفر   [1] ك: «لقوا» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 274 حتى يحلّوا حرامهم ويحرّموا حلالهم، ثم قال: أخبرنى عن لباسهم، فأخبره، وعن مطاياهم. قال: الخيل العراب، ووصفها لهم. قال: نعم الحصون! ووصف له الإبل وبركها وقيامها. فقال: هذه صفة دوابّ طوال الأعناق. وكتب معه إلى يزدجرد: إنّه لم يمنعنى أن أبعث إليك بجند أوّله بمرو وآخره بالصّين الجهالة بما يحقّ علىّ، ولكنّ هؤلاء القوم الّذين وصف لى رسولك لو يحاولون الجبال لهدّوها، ولو خلا لهم سربهم أزالونى ما داموا على ما وصف، فسالمهم وارض منهم بالمسالمة، ولا تهجهم ما لم يهيجوك. فأقام بزدجرد بفرغانة ومعه آل كسرى بعهد من خاقان. قال: ولمّا وصل كتاب الفتح إلى عمر رضى الله عنه، جمع النّاس وخطبهم، وقرأه عليهم، وحمد الله على إنجاز وعده، ثم قال: ألا وإنّ ملك المجوسيّة قد هلك، فليسوا يملكون من بلادهم شبرا يضّرّ بمسلم، ألا وإنّ الله تعالى قد أورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأبناءهم، لينظر كيف تعملون، فلا تبدّلوا فيستبدل الله بكم غيركم؛ فإنّى لا أخاف على هذه الأمّة إلّا من قبلكم. وقيل: إنّ فتح خراسان كان فى زمن عثمان رضى الله عنه، وسنذكره إن شاء الله سبحانه وتعالى فى موضعه. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 275 ذكر فتح شهرزور والصامغان وفى [1] سنة اثنتين وعشرين كان فتح شهرزور؛ فتحها عتبة ابن فرقد صلحا على مثل صلح حلوان بعد قتال [2] ، وصالح أهل الصّامغان، وداراباذ على الجزية والخراج، وقتل خلقا كثيرا من الأكراد، وكتب إلى عمر: إنّ فتوحى قد بلغت أذربيجان، فولّاه إيّاها، وولىّ هرثمة بن عرفجة الموصل، ولم تزل شهرزور وأعمالها مضمومة إلى الموصل حتى أفردت عنها فى آخر خلافة الرّشيد. والله تعالى أعلم وحسبنا الله ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النّصير، والحمد لله وحده. ذكر فتح توج كان [3] فتحها فى سنة ثلاث وعشرين؛ وذلك أنه لمّا خرج أهل البصرة الّذين توجّهوا إلى بلاد فارس أمراء عليها، كان معهم سارية بن زنيم، فساروا، وأهل فارس مجتمعون بتوّج، فلم يقصدهم المسلمون، وتوجّه كلّ أمير إلى الجهة التى أمر بها، وبلغ ذلك أهل فارس، فافترقوا إلى بلدانهم، كما افترق المسلمون، فكانت تلك هزيمتهم وتشتّت أمورهم، فقصدهم مجاشع بن مسعود بسابور وأزدشير فالتقوا بتوّج، واقتتلوا ما شاء الله، ثم انهزم الفرس   [1] ابن الأثير 3: 19. [2] بعدها فى ابن الأثير: «فكانت العقارب تصيب الرجل من المسلمين فيموت» . [3] ابن الأثير 3: 19. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 276 وقتلهم المسلمون شرّ قتلة، وغنموا ما فى عسكرهم، وحصروا توّج فافتتحوها، فقتلوا منهم خلقا كثيرا، وغنمو ما فيها. وتوّج هى [التى] [1] استنقذتها جيوش العلاء بن الحضرمىّ أيّام طاوس، ثم دعوا إلى الجزية فرجعوا وأقرّوا بها، وأرسل مجاشع ابن مسعود بالبشارة والأخماس إلى عمر رضى الله عنه، والله تعالى أعلم بالصواب. ذكر فتح اصطخر وجور وكازرون والنوبندجان ومدنية شيراز وأرّجان وسينيز وجنابا وجهرم وفى [2] سنة ثلاث وعشرين قصد عثمان بن أبى العاص [3] إصطخر [4] فالتقى هو وأهلها بجور، فاقتتلوا، وانهزم الفرس، وفتح المسلمون جور، ثمّ إصطخر، وقتلوا ما شاء الله، وفرّ منهم من فرّ. فدعاهم عثمان إلى الجزية والذّمّة، فأجابه الهربذ إليها، وتراجعوا. وكان عثمان قد جمع الغنائم وخمّسها، وبعث الخمس إلى عمر، وفتح كازرون والنّوبندجان وغلب على أرضها. وفتح هو وأبو موسى مدينة شيراز، وأرّجان، وفتحا سينيز على الجزية والخراج. وقصد عثمان أيضا جنابا ففتحها، وفتح هو وأبو موسى مدينة شيراز، ولقيه جمع من الفرس بناحية جهرم [فهزمهم] [5] وفتحها.   [1] من ابن الأثير. [2] ابن الأثير 3: 20. [3] ابن الأثير: «أبى العاص الثقفى» . [4] ابن الأثير: «أهل إصطخر» . [5] من ص. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 277 وقيل: إنّ فتح إصطخر كان فى سنة ثمان وعشرين، والله سبحانه وتعالى أعلم. ذكر فتح فساودرابجرد وفى [1] سنة ثلاث وعشرين أيضا قصد سارية بن زنيم الدّيلىّ فساودرابجرد، وانتهى إلى عسكرهم وحاصرهم ما شاء الله تعالى. ثم استمدّوا وتجمّعوا، وتجمّعت إليهم الأكراد من فارس [2] ، فدهم المسلمين أمر عظيم، وأتاهم الفرس من كلّ جانب، فرأى عمر رضى الله تعالى عنه فيما يرى النّائم تلك الليلة معركتهم وعددهم فى ساعة من النّهار، فنادى من الغداة: الصّلاة جامعة، حتى إذا كان فى السّاعة التى رأى فيها ما رأى خرج إليهم، وكان قد رآهم والعدوّ فى صحراء، إن أقام المسلمون فيها أحيط بهم، وإن استندوا إلى الجبل لم يؤتوا إلّا من وجه واحد. فقام عمر فقال: يأيّها النّاس، إنّى رأيت هذين الجمعين ... وأخبر بحالهما، وصاح عمر رضى الله عنه وهو يخطب: يا سارية، الجبل الجبل! ثم أقبل عليهم وقال: إنّ لله جنودا؛ ولعلّ بعضهم أن يبلّغهم. فسمع سارية ومن معه الصّوت، فلجئوا إلى الجبل، ثم قاتلوهم فهزمهم الله. وأصاب المسلمون مغانم، وأصابوا سفطا فيه جوهر، فاستوهبه منهم سارية، وبعث به وبالفتح مع رجل إلى عمر، فقدم   [1] ابن الأثير 3: 21. [2] ابن الأثير: «أكراد فارس» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 278 عليه، وأخبره الخبر، وقصة الجوهر، فصاح به عمر وقال: لا ولا كرامة! اقسمه بين الجند، وطرده، وردّ السّفط. وسأل أهل المدينة الرّسول، هل سمعوا يوم الوقعة شيئا؟ قال: سمعنا: «يا سارية الجبل» . وقد كدنا نهلك، فلجأنا إليه، ففتح الله سبحانه وتعالى علينا. والله أعلم بالصّواب، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم. ذكر فتح كرمان وفيها [1] قصد سهيل بن عدىّ كرمان، ولحقه عبد الله بن عبد الله بن عتبان، وحشد [له] [2] أهلها واستعانوا بالقفص، فاقتتلوا فى أدنى أرضهم، فقتل النّسير بن عمرو العجلىّ مرزبانها [3] ، وفتحها المسلمون. وقيل: إنّ الّذى فتحها عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعىّ فى خلافة عمر، ثم أتى الطّبسين من كرمان، ثم قدم على عمر فقال: أقطعنى الطّبسين، وأراد أن يفعل. فقيل: إنّها رستاق، فامتتع.   [1] ابن الأثير 3: 22. [2] من ص. [3] المرزبان، من ألقاب رؤساء الفرس. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 279 ذكر فتح سجستان فى [1] سنة ثلاث وعشرين أيضا قصد عاصم بن عمرو سجستان، ولحقه عبد الله بن عمير، فاستقبلهم أهلها فالتقوا فى أدنى أرضهم، فهزمهم المسلمون واتّبعوهم حتى حاصروهم بزرنج، فطلبوا الصّلح على زرنج وما سادوا عليه من الأرضين، واصطلحوا على الخراج، فكانت سجستان أعظم من خراسان وأبعد فروجا، يقاتلون القندهار والتّرك، وأمما كثيرة. وقيل فى فتح سجستان غير هذا، وسنذكره إن شاء الله تعالى فى موضعه. ذكر فتح مكران وفيها [2] قصد الحكم بن عمرو التغلبىّ مكران، ولحق به شهاب بن المخارق وسهيل بن عدىّ وعبد الله بن عبد الله بن عتبان، فانتهوا إلى دوين النّهر، وأهل مكران على شاطئه، فاستمدّ ملكهم ملك السّند، فأمّده بجيش كثيف، فالتقوا مع المسلمين فهزموا، وقتل منهم فى المعركة مقتلة عظيمة، واتّبعهم المسلمون يقتّلونهم أياما؛ حتى انتهوا إلى النّهر، ورجع المسلمون إلى مكران فأقاموا بها، وكتب الحكم إلى عمر بالفتح، وبعث إليه بالأخماس مع صحار العبدىّ. فلمّا قدم المدينة سأله عمر عن مكران،   [1] ابن الأثير 3: 22. [2] ابن الأثير 3: 23. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 280 فقال: يا أمير المؤمنين، هى أرض سهلها جبل، وماؤها وشل، وتمرها دقل، وعدوّها بطل، وخيرها قليل، وشرّها طويل، والكثير منها قليل، والقليل بها ضائع، وما وراءها شرّ منها. فقال عمر: أسجّاع أنت أم مخبر! لا والله لا يغزوها لى جيش أبدا، وكتب إلى مهيل والحكم ألّا يجوزنّ مكران أحد من جنودكما، وأمرهما ببيع الفيلة الّتى غنمها المسلمون، وقسم أثمانها على الغانمين. ذكر فتح بيروذ من الأهواز وهى بفتح الباء الموحدة، وسكون الياء المثنّاة من أسفل، وضمّ الراء وسكون الواو وذال معجمة. قال: لمّا [1] فصلت الخيول إلى الكور اجتمع ببيروذ جمع كثير من الأكراد وغيرهم، وكان عمر رضى الله عنه قد عهد إلى أبى موسى أن يسير إلى أقصى ذمة البصرة كما ذكرنا؛ حتى لا يؤتى المسلمون فى أعقابهم. فسار أبو موسى والتقى معهم فى شهر رمضان، سنة ثلاث وعشرين ببيروز من بين نهر تيرى ومناذر، فقام المهاجر ابن زياد وقد تحنّط، فقاتل حتى قتل، واشتدّ جزع الربيع بن زياد على أخيه المهاجر، وعظم عليه فقده، فرقّ له أبو موسى واستخلفه على جنده. وخرج أبو موسى حتى بلغ أصبهان، وكان مع المسلمين بها حتى   [1] ابن الأثير 3: 24. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 281 فتحت، ثم رجع إلى البصرة، وفتح الربيع بن زياد بيروذ، وغنم ما كان تجمّع بها. وأوفد أبو موسى وفدا إلى عمر بالأخماس، وطلب ضبّة بن محصن الغنوىّ أن يكون فى الوفد، فلم يجبه أبو موسى، وكان أبو موسى قد اختار من سبى بيروذ ستّين غلاما. فانطلق ضبّة إلى عمر شاكيا، وكتب أبو موسى إلى عمر يخبره، فلمّا قدم ضبّة على عمر سلّم عليه، فقال: من أنت؟ فأخبره، فقال: لا مرحبا ولا أهلا! فقال: أما الرّحب فمن الله، وأمّا الأهل فلا أهل. ثم سأله عمر عن حاله فقال: إنّ أبا موسى انتقى ستّين غلاما من أبناء الدّهاقين لنفسه، وله جارية تغدّى جفنة، وتعشّى جفنة تدعى عقيلة، وله قفيزان، وله خاتمان؛ وفوّض إلى زياد بن أبى سفيان أمور البصرة، وأجاز الحطيئة بألف. فاستدعى عمر أبا موسى، فلمّا قدم عليه حجبه أيّاما، ثم استدعاه، فسأل عمر ضبّة عمّا قال: فقال: أخذ ستّين غلاما لنفسه. فقال أبو موسى: دللت عليهم، وكان لهم فداء، ففديتهم وقسّمته بين المسلمين، فقال ضبة: ما كذب ولا كذبت، وقال: له قفيزان، فقال أبو موسى: قفيز لأهلى أقوتهم به، وقفيز للمسلمين فى أيديهم يأخذون به أرزاقهم. فقال ضبّة: ما كذب ولا كذبت. فلمّا ذكر عقيلة سكت أبو موسى ولم يعتذر، فعلم أنّ ضبّة قد صدقه. قال: وولّى زيادا، قال: رأيت له رأيا ونبلا الجزء: 19 ¦ الصفحة: 282 فأسندت إليه عملى. قال: وأجاز الحطيئة بألف، قال: سددت فمه بمالى أن يشتمنى، فردّه عمر، وأمره أن يرسل إليه زيادا وعقيلة، ففعل. فلمّا قدم عليه زياد سأله عن حاله وعطائه والفرائض والسّنن، والقرآن، فرآه فقيها، فردّه، وأمر أمراء البصرة أن يسيروا برأيه، وحبس عقيلة بالمدينة، وقال عمر: ألا إنّ ضبّة غضب على أبى موسى وردّه مراغما، أن فاته أمر من أمر الدنيا يصدق عليه، وكذب فأفسد كذبه صدقه. فإيّاكم والكذب! فإنّه يهدى إلى النّار. ذكر خبر سلمة بن قيس الأشجعى والأكراد قال [1] : كان عمر بن الخطّاب رضى الله عنه إذا اجتمع إليه جيش من المسلمين، أمّر عليهم أميرا من أهل العلم، فاجتمع إليه جيش، فبعث عليهم سلمة بن قيس الأشجعىّ وقال له: سر باسم الله تعالى، وقاتل فى سبيل الله من كفر بالله؛ فإذا لقيتم عدوّكم فادعوهم إلى الإسلام، فإن أجابوا وأقاموا بدارهم فعليهم الزّكاة، وليس لهم من الفىء نصيب، وإن ساروا معكم فلهم مثل الّذى لكم، وعليهم مثل الّذى عليكم، فإن أبوا فادعوهم إلى الجزية، فإن أجابوا فاقبلوا منهم، وإن أبوا فقاتلوهم، وإن تحصّنوا منكم وسألوا أن ينزلوا على حكم الله ورسوله، أو ذمّة الله ورسوله، فلا تجيبوهم؛ فإنكم لا تدرون ما حكم الله رسوله، وذمّتهما فيهم، ولا تغدروا، ولا تقتلوا وليدا، ولا تمثّلوا.   [1] ابن الأثير 3: 25. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 283 فساروا حتّى لقوا عدوّا من الأكراد المشركين، فدعوهم إلى الإسلام أو الجزية، فأبوا فقاتلوهم وهزموهم، وقتلوا المقاتلة، وسبوا الذّريّة فقسّمها بينهم، ورأى سلمة جوهرا فى سفط، فاسترضى عنه المسلمين وبعثه إلى عمر، فغضب ووجأه فى عنق رسوله وأعاده، فباعه سلمة، وقسم ثمنه فى المسلمين، فكان الفصّ يباع بخمسة دراهم، وقيمته عشرون ألفا. ذكر فتوح مصر وما والاها كان فتح مصر على يد عمرو بن العاص والزّبير بن العوّام رضى الله عنهما، وقد اختلف فى السّنة التى فتحت مصر فيها، فقيل: فى سنة عشرين. وقيل: سنة ستّ عشرة. والصحيح أنها فتحت قبل عام الرّمادة، وكان عام الرّمادة فى سنة ثمانى عشرة؛ فإنّ عمرو ابن العاص حمل منها الطّعام إلى المدينة فى بحر القلزم على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى حوادث السّنين. وقد اختلف أيضا فى سبب مسير عمرو إليها، واختلف فى كيفيّة الفتح، وكيف كان. وقد روى الشيخ أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم- رحمه الله- فى فتوح مصر [1] أخبارا بأسانيد متّصلة إلى جماعة ممّن شهدوا الفتح وغيرهم، اختصرنا ذكرها، مدارها على ابن لهيعة عن عبد الله بن أبى جعفر وعيّاش بن عبّاس العتبانىّ وعلىّ بن يزيد   [1] فتوح مصر لابن عبد الحكم 53 وما بعدها. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 284 ابن أبى حبيب، واللّيث بن سعد وغيرهم، دخل حديث بعضهم فى حديث بعض. والله سبحانه وتعالى أعلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل، والحمد لله وحده. ذكر مسير عمرو الى مصر قالوا: لمّا قدم عمر بن الخطّاب رضى الله عنه إلى الجابية، قام إليه عمرو بن العاص رضى الله عنه، وخلا به فقال: يا أمير المؤمنين، ائذن لى أن أسير إلى مصر، وحرّضه عليها وقال: إنّك إنّك إن فتحتها كانت قوّة للمسلمين وعونا لهم، وهى أكثر الأرض أموالا، وأعجز عن القتال والحرب. فتخوّف عمر على المسلمين وكره ذلك، فلم يزل عمرو يعظّم أمرها عنده، ويهوّن عليه فتحها، حتّى ركّن لذلك، فعقد له على أربعة آلاف رجل كلّهم من عكّ، ويقال: ثلاثة آلاف وخمسمائة. وقيل: ثلثهم من غافق، وقال له: سر وأنا مستخير الله فى مسيرك، وسيأتيك كتابى سريعا إن شاء الله تعالى، فإذا أدركك كتابى بالأنصراف عن مصر قبل أن تدخلها، أو شيئا من أرضها فانصرف، وإن أنت وصلتها قبل ذلك فامض لوجهك، واستعن بالله واستنصره. فسار عمرو من جوف اللّيل، ولم يشعر به أحد من النّاس، واستخار عمر الله تعالى، فكأنّه تخوّف على المسلمين فى وجههم ذلك. فكتب إلى عمرو أن ينصرف بمن معه، فأدركه الكتاب [1] وهو   [1] أبن عبد الحكم: «فأدرك الكتاب عمرا» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 285 برفح، فتخوّف إن هو أخذ الكتاب، وفتحه أن يجد فيه الانصراف، فلم يأخذه من الرّسول، ودافعه حتّى انتهى إلى قرية فيما بين رفح والعريش، فسأل عنها، فقيل: إنّها من أرض مصر، فأخذ الكتاب وقرأه على المسلمين، وقال لمن معه: ألستم تعلمون أنّ هذه القرية من مصر؟ قالوا: بلى: قال: فإنّ أمير المؤمنين عهد إلىّ وأمرنى إن لحقنى كتابه ولم أدخل مصر أن أرجع؛ ولم يلحقنى كتابه حتى دخلنا أرض مصر، فسيروا وامضوا على بركة الله عزّ وجلّ. وقد قيل: إنّ عمرو بن العاص كان بفلسطين، فقدم [1] بأصحابه إلى مصر بغير إذن عمر، وكتب إليه يعلمه، فكتب عمر إليه، فأتاه كتابه وهو دون العريش، فلم يقرأ كتابه حتّى بلغ العريش فقرأه، فإذا فيه: من عمر بن الخطّاب إلى عمرو بن العاص: أمّا بعد، فإنّك سرت إلى مصر ومن معك، وبها جموع الرّوم؛ وإنّما معك نفر يسير، ولعمرى لو كانوا بكلّ أمّتك [2] ما كانوا لذلك، وما سرت بهم، فإن لم تكن بلغت مصر فارجع. فقال عمرو: الحمد لله، أيّة أرض هذه؟ قالوا: من مصر. فتقدّم كما هو. ويقال: بل كان عمرو فى جنده بقيساريّة، فكتب إلى عمر بن الخطّاب، وعمر إذ ذاك بالجابية، وهو يستأذنه على [3] المسير إلى مصر، وأمر أصحابه فتنحّوا من منزلتهم كأنّهم   [1] ك: «فتقدم» . [2] ابن عبد الحكم: «ثكل أمك» . [3] ك: «يستأذنه بالمسير» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 286 يريدون أن يتحوّلوا من منزل إلى منزل، فسار بهم ليلا، فلمّا فقده أمراء الأجناد استنكروا فعله، ورأوا أن قد غرّر، فرفعوا ذلك إلى عمر، فكتب إليه: إلى العاصى ابن العاص، أمّا بعد، فإنّك قد غرّرت بمن معك، فإن أدركك كتابى ولم تدخل مصر فارجع، وإن أدركك وقد دخلت فامض، واعلم أنّى ممدّك. ويقال: إنّ عمر رضى الله عنه كتب إلى عمرو بعد فتح الشّام: أن اندب النّاس إلى المسير معك، فمن خفّ معك فسر به. وبعث بالكتاب مع شريك بن عبدة، فندبهم عمرو، وأسرع فى الخروج، ثم دخل عثمان بن عفّان رضى الله عنه على عمر، فأخبره عمر بذلك، فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ عمرا فيه إقدام وحبّ للإمارة، فأخشى أن يخرج فى غير ثقة ولا جماعة؛ فيعرّض المسلمين للتهلكة رجاء فرصة لا يدرى تكون أم لا! فندم عمر على كتابه إلى عمرو، وكتب إليه أن ينصرف إن كان لم يدخل أرض مصر على ما تقدّم. قالوا: ونفرت راشدة وقبائل من العرب مع عمرو، فسار بهم، فأدركه عيد النّحر بالعريش، فضحّى هناك. ولمّا بلغ المقوقس مسير عمرو إلى مصر، توجّه إلى الفسطاط، وكان يجهّز الجيوش على عمرو، وكان على القصر رجل من الرّوم، يقال له: الأعيرج واليا تحت يد المقوقس. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 287 وتقدّم عمرو فكان أوّل موضع قوتل به الفرما، قاتله الرّوم هناك قتالا شديدا. قال: وكان بالإسكندرية أسقفّ للقبط يقال له: أبو ميامين، فلمّا بلغه قدوم عمرو كتب إلى القبط يعلمهم أنّه لا يكون للرّوم دولة، وأنّ ملكهم قد انقطع، ويأمرهم بتلقّى عمرو. فيقال: إنّ القبط الّذين كانوا بالفرما كانوا يومئذ لعمرو أعوانا، ثم سار عمرو من الفرما لا يدافع إلّا بالأمر الخفيف، حتّى نزل بلبيس فقاتلوه بها نحوا من شهر حتّى فتح الله عليه، ثم مضى حتّى أتى أمّ دمين فقاتلوه بها قتالا شديدا، وأبطأ عليه الفتح، فكتب إلى عمر يستمدّه، فأمدّه بأربعة آلاف تمام ثمانية آلاف، فقاتلهم، وجاء رجل من لخم- قيل: هو خارجة بن حذافة إلى- عمر، فقال له: اندب معى خيلا حتّى آتى من ورائهم عند القتال [1] ، فأخرج معه خمسمائة فارس، فسار بهم من وراء الجبل حتّى دخلوا مغار بنى وائل قبيل الصّبح، وكانت الرّوم قد خندقوا خندقا، وجعلوا له أبوابا، وبثّوا فى أفنيتها حسك الحديد، فالتقى القوم حين [2] أصبحوا، وخرجت الخيل من ورائهم فانهزموا حتّى دخلوا الحصن، وهو القصر الّذى يقال له: بابليون.   [1] ك: «الباب» . [2] ك: «حتى» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 288 ذكر حصار القصر وما قيل فى كيفية الاستيلاء عليه وانتقال الروم والقبط إلى الجزيرة قال [1] : ولمّا انهزموا إلى القصر حصرهم عمرو بن العاص ومن معه حينا، وقاتلهم قتالا شديدا صباحا [2] ، ثم كتب إلى عمر يستمدّه، فأمّده بأربعة آلاف رجل، على كلّ ألف منهم رجل [وكتب إليه: قد أمددتك بأربعة آلاف] [3] على كلّ ألف رجل: الزّبير بن العّوام والمقداد بن عمرو، وعبادة بن الصّامت، وسلمة بن مخلد، ومنهم من جعل بدل سلمة خارجة بن حذافة وقال عمر له فى كتابه: اعلم أنّ معك اثنى عشر ألفا، ولا يغلب اثنا عشر ألفا من قلّة. وقيل: إنّه لمّا أشفق عمر، أرسل الزّبير فى اثنى عشر ألفا، فلمّا قدم تلقّاه عمرو، ثم أقبلا، فركب الزّبير وطاف بالخندق، وفرّق الرّجال حوله، وألحّ عمرو إلى القصر، ونصب عليه المنجنيق. وأبطأ الفتح. فقال الزّبير: إنّى أهب نفسى لله وأرجو أن يفتح الله بذلك على المسلمين، فوضع سلّما إلى جانب الحصّن من ناحية سوق الحمام، ثمّ صعد، وأمرهم أنّهم إذا سمعوا التّكبير أن يجيبوه جميعا، فلم يشعر الرّوم إلّا والزّبير على الحصن يكبّر وبيده السّيف، وتحامل النّاس على السّلّم حتى   [1] ابن عبد الحكم 61. [2] ابن عبد الحكم: «يصبحهم ويمسيهم» . [3] من ابن لحكم. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 289 خشى عمرو أن ينكسر بهم، فنهاهم، ولمّا صاروا بأعلى الحصن كبّروا جميعا، وأجابهم المسلمون من خارج الحصن، فما شكّ أهل الحصن أن العرب قد اقتحموا جميعا، فهربوا، فعمد الزّبير وأصحابه إلى باب الحصن ففتحوه، واقتحمه المسلمون؛ فحينئذ سأل المقوقس الصّلح على نفسه ومن معه؛ على أن يفرض للعرب على القبط دينارين على كلّ رجل منهم، فأجابهم عمرو إلى ذلك. وكان مكثهم على باب القصر حتّى فتحوه سبعة أشهر، والله تبارك وتعالى أعلم. قال ابن عبد الحكم: وقد [1] سمعت فى فتح القصر وجها آخر، ورواه بسنده إلى خالد بن يزيد، عن جماعة من التّابعين، يزيد حديث بعضهم على حديث بعض، قالوا: لمّا حصر المسلمون بابليون، وبه جماعة من الرّوم، وأكابر القبط وعليهم المقوقس، فقاتلهم شهرا، فلمّا رأى القوم الجدّ من المسلمين تنحىّ المقوقس وجماعة من أكابر القبط ورؤسائهم، وخرجوا من باب القصر القبلىّ، ودونهم جماعة يقاتلون العرب، فلحقوا بالجزيرة. قال: وهى موضع الصّناعة اليوم، وأمروا بقطع الجسر، وذلك فى زمن زيادة النّيل، وتخلّف الأعيرج بالقصر بعد المقوقس، ثم تحوّل إلى الجزيرة فى السّفن. والله أعلم.   [1] ابن عبد الحكم 64 وما بعدها. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 290 ذكر ارسال المقوقس الى عمرو فى طلب الصلح وجواب عمرو له واجتماع المقوقس وعبادة بن الصامت وما وقع بينهما من الكلام وقبول المقوقس الجزية قال [1] : وأرسل المقوقس إلى عمرو يقول: إنّكم قد ولجتم بلادنا [2] ، وألححتم على قتالنا، وطال مقامكم فى أرضنا؛ وإنّما أنتم عصبة يسيرة، وقد أظلّتكم الرّوم ومعهم من العدد والسّلاح، وقد أحاط بكم هذا النّيل، وإنما أنتم أسارى فى أيدينا، فابعثوا إلينا رجالا منكم نسمع منهم؛ فلعله أن يأتى الأمر فيما بيننا وبينكم على ما تحبّون ونحبّ، وينقطع عنّا وعنكم هذا القتال قبل أن تغشاكم جموع الرّوم؛ فلا ينفعنا الكلام ولا نقدر عليه، ولعلّكم أن تندموا ... ونحو ذلك من الكلام. فلما أتت رسول المقوقس عمرا حبسهم عنده يومين وليلتين؛ حتى خاف عليهم المقوقس وقال لأصحابه: أترون أنّهم يقتلون الرّسل ويحبسونهم، ويستحلّون ذلك فى دينهم؟ وإنّما أراد عمرو بذلك أن يروا حال المسلمين، ثم ردّهم عمرو. وأجابه مع رسله: إنّه ليس بينى وبينكم إلّا إحدى ثلاث خصال: إمّا أن دخلتم فى الإسلام وكنتم إخواننا، وكان لكم مالنا، وعليكم ما علينا، وإن أبيتم   [1] ابن عبد الحكم 65. [2] ابن عبد الحكم: «فى بلادنا» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 291 فأعطيتم الجزية عن يد وأنتم صاغرون. وإما أن جاهدناكم بالصبر والقتال حتى يحكم الله بيننا وبينكم، وهو خير الحاكمين. فلمّا جاءت رسل المقوقس إليه، قال: كيف رأيتم هؤلاء؟ قالوا: رأينا قوما، الموت أحبّ إلى أحدهم من الحياة، والتّواضع أحبّ إليهم من الرّفعة، ليس لأحدهم فى الدّنيا رغبة ولا نهمة؛ إنّما جلوسهم على التّراب، وأكلهم على الرّكب، وأميرهم كواحد منهم، ما يعرف رفيعهم من وضيعهم، ولا السّيّد فيهم من العبد، وإذا حضرت الصّلاة لم يتخلّف عنها منهم أحد، يغسلون أطرافهم بالماء، ويتخشّعون فى صلاتهم. فقال المقوقس: والّذى يحلف به، لو أنّ هؤلاء استقبلوا الجبال لأزالوها، وما يقوى على قتال هؤلاء أحد؛ ولئن لم نغتنم صلحهم اليوم وهم محصورون بهذا النّيل لم يجيبونا بعد اليوم، إذا أمكنتهم الأرض وقووا على الخروج من موضعهم. ثم ردّ رسله إلى المسلمين، أن ابعثوا إلينا رسلا منكم، نعاملهم ونتداعى نحن وهم إلى ما عساه ان يكون فيه صلاح لنا ولكم. فبعث عمرو بن العاص عشرة نفر، أحدهم عبادة بن الصّامت، وأمره أن يكون متكلّم القوم، وألّا يجيبهم إلى شىء دعوه إليه إلّا إلى إحدى هذه الثّلاث خصال. فلمّا دخلوا على المقوقس تقدّم عبادة، فهابه المقوقس لسواده، فقال: نحّوا عنّى هذا الأسود. وقدّموا غيره يكلّمنى. فقالوا جميعا: إنّ هذا الأسود أفضلنا رأيا وعلما، وهو سيّدنا وخيرنا، والمقدّم الجزء: 19 ¦ الصفحة: 292 علينا، وإنّما نرجع جميعا إلى قوله ورأيه، وقد أمره الأمير دونتا بما أمره به، وأمرنا ألّا نخالف رأيه وقوله، قال: وكيف رضيتم أن يكون هذا الأسود أفضلكم، وإنّما ينبغى أن يكون دونكم. قالوا: إنّه وإن كان أسود كما ترى، فإنّه من أفضلنا موضعا، وأفضلنا سابقة وعقلا ورأيا، وليس ينكر السّواد فينا. فقال المقوقس لعبادة: تقدّم يا أسود وكلّمنى برفق، فإنّى أهاب سوادك، وإن اشتدّ كلامك علىّ ازددت [1] لذلك هيبة، فتقدّم إليه عبادة فقال: قد سمعت مقالك، وإنّ فيمن خلّفت من أصحابى ألف رجل كلّهم أشدّ سوادا منى، وأفظع منظرا؛ ولو سمعتهم ورأيتهم لكنت أهيب لهم منك لى، وأنا قد ولّيت وأدبر شبابى، وإنّى بحمد الله مع ذلك ما أهاب مائة رجل من عدوّى لو استقبلونى جميعا، وكذلك أصحابى؛ وذلك إنّما رغبتنا وهمّتنا الجهاد فى سبيل الله واتّباع رضوانه، وليس غزونا ممّن حارب الله لرغبة فى دنيا ولا طلبا للاستكثار منها؛ إلا أن الله عزّ وجلّ أحلّ ذلك لنا، وجعل ما غنمنا من ذلك حلالا، وما يبالى أحدنا أكان له قنطار من ذهب أم كان لا يملك إلّا درهما؛ لأنّ غاية أحدنا من الدّنيا أكلة يأكلها يسدّ بها جوعته لليله ونهاره [2] ، وشملة يلتحفها. فإن كان أحدنا لا يملك إلّا ذلك كفاه؛ وإن كان له قنطار من ذهب أنفقه فى طاعة الله تعالى، واقتصر على هذا الّذى بيده، وبلّغه ما كان فى الدّنيا؛ لأنّ الدّنيا ليست بنعيم، ورخاؤها ليس برخاء، وإنّما النّعيم والرّخاء فى الآخرة؛   [1] ك: «أردت» ، تخريف. [2] ك: «ليله ونهاره» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 293 وبذلك أمرنا ربّنا عزّ وجلّ، وأمرنا به نبيّنا، وعهد إلينا ألّا تكون همّة أحدنا من الدّنيا إلّا ما يمسك جوعته، ويستر عورته، وتكون همّته وشغله فى رضا ربّه، وجهاد عدوّه. فلمّا سمع المقوقس ذلك منه، قال لمن حوله: هل سمعتم مثل كلام هذا الرّجل قطّ؟ لقد هبت منظره، وإنّ قوله لأهيب عندى من منظره، إنّ هذا وأصحابه أخرجهم الله لخراب الأرض، ما أظنّ ملكهم إلّا سيغلب على الأرض كلّها. ثم أقبل على عبادة فقال: أيّها الرجل الصّالح، قد سمعت مقالتك، وما ذكرت عنك وعن أصحابك، ولعمرى ما بلغتم ما بلغتم إلّا بما ذكرت، وما ظهرتم على من كان إلّا لحبّهم الدّنيا ورغبتهم فيها، وقد توجّه إلينا لقتالكم من جمع الرّوم ما لا يحصى عدده، قوم معروفون بالنّجدة والشّدة، لا يبالى أحدهم من لقى ولا من قاتل، وإنّا لنعلم أنّكم لن تقووا عليهم ولن تطيقوهم لضعفكم وقلّتكم، وقد أقمتم بين أظهرنا أشهرا، وأنتم فى ضيق وشدّة من معاشكم وحالكم، ونحن نرقّ عليكم لضعفكم وقلّتكم، وقلّة ما بأيديكم، ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم، على أن نفرض لكلّ رجل منكم دينارين، ولأميركم مائة دينار، ولخليفتكم ألف دينار، تقبضونها وتنصرفون إلى بلادكم، قبل أن يغشاكم ما لا قوام لكم به. فقال عبادة: يا هذا، لا تغرّنّ نفسك ولا أصحابك، أمّا ما تخوّفنا به من جمع الرّوم وعددهم وكثرتهم، وأنّا لا نقوى عليهم؛ فلعمرى ما هذا بالذى تخوّفنا به، ولا بالّذى يكسرنا عمّا نحن الجزء: 19 ¦ الصفحة: 294 فيه؛ إن كان ما قلتم حقا؛ فذلك والله أرغب ما يكون فى قتالهم، وأشدّ تحريضا عليهم؛ لأنّ ذلك أعذر لنا عند ربّنا إذا قدمنا عليه؛ إن قتلنا عن آخرنا كان أمكن لنا فى رضوانه وجنّته، وما من شىء أقرّ لأعيننا ولا أحبّ إلينا من ذلك، وإنّا منكم حينئذ لعلى إحدى الحسنيين: إمّا أن تعظم لنا بذلك غنيمة الدنيا إن ظفرنا بكم، أو غنيمة الآخرة إن ظفرتم بنا؛ وإنّها لأحبّ الخصلتين إلينا بعد الاجتهاد منّا، وإنّ الله عزّ وجلّ قال لنا فى كتابه: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [1] . وما منّا رجل إلّا وهو يدعو ربّه صباحا ومساء أن يرزقه الله الشّهادة وألّا يردّه إلى بلده، ولا إلى أرضه، ولا إلى أهله وولده، وليس لأحد منّا همّ فيما خلّفه، وقد استودع كلّ منّا ربّه أهله وولده؛ وإنّما همّنا ما أمامنا. وأمّا قولك: إنّا فى ضيق وشدّة من معاشنا وحالنا، فنحن فى أوسع السّعة؛ لو كانت الدّنيا كلّها لنا ما أردنا منها لأنفسنا أكثر ممّا نحن عليه، فانظر الّذى تريد فبيّنه لنا؛ فليس بيننا وبينكم خصلة نقبلها منك ولا نجيبك إليها إلّا خصلة من ثلاث، فاختر أيّها شئت، ولا تطمع نفسك بالباطل؛ بذلك أمرنى أميرى، وبها أمره أمير المؤمنين، وهو عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم من قبل إلينا. إمّا أجبتم إلى الإسلام الّذى هو الدّين الّذى لا يقبل الله تعالى   [1] سورة البقرة 249. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 295 غيره، وهو دين أنبيائه ورسله وملائكته. أمرنا الله أن نقاتل من من خالفه ورغب عنه؛ حتى يدخل فيه، فإن فعل فإنّ له مالنا، وعليه ما علينا، وكان أخانا فى دين الله. فإن قبلت ذلك أنت وأصحابك فقد سعدتم فى الدنيا والآخرة، ورجعنا عن قتالكم، ولم نستحلّ أذاكم، ولا التّعرض لكم، وإن أبيتم إلّا الجزية، فأدّوا إلينا الجزية عن يد وأنتم صاغرون، نعاملكم على شىء نرضى به نحن وأنتم فى كلّ عام أبدا، ما بقينا وبقيتم، ونقاتل من ناوأكم وعرض لكم فى شىء من أرضكم وبلادكم وأموالكم، ونقوم بذلك إن كنتم فى ذمّتنا، وكان لكم به عهد الله إلينا، وإن أبيتم فليس بيننا وبينكم إلّا المحاكمة بالسّيف حتى نموت عن آخرنا، أو نصيب ما نريد منكم، هذا ديننا الّذى ندين الله تعالى به، ولا يجوز لنا فيما بيننا وبينه غيره، فانظروا لأنفسكم. فقال له المقوقس: هذا ما لا يكون أبدا، ما تريدون إلّا أن تتّخذونا خولا أو نكون لكم عبيدا ما كانت الدّنيا. فقال عبادة: هو ذاك، فاختر ما شئت. قال: أفلا تجيبوننا إلى خصلة غير هذه الخصال؟ فرفع عبادة يديه فقال: لا وربّ هذه السّماء، وربّ هذه الأرض، وربّنا وربّ كلّ شىء، مالكم عندنا خصلة غيرها، فاختاروا لأنفسكم. فالتفت المقوقس عند ذلك إلى أصحابه فقال: قد فرغ القوم، فما تريدون؟ فقالوا: أو يرضى أحد بهذا الذّلّ! أمّا ما أرادوا من الجزء: 19 ¦ الصفحة: 296 دخولنا فى دينهم فهذا ما لا يكون أبدا؛ أن نترك دين المسيح بن مريم، وندخل فى دين غيره ولا نعرفه. وأمّا ما أرادوا من أن يسبونا ويجعلونا عبيدا أبدا، فالموت أيسر من ذلك، لو رضوا منّا أن نضعف لهم ما أعطيناهم مرارا كان أهون علينا. فقال المقوقس لعبادة: قد أبى القوم، فما ترى؟ فراجع صاحبك على أن نعطيكم فى مرّتكم هذه ما تمنّيتم وتنصرفون. فقام عبادة وأصحابه، فقال المقوقس لمن حوله: أطيعونى وأجيبوا القوم إلى خصلة من هذه الثّلاث، فو الله ما لكم بهم طاقة، ولئن لم تجيبوا إليها طائعين لتجيبنّهم إلى ما هو أعظم كارهين. قالوا: وأىّ خصلة تجيبهم إليها؟ قال: إذا أخبركم؛ أمّا دخولكم فى غير دينكم فلا آمركم به، وأمّا قتالهم فأنا أعلم أنّكم لن تقووا عليهم، ولن تصبروا صبرهم، ولا بدّ من الثّالثة. قالوا: أفنكون لهم عبيدا أبدا! قال: نعم، تكونون عبيدا مسلّطين فى بلادكم، آمنين على أنفسكم، وأموالكم وذراريّكم، خير لكم من أن تموتوا عن آخركم، وتكونوا عبيدا تباعون وتمزّقون فى البلاد، مستعبدين أبدا فى البلاد. أنتم وأهلوكم وذراريّكم. قالوا: فالموت أهون علينا. فأمروا بقطع الجسر بين الفسطاط والجيزة، وبالقصر من القبط والرّوم جمع كثير، فألحّ عليهم المسلمون عند ذلك بالقتال؛ حتى ظفروا بمن فى القصر، فقتلوا منهم خلقا كثيرا، وأسروا من أسروا، وانحازت السّفن كلّها إلى الجزيرة. هذا والمسلمون قد أحدق بهم الماء من كلّ وجه، لا يقدرون على أن الجزء: 19 ¦ الصفحة: 297 يتقدّموا نحو الصّعيد ولا غيره من المدائن والقرى، والمقوقس يقول لأصحابه: ألم أعلمكم هذا وأخافه عليكم؟ ما تنتظرون؟ فو الله لنجيبنّهم إلى ما أرادوا طوعا، أو لنجيبنّهم إلى ما هو أعظم منه كرها، فأطيعونى من قبل أن تندموا؛ فعند ذلك أذعنوا إلى الجزية، ورضوا بها على صلح يكون بينهم يعرفونه. فأرسل المقوقس إلى عمرو يقول له: إنّى لم أزل حريصا على إجابتك إلى خصلة من تلك الخصال التى أرسلت إلىّ بها، فأبى ذلك علىّ من حضرنى من الرّوم والقبط، فلم يكن لى أن أفتات عليهم فى أموالهم، وقد عرفوا نصحى لهم، وحبّى صلاحهم، ورجعوا إلى قولى، فأعطنى أمانا أجتمع أنا وأنت فى نفر من أصحابى وأصحابك؛ فإن استقام الأمر بيننا تمّ ذلك لنا جميعا، وإن لم يتمّ رجعنا إلى ما كنّا عليه. فاستشار عمرو أصحابه فى ذلك فقالوا: لا تجبهم إلى شىء من الصّلح ولا الجزية حتى يفتح الله علينا، وتصير كلّها لنا فيئا وغنيمة كما صار القصر لنا وما فيه. فقال عمرو: قد علمتم ما عهد إلىّ أمير المؤمنين فى عهده، فإن أجابوا إلى خصلة من الخصال الثّلاث الّتى عهد إلىّ فيها أجبتهم إليها، وقبلت منهم مع ما قد حال هذا الماء بيننا وبين ما نريد من قتالهم. فاجتمعوا على عهد بينهم، واصطلحوا على أن يفرض على جميع من بمصر أعلاها وأسفلها من القبط دينارين عن كلّ نفس: شريفهم الجزء: 19 ¦ الصفحة: 298 ووضيعهم وضعيفهم، ومن بلغ الحلم منهم، ليس على الشّيخ الفانى، ولا على الصّغير الذى لم يبلغ الحلم، ولا النساء شىء، وعلى أنّ للمسلمين عليهم النّزل بجماعتهم حيث نزلوا، ومن نزل عليه ضيف واحد من المسلمين، أو أكثر من ذلك كانت لهم ضيافة ثلاثة أيّام، مفترض ذلك عليهم، وأنّ لهم أرضهم وأموالهم لا يتعرّض لهم فى شىء منها، فشرط هذا كلّه على القبط خاصّة، وأحصوا عدد القبط يومئذ خاصّة من بلغ منهم الجزية، وفرض عليه الديناران، رفع ذلك عرفاؤهم بالأيمان المؤكدّة، فكان جميع من أحصى منهم بمصر أكثر من ستّة ألاف ألف نفس، فكانت فريضتهم يومئذ اثنى عشر ألف ألف دينار فى كلّ سنة. وروى عن يحيى بن ميمون الحضرمىّ، قال: بلغت عدّتهم ثمانية آلاف ألف. قال: وشرط المقوقس للرّوم أن يخيّروا، فمن أحبّ منهم أن يقيم على مثل هذا المقام أقام على ذلك لازما له، مفترضا عليه ممّن أقام بالإسكندرّية، وما حولها من أرض مصر كلّها، ومن أراد الخروج منها إلى أرض الرّوم خرج، وعلى أنّ للمقوقس الخيار فى الرّوم خاصّة، حتى يكتب إلى ملك الرّوم يعلمه ما فعل، فإن قبل ذلك ورضيه جاز عليهم، وإلا كانوا جميعا عليه، وكتبوا به كتابا، وكتب المقوقس إلى ملك الروم كتابا يعلمه بالأمر كلّه. فكتب إليه يقبّح رأيه ويعجّزه ويردّ عليه ما فعل، وأمره بقتال الجزء: 19 ¦ الصفحة: 299 المسلمين بالرّوم إن أبى القبط القتال، وكتب إلى جماعة الرّوم بمثل ذلك. فجمع المقوقس الرّوم وقال: اعلموا يا معشر الرّوم أنّى والله لا أخرج ممّا دخلت فيه، بعد أن ذكر لهم شجاعة العرب وصبرهم وجلدهم وحبّهم الموت وغير ذلك من حالهم، ثم قال: والله إنّى لأعلم أنّكم سترجعون غدا إلى قولى ورأيى، وتتمنّون أن لو كنتم أطعتمونى؛ وذلك أنّى قد عاينت ورأيت، وعرفت ما لم يعاين الملك، ولم يره ولم يعرفه. أما يرضى أحدكم أن يكون آمنا فى دهره على نفسه وماله وولده بدينارين فى السّنة! ثم أقبل المقوقس على عمرو بن العاص فقال له: إنّ الملك قد كره ما فعلت، وعجزّنى، وكتب إلىّ وإلى جماعة الرّوم ألّا نرضى بمصالحتك، وأمرهم بقتالك حتى يظفروا بك، أو تظفر بهم، ولم أكن أخرج ممّا دخلت فيه، وعاقدتك عليه؛ وإنّما سلطانى على نفسى ومن أطاعنى، فقد تمّ صلح القبط فيما بينك وبينهم، ولم يأت من قبلهم نقض. وأمّا الرّوم فأنا منهم برىء، وأنا أطلب إليك أن تعطينى ثلاث خصال، قال عمرو: وما هى؟ قال: لا تنقض بالقبط، وأدخلنى معهم، وألزمنى ما ألزمتهم، وقد اجتمعت كلمتى وكلمتهم على ما عاهدتك عليه، فهم مقيمون لك عل ما تحبّ. وأما الثانية، فإن سألك الرّوم بعد اليوم أن تصالحهم الجزء: 19 ¦ الصفحة: 300 فلا تصالحهم حتّى تجعلهم فيئا وعبيدا؛ فإنّهم أهل ذلك؛ فإنّى نصحتهم فاستغشّونى [1] . وأمّا الثّالثة: فأطلب إليك إن أنا متّ أن تأمرهم [2] يدفنونى فى أبى يحنّس بالإسكندريّة. فأجابه عمرو إلى ما طلب على أن يقيموا له الجسرين جميعا، والجسور ما بين الفسطاط إلى الإسكندريّة، ويقيموا لهم الأنزال والضّيافة والأسواق، ففعلوا ذلك، وسارت القبط أعوانا للمسلمين على الرّوم.   [1] ابن عبد الحكم 73: «فاستغشوا نصحى» . [2] ص: «إن تأمرهم يدفنى» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 301 ذكر مسير عمرو لقتال الروم وما كان من الحروب بينهم إلى أن فتحت الإسكندرية قال [1] : واستعدّت الرّوم واستجاشت، وقدمت عليهم مراكب كثيرة من أرض الرّوم، فيها جمع من الرّوم عظيم بالعدّة والسّلاح، فخرج إليهم عمرو بن العاص، ومن معه، وذلك حين أمكنه الخروج، وخرج معه جماعة من رؤساء القبط وقد أصلحوا لهم الطّرق، وأقاموا الجسور والأسواق، وخرج عمرو فلم يلق من الروم أحدا حتّى بلغ ترنوط، فلقى بها طائفة من الرّوم، فقاتلوه قتالا خفيفا، فهزمهم، ومضى بمن معه حتى لقى جمع الرّوم بكوم شريك، فاقتتلوا به ثلاثة أيّام، ثم فتح الله على المسلمين، وانهزم الرّوم. وقيل: بل لمّا انهزموا من ترنوط، بعث عمرو بن العاص شريك ابن سمىّ فى آثارهم، وكان على مقدّمة عمرو، فأدركهم شريك عند الكوم [2] ، فقاتلهم، فمن النّاس من يقول: إنّه هزمهم، ومنهم من يقول: إنّه قاتلهم إلى الكوم، فاعتصم به، وأحاطت به الرّوم، فأمر شريك أبا ناعمة مالك بن ناعمة الصّدفى، وهو صاحب الفرس الأشقر الذى يقال له: أشقر صدف، وكان لا يجارى، فانحطّ عليهم من الكوم، وطلبته الرّوم فلم تدركه، فأتى عمرا   [1] ابن عبد الحكم 73. [2] ابن عبد الحكم: «عند الكوم الذى يقال له كوم شريك» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 302 فأخبره، فأقبل عمرو نحو الروم فأنهزموا، وبالفرس الأشقر [1] هذا سمّيت خوخة الأشقر الّتى بمصر؛ وذلك أنّه نفق [2] فدفنه صاحبه هناك، فسمّى المكان به. قال: ثمّ التقى عمرو والرّوم لسليطس، فاقتتلوا بها قتالا شديدا، ثم هزمهم الله [3] . ثم التقوا بالكريون فاقتتلوا هناك بضعة عشر يوما، وكان ابنه عبد الله بن عمرو على المقدّمة، ففشت فيه الجراحة وصلّى عمرو بالنّاس صلاة الخوف، بكلّ طائفة ركعة وسجدتين. ثم فتح الله على المسلمين، وقتلوا من الرّوم مقتلة عظيمة، واتّبعوهم حتّى بلغوا الإسكندرية فتحصّن بها الرّوم، وكانت عليهم حصون منيعة، حصن دون حصن، فنزل المسلمون ما بين حلوة إلى قصر فارس، إلى ما وراء ذلك، ومعهم رؤساء القبط، يمدّونهم بما احتاجوا من الأطعمة والأعلاف. هذا ورسل ملك الرّوم تختلف إلى الإسكندرية فى المراكب، والأمداد تأتيهم من قبله، وكان يقول: لئن ظهرت العرب على الإسكندريّة كان ذلك انقطاع ملك الرّوم وهلاكهم؛ لأنّه ليس للرّوم كنائس أعظم من كنائس الإسكندريّة، ونجهّز الملك ليباشر القتال بنفسه، وأمر ألّا يتخلّف عليه أحد من الرّوم، وقال: ما بقاء   [1] ابن عبد الحكم: «الفرس الأشقر الذى يقال له: «أشقر صدف وكان لا يجارى سرعة» . [2] نفق، أى هلك. [3] بعدها فى ابن عبد الحكم: «وكان عبد الله بن عمرو على المقدمة، وحامل اللواء يومئذ وردان مولى عمرو» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 303 الرّوم بعد الإسكندرية! فلمّا فرغ من جهازه أهلكه الله فمات وكفى الله المسلمين مؤنته. وكان موته فى سنة تسع عشرة، فكسر الله بموته شوكة الرّوم، ورجع جمع كبير ممّن كان توجّه لإعانة أهل الإسكندرية، فاستأسدت العرب عند ذلك، وألحّت بالقتال، فقاتلوا قتالا شديدا، فبرز رجل من الروم، وبرز له مسلمة بن مخلد، فصرعه الرّومىّ وألقاه عن فرسه، وأهوى إليه ليقتله حتّى حماه رجل من أصحابه، وكان مسلمة لا يقام له؛ ولكن غلبته المقادير، فشقّ ذلك على المسلمين. وكان مسلمة ثقيل للبدن، كثير اللّحم، فاشتدّ غضب عمرو، وقال: ما بال الرّجل المستّه الّذى يشبه النّساء يتعرّض إلى مداخل الرجال ويتشبّه بهم! فغضب مسلمة من ذلك ولم يراجعه، ثم اشتدّ القتال حتّى اقتحم المسلمون حصن الإسكندريّة، وقاتلوا فيه، ثم جاشت الرّوم حتّى أخرجوهم جميعا من الحصن، إلّا أربعة، منهم عمرو ابن العاص، ومسلمة بن مخلد، فأغلقوا الحصن عليهم، والتجئوا إلى ديماس [1] من حمّامات الروم، فأنزل الرّوم روميّا يتكلّم بالعربيّة، فقال لهم: إنّكم قد سرتم أسارى فى أيدينا، فاستأسروا ولا تقتلوا أنفسكم. ثم قال لهم: إنّ فى أيدى أصحابكم منّا رجالا أسروهم، ونحن نعطيكم العهود ونفادى بكم أصحابنا، ولا نقتلكم، فأبوا عليهم.   [1] الديماس: الحمام. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 304 ثم قال لهم الرّومّى: فهل لكم إلى خصلة وهى نصف فيما بيننا وبينكم، أن تعطونا العهد ونعطيكم مثله؛ على أن يبرز منّا رجل، ومنكم رجل، فإن غلب صاحبنا صاحبكم استأسرتم لنا، وأمكنتمونا من أنفسكم، وإن غلب صاحبكم صاحبنا خلّينا سبيلكم. فرضوا بذلك وتعاهدوا عليه. فبرز رجل من الرّوم وقد وثقت الرّوم بنجدته وشدّته، فأراد عمرو أن يبرز فمنعه مسلمة وقال: أنا أكفيك إن شاء الله. فقال عمرو: دونك؛ فربّما فرّجها الله بك. فبرز مسلمة للرّومّى فتجاولا ساعة، ثم أعان الله مسلمة فقتله، وكبّر وكبّر أصحابه، ووفى لهم الرّوم بما عاهدوهم عليه، ففتحوا لهم باب الحصن، فخرجوا، والرّوم لا يدرون أن أمير القوم فيهم، ثم بلغهم ذلك، فأسفوا على ما فاتهم منه، وندم عمرو واستحبا من مقالته لمسلمة ما قال، فاستغفر له عمرو. قال [1] : ولمّا أبطأ الفتح على عمر، كتب إلى عمرو: أمّا بعد، فقد عجبت لإبطائكم عن فتح مصر، وأنكم تقاتلونهم منذ سنتين؛ وما ذاك إلّا لما أخذتم [2] وأحببتم من الدنيا ما أحبّ عدوّكم، وإنّ الله تعالى لا ينصر قوما إلا بصدق نيّاتهم. وقد كنت وجّهت إليك أربعة نفر، وأعلمتك أنّ الرجل منهم مقام ألف رجل على ما كنت أعرف؛ إلّا أن يكونوا غيّرهم ما غيّر غيرهم، فإذا أتاك كتابى هذا فاخطب النّاس وحضّهم على قتال   [1] ابن عبد الحكم: 79. [2] ابن عبد الحكم: «أحدثتم» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 305 عدوّهم، ورغّبهم فى الصّبر والنّيّة، وقدّم أولئك الأربعة فى صدور النّاس، ومر النّاس جميعا أن تكون لهم صدمة كصدمة رجل واحد وليكن ذلك عند الزّوال يوم الجمعة؛ فإنّها ساعة نزول الرّحمة، ووقت الإجابة، وليعجّ الناس إلى الله ويسألوه النّصر. ففعلوا ففتح الله عليهم. قال [1] : ويقال: إن عمرو بن العاص استشار مسلمة بن مخلد فى قتال الرّوم، فقال له مسلمة: أرى أن تنظر إلى رجل له معرفة وتجارب من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنعقد له على الناس، فيكون هو الّذى يباشر القتال ويكفيكه. فقال عمرو: ومن ذاك؟ قال: عبادة بن الصّامت. فدعا عمرو عبادة، فأتاه وهو راكب على فرسه، فلمّا دنا منه أراد النّزول، فعزم عمرو عليه ألّا يفعل، وقال: ناولنى سنان رمحك، فناوله عبادة إيّاه، فنزع عمرو عمامته عن رأسه وعقد له وولّاه قتال الرّوم. فتقدّم عبادة فصافّ [2] الرّوم وقاتلهم، ففتح الله على يديه الإسكندريّة من يومه ذلك، وكان حصارهم الإسكندرية أربعة عشر شهرا، خمسة أشهر فى حياة هرقل، وتسعة أشهر بعد موته، وفتحت يوم الجمعة مستهلّ المحرّم، سنة عشرين، وقتل من المسلمين على الإسكندرية فى طول هذه المدة اثنان وعشرون رجلا.   [1] ابن عبد الحكم 79. [2] كذا فى ابن عبد الحكم، وفى الأصول: «فصادف» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 306 ذكر الفتح الثانى وما وجد بالاسكندرية وعدة من ضربت عليه الجزية قال:: ولمّا [1] فتحت، الإسكندريّة هرب الرّوم منها فى البرّ والبحر، فخلّف عمرو من أصحابه بها ألف رجل، ومضى فى طلب من انهزم من الروم فى البر، فرجع من كان هرب منهم فى البحر إلى الإسكندرية، فقتلوا من كان بها من المسلمين إلّا من هرب منهم، وبلغ ذلك عمرا، فكرّ راجعا إليها، ثأتاد رجل يقال له ابن بسّامة، كان بوابا بالإسكندريّة، فسأل عمرا أن يؤمنّه على نفسه وأرضه وأهل بيته ويفتح له الباب، فأجابه عمرو إلى ذلك، ففتح له ابن بسّامة، فدخل عمرو، وكان مدخله من ناحية القنطرة التى يقال لها قنطرة سليمان، وكان مدخله الأوّل من باب المدينة الذى من ناحية كنيسة الذّهب، ووفى عمرو لابن بسّامة [2] . وبعث عمرو إلى عمر بن الخطّاب معاوية بن حديج بشيرا بالفتح، فقال معاوية: ألا تكتب معى كتابا؟ فقال عمرو: وما أصنع بالكتاب! ألست رجلا عربيا تبلّغ الرسالة، وما رأيت وحضرت! فقدم على عمر فأخبره [3] الخبر، فخرّ ساجدا، وجمع النّاس وأخبرهم، ثمّ كتب عمرو بعد ذلك إلى عمر:   [1] ابن عبد الحكم: ص 80 وما بعدها. [2] بعدها فى ابن عبد الحكم: «وقد بقى لابن بسامة عقب بالإسكندرية إلى اليوم» . [3] ابن عبد الحكم: «فلما قدم على عمر أخبره بفتح الإسكندرية» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 307 أمّا بعد، فإنّى قد فتحت مدينة لا أصف ما فيها؛ غير أنّى أصبت فيها أربعة آلاف بنية [1] ، بأربعة آلاف حمّام، وأربعين ألف يهودىّ عليهم الجزية، وأربعمائة ملهى للملوك. قال ابن عبد الحكم [2] : لمّا فتح عمرو الإسكندريّة وجد فيها اثنى عشر ألف بقّال يبيعون البقل الأخضر. قال: ورحل [3] منها فى اللّيلة التى دخل فيها عمرو بن العاص، أو فى اللّيلة التى خافوا فيها دخوله سبعون ألف يهودىّ. قال: وقال حسين بن شفىّ بن عبيد: كان بالإسكندرية فيما أحصى من الحمّامات اثنا عشر ديماسا، أصغر ديماس منها يسع ألف مجلس، كلّ مجلس منها يسع جماعة نفر. وكان عدّة من بالإسكندريّة من الرّوم مائتى ألف من الرّجال، فلحق بأرض الرّوم أهل القوّة، وركبوا السّفن، وكان بها مائة مركب من المراكب الكبار، فحمل فيها ثلاثون ألفا مع ما قدروا عليه من المال والمتاع والأهل، وبقى من بقى من الأسارى ممّن بلغ الخراج، فأحصى يومئذ ستمائة ألف سوى النساء والصّبيان، فاختلف النّاس على عمرو فى قسمهم، وكان أكثر النّاس يريدون قسمها. فكتب عمرو إلى عمر يستأذنه فى ذلك، فكتب إليه عمر: لا تقسمها، وذرهم يكون خراجهم فيئا للمسلمين وقوّة لهم على جهاد عدوّهم، فأقرّها عمرو، وكانت مصر كلّها صلحا بفريضة دينارين   [1] ابن عبد الحكم: «منية» تحريف. [2] فتوح مصر لابن عبد الحكم 82. [3] ابن عبد الحكم: «ترحل» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 308 دينارين على كلّ رجل لا يزاد على أحد منهم فى جزية رأسه أكثر من ذلك؛ إلّا أنّه يلزم بقدر ما يتوسّع فيه من الأرض والزّرع، إلا الإسكندريّة، فإنّهم كانوا يؤدّون الجزية والخراج على قدر ما يرى من وليّهم؛ لأنّ الإسكندرية فتحت عنوة من غير عهد ولا عقد، ولم يكن لهم صلح ولا ذمّة. قال: وكانت قرى من مصر قاتلت المسلمين، وظاهروا الرّوم عليهم، وهى: بلهيب، وقرية الخيس، وسلطيس، وقرسطا، وسخا. فسبوا، فوقعت سباياهم بالمدينة، فردّهم عمر بن الخطّاب إلى قراهم، وصيّرهم وجماعة القبط ذمّة، وكتب بردّهم. وقيل: إنّما كتب عمر فى أهل سلطيس خاصّة يقول: من كان منهم فى أيديكم، فخيّروه بين الإسلام، فإن أسلم فهو من المسلمين، له ما لهم، وعليه ما عليهم، وان اختار دينه فخلّوا بينه وبين قريته، وأن تجعل القرى الّتى ظاهرت مع الإسكندريّة ذمّة للمسلمين، يضربون عليها الخراج. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 309 ذكر من قال ان مصر فتحت عنوة قال [1] : وقد ذهب آخرون إلى أنّ مصر فتحت عنوة بغير عهد ولا عقد. روى عن سفيان بن وهب الخولانىّ، قال: لمّا فتحنا مصر بغير عهد قام الزّبير بن العوّام، فقال: اقسمها يا عمرو، فقال عمرو: والله لا أقسمها حتى أكتب إلى أمير المؤمنين. فكتب إلى عمر، فأجابه أن أقرّها حتّى يغزو منها حبل الحبلة. وقيل: إنّ الزّبير صولح على شىء أرضى به. وروى ابن لهيعة بسنده إلى عمرو بن العاص أنّه قال: لقد قعدت مقعدى هذا وما لأحد من قبط مصر علىّ عهد، إن شئت قتلت، وإن شئت خمّست، وإن شئت بعت إلّا أهل أنطابلس؛ فإنّ لهم عهدا نوفى لهم به. وعن ربيعة بن أبى عبد الرّحمن أن عمرو بن العاص فتح مصر بغير عهد ولا عقد، وأنّ عمر بن الخطاب حبس درّها وضرعها [2] ؛ أن يخرج منه شىء نظرا للإسلام وأهله. وعن عروة بن الزّبير: أنّ مصر فتحت عنوة. وعن عبد الملك بن جنادة قال: كتب حيّان بن شريح- وكان من أهل مصر من موالى قريش- إلى عمر بن عبد العزيز يسأله أن يجعل   [1] فتوح مصر لابن عبد الحكم 88 وما بعدها. [2] ابن عبد الحكم: «وصرها» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 310 جزية موتى القبط على أحيائهم. فسأل عمر عراك بن مالك، فقال عراك: ما سمعت لهم بعهد ولا عقد [1] . فكتب عمر بن عبد العزيز إلى حيّان، أن يجعل جزية موتى القبط على أحيائهم. وعن عبد الله بن بكير قال: خرج أبو سلمة بن عبد الرحمن يريد الإسكندرية فى سفينة، فاحتاج إلى رجل يجذّف به، فسخّر رجلا من القبط، فكلّم فى ذلك فقال: إنّهم بمنزلة العبيد إن احتجت إليهم. وعن ابن شهاب أنه قال: كان فتح مصر، بعضها بعهد وذمّة، وبعضها عنوة، فجعلها عمر بن الخطّاب جميعا ذمّة، وحملهم على ذلك، ومضى ذلك فيهم إلى اليوم. ذكر أخبار الاسكندرية وبنائها وما اتفق فى ذلك من الأعاجيب لمّا رأيت جماعة من المؤرّخين اقتصروا فى أخبار الإسكندريّة عند ذكرهم لفتوحها على ما ذكرت أو نحوه، ومنهم من اختصر ذلك، واقتصر على مجرّد الفتح، ولم يتعرّضوا إلى ما سواه من أخبارها، آثرت أن أضمّ إلى ما شرحته من أخبار فتحها ذكر أخبار بنائها، وسببه وما شاهدوه بأبنيتها من العجائب، وكيف تحيّل على وضعها حتّى تمّت، ودفع ظلمة الضّرر عن سكّانها لمّا ادلهمّت، لأنّ مثل هذا الثّغر العظيم الّذى شاع فى الآفاق ذكره واشتهر، وحمد   [1] بعدها فى ابن عبد الحكم: «إنما أخذوا عنون بمنزلة العبيد» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 311 من التجأ إليه ممّن نبت به الغربة وعاقبة السّفر، وحقّق باختياره صدق الخبر عنه وتيقّن الخبر، لا يقتصر فيه على هذه النّبذة التى ذكرناها، واللّمعة الّتى أوردناها؛ بل يتعيّن بسط القول فيه، وأن يتكلّم المؤلّف إذا انتهى إليه بملء فيه. وربّما اعترض علىّ معترض لم يطالع مجموع ما ألّفت، ولا وقف على جملة ما صنّفت، فيقول: كيف اقتصر على فتوح مصر على مجرّده وهى أصل بلاده، وقاعدة عباده، وبسط القول فى الإسكندرية وهى على الحقيقة من مضافاتها، وولاية من جملة ولاياتها! وقد تجول فيه خيل الاعتراض، ويعدل عن الانشراح إلى الانقباض، ويتوّهّم أنّ ذلك عن عجز أو قصر، وإن بسط العذر فيقول: عن ملال وضجر. وليس الأمر- ولله الحمد- كذلك؛ لأنّا ذكرنا أخبار مصر فى كتابنا هذا فى أربعة مواضع سلفت منه، فذكرنا خصائصها وما فضّلت به على غيرها فى الباب الثانى من القسم الخامس من الفنّ الأوّل، وكلّ ذلك فى السّفر الأوّل من كتابنا فى خصائص البلاد، وذكرنا أخبار نيلها فى الباب السّابع من القسم الرّابع من الفنّ الأوّل فى الأنهار، وذكرنا أخبار ما بها من المبانى القديمة والآثار العظيمة، فى الباب الثّالث من القسم الخامس من الفنّ الأوّل. وذكرنا أخبار من ملكها من ملوك الأمم قبل الطّوفان وبعده، وما بنوه بها من المدن، وما أقاموه من المنارات والأهرام والبرابى وغير ذلك من المبانى، وما وضعوه بها من العجائب والطّلّسمات والحكم، وما أثاروا من المعادن وما دبّروه من الصّنعة وما شقّوه وأنبطوه من الأنهار، وغير ذلك من أخبارها وعجائبها، وذلك فى الباب الثانى الجزء: 19 ¦ الصفحة: 312 من القسم الرّابع من الفنّ الخامس، وهو فى السّفر الثّانى عشر، والثالث عشر من هذا الكتاب، فلا اعتراض بعد ذلك علىّ ولا تقصير تنتسب نسبته إلىّ. ولنأخذ الآن فى أخبار الإسكندرية، قال أبو الحسن علىّ بن عبد الله [المسعودىّ] رحمه الله فى كتابه المترجم «بمروج الذّهب» [1] . ذكر جماعة من أهل العلم أنّ الإسكندر المقدونىّ لمّا استقام ملكه فى بلاده، سار يختار أرضا صحيحة الهواء، والتّربة والماء، فانتهى إلى موضع الإسكندرية، فأصاب فى موضعها آثار بنيان وعمدا كثيرة من الرّخام، وفى وسطها عمود عظيم مكتوب عليه بالقلم المسند وهو القلم الأوّل من أقلام حمير وملوك عاد: «أنا شدّاد بن عاد، شددت بساعدىّ البلاد، وقطعت عظيم العماد، من الجبال والأطواد، وأنا بنيت إرم ذات العماد، الّتى لم يبن مثلها فى البلاد، وأردت أن أبنى هاهنا كإرم، وأنقل إليها كلّ ذى قدم وكرم [2] ، من جميع العشائر والأمم، [وذلك إذ لا خوف ولا هرم، ولا اهتمام ولا سقم] [3] ، فأصابنى ما أعجلنى، وعمّا أردت إليه قطعنى مع وقوع [4] ما أطال همّى وشجنى، وقلّ نومى وسكنى، فارتحلت بالأمس عن دارى، لا لقهر ملك جبّار، ولا خوف جيش جرّار، ولا عن رغبة [5] ولا صغار؛ ولكن لتمام الأقدار [6] ، وانقطاع الآثار،   [1] مروج الذهب 1: 370 وما بعدها. [2] المسعودى: «إقدام وكرم» . [3] من المسعودى. [4] فى الأصلين: «وقوعها» ، وما أثبته من المسعودى. [5] المسعودى: «رهبة» . [6] المسعودى: «المقدار» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 313 وسلطان العزيز الجبّار، فمن رأى أثرى، وعرف خبرى، وطول عمرى، ونفاذ بصرى، وشدّة حذرى، فلا يغترّ بالدّنيا بعدى» ... وكلام كثير يرى فيه فناء الدّنيا، ويمنع من الاغترار بها، والسّكون إليها، لم يذكره المسعودىّ. قال [1] : فنزل الإسكندر مفكّرا يتدبّر هذا الكلام ويعتبر، ثم بعث بحشر الصّنّاع من البلاد، وخطّ الأساس، وجعل طولها وعرضها أميالا، وأمر بنقل الرّخام والمرمر والأحجار من جزيرة صقلّية، وبلاد إفريقيّة، وأقريطيش، وأقاصى [بحر] [2] الرّوم [3] . وجزيرة رودس وغيرها، فنقلت فى المراكب، وأمر الصّنّاع والفعلة أن يدوروا بما رسم لهم من أساس المدينة، وعمل على كلّ قطعة من الأرض خشبة قائمة، وجعل من الخشبة إلى الخشبة حبالا منطوطة بعضها ببعض، وأوصل جميع ذلك بعمود من الرّخام كان أمام مضربه. وعلّق على العمود جرسا عظيما مصوّتا، وأمر النّاس والقوّام على الصّنّاع والبنّائين والفعلة، أنّهم إذا سمعوا صوت ذلك الجرس أن يضعوا أساس المدينة دفعة واحدة من سائر أقطارها. وأحبّ الإسكندر أن يجعله فى وقت يختاره، وطالع سعد [4] يأخذه، فخفق الإسكندر يوما برأسه، فأخذته سنة فى حال ارتقابه للوقت [5] . فجاء غراب فجلس على حبل الجرس الكبير فحرّكه، وخرج صوت   [1] المصدر نفسه. [2] من المسعودى. [3] بعدها فى المسعودى: «مما يلى مصبه من بحر أقيانوس» . [4] المسعودى: «يختاره ذى طالع سعيد» . [5] المسعودى: «ارتقابه؟؟؟ الوقت المحمود» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 314 الجرس، وتحرّكت الحبال، وخفق ما عليها من الأجراس الصّغار، وكان قد عمل ذلك بحركات فلسفيّة. فلمّا سمع الصّنّاع حسّ أصوات الجرس وصنعوا الأساس [1] دفعة واحدة وارتفع الضّجيج بالتّحميد والتّقديس، فاستيقظ الإسكندر من رقدته، وسأل عن الخبر، فأخبر به، فقال: أردت أمرا والله أراد غيره، ويأبى الله إلّا ما يريده، أردت طول بقائها، وأراد الله سرعة فنائها وخرابها، وتداول الملوك إيّاها. قال: ولمّا [2] أحكم بناؤها، وثبّت أساسها، وجنّ اللّيل عليهم، خرجت دوابّ من البحر أتت على جميع ذلك البنيان؛ فقال الإسكندر حين أصبح: هذا بدء الخراب فى عمرانها، وتحقّق مراد البارى فى زوالها. وتطيّر من فعل الدّوابّ، وتكرّر ذلك من فعل الدّوابّ فى كلّ يوم، والإسكندر يوكّل به من يحرسه، وهو يصبح خرابا، فقلق لذلك، وراعه ما رأى، ففكّر ما الّذى يصنع! وأىّ حيلة يعمل فى رفع أذى الدّوابّ عن المدينة، فسنحت له الفكرة ليلة، فلمّا أصبح أمر الصّنّاع أن يتّخذوا تابوتا من الخشب طوله عشرة أذرع فى عرض خمسة أشبار، وجعل فيه جامات من الزّجاج، وطليت بالقار وغيره من الأطلية التى تمنع الماء أن يدخل التّابوت، وجعل فيه مواضع للحبال، ودخل فيه ومعه رجلان من كتّابه ممّن له علم بإتقان التّصوير، وأمر أن يستر [3] عليه، وعليهم باب   [1] المسعودى: «فلما رأى الصناع تحرك الحبل وسمعوا تلك الأصوات وضعوا الأساس ... » . [2] المصدر نفسه 1: 371 وما بعدها. [3] المسعودى: «أن يسد عليه الأبواب» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 315 التّابوت، ويطلى بتلك الأطلية [1] ، وأمر بمركبين، فعلّق التّابوت بينهما وجعل فى أسفله من الخارج مثقلات الرّصاص والحديد، وشدّ حباله إلى المركبين، وأخرجهما إلى اللّجّة، وسمّر بعضها بخشب إلى بعض لئلّا يفترقا، وأرخوا التّابوت فى البحر، فاستقرّ بقراره، فنظر من تلك الجامات إلى دوابّ البحر وحيواناته؛ فإذا بصور شياطين على أمثال النّاس، رءوسهم كرءوس السّباع، وفى أيديهم الفئوس والمقامع والمناشير، يحاكون بذلك صنّاع المدينة، فأثبت الإسكندر ومن معه تلك الصّور، وأحكموها فى القراطيس على هيئاتها وأشكالها وقدودها، ثم حرّك الحبال، فرفعه من بالمركب. فلمّا خرج أمر المصوّرين بتصوير تلك الصّور، وصنعها من النّحاس والحديد والحجارة، فعملت تماثيلها، ثم نصبها على الأعمدة بشاطئ البحر، وأمر بالبناء فبنى، فلمّا جنّ اللّيل، وظهرت تلك الدّوابّ من البحر، نظرت إلى أشكال صورها على العمد فرجعت إلى البحر ولم تعد، فتمّ بناء الإسكندريّة، وشيّدت، فأمر أن يكتب على أبوابها: «هذه الإسكندرية، أردت أن أبنيها على الفلاح والنّجاح، واليمن والسّرور، والثّبات على الدّهور [2] ، فلم يرد البارى ملك السّموات والأرض ومفنى الأمم أن أبنيها [3] كذلك، فبنيتها وأحكمتها، وشيّدت سورها، وآتانى الله من كلّ شىء [علما وحكما، وسهّل فى وجوه الأسباب، فلم يتعذّر علىّ فى العالم شىء] [4] ممّا   [1] المسعودى: «الأطلية الدافعة للماء» . [2] المسعودى: «فى الدهور» . [3] المسعودى: «نبنيها» . [4] من المسعودى. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 316 أردته، ولا امتنع علىّ شىء ممّا طلبته، لطفا من الله عزّ وجلّ وصنعا لى، وصلاحا لعباده [1] من أهل عصرى، والحمد لله ربّ العالمين، لا إله إلّا الله هو ربّ كلّ شىء. ورسم بعد هذه الكتابة كلّ ما يحدث من العمران والخراب، وما يؤول أمرها إليه إلى آخر وقت دثور العالم. وكان بناؤها طبقات، وتحتها قناطر مقنطرة تدوّرها [2] ، ويسير تحتها الفارس، وبيده رمح لا يطبق به حتّى يدور جميع أبراجها وقناطرها، وعمل لتلك العقود والأبراج مخاريق للضّياء، ومنافذ للهواء. قال: وكانت الإسكندريّة تضيئ باللّيل من غير مصباح لشدّة بياض الرّخام والمرمر، وأسواقها وأزقّتها وشوارعها مقنطرة بها لئلّا يصيب أهلها المطر. قال: وكان عليها سبعة أسوار من أحجار [3] مختلفة الألوان، بينها خنادق، بين كلّ خندق وسور فصل [4] . قال: وربّما علّق فيها شقاق الحرير الأخضر لاختطاف بياض السّور أبصار النّاس لشدّة بياضه، فلمّا سكنها أهلها كانت آفات البحر تخطف أهل المدينة باللّيل، فيصبحون وقد فقد منهم العدد الكثير، فأهمّ ذلك الإسكندر، فاتّخذ الطّلّسّمات على أعمدة هنا لك،   [1] المسعودى: «صلاحا لى ولعباده» . [2] المسعودى: «عليها دور المدينة» . [3] المسعودى: «من أنواع الحجارة» . [4] المسعودى: «فصلان» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 317 تدعى المسالّ، وهى باقية إلى هذا العصر، فامتنع الدّوابّ من التّعرّض إلى أهلها بعد ذلك، فأمنوا. وأمّا المنارة فقد ذكرناها فى الباب الثالث من القسم الخامس من من الفنّ الأوّل فى السفر الأوّل، فلا حاجة إلى إعادة ذكرها ثانيا. نعود إلى أخبار فتوح مصر إن شاء الله تعالى: الجزء: 19 ¦ الصفحة: 318 ذكر تحول عمرو بن العاص من الاسكندرية إلى الفسطاط- واختطاطه قال [1] ابن لهيعة: إنّ عمرو بن العاص لمّا فتح الإسكندريّة ورأى بيوتها وبناءها، همّ أن يسكنها، وقال: مساكن قد لقيناها. فكتب إلى عمر يستأذنه فى ذلك، فسأل عمر الرسول: هل يحول بينى وبين المسلمين ماء؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين؛ إذا جرى النّيل. فكتب عمر إلى عمرو: إنى لا أحبّ أن ينزل المسلمون منزلا يحول بينى وبينهم الماء فى شتاء ولا صيف. فتحوّل عمرو من الإسكندريّة إلى الفسطاط؛ وإنما سمّيت الفسطاط لأنّ عمرو بن العاص لمّا توجه إلى الإسكندرية، أمر بنزع فسطاطه، فإذا فيه يمام قد فرّخ. فقال عمرو: لقد تحرّم منّا بمتحرّم، فأمر به فأقرّ فى موضعه، وأوصى به صاحب القصر، فلمّا قفل المسلمون من الإسكندريّة قالوا: أين ننزل؟ قالوا: الفسطاط- يريدون فسطاط عمرو، وكان مضروبا فى موضع دار عمرو بن العاص الّتى عمرّت بعد- واختطّ عمر والمسجد الجامع العمرى، وكان ما حوله حدائق وأعناب، فنصبوا الحبال حتى استقامت لهم، ووضعوا أيديهم، فلم يزل عمرو قائما حتّى وضعوا القبلة، واتخذ عمرو فى المسجد منبرا.   [1] فتوح مصر لابن عبد الحكم 91 وما بعدها. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 319 فكتب إليه عمر بن الخطّاب رضى الله عنه: أمّا بعد، فإنّه بلغنى أنك اتّخذت منبرا ترقى به على رقاب المسلمين، أو ما يحسبك أن تقوم قائما، والمسلمون تحت قدميك! فعزمت عليك لما كسرته. قال: واختطّ الناس بعد ذلك. فكتب عمرو إلى عمر: إنا قد اختططنا لك دارا عند المسجد الجامع. فكتب إليه عمر: أنّى لرجل بالحجاز تكون له دار بمصر! وأمره أن يجعلها سوقا للمسلمين، ففعل، فكان يباع بها الرّقيق. قال: ولمّا اختطّ المسلمون تركوا بينهم وبين البحر والحصن فضاء لتغريق دوابّهم وإبادتها، فلم يزل كذلك حتّى ولى معاوية ابن أبى سفيان، فاشترى دور قوم منهم، وأقطعهم من ذلك الفضاء، فسمّيت القطائع، وبناها أولئك دورا لهم بدل دورهم. قال: واختّطت همدان ومن والاها الجيزة، فكتب عمرو إلى عمر يعرّفه أمر الخطط. فكتب إليه عمر يقول له: كيف رضيت أن تفرّق أصحابك! ولم يكن ينبغى لك أن ترضى لأحد من أصحابك، أن يكون بينك وبينه بحر لا تدرى ما يفجؤهم. فلعلّك لا تقدر على غياثهم حتّى ينزل بهم ما تكره، فاجمعهم إليك، فإن أبوا عليك وأعجبهم موضعهم، فابن عليهم من فئ المسلمين حصنا. فعرض عمرو ذلك عليهم، فأبوا، وأعجبهم موضعهم بالجزيرة، الجزء: 19 ¦ الصفحة: 320 فبنى لهم عمرو بن العاص الحصن الّذى بالجيزة، فى سنة إحدى وعشرين، وفرغ من بنائه فى سنة اثنتين وعشرين. والله سبحانه وتعالى أعلم وحسبنا الله ونعم الوكيل. ذكر خبر أصل النيل وكيف كانت عادة القبط وإبطال عمرو تلك العادة قال [1] ابن لهيعة: لمّا فتح عمرو بن العاص مصر أتاه أهلها حين دخل بؤونة من أشهر القبط [2] ، فقالوا له: أيها الأمير، إنّ لنيلنا هذا سنّة لا يجرى إلّا بها، فقال لهم: وما ذاك؟ قالوا: إذا كان لثنتى عشرة ليلة تخلو من هذا الشّهر، عمدنا إلى جارية بكر من أبويها فأرضيناهما، وجعلنا عليها من الحلىّ والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها فى هذا النّيل. فقال لهم عمرو: إنّ هذا لا يكون فى الإسلام، وإنّ الإسلام يهدم ما كان قبله. فأقاموا بؤونة وأبيب ومسرى، لا يجرى كثيرا ولا قليلا؛ حتّى همّوا بالجلاء، فلمّا رأى عمرو ذلك كتب إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه بذلك، فكتب إليه: قد أصبت، إنّ الإسلام يهدم ما كان قبله، وقد بعثت إليك ببطاقة فألقها فى داخل النّيل إذا أتاك كتابى. فلمّا قدم الكتاب على عمرو فتح البطاقة؛ فإذا فيها: من عبد الله عمر أمير المؤمنين، إلى نيل أهل مصر:   [1] فتوح مصر لابن عبد الحكم 149، 150. [2] فتوح مصر: «من أشهر العجم» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 321 أمّا بعد، فإن كنت تجرى من قبلك فلا تجر، وإن كان الله الواحد القّهار الّذى يجريك، فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك. فألقى عمرو البطاقة فى النّيل قبل يوم الصّليب بيوم، وقد تهيّأ أهل مصر للجلاء، فأصبحوا وقد أجرى الله [1] عز وجل النيل ستة عشر ذراعا فى ليلة، وانقطعت تلك السّنّة السّيّئة عن أهل مصر. ذكر ما قرر فى أمر الجزية من الخراج قال [2] : وكانت فريضة مصر لحفر خلجانها، وإقامة جسورها، وعمارة قناطرها، وقطع جزائرها مائة ألف وعشرين ألفا، معهم الطّور والمساحى والأداة يعتقبون ذلك لا يدعونه [3] شتاء ولا صيفا. ثمّ كتب عمر بن الخطّاب رضى الله عنه إلى عمرو أن يختم على رقاب أهل الذّمّة بالرّصاص، ويظهروا مناطقهم، ويجزّوا نواصيهم، ويركبوا على الأكف عرضا. وألّا يضربوا الجزية إلّا على من جرت عليه المواسى، ولا يضربوا على النساء، ولا على الولدان، ولا يدعوهم يتشبّهون بالمسلمين فى لبوسهم. قال: ولمّا استوسق لعمرو بن العاص الأمر، وأقرّ قبط مصر على جباية الرّوم، وكانت جبايتهم بالعدل: إذا عمرت القرية، وكثر أهلها زيد عليهم، فإذا قلّ أهلها وخربت نقصوا. فكانوا يجمعون خراج كلّ قرية وما فيها من الأرض العامرة، فيبدرون [3] فيخرجون من الأرض فدادين لكنائسهم وحمّاماتهم. ثم يخرج منها عدد لضيافة المسلمين،   [1] ابن عبد الحكم: «وقد أجره الله» . [2] ابن عبد الحكم 151 وما بعدها. [3] فى الأصلين: «فيبدون» ، وما أثبته من فتوح مصر. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 322 ونزول السّلطان، فإذا فرغوا، نظروا إلى ما فى كلّ قرية من الصّنّاع والأجراء فقسّموا عليهم بقدر احتمالهم؛ فإن كانت فيها جالية قسموا عليها بقدر احتمالها، وقلّما كانت تكون إلا للرجل المنتاب أو المتزوّج، ثم ينظر ما بقى من الخراج فيقسّمونه بينهم على عدد الأرض، ثم يقسّمون ذلك بين من يريد الزّرع منهم على قدر طاقتهم، فإن عجز أحد وشكا ضعفا عن زرع أرضه، وزّعوا [1] ما عجز عنه على الاحتمال، وإن كان منهم من يريد الزّيادة، أعطى ما عجز عنه أهل الضّعف؛ فإنّ تشاحّوا قسموا ذلك على عدّتهم، وكانت قسمتهم على قراريط، الدنيار بأربعة وعشرين قيراطا، يقسّمون هذه الأرض على ذلك. قال: وكذلك روى عن النّبىّ صلّى الله عليه وسلم أنّه قال: «إنّكم ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط، فاستوصوا بأهلها خيرا» . قال: وجعل [عليهم] [2] لكلّ فدّان نصف إردبّ قمحا، وويبتين من شعير إلّا القرط فلم تكن عليه ضريبة، والويبة يومئذ ستّة أمداد كأنّه يريد بذلك البدار. قال: وروى عن اللّيث بن سعد رحمه الله، أنّ عمرو بن العاص جبى مصر اثنى عشر ألف ألف دينار. وقال غير اللّيث: جباها المقوقس قبله بسنة عشرين ألف ألف دينار. قال اللّيث: وجباها عبد الله بن سعد حين استعمله عليها عثمان أربعة عشر ألف ألف دينار.   [1] فى الأصلين: «زرعوا» وما أثبته من ابن عبد الحكم. [2] تكملة من ص. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 323 فقال عثمان لعمرو: يا أبا عبد الله: درّت بعدك اللّقحة بأكثر من درّها الأوّل. فقال عمرو: أضررتم بولدها. وكتب عمر إلى عمرو أن يسأل المقوقس عن مصر، من أىّ شىء تأتى عمارتها وخرابها؟ فسأله عمرو، فقال: تأتى عمارتها وخرابها من وجوه خمسة، أن يستخرج خراجها فى إبّان واحد، عند فراغ أهلها من زرعهم، ويرفع خراجها فى إبّان واحد عند فراغ أهلها من عصر كرومهم، وتحفر فى كلّ سنة خلجها، وتسدّ ترعها وجسورها، ولا يقبل محل أهلها، يريد البغى، فإن فعل هذا فيها عمرت، وإن فعل بخلاف هذا خربت، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. ذكر خبر المقطم روى [1] عن اللّيث بن سعد، قال: سأل المقوقس عمرو بن العاص أن يبيعه سفح المقطّم بسبعين ألف دينار، فعجب عمرو من ذلك. وقال [أكتب] [2] فى ذلك إلى أمير المؤمنين، فكتب بذلك إلى عمر، فكتب إليه، اسأله لم أعطاك به ما أعطاك وهى لا تزرع ولا يستنبط بها ماء ولا ينتفع بها؛ فسأله، فقال: إنّا لنجد صفتها فى الكتب، أنّ فيها غراس الجنّة. فكتب بذلك إلى عمر فكتب عمر إلى عمرو: انّا لا نعلم غراس الجنّة إلّا للمؤمنين،   [1] فتوح مصر لابن عبد الحكم 156 وما بعدها. [2] من ص وفتوح مصر. [3] فتوح مصر: «ماء» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 324 فأقبر فيها من مات قبلك من المسلمين، ولا تبعه بشىء، فكان أوّل رجل دفن فيها رجل من المعافر يقال له: عامر. قالوا: والمقطّم ما بين القصير إلى مقطع الحجارة، وما بعد ذلك فمن اليحموم. وقد اختلف فى القصير، فقال ابن لهيعة: ليس بقصير موسى النبىّ عليه السّلام؛ ولكنّه موسى السّاحر. وقال كعب الأحبار: هو قصير عزيز مصر، كان إذا جرى النيل يترفّع فيه. ويقال: بل كان موقدا يوقد فيه لفرعون إذا هو ركب من منف إلى عين شمس، وكان على المقطّم موفد آخر؛ فإذا رأوا النار علموا بركوبه، فأعدّوا له ما يريد، وكذلك إذا انصرف. والله تعالى أعلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل. ذكر خبر خليج أمير المؤمنين وهذا [1] الخليج كانت السّفن تسير فيه من مصر إلى بحر القلزم، تحمل الطّعام والأصناف إلى مكّة والمدينة. وكان من خبره على ما روى عن اللّيث بن سعد أنّ النّاس بالمدينة أصابهم جهد شديد فى خلافة عمر بن الخطّاب فى عام الرّمادة، فكتب إلى عمرو: من عبد الله أمير المؤمنين، إلى العاصى ابن العاص. سلام عليك، أمّا بعد؛ فلعمرى يا عمرو ما تبالى إذا شبعت   [1] فتوح مصر 162 وما بعدها. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 325 أنت ومن معك أن أهلك أنا ومن معى، فيا غوثاه، ثم يا غوثاه! يردّد قوله. فكتب إليه عمرو: لعبد الله عمر أمير المؤمنين، من عمرو بن العاص. أمّا بعد. فيا لبّيك ثمّ يا لبّيك، وقد بعثت إليك بعير أوّلها عندك وآخرها عندى، والسّلام عليك ورحمة الله. وبعث إليه بعير عظيمة، فكان أوّلها بالمدينة، وآخرها بمصر يتبع بعضها بعضا، فلمّا قدمت على عمر وسّع بها على الناس، ودفع إلى أهل كلّ بيت بالمدينة وما حولها بعيرا بما عليه من الطّعام. وبعث عبد الرحمن بن عوف والزّبير بن العوّام وسعد بن أبى وقّاص أن يقسّموها على النّاس، ويدفعوا [1] إلى أهل كلّ بيت بعيرا بما عليه، وأن يأكلوا الطّعام، وينحروا البعير فيأكلوا لحمه، ويأتدموا شحمه، ويحتذوا جلده، وينتفعوا بالوعاء الذى كان فيه الطّعام لما أرادوا. فوسّع الله بذلك على النّاس، فلمّا رأى ذلك عمر حمد الله، وكتب إلى عمرو أن يقدم عليه، هو وجماعة أهل مصر، فقدموا عليه. فقال عمر: يا عمرو، إنّ الله تعالى قد فتح على المسلمين مصر، وهى كثيرة الخير والطّعام، وقد ألقى فى روعى لما أحببت من الرّفق بأهل الحرمين والتّوسعة عليهم [2] ، أن أحفر خليجا من نيل مصر حتّى يسيل فى البحر؛ فهو أسهل لما نريد من حمل الطّعام   [1] ك: «فدفعوا» . [2] يعدها فى ابن عبد الحكم «حين فتح الله عليهم مصر، وجعلها قوة لهم ولجميع المسلمين.» الجزء: 19 ¦ الصفحة: 326 إلى المدينة ومكّة، فإنّ حمله [على] [1] الظّهر يتعذّر، ولا نبلغ منه ما نريد. فانطلق أنت وأصحابك، فتشاوروا فى ذلك حتّى يعتدل فيه رأيكم، فانطلق عمرو فأخبر من كان معه من أهل مصر، فثقل ذلك عليهم، وقالوا: نتخوّف أن يدخل فى هذا ضرر على مصر، فنرى أن تعظّم ذلك على أمير المؤمنين وتقول له: إنّ هذا الأمر لا يعتدل ولا يكون، ولا نجد إليه سبيلا. فرجع عمرو بذلك إلى عمر، فلمّا رآه ضحك وقال: والّذى نفسى بيده لكأنىّ أنظر إليك يا عمرو، وإلى أصحابك حين أخبرتهم بما أمرت به، فثقل ذلك عليهم، وقالوا لك كذا وكذا، للّذى كان منهم. فقال: صدقت والله يا أمير المؤمنين، لقد كان الأمر على ما ذكرت. فقال عمر: يا عمرو، انطلق بعزيمة منّى حتى تجدّ فى ذلك، ولا يأتى عليك الحول حتّى تفرغ منه إن شاء الله تعالى. فانصرف عمرو، ثمّ احتفر الخليج الّذى كان فى حاشية الفسطاط الّذى يقال له: خليج أمير المؤمنين، فساقه من النّيل إلى القلزم، فلم يأت الحول حتّى جرت فيه السّفن، فحمل فيه ما أراد من الطّعام إلى المدينة ومكّة، فنفع الله بذلك أهل الحرمين، وسمّى خليج أمير المؤمنين، ثمّ لم يزل يحمل فيه الطّعام إلى زمن عمر بن عبد العزيز، ثمّ ضيّعه الولاة بعد ذلك فترك وغلب عليه الرّمل، فانقطع، فصار منتهاه إلى ذنب التّمساح من ناحية طحا القلزم.   [1] من ص. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 327 قال: ويقال: إنّ عمرو بن العاص قال لعمر بن الخطّاب. لمّا قدم عليه: يا أمير المؤمنين، قد عرفت أنّه كانت تأتينا سفن فيها تجار من أهل مصر قبل الإسلام، فلمّا فتحنا مصر انقطع ذلك الخليج، واستدّ، وتركته التّجار؛ فإن شئت أن تحفره فننشىء به سفنا يحمل فيها الطعام إلى الحجاز فعلته. فقال له عمر: نعم، فافعل. فلمّا ذكر عمرو ذلك لأصحابه كرهوه على ما تقدّم، فعزم عمر على عمرو أن يحفره فحفره. ويقال: إنّ عمر بن الخطّاب رضى الله عنه لمّا كتب إلى عمرو بما كتب واستغاثه، كتب [عمرو] [1] إليه: أمّا بعد، فيا لبّيك ثمّ يا لبّيك، أتتك [2] عير أوّلها عندك وآخرها عندى، مع أنّى أرجو أن أجد السّبيل إلى أن أحمل إليك فى البحر. ثم إنّ عمرا ندم على كتابه فى الحمل إلى المدينة، وقال: إن أمكنت عمر من هذا خرّب مصر ونقلها إلى المدينة، فكتب إليه: إنّى نظرت فى أمر البحر، فإذا هو عسر لا يلتأم ولا يستطاع. فكتب إليه عمر: إلى العاصى بن العاص: قد بلغنى كتابك، تعتلّ فى الّذى كنت كتبت إلىّ به من أمر البحر، وايم الله لتفعلنّ أو لأقلعنّك بأذنك ولأبعثنّ من يفعل ذلك. فعرف عمرو أنه الجدّ من عمر، ففعل، فبعث إليه عمر ألا تدع   [1] من ص. [2] ص: «جاءت» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 328 بمصر شيئا من طعامها وكسوتها وبصلها وعدسها وخلّها إلّا بعثت إلينا منه. ويقال: إنّما دلّ عمرو بن العاص على الخليج رجل من قبط مصر، أتاه فقال له: أرأيت إن دللتك على مكان تجرى فيه السّفن حتى تنتهى إلى المدينة ومكّة، أتضع عنّى الجزية. وعن أهل بيتى؟ قال: نعم، وكتب إلى عمر، فقال: افعل. والله سبحانه وتعالى أعلم. ذكر الخبر عن فتح الفيوم روى [1] عن سعيد بن غفير وغيره، قالوا: لما تمّ الفتح للمسلمين، بعث عمرو بن العاص جرائد الخيل إلى القرى الّتى حولها، فأقامت بالفيّوم سنة لم يعلم المسلمون بمكانها؛ حتى أتاهم رجل فذكرها لهم، فبعث عمرو معه ربيعة بن حبيش بن عرفطة الصّدفىّ، فلمّا سلكوا فى المجابة لم يروا شيئا، فهمّوا بالانصراف فقال: لا تعجلوا، سيروا [2] ، فلم يسيروا إلا قليلا حتى طلع لهم سواد الفيّوم، فهجموا عليها، فلم يكن عند أهلها قتال، وألقوا بأيديهم. قال: ويقال: بل خرج مالك بن ناعمة الصّدفى- وهو صاحب الفرس الأشقر على فرسه- ينفض المجابة، ولا علم له بما خلفها من الفيّوم، فلمّا رأى سوادها رجع إلى عمرو، فأخبره بذلك. ويقال: [بل] [3] بعث عمرو بن العاص قيس بن الحارث إلى الصّعيد، فسار حتّى أتى القيس، فنزل بها، وبه سمّيت، فذكر ذلك لعمرو.   [1] فتوح مصر 169. [2] بعدها فى ابن عبد الحكم: «فإن كان كذب، فما أقدركم على ما أردتم» . [3] من ص. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 329 فقال ربيعة بن حبيش: كفيت، فركب فرسه، فأجاز عليه البحر، وكانت أنثى، فأتاه بالخبر، ويقال: إنّه أجاز من ناحية الشّرقيّة حتى انتهى إلى الفيّوم. والله تعالى أعلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل. ذكر فتح زويلة وطرابلس الغرب وبرقة وحصن سبرت كان [1] فتح زويلة فى سنة إحدى وعشرين؛ وذلك أن عمرو بن العاص بعث عقبة بن نافع الفهرىّ إليها، فافتتحها صلحا، وما بين برقة وزويلة سلما للمسلمين. وقيل: فتحها فى سنة عشرين، والله سبحانه وتعالى أعلم، والحمد لله وحده. ثم سار عمرو بن العاص من مصر فى سنة اثنتين وعشرين إلى برقة، فصالح أهلها على الجزية، وأن يبيعوا من أبنائهم من أرادوا بيعه، فلمّا فرغ من برقة سار إلى طرابلس الغرب، فحاصرها شهرا، فلم يظفر بها، وكان قد نزل شرقيّها، فخرج رجل من بنى مدلج يتصيّد فى سبعة نفر فسلكوا غرب المدينة، فلمّا رجعوا اشتدّ عليهم الحرّ، فأخذوا على جانب البحر ولم يكن السّور متّصلا بالبحر، وكانت سفن الرّوم فى مرساها تقابل بيوتهم، فرأى المدلجىّ وأصحابه مسلكا فى البحر إلى البلد، فدخلوا منه، وكبّروا، فلجأ الرّوم إلى سفنهم؛ لأنّهم ظنّوا أنّ المسلمين قد دخلوا المدينة، فنظر عمرو ومن معه، فرأى السّيوف فى المدينة، وسمعوا الصّياح، فأقبل   [1] بعدها فى عبد الحكم: «وكان يقال لفرسة الأعمى» . [2] ابن عبد الحكم 170 وما بعدها. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 330 الجيش حتّى دخل المدينة، فلم يفلت من الروم إلّا بما خفّ حمله فى مراكبهم. وكان أهل حصن سبرت قد اطمأنّوا، فجهّز [1] إليهم جيشا كثيفا، فصبّحوها وقد فتح أهلها الباب، وسرّحوا مواشيهم فدخلها المسلمون مغالبة وغنموا ما فى الحصن، وعادوا إلى عمرو. ثم سار عمرو إلى برقة وبها لواتة، وهم من البربر، فصالحه أهلها على ثلاثة عشر ألف دينار يؤدّونها جزية، وشرطوا أن يبيعوا من أرادوا بيعه من أولادهم فى جزيتهم. قال المؤرّخ: وكان سبب مسير البربر إليها وإلى غيرها من بلاد الغرب؛ أنّهم كانوا بنواحى فلسطين، فلما قتل ملكهم جالوت، ساروا نحو الغرب، وتفرقوا، فسارت زناتة ومغيلة، وهما قبيلتان من البربر، فسكنوا الجبال، وسكنت لواتة برقة، وتعرف قديما بأنطابلس- وقيل فيها: أنطابلس- وانتشروا فيها حتى بلغوا السّوس، ونزلوا ونزلت هوّارة مدينة لبدة، ونزلت نفوسة مدينة سبرت، وجلا من كان بها من الرّوم [من أجل ذلك] [2] كذلك، وأقام الأفارق وهم خدم الرّوم على صلح يؤدّونه لمن غلب على بلادهم. انتهت الفتوحات فى خلافة عمر رضى الله عنه. والله سبحانه وتعالى أعلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.   [1] ص «فجرد» . [2] زيادة من فتوح مصر. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 331 ذكر الغزوات إلى أرض الروم كان أوّل من غزا أرض الروم من المسلمين أبو بحريّة عبد الله ابن قيس فى سنة عشرين، وقيل: أوّل من دخلها ميسرة بن مسروق العبسى، فسلم وغنم، ثمّ غزاها معاوية بن أبى سفيان فى سنة اثنتين وعشرين، ودخلها فى عشرة آلاف فارس من المسلمين. وفى سنة ثلاث وعشرين غزا معاوية الصائفة، ومعه عبادة بن الصّامت وأبو أيّوب الأنصارى وأبوذرّ وشدّاد بن أوس. وفيها فتح معاوية رضى الله عنه عسقلان على صلح. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 332 ذكر ما اتفق فى خلافة عمر بن الخطاب غير الفتوحات والغزوات سنة ثلاث عشر: فى هذه السّنة، توفى الأرقم بن أبى الأرقم يوم مات أبو بكر الصّديق رضى الله عنهما، وهو الّذى كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مستخفيا بداره بمكّة أوّل ما أرسل صلّى الله عليه وسلّم. سنة أربع عشرة: فى هذه السنة أمر عمر رضى الله عنه بالقيام فى شهر رمضان فى المساجد، وجمعهم على أبىّ بن كعب، وكتب إلى الأمصار بذلك. وفيها، ضرب عمر رضى الله عنه ابنه عبد الله وأصحابه فى شراب شربوه، وضرب أيضا أبا محجن الثّقفىّ فى الشّراب. وفيها حجّ عمر رضى الله عنه بالنّاس. وكان العمّال على مكّة: عتّاب بن أسيد فى قول، وعلى اليمن يعلى ابن منية، وعلى الكوفة سعد بن أبى وقّاص، وعلى الشام أبو عبيدة بن الجرّاح، وعلى البحر عثمان بن أبى العاص، وقيل: العلاء بن الحضرمىّ، وعلى عمارة حذيفة بن محصن. وفيها مات أبو قحافة، والد أبو بكر الصّديق رضى الله عنهما، ومات سعد بن عبادة الأنصارىّ، وكان أسنّ من أسلم ممّن بنى هاشم رضى الله عنه. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 333 ذكر فرض العطاء وعمل الديوان سنة خمس عشرة: وفى هذه السنة فرض عمر رضى الله عنه للمسلمين الفروض، ودوّن الدّواوين، وأعطى العطايا على السّابقة فى الإسلام لا على البيوت. قال: ولمّا فرض العطايا أعطى صفوان بن أميّة والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو فى أهل الفتح أقلّ ممّا أعطى من قبلهم، فامتنعوا من أخذه، وقالوا: لا نعترف أن يكون أحد أكرم منّا، فقال: إنّى إنّما أعطيتهم على السّابقة فى الإسلام لا فى الأحساب، فقالوا: نعم إذن، وأخذوا. وخرج الحارث وسهيل بأهليهما نحو الشّام، فلم يزالا مجاهدين حتّى أصيبا فى بعض تلك الدّروب. وقيل: ماتا فى طاعون عمواس. وقيل: لمّا أراد عمر وضع الدّيوان، قال له علىّ بن أبى طالب، كرّم الله وجهه وعبد الرّحمن بن عوف رضى الله تعالى عنهم: ابدأ بنفسك. فقال: لا، بل أبدأ بعمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثمّ الأقرب فالأقرب. ففرض للعبّاس، وبدأ به، وجعل له خمسة وعشرين ألفا، [وقيل: فرض له اثنى عشر ألفا] [1] ثم فرض لأهل بدر لكلّ منهم خمسة آلاف، وألحق بهم أربعة لم يكونوا منهم، وهم: الحسن والحسين أبو ذرّ وسلمان [2] رضى الله تعالى عنهم.   [1] من ص. [2] ك: «وعثمان» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 334 وفرض لمن بعد بدر إلى الحديبية لكلّ منهم أربعة آلاف، وفرض لمن بعد الحديبية إلى قتال الرّدّة، لكل منهم ثلاثة آلاف، كان منهم من شهد الفتح. وفرض لأهل الأيّام قبل القادسيّة، وأهل الشّام، فى ألفين ألفين. وفرض لأهل البلاء منهم فى ألفين وخمسمائة، فقيل له: لو ألحقت أهل القادسيّة بأهل الأيام! قال: لم أكن لألحقهم بدرجة من لم يدركوا. وقيل له: قد سوّيت من بعدت داره بمن قربت داره، وقاتلهم عن فنائه، فقال: من قربت داره أحقّ بالزّيادة، لأنّهم كانوا ردءا للحتوف، وشجى؟؟؟ للعدوّ، فهلّا قال المهاجرون مثل قولكم حين سوّينا بين السابقين منهم والأنصار! فقد كانت نصرة الأنصار بفنائهم، وهاجر إليهم المهاجرون من بعد. والله أعلم. وفرض لمن بعد القادسيّة واليرموك ألفا ألفا. وفرض للرّوادف الّتى فى خمسمائة خمسمائة، وللرّوادف الثلث فى ثلاثمائة، سوّى كلّ طبقة فى العطاء، قويّهم وضعيفهم، عربيّهم وعجميّهم. وفرض للرّوادف الربع فيها فى مائتين وخمسين. وفرض لمن بعدهم وهم أهل هجر والعباد على مائتين. وأعطى نساء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رضى الله عنهن عشرة آلاف عشرة آلاف إلّا من جرى عليها الملك. فقال نسوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يفضّلنا عليهنّ فى القسمة، فسوّ بيننا؛ ففعل، وفضّل عائشة الجزء: 19 ¦ الصفحة: 335 رضى الله عنها بألفين لمحبّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إيّاها، فلم تأخذها. وجعل لنساء أهل بدر خمسمائة خمسمائة، ونساء من بعدهم إلى الحديبية أربعمائة أربعمائة، ونساء من بعدهم إلى الأيّام ثلاثمائة ثلاثمائة، ونساء أهل القادسيّة مائتين مائتين، ثم سوّى بين النّساء بعد ذلك. وجعل الصبيان سواء على مائة مائة، ثم جمع ستّين مسكينا وأطعمهم الخبز، فأحصوا ما أكلوا، فوجدوه يخرج من جريبين، ففرض لكلّ إنسان منهم ولعياله جرييين فى الشّهر. وقال عمر رضى الله عنه قبل موته: لقد هممت أن أجعل العطاء أربعة آلاف أربعة آلاف، [ألف] [1] يجعلها الرجل فى أهله، وألف يتزوّدها معه، وألف يتجهّز بها، وألف يرتفق بها، فمات قبل أن يفعل. وقال له رجل عند فرض العطاء: يا أمير المؤمنين، لو [كنت] [1] تركت فى بيوت الأموال عدّة لكون إن كان فقال: كلمة ألقاها الشيطان على فيك. وقانى الله شرّها، وهى فتنة لمن بعدى، بل أعدّ لهم ما أعدّ الله ورسوله، [طاعة الله ورسوله] [1] ، هما عدّتنا الّتى بهما أفضينا إلى ما ترون؛ فإذا كان المال ثمن دين أحدكم هلكتم. وقال عمر رضى الله عنه للمسلمين: إنّى كنت امرأ تاجرا [2]   [1] من ص. [2] ك: «تجرا» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 336 يغنى الله عيالى بتجارتى، وقد شغلتمونى بأمركم هذا، فما ترون أنّه يحلّ لى فى هذا المال؟ فأكثر القوم، وعلىّ رضى الله عنه ساكت، فقال: ما تقول يا علىّ؟ فقال: ما أصلحك وأصلح عيالك بالمعروف، ليس لك غيره. فقال القوم: القول ما قال علىّ. فأخذ قوته [1] ، واشتدت حاجة عمر رضى الله عنه. فاجتمع نفر [2] من الصّحابة منهم عثمان، وعلىّ، وطلحة، والزبير، فقالوا: لو قلنا لعمر فى زيادة يزيدها إيّاه فى رزقه؟ فقال عثمان رضى الله عنه: هلمّوا فلنستبرئ ما عنده من وراء وراء. فأتوا حفصة ابنته فأعلموها الحال، واستكتموها ألّا تخبر بهم عمر. فلقيت عمر فى ذلك، فغضب وقال: من هؤلاء لأسؤنّهم؟ قالت: لا سبيل إلى علمهم. قال: أنت بينى وبينهم، ما أفضل ما اقتنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى بيتك من الملبس؟ قالت: ثوبين ممشّقين كان يلبسهما للوفد والجمع، قال: فأىّ الطعام ناله عندك أرفع؟ قالت: خبزنا خبز شعير، فصببنا عليه وهو حارّ أسفل عكّة [2] لنا، فجعلتها دسمة حلوة، فأكل منها. فقال: أىّ بسط كان يبسط عندك كان أوطأ؟ قالت: كساء ثخين كنّا نرقعه برقعة فى الصّيف فإذا كان الشتاء بسطنا نصفه، وتدثّرنا بنصفه، قال: يا حفصة، فأبلغيهم أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم   [1] ك: «قوة» ، تحريف. [2] ك: «رجالا» . [3] العكة: إناء يوضع فيه السمن. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 337 قدّر فوضع الفضول مواضعها، وتبلّغ بالتّرجية، فو الله لأضعنّ الفضول مواضعها، ولأتبلّغنّ بالترجية؛ وإنّما مثلى ومثل صاحبىّ كثلاثة سلكوا طريقا، فمضى الأول وقد تزوّد فبلغ المنزل، وتبعه الآخر فسلك طريقه فأفضى إليه، ثم اتّبعه الثالث؛ فإن لزم طريقهما ورضى بزادهما لحق [1] بهما، وإن سلك غير طريقهما لم يجامعهما. سنة ست عشرة: وفى هذه السّنة حجّ عمر رضى الله عنه بالنّاس، وفيها غرّب [2] عمر رضى الله عنه أبا محجن الثّقفىّ إلى ناصع. وفيها حمى الرّبذة بخيل المسلمين. وفيها ماتت مارية أمّ إبراهيم بن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وصلّى عليها عمر، ودفنها بالبقيع؛ وذلك فى المحرّم. وفيها كتب عمر التّاريخ بمشورة علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه. وفيها حجّ عمر بالنّاس، واستخلف على المدينة زيد بن ثابت. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبى ونعم الوكيل.   [1] ك: «لزم» . [2] ك: «عذب» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 338 ذكر بناء الكوفة والبصرة سنة سبع عشرة: فى هذه السنة اختطّت الكوفة والبصرة، وتحوّل سعد بن أبى وقّاص من المدائن إلى الكوفة، وكان سبب ذلك أنّ سعدا أرسل إلى عمر بما فتح الله عليه، فلمّا رأى الوفد سألهم عن تغيّر ألوانهم وحالهم؛ فقالوا: وخومة [1] البلاد [غيّرتنا] [2] ، فأمرهم أن يرتادوا منزلا ينزله النّاس. وقيل: بل كتب حذيفة إلى عمر: إنّ العرب قد نزفت بطونها، وخفّت أعضاؤها، وتغيّرت ألوانها. وكان مع سعد، فكتب عمر إلى سعد: أخبرنى ما الّذى غيّر ألوان العرب ولحومهم؟ فكتب إليه: إنّ الّذى غيّرهم وخومة البلاد، وأنّ العرب لا يوافقها إلّا ما وافق إبلها من البلدان. فكتب إليه، أن ابعث سلمان وحذيفة فليرتادا منزلا برّيّا بحريّا، ليس بينى وبينكم بحر ولا جسر، فأرسلهما سعد. فخرج سلمان حتّى أتى الأنبار، فسار فى غربىّ الفرات لا يرضى شيئا حتّى أتى الكوفة، وخرج حذيفة فى شرقىّ الفرات لا يرضى شيئا حتى أتى الكوفة- وكلّ رملة وحصباء مختلطين فهو كوفة- فأتيا عليها وفيها ديرات ثلاثة: دير حرقة، ودير أمّ عمرو، ودير   [1] ك: «حومة» تحريف. [2] تكملة من ص. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 339 سلسلة وخصاص خلال ذلك [1] ، فأعجبتهما البقعة، فنزلا وصليّا، ودعوا الله تعالى أن يجعلها منزلا مباركا. فلمّا رجعا إلى سعد بالخبر، وقدم كتاب عمر أيضا عليه، كتب سعد إلى القعقاع بن عمرو وعبد الله بن المعتمر، أن يستخلفا على جندهما ويحضرا عنده، ففعلا. فارتحل سعد من المدائن حتّى نزل الكوفة فى المحرّم سنة سبع عشرة، فلمّا نزلها سعد كتب إلى عمر: نّى قد نزلت بكوفة، منزلا بين الحيرة والفرات، برّيّا بحريّا، نبت الحلفاء والنّصىّ [2] ، وخيّرت المسلمين بينها وبين المدائن، من أعجبه المقام بالمدائن تركته فيها كالمسلحة. ولمّا استقرّوا عرفوا أنفسهم، ورجع إليهم ما كانوا فقدوا من قوّتهم. واستأذن ل الكوفة فى بنيان القصب، واستأذن فيه أهل البصرة، فاستقرّ لهم فيها فى الشهر الّذى نزل أهل الكوفة بعد ثلاث نزلات فيها ها. فكتب إليهم [عمر] [3] : إنّ العسكرة أشدّ لحربكم، وأذكر، وما أحبّ أن أخالفكم، فابتنى أهل المصرين بالقصب. ثمّ إنّ الحريق وقع بالكوفة والبصرة، وكانت الكوفة أشدّ نا، وكان الحريق فى شوّال. فبعث سعد نفرا منهم إلى عمر اذنه فى البنيان باللّبن، فقدموا عليه بخبر الحريق، واستأذنوه،   [1] ك: «وخلال ذلك» . [2] النصى: نبت أبيض ناعم. [3] من ص. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 340 فقال: افعلوا، ولا يزيد بناء، أحدكم عن ثلاثة أبيات، ولا تطاولوا بالبنيان، والزموا السّنّة تلزمكم الدّولة. فرجع القوم إلى الكوفة بذلك، وكتب عمر إلى أهل البصرة بمثل ذلك، وكان على تنزيل الكوفة أبو هياج بن مالك، وعلى تنزيل البصرة عاصم بن الدّلف أبو الجرباء، وقدّر المناهج أربعين ذراعا، وما بين ذلك عشرين ذراعا، والأزقّة سبعة أذرع، والقطائع سبعين ذراعا. وأوّل شىء خطّ فيهما مسجداهما، وقام فى وسطهما رجل شديد النّزع، فرمى فى كلّ ناحية بسهم، وأمر أن يبنى ما وراء ذلك. وبنى ظلّة فى مقدّمة مسجد الكوفة على أساطين رخام من بناء الأكاسرة فى الحيرة، وجعلوا على الصّحّن خندقا لئلّا يقتحمه أحد ببنيان، وبنوا لسعد دارا بحياله، وهى قصر الكوفة، بناه روزبة من آجرّ بنيان الأكاسرة بالحيرة، وجعل الأسواق على سنة المساجد، من سبق إلى مقعد فهو له، حتّى يقوم منه إلى بيته، ويفرغ من بيعه. قال: وبلغ عمر أنّ سعدا قال: وقد سمع أصوات النّاس من السّوق: سكّتوا عنّى التّصويت، وإنّ النّاس يسمّونه قصر سعد. فبعث محمد بن مسلمة إلى الكوفة، وأمره أن يحرق باب القصر، ثم يرجع، ففعل. وبلغ سعدا ذلك، فقال: هذا رسول أرسل لهذا! فاستدعاه، فأبى أن يدخل إليه، فخرج إليه سعد، وعرض عليه نفقة، فأبى أن يأخذها، وأبلغه كتاب عمر إليه وفيه:   [1] من ص. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 341 بلغنى [1] أنّك اتّخذت قصرا جعلته حصنا، ويسمّى قصر سعد، وبينك وبين النّاس باب، فليس بقصرك؛ ولكنّه قصر الخبال، انزل منه ممّا يلى بيوت الأموال، وأغلقه، ولا تجعل على القصر بابا يمنع الناس من دخوله. فحلف له سعد ما قال الّذى قالوا، ورجع محمد، وأبلغ عمر قوله، فصدّقه. وكانت ثغور الكوفة أربعة: حلوان وعليها القعقاع بن عمرو، وماسبذان وعليها ضرار بن الخطّاب، وقرقيسياء وعليها عمرو بن مالك، أو عمرو بن عقبة بن نوفل، والموصل وعليها عبد الله بن المعتمر. وكان بها خلفاؤهم إذا غابوا عنها. وولى سعد الكوفة بعد ما اختطّت ثلاث سنين ونصفا، سوى ما كان بالمدائن قبلها. والله تعالى أعلم. ذكر عزل خالد بن الوليد وفى هذه السّنة عزل خالد بن الوليد عمّا كان عليه من التّقدّم على الجيوش، وسبب ذلك أنّه أدرب [2] هو وعياض بن غنم، فأصابا أموالا عظيمة، وكانا توجّها من الجابية بعد رجوع عمر إلى المدينة. وقيل: إنّ مسير خالد مع عياض كان لفتح الجزيرة، فبلغ النّاس   [1] ص: «بلغه» . [2] يقال أدرب القوم؛ إذا دخلوا أرض العدو من بلاد الروم. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 342 ما أصاب خالد، فانتجعه رجال وكان فيهم الأشعث بن قيس، فأجازه بعشرة آلاف، ودخل خالد الحمّام؛ قيل: حمّام آمد، فتدلّك بغسل فيه خمر، فكتب إليه عمر: بلغنى أنّك تدلّكت بخمر، والله قد حرّم ظاهر الخمر وباطنه منه، فلا تمسّها أجسادكم. فكتب إليه: إنّا قتلناها فعادت غسولا غير خمر. فكتب إليه عمر: إنّ آل المغيرة ابتلوا بالجفاء، فلا أماتكم الله عليه. فلمّا فرّق خالد فى الّذين انتجعوه الأموال، سمع بها عمر، فكتب إلى أبى عبيدة بن الجرّاح مع البريد أن يقيم خالدا ويعقله بعمامته، وينزع عنه قلنسوته حتّى يعلمكم من أين أجاز الأشعث، أمن ماله أم من إصابة أصابها؟ فإن زعم أنّها من ماله فقد أسرف، وإن زعم أنّها من إصابة، فقد أقرّ بخيانة. واعزله على كلّ حال، واضمم إليك عمله. وكان خالد على قنّسرين من قبل أبى عبيدة، فكتب أبو عبيدة إلى خالد، فقدم عليه، ثمّ جمع النّاس وجلس على المنبر، وقام البريد قبالة خالد، فسأل خالدا من أين أجاز الأشعث؟ فلم يجبه، وأبو عبيدة ساكت لا يتكلّم. فقال بلال: إنّ أمير المؤمنين أمر فيك بكذا وكذا، ونزع عمامته فلم يمنعه، ووضع قلنسوته، وأقامه وعقله بعمامته، وقال له: أمن مالك الجزء: 19 ¦ الصفحة: 343 أجزت؟ أم من إصابة أصبتها؟ فقال: لا، بل من مالى، فأطلقه، وأعاد قلنسوته، ثمّ عمّمه بيده، ثم قال: نسمع ونطيع لولاتنا، ونفخّم ونخدم موالينا. قال: فأقام خالد متحيّرا لا يدرى: أمعزول هو أم غير معزول! ولم يشافهه أبو عبيدة بذلك تكرمة له. فلمّا تأخّر قدومه على عمر ظنّ الّذى كان، فكتب إلى خالد بالإقبال إليه، فرجع خالد إلى قنسرين فخطب النّاس، وودّعهم، ثم رجع إلى حمص ففعل مثل ذلك، ثم سار إلى المدينة. فلمّا قدم على عمر شكاه وقال: شكوتك إلى المسلمين، وبالله إنّك فى أمرى لغير مجمل، فقال له عمر: من أين هذا الثّراء؟ فقال: من الأنفال والسّهمان، ما زاد على ستّين ألفا فلك. فقوّم عمر ماله، فرآه عشرين ألفا، فجعلها عمر فى بيت المال، ثمّ قال: يا خالد، والله إنّك علىّ لكريم، وإنّك إلىّ لحبيب. وكتب إلى الأمصار: إنّى لم أعزل خالدا عن سخطة ولا خيانة، ولكنّ النّاس فخّموه وفتنوا به. فخفت أن يوكلوا إليه، فأحببت أن يعلموا أنّ الله هو الصانع، ولا يكونوا بعرض فتنة، وعوّضه عمّا أخذ منه. والله تعالى أعلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل الجزء: 19 ¦ الصفحة: 344 ذكر بناء المسجد الحرام [وفى هذه السنة اعتمر عمر بن الخطّاب رضى الله عنه وبنى المسجد الحرام، ووسّع فيه، وأقام بمكّة عشرين ليلة، وهدم على أقوام أبوا أن يبيعوا، ووضع أثمان دورهم فى بيت المال حتى أخذوا، وكانت عمرته فى شهر رجب، واستخلف على المدينة زيد بن ثابت، واستأذنه فأذن لهم وشرط عليهم، أنّ ابن السبيل أحقّ بالظلّ والماء] [1] . ذكر عزل المغيرة بن شعبة وفى هذه السّنة عزل عمر رضى الله عنه المغيرة بن شعبة عن البصرة، واستعمل عليها أبا موسى الأشعرىّ، وكان سبب ذلك أنّه كان بينه أو بين أبى بكرة منافرة، وكانا متجاورين بينهما طربق، وكانا فى مشربتين، فى كل واحدة منهما كوّة مقابلة للأخرى، فاجتمع إلى أبى بكرة نفر يتحدّثون فى مشربته، فهبّت الرّيح، ففتحت باب الكوّة، فقام أبو بكرة ليردّه، فبصر بالمغيرة، وقد فتحت الريح باب كوّته، وهو بين رجلى امرأة، فقال للنّفر: قوموا وانظروا، فنظروا، وهم: أبو بكرة ونافع بن كلدة، وزياد بن أبيه، وهو أخو أبى بكرة لأمّه، وشبل بن معبد البجلىّ، فقال لهم: اشهدوا. قالوا: ومن هذه؟ قال: أمّ جميل بنت الأفقم، وكانت من بنى عامر بن صعصعة، وكانت تغشى المغيرة والأمراء، وكان بعض النّساء يفعلن ذلك   [1] من ص. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 345 فى زمانها، فلمّا قامت عرفوها. فلمّا خرج المغيرة إلى الصّلاة منعه أبو بكرة. وروى أبو الفرج الأصبهانىّ صاحب الأغانى [1] فى كتابه بسند رفعه إلى أنس بن مالك وغيره: أنّ المغيرة بن شعبة كان يخرج من دار الإمارة وسط النّهار، وكان أبو بكرة يلقاه فيقول: أين يذهب الأمير؟ فيقول: آتى حاجة. فيقول له: حاجة ماذا! إنّ الأمير يزار ولا يزور. قال: وكانت المرأة التى يأتيها جارة لأبى بكرة. قال: فبينا أبو بكرة فى غرفة له مع أخويه نافع، وزياد، ورجل آخر يقال له: شبل بن معبد، وكانت غرفة جارته تحت غرفة أبى بكرة، فضربت الرّيح باب المرأة ففتحته، فنظر القوم؛ فإذا هم بالمغيرة ينكحها، فقال أبو بكرة: هذه بليّة ابتليتم بها، فانظروا، فنظروا؛ فإذا أبو بكرة نزل، فجلس حتّى خرج إليه المغيرة من بيت المرأة، فقال له: إنّه قد كان من أمرك ما قد علمت، فاعتزلنا. قال: وذهب ليصلّى بالنّاس الظّهر، فمنعه أبو بكرة، فقال: والله ما تصلّى بنا وقد فعلت ما فعلت. فقال النّاس: دعوه فليصلّ، فإنّه الأمير. ثم تقاربوا فى الرّواية فقاموا: وكتبوا إلى عمر، فبعث أبا موسى أميرا على البصرة، وأمره بلزوم السّنّة، فقال: أعنّى بعدّة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإنّهم فى   [1] الأغانى 16: 95 وما بعدها (طبعة دار الكتب) . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 346 هذه الأمّة كالملح. قال: خذ من اخترت، فأخذ تسعة وعشرين رجلا، منهم أنس بن مالك، وعمران بن حصين، وهشام ابن عامر، وخرج بهم فقدم البصرة، ودفع كتاب إمرته إلى المغيرة وفيه: أمّا بعد: فإنّه بلغنى نبأ عظيم، فبعثت أبا موسى أميرا، فسلّم إليه ما فى يدك، والعجل. فرحل المغيرة ومعه أبو بكرة والشّهود، فقدموا على عمر، فقال له: المغيرة: سل هؤلاء الأعبد كيف رأونى، أمستقبلهم أم مستدبرهم؟ وكيف رأوا المرأة فعرفوها؟ فإن كانوا مستقبلىّ فكيف لم أستتر! وإن كانوا مستدبرىّ فبأىّ شىء استحلّوا النّظر فى منزلى على امرأتى! والله ما أتيت إلّا امرأتى، وكانت تشبهها. فشهد أبو بكرة أنّه رآه على أمّ جميل، يدخله كالميل فى المكحلة، وأنّه رآهما مستدبرين، وشهد شبل ونافع مثل ذلك. وأمّا زياد فإنّه قال: رأيته جالسا بين رجلى امرأة، فرأيت قدمين مخضوبتين تخفقان، واستين مكشوفتين، وسمعت حفزانا شديدا. قال: هل رأيت كالميل فى المكحلة؟ قال: لا، قال: هل تعرف المرأه؟ قال: لا، ولكن أشبّهها. قال: ففتح، وأمر بالثّلاثة فجلدوا الحدّ، فقال المغيرة: اشفنى من الأعبد. قال: اسكت، أسكت الله نأمتك، أما والله لو تمّت الشّهادة لرجمتك بأحجارك. وفى هذه السنة تزوّج عمر أمّ كلثوم بنت علىّ بن أبى طالب، الجزء: 19 ¦ الصفحة: 347 وهى بنت فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ودخل بها فى ذى القعدة. وحجّ عمر رضى الله عنه بالنّاس فى هذه السنة. وفى هذه السنة أسلم كعب الأحبار. وفيها، فى ذى الحجة حوّل عمر رضى الله عنه المقام إلى موضعه اليوم، وكان ملصقا بالبيت. سنة ثمان عشرة: وفيها استقضى عمر شريح بن الحارث الكندىّ على الكوفة، وكعب بن سور على البصرة، وكعب هذا ممّن أسلم على عهد النّبىّ صلّى الله عليه وسلّم ولم يره، وكان لولايته القضاء سبب نذكره. سبب ولاية كعب بن سور قضاء البصرة حكى عن الشّعبىّ، أنّه كان جالسا عند عمر بن الخطّاب رضى الله عنه، فجاءت امرأة فقالت: ما رأيت رجلا [قطّ] [1] أفضل من زوجى، إنّه ليبيت ليله قائما، ونهاره صائما فى اليوم الحارّ ما يفطر، فاستغفر لها عمر، وأثنى عليها، وقال: مثلك أثنى بالخير وقاله، فاستحيت المرأة وقامت راجعة. فقال كعب بن سور: يا أمير المؤمنين، هلّا أعدت المرأة على زوجها إذ جاءتك تستعديك! فقال: أكذلك أرادت؟ قال: نعم، قال: ردّوا علىّ المرأة، فردّت. فقال لها: لا بأس بالحقّ أن تقوليه،   [1] من ص. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 348 إنّ هذا زعم أنّك جئت تشتكين أنّه يجتنب [1] فراشك، قالت: أجل، إنّى امرأة شابّة، وإنّى أبتغى ما تبتغى النّساء، فأرسل إلى زوجها فجاء، فقال لكعب: اقض بينهما، فقال: أمير المؤمنين أحقّ أن يقضى بينهما، فقال: عزمت عليك لتقضينّ بينهما؛ فإنّك فهمت من أمرهما ما لم أفهم! قال: فإنّى أرى أنّ لها يوما من أربعة أيّام؛ وكان زوجها له أربع نسوة، فإذا لم يكن له غيرها فإنّى أقضى لها بثلاثة أيّام ولياليهنّ يتعبّد فيهنّ، ولها يوم وليلة. فقال عمر: والله جاء رأيك الأوّل أعجب إلىّ من الآخر، اذهب فأنت قاض على أهل البصرة. فلم يزل قاضيا على البصرة إلى أن قتل يوم الجمل؛ وذلك أنّه لمّا اصطفّ النّاس للقتال خرج وبيده المصحف فنشره، وجال بين الصّفين يناشد النّاس فى دمائهم، فأتاه سهم غرب [2] فقتله. وقد قيل: إنّ المصحف كان فى عنقه، وعليه برنس وبيده عصا وهو آخذ بخطام الجمل، فأتاه سهم فقتله. وروى أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله بسنده إلى محمد بن سيرين، قال: جاءت [3] امرأة إلى عمر بن الخطّاب رضى الله عنه، فقالت: إنّ زوجى يصوم النهار، ويقوم اللّيل، فقال: ما تريدين؟ أتريدين أن أنهاه عن صيام النّهار، وقيام اللّيل! قال: ثم رجعت   [1] ك: «تجنب» . [2] سهم غرب، بالسكون ويحرك: لا يدرى راميه. [3] الاستيعاب لابن عبد البر 1318- 1320. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 349 إليه فقالت مثل ذلك، فأجابها بمثل جوابه، ثم جاءت الثالثة فقالت له كما قالت، فأجابها بمثل جوابه. وكان عنده كعب بن سور، فقال كعب: إنّها امرأة تشتكى زوجها. فقال عمر: أمّا إذا فطنت لها فاحكم بينهما، فقام كعب: وجاءت بزوجها فقالت: يأيّها القاضى الفقيه أرشده ... ألهى حليلى عن فراشى مسجده زهده فى مضجعى وتعبّده ... نهاره وليله ما يرقده ولست من أمر النّساء أحمده ... فامض القضا يا كعب لا تردّده فقال الزّوج: إنّى امرؤ قد شفّنى ما قد نزل ... فى سورة النّور وفى السّبع الطّول وفى كتاب الله تخويف جلل ... فردّها عنّى وعن سوء الجدل فقال كعب: إنّ السعيد بالقضاء من فصل ... ومن قضى بالحقّ حقّا وعدل إنّ لها عليك حقّا يا بعل ... من أربع واحدة لمن عقل امض لها ذاك ودع عنك العلل ثم قال: أيّها الرجل إنّ لك أن تتزوّج من النّساء مثنى وثلاث ورباع، فلك ثلاثة أيّام، ولامرأتك هذه يوم، ومن أربع ليال ليلة، فلا تصلّ فى ليلتها إلّا الفريضة. فبعثه عمر قاضيا على البصرة. والله تعالى أعلم. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 350 ذكر القحط وعام الرمادة وفى [1] هذه السّنة أصاب النّاس مجاعة شديدة وجدب وقحط، وهو عام الرّمادة، وكانت الريح تسفى ترابا كالرّماد، فسمّى لذلك عام الرّمادة، واشتدّ الجوع حتّى كان الوحش يأوى إلى الإنس، وكان الرجل يذبح الشّاة فيعافها من فيحها [2] ، وأقسم عمر لا يذوق سمنا ولا لبنا، ولا لحما؛ حتّى يحيا النّاس. وكتب إلى الأمراء المقيمين بالأمصار يستغيثهم لأهل المدينة ومن حولها، فكان أوّل من قدم عليه أبو عبيدة بن الجراح بأربعة آلاف راحلة من طعام، فولّاه عمر قسمتها فيمن حول المدينة، فقسّمها وانصرف إلى عمله، وتتايع النّاس، واستغنى أهل الحجاز. وأرسل عمرو بن العاص الطّعام من مصر فى البرّ والبحر، فصار الطعام فى المدينة كسعر مصر. واستسقى عمر رضى الله عنه بالعبّاس بن عبد المطّلب عمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ وذلك أنّ أهل بيت من مزينة، قالوا لصاحبهم وهو بلال بن الحارث: قد هلكنا، فاذبح لناشاة، فقال: ليس فيهنّ شىء، فلم يزالوا به حتّى ذبح فسلخ عن عظم أحمر، فنادى: يا محمّداه! فأرى فى المنام أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم أتاه،   [1] الكامل لابن الأثير 2: 388. [2] ابن الأثير: «قبحها» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 351 فقال: أبشر بالحياة، ائت عمر فأقرأه منّى السلام، وقل له: إنّى عهدتك، وأنت فى العهد شديد العقد، فالكيس الكيس يا عمر. فجاء بلال حتّى أتى باب عمر، فقال لغلامه: استأذن لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأتى عمر فأخبره ففزع وقال: رأيت مسّا؟ قال: لا. قال: فأدخله، فأدخله، فأخبره الخبر، فخرج عمر فنادى فى النّاس، وصعد المنبر، قال: نشدتكم الله الّذى هداكم للإسلام، هل رأيتم شيئا تكرهون؟ قالوا: اللهمّ لا، ولم ذاك؟ فأخبرهم ففطنوا ولم يفطن عمر، فقالوا: إنّما استبطأناك فى الاستسقاء، فاستسق بنا. فنادى فى النّاس، فخرج وخرج معه العبّاس ماشيا، فخطب وأوجز، وصلّى، ثم جثا لركبتيه وقال: اللهم عجزت عنّا أنصارنا، وعجز عنّا حولنا وقوّتنا، وعجزت عنّا أنفسنا، ولا حول ولا قوة إلّا بك، اللهم فاسقنا، وأحى العباد والبلاد. وأخذ بيد العبّاس، وإنّ دموع العبّاس تتحادر على لحيته، فقال: اللهمّ إنّنا نتقرّب إليك بعمّ نبيّك، وبقيّة آبائه، وأكبر رجاله، فإنّك تقول- وقولك الحقّ: (وأمّا الجدار فكان لغلامين يتيمين فى المدينة) [1] ، فحفظتهما بصلاح أبيهما، فاحفظ اللهمّ نبيّك فى عمّه، فقد دنونا إليك مستشفعين ومستغفرين، ثم أقبل على النّاس؛ فقال: استغفروا ربّكم إنّه كان غفّارا. والعبّاس يقول وعيناه تذرفان. ولحيته تجول على صدره: اللهمّ أنت الرّاعى فلا تهمل الضّالة. ولا تدع الكبير بدار مضيعة؛   [1] سورة الكهف 82. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 352 فقد ضرع الصّغير، ورقّ الكبير، وارتفعت الشّكوى، وأنت تعلم السّرّ وأخفى. اللهمّ فأغنهم بغناك قبل أن يقنطوا فيهلكوا؛ فإنّه لا ييئس إلا القوم الكافرون. فنشأت طريرة [1] من سحاب، فقال النّاس: ترون، ترون! ثم مشت فيها ريح، ثم هدرت ودرّت، فو الله ما برحوا حتّى اعتلقوا الحذاء، وقلّصوا المآزر، فطفق النّاس بالعبّاس يمسحون أركانه، ويقولون: هنيئا لك ساقى الحرمين! فقال الفضل [2] بن العباس بن عتبة بن أبى لهب فى ذلك: بعمّى سقى الله الحجاز وأهله ... عشيّة يستسقى بشيبته عمر توجّه بالعبّاس فى الجدب راغبا ... إليه، فما إن رام حتّى أتى المطر ومنّا رسول الله فينا تراثه ... فهل فوق هذا للمفاخر مفتخر ذكر طاعون عمواس وتسمية من مات فيه وفى هذه السنة كان طاعون عمواس بالشّام، وعمواس قرية بين الرّملة وبيت المقدس. قال ابن عبد البرّ: وقيل: إنّ ذلك لقولهم: عم واس. قال ذلك الأصمعىّ.   [1] الطريرة: الطريقة من السحاب. [2] ك: «الفضيل بن الفضل» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 353 مات فيه خمسة وعشرون ألفا، منهم: أبو عبيدة بن الجراح، واسمه عامر بن الجرّاح. وقيل عبد الله بن عامر بن الجرّاح. قال أبو عمر: والصّحيح [1] أنّ اسمه عامر بن عبد الله ابن الجرّاح بن هلال بن أهيب بن ضبّة بن الحارث بن فهر بن مالك [ابن النّضر بن كنانة] [2] القرشىّ الفهرىّ. شهد بدرا وما بعدها من المشاهد كلّها مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم [وهاجر الهجرة] [2] الثانية إلى أرض الحبشة، وكان نحيفا معروق الوجه، طوالا [أجنأ] [3] وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنّة، وكان رضى الله عنه من كبار الصّحابة وفضلائهم، وأهل السّابقة [منهم] [2] . قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لكلّ أمّة أمين، وأمين هذه الأمّة أبو عبيدة بن الجرّاح . وقد تقدّم فى أثناء السّيرة النّبوية خبر وفد نجران، وسؤالهم أن يبعث معهم من يحكم بينهم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ائتونى العشيّة أبعث معكم القوىّ الأمين» ، فبعثه معهم. وروى عن أنس بن مالك رضى الله عنه: أنّ أهل اليمن قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: ابعث معنا رجلا يعلّمنا. فأخذ بيد أبى عبيدة، وقال: هذا أمين هذه الأمّة. وقال أبو بكر رضى الله عنه يوم السّقيفة: قد رضيت لكم أحد هذين الرّجلين، يعنى عمر وأبا عبيدة.   [1] والاستيعاب 794. [2] من ص. [3] رجل أجنأ: أشرف كاهله على صدره. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 354 وقال له عمر رضى الله عنهما؛ إذ دخل عليه الشّام، وهو أميرها: كلّنا غيّرته الدّنيا غيرك. وكانت سنّه يوم توفّى ثمانيا وخمسين سنة، وكانت وفاته رضى الله عنه بالأردنّ، وصلّى عليه معاذ بن جبل، ونزل فى قبره هو وعمرو ابن العاص، والضّحّاك بن قيس. وقبر أبى عبيدة بالقرب من قرية عميا من غور الشّام معروف هناك، قد زرته أنا غير مرّة رضى الله عنه. ومنهم [1] : معاذ بن جبل، وهو أبو عبد الرّحمن معاذ بن جبل ابن عمرو بن أوس بن عائذ بن عدىّ بن كعب بن عمرو بن إدّى ابن سعد بن علىّ بن أسد بن شاردة بن يزيد بن جشم بن الخزرج الأنصارىّ الخزرجى ثم الجشمىّ. وقد نسبه بعضهم فى نسب بنى سلمة بن سعد بن علىّ، قال ابن اسحاق: معاذ بن جبل من بنى جشم بن الخزرج، وإنّما ادّعته بنو سلمة، لأنّه كان أخا سهل بن محمّد بن الجدّ بن قيس لأمّه. قال الواقدىّ وغيره: كان معاذ بن جبل طوالا، حسن الشّعر عظيم العنينين، أبيض، برّاق الثّنايا، لم يولد له قطّ. وقال ابن الكلبىّ، عن أبيه: إنّه ولد له عبد الرّحمن بن معاذ. مات بالشام فى الطّاعون أيضا، فانقرض بنو إدّى بموته. وقيل: إنّ عبد الرحمن قاتل مع أبيه يوم اليرموك. ومعاذ بن جبل أحد السّبعين الّذين شهدوا بيعة العقبة، وآخى رسول الله صلّى الله   [1] أى وممن توفى فى هذه السنة. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 355 عليه وسلّم بينه وبين عبد الله بن مسعود، قاله الواقدىّ، وقال: هذا ما لا خلاف عندنا فيه. وقال ابن اسحاق: آخى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بينه وبين جعفر بن أبى طالب. شهد معاذ بدرا والمشاهد كلّها، وبعثة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قاضيا إلى الجند من أرض اليمن، يعلّم النّاس القرآن وشرائع الإسلام، ويقضى بينهم، وجعل إليه قبض الصّدقات من العمّال الّذين باليمن، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد قسّم اليمن على خمسة رجال: خالد بن سعيد على صنعاء، والمهاجر بن أبى أميّة على كندة، وزياد بن لبيد على حضرموت، ومعاذ بن جبل على الجند، وأبى موسى الأشعرى على زبيد وزمعة وعدن والسّاحل. وقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين وجّهه إلى اليمن، بم تقضى؟ قال: بما فى كتاب الله عزّ وجلّ. قال: فإنّ لم تجده؟ قال بما فى سنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد برأيى. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الحمد لله الّذى وفّق رسول رسول الله لما يحبّ رسول الله» . وروى أبو عمر بن عبد البرّ بسنده عن كعب بن مالك، قال: كان [1] معاذ بن جبل شابّا جميلا، من أفضل شباب قومه [2] ، سمحا، لا يمسك؛ فلم يزل يدّان حتّى أغلق ماله كلّه من الدّين، فأتى   [1] الاستيعاب 1402 وما بعدها. [2] الاستيعاب: «من أفضل سادات قومه» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 356 النّبىّ صلّى الله عليه وسلم، فطلب إليه ان يسأل غرماءه أن يضعوا له، فأبوا، ولو تركوا لأحد من أجل أحد لتركوا لمعاذ بن جبل من أجل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فباع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ماله كلّه فى دينه، حتّى قام معاذ بغير شىء، حتى إذا كان [عام] [1] فتح مكّة، بعثه النبىّ صلى الله عليه وسلّم إلى طائفة من أهل اليمن ليجبره فمكث معاذ باليمن أميرا. وكان أوّل من اتّجر فى مال الله هو، فمكث حتّى أصاب وحتّى قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فلمّا قدم قال عمر لأبى بكر: ارسل إلى هذا الرّجل فدع له ما يعيّشه، وخذ سائره منه، فقال أبو بكر رضى الله عنه: إنّما بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليجبره، ولست بآخذ منه شيئا؛ إلّا أن يعطينى. فانطلق عمر إليه إذ لم يطعه أبو بكر، فذكر ذلك لمعاذ، فقال معاذ: إنّما أرسلنى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليجبرنى، ولست بفاعل، ثمّ أتى معاذ عمر وقال: قد أطعتك، وأنا فاعل ما أمرتنى به، إنّى رأيت فى المنام أنّى فى حومة ماء؛ قد خشيت الغرق فخلّصتنى منه يا عمر. فأنى معاذ أبا بكر، فذكر ذلك له، وحلف له أنّه لا يكتمه شيئا فقال أبو بكر: لا آخذ منك شيئا، قد وهبته لك، فقال: هذا خير حلّ [2] ، وطاب، فخرج معاذ عند ذلك إلى الشام. قال أبو عمر: كان عمر قد استعمله فى الشام [حين مات أبو عبيدة] [3] ولما مات   [1] من الاستيعاب. [2] فى الأصلين: «حين» ، والمثبت من الاستيعاب. [3] من ص. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 357 أبو عبيدة، استعمل عمر بن الخطّاب معاذ بن جبل على الشّام، فمات من عامه؛ وذلك فى الطّاعون، فاستعمل موضعه عمرو بن العاص. وقال المدائنىّ: مات معاذ بناحية الأردنّ فى طاعون عمواس فى سنة ثمانى عشرة، وهو ابن ثمان وثلاثين. وقال غيره: كان سنّه يوم مات ثلاثا وثلاثين سنة. وقبر معاذ بغور الشّام، بالقرب من قرية [1] القصير من شرقيّها معووف هناك، قد زرته غير مرّة، وبينه وبين قبر أبى عبيدة نحو من [مرحلة] [2] . ومنهم يزيد بن أبى سفيان بن حرب بن أميّة بن عبد شمس ابن عبد مناف، كان أفضل بنى أبى سفيان، وكان يقال له يزيد الخير. أسلم يوم فتح مكة، وشهد حنينا، واستعمله أبو بكر رضى الله تعالى عنه وأوصاه [3] ، وخرج يشيّعه راجلا. وروى أبو بشر الدّولابىّ: أنّه مات سة تسع عشرة بعد أن افتتح قيساريّة. ومنهم الحارث بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشىّ المخزومىّ، وهو أخو أبى جهل لأبويه. أسلم يوم الفتح، وحسن [4] إسلامه، وشهد حنينا، وأعطاه   [1] ك: «عمارة» . [2] تكملة من ص. [3] ك: «فأرضاه» . [4] ك: «وشهد إسلامه» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 358 رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مائة من الإبل، وأعطى المؤلّفة قلوبهم، ثم خرج إلى الشّام فى خلافة عمر رضى الله عنه راغبا فى الرّباط والجهاد فتبعه أهل مكّة يبكون فراقه، فقال: إنّها النّقلة إلى الله تعالى، وما كنت لأوثر [1] عليكم [أحدا] [2] ، فلم يزل بالشّام يجاهد حتّى مات فى طاعون عمواس. وقال المدائنىّ: إنّه قتل يوم اليرموك، فى شهر رجب سنة خمس عشرة، والله سبحانه وتعالى أعلم. ومنهم سهيل بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ودّ بن نضر بن مالك بن جبل بن عامر بن لؤىّ بن غالب القرشىّ العامرىّ. يكنى أبا يزيد، وكان أحد الأشراف من قريش وسادتهم، وهو الّذى عاقد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الحديبية وقاضاه كما تقدّم. أسلم يوم الفتح وحسن إسلامه، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب فى سهيل بن عمرو: «دعه فعسى أن يقوم مقاما نحمده» ، فكان المقام الّذى قامه فى الإسلام أنّه لما ماج أهل مكّة عند وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وارتدّ من ارتدّ من العرب، قام سهيل خطيبا فقال: والله إنّى لأعلم أنّ هذا الدّين سيمتدّ امتداد الشّمس من طلوعها إلى غروبها، فلا يغرّنكم هذا عن أنفسكم،- يعنى أبا سفيان- فإنّه يعلم من هذا الأمر ما أعلم؛ ولكنه قد جثم على صدره بحسد بنى هاشم.   [1] ك: «الأمير» تحريف. [2] تكملة من ص. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 359 وأتى فى خطبتة بمثل ما جاء به أبو بكر الصّديق رضى الله عنه بالمدينة. وروى ابن المبارك عن جرير بن حازم [1] ، قال: سمعت الحسن يقول: حضر النّاس باب عمر بن الخطّاب، وفيهم سهيل بن عمرو، وأبو سفيان بن حرب، وأولئك الشيوخ من قريش، فخرج آذنه فجعل يأذن لأهل بدر، لصهيب وبلال. فقال أبو سفيان: ما رأيت كاليوم قطّ؛ إنّه ليؤذن لهؤلاء العبيد ونحن جلوس لا يلتفت إلينا! فقال سهيل: أيّها القوم: إنّى والله قد أرى الّذى فى وجوهكم، فإن كنتم غضابا فاغضبوا على أنفسكم، دعى القوم ودعيتم، فأسرعوا وأبطأتم. أما والله لما سبقوكم به من الفضل أشدّ عليكم فوتا من بابكم هذا الّذى تنافسون عليه، ثم قال: أيّها القوم، إنّ هؤلاء القوم قد سبقوكم بما ترون، ولا سبيل إلى ما سبقوكم إليه، فانظروا هذا الجهاد فالزموه، عسى أن الله يرزقكم شهادة ثم. نفض ثوبه فقام ولحق بالشّام. وقال المدائنىّ: إنّه قتل باليرموك، والله تعالى أعلم. ومنهم: عتبة بن سهيل، وعامر بن غيلان الثّقفى، مات وأبوه حّىّ، ومات غير هؤلاء، رحمهم الله تعالى.   [1] ك: «حاذرة» تحريف. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 360 ذكر قدوم عمر الى الشام بعد الطاعون قال [1] : لمّا هلك النّاس بالطاعون، كتب أمراء الأجناد إلى عمر رضى الله عنه بما فى أيديهم من المواريث، فجمع النّاس واستشارهم وقال لهم: قد بدا لى أن أطوف على المسلمين فى بلدانهم؛ لأنظر فى آثارهم، فأشيروا علىّ، وكان أراد أن يبدأ بالعراق، فصرف كعب الأحبار رأيه عن ذلك، فخرج إلى الشّام، واستخلف على المدينة علىّ بن أبى طالب، وجعل طريقه على أيلة، فلما دنا منها ركب بعيره وعلى رحله فرو مقلوب، وأعطى غلامه مركبه، فلمّا تلقّاه النّاس قالوا: أين أمير المؤمنين؟ قال: أمامكم- يعنى نفسه- فساروا أمامه، وانتهى هو إلى أيلة فنزلها. وقيل للمتلقّين: قد دخل أمير المؤمنين، فرجعوا، وأعطى عمر الأسقّفّ [2] بها قميصه وقد تخرّق ظهره؛ ليغسله ويرقعه، ففعل، وأخذه ولبسه، وخاط له الأسقفّ قميصا غيره، [فلم يأخذه] [3] فلمّا قدم إلى الشام قسّم فيها الأرزاق، وسمّى الشّواتى والصّوئف، وسدّ فروج الشام ومسالحها، وأخذ يدور بها، واستعمل عبيد الله بن قيس على السّواحل من كلّ كورة، واستعمل معاوية على دمشق   [1] ابن الأثير 2: 393. [2] الأسقف عند النصارى. القسيس، وهو دون المطراك. [3] من ص. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 361 وخراجها بعد وفاة أخيه يزيد بن أبى سفيان، وعزل شرحبيل بن حسنة، وقام بعذره فى النّاس، وقال: إنّى لم أعزله عن سخطة، ولكنّى أريد رجلا أقوى من رجل، وكان شرحبيل على خيل الأردنّ، فضمّ ذلك إلى معاوية. قال: ولمّا قدم عمر رضى الله تعالى عنه تلقّاه معاوية فى موكب عظيم، فلما رآه عمر قال: هذا كسرى العرب، فلمّا دنا منه قال: أنت صاحب الموكب العظيم! قال: نعم، يا أمير المؤمنين، قال: مع ما يبلغنى من وقوف ذوى الحاجات ببابك! قال: مع ما يبلغك من ذلك، قال: ولم تفعل هذا؟ قال: نحن بأرض، جواسيس العدوّ بها كثيرة، فيجب أن نظهر من عزّ السلطان ما يرهبهم، فإن أمرتنى فعلت، وإن نهيتنى انتهيت. فقال عمر: يا معاوية، ما أسألك عن شىء الا تركتنى فى مثل رواجب الفرس [1] ، لئن كان ما قلت حقّا، إنّه لرأى لبيب، وإن كان باطلا إنّها لخدعة أريب. قال: فمرنى يا أمير المؤمنين. قال: لا آمرك ولا أنهاك. قال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين، ما أحسن ما صدر هذا الفتى عما أوردته فيه. قال: لحسن مصادره وموارده جشّمنا ما جشّمناه. وروى أبو عمر بن عبد البرّ: أنّ عمر بن الخطّاب رزق معاوية على عمله بالشّام عشرة آلاف دينار فى كلّ سنة. قال المؤرّخ: واستعمل عمر رضى الله عنه عمرو بن عنبسة على   [1] الرواجب: مفاصل أصول الأصابع. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 362 الأهراء [1] ، وقسم مواريث أهل عمواس، فورث بعض الورثة من بعض، وأخرجها إلى الأحياء، من ورثة كلّ منهم، ورجع عمر إلى المدينة فى ذى القعدة من السّنة. قال: ولمّا كان بالشّام وحضرت الصّلاة قال له النّاس: لو أمرت بلالا فأذّن! فأمره، فأذّن، فما بقى أحد ممّن أدرك النبىّ صلّى الله عليه وسلّم وبلال يؤذّن إلّا بكى حتّى بلّ لحيته، وعمر أشدّهم بكاء، وبكى من لم يدركه لبكائهم. وحجّ عمر رضى الله بالنّاس فى هذه السّنة. سنة تسع عشرة: فى هذه السنة سالت حرّة ليلى وهى بالقرب من المدينة نارا، فأمر [عمر] [2] بالصّدقة، فتصدّق النّاس، فانطفأت. وفيها مات أبىّ بن كعب. وقيل: مات سنة عشرين، وقيل اثنتين وعشرين. وقيل: اثنتين وثلاثين، والله تعالى أعلم. وحجّ عمر رضى الله تعالى عنه بالنّاس فى هذه السّنة. سنة عشرين من الهجرة: فى هذه السّنة عزل عمر رضى الله عنه قدامة بن مظعون [3] عن البحرين، وولّى عثمان بن أبى العاص.   [1] ك: «الأهواز، تحريف. [2] من ص. [3] بعدها فى ابن الأثير: «وحده فى شرب الخمر» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 363 وقيل: بل استعمل أبا هريرة على البحرين، واليمامة [1] ، [وقيل: استعمل أبا بكرة على البحرين واليمامة] [2] . وكان سبب عزل قدامة، أنّ الجارود بن المعلّى سيّد عبد القيس قدم على عمر من البحرين، فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ قدامة شرب فسكر، وإنّى رأيت حدّا من حدود الله حقّا علىّ أن أرفعه إليك. فقال عمر: من يشهد معك؟ فقال: أبو هريرة، فدعا أبا هريرة فقال بم تشهد؟ قال: لم أره يشرب، ولكن رأيته سكران يقئ. فقال عمر: لقد تنطّعت فى الشّهادة. ثمّ كتب إلى قدامة أن يقدم عليه من البحرين، فقدم، فقال الجارود: أقم على هذا حدّ كتاب الله. فقال عمر: أخصم أنت أم شهيد؟ [فقال: شهيد] [2] . فقال: قد أدّيت شهادتك. فصمت الجارود، ثم غدا على عمر فقال: أقم على هذا حدّ الله فقال عمر: ما أراك إلّا خصما، وما شهد أحد بعد إلّا رجلا واحدا. فقال الجارود: إنّى أنشدك الله! فقال عمر: لتمسكنّ عنّى لسانك وإلّا سؤتك. فقال: يا عمر، أما والله ما ذاك بالحقّ أن يشرب ابن عمّك الخمر وتسوءنى! ثم قال: يا عمر، إن كنت تشك فى شهادتنا فأرسل إلى ابنة الوليد فسلها، وهى امرأة قدامة.   [1] فى ابن الأثير: «واستعمل أبا بكرة على اليمامة والبحرين. [2] من ص. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 364 فأرسل عمر إلى هند ابنة الوليد ينشدها، فأقامت الشّهادة على زوجها، فقال عمر لقدامة: إنّى حادّك، فقال: لو شربت كما يقولون ما كان لكم أن تحدّونى، فقال عمر: لم؟ قال قدامة: قال الله عزّ وجلّ: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا ... [1] الآية. فقال عمر: أخطأت التأويل، إنّك إذا اتّقيت الله اجتنبت ما حرّمه عليك، ثم أقبل عمر على النّاس فقال: ما ترون فى جلد قدامة؟ فقالوا: ما نرى أن تجلده ما كان مريضا، فسكت على ذلك أيّاما، ثم أصبح يوما قد عزم [2] على جلده، فقال لأصحابه: ما ترون فى جلد قدامة؟ فقالوا: ما نرى أن تجلده ما كان وجعا، فقال عمر: لأن [3] يلقى الله تحت السّياط أحبّ إلىّ من أن ألقاه وهو فى عنقى. ائتونى بسوط تامّ، وأمر بقدامه فجلد، فغاضب قدامة عمر وهجره، فلم يزل كذلك حتّى حجّ عمر وقدامة معه، فلمّا قفلا من حجّهما، ونزل عمر بالسّقيا نام، فلمّا استيقظ قال: عجّلوا علىّ بقدامة، فو الله لقد أتانى آت فى منامى فقال: سالم قدامة فإنّه أخوك. فلمّا أتوه أبى أن يأتى، فأمر عمر به إن أبى أن يجرّوه إليه، فجاءه فاستغفر له عمر وكلّمه، فكان ذلك أوّل صلحهما.   [1] سورة المائدة 93. [2] ص: «قدم» . [3] ك: «لئن» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 365 حكاه أبو عمر. قال: وكان قدامة خال عبد الله وحفصة ابنى عمر رضى الله عنهم [1] . ذكر اجلاء يهود خيبر منها وفى هذه السّنة أجلى عمر رضى الله عنه يهود خيبر، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لمّا فتح الله عليه خيبر، دعا أهلها فقال لهم: إن شئتم دفعت إليكم هذه الأموال [على] [2] أن تعملوها، وتكون ثمارها بيننا وبينكم، وأقرّكم على ما أقرّه الله عزّ وجلّ . فقبلوا ذلك [واشترط عليهم] [2] ، أنّا متى شئنا أن نخرجكم أخرجناكم، وقد تقدّم ذكر ذلك مستوفى فى السّيرة النّبويّة، فى غزاة خيبر. فلمّا قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أقرّهم أبو بكر رضى الله عنه على ما أقرّهم عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأقرّهم عمر رضى الله عنه بعده إلى هذه السّنة. ثم بلغه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال فى وجعه الّذى قبضه الله فيه: «لا يجتمعنّ فى جزيرة العرب دينان» ، ففحص عن ذلك حتّى أتاه الثّبت، فأرسل إلى يهود فقال: إنّ الله قد أذن لى فى إجلائكم، وقد بلغنى أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: لا يجتمعنّ بجزيرة العرب دينان ، فمن كان عنده عهد من رسول الله صلّى الله عليه وسلم فليأتنى به أنفذه له، ومن لم يكن عنده عهد   [1] الاستيعاب 1277. [2] من ص. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 366 فليتجهّز [1] للجلاء، فأجلى من لم يكن عنده عهد من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقال ابن إسحاق: حدّثنى نافع مولى عبد الله بن عمر، عن عبد الله بن عمر قال: خرجت أنا والزّبير بن العوّام، والمقداد ابن الأسود إلى أموالنا بخيبر نتعهّدها، فلمّا قدمنا تفرقنا فى أموالنا. قال عبد الله: فعدا [2] علىّ تحت الليل شىء وأنا نائم على فراشى، فنزعت يداى من فرقى [3] ، فلمّا أصبحت استصرخت علىّ صاحباى، فأتيانى فسألانى: من صنع بك هذا؟ فقلت: لا أدرى، فأصلحانى ثم قدما بى على عمر، فقال [4] : هذا عمل [5] اليهود. ثمّ قام فى الناس خطيبا فقال: أيّها النّاس، إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان عامل يهود خيبر على أنّا نخرجهم إذا شئنا، وقد عدوا على عبد الله بن عمر، فقدعوا يديه كما بلغكم، مع عدوتهم على الأنصارىّ قبله، لا نشكّ أنّهم أصحابه، ليس هناك عدوّ غيرهم، فمن كان له مال بخيبر فليلحق به؛ فإنّى مخرج اليهود، فأخرجهم. قال: وركب عمر فى المهاجرين والأنصار، وأخرج معه جبار ابن صخر بن أميّة- وكان خارص [6] أهل المدينة وحاسبهم- وزيد   [1] ك: «فليستجهز» . [2] ك: «فعدا» . [3] ك: «مرفقى» . [4] ك: «فقلت» . [5] ك: «عملت» . [6] الخارص: هو الذى يقطع النخل، وفى ك: «حارص» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 367 ابن ثابت، وهما قسّما خيبر على أهلها على أصل جماعة السّهمان التى كانت عليها. وفيها أيضا أجلى نصارى نجران إلى الكوفة. وفيها بعت عمر علقمة بن مجزز المدلجى إلى الحبشة، وكانت تطرفت بلاد الشام، فأصيب المسلمون، فجعل عمر على نفسه ألّا يحمل فى البحر أحدا أبدا- يعنى للغزو. وقيل: كان ذلك فى سنة إحدى وثلاثين فى خلافة عثمان رضى الله عنه.،. ذكر عزل سعد بن أبى وقاص عن الكوفة ومن ولى بعده فى هذه السنة سنة إحدى وعشرين: [وفى هذه السنة] [1] عزل عمر بن الخطاب رضى الله عنه سعد بن أبى وقّاص عن الكوفة؛ حين شكاه أهلها، وولّى عمّار بن ياسر الصّلاة، وعبد الله بن مسعود بيت المال، وعثمان ابن حنيف مساحة الأرض، ثم عزل عمّارا؛ لأنّ أهل الكوفة شكوه، فاستعفى. وأعاد سعدا على الكوفة ثانية، ثم عزله، وولىّ جبير بن مطعم، ثم عزله قبل أن يخرج إليها، وكان سبب عزله أنّ عمر رضى الله عنه ولاه، وقال له: لا تذكره لأحد، فسمع المغيرة بن شعبة أنّ عمر   [1] من ص. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 368 خلا بجبير بن مطعم، فأرسل امرأته إلى امرأة جبير لتعرض عليها طعام السّفر، فقالت: نعم، جيئينى به. فلمّا علم المغيرة جاء إلى عمر، فقال: بارك الله لك فيمن ولّيت. وأخبره الخبر، فعزله، وولّى المغيرة بن شعبة الكوفة، فلم يزل عليها إلى أن قتل [عمر] [1] . وقيل: إنّ عمر رضى الله عنه لمّا أراد أن يعيد سعدا إلى الكوفة أبى عليه، وقال: أتأمرنى أن أعود إلى قوم يزعمون أنّى لا أحسن أن [أصلّى، فتركه وولّى خالد بن الوليد] [2] . وقيل: فى سنة اثنتين وعشرين، قيل: كانت وفاته بحمص، ودفن فى قرية على ميل منها. وقيل: بل توفّى بالمدينة. ولمّا حضرته الوفاة قال: لقد شهدت مائة زحف أوزهاءها وما فى جسدى موضع شبر الّا وفيه ضربة أو طعنة أو رمية، ثمّ هأنذا أموت على فراشى كما يموت العير! فلا نامت أعين الجبناء. حكى أبو عمر: أنّه لم تبق امرأة من بنى المغيرة إلّا وضعت لمّتها على قبر خالد بن الوليد، أى حلقت رأسها. قال المؤّرخ: وكان الأمراء فى هذه السّنة على الأمصار، عمير بن سعد على دمشق وحوران وحمص وقنّسرين والجزيرة. ومعاوية   [1] من ك. [2] من ص. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 369 ابن أبى سفيان على البلقاء والأردنّ وفلسطين والسّواحل وأنطاكية وقلقية ومعّرة مصرين، والعمّال على بقية الأمصار من ذكرنا. وفيها ولد الحسن البصرى والشّعبىّ. وفيها مات العلاء [ابن] [1] الحضرمىّ أمير البحرين، فاستعمل عمر رضى الله عنه مكانه أبا هريرة. وحجّ عمر رضى الله عنه بالنّاس، واستخلف على المدينة زيد بن ثابت. سنة اثنتين وعشرين: فى هذه السنّة ولد يزيد بن معاوية، وعبد الملك بن مروان، وكان عمّاله على الأمصار من ذكرنا إلّا الكوفة والبصرة؛ فإنّ عامله على الكوفة المغيرة بن شعبة، وعلى البصرة أبو موسى. سنة ثلاث وعشوين: وفى هذه السنّة حجّ عمر رضى الله عنه بالنّاس، وحجّ معه أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهى آخر حجّة حجّها. وفيها كان مقتل عمر رضى الله عنه وأرضاه بمنّه وكرمه.   [1] من ص. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 370 ذكر خبر مقتل عمر بن الخطاب ومدة خلافته قد [1] اختلف فى تاريخ مقتله رضى الله عنه، فقال الواقدىّ: لثلاث بقين من ذى الحجّة سنة ثلاث وعشرين. وقال الزّبير: لأربع بقين من ذى الحجّة. وروى عن معدان بن أبى طلحة اليعمرىّ، قال: قتل عمر يوم الأربعاء لأربع بقين من ذى الحجّة. وكانت خلافته رضى الله تعالى عنه عشر سنين ونصفا وخمس ليال، وعمره ثلاث وستّون سنة على الصّحيح. وقتله أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة؛ وذلك أنّ عمر رضى الله عنه خرج يوما يطوف فى الأسواق، فلقيه أبو لؤلؤة فيروز- وكان نصرانيّا، وقيل: مجوسيّا- وقد ذكرنا ما كان يقوله لمّا قدم سبى نهاوند: أكل عمر كبدى، فلمّا لقيه قال: يا أمير المؤمنين، أعدنى على المغيرة بن شعبة؛ فإنّه يكلّفنى خراجا كثيرا، قال: كم يحمّلك؟ قال: مائة درهم فى الشّهر. وقيل: إنّه قال: درهمان فى كلّ يوم، قال: وما صناعتك؟ قال: نجّار نقّاش حدّاد. قال: فما أرى خراجك كثيرا على ما تصنع من الأعمال، وقد بلغنى أنّك تقول: لو أردت أن أصنع رحا تطحن بالرّيح لفعلت. قال: نعم، قال:   [1] انظر خبر؟؟؟ مقتله رضى الله عنه فى تاريخ ابن الأثير 3: 26 وما بعدها. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 371 فاعمل لى رحا. قال: إن سلمت لأعملنّ لك رحا يتحدّث بها أهل المشرق والمغرب. فقال عمر: قد أوعدنى العلج الآن، ثم انصرف عمر إلى منزله. فلمّا كان من الغد جاء كعب الأحبار إلى عمر، فقال: يا أمير المؤمنين، اعهد فإنّك ميّت فى ثلاث، قال: وما يدريك؟ قال: أجده فى كتاب التوارة، قال عمر: إنّك لتجد عمر بن الخطّاب فى لتّوراة؟ قال: اللهم لا؛ ولكنّى أجد صفتك وحليتك. قال: وعمر لا يجد وجعا، ثم جاءه من الغد وقال: بقى يومان، ثم جاءه من غد الغد وقال: قد مضى يومان، وقد بقى يوم. فلمّا أصبح خرج عمر إلى الصّلاة، وكان يوكّل بالصفوف رجلا، فإذا استوت كبّر، ودخل أبو لؤلؤة فى النّاس، وفى يده خنجر له رأسان، نصابه فى وسطه، فضرب عمر ستّ ضربات، إحداهنّ تحت سرّته، وهى الّتى قتلته، وقتل معه كليب بن البكير اللّيثىّ وجماعة غيره. روى أنه طعن معه اثنا عشر رجلا، وقيل: ثلاثة عشر، مات منهم ستّة، فلمّا وجد عمر حرّ السّلاح سقط، وأمر عبد الرّحمن ابن عوف فصلّى بالنّاس وهو طريح، فاحتمل، فأدخل بيته ودعا عبد الرّحمن، فقال: إنّى أريد أن أعهد إليك، قال: أتشير علىّ بذلك؟ قال: عمر: اللهمّ لا، فقال: والله لا أدخل فيه أبدا. قال: فهبنى صمتا؛ حتّى أعهد إلى النّفر الّذين توفّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو عنهم راض، ثم دعا عليّا، وعثمان. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 372 والزّبير، وسعدا، وقال: انتظروا أخاكم طلحة ثلاثا، فإنّ جاء وإلّا فاقضوا أمركم. أنشدك الله يا علىّ، إن وليت من أمور النّاس شيئا على ألّا تحمل بنى هاشم على رقاب النّاس. أنشدك الله يا عثمان، إن وليت من أمور النّاس شيئا ألّا تحمل بنى أبى معيط على رقاب النّاس. أنشدك الله يا سعد إن وليت من أمور النّاس شيئا ألّا تحمل أقاربك على رقاب النّاس. قوموا فتشاوروا، ثم اقضوا أمركم، وليصلّ بالنّاس صهيب، ثم دعا أبا طلحة الأنصارىّ فقال: قم على بابهم فلا تدع أحدا يدخل إليهم، وأوص الخليفة من بعدى بالأنصار الّذين تبوّءوا الدّار والإيمان، أن يحسن إلى محسنهم، وأن يعفو عن مسيئهم، وأوص الخليفة بالعرب؛ فإنّهم مادّة الإسلام، أن تؤخذ من صدقاتهم حقّها، فتوضع فى فقرائهم، وأوص الخليفة بذمّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يوفى لهم بعهدهم. اللهمّ هل بلّغت! لقد تركت الخليفة من بعدى على أنقى من الرّاحة، ثم قال لابنه عبد الله: انظر من قتلنى؟ فقال: قتلك أبو لؤلؤة، فقال: الحمد لله الّذى لم يجعل منيّتى على يد رجل [ما] [1] سجد لله سجدة واحدة، وأرسل عبد الله ابنه إلى عائشة، فاستأذنها   [1] من ص. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 373 أن يدفن مع النبى صلّى الله عليه وسلّم وأبى بكر رضى الله عنه، ثم قال: يا عبد الله، إن اختلف القوم فكن مع الأكثر، فإن تساووا فكن مع الحزب الّذى فيه عبد الرّحمن بن عوف. يا عبد الله، ائذن للنّاس، فدخل عليه المهاجرون والأنصار، فجعلوا يسلّمون عليه، فيقول لهم: هذا عن ملإ منكم؟ فيقولون: معاذ الله! ودخل كعب الأحبار مع النّاس، فلما رآه عمر رضى الله تعالى عنه قال: وأوعدنى كعب ثلاثا أعدّها ... ولا شكّ أنّ القول ما قاله كعب وما بى حذار الموت إنّى لميّت ... ولكن حذار الذّنب يتبعه الذّنب قال: ولمّا طعن أبو لؤلؤة عمر، ومن طعن معه، رمى عليه رجل من أهل العراق برنسا، ثم نزل عليه، فلمّا رأى أنّه لا يستطيع أن يتحرّك، وجأ نفسه فقتلها. قال أبو عمر بن عبد البرّ: ومن أحسن شىء يروى فى مقتل عمر وأصحّه ما رواه بسنده إلى عمرو بن ميمون، قال: [1] شهدت عمر يوم طعن ومات، وما منعنى أن أكون فى الصّفّ المقدّم إلّا هيبته- وكان رجلا مهيبا- فكنت فى الصّفّ الّذى يليه، فأقبل عمر، فعرض له أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة، ففاجأ عمر قبل أن تستوى الصّفوف، ثم طعنه ثلاث طعنات، فسمعت عمر وهو يقول: دونكم الكلب فإنّه قد قتلنى، وماج النّاس وأسرعوا إليه، فجرح   [1] الاستيعاب 1153. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 374 ثلاثة عشر رجلا، فانكفأ عليه رجل من خلفه فاحتضنه، وحمل عمر، فماج النّاس بعضهم فى بعض حتّى قال قائل: الصّلاة يا عباد الله، طلعت الشمس. فقدّموا عبد الرّحمن بن عوف فصلّى بنا بأقصر سورتين فى القرآن، (إذا جاء نصر الله والفتح) و (إنّا أعطيناك الكوثر) ، واحتمل عمر، ودخل النّاس عليه، فقال: يا عبد الله بن عبّاس، اخرج فناد فى النّاس: أعن ملإ منكم هذا؟ فخرج ابن عبّاس، فقال: أيّها النّاس، إنّ أمير المؤمنين يقول: أعن ملأ منكم هذا؟ فقالوا: معاذ الله! والله ما علمنا ولا اطّلعنا. وقال: ادعوا إلىّ الطبيب فدعى الطبيب فقال: أىّ الشّراب أحبّ إليك؟ فقال: النّبيذ، فسقى نبيذا فخرج من بعض طعناته، فقال النّاس: هذا دم، هذا صديد، فقال: اسقونى لبنا، فسقى لبنا، فخرج من الطّعنة، فقال له الطّبيب: لا أرى أن تمسى، فما كنت فاعلا فافعل. وروى أبو عمر أيضا بسنده إلى عوف بن عوف بن مالك الأشجعىّ: أنّه [1] رأى فى المنام، كأنّ النّاس جمعوا، فإذا فيهم [رجل] [2] فرعهم فهو فوقهم بثلاثة أذرع. قال: فقلت: من هذا؟ فقالوا: عمر. قلت: ولم؟ قالوا: لأنّ فيه ثلاث خصال، لأنّه لا يخاف فى الله لومة لائم، وأنّه خليفة مستخلف، وأنّه شهيد مستشهد. قال: فأتى أبو بكر فقصّها عليه، فأرسل إلى عمر فدعاه ليبشّره،   [1] الاستيعاب 1156. [2] من الاستيعاب. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 375 فجاء عمر فقال لى أبو بكر: اقصص، قال: فلمّا بلغت خليفة مستخلف، زبرنى [1] عمر وانتهرنى، وقال: اسكت، تقول هذا وهو حىّ! قال: فلمّا كان هذا بعد، وولى عمر، مررت بالمسجد وهو على المنبر، فدعانى وقال: اقصص علىّ رؤياك، فقصصتها، فلمّا قلت: إنّه لا يخاف فى الله لومة لائم قال: إنّى لأرجو أن يجعلنى الله منهم، قال فلمّا قلت: «خليفة مستخلف» قال: قد استخلفنى الله، وأسأله أن يعيننى على ما ولّانى، فلما أن ذكرّت: «شهيد مستشهد» ، قال: أنّى لى بالشّهادة وأنا بين أظهركم تغزون ولا أغزو! ثم قال: بلى يأتى الله بها إن شاء، يأتى الله بها إن شاء [2] . وقد روى معمر عن الزّهرى، عن سالم، عن ابن عمر رضى الله تعالى عنهم: أنّ النّبىّ صلّى الله عليه وسلّم رأى على عمر قميصا أبيض، فقال: أجديد قميصك هذا، أم غسيل؟ قال: بل غسيل. قال: «البس جديدا، وعش حميدا، ومت شهيدا، ويرزقك الله قرّة عين فى الدّنيا والآخرة» ، قال: وإيّاك يا رسول الله. وروى عن عائشة رضى الله عنها، قالت: ناحت الجنّ على عمر قبل أن يقتل بثلاث، فقالت: أبعد قتيل بالمدينة أظلمت ... له الأرض تهتزّ العضاه بأسوق   [1] زبرنى: نهرنى. [2] الاستيعاب 1156. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 376 جزى الله خيرا من إمام وباركت ... يد الله فى ذاك الأديم الممزّق فمن يسع أو يركب جناحى نعامة ... ليدرك ما قدّمت بالأمس يسبق قضيت أمورا ثم غادرت بعدها ... بوائق من أكمامها لم تفتّق وما كنت أخشى أن تكون وفاته ... بكفّ سبنتى أزرق العين مطرق [1] والله سبحانه وتعالى أعلم.   [1] السبنتى: النمر. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 377 ذكر قصة الشورى قال: وقيل [1] لعمر: لو استخلفت يا أمير المؤمنين؟ قال: لو كان أبو عبيدة حيّا لاستخلفته، وقلت لربّى إن سألنى [2] : سمعتك وسمعت نبيّك يقول: إنّه أمين هذه الأمّة، ولو كان سالم مولى أبى حذيفة حيّا لاستخلفته، وقلت لربّى إن سألنى: سمعت نبيّك يقول: «إنّ سالما شديد الحبّ لله» . فقال له رجل: أدلّك على عبد الله بن عمر؟ فقال: قاتلك الله! ما أردت بهذا ويحك! كيف أستخلف من عجز عن طلاق امرأته! لا أرب لنا فى أموركم، ما حمدتها فأرغب فيها لأحد من أهل بيتى، إن كان خيرا قد أصبنا منه، وإن كان شرّا قد صرف عنّا، بحسب آل عمر أن يحاسب منهم رجل واحد، ويسأل عن أمّة محمّد! أما لقد جهدت نفسى، وحرمت أهلى، وإن نجوت كفافا لا أجر ولا وزر، إنّى لسعيد. أنظر فإن استخلفت، فقد استخلف من هو خير منّى، وإن أترك فقد ترك من هو خير منى، ولن يضيّع الله دينه. فخرجوا، ثم راحوا فقالوا: يا أمير المؤمنين، لو عهدت عهدا! فقال: قد كنت أجمعت بعد مقالتى أن أنظر فأولّى رجلا أمركم، وهو أحراكم أن يحملكم على الحقّ- وأشار إلى علىّ- فرهقتنى غشية،   [1] تاريخ ابن الأثير 3: 34 وما بعدها. [2] ك: «إن يسألنى» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 378 فرأيت رجلا دخل الجنّة، فجعل يقطف كل غضّة ويانعة فيضمه إليه، ويصيّره تحته، فعلمت أنّ الله بالغ أمره، فما أردت أن أتحمّلها حيّا وميّتا. عليكم هؤلاء الرّهط الّذين قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنّهم من أهل الجنّة، وهم: علىّ وعثمان وعبد الرّحمن وسعد، والزّبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، فلتختاروا منهم رجلا، فإذا ولّوا واليا فأحسنوا موازرته وأعينوه، وخرجوا. فقال العبّاس لعلىّ: لا تدخل معهم، إنّى أكره الخلاف، قال: إذن ترى ما تكره، فلما أصبح عمر دعا عليّا، وعثمان، وسعدا، وعبد الرّحمن، والزبير، فقال: إنّى نظرت فوجدتكم رؤساء النّاس وقادتهم، ولا يكون هذا الأمر إلّا فيكم، وقد قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو عنكم راض. إنّى لا أخاف النّاس عليكم إن استقمتم؛ ولكنّى أخافكم فيما بينكم، فيختلف النّاس، فانهضوا إلى حجرة عائشة بإذنها، فتشاورا فيها. ووضع رأسه وقد نزفه الدّم، فدخلوا فتناجوا؛ حتى ارتفعت أصواتهم. فقال عبد الله بن عمر: سبحان الله! إنّ أمير المؤمنين لم يمت بعد، فسمعه عمر: فانتبه، وقال: أعرضوا عن هذا، فإذا أنا متّ فتشاوروا ثلاثة أيّام، وليصلّ بالنّاس صهيب، ولا يأتينّ اليوم الرابع إلّا وعليكم أمير منكم، ويحضر عبد الله بن عمر مشيرا، ولا شىء له من الأمر، وطلحة شريككم فى الأمر، فإن قدم فى الأيّام الثّلاثة فأحضروه، وإن مضت الأيّام الثّلاثة قبل قدومه فامضوا الجزء: 19 ¦ الصفحة: 379 لأمركم. ومن لى بطلحة؟ فقال سعد بن أبى وقّاص: أنا لك به، ولا يخالف إن شاء الله تعالى. فقال عمر رضى الله عنه: أرجو ألّا يخالف إن شاء الله، وما أظن أن يلى هذا الأمر إلا أحد هذين الرّجلين: علىّ أو عثمان. فإن ولّى عثمان، فرجل فيه لين، وإن ولّى علىّ ففيه دعابة [1] وأحر به أن يحملهم على الحقّ، وإن تولّوا سعدا فأهلها هو وإلّا فليستعن به الوالى؛ فإنّى لم أعزله عن ضعف ولا جناية، ونعم ذو الرأى عبد الرّحمن ابن عوف! فاسمعوا منه. وقال لأبى طلحة الأنصارى: يا أبا طلحة، إنّ الله تعالى طالما أعزّ بكم الإسلام، فاختر خمسين رجلا من الأنصار، فاستحثّ هؤلاء الرّهط حتّى يختاروا رجلا منهم. وقال للمقداد بن الأسود: إذا وضعتمونى فى حفرتى، فاجمع هؤلاء الرّهط فى بيت حتّى يختاروا رجلا. وقال لصهيب: صلّ بالنّاس ثلاثة أيام، وأدخل هؤلاء الرّهط بيتا، وقم على رءوسهم، فإن اجتمع خمسة وأبى واحد فاشدخ رأسه بالسّيف، وإن اتّفق أربعة وأبى اثنان فاضرب رءوسهما، وإن رضى اثنان رجلا، واثنان رجلا، فحكّموا عبد الله بن عمر، فإن لم ترضوا بحكمه فكونوا مع الّذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، واقتلوا الباقين إن رغبوا عمّا اجتمع فيه النّاس، فخرجوا، فقال علىّ لقوم معه من بنى هاشم: ان أطع فيكم قومكم لم تؤمّروا أبدا، وتلقّاه   [1] ك: «رعاية» تحريف. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 380 عمّه العبّاس فقال: عدلت عنّا، قال: وما علمك؟ قال: قرن بى عثمان، وقال: كونوا مع الأكثر، فإن رضى رجلان رجلا، ورجلان رجلا فكونوا مع الذين فيهم عبد الرّحمن، فسعد لا يخالف ابن عمّه، وعبد الرّحمن صهر عثمان لا يختلفان فيولّيها أحدهما الآخر، فلو كان الآخران معى لم ينفعانى. فقال له العبّاس: لم أدفعك فى شىء إلّا رجعت إلىّ مستأخرا لما أكره، أشرت عليك عند وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن تسأله فيمن هذا الأمر، فأبيت، وأشرت عليك بعد وفاته أن تعاجل الأمر فأبيت، وأشرت عليك حين سمّاك عمر فى الشّورى ألّا تدخل معهم فأبيت. احفظ عنّى واحدة، كلّما عرض عليك القوم، فقل: لا، إلّا أن يولّوك، واحذر هؤلاء الرّهط؛ فإنّهم لا يبرحون يدفعوننا عن هذا حتّى يقوم به لنا غيرنا. وايم الله لا تناله إلّا بشرّ لا ينفع معه خير. فلمّا مات عمر ودفن، جمع المقداد أهل الشّورى فى بيت المسور ابن مخرمة، وقيل: فى بيت المال. وقيل: فى حجرة عائشة بإذنها، وطلحة غائب، وأمروا أبا طلحة أن يحجبهم. وجاء عمر بن العاص والمغيرة بن شعبة فجلسا بالباب، فحصبهما سعد وأقامهما، وقال: تريدان أن تقولا: حضرنا وكنّا فى أهل الشّورى! فتنافس القوم فى الأمر وكثر بينهم الكلام، فقال أبو طلحة: أنا كنت لأن تدفعوها أخوف منّى لأن تنافسوها، [لا] [1] والّذى   [1] من ص. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 381 ذهب بنفس عمر لا أزيدكم على الأيّام الثلاثة الّتى أمر، ثم أجلس فى بيتى فأنظر ما تصنعون. فقال عبد الرّحمن: أيّكم يخرج منها نفسه ويتقلّدها على أن نولّيها أفضلكم، فلم يجبه أحد، فقال: أنا أنخلع منها. قال عثمان: أنا أوّل من رضى، قال القوم: قد رضينا، وعلىّ ساكت، فقال ما تقول أبا الحسن؟ قال: أعطنى موثقا لتؤثرنّ الحقّ ولا تتّبع الهوى، ولا تخصّ ذا رحم لرحمه، ولا تألوا [الأمّة، فقال: اعطونى مواثقكم على أن تكونوا معى على من بدّل وغيّر، وأن ترضوا من اخترت لكم، وعلىّ ميثاق الله ألّا أخصّ ذا رحم لرحمه ولا آلو المسلمين] [1] قال: فأخذ منهم ميثاقا، وأعطاهم مثله. فقال لعلىّ: تقول: إنّى أحقّ من حضر هذا الأمر، لقرابتك من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ وسابقتك وحسن أثرك فى الدّين، ولم تبعد؛ ولكن أرأيت لو صرف هذا الأمر عنك ولم تحضر إلى هؤلاء الرّهط، من تراه أحقّ به؟ قال: عثمان، وخلا بعثمان فقال: تقول: شيخ من بنى عبد مناف وصهر رسول الله وابن عمه ولى سابقة وفضل، فأين يصرف هذا الأمر عنّى؟ ولكن لو لم تحضر، أىّ هؤلاء أحقّ به؟ قال علىّ. ولقى علىّ سعدا فقال: اتّقوا الله الّذى تساءلون به والأرحام، أسألك برحم ابنى هذا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [وبرحم عمّى حمزة ألا تكون مع عبد الرحمن ظهيرا لعثمان علىّ. ودار عبد الرحمن ليلقى أصحاب رسول الله ومن وافى المدينة من أمراء الأجناد وأشراف النّاس   [1] من ص. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 382 يشاورهم؛ حتّى إذا كانت اللّيلة الّتى صبيحتها يستكمل الأجل، أتى منزل المسور بن مخرمة فأيقظه وقال له: لم أذق فى هذه اللّيلة كثير غمض، انطلق فادع الزّبير وسعدا؛ فدعاهما، فبدأ بالزّبير فقال له: خلّ عبد بنى مناف، وهذا الأمر، قال: نصيبى لعلىّ. وقال لسعد: اجعل نصيبك لى، فقال: إن اخترت نفسك فنعم، وإن اخترت عثمان فعلىّ أحبّ إلىّ، أيّها الرّجل، بايع لنفسك وأرحنا وارفع رءوسنا. فقال: قد خلعت نفسى على أن اختار، ولو لم أفعل لم أردها، إنّى رأيت روضة خضراء كثيرة العشب، فدخل فحل ما رأيت أكرم منه، فمرّ كأنّه سهم لم يلتفت إلى شىء منها؛ حتّى قطعها، لم يعرّج. ودخل بعير يتلوه، فاتّبع أثره حتّى خرج منها، ثم دخل فحل عبقرىّ يجرّ خطامه ومضى قصد الأوّلين، ثم دخل بعير رابع فوقع فى الرّوضة، ولا والله لا أكون الراتع الرابع، ولا يقوم مقام أبى بكر وعمر بعدهما أحد فيرضى النّاس عنه. قال: وأرسل المسور، فاستدعى عليّا فناجاه طويلا وهو لا يشكّ أنه صاحب الأمر، ثم نهض، ثم أرسل إلى عثمان فتناجيا حتّى فرّق بينهما الصّبح، فلمّا صلّوا الصبح جمع الرّهط، وبعث إلى من حضره من المهاجرين وأهل السّابقة والفضل من الأنصار، وإلى أمراء الأجناد، فاجتمعوا حتى التحم المسجد بأهله، فقال: أيّها النّاس، إنّ النّاس قد أحبّوا أن يرجع أهل الأمصار إلى أمصارهم، وقد علموا من أميرهم، فأشيروا علىّ.   [1] ك: «قطعتها» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 383 فقال عمّار بن ياسر: إذا أردت ألّا يختلف المسلمون فبايع عليّا. فقال المقداد بن الأسود: صدق عمّار إن بايعت عليّا، قلنا: سمعنا وأطعنا. وقال ابن أبى سرح: إذا أردت ألّا تختلف قريش فبايع عثمان. فقال عبد الله بن أبى ربيعة: صدقت، إن بايعت عثمان قلنا: سمعنا وأطعنا. فشتم عمّار ابن أبى سرح، وقال: متى كنت تنصح المسلمين! فتكلّم بنو هاشم وبنو أميّة، فقال عمّار: أيّها النّاس، إنّ الله أكرمنا بنبيّه، وأعزّنا بدينه، فأنّى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيّكم! فقال رجل من بنى مخزوم: لقد عدوت طورك يابن سميّة، وما أنت وتأمير قريش لأنفسها! فقال سعد بن أبى وقّاص: يا عبد الرّحمن. افرغ قبل أن يفتتن النّاس، فقال عبد الرحمن: إنّى قد نظرت وشاورت، فلا تجعلنّ فيها أيّها الرّهط على أنفسكم سبيلا، ودعا عليّا، فقال: عليك عهد الله وميثاقه، لتعملنّ بكتاب الله وسنّة رسوله، وسيرة الخليفتين من بعده؟ فقال: أرجو أن أفعل، فأعمل بمبلغ علمى وطاقتى. ودعا عثمان فقال له مثل ما قال لعلىّ، فقال: نعم، فرفع رأسه إلى سقف المسجد ويده فى يد عثمان، فقال: اللهمّ اسمع واشهد، اللهمّ إنّى قد جعلت ما فى رقبتى من ذاك فى رقبة عثمان، فبايعه. وقيل: وخرج عبد الرحمن بن عوف وعليه عمامته الّتى عمّمه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متقلّدا سيفه؛ حتّى ركب المنبر، الجزء: 19 ¦ الصفحة: 384 فوقف وقوفا طويلا، ثم دعا دعاء لا يسمعه النّاس، ثم تكلّم فقال: أيّها النّاس، إنّى قد سألتكم سرّا وجهرا عن إمامكم، فلم أجدكم تعدلون بأحد هذين الرّجلين: إمّا علىّ، وإمّا عثمان. فقم إلىّ يا علىّ، فقام إليه فوقف تحت المنبر، وأخذ عبد الرحمن بيده فقال: هل أنت مبايعى على كتاب الله وسنة نبيّه محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وفعل أبى بكر وعمر؟ قال: اللهمّ لا، ولكن على جهدى من ذاك وطاقتى. قال: فأرسل يده ثمّ نادى: قم إلىّ يا عثمان، فأخذ بيده، وهو فى موقف علىّ الّذى كان فيه، فقال: هل أنت مبايعى على كتاب الله وسنّة نبيّه وفعل أبى بكر وعمر؟ فقال: اللهمّ نعم، قال: فرفع رأسه إلى سقف المسجد ويده فى يد عثمان، فقال: اللهمّ اسمع واشهد ثلاثا، اللهمّ إنّى قد جعلت ما فى رقبتى من ذلك فى رقبة عثمان، قال: فازدحم النّاس يبايعون عثمان حتى غشوه عند المنبر، فقعد عبد الرحمن مقعد النبىّ صلّى الله عليه وسلّم من المنبر، وأقعد عثمان على الدّرجة الثّانية، فجعل النّاس يبايعونه، وتلكّأ علىّ. فقال عبد الرّحمن: فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ، وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً [1] . فرجع علىّ يشقّ النّاس حتى بايع عثمان وهو يقول: خدعة، وأىّ خدعة!   [1] سورة الفتح 10. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 385 وقيل: لمّا بايع عبد الرحمن عثمان قال علىّ: ليس هذا أوّل يوم تظاهرتم فيه علينا، فصبر جميل، والله المستعان على ما تصفون، والله ما ولّيت عثمان إلا ليردّ الأمر إليك، والله كلّ يوم [هو] [1] فى شأن. فقال عبد الرحمن: يا علىّ، لا تجعل على نفسك حجّة ولا سبيلا، فخرج علىّ وهو يقول: سيبلغ الكتاب أجله. فقال المقداد: يا عبد الرحمن، أما والله لقد تركته، وإنّه من الذين يقضون بالحقّ وبه يعدلون. فقال: يا مقداد، والله لقد اجتهدت للمسلمين، قال: إن كنت أردت الله فأثابك الله ثواب المحسنين. وقال المقداد: ما رأيت مثل ما أتى إلى أهل هذا البيت بعد نبيّهم، إنّى لأعجب من قريش أنهم تركوا رجلا، لا أقول ولا أعلم أنّ رجلا أقضى بالعدل، ولا أعلم منه، أما والله لو أجد أعوانا عليه! فقال عبد الرحمن: يا مقداد، اتّق الله؛ فإنّى خائف عليك الفتنة. فقال رجل للمقداد: رحمك الله! من أهل هذا البيت؟ ومن هذا الرّجل؟ قال: أهل البيت بنو عبد المطّلب، والرجل علىّ بن أبى طالب. فقال علىّ: إنّ النّاس ينظرون إلى قريش، وقريش تنظر بينها   [1] من ص. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 386 فتقول: إن ولّى عليكم بنو هاشم لم تخرج منهم أبدا، وإن كانت فى غيرهم تداولتموها بينكم. قال: وقدم طلحة فى اليوم الرّابع الذى بويع فيه عثمان، فقيل له: بايعوا لعثمان، فقال: كلّ قريش راض به؟ قالوا: نعم. فأتى عثمان فقال له عثمان: أنت على رأس أمرك، إن أبيت رددتها. قال: أتردّها؟ قال: نعم. ثم قال أكلّ النّاس بايعوك؟ قال، نعم. قال: قد رضيت، لا أرغب عمّا أجمعوا عليه، وبايعه. حكاه ابن الأثير فى تاريخه الكامل [1] ، عن عمرو بن ميمون. وفيه زيادة عن الطّبرىّ. وروى أبو جعفر الطّبرىّ رحمه الله فى قصّة الشّورى، عن المسور بن مخرمة نحو ما تقدّم؛ الّا أنّه ذكر زيادات ذكرنا بعضها فى أثناء هذه القصّة، ونذكر بقيّتها الآن. قال [2] : لما دفن رضى الله عنه جمعهم عبد الرحمن وخطبهم، وأمرهم بالاجتماع وترك التفرق. فتكلّم عثمان رضى الله عنه، فقال: الحمد لله الذى اتخذ محمدا نبيّا وبعثه رسولا، وصدقه وعده، ووهب له نصره على كلّ من بعد نسبا، أو قرب رحما، صلّى الله عليه، جعلنا الله له تابعين، وبأمره مهتدين، فهو لنا نور ونحن بأمره نقوم، عند تفرّق الأهواء، ومجادلة الأعداء، جعلنا الله بفضله أئمة، وبطاعته أمراء، لا يخرج أمرنا منّا، ولا يدخل   [1] الكامل لابن الأثير 3: 34- 40. [2] الطبرى 4: 234 وما بعدها. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 387 علينا غيرنا الّا من سفه الحقّ، ونكل عن القصد، وأحر [1] بها يابن عوف أن تترك، وأجّدر بها [2] أن تكون إن خولف أمرك، وترك دعاوءك، فأنا مجيب وداع إليك، وكفيل بما أقول زعيم، وأستغفر الله لى ولكم. ثمّ تكلّم الزبير بعده، فقال: أمّا بعد، فإنّ داعى الله لا يجهل ومجيبه لا يخذل، عند تفرّق الأهواء، ولىّ الأعناق، ولن يقصّر عما قلت إلّا غوىّ، ولن يترك ما دعوت إليه إلّا شقىّ، ولولا حدود لله فرضت، وفرائض لله حدّت، تراح على أهلها، وتحيا لا تموت؛ لكان الموت من الإمارة نجاة، والفرار من الولاية عصمة، ولكن لله علينا إجابة الدّعوة، وإظهار السّنّة، لئلّا نموت موتة [3] عميّة، ولا نعمى عمى جاهليّة، فأنا مجيبك إلى ما دعوت، ومعينك على ما أمرت ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العلىّ العظيم، وأستغفر الله لى ولكم. ثم تكلّم سعد فقال. الحمد لله بديئا، بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم أنارت الطّرق، واستقامت السّبل، وظهر الحقّ، ومات كلّ باطل، إيّاكم أيّها النّفر وقول الزّور، وأمنيّة أهل الغرور! فقد سلبت الأمانىّ قوما قبلكم، ورثوا ما ورثتم، ونالوا ما نلتم، فاتخذوا الله عدوّا، ولعنهم لعنا كثيرا، قال الله تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ ... [4]   [1] فى الأصلين: «وأحرها» ، وما أثبته من الطبرى. [2] الطبرى: «وأحذر بها» . [3] الطبرى: «ميتة» . [4] سورة المائدة 78، 79. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 388 إلى قوله: لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ إنّى نكبت قرنى [1] وأخذت سهمى الفالج [2] ، وأخذت لطلحة بن ابن عبيد الله ما ارتضيت لنفسى، فأنّا كفيل به، وبما أعطيت عنه زعيم، والأمر إليك يابن عوف، بجهد النّفس، وقصد النّصح، وعلى الله قصد السبيل وإليه الرّجوع، واستغفر الله لى ولكم، وأعوذ بالله من مخالفتكم. ثم تكلّم علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، فقال: الحمد لله الذى بعث محمدا منّا نبيّا، وبعثه إلينا رسولا، فنحن بيت النبوّة، ومعدن الحكمة، وأمان أهل الأرض، ونجاة لمن طلب؛ لنا حقّ إن نعطه نأخذه، وإن نمنعه نركب أعجاز الابل، ولو طال السّرى. لو عهد إلينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم عهدا لأنفذنا عهده، ولو قال لنا قولا لجادلنا عليه حتّى نموت، لن يسرع أحد قبلى إلى دعوة حقّ، وصلة رحم، ولا قوّة الّا بالله. اسمعوا كلامى، وعوا منطقى، عسى أن تروا هذا الأمر بعد هذا المجتمع تنتضى فيه السّيوف، وتخان فيه العهود، حتى تكونوا جماعة، ويكون بعضكم أئمة لأهل الضّلالة، وشيعة لأهل الجهالة ثم قال [3] : فإن تك جاسم هلكت فإنّى ... بما فعلت بنو عبد بن ضخم   [1] كذا فى الطبرى. والقرن هنا الجعبة، ونكب قرنه، أى نثر ما فيه من السهام. وانظر اللسان [2] الفالج: المنتصر. [3] الطبرى: «ثم أنشأ يقول» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 389 مطيع فى الهواجر كلّ عىّ ... بصير بالنّوى من كلّ نجم فقال عبد الرحمن: أيّكم يطيب نفسا أن يخرج نفسه من هذا الأمر، ويولّيه غيره؟ قال: فأمسكوا عنه. وذكر نحو ما تقدم. فلنرجع إلى بقيّة أخبار عمر رضى الله عنه. قال: ومات عمر لأربع بقين من ذى الحجّة، قاله الواقدىّ. وقال غيره: يوم الاثنين لليلتين بقيتا منه، وقيل: طعن يوم الأربعاء لأربع بقين من ذى الحجّة، سنة ثلاث وعشرين، ودفن يوم الأحد هلال المحرّم، سنة أربع وعشرين فى حجرة عائشة رضى الله عنها، ورأسه قبالة كتفى أبى بكر رضى الله عنهما، وصلّى عليه صهيب الرّومىّ. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصّواب. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 390 ذكر أولاد عمر بن الخطاب رضى الله عنه وعنهم وأزواجه تزوّج رضى الله عنه فى الجاهليّة زينب بنت مظعون بن حبيب ابن وهب بن حذافة بن جمح، فولدت له عبد الله وعبد الرحمن الأكبر وحفصة أمّ المؤمنين رضى الله عنهم. وتزوّج مليكة بنت جرول الخزاعىّ فى الجاهليّة [فولدت له عبيد الله ففارقها فى الهدنة، وقيل: كانت أمّ عبد الله وأمّ زيد الأصغر أمّ كلثوم بنت جرول الخزاعىّ] [1] . وكان الإسلام فرّق بينها وبين عمر. وتزوّج قريبة بنت أبى أميّة المخزومىّ فى الجاهليّة، ففارقها فى الهدنة أيضا، فتزوّجها بعده عبد الرحمن بن أبى بكر الصّديق رضى الله عنه. وفريبة أخت أمّ سلمة زوج النبىّ صلّى الله عليه وسلّم. وتزوّج أمّ حكيم بنت الحارث بن هشام المخزومىّ فى الإسلام، فولدت له فاطمة، فطلّقها، وقيل: لم يطلّقها. وتزوّج جميلة بنت عاصم بن ثابت بن أبى الأقلح الأوسىّ فى الإسلام، فولدت له عاصما فطلّقها، وقيل: لم يطلّقها. وتزوّج أمّ كلثوم بنت علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، وأمّها فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأصدقها أربعين ألفا فولدت رقيّة وزيدا.   [1] من ص. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 391 وتزوّج لهيّة [1] ، امرأة من اليمن، فولدت له عبد الرحمن الأوسط، وقيل الأصغر. وقيل: كانت أمّ ولد، وكانت عنده فكيهبة أمّ ولد فولدت له زينب، وهى أصغر ولد عمر. وتزوّج عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل، وقد تقدّم خبرها عند ذكر عبد الله بن أبى بكر. ومن أولاده رضى الله عنه: عبد الرّحمن، وكنيته أبو شحمة؛ وقيل: إنه كان له ولد يقال له: مجبّر. ولنفصّل هذا الفصل بذكر شىء من أخبار من أدرك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أولاد عمر، ومن ولد فى حياته [أما عبد الله بن عمر رضى الله عنهما فإنّه أسلم مع أبيه، وهو صغير لم يبلغ الحلم وكان أول مشاهده] [2] الخندق. وقيل: أحد؛ لأنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ردّه يوم بدر لصغر سنّه، وشهد الحديبية، وكان رضى الله عنه من أهل الورع والعلم، كثير الاتّباع لآثار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، شديد التّحرّى والاحتياط فى فتواه. وكان لا يتخلّف عن السّرايا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم كان بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كثير الحجّ. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لحفصة بنت عمر: «إن أخاك عبد الله رجل صالح لو كان يقوم من اللّيل» ، فما ترك بعدها قيام الليل. وقعد عن حرب علىّ لمّا أشكلت عليه لورعه، ثم ندم على ذلك   [1] ك. «لهبة» . [2] من ص. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 392 حين حضرته الوفاة، فقال: ما أجد فى نفسى من أمر الدّنيا شيئا إلا أنّى لم أقاتل مع علىّ الفئة الباغية. قال ميمون بن مهران: ما رأيت أورع من ابن عمر، ولا أعلم من ابن عبّاس. وأفتى فى الإسلام ستّين سنة، ونشر نافع عنه علما جمّا. وروى عن يوسف بن الماجشون، عن أبيه وغيره: أنّ مروان بن الحكم دخل فى نفر على عبد الله بن عمر بعد ما قتل عثمان، فعرضوا عليه أن يبايعوا له، فقال: كيف لى بالنّاس؟ قال: تقاتلهم ونقاتل معك، قال: والله لو اجتمع علىّ أهل الأرض، إلا أهل فدك ما قاتلتهم فخرجوا من عنده ومروان يقول: إنى أرى فتنة تغلى مراجلها ... والملك بعد أبى ليلى لمن غلبا قال: وكانت وفاة عبد الله بمكّة سنة ثلاث وسبعين، بعد قتل ابن الزّبير بثلاثة أشهر أو نحوها، وقيل: ستّة أشهر، وأوصى أن يدفن فى الحلّ، فلم يقدر على ذلك من أجل الحجاج، فدفن بذى طوى، بمقبرة المهاجرين. وكان الحجاج قد أمر رجلا فسمّ زجّ رمحه، وزحمه فى الطّريق، ووضع الزّجّ فى ظهر قدمه؛ وذلك أنّ الحجاج خطب يوما، وأخّر الصّلاة، فقال ابن عمر: إنّ الشّمس لا تنتظرك، فقال الحجّاج: لقد هممت أن أضرب الذى فيه عيناك. فقال: إن تفعل فإنّك سفية سلط [1] . وقيل: إنّه أخفى قوله ذلك عن الحجّاج فلم يسمعه.   [1] السلط والسليط: الطويل اللسان. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 393 وكان عبد الله يتقدّم فى المواقف بعرفة وغيرها [إلى المواضع] [1] الّتى كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقف فيها، فكان ذلك يعزّ على الحجّاج، فأمر الحجاج رجلا معه حربة مسمومة، فلما دفع النّاس من عرفة، لصق به ذلك الرّجل، فأمرّ الحربة على قدمه وهو فى غرز راحلته، فمرض منها إيّاما، فدخل عليه الحجّاج يعوده، فقال: من فعل ذلك بك يا أبا عبد الرّحمن؟ قال: وما تصنع به؟ قال: قتلنى الله إن لم أقتله. قال: ما أراك فاعلا، أنت الذى أمرت الّذى نخسنى بالحربة. قال لا نفعل يا أبا عبد الرحمن وخرج عنه. وقيل: إنّه قال للحجّاج: إذ قال له: من فعل بك؟ قال: أنت الّذى أمرت بإدخال السّلاح فى الحرم، فلبث أيّاما ثم مات رضى الله عنه، وصلّى عليه الحجّاج. وأما عبد الرّحمن الأكبر، فإنّه أدرك لسنّه رسول الله صلّى الله عليه ولم يحفظ عنه. وعبد الرحمن الأوسط وهو أبو شحمة هو؛ الذى ضربه عمرو ابن العاص بمصر فى الخمر، ثم حمله إلى المدينة فضربه أبوه أدب الوالد، ثم مرض ومات بعد شهر. كذا رواه معمر عن الزّهرىّ، عن سالم، عن أبيه، وأهل العراق! يقولون: إنّه مات تحت سياط عمر. قال ابن عبد البرّ: وذلك غلط. وقال الزّبير: أقام عليه عمر حدّ الشراب، فمرض ومات وعبد الرحمن الأصغر، هو أبو المجبّر، واسم المجبّر عبد الرحمن   [1] من ص. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 394 ابن عبد الرحمن بن عمر، سمّى المجبّر لأنّه وقع وهو غلام فتكسّر، فأتى به إلى عمته حفصة أمّ المؤمنين، فقيل لها: انظرى إلى ابن أخيك المكسّر فقالت: ليس بالمكسّر ولكنّه المجبّر. وقال الزّبير: هلك عبد الرحمن الأصغر، وترك ابنا صغيرا، أو حملا، فسمّته حفصة: عبد الرحمن، ولقّبته المجبّر، «وقالت: لعلّ الله يجبره. وعبيد الله بن عمر ولد على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولم ينقل أنّه روى عنه، ولا سمع منه، وهو الّذى حدّه عمر فى شرب الخمر، وهو الّذى وثب على الهرمزان فقتله، وقتل معه نصرانيّا اسمه جفينة من أهل الحيرة، وقد اتهمهما أنّهما أغريا أبا لؤلؤة بقتل عمر. وقتل أيضا ابنة لأبى لؤلؤة طفلة، ولما ضرب الهرمزان بالسّيف قال: لا إله إلّا الله، فلمّا قتل هؤلاء أخذه سعد ابن أبى وقّاص وحبسه فى داره، وأحضره عند عثمان. وكان عبيد الله يقول: والله لأقتلنّ رجالا ممّن شرك فى دم أبى، يعرّض بالمهاجرين والأنصار. قالوا: وإنّما قتل هؤلاء، لأنّ عبد الرحمن أبى بكر قال غداة قتل عمر: رأيت عشيّة أمس الهرمزان، وأبا لؤلؤة، وجفينة، وهم يتناجون، فلمّا رأونى ثاروا، وسقط منهم خنجر له رأسان، نصابه فى وسطه، وهو الخنجر الذى ضرب به عمر، فقتلهم عبيد الله. فلمّا أحضره عثمان قال: أشيروا علىّ فى هذا الّذى فتق فى الإسلام ما فتق، فقال علىّ: أرى أن تقتله. فقال بعض المهاجرين: قتل الجزء: 19 ¦ الصفحة: 395 عمر أمس، ونقتل ابنه اليوم! فقال عمرو بن العاص: إنّ الله قد أعفاك أن يكون لك هذا الحدث، ولك على المسلمين سلطان. فقال عثمان: أنا وليّه، وقد جعلتها دية، واحتملتها [1] فى مالى. وقيل فى فداء عبيد الله غير ذلك. [قال القماذيان بن الهرمزان [2]] : كانت العجم بالمدينة يستروح [3] بعضها إلى بعض، فمرّ فيروز بأبى، ومعه خنجر له رأسان، فتناوله منه، وقال له: ما تصنع به؟ قال: أسنّ به، فرآه رجل، فلمّا أصيب عمر قال: رأيت الهرمزان دفعه إلى فيروز، فأقبل عبيد الله فقتله. فلمّا ولّى عثمان أمكننى منه، فخرجت به وما فى الأرض أحد إلّا معى، إلّا أنّهم يطلبون إلىّ فيه، فقلت لهم: ألى قتله؟ قالوا: نعم، وسبّوا عبيد الله، قلت: أفلكم منعه؟ قالوا: لا، وسبّوه، فتركته لله ولهم، فحملونى، فو الله ما بلغت المنزل إلّا على رءوس النّاس. والأوّل أصح وأشهر؛ لأنّ عليّا لما ولى الخلافة أراد قتل عبيد الله، فهرب منه إلى معاوية بالشّام، ولو كان إطلاقه بأمر ولىّ الدّم لم يعرض له علىّ رضى الله عنه. قال أبو عمر: وكان عبيد الله من أنجاد قريش وفرسانهم، قتل بصفّين مع معاوية، وكان يومئذ على الخيل، فرماه أبو زبيد الطائىّ.   [1] ك: «وأحتملها» . [2] من ص. [3] ك: «يتزوج» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 396 وقيل: كان قد خرج فى اليوم الذى قتل فيه، وجعل امرأتين له بحيث تنظران إلى فعله وهما: أسماء بنت عطارد بن حاجب التّميمىّ، وبحريّة بنت هانئ بن قبيصة، فلمّا برز شدّت عليه ربيعة فنشب [1] بينهم فقتلوه، وكان على ربيعة يومئذ زياد بن خصفة التّميمىّ، فقيل له: إنّ هذه بحريّة، فسقط عبيد الله ميّتا قرب فسطاطه، وقد بقى طنب من طنبة الفسطاط لا وتد له، فجرّوه، وشدّوا الطّنب برجله، وأقبلت امرأتاه حتّى وقفتا عليه، فبكتا وصاحتا، فخرج زياد بن خصفة [فقيل له: إن هذه بحرية بنت هانئ] [2] فقال: ما حاجتك يا بنت أخى؟ فقالت: زوجى قتل، تدفعه إلىّ، قال: نعم، فخذيه، فحملته على بغل، فذكر أنّ يديه ورجليه خطّتا على الأرض من فوق البغل [3] ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصّواب، وهو حسبى ونعم الوكيل، وصلّى الله على سيّدنا محمّد.   [1] ك: «فثبت» . [2] من ص الاستيعاب. [3] الاستيعاب 1011، 1012. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 397 ذكر عمال عمر رضى الله عنه وعنهم على الامصار قد ذكرنا عمّا له فى حوادث السّنين، ورأينا أن نجمعهم فى هذا الموضع فنقول: كان عمّاله رضى الله عنهم: على مكّة عتّاب ابن أسيد، وعلى اليمن والطائف يعلى بن منية، وعلى البحرين واليمامة العلاء بن الحضرمىّ، ثمّ عثمان بن أبى العاص، ثم قدامة ابن مظعون، ثم أبا بكرة، وعلى عمان حذيفة بن محصن، وعلى البصرة- أول من كان بها- قطبة بن قتادة السّدوسىّ، يغزو بتلك الناحية، كما كان المثنّى يفعل بناحية الحيرة. ثم كتب إلى عمر يعلمه بمكانه، ويستمدّه، فوجّه إليه شريح بن عامر، أحد بنى سعد بن عمرو بن بكر، فسار إلى الأهواز، فقتاء الأعاجم بدارس، فاستعمل عمر عتبة بن غزوان، ففتح الأبلّة، ثم سار إلى عمر، فأعاده إلى عمله، فمات فى الطّريق، فكانت إمارته ستّة أشهر، فاستعمل بعده أبا سبرة بن أبى رهم على أحد الأقوال، ثم المغيرة بن شعبة، ثم عزله كما تقدّم بيانه، فاستعمل أبا موسى الأشعرى، ثمّ صرفه إلى الكوفة، واستعمل عمر بن سراقة، ثم صرفه إلى الكوفة، وصرف أبا موسى إلى البصرة فعمل عليها ثانية، ثمّ صرفه وأعاده ثالثة. وعلى مضافات البصرة جماعة [فكان على مناذر غالب الوائلىّ، وعلى نهر تيرى حرملة بن مريطة، وعلى سوق الأهواز حرقوص بن زهير. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 398 وعلى الكوفة وما يليها] [1] ، أوّل من استعمل عليها سعد بن أبى وقّاص، فكان عليها إلى سنة عشرين، فعزله لشكاية أهلها، وأقرّ خليفته على الكوفة، وهو عبد الله بن عبد الله بن عتبان، ثم استعمل عمر عمّار بن ياسر بن مسعود كما تقدّم، ثم المغيرة بن شعبة. وعلى ثغور الكوفة من قدّمنا ذكره، وعلى الجزيرة وما يليها عياض بن غنم، ثم ضمّه عمر إلى أبى عبيدة، واستعمل حبيب ابن مسلمة على خراج الجزيرة وعجمها، والوليد بن عقبة على عربها، وعلى الموصل من كان على حربها ربعىّ بن الأفكل، وعلى خراجها عرفجة ابن هرثمة؛ وذلك فى سنة ستّ عشرة. وقيل: كان على الحرب والخراج [بها عتبة بن فرقد، وقيل كان ذلك إلى عبد الله بن مغنم، وعلى الشام أبو عبيدة بن الجراح] [3] ، وكان تحت يده جماعة على الأعمال، فكان خالد بن الوليد على قنّسرين، وحمص، ويزيد بن أبى سفيان على دمشق ومعاوية على الأردنّ، وعلقمة بن مجزّز على فلسطين وعبد الله بن قيس على السواحل. فلما مات أبو عبيدة استعمل عمر معاذ بن جبل فمات من عامه، فاستعمل يزيد بن أبى سفيان، فمات، فاستعمل معاوية على دمشق والأردنّ، ثم استقر فى سنة إحدى وعشرين عمير بن سعد على دمشق وحوران وحمص وقنّسرين والجزيرة، ومعاوية بن أبى سفيان على البلقاء   [1] من ص. [2] من ص. [3] من ص. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 399 والأردنّ، وفلسطين، والسّواحل، وأنطاكية، وقلقية، ومعرّة مصرين. وعلى مصر عمرو بن العاص، وكان العمّال فى سنة وفاته إلى آخر سنة ثلاث وعشرين. وعلى مكّة نافع بن عبد الحارث الخزاعىّ، وعلى الطائف سفيان ابن عبد الله الثّقفىّ. وعلى صنعاء يعلى بن منية، وعلى الجند عبد الله بن أبى ربيعة، وعلى الكوفة المغيرة بن شعبة، وعلى البصرة أبا موسى الأشعرىّ، وعلى مصر عمرو بن العاص، وعلى حمص: عمير بن سعد، وعلى دمشق معاوية، وعلى البحرين وما والاها عثمان ابن أبى العاص الثقفىّ. كتابه عبد الله بن خلف الخزاعىّ وزيد بن ثابت، وعلى بيت المال زيد ابن أرقم. قضاته يزيد بن أخت النّمر بالمدينة. وأبو أمية شريح بن الحارث الكندّى بالكوفة، ويقال: إنّ شريحا أقام قاضيا ستّين سنة إلى أيّام الحجّاج، فعطّل ثلاث سنين، وامتنع من الحكم، وذلك فى أيّام فتنة ابن الزّبير. ولمّا ولّى الحجّاج استعفاه، فأعفاه، ومات سنة سبع وثمانين وله مائة وعشرون سنة. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 400 وقيل: مائة سنة، وليس هو فى عداد الصّحابة رضى الله تعالى عنهم، بل من كبار التّابعين. وعلى قضاء البصرة كعب بن سور. وعلى قضاء مصر قيس بن العاص السّهمىّ، ثم كعب بن سيّار بن ضبّه، ثمّ عثمان بن قيس بن أبى العاص. وكان حاجبه يرفأ مولاه، وخاتمه خاتم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال أبو عمر بن عبد البرّ: كان نقش خاتمة: «كفى بالموت واعظا يا عمر» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 401 ذكر خلافة عثمان بن عفان رضى الله عنه هو أبو عبد الله، وقيل: أبو عمرو، وقيل فى تكنيته بأبى عبد الله: إنّ رقية بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولدت له ابنا فسمّاه عبد الله، فاكتنى به، ومات، ثم ولد له عمرو، فاكتنى به إلى أن مات. وقيل: إنّه كان يكنى أبا ليلى عثمان بن عفان بن أبى العاص بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف،، ويجتمع مع نسب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى عبد مناف، ولقّب بذى النّورين، لأنه تزوّج ابنتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [رقيّة وأمّ كلثوم] [1] . وقيل للمهلّب بن أبى صفرة: لم قيل: عثمان ذو النّورين؟ قال: لأنه لا نعلم أن أحدا أرسل سترا على ابنتى نبىّ غيره. وأمّه أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بنت عبد شمس بن عبد مناف، وأمّها البيضاء، أمّ حكيم بنت عبد المطّلب، عمّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ولد فى السّنة السادسة بعد عام الفيل. والله وسبحانه وتعالى أعلم. بالصّواب، وهو حسبى ونعم الوكيل، وصلّى الله على سيّدنا محمد.»   [1] من ص. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 402 ذكر صفته ونبذة من فضائله كان رضى الله عنه طويل القامة، حسن الوجه وقيل: كان ربعة، ليس بالقصير ولا بالطّويل، حسن الوجه رقيق البشرة، كبير اللّحية، عظيما أسمر اللّون، كثير الشّعر، ضخم الكراديس [1] ، بعيد ما بين المنكبين، وكان يصفّر لحيتّه، ولما كبر شدّ أسنانه بالذّهب، وهو رضى الله عنه أحد العشرة الّذين شهد لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالجنّة، ومات وهو عنهم راض. وله رضى الله عنه فضائل ومآثر وسابقة فى الإسلام قال علىّ رضى الله وعنه: كان عثمان أوصلنا للرّحم، وكان من الّذين آمنوا واتّقوا وأحسنوا، والله يحبّ المحسنين. واشترى رضى الله عنه بئر رومة، وكانت ركيّة ليهودىّ، يبيع للمسلمين ماءها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من يشترى بئر رومة فيجعلها للمسلمين، يضرب بدلوه فى دلائهم، وله بها مشرب فى الجنّة؟» . فأتى عثمان اليهودىّ فساومه بها، فأبى أن يبيعها كلّها، فاشترى منه نصفها باثنى عشر ألف درهم فجعله للمسلمين، فقال له عثمان: إن شئت جعلت على نصيبى يومين، وإن شئت علىّ يوم ولك يوم، قال: لا، بل لك يوم ولى يوم. فكان إذا كان يوم عثمان استقى المسلمون ما يكفيهم يومين، فلمّا رأى اليهودىّ ذلك، قال: أفسدت علىّ ركيّتى، فاشتر النّصف الآخر، فاشتراه بثمانية آلاف. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من يزيد فى مسجدنا؟»   [1] الكردوسة: كل عظمين التقيا فى مفصل. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 403 فاشترى عثمان رضى الله عنه موضع خمس سوار، فزاده فى المسجد. وجهّز رضى الله عنه جيش العسرة بتسعمائة وخمسين بعيرا، وأتمّ الألف بخمسين فرسا. وعن قتادة رضى الله عنه، قال: حمل عثمان ما فى جيش العسرة على ألف بعير، وسبعين فرسا. وعن محمد بن بكير: أنّ عثمان رضى الله عنه، كان يحيى اللّيل بركعه يقرأ فيها القرآن. وروى أنّه كان يصوم الدّهر رضى الله عنه. ذكر بيعة عثمان رضى الله عنه بويع له بالخلافة كما تقدّم فى قصّة الشّورى، وقد اختلف فى يوم بيعته، وهو مرّتب على الخلاف فى تاريخ وفاة عمر رضى الله عنهما، فقيل: [فى] [1] يوم السّبت غرّة المحرم، سنة أربع وعشرين. ولم يذكر أبو عمر بن عبد البرّ غيره [2] . وقيل: يوم الاثنين لليلة بقيت من ذى الحجّة، سنة ثلاث وعشرين، فاستقبل بخلافته شهر المحرّم، سنة أربع وعشرين، قاله أبو جعفر. قال: وقيل: لعشر خلون من المحرّم بعد مقتل عمر بثلاث ليال.   [1] من ص. [2] الاستيعاب 1044. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 404 قال: استخلف وقد دخل وقت العصر، وقد أذّن مؤذّن صهيب، واجتمعوا فى ذلك بين الأذان والإقامة، فخرج فصلّى بالنّاس، وزادهم مائة مائة، ووفّد أهل الأنصار، وهو أوّل من صنع ذلك. قال: وقيل: لمّا بايع أهل الشّورى عثمان رضى الله عنه، خرج وهو أشدّهم كآبة، فأتى منبر النّبىّ صلّى الله عليه وسلّم [فخطب فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبىّ صلى الله عليه وسلم] [1] وقال: أيها النّاس، إنّكم فى دار قلعة [2] ، وفى بقيّة أعمار، فبادروا آجالكم بخير ما تقدرون عليه، فلقد أتيتم صبّحتم أو مسّيتم، ألا وإنّ الدّنيا طويت على الغرور فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ* [3] واعتبروا بمن مضى، ثم جدّوا ولا تغفلوا؛ فإنّه لا يغفل عنكم. أين أبناء الدّنيا وإخوانها الّذين أثاروها وعمروها، ومتّعوا بها طويلا! ألم تلفظهم! رموا بالدّنيا حيث رمى الله بها. واطلبوا الآخرة؛ فإنّ الله عزّ وجلّ قد ضرب لها مثلا وللّذى هو خير، فقال: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ ... إلى قوله: وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا . [4]   [1] من ص. [2] دار قلعة، أى ليست دار إقامة، يقال: هم على قلعة، أى على رحلة، وفى حديث على: «أحذركم الدنيا فإنها منزل قلعة، أى تحول دار وارتحال. [3] سورة فاطر 5. [4] سورة الكهف 46. والخطبة فى تاريخ الطبرى 4: 243. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 405 وكان أوّل كتاب كتبه إلى عمّاله: أمّا بعد [1] ؛ فإنّ الله تعالى أمر الأئمة أن يكونوا رعاة، ولم يتقدّم إليهم أن يكونوا جباة، وأنّ صدر هذه الأمّة خلقوا رعاة، ولم يخلقوا جباة، وليوشكنّ أئمّتكم أن يصيروا جباة، ولا يكونوا رعاة؛ فإذا عادوا كذلك انقطع الحياء والأمانة والوفاء. ألا وإنّ أعدل السّيرة أن تنظروا فى أمور المسلمين فيما عليهم فتعطوهم ما لهم، وتأخذوهم بما عليهم، ثم تثنّوا بالذّمة فتعطوهم الذى لهم، وتأخذوهم بالّذى عليهم، ثم العدوّ الذى تنتابون، فاستفتحوا عليهم بالوفاء. وكان أول كتاب كتبه إلى أمراء الأجناد فى الفروج: أمّا [2] بعد، فإنّكم حماة المسلمين وذادتهم، وقد وضع لكم عمر رضى الله عنه ما لم يغب عنّا، بل كان عن ملإ منّا، ولا يبلغنا عن أحد منكم تغيير ولا تبديل، فيغيّر الله بكم، ويستبدل بكم غيركم. فانظروا كيف تكونون، فإنّى أنظر فيما ألزمنى الله النّظر فيه والقيام عليه.   [1] تاريخ الطبرى 4: 244. [2] تاريخ الطبرى 4: 245. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 406 ذكر الفتوحات والغزوات فى خلافة عثمان ذكر خلاف أهل الاسكندرية وفى [1] سنة خمس وعشرين نقض أهل الإسكندرية الصّلح؛ وذلك أنّ الرّوم حضروا إليهم من القسطنطينيّة، ونفذ منهم منّويل الخصىّ، واتفقوا مع من بها من الرّوم، ولم يوافقهم المقوقس، وثبت على صلحه، فثبت لذلك. وسار عمرو بن العاص إليهم، وسار إليه الرّوم، واقتتلوا أشدّ قتال، فانهزم الروم وتبعهم المسلمون إلى أن أدخلوهم الإسكندريّة، وقتلوا منهم فى البلدة مقتلة عظيمة، وقتل منّويل الخصىّ. وكان الرّوم لمّا خرجوا من الإسكندريّة أخذوا أموال أهل تلك القرى، من وافقهم ومن خالفهم، فلمّا ظفر بهم المسلمون جاء أهل القرى الّذين خالفوهم فقالوا لعمرو بن العاص: إنّ الرّوم أخذوا أموالنا ودوابّنا، ولم نخالف نحن عليكم، وكنّا على الطّاعة، فردّ عليهم ما غرموا من أموالهم بعد إقامة البيّنة. وهدم عمرو سور الإسكندريّة. ذكر غزو ارمينية وغيرها وما وقع من الصلح كان [2] عثمان رضى الله عنه قد استعمل سعد بن أبى وقّاص على الكوفة، ثم عزله، واستعمل الوليد بن عقبة بن أبى معيط- وهو أخو عثمان لأمّه- فعزل الوليد عتبة بن فرقد عن أذربيحان،   [1] فتوح مصر 175، 176. [2] تاريخ الطبرى 4: 248، ابن الأثير 3: 43. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 407 فنقضوا العهد فغزاهم الوليد فى سنة خمس وعشرين، وجعل على مقدّمته ابن شبيل الأحمسىّ، وأغار على أهل موقان وما جاورها، ففتح وغنم وسبى، وطلب أهل كور أذربيجان الصّلح، فصالحهم على صلح حذيفة، وهو ثمانمائة ألف درهم، فقبض المال ثم بثّ سراياه، وبعث سلمان بن ربيعة الباهلىّ إلى أهل إرمينية فى اثنى عشر ألفا فقتل وسبى وغنم، ثم انصرف وقد ملأ يده حتى أتى الوليد. وعاد الوليد وجعل طريقه على الموصل، ثم أتى الحديثة [1] . قال: ولمّا نزل الوليد بن عقبة الحديثة، أتاه كتاب عثمان رضى الله عنه يقول: إنّ معاوية كتب إلىّ أنّ الرّوم قد أجلبت على المسلمين فى جموع كثيرة، وقد رأيت أن يمدّهم أخوانهم من أهل الكوفة. فابعث إليهم رجلا له نجدة وبأس فى ثمانية آلاف، أو تسعة آلاف، أو عشرة آلاف من المكان الّذى يأتيك كتابى فيه، والسّلام. فقام الوليد فى النّاس، وأعلمهم الحال، وندبهم مع سلمان ابن ربيعة الباهلىّ، فانتدب معه ثمانية آلاف، فمضوا حتّى دخلوا مع أهل الشّام إلى أرض الرّوم، فشنّوا الغارات، فأصاب النّاس ما شاءوا، وافتتحوا حصونا كثيرة. وقيل: إنّ الذى أمدّ حبيب بن مسلمة بسلمان بن ربيعة، كان سعيد بن العاص لمّا كان على الكوفة؛ وكان سبب ذلك أنّ عثمان كتب إلى معاوية يأمره أن يغزى حبيب بن مسلمة فى أهل الشّام إرمينية، فوجّهه إليها، فأتى قاليقلا فحصرها، وضيّق على من كان بها،   [1] ك: «الحديبية» تحريف. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 408 فطلبوا الأمان على الجلاء أو الجزية، فجلا كثير منهم، فلحقوا ببلاد الرّوم، وأقام حبيب بها فيمن معه أشهرا، ثم بلغه أنّ بطريق إرمنياقس- وهى ملطية، وسيواس وقونية، وما والاها من البلاد إلى خليج القسطنطينيّة- واسمه الموريّان، قد توجّه نحوه فى ثمانين ألفا من الرّوم. فكتب إلى معاوية بذلك، فكتب معاوية إلى عثمان، فأرسل عثمان إلى سعيد بن العاص، يأمره بإمداد حبيب، فأمدّه بسلمان فى ستة آلاف، فأجمع حبيب على تبييت الرّوم، فسمعته امرأته أمّ عبد الله بنت يزيد الكلبيّة، فقالت: أين موعدك؟ فقال: سرادق الموريان، ثم بيّتهم، فقتل من وقف له، ثم أتى السّرادق فوجد امرأته قد سبقته إليه، ولمّا انهزمت الرّوم عاد حبيب إلى قاليقلا، ثم سار فيها فنزل مربالا، فأتاه بطريق خلاط بكتاب عياض بن غنم بأمانه فأجراه عليه، وحمل إليه البطريق ما عليه من المال. ونزل حبيب خلاط، ثم سار منها، فلقيه صاحب مكس، وهى من البسفرجان، فقاطعه على بلاده، ثم سار منها إلى أزدشاط وهى القرية التى يكون بها القرمز الّذى يصبغ به، فنزل على نهر دبيل، وسرّح الخيول إليها وحصرها، فتحصّن أهلها، فنصب عليهم منجنيقا، فطلبوا الأمان، فأجابهم إليه، وبثّ السّرايا فبلغت خيله ذات اللّجم؛ وإنّما سمّيت ذات اللّجم لأنّ المسلمين أخذوا لجم خيلهم، فكبسهم الرّوم قبل أن يلجموها، ثم ألجموها وقاتلوهم فظفروا بهم. ثم وجّه سريّة إلى سراج طير وبغروند، فصالحه بطريقها على إتاوة، وقدم عليه بطريق البسفرجان، فصالحه على بلاده، وأتى الجزء: 19 ¦ الصفحة: 409 السّيسبان فحاربه أهلها فهزمهم، وغلب على حصونهم. وسار إلى جرزان، وفتح عدّة حصون ومدن تجاورها صلحا. وسار سلمان بن ربيعة إلى أرّان، ففتح البيلقان صلحا، على أن يؤمّنهم على دمائهم وأموالهم، وحيطان مدنهم، واشترط عليهم، الجزية والخراج، ثم أتى سلمان مدينة برذعة فعسكر على الثّرثور (نهر بينه وبينها نحو فرسخ) فقاتله أهلها أيّاما، وشنّ الغارات على قراها، فصالحوه على مثل صلح البيلقان، ودخلها، ووجّه خيله ففتحت رساتيق الولاية، ودعا أكراد البلاشجان إلى الإسلام، فقاتلوه فظفر بهم، فأقرّهم على الجزية، وأدّى بعضهم الصّدقة وهم قليل، ووجّه سريّة إلى شمكور ففتحوها، وهى مدينة قديمة، ولم تزل معمورة حتّى أخربها السّاورديّة، وهم قوم تجمّعوا لمّا انصرف يزيد بن أسيد عن إرمينية، فعظم أمرهم، ثم عمّرها بغا فى سنة أربعين ومائتين، وسمّاها المتوكّليّة، نسبة إلى المتوكّل. وسار سلمان إلى مجمع الرّسّ والكرّ، ففتح قبلة، وصالحه صاحب شكّى وغيرها على الإتاوه، وصالحه ملك شروان، وسائر ملوك الجبال فأهل مسقط والشّابران، ومدينة الباب. والله تعالى أعلم بالصواب. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 410 ذكر غزو معاوية الروم وفى [1] سنة خمس وعشرين، غزا معاوية بن أبى سفيان الرّوم، فبلغ عمّورية فوجد الحصون الّتى بين أنطاكية وطرسوس خالية، فجعل عندها جماعة كثيرة من أهل الشّام والجزيرة؛ حتى انصرف من غزاته. ثم أغزى بعد ذلك يزيد بن الحرّ العبسىّ الصائفة وأمره أن يفعل مثل ذلك، ولما خرج هدم الحصون إلى أنطاكية. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. ذكر فتح كابل وفى [2] سنة خمس وعشرين بعث عثمان بن عفّان رضى الله عنه عبد الله بن عامر إلى كابل، فبلغها فى قول، وكانت أعظم من خراسان ولم يزل إلى أن مات معاوية، فامتنع أهلها. والله سبحانه وتعالى أعلم.   [1] تاريخ ابن الأثير 3: 44، تاريخ الطبرى 4: 247. [2] تاريخ ابن الأثير 3: 44. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 411 ذكر غزو افريقية وفتحها وفيها [1] بعث عمرو بن العاص عبد الله بن سعد بن أبى سرح إلى أطراف إفريقيّة غازيا بأمر عثمان فغنم وعاد، وكتب إلى عثمان بستأذنه فى غزوها، فأذن له، وعزل عمرو بن العاص عن خراج مصر. واستعمل عبد الله بن سعد فى سنة ستّ وعشرين، فتنازعا الأمر. فكتب عبد الله إلى عثمان أنّ عمرا كسر علىّ الخراج، وكتب عمرو إنّ عبد الله كسر علىّ مكيدة الحرب. فعزل عثمان عمرا واستقدمه، واستعمل عبد الله على حرب مصر وخراجها، وأمره أن يغزو إفريقيّة وقال: إن فتح الله عليك فلك خمس الخمس نفلا. وأمّر عثمان عبد الله بن نافع بن عبد القيس وعبد الله بن نافع ابن الحارث على جند، وسرّحهما، وأمرهما بالاجتماع مع عبد الله ابن سعد على صاحب إفريقيّة، ثم يقيم عبد الله فى عمله [فخرجوا] [2] ووصلوا إلى أرض إفريقيّة فى عشرة آلاف من شجعان الإسلام، فصالحهم أهل إفريقيّة على مال يؤدّونه، ولم يقدموا على دخول إفريقيّة والتّوغّل فيها لكثرة أهلها. ثم أرسل عبد الله إلى عثمان يستشيره فى قصد إفريقيّة، وفتحها، فجهّز إليه عثمان جماعة من أعيان الصّحابة، منهم عبد الله بن عبّاس وغيره، فسار بهم ابن سعد إلى إفريقيّة.   [1] تاريخ ابن الأثير 3: 45 وما بعدها. [2] من ص. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 412 فكان من أمر فتح إفريقيّة ما نذكره إن شاء الله تعالى فى الباب السّادس من القسم الخامس من هذا الفنّ فى أخبار إفريقيّة، وبلاد المغرب بما هو أبسط من هذا القول، وهو السّفر الثّانى والعشرون من هذه النّسخة. قال: لمّا فتحت سبيطلة وهى دار الملك، وجد فيها من الأموال ما لم يكن فى غيرها، فكان سهم الفارس ثلاثة آلاف دينار، وسهم الرّاجل ألف دينار. وبعث عبد الله بن سعد جيوشه فى البلاد، فبلغت قفصة، فسبوا وغنموا، وبعث عسكرا إلى حصن الأجم، وقد احتمى به أهل البلاد، فحصره وفتحه بالأمان، فصالحه أهل إفريقيّة على الفىء، ألف وخمسمائة ألف دينار. وسار عبد الله بن الزّبير إلى عثمان بالبشارة، وتنفّل [1] بابنة الملك، ثم عاد عبد الله بن سعد من إفريقيّة إلى مصر، وكان مقامه بها سنة وثلاثة أشهر، ولم يفقد من المسلمين إلّا ثلاثة عشر رجلا، وحمل خمس إفريقيّة إلى المدينة، فابتاعه مروان بن الحكم بخمسمائة ألف دينار، فوضعها عنه عثمان وهو مما أخذ عليه، وأنكره الصّحابة رضى الله تعالى عنه، وقال فى ذلك عبد الرحمن بن حنبل أحد الصّحابة رضى الله تعالى عنهم: أحلف بالله جهد اليمين ... ما ترك الله أمرا سدى ولكن جعلت لنا فتنة ... لكى نبتلى بك أو تبتلى   [1] فى ابن الأثير 3: 46: «ونفل عبد الله بن الزبير ابنة الملك» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 413 دعوت الطريد فأدنيته ... خلافا لما سنّه المصطفى وولّيت قرباك أمر العباد ... خلافا لسنّة من قد مضى وأعطيت مروان خمس الغنيم ... ة آثرته وحميت الحمى وما لا أتانى به الأشعرىّ ... من الفىء أعطيته من دنا فإنّ الأمينين قد بيّنا ... منار الطّريق عليه الهدى فما أخذا غيلة درهما ... ولا قسّما درهما فى هوى قال: ولما فتحت إفريقيّة أمر عثمان عبد الله بن نافع بن عبد القيس أن يسير إلى الأندلس، فأتاها من البحر، ففتح الله تعالى على المسلمين. وفى سنة سبع وعشرين فتحت إصطخر، وهو الفتح الثانى، وكان فتحها الآن على يد عثمان بن أبى العاص. وقد ذكرنا الأول فى خلافة عمر. وفيها غزا معاوية بن سفيان رضى الله تعالى عنه قبرس. ذكر فتح جزيرة قبرس كان [1] فتحها على يد معاوية بن أبى سفيان، واختلف فى وقته، فقيل: فتحت فى سنة ثمان وعشرين، وقيل: فى سنة تسع وعشرين، وقيل: فى سنة ثلاث وثلاثين. وكان قد ألحّ على عمر رضى الله عنه فى غزو البحر، وذكر قرب   [1] تاريخ الطبرى 4: 258، 262، تاريخ ابن الأثير 3: 48. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 414 [الرّوم] [1] من حمص، وقال: إنّ قرية من قرى حمص ليسمع أهلها نباح كلابهم وصياح دجاجهم. فكتب عمر إلى عمرو بن العاص: أن صف لى البحر وراكبه، فكتب إليه عمرو: إنى رأيت خلقا كبيرا يركبه خلق صغير، ليس إلّا السّماء والماء، إن ركد خرق القلوب، وإن تحرّك أزاغ العقول، يزداد فيه اليقين قلّة، والشّكّ كثرة، هم فيه كدود على عود، إن مال غرق، وإن نجا برق. فلمّا قرأ كتاب عمرو، كتب إلى معاوية: والّذى بعث محمدا بالحقّ لا أحمل فيه مسلما أبدا، وقد بلغنى أنّ بحر الشّام يشرف على أطول شىء من الأرض، فيستأذن الله كلّ يوم وليلة فى أن يغرق الأرض، فكيف أحمل الجنود على هذا الكافر، لمسلم أحبّ إلىّ ممّا حوت الرّوم. فإيّاك أن تعرّض إلىّ، فقد علمت ما لقى العلاء منّى. وترك ملك الرّوم الغزو، وكاتب عمر وقاربه، فلمّا كان زمن عثمان كتب معاوية إليه يستأذنه فى غزو البحر مرارا، فأجابه إلى ذلك وقال: لا تنتخب [الناس] [1] ولا تقرع بينهم، خيّرهم، فمن اختار الغزو طائعا، فاحمله وأعنه، ففعل. واستعمل عبد الله بن قيس الحارثىّ حليف بنى فزارة، وسار المسلمون إلى قبرس، وسار إليها عبد الله بن سعد من مصر، فاجتمعوا عليها فصالحهم أهلها على جزية، وهى سبعة آلاف دينار فى كلّ سنة، ويؤدّون للرّوم مثلها، لا يمنعهم المسلمون من ذلك، وليس على المسلمين   [1] من ص. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 415 [منعهم] [1] ممّن أرادهم من ورائهم. وعليهم أن يؤذنوا المسلمين بمسير عدوّهم من الرّوم، ويكون طريق المسلمين إلى العدوّ عليهم، فقبلوا ذلك منهم، وعادوا عنهم. وشهد هذه الغزاة جماعة من الصحابة، منهم: أبو ذرّ الغفارى، وعبادة بن الصّامت، ومعه زوجته أمّ حرام بنت ملحان، وأبو الدّرداء شدّاد بن أوس. وفى هذه الغزاة ماتت أمّ حرام، ألقتها بغلتها بجزيرة قبرس فاندقّ عنقها، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخبرها أنّها من أوّل من يغزو فى البحر. قال: وبقى عبد الله بن قيس على البحر، فغزا خمسين غزاة فى البحر، من بين شاتية، وصائفة، لم ينكب أحد من جنده، وكان يدعو الله أن يعافيه فى جنده، ثم خرج هو فى قارب طليعة، فانتهى إلى المرفأ من أرض الرّوم، وعليه مساكين يسألون، فتصدّق عليهم، فرجعت امراة منهم إلى قريتها، فقالت: هذا عبد الله بن قيس فى المرفأ فبادروا إليه، وهجموا عليه، فقتلوه، بعد أن قاتلهم، فأصيب وحده، ونجا الملّاح حتّى أتى أصحابه فأعلمهم، فجاءوا حتّى رسوا بالمرفأ وعليهم سفيان بن عوف الأزدىّ، فخرج إليهم فقاتلهم. وقيل لتلك المرأة بعد ذلك: بأىّ شىء عرفت عبد الله بن قيس؟ قالت: كان كالتّاجر، فلمّا سألته أعطانى كالملك، فعرفته بهذا. ولمّا كانت سنة اثنتين وثلاثين أعان أهل قبرس الرّوم على غزو   [1] من ابن الأثير. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 416 المسلمين بمراكب أعطوهم إيّاها، فغزاهم معاوية فى سنة ثلاث وثلاثين ففتحها عنوة، فقتل وسبى، ثم أقرّهم على صلحهم، وبعث إليهم اثنى عشر ألفا فبنوا المساجد، وبنى بها مدينة. وقيل: كانت الغزوة الثانية فى سنه خمس وثلاثين. وفى سنة ثمان وعشرين غزا حبيب بن مسلمة سورية من أرض الرّوم. والله تعالى أعلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل. ذكر نقض أهل فارس وغيرهم وفتح إصطخر ودرابجرد وفى سنة تسع وعشرين نقض أهل فارس بعييد الله بن معمر، فسار إليهم، فالتقوا على باب إصطخر، فقتل عبيد الله، وانهزم المسلمون. فبلغ الخبر عبد الله بن عامر أمير البصرة، فاستنفر أهل البصرة وسار إلى فارس، فالتقوا بإصطخر، واشتدّ القتال، فهزم المسلمون الفرس، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وفتحت إصطخر عنوة، وأتى درابجرد، وقد غدر أهلها، ففتحها وسار إلى مدينة جور، فانتقضت إصطخر، فلم يرجع إليها، وتمّم السير إلى جور فحاصرها، وكان هرم بن حيّان محاصرا لها، وكان المسلمون يحاصرونها وينصرفون عنها فيأتون إصطخر، ويغزون نواحى كانت تنتقض عليهم، فلم يزل عبد الله بن عامر عليها حتّى فتحها. وكان سبب فتحها أنّ بعض المسلمين قام يصلّى ذات ليلة، وإلى جانبه جراب له فيه خبز ولحم، فجاء كلب فجرّه وعدا به حتّى دخل   [1] تاريخ ابن الأثير 3: 50: 51. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 417 المدينة من مدخل خفىّ، فلزم المسلمون ذلك المدخل حتّى دخلوها منه وفتحوها عنوة، فلمّا فرغ ابن عامر منها عاد إلى إصطخر وفتحها عنوة بعد أن حاصرها ورماها بالمجانيق، وقتل بها خلقا كثيرا من الأعاجم، وأفنى أكثر أهل البيوتات، ووجوه الأساورة، وكانوا قد لجئوا إليها. وقيل: إنّ أهل إصطخر لما نكثوا عاد إليها ابن عامر قبل وصوله إلى جور، فملكها عنوة، وعاد إلى جور، وأتى درابجرد فملكها، وكانت منتقضة أيضا، ووطىء أهل فارس وطأة لم يزالوا منها فى ذلّ. وكتب إلى عثمان بالخبر، فكتب إليه أن استعمل على بلاد فارس هرم بن حيّان اليشكرىّ، وهرم بن حيّان العبدىّ، والخرّبت ابن راشد، والتّرجمان الهجيمىّ. وأمره أن يفرّق كور خراسان على جماعة، فيجعل الأحنف بن قيس على المروين. وحبيب بن قرّة اليربوعىّ على بلخ، وخارجة ابن عبد الله بن زهير على هراة، وأمير بن أحمر على طوس، وقيس ابن هبيرة وقيسا السّلمىّ على نيسابور، والله أعلم. ذكر غزو طبرستان فى [1] سنة ثلاثين غزا سعيد بن العاص عامل الكوفة طبرستان ومعه الحسن والحسين وابن عبّاس، وابن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص وحذيفة بن اليمان. وابن الزّبير وغيرهم، ولم يغزها غيره أحد على أصحّ الأقوال.   [1] تاريخ ابن الأثير 3: 54. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 418 وقد ذكرنا فيما تقدّم فى خلافة عمر رضى الله عنه فتحها، والخلاف فيه. قال: فأتى سعيد جرجان، فصالحوه على مائتى ألف، ثم أتى طميسة وهى كلّها من طبرستان، متاخمة جرجان على البحر، فقاتله أهلها، فصلّى صلاة الخوف وحاصرهم، فسألوه الأمان فأعطاهم، على ألّا يقتل منهم رجلا واحدا، واحتوى على ما فى الحصن، وفتح سعيد نامية، وليست مدينة، هى صحارى.. والله أعلم. ذكر غزو الصوارى كانت [1] هذه الغزوة فى سنة إحدى وثلاثين، وقيل فى سنة أربع وثلاثين، وكان سببها أنّ المسلمين لمّا فعلوا بأهل إفريقيّة ما فعلوا عند فتحها، عظم ذلك على قسطنطين بن هرقل، فخرج فى جمع لم يجمع الرّوم مثله مذ كان الإسلام. قيل: خرج فى خمسمائة مركب، وقيل: فى ستّمائة، وخرج المسلمون، وعلى أهل الشّام معاوية بن سفيان، وعلى البحر عبد الله ابن سعد بن أبى سرح، فالتقوا، وقرّبوا السّفن بعضها إلى بعض، فاقتتلوا بالسّيوف والخناجر، فأنزل الله نصره على المسلمين، فانهزم قسطنطين جريحا، ولم ينج من الرّوم إلا الشّريد، وأقام عبد الله بن سعد بذات الصّوارى بعد الهزيمة أيّاما ورجع.   [1] تاريخ ابن الأثير 3: 58. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 419 وأمّا قسطنطين فإنّه وصل فى مركبه إلى صقلّية، فقال أهلها: أهلكت النّصرانيّة، وأفنيت رجالها، لو أتانا أهل المغرب لم يكن عندنا من يمنعهم، ثم أدخلوه الحمّام وقتلوه. والله سبحانه وتعالى أعلم. ذكر مقتل يزدجرد آخر ملوك بنى ساسان قال [1] : لمّا فتح عبد الله بن عامر بلاد فارس على ما قدّمناه، هرب يزدجرد إلى خراسان، فوجّه عبد الله فى طلبه مجاشع بن مسعود وقيل: غيره، فأتبعه إلى كرمان، وكثر الثّلج والبرد، فهلك جيش مجاشع، ورجع هو. واختلف فى قتل يزدجرد، فقيل: هرب من كرمان إلى مرو ومعه خرّزاذ أخو رستم، فرجع عنه إلى العراق، وأوصى به ما هويه مرزبان مرو، فسأله يزدجرد مالا فمنعه مخافة أهل مرو على أنفسهم فأرسلوا إلى التّرك يستنصرونهم عليه، فأتوه فبيّتوه وقتلوا أصحابه، فخرج ماشيا إلى وسط المرغاب، فأوى إلى بيت رجل ينقر الأرحاء، فلما نام قتله. وقيل: بل قتله أهل مرو، ولم يسنتنصروا بالتّرك. وقيل: غير ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم، وهو حسبى.   [1] ابن الأثير 3: 59. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 420 ذكر فتح خراسان قال: [1] كان أهل خراسان قد غدروا لمّا قتل عمر بن الخطّاب رضى الله تعالى عنه، ونقضوا، فلمّا افتتح عبد الله بن عامر بلاد فارس عاد إلى البصرة، واسخلف على إصطخر شريك بن الأعور الحارثىّ، فبنى شريك مسجد إصطخر، ثم تجهّزا بن عامر من البصرة، واستخلف عليها زياد بن أبيه، وسار إلى كرمان واستعمل عليها مجاشع بن مسعود السّلمى، وله صحبة، وأمره بمحاربة أهلها، وكانوا قد نكثوا. واستعمل على سجستان الربيع بن زياد الحارثىّ، وكانوا قد أعدّوا له أيضا، ونقضوا الصّلح. وسار عبد الله بن عامر إلى نيسابور، وعلى مقدّمته الأحنف بن قيس، فأتى الطّبسين، وهما حصنان، وهما بابا خراسان، فصالحه أهلها، وسار إلى قوهستان فقاتله أهلها، فقاتلهم حتّى ألجأهم إلى حصنه، وقدم عليه ابن عامر، فصالحه أهلها على ستّمائة ألف درهم، وبثّ سراياه ففتحت البلاد، وفتح بهق، وبشت، (وهى بالشّين المعجمة) ، وليست بست المعروفة، ثم فتح نيسابور بعد أن استولى على أعمالها، وبعد أن حاصرها أشهرا. وكان لكلّ ربع منها مرزبان من القرى يحفظه، فطلب أحدهم الأمان والصّلح على جميع نيسابور، فصالحه على ألف ألف درهم،   [1] ابن الأثير 3: 61. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 421 وولّى نيسابور قيس بن الهيثم السّلمىّ، وسيّر جيشا إلى نسا، وبيورد ففتحوهما صلحا، وسيّر سريّة أخرى إلى سرخس، فقاتل أهلها، ثم طلبوا الأمان والصّلح على مائة رجل، فصالح مرزبانها على ذلك، فأحبيب إلى ذلك، وسمّى مائة رجل، ولم يذكر نفسه، فقتله، ودخل سرخس عتوة، وأتى مرزبان طوس إلى عبد الله، فصالحه على ستّمائة ألف درهم. وبعث جيشا إلى هراة عليهم عبد الله بن خازم، وقيل غيره، فسار مرزبانها إلى ابن عامر وصالحه على هراة، وباذغيس وبوشنج على ألفى ألف درهم، ومائتى ألف درهم. وكانت مرو كلّها صلحا إلا قرية السّنج، (وهى بكسر السين المهملة) ، فإنّها فتحت عنوة. ووجّه الأحنف بن قيس إلى طخارستان، فمرّ برستاق يعرف برستاق الأحنف، فصالحوه على ثلاثمائة ألف درهم، ومضى إلى مرو الرّوذ، فقاتله أهلها، فهزمهم، ثم صالحهم مرزبانها على ستّمائة ألف درهم. فاجتمع أهل طخارستان والجوزجان والطّالقان، والفارياب ومن حولهم، فلقوه فى خلق كثير، فالتقوا واقتتلوا، فهزمهم المسلمون وقتلوا منهم قتلا ذريعا، وعاد إلى مرو الرّوذ، ولحق بعض العدوّ بالجوزجان، فوجّه إليهم الأحنف بن قيس الأقرع بن حابس التّميمىّ فى جيش، وقال: يا بنى تميم، تحابّوا وتباذلوا تعتدل أموركم، الجزء: 19 ¦ الصفحة: 422 وابدءوا بجهاد بطونكم وفروجكم يصلح لكم دينكم، ولا تغلّوا فيسلم لكم جهادكم. فسار الأقرع فلقى العدوّ بالجوزجان، فكانت بالمسلمين جولة، ثم عادوا فهزموا المشركين وفتحوا الجوزجان عنوة، وفتح الأحنف الطالقان صلحا، وفتح الفارياب، وقيل: بل فتحها أمير بن أحمر. ثم سار الأحنف إلى بلخ، وهى مدينة طخارستان، فصالحه أهلها على أربعين ألف. وقيل: سبعمائة ألف. فاستعمل على بلخ أسيد بن المتشمّس، ثم سار إلى خوارزم، وهى على نهر جيحون، فلم يقدر عليها، فعاد إلى بلخ. ولمّا تمّ هذا الفتح لعبد الله بن عامر، قال النّاس: ما فتح لأحد ما فتح عليك فارس، وكرمان، وسجستان، وخراسان، فقال: لأجعلنّ شكرى لله على ذلك؛ أن أخرج محرما من موقفى هذا. فأحرم بعمرة من نيسابور وقدم على عثمان، واستخلف على خراسان قيس بن الهيثم، فسار قيس فى أرض طخارستان، فلم يأت بلدا منها إلا صالحه أهلها، وأذعنوا له، إلا سمنجان، فإنّه فتحها عنوة. والله سبحانه وتعالى أعلم وحسبنا الله ونعم الوكيل. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 423 ذكر فتح كرمان قال [1] : لمّا سار عبد الله إلى خراسان استعمل مجاشع بن مسعود السّلمىّ على كرمان كما ذكرتا، وأمره أن يفتتحها، وكان أهلها قد نكثوا وغدروا، ففتح هميد عنوة، واستبقى أهلها وأمّنهم، وبنى بها قصرا يعرف بقصر مجاشع، وأتى السّيرجان، وهى مدينة كرمان فأقام عليها أيّاما يسرة، وقد تحصّن أهلها فقاتلهم وفتحها عنوة، فجلا كثير من أهلها. وفتح جيرفت عنوة، وسار فى كرمان فدوّخ أهلها، وأتى القفص وقد تجمّع له خلق كثير من الأعاجم الذين جلوا، فقاتلهم، فظفر بهم وظهر عليهم، وهرب كثير من أهل كرمان، فركبوا البحر ولحق بعضهم بمكران، وبعضهم بسجستان، فأقطعت العرب منازلهم وأراضيهم، واحتفروا لها القنىّ فى مواضع منها، وأدّوا العشر منها. والله تعالى أعلم، وصلّى الله على سيّدنا محمد وصحبه وسلّم.   [1] ابن الأثير 3: 64. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 424 ذكر فتح سجستان وكابل وغيرها قد ذكرنا [1] أنّ عبد الله بن عامر استعمل على سجستان الربيع ابن زياد الحارثىّ وسجستان من الفتوحات فى خلافة عمر، ولمّا نقض أهلها؛ سار الربيع وقطع المفازة حتى حصن زالق، فأغار على أهله فى يوم مهرجان وأخذ الدّهقان، فافتدى نفسه بأن ركز [2] عنزة [3] وغمرها ذهبا وفضّة، وصالحه على صلح فارس، ثم أتى بلدة يقال لها: كركويه فصالحه أهلها، وسار إلى زرنج، فنزل على مدينة روشت بقرب زرنج، فقاتله أهلها وأصيب رجال من المسلمين، ثم انهزم المشركون، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وأتى الربيع ناشروذ ففتحها، ثم أتى شرواذ فغلب عليها، وسار منها إلى زرننج فنازلها، وقاتله أهلها، وأصيب رجال من المسلمين، ثم انهزم المشركون، وقتل منهم مقتلة عظيمة. وأتى الرّبيع ناشروذ ففتحها، ثم شرواذ فغلب عليها، وسار إلى زرنج فنازله أهلها، فهزمهم وحصرهم، فأرسل إليه مرزبانها ليصالحه واستأمنه ليحضر عنده، فأمّنه، وجلس الربيع على جسد من أجساد القتلى، واتّكأ على آخر، وأمر أصحابه ففعلوا مثله، فلمّا رآهم المرزبان هاله ذلك، فصالحه على ألف وصيف مع كلّ وصيف جام من ذهب ودخل المسلمون المدينة. ثم سار منها إلى سناروذ، وهو واد، فعبره، وأتى القرية الّتى بها   [1] ابن الأثير 3: 64. [2] ك: «غرز» . [3] العنزة: رميح بين العصا والرمح، فيه زج. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 425 مربط فرس رستم الشّديد، فقاتله أهلها فظفر بهم. ثم عاد إلى زرنج وأقام بها نحو سنة، وعاد إلى ابن عامر، واستخلف عليها عاملا، فأخرج أهلها العامل، وامتنعوا. فكانت ولاية الرّبيع سنة ونصفا، سبى فيها أربعين ألف رأس وكان كاتبه الحسن البصرىّ، فاستعمل ابن عامر عبد الرّحمن بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس على سجستان، فسار إليها، فحصر زرنج، فصالحه مرزبانها على ألفى ألف درهم وألف وصيف. وغلب عبد الرّحمن على ما بين زرنج والكشّ من ناحية الهند، وغلب من ناحية الرّخّج على ما بينه وبين الداون، فلمّا انتهى إلى بلد الداون وحصرهم فى جبل الزّوز، ثم صالحهم ودخل الزّوز، وهو صنم من ذهب عيناه ياقوتتان، فقطع يده وأخذ الياقوتيين وقال للمرزبان: دونك الذّهب والجوهر، وإنّما أردت أن أعلمك أنّه لا يضرّ ولا ينفع. وفتح كابل، وزابلستان، وهى ولاية غزنة، ثم عاد إلى زرنج، فأقام بها حتى اضطرب أمر عثمان، فاستخلف عليها أمير بن أحمر، وانصرف فأخرج أهلها أميرا وامتنعوا. وفى سنة اثنتين وثلاثين غزا معاوية بن أبى سفيان مضيق القسطنطينيّة ومعه زوجته عاتكة بنت قرظة، وقيل: فاختة. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصّواب، وإليه المرجع والمآب. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 426 ذكر خروج قارن ببلاد خراسان وقتله فى سنة [1] اثنتين وثلاثين جمع قارن جمعا كثيرا من ناحية الطّبسين وأهل باذغيس وهراة وقهستان، وأقبل فى أربعين ألفا. وقال قيس بن الهيثم أمير خراسان من قبل ابن عار لعبد الله ابن خازم: ما ترى؟ فقال: أرى أن تخلّى البلاد؛ فإنّى أميرها، ومعى عهد ابن عامر؛ إن كانت حرب بخراسان فأنا أميرها، وأخرج كتابا كان قد افتعله، فكره قيس منازعته وخلّاه والبلاد. وأقبل إلى ابن عامر فلامه، وقال: تركت البلاد خرابا، وأقبلت! فقال: جاءنى تعهّدك.. ولمّا توجّه قيس بن خازم إلى قارن فى أربعة آلاف، أمرهم أن يحملوا الودك، فلمّا قربوا من ذلك، وقرب من الودك، أمر النّاس أن يدرج كلّ رجل منهم على زجّ رمحه خرقة أو قطنا، ثم يكثّروا دهنه، ثم سار حتّى أمسى، فقدّم أمامه ستمائة من أصحابه، ثم اتّبعهم، وأمر النّاس أن يشعلوا النيران فى أطراف الرّماح، وانتهت مقدّمته إلى معسكر قارن نصف اللّيل [فناوشوهم] [2] ، وهاج النّاس على دهش، وكانوا قد أمنوا من البيات، ودنا ابن خازم منهم، فرأوا النيران يمنة ويسرة تتقدّم وتتأخّر، وترتفع وتنخفض، فهالهم ذلك   [1] ابن الأثير 3: 68. [2] من ص. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 427 وأهل المقدّمة يقاتلونهم ثم غشيهم ابن خازم بالمسلمين، فقتل قارن وانهزم المشركون، واتبعوهم يقتّلونهم كيف شاءوا، وأصابوا سبيا كثيرا. وكتب ابن خازم بالفتح إلى ابن عامر، فرضى وأقرّه على خراسان، فكان عليها حتّى انقضت حرب الجمل. وقيل: لمّا جمع قارن اسشار قيس بن عبد الله عبد الله بن خازم فيما يصنع [1] ؟ فأشار عليه أن يلحق بابن عامر، فيخبره بكثرة العدوّ، وقال له: إنك لا تطيق كثرة من قد أتاك، فاخرج بنفسك ونقيم نحن بالحصون ونطاولهم حتّى يأتينا مددكم. فخرج قيس، فلمّا أبعد أظهر ابن خازم عهدا، وقال: قد ولّانى ابن عامر خراسان، وسار إلى قارن فظفر به كاتقدّم. وفى سنة ثلاث وثلاثين غزا معاوية حصن المرأة من أرض الرّوم، بناحية ملطية. وفيها سار الأحنف بن قيس إلى خراسان، وفتح المروين: مرو الرّوذ ومرو الشّاهجان. انتهت الفتوحات والغزوات، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. وإليه المرجع والمآب، وحسبنا الله ونعم الوكيل وصلّى الله على سيّدنا محمد   [1] ك: «ما يصنع» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 428 ذكر ما وقع فى خلافة عثمان غير الغزوات والفتوحات على حكم السّنين سنة أربع وعشرين فى [1] هذه السّنة كثر الرّعاف بالنّاس، فسمّى عام الرّعاف. وفيها استعمل عثمان سعد بن أبى وقّاص على الكوفة، وعزل المغيرة بن شعبة عنها، فعمل سعد عليها سنة وبعض أخرى. وقيل: بل أقرّ عثمان عمّال عمر رضى الله عنه سنة؛ لأنّ عمر رضى الله عنه أوصى بذلك، ثم عزل المغيرة، واستعمل سعدا. وحجّ عثمان بالنّاس. سنة خمس وعشرين فى هذه [2] السّنة عزل عثمان سعد بن أبى وقّاص عن الكوفة فى قول بعضهم، واستعمل الوليد بن عقبة بن أبى معيط بن أبى عمرو ذكوان بن أميّة بن عبد شمس، وهو أخو عثمان لأمّه، وسبب ذلك أنّ سعدا [3] رضى الله عنه اقترض من عبد الله بن مسعود قرضا، فلمّا تقاضاه ابن مسعود رضى الله عنه لم يتيسّر له قضاؤه، فارتفع بينهما الكلام فقال سعد: ما أراك إلّا ستلقى شرّا، هل أنت إلّا ابن مسعود، عبد [من] [4] هذيل! فقال: أجل، والله إنّى لابن مسعود، وانّك لابن حمينة [5] .   [1] تاريخ ابن الأثير 3: 41. [2] ابن الأثير 3: 42. [3] فى الأصول: «عثمان» : وهو خطأ صوابه من ابن الأثير. [4] من ص. [5] ك: «حمته» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 429 وكان هاشم بن عتبة بن أبى وقّاص حاضرا فقال: إنكما لصاحبا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ينظر إليكما. ثمّ ولّى عبد الله، فخرج واستعان بأناس على استخراج المال من سعد، واستعان سعد بأناس على إنظاره، فافترقوا وبعضهم يلوم بعضا. فكان ذلك أوّل ما نزغ به الشيطان بين أهل الكوفة، وأوّل مصر [1] نزغ الشيطان بين أهله الكوفة. وبلغ الخبر عثمان، فغضب وعزل سعدا، وأقرّ عبد الله، واستعمل الوليد بن عقبة مكان سعد، وكان على عرب الجزيرة عاملا لعمر، وعثمان بعده، فلمّا قدم الكوفة قال له سعد: أكست بعدنا أم حمقنا بعدك! قال: لا تجزعنّ أبا اسحاق، كلّ ذلك لم يكن؛ وإنما هو الملك يتغدّاه قوم ويتعشّاه قوم آخرون. قال سعد: أراكم والله ستجعلونها ملكا. وقيل: لمّا قدم الوليد أميرا على الكوفة، أتاه ابن مسعود فقال: ما جاء بك؟ فقال: جئت أميرا. قال ابن مسعود: ما أدرى صلحت بعدنا أم فسد النّاس!. وفيها ولد يزيد بن معاوية، وقيل: فى سنة اثنتين وعشرين وقد تقدّم. وحجّ بالنّاس عثمان.   [1] ك: «مصرع نزل» تحريف، وصوابه فى ص وابن الأثير. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 430 سنة ست وعشرين فى هذه السنة زاد عثمان بن عفان رضى الله فى المسجد الحرام ووسّعه، وابتاع أملاك قوم وامتنع آخرون، فهدم عليهم، ووضع الإيراد فى بيت المال، فصاحوا بعثمان فحبسهم، وقال: قد فعل بكم عمر هذا فلم تصيحوا! فكلّمه فيهم عبد الله بن خالد بن أسيد فأطلقهم. وفيها استعمل عثمان رضى الله عنه عبد الله بن أبى سرح على مصر، وكان أخا عثمان من الرّضاعة، وعزل عمرو بن العاص. سنة سبع وعشرين فى هذه السنة حجّ عثمان بالنّاس. وفيها من الغزوات ما تقدّم بيانه. سنة ثمان وعشرين فى هذه السّنة تزوّج عثمان نائلة بنت الفرافصة، وكانت نصرانيّة، فأسلمت قبل أن يدخل بها. وفيها بنى عثمان رضى الله عنه الزوّراء. وحج بالنّاس عثمان رضى الله عنه فى هذه السّنة، الجزء: 19 ¦ الصفحة: 431 سنة تسع وعشرين ذكر عزل أبى موسى الأشعرى عن البصرة وعثمان بن العاص عن عمان والبحرين واستعمال عبد الله بن عامر على ذلك قيل [1] : كان عزل أبى موسى الأشعرىّ عن البصرة، وعزل عثمان بن أبى العاص عن عمان والبحرين، واستعمال عبد الله بن عامر على أعمالها فى هذه السّنة. وقيل: كان لثلاث سنين مضت من خلافة عثمان [وكان سبب عزل أبى موسى أن أهل إيذج والأكراد كفروا فى السنة الثالثة من خلافة عثمان] [2] فنادى أبو موسى فى النّاس وحضّهم على الجهاد، وذكر من فضل الماشى للجهاد ما ذكر، فحمل قوم على دوابّهم، وأجمعوا على أن يخرجوا رجّالة لينالوا فضل الماشى. وقال آخرون: لا نعجل حتّى ننظر ما يصنع، فإن أشبه قوله فعله فعلنا كما يفعل، فلمّا خرج أخرج ثقله على أربعين بغلا، فعلقوا بعنان دابّته، فقالوا: احملنا على بعض هذه الفضول، وارغب فى المشى كما رغّبتنا، فضربهم بسوط، وتركوا دابّته، وأتوا عثمان فاستعفوه منه، وقالوا: ما كلّ ما نعلم نحبّ أن تسألنا عنه، فأبدلنا ما سواه، فقال: من تحبّون؟ فقال: غيلان بن خرشة، وفى كلّ أحد عوض من هذا العبد الذى قد أكل أرضنا.   [1] ابن الأثير 3: 49. [2] من ص. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 432 أما منكم خسيس فترفعونه! أما منكم فقير فتجبرونه. يا معشر قريش حتّى متى يأكل هذا الشيخ الأشعرىّ هذه البلاد! فعزل عثمان أبا موسى؛ وأمّر عبد الله بن عامر بن كريز بن حبيب ابن عبد شمس بن عبد مناف بن قصىّ القرشىّ العبشمىّ، وهو ابن خال عثمان، وممّن ولد على عهد النّبىّ صلّى الله عليه وسلّم. وعزل أيضا عثمان عثمان بن أبى العاص عن عمان والبحرين، واستعمل عبد الله على ذلك كلّه، وكان إذ ذاك ابن خمس وعشرين سنة. واستعمل عثمان رضى الله عنه على خراسان عمير بن عثمان بن سعد، فأثخن فى خراسان حتّى بلغ فرغانة، فلم يدع دونها كورة إلا اصلحها. واستعمل على سجستان عبد الله بن عمير اللّيثى، فأثخن فيها إلى كابل. وبعث إلى مكران عبيد الله بن معمر، فأثخن فيها حتى بلغ النّهر وبعث على كرمان عبد الرّحمن بن عبيس. ثم عزل عبد الله بن عمير عن سجستان. واستعمل عبد الله بن عامر فأقرّه عليها سنة ثم عزله. واستعمل عاصم بن عمرو، وعزل عبد الرّحمن بن عبيس، وأعاد عدىّ بن سهيل، وصرف عبد [2] الله ابن معمر إلى فارس؛ واستعمل مكانه عمير بن عثمان، واستعمل على خراسان أمير بن أحمر اليشكرىّ، واستعمل على سجستان فى سنة أربع عمران بن الفضل البرجمىّ.   [1] ك: «فترفعوه» . [2] ابن الأثير: «عبيد الله» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 433 ذكر الزيادة فى مسجد النبى صلّى الله عليه وسلّم وفى [1] سنة تسع وعشرين أيضا فى شهر ربيع الأول، زاد عثمان رضى الله عنه فى مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فجعل طوله ستين ومائة ذراع وعرضه خمسين ومائة ذراع، وجعل أبوابه على ما كانت أيام عمر ستّة أبواب، وبناه بالحجارة المنقوشة، وجعل عمده من حجارة فيها رصاص. والله تعالى أعلم وهو حسبى. ذكر اتمام عثمان الصلاة وما تكلم الناس به فى ذلك وفى [2] هذه السّنة حجّ عثمان رضى الله عنه بالنّاس، وضرب فسطاطه بمنى، وهو أوّل فسطاط ضرب بمنى، وأتمّ الصلاة بها وبعرفة، فكان أوّل ما تكلّم به النّاس فى عثمان ظاهرا حين أتمّها، فعاب عليه ذلك غير واحد من الصّحابة، وقال علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: ما حدث أمر، ولا قدم عهد، ولقد عهدت النبىّ صلّى الله عليه وسلم، وأبا بكر وعمر يصلّون ركعتين، وأنت صدرا من خلافتك. فقال: رأى رأيته. وبلغ الخبر عبد الرّحمن بن عوف، وكان معه، فجاءه وقال: ألم تصل فى هذا المكان ركعتين مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبى بكر   [1] تاريخ ابن الأثير 3: 51. [2] تاريخ ابن الأثير 3: 53. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 434 وعمر، وصلّيتهما أنت! قال: بلى؛ ولكنّى أخبرت من بعض النّاس أنّ بعض من حجّ من اليمن وجفاة النّاس قالوا: إنّ الصلاة للمقيم ركعتان، واحتجّوا بصلاتى، وقد اتّخذت بمكّة أهلا ولى بالطّائف مال، فقال له عبد الرحمن: ما فى هذا عذر، أمّا قولك: اتخذت بها أهلا، فإنّ زوجك بالمدينة تخرج بها إذا شئت، وإنما تسكن بسكناك. وأمّا مالك بالطّائف فبينك وبينه مسيرة ثلاث ليال. وأمّا قولك عن حاجّ اليمن وغيرهم فقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينزل عليه الوحى والإسلام قليل، ثم أبو بكر وعمر، فصلّوا ركعتين، وقد ضرب الإسلام بجرانه. فقال عثمان: هذا رأى رأيته. وقيل: كان ذلك سنة ثلاثين، والله أعلم. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 435 سنة ثلاثين ذكر عزل الوليد بن عقبة عن الكوفة وولاية سعيد بن العاص فى هذه السنة [1] ، عزل عثمان رضى الله عنه الوليد بن عقبة عن الكوفة، واستعمل عليها سعيد بن العاص، وكان سبب عزله أنّ أهل الكوفة نسبوه أنّه يشرب الخمر، وذكروا ذلك لعثمان، فاستدعاه وطلب من ذكر ذلك عنه، فقال: أتشهدون أنّه يشرب الخمر؟ فقالوا لا، قال فكيف قلتم عنه إنّه شربها؟ فقالوا اعتصرناها من لحيته، وهو يقئ الخمر، فأمر بجلده، فجلده عبد الله بن جعفر بن أبى طالب أربعين. وقيل: إنّ الوليد مكر وصلّى بأهل الصّبح أربعا، ثم التفت إليهم وقال: أأزيدكم؟ فقال ابن مسعود: ما زلنا [معك [2]] فى زيادة منذ اليوم، فقال الحطيئة: شهد الحطيئة يوم يلقى ربّه ... أنّ الوليد أحقّ بالعذر [3] نادى وقد تمّت صلاتهم ... أأزيدكم؟ سكرا وما يدرى [4] فأبوا أبا وهب ولو أذنوا ... لقرنت بين الشّفع والوتر   [1] تاريخ ابن الأثير 3: 52، الاستيعاب 1552. [2] من ص. [3] ديوانه 85. [4] الديوان: «ثملا وما يدرى» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 436 وقال أيضا: تكلّم فى الصّلاة وزاد فيها ... علانية وجاهر بالنّفاق [1] ومجّ الخمر فى سنن المصلّى ... ونادى والجميع إلى افتراق أزيدكم على أن تحمدونى ... فما لكم وما لى من خلاق! قالوا: ولمّا استعمل سعيد بن العاص، قال بعض شعرائهم: فررت من الوليد إلى سعيد ... كأهل الحجر إذ جزعوا فباروا [1] يلينا من قريش كلّ يوم ... أمير محدث أو مستشار لنا نار نخوّفها فنخشى ... وليس لهم ولا يخشون نار قال: واستعمل عثمان سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أميّة وهو والد عمرو بن سعيد الأشدق، فسار إلى الكوفة ومعه من كان فد شخص من أهل الكوفة مع الوليد، فلمّا وصلها صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: والله لقد بعثت إليكم وإنى لكارة؛ ولكنّى لم أجد بدّا إذ أمرت أن أأتمر. ألا إنّ الفتنة قد أطلعت خطمها وعينيها، وو الله لأضربنّ وجهها حتّى أقمعها أو تعيينى، وإنّى لرائد نفسى اليوم. ونزل. وسأل عن أهل الكوفة، فعرف حال أهلها، فكتب إلى عثمان: إنّ أهل الكوفة قد اضطرب أمرهم، وغلب أهل الشرف منهم والبيوتات والسابقة، والغالب على تلك البلاد روادف قدمت، وأعراب لحقت حتى لا ينظر إلى ذى شرف ولا بلاء من نازلتها ولا نابتتها. فكتب إليه عثمان: أمّا بعد، ففضّل أهل السّابقة والقدمة،   [1] الاستيعاب 1555. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 437 ممّن فتح الله عليه تلك البلاد؛ وليكن من نزلها غيرهم تبعا لهم إلّا أن يكونوا تثاقلوا عن الحق، وتركوا القيام به، وقام به هؤلاء. واحفظ لكلّ منزلته، وأعطهم جميعا بقسطهم من الحقّ، فإنّ المعرفة بالناس بها يصاب العدل. فأرسل سعيد إلى أهل الأيام والقادسيّة، فقال: أنتم وجوه النّاس، والوجه ينبى عن الجسد، فأبلغونا حاجة ذى الحاجة. وأدخل معهم من يحتمل من اللّواحق والرّوادف، وجعل القرّاء فى سمره، ففشت القالة فى أهل الكوفة. فكتب سعيد إلى عثمان بذلك، فجمع النّاس وأخبرهم بما كتب، فقالوا له: أصبت لا تطمعهم، هم ليسوا له بأهل؛ فإنّه إذا نهض فى الأمور من ليس لها بأهل لها لم يحتملها وأفسدها. فقال عثمان: يا أهل المدينة، استعدّوا واستمسكوا، فقد دبّت إليكم الفتن. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصّواب، وإليه المرجع والمآب. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 438 ذكر جمع القرآن كان سبب ذلك أنّ حذيفة بن اليمان كان قد توجّه مددا لعبد الرّحمن ابن ربيعة لحصار الباب، وكان مع سعيد بن العاص عامل الكوفة، فخرج معه سعيد بن العاص حتّى بلغ أذربيجان، فأقام حتى عاد حذيفه، فلمّا عادا ورجعا، قال لسعيد بن العاص: لقد رأيت فى سفرتى هذه أمرا لئن نزل بالنّاس ليختلفنّ فى القرآن، ثم لا يقومون عليه أبدا. قال: وما ذاك؟ قال: رأيت أناسا من أهل حمص يزعمون أنّ قراءتهم خير من قراءة غيرهم، وأنّهم أخذوا القرآن عن المقداد، ورأيت أهل الكوفة يقولون مثل ذلك، وأنّهم قرءوا على ابن مسعود، وأهل البصرة يقولون مثل ذلك، وأنّهم قرءوا على أبى موسى، ويسمّون مصحفه لباب القلوب. فلمّا وصلوا إلى الكوفة أخبر حذيفة النّاس بذلك، وحذّرهم ما يخاف، فوافقه أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكثير من التّابعين. فتفاوض حذيفة، وابن مسعود، فغضب سعيد وقام، وتفرّق النّاس وسار حذيفة إلى عثمان، وأخبره بما رأى، وقال: أنا النّذير العريان، فأدرك الأمّة. فجمع عثمان الصّحابة وأخبرهم الخبر، فأعظموه، فأرسل إلى الجزء: 19 ¦ الصفحة: 439 حفصة بنت عمر رضى الله عنهما: أن أرسلى إلينا بالصّحف لننسخها وكانت هذه الصّحف هى التى كتبت فى أيّام أبى بكر رضى الله عنه، وكانت عنده ثم عند عمر، ثم كانت عند حفصة، فأخذها عثمان منها، وأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزّبير وابن عبّاس وسعيد بن العاص وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الرحمن ابن الحارث بن هشام فنسخوها فى المصاحف. وقال عثمان: إن اختلفتم فاكتبوا بلغة قريش؛ فإنّما نزل بلسانها. قال زيد: فجعلنا نكتب؛ فإذا اختلفنا فى شىء جمعنا أمرنا على رأى واحد، فاختلفنا فى التّابوت، فقلت: التّابوه. وقال النّفر القرشيّون التّابوت. فأبيت أن أرجع إليهم، وأبوا أن يرجعوا إلىّ فرفعنا ذلك إلى عثمان، فقال: اكتبوا التّابوت. قال زيد: وذكرت آية كنت سمعتها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم أجدها عند أحد حتّى وجدتها عند خزيمة بن ثابت الأنصارىّ وهى: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم. فإن تولّوا فقل حسبى الله لا إله إلّا هو عليه توكّلت وهو ربّ العرش العظيم) [1] . قال: وكتبت أربع نسخ، فبعث نسخة إلى الكوفة، وأخرى إلى البصرة، وأخرى إلى الشّام، وأمسك واحدة لنفسه، وأعاد الصّحف إلى حفصة، وأمر أن يحرق ما سوى ذلك.   [1] سورة التوبة 128، 129. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 440 وقيل: إنّ النّسخ كانت سبعة، وأنّه وجّه نسخة إلى مكّة، وأخرى إلى اليمن، وأخرى إلى البحرين، والأوّل أصحّ. قال: فعرف النّاس فضل عثمان إلّا أهل الكوفة، فإنّ المصحف لمّا قدم عليهم فرح به الصحابة، وامتنع عبد الله بن مسعود ومن وافقهم. فقام ابن مسعود. فيهم فقال: ولا كلّ ذلك، فإنكم قد سبقتم سبقا بيّنا، فاربعوا على ظلعكم. ولمّا قدم علىّ رضى الله عنه إلى أهل الكوفة، قام إليه رجل، وعاب عثمان بجمعه الناس على الصّحف، فنهاه، وقال: لو وليت منه ما ولى عثمان سلكت سبيله رضى الله عنهما. وفيها زاد عثمان رضى الله عنه النّداء الثّالث يوم الجمعة على الزّوراء، الله سبحانه وتعالى أعلم. ذكر سقوط خاتم النبى صلى الله عليه وسلم وفيها سقط خاتم النّبىّ صلّى الله عليه وسلّم من يد عثمان فى بئر أريس وهى على ميلين من المدينة، وكانت قليلة الماء، فما أدرك قعرها بعد، ولمّا سقط من يده، نزحوا ما فيها من الماء فما قدروا عليه، فلمّا أيس منه، صنع خاتما آخر على مثاله ونقشه، فكان فى إصبعه حتى قتل. وقيل: إنّه نقش عليه: «آمنت بالّذى خلق فسوّى» . وقيل: كان عليه «لتنصرنّ أو لتندمنّ» ، والله تعالى أعلم. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 441 ذكر خبر أبى ذر الغفارى فى اخراجه الى الربذة وما تكلم الناس به فى ذلك ووفاة أبى ذر رضى الله عنه وفى [1] سنة ثلاثين أخرج عثمان رضى الله عنه أباذرّ الغفارىّ، واسمه جندب بن جنادة. وقد ذكر فى سبب ذلك أمور كثيرة، منها ما أورده أبو أحمد يحيى بن جابر البلاذرىّ، فى كتاب «جمل أنساب الأشراف» وغيره. قال البلاذرىّ: لمّا أعطى عثمان رضى الله عنه مروان بن الحكم ما أعطاه، وأعطى الحارث بن الحكم بن أبى العاص- وهو أخو مروان- ثلاثمائة ألف درهم، وأعطى زيد بن ثابت الأنصارى مائة ألف درهم، جعل أبو ذرّ يقول: بشّر الكافرين بعذاب أليم: ويتلو قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ.. [2] الآية. فرفع مروان ذلك إلى عثمان، فأرسل إلى أبى ذرّ، أن انته عمّا يبلغنى عنك، فقال: أينهانى عثمان عن قراءة كتاب الله، وعيب من ترك أمر الله! فو الله لأن أرضى الله بسخط عثمان أحبّ إلىّ من أن أسخط الله برضاه، فأغضب ذلك عثمان، وصبر وكفّ عنه، ثم قال عثمان يوما: أيجوز للإمام أن يأخذ من المال، فإذا أيسر قضى؟ فقال   [1] تاريخ ابن الأثير 3: 56 وما بعدها. [2] سورة التوبة 34. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 442 كعب الأحبار: لا بأس بذلك. فقال أبو ذرّ: يابن اليهوديّين أتعلّمنا ديننا! فقال عثمان: ما أكثر ذاك لى وأولعك بأصحابى! الحق بمكتبك، وكان مكتبه بالشّام، إلا أنّه كان يقدم حاجّا، ويسأل عثمان الإذن له فى مجاورة قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأذن له فى ذلك. وقيل: إنّه إنّما صار إلى الشام لأنّه [رأى البناء قد بلغ سلعا، فقال لعثمان: إنى سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «إذا بلغ البناء [سلعا] [1] فالهرب» ، فأذن لى آتى الشّام فأغزو هناك. فأذن له، فكان أبو ذرّ ينكر على معاوية أشياء يفعلها، فبعث إليه معاوية ثلاثمائة دينار، فقال: إن كانت صلة فلا حاجة لى فيها. وبنى معاوية الخضراء بدمشق، فقال: يا معاوية، إن كانت هذه من مال الله فهى الخيانة، وإن كانت من مالك فهى الإسراف، فسكت معاوية. وكان أبو ذرّ يقول: والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها، والله ما هى فى كتاب الله، ولا سنّة نبيّه، والله إنّى لأرى حقا يطفأ، وباطلا يحيا، وصادقا مكذّبا، وأثرة بغير تقى. فقال حبيب بن مسلمة لمعاوية: إن أبا ذرّ مفسد عليك الشّام، فتدارك أهله إن كانت لك بهم حاجة. فكتب معاوية إلى عثمان، فكتب إليه عثمان: أمّا بعد، فاحمل جندبا إلىّ على أغلظ مركب وأوعره.   [1] من ص. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 443 فوجّه معاوية مع أبى ذرّ من سار معه الليل والنهار، فلمّا قدم المدينة جعل يقول: [تستعمل] [1] الصّبيان، وتحمى الحمى، وتقرّب أولاد الطّلقاء! فبعث إليه عثمان: الحق بأىّ أرض شئت. فقال: بمكّة؟ فقال: لا، قال: فبيت المقدس؟ قال: لا، فبأحد المصرين؟ قال: لا، قال: ولكنى مسيّرك إلى الرّبذة، فسيّره إليها، فلم يزل بها حتّى مات. وذكر البلاذرى فيما حكاه كلاما كثيرا، وقع بين عثمان بن عفّان وعلىّ بن أبى طالب رضى الله عنهما بسبب ذلك أغضينا عن ذكره وحكى أنّ أبا ذرّ بلغه أنّ معاوية يقول: إنّ المال مال الله، ألا إنّ كلّ شىء فلله، وأنّه يريد أن يحتجبه دون الناس، ويمحو اسم المسلمين: فأتاه أبو ذرّ فقال: ما يدعوك إلى أن تسمّى مال المسلمين. مال الله! فقال: يرحمك الله يا أبا ذرّ! ألسنا عباد الله، والمال ماله، قال: فلا تقله، قال: سأقول مال المسلمين. وكان أبو ذرّ يذهب إلى أنّ المسلم لا ينبغى أن يكون فى ملكه أكثر من قوت يومه وليلته إلّا شىء ينفقه فى سبيل الله أو يعدّه لغريم، ويأخذ بظاهر القرآن: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... [2] الآية، وكان يقوم بالشام ويقول: يا معشر   [1] من ص. [2] سورة التوبة 34. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 444 الأغنياء، واسوا الفقراء، بشّروا الّذين يكنزون الذّهب والفضّة ولا ينفقونها فى سبيل الله بمكاو من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم. فما زال حتى ولع الفقراء بمثل ذلك، وأوجبوه على الأغنياء. وشكا الأغنياء ما يلقون منهم إلى معاوية، فأرسل معاوية إليه بألف دينار فى جنح اللّيل، فأنفقها، فلمّا صلّى معاوية الصّبح دعا معاوية رسوله الذى أرسله إليه، فقال: اذهب إلى أبى ذرّ، فقل له: أنقذ جسدى من عذاب معاوية، فإنه أرسلنى إلى غيرك، وأنّى أخطأت بك، ففعل ذلك. فقال له أبو ذرّ. يا بنىّ، قل له: والله ما أصبح عندنا من دنانيرك دينار، ولكن أخّرنا ثلاثة أيّام حتّى نجمعها. فلمّا رأى معاوية أنّ فعله صدّق قوله كتب إلى عثمان: إنّ أباذرّ قد ضيّق علىّ، وقد كان كذا وكذا، الّذى يقوله الفقراء. فكتب إليه عثمان: إنّ الفتنة قد أخرجت خطمها وعينيها، ولم يبق إلّا أن تشب، فلا تنكإ القرح، وجهّز أبا ذرّ، وابعث معه دليلا، وكفكف النّاس ونفسك ما استطعت. فبعث له بأبى ذرّ، فلمّا قدم المدينة ورأى المجالس فى أصل جبل سلع قال، بشّر أهل المدينة بغارة شعواء، وحرب مذكار [1] ودخل على عثمان فقال له: ما بال أهل الشّام يشكون ذرب [2]   [1] مذكار: قوية. [2] ذرب اللسان: حدته. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 445 لسانك؟ فأخبره. فقال: يا أبا ذرّ، علىّ أن أقضى ما علىّ، وأن أدعو الرّعيّة إلى الاجتهاد والاقتصاد، وما علىّ أن أجبرهم على الزّهد. فقال أبو ذرّ: لا ترضوا من الأغنياء حتّى يبذلوا المعروف، ويحسنوا إلى الجيران والإخوان، ويصلوا القرابات [1] ، فقال: كعب الأحبار- وكان حاضرا: من أدّى الفريضة فقد قضى ما عليه، فضربه أبو ذرّ فشجّه، وقال: يابن اليهوديّة، ما أنت وما ها هنا! فاستوهب عثمان كعبا شجّته، فوهبه، فقال أبو ذرّ لعثمان: تأذن لى فى الخروج من المدينة؛ فإنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمرنى بالخروج منها إذا بلغ البناء سلعا؟ فأذن له، فبلغ الرّبذة [2] ، وبنى بها مسجدا، وأقطعه عثمان صرمة [3] من الإبل، وأعطاه مملوكين، وأجرى عليه فى كلّ يوم عطاء، وكذلك أجرى على رافع بن حديج، وكان قد خرج أيضا من المدينة لشىء سمعه. قال: وكان أبو ذرّ يتعاهد المدينة مخافة أن يعود أعرابيّا، وأخرج معاوية إليه أهله، فخرجوا ومعهم جراب يثقل يد الرّجل، فقال: انظروا إلى هذا الّذى يزهّد فى الدّنيا ما عنده؟ فقالت امرأته: والله ما هو دينار ولا درهم ولكنّها فلوس كان إذا خرج عطاؤه ابتاع منه فلوسا [4] لحوائجنا. وروى البخارىّ رحمه الله فى صحيحه بسنده إلى زيد بن وهب، قال: مررت بالرّبذة، فإذا أنا بأبى ذرّ- رضى الله عنه، فقلت له:   [1] ك: «القرابة» . [2] ك: «فنزل الربذة» . [3] الصرمة: القطعة من الإبل ما بين العشرين إلى الثلاثين. [4] كذا فى الأصلين، ولعلها: «فئوسا» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 446 ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت فى الشّام، فاختلفت أنا ومعاوية فى الّذين يكنزون الذّهب والفضّة ولا ينفقونها فى سبيل الله. قال معاوية: نزلت فى أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا وفيهم، فكان بينى وبينه فى ذاك [كلام] [1] ، وكتب إلى عثمان رضى الله عنه يشكونى، فكتب إلىّ عثمان أن اقدم المدينة، فقدمتها، فكثر علىّ النّاس حتّى كأنّهم لم يرونى قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان رضى الله عنه فقال لى: إن شئت تنحّيت فكنت قريبا؛ فذلك الّذى أنزلنى هذا المنزل، ولو أمّروا علىّ حبشيّا لسمعت وأطعت. وأقام أبو ذرّ بالرّبذة إلى سنة اثنتين وثلاثين، فمات بها رضى الله عنه، ولمّا حضرته الوفاة قال لابنته: استشرفى يا بنيّة، هل ترين أحدا؟ قالت: لا، قال: فما جاءت ساعتى بعد، ثم أمرها فذبحت شاة ثم طبختها، ثم قال: إذا جاءك الّذين يدفنوننى- فإنّه سيشهدنى قوم صالحون- فقولى لهم: يقسم عليكم أبو ذرّ ألّا تركبوا حتى تأكلوا؛ فلمّا نضجت قدرها قال لها: انظرى، هل ترين أحدا؟ قالت: نعم، هؤلاء ركب. قال: استقبلى الكعبة، ففعلت. فقال: بسم الله، وبالله، وعلى ملّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومات. فخرجت ابنته، فتلقّتهم [2] وقالت: رحمكم الله،   [1] من ص. [2] ص: «فلقيتهم» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 447 اشهدوا أبا ذرّ قالوا: وأين هو؟ فأشارت إليه، قالوا: نعم، ونعمة عين، لقد أكرمنا الله بذلك. وكان فيهم ابن سعود- رضى الله عنه- فبكى، وقال: صدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال «يموت وحده، ويبعث وحده» . فغسّلوه وكفّنوه، وصلّوا عليه ودفنوه، فقالت لهم ابنته: إنّ أبا ذرّ يقرأ عليكم السّلام، وأقسم ألّا تركبوا حتّى تأكلوا، ففعلوا، وحملوا أهله معهم حتّى أقدموهم مكّة، ونعوه إلى عثمان، فضمّ ابنته إلى عياله. وقيل: كانت وفاته فى سنة إحدى وثلاثين. وقيل: إنّ ابن مسعود لم يحمل أهل أبى ذرّ معه، إنّما تركهم حتّى قدم على عثمان بمكّة فأعلمه بموته، فجعل عثمان طريقه عليهم، فحملهم معه. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 448 سنة احدى وثلاثين فيها حجّ عثمان رضى الله عنه بالنّاس. وفيها مات أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وصخر ابن حرب، وهو ابن ثمان وثمانين سنة. سنة اثنتين وثلاثين فى هذه السّنة مات العبّاس بن عبد المطّلب، وكان قد كفّ بصره، وله من العمر ثمان وثمانون سنة. ومات عبد الله بن مسعود، وصلّى عليه عمّار بن ياسر، وقيل: عثمان. وتوفّى عبد الله بن زيد بن عبد ربّه الّذى أرى أمر الأذان. وتوفّى عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه. والله سبحانه وتعالى أعلم. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 449 ذكر وفاة عبد الرحمن بن عوف وشىء من أخباره ونسبه هو أبو محمّد عبد الرحمن بن عوف بن الحارث بن زهرة بن كلاب ابن مرّة بن كعب بن لؤىّ بن غالب القرشىّ الزّهرىّ. وكان اسمه فى الجاهليّة عبد عمرو، وقيل: عبد الكعبة، فسمّاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبد الرّحمن. وأمّه الشفاء بنت عوف بن عبد الحارث بن زهرة. ولد بعد عام الفيل بعشر سنين، وأسلم قبل أن يدخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دار الأرقم، وكان من المهاجرين الأوّلين، جمع الهجرتين جميعا؛ إلى أرض الحبشة، ثم قدم قبل الهجرة مهاجرا [1] إلى المدينة، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنّة، وأحد السّتّة الّذين جعل عمر رضى الله عنه الشّورى فيهم. وشهد عبد الرحمن بدرا، والمشاهد كلّها مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى دومة الجندل، وعمّمه بيده، وأسدلها بين كتفيه، وقال له: سر باسم الله، وأوصاه بوصايا الأمراء، ثم قال: إن فتح الله عليك فتزوّج بنت ملكهم أو شريفهم. وكان الأصبغ بن ثعلبة بن ضمضم الكلبىّ شريفهم، فتزوّج عبد الرحمن ابنته تماضر بنت الأصبغ، فهى أمّ أبى سلمة الفقيه   [1] ك «ثم قدم قبل الهجرة وهاجر إلى المدينة» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 450 ابن عبد الرحمن، وكان له من الولد سالم الأكبر، مات قبل الإسلام، وإبراهيم، وحميد، وإسماعيل، وعروة قتل بإفريقيّة، وسالم الأصغر، وأبو بكر، وعبد الله الأكبر قتل بإفريقيّة، والقاسم، وعبد الله الأصغر، هو أبو سلمة الفقيه، وعبد الرحمن بن عبد الرحمن، ومصعب، وعثمان، ومحمد، [ومعن] [1] وزيد، وأمّ القاسم ولدت فى الجاهلية، وجويرية، وهم لأمّهات أولاد شتّى ذكرهنّ الزّبير بن بكّار. ولعبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه، فضائل كثيرة، ومناقب جمّة؛ منها أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلّى خلفه فى سفر. وروى عنه صلّى الله عليه وسلّم. أنّه قال: «عبد الرحمن ابن عوف سيّد من سادات المسلمين» . وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «عبد الرحمن بن عوف أمين فى السماء، وأمين فى الأرض» . وكان رضى الله عنه رجلا طويلا، أجنأ [2] ، أبيض مشربا بحمرة، حسن الوجه، رقيق البشرة، لا يغيّر لحيته ولا رأسه. وروى عن سهلة بنت عاصم زوجته قالت: كان عبد الرحمن أبيض أعين [3] ، أهدب الأشفار [4] ، أقنى [5] ، طويل النّابين   [1] من ص. [2] رجل أجنأ: أشرف كاهله على صدره. [3] أعين: واسع العين. [4] الشفر: أصل منبت العين فى الجفن. [5] قنا الأنف: ارتفاع أعلاه واحد يداب وسطه. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 451 الأعليين، وربّما أدميا شفته، له جمّة [1] ، ضخم الكفّين، غليظ الأصابع، جرح [يوم أحد] [2] إحدى وعشرين جراحة، وجرح فى رجله، فكان يعرج منها. وقال أبو عمر بن عبد البرّ [3] : كان عبد الرّحمن تاجرا مجدودا [4] فى التّجارة وكسب مالا كثيرا، وخلّف ألف بعير، وثلاثة آلاف شاة، ومائة فرس ترعى بالبقيع، وكان يزرع بالجرف على عشرين ناضحا [5] فكان يأخذ من ذلك قوت أهله سنة، وخلّف مالا كثيرا جدا. روى عمرو بن دينار، عن صالح بن إبراهيم بن عبد الرّحمن بن عوف قال: صالحنا امرأة عبد الرحمن بن عوف التّى طلّقها فى مرضه عن ثلث الثّمن، بثلاث وثمانين ألفا. وروى غيره أنّها صولحت بذلك على ربع الثمن من ميراثه. وحكى ابن الأثير فى تاريخه الكامل: أن عبد الرّحمن بن عوف رضى الله عنه أوصى لكلّ رجل بقى من أهل بدر بأربعمائة دينار، وكان عدّتهم يومئذ مائة رجل، وقسّم ماله على ستّة عشر سهما، فكان كلّ سهم ثمانين وألف دينار. وقال أبو عمر: وروى أنّه أعتق فى يوم واحد ثلاثين عبدا. ولمّا حضرته الوفاه بكى بكاء شديدا، فسئل عن بكائه فقال: إنّ مصعب   [1] الجمة: مجتمع الشعر. [2] من ص. [3] الاستيعاب 847 وما بعدها. [4] مجدودا: محظوظا. [5] الناضح: البعير يستقى عليه. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 452 ابن عمير كان خيرا منّى، توفّى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولم يكن له ما يكفّن فيه، وإنّ حمزة بن عبد المطلب كان خيرا منّى لم نجد له كفنا، وإنّى أخشى أن أكون ممن عجّلت له طيّباته فى حياته الدنيا، أو أخاف أن أحتبس [1] عن أصحابى بكثرة مالى. وقد تقدّم أن هذا المال الّذى اكتسبه كان ببركة دعاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وكانت وفاته رضى الله عنه بالمدينة. فى هذه السّنة. وقيل: فى سنة إحدى وثلاثين، وصلّى عثمان رضى الله عنه عليه بوصيّة منه، ودفن بالبقيع. واختلف فى مبلغ سنّة، فقيل: توفّى وهو ابن خمس وسبعين، وقيل: اثنتين وسبعين، وقيل: ثمان وسبعين. والله أعلم.   [1] ك: «أحبس» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 453 سنة ثلاث وثلاثين ذكر خبر من سار من أهل الكوفة إلى الشام وما كان من أمرهم فى [1] هذه السّنة سيّر عثمان رضى الله عنه نفرا من أهل الكوفة إلى الشّام، وكان سبب ذلك أنّ سعيد بن العاص لمّا ولّاه عثمان الكوفة اختار وجوه النّاس، وأهل القادسيّة، وقرّاء أهل الكوفة، فكان هؤلاء يدخلون عليه فى منزله، وإذا خرج فكلّ النّاس يدخلون عليه، فدخلوا عليه يوما، فبينما هم يتحدّثون، قال حبيش ابن فلان: ما أجود طلحة بن عبيد الله! فقال سعيد: إنّ من له مثل [2] النشاستج لحقيق أن يكون جواد، والله لو كان لى مثله لأعاشكم الله [به] [2] عيشا رغدا. فقال عبد الرحمن بن حبيش، وهو حدث: والله لوددت أنّ هذا الملطاط لك، وهو ما كان للأكاسرة على جانب الفرات الّذى يلى الكوفة، فقالوا: فضّ الله فاك، والله لقد هممنا بك، فقال أبوه: غلام فلا تجاوزه، فقالوا: يتمنّى سوادنا، ويتمنّى لكم أضعافه. فثار به الأشتر وجندب وابن ذى الحنكة [3] ، وصعصعة، وابن الكوّاء، وكميل، وعمير بن ضابئ، فأخذوه، فثار أبوه ليمنع عنه،   [1] تاريخ ابن الأثير 3: 69، وتاريخ الطبرى 4: 317- 329، وفيها ذكر هذا الخبر فى حوادث سنة 33 [2] من ص. [3] ك: «الحبلة» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 454 فضربوهما حتى غشى عليها، وجعل سعيد يناشدهم ويأبون، حتى قضوا منهما وطرا، فسمعت بذلك بنو أسد، فجاءوا، وفيم طليحة، فأحاطوا بالقصر، وركبت القبائل فعادوا بسعيد، فخرج سعيد إلى النّاس، فقال: أيّها النّاس، قوم تنازعوا، وقد رزق الله العافية. فردّهم، فتراجعوا. وأفاق الرجلان، فقالا: قاتلنا غاشيتك، فقال: لا يغشّونى أبدا، فكفّا ألسنتكما ولا تجرّئا النّاس، ففعلا، وقعد أولئك النّفر فى بيوتهم، وأقبلوا يقعون فى عثمان رضى الله عنه. وقيل: بل كان السّبب فى ذلك أنّه كان يسمر عند سعيد وجوه أهل الكوفة، منهم: مالك بن كعب الأرحىّ، والأسود بن يزيد وعلقمة ابن قيس النّخعيّان، ومالك بن الأشتر، غيرهم. فقال سعيد: إنّما هذا السّواد بستان قريش، فقال الأشتر: تزعم أنّ السّواد الذى أفاءه الله علينا بأسيافنا بستان لك ولقومك! وتكلّم القوم معه، فقال عبد الرحمن الأسدىّ، وكان على شرطة سعيد: أتردّون على الأمير مقالته! وأغلظ لهم، فقال الأشتر: من هاهنا لا يفوتنّكم الرّجل، فوثبوا عليه فوطئوه وطئا شديدا حتّى غشى عليه، ثم جرّوا برجله فنضح بماء فأفاق، وقال: قتلنى من انتخبت، فقال: والله لا يسمر عندى أحد أبدا، فجعلوا يجلسون فى مجالسهم يشتمون عثمان وسعيدا، واجتمع إليهم النّاس حتّى كثروا. فكتب سعيد وأشراف أهل الكوفة إلى عثمان فى إخراجهم، فكتب إليهم أن يلحقوهم بمعاوية، وكتب إلى معاوية: إنّ نفرا قد خلقوا الجزء: 19 ¦ الصفحة: 455 للفتنة، فقم عليهم وانههم، فإن آنست منهم رشدا فأقبل [منهم] [1] وإن أعيوك فارددهم [2] علىّ. فلمّا قدموا على معاوية أنزلهم كنيسة مريم، وأجرى عليهم ما كان عليهم بالعراق بأمر عثمان وكان يتغدّى ويتعشّى معهم. فقال لهم يوما: إنّكم قوم من العرب لكم أسنان وألسنة، وقد أدركتم بالإسلام شرفا، وغلبتم الأمم، وحزتم مراتبهم ومواريثهم، وقد بلغنى أنّكم نقمتم قريشا؛ ولو لم تكن قريش كنتم أذلّة، إنّ أئمتكم لكم جنّة، فلا تفترفوا عن جنّتكم، وإنّ أئمتكم يصبرون [3] لكم على الجور، ويحملون عنكم المئونة، والله لتنتهنّ أو ليبتلينّكم الله بمن يسومكم ولا يحمدكم على الصّبر، ثم تكونون شركاءهم فيما جررتم على الرّعيّة فى حياتكم وبعد وفاتكم. فقال صعصعة: أمّا ما ذكرت من قريش فإنّها لم تكن أكثر النّاس، ولا أرفقها، ولا أمنعها فى الجاهليّة فتخوّفنا، وأمّا ما ذكرت من الجنّة؛ فإنّ الجنّة إن اخترقت خلص إلينا. فقال معاوية: عرفتكم الآن، وعلمت أنّ الّذى أغراكم على هذا قلّة العقول؛ وأنت خطيبهم، ولا أرى لك عقلا، أعظّم عليك أمر الإسلام وتذكّرنى الجاهليّة! أخزى الله قوما أعظموا أمركم. افقهوا عنّى- ولا أظنّكم تفقهون- أنّ قريشا لم تعزّ فى جاهليّة ولا   [1] من ص. [2] ك: «فردوهم» . [3] ك: «يصرون» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 456 إسلام إلّا بالله تعالى، لم تكن بأكثر العرب ولا بأشدّهم؛ ولكنّهم كانوا أكرمهم أحسابا، وأمحضهم أنسابا، وأكملهم مروءة، ولم يمتنعوا فى جاهليّة- والنّاس بأكل بعضهم بعضا- إلا بالله، فبوّأهم [1] حرما آمنا، يتخطّف النّاس من حولهم، هل تعرفون عربا أو عجما أو سودا أو حمرا، إلّا وقد أصابه الدّهر فى بلده وحرمته؛ إلّا ما كان من قريش؛ فإنّهم لم يردهم أحد من النّاس بكيد إلّا جعل الله خدّه الأسفل؛ حتى أراد الله أن يستنقذ من أكرم، واتّبع دينه من هوان الدّنيا وسوء مردّ الآخرة، فارتضى لذلك خير خلقه، ثم ارتضى له أصحابا فكان خيارهم قريشا، ثم بنى هذا الملك عليهم، وجعل هذه الخلافة فيهم، فلا يصلح ذلك إلّا عليهم، فكان الله تعالى يحوطهم فى الجاهليّة، وهم على كفرهم، أفتراه لا يحوطهم وهم على دينه! أفّ لك ولأصحابك!. أمّا أنت يا صعصعة، فإنّ قريتك شرّ القرى، أنتنها نبتا، وأعمقها واديا، وأعرفها بالشّرّ وألأمها، ألأم العرب ألقابا وأصهارا، نزّاع الأمم، وأنتم جيران الخطّ، وفعلة فارس، حتّى أصابتكم دعوة النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، لم تسكن البحرين فتشركهم فى دعوة النّبىّ صلّى الله عليه وسلّم. فأنت شرّ قومك، حتى إذا أبرزك [2] الإسلام وخلطك بالناس [3] أقبلت تبتغى دين الله عوجا، وتنزع إلى الذّلّة، ولا يضرّ ذلك قريشا، ولا يضعهم ولن يمنعهم من تأدية ما عليهم، إنّ الشيطان عنكم غير غافل، قد عرّفكم بالشّرّ فأغرى بكم النّاس   [1] ك: «مأواهم» . [2] ك: «أنذرك» . [3] ك: «بالإسلام» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 457 وهو صارعكم، ولا ندركون بالشر أمرا أبدا؛ إلّا فتح الله عليكم شرّا منه وأخزى. ثمّ قام وتركهم، فتقاصرت إليهم أنفسهم. فلمّا كان بعد ذلك أتاهم فقال: إنى قد أذنت فاذهبوا [1] حيث شئتم، لا ينفع الله بكم أحدا أبدا ولا يضرّه، ولا أنتم برجال منفعة ولا مضرّة فإن أردتم النجاة فالزموا جماعتكم، ولا يبطرنّكم الإنعام، فإنّ البطر لا يعترى الخيار، فاذهبوا حيث شئتم، فسأكتب إلى أمير المؤمنين فيكم. فلمّا خرجوا دعاهم وكلّمهم نحو كلامه الأوّل، وكتب إلى عثمان أنّه قدم علىّ أقوام ليست لهم عقول ولا أديان، أضجرهم العدل، لا يريدون الله بشىء، ولا يتكلّمون بحجّة؛ إنّما همّهم الفتنة، وأموال أهل الذّمّة، والله مبتليهم ومختبرهم، ثم فاضحهم ومخزيهم، وليسوا بالّذين ينكئون أحدا إلّا مع غيرهم، فانه سعيدا ومن عنده عنهم؛ فإنّهم ليسوا لأكبر من شغب أو نكير. قال: ولمّا خرجوا من دمشق قالوا: لا نرجع إلى الكوفة، فإنّهم يشمتون بنا، ولكن ميلوا إلى الجزيرة، فسمع بهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد وكان على حمص، فدعاهم وقال: يا آلة الشّيطان، لا مرحبا بكم ولا أهلا! قد رجع الشيطان محسورا، وأنتم بعد نشاط، خسّر الله عبد الرحمن إن لم يؤدّبكم [2] ، يا معشر من لا أدرى، أعرب أم عجم! لا تقولوا لى ما يبلغنى أنّكم قلتم لمعاوية: أنا ابن خالد بن   [1] ك: «تذهب» ، تحريف. [2] ك: «إن لم يؤذكم» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 458 الوليد، أنا أبن من عجمته العاجمات، أنا ابن فاقئ الرّدّه. والله لمّن بلغنى يا صعصعة أنّ أحدا ممّن معى دقّ أنفك، ثمّ أمضّك، لأطيرنّ بك طيرة بعيدة المهوى. وأقامهم شهرا، كلّما ركب أمشاهم. فلمّا مرّ به صعصغة قال: يابن الخطيئة، أعلمت أنّ من لم يصلحه الخير أصلحه الشّرّ، مالك لا تقول كما بلغنى أنّك قلت لسعيد ومعاوية! فيقولون: نتوب إلى الله، أقلنا أقالك الله، فما زالوا به حتّى قال: تاب الله عليكم. وسرّح الأشتر إلى عثمان، فقدم إليه ثانيا، فقال له عثمان؛ احلل حيث شئت، قال: مع عبد الرحمن بن خالد؟ فقال، ذاك إليك، فرجع إليه. وقد حكى بعض المؤرّخين من أخبارهم نحوما ما تقدم، وزاد فيه: إنّ معاوية لمّا عاد إليهم من القابلة وذكّرهم، كان ممّا قال لهم: والله إنّى لا آمركم بشىء إلا قد بدأت فيه بنفسى، وأهل بيتى، وقد عرفت قريش أنّ أبا سفيان كان أكرمها، وابن أكرمها؛ إلّا ما جعل الله لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم، فإنّه انتخبه وأكرمه، وإنى لأظنّ أنّ أبا سفيان لو ولد النّاس لم يلد إلّا حازما. قال صعصعة: كذبت، لقد ولدهم خير من أبى سفيان، من خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا له، وكان فيهم البرّ والفاجر، والأحمق والكيّس. فخرج تلك الليلة من عندهم، ثم أتاهم من القابلة فتحدث الجزء: 19 ¦ الصفحة: 459 عندهم طويلا ثمّ قال: أيّها القوم، ردّوا خيرا أو اسكتوا، وتفكّروا وانظروا فيما ينفعكم وينفع أهاليكم المسلمين فاطلبوه فقال صعصعة: لست بأهل ذلك ولا كرامة، لك أن تطاع فى معصية الله عزّ وجلّ!. فقال: أليس أوّل ما ابتدأتكم به أن أمرتكم بتقوى الله وطاعته وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرّقوا. قالوا: بل أمرت بالفرقة وخلاف ما جاء به النّبىّ صلّى الله عليه وسلّم قال: فإنّى آمركم الآن، إن كنت فعلت فإنّى أتوب إلى الله وآمركم بتقواه وطاعته، وطاعة نبيّه، ولزوم الجماعة، وأن توقّروا أئمّتكم، وتدلّوهم على أحسن ما قدرتم عليه. فقال صعصعة: فإنّا نأمرك أن تعتزل عملك؛ فإنّ فى المسلمين من هو أحقّ به منك؛ من كان أبوه أحسن قدما من أبيك فى الإسلام وهو أحسن قدما فى الإسلام من أبيك. فقال: والله إنّ لى فى الإسلام قدما، ولغيرى كان أحسن قدما منّى، ولكن ليس فى زمانى أحد أقوى على ما أنا فيه منّى، ولقد رأى ذلك عمر بن الخطّاب، فلو كان غيرى أقوى منّى لم تكن عند عمر هوادة لى ولا لغيرى، ولم أحدث من الحدث ما ينبغى أن أعتزل عملى، ولو رأى ذلك أمير المؤمنين لكتب إلىّ فاعتزلت عمله، فمهلا فإنّ فى ذلك وأشباهه ما يتمنّى الشيطان ويأمر. ولعمرى، لو كانت الأمور تقضى على رأيكم وأمانيّكم، ما استقامت الجزء: 19 ¦ الصفحة: 460 لأهل الإسلام يوما وليلة، فعاودوا الخير وقولوه، وإنّ لله لسطوات، وإنّى لخائف عليكم أن تتابعوا فى متابعة الشّيطان، ومعصية الرّحمن فيحلّكم بذلك دار الهوان فى العاجل والآجل. فوثبوا عليه، وأخذوا رأسه ولحيته. فقال: مه! إنّ هذه ليست بأرض الكوفة، والله لو رأى أهل الشّام ما صنعتم فىّ ما ملكت أن أنهاهم عنكم حتى يقتلوكم، فلعمرى إنّ صنيعكم ليشبه بعضه بعضا، ثم قام من عندهم. فكتب إلى عثمان نحو ما تقدّم، فكتب إليه يأمره أن يردّهم إلى سعيد بن العاص إلى الكوفة، فردّهم، فأطلقوا ألسنتهم، فضجّ سعيد منهم إلى عثمان، فكتب إليه أن يسيّرهم إلى عبد الرحمن بن خالد بحمص، فسيّرهم إليه، فأنزلهم وأجرى عليهم رزقا. وكانوا [1] : الأشتر، وثابت بن قيس الهمدانى، وكميل بن زياد، وزيد وصعصعة ابنا صوحان، وجندب بن زهير الغامدىّ، وجندب بن كعب الأزدىّ، وعروة بن الجعد، وعمرو بن الحمق الخزاعىّ، وابن الكّواء. وفيها مات المقداد بن عمرو، المعروف بابن الأسود، وتوفّى الطّفيل والحصين ابنا الحارث بن عبد المطّلب بن هاشم. وحجّ عثمان بالنّاس.   [1] ك: «وهم كانوا» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 461 سنة أربع وثلاثين ذكر خبر يوم الجرعة وعزل سعيد وخروجه عن الكوفة واستعمال أبى موسى الأشعرى ّ وفى [1] هذه السنة توجّه سعيد بن العاص أمير الكوفة إلى عثمان، وقد استعمل على أعماله قبل مسيره بسنة وبعض أخرى على أذربيجان الأشعث بن قيس، وعلى الرّىّ سعيد بن قيس، وعلى همذان النّسير العجلىّ، وعلى أصبهان السائب بن الأقرع، وعلى ماه مالك بن حبيب، وعلى الموصل حكيم بن سلام الحرّانى، وعلى قرقيسيا جرير ابن عبد الله، وعلى الباب سليمان بن ربيعة، وعلى حلوان عتيبة ابن النّهّاس. وجعل القعقاع بن عمرو على الحرب، وخلت الكوفة من الرّؤساء. فخرج يزيد بن قيس وهو يريد خلع عثمان، ومعه الّذين كان ابن السّوداء يكاتبهم، فأخذه القعقاع بن عمرو فقال: إنّما نستعفى من سعيد. فتركه، وكاتب يزيد النّفر الّذين كانوا سيّروا من الكوفة إلى الشّام فى القدوم عليه، فسار الأشتر والّذين كانوا عند عبد الرّحمن بن خالد، فسبقهم الأشتر. فلم يفجأ النّاس بالكوفة يوم جمعة إلا والأشتر على باب المسجد يقول: جئتكم من عند أمير المؤمنين عثمان، وتركت سعيدا يريده   [1] ابن الأثير 3: 73. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 462 على نقصان نسائكم على مائة درهم، وردّ أولى البلاء منكم إلى ألفين، ويزعم أنّ فيكم بستان قريش، فاستخلف النّاس، وجعل أهل الرأى ينهونهم فلا يسمعون منهم. فخرج يزيد، وأمر مناديا ينادى: من شاء أن يلحق بيزيد لردّ سعيد فليفعل، فبقى أشراف النّاس وحلماؤهم فى المسجد، وعمرو ابن حريث يومئذ خليفة سعيد، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وأمر النّاس بالاجتماع والطاعة. فقال له القعقاع بن عمرو: أتردّ السّيل عن أدراجه؟ هيهات! لا والله لا يسكّن الغوغاء إلّا المشرفيّة [1] ويوشك أن تنتضى، ثم يعجّون [2] عجيج العدّان [3] ، ويتمنّون ما هم فيه اليوم، فلا يردّه الله عليهم أبدا، فاصبر. قال: أصبر، وتحوّل إلى منزله. وخرج يزيد بن قيس فنزل الجرعة، وهى قريب من القادسيّة، ومعه الأشتر، ووصل إليهم سعيد بن العاص، فقالوا: لا حاجة لنا بك، فقال: إنّما كان يكفيكم أن تبعثوا إلى أمير المؤمنين رجلا وإلىّ رجلا، وهل يخرج الألف لهم عقول إلى رجل. ثم انصرف عنهم، ومضى حتّى قدم على عثمان فأخبره الخبر، وأنّ القوم يريدون البدل، وأنهم يختارون أبا موسى. فولّاه عثمان، وكتب إليهم: أمّا بعد، فقد أمّرت عليكم من اخترتم، وأعفيتكم من سعيد،   [1] المشرفية: سيوف تنسب إلى مشارف، قرى من أرض العرب تدنو إلى الريف. [2] يعجون: يصيحون. [3] ابن الأثير: «العيدان» ، الطبرى؛ العتدان. والعتود: الجدى الذى استكرش. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 463 وو الله لأقرضنّكم عرضى، ولأبذلنّكم صبرى، ولأصلحنّكم جهدى، فلا تدعوا شيئا أحببتموه لا يعصى الله فيه [إلّا سألتموه، ولا شيئا كرهتموه لا يعصى الله فيه] [1] إلّا ما استعفيتم منه. أنزل فيه عند ما أحببتم؛ حتى لا تكون لكم على الله حجّة، ولنصبرنّ كما ما أمرنا؛ حتّى تبلغوا ما تريدون. ورجع الأمراء من قرب الكوفة، فرجع جرير من قرقيسياء، وعتيبة [بن النهاس] [1] من حلوان، وخطبهم أبو موسى، وأمرهم بلزوم الجماعة وطاعة عثمان. فأجابوه إلى ذلك، وقالوا: صلّ بنا. فقال: لا، إلّا على السّمع والطاعة لعثمان، قالوا: نعم، فصلّى بهم. وأتاه ولاته فولّاهم. والله سبحانه وتعالى أعلم، وهو حسبى.   [1] من ص. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 464 ذكر ابتداء الخلاف على عثمان ومن ابتدأ بالجرأة عليه كان [1] أوّل من ابتدأ بالجرأة عليه عبد الرحمن بن عوف؛ وذلك أنّ إبلا من إبل الصدقة جىء بها إلى عثمان، فوهبها لبعض بنى الحكم، فبلغ ذلك عبد الرحمن، فأخذها، وقسّمها بين النّاس وعثمان فى الدار. وكان أول من اجترأ عليه فى المنطق جبلة بن عمرو السّاعدىّ، مرّ به عثمان وهو فى نادى قومه وبيده جامعة [2] ، فسلّم عثمان، فردّ القوم، فقال جبلة: لم تردّون على رجل فعل كذا وكذا! ثم قال لعثمان: والله لأطرحنّ هذه الجامعة فى عنقك، أو لتتركنّ بطانتك هذه الخبيثة؛ مروان وابن عامر [وابن سعد] [3] ، ومنهم من نزل القرآن بذمّه، وأباح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دمه. وحكى أبو جعفر الطّبرىّ: أنّه مرّ به وهو بفناء داره ومعه جامعة، فقال يا نعشل [4] والله لأقتلنّك ولأحملنّك على قلوص جرباء، ولأحملنّك إلى حرّة النّار [5] . قال: ثم جاءه مرّة أخرى، وعثمان على المنبر، فأنزله عنه   [1] ابن الأثير 3: 75 وما بعدها. وتاريخ الطبرى 4: 365 وما بعدها. [2] الجامعة: الغل يوضع فى العنق. [3] من ص، وهو عبد الله بن سعد بن أبى سرح. [4] فى القاموس: نعثل رجل من أهل مصر، قيل: كان يشبه عثمان رضى الله عنه، ويقال له إذا نيل منه» . [5] الطبرى 4: 365. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 465 قال أبو جعفر: وعن أبى حبيبة، قال [1] : خطب عثمان النّاس فى بعض أيّامه، فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين، إنّك قد ركبت نهابير [2] ، وركبنا معك، فتب نتب. فاستقبل عثمان القبلة، وشهر يديه، قال أبو حبيبة: فلم أر يوما أكثر باكيا ولا باكية من يومئذ. قال: ثمّ خطب الناس بعد ذلك، فقام إليه جهجاه الغفارىّ فصاح: يا عثمان، ألا إنّ هذه شارف [3] ، قد جئنا بها، عليها عباءة وجامعة، فانزل فلندرّعك العباءة، ولنطرحك فى الجامعة، ولنحملنّك على الشّارف، ثم نطرحك فى جبل الدّخان. فقال عثمان: قبّحك الله، وقبّح ما جئت به! قال أبو حبيبة: ولم يكن ذلك منه إلا عن ملإ من النّاس، وقام إلى عثمان شيعته من بنى أميّة، فحملوه فأدخلوه الدّار [4] . وروى عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن أبيه، قال: أنا أنظر إلى عثمان يخطب على عصا النبىّ صلّى الله عليه وسلّم التى كان يخطب عليها أبو بكر، فقال له جهجاه: قم يا نعثل، فانزل عن هذا المنبر، وأخذ العصا فكسرها على ركبته اليمنى، فدخلت شظيّة منها فيها، فبقى الجرح حتّى أصابته الأكلة، فرأيتها تدوّد. ونزل عثمان وحملوه، وأمر بالعصا فشدّوها، فكانت مضبّبة، فما خرج   [1] الطبرى 4: 366. [2] النهابير: المهالك. [3] الشارف من النوق: المسنة الهرمة. [4] الطبرى 4: 366. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 466 بعد ذلك اليوم إلّا خرجة أو خرجتين حتى حصر، فقتل [1] . هذا ما كان من أمر أهل المدينة. وأمّا ما كان من أهل الأمصار، فكان سبب خلافهم أنّ عبد الله ابن سبأ المعروف بابن السّوداء، كان يهوديّا، فأسلم أيّام عثمان، ثم تنقّل فى الحجاز، ثم بالبصرة، ثم بالكوفة، ثم بالشام، يريد إضلال النّاس، فلم يقدر منهم على ذلك، وأخرجه أهل الشّام، فأتى مصر، فأقام فيهم، وقال لهم: العجب ممن يصدّق أنّ عيسى يرجع، ويكذّب أنّ محمدا يرجع، ووضع لهم الرّجعة، فقبلوا ذلك معه، ثم قال لهم بعد ذلك: إنّه كان لكلّ نبىّ وصىّ، وعلىّ وصىّ محمّد، فمن أظلم ممّن لم يجز وصيّة رسول الله، ووثب على وصيّه! وإنّ عثمان أخذها بغير حقّ، فانهضوا فى هذا الأمر، وابدءوا بالطّعن على أمرائكم، وأظهروا الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر تستميلوا به النّاس. وبثّ دعاته، وكاتب من استفسد فى الأمصار، وكاتبوه، ودعوا فى السّرّ [2] إلى ما عليه رأيهم. ثم كان أهل الكوفة أوّل من قام فى ذلك، فاجتمع ناس منهم فتذاكروا أعمال عثمان، فاجتمع رأيهم أن يرسلوا إليه عامر بن عبد الله التّميمىّ، ثم العنبرىّ، وهو الّذى يدعى عامر ابن عبد القيس، فأتاه، فدخل عليه فقال: إنّ ناسا من المسلمين اجتمعوا ونظروا فى أعمالك، فوجدوك قد ارتكبت أمورا عظاما، فاتّق الله وتب إليه.   [1] كذا فى الطبرى وفى الأصلين: «فقيل» . [2] ك: «السير» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 467 فقال عثمان: انظروا إلى هذا، فإنّ النّاس يزعمون أنّه قارئ، ثم هو يجىء فيكلّمنى فى المحقّرات، وو الله ما يدرى أين الله؟ فقال عامر: بل والله إنّى لأدرى أنّ الله لبالمرصاد. فأرسل عثمان إلى معاوية، وعبد الله بن سعد، وسعيد بن العاص، وعمرو بن العاص، وعبد الله بن عامر، فجمعهم وشاورهم، وقال لهم: إن لكلّ أمير وزراء ونصحاء وإنكم وزرائى ونصحائى، وأهل ثقتى، وقد صنع النّاس ما قد رأيتم، وطلبوا إلىّ أن أعزل عمّالى، وأن أرجع عن جميع ما يكرهون إلى ما يحبّون، فاجتهدوا رأيكم. فقال ابن عامر: أرى يا أمير المؤمنين أن تشغلهم بالجهاد عنك حتّى يذلّوا لك، ولا تكون همّة أحدهم إلا فى نفسه وما هو فيه من دبر [1] دابّته وقمل فروته. وقال سعيد: احسم عنك الداء فاقطع عنك الّذى تخاف، فإنّ لكلّ قوم قادة، متى تهلك تفرّقوا ولا يجتمع لهم أمر، فقال عثمان: هذا هو الرأى لولا ما فيه. وقال معاوية: أشير عليك أن تأمر أمراء الأجناد فيكفيك كلّ رجل منهم ما قبله، وأكفيك أنا أهل الشام. وقال ابن سعد: إنّ الناس أهل طمع، فأعطهم من هذا المال، تعطف عليك قلوبهم. ثم قام عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين، انّك قد ركبت   [1] الدبر: داء فى الإبل. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 468 لنّاس بمثل بنى أميّة. فقلت وقالوا، وزغت وزاغوا، فاعتدل أو اعتزل، فإن أبيت فاعتزم عزما، وامض قدما. فقال له عثمان: مالك قمل فروك، أهذا الجدّ منك! فسكت عمرو حتّى تفرّقوا، فقال: والله يا أمير المؤمنين لأنت أكرم علىّ من ذلك؛ ولكنّى علمت أن بالباب من يبلّغ النّاس قول كلّ رجل منّا، فأردت أن يبلغهم قولى، فيثقوا بى، فأقود إليك خيرا، وأدفع عنك شرّا. ثم ردّ عثمان عماله إلى أعمالهم، وأمرهم بتجهيز الناس فى البعوث، وردّ سعيد بن العاص إلى الكوفة، فلقيه الناس من الجرعة فردّوه كما نقدم، وتكاتب أهل الأمصار، لمّا أفسد أمرهم ابن السوداء [1] ، وصار أهل كلّ مصر يكتب إلى أهل المصر الآخر بعيوب يضعونها لولاتهم، وينالون منهم حتى ذاع ذلك فى سائر البلاد، ووصل إلى المدينة. فيقول أهل كلّ مصر: إنا لفى عافية مما ابتلى به هؤلاء. ثمّ تكاتب نفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم وغيرهم، بعضهم إلى بعض فى سنة أربع وثلاثين أن اقدموا فإنّ الجهاد عندنا، ونال الناس من عثمان، وعظّموا عليه، وليس أحد من الصحابة ينهى ولا يذبّ، إلا نفر، منهم زيد بن ثابت، وأبو أسيد الساعدىّ، وكعب بن مالك، وحسّان بن ثابت، فاجتمع الناس، فكلّموا علىّ ابن أبى طالب رضى الله وأرضاه وكرّم وجهه.   [1] ابن السوداء: عبد الله بن سبأ. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 469 ذكر كلام على لعثمان وجوابه له قال [1] : ولمّا اجتمع الناس إلى علىّ رضى الله عنه، وكلّموه، دخل إلى عثمان فقال: إن الناس ورائى، وقد كلّمونى فيك، والله ما أدرى ما أقول لك، ولا أعرف شيئا تجهله، ولا أدلّك على أمر لا تعرفه، إنك لتعلم ما نعلم، ما سبقناك إلى شىء فنخبرك عنه، ولا خلونا بشىء فنبلّغك، وما خصصنا بأمر دونك، وقد رأيت وصحبت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وسمعت منه، ونلت صهره، وما ابن أبى قحافة بأولى بالعمل منك، ولا ابن الخطاب بأولى بشىء من الخير منك وأنت أقرب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم رحما، ولقد نلت من صهر رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما لم ينالا، ولا سبقاك [2] إلى شىء، فالله، الله فى نفسك، فإنك والله ما تبصّر عن عمى، وما تعلّم من جهالة، وإن الطريق لواضح بيّن، وإن أعلام الدّين لقائمة. اعلم يا عثمان أنّ أفضل عباد الله [عند الله] [3] إمام عادل، هدى وهدى، وأقام سنة معلومة، وأمات بدعة مكروهة [4] ، فو الله إنّ كلّا لبيّن، وإن السّنن [5] لقائمة لها أعلام، وإنّ البدع لقائمة لها أعلام، وإن شرّ الناس عند الله إمام جائر ضلّ وأضلّ [6] ، فأمات سنة معلومة   [1] الطبرى 4: 336، وما بعدها، ابن الأثير 3: 76، 77. [2] ك: «سقناك» . [3] من ص والطبرى. [4] ك: «متروكة» ، وكذلك الطبرى. [5] ك: «السنة» . [6] الطبرى: «وضل به» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 470 وأحيا بدعة متروكة، وإنّى أحذّرك الله وسطواته ونقماته، فإن عذابه شديد أليم، وأحذّرك أن تكون إمام هذه الأمة الذى [1] ، يقتل فيفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة، وتلبس أمورها وتتركهم شيعا؛ لا يبصرون الحق لعلوّ الباطل، يموجون فيها موجا، ويمرجون فيها مرجا. فقال عثمان: قد علمت والله ليقولنّ الّذى قلت، أما والله لو كنت مكانى ما عنّفتك ولا أسلمتك، ولا عبت عليك، ولا جئت منكرا، أن وصلت رحما، وسددت خلّة، وآويت ضائعا، وولّيت شبيها بمن كان عمر ولىّ. أنشدك الله يا علىّ، هل تعلم أنّ المغيرة بن شعبة ليس هناك! قال: نعم، قال: فتعلم أنّ عمر ولّاه؟ قال: نعم، قال: فلم تلومنى أن ولّيت ابن عامر فى رحمه وقرابته؟ قال علىّ: إنّ عمر كان يطأ على صماخ من ولّى إن بلغه عنه حرف جلبه، ثم بلغ به أقصى العقوبة، وأنت لا تفعل، ضعفت ورفقت على أقربائك. قال عثمان: وهم أقرباؤك أيضا. قال: أجل، إنّ رحمهم منّى لقريبة؛ ولكنّ الفضل فى غيرهم. قال عثمان: هل تعلم أنّ عمر ولّى معاوية، فقد ولّيته؟ قال علىّ: أنشدك الله! هل تعلم أنّ معاوية كان أخوف لعمر من يرفأ (غلام له) ؟ قال: نعم، قال: فإنّ معاوية يقطع الأمور دونك، ويقول للنّاس: هذا أمر عثمان، وأنت تعلم ذلك، فلا تغيّر عليه.   [1] الطبرى: «المقتول» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 471 ثمّ خرج علىّ من عنده، وخرج عثمان على أثره، فجلس على المنبر ثم قال: أمّا بعد، فانّ لكلّ شىء آفة، ولكلّ أمر عاهة، وإنّ آفة هذه الأمّة، وعاهة هذه النّعمة، طعّانون يرونكم ما تحبّون، يسترون عنكم ما تكرهون، ويقولون لكم ويقولون، أمثال النّعام، يتبعون أوّل ناعق، أحبّ مواردها إليها البعيد، لا يشربون إلّا نغصا، ولا يردون [1] إلّا عكرا، لا يقوم لهم رائد، وقد أعيتهم الأمور [2] ، ألا فقد عبتم علىّ والله بما أقررتم لابن الخطّاب بمثله؛ ولكنّه وطئكم برجله، وضربكم بيده، وقمعكم بلسانه، فدنتم له على ما أحببتم أو كرهتم، ولنت لكم، وأوطأتكم كتفى، وكففت يدى ولسانى عنكم، فاجترأتم علىّ. أما والله لأنا أعزّ نفرا، وأقرب ناصرا، وأكثر عددا، وأحرى أن قلت هلمّ أتى إلىّ، ولقد أعددت لكم أقرانكم، وأفضلت عليكم فضولا، وكشرت لكم عن نابى، وأخرجتم منّى خلقا لم أكن أحسنه، ومنطقا لم أنطق به، فكفّوا عنّى ألسنتكم وطعنكم وعيبكم على ولاتكم، فإنّى قد كففت [3] عنكم من لو كان هو الذّى يكلّمكم لرضيتم منه بدون منطقى هذا، ألا فما تفقدون من حقّكم؟ والله ما قصّرت عن بلوغ ما بلغ من كان قبلى، ولم يكونوا يختلفون عليه.   [1] ك: «ولا يرون» . [2] بعدها فى الطبرى: «وتعذرت عليهم المكاسب» . [3] ك: «كفكفت» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 472 فقام مروان بن الحكم فقال: إن شئتم حكّمنا والله بيننا وبينكم السيف، نحن والله وأنتم كما قال الشاعر: فرشنا لكم أعرأضنا فنبت بكم ... مغارسكم تبنون فى دمن الثّرى فقال له عثمان: اسكت لاسكّت، دعنى وأصحابى، ما منطقك فى هذا؟ ألم أتقدّم إليك ألّا تنطق! فسكت مروان، ونزل عثمان [1]   [1] بعدها فى ابن الأثير 3: 77 «عن المنبر، فاشتد قول الناس وعظم، وزاد تألبهم عليه» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 473 ذكر ارسال عثمان الى الأمصار ليأتوه بأخبار عماله وما يقول النّاس فيهم قال [1] : لما تكاتب أهل الأمصار بعيوب ولاتهم التى وضعوها، وشاع ذلك، وأتت الأخبار إلى المدينة، أتى أهل المدينة إلى عثمان وقالوا: يا أمير المؤمنين إنا نخبرك عن النّاس بما يأتينا، وأخبروه، فاستشارهم فأشاروا أن يبعث رجالا ممن يثق بهم إلى الأمصار، ليأتوه بأخبار العمّال، فأرسل محمد بن مسلمة إلى الكوفة، وأسامة بن زيد إلى إلى البصرة، وعمّار بن ياسر إلى مصر، وعبد الله بن عمر إلى الشّام. وفرّق رجالا سواهم، فرجعوا جميعا قبل عمّار، فقالوا: ما أنكرنا شيئا ولا أنكره أعلام النّاس ولا عوامّهم. وتأخّر عمّار حتّى ظنّوا أنّه اغتيل، فجاء كتاب عبد الله بن أبى سرح يذكر أنّ عمّارا قد استماله قوم وانقطعوا إليه، منهم عبد الله بن السّوداء، وخالد بن ملجم، وسودان بن حمران، وكنانة بن بشر. فكتب عثمان إلى أهل الأمصار: إنّى آخذ [عمّالى [2]] بموافاتى فى كلّ موسم، وقد رفع إلىّ أهل المدينة أن أقواما يضربون ويشتمون، فمن ادّعى شيئا من ذلك فليواف الموسم، ليأخذ بحقّه منّى أو من عمّالى، أو تصّدقوا فإنّ الله يجزى المتصّدقين.   [1] تاريخ الطبرى 4: 340 وما بعدها، ابن الأثير 3: 77 وما بعدها. [2] من ص. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 474 فلمّا قرئ كتابه فى الأمصار بكى الناس بكاء شديدا، ودعوا لعثمان رضى الله عنه. وقدم عمّال الأمصار إلى مكّة فى الموسم: عبد الله عامر أمير البصرة، وعبد الله بن سعد أمير مصر، ومعاوية أمير الشّام وأدخل معهم فى المشورة سعيد بن العاص، وعمرو بن العاص. فقال عثمان رضى الله عنه: ويحكم! ما هذه الشكاية وما هذه الإذاعة! إنّى والله لخائف أن تكونوا مصدوقا عليكم، وما يعصب هذا إلّا بى، فقالوا: ألم تبعث؟ ألم نرجع إليك الخبر عن القوم؟ ألم ترجع رسلك ولم يشافههم أحد بشىء، والله ما صدقوا ولا برّوا ولا نعلم لهذا الأمر أصلا، ولا يحلّ الأخذ بهذه الإذاعة. فقال: اشيروا علىّ. فقال سعيد: هذا أمر مصنوع يلقى فى السّرّ، فيتحدّث به النّاس، ودواء ذلك طلب هؤلاء، وقتل الّذين يخرج هذا من عندهم. وقال عبد الله بن سعد: خذ من النّاس الّذى عليهم إذا أعطيتهم الّذى لهم، فإنّه خير من أن تدعهم. وقال معاوية: قد ولّيتنى فوليت قوما لا يأتيك عنهم إلّا الخير، والرّجلان أعلم بناحيتيهما، والرأى حسن الأدب. وقال عمرو: أرى أنّك قد لنت لهم، وتراخيت عليهم، وزدتهم على ما كان يصنع عمر، فأرى أن تلزم طريق صاحبيك، فتشتدّ فى موضع الشدّة، وتلين فى موضع الّلين. فقال عثمان: قد سمعت كلّ ما أشرتم به علىّ، ولكل أمر باب الجزء: 19 ¦ الصفحة: 475 يؤتى منه. إنّ هذا الأمر الّذى يخاف على هذه الأمة كائن، وإنّ بابه الّذى يغلق عليه فيكفكف به، اللين والمؤاتاة إلّا فى حدود الله، فإن فتح فلا يكون لأحد علىّ حجة حقّ. وقد علم الله أنّى لم آل الناس خيرا، وأنّ رحا الفتنة لدائرة، فطوبى لعثمان إن مات ولم يحرّكها. سكّنوا النّاس، وهيّئوا لهم [1] حقوقهم؛ فإذا تعوطيت حقوق الله عزّ وجلّ فلا تدهنوا فيها. وكان هذا بمكّة. فلمّا قدم عثمان المدينة دعا عليّا وطلحة والزّبير، وعنده معاوية، فحمد معاوية الله، ثم قال: أنتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخيرته من خلقه، وولاة أمر هذه الأمّة، لا يطمع فيه أحد غيركم، اخترتم صاحبكم عن غير غلبة ولا طمع، وقد كبر وولّى عمره، ولو انتظرتم به الهرم لكان قريبا؛ مع أنّى أرجو أن يكون أكرم على الله أن يبلغه ذلك، وقد فشت مقالة خفتها عليكم، فما عتبتم فيه من شىء فهذه يدى لكم به، ولا تطمعوا النّاس فى أمركم، فو الله إن طمعوا فيه لا رأيتم منها أبدا إلّا إدبارا [2] . فقال علىّ بن أبى طالب: مالك وذاك لا أمّ لك! قال: دع أمّى فإنّها ليست بشرّ أمّهاتكم، قد أسلمت وبايعت النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، وأجبنى عمّا أقول لك. فقال عثمان: صدق ابن أخى، أنا أخبركم عنّى وعمّا وليت، إنّ صاحبىّ الّلذين كانا قبلى ظلما أنفسهما، ومن كان منهما بسبيل   [1] ك والطبرى: «وهبوا» . [2] ك: «الأدبار» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 476 احتسابا، وإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يعطى قرابته، فأنا فى رهط أهل عيلة، وقلّة معاش، فبسطت يدى فى شىء من ذلك المال لما أقوم به فيه، فإن رأيتم ذلك خطأ فردّوه، فأمرى لأمركم تبع. فقالوا: أصبت وأحسنت، قد أعطيت عبد الله بن خالد بن أسيد خمسين ألفا، وأعطيت مروان خمسة عشر ألفا. فأخذ منهما ذلك، فرضوا وخرجوا راضين. ولمّا رأى معاوية ما النّاس فيه قال لعثمان: اخرج معى إلى الشام فإنّهم على الطاعة قبل أن يهجم عليك ما لا قبل لك به، فقال: لا أبيع جوار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ وإن كان فيه قطع خيط عنقى. قال: فأبعث إليك جندا منهم يقيمون معك لنائبة إن نابت المدينة، فقال: لا أضيّق على جيران رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: والله إنك لتغتالنّ، فقال: حسبى الله ونعم الوكيل. وخرج معاوية، فمرّ بنفر من المهاجرين؛ فيهم علىّ وطلحة والزّبير وعلى معاوية ثياب سفره، فقام عليهم، فقال: إنّكم قد علمتم أنّ هذا الأمر كان النّاس يتغالبون عليه حتّى بعث الله نبيّه، فكانوا متفاضلين بالسابقة والقدمة والاجتهاد، فإن أخذوا بذلك فالأمر أمرهم، والنّاس لهم تبع، وإن طلبوا الدّنيا بالتغالب سلبوا ذلك وردّه الله إلى غيرهم، وإنّ الله على البدل لقادر، وإنى قد خلّفت الجزء: 19 ¦ الصفحة: 477 فيكم شيخا، فاستوصوا به [خيرا] [1] ، وكاتفوه تكونوا أسعد منه بذلك. وودّعهم ومضى إلى الشّام. فقال علىّ رضى الله تعالى عنه: كنت أرى فى هذا خيرا. فقال الزّبير: والله ما كان قطّ أعظم فى صدرك وصدورنا منه اليوم. والله سبحانه وتعالى أعلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.   [1] من ص. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 478 سنة خمس وثلاثين ذكر مسير من سار إلى عثمان رضى الله عنه من أهل الأمصار قال [1] : ولمّا فصل الأمراء عن المدينة، وقدموا على أمصارهم وذلك فى سنة خمس وثلاثين، وكان المنحرفون عن عثمان قد اتّعدوا يوما يخرجون فيه بالأمصار جميعا إذا سار عنها الأمراء، فلم يتهيّأ لهم ذلك. ولمّا رجع الأمراء ولم يتمّ لهم الوثوب تكاتبوا فى القدوم إلى المدينة، لينظروا فيما يريدون ويسألوا عثمان عن أشياء، لتطير فى النّاس فخرج المصريّون وفيهم الرحمن بن عديس البلوىّ فى خمسمائة. وقيل: ستّمائة، وقيل: فى ألف، وفيهم كنانة بن بشر الّليثى، وسوادان بن حمران السّكونىّ، وعليهم جميعا الغافقىّ بن حرب العكّىّ. وخرج أهل الكوفة وفيهم زيد بن صوحان العبدىّ، والأشتر النّخعىّ، وزياد بن النّضر الحارثىّ، وعبد الله بن الأصمّ العامرىّ، وهم عداد أهل مصر. وخرج أهل البصرة وفيهم حكيم بن جبلة العبدىّ، وذريج ابن عبّاد العبدىّ، وبشر بن شريح القيسى، وابن المحترش، وهم بعداد أهل مصر، وأميرهم حرقوص بن زهير السّعدىّ.   [1] الطبرى 4: 340 وما بعدها، ابن الأثير 3: 77 وما بعدها. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 479 فخرجوا جميعا فى شوّال، وأظهروا أنّهم يريدون الحجّ، فلما كانوا من المدينة على ثلاث، تقدّم ناس من أهل البصرة، فنزلوا ذا خشب، وكان هواهم فى طلحة، وتقدّم ناس من أهل الكوفة فنزلوا على الأعوص وهواهم فى الزّبير، وجاءهم ناس من أهل مصر وهواهم فى علىّ، ونزل عامّتهم بذى المروة. فاجتمع نفر من أهل مصر وأتوا عليّا، ونفر من أهل البصرة، وأتوا طلحة، ونفر من أهل الكوفة فأتوا الزّبير، واجتمعوا بهم فكلّ طردهم وأبعدهم، فعادوا إلى أصحابهم. وقيل: إنّ عثمان لما بلغه نزولهم بذى خشب، جاء إلى علىّ وكلّمه فى ردّهم، فقال علىّ: على أىّ شىء أردّهم؟ فقال عثمان: على أن أصير إلى ما أشرت إليه ورأيته لى. فركب علىّ ومحمد بن مسلمة وابو المضرّس وكلّموهم فى الرّجوع، فرجعوا، فعاد علىّ إلى عثمان برجوعهم، فسرّ بذلك. فلمّا فارقه جاء مروان بن الحكم إلى عثمان من الغد فقال له: تكلّم وأعلم النّاس أنّ أهل مصر رجعوا، وأنّ ما بلغهم عن أميرهم كان باطلا قبل أن يأتى النّاس من أمصارهم، ويأتيك ما لا تستطيع ردّه، ففعل عثمان، فلمّا خطب النّاس قال عمرو بن العاص: اتّق الله يا عثمان، فإنّك قد ركبت أمورا وركبناها معك، فتب إلى الله نتب. فناداه عثمان: وانّك هنالك! قملت والله جببتك، منذ عزلتك الجزء: 19 ¦ الصفحة: 480 عن العمل، فنودى من ناحية أخرى: تب إلى الله، فرفع رأسه وقال: اللهمّ إنى أوّل تائب. وخرج عمرو بن العاص حتّى أتى فلسطين. وفى رواية عن علقمة بن وقّاص: إنّ عمرو بن العاص قام إلى عثمان وهو يخطب، فقال: يا عثمان، إنّك قد ركبت بالنّاس النّهابير وركبوها، فتب إلى الله وليتوبوا. فالتفت إليه عثمان وقال: وإنّك لهنا يابن النابغة! ثمّ رفع يديه واستقبل القبلة وقال: أتوب إلى الله، اللهمّ أنا أوّل تائب إليك. قال ابن الأثير الجزرىّ: وقيل [1] : إنّ عليّا لمّا رجع من عند المصريّين بعد رجوعهم أتى عثمان، فقال: تكلّم كلاما يسمعه النّاس منك، ويشهدون عليك ويشهد الله على ما فى قلبك من النّزوع والإنابة [2] ؛ فإنّ البلاد قد تمخّضت عليك، فلا آمن أن يجىء ركب آخر من الكوفة والبصرة، فتقول: يا علىّ، اركب إليهم، فإن لم أفعل رأيتنى قد قطعت رحمك، واستخففت بحقّك. فخرج عثمان فخطب خطبة نزع فيها، وأعطى الناس من نفسه التّوبة، وقال أنا أول من اتّعظ، أستغفر الله مما فعلت وأتوب إليه، فمثلى نزع وتاب؛ فإذا نزلت فليأتنى أشرافكم فليروا رأيهم، فو الله لئن ردّنى الحقّ عبدا لأستنّ بسّنة العبد، ولأذلّنّ ذلّ العبد، وما عن الله مذهب إلّا إليه، فو الله لأعطينّكم [3] الرضا، ولأنحّينّ مروان وذويه، ولا أحتجب عنكم.   [1] تاريخه 3: 82. [2] ابن الأثير: «الأمانة» . [3] ك: «لأعطيتم» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 481 فرقّ النّاس وبكوا حتّى أخضلت [1] لحاهم، وبكى هو أيضا، فلمّا نزل وجد مروان وسعيد بن العاص ونفرا من بنى أميّة فى منزله، لم يكونوا شهدوا خطبته. فلمّا جلس قال مروان: يا أمير المؤمنين، أتكلّم أم أسكت؟ فقالت نائلة ابنة الفرافصة امرأة عثمان: لا، بل اصمت، فإنّهم والله قاتلوه ومؤثموه، إنه قد قال مقالة لا ينبغى له أن ينزع عنها. فقال لها مروان: ما أنت وذاك؟ فو الله لقد مات أبوك وما يحسن يتوضّأ، فقالت: مهلا يا مروان عن ذكر الآباء، تخبر عن أبى وهو غائب تكذب عليه! وإنّ أباك لا يستطيع أن يدفع عنه. أما والله لولا أنّه عمّه، وأنّه يناله غمّه لأخبرتك عنه بما لم أكذب. قال: فأعرض عنها مروان، وقال: يا أمير المؤمنين، أتكلّم أم أسكت؟ قال: تكلّم، فقال: بأبى أنت وأمّى! والله لوددت أنّ مقالتك هذه كانت وأنت ممتنع، فكنت أوّل من رضى بها، وأعان عليها؛ ولكنّك قلت ما قلت حين قد بلغ الحزام الطّبيين، وبلغ السّيل الزّبى، وحين أعطى الخطّة الذّليلة الذّليل، والله لإقامة على خطيئة يستغفر منها، أحسن من توبة يخاف عليها، وأنت إن شئت تقرّ بالتّوبة، ولم تقرّ بالخطيئة، وقد اجتمع بالباب أمثال الجبال من النّاس. فقال عثمان: فاخرج إليهم وكلّمهم، فإنّى أستحيى أنّ أكلّمهم، فخرج مروان إلى الباب والناس يركب بعضهم بعضا، فقال:   [1] أخضلت: ابتلت. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 482 ما شأنكم؟ قد اجتمعتم كأنّكم قد جئتم لنهب، شاهت الوجوه! إلا من أريد، جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا، اخرجوا عنّا، والله لئن رمتمونا ليمرّن عليكم منّا أمر لا يسرّكم، ولا تحمدوا غبّ رأيكم، ارجعوا إلى منازلكم، فإنّا والله ما نحن بمغلوبين على ما فى أيدينا. فرجع النّاس، وأتى بعضهم عليّا فأخبره الخبر، فأقبل على عبد الرحمن ابن الأسود بن عبد يغوث فقال: أحضرت خطبة عثمان؟ قال: نعم، قال: أفحضرت مقالة مروان للنّاس؟ قال: نعم، فقال علىّ. أى عباد الله، يا للمسلمين! إنّى إن قعدت فى بيتى قال لى: تركتنى وقرابتى قرابتى وحقّى، وإنّى إن تكلّمت فجاء ما يريد يلعب به مروان، فصار سيّقة له يسوقه حيث يشاء، بعد كبر السّنّ، وصحبة الرسول صلّى الله عليه وسلّم. وقام مغضبا حتّى دخل على عثمان فقال له: أما رضيت من مروان ولا رضى منك إلّا بتحرّفك عن دينك، وعن عقلك، مثل جمل الظّعينة. يقاد حيث يشاء ربّه. والله ما مروان بذى رأى فى دينه ولا نفسه، ولا وايم الله إنّى لأراه يوردك ثمّ لا يصدرك، وما أنا عائد بعد مقامى هذا لمعاتبتك، أذهبت شرفك، وغلبت على رأيك. فلمّا خرج علىّ دخلت على عثمان امرأته نائلة فقالت: قد سمعت قول علىّ لك، وليس يعاودك، وقد أطعت مروان يقودك حيث شاء قال: فما أصنع؟ قالت: تتّقى الله، وتتّبع سنّة صاحبيك؛ فإنّك متى أطعت مروان قتلك، ومروان ليس له عند النّاس قدر ولا هيبة الجزء: 19 ¦ الصفحة: 483 ولا محبّة؛ وإنّما تركك الناس لمكانه، فأرسل إلى علىّ فاستصلحته فانّ له قرابة [منك] [1] ، وهو لا يعصى. فأرسل عثمان إلى علىّ فلم يأته وقال: قد أعلمته أنّى غير عائد، فبلغ مروان مقالة نائلة فيه، فجلس بين يدى عثمان فقال: يا ابنة الفرافصة، فقال عثمان: لا تذكرنّها بحرف، فأسوئ وجهك، فهى والله أنصح لى منك، فكفّ مروان. وأتى عثمان إلى علىّ بمنزله ليلا وقال له: إنّى غير عائد، وإنّى فاعل، فقال له علىّ: بعد ما تكلّمت على منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأعطيت من نفسك، ثم دخلت بيتك، فخرج مروان إلى النّاس يشتمهم على بابك ويؤذيهم! فخرج عثمان من عنده وهو يقول: خذلتنى وجرأت النّاس علىّ، فقال له علىّ: والله إنّى لأكثر النّاس ذبّا عنك؛ ولكنّى كلّما جئت بشئ أظنّه لك رضا، جاء مروان بأخرى، فسمعت قوله، وتركت قولى. ولم يعد علىّ يعمل ما كان يعمل إلى أن منع عثمان الماء. فغضب غضبا شديدا حتّى دخلت الرّوايا على عثمان رضى الله عنه. والله أعلم.   [1] من ص. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 484 ذكر مقتل عثمان رضى الله عنه ولمّا [1] عاد المصريّون وغيرهم، ظنّ أنّ الفتنة قد ركدت، والبلية قد سكنت، فلم يفجأ أهل المدينة إلّا والتّكبير فى نواحيها، وقد عاد القوم، فجاءهم أهل المدينة وفيهم علىّ، فقال: ما ردّكم بعد ذهابكم! وقيل: إنّ الّذى سألهم محمّد بن مسلمة، فأخرجوا صحيفة فى أنبوبة رصاص وقالوا: وجدنا غلام عثمان بالبويب على بعير من إبل الصّدقة، ففتّشنا متاعه، فوجدنا فيه هذه الصّحيفة، يأمر فيها عامل مصر بجلّد عبد الرحمن بن عديس وغيره، وصلب بعضنا. قيل: وكان الّذى أخذت منه الصّحيفة أبو الأعور السّلمىّ. فدخل علىّ ومحمد بن مسلمة على عثمان وأعلموه بما قال القوم، فأقسم بالله ما كتبه ولا علم به. فقال محمد: صدق، هذا من فعل مروان، ودخل عليه المصريّون، فلم يسلّموا عليه بالخلافة، وتكلّموا، فذكر ابن عديس ما فعل عبد الله بن سعد بالمسلمين وأهل الذّمّة، وأنّه استأثر بالغنائم، فإن قيل له فى ذلك قال: هذا كتاب أمير المؤمنين، وذكر أشياء ممّا أحدثها عثمان بالمدينة. وقال: خرجنا من مصر نريد قتلك، فردّنا علىّ ومحمد بن مسلمة، وضمنا لنا النزوع عن كلّ ما تكلّمنا فيه، فرجعنا إلى بلادنا، فرأينا   [1] ابن الأثير 3: 84 وما بعدها، الطبرى 4: 365 وما بعدها. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 485 غلامك وكتابك وعليه خاتمك، تأمر بجلدنا والمثلة بنا، وطول حبسنا. فحلف أنّه ما كتب ولا أمر ولا علم فقال محمّد وعلىّ: صدق [عثمان] [1] . قال المصريّون: فمن كتبه؟ قال: لا أدرى. قالوا: فيجترأ عليك، ويبعث غلامك وجمل الصّدقة، وينقش على خاتمك، ويبعث إلى عاملك بهذه الأمور العظيمة وأنت لا تعلم! [قال: نعم] [2] . قالوا: ما أنت إلّا صادق أو كاذب، فإن كنت كاذبا فقد استحققت الخلع لما أمرت به من قتلنا بغير حقّ، وإن كنت صادقا فقد استحققت الخلع. لضعفك عن هذا الأمر، وغفلتك، وخبث بطانتك، ولا نترك هذا الأمر بيد من يقطع الأمر دونه. فقال: لا أنزع قميصا ألبسنيه الله؛ ولكنّنى أتوب وأنزع. قالوا: قد رأيناك تتوب، ثمّ تعود، ولسنا منصرفين حتّى نخلعك، أو نقتلك [3] ، أو تلحق أرواحنا بالله، وإن منعك أهلك وأصحابك قاتلناهم. فقال: أمّا أن أتبرّأ من خلافة الله فالقتل أحبّ إلىّ من ذلك، وأمّا قتالكم من منعنى فإنّى لا آمر بقتل أحد بقتالكم، فمن قاتل فبغير أمرى. وكثرت الأصوات واللّغط، فقام علىّ وأخرج القوم ومضى إلى منزله.   [1] من ص. [2] من ص. [3] ك: «نتركك» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 486 قال: لمّا رجع أهل مصر، رجع أهل الكوفة وأهل البصرة فكأنّما كانوا على ميعاد [واحد [1]] ؛ فقال لهم علىّ رضى الله عنه: كيف علمتم يا أهل الكوفة، ويا أهل البصرة بما لقى أهل مصر، وقد سرتم مراحل حتّى رجعتم! هذا والله أمر بيّت بليل! فقالوا: ضعوه كيف شئتم، لا حاجة لنا فى هذا الرجل، ليعتزلنا. قال: ثم أحاط القوم بعثمان، ولم يمنعوه من الصلاة، ولا منعوا من اجتماع النّاس به وكتب عثمان إلى أهل الأمصار يستنجدهم، ويأمرهم بالحثّ للمنع عنه، وبعرّفهم ما النّاس فيه، فخرج أهل الأمصار على الصّعب والذّلول. فبعث معاوية حبيب بن مسلمة الفهرىّ [2] ، وبعث عبد الله ابن سعد معاوية بن حديج. وخرج من الكوفة القعقاع بن عمرو. وقام بالكوفة نفر يحضّون على إعانة أهل المدينة، منهم عقبة ابن عمرو، وعبد الله بن أبى أوفى، وحنظلة الكاتب وغيرهم من اصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ومن التابعين مسروق الأسود وشريح وعبد الله بن عليم وغيرهم. وقام بالبصرة عمران بن حصين، وأنس بن مالك، وهشام ابن عامر وغيرهم من الصحابة.   [1] من ص. [2] ك: «العنزى» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 487 وقام بالشّام جماعة من الصّحابة والتّابعين، وكذلك بمصر. قال: ولمّا جاءت الجمعة التى على إثر دخولهم المدينة، خرج عثمان فصلّى بالنّاس، ثم قام على المنبر وقال: يا هؤلاء، الله الله، فو الله إنّ أهل المدينة ليعلمون أنّكم ملعونون على لسان محمّد، فامحوا الخطأ بالصواب. وقام محمد بن سلمة وقال: أنا أشهد بذلك، فأقعده حكيم ابن جبلة، وقام زيد بن ثابت، فأقعده محمد بن أبى قتيرة [1] ، وثار القوم بأجمعهم، فحصبوا النّاس حتّى أخرجوهم من المسجد، وحصبوا عثمان حتّى صرع عن المنبر مغشيّا عليه، فأدخل داره، واستقتل نفر من أهل المدينة معه، منهم سعد بن أبى وقّاص، والحسن ابن علىّ وزيد بن ثابت وأبو هريرة، فعزم عليهم عثمان بالانصراف، فانصرفوا، وجاءه علىّ وطلحة والزّبير يعودونه، وعنده جماعة من بنى أميّة، منهم مروان بن الحكم، فقالوا كلّهم لعلىّ: أهلكتنا وصنعت هذا الصّنع! والله لئن بلغت الذى تريد لنمرّن عليك الدّنيا، فقام مغضبا، وعاد هو والجماعة إلى منازلهم. قال: وصلّى عثمان بالنّاس فى المسجد بعد ما نزلوا به ثلاثين يوما، ثمّ منعوه الصّلاة، وصلّى بالنّاس أميرهم الغافقىّ، وتفرّق أهل المدينة فى حيطانهم، ولزموا بيوتهم، لا يجلس أحد ولا يخرج إلّا بسيفه؛ ليمتنع به [2] .   [1] ك: «قبيرة» . [2] ك: «لينتفع» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 488 قال: وفى أثناء ذلك استشار عثمان نصحاءه فى أمره، فأشاروا عليه بالإرسال إلى علىّ فى ردّهم، ويعطيهم ما يرضيهم؛ ليطاولهم حتّى تأتيه أمداده، فقال: إنّهم لا يقبلون التعلّل، وقد كان منّى فى المرّة الأولى ما كان. فقال مروان: أعطهم ما سألوك، وطاولهم ما طاولوك؛ فإنّهم قوم بغوا عليك ولا عهد لهم. فدعا عليّا وقال له: قد ترى ما كان من أمر النّاس، ولا آمنهم على دمى، فارددهم فإنّى أعطيهم ما يريدون من الحقّ منّى و [من] [1] غيرى. فقال علىّ: النّاس إلى عدلك أحوج منهم إلى قتلك، وقد كنت أعطيتهم عهدا فلم تف به، فلا تفردنى هذه المرّة فإنّى معطيهم عليك الحقّ. قال: أعطهم، فو الله لأفينّ لهم. فخرج علىّ إلى الناس فقال لهم: إنّما طلبتم الحقّ وقد أعطيتموه، وقد زعم أنّه منصفكم من نفسه ومن غيره، فقال النّاس: قبلنا، فاستوثق منه لنا؛ فإنّا لا نرضى بقول دون فعل، فدخل عليه علىّ فأعلمه، فقال: اضرب بينى وبينهم أجلا يكون لى فيه مهلة، فإنه لا أقدر على ردّ ما كرهوا فى يوم واحد منك. فقال له علىّ: أمّا ما كان بالمدينة فلا أجل لك فيه، وما غاب فأجله وصول أمرك.. قال: نعم، فأحلّنى فيما فى المدينة ثلاثة أيّام، فأجابه إلى ذلك. وكتب بينهم كتابا على ردّ كلّ مظلمة، وعزل كلّ عامل كرهوه،   [1] من ص. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 489 فكفّ الناس عنه، فجعل يتأهّب للقتال، ويستعدّ بالسّلاح، واتخذ جندا. فلمّا مضت الأيّام الثلاثة ولم يغيّر شيئا ثار به القوم. وخرج عمرو بن حزم إلى المصريّين فأعلمهم الخبر، وهم بذى خشب، فقدموا المدينة وطلبوا منه عزل عمّاله، وردّ مظالمهم. فقال: إن كنت أستعمل من أردتم، وأعزل من كرهتم، فلست فى شىء من الأمر، والأمر أمركم. فقالوا: والله لتفعلنّ أو لتخلعنّ أو لتقتلنّ. فأبى عليهم، فحصروه، واشتد الحصار، فأرسل إلى علىّ وطلحة والزّبير فحضروا، فأشرف عليهم وقال: يأيّها الناس، اجلسوا، فجلس المحارب والمسالم، ثم قال: يا أهل المدينة، أستودعكم الله، وأسأله أن يحسن عليكم الخلافة من بعدى، ثم قال: أنشدكم بالله! هل تعلمون أنّكم دعوتم الله عند مصاب عمر أن يختار لكم، وأن يجمعكم على خيركم! أتقولون إن الله لم يستجب لكم، وهنتم عليه، وأنتم أهل حقّه! أم تقولون: هان على الله دينه، فلم يبال من ولّى، والدّين لم يتفرّق أهله حينئذ [1] ؟ أم تقولون: لم يكن أخذ عن مشورة، إنما كان عن مكابرة فوكّل الله الأمّة إذ عصته ولم يشاوروا فى الإمامة! أم تقولون: إن الله لم يعلم عاقبة أمرى! وأنشدكم بالله! أتعلمون لى سابقة خير وقدم خير قدّم الله لى ما يوجب على كلّ من جاء بعدى أن يعرفوا لى فضلها، فمهلا لا تقتلونى فإنه لا يحلّ إلا قتل ثلاثة: رجل زنى بعد إحصانه، أو كفر   [1] ك: «يومئذ» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 490 بعد إيمانه، أو قتل نفسا بغير حق. فإنكم إن قتلتمونى وضعتم السيف على رقابكم، ثم لم يرفع الله عنكم الاختلاف أبدا. قالوا: أمّا ما ذكرت من استخارة الناس بعد عمر، ثم ولّوك فإنّ كلّ ما صنع الله الخيرة، ولكن الله جعلك بليّة ابتلى بها عباده. وأما ما ذكرت من قدمك وسلفك مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقد كنت كذلك، وقد كنت أهلا للولاية، ولكن أحدثت ما علمته، ولا نترك إقامة الحقّ عليك مخافة الفتنة عاما [1] قابلا. وأمّا قولك: إنه لا يحلّ إلا قتل ثلاثة، فإنا نجد فى كتاب الله قتل غير الثلاثة الذين سمّيت، قتل من سعى فى الأرض فسادا، أو قتل من بغى، ثم قاتل على بغيه، وقتل من حال دون شىء من الحقّ ومنعه وقاتل دونه. وقد بغيت ومنعت الحقّ وحلت دونه، وكابرت عليه، ولم تقد من نفسك من ظلمت، وقد تمسّكت بالإمارة علينا، فإن زعمت أنّك لم تكابرنا عليه فإنّ الّذين قاموا دونك ومنعوك منّا إنّما يقاتلون لتمسّك بالإمارة، فلو خلعت نفسك لانصرفوا عن القتال معك. فسكت عثمان ولزم الدار، وأمر أهل المدينة بالرجوع، وأقسم عليهم فرجعوا، إلا الحسن بن علىّ، ومحمد بن طلحة، وعبد الله بن الزّبير وأشباها لهم، واجتمع إليهم ناس كثير، وكانت مدة الحصار أربعين يوما، فلمّا مضت ثمانى عشرة ليلة، قدم ركبان من الأمصار فأخبروا خبر من تهيّأ لهم من الجنود، فحالوا بين النّاس وبينه، ومنعوه   [1] ك: «عاملا» تحريف. [2] ك: «لتقيتك» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 491 كلّ شىء حتّى الماء، فأرسل إلى علىّ سرّا، وإلى طلحة والزّبير، وإلى أزواج النّبىّ صلّى الله عليه وسلّم، يقول لهم: إنّهم قد منعونى الماء، فإن قدرتم أن ترسلوا إلينا ماء فافعلوا، فكان أوّلهم إجابة علىّ، وأمّ حبيبة، فجاء علىّ فى الناس فقال: يأيّها الناس، إنّ الّذى تفعلون لا يشبه أمر المؤمنين، ولا أمر الكافرين، فلا تقطعوا عن هذا الرّجل الماء ولا المادّة؛ فإنّ الرّوم وفارس لتأسر فتطعم، وتسقى. فقالوا: لا والله ولا نعمة عين، فرمى بعمامته فى الدّار بأنّى قد نهضت ورجعت، وجاءت أمّ حبيبة على بغلة لها إداوة [1] ، فضربوا وجه بغلتها فقالت: إنّ وصايا بنى أميّة عند هذا الرّجل، فأحببت أن أسأله عنها لئلا تهلك أموال الأيتام والأرامل، فقالوا: كاذبة، وقطعوا حبل البغلة بالسّيف، فنفرت، وكادت تسقط عنها، فتلقّاها النّاس، ثمّ ذهبوا بها إلى منزلها. فأشرف عثمان يوما، فسلّم عليهم، ثم قال: أنشدكم الله، هل تعلمون أنّى اشتريت بئر رومة من مالى ليستعذب بها، فجعلت رشائى فيها كرجل من المسلمين؟ قالوا: نعم، قال: فلم تمنعونى أن أشرب منها حتّى أفطر على ماء الملح! ثم قال: أنشدكم الله! هل تعلمون أنّى اشتريت أرض كذا فزدتها [2] فى المسجد؟ قيل: نعم. قال: فهل علمتم أنّ أحدا منع أن يصلّى فيه قبلى؟ ثم قال: أنشدكم الله! هل تعلمون أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم قال عنّى كذا وكذا أشياء فى شأنه؟   [1] الإدواة: الإناء. [2] ك: «فزودتها» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 492 ففشا النّهى فى النّاس، يقولون: مهلا عن أمير المؤمنين فقام الأشتر: فقال: لعلّه قد مكر به وبكم. قال: وبلغ طلحة والزبير ما لقى علىّ وأمّ حبيبة، فلزموا بيوتهم، وبقى عثمان يسقيه آل حزم فى الغفلات. قال: وخرجت عائشة رضى الله عنها إلى الحج، فاستتبعت أخاها محمدا، فأبى، فقالت: والله لئن استطعت أن يحرمهم الله ما يحاولون لأفعلنّ. فقال له حنظلة الكاتب: تستتبعك أمّ المؤمنين فلا تتبعها، وتتبع ذؤبان العرب إلى ما لا يحلّ! وإنّ هذا الأمر إن صار إلى التّغالب غلبتك عليه بنو عبد مناف. ثم رجع حنظلة إلى الكوفة وهو يقول وبالله المستعان، وعليه التّكلان: عجبت لما يخوض الناس فيه ... يرومون الخلافة أن تزولا ولو زالت لزال الخير عنهم ... ولاقوا بعدها ذلّا ذليلا وكانوا كاليهود أو كالنّصارى ... سواء كلّهم ضلّوا السّبيلا قال: ثم أشرف عثمان على النّاس، واستدعى عبد الله بن عبّاس، فأمره أن يحجّ بالنّاس، وكان ممن لزم الباب، فانطلق. قال: ولمّا رأى المصريّون أنّ أهل الموسم يريدون قصدهم بعد الحجّ مع ما يليهم من مسير أهل الأمصار، قالوا: لا يخرجنا من هذا الأمر الّذى وقعنا فيه إلّا قتل هذا الرّجل، فيشتغل النّاس عنّا. فتقدّموا إلى الباب، فمنعهم الحسن، وابن الزبير، ومحمد بن طلحة، ومروان الجزء: 19 ¦ الصفحة: 493 وسعيد بن العاص ومن معهم من أبناء الصّحابة، واجتلدوا فزجرهم عثمان، وقال: أنتم فى حلّ من نصرتى، فأبوا، ففتح الباب ليمنعهم، فلمّا خرج ورآه المصريّون رجعوا، فركبهم هؤلاء، وأقسم عثمان على الصّحابة ليدخلنّ، فدخلوا، فأغلق الباب دون المصريّين فثاروا إلى الباب، وجاءوا بنار، فأحرقوا السّقيفة التّى على الباب، وثار بهم أهل الدار، وعثمان يصلّى، قد افتتح طه، فما شغله ما سمع حتّى أتى عليها، فلمّا فرغ جلس إلى المصحف فقرأ: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [1] قال: ثمّ قال عثمان للحسن: إن أباك الآن لفى أمر عظيم من أمرك، فأقسمت عليك لما خرجت عليه، فتقدّموا فقاتلوا، ولم يستمعوا قوله، فبرز المغيرة بن الأخنس بن شريق الثّقفىّ حليف بنى زهرة وكان تعجّل الحج فى عصابة لينصروا عثمان وهو معه فى الدار، وارتجز. قد علمت ذات القرون الميل ... والحلى والأنامل الطّفول لتصدقن بيعتى خليلى ... بصارم ذى رونق مصقول لا أستقيل إذ أقلت قيلى وحكى أبو عمر [2] أنّ المغيرة بن الأخنس قال لعثمان حين أحرقوا بابه: والله لا قال الناس عنّا: إنّا خذلناك، وخرج بسيفه وهو يقول: لمّا نهّدمت الأبواب واحترقت ... تيمّمت منهنّ بابا غير محترق   [1] سورة آل عمران 173. [2] الاستيعاب 1444. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 494 حقا أقول لعبد الله آمره ... إن لم تقاتل لدى عثمان فانطلق والله أتركه ما دام بى رمق ... حتّى يزايل بين الرأس والعنق هو الإمام فلست اليوم خاذله ... إنّ الفرار علىّ اليوم كالسّرق وحمل على النّاس فضربه رجل على ساقة فقطعها، ثم قتله، فقيل إنّ الّذى قتله تقطّع جذاما [1] بالمدينة. وقال قتادة: لمّا أقبل أهل مصر إلى المدينة فى شأن عثمان رأى رجل منهم فى المنام كأنّ قائلا يقول له: بشّر قاتل المغيرة بن الأخنس بالنّار، وهو لا يعرف المغيرة، رأى ذلك ثلاث ليال، فجعل يحدّث أصحابه. فلمّا كان يوم الدّار. خرج المغيرة فقاتل [2] ، والرجل ينظر إليه فقتل ثلاثة، فلمّا قتلهم وثب إليه الرجل فحذفه، فأصاب رجله، ثم ضربه حتّى قتله، ثم قال: من هذا؟ فقالوا: المغيرة بن الأخنس، فقال: لا أرانى إلّا صاحب الرؤيا المبشّر بالنّار، فلم يزل بشرّ حال حتّى هلك. وخرج الحسن بن علّى وهو يقول: لا دينهم دينى ولا أنا منهم ... حتّى يسير إلى طمار شمام [3] وخرج محمد بن طلحة وهو يقول: أنا ابن من حامى عليه بأحد ... وردّ أحزابا على رغم معدّ   [1] فى الأصول: «خذاما» ، وما أثبته من الاستيعاب. [2] الاستيعاب: «يقاتل» . [3] طمار: المكان العالى من الجبل وغيره. وشمام: اسم جبل بالعالية. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 495 وخرج سعيد بن العاص وهو يقول: صبرنا غداة الدار والموت واقف ... بأسيافنا دون ابن أروى نضارب وكنّا غداة الرّوع فى الدّار نصرة ... نشافههم بالضّرب والموت ثاقب وكان آخر من خرج عبد الله بن الزّبير، وأقبل أبو هريرة والنّاس محجمون، فقال: هذا يوم طاب فيه الضّرب، ونادى: يا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ [1] . وجاء عبد الله بن سلام ينهاهم عن قتله، فقال: يا قوم، لا تسلّوا سيف الله فيكم، فو الله إن سللتموه لا تغمدوه، ويلكم! إنّ سلطانكم اليوم يقوم بالدّرّة، فإن قتلتموه لا يقوم إلا بالسّيف، ويلكم! مدينتكم محفوفة بالملائكة، فإن قتلتموه ليتركنّها. فقالوا: يابن اليهودية، ما أنت وهذا! فرجع عنهم. قال: ثمّ اقتحموا على عثمان داره، من دار عمرو بن حزم حتّى ملئوها ولم يشعر من بالباب منهم، ففى ذلك يقول الأحوص يهجو آل حزم. لا ترثينّ لحزمىّ رأيت به ... ضرّا ولو طرح الحزمىّ فى النّار [2] الباخسين لمروان بذى خشب ... والمدخلين على عثمان فى الدّار قال: ولمّا صاروا فى الدّار ندبوا رجلا ليقتله، فدخل عليه فقال: اخلعها ونتركك. قال: لست خالعا قميصا كساينة الله تعالى حتّى يكرم الله أهل السعادة، ويهين أهل الشّقاوة، فخرج   [1] سورة غافر 41. [2] ديوانه 132، وروايته: «لا تأوين» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 496 عنه، فأدخلوا عليه رجلا من بنى ليث، فقال: لست بصارحبى لأنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم دعا لك أن تحفظ يوم كذا وكذا، ولن تضيّع، فرجع عنه وفارق القوم. ودخل عليه رجل من قريش فقال له: إنّ النّبىّ صلّى الله عليه وسلم استغفر لك يوم كذا وكذا فلن تقارف دما حراما، فرجع وفارق أصحابه. ودخل عليه جماعة كلّهم يرجع، آخرهم محمد بن أبى بكر، فلمّا خرج ثار قتيرة وسودان بن حمران والغافقى، فضربه الغافقىّ بحديدة، وضرب المصحف برجله، فدار المصحف، واستقرّ بين يديه، وجاء سودان ليضربه فأكبّت عليه نائلة بنت الفرافصة، واتّقت السيف بيدها فقطع أصابعها وشيئا من الكفّ، ونصف الإبهام فولّت، فغمز أوراكها، وقال: إنها لكبيرة العجز، وضرب عثمان فقتله. وقيل: إنّ الّذى قتله كنانة بن بشر التّجيبىّ، وكان عثمان قد رأى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فى تلك الليلة وهو يقول له: إنّك تفطر اللّيلة عندنا. ولما قتل قطر من دمه على المصحف على قوله تعالى: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ. قال: ودخل غلمة لعثمان مع القوم لينصروه، فقال عثمان: من كفّ يده فهو حرّ، فلما ضربه سودان ضرب بعض الغلمان رقبة سودان فقتله، ووثب قتيرة على الغلام فقتله، وانتهبوا ما فى البيت، وخرجوا، وأغلقوا الباب على ثلاثة قتلى. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 497 فلمّا خرجوا وثب غلام لعثمان على قتيرة فقتله، وثار القوم فأخذوا ما وجدوا حتى أخذوا ما على النّساء، وأخذ كلثوم التّجيبىّ ملاءة كانت على نائلة، فضربه غلام لعثمان فقتله، وانتهب القوم بيت المال. قال: ووثب عمرو بن الحمق على صدر عثمان وبه رمق، فطعنه تسع طعنات، وأراد قطع رأسه، فوقعت نائلة وأمّ البنين عليه فصحن وضربن الوجوه، فقال ابن عديس: اتركوه، وأقبل عمير ابن ضابئ البرجمىّ فوثب على عثمان، فكسر ضلعا من أضلاعه، وقال له: سجنت أبى حتّى مات فى السّجن. وكان قتله يوم الجمعة لثمانى عشرة، أو سبع عشرة ليلة خلت من ذى الحجّة، سنة خمس وثلاثين. ذكره المدائنى عن أبى معشر عن نافع، وعن أبى عثمان النّهدىّ؛ أنّه قتل وسط أيّام التّشريق. وقال ابن اسحاق: قتل عثمان على رأس إحدى عشرة سنة، وأحد عشر شهرا، واثنين وعشرين يوما من مقتل عمر بن الخطّاب، وعلى رأس خمس وعشرين سنة من متوفّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقال الواقدىّ رحمه الله: قتل يوم الجمعة لثمان ليال خلت من ذى لحجة يوم التروية. وقد قيل: إنه قتل يوم الجمعة لليلتين بقيتا من ذى الحجة. روى هذه الأقوال كلّها أبو عمر بن عبد البرّ.   [1] من ص. [2] الاستيعاب 1048. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 498 واختلف فى مدة الحصار. فقال الواقدىّ: حاصروه تسعة وأربعين يوما. وقال الزّبير بن بكّار: حاصروه شهرين وعشرين يوما؛ وقيل غير ذلك. وقد تقدّم أنّه رضى الله عنه صلّى بالنّاس بعد أن نزلوا به ثلاثين يوما، ثم منعوه الصّلاة، وصلّى بالنّاس أميرهم الغافقىّ. وقد قيل: إنّه لمّا منع عثمان الصلاة جاء سعد القرظ وهو المؤذّن إلى علىّ بن أبى طالب، فقال: من يصلّى بالنّاس؟ فقام: خالد بن زيد، وهو أبو أيّوب الأنصارىّ، فصلّى أياما، ثم صلّى علىّ بعد ذلك بالنّاس. وقيل: بل أمر علىّ سهل بن حنيف فصلّى بالنّاس من أوّل ذى الحجّة إلى يوم العيد، ثم صلّى علىّ بالنّاس العيد، وصلّى بهم حتى قتل عثمان. والله أعلم. حكى أبو عمر بن عبد البرّ فى مقتل عثمان، قال: كان [1] أول من دخل عليه الدار محمّد بن أبى بكر، فأخذ بلحيته فقال: دعها يابن أخى، فو الله لقد كان أبوك يكرمها، فاستحيا وخرج، ثم دخل عليه رومان بن سرحان، رجل أزرق قصير مجدور، عداده فى مراد، وهو من ذى أصبح، معه خنجر، فاستقبله به، وقال: على على أىّ دين أنت يا نعثل؟ فقال: لست بنعثل ولكنى عثمان ابن عفّان، وأنا على ملّة إبراهيم حنيفا مسلما وما أنا من المشركين. قال: كذبت، وضربه على صدغه فقتله، فخرّ، فأدخلته امرأته نائلة بينها وبين ثيابها، وكانت امرأة جسيمة.   [1] الاستيعاب 1044: 1045. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 499 ودخل رجل من أهل مصر معه السّيف مصلتا فقال: والله لأقطعنّ أنفك، فعالج المرأة فكشفت عن ذراعيها، وقبضت على السّيف فقطع إبهامها، فقالت لغلام لعثمان يقال له رباح، ومعه سيف عثمان: أعنّى على هذا، وأخرجه، فضربه الغلام بالسيف فقتله. قال: وأقام عثمان يومه ذلك مطروحا إلى اللّيل، فحمله رجال على باب ليدفنوه، فعرض لهم ناس ليمنعوهم من دفنه، فوجدوا قبرا قد حفر لغيره فدفنوه فيه، وصلّى عليه جبير بن مطعم. وقال محمد بن طلحة: حدّثنى كنانة مولى صفية بنت حيىّ بن أخطب، فقال: شهدت مقتل عثمان، فخرج من الدار أمامى أربعة من شباب قريش مضرّجين بالدّم، محمولين، كانوا يذودون عن عثمان وهم الحسن بن علىّ، وعبد الله بن الزّبير، ومحمد بن حاطب، ومروان ابن الحكم. قال محمد بن طلحة: فقلت له: هل ندى محمّد بن أبى بكر بشىء من دمه؟ فقال: معاذ الله، دخل عليه فقال له عثمان: يابن أخى لست بصاحبى، وكلّمه كلاما فخرج، ولم يندّ بشىء من دمه. قال: فقلت لكنانة: من قتله؟ قال: رجل من أهل مصر، يقال له: جبلة بن الأيهم، ثم طاف بالمدينة ثلاثا يقول: أنا قاتل نعثل. وروى أبو عمر أيضا بسنده إلى مالك بن أنس، قال [1] : لمّا قتل عثمان ألقى على المزبلة ثلاثة أيّام، فلمّا كان فى اللّيل أتاه اثنا عشر رجلا، منهم حويطب بن عبد العزّى وحكيم بن حزام،   [1] الاستيعاب 1047. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 500 وعبد الله بن الزّبير، وجدىّ بن مالك بن أبى عامر، فاحتملوه، فلمّا صاروا به إلى المقبرة ليدفنوه ناداهم قوم من بنى مازن: والله لئن دفنتموه هاهنا، لنخبرنّ النّاس غدا، فاحتملوه، وكان على باب، وإنّ رأسه كان على الباب يقول: طق طق حتّى صاروا به إلى حشّ كوكب [1] فاحتفروا له، وكانت عائشة بنت عثمان معها مصباح فى حقّ [2] ، فلمّا أخرجوه ليدفنوه صاحت، فقال لها ابن الزّبير: والله لئن لم تسكتى لأضربنّ الذى فيه عيناك، فسكتت، فدفن. قال مالك: وكان عثمان يمرّ بحشّ كوكب فيقول: إنّه سيدفن هاهنا رجل صالح. [3] . وعن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: أرادوا أن يصلّوا على عثمان رضى الله عنه فمنعوه، فقال أبو جهم بن حذيفة: دعوه، فقد صلّى عليه الله ورسوله. وقد قيل: إنّ علىّ بن أبى طالب، وطلحة، والزبير، وزيد بن ثابت، وكعب بن مالك، وعامر بن نمير من أصحابه شهدوا جنازته. وقيل: إنه كفّن فى ثيابه ولم يغسل. واختلف فى سنة يوم قتل. فقال ابن اسحاق: قتل وهو ابن ثمانين سنة. وقال غيره: قتل وهو ابن ثمان وثمانين، وقيل: تسعين. وقال قتادة: قتل وهو ابن ستّ وثمانين سنة.   [1] حش كوكب: مكان خارج البقيع. [2] الاستيعاب: فى جرة. [3] الاستيعاب 1048. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 501 وقال الواقدىّ: لا خلاف عندنا أنه قتل، وهو ابن اثنتين وثمانين سنة، وهو قول أبى اليقظان. ودفن ليلا بموضع يقال له: حشّ كوكب، وكوكب رجل من الأنصار (الحشّ: البستان) ، كان عثمان قد اشتراه وزاده فى البقيع، وهو أوّل من قبر فيه. قال: وقد قيل: إنه صلّى عليه عمرو بن عثمان ابنه، وقيل: بل صلّى عليه حكيم بن حزام، وقال: بل صلّى عليه المسور بن مخرمة. وقيل: بل جبير بن مطعم. وقيل: بل مروان بن الحكم، وقيل: كانوا خمسة أو ستة وهم: جبير بن مطعم، وحكيم بن حزام، وأبو جهم ابن حذيفة، ونيار بن مكرم، وزوجتاه نائلة وأمّ البنين بنت عيينة. ونزل قبره دينار، وأبو جهم، وجبير، وكان حكيم ونائلة وأمّ البنين يدلونه، فلمّا دفنوه غيّبوا قبره. وروى أبو الفرج الاصفهانى بسند رفعه إلى نائلة بنت الفرافصه: كتبت [1] إلى معاوية، وبعثت بقميص عثمان رضى الله عنه مع النعمان بن بشير وعبد الرحمن بن حاطب بن أبى بلتعة: من نائلة بنت الفراقصة، إلى معاوية بن أبى سفيان: أمّا بعد، فإنّى أذكّركم بالله الذى أنعم عليكم، وعلّمكم الإسلام وهداكم من الضلالة، وأنقذكم من غواية الكفر [2] ، ونصركم على العدوّ، وأسبغ عليكم النعمة، فأنشدكم الله تعالى، وأذكّركم حقه   [1] الأغانى 16: 324 وما بعدها. [2] الأغانى: «من الكفر» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 502 وحق خليفته أن تنصروه بعزمة الله عليكم، فإنه قال تعالى: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما، فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ. وإن أمير المؤمنين بغى عليه، ولو لم يكن له عليكم [حقّ] [1] إلا حقّ الولاية ثمّ أتى عليه بما أتى لحقّ على كلّ مسلم يرجو أيام الله أن ينصره لقدمه فى الإسلام، وحسن بلائه؛ فإنه أجاب داعى الله، وصدّق كتابه ورسوله، والله أعلم به إذا انتجبه، فأعطاه شرف الدنيا، وشرف الآخرة. وإنّى أقصّ عليكم خبره، لأنّى مشاهدة أمره كلّه حتى أفضى إليه. إن أهل المدينة حصروه فى داره يحرسونه ليلهم ونهارهم، قياما على أبوابه بسلاحهم، يمنعونه كل شىء قدروا عليه حتى منعوه الماء يحضرونه الأذى، ويقولون له الإفك. فمكث هو ومن معه خمسين ليلة، وأهل مصر قد أسندوا أمرهم إلى محمد بن أبى بكر وعمّار بن ياسر، وكان علىّ مع المحرّضين [2] للمصريّين فى أهل المدينة، ولم يقاتل مع أمير المؤمنين ولم ينصره، ولم يأمر بالعدل الذى أمر الله تبارك وتعالى به، فظلت تقاتل خزاعة، وبكر، وسعد بن بكر، وهذيل، وطوائف من مزينة، وجهينة، [3] وأنباط يثرب، ولا أرى سائرهم، ولكنّى قد سمّيت الّذين كانوا أشدّ الناس عليه فى أول أمره وآخره، ثمّ إنه رمى بالنبل والحجارة، فقتل ممّن كان فى الدار ثلاثة نفر، فأتوه   [1] من ص والأغانى. [2] ك: «الحضريين» تصحيف، صوابه فى ص والأغانى. [3] ك: «هجين» تصحيف. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 503 يصرخون إليه ليأذن لهم فى القتال، فنهاهم عنه، وأمرهم أن يردّوا إليهم نبلهم فردّوها إليهم، فلم يزدهم ذلك على القتال إلّا جرأة فى الأمر وإغراقا، ثم أحرقوا باب الدار. فجاءه نفر من أصحابه وقالوا: إنّ فى المسجد ناسا يريدون أن يأخذوا أمر النّاس بالعدل، فاخرج إلى المسجد حتّى يأتوك، فانطلق، وقد كان نفر من قريش على عامّتهم السّلاح، فلبس درعه، وقال لأصحابه: لولا أنتم ما لبست درعا، فوثب عليه القوم، فكلّمهم الزبير، وأخذ عليهم الميثاق فى صحيفة، بعث بها إلى عثمان رضى الله عنه: إنّ عليكم عهد الله وميثاقه ألا تعرّوه بشىء، فكلّموه وتحرّجوا، فوضع السلاح فلم يكن إلّا وضعه حتى دخل عليه القوم يقدمهم ابن أبى بكر؛ حتى أخذوه بلحيته ودعوه باللّقب، فقال: أنا عبد الله وخليفته، فضربوه فى رأسه ثلاث ضربات، وطعنوه فى صدره ثلاث طعنات، وضربوه على مقدّم الجبين فوق الأنف ضربة أسرعت فى العظم، فسقطت عليه، وقد أثخنوه وبه حياة، وهم يريدون قطع رأسه ليذهبوا به، فأتتنى بنت شيبة بن ربيعة، فألقت بنفسها معى عليه، فوطئنا وطئا شديدا وعرّيبا من ثيابنا، وحرمة أمير المؤمنين أعظم، فقتلوه رحمه الله فى بيته، وعلى فراشه. وقد أرسلت إليكم بثوبه، وعليه دمه، وإنّه والله لئن كان أثم من قتله لا يسلم من خذله، فانظروا أين أنتم من الله عزّ وجلّ، فإنّا نشتكى ما مسّنا إليه، ونستنفر وليّه، وصالح عباده. ورحمة الجزء: 19 ¦ الصفحة: 504 الله على عثمان، ولعن الله من قتله، وصرعهم فى الدّنيا والآخرة مصارع الخزى والمذلّة، وشفى منهم الصّدور. فحلف رجال من أهل الشام ألّا يطئوا النساء حتّى يقتلوا قتلة عثمان، أو تذهب أرواحهم. وكان أمرهم فى القتال ما نذكره إن شاء الله تعالى. وكانت خلافته اثنتى عشرة سنة إلا اثنى عشر يوما، قاله ابن إسحاق. وقال غيره: إلّا ثمانية أيام. وقيل: إلّا ستّة عشر يوما. روى عن عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها، أنها قالت، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ادعوا لى بعض أصحابى، فقلت: أبو بكر؟، قال لا، فقلت: عمر؟ قال: لا، فقلت: ابن عمّك علىّ؟ قال: لا، فقلت: عثمان؟ قال: نعم . فلمّا جاء قال لى بيده [1] فتنحّيت، فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسارّه ولون عثمان متغيّر، فلمّا كان يوم الدّار وحصر، قيل له: ألا تقاتل؟ قال: لا، إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عهد إلىّ عهدا، وأنا صابر نفسى عليه. وعن موسى بن طلحة، قال: أتينا عائشة رضى الله عنها لنسألها عن عثمان فقالت: اجلسوا أحدّثكم عمّا جئتم له: إنّا عتبنا على عثمان رضى الله عنه فى ثلاث خلال- ولم تذكرهنّ- فعمدوا إليه حتّى إذا ماصوه كما يماص الثوب اقتحموا عليه الفقر الثّلاثة: حرمة البيت الحرام، والشهر الحرام، وحرمة الخلافة؛ ولقد قتلوه، وإنّه لمن أوصلهم للرّحم وأتقاهم لربّه.   [1] ك: «بعده» ، والأصوب ما أثبته من ص. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 505 وعن أبى جعفر الأنصارىّ قال: دخلت مع المصريّين على عثمان، فلمّا ضربوه خرجت أشتدّ، حتّى ملأت فروجى عدوا، حتّى دخلت المسجد؛ فإذا رجل جالس فى نحو عشرة، عليه عمامة سوداء، فقال: ويحك! ما وراءك؟ قال: قلت: قد والله فرغ من الرّجل، قال: تبّا لكم آخر الدّهر! فنظرت، فإذا هو علىّ رضى الله عنه. وروى عن مبارك بن فضالة قال: سمعت الحسن يقول: سمعت عثمان يخطب يقول: يأيّها الناس، ما تنقمون علىّ، وما من يوم إلا وأنتم تقسمون فيه خيرا! قال الحسن: وسمعت مناديا ينادى: يأيّها النّاس، اغدوا على أعطياتكم، فيغدون فيأخذونها وافرة، حتّى والله سمعته يقول: اغدوا على كسوتكم، فيأخذون الحلل، واغدوا على السّمن والعسل. قال الحسن: أرزاق دارّه، وخير كثير، ما على الأرض مؤمن يخاف مؤمنا إلّا يودّه وينصره، فلو صبر الأنصار على الأثرة لوسعهم ما كانوا فيه من العطاء والأرزاق، ولكنّهم لم يصبروا، وسلّوا السيف مع من سلّ، فصار عن الكفّار مغمدا، وعلى المسلمين مسلولا إلى يوم القيامة. وعن محمد بن سيرين، قال: كثر المال فى زمن عثمان حتى بيعت جارية بوزنها، وفرس بمائة ألف درهم، ونخلة بألف درهم. وقد ذكر بعض من أرّخ أسبابا كثيرة، جعلها من أقدم على قتل عثمان ذريعة له، وتمسّك بها، أغضينا عن ذكرها، وهو رضى الله عنه مبرّأ من كلّ سوء ونقص، فلنذكر خلاف ذلك. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 506 ذكر أزواج عثمان وأولاده تزوّج رضى الله عنه رقيّة، وأمّ كلثوم ابنتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فولدت له رقيّة عبد الله، هلك. وتزوّج فاخته بنت غزوان، فولدت له رقيّة عبد الله الأصغر. وتزوّج أمّ عمرو بنت جندب الدّوسيّة، فولدت له عمرا، وخالدا، وأبانا، وعمر، ومريم، وتزوّج فاطمة بنت الوليد بن المغيرة المخزوميّة، ولدت له الوليد، وسعيدا، وأم سعيد، وتزوّج أمّ البنين بنت عيينة بن حصن الفزاريّة، فولدت له عبد الملك، هلك. وتزوّج رملة بنت شيبة بن ربيعة، ولدت له عائشة وأمّ أبان، وأمّ عمرو، وتزوّج نائلة بنت الفرافصة الكلبيّة. وقد روى أبو الفرج الأصفهانىّ فى سبب زواج عثمان نائلة سندا رفعه إلى خالد بن سعيد، عن أبيه، قال: تزوّج سعيد بن العاص وهو على الكوفة هندا بنت الفرافصة بن الأحوص بن عمرو بن ثعلبة، فبلغ ذلك عثمان، فكتب إليه: قد بلغنى أنّك تزوّجت امرأة، فاكتب إلىّ نسبها وجمالها، فكتب إليه: أما بعد، فإنّ نسبها أنّها بنت الفرافصة بن الأحوص، وجمالها أنّها بيضاء مديدة. فكتب إليه: إنّ كان لها أخت فزوّجنيها، فكتب سعيد، وبعث إلى الفرافصة يخطب إحدى بناته على عثمان رضى الله عنه، فأمر الفرافصة ابنه ضبّا فزوّجها إيّاه، وكان ضبّ مسلما، والفرفصة الجزء: 19 ¦ الصفحة: 507 نصرانيا، فلمّا أرادوا حملها، قال لها أبوها: يا بنتى إنّك تقدمين على نساء من نساء قريش، هنّ أقدر على الطّيب منك، فاحفظى عنّى خصلتين: تكحّلى وتطيّبى بالماء حتّى تكون ريحك ريح من أصابه مطر. فلمّا قدمت على عثمان قعد على سريره، ووضع لها سريرا حياله، فجلست عليه، فوضع عثمان قلنسيته فبدا الصّلع، فقال: يا بنت الفرافصة، لا يهولنّك ما ترين من صلعى، فإنّ وراءه ما تحبّين، وقال: إما أن تقومى إلىّ، وإمّا أن أقوم إليك. فقالت: أمّا ما ذكرت من الصّلع فإنّى من نساء أحبّ بعولتهنّ إليهنّ السادة الصّلع، وأمّا قولك: إمّا أن تقومى إلىّ، وإمّا أن أقوم إليك، فو الله ما تجشّمت من جنبات السّماوة أبعد ممّا بينى وبينك، بل أقوم إليك. فقامت فجلست إلى جنبه، فمسح رأسها ودعا لها بالبركة، ثم قال لها: اطرحى عنك رداءك، فطرحته، ثم قال لها: خمارك، فطرحته، ثم قال لها: انزعى درعك. فنزعته، ثم قال لها: حلّى إزارك. فقالت: ذا إليك، فحلّ إزارها، وكانت من أحظى نسائه عنده [1] . ولدت له مريم. وقيل: ولدت له أمّ البنين بنت عيينة عبد الملك، وعثمة [2] وولدت له نائلة عنبسة، وكان له منها أيضا ابنة تدعى أمّ المؤمنين وأمّ البنين، كانت عند عبد الله بن يزيد بن أبى سفيان. وقتل عثمان وعنده رملة بنت شيبة، ونائلة وأمّ البنين، وفاخته، غير أنّه طلّق أمّ البنين وهو محصور. فهؤلاء أزواجه فى الجاهليّة والإسلام، وأولاده رضى الله تعالى عنه.   [1] الأغانى 16: 323، 324. [2] ك: «عقبة» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 508 كتابه وقضاته وحجابه وأصحاب شرطته كاتبه مروان بن الحكم، وقاضيه كعب بن سور، وحاجبه عمران، مولاه، وصاحب شرطته عبد الله بن قنفذ التّميمىّ، وهو أوّل من اتّخذ صاحب شرطة، وكان على الدّيوان وبيت المال زيد بن ثابت. والله تعالى أعلم بالصواب، وهو حسبى ونعم الوكيل. ذكر عماله على الأمصار فى سنة مقتله كان عمّاله فى هذه السنة على مكّة عبد الله بن الحضرمىّ، وعلى الطائف القاسم بن ربيعة الثّقفىّ، وعلى صنعاء يعلى بن منية، وعلى الجند عبد الله بن ربيعة، وعلى البصرة عبد الله بن عامر، وكان قد خرج منها ولم يولّ عثمان عليها أحدا، وعلى الكوفة أبو موسى الأشعرىّ، وعلى الصّلاة، وعلى خراج السواد جابر بن فلان المزنىّ وسماك الأنصارى، وعلى حربها القعقاع بن عمرو، وعلى قرقيسيا جرير ابن عبد الله، وعلى أذربيجان الأشعث بن قيس الكندىّ، وعلى حلوان عتيبة بن النّهّاس، وعلى ماه مالك بن حبيب، وعلى همذان النّسير، وعلى الرّىّ وأصفهان السائب بن الأقرع، وعلى ماسبذان حبيش، وعلى بيت المال عقبة بن عمرو [1] ، وعلى الشّام معاوية بن أبى سفيان. ولمعاوية عمّال وهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد على حمص، وحبيب بن مسلمة الفهرى على قنّسرين، وأبو الأعور السّلمى على الأردنّ، وعلقمة بن حكيم الكنانى على فلسطين وعبد   [1] ك: «عمر» . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 509 الله بن قيس الفزارىّ على البحر، وكان عامل عثمان على مصر عبد الله بن سعد بن أبى سرح، ثم سار إلى عثمان فى رجب سنة خمس وثلاثين، واستخلف عنه بمصر عقبة بن عامر، فقام محمد ابن أبى حذيفة فى شّوال، وأخرج عقبة، وتأمّر بمصر، وعاد عبد الله ابن سعد فلم يمكنه، فتوجّه إلى عسقلان، ومات بها. وكان القاضى بمصر عّمار بن قيس بن أبى العاص، ثم مات بعد مقتل عثمان فلم يكن بمصر قاض إلى أيّام معاوية بن أبى سفيان رضى الله تعالى عنهم. والله تعالى أعلم، وهو حسبى ونعم الوكيل. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 510 ذكر شىء مما رثى به عثمان من الشعر ولما قتل رضى الله عنه رثاه جماعة، منهم: حسّان بن ثابت وغيره فكان مما قال حسّان بن ثابت: إن تمس دار ابن أروى اليوم خالية ... باب صريع وباب مخرق خرب [1] فقد يصادف باغى الخير حاجته ... فيها ويأوى إليها الجود والحسب وقال أيضا ممّا رثاه به فى أبيات أخرى: من سرّه الموت صرفا لا مزاج له ... فليأت مأدبة فى دار عثمانا [2] ضحّوا بأشمط عنوان السجود به ... يقطّع الليل تسبيحا وقرآنا صبرا فدى لكم أمّى وما ولدت ... قد ينفع الصبر فى المكروه أحيانا لتسمعنّ وشيكا فى ديارهم ... الله أكبر واثارات عثمانا وقد قيل: إنّ البيت الثانى من هذه الأبيات، «ضحّوا بأشمط» ليس له، وقال بعضهم: هو لعمران بن حطان وقال أبو عمر: وقد زاد أهل الشّام فيها أبياتا لم أر لذكرها وجها [3] قال ابن الأثير [4] : يعنى ما فيها من ذكر علىّ رضى الله عنه، وهو:   [1] ديوانه 22. [2] ديوانه 409. [3] الاستيعاب 1049. [4] الكامل 3: 96، 97. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 511 يا ليت شعرى وليت الطير تخبرنى ... ما كان شأن علىّ وابن عفّانا [1] وقال أيضا: قتلتم ولىّ الله فى جوف داره ... وجئتم بأمر جائر غير مهتد [2] فلا ظفرت أيمان قوم تعاونوا ... على قتل عثمان الرّشيد المسدّد وقال كعب بن مالك: يا للّرجال لأمر هاج لى حزنا ... لقد عجبت لمن يبكى على الدّمن [3] إنّى رأيت قتيل الله مضطهدا ... عثمان يهدى إلى الأجداث فى كفن يا قاتل الله قوما كان أمرهم ... قتل الإمام الذكىّ الطيّب الرّدن لم يقتلوه على ذنب ألمّ به ... إلّا الّذى نطقوا زورا ولم يكن وقال أيضا- ونسبت لحسّان وقيل: للوليد بن عقبة، والله تعالى أعلم وكفّ يديه ثم أغلق بابه ... وأيقن أنّ الله ليس بغافل [4] وقال لأهل الدار لا تقتلوهم ... عفا الله عن ذنب امرئ لم يقاتل فكيف رأيت الله ألقى عليهم ال ... عداوة والبغضاء بعد التّواصل وكيف رأيت الخير أدبر بعده ... عن النّاس إدبار السّحاب الحوافل وقال حميد بن ثور الهلالىّ: إنّ الخلافة لمّا أظعنت ظعنت ... من أهل يثرب إذ غير الهدى سلكوا [5]   [1] ابن الأثير 3: 96. [2] ديوانه 103. [3] ديوانه 282. [4] الاستيعاب 105. [5] ديوانه 114. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 512 صارت إلى أهلها منهم ووارثها ... لمّا رأى الله فى عثمان ما انتهكوا وقال قاسم بن أميّة بن أبى الصّلت: لعمرى لبئس الذّبح ضحيتم به ... وخنتم رسول الله فى قتل صاحبه [1] وقالت زينب بنت الزّبير بن العوّام: أعطشتم عثمان فى جوف داره ... شربتم كشرب الهيم شرب حميم [2] وكيف بنا أم كيف بالنّوم بعد ما ... أصيب ابن أروى وابن أمّ حكيم وقالت ليلى الأخيليّة: قتل ابن عفّان الإما ... م وضاع أمر المسلمينا [3] وتشّتتت سبل الرّشا ... د لصادرين وواردينا فانهض معاوى نهضة ... تشفى بها الداء الدّفينا أنت الّذى من بعده ... تدعى أمير المؤمنينا وقال أيمن بن خريم [4] : ضحّوا بعثمان فى الشّهر الحرام ضحى ... فأىّ ذبح حرام ويلهم ذبحوا وأىّ سنّة كفر سنّ أوّلهم ... وباب شرّ على سلطانهم فتحوا ماذا أرادوا أضلّ الله سعيهم ... بسفك ذاك الدم الذّاكى الذى سفحوا ورثاه غيرهم ممّن لو ذكرنا شعرهم لأنبسط به الخبر.   [1] الاستيعاب 1051 ونسبه إلى القاسم بن أمية بن أبى الصلت. [2] الاستيعاب 1051. [3] الاستيعاب 1051، وفيه: أيمن بن خزيمة. [4] الاستيعاب 1051. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 513 تم الجزء التاسع عشر من كتاب نهاية الأرب ويليه الجزء العشرون وأوله أخبار على بن أبى طالب كرم الله وجهه. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 514 فهرس الجزء التاسع عشر من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويرى .... صفحة الباب الثانى من القسم الخامس فى أخبار الخلفاء الراشدين: أبى بكر وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلى بن أبى طالب وابنه الحسن 7 ذكر خلافة أبى بكر الصديق 8 ذكر نبذة من فضائله ومآثره فى الجاهلية والاسلام 10 ذكر صفته 24 ذكر ما ورد من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استخلفه على أمته من بعده 24 ذكر بيعته وخبر يوم السقيفة وما وقع بين المهاجرين والأنصار من التراجع فى الامارة 29 ذكر ما تكلم به بعد بيعته وما قاله عمر بن الخطاب بعد البيعة الأولى وقبل البيعة الثانية 42 ذكر انفاذ جيش أسامة 46 ذكر أخبار من ادعى النبوة من الكذابين وما كان من أمرهم وتجهيز أبى بكر الجيوش اليهم والى من ارتد من قبائل العرب 49 ذكر غزوة أبى بكر وقتاله أهل الردة وعبس وذبيان 61 ذكر عقد أبى بكر الألوية وتجهيزه الجيوش لقتال أهل الردة وما كاتب به من ارتد 64 ذكر خبر طليحة الأسدى وما كان من أمره وأمر من اتبعه من قبائل العرب 69 ذكر خبر تميم وأمر سجاح ابنة الحارث بن سويد 75 ذكر مسير خالد الى البطاح ومقتل مالك بن نويرة 82 ذكر خبر مسيلمة الكذاب وقومه من أهل اليمامة 85 ذكر الحروب الكائنة بين المسلمين وبين أهل اليمامة وقتل مسيلمة 89 ذكر خبر ثابت بن قيس بن شماس فى مقتله 97 ذكر أهل البحرين ومن ارتد منهم وانضم الى الحطم وما كان من أمرهم 98 الجزء: 19 ¦ الصفحة: 515 ... صفحة ذكر مسير خالد بن الوليد إلى العراق وما افتتحه وما صالح عليه وما قرره من الجزية 106 ذكر وقعة الثنى 108 ذكر وقعة الولجة 109 ذكر وقعة أليس 109 ذكر وقعة فرات بادقلى وفتح الحيرة 111 ذكر ما كان بعد فتح الحيرة 112 ذكر فتح الأنبار 112 ذكر فتح عين التمر 113 ذكر خبر دومة الجندل 114 وقعة مصيخ 115 وقعة الثنى والزميل 115 ذكر وقعة الفراض 116 ذكر فتوح الشام 116 ذكر مسير خالد بن الوليد الى الشام وما فعل فى مسيره الى أن التقى بجنود المسلمين بالشام 118 ذكر وقعة أجنادين 120 ذكر وقعة اليرموك 121 ذكر ما وقع فى خلافة أبى بكر غير ما تقدم 126 سنة احدى عشرة 126 سنة اثنتى عشرة 127 ذكر وفاة أبى بكر الصديق ومدة خلافته 128 ذكر نبذة من أخباره وأحواله ومناقبه غير ما تقدم 130 ذكر أولاده وأزواجه 135 ذكر أسماء قضاته وعماله وكتابه وحاجبه وخادمه 144 خلافة عمر بن الخطاب 146 ذكر نبذة من فضائله ومناقبه 148 ذكر صفته 150 ذكر الفتوحات والغزوات فى خلافته 154 ذكر فتوح مدينة دمشق 155 ذكر شىء مما قيل فى أمر مدينة دمشق ومن بناها 157 الجزء: 19 ¦ الصفحة: 516 ... صفحة ذكر غزوة فحل 159 ذكر فتح بلاد ساحل دمشق 160 ذكر فتح بيسان وطبرية 161 ذكر الوقعة بمرج الروم 161 ذكر فتح بعلبك وحمص وحماة وشيزر ومعرة النعمان وسلمية واللاذقية وأنطرسوس 162 ذكر فتح قنسرين ودخول هرقل القسطنطينية 164 ذكر فتح حلب وأنطاكية وغيرهما من العواصم 165 ذكر فتح قيسارية وحصن غزة 168 ذكر بيسان ووقعة أجنادين وفتح غزة وبسطية ونابلس وتبنى 169 ذكر فتح بيت المقدس وهو ايلياء 171 ذكر خبر حمص حين قصد هرقل من بها من المسلمين 173 ذكر فتح الجزيرة وأرمينية 175 ذكر فتوح العراقين وما والاها من بلاد فارس وغيرها 179 ذكر وقعة النمارق 180 ذكر وقعة السقاطية بكسكر 181 ذكر وقعة الجالينوس 182 ذكر وقعة قس الناطف (ويقال لها وقعة الجسر) 182 ذكر وقعة أليس الصغرى 185 ذكر وقعة البويب 185 ذكر خبر سوقى الخفانس وبغداد 187 ذكر خبر القادسية وأيامها 189 ذكر يوم أرماث 203 ذكر يوم أغواث 207 ذكر يوم عماس (وهو اليوم الثالث) 211 ذكر ليلة الهربر 213 ذكر يوم القادسية وقتل رستم وهزيمة الفرس 214 ذكر ما كان بعد القادسية من الحروب والأيام 219 ذكر خبر بهرسير وهى المدينة الغربية 221 ذكر فتح المدائن الغربية وهى بهرسير 222 ذكر فتح المدائن الشرقية التى فيها ايوان كسرى 224 الجزء: 19 ¦ الصفحة: 517 ... صفحة ذكر ما جمع من غنائم أهل المدائن وقسمتها 227 ذكر وقعة جلولاء وفتح حلوان 230 ذكر ولاية عتبة بن غزوان البصرة وفتحه الأبلة 234 ذكر فتح تكريت والموصل 236 ذكر فتح ماسبدان 238 ذكر فتح قرقيسيا 238 ذكر فتح الأهواز ومناذر ونهر تيرى 239 ذكر صلح الهرمزان وأهل تستر مع المسلمين 241 ذكر فتح رامهرمز 242 ذكر فتح السوس 246 ذكر مصالحة جنديسابور 247 ذكر انسياح الجيوش الاسلامية فى بلاد الفرس 248 ذكر غزو فارس من البحرين 249 ذكر وقعة نهاوند وفتحها 250 ذكر فتح دينور والصيمرة وغيرهما 260 ذكر فتح همذان والماهين وغيرهما 260 ذكر فتح أصبهان وقم وقاشان 262 ذكر فتح قزوين وأبهر وزنجان 263 ذكر فتح الرى 264 ذكر فتح قومس وجرجان وطبرستان 265 ذكر فتح أذربيجان 266 ذكر فتح الباب 268 ذكر فتح موقان 269 ذكر غزو الترك 269 ذكر غزو خراسان 271 ذكر فتح شهرزور والصامغان 276 ذكر فتح توج 276 ذكر فتح اصطخر وجور وكازرون والنوبندجان ومدينة شيراز وأرجان وسينينير وجنابا والنوبندجان وجهرم 277 ذكر فتح فسا ودرابجرد 278 ذكر فتح كرمان 279 الجزء: 19 ¦ الصفحة: 518 ... صفحة ذكر فتح سجستان 280 ذكر فتح مكران 280 ذكر فتح بيروذ من الأهواز 281 ذكر خبر سلمة بن قيس الأشجعى والأكراد 282 ذكر فتوح مصر وما والاها 284 ذكر مسير عمرو بن العاص الى مصر 285 ذكر حصار القصر وما قيل فى كيفية الاستيلاء عليه وانتقال الروم والقبط الى الجزيرة 285 ذكر ارسال المقوقس الى عمرو فى طلب الصلح وجواب عمرو له واجتماع المقوقس وعبادة بن الصامت وما وقع بينهما من الكلام وقبول المقوقس الجزية 291 ذكر مسير عمرو لقتال الروم وما كان بينهم من الحروب الى أن فتحت الاسكندرية 302 ذكر الفتح الثانى وما وجد بالاسكندرية وعدة من ضربت عليه الجزية 307 ذكر من قال ان مصر فتحت عنوة 310 ذكر أخبار الاسكندرية وبنائها وما اتفق فى ذلك من الأعاجيب 311 ذكر تحول عمرو بن العاص من الاسكندرية الى الفسطاط واختطاطه 319 ذكر خبر أصل النيل وكيف كانت عادة القبط وابطال تلك العادة 321 ذكر ما قرر فى أمر الجزية والخراج 322 ذكر خبر المقطم 324 ذكر خبر خليج أمير المؤمنين 325 ذكر الخبر من فتح الفيوم 329 ذكر فتح زويلة وطرابلس الغرب وبرقة وحصن سبرة 330 ذكر الغزوات الى أرض الروم 332 ذكر ما اتفق فى خلافة عمر بن الخطاب غير الفتوح والغزوات 333 سنة ثلاث عشرة 333 سنة أربع عشرة 333 سنة خمس عشرة 334 ذكر فرض العطاء وعمل الديوان 334 سنة ست عشره 338 الجزء: 19 ¦ الصفحة: 519 ... صفحة سنة سبع عشرة 339 ذكر بناء البصرة والكوفة 339 ذكر عزل خالد بن الوليد 342 ذكر بناء المسجد الحرام 345 ذكر عزل المغيرة بن شعبة 345 سنة ثمان عشرة 348 ولاية كعب بن سور قضاء البصرة 348 ذكر القحط وعام الرمادة 351 ذكر طاعون عمواس وتسمية من مات فيه 353 ذكر قدوم عمر الى الشام بعد الطاعون 361 سنة تسع عشرة 363 سنة عشرين 364 ذكر اجلاء يهود خيبر منها 366 سنة احدى وعشرين 366 ذكر عزل سعد بن أبى وقاص عن الكوفة ومن ولى بعده فى هذه السنة 368 سنة اثنتين وعشرين 370 سنة ثلاث وعشرين 370 ذكر خبر مقتل عمر بن الخطاب ومدة خلافته 371 ذكر قصة الشورى 378 ذكر أولاد عمر بن الخطاب وأزواجه 391 ذكر عمال عمر على الأمصار 398 كتابه 400 قضاته 400 ذكر خلافة عثمان بن عفان 402 ذكر صفته ونبذة من فضائله 403 ذكر بيعته 404 ذكر الفتوحات والغزوات فى خلافة عثمان 407 ذكر خلاف أهل الاسكندرية 407 ذكر غزو أرمينية وغيرها وما وقع من الصلح 407 ذكر غزو معاوية الروم 411 الجزء: 19 ¦ الصفحة: 520 ... صفحة ذكر فتح كابل 411 ذكر غزو افريقية وفتحها 412 ذكر فتح جزيرة قبرس 414 ذكر نقض أهل فارس وغيرهم وفتح اصطخر ودرابجرد 417 ذكر غزو طبرستان 418 ذكر غزو الصوارى 419 ذكر مقتل يزدجرد آخر ملوك بنى ساسان 420 ذكر فتح خراسان 421 ذكر فتح كرمان 424 ذكر فتح سجستان 425 ذكر خروج قارن ببلاد خراسان وقتله 427 ذكر ما وقع فى خلافة عثمان غير الغزوات والفتوحات على حكم السنين 429 سنة أربع وعشرين 429 سنة خمس وعشرين 429 سنة ست وعشرين 431 سنة سبع وعشرين 431 سنة ثمان وعشرين 432 سنة تسع وعشرين ذكر عزل أبى موسى الأشعرى عن البصرة وعثمان بن العاص عن عمان والبحرين واستعمال عبد الله بن عامر على ذلك 432 ذكر الزيادة فى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم 434 ذكر اتمام عثمان الصلاة وما تكلم الناس به فى ذلك 434 سنة ثلاثين 436 ذكر عزل الوليد بن عقبة عن الكوفة وولاية سعيد بن العاص 436 ذكر جمع القرآن 439 ذكر سقوط خاتم النبى صلى الله عليه وسلم 441 ذكر خبر أبى ذر الغفارى فى اخراجه الى الربذة وما تكلم الناس به فى ذلك ووفاة أبى ذر 442 سنة احدى وثلاثين 449 سنة اثنتين وثلاثين 449 ذكر وفاة عبد الرحمن بن عوف وشىء من أخباره ونسبه 450 سنة ثلاث وثلاثين 454 الجزء: 19 ¦ الصفحة: 521 ... صفحة ذكر خبر من سار من الكوفة الى الشام وما كان من أمرهم 454 سنة أربع وثلاثين 462 ذكر خبر يوم الجرعة وعزل سعيد وخروجه عن الكوفة واستعمال أبى موسى الأشعرى 462 ذكر ابتداء الخلاف على عثمان ومن ابتدأ بالجرأة عليه 465 ذكر كلام على لعثمان وجوابه له 470 ذكر ارسال عثمان الى الأمصار ليأتوه بأخبار عماله وما يقوله الناس فيهم 474 سنة خمس وثلاثين 479 ذكر خبر مقتل عثمان 485 ذكر أزواجه وأولاده 507 ذكر كتابه وحجابه وأصحاب شرطته 509 ذكر عماله على الأمصار فى سنة مقتله 509 ذكر شىء مما رثى به عثمان من الشعر 511 الجزء: 19 ¦ الصفحة: 522 المراجع الاستيعاب فى معرفة الأصحاب لابن عبد البر (مكتبة نهضة مصر) تاريخ ابن الأثير (نشرة منير الدمشقى) تاريخ الطبرى (نشرة دار المعارف) تاريخ المسعودى (نشرة المكتبة التجارية 1948 م) ديوان حاتم (طبع ببيروت سنة 1968 م) ديوان حسان (نشرة المكتبة التجارية سنة 1929 م) ديوان الحطيئة (مطبعة التقدم بالقاهرة) ديوان حميد بن ثور (طبع دار الكتب) السيرة الحلبية (طبع بولاق 1292 هـ) فتوح مصر لأبن عبد الحكم (طبع أوربا) نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويرى (طبع دار الكتب) الجزء: 19 ¦ الصفحة: 523 الجزء العشرون [ تتمة الفن الخامس في التاريخ ] [ تتمة القسم الخامس من الفن الخامس في أخبار الملة الإسلامية ] [ تتمة الباب الثاني من القسم الخامس في أخبار الخلفاء الراشدين ] [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وبه توفيقى] [1] ذكر خلافة على بن أبى طالب رضى الله عنه هو أبو الحسن علىّ بن أبى طالب بن عبد المطّلب بن هاشم، أمّه فاطمة بنت أسد بن هاشم، أسلمت، وهاجرت، وهى أوّل هاشميّة ولدت (هاشميّا، وهو أوّل خليفة أبواه) [2] هاشميّان، ثم ابنه الحسن، ثم محمد الأمين، رضى الله عنهم [3] . ذكر صفته رضى الله تعالى عنه قال ابن الأثير الجزرىّ فى تاريخه [4] : كان- رضى الله عنه- شديد الأدمة، قصير القامة [5] ، كبير البطن، أصلع الرأس، عريض اللحية.   [1] ذكر هذا الافتتاح فى نسخة (ص) ، ولم يثبت فى نسختى (ك) و (ن) . [2] سقط هذا من نسخة (ك) ، وثبت فى (ص) و (ن) . [3] جاء فى أسد الغابة ج 5 ص 517 أن فاطمة بنت أسد «هى أول هاشمية ولدت لهاشمى وهى أيضا أول هاشمية ولدت خليفة، ثم بعدها فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولدت الحسن، ثم زبيدة امرأة الرشيد ولدت الأمين، لا نعلم غيرهن، ثم إن هؤلاء الثلاثة لم تصف لهم الخلافة» . [4] الكامل ج 3 ص 199. [5] الذى قاله ابن الأثير فى تاريخه: «هو إلى القصر أقرب» وهذا هو المناسب لما يأتى. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 1 وقال أبو عمر ابن عبد البر [1] رحمه الله: أحسن ما رأيت فى صفته رضى الله عنه- أنه كان ربعة [2] من الرجال، إلى القصر ما هو، أدعج [3] العينين، حسن الوجه، كأنّه القمر ليلة البدر حسنا، ضخم البطن عريض المنكبين، شثن الكفّين [4] ، أغيد [5] ، كأنّ عنقه إبريق فضّة، أصلع ليس فى رأسه شعر إلّا من خلفه، كبير اللحية، لمنكبيه مشاش [6] كمشاش السبع الضارى، لا يبين [7] عضده من ساعده، قد ادّمجت ادّماجا [8] إذا مشى تكفّأ [9] ، وإن أمسك بذراع رجل أمسك بنفسه فلا يستطيع أن يتنفّس، وهو إلى السّمن ما هو، شديد الساعد واليد، إذا مشى إلى الحرب هرول [10] ، ثبت الجنان [11] قوىّ شجاع، منصور على من لاقاه، رضى الله عنه.   [1] فى كتابه «الاستيعاب فى أسماء الأصحاب» ج 3 ص 57، ثم انظر (وقعة صفين) ص 262. [2] ليس بالطويل البائن ولا بالقصير البائن، وقد جاء ذلك فى وصف النبى صلى الله عليه وسلم، كما تقدم ج 18 ص 237، إلا أن النبى كان أقرب إلى الطول، وعليا كان أقرب إلى القصر. [3] شديد سواد العينين مع سعتهما. [4] أى أنهما تميلان إلى الغلظ. [5] مائل العنق لين الأعطاف. [6] المشاش: رءوس العظام. [7] فى الاستيعاب: «لا يتبين» ، وهما بمعنى واحد. [8] أورد صاحب الرياض النضرة ج 2 ص 156 صفة على رضى الله عنه مشتملة على مثل ما هنا، ثم قال فى شرح هذا الموضع منها: «يريد أن عظمى عضده وساعده الينهما قد اندمجا. وهكذا هو فى صفة الأسد، والضارى: المتعود للصيد» 10 هـ فيكون «ادّمجت» بتشديد الدال بمعنى «اندمجت» ، ويجوز أن يكون «أدمجت» بضم الهمزة وسكون الدال وكسر الميم، لقول اللغويين: رجل مدمج بسكون الدال أى كالحبل المحكم الفتل. [9] أسرع فى المشى كأنه يميل إلى قدام من سرعة مشيه. [10] أسرع فى المشى دون أن يعدو. [11] ثابت القلب. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 2 ذكر نبذة من فضائله رضى الله تعالى عنه هو- رضى الله عنه- أوّل من أسلم، عند بعضهم، على ما فى ذلك من الاختلاف فيه وفى أبى بكر، رضى الله عنهما، وأيّهما سبق إلى الإسلام ... وقد ذكرنا ذلك كله فى ابتداء السيرة النبويّة، فى السّفر الرابع عشر من هذه النسخة [1] ، فلا فائدة فى إعادته، فلنذكر من فضائلة خلاف ذلك: أجمعوا [2] على أنه- رضى الله عنه- صلّى إلى القبلتين، وهاجر وشهد جميع المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلّا غزوة تبوك [3] ، فإنّ رسول الله عليه الصلاة والسلام خلّفة بالمدينة على عياله، وقال له: أنت منّى بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبىّ بعدى . رواه جماعة من الصحابة [4] . وروى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا آخى بين المهاجرين، [ثم آخى بين المهاجرين والأنصار [5]] ، قال فى كل واحد منهما لعلىّ: «أنت أخى فى الدنيا والآخرة» ، وآخى بينه وبين نفسه. ولذلك قال علىّ لأصحاب الشّورى [6] : أنشدكم [7] الله، هل   [1] أنظر ص 180 من السفر السادس عشر من هذه النسخة المطبوعة. [2] الاستيعاب ج 3 ص 33. [3] تبوك: موضع بين وادى القرى والشام، وقد سبق «ذكر غزوة تبوك» فى الجزء السابع عشر ص 352. [4] أنظر صحيح مسلم ج 15 ص 175 والرياض النضرة ج 2 ص 162 وغيرهما. [5] سقطت هذه الجملة من (ك) ، وثبتت فى (ص) ، (ن) كما فى الاستيعاب ج 3 ص 35 وقد سبق فى نهاية الأرب ج 16 ص 347 قوله: «لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة آخى بين المهاجرين بعضهم لبعض، وآخى بين المهاجرين والأنصار» . [6] روى ابن عبد البر بسنده عن أبى الطفيل قوله: لما احتضر عمر جعلها شورى بين على وعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد، فقال لهم على: أنشدكم الله.. الخ [7] أنشدكم: أسألكم وأستحلفكم. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 3 فيكم أحد آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبينه- إذ آخى بين المسلمين- غيرى؟ قالوا: اللهمّ لا وربّنا. وكان يقول: أنا عبد الله وأخو رسول الله، لا يقولها أحد غيرى إلّا كذّاب. وروى بريدة وأبو هريرة وجابر والبراء بن عازب وزيد بن أرقم، كلّ منهم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم غدير خمّ [1] : «من كنت مولاه فعلىّ مولاه» وفى رواية بعضهم «اللهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه» . وقد ذكرنا [2] فى غزوة خيبر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله ليس بفرّار، يفتح الله على يديه» وأنّه أعطى الراية لعلىّ، ففتح الله على يديه. وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، وهو شابّ، ليقضى بينهم، فقال: يا رسول الله إنّى لا أدرى ما القضاء؟ فضرب   [1] «خم» اسم رجل صباغ، أضيف إليه الغدير الذى بالجحفة بين مكة والمدينة. وقد جاء فى الرياض النضرة ج 2 ص 169 قول البراء بن عازب: كنا عند النبى صلى الله عليه وسلم فى سفر، فنزلنا بغدير خم، فنودى فينا: «الصلاة جامعة» وكسح لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة، فصلى الظهر، وأخذ بيد على وقال: ألستم تعلمون أنى أولى بالمؤمنين من أنفسهم قالوا: بلى، فأخذ بيد على وقال: اللهم من كنت مولاه فعلى مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، وجاءت فى صحيح مسلم ج 15 ص 179 رواية أخرى عن زيد ابن أرقم قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فينا خطيبا بماء يدعى «خما» بين مكة والمدينة، فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر، ثم قال فى آخر الحديث: أذكركم الله فى أهل بيتى، أذكركم الله فى أهل بيتى، أ: كركم الله فى أهل بيتى . وانظر البداية والنهاية ج 17 ص 346. [2] ج 17 ص 252- 253، وانظر فى صحيح البخارى الحديثين 3465، 3466 وانظر صحيح مسلم بشرح النووى ج 15 ص 176. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 4 رسول الله عليه الصلاة والسلام صدره بيده وقال: «اللهمّ اهد قلبه وسدّد لسانه [1] » قال علىّ فو الله ما شككت بعدها فى قضاء بين اثنين. ولما نزل قوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [2] دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة وعليّا وحسنا وحسينا فى بيت أمّ سلمة وقال: اللهمّ إنّ هؤلاء أهل بيتى فأذهب عنهم الرجس [3] وطهّرهم تطهيرا [4] . قال أبو عمر: وروت طائفة من الصحابة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلىّ: لا يحبّك إلّا مؤمن ولا يبغضك إلّا منافق. وقال له رسول الله عليه الصلاة والسلام: «يهلك [5] فيك رجلان: محبّ مطر [6] وكذّاب مفتر [7] » . وقال له: «تفترق فيك أمّتى كما افترقت بنو إسرائيل فى عيسى.   [1] سدد لسانه: قومه ووفقه السداد، أى للصواب. [2] الآية 33 من سورة الأحزاب. [3] الرجس: الإثم، أو كل مستقذر من عمل، كما ذكره النووى. [4] هذا الحديث ذكره الترمذى فى صحيحه برواية أخرى فانظره بشرج النووى ج 15 ص 194، وهناك ج 15 ص 175 رواية تتعلن بآية أخرى. [5] كذا جاء فى (ن) و (ص) والاستيعاب ج 3 ص 37، وفى (ك) : «هلك» . [6] «مطر» من الإطراء، وهو مجاوزة الحد فى المدح والكذب فيه. [7] «مفتر» من الافتراء، وهو اختلاق الكذب.. وقد روى أحمد عن على رضى الله عنه قوله «يهلك فى رجلان: محب مفرط بما ليسا فى، ومبغض يحمله شنآنى على أن بهتنى» . وفى شرح ابن أبى الحديد لنهج البلاغة ج 1 ص 372 رواية لقول على «يهلك فى رجلان: محب غال ومبغض قال» . وجاء فى نهج البلاغة ج 3 ص 306 قول على «وسيهلك فى صنفان: محب مفرط يذهب به الحب إلى غير الحق. ومبغض مفرط يذهب به البغض إلى غير الحق. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 5 وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا مدينة العلم، وعلىّ بابها، فمن أراد العلم فليأته من بابه» . وقال فى أصحابه: «أقضاهم علىّ» . وقال عمر رضى الله عنه: «علىّ أقضانا» . وكان عمر يتعوّذ بالله من معضلة ليس لها أبو حسن [1] ! وقال علىّ فى التى وضعت لستّة أشهر [2] ، فأراد عمر [3] رجمها: إن الله تبارك وتعالى يقول: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً [4] [ويقول وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ [5]] [6] . وكان- رضى الله عنه- أعلم الناس بالفرائض [7] ، وله فى ذلك أخبار. منها ما رواه أبو عمر ابن عبد البر [8] بسنده عن زرّ بن حبيش قال: جلس رجلان يتغدّيان، مع أحدهما خمسة أرغفة، ومع الآخر ثلاثة أرغفة، فلما وضعا الغداء بين أيديهما مرّ بهما رجلّ، فسلّم،   [1] فى النهاية ولسان العرب: (معضلة) أراد المسألة الصعبة أو الخطة الضيقة المخارج من الإعضال أو التعضيل، ويريد بأبى حسن على بن أبى طالب. [2] ذكر الطبرى وابن كثير فى تفسيريهما أن امرأة من جهينة تزوجت رجلا من قبيلتها ثم ولدت لستة أشهر بعد دخولها عليه. [3] تبع المؤلف أبا عمر ابن عبد البر فى كتابه الاستيعاب ج 3 ص 39 ولكن الذى رواه الطبرى وابن كثير فى تفسيريهما عن الجهنى أن الذى أراد الرجم هو عثمان رضى الله عنه. [4] الآية 15 من سورة الأحقاف. [5] الآية 14 من سورة لقمان. [6] زيادة- عن ابن جرير وابن كثير فى تفسيرهما- يتم بها الاستدلال، وجاء فى رواية أخرى قوله تعالى «حولين كاملين» . [7] الفرائض: علم قسمة المواريث. وهى مأخوذة فى اللغة من الفرض، بمعنى التقدير، لأن المواريث مقدرة. [8] فى الاستيعاب ج 3 ص 41- 42. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 6 فقالا له: [اجلس] [1] للغداء. فجلس وأكل معهما، واستوفوا فى أكلهم الأرغفة الثمانية، فقام الرجل وطرح إليهما ثمانية دراهم، وقال خذا هذه عوضا ممّا أكلت لكما ونلّته من طعامكما. [فتنازعا،] [2] وقال صاحب الخمسة الأرغفة: لى خمسة دراهم ولك ثلاثة. فقال صاحب الأرغفة الثلاثة: لا أرضى إلا أن تكون الدراهم بيننا نصفين. فارتفعا إلى أمير المؤمنين علىّ بن أبى طالب، فقصّا عليه قصّتهما، فقال لصاحب الثلاثة [الأرغفة] [3] : قد عرض عليك صاحبك ما عرض وخبزه أكثر من خبزك فارض بالثلاثة. فقال: لا والله لا رضيت منه إلّا بمرّ الحق. فقال علىّ: ليس لك فى مر الحق إلا درهم واحد وله سبعة. فقال الرجل: «سبحان الله يا أمير المؤمنين! هو يعرض علىّ ثلاثة فلم أرض وأشرت علىّ بأخذها فلم أرض، وتقول لى الآن: إنه لا يجب لك إلّا درهم واحد!» فقال له [علىّ] [4] : «عرض عليك صاحبك أن تأخذ الثلاثة صلحا، فقلت: لا أرضى إلا بمر الحق، ولا يجب لك فى مر الحق إلا واحد.» فقال له الرجل: فعرّفنى [5] الوجه فى مر الحق حتّى أقبله. فقال: «أليس للثمانية الأرغفة أربعة وعشرون ثلثا؟ أكلتموها وأنتم ثلاثة أنفس، ولا نعلم الأكثر منكم أكلا ولا الأقلّ، فتحملون [فى] [6] أكلكم على السواء.» قال: بلى. قال: فأكلت أنت ثمانية أثلاث، [وإنما لك تسعة أثلاث، وأكل صاحبك ثمانية أثلاث] ، [7] وله خمسة   [1] زيادة من الاستيعاب. [2] زيادة من الاستيعاب. [3] زيادة من الاستيعاب. [4] زيادة من الاستيعاب. [5] كذا جاء الاستيعاب. وفى النسخة (ك) : «تعرفنى» . وفى النسخة (ن) تعرفنى» غير منقوطة الحرف الأول. [6] زيادة من الاستيعاب. [7] زيادة من الاستيعاب. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 7 عشر ثلثا، أكل منها ثمانية وتبقى [له] [1] سبعة، وأكل لك واحدا من تسعة، فلك واحد بواحدك، وله سبعة [بسبعته] [2] . فقال له الرجل: رضيت الآن!. وأتته امرأة وهو على المنبر فقالت: ترك أخى ستّمائة دينار وأعطيت دينارا! (وتظلمت من ذلك) فقال: لعل أخاك ترك زوجة وأمّا وبنتين واثنى عشر أخا وأنت. قالت: نعم. فقال: قد أستوفيت حقّك [3] . وهذه المسألة مشهورة مسطورة فى كتب الفقه، وتسمى «الدّيناريّه» و «المنبرية» [4] وهو- رضى الله عنه- ممّن جمع القرآن على عهد النبى صلى الله عليه وسلم، هو وعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وسالم مولى أبى حذيفة بن عتبة بن ربيعة [5] . وعن [5] محمد بن سيرين قال: لما بويع أبو بكر الصدّيق رضى   [1] زيادة من الاستيعاب. [2] زيادة من الاستيعاب. [3] للزوجة خمسة وسبعون دينارا (الثمن) وللأم مائة دينار (السدس) وللبنتين أربعمائة دينار (الثلثان) . فلم يبق إلا خمسة وعشرون دينارا، لإخوتها أربعه وعشرون- كل منهم ديناران- ولها دينار واحد. [4] تطلق «المنبرية» فى كتب الفقه والميراث على مسألة أخرى للإمام على أيضا وقد كان يخطب على منبر الكوفة، قال ابن أبى الحديد فى شرح نهج البلاغة ج 1 ص 6: «وهو الذى قال فى المنبرية صار ثمنها تسعا، وهذه المسألة لو أفكر الفرضى فيها فكرا طويلا لاستحسن منه بعد طول النظر هذا الجواب، فما ظنك بمن قاله بديهة واقتضبة ارتجالا؟!» . [5] كان سالم بن معقل من الفرس، وأعتقته مولاته زوجة أبى حذيفة، فتولى أبا حذيفة، وتبناه أبو حذيفة إلى أن جاء حكم التبنى.» وقد صار سالم من خيار الصحابة وقرائهم المعروفين. [6] روى صاحب الاستيعاب ج 2 ص 2534 هذا الخبر بسنده. وذكره ابن أبى الحديد فى شرح نهج البلاغة ج 2 ص 16 والسيوطى فى الإتقان ج 1 ص 59 وصاحب الرياض النضرة ج 1 ص 168. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 8 الله عنه أبطأ [علىّ] [1] عن بيعته وجلس فى بيته، فبعث [2] إليه أبو بكر: ما بطّأ بك عنّى؟ أكرهت إمارتى؟ فقال؛: ما كرهت إمارتك، ولكنّى آليت أن لا أرتدى ردائى- إلّا إلى صلاة- حتى أجمع القرآن!: قال ابن سيرين: فبلغنى أنه كتبه على تنزيله، ولو وجد ذلك الكتاب لوجد فيه علم كثير. وفى علىّ- رضى الله عنه- يقول إسماعيل بن محمد الحميرىّ من أبيات: سائل قريشا بها إن كنت ذاعمه [3] : ... من كان أثبتها فى الدّين أوتادا؟ من كان أقدمها سلما [4] وأكثرها ... علما وأطهرها أهلا وأولادا؟ من وحّد الله إذ كانت مكذّبة ... تدعو مع الله أوثانا وأندادا؟ من كان يقدم فى الهيجاء إن نكلوا [5] ... عنها وإن بخلوا فى أزمة جادا؟   [1] سقط هذا من (ص) . وثبت فى (ك) و (ن) كما فى الاستيعاب. [2] جاء قيل هذا عند ابن أبى الحديد قوله: «فقيل لأبى بكر: إنه كره إمارتك» [3] العمه: التردد والتحير. [4] كذا جاء فى المخطوطة و «السلم» قد جاء فى الشعر بمعنى الإسلام، كقول امرئ القيس بن عابص: فلست مبدلا بالله ربا ... ولا مستبدلا بالسلم دينا وجاء بيت إسماعيل الحميرى فى الاستيعاب ج 3 ص 67 وأسد الغابة ج 4 ص 40 بلفظ «من كان أقدم إسلاما وأكثرها ... » . [5] الهيجاء: الحرب. ونكلوا: تأخروا وجبنوا. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 9 من كان أعدلها حكما وأبسطها ... علما وأصدقها وعدا وإيعادا؟ إن يصدقوك فلن يعدوا أبا حسن ... إن أنت لم تلق للأبرار حسّادا! إن أنت لم تلق أقواما ذوى صلف [1] ... ذوى [2] عناد لحقّ الله جحّادا! وفضائله- رضى الله عنه- ومآثره كثيرة، وفيما أوردناه منها وما نورده بعد- إن شاء الله- كفاية عن بسط ... فلنذكر بيعته رضى الله عنه. ذكر بيعة على رضى الله تعالى عنه بويع له- رضى الله عنه-[بالخلافة [3]] يوم قتل عثمان [4] وقيل: بل بويع له يوم الجمعة لخمس بقين من ذى الحجّة سنة خمس وثلاثين وقد اختلف فى كيفية بيعته: فقيل: إنه لما قتل عثمان- رضى الله عنه- اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، من المهاجرين والأنصار، فأتوا عليّا،   [1] الصلف: ادعاء ما لا يوجد إعجابا وتكبرا، والتكلم بالمكروه. [2] فى (ك) : «وذوى» . وفى (ن) و (ص) : «وذى» ، وفى الاستيعاب وأسد الغابة: «وذا» . [3] زيادة من الاستيعاب ج 3 ص 55 حيث نقل المؤلف منه هنا. [4] قتل عثمان رضى الله عنه يوم الجمعة لثمانى عشرة خلت من ذى الحجة سنة خمس وثلاثين. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 10 وقالوا [له] [1] : إنه لا بدّ للناس من إمام، فقال: لا حاجة لى فى أمركم، من اخترتم رضيته. قالوا: لا نختار غيرك. فقال: لا تفعلوا، فإنى أكون وزيرا خيرا من أن أكون أميرا. فقالوا: والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك. قال: ففى المسجد، فإنّ بيعتى لا تكون خفيا [2] ، ولا تكون إلّا [عن رضا المسلمين.] [3] وكان فى بيته، وقيل: فى حائط [4] لبنى عمرو بن مبذول، [5] فخرج إلى المسجد يتوكّأ على قوس، فبايعه الناس. وكان أوّل من بايعه طلحة بن عبيد الله، فنظر إليه حبيب بن ذؤيب، فقال: «إنّا لله [6] ! أوّل من بدأ البيعة [7] يد شلّاء! [8] لا يتمّ هذا الأمر» . وبايعه الزّبير، فقال لهما: إن أحببتما أن تبايعانى وإن أحببتما بايعتكما. فقالا: بل نبايعك. وقالا بعد ذلك: إنّما فعلنا ذلك خشية على نفوسنا، وعرفنا أنّه لا يبايعنا.   [1] كذا جاء فى الكامل لابن الأثير ج 3 ص 98 حيث نقل المؤلف منه هنا. وفى المخطوطة وأتوه وقالوا:» . [2] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى الكامل: «خفيه» . [3] هكذا جاءت الرواية فى تاريخ ابن جرير الطبرى ج 3 ص 450 وهى الأصل، ونقلها ابن أبى الحديد فى شرح نهج البلاغة ج 3 ص 4. وجاء فى المخطوطة والكامل «فى المسجد» وقد سبق كر «المسجد» فى هذا الكلام. [4] الحائط- ههنا-: البستان من النخيل ونحوه إذا كان عليه جدار. [5] فرع من الخزرج، وقد كان أكثر الأنصار- من الأوس والخزرج- يؤيدون عليا. [6] هكذا جاء فى المخطوطة تبعا لابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 98 وجاء فى رواية أخرى لابن الأثير- بعد ذلك-- ص 99: إنا لله وإنا إليه راجعون» . [7] هكذا جاء المخطوطة تبعا لابن الأثير فى الرواية الأولى. وفى الرواية الأخرى: «أول يد بايعت» . [8] كان طلحة قد أبلى فى يوم أحد بلاء حسنا، ووقى النبى بنفسه، فالتقى النبل عنه بيده حتى شلت أصابعه. وسيبين المؤلف ذلك فى ذكر مقتل طلحة» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 11 وبايعه الناس، وجاءوا، بسعد بن أبى وقّاص [1] ، فقال له علىّ: بايع. فقال: «لا، حتّى يبايع الناس، والله ما عليك منّى باس» قال: خلوا سبيله. وجاءوا بابن عمر [2] ، فقال مثل قوله [3] ، فقال: ائتنى بكفيل [4] ، فقال: لا أرى كفيلا. قال الأشتر: دعنى أضرب عنقه! قال [علىّ] [5] : «دعوه، أنا كفيله،- إنّك- ما علمت- سيّىء الخلق صغيرا وكبيرا!» . وبايعه الأنصار إلا نفرا يسيرا، منهم حسّان بن ثابت، وكعب بن مالك، ومسلمة بن مخلّد، وأبو سعيد الخدرى [6] ومحمد بن مسلمة، والنّعمان بن بشير، وزيد بن ثابت ورافع بن خديج، وفضالة بن عبيد، وكعب بن عجرة، كانوا [7] عثمانيّة. ولم يبايع أيضا عبد الله بن سلام، وصهيب بن سنان، وسلمة [8]   [1] سعد هو أحد الستة الذين جعل فيهم عمر الشورى، كطلحة والزبير، ولما قتل عثمان اعتزل الفتنة ولزم بيته.. [2] كان عبد الله بن عمر من أهل الورع، ولورعه أشكلت عليه حروب على وقعد عنه، انظر الاستيعاب ج 2 ص 343. [3] أى قال: «لا حتى يبايع الناس» . [4] أى: ضامن ألا تبرح، وفى تاريخ ابن جرير الطبرى ج 3 ص 451 «ايتنى بحميل» ، و «الحميل» بمعنى الكفيل، وفى شرح أبن أبى الحديد لنهج البلاغة ج 1 ص 340 «فأعطنى حميلا ألا تبرح» . [5] الزيادة عند ابن جرير وابن الأثير. [6] هو سعد بن مالك، نسب إلى جده «الأبجر» الذى يقال له خدرة» . [7] هكذا فى النسختين (ن) و (ص) . وفى «ك» : «وكانوا» . [8] فى المخطوطة «مسلمة» والتصويب من الكامل والقاموس وشرحه، وتجد ترجمته فى الاستيعاب ج 2 ص 86 والإصابة برقم 3381 ج 2 ص 65. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 12 ابن سلامة بن وقش، وأسامة بن زيد، وقدامة بن مظعون، والمغيرة ابن شعبة. وأخذ النّعمان بن بشير قميص عثمان الّذى قتل فيه وأصابع امرأته نائلة [1] ، وسار بهم [2] إلى الشام. وقيل فى بيعته: إنّ عثمان لمّا قتل بقيت المدينة خمسة أيّام وأميرها الغافقى بن حرب، وهم يلتمسون من يجيبهم إلى القيام بالأمر فلا يجدونه، فأتى المصريّون عليّا فباعدهم، وأتى الكوفيّون الزّبير فباعدهم، واتى البصريّون طلحة فباعدهم؛ وكانوا مجتمعين على قتل عثمان مختلفين فيمن يلى الخلافة، فأرسلوا إلى سعد يطلبونه [3] فقال: إنّى وابن عمر لا حاجة لنا فيها، وأتوا ابن عمر فلم يجبهم، فبقوا حيارى، وقال بعضهم لبعض: لئن رجع الناس إلى أمصارهم بغير إمام لم نأمن الاختلاف وفساد الأمّة، فجمعوا أهل المدينة وقالوا لهم: يا أهل المدينة، أنتم أهل الشّورى، وأنتم تعقدون الإمامة، وحكمكم جائز على الأمة، فانظروا رجلا تنصبونه، ونحن لكم تبع، وقد أجلناكم [4] يومكم، فو الله لئن لم تفرغوا لنقتلنّ [5] عليّا وطلحة والزّبير وأناسا كثيرا. فغشى الناس عليا، فقالوا: نبايعك فقد ترى ما نزل بالإسلام وما ابتلينا به من بين القرى! فقال علىّ:   [1] لما جاء المعتدون ليقتلوا عثمان انكبت عليه زوجته نائلة واتقت، السيف بيدها فقطع أصابعها. [2] كذا وقع فى المخطوطة. وفى الكامل: «به» ؛. [3] بعثوا إلى سعد بن أبى وقاص وقالوا: إنك من أهل الشورى فأقدم نبايعك. [4] كذا فى النسختين (ن) و (ص) والكامل لابن الأثير. وفى (ك) : «أجلنا لكم» . [5] فى الكامل: «لنقتلن غدا» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 13 «دعونى والتمسوا غيرى، فإنّا مستقبلون أمرا له وجوه وله ألوان، لا تقوم به القلوب، ولا تثبت عليه العقول» فقالوا: «ننشدك الله!، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى الإسلام ألا ترى الفتنة؟ الا تخاف الله؟» قال: «قد أجبتكم، واعلموا أنّى إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، وإن تركتمونى فإنّما أنا كأحدكم [1] إلّا أنّى من أسمعكم وأطوعكم لمن ولّيتموه» ... ثمّ افترقوا على ذلك، واتعدوا الغد. وتشاور الناس فيما بينهم، وقالوا إن دخل طلحة والزّبير فقد استقامت، فبعث البصريّون إلى الزّبير حكيم بن جبلة، ومعه نفر فجاءوا به يحدونه [2] بالسّيف، [فبايع] [3] . وبعثوا إلى طلحة الأشتر فى نفر، فأتاه فقال: دعنى أنظر ما يصنع الناس. فلم يدعه، فجاء به يتلّه تلّا [4] عنيفا فبايع.. فكان الزبير يقول: جاءنى لصّ من لصوص عبد القيس فبايعت والسّيف على عنقى! وأهل مصر فرحون لما [5] اجتمع عليه أهل المدينة، وقد خشع أهل الكوفة والبصرة أن صاروا تبعا لأهل مصر، وازدادوا بذلك على طلحة والزّبير غيظا.   [1] كذا فى (ك) . وفى (ص) : «أحدكم» كما جاء عند ابن أبى الحديد ج 1 ص 56 وج 2 ص 170. [2] بحدونه: يسوقونه. [3] ثبتت فى النسخة (ك) وسقطت من (ن) . [4] أى يدفعه دفعا. [5] فى تاريخ الطبرى: «بما» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 14 قال [1] : ولمّا أصبحو يوم البيعة- وهو يوم الجمعة- حضر الناس المسجد، وجاء علىّ رضى الله عنه، فصعد المنبر وقال: «أيّها الناس عن ملإ وإذن [2] إنّ هذا أمركم، ليس لأحد فيه حقّ إلّا من أمّرتم، وقد افترقنا بالأمس على أمر، وكنت كارها لأمركم، فأبيتم إلّا أن أكون عليكم، ألا وإنّه ليس لى دونكم إلّا مفاتيح مالكم معى وليس لى أن آخذ درهما دونكم، فإن شئتم قعدت لكم، وإلّا فلا أحدّ [3] على أحد.» فقالوا: نحن على ما فارقناك عليه بالأمس. فقال: اللهمّ اشهد. قال: ولما جاءوا بطلحة ليبايع قال: إنما أبايع كرها. فبايع ... ثم جىء بالزّبير، فقال مثل ذلك وبايع، وفى الزّبير اختلاف.. ثم جىء بعده بقوم كانوا قد تخلّفوا، فقالوا: نبايع على إقامة كتاب الله فى القريب والبعيد والعزيز والذليل. فبايعهم ... ثمّ قام العامّة فبايعوا ... وتفرّقوا إلى منازلهم. ورجع علىّ إلى بيته، فدخل عليه طلحة والزّبير فى عدد من الصحابة، فقالوا: «يا علىّ، إنّا قد اشترطنا إقامة الحدود، وإنّ هؤلاء القوم قد اشتركوا فى قتل هذا الرجل.» فقال: «يا إخوتاه، إنى لست أجهل ما تعلمون، ولكن كيف أصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم؟   [1] القائل ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 99 وأصل ذلك فى رواية الطبرى ج 3 ص 456. [2] أى: عن تشاور من مقدميكم وجماعتكم. [3] كذا فى (ن) و (ص) أى: أغضب. وفى تاريخ الطبرى: «أجد» بمعنى أغضب أيضا. وفى تاريخ ابن الأثير و (ك) : «آخذ» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 15 هاهم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم [1] ، وثابت [2] إليهم أعرابكم [3] وهم خلالكم [4] يسومونكم [5] ما شاءوا، فهل ترون موضعا لقدرة على شىء ممّا تريدون؟» قالوا: لا. قال: «فلا والله لا أرى إلّا رأيا ترونه أبدا إلّا أن يشاء الله، إنّ هذا الأمر أمر جاهليّة، وإنّ لهؤلاء القوم مادّة [6] . إنّ الناس من هذا الأمر- إن حرّك- على أمور: فرقة ترى ما ترون، وفرقة ترى ما لا ترون، وفرقة لا ترى هذا ولا هذا حتّى يهدأ الناس، وتقع القلوب مواقعها، وتؤخذ الحقوق. فاهدءوا عنّى، وانظروا ماذا يأتيكم، ثم عودوا» . واشتدّ علىّ على قريش، وحال بينهم وبين الخروج [وتركها] [7] على حالها، وإنّما هيّجه على ذلك هرب بنى أميّة وتفرّق القوم. وحكى أبو عمر ابن عبد البر [8] قال: لمّا بايع الناس علىّ بن أبى طالب دخل عليه المغيرة بن شعبة [9] ، فقال له: «يا أمير المؤمنين، إنّ لك عندى نصيحة» . قال: وما هى؟ قال: «إن   [1] «عبدان» بضم العين أو كسرها مع سكون الباء: جمع عبد. [2] ثابت: رجعت واجتمعت. [3] كذا فى النسخة (ن) وهو مثل ما فى تاريخى ابن جرير وابن كثير ورقع فى (ص) و (ك) : «أعرانكم» . [4] هكذا جاء فى تاريخ ابن جرير ج 3 ص 458، ى: هم بينكم. وفى المخطوطة هنا «خلاصكم» . وفى تاريخ ابن الأثير ج 3 ص 100: «خلاطكم» . [5] يسومونكم: يكلفونكم. [6] أى: ما أعينوا. [7] زيادة من ابن الأثير. [8] فى الاستيعاب ج 3 ص 390. [9] المغيرة بن شعبة أحد دهاة العرب المشهورين فى ذلك العهد، وهم: معاوية ابن أبى سفيان، وعمرو بن العاص، وزياد، والمغيرة. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 16 أردت أن يستقيم لك الأمر فاستعمل طلحة على الكوفة، والزّبير على البصرة، وابعث إلى معاوية بعهده على الشام حتى تلزمه طاعتك، فإذا استقرّت لك الخلافة فادرأهم [1] كيف شئت برأيك» . فقال [علىّ] [2] : «أمّا طلحة والزّبير فسأرى رأيى فيهما، وأمّا معاوية فلا يرانى الله مستعملا له ولا مستعينا به مادام على حاله، ولكنّى أدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه الناس [3] ، فإن أبى حاكمته إلى الله تعالى» . فانصرف عنه المغيرة مغضبا لمّا لم يقبل منه نصيحته.. فلمّا كان الغد أتاه فقال: «يا أمير المؤمنين، نظرت فيما قلت بالأمس وما جاوبتنى به، فرأيت أنّك قد وفّقت للخير وطلبت الحق» . ثم خرج [4] عنه، فلقيه الحسن وهو خارج، فقال لأبيه: ما قال هذا الأعور؟ (يعنى المغيرة، وكان المغيرة قد أصيبت عينه يوم اليرموك) قال: أتانى أمس بكذا وأتانى اليوم بكذا. قال: نصحك والله [أمس] [5] وخدعك اليوم. فقال له علىّ: إن أقررت معاوية على ما فى يده كنت متّخذ المضلّين عضدا [6] .   [1] ادرأهم: ادفعهم. [2] زيادة من الاستيعاب. [3] فى الاستيعاب: «المسلمون» . [4] كذا جاء فى (ك) والاستيعاب. وفى (ص) : «وانصرف» . [5] سقط «أمس» من النسخة (ك) . وثبت فى (ص) . [6] فى القرآن الكريم: وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ، الْمُضِلِّينَ عَضُداً فى الآية 51 من سورة الكهف. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 17 وقال المغيرة فى ذلك: نصحت عليا فى ابن هند نصيحة ... فردّ [1] فلا يسمع لها الدهر ثانيه وقلت له: أرسل إليه بعهده ... على الشام حتّى يستقرّ معاويه ويعلم أهل الشام أن قد ملكته ... فأمّ ابن هند بعد ذلك هاويه وتحكم [2] فيه ما تريد فإنّه ... لداهية- فارفق به- وابن داهيه فلم يقبل النّصح الّذى جئته به ... وكانت له تلك النصيحة كافيه وروى [3] عن ابن عبّاس- رضى الله عنهما- نحوه، إلّا أنّه قال «أتيت عليّا بعد قتل عثمان، عند [4] عودى من مكّة [5] ، فوجدت المغيرة بن شعبة مستخليا به، فخرج من عنده، فقلت له: ما قال لك هذا؟ فقال: قال لى قبل مرّته هذه «إنّ لك حقّ الطاعة والنصيحة، وأنت بقيّة الناس، وإنّ الرأى اليوم يحرز [6] به   [1] فى مروج الذهب ج، ص 16: «فردت» . [2] سقط هذا البيت من نسخة الاستيعاب التى بأيدينا ومن مروج الذهب. [3] فى الكامل لابن الأثير ج 3 ص 101 وتاريخ الطبرى ج 3 ص 460. [4] كذا فى تاريخ الطبرى وابن كثير، وجاء فى المخطوطة «بعد» . [5] كان عثمان- قبل مقلته- قد دعا ابن عباس واستعمله على الحج، فذهب إلى مكة وأقام للناس الحج، ثم رجع إلى المدينة بعد قتل عثمان بخمسة أيام. [6] كذا جاء فى النسخة (ص) . وفى النسخة (ك) : «تحرز» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 18 ما فى غد، وإن الضّياع اليوم يضيع به ما فى غد، أقرر معاوية وابن عامر وعمّال عثمان على أعمالهم، حتّى تأتيك بيعتهم [ويسكن الناس] [1] ثمّ اعزل من شئت» فأبيت عليه ذلك، وقلت: لا أداهن فى دينى ولا أعطى الدّنيّة فى أمرى [2] . قال «فإن كنت أبيت علىّ فاعزل من شئت واترك معاوية، فإنّ فى معاوية جرأة، وهو فى أهل الشام يستمع منه، ولك حجة فى إثباته، فإنّ عمر بن الخطّاب [كان] [3] قد ولّاه الشام» فقلت؛ لا والله لا أستعمل معاوية يومين. ثمّ انصرف من عندى وأنا أعرف فيه أنّه يرى أنّى مخطىء، ثم عاد إلىّ الآن فقال: «إنّى أشرت عليك أوّل مرّة بالذّى أشرت، وخالفتنى فيه، ثمّ رأيت بعد ذلك أن تصنع الّذى رأيت، فتعزلهم وتستعين بمن تثق به، فقد كفى الله، وهم أهون شوكة ممّا كان» .. قال ابن عبّاس: فقلت لعلىّ: أمّا المرّة الأولى فقد نصحك، وأمّا المرّة الثانية فقد غشّك. قال: ولم نصحنى؟ قلت: لأنّ معاوية وأصحابه أهل دنيا، فمتى تثبتهم لا يبالوا [4] من ولى هذا الأمر، ومتى تعزلهم يقولوا «أخذ هذا الأمر بغير شورى، وهو قتل صاحبنا» ويؤلبوا [5] عليك، فينتقض عليك أهل الشام [وأهل العراق، مع أنّى لا آمن طلحة والزبير أن يكرّا عليك] [6] وأنا أشير عليك أن تثبت   [1] ثبت هذا فى النسخة (ك) . وسقط من (ن) . [2] الدنيه: الخصلة المذمومة. [3] ثبت «كان» فى (ن) و (ص) . وسقط من (ك) . [4] وقع فى المخطوطة هنا «لا يبالون» مع ظهور الجزم بحذف النون فى «يقولوا» بعد «متى» الثانية. [5] هذا هو الظاهر المناسب للعطف على «يقولوا» . ووقع فى المخطوطة «ويؤلبون» . [6] ثبت هذا فى النسخة (ن) كما فى تاريخى الطبرى وابن الأثير. وسقط من (ك) . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 19 معاوية، فإن بايع لك فعلىّ أن أقلعه من منزله. قال [علىّ] [1] : والله لا أعطيه إلا السيف! ثم تمثّل: وما ميتة إن متها غيّر عاجز [2] ... بعار إذا ما غالت النفس غولها [3] فقلت: يا أمير المؤمنين، أنت رجل شجاع، لست صاحب رأى فى الحرب، أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الحرب خدعة» [4] ؟ فقال: بلى. فقلت: أم [5] والله لئن أطعتنى لأصدرنّهم بعد [6] ورود، ولأتركنّهم ينظرون فى دبر الأمور لا يعرفون ما كان وجهها، فى غير نقصان عليك ولا إثم لك. فقال: يا ابن عباس، لست من هنيّاتك [7] ولا من هنيّات معاوية فى شىء، فقلت له: أطعنى، والحق بمالك بينبع [8] ، وأغلق بابك   [1] ثبت هذا فى تاريخى الطبرى وابن الأثير. وسقط من المخطوطة. [2] كذا جاء فى النسخة (ك) وتاريخى ابن جرير وابن الأثير، وجاء فى (ص) : «م» . وجاء فى ديوان الأعشى ص 175: «فما» . [3] الغول: ما اغتال النفس وأهلكها، يقال «غالته غول» إذا وقع فى مهلكة. والبيت للأعشى فى ختام قصيدة.. وقد اقتدى بعلى بن أبى طالب فى تمثله بهذا البيت أبو العباس السفاح، فانه لما خرج يدعو إلى البيعة قال: من أحب الحياة ذل، ثم تمثل يقول الأعشى: فما ميتة: إن متها ... الخ. [4] «خدعة» بسكون الدال مع فتح الخاء أو ضمها أو كسرها، أو بفتح الدال مع ضم الخاء، والمراد أن أمر الحرب ينقضى بخدعة. [5] «أم» كذا جاء فى المخطوطة. وهى بمعنى «أما» الاسنفتاحيه التى تجىء للتنبيه وتكثر قبل القسم، ولكن ألفها الأخيرة حذفت عن قلة، وقد جاءت «أما» فى تاريخى الطبرى وابن الأثير. [6] كذا فى (ن) كما جاء ابن عند ابن الأثير وغيره، أى: أن ما يكون من حالة معهم حينئذ كحال من يرجع قوما عن الماء بعد وروده. وفى (ك) و (ص) : «بغير» . [7] «هنيات» تصغير «هنات» أو هنوات» ، وكل من هذه الكلمات تذكر عند إرادة خصال غير حسنة. [8] ينبع: قرية ذات نخيل وزرع ومياه فى غرب المدينة المنورة، على شاطى البحر. وفيها مال لعلى. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 20 عليك، فإنّ العرب تجول جولة وتضطرب ولا تجد غيرك، فإنّك والله لئن نهضت مع هؤلاء اليوم [1] ليحمّلنّك الناس دم عثمان غدا! .. فأبى علىّ، وقال: تشير علىّ وأرى فإذا عصيتك فأطعنى قال: فقلت «أفعل، إنّ أيسر مالك عندى الطاعة» . فقال له علىّ: تسير إلى الشام فقد ولّيتكها. فقال ابن عباس: «ما هذا برأى، معاوية رجل من بنى أميّة، وهو ابن عم عثمان، وعامله، ولست آمن أن يضرب عنقى بعثمان، وإنّ أدنى ما هو صانع أن يحبسنى فيتحكّم علىّ لقرابتى منك. وإن كلّ ما حمل علىّ حمل عليك [2] ، ولكن اكتب إلى معاوية فمنّه وعده» . فقال: لا والله لا كان هذا أبدا! وخرج المغيرة فلحق بمكة. ذكر تفريق على عماله وخلاف معاوية رضى الله عنهما وفى سنة ست وثلاثين فرّق علىّ- رضى الله عنه- عمّاله على الأمصار، فبعث عثمان بن حنيف على البصرة، وعمارة بن شهاب على الكوفة، وعبيد الله بن عبّاس على اليمن، وقيس بن سعد على مصر، وسهل [3] بن حنيف على الشام. فأما سهل فإنه خرج، حتى إذا كان بتبوك [4] لقيته خيل [5] فقالوا: من أنت؟ قال: أمير. قالوا: على أىّ شىء؟ قال: على   [1] كذا جاء فى النسخة (ن) وتاريخى الطبرى وابن الأثير. وفى النسخة (ك) : «القوم» [2] كذا جاء فى المخطوطة. وعند الطبرى وابن الأثير: «وإن كل ما حمل عليك حمل على» [3] أخو عثمان بن حنيف، وهما صحابيان. [4] موضع بين وادى القرى والشام، وقد سبق ذكره. [5] أى: فرسان خيل. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 21 الشام. قالوا: إن كان عثمان بعثك فحىّ هلا بك [1] ، وإن كان بعثك غيره فارجع. قال: أو ما سمعتم بالّذى كان؟ قالوا: بلى ... فرجع إلى علىّ. وأمّا عمارة فلمّا بلغ زبالة [2] لقيه طليحة بن خويلد، وكان قد خرج يطلب بثأر عثمان، فقال له: ارجع فإنّ القوم لا يريدون بأميرهم بدلا، فإن أبيت ضربت عنقك ... فرجع إلى علىّ. وأمّا قيس بن سعد فإنّه لما انتهى إلى أيله [3] لقيته خيل، فقالوا: من أنت؟ قال: قيس بن سعد. قالوا امض. فمضى حتى دخل [مصر] [4] ، فافترق أهل مصر فرقا: فرقة دخلت فى الجماعة فكانوا معه، وفرقة اعتزلت بخرنبا، [5] وقالوا: «إن قتل قتلة عثمان فنحن معكم، وإلّا فنحن على جديلتنا [6] حتّى نحرك [7]   [1] حى هلا: كلمة تقال عند الدعاء إل الشىء، والإقبال عليه، أى: أنك حينئذ أهل لهذا. [2] زبالة: قرية بطريق مكة من الكوفة، وكانت بها أسواق. [3] أيله: مدينة معروفه على خليج العقبة، وكانت مقصودة، لمن كانوا يقدمون من الحجاز إلى الفسطاط بطريق البر. [4] كذا فى النسخة (ن) وتاريخ ابن الأثير، وسقطت هذه الكلمة من (ك) . [5] جاء فى هامش النسخة (ص ما نصه: «خرنبا» بفتح الخاء المعجمة وسكون الراء وفتح النون والباء الموحدة، بعدها ألف» ، وهو تابع لابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 105 حيث ذكر هذا الضبط، ولكن المحققين لا يصححون هذا، بل يرون أنها» «خربتا» بفتح الخاء أو كسرها مع كسر الراء وسكون الباء قبل التاء المثناه الفوفية، وكذلك تكررت فى مواضع من الجزء الأول من النجوم الزاهرة، وقال ياقوت فى معجم البلدان: « «خزنبا: قال نصر: موضع من أرض مصر، لأهلها حديث فى قصة على ومحمد بن أبى بكر، وهو خطأ، وقد سألت عنه أهل مصر فلم يعرفوا إلا خربتا» ، وقال فى موضع آخر: «خربتا» : هكذا ضبط فى كتاب ابن عبد الحكم، وقد ضبط الحازمى بالنون ثم الباء، هو خطأ» . والمعروف الآن أن «خربتا» قرية تابعة لمحافظة «البحيرة» وأنها بكسر الخاء والباء مع سكون الراء. [6] الجديلة: الحال والطريقة. [7] نحرك: نصاب السيوف، وهذه الكلمة جاءت فى النسخة (ن) ، وفى (ك) «تخزك الجزء: 20 ¦ الصفحة: 22 أو نصيب حاجتنا» ، وفرقة قالت نحن مع علىّ ما لم يقد من إخواننا [1] وهم فى ذلك مع الجماعة ... فكتب قيس إلى علىّ بذلك. وأمّا عثمان بن حنيف فسار حتّى دخل البصرة، ولم يردّه أحد ولا وجد لابن عامر [2] فى ذلك رأيا ولا استقلالا بحرب، وافترق الناس بها: ففرقة دخلت فى الجماعة، وفرقة اتّبعت القوم، وقالت فرقة «ننظر ما يقول أهل المدينة فنصنع ما صنعوا» . وأمّا عبيد الله بن عبّاس فانطلق إلى اليمن، فخرج يعلى بن منية [3] بعد أن جمع المال- ولحق بمكة، وأنفق المال فى حرب الجمل. قال [4] : ولمّا رجع سهل بن حنيف دعا علىّ طلحة والزّبير فقال «إنّ الأمر الذى كنت أحذّركم قد وقع، وإنّ الّذى قد وقع لا يدرك إلّا بإماتة [5] ، وإنّها فتنة كالنار كلما سعرت ازدادت اضطراما، واستثارت» . فقالا [6] :- ائذن لنا نخرج من المدينة، فإما أن نكاثر، وإما أن تدعنا. فقال: سأمسك الأمر ما أستمسك، فإذا لم أجد بدا فآخر الداء الكى!.   [1] أى: ما لم يقتل إخواننا بما فعلوه فى الخليفة عثمان بن عفان. [2] ابن عامر: عبد الله بن عامر بن كريز، وكان ابن خال عثمان بن عفان، وقد ولاه عثمان البصرة. [3] هو يعلى بن أمية بن أبى عبيدة بن همام بن الحارث التميمى الخنظلى حليف قريش، ينسب حينا إلى أبيه «أمية» وينسب حينا إلى أمه «منية» وسيأتى النسبان قريبا فى وقعة الجمل، وقد استعمله عمر بن الخطاب على بعض اليمن فحمى لنفسه حمى، فعزله عمر، ثم استعمله عثمان ابن عفان على صنعاء اليمن، وانظر الاستيعاب ج 3 ص 661 وتهذيب الأسماء ج 2 ص- 165 والإصابة ج 3 ص- 668. [4] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 103. [5] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى الكامل: «باماتته» . [6] كذا جاء عند ابن الأثير، وفى المخطوطة: «فقالوا» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 23 وكتب إلى معاوية وإلى أبى موسى، فأجابه أبو موسى بطاعة أهل الكوفة، وبيّن الكاره منهم [للذى كان] [1] والراضى ومن بين ذلك، حتى كان على [كأنّه] [2] يشاهدهم.. وكان رسوله إلى أبى موسى معبد الأسلمى. وكان رسوله إلى معاوية سبرة الجهنى، فلم يجبه معاوية بشىء وكلّما تنجّز جوابه لم يزده على قوله: أدم إدامة حصن أو خذا [3] بيدى ... حربا ضروسا تشبّ الجزل والضّرما [4] فى جاركم وابنكم إذ كان مقتله ... نعاء [5] شيّبت الأصداغ واللمما أعيى المسود بها والسّيّدون فلم ... يوجد لها غيرنا مولى ولا حكما حتى إذا كان [الشهر الثالث من مقتل عثمان] [6] فى صفر دعا معاوية رجلا من بنى عبس، اسمه قبيصة، فدفع إليه طومارا [7] مختوما، عنوانه «من معاوية إلى علىّ» وقال له: إذا دخلت المدينة فاقبض   [1] الزيادة من الكامل لابن الأثير. [2] كذا جاء فى المخطوطة كالكامل، وفى تاريخ ابن جرير الطبرى ج 3 ص 4643: «أو جدا» . [3] تشب: توقد. والجزل: الحطب اليابس الغليظ. والضرم: السعف الذى فى طرفه نار، والجمر. [4] كذا جاء فى النسخة (ن) . وفى (ك) : شنعا» . [6] الزيادة من ابن الأثير:. [7] الطومار: الصحيفة. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 24 على أسفل الطّومار. وأوصاه بما يقول، وأعاد رسول علىّ معه، فقدما المدينة فى شهر ربيع الأوّل، ودخل العبسىّ كما أمره معاوية، والناس تنظر إلى الطّومار، حتّى دفعه إلى علىّ، ففضّه، فلم يجد فيه كتابا فقال للرسول: ما وراءك؟ قال: وأنا آمن؟ قال: نعم، إن الرّسل لا تقتل: قال تركت قوما لا يرضون إلّا بالقود [1] . قال: ممّن؟ قال «من خيط رقبتك! وتركت ستّين ألف شيخ يبكى تحت قميص عثمان، وهو منصوب لهم، قد ألبسوه منبر دمشق!» قال: «أمنّى يطلبون دم عثمان؟ ألست موتورا بترة [2] عثمان؟ اللهمّ إنّى أبرأ إليك من دم عثمان! نجا- والله- قتلة عثمان إلّا أن يشاء الله فإنه إذا أراد أمرا أصابه! اخرج.» قال وأنا آمن؟ قال: وأنت آمن. فخرج العبسىّ، فقالوا [3] : «هذا الكلب رسول الكلب! اقتلوه!» فنادى: يا آل مضر. يا آل قيس، الخيل والنبل، وبالله أقسم ليردّنّها عليكم أربعة آلاف خصىّ! فانظروا كم الفحول والركاب؟» وتعاووا [4] عليه، فمنعته مضر، وجعلوا يقولون له: «اسكت» فيقول: «لا والله، والله لا يفلح هؤلاء أبدا، أتاهم ما يوعدون، لقد حلّ بهم ما يحذرون، انتهت والله أعمالهم وذهبت ريحهم [5] .   [1] القود: القصاص. [2] جاء عند ابن جرير وابن الأثير: كترة» والترة: الثأر والظلم فيه، والموتور: المصاب بقتل حميمه ولم يدرك ثأره. [3] القائلون هم السبئية كما جاء عند ابن جرير وابن الأثير. [4] تعاووا (بالعين أو بالغين) أى: تجمعوا وتعاونوا. [5] فى القرآن الكريم: وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ والمراد بالريح الدولة والقوة. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 25 قال: وأظهر علىّ العزم على قتال معاوية، وكتب إلى عمّاله أن ينتدبوا الناس إلى الشام. ثم استأذنه طلحة والزبير فى العمرة، فأذن لهما. ودعا علىّ ابنه محمد بن الحنفيّة، فدفع إليه اللواء، وولى عبد الله بن عباس ميمنته، وعمرو بن أبى سلمة- أو عمرو بن سفيان بن عبد الأسد- ميسرته، وجعل أبا ليلى بن عمر بن الجرّاح (ابن أخى أبى عبيدة) على مقدّمته، واستخلف على المدينة قثم بن العبّاس. ذكر ابتداء وقعة الجمل ومسير عائشة وطلحة والزبير ومن معهم إلى البصرة وما كان من الحرب إلى أن استقروا بها وإخراج عثمان بن حنيف عامل على رضى الله عنه كان ابتداء وقعة الجمل أنّ عائشة رضى الله عنها كانت قد خرجت إلى الحجّ وعثمان محصور- كما ذكرنا- فلمّا قضت الحجّ وعادت أتاها الخبر بقتله وخلافة علىّ، وهى يسرف [1] ، فرجعت إلى مكة وهى تقول: «قتل- والله- عثمان مظلوما! والله لأطلبنّ بدمه!» وطلبت مكة، فقصدت الحجر، فسمرت فيه، واجتمع الناس إليها، فقالت: «أيّها الناس، إنّ الغوغاء من أهل الامصار وأهل المياه وعبيد أهل المدينة اجتمعوا على هذا الرجل المقتول ظلما بالأمس، ونقموا [2] عليه استعمال من حدثت سنّه، وقد استعمل أمثالهم   [1] سرف: موضع على ستة أميال من مكة. [2] نقموا: أنكروا. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 26 من قبله، ومواضع من الحمى حماها لهم [1] ، [وهى أمور قد سبق بها لا يصلح غيرها،] [2] فتابعهم، ونزع [لهم] [2] عنها (استصلاحا لهم) [2] ، فلمّا لم يجدوا حجّة ولا عذرا بادروا بالعدوان، فسفكوا الدم الحرام، وأستحلّوا البلد الحرام والشهر الحرام، وأخذوا المال الحرام، والله لإصبع من عثمان خير من طباق الأرض أمثالهم! وو الله لو أنّ الّذى اعتدوا به عليه كان ذنبا لخلص منه كما يخلص الذّهب من خبثة أو الثّوب من درنه إذ ما صوه [3] كما يماص الثّوب بالماء!» فقال عبد الله بن [عمرو بن] [4] الحضرمى (وكان عامل عثمان على مكة) : «ها أنا [ذا] [5] أوّل طالب» ، فكان أوّل مجيب، وتبعه [6] بنو أميّة على ذلك، وكانوا قد هربوا من المدينة إلى مكة بعد قتل عثمان، وتبعهم سعيد بن العاص والوليد ابن عقبة.   [1] قال عثمان- رضى الله عنه دفاعا عن نفسه: «وأما الحمى فان عمر حمى الحمى قبل لإبل الصدقة فلما وليت زادت إبل الصدقة، فزدت فى الحمى لما زاد فى إبل الصدقة» . انظر تاريخ ابن جرير الطبرى فى ج 3 ص سنة 390. [2] الزيادة من تاريخ ابن جرير ج 3 ص 468. [3] فى النهاية: «فى حديث عائشة قالت عن عثمان: مصتموه كما يماص الثوب ثم عدوتم عليه فقتلتموه، الموص: الغسل بالأصابع يقال: مصته أموصه موصا، أرادت أنهم استتابوه عما نقموا منه فلما أعطاهم ما طلبوا قتلوه» . [4] هذا هو الصواب، كما ذكراه ابن حجر فى الإصابة ج 2 ص 351 وابن جرير وغيره فى أسماء عمال عثمان، وهو غير عبد الله بن عامر بن كريز القرشى وإلى البصرة الذى يأتى مذكره بعد أسطر. وقد جاء فى المخطوطة «عبد الله بن عامر الحضرمى» وهو خطأ وقع أيضا فى نسخ الطبرى وابن الأثير فى هذا الموضع. [5] كذا جاء فى تاريخ ابن جرير ج 3 ص 648. ووقع فى المخطوطة: «ها أنا أول طالب» . [6] كان عبد الله بن الحضرمى حليفا لبنى أمية. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 27 وقدم عليهم عبد الله بن عامر [1] من البصرة بمال كثير ويعلى ابن أميّة (وهو ابن منية) [2] من اليمن ومعه ستمائة بعير وستمائة ألف، فأناخ بالأبطح. وقدم طلحة والزّبير من المدينة، فلقيا عائشة: فقالت: ما وراءكما؟ فقالا: «إنّا تحمّلنا هرّابا [3] من المدينة من غوغاء وأعراب، وفارقنا قوما حيارى لا يعرفون حقّا ولا ينكرون باطلا ولا يمنعون أنفسهم» ، فقالت: انهضوا إلى هذه الغوغاء. فقالوا: نأتى الشام. فقال ابن عامر: «قد كفاكم معاوية الشام، فأتوا البصرة، فإنّ لى بها صنائع، ولهم فى طلحة هوى» ، قالوا: «قبحك الله! فو الله ما كنت بالمسالم ولا بالمحارب، فهلّا أقمت كما أقام معاوية فنكتفى بك، ثم نأتى الكوفة فنسدّ على هؤلاء القوم مذاهبهم» . فلم يجدوا [4] عنده جوابا مقبولا. حتّى إذا استقام لهم الرأى على البصرة قالوا: «يا أمّ المؤمنين، دعى المدينة، فإنّ من معنا لا يطيق من بها من الغوغاء، [واشخصى [5] معنا إلى البصرة، فإنّا] [6] نأتى بلدا مضيعا، وسيحتجّون علينا [فيه] [6] ببيعة علىّ فتنهضينهم [7] كما أنهضت أهل مكة،   [1] سبق أنه ابن خال عثمان بن عفان وواليه على البصرة. [2] سبق ذكره وأنه عامل عثمان على صنعاء اليمن. [3] أى: ارتحلنا هاربين. [4] كذا جاء عند الطبرى وابن الأثير. وفى المخطوطة: «فلم تجد» . [5] أى: اذهبى. [6] الزيادة من تاريخ الطبرى. [7] كذا جاء عند الطبرى وابن الأثير وفى المخطوطة «فتهضهم» .. وقد جاء فى بعض الروايات أن طلحة والزبير قالا لعائشة: «إنا نأتى أرضا قد أضيعت وصارت إلى على، وقد أجبرنا على على بيعته، وهم محتجون علينا بذلك وتاركوا أمرنا، إلا أن تخرجى فتأمرى ما أمرت بمكة» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 28 فإن أصلح الله الأمر كان الذى أردنا، وإلّا دفعنا [عن هذا الأمر] [1] بجهدنا، حتّى يقضى الله ما أراد» . فأجابتهم إلى ذلك. ودعوا عبد الله بن عمر ليسير معهم، فأبى، وقال: «أنا رجل من أهل المدينة، أفعل ما يفعلون» . فتركوه. وكان أزواج النّبى صلى الله عليه وسلم مع عائشة على قصد المدينة، فلما تغيّر رأيها إلى البصرة تركن [2] ذلك. وأجابتها حفصة على المسير معها، فمنعها أخوها عبد الله [3] . وجّهزهم يعلى بن منية بستّمائة ألف وستمائة بعير، وجهّزهم ابن عامر بمال كثير. ونادى مناديها: «إنّ أمّ المؤمنين وطلحة والزّبير شاخصون إلى البصرة، فمن أراد إعزاز الإسلام وقتال المحلين [4] والطلب بثأر عثمان وليس له مركب ولا جهاز فليأت» . فحملوا ستّمائة على ستمائة بعير، وساروا فى ألف- وقيل فى تسعمائة- من أهل المدينة ومكة، وتلاحقت بهم الناس، فكانوا فى ثلاثة آلاف رجل. وأعان يعلى بن منية الزّبير بأربعمائة ألف، وحمل سبعين   [1] الزيادة من تاريخ الطبرى. [2] كذا جاء عند الطبرى وابن الأثير، وفى المخطوطة «تركوا» . [3] عبد الله بن عمر بن الخطاب أخو أم المؤمنين حفصة لأبيها وأمها، كما سبق فى هذا الكتاب ج 18 ص- 176. [4] كذا جاء عند ابن جرير وابن الأثير، و «المحلون» يراد بهم هنا: الذين أحلوا ما حرم الله وانتهكوا حرماته، وهذا يناسب ما سبق قريبا من قول عائشة «سفكوا الدم الحرام واستحلوا البلد الحرام والشهر الحرام وأخذوا المال الحرام» ، وفى المخطوطة «المخلين» بالخاء المعجمة، والمعنى عليه غير بعيد. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 29 من قريش، وأعطى عائشة جملا، اسمه «عسكر» ، واشتراه بمائتى دينار، وقيل: بثمانين دينارا، وقيل: كان لرجل من عرينة، فابتيع منه بمهريّة [1] وأربعمائة درهم أو ستمائة درهم. وخرجت عائشة من مكة ومعها أمّهات المؤمنين إلى ذات عرق [2] فبكوا على الإسلام، فلم ير يوم [3] كان أكثر باكيا وباكية من ذلك اليوم، وكان يسمّى «يوم النّحيب» .. وكتبت أمّ الفضل [4] بنت الحارث (أمّ عبد الله بن عبّاس) إلى علىّ بالخبر. ولما خرجت عائشة من مكة أذّن مروان [5] بن الحكم، ثم جاء حتّى وقف على طلحة والزّبير فقال: على أيّكما أسلّم [6] بالإمرة وأؤذّن بالصلاة فقال عبد الله بن الزّبير: على أبى عبد الله (يعنى أباه) . وقال محمد ابن طلحة: على أبى محمد (يعنى أباه) . فأرسلت عائشة إلى مروان فقالت: أتريد أن تفرّق أمرنا، ليصلّ بالناس ابن أختى [7] (تعنى   [1] ناقة مهرية من نوع سريع معروف من الإبل. ينسب إلى «مهرة» . [2] موضع على مرحلتين من مكة، ينزل فيه مريد لحج من أهل العراق ليحرم بالحج منه. [3] كذا جاء عند ابن جرير وابن الأثير، ووقع فى المخطوطة «يوما» . [4] هى لبابة بنت الحارث الهلالية، اشتهرت بكنيتها. [5] مروان بن الحكم القرشى الأموى أبو عبد الملك، وهو ابن عم عثمان وكاتبه فى خلافته. [6] كذا جاء عند ابن جرير. وفى المخطوطة: «أسأله» . [7] ابتعدت بذلك عن ذكر الشيخين اللذين وقع فيهما الاختلاف. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 30 عبد الله بن الزّبير) . وقيل بل صلّى بالناس عبد الرحمن [1] بن عتّاب بن أسيد حتّى قتل. ولما انتهوا إلى ذات عرق لقى سعيد [2] بن العاص مروان بن الحكم وأصحابه [3] فقال: أين تذهبون وتتركون ثأركم على أعجاز الإبل وراءكم؟ (يعنى عائشة وطلحة والزّبير) اقتلوهم ثمّ ارجعوا إلى منازلكم! فقالوا: نسير فعلّنا نقتل قتلة عثمان ... فخلا سعيد ابن العاص بطلحة والزّبير، فقال: اصدقانى إن ظفرتما لمن تجعلان الأمر؟ قالا: نجعله لأحدنا أيّنا اختاره الناس. قال: بل تجعلونه لولد عثمان فإنّكم خرجتم تطلبون بدمه فقالا: ندع شيوخ المهاجرين ونجعلها لأبنائهم! قال: فلا أرانى أسعى إلّا لإخراجها من بنى عبد مناف [4] فرجع، ورجع عبد الله بن خالد بن أسيد [5] ، فقال المغيرة بن شعبة: «الرأى ما قال سعيد، من كان ها هنا من ثقيف فليرجع» ، ورجع. ومضى القوم، ومعهم أبان والوليد ابنا عثمان، وكان دليلهم رجلا من عرينة، وهو الّذى ابتيع منه الجمل (على أحد الأقوال) ، قال العرنىّ: فسرت معهم، فلا أمرّ على واد إلّا   [1] هو من الأمويين، صحابى أو تابعى، انظر الإصابة ج 3 ص 72 وشرح ابن أبى الحديد لنهج البلاغة ج 3 ص 41. [2] هو سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية القرشى الأموى. [3] بنى أمية. [4] قال ابن أبى الحديد فى شرح نهج البلاغة ج 3 ص 42 «طلحة من تيم بن مرة والزبير من أسد بن عبد العزى بن قصى، وليس أحد منها من بنى عبد مناف» . [5] عبد الله بن خالد أموى، وهو ابن عم عبد الرحمن بن عتاب الذى سبق ذكره قريبا. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 31 سألونى عنه، حتى طرقنا الحوأب- وهو ماء [1]- فنبحتنا كلابه فقالوا: أىّ ماء هذا؟ قلت: هذا ماء الحوأب، فصرخت عائشة بأعلى صوتها، واسترجعت [2] وقالت: إنّى لهيه! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنسائه: «ليت شعرى أيّتكنّ تنبحها كلاب الحوأب!» ثم ضربت عضد بعيرها فأناخته، وقالت: «ردّونى! أنا والله صاحبة ماء الحوأب!» فأناخوا حولها يوما وليلة، فقال لها عبد الله بن الزّبير: «إنه كذب، وليس هو ماء الحوأب» ولم يزل بها وهى تمتنع حتّى قال لها: النّجاء النّجاء! قد أدرككم علىّ بن أبى طالب.» فارتحلوا نحو البصرة، فلما كانوا بفنائها لقيهم عمير بن عبد الله التميمى فقال: (يا أمّ المؤمنين، أنشدك الله أن تقدمى اليوم على قوم لم تراسلى منهم أحدا، فعجّلى ابن عامر فإنّ له بها صنائع، فليذهب إليهم [3] » فأرسلته. وكتبت عائشة إلى رجال من أهل البصرة، وإلى الأحنف بن قيس وأمثاله، وأقامت بالحفير [4] تنتظر الجواب. ولما بلغ ذلك أهل البصرة دعا عثمان بن حنيف عمران بن حصين وأبا الأسود الدّؤلىّ وقال: انطلقا إلى عائشة واعلما علمها وعلم من معها، فأتياها وقالا: إنّ أميرنا بعثنا إليك ليسألك عن مسيرك فهل أنت مخبرتنا؟ فقالت: «والله ما مثلى يسير بالأمر المكتوم   [1] من مياه العرب على الطريق بين البصرة ومكة. ويصلح هذا الموضع لنزول المسافرين. [2] قالت: «إنا لله وإنا إليه راجعون» . [3] زاد ابن جرير الطبرى: «فليلقوا الناس حتى تقدمى ويسمعوا ما جئتم فيه» [4] الحفير: ما حفره أبو موسى الأشعرى على طريق البصرة إلى مكة فكان ماؤه عذبا. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 32 إنّ الغوغاء من أهل الأمصار ونزّاع [1] القبائل غزوا حرم رسول الله عليه الصلاة والسلام وأحدثوا فيه الأحداث [2] ، وآووا فيه المحدثين [3] ، فاستوجبوا لعنة الله ولعنة الرسول، مع ما نالوا من قتل إمام المسلمين بلاتره [4] ولا عذر، فاستحلّوا الدم الحرام فسفكوه، وانتهبوا المال الحرام، وأحلّوا البلد الحرام والشهر الحرام، ومزّقوا الأعراض والجلود، وأقاموا فى دار قوم كارهين لمقامهم ضارّين مضرّين [5] غير نافعين ولا منتفعين، لا يقدرون على امتناع ولا يأمنون، فخرجت فى المسلمين أعلمهم ما أتى هؤلاء، وما فيه الناس وراءنا، وما ينبغى لهم أن يأتوا فى إصلاح هذه القصّة» وقرأت: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [6] [ثم قالت [7] :] «نهض [8] فى   [1] النزاع من القبائل: جمع «النازع» وهو الغريب الذى نزع عن أهله وعشيرته أى: بعد وغاب. [2] الأحداث: جمع حدث، وهو: الأمر الحادث المنكر الذى ليس بمعتاد ولا معروف فى السنة، كما ذكره صاحب النهاية «فى حديث المدينة: من أحدث فيها حدثا، أو آوى محدثا» . [3] آووا المحدثين: نصروا الجانين أو أجاروهم من خصومهم وحالوا بينهم وبين أن يقتص منهم. [4] الترة: الثأر. [5] قد جاء اللفظان بمعنى واحد، وقد يكون المراد ب «مضرين» : الذين يكرهون غيرهم على الأمور التى يريدونها. [6] من الآية 114 من سورة النساء. [7] زيادة يقتضيها المقام. [8] عند الطبرى: «نهض» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 33 الإصلاح فيمن [1] أمر الله وأمر رسوله الصغير والكبير والذكر والأنثى، فهذا شأننا إلى معروف نأمركم به ونحضّكم عليه، ومنكر ننهاكم عنه ونحثّكم على تغييره فخرجا من عندها، فأتيا طلحة فقالا له: ما أقدمك؟ قال: الطلب بدم عثمان. فقالا: ألم تبايع عليّا؟ قال: «بلى، والسّيف على عنقى، وما أستقيل عليّا البيعة إن هو لم يحل بيننا وبين قتلة عثمان» . ثم أتيا الزّبير فقالا له وقال مثل ذلك. فرجعا إلى عائشة فودّعاها، فودّعت عمران، وقالت يا أبا الأسود، إيّاك أن يقودك الهوى إلى النار كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ (الآية) [2] . وسرّحتهما، ونادى مناديها بالرّحيل. ومضيا حتّى أتيا عثمان بن حنيف، فبدر أبو الأسود عمران فقال: يا ابن حنيف قد أتيت فانفر [3] . ... وطاعن القوم وجالد واصبر وابرز لهم مستلئما [4] وشمّر فاسترجع [5] عثمان، وقال: دارت رحى الإسلام [6] وربّ الكعبة! ونادى فى الناس، وأمرهم بلبس السلاح.   [1] عند الطبرى: «ممن» . [2] الآية 8 من سورة المائدة. [3] انفر: تقدم للقتال. [4] مستلئما: لا يسا اللأمة، هى الدرع عدة الحرب. [5] قال: إنا لله وإنا إليه راجعون. [6] روى أبو داود عن عبد الله بن مسعود عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «تدور رحى الإسلام بخمس وثلاثين أو ست وثلاثين أو سبع وثلاثين» .. قال الخطابى فى شرحه ج 4 ص 340: دوران الرحى كناية عن الحرب القتال، شبهها بالرحى الدوارة التى تطحن الحب، لما يكون فيها من تلف الأرواح وهلاك الأنفس قال الشاعر يصف حربا «فدارت رحانا واستدارت وحاهمو .... » قال زهير «فتعرككم عرك الرحى بثقالها ... » . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 34 وأقبلت عائشة فيمن معها حتّى انتهوا إلى المربد [1] ، فدخلوا من أعلاه، ووقفوا حتّى خرج عثمان بن حنيف فيمن معه، وخرج إلى عائشة من أهل البصرة من أراد أن يكون معها، فاجتمع القوم كلّهم بالمربد: عائشة ومن معها فى ميمنته، وعثمان ومن معه فى ميصرته. فتكلّم طلحة، فأنصتوا له، فحمد الله وأثنى عليه وذكر عثمان وفضله وما استحلّ منه [2] ، ودعا إلى الطلب بدمه، وحثّهم عليه. وتكلّم الزّبير بمثل ذلك. فقال من فى ميمنة المربد: صدقا وبرّا! وقال من فى ميسرته: «فجرا، وغدرا، وأمرا بالباطل! بايعا عليّا ثم جاءا يقولان ما يقولان!» وتحاثى [3] الناس وتحاصبوا [4] . فتكلّمت عائشة، فحمدت الله وأثنت عليه، وقالت: كان الناس يتجنّون على عثمان، ويزرون [5] على عماله، ويأتوننا بالمدينة فيستشيروننا فيما يخبروننا عنهم، ويرون حسنا من كلامنا فى إصلاح بينهم، فننظر فى ذلك فنجده بريّا تقيّا وفيّا،   [1] المربد: كان من أعظم محال البصرة أسواقها سككها. [2] فى رواية ابن جرير: وذكر عثمان وفضله والبلد وما استحل منه وعظم ما أتى إليه. [3] تحاثى الناس: تراموا التراب فرماه بعضهم فى وجه بعض ولم يذكر أصحاب الصحاح والنهاية واللسان والقاموس وشرحه هذا اللفظ فى مادته، وذكروا «استحثى» لهذا المعنى الذى هو ظاهر فى التفاعل، مثل «تحاصبوا» الآتى، وسيأتى «تحاثوا» قريبا، كما جاء هذا اللفظ عند ابن جرير وابن الأثير. [4] تحاصبوا: تراموا بالحصباء، أى الحصى. [5] يزرون: يعيبون. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 35 ونجدهم فجرة غدرة كذبه، وهم يحاولون غير ما يظهرون، فلمّا قدروا على المكاثرة كاثروه، فاقتحموا عليه داره، واستحلّوا الدم الحرام والمال الحرام، والبلد الحرام، بلاترة [1] ولا عذر، ألا إنّ فيما ينبغى- لا ينبغى لكم غيره- أخذ قتلة عثمان، وإقامة كتاب الله، أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ (الآية [2] ) . فافترق أصحاب عثمان بن حنيف فرقتين: فقالت فرقة: صدقت والله وبرّت وجاءت بالمعروف، وقالت فرقة خلاف ذلك. فتحاثوا وتحاصبوا وأرهجوا [3] ، فلمّا رأت عائشة ذلك انحدرت وانحدر أهل الميمنة مفارقين لعثمان بن حنيف، حتّى وقفوا فى المربد فى موضع الدبّاغين، وبقى أصحاب عثمان على حالهم، يتدافعون حتّى تحاجزوا، ومال بعضهم إلى عائشة [4] . وأقبل حكيم بن جبلة، وهو على خيل ابن حنيف، فأنشب القتال، فأشرع أصحاب عائشة رماحهم، وأمسكوا ليمسك [5] ، فلم ينته ولم ينثن، وأصحاب عائشة كافّون [إلّا ما دافعوا عن أنفسهم [6]] ثمّ اقتتلوا على فم السّكّة، وأشرف أهل الدّور ممن كان له فى أحد   [1] الترة: الثأر. [2] من الآية 23 من سورة آل عمران. [3] أرهجوا: أثاروا الغبار. [4] وبقى بعضهم مع عثمان بن حنيف على فم السكة، كما ذكره ابن جرير ج 3 ص 482. [5] هذا هو المناسب للفعلين بعده، وعبارة ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 109 «وأمسكوا ليمسك حكيم وأصحابه» . وفى المخطوطة وتاريخ ابن جرير: «ليمسكوا» . [6] الزيادة من تاريخ ابن جرير. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 36 الفريقين هوى، فرموا فى الأخرى بالحجارة. وأمرت عائشة أصحابها فتيامنوا، حتّى انتهوا إلى مقبرة بنى مازن، فوقفوا بها مليّا [1] ، وثاب إليهم الناس، فحجز الليل بينهم. ورجع عثمان إلى القصر، ورجع الناس إلى قبائلهم، وأتى أصحاب عائشة إلى ناحية دار الرزق [وباتوا يتأهبّون، وبات الناس يأتونهم، واجتمعوا بساحة دار الرزق [2]] . وأصبح عثمان فغاداهم [3] ، وخرج حكيم، فاقتتلوا قتالا شديدا من حين بزغت الشمس إلى أن زالت، وقد كثر القتل فى أصحاب ابن حنيف، وفشت الجراحة فى الفريقين، ومنادى عائشة يناشدهم ويدعوهم إلى الكفّ، فيأبون، حتّى إذا مسّهم الشرّ وعضّتهم الحرب نادوا أصحاب عائشة إلى الصلح، فأجابوهم: وتداعوا [4] وكتبوا بينهم كتابا [5] على أن يبعثوا رسولا إلى المدينة يسأل أهلها،   [1] مليا: زمنا طويلا. [2] سقطت هذه العبارة من النسخة (ك) وثبتت فى النسخة (ن) . [3] غاداهم: أتاهم أفى وقت الغداة. [4] كذا فى المخطوطة، أى: دعا بعضهم بعضا. وعند الطبرى «تواعدوا» . وعند ابن الأثير «توادعوا» . [5] الكتاب- كما ذكره ابن جرير وغيره- هو: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما اصطلح عليه طلحة والزبير ومن معهما من المؤمنين والمسلمين، وعثمان بن حنيف ومن معه من المؤمنين والمسلمين، أن عثمان يقيم حيث أدركه الصلح على ما فى يده، وأن طلحة والزبير يقيمان حيث أدركهما الصلح على ما فى أيديهما، حتى يرجع أمين الفريقين ورسولهم كعب بن سور من المدينة، ولا يضار واحد من الفريقين الآخر فى مسجد ولا سوق ولا طريق ولا قرضة، بينهم عيبة مكفوفة، حتى يرجع كعب الخبر، فان رجع بأن القوم أكرهوا طلحة والزبير فالأمر أمرهما، وإن شاء عثمان خرج حتى يلحق بطيته وإن شاء دخل معهما، وإن رجع أنهما لم يكرها فالأمر أمر عثمان، فان شاء طلحة والزبير أقاما على طاعة على وإن شاءا خرجا حتى يلحقا بطيتهما، والمؤمنون أعوان الفالج منهما» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 37 فإن كان طلحة والزّبير أكرها على مبايعة علىّ خرج ابن حنيف عن البصرة وأخلاها لهم، وإن كانا لم يكرها على البيعة خرج طلحة والزّبير. فسار كعب [1] بن سور حتّى أتى المدينة، فقدمها يوم جمعة فسأل أهلها هل أكره طلحة والزّبير على بيعة علىّ أم أتياها طائعين؟ فلم يجبه أحد إلا أسامة ابن زيد فإنه قال: اللهمّ إنّهما لم يبايعا إلّا وهما مكرهان. فواثبه سهل بن حنيف والناس، وثار صهيب وأبو أيّوب فى عدّة من الصحابة، منهم محمد بن مسلمة، حين خافوا أن يقتل أسامة، فقالوا: اللهمّ نعم. فتركوه، وأخذ صهيب أسامة بيده إلى منزله. وبلغ عليّا الخبر [2] ، فكتب إلى عثمان بن حنيف أنّهما لم يكرها على البيعة. فلمّا عاد كعب بن سور أمر عثمان بالخروج عن البصرة، فامتنع، واحتجّ بكتاب علىّ، فجمع طلحة والزّبير الرجال فى ليلة مظلمة ذات رياح ومطر، وقصدوا المسجد واقتتلوا، فقتل من أصحاب ابن حنيف أربعون رجلا، ودخل الرجال على ابن حنيف فأخرجوه [إليهما] [3] ، فما وصل وفى جهه شعرة، فاستعظما ذلك، وأرسلا إلى عائشة فى أمره، فأرسلت أن خلّوا سبيله، وبقى طلحة والزّبير بالبصرة ومعهما بيت المال والحرس، واستتر من لم يكن معهما. وبلغ حكيم بن جبلة ما حلّ بعثمان [بن حنيف] [4] فقال: لست   [1] كان قاضى البصرة. [2] كذا جاء عند ابن الأثير. وفى المخطوطة «على» . [3] كذا جاء عند ابن الأثير. وفى المخطوطة «على» . [4] كذا جاء فى (ك) وتاريخ ابن الأثير. وسقط من (ن) . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 38 أخاف الله إن لم أنصره. فجاء فى جماعة من عبد القيس ومن تبعه من ربيعة- وكان بينه وبين عبد الله بن الزّبير محاورات [1]- ثمّ التقوا واقتتلوا قتالا شديدا، فكان حكيم بحيال طلحة، وذريح بحيال الزّبير، وابن المحرّش [2] بحيال عبد الرحمن بن عتّاب، وحرقوص ابن زهير بحيال عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فقتل حكيم وابنه وأخوه، وقتل ذريح، وأفلت حرقوص فى نفر من أصحابه وجىء إلى طلحة والزبير بمن كان فيهم ممن غزا المدينة، فقتلوا. وكانت هذه الوقعة لخمس بقين من شهر ربيع الآخر من السنة وبايع أهل البصرة طلحة والزّبير. ذكر مسير على الى البصرة وما اتّفق له فى مسيره ومن انضمّ إليه ومراسلته أهل الكوفة قال: وكان علىّ رضى الله عنه قد تجهّز لقصد الشام لقتال معاوية، لما أظهر الخلاف عليه، كما تقدم، فبينما هو على ذلك أتاه الخبر عن طلحة والزّبير وعائشة من مكة بما عزموا عليه، فلما بلغه ذلك وأنهم يريدون البصرة سرّه ذلك، وقال: إن الكوفة فيها رجال [من] [3] العرب وبيوتاتهم. فقال له ابن عبّاس- رضى الله عنهما-:   [1] انظر المحاورات بين حكيم بن جبله وعبد الله بن الزبير عند ابن جرير وابن الأثير. [2] «ابن محرش» هكذا ضبطه بعض العلماء بالحاء المهملة والراء المشددة، وضبطه بعضهم بقوله «ابن المخترش» بالخاء المعجمة والتاء بعدها، واسمه: خويلد ابن عمرو بن صخر. [3] جاءت هذه الزيادة فى النسخة (ن) . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 39 «إنّ الّذى سرّك من ذلك ليسوءنى، إنّ الكوفة فسطاط فيه من أعلام العرب ولا يزال فيها من يسمو إلى أمر لا يناله، فإذا كان كذلك شغب على الّذى قد نال ما يريد، حتّى يكسر حدّته.» فقال علىّ: إنّ الأمر ليشبه ما تقول. وتهيّأ للخروج إليهم، فندب أهل المدينة للمسير معه، فتثاقلوا فبعت إلى عبد الله بن عمر كميلا النّخعى [1] ، فجاء به، فدعاه إلى الخروج معه، فقال: «إنّما أنا من أهل المدينة، وقد دخلوا فى هذا الأمر، فدخلت معهم، فإن يخرجوا أخرج معهم [وإن يقعدوا أقعد.» قال: فأعطنى كفيلا. قال: لا أفعل [2]] . فقال له علىّ: لولا ما أعرف من سوء خلقك صغيرا وكبيرا لأنكرتنى! دعوه فأنا كفيله. فرجع ابن عمر إلى أهل المدينة وهم يقولون: «والله ما ندرى كيف نصنع؟ إنّ الأمر لمشتبه علينا، ونحن مقيمون حتّى يضىء!» فخرج من تحت ليلته، وأخبر أمّ كلثوم (ابنة علىّ، وهى زوجة عمر) بالّذى سمع وأنّه يخرج معتمرا مقيما على طاعة علىّ ما خلا النهوض [3] . فأصبح علىّ فقيل له: حدث الليلة حدث هو أشدّ من أمر طلحة والزّبير وعائشة ومعاوية! قال: وما ذاك؟ قالوا: خرج ابن عمر إلى الشام! فأتى السوق، وأعدّ   [1] كميل بن زيادة بن نهيك النخعى، كان شريفا مطاعا من رؤساء الشيعة، عاش حتى قتله الحجاج. [2] ثبتت هذه العبارة فى النسخة (ن) كما جاءت عند ابن جرير وابن الأثير. وسقطت. من النسخة (ك) . [3] كان على رضى الله عنه قد قال لابن عمر حين دعاه إلى الخروج معه: «انهض معى» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 40 الظّهر [1] [والرّحال، وأعدّ] [2] لكل طريق طلّابا، وماج الناس، فسمعت أمّ كلثوم، فأتت عليّا فأخبرته الخبر [3] ، فطابت نفسه، وقال: «انصرفوا، والله ما كذبت ولا كذب، وإنّه عندى ثقة» . فانصرفوا. ثم أتى عليّا الخبر بمسير طلحة والزّبير وعائشة من مكة نحو البصرة، فدعا وجوه أهل المدينة وخطبهم، فحمد الله وأثنى عليه وقال: «إنّ آخر هذا الأمر لا يصلح إلّا بما صلح أوّله، فانصروا الله ينصركم ويصلح لكم أمركم.» فتثاقلوا، فلمّا رأى زياد بن حنظله تثاقل الناس انتدب [4] إلى علىّ رضى الله عنه وقال له: من تثاقل عنك فإنّا نخفّ معك فنقاتل دونك. وقام أبو الهيثم [5] ابن التّيّهان وخزيمة بن ثابت. قال ابن الأثير [6] : «قال الحكم: ليس بذى الشهادتين، مات ذو الشهادتين أيّام عثمان رضى الله عنه» . وقال أبو عمر ابن عبد البر فى ترجمة [7] خزيمة بن ثابت   [1] الظهر: الإبل التى يحمل عليها وتركب. [2] ثبتت هذه العبارة فى النسخة (ن) ، وسقطت من النسخة (ك) ، وعبارة ابن جرير: «ودعا بالظهر فحمل الرجال» ، وعبارة ابن الأثير: «وأعد الظهر والرجال» . [3] كذا جاء فى (ن) ، وفى (ك) : «بالخبر» . [4] كذا جاء فى المخطوطة وتاريخ ابن الأثير. وجاء فى تاريخ ابن جرير الطبرى: «ابتدر» . [5] أبوا الهيثم بن التيهان صحابى أنصارى، اسمه مالك، وله ترجمة فى شرح ابن أبى الحديد لنهج البلاغة 2 ص 539 والاستيعاب ج 3 ص 368 والإصابة ج 3 ص 341 وأسد الغابة 4 ص 274. [6] فى الكامل ج 3 ص 113، وعبارته مأخوذة من ابن جرير فى تاريخه ج 3 ص 467. [7] ج 1 ص 417- 418 من الاستيعاب. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 41 ذى الشهادتين [1] : (إنه شهد مع علىّ حرب الجمل وصفّين فدلّ على أنه هو، والله أعلم.) فأجابا عليّا إلى نصرته. وقال أبو قتادة الأنصارى لعلىّ: «يا أمير المؤمنين، إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قلّدنى هذا السيف، وقد أغمدته زمانا، وقد حان تجريده على هؤلاء القوم الظالمين الّذين لم يألوا الأمة غشا، وقد أحببت أن تقدّمنى، فقدّمنى. قال [2] : ولما أراد علىّ المسير إلى البصرة وكان يرجو أن يدرك طلحة والزّبير فيردهما قبل وصولهما إلى البصرة، فلمّا سار استخلف على المدينة تمّام بن العبّاس، وعلى مكة قثم بن العباس، وقيل: أمّر على المدينة سهل بن حنيف، وسار فى تعبئته الّتى كانت لأهل الشام، وذلك فى آخر شهر ربيع الآخر سنة ست وثلاثين. وخرج معه من نشط من الكوفيين والبصرين متخففين فى تسعمائة، فلقيه عبد الله بن سلام فأخذ بعنانه، وقال: «يا أمير المؤمنين، لا تخرج منها، فو الله لئن خرجت منها [3] لا يعود إليها سلطان المسلمين أبدا!» فسبّوه، فقال: «دعوه، نعم الرجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم» . وسار حتّى انتهى إلى الرّبذة [4] ، فأتاه خبر سبقهم إلى البصرة، فأقام بها يأتمر ما يفعل.   [1] سمى خزيمة: «ذا الشهادتين» لأن النبى صلى الله عليه وسلم جعل شهادته كشهادة رجلين. [2] القائل ابن الأثير فى الكامل. [3] فى رواية ابن جرير الطبرى ج 3 ص 474: «لا ترجع إليها ولا يعود..» . [4] الربذة: قرية بين المدينة وفيد. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 42 ذكر ارسال على الى أهل الكوفة وعود رسله وإرسال غيرهم وما كان من إخراج أبى موسى الأشعرىّ عن الكوفة وانضمام أهل الكوفة إلى علىّ وما كان فى خلال ذلك من الأخبار قال: ولما أقام علىّ- رضى الله عنه- بالرّبذة أرسل منها محمد بن أبى بكر الصديق ومحمد بن جعفر رضى الله عنهم إلى أهل الكوفة، وكتب إليهم: «إنى قد اخترتكم على الأمصار، وفزعت إليكم لما حدث، فكونوا لدين الله أعوانا وأنصارا، وانهضوا إلينا، فالإصلاح نريد، لتعود هذه الأمّة إخوانا» . فمضيا. وأقام بالرّبذة، وأرسل إلى المدينة، فأتاه ما يريد من دابّة وسلاح. ثم قام فى الناس فخطبهم وقال: إنّ الله تبارك وتعالى أعزّنا بالإسلام ورفعنا به، وجعلنا إخوانا بعد ذلّة وقلّة وتباغض وتباعد، فجرى الناس على ذلك ما شاء الله، الإسلام دينهم، والحقّ فيهم، والكتاب إمامهم، حتّى أصيب هذا الرجل بأيدى هؤلاء القوم الّذين نزغهم [1] الشيطان، لينزغ [2] بين هذه الأمّة، ألا وإنّ هذه لا بدّ مفترقة كما افترقت الأمم قبلها، فنعوذ بالله من شر ما هو كائن ثم عاد ثانية فقال: إنّه لا بد مما هو كائن أن يكون، ألا وإن   [1] نزغهم: نخسهم ووسوس لهم. [2] ينزغ: يفسد. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 43 هذه الأمّة ستفترق [1] على ثلاث وسبعين فرقة، شرّها فرقة تنتحلنى [2] ولا تعمل بعملى، وقد أدركتم ورأيتم [3] ، فالزموا دينكم، واهدوا بهديى، فإنه هدى نبيّكم، واتّبعوا سنّته، وأعرضوا عمّا أشكل عليكم حتّى تعرضوه على القرآن، فما عرفه القرآن فالزموه، وما أنكره فردّوه، وارضوا بالله ربّا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيّا، وبالقرآن حكما وإماما. قال: ثمّ أتاه جماعة من طيّىء، وهو بالرّبذة، فقيل له: هذه جماعة قد أتتك، منهم من يريد الخروج معك، ومنهم من يريد التسليم عليك. فقال: جزى الله كلّا خيرا وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً [4] . فلمّا دخلوا عليه قال لهم: ما شهدتمونا قال به؟ قالوا: شهدناك بكلّ ما تحب. فقال: «جزاكم الله خيرا! قد أسلمتم طائعين، وقاتلتم المرتدين، ووافيتم بصدقاتكم المسلمين» . فنهض سعيد بن عبيد الطائى فقال: «يا أمير المؤمنين، إنّ من الناس من يعبّر لسانه عن قلبه، وإنّى- والله- ما كلّ [5] ما أجد فى قلبى يعبّر عنه لسانى، وسأجهد وبالله التوفيق، أمّا أنا فسأنصح   [1] هذا مأخوذ من حديث النبى صلى الله عليه وسلم، فقد روى أحمد بن حنبل وأبو داود عن معاوية بن أبى سفيان أنه قام فقال: ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا فقال: «ألا إن من كان قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين، اثنتان وسبعون فى النار، وواحدة فى الجنة، وهى الجماعة» . انظر معالم السنن ج 4 ص 295. [2] تنتحلنى: تنتسب إلى. [3] كذا جاء فى المخطوطة مثل الذى رواه ابن جرير. وجاء فى الكامل لابن الأثير: «وقد أدركتهم ورأيتهم» . [4] من الآية 95 من سورة النساء. [5] كذا جاء عند الطبرى. وفى المخطوطة هذه العبارة: «وإنى والله ما أجد لسانى يعبر عما فى قلبى» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 44 لك فى السر والعلانية، وأقاتل عدوّك فى كل موطن، وأرى من الحقّ لك ما لا أراه لأحد من أهل زمانك لفضلك وقرابتك» . فقال: «يرحمك الله! قد أدّى لسانك عما يجنّ ضميرك» . [1] قال: ثم سار علىّ- رضى الله عنه- من الرّبذة، وعلى مقدّمته أبو ليلى بن عمرو بن الجراح، والراية مع ابنه محمد بن الحنفيّة، وعلىّ على ناقة حمراء يقود فرسا كميتا، فلمّا نزل بفيد [2] أتته أسد وطيّىء، فعرّضوا عليه أنفسهم فقال: فى المهاجرين كفاية. وعرضت عليه بكر بن وائل أنفسها، فقال لها كذلك. قال: وانتهى إلى ذى قار [3] أتاه عثمان بن حنيف وليس فى وجهه شعرة [4]- وقيل: إنّه أتاه بالرّبذة- فقال: يا أمير المؤمنين بعثتنى ذا لحية وقد جئتك أمرد! قال: أصبت أجرا وخيرا!. وأقام بذى قار ينتظر جواب أهل الكوفة [5] . وكان من خبر محمد بن أبى بكر ومحمد بن جعفر أنّهما أتيا أبا موسى الأشعرىّ بكتاب علىّ، وقاما فى الناس بأمره، فلم يجابا بشىء، فلما أيسوا دخل ناس من أهل الحجا على أبى موسى فقالوا: ما ترى فى الخروج؟ فقال: «كان الرأى بالأمس ليس اليوم [6] ، إن   [1] زاد الطبرى وابن الأثير: «فقتل معه بصفين، رحمه الله» . [2] فيد: موضع فى منتصف الطريق بين العراق والحجاز. [3] ذوقار: موضع قريب من الكوفة، اشتهر عند العرب بوقعة مشهورة كانت بين بكر وكسرى. [4] كان محاربوه قد نتفوا شعر لحيته ورأسه وحاجبيه. [5] كذا جاء فى المخطوطة، وعند ابن جرير وابن الأثير «أمسوا» . [6] كذا جاء فى المخطوطة والكامل لابن الأثير. وفى تاريخ ابن جرير: «باليوم» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 45 الّذى تهاونتم به فيما مضى هو الذى جرّ عليكم ما ترون، إنّما هما أمران: القعود سبيل الآخرة، والخروج سبيل الدنيا، فاختاروا» فلم ينفر إليه أحد، فغضب محمد، فأغلظا لأبى موسى، فقال لهما: «والله إنّ بيعة عثمان فى عنقى وعنق صاحبكما، فإن لم يكن بدّ من قتال لا نقاتل أحدا حتّى نفرغ من قتلة عثمان حيث كانوا» . فانطلقا إلى علىّ فأخبراه الخبر وهو بذى قار، فقال للأشتر وكان معه: «أنت صاحبنا فى أبى موسى والمعترض فى كل شىء، اذهب أنت وابن عبّاس فأصلح ما أفسدت» . فخرجا، فقدما الكوفة، فكلّما أبا موسى، واستعانا عليه بنفر من أهل الكوفة، فخطبهم أبو موسى فقال «أيّها الناس، إنّ أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم الّذين صحبوه [فى المواطن] [1] أعلم بالله ورسوله ممّن لم يصحبه، وإنّ لكم علينا حقّا، وأنا مؤدّ إليكم نصيحة، كان الرأى ألّا تستخفّوا بسلطان الله، وألا تجترئوا على الله، وأن تأخذوا من قدم عليكم من المدينة فتردّوهم إليها حتّى يجتمعوا فهم أعلم بمن تصلح له الإمامة [منكم] [2] ، وهذه فتنة صمّاء [3] ، النائم [4] فيها خير من اليقظان، واليقظان خير من القاعد، والقاعد خير من القائم، والقائم خير من الراكب، والراكب خير من الساعى،   [1] الزيادة من رواية ابن جرير الطبرى. [2] الزيادة من رواية ابن جرير. [3] الفتنة الصماء هى التى لا سبيل إلى تسكينها، لأن الأصم لا يسمع النداء فلا يقلع عما بفعله: وقيل: هى كالحية الصماء التى لا تقبل الرقى. [4] هذا وما يتصل به بعده مأخوذ من حديث النبى صلى الله عليه وسلم، وسيأتى ذكره قريبا. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 46 فكونوا جرثومة [1] من جراثيم العرب، فأغمدوا السّيوف، وأنصلوا [2] الأسنّة، واقصعوا الأوتار، وآووا [3] المظلوم والمضطهد، حتّى يلتئم هذا الأمر، وتنجلى هذه الفتنة» . فرجع ابن عبّاس والأشتر إلى علىّ، فأخبراه الخبر. فأرسل ابنه الحسن وعمّار بن ياسر، رضى الله عنهما، وقال لعمّار: انطلق فأصلح ما افسدت. فأقبلا حتّى دخلا مسجد الكوفة، فكان أوّل من رآهما مسروق [4] بن الأجدع، فسلّم عليهما، وأقبل على عمّار فقال: يا أبا اليقظان علام قتلتم عثمان؟ قال: على شتم أعراضنا وضرب أبشارنا [5] ! قال: فو الله ما عاقبتم بمثل ما عوقبتم به ولا صبرتم فكان خيرا للصابرين [6] !. فخرج أبو موسى فلقى الحسن فضمّه إليه، وأقبل على عمّار قال: يا أبا اليقظان أعدوت على أمير المؤمنين فيمن عدا فأحللت نفسك مع الفجّار؟ فقال: لم أفعل ولم يسؤنى! فقطع الحسن عليهما [الكلام [7]] ، وأقبل على أبى موسى فقال له: «لم تثبط   [1] الجرثومة: الأصل. [2] انصلوا الأسنة: انزعوا أسنة الرماح، أى: أخرجوا الأسنة من أماكنها إبطالا للقتال. [3] كذا جاء فى النسخة (ن) وتاريخ ابن جرير وابن الأثير، أى: ضموه إليكم. وحوطوه بينكم. وفى النسخة (ك) : «وانصروا» . [4] كذا جاء فى تاريخ ابن جرير والقاموس والإصابه ج 3 ص 492 حيث ترجمته. وفى المخطوطة: «المسروق» . [5] أبشار: جمع بشر، و «بشر» اسم جنس جمعى واحده: بشرة، وهى ظاهر الجلد. [6] مأخوذ من قول الله تعالى: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ، وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ الآية 126 من سورة النحل. [7] الزيادة من الكامل لابن الأثير. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 47 الناس عنّا؟ فو الله ما أردنا إلّا الإصلاح، ولا مثل أمير المؤمنين يخاف على شىء!» قال: صدقت، بأبى أنت وأمّى! ولكن» المستشار مؤتمن [1] ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إنها ستكون فتنة، القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشى، والماشى خير من الراكب [2] » وقد جعلنا الله إخوانا، وحرّم علينا دماءنا وأموالنا. فغضب عمّار، وسبّه، وقام فقال: يا أيّها الناس إنّما قال له وحده «أنت فيها قاعدا خير منك قائما» !. فقام رجل من بنى تميم، فسبّ عمّارا وقال: أنت أمس مع الغوغاء واليوم تسافه أميرنا!. وثار زيد بن صوحان وأمثاله، وثار الناس، وقام زيد على باب المسجد، ومعه كتاب من عائشة إليه تأمره بملازمة بيته أو نصرتها، وكتاب إلى أهل الكوفة بمعناه، فأخرجهما فقرأهما على الناس، فلما فرغ منهما قال: «أمرت أن تقرّ فى بيتها [3] ، وأمرنا أن نقاتل حتّى   [1] «المستشار مؤتمن» حديث رواه الترمذى وابن ماجه وغيرهما عن النبى صلى الله عليه وسلم، والمراد أنه أمين على ما استشير فيه. [2] هذا الحديث رواه عن النبى صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة، فقد رواه البخارى عن أبى هريرة فى الحديثين 6654، 6655، ورواه مسلم عن أبى هريرة وأبى بكرة، انظر شرح النووى ج 18 ص 8- 9، وروى الترمذى أن سعد بن أبى وقاص قال عند فتنة عثمان بن عفان أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إنها ستكون فتنة..» ثم عقبة بقوله «قال أبو عيسى: وفى الباب عن أبى هريرة وخباب بن الأرت وأبى بكرة» وابن مسعود وأبى واقد وأبى موسى وخرشة، وهذا حديث حسن» ج 9 ص 48- 49. [3] يشير إلى قول الله تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 48 لا تكون فتنة [1] ، فأمرتنا بما أمرت به، وركبت ما أمرنا به!» . فقال له شبث بن ربعىّ: يا عمانىّ [2] ، سرقت بجلولاء [3] فقطعت يدك! وعصيت أمّ المؤمنين [فقتلك الله [4]] !. وتهاوى الناس. قام أبو موسى فقال: أيّها الناس، أطيعونى، وكونوا جرثومة من جراثيم العرب، يأوى إليكم المظلوم، ويأمن فيكم الخائف إنّ الفتنة إذا أقبلت شبّهت، وإذا أدبرت بيّنت [5] وإنّ هذه الفتنة باقرة [6] كداء البطن [7] ، تجرى بها [8] الشّمال والجنوب والصّبا والدّبور، تذر الحكيم وهو حيران كابن أمس، شيموا [9] سيوفكم، واقصدوا [10] رماحكم، وقطّعو أوتاركم والزموا بيوتكم، خلّوا قريشا إذ أبوا إلّا الخروج من دار الهجرة وفراق أهل العلم [11] ، استنصحونى ولا تستغشونى، أطيعونى يسلم لكم دينكم،   [1] يشير إلى قول الله تعالى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ*. [2] قال ابن جرير وابن الأثير: زيد من «عبد القيس» وهم يسكنون عمان. [3] جلولاء: قرية بالعراق كانت بها وقعة مشهورة على الفرس المسلمين. [4] الزيادة من أبن جرير. [5] أى أنها إذا أقبلت شبهت على القوم وأرتهم أنهم على الحق حتى يدخلوا فيها ويركبوا منها مالا يجوز، فاذا أدبرت وانقضت بان أمرها فعلم من دخل فيها أنه كان على الخطأ. [6] كذا رواها ابن جرير فى تاريخة، وقال صاحب النهاية: فى حديث أبى موسى: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «سيأتى على الناس فتنة باقرة تدع الحليم حيران» أى: واسعة عظيمة. وفى المخطوطة: «فاقرة» . [7] فى النهاية: «إن هذه لفتنة باقرة كداء البطن لا يدرى أنى يؤتى له» أى أنها مفسدة للدين مفرقة للناس وشبهها بداء البطن لأنه لا يدرى ما هاجه وكيف يداوى ويتأتى له. [8] كذا رواها ابن جرير، وفى المخطوطة: «به» . [9] شيموا: اغمدوا. [10] اقصدوا: اكسروا. [11] فى تاريخ الطبرى: «العلم بالإمرة» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 49 ودنياكم ويشقى بجر هذه الفتنة من جناها. فقام زيد، فشال يده المقطوعة، فقال: يا عبد الله بن قيس [1] ردّ الفرات عن أدراجه، اردده من حيث يجىء حتّى يعود كما بدأ فإن قدرت على ذلك فستقدر على ما تريد، فدع عنك ما لست مدركه، سيروا إلى أمير المؤمنين وسيّد المسلمين، انفروا إليه أجمعين تصيبوا الحقّ!. فقام القعقاع بن عمرو [2] فقال: «إنّى لكم ناصح، وعليكم شفيق، أحبّ لكم أن ترشدوا، ولأقولنّ لكم قولا هو الحقّ، أمّا ما قال الأمير فهو الحقّ لو أنّ إليه سبيلا، وأمّا ما قال زيد فزيد عدوّ هذا الأمير فلا تسنصحوه، والقول الّذى هو الحق أنه لا بدّ من إمارة تنظم الناس، وتزع [3] الظالم، وتعزّ المظلوم وهذا أمير المؤمنين ملىء [4] بما ولى، وقد أنصف فى الدعاء، وإنما يدعو إلى الإصلاح، فانفروا وكونوا من هذا الأمر بمرأى ومسمع» . وقال عبد خير الخيوانى: يا أبا موسى هل بايع طلحة والزبير عليّا؟ قال: نعم! قال: هل أحدث علىّ ما يحلّ به نقض بيعته؟ قال: لا أدرى. قال: «لا دريت! نحن نتركك حتّى تدرك! هل تعلم أحدا خارجا من هذه الفتنة؟ إنّما الناس أربع فرق: علىّ   [1] عبد الله بن قيس هو أبو موسى الأشعرى. [2] القعقاع بن عمرو التميمى كان من الصحابة والفرسان. [3] هكذا جاء عند ابن جرير وابن الأثير، و «تزع» بمعنى: تكف وتمنع وتزجر وفى المخطوطة «ترع» . [4] ملىء: مضطلع ناهض. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 50 بظهر الكوفة، وطلحة والزّبير بالبصرة، ومعاوية بالشام، وفرقة بالحجاز لاغناء بها ولا يقاتل بها عدوّ.» فقال أبو موسى: أولئك خير الناس وهى فتنة! فقال عبد خير: غلب عليك غشك يا أبا موسى! فقال سيحان بن صوحان: إنّه لا بدّ لهذا الأمر وهؤلاء الناس من وال، يدفع الظلم، ويعزّ المظلوم، ويجمع الناس، وهذا وليكم [1] وهو يدعوكم لتنظروا فيما بينه وبين صاحبيه، وهو المأمون على الأمّة، الفقيه فى الدين، فمن نهض إليه فإنّا سائرون معه. فلما فرغ سيحان قال عمّار: «هذا ابن عمّ رسول الله عليه الصلاة والسلام، يستنفركم [2] إلى زوجة رسول الله وإلى طلحة والزّبير، وإنّى أشهد أنها زوجته فى الدنيا والآخرة، فانظروا ثم انظروا فى الحقّ، فقاتلوا معه» . فقال له رجل: أنا [3] مع من شهدت له بالجنة على من لم تشهد له! فقال له الحسن: اكفف عنّا [يا عمّار] [4] فإنّ للإصلاح أهلا!. وقام الحسن رضى الله عنه، فقال: أيّها الناس أجيبوا دعوة أميركم، وسيروا إلى إخوانكم، فإنه سيوجد لهذا الأمر من ينفر إليه، وو الله لأن يليه أولو النّهى أمثل فى العاجل والآجل، وخير فى العاقبة، اجيبوا دعوتنا، وأعينونا على ما ابتلينا به وابتليتم، وإنّ أمير المؤمنين يقول: «قد خرجت مخرجى هذا ظالما أو مظلوما، وإنى أذكّر   [1] كذا جاء فى المخطوطة، وعند الطبرى وابن الأثير «واليكم» . [2] يستنفركم: يستنصركم. [3] كذا جاء فى المخطوطة وتاريخ ابن الأثير وجاء فى تاريخ ابن جرير الطبرى «لهو» [4] الزيادة من ابن جرير. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 51 الله رجلا رعى حقّ الله إلّا نفر، فإن كنت مظلوما أعاننى، وإن كنت ظالما أخذ منى، والله إنّ طلحة والزّبير لأوّل من بايعنى وأوّل من عذر فهل استأثرت بمال أو بدّلت حكما؟» فانفروا، فمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر. فسامح الناس وأجابوا ورضوا، وتكلم عدىّ بن حاتم، وهند بن عمرو، وحجر بن عدىّ، وحثّوا الناس على اللحاق بعلىّ وإعانته، فأذعن الناس للمسير. فقال الحسن رضى الله عنه: «أيّها الناس، إنّى غاد، فمن شاء منكم أن يخرج على الظّهر [1] ، ومن شاء فى الماء» ، فنفر معه تسعة آلاف، أخذ فى البرّ ستّة آلاف ومائتان، وبقيّتهم فى الماء. وقيل: إنّ عليّا- رضى الله عنه- أرسل الأشتر بعد ابنه الحسن وعمّار- إلى الكوفة، فدخلها والناس فى المسجد، وأبو موسى يخطبهم ويثبّطهم، والحسن وعمّار معه فى منازعة، وكذلك سائر الناس، كما تقدم، فجعل الأشتر لا يمرّ بقبيلة فيها جماعة إلّا دعاهم ويقول: اتّبعونى إلى القصر، فانتهى إلى القصر فى جماعة من الناس، فدخلوا (وأبو موسى فى المسجد يخطبهم ويثبّطهم، والحسن يقول له: اعتزل عملنا لا أمّ لك وتنحّ عن منبرنا! وعمّار ينازعه) فأخرج الأشتر غلمان أبى موسى من القصر، فخرجوا يعدون وينادون: «يا أبا موسى، الأشتر قد دخل القصر، فضربنا، وأخرجنا» فنزل أبو موسى، فدخل القصر، فصاح به الأشتر: «اخرج   [1] الظهر: الإبل التى يحمل عليها وتركب. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 52 لا أمّ لك! أخرج الله نفسك!» فقال: أجّلنى هذه العشيّة. فقال هى لك ولا تبيتنّ فى القصر الليلة. ودخل الناس ينهبون متاع أبى موسى، فمنعهم الأشتر، قال: أنا له جار. فكفوا عنه. فنفر الناس فى العدد المذكور. وقيل: إنّ عدد من سار من الكوفة اثنا عشر ألف رجل ورجل، قال أبو الطّفيل: سمعت عليّا رضى الله عنه يقول ذلك قبل وصولهم، فقعدت فأحصيتهم، فما زادوا رجلا ولا نقصوا رجلا!. وكان على كنانه وأسد وتميم والرباب ومزينة معقل بن يسار الرّياحى [1] ، وعلى سبع [2] قيس سعد بن مسعود الثّقفى عمّ المختار [3] ، وعلى بكر وتغلب وعلة بن محدوج [4] الذّهلى [5] ، وعلى مذحج والأشعريين حجر بن عدىّ، [وعلى بجيلة وأنمار وخثعم والأزد مخنف بن سليم لأزدى، فقدموا على علىّ رضى الله عنه [6]] بذى قار، فلقيهم فى ناس فرحّب بهم، وقال: «يا أهل الكوفة، وليتم ملوك العجم وفضضتم جموعهم، حتى صارت إليكم مواريثهم، فأغنيتم حوزتكم،   [1] كذا جاء فى المخطوطة وغيرها، والمعرف أن «معقل بن يسار» صحابى سكن البصرة» وحفر نهر معقل بها، ويقال له «المزنى» لأنه بن مزينة، وأن «الرياحى» هو «معقل بن قيس الرياحى» من تميم، وهو المذكور فى أمراء على يوم الجمل، وانظر الإصابة ج 3 ص 499. [2] روى الطبرى فى تاريخة ج 3 ص 513 أنه «خرج إلى على اثنا عشر ألف رجل وهم أسباع ... » ثم ذكر «سبع قيس» و «سبع بكر بن وائل» ، و «سبع مذحج» و «سبع بجيلة» . [3] المختار بن أبى عبيد بن مسعود الثقفى. [4] كذا جاء فى تاريخى ابن جرير وابن الأثير، وفى المخطوطة «وعلة بن مجدوع» [5] من ذهل بن ثعلبة، من بكر. [6] سقطت هذه العبارة من النسخة (ك) وثبتت فى النسخة (ن) . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 53 وأعنتم الناس على عدوّهم، وقد دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا من أهل البصرة، فإن يرجعوا فذاك الّذى نريد، وإن يلجّوا داويناهم بالرفق حتى يبدءونا بظلم، ولم ندع أمرا فيه صلاح إلا آثرناه على ما فيه الفساد، إن شاء الله تعالى» . قال: وكان رؤساء الجماعة من الكوفيين: القعقاع بن عمرو وسعد بن مالك وهند بن عمرو والهيثم بن شهاب، وكان رؤساء النّفّار زيد بن صوحان والأشتر وعدىّ بن حاتم والمسّيب بن نجبه ويزيد ابن قيس وأمثال لهم ليسوا دونهم [إلّا أنهم] [1] لم يؤمّروا، منهم حجر بن عدىّ. ذكر مراسلة على طلحة والزبير وأهل البصرة فى الصلح وإجابتهم إليه وانتظام الصلح وكيف أفسده قتلة عثمان قال: وأقام علىّ- رضى الله عنه- بذى قار، فأرسل القعقاع بن عمرو إلى أهل البصرة وقال له: الق هذين الرجلين وادعهما إلى الألفة والجماعة وعظّم عليهما الفرقة. (وكان القعقاع من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم) . فخرج حتّى قدم البصرة، فبدأ بعائشة فسلّم عليها وقال: أى أمّه، ما أشخصك وما أقدمك هذه البلد؟ قالت: أى بنىّ، الإصلاح بين الناس. قال: فابعثى إلى طلحة والزّبير حتّى تسمعى كلامى وكلامهما، فبعثت إليهما، فجاءا، فقال لهما: إنّى سألت أمّ المؤمنين ما أقدمها؟ فقالت الإصلاح، فما تقولان أنتما؟ أمتابعان   [1] ثبتت هذه العبارة فى النسخة (ن) وسقطت من (ك) . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 54 أم مخالفان؟ قالا: متابعان. قال: فأخبرانى ما وجه هذا الإصلاح فو الله لئن عرفناه ليصلحنّ ولئن أنكرناه لا يصلح [1] . قالا: قتلة عثمان، فإنّ هذا إن ترك كان تركا للقرآن! قال: «قد قتلتما قتلة عثمان من أهل البصرة، وأنتما قبل قتلهم أقرب إلى الاستقامة منكم اليوم! قتلتم ستّمائة رجل فغضبت لهم ستة آلاف واعتزلوكم، وخرجوا من بين أظهركم، وطلبتم حرقوص بن زهير فمنعه ستة آلاف فارس، فإن تركتموهم كنتم تاركين لما تقولون، وإن قاتلتموهم والّذين اعتزلوكم فأديلو عليكم فالّذى حذرتم وقويتم [2] به هذا الأمر أعظم ممّا أراكم تكرهون [3] ، وإن أنتم منعتم مضر وربيعة من هذه البلاد اجتمعوا على حربكم وخذلانكم نصرة لهؤلاء، كما اجتمع هؤلاء لأهل هذا الحدث العظيم والذنب الكبير!» قالت عائشة فما تقول أنت قال «أقول إنّ هذا الأمر دواؤه التسكين، فإذا سكن اختلجوا، فإن أنتم بايعتمونا فعلا خير وتباشير رحمة ودرك بثأر، وإن أبيتم إلّا مكابرة هذا الأمر واعتسافه كانت علامة شرّ وذهاب هذا الثأر [4] ، فآثروا العافية ترزقوها، وكونوا مفاتيح خيركما كنتم، ولا تعرّضونا للبلاء فتتعرّضوا له فيصرعنا وإيّاكم، وايم الله إنّى لأقول هذا القول وأدعوكم إليه وإنى لخائف أن لا يتمّ حتّى يأخذ الله حاجته من هذه الأمّة التى قلّ   [1] كذا جاء فى النسخة (ن) وجاء فى (ك) : «لئن عرفناه لنصلحن ولئن أنكرناه لا نصلح» . [2] كذا جاء فى المخطوطة والكامل، وعند ابن جرير: «قربتم» ، وتأتى بمعنى «طلبتم» . [3] قال ابن كثير فى البداية والنهاية ج ص 237: يعنى أن الذى تريدونه من قتل قتلة عثمان مصلحة ولكنه يترتب عليه مفسدة هى أربى منها. [4] هكذا جاء فى رواية ابن جرير ج 3 ص 503، وجاء فى المخطوطة: «المال» الجزء: 20 ¦ الصفحة: 55 متاعها ونزل بها ما نزل، فإنّ هذا الأمر الّذى حدث أمر ليس يقدر، وليس كقتل الرجل الرجل ولا النّفر الرجل ولا القبيلة [الرجل] [1] قالوا: «قد أصبت وأحسنت، فارجع، فإن قدم علىّ وهو على مثل رأيك صلح هذا الأمر» . فرجع إلى علىّ، فأخبره، فأعجبه ذلك، وأشرف القوم على الصلح، كره ذلك من كرهه، ورضيه من رضيه [2] . وأقبلت وفود العرب من أهل البصرة نحو علىّ بذى قار، قبل رجوع القعقاع، لينظروا ما رأى إخوانهم من أهل الكوفة، وعلى أىّ حال نهضوا إليهم، وليعلموهم أنّ الذى عليه رأيهم الإصلاح، ولا يخطر لهم قتالهم على بال. فلما لقوا عشائرهم من أهل الكوفة قال لهم الكوفيون مثل مقالتهم، وأدخلوهم على علىّ فأخبروه بخبرهم. ورجعت وفود أهل البصرة برأى أهل الكوفة، ورجع القعقاع من البصرة. فقام علىّ رضى الله عنه خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر الجاهلية وشقاءها، والإسلام والسعادة، وإنعام الله على الأمّة والجماعة بالخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الّذى يليه، ثم الّذى يليه، ثم حدث هذا الحدث الّذى جرّه على هذه الأمّة أقوام طلبوا هذه الدنيا وحسدوا من أفاءها الله عليه) وعلى الفضيلة (التّى منّ الله   [1] الزيادة من ابن جرير وابن الأثير وجاء فى البداية والنهاية: «ولا القبيلة القبيلة» . [2] جاء فى البداية والنهاية بعد هذا: «وأرسلت عائشة إلى على تعلمه أنها جاءت الصلح، وفرح هؤلاء وهؤلاء» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 56 بها) ، وأرادوا ردّ الإسلام والأشياء على أدبارها، والله بالغ أمره. ثم قال: ألا وإنّى راحل غدا، فارتحلوا، ولا يرتحلنّ معنا أحد أعان على عثمان بشىء من أمور الناس، وليغن السفهاء عنّى أنفسهم. والله أعلم بالصواب. ذكر اجتماع قتلة عثمان بذى قار وتشاورهم وما اتفقوا عليه من المكيدة التى اقتضت نقض الصلح ووقوع الحرب قال: ولما قال علىّ رضى الله عنه مقالته بذى قار، وأمر ألّا يرتحل معه أحد ممّن أعان على عثمان بشىء اجتمع نفر منهم علباء بن الهيثم وعدى بن حاتم وسالم بن ثعلبة القيسى وشريح بن أبى أوفى [1] والأشتر، فى عدّة [2] ممّن سار إلى عثمان أو رضى بسير من سار إليه وجاء معهم المصريون وابن السوداء [3] وخالد بن ملجم، فتشاوروا فقالوا «ما الرأى؟ هذا علىّ وهو والله أبصر بكتاب الله ممّن يطلب قتلة عثمان، وأقرب إلى العمل بذلك، وهو يقول ما يقول، ولم ينفر إليه إلّا هم [4] والقليل من غيرهم، فكيف به إذا شامّ القوم وشامّوه [5] ورأوا قلّتنا فى كثرتهم؟ وأنتم والله ترادون،   [1] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى تاريخى الطبرى وابن الأثير «شريح بن أوفى» والخلاف فى هذا الاسم ملحوظ فى كثير من الكتب. [2] ذكر ابن كثير أنهم اجتمعوا «فى ألفين وخمسمائة، وليس فيهم صحابى وسيذكر المؤلف هذا العدد قريبا فى كلام ابن السوداء. [3] ابن السوداء: عبد الله بن سبأ. [4] كذا جاء فى رواية ابن جرير ج 3، ص 507، وفى المخطوطة (سواهم) [5] يقال «شامت فلانا» إذا قاربته وتعرفت ما عنده. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 57 وما أنتم بالحى [1] من شىء!» فقال الأشتر: «قد عرفنا رأى طلحة والزّبير فينا، وأمّا رأى علىّ فلم نعرف رأيه إلى اليوم، ورأى الناس فينا واحد، فان يصصلحوا مع علىّ فعلى دمائنا، فهلمّوا بنا نثب على علىّ فنلحقه بعثمان، فتعود فتنه يرضى منّا فيها بالسكون.» فقال عبد الله بن السوداء «بئس الرأى والله [رأيت] [2] ، أنتم يا قتلة عثمان بذى قار ألفان وخمسمائة، أو نحو من ستّمائة، وهذا ابن الحنظليّة- يعنى طلحة- وأصحابه فى نحو خمسة آلاف بالأشواق إلى أن يجدوا إلى قتالكم سبيلا!» فقال علباء بن الهيثم «انصرفوا بنا عنهم، ودعوهم، فإن قلّوا كان لعدوّهم عليهم، وإن كثروا كان أحرى أن يصطلحوا عليكم، ودعوهم وارجعوا فتعلّقوا ببلد من البلدان حتّى يأتيكم فيه من تقوون به، وامتنعوا من الناس.» فقال ابن السوداء «بئس والله ما رأيت، ودّ والله الناس أنّكم انفردتم ولم تكونوا مع أقوام برآء، ولو انفردتم لتخطّفكم الناس وكل شىء!» فقال عدىّ بن حاتم: «والله ما رضيت ولا كرهت، ولقد عجبت من تردّد من تردّد عن قتله فى خوض الحديث، فأمّا إذ وقع ما وقع ونزل من الناس بهذه المنزلة فإنّ لنا عتادا من خيول وسلاح، فإن أقدمتم أقدمنا، وأن أمسكتم أمسكنا!» فقال ابن السوداء: أحسنت! وقال سالم بن ثعلبة: «من كان أراد بما أتى الدنيا فإنى لم أرد ذلك، وو الله لئن لقيتهم غدا لا أرجع إلى شىء [3]   [1] كذا جاء فى المخطوطة والكامل لابن الأثير، 3 ص 120، وجاء فى تاريخ ابن جرير: «بأنجى» . [2] الزيادة من ابن جرير وابن الأثير. [3] كذا جاء فى المخطوطة والكامل لابن الأثير ج 3 ص 121، وجاء فى تاريخ الطبرى ج 3، ص 508 «لئن لقيتم غدا لا أرجع إلى بيتى» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 58 وأحلف بالله إنكم لتفرقون الناس بالسيف [1] فرّق قوم لا تصير أمورهم إلّا إلى السيف!» فقال ابن السوداء: قد قال قولا. وقال شريح بن أبى أوفى: «أبرموا أمركم قبل أن يخرجوا [2] ، ولا تؤخروا أمرا ينبغى لكم تعجيله، ولا تعجّلوا أمرا ينبغى لكم تأخيره فإنّا عند الناس بشرّ المنازل، ولا أدرى ما الناس صانعون إذا ما هم التقوا!» وقال ابن السوداء: «يا قوم، إن عزّكم فى خلط الناس، فإذا التقى الناس غدا فأنشبوا القتال، ولا تفرغوهم للنظر، فمن أنتم معه لا يجد بدّا من أن يمتنع، ويشغل الله عليّا وطلحة والزّبير ومن رأى رأيهم عمّا تكرهون!» . فأبصروا الرأى، وتفرّقوا عليه، والناس لا يشعرون. ذكر مسير على رضى الله عنه ومن معه من ذى قار إلى البصرة ووقعه الجمل قال: ولما أصبح علىّ رضى الله عنه سار من ذى قار وسار معه الناس حتّى نزل على عبد القيس، فانضمّوا إليه، ثم سار فنزل الزاوية، وسار من الزاوية يريد البصرة، وسار طلحة والزّبير وعائشة من الفرضة، فالتقوا عند موضع قصر عبيد الله بن زياد، وذلك فى النصف من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين، [حكاه ابن الأثير [3] ،   [1] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى (ن) «لتفرقون السيف» . [2] كذا جاء فى المخطوطة، وعند ابن جرير «تخرجوا» ، وعند ابن الأثير «تحرجوا» . [3] فى الكامل ج 3 ص 121. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 59 وقال أبو جعفر [1] : كانت وقعة الجمل فى يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخر سنة ست وثلاثين] [2] . وسبق علىّ أصحابه، وهم يتلاحقون به، فلما نزل قال أبو الجرباء للزّبير: الرأى أن تبعث [الآن] [3] ألف فارس إلى علىّ قبل أن يتوافى إليه أصحابه. فقال: «إنّا لنعرف أمور الحرب، ولكنّهم أهل دعوتنا، وهذا أمر حدث لم يكن قبل اليوم، من لم يلق الله فيه بعذر انقطع عذره يوم القيامة! وقد فارقنا وافدهم على أمر، وأنا أرجو أن يتمّ لنا الصلح، فأبشروا، واصبروا.» . وأقبل صبرة بن شيمان فقال لطلحة والزّبير: انتهزا بنا هذا الرجل، فإنّ الرأى فى الحرب خير من الشدّة) ! فقالا: « [إنّا وهم مسلمون] [4] ، إن هذا أمر لم يكن قبل اليوم فينزل فيه قرآن أو تكون فيه سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد زعم قوم أنه لا يجوز تحريكه [اليوم] [5] ، وهم علىّ ومن معه، وقلنا نحن: لا ينبغى لنا أن نتركه [اليوم] [6] ولا نؤخره، وقد قال علىّ: ترك هؤلاء القوم شر وهو خير من شر منه، وقد كاد يبين لنا، وقد جاءت الأحكام بين المسلمين [بإيثار] [7] أعمّها منفعة.   [1] ابن جرير الطبرى فى تاريخ الأمم والملوك ج 3 ص 539 قد أتبعه بقوله «فى قول الواقدى» ، وما حكاه ابن الأثير منقول أيضا عن أبى جعفر الطبرى فى تاريخه ج 3 ص 514 حيث قال: «فالتقوه عند موضع قصر عبيد الله بن زياد فى النصف من جمادى الآخر سنة 36 يوم خميس» . [2] سقطت هذه الجملة من النسخة (ك) وثبتت فى النسخة (ن) . [3] الزيادة من ابن جرير الطبرى. [4] الزيادة من ابن جرير. [5] الزيادة من ابن جرير. [6] الزيادة من ابن جرير. [7] الزيادة من ابن جرير. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 60 وقال كعب بن سور: يا قوم اقطعوا هذا العنق من هؤلاء القوم. فأجاباه بنحو ما تقدم. قال: ولما نزل علىّ ونزل الناس أرسل شقيق بن ثور إلى عمرو بن مرحوم العبدى أن اخرج فإذا خرجت فمل بنا إلى عسكر على، فخرجا فى عبد القيس وبكر بن وائل، فعدلوا إلى عسكر علىّ، فقال الناس من كان هؤلاء معه غلب. وأقاموا ثلاثة أيام لم يكن بينهم قتال، إنما يرسل علىّ إليهم يكلمهم ويدعوهم. قال: وقام علىّ فخطب الناس، فقام إليه الأعور بن بنان المنقرى فسأله عن إقدامهم على أهل البصرة، فقال له علىّ: على الإصلاح وإطفاء النار [1] لعل الله يجمع شمل هذه الأمة بنا ويضع حربهم. قال: فإن لم يجيبوا. قال: تركناهم ما تركونا. وقال: فإن لم يتركونا. قال: دفعناهم عن أنفسنا. قال: فهل لهم فى هذا مثل الذى عليهم؟ قال: نعم. وقام إليه أبو سلام [2] الدالانى فقال: أترى لهؤلاء القوم حجة فيما طلبوا من هذا الدم إن كانوا أرادوا الله بذلك؟ قال: نعم. قال: فترى لك حجّة بتأخيرك ذلك؟ قال نعم، إنّ الشىء إذا كان لا يدرك فالحكم [2] فيه أحوطه وأعمّه نفعا. قال: فما حالنا وحالهم إن ابتلينا غدا؟ قال: إنى لأرجو ألا يقتل منا ومنهم أحد نقّى قلبه لله إلّا أدخله الله الجنة.. وقال فى خطبته: «أيّها   [1] جاء فى رواية ابن جرير «النائرة» هى: (الفتنة) ، ونائرة الحرب: شرها وهيجها. [2] عند ابن جرير وابن الأثير: «أبو سلامة» . [3] كذا جاء عند ابن جرير، وجاء عند ابن الأثير: «أن الحكم» ، وجاء فى المخطوطة «أن الحلم» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 61 الناس املكوا [أنفسكم، وكفّوا] [1] عن هؤلاء القوم أيديكم وألسنتكم، وإيّاكم أن تسبقونا، فإن المخصوم غدا من خصم اليوم» . وبعث إليهم حكيم بن سلام [2] ومالك بن حبيب، يقول: إن كنتم على ما فارقتم [عليه] [3] القعقاع فكفّوا حتى ننزل فننظر فى هذا الأمر. وخرج إليه الأحنف بن قيس وبنو سعد مشمّرين، قد منعوا حرقوص بن زهير وهم معتزلون. وكان الأحنف قد بايع عليّا بالمدينة بعد قتل عثمان، لأنه كان قد عاد من الحج فبايع [4] ، فلما قدم طلحة والزّبير اعتزل بالجلحاء ومعه زهاء ستة آلاف (والجلحاء من البصرة على فرسخين) فقال لعلىّ: إنّ قومنا بالبصرة يزعمون أنّك إن ظفرت عليهم غدا قتلت رجالهم وسبيت نساءهم! قال: «ما مثلى يخاف هذا منه! وهل يحلّ هذا إلّا لمن تولّى وكفر [5] ؟ وهم قوم مسلمون.» قال: اختر منّى واحدة من اثنتين: إمّا أن أقاتل معك، وإمّا أن أكفّ عنك عشرة آلاف سيف. [قال: اكفف عنّا عشرة آلاف سيف.] [6] فرجع إلى الناس، فدلهم إلى القعود، ونادى: «يا آل خندف» ، فأجابه ناس، ثم نادى: «يا آل [7] تميم» ،   [1] الزيادة من ابن جرير ج 3 ص 509. [2] عند ابن جرير وابن الأثير: «حكيم بن سلامة» . [3] الزيادة من ابن جرير وابن الأثير، وسوف يأتى فى الرد ما يؤيده. [4] انظر ما ذكره ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 122 من قول الأحنف. [5] زاد ابن جرير فى روايته: ألم تسمع إلى قول الله عز وجل لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ. [6] ثبتت هذه الجملة فى النسخة «ن» كما جاء عند ابن الأثير، سقطت من النسخة ك. [7] جاء فى المخطوطة والكامل «يا آل» بثبوت الهمزة الممددة فى هذا الموضع والموضعين التاليين له، وجاء فى تاريخ ابن جرير (بأل) بلا همزة فى المواضع الثلاثة الجزء: 20 ¦ الصفحة: 62 فأجابه ناس، ثم نادى: «يا آل سعد» ، فلم يبق سعدىّ إلّا أجابه، فاعتزل بهم، ونظر ما يصنع الناس، فلما كان القتال وظفر علىّ دخلوا فيما دخل فيه الناس وافرين. قال: ولما تراءى الجمعان خرج الزّبير على فرس وعليه سلاح، فقيل لعلىّ: هذا الزّبير فقال: أما إنّه أحرى الرجلين إن ذكّر بالله أن يذكر وخرج طلحة، فخرج إليهما علىّ، [فدنا منهما] [1] حتى، اختلفت أعناق دوابّهم، فقال لعمرى لقد أعددتما سلاحا وخيلا ورجالا، إن كنتما أعددتما عذرا عند الله فاتّقيا الله، ولا تكونا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً [2] ، ألم أكن أخاكما فى دينكما تحرّمان دمى وأحرّم دماءكما؟ فهل من حدث أحلّ دمى؟ فقال طلحة: اللبث [3] على دم عثمان. فقال علىّ رضى الله عنه: يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَ [4] يا طلحة، تطلب بدم عثمان فلعن الله قتلة عثمان! يا طلحة، أتيت بعرس رسول الله صلى الله عليه وسلم تقاتل بها وخبأت عرسك فى البيت! أما بايعتنى؟ قال: بايعتك والسيف على عنقى!. ثم قال للزّبير: ما أخرجك؟ قال أنت، ولا أراك لهذا الأمر أهلا ولا أولى به منّا. فذكّره علىّ رضى الله عنه بأشياء، ثم قال: أتذكر يوم مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بنى غنم، فنظر إلىّ، فضحك وضحكت إليه، فقلت: لا يدع ابن أبى طالب زهوه! فقال لك رسول الله عليه الصلاة   [1] الزيادة من ابن جرير ج 3 ص 415. [2] من الآية 92 من سورة النحل. [3] وفى تاريخى ابن جرير وابن الأثير: ألبت» . [4] من الآية 25 فى سورة النور. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 63 والسلام: «إنّك لتقاتله وأنت ظالم له» ؟! فقال: اللهم نعم ولقد كنت أنسيتها ولو ذكرت ما سرت مسيرى هذا، والله لا أقاتلك أبدا!. وقيل: إنّه قال له: كيف أرجع وقد التقت حلقتا البطان [1] ؟ هذا والله العار الّذى لا يغسله الدهر! قال يا زبير ارجع بالعار خير من أن ترجع بالعار وبالنار. فرجع الزّبير إلى عائشة فقال لها: يا أمّاه، ما شهدت موطنا إلّا ولى فيه رأى وبصيرة غير موطنى هذا! قالت: وما تريد أن تصنع قال: أدعهم وأذهب، ثم قال لابنه عبد الله: عليك بحربك [2] وأما أنا فأرجع إلى بيتى. فقال له: ما يردّك؟ قال: ما لو علمته لكسرك [3] . فقال له ابنه: بل رأيت عيون بنى هاشم تحت المغافر [4] فراعتك، وعلمت أنّ سيوفهم حداد تحملها فتية أنجاد. فغضب الزّبير ثم قال: أمثلى يفزّع بهذا؟ وأحفظه ذلك، وقال: إنّى حلفت إلّا أقاتله. قال: فكفّر عن يمينك وقاتله، فأعتّق غلامه مكحولا، وقيل: أعتق سرجس. ففى ذلك يقول عبد الرحمن بن سليمان التميمى: لم أر كاليوم أخا إخوان ... أعجب من مكفر الأيمان   [1] البطان: الحزام الذى يجعل تحت بطن البعير، وفيه حلقتان، فإذا التقتا فقد بلغ الشد غايته، قال صاحب لسان العرب: ومن أمثال العرب التى تضرب للامر إذا اشتد: «التقت حلقتا البطان» . وفى مجمع الأمثال ج 2 ص 135: «يضرب فى الحادثة إذا بلغت النهاية» . [2] فى النسخة (ك) : «بحربك» ، وفى النسخة (ن) : (بحزبك) . [3] صرفك عن مرادك. [4] المغافر جمع المغفر أو المغفرة، وهو ما يلبسه الدارع على رأسه فى الحرب من الزرد ونحوه. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 64 (فى أبيات أخر) . وقيل: إن الزّبير نزع سنان رمحه، وحمل على جيش علىّ، فقال علىّ لأصحابه: أفرجوا له فإنه قد أغضب، وإنّه منصرف عنكم فقالوا: إذن والله لا نبالى بعد رجوعه بجمعهم وما كنا نتّقى سواه. وقيل: إنّ الزّبير إنّما عاد عن القتال لمّا سمع أنّ عمّار بن ياسر مع علىّ، فخاف أن يقتل عمار، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عمّار تقتلك الفئة الباغية» فردّه ابنه عبد الله [1] . وافترق أهل البصرة ثلاث فرق: فرقة مع طلحة والزّبير وفرقة مع علىّ، وفرقة لا ترى القتال، منهم الاحنف بن قيس وعمران بن حصين. وجاءت عائشة فنزلت فى مسجد الحدّان [2] فى الأزد، ورأس الأزد يومئذ صبرة بن شيمان، فقال له كعب بن سور: إنّ الجموع إذا تراءت لم تستطع، إنّما هى بحور تدفّق، فأطعنى ولا تشهدهم واعتزل بقومك، فإنى أخاف الّا يكون صلح، ودع مضر ورببعة فهما أخوان، فإن اصطلحا فالصلح أردنا، وإن اقتتلا كنّا حطاما عليهم غدا. (وكان كعب فى الجاهلية نصرانيّا) فقال صبرة: أخشى أن يكون فيك شىء من النصرانيّة! أتأمرنى أن أغيب عن إصلاح بين   [1] ذكر ابن جرير فى تاريخه ج 3 ص 3 ص 519 وابن الأثير فى تاريخه ج 3 ص 122 قول على للزبير بن العوام: «قد كنا نعدك من بنى عبد المطلب حتى بلغ ابنك ففرق بيننا وبينك» .. وقال ابن أبى الحديد فى شرح نهج البلاغة ج 3 ص 6: ولم يزل الزبير مواليا لعلى متمسكا بحبه ومودته، حتى نشأ ابنه عبد الله وشب، فنزع به به عرق من الأم، ومال إلى تلك الجهة، وانحرف عن هذه، ومحبة الوالد لولده معروفة فانحرف الزبير بانحرافه. [2] الحدان: إحدى محال البصرة القديمة، سميت باسم قبيلة من الأزد. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 65 الناس، وأن أخذل أمّ المؤمنين وطلحة والزّبير إن ردّوا عليهم الصلح، وأدع الطلب بدم عثمان، والله لا أفعل هذا أبدا!. فأطبق أهل اليمن على الحضور. وحضر مع عائشة المنجاب بن راشد فى الرّباب (وهم تيم وعدىّ وثور وعكل، بنو عبد مناة بن أدّ بن طابخة بن إلياس، مضر، وضبّة ابن أدّ بن طابخة) [1] ، وحضر أيضا أبو الجرباء فى بنى عمرو بن تميم، وهلال بن وكيع فى بنى حنظلة، وصبرة بن شيمان على الأزد، ومجاشع بن مسعود السّلمى على سليم، وزفر بن الحارث فى بنى عامر و [أعصر بن النعمان على] [2] غطفان، ومالك بن مسمع على بكر، والخرّيت بن راشد على بنى ناجية، وعلى اليمن ذو الاجرة الحميرى. قال: ولما خرج طلحة والزبير نزلت مضر جميعها وهم لا يشكّون فى الصلح، [ونزلت ربيعة فوقهم وهم لا يشكون فى الصلح،] [3] ونزلت اليمن أسفل منهم وهم كذلك، ونزلت عائشة فى الحدّان، والناس بالزّابوقة على رؤسائهم. هؤلاء- وهم أصحاب عائشة- ثلاثون ألفا، وهؤلاء- وهم أصحاب علىّ- عشرون ألفا.   [1] قد يطلق الفظ «الرباب» على بنى عبد مناة بن أد، وكانوا قد تحالفوا مع بنى عمهم ضبة بن أد على بنى عمهم تميم بن مر بن أد، وقد يطلق لفظ «الرباب» عاما لهؤلاء المتحالفين من بنى عبد مناة وضبة. وهم خمس قبائل صاروا فى تجمعهم كاليد الواحدة. وقد سبق فى نهاية الأرب ج 2 ص 438 أنهم «سموا الرباب لانهم غمسوا أيديهم فى ربّ. إذ تحالفوا على بنى تميم» .. ويرى بعض العلماء أنهم سموا «ربابا» لأنهم كانوا فرقا وجماعات، فيكون «الرباب» جمع «الربة» بمعنى الفرقة. [2] الزيادة من ابن جرير. [3] الزيادة من ابن جرير ج 3 ص 516- 517 وابن الأثير 3- 123. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 66 وردّوا حكيما ومالكا [1] : «أنّا على ما فارقنا عليه القعقاع» . ونزل علىّ بحيالهم، ونزلت مضر إلى مضر، وربيعة إلى ربيعة، واليمن إلى اليمن، وكان بعضهم يخرج إلى بعض لا يذكرون إلّا الصلح، فخرج علىّ وطلحة والزّبير فتواقفوا فلم يروا أمرا أمثل من الصلح ووضع الحرب، فافترقوا على ذلك. وبعث علىّ رضى الله عنه من العشىّ عبد الله بن عباس إلى طلحة والزّبير، وبعثا إليه محمد بن طلحة، وأرسل علىّ وطلحة والزّبير إلى رؤساء أصحابهم بأمر الصلح، فباتوا بليلة لم يبيتوا بمثلها للعافية الّتى أشرفوا عليها والصلح، وبات الّذين أثاروا أمر عثمان بشرّ ليلة، وباتوا يتشاورون، فاجتمعوا على إنشاب الحرب، فغدوا مع الغلس وما يشعر بهم أحد، فخرجوا متسلّلين، فقصد مضرهم إلى مضرهم، وربيعتهم إلى ربيعتهم، ويمنهم إلى يمنهم، فوضعوا فيهم السلاح، فثار أهل البصرة، وثار كلّ قوم فى وجوه أصحابهم الّذين أتوهم، وذلك فى يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة. قال: وبعث طلحة والزّبير إلى الميمنة وهم ربيعة أميرا عليها عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وإلى الميسرة عبد الرحمن بن عتّاب، وثبتا فى القلب، وقالا: ما هذا؟ قالوا: طرقنا أهل الكوفة ليلا! قالا وقد علمنا أنّ عليّا غير منته حتّى يسفك الدّماء وأنّه لن يطاوعنا!   [1] سبق أن عليا «بعث إليهم حكيم بن سلام ومالك بن حبيب. يقول: إن كنتم عن ما فارقتم عليه القعقاع فكفوا حتى ننزل فننظر فى هذا الأمر» فالرادون هنا هم قوم عائشة وطلحة والزبير الذين بعث إليهم على، وهم يردون على تلك الرسالة، فخرج الرسولان من عندهم حتى قدما على على بهذا الرد الذى ذكره المؤلف هنا، فارتحل على حتى نزل بحيالهم.. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 67 فردّ أهل البصرة أولئك الكوفيين إلى عسكرهم، فسمع علىّ وأهل الكوفة الصّوت- وقد وضع السّبئيّة رجلا قريبا منه- فلما قال علىّ ما هذا قال ذلك الرجل: ما شعرنا إلّا وقوم منهم قد بيّتونا فرددناهم فوجدنا القوم على رجل، فركبوا، وثار الناس، فأرسل علىّ صاحب الميمنة إلى الميمنة، وصاحب الميسرة إلى الميسرة، وقال: لقد علمت أنّ طلحة والزّبير غير منتهيين حتّى يسفكا الدماء وأنهما لن [1] يطاوعانا. والسّبئيّة لا تفتر، ونادى علىّ فى الناس: كفّوا فلا شىء!. وكان من رأيهم جميعا فى تلك الفتنة ألّا يقتتلوا حتّى يبدءوا (يطلبون بذلك الحجّة) وألّا يقتلوا مدبرا، ولا يجهزوا على جريح، ولا يستحلّوا سلبا، ولا يرزءوا بالبصرة سلاحا ولا ثيابا ولا متاعا. وأقبل كعب بن سور حتى أتى عائشة فقال: «يا أمّ المؤمنين، أدركى الناس، فقد أبى القوم إلّا القتال، لعلّ الله يصلح [2] بك» . فركبت وألبسوا هودجها الأدراع، فلما برزت من البيوت وهى على الجمل وكانت بحيث تسمع الغوغاء وقفت، واقتتل الناس وقاتل الزّبير، فحمل عليه عمّار بن ياسر، فجعل يحوزه [3] بالرّمح والزّبير كافّ عنه، وقال له: أتقتلنى يا أبا اليقظان [4] ؟ قال [5] : لا يا أبا عبد الله! وإنّما كفّ الزّبير عنه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «تقتل عمّار بن ياسر الفئة الباغية» ، ولولا ذلك لقتله.   [1] كذا جاء عند ابن جرير 3 ص 518، وابن الأثير ج 3 ص 124، وجاء فى المخطوطة «لم» . [2] كذا جاء فى رواية ابن جرير. وجاء فى المخطوطة: «أن يصلح» . [3] يحوزه: يسوقه. [4] أبو اليقظان: كنية عمار بن ياسر. [5] كذا جاء فى رواية ابن جرير، وجاء فى المخطوطة: «فيقول» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 68 قال: ثم اعتزل الزّبير الحرب وانصرف، وصليها [1] طلحة، فأصابه سهم غرب [2] شكّ رجله بصفحة الفرس، ثم دخل البصرة ومات بها. وسنذكر إن شاء الله أخباره وأخبار الزبير بعد نهاية وقعة الجمل. وانهزم القوم يريدون البصرة، فلمّا رأوا الخيل أطافت بالجمل عادوا قلبا كما كانوا حيث التقوا وعادوا فى أمر جديد. فقالت عائشة لكعب بن سور وهو آخذ بخطام الجمل: خل عن الجمل وتقدّم بالمصحف فادعهم إليه. (وناولته مصحفا من هودجها) فاستقبل القوم [بالمصحف] [3] ، والسّبئيّة أمامهم (يخافون أن يجرى الصلح) [1] ، فرشقوه رشقا واحدا، فقتلوه ورموا أمّ المؤمنين فى هودجها، فجعلت تنادى: «البقيّة البقيّة يا بنىّ!» ويعلو صوتها «الله الله! اذكروا الله والحساب!» فيأبون إلّا إقداما، فكان أوّل شىء أحدثته حين أبوا أن قالت: «أيّها الناس العنوا قتلة عثمان وأشياعهم!» وأقبلت تدعو، فضجّ الناس بالدعاء، فسمع علىّ فقال: ما هذه الضّجّة؟ قالوا: عائشة تدعو على قتلة عثمان وأشياعهم. فقال: اللهمّ العن قتلة عثمان! وأرسلت إلى عبد الرحمن بن عتّاب وعبد الرحمن بن الحارث ابن هشام: أن اثبتا مكانكما. وحرّضت الناس حين رأت القوم   [1] صليها: قاسى شدتها. [2] سهم غرب- بسكون الراء أو فتحها-: لا يعرف راميه. [3] الزيادة من ابن جرير. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 69 يريدونها ولا يكفّون، فحملت مضر البصرة حتى قصفت [1] مضر الكوفة، حتى زحم علىّ، فنخس قفا محمد ابنه، وكانت الراية معه، وقال له: احمل. فتقدّم حتّى لم يجد متقدّما إلّا على سنان رمح، فأخذ علىّ الراية من يده، وقال: يا بنىّ بين يدىّ. وحملت مضر الكوفة فاجتلدوا [2] قدّام الجمل حتّى ضرسوا [3] ، والمجنّبات [4] على حالها لا تصنع شيئا، واشتدّت الحرب، فأصيبب زيد بن صوحان، وأخوه سيحان، وارتثّ [5] أخوهما صعصعة، فلما رأى علىّ ذلك بعث إلى ربيعة وإلى اليمن: أن اجمعوا من يليكم. فقام رجل من عبد القيس من أصحاب علىّ فقال: ندعوكم إلى كتاب الله: فقالوا: كيف يدعونا إليه من لا يستقيم ولا يقيم حدود الله؟ وقد قتل كعب بن سور داعى الله ورمته ربيعة رشقا واحدا فقتلوه! ودعت يمن الكوفة يمن البصرة فرشقوهم، وأبى أهل الكوفة إلّا القتال، ولم يريدوا إلّا عائشة، فذكّرت أصحابها، فاقتتلوا، حتى تنادوا فتحاجزوا، ثم رجعوا فاقتتلوا، وتزاحف الناس، فظهرت يمن البصرة على يمن الكوفة فهزمتهم وربيعة البصرة على ربيعة الكوفة فهزمتهم، ثم عاد يمن الكوفة فقتل على رايتهم عشرة: خمسة من همدان وخمسة من سائر اليمن، فلمار رأى ذلك يزيد بن قيس   [1] القصف: الدفع الشديد. [2] اجتلدوا: تضاربوا بالسيوف. [3] ضرسوا: عضتهم الحرب. [4] هكذا جاء عند ابن جرير 3 ص 523 ولكل جيش من الجيشين مجنبتان، وهما: ميمنتة وميسرته. وجاء فى المخطوطة: «والمجنبتان على حالهما لا تصنع شيئا» والتثنية لا تناسب الفعل «تصنع» . [5] ارتث الجريح: حمل من المعركة وهو ضعيف قد أثخنته الجراح. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 70 أخذها فثبتت فى يده. ورجعت ربيعة الكوفة فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل على رايتهم وهم فى الميسرة زيد [1] وعبد الله بن رقبة وأبو عبيدة بن راشد بن سلمى وهو يقول: «اللهمّ أنت هديتنا من الضلالة، واستنقذتنا من الجهالة، وابتليتنا بالفتنة، فكنّا فى شبهة وعلى ريبة» [حتى] [2] قتل. واشتدّ الأمر حتّى لزقت ميمنة أهل الكوفة بقلبهم، وميسرة أهل البصرة بقلبهم، ومنعوا ميمنة أهل الكوفة أن يختلطوا بقلبهم وإن كانوا إلى جنبهم، وفعل مثل ذلك ميسرة أهل الكوفة بميمنة أهل البصرة. فلما رأى الشّجعان من مضر الكوفة والبصرة الصبر تنادوا: طرّفوا إذا فرغ الصبر. فجعلوا يقصدون الأطراف (الأيدى والأرجل) فما رؤى وقعة كانت أعظم منها قبلها ولا بعدها ولا أكثر ذراعا مقطوعة ورجلا مقطوعة! وأصيبت يد عبد الرحمن بن عتّاب قبل قتله. فنظرت عائشة عن يسارها، فقالت: من القوم عن يسارى؟ فقال صبرة بن شيمان: بنوك الأزد. قالت: يا آل غسّان حافظوا اليوم فجلادكم [3] الّذى كنّا نسمع به! وتمثّلت: وجالد من غسّان أهل حفاظها ... وهنب [4] وأوس جمالدت وشبيب   [1] هو زيد بن صوحان العبدى، أخو صعصعة وسيحان، انظر ترجمته فى الاستيعاب ج 1 ص 559 والإصابة ج 1 ص 582، 568. [2] كذا جاء عند ابن جرير ج 3 ص 525، وجاء فى المخطوطة» : «وقتل» . [3] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وجاء فى النسخة (ك) : «جلادكم» . [4] كذا جاء فى المخطوطة كتاريخ ابن جرير، وجاء فى الكامل لابن الأثير ج 3 ص 126 «وكعب» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 71 فكانت الأزد يأخذون [1] بعر الجمل فيشمّونه ويقولون: بعر جمل أمّنا ريحه ريح المسك!. وقالت لمن عن يمينها: من القوم عن يمينى؟ قالوا بكر بن وائل. قالت: لكم يقول القائل: وجاءوا إلينا فى الحديد كأنّهم ... من العزّة القعساء [2] بكر بن وائل إنّما بإزائكم عبد القيس. فاقتتلوا أشدّ من قتالهم قبل ذلك. وأقبلت على كتيبة بين يديها فقالت: من القوم؟ قالوا بنو ناجية. قالت: بخ بخ [3] ! سيوف أبطحيّة [4] قرشية! فجالدوا جلادا يتفادى منه. ثم أطافت بها بنو ضبة، فقالت: ويها [5] ! جمرة الجمرات [6] فلما رقّوا خالطهم بنو عدىّ بن عبد مناه، وكثروا حولها، فقالت: من أنتم؟ قالوا: بنو عدىّ خالصنا إخواننا، فأقاموا رأس الجمل، وضربوا ضربا ليس بالتعذير [7] ، ولا يعدلون بالتّطريف، حتّى   [1] فى النسخة (ك) : «يأخذون» ، وفى النسخة» (ن) : «تأخذ» . [2] القعساء: الثابتة. [3] بخ: كلمة للمدح والاستحسان وإظهار الرضا، وتكرر للمبالغة فى ذلك. [4] الأبطح: مكان بمكة بين جبليها: أبى قبيس والأحمر، ويقال لمن ينزلون فى هذا المكان من قريش «قريش البطاح» . [5] ويها: كلمة إغراء وتحريض. [6] فى خزانة الأدب ج 1 ص 36: واعلم أن جمرات العرب ثلاث: وهم بنو نمير بن عامر وبنو الحارث بن كعب وبنو ضبة بن أد، والتجمير فى كلام العرب التجميع، وإنما سموا بذلك لأنهم متوافرون فى أنفسهم لم يدخل معهم غيرهم. [7] إذا قصر قوم فى أمر ولم يبالغوا فيه قيل: «عذروا» بتشديد الذال، والتعذير مصدر، وهو منفى هنا. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 72 إذا كثر ذلك وظهر فى العسكرين جميعا راموا الجمل، وقالوا: لا يزول القوم أو يصرع الجمل. وصارت مجنّبتا علىّ إلى القلب، وفعل ذلك أهل البصرة، وكره القوم بعضهم بعضا. وأخذ عميرة بن يثربىّ رأس الجمل، وكان قاضى البصرة، فقال علىّ من يحمل على الجمل؟ فانتدب له هند بن عمرو الجملى المرادى، فاعترضه ابن يثربىّ، فاختلفا ضربتين، فقتله ابن يثربىّ، ثم حمل علباء بن الهيثم، فقتله ابن يثربىّ، وقتل سيحان بن صوحان، وارتثّ صعصعه [1] ، فنادى عمار بن ياسر ابن يثربىّ: لقد عذت بحريز [2] وما إليك من سبيل فإن كنت صادقا فاخرج من هذه الكتيبة إلىّ. فترك الزّمام فى يد رجل من بنى عدىّ وخرج، حتّى إذا كان بين الصفّين تقدّم عمّار، وهو ابن تسعين سنة، وقيل أكثر من ذلك، وعليه فرو قد شدّ وسطه بحبل من ليف، وهو أضعف من بارزه، فاسترجع [3] الناس وقالوا: هذا لاحق بأصحابه! فضربه ابن يثربىّ، فاتّقاه عمّار بدرقته [4] ، فنشب سيفه فيها، فعالجه فلم يخرج، وأسفّ [5] عمّار لرجليه فضربه فقطعهما، فوقع على استه وأخذ أسيرا، فأتى به إلى علىّ، فقال: استبقنى! فقال: أبعد ثلاثة تقتلهم؟ وأمر به فقتل، وقيل: إنّ المقتول عمرو بن يثربىّ [6]   [1] انظر ما سبق قريبا. [2] عذت: التجأت. حريز: حصين. [3] استرجع الناس: قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون. [4] الدرقة: قطعة من جلد يحملها المحارب للوقاية من السيف، كالترس. [5] أسف: دنا. [6] انظر ترجمة عمرو بن يثربى فى الإصابة ج 3 ص 119. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 73 وإنّ عميرة [1] بقى حتّى ولى قضاء البصرة من قبل معاوية. قال: ولما قتل ابن يثربىّ ترك العدوىّ الزّمام بيد رجل من بنى عدىّ، وبرز، فخرج إليه ربيعة العقيلىّ، فاقتتلا، فأثخن كلّ واحد منهما صاحبه، فماتا جميعا. وقام مقام العدوىّ الحارث الضّبّىّ، فما رؤى أشدّ منه، وجعل يقول [2] : نحن بنى [3] ضبّة أصحاب الجمل ... نبارز القرن إذا القرن نزل ننعى ابن عفّان بأطراف الأسل ... الموت أحلى عندنا من العسل ردّوا علينا شيخنا ثمّ بجل [4] وارتجز غير ذلك. فلم يزل الأمر كذلك حتّى قتل على خطام الجمل أربعون رجلا، قالت عائشة: ما زال جملى معتدلا حتّى فقدت أصوات بنى ضبّة. قال [5] : وأخذ الخطام سبعون رجلا من قريش، كلّهم يقتل وهو آخذ بخطام الجمل.   [1] فى القاموس: «عمرو بن يثربى صحابى، وعميرة بن يثربى تابعى» . [2] جرى المؤلف هنا على أن القائل هو الحارث الضبى، كابن الأثير فى الكامل، وذكر ابن جرير فى تاريخه هذا القول ج 3 ص 526 وذكر قولا آخر ج 3 ص 536 أن القائل عمرو بن يثربى الضبى وهذا القول الثانى هو الذى اتجه إليه صاحب الإصابة ج 3 ص 119. [3] كذا جاء فى النهاية ولسان العرب بالنصب على الاختصاص ونص المبرد على نصبه مرتين فى الكامل، انظر رغبة الآمل ج 2 ص 67- 68 ج 4 ص 101 وجاء فى المخطوطة «بنو» . [4] بجل: حسب. [5] القائل: الشعبى، انظر تاريخ ابن جرير ج 3 ص 536. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 74 وكان محمد بن طلحة ممّن أخذ بخطامه، وقال: يا أمّاه مرينى بأمرك. قالت: آمرك أن تكون كخير ابنى [1] آدم إن [2] تركت. فجعل لا يحمل عليه أحد إلّا حمل وقال: «حم لا ينصرون» [3] واجتمع علية نفر [4] كلّهم ادّعى قتله، فأنفذه بعضهم بالرّمح، ففى ذلك يقول: وأشعث قوّام بآيات ربّه ... قليل الأذى فيما ترى العين مسلم هتكت له بالرمح جيب قميصه ... فخرّ صريعا لليدين وللفم [5] يذكّرنى حاميم والرمح شاجر ... فهلّا تلا حاميم قبل التقدّم [6] على غير شىء غير أن ليس تابعا ... عليّا، ومن لا يتبع الحقّ يندم   [1] كذا جاء فى الإصابة ج 3 ص 377 والبداية والنهاية ج 7 ص 243 وفيه إشارة إلى قصة ابنى آدم بسط أحدها يده لقتل أخيه وامتناع الاخر الآية 27 وما بعدها من سورة المائدة. وجاء فى المخطوطة وغيرها: «بنى» . [2] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى (ن) : «وإن» . [3] لعل هذا مأخوذ من الحديث النبوى الذى رواه أصحاب السنن: «إن بيتم فليكن شعاركم حم لا ينصرون» وانظر شرحه فى النهاية واللسان (ح م م) وقد اقتصر المؤلف فيما يتعلق بشأن محمد بن طلحة و (حاميم) على هذه الرواية التى ذكرها ابن الأثير، وسيأتى فى الشعر قول قاتل محمد «يذكرنى حاميم» وقد اختلف العلماء فى تذكير حاميم، فقال بعضهم «كلما حمل عليه رجل قال نشدتك بحاميم، يريد بما فى (حم عسق) من قوله تعالى قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وقال بعضهم: «كان شعار أصحاب على يوم الجمل (حم) وكان القاتل مع على. فلما طعن محمدا قال محمد (حم) فأنشد القاتل الشعر» وقال بعضهم: «قال محمد بن طلحة لما طعنه القاتل أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله، فهذا معنى قوله: يذكرنى حاميم، أى تلاوة هذه الآية لأنها من (حم) سورة المؤمن» . [4] جاء فى تسمية العلماء لهؤلاء النفر: كعب بن مدلج الأسدى وابن المكعبر الضبى وشداد بن معاوية العبسى وعصام بن المقشعر وشريح بن أوفى أو ابن أبى أوفى- والأشتر النخعى ... وذكر الزبير أن الأكثر على أن الذى قتله وقال الشعر عصام بن مقشعر، وكذلك رجحه أبو عبيد الله المرزبانى فى موضعين من معجم الشعراء ص 269، 345. [5] من النحويين من استشهد بهذا البيت على أن اللام بمعنى «على» أى: على اليدين والفم، كقوله تعالى «ويخرون للأذنان» أى: على الأذنان. [6] استشهد بهذا البيت أبو عبيدة فى (مجاز القرآن) منسوبا إلى شريح، انظر لسان العرب وتاج العروس، وكذلك استشهد به البخارى، فى تفسير سورة (المؤمن) من صحيحه، انظر فتح البارى 8 ص 391- 392 واستشهد به الزمخشرى فى (الكشاف) ج 1 ص 66.. و «شاجر» معناه: مختلف أو ذو طعن. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 75 قال: وأخذ الخطام عمرو بن الأشرف، فجعل لا يدنو منه أحد إلا خبطه بالسّيف، فأقبل إليه الحارث بن زهير وهو يقول: يا أمّنا [1] يا خير أمّ نعلم ... أما ترين كم شجاع يكلم [2] وتختلى هامته [3] والمعصم فاختلفا ضربتين، فقتل كلّ واحد منهما صاحبه. وأحدق أهل النّجدات والشجاعة بعائشة، فكان لا يأخذ الخطام أحد إلّا قتل، وكان لا يأخذه والراية إلّا معروف، فينتسب: «أنا» فلان بن فلان» ، فإن كانوا ليقاتلون عليه وإنّه للموت لا يوصل إليه [إلّا بطلبة] [4] ! وما رامه أحد من أصحاب علىّ إلّا قتل أو أفلت ثمّ لم يعد، وحمل عدىّ بن حاتم عليهم ففقئت عينه. وجاء عبد الله بن الزّبير ولم يتكلم، فقالت عائشة: من أنت؟   [1] فى (ك) : «يا أمنا» . وفى (ن) : «يا أمتا» بالتاء. [2] يكلم: يجرح. [3] تختلى هامته: يقطع رأسه. [4] زيادة يقتضيها المقام ذكرها ابن جرير ج 3 ص 532. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 76 قال ابنك وابن أختك. قالت: واثكل أسماء! فانتهى إليه الأشتر فضربه الأشتر على رأسه، فجرحه جرحا شديدا، وضربه عبد الله ضربة خفيفة، واعتنق كلّ واحد منهما صاحبه، وسقطا على الأرض يعتركان، فقال عبد الله بن الزّبير: «اقتلونى ومالكا» [1] فلو يعلمون من «مالك» لقتلوه، إنّما كان يعرف بالأشتر [2] ، فحمل أصحاب علىّ وعائشة فخلصوهما. قال: وأخذ الخطام الأسود بن أبى البخترىّ القرشى فقتل [3] ، وأخذه عمرو بن الأشرف الأزدى فقتل، وقتل معه ثلاثة عشر رجلا من أهل بيته، وجرح عبد الله بن الزّبير سبعا وثلاثين جراحة من طعنة ورمية وضربة، وجرح مروان بن الحكم. فنادى علىّ: اعقروا الجمل فإنّه إن عقر تفرّقوا. فضربه رجل، فسقط، فما سمع صوت أشدّ من عجيجه. وقيل فى عقر الجمل: إنّ القعقاع لقى الأشتر وقد عاد من القتال عند الجمل. فقال: هل لك فى العود؟ فلم يجبه، فقال: يا أشتر   [1] فى الكامل ج 3 ص 128 ومرج الذهب ج 2 ص 13: اقتلونى ومالكا. واقتلوا مالكا معى [2] الأشتر: اسمه مالك بن الحارث بن عبد يغوث بن مسلمة بن ربيعة النخعى، وكان فارسا شجاعا من كبار الشيعة» ولقب بالأشتر لأن رجلا من إياد ضربه فى يوم البرموك على رأسه فسألت الجراحة قيحا إلى عينه فشترتها، هذا هو المشهور فى تلقيبه، وهناك وجه فى تلقيبه ذكره أسامة بن منقذ فى لباب الآداب ص 187- 188. [3] تبع المؤلف هنا ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 129 وهذا القول جاء فى رواية لابن جرير الطبرى فى تاريخة 3 ص 528 ولكن ابن جرير ذكر قولا آخر ج 3 ص 545 بعد انتهاء وقعة الجمل يفيد أنه لم يقتل فيها. قال: قصدت عائشة مكة فكان وجهها من البصرة، وانصرف مروان والأسود بن أبى البخترى إلى المدينة من الطريق. ويؤيد القول ما ذكره ابن حجر فى ترجمة الأسود من كتاب الأصابة 1 ص 42 فارجع إليه. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 77 بعضنا أعلم بقتال بعض منك. وحمل القعقاع، والزّمام مع زفر بن الحارث الكلابىّ، وكان آخر من أخذ الخطام، فلم يبق شيخ من بنى عامر إلّا أصيب قدّام الجمل، وزحف القعقاع إلى زفر بن الحارث، وقال لبجير بن دلجه- وهو من أصحاب علىّ-: يا بجير صح بقولك فليعقروا الجمل قبل أن يصابوا أو تصاب أمّ المؤمنين. فقال بجير: «يا آل ضبّة، يا عمرو بن دلجة، ادع بى إليك» فدعاه، فقال: أنا آمن حتّى أرجع عنكم؟. قالوا: نعم. فاجتثّ ساق البعير، فرمى بنفسه على شقّه وجرجر [1] البعير، قال القعقاع لمن يليه: أنتم آمنون واجتمع هو وزفر على قطع بطان [2] الجمل وحملا الهودج فوضعاه، وإنه كالقنفذ لما فيه من السّهام، ثم أطافا به، وفرّ من وراء ذلك من الناس. فلمّا انهزموا أمر علىّ مناديا فقال: ألا لا تتبعوا مدبرا، ولا تجهزوا على جريح [3] ولا تدخلوا الدّور. وأمر علىّ نفرا أن يحملون الهودج من بين القتلى، وأمر أخاها محمد بن أبى بكر أن يضرب عليها قبّة، وقال انظر: هل وصل إليها شىء من جراحة؟ فأدخل رأسه هودجها، فقالت: من أنت؟ فقال: أبغض أهلك إليك. قالت ابن الخثعميّة [4] ؟ قال: نعم. قالت: الحمد لله الذى عافاك.   [1] جرجر البعير: ردد صوته فى حنجرته. [2] بطان الجمل: الحزام الذى يجعل تحت بطنة. [3] أى: لا يقتل من صرع وجرح منهم. [4] الخثعمية: أسماء بنت عميس الخثعمية، وهى أخت ميمونه زوج النبى صلى الله عليه وسلم، وكانت أسماء من المهاجرات إلى الحبشة، وهى إذ ذاك زوج جعفر بن أبى طالب، فولدت له هناك محمد بن جعفر وعبد الله وعونا. ثم هاجرت معه إلى المدينة، فلما قتل جعفر يوم مؤتة تزوجها أبو بكر الصديق فولدت له محمدا هذا، ثم مات عنها أبو بكر فتزوجها على بن أبى طالب فولدت له يحيى بن على، وقد ثبت أنها ولدت محمد بن أبى بكر فى طريق المدينة إلى مكة فى حجة الوداع، كما فى حديث جابر الطويل فى صحيح مسلم، ثم نشأ محمد بن أبى بكر فى حجر على بن أبى طالب، إذ تزوج على أمه، ثم كان موقفه، فى موقعة الجمل مع أخته عائشة ما ذكره للؤلف، وسيذكر- فيما بعد- ولايته لمصر ومقتله وأن «عائشة رضى الله عنها جزعت عليه جزعا شديدا» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 78 وقيل: لما سقط الجمل أقبل محمد بن أبى بكر وعمّار بن ياسر إليه، فاحتملا الهودج، فنحّياه، فأدخل محمد يده فيه، فقالت: من هذا؟ قال: أخوك البرّ [1] قالت: عقق [2] ! قال: يا أخيّة هل أصابك شىء؟ قالت: ما أنت وذاك؟ قال: فمن إذا الضّلّال؟ قالت: بل الهداة! وقال لها عمّار: كيف رأيت بنيك اليوم يا أمّاه؟ قالت: لست لك بأمّ! قال: بلى وإن كرهت. قالت: فخرتم أن ظفرتم وأتيتم مثل الّذى نقمتم هيهات والله لن يظفر من كان هذا دأبه! فأبرزوا هودجها، فوضعوها ليس قربها أحد. وأتاها علىّ فقال: كيف أنت يا أمّه؟ قالت: بخير. قال: يغفر الله لك. قالت: ولك. وجاء أعين بن ضبيعة المجاشعىّ حتى اطّلع فى الهودج، فقالت إليك لعنك الله! فقال: والله ما أرى إلا حميراء. فقالت هتك الله سترك وقطع يدك وأبدى عورتك! فقتل بالبصرة وسلب وقطعت يده ورمى عريانا فى خربة من خربات الأزد!. ثم أتى وجوه الناس إلى عائشة، وفيها القعقاع بن عمرو، فسلّم عليها، فقالت: والله لوددت أنى متّ قبل هذا اليوم بعشرين سنة!   [1] البر: المحسن لمعاملة الأقربين من الأهل. [2] عقق: عاق أهله، من العقوق، ضد البر. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 79 وكان علىّ يقول بعد الفراغ من القتال: إليك أشكو عجرى وبجرى [1] ... ومعشرا أعشوا [2] علىّ بصرى قتلت منهم مضرى بمضرى ... شفيت نفسى وقتلت معشرى! قال: ولمّا كان الليل أدخل محمد بن أبى بكر عائشة البصرة، فأنزلها فى دار عبد الله بن خلف الخزاعى [3]- وهى أعظم دار فى البصرة- على صفيّة بنت الحارث بن [طلحة بن] [4] أبى طلحة بن عبد العزّى، وهى أمّ طلحة الطّلحات بن عبد الله بن خلف. وتسلّل الجرحى من بين القتلى فدخلوا البصرة. وأقام علىّ بظاهر البصرة ثلاثا، وأذن للناس فى دفن موتاهم، فخرجوا إليهم فدفنوهم، وطاف علىّ فى القتلى، فلما أتى كعب بن سور قال: «أزعمتم [5] أنّما خرج معهم السفهاء وهذا الحبر قد ترون!»   [1] فى النهاية ولسان العرب: «حديث على: أشكو إلى الله عجرى وبجرى، أى: همومى وأحزانى، وأصل العجرة: نفخة فى الظهر فاذا كانت فى البطن فهى بجرة وقيل: العجر العروق المتعقدة فى الظهر، والبجر: العروق المتعقدة فى البطن، ثم نقلا إلى الهموم والأحزان، أراد أنه يشكو إلى الله أموره كلها ما ظهر منها وما بطن. [2] كذا جاء فى المخطوطة، وعند ابن جرير: «غشوا» ، وفى الكامل لابن الأثير: «أغشوا» . [3] عبد الله بن خلف الخزاعى له ترجمة فى الإصابة رقم 24650 ص 303 وكان كاتبا لعمر بن الخطاب على ديوان البصرة، وشهد وقعة الجمل مع عائشة فقتل، وكان أخوه عثمان مع على. [4] الزيادة من تاريخ ابن جرير ج 3 ص 539 وسيرة ابن هشام ج 3 ص 6 81، 120 والإصابة ج 2 ص 237 ولسان العرب والقاموس مع تاج العروس وخزانة الأدب ج 3 ص 394. [5] كذا جاء فى المخطوطة موافقا لما فى الكامل، وجاء فى تاريخ ابن جرير «زعمتم» وهو أقرب لما يأتى. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 80 وجعل كلّما مرّ برجل فيه خير قال: «زعم من زعم أنه لم يخرج إلينا إلا الغوغاء وهذا العابد المجتهد فيهم!» وصلى علىّ على القتلى من بين الفريقين، وأمر فدفنت الأطراف فى قبر عظيم، وجمع ما كان فى العسكر من شىء وبعث به إلى مسجد البصرة، وقال: من عرف شيئا فليأخذه إلّا سلاحا كان فى الخزائن عليه سمة السلطان. قال [1] : وكان جميع القتلى عشرة آلاف، نصفهم من أصحاب علىّ، ونصفهم من أصحاب عائشة، حكاه أبو جعفر الطبرى، وقال غيره: ثمانية آلاف. وقيل: سبعة عشر ألفا. قال أبو جعفر: وقتل من ضبّة ألف رجل، وقتل من عدىّ حول الجمل سبعون كلّهم قد قرأ القرآن سوى الشباب ومن لم يقرأ. قال [2] : ولمّا فرغ علىّ من الواقعة أتاه الأحنف بن قيس [فى بنى سعد] [3] ، وكانوا قد اعتزلوا القتال، كما ذكرنا، فقال له علىّ: لقد تربّصت. فقال: ما كنت أرانى إلّا قد أحسنت، وبأمرك كان ما كان يا أمير المؤمنين، فارفق، فإنّ طريقك الّذى سلكت بعيد، وأنت إلىّ غدا أحوج منك أمس، فاعرف إحسانى، واستصف مودّتى لغد، ولا تقل [4] مثل هذا فإنّى لم أزل لك ناصحا. ثم دخل علىّ البصرة يوم الاثنين، فبايعه أهلها، حتّى الجرحى والمستأمنة، واستعمل علىّ عبد الله بن عبّاس على البصرة، وولّى   [1] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 131. [2] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 131. [3] الزيادة من الكامل، ويقتضيها ضمير الجمع الآتى بعدها. [4] كذا جاء فى المخطوطة والكامل، وجاء فى تاريخ ابن جرير ج 3 ص 540 «ولا تقولن» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 81 زيادا الخراج وبيت المال، وأمر ابن عبّاس أن يسمع منه ويطيع وكان زياد معتزلا [1] . ثم راح علىّ رضى الله عنه إلى عائشة فى دار عبد الله بن خلف الخزاعى، فوجد النساء يبكين على عبد الله وعثمان ابنى خلف، وكان عبد الله قتل مع عائشة، وعثمان قتل مع على، وكانت صفية زوجة عبد الله مختمرة تبكى، فلما رأته قالت له: يا على، يا قاتل الأحبّة، يا مفرق الجمع، أيتم الله منك بنيك كما أيتمت ولد عبد الله منه. فلم يردّ عليها شيئا، ودخل على عائشة فسلم عليها وقعد عندها، ثم قال: جبهتنا صفيّة. أما إنّى لم أرها منذ كانت جارية! فلما خرج أعادت عليه القول، فكفّ بغلته، وقال: لقد هممت أن أفتح هذا الباب (وأشار إلى باب فى الدار) وأقتل من فيه (وكان فيه ناس من الجرحى فأخبر بمكانهم، فتغافل عنه) [2] . قال: ولمّا خرج من عند عائشة قال له رجل من الأزد: والله لا تغلبنا هذه المرأة! فغضب وقال: «مه [3] ، لا تهتكنّ سترا، ولا تدخلنّ دارا، ولا تهيجنّ امرأة بأذى، وإن شتمن أعراضكم، وسفّهن أمراءكم وصلحاءكم، فإنّ النساء ضعيفات، ولقد كنّا   [1] كان زياد ممن اغتزل ولم يشهد المعركة، ولما جاء عبد الرحمن بن أبى بكر فى المستأمنين مسلما- بعد ما فرغ على من البيعة- قال له على رضى الله عنه: وعمك المتربص المقاعد بى (يعنى زيادا) . فقال: والله يا أمير المؤمنين إنه لك لواد وإنه على مسرتك لحريص ولكنه بلغنى أنه يشتكى، فلما قابل على زيادا واعتذر إليه زياد قبل عذره، واستشاره وأراده على رضى الله عنه على البصرة، فقال زياد: رجل من أهل بيتك يسكن إليه الناس فإنه أجدر أن يطمئنوا وينقادوا وسأكفيكه وأشير عليه. فكان ابن عباس. [2] عبارة ابن جرير: «وكان أناس من الجرحى قد لجئوا إلى عائشة، فأخبر على بمكانهم، فتغافل عنهم» . [3] مه: اسكت واكفف. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 82 نؤمر بالكفّ عنهنّ وهنّ مشركات، فكيف إذا كنّ مسلمات؟» ومضى، فلحقه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، قام رجلان على الباب فتناولا من هو أمضّ شتيمة لك من صفيّة. فقال: ويحك لعلّها عائشة! قال: نعم، قال أحدهما: «جزيت عنّا أمّنا عقوقا» . وقال الآخر: «يا أمّتا [1] توبى فقد خطيت» . فبعث القعقاع بن عمرو إلى الباب، فأقبل على من كان عليه، فأحالوا على رجلين من أزد الكوفة، وهما عجلان وسعد ابنا عبد الله فضربهما مائة سوط، وأخرجهما من ثيابهما. قال: وسألت عائشة رضى الله عنها عمّن قتل من الناس معها وعليها، فكلّما نعى واحد من الجميع قالت: رحمه الله! فقيل لها كيف ذلك؟ قالت: كذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلان فى الجنة وفلان فى الجنة [2] . ثم جهّز علىّ رضى الله عنه عائشة بكلّ ما ينبغى لها من مركب وزاد ومتاع وغير ذلك، وبعث معها كلّ من نجا ممّن خرج معها إلّا من أحبّ المقام، واختار لها أربعين امرأة من نساء البصرة المعروفات، وسيّر معها أخاها محمد بن أبى بكر رضى الله عنهم. فلمّا كان   [1] كذا جاء بالتاء فى النسخة (ك) ، ووقع فى النسخة (ن) : «يا أمى» ، وجاء فى تاريخ ابن جرير: «يا أمنا» بالنون. [2] زاد ابن جرير: «وقال على بن أبى طالب يومئذ: إنى لأرجو ألا يكون أحد من هؤلاء نقى قلبه إلا أدخله الله الجنة» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 83 اليوم الذى ارتحلت فيه أتاها علىّ فوقف لها، وحضر الناس، فخرجت [وودعوها] [1] وودّعتهم وقالت: يا بنىّ، لا يعتب بعضنا على بعض، إنه والله ما كان بينى وبين علىّ فى القديم إلّا ما يكون بين المرأة وأحمائها، وإنه على معتبتى لمن الأخيار. فقال علىّ رضى الله عنه: صدقت والله ما كان بينى وبينها إلا ذاك، وإنّها لزوجة نبيّكم فى الدنيا والآخرة. وكان خروجها من البصرة يوم السبت غرّة شهر رجب سنة ستّ وثلاثين، وشيّعها علىّ أميالا، وسرّح بنيه معها يوما. وتوجّهت إلى مكّة، فأقامت إلى الحجّ، فحجّت، ثم رجعت إلى المدينة. قال: ولمّا فرغ علىّ من بيعة أهل البصرة نظر فى بيت المال، فرأى فيه ستّمائة ألف وزيادة، فقسمها على من شهد معه، فأصاب كلّ رجل منهم خمسمائة درهم، فقال لهم: إن أظفركم الله بالشام فلكم مثلها إلى أعطياتكم، فخاض فى ذلك السّبئيّة، وطعنوا على علىّ [من وراء وراء] [2] ، وطعنوا فيه أيضا حين نهاهم عن أخذ أموالهم، فقالوا: يحلّ لنا دماءهم ويحرّم علينا أموالهم [3] ! قال: وأراد علىّ رضى الله عنه المقام بالبصرة لإصلاح حالها،   [1] الزيادة من تاريخ ابن جرير البرى ج 3 ص 547. [2] الزيادة من الكامل لابن الأثير ج 3 ص 132 وسبقه ابن جرير. [3] فى تاريخ ابن جرير 3 ص 545: كان من سياسة على ألا يقتل مديرا ولا يذفف على جريح ولا يكشف سترا ولا يأخذ مالا. فقال قوم يومئذ: ما يحل لنا دماءهم ويحرم علينا أموالهم! فقال على: القوم أمثالكم، من صفح عنا فهو منا ونحن منه، ومن لج حتى يصاب فقتله، منى على الصدر والنحر، وإن لكم فى خمسه لغنى. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 84 فأعجلته السّبئيّة عن المقام، فإنّهم ارتحلوا بغير إذنه، فارتحل فى آثارهم، ليقطع عليهم أمرا إن أرادوه. فلنرجع إلى مقتل طلحة والزبير. ذكر مقتل طلحة رضى الله عنه وشىء من أخباره هو أبو محمد طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرّة بن كعب بن لؤىّ بن غالب القرشى التّيمى. وهو أقرب العشرة إلى أبى بكر الصديق رضى الله عنه، يجتمع نسبه مع نسب أبى بكر فى عمرو بن كعب بن سعد. ويجتمع نسبه ونسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فى مرّة ابن كعب. وأم طلحة: الحضرميّة، وهى الصّعبة بنت عبد الله بن عباد [1] ابن مالك بن ربيعة بن أكبر بن مالك بن عويف بن مالك بن الخزرج ابن إياد بن الصّدف [2] من حضرموت من كندة، يعرف أبوها عبد الله ب «الحضرمىّ» . ويعرف طلحة ب «طلحة الخير» و «طلحة الفيّاض» . قيل   [1] كذا جاء فى المخطوطة والرياض النضرة «عباد» ، وجاء فى الاستيعاب والإصالة: «عماد» . [2] فى القاموس: الصدف- ككتف-: بطن من كندة ينسبون اليوم إلى حضرموت. وفى جمهرة أنساب العرب ص 431: «والصدف هم فى بنى حضرموت، وهو الصدف ابن أسلم بن زيد بن مالك بن زيد بن حضرموت الأكبر.» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 85 سمّى بالفيّاض لأنّه اشترى مالا بموضع يقال له «بيسان» ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أنت إلا فيّاض» ، فسمّى بذلك من يومئذ. وهو رضى الله عنه أحد العشرة المشهود لهم بالجنّة، وأحد الستة أصحاب الشورى الذين مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض [1] . وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين كعب بن مالك حين آخى بين المهاجرين والأنصار، وقسم له سهمه وأجره يوم بدر [2] . وقد تقدم خبره فى ذلك [3] . ثم شهد أحدا وما بعدها، وأبلى يوم أحد بلاء حسنا، ووقى رسول الله عليه الصلاة والسلام بنفسه، اتّقى عنه النّبل بيده حتى شّلّت إصبعه وضرب فى رأسه، وحمل رسول الله عليه الصلاة والسلام على ظهره حتى صعد الصخرة، فقال عليه السلام لأبى بكر رضى الله عنه: «اليوم أوجب طلحة [4] يا أبا بكر» .   [1] ذكر صاحب الإصابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على ماء يقال له: «بيسان» مالح، فقال هو «نعمان» وهو طيب، فغير اسمه فاشتراه طلحة، ثم تصدق به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنت يا طلحة إلا فياض، فبذلك قيل له «طلحة الفياض» . [2] لم يشهد طلحة وقعة بدر، كما سبق فى هذا الكتاب: أن طلحة وسعيد بن زيد كانا قد بعثهما رسول الله صلى الله عليه وسلم- قبل أن يخرج من المدينة إلى بدر إلى الشام يتحسان له خبر العير، فقدما بعد غزوة بدر فضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم سهميهما، قالا: يا رسول الله. وأجرنا. قال: وأجركما. [3] نهاية الأرب ج 17 ص 36. [4] شرح صاحبا النهاية ولسان العرب حديث «أوجب طلحة» بقولهما: أى عمل عملا أوجب له الجنة، وذكر صاحب الرياض النضرة ج 2 ص 251 أن الحديث أخرجه أحمد والترمذى، ثم ذكر ج 2 ص 253 رواية البغوى وغيره «أوجب طلحة الجنة» بذكر المفعول به. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 86 ويروى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إليه فقال: «من أحبّ أن ينظر إلى شهيد يمشى على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة» . وحكى أبو عمر ابن عبد البر رحمه الله فقال: زعم بعض أهل العلم أنّ عليّا رضى الله عنه دعاه يوم الجمل، فذكّره أشياء من سوابقه وفضله، فرجع طلحة عن قتاله، على نحو ما صنع الزّبير واعتزل فى بعض الصفوف، فرمى بسهم، فقطع من رجله عرق النّسا، فلم يزل دمه ينزف حتّى مات [1] . ويقال: إنّ السهم أصاب ثغرة نحره، وإنّ الذى رماه مروان بن الحكم وقال: لا أطلب بثأرى بعد اليوم. وذلك أنّ طلحة- فيما زعموا- كان ممّن حاصر عثمان واشتد عليه. قال ابن عبد البر: ولا يختلف العلماء [2] فى أن مروان بن الحكم قتل طلحة يومئذ [3] ، واستدلّ على ذلك بأخبار [رواها من قول مروان تدل على أنه قاتله] [4] . قال: وقد روى عن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه أنه قال: والله إنّى لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزّبير ممّن قال الله   [1] ذكر أبو عمر ابن عبد البر قول الأحنف: لما التقوا كان أول قتيل طلحة بن عبد الله [2] فى الاستيعاب لابن عبد البر: «ولا يختلف العلماء الثقات» . [3] زاد ابن عبد البر «وكان فى حزبه» ، وقال فى موضع آخر كان مروان مع طلحة يوم الجمل، فلما اشتبكت الحرب قال مروان: لا أطلب بثأرى بعد اليوم. ثم رماه بسهم ..... الخ. [4] ثبتت هذه الجملة فى النسخة (ن) ، وسقطت من النسخة (ك) . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 87 تبارك وتعالى فيهم: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ [1] . وروى أبو عمر بسنده إلى قيس بن أبى حازم قال: رمى مروان طلحة يوم الجمل بسهم فى ركبته، فجعل الدّم يسيل، فإذا أمسكوه استمسك وإذا تركوه سال، فقال: دعوه فإنّما هو سهم أرسله الله. قال فمات، فدفنّاه على شاطئ الكلّاء [2] ، فرأى بعض أهله أنه أتاه فى المنام فقال: «ألا تريحوننى من هذا الماء فإنى قد غرقت!» ثلاث مرار يقولها، قال: فنبشوه فإذا هو أخضر كأنّه السّلق، فنزحوا [3] عنه الماء، فاستخرجوه، فإذا ما يلى الأرض من لحيته ووجهه قد أكلته الأرض، فاشتروا له دارا من دور آل أبى بكر بعشرة آلاف، فدفنوه فيها. وروى أيضا بسنده إلى علىّ بن زيد عن أبيه أن رجلا رأى فيما يرى النائم أنّ طلحة بن عبيد الله قال: «حوّلونى عن قبرى فقد آذانى الماء!» ثم رآه، حتّى رآه ثلاث ليال، فأتى ابن عبّاس فأخبره، فنظروا فإذا شقّة الذى يلى الارض فى الماء، فحوّلوه، قال: فكأنى أنظر إلى الكافور فى [4] عينيه لم يتغيّر إلّا عقيصته فإنها مالت عن موضعها. وقتل رضى الله عنه وهو ابن ستّين سنة، وقيل: ابن اثنتين وستّين، وذلك يوم الجمل، لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة ستّ وثلاثين.   [1] الآية 47 من سورة الحجر. [2] الكلاء: مرفأ السفن بساحل النهر، وأطلق على موضع بالبصرة. [3] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وفى (ك) : «فنزعوا» . [4] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى الاستيعاب ج 2 ص 24: «بين عينيه» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 88 وكان رضى الله عنه رجلا آدم، حسن الوجه، كثير الشّعر، ليس بالجعد القطط [1] [ولا بالسّبط] [2] وكان لا يغيّر شعره [3] . وسمع علىّ رجلا ينشد: فتى كان يدنيه الغنى من صديقه ... إذا ما هو استغنى، ويبعده الفقر فقال: ذاك أبو محمد طلحة بن عبيد الله. وحكى الزّبير [4] أنّه سمع سفيان بن عيينة يقول: كانت غلّة طلحة بن عبيد الله ألفا وافيا كلّ يوم! (قال: والوافى وزنه وزن الدّينار، وعلى ذلك وزن دراهم فارس التى تعرف بالبغلية) . ذكر مقتل الزبير بن العوام رضى الله عنه وشىء من أخباره هو أبو عبد الله الزّبير بن العوّام بن خويلد بن أسد بن عبد العزّى بن قصىّ، القرشى الأسدى. وأمّه صفيّة بنت عبد المطّلب، عمّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستّة أصحاب الشّورى، وهو قديم الإسلام، واختلف فى سنّه يوم أسلم، فقيل:   [1] القطط: الكثير الجعودة. [2] كذا ثبت فى النسخة (ن) كالاستيعاب ج 2 ص 225، وسقط من النسخة (ك) ، والسبط من الشعر: المنبسط المسترسل، والمراد أن شعر طلحة: كان وسطا بين الجعد والمسترسل (وهما ضدان) . [3] كانوا يكرهون تغيير الشيب بنتف شعره، وأما تغيير لونه فغير مكروه، فمن ذوى الشيب من يقبل عليه، ومنهم من لا يقبل ... وقد ذكر الرياض النضرة ج 2 ص 262 أن الزبير بن العوام «كان لا يغير شيبه» كذلك. [4] هو الزبير بن بكار فى الرياض النضرة ج 2 ص 258. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 89 خمس عشرة سنة، وقيل ست عشرة، وقيل: اثنتى عشرة سنة وقيل: ثمانى سنين. والأول أصح. وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين عبد الله بن مسعود حين أخى بين المهاجرين، ولما أخى بين المهاجرين والأنصار آخى بينه وبين سلمة بن سلامة بن وقش. وكان له رضى الله عنه من الولد- فيما حكاه بعضهم- عشرة، وهم: عبد الله وعروة ومصعب والمنذر وعمرو وعبيدة وجعفر وعامر وعمير وحمزة. وكان الزّبير رضى الله عنه أوّل من سلّ سيفا فى سبيل الله، وذلك أنه نفخت فيه نفخة من الشّيطان: «أخذ رسول الله عليه الصلاة والسلام» ، فأقبل يشقّ الناس بسيفه، والنبىّ صلى الله عليه وسلم بأعلى مكّة، فقال له رسول الله: ما لك يا زبير؟ قال: أخبرت أنك أخذت! فصلّى عليه ودعا له. وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الزّبير ابن عمّتى وحواريّى من أمّتى» . وقال: «لكلّ نبىّ حوارىّ، وحواريّى الزّبير» . وسمع ابن عمر رضى الله عنه رجلا يقول: «أنا ابن الحوارىّ» ، فقال إن كنت ابن الزّبير وإلّا فلا. وذكر [1] فى معنى «الحوارىّ» : الخالص، وقيل الخليل، ولذلك قال جرير [2] :   [1] ابن عبد البر فى الاستيعاب ج ص 581- 582. [2] فى ديوان جرير ص 454، وقبله: إنى تذكرنى الزبير حمامة ... تدعو بمجمع نخلتين هديلا قالت قريش: ما أذل مجاشعا ... جارا وأكرم ذا القتيل قتيلا! لو كان يعلم غدر آل مجاشع ... نقل الرحال فأسرع التحويلا بالهف نفسى إذ يغرك حبلهم ... هلا اتخذت على القيون كفيلا الجزء: 20 ¦ الصفحة: 90 أفبعد مقتلهم خليل محمد [1] ... ترجو القيون مع الرسول سبيلا وقيل: الحوارىّ: الناصر. وقيل: الصاحب المستخلص. وجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه للزّبير مرّتين: يوم أحد ويوم بنى قريظة، فقال: «ارم فداك أبى وأمّى!» [2] . قال أبو عمر ابن عبد البر: وكان الزبير تاجرا! مجدودا [3] فى التجارة، قيل له يوما: بم أدركت فى التجارة ما أدركت؟ فقال: لأنى لم أشتر غبنا [4] ولم أردد ربحا والله يبارك لمن يشاء. وروى عن كعب قال: كان للزّبير ألف مملوك يؤدّون إليه الخراج فما يدخل بيته منه درهما واحدا. يعنى أنه كان يتصدق بذلك. وكان سبب قتله رضى الله عنه أنّه لما انصرف من وقعة الجمل وفارق الحرب مرّ بالأحنف فقال: هذا الذى جمع بين المسلمين حتّى ضرب بعضهم بعضا ثم لحق ببيته! ثم قال للناس: من يأتينى بخبره؟ فقال عمرو بن جرموز: أنا. وقيل: إنّ الزّبير لمّا انصرف نزل بعمرو بن جرموز، فقال له: «يا أبا عبد الله، جنيت حربا ظالما أو مظلوما ثمّ تنصرف! أتائب أم عاجز؟» فسكت عنه الزّبير، ثم عاوده، فقال: ظنّ فىّ كلّ شىء   [1] الرواية فى الديوان: «أفبعد متركهم خليل محمد» .. وقد عبر جرير عن الزبير ب «الحوارى» فى قوله: دعاكم حوارى الرسول فكنتمو ... عضاريط يا خشب الخلاف المصرعا [2] الرواية فى الديوان: «أفبعد متركهم خليل محمد» .. وقد عبر جرير عن الزبير ب «الحوارى» فى قوله: دعاكم حوارى الرسول فكنتمو ... عضاريط يا خشب الخلاف المصرعا [3] مجدودا: صاحب حظ. [4] غبنا: خدعا. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 91 غير الجبن. فانصرف عنه ابن جرموز وهو يقول: «والهفى على ابن صفيّة! أضرمها نارا ثم أراد أن يلحق بأهله! قتلنى الله إن لم أقتله!» ثم رجع إليه كالمتنصّح، فقال: «يا أبا عبد الله دون أهلك فياف، فخذ نجيبى [1] هذا وخلّ فرسك ودرعك، فإنهما شاهدان عليك بما نكره» . وأراد بذلك أن يلقاه حاسرا [2] ، ولم يزل به حتّى تركهما عنده وأخذ نجيبه، وسار معه ابن جرموز كالمشيّع له، حتّى انتهيا إلى وادى السّباع [3] ، فاستغفله [4] ابن جرموز وطعنه. وقيل: إنّه اتبعه إلى الوادى فقتله وهو فى الصلاة. وقيل: بل قتله وهو نائم. وفى ذلك تقول عاتكة [5] بنت زيد بن عمرو بن نفيل العدوية زوجته ترثيه [6] : غدر ابن جرموز بفارس بهمة ... يوم اللقاء وكان غير معرّد [7] يا عمرو لو نبّهته لوجدته ... لا طائشا رعش الجنان [8] ولا اليد   [1] النجيب من الإبل: القوى السريع. [2] حاسر: لا درع عليه ولا وقاية. [3] وادى السباع: على أربعة فراسخ من البصرة، كما فى خزانة الأدب ج 4 ص 350 وانظر معجم البلدان. [4] فى خزانة الأدب ج 2 ص 458: «وأراه أنه يريد مسايرته ومؤانسته، فقتله غيلة» . [5] عاتكة من المهاجرات، حسناء بارعة الجمال، تزوجت مرات وقتل أزواجها ورثتهم بشعرها، وسيذكر المؤلف فى هذا الجزء ترجمة أخيها: سعيد بن زيد. [6] انظر هذا الرثاء فى الأغانى ج 6، ص 126 وذيل أمالى القالى ص 112 والموشى ص 80 والاستيعاب ج 4 ص 364 وابن عساكر ج 5 ص 366 والرياض النضرة ج 2 ص 304. [7] يقال للجيش «بهمة» ، ومنه قولهم «فلان فارس بهمة» والمعرد: الهارب [8] الجنان: القلب. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 92 كم غمرة قد خاضها لم يثنه ... عنها طرادك يا ابن فقع القردد [1] ثكلتك أمّك إن ظفرت بمثله [2] ... فيما مضى ممّن يروح ويغتدى والله ربّك إن قتلت لمسلما ... حلت عليك عقوبة المتعمّد [3] قال: فلمّا رجع برأسه وسلبه [4] قال له رجل من قومه: «فضحت والله اليمن أوّلها وآخرها بقتلك الزّبير رأس المهاجرين وفارس رسول الله صلى الله عليه وسلم وحواريّه وابن عمّته! والله لو قتلته فى حرب لعزّ ذلك علينا ولمسّنا عارك! فكيف فى جوارك وحرمك؟!» قال: وأتى ابن جرموز عليّا، فقال لحاجبه: استأذن لقاتل الزّبير. فقال علىّ رضى الله عنه ائذن له وبشّره بالنار، قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: بشّر قاتل ابن صفيّة بالنار! فقال ابن جرموز: أتيت عليا برأس الزّبي ... ر أرجو لديه به الزّلفه   [1] الغمرة: الشدة، ولفقع: نوع من الكمأة، والقردد: أرض مرتفعة إلى جنب وهده، يشبهون بهذا الفقع الرجل الذليل لأن الدواب تنجله بأرجلها. [2] ويروى: «فاذهب فما ظفرت يداك بمثله» . [3] هذا البيت من شواهد النحو. انظر العينى ج 2 ص 278 والسيوطى ص 26 وخزانة الأدب ج 4 ص 350- 351. [4] السلب: ما يأخذه القاتل مما كان القتيل من سلاح وثياب ودابة. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 93 فبشّر بالنار إذ جئته ... فبئس بشارة ذى التّحفه وسيان عندى قتل الزّبير ... وضرطة عير بذى الجحفه [1] وحكى أبو عمر ابن عبد البر فى كتابه المترجم ب «الاستيعاب» [2] من رواية عمرو بن جاوان عن الاحنف بن قيس قال: لما بلغ الزبير سفوان (موضعا بالبصرة كمكان القادسيّة من الكوفة) لقيه النعر [3] (رجل من بنى مجاشع) فقال: «أين تذهب يا حوارىّ رسول الله؟ إلىّ، فأنت فى ذمّتى لا يوصل إليك» ، فأقبل معه، وأتى إنسان الأحنف فقال: هذا الزّبير قد لقى بسفوان، فقال الأحنف: «ما شاء الله كان، قد جمع بين المسلمين حتّى ضرب بعضهم حواجب بعض بالسّيوف، ثم يلحق ببيته وأهله!!» فسمعه عميرة [4] بن جرموز وفضالة بن حابس ونفيع فى غواة من غواة بنى تميم، فركبوا فى طلبه، فلقوه مع النعر، فأتاه عميرة بن جرموز من خلفه وهو على فرس له ضعيفة فطعنه طعنة خفيفة، وحمل عليه الزّبير على فرس له يقال له «ذو الخمار» [5] ، حتى إذا ظنّ أنه قاتله نادى صاحبيه: «يا نفيع   [1] انظر الأبيات مع شىء من التغيير فى شرح ابن أبى الحديد لنهج البلاغة ج 1 ص- 79. [2] ج 1 ص 585. [3] جاء فى شرح ديوان جرير ص 455 أنه «النعر بن الزمام من بنى مجاشع» . [4] المشهور فى اسم القاتل «عمرو» كما سبق فى شعر عاتكة، وقد يقال له. «عميرة» أو «عمير» كما فى الاستيعاب ج 1 ص ح 584 والرياض النضرة 2 ص 273. [5] فى القاموس: «ذو الخمار: فرس الزبير بن العوام يوم الجمل» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 94 يا فضالة» فحملوا عليه حتّى قتلوه ... قال: [1] وهذا [2] أصّح مما تقدّم. وكان مقتله يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة [3] سنة ست وثلاثين. وكانت سنّه يوم قتل سبعا وستّين سنة، وقيل ستّا وستين. وكان الزّبير رضى الله عنه أسمر ربعة معتدل اللحم خفيف اللحية. وقال حسّان بن ثابت يمدح الزّبير ويفضّله: [4] أقام على عهد النبىّ وهديه ... حواريّه والقول بالفعل يعدل أقام على منهاجه وطريقه ... يوالى ولى الحقّ والحقّ أعدل هو الفارس المشهور والبطل الذى ... يصول إذا ما كان يوم محجّل [5]   [1] أبو عمر ابن عبد البر. [2] يؤيده ما ورد فى ديوان جرير، وقد ذكر جرير حادثة الزبير فى هجائة للفرزدق المجاشعى قريبا من أربعين مرة، ولم يكن جرير بعيدا عن عصر الزبير. [3] كذا جاء فى المخطوطة والرياض النضرة ج 2 ص 274، وجاء فى الاستيعاب ج 1 ص 584 والإصابة ج 1 ص 546 «جمادى الأولى» ، ولكن صاحب الاستيعاب أعقب ذلك بقوله «وفى ذلك اليوم كانت وقعة الجمل» وقد قال ابن جرير ج 3 ص 539 «وكانت الواقعة يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة 36 فى قول الواقدى» . [4] ديوان حسان ص 338- 339. [5] محجل: مشهور. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 95 وإن امرأ كانت صفية أمه ... ومن أسد فى بيته لمرفّل [1] له من رسول الله قربى قريبة ... ومن نصرة الإسلام مجد مؤثل [2] فكم كرّة ذبّ الزّبير بسيفه ... عن المصطفى والله يعطى ويجزل [3] إذا كشفت عن ساقها الحرب حشّها ... بأبيض سبّاق إلى الموت يرقل [4] فما مثله فيهم ولا كان قبله ... وليس يكون الدّهر ما دام يذبل [5] وروى [6] عن عبد الله بن الزّبير رضى الله عنهما أنه قال: لمّا وقف الزّبير يوم الجمل دعانى، فقمت إلى جنبه، فقال «يا بنىّ: إنّه لا يقتل اليوم إلّا ظالم أو مظلوم، وإنّى لا أرانى [7] إلّا سأقتل اليوم   [1] مرفل: معظم. [2] مؤثل: مؤصل. [3] جاءت فى الأصل «كرة» وهى المناسبة لسياق البيت وجاءت فى بعض الكتب «كربة» . ذب: دفع. [4] كشفت الحرب عن ساقها: اشتدت. حشها: أشعلها. أبيض: سيف. يرقل: يسرع. [5] يذبل: جبل بنجد، يريد دائما. [6] روى البخارى فى صحيحه هذا الحديث (291) بسنده عن هشام بن عروة عن أبيه عروة بن الزبير عن أخيه عبد الله بن الزبير، وهذا فى باب (بركة الغازى فى ماله حيا وميتا) . [7] لا أرانى: لا أظننى. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 96 مظلوما، وإنّ من أكبر همّى لدينى، أفترى ديننا يبقى من مالنا شيئا؟ [1] وقال: يا بنى بع مالنا واقض دينى. وأوصى بالثّلث وثلثه لبنيه (يعنى بنى عبد الله بن الزّبير) يقول: الثلث إليك [2] فإن فضل من مالنا فضل بعد قضاء الدّين فثلثه لولدك. قال هشام وكان بعض ولد عبد الله قد وازى [3] بعض بنى الزّبير: خبيب وعبّاد [4] ، وله [5] يومئذ تسعة بنين وتسع بنات. قال عبد الله فجعل يوصينى بدينه ويقول: يا بنىّ إن عجزت عن شىء منه فاستعن عليه مولاى. قال [6] : فو الله ما دريت ما أراد، حتّى قلت: يا أبت من مولاك؟ قال: الله تعالى. فو الله ما وقعت فى كربة من دينه إلّا قلت: «يا مولى الزّبير اقض عنه دينه» فيقضيه. فقتل الزّبير رضى الله عنه ولم يدع دينارا ولا درهما إلا أرضين منها الغابة [7] وإحدى عشرة دارا بالمدينة ودارين بالبصرة ودارا بالكوفة ودارا بمصر. قال [8] : وإنّما كان دينه الذى عليه أنّ الرجل كان يأتيه بالمال   [1] قال ذلك استكثارا لما عليه وإشفاقا من دينه. [2] فى صحيح البخارى «ثلث الثلث» . [3] وازى: ساوى، وللغويين كلام فى هذا اللفظ. [4] هما ولدا عبد الله بن الزبير. [5] أى الزبير. [6] عبد الله بن الزبير. [7] الغابة: أرض عظيمة من عوالى المدينة. [8] عبد الله بن الزبير. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 97 فيستودعه إيّاه، فيقول الزّبير رضى الله عنه لا [1] ، ولكنّه سلف، فإنّى أخشى عليه الضّيعة. وما ولى إمارة قطّ ولا جباية خراج ولا شيئا إلّا أن يكون فى غزوة مع النبى صلى الله عليه وسلم أو مع أبى بكر أو عمر أو عثمان رضى الله عنهم. قال عبد الله بن الزّبير: فحسبت ما عليه من الدّين فوجدته ألفى ألف ومائتى ألف. قال: فلقى حكيم بن حزام عبد الله بن الزّبير فقال: يا ابن أخى كم على أخى من الدّين؟ فكتمه وقال: مائة ألف. فقال حكيم: والله ما أرى أموالكم تسع لهذه. فقال له عبد الله: أفرأيتك إن كانت ألفى ألف ومائتى ألف؟ قال: ما أراكم تطيقون هذا فإن عجزتم عن شىء منه فاستعينوا بى. قال: وكان الزّبير رضى الله عنه اشترى الغابة بسبعين ومائة ألف، فباعها عبد الله بألف ألف وستمائة ألف، ثم قام فقال: من كان له على الزّبير حقّ فليوافنا بالغابة. فأتاه عبد الله بن جعفر، وكان له على الزّبير أربعمائة ألف، فقال لعبد الله: إن شئتم تركتها لكم. قال عبد الله: لا. قال: فإن شئتم جعلتموها فيما تؤخّرون إن أخّرتم. فقال عبد الله: لا. قال: فاقطعوا لى قطعة. فقال عبد الله لك من ههنا إلى ههنا. فباع منها [2] فقضى دينه فأوفاه، وبقى   [1] أى: لا أقبضه وديعة. [2] أى: من الغابة والدور. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 98 منها [1] أربعة أسهم ونصف، فقدم [2] على معاوية وعنده عمرو بن عثمان [3] والمنذر بن الزبير وابن زمعة [4] ، فقال له معاوية: كم قوّمت الغابة؟ قال: كلّ سهم [5] بمائة ألف. قال: كم بقى قال: أربعة أسهم ونصف. فقال المنذر بن الزّبير: قد أخذت سهما بمائة ألف. وقال عمرو بن عثمان: قد أخذت سهما بمائة ألف. وقال ابن زمعة: قد أخذت سهما بمائة ألف. فقال معاوية: كم بقى فقال: سهم ونصف. قال: أخذته بخمسين ومائة ألف. (قال وباع عبد الله بن جعفر نصيبه من معاوية بستّمائة ألف [6] ) قال: فلمّا فرغ ابن الزّبير من قضاء دينه قال بنو الزّبير: اقسم بيننا ميراثنا. قال: لا والله لا أقسم بينكم حتّى أنادى بالموسم أربع سنين: «ألا من كان له على الزّبير دين فليأتنا فلنقضه» . قال: فجعل كلّ سنة ينادى بالموسم، فلمّا مضى أربع سنين قسم بينهم. قال: وكان للزّبير أربع نسوة، ورفع الثّلث، فأصاب كلّ امرأة ألف ألف ومائتا ألف، فجميع ماله [7] خمسون ألف ألف ومائتا ألف. هكذا أورده البخارىّ رحمه الله فى صحيحه، وعقد جملة المال فى آخره على ما ذكرنا.   [1] أى: من الغابة بغير بيع. [2] عبد الله بن الزبير. [3] ابن عفان. [4] عبد الله بن زمعة. [5] أى: من أصل ستة عشر سهما. [6] فربح مائتى ألف. [7] الذى تركه الزبير عند وفاته، ويحتوى على الوصية والميراث والدين. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 99 والذى دلّ عليه الحساب أنّ جملة المال تسعة وخمسون ألف ألف وثمانمائة ألف، وذلك أنّ نصيب الزوجات الأربع (وهو الثّمن بعد وفاء الدّين ورفع الثلث الذى أوصى به لبنى عبد الله) اشتمل على أربعة آلاف ألف وثمانمائة ألف، يضرب فى ثمانية فتكون ثمانية وثلاثين ألف ألف وأربعمائة ألف، ويكون ثلث الوصية (وهو نصف هذه الجملة) تسعة عشر ألف ألف ومائتى ألف، والدّين ألفى ألف ومائتى ألف، فتخرج الجملة على ما ذكرناه [1] . ذكر وقعة صفين وابتداء أمرها كانت وقعة صفّين فى أواخر سنة ست وثلاثين وأوائل سنة سبع وثلاثين. وذلك أنه لما فرغ علىّ رضى الله عنه من حرب الجمل أقام بالبصرة، ثمّ انتقل إلى الكوفة، وأرسل إلى جرير بن عبد الله البجلى- وكان عثمان قد استعمله على همذان- وإلى الأشعث بن قيس- وكان على أذربيجان- فأمرهما بأخذ البيعة والحضور إليه، ففعلا ذلك. وأراد علىّ أن يرسل إلى معاوية رسولا، فقال جرير: أرسلنى إليه [2] فقال الأشتر لعلىّ: لا تفعل [فإنّ هواه مع معاوية] [3] فقال علىّ   [1] الجملة التى ذكرها المؤلف هى التى انتهى إليها الحساب فى آخر قسم المال، منها تسعة آلاف ألف وستمائة ألف حصلت من نماء العقار والأرضين فى المدة التى أخر فيها عبد الله بن الزبير قسم التركة استبراءا للدين، والباقى جملته الأصلية التى أوردها البخارى، انظر شرح الكرمانى للبخارى ج 13 ص 103 وإرشاد السارى ج 6 ص 370، وغيرهما. [2] جاء فى رواية ابن جرير ج 3 ص 560 «ابعثنى إليه، فإنه لى ود، حتى آتيه فأدعوه إلى الدخول فى طاعتك» . [3] ثبتت هذه الجملة فى النسخة (د) ، وسقطت من (أ) . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 100 دعه حتّى ننظر ما يرجع به. فبعثه، وكتب معه إلى معاوية يعلمه باجتماع المهاجرين والأنصار عليه [1] ، وما كان من نكث طلحة والزّبير وحرب الجمل، ودعاه إلى البيعة والدخول فيما دخل فيه المهاجرون والأنصار. فلما قدم جرير على معاوية ما طله بالجواب، واستشار عمرو بن العاص، وكان قد قدم عليه وانضمّ إليه، على ما نذكر ذلك إن شاء الله فى أخبار معاوية، فأشار عمرو عليه أن يجمع أهل الشام ويلزم عليّا دم عثمان، ففعل، فأجمع أهل الشام على حرب علىّ. فعاد جرير إلى علىّ وأعلمه ذلك، وأنّ أهل الشام يبكون على عثمان ويقولون: إنّ عليّا قتله، وآوى قتلته، وإنهم لا ينتهون عنه حتّى يقتلهم أو يقتلوه. فقال الأشتر لعلىّ: كنت نهيتك عن إرسال جرير، وأخبرتك بعداوته وعشه، فأبيت إلّا إرساله. ثم تقاول الأشتر وجرير مقاولة أدّت إلى مفارقة جرير لعلىّ ولحاقه بمعاوية. قال: وخرج علىّ رضى الله عنه، فعسكر بالنّخيلة، [2] وتخلّف عنه نفر من أهل الكوفة، منهم ميسرة الهمدانى ومسعود [3] أخذا أعطياتهما وقصدا قزوين. وقدم عليه عبد الله بن العباس فى أهل البصرة. وبلغ ذلك معاوية، فاستشار عمرو بن العاص، فقال له: «أمّا إذا سار علىّ بنفسه فى الناس فسر بنفسك، ولا تغب عنه برأيك   [1] على بيعته. [2] النخيلة: موضع قرب الكوفة من جهة الشام. [3] كذا جاء الاسمان فى المخطوطة، وجاء فى الكامل لابن الأثير ج 3 ص 142 «منهم مرة الهمدانى ومسروق» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 101 ومكيدتك.» فتجهّز معاوية بأهل الشام، وقد حرّضهم عمرو وضعّف عليّا وأصحابه، وقال: «إنّ أهل العراق قد فرّقوا جمعهم ووهّنوا شوكتهم، وفلّوا حدّهم، وأهل البصرة مخالفون لعلىّ بمن قتل منهم، وقد تفانت صناديدهم وصناديد أهل الكوفة يوم الجمل، وإنّما سار علىّ فى شرذمة قليلة، وقد قتل خليفتكم، فالله الله فى حقّكم أن تضيّعوه، وفى دمكم أن تطلّوه!» وكتب معاوية (فى أجناد) [1] أهل الشام، وعقد لواء لعمرو، ولواء لابنيه: عبد الله ومحمد، ولواء لغلامه وردان. وسار معاوية وتأنّى فى مسيره. قال: وبعث [2] علىّ رضى الله عنه زياد بن النّضر الحارثىّ فى ثمانية آلاف، وبعث شريح بن هانئ فى أربعة آلاف، وسار علىّ من النّخيلة، وأخذ معه من بالمدائن من المقاتلة، وولّى على المدائن سعد ابن مسعود (عمّ المختار بن أبى عبيد الثّقفى) ، ووجه من المدائن معقل بن قيس فى ثلاثة آلاف، وأمره أن يأخذ على الموصل حتّى يوافيه على الرّقّة. فلما وصل علىّ [3] الرقة قال لأهلها ليعملوا جسرا يعبر عليه إلى أهل الشام، فأبوا، وكانوا قد ضمّوا سفنهم إليهم، فنهض من عندهم ليعبر على جسر منبج، وخلف عليهم الأشتر، فناداهم الأشتر: «أقسم بالله لئن لم تعملوا جسرا لأمير المؤمنين يعبر عليه   [1] كذا جاء عند ابن جرير ج 3 ص 562، وجاء فى المخطوطة (إلى) قال ابن الأثير فى النهاية: «الشام خمسة أجناد: فلسطين والأردن ودمشق وحمص وقنسرين، كل واحد منها يسمى جندا، أى المقيمين بها من المسلمين المقاتلين» . [2] المراد بهذه البعثة تقديم طليعة أمام الجيش. [3] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وجاء فى (ك) والكامل: «إلى» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 102 لأجرّدنّ فيكم السّيف، ولأقتلنّ الرجال ولآخذنّ الأموال!» فلقى بعضهم بعضا وقالوا: «إنّه الأشتر، وإنّه قمن أن يفى لكم بما حلف عليه أو يأتى بأكثر منه!» فنصبوا جسرا فعبر عليه علىّ وأصحابه. قال: ولما بلغ [1] علىّ الفرات دعا زياد بن النّضر وشريح بن هانىء فيمن معهما فسرحهما أمامه نحو معاوية على حالهما الّتى خرجا عليها من الكوفة، وكان سبب عودهما أنّهما أخذا من الكوفة على شاطىء الفرات مما يلى البرّ، فلمّا بلغا» عانات» بلغهما أنّ معاوية قد أقبل فى جنود الشام، فقالا: «والله ما هذا لنا برأى، أن نسير وبيننا وبين المسلمين وأمير المؤمنين هذا البحر، وما لنا خير أن نلقى جنود الشام بقلّة من معنا» فذهبوا ليعبروا من عانات، فمنعهم أهلها، فرجعوا! [حتّى عبروا] [2] من هيت [3] ، فلحقوا عليّا دون قرقيسيا [4] ، فقال علىّ: مقدّمتى تأتينى من ورائى! فأخبره شريح وزياد بما كان، فقال: سدّدتما. فلمّا عبر الفرات سيّرهما أمامه. فلمّا انتهيا إلى سور الرّوم لقيهما أبو الأعور السّلمىّ فى جند من أهل الشام، فأرسلا إلى علىّ فأعلماه. فأرسل علىّ إلى الأشتر، وأمره بالسرعة، وقال: «إذا   [1] كذا جاء فى المخطوطة والكامل، وجاء فى تاريخ ابن جرير ج 3 ص 564 ووقعه صفين ص 170 «قطع» . [2] زيادة من ابن جرير الطبرى ونصر بن مزاحم. [3] بلد على الفرات من جهة بغداد. [4] بلد على نهر الخابور بينه وبين الفرات. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 103 قدمت فأنت عليهم، وإيّاك أن تبدأ القوم بقتال إلّا أن يبدءوك، حتّى تلقاهم فتدعوهم، وتسمع منهم، ولا يحملك بغضهم على قتالهم قبل دعائهم والإعذار إليهم مرّة بعد مرة، واجعل على ميمنتك زيادا، وعلى ميسرتك شريحا، ولا تدن منهم دنوّ من يريد أن ينشب الحرب، ولا تباعد تباعد من يهاب البأس، حتّى أقدم عليك، فإنّى حثيث السّير فى أثرك إن شاء الله تعالى» . وكتب إلى شريح وزياد بذلك، وأمرهما بطاعة الأشتر.. فسار الأشتر حتّى قدم عليهم، وكفّ عن القتال، ولم بزالوا متوقفين حتّى إذا كان عند المساء حمل عليهم أبو الأعور، فثبتوا له واضطربوا ساعة، ثمّ انصرف أهل الشام، وخرج إليهم من الغد هاشم بن عتبة المرقال، وخرج إليه أبو الأعور، فاقتتلوا يومهم، وصبر بعضهم لبعض، ثمّ انصرفوا، وحمل عليهم الأشتر، وقال أرونى أبا الأعور! فتراجعوا، ووقف أبو الأعور وراء المكان الذى كان فيه أوّل مرّة، وجاء الأشتر فصفّ أصحابه مكان أصحاب أبى الأعور بالأمس، وقال الأشتر لسنان بن مالك النّخعىّ: انطلق إلى أبى الأعور فادعه إلى البراز. فقال: إلى مبارزتى أو مبارزتك؟ فقال: للأشتر لو أمرتك بمبارزته لفعلت. قال: «نعم والله لو أمرتنى أن أعترض صفّهم بسيفى لفعلت. فدعا له، وقال: إنّما تدعو لمبارزتى. فخرج إليهم فقال: أمّنونى فإنّى رسول. فأمّنوه، فانتهى إلى أبى الأعور فقال له: إنّ الأشتر يدعوك إلى أن تبارزه. فسكت طويلا، ثم قال: إنّ خفّة الأشتر وسوء رأيه حملاه على إجلاء عمّال عثمان عن العراق وتقبيح محاسنه، وعلى أن سار إليه الجزء: 20 ¦ الصفحة: 104 فى داره حتّى قتله وأصبح متّبعا بدمه، لا حاجة لى فى مبارزته. فقال له سنان: قد قلت فاستمع منّى أجبك. قال: لا حاجة لى فى جوابك، اذهب عنّى. فصاح به أصحابه، فانصرف عنه، ورجع إلى الأشتر فأخبره، فقال: لنفسه نظر. فوقفوا حتّى حجز اللّيل بينهم وعاد، الشاميّون من الليل [1] . وأصبح علىّ رضى الله عنه غدوة عند الأشتر، وتقدّم الأشتر ومن معه [2] فانتهى إلى معاوية، فواقفه، ولحق بهم علىّ، فتواقفوا طويلا. ثم إنّ عليّا طلب لعسكره موضعا ينزل فيه، فكان معاوية قد سبق فنزل منزلا اختاره بسيطا واسعا أفيح [3] ، أخذ شريعة [4] الفرات، وليس فى ذلك الموضع شريعة غيرها، وجعل معاوية على الشّريعة أبا الأعور. فأتى الناس عليّا، فأخبروه بفعلهم، وتعطّش الناس، فدعا صعصعة بن صوحان، فأرسله إلى معاوية يقول: «إنّا سرنا مسيرنا هذا ونحن نكره قتالكم قبل الإعذار إليكم، فقدّمت إلينا خيلك ورجالك فقاتلتنا قبل أن نقاتلك، [وبدأتنا بالقتال] [5] ونحن من رأينا الكفّ حتّى ندعوك ونحتجّ عليك، وهذه أخرى قد فعلتموها، منعتم الناس   [1] فى تاريخ ابن جرير ج 3 ص 566: «انصرفوا من تحت ليلتهم» . [2] فى تلك المقدمة. [3] كل موضع واسع يقال له «أفيح» . [4] الشريعة: مورد الناس أو الحيوان على الماء الجارى. [5] الزيادة من تاريخ ابن جرير ج 3 ص 568. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 105 من الماء، والناس غير منتهين [أو يشربوا] [1] ، فابعث إلى أصحابك فليخلّوا بين الناس وبين الماء، وليكفوا لننظر فيما بيننا وبينكم وفيما قدمنا له، فإن أردت أن نترك ما جئنا له ونقتتل على الماء حتى يكون الغالب هو الشارب فعلنا» . فجاء صعصعة إلى معاوية وقصّ عليه الرسالة، فاستشار معاوية أصحابه وقال: ما ترون؟ فقال الوليد ابن عقبة وعبد الله [2] بن سعد: امنعهم الماء كما منعوه ابن عفّان، اقتلهم عطشا قتلهم الله! فقال عمرو بن العاص: «خلّ بين القوم وبين الماء فإنّهم لن يعطشوا وأنت ريّان، ولكن بغير الماء فانظر فيما بينك وبينهم» . فأعاد الوليد وابن سعد مقالتهما، قالا: «امنعهم الماء إلى الليل، فإن هم لم يقدروا عليه رجعوا، وكان رجوعهم هزيمة، امنعهم الماء منعهم الله يوم القيامة! قال صعصعة: إنّما يمنعه الله الفجرة وشربة الخمر، لعنك الله ولعن هذا الفاسق (يعنى الوليد ابن عقبة) . فشتموه وتهدّدوه. (وقد قيل: إنّ الوليد وابن أبى سرح لم يشهدا صفّين.) ورجع صعصعة فأخبر بما كان ... وسيّر معاوية الخيل إلى أبى الأعور ليمنعهم الماء. فلمّا سمع علىّ ذلك قال لأصحابه: قاتلوهم على الماء!. فقال الأشعث بن قيس الكندىّ: أنا أسير إليهم. فسار   [1] الزيادة من تاريخ ابن جرير، و «أو» بمعنى «إلى» أو «إلا» . [2] هو عبد الله بن سعد بن أبى سرح بن الحارث بن حبيب القرشى العامرى. وكان أخا عثمان من الرضاعة، وسيذكره المؤلف قريبا بلفظ «ابن أبى سرح» ، وانظر الإصابة ج 2 ص 316- 317. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 106 إليهم، فلما دنوا منهم ثاروا إلى وجوههم يرمونهم بالنّبل، فتراموا ساعة، ثم تطاعنوا بالرّماح، ثم صاروا إلى السيوف فاقتتلوا [بها] [1] ساعة. وأرسل معاوية يزيد بن أسد البجلىّ القسرى (جدّ خالد بن عبد الله فى الخيل إلى أبى الاعور، فاقتتلوا ... وأرسل علىّ شبث بن ربعىّ الرياحى، فازداد القتال. فأرسل معاوية عمرو بن العاص فى جند كثير، فأخذ يمدّ أبا الأعور [ويزيد بن أسد] [2] .. وأرسل علىّ الأشتر فى جمع عظيم وجعل يمدّ الأشعث وشبثا.. فاشتدّ القتال حتى خلّوا بينهم وبين الماء، وصار فى أيدى أصحاب علىّ، فقالوا: والله لا نسقيه أهل الشام، فأرسل علىّ إلى أصحابه أن خذوا من الماء حاجتكم، وخلّوا عنهم، فإن الله تعالى نصركم عليهم ببغيهم وظلمهم. ومكث علىّ رضى الله عنه يومين لا يرسل إليهم أحدا ولا يأتيه منهم أحد.   [1] الزيادة من ابن جرير الطبرى فى تاريخه ج 3 ص 567. [2] الزيادة من الكامل لابن الأثير ج 3 ص 145. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 107 ذكر ارسال على الى معاوية وجوابه [1] قال: ثمّ دعا علىّ رضى الله عنه أبا عمرة بشير بن عمرو بن محصن الأنصارى وسعيد بن قيس الهمدانى وشبث بن ربعىّ التميمى، فقال لهم: ائتوا هذا الرجل وادعوه إلى الله تعالى وإلى الطاعة والجماعة. فقال له شبث يا أمير المؤمنين ألا نطمعه فى سلطان توليه إيّاه ومنزلة يكون له بها عندك أثرة إن هو بايعك؟ قال انطلقوا إليه واحتجّوا عليه وانظروا ما رأيه. وكان ذلك أوّل ذى الحجة من سنة ست وثلاثين. فأتوه فدخلوا عليه، فابتدأ بشير بن عمرو الأنصارىّ فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «يا معاوية إنّ الدنيا عنك زائلة، وإنك راجع إلى الآخرة، وإنّ الله محاسبك بعملك ومجازيك عليه، وإنى أنشدك الله أن لا تفرّق جماعة هذه الأمة وأن لا تسفك دماءها بينها» . فقطع عليه معاوية الكلام وقال: هلّا أوصيت بذلك صاحبك؟ فقال «صاحبى ليس مثلك، إنّ صاحبى أحقّ البريّة كلّها بهذا الأمر فى الفضل والدّين والسابقة فى الاسلام والقرابة بالرسول [2] صلّى الله عليه وسلم» قال: فماذا تقول [3] ؟ قال نأمرك [4] بتقوى الله وإجابة ابن عمّك إلى ما يدعو إليه من الحق فإنّه أسلم لك فى دنياك وخير لك فى عاقبة أمرك. قال معاوية: «ونترك دم عثمان! لا والله لا أفعل ذلك أبدا!» قال: فذهب سعيد بن قيس يتكلّم، فبادره شبث بن   [1] زاد بعده فى المخطوطة: «وأيام صفين الستة» ، وسيأتى ذكر هذه الأيام الستة فى غير هذا الفصل. [2] فى تاريخ ابن جرير ج 3 ص 571: «من الرسول» . [3] فى الكامل ج 3 ص 146: «يقول» . [4] فى الكامل: «يأمرك» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 108 ربعىّ، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «يا معاوية، قد فهمت ما رددت على ابن محصن، وإنّه والله لا يخفى علينا ما تطلب، إنك لم تجد شيئا تستغوى به الناس، وتستميل به أهواءهم، وتستخلص به طاعتهم، إلّا قولك: قتل إمامكم مظلوما فنحن نطلب بدمه، فاستجاب لك سفهاء طغام، وقد علمنا أنك أبطأت عليه بالنصر [1] ، وأحببت له القتل، لهذه المنزلة التى أصبحت تطلب، وربّ متمنّى أمر وطالبه يحول الله دونه، وربما أوتى المتمنى أمنيته وفوق أمنيّته، وو الله مالك فى واحدة منها خير، والله إن أخطاك ما ترجو إنّك لشرّ العرب حالا، وإن أصبت ما تتمنّاه لا تصيبه حتّى تستحقّ من ربّك صلّى النار، فاتّق الله يا معاوية، ودع ما أنت عليه، ولا تنازع الأمر أهله» . قال: محمد الله معاوية، ثم قال: «أمّا بعد، فإنّ أوّل ما عرفت به سفهك وخفّة حلمك أنّك قطعت على هذا الحسيب الشريف سيّد قومه منطقه، ثمّ اعترضت بعد فيما لا علم لك به، فقد كذبت ولؤمت أيّها الأعرابىّ الجلف الجافى فى كلّ ما ذكرت ووصفت!. انصرفوا من عندى فليس بينى وبينكم إلّا السّيف!» وغضب، وخرج القوم، فقال له شبث [2] «أتهول بالسّيف؟ أقسم بالله لنعجّلنّها إليك!» . فأتوا عليّا رضى الله عنه فأخبروه بذلك. فكان علىّ يأمر الرجل ذا الشرف فيخرج ومعه جماعة من أصحابه، ويخرج إليه آخر   [1] أى: عثمان. [2] أى: قال له وهو خارج، وعبارة ابن جرير الطبرى: «وخرج القوم وشبث يقول» ، وكذلك قال ابن مزاحم فى وقعة صفين ص 211. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 109 من أصحاب معاوية ومعه جماعة، فيقتتلان فى خيلهما، ثمّ ينصرفان. وكرهوا أن يلقوا جمع أهل العراق بجمع أهل الشام خشية الاستئصال والهلاك. فكان علىّ يخرج مرّة الأشتر، ومرّة حجر بن عدىّ الكندى، ومرة شبث بن ربعىّ، ومرّة خالد بن المعمّر، ومرّة زياد بن النّضر الحارثى، ومرّة زياد بن خصفة التّيمىّ، ومرّة سعيد بن قيس الهمدانى، ومرّة معقل بن قيس الرّياحى، ومرّة قيس بن سعيد الأنصارى. وكان الأشتر أكثر خروجا. وكان معاوية يخرج إليهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وأبا الأعور السّلمى، وحبيب بن مسلمة الفهرى، وابن ذى الكلاع [1] الحميرى، وعبيد الله بن عمر بن الخطاب، وشرحبيل بن السّمط الكندى، وحمزة بن مالك الهمدانى. فاقتتلوا أيّام ذى الحجّة كلّها، وربّما اقتتلوا فى اليوم الواحد مرّتين.   [1] كذا جاء فى المخطوطة هنا مثل ما فى تاريخى ابن جرير وابن الأثير، وكان الأولى أن يقولوا: «وذا الكلاع» لأنه هو نفسه «ذو الكلاع الأصغر» الذى كان فى هذا العهد، فلا موجب لنسبته إلى جده الأكبر، وقد ذكره لفظ «ذى الكلاع» بن عبد البر وابن حجر وكثير من علماء الحديث، وسيذكره المؤلف أيضا بلفظ «ذى الكلاع» لابن جرير وابن كثير هنا لك. واسمه: «أسميفع» وقد يختصر فيقال «سميفع» أو «أيفع» ابن ناكور بن عمرو بن يعفر بن ذى الكلاع الأكبر، وكان ذو الكلاع الأصغر رئيسا فى قومه، وقد أسلم فكتب إليه النبى صلى الله عليه وسلم بالتعاون على مسيلمة الكذاب وغيره، وكان يكنى «أبا شرحبيل» أو «أبا شراحيل» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 110 ذكر الموادعة بين على ومعاوية فى شهر المحرم وما كان بينهما من المراسلة والأجوبة فى الشهر قال: وفى شهر المحرم سنة سبع وثلاثين جرت موادعة [1] بين علىّ رضى الله عنه ومعاوية بن أبى سفيان، توادعا على ترك الحرب بينهما حتّى ينقضى الشهر، طمعا فى الصلح.. واختلفت فيه بينهما الرسائل. فبعث على رضى الله عنه عدىّ بن حاتم ويزيد بن قيس الأرحبى وشبث بن ربعىّ وزياد بن خصفة. فتكلّم عدىّ بن حاتم، فحمد الله، فقال: «أمّا بعد، فقد جئناك ندعوك إلى أمر يجمع الله به كلمتنا وأمّتنا، ويحقن [2] به الدماء، ويصلح [3] به ذات البين، إنّ ابن عمّك سيّد المسلمين أفضلها سابقة، وأحسنها فى الإسلام أثرا، وقد استجمع له الناس، ولم يبق أحد غيرك وغير من معك، فاحذر يا معاوية لا يصيبك [4] وأصحابك مثل يوم الجمل» . فقال له معاوية: «كأنك جئت مهدّدا لم تأت مصلحا، هيهات يا عدىّ، كلّا! والله إنّى لابن حرب [5] ،   [1] أى: مسالمة على ترك الحرب فى المدة المذكورة. [2] فى النسخة (ك) : «ونحقق» . [3] فى النسخة (ن) : «ونصلح» . [4] فى تاريخ ابن جرير الطبرى: «لا يصبك» . [5] معاوية هو ابن أبى سفيان صخر بن حرب، فاسم جده «حرب» ، ولا تخفى مناسبة ذكره لحال الحرب. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 111 ما يقعقع لى بالشّنان [1] ! وإنّك والله لمن المجلبين على عثمان، وإنك من قتلته، وإنى لأرجو أن تكون ممّن يقتله الله به» . فقال شبث وزياد بن خصفة جوابا واحدا: أتيناك فيما يصلحنا وإيّاك، فأقبلت تضرب لنا الأمثال [2] ، دع ما لا ينفع، وأجبنا فيما يعمّ نفعه. وقال يزيد بن قيس: إنّا لم نأت إلّا لنبلّغك ما أرسلنا به إليك ونؤدّى عنك ما سمعنا منك، ولم نخدع أن ننصح لك، وأن نذكر ما تكون به الحجّة عليك، ويرجع إلى الألفة والجماعة، إنّ صاحبنا من قد عرف المسلمون فضيله، ولا يخفى عليك، فاتّق الله يا معاوية ولا تخالفه، فإنّا والله ما رأينا فى الناس رجلا قطّ أعمل بالتقوى ولا أزهد فى الدّنيا ولا أجمع لخصال الخير كلّها منه» . فحمد الله معاوية، ثم قال: أمّا بعد، فإنّكم دعوتم إلى الطاعة والجماعة، فأمّا الجماعة التّى دعوتم إليها فنعمّاهى [3] ، وأمّا الطاعة   [1] (يضرب المثل) «ما يقعقع له بالشنان» لمن لا يتضع لحوادث الدهر ولا يروعه ما لا حقيقة له. والقعقعة: تحريك الشىء يسمع له صوت، والشنان: جمع شن، وهى القربة البالية، وأصل المثل أنهم كانوا إذا أرادوا حث الإبل على السير حركوا قربة بالية يسمع لها صوت فتفزع الإبل وتسرع، قال النابغة: كأنك من جمال بنى أقيش ... يقعقع خلف رجليه بشن وقد تمثل بهذا المثل- بعد معاوية- الحجاج الثقفى فى خطبة مشهورة، انظر الكامل للمبرد شرحه رغبة الآمل ج 4 ص 76، 87. [2] سبق ذكر المثل «ما يقعقع لى بالشنان» ، وروى ابن جرير فى آخر كلام معاوية تمثله بمثل ثان هو «قد حلبت بالساعد الأشد» أى أخذت بالقوة إذ لم يتأت الرفق. [3] كذا جاء فى وقعة صفين ص 223 وعند ابن أبى الحديد ج 1 ص 344. وجاء فى المخطوطة: «فمعنا هى» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 112 لصاحبكم فإنّا لا نراها، لأنّ صاحبكم قتل خليفتنا، وفرّق جماعتنا، وآوى ثأرنا، وصاحبكم يزعم أنّه لم يقتله، فنحن لا نردّ عليه ذلك، فليدفع إلينا قتلة صاحبنا لنقتلهم ونحن نجيبكم إلى الطاعة والجماعة. فقال شبث بن ربعىّ: يا معاوية أيسرّك أن تقتل عمّارا؟ قال «وما يمنعنى من ذلك؟ والله لو تمكّنت من ابن سميّة لقتلته بمولى عثمان [1] !» فقال شبث: «والذى لا إله غيره لا تصل إلى ذلك حتّى تندر الهام [2] عن الكواهل وتضيق الأرض الفضاء عليك!» فقال معاوية: «لو كان كذلك لكانت عليك أضيق!» . وتفرّق القوم. وبعث معاوية إلى زياد بن خصفة، فخلا به، وقال له: «يا أخا ربيعة، إنّ عليّا قطع أرحامنا، وقتل إمامنا، وآوى قتلة صاحبنا، وإنّى أسألك النصر عليه بعشيرتك، ثم لك عهد الله وميثاقه أن أولّيك إذا ظهرت [3] أىّ المصرين أحببت» . فقال زياد: «أمّا بعد، فإنى على بيّنة من ربّى، وبما [4] أنعم الله علىّ فلن أكون ظهيرا [5] للمجرمين!» وقام فقال معاوية لعمرو بن العاص: ليس نكلّم رجلا منهم فيجيب إلى خير، ما قلوبهم إلّا كقلب واحد!.   [1] فى رواية ابن أبى الحديد: «كنت أقتله بنائل مولى عثمان» . [2] تندر الهام: تسقط الرءوس. [3] ظهرت: غلبت. [4] كذا جاء فى تاريخ ابن جرير ج 4 ص 3 ووقعة صفين ص 224، وقد جاء فى القرآن الكريم قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ وجاء فى المخطوطة: «وما» . [5] ظهيرا: عونا. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 113 وبعث معاوية إلى علىّ حبيب بن مسلمة الفهرىّ وشرحبيل بن السّمط ومعن بن يزيد بن الأخنس، فدخلوا عليه، فحمد الله حبيب وأثنى عليه، ثم قال: «أمّا بعد فإنّ عثمان كان خليفة مهديّا، يعمل بكتاب الله وينيب إلى أمره، فاستثقلتم حياته، واستبطأتم وفاته، فعدوتم عليه فقتلتموه، فادفع إلينا قتلة عثمان إن زعمت أنك لم تقتله، ثم اعتزل أمر الناس، فيكون أمرهم شورى بينهم، يولّونه من أجمعوا عليه» . فقال له علىّ رضى الله عنه: «ما أنت- لا أمّ لك- والعزل وهذا الأمر [1] ؟ اسكت! لست هنالك ولا بأهل له» . فقال؛: والله لترينّى بحيث تكره! فقال على: «وما أنت؟ لا أبقى الله عليك إن أبقيت علينا، اذهب فصوّب وصعّد ما بدالك!» وقال شرحبيل؛ «ما كلامى إلّا مثل كلام صاحبى، فهل عندك جواب غير هذا!» فقال علىّ نعم [2] ، عندى جواب غيره:. ثم حمد الله وأثنى عليه وقال: (أمّا بعد، فإنّ الله تعالى بعث محمدا بالحق، فأنقذ به من الضلالة والهلكة، وجمع به من الفرقة، ثم قبضه الله إليه، فاستخلف الناس أبا بكر، [ثم] [3] استخلف أبو بكر عمر، فأحسنا السيرة، وعدلا [فى الأمة] [4] ، وقد وجدنا عليهما أن   [1] أصل العبارة عند ابن أبى الحديد ج 1 ص 345: «ما أنت لا أم لك والولاية والعزل والدخول فى هذا الأمر» . [2] كذا جاء فى رواية ابن جرير الطبرى فى تاريخه ج 4 ص 4 وشرح ابن أبى الحديد لنهج البلاغة ج 1 ص 345، وهذا هو الظاهر المناسب لما بعده، وجاء فى المخطوطة: «ليس» . [3] كذا جاء عند ابن أبى الحديد، وفى المخطوطة: «و» . [4] الزيادة من ابن جرير الطبرى وابن أبى الحديد وابن مزاحم فى وقعة صفين ص 226. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 114 تولّيا الأمور [دوننا] [1] ونحن آل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغفرنا لهما ذلك، وولى الناس عثمان، فعمل بأشياء عابها الناس، فساروا إليه فقتلوه، ثم أتانى الناس [وأنا معتزل أمورهم] [2] ، فقالوا لى: بايع. فأبيت، فقالوا: بايع فإنّ الأمّة لا ترضى إلّا بك، وإنّا نخاف إن لم تفعل أن يتفرّق الناس. فبايعتهم، فلم يرعنى إلّا شقاق رجلين قد بايعانى! وخلاف معاوية الذى لم يجعل [الله عزّ وجلّ له] [3] سابقة فى الدّين، ولا سلف صدق فى الإسلام، طليق ابن طليق، وحزب [4] من الأحزاب، لم يزل حربا لله ولرسوله هو وأبوه حتّى دخلا فى الإسلام كارهين، ولا عجب إلّا من خلافكم [5] معه، وانقيادكم له، وتتركون آل بيت [6] نبيّكم الذين لا ينبغى لكم شقاقهم ولا خلافهم، ألا إنّى أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه، وإماتة الباطل وإحياء الحق ومعالم الدين، أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم وللمؤمنين» . فقالا: تشهد أنّ عثمان قتل مظلوما. قال: لا أقول «إنّه قتل ظالما أو مظلوما» . قالا: من لم يزعم أنه قتل مظلوما فنحن منه براء. وانصرفا فقال علىّ رضى الله عنه: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ، وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ   [1] الزيادة من ابن أبى الحديد. [2] الزيادة من ابن جرير وابن أبى الحديد. [3] الزيادة من ابن جرير وابن أبى الحديد. [4] كذا جاء عند ابن أبى الحديد، وجاء فى المخطوطة: «حزبا» . [5] كذا جاء عند الطبرى، وهو المناسب ل «خلافهم» الآتى بعده، وفى المخطوطة اختلافكم» . [6] كذا جاء فى المخطوطة كالكامل، وجاء فى تاريخ ابن جرير «آل نبيكم» الجزء: 20 ¦ الصفحة: 115 عَنْ ضَلالَتِهِمْ، إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ [1] . ثمّ قال لأصحابه: لا يكن هؤلاء فى الجدّ فى ضلالهم أجدّ منكم فى الجدّ فى حقّكم. قال: ولما انسلخ شهر الله المحرّم وانقضت مدّة الموادعة أمر علىّ رضى الله عنه مناديا فنادى [2] : «يا أهل الشام، يقول لكم أمير المؤمنين: قد استدمتكم لتراجعوا الحقّ وتنيبوا إليه، فلم تنتهوا عن الطّغيان، ولم تجيبوا إلى الحقّ، وإنى قد نبذت إليكم على سواء [3] ، إنّ الله لا يحبّ الخائنين» . قال: واجتمع أهل الشام إلى أمرائهم ورؤسائهم، وخرج معاوية وعمرو بن العاص يكتّبان الكتائب [4] ويعبئان الناس، وكذلك فعل علىّ رضى الله عنه. وقال علىّ للناس: لا تقاتلوهم حتّى يقاتلوكم، فأنتم بحمد الله على حجّة، وترككم قتالهم [حتّى يبدءوكم] [5] حجّة أخرى   [1] الآيتان 80، 81 من سورة النمل. [2] ذكر نصر بن مزاحم وابن أبى الحديد أن المنادى مرثد بن الحارث الجشمى. [3] أى إنى قد طرحت إليكم عهدكم مستو أنا وأنتم فى العلم بإنهاء الموادعة التى كانت بينى وبينكم، يريد أنه لم يغدر بهم فيقاتلهم بغتة، بل أعلمهم بنبذ الموادعة، ليكون الطرفان على سواء فى العلم بذلك والاستعداد للخطوة التالية، وهذا مأخوذ من الآية 58 فى سورة الأنفال: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ. [4] الكتائب: جمع كتيبة، وهى القطعة من الجيش، وتكتيب الكتائب إعدادها. [5] الزيادة من رواية ابن جرير الطبرى، وهى فى نهج البلاغة مع شرحه لابن أبى الحديد ج 3 ص 417، وقد ذكرها ابن مزاحم فى وقعة صفين ص 230. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 116 فإذا هزمتموهم فلا تقتلوا مدبرا، ولا تجهزوا على جريح [1] ، ولا تكشفوا عورة، ولا تمثّلوا بقتيل [2] ، فإذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تهتكوا سترا، ولا تدخلوا دارا [إلّا بإذن] [3] ، ولا تأخذوا شيئا من أموالهم [إلّا ما وجدتم فى عسكرهم] [4] ، ولا تهيجوا امرأة [بأذى] [5] ، وإن شتمن أعراضكم، وسببن أمراءكم وصلحاءكم، فإنّهنّ ضعاف القوى، والأنفس [6] . وحرّض أصحابه فقال رضى الله عنه: عباد الله، اتّقوا الله، وغضّوا الأبصار، واخفضوا الأصوات، وأقلّوا الكلام، ووطّنوا أنفسكم على المنازلة والمجاولة والمزاولة [7] والمناضلة والمعانقة والمكادمة والملازمة، فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. [8] وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [9] اللهمّ ألهمهم الصبر، وأنزل عليهم النصر، وأعظم لهم الأجر.   [1] فى النهاية: «حديث على رضى الله عنه: لا يجهز على جريحهم. أى من صرع منهم وكفى قتاله لا يقتل، لأنهم مسلمون، والقصد من قتالهم دفع شرهم، فإذا لم يمكن ذلك إلا بقتلهم قتلوا» . [2] «مثل» بفتح الثاء مع تشديدها أو تركه، يقال: مثل بالقتيل، إذا قطع شيئا من أطرافه. [3] ، (4) ، (5) الزيادة من رواية ابن جرير الطبرى. [6] فى الكامل ج 3 ص 149 بعد هذا. «وكان يقول بهذا المعنى لأصحابه فى كل موطن» .. وأصل ذلك ما رواه نصر بن مزاحم عن عبد الله بن جندب عن أبيه أن عليا كان يأمرنا فى كل موطن لقينا معه عدوه ... الخ انظر وقعة صفين ص 229- 230 وابن أبى الحديد ج 1 ص 345. [7] كذا جاء فى المخطوطة والكامل ج 3 ص 150 وجاء فى تاريخ ابن جرير الطبرى ج 4 ص 7 وشرح ابن أبى الحديد ج 1 ص 346 «والمبارزة» . [8] من الآية 45 فى سورة الأنفال. [9] من الآية 46 فى سورة الأنفال. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 117 وأصبح علىّ رضى الله عنه فجعل على خيل الكوفة الأشتر، وعلى خيل البصرة سهل بن حنيف، وعلى رجّالة الكوفة عمّار بن ياسر، وعلى رجّالة البصرة قيس بن سعد بن عبادة، وهاشم بن عتبة بن أبى وقّاص المعروف بالمرقال [1] وجعل معه الراية، وجعل مسعر بن فدكىّ على قرّاء أهل الكوفة وأهل البصرة [2] . وبعث معاوية على ميمنته ابن ذى الكلاع الحميرىّ [3] ، وعلى ميسرته حبيب بن مسلمة الفهّرىّ، وعلى مقدّمته أبا الأعور السّلمى و [كان] على خيل دمشق، [و] [4] عمرو بن العاص [على خيول الشام كلها] [4] وعلى رجّالة دمشق [4] مسلم بن عقبة المرى، وعلى [رجّالة] [5] الناس كلهم الضحاك بن قيس.. وبايع [6] رجال من أهل الشام على الموت، فعقلوا أنفسهم بالعمائم، فكانوا خمسة صفوف. والتقوا أوّل يوم من صفر سنة سبع وثلاثين، وكان الذى خرج فى هذا اليوم الأشتر على أهل الكوفة، وحبيب بن مسلمة على أهل   [1] فى القاموس: والمرقال هاشم بن عتبة، لأن عليا رضى الله عنه أعطاه الراية بصفين فكان يرقل بها (أى: يسرع) ، وقال ابن جرير فى تاريخ ج 4 ص 31 هاشم يدعى المرقال لأنه كان يرقل فى الحرب. [2] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى الكامل لابن الأثير: «على قراء الكوفة وأهل البصرة» ، وجاء فى تاريخ ابن جرير الطبرى: «على قراء أهل البصرة، وصار أهل الكوفة إلى عبد الله بن بديل وعمار بن ياسر» . [3] انظر ما سبق، وفى شرح ابن أبى الحديد ج 1 ص 346 «ذا الكلاع الحميرى» [4] الزيادة من تاريخ ابن جرير الطبرى. [5] فى المخطوطة: «وعلى رجالتها» ، وصرح ابن جرير ب «دمشق» . [6] عند ابن أبى الحديد ج 1 ص 347: «وتبايع» ، والذى هناك «وقعة صفين» ص 239. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 118 الشام، فاقتتلوا عامّة النهار، ثمّ تراجعوا وقد انتصف بعضهم من بعض. ثمّ خرج فى اليوم الثانى هاشم بن عتبة فى خيل ورجال، وخرج إليه من أهل الشام أبو الأعور السّلمى، فاقتتلوا يومهم ذلك، ثمّ انصرفوا. وخرج فى اليوم الثالث عمّار بن ياسر، وخرج إليه عمرو بن العاص، فاقتتلوا أشدّ قتال، وقال عمّار لزياد بن النّضر وهو على الخيل: احمل على أهل الشام، فحمل، وقاتله الناس وصبروا له، وحمل عمار فأزال عمرو بن العاص عن موضعه، وبارز يومئذ زياد بن النّضر أخاه لأمّه [1] واسمه: عمرو بن [2] معاوية من بنى المنتفق، فلمّا التقيا تعارفا، فانصرف كلّ واحد منهما عن صاحبه، وتراجع الناس وخرج من الغد فى اليوم الرابع محمد بن علىّ، هو «ابن الحنفيّة» وخرج إليه عبيد الله بن عمر بن الخطّاب، فى جمعين عظيمين، فاقتتلوا أشدّ القتال، وأرسل عبيد الله إلى محمد يدعوه للمبارزة، فخرج إليه، فحرّك علىّ دابّته، وردّ ابنه، وبرز علىّ إلى عبيد الله، فرجع عبيد الله، وتراجع الناس [3] . وخرج فى اليوم الخامس عبد الله بن عبّاس، خرج إليه الوليد   [1] قال ابن أبى الحديد ج 1 ص 347: «وأمهما هند الزبيدية» . [2] فى (وقعة صفين) ص 241 «يقال له معاوية بن عمرو العقيلى» . [3] قال ابن أبى الحديد ج 1 ص 480 وغيره: «فقال ابن الحنفية: يا أبت لم منعتنى من مبارزته فو الله لو تركتنى لرجوت أن أقتله. قال على رضى الله عنه: يا بنى لو بارزته أنا لقتلته، ولو بارزته أنت لرجوت لك أن تقتله، وما كنت آمن أن يقتلك» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 119 لبن عقبة، فاقتتلوا قتالا شديدا، وطلب ابن عبّاس الوليد ليبارزه فأبى، ثم انصرفا. [وخرج فى اليوم السادس قيس بن سعد الأنصارى وخرج إليه ابن ذى الكلاع الحميرىّ، فاقتتلوا قتالا شديد، ثم انصرفوا.] [1] قال [2] : ثم عاد الأشتر يوم الثلاثاء [3] ، وخرج إليه حبيب، فاقتتلا قتالا شديدا، وانصرفا عند الظهر. ثم إنّ عليّا رضى الله عنه قال: حتّى متى لا نناهض هؤلاء القوم بأجمعنا؟ فقام فى الناس عشية الثلاثاء ليلة الأربعاء خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه وقال: الحمد لله الذى لا يبرم ما نقض، وما أبرم لم ينقضه الناقضون، ولو شاء الله ما اختلف اثنان من خلقه، ولا اختلفت الأمّة فى شىء، ولا جحد المفضول ذا الفضل فضله، وقد ساقتنا وهؤلاء القوم الأقدار، فنحن بمرأى من ربّنا ومسمع، فلو شاء عجّل النّقمة، وكان منه التغيير، حتى يكذب الظالم، ويعلم المحقّ [4] أين مصيره، ولكنّه جعل الدّنيا دار الأعمال [5] ، وجعل الآخرة دار القرار، لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [6] ، ألا وإنكم لاقو القوم غدا،   [1] الزيادة من الكامل ج 3 ص 150. [2] ابن الأثير فى الكامل. [3] قال ابن جرير «اليوم السابع» ثم قال: «وذلك يوم الثلاثاء» . [4] كذا جاء عند ابن أبى الحديد ج 1 ص 481، وجاء فى المخطوطة «الحق» . [5] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى النسخة (ن) : «الأغمار» . [6] من الآية 31 من سورة النجم. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 120 فأطيلوا الليلة القيام، وأكثروا تلاوة القرآن، واسألوا الله النصر والصبر، والقوهم بالجدّ والحزم، وكونوا صادقين. فقام القوم يصلحون سلاحهم، فمر بهم كعب بن جعيل [1] فقال: أصبحت الأمّة فى أمر عجب ... والملك مجموع غدا لمن غلب فقلت قولا صادقا غير كذب: ... إنّ غدا تهلك أعلام العرب! ذكر الحروب التى كانت بصفين بعد الأيام الستة فى يومى الأربعاء والخميس وليلة الهرير ويوم الجمعة إلى أن رفعت المصاحف وتقرّر أمر الحكمين. قال [2] : وعبّأ علىّ رضى الله عنه الناس ليلته حتّى الصباح، وزحف بالناس، وخرج إليه معاوية فى أهل الشام، فسأل علىّ عن القبائل من أهل الشام، فعرف مواقفهم، فقال للأزرد: اكفونا الأزد، وقال لخثعم: اكفونا خثعم، وأمر كلّ قبيلة أن تكفيه أختها من الشام، إلّا أن تكون قبيلة ليس منها بالشام أحد فيصرفها إلى قبيلة أخرى ليس بالعراق منهم أحد، مثل بجيلة، لم يكن بالشام منها أحد إلّا القليل، فصرفهم إلى لخم. فتناهض الناس يوم الأربعاء [3] ، فاقتتلوا قتالا شديدا، ثم انصرفوا عند المساء وكلّ غير غالب.   [1] قال ابن أبى الحديد: وبات كعب بن جعيل التغلبى شاعر أهل الشام تلك الليلة يرتجز وينشد ... الخ، والرجز هناك أكثر مما هنا. انظر وقعة صفين ص 253. [2] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 151. [3] قال ابن أبى الحديد ج 1 ص 483: «يوم الأربعاء سادس صفر» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 121 فلمّا كان يوم الخميس صلّى علىّ بغلس، وخرج بالناس إلى أهل الشام، وجعل علىّ رضى الله عنه على ميمنته عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعىّ (وله صحبة [1] ، وكان ممّن أسلم يوم الفتح، وقيل: قبله) ، وجعل على ميسرته عبد الله بن عبّاس، والقرّاء مع ثلاثة نفر: عمّار بن ياسر وقيس بن سعد وعبد الله بن بديل، والناس على راياتهم ومراكزهم، وعلىّ رضى الله عنه فى القلب فى أهل المدينة بين أهل الكوفة والبصرة، وأكثر من معه من أهل المدينة الأنصار، ومعه عدد من خزاعة وكنانة وغيرهم من أهل المدينة. وزحف علىّ رضى الله عنه بهم إلى أهل الشام، ورفع معاوية قبّة عظيمة، وألقى عليها الثياب، وبايعه أكثر أهل الشام على الموت، وأحاط بقبّته خيل دمشق، وزحف عبد الله بن بديل فى الميمنة نحو حبيب بن مسلمة وهو فى الميسرة، فلم يزل يحوزهم [2] ويكشف خيلهم حتّى اضطرّهم إلى قبّة معاوية عند الظّهر. وحرّض عبد الله بن بديل أصحابه، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه، وصلّى على النبىّ عليه الصلاة والسلام: ألا إنّ معاوية ادّعى ما ليس له، ونازع الحقّ أهله، وعاند من ليس مثله، وجادل بالباطل ليدحض به الحقّ، وصال عليكم، بالأعراب والأحزاب الذين زيّن لهم الضّلالة، وزرع فى قلوبهم حبّ الفتنة، ولبّس عليهم الأمر، وزادهم رجسا إلى رجسهم، وأنتم والله على الحق، على نور من ربكم وبرهان مبين،   [1] انظر الاستيعاب ج 2 ص 268 والإصابة ج 2 ص 280. وجمهرة أنساب العرب ص 227. [2] يحوزهم: يجمعهم ويسوقهم. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 122 فقاتلوا الطّغاة الجفاة قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ [1] ، قاتلوا الفئة الباغية الّذين نازعوا الأمر أهله، وقد قاتلتموهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فو الله ما هم فى هذه بأزكى ولا أتقى ولا أبرّ، قوموا إلى عدو الله وعدوّكم رحمكم الله [2] . وقال الشّعبى [3] : كان عبد الله بن بديل رحمه الله فى صفّين عليه درعان وسيفان، وكان يضرب أهل الشام ويقول: لم يبق إلا الصبر والتوكل ... مع التمشى فى الرعيل الأول مشى الجمال فى حياض المنهل ... والله يقضى ما يشاء ويفعل [4] ولم يزل يضرب بسيفه حتّى انتهى إلى معاوية فأزاله عن موقفه وأزال أصحابه الذين كانوا معه. (وسنذكر خبر مقتله فى هذا اليوم فى موضعه إن شاء الله تعالى) . قال: وحرّض علىّ رضى الله عنه أصحابه، فقال رضى الله عنه فى كلام له: فسوّوا [5] صفوفكم كالبنيان المرصوص، وقدّموا   [1] الآية 14 من سورة التوبة. [2] اعتمد المؤلف فى نقل هذه الخطبة على كتاب الاستيعاب ج 2 ص 270. [3] انظر الاستيعاب والإصابة ج 2 ص 281. [4] روى ابن أبى الحديد ج 1 ص 486 هذا الرجز هكذا: لم يبق غير الصبر والتوكل ... والترس والرمح وسيف مصقل ثم التمشى فى الرعيل الأول ... مشى الجمال فى حياض المنهل فتجىء القافية مكسورة اللام. وما هنا مثل (وقعة صفين) ص 276. [5] ذكر على قيل ذلك قول الله تعالى إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ الآية 4 من سورة الصف، انظر ابن أبى الحديد ج 1 ص 3704. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 123 الدّارع [1] ، وأخروا الحاسر [2] ، وعضّوا على الأضراس [3] ، فإنّه أنبى [4] للسّيوف عن الهام، والتووا فى أطراف الرّماح، فإنّه أمور [5] للأسنّة [6] ، وغضّوا الأبصار، فإنه أربط للجأش، وأسكن للقلوب، وأميتوا الأصوات، فإنّه أطرد للفشل، وأولى بالوقار، راياتكم فلا تميلوها ولا تزيلوها ولا تجعلوها إلّا بأيدى شجعانكم واستعينوا بالصدق والصبر، فإن [7] بعد الصبر ينزل النصر. قال: وقام يزيد بن قيس الأرحبىّ يحرّض الناس، فقال: إنّ المسلم من سلم فى دينه ورأيه، وإن هؤلاء القوم والله ما يقاتلوننا إلا على هذه الدنيا ليكونو جبّارين فيها ملوكا، فلو ظهروا عليكم- لا أراهم الله ظهورا ولا سرورا- لرموكم بمثل سعيد والوليد وابن عامر السّفيه الضّالّ، يجيز أحدهم بمثل ديته ودية أبيه وجده فى مجلسه، ثم يقول: «هذا لى ولا إثم علىّ» ، كأنما أعطى تراثه عن أبيه وأمّه، وإنما هو مال الله أفاءه [8] الله علينا بأرماحنا وسيوفنا، فقاتلوا   [1] الدارع: لابس الدرع. [2] الحاسر: الذى لا درع عليه ولا مغفر. [3] قال ابن أبى الحديد: يجوز أن يريد أمرهم بالحنق والجد، ويجوز أن يريد أن العض على الأضراس يشد شئون الدماغ ورباطاته. [4] نبا السيف عن الرأس: كل ولم يحك فيه. [5] كذا ورد منصوصا عليه فى نهج البلاغة وشرحه لابن أبى الحديد ج 2 ص 267 ووقع فى المخطوطة وغيرها (أصون) . [6] قال ابن أبى الحديد: أمرهم بأن يلتووا إذا طعنوا، لأنهم إذا فعلوا ذلك فبالحرى أن يمور السنان، أى يتحرك عن موضع الطعنة فيخرج زالقا، وإذا لم يلتووا لم يمر السنان ولم يتحرك عن موضعه فيخرق وينفذ فيقتل. [7] كذا جاء فى المخطوطة، ولعله «فإنه» . [8] أفاءه الله علينا: رده علينا وجعله لنا من أموال من خالف دينه. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 124 عباد الله القوم الظالمين، فإنّهم إن يظهروا عليكم يفسدوا عليكم دينكم ودنياكم، وهم من قد عرفتم وخبرتم، والله ما ازدادوا إلى يومهم إلّا شرّا [1] . قال: ولما انتهى عبد الله بن بديل بمن معه إلى قبّة معاوية؛ أقبل الذين تبايعوا على الموت إلى معاوية، فأمرهم أن يصمدوا لابن بديل فى الميمنة، وبعث الى حبيب بن مسلمة فحمل بالميسرة على ميمنة علىّ فهزمهم، وانكشف أهل العراق من قبل الميمنة حتّى لم يبق إلّا ابن بديل فى مائتين أو ثلاثمائة من القرّاء، قد استند بعضهم إلى بعض، وانجفل [2] الناس. وأمر علىّ سهل بن حنيف فاستقدم فيمن كان معه من اهل المدينة، فاستقبلتهم جموع عظيمة لأهل الشام فاحتملتهم حتّى أوقفتهم فى الميمنة، وكان أهل اليمن فيما بين الميمنة إلى موقف علىّ فى القلب، فلما انكشفوا انتهت الهزيمة إلى علىّ رضى الله عنه، فانصرف يمشى نحو الميسرة، فانكشفت عنه مضر من الميسرة، وثبتت ربيعة، ودنا أهل الشام منه فما زاده قربهم إلا إسراعا وكان الحسن والحسين ومحمد بنو علىّ رضى الله عنه معه، والنّبل يمرّ بين عاتقه ومنكبه [3] ، وما من بنيه أحد إلّا يقيه بنفسه، فبصر به أحمر مولى أبى سفيان أو عثمان، فأقبل نحوه، فخرج إليه كيسان مولى علىّ فاختلفا ضربتين، فقتله أحمر، فأخذ علىّ   [1] عند ابن أبى الحديد ج 2 ص 485: «والله ما أرادوا باجتماعهم عليكم إلا شرا» . [2] انجفل الناس: انقلعوا وأسرعوا فى الهزيمة. [3] عند ابن أبى الحديد ج 1 ص 486: «بين عاتقيه ومنكبيه» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 125 بجنب [1] درع أحمر فجذبه وحمله على عاتقه ثم ضرب به الأرض فكسر منكبيه وعضديه. قال: ولما دنا منه أهل الشام قال له الحسن رضى الله عنه: ما ضرّك لو سعيت حتّى تنتهى إلى هؤلاء القوم من أصحابك؟ فقال: يا بنىّ إنّ لأبيك يوما لا يعدوه ولا يبطىء به عنه السّعى، ولا يعجّل به إليه المشى، إنّ أباك والله لا يبالى أوقع على الموت أم وقع الموت عليه! قال: ولما وصل إلى ربيعة نادى بصوت عال كغير المكترث لما فيه الناس: لمن هذه الرايات؟ قالوا: رايات ربيعة. قال: بل رايات عصم الله أهلها، فصبّرهم وثبّت أقدامهم ... وقال لحضين [2] بن المنذر: يا فتى ألا تدنى رايتك هذه ذراعا؟ قال؛ والله عشرة أذرع. فأدناها حتّى قال علىّ رضى الله عنه: حسبك مكانك. قال ولمّا انتهى علىّ إلى ربيعة تنادوا بينهم: إن أصيب فيكم أمير المؤمنين وفيكم رجل حىّ افتضحتم فى العرب! فقاتلوا قتالا شديدا ما قاتلوا مثله، فلذلك قال على رضى الله عنه [3] : لمن راية سوداء [4] يخفق ظلّها ... إذا قيل «قدّمها حضين» تقدّما   [1] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى الكامل ج 3 ص 152: «بجيب» ، وعند ابن أبى الحديد ج 1 ص 487: «فى جيب» . [2] كذا جاء (حضين) بالنون عند الطبرى وابن الأثير وابن أبى الحديد وغيرهم، وجاء فى المخطوطة: «حضير» . [3] قال ابن أبى الحديد: «أقبل الحضين بن المنذر يومئذ وهو غلام يزحف برأيه ربيعة- وكانت حمراء- فأعجب عليا عليه السلام زحفه وثباته فقال: ... » [4] كذا جاء فى المخطوطة مثل تاريخى الطبرى وابن الأثير والكامل للمبرد ومروج الذهب وجمهرة أنساب العرب ولسان العرب (ح ض ن) . وجاء فى شرح ابن أبى الحديد: «حمراء» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 126 ويقدمها فى الموت حتّى يزيرها ... حياض المنايا تقطر الموت والدّما أذقنا ابن حرب طعننا وضرابنا ... بأسيافنا حتّى تولّى وأحجما [1] جز الله قوما صابروا فى لقائهم ... لدى الموت قوما [2] ما أعفّ وأكرما! وأطيب أخبارا وأكرم شيمة [3] ... إذا كان أصوات الرّجال تغمغما [4] ربيعة أعنى أهل بأس ونجدة ... إذا ماهمو لاقوا خميسا عرمرما [5] قال: ومرّ الأشتر بعلىّ وهو يقصد الميسرة، والأشتر يركض نحو الفزع [6] قبل الميمنة، فقال له علىّ: إيت هؤلاء القوم فقل لهم «أين فراركم من الموت الذى لن تعجزوه إلى الحياة التى لا تبقى لكم؟» . فمضى الأشتر فاستقبل الناس منهزمين، فقال لهم ما قال علىّ، ثم قال: «أيّها الناس أنا الأشتر، إلىّ أنا الأشتر» ، فأقبل   [1] قيل: إن هذا البيت من أبيات لحضين بن المنذر نفسه صاحب الراية. [2] كذا جاء فى المخطوطة مثل تاريخى الطبرى وابن الأثير. وجاء فى شرح ابن أبى الحديد وكتب النحو- باب التعجب- وشواهده: «خيرا» ، وهناك تغير آخر فى البيت. [3] كذا جاء فى المخطوطة مثل تاريخى الطبرى وابن الأثير. وجاء عند ابن أبى الحديد: «وأحزم صبرا يوم يدعى إلى الوغى» . [4] الغمغم: ما يحدث من الأصوات عند القتال. [5] خميسا عرمرما: جيشا كثيرا، وسمى الجيش بالخميس لأنهم كانوا يقسمونه بخمسة أقسام: المقدمة والساقة والميمنة والميسرة والقلب. [6] الفزع يأتى فى العربية بمعنى الخوف والاستناثة والإغاثة. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 127 إليه بعضم وذهب البعض، فنادى: «أيّها الناس، ما أقبح ما قاتلتم منذ اليوم! أخلصوا إلىّ مذحجا [1] » فأقبلت مذحج إليه، فقال لهم: «ما أرضيتم ربّكم، ولا نصحتم له فى عدوّكم، وكيف ذلك وأنتم أبناء الحرب [2] ، وأصحاب الغارات، وفتيان الصياح، وفرسان الطّراد، وحتوف الأقران، ومذحج الطّعان الذين لم يكونوا يسبقون بثأرهم، ولا تطلّ دماوهم، وما تفعلون [3] هذا اليوم فإنه مأثور عنكم بعده، فانصحوا واصدقوا عدوّكم اللقاء، فإن الله مع الصادقين، والذى نفسى بيده ما من هؤلاء- وأشار إلى أهل الشام- رجلّ على مثل جناح بعوضة من محمد [4] ، اجلوا سواد وجهى يرجع فيه دمه، عليكم بهذا السواد الأعظم، فإن الله لو قد فضّه تبعه من بجانبيه!» . قالوا: تجدنا [5] حيث أحببت. فقصد نحو عظمهم ممّا يلى الميمنة يزحف إليهم ويردّهم. واستقبله شباب من همدان، وكانوا ثمانمائة مقاتل يومئذ، وكانوا صبروا فى الميمنة حتّى أصبب منهم ثمانون ومائة رجل، وقتل منهم أحد عشر رئيسا: كان أوّلهم ذؤيب بن [6] شريح، ثم   [1] كان الأشتر ينتسب إلى مذحج، ويقول فى رجزه فى حرب صفين: إنى أنا الأشتر معروف الشتر ... إنى أنا الأفعى العرافى الذكر لست ربيعيا ولست من مضر ... لكننى من مذحج الشم الترر [2] جاء فى رواية ابن جرير: «الحروب» . [3] جاء فى رواية ابن جرير «تفعلوا» فتكون (ما) قبلها شرطية جازمة. [4] هكذا جاء فى المخطوطة كما فى تاريخ ابن جرير. وجاء فى الكامل لابن الأثير «من دين» وعند ابن أبى الحديد ج 1 ص 487: «من دين الله» . [5] عند ابن أبى الحديد: «خذبنا» . [6] كذا جاء فى المخطوطة كالكامل، وعند الطبرى وابن أبى الحديد: «كريب» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 128 شرحبيل، ثم مرثد، ثم هبيرة، ثم يريم، ثم سمير، أولاد شريح قتلوا [1] ، ثم أخذ الراية عميرة [2] ثم الحارث ابنا بشير [3] فقتلا، ثم أخذها سفيان وعبد الله وبكر بنو زيد فقتلوا جميعا [4] ، ثم أخذ الراية وهب بن كريب فانصرف هو وقومه وهم يقولون: «ليت لنا عدّتنا من العرب، يحالفوننا على الموت، ثمّ نرجع، فلا ننصرف أو نقتل أو نظفر!» ، فسمعهم الأشتر فقال لهم: أنا أحالفكم لى ألّا نرجع أبدا حتّى نظفر أو نهلك جميعا! فوقفوا معه. قال: وزحف الأشتر نحو الميمنة، وثاب إليه الناس وتراجعوا من أهل البصرة وغيرهم، فلم يقصد كتيبة إلّا كشفها، ولا جمعا إلّا حازه وردّه، وقاتل قتالا شديدا، ولزمه الحارث بن جمهان [5] الجعفىّ، فما زال هو ومن رجع إليه يقاتلون حتّى كشف أهل الشام، وألحقهم بمعاوية والصفّ الذى [6] معه، وذلك بين صلاة العصر والمغرب، وانتهى إلى عبد الله بن بديل بن ورقاء وهو فى عصابة من القرّاء نحو المائتين أو الثلاثمائة قد لصقوا بالأرض كأنّهم   [1] يعنى أن هؤلاء الرؤساء الستة كانوا إخوة أبناء شريح، وقد قتلوا فى هذه المعركة واحدا بعد واحد. [2] كذا جاء فى المخطوطة كالكامل، وعند الطبرى: «عميم» . [3] كذا جاء عند الطبرى وابن الأثير، وجاء فى المخطوطة: «بشر» . [4] ذكر الطبرى قتل هؤلاء الإخوة الثلاثة قبل قتل عميرة والحارث، وما جاء هنا مثل ما ذكره ابن الأثير فى الكامل. [5] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وجاء فى النسخة (ك) : (جهمان) ويأتى الاختلاف أيضا فيما سيجىء. [6] كذا جاء فى (ك) ، وجاء فى (ن) : «الذين» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 129 جثا [1] ، فكشف عنهم أهل الشام فأبصروا إخوانهم، فقالوا: ما فعل أمير المؤمنين (قال: حىّ صالح فى الميسرة يقاتل الناس أمامه. فقالوا: الحمد لله قد كنّا ظننّا أن قد هلك وهلكتم. ثم قال عبد الله بن بديل رحمه الله [لأصحابه] [2] : استقدموا بنا. فقال له الأشتر: «لا تفعل، واثبت مع الناس، فقاتل، فإنه خير لهم وأبقى لك ولأصحابك» ، فأبى، ومضى نحو معاوية وحوله كأمثال الجبال، وخرج عبد الله أمام أصحابه فقتل من دنا منه، حتّى قتل جماعة، ودنا من معاوية، فنهض إليه الناس من كل جانب، وأحيط به وبطائفة من أصحابه، فقاتل حتّى قتل، وقتل ناس من أصحابه، ورجعت طائفة منهم مجرحين، فبعث الأشتر الحارث بن جمهان الجعفىّ، فحمل على أهل الشام الذين يتبعون من انهزم من أصحاب عبد الله، حتّى نفّسوا عنهم، وانتهوا إلى الأشتر. وحكى أبو عمر ابن عبد البر عن الشعبى فى قتل عبد الله: أنّه لما انتهى إلى معاوية أزاله وأزال أصحابه عن مواقفهم، وكان مع معاوية يومئذ عبد الله بن عامر، فأقبل أصحاب معاوية على عبد الله بن بديل يرجمونه بالحجارة حتّى أثخنوه، وقتل، فأقبل معاوية وعبد الله بن عامر معه، فألقى عليه ابن عامر عمامته غطّى بها وجهه، وترحّم عليه [3] ، فقال معاوية: اكشفوا وجهه. فقال ابن عامر: والله لا تمثل [4] به وفىّ روح! فقال معاوية: اكشفوا عن وجهه فقد وهبناه لك. ففعلوا،   [1] الجثا: جمع جثوة، بمعنى أتربة مجموعة. [2] الزيادة من ابن جرير الطبرى. [3] قال ابن أبى الحديد ج 1 ص 486: «وكان له من قبل أخا وصديقا» . [4] فى الاستيعاب ج 2 ص 269: «بمثل» بالياء مبنيا للمجهول. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 130 فقال معاوية: هذا كبش [1] القوم ورب الكعبه، اللهم أظفر بالأشتر والأشعث بن قيس، والله ما مثل هذا إلا كما قال الشاعر [2] : أخو الحرب إن عضّت به الحرب عضّها ... وإن شمّرت يوما به [3] الحرب شمّرا كليث هزبر كان يحمى ذماره ... رمته المنايا قصدها فتقطّرا ثمّ قال معاوية: إنّ نساء خزاعة لو قدرت أن تقاتلنى فضلا عن رجالها لفعلت. انتهى كلام الشّعبى [4] . قال: وزحف الأشتر لعكّ والأشعريّين، وقال لمذحج: اكفو ناعكّا. ووقف فى همدان وقال لكندة: اكفونا الأشعريّين. فاقتتلوا قتالا شديدا إلى المساء، وقاتلهم الأشتر فى همدان وطوائف من الناس، فما زال أهل الشام عن مواضعهم حتى ألحقوهم بالصفوف الخمسة المعقلة بالعمائم حول معاوية، ثم حمل عليهم حملة أخرى فصرع أربعة صفوف من المعقّلين بالعمائم.   [1] يطلق العرب لفظ «الكبش» مجازا على قائد القوم ورئيسهم وحاميهم والمنظور إليه فيهم، قال عمرو بن معد يكرب: نازلت كبشهمو ولم ... أو من نزال الكبش بدا وقال عمرو بن الإطنابة: والضاربين الكبش يبرق بيضه ... الخ. [2] هو حاتم طيىء، كما ذكره ابن جرير الطبرى فى تاريخه ج 4 ص 16. [3] عند ابن أبى الحديد: (وإن شمرت عن ساقها ..... ) . [4] انظر روايته فى (وقعة صفين) ص- 276- 278. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 131 ودعا معاوية بفرسه فركبه، وكان يقول: أردت أن أنهزم فذكرت قول ابن الإطنابة [1] وكان جاهليا: أبت لى عفّتى [2] وأبى بلائى ... وإقدامى على البطل المشيح [3] وإعطائى على المكروه مالى [4] ... وأخذى الحمد بالثّمن الرّبيح وقولى كلّما جشأت وجاشت [5] : ... مكانك تحمدى أو تستريحى [6]   [1] ابن الإطنابة هو عمرو بن عامر بن زيد مناة بن مالك الخزرجى الشاعر، والإطنابة: أمه، وهى امرأة من بلقين كما قال ابن جرير الطبرى. [2] كذا جاء فى النسخة (ن) مثل تاريخ الطبرى ج 4 ص 17 والكامل لابن الأثير ج 3 ص 154 والأمالى للقالى ج 1 ص 258 والبداية والنهاية ج 7، ص- 264 والمزهر السيوطى ج 2 ص 197 ومجالس ثعلب ج 1 ص 83 ولباب الآداب ص 223، وجاء فى النسخة (أ) : «همتى» وجاء فى العقد الفريد ج 1 ص 104: «شيمتى» . [3] قال العينى فى شواهده الكبرى ج 4 ص 415 والسيوطى فى شرح المعنى ص 186: المشيح: المجد فى لأمر. [4] كذا جاء فى المخطوطة كتاريخى ابن جرير وابن الأثير والبداية والنهاية ج 7 ص 265، وجاء فى أمالى القالى ومجالس ثعلب والمزهر: «وإعطائى على الإعدام مالى» ، وجاء فى الكامل للمبرد ج 2 ص 23: «وإجشامى على المكروه نفسى» وجاء فى العقد الفريد وشواهد العينى وشواهد السيوطى ولباب الآداب ولسان العرب (ش ى ح) : «وإقدامى على المكروه نفسى» . [5]- هذه الرواية المشهورة، يريد بقوله (جشأت) نفسه، أى ارتفعت إليه من فزع وحزن، وجاشت أى خافت فهمت بالفرار. وقال البكرى فى شرح أمالى القالى ج 1 ص 574 575 من سمط الآلى: «وروى غير واحد: وقولى كلما جشأت لنفسى وهو أحسن» وهذه الرواية هى التى جاءت فى لسان العرب (ج ش أ) . [6] «مكانك» اسم فعل بمعنى اثبتى، وقوله «تحمدى» مضارع على صيغة المجهول مجزوم لوقوعه فى جواب الطلب باسم الفعل، أى: اثبتى تحمدى، أو تستريحى. وفى مجالس ثعلب: «مكانك تعذرى، أو تستريحى» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 132 قال [1] : فمنعنى هذا القول [2] من الفرار، ونظر إلى عمرو فقال له: «اليوم صبر، وغدا فخر» . فقال: صدقت. قال [3] : وتقدم عقبة بن حديد النميرى [4] وهو يقول: «ألا إن مرعى الدّنيا أصبح هشيما [5] ، وشجرها حصيدا [6] ، وجديدها سملا [7] ، وحلوها مرّ المذاق، وإنى قد سئمت الدنيا، وإنّى أتمنى الشهادة وأتعرض لها فى كل جيش وغارة، فأبى الله إلا أن يبلغنى هذا اليوم، وإنّى متعرّض لها من ساعتى هذه، وقد طمعت ألا أحرمها، فما تنتظرون عباد الله بجهاد من عادى الله! (فى كلام طويل) [8] ، وقال: يا إخوتى، قد بعت هذه الدار بالّتى أمامها، وهذا وجهى إليها! فتبعه إخوته عبيد الله وعوف ومالك، وقالوا: لا نطلب رزق الدنيا بعدك! فقاتلوا حتى قتلوا، وهم من أصحاب علىّ. وكان ممن قتل فى هذا اليوم من أصحاب علىّ أبو شداد قيس ابن المكشوح، واسم المكشوح [9] : هبيرة بن هلال (عند   [1] أى معاوية. [2] انظر رواية القالى لقول معاوية، وقد ذكر السيوطى فى شواهده ما قيل فى هذه الأبيات «أنها أجود ما قيل فى الصبر فى مواطن الحروب» وقد افتتح البحترى بها حماسته. [3] ابن الأثير فى الكامل. [4] كذا جاء فى المخطوطة مثل الكامل، وعند ابن جرير: «النمرى» . [5] هشيما: يابسا متكسرا. [6] حصيدا: مقطوعا، وفى الكامل لابن الأثير: «خضيدا» . [7] سملا: باليا. [8] انظر تاريخ ابن جرير الطبرى ج 4 ص 19. [9] المكشوح لقب قيل له لأنه ضرب على كشحه، أو كوى عليه. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 133 أكثرهم) ، وكان قيس يومئذ صاحب راية بجيلة، وذلك أن بجيلة قالت له: يا أبا شداد خذ رايتنا اليوم. فقال: غيرى خير لكم. قالوا: ما نريد غيرك. قال فو الله لئن [1] أعطيتمونيها لا أنتهى بكم دون صاحب الترس المذهب (وكان على رأس معاوية رجل قائم معه ترس مذهب يستر به معاوية من الشمس) ، قالوا: اصنع ما شئت. فأخذ الراية ثم زحف بها، فجعل يطاعنهم حتى انتهى إلى صاحب التّرس، وكان فى خيل عظيمة، فاقتتل الناس قتالا شديدا، وشد أبو شداد على صاحب التّرس- وقيل: كان صاحب التّرس المذهب عبد الرحمن بن خالد بن الوليد- فاعترضه دونه مولّى رومىّ لمعاوية، فضرب قدم أبى شدّاد فقطعها، وضربه أبو شدّاد فقتله، وأشرعت إليه الرماح فقتلوه، وأخذ الراية عبد الله بن قلع الأحمسى، فقاتل حتى قتل، ثم أخذها عفيف بن إياس فلم تزل فى يده حتى تحاجز الناس.. وقتل غير هؤلاء ممن له صحبة. قال: وخرجت حمير فى جمعها ومن انضم إليها من أهل الشام، وتقدمهم ذو الكلاع [2] ، ومعهم عبيد الله بن عمر بن الخطاب وهم ميمنة أهل الشام، فقصدوا ربيعة من أهل العراق، وكانت ربيعة ميسرة أهل العراق، وفيهم ابن عبّاس، فحملوا على ربيعة حملة شديدة، فتضعضعت راية ربيعة، وكانت الراية مع أبى ساسان حضين بن المنذر، فانصرف أهل الشام عنهم، ثم كر عبيد الله   [1] كذا جاء فى رواية ابن جرير ج 4 ص 18، وجاء فى الاصابة ج 3 ص 275 «إن» وجاء فى المخطوطة: «لو» . [2] هو ذو الكلاع الأصغر، ومن أجداده ذو الكلاع الأكبر، والتعبير هنا ب «ذو الكلاع» أولى من التعبير ب «ابن ذى الكلاع» فيما سبق. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 134 ابن عمر وقال: يا أهل الشام، إن هذا الحى من أهل العراق قتلة عثمان وأنصار علىّ، فشدوا على الناس شدّة عظيمة، فثبتت ربيعة وصبرت صبرا حسنا إلّا قليلا من الضعفاء والفشلة، وثبت أهل الرايات وأهل الصبر والحفاظ وقاتلوا قتالا حسنا، ثم تراجع من انهزم من ربيعة، واشتد القتال حتّى كثرت القتلى، فقتل سمير بن الريان العجلىّ، وكان شديد البأس، وأتى زياد بن خصفة عبد القيس فأعلمهم بما لقيت بكر بن وائل من حمير، وقال: يا عبد القيس لا بكر بعد اليوم! فقاتلوا معهم، فقتل ذو الكلاع الحميرى وعبيد الله بن عمر ابن الخطاب، وجرح عمّار بن ياسر فقال: «اللهمّ إنّك تعلم [أنّى] [1] لو أعلم أن رضاك فى أن أضع ظبة [2] سيفى فى بطنى ثم أنحنى عليها حتّى تخرج من ظهرى لفعلته! وإنّى لا أعلم اليوم عملا هو أرضى لك من جهاد هؤلاء الفاسقين، ولو أعلم عملا هو أرضى لك منه لفعلته! والله إنّى لأرى قوما ليضربنّكم ضربا يرتاب منه المبطلون، وايم الله لو ضربونا حتّى يبلغوا بنا سعفات [3] هجر لعلمت أننا على الحق وأنّهم على الباطل!» ثم قال: «من يبتغى رضوان ربّه فلا يرجع إلى مال ولا ولد!» فأتاه عصابة فقال: «اقصدوا بنا هؤلاء القوم الذين يطلبون دم عثمان، والله ما أرادوا الطلب   [1] الزيادة من ابن جرير وابن الأثير. [2] ظبة السيف: طرفه وحده. [3] هكذا جاء فى تاريخ الطبرى والكامل لابن الأثير والاستيعاب وشرح ابن أبى الحديد لنهج البلاغة والنهاية ولسان العرب، قال صاحب النهاية: «السعفات: جمع سعفة، بالتحريك وهى أغصان النخيل قيل: إذا يبست سميت سعفة وإذا كانت رطبة فهى شطبة وإنما خص هجر للمباعدة فى المسافة ولأنها موصوفة بكثرة النخيل (. وجاء فى النسخة (ن) : «شعاف» وفى النسخة (ك) : «شعاب» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 135 بدمه، ولكنّهم ذاقوا الدنيا واستحبّوها، وعلموا أنّ الحقّ إذا لزمهم حال بينهم وبين ما يتمرّغون فيه منها، ولم تكن لهم سابقة [1] يستحقّون بها طاعة الناس والولاية عليهم، فخدعوا أتباعهم أن قالوا: إمامنا قتل مظلوما، ليكونوا بذلك جبابرة ملوكا، فبلغوا ما ترون، ولولا هذه ما تبعهم من الناس رجلان، اللهمّ إن تنصرنا فطال ما نصرت، وإن جعلت لهم الأمر فادّخر لهم بما أحدثوا فى عبادك العذاب الأليم!» ثم مضى ومعه تلك العصابة، فكان لا يمرّ بواد من أودية صفّين إلّا تبعه من كان هناك من أصحاب النبىّ صلى الله عليه وسلم. ثم جاء إلى هاشم بن عتبة بن أبى وقّاص- وهو المرقال- وكان صاحب راية علىّ رضى الله عنه، فقال: «يا هاشم، أعورا وجبنا؟ لا خير فى أعور لا يغشى البأس، اركب يا هاشم» . فركب معه وهو يقول [2] . أعور يبغى أهله محلّا ... قد عالج الحياة حتّى ملّا لا بدّ أن يفلّ [3] أو يفلّا ... يتلّهم [4] بذى الكعوب [5] تلّا وعمّار يقول: «تقدّم يا هاشم، الجنّة تحت ظلال السيوف،   [1] فى تاريخ ابن جرير: «سابقة فى الإسلام» . [2] انظر ابن أبى الحديد ج 2 ص 269 ففيه زيادة. [3] يقل: يكسر. [4] يتلهم: يصرعهم، هكذا جاء (يتلهم) بالباء عند وابن جرير وابن الأثير ولم ينقط الحرف الأول فى النسخة (ن) ، وجاء فى النسخة (ك) : «نتلهم» بالنون. [5] ذو الكعوب: الرمح. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 136 والموت [فى] [1] أطراف الأسل، وقد فتحت أبواب السماء، وتزيّنت الحور العين، اليوم ألقى الأحبّه، محمّدا وحزبه [2] !» وتقدّم حتّى دنا من عمرو بن العاص، فقال له: «يا عمرو، بعت دينك بمصر! تبّا لك! تبّا لك!» فقال: لا ولكن أطلب دم عثمان. قال: «أشهد على علمى فيك إنّك لا تطلب بشىء من فعلك وجه الله، وأنك إن لم تقتل اليوم تمت غدا، فانظر إذا أعطى الناس على نيّاتهم ما نيّتك؟ لقد قاتلت صاحب هذه الراية ثلاثا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الرابعة ما هى بأبرّ ولا أتقى!» . ثم قاتل عمّار فلم يرجع، وقتل، وقال قبل أن يقتل: إيتونى بآخر رزق لى من الدنيا! فأتى بضياح من لبن فى قدح، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تقتل عمارا الفئة الباغية، وإنّ آخر رزقه ضياح من لبن» (والضياح) ؛ الممزوج بالماء من اللبن [3] . قال: وقتلة أبو الغاديه [4] ، واحتزّ رأسه ابن حوىّ [5]   [1] الزيادة من ابن جرير، وجاء فى الكامل: «تحت» ، وسقطت الكلمة من المخطوطة. [2] يكتب هذا فى بعض الكتب على أسلوب كتابة الشعر. [3] جاء فى النهاية ولسان العرب: «فى حديث عمار: إن آخر شربة تشربها ضياح، الضياح والضيح بالفتح: اللبن الخاثر يصب فيه الماء ثم يخلط، رواه يوم قتل بصفين وقد جئ بلبن يشربه» . [4] أبو الغادية اسمه يسار بن سبع الجهنى. [5] قال ابن حزم فى جمهرة أنساب العرب ص 405: «ولد السكسك بن أشرس بن كندة ثمانية عشر ذكرا، ولهم ثروة عظيمة بالشام، منهم حوى بن ماتع بن زرعة بن ينحض بن حبيب بن ثور بن خداش، من بنى عامر بن السكسك وهو قاتل عمار بن ياسر» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 137 السّكسكىّ، وقد كان ذو الكلاع سمع عمرو بن العاص يقول: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام لعمّار «تقتلك الفئة الباغية وآخر شربة تشربها ضياح من لبن [1] » . فكان ذو الكلاع يقول لعمرو: ما هذا ويحك يا عمرو! فيقول: إنّه يرجع إلينا، فقتل ذو الكلاع قبل عمّار مع معاوية، وأصيب عمّار بعده مع على، فقال عمرو لمعاوية: «والله ما أدرى بقتل أيّهما أنا أشدّ فرحا: بقتل عمّار أو بقتل ذى الكلاع، والله لو بقى بعد قتل عمّار لمال بعامّة أهل الشّام إلى علىّ!» . فأتى جماعة إلى معاوية، كلّهم يقول: «أنا قتلت عمارا» ، فيقول عمرو: فما سمعته يقول؟ فيخلطون، فأتاه ابن حوىّ فقال: أنا قتلته فسمعته يقول «اليوم ألقى الأحبّه، محمّدا وحزبه» . فقال له عمرو: أنت صاحبه. ثم قال «رويدا، والله ما ظفرت يداك [2] ، ولقد أسخطت ربّك!» . وقيل: إنّ أبا الغادية قتل عمّارا وعاش إلى زمن الحجّاج، فدخل عليه، فأكرمه الحجّاج وقال: أنت قتلت ابن سميّة؟ (يعنى عمارا) قال: نعم. قال: من سرّه أن ينظر إلى عظيم الباع يوم القيامة فلينظر إلى هذا الذى قتل ابن سميّة. ثم سأله أبو الغادية حاجة فلم يجبه إليها، فقال: نوطّىء لهم الدنيا ولا يصلونا منها   [1] أما قول الرسول صلى الله عليه وسلم لعمار «تقتلك الفئة الباغية» فقد ورد فى الحديث الصحيح بروايات مختلفة عن أبى سعيد الخدرى وأبى هريرة وأم سلمة عند مسلم والترمذى وغيرهما.. وأما «آخر شربة» فهو حديث رواه أبو عمر بن عبد البر فى الاستيعاب ج 2 ص 480 عن عبد الله بن سلمة، ونقله ابن أبى الحديد ج 2 ص 538 وانظر البداية والنهاية 7 ص 267. [2] كذا جاء فى النسخة (ك) وجاء فى (ن) : «بذاك» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 138 ويزعم أنّى عظيم الباع يوم القيامة! [فقال الحجّاج] [1] : أجل والله من كان ضرسه مثل أحد، وفخذه مثل جبل ورقان، ومجلسه مثل المدينة والرّبذة، لعظيم الباع يوم القيامة، والله لو أنّ عمّارا قتله أهل الأرض لدخلوا كلّهم النار!. وقال أبو عبد الرحمن السلمى: لمّا قتل عمّار دخلت عسكر معاوية لأنظر هل بلغ منهم قتل عمّار ما بلغ منّا- وكنّا إذا تركنا القتال تحدّثوا إلينا وتحدثنا إليهم- فإذا معاوية وعمرو وأبو الأعور وعبد الله ابن عمرو يتسايرون، فأدخلت فرسى بينهم لئلّا يفوتنى ما يقولون، فقال عبد الله بن عمرو لأبيه: يا أبت قتلتم هذا الرجل فى يومكم هذا وقد قال رسول الله ما قال! قال وما قال؟ قال: ألم يكن المسلمون ينقلون فى بناء مسجد النبىّ صلى الله عليه وسلم لبنة لبنة وعمار ينقل لبنتين لبنتين؟ فغشى عليه، فأتاه رسول الله عليه الصلاة والسلام، فجعل يمسح التراب عن وجهه ويقول «ويحك يا ابن سميّة! الناس ينقلون لبنة لبنة، وأنت تنقل لبنتين لبنتين رغبة فى الأجر، وأنت مع ذلك تقتلك الفئة الباغية!» . فقال عمرو لمعاوية: أما تسمع ما يقول عبد الله؟ قال: وما يقول؟ فأخبره، فقال معاوية: أنحن قتلناه؟ إنّما قتله من جاء به! قال فخرج الناس من أخبيتهم وفساطيطهم يقولون [2] . إنّما قتله من جاء به. فلا أدرى من كان أعجب؟: أهو أم هم؟. قال: ولمّا قتل عمار قال علىّ رضى الله عنه لربيعة: أنتم درعى ورمحى.   [1] الزيادة من الكامل لابن الأثير ج 3 ص 158 حيث نقل المؤلف. [2] كذا جاء فى (ن) ، وجاء فى (ك) : «تقول» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 139 فانتدب له نحو من اثنى عشر ألفا، وتقدمهم علىّ على بغلة، فحملوا معه حملة رجل واحد، فلم يبق لأهل الشام صفّ إلا انتقض، وقتلوا كلّ من انتهوا إليه، حتّى بلغوا معاوية، فناداه علىّ: فقال علام يقتل الناس بيننا؟ هلمّ أحاكمك إلى الله، فأيّنا قتل صاحبه استقامت له الأمور. فقال عمرو: أنصفك. فقال معاوية لعمرو: ما أنصفت، إنك لتعلم أنه لم يبرز إليه أحد إلا قتله. فقال عمرو ما يحسن بك ترك مبارزته، فقال معاوية: طمعت فيها بعدى!. قال [1] : وكان أصحاب على قد وكلوا به رجلين يحفظانه، لئلا يقاتل، فكان يحمل إذا غفلا فلا يرجع حتى يخضب سيفه، وإنه حمل مرّة فلم يرجع حتّى انثنى سيفه، فألقاه إليهم، وقال لولا أنّه انثنى ما رجعت إليكم. فقال الأعمش [2] لأبى عبد الرحمن: هذا والله ضرب غير مرتاب!. قال [3] : وأما هاشم بن عتبة بن أبى وقّاص فإنّه دعا الناس عند المساء وقال: ألا من كان يريد الله والدار الآخرة فإلىّ. فأقبل إليه الناس، فحمل على أهل الشام مرارا، ويصبرون له، وقاتل قتالا شديدا، وقال لأصحابه: «لا يهولنّكم ما ترون من صبرهم، فو الله ما هو إلّا حميّة العرب وصبرها تحت راياتها، وإنهم لعلى الضلال وإنّكم لعلى الحق» ثم حرّض أصحابه، وحمل فى عصابة من القرّاء فقاتل قتالا شديدا، فقتل يومئذ تسعة أو عشرة، وحمل عليه الحارث ابن المنذر التّنوخى، فطعنه فسقط، وأرسل إليه علىّ: أن قدّم   [1] ابن الأثير فى الكامل. [2] الأعمش راوى هذا الحديث عن أبى عبد الرحمن السلمى. [3] كذا جاء عند ابن جرير وأن الأثير؛ وجاء فى المحظوطة (وهم لا يزالون) . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 140 لواءك، فقال لرسوله: انظر إلى بطنى! فنظر إليه، فإذا هو قد انشق! قال [1] : ومرّ علىّ بكتيبة من أهل الشّام فرآهم لا يزولون [عن موقفهم] [2]- وهم غسّان- فقال: «إنّ هؤلاء لا يزولون إلّا بطعن [3] وضرب يفلق الهام ويطيح العظام، وتسقط منه المعاصم والأكف، وحتى تقرع جباههم بعمد الحديد، أين أهل النصر والصبر وطلّاب الأجر؟» فأتاه عصابة من المسلمين، فدعا ابنه محمدا فقال: «تقدّم نحو هذه الراية مشيا رويدا على هينتك [4] ، حتّى إذا أشرعت فى صدورهم الرّماح فأمسك حتّى يأتيك أمرى» . ففعل، وأعد [لهم] [5] علىّ مثلهم وسيرّهم إلى ابنه محمد، وأمره بقتالهم، فحمل عليهم فأزالهم [6] عن مواقفهم، وأصابوا منهم رجالا. قال [7] : ومرّ الأسود بن قيس المرادى بعبد الله بن كعب [المرادى] [8] وهو صريع، فقال له عبد الله: يا أسود. قال: لبّيك. وعرفه [9] ونزل إليه وقال له: «عزّ علىّ مصرعك!   [1] ابن الأثير فى الكامل. [2] الزيادة من ابن جرير. [3] جاء فى نهج البلاغة وشرحه لابن أبى الحديد ج 2 ص 268 «وإنهم لن يزولوا عن مواقفهم دون طعن دراك» . [4] أى: على عادتك فى السكون والرفق. [5] ثبتت فى النسخة (ن) ، وسقطت من النسخة (ك) . [6] كذا جاء فى (ك) وجاء فى (ن) : فحملوا عليهم فأزالوهم» . [7] ابن الأثير فى الكامل. [8] الزيادة من الكامل وتاريخ ابن جرير والاستيعاب والإصابة. [9] عرفه بآخر رمق، كما روى ابن جرير. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 141 إن كان جارك ليأمن بوائقك [1] ، وإن كنت لمن الذاكرين الله كثيرا! أوصنى رحمك الله!» قال: «أوصيك بتقوى الله، وأن تناصح أمير المؤمنين، وتقاتل معه المخلين [2] ، حتّى يظهر أو يلحق بالله، وأبلغه عنّى السلام وقل له: قاتل على المعركة حتّى تجعلها خلف ظهرك، فإنه من أصبح غدا والمعركة خلف ظهره كان العالى» . ثمّ لم يلبث أن مات، فأقبل الأسود إلى علىّ فأخبره، فقال: «رحمه الله! جاهد عدوّنا فى الحياة، ونصح لنا فى الوفاة!» .. وقيل: إن الذى أشار على علىّ بهذا عبد الرحمن بن حنبل الجمحى. قال: فاقتتل الناس تلك الليلة كلّها إلى الصباح، وهى ليلة الهرير، فتطاعنوا حتى تقصّفت الرّماح، وتراموا حتى نفد النّبل، وأخذوا السيوف، وعلى يسير بين الميمنة والميسرة، ويأمر كلّ كتيبة أن أن تقدّم على التى تليها، فلم يزل يفعل ذلك حتّى أصبح، والمعركة كلّها خلف ظهره، والأشتر فى الميمنة، وابن عباس، فى الميسرة وعلىّ فى القلب، والناس يقتتلون من كل جانب (وذلك يوم الجمعة) وأخذ الأشتر يزحف بالميمنة، وكان قد تولاها عشيّة الخميس وليلة الجمعة إلى ارتفاع الضحى، وهو يقول لأصحابه: ازحفوا قيد [3] هذا الرمح. ويزحف بهم نحو أهل الشام، فإذا فعل ذلك   [1] روى مسلم فى صحيحه ج 2 ص 17 عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه» قال ابن الأثير فى النهاية: أى: غوائله وشروره، واحدها بائقة وهى الداهية. [2] كذا جاء فى المخطوطة بالخاء المعجمة، وجاء عند ابن جرير وابن الأثير (المحلين) بالحاء المهملة. [3] قيد: قدر. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 142 بهم قال: ازحفوا قيد هذا القوس. فإذا فعلوه سألهم مثل ذلك، حتّى ملّ أكثر الناس الإقدام، فلما رأى الأشتر ذلك دعا بفرسه فركبه وترك رايته مع حيان بن هوذة النّخعى، وخرج يسير فى الكتائب ويقول: من يشرى [1] نفسه ويقاتل مع الأشتر [حتّى] [2] يظهر أو يلحق بالله؟ فاجتمع إليه جمع كثير، فيهم حيّان بن هوذة النخعى وغيره، فرجع بهم إلى المكان الذى كان فيه، وقال لهم: «شدّوا شدّة- فدى لكم خالى وعمّى- ترضون بها الربّ، وتعزّون بها الدين» ثمّ نزل فضرب وجه دابّته، وقال لصاحب رايته: أقدم بها. وحمل بالقوم [3] فضرب أهل الشام حتّى انتهى بهم إلى عسكرهم، فقاتلوه عند العسكر قتالا شديدا، وقتل صاحب رايته، فلمّا رأى علىّ الظّفر من ناحيته أمدّه بالرجال. فقال عمرو لوردان [4] : تدرى ما مثلى ومثلك ومثل الأشتر؟ قال: لا. قال «كالأشقر إن تقدّم عقر وإن تأخّر عقر [5] ! لئن تأخّرت لأضربنّ عنقك!» قال: أما والله يا أبا عبد الله لأوردنّك حياض الموت ضع يدك على عاتقى. ثم جعل يتقدّم ويتقدم [6] ويقول: والله لأوردنّك حياض الموت. واشتد القتال. فلمّا رأى عمرو أنّ أمر أهل العراق قد اشتدّ، وخاف الهلاك،   [1] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وجاء فى النسخة (ك) : «يشترى» . [2] الزيادة من ابن جرير. [3] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وجاء فى النسخة (ك) : «وحمل على القوم» . [4] وردان: مولى عمرو بن العاص. [5] عند ابن جرير: «نحر» . [6] كذا جاء فى المخطوطة. وجاء عند ابن جرير: «ثم جعل يتقدم وينظر إليه أحيانا» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 143 قال لمعاوية: هل لك فى أمر أعرضه عليك لا يزيدنا إلّا اجتماعا ولا يزيدهم إلّا فرقة؟ قال: نعم. قال: «نرفع المصاحف، ثم نقول لما فيها هذا حكم الله بيننا وبينكم، فإن أبى بعضهم أن يقبلها وجدت فيهم من يقول: ينبغى لنا أن نقبل. فتكون فرقة بينهم، فإن قبلوا ما فيها رفعنا القتال عنّا إلى أجل» . ذكر رفع أهل الشام المصاحف وما تقرر من أمر التحكيم وكتاب القضية قال: ولما أشار عمرو بن العاص على معاوية برفع المصاحف أمر برفعها، فرفعت بالرماح [1] ، وقال [2] : «هذا كتاب الله بيننا وبينكم، من لثغور الشام بعد أهله؟ من لثغور العراق بعد أهله؟» . فلما رآها الناس قالوا: نجيب إلى كتاب الله! فقال لهم علىّ رضى الله عنه: «عباد الله، امضو على حقكم وصدقكم قتال عدوّكم [3] ، فإن معاوية وعمرا وابن أبى معيط وحبيبا [4] وابن أبى سرح والضحاك [5] ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، أنا أعرف بهم منكم، قد صحبتهم أطفالا ثم رجالا، فكانوا شر أطفال وشر رجال! ويحكم! والله   [1] قال نصر فى وقعة صفين وبن أبى الحديد فى شرح نهج البلاغة: «ربطت المصاحف فى أطراف الرماح» . [2] كذا وقع فى المخطوطة، وعند ابن جرير وابن الأثير: «وقالوا» . [3] كذا جاء فى رواية ابن جرير ج 4 ص 34، يقال «صدقوا القتال» إذا تصلبوا فيه واشتدوا، ووقع فى المخطوطة: «وقتال» . [4] عند ابن جرير: «وحبيب بن مسلمة» وعند ابن أبى الحديد ج 1 ص 184 «وابن مسلمة» . [5] عند ابن جرير: «والضحاك بن قيس» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 144 ما رفعوها إلا خديعة ووهنا [1] ومكيدة!» فقالوا له: لا يسعنا أن ندعى إلى كتاب الله فنأبى أن نقبله! فقال لهم علىّ رضى الله عنه: «فإنّى إنما أقاتلهم ليدينوا بحكم الله [2] ، فإنهم قد عصوا الله فيما أمرهم، ونسوا عهده، ونبذوا كتابه!» . فقال مسعر بن فدكىّ التميمى وزيد بن حصين الطائى فى عصابة من القراء الذين صاروا خوارج بعد ذلك: «يا على، أجب إلى كتاب الله عز وجل إذ دعيت [إليه] [3] ، وإلا دفعناك [4] برمّتك [5] إلى القوم أو ونفعل بك كما فعلنا بابن عفان!» : قال: «فاحفظوا عنّى نهيى إياكم، واحفظوا مقالتكم لى، [فإن تطيعونى فقاتلوا، وإن تعصونى فاصنعوا] [6] ما بدالكم!» . قالوا: ابعث إلى الأشتر فليأتك. فبعث علىّ يزيد بن هانئ إلى الأشتر يستدعيه، فقال: «ليست هذه الساعة بالساعة التى ينبغى لك أن تزيلنى [فيها] [7] عن موقفى، إنى رجوت أن يفتح الله لى!» .   [1] عند ابن جرير: «ودهنا» والدهن: إظهار خلاف المضمر. [2] فى الكامل لابن الأثير ج 3 ص 161 «الكتاب» ، وفى تاريخ ابن جرير «هذا الكتاب» ، وفى شرح ابن أبى الحديد لنهج البلاغة: «القرآن» . [3] ثبتت فى النسخة (ن) ، وسقطت من (ك) . [4] عند ابن جرير: «ندفعك» . [5] الأصل فى هذا التعبير أن يقال عند تسليم الأسير ونحوه، والرمة: قطعة حبل يشد بها الأسير، أى: يسلمونه إليهم بالحبل الذى شد به تمكينا لهم منه، ثم اتسع فيه حتى قالوا أخذت الشىء برمته، أى: كله. [6] كذا جاء فى الكامل لابن الأثير، وفى تاريخ ابن جرير قريب منه، وجاء فى المخطوطة: «افعلوا» دون بقية الجملة الشرطية. [7] الزيادة من ابن جرير. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 145 فرجع يزيد فأخبره، وارتفعت [1] الأصوات، وارتفع الرهج من ناحية الأشتر، فقالوا: والله ما نراك إلا أمرته أن يقاتل! فقال: «هل رأيتمونى ساررته؟ أليس كلمته على رؤوسكم وأنتم تسمعون؟» فقالوا: «ابعث إليه فليأتك، وإلا والله اعتزلناك!» فقال: «ويلك يا يزيد! قل له أقبل إلى، فإن الفتنة قد وقعت!» فأبلغه ذلك، فقال الأشتر: ألرفع المصاحف؟ قال: نعم. قال: «والله لقد ظننت أنها ستوقع اختلافا وفرقة، إنها مشورة ابن العاص، ألا ترى إلى الفتح؟ ألا ترى ما يلقون؟ ألا ترى ما صنع الله لنا؟ أينبغى أن أدع هؤلاء وأنصرف عنهم؟» فقال له يزيد: أتحب أن تظفر وأمير المؤمنين يسلم إلى عدوّه أو يقتل؟ قال: «لا والله! سبحان الله!» فأعلمه بقولهم، فأقبل إليهم الأشتر وقال: «يا أهل العراق، يا أهل الذّلّ والوهن، أحين علوتم القوم وظنّوا أنكم لهم قاهرون رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها؟ وهم والله قد تركوا ما أمر الله به فيها وسنة من أنزلت عليه! فأمهلونى فواقا [2] فإنّى قد أحسست بالفتح، قالوا: لا. قال: أمهلونى عدو الفرس فإنى قد طمعت [فى النصر] [3] قالوا: إذن ندخل معك فى خطيئتك! قال: «فخبّرونى عنكم متى   [1] عبارة ابن جرير 4 ص 35: «فارتفع الرهج وعلت الأصوات» ، وكذلك قال ابن أبى الحديد ج 1 ص 186 وزاد: «وظهرت دلائل الفتح والنصر لاهل العراق، ودلائل الخذلان والإدبار على أهل الشام» . [2] فى النهاية ولسان العرب: «فواق الناقة» ، والفواق- بفتح الفاء وضمها:- ما بين الحلبتين من الراحة، ولكن لسان العرب تصحفت فيه كلمة «الأشتر» ب «الأسير» . [3] الزيادة من ابن جرير ج 4 ص 35 وابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 161 وابن أبى الحديد ج 1 ص 186. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 146 كنتم محقّين؟: أحين تقاتلون وخياركم يقتلون؟ فأنتم الآن إذا أمسكتم عن القتال مبطلون! أم أنتم الآن محقّون؟ فقتلاكم الذين لا تنكرون فضلهم وهم خير منكم فى النار! فقالوا: «دعنا منك يا أشتر، قاتلناهم لله، وندع قتالهم لله!» فقال: «خدعتم فانخدعتم ودعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم، يا أصحاب الجباه السّود [1] ، كنا نظنّ صلاتكم زهادة فى الدنيا وشوقا إلى لقاء الله، فلا أرى مرادكم إلا الدنيا، ألا قبحا يا أشباه النّيب الجلّالة [2] ، ما أنتم برائين بعدها عزّا أبدا، فابعدوا كما بعد القوم الظالمون!» فسبوه وسبهم، وضربوا وجه دابته بسياطهم، وضرب وجوه دوابهم بسوطه، فصاح به وبهم علىّ رضى الله عنه، فكفّوا. وقال الناس: قد قبلنا أن نجعل القرآن بيننا وبينهم حكما. فجاء الأشعث بن قيس إلى على فقال له: أرى الناس قد رضوا بما دعوهم إليه من حكم القرآن، فإن شئت أتيت معاوية فسألته ما يريد. قال: إيته. فأتاه فقال: يا معاوية لأىّ شىء رفعتم هذه المصاحف؟ قال: «لنرجع نحن وأنتم إلى ما أمر الله به فى كتابه، تبعثون رجلا ترضون، ونبعث رجلا نرضى به، نأخذ عليهما أن يعملا بما فى كتاب الله لا يعدوانه، ثم نتبع ما اتفقا عليه» . فقال له الأشعث: «هذا الحق، هذا الحق» . فعاد إلى على فأخبره، فقال الناس: قد رضينا وقبلنا. فقال أهل الشام: قد رضينا عمرا. فقال الأشعث وأولئك القوم   [1] ذكر ابن أبى الحديد أنهم «قد اسودت جباههم من السجود» . [2] النيب: النوق المسنة، والجلالة التى تأكل البعر. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 147 الذين صاروا خوارج: فإنا قد رضينا بأبى موسى الأشعرى. فقال علىّ رضى الله عنه: «قد عصيتمونى فى أول الأمر، فلا تعصونى الآن، لا أرى أن أولّى أبا موسى» . فقال الأشعث وزيد بن حصين [1] ومسعر بن فدكىّ: لا نرضى إلا به فإنه قد حذرنا ما وقعنا فيه! قال على «فإنه ليس [لى] [2] بثقة، قد فارقنى وخذّل الناس عنى، ثم هرب منى حتى آمنته بعد أشهر، ولكن هذا ابن عباس أولّيه ذلك» . قالوا «والله ما نبالى أنت كنت أم ابن عبّاس، لا نريد إلا رجلا هو منك ومن معاوية سواء [3] » . قال على: فإنى أجعل الأشتر. قالوا: وهل سعّر [4] الأرض غير الأشتر؟ قال: قد أبيتم إلا أبا موسى. قالوا: نعم: قال: فاصنعوا ما أردتم! فبعثوا إليه وقد اعتزل القتال وهو بعرض [5] فأتاه مولى له فقال: إن الناس قد اصطلحوا. فقال الحمد لله. قال: قد جعلوك حكما. قال: [إنا لله وإنا إليه راجعون [6]] وجاء أبو موسى حتى دخل فى العسكر. وجاء الأشتر عليا فقال: ألزّنى [7] بعمرو بن العاص، فو الله لئن ملأت عينى منه لأقتلنه!.   [1] «حصن» كذا جاء هنا فى المخطوطة، وهو الموافق لما فى الإصابة ج 1 ص 565، وجاء فيما سبق «حصين» وهو الموافق لما عند الطبرى وابن الأثير. [2] الزيادة من ابن جرير الطبرى. [3] زاد ابن جرير: «ليس إلى واحد منكا بأدنى منه إلى الآخر» . [4] سعر الأرض: أشعل فيها نار الحرب. [5] قال ابن أبى الحديد ج 1 ص 189 «وهو بأرض من أرض الشام يقال لها عرض» . [6] من الآية 156 فى سورة البقرة. [7] ألزنى: شدنى وألصقنى بعمرو بن العاص. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 148 وجاء الأحنف بن قيس فقال: «يا أمير المؤمنين، إنك قد رميت بحجر الأرض [1] ، وإنّى قد عجمت [2] أبا موسى وحلبت أشطره [3] ، فوجدته كليل الشفرة [4] قريب القعر، وإنه لا يصلح لهؤلاء القوم إلا رجل يدنو منهم حتى يصير فى أكفّهم ويبعد عنهم حتى يصير بمنزلة النجم منهم، فإن أبيت أن تجعلنى حكما فاجعلنى ثانيا أو ثالثا، فإنه لن يعقد عقدة إلا حللتها، ولا يحلّ عقدة أعقدها إلا عقدت [لك] [5] أخرى أحكم منها!» . فأبى الناس إلا أبا موسى والرضا بالكتاب، فقال الأحنف بن قيس: إن أبيتم إلا أبا موسى فأدفئوا ظهره بالرجال. وحضر عمرو بن العاص عند علىّ لتكتب القضيّة بحضوره، فكتبوا «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما تقاضى عليه أمير المؤمنين» فقال عمرو: [7] هو أميركم أمّا أميرنا فلا. فقال له الأحنف: لا تمح اسم أمير المؤمنين فإنى أتخوّف إن محوتها ألّا ترجع إليك أبدا، لا تمحها وإن قتل [الناس] [8] بعضهم بعضا، فأبى ذلك علىّ   [1] جاء فى النهاية ولسان العرب: «فى حديث الأحنف: قال لعلى حين ندب معاوية عمرا للحكومة: لقد رميت بحجر الأرض، أى: بداهية عظيمة تثبت ثبوت الحجر فى الأرض» [2] عجمت: عرفت. [3] أى: اختبر أحواله من خير وشر وحلو ومر تشبيها بحلب جميع أخلاف الناقة ما كان منها حفلا وغير حفل ودارا وغير دار. [4] الكيل: الذى لا يقطع. الشفرة: المدية، كما جا فى بعض الروايات. [5] روى ابن جرير هذه الكلمة فى هذا الموضع وجاءت فى المخطوطة بعد «أعقدها» . [6] فى النسخة (ك) : «ليكتب» . [7] زاد ابن جرير وابن كثير فى أول كلام عمرو بن العاص: أكتب اسمه واسم أبيه» . [8] الزيادة من ابن جرير ابن والأثير. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 149 مليّا من النهار، ثم قال الأشعث بن قيس: امج هذا الاسم. فمحى، فقال علىّ رضى الله عنه: «الله أكبر! سنّة بسنة، والله إنّى لكاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، فكتبت: «محمد رسول الله» فقالوا: لست برسول الله ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فأمرنى رسول الله عليه الصلاة والسلام بمحوه، فقلت: لا أستطيع. فقال أرنيه. فأريته فمحاه بيده وقال: إنّك ستدعى إلى مثلها فتجيب!» . فقال عمرو: «سبحان الله! أنشبّه بالكفّار ونحن مؤمنون؟» فقال علىّ رضى الله عنه: يا ابن النابغة ومتى لم تكن للفاسقين وليّا وللمؤمنين عدوا؟ فقال عمرو: والله لا يجمع بينى وبينك مجلس بعد هذا اليوم أبدا! فقال علىّ: إنى لأرجو أن يطهّر الله مجلسى منك ومن أشباهك. وكتب الكتاب: هذا ما تقاضى عليه علىّ بن أبى طالب ومعاوية ابن أبى سفيان، قاضى علىّ على أهل الكوفة ومن معهم، وقاضى معاوية على أهل الشام ومن معهم، أنّا ننزل عند حكم الله وكتابة، وألّا يجمع بيننا غيره، وأنّ كتاب الله بيننا من فاتحته إلى خاتمته، نحيى ما أحيا ونميت ما أمات، فما وجد الحكمان فى كتاب الله- وهما أبو موسى عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص- عملا به، وما لم يجدا فى كتاب الله تعالى فالسّنّة العادلة الجامعة غير المفرّقة. وأخذ الحكمان من علىّ رضى الله عنه ومن معاوية ومن الجند من العهود والمواثيق أنهما آمنان على أنفسهما وأهلهما، والأمّة لهما أنصار على الذى يتقاضيان عليه، وعلى عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه أن يحكما بين هذه الأمّة ولا يردّاها فى حرب ولا فرقة حتّى الجزء: 20 ¦ الصفحة: 150 يعصيا، وأجّلا القضاء إلى رمضان، وإن أحبّا أن يؤخرا ذلك أخّراه، وإن مكان قضيّتهما مكان عدل بين أهل الكوفة وأهل الشام. وشهد جماعة من الطائفتين. وقيل للأشتر: لتكتب [1] فيها. فقال: «لا صحبتنى يمينى ولا نفعتنى بعدها شمالى إن خطّ لى فى هذه الصحيفة خط! أو لست على بيّنة من ربّى من ضلال عدوّى؟ أو لستم قد رأيتم الظّفر؟» . فقال له الأشعث: ما رأيت ظفرا هلمّ إلينا فإنه لا رغبة بك عنّا. فقال: «بلى والله الرغبة عنك فى الدنيا للدنيا وفى الآخرة للآخرة! ولقد سفك الله بسيفى دماء رجال ما أنت عندى خير منهم ولا أحرم دما!» . قال: وخرج الأشعث بالكتاب يقرؤه على الناس حتى مرّ على طائفة من بنى تميم، فيهم عروة بن أديّه (أخو أبى بلال) فقرأه عليهم، فقال عروة: تحكّمون فى أمر الله الرجال، لا حكم إلّا لله. ثم شدّ بسيفه فضرب به عجز دابّة الأشعث ضربة خفيفة، واندفعت الدابّة، وصاح به أصحاب الأشعث فرجع. وكتب الكتاب يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من صفر سنة سبع وثلاثين.. واتفقوا أن يكون اجتماع الحكمين بدومه الجندل [2] ، أو بأذرح [3] ، فى شهر رمضان.   [1] فى الكامل لابن الأثير.: «ليكتب» . [2] دومة الجندل: موضع بين الشام والمدينة المنورة. [3] أذرح: بلد فى أطراف الشام، كما قال ياقوت، وقد كرر ذكر الخلاف فى الموضعين، وستأتى فى «ذكر اجتماع الحكمين» عبارة تفيد اتصال أذرح بدومة الجندل. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 151 قال: وقيل لعلىّ: إن الأشتر لا يقرّ بما فى الصحيفة ولا يرى إلّا قتال القوم. فقال علىّ رضى الله عنه: «وأنا والله ما رضيت ولا أحببت أن ترضوا، فإذ أبيتم إلّا أن ترضوا فقد رضيت، وإذ رضيت فلا يصلح الرجوع بعد الرضا ولا التبديل بعد الإقرار، إلّا أن يعصى الله ويتعدّى كتابه، فتقاتلوا من ترك أمر الله. وأمّا الذى ذكرتم من تركه أمرى وما أنا عليه فليس من أولئك، ولست أخافه على ذلك، يا ليت فيكم مثله اثنين، يا ليت فيكم مثله واحدا يرى فى عدوى ما أرى، إذن لخفّت علىّ مؤنتكم، ورجوت أن يستقيم لى بعض أودكم [1] ، وقد نهيتكم فعصيتمونى، فكنت أنا وأنتم كما قال أخو هوازن [2] : وهل أنا إلّا من غزيّة إن غوت ... غويت وإن ترشد غزيّة أرشد والله لقد فعلتم فعلة ضعضعت قوّة، وأسقطت منّة، وأورثت وهنا وذلّة، ولما كنتم الأعلين، وخاف عدوّكم الاجتياح، واستحرّ [3] بهم القتل، ووجدوا ألم الجراح، رفعوا المصاحف فدعوكم إلى ما فيها ليفتنوكم عنهم، ويقطعوا الحرب، ويتربّصوا بكم ريب   [1] الأود: العوج. [2] أخو هوازن: دريد بن الصمة معاوية الأصغر بن الحارث بن معاوية الأكبر بن بكر بن علقة بن خزاعة بن غزية بن جشم بن معاوية بن بكر بن هوازن، شاعر فارس جاهلى، أدرك الإسلام فلم يسلم، ويخرج مع قومه هوازن فى يوم حنين مظاهرا للمشركين، وكان شيخا كبيرا فانيا ليس فيه شىء إلا التيمن برأيه ومعرفته للحرب فقتل يومئذ على شركه ... والبيت من قصيدته الدالية الطويلة التى رئى بها أخاه عبد الله، وهى فى الأغانى ج 10 ص 8- 9 من طبع دار الكتب المصرية والحماسة بشرح المرزوقى ج 2 ص 812- 821 والأصمعيات ص 111- 115 وجمهرة أشعار العرب ص 224- 227، وسيأتى تمثل ببيت آخر من هذه القصيدة. [3] استحر: اشند وكثر. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 152 المنون، خديعة ومكيدة، فأعطيتموهم [ما سألوا] [1] ، وأبيتم إلّا أن تدهنوا وتحيروا [2] ، وايم الله ما أظنّكم بعدها توفّقون لرشد، ولا تصيبون باب حزم» . قال: ثم تراجع الناس عن صفّين. هذا ما أورده أبو جعفر محمد بن جرير الطبرى فى تاريخه، وهو الذى اعتمد عليه عز الدين على بن محمد ابن الأثير الموصلى فى تاريخة (الكامل) ، من حرب [3] صفّين، وقد أسقطنا بعض ما أورداه، وأتينا بألفاظ لم يأتيا بها نسبناها إلى من حكاها ... وأخبار أيام صفّين كثيرة، قد بسط أهل التاريخ فيها القول، وذكروا ما اتفق فى أيامها يوما يوما، رأينا ترك ذلك والإغضاء عنه أولى، وكنا نؤثر ألّا نلمّ بذكر أيام صفّين ولا وقعة الجمل، وإنما ضرورة التاريخ دعت إلى ذلك. وحكى أبو عمر بن عبد البر فى ترجمة بسر بن أرطاة من كتابه الاستيعاب [4] : أنّ معاوية أمر بسر بن أرطاة بن أبى أرطاة، وكان معه بصفّين أن يلقى عليّا فى القتال، وقال له: «سمعتك تتمنّى لقاءه، فلو أظفرك الله وصرعته حصلت على دنيا وآخرة» ، ولم يزل يشجّعه ويمنّيه، حتّى رآه فقصده فى الحرب، قال: وكان   [1] الزيادة من ابن جرير وابن الأثير. [2] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء عند ابن جرير ج 4 ص 40 «وتجوزوا» وعند ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 163 «وتجيروا» . [3] كذا جاء فى النسخة (ك) . وفى النسخة (ن) : «خبر» . [4] ج 1 ص 160. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 153 بسر بن أرطاة من الأبطال الطّغاة، فالتقيا، فصرعه علىّ، وعرض له معه مثل ما عرض- فيما ذكر- لعلىّ مع عمرو بن العاص. قال وذكر ابن الكلبى فى كتابه فى أخبار صفّين أن بسر بن أرطاة بارز عليا يوم صفّين، فطعنه علىّ فصرعه، فانكشف له، فكفّ عنه، كما عرض له- فيما ذكروا- مع عمرو بن العاص، ولهم فيها أشعار مذكورة فى موضعها من [ذلك] [1] الكتاب، منها فيما ذكر ابن الكلبى والمدائنى قول الحارث بن النضر السّهمى [2]- وكان عدوا لعمرو ابن العاص وبسر بن أرطاة-: أفى كلّ يوم فارس ليس ينتهى ... وعورته بين العجاجة [3] باديه يكفّ لها [4] عنه علىّ سنانه ... ويضحك منه [5] فى الخلاء معاويه بدت أمس من عمرو فقنّع رأسه ... وعورة بسر مثلها حذو حاذيه فقولا لعمرو ثم بسر [6] : ألا انظرا ... سبيلكما، لا تلقيا الليث ثانيه ولا تحمدا إلّا الحيا وخصاكما ... هما كانتا والله للنّفس واقيه ولولاهما لم تنجوا من سنانه ... وتلك بما فيها عن العود ناهيه وكونا [7] بعيدا حيث لا تبلغ القنا ... نحوركما إنّ التّجارب كافيه   [1] الزيادة من الاستيعاب، والاشارة إلى كناب ابن الكلبى. [2] شاعر من الصحابة، انظر الإصابة ج 1 ص 291. [3] العجاجة: ما أثير من الغبار حتى يكسو كل شىء جاء عليه، ورعاع الناس ... وفى الاستيعاب: «وسط العجاجة» . [4] فى شرح ابن أبى الحديد لنهج البلاغة ج 2 ص 301: «بها» . [5] فى لاستيعاب وشرح ابن أبى الجديد: «منها» . [6] عند بن أبى الحديد: «فقر لا لعمرو وابن أوطأة: «ابصرا» . [7] قبل هذا بيت عن ابن عبد البر وابن أبى الحديد، وهو: متى تلقيا الخيل المغيرة صحيحه ... وفيها على فاقركا الخيل ناحية. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 154 قال أبو عمر: إنّما كان انصراف علىّ عنهما وعن أمثالهما من مصروع أو منهزم؛ لأنه كان لا يرى فى قتال الباغين عليه من المسلمين أن يتّبع مدبرا ولا يجهز على جريح ولا يقتل أسيرا، وتلك عادته فى حروبه فى الإسلام، رضى الله عنه. وروى أبو عمر ابن عبد البر أيضا بسند يرفعه إلى يزيد ابن حبيب قال: اصطحب قيس بن خرشه، وكعب الأحبار، حتّى إذا بلغا صفّين وقف كعب ثم نظر ساعة فقال: «لا إله إلا الله، ليهراقنّ بهذه البقعة من دماء المسلمين شىء لم يهرق ببقعة من الأرض» فغضب قيس وقال: «وما يدريك يا أبا إسحاق؟ فإنّ هذا من الغيب الذى استأثر الله به» فقال كعب: ما من شبر من الأرض إلّا وهو مكتوب فى التّوراة التى أنزل الله على نبيّه موسى بن عمران عليه السلام ما يكون عليه إلى يوم القيامة. واختلف فى عدّة من شهد صفّين، فقيل: كان جيش علىّ رضى الله عنه تسعين ألفا، وجيش معاوية مائة وعشرين ألفا، وقيل: أقل من ذلك [1] . وقتل من العراق خمسة وعشرون ألفا، منهم عمّار بن ياسر وخمسة وعشرون بدريّا، وقتل من عسكر معاوية خمسة وأربعون ألفا. قال، ولمّا رجع علىّ رضى الله عنه إلى الكوفة خالفه الحروريّة وأنكروا تحكيم الرجال، وكان من أمرهم ما نذكره إن شاء الله فى أخبار   [1] الاستيعاب ج 12 ص 242. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 155 الخوارج على علىّ، وكان فيما بين رجوع علىّ واجتماع الحكمين ما نذكره إن شاء الله تعالى فى حوادث السنين. ذكر اجتماع الحكمين قال. ولما جاء وقت اجتماع الحكمين أرسل علىّ رضى الله عنه أربعمائة رجل عليهم شريح بن هانىء الحارثى، وأرسل عبد الله بن عباس يصلى بهم ويلى أمورهم، ومعهم أبو موسى الأشعرى. وأرسل معاوية عمرو بن العاص فى أربعمائة من أهل الشام، حتى توافوا من دومة الجندل بأذرح [1] وكان عمرو إذا أتاه كتاب من معاوية لا يدرى أحد ما جاء فيه، ولا يسأله أهل الشام عن شىء، وكان أهل العراق يسألون ابن عبّاس عن كلّ كتاب يصل إليه من علىّ، فإن كتمه [2] ظنّوا به الظّنون وقالوا: نراه كتب بكذا وكذا، فقال لهم ابن عبّاس رضى الله عنه: «أما تعقلون، أما ترون رسول معاوية يجىء فلا يعلم أحد ما جاء به ولا يسمع لهم صياح؟ وأنتم عندى كلّ يوم تظنّون الظّنون» . قال وحضر معهم عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الرحمن ابن أبى بكر الصديق، وعبد الله بن الزّبير، وعبد الرحمن الحارث بن هشام، وعبد الرحمن بن عبد يغوث الزهرى، وأبو جهم بن حذيفة العدوى، والمغيرة بن شعبة. وكان سعد بن أبى وقّاص على ماء لبنى سليم بالبادية، فأتاه ابنه عمر فقال له: «إنّ أبا موسى وعمرا   [1] انظر ما سبق فى هذين الاسمين. [2] كما جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى (ن) «كتمهم» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 156 قد شهدهم نفر من قريش فاحضر معهم، فإنّك صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد أصحاب الشّورى، ولم تدخل فى شىء كرهته هذه الأمّة، وأنت أحقّ الناس بالخلافة» فلم يفعل، وقيل: بل حضرهم سعد وندم على حضوره، فأحرم بعمرة من بيت المقدس. قال: ولما اجتمع الحكمان قال عمرو بن العاص؛ يا أبا موسى ألست تعلم أنّ عثمان قتل مظلوما، قال أشهد. قال: ألست تعلم أنّ معاوية وآل معاوية أولياؤه؟ قال: بلى.. قال: «فما [1] يمنعك منه وبيته فى قريش كما قد علمت؟ فإن خفت أن يقول الناس ليست له سابقة فقل: وجدته ولىّ عثمان الخليفة المظلوم، والطالب بدمه، الحسن السياسة والتدبير، وهو أخو أم حبيبة زوج النبىّ عليه الصلاة والسلام، وكاتبه، وقد صحبه» وعرّض له عمرو بسلطان، فقال أبو موسى: «يا عمرو، اتّق الله! أمّا ما ذكرت من شرف معاوية فإن هذا ليس على الشرف يولّاه أهله، ولو كان على الشرف لكان لآل أبرهة بن الصّبّاح، إنّما هو لأهل الدّين والفضل، مع أنى لو كنت معطيه أفضل قريش شرفا أعطيته على بن أبى طالب، وأمّا قولك إنّ معاوية ولىّ دم عثمان فولّه هذا الأمر، فلم أكن لأولّيه معاوية وأدع المهاجرين الأوّلين، وأمّا تعريضك لى بالسلطان؛ فو الله لو خرج لى معاوية من سلطانه كلّه ما ولّيته، وما كنت لأرتشى فى حكم الله،   [1] ذكر ابن جرير فى تاريخه ج 4 ص 49 أن عمرا استشهد بقول الله تعالى: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ، إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً ثم قال فما يمنعك من معاوية ... الخ. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 157 ولكنك إن شئت أن تحيى اسم عمر بن الخطاب» قال له عمرو: [1] فما يمنعك من ابنى عبد الله وأنت تعلم فضله وصلاحه؟ فقال له: إن ابنك رجل صدق، ولكنك قد غمسته فى هذه الفتنة. فقال عمرو: إن هذا الأمر لا يصلح إلا لرجل يأكل ويطعم. وكانت فى ابن عمر غفلة، فقال له: ابن الزبير: افطن وانتبه، فقال: والله لا أرشو عليها شيئا أبدا. وقال: يا ابن العاص إنّ العرب قد أسندت إليك أمرها بعد ما تقارعوا بالسيوف فلا تردّنّهم فى فتنة. وكان عمرو قد عوّد أبا موسى أن يقدّمه فى الكلام، يقول له: أنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسنّ منّى فتكلم. فتعوّد ذلك أبو موسى، وأراد عمرو بذلك كلّه أن يقدّمه فى خلع على. فلمّا أراده عمرو على ابنه وعلى معاوية فأبى، وأراد أبو موسى عمرا على ابن عمر فأبى عمرو، قال له عمرو: خبّرنى ما رأيك؟ قال: «أرى أن نخلع هذين الرجلين ونجعل الأمر شورى، فيختار المسلمون لأنفسهم من أحبّوا» . فقال عمرو: الرأى ما رأيت. فأقبلا إلى الناس وهم مجتمعون، فقال عمرو: يا أبا موسى أعلمهم أن رأينا قد اتفق. فتكلم أبو موسى فقال: إن رأينا قد اتفق على أمر نرجو أن يصلح الله به أمر هذه الأمة. فقال عمرو: صدق وبرّ، تقدم يا أبا موسى. فتقدّم أبو موسى، فقال له ابن عباس: «ويحك! والله إنى لأظنّه قد خدعك، إن كنتما قد اتفقتما على أمر فتقدّمه فليتكلّم به قبلك، فإنه رجل غادر، ولا آمن أن يكون قد أعطاك   [1] ذكر ابن جرير فى رواية أن عمرا قال لأبى موسى! إن كنت تحب بيعة ابن عمر فما يمنعك ... الخ. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 158 الرضى بينكما، فإذا قمت فى الناس خالفك!» وكان أبو موسى مغفّلا، فقال: إنا قد اتفقنا، فتقدّم فقال: «أيّها الناس، إنّا قد نظرنا فى أمر هذه الأمّة، فلم نر أصلح لأمرها ولا ألمّ لشعثها من [أمر] [1] قد أجمع رأيى ورأى عمرو عليه، وهو أن نخلع عليا ومعاوية ويولّى الناس أمرهم من أحبّوا، وإنى خلعت عليا ومعاوية، فاستقبلوا أمركم وولّوا عليكم من رأيتموه أهلا» . ثم تنحّى، وأقبل عمرو فقام وقال: «إن هذا قد قال ما سمعتموه، وخلع صاحبه، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه، وأثبّت صاحبى معاوية، فإنه ولىّ عثمان بن عفّان، والطالب بدمه، وأحقّ الناس بمقامه» ، فقال سعد: ما أضعفك يا أبا موسى عن عمرو ومكايدة! فقال أبو موسى: فما أصنع؟ وافقنى على أمر ثم نزع عنه! فقال ابن عبّاس: لا ذنب لك يا أبا موسى الذنب لمن قدّمك فى هذه المقام! قال: غدر فما أصنع؟ قال ابن عمر [انظروا] [2] إلى ما صار أمر هذه الأمة: إلى رجل لا يبالى ما صنع وآخر ضعيف. وقال عبد الرحمن بن أبى بكر: لو مات الأشعرىّ قبل هذا اليوم كان خيرا له. وقال أبو موسى لعمرو: «لا وفّقك الله، غدرت وفجرت، [إنما مثلك كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث» فقال له عمرو:] [3] إنما مثلك كمثل الحمار يحمل أسفارا. قال: والتمس أهل الشام أبا موسى فهرب إلى مكة، ثم انصرف   [1] كذا جاء عند ابن جرير ج 4 ص 51 وابن الأثير ج 3 ص 168 وجاء فى النسخة (ك) (راء) ، وفى النسخة (ن) : «رأى» . [2] الزيادة من الكامل لابن الأثير. [3] سقطت هذه العبارة من النسخة (ك) وثبتت فى النسخة (ن) كما جاءت عند الطبرى وابن الأثير. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 159 عمرو وأهل الشام إلى معاوية فسلّموا عليه بالخلافة، ورجع ابن عباس وشريح إلى علىّ رضى الله عنه، فكان علىّ إذا صلّى الغداة يقنت فيقول: اللهم العن معاوية وعمرا وأبا الأعور وحبيبا وعبد الرحمن ابن خالد والضحاك بن قيس والوليد. فبلغ ذلك معاوية، فكان إذا قنت لعن عليّا وابن عبّاس والحسن والحسين والأشتر. وقيل: إن معاوية حضر الحكمين، وأنه قام عشية فى الناس فقال: أما بعد، من كان متكلما فى هذا الأمر فليطلع لنا قرنه. قال ابن عمر: فأطلقت حبوتى وأردت أن أقول: «يتكلم فيه رجال قاتلوك وأباك على الإسلام» فخشيت أن أقول كلمة تفرّق الجماعة ويسفك بها دم، فكان ما وعد الله فى الجنان أحبّ إلى من ذلك، فلما انصرفت إلى المنزل جاءنى حبيب بن مسلمة فقال: ما منعك أن تتكلم حين سمعت هذا الرجل يتكلم؟ قلت: أردت ذلك ثم خشيت. فقال حبيب: وفّقت وعصمت. وقد ورد ذلك فى الصحيح. ذكر أخبار الخوارج الذين خرجوا على عهد علىّ وما كان من أمرهم كان أوّل من خرج على علىّ رضى الله عنه حسكة بن عتّاب الحبطىّ، وعمران بن فضيل البرجمىّ، خرجا فى صعاليك من العرب بعد الفراغ من وقعة الجمل، حتى نزلوا زالق [1] من سجستان، وقد نكبو [2] أهلها فأصابوا منها مالا، ثم أتوا زرنج [3] وقد خافهم   [1] زالق: سواد بسجستان. [2] جاء فى النسخة (ن) كما عند ابن الأثير: وقد نكث أهلها. [3] زرنج: قصبة سجستان. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 160 مرزبانها فصالحهم ودخلوها، فبعث علىّ عبد الرحمن ابن جرو الطائى فقتله حسكة، فكتب علىّ إلى عبد الله بن عبّاس يأمره أن يولى سجستان رجلا، ويسيّره إليها فى أربعة الآف، فوجّه ربعىّ [1] بن كأس العنبرى، ومعه الحصين بن أبى الحرّ العنبرى، فلمّا ورد سجستان قاتلهم حسكة فقتلوه وضبط ربعى البلاد. قال ابن الأثير [2] وكان فيروز حصين ينسب إلى الحصين ابن أبى الحر هذا، وهو من سجستان. ذكر خبرهم [3] بعد صفين قد ذكرنا فى وقعة صفين أنه لمّا رفعت المصاحف، تكلّم أولئك القوم مع علىّ بما ذكرناه، وأبوا إلّا ترك الحرب والرجوع إلى كتاب الله، وموافقة علىّ رضى الله عنه لهم فيما رأوه، على كره منه. فلما رجع علىّ من صفّين بعد كتابة الصحيفة، خالفت عليه الحروريّة [4] وأنكروا تحكيم الرجّال، ورجعوا على غير الطريق الذى أقبلوا فيه، أخذوا على طريق البرّ وعادوا وهم أعداء متباغضون، يقطعون الطريق بالتشاتم والتضارب بالسياط، يقول الخوارج: يا أعداء الله أدهنتم فى أمر الله! ويقول الآخرون: فارقتم إمامنا وفرّقتم جماعتنا! فلمّا انتهى علىّ إلى الكوفة فارقته الخوارج وأتت حروراء [5] فنزل بها   [1] ربعى بن كأس: كأس أمه وهى من أشراف العرب، وهو ربعى بن عامر التيمى. [2] فى الكامل ج 3 ص 135. [3] كذا جاء فى ك «، وجاء فى (ن) : «سيرهم» . [4] زاد ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 163: «وخرجت، وكان ذلك أول ما ظهرت» [5] نقل ابن أبى الحديد ج 1 ص 215 عن كتاب صفين: «خرجوا إلى صحراء. بالكوفة تسمى حروراء» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 161 [منهم] [1] اثنا عشر ألفا، ونادى مناديهم: «إن أمير القتال شبث بن ربعىّ التميمى، وأمير الصلاة عبد الله بن الكوّاء اليشكرى، والأمر شورى بعد الفتح، والبيعة لله عز وجل، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر» . فلما سمع علىّ رضى الله عنه وأصحابه ذلك، قامت إليه الشّيعة فقالوا له: «فى أعناقنا بيعة ثابتة [2] نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت» . فقالت الخوارج: «استبقتم أنتم وأهل الشام إلى الكفر كفرسى رهان، بايع أهل الشام معاوية على ما أحبّ [3] وكرهوا، وبايعتم أنتم عليّا أنكم أولياء من والى وأعداء من عادى» فقال لهم زياد بن النّضر: «والله ما بسط علىّ يده فبايعناه قطّ إلّا على كتاب الله تعالى وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، ولكنكم لمّا خالفتموه جاءته شيعته فقالوا: نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت، ونحن كذلك، وهو على الحق والهدى، ومن خالفه ضال مضل» . قال: وبعث علىّ رضى الله عنه عبد الله بن العبّاس إلى الخوارج، وقال له. لا تعجل إلى جوابهم وخصومتهم حتّى آتيك. فخرج إليهم، فأقبلوا يكلّمونه، فلم يصبر حتّى راجعهم، فقال: «ما نقمتم من الحكمين، وقد قال الله عز وجل: إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما [4] . فكيف بأمّة محمد صلى الله عليه وسلم؟» . فقالت الخوارج: «أمّا ما جعل الله حكمه إلى الناس وأمرهم بالنظر فيه فهو إليهم، وما حكم فأمضاه فليس للعباد أن ينظروا فيه، حكم فى الزّانى مائة جلدة، وفى   [1] الزيادة فى النسخة (ن) ، وسقطت من النسخة (ك) . [2] عند ابن جرير وابن الأثير: «ثانية» . [3] عند ابن جرير وابن الأثير: «أحبوا» . [4] من الآية 35 فى سورة النساء. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 162 السارق القطع، فليس للعباد أن ينظروا فى هذا» . قال ابن عبّاس: فإن الله تعالى يقول يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ [1] فقالوا: وتجعل الحكم فى الصيد والحدث بين المرأة وزوجها كالحكم فى دماء المسلمين؟ وقالوا له: أعدل عندك عمرو بن العاص وهو بالأمس يقاتلنا؟ فإن كان عدلا فلسنا بعدول، وقد حكّمتم فى أمر الله الرجال، وقد أمضى الله حكمه فى معاوية وأصحابه أن يقتلوا أو يرجعوا، وقد كتبتم بينكم وبينهم كتابا وجعلتم بينكم الموادعة، وقد قطع الله الموادعة بين المسلمين وأهل الحرب منذ نزلت «برآءة» إلّا من أقرّ بالجزية. وبعث علىّ رضى الله عنه زياد بن النّضر فقال: انظ بأىّ رءوسهم هم أشد إطافة. فأخبره أنه لم يرهم عند رجل أكثر منهم عند يزيد ابن قيس، فخرج علىّ رضى الله عنه فى الناس حتّى أتى فسطاط يزيد ابن قيس، فدخله، فصلّى فيه ركعتين، وأمّره على أصبهان والرّىّ، ثم خرج حتّى انتهى إليهم وهم يخاصمون ابن عباس، فقال له: ألم أنهك عن كلامهم؟ ثم تكلم فقال: اللهم هذا مقام من يفلج فيه كان أولى بالفلج [2] يوم القيامة. [ثم] [3] : قال لهم: من زعيمكم؟ قالوا: ابن الكواء قال: فما أخرجكم علينا؟ قالوا: حكومتكم يوم صفّين. قال: «أنشدكم الله، أتعلمون أنهم حيث رفعوا المصاحف، وقلتم: نجيبهم، قلت لكم: إنى أعلم بالقوم منكم، إنهم ليسلوا بأصحاب دين!» وذكر ما كان قال لهم، ثم قال «وقد اشترطت   [1] من الآية 95 فى سورة المائدة. [2] الفلج- بفتح الفاء وضمها-: الفوز، وفى الكامل ج 3 ص 166: «من يفلح فيه كان أولى بالفلاح» . [3] الزيادة من ابن جرير وابن الأثير. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 163 على الحكمين أن يحييا ما أحيى القرآن وأن يميتا ما أمات القرآن، فإن حكما بحكم القرآن فليس لنا أن نخالف، وإن أبيا فنحن من حكمهما براء» . قالوا: فخبّرنا أتراه عدلا تحكيم الرجال فى الدماء؟ فقال: «إنا لسنا حكّمنا الرجال، إنما حكمنا القرآن، وهذا القرآن إنما هو خطّ مسطور بين دفّتين، لا ينطق، إنما يتكلم به الرجال» قالوا: فأخبرنا عن الأجل لم جعلته بينكم؟ قال: «ليعلم الجاهل، ويثبت العالم، ولعلّ الله عز وجل يصلح فى هذه الهدنة هذه الأمة، ادخلوا مصركم رحمكم الله» . فدخلوا من عند آخرهم. ذكر خبرهم عند توجيه الحكمين قال [1] : لما أراد علىّ رضى الله عنه أن يبعث أبا موسى للحكومة أتاه رجلان من الخوارج، وهما زرعة بن برج الطائى وحرقوص ابن زهير السعدى، فقالا له: لا حكم إلّا لله تعالى، فقال على رضى الله عنه: لا حكم إلا لله تعالى، قال حرقوص: «تب من خطيئتك، وارجع عن قضيتك، وارجع بنا إلى عدونا نقاتلهم حتّى نلقى ربنا» . فقال على: قد أردتكم على ذلك فعصيتمونى، وقد كتبنا بيننا وبين القوم كتابا، وشرطنا شروطا، وأعطينا عليها عهودا، وقد قال الله تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ [2] فقال حرقوص: ذلك ذنب ينبغى أن تتوب منه. فقال علىّ رضى الله عنه: ما هو ذنب ولكنه عجز من الرأى، وقد نهيتكم، فقال زرعة: يا على لئن لم   [1] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 169 وأصله عند ابن جرير الطبرى فى تاريخه ج 4 ص 52. [2] من الآية 91 فى سورة النحل. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 164 تدع تحكيم الرجال لأقاتلنّك أطلب وجه الله. فقال على: «بؤسا لك! ما أشقاك! كأنى بك قتيلا تسفى [1] عليك الرياح!» قال: وددت لو كان ذلك، فخرجا من عنده يحكّمان. وخطب على رضى الله عنه يوما، فحكّمت [2] المحكّمة فى جوانب المسجد، فقال علىّ: «الله أكبر! كلمة حقّ أريد بها باطل [3] ان سكتوا غممناهم [4] ، وإن تكلموا حججناهم وإن خرجوا علينا قاتلناهم» . فوثب يزيد بن عاصم المحاربى فقال: «الحمد لله غير مودّع ربنا ولا مستغنى عنه، اللهم إنّا نعوذ بك من إعطاء الدّنيّة فى ديننا، فإن إعطاء الدنية فى الدين إدهان فى أمر الله وذلّ راجع بأهله إلى سخط الله، يا علىّ أبالقتل تخوّفنا؟ أما إنى لأرجو أن نضربكم بها عمّا قليل غير مصفحات، ثم لتعلم أيّنا أولى بها صليّا» . ثم خرج هو وإخوة له ثلاثة، فأصيبوا مع الخوارج بالنّهروان، وأصيب أحدهم بعد ذلك بالنّخيلة. ثم خطب علىّ رضى الله عنه يوما آخر، فقام رجل فقال: لا حكم إلا لله، ثم توالى عدّة رجال يحكّمون، فقال علىّ: «الله أكبر كلمة حق أريد بها باطل، أما إنّ لكم عندنا ثلاثا ما صحبتمونا: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه، ولا نمنعكم الفىء   [1] سفت الريح التراب تسفيه: ذرته أو حملته. [2] أى قالوا: «لا حكم إلا الله» . [3] جاء فى نهج البلاغة شرح ابن أبى الحديد ج 1 ص 214: ومن كلام له عليه السلام فى الخوارج لما سمع قولهم «لا حكم إلا الله» قوله عليه السلام: كلمة حق يراد بها باطل، نعم إنه لا حكم إلا لله، ولكن هؤلاء يقولون: لا إمرة إلا لله، وإنه لا بد الناس من أمير بر أو فاجر، يعمل فى إمرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر ... وفى رواية أخرى أنه عليه السلام لما سمع تحكيمهم قال: حكم الله أنتظر فيكم!. [4] غممناهم: غطيناهم وسترناهم، وفى (ك) : «عممناهم» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 165 ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تبدأونا، وإنما ننظر فيكم أمر الله» . ثم رجع إلى مكانه من الخطبة. ذكر اجتماع الخوارج بعد الحكمين وتوليتهم أمرهم عبد الله بن وهب وخروجهم عن الكوفة وانضمام خوارج البصرة إليهم، وما كاتبهم علىّ به وجوابهم وغير ذلك قال: ولمّا كان من أمر الحكمين ما ذكرناه، لقى بعض الخوارج بعضا واجتمعوا فى منزل عبد الله بن وهب الراسبى، فخطبهم، فزهّدهم فى الدنيا، وأمرهم بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ثم قال اخرجوا بنا من هذه القرية الظالم أهلها إلى بعض كور الجبال أو بعض هذه المدائن منكرين لهذه البدع المضلّة، فقال حرقوص بن زهير: «إن المتاع بهذه الدنيا قليل، وإن الفراق لها وشيك، فلا تدعونّكم زينتها وبهجتها إلى المقام بها، ولا تلفتنكم عن طلب الحق وإنكار الظلم، فإن الله [1] مع الذين اتّقوا والذين هم محسنون» وقال حمزة بن سنان الأسدى: «يا قوم، إن الرأي ما رأيتم فولّوا أمركم [2] رجلا منكم، فإنه لا بد لكم من عماد وسناد وراية تحفون بها، وترجعون إليها» فعرضوها على زيد بن حصين [3] الطائى فأبى، وعرضوها على حرقوص فأبى، وعلى حمزة بن سنان وشريح   [1] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى (ن) : «فالله» . [2] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى (ن) : (أموركم) . [3] كذا جاء فى المخطوطة، وهذا الاسم يقال فيه «حصن» كما ذكره ابن حجر فى الإصابة، ويقال فيه «حصين» كما ذكره الطبرى وابن الأثير، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك الجزء: 20 ¦ الصفحة: 166 ابن أوفى العبسىّ فأبيا، وعرضوها على عبد الله بن وهب فقال: «هاتوها، أما والله لا آخذها رغبة فى الدنيا، ولا أدعها فرقا من الموت» فبايعوه لعشر خلون من شوال سنة سبع وثلاثين، وكان يقال: له ذو الثفنات [1] . ثم اجتمعوا فى منزل شريح بن أبى أوفى [2] العبسى، فقال ابن وهب: اشخصوا [3] بنا إلى بلدة نجتمع فيها لإنفاذ حكم الله فإنكم أهل الحق. قال شريح: «نخرج إلى المدائن، فننزلها، ونأخذ بأبوابها، ونخرج منها سكانها، ونبعث إلى إخواننا من أهل البصرة فيقدمون علينا» . فقال زيد بن حصن: «إنكم إن خرجتم مجتمعين تتبّعتم، ولكن اخرجوا وحدانا مستخفين، فأمّا المدائن فإن بها من يمنعكم، ولكن سيروا حتى تنزلوا من جسر [4] النهروان، وتكاتبوا إخوانكم من أهل البصرة» . قالوا: هذا الرأى. وكتب عبد الله بن وهب إلى من بالبصرة منهم يعلمهم ما اجتمعوا عليه، ويحثهم على اللّحاق بهم، وسير الكتاب إليهم، فأجابوا. قال: ولما غزم من بالكوفة من الخوارج على الخروج، تعبّدوا ليلتهم- وكانت ليلة الجمعة- ويوم الجمعة، وساروا يوم السبت، فخرج شريح بن أوفى العبسى وهو يتلو قول الله تعالى:   [1] كان عبد الله بن وهب قد أثر طول السجود فى ثفناته، والثفنات: جمع ثفنة. وهى الركبة.. وهناك من غير الخوارج «ذو الثفنات» زين العابدين على بن الحسين بن على وعلى بن عبد الله بن عباس. [2] كذا جاء فى النسخة (ك) وجاء فى النسخة (ن) : «شريح بن أوفى» . [3] اشخصوا: اذهبوا. [4] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وفى (ك) : «مر» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 167 فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ [1] قال: وخرج معهم طرفة بن عدى بن حاتم الطائى، فأتبعه أبوه ليرده فلم يقدر عليه، فانتهى إلى المدائن ثم رجع. وأرسل عدى إلى سعد بن مسعود عامل علىّ على المدائن يحذّره أمرهم، فحذر، وأخذ أبواب المدائن، وخرج فى الخيل، واستخلف بها ابن أخيه المختار بن أبى عبيد، وسار فى طلبهم فأخبر عبد الله ابن وهب خبره، فترك طريقه وسار على بغداد، ولحقهم سعد بن مسعود بالكرج فى خمسمائة فارس عند المساء، [فانصرف إليهم عبد الله فى ثلاثين فارسا، فاقتتلوا ساعة] [2] وامتنع القوم منهم، وقال أصحاب سعد لسعد. «ما تريد من قتال هؤلاء ولم يأتك فيهم أمر، خلّهم فليذهبوا، واكتب إلى أمير المؤمنين، فإن أمرك باتّباعهم فاتّبعهم، وإن كفاكهم غيرك كان فى ذلك عافية لك» فأبى عليهم، فلما جن عليهم الليل عبر عبد الله بن وهب دجلة إلى أرض جوخى [3] ، وسار إلى النهروان، فوصل إلى أصحابه وقد أيسوا منه. وسار جماعة من أهل الكوفة يريدون الخوارج ليكونوا معهم، فردهم أهلوهم كرها، منهم القعقاع بن قيس الطائى عم الطّرماح ابن حكيم، وعبد الله بن حكيم بن عبد الرحمن البكائى.   [1] الآيتان 21، 22 من سورة القصص. [2] سقطت هذه الجملة من النسخة (ك) ، وجاءت فى (ن) والكامل لابن الأثير ج 3 ص 170 وتاريخ ابن جرير ج 4 ص 56. [3] جوخى مقصور الآخر مع فتح الجيم أوضمها: نهر عليه كورة واسعة فى سواد بغداد. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 168 قال: ولما خرجت الخوارج من الكوفة أتى عليّا أصحابه وشيعته فبايعوه، وقالوا: نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت. فشرط لهم فيه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأمّا خوارج البصرة فإنهم اجتمعوا فى خمسمائة رجل، وجعلوا عليهم مسعر بن فدكى التميمى، فعلم بهم ابن عباس، فأتبعهم أبا الأسود الدّؤلى، فلحق بهم بالجسر الأكبر، فتواقفوا حتى حجز بينهم الليل، وأدلج [1] مسعر بأصحابه، وسار حتى لحق بعبد الله ابن وهب. قال: ولما خرجت الخوارج وهرب أبو موسى الأشعرى إلى مكة، وردّ علىّ ابن عباس رضى الله عنهما إلى البصرة، قام علىّ بالكوفة خطيبا فقال: «الحمد لله وإن أتى الدهر بالخطب الفادح والحدثان الجليل، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، أمّا بعد، فإن المعصية تورث الحسرة، وتعقب الندم، وقد كنت أمرتكم فى هذين الرجلين وفى هذه الحكومة أمرى، ونحلتكم [2] رأيى، لو كان لقصير [3] أمر، ولكن أبيتم إلا ما أردتم، فكنت أنا وأنتم كما قال أخو هوازان [4] : أمرتهمو أمرى بمنعرج اللّوى [5] ... فلم يستبينوا الرّشيد إلا ضحى الغد   [1] أدلج: سار بالليل. [2] نحلتكم: اعطيتكم. [3] هو قصير بن سعد صاحب جذيمة الأبرش، وله قصة مع الزباء ذات أمثال، والمثل المراد هنا: «لا يطاع لقصر أمر» . [4] أخو هوازن هو دريد بن الصمة، والبيت من قصيدته الدالية الطويلة التى رثى بها أخاه عبد الله، وقد سبق ذكر دريد وقصيدته. [5] منعرج اللوى: منعطف الرمل. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 169 ألا إن هذين الرجلين اللذين اخترتموهما حكمين، قد نبذا حكم القرآن وراء ظهورهما، وأحييا ما أمات القرآن، واتبع كلّ واحد منهما هواه بغير هدى من الله، فحكما بغير حجّة بينة ولا سنّة ماضية، واختلفا فى حكمهما وكلاهما لم يرشد، فبرئ الله منهما ورسوله وصالح [1] المؤمنين، استعدّوا وتأهبّوا للمسير إلى الشام، وأصبحوا فى معسكركم إن شاء الله يوم الاثنين» . ثم نزل. وكتب إلى الخوارج بالنّهروان: «بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله علىّ أمير المؤمنين إلى زيد بن حصن وعبد الله بن وهب ومن معهما من الناس، أمّا بعد فإن الرجلين اللذين ارتضينا حكمين قد خالفا كتاب الله تعالى، واتّبعا أهواءهما بغير هدى من الله، فلم يعملا بالسنّة، ولم ينفذا للقرآن حكما، فبرئ الله منهما ورسوله والمؤمنون، فإذا بلغكم كتابى هذا فأقبلوا إلينا، فإنا سائرون إلى عدوّنا وعدوّكم، ونحن على الأمر الأول الذى كنّا عليه» . فكتبوا إليه: «أمّا بعد فإنك لم تغضب لربّك، وإنما غضبت لنفسك، فإن شهدت على نفسك بالكفر واستقبلت التوبة، نظرنا فيما بينا وبينك، وإلّا فقد نابذناك على سواء إن الله لا يحبّ الخائنين» . فلما قرأ كتابهم أيس منهم، ورأى أن يدعهم ويمضى بالناس [حتّى يناجز أهل الشام] [2] فقام فى أهل الكوفة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أمّا بعد فإنه من ترك الجهاد فى الله وداهن فى أمره كان   [1] كذا جاء فى النسخة (ك) . وجاء فى (ن) : «وصالحو» . [2] ثبتت هذه العبارة فى النسخة (ن) وسقطت من (ك) . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 170 على شفاهلكة، إلا أن يتداركه الله بنعمته، فاتقوا الله تعالى، وقاتلوا من حادّ الله، وحاول أن يطفئ نور الله، وقاتلوا الخاطئين الضالين القاسطين، الذين ليسوا بقرّاء القرآن ولا فقهاء فى الدين، ولا علماء بالتأويل، ولا لهذا الأمر بأهل فى سابقة الإسلام، والله لو ولّوا عليكم لعملوا فيكم بأعمال كسرى وهرقل، تيسّروا [1] للمسير إلى عدوّكم من أهل المغرب، وقد بعثنا إلى إخوانكم من أهل البصرة ليقدموا عليكم، فإذا اجتمعتم شخصنا إن شاء الله تعالى، ولا حول ولا قوة إلا بالله» . وكتب إلى ابن عباس رضى الله عنه: «أمّا بعد فإنا خرجنا إلى معسكرنا بالنّخيلة، وقد أجمعنا على المسير إلى عدوّنا من أهل المغرب، فاشخص إلى الناس حتى يأتيك رسولى، وأقم حتى يأتيك أمرى، والسلام عليك» . فقرأ ابن عباس الكتاب على الناس، وندبهم مع الأحنف ابن قيس، فشخص ألف وخمسمائة، فخطبهم [2] وقال: «يا أهل البصرة، أتانى كتاب أمير المؤمنين، فأمرتكم بالنفير [3] إليه، فلم يشخص منكم إلا ألف وخمسمائة، وانتم ستون ألف مقاتل سوى أبنائكم وعبيدكم. ألا انفروا مع جارية [4] بن قدامة السعدىّ، ولا يجعلن رجل على نفسه سبيلا، فإنّى موقع بكلّ من وجدته متخلفا   [1] تيسروا: تهيئوا. [2] ذكر ابن جرير فى روايته لسبب الخطبة ج 4 ص 58 أن ابن عباس استقلهم، أى رآهم قليلا. [3] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وفى (ن) : «بالنفر» . [4] وقع فى المخطوطة «حارثة» بالحاء المهملة، والصواب «جارية» كما نص عليه بالجيم ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 113، 181، 183 وله ترجمة فى حرف الجيم من من الاستيعاب ج 1 ص 245 وأسد الغابة ج 1 ص 263 والإصابة ج 1 ص 218. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 171 عن دعوته، عاصيا لإمامه، فلا يلومن رجل إلا نفسه» . فخرج جارية واجتمع إليه ألف وسبعمائة، فوافوا عليّا وهم ثلاثة آلاف ومائتان. فجمع على رضى الله عنه رءوس أهل الكوفة ورءوس الأسباع [1] ووجوه الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «يا أهل الكوفة، أنتم إخوانى وأنصارى وأعوانى على الحق، وأصحابى إلى جهاد المخلين [2] ، بكم أضرب المدبر، وأرجو تمام طاعة المقبل، وقد استنفرت أهل البصرة، فأتانى منهم ثلاثة آلاف ومائتان، فليكتب لى رئيس كلّ قبيلة ما فى عشيرته من المقاتلة [وأبناء المقاتلة] [3] الذين أدركو القتال، وعبدان عشيرته ومواليهم، ويرفع ذلك إلينا. فقام إليه سعيد بن قيس الهمدانى فقال: يا أمير المؤمنين، سمعا وطاعة، أنا أول الناس أجاوب بما طلبت. وقام معقل بن قيس، وعدىّ بن حاتم، وزياد بن خصفة، وحجر بن عدّى، وأشراف الناس والقبائل، فقالوا متل ذلك، وكتبوا له ما طلب، وأمروا أبناءهم وعبيدهم [ومواليهم] [4] أن يخرجوا معهم، فرفعوا له أربعين ألف مقاتل وسبعة عشر ألفا من الأبناء ممن أدرك، وثمانية آلاف من مواليهم وعبيدهم، فكان جميع أهل الكوفة خمسة وستين ألفا، سوى أهل البصرة وهم ثلاثة آلاف ومائتا رجل.   [1] قال ابن أبى الحديد ج 1 ص 181: «وكانت الكوفة يومئذ أسباعا» وأسباع جمع سبع بضم السين، وقد مضت الإشارة إلى هذا فيما سبق. [2] (المخلين) جاء بالخاء المعجمة فى (ك) ، وبالحاء المهملة فى (ن) ، وقد سبقت الإشارة إلى مثل هذا. [3] ثبتت هذه العبارة فى (ن) . وسقطت من (ك) . [4] الزيادة من ابن جرير الطبرى، ويأتى ما يناسبها. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 172 وكتب إلى سعد بن مسعود بالمدائن يأمره بإرسال من عنده من المقاتلة، وبلغ عليا رضى الله عنه أن الناس يقولون: «لو ساربنا إلى قتال هذه الحرورية فإذا فرغنا منهم توجهنا إلى قتال المخلين» . فقال لهم: «بلغنى أنكم قلتم كيت وكيت! وإن غير هؤلاء الخارجين أهمّ إلينا، فدعوا ذكرهم، وسيروا إلى قوم يقاتلونكم، كيما [1] يكونوا جبّارين ملوكا، ويتخذوا عباد الله خولا» .. فناداه الناس أن سربنا يا أمير المؤمنين حيث أحببت. وقام إليه صيفى بن نشيل [2] الشيبانىّ فقال: «يا أمير المؤمنين، نحن حزبك وأنصارك، نعادى من عاداك، ونشايع من أناب إلى طاعتك، فسربنا إلى عدوك من كانوا وأينما كانوا، فإنك إن شاء الله لن تؤتى من قلة عدد، ولا ضعف نية أتباع» . وقام إليه محرز بن شهاب التميمىّ فقال: «يا أمير المؤمنين، إن قلب شيعتك كقلب رجل واحد فى الاجتماع على نصرتك، والجد فى جهاد عدوّك، فأبشر بالنصر، وسربنا إلى أىّ الفريقين أحببت، فإنّا شيعتك الذين نرجو فى طاعتك وجهاد من خالفك صالح الثواب، ونخاف فى خذلانك والتخلف عنك شدة الوبال» .. وأجمع على المسير [علىّ] [3] إلى الشام، فشغله عن ذلك أمر الخرارج وقتالهم على ما نذكره.   [1] كذا جاء فى النسخة (ن) ، ووقع فى النسخة فى (ك) : «كما» . [2] كذا جاء فى المخطوطة، وعند الطبرى: «فسيل» . [3] ثبتت هذه الكلمة فى النسخة (ن) ، وسقطت من (ك) . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 173 ذكر قتال الخوارج قيل: كان سبب ذلك أن الخوارج من البصرة لما دنوا من من النهروان رأوا رجلا يسوق بامرأة على حمار، فدعوه وانتهروه فأفزعوه، وقالوا له: من أنت؟ قال: أنا عبد الله بن خبّاب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالوا له: أفزعناك! قال: نعم قالوا لا روع عليك، حدّثنا عن أبيك حديثا سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم تنفعنا به، فقال: حدثنى أبى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: تكون فتنة يموت فيها قلب الرجل كما يموت فيها بدنه، يمسى فيها مؤمنا ويصبح كافرا، ويصبح مؤمنا ويمسى كافرا ، قالوا: لهذا الحديث سألناك، فما تقول فى أبى بكر وعمر؟ فأثنى عليهما خيرا. فقالوا: ما تقول فى عثمان فى أوّل خلافته وفى آخرها؟ قال: إنه كان محقّا فى أولها وآخرها، قالوا: فما تقول فى علىّ قبل التحكيم وبعده؟ قال: أقول إنه أعلم بالله منكم، وأشدّ توقّيا على دينه، وأنفذ بصيرة. قالوا: إنك تتبع الهوى وتوالى الرجال على أسمائها لا على أفعالها، والله لنقتلنك قتلة ما قتلناها أحدا، فأخذوه وكتفوه، ثم أقبلوا بامرأته وهى حبلى متمّ [1] حتى نزلوا تحت نخل مواقر، فسقطت رطبة، فأخذها أحدهم فتركها فى فيه، فقال له آخر: أخذتها بغير حلها وبغير ثمن. فألقاها، ثم مر بهم خنزير لأهل الذمة، فضربه أحدهم بسيفه، فقالوا له: هذا فساد فى الأرض. فلقى صاحب الخنزير فأرضاه. فلما رأى عبد الله   [1] حبل متم: قريبة الوضع. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 174 ابن خبّاب ذلك منهم قال: «إن كنتم صادقين فيما أرى فما على منكم من بأس، إنّى مسلم ما أحدثت فى الإسلام حدثا، ولقد أمنتمونى، فقلتم: لا روع عليك» فأضجعوه فذبحوه، وأقبلوا إلى المرأة فقالت: أنا امرأة، ألا تتقون الله. فبقروا بطنها وقتلوا ثلاث نسوة من طيىء، وقتلوا أمّ سنان الصيداوية. فلما بلغ عليّا رضى الله عنه ذلك بعث إليهم الحارث بن مرّة العبدىّ ليأتيهم، وينظر ما بلغه عنهم، ويكتب به إليه، فلما دنا منهم يسألهم قتلوه. وأتى الخبر إلى على، فقال له الناس: «يا أمير المؤمنين علام ندع هؤلاء وراءنا يخلفوننا فى عيالنا وأموالنا! سر بنا إلى القوم فإذا فرغنا منهم سرنا إلى عدوّنا من أهل الشام» . فأجمع علىّ رضى الله عنه على ذلك، وخرج وسار إليهم. فأرسل إليهم أن ادفعوا إلينا قتلة إخواننا منكم أقتلهم بهم، ثم أنا تارككم وكافّ عنكم حتّى ألقى أهل المغرب، فلعل الله يقبل قلوبكم [1] ، ويردّكم إلى خير مما أنتم عليه [من أمركم] [2] فقالوا: كلّنا قتلهم، وكلّنا مستحلّ لدمائكم ودمائهم. فراسلهم مرة بعد أخرى. وخرج إليهم قيس بن سعد بن عبادة، فكلّمهم ونصحهم، وأشار عليهم بالمراجعة والدخول فيما خرجوا منه، فأبوا. وخطبهم أبو أيوب الأنصارى رضى الله عنه وحذّرهم تعجيل الفتنة. وأتاهم علىّ رضى الله عنه فكلّمهم ووعظهم وذكرهم. فتنادوا: «لا تخاطبوهم   [1] كذا جاء فى المخطوطة، مثل الكامل لابن الأثير، وجاء فى ابن جرير الطبرى «يقلب قلوبكم» . [2] ثبتت هذه العبارة فى النسخة (ن) . وسقطت من (ك) . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 175 ولا تكلمّوهم، وتهيئوا للقاء الله، الرواح الرواح إلى الجنة» . فعاد علىّ عنهم. ثم إن الخوارج قصدوا الجسر، فقال أصحاب علىّ له: إنهم عبروا النهر، فقال: لن يعبروه، فأرسلوا طليعة، فعاد. وأخبر [1] أنهم عبروا النهر، وكان بينهم وبينه عطفة من النهر، فلخوف الطليعة منهم لم يقربهم فعاد، فقال: قد عبروا النهر. فقال علىّ رضى الله عنه: «والله ما عبروه، وإن مصارعهم لدون الجسر، وو الله لا يقتل منكم عشرة، ولا يسلم منهم عشرة» . وتقدم علىّ إليهم فرآهم عند الجسر لم يعبروه، وكان الناس قد شكّوا فى قوله وارتاب به بعضهم، فلما رأوهم لم يعبروا كبّروا وأخبروا عليّا رضى الله عنه بحالهم، فقال والله ما كذبت ولا كذبت. ثم عبّأ أصحابه، فجعل على ميمنته حجر بن عدىّ، وعلى ميسرته شبث بن ربعىّ أو معقل بن قيس الرّياحى، وعلى الخيل أبا أيوب الأنصارى رضى الله عنه، وعلى الرّجالة أبا قتادة الأنصارىّ رضى الله عنه، وعلى أهل المدينة- وهم سبعمائة أو ثمانمائة. قيس بن سعد ابن عبادة رضى الله عنه. وعبأت الخوارج فجعلوا على ميمنتهم زيد بن حصن الطائى، وعلى الميسرة شريح بن أبى أوفى العبسىّ، وعلى خيلهم حمزة بن سنان الأسدىّ، وعلى رجّالتهم حرقوص بن زهير السّعدىّ. وأعطى علىّ رضى الله عنه أبا أيّوب الأنصارىّ راية أمان، فناداهم   [1] كذا جاء فى النسخة (ن) وهو المناسب لما يأتى بعده، وفى النسخة (ك) : «فعادوا وأخبروا» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 176 أبو أيوب فقال: «من جاء هذه الراية فهو آمن ممّن لم يقتل ولم يتعرض، ومن انصرف منكم إلى الكوفة أو إلى المدائن وخرج من هذه الجماعة فهو آمن، لا حاجة لنا بعد أن نصيب قتلة إخواننا منكم فى سفك دمائكم» . فقال فروة بن نوفل الأشجعىّ: «والله ما أدرى على أى شىء نقاتل عليا؟: أرى أن أنصرف حتى تتضح لى بصيرتى فى قتاله، أو أتابعه» . فانصرف فى خمسمائة فارس، حتى نزل البندنيجين [1] والدّسكرة، وخرجت طائفة أخرى متفرقين فنزلوا الكوفة. وخرج إلى علىّ رضى الله عنه نحو مائة، وكان الخوارج فى أربعة آلاف؛ فبقى مع عبد الله بن وهب ألف وثمانمائة، فزحفوا إلى علىّ رضى الله عنه وكان قد قال لأصحابه: كفّوا عنهم حتى يبدءوكم. فتنادوا. الرواح إلى الجنة. فحملوا على الناس فافترقت خيل علىّ فرقتين، فرقة نحو الميمنة، وفرقة نحو الميسرة،، فاستقبلت الرماة وجوههم بالنبل، وعطفت عليهم الخيل من الميمنة والميسرة، ونهض إليهم الرجال بالرماح والسّيوف فما لبثوا أن أناموهم، فلما رأى حمزة بن سنان الهلاك نادى أصحابه أن انزلوا، فذهبوا لينزلوا فلم يلبثوا حتى حمل عليهم الأسود بن قيس، وجاءتهم الخيل من نحو علىّ فأهلكوا فى ساعة، فكأنّما قيل لهم موتوا فماتوا. قال: وأخذ علىّ ما فى عسكرهم من شىء، فأما السّلاح والدّواب   [1] كذا جاء عند الطبرى وابن الأثير وياقوت وغيرهم. قال ياقوت: هى بلدة مشهورة فى طرف النهروان من ناحية الجبل. وفى المخطوطة: «البندجين» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 177 وما شهر [1] عليه فقسمه بين المسلمين، وأما المتاع والعبيد والإماء فإنه ردّه على أهله حين قدم. وطاف عدىّ بن حاتم فى القتلى على ابنه طرفة، فدفنه، ودفن رجال قتلاهم، فقال علىّ حين بلغه ذلك تقتلونهم ثم تدفنونهم! ارتحلوا. فارتحل الناس ولم يقتل من أصحاب علىّ إلا سبعة؛ منهم يزيد بن نوبرة وله صحبة [2] وسابقة. وهؤلاء الخوارج هم الذين ورد فى أمرهم فى الصحيح [الحديث] [3] عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن قوما يخرجون يمرقون من الدّين كما يمرق السّهم من الرّميّة [4] علامتهم رجل مخدج اليد [5] » فالتمسه علىّ فى القتلى فوجده، فنظر فى عضده فإذا لحم مجتمع كثدى المرأة، وحلمة عليها شعرات سود، فإذا مدّت امتدت حتى تحاذى يده الطّولى، ثم تترك فتعود إلى منكبه. وكان علىّ رضى الله عنه يحدّث الناس بهذا الحديث قبل وقعة الخوارج [6] .   [1] كذا جاء فى المخطوطة، مثل ما فى الكامل لابن الأثير، وجاء فى تاريخ الطبرى «وما شهدوا به عليه الحرب» . [2] انظر الاستيعاب ج 3 ص 655 وأسد الغابة ج 5 ص 122 والإصابة ج 3 ص 664. [3] ثبتت هذه الكلمة فى النسخة (ن) وسقطت من (ك) . [4] أى يجوزونه ويخرقونه ويتعدونه كما يخرق السهم الشىء المرمى به ويخرج منه. [5] مخدج اليد: ناقص اليد. [6] انظر فى صحيح البخارى «كتاب استتابة المرتدين» ومن أبوابه «باب قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم» و «باب من ترك قتال الخوارج للتألف وأن ينفر الناس عنه» وقد روى بسنده عن على رضى الله عنه الحديث «سيخرج قوم.» وروى أيضا بسنده عن أبى سلمة وعطاء بن يسار أنهما «أتيا أبا سعيد الخدرى فسألاه عن الحرورية: أسمعت النبى صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا أدرى ما الحرورية؟ سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول: يخرج فى هذه الأمة- ولم يقل: منها- قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم يقرءون القرآن لا يجاوز حلوقهم أو حناجرهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية» وروى أيضا بسنده عن أبى سلمة عن أبى سعيد قال ( ... آيتهم رجل إحدى يديه أو قال ثدييه مثل ثدى المرأة أو قال مثل البضعة تدردر، يخرجون على حين فرقة من الناس قال أبو سعيد: أشهد أنى سمعت من النبى صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن عليا قتلهم وأنا معه، جىء بالرجل على النعت الذى نعته النبى صلى الله عليه وسلم» وانظر حديث (ذى الثدية) عند ابن أبى الحديد ج 1 ص 202- 205 وانظر فى النهاية ولسان العرب شرحه فى المواد: خ د ج، ود ن، ث د ن، ث د ى، م ر ق، ر م ى، د ر د ر. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 178 وقيل كانت هذه الوقعة فى سنة ثمان وثلاثين. قال: ولمّا فرغ علىّ رضى الله عنه من هذه الوقعة حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إنّ الله قد أحسن بكم، وأعزّ نصركم، فتوجهوا من فوركم هذا إلى عدوّكم. قالوا: «يا أمير المؤمنين، نفدت سهامنا، وكلّت سيوفنا، ونصلت [1] أسنة رماحنا وعاد أكثرها قصدا [2] ، فارجع إلى مصرنا. فلنستعدّ [بأحسن عدّتنا] [3] ولعل أمير المؤمنين يزيد فى عدّتنا فإنه أقوى لنا على عدوّنا» . وكان الذى تولّى كلامه الأشعث بن قيس، فأقبل حتّى نزل النّخيلة، فأمر الناس أن يلزموا عسكرهم، ويوطّنوا على الجهاد لعدوهم أنفسهم، وأن يقلوا زيارة أبنائهم ونسائهم حتّى يسيروا إلى عدوّهم. فأقاموا فيه أياما ثم تسللوا من معسكرهم، فدخلوا إلّا رجالا من وجوه الناس وترك العسكر خاليا. فلما رأى علىّ ذلك دخل الكوفة، وانكسر عليه رأيه فى المسير. وخطبهم مرة بعد أخرى، وحثّهم على الخروج إلى الشام فلم يتهيأ له ذلك. وحيث   [1] فصلت: خرجت. [2] قصدا: قطعا. [3] الزيادة من رواية ابن جرير الطبرى. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 179 ذكرنا أخبار الخوارج فلنذكر أخبار من خرج بعد أصحاب النّهروان. والله الموفق للصواب. ذكر أخبار من خرج بعد أصحاب النهروان قال: ولما قتل أهل النّهروان خرج أشرس بن عوف الشّيبانىّ على علىّ رضى الله عنه بالدّسكرة فى مائتين، ثم سار إلى الأنبار فوجه إليه علىّ رضى الله عنه الأبرش بن حسان فى ثلاثمائة فواقعه، فقتل الأشرس فى شهر ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين. ثم خرج هلال بن علقمة [1] من تيم الرباب ومعه أخوه مجالد، فأتى ماسبذان، فوجه إليه علىّ معقل بن قيس الرّياحىّ فقتله وقتل أصحابه وهم أكثر من مائتين، وكان قتلهم فى جمادى الأولى منها. ثم خرج الأشهب بن بشر، وقيل الأشعث، وهو من بجيلة فى مائة وثمانين رجلا، فأتى المعركة التى أصيب فيها هلال وأصحابه فصلّى عليهم، ودفن من قدر عليه منهم، فوجه علىّ إليه جارية بن قدامة السّعدىّ، وقيل حجر بن عدى؛ فاقتتلوا بجرجرايا [2] من أرض جوخى فقتل الأشهب وأصحابه فى جمادى الآخرة منها. ثم خرج سعيد بن قفل التيمىّ من تيم الله بن ثعلبة فى شهر رجب بالبندنيجين ومعه مائتا رجل، فأتى درزيجان [3] وهى من المدائن   [1] ابن الأثير: «الكامل ح 3 ص 183. [2] جرجرايا: بلد من أعمال النيهووان الأسفل، بين واسط وبغداد من الجانب الشرق. [3] هكذا جاءت الكلمة فى معجم البلدان لياقوت، وقد وردت هذه الكلمة فى النسخة (ن) غير منقوطة الرابع والخامس، وفى (ك) جعلا تاء فجيما، وعند ابن الأثير جعلا نونا فجيما. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 180 على فرسخين، فخرج إليهم مجيعد بن [1] مسعود فقتلهم فى الشهر المذكور. ثم خرج أبو مريم السّعدىّ التميمىّ فأتى شهر ذور وأكثر من معه من الموالى. وقيل: لم يكن معه من العرب غير خمسة نفر، واجتمع معه مائتا رجل، وقيل: أربعمائة. وجاء حتّى نزل على خمسة فراسخ من الكوفة، فأرسل علىّ إليه يدعوه إلى بيعته ودخول الكوفة، فلم يفعل، وقال: ليس بيننا غير الحرب، فبعث إليه شريح بن هانئ فى سبعمائة، فحمل الخوارج على شريح وأصحابه فانكشفوا وبقى شريح فى مائتين، فانحاز إلى قرية فرجع إليه بعض أصحابه، ودخل الباقون الكوفة، فخرج علىّ بنفسه، وقدّم بين يديه جارية بن قدامة السّعدىّ، فدعاهم جارية إلى طاعة علىّ وحذّرهم القتل، فلم يجيبوا، ودعاهم علىّ أيضا فأبوا عليه، فقتلهم أصحاب علىّ ولم يسلم منهم غير خمسين رجلا استأمنوا فأمّنهم. وكان فى الخوارج أربعون رجلا [جرحى] [2] فأمر علىّ بإدخالهم الكوفة ومداواتهم حتى برئوا. وكان قتلهم فى شهر رمضان المعظم سنة ثمان وثلاثين.   [1] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى الكامل لابن الأثير ج 3 ص 188: «سعد بن مسعود» وقد سبق فى هذا الجزء أنه كان «على سبع قيس سعد بن مسعود الثقفى» . [2] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وفى (ن) : (فتراجع) . [3] ثبتت هذه الكلمة فى النسخة (ن) ، وسقطت من (ك) . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 181 ذكر خلاف الخريت بن راشد التميمى وبنى ناجية على علىّ رضى الله عنه وما كان من أمرهم قال [1] وفى سنة ثمان وثلاثين أظهر الخرّيت بن راشد الناجى الخلاف على علىّ رضى الله عنه، وكان قد شهد مع علىّ الجمل وصفّين فى ثلاثمائة من بنى ناجية خرجوا إليه من البصرة، وأقاموا معه بالكوفة إلى هذه السنة، فجاء إلى علىّ فى ثلاثين راكبا، فقال له: «يا على والله لا أطيع لك أمرا، ولا أصلّى خلفك، وإنى غدا مفارق لك» . فقال له على: «ثكلتك أمّك! إذا تعصى ربّك، وتنكث عهدك، ولا تضر إلا نفسك؛ خبرنى لم تفعل ذلك؟» قال: «إنك حكّمت الرّجال، وضعفت عن الحق، وركنت إلى القوم الذين ظلموا، فأنا عليك زار وعليهم ناقم، ولكم جميعا مباين» . فقال له علىّ: «هلمّ أدارسك الكتاب، وأناظرك فى السّنن، وأفاتحك أمورا أنا أعلم بها منك، فلعلك تعرف ما أنت له الآن منكر» . قال: فإنى عائد إليك. قال: «لا تستهوينّك الشياطين، ولا يستخفنك الجهّال، والله لئن استرشدتنى وقبلت منى لأهدينك سبيل الرّشاد» . فخرج من عنده منصرفا إلى أهله، وسار من ليلته هو وأصحابه. فقال زياد بن خصفة البكرىّ: «يا أمير المؤمنين، إنه لم يعظم علينا فقدهم فنأسى عليهم، إنهم قلما يزيدون فى عددنا لو أقاموا، ولقلما ينقصون من عددنا بخروجهم عنا، ولكنا نخاف أن يفسدوا علينا جماعة   [1] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 183. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 182 كثيرة ممن يقدمون عليه [1] من أهل طاعتك، فأذن لى فى اتباعهم حتى أردّهم عليك» . فقال: تدرى أين توجهوا؟ قال: لا، ولكنى أسأل وأتبع الأثر، فقال له: اخرج يرحمك الله، وأنزل دير أبى موسى، وأقم حتى يأتيك أمرى. فخرج زياد فأتى داره وجمع أصحابه من بكر وائل، وأعلمهم الخبر فسار [معه] [2] منهم مائة وثلاثون رجلا. فقال: حسبى. ثم سار فأتى دير أبى موسى فنزله ينتظر أمر على. وأتى عليا كتاب من قرظة بن كعب الأنصارىّ يخبره أنهم توجهوا نحو، نفّر [3] ، وأنهم قتلوا رجلا من الدّهاقين، كان قد أسلم، فأرسل علىّ رضى الله عنه إلى زياد يأمره باتباعهم ويخبره خبرهم، وأنهم قتلوا رجلا مسلما، ويأمره بردّهم إليه، فإن أبوا يناجزهم. وسيّر الكتاب مع عبد الله بن وأل، فاستأذنه فى المسير مع زياد، فأذن له، وسار بالكتاب إلى زياد. وساروا حتى أتوا نفّر، فقيل: إنهم ساروا نحو جرجرايا، فتبعوا آثارهم حتى أدركوهم بالمذاد [4] وهم نزول، قد أقاموا يومهم وليلتهم واستراحوا، فأتاهم زياد وقد تقطع أصحابه وتعبوا، فلما رأوهم ركبوا خيولهم، وقال لهم الخرّيت: أخبرونى ما تريدون؟ فقال له زياد- وكان مجربا رفيقا-: «قد ترى ما بنا من التعب، والذى جئناك   [1] كذا جاء فى المخطوطة، مثل ما فى تاريخ ابن جرير الطبرى ج 4 ص 88، وجاء فى الكامل لابن الأثير ج 3 ص 183: «عليك» . [2] ثبتت هذه الكلمة فى النسخة (ن) وسقطت من (ك) [3] نفر: قرية بالعراق. [4] المذار: بلد بالعراق. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 183 له لا يصلحه الكلام علانية، ولكن ننزل ثم نخلو جميعا، فنتذاكر أمرنا، فإن رأيت ما جئناك به حظا لنفسك قبلته، وإن رأينا فيما نسمع منك أمرا نرجو فيه العافية لم نرده عليك» . قال: فانزل. فنزل زياد ومن معه على ماء هناك، فأكلوا شيئا وعلفوا دوابهم، ووقف زياد فى خمسة فوارس بين أصحابه وبين القوم وقال: إنّ عدّتنا كعدّتهم، وأرى أمرنا يصير إلى القتال فلا تكونوا أعجز الفريقين. وخرج زياد إلى الخرّيت، فسمعهم يقولون: جاءنا القوم وهم كالّون تعبون فتركناهم حتّى استراحوا، هذا والله سوء الرأى. فدعاه زياد وقال: ما الذى نقمته [1] على أمير المؤمنين وعلينا حتّى فارقتنا؟» فقال: «لم أرض صاحبكم إماما، ولا سيرتكم سيرة، فرأيت أن أعتزل وأكون مع من يدعو إلى الشّورى» . فقال له زياد: «وهل يجتمع الناس على رجل يدانى صاحبك الذى فارقته علما بالله وسنّته وكتابه. مع قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وسابقته فى الإسلام» ؟ فقال [له] [2] : «ذلك ما قال لك» . فقال له زياد: ففيم قتلت ذلك الرجل المسلم؟ قال: ما أنا قتلته إنما قتله (طائفة من) [3] أصحابى. قال: فادفعهم إلينا. قال: ما إلى ذلك سبيل. فدعا زياد أصحابه، ودعا الخرّيت أصحابه، فاقتتلوا قتالا شديدا، فتطاعنوا بالرماح حتّى لم يبق رمح، وتضاربوا بالسيوف، حتى انحنت، وعقرت عامّة خيولهم، وكثرت الجراحة فيهم، وقتل من أصحاب   [1] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وفى (ن) : «نقمت» . [2] ثبتت الكلمة فى (ن) وسقطت من (ك) . [3] ثبتت هذه العبارة فى النسخة (ن) وسقطت من (ك) . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 184 زياد رجلان، ومن أولئك خمسة، وجاء الليل فحجز بينهم، وقد كره بعضهم بعضا، وجرح زياد. فسار الخرّيت من الليل، وسار زياد إلى البصرة. وأتاهم خبر الخرّيت أنه أتى الأهواز فنزل بجانب منها، وتلاحق به ناس من أصحابه فصاروا نحو مائتين، وكتب زياد إلى علىّ رضى الله عنه بخبرهم، وأنه مقيم يداوى الجرحى وينتظر أمره. فلما قرأ على كتابه قام معقل بن قيس فقال: «يا أمير المؤمنين، كان ينبغى أن يكون مع من يطلب هؤلاء مكان كل واحد عشرة، فإذا لحقوهم استأصلوهم وقطعوا دابرهم، فأما أن يلقاهم عددهم فلعمرى ليصبرنّ لهم، فإن العدّة تصبر للعدة» . فقال على تجهز يا معقل إليهم، وندب معه ألفين من أهل الكوفة منهم يزيد بن معقل [1] الأزدى وكتب على إلى ابن عباس يأمره أن يبعث من أهل البصرة رجلا شجاعا معروفا بالصلاح فى ألفى رجل إلى معقل، وهو أمير أصحابه حتّى يأتى معقلا، فإذا لقيه كان معقل الأمير، وكتب إلى زياد بن خصفة يشكره ويأمره بالعود. قال: واجتمع على الخرّيت علوج كثير من أهل الأهواز أرادوا كسر الخراج، ولصوص وطائفة أخرى من العرب ترى رأيه، وطمع أهل الخراج [فى كسره] [2] ، فكسروه، وأخرجوا سهل بن حنيف من فارس   [1] كذا جاء فى المخطوطة: وجاء فى تاريخ ابن جرير الطبرى ج 4 ص 93: «المغفل» بالغين المعجمة والفاء، وانظر ما يأتى. [2] الزيادة من الكامل لابن الأثير ج 3 ص 185. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 185 (وكان عاملا لعلىّ فى قول من يزعم أنه لم يمت فى سنة سبع وثلاثين) . فقال ابن عبّاس لعلىّ: أنا أكفيك فارس بزياد؛ يعنى ابن أبيه، فأمره بإرساله إليها، فأرسله فى جمع كثير، فوطىء بلاد فارس، فأدّوا الخراج واستقاموا. قال: وسار معقل بن قيس، وقدم الأهواز، وأقام ينتظر مدد البصرة، فأبطئوا عليه، فسار يطلب الخرّيت، فلم يسر يوما حتى أدركه المدد مع خالد بن معدان الطائى، فساروا جميعا فلحقوهم بقرب جبل من جبال رامهرمز، فصفّ معقل أصحابه، فجعل على ميمنته يزيد بن المغفل [1] ، وعلى ميسرته منجاب بن راشد الضّبىّ من أهل البصرة. وصفّ الخرّيت أصحابه، فجعل من معه من العرب ميمنة، ومن معه من أهل البلد والعلوج [2] ميسرة ومعهم الأكراد، فحرّك معقل دابّته [3] مرتين، ثم حمل فى الثالثة، فصبروا له ساعة ثم انهزموا، فقتل أصحاب معقل منهم سبعين من بنى ناجية ومن معهم من العرب، وقتلوا نحوا من ثلاثمائة من العلوج والأكراد. وانهزم الخرّيت فلحق بأسياف البحر وبها جماعة كبيرة من قومه، فما زال يسير فيهم ويدعوهم إلى خلاف علىّ، ويخبرهم أن الهدى فى حربه، حتى ابتعه منهم ناس كثير. وأقام معقل بأرض الأهواز، وكتب إلى علىّ رضى الله عنه بالفتح فقرأ علىّ الكتاب على أصحابه واستشارهم، فقالوا كلهم: نرى   [1] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وفى النسخة (ن) : «معقل» ، وانظر ما سبق. [2] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وفى (ن) : «العلوج» دون واو قبلها. [3] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى الكامل: «رأسه» ، وفى تاريخ الطبرى «رايته» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 186 أن تأمر معقلا يتبع آثار الفاسق حتّى يقتله أو ينفيه، فإنّا لا نأمن أن يفسد عليك الناس. فكتب إلى معقل يثنى عليه وعلى من معه، ويأمره باتباعه وقتله أو نفيه. فسأل معقل عنه فأخبر بمكانه بالأسياف، وأنه قد ردّ قومه عن طاعة علىّ وأفسد من عنده من عبد القيس وسائر العرب. وكان قومه قد منعوا الصّدقة عام صفّين وذلك العام، فسار إليهم معقل وأخذ على فارس فانتهى إلى أسياف البحر، فلما سمع الخرّيت بمسيره قال لمن معه من الخوارج: أنا على رأيكم وإن عليّا لم ينبغ له أن يحكّم. وقال للآخرين من أصحابه: إنّ عليّا حكّم ورضى فخلعه حكمه الذى ارتضاه. وقال سرّا للعثمانية. أنا والله على رأيكم، قد والله قتل عثمان مظلوما. فأرضى كلّ صنف منهم. وقال لمن منع الصدقة: شدّوا أيديكم على صدقاتكم، وصلوا بها أرحامكم، وكان فيها نصارى كثير قد أسلموا؛ فلما اختلف الناس قالوا: والله لديننا الذى خرجنا منه خير من دين هؤلاء الذى لا ينهاهم دينهم عن سفك الدماء، فقال لهم الخرّيت، ويلكم [1] ، لا ينجيكم من القتل إلا قتال هؤلاء القوم والصبر، فإنّ حكمهم فيمن أسلم ثم ارتد أن يقتل ولا يقبلون منه توبة ولا عذرا. فخدعهم وجمعهم وأتاهم من كان من بنى ناجية وغيرهم خلق كثير. فلما انتهى معقل إليه نصب راية أمان؛ وقال: «من أتاها من الناس فهو آمن إلّا الخرّيت وأصحابه الذين حاربونا أول مرة» . فتفرق عن الخرّيت جل من كان معه من غير قومه. وعبّأ معقل   [1] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وفى (ن) : «ويحكم» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 187 أصحابه، وزحف بهم نحو الخرّيت ومعه أصحابه مسلمهم ونصرانيهم ومانع الزكاة منهم، وحرّض كلّ واحد منهما أصحابه، ثم حمل معقل ومن معه فقاتلوا قتالا شديدا وصبروا، ثم إن النّعمان بن صهبان [الراسبى] [1] بصر بالخرّيت، فحمل عليه فطعنه، فصرع عن دابّته، ثم اختلفا ضربتين، فقتله النعمان؛ وقتل معه فى المعركة سبعون ومائة رجل، وذهب الباقون يمينا وشمالا، وسبى معقل من أدركه من حريمهم وذراريهم، وأخذ رجالا كثيرا، فأما من كان مسلما فخلّاه وأخذ بيعته وترك له عياله، وأمّا من كان ارتّد فعرض عليهم الإسلام، فرجعوا، فخلّى سبيلهم وسبيل عيالهم، إلّا شيخا نصرانيا منهم يقال له الرّماحس لم يسلم فقتله. وجمع من منع الصدقة، وأخذ منهم صدقة عامين. واحتمل الأسارى وعيالهم وأقبل بهم، وشيعهم المسلمون، فلما ودّعوهم بكى الرجال والنساء بعضهم إلى بعض حتّى رحمهم الناس. ثم مرّ بهم حتى أقبل على مصقلة بن هبيرة الشّيبانى، وهو عامل علىّ على أردشير [2] خرّه، وهم خمسمائة إنسان، فبكى النساء والصبيان وصاح الرجال: «يا أبا الفضل، يا حامى الرجال، ومأوى العضب [3] وفكّاك العناة [4] ، امنن علينا فاشترنا وأعتقنا» . فقال مصقلة: أقسم بالله لأتصدّقنّ عليكم إنّ الله يجزى المتصدقين [5] . فاشتراهم   [1] الزيادة جاءت فى النسخة (ن) وسقطت من النسخة (ك) . [2] أردشير خره: اسم كورة من أعظم كور فارس، وهو اسم مركب معناه: بهاء أردشير، وأردشير ملك من ملوك الفرس. [3] العضب: جمع الأعضب، وهو من لا ناصر له. [4] العناة: جمع العانى، وهو الأسير. [5] مأخوذ من الآية 88 فى سورة يوسف. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 188 من معقل بخمسمائة ألف، فقال له معقل: عجّل المال إلى أمير المؤمنين. فقال أنا باعث الآن بعضه ثم [أبعث كذلك] [1] حتى لا يبقى منه شىء؛ وأقبلى معقل إلى علىّ فأخبره بما كان منه فاستحسنه. وبلّغ عليا أنّ مصقلة أعتق الأسارى ولم يسألهم أن يعينوه بشىء، فقال: ما أظنّ مصقلة إلّا قد تحمل حمالة سترونه عن قريب منها مبلدا، وكتب إليه بحمل المال أو يحضر عنده، فحضر عنده، وحمل من المال مائتى ألف. قال ذهل بن الحارث: فاستدعانى مصقلة ليلة فطعمنا، ثم قال: إن أمير المؤمنين يسألنى هذا المال [2] ولا أقدر عليه. فقلت: والله لو شئت ما مضت جمعة حتى تحمله. فقال: «والله ما كنت لأحمّلها قومى؛ أما والله لو كان ابن هند [3] ما طالبنى بها، ولو كان ابن عفّان لو هبها لى» . قال فقلت: إن هذا لا يرى ذلك الرأى، لا يترك منها شيئا. فهرب مصقلة من ليلته فلحق بمعاوية. وبلغ عليا ذلك فقال: ما له أقرحه الله! فعل فعل السيّد وفرّ فرار العبد، وخان خيانة الفاجر، أما إنه لو أقام فعجز ما زدنا على دينه [4] ، فإن وجدنا [5] له شيئا أخذناه وإلّا تركناه» . ثم سار علىّ إلى داره فهدمها، وأجاز عتق السّبى، وقال: أعتقهم مبتاعهم وصارت أثمانهم دينا على معتقهم.   [1] زيادة تؤخذ من ابن جرير، وفى المخطوطة: «لذلك» . [2] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وفى النسخة (ك) : «فلا» . [3] ابن هند: معاوية بن أبى سفيان. [4] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وفى (ن) : «حبسه» . [5] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وفى (ك) : «تهيأ» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 189 وكان أخوه نعيم بن هبيرة شيعة لعلىّ، فكتب إليه مصقلة من الشام مع رجل من نصارى تغلب، اسمه حلوان يقول له: «إن معاوية قد وعدك الإمارة والكرامة، فأقبل ساعة يلقاك رسولى والسلام [عليك] [1] فأخذه مالك بن كعب الأرحبىّ فسرحه إلى علىّ رضى الله عنه، فقطع علىّ يده، فمات. وكتب [2] نعيم إلى أخيه يلومه على لحاقه بالشام، وما فعله من هربه.. وأتاه [3] التغلبيون فطلبوا منه دية صاحبهم فوداه لهم. وقال مصقلة: لعمرى لئن عاب أهل العراق ... علىّ انتعاش بنى ناجيه لأعظم من عتقهم رقهم ... وكفّى بعتقهمو حاليه [4] وزايدت فيهم لإطلاقهم ... وغاليت إن العلا غاليه [5] وحيث ذكرنا من أخبار علىّ ما قدمناه، فلنذكر ما وقع فى مدة خلافته خلاف ذلك على حكم السنين.   [1] ثبتت هذه الكلمة فى النسخة (ن) ، وسقطت من (ك) . [2] انظر الشعر الذى كتبه نعيم إلى أخيه فى تاريخ الطبرى ج 4 ص 104 والكامل لابن الأثير ج 3 ص 187. [3] أى أتى التغلبيون مصقلة، لأنه الذى بعث التغلبى فكان سببا فى هلاكه. [4] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وفى (ك) : «عاليه» . [5] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وفى (ك) «وعاليت إن العلا عاليه» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 190 ذكر ما اتفق فى مدة خلافته رضى الله عنه خلاف ما قدمنا ذكره على حكم السنين مما هو متعلق به خاصة، خلاف ما هو مختص بمعاوية فإنا نذكره فى أخباره إن شاء الله تعالى سنة ست وثلاثين ذكر ولاية قيس بن سعد مصر وما كان بينه وبين معاوية من المكاتبة وما أشاعه معاوية عنه حتّى عزله علىّ رضى الله عنه عن مصر واستعمل محمد بن أبى بكر الصّديق رضى الله عنهما. قال: وفى سنة ست وثلاثين فى ثالث صفر بعث علىّ رضى الله عنه قيس بن سعد بن عبادة أميرا على مصر، وقال له: «سر إلى مصر قد ولّيتكها واخرج إلى رحلك، واجمع إليك ثقاتك ومن أحببت أن يصحبك حتّى تأتيها ومعك جند؛ فإن ذلك أرعب لعدوك وأعزّ لوليك، وأحسن [1] إلى المحسن، واشدد على المريب، وارفق بالعامّة والخاصّة، فإن الرّفق يمن» . فقال له قيس: «أمّا قولك أخرج إليها بجند فو الله لئن لم أدخلها إلّا بجند آتيها به من المدينة لا أدخلها أبدا، فأنا أدع ذلك الجند لك، فإن كنت احتجت إليهم كانوا قريبا منك وإن أردت أن تبعثهم إلى وجه من وجوهك كانوا عدّة» . وخرج قيس حتى دخل مصر [2] فى سبعة من أصحابه كما ذكرنا ذلك. ولما قدم صعد المنبر وجلس عليه، وأمر بكتاب علىّ رضى الله عنه فقرىء على أهل مصر بإمارته عليهم، ويأمرهم بمتابعته ومساعدته   [1] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وفى (ك) : «فأحسن» . [2] فى النجوم الزاهرة ج 1 ص 96 أنه وصل إليها فى مستهل شهر ربيع الأول الجزء: 20 ¦ الصفحة: 191 وإعانته على الحقّ. ثم قام قيس فقال: «الحمد لله الذى جاء بالحق، وأمات الباطل وكبت الظالمين، أيّها الناس: إنا قد بايعنا خير من نعلم بعد نبينا، فقوموا أيها الناس فبايعوه على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن نحن لم [نعمل] [1] لكم بذلك فلا بيعة لنا عليكم» . فقام الناس فبايعوه. واستقامت مصر، وبعث قيس عليها عمّاله إلّا قرية يقال لها خربتا [2] فيها ناس قد أعظموا قتل عثمان، عليهم رجل من بنى كنانة ثم من بنى مدلج اسمه يزيد بن الحارث. وكان مسلمة بن مخلّد أيضا قد أظهر الطلب بدم عثمان، فأرسل إليه قيس» : ويحك!. أعلىّ تثب؟! فو الله ما أحبّ أن لى ملك الشام إلى مصر وأنى قتلتك» . نبعث إليه مسلمة: إنى كاف عنك ما دمت أنت والى مصر. وبعث قيس إلى أهل خربتا إنى لا أكرهكم على البيعة، وإنى أكفّ عنكم. فهادنهم وجبى الخراج، ليس أحد ينازعه. فكان قيس أثقل خلق الله على معاوية، لقربه من الشام ومخافة أن يقبل علىّ فى أهل العراق، وقيس فى أهل مصر، فيقع بينهما، فكتب معاوية إلى قيس: «سلام [3] عليكم؛ أمّا بعد، فإنكم نقمتم [4] على عثمان ضربة بسوط، أو شتمة لرجل، أو تسيير آخر، أو استعمال فتى، وقد علمتم أن دمه لا يحلّ لكم؛ فقد ركبتم عظيما   [1] كذا جاء عند الطبرى ج 3 ص 551 وابن الأثير ج 3 ص 173، وجاء فى المخطوطة: «تعلم» . [2] انظر فى أوائل هذا الجزء فى (ذكر تفريق على عماله) الكلام فى هذا اللفظ وهل هو «خرنبا» أو «خربتا» ؟. [3] كذا جاء فى المخطوطة، وعند بن الأثير: «عليك» . [4] كذا جاء فى المخطوطة، وفى النجوم الزاهرة ج 1 ص 99 «فإنكم إن كنتم نقمتم» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 192 وجئتم أمرا إدّا، فتب إلى الله يا قيس، فإنك من المجلبين على عثمان، فأمّا صاحبك، فإذا استيقنّا أنه أغرى به الناس، وحملهم حتّى قتلوه، وأنه لم يسلم من دمه عظم قومك، فإن استطعت يا قيس أن تكون ممن يطلب بدم عثمان فافعل، وتابعنا على أمرنا، ولك سلطان العراقين إذا ظهرت ما بقيت، ولمن أحببت من أهلك سلطان الحجاز ما دام لى سلطان، وسلنى ما شئت فإنى أعطيكه، واكتب إلىّ برأيك» . فلما أتاه الكتاب أحبّ أن يدافعه ولا يبدى له أمره، ولا يتعجل إلى حربه، فكتب إليه: «أمّا بعد، فقد [بلغنى كتابك و] [1] فهمت ما ذكرته [فيه، فأمّا ما ذكرت] [1] من قتل عثمان، فذلك شىء لم أفارقه، وذكرت أن صاحبى هو الذى أغرى به حتّى قتلوه فهذا ما لم أطلع عليه، وذكرت أن عظم عشيرتى لم تسلم [من دم عثمان] [1] فأوّل الناس كان فيها قياما عشيرتى، وأمّا ما عرضته من متابعتك فهذا أمر لى فيه نظر وفكرة، وليس هذا مما يسرع إليه، وأنا كافّ عنك، وليس يأتيك من قبلى ما تكرهه حتى ترى ونرى إن شاء الله تعالى» . فلما قرأ معاوية كتابه رآه مقاربا مباعدا [2] ، فكتب إليه: «أمّا بعد، فقد قرأت كتابك فلم أرك تدنو فأعدّك سلما، ولا تتباعد فأعدّك حربا، وليس مثلى يصانع المخادع وينخدع للمكايد ومعه عدد الرجال وأعنّة الخيل، والسلام.   [1] الزيادة من النجوم الزاهرة. [2] «فلم يأمن مكره ومكينته» كما فى النجوم الزاهرة. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 193 فلما قرأ قيس كتابه ورأى أنه لا تفيد معه المدافعة والمماطلة أظهر له ما فى نفسه، فكتب إليه: «أما بعد، فالعجب من اغترارك بى وطمعك فىّ، واستسقاطك رأيى، أتسومنى الخروج من طاعة أولى الناس بالإمارة، وأقولهم بالحق، وأهداهم سبيلا، وأقربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيلة، وتأمرنى بالدخول فى طاعتك، طاعة أبعد الناس من هذا الأمر، وأقولهم بالزّور، وأضلّهم سبيلا، ولد ضالين مضلين، طاغوت من طواغيت إبليس. وأمّا قولك: إنّى مالئ عليك مصر خيلا ورجلا [1] ، فو الله إن لم أشغلك بنفسك حتى تكون أهمّ إليك إنك لذو وجد [2] ، والسلام. فلما رأى معاوية كتابه أيس منه، وثقل عليه مكانه، ولم تنجع حيله فيه فكاده، من قبل علىّ، فقال لأهل الشام: لا تسبّوا قيس بن سعد، ولا تدعوا إلى غزوه، فإنه لنا شيعة، تأتينا كتبه ورسله ونصيحته لنا سرا، ألا ترون ما يفعل بإخوانكم الذين عنده من أهل خربتا، يجرى عليهم أعطياتهم وأرزاقهم، ويحسن إليهم. وافتعل كتابا [3] عن قيس بالطّلب بدم عثمان، والدخول معه فى ذلك، وقرأه على أهل الشام. فبلغ ذلك عليا فأعظمه وأكبره، ودعا ابنيه وعبد الله بن جعفر فأعلمهم ذلك، فقال ابن جعفر: يا أمير المؤمنين، دع ما يربيك إلى   [1] فى النجوم الزاهرة: «وأما قولك: معك أعنة الخيل وأعداد الرجال» . [2] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى الكامل وغيره. «إنك للوجد» والجد: الحظ. [3] انظر تاريخ الطبرى ج 3 ص 554 والنجوم الزاهرة ج 3 ص 101. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 194 إلى ما لا يريبك [1] اعزل قيسا عن مصر. فقال: والله إنى لا أصدّق بهذا عنه. فقال عبد الله: اعزله، فإن كان هذا حقا لا يعتزل لك. فبينما هم كذلك إذ جاء كتاب قيس يخبر بحال المعتزلين وكفّه عن قتالهم، فقال ابن جعفر: ما أخوفنى أن يكون ذلك ممالأة منه، فمره بقتالهم، فكتب إليه يأمره بقتالهم، فأجابه: «أما بعد، فقد عجبت لأمرك! تأمرنى بقتال قوم كافّين عنك، مفرغيك لعدوّك ومتى حاددناهم ساعدوا عليك عدوّك؛ فأطعنى يا أمير المؤمنين، واكفف عنهم، فإن الرأى تركهم، والسلام. فلما قرأ الكتاب قال ابن جعفر: يا أمير المؤمنين؛ ابعث محمد ابن أبى بكر [2] على مصر واعزل قيسا. فبعث محمدا إلى مصر- وقيل: بعث الأشقر النّخعىّ فمات بالطريق فبعث محمدا- فقدم محمد على قيس بمصر، فقال له قيس: «ما بال أمير المؤمنين؟ ما غيّره؟ أدخل أحد بينى وبينه؟» قال: لا، وهذا السلطان سلطانك. قال، لا: والله لا أقيم. وخرج إلى المدينة وهو غضبان، فأخافه مروان بن الحكم فخرج من المدينة هو وسهيل بن حنيف إلى علىّ رضى الله عنه فشهدا معه صفّين، فبعث معاوية إلى مروان يتغيظ عليه ويقول له: لو أمددت عليا بمائة ألف مقاتل كان أيسر عندى من قيس بن سعد فى رأيه ومكانه.   [1] حديث رواه الترمذى والنسائى وأحمد بن حنبل عن الحسن بن على وأنس بن مالك وعبد الله بن عمر عن النبى صلى الله عليه وسلم «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» . [2] قال ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 139: «وكان ابن جعفر أخا محمد أبى بكر لأمه» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 195 ولما قدم قيس على علىّ وأخبره الخبر، علم أنه كان يقاسى أمورا عظاما من المكايد وعظم محلّ قيس عنده وأطاعه فى الأمر كله. قال. وأما محمد بن أبى بكر فإنه لما قدم مصر قرأ كتاب علىّ رضى الله عنه إلى أهل مصر عليهم، ثم قام فقال: «الحمد لله الذى هدانا وإياكم لما اختلف فيه من الحقّ، وبصرنا وإياكم كثيرا مما كان عمى عنه الجاهلون، ألا إنّ أمير المؤمنين ولّانى أمركم، وعهد إلىّ ما سمعتم، وما توفيقى إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب، فإن يكن ما ترون من إمارتى وأعمالى طاعة لله فاحمدوا الله على ما كان من ذلك، فإنه هو الهادى له، وإن رأيتم عاملا لى بغير الحقّ فارفعوه إلى وعاتبونى فيه، فإنى بذلك أسعد وأنتم جديرون، وفقنا الله وإياكم لصالح الأعمال برحمته» . ثم نزل. فلم يلبث إلا شهرا حتى بعث إلى أولئك القوم المعتزلين الذين كانوا قد وادعهم قيس بن سعد، فقال لهم: إما أن تدخلوا فى طاعتنا وإما أن تخرجوا عن بلادنا. فأجابوه: إنّا لا نفعل، فدعنا حتى ننظر إلى ما يصير أمرنا إليه، ولا تعجل بحربنا. فأبى عليهم، فامتنعوا وأخذوا حذرهم، وكانت وقعة صفّين وهم هائبون لمحمد، فلما رجع علىّ ومعاوية وصار الأمر إلى التحكيم طمعوا فيه، وأظهروا له المبارزة، فبعث محمد الحارث بن جهمان [1] الجعفىّ إلى أهل خربتا فقاتلهم فقتلوه، فبعث إليهم رجلا من كلب يدعى ابن مضاهم فقتلوه. ثم كان من خبر محمد بن أبى بكر ما نذكره إن شاء الله تعالى.   [1] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وفى (ن) : «جمهان» مثل ابن جرير وابن الأثير. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 196 وفى هذه السنة قدم أبراز مرزبان مرو إلى علىّ رضى الله عنه بعد الجمل مقرا بالصلح، فكتب له كتابا إلى دهاقين مرو والأساورة ومن بمرو، ثم إنهم كفروا وأغلقوا نيسابور، فبعث علىّ خليد بن قرّة- وقيل: ابن طريف- اليربوعىّ إلى خراسان. وفيها مات حذيفة بن اليمان قبل وقعة الجمل. وفيها مات سلمان الفارسىّ فى قول بعضهم، وكان عمره مائتين وخمسين سنة هذا أقلّ ما قيل فيه، وقيل: ثلاثمائة وخمسين سنة، وكان قد أدرك بعض أصحاب المسيح عليه الصلاة والسلام. وفيها استعمل علىّ رضى الله عنه على الرّىّ يزيد بن حجيّة التّيمىّ (تيم الّلات) فكسر من خراجها ثلاثين ألفا، فكتب إليه علىّ يستدعيه، فحضر فسأله عن المال، وقال: أين ما غللته من المال؟ فقال: ما أخذت شيئا؛ فخفقه بالدّرة خفقات وحبسه، فوكل به سعدا مولاه فهرب منه يريد الشام، فسوغه معاوية المال، فكان ينال من على، وبقى بالشام إلى أن اجتمع الأمر لمعاوية، فسار معه إلى العراق فولّاه الرىّ. وقيل: إنه شهد مع علىّ الجمل وصفّين والنّهروان، ثم ولّاه بعد ذلك الرىّ وهو الصحيح. سنة سبع وثلاثين فيها بعث علىّ رضى الله عنه جعدة بن هبيرة المخزومى إلى خراسان بعد عودته من صفّين، فانتهى إلى نيسابور، وقد كفروا وامتنعوا الجزء: 20 ¦ الصفحة: 197 فرجع إلى علىّ، فبعث خليد بن قرّة اليربوعى، فحاصر أهلها حتى صالحوه وصالحه أهل مرو. وحجّ بالناس فى هذه السّنة عبيد الله بن عباس [1] رضى الله عنهما. سنة ثمان وثلاثين فى هذه السّنة ملك عمرو بن العاص مصر، وقتل محمد بن أبى بكر على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى فى أخبار معاوية. ذكر خبر عبد الله بن الحضرمى حين بعثه معاوية إلى البصرة وما كان من أمره إلى أن قتل وفى هذه السنة بعد مقتل محمد بن أبى بكر بعث معاوية عبد الله ابن عمرو الحضرمىّ إلى البصرة، وقال له: إنّ جلّ أهلها يرون رأينا فى عثمان، وقد قتلوا فى الطلب بدمه، فهم لذلك حنقون يودّون أن يأتيهم من يجمعهم، وينهض بهم فى الطلب بثأرهم ودم إمامهم، فانزل فى مضرو تودّد للأزد فإنهم كلّهم معك، وادع ربيعة فلن ينحرف عنك أحد سواهم؛ لأنهم ترابيّة [2] كلّهم وأحذرهم. فسار ابن الحضرمىّ حتّى قدم البصرة، وكان ابن عباس قد خرج إلى على بالكوفة، واستخلف زياد ابن أبيه على البصرة، فنزل ابن الحضرمىّ فى بنى تميم، فأتاه العثمانية وحضره غيرهم، فخطبهم وقال: «إن إمامكم إمام الهدى قتل مظلوما، قتله علىّ فطلبتم بدمه، فجزاكم الله خيرا» .   [1] قال ابن الأثير فى الكامل؛ «وكان عامل على على اليمن» . [2] أى من شيعة «أبى تراب» وتلك كنية على رضى الله عنه. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 198 فقام الضحاك بن قيس [1] الهلالىّ وكان على شرطة ابن عباس فقال: قبّح الله ما جئتنا به، وما تدعونا إليه، وسبّه، وذكر فضل علىّ رضى الله عنه،. فقال عبد الله بن خازم [2] السّلمىّ للضحاك: اسكت، فلست بأهل أن تتكلم، ثم أقبل على ابن الحضرمىّ فقال: نحن أنصارك ويدك، والقول قولك، اقرأ كتابك. فأخرج كتاب معاوية إليهم يذكّرهم فيه آثار عثمان، ويدعوهم إلى الطلب بدمه، ويضمن أنه يعمل فيهم بالسّنّة، ويعطيهم عطاءين فى كلّ سنة. فلما فرغ من قراءته قام الأحنف، فقال: لا ناقتى فى هذا ولا جملى. واعتزل القوم. وقام عمرو بن مرجوم [3] العبدىّ [4] فقال: أيها الناس، الزموا طاعتكم وجماعتكم، ولا تنكثوا بيعتكم فتقع بكم الواقعة. وكان العباس بن صحار العيدىّ مخالفا لقومه فى حبّ علىّ، فقام وقال: لننصرّنك بأيدينا وألسنتنا. فقال له المثنى بن مخرّبة [5] العبدىّ: والله لئن لم ترجع إلى المكان الذى جئتنا منه لنجاهدنك بأسيافنا ورماحنا، ولا يغرنك هذا الذى تكلم. (يعنى ابن صحار) .   [1] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وفى (ك) : «زيد» . [2] بالخاء المعجمة والزاى، كما نص عليه ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 183. [3] بالجيم كما نص عليه صاحب الإصابة، وجاء فى النسخة (ن) «مرحوم» وفى النسخة (ك) محروم» . [4] من عبد القيس، قال ابن سعد: قدم فى وفد عبد القيس،. [5] بضم الميم وفتح الخاء المعجمة وكسر الراء المشددة وآخره باء موحدة، كما نص عليه ابن الأثير فى الكامل. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 199 فقال ابن الحضرمىّ لصبرة بن شيمان: أنت ناب من أنياب العرب فانصرنى. فقال: لو نزلت فى دارى لنصرتك. فلما رأى زياد ذلك خاف، فاستدعى حضين بن المنذر ومالك ابن مسمع، وقال: أنتم يا معشر بكر بن وائل أنصار أمير المؤمنين وثقاته، وقد كان من ابن الحضرمىّ ما ترون، وأتاه من أتاه، فامنعونى حتى يأتى [أمر] [1] أمير المؤمنين» . فقال حضين بن المنذر: نعم. وقال مالك- وكان يميل إلى بنى أمية-. هذا أمر لى فيه شركاء أستشير فيه وأنظر [2] . فلما رأى زياد تثاقل مالك أرسل إلى صبرة بن شيمان الحدّانىّ الأزدىّ يطلب أن يجيره وبيت مال المسلمين، فقال: إن حملته إلى دارى أجرتكما، فنقله إلى داره بالحدّان ونقل المنبر، فكان يصلّى الجمعة بمسجد الحدّان. وكتب زياد إلى علىّ رضى الله عنه بالخبر، فأرسل إليه أعين ابن ضبييعة المجاشعىّ ثم التميمى، ليفرق قومه عن ابن الحضرمى، فإن امتنعوا قاتل بمن أطاعه من عصاه، وكتب إلى زياد يعلمه ذلك. فقدم أعين فأتى زيادا فنزل عنده، وجمع رجالا وأتى قومه، ونهض إلى ابن الحضرمىّ ومن معه فدعاهم فشتموه، وواقفهم نهاره، ثم انصرف عنهم، فدخل عليه قوم، قيل: إنهم من الخوارج، وقيل: وضعهم ابن الحضرمى على قتله، فقتلوه غيلة، فلما قتل أعين أراد زياد قتالهم، فأرسلت تميم إلى الأزد: إنا لم نتعرض لجاركم   [1] الزيادة من ابن الأثير. [2] الزيادة من ابن الأثير. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 200 فما تريدون إلى جارنا؟ فكرهت الأزد قتالهم، وقالوا: إن عرضوا لجارنا منعناه. وكتب زياد إلى على بخبر أعين وقتله، فأرسل علىّ جارية بن قدامة السّعدىّ وهو من بنى سعد من تميم، وبعث معه خمسين رجلا من تميم، وقيل: خمسمائة رجل، وكتب إلى زياد يأمره بمعونته والإشارة عليه. فقدم جارية البصرة، فحذّره زياد ما أصاب أعين، فقام جارية فى الأزد وجزاهم خيرا، وقال: عرفتم الحقّ إذ جهله غيركم. وقرأ كتاب علىّ إلى أهل البصرة يوبّخهم ويتهددهم ويعنفهم ويتوعدهم بالمسير إليهم والإيقاع بهم وقعة تكون وقعة الجمل عندها هباء. فقال صبرة ابن شيمان: سمعا لأمير المؤمنين وطاعة: نحن حرب لمن حاربه، وسلم لمن سالمه. وصار جارية إلى قومه فقرأ عليهم كتاب علىّ رضى الله عنه ووعدهم، فأجابه أكثرهم. فسار إلى ابن الحضرمىّ ومعه الأزد ومن تبعه من قومه، وعلى خيل ابن الحضرمىّ عبد الله بن حازم السّلمىّ، فاقتتلوا ساعة، وأقبل شريك ابن الأعور فصار مع جارية، فانهزم ابن الحضرمىّ فتحصن بقصر سنبيل ومعه ابن حازم، [فأتته] [1] أمه عجلى وكانت حبشية، فأمرته بالنزول فأبى، فقالت: والله لتنزلنّ أو لأنزعنّ ثيابى. فنزل ونجا، وأحرق جارية القصر بمن فيه، فهلك ابن الحضرمىّ وسبعون رجلا منهم معه، وعاد زياد إلى القصر.   [1] فى الأصل «فأمر أمه عجلى ... » الخ. وما أثبتناه عن ابن الأثير. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 201 قال وكان قصر سنبيل لفارس وصار لسنبيل السعدىّ، وحوله خندق. وكان فيمن احترق دراع بن بدر أخو حارثة بن بدر، فقال عمرو بن العرندس: رددنا زيادا إلى داره ... وجار تميم دخانا ذهب لحا الله قوما شووا جارهم ... ولم يدفعوا عنه حرّ اللهب وقال جرير [1] : غدرتم بالزّبير فما وفيتم ... وفاء الأزد إذ منعوا زيادا فأصبح جارهم بنجاة عزّ ... وجار مجاشع أمسى رمادا فلو عاقدت حبل أبى سعيد ... لذاد القوم ما حمل النّجادا وأدنى الخيل من رهج المنايا ... وأغشاها إلا سنّة والصّعادا [2] قال [3] : وحجّ بالناس فى هذه السّنة قثم بن العبّاس من قبل علىّ [4] رضى الله عنهم. سنة تسع وثلاثين فى هذه السّنة بثّ معاوية سراياه فى بلاد على رضى الله عنه، فكان من خبرهم ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخبار معاوية. وفيها استعمل علىّ رضى الله عنه زياد بن أبيه على كرمان وفارس فضبطها بعد أن اضطربت أمورها [5] .   [1] انظر ديوان جرير ص 142- 143. [2] الصعا: الرماح، والصعدة- فى الأصل-: القناة المستوية. [3] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 188. [4] وكان قثم عاملا لعلى على مكة، كما قال ابن الأثير. [5] قال ابن الأثير: سبب ذلك أنه لما قتل ابن الحضرمى واختلف الناس على على، طمع أهل فارس وكرمان فى كسر الخراج فطمع أهل كل ناحية وأخرجوا عاملهم. الخ. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 202 وحجّ بالناس فى هذه السّنة عبيد الله بن عباس من قبل علىّ، وقيل: قثم بن العباس، وقيل: إن معاوية بعث يزيد بن شجرة الرّهاوىّ ليحجّ [بالناس فاختلف هو وعبيد الله بن عباس، ثم اتفقا على أن يحج] [1] بالناس شيبة بن عثمان فحّج. والله أعلم. وفيها توجّه الحارث بن مرّة العبدى إلى بلاد السّند غازيا متطوعا بأمر علىّ رضى الله عنه فغنم وأصاب سبيا كثيرا، وقسم فى يوم واحد ألف رأس وبقى غازيا إلى أن قتل بأرض القيقان هو ومن معه [إلا قليلا] [2] فى سنة اثنتين وأربعين. سنة اربعين فى هذه السّنة بعث معاوية بسر بن أرطاة إلى الحجاز واليمن، ففعل من الأفعال القبيحة وسفك من الدماء المحرمة ما نذكره فى أخبار معاوية. وفيها جرت مهادنة بين علىّ ومعاوية بعد مكاتبات طويلة على وضع الحرب، ويكون لعلى العراق ولمعاوية الشام لا يدخل أحدهما بلد الآخر بغارة، واتفقا على ذلك. وفيها فارق عبد الله بن عباس البصرة ولحق بمكة فى قول أكثر أهل التاريخ، وسبب ذلك أنه مر بأبى الأسود فقال له: «لو كنت من البهائم لكنت جملا، ولو كنت راعيا لما بلغت المرعى» . فكتب أبو الأسود إلى علىّ رضى الله عنه: « ... إن ابن عمك قد أكل   [1] ثبتت هذه العبارة فى النسخة (ن) وبها يظهر وجه الكلام، وسقط من النسخة (ك) . [2] الزيادة من ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 191. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 203 ما تحت يده بغير علمك، ولم يسعنى كتمانك رحمك الله، فانظر فيما هناك وكتب إلىّ برأيك فيما أحببت والسلام» . فكتب إليه علىّ: «أما بعد فمثلك من نصح الإمام والأمة، ووالى على الحقّ، وقد كتبت إلى صاحبك فيما كتبت إلىّ، ولم أعلمه بكتابك فلا تدع إعلامى بما يكون بحضرتك مما النظر فيه للأمة صلاح، فإنك بذلك جدير، وهو حق واجب عليك والسلام. وكتب إلى ابن عباس فى ذلك، فكتب إليه ابن عباس: «أمّا بعد فإن الذى بلغك باطل، وإنى لما تحت يدى ضابط، وله حافظ، فلا تصدّق الظّنين [1] والسلام. فكتب إليه علىّ: أمّا بعد، فأعلمنى ما أخذت من الجزية، ومن أين أخذت، وفيما وضعت» . فكتب إليه ابن عباس: «أمّا بعد، فقد فهمت تعظيمك مرزأة ما بلغك أنى [2] رزأته من أهل هذه البلاد، فابعث إلى عملك من أحببت فإنّى ظاعن عنه والسلام» . واستدعى أخواله بنى هلال بن عامر، فاجتمعت معه قيس كلها، فحمل مالا وقال: هذه أرزاقنا اجتمعت، فتبعه أهل البصرة، فلحقوه بالطّفّ يريدون أخذ المال فقال قيس: والله لا يوصل إليه وفينا عين تطرف. فقال صبرة بن شيمان الحدّانىّ: «يا معشر الأزد إن قيسا إخواننا وجيراننا وأعواننا على العدوّ، وإن الذى يصيبكم من هذا المال القليل، وهم لكم خير من المال» . فأطاعوه، فانصرفوا وانصرف معهم بكر وعبد القيس.. وقاتلهم بنو تميم فنهاهم الأحنف، فلم يسمعوا   [1] كذا جاء فى النسخة (ن) مثل الكامل، وجاء فى (ك) : «الضغين» . [2] رزأه ماله: أصاب منه شيئا. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 204 منه، فاعتزلهم، وقاتلهم بنو تميم فحجز الناس بينهم.. ومضى ابن عباس إلى مكة المشرفة. وقيل بل أقام بالبصرة إلى أيام الحسن- رضى الله عنه وأرضاه، وشهد صلح الحسن ومعاوية. والأول أصح، والذى شهد الصلح عبيد الله بن عباس. ذكر مقتل على بن أبى طالب رضى الله عنه وشىء من سيرته كان مقتله فى شهر رمضان سنة أربعين ليلة الجمعة. قيل: لسبع عشرة ليلة خلت منه، وقيل: لإحدى عشرة ليلة. وقيل: فى شهر ربيع الآخر. والأول أصح. وقاتله عبد الرحمن بن ملجم المرادىّ ثم التّجوبىّ [1] ، وأصله من حمير، ولم يختلفوا [2] فى أنه حليف لمراد، وعداده فيهم. وكان سبب قتله أن عبد الرحمن هذا، والبرك بن عبد الله التّميمى الصريمى واسمه الحجاج، وعمرو بن بكر التّميمىّ السّعدىّ وهم من الخوارج، اجتمعوا فتذاكروا أمر الناس، وعابوا ولاتهم، ثم ذكروا أهل النّهروان، وقالوا: «ما نصنع بالبقاء بعدهم؟ فلو شرينا نفوسنا، وقتلنا أئمة الضّلالة، وأرحنا منهم البلاد!» . فقال ابن ملجم: أنا أكفيكم عليا. وقال البرك: أنا أكفيكم معاوية   [1] فى القاموس «تجوب: قبيلة من حمير» وانظر فى الاستيعاب ج 3 ص 56 سبب التسمية. [2] هذا من كلام ابن عبد البر فى الاستيعاب. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 205 وقال عمرو بن بكر: أنا أكفيكم عمرو بن العاص. فتعاهدوا على ذلك، وسمّوا سيوفهم واتّعدوا لسبع عشرة من رمضان، وقصد كل منهم الجهة التى يريدها. فأما البرك بن عبد الله فإنه توجه إلى معاوية، فلما خرج للصلاة ضربه بالسيف فوقع فى أليته، وأخذ فقتل. وقيل: لم يقتله وإنما قطع يده ورجله. وبعث معاوية إلى الساعدىّ، وكان طبيبا، فقال له: «اختر إمّا أن أحمى حديدة فأضعها موضع السيف، وإما أن أسقيك شربة تقطع منك الولد» . فقال: «أمّا النار فلا صبر لى عليها، وأما الولد ففى يزيد وعبد الله ما تقرّ به عينى. فسقاه شربة فبرئ ولم يولد له بعدها. وأما عمرو بن بكر- فإنه جلس لعمرو بن العاص فى تلك الليلة، فما خرج لشكاية نالته فى بطنه، فأمر خارجة ابن حبيبة- وكان صاحب شرطته- أن يصلى بالناس، فخرج ليصلّى، فشدّ عليه وهو يرى أنه عمرو بن العاص فقتله. فأتى به إلى عمرو فقال: من هذا؟. قالوا: عمرو. قال ومن قتلت؟ قالوا: خارجة. قال: أما والله ما ظننته غيرك. فقال: أردتنى وأراد الله خارجة؛ وقتله عمرو. هكذا نقل ابن الأثير فى تاريخه الكامل [1] فى هذه الواقعة فى القاتل والمقتول.   [1] ج 3 ص 198. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 206 وقال أبو عمر بن عبد البر [1] : إن القاتل اسمه زادويه رجل من بنى العنبر بن عمرو بن تميم، قال وقيل: مولى لبنى العنبر. وفى المقتول إنه خارجة بن حذافة بن غانم بن عامر بن عبد الله بن عبيد ابن عويج بن عدّى بن كعب القرشىّ العدوىّ، وأمه فاطمة بنت عمرو بن بجرة العدويّة. وقال فى ترجمته: كان أحد فرسان قريش، يقال: إنه كان يعدل بألف فارس، قال: وذكر بعض أهل النسب والأخبار أن عمرو بن العاص كتب إلى عمر ليمدّه بثلاثة آلاف فارس، فأمدّه بالزّبير بن العوام، والمقداد بن الأسود، وخارجة بن حذافة هذا، وقال: إنه لما قتل وأدخل القاتل على عمرو فقال: من هذا الذى تدخلونى عليه؟ فقالوا: عمرو بن العاص، فقال: ومن قتلته؟ قيل: خارجة، فقال: أردت عمرا وأراد الله خارجة، وقيل: إن ذلك من كلام عمرو كما تقدم. وفى ذلك يقول عبد الجيد بن عبدون: وليتها إذ فدت عمرا بخارجة ... فدت عليا بمن شاءت من البشر وأمّا عبد الرحمن بن ملجم- لعنه الله تعالى آمين- فإنه أتى الكوفة واشترى سيفا بألف، وسقاه السم حتى لقطه، وكان فى خلال ذلك يأتى عليا رضى الله عنه فيسأله فيعطيه، ويستحمله فيحمله، إلى أن وقعت عينه على قطام بنت علقمة، وهى تيم الرّباب، وقيل هى منى بنى عجل بن لجيم، وكانت ترى رأى الخوارج، وكان علىّ قد قتل أباها وإخوتها بالنّهروان، وكانت امرأة رائعة جميلة، فأعجبته وأخذت بمجامع قلبه، فخطبها، فقالت: لقد آليت أن لا أتزوج إلّا على مهر لا أريد سواه. فقال: وما هو؟ فقالت: ثلاثة آلاف   [1] فى الاستيعاب ج 1 ص 420- 421. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 207 درهم وعبد وقينة وقتل على بن أبى طالب. فقال: «والله لقد قصدت لقتل على بن أبى طالب والفتك به، وما أقدمنى إلى هذا المصر غير ذلك، ولكنى لما رأيتك آثرت تزويجك» . فقالت: ليس إلّا الذى قلت لك. فقال لها: «وما يعنيك أو يعنينى [1] منك قتل علىّ؟ وأنا أعلم أنى إن قتلته لم أفت» . فقالت: «إن قتلته ونجوت فهو الذى أردت، تبلغ شفاء نفسى ويهنيك العيش معى، وإن قتلت فما عند الله خير من الدنيا وما فيها» . فقال لها: لك ما اشترطت ففى ذلك يقول ابن ملجم: ثلاثة آلاف وعبد وقيّنة ... وضرب علىّ بالحسام المصمّم فلا مهر أغلى من علىّ وإن غلا ... ولا فتك إلّا دون فتك ابن ملجم [وقد رويت هذه لغيره، وأولها:] [2] فلم أر مهرا ساقه ذو سماحة ... كمهر قطام من فصيح وأعجم وقالت قطام له: إنى سألتمس لك من يشدّ ظهرك. فبعثت إلى ابن عم لها يدعى وردان بن مجالد، فأجابها. ولقى ابن ملجم شبيب بن بجرة الأشجعى فقال له: يا شبيب هل لك فى شرف الدنيا والآخرة؟ قال: وما هو؟ قال: تساعدنى على قتل علىّ بن أبى طالب، فقال: «ثكلتك أمّك! لقد جئت شيئا إدّا، كيف تقدر على ذلك؟» قال: «إنه رجل لا حرس له، ويخرج إلى المسجد منفردا دون من يحرسه، فنكمن له فى المسجد،   [1] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى الاستيعاب ج 3 ص 58 والرياض النضر ج 2 ص 246 «وما يغنينى وماذا يغنينى منك» بالغين المعجمة فى الكلمتين. [2] ثبتت هذه الزيادة فى النسخة (ن) ، ولم تثبت فى النسخة (ك) . وقد روى ابن جرير الأبيات الثلاثة لابن مياس المرادى. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 208 فإذا خرج إلى الصلاة قتلناه، فإن نجونا نجونا، وإن قتلنا سعدنا بالذكر فى الدنيا وبالجنة فى الآخرة» . فقال: «ويلك! إن عليا ذو سابقة فى الإسلام وفضل، والله ما تنشرح نفسى لقتله» . قال: «ويلك! إنه حكّم الرجال فى دين الله، وقتل إخواننا الصالحين، فنقتله ببعض من قتل، فلا تشكّن فى دينك» . فأجابه، وأقبلا حتى دخلا على قطام، وهى معتكفة فى المسجد الأعظم فى قبّة ضربتها لنفسها، فدعت لهم. وأخذوا أسيافهم وجلسوا قبالة السّدّة التى يخرج منها علىّ رضى الله عنه، فخرج إلى صلاة الصبح يوم الجمعة، فبدره شبيب فضربه فأخطأه، ووقع سيفه بعضادة الباب، وضربه عبد الرحمن بن ملجم على رأسه، وقال: الحكم لله يا علىّ لا لك ولا لأصحابك. فقال علىّ رضى الله عنه: فزت ورب الكعبة! لا يفوتنكم الكلب!. وهرب شبيب خارجا من باب كندة، فلحقه رجل من حضرموت يقال له: عويمر، فصرعه، وأخذ سيفه، وجلس على صدره فصاح الناس: عليكم بصاحب السيف، فخاف عويمر على نفسه فتركه ونجا، فهرب شبيب فى غمار الناس. وهرب وردان إلى منزله، فأتاه رجل من أهله، فأخبره وردان بما كان، فانصرف وجاء بسيفه وقتل وردان. وأما ابن ملجم فإنه لما ضرب عليّا حمل على الناس، فأفرجوا له، فتلقّاه المغيرة بن الحكم بن الحارث بن نوفل بن عبد المطلب، فرمى عليه قطيفة واحتمله وصرعه وقعد على صدره. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 209 واختلفوا: هل ضربه فى الصلاة؟ أو قبل الدخول فيها؟ وهل استخلف من أتمّ بهم الصلاة أو هو أتمها؟ قال أبو عمر بن عبد [1] البر: والأكثر أنه استخلف جعدة [2] بن هبيرة، فصلّى بهم تلك الصلاة. قال: [3] ثم قال على رضى الله عنه لأصحابه حين أخذوا ابن ملجم: احبسوه فإن متّ فاقتلوه ولا تمثلوا به، وإن لم أمت فالأمر إلى فى العفو أو القصاص. وقيل [4] : إنه قال لهم: «النفس بالنفس، إن هلكت فاقتلوه وإن بقيت رأيت فيه رأيى، يا بنى عبد المطلب لا ألفيتكم تخوضون دماء المسلمين، تقولون: قتل أمير المؤمنين، ألا لا يقتلنّ إلّا قاتلى» . وأتت [5] أم كلثوم ابنة على رضى الله عنهما إلى ابن ملجم وهو مكتوف فقالت: «أى عدو الله، إنه لا بأس على أبى، والله مخزيك» . قال: فعلى من تبكين؟ والله لقد شريته بألف وسممّته بألف، ولو كانت الضربة بأهل مصر ما بقى منهم أحد. قال: ثم أوصى علىّ رضى الله عنه أولاده بتقوى الله، ولم ينطق إلا بقول «لا إله إلا الله» حتى مات رضى الله عنه وأرضاه. روى [6] عن صهيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلىّ   [1] فى الاستيعاب ج 3 ص 59. [2] أم جعدة هى أم هانىء أخت على بن أبى طالب. [3] أبو عمر أبن عبد البر. [4] انظر الكامل لابن الأثير ج 3 ص 196. [5] انظر تاريخ ابن جرير الطبرى ج 4 ص 112 والكامل. [6] انظر لهذه الرواية وما بعدها الاستيعاب ج 3 ص 60- 61. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 210 رضى الله عنه: من أشقى الأولين؟: قال: الذى عقر الناقة. قال: فمن أشقى الآخرين؟ قال؟ لا أدرى. قال: «الذى يضربك على هذا» يعنى يافوخه، «فيخضب هذه» يعنى لحيته. وعن ثعلبة الجمانى قال: سمعت على بن أبى طالب رضى الله عنه يقول: والذى فلق الحبّة وبرأ النّسمة لتخضبن هذه (يعنى لحيته) من دم هذا (يعنى رأسه) وروى النسائى من حديث عمار بن ياسر عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: أشقى الناس الذى عقر الناقة والذى يضربك على هذا - ووضع يده على رأسه- حتى تخضب هذه، (يعنى لحيته) وعن ابن سيرين عن عبيدة قال: كان على بن أبى طالب رضى الله عنه إذا رأى ابن ملجم قال [1] : أريد حياته [2] ويريد قتلى ... عذيرك [3] من خليلك من مراد   [1] قال على رضى الله عنه هذا البيت متملا به، وهو من قصيدة لعمرو بن، معديكرب الزبيدى قالها لابن أخته قيس بن مكشوح المرادى، وكان بينهما تباعد وتنافس فكان مما قاله قيس: فلولا قيتنى لا قيت قرنا ... وودعت الأحبة بالسلام ومما قاله عمرو بن معد يكرب: نمنانى ليلقانى قييس ... وددت وأينما منى ودادى «قييس» تصغير «قيس» . ويروى «أبى» . أريد حياته ويريد قتلى ... عذيرك من خليلك من مراد ولو لاقيتنى ومعى سلاحى ... تكشف شحم قلبك عن سواد وقوله (أريد حياته ويريد قتلى) مما كثر التمثل به وإدخاله فى الشعر، فقد تمثل به عبيد الله بن زياد كما سيأتى وتمثل به غيرهما. [2] هكذا جاء فى بعض الروايات، وجاء فى بعض الروايات «حباءه» والحباء: العطية، قال البغدادى فى خزانة الأدب ج 4 ص 281: «يقول: أريد نفعه وحباءه مع إرادته قتلى وتمنيه موتى فمن يعذرنى منه؟ ويروى: أريد حياته» . [3] فى خزانة الأدب: البيت من شواهد سيبويه: قال الأعلم: الشاهد فيه نصب عذيرك ووضعه موضع الفعل بدلا منه، والمعنى هات عذرك، والتقدير: اعذرنى منه عذرا، واختلف فى العذير، فمنهم من جعله مصدرا بمعنى العذر، وهو مذهب سيبويه، ومنهم من جعله بمعنى عاذر كعليم وعالم» . وانظر سيبوية ومعه الأعلم فى الكتاب ج 1 ص 139. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 211 وكان علىّ رضى الله عنه كثيرا ما يقول: ما يمنع أشقاها- أو ما ينتظر أشقاها أن يخضب هذه من دم هذا- ويشير إلى لحيته ورأسه- خضاب دم لا خضاب عطر ولا عبير؟. وروى عمر بن شبّة عن أبى عاصم النّبيل [1] وموسى بن إسماعيل عن سكين بن عبد العزيز العبدى، أنه سمع أباه يقول: جاء عبد الرحمن [بن ملجم] [2] يستحمل عليا فحمله، ثم قال: أريد حياته ويريد قتلى ... عذيرك من خليلك من مراد أما إن هذا قاتلى. قيل: فما يمنعك منه؟ قال: إنه لم يقتلنى بعد. وأتى علىّ رضى الله عنه فقيل له: ابن ملجم يسمّ سيفه، ويقول: إنه سيفتك به فتكة يتحدّث بها العرب. فبعث إليه فقال له: لم تسم سيفك؟ قال لعدوّى وعدوّك. فخلّى عنه. وفى كلام على رضى الله عنه يقول بكر بن حماد [3] : وهزّ علىّ بالعراقين لحية ... مصيبتها حلت على كلّ مسلم فقال: سيأتيها من الله حادث ... ويخضبها أشقى البريّة بالدّم فباكره بالسيف شلّت يمينه ... لشؤم قطام عند ذاك ابن ملجم فيا ضربة من خاسر ضلّ سعيه ... تبوّأ منها مقعدا فى جهنّم   [1] أبو عاصم النبيل: الضحاك بن مخلد بن الضحاك الشيبانى. [2] الزيادة من الاستيعاب ج 3 ص 60 حيث نقل المؤلف. [3] فى الاستيعاب ج 3 ص 66 «فيها» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 212 ففاز أمير المؤمنين بحظّه ... وإن طرقت فيه الخطوب بمعظم ألا إنما الدنيا بلاء وفتنة ... حلاوتها شيبت [1] بصاب وعلقم وحكى عن عثمان بن المغيرة قال: لما دخل رمضان، كان على رضى الله عنه يتعشى ليلة عند الحسن رضى الله عنه، وليلة عند الحسين، وليلة عند ابن جعفر رضى الله عنهم، لا يزيد على ثلاث لقم، ثم يقول رضى الله عنه: يأتينى أمر الله وأنا خميص [2] ، وإنما هى ليلة أو ليلتان، فلم يمض قليل حتى قتل. وقال الحسن [3] ابن كثير عن أبيه قال: خرج علىّ رضى الله عنه [4] من الفجر، فأقبل الإوزّ يصحن فى وجهه، فطردوهن عنه، فقال: ذروهنّ فإنّهن نوائح، فضربه ابن ملجم فى ليلته. وقال الحسن بن على رضى الله عنهما يوم قتل على: خرجت البارحة وأبى يصلّى فى مسجد داره، فقال لى: «يا بنى إنى بتّ أوقظ أهلى لأنها ليلة الجمعة صبيحة بدر [5] فملكتنى عيناى فنمت، فسنح [6] لى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله ماذا لقيت من أمتك من الأود واللّدد [7] ، فقال لى: ادع عليهم، فقلت: اللهم أبدلنى بهم من هو خير منهم وأبدلهم بى من هو   [1] شيبت: مزجت. [2] خميص: جائع. [3] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وفى الرياض النضرة: «الحسين بن كثير» ، وفى النسخة (ك) : «الحسن بن كرب» . [4] فى الرياض النضرة ج 2 ص 245 حيث ذكر هذا الحديث: «إلى الفجر» . [5] ذكر ابن عبد البر فى آخر روايته لهذا الحديث فى الاستيعاب ج 3 ص 62 «وذلك فى صبيحة يوم الجمعة لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان: صبيحة بدر» . [6] سنح: عرض. [7] جاء فى هامش النسخة (ك) : «الأود: العوج، واللدد: الخصومة» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 213 شر منى» فجاء ابن النّبّاح [1] فآذنه بالصلاة فخرج، وخرجت خلفه، فضربه ابن ملجم فقتله. وروى أبو عمر ابن عبد البر بسنده إلى عبد الله بن مالك قال: جمع الأطبّاء لعلىّ رضى الله عنه يوم جرح، وكان أبصرهم بالطب أثير بن عمر السّكّونى، وكان يقال له: أثير بن عمريا، وكان صاحب كسرى يتطبّب له، وهو الذى ينسب إليه صحراء أثير [2] ، فأخذ أثير رئة [شاة] [3] حارّة [4] ، فتتبع عرقا منها فاستخرجه فأدخله فى فى جراحة على، ثم نفخ العرق فاستخرجه فإذا عليه بياض دماغ. وإذا الضربة قد وصلت إلى أم رأسه، فقال: يا أمير المؤمنين اعهد عهدك فإنك ميّت. وفى ضربة ابن ملجم يقول عمران بن حطّان الخارجى يمدح ابن ملجم: لله درّ المرادى الذى سفكت ... كفّاه مهجة شرّ الخلق إنسانا أمسى عشيّة غشّاه بضربته ... ممّا جناه من الآثام عريانا يا ضربة من تقىّ ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذى العرش رضوانا إنى لأذكره حينا فأحسبه ... أوفى البرية عند الله ميزانا   [1] فى الاستيعاب والرياض النضرة: «ثم انتبه، وجاءه مؤذنه بالصلاة» ، واسم مؤذنه: عامر بن النباح. [2] بالكوفة. [3] الزيادة من الاستيعاب حيث نقل المؤلف، ومن معجم البلدان لياقوت. [4] أى: حديثة الذبح. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 214 فقال بكر بن حماد التّاهرتى [1] معارضا له: قل لابن ملجم والأقدار غالبة ... هدمت ويحك للإسلام أركانا قتلت أفضل من يمشى على قدم ... وأول الناس إسلاما وإيمانا وأعلم الناس بالقرآن ثم بما ... سنّ الرسول لنا شرعا وتبيانا صهر النبىّ ومولاه وناصره ... أضحت مناقبه نورا وبرهانا وكان منه على رغم الحسود له ... مكان هارون من موسى بن عمرانا وكان فى الحرب سيفا صار ما ذكرا ... ليثا إذا لقى الأقران أقرانا ذكرت قاتله والدمع منحدر ... فقلت: سبحان ربّ الناس سبحانا إنى لأحسبه ما كان من بشر ... يخشى المعاد ولكن كان شيطانا أشقى مراد إذا عدّت قبائلها ... وأخسر الناس عند الله ميزانا كعاقر الناقة الأولى التى جلبت ... على ثمود بأرض الحجر خسرانا قد كان يخبرهم أن سوف يخضبها ... قبل المنيّة أزمانا فأزمانا فلا عفا الله عنه ما تحمّله ... ولا سقى قبر عمران بن حطّانا لقوله فى شقى ظل مجترما ... ونال ما ناله ظلما وعدوانا: «يا ضربة من تقىّ ما أراد بها ... إلّا ليبلغ من ذى العرش رضوانا» بل ضربة من غوى أوردته لظى ... فسوف يلقى بها الرحمن غضبانا كأنه لم يرد قصدا بضربته ... إلّا ليصلى عذاب الخلد نيرانا   [1] التاهرتى: منسوب إلى «تاهرت» بفتح الهاء وسكون الراء، مدينة ببلاد المغرب، وكان أبو عبد الرحمن بكر بن حماد من حفاظ الحديث بهذه المدينة، وهو القائل: ما أخشن البرد وريعانه ... وأطرف الشمس بتاهرت! تبدو من الغيم إذا ما بدت ... كأنما تنشر من تخت فنحن فى بحر بلا لجة ... تجرى بنا الريح على سمت وأبياته النونية التى ذكرها المؤلف تجدها فى الاستيعاب ج 3 ص 62- 63 ومروج الذهب ج 2 ص 43 والكامل لابن الأثير ج 3 ص 199. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 215 وقالت أم الهيثم بنت العريان النخعية، ومنهم من يرويها لأبى الأسود الدؤلى [1] : ألا يا عين ويحك أسعدينا ... ألا تبكى أمير المؤمنينا تبكّى أم كلثوم عليه ... بعبرتها فقد رأت اليقينا ألا قل للخوارج حيث كانوا ... فلا قرّت عيون الشامتينا أفى شهر الصيام فجعتمونا ... بخير الناس ضرّا أجمعينا قتلتم خير من ركب المطايا ... وذلّلها ومن ركب السّفينا ومن لبس النعال ومن حذاها ... ومن قرأ المثانى والمبينا [2] وكلّ مناقب الخيرات فيه ... وحبّ رسول ربّ العالمينا لقد علمت قريش حيث كانت ... بأنك خيرهم حسبا ودينا إذا استقبلت وجه أبى تراب [3] ... رأيت البدر فوق الناظرينا وكنّا قبل مقتله [4] بخير ... ترى مولى رسول الله فينا يقيم الحقّ لا يرتاب فيه ... ويعدل فى العدا والأقربينا   [1] عبارة الاستيعاب ج 3 ص 66 حيث نقل المؤلف: «وقال أبو الأسود الدؤلى، وأكثرهم يرويها لأم الهيثم بنت العريان النخعية» ، والشعر منسوب إلى أبى الأسود فى ديوانه ص 174- 175 وفى إنباه الرواة ج 1 ص 19 والأغانى ج 12 ص 329 بعد أن ذكر خطبة أبى الأسود إثر مقتل على وأن معاوية كتب إليه ودس إليه رسولا يعده ويمنيه فقال هذه الأبيات، ونسبها أبو الفرج الأصبهانى نفسه فى كتابه (مقاتل الطالبيين) ص 43 إلى أم الهيثم بنت الأسود النخعية. ومما ينظر إليه ذكر الهيثم بن الأسود بن العريان فى البيان والتبيين، وهو نخعى، قال صاحب الإصابة ج 3 ص 621 يكنى «أبا العريان» . [2] المبين: القرآن، وفيه إشارة إلى الآية 10 من سورة الحجر. [3] فى الاستيعاب «أبى حسين» . [4] كذا جاء فى النسخة (ن) والاستيعاب، وفى النسخة (ك) : «موتته» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 216 وليس بكاتم علما لديه ... ولم يخلق من المتجبّرينا كأنّ الناس إذ فقدوا عليا ... نعام حار فى بلد سنينا فلا تشمت معاوية بن صخر ... فإنّ بقية الخلفاء فينا قال: ولما مات علىّ رضى الله عنه غسله ابناه الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر، وكفّن فى ثلاثة أثواب ليس فيها قميص، وصلّى عليه ابنه الحسن، وكبّر سبع [1] تكبيرات. قال: ولمّا قبض رضى الله عنه بعث الحسن رضى الله عنه إلى ابن ملجم فأحضره، فقال للحسن: «هل لك فى خصلة؟ إنى والله أعطيت الله عهدا أن لا أعاهد عهدا إلّا وفيت به، وإنى عاهدت الله عند الحطيم أن أقتل عليا ومعاوية أو أموت دونهما، فإن شئت خلّيت بينى وبينه، ولك عهد الله على أنى إن لم أقتله أو قتلته ثم بقيت أن آتيك حتّى أضع يدى فى يدك» . فقال له الحسن: لا والله. ثم قدّمه فقتله، فأخذه الناس فأدرجوه فى بوارى [2] وحرّقوه بالنار. واختلف فى موضع قبر علىّ رضى الله عنه، فقيل: دفن فى قصر الإمارة بالكوفة، وقيل: فى رحبة الكوفة، وقيل: دفن بنجف   [1] كذا جاء فى المخطوطة والكامل لابن الأثير ح 3 ص 97، وجاء فى تاريخ ابن جرير ج 4 ص 114: «تسع تكبيرات» ، وجاء فى الرياض النضرة ج 2 ص 247 «أربع تكبيرات» . [2] البوارى: جمع البورى وهو الحصير المنسوج من القصب. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 217 الحيرة فى موضع بطريق الحيرة، وقيل: عند مسجد الجماعة [1] ، وقال الواقدى: دفن ليلا وأخفى قبره. وكانت مدة خلافته خمس سنين إلّا ثلاثة أشهر، وقيل: أربع سنين وتسعة أشهر وستة أيام، وقيل: وثلاثة أيام، وقيل: وأربعة عشر يوما. وكان عمره ثلاثا وستين سنة، وقيل: خمسا وستين، وقيل: تسعا وخمسين، والأول أصح. وأما سيرته رضى الله عنه فى خلافته فقد تقدّم من فضائله ما قدّمناه فى صدر هذا الفصل. وكان من سيرته رضى الله عنه أنه يسير [2] فى الفىء بسيرة أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه فى القسم، وإذا ورد عليه مال لم يبق منه شيئا إلا قسمه، ولا يترك فى بيت المال إلا ما يعجز عن قسمته فى يومه ذلك، ويقول: يا دنيا غرّى غيرى، ولم يكن يستأثر من الفىء بشىء، ولا يخصّ به حميما ولا قريبا. وروى أبو عمر [3] بسنده إلى مجمّع التميمى [4] أن عليا رضى الله عنه قسم ما فى بيت المال بين المسلمين، ثم أمر به فكنس، ثم صلّى فيه رجاء أن يشهد له يوم القيامة [5] .   [1] جاء فى تاريخ ابن جرير ج 4 ص 117: «ودفن عند مسجد الجماعة فى قصر الإمارة» . [2] انظر الاستيعاب لأبى عمر بن عبد البر ج 3 ص 47. [3] فى الاستيعاب ح 3 ص 49 وكذلك ما بعده. [4] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى الاستيعاب: «التيمى» . [5] وانظر الرياض النضرة ج 2 ص 229. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 218 وبسنده إلى سفيان عن عاصم بن كليب عن أبيه قال: قدم على علىّ المال من أصبهان، فقسمه سبعة أسباع، ووجد فيه رغيفا فقسمه سبع كسر، وجعل على كل جزء كسرة، ثم أقرع بينهم: أيّهم يعطى أولا. وعن معاذ [1] بن العلاء عن أبيه عن جده قال: سمعت على بن أبى طالب يقول: ما أصبت فيكم [2] إلا هذه القارورة أهداها إلىّ الدهقان، ثم نزل إلى بيت المال ففرّق كلّ ما فيه، ثم جعل يقول: أفلح من كانت له قوصرّه [3] ... يأكل منها كل يوم تمره [4] وعن عنترة الشيبانى قال: كان على رضى الله عنه يأخذ الجزية والخراج من أهل كل صناعة من صناعته وعمل يده، حتى يأخذ من أهل الإبر والمسالّ والخيوط والحبال، ثم يقسمه بين الناس، ولا يدع فى بيت المال مالا يبيت فيه حتى يقسمه، إلا أن يغلبه شغل، فيصبح إليه وهو يقول. يا دنيا لا تغرّينى وغرّى غيرى. وكان [5] رضى الله عنه لا يخصص بالولايات إلا أهل الديانات والأمانات، وإذا بلغه عن أحدهم خيانة كتب إليه: قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ [6] وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ» [7]   [1] رواه أبو عمر بن عبد البر فى الاستيعاب ج 3 ص 49. [2] فى الاستيعاب: «من فيئكم» . [3] قوصرة بشد الراء وتخفف: وعاء للتمر، وانظر اللسان. [4] ويروى: مره. [5] انظر الاستيعاب ج 3 ص 47. [6] من الآية فى 57 سورة يونس. [7] من الآية 152 فى سورة الأنعام. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 219 وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ. بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ [1] إذا أتاك كتابى هذا فاحتفظ بما فى يديك من عملنا حتى نبعث إليك من يتسلمه منك. ثم يرفع طرفه إلى السماء فيقول: اللهم إنك تعلم أنى لم آمرهم بظلم خلقك ولا بترك حقك. ومواعظه رضى الله عنه ووصاياه لعماله إذ كان يخرجهم إلى أعماله [2] كثيرة مشهورة، وقد قدّمنا منها فى الباب الرابع، من القسم الخامس، من الفن الثانى، من كتابنا هذا، ما تقف عليه هناك، وهو فى السفر السادس من هذه النسخة [3] . قال أبو عمر بن عبد البر [4] : قد ثبت عن الحسن بن علىّ رضى الله عنهما من وجوه أنه قال: لم يترك أبى إلا ثمانمائة درهم أو سبعمائة درهم فضلت من عطائه، كان يعدّها لخادم يشتريها لأهله وأمّا تقشفه فى لباسه ومطعمه، فكان من ذلك على الغاية القصوى. روى [5] عن عبد الله بن أبى الهذيل قال: رأيت عليا رضى الله عنه خرج وعليه قميص غليظ دارس، إذا مدّ كمّه بلغ إلى الظفر، وإذا أرسله صار إلى نصف الساعد. وعن الحسن بن جرموز عن أبيه قال: رأيت على بن أبى طالب رضى الله عنه يخرج من مسجد الكوفة وعليه قطريّتان، مؤتزرا بالواحدة مرتديا بالأخرى، وإزاره إلى نصف الساق، وهو يطوف فى الأسواق، ومعه درّة يأمرهم بتقوى الله وصدق   [1] من الآيتين 85، 86 فى سورة هود. [2] كذا جاء فى النسخة (ن) وسقط من النسخة (ك) . [3] انظر ج 6 ص 19- 32 من «نهاية الأرب» المطبوع. [4] فى الاستيعاب ج 3 ص 48. [5] هذا وما بعده من الاستيعاب. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 220 الحديث، وحسن البيع، والوفاء بالكيل والميزان. وعن [إسحاق بن] [1] كعب بن عجرة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «علىّ مخشوشن [2] فى ذات الله تعالى . ذكر أزواج على رضى الله عنه وأولاده وكاتبه وقاضيه وحاجبه أول زوجة تزوجها فاطمة [3] بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم ورضى عنها، ولدت له الحسن والحسين رضى الله عنهما، وقد قيل: إنها ولدت ابنا اسمه محسن توفى صغيرا، وزينب الكبرى، وأم كلثوم الكبرى. وتزوج بعدها أم البنين ابنة حرام [4] الكلابية، فولدت له العباس وجعفرا وعبد الله وعثمان، قتلوا مع الحسين بالطّفّ. وتزوج ليلى بنت مسعود بن خالد النهشلية التميمية، فولدت عبيد الله وأبا بكر قتلا مع الحسين، وقيل: إن عبيد الله قتله المختار بن أبى عبيد.   [1] الزيادة من الاستيعاب لأبى عمر بن عبد البر ج 3 ص 51 حيث نقل المؤلف، لأن الصحابى الراوى للحديث هو كعب بن عجرة. [2] ذكر صاحب الرياض النضرة ج 2 ص 225 رواية أبى عمر عن كعب بن عجرة، وذكر قبلها رواية احمد بن حنبل عن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه قال: اشتكى الناس عليا يوما، فقام رسول الله فينا فخطبنا فسمعته يقول: «أيها الناس، لا تشكوا عليا، فو الله إنه لأخشن فى ذات الله عز وجل» أو قال: «فى سبيل الله» ، ثم قال صاحب الرياض فى شرحه: الأخشن مثل الخشن، واخشوشن للمبالغة، أى: اشتدت خشونته. [3] قال ابن جرير فى تاريخه ج 4 ص 118 وابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 199 «لم يتزوج عليها حتى توفيت عنده» . [4] حرام: ذكره ابن حجر فى باب الحاء والراء من القسم الثالث فى الإصابة ج 1 ص 375 فقال: حرام بن خالد بن ربيعة بن الوحيد بن كلاب ... الخ ووقع فى المخطوطة: «حزام» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 221 وتزوج أسماء بنت عميس الخثعمية، فولدت له محمدا الأصغر ويحيى، وقيل: إن محمدا لأمّ ولد، وقيل: إنها ولدت عونا. وله من الصّهباء بنت ربيعة التغلبية- وهى من السّبى الذين أغار عليهم خالد بن الوليد بعين التّمر فى خلافة أبى بكر- عمر ورقيّة، فعمّر عمر هذا حتّى بلغ خمسا وثمانين سنة، وحاز نصف ميراث علىّ رضى الله عنه، ثم مات بينبع. وتزوج علىّ رضى الله عنه أمامة بنت أبى العاص بن الربيع، وأمها زينب بنت النبى صلى الله عليه وسلم، فولدت له محمدا الأوسط. وله محمد الأكبر، وهو ابن الحنفية، أمّه خولة بنت جعفر، من بنى حنيفة. وتزوج أم سعيد ابنة عروة بن مسعود فولدت له أم الحسن ورملة الكبرى. وكان له بنات من أمهات شتى، وهنّ: أمّ هانىء وميمونة وزينب الصّغرى ورملة الصغرى وأم كلثوم الصغرى وفاطمة وأمامة وخديجة وأم الكرام وأم سلمة وأم جعفر وجمانة ونفيسة، وكلهن لأمهات أولاد. وتزوج محياة [1] ابنة امرئ القيس [2] بن عدىّ الكلبية، فولدت له جارية هلكت صغيرة.   [1] «محياة» كذا جاء عند الطبرى فى تاريخه ج 4 ص 119 وعند ابن حجر فى الإصابة ج 1 ص 113، ولم تنقط هذه الكلمة فى النسخة (ن) ، ووضعت نقطة خاء فى النسخة (ك) . [2] هو امرؤ القيس بن عدى بن أوس بن جابر الكلبى. كان أميرا على من أسلم بالشام من قضاعة فى عهد عمر بن الخطاب، وقد خطب إليه حينئذ على وابناه الحسن والحسين، فزوجهم بناته، فكانت سلمى زوجة للحسن. والرباب زوجة للحسين. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 222 فجميع أولاد علىّ رضى الله عنه خمسة عشر ذكرا، وهم: الحسن والحسين ومحسن- على خلاف فيه- والعبّاس وجعفر وعبد الله وعثمان وعبيد الله وأبو بكر ومحمد بن الحنفية ومحمد الأوسط ومحمد الأصغر ويحيىّ وعون وعمر، النسل منهم للحسين والحسن [ومحمد بن الحنفية والعباس بن الكلابية وعمر بن التغلبية] [1] ومن البنات تسع عشرة، وهن: زينب الكبرى وأم كلثوم الكبرى ورقية وأم الحسن ورملة الكبرى وأم هانىّ وميمونة وزينب الصغرى ورملة الصغرى وأم كلثوم الصغرى وفاطمة وأمامة وخديجة وأم الكرام وأم سلمة وأم جعفر وجمانة ونفيسة وجارية ابنة الكلبية، وكان كاتبه عبد الله [2] بن أبى رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتب له سعد بن نمران الهمدانى. قاضيه شريح بن الحارث. صاحب شرطته معقل بن قيس الرياحى، وقيل: سليمان بن صرد الخزاعى. حاجبه قنبر مولاه، وكان قبله بشر مولاه. نقش خاتمه: الملك لله الواحد القهار. وتقدم ذكر عمّاله..   [1] كذا ثبت هؤلاء فى النسخة (ن) ، كما ثبتوا فى الكامل لابن الأثير ج 3 ص 200، وسقطوا من النسخة (ك) . [2] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى الإصابة ج 4 ص 67 فى أولاد أبى رافع القبطى مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عبيد الله» ، وجاء فى الكامل لابن الأثير ج 3 ص 200 «كان أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم خازنا لعلى على المال» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 223 ذكر خلافة الحسن بن على بن أبى طالب رضى الله عنهما هو أبو محمد الحسن بن على بن أبى طالب بن عبد المطلب، وأمه فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وسنذكر إن شاء الله نبذة من فضائله وأخباره عند ذكرنا لوفاته، ونذكر فى هذا الموضع ما يختص بالخلافة دون غيره. بويع له يوم وفاة أبيه فى شهر رمضان سنة أربعين، وأول من بايعه قيس بن سعد بن عبادة، وقال له: ابسط يدك أبايعك على كتاب الله وسنة رسوله وقتال المحلّين. فقال له الحسن: على كتاب الله وسنة رسوله، فإنهما يأتيان على كل شرط. فبايعه الناس، وكان الحسن يشرط عليهم: «إنكم سامعون مطيعون، تسالمون من سالمت، وتحاربون من حاربت» . فارتابوا بذلك وقالوا: ما هذا لكم بصاحب وما يريد هذا إلّا القتال.. وكان على بن أبى طالب رضى الله عنه، لمّا ضربه ابن ملجم دخل عليه جندب بن عبد الله فقال: «إن فقدناك- ولا نفقدك- أفنبايع الحسن؟» فقال على رضى الله عنه: «ما آمركم ولا أنهاكم، أنتم أبصر» . فلما مات بايعه الناس، ولم تطل مدّته حتّى سلّم الأمر لمعاوية ابن أبى سفيان رضى الله عنه؛ لأسباب نذكرها إن شاء الله تعالى الجزء: 20 ¦ الصفحة: 224 ذكر تسليم الحسن بن على الخلافة إلى معاوية بن أبى سفيان قال [1] : كان على بن أبى طالب رضى الله عنه قد بايعه أربعون ألفا من عسكره على الموت، وتجهز لقصد الشام لقتال معاوية فقتل قبل ذلك. فلما بايع الناس الحسن تجهز بهذا الجيش، وسار من الكوفة فى شهر ربيع الأول سنة إحدى وأربعين، وذلك عند ما بلغه مسير معاوية إليه فى أهل الشام. ووصل الحسن إلى المدائن، وجعل قيس بن سعد بن عيادة على مقدمته فى اثنى عشر ألفا، وقيل: بل كان الحسن قد جعل على مقدمته عبيد الله [2] بن عباس، فجعل عبيد الله [2] على مقدمته فى الطلائع قيس بن سعد. ووصل معاوية مسكن [3] . فلما نزل الحسن المدائن نادى مناد فى العسكر: ألا إنّ قيس ابن سعد قتل فانفروا. فنفروا. وأتوا سرادق الحسن، وانتهبوا [4]   [1] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 203. [2] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى الكامل لابن الأثير ج 3 ص 203 «عبد الله» ، وانظر ما سبق فى فراق عبد الله بن عباس للبصرة. [3] فى الاستيعاب ج 1 ص 370: «وذلك بموضع يقال له مسكن من أرض للسواد بناحية الأنبار» وسيأتى نقل المؤلف لذلك. [4] تبع المؤلف ابن جرير وابن الأثير فى قصة الانتهاب، وروى أبو الفرج الأصفهانى فى مقاتل الطالبين ص 63 أن الحسن لما نزل ساباط خطب خطبة قال فيها: «إن ما تكرهونه فى الجماعة خير لكم مما تحبون فى الفرقة» فنظر الناس بعضهم إلى بعض وقالوا: ما ترونه يريد بما قال؟ وركبتهم الظنون، وثاروا، فشدوا على فسطاطه فانتهبوه ... الخ، وكذلك ذكر بن أبى الحديد فى شرحه لنهج البلاغة ج 4 ص 10. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 225 ما فيه، حتّى نازعوه بساطا كان تحته، وأخذوا رداءه من ظهره، ووثب عليه رجل من الخوارج من بنى أسد يقال له ابن أقيصر [1] بخنجر مسموم فطعنه به فى أليته، ووثب الناس على الأسدى فقتلوه. فازداد لهم بغضا ومنهم ذعرا، ودخل المقصورة البيضاء بالمدائن [2] ، وكان الأمير على المدائن سعد بن مسعود الثقفى، عم المختار بن أبى عبيد، فقال له المختار وهو شاب: هل لك فى الغنى والشرف؟ قال: وماذاك؟ قال: تستوثق [3] من الحسن وتستأمن به إلى معاوية. فقال له عمه: «عليك لعنة الله! أثب على ابن بنت رسول الله وأوثقه؟ بئس الرجل أنت!» فلما رأى الحسن رضى الله عنه [تفرق الناس عنه] [4] كتب إلى معاوية وشرط شروطا، وقال: إن أعطيتنى هذا فأنا سامع مطيع، وعليك أن تفى لى به. وقال لأخيه الحسين وعبد الله ابن جعفر: إننى قد أرسلت إلى معاوية فى الصلح. فقال له الحسين: أنشدك الله أن لا تصدّق أحدوثة معاوية وتكذّب أحدوثة أبيك! فقال له الحسن: اسكت أنا أعلم بالأمر منك.   [1] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى مقاتل الطالبين ص 64: فقام إليه رجل من بنى أسد من بنى نصر بن قعين يقال له «الجراح بن سنان» فلما مر فى مظلم ساباط قام إليه فأخذ بلجام بغلته وبيده معول، ثم طعنه، فوقعت الطعنة فى فخذه ... الخ، ويشبهه ما جاء فى جمهرة أنساب العرب ص 184 حيث ذكر ابن حزم بنى نصر بن قعين بن الحارث بن ثعلبة بن دودان بن أسد ومنهم «جراح بن سنان الذى وجأ الحسن بن على رضى الله عنه بالحنجر فى مظلم ساباط» . [2] وأقام عند أميرها يعالج نفسه. [3] كذا جاء فى المخطوطة مثل الكامل لابن الأثير، وفى تاريخ ابن جرير: «توثق الحسن» . [4] ثبتت هذه العبارة فى النسخة (ن) ، وسقطت من النسخة (ك) . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 226 فلما انتهى كتاب الحسن إلى معاوية أمسكه، وكان قد أرسل عبد الله بن عامر وعبد الرحمن بن سمرة بن جندب إلى الحسن قبل وصول الكتاب إليه، ومعهما صحيفة، بيضاء مختوم على أسفلها، وكتب إليه: أن اشترط فى هذه الصحيفة التى ختمت أسفلها ما شئت فهو لك. فلما أتت الصحيفة إلى الحسن اشترط أضعاف الشروط التى سأل معاوية قبل ذلك، وأمسكها عنده. فلما سلم الحسن رضى الله عنه الأمر لمعاوية، طلب الحسن أن يعطيه الشروط التى اشترطها فى الصحيفة [التى ختم عليها معاوية] [1] فأبى ذلك، وقال: قد أعطيتك ما كتبت تطلب. قال: ولما اصطلحا قام الحسن رضى الله عنه فى أهل العراق فقال: «يا أهل العراق إنه سخّى بنفسى عنكم ثلاث: قتلكم أبى وطعنكم إياى وانتها بكم متاعى» .. قال: وكان الذى طلب الحسن من معاوية أن يعطيه ما فى بيت مال الكوفة (ومبلغه خمسة آلاف ألف. وقيل: سبعة آلاف ألف) وخراج دار بجرد (من فارس) وأن لا يشتم علىّ. فلم يجبه إلى الكفّ عن شتم علىّ، فطلب أن لا يشتم وهو يسمع، فأجابه إلى ذلك، ثم لم يف له به أيضا. فأما خراج دار بجرد فإن أهل البصرة منعوه منه وقالوا: هو فيئنا، لا نعطيه أحدا. وقيل: كان منعهم بأمر معاوية أيضا وقيل: إن معاوية أجرى على الحسن رضى الله عنه بعد ذلك فى كل سنة ألف ألف درهم.   [1] ثبتت هذه العبارة فى النسخة (ن) مثل الكامل، وسقطت من النسخة (ك) . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 227 وتسلم معاوية الأمر لخمس بقين من شهر ربيع الأول سنة إحدى وأربعين. وقيل: فى شهر ربيع الآخر. وقيل: فى جمادى الأولى فى النصف منه. وقيل: إنما سلم الحسن الأمر إلى معاوية؛ لأنه لما راسله معاوية فى تسليم الخلافة إليه خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال: «إنا والله ما يثنينا عن أهل الشام شكّ ولا ندم، وإنما كنا نقاتل أهل الشام بالسلامة والصبر، فشيبت السلامه بالعداوة والصبر بالجزع، وكنتم فى مسيركم إلى صفّين ودينكم أمام دنياكم، وأصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم، ألا وقد أصبحتم بين قتيلين: قتيل بصفّين تبكون له، وقتيل بالنهروان تطلبون ثأره، وأما الباقى فخاذل، وأما الباكى فثائر، ألا وإن معاوية دعانا إلى أمر ليس فيه عزّ ولا نصفه، فإذا أردتم الموت رددناه عليه وحاكمناه إلى الله عز وجل بظبا السيوف، فإن أردتم الحياة قبلناه وأخذنا لكم الرضا» . فناداه الناس من كل جانب: البقية البقية، فأمضى [1] الصلح. فلما عزم على تسليم الأمر إلى معاوية خطب الناس فقال: «أيها الناس، إنما نحن أمراؤكم وضيفانكم، ونحن أهل بيت نبيكم عليه الصلاة والسلام الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهرهم تطهير» وكرر ذلك حتى ما بقى فى المجلس إلّا من بكى حتى سمع نشيجه، وأرسل إلى معاوية وسلّم إليه الأمر. فكانت خلافة الحسن على قول من يقول [ «سلّم الأمر فى ربيع   [1] فى الكامل ج 3 ص 204 «وأمض الصلح» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 228 الأول» خمسة أشهر ونصف شهر، وعلى قول من يقول «فى ربيع الآخر» ستة أشهر وأياما، وعلى قول من يقول [1]] «فى جمادى الأولى» سبعة أشهر وأياما. وحكى أبو عمر بن عبد البر [2] رحمه الله أن الحسن رضى الله عنه لما [قتل أبوه بايعه أكثر من أربعين ألفا، كلهم قد كانوا بايعوا أباه عليّا قبل موته على الموت، ثم [3]] خرج لقتال معاوية وخرج معاوية لقتاله، فلما تراءى الجمعان- وذلك بموضع يقال له مسكن من أرض السواد بناحية الأنبار- علم أنه لن تغلب إحدى الفئتين حتى يذهب أكثر الأخرى، فكتب إلى معاوية أنه يصير الأمر إليه، على أن يشترط عليه أن لا يطالب أحدا من أهل المدينة والحجاز ولا أهل العراق بشىء مما كان فى أيام أبيه، فأجابه معاوية وكاد يطير فرحا إلّا أنه قال: أمّا عشرة أنفس فلا أؤمّنهم، فراجعه الحسن فيهم، فكتب إليه يقول: إنى آليت أنى متى ظفرت بقيس بن سعد أن أقطع لسانه ويده. فراجعه الحسن: أنى لا أبايعك أبدا وأنت تطلب قيسا أو غيره بتبعة قلّت أو كثرت، فبعث إليه معاوية حينئذ برقّ أبيض وقال: اكتب ما شئت فيه وأنا ألتزمه. فاصطلحا على ذلك، واشترط عليه الحسن رضى الله عنه: أن يكون له الأمر من بعده، فالتزم ذلك كلّه معاوية، فقال له عمرو بن العاص: إنه قد انفلّ [4] حدّهم وانكسرت   [1] ثبتت هذه العبارة فى النسخة (ن) مثل الكامل، وسقطت من النسخة (ك) . [2] فى الاستيعاب ج 3 ص 370. [3] الزيادة من الاستيعاب. [4] انفل: انثلم وانكسر، والحد: اليأس والقوة. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 229 شوكتهم. فقال له معاوية: «أما علمت أنه قد بايع عليا أربعون ألفا على الموت؟ فو الله لا يقتلون حتّى يقتل أعدادهم من أهل الشام، وو الله ما فى العيش خير بعد ذلك» . فاصطلحا على ما ذكرناه. وكان الحسن رضى الله عنه كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن ابنى هذا سيّد يصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين [1] » قال: ولما بايع الحسن معاوية كان أصحاب الحسن يقولون له: يا عار المؤمنين. فيقول: العار خير من النار. وروى أبو عمر بسنده [2] إلى أبى الغريف [3] قال: كنا فى مقدمة الحسن بن علىّ رضى الله عنهما على اثنى عشر ألفا بمسكن مستميتين، تقطر أسيافنا من الجدّ [4] والحرص على قتال أهل الشام، وعلينا أبو العمر طه [5] ، فلما جاءنا صلح الحسن كأنما كسرت ظهورنا من الغيظ والحزن، فلما جاء الحسن رضى الله عنه الكوفة أتاه شيخ منّا يكنى أبا عامر سيفان بن ليلى، فقال: السلام عليك يا مذلّ المؤمنين. فقال: «لا تقل هذا يا أبا عامر، فإنى لم أذل المؤمنين، ولكنّى كرهت أن أقتلهم فى طلب الملك» .   [1] الحديث رواه البخارى فى صحيحه- رقم 3500- عن أبى بكرة سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول: ابنى هذا سيد ولعل الله أن يصلح ... الخ ، انظر شرح الكرمانى ج 15 ص 21 ورواه أيضا الترمذى وغيره. [2] فى الاستيعاب ج 1 ص 372. [3] أبو الغريف: هو عبيد الله بن خليفة الهمدانى. [4] كذا جاء «الجد» فى النسخة (ك) بالجيم، وجاء فى (ن) «الحد» بالحاء. [5] فى جمهرة أنساب العرب ص 401: «أبو العمر طه عمير بن يزيد بن عمرو ابن شراحيل بن النعمان بن المنذر بن مالك بن ربيعة بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتع، شيعى، قاتل مع حجر بن عدى، وولى ابنه الحسين بن أبى العمر طه شرطة الحجاج» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 230 قال أبو عمر: ولا خلاف بين العلماء أن الحسن إنما سلم الخلافة لمعاوية حياتة، لا غير، ثم تكون له من بعده، وعلى ذلك انعقد بينهما ما انعقد فى ذلك الوقت، ورأى الحسن ذلك خيرا من إراقة الدماء فى طلبها، وإن كان عند نفسه أحقّ بها. قال [1] : ودخل معاوية الكوفة وبايعه الناس، فأشار عليه عمرو بن العاص أن يأمر الحسن بن على فيخطب الناس، فكره ذلك معاوية وقال: لا حاجة لنا بذلك: فقال عمرو: «ولكنى أريد ذلك ليبدو للناس عيّه، فإنه لا يدرى هذه الأمور ما هى» ولم يزل بمعاوية حتى أمر [2] الحسن رضى الله عنه أن يخطب، وقال له: يا حسن قم فكلّم الناس فيما جرى بيننا. فقام الحسن رضى الله عنه فتشهد وحمد الله وأثنى عليه، ثم قال فى بديهته: أمّا بعد أيّها الناس فإن الله هداكم بأوّلنا وحقن دماءكم بآخرنا، وإنّ لهذا الأمر مدة، والدنيا دول، وإن الله عز وجل يقول: وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ. إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ [3] . فلما قالها، قال له معاوية: اجلس. ثم قام معاوية فخطب الناس، ثم قال لعمرو: هذه من رأيك. ومن رواية [4] عن الشعبى أن الحسن خطب فقال: «الحمد لله   [1] أبو عمر بن عبد البر فى الاستيعاب بسنده عن ابن شهاب ج 1 ص 373. [2] انظر مروج الذهب ج 2 ص 52 ومقاتل الطالبين ص 72 والكامل لابن الأثير ج 3 ص 204. [3] من الآيات 109، 110، 111 فى سورة الأنبياء. [4] فى الاستيعاب ج 1 ص 374. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 231 الذى هدا بنا أوّلكم وحقن بنا دماء آخركم، ألا إن أكيس الكيس التّقى، وأعجز العجز الفجور، وإنّ هذا الأمر الذى اختلفت فيه أنا ومعاوية إمّا أن يكون أحقّ به منّى، وإما أن يكون حقى فتركته لله تعالى وإصلاح أمة محمد صلى الله عليه وسلم وحقن دمائهم» . ثم التفت إلى معاوية فقال: وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ . ثم نزل، فقال معاوية لعمرو: ما أردت إلّا هذا. وحقدها معاوية على عمرو. ولحق الحسن رضى الله عنه بالمدينة، بأهل بيته وحشمه، والناس يبكون عند مسيرهم من الكوفة. والحسن رضى الله عنه آخر الخلفاء حقيقة، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الخلافة ثلاثون ثم تكون ملكا وملوكا» [1] . فكانت هذه المدة من خلافة أبى بكر رضى الله عنه وإلى آخر أيام الحسن. ولم يزل الحسن رضى الله عنه مقيما بالمدينة إلى أن مات على ما نذكره إن شاء الله فى حوادث سنة تسع وأربعين. وحيث ذكرنا الخلفاء الراشدين رضى الله عنهم، وذكرنا أخبار من مات أو استشهد من العشرة، أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى أثناء أخبار الخلفاء، فلنصل هذا الباب بذكر من بقى من العشرة، وهما: سعد بن أبى وقّاص وسعيد بن زيد، ليكمل عدّة العشرة فى هذا الباب، وإن كانت وفاتهما فى غير أيام الخلفاء.   [1] الحديث الذى رواه أحمد وغيره: «الخلافة بعدى فى أمتى ثلاثون سنة، ثم ملك بعد ذلك» وفى رواية: «ثم يكون ملكا بعد ذلك» ، وجاء فى النهاية ثم «يكون ملك عضوض» بفتح العين، أى يصيب الرعية فيه عسف وظلم، ثم جاءت فيها رواية أخرى: «ثم يكون ملوك عضوض» بضم العين جمع عض وهو الخبيث الشرس. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 232 ذكر أخبار سعد بن أبى وقاص ووفاته رضى الله عنه هو أبو إسحاق سعد بن أبى وقاص، واسم أبى وقاص مالك ابن أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب القرشى الزّهرى. كان رضى الله عنه سابع سبعة فى الإسلام، أسلم بعد ستة، وهو ابن تسع عشرة سنة. وهو أحد العشرة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، وأحد السّتّة الذين جعل عمر رضى الله عنه الشّورى فيهم، وأخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وهو عنهم راض. وكان رضى الله عنه مجاب الدعوة مشهورا بذلك، تخاف دعوته وترجى لاشتهار إجابتها، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه: «اللهم سدّد سهمه وأجب دعوته [1] » . وهو أول من رمى بسهم فى سبيل الله، وذلك فى سريّة عبيدة ابن الحارث، وقد تقدم ذكره فى السيرة النبوية فى الغزوات والسرايا. [2] وجمع رسول الله عليه الصلاة والسلام له بين أبويه فى قوله صلى الله عليه وسلم «ارم فداك أبى وأمّى» ولم يقل ذلك إلّا له وللزبير بن العوام. وكان أحد الفرسان الشجعان من قريش [3] ، وهو الذى كوّف   [1] وروى الترمذى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: اللهم استجب لسعد إذا دعاك . [2] جاء فى نهاية الأرب المطبوع ج 17 ص 2: «ذكر سرية عبيدة بن الحارث ابن المطلب إلى بطن رابغ، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم فى شوال على رأس ثمانية أشهر من مهاجره فى ستين رجلا من المهاجرين ... » ثم جاء فى الصفحة التالية: «فكان بينهم الرمى ولم يسلوا السيوف، ولم يصطفوا للقتال، وكان سعد بن أبى وقاص أول من رمى بسهم فى سبيل الله» . [3] زاد أبو عمر فى الاستيعاب ج 2 ص 21: «الذين كانوا يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مغازيه» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 233 الكوفة ونفى الأعاجم وتولّى قتال الفرس [1] كما تقدم ذكر ذلك فى خلافة عمر بن الخطاب رضى الله عنه. وكان أميرا على الكوفة، قشكاه أهلها ورموه بالباطل، فدعا على الذى واجهه بالكذب دعوة ظهرت إجابته فيها. ولمّا جعله عمر بن الخطاب فى أصحاب الشّورى قال: إن وليها سعد فذاك وإلّا فليستعن به الوالى فإنى لم أعزله عن عجز ولا خيانة. وكلّمه ابنه عمر بن سعد أن يدعو لنفسه بعد مقتل عثمان فأبى. وكان رضى الله عنه ممّن لزم بيته وقعد فى الفتنة، وأمر أهله أن لا يخبروه من أخبار الناس بشىء حتّى تجتمع الأمة على إمام، فطمع معاوية فيه وفى عبد الله بن عمر ومحمد بن مسلمة، فكتب إليهم [2] يدعوهم إلى عونه على الطلب بدم عثمان، ويقول لهم إنهم لا يكفّرون ما أتوه من قتله وخذلانه إلّا بذلك، وقال: إن قاتله وخاذله سواء، فى نثر ونظم كتب به إليهم، فأجابه كلّ واحد منهم يرد عليه ما جاء به من ذلك، وينكر عليه مقالته، ويعرّفه أنه ليس بأهل لما يطلبه، وكان فى جواب سعد: معاوى داؤك الداء العياء ... وليس بما تجىء به دواء أيدعونى أبو حسن علىّ ... فلم أردد عليه ما يشاء وقلت له اعطنى سيفا قصيرا ... تماز به العداوة والولاء   [1] عبارة أبى عمر: «وتولى قتال فارس، أمره عمر بن الخطاب على ذلك، ففتح الله على يديه أكثر فارس، وله كان فتح القادسية وغيرها» . [2] انظر شرح ابن أبى الحديد لنهج البلاغة ج 1 ص 260. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 234 فإنّ الشّرّ أصغره كبير ... وإنّ الظّهر مثقله [1] الدّماء أتطمع فى الذى أعيا عليا ... على ما قد طمعت به العفاء! ليوم منه خير منك حيّا ... وميتا أنت للمرء الفداء وأما أمر عثمان فدعه ... فإنّ الرّأى أذهبه البلاء وكانت وفاة سعد رضى الله عنه فى قصره بالعقيق، على عشرة أميال من المدينة، وحمل إلى المدينة على رقاب الرجال، ودفن بالبقيع وصلّى عليه مروان بن الحكم، واختلف فى وقت وفاته، فقال الواقدى: توفى فى سنة خمس وخمسين، وهو ابن بضع وسبعين سنة، وقال أبو نعيم مات سنة ثمان وخمسين، وقال الزبير والحسن بن عثمان وعمرو بن على الغلّاس: توفى فى سنة أربع وخمسين، وهو ابن بضع وسبعين، وذكر أبو زرعة عن أحمد بن حنبل رضى الله عنه قال: توفى وهو ابن ثلاث وثمانين سنة، وروى عن ابن شهاب أن سعد بن أبى وقّاص رضى الله عنه: لما حضرته الوفاة دعا بخلق جبّة له من صوف، فقال: كفّنونى فيها فإنى كنت لقيت المشركين فيها يوم بدر [وهى علىّ] [2] وإنما كنت أخبؤها لهذا اليوم، رضى الله تعالى عنه وأرضاه. ذكر أخبار سعيد بن زيد رضى الله عنه ووفاته هو أبو الأعور سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزّى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدىّ بن كعب بن لؤىّ ابن غالب القرشى العدوى. وأمه فاطمة بنت بعجة بن مليح الخزاعية.   [1] كذا جاء فى المخطوطة، وفى الاستيعاب ج 2 ص 25 «تثقله» . [2] ثبتت هذه العبارة فى النسخة (ن) مثل الاستيعاب، وسقطت من (ك) . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 235 وهو ابن عم عمر بن الخطاب رضى الله عنه وصهره، كانت تحته فاطمة ابنة الخطاب أخت عمر، وكانت أخته عاتكة بنت زيد تحت عمر. وكان سعيد رضى الله عنه من المهاجرين الأولين، قديم الإسلام [1] لم يشهد بدرا، وضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره، وقد قدمنا ذكر ذلك فى غروة بدر [2] ، وشهد ما بعد بدر من المشاهد، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة. وكان أبوه زيد بن عمرو يطلب دين الحنيفية- دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام- قبل أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان لا يذبح للأنصاب، ولا يأكل مما ذبح لها، ولا يأكل الميتة ولا الدم، وخرج فى الجاهلية يطلب الدّين هو وورقة بن نوفل، فعرضت عليهما اليهود دينهم فتهوّد ورقة، ثم لقيا النصارى فترك ورقة اليهودية وتنصر، وأبى زيد أن يأتى شيئا من ذلك، وقال: ما هذا إلا كدين قومنا تشركون ويشركون، ولكنّكم عندكم من الله ذكر ولا ذكر عندهم. فقال له راهب: إنك تطلب دينا ما هو على الأرض اليوم. قال وما هو؟ قال: دين إبراهيم عليه السلام.   [1] فى الاستيعاب ج 2 ص 2 والإصابة ج 2 ص 46 والرياض النضرة ج 2 ص 303 أن إسلامه كان قديما قبل عمر بن الخطاب وكان إسلام عمر عنده فى بيته. [2] تقدم فى نهاية الأرب ج 17 ص 36 أن طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد بن عمرو ابن نفيل كانا قد بعثهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشام يتحسان له خبر العير، فقدما بعد غزوة بدر، فضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهميهما، قالا: يا رسول الله، وأجرنا. قال: وأجركما.. وكذلك جاء فى «ذكر مقتل طلحة» من هذا الجزء. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 236 قال: وما كان عليه إبراهيم؟ قال: كان بعبد الله لا يشرك به شيئا، ويصلّى إلى الكعبة. فكان زيد على ذلك حتى مات.. ومن رواية أخرى قال: خرج ورقة بن نوفل وزيد بن عمرو يطلبان الدين حتّى مرّا بالشام، فأما ورقة فتنصّر، وأمّا زيد فقيل له: إن الذى تطلب أمامك، فانطلق حتّى أتى الموصل فإذا هو براهب فقال: من أين أقبل صاحب الراحلة؟ قال من بيت إبراهيم. قال: ما تطلب؟ قال: الدّين. قال: فعرض عليه النصرانية، فقال: لا حاجة لى فيها، وأبى أن يقبل، فقال: إن الذى تطلب سيظهر بأرضك. فأقبل وهو يقول: لبّيك حقّا حقّا. تعبّدا ورقّا. [وقال] : [1] . مهما تجثّمنى فإنى جاشم. عذت بما عاذ به إبراهيم. قال: وأتى سعيد بن زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنّ زيدا كان كما قد رأيت وبلغك فاستغفر له. قال عليه الصلاة والسلام: «نعم، فإنه يبعث يوم القيامة أمة وحده» فاستغفر له. قال أبو عمر: وكان عثمان بن عفان رضى الله عنه قد أقطع سعيد بن زيد أرضا بالكوفة فنزلها وسكنها إلى أن مات، وسكنها من بعده من بنيه الأسود بن سعيد. وكانت وفاة [2] سعيد فى سنة خمسين أو سنة إحدى وخمسين، وهو ابن بضع وسبعين سنة رضى الله عنه وأرضاه.   [1] الزيادة من الاستيعاب ج 2 ص 4 حيث نقل المؤلف هذه الرواية كما نقل ما سبقها. [2] توفى بأرضه بالعقيق، وحمل إلى المدينة ودفن بها. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 237 الباب الثالث من القسم الخامس من الفن الخامس فى أخبار الدولة الأموية أول من ملك من ملوك هذه الدولة معاوية بن أبى سفيان، هو أبو عبد الرحمن معاوية بن أبى سفيان صخر بن حرب بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصىّ بن كلاب، يجتمع نسبه ونسب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى عبد مناف بن قصى. وأمه هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف. ولى معاوية دمشق عاملا لعمر بن الخطاب رضى الله عنه، فى سنة ثمانى عشرة [1] كما ذكرنا ذلك فى خلافة عمر، [وأقام بقية أيّام عمر] [2] وأيام عثمان بن عفّان رضى الله عنهما بكمالها إلى أن قتل. فلما بويع علىّ رضى الله عنه امتنع من مبايعته، وكان بينهما من الحروب ما ذكرناه فى خلافة على. وسلّم عليه بالإمارة [3] بعد اجتماع الحكمين فى سنة سبع   [1] قال ابن عبد البر فى الاستيعاب ج 3 ص 3 ص 395: «ولاه عمر على الشام بعد موت أخيه يزيد» ثم ذكر أن ذلك كان فى ستة تسع عشرة. [2] ثبتت هذه الجملة فى النسخة (ن) وسقطت من النسخة (ك) . [3] المعروف أنه صار أميرا على الشام يجعله عاملا للخليفة هناك، قال أبو عمر فى الاستيعاب ج 3 ص 398: «كان أميرا بالشام نحو عشرين سنة وخليفة مثل ذلك» وأما بعد اجتماع الحكمين فقد سلم عليه أصحابه وأهل الشام خاصة بالخلافة، قال ابن جرير الطبرى فى تاريخ سنة 37 بعد اجتماع الحكمين ج 4 ص 53: «ثم انصرف عمرو وأهل الشام إلى معاوية وسلموا عليه بالخلافة» . وسيصرح المؤلف بهذا فى (ذكر ملك عمرو ابن العاص مصر) . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 238 وثلاثين، وبويع له بعد وفاة علىّ رضى الله عنه فى ذى الحجة سنة أربعين ببيت المقدس، قاله أبو بشر الدّولابى [1] رحمة الله عليه، ثم بويع له البيعة العامّة بالكوفة بعد أن خلص له الأمر وتسلّمه من الحسن بن علىّ رضى الله عنهما، على ما تقدم، فى سنة إحدى وأربعين، فى شهر ربيع الأول لخمس بقين منه [وقيل: فى ربيع الآخر] [2] . وقيل: جمادى الأولى.. ولنبدأ من أخباره بما كان منها فى خلافة علىّ رضى الله عنه، ممّا لم نذكره هناك، ثم نذكر من أخباره بعد أن خلص له الأمر، فنبدأ هناك بما وقع فى أيّامه من الغزوات والفتوحات، ثم نذكر أخبار الخوارج عليه، ثم حوادث السنين خلاف ذلك على نحو ما قدمناه فى أخبار غيره، إن شاء الله تعالى. ذكر قدوم عمرو بن العاص على معاوية وصلحه معه كان عمرو بن العاص قد فارق المدينة وقدم إلى فلسطين فى آخر أيام عثمان، فأقام هناك حتى قتل عثمان بن عفان رضى الله عنه، وقد ذكرنا فى خلافة عثمان سبب خروج عمرو، فلما أتاه الخير بقتل عثمان قال: «أنا أبو عبد الله، أنا قتلته وأنا بوادى السبع [3]   [1] هو محمد بن أحمد بن حماد بن سعيد الرازى الدولابى، ولعل بعض أجداده نسب إلى عمل الدولاب الذى يستقى به الماء، وهناك بعض المواضع يسمى «الدولاب» فهل نسب أبو نشر إليه مع كونه من الرى؟ [2] ثبتت هذه الجملة فى النسخة (ن) ، وسقطت من النسخة (ك) . [3] السبع بسكون الباء وفتحها، قال ياقوت: السبع: ناحية فى فلسطين بين بيت المقدس والكرك، فيه سبع آبار، سمى الموضع بذلك، وكان ملكا لعمرو بن العاص، أقام به لما اعتزل الناس، وأكثر الناس يروى هذا الموضع بفتح الباء. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 239 إن يل هذا الأمر طلحة فهو فتى العرب سيبا، وإن يله ابن أبى طالب فهو أكره من يليه إلى!» . فأتاه الخبر ببيعة على، فاشتد عليه، فأقام ينتظر ما يصنع الناس، فأتاه خبر مسير عائشة وطلحة والزبير، فأقام ينتظر ما يصنعون، فأتاه خبر وقعة الجمل، فأرتج عليه. فسمع أن معاوية امتنع من بيعة على رضى الله عنه وأنه يعظم شأن عثمان، فدعا ابنيه [1] ، فاستشارهما، وقال: «ما تريان؟ أما على فلا خير عنده، وهو يدل بسابقته، وهو غير مشركى فى أمره» . فقال له ابنه عبد الله: «يا أبت، توفى النبى صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وهم عنك راضون، فأرى أن تكف يدك وتجلس فى بيتك حتى يجتمع الناس» . وقال له محمد: «يا أبت، أنت ناب [2] من أنياب العرب، ولا أرى أن يجتمع هذا الأمر وليس لك فيه صوت» [3] . فقال عمرو: «أما أنت يا عبد الله فأمرتنى بما هو خير لى فى دينى، وأما أنت يا محمد فأمرتنى بما هو خير لى فى دنياى وشرّ لى فى آخرتى» . ثم خرج ومعه ابناه حتّى قدم على معاوية (وقيل: إنه ارتحل من فلسطين وهو يبكى كما تبكى المرأة، ويقول: واعثماناه! أنعى الحياء والدّين، حتى قدم دمشق) فوجد أهل الشام يحضّون معاوية على الطلب بدم   [1] فى الكامل لابن الأثير- حيث نقل المؤلف- ج 3 ص 141: «فدعا ابنيه عبد الله، ومحمدا» وقد ذكر ابن عبد البر فى الاستيعاب ج 3 ص 346 قول الواقدى: محمد بن عمرو بن العاص شهد صفين وقاتل فيها ولم يقاتل أخوه عبد الله، وقال الزبير مثل ذلك. [2] الناب: سيد القوم. وفى الإصابة ج 3 ص 381 «أنت فارس أبيات العرب» . [3] كذا جاء فى المخطوطة والكامل لابن الأثير، وجاء فى الإصابة: «ذكر» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 240 عثمان. فقال لهم: أنتم على الحق اطلبوا بدم الخليفة المظلوم. ومعاوية لا يلتفت إليه، فقال له ابناه: ألا ترى إلى معاوية لا يلتفت إليك، انصرف إلى غيره، فدخل عليه فقال: «والله لعجب لك أنى أرفدك بما أرفدك وأنت معرض عنى، إن قاتلنا معك نطلب بدم الخليفة إن فى النفس ما فيها، حيث تقاتل من تعلم سابقته وفضله وقرابته، ولكنّا إنّما أردنا هذه الدنيا» . فصالحه معاوية وعطف عليه واقتدى بآرائه، وشهد عمرو معه صفين، وحكّمه، وكان من أمره معه ما تقدم، والله أعلم. ذكر مقتل محمد بن أبى حذيفة وشىء من أخباره كان أبوه حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، قتل يوم اليمامة وترك ابنه محمدا هذا، فكفله عثمان وأحسن تربيته. وكان فيما قيل قد أصاب شرابا فحده عثمان، ثم تنسّك بعد ذلك وأقبل على العبادة. وطلب من عثمان أن يولّيه عملا فقال له: لو كنت أهلا لذلك لولّيتك، فقال له: إنى قد رغبت [1] فى غزو البحر فأذن لى فى إتيان مصر. فأذن له وجهّزه، فلما قدمها رأى الناس عبادته فلزموه وعظّموه. وغزا مع عبد الله بن سعد غزوة الصوارى [2] ، وكان محمد   [1] كذا جاء فى الكامل لابن الأثير ج 3 ص 135، ولم تتبين الكلمة فى (ن) ، وجاء فى (ك) : «ركبت» . [2] غزوة الصوارى أو «ذات الصوارى» كان سببها أن المسلمين لما انتصروا فى أفريقيه خرج الروم فى جمع كبير، وخرج المسلمون للدفاع والجهاد، وكان عليهم فى هذه الحرب البحرية عبد الله بن سعد بن أبى سرح، جاء فى النجوم الزاهرة ج 1 ص 80، 91 «ثم غزا فى البحر من ناحية الإسكندرية، فلقيه قسطنطين بن هرقل فى ألف مركب، وقيل: فى سبعمائة، والمسلمون فى مائتى مركب، وتقاتلا، فانتصر أمير مصر عبد الله وهزم الروم، وانما سميت غزوة ذات الصوارى لكثرة صوارى المركب واجتماعها» . ويقال: إنها سميت بذات الصوارى لأن هذا الاسم كان لإقليم يجلب منه قدماء المصريين الخشب لبناء سفنهم.. وقد أحسنت الجمهورية العربية المتحدة فى اختيارها ذكرى هذه المعركة البحرية فى احتفالها بيوم البحرية. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 241 يعيب ابن سعد، ويعيب عثمان بتوليته [1] ، ويقول: استعمل رجلا أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه. وكتب عبد الله إلى عثمان: إن محمدا قد أفسد على البلاد هو ومحمد بن أبى بكر. فكتب عثمان رضى الله عنه إليه: أمّا ابن أبى بكر فإنه يوهب لأبيه ولعائشة، وأما ابن أبى حذيفة فإنه ابنى وابن أخى وتربيتى وهو فرخ قريش. فكتب إليه: إن هذا الفرخ قد استوى ريشه ولم يبق إلا أن يطير. فبعث عثمان إلى ابن أبى حذيفة ثلاثين ألف درهم ومحملا عليه كسوة. فوضعهما محمد فى المسجد وقال: يا معشر المسلمين ألا ترون إلى عثمان يخادعنى عن دينى ويرشونى، عليه. فازداد أهل مصر تعظيما له وطعنا على عثمان، وبايعوه على رئاستهم. فكتب إليه عثمان يذكّره برّه به وتربيته إيّاه وقيامه بشأنه، ويقول له: كفرت إحسانى أحوج ما كنت إلى شكرك. فلم يردّه ذلك عن ذمّه وتأليب الناس عليه، وحثهم إلى المسير إلى حصره ومساعدة من يريد ذلك.   [1] كان أول ما تكلم به محمد بن أبى حذيفة ومحمد بن أبى بكر فى حق عثمان فى غزوة الصوارى. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 242 فلما سار المصريون إلى عثمان أقام هو بمصر، وخرج عنها عبد الله ابن سعد بن أبى سرح، فاستولى عليها وضبطها ولم يزل مقيما بها حتى قتل عثمان وبويع علىّ رضى الله عنه، واتفق معاوية وعمرو بن العاص [على خلاف علىّ] [1] فسار عمرو بن العاص إليه وقتله. وقد اختلف فى قتله، فمن المؤرخين من قال: إن عمرو بن العاص سار إلى مصر هو ومعاوية قبل مقدم قيس بن سعد إليها، وأرادا دخول مصر فلم يقدرا على ذلك، فخدعا محمدا حتى خرج إلى العريش فى ألف رجل فتحصن بها، فنصبا عليه المنجنيق حتّى نزل فى ثلاثين من أصحابه فقتل. وهذا القول ليس بشىء يعتمد عليه، وهو بعيد جدا، لأن على بن أبى طالب استعمل قيس بن سعد على مصر أول ما بويع، ولو كان قتل محمد بن أبى حذيفة [قبل وصول قيس بن سعد إلى مصر] [2] لاستولى معاوية على مصر، ولا خلاف أن استيلاء معاوية على مصر كان بعد صفّين، وإنّما ذكرنا هذا القول لنبين بطلانه، وقد علّله بعض المؤرخين بنحو هذا التعليل، واستدل على بطلانه [3] . وقد قيل غير ذلك: وهو أن محمد بن أبى حذيفة سيّر المصريين إلى عثمان، فلما حضروه [4] أخرج محمد عبد الله بن سعيد بن أبى سرح عن مصر وهو عامل عثمان [واستولى] [5] عليها، فنزل عبد الله على تخوم مصر وانتظر أمر عثمان، فطلع عليه راكب، فسأله،   [1] الزيادة من الكامل لابن الأثير ج 3 ص 135 حيث نقل المؤلف. [2] ثبتت هذه العبارة فى النسخة (ن) ، وسقطت من النسخة (ك) . [3] انظر ابن الأثير فى تاريخه الكامل ج 3 ص 135. [4] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى الكامل ج 3 ص 136: «حصروه» . [5] الزيادة من الكامل. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 243 فأخبره بقتل عثمان وببيعة علىّ رضى الله عنه، فاسترجع، وأخبره بولاية قيس بن سعد على مصر، وأنه قادم بعده فقال عبد الله: «أبعد الله محمد بن أبى حذيفة! فإنه بغى على ابن عمه وسعى عليه، وقد كفله وربّاه وأحسن إليه، فأساء جواره، وجهّز إليه الرجال، حتّى قتل، ثم ولى على [1] من هو أبعد منه ومن عثمان، ولم يمتعه بسلطان بلاده شهرا ولم يره لذلك أهلا» . وخرج عبد الله هاربا حتّى قدم على معاوية [2] . وقيل: إن عمرو بن بن العاص سار إلى مصر بعد صفين، فلقيه محمد بن أبى حذيفة فى جيش كثير، فلما رأى عمرو كثرة من معه أرسل إليه فاجتمعا، فقال له عمرو: «إنه قد كان ما ترى، وقد بايعت هذا الرجل- يعنى معاوية- وما أنا راض بكثير من أمره، وإنى لأعلم أنّ صاحبك عليّا أفضل من معاوية نفسا وقدما، وأولى بهذا الأمر، فواعدنى موعدا ألتقى معك فيه فى غير جيش، تأتى فى مائة وآتى فى مثلها، وليس معنا إلّا السيوف فى القرب» . فتعاهدا وتعاقدا على ذلك واتّعدا العريش، ورجع عمرو إلى معاوية فأخبره الخبر، فلما جاء الأجل سار كل واحد منهما فى مائة، وجعل عمرو جيشا خلّفه، فلما التقيا بالعريش، قدم جيش عمرو [على أثره] [3] فعلم محمد أنه قد غدر به، فدخل قصرا بالعريش فتحصّن به، وحصره عمرو، ورماه بالمنجنيق حتّى أخذ أسيرا، فبعث به إلى معاوية فسجنه، وكانت   [1] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وجاء فى النسخة (ك) : «عليه» . [2] عقب ابن الأثير فى الكامل هذا بقوله: «وهذا القول يدل على أن قيسا ولى مصر ومحمد بن أبى حذيفه حى، وهو الصحيح» .. [3] الزيادة من الكامل لابن الأثير. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 244 ابنة [1] قرظة امرأة معاوية ابنة بن محمد عمة أبى حذيفة، أمّها فاطمة بنت عتبة، فكانت تصنع له طعاما ترسله إليه، فأرسلت إليه يوما فى الطعام مبارد، فبرد بها قيوده، وهرب، فاختفى فى غار، فأخذ وقتل. وقيل: إنه بقى محبوسا إلى أن قتل حجر بن عدىّ، ثم هرب فطلبه مالك بن هبيرة السّكونى، فظفر به فقتله غضبا لحجر، وكان مالك قد شفع إلى معاوية فى حجر فلم يشفعه. وقيل: إن محمد بن أبى حذيفة- لما قتل محمد بن أبى بكر- خرج فى جمع كثير على عمرو، فأمّنه عمرو، ثم غدر به، وحمله إلى معاوية، فحبسه، ثم إنه هرب، فأظهر معاوية للناس أنه كره هربه، وأمر بطلبه فسار فى طلبه عبيد الله بن عمر [2] بن ظلام الخثعمى فأدركه بحوارن فى غار، وجاءت حمر تدخل الغار، فلما رأت محمدا نفرت منه، وكان هناك ناس يحصدون، فقالوا: والله إن لنفرة هذه الحمر لشأنا، فذهبوا إلى الغار فرأوه، وخرجوا من عنده، فوافقهم عبيد الله فسألهم عنه ووصفه لهم، فقالوا: هو فى الغار، فأخرجه، وكره أن يأتى به معاوية فيخلى سبيله، فضرب عنقه. والله أعلم.   [1] هى فاختة ابنة قرظة. [2] عند ابن جرير وابن الأثير: «عمرو» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 245 ذكر ملك عمرو بن العاص مصر ومقتل محمد بن أبى بكر ووفاة الأشتر وما يتصل بذلك قد ذكرنا فى أخبار على رضى الله عنه استعماله محمد بن أبى بكر على مصر، وما كان بينه وبين أهل خربتا [1] وقتلهم ابن مضاهم، ثم خرج معاوية بن حديج السّكونى، ودعا إلى الطلب بدم عثمان فأجابه ناس وفسدت مصر على محمد بن أبى بكر، فبلغ ذلك عليا، فاستدعى الأشتر، وكان قد توجّه إلى نصيبين بعد صفّين، فحضر إليه فأخبره خبر أهل مصر، وقال له: «ليس لها غيرك، فاخرج إليها، فإنى لو لم أوصك اكتفيت برأيك، فاستعن بالله، واخلط الشّدة باللين، وارفق ما كان الرفق أبلغ، وتشدّد حين لا يغنى إلا الشّدة» فخرج الأشتر إلى مصر، فبلغ معاوية ذلك، فعظم عليه، وكان قد طمع فى مصر، فعلم أن الأشتر إن قدمها كان عليه أشد من محمد بن أبى بكر رضى الله عنه، فبعث معاوية إلى المقدّم على أهل الخراج بالقلزم وهو الجابستار [2] وقال له: إن الأشتر وقد ولى مصر فإن كفيتنيه لم آخذ منك خراجا ما بقيت وبقيت. فخرج الجابستار حتى أتى القلزم وأقام به. وخرج الأشتر من العراق إلى مصر، فلما انتهى إلى القلزم استقبله ذلك الرجل فعرض عليه النزول، فنزل عنده، فأتاه بطعام فأكل وأتاه بشربة من عسل قد جعل فيه سما فسقاه إياه، فلما شربها مات.   [1] انظر ما سبق فى «خربتا» . [2] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى تاريخ ابن جرير الطبرى ج 4 ص 71 «الجايستار» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 246 وأقبل معاوية يقول لأهل الشام: إنّ عليّا قد وجه الأشتر إلى مصر فادعوا الله عليه فكانوا يدعون عليه [1] . وأقبل الذى سقاه إلى معاوية فأخبره بمهلك الأشتر، فقام معاوية خطيبا، ثم قال: أمّا بعد، فإنه كانت لعلىّ يمينان، قطعت إحداهما يوم صفّين- يعنى عمّار بن ياسر-، وقطعت الأخرى اليوم- يعنى الأشتر-. فلما بلغ ذلك عليا قال: لليدين وللفم [2] ! [وكان ثقل عليه لأشياء نقلت عنه، وقيل: إنه لما بلغه قتله] [3] استرجع [4] وقال: «مالك! وما مالك؟ وهو موجود مثل ذلك؟ لو كان من حديد لكان قيدا، أو من حجر لكان صلدا، على مثله فلتبك البواكى!» [5] . ثم كتب إلى محمد بن أبى بكر باستقراره على عمله، وأوصاه. وقيل: إنه إنما ولى الأشتر بعد قتل محمد بن أبى بكر. قال: ولما كان من الحكمين ما كان، وبايع أهل الشام معاوية بالخلافة، لم يكن له همّ إلّا مصر، وكان يهاب أهلها [لقربهم منه و] [6] لشدّتهم وما كان من رأيهم فى عثمان، وكان يرجو أنه إذا ظهر [7] عليها ظهر على حرب على رضى الله عنه لعظم خراجها، فدعا   [1] ذكر ابن جرير وابن الأثير أنهم كانوا يدعون الله عليه كل يوم. [2]- هذه كلمة تقال للرجل إذا دعى عليه بالسوء، معناه: كبه الله لوجهه، أى خر إلى الأرض على يديه وفيه. [3] الزيادة من الكامل لابن الأثير ج 3 ص 178. [4] استرجع: قال «إنا لله وإنا إليه راجعون» . [5] قال ابن الأثير فى الكامل عقب هذا: «وهذا أصح، لأنه لو كان كارها له لم يوله مصر» . [6] الزيادة من الكامل. [7] ظهر: غلب. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 247 معاوية عمرو بن العاص، وحبيب بن أبى مسلمة، وبسر بن أرطاه، والضحّاك بن قيس، وعبد الرحمن بن خالد، وأبا الأعور والسّلمى، وشرحبيل بن السّمط الكندى، فقال لهم: أتدرون لم جمعتكم؟ فإنى جمعتكم لأمر لى مهمّ. فقالوا: لم يطلع الله على الغيب أحدا، ولم نعلم ما تريد. فقال عمرو بن العاص: لتسألنا عن رأينا فى مصر، فإن كنت جمعتنا لذلك، فاعزم واصبر، فنعم الرأى رأيت فى افتتاحها، فإن فيه عزّك وعزّ أصحابك، وكبت عدوك، وذلّ أهل الشقاق عليك. فقال معاوية: أهّمك يا بن العاص ما أهمكّ. وذلك أن عمرا صالح معاوية على قتال على رضى الله عنه على أن له مصر طعمة ما بقى. وأقبل معاوية على أصحابه وقال: أصاب أبو عبد الله، فما ترون؟ قالوا: ما نرى إلّا ما رأى عمرو. ثم كتب معاوية إلى مسلمة ابن مخلّد ومعاوية بن حديج السّكونى- وكانا قد خالفا عليّا- يشكرهما على ذلك، ويحثهما على الطلب بدم عثمان، ويعدهما المواساة فى سلطانه. وبعثه مع مولاه سبيع. فلما وقفا عليه أجاب مسلمة بن مخلّد الأنصارى عن نفسه وعن ابن حديج: «أمّا بعد، فإن الأمر الذى بذلنا له أنفسنا، واتبعنا أمر الله نرجو به ثواب ربنا، والنّصر على من خالفنا، وتعجيل النّقمة على من سعى على إمامنا؛ وأما ما ذكرت من المواساة فى سلطانك، فبالله إن ذلك أمر ما له نهضنا، ولا إيّاه أردنا، فعجّل علينا [1] بخيلك   [1] كذا جاء فى المخطوطة وتاريخ ابن جرير الطبرى، وجاء فى الكامل: «إلينا» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 248 ورجالك، فإنّ عدونا قد أصبحوا لنا هائبين، فإن يأتنا مدد يفتح الله عليك، والسلام. فجاءه الكتاب وهو بفلسطين، فدعا أولئك النفر وقال لهم: ما ترون؟ قالوا: نرى أن تبعث جندا. فأمر عمرو بن العاص ليتجهز إليها، وبعث معه ستة آلاف رجل، وأوصاه بالتؤدة وترك العجلة. وسار عمرو حتى نزل أدانى أرض مصر، فاجتمعت العثمانية إليه، فأقام بهم، وكتب إلى محمد بن أبى بكر: «أما بعد، فتنحّ عنّى بدمك يا بن أبى بكر، فإنّى لا أحب أن يصيبك منى ظفر؛ إنّ الناس بهذه البلاد قد أجمعوا على خلافك وهم مسلموك فاخرج منها، إنى لك من الناصحين» وبعث إليه [بكتاب معاوية] فى المعنى، ويتهدده بقصده حصار عثمان. فأرسل محمد الكتابين إلى على رضى الله عنه، ويخبره بنزول عمرو بأرض مصر، وأنه رأى التثاقل ممن عنده، ويستمده. فكتب إليه يأمره أن يضم شيعته إليه، ويعده إنفاذ الجيوش إليه ويأمره بالصبر لعدوّه وقتاله. وقام محمد فى الناس فندمهم إلى الخروج إلى عدوّهم مع كنانة بن بشر، فانتدب معه ألفان، وخرج محمد بن أبى بكر بعده فى ألفين، وأقبل عمرو نحو كنانة، فلما دنا منه سرّح الكتائب كتيبة بعد كتيبة، فجعل كنانة لا تأتيه كتيبة إلا حمل عليها، فألحقها بعمرو، فلمّا رأى ذلك بعث إلى معاوية بن خديج، فأتاه فى مثل الدّهم [1] ،   [1] الدهم: العدد الكثير. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 249 فأحاطوا بكنانة وأصحابه، واجتمع أهل الشام عليهم من كل جانب، فنزل كنانة عن فرسه ونزل معه أصحابه، فقاتل بسيفه حتّى قتل، وبلغ قتله محمد بن أبى بكر، فتفرّق عنه أصحابه، وأقبل عمرو بجمع، ولم يبق مع محمد أحد. فخرج محمد يمشى فى الطريق، فانتهى إلى خربة فأوى إليها، وسار عمرو بن العاص حتّى دخل الفسطاط، وخرج معاوية بن حديج فى طلب محمد بن أبى بكر، فانتهى إلى جماعة على قارعة الطريق فسألهم عنه، فقال أحدهم: دخلت تلك الخربة فرأيت فيها رجلا جالسا، فقال ابن حديج: هو هو. فدخلوا فاستخرجوه وكاد يموت عطشا، وأقبلوا به نحو الفسطاط. ووثب أخوه عبد الرحمن بن أبى بكر رضى الله عنهم إلى عمرو وكان فى جنده، وقال: أيقتل أخى صبرا؟ ابعث إلى ابن حديج فانهه عنه. فبعث إليه يأمره أن يأتيه بمحمد، فقال: قتلتم كنانة بن بشر وأخلّى أنا محمدا أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ [1] هيهات هيهات! فقال لهم محمد بن أبى بكر رضى الله عنه: اسقونى ماء. فقال ابن حديج: «لا سقانى الله إن سقيتك قطرة أبدا؛ إنكم منعتم عثمان شرب الماء، والله لأقتلنّك حتى يسقيك الله من الحميم والغسّاق» . فقال له محمد: «يا ابن اليهودية النّسّاجة، ليس ذلك إليك، إنّما ذلك إلى الله، يسقى أولياءه، ويظمىء أعداءه؛ أنت وأمثالك، أما والله لو كان   [1] الآية 43 من سورة القمر. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 250 سيفى بيدى ما بلغتم منّى هذا» . قال له: أتدرى ما أصنع بك؟ أدخلك جوف حمار ثم أحرقه عليك بالنار. فقال محمد: «إن فعلت بى ذلك فطالما فعلتم ذلك بأولياء الله، وإنى لأرجو أن يجعلها الله عليك وعلى أوليائك ومعاوية وعمرو نارا تلظّى، كلّما خبت زادها الله سعيرا» . فغضب منه وقتله، ثم ألقاه فى جيفة حمار، ثم أحرقه بالنار. فلما بلغ ذلك عائشة رضى الله عنها جزعت عليه جزعا شديدا، وقنتت فى وتر [1] الصلاة تدعو على معاوية وعمرو، وأخذت عيال محمد إليها، وامتنعت عائشة بعد ذلك أن تأكل شواء حتّى ماتت. وقد قيل: إن محمد بن أبى بكر قاتل عمرا ومن معه قتالا شديدا، فقتل كنانة وانهزم محمد، فاختبأ عند جبلة بن مسروق، فدلّ عليه معاوية ابن حديج، فأحاط به، فخرج إليه محمد فقاتل حتى قتل. وكان ذلك فى سنة ثمان وثلاثين. قال: وأما علىّ رضى الله عنه، فإنه لما أتاه كتاب محمد ندب الناس إلى الخروج، فتثاقلوا فخطبهم وحثهم على الخروج ووبخهم على الثتاقل، فقام إليه كعب بن مالك الأرحبيىّ [2] فقال: يا أمير المؤمنين: اندب الناس؛ لهذا اليوم كنت أدخر نفسى، ثم قال: أيها الناس، اتقوا الله وأجيبوا إمامكم، وانصروا دعوته، وقاتلوا   [1] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى تاريخ ابن جرير الطبرى ج 4 ص 79 والكامل لابن الأثير ج 3 ص 180 «فى دبر الصلاة» . [2] كذا جاء فى المخطوطة والكامل لابن الأثير. وجاء فى تاريخ ابن جرير ج 4 ص 81- 82 «مالك بن كعب الهمدانى ثم الأرحبى» وسيأتى قريبا أن عين التمر فيها «مالك بن كعب» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 251 عدوّه وأنا أسير إليه، فخرج معه ألفان. فقال له على رضى الله عنه: سر فو الله ما أظنّك تدركهم حتى ينقضى أمرهم، فسار بهم خمسا. ثم قدم الحجّاج بن غزيّة من مصر فأخبره بالخبر، وأتاه عبد الرحمن بن شبيب الفزارى من الشام وكان عينه هناك فأخبره أن البشارة من عمرو وردت بقتل محمد وملك مصر وسرور أهل الشام بقتله، فقال على؛ أما إن حزننا عليه بقدر سرورهم به، لا بل يزيد أضعافا: وأرسل إلى الجيش فأعادهم. وقام فى الناس خطيبا فقال: «ألا إن مصر قد افتتحها الفجرة أولو الجور والظلم، الذين صدّوا عن سبيل الله، وبغوا الإسلام عوجا، ألا وإن محمد بن أبى بكر استشهد، فعند الله نحتسبه، أما والله إنه كان- ما علمت- لممّن ينتظر القضاء، ويعمل للجزاء، ويبغض شكل الفاجر، ويحب هدّى المؤمن، والله لا ألوم نفسى على تقصير، وإنى بمقاساة الحرب لجد خبير، وإنى لأقدم على الأمر، وأعرف وجه الحزم، وأقوم فيكم يا لرأى المصيب، وأستصرخكم معلنا، وأناديكم نداء المستغيث، فلا تسمعون لى قولا، ولا تطيعون لى أمرا، حتّى تصير الأمور إلى عواقب المساءة، فأنتم القوم لا يدرك بكم الثأر، ولا تنقض بكم الأوتار، ودعوتكم إلى غياث إخوانكم منذ بضع وخمسين ليلة، فتجرجرتم جرجرة [1] الجمل الأشدق، وتثاقلتم إلى الأرض تثاقل من ليست له نيّة فى جهاد العدوّ، ولا اكتساب   [1] الجرجرة: صوت يردده البعير فى حنجرته، والمراد الضجة والصياح. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 252 الأجر، ثم خرج إلىّ منكم جنيد متذائب [1] ، كأنّما يساقون إلى الموت وهم ينظرون، فأفّ لكم!» . ثم نزل رضى الله عنه. ذكر سرايا معاوية الى بلاد على بن أبى طالب رضى الله عنه لمّا كان من أسر الحكمين ما ذكرنا، وملك معاوية مصر، استشرفت نفسه إلى غير ذلك، فلما كان فى سنة تسع وثلاثين بثّ سراياه فى أطراف بلاد علىّ رضى الله عنه. فبعث النعمان بن بشير فى ألف رجل إلى عين التمر [2] وفيها مالك بن كعب مسلحة لعلىّ فى ألف رجل، وكان مالك قد أذن لأصحابه فأتوا الكوفة، ولم يبق معه إلّا مائة رجل، فلما سمع خبر النعمان كتب إلى علىّ رضى الله عنه يستمده، فندب الناس إلى الخروج، فتثاقلوا، وواقع مالك النعمان، وجعل وراء القرية فى ظهر أصحابه، وكتب مالك إلى مخنف بن سليم يستغيثه وهو قريب منه، فوجه مخنف ابنه عبد الرحمن فى خمسين رجلا، فانتهوا إلى مالك وقد كسروا جفون سيوفهم واستقتلوا، وذلك بعد أن قاتلوا قتالا شديدا، فلما رآهم أهل الشام انهزموا بعد العشاء، وظنوا أنّ لهم مددا، وتبعهم مالك فقتل منهم ثلاثة نفر. وبعث سفيان بن عوف فى ستة آلاف، وأمره أن يأتى هيت [3]   [1] جاء فى النهاية: «وفى حديث على رضى الله عنه: خرج منكم إلى جنيد متذائب ضعيف، المتذائب: المضطرب من قولهم: تذاءبت الريح، أى اضطرب هبوبها [2] عين التمر: بلدة قريبة من الأنبار غربى الكوفة. [3] هيت: بلدة على الفرات من نواحى بغداد فوق الأنبار. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 253 فيقطعها، ثم يأتى الأنبار والمدائن فيوقع بأهلها، فأتى هيت فلم يجد بها أحدا، ثم أتى الأنبار وفيها مسلحة لعلى تكون خمسمائة رجل، وقد تفرقوا فلم يبق منهم إلّا مائتا رجل، وكان سبب تفرقهم أن أميرهم كميل [1] بن زياد بلغه أن قوما بقرقيسيا [2] يريدون الغارة على هيت، فسار إليهم، فأتى أصحاب سفيان وكميل غائب، فقاتل سفيان من وجد هناك فصبروا له، ثم قتل صاحبهم وهو أشرس ابن حسّان البكرىّ وثلاثون رجلا، واحتمل أصحاب سفيان ما فى الأنبار من أموال أهلها ورجعوا إلى معاوية، وبلغ الخبر عليا فأرسل فى طلبهم فلم يدركوا. وبعث عبد الله ابن مسعدة بن حكيم بن مالك بن بدر الفزارىّ فى ألف وسبعمائة رجل إلى تيماء [3] وأمره أن يأخذ صدقة من مرّ به من أهل البوادى ويقتل من امتنع، ففعل ذلك، وبلغ مكة والمدينة، واجتمع إليه بشر كثير من قومه. وبلغ ذلك عليا فأرسل المسيّب بن نجبة الفزارى فى ألفى رجل، فلحق عبد الله بتيماء فاقتتلوا قتالا شديدا حتّى زالت الشمس، وحمل المسيّب على ابن مسعدة فضربه ثلاث ضربات لا يريد قتله، ويقول له: النّجاء النّجاء. فدخل ابن مسعدة وجماعة من أصحابه الحصن وهرب الباقون نحو الشام، وانتهب الأعراب إبل الصّدقة التى كانت مع ابن مسعدة وحصره ثلاثة   [1] هو كميل بن زياد بن نهيك النخعى. [2] قرقيسيا: بلد على نهر الخابور، وعندها مصب الخابور فى الفرات، فهى فى مثلث بين الخابور والفرات، كما ذكره ياقوت [3] تيماء: موضع فى أطراف الشام، بين الشام ووادى القرى. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 254 أيام، ثم ألقى الحطب فى الباب وحرقه، فلما رأوا الهلاك أشرفوا عليه وقالوا: قومك يا مسيّب!: فرقّ لهم وأمر بالنار فأطفئت، وقال لأصحابه: قد جاءنى عيون فأخبرونى أن جندا قد أتوكم من الشام. وبعث معاوية أيضا الضحّاك بن قيس فى ثلاثة آلاف رجل، أمره أن يمر بأسفل واقصة [1] ، ويغير على كل من مر به ممن هو فى طاعة علىّ من الأعراب، فسار وقتل الناس وأخذ الأموال، ومضى إلى الثعلبية [2] فأغار على مسلحة علىّ وانتهى إلى القطقطانة [3] ، فلما بلغ ذلك عليا أرسل حجر بن عدى إليّه فى أربعة آلاف وأعطاهم خمسين درهما، فلحق الضحاك بتدمر فقتل من أصحابه [4] تسعة عشر رجلا، وقتل من أصحابه رجلان، وحجز بينهما الليل فهرب الضحاك وأصحابه، ورجع حجر ومن معه. وسار معاوية بنفسه حتى شارف دجلة ثم رجع. وبعث معاوية يزيد بن شجرة الرّهاوىّ [5] إلى مكة لأخذ البيعة له، وإقامة الحج بالناس، ومعه ثلاثة آلاف، فسار إلى مكة وبها قثم بن العباس من قبل علىّ، فأراد مفارقتها [6] ، واللحاق ببعض شعابها، فنهاه   [1] واقصة: موضع بطريق مكة من الكوفة. [2] الثعلبية: من منازل طريق مكة من الكوفة، بعد الشقوق وقبل الخزيمية وسميت بثعلبة بن عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء كما ذكره ياقوت. [3] القطقطانة: موضع قرب الكوفة من جهة البرية. [4] فى الكامل ج 3 ص 189 «فقتل منهم» . [5] قال ابن الأثير: الرهاوى: منسوب إلى الرهاء، قبيلة من العرب، وقد ضبطه عبد الغنى بن سعيد بفتح الراء، قبيلة مشهورة، وأما المدينة فبضم الراء. انظر القاموس. [6] لما سمع قثم بن العباس بمسمير يزيد بن شجرة خطب أهل مكة وأعلمهم بمسير الشاميين ودعاهم إلى حربهم، فلم يجيبوه بشىء فعزم على مفارقة مكة. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 255 أبو سعيد الخدرىّ، وكتب قثم إلى على يستمده، ووصل يزيد إلى مكة قبل التّروية بيومين، فما تعرض للقتال، ونادى فى الناس: أنتم آمنون إلّا من قاتلنا ونازعنا. واتفق قثم ويزيد أن يعتزلا الصلاة بالناس، واختارا شيبه بن عثمان، فصلّى بالناس وحج بهم، ولما انقضى الحج رجع يزيد إلى الشام، وأقبلت خيل علىّ مددا لقثم، وفيهم الرّيّان ابن ضمرة الحنفى، وأبو الطّفيل، وعليهم معقل بن قيس، فتبعوه فأدركوه وقد دخل وادى القرى، وظفروا بنفر من أصحابه فأخذوهم أسارى ورجعوا بهم إلى على، ففادى بهم أسارى كانت لهم عند معاوية. وبعث معاوية عبد الرحمن بن قباث بن أشيم إلى بلاد الجزيرة وبها شبيب بن عامر بنصيبين [1] ، فكتب إلى كميل بن زياد وهو بهيت يعلمه خبرهم، فسار كميل إليهم نجدة له فى ستمائة فارس، فأدركوا عبد الرحمن ومعه معن بن يزيد السّلمىّ فقاتلهما كميل فهزمهما، وغلب على عسكرهما، وأكثر القتل فى أهل الشام، وقتل من أصحاب كميل رجلان، وأقبل شبيب بن عامر من نصيبين فرأى كميلا قد أوقع بالقوم فهنأه بالظّفر، واتّبع الشاميين فلم يدركهم، فعبر الفرات وبثّ خيله فأغارت على أهل الشام حتّى بلغ بعلبك [2] ، فوجه إليه معاوية حبيب بن مسلمة فلم يدركه، ورجع شبيب فأغار على نواحى الرقّة [3] ، فلم يدع للعثمانية بها ماشية إلا استاقها، ولا خيلا   [1] نصيبين: مدينة عامرة من بلاد الجزيرة، على طريق القوافل من الموصل إلى الشام. كما ذكره ياقوت. [2] بعلبك: مدينة قديمة بالشام مشهورة بآثارها. [3] الرقة: مدينة مشهورة على الفرات. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 256 ولا سلاحا إلّا أخذه، وعاد إلى نصيبين. وكتب إلى علىّ رضى الله عنه فكتب إليه ينهاه عن أخذ أموال الناس إلّا الخيل والسلاح الذى يقاتلونه به، وقال: رحم الله شبيبا، لقد أبعد الغارة، وعجّل الانتصار. ولما فعل شبيب ذلك وقدم يزيد بن شجرة على معاوية بعث معاوية الحارث بن نمر التّنوخىّ إلى الجزيرة ليأتيه بمن كان فى طاعة علىّ، فأخذ من أهل دارا [1] سبعة نفر من بنى تغلب، وكان جماعة من بنى تغلب قد فارقوا عليّا إلى معاوية فسألوه فى إطلاق أصحابهم فلم يفعل فاعتزلوه أيضا، وفادى معاوية بهم من كان أسرهم معقل بن قيس من أصحاب ابن شجرة. وبعث معاوية زهير بن مكحول العامرىّ إلى السّماوة [2] ليأخذ صدقات الناس، فبلغ ذلك عليا فبعث ثلاثة نفر، وهم: جعفر بن عبد الله الأشجعىّ، وعروة بن العشبة والجلاس بن عمير الكلبيين [3] ؛ ليأخذوا صدقه من فى طاعته من كلب وبكر بن وائل، فوافوا زهيرا فاقتتلوا، فانهزم أصحاب علىّ رضى الله عنه، وقتل جعفر، ولحق ابن العشبة بعلىّ فعنفه وعلاه بالدّرّة، فغضب ولحق بمعاوية. وأما ابن الجلاس فإنه مرّ براع فأخذ جبتّه وأعطاه جبة خزّ فأدركته الخيل،   [1] دارا: مدينة بين نصيبين وماردين. [2] بادية السماوة: بين الكوفة والشام. [3] كذا جاء فى المخطوطة، والظاهر هنا «الكلبيان؛» بالرفع، وجاء بالنصب فى الكامل لأنه لم يجىء فيه «وهم» فكانت الأسماء منصوبة. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 257 فقالوا: أين أخذ هؤلاء التّرابيون [1] ؟ فأشار إليهم: أخذوا ها هنا. ثم أقبل إلى الكوفة. وبعث أيضا مسلم بن عقبة المرىّ إلى دومة الجندل، وكان أهلها قد امتنعوا من بيعة علىّ ومعاوية جميعا، فدعاهم إلى طاعة معاوية وبيعته، فامتنعوا، وبلغ ذلك عليّا، فبعث مالك بن كعب الهمذانى فى جمع إلى دومة الجندل، فلم يشعر مسلم إلّا وقد وافاه مالك، فاقتتلوا يوما ثم انصرف مسلم منهزما، وقام مالك أياما يدعو أهل دومة الجندل إلى بيعة علىّ، فأبوا وقالوا: لا نبايع حتى يجتمع الناس على إمام، فانصرف عنهم وتركهم. ذكر مسير بسر بن أرطاة إلى الحجاز واليمن وما فعله وفى سنة أربعين بعث [2] معاوية بسر بن أرطاة بن أبى أرطاة- واسم أبى أرطاة عمير، وقيل [3] عويمر الشّامىّ [4] من بنى عامر بن لؤى- إلى الحجاز واليمن فى ثلاثة آلاف فارس، فسار من الشام حتّى قدم المدينة، وعامل المدينة يومئذ أبو أيوب الأنصارى من قبل علىّ رضى الله عنهما، ففرّ أبو أيّوب ولحق بعلى، ودخل بسر المدينة ولم يقاتله أحد، فصعد منبرها فنادى: يا دينار، يا نجار، يا زريق   [1] أى أتباع أبى تراب على بن أبى طالب. [2] وذلك بعد تحكيم الحكمين، كما فى تاريخ الطبرى ج 4 ص 106 والاستيعاب ج 1 ص 158. [3] كذا جاء فى المخطوطة مثل الاستيعاب ج 1 ص 154، وجاء فى جمهرة أنساب العرب ص 161 والإصابة ج 1 ص 147 «واسم أبى (أرطاة) عمير بن عويمر» . [4] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وقد قال أبو عمر فى الاستيعاب «يعد بسر بن أرطاة فى الشاميين» . وجاء فى النسخة (ك) : «الشيبانى» ، ومن المعروف أنه عامرى قرشى. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 258 (وهذه بطون من الأنصار) شيخى شيخى، عهدته ههنا بالأمس، فأين هو؟! (يعنى عثمان) . ثم قال: والله لولا ما عهد إلى معاوية ما تركت بها محتلما إلّا قتلته. ثم أمر أهل المدينة بالبيعة لمعاوية، وأرسل إلى بنى سلمة [1] فقال: ما لكم عندى أمان ولا مبايعة حتّى تأتونى بجابر بن عبد الله. فأخبر، فانطلق إلى أمّ سلمة زوج النبى صلى الله عليه وسلم فقال لها: «ماذا ترين؟ فإنى خشيت أن أقتل، وهذه بيعة ضلاله!» فقالت: «أرى أن تبايع، وقد أمرت ابنى عمر بن أبى سلمة وختنى بن زمعة أن يبايعا» ، وكانت [2] ابنتها زينب تحت ابن زمعه [3] ، فأتى جابر إلى بسر فبايعه لمعاوية، وهدم بسر دورا بالمدينة. ثم انطلق حتّى أتى مكة، وفيها أبو موسى الأشعرى، فخافه أبو موسى على نفسه أن يقتله، فهرب، فقيل ذلك لبسر، فقال: ما كنت لأطلبه وقد خلع عليا. ولم يطلبه. وكتب أبو موسى إلى اليمن: أن خيلا مبعوثة من عند معاوية تقتل الناس ممّن أبى أن يقرّ بالحكومة. ثم مضى بسر إلى اليمن، وعامل اليمن من قبل علىّ رضى الله عنه عبيد الله بن عبّاس، فلما بلغه أمر بسر فرّ إلى الكوفة حتّى أتى   [1] قال ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 193 «بكسر اللام، بطن من الأنصار» وهم بنو سلمة بن سعد بن على بن أسد بن ساردة بن تزيد بن جشم بن الخزرج، ومن بنى أسد جابر بن عبد الله، هو وأبوه صحابيان. [2] جاء بهذه الجملة ليشرح معنى «الختن» . [3] ابن زمعة: عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصى القرشى الأسدى، أمه: قريبة بنت أبى أمية، أخت أم سلمة، وزوجته: ابنة خالته زينب بنت أبى سلمة. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 259 عليّا، واستخلف على اليمن عبد الله بن عبد المدان الحارثى [1] ، فأتاه بسر فقتله وقتل ابنه [2] ، ولقى ثقل [3] عبيد الله بن العباس رضى الله عنه وفيه ابنان صغيران لعبيد الله بن العبّاس فقتلهما، وهما عبد الرحمن وقثم. وقيل: إنهما كانا عند رجل من بنى كنانة بالبادية، فلما أراد قتلهما قال له الكنانى: «لم تقتل هذين ولا ذنب لهما؟ فإن كنت قاتلهما فاقتلنى معهما!» ، فقتله، وقتلهما بعده. وقيل: إنّ الكنانىّ أخذ سيفه وقاتل عن الغلامين وهو يقول! الليث من يمنع حافات الدار. ... ولا يزال مصلتا دون الجار. وقاتل حتّى قتل وأخذ بسر الغلاميين فذبحهما، فخرج نسوة من بنى كنانة، فقالت امرأة منهن: «ما هذا؟ قتلت الرجال فعلام تقتل الولدان؟ والله ما كانوا يقتلون فى جاهلية ولا إسلام! والله إنّ سلطانا لا يقوم إلّا بقتل الضّرع [4] الصغير والشيخ الكبير وبرفع الرحمة وعقوق الأرحام لسلطان سوء!» فقال لها بسر: والله لقد   [1] عبد الله بن عبد المدان قدم على النبى صلى الله عليه وسلم فى وفد بنى الحارث بن كعب، فقال له: من أنت قال: أنا عبد الحجر. قال: أنت عبد الله. فأسلم وبايع. وأبوه عبد المدان اسمه عمرو. وجده الديان اسمه يزيد. وكان عبيد الله بن عباس قد تزوج عائشة بنت عبد الله بن عبد المدان واستعان أباها عبد الله على اليمن. [2] مالك بن عبد الله بن عبد المدان. [3] الثقل: متاع المسافر وحشمه وكل شىء نفيس مصون. [4] الضرع: الضعيف. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 260 هممت أن أضع فيكن السيف. فقالت له: تالله إنها لأخت التى صنعت وما أنا لها منك بآمنة! ثم قالت للنساء [التى [1] حولها] : ويحكنّ! تفرّقن!. وقتل بسر فى مسيره ذلك جماعة من شيعة علىّ باليمن. وبلغ عليا الخبر، فأرسل جارية بن قدامة فى ألفين، ووهب ابن مسعود فى ألفين، فسار جارية حتّى أتى نجران، فقتل بها ناسا من شيعة عثمان، وهرب بسر منه، واتبعه جارية إلى مكة، فقال: بايعوا أمير المؤمنين. فقالوا: قد هلك فلمن نبايع؟ قال: لمن بايع له أصحاب على فبايعوا خوفا منه. ثم سار حتّى أتى المدينة، وأبو هريرة يصلّى بالناس، فهرب منه، فقال جارية: لو وجدت أبا سنّور لقتلته. ثم قال لأهل المدينة: بايعوا الحسن بن على، فبايعوا، وأقام يومه، ثم عاد إلى الكوفة، ورجع أبو هريرة يصلّى بهم. وكانت أم ابنى عبيد الله أمّ الحكم جويرية بنت خويلد بن قارظ، وقيل: عائشة بنت عبد الله بن عبد المدان، فلما قتل ولداها ولهت [2] عليها، فكانت لا تعقل ولا تصغى، ولا تزال تنشدهما فى المواسم وتقول:   [1] يبدأ من هنا مقدار كبير سقط من النسخة (ك) وثبت فى النسخة (ن) . [2] ولهت: اشتد حزنها وذهب عقلها. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 261 ها [1] من أحس بنيّىّ اللذين هما ... كالدّرتين تشظّى [2] عنهما الصدف هامن أحسّ بنيّىّ اللذين هما ... سمعى وعقلى فقلبى اليوم مختطف هامن أحسّ بنيّىّ اللذين هما ... مخّ العظام فمخّى اليوم مزدهف [3] من ذلّ والهة حيرى مدلّهة [4] ... على صبيّين ذلّا إذ غدا السّلف نبّئت بسرا وما صدّقت ما زعموا ... من قتلهم ومن الإثم الّذى اقترفوا أحنى على ودجى [5] إبنىّ [6] مرهفة ... مشحوذة وكذاك الإثم يقترف قال [7] : فلمّا سمع علىّ بقتلهما جزع جزعا شديدا، ودعا على بسر فقال: اللهم اسلبه دينه وعقله. فأصابه ذلك، وفقد عقله، فكان يهذى بالسّيف ويطلبه، فيؤتى بسيف من خشب، ويجعل   [1] «ها» كذا جاء فى المخطوطة موافقا للاستيعاب ج 1 ص 156، وجاء فى الكامل لابن الأثير ج 3 ص 193: «يا» ، وكذلك أولا البيتين التاليين. [2] تشظى: انشق. [3] مزدهف: مذهوب به. [4] المدلهة: الساهية القلب الذاهية العقل. [5] الودج: عرق فى العنق يقطعه الذابح فلا يبق معه حياة. [6] همزة «ابن» همزة وصل، ولكنها صارت إلى القطع هنا لضرورة شعر. [7] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 193. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 262 بين يديه زقّ منفوخ، فلا يزال يضربه، فلم يزل كذلك إلى أن مات. قال [1] : ولما استقرّ الأمر لمعاوية دخل عليه عبيد الله بن عبّاس وعنده بسر، فقال لبسر: وددت أن الأرض أنبتنى عندك حين قتلت ولدىّ. فقال بسر: هاك سيفى. فأهوى عبيد الله ليتناوله، فأخذه معاوية وقال لبسر: «أخزاك الله شيخا قد خرفت! والله لو تمكّن منه لبدأ بى!» قال عبيد الله: أجل ثم ثنيت به. وقيل: إن مسير بسر إلى الحجاز كان فى سنة اثنتين وأربعين، وإنه أقام بالمدينة شهرا يستعرض الناس، لا يقال له عن أحد «إنه شرك فى دم عثمان» إلّا قتله. وحكى أبو عمر بن عبد البر [2] عن أبى عمرو الشيبانى قوله: لما وجّه معاوية بن أبى سفيان بسر بن أرطاة الفهرى لقتل شيعة علىّ، قام إليه معن أو [3] عمرو بن يزيد بن الأخنس السّلمى وزياد [4] بن الأشهب الجعدى فقالا: «يا أمير المؤمنين نسألك بالله والرّحم ألّا تجعل لبسر على قيس سلطانا، فيقتل قيسا بما قتلت بنو سليم من بنى فهر وكنانة يوم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة» . فقال له معاوية: يا بسر، لا أمر لك على قيس. فسار حتّى أتى المدينة فقتل ابنى عبيد الله بن عبّاس، وفرّ أهل المدينة ودخلوا الحرّة: حرّة بنى سليم.   [1] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 193. [2] الاستيعاب ج 1 ص 156. [3] المشهور فى هذه النسبة «معن بن يزيد بن الأخنس السلمى» ، وقد بايع النبى صلى الله عليه وسلم، وقيل: إنهم ثلاثتهم شهدوا بدرا مسلمين. [4] كان زياد بن الأشهب بن أدر بن عمرو بن ربيعة بن جعدة العامرى الجعدى من أشراف أهل الشام عظيم المنزلة عند معاوية. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 263 هكذا قال الشيبانى: إنه قتل ابنى عبيد الله بالمدينة. والأكثر أنه قتلهما باليمن على ما ذكرنا. قال [1] : وفى هذه الخرجة أغار بسر على همدان وقتل وسبى نساءهم، فكنّ أوّل مسلمات سبين فى الإسلام. وقتل أحياء من بنى سعد. وروى أبو عمر [2] بسنده عن أبى الرّباب وصاحب له أنهما سمعا أبا ذر يدعو ويتعوذ فى صلاة صلّاها طال قيامها وركوعها وسجودها، قال: فسألناه: ممّ تعوّذت؟ وفيم دعوت؟ فقال: تعوذت بالله من يوم البلاء أن يدركنى ويوم العورة أن أدركه. فقلنا: وما ذاك؟ فقال: أما يوم البلاء فتلتقى فئتان من المسلمين فيقتل بعضهم بعضا، وأما يوم العورة فإن نساء من المسلمات يسبين فيكشف عن سوقهنّ فأيّتهن كانت أعظم ساقا اشتريت على عظم ساقها، فدعوت الله ألّا يدركنى هذا الزمان ولعلكما تدركانه. قال: فقتل عثمان ثم أرسل معاوية بسر بن أرطاة إلى اليمن فسبى نساء مسلمات فأقمن فى السّوق. هذا ما كان من أخياره فى خلافة علىّ رضى الله عنه ممّا يدخل فيما نحن بصدده، فلنذكر الآن ما اتفق له فى مدة ولايته بعد أن خاص له الأمر، ونبدأ بالغزوات والفتوحات.   [1] أبو عمر بن عبد البر فى الاستيعاب. [2] فى الاستيعاب. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 264 ذكر الغزوات والفتوحات فى أيام معاوية بعد أن استقل بالأمر فى سنة اثنتين وأربعين كان غزو الروم، فهزموا، وقتل جماعة كبيرة من بطارقتهم. وفيها كان غزو اللان [1] . وفى سنة ثلاث وأربعين غزا بسر بن أرطاة الرّوم حتّى بلغ القسطنطينية، وشتّى بأرضهم، حكاه الواقدى، وأنكره غيره وقال: لم يشتّ بسر بأرض الروم قطّ، وكان بسر إذ ذاك يلى البصرة من قبل معاوية على ما نذكره فى حوادث السنين. وفيها استعمل عبد الله بن عامر عبد الرحمن بن سمرة على سجستان، فأتاها، فكان يغزو البلد وقد كفر أهله فيفتحه، حتى بلغ كابل، فحصرها أشهرا، ونصب عليها مجانيق فثلمت سورها ثلمة عظيمة، فبات عليها عبّاد بن الحصين الحبطى ليلة- وكان على الشرطة- فما زال يطاعن المشركين حتّى أصبح، فلم يقدروا على سدها وخرجوا من الغد يقاتلون فهزمهم المسلمون، ودخلوا البلد عنوة [2] . وساروا إلى زراون، فهرب أهلها، فغلب عليها، ثم سار إلى خشّك، فصالحه أهلها. ثم أتى الرّخّج، فقاتلوه، فظفر بهم وفتحها، ثم صار إلى زابلستان- وهى غزنة وأعمالها- وكانوا قد نكثوا ففتحها. وعاد إلى كابل، وقد نكث أهلها ففتحها.   [1] اللان: بلاد واسعة فى طرف أرميلية. [2] زاد ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 217- حيث نقل المؤلف- قوله: «ثم صاروا إلى بست ففتحها عنوة» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 265 ذكر غزو السند قال: وفى سنة ثلاث وأربعين استعمل عبد الله بن عامر- وكان على البصرة وخراسان وسجستان- عبد الله بن سوّار العبدى على ثغر السند [1]- ويقال: بل كان ابن سوار من قبل معاوية- فغزا القيقان، فأصاب مغنما، ووفد على معاوية وأهدى له خيلا [2] ، ثم غزا القيقان مرة ثانية، فاستنجدوا بالترك، فقتلوه وكان كريما، لم يوقد أحد فى عسكره نارا [3] ، فرأى ذات ليلة فى عسكره نارا، فقال: ما هذه؟ قالوا: امرأة نفساء يعمل لها الخنبيص، فأمر أن يطعم الناس الخنبيص ثلاثة أيّام. وفى سنة أربع وأربعين دخل المسلمون بلاد الروم مع عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وشتوا بها ... وغزا بسر بن أرطاة فى البحر. وفيها غزا المهلب بن أبى صفرة ثغر السند، وقاتلهم، ولقى المهلب ببلاد القيقان ثمانية عشر فارسا من الترك، فقاتلوه قتالا شديدا، فقتلوا جميعا. وفى سنة ست وأربعين كان مشتى مالك بن عبد الله [4] بأرض   [1] كان قد توجه إلى ثغر السند فى سنة 38 وأول سنة 39 الحارث بن مرة العبدى متطوعا بإذن على بن أبى طالب، فظفر وأصاب مغنما، ثم قتل فى سنة 42 بأرض القيقان. [2] خيلا قيقانية، كما قال ياقوت فى معجم البلدان. [3] نارا غير ناره، كما قال ياقوت. [4] مالك بن عبد الله بن سنان بن سرح بن وهب بن الأقيصر الخثعى، وكان يعرف بمالك السرايا. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 266 الروم، وقيل: بل كان عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وقيل: بل كان مالك بن هبيرة السّكونى [1] . وفى سنة سبع وأربعين كان مشتى مالك بن هبيرة بأرض الروم ومشتى أبى عبد الرحمن القينىّ [2] بأنطاكية. وفيها غزا الحكم بن عمرو بعض جبال الترك، ومعه المهلّب بن أبى صفرة فغنموا، وأخذ الترك عليهم الشعاب والطرق، فعيى الحكم بالأمر فولّى المهّلب الحرب، فلم يزل المهلّب يحتال حتّى أخذ عظيما من عظماء الترك، فقال له: إمّا أن تخرجنا من هذا المضيق أو أقتلك، فقال له التركى: «أوقد النار حيال طريق من هذه الطرق وسيّر الأثقال نحوه، فإنهم سيجتمعون فيه ويخلون ما سواه من الطرق، فبادرهم إلى طريق آخر، فما يدركونكم حتّى تخرجوا منه» . ففعل ذلك، فسلم الناس بما معهم من الغنائم [3] . وفيها أيضا سار الحكم أيضا إلى بلاد الغور فغزا من بها وكانوا قد ارتدّوا، فأخذهم عنوة بالسيف، وفتحها، وأصاب منها مغانم كثيرة وسبايا، ولما رجع الحكم من هذه الغزاة مات [4] بمرو،   [1] مالك بن هبيرة بن خالد بن مسلم بن الحارث بن المخصف بن مالك بن الحارث ابن بكر بن ثعلبة بن عطية بن السكون كان شريفا بالشام. [2] أبو عبد الرحمن بن كعب بن ثعلبة بن القمينى، كان معروفا بكنيتة، ويقال له «ذو الشكوة» لأنه كانت له شكوة إذا قاتل، والشكوة: وعاء من جلد الماء واللبن. وهو من بنى القمين وهو النعمان بن جسر من تضاعة. [3] ذكر الطبرى هذه القصة فى سنة إحدى وخمسين. [4] انظر تاريخ الطبرى ج 4 ص 186 حيث قال: وفى هذه السنة كانت وفاة الحكم بن عمرو الغفارى بمرو منصرفه من غزوة أهل جبل الأشل.. الخ: وانظر ترجمة الحكم فى الاستيعاب ج 1 ص 314 والإصابة ج 1: ص 346. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 267 فى قول بعضهم، وكان الحكم قد قطع النهر فى ولايته ولم يفتح، وكان أول المسلمين شرب من النهر مولّى للحكم، اغترف بترسه فشرب، وناول الحكم فشرب وتوضأ وصلّى ركعتين، وكان أول المسلمين فعل ذلك. وفى سنة ثمان وأربعين كان مشتى عبد الرحمن القينى بأنطاكية وصائفة عبد الله بن قيس الفزارى، وغزوة مالك بن هبيرة السّكونى البحر، وغزوة عقبة بن عامر الجهنى بأهل مصر فى البحر وبأهل المدينة. ذكر غزوة القسطنطينية وفى سنة تسع وأربعين- وقيل: فى سنة خمسين- بعث معاوية جيشا كثيفا إلى بلاد الروم عليهم سفيان بن عوف وكان فى هذا الجيش عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزّبير وأبو أيّوب الأنصارى، وعبد العزيز بن زرارة الكلابى [1] وغيرهم. وأمر معاوية ابنه يزيد بالغزاة معهم، فتثاقل واعتلّ، فأمسك عنه أبوه، فأصاب الناس فى غزاتهم جوع ومرض شديد، فقال يزيد: ما إن أبالى بما لاقت جموعهمو ... بالغذقذونة [2] من حمّى ومن موم [3]   [1] كان عبد العزيز بن زرارة رجلا شريفا ذا مال كثير، فأشرف عنبسة فواجه المال فأعجبه، فقال زرارة: اللهم انى أشهدك أنى حبست نفسى وأهلى ومالى فى سبيلك ثم أتى أباه فأخبره بذلك، فقال: ارتحل على بركة الله. فتوجه نحو الشام. وشهد غزاة القسطنطينية. [2] كذا جاء هذا الاسم- وهو اسم بلد- فى موضعين من معجم البلدان لياقوت محرفا كما حرف فى نسخ الكامل لابن الأثير. [3] الموم: نوع من الحمى ومن الجدرى. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 268 إذا اتّكأت على الأنماط مرتفقا ... بدير مرّان عندى أمّ كلثوم (وأم كلثوم: امرأته، وهى ابنة عبد الله بن عامر) فبلغ معاوية شعره، فأقسم عليه: ليلحقن بسفيان فى أرض الرّوم ليصيبه ما أصاب الناس [3] . فسار ومعه جمع كثير أضافهم إليه أبوه، فلحق بهم. وأوغل المسلمون فى بلاد الروم، حتّى بلغوا القسطنطينيّة، والتقوا بالروم، واقتتلوا فاشتدّت الحرب بينهم فى بعض الأيام فلم يزل عبد العزيز بن زرارة يتعرض للشهادة، فلم يقتل، فأنشأ يقول: قد عشت فى الدهر أطوارا على طرق ... شتّى، فصادفت منها اللين والبشعا كلّا بلوت، فلا النّعماء تبطرنى ... ولا تخشّعت من لأوائها جزعا [2] لا يملأ الأمر صدرى قبل موقعه ... ولا أضيق به ذرعا إذا وقعا ثمّ حمل على من يليه، فقتل فيهم، وانغمس بينهم، فشجره [3] الروم برماحهم، حتى قتلوه، رحمه الله، فبلغ قتله معاوية، فقال   [1] جاء فى معجم البلدان أن معاوية قال: «لا جرم ليلحقن بهم ويصيبه ما أصاب وإلا خلعته» . [2] تبطرنى: تجعلنى أطغى وأتكبر. واللأواء: الشدة والمحنة. [3] شجره: طعنه. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 269 لأبيه: هلك والله فتى العرب! فقال: ابنى أو ابنك! قال ابنك فآجرك الله! فقال [1] : فإن يكن الموت أودى به ... وأصبح مخّ الكلابىّ ريرا [2] فكلّ فتى شارب كأسه ... فإمّا صغيرا وإمّا كبيرا قال: ثم رجعوا إلى الشام، وتوفّى أبو أيّوب الأنصارى عند القسطنطينيّة، فدفن بالقرب من سورها، فأهلها يستسقون به. وفى سنة خمسين غزا بسر بن أرطاة وسفيان بن عوف الأزدى أرض الروم، وغزا فضالة بن عبيد الأنصارى فى البحر. وفى سنة إحدى وخمسين كان مشتى فضالة بن عبيد بأرض الروم، وغزوة بسر بن أرطاة الصائفة. وفى سنة اثنتين وخمسين غزا سفيان بن عوف الأزدى الروم، وشتى بأرضهم، وتوفّى بها فى قول، فاستخلف عبد الله بن مسعدة الفزارى، وقيل: إن الذى شتى فى هذه السنة بأرض الروم بسر بن أرطاة ومعه سفيان بن عوف. وغزا الصائفة محمد بن عبد الله الثقفى.   [1] فى الإصابة ج 1 ص 547 أنه استرجع، أى قال: «إنا لله وإنا إليه راجعون» . [2] مخ رير: ذائب فاسد من الهزال. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 270 ذكر فتح جزيرة أرواد وفى سنة أربع وخمسين فتح المسلمون يقدمهم جنادة بن أبى أميّة جزيرة أرواد بالقرب من القسطنطينية، وأقاموا بها سبع سنين، فلما مات معاوية وولى ابنه يزيد أمرهم بالعودة فعادوا. وفيها كان مشتى محمد بن مالك بأرض الروم، وصائفة معن ابن يزيد السّلمى. وفيها استعمل معاوية عبيد الله بن زياد بن أبيه على خراسان، فقطع النهر إلى جبال بخارى على الإبل، فكان أول من قطع جبال بخارى فى جيش، ففتح رامنى، ونسف، وبيكند. وسنذكر ذلك إن شاء الله فى حوادث سنة أربع وخمسين. وفى سنة خمس وخمسين كان مشتى سفيان بن عوف الأزدى بأرض الروم، فى قول، وقيل: بل شتّى فى هذه السنة عمرو بن محرز، وقيل: عبد الله بن قيس الفزارى، وقيل: بل مالك بن عبد الله وفى سنة ست وخمسين كان مشتى جنادة بن أبى أمية بأرض الروم، وقيل: عبد الرحمن بن مسعود، وقيل: غزا فيها فى البحر يزيد بن شجرة وفى البرّ عياض بن الحارث. وفيها قطع سعيد بن عثمان بن عفّان النهر إلى سمرقند، فخرج إليه [أهل] [1] الصّغد، فقاتلهم، وسنذكر ذلك إن شاء الله فى حوادث سنة ستّ وخمسين.   [1] الزيادة من تاريخ الطبرى كما يأتى، والصغد: قرى متصلة خلال الأشجار والبساتين من سمرقند إلى قريب من بخارى. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 271 وفى سنة سبع وخمسين كان مشتى عبد الله بن قيس بأرض الروم. وفى سنة ثمان وخمسين غزا مالك بن عبد الله الخثعمى أرض الروم، وعمرو بن زيد الجهنى فى البحر، وقيل: جنادة بن أبى أميّة وفى سنة تسع وخمسين كان مشتى عمرو بن مرة الجهنى بأرض الروم فى البر، وغزا فى البحر جنادة بن أبى أميّة، وقيل لم يكن فى البحر غزاة فى هذه السنة. وفيها غزا المسلمون حصهن كمخ ومعهم عمير بن الحباب السّلمى فصعد عمير السّور، ولم يزل يقاتل عليه وحده حتّى كشف الروم وصعد المسلمون، ففتحه بعمير. وفى سنة ستين كانت غزوة مالك بن عبد الله سورية، ودخول جنادة رودس، وهدمه مدينتها فى قول بعضهم. فهذه الغزوات والفتوحات التى كانت فى أيام معاوية. فلنذكر أخبار الخوارج عليه وما كان من أمرهم. ذكر أخبار الخوارج فى أيام معاوية وما كان من أمرهم كان أول من خرج بعد أن استقل معاوية بالأمر فروة بن نوفل الأشجعى، وكان قد اعتزل فى خمسمائة من الخوارج، وسار إلى شهرزور، وترك قتال علىّ والحسن. فلما ولى معاوية قال: «جاء الآن ما لا شكّ فيه، سيروا إلى معاوية فجاهدوه» . فسار بهم حتى نزل النّخيلة (عند الكوفة) . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 272 وكان الحسن بن علىّ قد سار يريد المدينة، فكتب إليه معاوية بدعوه إلى قتال فروة بن نوفل، فلحقه رسوله بالقادسيّة، أو قريبا منها، فلم يرجع، وكتب إلى معاوية يقول: «لو آثرت أن أقاتل أحدا من أهل القبلة لبدأت بقتالك، فإنى تركته [1] لصلاح الأمة وحقن دمائها» فأرسل إليهم معاوية جمعا من أهل الشام، فقاتلوهم، فانهزم أهل الشام. فقال معاوية لأهل الكوفة: والله لا أمان لكم عندى حتّى تكفونيهم! فخرج أهل الكوفة إليهم، فقاتلوهم، فقالت الخوارج لهم: «أليس معاوية عدوّنا وعدوّكم؟ دعونا حتّى نقاتله، فإن أصبناه كنّا قد كفيناكم عدوّكم، وإن أصابنا كنتم قد كفيتمونا» . فقالوا: لا بدّ لنا من قتالكم. فأخذت أشجع صاحبهم فروة [2] ، فوعظوه، فلم يرجع، فأدخلوه الكوفة قهرا. فاستعمل الخوارج عليهم عبد الله بن أبى الحوساء (رجل من طيّئ) فقاتلهم أهل الكوفة، فقتلوهم فى شهر ربيع الأول، أو ربيع الآخر، سنة إحدى وأربعين. وقتل ابن أبى الحوساء [3] ، وكان حين ولى أمر الخوارج قد خوّف من السلطان أن يصلبه إذا ظفر بهم، فقال:   [1] كذا جاء فى المخطوطة، أى: تركت القتال، وجاء فى الكامل لابن الأثير ج 3 ص 205: «تركتك» . [2] لأن فروة أشجعى. [3] الذى قتل ابن أبى الحوساء هو خالد بن عرفطة، كما جاء فى الاستيعاب ج 1 ص 414 والإصابة ج 1 ص 410، وسيأتى له ذكر. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 273 ما إن أبالى إذا أرواحنا قبضت ... ماذا فعلتم بأوصال وأبشار تجرى المجرّة والنّسران عن قدر ... والشمس والقمر السارى بمقدار وقد علمت وخير القول أنفعه ... أنّ السعيد الّذى ينجو من النار ثم خرج حوثرة بن وداع، وذلك أنه لمّا قتل ابن أبى الحوساء اجتمع الخوارج فولّوا أمرهم حوثرة بن وداع بن مسعود الأسدى، فقام فيهم، فعاب فروة بن نوفل فى شكّه فى قتال علىّ رضى الله عنه، ودعا الخوارج وساربهم من براز الرّوز- وكان بها- حتّى قدم النّخيلة فى مائة وخمسين، وانضمّ إليهم فلّ ابن أبى الحوساء، وهم قليل. فدعا معاوية أبا حوثرة فقال له: اخرج إلى ابنك لعله يرقّ إذا رآك. فخرج إليه وكلّمه وناشده وقال له: ألا آتيك بابنك لعلك إذا رأيته كرهت فراقه! فقال: أنا إلى طعنة برمح من يد كافر أتقلب فيه ساعة أشوق منّى إلى ابنى! فرجع أبوه فأخبر معاوية بمقالتة. فسيّر إليه عبد الله بن عوف بن أحمر [1] فى ألفين، وخرج أبو حوثرة فيمن خرج، فدعا ابنه إلى البراز، فقال له: يا أبت لك فى غيرى سعة.   [1] كذا جاء فى المخطوطة وجاء فى الكامل لابن الأثير ج 3 ص 206: «عبد الله ابن عوف الأحمر» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 274 فقاتله ابن عوف وقتله مبارزة، وقتل أصحابه إلّا خمسين رجلا دخلوا الكوفة، وذلك فى جمادى الآخرة من السنة [1] . ورأى ابن عوف بوجه حوثرة أثر السجود، وكان صاحب عبادة فندم على قتله، وقال: قتلت أخا بنى أسد سفاها ... لعمر أبى فما لقّيت رشدى قتلت مصلّيا محياه ليل ... طويل الحزن ذا برّ وقصد قتلت أخا تقى لأنال دنيا ... وذاك لشقوتى وعثار جدّى فهب لى توبة يا ربّ واغفر ... لما قارفت من خطأ وعمد ثم خرج فروة بن نوفل الأشجعى على المغيرة بن شعبة، وذلك بعد مسير معاوية، فوجّه إليه المغيرة خيلا عليها شبث بن ربعىّ، وقيل: معقل بن قيس، فلقيه بشهرزور، وقيل بالسواد. وخرج شبيب بن بحرة، وكان شبيب مع ابن ملجم حين قتل عليّا، كما ذكرنا، فلما دخل معاوية الكوفة أتاه شبيب كالمتقرب إليه، فقال: أنا وابن ملجم قتلنا عليا. فوثب معاوية مذعورا من مجلسه   [1] أى: سنة إحدى وأربعين. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 275 حتّى دخل منزله، وبعث إلى أشجع [1] وقال: «لئن رأيت شبيبا أو بلغنى أنه ببابى لأهلكنّكم!] [2] أخرجوه عن بلدكم!» . فكان شبيب إذا جنّ عليه الليل خرج فلم يلق [3] أحدا إلا قتله. فلما ولى المغيرة خرج عليه بالطّفّ (بقرب الكوفة) ، فبعث المغيرة خيلا. عليها خالد بن عرفطة [4] ، وقيل: معقل بن قيس، فاقتتلوا، فقتل شبيب وأصحابه. وبلغ المغيرة أنّ معين [5] بن عبد الله- وهو رجل من محارب- يريد الخروج، فأخذه وحبسه وبعث إلى معاوية يخبره، فكتب إليه: إن شهد أنى خليفة فخلّ سبيله. فأحضره المغيرة، فأبى أن يشهد بخلافة معاوية [6] ، فقتله. ثمّ خرج أبو مريم مولى بنى الحارث بن كعب، ومعه امرأتان: قطام وكحيلة، وكان أوّل من أخرج معه النساء، فعاب عليه ذلك أبو بلال بن أديّة، فقال: قد قاتل النساء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع المسلمين بالشام، وسأردّهما فردّهما. فوجّه إليه   [1] كان شبيب بن بحرة منسوبا إلى قبيلة أشجع، كما كان فروة الخارجى أشجعيا، انظر تاريخ ابن جرير الطبرى ج 4 ص 111. [2] إلى هنا ينتهى ما سقط من النسخة (ك) وثبت فى النسخة (ن) مع مراجعته على ما أثبته ابن الأثير فى الكامل. [3] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وجاء فى النسخة (ك) : (يأت) . [4] خالد بن عرفطة بن أبرهة بن سنان هو الذى قتل عبد الله بن أبى الحوساء الخارجى فيما سبق. [5] قال ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 206: كان اسمه «معنا» فصغر. [6] وقال معين: أشهد أن الله عز وجل حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من فى القبور. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 276 المغيرة جابرا البجلى، فقاتله، فقتل أبو مريم وأصحابه ببادوريا. وخرج أبو ليلى- وكان أسود طويلا- ومعه ثلاثون من الموالى فبعث إليه المغيرة معقل بن قيس الرّياحى، فقتله بسواد الكوفة فى سنة اثنتين وأربعين. وخرج سهم بن غالب الهجيمى فى سنة إحدى وأربعين بالبصرة على عبد الله بن عامر، فى سبعين رجلا، منهم الخطيم الباهلى واسمه زياد [1] بن مالك، وإنما قيل له «الخطيم» لضربة ضربها على وجهه. فنزلوا بين الجسرين والبصرة [2] ، فمرّ بهم عبادة بن قرص [3] الليثى، وقد انصرف من الغزو ومعه ابنه وابن أخيه، فقال لهم الخوارج: من أنتم؟ قالوا: قوم مسلمون. قالوا: كذبتم. قال عبادة: «سبحان الله! اقبلوا منّا ما قبل النبى صلى الله عليه وسلم منى، فإنى كذّبته وقاتلته، ثم أتيته فأسلمت، فقبل ذلك منّى» . قالوا: أنت كافر، وقتلوه وقتلوا ابنه وابن أخيه، فخرج إليهم ابن عامر فقاتلهم، فقتل منهم عدّة، وانحاز بقيّتهم إلى أجمة، وفيهم سهم والخطيم، فأمّنهم ابن عامر ورجعوا، وكتب إلى معاوية، فأمره بقتلهم، فلم يقتلهم، وكتب إلى معاوية: إنّى جعلت لهم ذمّتك.   [1] كذا جاء فى المخطوطة كما فى الاستيعاب ج 2 ص 452، وجاء فى الكامل لابن الأثير ج 3 ص 209: «يزيد» . [2] كذا جاء فى المخطوطة كما فى الكامل، وجاء فى الاستيعاب أنهم خرجوا «بناحية جسر البصرة» . [3] فى الإصابة ج 3 ص 269: «عبادة بن قرط أو قرص بن عروة بن بجير بن مالك ... والصحيح أنه ابن قرص بالصاد» وفى الاستيعاب ج 2 ص 451: «عبادة ابن قرص الليثى، ويقال: ابن قرط، والصواب عند أكثرهم: «قرص» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 277 فلمّا أتى زياد بن أبيه البصرة فى سنة خمس وأربعين هرب الخطيم إلى الأهواز، واجتمع إلى سهم جماعة، فأقبل بهم إلى البصرة، فتفرق عنه أصحابه، فاختفى [1] وطلب الأمان [2] ، فلم يؤمّنه زياد، وبحث عنه وأخذه فقتله وصلبه فى داره.. وقيل: إنه لم يزل مستخفيا حتّى مات زياد، فأخذه عبيد الله بن زياد وصلبه فى سنة أربع وخمسين، فقال رجل من الخوارج: فإن تكن الأحزاب باءوا بصلبه ... فلا يبعدنّ الله سهم بن غالب وأما الخطيم فإن زيادا سأله عن قتل عبادة، فأنكره، فسيره إلى البحرين، ثم أعاده [3] بعد ذلك، وقيل: إنه قتله [4] . ذكر خبر المستورد الخارجى وفى سنة اثنتين وأربعين تحرك الخوارج الذين كانوا انحازوا عمن قتل يوم النهروان، واجتمعوا فى أربعمائة وأمّروا عليهم المستورد بن علّفة التّيمى، من تيم الرّباب، وبايعوه فى جمادى الآخرة، واتّعدوا للخروج فخرجوا فى غرّة شعبان سنة ثلاث وأربعين. فبلغ المغيرة أنهم اجتمعوا فى منزل حيّان بن ظبيان السّلمىّ وتواعدوا للخروج، فأرسل صاحب شرطته، وهو قبيصه بن الدمّون،   [1] قيل: إنهم تفرقوا عند استخفائه. [2] ظن أنه يسوغ له عند زياد ما ساغ له عند ابن عامر. [3] كذا ذكره ابن الأثير فى الكامل. [4] كذا ذكره أبو عمر ابن عبد البر فى الاستيعاب ج 2 ص 452. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 278 فأحاط بدار حيّان، وإذا عنده معاد بن جوين وهو من رءوس الخوارج ونحو عشرين رجلا، وثارت امرأته وهى أمّ ولد كانت له [كارهة] [1] فأخذت سيوفهم وألقتها تحت الفراش، [وقاموا ليأخذوا سيوفهم] [2] فلم يجدوها فاستسلموا، فجىء بهم إلى المغيرة، فحبسهم بعد أن قرّرهم فلم يعترفوا بشىء قالوا: وإنما اجتمعنا لقراءة القرآن، ولم يزالوا فى السجن نحو سنة، وسمع إخوانهم فحذروا. وخرج صاحبهم المستورد فنزل الحيرة، واختلف الخوارج إليه، ثم تحول إلى دار سليم بن مجدوع العبدى، وهو مهره. وبلغ المغيرة الخبر وأنهم عزموا على الخروج فى تلك الأيام، فجمع الرؤساء فخطبهم وقال لهم: «ليكفنى كلّ رجل منكم قومه، وإلّا والله تحولت عما تعرفون إلى ما تنكرون، وعما تحبون إلى ما تكرهون» . فرجعوا إلى قومهم فناشدوهم الله والإسلام إلّا دلوهم على من يريد تهييج الفتنة. فبلغ المستورد ذلك فخرج من دار سليم بن محدوج، وأرسل إلى أصحابه فأمرهم بالخروج فخرجوا متفرقين، واجتمعوا فى نحو ثلاثمائة رجل وساروا إلى الصرّاة [3] . وبلغ المغيرة بن شعبة خبرهم، فندب معقل بن قيس فى ثلاثة آلاف فارس اختارهم من الشيعة.   [1] الزيادة من الكامل لابن الأثير ج 3 ص 212. [2] الزيادة من الكامل. [3] الصراة: نهر بالعراق. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 279 وأما الخوارج فإنهم ساروا إلى أن بلغوا المذار [1] فأقاموا بها. وبلغ ابن عامر بالبصرة خبرهم، فندب شريك بن الأعور الحرثى، وانتخب معه ثلاثة آلاف فارس أكثرهم من ربيعة، فسار بهم إلى المذار. وسار معقل وقدّم أمامه أبا الرّواغ فى ثلاثمائة، فأتى بهم إلى المذار وقاتل الخوارج عامة نهاره وهم يهزمونه ويعود إلى القتال، ثم أدركه معقل فى سبعمائة من أهل القوة، فجاء وقد غربت الشمس فصلوا المغرب، وحملت الخوارج عليهم فانهزم أصحاب معقل، وثبت هو فى نحو مائتين ونزل إلى الأرض فتراجع إليه أصحابه وأتاه بقية الجيش. فبينما هم على ذلك بلغ الخوارج أن شريك بن الأعور قد أقبل من البصرة فى ثلاثة آلاف، فأشار المستورد على أصحابه بالرجوع من حيث جاءوا، وقال: «إنا إذا رجعنا نحو الكوفة لم يتبعنا أهل البصرة، ويرجعوا عنا فنقاتل طائفة أسهل من قتال طائفتين» . فانحاز بأصحابه إلى البيوت، وخرج من الجانب الآخر وسار ليلته، ولم يعلم الجيش بمسيرهم، وبات معقل وأصحابه يتحارسون [2] إلى الصباح، فأتاهم خبر مسيرهم. وجاء شريك، فدعاه معقل أن يسير معه، فأبى أصحاب شريك اتّباعهم [3] ، فاعتذر إليه لمخالفة أصحابه ورجع.   [1] المذار: بلد بين واسط والبصرة. [2] كان معقل قد بعث من يأتيه بخبر الخوارج حين لم ير سوادهم، فعاد إليه يخبره بسيرهم، فخاف معقل أن تكون مكيدة منهم ليأتوا جيشه ليلا، فاحتاط هو وأصحابه وتحارسوا. [3] قالوا لشريك: لا والله لا نفعل، إنما أقبلنا نحو هؤلاء لننفيهم عن أرضنا ونمنعهم من دخولها، فإذا كفانا الله مؤنتهم فإنا منصرفون إلى مصرنا، وفى أهل الكوفة ما يمنعون به بلادهم من هؤلاء الأكلب. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 280 ودعا معقل أبا الرواغ، وأمره باتباعهم، فى ستمائة فارس، فاتبعهم، فأدركهم نحو جرجرايا مع طلوع الشمس، فحمل المستورد على أبى الروّاغ، فانهزم أصحابه وثبت فى مائة فارس وقاتلهم طويلا، ثم عطف أصحابه من كل جانب، وصدقوهم القتال، فلما رأى المستورد ذلك علم أن معقلا إن أتاهم بمن معه هلكوا، فمضى بأصحابه وعبر دجلة إلى بهرسير، وتبعهم أبو الروّاغ حتى نزل بهم إلى ساباط، فقال المستورد: هؤلاء حماة معقل وفرسانه ولو علمت أنى أسبقهم إليه بساعة لسرت إليهم فواقعته، ثم ركب بأصحابه حتّى انتهى إلى جسر ساباط، فقطعه، ووقف أبو الرواغ ينتظرهم للقتال وقد عبّأ أصحابه. وسار المستورد حتى أتى ديلمان، وبها معقل، فلما رآهم نصب رايته [ونزل] [1] وقال: يا عباد الله الأرض الأرض! فنزل معه نحو مائتى رجل، فحملت الخوارج عليهم، فاستقبلوهم بالرماح جثاة على الرّكب، فلم يقدروا عليهم، فتركوهم، وعدلوا إلى خيولهم [فحالوا بينهم وبينها] [2] وقطعوا أعنّتها فذهبت، ثم رجعوا إلى معقل وأصحابه فحملوا عليهم، واشتدّ الأمر على معقل ومن معه. فبينما هم كذلك أقبل أبو الروّاغ بمن معه، وكان سبب عوده أنه أقام ينتظر عودة الخوارج إليه، فلما أبطأوا عليه أرسل من يأتيه بخبرهم فرأوا الجسر مقطوعا ففرحوا بذلك ظنا منهم أن الخوارج فعلوا ذلك هيبة، فرجعوا إلى أبى الرواغ فأخبروه أنهم لم يروهم، وأن الجسر قد قطعوه هيبة لهم، فقال أبو الرواغ: «لعمرى ما فعلوا هذا   [1] الزيادة من ابن جرير فى تاريخه ج 4 ص 156. [2] الزيادة من ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 216. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 281 إلّا مكيدة، وما أراهم إلا قد سبقوكم إلى معقل حيث علموا أن فرسان أصحابه معى، وقد قطعوا الجسر ليشغلوكم به عن لحاقهم، فالنجاء النجاء فى الطلب» ثم أمر أهل القرية فعقدوا الجسر، فعبر عليه، واتّبع الخوارج، فلقيه أوائل الناس منهزمين، فصاح بهم: إلىّ إلىّ: فرجعوا. إليه، وأخبروه الخبر وأنهم تركوا معقلا يقاتلهم، وما يظنونه إلا قتيلا، فجدّ فى السير، وردّ معه من لقيه من المنهزمين، وانتهى إلى العسكر، فرأى رأية معقل منصوبة والناس يقتتلون، فحمل أبو الرواغ وأصحابه على الخوارج فأزالهم غير بعيد. ووصل أبو الرواغ إلى معقل فإذا هو متقدّم يحرّض أصحابه، فشدوا على الخوارج شدّة منكرة، ونزل المستورد ومن معه إلى الأرض ونزل أصحاب معقل أيضا، ثم اقتتلوا طويلا من النهار بالسيوف أشدّ قتال، ثم إن المستورد نادى معقلا ليبرز إليه، فبرز إليه، فمنعه أصحابه، فلم يقبل [منهم] [1] وكان معه سيفه ومع المستورد رمحه، فقال أصحاب معقل له: خذ رمحك. فأبى، وأقدم على المستورد، فطعنه المستورد برمحه، فخرج السّنان من ظهره، وتقدم معقل والرمح فيه إلى المستورد، فضربه بسيفه فخالط دماغه فماتا جميعا. وكان معقل قال لأصحابه: إن قتلت فأميركم عمرو بن محرز بن شهاب التميمى، فلما قتل معقل أخذ عمرو الراية، وحمل هو وأصحابه   [1] ثبتت هذه الزيادة فى النسخة (ن) ولم تثبت فى النسخة (ك) ، وقد قال معقل لأصحابه: لا والله لا يدعونى رجل إلى مبارزة أبدا فأكون أنا الناكل. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 282 على الخوارج فقتلوهم، فلم ينج منهم غير خمسة أو ستة، وانكفت [1] الخوارج بعد ذلك مدّة ولاية زياد بن أبيه إلى سنة خمسين. فخرج قريب الأزدى وزحّاف الطائى بالبصرة وهما ابنا خالة، وكان زياد يومئذ بالكوفة، وسمرة بالبصرة [2] فأتى الخوارج بنى ضبيعة [3] وهم سبعون رجلا فقتلوا منهم شيخا، فاشتد زياد فى أمر الخوارج فقتلهم وأمر سمرة بذلك، فقتل منهم بشرا كثيرا، وخطب زياد على المنبر فقال: «يا أهل البصرة والله لتكفنّنى هؤلاء. أو لأبدأنّ بكم، والله لئن أفلت رجل منهم لا تأخذون العام من عطاياكم درهما» فسار الناس إليهم فقتلوهم. ثم خرج زياد بن خراش العجلى فى سنة اثنتين وخمسين فى ثلاثمائة فأتى أرض مسكن من السّواد، فسرّح إليد زياد بن أبيه خيلا عليها سعد بن حذيفة، أو غيره، فقتلوهم وقد صاروا إلى ماه [4] وخرج رجل من طىء اسمه معاذ فى ثلاثين رجلا [5] فبعث إليه زياد من قتله وقتل أصحابه، ويقال بل حلّ لواءه واستأمن. وخرج طوّاف بن غلّاق فى سنة ثمان وخمسين بالبصرة، وكان سبب خروجه أن قوما من الخوارج بالبصرة كانوا يجتمعون إلى رجل اسمه   [1] انكفتوا: انصرفوا عن الخروج القتال. [2] كان معاوية قد كتب بعهد زياد على الكوفة والبصرة، فاستخلف زياد على البصرة سمرة بن جندب، وشخص إلى الكوفة، فكان زياد يقيم ستة أشهر بالكوفة وستة أشهر بالبصرة. [3] كان بنو ضبيعة بالبصرة لهم محلة هناك سميت «ضبيعة» باسمهم. [4] ماه: قصية الكوفة، لأن «مسكن» موضع بالكوفة، وماه قصبة البلد، فارسية.، كما فى القاموس. [5] أتوا نهر عبد الرحمن بن أم الحكم، ولذلك قيل لهم «أصحاب نهر عبد الرحمن» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 283 حرار [1] فيتحدثون عنده ويعيبون السلطان، فأخذهم عبيد الله بن زياد فحبسهم، ثم أحضرهم، وعرض عليهم أن يقتل بعضهم بعضا ويخلّى سبيل القاتلين، ففعلوا، فأطلقوا، وكان طواف ممن قتل، فعذلهم أصحابهم وقالوا: قتلتم إخوانكم، قالوا أكرهنا وقد يكره الرجل على الكفر وهو مطمئنّ بالإيمان، وندم طوّاف وأصحابه، وقال أما من توبة؟ فكانوا يبكون، وعرضوا على أولياء من قتلوا الدّية، فأبوا قبولها، وعرضوا عليهم القود، فأبوا. ولقى طوّاف الهثهاث بن ثور السدوسى، فقال له: ما ترى لنا من توبة! فقال: ما أجد لك إلا آية فى كتاب الله عزّ وجل: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ . [2] فدعا طوّاف أصحابه إلى الخروج على أن يفتكوا بابن زياد، فبايعوه فى هذه السنة، وهم سبعون رجلا من عبد القيس بالبصرة، فسعى بهم رجل من أصحابهم إلى ابن زياد، وبلغ ذلك طوّافا فعجل الخروج، فخرجوا من ليلتهم، فقتلوا رجلا، ومضوا إلى الجلحاء [3] ، فندب ابن زياد الشرط والبخارية [4] فقاتلوهم، فانهزم الشّرط حتى دخلوا البصرة، واتبعوهم، وذلك يوم الفطر فكاثرهم الناس، فقاتلوا فقتلوا، وبقى طوّاف فى ستة نفر   [1] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى النسخة (ن) : «جرار» ، وجاء فى الكامل لابن الأثير ج 3 ص 287 «جدار» . [2] الآية 110 من سورة النحل. [3] الجلحاء: موضع على فرسخين من البصرة. [4] البخارية: طائفة من بخارى، سباهم عبيد الله بن زياد ونقلهم إلى البصرة، وبنى لهم فيها سكة خاصة نسبت إليهم، وهم يبلغون الألفين ويجيدون الرمى بالنشاب، ففرض لهم عبيد الله عطاء وأسكنهم تلك السكة. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 284 وعطش فرسه، فاقتحم به الماء، فرماه البخاريّة بالنّشّاب حتّى قتلوه وأخذ فصلب، ثم دفنه أهله. ذكر عروة بن أدية وأخيه مرداس بن أدية وغيرهما من الخوارج قال: وفى سنة ثمان وخمسين اشتدّ عبيد الله بن زياد على الخوارج، فقتل منهم جماعة كثيرة، منهم عروة بن أديّة وكان سبب قتله أن عبيد الله بن زياد خرج فى رهان له، فلما جلس ينتظر الخيل اجتمع الناس إليه، وفيهم عروة بن أديّة وهو أخو مرداس بن أديّة، وأديّة أمهما وأبوهما، جدير [1] وهو نميمى، فأقبل عروة على زياد يعظه، فكان ممّا قال له: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ. وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ [2] قال: فلما قال له ذلك ظنّ ابن زياد أنه لم يقله إلّا ومعه جماعة [3] فركب وترك رهانه، فقيل لعروة: ليقتلنّك. فاختفى، فطلبه ابن زياد فأتى الكوفة، فأخذ وأتى به إلى ابن زياد فقطع يديه ورجليه وقتله [4] وقتل ابنته. وأما أخوه أبو بلال مرداس فكان عابدا مجتهدا عظيم القدر فى الخوارج   [1] هكذا بالجيم يكتبه بعضهم. ويراه بعضهم بالحاء (حدير) ، وفى جمهرة أنساب العرب ص 212: «وأبوهما جرير بن عامر بن عبيد بن كعب بن ربيعة» وذكر أنهما من بنى ربيعة بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم. [2] الآيات 128، 126، 130 من سورة الشعراء. [3] لما رأى فيه من الجرأة. [4] لما قطعت يداه ورجلاه دعا به ابن زياد وقال له: كيف ترى قال: أرى أنك أفسدت دنياى وأفسدت آخرتك، فقتله. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 285 وشهد صفّين مع علىّ فأنكر التحكيم [1] ، وشهد النّهروان مع الخوارج، وكانت الخوارج كلها تتولاه. وكانت البثجاء امرأة من بنى يربوع- تحرّض على ابن زياد وتذكر تجبّره وسوء سيرته، وكانت من المجتهدات، فذكرها ابن زياد، فقال لها أبو بلال: إن التّقيّة [2] لا بأس بها فتغيبى فإن هذا الجبار قد ذكرك. فقالت: أخشى أن يلقى أحد بسببى مكروها، فأخذها ابن زياد فقطع يديها ورجليها ورماها فى السوق، فمرّ بها أبو بلال فعض على لحيته وقال: «لهذه أطيب نفسا بالموت منك يا مرداس! ما ميتة أموتها أحبّ إلىّ من ميتة البثجاء!» . ومرّ أبو بلال ببعير قد طلى بقطران فغشى عليه، ثم أفاق فتلا: سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ [3] . ثم إن ابن زياد ألح فى طلب الخوارج حتى ملأ منهم السجون. وحبس أبا بلال مرداس بن أديّة [4] ، فرأى السجان عبادته، فأذن له كل ليلة فى إتيان أهله، فكان يأتيهم ليلا ويعود إلى السجن مع الصبح، وكان لمرداس صديق يسامر ابن زياد، فذكر ابن زياد الخوارج ليلة فعزم على قتلهم [إذا أصبح] [5] ، فانطلق صديق مرداس إليه وأعلمه الخبر، وبات السجان بليلة سوء خوفا أنه لا يرجع،   [1] قيل: إن أبا بلال أول من قال «لا حكم إلا لله» على مذهب الخوارج يوم صفين. [2] التقية: الحذر. [3] الآية 50 فى سورة إبراهيم. [4] حبس أبا بلال قبل أن يقتل أخاه عروة بن أدية. [5] الزيادة من تاريخ ابن جرير الطبرى ج 4 ص 232. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 286 فعاد على عادته، فقال له السجان: أما بلغك ما عزم عليه الأمير؟ قال: بلى، قال: وكيف أتيت؟ قال: لم يكن جزاؤك مع إحسانك أن تعاقب [بسببى] [1] وأصبح ابن زياد فقتلهم، فلما أحضر مرداس قام السجان- وكان ظئرا [2] لعبيد الله- فشفع فيه وقص عليه قصته، فوهبه له وخلّى سبيله. ثم خاف من ابن زياد، فخرج فى أربعين رجلا إلى الأهواز، فكان إذا اجتاز به مال لبيت المال أخذ منه عطاءه وعطاء أصحابه، ثم يردّ الباقى، فلما سمع ابن زياد خبرهم بعث إليهم أسلم [3] بن زرعة الكلابى، وقيل: أبو الحصين التيمى، وكان الجيش ألفى رجل، وذلك فى سنة ستين، فلما أتوه ناشدهم أبو بلال الله أن ينصرفوا عنه، فأبو ودعاهم أسلم إلى معاودة الجماعة، فقالوا أتردّنا إلى ابن زياد الفاسق؟ فرمى أصحاب أسلم رجلا من الخوارج فقتلوه، فقال أبو بلال: قد بدءوكم بالقتال. فشدّ الخوارج على أسلم وأصحابه شدّة رجل واحد، فهزموهم، فقدموا البصرة، فلامه ابن زياد على ذلك، وقال: «هزمك أربعون وأنت فى ألفين؟ لا خير فيك!» فقال: لأن تلومنى وأنا حىّ خير من أن تثنى علىّ وأنا ميت وكان الصبيان إذا رأوا أسلم صاحوا به: «أبو بلال وراءك» . فشكا ذلك إلى ابن زياد، فنهاهم، فانتهوا.   [1] الزيادة من تاريخ ابن جرير الطبرى. [2] ظئره: زوج مرضعته، والأصل فى لفظ «الظئر» أن يطلق على المرضعة لغير أولادها، ثم أطلق على زوج المرضعة. [3] ذكر ياقوت فى معجم البلدان أنه «معبد بن أسلم الكلابى» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 287 وقال رجل [1] من الخوارج: أألفا مؤمن منكم زعمتم ... ويقتلهم بآسك [2] أربعونا كذبتم ليس ذاك كما زعمتم ... ولكنّ الخوارج مؤمنونا هم الفئة القليلة قد علمتم ... على الفئة الكثيرة ينصرونا هذا ما كان من أخبار الخوارج، فلنذكر حوادث السنين. ذكر الحوادث فى أيام معاوية بن أبى سفيان غير ما تقدم، على حكم السنين منذ خلص له الأمر إلى أن توفى إلى رحمة الله سنة احدى وأربعين فى هذه السنة خلص الأمر لمعاوية بن أبى سفيان؛ بمبايعة الحسن ابن على رضى الله عنهما له كما تقدم، فسمى هذا العام «عام الجماعة» وذلك لاجتماع الناس على إمام واحد، وهو معاوية. وروى أنه لما سار الحسن رضى الله عنه عن الكوفة عرض له رجل فقال: يا مسوّد وجوه المؤمنين. فقال: لا تعذلنى فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرى [3] بنى أميّة ينزون على منبره رجلا رجلا، فساءه ذلك، فأنزل الله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [4] وهو نهر فى الجنة، وإِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ   [1] هو عيسى بن فاتك الخطى، أحد بنى تميم الله بن ثعلبة كما ذكره ياقوت فى معجم البلدان، وذكر سبعة أبيات. [2] آسك: بلد من نواحى الأهواز قرب أرجان. [3] فى المنام. [4] الآية الأولى من سورة الكوثر. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 288 لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [1] يملكها بعدك بنو أميّة، وقد خرّج هذا الحديث [2] أهل الصحة. وكانت دولة بنى أمية ألف شهر. ذكر صلح معاوية وقيس بن سعد بن عبادة فى هذه السنة تم الصلح بين معاوية وقيس بن سعد، وكان قيس قد خرج على مقدمة الحسن فى اثنى عشر ألفا كما ذكرنا. وقيل: إن عبيد الله بن عباس كان على مقدمته، وكان قيس بن سعد على مقدمة عبيد الله، فلمّا علم عبيد الله ما عزم عليه الحسن من تسليم الأمر إلى معاوية كتب إليه يسأل الأمان لنفسه وعلى ما أصاب من مال وغيره، فأجابه إلى ذلك، وفارق عبيد الله جنده وتركهم بغير أمير، فأمّروا عليهم قيس بن سعد، وتعاقدوا على قتال معاوية حتى يشرط له ولهم على ما أصابوا من الدماء والأموال، فراسله معاوية فى الدخول فى طاعته، وأرسل إليه بسجلّ وختم أسفله، وقال: اكتب فيه ما شئت فهو لك، فاشترط لنفسه ولشيعة علىّ الأمان على ما أصابوا من الدماء والأموال، ولم يشترط مالا، فأعطاه ذلك، ودخل قيس فى طاعة معاوية.   [1] الآيات 1، 2، 3 من سورة القدر. [2] هذا الحديث رواه الترمذى فى تعليقات ج 12 ص 252- 253 عن محمود ابن غيلان عن أبى داود الطيالسى عن القاسم بن الفضل الحدانى عن يوسف بن سعد، ثم قال: «هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث القاسم بن الفضل، وقد قيل عن القاسم بن الفضل عن يوسف بن مازن، والقاسم بن الفضل الحدانى هو ثقة، وثقة يحيى ابن سعيد وعبد الرحمن بن مهد، ويوسف بن سعد رجل مجهول، ولا نعرف هذا الحديث على هذا اللفظ إلا من هذا الوجه» .، ورواه ابن جرير الطبرى فى تفسيره ج 30 ص 143 وإن كان لم يرجحه. ورواه الحاكم والطبرانى والبيهقى فى الدلائل، وذكر الآلوسى فى تفسيره ج 30 ص 188 قول المزنى فيه: «حديث منكر» ثم تردد فى هذا القول. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 289 ذكر استعمال معاوية المغيرة بن شعبة على الكوفة وفى هذه السنة استعمل معاوية المغيرة بن شعبة على الكوفة. وكان قد استعمل عليها عبد الله بن عمرو بن العاص، فأتاه المغيرة وقال: «استعملت عبد الله على الكوفة، وأباه بمصر، فتكون أميرا بين نابى أسد» . فعزله، واستعمل المغيرة. وبلغ عمرو بن العاص ما قاله المغيرة، فدخل على معاوية وقال: «استعملت المغيرة على الخراج، فيغتال المال، ولا تستطيع أن تأخذه منه، استعمل على الخراج رجلا يخافك ويتقيك» فعزله عن الخراج وأقره على الصلاة [1] . ولما ولى المغيرة استعمل كثير بن شهاب على الرّىّ، وكان يكثر سب علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه على المنبر. ذكر استعمال بسر بن أرطاة على البصرة وعزله، واستعمال عبد الله ابن عامر عليها وفى هذه السنة استعمل معاوية بسر بن أرطاة بن أبى أرطاة على البصرة، وكان سبب ذلك أن الحسن لما صالح معاوية وثب حمران ابن أبان على البصرة، فأخذها وغلب عليها، فبعث إليه معاوية بسر بن أرطاة؛ وأمره بقتل بنى زياد بن أبيه، وكان زياد على   [1] وبعد ذلك لقى المغيرة عمرو بن العاص فقال له: أنت المشير على أمير المؤمنين بما أشرت به فى عبد الله قال: نعم، قال: هذه بتلك. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 290 فارس، قد أرسله عليها على بن أبى طالب رضى الله عنه كما تقدم. فلما قدم بسر البصرة خطب على منبرها فشتم عليا، ثم قال: نشدت الله رجلا يعلم أنى صادق إلّا صدّقنى أو كاذب إلّا كذبنى، فقال أبو بكرة [1] ؛ اللهم إنّا لا نعلمك إلا كاذبا! فأمر به فخنق، فقام أبو لؤلؤة الضّبىّ فرمى نفسه عليه فمنعه، فأقطعه أبو بكرة مائة جريب [2] ، وقيل لأبى بكرة: ما حملك على ما قلت؟ فقال: يناشدنا الله ثم لا نصدقه. وكان معاوية قد كتب إلى زياد: أن فى يديك مالا من مال الله فأدّ ما عندك منه. فكتب إليه زياد: «أنه لم يبق عندى شىء، وقد صرفت ما كان عندى فى وجهه، واستودعت بعضه لنازلة إن نزلت، وحملت ما فضل إلى أمير المؤمنين رحمه الله تعالى» . فكتب إليه معاوية أن أقبل ننظر فيما وليت، فإن استقام بيننا أمر وإلا رجعت إلى مأمنك. فامتنع زياد. فأخذ بسر أولاده الأكابر، منهم عبد الرحمن وعبيد الله وعبّاد وكتب إليه: لتقدمنّ على أمير المؤمنين أو لأقتلنّ بنيك، فكتب إليه زياد: لست بارحا مكانى حتى يحكم الله بينى وبين صاحبك، وإن قتلت ولدى فالمصير إلى الله تعالى، ومن ورائنا الحساب وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ   [1] أبو بكرة: نفيع بن الحارث أو مسروح، وكان قد تدلى إلى النبى صلى الله عليه وسلم من حصن الطائف ببكرة، فكناه صلى الله عليه وسلم أبا بكرة، واشتهر بهذه الكنية. [2] الجريب فى المساحة: قيل: عشرة آلاف ذراع، وقيل: ثلاثة آلاف وستمائة ذراع، وقالوا: يختلف مقدارها بحسب اصطلاح أهل الأقاليم، والجريب فى الطعام أربعة أقفزة. انظر المصباح. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 291 ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ [1] فأراد بسر قتلهم وأتاه أبو بكرة [2] فقال له: قد أخذت ولد أخى بلا ذنب، وقد صالح الحسن معاوية على ما أصاب أصحاب علىّ رضى الله عنه حيث كانوا، فليس عليهم ولا على أبيهم سبيل، وأجّله أياما حتّى يأتى بكتاب معاوية، فركب أبو بكرة إلى معاوية وهو بالكوفة، فلما أتاه قال له: يا معاوية إن الناس لم يعطوك بيعتهم على قتل الأطفال! قال: وما ذاك يا أبا بكرة؟ قال: بسر يريد قتل بنى أخى زياد، فكتب إليه بتخليتهم، فأخذ كتابه وعاد، فوصل البصرة يوم الميعاد، وقد أخرج بسر أولاد زياد مع طلوع الشمس، ينتظر بهم الغروب ليقتلهم، واجتمع الناس لذلك وهم ينتظرون أبا بكرة؛ إذ رفع على نجيب أو برذون يكدّه [3] ، فوقف فنزل عنه وألاح بثوبه، وكبّر وكبّر الناس معه، وأقبل يسعى على رجليه، فأدرك بسرا قبل أن يقتلهم، فدفع إليه الكتاب، فأطلقهم. وكان زياد قد تحصّن بالقلعة التى تسمّى «قلعة زياد» . وأمّا بسر فلم يطل مقامه بالبصرة، بل عزله معاوية فى بقية سنة إحدى وأربعين، وأراد أن يستعمل عتبة بن أبى سفيان [4] ، فكلمه ابن عامر وقال له: إن لى بالبصرة ودائع وأموالا، فإن لم تولّنى عليها ذهبت. فولّاه البصرة، فقدمها فى آخر سنة إحدى وأربعين، وجعل إليه خراسان وسجستان، فجعل على شرطته حبيب بن شهاب   [1] آية 227 من سورة الشعراء. [2] سيأتى فى «ذكر استلحاق معاوية بن أبى سفيان زياد بن أبيه وهو ابن سمية» أن سمية أم زياد ولدت أبا بكرة- واسمه نفيع- عند الحارث بن كلدة الطبيب الثقفى. [3] يكده: يستعجله. [4] أى: أراد معاوية بن أبى سفيان أن يستعمل أخاه عتبة بن أبى سفيان على البصرة. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 292 وعلى القضاء عميرة بن يثربىّ أخا عمرو، وقد تقدم فى وقعة الجمل أن عميرة قتل فيها، وقيل: المقتول عمرو [1] . واستعمل ابن عامر قيس بن الهيثم على خراسان، وكان أهل باذغيس وهراة وبوشنج [2] قد نكثوا، فسار إلى بلخ، فأخرب نوبهارها [3] ، وكان الذى تولى ذلك عطاء [4] بن السائب مولى بنى ليث، واتخذ قناطر على ثلاثة أنهار من بلخ على فرسح، فقيل: قناطر عطاء، فسأل أهلها الصلح ومراجعة الطاعة، فصالحهم قيس، وقيل: إنما صالحهم الربيع ابن زياد سنة إحدى وخمسين، ثم قدم قيس على ابن عامر فضربه وحبسه، واستعمل عبد الله بن خازم، فأرسل إليه أهل هراة وباذغيس وبوشنج يطلبون الأمان والصلح، فصالحهم وحمل إلى ابن عامر مالا. وفيها ولد على بن عبد الله بن العباس، وقيل: ولد سنة أربعين قبل قتل على رضى الله عنه، والأول أصح. وحج بالناس فى هذه السنة عتبة بن أبى سفيان، وقيل: عنبسة بن أبى سفيان.   [1] الراجح أن المقتول فى وقعة الجمل هو عمرو بن يثربى أخو عميرة بن يثربى، انظر الإصابة ج 3 ص 119 وجمهرة أنساب العرب ص 195 والقاموس. [2] بوشنج: بلدة خصيبة من نواحى هراة، وكذلك «باذغيس» من نواحى هراة. [3] نوبهار ببلخ بناء: كان أهلها يعظمونه تعظيما، وتفسير النوبهار: البهار الجديد، وكان من عاداتهم أنهم إذا بنوا بناء يهتمون به كللوه بالريحان وتوخوا لذلك أول ريحان يطلع فى ذلك الوقت، فلما بنوا ذلك البيت جعلوا عليه أول ما يظهر من الريحان، فكان البهار، فسمى «النوبهار» لذلك. [4] وكان يقال له «عطاء الخشك» لأنه أول من دخل من المسلمين باب هراة الذى يقال له «خشك» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 293 سنة اثنتين وأربعين فى هذه السنة ولّى معاوية مروان بن الحكم المدينة، وخالد بن العاص بن هشام مكة، فاستقضى مروان عبد الله بن الحارث ابن نوفل [1] . ذكر قدوم زياد بن أبيه على معاوية بن أبى سفيان فى هذه السنة قدم زياد بن أبيه على معاوية، وكان معاوية قد كتب إليه يتهدّده، حين قتل على رضى الله عنه، فقام زياد خطيبا فقال: العجب من ابن آكلة الكبود [2] ، وكهف النفاق، ورئيس الأحزاب يتهدّدننى وبينى وبينه ابنا عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم- يعنى ابن عباس والحسن بن على رضى الله عنهم- فى سبعين ألفا، واضعى سيوفهم على عواتقهم، أما والله لئن خلص إلى ليجدنىّ أحمر ضرّابا بالسيف [3] » فلما صالح الحسن معاوية اعتصم زياد بقلعته كما تقدم ثم، كان من خبر بنيه مع بسر بن أرطاة ما ذكرناه، فأهمّ معاوية أمره، وكان زياد قد استودع عبد الرحمن بن أبى بكرة ماله، فبلغ معاوية ذلك،   [1] عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم القرشى الهاشمى، وأمه هى هند بنت أبى سفيان، فكان معاوية خاله، وكان مرضيا ظاهر الصلاح. [2] كانت هند بنت عتبة- وهى أم معاوية- فى جيش المشركين يوم أحد وقد شقت عن بطن حمزة بن عبد المطلب وأخرجت كبده، وجعلت تلوكها، فلم تستطيع أن تسيغها، فلفظتها. انظر نهاية الأرب ج 17 ص 101. [3] أحمر: شديدا. ثم انظر ما يأتى قريبا فى «ذكر استلحاق معاوية بن أبى سفيان زياد بن أبيه» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 294 فبعث إلى المغيرة بن شعبة لينظر فى أموال زياد، فأخذ عبد الرحمن فقال له لئن كان أبوك أساء إلىّ لقد أحسن عمك [1]- يعنى زيادا- فكتب إلى معاوية: إنى لم أجد فى يد عبد الرحمن مالا يحلّ لى أخذه. فكتب إليه معاوية: أن عذّب عبد الرحمن. فقال لعبد الرحمن: احتفظ بما فى يدك، وألقى على وجهه حريرة [2] ونضحها بالماء فغشى عليه، فعل ذلك ثلاث مرات، ثم خلّاه، وكتب إلى معاوية: إنى عذّبته فلم أجد عنده شيئا. ثم دخل المغيرة على معاوية فقال له [3] : ذكرت زيادا واعتصامه بفارس فلم أنم ليلتى. فقال المغيرة: ما زياد هناك؟ فقال معاوية: «داهية العرب! معه أموال فارس، يدبّر الحيل، ما يؤمننى أن يبايع لرجل من أهل هذا البيت، فإذا هم قد أعادوا الحرب جذعة!» واستكتمه معاوية ذلك، فقال المغيرة: أتأذن لى يا أمير المؤمنين فى إتيانه؟ قال: نعم وتلطّف له، فأتاه المغيرة وقال له: إن معاوية استخفه الوجل حتى بعثنى إليك، ولم يكن أحد يمدّ يده إلى هذا الأمر غير الحسن، وقد بايع فخذ لنفسك قبل التّوطين فيستغنى معاوية عنك.   [1] كان الشهود على المغيرة عند عمر بن الخطاب أربعة: أبو بكرة ونافع وشل ابن معبد وزياد، وكلهم أولاد سمية، إلا أن زيادا لم يقطع الشهادة، فسلم المغيرة من الجلد بسبب زياد. [2] تطلق «الحريرة» على ما طبخ من الدقيق والدسم، وعلى قطعة الحرير. [3] قال معاوية للمغيرة حين نظر إليه: إنما موضع سر المرء إن ... باح بالسر أخوه المنتصح فإذا بحت بسر فإلى ... ناصح يستره أولا تبح فقال: يا أمير المؤمنين إن تستودعنى تستودع ناصحا شفيقا ورعا وثيقا فما ذاك يا أمير المؤمنين قال: ذكرت زيادا .... الخ. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 295 قال: أشر علىّ وارم الغرض الأقصى فإن المستشار مؤتمن. فقال المغيرة: أرى أن تصل حبلك بحبله وتشخص إليه. [قال: أرى] [1] ويقضى الله. وكتب إليه معاوية بأمانه بعد عود المغيرة عنه. فخرج زياد من فارس نحو معاوية، ومعه المنجاب بن راشد الضبّى، وحارثة بن بدر، وقدم على معاوية فسأله عن أموال فارس فأخبره بما حمل منها إلى علىّ رضى الله عنه، وما انفق منها فى الوجوه التى تحتاج إلى النفقة، وما بقى عنده وأنه مودع للمسلمين، فصدّقه معاوية فيما أنفق وفيما بقى عنده وقبضه منه، وقيل: إن زيادا لما قال لمعاوية: قد بقيت بقية من المال، وقد أودعتها [قوما] [2] فمكث معاوية يروده، فكتب زياد كتبا إلى قوم يقول: قد علمتم ما لى عندكم من الأمانة، فتدبروا كتاب الله إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ. الآية [3] فاحتفظوا بما عندكم. وسمى فى الكتب المال الذى أقرّ به لمعاوية، وأمر رسوله أن يتعرّض لبعض من يبلغ ذلك معاوية، ففعل رسوله، وانتشر ذلك، فقال معاوية لزياد حين وقف على الكتب: أخاف أن تكون مكرت بى فصالحنى على ما شئت، فصالحه على ألفى ألف درهم، وحملها زياد إليه، واستأذنه زياد فى نزول الكوفة فأذن له، فكان المغيرة يكرّمه ويعظّمه، وكتب معاوية إلى المغيرة ليلزم زيادا وحجر ابن عدى وسليمان بن   [1] الزيادة من تاريخ ابن جرير الطبرى ج 4 ص 135. [2] الزيادة من تاريخ ابن جرير الطبرى ج 4 ص 136. [3] الآية 72 من سورة الأحزاب. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 296 صرد وشبيب بن ربعى وابن الكوّاء [1] وابن الحمق [2] بالصلاة فى الجماعة، فكانوا يحضرون معه الصلاة [3] . وحج بالناس فى هذه السنة عنبسة بن أبى سفيان. سنة ثلاث وأربعين فيها استعمل عبد الله بن عامر عبد الرحمن بن سمرة على سجستان واستعمل عبد الله بن خازم على خراسان وعزل قيس بن الهيثم عنها [4] وحج بالناس فى هذه السنة مروان بن الحكم وكان على المدينة. وفيها توفى محمد بن مسلمة الأنصارى، وعبد الله بن سلام، وعمرو بن العاص. ذكر وفاة عمرو بن العاص وشىء من أخباره واستعمال عبد الله ابن عمرو على مصر كانت وفاته بمصر يوم عيد الفطر من هذه السنة على الأصح وكان له يوم مات تسعون سنة، ودفن بالمقطّم من ناحية السّفح، وصلى عليه ابنه عبد الله، ثم رجع فصلّى بالناس صلاة العيد. وكان عمرو بن العاص من فرسان قريش وأبطالهم فى الجاهلية مذكورا بذلك فيهم.   [1] ابن الكواء: عبد الله بن أبى أوفى، ذكره الطبرى فى تاريخه ج 4 ص 162 وابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 219. [2] عمرو بن الحمق، كذا ذكره ابن جرير الطبرى فى تاريخه ج 4 ص 147. [3] قال ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 311: «وإنما ألزمهم ذلك لأنهم كانوا من شيعة على» . [4] انظر ما قيل فى سبب ذلك فى تاريخ ابن جرير ج 4 ص 160 والكامل لابن الأثير ج 3 ص 218. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 297 وكان حسن الشّعر، فمن شعره يخاطب عمارة بن الوليد بن المغيرة عند النّجاشىّ: إذا المرء لم يترك طعاما يحبّه ... ولم ينه قلبا غاويا حيث يمّما قضى وطرا منه وغادر سبّة ... إذا ذكرت أمثالها تملأ الفما وكان أحد الدّهاة فى أمور الدنيا المقدّمين فى الرأى، وكان عمر بن الخطاب رضى الله عنه إذا استضعف رجلا فى رأيه قال: أشهد أن خالقك وخالق عمرو واحد. يريد خالق الأضداد. حكى أنه جعل لرجل ألف درهم على أن يسأل عمرو بن العاص وهو على المنبر عن أمّه، فسأله، فقال: أمّى سلمى بنت حرملة تلقّب النابغة من بنى عنزة، ثم أحد بنى جلّان، أصابتها رماح العرب [1] فبيعت بعكاظ، فاشتراها الفاكه بن المغيرة، ثم اشتراها منه عبد الله بن جدعان، ثم صارت إلى العاص بن واثل فولدت له، فأنجبت، فإن كان جعل لك شىء فخذه. قالوا: ولما حضرته الوفاة قال: «اللهم أمرتنى فلم آتمر، وزجرتنى فلم أنزجر» ووضع يده فى موضع الغلّ ثم قال: «اللهمّ لا قوىّ فأنتصر، ولا برىء فأعتذر، ولا مستكبر بل مستغفر، لا إله إلا أنت» . فلم يزل يردّدها حتّى مات. وروى أبو عمر ابن عبد البر [2] بسنده إلى الشافعى رضى الله عنه أنه قال. دخل ابن عباس رضى الله عنهما على عمرو بن العاص فى مرضه فسلّم عليه وقال: كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟ قال: «أصبحت وقد أصلحت من دنياى قليلا، وأفسدت من دينى كثيرا، فلو كان   [1] سبيت وهى من بنى جلان بن عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار. [2] فى الاستيعاب ج 2 ص 513. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 298 الذى أصلحت هو الذى أفسدت، والذى أفسدت هو الذى أصلحت لفزت، ولو كان ينفعنى أن أطلب طلبت، ولو كان ينجينى أن أهرب هربت، فصرت كالمنجنيق بين السماء والأرض، لا أرقى بيدين ولا أهبط برجلين، فعظنى بعظة أنتفع بها يابن أخى» . فقال ابن عباس: «هيهات يا أبا عبد الله، صار ابن أخيك أخاك، ولا نشاء أن تبكى إلا بكيت، كيف يؤمر برحيل من هو مقيم؟» . فقال عمرو على حينها من حين ابن بضع وثمانين سنة تقنطنى من رحمة ربى، اللهم إن ابن عباس يقنّطنى من رحمتك فخذ منى حتى ترضى. فقال ابن عباس: هيهات يا أبا عبد الله أخذت جديدا وتعطى خلقا، قال: ما لى ولك يا ابن عباس ما أرسل كلمة إلا أرسلت نقيضها. وروى [1] بسنده إلى يزيد بن أبى حبيب: أن عبد الرحمن بن شماسة حدّثه قال: لما حضرت عمرو بن العاص الوفاة بكى، فقال له ابنه عبد الله: «لم تبكى؟ أجزعا من الموت؟» قال: لا والله ولكن لما بعده، فقال له: لقد كنت على خير، وجعل يذكّره صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتوحه الشام. فقال له عمرو: «تركت أفضل من ذلك كله، شهادة أن لا إله إلا الله، إنى كنت على ثلاثة أطباق [2] ، ليس منها طبق إلّا عرفت نفسى فيه، كنت أوّل شىء كافرا، فكنت أشدّ الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو متّ حينئذ وجبت لى النار، فلما بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم كنت أشدّ الناس حياء منه، فما ملأت عينى من رسول الله صلى الله   [1] فى الاستيعاب ج 2 ص 514. [2] الأطباق: المراد بها الأحوال. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 299 عليه وسلم حياء منه، فلو متّ يومئذ قال الناس: هنيئا لعمرو أسلم وكان على خير ومات على خير أحواله فترجى له الجنة، ثم تلبّست بعد ذلك بالسلطان وأشياء فلا أدرى أعلىّ أم لى؟ فإذا متّ فلا تبكينّ علىّ باكية، ولا يتبعنى مادح ولا زار، وشدّوا علىّ إزارى فإنى مخاصم، وشنّوا علىّ التراب فإن جنبى الأيمن ليس بأحقّ من جنبى الأيسر، ولا تجعلنّ فى قبرى خشبة ولا حجرا، وإذا واريتمونى فاقعدوا عندى قدر نحر جزور وتقطيعها [[1] بينكم] أستأنس بكم!» . ولما مات استعمل معاوية بعده على مصر ابنه عبد الله بن عمرو. سنة أربع وأربعين فى هذه السنة حج معاوية بالناس. وفيها عمل مروان بن الحكم المقصورة، وهو أول من عملها بالمدينة، وكان معاوية قد عملها بالشام لمّا ضربه الخارجى. ذكر عزل عبد الله بن عامر عن البصرة واستعمال الحارث بن عبد الله فى هذه السنة عزل معاوية عبد الله بن عامر عن البصرة، وسبب ذلك أنه كان كريما حليما لينّا لا يأخذ على أيدى السفهاء، ففسدت البصرة فى أيامه، فشكا ذلك إلى زياد، فقال له: جرّد [فيهم] [2] السيف، قال: إنى أكره أن أصلحهم بفساد نفسى!. فلما علم معاوية حال البصرة أراد عزل ابن عامر، فأرسل إليه   [1] الزيادة من الاستيعاب. [2] الزيادة من تاريخ ابن جرير الطبرى ج 4 ص 162. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 300 يستزيره، فجاء إليه، فرده إلى [1] عمله، فلما ودعه قال له معاوية: «إنى سائلك ثلاثا [فقل: هنّ لك» .] [2] قال: هنّ لك وأنا ابن أم حكيم [3] فقال: ترد علىّ عملى ولا تغضب. قال: قد فعلت. قال: وتهب لى مالك بعرفة. قال: قد فعلت. قال: وتهب لى دورك بمكّة. قال قد فعلت. قال: وصلتك رحم! قال ابن عامر: «يا أمير المؤمنين إنى سائلك ثلاثا، فقل هنّ لك» . قال هنّ لك وأنا ابن هند، قال: ترد علىّ مالى بعرفة. قال: قد فعلت. قال: ولا تحاسب لى عاملا ولا تتبع لى أثرا. قال: قد فعلت. قال: وتنكحنى ابنتك هند. قال: قد فعلت. ويقال: إن معاوية قال له: «اختر إمّا أن أتبع أثرك وأحاسبك بما صار إليك وأردك إلى العمل، أو أعز لك وأسوّغك ما أصبت» . فاختار العزل وأن يسوّغه ما أصاب، فعزله، واستعمل الحارث ابن عبد الله الأزدى، وكان ابن عامر قد استعمل على خراسان، قبل مقدمه عبد الله بن أبى شيخ اليشكرى، وقيل: بل استعمل عليها طفيل بن عوف اليشكرى.   [1] عند الطبرى وابن الأثير «على» . [2] الزيادة من ابن جرير فى تاريخه وابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 219. [3] كانت أم عامر والد عبد الله هى أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب بن هاشم. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 301 ذكر استلحاق معاوية بن أبى سفيان زياد بن أبيه وهو ابن سميّة وفى هذه السنة استلحق معاوية زياد بن أبيه، وقد ذكر عز الدين أبو الحسن على بن الأثير فى تاريخه الكامل [1] سبب ذلك وكيفيته، وابتدأ حال سميّة فقال: كانت سميّة أم زياد لدهقان زندورد [2] ، بكسكر فمرض الدهقان، فدعا الحارث بن كلدة الطبيب الثقفى، فعالجه، فبرأ، فوهبه سميّة، فولدت عند الحارث أبا بكرة واسمه نفيع، فلم يقرّبه، ثم ولدت نافعا فلم يقرّبه أيضا، فلما نزل أبو بكرة إلى النبى صلى الله عليه وسلم حين حضر [3] الطائف، قال الحارث لنافع: أنت ولدى، وكان قد زوج سميّة من غلام له اسمه عبيد [4] ، وهو رومى، فولدت له زيادا. قال: وكان أبو سفيان بن حرب سار [5] فى الجاهلية إلى الطائف فنزل على خمار يقال له أبو مريم السّلولى- وأسلم أبو مريم [6] بعد ذلك، وصحب النبى صلى الله عليه وسلم- فقال أبو سفيان لأبى مريم: قد اشتهيت النساء فالتمس لى بغيّا، فقال هل لك فى سمية؟ فقال: هاتها على طول ثدييها وذفر بطنها. فأتاه بها، فوقع   [1] ج 3 ص 219- 221. [2] زندورد: بلد قرب واسط، وكسكر: كورة صارت قصبتها واسط. [3] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى النسخة (ن) : «حصر» ... هذا وقد روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان نازلا بالطائف، فنادى مناديه: «من خرج إلينا من عبيدهم فهو حر» فخرج إليه نافع ونفيع- يعنى أبا بكرة وأخاه- فأعتقهما، وانظر نهاية الأرب ج 17- 337، وانظر تسمية «أبى بكرة» فيما سبق من هذا الجزء. [4] انظر خزانة الأدب ج 2 ص 517. [5] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى النسخة (ن) : «صار» . [6] أبو مريم السلولى: مالك بن ربيعة، وهو مشهور بكنيته. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 302 عليها، فعلقت بزياد، ثم وضعته سنة إحدى [1] من الهجرة. فلما كبر ونشأ استكتبه أبو موسى الأشعرى حين ولى البصرة. ثم إن عمر بن الخطاب رضى الله عنه استكفى زيادا أمرا، فقام فيه مقاما مرضيا، فلما عاد إليه حضر وعند عمر المهاجرون والأنصار، فخطب خطبة لم يسمعوا بمتلها، فقال عمرو بن العاص: «لله در هذا الغلام. لو كان أبوه من قريش لساق العرب الناس بعصاه» . فقال أبو سفيان وهو حاضر: والله إنى لأعرف أباه ومن وضعه فى رحم أمه. فقال له على بن أبى طالب: ومن هو يا أبا سفيان؟ قال: أنا. قال: «مهلا يا أبا سفيان، اسكت، فإنك تعلم أن عمر لو سمع هذا القول منك لكان إليك سريعا» . وروى أبو عمر ابن عبد البر [2] بسنده إلى ابن عبّاس: أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه بعث زيادا فى إصلاح فساد وقع باليمن، فرجع من وجهه، وخطب خطبة لم يسمع الناس مثلها (وذكر كلام عمرو بن العاص ومقالة أبى سفيان وكلام علىّ رضى الله عنه بنحو ما تقدم) قال: فقال أبو سفيان: أما والله لولا خوف شخص ... يرانى يا علىّ من الأعنادى لأظهر أمره صخر بن حرب ... ولم يكن المقالة عن زياد وقد طالت مجاملتى ثقيفا ... وتركى فيهمو ثمر الفؤاد   [1] كذا جاء فى الأصل، يريد السنة الأولى من الهجرة، وهذه إحدى الروايات فى ميلاد زياد. وفى الاستيعاب وأسد الغابة: ولد عام الهجرة، وقيل: قبل الهجرة. وقيل: يوم بدر، وفى الطبقات: ولد عام الفتح، وهو سنة ثمان من الهجرة. [2] فى الاستيعاب ج 1 ص 569. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 303 نعود إلى ما حكاه ابن الأثير قال: فلما ولى علىّ رضى الله عنه الخلافة استعمل زيادا على فارس فضبطها وحمى قلاعها، واتصل الخبر بمعاوية فساءه ذلك، فكتب إلى زياد يتهدّده، ويعرض له بولادة أبى سفيان إياه، فلما قرأ زياد كتابه قام فى الناس فقال: «العجب [1] كلّ العجب من ابن آكلة الأكباد [2] ، ورأس النفاق، يخوّفنى بقصده إيّاى وبينى وبينه ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المهاجرين والأنصار. أما والله لو أذن لى فى لقائه لوجدنى أحمر مخشيا [3] ضرّابا بالسيف» . وبلغ ذلك عليا رضى الله عنه فكتب إليه: «إنى قد ولّيتك ما وليتك وأنا أراك له أهلا، وقد كان من أبى سفيان فلتة من أمانى الباطل وكذب النفس، لا توجب له ميراثا ولا تحل لك نسبا، وإن معاوية يأتى الإنسان من بين يديه ومن خلف، وعن يمينه وعن شماله فاحذر ثم احذر، والسلام» .. فلما قتل علىّ رضى الله عنه وكان من أمر زياد ومصالحة معاوية ما ذكرناه، وضع زياد مصقلة بن هبيرة الشيبانى، وضمن له عشرين ألف درهم؛ ليقول لمعاوية: «إن زيادا قد أكل فارس برا وبحرا، وصالحك على ألفى ألف درهم، والله ما أرى الذى يقال إلّا حقّا» فإذا قال لك يقال: وما يقال؟ فقل: إنه ابن أبى سفيان. ففعل مصقل ذلك.   [1] انظر ما سبق فى «ذكر قدوم زياد بن أبيه على معاوية بن أبى سفيان» . [2] آكلة الأكباد: أمه، أكلت كبد حمزة رضى الله عنه حين قتل يوم أحد، والمراد بأكلها أنها لاكنها، انظر نهاية الأرب ج 17 ص 100- 101. [3] يخشاه الناس. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 304 ورأى معاوية أن يستصفى مودته باستلحاقه، فاتفقا على ذلك، وأحضر الناس وحضر من شهد لزياد، وكان فيمن حضر أبو مريم السّلولى، فقال له معاوية: بم تشهد يا أبا مريم؟ فقال: أشهد أنّ أبا سفيان حضر عندى وطلب منى بغيّا، فقلت ليس عندى إلّا سميّة فقال: ايتنى بها على قذرها ووضرها. فأتيته بها، فخلا معها، ثم خرجت من عنده وإن إسكتيها ليقطران منيا. فقال له زياد: مهلا أبا مريم إنما بعثت شاهدا ولم تبعث شاتما. فاستلحقه معاوية. وكان استلحاقه أول ما ردّت فيه أحكام الشريعة علانية، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالولد للفراش وللعاهر الحجر. قال [1] : وقد اعتذر الناس عن معاوية فى استلحاقه إياه، فقالوا: إن أنكحة الجاهلية كانت أنواعا، منها أن الجماعة يجامعون البغىّ فإذا حملت وولدت ألحقت الولد بمن شاءت منهم، فلما جاء الإسلام حرم هذا النكاح، إلا أنه أقرّ نسب كلّ ولد إلى من كان ينسب إليه من أى نكاح كان، فتوهّم معاوية أن ذلك جائز له، ولم يفرق بين ما استلحق فى الجاهلية والإسلام. قال أبو عمر ابن عبد البر [2] : ولما ادّعى معاوية زيادا دخل عليه بنو أمية، وفيهم عبد الرحمن بن الحكم، فقال: يا معاوية لو لم تجد إلا الزّنج لاستكثرت بهم علينا قلّة وذلّة، فأقبل معاوية على مروان، وقال: أخرج عنا هذا الخليع، فقال مروان: والله إنه لخليع ما يطاق. فقال معاوية: «والله لولا حلمى وتجاوزى لعلمت أنه لا يطاق،   [1] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 221. [2] فى الاستيعاب ج 1 ص 570- 571. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 305 ألم يبلغنى شعره فىّ وفى زياد؟» . ثم قال لمروان أسمعنيه، فقال: ألا بلّغ [1] معاوية بن صخر ... لقد ضاقت بما تأتى اليدان أتغضب أن يقال: أبوك عفّ ... وترضى أن يقال: أبوك زانى؟ فأشهد أن رحمك من زياد ... كرحم الفيل من ولد الأتان وأشهد أنها حملت زيادا ... وصخر من سميّة غير دان قال [2] : وهذه الأبيات تروى ليزيد بن ربيعة بن مفرّغ [3] الحميرى الشاعر، ومن رواها له جعل أوّلها: ألا بلّغ [4] معاوية بن صخر ... مغلغلة من الرجل اليمانى قال أبو عمر: وروى عمر بن شبّة وغيره أن ابن مفرّغ لما شفعت فيه اليمانية إلى معاوية أو ابنه يزيد، وكان قد لقى من عبّاد بن زياد وأخيه عبيد الله ما لقى من النّكال مما يطول شرحه، فلما وصل إلى معاوية بكى وقال: «يا أمير المؤمنين ركب منّى ما لم يركب من مسلم قطّ، على غير حدث فى الإسلام ولا خلع يد من طاعة» . وكان عبيد الله ابن زياد قد أمر به فسقى دواء، ثم حمل على حمار وطيف به وهو يسلح فى ثيابه، فقال معاوية: ألست القائل؟: ألا بلّغ معاوية بن صخر ... وذكر الأبيات. فقال ابن مفرّغ: «لا والذى عظّم حقّك ورفع قدرك يا أمير المؤمنين   [1] فى الاستيعاب: «أبلغ» . [2] أبو عمر ابن عبد البر. [3] سمى جده «مفرغا» لأنه راهن على أن يشرب عسا من لبن ففرغه. [4] فى الاستيعاب: «أبلغ» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 306 ما قلتها قط ولقد بلغنى أن عبد الرحمن بن الحكم قالها ونسبها إلىّ» قال ألست القائل؟: شهدتّ بأنّ أمّك لم تباشر ... أبا سفيان واضعة القناع ولكن كان أمر فيه لبس ... على وجل شديد وارتياع أو لست القائل أيضا!: إنّ زيّادا ونافعا وأبا ... بكرة عندى من أعجب العجب همو رجال ثلاثة خلقوا ... فى رحم أنثى ما كلّهم لأب [1] ذا قرشىّ كما يقول وذا ... مولى وهذا بزعمه عربى فى أشعار قلتها لزياد وبنيه تهجوهم! اغرب لا عفا الله عنك! فقد عفوت عن جرمك، ولو صحبت زيادا لم يكن شىء مما كان، اذهب فاسكن أى أرض أحببت» . فاختار الموصل. قال أبو عمر: وليزيد بن مفرّغ فى هجو زياد وبنيه- من أجل ما لقى من عبّاد بن زياد بخراسان- أشعار كثيرة منها: أعبّاد ما للّؤم عنك محوّل ... وما لك أمّ فى قريش ولا أب وقل لعبيد الله مالك والد ... بحقّ ولا يدرى امرء كيف تنسب   [1] جاء فى مروج الذهب ج 2 ص 57: «فى رحم أثنى مخالفى النسب» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 307 وقوله [1] فى زياد: فكّر ففى ذاك إن فكّرت معتبر ... هل نلت مكرمة إلّا بتأمير عاشت سميّة ما عاشت وما علمت ... أن ابنها من قريش فى الجماهير قال [2] : وكان أبو بكرة أخا زياد لأمّه، فلما بلغه أن معاوية استحلقه وأنه رضى بذلك آلى يمينا ألّا يكلّمه أبدا، وقال: «هذا زنّى أمّه وانتفى من أبيه، لا والله ما علمت سميّة رأت أبا سفيان قطّ، ويله! ما يصنع بأم حبيبة زوج النبى صلى الله عليه وسلم؟ أيريد أن يراها؟ فإن حجبته فضحته، وإن رآها فيالها مصيبة، يهتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم حرمة عظيمة!» . فلما حجّ زياد ودخل المدينة أرادوا الدخول على أم حبيبة، ثم ذكر قول أبى بكرة فانصرف عن ذلك. وقيل: إن أم حبيبة حجبته ولم تأذن له فى الدخول عليها، [قيل] [3] وإنه حج ولم يزرها من أجل قول أبى بكرة، وقال: جزى الله أبا بكرة خيرا لم يدع النصيحة على كل حال. قالوا [4] : وكتب زياد «إلى عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها:   [1] روى أن عبيد الله بن زياد قال: ما هجيت بشىء أشد على من قول ابن مفرغ، فكر ففى ذاك .... الخ البيتين. [2] أبو عمر ابن عبد البر فى الاستيعاب. [3] الزيادة من الاستيعاب. [4] ذكر هذا القول ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 221. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 308 من زياد بن أبى سفيان» وهو يريد أن تكتب إليه «إلى زياد بن أبى سفيان» فكتبت إليه «من عائشة أم المؤمنين إلى ولدها زياد» . وكان يقال لزياد قبل الاستلحاق «زياد بن أبيه» و «زياد بن أمّه» و «زياد بن سميّة» و «زياد بن عبيد الثّقفىّ» . وروى أبو عمر [1] بسنده إلى أبى عثمان النهدى قال: اشترى زياد أباه عبيدا بألف درهم فأعتقه.. فكنّا نغيظه بذلك. سنة خمس وأربعين ذكر ولاية زياد البصرة وخراسان وسجستان وما تكلم به زياد عند مقدمه ومن استعمله زياد من العمال وفى هذه السنة عزل معاوية الحارث بن عبد الله الأزدى عن البصرة وكان قد استعمله عليها فى [أوّل] [2] هذه السنة، ثم عزله، فكانت ولايته أربعة أشهر، واستعمل زيادا على البصرة وخراسان وسجستان، ثم جمع له الهند والبحرين وعمان. فقدم زياد البصرة فى آخر شهر ربيع الآخر من السنة، فدخلها والفسق فيها ظاهر فاش. فخطب خطبة بتراء [3] لم يحمد الله فيها (وقيل: بل حمد الله   [1] فى الاستيعاب ج 1 ص 568. [2] ثبتت هذه الكلمة فى النسخة (ن) ، وسقطت من النسخة (ك) . [3] ذكر الجاحظ فى البيان والتبيين ج 2 ص 6 «أن خطباء السلف الطيب وأهل البيان من التابعين بإحسان ما زالوا يسمون الخطبة التى لم تبدأ بالتحميد وتستفتح بالتمجيد البتراء» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 309 فقال: الحمد لله على إفضاله وإحسانه، ونسأله المزيد من نعمه وإكرامه، اللهم كما زدتنا نعما فألهمنا شكرا على نعمك فينا.) أمّا بعد فإنّ الجهالة الجهلاء والضّلالة العمياء والفجر [1] الموقد لأهله النار [2] الباقى عليهم سعيرها، ما يأتيه سفهاؤكم ويشتمل عليه حلماؤكم من الأمور العظام، فيثب [3] فيها الصغير، ولا ينحاش عنها الكبير كأن لم يسمعوا نبىّ الله، ولم يقرءوا كتاب الله، ولم يعلموا [4] ما أعدّ الله من الثواب الكريم لأهل طاعته، والعذاب الأليم لأهل معصيته فى الزمن السّرمدى الذى لا يزول، أتكونون كمن طرفت عينه الدنيا [5] وسدّت مسامعه الشهوات واختار الفانية على الباقية؟ ولا تذكرون أنكم أحدثتم فى الإسلام الحدث الذى لم تسبقوا إليه (وفى نسخة [6] بعد قوله «لم تسبقوا إليه» قال: من ترككم الضعيف يقهر ويؤخذ ماله والضعيفة المسكينة فى النهار المبصر) هذه المواخير [7] المنصوبة، والضعيفة المسلوبة فى النهار المبصر، والعدد غير قليل! ألم تكن   [1] فى البيان والتبيين ج 2 ص 12 «والغى» : [2] كذا جاء فى المخطوطة وتاريخ الطبرى ج 4 ص 165 والكامل لابن الأثير ج 3 ص 222، وجاء فى البيان والتبيين ج 2 ص 62 والعقد الفريد ج 4 ص 110 «الموفى بأهله على النار» . [3] كذا جاء فى المخطوطة والكامل، وجاء فى تاريخ الطبرى والبيان والتبيين والعقد الفريد: «ينبت» . [4] جاءت الأفعال «يسمعوا» و «يقرءوا» و «يعلموا» بالياء فى النسخة (ك) ولم تنقط أوائلها فى النسخة (ن) ، وجاءت بالتاء فى تاريخ ابن جرير الطبرى والكامل والبيان والعقد. [5] أى: طمحت ببصره إليها، من قولهم «امرأة مطروفة بالرجال» إذا كانت طماحة إليهم، وقيل: طرقت عينه أى صرفتها إليها، كما فى النهاية. [6] كذا جاء فى النسخة (ن) ، ولم يثبت فى النسخة (ك) . [7] قال صاحب النهاية: المواخير جمع ماخور، وهو مجلس الريبة ومجمع أهل الفسق والفساد وبيوت الخمارين. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 310 منكم نهاة [1] تمنع الغواة عن دلج [2] الليل وغارة النهار؟ قرّبتم القرابة وباعدتم الدّين! تعتذرون بغير العذر وتغطّون [3] على المختلس! كلّ امرئ منكم يذبّ عن سفيهه صنع من لا يخاف عاقبة ولا يخشى [4] معادا! ما أنتم بالحلماء، ولقد اتبعتم السّفهاء، فلم يزل بهم ما ترون [5] من قيامكم دونهم حتّى انتهكوا حرم الإسلام ثم أطرقوا وراءكم كنوسا فى مكانس [6] الريب!. حرام علىّ الطعام والشراب حتّى أسوّيها بالأرض هدما وإحراقا! إنى رأيت هذا الأمر لا يصلح إلّا بما صلح به أوّله: لين فى غير ضعف، وشدة فى غير جبريّة وعنف. وإنّى أقسم بالله لآخذنّ الولىّ بالولىّ والمقيم بالظاعن، والمقبل بالمدبر، والصحيح منكم فى نفسه بالسقيم، حتّى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول: انج سعد فقد هلك سعيد [7] ، أو تستقيم لى قناتكم! إن كذبة المنبر   [1] النهاة: جمع الناهى، كما تكون الغواة جمع الغاوى. [2] دلج الليل: يراد به السير فى الليل، وأكثره يكون للسرقة أو الفجور. [3] فى الكامل: «تعطفون» ، وفى البيان: «تغضون» . [4] فى تاريخ الطبرى والبيان والعقد: «ولا يرجو» . [5] فى العقد «بكم ما ترون» ، وكذلك بعض نسخ البيان، وفى بعضها: «بهم ما يرون» . [6] يقال: كنس الظبى فى كناسه أو مكنسه، إذا تغيب واستنر فى بيته، قال صاحب النهاية فى شرح هذه الجملة من خطبة زياد: المكانس: جمع مكنس، مفعل من الكناس، والمعنى استتروا فى مواضع الريبة. [7] «انج سعد فقد هلك سعيد» مثل من أمثال العرب، انظر مجمع الأمثال فى حرف النون ج 2 ص 301، و «سعد» و «سعيد» ابنا ضبة بن طابخة بن الياس بن مضر، وكانا قد زوجها فى طلب إبل لأبيهما نفرت فى الليل، فوجدها سعد فردها، ومضى سعيد فى طلبها حتى لقيه الحارث بن كعب فقتله وأخذ يرديه، انظر مجمع الأمثال ج 1 ص 301 والفاخر ص 59. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 311 مشهودة [1] ، فإذا تعّلقتم علىّ بكذبة فقد حلّت لكم معصيتى! من بيّت [2] منكم فأنا ضامن لما ذهب له، إيّاى ودلج الليل، فإنى لا أوتى بمدلج إلّا سفكت دمه، وقد أجّلتكم فى ذلك بقدر ما يأتى الخبر الكوفة ويرجع إليكم. وإيّاى ودعوى الجاهليّة [3] ، فإنى لا أجد أحدا دعا بها إلّا قطعت لسانه، وقد أحدثتم أحداثا لم تكن، وقد أحدثنا لكلّ ذنب عقوبة، فمن غرّق قوما غرّقناه، ومن حرّق قوما حرّقناه، ومن نقب بيتا نقبت عن قلبه، ومن نبش قبرا دفنته فيه حيّا! فكفّوا عنّى أيديكم وألسنتكم أكفف عنكم يدى ولسانى، ولا يظهر من أحد منكم خلاف ما عليه عامّتكم إلّا ضربت عنقه! وقد كانت بينى وبين أقوام إحن [4] فجعلت ذلك دبر أذنى وتحت قدمى [5] ، فمن كان منكم محسنا فليزدد إحسانا، ومن كان مسيئا فلينزع عن إساءته، إنّى لو علمت أن أحدكم قد قتله [6] السلّ من بغضى لم أكشف له قناعا ولم أهتك له سترا حتى يبدى لى صفحته، فإذا فعل لم أناظره. فاستأنفوا أموركم، وأعينوا على   [1] روى أبو على القالى فى النوادر ص 185 قول زياد فى خطبته: «ألا وإنها ليست كذبة أكثر عليها شاهدا من الله ومن المسلمين من كذبة إمام على منبر» . [2] بيت: أصيب من شخص أوقع به ليلا. [3] ما كان عليه أهل الجاهلية من التعصب القبلى الأعمى يدعو بعضهم بعضا عند الحادث فيقول: «يا لفلان» ، وفى الصحيحين وغيرهما حديث النبى صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية» . [4] إحن: جمع إحنة، بمعنى حقد. [5] روى المبرد فى الكامل قول زياد: «الإمرة تذهب الحفيظة، وكانت من قوم إلى هنات جعلتها تحت قدمى ودبر أذنى» ، وقال المرصفى فى شرحه ج 4 ص 116: «دبر: معناه خلف، يريد تصاممت فلم أصغ إليه» . [6] رواية المبرد فى الكامل: «أخذه» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 312 أنفسكم، فربّ مبتئس بقدومنا سيسرّ ومسرور بقدومنا سيبتئس [1] أيّها الناس، إنا أصبحنا لكم ساسة، وعنكم ذادة [2] ، نسوسكم بسلطان الله الذى أعطاناه، ونذود عنكم بفىء الله الذى خوّلناه، فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا، ولكم علينا العدل فيما ولّينا، فاستوجبوا عدلنا وفيئنا بمناصحتكم لنا. واعلموا أنى مهما قصّرت عنكم [3] فإنى لا أقصّر عن ثلاث: لست محتجبا عن طالب حاجة منكم ولو أتانى طارقا بليل، ولا حابسا رزقا ولا عطاء عن إبّانه، ولا مجمّرا [4] لكم بعثا، فادعوا الله بالصلاح لأئمتكم، فإنهم ساستكم المؤدّبون، وكهفكم الذى إليه تأوون، ومتى يصلحوا تصلحوا [5] ، ولا تشربوا قلوبكم بغضهم، فيشتدّ لذلك غيظكم، ويطول له حزنكم، ولا تدركوا حاجتكم، مع أنه لو استجيب لكم فيهم لكان شرّا لكم، أسأل الله أن يعين كلّا على كلّ، فإذا رأيتمونى أنفذ فيكم الأمر فأنفذوه على أذلاله [6] . وايم الله إن لى فيكم لصرعى كثيرة، فليحذر كلّ امرئ منكم أن يكون من صرعاى!.   [1] ذكر المسعودى فى مروج الذهب ج 2 ص 67 أن زيادا قال: ألا رب مسرور بما لا يسره ... وآخر مجزون بما لا يضره [2] ذادة: جمع ذائد، وسيأتى الفعل، «نذود» أى: ندافع. [3] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى تاريخ الطبرى والكامل والبيان: «عنه» . [4] تجمير الجنود: حبسهم فى أرض العدو عن العودة إلى أهلهم، وقد جاء فى وصية عمر بن الخطاب قوله: «ولا تجمرهم فى البعوث فتقطع نسلهم» . [5] كذا جاء فى البيان والتبيين، وجاء فى تاريخ الطبرى والكامل لابن الأثير: «ومتى تصلحوا يصلحوا» . [6] أذلاله: طرقه ومذاهبه، فالأذلال: جمع ذل- بكسر الذال- وهو ما مهد من الطريق، قال صاحب النهاية: «ومنه خطبة زياد؛: إذا رأيتمونى أنفذ فيكم الأمر فأنفذوه على أذلاله» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 313 فقام إليه عبد الله بن الأهتم فقال: أشهد أيها الأمير أنك أوتيت الحكمة وفصل الخطاب. فقال: «كذبت، ذاك نبىّ الله داود عليه الصلاة والسلام [1] » . فقال الأحنف: «قد قلت فأحسنت، أيّها الأمير [2] والثناء بعد البلاء، والحمد بعد العطاء، وإنا لا نثنى حتّى نبتلى، ولا نحمد حتّى نعطى» . فقال زياد: صدقت. فقام أبو بلال مرداس بن أديّة وهو يقول: [3] أنبأنا الله بغير ما قلت، قال الله تعالى: وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى، أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى، ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى [4] فأوعدنا الله خيرا ممّا أوعدتنا يا زياد [5] فقال زياد: إنا لا نجد إلى ما نريد منك ومن أصحابك سبيلا حتّى نخوض إليكم الباطل خوضا!. (وقيل: إنه قال: حتى نخوض إليها [6] الدماء) .   [1] يشير إلى قول الله تعالى فى قصة داود: وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ الآية 20 من سورة ص. [2] زاد الحصرى فى زهر الآداب ج 2 ص 1025 والقالى فى النوادر ص 186 وابن قتيبة فى عيون الأخبار ج 2 ص 242: «الفرس بشده، والسيف مجده، والمرء مجده، وقد بلغ بك جدك ما ترى» . [3] عند ابن جرير والجاحظ وابن عبد ربه: يهمس وهو يقول: [4] الآيات 37، 38، 39، 40، 41 من سورة النجم. [5] ذكر القالى فى نوادره أن أبا بلال بعد أن تلا القرآن قال: «وأنت تزعم أنك تأخذ بعضنا ببعض وتقتل بعضنا ببعض» وذكر الجاحظ فى البيان والتبيين أنه قال: «وأنت تزعم أنك تأخذ البرى بالسقيم والمطيع بالعاصى والمقبل بالمدبر» فسمعه زياد. [6] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى النسخة (ن) : «إليه» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 314 وقيل: إنّه لمّا قدم العراق خطب، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «إنّ معاوية غير مخوف على قومه، ولم يكن ليلحق بنسبه من ليس منه، وقد شهدت الشهود بما قد بلغكم، والحقّ أحقّ أن يتّبع، والله حيث وضع البينات كان أعلم، وقد رحلت عنكم وأنا أعرف صديقى من عدوّى، وقد قدمت عليكم، وصار العدوّ صديقا مناصحا، والصديق عدوا مكاشحا، فاشتمل كلّ امرئ على ما فى صدره، فلا يكوننّ لسانه شفرة تجرى على ودجه، وليعلم أحدكم إذا خلا بنفسه أنى قد حملت سيفى بيده، فإن شهره لم أغمده، وإن أغمده لم أشهره» . ثم نزل. واستعمل على شرطته عبد الله بن حصن.. وأجّل الناس حتّى بلغ الخبر الكوفة وعاد إليه وصول الخبر، وكان يؤخر العشاء الآخرة، ثم يصلّى ويأمر رجلا فيقرأ سورة البقرة أو مثلها يرتّل القرآن، فإذا فرغ أمهل بقدر ما يرى أنّ إنسانا يبلغ أقصى البصرة، ثم يأمر صاحب شرطته بالخروج فيخرج فلا يرى إنسانا إلا قتله. فخرج ذات ليلة، فأخذ أعرابيا، فأتى به زيادا، فقال: هل سمعت النداء؟ قال: «لا والله قدمت بحلوبة لى، وغشينى الليل، فاضطررتها إلى موضغ، وأقمت لأصبح، ولا علم لى بما كان من الأمير» . قال: أظنك والله صادقا ولكن فى قتلك صلاح الأمة. ثم أمر به فضربت عنقه. وكان زياد أول من شدّد أمر السلطان، وأكد الملك لمعاوية، وجرّد السيف، وأخذ على الظّنة، وعاقب بالشّبهة، وخافه الناس خوفا شديدا، حتّى أمن بعضهم بعضا، وحتى كان الشىء يسقط من الرجل الجزء: 20 ¦ الصفحة: 315 أو المرأة فلا يعرض له أحد حتّى يأتيه صاحبه فيأخذه، ولا يغلق أحد بابه، وأدرّ العطاء، وبنى مدينة الرزق، وجعل الشّرط أربعة الآف. وقيل له، إن السبيل مخوفة فقال: «لا أعانى شيئا وراء المصر حتّى أصلح المصر، فإن غلبنى فغيره أشدّ غلبة منه» . فلما ضبط المصر وأصلحه تكلّف ما وراء ذلك وأحكمه، وهو أول من سير بين يديه بالحراب والعمد، واتخذ الحرس خمسمائة لا يفارقون المسجد. والله أعلم. ذكر عمال زياد بن أبيه قال: ولمّا ولى زياد استعان بعدّة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضى عنهم، منهم عمران بن حصين الخزاعى ولّاه قضاء البصرة، وأنس بن مالك وعبد الرحمن بن سمرة وسمرة بن جندب. فأمّا عمران فاستعفاه من القضاء فأعفاه، واستقضى عبد الله بن فضالة الليثى، ثم أخاه عاصم، ثم زرارة بن أوفى. وجعل خراسان أرباعا، فاستعمل على مرو أمير بن أحمر اليشكرى وعلى نيسابور خليد بن عبد الله الحنفى، وعلى مرو الرّود والفارياب والطّالقان قيس بن الهيثم، وعلى هراة وباذغيس وبوشنج نافع بن خالد الطائى، ثم عزله واستعمل الحكم بن عمرو الغفارى، وكانت له صحبته، وكان زياد قد قال لحاجبه: ادع لى الحكم (يريد الحكم بن أبى العاص الثقفى) ليوليه خراسان، فجاء بالحكم الغفارى، فقال له زياد: ما أردتك ولكن الله أرادك، فولّاه خراسان وجعل معه رجالا على جباية الخراج، منهم أسلم بن زرعة الكلابى وغيره، وغزا الحكم طخارستان فغنم غنائم كثيرة ثم مات، واستخلف أنس بن الجزء: 20 ¦ الصفحة: 316 أبى أناس بن زنيم فعزله زياد، وكتب إلى خليد بن عبد الله الحنفى بولاية خراسان، ثم بعث الربيع بن زياد الحارثى رضى الله تعالى عنه [إلى خراسان] [1] فى خمسين ألفا من البصرة والكوفة. [وحج بالناس فى هذه السنة مروان بن الحكم، وكان على المدينة] [2] سنة ست وأربعين ذكر وفاة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد وفى هذه السنة مات عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وكان قد عظم أمره عند أهل الشام ومالوا إليه لغنائه بالروم ولآثار أبيه، فخافه معاوية، فأمر ابن أثال النصرانى أن يحتال فى قتله، [ضمن له أن] [3] ويضع عنه خراجه ما عاش، ويولّيه خراج حمص فلمّا قدم عبد الرحمن من الروم دسّ إليه ابن أثال شربة مسمومة مع بعض مماليكه، فشربها، فمات بحمص، فوفّى له معاوية. ثمّ قدم خالد بن عبد الرحمن المدينة، فجلس يوما إلى عروة بن الزّبير فقال له عروة: ما فعل ابن أثال؛ فقام من عنده وسار إلى حمص فقتل ابن أثال، فحمل إلى معاوية فحبسه أياما وغرمه ديته، ورجع إلى المدينة فأتى عروة فقال له ما فعل ابن أثال؟ فقال: قد كفيتكه ولكن ما فعل ابن جرموز؟ (يعنى قاتل الزبير) فسكت عروة. وقد روى [4] فى خبر عبد الرحمن بن خالد أن معاوية لمّا أراد البيعة   [1] الزيادة من تاريخ ابن جرير الطبرى ج 4 ص 170. [2] ثبتت هذه الجملة فى النسخة (ن) ، وسقطت من النسخة (ك) . [3] الزيادة من الكامل ج 3 ص 225. [4] انظر الاستيعاب ج 2 ص 408- 409. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 317 ليزيد خطب أهل الشام وقال: «يا أهل الشام، إنى قد كبر سنّى وقرب أجلى، وقد أردت أن أعقد لرجل يكون نظاما لكم، وإنما أنا رجل منكم، فارتؤا رأيكم» . فأصفقوا [1] واجتمعوا. وقالوا: رضينا عبد الرحمن ابن خالد. فشقّ ذلك على معاوية وأسرّها فى نفسه، ثم مرض عبد الرحمن فأمر معاوية طبيبا عنده مكينا أن يأتيه فيسقيه سقية يقتله بها، فأتاه فسقاه فانخرق بطنه فمات. ثم دخل أخوه المهاجر بن خالد دمشق مستخفيا، هو وغلام له، فرصدا ذلك اليهودى، فخرج ليلا من عند معاوية، ومعه قوم، فهجم عليه المهاجر فهربوا عنه فقتله المهاجر. وقد قيل [1] إن الذى قتل ابن أثال أو اليهودىّ خالد بن المهاجر بن خالد، وأن عروة بن الزبير، كان يعيّره بترك الطلب بثأر عمه، فخرج خالد ونافع مولاه من المدينة حتّى أتيا دمشق، فرصد الطبيب ليلا عند مسجد دمشق، وكان يسمر عند معاوية، فلما انتهى إليهما ومعه قوم من حشم معاوية، حملا عليهم، فانفرجوا، وضرب خالد بن المهاجر اليهودىّ فقتله، ثم انصرف إلى المدينة، وقال لعروة بن الزبير: قضى لابن سيف الله بالحقّ سيفه ... وعرّى من حمل الذّحول [2] رواحله سل ابن أثال هل ثأرت ابن خالد؟ ... فهذا ابن جرموز فهل أنت قاتله؟   [1] انظر الاستيعاب ج 3 ص 436- 437. [2] الذحول: جمع ذحل، وهو الثأر، يقول تعرت رواحله من الثأر إذا أخذت به .... هذا وفى الاستيعاب بيت بين البيتين وهو: فإن كان حقا فهو حق أصابه ... وإن كان ظنا فهو بالظن فاعله. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 318 وحج بالناس فى هذه السنة عتبة بن أبى سفيان. سنة سبع وأربعين فى هذه السنة عزل عبد الله بن عمرو بن العاص عن مصر، واستعمل عليها معاوية ابن حديج وكان عثمانيا، فمرّ به عبد الرحمن بن أبى بكر رضى الله عنهما فقال: «يا معاوية، قد أخذت جزاءك من معاوية، قد قتلت أخى محمدا لتلى مصر، فقد وليتها» . فقال: ما قتلت محمدا إلا بما صنع بعثمان، فقال عبد الرحمن: فلو كنت إنما تطلب بدم عثمان ما شاركت معاوية فيما صنع، حيث عمل عمرو بالأشعرى ما عمل، فوثبت أول الناس فبايعته. وحجّ بالناس فى هذه السنة عتبة بن أبى سفيان، وقيل: عنبسة ابن أبى سفيان. سنة ثمان وأربعين فى هذه السنة استعمل زياد غالب بن فضالة الليثى على خراسان وكانت له صحبة. وحجّ بالناس مروان بن الحكم وهو يتوقّع العزل لموجدة كانت من معاوية عليه، وارتجع معاوية منه فدك وكان وهبها له. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 319 سنة تسع وأربعين فى هذه السنة عزل معاوية مروان بن الحكم عن المدينة، فى شهر ربيع الأول، وأمّر سعيد بن العاص [1] ، فكانت ولاية مروان المدينة ثمانى سنين وشهرين، وكان على قضاء المدينة عبد الله [2] بن الحارث بن نوفل، فعزله سعيد حين ولّى، واستقضى أبا سلمة بن عبد الرحمن. ذكر وفاة الحسن بن على بن أبى طالب رضى الله عنه قد اختلف فى وقت وفاته رضى الله عنه، فقيل: [فى سنة تسع وأربعين، وقيل: بل مات] [3] فى شهر ربيع الأول سنة خمسين ، وقيل: مات فى سنة إحدى وخمسين، ودفن فى بقيع الغرقد [4] ، وصلى عليه سعيد بن العاص أمير المدينة، قدّمه الحسين للصلاة عليه، وقال له لولا أنها سنّة ما قدمتك. قال أبو عمر بن عبد البر [5] : وقد كانت عائشة رضى الله عنها أباحت له أن يدفن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بيتها،   [1] هو سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية، الأموى القرشى، أبو عثمان، لزم بيته بعد مقتل عثمان بن عفان، واعتزل أيام الجمل وصفين، فلم يشهد شيئا من تلك الحروب، إلى أن انتهى الأمر إلى معاوية فعاتبه على اعتزاله، ثم ولاه المدينة، فكان يعاقب بينه وبين مروان فى ولايتها. [2] سبق ذكره. [3] الزيادة من النسخة (ن) والاستيعاب ج 1 ص 374، وسقطت من النسخة (ك) . [4] بقيع الغرقد،: مقبرة المدينة المنورة، وكان هذا الموضع قديما منبت الشجر المسمى بالغرقد. [5] فى الاستيعاب ج 1 ص 374. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 320 وكان قد سألها ذلك فى مرضه، فلمّا مات منع من ذلك مروان بن الحكم وبنو أميّة. وروى [1] أبو عمر: أن الحسن لما حضرته الوفاة قال للحسين أخيه: «يا أخى إن أباك رحمه الله لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم استشرف لهذا الأمر رجاء أن يكون صاحبه، فصرفه الله عنه، وولّاها أبا بكر، فلما حضرت أبا بكر الوفاة تشوّف لها أيضا، فصرفت عنه إلى عمر، فلما احتضر عمر جعلها شورى بين ستة هو أحدهم، فلم يشكّ أنها لا تعدوه، فصرفت عنه إلى عثمان، فلما هلك عثمان بويع له، ثم نوزع حتّى جرّد السيف، وطلبها، النبوّة والخلافة [2] ، فلا أعرفنّ ما استخفّك سفهاء أهل الكوفة: فأخرجوك، وإنى قد كنت طلبت إلى عائشة إذا متّ أن تأذن لى فأدفن فى بيتها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: نعم، وإنى لا أدرى لعلها كان ذلك منها حياء [3] ، فإن طابت نفسها فادفنّى فى بيتها، وما أظن إلّا أن القوم سيمنعونك إذا أردت ذلك، فإن فعلوا فلا تراجعهم فى ذلك، وادفنّى فى بقيع الغرقد، فإن لى بمن فيه أسوة فلمّا مات الحسن رضى الله عنه أتى الحسين عائشة فطلب ذلك إليها   [1] فى الاستيعاب ج 1 ص 376. [2] روى الشيرازى فى الألقاب عن أم سلمة رضى الله عنها، قالت: إن عليا وفاطمة والحسن والحسين دخلوا على النبى صلى الله عليه وسلم فسألوه الخلافة. فقال: «ما كان الله ليجمع فيكم أمرين: النبوة والخلافة» . ذكره فى البيان والتعريف. [3] زاد صاحب الاستيعاب: «فإذا أنامت فاطلب ذلك إليها» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 321 فقالت: نعم وكرامة. فبلغ ذلك مروان بن الحكم [1] فقال: «كذب وكذبت، والله لا يدفن هناك أبدا، منعوا عثمان من دفنه فى المقبرة ويريدون دفن الحسن فى بيت عائشة.» . فبلغ ذلك الحسين فدخل هو ومن معه فى السلاح، واستلأم مروان فى الحديد أيضا، فبلغ ذلك أبا هريرة رضى الله عنه فقال: «والله ما هو إلّا ظلم، يمنع الحسن أن يدفن مع أبيه! والله إنه لابن رسول الله صلى الله عليه وسلم» . ثم انطلق إلى الحسين فكلّمه وناشده الله وقال له: «أليس قد قال أخوك: إن خفت أن يكون قتال فردّنى إلى مقبرة المسلمين؟» . فلم يزل به حتى فعل، وحمله إلى البقيع، فلم يشهده يومئذ من بنى أمية إلّا سعيد بن العاص، فقدّمه الحسين للصلاة، وقال: هى للسنة [2] . وشهدها خالد بن الوليد بن عقبة بعد أن ناشد بنى أمية أن يخلوه يشهد الجنازة فتركوه فشهد دفنه فى المقبرة، ودفن إلى جنب أمّه فاطمة رضى الله عنهما. قال [3] : وقال أبو قتادة وأبو بكر بن حفص: سمّ الحسن ابن علىّ رضى الله عنهما، سمّته أمرأته جعدة بنت الأشعث بن قيس الكندى. قال: وقالت طائفة كان ذلك منها بتدسيس معاوية إليها وما بذل لها [فى ذلك، وكان لها ضرائر] [4] وأنه وعدها بخمسين ألف   [1] ذكر ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 228 وغيره أنهم لما أرادوا دفنه فى بيت عائشة عند النبى صلى الله عليه وسلم لم يعرض لهم سعيد بن العاص، وهو الأمير على المدينة، فقام مروان بن الحكم وجمع بنى أمية وشيعتهم ومنع عن ذلك. [2] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى النسخة (ن) : «السنة» . [3] أبو عمر فى الاستيعاب ج 1 ص 325. [4] الزيادة من الاستيعاب. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 322 درهم، وأن يزوّجها من يزيد، فلما فعلت وفّى لها بالمال، وقال: حبّنا ليزيد يمنعنا من الوفاء لك بالشرط الثانى. وروى قتادة قال: دخل الحسين على أخيه الحسن رضى الله عنهما فقال: «يا أخى إنى سقيت السمّ ثلاث مرات، ولم أسق مثل هذه المرة، إنى لأضع كبدى!» . فقال الحسين: من سقاك يا أخى؟ قال: «ما سؤالك عن هذا؟ أتريد أن تقاتلهم؟ أكلهم إلى الله.» . [1] فلمّا مات ورد البريد بموته على معاوية فقال: «يا عجبا من الحسن! شرب شربة من عسل بماء رومة [2] فقضى نحبه!» . وأتى ابن عبّاس معاوية فقال له: يابن عباس احتسب الحسر لا يحزنك الله ولا يسوءك. قال: أما ما أبقاك الله يا أمير المؤمنين فلا يحزننى الله ولا يسوؤنى، فأعطاه على كلمته ألف ألف درهم وعروضا وأشياء. وقال: خذها فاقسمها على أهلك. ومات الحسن رضى الله عنه وله من السن يومئذ سبع وأربعون سنة. وقيل: ستّ وأربعون سنة. وكان رضى الله عنه وأرضاه ورعا فاضلا، دعاه ورعه وفضله إلى ترك الخلافة رغبة فيما عند الله، وقال: والله ما أحببت منذ علمت ما ينفعنى ويضّرنى أن ألى أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، على أن يراق فى ذلك محجمة دم. وحج بالناس فى هذه السنة سعيد بن العاص.   [1] وجاء فى رواية أخرى قول الحسن لأخيه الحسين: «فإن كان الذى أظن فالله أشد نقمة وإن كان غيره فما أحب أن يقتل بى برىء» . [2] روقه: بئر بالمدينة. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 323 سنة خمسين ذكر وفاة المغيرة بن شعبة فى هذه السنة توفّى المغيرة بن شعبة بن أبى عامر بن مسعود بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن قيس وهو ثقيف. وكان الطاعون قد وقع بالكوفة فهرب المغيرة منه، فلما ارتفع عاد إلى الكوفة، وطعن فمات [1] فى شعبان من السنة، وكان طوالا أعور، ذهبت عينه يوم اليرموك، وتوفّى وهو ابن سبعين سنة. وكان المغيرة من الدّهاة، روى عن الشعبى قال: كان دهاة العرب أربعة: معاوية بن أبى سفيان وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وزياد بن أبيه، فأما معاوية فللأناة والحلم، وأما عمرو فللمعضلات، وأما المغيرة فللمبادهة [2] ، وأما زياد فللكبيرة والصغيرة، وحكى الرياشى عن الأصمعى قال: كان معاوية يقول: أنا للأناة، وعمرو للبديهة، وزياد للصغار والكبار، والمغيرة للأمر العظيم. ولما دفن وقف على قبره مصقلة بن هبيرة الشيبانى وقال: إنّ تحت الأحجار حزما وجودا ... وخصيما ألدّ ذا معلاق [3] حيّة فى الوجار [4] أربد [5] لا ين ... فع منه السّليم نفث الرّاقى   [1] مات فى داره بالكوفة حيث كان أميرا عليها لمعاوية، وسيأتى ذكر ذلك. [2] المبادهة: المفاجأة. [3] الألد: الشديد الخصومة، والمعلاق الشديد التعلق بالخصم. [4] الوجار بالفتح والكسر، الجحر. [5] الأربد: الحية الخبيثة. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 324 ثم قال، أما والله لقد كنت شديد العداوة لمن عاديت، شديد الأخوّة لمن آخيت. وكان المغيرة كثير الزواج، قال أبو عمر [1] : قال نافع أحصن المغيرة ثلاثمائة امرأة فى الإسلام. قال [2] : وغيره [3] يقول: ألف امرأة ولمّا حضرته الوفاة استخلف على الكوفة ابنه عروة، وقيل: استخلف جريرا، فولّى معاوية زيادا. ذكر ولاية زياد الكوفة قال [4] : ولما مات المغيرة استعمل معاوية زيادا على الكوفة، وهو أوّل من جمع له بين الكوفة والبصرة، فسار إلى الكوفة، واستخلف على البصرة سمرة بن جندب، فكان زياد يقيم بالكوفة ستة أشهر، وبالبصرة ستة أشهر. ولمّا وصل الكوفة خطبهم، فحصب وهو على المنبر، فجلس حتّى أمسكوا، ثم دعا قوما من خاصّته فأمرهم فأخذوا أبواب المسجد ثم قال: ليأخذنّ كلّ رجل منكم جليسه، ولا يقولنّ لا أدرى من جليسى. ثم أمر بكرسى فوضع [5] على باب المسجد، ثم دعاهم أربعة أربعة يحلفون: ما منّا من حصبك، فمن حلف خلّاه، ومن لم يحلف حبسه، حتى صاروا ثلاثين، وقيل: ثمانين، فقطع أيديهم، واتخذ زياد المقصورة حين حصب.   [1] فى الاستيعاب ج 3 ص 389. [2] أبو عمر يرويه فى الاستيعاب عن ابن وضاح. [3] غير نافع. [4] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 228. [5] عند ابن جرير ج 4 ص 175 «فوضع له» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 325 قال: وأما سمرة فإنه أكثر القتل بالبصرة لمّا استخلفه زياد عليها، قال ابن سيرين: قتل سمرة فى غيبة زياد هذه ثمانية آلاف. فقال زياد: أتخاف أن تكون قتلت بريئا؟ قال: لو قتلت معهم مثلهم ما خشيت. وقال أبو السّوار العدوى: قتل سمرة من قومى فى غداة واحدة سبعة وأربعين، كلهّم قد جمع القرآن. وركب سمرة يوما، فلقيت أوائل خيله رجلا فقتلوه، فمرّ به سمرة وهو يتشحّط فى دمه، فقال: ما هذا؟ قيل: أصابه أوائل خيلك، فقال إذا سمعتم بنا قد ركبنا فاتقوا أسنّتنا. ذكر ما قصده معاوية من نقل المنبر من المدينة إلى الشام ومن قصد ذلك بعده من الأمراء فى هذه السنة أمر معاوية بمنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحمل إلى الشام، وقال: لا يترك هو وعصا النبى صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهم قتلة عثمان. فطلب العصا، وهى عند سعد القرظ [1] وحرّك المنبر، فكسفت الشمس حتى رؤيت النجوم بادية، فأعظم الناس ذلك، فتركه. وقيل: أتاه جابر وأبو هريرة فقالا: يا أمير المؤمنين لا يصلح أن تخرج منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم من موضع وضعه، وتنقل   [1] سعد القرظ: صحابى كان يؤذن فى حياة الرسول وللخلفاء من بعده، وقد اشتكى إلى النبى صلى الله عليه وسلم قلة المال فى يده، فأمره بالتجارة، فخرج إلى السوق، فاشترى شيئا من قرظ، فباعه، فربح فيه، فذكر ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم، فأمره بلزوم ذلك، فقيل له «سعد القرظ» ، والقرظ- بفتح القاف والراء- يطلق على ورق السلم وتمر السنط. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 326 عصاه إلى الشام فانقل المسجد، فتركه وزاد فيه ست درجات، واعتذر مما صنع. فلما ولى عبد الملك بن مروان همّ بالمنبر، فقال قبيصة بن ذؤيب أذكرك الله أن [1] لا تفعل، إن معاوية حركه فكسفت الشمس، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على منبرى آثما فليتبوأ مقعده من النار» وهو مقطع الحقوق بينهم [2] بالمدينة. فتركه عبد الملك. فلما ولى الوليد ابنه وحج همّ بذلك، فأرسل سعيد بن المسيّب إلى عمر بن عبد العزيز فقال: كلّم صاحبك لا يتعرّض للمسجد ولا لله والسخط له، فكلّمه عمر فتركه. فلما حجّ سليمان بن عبد الملك أخبره عمر بما كان من الوليد، فقال سليمان: «ما كنت أحبّ أن يذكر عن أمير المؤمنين عبد الملك هذا، ولا عن الوليد، ما لنا ولهذا؟ أخذنا الدنيا فهى فى أيدينا، ونريد أن نعمد إلى علم من أعلام الاسلام يوفد إليه فنحمله، هذا ما لا يصلح!» . وفيها عزل معاوية معاوية بن حديج عن مصر، واستعمل عليها مسلمة بن مخلّد مع إفريقية [3] وكان على إفريقية عقبة بن نافع، وكان قد اختطّ قيروانها، وكان موضعه غيضة لا ترام من السباع والحيّات فدعا الله عليها، فلم يبق منها شىء إلا خرج هاربا، حتّى إن كانت السباع لتحمل أولادها، وبنى الجامع، فلما عزله معاوية عن إفريقية   [1] فى الكامل ج 3 ص 230 «أن تفعل» . [2] فى الكامل «وعندهم» ، وقد تبع المؤلف الطبرى فى تاريخه ج 4 ص 178. [3] قال الطبرى: «فهو أول من جمع له المغرب كله ومصر وبرقة وإفريقية وطرابلس» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 327 وأضافها إلى مسلمة بن مخلّد استعمل [1] على إفريقية مولى له يقال له: «أبو المهاجر» ، فلم يزل عليها حتّى هلك معاوية. وقيل: إن عقبة بن نافع ولى إفريقية فى هذه السنة وعمّر مدينة القيروان، وكانت غيضة على ما تقدم، فدعا الله تعالى، وكان مستجاب الدعوة، ثم نادى: «أيّتها الحيّات والسّباع، إنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ارحلوا عنّا فإنا نازلون، ومن وجدناه بعد ذلك قتلناه» . فنظر الناس إلى الدوابّ تحمل أولادها وتنتقل، فأسلم كثير من البربر، وقطع الأشجار [وأمر ببناء المدينة، فبنيت] [2] وبنى المسجد الجامع، وبنى الناس مساجدهم ومساكنهم، وكان دور القيروان ثلاثة آلاف باع وستمائة باع. وسنذكر إن شاء الله تعالى ذلك بما هو أبسط من هذا فى أخبار إفريقة وبلاد الغرب. ذكر وفاة الحكم بن عمرو الغفارى وفى هذه السنة توفى الحكم بن عمرو الغفارى بمرو، على أحد الأقوال، وله صحبة، وكان زياد قد كتب [3] إليه: «إن أمير المؤمنين معاوية أمرنى أن أصطفى له الصّفراء والبيضاء، فلا تقسم بين الناس ذهبا ولا فضة» . فكتب إليه الحكم: «بلغنى ما أمر به أمير المؤمنين، وإنى وجدت كتاب الله قبل كتاب أمير المؤمنين، وإنه والله لو أن السماوات والأرض كانتا رتقا على عبد ثم اتقى الله لجعل له   [1] عبارة الطبرى وابن الأثير: «ولى مسلمة بن مخلد مولى له يقال له أبو المهاجر افريقيه» . [2] الزيادة من الكامل لابن الأثير ج 3 ص 230 حيث نقل المؤلف. [3] كتب إليه بعد انصرافه من غزوة جبل الأشل. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 328 فرجا ومخرجا، والسلام عليك» . ثم قال للناس: اغدوا على أعطياتكم وما لكم، فقسمه بينهم [1] ، ثم قال: اللهم إن كان لى عندك خير فاقبضنى إليك. فمات، واستخلف لمّا حضرته الوفاة أنس بن أبى أناس. وحج بالناس فى هذه السنة معاوية، وقيل: بل حج ابنه يزيد. وفيها توفى عثمان بن أبى العاص الثقفى، وعبد الرحمن بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس، وأبو موسى الأشعرى، وقيل: سنة اثنتين وخمسين، وتوفى غيرهم من الصحابة [2] رضى الله عنهم. سنة احدى وخمسين فى هذه السنة استعمل زياد بن أبيه الربيع بن زياد الحارثى على خراسان بعد وفاة الحكم، وكان الحكم قد استخلف أنس بن أبى أناس كما ذكرنا فعزله زياد، وولى خليد بن عبد الله الحنفى، ثم عزله، وولى الربيع فى أول سنة إحدى وخمسين، وسير معه خمسين ألفا بعيالهم من أهل الكوفة والبصرة، منهم بريدة بن الحصيب وأبو برزة، ولهما صحبة، فسكنوا خراسان، فلمّا قدمها غزا بلخ ففتحها صلحا، وكانت قد أغلقت بعد ما صالحهم الأحنف، وفتح قهستان عنوة وقتل من بناحيتها من الأتراك، وبقى منهم نيزك طرخان فقتله قتيبة بن مسلم فى لايته. والله ولى التوفيق.   [1] أى: قسم بينهم ما غنموه من الغنائم مع عزله مقدار الخمس. [2] ممن توفى فى هذه السنة سعد بن أبى وقاص- على أحد الأقوال- وحسان بن ثابت وكعب بن مالك وعقيل بن أبى طالب ودحية بن خليفة الكلبى وزيد بن خالد الجهنى ومدلاج ابن عمرو السلمى. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 329 ذكر مقتل حجر بن عدى وعمرو بن الحمق وأصحابهما وفى هذه السنة كان مقتل حجر بن عدى وأصحابه، وسبب ذلك أن معاوية لما استعمل المغيرة بن شعبة على الكوفة، أمر بشتم علىّ رضى الله عنه وذمّه والترحّم على عثمان والاستغفار له وعيب أصحاب على، فأقام المغيرة على الكوفة وهو أحسن الناس سيرة، غير أنه لا يدع شتم علىّ والوقوع فيه، والدعاء لعثمان والاستغفار له، فلما سمع ذلك حجر بن عدىّ قال: بل إياكم قد ذمّ الله ولعن! ثم قام فقال: أنا أشهد أن من تذمّون أحقّ بالفضل، ومن تزكّون أولى بالذم! فيقول له المغيرة يا حجر اتق هذا السلطان وغضبه وسطوته، فإن غضب السلطان يهلك أمثالك. ثم يكفّ عنه. فلما كان فى آخر إمارته قال فى علىّ وعثمان ما كان يقول، فقام حجر فصاح بالمغيرة صيحة سمعها كلّ من فى المسجد، وقال له: «مر لنا أيّها الإنسان بأرزاقنا فقد حبستها عنا، وليس ذلك لك، وقد أصبحت مولعا بذم أمير المؤمنين» . فقام أكثر من ثلثى الناس يقولون: صدق حجر وبرّ، مر لنا بأرزاقنا! فنزل المغيرة ودخل القصر، فجاءه أصحابه وقالوا: علام تترك هذا الرجل يجترئ عليك فى سلطانك؟ فقال لهم: «قد قتلته، سيأتى بعدى أمير يحسبه مثلى، فيصنع به ما ترونه، فيقتله، إنى قد قرب أجلى، ولا أحبّ أن أقتل خيار أهل هذه المصر فيسعد وأشقى، ويعز فى الدنيا معاوية ويشقى فى الآخرة المغيرة! [1] » ثمّ توفّى المغيرة [2] .   [1] جاء فى رواية ابن جرير ج 4 ص 189 زيادة قول المغيرة: «ولكنى قابل من محسنهم، وعاف عن مسيئهم: وحامد حليمهم، وواعظ سفيههم حتى يفرق بينى وبينهم الموت. [2] ذكر ابن جرير أن المغيرة ولى الكوفة سنة 41 وتوفى سنة 51. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 330 وولّى زياد، فقام فى الناس فخطبهم عند قدومه فترحّم على عثمان وأثنى على أصحابه، ولعن قاتليه، فقام حجر ففعل كما كان يفعل بالمغيرة. ورجع زياد إلى البصرة، واستعمل على الكوفة عمرو بن حريث فبلغه أن حجرا يجتمع إليه شيعة علىّ رضى الله عنه، ويظهرون لعن معاوية والبراءة منه، وأنهم حصبوا عمرو بن حريث. فشخص إلى الكوفة، وصعد [1] المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وحجر جالس، ثم قال: «أمّا بعد، فإنّ غبّ البغى والغىّ وخيم، إن هؤلاء جمّوا فأشروا [2] ، وأمنونى فاجترءوا على الله، لئن لم تستقيموا لأداوينكم بدوائكم، ولست بشىء إن لم أمنع الكوفة من حجر وأدعه نكالا لمن بعده! ويل امّك يا حجر، سقط العشاء بك على سرحان [3] !» وأرسل إلى حجر يدعوه وهو فى ناحية المسجد، فأتاه الرسول يدعوه إليه، فقال أصحابه، لا يأتيه ولا كرامة! فرجع الرسول فأخبر زيادا، فأمر صاحب شرطته- وهو شدّاد بن الهيثم الهلالىّ- أن يبعث إليه جماعة، ففعل، فسبّهم أصحاب حجر فرجعوا فأخبروا زيادا.   [1] وقد لبس قباء سندس ومطرف خز أخضر، وفرق شعره. [2] جموا: استراحوا. وأشروا: بطروا وطغوا. [3] «سقط العشاء بك على سرحان» مثل عربى يضرب فى طلب الحاجة الذى يؤدى صاحبها إلى التلف، قيل: إن أصله أن رجلا خرج يلتمس العشاء فوقع على ذئب فأكله، و «السرحان» يأتى بمعنى الذئب، وقيل: «سرحان» اسم رجل فاتك يتقيه الناس فقال رجل: والله لأرعين إبلى هذا الوادى ولا أخاف سرحان، فهجم عليه سرحان وقتله وأخذ إبله. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 331 فجمع أهل الكوفة وقال: «تشجّون بيد وتأسون بأخرى [1] ، أبدانكم معى وقلوبكم مع حجر الأحمق، هذا والله من دحسكم [2] ، والله لتظهرنّ لى براءتكم، أو لآتينكّم بقوم أقيم بهم أودكم وصعركم [3] » . فقالوا: معاذ الله أن يكون لنا رأى إلّا طاعتك وما فيه رضاك. قال: فليقم كلّ رجل منكم فليدع من عند حجر من عشيرته وأهله. ففعلوا ذلك، وأقاموا أكثر أصحابه عنه. وقال [4] زياد لصاحب شرطته: انطلق إلى حجر فإن تبعك فأتنى به، وإلّا فشدّوا عليهم بالسيوف [5] حتى تأتونى به. فأتاه صاحب الشرطة يدعوه، فمنعه أصحابه من إجابتهم، فحمل عليهم، فقال أبو العمّرطة الكندى لحجر: «إنه ليس معك من معه سيف غيرى، وما يغنى عنك سيفى؟ قم فالحق بأهلك يمنعك قومك» . وزياد ينظر إليهم وهو على المنبر، فغشيهم أصحاب زياد، وضرب رجل رأس عمرو ابن الحمق بعمود فوقع، وحمله أصحابه إلى الأزد فاختفى عندهم حتى خرج، وانحاز أصحاب حجر إلى أبواب كندة، وضرب بعض الشّرط يد عائد [6] بن حملة التميمى وكسر نابه، فأخذ عمودا   [1] مثل عربى، قال الزمخشرى فى أساس البلاغة: «فلان يشج مرة ويأسو أخرى، إذا أخطأ وأصاب» ، وقال الميدانى فى مجمع الأمثال: «يشج ويأسو: يضرب لمن يصيب فى التدبير مرة ويخطىء مرة، قال الشاعر: إنى لأكثر مما سمتنى عجبا ... يد تشج وأخرى منك تأسونى [2] الدحس: الإفساد والدس. [3] الأود: الاعوجاج، والصعر: الميل بالخد تهاونا واستكبارا. [4] فى تاريخ ابن جرير: «لما رأى زياد أن جل من كان مع حجر أقيم عنه قال ... » . [5] كذا جاء فى المخطوطة مثل الكامل ج 3 ص 334، وجاء فى تاريخ ابن جرير ج 4 ص 191 «وإلا فمر من معك فلينتزعوا عمد السوق ثم يشدوا بها عليهم» ، وهذا هو المناسب لما يأتى. [6] فى الأصل «عامر» ، والتصويب من الكامل وغيره. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 332 من بعض الشّرط فقاتل به، وحمى حجرا وأصحابه حتى خرجوا من أبواب كندة، وأتى حجر ببغلته فقال له أبو العمرّطة: اركب فقد قتلتنا ونفسك. وحمله حتى أركبه، وركب أبو العمرطة فرسه، ولحقه يزيد بن ظريف المسلىّ فضرب أبا العمرطة بالعمود على فخذه، وأخذ أبو العمرطة سيفه فضرب به رأسه فسقط. فكان ذلك السيف أول سيف ضرب به فى الكوفة فى اختلاف بين الناس. ومضى حجر وأبو العمرّطة إلى دار حجر، واجتمع إليهما ناس كثير، ولم يأته من كندة كثير أحد، ثم اختفى حجر، وتنقّل من مكان إلى آخر، والطلب خلفه، حتى أتى الأزد، واختفى عند ربيعة بن ناجد. فلما أعياهم طلبه دعا زياد محمد بن الأشعث، وقال له: والله لتأتينّى به أو لأقطعنّ كل نخلة لك، وأهدم دورك، ثم أقطعك إربا إربا، فاستمهله، فأمهله ثلاثا، وأقام حجر ببيت ربيعة يوما وليلة، فأرسل إلى محمد بن الأشعث يقول له: ليأخذ له أمانا من زياد حتى يبعث به إلى معاوية، فجمع محمد جماعة، منهم جرير ابن عبد الله، وحجر بن زيد، وعبد الله بن الحارث أخو الأشتر، فدخلوا على زياد فاستأمنوا له أن يرسله إلى معاوية فأجابهم، فأرسلوا إلى حجر فحضر عند زياد، فلما رآه قال: «مرحبا أبا عبد الرحمن، حرب أيام الحرب، وحرب وقد سالم الناس! على أهلها تجنى براقش [1] » . فقال حجر: «ما خلعت طاعة، ولا فارقت جماعة،   [1] براقش: كلبة سمعت وقع حوافر الدواب، فنبحت، فدلت العدو على أصحابها بنباحها، فاستباحهم العدو وأوقع بهم، فضرب مثلا لكل من يعمل عملا يرجع ضرره إليه. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 333 وإنى على بيعتى» . فأمر به إلى السجن، فلما ولى قال زياد: والله لأحرّضنّ على قطع خيط رقبته.. وطلب أصحابه. فخرج عمرو بن الحمق حتّى أتى الموصل ومعه رفاعة بن شدّاد، فاختيفا بجبل هناك، فرفع خبرهما إلى عامل الموصل، وهو عبد الرحمن ابن [عبد الله] [1] عثمان الثقفى، ويعرف بابن أم الحكم وهو ابن أخت معاوية [2] ؛ فسار إليهما فخرجا إليه، وكان عمرو قد استسقى بطنه، فأمسك، وركب رفاعة فرسه وحمل على القوم، فأفرجوا له، فنجا، وكتب عامل الموصل إلى معاوية بخبر عمرو بن الحمق، فكتب إليه معاوية: «إنه يزعم أنه طعن عثمان تسع طعنات بمشاقص [3] معه، فاطعنه كما طعن عثمان» . فطعنه فمات فى الأولى منها أو الثانية. وجدّ زيّاد فى طلب أصحاب حجر، فهربوا منه، وأخذ من قدر عليه منهم، فاجتمع له اثنا عشر رجلا فى السجن. ثم دعا رؤساء الأرباع يومئذ، وهم عمرو بن حريث على ربع أهل المدينة، وخالد بن عرفطة على ربع تميم وهمدان، وقيس بن الوليد على ربع ربيعة وكندة، وأبو بردة بن أبى موسى على ربع مذحج وأسد، فشهد هؤلاء أن حجر بن عدى جمع الجموع، وأظهر شتم الخليفة، ودعا إلى حربه، وزعم أن هذا الأمر لا يصلح إلا فى آل أبى طالب،   [1] الزيادة من تاريخ ابن جرير ج 4 ص 197 وانظر ترجمة عبد الرحمن فى الإصابة ج 3 ص 70 وترجمة أبيه عبد الله فى الإصابة ج 2 ص 344، والذى ذكره ابن جرير أن الذى سار إلى ابن الحمق ورفاعة هو عبد الله بن أبى بلتعة وبعد أن قبض على عمرو بن الحمق بعث به إلى عبد الرحمن الثقفى عامل البصرة. [2] لأن «أم الحكم» بنت أبى سفيان. [3] المشاقص: جمع مشقص، بكسر الميم: السهم العريض، أو النصل العريض أو الطويل من كل منهما. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 334 وأنه وثب بالمصر وأخرج عامل أمير المؤمنين، وأظهر عذر أبى تراب [1] والترحّم عليه والبراءة من عدوه وأهل حزبه، وشهدوا أن هؤلاء النفر الذين معه هم رؤوس أصحابه على مثل رأيه وأمره. ونظر زياد فى شهادة الشهود فقال: إنى أحب أن يكونوا أكثر من أربعة، فدعا الناس ليشهدوا فشهد إسحاق وموسى ابنا طلحة ابن عبيد الله، والمنذر بن الزبير، وعمارة بن عقبة بن أبى معيط، وعمر بن سعد بن أبى وقّاص وغيرهم [2] . وكتب فى الشهود شريح بن الحارث القاضى وشريح بن هانىء، فكان شريح بن هانىء يقول: ما شهدت [3] . ثم دفع زياد حجر بن عدى الكندى وأصحابه (وهم الأرقم بن عبد الله الكندى، وشريك بن شدّاد الحضرمى، وصيفى بن فسيل الشيبانى، وقبيصة بن ضبيعة العبسى، وكريم بن عفيف الخثعمى وعاصم بن عوف البجلى، وورقاء بن سمى البجلى، وكدام بن حيّان، وعبد الرحمن بن حسان؛ العنزيان التميميان، ومحرز بن شهاب التميمى، وعبد الله بن حويّة السعدى التميمى) إلى وائل ابن حجر الحضرمى وكثير بن شهاب، وأمرهما أن يسيرا بهم إلى الشام، فلحقهم شريح بن هانئ بعد مسيرهم، وأعطى وائلا كتابا وقال: أبلغه أمير المؤمنين.   [1] أبو تراب: كنية على بن أبى طالب كرم الله وجهه. [2] انظر تاريخ ابن جرير الطبرى ج 4 ص 200. [3] وكان شريح القاضى يقول: سألنى عنه فأخبرت أنه كان صواما قواما! الجزء: 20 ¦ الصفحة: 335 فساروا حتّى انتهوا إلى مرج عذراء [1] بالقرب من دمشق، وأتبعهم زياد برجلين وهما عتبة بن الأخنس من سعد بن بكر، وسعد بن نمران الهمدانى، فكملوا أربعة عشر رجلا، فلما انتهوا إلى مرج عذراء بعث معاوية إلى وائل بن حجر، وكثير بن شهاب فأدخلهما، وأخذ كتابهما فقرأه، ثم قرأ كتاب شريح فإذا فيه: «بلغنى أن زيادا كتب شهادتى، وإن شهادتى على حجر أنه ممن يقيم الصلاة ويؤتى الزكاة ويديم الحج والعمرة، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، حرام الدم والمال، فإن شئت فاقتله، وإن شئت فدعه» . فقال معاوية: ما أرى هذا إلا قد أخرج نفسه من شهادتكم. فقام يزيد بن أسد البجلى فاستوهبه ابنى عمه وهما عاصم وورقاء، وكان جرير بن عبد الله البجلى قد كتب بتزكيتهما وبراءتهما [2] فأطلقهما معاوية، وشفع وائل بن حجر فى الأرقم فتركه له، وشفع ابن الأعور السّلمى فى عتبة فتركه له، وشفع حمرة [3] بن مالك الهمدانى فى سعد بن تمران فوهبه له، وشفع حبيب بن مسلمة فى عبد الله بن حوية فتركه له، وقام مالك بن هبيرة السّكونى، فقال: دع لى ابن عمى حجرا، فقال: «هو رأس القوم، وأخاف إن خلّيت   [1] قال ابن جرير فى تاريخه ج 4 ص 402: «انتهوا بهم إلى مرج عذراء، وبينها وبين دمشق اثنا عشر ميلا» . [2] كتب جرير بن عبد الله البجلى الصحابى: «إن امرأين من قومى من أهل الجماعة والرأى الحسن سعى بهما ساع ظنين إلى زياد، فبعث بهما فى النفر الكوفيين الذين وجه بهم زياد إلى أمير المؤمنين، وهما ممن لا يحدث حديثا فى الإسلام ولا بنيا على الخليفة، فلينفعهما ذلك عند أمير المؤمنين» . [3] «حمرة» بضم الحاء وبراء مهملة، ابن مالك بن ذى المشعار بن مالك بن منبه الهمدانى، ووقع فى المخطوطة «حمزة» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 336 سبيله أن يفسد علىّ مصره، فأحتاج أن أشخصك إليه بالعراق!» فقال: «والله ما أنصفتنى يا معاوية! قاتلت معك ابن عمك يوم صفّين حتّى ظفرت وعلا كعبك، ولم تخف الدوائر، ثم سألتك ابن عمى فمنعتنى إياه» . ثم انصرف فجلس فى بيته. فبعث معاوية هدبة بن فياض القضاعى، والحصين بن عبد الله الكلابى وأبا شريف البدّى إلى حجر وأصحابه؛ ليقتلوا من أمروا بقتله، فأتوهم عند المساء، فلما رأى الخثعمى [1] أحدهم أعور [2] قال: يقتل نصفنا ويترك نصفنا! فكان كذلك [3] ، وعرضوا عليهم قبل القتل البراءة من علىّ ولعنه ويتركوهم، فامتنعوا من ذلك، فحفرت القبور وأحضرت الأكفان. فقام حجر بن عدىّ وأصحابه يصلّون عامّة الليل، فلما كان من الغد قدّموا للقتل، فقال لهم حجر: اتركونى حتى أتوضأ وأصلى فإنى ما توضأت إلّا صلّيت. فتركوه، فصلّى ثم انصرف، وقال: والله ما صلّيت صلاة قطّ أخفّ منها، ولولا أن تظنوا بى جزعا من الموت لاستكثرت منها. ثم قال: «اللهم إنا نستعديك على أمتنا، فإن أهل الكوفة شهدوا علينا، وإن أهل الشام يقتلوننا، أما والله لئن قتلتمونى بها إنّى لأول فارس من المسلمين هلك فى واديها، وأول رجل من المسلمين نبحته كلابها» . ثم مشى إليه هدبة بن فياض بالسيف، فارتعد، فقالوا له: زعمت أنك لا تجزع من الموت فابرأ   [1] الخشعمى: كريم بن عفيف. [2] الأعور: هدبة بن فياض القضاعى من بنى سلامان بن سعد. [3] جاء رسول معاوية بتخلية ستة وبقتل ثمانية. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 337 من صاحبك وندعك. فقال: «ومالى لا أجزع وأرى قبرا محفورا وكفنا منشورا وسيفا مشهورا. وإنى والله إن جزعت من القتل لا أقول ما يسخط الرب» . فقتلوه وقتلوا خمسة [1] . فقال عبد الرحمن بن حسان- وكريم الخثعمى: ابعثوا بنا إلى أمير المؤمنين فنحن نقول فى هذا الرجل مثل مقالته. فاستأذنوا معاوية فيهما، فأذن بإحضارهما، فلما دخلوا عليه قال كريم: «الله الله يا معاوية! فإنك منقول من هذه الدار الزائلة إلى الدار الآخرة الدائمة، ثم مسئول عما أردت بسفك دمائنا. فقال: ما تقول فى علىّ؟ قال: أقول فيه قولك. قال: أتبرأ من دينه الذى يدين الله به؟ فسكت، وقام شمر ابن عبد الله من بنى قحافه بن خثعم، فاستوهبه إيّاه، فوهبه له على ألّا يدخل الكوفة. ثم قال لعبد الرحمن: ما تقول فى علىّ يا أخا ربيعة؟ قال: دعنى لا تسألنى فهو خير لك. قال: والله لا أدعك. قال: «أشهد أنه كان من الذاكرين الله كثيرا، من الآمرين بالحق والقائمين بالقسط والعافين عن الناس رضى الله عنه» . قال: فما تقول فى عثمان؟ قال: هو أول من فتح أبواب الظلم، وغلّق أبواب الحق. قال: قتلت نفسك. قال: بل إياك قتلت ولا ربيعة بالوادى. (يعنى ليشفعوا فيه) فردّه إلى زياد وأمره أن يقتله شرّ قتلة، فدفنه حيا. وكان عدة من قتل سبعة وهم: حجر بن عدى، وشريك بن   [1] الخمسة الذين قتلوا مع حجر بن عدى هم: شريك وصيق وقبيصة وكدام ومحرز، فإذا عد حجر بن عدى منهم كأنه عدهم ستة كما عدهم ابن جرير الطبرى، وسيأتى قريبا ذكر السابع. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 338 شدّاد، وصيفى بن فسيل، وقبيصة بن ضبيعة، ومحرز بن شهاب، وكدام بن حيان، وعبد الرحمن بن حسّان الذى دفن حيا. قال: وأما مالك بن هبيرة السّكونى حين لم يشفّعه معاوية فى حجر، فإنه جمع قومه وسار بهم إلى عذراء ليخلّص حجرا وأصحابه، فلقيه قتلتهم، فلما رأوه علموا أنه جاء ليخلّص حجرا، فقال لهم: ما وراءكم؟ قالوا: قد تاب القوم وجئنا لنخبر أمير المؤمنين. فسكت وسار إلى عذراء فلقيه بعض من جاء منها فأخبره بقتل القوم، فأرسل الخيل فى قتلتهم فلم يدركوهم. ودخلوا على معاوية فأخبروه، فقال لهم: إنما هى حرارة يجدها فى نفسه، فكأنها قد طفئت. وعاد مالك. إلى بيته ولم يأت معاوية، فلما كان الليل أرسل إليه معاوية بمائة ألف درهم، وقال: «ما منعنى أن أشفّعك إلّا خوف أن تعيدوا لنا حربا، فيكون فى ذلك من البلاء على المسلمين ما هو أعظم من قتل حجر» . فأخذها وطابت نفسه. قال [1] : ولما بلغ الحسن البصرىّ قتل حجر وأصحابه قال: أصلوا عليهم وكفنوهم ودفنوهم واستقبلوا بهم القبلة؟ قالوا: نعم. قال: حجوهم [2] وربّ الكعبة!» . قال: ولمّا بلغ خبر حجر عائشة رضى الله عنها، أرسلت عبد الرحمن ابن الحارث إلى معاوية فيه وفى أصحابه، فقدم عليه وقد قتلهم، فقال له عبد الرحمن: أين غاب عنك حلم أبى سفيان؟ قال: «حين غاب عنّى مثلك من حلماء قومى، وحمّلنى ابن سميّة فاحتملت!» .   [1] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 242. [2] حجوهم: غلبوهم بالحجة. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 339 وقالت عائشة: «لولا أنّا لم نغيّر شيئا إلا صارت بنا الأمور إلى ما هو أشدّ منه لغيّرنا قتل حجر! أما والله إن كان ما علمت لمسلما حجّاجا معتمرا!» . وقال الحسن البصرى رحمه الله: «أربع خصال كنّ فى معاوية، لو لم تكن فيه إلّا واحدة منهن لكانت موبقة: انتزاؤه [1] على هذه الأمّة بالسيف، حتى أخذ الأمر عن غير مشورة، وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة، واستخلافه ابنه بعده سكّيرا خمّيرا يلبس الحرير ويضرب بالطّنابير، وادّعاؤه زيادا، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الولد للفراش وللعاهر الحجر . وقتله حجرا وأصحاب حجر، فيا ويلا له من حجر وأصحاب حجر!» . قيل: وكان الناس يقولون: أول ذلّ دخل الكوفة موت الحسن ابن على، وقتل حجر بن عدىّ، ودعوة زياد. وقالت هند [2] بنت زيد الأنصارية ترثى حجرا وكانت تتشيع. ترفّع أيّها القمر المنير ... تبصّر هل ترى حجرا يسير يسير إلى معاوية بن حرب ... ليقتله كما زعم الأمير تجبّرت الجبابر بعد حجر ... وطاب لها الخورنق [3] والسّدير وأصبحت البلاد له محولا [4] ... كأن لم يحيها مزن مطير   [1] انتزاء: افتعال من النزو، وهو تسرع الإنسان إلى الشر ووثبه. [2] فى الأصل «زينبة» والتصويب من الكامل وغيره. [3] الخورنق: نهر بالكوفة، والسدير: نهر بناحية الحيرة، والمشهور أنها قصران عظيمان بالحيرة. [4] المحول جمع محل بمعنى القحط. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 340 ألا يا حجر حجر بنى عدىّ ... تلقّتك السلامة والسرور أخاف عليك ما أردى [1] عديّا ... وشيخا فى دمشق له زئير فإن يهلك فكل زعيم قوم ... من الدنيا إلى هلك يصير وقد قيل فى قتل حجر غير ما تقدم، وهو أن زيادا خطب يوم جمعة فأطال الخطبة وأخّر الصلاة، فقال له حجر بن عدى: الصلاة. فمضى فى خطبته فقال له: الصلاة. فمضى فى خطبته، فلما خشى حجر فوت الصلاة ضرب بيده إلى كفّ من حصى، وقال إلى الصلاة وقام الناس معه، فلما رأى زياد ذلك نزل فصلّى بالناس، وكتب إلى معاوية وكبر [2] عليه، فكتب إليه معاوية ليشدّه فى الحديد ويرسله إليه، فلمّا أراد أخذه قام قومه ليمنعوه، فقال حجر: لا ولكن سمعا وطاعة. فشدّ فى الحديد، وحمل إلى معاوية، فلما دخل عليه قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال معاوية: «أأمير المؤمنين أنا؟ والله لأقتلنّك [3] ولا أستقيلك! أخرجوه فاضربوا عنقه!» . فقال حجر للذين يلون أمره: دعونى حتى أصلى ركعتين. فقالوا: فصلّى ركعتين خفّف فيهما ثم قال: لولا أن تظنوا بى غير الذى أردت لأطلتهما، وقال لمن حضره من قومه: لا تطلقوا عنى حديدا ولا تغسلوا عنى دما، فإنى ملاق معاوية غدا على الجادّة [4] !» . وضربت عنقه..   [1] أردى: أهلك. [2] «كبر» كذا جاء فى المخطوطة، وجاء عند الطبرى وابن الأثير «كثر» . [3] فى الكامل وتاريخ الطبرى: لا أقيلك. [4] الجادة: معظم الطريق ووسطه، والمراد طريق الحساب بين يدى الله تعالى. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 341 قال [1] فلقيت عائشة معاوية فقالت: أين كان حلمك عن حجر؟ فقال: لم يحضرنى رشد! وقال ابن سيرين: بلغنا أنّ معاوية لما حضرته الوفاة جعل يقول: يومى منك يا حجر طويل!. وحج بالناس فى هذه السنه يزيد بن معاوية سنة اثنتين وخمسين كان فيها من الغزاة وأمر الخوارج ما قدمنا ذكره. وحج بالناس فى هذه السنة سعيد بن العاص. سنة ثلاث وخمسين فى هذه السنة توفى عبد الرحمن بن أبى بكر الصديق رضى الله عنهما، على أحد الأقوال، وقيل بعد ذلك [2] . ذكر وفاة زياد بن أبيه كانت وفاته بالكوفة يوم الثلاثاء لأربع خلون من شهر رمضان سنة ثلاث وخمسين، واختلف فى مولده، فقيل: ولد عام الهجرة، وقيل: قبل الهجرة وقيل ولد يوم بدر. وقال المدائنى: ولد عام التاريخ. وكان يكنى «أبا المغيرة» حكاه أبو عمر [3] قال: وليست له صحبة ولا رواية، قال: وكان رجلا عاقلا فى دنياه، داهية، خطيبا، له قدر وجلالة عند أهل الدنيا.   [1] محمد بن سيرين. [2] انظر ما يأتى فى أواخر «ذكر مسير معاوية إلى الحجاز وكيف أخذ البيعة ليزيد على أهل الحجاز» . [3] فى الاستيعاب ج 1 ص 567. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 342 قال أبو جعفر الطبرى [1] رحمه الله: وكان زياد كتب إلى معاوية: «إنى قد ضبطت لك العراق بشمالى، ويمينى فارغة، فاشغلها بالحجاز» . ففعل. فلما بلغ ذلك أهل الحجاز أتى نفر منهم عبد الله ابن عمر بن الخطاب! فذكروا ذلك له، فقال: ادعوا الله عليه يكفيكموه. فاستقبل القبلة واستقبلوها، فدعوا ودعا، وكان من دعائه أن قال: اللهم اكفنا يمين زياد! فخرجت طاعونة على إصبع يمينه، فمات منها فلما حضرته الوفاة دعا شريحا القاضى فقال: قد حدث بى ما ترى، وقد أمرت بقطعها فأشر على. فقال شريح: إنى أخشى أن يكون الأجل قد دنا فتلقى الله أجذم، وقد قطعت يدك كراهية لقائه، أو أن يكون فى الأجل تأخير، فتعيش أجذم ويعيّر ولدك» فقال: لا أبيت والطاعون فى سجاف [2] واحد [3] ، وخرج شريح من عنده فسأله الناس، فأخبرهم فلاموه، وقالوا: هلا أشرت بقطها؟ فقال: «المستشار مؤتمن [4] » . وقيل أراد زياد قطعها، فلمّا رأى النار والمكاوى جزع وتركها وقيل: تركها لما أشار عليه شريح. ولمّا حضرته الوفاة قال له ابنه: هلّا هيأت لك ستين ثوبا أكفنك بها، فقال: يا بنّى قد دنا من أبيك لباس خير من لباسه أو سلب سريع!   [1] فى تاريخه ج 4 ص 214. [2] كذا جاء فى النسخة (ك) ، والسجاف: السر، وجاء فى النسخة (ن) «فى لحاف» كما عند الطبرى ج 4 ص 215. وابن الأثير ج 3 ص 245. [3] جاء فى رواية ابن جرير الطبرى: «فعزم أن يفعل، فلما نظر إلى النار والمكاوى جزع وترك ذلك» . وانظر ما سيأتى قريبا. [4] «المستشار مؤتمن» حديث رواه الترمذى وابن ماجه وغيرهما عن النبى صلى الله عليه وسلم، وعبارة ابن جرير هنا: «فقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المستشار مؤتمن» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 343 فمات ودفن بالثّويّة إلى جانب الكوفة، وهو موضع فيه مقبرة الكوفة. فلما بلغ موته ابن عمر قال: «اذهب ابن سميّة! لا الآخرة أدركت، ولا الدنيا أبقيت عليك!» . قال: وكان زياد فيه حمرة، وفى عينه اليمنى انكسار، أبيض اللحية مخروطها، عليه قميص ربما رقّعه. وفيها مات الربيع بن زياد الحارثى عامل خراسان قبل وفاة زياد، وكان سبب موته أنه سخط قتل حجر بن عدى، حتى إنه قال: «لا تزال العرب تقتل بعده صبرا [1] ! ولو نفرت عند قتله لم يقتل رجل منهم صبرا، ولكنها أقرّت فذلّت!» ثم مكث بعد هذا الكلام جمعة، ثم خرج يوم الجمعة فقال: «أيها الناس، إنى قد مللت الحياة، وإنّى داع بدعوة فأمّنوا» . ثم رفع يديه بعد الصلاة فقال: اللهمّ إن كان لى عندك خير فاقبضنى إليك عاجلا! وأمّن الناس، ثم خرج، فما توارت ثيابه حتى سقط، وحمل إلى بيته، واستخلف ابنه عبد الله، ومات من يومه، ثم مات ابنه بعده بشهرين، واستخلف خليد بن پربوع [2] الحنفى، فأقرّه زياد، ولما مات زياد كان على البصرة سمرة بن جندب، وعلى الكوفة عبد الله بن خالد بن أسيد، فأقرّ معاوية سمرة على البصرة ثمانية عشر شهرا، وقيل ستة أشهر ثم عزله، فقال سمرة: «لعن الله معاوية! والله لو أطعت الله كما أطعته ما عذبنى أبدا!» . وحج بالناس فى هذه السنة سعيد بن العاص.   [1] جاء فى المصباح المنير: «كل ذى روح يوثق حتى يقتل فقد قتل صبرا» . [2] كذا جاء فى المخطوطة مثل الكامل لابن الأثير ج 3 ص 245، 246، وجاء فى تاريخ ابن جرير ج 4 ص 217 «عبد الله» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 344 سنة اربع وخمسين ذكر عزل سعيد بن العاص عن المدينة واستعمال مروان فى هذه السنة عزل معاوية سعيد بن العاص عن المدينة، واستعمل مروان بن الحكم. وكان سبب ذلك أن معاوية كتب إلى سعيد بن العاص أن يهدم دار مروان، ويقبض أمواله كلّها فيجعلها صافية [1] ويقبض منه [2] فدك، وكان وهبها له، فراجعه سعيد فى ذلك، فأعاد معاوية الكتاب بذلك، فلم يفعل سعيد، ووضع الكتابين عنده، فعزله معاوية وولّى مروان، وكتب إليه يأمره بقبض أموال سعيد وهدم داره فأخذ الفعلة وسار إلى دار سعيد ليهدمها، فقال له سعيد: يا أبا عبد الملك أتهدم دارى؟ قال: نعم كتب إلىّ أمير المؤمنين ولو كتب إليك فى هدم دارى لفعلت. فقال: ما كنت لأفعل: قال: بلى والله [3] قال: كلّا. وقال سعيد لغلامه: ائتنى بكتابى معاوية، فجاء بالكتابين، فلما رآهما مروان قال: كتب إليك فلم تفعل، ولم تعلمنى! فقال سعيد: ما كنت لأمنّ عليك وإنما أراد معاوية ليحرّض بيننا! فقال مروان: والله أنت خير منى! وعاد ولم يهدم داره. وكتب سعيد إلى معاوية: «العجب لما صنع أمير المؤمنين بنا فى قرابتنا، إنه يضغن بعضنا على بعض، فأمير المؤمنين فى حلمه وصبره   [1] الصافية: ما يعود لبيت المال من الأملاك والأراضى. [2] فدك: بلدة قريبة من خيبر، مما أفاء الله على رسوله من اليهود بعد جلائهم. [3] زاد ابن جرير فى قول مروان: «لو كتب إليك لهدمتها» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 345 على ما يكره من الأخبثين وعفوه، وإدخاله القطيعة بيننا والشّحناء، وتوارث الأولاد ذلك، فو الله لو لم نكن بنى أب واحد إلّا لما جمعنا الله عليه من نصرة الخليفة المظلوم، وباجتماع كلمتنا لكان حقّا عليك أن ترعى ذلك!» فكتب إليه معاوية يعتذر من ذلك ويتنصّل، وأنه عائد إلى أحسن ما يعهده. وقدم سعيد على معاوية فسأله عن مروان فأثنى عليه خيرا. وفى هذه السنة عزل معاوية سمرة بن جندب عن البصرة، واستعمل عليها عبد الله بن عمرو بن غيلان ستة أشهر. ذكر استعمال عبيد الله بن زياد على خراسان ومسيره إلى جبال بخارى وفى هذه السنة استعمل معاوية عبيد الله بن زياد على خراسان وسبب ذلك أنه قدم عليه بعد وفاة أبيه، فسأله معاوية عن عمال أبيه، فأخبره بهم، فقال: لو استعملك أبوك لاستعملتك. فقال عبيد الله: أنشدك الله أن يقولها لى أحد بعدك «لو استعملك أبوك وعمّك استعملتك» . فولاه خراسان وكان عمره خمسا وعشرين سنة. فسار إليها، وقطع النهر إلى جبال بخارى على الإبل، فكان أوّل من قطع جبال بخارى فى جيش، ففتح رامنى ونسف وبيكند، وهى من بخارى، ومن ثمّ أصاب البخارية وغنم منهم غنائم كثيرة، ولما لقى الترك وهزمهم، كان مع ملكهم زوجته، فأعجلوها عن لبس الجزء: 20 ¦ الصفحة: 346 خفيها، فلبست أحدهما وبقى الآخر، فأخذه المسلمون [فقوّم] [1] بمائتى ألف درهم. وظهر منه بأس شديد وحج بالناس فى هذه السنة مروان بن الحكم [وكان على المدينة] [2] وكان على الكوفة عبد الله بن خالد، وقيل: الضحاك بن قيس وعلى البصرة عبد الله بن عمرو بن غيلان، والله أعلم. سنة خمس وخمسين ذكر ولاية عبيد الله بن زياد على البصرة فى هذه السنة عزل معاوية عبد الله بن عمرو بن غيلان عن البصرة، وولّاها عبيد الله بن زياد. وسبب ذلك أن عبد الله خطب على منبر البصرة، فحصبه رجل من بنى ضبّه، فقطع يده، فأتاه بنو ضبّة وقالوا: «إن صاحبنا جنى ما جنى وقد عاقبته، ولا نأمن أن يبلغ خبره أمير المؤمنين فيعاقب عقوبة تعمّ، فاكتب لنا كتابا إلى أمير المؤمنين، يخرج به أحدنا إليه، تخبره أنك قطعته على شبهة وأمر لم يصح» فكتب لهم، فلما كان رأس السنة توجّه عبد الله إلى معاوية، ووافاه الصنبّيون بالكتاب، وادّعوا أنه قطع صاحبهم ظلما، فلما رأى معاوية الكتاب قال: «أمّا القود من عمّالى فلا سبيل إليه، ولكنّى أدى صاحبكم من بيت المال» . وعزل عبد الله عن البصرة، واستعمل ابن زياد عليها، فولى ابن زياد على خراسان أسلم بن زرعة الكلابى.   [1] الزيادة فى النسخة (ن) ، ولم تثبت فى النسخة (ك) . [2] الزيادة فى النسخة (ن) ، ولم تثبت فى النسخة (ك) . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 347 وفيها عزل معاوية عبد الله بن خالد عن الكوفة، وولّاها الضحاك ابن قيس، وقيل: كان قبل ذلك كما تقدم. وحج بالناس فى هذه السنة مروان بن الحكم وهو أمير المدينة. سنة ست وخمسين ذكر البيعة ليزيد بن معاوية بولاية العهد فى هذه السنة بايع الناس يزيد بن معاوية بولاية العهد، قال [1] : وكان ابتداء ذلك وأوّله أن معاوية لمّا أراد أن يعزل المغيرة بن شعبة عن الكوفة، ويستعمل سعيد بن العاص عليها، فبلغه ذلك، فشخص إلى معاوية ليستعفيه حتّى تظهر للناس كراهيته للولاية، فجاء إلى يزيد وقال له: «إنه قد ذهب أعيان أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم وكبراء قريش، وإنّما بقى أبناؤهم، وأنت من أفضلهم، وأحسنهم رأيا، وأعلمهم بالسياسة، وإنى لا أدرى ما يمنع أمير المؤمنين أن يعقد لك البيعة» . قال: أو ترى ذلك يتم؟ قال: نعم فدخل يزيد على أبيه وأخبره بما قال المغيرة، فلما حضر المغيرة عند معاوية قال له معاوية: ما يقول يزيد؟ فقال: «يا أمير المؤمنين قد رأيت ما كان من سفك الدماء، والاختلاف بعد عثمان، وفى يزيد منك خلف، فاعقد البيعة له، فإن حدث بك حدث كان كهفا للناس، ولا تسفك الدماء ولا تكون فتنة، قال: ومن لى بهذا؟ قال: «أنا أكفيك أهل الكوفة، ويكفيك زياد أهل البصرة وليس بعد هذين المصرين من يخالفك» . قال: «فارجع إلى عملك وتحدث مع من تثق إليه فى ذلك وترى ونرى» .   [1] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 249. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 348 فودّعه ورجع إلى أصحابه فقال: لقد وضعت رجل معاوية فى غرز بعيد [1] الغاية على أمة محمد صلى الله عليه وسلم. ورجع المغيرة، فلمّا قدم الكوفة ذاكر من يثق إليه من شيعة معاوية فأجابوا إلى بيعته، فأوفد منهم عشرة، ويقال أكثر، وأعطاهم ثلاثين ألف درهم، وجعل عليهم ابنه موسى، فقدموا على معاوية وزينوا له بيعة يزيد، ودعوه إلى عقدها، فقال: لا تعجلوا بإظهار هذا وكونوا على رأيكم، ثم قال لموسى، بكم اشترى أبوك من هؤلاء دينهم؟ قال: بثلاثين ألفا. فقال: لقد هان عليهم دينهم. وقيل: أرسل أربعين رجلا، وجعل عليهم ابنه عروة بن المغيرة، فلما دخلوا على معاوية قاموا خطباء فقالوا: إنما أشخصنا إليك النظر لأمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقالوا: «يا أمير المؤمنين، كبرت سنّك، وخفنا انتشار الحبل، فانصب لنا علما وحدّ لنا حدّا ننتهى إليه» . فقال أشيروا على. فقالوا: نشير بيزيد بن أمير المؤمنين، فقال: أو قد رضيتموه؟ قالوا: نعم. قال: وذاك رأيكم؟ قالوا: نعم ورأى من وراءنا. فقال معاوية لعروة سرّا عنهم: بكم اشترى أبوك من هؤلاء دينهم؟ قال. بأربعمائة دينار. قال: لقد وجد دينهم عندهم رخيصا، وقال لهم: «ننظر ما قدمتم له، ويقضى الله تعالى ما أراد، والأناة خير من العجلة» . فرجعوا وقد قوى عزم معاوية على البيعة ليزيد.   [1] الغرز: ركاب كور الجمل، وهو مثل ركاب السرج للفرس. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 349 ذكر مراسلة معاوية زيادا فى شأن البيعة وما دار بين زياد وبين عبيد بن كعب النميرى من الرأى وما اتفقا عليه قال: ولمّا قوى عزم معاوية على البيعة ليزيد، كتب إلى زياد ابن أبيه يستشيره، وزياد إذ ذاك يلى البصرة، فلما ورد عليه كتاب معاوية أحضر عبيد بن كعب النميرى وقال له: «إن لكلّ مستشير ثقة، ولكل سرّ مستودع، وإن الناس قد أبدع [1] بهم خصلتان: إذاعة السر وإخراج النصيحة إلى غير أهلها، وليس موضع السر إلّا أحد رجلين: رجل آخرة يرجو ثوابا، ورجل دنيا له شرف فى نفسه وعقل يصون حسبه، وقد خبرتهما منك، وقد دعوتك إلى أمر أبهمت عليه بطون الصحف، إن أمير المؤمنين كتب إلى يستشيرنى فى كذا وكذا، وإنه يتخوّف نفرة الناس ويرجو طاعتهم، وعلاقة أمر الإسلام وضمانه عظيم، ويزيد صاحب رسلة وتهاون، مع ما قد أولع به من حبّ الصيد فالق أمير المؤمنين وأدّ إليه عنّى فعلات يزيد، وقل له رويدك [بالأمر] [2] وأحرى أن يتمّ لك، ولا تعجل فإن دركا فى تأخير خير من فوت فى عجلة» . فقال له عبيد: أفلا غير هذا؟ قال: وما هو؟ قال: «لا تفسد على معاوية رأيه، ولا تبغّض إليه ابنه، وألقى أنا يزيد [3] وأخبره أن أمير المؤمنين كتب إليك يستشيرك فى البيعة له، وأنك تتخوّف خلاف الناس، لهنات ينقمونها عليه، وأنك ترى له ترك ما ينقم عليه؛ لتستحكم له الحجّة على الناس ويتمّ ما يريد، فتكون   [1] أبدع بهم: قطع بهم وخذلهم. [2] الزيادة من الطبرى فى ج 4 ص 225 وابن الأثير ج 3 ص 250. [3] فى تاريخ الطبرى: «وألقى أنا يزيد سرا من معاوية» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 350 قد نصحت أمير المؤمنين، وسلمت مما يخاف من أمر الناس» . فقال زياد: «لقد رميت الأمر بحجره! اشخص على بركة الله، فإن أصبت فما لا ينكر، وإن يكن خطأ فغير مستغشّ، ونقول ما ترى ويقضى الله بغيب ما يعلم» . فقدم عبيد على يزيد، فذكر ذلك له، فكفّ عن كثير مما كان يصنع. وكتب زياد إلى معاوية يشير عليه بالتّؤدة وألّا يعجل. فتأخر الأمر حتّى مات زياد ثم عزم معاوية على البيعة. ذكر ارسال معاوية الى مروان بن الحكم وأمر البيعة وإنكار أهل المدينة ذلك وما وقع بسببه قال: ولما عزم معاوية على البيعة ليزيد أرسل إلى عبد الله بن عمر بمائة ألف درهم، فقبلها، فلما ذكر البيعة ليزيد قال ابن عمر رضى الله عنه: «هذا أراد؟ إن دينى إذا عندى لرخيص!» وامتنع. ثم كتب معاوية بعد ذلك إلى مروان بن الحكم، وهو على المدينة يومئذ، يقول: «إنى قد كبرت سنّى، ورقّ عظمى، وخشيت الاختلاف على الأمة بعدى، وقد رأيت أن أتخير لهم من يقوم بعدى، وكرهت أن أقطع أمرا دون مشورة من عندك، فاعرض ذلك عليهم، وأعلمنى بالذى يردّون عليك» . فقام مروان فى الناس وأخبرهم، فقال الناس: أصاب ووفّق، وقد أحببنا أن يتخيّر لنا فلا يألو [1] . فكتب مروان إلى معاوية   [1] يألو: يقصر. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 351 بذلك، فأعاد عليه الجواب بذكر يزيد، فقام مروان فى الناس فقال: إن أمير المؤمنين قد اختار لكم فلم يأل، وقد استخلف ابنه يزيد بعده. فقام عبد الرحمن بن أبى بكر الصديق رضى الله عنهما فقال: «كذبت والله يا مروان، وكذب معاوية، ما الخيّار أردتما لأمّة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنكم أردتم أن تجعلوها هرقليّة، كلما مات هرقل قام هرقل!» . فقال مروان: هذا الذى أنزل الله فيه وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما الآية [1] . فسمعت عائشة رضى الله عنها مقالته، فقامت من وراء الحجاب وقالت: يا مروان! فأنصت الناس وأقبل مروان يوجهه، فقالت: «إن القائل لعبد الرحمن إنه نزل فيه القرآن كذب، والله ما هو فيه، ولكنه فلان بن فلان، ولكنك أنت فضض من لعنة نبى الله عليه الصلاة والسلام» . وقام الحسين بن على رضى الله عنهما فأنكر ذلك، وفعل مثله عبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير. فكتب مروان إلى معاوية بذلك، فأوجب ذلك مسيره إلى الحجاز بعد أن أخذ بيعة أهل العراق والشام!.   [1] الآية 17 من سورة الأحقاف. [2] فى النهاية: «ومنه حديث عائشة قالت لمروان: إن النبى لعن أباك، وأنت فضض من لعنة الله، أى: قطعة أو طائفة منها» . وروى ابن أبى خيثمة من حديث عائشة فى هذه القصة أنها قالت: «أما أنت يا مروان فأشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن أباك وأنت فى صلبه» . وأبوه هو الحكم بن أبى العاص ابن أمية، وقد روى الرواة فى أسباب لعنه أن النبى صلى الله عليه وسلم رآه يعمل من الأعمال ما لا يجوز، وقد نفاه إلى الطائف، وانظر ما يأتى قريبا. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 352 ذكر من وفد الى معاوية من أهل الأمصار فى شأن البيعة. وما تكلم به بعضهم وبيعة أهل العراق والشام ليزيد قال: وكان معاوية قد كتب إلى عمّاله بتقريظ يزيد ووصفه، وأن يوفدوا إليه الوفود من الأمصار، فكان فيمن أتاه محمد بن عمرو [1] بن حزم من المدينة، والأحنف بن قيس فى وفد أهل البصرة، فقال محمد بن عمرو لمعاوية: إن كل راع مسئول عن رعيته فانظر من تولّى أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فأخذ معاوية يهتز [2] حتى جعل يتنفّس فى يوم شات [3] ، ثم وصله وصرفه. وأمر معاوية الأحنف بن قيس أن يدخل على يزيد فدخل عليه، فلما خرج من عنده قال له: كيف رأيت ابن أخيك؟ قال: رأيت شبابا ونشاطا وجلدا ومزاحا. ثم إن معاوية قال للضحاك بن قيس الفهرى لما اجتمع الوفود عنده: إنى متكلم فإذا سكتّ فكن أنت الذى تدعو إلى بيعة يزيد وتحثنى عليها، فلما جلس معاوية للناس تكلمّ فعظّم أمر الإسلام وحرمة الخلافة وحقها، وما أمر الله تعالى به من طاعة ولاة الأمر، ثم ذكر يزيد وفضله وعلمه بالسياسة، وعرض ببيعته. فعارضه الضحاك، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «يا أمير   [1] كذا جاء فى الكامل وكتب الصحابة، وجاء فى المخطوطة «عمر» . [2] كذا جاء فى الأصل، والذى فى الكامل «بهر» وهو بضم الباء ما يعترى الإنسان عند السعى الشديد والعدو من التهييج وتتابع النفس. [3] فى العقد الفريد ج 4 ص 369: «فأخذ معاوية بهر حتى تنفس الصعداء وذلك فى يوم شات» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 353 المؤمنين، إنه لا بد للناس من وال بعدك وقد بلونا الجماعة والألفة فوجدناهما أحقن للدماء، وأصلح للدهماء، وآمن للسبيل، وخيرا فى العافية، والأيام عوج [1] رواجع، والله كل يوم فى شأن، ويزيد بن أمير المؤمنين فى حسن هديه وقصد سيرته [2] على ما علمت، وهو من أفضلنا علما وحلما، وأبعدنا رأيا، فولّه عهدك، واجعله لنا علما بعدك، ومفزعا نلجأ إليه ونسكن إلى ظله» .. وتكلم عمرو بن سعيد الأشدق بنحو من [3] ذلك. ثم قام يزيد بن المقنّع العذرىّ فقال: هذا أمير المؤمنين (وأشار إلى معاوية) فإن هلك فهذا (وأشار إلى يزيد) ومن أبى فهذا (وأشار إلى سيفه) فقال معاوية: اجلس فأنت سيّد الخطباء. وتكلم من حضر من الوفود، فقال معاوية للأحنف: ما تقول يا أبا بحر؟ فقال: «نخافكم إن صدقنا، ونخاف الله إن كذّبنا، وأنت يا أمير المؤمنين أعلم بيزيد فى ليله ونهاره، وسرّه وعلانيته ومدخله ومخرجه، فإن كنت تعلمه لله تعالى ولهذه الأمة رضى فلا تشاور فيه، وإن كنت تعلم منه غير ذلك فلا تزوّده الدنيا، وأنت صائر إلى الآخرة، وإنما علينا أن نقول: سمعنا وأطعنا» .. وقام رجل   [1] كذا جاء فى الكامل ج 3 ص 251 ولم تنقط الكلمة فى المخطوطة. وجاء فى العقد الفريد «والأنفس يغدى عليها ويراح» . [2] قصد سيرته: استقامة سيرته. [3] قال: أيها الناس، إن يزيد أمل تأملونه، وأجل تأمنونه، طويل الباع، رحب الذراع، إذا صرتم إلى عدله وسعكم، أمير المؤمنين ولا خلف منه» . فقال معاوية: اجلس أبا أمية فقد أوسعت وأحسنت. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 354 من أهل الشام فقال: «ما ندرى ما تقول هذه المعدّيّة [1] العراقية، وإنما عندنا سمع وطاعة وضرب وازدلاف [2] . فافترق الناس يحكون قول الأحنف [3] . قال: وكان معاوية يعطى المقارب، ويدارى المباعد ويلطف به، حتى استوثق له أكثر الناس، وبايعوه، فلما بايعه أهل العراق والشام سار إلى الحجاز. ذكر مسير معاوية الى الحجاز وكيف أخذ البيعة ليزيد على أهل الحجاز قال: وفى هذه السّنة اعتمر معاوية فى شهر رجب، وسار إلى الحجاز فى ألف فارس، فلما دنا من المدينة لقيه الحسن بن على رضى الله عنهما أول الناس، فلما نظر إليه معاوية قال: «لا مرحبا ولا أهلا! بدنة يترقرق دمها والله مهريقه!» قال: مهلا فإنى لست بأهل لهذه المقالة. قال: بلى ولشرّ منها. ثم لقيه عبد الله بن الزّبير فقال له: «لا مرحبا ولا أهلا! خبّ ضبّ، تلعة يدخل رأسه فيضرب بذنبه، ويوشك والله أن يؤخذ بذنبه ويدقّ ظهره، نحّياه عنى» فضرب وجه راحلته. ثم لقيه عبد الرحمن بن أبى بكر الصديق فقال له معاوية: «لا مرحبا ولا أهلا! شيخ قد خرف وذهب عقله» ثم أمر بضرب وجه راحلته: ثم فعل بابن عمر نحو ذلك.   [1] المعدية: الجماعة المنسوبة إلى معد بن عدنان. [2] الازدلاف: الاقتراب إلى الأقران فى الحرب. [3] ابن الأثير فى الكامل 3 ص 251. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 355 فأقبلوا معه لا يلتفت إليهم حتّى دخل المدينة، فحضروا بابه فلم يؤذن لهم على منازلهم، ولم يروا منه ما يحبون، فخرجوا إلى مكة، فأقاموا بها. وخطب معاوية بالمدينة، فذكر يزيد فمدحه، وقال: «من أحق منه بالخلافة فى فضله وعقله؟ وموضعه؟ وما أظن قوما بمنتهين حتى يصيبهم بوائق تجتثّ أصولهم، ولقد أنذرت إن أغنت النّذر، ثم أنشأ متمثلا: قد كنت حذّرتك آل المصطلق ... وقلت يا عمرو أطعنى وانطلق إنّك إن كلّفتنى ما لم أطق ... ساءك ما سرّك منّى من خلق دونك ما استسقيته فاحس وذق ثم دخل على عائشة رضى الله عنها وقد بلغها أنه ذكر الحسين وأصحابه، فقال: «لأقتلنهم إن لم يبايعوا» فشكاهم إليها، فوعظته عائشة وقالت: بلغنى أنك تتهدّدهم بالقتل، فقال: «يا أم المؤمنين، هم أعزّ من ذلك، ولكنى بايعت ليزيد، وبايعه غيرهم، أفترين أن أنقض بيعة قد تمت؟» . قالت: فارفق بهم فإنهم يصيرون إلى ما تحبّ إن شاء الله. قال: أفعل. وكان فى قولها له: ما يؤمنك أن أقعد لك رجلا يقتلك وقد فعلت بأخى ما فعلت؟ تعنى محمدا فقال لها: كلّا يا أم المؤمنين إنى فى بيت أمن. قالت: أجل. ومكث معاوية بالمدينة ما شاء الله، ثم خرج إلى مكة، فلقيه الجزء: 20 ¦ الصفحة: 356 الناس، فقال أولئك النفر: نتلقّاه لعله قد ندم على ما كان منه، فلقوه فى بطن [1] مرّ، فكان أول من لقيه الحسين رضى الله عنه، فقال له معاوية: مرحبا وأهلا بابن رسول الله وسيّد شباب المسلمين. وأمر له بدابّة وركب وسايره، ثم فعل بالباقين مثل ذلك [2] ، وأقبل يسايرهم ولا يسير معه غيرهم حتى دخل مكة، فكانوا أول داخل عليه وآخر خارج، ولا يمضى يوم إلا ولهم منه صلة، ولا يذكر لهم شيئا، حتّى قضى نسكه وحمل أثقاله وقرب مسيره، فقال بعضهم لبعض: «لا تخدعوا فما صنع هذا لحبّكم، وما صنعه إلا لما يريد أن يفعل، فأعدوا له جوابا» فاتفقوا على أن يكون المخاطب له عبد الله ابن الزبير. فأحضرهم معاوية وقال: «قد علمتم سيرتى فيكم، وصلتى لأرحامكم وحملى ما كان منكم، ويزيد أخوكم وابن عمكم، وأردت أن تقدّموه باسم الخلافة، وتكونوا أنتم تولّون وتعزلون وتؤمّرون، وتجبون المال وتقسمونه، ولا يعارضكم فى شىء من ذلك» . فسكتوا، فقال: ألا تجيبون؟ مرّتين. ثم أقبل على عبد الله بن الزبير ثم قال: هات فلعمرى إنك خطيبهم. قال: نعم، نخيّرك بين ثلاث خصال. قال: اعرضهنّ. قال: تصنع كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو كما صنع أبو بكر، أو كما صنع عمر رضى الله عنهما، قال معاوية: ما صنعوا؟ قال: قبض   [1] مر الظهران على مرحلة من مكة. [2] فى العقد الفريد ج 4 ص 371: «وقال لعبد الرحمن بن أبى بكر: مرحبا بشيخ قريش وسيدها وابن الصديق. وقال لابن عمر: مرحبا بصاحب رسول الله وابن الفاروق، وقال لابن الزبير: مرحبا بابن حوارى رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته. ودعا لهم بدواب فحملهم عليها» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 357 رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يستخلف أحدا، فارتضى الناس أبا بكر. قال: ليس فيكم مثل أبى بكر وأخاف الاختلاف. قالوا: «صدقت فاصنع كما صنع أبو بكر، فإنه عمد إلى رجل من قاصية قريش ليس من بنى تيم [1] فاستخلفه، أو كما صنع عمر، جعل الأمر شورى فى ستة نفر، ليس فيهم أحد من ولده ولا من بنى أبيه» . قال معاوية: هل عندك غير هذا؟ قال: لا، قال: فأنتم؟ قالوا: قولنا قوله: قال «فإنى أحببت أن أتقدم إليكم، إنه قد أعذر من أنذر، إنى كنت أخطب، فيقوم إلى القائم منكم فيكذّبنى على رؤوس الناس، فأحمل ذلك وأصفح، وإنّى قائم لمقالة فأقسم بالله لئن ردّ علىّ أحد منكم كلمة فى مقامى هذا لا ترجع إليه كلمة غيرها حتّى يسبقها السيف إلى رأسه، فلا يبقينّ رجل إلا على نفسه!» . ثم دعا صاحب حرسه حضرتهم فقال له: أقم على رأس كل رجل من هؤلاء رجلين، ومع كل واحد سيف، فإن ذهب رجل منهم يرد علىّ كلمة بتصديق أو تكذيب فليضرباه بسيفيهما. ثم خرج وخرجوا معه حتى رقى المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «إن هؤلاء الرّهط سادة المسلمين وخيارهم، لا يبرم [2] أمر دونهم ولا يقضى إلّا عن مشورتهم، وإنهم قد رضوا وبايعوا ليزيد، فبايعوا على   [1] يعنى أن أبا بكر لم يستخلف أحدا من أولاده ولا أقاربه بنى تيم، فقد كان أبو بكر بن أبى قحافة بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة، ولكنه استخلف عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رباح بن عبد الله بن قرظ بن رزاح بن عدى، فعمر عدوى، وأبو بكر تيمى. [2] انظر العقد الفريد ج 4 ص 372، وفى المخطوطة «لا يبتز» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 358 اسم الله» . فبايع الناس وكانوا يتربّصون بيعة هؤلاء النفر، ثم ركب معاوية رواحله وانصرف إلى المدينة. فلقى الناس أولئك النفر فقالوا لهم: زعمتم أنكم لا تبايعون فلمّا أرضيتم وأعطيتم بايعتم! قالوا: والله ما فعلنا. قالوا: فما منعكم أن تردّوا على الرجل؟ قالوا: كادنا [1] وخفنا القتل. وبايعه أهل المدينة، ثم انصرف إلى الشام، وجفا بنى هاشم، فأتاه ابن عبّاس فقال له: ما بالك جفوتنا؟ قال: إن صاحبكم لم يبايع ليزيد فلم تنكروا ذلك عليه. فقال: «يا معاوية، إنى لخليق أن أنحاز إلى بعض السواحل، فأقيم به، ثم أنطلق بما تعلم حتى أدع الناس كلهم خوارج عليك» . قال يا أبا العباس تعطون وترضون وترادّون [2] !. وقيل: إن ابن عمر قال لمعاوية: «أبايعك على أنى داخل فيما تجتمع عليه الأمة، فو الله لو اجتمعت على حبشى لدخلت معها» . ثم عاد إلى منزله، فأغلق بابه، فلم يأذن لأحد. وقد ذكرنا وفاة عبد الرحمن بن أبى بكر فى سنة ثلاث وخمسين، والمشهور أنه كان فى هذه الحادثة باق [3] ، وقد ورد خبره مع مروان ابن الحكم وما قالته عائشة رضى الله عنها فى الصحيح [4] .   [1] فى العقد الفريد: «كادكم بنا وكادنا بكم» . [2] راده فى الكلام: راجعه إياه. [3] قال ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 252: «قلت: ذكر عبد الرحمن بن أبى بكر لا يستقيم على قول من يجعل وفاته سنة ثلاث وخمسين، وإنما يصح على قول من يجعلها بعد ذلك الوقت» . وقد ذكر ابن حبان أنه مات سنة ثمان وخمسين. [4] روى البخارى فى كتاب التفسير من صحيحه الحديث 4509: كان مروان على الحجاز، استعمله معاوية، فخطب، فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكى يبايع له بعد أبيه، فقال له عبد الرحمن أبن أبى بكر شيئا، فقال: خذوه، فدخل بيت عائشة فلم يقدروا، فقال مروان إن هذا الذى أنزل الله فيه: والذى قال لوالديه أف لكما أتعداننى فقالت عائشة من وراء الحجاب: ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن، إلا أن الله أنزل عذرى. أه وانظر ما سبق قريبا. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 359 ذكر استعمال سعيد بن عثمان بن عفان على خراسان وغزوه فى هذه السنة استعمل معاوية سعيد بن عثمان بن عفان على خراسان وعزل ابن زياد عنها، وكان سبب ذلك أنه سأل معاوية أن يستعمله على خراسان، فقال: إن بها عبيد الله بن زياد. فقال: «والله لقد اصطنعك أبى حتّى بلغت باصطناعه المدى الذى لا تجارى إليه ولا تسامى، فما شكرت بلاءه ولا جازيته [بآلائه] [1] ، وقدّمت [علىّ] هذا- يعنى يزيد- وبايعت له، والله لأنا خير أبا وأمّا ونفسا!» فقال معاوية: أمّا بلاء أبيك فقد يحقّ علىّ الجزاء به، وقد كان من شكرى لذلك أنّى طلبت بدمه، وأمّا فضل أبيك على أبيه فهو والله خير منّى، وأمّا فضل أمّك على أمّه فلعمرى امرأة من قريش خير من امرأة من كلب [2] ، وأمّا فضلك عليه فو الله ما أحبّ أن الغوطة [3] ملئت به رجالا مثلك!» فقال له يزيد: «يا أمير المؤمنين، ابن عمّك، وأنت أحقّ من نظر فى أمره، قد عتب عليك فأعتبه [4] » . فولّاه حرب خراسان، وولّى إسحاق ابن طلحة [5] خراجها، فمات إسحاق بالرّىّ فولّى سعيد حربها وخراجها.   [1] الزيادة من تاريخ الطبرى ج 4 ص 226. [2] أم سعيد بن عثمان هى فاطمة بنت الوليد بن المغيرة المخزومية القرشية، وأم يزيد ابن معاوية هى ميسون بنت مجدل بن أنيف الكلبية. [3] الغوطة: الكورة التى منها دمشق، وهى معروفة ببساتينها. [4] الإعتاب: الإرضاء. [5] كان إسحاق ابن خالة معاوية. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 360 فلمّا قدم خراسان قطع النهر إلى سمرقند، فخرج إليه [أهل] [1] الصّغد، فتواقفوا يوما إلى الليل ولم يقتتلوا، ثمّ اقتتلوا من الغد، فهزمهم سعيد، وحصرهم فى مدينتهم، فصالحوه وأعطوه رهنا منهم خمسين غلاما من أبناء عظمائهم، فسار إلى التّرمذ ففتحها صلحا، ولم يف لأهل سمرقند، وجاء بالغلمان معه إلى المدينة. وفى هذه الغزوة قتل قثم بن العبّاس بن عبد المطّلب. وحج بالناس فى هذه السنة الوليد بن عتبة بن أبى سفيان سنة سبع وأربعين فى هذه السنة عزل معاوية مروان بن الحكم عن المدينة، واستعمل الوليد بن عتبة بن أبى سفيان. وقيل: لم يعزل مروان فى هذه السنة [2] . وحج بالناس الوليد بن عتبة. سنة ثمان وأربعين فى هذه السنة توفّيت عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها، وتوفى عميرة بن يثربىّ قاضى البصرة، فاستقضى مكانه هشام بن هبيرة. وحج بالناس الوليد بن عتبة.   [1] الزيادة من تاريخ الطبرى ج 4 ص 227، والصغد: قرى متصلة خلال الأشجار والبساتين من سمرقند إلى قريب من بخارى. [2] وقيل: فى سنة ثمان وخمسين. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 361 ذكر عزل الضحاك عن الكوفة واستعمال عبد الرحمن بن أم الحكم وطرده عنها واستعماله على مصر وطرده عنها أيضا فى هذه السنة عزل معاوية الضحّاك بن قيس عن الكوفة، واستعمل عليها عبد الرحمن بن عبد الله بن عثمان الثقفى، وهو ابن أم الحكم، وأم الحكم أخت معاوية، فخرج الخوارج بالكوفة فى ولايته على ما قدمناه من خبرهم. ثم طرد أهل الكوفة عبد الرحمن لسوء سيرته، فلحق بخاله معاوية، فولاه مصر، فاستقبله معاوية بن حديج على مرحلتين من مصر، فقال له: ارجع إلى خالك فلعمرى لا تسير فينا سيرتك فى إخواننا من أهل الكوفة، فرجع. ثم وفد معاوية بن حديج إلى معاوية، وكان إذا قدم زيّنت له الطرق [بقباب الرّيحان] [1] تعظيما لشأنه، فدخل على معاوية وعنده أخته أمّ الحكم فقالت: من هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: «بخ بخ [2] ! هذا معاوية بن حديج!» فقالت: «لا مرحبا! تسمع بالمعيدىّ خير من أن تراه [3] . فسمعها ابن حديج، فقال: «على رسلك يا أم الحكم، والله لقد تزوجت فما أكرمت، وولدت فما أنجبت، أردت أن يلى ابنك الفاسق علينا فيسير فينا كما سار فى إخواننا من أهل الكوفة، ما كان الله ليريه ذلك، ولو فعل لضربناه ضربا يطأطئ   [1] ثبتت هذه الزيادة فى النسخة (ن) ، وسقطت من النسخة (ك) . [2] «بخ» اسم فعل، يقال عند إظهار الرضا والإعجاب، ويكرر للمبالغة. [3] مثل عربى يضرب لمن خبره خير من رؤيته. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 362 منه ولو كره هذا القاعد!» يعنى معاوية، فالتفت إليها معاوية فقال: كفى. فكفّت. سنة تسع وخمسين فى هذه السنة استعمل معاوية النّعمان بن بشير الأنصارى على الكوفة، بعد ابن أم الحكم. واستعمل معاوية عبد الرحمن بن زياد على خراسان فبقى عليها إلى أن قتل الحسين، ثم قدم على يزيد ومعه عشرون ألف ألف درهم، فقال له يزيد: «إن شئت حاسبناك وأخذنا ما معك ورددناك إلى عملك، وإن شئت أعطيناك ما معك وعزلناك، وتعطى عبد الله بن جعفر خمسمائة ألف درهم» قال: بل تعطينى ما معى وتعزلنى. ففعل، وأرسل عبد الرحمن إلى ابن جعفر بألف ألف، وقال: هذه خمسمائة ألف من يزيد وخمسمائة ألف منى. ذكر عزل عبيد الله بن زياد عن البصرة وعوده إليها وفى هذه السنة عزل معاوية عبيد الله بن زياد عن البصرة وأعاده إليها ولم يولّ غيره. وسبب ذلك أن ابن زياد وفد على معاوية فى وجوه أهل البصرة وفيهم الأحنف بن قيس، وكان ابن زياد لا يكرمه، فلما دخلوا على معاوية رحبّ بالأحنف وأجلسه معه على سريره، فأحسن الوفد الثناء على عبيد الله بن زياد والأحنف ساكت، فقال له معاوية: ما بالك يا أبا بحر لا تتكلم؟ فقال: إن تكلمت خالفت القوم. فقال معاوية: الجزء: 20 ¦ الصفحة: 363 انهضوا، عزلته عنكم واطلبوا واليا ترضونه، فلم يبق من القوم رجل إلا أتى رجلا من بنى أميّة أو من أهل الشام، والأحنف لم يبرح من منزله ولم يأت أحدا، فلبثوا أيّاما، ثم جمعهم معاوية، وقال لهم: من اخترتم فاختلفت كلمتهم [1] ، والأحنف ساكت، فقال [2] : مالك لا تتكلم؟ فقال: «إن ولّيت علينا أحدا من أهل بيتك لم نعدل بعبيد الله أحدا، وإن ولّيت غيرهم فانظر فى ذلك» . فردّه معاوية عليهم، وأوصاه بالأحنف وقبح رأيه فى مباعدته. وحج بالناس فى هذه السنة عثمان بن محمد بن أبى سفيان، وفيها توفى سعيد بن العاص. سنة ستين ذكر وفاة معاوية بن أبى سفيان وما أوصى به عند وفاته كانت وفاته بدمشق فى شهر رجب من هذه السّنة، قيل: فى مستهلّه، وقيل: فى النصف منه، وقيل: لأربع بقين منه، وقيل: فى يوم الخميس لثمان بقين من شهر رجب سنة تسع وخمسين [3] قال [4] : وكان معاوية قد خطب الناس قبل موته فقال: «إنى   [1] سمى كل فريق منهم رجلا. [2] معاوية. [3] تبع فى ذلك ما جاء فى الاستيعاب ج 3 ص 398، وعبارة الطبرى فى تاريخه ج 4 ص 239: «وقال على بن محمد: مات معاوية بدمشق سنة 60 يوم الخميس لثمان بقين من رجب، حدثنى بذلك الحارث عنه» وقال الطبرى قبيل هذا: «اختلف فى وقت وفاته بعد إجماع جميعهم على أن هلاكه كان فى سنة 60 وفى رجب منها» . [4] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 259. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 364 لزرع [1] مستحصد [2] وقد طالت إمرتى عليكم حتى مللتكم ومللتمونى، وتمنيت فراقكم وتمنيتم فراقى، لن يأتيكم بعدى إلا من أنا خير منه، كما أن من كان قبلى كان خيرا منى، وقد قيل: من أحب لقاء الله أحب لله لقاءه، اللهم إنى أحببت لقاءك فأحبب لقائى وبارك لى فيه» . فلم يمض غير قليل حتى ابتدأ به مرضه الذى مات فيه. قال [3] ولمّا مرض [4] دعا ابنه يزيد وقال: «يا بنى إنى قد كفيتك الشّدّ والتّرحال، ووطّأت لك الأمور، وذللت الأعداء، وأخضعت؛ لك رقاب العرب، وجمعت لك ما لم يجمعه أحد، فانظر أهل الحجاز فإنهم أصلك، فأكرم من قدم عليك منهم، وتعاهد من غاب وانظر أهل العراق، فإن سألوك أن تعزل عنهم كلّ يوم عاملا فافعل، فإنّ عزل عامل أيسر من أن يشهر عليك مائة ألف سيف، وانظر أهل الشام، فليكونوا بطانتك وعيبتك [5] ، فإن رابك [6] من عدوّك شىء فانتصر بهم، فإذا أصبتهم فاردد أهل الشام إلى بلادهم، فإنهم إن أقاموا بغيرها تغيرت أخلاقهم، وإنى لست أخاف عليك أن ينازعك هذا الأمر إلّا أربعة نفر من قريش: الحسين بن على وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزّبير وعبد الرحمن بن أبى بكر، فأمّا ابن عمر فرجل قد   [1] فى الكامل: «كزرع» . [2] استحصد الزرع: حان أن يحصد. [3] ابن الأثير فى الكامل، وأصله فى تاريخ الطبرى ج 4 ص 238. [4] قال الطبرى: «مرض مرضته التى هلك فيها» . [5] عيبتك: موضع سرك. [6] كذا جاء فى المخطوطة مثل الكامل، وجاء فى تاريخ الطبرى «نابك» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 365 وقذته [1] العبادة، فإذا لم يبق أحد غيره بايعك، وأمّا الحسين فإنه رجل خفيف، ولن يتركه أهل العراق حتى يخرجوه، فإن خرج فظفرت به فاصفح عنه، فإن له رحما ماسة وحقا عظيما وقرابة من محمد صلى الله عليه وسلم، وأمّا ابن أبى بكر فإن رأى أصحابه صنعوا شيئا صنع مثله [2] ليست له همّة إلّا فى النساء واللهو، وأما الذى يجثم لك جثوم الأسد، ويرواغك مراوغة الثعلب، فإن أمكنته فرصة وثب، فذاك ابن الزبير، فإن هو فعلها بك فظفرت به فقطّعه إربا إربا، واحقن دماء قومك ما استطعت» .. هكذا فى هذه الرواية [3] ذكر عبد الرحمن بن أبى بكر، والصحيح أنه مات [4] قبل معاوية. وقيل إن يزيد كان غائبا فى مرض أبيه وموته، وأن معاوية أحضر الضحاك بن قيس ومسلم بن عقبة المرّىّ وأمرهما أن يؤديّا عنه هذه الرسالة إلى يزيد ابنه. وصححه ابن الأثير. قيل: ولما اشتدّت علّته وأرحف به قال لأهله؛: احشوا عينى إثمدا وادهنوا رأسى، ففعلوا وبرّقوا وجهه [5] ، ثم مهّد له مجلس   [1] وقذته: غلبته. [2] فى تاريخ الطبرى: «مثلهم» ، والذى جاء هنا مثل الكامل. [3] وذكر ابن جرير رواية ثانية فيها قول معاوية: «وإنى لست أخاف من قريش إلا ثلاثة: حسين بن على وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير» . [4] وذكر ابن حبان أن عبد الرحمن بن أبى بكر مات سنة ثمان وستين، وقيل غير ذلك كما سبق. [5] عند ابن جرير وابن الأثير: «برقوا وجهه بالدهن» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 366 وأذن للناس، فدخلوا وسلموا قياما ولم يجلس أحد، فلما خرجوا تمثل بقول الأول وهو الهذلى [1] : وتجلّدى للشّامتين أريهمو ... أنّى لريب الدهو لا أتضعضع وإذا المنيّة أنشبت أظفارها ... ألفيت كلّ تميمة [2] لا تنفع ومات فى يومه. وكان يتمثّل- وقد احتضر [3]-: فهل من خالد إمّا هلكنا؟ ... وهل بالموت يا للنّاس عار؟ وروى محمد بن عبد الله بن الحكم قال: سمعت الشافعىّ رضى الله عنه يقول: لمّا ثقل معاوية كان يزيد غائبا، فكتب إليه بحاله فلمّا أتاه الرسول أنشأ يقول: جاء البريد بقرطاس يخبّ به [4] ... فأوجس القلب من قرطاسه فزعا قلنا: لك الويل! ماذا فى صحيفتكم ... قال: الخليفة أمسى مثبتا [5] وجعا   [1] هو أبو ذؤيب الهذلى يرثى بنين له ماتوا فى عام واحد بقصيدة مشهورة تجدها فى أول ديوان الهذليين، وانظر المفضلية 125 فى المفضليات وجمهرة أشعار العرب ص 264- 273 والاستيعاب ج 4 ص 67 والإصابة ج 4 ص 65 وشواهد العينى ج 3 ص 393- 394 وخزانة الأدب ج 1 ص 202 وحماسة البحترى ص 99، 128 وأمالى القالى مع شرح البكرى فى سمط اللآلى ج 2 ص 288- 289. [2] التميمة: ما يعلقه بعض الناس على أولادهم لاتقاء العين والحسد بزعمهم. [3] وبلغه أن قوما يفرحون بموته. [4] القرطاس: الصحيفة. والخبب: السير السريع. [5] المثبت: الذى لا يفارق الفراش لثقل مرضه. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 367 فمادت الأرض أو كادت تميد بنا ... كأنّ ثهلان [1] من أركانه انقلعا أودى ابن هند [2] وأودى المجد يتبعه ... كانا جميعا وظلّا يسريان معا لا يرفع الناس ما أوهى [3] وإن جهدوا ... أن يرفعوه، ولا يوهون ما رفعا أغرّ أبلج [4] يستسقى الغمام به ... لو قارع الناس عن أحلامهم قرعا والبيتان [5] الأخيران للأعشى. قال: فلمّا وصل إليه وجده مغمورا فأنشأ يقول: لو عاش حىّ إذا لعاش إما ... م الناس لا عاجز ولا وكل [6] الحوّل القلّب الأريب [7] ولن ... يدفع ريب المنيّة الحيل   [1] ثهلان: جبل. [2] أودى: هلك. وهند: أم معاوية. [3] أوهاه: أضعفه وأسقطه. [4] الأغر: السيد الشريف فى قومه. والأبلج: الذى يكون طلق الوجه مضيئه. [5] هذا من قول الإمام الشافعى كما فى الاستيعاب ج 3 ص 399 وهما البيتان 72، 51 من عينيه الأعشى فى ديوانه ص 111، 107 وجاء أولهما بلفظ: لا يرفع الناس ما أوهى وإن جهدوا ... طول الحياة ولا يوهون ما وقعا وجاء ثانيهما بلفظ: أغر أبلج يستسقى الغمام به ... لو صارع الناس عن أحلامهم صرعا [6] الوكل: البليد الذى يكل أمره إلى غيره. [7] الحول: البصير بالحيل وتحويل الأمور. والقلب: البصير بتقلب الأمور. والأريب: العاقل. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 368 قال فأفاق معاوية وقال: يا بنى إنّى صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج لحاجته، فاتبعته بإداوة [1] ، فكسانى أحد ثوبيه الذى يلى جلده، فخبّأته لهذا اليوم، وأخذ رسول الله عليه الصلاة والسلام من أظافره وشعره ذات يوم، فأخذته وخبّأته لهذا اليوم، فإذا أنا متّ فاجعل ذلك القميص دون كفنى ممّا يلى جلدى، وخذ ذلك الشعر والأظافر فاجعله فى فمى وعلى عينى ومواضع السجود منى، فإن نفع شى فذاك، وإلّا فإن الله غفور رحيم. وهذه الرواية تدل على أن يزيد أدركه قبل وفاته، وقد قيل: إنه أوصى بها غير يزيد [2] والله أعلم. قال ابن الأثير: وتمثل معاوية عند موته بشعر الأشهب بن زميلة [3] النّهشلى [4] :   [1] الإداوة: إناء صغير من جلد. [2] ذكر الطبرى فى إحدى روايات تاريخه ج 4 ص 242 أن معاوية مات ويزيد بحوارين. وكانوا اكتبوا إليه حين مرض، فأقبل وقد دفن، فأتى قبره فصلى عليه ودعا له، ثم أتى منزله، وانظر ما يأتى. [3] كذا جاء فى المخطوطة والكامل لابن الأثير «زميله» بالزاى، كما نص عليه العينى فى شواهده الكبرى ج 1 ص 482 تابعا للمرزبانى فى معجم الشعراء، وفى أكثر الكتب «رميلة» بالراء، كما نص عليه صاحب خزانة الأدب ج 2 ص 509 وتراه فى تاريخ الطبرى وأمالى القالى وسمط اللالى والبيان والتبيين والحيوان، وانظر ترجمة الأشهب بن رميلة فى الأغانى ج 9 ص 269 (طبع دار الكتب المصرية) والإصابة ج 1 ص 107. [4] قال الطبرى فى تاريخه ج 4 ص 241: شعر الأشهب بن رميلة النهشلى يمدح به القباع. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 369 إذا متّ مات الجود وانقطع النّدى ... من الناس إلّا من قليل مصرّد [1] وردّت أكفّ السائلين وأمسكوا ... من الدّين والدنيا بخلف مجدّد [2] فقالت إحدى بناته: كلّا يا أمير المؤمنين بل يدفع الله عنك. فقال متمثّلا: وإذا المنيّة أنشبت أظفارها ...... (البيت) وقال لأهله: اتّقوا الله فإنه لا واقى لمن لا يتّقى الله! ثمّ قضى [3] وأوصى أن يردّ نصف ماله إلى بيت المال [4] . وأنشد لما حضرته الوفاة:. إن تناقش يكن نقاشك يا ربّ ... ب عذابا، ولا طوق لى بالعذاب أو تجاوز فأنت رب صفوح ... عن مسيىء ذنوبه كالتراب قال: ولمّا مات خرج الضحّاك بن قيس حتّى صعد المنبر، وأكفان معاوية على يديه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «إنّ معاوية كان   [1] مصرد: مقلل، ففيه مبالغة فى القلة. [2] الخلف: ضرع والفرس والناقة ونحوهما، والمجدد: الذاهب اللبن، والمعروف بهذا المعنى فى هذه المادة «الأجد» و «المتجدد» . [3] قضى: مات. [4] قال الطبرى فى تاريخه ج 4 ص 242 وابن لأثير فى الكامل ج 3 ص 260 «كأنه أراد أن يطيب له الباقى، لأن عمر قاسم عماله» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 370 عود [1] العرب، وحدّ [2] العرب، وجدّ [3] العرب، قطع الله به الفتنة، وملّكه على العباد، وفتح به البلاد، ألا إنه قد مات، وهذه أكفانه ونحن مدرجوه فيها، ومدخلوه قبره، ومخلّون بينه وبين عمله، ثمّ هو البرزخ إلى يوم القيامة! فمن كان يريد أن يشهده فعند الأولى» .. قال: وصلى عليه الضحاك لغيبة يزيد، وكان بحوّارين [4] فقدم بعد دفنه فصلّى على قبره. وكان ملكه تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر وأيّاما تقريبا منذ خلص له الأمر. وكان عمره خمسا وسبعين سنة، وقيل: ثلاث وسبعين، وقيل: ثمان وسبعين، وقيل توفى وهو ابن خمس وثمانين سنة. وكان أوّل من اتخذ الخدام الملازمة [5] فى الإسلام. وأوّل من علّق الستور واتخذ الحرس وأرباب الشّرط. واستخدم الحجاب وركب الهماليج [6] ، وقيدت بين يديه الجنائب [7] ولبس الخزّ والوشى الخفيف، وعمل الطّراز بمصر واليمن والرّها والإسكندرية.   [1] العود: الجمل الكبير المدرب، ويشبه به الرجل كذلك. [2] الحد: البأس والفاصل بين شيئين. [3] الجد: الحظ والسعادة والغنى. [4] حوارين، بتشديد الواو: من قرى الشام، وهى غير «حوارين» بتخفيف الواو التى فى الجزيرة. [5] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وجاء فى النسخة (ك) : «الأزمة» وجاء فى الاستيعاب «أول من اتخذ الخصيان فى الإسلام. [6] الهماليج: جمع هملاج، وهو البرذون الحسن السير، ويسمى «الرهوان» . [7] الجنائب: جمع جنيبة وهى الدابة تقاد إلى جنب، والناقة يعطيها الرجل القوم ليمتارو عليها له. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 371 وأوّل من قتل مسلما صبرا، قتل حجر بن عدىّ وأصحابه كما تقدم. وهو أول من اقتنى الضّياع، وأحدث فى أيامه ديوان الخاتم، وكان سبب ذلك أنه أمر لعمرو [1] بن الزّبير بمائة ألف درهم، وكتب له بها على زياد، فصيرّ [2] عمرو المائة مائتين، فلما [رفع] [3] حساب زياد أنكرها معاوية، وأخذ عمرا بردّها [4] ، فوفّاها عنه أخوه عبد الله. ثم أمر معاوية بختم الكتب وحزمها. وزاد فى منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعله ثمانى درجات، وأول من جعل درجات المنبر خمس عشرة مرقاة، واتخذ المقصورة [5] فى المسجد. وأول خليفة بايع لابنه، وأول من وضع البريد، وأول من سمى الغالية التى يطيّب بها «غالية» . وكان يقول: أنا أول الملوك. ذكر شىء من سيرته وأخباره كان يضرب بحلم معاوية المثل، ولم يعرف له زلّة تنافى الحلم إلّا قتل حجر بن عدىّ وأصحابه. وقد نقل من كلامه ألفاظ، منها أنه قال: إننى لأرفع نفسى أن يكون ذنب أعظم من عفوى، وجهل أكثر من حلمى، وعورة لا أواريها بسترى، أو إساءة أكثر من إحسانى..   [1] أمر معاوية لعمرو بهذا فى معونته وقضاء دينه. [2] فض عمرو الكتاب وصير المائة مائتين. [3] ثبتت هذه الكلمة فى النسخة (ن) . [4] وحبسه. [5] عمل معاوية المقصورة فى الشام لما ضربه الخارجى، ثم عمل مروان المقصورة فى المدينة الجزء: 20 ¦ الصفحة: 372 وقال: العقل والحلم أفضل ما أعطى العبد، فإذا ذكّر ذكر، وإذا أعطى شكر، وإذا ابتلى صبر، وإذا غضب كظم، وإذا قدر غفر، وإذا أساء استغفر، وإذا وعد أنجز.. قال عبد الله [1] بن عمير: أغلظ رجل لمعاوية، فأكثر، فقيل له: أتحلم عن هذا؟ فقال: إنى لا أحول بين الناس وألسنتهم. ما لم يحولوا بيننا وبين ملكنا. وروى ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن قال: أخبرنا المسور ابن مخرمة أنه وفد على معاوية، قال: فلمّا دخلت عليه سلّمت، فقال: ما فعل طعنك على الأمة يا مسور؟ قلت: دعنا من هذا وأحسن فيما قدمنا له، قال: والله لتكلمنى يذات نفسك. قال فلم أدع شيئا أعيبه عليه إلّا أخبرته به. فقال: «لا أبرأ من الذنوب! أفمالك يا مسور ذنوب تخاف أن تهلك إن لم يغفرها الله لك؟» قلت: بلى. قال: «فما جعلك أحقّ بأن ترجو المغفرة منّى؟ فو الله لما أنا [2] ألى من الإصلاح بين الناس وإقامة الحدود والجهاد فى سبيل الله والأمور العظام التى ليست [3] أحصيها ولا تحصيها أكثر ممّا تلى. وإنى لعلى دين يتقبّل الله فيه الحسنات ويعفو عن السيّئات، وو الله لعلى [4] ذلك ما كنت لأخيرّ بين الله وبين ما سواه إلا اخترت الله على ما سواه. قال المسور: ففكرّت حين قال ما قال فعرفت أنه خصمنى! قال: فكان   [1] كذا جاء فى المخطوطة مثل الكامل لابن الأثير، وجاء فى رواية الطبرى «عبد الملك بن عمير» . [2] فى الاستيعاب ج 3 ص 402: «فو لله لما ألى من الإصلاح» . [3] فى الاستيعاب: «لست» . [4] ثبتت هذه الكلمة فى النسخة (ك) كما فى الاستيعاب، وسقطت من النسخة (ن) . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 373 إذا ذكر بعد ذلك دعا له بخير. قال أبو عمر [1] : هذا الخبر من أصحّ ما يروى عن ابن شهاب. وقد نسب معاوية إلى بخل مع كثرة عطاياه، فمن ذلك ما حكى أن عبيد الله بن أبى بكرة دخل على معاوية، ومعه ولد له، فأكثر من الأكل، فلحظه معاوية، وفطن عبيد الله، فأراد أن يغمز ابنه [فلم يمكنه] [2] فلم يرفع رأسه حتى فرغ من أكله، ثم عاد عبيد الله وليس معه ابنه، فقال معاوية ما فعل ابنك التّلقامة [3] ؟ [قال: اشتكى] [4] . ذكر صفة معاوية وأولاده وأزواجه وكتّابه وقضاته وحجّابه وشرطه وعمّاله كان معاوية طويلا أبيض اللون إذا ضحك تقلّصت شفته العليا، وكان يخضب بالحنّاء والكتم. وأما نساؤه وولده: فمن نسائه ميسون ابنة بحدل بن أنيف الكلبية، وهى أم يزيد، وقيل، ولدت له بنتا اسمها «أمة ربّ المشارق» فماتت صغيرة. ومنهن فاختة ابنة قرظة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف، ولدت له عبد الرحمن وعبد الله، وكان عبد الله أحمق، وعبد الرحمن مات صغيرا.   [1] أبو عمر بن عبد البر صاحب كتاب الاستيعاب. [2] الزيادة من تاريخ الطبرى ج 4 ص 245. [3] التلقامة: الكبير اللقم. [4] الزيادة من الكامل، ساقطة من الأصل. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 374 ومنهن نائلة ابنة عمارة الكلبية، تزوجها وقال لميسون: انظرى إليها، فنظرت إليها وقالت: «رأيتها جميلة، ولكنى رأيت تحت سرّتها خالا، ليوضعن رأس زوجها فى حجرها» فطلقها معاوية، فتزوجها حبيب بن مسلمة الفهرى، ثم خلف عليها بعده النّعمان ابن بشير، فقتل ووضع رأسه فى حجرها [1] . ومنهن كتوة [2] ابنة قرظة، أخت فاختة، غزا قبرس [3] وهى معه فماتت هناك. وأما كتابه فكان كاتبه وصاحب أمره سرجون الرومى، وكتب له عبيد الله بن أويس الغسّانى. وقضاته. كان على القضاء فضالة بن عبيد الأنصارى، فمات فاستقضى أبا إدريس الخولانى. وكان على ديوان الخاتم عبد الله بن محصن الحميرىّ، ونقش خاتمه «لكل عمل ثواب» ، وقيل: كان نقشه «لا حول ولا قوة إلا بالله» . وحاجبه سعد مولاه، ثم صفوان مولاه. وكان على شرطته قيس بن حمزه الهمدانى ثم عزله، واستعمل زمل [4] ابن عمرو العذرىّ، وقيل: السكسكىّ.   [1] كان النعمان بن بشير أميرا على حمص ليزيد، فلما مات يزيد صار النعمان زبير يا كالضحاك بن قيس، فلما قتل الضحاك فى وقعة «مرج راهط» وانتصر المروانيون طلب أهل حمص النعمان وقتلوه واحتزوا رأسه، فقالت امرأته نائلة ابنة: عمارة ألقوا رأسه فى حجرى فأنا أحق به [2] فى لأصل: لبوة، والتصحيح من الكامل وتاريخ الطبرى. [3] قبرس: جزيرة معروفة. [4] فى لإصابة ج 1 ص 551 والقاموس: زمل بن عمرو بن أبى العنز بن خشاف العذرى، صحابى، ويقال له «زميل» مصفرا. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 375 وكان على حرسه رجل من الموالى يقال له الختار، وقيل: أبو المخارق مالك مولى حمير. وأما عمّاله فقد تقدم ذكرهم، وكان العمّال عند وفاته: على المدينة الوليد بن عتبة بن أبى سفيان، على مكة عمرو بن سعيد الأشدق، وعلى البصرة عبيد الله بن زياد، وعلى الكوفة النّعمان بن بشير، وعلى خراسان عبد الرحمن بن زياد، وعلى سجستان عبّاد بن زياد، وعلى كرمان شريك بن الأعور، وعلى مصر مسلمة ابن مخلّد الأنصارى، وكان القاضى بمصر سليمان بن عمير عشرين سنة. ذكر بيعة يزيد بن معاوية هو أبو خالد يزيد بن معاوية بن أبى سفيان صخر بن حرب بن أمية ابن عبد شمس بن عبد مناف بن قصىّ، وأمه ميسون بنت بحدل الكلبية. وهو الثانى من ملوك بنى أميّة، بويع له بعد وفاة أبيه فى شهر رجب سنة ستين. فكان أول ما بدأ به يزيد أن كتب إلى الوليد بن عتبة بن أبى سفيان، وهو عامل المدينة، يخبره بموت معاوية [1] ، وكتابا آخر   [1] نص كتاب يزيد بن معاوية إلى ابن عمه الوليد بن عتبة- كما ذكره الطبرى-: «بسم الله الرحمن الرحيم، من يزيد أمير المؤمنين إلى الوليد بن عتبة، أما بعد فإن معاوية كان عبدا من عباد الله، أكرمه الله واستخلفه وخوله ومكن له، فعاش بقدر، ومات بأجل فرحمه الله، فقد عاش محمودا، ومات برأ تقيا، والسلام» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 376 صغيرا فيه: «أمّا بعد فخذ حسينا وعبد الله بن عمرو ابن الزبير بالبيعة أخذا ليس فيه رخصة حتّى يبايعوا والسلام» . فلما أتاه نعىّ معاوية استدعى [1] مروان بن الحكم، وكان قبل ذلك قد صارمه وانقطع عنه [2] ، فلما جاءه وقرأ عليه الكتاب بموت معاوية استرجع [3] وترحّم عليه، واستشاره الوليد كيف يصنع، قال: «أرى أن تدعوهم الساعة وتأمرهم بالبيعة، فإن فعلوا قبلت منهم وكففت عنهم، وإن أبوا ضربت أعناقهم قبل أن يعلموا بموت معاوية، فإنهم إن علموا بموته وثب كلّ رجل بناحية، وأظهر الخلاف ودعا إلى نفسه، أمّا ابن عمر فلا يرى القتال، ولا يحبّ أن يلى على الناس إلّا أن يدفع إليه هذا الأمر عفوا» .   [1] ذكر الطبرى وابن الأثير أن الوليد لما أتاه نعى معاوية فظع به وكبر عليه، ثم ما أمره به يزيد من أخذ هؤلاء الرهط بالبيعة، ففزع عند ذلك إلى مروان بن الحكم. [2] لما عزل مروان عن المدينة واستعمل عليها بعده الوليد بن عتبة صار مروان يجىء متكارها فلما رأى الوليد ذلك شتمه عند جلسائه، فبلغ ذلك مروان فانقطع عنه. [3] قال: «إنا لله وإنا إليه راجعون» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 377 ذكر ارسال الوليد بن عتبة إلى الحسين بن على وعبد الله بن الزبير، وما كان بينهم فى أمر البيعة وخروجهما إلى مكة رضى الله عنهما قال [1] وأرسل الوليد عبد الله بن عمرو بن عثمان، وهو غلام حدث، إلى الحسين وابن الزبير يدعوهما، فوجدهما فى المسجد، فأتاهما فى ساعة لم يكن الوليد يجلس فيها للناس، فقال: أجيبا الأمير فقالا: انصرف الآن نأتيه. فقال ابن الزبير للحسين: ما تراه بعث إلينا فى هذه الساعة التى لم يكن يجلس فيها؟ فقال الحسين رضى الله عنه: أظن طاغيتهم هلك فبعث إلينا ليأخذنا بالبيعة قبل أن يفشو فى الناس الخبر. فقال: وأنا ما أظن غيره، فما تريد أن نصنع؟ قال الحسين: أجمع فتيانى الساعة ثم أمشى إليه وأجلسهم على الباب وأدخل عليه. قال: فإنى أخاف عليك إذا دخلت. قال: لا آتيه إلا وأنا قادر على الامتناع. فقام الحسين رضى الله عنه فجمع إليه أصحابه وأهل بيته، ثم أقبل إلى باب الوليد، وقال لأصحابه: «إنى داخل، فإذا دعوتكم أو سمعتم صوتى قد علا فادخلوا علىّ بأجمعكم، وإلا فلا تبرحوا حتى أخرج إليكم» . ثم دخل فسلّم ومروان عنده، فقال الحسين: «الصّلة خير من القطيعة، والصلح خير من الفساد، وقد آن لكما أن تجتمعا، أصلح الله ذات بينكما» وجلس، فأقرأه الوليد الكتاب،   [1] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 264، وأصله فى تاريخ الطبرى ج 4 ص 251. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 378 ونعى إليه معاوية، ودعاه إلى البيعة، فاسترجع الحسين وترحّم على معاوية، وقال: «أما البيعة فإن مثلى لا يبايع سرا، ولا تجتزى بها منى سرا، فإذا خرجت إلى الناس ودعوتهم إلى البيعة دعوتنا معهم فكان الأمر واحد» فقال له الوليد- وكان يحب العافية- انصرف. فقال له مروان: «لئن فارقك الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبدا حتى تكثر القتلى بينك وبينه، احبسه، فإن بايع وإلّا ضربت عتقه» . فوثب الحسين عند ذلك وقال: «يا ابن الزرقاء أنت، تقتلنى [1] أو هو؟ كذبت والله ولؤمت [2] ! ثم خرج حتّى أتى منزله. فقال مروان للوليد: عصيتنى! لا والله لا يملك من نفسه يمثلها أبدا، فقال الوليد: «ويح [3] غيرك يا مروان!، والله ما أحب أن لى ما طلعت عليه الشمس وغربت عنه من مال الدنيا وملكها وأنى قتلت حسينا إن قال لا أبايع! والله إنى لأظن أمرأ يحاسب بدم الحسين خفيف الميزان عند الله يوم القيامة!» قال مروان: قد أصبت بقولك هذا [يقول] [4] وهو غير حامد له على رأيه. وأمّا ابن الزّبير فإنه أتى داره وجمع أصحابه واحترز، فألّح الوليد فى طلبه وهو يقول «أمهلونى» . فبعث الوليد إليه مواليه فشتموه، وقالوا له: يا ابن الكاهلية لتأتينّ الأمير أو ليقتلنّك   [1] فى تاريخ الطبرى: «أم» . [2] كذا جاء هنا مثل الكامل، والطبرى «وأثمت» . [3] كذا فى الأصل، وفى تاريخ الطبرى «وبخ غيرك» . [4] الزيادة من الكامل وتاريخ الطبرى. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 379 فقال لهم: والله لقد استربت لكثرة الإرسال، فلا تعجلونى حتّى أبعث إلى الأمير من يأتينى برأيه. فبعث إليه أخاه جعفر بن الزبير فقال له: «رحمك الله، كفّ عن عبد الله فإنك قد أفزعته وذعرته [1] ، وهو يأتيك غدا إن شاء الله تعالى، فمر رسلك فلينصرفوا عنا» فبعث إليهم، فانصرفوا وخرج ابن الزبير من ليلته هو وأخوه جعفر ليس معهما ثالث فسارا نحو مكة [2] فسرح الوليد الرجال فى طلبه فلم يدركوه، فرجعوا، وتشاغلوا به عن الحسين يومهم. ثم أرسل الوليد الرجال إلى الحسين [3] فقال لهم: أصبحوا ثم ترون ونرى. فكفّوا عنه، فسار من ليلته [4] نحو مكة، وأخذ معه بنيه وإخوته وبنى أخيه وجلّ أهل بيته إلّا محمد بن الحنفية فإنه قال للحسين رضى الله عنهما: «يا أخى أنت أحب الناس إلىّ وأعزّهم علىّ، ولست أدّخر النصيحة لأحد من الخلق أحقّ بها منك، تنح ببيعتك [5] عن يزيد وعن الأمصار ما استطعت، وابعث رسلك إلى الناس فادعهم إلى نفسك فإن بايعوك حمدت الله على ذلك، وإن اجتمع الناس على غيرك لم ينقص الله بذلك دينك ولا عقلك، ولا يذهب به مروءتك ولا فضلك، إنى أخاف أن تأتى مصر وجماعة من الناس فيختلفون عليك، فمنهم طائفة معك، وأخرى عليك، فيقتتلون، فتكون لأول الأسنّة، فإذا   [1] زاد الطبرى فى روايته: «بكثرة رسلك» . [2] وتجنيا الطريق الأعظم مخافة الطلب. [3] عند المساء. [4] قال الطبرى: «وهى ليلة الأحد ليومين بقيا من رجب سنة 60، وكان مخرج ابن الزبير قبله بليلة، خرج ليلة السبت» . [5] كذا جاء فى الأصل مثل الكامل، وجاء فى تاريخ الطبرى: «بتبعتك» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 380 خير هذه الأمة كلها نفسا وأبا وأما، أضيعها دما وأذلّها أهلا!» قال الحسين: فأين أذهب يا أخى؟ قال: «انزل مكة، فإن اطمأنت بك الدار فسبيل ذلك، وإن نبت بك لحقت بالرمال وشعف الجبال [1] وخرجت من بلد إلى أخرى، حتى تنظر إلى ما يصير أمر الناس، ويفرق لك الرأى، فإنك أصوب ما تكون رأيا وأخرمه عملا حين تستقبل الأمور استقبالا، ولا تكون الأمور أبدا أشكل منها حين تستدبرها!» قال: قد نصحت وأشفقت وأرجو أن يكون رأيك سديدا موفقا إن شاء الله. ثم دخل المسجد وهو يتمثل بقول يزيد بن مفرّغ: لا ذعرت السّوام فى شفق [2] الصّبح ... مغيرا ولا دعيت يزيدا يوم أعطى من المهابة [3] ضيما ... والمنايا يرصدننى أن أحيدا ثم خرج نحو مكة وهو يتلو فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [4] ، ولما دخل مكة قرأ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ [5]   [1] شعف الجبال: رءوسها. [2] كذا جاء «شفق» فى الأصل مثل الكامل لابن الأثير ج 3 ص 265 والمعروف فيه «فلق» كما جاء فى تاريخ الطبرى ج 4 ص 253 ومروج الذهب المسعودى ج 2 ص 86 والخصائص لابن جنى ج 3 ص 273 وشرح ابن أبى الحديد لنهج البلاغة ج 1 ص 302 وجاء فى ترجمة يزيد بن مفرغ من وفيات الأعيان ج 3 ص 315 «غلس» . [3] كذا جاء فى الأصل وتاريخ الطبرى، وجاء فى الكامل «من المهانة» وفى شرح ابن أبى الحديد «من المخافة» ، وفى وفيات الأعيان «على المخافة» ، وفى مروج الذهب (مخافة الموت» . [4] الآية 21 من سورة القصص. [5] الآية 22 من سورة القصص. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 381 قال: وأمّا ابن عمر فإنّ الوليد أرسل إليه ليبايع، فقال: إذا بايع الناس بايعت. فتركوه، وكانوا لا يخافونه. وقيل: إن ابن عمر كان بمكة هو وابن عبّاس، فعادا إلى المدينة، فلقيا الحسين وابن الزّبير، فقالا لهما: ما وراءكما؟ قالا: موت معاوية وبيعة يزيد، قال ابن عمر: لا تفرّقا جماعة المسلمين. وقدم هو وابن عبّاس المدينة، فلما بايع الناس بايعا. قال: ودخل ابن الزّبير مكة وعليها عمرو بن سعيد فقال: أنا عائذ بالبيت. ولم يكن يصلى بصلاتهم، ولا يفيض بإفاضتهم، وكان يقف هو وأصحابه ناحية. ذكر استعمال عمرو بن سعيد على المدينة وإرسال عمرو بن الزّبير بالجيش إلى مكة لقتال أخيه عبد الله بن الزّبير وهزيمة جيشه، ووفاة عمرو بن الزّبير تحت السّياط وفى هذه السنة عزل يزيد بن معاوية الوليد ابن عتبة عن المدينة، واستعمل عليها عمرو بن سعيد الأشدق، فقدمها فى رمضان، واستعمل على شرطته عمرو بن [1] الزّبير، لما كان بينه وبين أخيه من البغضاء، فأرسل إلى نفر من أهل المدينة فضربهم ضربا شديدا: لهواهم فى أخيه عبد الله، منهم أخوه المنذر بن الزّبير وابنه محمد بن المنذر وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، وعثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام، ومحمد بن عمار بن ياسر، وغيرهم [2] ، فضربهم الأربعين إلى الخمسين إلى الستين.   [1] سبق أن معاوية أمر لعمرو بن الزبير بمائة ألف درهم ... الخ. [2] وهناك من فر منه إلى مكة، كعبد الرحمن بن عثمان وعبد الرحمن بن عمرو بن سهل. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 382 فاستشار عمرو بن سعيد عمرو بن الزّبير فيمن يرسله إلى أخيه فقال: لا توجّه إليه رجلا أنكأ له منى، فجهز معه سبعمائة فيهم أنيس بن عمرو الأسلمى. فجاء مروان بن الحكم إلى عمرو بن سعيد فقال له: «لا تغز مكة، واتق الله ولا تحل حرمة البيت، وخلوا ابن الزّبير فقد كبر، له ستون سنة» فقال عمرو بن الزبير: والله لنغزونّه فى جوف الكعبة على رغم أنف من رغم. وأتى أبو شريح [1] الخزاعى إلى عمرو فقال له: لا تغز مكة فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إنّما أذن لى فى القتال فيها ساعة من نهار ثم عادت كحرمتها بالأمس» فقال له عمرو: نحن أعلم بحرمتها منك أيها الشيخ [2] . فسار عمرو بن الزبير وسار أنيس فى مقدمته. وقيل إن يزيد كتب إلى عمرو بن سعيد أن يرسل عمرو بن   [1] اختلف فى اسم أبى شريح، والراجح خويلد بن عمرو بن صخر بن عبد العزى العدوى الكعبى الخزاعى، وقد أسلم قبل فتح مكة، وكان معه لواء خزاعة يوم الفتح. [2] هذا الحديث رواه الطبرى فى تاريخه ج 4 ص 257 وذكره ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 266 وهو حديث صحيح رواه البخارى ومسلم فى صحيحيهما بسنديهما عن أبى شريح أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة: ائذن لى أيها الأمير أحدثك قولا قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم للغد من يوم الفتح، سمعته أذناى ووعاه قلبى وأبصرته عيناى، حين تكلم به أنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال: «إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، فلا يحل لا مرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقولوا له: إن الله قد أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لى فيها ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، وليبلغ الشاهد الغائب» فقيل لأبى شريح: ما قال لك عمرو؟ قال: «أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح. إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم ولا فارا بخربة» . انظر شرح الكرمانى لصحيح البخارى ج 2 ص 102 وج 9 ص 41 وشرح النووى لصحيح مسلم ج 9 ص 127. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 383 الزبير إلى أخيه عبد الله، فأرسله ومعه جيش نحو ألفى رجل، فنزل أنيس بذى طوى [1] ، ونزل عمرو بالأبطح [2] ، فأرسل عمرو إلى أخيه: برّ يمين يزيد- وكان قد حلف أنه لا يقبل بيعته إلّا أن يؤتى به فى جامعة [3]- تعالى حتّى أجعل فى عنقك جامعة من فضة لا ترى، ولا يضرب الناس بعضهم ببعض، فإنك فى بلد حرام. فأرسل عبد الله بن الزبير عبد الله بن صفوان نحو أنيس فيمن معه من أهل مكة ممن اجتمع إليه، فهزمه بذى طوى، وقتل أنيس. وسار مصعب بن عبد الرحمن إلى عمرو بن الزّبير، فتفرق عن عمرو أصحابه، فدخل دار ابن علقمة، فأتاه أخوه عبيدة فأجاره، ثم أتى عبد الله فقال: قد أجرت عمرا. فقال: «أتجير من حقوق الناس هذا ما لا يصلح، وما أمرتك أن تجير هذا الفاسق المستحلّ لحرمات الله!» . ثم أقاد عمرا من كل من ضربه إلا المنذر وابنه فإنهما أبيا أن يستقيدا، ومات عمرو بن الزبير تحت السياط. ولنرجع إلى أخبار الحسين رضى الله عنه. ذكر مقدم الحسين إلى مكة وما ورد عليه من كتب أهل الكوفة، وإرساله مسلم بن عقيل إليهم وما كان فى خلال ذلك قال: لما خرج الحسين من المدينة إلى مكة لقيه عبد الله بن مطيع، فقال له: جعلت فداك أين تريد؟ قال: أمّا الآن فمكة وأمّا بعد   [1] ذو طوى: موضع قرب مكة يعرف الآن بالزاهر. كما فى تاج العروس. [2] الأبطح: مسيل وادى مكة، وفى تاريخ الطبرى ج 4 ص 256 «فسار عمرو ابن الزبير حتى نزل فى داره عند الصفا» . [3] جامعة: غل، لأنها تجمع اليدين إلى العنق. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 384 فإنى أستخير الله. فقال: خار الله لك وجعلنا فداك، فإذا أتيت مكة فإيّاك أن تقرب الكوفة فإنها بلد مشئومة، بها قتل أبوك وخذل أخوك، واغتيل بطعنة كادت تأتى على نفسه، الزم فإنك سيّد العرب، لا يعدل بك أهل الحجاز أحدا ويتداعى إليك الناس من كل جانب، ولا تفارق الحرم فداك عمى وخالى، فو الله لئن هلكت لنسترقّنّ بعدك!» . فأقبل حتّى نزل مكة، وأهلها يختلفون إليه ويأتونه ومن بها من المعتمرين وأهل الآفاق، وابن الزّبير يأتى إليه ويشير عليه بالرأى، وهو أثقل خلق الله على ابن الزبير، لأن أهل الحجاز لا يبايعونه ما دام الحسين بمكة. قال: ولما بلغ أهل الكوفة موت معاوية وامتناع الحسين وابن عمرو ابن الزّبير رضى الله عنهم من البيعة، أرجفوا بيزيد، واجتمعت الشّيعة فى منزل سليمان بن صرد، فذكروا مسير الحسين رضى الله عنه إلى مكة، وكتبوا إليه عن نفر منهم: سليمان بن صرد [1] والمسيّب بن نجبة ورفاعة بن شدّاد وحبيب بن مظهر [2] : «بسم الله الرحمن الرحيم، وسلام عليك، فإنا نحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو،   [1] سليمان بن صرد أبو مطرف الخزاعى له ترجمة فى الإصابة ج 2 ص 75 وله ذكر فى جمهرة أنساب العرب ص 226. [2] كذا جاء فى ترجمته فى الإصابة ج 1 ص 373، ومن رجزه فى معركة الحسين: أنا حبيب وأبى مظهر ... فارس هيجاء وحرب تسعر أنتم أعد عدة وأكبر ... ونحن أوفى منكمو وأصبر ونحن أعلى حجة وأظهر ... حقا وأتقى منكمو وأعذر وقد اختلفت كتابة اسم أبيه فى مواضع وروده فى المخطوطتين والكتب بين «مظهر ومظاهر» ب «مطهر» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 385 أمّا بعد فالحمد لله الذى قصم عدوّك الجبار العنيد الذى انتزى على هذه الأمة فابتزّها أمرها وغصبها فيئها وتأمّر عليها بغير رضا منها، ثم قتل خيارها واستبقى شرارها، وإنه ليس علينا إمام، فأقبل، لعل الله يجعلنا بك على الحق، والنّعمان بن بشير فى قصر الإمارة لسنا نجتمع معه فى جمعة ولا عيد، ولو بلغنا إقبالك إلينا أخرجناه حتّى نلحقه بالشام إن شاء الله تعالى، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته» . وسيّروا الكتاب مع عبد الله بن سبع الهمدانى وعبد الله بن وائل [1] . ثم كتبوا إليه كتابا آخر وسيّروه بعد ليلتين، فكتب الناس معه نحوا من مائة وخمسين صحيفة ثم أرسلوا إليه رسولا ثالثا يحثّونه على المسير إليهم، ثم كتب إليه شبث بن ربعىّ وحجّار بن أبجر ويزيد بن الحارث ويزيد بن رويم وعزرة بن قيس [2] وعمرو بن الحجاج الزّبيدى ومحمد بن عمير التميمى بذلك. فلما اجتمعت كتبهم عنده كتب إليهم: «أمّا بعد فقد فهمت كلّ الذى اقتصصتم، وقد بعثت إليكم أخى وابن عمّى وثقتى من أهل بيتى مسلم بن عقيل، وأمرته أن يكتب إلىّ بحالكم وأمركم ورأيكم، فإن كتب إلىّ أنه قد اجتمع رأى ملئكم وذوى الحجى منكم على مثل ما قدمت به رسلكم، أقدم عليكم وشيكا إن شاء الله تعالى،   [1] اختلفت الكتب فى كتابة هذا الاسم. [2] كذا جاء فى تاريخ الطبرى ج 4 ص 262 وهو عزرة بن قيس بن غزية الأحمس البجلى، وفى المخطوطة والكامل «عروة بن قيس» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 386 فلعمرى ما الإمام إلا العالم [1] بالكتاب، والقائم بالقسط والدائن بدين الحق والسلام» . وقدم على الحسين رضى الله عنه من البصرة يزيد بن أبى نبيط [2] وابناه عبد الله وعبيد الله إلى مكة، فكانوا معه حتى قتل وقتلوا معه. ثم دعا الحسين مسلم بن عقيل فسيّره إلى الكوفة، وأمره بتقوى الله وكتمان أمره واللطف فإن رأى الناس مجتمعين له عجّل إليه بذلك. فسار مسلم إلى المدينة، فصلى فى مسجد النبى صلى الله عليه وسلم وسلم، وودع أهله، وسار حتى بلغ الكوفة، فنزل فى دار المختار وأقبلت الشيعة تختلف إليه، فكلما اجتمع إليه جماعة منهم قرأ عليهم كتاب الحسين، فيبكون ويعدونه النصرة والقتال، فبلغ النّعمان بن بشير أمير الكوفة ذلك، فصعد المنبر فقال: «أمّا بعد فلا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة، فإن فيهما تهلك الرجال وتسفك الدماء وتغصب الأموال» ثم قال: «إنى لا أقاتل من لم يقاتلنى، ولا أثب على من لا يثب علىّ ولا أنبّه نائمكم [3] ولا أتحرّش بكم، ولا آخذ بالقرف ولا الظّنّة ولا التهمة، ولكنكم إن أبديتم صفحتكم ونكثتم بيعتكم، وخالفتم إمامكم، فو الله الذى لا إله إلا هو لأضربنّكم بسيفى ما دام [4] قائمه فى يدى، ولو لم يكن لى منكم ناصر ولا معين. أما إنى لأرجو أن يكون من يعرف الحق منكم أكثر ممن يرد به الباطل»   [1] فى تاريخ الطبرى والكامل: «العامل» . [2] عند الطبرى وابن الأثير: «ابن نبيط» . [3] كذا جاء فى المخطوطة مثل الكامل، وفى تاريخ الطبرى: «ولا أشاتمكم» . [4] عند الطبرى وابن الأثير: «ما ثبت» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 387 فقام إليه عبد الله بن مسلم بن سعيد الحضرمى حليف بنى أمية فقال: «إنه لا يصلح ما ترى إلا الغشم، إن هذا الذى أنت عليه رأى المستضعفين» . فقال: لأن أكون من المستضعفين فى طاعة الله أحبّ إلىّ من أن أكون من الأعزّين فى معصية الله» . ثم نزل. وكان حليما ناسكا يحب العافية. وقيل: إنه لم يقل ذلك، وإنما قال: يا أهل الكوفة إن ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلى من ابن بنت بحدل. ذكر استعمال عبيد الله بن زياد على الكوفة وقدومه إليها وخبره مع هانى بن عروة قال: ولما تكلم النعمان بن بشير بما تكلم به، كتب عبد الله بن مسلم إلى يزيد يخبره بقدوم مسلم بن عقيل إلى الكوفة، ومبايعة الناس له، ويقول: «إن كان لك بالكوفة حاجة فابعث إليها رجلا قويّا ينفذ أمرك، ويعمل مثل عملك فى عدوّك، فإن النعمان رجل ضعيف أو هو يتضعّف» ثم كتب إليه بعده عمارة بن الوليد بن عقبة وعمر بن سعد بن أبى وقّاص بنحو ذلك. فلما اجتمعت الكتب عند يزيد دعا سرجون مولى معاوية، فأقرأه الكتب، واستشاره فيمن يولّيه أمر الكوفة، وكان يزيد عاتبا على عبيد الله بن زياد، فقال له سرجون: أرأيت لو نشر لك معاوية أكنت تأخذ برأيه؟ قال: نعم. فأخرج له عهد عبيد الله على الكوفة، فقال: هذا رأى معاوية ومات وقد أمر بهذا الكتاب، فأخذ يزيد برأيه، وجمع له بين الكوفة والبصرة، وكتب له بعهده الجزء: 20 ¦ الصفحة: 388 وسيّره إليه مع مسلم بن عمرو الباهلىّ والد قتيبة، وأمره بطلب مسلم بن عقيل وقتله أو نفيه. فلمّا وصل كتابه إلى عبيد الله تجهز ليسير من الغد. وكان الحسين قد كتب إلى أشراف البصرة، منهم مالك بن مسمع، والأحنف بن قيس والمنذر بن الجارود، ومسعود بن عمرو، وقيس بن الهيثم، وعمر بن عبيد الله بن معمر. يدعوهم إلى كتاب الله وسنة رسوله، فإن السنة قد ماتت، والبدعة قد أحييت، فكلهم كتم كتابه إلا المنذر بن الجارود، فإنه خشى أن يكون دسيسا من بن زياد، فأتاه بالرسول والكتاب، فضرب عنق الرسول، وخطب الناس ثم قال فى آخر كلامه: «يا أهل البصرة، إن أمير المؤمنين ولّانى الكوفة، وأنا غاد إليها بالغد، وقد استخلفت عليكم أخى عثمان بن زياد، فإياكم والخلاف والإرجاف، فو الله لئن بلغنى عن رجل منكم خلاف لأقتلنّه وعريفه ووليّه، ولآخذن الأدنى بالأقصى حتى تستقيموا ولا يكون فيكم خلاف ولا شقاق [1] إنى أنا ابن زياد، أشبهته من بين من وطىء الحصى، فلم ينتزعنى شبه خال ولا ابن عمّ!» . ثم خرج من البصرة ومعه مسلم بن عمرو الباهلىّ وشريك ابن الأعور الحارثى وحشمه وأهل بيته، وكان شريك شيعيا. وقيل: كان معه خمسمائة فتساقطوا عنه، وكان أول من سقط شريك، ورجوا أن يقف عليهم فيسبقه الحسين إلى الكوفة، فلم يقف على أحد منهم حتّى دخل الكوفه وحده، فجعل يمر بالمجالس فلا يشكّون أنه   [1] عند الطبرى وابن الأثير: «مخالف ولا مشاق» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 389 الحسين بن علىّ فيقولون: مرحبا بك يا ابن رسول الله، وهو لا يكلمهم، وخرج إليه الناس من دورهم، فساءه ما رأى منهم. وسمع به النعمان، فأغلق عليه الباب، وهو لا يشكّ أنه الحسين، وانتهى إليه عبيد الله ومعه الخلق يصيحون، فقال له النعمان: «أنشدك الله إلا تنحيت عنى، فو الله ما أنا مسلم إليك أمانتى، ومالى فى قتالك من حاجة!» فدنا منه عبيد الله وقال: «افتح لا فتحت!» فسمعها إنسان خلفه فرجع إلى الناس فقال: إنه ابن مرجانة [1] !» ففتح له النعمان فدخل، وأغلقوا الباب وتفرق الناس. وأصبح فجلس على المنبر، وقيل بل خطبهم من يومه، فقال: أما بعد، فإن أمير المؤمنين ولّانى مصركم وثغركم وفيئكم وأمرنى بإنصاف مظلومكم وإعطاء محرومكم، والإحسان إلى سامعكم ومطيعكم وبالشّدة على مريبكم وعاصيكم، وأنا متبع فيكم أمره، ومنفذ فيكم عهده، فأنا لمحسنكم كالوالد البر، ولمطيعكم كالأخ الشقيق، وسيفى وسوطى على من ترك أمرى وخالف عهدى فليبق امرؤ على نفسه» . ثم نزل. وأخذ العرفاء والناس أخذا شديدا، وقال: «اكتبوا إلى الناس الغرباء، ومن فيكم من طلبة أمير المؤمنين، ومن فيكم من الحرورية وأهل الريب الذين رأيهم الخلاف والشّقاق، فمن كتبهم لى فقد برئ، ومن لم يكتب لنا أحدا فليضمن لنا ما فى عرافته لا يخالفنا فيهم مخالف، ولا يبغى علينا منهم باغ، فمن لم يفعل فبرئت منه الذمّة، وحلال   [1] مرجانة: أم عبيد الله بن زياد، وسيأتى بعض ما يتعلق بها. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 390 لنا ماله ودمه، وأيّما عريف وجد فى عرافته أحد من بغية أمير المؤمنين لم يرفعه إلينا صلب على باب داره، وألغيت تلك العرافيه من العطاء وسيّر إلى موضع بعمان» . ثم نزل. قال: وسمع مسلم ابن عقيل بمقالة عبيد الله فخرج من دار المختار وأتى دار هانئ بن عروة المرادى فدخل بابه واستدعاه، فخرج إليه، فلما رآه كره مكانه، فقال له مسلم: أتيتك لتجيرنى وتضيفنى. فقال هانئ. «- لقد كّلفتنى شططا، ولولا دخولك دارى لأحببت أن تنصرف عنى، غير أنه يأخذنى من ذلك ذمام [1] ، ادخل!» فآواه، واختلفت الشيعة إليه فى دار هانىء. قال ومرض هانئ، فأتاه عبيد الله يعوده، فقال له عمارة بن عمير [2] السلولىّ: دعنا نقتل هذا الطاغية، فقد أمكن الله منه، فقال هانئ ما أحب أن يقتل فى دارى، وجاء ابن زياد فجلس عنده ثم خرج، فما مكث إلا جمعة حتى مرض شريك بن الأعور، وكان قد نزل على هانىء، وكان كريما على ابن زياد وعلى غيره من الأمراء، وكان شديد التشيع، فأرسل إليه ابن زياد: إنى رائح إليك العشية. فقال لمسلم ابن عقيل: «إن هذا الفاجر عائدى العشية فإذا جلس فاقتله ثم اقصد القصر ليس أحد يحول بينك وبينه، فإن بريت من وجعى سرت إلى من بالبصرة فكفيتك أمرهم» . فلمّا كان من العشىّ أتاه عبيد الله فقام مسلم بن عقيل ليدخل، فقال له شريك لا يفوتنّك إذا جلس. فقال هانىء بن عروة: إنى لا أحبّ أن يقتل فى دارى. وجاء عبيد   [1] الذمام: العهد. [2] فى تاريخ بن جرير: «عبيد» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 391 الله فجلس عند شريك وأطال، فلما رأى شريك أن مسلما لا يخرج خشى أن يفوته، فأخذ يقول: «ما تنظرون بسلمى أن تحيّوها! اسقونيها [1] وإن كانت فيها نفسى!» يقول ذلك مرّتين أو ثلاثا، فقال عبيد الله: «ما شأنه؟ ترونه يخلط!» فقال هانئ: «نعم، ما زال هذا دأبه قبيل الصبح حتّى ساعته هذه» . فانصرف. وخرج مسلم، فقال له شريك: ما منعك من قتله؟ فقال: «أمران: أحدهما كراهية هانئ أن يقتل فى منزله، والثانى حديث حدّثه علىّ [2] رضى الله عنه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم: «الإيمان قيد [3] الفتك فلا يفتك مؤمن» . فقال هانئ: لو قتلته لقتلت فاسقا فاجرا كافرا غادرا!. ومات شريك بعد ذلك بثلاث، فصلّى عليه عبيد الله، فلمّا علم أنه كان يحرّض مسلما على قتله قال: والله لا أصلّى على جنازة عراقى أبدا!. قال: وكان عبيد الله بن زياد قد أعطى مولى [4] له ثلاثة آلاف درهم وأمره أن يتلطّف فى الدخول على مسلم بن عقيل وأصحابه،   [1] كذا جاء فى لأصل مثل الكامل، وفى تاريخ الطبرى ج 4 ص 271 «اسقنيها» . [2] ورواه أبو داود وأحمد وغيرهما عن أبى هريرة والزبير ومعاوية. [3] كذا جاء ضبطه فى بعض كتب الحديث، وضبط فى مدة (ف ت ك) من نسخ النهاية لابن الأثير «قيد» بتشديد الياء مفتوحة، وجاء فى مادة (ق ى د) من النهاية: «قيد الإيمان الفتك، أى أن الإيمان يمنع عن الفتك كما يمنع القيد عن التصرف، فكأنه جعل الفتك مقيدا ومنه قولهم فى صفة الفرس: هو قيد الأوابد» ، وكذلك جاء فى لسان العرب. ويرى بعض العلماء أن الحديث «الإيمان قيد الفتك» أحسن من قول امرىء القيس «قيد الأوابد» انظر فيض القدير ج 3 ص 186، والفتك: أن يقتل الرجل جهارا آمنا غافلا. [4] اسمه «عقيل» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 392 [وقال] [1] : أعطهم هذا المال وأعلمهم أنك منهم واعلم أخبارهم. ففعل، وأتى مسلم بن عوسجة الأسدىّ [2] فقال له: «يا عبد الله، إنى امرؤ من أهل الشام، أنعم الله علىّ بحبّ أهل البيت، وهذه ثلاثة آلاف درهم أردت بها لقاء رجل منهم بلغنى أنه قدم الكوفة يبايع لابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سمعت نفرا يقولون: إنك تعرف أمر هذا البيت، وإنى أتيتك ليقبض المال وتدخلنى على صاحبك أبايعه، وإن شئت أخذت بيعتى له قبل لقائه» . فقال: «لقد سرّنى لقاؤك إيّاى لتنال الذى تحبّ، وينصر الله بك أهل [بيت نبيه] [3] وقد ساءنى معرفة الناس هذا الأمر من قبل أن يتم، مخافة هذا الطاغية وسطوته» فأخذ بيعته ولمواثيق المعظمة ليناصحنّ وليكتمنّ. واختلف إليه أيّاما، حتى أدخله على مسلم بن عقيل، فأخذ بيعته وقبض ماله، وذلك بعد موت شريك، وجعل يختلف إليهم ويعلم أسرارهم وينقلها إلى ابن زياد. وكان هانئ قد انقطع عن عبيد الله بعذر المرض، فدعا عبيد الله محمد بن الأشعث وابن أسماء [4] بن خارجة، وعمر بن الحجاج الزّبيدىّ، فسألهم عن هانئ وانقطاعه، فقالوا إنه مريض. قال:   [1] ثبتت هذه الكلمة فى النسخة (ن) ، وسقطت من النسخة (ك) . [2] زاد الطبرى وابن الأثير «بالمسجد» . [3] ثبتت هذه الزيادة فى النسخة (ن) ، وسقطت من (ك) . [4] ابن أسماء هو حسان بن أسماء بن خارجة، كما يأتى قريبا، وفى تاريخ الطبرى والكامل: «وأسماء» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 393 بلغنى أنه يجلس على باب داره وقد برئ، فأتوه فمروه لا يدع ما عليه فى ذلك [من الحق] [1] . فأتوه فقالوا له: «الأمير قد سأل عنك، وقال: لو أعلم أنه شاك لعدته، وقد بلغه أنك تجلس على باب دارك، وقد استبطأك، والجفا لا يحتمله السلطان، أقسمنا عليك لمّا ركبت معنا» . ففعل فلما دنا من القصر أحسّت نفسه بالشر، فقال لحسّان بن أسماء ابن خارجة: يابن أخى إنى لهذا الرجل لخائف، فما ترى؟ فقال ما أتخوف عليك شيئا، فلا تجعل على نفسك سبيلا، ولا يعلم أسماء [2] مما كان شيئا. قال: فدخل القوم على ابن زياد، فلما رأى هانىء بن عروة قال لشريح القاضى: أتتك بحائن رجلاه [3] . فلما دنا منه قال عبيد الله [4] : اريد حياته [5] ويريد قتلى ... عذيرك من خليلك من مراد   [1] الزيادة من تاريخ الطبرى ج 4 ص 272. [2] كذا جاء هنا مثل الكامل وتاريخ الطبرى، وانظر ما سبق قريبا. [3] «أتتك بحائن رجلاه» مثل عربى قديم، قيل: قائله عبيد بن الأبرص الأسدى إذ مر بالنعمان بن المنذر فى يوم بؤسه فقال له النعمان: ما جاء بك يا عبيد؟ قال: أتتك بحائن رجلاه. وقيل: قائله الحارث ابن جبلة، إذ هجاه الحارث بن عيف العبدى ثم وقع فى أسره. انظر الفاخر ص 250- 251 ومجمع الأمثال ج 1 ص 23 وقال صاحب لسان العرب: حان الرحل: هلك، وفى المثل «أتتك بحائن رجلاه» والأولى أن يفسر «الحائن بالذى قدر حينه، أى هلاكه، كما ذكر الميدانى فى شرح المثل «لا يملك الحائن حينه» ج 2 ص 177. [4] قال عبيد الله بن زياد هذا البيت متمثلا به، وقد تمثل به على بن أبى طالب من قبل، والبيت من قصيدة لعمرو بن معد يكرب وقد سبق بيان ذلك. [5] فى تاريخ الطبرى ج 4 ص 272 «حباءه» ، وفى الكامل ج 3 ص 270 «حياته» وانظر ما سبق. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 394 فقال له هانئ وما ذاك؟ فذكر له خبر مسلم بن عقيل، وأنه فى داره، فأنكر ذلك، وطال بينهما النزاع، فاستدعى عبيد الله مولاه الذى كان يأتيهم، فجاء فوقف بين يديه، فقال: أتعرف هذا فقال نعم. وعلم هانئ أنه كان عينا عليهم، فسقط فى يده ساعة، ثم راجعته نفسه فقال: «اسمع منى وصدقنى، فو الله لا أكذبك، والله ما دعوته ولا علمت بشىء من أمره حتى رأيته [جالسا] [1] على بابى يسألنى النزول علىّ، فاستحييت من ردّه ودخلنى من ذلك ذمام، فأدخلته دارى وضفته، وقد كان من أمره الذى بلغك، فإن شئت أعطيتك الآن موثقا تطمئن إليه، ورهينة تكون فى يدك حتّى أنطلق وأخرجه من دارى وأعود إليك» فقال: لا والله لا تفارقنى أبدا حتّى تأتينى به. قال: لا آتيك بضيفى لتقتله أبدا، فقال ابن زياد: والله لتأتينّى به أو لأضربنّ عنقك. قال إذا والله تكثر البارقة [2] حول دارك. فقال: أبالبارقة تخوفنى؟!. وقيل إن هانئا لما رأى ذلك اللعين قال: أيها الأمير إنه قد كان الذى بلغك، ولم أضيع يدك عندى، فأنت آمن وأهلك فسر حيث شئت، فأطرق عبيد الله عند ذلك ومهران [3] قائم على رأسه، فقال وا ذلاه! هذا الحائك يؤمنك فى سلطانك! فقال: خذه، فأخذ مهران ضفيرتى هانئ، وأخذ عبيد الله القضيب ولم يزل يضرب به أنفه وجبينه وخديه حتى كسر أنفه، وسيّل الدّماء على ثيابه، ونثر لحم   [1] ثبتت هذه الكلمة فى النسخة (ن) ، ولم تثبت فى النسخة (ك) . [2] البارقة: السيوف. [3] مهران الترجمان كان له تأثير فى عبيد الله بن زياد. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 395 خديه وجبينه على لحيته حتى كسر القضيب، وضرب هانئ يده إلى قائم سيف شرطى وجبذه فمنع منه، فقال عبيد الله: أحرورى [1] ! أحللت بنفسك وحل لنا قتلك، ثم أمر به فألقى فى بيت وأغلق، فقام إليه أسماء بن خارجة وقال: «يا غادر أرسله؛ أمرتنا أن نجيئك بالرجل فلما أتيناك به هشمت وجهه، وسيّلت دمه، وزعمت أنك تقتله» . فأمر به عبيد الله فلهز وتعتع [2] ثم ترك فجلس [3] . وأما ابن الأشعث فقال: رضينا بما رأى الأمير، لنا كان أو علينا. وبلغ عمرو بن الحجاج أن هانئا قد قتل، فأقبل [فى [4]] مذحج حتّى أحاطوا بالقصر، ونادى: «أنا عمرو بن الحجاج، هذه فرسان مذحج ووجوهها، لم نخلع طاعة، ولم نفارق جماعة. فقال ابن زياد لشريح القاضى: «ادخل على صاحبهم، فانظر إليه، ثم اخرج إليهم فأعلمهم أنه حى [لم يقتل وأنك قد رأيته [5]] فدخل عليه، وخرج إليهم فقال. قد نظرت إلى صاحبكم وأنه حىّ لم يقتله، فقالوا: إذ لم يقتله فالحمد لله، ثم انصرفوا.   [1] نص لفظ عبيد الله «أهرورى» بالهاء بدلا من الحاء، كما ذكره الجاحظ فى البيان والتبين ج 1 ص 72 وذكر فى مواضع من هذا الكتاب وابن قتيبة فى المعارف أن عبيد الله كان خطيبا على لكنة كانت فيه، لأنه نشأ فى الأساورة- وهم قوم من العجم نزلوا البصرة قديما- مع أمه مرجانة، وكان زياد قد زوجها من شيرويه الأسوارى ودفع إليها عبيد الله. [2] اللهز: الدفع والضرب. والتعتعة: التحريك بعنف. [3] كذا جاء فى لأصل موافقا لما فى الكامل، وجاء فى تاريخ الطبرى: «فحبس» . ومما يذكر أن عبد الله بن زياد تزوج هند بنت أسماء بن خارجة كما فى الأغانى ج 18 ص 128. [4] ثبتت هذه الكلمة فى النسخة (ن) ، وسقطت من النسخة (ك) . [5] الزيادة من تاريخ الطبرى ج 4 ص 274. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 396 ذكر ظهور مسلم بن عقيل واجتماع الناس عليه، ومحاصرته عبيد الله بن زياد بالقصر وكيف خذله من اجتمع إليه وتفرقوا عنه وخبر مقتله ومقتل هانئ بن عروة قال [1] : ولما أتى الخبر مسلم بن عقيل خرج من دار هانئ، ونادى فى أصحابه: «يا منصور أمت» [2] وكان قد بايعه ثمانية عشر ألفا، وحوله فى الدور أربعة آلاف، فاجتمع إليه ناس كثير، فعقد لعبد الله بن عزير الكندىّ على ربع كندة، وقال: سر أمامى. وعقد لمسلم بن عوسجة على ربع مذحج وأسد، وعقد لأبى ثمامة الصائدىّ على ربع تميم وهمدان، وعقد لعباس بن جعدة الجدلىّ على ربع المدينة، وأقبل نحو القصر. فلما بلغ ابن زياد إقباله تحرز بالقصر وأغلق الباب، وأحاط مسلم بالقصر، وامتلأ المسجد والسوق بالناس، وما زالوا يجتمعون حتّى المساء، وضاق بعبد الله أمره، وليس معه فى القصر الإثلاثون رجلا من الشّرط، وعشرون من الأشراف وأهل بيته ومواليه، وأقبل أشراف الناس يأتون [ابن زياد] [3] من قبل الباب الذى يلى دار الروميين، والناس يسبون ابن زياد وأباه. فدعا ابن زياد كثير بن شهاب الحارثى، وأمره أن يخرج فيمن أطاعه من مذحج فيخذّل الناس عن ابن عقيل ويخوفهم، وأمر محمد بن الأشعث أن يخرج فيمن أطاعه من كنده وحضرموت فيرفع راية   [1] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 271. [2] كان هذا شعارهم. [3] الزيادة من تاريخ الطبرى ج 4 ص 276. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 397 الأمان لمن جاءه من الناس، وقال مثل ذلك للقعقاع بن شور الذّهلى، وشبث بن ربعى التميمى، وحجّار بن أبحر العجلى، وشمر بن ذى جوشن الضبابىّ [1] وترك وجوه الناس عنده استئناسا بهم، لقلة من معه. وخرج أولئك النفر على الناس من القصر، فمنوا أهل الطاعة، وخوّفوا أهل المعصية، فلما سمع الناس مقالة أشرافهم تفرقوا، حتّى إن المرأة لتأتى ابنها وأخاها، فتقول: «انصرف، الناس يكفونك» ، ويفعل الرجل مثل ذلك. فما زالوا يتفرقون حتى بقى مسلم بن عقيل فى المسجد فى ثلاثين رحلا [2] ، فلما رأى ذلك خرج نحو أبواب كندة، فلما وصل إلى الباب لم يبق معه أحد، فمضى فى أزقّة الكوفة لا بدرى أين يذهب. فانتهى إلى باب امرأة من كندة يقال لها طوعة (أم ولد كانت للأشعث، فأعتقها، فتزوجها أسيد الحضرمىّ، فولدت له بلالا وكان بلال قد خرج مع الناس، وهى تنتظره) فسلّم عليها، وطلب منها ماء فسقته، فجلس، فقالت: يا عبد الله ألم تشرب؟! قال: بلى؛ فقالت، فاذهب إلى أهلك؛ فسكت، فكررت ذلك عليه ثلاثا فلم يبرح؛ فقالت: سبحان الله! إنى لا أحلّ لك الجلوس على بابى. فقال: ليس لى فى هذا المصر منزل ولا عشيرة، فهل لك فى أجر معروف، ولعلّى أكافئك به بعد اليوم. قالت وما ذاك؟ قال:   [1] كذا جاء فى الأصل مثل الكامل، وجاء فى تاريخ الطبرى: «العامرى» . [2] هم الذين صلوا معه لمغرب. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 398 أنا مسلم بن عقيل، كذبنى هؤلاء القوم وغرّونى. قالت: ادخل؛ فأدخلته بيتا فى دارها [غير البيت الذى تكون فيه] [1] وعرضت عليه العشاء فلم يتعشّ، وجاء ابنها فرآها تكثر الدخول فى ذلك البيت، فسألها، فلم تخبره، فألحّ عليها، فأخبرته، واستكتمته وأخذت عليه الأيمان بذلك. قال [2] : وأمّا ابن زياد، فلما سكنت [3] الأصوات قال لأصحابه: انظروا هل ترون منهم أحدا؟ فنظروا فلم يروا أحدا، فنزل إلى المسجد قبل العتمة [4] ، وأجلس أصحابه حول المنبر، وأمر فنودى: «برئت الذمة من رجل من الشّرط والعرفاء والمناكب والمقاتلة صلّى العتمة [5] إلا فى المسجد، فامتلأ المسجد، فصلّى بالناس، ثم قام فحمد ثم قال: «أمّا بعد، فإن ابن عقيل السّفيه الجاهل قد أتى ما رأيتم من الخلاف والشّقاق، فبرئت الذمّة من رجل وجدناه فى داره، ومن أتانا به فله ديته» وأمرهم بالطاعة ولزومها، وأمر الحصين ابن تميم أن يمسك أبواب السكك، ثم يفتش الدّور. وأصبح ابن زياد فجلس، فأتى بلال إلى عبد الرحمن بن محمد ابن الأشعث وأخبره بمكان ابن عقيل، فأتى عبد الرحمن أباه وهو عند ابن زياد فسارّه بذلك، فأخبر محمد ابن الأشعث ابن زياد، فقال له: قم فأتنى به الساعة؛ وبعث معه عمرو بن عبيد الله بن عباس   [1] الزيادة من تاريخ الطبرى ج 4 ص 278. [2] ابن الأثير فى الكامل ج 4 ص 272. [3] كذا جاء بالنون فى النسخة (ك) ، وجاء «سكتت» بالتاءين فى النسخة (ن) . [4] عتمة الليل: ظمته. [5] كانت الأعراب يسمون صلاة العشاء «صلاة العتمة» تسمية بالوقت. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 399 السّلمى فى سبعين من قيس، فأتوا الدار، فخرج ابن عقيل إليهم بسيفه حتّى أخرجهم من الدار، ثم عادوا إليه فحمل عليهم فأخرجهم مرارا، وضربه بكر بن حمران الأحمرىّ فقطع شفته العليا وسقط سنّتاه، وضربه مسلم على رأسه وثنّى بأخرى على حبل العاتق فكادت تطلع على جوفه، فلما رأوا ذلك أشرفوا على سطح البيت، وجعلوا يرمونه بالحجارة ويلهبون النار فى القصب ويلقونها عليه، فلما رأى ذلك خرج عليهم بسيفه فقاتلهم فى السكة، فقال له محمد بن الأشعث. لك الأمان فلا تقتل نفسك؛ فأقبل يقاتلهم ويقول: أقسمت لا أقتل إلّا حرّا ... وإن رأيت الموت شيئا نكرا ويخلط البارد سخنا مرا ... رد شعاع النفس مستقرّا [1] كلّ امرىء يوما ملاق شرّا ... أخاف أن أكذب أو أغرّا فقال له محمد بن الأشعث: إنك لا تكذب ولا تخدع، القوم بنو عمك وليسوا بقاتليك ولا ضاربيك، وكان قد أثخن بالحجارة، وعجز عن القتال، وأسند ظهره إلى حائط تلك الدار، فأمّنه ابن الأشعث والناس غير عمرو بن عبيد الله السّلمى فإنه قال: لا ناقتى فيها ولا جملى [2] . وأتى ببغلة فحمل عليها، وانتزعوا سيفه، فكأنه أيس من نفسه فدمعت عيناه وقال: هذا أول الغدر. قال محمد: أرجو ألا يكون عليك بأس. قال: وما هو إلا الرجاء! أين أمانكم! ثم بكى، فقال له عمرو بن عبيد الله:   [1] كذا جاء فى الأصل، وجاء عند الطبرى وابن الأثير: «رد شعاع الشمس فاستقرا» . [2] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى النسخة (ن) : «لا ناقة له فى هذا ولا جمل» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 400 من يطلب الذى تطلب إذا نزل به مثل الذى نزل بك لم يبك، فقال: ما أبكى لنفسى، ولكن أبكى لأهلى المنقلبين إليكم: أبكى للحسين وآل الحسين. ثم قال لمحمد بن الأشعث: «إنى أراك تعجز [1] عن أمانى، فهل تستطيع أن تبعث من عندك رجلا يخبر الحسين بحالى، ويقول له عنى: ليرجع بأهل بيته ولا يغره أهل الكوفة، فإنهم أصحاب أبيك الذى كان يتمنى فراقهم بالموت أو القتل؟» فقال ابن الأشعث: والله لأفعلنّ. وفعل [2] وأبى الحسين الرجوع. قال: وجاء محمد بمسلم إلى القصر فأجلسه على بابه [3] ودخل هو إلى ابن زياد فأخبره بأمانه، فقال له: ما أنت والأمان! ما أرسلناك لتؤمنه، إنما أرسلناك لتأتينا به. قال: ولما جلس مسلم على باب القصر رأى جرّة فيها ماء بارد فقال اسقونى من هذا الماء، فقال له مسلم بن عمرو الباهلى: أتراها ما أبردها! والله لا تذوق منها قطرة حتّى تذوق الحميم فى نار جهنّم! فقال له ابن عقيل: من أنت؟ قال: «أنا من عرف الحقّ إذ أنكرته، ونصح الأمة وإمامه إذ غششته، وسمع وأطاع إذ عصيته، أنا مسلم بن عمرو. فقال له ابن عقيل: لأمك الثّكل،   [1] عند الطبرى وابن الأثير: «ستعجز» . [2] دعا محمد بن الأشعث إياس بن العثل الطائى، من بنى مالك بن عمرو بن ثمامة، وكان شاعرا، وكان لمحمد زوارا، فقال له محمد: الق حسينا فأبلغه هذا الكتاب، وكتب فى الكتاب ما أمره به مسلم بن عقيل، وأعطى لرسوله إياس زاده وجهازه وراحلته ومتعة لعياله، فخرج الرسول ومضى أربع ليال حتى استقبل الحسين بموضع يسمى «زبالة» ، فأخبره الخبر وبلغه الرسالة فقال له الحسين: كل ما حم نازل وعند الله نحتسب أنفسنا وفساد أمتنا.. وانظر ما سيأتى [3] وكان على باب القصر أناس ينتظرون الإذن، منهم مسلم بن عمرو وعمارة بن عقبة ابن أبى معيط وعمرو بن حريث وكثير بن شهاب. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 401 ما أجفاك وأفظّك وأقسى قلبك وأغلظك! أنت يا ابن باهلة أولى بالحميم والخلود فى نار جهنم منى!» قال: فدعا عمارة بن عقبة بماء بارد فصبّ له فى قدح، فأخذ يشرب فامتلأ القدح دما: فعل ذلك ثلاثا، ثم قال: لو كان من الرّزق المقسوم لشربته. وأدخل على ابن زياد، فلم يسلم عليه بالإمرة، فقال له الحرسى: ألا تسلّم على الأمير. فقال: إن كان يريد قتلى فما سلامى عليه! وإن كان لا يريده فليكثرنّ تسليمى عليه. فقال ابن زياد: لعمرى لتقتلنّ. قال: فدعنى أوصى إلى بعض قومى. قال: افعل. فقال لعمر بن سعد بن أبى وقّاص: «إن بينى وبينك قرابة، ولى إليك حاجة وهى سر» . فلم يمكنه من ذكرها، فقال له ابن زياد: لا تمتنع من حاجة ابن عمك. فقام معه، فقال: «إن علىّ بالكوفة دينا استدنته [1] أنفقته: سبعمائة درهم، فاقضها عنّى، وانظر جثّتى فاستوهبها فوارها، وابعث إلى الحسين فاردده» . فقال عمر لابن زياد: أتدرى ما سارّنى؟ فقال: أكثرتم على ابن عمك؛ فقال: الأمر أكبر من هذا. قال: اكتم على ابن عمك: قال الأمر أكبر من هذا، وأخبره بما قال. فقال ابن زياد لا يخونك الأمين، ولكن قد يؤتمن الخائن. أمّا مالك فهو لك تصنع به ما شئت، وأمّا حسين فإن لم يردنا لم نرده: وإن أرادنا لم نكفّ عنه، وأمّا جشّته فإنا لا نشفّعك فيها» وقيل: إنه قال: وأمّا جثته فإذا قتلناه لا نبالى ما صنع بها. ثم قال: يا ابن عقيل، أتيت الناس وأمرهم جميع وكلمتهم واحدة   [1] فى تاريخ الطبرى ج 4 ص 282: «استدنته منذ قدمت الكوفة» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 402 لتشتيت بينهم، وتفريق كلمتهم. قال: «كلا ولكن أهل هذا المصر زعموا أنّ أباك قتل خيارهم، وسفك دماءهم وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر فأتيناهم لنأمر بالعدل، وندعو إلى حكم الكتاب. فقال وما أنت وذاك؟ ثم كانت بينهما مقاولة قال له ابن زياد فى آخرتها: قتلنى الله إن لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد فى الإسلام، فقال: «أما إنك أحقّ من أحدث فى الإسلام ما ليس فيه، أما إنك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة وخبث السّيرة ولؤم الغلبة لأحد من الناس أحقّ بها منك!» فشتمه ابن زياد وشتم حسينا وعليّا وعقيلا ولم يكلّمه مسلم. ثم أمر به، فأصعد فوق القصر وهو يستغفر الله تعالى ويسبّح، وأشرف به على موضع الحدادين [1] فضربت عنقه، وكان الذى قتله بكير بن حمران، ثم أتبع رأسه جسده. قال وقام محمد بن الأشعث فكلّم ابن زياد فى هانئ بن عروة، وقال قد عرفت منزلته من المصر وبيته، وقد علم قومه أنى أنا وصاحبى. سقناه إليك، فأنشدك الله لمّا وهبته، فإنى أكره عداوة قومه!» فوعد أن يفعل، ثم بدا له فأمر به حين قتل مسلم فأخرج إلى السوق فضربت عنقه. وبعث عبيد الله بن زياد برأسيهما إلى يزيد، فكتب إليه يزيد يشكره، ويقول له: «قد بلغنى أن الحسين بن علىّ توجه نحو العراق، فضع المراصد والمسالح واحترس، واحبس على التّهمة، وخذ بالظّنّة، غير ألّا تقتل إلا من قاتلك» .   [1] جاء فى تاريخ الطبرى: «أشرف به على موضع الجزارين اليوم» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 403 قال: وكان مخرج [مسلم بن [1]] عقيل بالكوفة [2] لثمان ليال مضين من ذى الحجّة سنة ستين. وقيل: لتسع [3] مضين منه. وكان فيمن خرج معه المختار [4] بن أبى عبيد، وعبد الله [5] بن الحارث بن نوفل، وطلبهما ابن زياد وحبسهما. وكان فيمن قاتل مسلما محمد بن الأشعث، وشبث بن ربعىّ- وهو أحد من كتب إلى الحسين- والقعقاع بن شور، وجعل شبث يقول: انتظروا بهم إلى [6] الليل يتفرقوا. فقال له القعقاع: إنك قد سددت عليهم وجه مهربهم، فافرج لهم يتفرقوا. وحج بالناس فى هذه السنة عمرو بن سعيد الأشدق، وهو عامل مكة والمدينة. وفيها مات أبو أسيد الساعدى [7] ، واسمه مالك ابن ربيعة، وهو آخر من مات من البدريّين [8] ، وقيل: مات سنة خمس وستين. ومات حكيم بن حزام [9] وله مائة وعشرون سنة، ستون   [1] الزيادة من تاريخ الطبرى. [2] يوم الثلاثاء. [3] يوم الأربعاء. [4] خرج المختار براية خضراء. [5] خرج عبد الله براية حمراء وعليه ثياب حمر. [6] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى النسخة (ن) : «انتظروا بهم الليل» . [7] ينتهى نسبه إلى ساعدة بن كعب بن الخزرج، وكان مشهورا بكنيته. [8] شهد بدرا وأحدا وما بعدهما، وكانت معه راية بنى ساعدة يوم الفتح. [9] حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصى هو بن أخى خديجة بنت خويلد زوجة النبى صلى الله عليه وسلم، وكان حكيم من سادات قريش، وكان صديق النبى قبل المبعث، وكان يوده بعد المبعثة، ولكنه تأخر إسلامه حتى أسلم عام الفتح، وقد جاء الإسلام وفى يد حكيم الرفادة. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 404 فى الجاهلية وستون فى الإسلام. ومات جماعة ممن لهم صحبة فى هذه السنة. سنة أحدى وستين ذكر مسير [1] الحسين بن على رضى الله عنهما وخبر من نهاه عن المسير كان مقتله بالطّف على شاطئ الفرات من أرض كربلاء، وذلك فى يوم الجمعة لعشر خلون من المحرّم من هذه السنة. ولنبدأ بخبر مسيره من مكة شرّفها الله تعالى، وسبب مسيره ومن أشار عليه بالمقام بمكة وترك المسير إلى الكوفة، ثم نذكر ما كان من خبره فى مسيره إلى أن قتل رضى الله عنه، فنقول: كان مسيره من مكّة لقصد الكوفة يوم التّروية، وكان سبب مسيره إلى الكوفة ما ورد عليه من كتب أهلها كما تقدم، ثم أكّد ذلك عنده وحمله عليه وقوّى عزمه ورود كتاب مسلم بن عقيل بن أبى طالب عليه يخبره أنه بايعه بالكوفة ثمانية عشر ألفا، ويستحثّه على المسير إليها، وكان هذا من مسلم فى ابتداء أمره [3] .   [1] ذكر ابن كثير فى البداية والنهاية ج 8 ص 146 ممن توفى فى هذه السنة صفوان بن المعطل الصحابى، وأبو مسلم الخولانى عبد بن ثوب ببلاد اليمن وهو الذى دعاه الأسود العنسى إلى أن يشهد أنه رسول الله فقال: لا أسمع أشهد أن محمدا رسول الله، ويقال: إنه توفى فيها النعمان ابن بشير والأظهر أنه مات بعد ذلك ... وذكر بن العماد فى شذرات الذهب ج 1 ص 65 ممن توفى فى هذه السنة عمرة بن جندب الفزارى وعبد الله بن مغفل المزنى وبلال بن الحارث المزنى. [2] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وجاء فى النسخة (ك) : «مقدم» . [3] كان مسلم بن عقيل حيث ذهب فى أول أمره بالكوفة إلى دار هانىء بن عروة وبايعه ثمانية عشر ألفا أرسل إلى الحسين مع عابس بن أبى شهيب الشاكرى كتابا كتب فيه: «أما بعد إن الرائد لا يكذب أهله وقد بايعنى من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفا، فعجل الإقبال حين يأتيك كتابى، فإن الناس كلهم معك، ليس لهم فى آل معاوية رأى ولا هوى، والسلام» ، وانظر ما سيأتى. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 405 قال [1] : ولما عزم الحسين رضى الله عنه على المسير إلى الكوفة أتاه عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فقال له: «إنى أتيتك لحاجة أريد ذكرها نصيحة لك، فإن كنت ترى أنك تستنصحنى قلتها وأدّيت ما على من الحق فيها، وإن ظننت أنك لا تستنصحنى كففت عمّا أريد!» فقال له: قل فو الله ما أستغشك ولا أظنك بشىء من [2] الهوى. قال: «قد بلغنى أنك تريد العراق، وإنى مشفق عليك أنك تأتى بلدا فيه عمّاله وأمراؤه ومعهم بيوت الأموال، والناس عبيد الدينار والدرهم، فلا آمن عليك أن يقاتلك من وعدك نصره ومن أنت أحب إليه ممّن يقاتلك معه!» فقال له الحسين رضى الله عنه: جزاك الله خيرا يا ابن عمّ، فقد علمت أنك مشيت بنصح، وتكلمت بعقل، ومهما يقض من أمر يكن، أخذت برأيك أو تركته، فأنت عندى أحمد مشير، وأنصح ناصح. وأتاه عبد الله بن عباس فقال له: قد أرجف الناس أنك سائر إلى العراق، فبيّن لى ما أنت صانع فقال له: قد أجمعت السير فى أحد يومىّ هذين إن شاء الله تعالى. فقال له ابن عباس: «فإنى أعيذك بالله من ذلك؛ خبّرنى رحمك الله، أتسير إلى قوم قتلوا أميرهم، وضبطوا بلادهم ونفوا عدوّهم؟ فإن كانوا قد فعلوا فسر إليهم، وإن كانوا إنما دعوك إليهم وأميرهم عليهم، قاهر لهم، وعمّاله تجبى بلادهم، فإنما دعوك إلى الحرب، ولا آمن عليك أن يغرّوك ويكذبوك ويخالفوك ويخذلوك ويستنفروا إليك، فيكونوا   [1] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 275. [2] فى تاريخ الطبرى ج 4 ص 287: «ما أظنك بسيىء الرأى ولا هوى القبيح من الفعل» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 406 أشدّ الناس عليك!» فقال الحسين: فإنى أستخير الله وأنظر ما يكون. فخرج ابن عباس. وأتاه عبد الله بن الزّبير فحدّثه ساعة، ثم قال: «ما أدرى ما تركنا هؤلاء القوم، وكفّنا عنهم، ونحن أبناء المهاجرين، وولاة هذا الأمر دونهم؛ خبّرنى ما تريد أن تصنع؟!» فقال الحسين: «لقد حدّثت نفسى بإتيانى الكوفة، ولقد كتب إلىّ شيعتى بها، وأشراف الناس وأستخير الله» . فقال ابن الزبير: أما إنه لو كان لى بها مثل شيعتك ما عدلت عنها. ثم خشى أن يتهمه، فقال أما إنك لو أقمت بالحجاز ثم أردت هذا الأمر هاهنا ما خالفنا عليك وساعدناك وبايعناك ونصحناك. فقال له الحسين رضى الله عنه: «إن ابى حدثنى أن لها كبشا به تستحل حرمتها، فما أحبّ أن أكون [1] ذلك الكبش!» قال: فأقم إن شئت وتولينى أنا الأمر فتطاع ولا تعصى، قال: ولا أريد هذا الأمر أيضا. ثم إنهما أخفيا كلامهما، فالتفت الحسين إلى من هناك وقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا لا قال: فإنه يقول قم فى هذا المسجد أجمع لك الناس، ثم قال الحسين: «والله لأن أقتل خارجا منها بشبر أحبّ إلىّ من أن أقتل فيها، ولأن أقتل خارجا منها بشبرين أحبّ إلىّ من أن أقتل خارجا منها بشبر، ويم الله، لو كنت فى جحر هامة من هذه الهوام لاستخرجونى حتى يقضوا فىّ حاجتهم، والله ليعتدنّ [على [2]] كما اعتدت اليهود فى السّبت!» فقام ابن الزّبير وخرج من عنده.   [1] جاء عند الطبرى وابن الأثير: «أكون أنا» . [2] الزيادة من الطبرى وابن الأثير. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 407 فلما كان من العشىّ أو من الغد أتاه ابن عبّاس فقال: «يا ابن عم، إنى أتصبر ولا أصبر، إنى أتخوّف عليك فى هذا الوجه الهلاك والاستئصال، إن أهل العراق قوم غدر [1] فلا تنفر إليهم [2] ، أقم بهذا البلد فإنك سيد أهل الحجاز، فإن كان أهل العراق يريدونك كما زعموا فاكتب إليهم لينفوا عاملهم وعدوّهم، ثم قدم عليهم، فإن أبيت إلّا أن تخرج فسر إلى اليمن فإن بها حصونا وشعابا، وهى أرض عريضة طويلة، ولأبيك بها شيعة، وأنت على الناس فى [3] عزلة فتكتب إلى الناس وترسل وتبثّ دعاتك، فإنى أرجو أن يأتيك عند ذلك الذى تحبّ فى عافية!» فقال له الحسين: «يا ابن عم، إنى والله لأعلم أنك ناصح مشفق، وقد أزمعت وأجمعت المسير!» فقال ابن عباس: «فإن كنت سائرا فلا تسر بنسائك وصبيانك، فإنى لخائف أن تقتل كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه!» ثم قال له ابن عباس: «لقد أقررت عين ابن الزّبير بالخروج من الحجاز، وهو اليوم لا ينظر إليه أحد معك، والله لو أعلم أنى إذا أخذت بشعرك وناصيتك حتّى يجتمع علينا الناس أطعتنى فأقمت لفعلت ذلك!» . ثم خرج من عنده. فمرّ بابن الزّبير فقال: قرّت عينك يا ابن الزبير، ثم قال [4] :   [1] كذا يجىء على الوصف، ويجوز أن يكون «غدر» بفتح الغين وسكون الدال مصدرا مضافا إليه. [2] أى: فلا تسرع إليهم، وجاء فى تاريخ الطبرى والكامل: «فلا تقربنهم» [3] كذا جاء فى الأصل مثل الكامل، وجاء فى البداية والنهاية ج 8 ص 160 «وكن عن الناس فى معزل» وجاء فى مروج الذهب ج 2 ص 86 «فإنها فى عزلة» . [4] أى: قال هذا الرجز القديم متمثلا به، كما تمثل به قيس بن سعد فى قوله لمعاوية أبن أبى سفيان: «فدونك أمرك يا معاوية، فإن مثلك كما قال الشاعر: يا لك من قبرة بمصر ... » أنظر العقد الفريد ج 4 ص 340. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 408 يا لك من قبّرة بمعمر [1] ... خلا لك الجوّ فبيضى واصفرى [2] ونقّرى ما شئت أن تنقرى [3] هذا حسين يخرج إلى العراق ويخلّيك والحجاز. قال وخرج حسين من مكة يوم التّروية [4] ، فاعترضه رسل عمرو بن سعيد مع أخيه يحيى يمنعونه، فأبى عليهم ومضى، وسار فمر بالتنعيم [5] فرأى عيرا قد أقبلت من اليمن، بعث بها بحير   [1] القبرة: طائر صغير. والمعمر: المكان الواسع من جهة الماء والكلأ ينزل فيه النازلون فيعمرونه. [2] «خلالك الجو فبيضى واصفرى» مثل يضرب فى الحاجة يتمكن منها صاحبها، كما ذكره الميدانى فى مجمع الأمثال ج 1 ص 249، وذكر بن عبد ربه فى العقد الفريد ج 3 ص 126- 127 أن هذا المثل يقال فى «الرجل يخلو بحاجته» . [3] نقر الطائر فى الموضع: سهله ليبيض فيه، وقيل: التنقير مثل الصفير.. وقد زاد ابن كثير فى البداية والنهاية ج 8 ص 160، ص 165 فى التمثل بهذا الرجز مشطور رابعا: «صيادك اليوم قتيل فابشرى» والمعروف فى رواية الرجز القديم: «قد رحل الصياد عنك فابشرى» .. والمشهور أن قائل هذا الرجز هو طرفة بن العبد الشاعر، كما فى الحيوان ج 3 ص 66، ج 5 ص 227 والفاخر ص 189- 190 والصحاح (ع م ر، ق ب ر) ومجمع الأمثال وحياة الحيوان، وذلك أن طرفة كان وهو صبى صغير مسافرا مع عمه فنزلا على ماء عليه قبرات، فنصب طرفة فخالها، فنفرت، وقعد عامة يومه فلم يصد شيئا، فانتزع فخه من التراب وحمله وارتحل مع عمه والتفت وراءه فرأى القبرات يلقطن ما نثر لهن من الحب، فقال هذا الرجز ... وذكر ابن برى فى حواشيه على الصحاح أن هذا الرجز لكليب بن ربيعة التغلبى، وليس لطرفه كما ذكر الجوهرى، وذلك أن كليبا خرج يوما فى حماه، فإذا هو بقبرة على بيضها، فلما نظرت إليه صرصرت وخفقت بجناحيها، فقال لها: أمن روعك أنت وبيضك فى ذمتى، ثم دخلت ناقة البسوس إلى الحمى فكسرت البيض، فرماها كليب فى ضرعها، فهاجت حرب بكر وتغلب ابنى وائل بسببها أربعين سنة، انظر لسان العرب فى (ب ر) وفى (ع م ر، ن ق ر) [4] يوم التروية هو اليوم الثامن من شهر ذى الحجة، سمى به لأن الحجاج كانوا يرتوون فيه من الماء وينهضون إلى منى. [5] التنعيم: موضع قريب من مكة فى الحل، على فرسخين منها. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 409 ابن ريسان الحميرى عامل اليمن إلى يزيد، وعليها الورس [1] والحلل، فأخذها الحسين ثم سار، فلما انتهى إلى الصّفاح [2] لقيه الفرزدق الشاعر [3] فقال له الحسين: بين لى خبر الناس خلفك فقال: «الخبير سألت، قلوب الناس معك وسيوفهم مع بنى أمية، والقضاء ينزل من السماء، والله يفعل ما يشاء!» فقال الحسين صدقت، لله الأمر يفعل ما يشاء، وربّنا كل يوم فى شأن، إن نزل القضاء بما نحب فنحمد الله على نعمائه، هو المستعان على أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يتعد [4] من كان الحق نيته، والتقوى سريرته. قال وأدرك الحسين كتاب عبد الله بن جعفر مع ابنيه عون ومحمد يقول: «أمّا بعد، فإنى أسألك بالله لمّا انصرفت حين تقرأ كتابى هذا فإنى مشفق عليك من هذا الوجه أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك، إن هلكت الآن طفئ نور الأرض فإنك علم المهتدين، ورجاء المؤمنين، فلا تعجل بالسير، فإنى فى إثر كتابى، والسلام!» . وقام عبد الله بن جعفر إلى عمرو بن سعيد وقال: «اكتب للحسين كتابا تجعل له فيه الأمان، وتمنيه فيه البرّ والصّلة، وترفق   [1] كذا جاء فى النسخة (ن) مثل الكامل وتاريخ الطبرى، وجاء فى النسخة (ك) : «الوشى» . والورس: نبت أصفر يزرع باليمن ويصبغ به- والوشى: نوع من الثياب المنقوشة. [2] الصفاح: موضع بين حنين ومكة. [3] كان الفرزدق يحج بأمه ويسوق بعيرها، فلقى الحسين خارجا من مكة، فسأله الحسين: ممن أنت؟ قال: الفرزدق: امرؤ من العراق، فقال له الحسين: بين لى ... الخ. [4] عند الطبرى وابن الأثير: «فلم يعتد» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 410 فى كتابك، وتسأله [1] الرجوع لعله يطمئن إلى ذلك فيرجع. فقال له عمرو اكتب ما شئت، وأتنى به حتى أختمه. فكتب عبد الله بن جعفر الكتاب، ثم أتى به عمر بن سعيد: فقال: اختمه وابعث به مع أخيك يحيى فإنه أحرى أن تطمئن به نفسه، ويعلم أنه الجدّ منك ففعل. وكان مضمون الكتاب: «بسم الله الرحمن الرحيم من عمرو بن سعيد إلى الحسين بن على، أما بعد، فإنى أسأل الله أن يصرفك عمّا يوبقك، وأن يهديك لما يرشدك. بلغنى أنك قد توجهت إلى العراق، وإنى أعيذك بالله من الشّقاق، فإنى أخاف عليك فيه الهلاك، وقد بعثت إليك عبد الله ابن جعفر ويحيى بن سعيد، فأقبل إلىّ معهما، فإن لك عندى الأمان والصلة والبر وحسن الجوار، لك الله علىّ بذلك شهيد وكفيل، وراع ووكيل، والسلام عليك» . فأخذا الكتاب ولحقا حسينا، فأقرأه يحيى الكتاب. وكان ممّا اعتذر به أن قال: إنى رأيت رؤيا، رأيت فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرت بأمر أنا ماض له، فقالا له: ما تلك الرؤيا؟ قال: ما حدّثت أحدا بها ولا أنا محدّث أحدا بها حتّى ألقى ربّى. وكتب الحسين إلى عمرو بن سعيد: «أمّا بعد، فإنه لم يشاقق الله ورسوله من دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إننى من المسلمين، وقد دعوت إلى الأمان والبرّ والصلة، فخير الأمان أمان الله، ولن يؤمن بالله يوم القيامة من لم يخفه فى الدنيا، فنسأل الله مخافة فى   [1] كذا جاء فى الأصل مثل تاريخ الطبرى ج 4 ص 291، وجاء فى الكامل ج 3 ص 277: «وأسأله» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 411 الدنيا توجب لنا أمانه يوم القيامة، فإن كنت نويت بالكتاب صلتى وبرى فجزيت خيرا فى الدنيا والآخرة، والسلام» . قال [1] : ولمّا بلغ ابن زياد مسير الحسين من مكة بعث الحصين ابن نمير [2] التّميمى صاحب شرطته، فنزل القادسية، ونظم الخيل ما بين القادسية إلى خفّان [3] ، وما بين القادسية إلى القطقطانة وإلى جبل لعلع. وأقبل الحسين حتى إذا بلغ الحاجز من بطن الرّمة بعث قيس بن مسهر الأسدىّ ثم الصّيداوى إلى أهل الكوفة، وكتب معه إليهم: «بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن على إلى إخوانه من المؤمنين والمسلمين، سلام عليكم، فإنى أحمد إليكم الله الذى لا إله إلا هو. أمّا بعد؛ فإن كتاب مسلم بن عقيل جاءنى يخبرنى فيه بحسن رأيكم، واجتماع ملئكم على نصرنا والطلب بحقّنا، فنسأل الله أن يحسن لنا الصنع، وأن يشيبكم على ذلك أعظم الأجر، وقد شخصت إليكم من مكة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذى الحجّة يوم التّروية، فإذا قدم عليكم رسولى فانكمشوا [4] فى أمركم وجدوا، فإنى قادم عليكم فى أيامى هذه إن شاء الله؛ والسلام عليكم ورحمة الله» .   [1] ابن الأثير فى الكامل. [2] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى النسخة (ن) : «تميم» ، والذى فى جمهرة أنساب العرب ص 403 أنه الحصين بن نمير بن ناتل بن لبيد بن جعثنة بن الحارث بن سلمة بن شكامة ابن السكون، وسيأتى وصفه بالسكونى. [3] خفان: موضع فوق القادسية، وهو وما بعده مواضع بين الكوفة ومكة. [4] انكمشوا: تشمروا. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 412 وكان مسلم بن عقيل قد كتب إلى الحسين قبل أن يقتل بسبع وعشرين ليلة، أمّا بعد؛ فإن الرائد لا يكذب أهله، إن جميع [1] أهل الكوفة معك، فأقبل حين تقرأ كتابى والسلام. قال: وأقبل قيس بن مسهر بكتاب الحسين إلى أهل الكوفة، فلما بلغ القادسية أخذه الحصين بن نمير [2] فبعث به إلى ابن زياد، فقال له عبيد الله: اصعد [القصر] [3] فسبّ الكذّاب ابن الكذّاب الحسين بن على. فصعد قيس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «أيها الناس، إن هذا الحسين بن علىّ رضى الله عنهما خير خلق الله، ابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا رسوله إليكم، وقد فارقته بالحاجز فأجيبوه» ثم لعن عبيد الله بن زياد وأباه، واستغفر لعلىّ، فأمر به عبيد الله فرمى من فوق القصر فتقطع فمات. قال [4] : ثم أقبل الحسين رضى الله عنه يسير نحو الكوفة، فانتهى إلى ماء مياه العرب، فإذا عليه عبد الله بن مطيع العدوىّ فلما رأى الحسين قام إليه، فقال: بأبى أنت وأمى يا ابن رسول الله، ما أقدمك؟ واحتمله فأنزله فقال له الحسين: إنه كان من موت معاوية ما قد بلغك، فكتب إلىّ أهل العراق يدعوننى إلى أنفسهم. فقال: «أذكرك بالله [5] يا ابن رسول الله وحرمة الإسلام أن تنتهك، أنشدك الله   [1] فى تاريخ الطبرى ج 4 ص 297 «جمع» ، وانظر ما سبق. [2] انظر ما سبق قريبا، وفى المخطوطة «تميم» . [3] الزيادة من ابن الأثير والطبرى. [4] ابن الأثير فى الكامل، وأصله عند الطبرى. [5] عند الطبرى وابن الأثير: «أذكرك الله» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 413 فى حرمة قريش [1] ، أنشدك الله فى حرمة العرب، فو الله لئن طلبت ما فى أيدى بنى أميّة ليقتلنّك، ولئن قتلوك لا يهابون بعد أحدا أبدا، والله إنها لحرمة الاسلام تنتهك، فلا تفعل، ولا تأت الكوفة، ولا تعرّض نفسك لبنى أمية!» فأبى إلّا أن يمضى. فلما نزل بزرود [2] أتاه الخبر بقتل مسلم ابن عقيل وهانئ ابن عروة، فاسترجع [3] مرارا، فقال له عبد الله بن سليم والمذرى ابن المشمعلّ الأسديان، وكانا قد لحقاه حين قضيا حجهما: «ننشدك الله فى نفسك وأهل بيتك إلا انصرفت من مكانك هذا، فإنه ليس لك بالكوفة ناصر ولا شيعة، بل نتخوف أن يكونوا عليك!» فوثب بنو عقيل فقالوا لا: والله لا نبرح حتّى ندرك ثأرنا أو نذوق ما ذاق أخونا. فقال الحسين رضى الله عنه: لا خير فى العيش بعد هؤلاء، فقال له بعض أصحابه: إنك والله ما أنت مثل مسلم بن عقيل، ولو قدمت الكوفة لكان الناس إليك أسرع. فانتظر الحسين حتى إذا كان السّحر قال لفتيانة وغلمانه: أكثروا من الماء. فاستقوا فأكثروا، ثم ارتحلوا حتّى انتهوا إلى زبالة [4] . وقيل: كان الحسين لا يمرّ بماء إلا اتبعه أهل ذلك الماء، حتى انتهى إلى زبالة، فأتاه خبر مقتل أخيه من الرّضاعة عبد الله بن بقطر،   [1] كذا جاء فى الأصل مثل الكامل، وجاء فى تاريخ الطبرى: «رسول الله صلى الله عليه وسلم» . [2] قال ياقوت: «لعلها سميت بذلك لابتلاعها المياه التى تمطرها السحائب، لأنها رمال بين الثعلبية والخزيمية بطريق الحاج من الكوفه» . [3] استرجع: قال «إنا لله وإنا إليه راجعون» . [4] زبالة: موضع معروف بطريق مكة من الكوفة. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 414 وكان سرّحه إلى مسلم بن عقيل من الطريق، وهو لا يدرى أنه أصيب فأخذه الحصين بالقادسية، فبعث به إلى زياد فقال له: اصعد فوق القصر فالعن الكذابّ ابن الكذّاب ثم انزل حتى أرى فيك رأيى، فصعد فلما أشرف على الناس قال: «أيها الناس، إنى رسول الحسين بن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم، لتنصروه وتؤازروه على ابن مرجانة ابن سمية الدّعى!» فأمر به عبيد الله فألقى من فوق القصر إلى الأرض فتكسرت عظامه وبقى به رمق، فأتاه رجل يقال له عبد الملك بن عمير اللخمى [1] فذبحه، فلمّا عيب عليه ذلك قال: إنما أردت أن أريحه. فلمّا بلغ الحسين الخبر قال لأصحابه: من أحبّ منكم الانصراف فلينصرف غير حرج، ليس عليه منا ذمام؛ فتفرق الناس عنه حتى بقى فى أصحابه الذين خرجوا معه من المدينة. قال: وإنما فعل ذلك لأنه علم أن الأعراب ظنت أنه يأتى بلدا قد استقامت له طاعة أهله، فأراد أن يعلموا علام يقدمون. قال ثم ارتحل الحسين وسار حتى مر ببطن العقبة فنزل بها، فأتاه بعض الأعراب فسأله عن مقصده فأخبره، قال: «إنّى أنشدك الله لمّا انصرفت، فو الله ما تقدم إلّا على الأسنّة وحدّ السيوف، إن هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤنة القتال ووطّئوا لك الأشياء فقدمت عليهم، كان ذلك رأيا، فأما على هذه الحال التى تذكر فإنى   [1] قال بعض العلماء: لم يكن الذى ذبحه عبد الملك بن عمير، ولكنه رجل جعد طوال يشبه عبد الملك. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 415 لا أرى لك أن تفعل!» فقال الحسين: يا عبد الله، إنه ليس يخفى علىّ ما رأيت، ولكن الله لا يغلب على أمره!. ثم ارتحل منها وقد استهلّت إحدى وستين، وسار حتّى نزل شراف [1] فلما كان فى السحر أمر فتيانه فاستقوا من الماء وأكثروا، ثم ساروا منها صدر يومهم حتّى انتصف النهار، فكبّر رجل من أصحابه فكبر الحسين، وقال: ممّ كبّرت؟ قال: رأيت النخل، فقال عبد الله بن سليم والمذرى ابن المشمعل الأسديان: والله إن هذا المكان ما رأينا فيه نخلة قط، قال: فما تريان. قالا: نراه والله [رأى] [2] هوادى [3] الخيل. فقال الحسين: وأنا والله أرى ذلك، ما لنا ملجأ نلجأ إليه نجعله فى ظهورنا ونستقبل القوم من وجه واحد؟ فقيل له: «بلى هذا ذو حسم إلى جنبك تميل إليه عن يسارك، فإن سبقت القوم إليه فهو كما تريد، فمال إليه، فما كان بأسرع من أن طلعت هوداى الخيل، فلما رأوهم قد عدلوا عن الطريق عدلوا عنها إلى قصدهم، فسبق الحسين إلى ذى حسم، فنزل وأمر بأبنية [4] فضربت، وجاء القوم وهم ألف فارس عليهم الحرّ بن يزيد التميمى، فجاءوا حتى وقفوا مقابل الحسين رضى الله عنه: وكان مسير الحر ومن معه من القادسية من قبل الحصين بن نمير [5] التميمى.   [1] شراف: موضع بعد العقبة وواقصة وقبل القرعاء فى الطريق من مكة إلى الكوفة. [2] الزيادة من تاريخ الطبرى ج 4 ص 302. [3] هوادى الخيل: أوائلها، والهادى والهداية: العنق، لأنها تتقدم على البدن ولأنها تهدى البدن. [4] أبنية: جمع بناء، وهو ما يسكنه الناس، فيطلق على ما يضربه العرب فى الصحراء من خيمة وغيرها. [5] كذا جاء فى تاريخ الطبرى والكامل ج 3 ص 279: «نمير» وجاء فى المخطوطة: «تميم» وانظر ما سبق. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 416 فلم يزل الحرّ مواقفا حسينا حتى حضرت صلاة الظهر، فأمر الحسين الحجاج بن مسروق الجعفى أن يؤذن، فأذن، فلما حضرت الإقامه خرج الحسين رضى الله عنه، فى إزار ورداء ونعلين، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أيّها الناس، معذرة إلى الله وإليكم، إنى لم آتكم حتى أتتنى كتبكم، وقدمت على رسلكم أن اقدم علينا فإنه ليس لنا إمام لعل الله يجمعنا بك على الهدى والحق، إن كنتم على ذلك فقد جئتكم، فإن تعطونى ما أطمئن إليه من عهودكم ومواثيقكم أقدم مصركم، وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمى كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذى أقبلت منه إليكم» فسكتوا عنه، وقال للمؤذن: أقم. فأقام الصلاة، فقال الحسين للحر: أتريد أن تصلى بأصحابك؟ فقال: لا، بل صلّ أنت ونصلى بصلاتك، فصلّى بهم الحسين، ثم دخل واجتمع إليه أصحابه. وانصرف الحر فدخل خيمة قد ضربت له، واجتمع عليه جماعة من أصحابه، وعاد بعض أصحابه إلى صفّهم الذى كانوا فيه، ثم أخذ كل رجل بعنان دابته وجلس فى طلبها. فلما كان وقت العصر أمر الحسين أصحابه أن يتهيئوا للرحيل ففعلوا، ثم خرج فأمر مناديه فنادى بالعصر وأقام، وصلى الحسين بالقوم جميعا، ثم سلم وانصرف إليهم بوجهه، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أمّا بعد؛ أيها الناس، فإنكم إن تتقوا الله وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضى لله، ونحن أهل البيت أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالجور والعدوان، فإن أنتم كرهتمونا وجهلتم حقّنا وكان رأيكم غير ما أتتنى به الجزء: 20 ¦ الصفحة: 417 كتبكم، وقدمت علىّ به رسلكم، انصرفت عنكم» ، فقال له الحر: إنّا والله ما ندرى ما هذه الكتب والرسل التى تذكر. فأمر الحسين رضى الله عنه بإخراج كتبهم، فأخرجت فى خرجين مملوءين، فنثرهما بين أيديهم، فقال الحر: إنا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك، وقد أمرنا إذا نحن لقيناك أن لا نفارقك حتى نقدمك الكوفة على عبيد الله بن زياد. فقال له الحسين: الموت أدنى إليك من ذلك، ثم قال لقومه: قوموا فاركبوا، وركب نساؤهم. فلما أرادوا الانصراف حال القوم بينهم وبين المسير، فقال الحسين للحر: ثكلتك أمّك! ما تريد؟ قال له: «أما والله لو غيرك من العرب يقولها وهو على مثل الحال التى عليها ما تركت ذكر أمه بالثكل أن أقوله كائنا من كان، ولكن والله ما إلى ذكر أمّك من سبيل إلا بأحسن ما نقدر عليه» ، فقال له الحسين: ما تريد؟ قال: أريد أن أنطلق بك إلى عبيد الله بن زياد. فقال له الحسين: إذا والله لا أتبعك فقال الحر: إذا والله لا أدعك. فترادّا القول ثلاث مرات، فلما كثر الكلام بينهما قال الحر: «إنى لم أومر بقتالك، إنما أمرت أن لا أفارقك حتى أقدمك الكوفة، فإذا أبيت فخذ طريقا لا تدخلك الكوفة ولا تردك إلى المدينة يكون بينى وبينك نصفا، حتى أكتب إلى ابن زياد وتكتب أنت إلى يزيد بن معاوية إن أردت أن تكتب إليه، أو إلى عبيد الله إن شئت، فلعل الله أن يرزقنى العافية من أن أبتلى بشىء من أمرك!» قال: فتياسرعن [1] طريق العذيب والقادسية، وبينه حينئذ وبين العذيب ثمانية وثلاثون ميلا. ثم سار والحرّ يسايره.   [1] عبارة الطبرى: «قال: فخذ من ههنا فتياسر ... » . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 418 قال [1] : ثم إن الحسين خطبهم [2] فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من رأى سلطانا جائرا، مستحلّا لحرم الله، ناكثا لعهده، مخالفا لسنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعمل فى عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغير عليه بفعل ولا قول، كان حقّا على الله أن يدخله مدخله» . ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود واستأثروا بالفىء، وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله، وأنا أحق من غيرى [3] ، وقد أتتنى كتبكم ورسلكم ببيعتكم وأنكم لا تسلمونى ولا تخذلونى، فإن تممتم على بيعتكم تصيبوا رشدكم، وأنا الحسين بن على وابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، نفسى مع أنفسكم، وأهلى مع أهلكم، فلكم بى أسوة، وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدى وخلعتم بيعتى فلعمرى ما هى لكم بنكر، لقد فعلتموها بأبى وأخى وابن عمى مسلم، والمغرور من اغترّ بكم، فحظّكم أخطأتم ونصيبكم ضيّعتم، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه، وسيغنى الله عنكم، والسلام. فقال له الحر: إنى أذكّرك الله فى نفسك، فإنى أشهد لئن قاتلت لتقتلنّ، فقال الحسين رضى الله عنه: أبالموت تخوّفنى؟! وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلونى! وما أدرى ما أقول لك؟! ولكنى أقول   [1] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 280. [2] أى: خطب أصحابه وأصحاب الحر بن يزيد التميمى بالبيضة. [3] الزيادة من تاريخ الطبرى. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 419 كما قال أخو الأوس لابن عمه، [لقيه] [1] وهو يريد نصرة النبى صلى الله عليه وسلم، [له] [2] فقال أين تذهب فإنك مقتول؟! فقال: سأمضى وما بالموت عار على الفتى ... إذا ما نوى خيرا وجاهد مسلما وآسى الرجال الصالحين بنفسه ... وفارق مثبورا وخالف مجرما فإن عشت لم أندم وإن متّ لم ألم ... كفى بك ذلّا أن تعيش وترغما قال: فلما سمع الحرّ ذلك تنحى عنه، فكان يسير ناحية عنه، حتى انتهوا إلى عذيب الهجانات [3] ، فإذا هم بأربعة نفر قد أقبلوا من الكوفة على رواحلهم يجنبون فرسا لنافع بن هلال يقال له الكامل، ومعهم دليلهم الطّرمّاح وهو يقول: يا ناقتا لا تذعرى من زجرى ... وشمّرى قبل طلوع الفجر بخير ركبان وخير سفر ... حتّى تجلّى بكريم النحر الماجد الحر رحيب الصّدر ... أتى به الله لخير الأمر ثمّت أبقاه بقاء للدهر فلما انتهوا إلى الحسين رضى الله عنه والتحقوا به، فقال الحر: إن هؤلاء النفر الذين من أهل الكوفة ليسوا ممن أقبلوا معك، وأنا حابسهم أو رادّهم؛ فقال الحسين رضى الله عنه: «لأمنعنهم   [1] الزيادة من تاريخ الطبرى. [2] الزيادة من تاريخ الطبرى. [3] عذيب الهجاناث: موضع بطريق الكوفة. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 420 مما أمنع منه نفسى، إنما هؤلاء أعوانى وأنصارى، وقد كنت أعطيتنى ألا تعرض لى حتى يأتيك كتاب من ابن زياد» ؛ قال: أجل ولكن هؤلاء لم يأتوا معك [1] . فقال: «هم أصحابى، وهم بمنزلة من جاء معى، فإن تممت على ما كان بينى وبينك وإلا ناجزتك» . فكفّ عنهم الحر. وسألهم الحسين عن خبر أهل الكوفة، فقال له مجمّع بن عبد الله العائذى- وهو أحد الأربعة-: «أمّا أشراف الناس فقد أعظمت رشوتهم وملئت غرائرهم، فهب إلب [2] واحد عليك، وأمّا سائر الناس بعد فإن أفئدتهم تهوى إليك وسيوفهم غدا مشهورة عليك!» . فقال: هل لكم برسولى إليكم علم؟ فقالوا: من هو؟ قال: قيس ابن مسهر الصيداوى. قالوا: نعم؛ وأخبروه بمقتله، فترقرقت عينا حسين ولم يملك دمعه، ثم قال: فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [3] اللهم اجعل لنا ولهم الجنة نزلا، واجمع بيننا وبينهم فى مستقر رحمتك ورغائب مذخور ثوابك. قال: ودنا الطّرماح من الحسين، فقال له: «والله إنى لأنظر فما أرى معك أحدا، ولو لم يقاتلك إلا هؤلاء الذين أراهم ملازميك لكان كفوا لهم [4] ، وقد رأيت قبل خروجى من الكوفة إليك بيوم ظهر الكوفة وفيه من الناس ما لم تر عيناى فى صعيد واحد جمعا أكثر   [1] من هنا يبدأ ما صار بياضا فى النسخة (ك) وثبت فى النسخة (ن) انظر ص 455. [2] الإلب: القوم يجتمعون على عداوة إنسان، وقد تألبوا أى تجمعوا. [3] من الآية 23 من سورة الأحزاب. [4] كذا جاء فى المخطوطة وفى تاريخ الطبرى ج 4 ص 306 والكاملى ج 3 ص 281: «لكان كفى بهم» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 421 منه، فسألت عنهم، فقيل: اجتمعوا ليعرضوا ثم يسيّروا إلى الحسين، فأنشدك الله إن قدرت على ألا تقدم إليهم شبرا إلا فعلت، وإن أردت أن تنزل بلدا يمنعك الله به حتّى ترى من رأيك ويستبين لك ما أنت صانع فسر حتّى أنزلك مناع جبلنا الذى [1] امتنعنا به من ملوك غسّان وحمير ومن النّعمان بن المنذر ومن الأسود والأحمر، فأسير معك حتّى أنزلك القرية، ثم لتبعث إلى الرجال ممّن بأجأ وسلمى [2] من طيّىء، فو الله لا يأتى عليك عشرة أيام حتّى يأتيك طيىء رجالا وركبانا، ثم أقم فينا ما بدالك، فإن هاجك هيج فأنا زعيم لك بعشرين ألف طائىّ يضربون بين يديك بأسيافهم، وو الله لا يوصل إليك أبدا وفيهم عين تطرف!» . فقال له: جزاك الله وقومك خيرا، إنه قد كان بيننا وبين هؤلاء القوم قول لسنا نقدر معه على الانصراف، ولا ندرى علام تتصرف بنا وبهم الأمور!. قال الطّرمّاح: فودّعته وقلت: «إنى قد امترت لأهلى ميرة، ومعى نفقة لهم فآتيهم فأصنع ذلك فيهم، ثم أقبل إليك إن شاء الله، فإن ألحقك فو الله لأكوننّ من أنصارك» . فقال لى: فإن كنت فاعلا فعجّل رحمك الله. قال الطّرمّاح: فلما بلغت إلى أهلى وضعت عندهم ما يصلحهم،   [1] فى تاريخ الطبرى: «الذى يدعى أجأ» . [2] أجأ وسلمى: جبلان لقبيلة طيىء، وقد ذكر ياقوت «سبب نزول طيىء الجبلين واختصاصهم بسكناهما دون غيرهم من العرب» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 422 وأوصيت، وأخبرتهم بما أريد، وأقبلت حتى دنوت من عذيب الهجانات [1] ، فأتانى نعى الحسين هناك [2] !. قال المؤرّخ [3] : ثم مضى الحسين إلى قصر بنى مقاتل [4] ، فنزل به. قال عقبة بن سمعان: فلمّا كان آخر الليل أمر الحسين بالاستقاء من الماء، ثم أمرنا بالرحيل، ففعلنا، فلمّا سرنا ساعة خفق [5] الحسين برأسه خفقة فقال: «إنّا لله وإنّا إليه راجعون. الحمد لله رب العالمين» يعيدها مرّتين أو ثلاثا، فأقبل عليه ابنه علىّ بن الحسين، فاسترجع وحمد الله وقال: «يا أبت، جعلت فداك، ممّ حمدت الله واسترجعت؟» . قال: «يا بنىّ، إنى خفقت برأسى خفقة، فعنّ لى فارس على فرس فقال: القوم يسيرون والمنايا تسير بهم. فعلمت أنها أنفسنا نعيت إلينا!» قال: يا أبت ألسنا على الحق؟ قال: بلى والّذى إليه مرجع العباد. قال: يا أبت إذن لا نبالى أن نموت محقّين. فقال له: جزاك الله خير ما يجزى ولدا عن والده. فلما أصبح نزل فصلى الغداة، ثم عجّل الركوب، وسار حتّى انتهى إلى نينوى، والحرّ ومن معه يسايرونه فإذا راكب على نجيب عليه السلاح يمسك قوسا مقبل من الكوفة، فوقفوا جميعا ينتظرونه،   [1] عذيب الهجانات: موضع بطريق الكوفة. [2] زاد ابن الأثير: «فرجع إلى أهله» . [3] ابن جرير الطبرى فى تاريخة ج 4 ص 307- 308، وتبعه ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 282. [4] فى معجم البلدان لياقوت: «قصر مقاتل: منسوب إلى مقاتل بن حسان بن ثعلبة التميمى» . [5] خفق برأسه: حرك رأسه حتى يثبت ذقنة على صدره وهو نائم قاعدا. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 423 فلما انتهى إليهم سلم على الحرّ وأصحابه، ولم يسلم على الحسين، ودفع إلى الحرّ كتابا من عبيد الله بن زياد: «أمّا بعد، فجعجع [1] بالحسين حين يبلغك كتابى ويقدم عليك رسولى، فلا تنزله إلّا بالعراء فى غير حصن وعلى غير ماء، وقد أمرت رسولى أن يلزمك فلا يفارقك حتى يأتينى بإنفاذك أمرى، والسلام» . فقال الحر: هذا كتاب الأمير عبيد الله بن زياد، يأمرنى فيه أن أجعجع بكم فى المكان الذى يأتينى فيه كتابه، وهذا رسوله، وقد أمره ألّا يفارقنى حتى أنفذ رأيه وأمره. قال: فأخذهم الحرّ بالنزول فى ذلك المكان على غير ماء ولا قرية، فقالوا: دعنا ننزل فى هذه القرية (يعنون نينوى) أو هذه القرية (يعنون الغاضريّة) أو هذه الأخرى (يعنون شفيّة) . فقال: لا والله ما أستطيع ذلك، هذا رجل بعث عينا علىّ. فقال زهير بن القين للحسين: «يا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتال هؤلاء الساعة أهون علينا من قتال من يأتينا من بعدهم، فلعمرى ليأتينّا من بعد ما نرى ما لا قبل لنا به!» فقال له الحسين: ما كنت لأبدأهم بالقتال. فقال له زهير: «سرّ بنا إلى هذه القرية حتّى ننزلها فإنها حصينة وعلى شاطىء الفرات، فإن منعونا قاتلناهم، فقتالهم أهون علينا من قتال من يجىء بعدهم» . فقال له الحسين: أيّة قرية هى؟ قال: العقر. فقال الحسين: اللهم إنى   [1] جعجع بالحسين: ضيق عليه المكان، وقد ذكر صاحب النهاية هذه العبارة من كتاب زياد. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 424 أعوذ بك من العقر! [1] ثم نزل، وذلك يوم الخميس الثانى من المحرّم سنة إحدى وستين. فلما كان الغد قدم عليهم عمر بن سعد بن أبى وقّاص من الكوفة. وكان سبب مسيره لقتال الحسين أن عبيد الله بن زياد كان قد بعثه على أربعة آلاف من أهل الكوفة، يسير بهم إلى دستبى، وكانت الدّيلم قد خرجوا إليها وغلبوا عليها، فكتب ابن زياد له عهده على الرّىّ، وأمره بالخروج، فخرج وعسكر بالناس، فلما كان من أمر الحسين ما كان، دعا ابن زياد عمر بن سعد وقال: سر إلى الحسين فإذا فرغنا ممّا بيننا وبينه سرت إلى عملك. فاستعفاه، فقال: نعم، على أن تردّ علينا عهدنا. فلما قال له ذلك قال: أمهلنى اليوم حتّى انظر. فاستشار عمر نصحاءه، فكلّهم نهاه، وأتاه حمزة بن المغيرة بن شعبة- وهو ابن أخته- فقال له: «أنشدك الله يا خالى ألّا تسير إلى الحسين فتأثم بربك وتقطع رحمك! فو الله لأن تخرج من دنياك ومالك وسلطان الأرض كلّها- لو كان لك- خير من أن تلقى الله بدم الحسين!» فقال: أفعل إن شاء الله. وبات ليلته مفكرا فى أمره فسمع وهو يقول: أأترك ملك الرّىّ والرّىّ رغبتى ... أم أرجع مذموما بقتل حسين وفى قتله النار التى ليس دونها ... حجاب، وملك الرى قرّة عين   [1] أنظر معجم البلدان وتاج العروس فى «العقر» و «كربلاء» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 425 ثم أتى ابن زياد فقال له: إنك قد ولّيتنى هذا العمل وسمع الناس به، فإن رأيت أن تنفذ لى ذلك وتبعث إلى الحسين من أشراف الكوفة من لست أغنى ولا أجزأ عنك فى الحرب منه- وسمّى له أناسا-؛ فقال له ابن زياد: لا تعلمنى بأشراف الكوفة، فلست أستأمرك فيمن أريد أن أبعث، فإن سرت بجندنا وإلّا فابعث إلينا بعهدنا؛ قال: فإنى سائر. فأقبل فى ذلك الجيش حتى نزل بالحسين فلما نزل به بعث إليه عزرة [1] بن قيس الأحمسى، فقال له: ائته فاسأله: ما الذى جاء بك؟ وماذا تريد؟ وكان عزرة ممّن كتب إلى الحسين، فاستحيى منه أن يأتيه، فعرض عمر ذلك على الرؤساء الذين كاتبوه، فكلّهم أباه وكرهه. فقام إليه كثير بن عبد الله، وكان فارسا شجاعا، فقال: أنا أذهب إليه وو الله إن شئت لأفتكنّ به. فقال عمر: ما أريد أن يفتك به ولكن أن تسأله: ما الذى جاء به؟ فأقبل إليه، فلما رآه أبو ثمامة الصائدى قال للحسين: أصلحك الله، قد جاءك شرّ أهل الأرض وأجرؤه على دم وأفتكه. فقام إليه، فقال له: ضع سيفك. قال لا والله ولا كرامة، إنما أنا رسول فإن سمعتم أبلغتكم ما أرسلت به إليكم، وإن أبيتم انصرفت عنكم. فقال له رجل: فإنى آخذ بقائم سيفك ثم تكلم بحاجتك. قال: لا والله لا تمسّه. فقال له: أخبرنى ما جئت به وأنا أبلغه عنك ولا أدعك تدنو منه فإنك فاجر. فاستبّا، ثم انصرف إلى عمر فأخبره الخبر.   [1] قال صاحب الإصابة ج 3 ص 105 فى ترجمته: «عزرة بن قيس بن غزية الأحمصى البجيلى .... » . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 426 فدعا عمر قرّة بن قيس الحنظلى، فقال له: ويحك يا قرة، الق حسينا فاسأله: ما جاء به؟ وماذا يريد؟ فأتاه فأخبره رسالة ابن سعد، فقال له الحسين: كتب إلىّ أهل مصركم أن أقدم عليهم، فأمّا إذ كرهتمونى فإنى أنصرف عنهم. فانصرف قرّة إلى عمر فأخبره الخبر، فقال عمر: إنى لأرجو أن يعافينى الله من حربه وقتاله. ثم كتب إلى عبيد الله بن زياد: « [1] أما بعد، فإنى حيث نزلت بالحسين بعثت إليه رسولى، فسألته عمّا أقدمه وماذا يطلب وماذا يسأل، فقال: كتب إلىّ أهل هذه البلاد وأتتنى رسلهم فسألونى القدوم ففعلت، فأمّا إذ كرهونى وبدا لهم غير ما أتتنى به رسلهم فأنا منصرف عنهم» . فلما قرئ الكتاب على ابن زياد قال: الآن إذ علقت مخالبنا به ... يرجو النجاة ولات حين مناص وكتب إلى عمر بن سعد: «بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعد فقد بلغنى كتابك وفهمت ما ذكرت» فاعرض على الحسين أن يبايع يزيد بن معاوية أمير المؤمنين هو وجميع أصحابه، فإذا هو فعل رأينا والسلام» فلما قرأ عمر الكتاب قال: قد أحسست ألّا يقبل ابن زياد العافية. قال: وكتب ابن زياد إلى عمر بن سعد: «أمّا بعد، فحل   [1] أثبت الطبرى البسملة فى أول هذا الكتاب. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 427 بين الحسين وأصحابه وبين الماء، فلا يذوقوا منه قطرة، كما صنع بالتقىّ الزكىّ المظلوم أمير المؤمنين عثمان بن عفّان» . فبعث عمر عمرو بن الحجاج على خمسمائة فارس، فنزلوا على الشّريعة، وحالوا بين الحسين وأصحابه وبين الماء، ومنعوهم أن يسقوا منه قطرة، وذلك قبل قتل الحسين بثلاث. وناداه عبد الله بن أبى حصين الأزدى: «يا حسين، ألا تنظر إلى الماء كأنه كبد السماء! والله لا تذوق منه قطرة حتّى تموت عطشا!» . فقال الحسين: «اللهم اقتله عطشا ولا تغفر له أبدا!» . قال أبو جعفر الطبرى فى تاريخه [1] : قال حميد بن مسلم «والله لقد عدته بعد ذلك فى مرضه، فو الله الذى لا إله إلا هو لقد رأيته يشرب حتّى يبغر [2] ، ثم يقىء، ثم يعود فيشرب حتّى يبغر، فما يروى، فما زال ذلك دأبه حتّى لفظ غصّته» (يعنى نفسه) . قال: فلمّا اشتدّ على الحسين ومن معه العطش دعا أخاه العبّاس ابن علىّ، فبعثه فى ثلاثين فارسا وعشرين راجلا، وبعث معهم بعشرين قربة، فدنوا من الماء، وقاتلوا عليه، حتّى ملئوا القرب وعادوا بها إلى الحسين. قال: ثم بعث الحسين إلى عمر بن سعد أن القنى الليلة بين عسكرى وعسكرك. وكان رسوله إليه عمرو بن قرظة بن كعب   [1] ج 4 ص 312. [2] يكثر الشرب فلا يروى بسبب داء أصابه. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 428 الأنصارى [1] ، فخرج عمر فى نحو من عشرين فارسا، وأقبل الحسين فى مثل ذلك، فلمّا التقيا أمر الحسين أصحابه أن يتنحّوا عنه، وأمر عمر بمثل ذلك، فتكلما، فأطالا حتّى ذهب من الليل جانب، ثم انصرف كل منهما إلى عسكره. قال: وتحدّث الناس فيما بينهم ظنا يظنّونه أن الحسين قال لعمر ابن سعد: اخرج معى إلى يزيد بن معاوية وندع العسكرين. فقال له عمر: إذن تهدم دارى. قال: إذن أبنيها لك. قال: إذن تؤخذ ضياعى. قال: إذن أعطيك خيرا منها بالحجاز. فكره ذلك عمر بن سعد.. فتحدث الناس بذلك من غير أن يكونوا سمعوه. قال: وذكر جماعة من المحدّثين أن الحسين قال: اختاروا منى خصالا ثلاثا: إما أن أرجع إلى المكان الذى أقبلت منه، وإما أن أضع يدى فى يد يزيد بن معاوية فيرى فيما بينى وبينه رأيه، وإما أن أن أسير إلى أىّ ثغر من ثغور المسلمين شئتم فأكون رجلا من أهله لى ما لهم وعلى ما عليهم. وأنكر عقبة بن سمعان هذه المقالة وقال: «صحبت الحسين، فخرجت معه من المدينة إلى مكة، ومن مكة إلى العراق، ولم أفارقه حتى قتل، وليس من مخاطبته الناس كلمة بالمدينة ولا بمكة ولا فى الطريق ولا بالعراق ولا فى عسكر إلى يوم مقتله إلا وقد سمعتها، ألا والله ما أعطاهم ما يتذاكر الناس ويزعمون من أن يضع يده فى يد يزيد بن معاوية ولا أن يسيّره إلى ثغر من ثغور المسلمين، ولكنه قال: دعونى   [1] الخزرجى، كان أبوه صحابيا من ساكنى الكوفة. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 429 أرجع إلى المكان الذى أقبلت منه، أو دعونى أذهب فى هذه الأرض العريضة حتى ننظر: إلى م يصير أمر الناس؟. وقيل: التقى الحسين وعمر بن سعد مرارا ثلاثا أو أربعا، فكتب عمر إلى عبيد الله بن زياد: «أما بعد، فإن الله قد أطفأ النائرة [1] وجمع الكلمة، وأصلح أمر الأمّة، هذا الحسين قد أعطانى أن يرجع إلى المكان الذى منه أتى، أو أن نسيره إلى ثغر من الثغور شئنا فيكون رجلا من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم، أو أن يأتى يزيد أمير المؤمنين فيضع يده فى يده فيرى فيما بينه وبينه رأيه، وفى هذا لكم رضى وللأمة صلاح» . فلما قرأ عبيد الله الكتاب قال: هذا كتاب رجل ناصح لأميره مشفق على قومه، نعم، قد قبلت. فقام إليه شمر بن ذى الجوشن [2] فقال: «أتقبل هذا منه وقد نزل بأرضك وإلى جنبك، والله لئن رحل من بلادك ولم يضع يده فى يدك ليكونن أولى بالقوة والعزة ولتكونن أولى بالضعف والعجز، فلا تعطه هذه المنزلة فإنها من الوهن، ولكن لينزل على حكمك هو وأصحابه، فإن عاقبت فأنت ولىّ العقوبة، وإن عفوت كان ذلك لك، والله لقد بلغنى أن الحسين وعمر بن سعد يجلسان بين العسكرين فيتحدثان عامة الليل» .   [1] النائرة: نار الحرب وشرها. [2] الجوشن: الدرع أو الصدر، وذو الجوشن: اسمه شرحبيل بن قرط الأعور، وقيل: أوس، ولقب بذلك لانه دخل على كسرى فأعطاه جوشنا. فلبسه، فكان أول عربى لبسه، أو لأنه كان ناتئ الصدر. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 430 فقال له ابن زياد: «نعم ما رأيت، اخرج بهذا الكتاب إلى عمر بن سعد، فليعرض على حسين وأصحابه النزول على حكمى، فإن فعلوا فليبعث بهم إلى سلما، وإن هم أبوا فليقاتلهم، فإن فعل فاسمع له وأطع، وإن هو أبى أن يقاتلهم فأنت أمير الناس وثب عليه فاضرب عنقه وابعث إلى برأسه» . وكتب ابن زياد إلى عمر بن سعد: «أمّا بعد، فإنى لم أبعثك إلى الحسين لتكفّ عنه، ولا لتطاوله، ولا لتمنّيه السلامة والبقاء، ولا لتقعد له عندى شافعا، انظر، فإن نزل الحسين وأصحابه على الحكم واستسلموا فابعث بهم إلىّ سلما، وإن أبوا فازحف إليهم حتّى تقتلهم وتمثّل بهم، فإنهم لذلك مستحقّون، فإن قتل الحسين فأوطىء الخيل صدره وظهره، فإنه عاقّ مشاق قاطع ظلوم، فإن أنت، مضيت لأمرنا فيه جزيناك جزاء السامع المطيع، وإن أنت أبيت فاعتزل عملنا وجندنا، وخلّ بين شمر وبين العسكر، فانّا قد أمرناه بأمرنا، والسلام» . فأقبل شمر بكتاب ابن زياد إلى عمر بن سعد، فقرأه، فقال له عمر: «ما لك؟ ويلك! لا قرّب الله دارك، وقبح الله ما قدمت به علىّ! والله إنى لأظنّك أنت الذى ثنيته أن يقبل ما كتبت به إليه، أفسدت علينا أمرا كنا نرجو أن يصلح، لا يستسلم والله حسين أبدا، والله إن نفسا أبيّة لبين جنبيه!» . فقال له شمر: أخبرنى ما أنت صانع: أتمضى لأمر أميرك وتقاتل عدوّه وإلّا فخلّ بينى وبين الجند والعسكر؟ فقال: لا، ولا كرامة لك، ولكن أنا أتولّى ذلك. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 431 فنهض إليه عشيّة الخميس لتسع مضين من المحرّم. وكان شمر لمّا قبض كتاب ابن زياد إلى عمر بن سعد قام هو وعبد الله بن أبى المحلّ، وكانت عمّته أمّ البنين ابنة حزام عند علىّ بن أبى طالب فولدت له العبّاس وعبد الله وجعفرا وعثمان. قال عبد الله: «أصلح الله الأمير، إنّ بنى أختنا مع الحسين، فإن رأيت أن تكتب لهم أمانا فعلت» . فقال: نعم ونعمة عين [1] فأمر كاتبه فكتب لهم أمانا. فلمّا نهض عمر إلى الحسين جاء شمر حتّى وقف على أصحاب الحسين فقال: أين بنو أختنا؟ فخرج إليه العبّاس وعبد الله وجعفر وعثمان بنو على، فقالوا: ما لك؟ وما تريد؟ قال: أنتم يا بنى أختى آمنون، فقالوا له: لعنك الله ولعن أمانك! لئن كنت خالنا أتؤمّننا وابن رسول الله لا أمان له! قال: ثمّ إن عمر بن سعد نادى: يا خيل الله اركبى وابشرى. فركب الناس، ثم زحف بهم نحوهم بعد صلاة العصر، والحسين جالس أمام بيته محتبيا بسيفه، إذ خفق برأسه على ركبتيه، وسمعت أخته الصيحة، فدنت منه فأيقظته وقالت: أما تسمع الأصوات قد اقتربت! فرفع الحسين رأسه فقال: إنى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المنام، فقال لى: إنك تروح إلينا. فلطمت وجهها وقالت: واويلتاه! فقال: ليس لك الويل يا أخيّة، اسكتى رحمك الله [2] !.   [1] أى: أفعل ذلك إنعاما لعينك وإكراما. [2] جاء فى تاريخ الطبرى ج 4 ص 315: «اسكنى رحمك الرحمن» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 432 وقال له العبّاس: يا أخى أتاك القوم. فنهض ثم قال: يا عبّاس أركب بنفسى. فقال له العباس: بل أروح أنا. فقال: اركب أنت يا أخى حتّى تلقاهم فتقول لهم: ما لكم؟ وما بدا لكم؟ وتسألهم عمّا جاء بهم. فأتاهم العباس فاستقبلهم فى نحو عشرين فارسا، فقال لهم: ما بدا لكم؟ وما تريدون؟ قالوا: جاء أمر الأمير بأن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو نناجزكم. قال: فلا تعجلوا حتّى أرجع إلى أبى عبد الله فأعرض عليه ما ذكرتم. فوقفوا، وانصرف راجعا يركض إلى الحسين فأخبره الخبر، فقال له الحسين: ارجع إليهم فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى غدوة لعلنا نصلى لربنا الليلة وندعوه ونستغفره. فرجع العبّاس إليهم فقال: «يا هؤلاء، إن أبا عبد الله يسألكم أن تنصرفوا هذه الليلة، حتّى ينظر فى هذا الأمر، فإن هذا الأمر لم يجر بينكم وبينه فيه منطق، فإذا أصبحنا التقينا إن شاء الله، فإمّا رضيناه فأتينا الأمر الّذى تسألوننا وتسومونناه، أو كرهناه فرددناه» . قال: وإنّما أراد الحسين أن يردّهم عنه تلك العشيّة حتّى يأمر بأمره ويوصى أهله. فاستشار عمر بن سعد شمر بن ذى الجوشن فى ذلك، فقال شمر أنت الأمير والرأى رأيك: فأقبل عمر على الناس فقال: ماذا ترون؟ فقال له عمرو بن الحجّاج الزبيدى: سبحان الله! والله لو كان من الدّيلم ثم سألوك هذه المنزلة لكان ينبغى لك أن تجيبهم إليها. وقال قيس بن الأشعث: أجبهم إلى ما سألوك فلعمرى ليصبحنّك الجزء: 20 ¦ الصفحة: 433 بالقتال غدوة. فقال: والله لو أعلم أن يفعلوا. أخّرتهم العشيّة.. ثم رجع عنهم. قال: وجمع الحسين أصحابه بعد ما رجع عمر بن سعد عنهم فقال: «أثنى على الله تبارك وتعالى أحسن الثناء، وأحمده على السّرّاء والضراء، اللهم إنى أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة، وعلمتنا القرآن، وفقهتنا فى الدين، وجعلت لنا أسماعا وأبصارا وأفئدة، فاجعلنا لك من الشاكرين [1] ، أما بعد، فإنى لا أعلم أصحابا أوفى لا خيرا من أصحابى، ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من أهل بيتى، فجزاكم الله جميعا عنى خيرا، ألا وإنى لأظن يومنا من هؤلاء الأعداء غدا، ألا وإنى قد أذنت لكم، فانطلقوا جميعا فى حلّ، ليس عليكم منى ذمام [2] ، هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا، ثم ليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتى، ثم تفرقوا فى البلاد، فى سوادكم ومدائنكم، حتى يفرّج الله، فإن القوم إنما يطلبوننى ولو قد أصابونى لهوا عن طلب غيرى!» . فقال له إخوته وأبناؤه وبنو أخيه وأبناء عبد الله بن جعفر: «لم نفعل ذلك؟ لنبقى بعدك! لا أرانا الله ذلك أبدا!» . بدأهم بهذا لقول العباس بن على، ثم تكلموا بهذا ونحوه، فقال الحسين: يا بنى عقيل، حسبكم من الفتك بمسلم، اذهبوا فقد أذنت لكم!. قالوا: «فماذا يقول الناس؟ يقولون: أنا تركنا شيخنا وسيدنا   [1] جاء فى تاريخ الطبرى ج 4 ص 317 بدلا من هذه الجملة قوله: «ولم تجعلنا من المشركين» . [2] ذمام: حق. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 434 وبنى عمومتنا خير الأعمام، لم نرم معهم بسهم، ولم نطعن معهم برمح، ولم نضرب معهم بسيف، ولا ندرى، ما صنعوا! لا والله لا نفعل، ولكن نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا ونقاتل معك حتى نرد موردك فقبح الله العيش بعدك!» . وقام إليه مسلم بن عوسجة الأسدى، فقال: «أنحن نتخلّى عنك ولم نعذر إلى الله فى أداء حقك؟ أما والله لا أفارقك حتى أكسر فى صدورهم رمحى وأضربهم بسيفى ما ثبت قائمه فى يدى! والله لو لم يكن معى سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة دونك حتّى أموت!» . وقال له سعد بن عبد الله الحنفى: «والله لا نخلّيك، حتّى يعلم الله أنّا قد حفظنا غيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيك، والله لو علمت أنى أحيا ثم أحرق حيّا ثم أذرى- يفعل بى ذلك سبعين مرّة- ما فارقتك حتى ألقى حمامى دونك! فكيف لا أفعل ذلك وإنما هى قتلة واحدة، ثم هى الكرامة التى لا انقضاء لها أبدا!» . وقال زهير بن القين: «والله لوددت أنى قتلت ثم نشرت ثم قتلت، حتّى أقتل هكذا ألف قتلة، وأن الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك!» . وتكلّم جماعة أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضا فى وجه واحد، فقالوا «والله لا نفارقك، ولكن أنفسنا لك الفداء! ونقيك بنحورنا وجباهنا وأيدينا وأبداننا! فإذا نحن قتلنا وفينا وقضينا ما علينا!» .. وهذا القول من كلام الحسين وكلامهم مروىّ عن زين العابدين علىّ ابن الحسين رضى الله عنهما. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 435 قال [1] : وسمعته زينب أخته فى تلك الليلة وهو فى خباء له يقول- وعنده حوى مولى أبى ذر الغفارى وهو يعالج سيفه ويصلحه-: يا دهر أفّ لك من خليل ... كم لك بالإشراق والأصيل من صاحب أو طالب قتيل ... والدهر لا يقنع بالبديل وإنّما الأمر إلى الجليل ... وكلّ حىّ سالك السبيل فأعاد ذلك مرّتين أو ثلاثا، فلمّا سمعته لم تملك لنفسها أن وثبت تجرّ ثوبها وإنها لحاسرة حتّى انتهت إليه فقالت: «واثكلاه! ليت الموت أعدمنى الحياة! اليوم ماتت فاطمة أمّى وعلىّ أبى وحسن أخى! يا خليفة الماضى وثمال الباقى!» . فنظر إليها وقال: يا أخيّة لا يذهبنّ حلمك الشيطان. قالت: بأبى وأمّى أنت استقتلت نفسى فداؤك! فردّد غصّته، وترقرقت عيناه، ثم قال: «لو ترك القطا ليلا لنام [2] !» . فقالت: «يا ويلتا! أفتغضب نفسك اغتصابا؟   [1] القائل: زين العابدين: قال: إنى جالس فى تلك العشية التى قتل أبى صبيحتها، وعمتى زينب عندى تمرضنى إذ اعتزل أبى بأصحابه فى خباء له، وعنده حوى مولى أبى ذر الغفارى: وهو يعالج سيفه ويصلحه، وأبى يقول: يا دهر أف لك ..... الخ. [2] تمثل بعجز بيت لحذام ابنة الديان، وله قصة ذكرها الميدانى فى مجمع الأمثال والمفضل بن سلمة فى الفاخر والجاحظ فى الحيوان والعينى فى شواهده الكبرى وذلك أن الديان وقومه جاءهم أعداؤهم ليلا، فلما كانوا قريبا منهم أثاروا القطا- من الطير- فمرت بأصحاب الديان، فخرجت حذام الى قومها فقالت: ألا يا قومنا ارتحلوا وسيروا ... فلو ترك القطا ليلا لناما أى: أن القطا لو ترك ما طار فى هذه الساعة، فقد أتاكم القوم، فقال ديسم بن طارق بصوت عال:- اذا قالت حذام فصدقوها ... فإن القول ما قالت حذام وهناك بعض الراويات الأخرى. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 436 فذلك أقرح لقلبى وأشدّ على نفسى!» . ثم لطمت وجهها وأهوت إلى جيبها فشقته، ثم خرّت مغشيا عليها، فقام إليها الحسين فصبّ على وجهها الماء وقال لها: «يا أخيّه، اتقى الله، وتعزّى بعزاء الله، واعلمى أن أهل الأرض يموتون، وأن أهل السماء لا يبقون، وأن كلّ شىء هالك إلّا وجهه، الذى خلق الأرض بقدرته، ويبعث الخلق فيعودون وهو فرد وحده، وأبى خير منّى، وأمّى خير منى، وأخى خير منى، ولى ولهم ولكل مسلم أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم!» . فعزّاها بهذا ونحوه، وقال لها: «يا أخيّة، إنى أقسم عليك فأبرّى قسمى، ألّا تشقّى علىّ جيبا [1] ، ولا تخمشى علىّ وجها، ولا تدعى علىّ بالويل والثّبور إذا أنا هلكت» . ثم خرج إلى أصحابه، فأمرهم أن يقرّبوا بيوتهم بعضها إلى بعض، وأن يدخلوا الأطناب بعضها فى بعض، وأن يكونوا هم بين البيوت، فيستقبلوا القوم من وجه واحد، والبيوت من ورائهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم. قال: وقاموا الليل كلّه يصلّون ويستغفرون ويدعون ويتضرّعون. فلما صلى عمر بن سعد الغداة، وذلك يوم السبت، وهو يوم عاشوراء، وقيل: يوم الجمعة، خرج فيمن معه من الناس.   [1] أخذ ذلك من حديث النبى صلى الله عليه وسلم. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 437 وعبّأ الحسين أصحابه بالغداة [1] ، وكان معه اثنان وثلاثون فارسا وأربعون راجلا، فجعل زهير بن القين فى ميمنته، وحبيب بن مظهّر [2] فى ميسرته، وأعطى رايته العبّاس أخاه، وأمر بحطب وقصب فألقى فى مكان مخفض من ورائهم كأنه ساقيه [3] كانوا عملوه [4] فى ساعة من الليل، وأضرم فيه نارا، لئلّا يؤتوا من ورائهم، فنفعهم ذلك. وجعل عمر بن سعد على ميمنته عمرو بن الحجاج الزّبيدى، وعلى ميسرته شمر بن ذى الجوشن، وعلى الخيل عزرة بن قيس الأحمسى، وعلى الرجال شبث بن ربعىّ، وأعطى الراية ذويدا [5] مولاه، وجعل على ربع المدينة عبد الله بن زهير الأزدى، وعلى ربع ربيعة وكندة قيس بن الأشعث بن قيس، وعلى ربع مذحج وأسد عبد الرحمن بن أبى سبرة الحنفى، وعلى ربع تميم وهمدان الحرّ بن يزيد الرّياحى.. فشهد هؤلاء كلّهم مقتل الحسين إلا الحرّ بن يزيد. فإنه عدل إلى الحسين وقتل معه على ما نذكره. قال: ولما أقبلوا إلى الحسين أمر بفسطاط فضرب، ثم أمر   [1] كذا جاء فى المخطوطة وجاء فى تاريخ الطبرى ج 4 ص 320 «وصلى بهم صلاة الغداة» . [2] اختلفت الكتب فى كتابة هذا الاسم انظر ما سبق، وتاريخ الطبرى والإصابة ج 1 ص 373، 527. [3] لم ينقط فى المخطوطة الحرفان الأخيران من هذه الكلمة، وجاء فى تاريخ الطبرى والكامل ج 3 ص 286: «ساقية» وقد تكون: «ساقته» والساقة: مؤخر الجيش. [4] حفروه فى ساعة من الليل فجعلوه كالخندق. [5] كذا جاء الاسم فى المخطوطة وتاريخ الطبرى: «ذريدا» وجاء فى الكامل: «دريدا» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 438 بمسك، فميث [1] فى جفنة عظيمة، ثم دخل الحسين ذلك الفسطاط واستعمل النّورة، ثمّ خرج فركب دابّته، ودعا بمصحف فوضعه أمامه، ورفع يديه فقال: «اللهمّ أنت ثقفى فى كلّ كرب، ورجائى فى كلّ شدّة، وأنت لى فى كل أمر نزل بى ثقة وعدّة، كم من همّ يضعف فيه الفؤاد، وتقلّ فيه الحيلة، ويخذل فيه الصديق، ويشمت فيه العدوّ أنزلته بك وشكوته إليك، رغبة منّى إليك عمّن سواك، ففرّجته وكشفته وكفيتنيه، فأنت ولىّ كلّ نعمة، وصاحب كلّ حسنة، ومنتهى كلّ رغبة!» . وأقبلوا نحو الحسين، فنظروا إلى النار تضطرم فى الحطب والقصب، فقال شمر بن ذى الجوشن: يا حسين استعجلت النار فى الدنيا قبل يوم القيامة. فقال له الحسين: يا ابن راعية المعزى أنت أولى بها صليّا!. ثم ركب الحسين راحلته، وحمل ابنه عليّا على فرسه «لاحق» . ذكر ما تكلم به الحسين رضى الله عنه قبل إنشاب الحرب وما وعظ به الناس وما أجابوه وما تكلم به أصحابه وما أجيبوا به وخبر مقتله قال: ولما ركب الحسين راحلته نادى بأعلى صوته نداء يسمع جل الناس: أيها الناس، اسمعوا قولى، ولا تعجلونى حتّى أعظكم بما يحقّ لكم، وحتّى أعتذر لكم من مقدمى عليكم، فإن قبلتم عذرى وصدقتم قولى وأعطيتمونى النصف كنتم بذلك أسعد ولم يكن   [1] مائه: أذابه. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 439 لكم علىّ سبيل، وإن لم تقبلوا منى العذر ولم تعطوا النّصف من أنفسكم فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ، ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً [1] ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ [2] ، إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ [3] . ثم [4] حمد الله وأثنى عليه، وصلى على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى ملائكة الله وأنبيائه [5] ، ثم قال: أما بعد، فانسبونى وانظروا من أنا؟ ثم ارجعوا إلى أنفسكم، وعاتبوها، فانظروا هل يصلح لكم قتلى وانتهاك حرمتى؟؟ ألست ابن بنت نبيّكم وابن وصيّه وابن عمّه وأوّل المؤمنين بالله والمصدّق لرسوله بما جاء به من عند ربّه؟ أو ليس حمزة سيّد الشهداء عمّ أبى؟ أو ليس جعفر الطيّار فى الجنة بجناحين بعمّى؟ أو لم يبلغكم قول مستفيض فيكم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لى ولأخى: «هذان سيّدا شباب أهل الجنة» ؟ فإن صدقتمونى بما أقول، وهو الحق، وما تعمّدت كذبا مذ علمت أن الله يمقت عليه أهله ويضرّ به من اختلقه، وإن كذبتمونى فإن فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم، سلوا جابر بن عبد الله الأنصارى   [1] مستورا، بل أظهروه وجاهرونى. [2] من الآية 71 من سورة يونس. [3] الآية 196 من سورة الأعراف. [4] قال الطبرى فى تاريخه ج 4 ص- 322 وابن الأثير فى الكامل ج 3 ص- 287: إن أخوات الحسين لما سمعن كلامه السابق بكين وصحن: فأرسل إليهن أخاه العباس وابنه عليا ليسكتاهن، وقال: لعمرى ليكثرن بكاؤهن: ثم حمد الله .... الخ. [5] روى الطبرى عن الضحاك أنه ذكر من ذلك ما الله أعلم وما لا يحصى ذكره، وأقسم إنه ما سمع متكلما أبلغ فى منطق منه. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 440 أو أبا سعيد الخدرىّ أو سهل بن سعد الساعدى أو زيد بن أرقم أو أنس بن مالك يخبروكم أنهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لى ولأخى، أما فى هذا حاجز لكم عن سفك دمى؟!. فقال له شمر: هو يعبد الله على حرف إن كان يدرى ما يقول. فقال له حبيب بن مظهّر: «والله إنى لأراك تعبد الله على سبعين حرفا، وإنى أشهد أنك صادق وأنك لا تدرى ما تقول،، قد طبع الله على قلبك!» . ثم قال الحسين: فإن كنتم فى شك من هذا القول أفتشكّون أنى ابن بنت نبيّكم؟ فو الله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبى غيرى منكم ولا من غيركم! أخبرونى أتطلبونى بقتيل منكم قتلته، أو مال لكم استهلكته، أو بقصاص من جراحة؟!. فلم يكلّموه، فنادى: «يا شبث بن ربعىّ، ويا حجار بن أبحر، ويا قيس بن الأشعث، ويا يزيد بن الحارث، ألم تكتبوا إلّى أن قد أينعت الثمار، واخضر الجناب، وطمت الجمام [1] ، وإنما تقدم على جند لك مجند، فأقبل.؟» قالوا: لم نفعل قال: «سبحان الله! بلى والله لقد فعلتم!»   [1] طمت: بتخفيف الميم وتشديدها، يقال «طما الماء» إذا ارتفع، «وطما البحر» إذا امتلأ، ويقال: «طم الماء» إذا غمر: و «طم الشىء» إذا كثر، ومنه «طم الأمر» إذا عظم وتفاقم.. والجمام: ما علا رأس المكيال فوق طفافة، ويأتى «الجمام» جمعا ل «الجم» وهو معظم الماء والكثير من الشىء، ول «الجمة» وهى مجتمع ماء البئر ومعظم الشىء. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 441 ثم قال: أيّها الناس إذ كرهتمونى فدعونى أنصرف عنكم إلى مأمنى من الأرض. فقال له قيس بن الأشعث: أولا تنزل على حكم بنى [1] عمك فإنهم لن يروك إلا ما تحبّ ولن يصل إليك منهم مكروه. فقال له الحسين «أنت أخو أخيك [2] ، أتريد أن يطلبك بنوها هاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل؟ لا والله لا أعطيهم بيدى إعطاء الذليل ولا أقرّ إقرار العبيد!! عباد الله، إنّى عذت بربّى وربّكم أن ترجمون [3] إنى عذت بربّى وربّكم من كلّ متكبّر لا يؤمن بيوم الحساب [4] ! ثم أناخ راحلته، ونزل عنها، وأمر عقبة بن سمعان فعقلها. وأقبلوا يزحفون نحوه. فخرج زهير بن القين على فرس له شاكى السلاح، وقال: «يا أهل الكوفة، نذار لكم من عذاب الله نذار، إن حقّا على المسلم نصيحة أخيه المسلم، ونحن حتى الآن إخوة، وعلى دين واحد وملة واحدة، ما لم يقع بيننا وبينكم السيف، فأنتم للنصيحة أهل، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة، وكنا أمّة وأنتم أمّة، إن الله قد ابتلانا وإيّاكم بذرية محمد صلى الله عليه وسلم لينظر ما نحن وأنتم عاملون،   [1] كذا جاء عند الطبرى، وهو المناسب لما بعده، وجاء فى الكامل: «ابن عمك، يعنى ابن زياد» . [2] يشير الى ما صنعه أخوه محمد بن الأشعث إذا قال لمسلم بن عقيل. «لك الأمان، إن القوم بنو عمك: وليسوا بقاتليك ولا ضاربيك» ثم أقبل بمسلم إلى قصر عبيد الله بن زياد ولم يهتم عبيد الله بهذا الأمان، وقتل مسلما، كما مر. [3] من الآية 20 من سورة الدخان. [4] من الآية 27 من سورة غافر. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 442 إنّا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية ابن الطاغية عبيد الله بن زياد، فإنكم لا نذكرون منهما إلّا سوءا، يسملان أعينكم، ويقطعان أيديكم وأرجلكم، ويمثلان بكم، ويرفعانكم على جذوع النخل، ويقتلان أماثلكم وقرّاءكم، أمثال حجر بن عدىّ وأصحابه، وهانئ بن عروة وأشباهه!» قال: فسبّوه، وأثنوا على عبيد الله بن زياد، ودعوا له، وقالوا: والله لا نبرح حتّى نقتل صاحبك ومن معه أو نبعث به وبأصحابه إلى الأمير عبيد الله سلما. فقال لهم: «عباد الله، إن ولد فاطمة أحقّ بالودّ والنصر من ابن سميّة، فإن كنتم لم تنصروه فأعيذكم بالله أن تقتلوه، خلّوا بين هذا الرجل وبين ابن عمّه يزيد بن معاوية، فلعمرى إن يزيد ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين!» . فرماه شمر بسهم وقال: اسكت، أسكت الله نأمتك [1] ، أبرمتنا بكثرة كلامك! فقال له زهير: «يا ابن البوّال على عقبيه، ما إيّاك أخاطب، إنما أنت بهيمة، والله ما أظنّك تحكم من كتاب الله آيتين، فأبشر بالخزى يوم القيامة والعذاب الأليم!» فقال له شمر: إن الله قاتلك وصاحبك عن ساعة. قال: «أفبالموت تخوّفنى؟ فو الله للموت أحبّ إلىّ من الخلد معكم!» ثم رفع صوته وقال: «عباد الله، لا يغرّنّكم من دينكم هذا الجلف الجافى وأشباهه،   [1] النأمة: النغمة والصوت، يقال «أسكت الله نأمته» اى: أماته. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 443 فو الله لا تنال شفاعة محمد قوما هراقوا دماء ذرّيّته وأهل بيته وقتلوا من نصرهم وذبّ عن حريمهم!» فأتاه رجل من قبل الحسين فقال له: «إن أبا عبد الله يقول لك: أقبل، فلعمرى لئن كان مؤمن آل فرعون نصح قومه وأبلغ فى الدعاء [1] لقد نصحت لهؤلاء وأبلغت لو نفع الصلح والإبلاغ!» . قال: ولمّا زحف عمر بن سعد إلى الحسين أتاه الحرّ بن يزيد فقال له: «أصلحك الله، أمقاتل أنت هذا الرجل؟!» قال: «إى والله، قتالا أيسره أن تسقط الرءوس وتطيح الأيدى!» قال: أفما لكم فى واحدة من الخصال التى عرض عليكم رضى؟ قال عمر: «أما والله لو كان الأمر لى لفعلت! ولكنّ أميرك قد أبى ذلك» . فأخذ الحرّ يدنو من الحسين قليلا قليلا، وأخذته رعدة، فقال له رجل من قومه يقال له «المهاجر بن أوس» . [ما تريد يا ابن يزيد؟ أتريد أن تحمل؟ فسكت، وأخذه مثل العرواء [2] ، فقال له:] [3] «يا ابن يزيد، إنّ أمرك لمريب! والله ما رأيت منك فى موقف قطّ مثل شىء أراه الآن! ولو قيل لى: من أشجع أهل الكوفة رجلا؟ ما عدوتك! فما هذا الذى أرى منك؟» فقال له: «إنى- والله- أخيّر نفسى بين الجنة والنار، والله لا أختار على الجنة شيئا ولو قطّعت وحرّقت!» .   [1] يشير إلى قول الله تعالى: وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ، وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ، وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ، وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ، إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ، يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ، فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا ... انظر الآية 28 وما بعدها فى سورة غافر. [2] العرواء: مس الحمى. [3] الزيادة من تاريخ الطبرى ج 4 ص 325. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 444 ثمّ ضرب فرسه، فلحق بالحسين، فقال له: «جعلنى الله فداك يا ابن رسول الله، أنا صاحبك الذى حبستك عن الرجوع، وسايرتك فى الطريق، وجعجعت بك فى هذا المكان، وو الله الذى لا إله إلا هو ما ظننت أن القوم يردّون عليك ما عرضت عليهم أبدا ولا يبلغون منك هذه المنزلة! فقلت فى نفسى: لا أبالى أن أطيع القوم فى بعض أمرهم ولا يرون أنى خرجت من طاعتهم، وأمّاهم فسيقبلون من الحسين بعض هذه الخصال التى يعرض عليهم، وو الله لو ظننت أنهم لا يقبلونها منك ما ركبتها منك! وإنّى قد جئتك تائبا ممّا كان منى إلى ربّى مواسيا لك بنفسى حتّى أموت بين يديك! أفترى ذلك لى توبة؟» قال: نعم يتوب الله عليك ويغفر لك. قال: فتقدم الحرّ، ثم قال: «أيّها الأمير [1] ، ألا تقبلون من الحسين خصلة من هذه الخصال التى عرض عليكم فيعافيكم الله من حربه وقتاله؟» فقال له عمر: «قد حرصت، لو وجدت إلى ذلك سبيلا فعلت!» فقال: «يا أهل الكوفة، لأمّكم الهبل [2] ! دعوتموه حتّى إذا أتاكم أسلمتموه! وزعمتم أنكم قاتلو أنفسكم دونه ثمّ عدوتم عليه لتقتلوه! أمسكتم بنفسه وأخذتم بكظمه [3] وأحطتم به من كل ناحية، فمنعتموه التوجّه فى بلاد الله العريضة، حتّى يأمن ويأمن أهل بيته، فأصبح فى أيديكم كالأسير لا يملك لنفسه   [1] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى تاريخ الطبرى ج 4 ص 325 والكامل ج 3 ص 288 «أيها القوم» وهو أولى لمناسبة ما بعده. [2] الهبل: الثكل. [3] الكظم: مخرج النفس، ويقال «أخذ بكظمه» إذا أصابه بالكرب والغم. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 445 نفعا ولا يدفع عنها ضرا! ومنعتموه ومن معه من ماء الفرات الجارى الذى يشربه اليهودىّ والنصرانىّ والمجوسىّ، وتمرّغ فيه خنازير السّواد وكلابه، وهاهم قد صرعهم العطش! بئس ما خلفتم محمدا فى ذرّيّته! لا أسقاكم الله يوم الظمأ إن لم تتوبوا وتنزعوا عمّا أنتم عليه من يومكم هذا فى ساعتكم هذه!» فرموه بالنّبل، فرجع حتّى وقف أمام الحسين. وزحف عمر بن سعد، ثم نادى: «يا ذويد [1] ، أدن رايتك» ثم رمى بسهم وقال: اشهدوا أنى أوّل من رمى بسهم ... ثم ارتمى الناس. وخرج يسار مولى زياد بن أبيه وسالم مولى عبيد الله بن زياد، فقالا: من يبارز؟ فخرج إليهما عبد الله بن عمير الكلبى، فقالا له: من أنت؟ فانتسب لهما، فقالا له: لا نعرفك، ليخرج إلينا زهير بن القين أو حبيب بن مظهّر أو برير بن حضير. وكان يسار أمام سالم، فقال له الكلبى: «يا ابن الزانية، أو بك رغبة عن مبارزة أحد من الناس؟ وهل يخرج إليك أحد من الناس إلّا وهو خير منك؟!» ثم حمل عليه فضربه بسيفه حتّى برد [2] ، فإنه لمشتغل به يضربه إذ شدّ عليه سالم فلم يأبه له، حتّى غشيه فبدره الضربة، فاتّقاه الكلبى بيده اليسرى فأطار أصابع كفّه اليسرى، ثم مال عليه الكلبىّ فضربه حتّى قتله. وكان الكلبىّ هذا قد رأى الناس من أهل الكوفة بالنّخيلة وهم   [1] أنظر ما سبق فى هذا الاسم. [2] برد، مات. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 446 يعرضون ليسرّحوا إلى الحسين، فقال: «والله لقد كنت على جهاد أهل الشرك حريصا، وإنى لأرجو ألّا يكون جهاد هؤلاء الذين يغزون ابن بنت نبيّهم أيسر ثوابا عند الله من ثوابه إيّاى فى جهاد المشركين!» فدخل على امرأته أمّ وهب بنت عبد [1] ، فأخبرها بما سمع وأعلمها بما يريد، فصوّبت رأيه وقالت: أخرجنى معك! فخرج بها ليلا حتّى أتى الحسين فأقام معه، فلمّا قتل العبدين أقبل يرتجز ويقول: إن تنكرونى فأنا ابن كلب ... حسبى ببيتى فى عليم حسبى إنّى امرؤ ذو مرّة وعصب ... ولست بالخّوّار عند النّكب إنّى زعيم لك أمّ وهب ... بالطعن فيهم مقدما والضّرب ضرب غلام مؤمن بالرّبّ فأخذت امرأته أمّ وهب عمودا ثمّ أقبلت نحوه تقول له: «فداك أبى وأمّى! قاتل دون الطيّبين ذرّيّة محمد صلى الله عليه وسلم!» فأقبل إليها يردّها نحو النساء، وأخذت تجاذب ثوبه وقالت: لن أدعك دون أن أموت معك! فناداها الحسين فقال: «جزيتم من أهل بيت خيرا! ارجعى رحمك الله إلى النساء فاجلسى معهنّ، فإنه ليس على النساء قتال.» فانصرفت إليهن. وحمل عمرو بن الحجّاج، وهو فى الميمنة، فلمّا دنا من الحسين   [1] من قبيلة النمر بن قاسط. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 447 جثوا له على الرّكب، وأشرعوا الرماح نحوهم، فلم تقدم خيلهم على الرماح، فذهبت الخيل لترجع، فرشقوهم بالنّبل، فصرعوا منهم رجالا وجرحوا آخرين. وجاء عبد الله بن حوزة التّميمى حتّى وقف أمام الحسين، فقال له: يا حسين [1] فقال: ما تشاء؟ قال: أبشر بالنار. قال: «كلّا، إنى أقدم على ربّ رحيم شفيع مطاع! من أنت؟» . قال أصحابه: هذا ابن حوزة. قال: ربّ حزه إلى النار! فاضطرب به فرسه فى جدول، فوقع فيه، وتعلّقت رجله بالرّكاب، ونفر الفرس، فمرّ به يضرب برأسه كلّ شجرة وحجر حتّى مات، وانقطعت فخذه وساقه وقدمه. ثم برز الناس بعضهم إلى بعض، فصاح عمرو بن الحجاج بالناس: «يا حمقى، أتدرون من تقاتلون؟ فرسان المصر قوما مستميتين لا يبرز [2] لهم منكم أحد، فإنهم قليل، والله لو لم ترموهم إلا بالحجارة لقتلتموهم!» فقال عمر: «صدقت، الرأى ما رأيت» [3] . ثم حمل عمرو بن الحجاج على الحسين من نحو الفرات، فاضطربوا ساعة، فصرع مسلم بن عوسجة الأسدىّ من أصحاب الحسين، ثم [4] مات، فترحّم الحسين عليه ثم قال: فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [5]   [1] فى تاريخ الطبرى ج ص 327: «يا حسين، يا حسين» . [2] فى تاريخ الطبرى ج 4 ص 331: «لا يبرزن» . [3] ومنع الناس من المبارزة، كما ذكره ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 290. [4] مشى الحسين إليه وبه رمق. [5] من الآية 23 من سورة الأحزاب. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 448 وحمل شمر بن ذى الجوشن بالميسرة على من يليه من أصحاب الحسين، فثبتوا له وطاعنوه، فقتل الكلبى [1] ، بعد أن قتل رجلين آخرين وقاتل قتالا شديدا، فكان هو القتيل الثانى من أصحاب الحسين. وقاتل أصحاب الحسين قتالا شديدا، فكانوا لا يحملون على جانب من خيل الكوفة إلّا كشفوه، فلمّا رأى ذلك عزرة بن قيس- وهو على خيل الكوفة- بعث إلى عمر بن سعد فقال: «ألا ترى ما نلقى خيلى منذ اليوم من هذه العدّة اليسيرة؟ ابعث إليهم الرجال والرّماة!» . فقال عمر لشبث بن ربعىّ: تقّدم إليهم. فقال: سبحان الله! أتعمد إلى شيخ مضر وأهل المصر عامّه تبعثه فى الرّماة؟ لم تجد من تندب لهذا ويجزى عنك غيرى!» وكان لا يزالون يرون من شبث الكراهة لقتال الحسين. قال [2] : فلما قال شبث ذلك دعا عمر بن سعد الحصين بن نمير [3] وبعث معه المجفّفة [4] وخمسمائة من المرامية، فلمّا دنوا من الحسين وأصحابه رشقوهم بالنبل، فلم يلبثوا أن عقروا خيولهم وصاروا رجّالة كلهم. وقاتل الناس أشدّ قتال حتّى انتصف النهار، وهم لا يقدرون   [1] هو عبد الله بن عمير، من بنى عليم، وقد سبق قريبا ذكره ورجزه، وقتله مولى زياد ومولى عبيد الله. [2] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 291. [3] انظر ما سبق فى هذا الاسم. [4] المجففة: الطائفة التى تلبس: «التجفاف» من الآلات الواقية فى الحرب. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 449 على أن يأتوا الحسين وأصحابه إلّا من وجه واحد، لاجتماع أبنيتهم وتقارب بعضها من بعض. فأرسل عمر بن سعد رجالا يقوّضونها عن أيمانهم وعن شمائلهم، ليحيطوا بهم، فكان النفر من أصحاب الحسين الثلاثة والأربعة يتخلّلون البيوت فيقتلون الرجل وهو يقوّض وينهب. فأمر بها عمر بن سعد فأحرقت، فقال الحسين: «دعوهم يحرقوها، فإنهم إذا أحرقوها لا يستطيعون أن يجوزوا إليكم منها!» . فكان ذلك كذلك، وجعلوا لا يقاتلونهم إلّا من وجه واحد. وخرجت أم وهب امرأة الكلبىّ تمشى إلى زوجها، حتّى جلست عند رأسه، فجعلت تمسح التراب عن وجهه وتقول: هنيئا لك الجنة! فقال شمر لغلام اسمه رستم: اضرب رأسها بالعمود. فضرب رأسها، فشدّخه [1] ، فماتت مكانها. وحمل شمر حتّى بلغ فسطاط الحسين ونادى: «علىّ بالنار حتّى أحرق هذا البيت على أهله» . فصاح النساء وخرجن من الفسطاط، وصاح به الحسين ودعا عليه [2] ، فردّه شبث بن ربعىّ عن ذلك، وحمل زهير بن القين فى عشرة من أصحابه على شمر ومن معه فكشفهم [عن البيوت حتى ارتفعوا عنها] [3] وقتلوا أبا عزّة الضّبابىّ من أصحاب شمر، وعطف الناس عليهم فكثروهم [4] ،   [1] شدخه (بتشديد الدال أو تخفيفها) : كسره. [2] قال: «يا ابن ذى الجوشن، أنت تدعو بالنار لتحرق بيتى على أهل حرقك أنت بالنار» . [3] الزيادة من تاريخ الطبرى ج 4 ص 334. [4] فاقوهم بكثرتهم. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 450 فقال أبو ثمامة عمرو بن عبد الله الصائدى للحسين: «يا أبا عبد الله، نفسى لك الفداء، إنى أرى هؤلاء قد اقتربوا منك، ولا والله لا تقتل حتى أقتل دونك إن شاء الله! وأحبّ أن ألقى ربّى وقد صلّيت هذه الصلاة التى قد دنا وقتها!» فدعا [1] له الحسين وقال: نعم هذا أوّل وقتها. ثم قال سلوهم أن يكفّوا عنّا حتّى نصلّى. ففعلوا، فقال لهم الحصين بن نمير: إنها لا تقبل. فسبّه حبيب بن مظهّر، فحمل عليه الحصين، وخرج إليه حبيب بن مظهّر، فضرب وجه فرسه بالسيف، فشبّ، فسقط عنه الحصين، فاستنقذه أصحابه، وقاتل حبيب قتالا شديدا، فقتل بديل به صريم التميم، وحمل عليه آخر من تميم، فطعنه، فوقع، فذهب ليقوم، فضربه الحصين على رأسه بالسيف، فوقع، فنزل إليه التميمى فاحتزّ رأسه. فقال حسين عند ذلك [2] : أحتسب نفسى وحماة أصحابى!! وحمل الحرّ بن يزيد وزهير بن القين فقاتلا قتالا شديدا، فقتل الحرّ، وقتل أبو ثمامه الصائدى ابن عمّ له كان عدوّه. ثم صلّى الحسين صلاة الظهر بأصحابه صلاة الخوف، ثم اقتتلوا بعد الظهر، فاشتدّ قتالهم، ووصل إلى الحسين فاستقدم سعد بن عبد الله الحنفىّ أمامه، فاستهدف لهم يرمونه بالنبل حتّى سقط، وقاتل زهير بن القين قتالا شديدا وجعل يقول:   [1] قال الحسين: «ذكرت الصلاة، جعلك الله من المصلين الذاكرين» . [2] عبابرة الطبرى وابن الأثير: «لما قتل حبيب بن مظهر هد ذلك حسينا، وقال عند ذلك ... » . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 451 أنا زهير وأنا ابن القين ... أذودهم بالسيف عن حسين وجعل يضرب على منكب الحسين ويقول! أقدم هديت هاديا مهديّا ... فاليوم تلقى جدّك النبيّا وحسنا والمرتضى عليّا ... وذا الجناحين [1] الفتى الكميّا وأسد الله [2] الشهيد الحيّا قال: فحمل على زهير كثير بن عبد الله الشعبى ومهاجر بن أوس فقتلاه. قال: وكان نافع بن هلال البجلى [3] قد كتب اسمه على أفواق [4] نبله، وكانت مسمومة، فقتل بها اثنى عشر رجلا سوى من جرح، فضرب حتى كسرت عضداه، وأخذ أسيرا، فأتى به شمر عمر ابن سعد والدم يسيل على لحيته، فقال له عمر: «ويحك يا نافع! ما حملك على ما صنعت بنفسك؟» قال: «إنّ ربى يعلم ما أردت! والله لقد قتلت منكم اثنى عشر سوى من جرحت، وما ألوم نفسى،   [1] ذو الجناحين جعفر ابن أبى طالب، عم الحسين، استشهد بمؤته من أرض الشام مجاهدا للروم مقبلا غير مدبر، فى جسده بضع وتسعون بين طعنة ورمية، وقد رآه النبى صلى الله عليه وسلم ذا جناحين مضرجين بالدم يطير مع الملائكة فى الجنة، وفيه رمز لطيف، لأنه قاتل حتى قطعت يداه. [2] أسد الله: حمزه بن عبد المطلب، عم النبى وأبى الحسين: استشهد بأحد، ولقبه النبى صلى الله عليه وسلم «أسد الله» . [3] فى تاريخ الطبرى: «الجملى» . [4] أفواق: جمع فوق (بضم الفاء) وهو عشق رأس السهم حيث يقع الوتر. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 452 ولو بقيت لى عضد وساعد ما أسرتمونى!» فقال له شمر: اقتله أصلحك الله. قال: أنت جئت به فإن شئت فاقتله. فانتضى [1] شمر سيفه، فقال له نافع: «أما والله لو كنت من المسلمين لعظم عليك أن تلقى الله بدمائنا! فالحمد لله الذى جعل منايانا على يد شرار خلقه!» فقتله. ثم حمل شمر على أصحاب الحسين، فلما رأوا أنهم قد كثروا وأنهم لا يقدرون على أن يمنعوا الحسين تنافسوا أن يقتلوا بين يديه، فجاءه عبد الله وعبد الرحمن ابنا عزرة الغفاريّان فقالا: قد جازنا العدوّ إليك فأحببنا أن نقتل بين يديك! فرحّب بهما، وقال: ادنوا منى فدنوا منه، فجعلا يقاتلان قريبا منه. وجاءه الفتيان الجابريان: سيف بن الحارث بن سريع ومالك ابن عبد بن سريع، وهما ابنا عمّ وأخوان لأمّ، وهما يبكيان، فقال: «ما يبكيكما؟ والله إنى لأرجو أن تكونا عن ساعة قريرى عين!» قالا: «والله ما على أنفسنا نبكى، ولكنّا نبكى عليك! نراك قد أحيط بك ولا نقدر أن نمنعك!» . فقال: جزاكما الله خيرا! [2] . وجاء حنظلة بن أسعد الشّبامىّ فوقف بين يدى الحسين، وجعل ينادى: يا قَوْمِ، إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ، مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ، وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ،   [1] انتضى سيفه: استل سيفه من غمده. [2] روى الطبرى قول الحسين لهما: «جزاكما الله يا ابنى أخى بوجدكما من ذلك ومواساتكما إياى بأنفسكما أحسن جزاء المتقين» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 453 يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [1] يا قوم لا تقتلوا الحسين فيسحتكم [2] الله بعذاب «وقد خاب من افترى!» . فقال له الحسين: «رحمك الله! إنهم قد استوجبوا العذاب حين ردّوا عليك ما دعوتهم إليه من الحق ونهضوا إليك ليستبيحوك، فكيف بهم الآن وقد قتلوا إخوانك الصالحين؟!» قال: «صدقت أفلا نروح إلى ربنا ونلحق بإخواننا؟!» . قال: رح إلى خير من الدنيا وما فيها وإلى ملك لا يبلى. فسلّم على الحسين واستقدم فقاتل حتّى قتل. ثم استقدم الفتيان الجابريان، فودعا حسينا، وقاتلا حتّى قتلا. وجاء عابس بن أبى شبيب الشاكرى وشوذب مولى شاكر إلى الحسين، فسلّما عليه، وتقدما فقاتلا، فقتل شوذب، وتقدم عابس نحوهم بالسيف، وبه ضربة على جبينه، وكان أشجع الناس، فجعل ينادى: «ألا رجل لرجل؟» . فعرفه ربيع بن تميم الهمدانى، فقال: «أيها الناس، هذا الأسد الأسود، هذا ابن أبى شبيب، لا يخرجنّ إليه أحد منكم!» . فقال عمر بن سعد: ارضخوه بالحجارة. فرموه من كلّ جانب، فلما رأى ذلك ألقى درعه ومغفره ثم شدّ على الناس، فهزمهم بين يديه، ثم عطفوا عليه من كلّ جانب، فقتلوه، فادّعى قتله جماعة وأتوا ابن سعد، فقال: «لا تختصموا   [1] من الآيات 30، 31، 32، 33 من سورة غافر. [2] جاء فى الآية 60 من سورة طه: ... فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ، وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى الجزء: 20 ¦ الصفحة: 454 هذا لم يقتله إنسان واحد!» . ففرق بينهم [بهذا القول] [1] . وجاء أبو الشعثاء يزيد بن أبى زياد الكندى، وكان راميا، فجثا على ركبتيه بين يدى الحسين فرمى بمائة سهم ما سقط منها خمسة أسهم، وكان يزيد هذا ممّن خرج مع عمر بن سعد، فلمّا ردّوا ما عرض عليهم الحسين عدل إليه، فقاتل حتّى قتل. وكان آخر من تبقّى مع الحسين من أصحابه سويد بن عمرو ابن أبى المطاع الخثعمىّ. وكان أوّل قتيل من بنى أبى طالب يومئذ علىّ الأكبر ابن الحسين، وأمه ليلى ابنة أبى مرّة بن عروة بن مسعود الثقفية، وذلك أنه حمل على الناس وهو يقول: أنا علىّ بن الحسين بن على ... نحن وربّ البيت أولى بالنّبى تالله لا يحكم فينا ابن الدّعى فعل ذلك مرارا وهو يشدّ على الناس بسيفه، فاعترضه مرّة بن منقذ بن النعمان العبدى، وطعنه، فصرع، وقطعه الناس بأسيافهم، فقال الحسين: «قتل الله قوما قتلوك يا بنىّ! ما أجرأهم على الله وعلى انتهاك حرمة الرسول! على الدّنيا بعدك العفاء!» وأقبل الحسين إليه ومعه فتيانه فقال: احملوا أخاكم. فحملوه حتّى وضعوه بين] [2] يدى الفسطاط الذى كانوا يقاتلون أمامه.   [1] الزيادة من تاريخ الطبرى ج 4 ص 339. [2] هنا ينتهى ما كان بياضا فى النسخة (ك) وثبت فى النسخة (ن) ، مع مراجعته على ما أثبته ابن جرير الطبرى فى تاريخه وابن الأثير فى الكامل. انظر ما سبق ص 421. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 455 وشدّ عثمان بن خالد الجهنى وبشر بن سوط الهمدانى على عبد الرحمن بن عقيل بن أبى طالب [فقتلاه، ورمى عبد الله بن عزرة الخثعمى جعفر بن عقيل بن أبى طالب] [1] فقتله، ورمى عمرو بن صبيح الصدائى عبد الله بن مسلم بن عقيل بسهم فوضع كفّه على جبهته فلم يستطيع أن يحركها ثم رماه بسهم آخر فقتله. وحمل الناس عليهم من كل جانب، فحمل عبد الله بن قطبة الطائى على عون بن عبد الله بن جعفر فقتله، وحمل القاسم بن الحسن ابن علىّ فحمل عليه عمرو بن سعد بن نفيل الأزدى، فضرب رأسه بالسيف فوقع القاسم إلى الأرض لوجهه، وقال: يا عمّاه! فانقضّ الحسين إليه كالصقر، ثم شدّ شدة ليث أغضب، فضرب عمرا بالسيف، فاتقاه بالساعد، فقطع يده من المرفق، فصاح، وحملت خيل الكوفة ليستنقذوا عمرا، فاستقبلته بصدورها، وجالت عليه بفرسانها، فوطئته حتّى مات، وانجلت الغبرة والحسين قائم على رأس القاسم وهو يفحص برجليه. والحسين يقول: «بعدا لقوم قتلوك ومن خصمهم يوم القيامة [فيك] [2] جدّك!» ثم قال: «عزّ والله على عمّك أن تدعوه فلا يجيبك، وأن يجيبك فلا ينفعك صوت والله كثر واتره وقلّ ناصره!» ثم احتمله على صدره حتّى ألقاه مع ابنه علىّ ومن قتل من أهل بيته. قال: ومكث الحسين طويلا من النهار، كلّما انتهى إليه رجل من الناس انصرف عنه وكره أن يتولّى قتله وعظيم إثمه، فأتاه رجل من   [1] ثبتت هذه الزيادة فى النسخة (ن) ، وسقطت من النسخة (ك) . [2] الزيادة من تاريخ الطبرى ج 4 ص 341 والكامل ج 3 ص 293. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 456 كندة يقال له «مالك بن النسير» فضربه على رأسه بالسيف، فقطع البرنس، وأدمى رأسه، وامتلأ البرنس دما، فقال له الحسين: «لا أكلت بها ولا شربت! وحشرك الله مع [القوم] [1] الظالمين!» وألقى ذلك البرنس، ثم دعا بقلنسوة فلبسيها واعتم. وجاء الكندىّ فأخذ البرنس وكان من خزّ، فقدم به على امرأته، وأقبل يغسله من الدم، فقالت له: «أسلب [2] ابن بنت رسول الله يدخل بيتى؟ أخرجه عنى!» فلم يزل ذلك الرجل فقيرا بشرّ حتّى مات. قال: ودعا الحسين بابنه عبد الله وهو صغير، فأجلسه فى حجره فرماه رجل من بنى أسد بسهم فذبحه، فأخذ الحسين دمه بيده فصبّه فى الأرض، ثم قال: «اللهمّ ربّ إن كنت حبست عنا النصر من السماء فاجعل ذلك لما هو خير، وانتقم من هؤلاء الظالمين!» ورمى عبد الله بن عقبة الغنوى أبا بكر بن الحسين بسهم فقتله، وقتل إخوة الحسين وهم العبّاس وعبد الله وجعفر وعثمان. قال: واشتدّ عطش الحسين، فدنا من الفرات ليشرب فقال رجل من بنى أبان بن دارم: «ويلكم! حولوا بينه وبين الماء» ، وضرب فرسه، واتبعه الناس حتّى حال بينه وبين الفرات، فقال الحسين: اللهم أظمئه! وانتزع الأبانىّ سهما فأثبته فى حنك الحسين، فانتزع الحسين السهم، ثم بسط كفّيه فامتلأ دما؛ فقال اللهم إنى أشكو إليك ما يفعل بابن بنت نبيك، اللهم أحصبهم عددا واقتلهم بددا [3] ، ولا تبق منهم أحدا. وقيل أن الذى رماه حصين   [1] ثبت هذه الزيادة فى النسخة (ك) ولم تثبت فى النسخة (ن) . [2] السلب: ما يؤخذ سلبا. [3] أى متفرقين فى القتل واحدا بعد واحد. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 457 ابن نمير. قال: فما مكث الذى رماه إلّا يسيرا، ثم صب الله عليه الظمأ فجعل لا يروى، والماء يبرّد له فيه السّكر، وعساس [1] فيها لبن، وقلال فيها الماء، وإنه ليقول: ويلكم؛ اسقونى، قتلنى الظمأ، فيعطى القلّة أو العسّ فيشربه، فإذا شربه اضطجع هنيهة، ثم قال: ويلكم، اسقونى قتلنى الظمأ، فيعطى القلّة والعس فيشربه، فما لبث إلا يسيرا حتّى انقدّ بطنه انقداد بطن البعير. قال: ثم إن شمر بن ذى الجوشن أقبل فى نحو عشرة من رجاله أهل الكوفة قبل منزل الحسين الذى فيه أهله وعياله، فمشى نحوهم فحالوا بينه وبين رحله، فقال: ويلكم؛ إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون يوم المعاد فكونوا فى دنياكم أحرارا ذوى أحساب، امنعوا رحلى وأهلى من طغامكم وجهّالكم. قال شمر: ذلك لك يا ابن فاطمة. وأقدم شمر عليه بالرّجالة منهم أبو الجنوب عبد الرحمن الجعفىّ، وصالح بن وهب اليزنىّ، وسنان بن أنس النّخعىّ، وخولىّ بن يزيد الأصبحى، وجعل شمر يحرّضهم على الحسين، وهو يحمل عليهم فينكشفون عنه، ثم أحاطوا به، وأقبل إلى الحسين غلام من أهله، فأخذته زينب بنت علىّ لتحبسه، فأبى الغلام، وجاء يشتد حتّى قام إلى جنب الحسين، وقد أهوى بن كعب بن عبيد الله- من بنى تميم الله بن ثعلبة- إلى الحسين بالسيف، فقال له الغلام: يا ابن الخبيثة أتقتل عمّى؟! فضربه بالسيف فاتّقاه الغلام بيده، فأطنّها [2] إلى الجلدة [3] ، فنادى الغلام:   [1] عساس: جمع عس، وهو القدح الضخم. [2] أطنها: قطعها. [3] فإذا يده معلقة. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 458 يا أمّتاه، فضمه الحسين إليه وقال: «يا ابن أخى اصبر على ما نزل بك، واحتسب فى ذلك الخير، فإن الله يلحقك بآبائك الصالحين: برسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلىّ وحمزة وجعفر والحسن» ثم قال الحسين: «اللهمّ أمسك عنهم قطر السماء، وامنعهم بركات الأرض، اللهم فإن متّعتهم إلى حين ففّرقهم فرقا، واجعلهم طرائق قددا، ولا ترضى عنهم الولاة أبدا، فإنهم دعونا لينصرونا، فعدوا علينا فقتلونا!» ثم ضارب الرجّالة حتّى انكشفوا عنهم. قال: ودنا عمر بن سعد من الحسين فخرجت زينب بنت علىّ أخت الحسين فقالت. يا عمر، أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟ فجعلت دموع عمر تسيل على خدّيه ولحيته، وصرف وجهه عنها. ومكث الحسين طويلا من النهار ولو شاء الناس أن يقتلوه لفعلوا، ولكنهم كان يتّقى بعضهم ببعض، ويحبّ هؤلاء أن يكفهم هؤلاء، فنادى شمر ابن ذى الجوشن فى الناس، ويحكم؛ ما تنتظرون بالرجل؟! اقتلوه ثكلتكم أمهاتكم! فحملوا عليه من كل جانب؛ فضرب زرعة بن شريك كفّه اليسرى، وضرب على عاتقه ثم انصرفوا عنه وهو يقوم ويكبو، وحمل عليه فى تلك الحال سنان بن أنس النّخعى فطعنه بالرمح فوقع، وقال لخولىّ بن يزيد الأصبحى احتز رأسه، فأراد أن يفعل فضعف وأرعد، فقال له سنان: فتّ الله عضدك، وأبان يدك، ونزل إليه فذبحه وأخذ رأسه فدفعه إلى خولى. وسلب الحسين ما كان عليه؛ فأخذ سراويله بحر بن كعب، فكانت الجزء: 20 ¦ الصفحة: 459 يداه فى الشتاء تضخان الماء، وفى الصيف تيبسان كأنهما عود. وأخذ قيس بن الأشعث قطيفته وهى من خزّ، فكان يسمّى بعد «قيس قطيفة» . وأخذ نعليه الأسود الأودى، وأخذ سيفه رجل من بنى نهشل. ومال الناس على الورس والحلل والإبل فانتهبوها، وانتهبوا ثقله ومتاعه وما على النساء، حتى إن كانت المرأة لتنازع ثوبها فيؤخذ منها. ووجد بالحسين ثلاث وثلاثون طعنة، وأربع وثلاثون ضربة، وكان سويد بن عمرو بن أبى المطاع قد صرع، فوقع بين القتلى مثخنا بالجراح، فسمعهم يقولون: قتل الحسين فوجد خفّة فوثب ومعه سكين فقاتلهم بها ساعة، ثم قتله عروة بن بطان الثعلبى، فكان آخر قتيل من أصحاب الحسين قال. وانتهوا إلى على بن الحسين وهو زين العابدين، فأراد شمر قتله وكان مريضا فمنع حميد بن مسلم، وجاء عمر بن سعد فقال: لا يدخلنّ بيت هؤلاء النسوة أحد، ولا يعرضنّ لهذا الغلام المريض، ومن أخذ من متاعهم شيئا فليردده عليهم، فما ردّ أحد شيئا، فقال الناس لسنان بن أنس: «قتلت حسين بن على وابن فاطمة بنت رسول الله، قتلت أعظم العرب خطرا، أراد أن يزيل ملك هؤلاء، فأت أمراءك فاطلب ثوابك منهم، فإنهم لو أعطوك بيوت أموالهم فى قتله كان قليلا» فأقبل على فرسه حتى وقف على باب فسطاط عمر بن سعد، ثم نادى بأعلى صوته: الجزء: 20 ¦ الصفحة: 460 أوقر ركابى فضّة وذهبا ... أنا قتلت السيّد المحجّبا [1] قتلت خير الناس أما وأبا ... وخيرهم إذ ينسبون نسبا فقال عمر بن سعد: أشهد أنك مجنون، أدخلوه؛ فلمّا دخل حذفه بالقضيب وقال: يا مجنون أتنظم بهذا الكلام؟ لو سمعك ابن زياد لضرب عنقك. وقيل: إنه قال ذلك لعبيد الله ابن زياد، فقال: فإن كان خير الناس أما وأبا فلم قتلته؟ وأمر به فضربت عنقه، خسر الدنيا والآخرة. ذكر تسمية من قتل مع الحسين بن على رضى الله عنهما ومن سلم ممن شهد القتال قال: ولمّا قتل الحسين جاءت كندة بثلاثة عشر رأسا وصاحبهم قيس بن الأشعث، وجاءت هوازن بعشرين رأسا، وصاحبهم شمر بن ذى الجوشن، وجاءت بنو تميم بسبعة عشر رأسا، وجاءت بنو أسد بستة، وجاءت مذحج بسبعة، وجاء سائر الجيش بسبعة، فذلك سبعون رأسا. منهم إخوة الحسين ستة، وهم: العباس، وجعفر، وعبد الله، وعثمان، ومحمد- وليس هو ابن الحنفية- وأبو بكر، أولاد علىّ بن أبى طالب ومن أولاد الحسين: علىّ، أمه ليلى بنت أبى مرّة بن عروة الثقفى، وعبد الله، وأمّه الرّباب بنت امرئ القيس الكلبى.   [1] فى النسخة (ن) وتاريخ الطبرى والكامل: «المحجبا» وهو المشهور، وفى النسخة (ك) : «المحتجبا» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 461 ومن أولاد الحسن بن علىّ ثلاثة: وهم أبو بكر، وعبد الله، والقاسم. ومن أولاد عبد الله بن جعفر بن أبى طالب: عون، ومحمد. ومن أولاد عقيل بن أبى طالب: جعفر، وعبد الرحمن، وعبد الله، ومسلم بالكوفة. ومن موالى الحسين: سليمان، ومنجح. وتكملة من قتل ممن اتبعه، وقد ذكرنا بعضهم بأسمائهم فى أثناء هذه القصة. وأما من سلم منهم: فالحسن بن الحسن، وعمرو بن الحسن لصغرهما، وعلىّ بن الحسين لمرضه، والضحاك بن عبد الله المشرقى، وذلك أنه جاء إلى الحسين فقال: «يا ابن رسول الله، قد علمت أنى قلت لك: إنى أقاتل عنك ما رأيت مقاتلا، فإذا لم أر مقاتلا فأنا فى حلّ من الانصراف» فقال له الحسين: «صدقت، وكيف لك بالنجاة؟ إن قدرت عليه فأنت فى حلّ» وذلك بعد أن فنى أصحاب الحسين، قال الضحاك: فأقبلت إلى فرسى وكنت قد تركته فى خباء حيث رأيت خيل أصحابنا تعقر، وقاتلت راجلا، فقتلت رجلين، وقطعت يد آخر، ودعا لى الحسين مرارا قال: فاستخرجت فرسى واستويت عليه، وحملت على عرض القوم فأفرجوا لى، وتبعنى منهم خمسة عشر رجلا، ففتّهم، فسلمت. ومنهم عقبة بن سمعان مولى الرّباب ابنة امرىء القيس الكلبية امرأة الحسين، أخذه عمر بن سعد فقال: ما أنت؟ فقال: أنا عبد الجزء: 20 ¦ الصفحة: 462 مملوك فخلّى سبيله، فنجا. ومنهم الرقع [1] بن تمامة الأسدى، وكان قد نثر نبله فقاتل فجاءه نفر من قومه فأمنوه، فخرج إليهم فلما أخبر ابن زياد به نفاه إلى الزارة [2] . ذكر ما كان بعد مقتل الحسين مما هو متعلق بهذه الحادثة قال: ولما قتل الحسين نادى عمر بن سعد فى أصحابه: من ينتدب للحسين فيوطئه فرسه، فانتدب له عشرة، منهم إسحاق بن حيوة الحضرمى، وهو الذى سلب قميص الحسين فبرص بعد ذلك، فداسوا الحسين بخيولهم حتّى رضّوا ظهره وصدره. قال: ودفن جثّة الحسين وجثث أصحابه أهل الغاضرية من بنى أسد بعد ما قتلوا بيوم. وقتل من أصحاب ابن سعد ثمانية وثمانون رجلا سوى الجرحى، فصلّى عليهم عمر ودفنهم. قال: وسرح عمر برأس الحسين من يومه ذلك مع خولىّ بن يزيد وحميد بن مسلم الأزدى إلى عبيد الله بن زياد، فأقبل به خولى فوجد باب القصر مغلقا، فأتى منزله فوضعه تحت إجّانة [3] فى الدار، ثم دخل البيت فأوى إلى فراشه، فقالت له امرأته وهى النّوار بنت مالك الحضرميّة: ما الخبر؟ قال: جئتك بغنى الدهر، هذا رأس الحسين معك فى الدار، قالت. فقلت: ويلك! جاء الناس   [1] كذا فى النسخة «ك» ، وفى النسخة «ن» : «المرفع» ، وفى شرح القاموس: رقيع، كزبير، الأسدى. [2] الزارة: قرية بالبحرين. [3] إجانة: إناء تغسل فيه الثياب. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 463 بالذهب والفضة وجئت برأس ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لا يجمع رأسى ورأسك بيت أبدا، قالت: فقمت من فراشى فخرجت وجلست أنظر، فو الله ما زلت أنظر إلى نور يسطع مثل العمود من السماء إلى الإجّانة، ورأيت طيرا بيضا ترفرف عليها [1] ، فلما أصبح غدا بالرأس إلى عبيد الله بن زياد. وقيل: بل الذى حمل الرأس شمر بن ذى الجوشن، وقيس ابن الأشعث، وعمرو بن الحجاج، وعزرة بن قيس، فجلس ابن زياد، وأذن للناس فأحضرت الرؤوس بين يديه، فجعل ينكت بقضيب بين ثنيّتى الحسين، فلما رآه زيد بن أرقم لا يرفع قضيبه، قال له: اعل بهذا القضيب عن هاتين الثنيتين، فو الله الذى لا إله غيره لقد رأيت شفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على هاتين الشفتين يقبلهما! ثم بكى، فقال له ابن زياد: أبكى الله عينك، فو الله لولا أنك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك. فخرج وهو يقول: أنتم يا معشر العرب العبيد بعد اليوم، قتلتم ابن فاطمة وأمّرتم ابن مرجانه، فهو يقتل خياركم ويستعبد شراركم فرضيتم بالذل [[2] فبعدا لمن رضى بالذل] قال: وأقام عمر بن سعد يومه هذا والغد، ثم أذن فى الناس بالرحيل إلى الكوفة، وحمل معه بنات الحسين وأخواته، ومن كان معه من الصبيان، وعلىّ بن الحسين مريض، فاجتازوا به على الحسين وأصحابه صرعى، فصاح النساء ولطمن الخدود، وصاحت زينب أخته: «يا محمداه! صلّى عليك ملائكة السماء، هذا حسين   [1] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى النسخة (ن) «حولها» . [2] ثبتت هذا العبارة فى النسخة (ن) ، ولم تثبت فى النسخة (ك) . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 464 بالعراء مرمل [1] بالدماء مقطّع الأعضاء! يا محمداه! وبناتك سبايا! وذريتك مقتّلة تسفى عليها الصّبا!» فأبكت كل عدوّ وصديق. قال: ولما أدخلوا على عبيد الله لبست زينب أرذل ثيابها وتنكّرت، وحفّ بها إماؤها، فقال عبيد الله: من هذه الجالسة؟ فلم تكلّمه حتّى قال ذلك ثلاثا وهى لا تكلّمه، فقال بعض إمائها: هذه زينب بنت فاطمة، فقال لها ابن زياد: الحمد لله الذى فضحكم وقتّلكم وأكذب أحدوثتكم. فقالت: الحمد لله الذى أكرمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم وطهّرنا تطهيرا لا كما تقول، إنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر. قال: فكيف رأيت صنع الله بأهل بيتك؟ قالت: كتب عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجّون إليه وتخاصمون عنده، فغضب ابن زياد واستشاط، ثم قال لها: قد شفى الله نفسى من طاغيتك والعصاة المردة من أهل بيتك. فبكت ثم قالت: لعمرى لقد قتلت كهلى وأبرزت أهلى وقطعت فرعى واجتثثت أصلى، فإن يشفك هذا فقد اشتفيت. فقال لها عبيد الله. هذه شجاعة فلعمرى لقد كان أبوك شجاعا، قالت: ما للمرأة والشجاعة؟ إن لى عن الشجاعة لشغلا. ونظر عبيد الله إلى على بن الحسين فقال له: ما اسمك؟ قال: أنا على بن الحسين، قال: أو لم يقتل الله على بن الحسين، فسكت. فقال له ابن زياد: ما لك لا تتكلم؟ قال: قد كان لى أخ يقال له علىّ فقتله الناس، قال: إن الله قتله، فسكت علىّ، فقال: ما لك لا تتكلم؟ قال: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ   [1] مرمل: متلطخ. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 465 حِينَ مَوْتِها [1] . وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [2] قال: أنت والله منهم، ثم قال لرجل: ويحك انظر هذا هل أدرك؟ والله إنى لأحسبه رجلا، فكشف عنه مرىّ بن معاذ الأحمرى فقال: نعم قد أدرك، قال: اقتله، فقال على: من توكّل بهؤلاء النسوة؟ وتعلقت به زينب عمته، فقالت: يا ابن زياد حسبك منّا أما رويت من دمائنا؟ وهل أبقيت منا أحدا؟ واعتنقته وقالت: أسألك بالله إن كنت مؤمنا إن قتلته لما قتلتنى معه، وقال علىّ: يا ابن زياد إن كان بينك وبينهنّ قرابة فابعث معهن رجلا تقيا يصحبهن بصحة الإسلام. فنظر إليهن ساعة ثم نظر إلى القوم فقال: يا عجبا للرّحم والله إنى أظنها ودّت لو أنى قتلته أنى قتلتها معه، دعوا الغلام، انطلق مع نسائك. ثم نودى: «الصلاة جامعة» فاجتمع الناس فى المسجد الأعظم فصعد ابن زياد المنبر، فقال: الحمد لله الذى أظهر الحق وأهله، ونصر أمير المؤمنين يزيد بن معاوية وحزبه، وقتل الكذاب ابن الكذاب الحسين بن على وشيعته، فوثب إليه عبد الله بن عفيف الأزدى، وكان من شيعة على، وكانت عينه اليسرى ذهبت يوم الجمل مع على، والأخرى بصفّين معه، وكان لا يكاد يفارق المسجد الأعظم، يصلّى فيه إلى الليل ثم ينصرف، فقال: يا ابن مرجانة إنّ الكذاب ابن الكذاب أنت وأبوك، والذى ولاك وأبوه، يا ابن مرجانة تقتلون أبناء النبيين، وتكلّمون بكلام الصدّيقين. فقال ابن زياد: علىّ   [1] من الآية 42 من سورة الزمر. [2] من الآية 145 من سورة آل عمران. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 466 به، فوثبت عليه الجلاوزة [1] فأخذوه، فنادى بشعار الأزد «يا مبرور» فوثبت إليه فئة من الأزد، فانتزعوه، وأتوابه أهله، فأرسل إليه من أتاه به فقتله، ثم أمر بصلبه فى السّبخة [2] فصلب. قال: وأمر ابن زياد برأس الحسين فطيف به فى الكوفة. قال: ثم أرسل ابن زياد رأس الحسين ورؤوس أصحابه مع زحر بن قيس إلى يزيد بن معاوية ومعه جماعة، وقيل: مع شمر وجماعة، وأرسل معهم النساء والصبيان، وفيهم على بن الحسين، وقد جعل ابن زياد الغلّ فى يديه وعنقه، وحملهم على الأقتاب، فلم يكلمهم علىّ فى الطريق، فدخل زحر بن قيس على يزيد فقال له: ما وراءك ويلك وما عندك؟ قال: أبشر يا أمير المؤمنين بفتح الله عليك ونصره، ورد علينا الحسين بن علىّ فى ثمانية عشر من أهل بيته وستين من شيعته، فسرنا إليهم فسألناهم أن يستسملوا وينزلوا على حكم الأمير عبيد الله بن زياد أو القتال، فاختاروا القتال، فغدونا عليهم مع شروق الشمس فأحطنا بهم من كل ناحية، حتّى أخذت السيوف مأخذها من هام القوم، فجعلوا يهربون إلى غير وزر [3] ، ويلوذون منا بالآكام والحفر لو اذا [4] كما لاذ الحمائم من صقر، فو الله يا أمير المؤمنين ما كان إلا جزر جزور [5] ، أو نومة قائل [6] حتى أتينا   [1] الجلاوزة: الشرطة. [2] السبخة: موضع بالبصرة. [3] الوزر: الملجأ. [4] لوادا: التجاء. [5] الجزر: النحر، والجزور: الفتى من الإبل. [6] القائل: النائم وقت الظهيرة. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 467 على آخرهم، فهاتيك أجسادهم مجردة، وثيابهم مرمّلة [1] ، وخدودهم معفرة [2] ، تصهرهم الشمس وتسفى عليهم الريح، زوّارهم العقبان والرخم بقىّ [3] سبسب. قال: فدمعت عينا يزيد وقال: كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين، لعن الله ابن سميّة، أما والله لو أنى صاحبه لعفوت عنه، فرحم الله الحسين. قال: ولما وصل علىّ بن الحسين ومن معه والرأس إلى دمشق، وقف محفّر بن ثعلبة العائذى، وكان عبيد الله قد تركهم معه ومع شمر على باب يزيد بن معاوية، ثم رفع صوته وقال: هذا محفّر بن ثعلبة أتى أمير المؤمنين باللئام الفجرة، فأجابه يزيد ما ولدت أمّ محفّر شرّ وألأم، ولكنه قاطع ظلوم. ثم دخلوا على يزيد فوضعوا الرأس بين يديه وحدثوه، فسمعت الحديث هند بنت عبد الله بن عامر بن كريز، وكانت تحت يزيد، فتقنّعت بثوبها وخرجت فقالت: يا أمير المؤمنين رأس الحسين بن فاطمة بنت رسول الله؟ قال: نعم فأعولى عليه وحدّى على ابن بنت رسول الله وصريحة قريش، عجّل عليه ابن زياد فقتله، قتله الله، ثم أذن للناس فدخلوا عليه، والرأس بين يديه، ومعه قضيب وهو ينكت فى ثغره، ثم قال: إن هذا وأنا كما قال الحصين بن الحمام: أبى قومنا أن ينصفونا فأنصفت ... قواضب [4] فى أيماننا تقطر الدّما   [1] مرملة: ملطخة بالدماء. [2] معفرة: من العفر، وهو التراب. [3] بقى بالكسر والتشديد من القوا: الأرض القفر الخالية، والسبسب (نعت) : المفازة المستوية. [4] قواضب: سيوف. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 468 نفلّق هاما [1] من رجال أعزّة ... علينا وهم كانوا أعقّ وأظلما [2] فقال أبو برزة الأسلمى: «أتنكت بقضيبك فى ثغر الحسين؟ أما لقد أخذ قضيبك فى ثغره مأخذا لربّما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرشفه، أما إنك يا يزيد تجئ يوم القيامة وابن زياد شفيعك ويجئ هذا ومحمد شفيعه!» ثم قام فولّى. فقال يزيد: يا حسين والله لو أنى صاحبك ما قتلتك، ثم قال: «أتدرون من أين أتى هذا؟ قال: أبى خير من أبيه، وأمى فاطمة خير من أمه، وجدّى رسول الله خير من جده، وأنا خير منه، وأنا أحق بهذا الأمر منه. فأما قوله: أبوه خير من أبى فقد حاجّ أبى أباه إلى الله وعلم الناس أيّهما حكم له، وأما قوله: أمى خير من أمه فلعمرى فاطمة بنت رسول الله خير من أمى، وأما قوله جدّى رسول الله خير من جده، فلعمرى ما أحد يؤمن بالله واليوم الآخر يرى لرسول الله فينا عدلا ولا ندّا، ولكنه إنما أتى من قبل فقهه، ولم يقرأ قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ [3] . قال: ثم أدخل نساء الحسين عليه والرأس بين يديه، فجعلت فاطمة وسكينة ابنتا الحسين تتطاولان لتنظرا إلى الرأس، وجعل يزيد يتطاول ليستر عنهما الرأس، فلما رأين الرأس صحن، فصاح نساء يزيد وولولن وبنات معاوية، فقالت فاطمة بنت الحسين،   [1] الهام: مفرده هامة، وهى الرأس. [2] أنظر المفضلية 12 من المفضليات والحماسة بشرح المرزوقى ج 1 ص 199، 391 والأغانى ج 14 ص 7 والشعر والشعراء ج 2 ص 630 والمؤتلف والمختلف ص 91 وخزانة الأدب ج 2 ص 7. [3] من الآية 26 فى سورة آل عمران. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 469 وكانت أكبر من سكينة: أبنات رسول الله سبايا يا يزيد؟ فقال: يا ابنة أخى أنا لهذا كنت أكره، فقام رجل من أهل الشام فقال: هب لى هذه، يعنى فاطمة بنت على، فأخذت بثياب أختها زينب وكانت أكبر منها، فقالت زينب: كذبت ولو متّ، ما ذلك لك ولا له، فغضب يزيد وقال: كذبت والله إن ذلك لى، ولو شئت أن أفعله لفعلته، قالت: كلّا والله ما جعل الله ذلك لك، إلا أن تخرج من ملّتنا وتدين بغير ديننا! فغضب يزيد واستطار، ثم قال. إياى تستقبلين بهذا، إنما خرج من الدين أبوك وأخوك، قالت زينب: بدين الله ودين أبى وأخى اهتديت أنت وأبوك وجدّك، قال: كذبت يا عدوة الله، قالت أنت أمير تشتم ظالما وتقهر بسلطانك. فاستحيى وسكت؛ ثم أخرجن وأدخلن دور يزيد فلم تبقى امرأة من آل يزيد إلا أتتهن وأقمن المأتم، وسألهن عمّا أخذ منهن فأضعفه لهن، وكانت سكينة تقول: ما رأيت كافرا بالله خيرا من يزيد بن معاوية. قال: ثم أمر بعلىّ بن الحسين فأدخل مغلولا، فقال: لو رآنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مغلولين لفك عنا؛ قال: صدقت؛ وأمر بفك غلّه عنه، فقال على: لو رآنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعد لأحبّ أن يقرّبنا؛ فأمر به فقرّب منه، وقال له يزيد: يا علىّ أبوك الذى قطع رحمى وجهل حقّى ونازعنى سلطانى فصنع الله به ما رأيت. فقال علىّ: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ. لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ [1] فقال   [1] الآيتان 22، 23 من سورة الحديد. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 470 يزيد: ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [1] ثم سكت عنه، وأمر بإنزاله وإنزال نسائه فى دار على حدة، وكان يزيد لا يتغدّى ولا يتعشّى إلّا دعا عليّا إليه، فدعاه يوما فجاء ومعه عمرو بن الحسن وهو غلام صغير، فقال يزيد لعمرو: أتقاتل هذا؟ يعنى خالدا ابنه، فقال: أعطنى سكّينا وأعطه سكينا حتّى أقاتله. فضمه يزيد إليه وقال شنشنة [2] أعرفها من أخزم، وهل تلد الحيّة [3] إلا حييّة؟ وقيل: لمّا وصل رأس الحسين إلى يزيد حسنت حال ابن زياد عنده، ووصله، وسرّه ما فعل، ثم لم يلبث إلّا يسيرا حتّى بلغه بغض الناس له، ولعنهم إياه، وسبّهم، فندم على قتل الحسين، وكان يقول: «وما علىّ لو احتملت الأذى وأنزلت الحسين معى فى دارى وحكّمته فيما يريد، وإن كان علىّ من ذلك وهن فى سلطانى، حفظا لرسول الله ورعاية لحقّه وقرابته، لعن الله ابن مرجانة، فإنه اضطره، وقد سأله أن يضع يده فى يدى، أو يلحق بثغر حتّى يتوفّاه الله، فلم يجبه إلى ذلك، وقتله، فبغضنى بقتله إلى المسلمين،   [1] من الآية 30 فى سورة الشورى. [2] هذا مثل يضرب فى قرب الشبه، تمثل به يزيد، وأصله أن رجلا من طىء يسمى «أخزم» كان عاقا لوالده، فلما مات ترك بنين يشبهو له فى العقوق، فوثبوا يوما على جدهم أبى أخزم وضربوه وأدموه، فقال: إن بنى ضرجونى بالدم ... شنشنة أعرفها من أخزم والشنشنة: الطبيعة والعادة. [3] هذا مثل تمثل به يزيد كسابقه، جاء فى تاج العروس (ح ى ى) «ومن أمثالهم: لا تلد الحية إلا حيية» وحيية: تصغير حية وكنى الحريرى فى مقاماته عن أبى زيد وابنه ب «الحية والحيية» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 471 وزرع فى قلوبهم العداوة، فأبغضنى البرّ والفاجر بما استعظموه من قتلى حسينا، مالى ولابن مرجانة [1] لعنه الله وغضب عليه!» . قال: ثم ندم ابن زياد أيضا على قتله الحسين، وقال لعمر بن سعد: يا عمر ائتنى بالكتاب الذى كتبته إليك فى قتل الحسين؟ قال: مضيت لأمرك وضاع الكتاب، قال: لتجئ به؛ قال: ضاع قال: لتجئ به؛ قال: ترك والله يقرأ على عجائز قريش بالمدينة اعتذارا إليهن، أما والله لقد نصحتك فى حسين نصيحة لو نصحتها أبى سعد ابن أبى وقّاص لكنت قد أدّيت حقه!» فقال عثمان بن زياد: «صدق، والله لوددت أنه ليس من بنى زياد رجل إلا وفى أنفه خزامة إلى يوم القيامة، وأنّ حسينا لم يقتل!» فما أنكر ذلك عبيد الله بن زياد على أخيه. ذكر ورود الخبر بمقتل الحسين رضى الله عنه إلى المدينة وعود أهله إليها قال: لما قتل الحسين أمر عبيد الله بن زياد عبد الملك بن الحارث [2] السّلمى بالمسير إلى المدينة؛ ليبشّر عمرو بن سعيد أمير المدينة بقتل الحسين، فاعتذر عبد الملك، فزجره ابن زياد، فخرج حتّى قدم المدينة، فلقيه رجل من قريش فقال: ما الخبر؟ فقال: الخبر عند الأمير. فاسترجع [3] القرشى، وقال: قتل والله الحسين!   [1] سبق ذكر مرجانة أم عبيد الله بن زياد، وقد جاء حديثها في مقتل الحسين فى رواية لابن جرير الطبرى فى تاريخه ج 4 ص 371: «كانت مرجانة امرأة صدق فقالت لعبيد الله حين قتل الحسين عليه السلام: ويلك ماذا صنعت وماذا ركبت» . [2] فى تاريخ ج 4 ص 356: «أبى الحارث» . [3] قال: إنا لله وإنا إليه راجعون. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 472 ودخل عبد الملك على عمرو بن سعيد فأخبره بقتل الحسين، فقال: ناد بقتله، ففعل، قال عبد الملك: فلم أسمع واعية [1] قطّ مثل واعية نساء بنى هاشم فى دورهن على الحسين! فلما سمع عمرو بن سعيد أصواتهنّ ضحك وقال: واعية بواعية عثمان [2] وأنشد بيت عمرو بن معدى كرب: عجّت نساء بنى زياد عجّة ... كعجيج نسوتنا غداة الأرنب [3] (والأرنب: يوم كان لبنى زبيد على بنى زياد من بنى الحارث بن كعب) ثم صعد عمرو المنبر فأعلم الناس بقتل الحسين.   [1] الواعية: الصراخ على الميت ونعيه. [2] ذكر الميدانى فى مجمع الأمثال ج 2 ص 379 أن عمرو بن سعيد تمثل بالمثل «يوم بيوم الحفض المجور» أى يوم بيوم عثمان، كما تمثل بالبيت «عجت نساء ... » ثم ذكر أصل هذا المثل، وكذلك ذكر الأصل القالى فى أماليه ج 2 ص 192. [3] كان من خبر هذا الشعر أن تبيلتى «جرم» و «نهد» كانتا مجاورتين ل- بنى «الحارث» ، فقتلت جرم رجلا من أشراف بنى الحارث يقال له «معاذ بن زيد» ، فارتحن الجرميون إلى «بنى زبيد» رهط عمرو بن معد يكرب، فخرجت بنو الحارث يطلبون بثأرهم ومعهم بنو نهد، فجعل عمرو وما أمام بنى نهد: وجعل نفسه وقومه أمام بنى الحارث، ولكن جرما انهزمت سريعا: فكان ذلك سببا فى كسر بنى زبيد فى ذلك اليوم، ثم إن عمرا غزا بنى الحارث فأصاب فيهم واثتصف منهم، فقال: لما رأونى فى الكتيفة مقبلا ... وسط الكتيبة مثل ضؤ الكوكب واستيقنوا منا بوقع صادق ... هربوا وليس أوان ساعة مهرب عجت نساء بنى زياد عجة ... كعجيج نسوتنا غداة الأرنب ويذكر بعض الرواة رواية أخرى: أن البيت لرجل من بنى أسد؛ ولفظه: عجت نساء بنى زبيد عجة ... الخ، ومن المؤلفين من خلط بين الروايتين. وقد ذكر القالى فى اماليه ج 1 ص 126 أن مثل هذا البيت قول الشاعر: رفعنا الخموش عن وجوه نسائنا ... إلى نسوة منهم فأبدين مجلدا وذكر القالى أن «الأرنب» موضع، وكذلك تبع صاحب اللسان والتاج من نقل عن القالى ولم يسلم ذلك له، ولم تذكره كتب البلدان والمعروف أن أرنب انتفجت فى ذلك اليوم فتفاءلوا بالظفر: فظفروا: فسمى «يوم الأرنب» والعرب تتيمن بالأرنب إذا انتفجت. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 473 قال: ولمّا نودى بقتله خرجت زينب بنت عقيل ابن أبى طالب ومعها نساؤها حاسرة ناشرة شعرها، تلوى ثيابها، وهى تقول: ماذا تقولون إن قال النبىّ لكم: ... ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم؟ بعترتى وبأهلى بعد مفتقدى ... منهم أسارى وقتلى ضرجوا بدم ما كان هذا جزائى إذ نصحت لكم ... أن تخلفونى بسوء فى ذوى رحمى وقيل: سمع بعض أهل المدينة يوم قتل الحسين مناديا ينادى: أيّها القاتلون جهلا حسينا ... أبشروا بالعذاب والتّنكيل كلّ أهل السماء يدعو عليكم ... من نبى وملأك وقبيل قد لعنتم على لسان ابن داو ... د وموسى وحامل [1] الإنجيل وروى عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: «رأيت النبى صلى الله عليه وسلم فى الليلة التى قتل فيها الحسين وبيده قارورة، وهو يجمع فيها دما، فقلت: يا رسول الله ما هذا؟ قال هذه دماء الحسين وأصحابه أرفعها إلى الله تعالى!» فأصبح ابن عباس فأعلم الناس بقتل الحسين، وقصّ رؤياه. وروى أن النبى صلى الله عليه وسلم أعطى أمّ سلمة ترابا من تربة الحسين، حمله إليه جبريل، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: «إذا صار التراب هذا دما فقد قتل الحسين» فحفظت أمّ سلمة ذلك التراب فى قارورة، فلمّا قتل الحسين صار ذلك التراب دما   [1] كذا جاء فى الأصل مثل تاريخ الطبرى، وجاء فى الكامل «وصاحب» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 474 فأعلمت الناس بقتله. وهذا القول يستقيم على قول من يقول إن أمّ سلمة توفّيت بعد الحسين [1] . قال [2] : ولما أراد يزيد أن يسيرّ آل الحسين إلى المدينة، أمر النعمان بن بشير أن يجهّزهم بما يصلحهم، ويسيّر معهم رجلا أمينا من أهل الشام، ومعه [3] خيل تسير بهم إلى المدينة، ودعا عليا ليودعه وقال: «لعن الله ابن مرجانة، أما والله لو أنّى صاحبه ما سألنى خصلة أبدا إلّا أعطيته إيّاها، ولدفعت الحتف عنه بكلّ ما استطعت، ولو بهلاك بعض ولدى، ولكن قضى الله بذلك! كاتبنى بأيّة حاجة تكون لك» وأوصى بهم ذلك الرسول. فخرج بهم، فكان يسايرهم ليلا فيكونون أمامه بحيث لا يفوتون طرفه، وإذا نزل تنحى عنهم هو وأصحابه، فكانوا حولهم كهيئة الحرس، وكان يسائلهم عن حوائجهم ويلطف بهم حتّى دخلوا المدينة. فقالت فاطمة بنت على لأختها زينب: لقد أحسن هذا الرجل إلينا فهل لك أن نصله بشىء؟ فقالت: والله ما معنا ما نصله به إلّا حلينّا، فأخرجتا سوارين ودملجين لهما فبعثتا به إليه، واعتذرتا، فردّ الجميع، وقال: لو كان الذى صنعته للدنيا لكان فى هذا ما يرضينى، ولكن والله ما فعلته إلّا لله ولقرابتكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم.   [1] أنظر الكامل ج 3 ص 303. [2] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 300. [3] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وجاء فى النسخة (ك) : «ومعهم» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 475 ذكر ما ورد من الاختلاف فى مقر رأس الحسين وأين دفن قد اختلف المؤرخون فى مقر رأسه، فمنهم من قال: إنه دفن بدمشق، ومنهم من زعم أنه نقل إلى مرو؛ ومنهم من يقول: إنه أعيد إلى الجسد ودفن بالطّف؛ ومنهم من قال: دفن بعسقلان، ثم نقل إلى مصر؛ ومنهم من قال: دفن بالمدينة عند قبر أمه فاطمة رضى الله الله عنهما. وقد رأينا أن نذكر أقوالهم فى ذلك ومستحجهم [1] . قال: فأما من قال إنه دفن بدمشق فإنه يقول: إنه لمّا قتل الحسين رضى الله عنه، وحمل رأسه إلى عبيد الله بن زياد بالكوفة كما تقدم وقصد حمله إلى دمشق، طلب من يقوره فلم يجبه إلّا طارق بن المبارك مولى بنى أمية وكان حجّاما، ففعل، وقد هجى أبو يعلى الكاتب، وهو أحد أسباط طارق هذا، فقيل فيه: شقّ رأس الحسين جدّ أبى يع ... لى وساط [2] الدّماغ بالإبهام ثم أرسل ابن زياد به إلى دمشق، فنصبه يزيد بن معاوية بها ثلاثة أيام، ووضع فى مسجد عند باب المسجد الجامع، يعرف بمسجد الرأس، (وهو تجاه باب الساعات، كان بابه هناك، ثم سدّ وفتح من مشهد زين العابدين فى سنة ثلاثين وستمائة ونحوها) ، ثم كان الرأس فى خزانة يزيد بن معاوية. واختلف أيضا القائلون إنه دفن بدمشق فى المكان الذى دفن فيه بها. فحكى ابن أبى الدنيا فى المقتل عن منصور بن جمهور أنه قال: دخلت   [1] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى النسخة (ن) «وحججهم» . [2] ساطه: خلطه وقلبه. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 476 خزانة يزيد بن معاوية، فلما فتحت أصبت [1] جونة حمراء فقلت لغلام لى يقال له سليم: احتفظ بهذه الجونة فإنها كنز من كنوز بنى أمية، فلما فتحتها وجدت بها رأسا وورقة مكتوب فيها: «رأس الحسين بن على بن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم» ، وإذا هو مخضوب بالسواد، فلفه فى ثوب ثم دفنه عند باب الفراديس، عند البرج الثالث مما يلى المشرق. وحكى الاسترباذى فى كتابه «الداعى إلى وداع الدنيا» عن أبى سعيد الزاهد أنه قال: قبر الحسين بكربلاء ورأسه بالشام فى مسجد دمشق على رأس أسطوانة، وقال غيره: على عمودين يمين القبلة، وقيل إن يزيد دفنه فى قبر أبيه معاوية، ومنهم من قال: فى مقابر المسلمين. وأما من قال: إنه بمرو فانه يقول: إن أبا مسلم الخراسانى لما استولى على دمشق، أخذ الرأس ونقله إلى مرو، ودفن بها فى دار الإمارة: وأن الرأس حشى بالمسك وكفّن وصلّى عليه مرة بعد أخرى. وأما من قال: إنه أعيد إلى الجسد ودفن معه، فمنهم من يقول: إن يزيد أعاده بعد أربعين يوما؛ ومنهم من يقول: بل استقر فى خزانة السلاح إلى أن ولى سليمان بن عبد الملك فأحضره وقد قحل [2] ؛ وبقى عظم أبيض فجعل عليه ثوبا وجعله فى سفط [3] وصلّى عليه ودفن فى مقابر المسلمين، فلما ولى عمر بن عبد العزيز بعث إلى خازن السلاح يطلب منه الرأس، فطالعه بما كان من أمره فأمره بنبشه وأخذه، فالله أعلم بما   [1] الجونة: السلة. [2] كذا جاء فى النسخة (ن) : «قحل» ومعناه: يبس، وجاء فى النسخة (ك) : «نحل» . [3] السفط: وعاء كالقفة، وحرفه بعض العامة إلى «سبت» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 477 صنع به، لكنهم أستدلّوا من ديانة عمر بن عبد العزيز وصلاحه وخيره أنه نقله إلى الجسد ودفن معه. وأما من قال: إنه كان بعسقلان ثم نقل إلى مصر فاستنادهم فى ذلك إلى رؤيا منام، وذلك أن رجلا رأى فى منامه، وهو بعسقلان أن رأس الحسين فى مكان بها، عيّن له فى منامه فنبش ذلك [1] الموضع، وذلك فى أيام المستنصر بالله العبيدى صاحب مصر، ووزارة بدر الجمالى، فابتنى بدر الجمالى له مشهدا بعسقلان، فلم يزل الأمر على ذلك إلى أن تغلب الفرنج على عسقلان، فى سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، فحمل إلى القاهرة فى البحر. وحكى محمد بن القاضى المكين عبد العزيز بن حسين [2] فى سيرة الصالح بن رزّيك، قال: لما ولى عباس بن أبى الفتوح الوزارة بمصر فى سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، فى مستهلّ جمادى الآخرة وصل الخبر بتملّك الفرنج عسقلان، فنقل رأس الحسين فيها- من المشهد الذى أنشأه أمير الجيوش بدر الجمالى، وكمله الأفضل [3]- إلى القاهرة، فكان وصوله إليها فى يوم الأحد، ثامن جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، وكان قد سيّر أحد الأستاذين الخواص لتلقّيه إلى مدينة تنّيس [4] ، فوصل فى عشارى [5]   [1] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وجاء فى النسخة (ك) : «فنبش فى ذلك» . [2] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وجاء فى النسخة (ك) : «عبد العزيز الحسين» . [3] الأفضل: هو ابن أمير الجيوش بدر الجمالى، وقد قتل الأفضل فى شهر رمضان من سنة خمس عشرة وخمسمائة، انظر النجوم الزاهرة ج 5. [4] جاءت هذه الكلمة فى الأصل غير منقوطة وغير واضحة، والأقرب أنها «تئيس» وهى مدينة قديمة فى جزيرة صغيرة فى الجهة الشمالية الشرقية من يحيرة المنزلة. [5] عشارى: نوع من السفن المصرية الخاصة بعظماء الدولة وصفها عبد اللطيف البغدادى فى مختصر أخبار مصر طبع أوربا ص 172. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 478 من عشاريات الخدمة، ودخل فيه إلى خليج القاهرة، وأدخل من باب البستان المعروف بالكافورى، فى ليلة الاثنين التاسع من الشهر، وسلك به إلى القصر الغربى إلى أن وصل إلى القصر الشرقى، ولم يزل الحال على ذلك إلى أن حدث من عبّاس وابنه ما حدث، من قبل الظافر وإخوته وابن أخيه، على ما نذكر ذلك إن شاء الله فى أخبارهم فى كتابنا هذا، فلما نهض الصالح بن رزّيك فى الطلب بثأرهم، وولىّ الوزارة، لم يقدّم شيئا على الشروع فى بناء المشهد بالقصر، فى الموضع المعروف بقبة الخراج من دهاليز باب الديلم وكمّل المشهد، فلما كان فى ليلة يسفر صباحها عن تاسع المحرم سنة خمس وخمسين وخمسمائة، خرج ابن رزّيك من داره راجلا إلى الايوان، فأخرج الرأس فحمله خاشعا مستكينا إلى أن أحله بالضريح، ومدحه الشعراء، فمن ذلك قول أحدهم: أدركت من عبّاس ثأرا دونه ... ما أدرك السّفّاح من مروان وحقرت ما فخر ابن ذى يزن به ... لمّا أقرّ الملك فى غمدان وجمعت أشلاء الحسين وقد غدت ... بددا فأضحت فى أعزّ مكان وعرفت للعضو الشريف محلّه ... وجليل موضعه من الرحمن أكرمت مثواه لديك وقبل فى ... آل الطّريد غدا بدار هوان وقضيت حقّ المصطفى فى حمله ... وحظيت من ذى العرش بالرّضوان ونصبته للمسلمين تزوره ... مهج إليه شديدة الهيمان أسكنته فى خير مأوى خطّه ... أبناؤه فى سالف الأزمان ولو استطعت جعلت قلبك لحده ... فى موضع التوحيد والإيمان الجزء: 20 ¦ الصفحة: 479 حرم تلوذ به الجناة فتنثنى ... محبوّة بالعفو والغفران قد كان مغتربا زمانا قبل ذا ... فالآن عدت به إلى الأوطان وأما من قال: إنه بالمدينة، فإنه يقول: إنه لما نصب بدمشق وطيف به، أمر يزيد بن معاوية النعمان بن بشير الأنصارى أن يحمله إلى المدينة، ليشاهده الناس، وليرهب به عبد الله بن الزبير، فلما وصل إلى المدينة ودخل به على عمرو بن سعيد الأشدق، قال: وددت أن أمير المؤمنين لم يكن بعث به إلىّ، فقال له مروان بن الحكم: اسكت لا سكتّ ولكن قل كما قال: ضربت دوسى فيهم ضربة ... أثبتت أوتاد ملك فاستقر ثم أمر به عمرو بن سعيد فكفّن ودفن عند قبر أمه فاطمة رضى الله عنهما. وقيل: بل أرسل إلى من بالمدينة من بنى هاشم، أن [1] دونكم رأس صاحبكم، فأخذوه، فغسلوه وكفنوه وصلوا عليه ودفنوه عند قبر أمه رضى الله عنهما، والله تعالى أعلم، وقد تكلم عمر بن أبى المعالى أسعد بن عمار [2] بن سعد بن عمار [بن على] [3] رحمه الله تعالى فى كتابه الذى ترجمه «الفاصل بين الصدق والمين فى مقر رأس الحسين» على هذه الأقوال المتقدمة ووهنها وضعّفها [واستدل على ضعفها [4]] ، ورجح أنه بالمدينة، حتّى كاد يبلغ به مبلغ القطع،   [1] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وجاء فى النسخة (ك) : «أودونكم» . [2] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى النسخة (ن) : «عمران» . [3] ثبتت هذه الزيادة فى النسخة (ن) ، ولم تثبت فى النسخة (ك) . [4] ثبتت هذه الزيادة فى النسخة (ن) ، ولم تثبت فى النسخة (ك) . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 480 فقال ما معناه: أمّا قولهم إنه كان فى خزائن بنى أميّة إلى أن ظهرت الخلافة العباسية، وأن أبا مسلم نقله إلى خراسان، فهذا بعيد جدا، وذلك أن أبا مسلم لمّا فتح الشام كان بخراسان، والذى فتح دمشق عبد الله بن على بن [عبد الله بن] [1] عباس، فكيف يتصوّر أن ينقله أو يمكن من نقله إلى مولاه بخراسان؟ ولو ظفر به فى خزائن بنى أميّة لأظهره للناس ليزدادوا لبنى أمية بغضا، وأيضا فقد ولى العبد الصالح عمر بن عبد العزيز الخلافة، وبعيد أن كان يترك رأس ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى خزائن السلاح ولم يواره. وأمّا قولهم إنه كان بعسقلان فلم يوجد ذلك فى تاريخ من التواريخ أنه نقل إلى عسقلان ولا إلى مصر، ويقوّى ذلك أن الشام ومصر لم يكن بهما شيعة علوية فينقل إليهم ليروه وتنقطع آمالهم من الحسين وتضعف نفوسهم عن الوثوب مع غيره والانضمام [2] إليه. وأما قولهم إنه بالمدينة عند قبر أمه فقد قاله محمد بن سعد فى طبقاته، وابن أبى الدنيا وأبو المؤيد الخوارزمى خطيب خوارزم فى إحدى رواياتهما، وصححه أبو الفرج ابن الجوزى، والله تعالى أعلم. وقد أخذ هذا الفصل حقه، فلنذكر خلاف ذلك من الأخبار التى اتفقت فى أيام يزيد بن معاوية على حكم اليقين:   [1] ثبتت هذه الزيادة فى النسخة (ن) ، ولم تثبت فى النسخة (ك) . [2] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى النسخة (ن) «أو الإنضمام» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 481 ذكر مقتل أبى بلال مرداس بن حدير الحنظلى [1] الخارجى قد ذكرنا فى أيام معاوية خروجه وأن ابن زياد بعث [2] إليه أسلم بن زرعة الكلابى فى ألفين، فهزمهم بآسك. فلما كان فى هذه السنة أرسل إليه ابن زياد ثلاثة آلاف، عليهم عباد بن الأخضر التميمى (والأخضر زوج أمه، نسب إليه وإنما هو عباد بن علقمة بن عباد) فسار إليه، واتبعه حتّى لحقه بتوّج [3] ، فاقتتلوا حتّى دخل وقت العصر، فقال أبو بلال: هذا يوم جمعة، وهو يوم عظيم، دعونا حتّى نصلّى، فتوادعوا، فعجّل عباد الصلاة وقيل: بل قطعها، والخوارج يصلّون، فشدّ عليهم هو وأصحابه، فقتلوهم وهم ما بين قائم وراكع وساجد، لم يتغير منهم أحد عن حاله، فقتلوا عن آخرهم. ورجع عباد إلى البصرة برأس أبى بلال، فرصده عبيدة بن هلال ومعه ثلاثة نفر، فأقبل عباد يريد قصر الإمارة، فقالوا له: قف حتّى نستفتيك. فوقف، فقالوا: نحن إخوة أربعة قتل أخونا فما ترى؟ قال: استعدوا الأمير: قالوا: استعديناه فلم يعدنا. قال: فاقتلوه قتله الله. فوثبوا عليه وقتلوه، واجتمع الناس على الخوارج فقتلوا [4] .   [1] حدير: أبو مرداس، وأم مرداس: أدّيّة، وقد اشتهر ب «مرداس بن أدية» كما سبق. [2] سنة ثمان وخمسين. [3] توج: مدينة بفارس، ويقال فيها: توز. [4] فى الكامل «فقتلوا غير عبيدة» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 482 وفيها استعمل يزيد بن معاوية سلم بن زياد على خراسان وسجستان، وعزل عنهما أخويه: عبد الرحمن وعبّادا ابنى زياد، فكتب عبيد الله [1] بن زياد إلى أخيه عباد [2] يخبره بولاية سلم، فقسم عباد ما فى بيت المال على عبيدة، وفضل فضل فنادى: من أراد سلفا فلياخذ، فأسلف كلّ من أتاه، وخرج عن سجستان، فلما كان بجيرفت [3] بلغه مكان أخيه سلم، وكان بينهما جبل، فعدل عنه، فذهب لعباد تلك الليلة ألف مملوك، أقلّ ما مع أحدهم عشرة آلاف، وسار عباد حتى قدم على يزيد، فسأله عن المال، فقال: كنت صاحب ثغر فقسمت ما أصبت بين الناس. قال: ولما سار سلم إلى خراسان كتب يزيد إلى عبيد الله بن زياد معه [4] بنخبة ستة آلاف فارس، وقيل ألفين، فكان سلم ينتخب الوجوه [والفرسان [5]] ، فخرج معه عمران بن الفضيل البرجمى والمهلّب بن أبى صفرة وطلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعى وغيرهم، وسار حتّى قدم خراسان، وعبر النهر غازيا، وكان عمال خراسان قبله يغزون، فإذا دخل الشتاء رجعوا إلى مرو الشاهجان [6] ، فإذا   [1] كذا جاء «عبيد الله» فى النسخة (ن) مثل الكامل ح 3 ص 303 وتاريخ الطبرى 4 ص 361، وجاء فى النسخة (ك) «عبد الرحمن» . [2] وكان له صديقا. [3] جيرفت: مدينة بكرمان. [4] عبارة ابن الأثير «كتب معه يزيد إلى أخيه عبيد الله بن زياد» ، وعبارة الطبرى «قدم سلم بن زياد بكتاب يزيد بن معاوية إلى عبيد الله» . [5] الزيادة من تاريخ الطبرى ج 4 ص 362. [6] مرو الشاهجان هى مرو العظمى، و «الشاهجان» كلمة فارسية معناها: نفس السلطان، لأن «جان» هى نفس أو روح، والشاه هو السلطان، سميت بذلك لجلالتها عندهم. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 483 انصرف المسلمون اجتمع ملوك خراسان بمدينة ممّا يلى خوارزم، فيتعاقدون ألّا يغزو بعضهم بعضا ويتشاورون فى أمورهم، وكان المسلمون يطلبون إلى أمرائهم غزو تلك المدينة، فيأبون عليهم، فلمّا قدم سلم غزا فشتّى فى بعض مغازيه، فسأله المهلب أن يوجهه إلى تلك المدينه، فوجهه فى ستة آلاف، وقيل: فى أربعة آلاف، فحاصرهم، فطلبوا الصلح على نيّف وعشرين ألف ألف، فصالحهم، وكان فى صلحهم أن يأخذ منهم عروضا، فكان يأخذ العروض من الرقيق والدوابّ والمتاع بنصف قيمتها، فبلغ ما أخذ منهم خمسين ألف ألف، فحظى بها المهلّب عند سلم، وأخذ سلم من ذلك ما أعجبه وبعث به إلى يزيد. وغزا سلم سمرقند، وعبر معه النهر امرأته أم محمد بنت عبد الله ابن عثمان بن أبى العاص الثقفى، وهى أول امرأة من العرب قطع بها النهر، فولدت له ابنا سماه «صغدى» واستعارت امرأته من امرأة صاحب الصّغد حليّها فلم تعده إليها وذهبت به [1] . ووجّه جيشا إلى خجندة [2] فيهم أعشى همدان، فهزموا، فقال الأعشى فى ذلك: ليت [3] خيلى يوم الخجندة لم ته ... زم وغودرت فى المكرّ سليبا [4] تحضر الطير مصرعى وتروّح ... ت إلى الله فى الدّماء خضيبا   [1] عبارة الطبرى: «وأرسلت إلى امرأة صاحب الصغد تستعير منها حليا، فبعثت إليها بتاجها، وقفلو فذهبت بالتاج» . [2] خجندة: مدينة على شاطىء سيحون. [3] سقط البيتان من النسخة (ن) . [4] كذا جاء فى الكامل ومعجم البلدان، وجاء فى المخطوطة «المكان» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 484 وفيها عزل يزيد عمرو بن سعيد، واستعمل الوليد بن عتبة ابن أبى سفيان، وسبب ذلك أن الوليد وناسا من بنى أميّة قالوا ليزيد: لو شاء عمرو لأخذ بن الزبير وسرّح [1] به إليك. فعزله، ولم يكن كذلك، بل كان ابن الزبير كاده. وحج الوليد فى هذه السنة بالناس. سنة اثنين وستين ذكر وفد أهل المدينة إلى يزيد بن معاوية وخلعهم له عند عودهم وفى هذه السنة وفد جماعة من أهل المدينة إلى يزيد بن معاوية بالشام، فيهم عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة [2] وعبد الله بن أبى عمرو بن حفص بن المغيرة المخزومى، والمنذر بن الزبير، ورجال كثير من أشراف أهل المدينة. وكان ابن الزبير قد كتب [3] إلى يزيد لمّا استعمل الوليد ابن عتبة على الحجاز يقول: «إنك بعثت إلينا رجلا أخرق، لا بتّجه لرشد، ولا يرعوى لعظة الحكيم، فلو بعثت رجلا سهل الخلق   [1] فى الكامل ج 3 ص 306 «وسرحه» ، وفى تاريخ الطبرى ج 4 ص 366 «وبعث به» . [2] لقب حنظلة بن أبى عامر الأنصارى الأوسى ب «غسيل الملائكة» لأنه لما استشهد فى غزوة أحد أخبر النبى صلى الله عليه وسلم أنه «تغسله الملائكة» .... وابنه «عبد الله» مولود على عهد النبى صلى الله عليه وسلم. [3] فى تاريخ الطبرى والكامل: «أن ابن الزبير عمل بالمكر فى أمر الوليد بن عتبة فكتب .... » . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 485 رجوت أن يسهل من الأمور ما استوعر منها، وأن يجتمع ما تفرّق» [1] فعزل يزيد الوليد، واستعمل عثمان بن محمد بن أبى سفيان، وهو فتى غرّ حدث لم تحنّكه التجارب، ولا يكاد ينظر فى شىء من سلطانه ولا عمله. فوفد هذا الوفد إلى يزيد، فقدموا عليه، فأكرمهم وأحسن إليهم وأعظم جوائزهم، فأعطى عبد الله بن حنظلة مائة ألف درهم، وكان معه ثمانية بنين فأعطى كل واحد منهم عشرة آلاف، وأجاز المنذر بن الزبير بمائة ألف كتب له بها على عبيد الله بن زياد فتوجه إلى العراق فقبضها. ورجع الوفد إلى المدينة إلّا المنذر، فلمّا قدموا المدينة قاموا فى الناس فأظهروا شتم يزيد وعيبه، وقالوا: «قدمنا من عند رجل ليس له دين، يشرب الخمر، ويعزف بالطّنابير، وتعزف عنده القيان، ويلعب بالكلاب، ويسمر عنده الحزّاب (وهم اللصوص) وإنا نشهدكم أنّا قد خلعناه» . وقام عبد الله بن حنظلة فقال: «جئتكم من عند رجل لو لم أجد إلّا بنىّ هؤلاء لجاهدته، وقد أعطانى وأكرمنى، وما قبلت منه عطاءه إلّا لأتقوّى به» . فخلعه الناس، وبايعوا عبد الله بن حنظلة على خلعه، وولّوه عليهم. ثم قدم المنذر من العراق إلى المدينة، فحرّض الناس على يزيد،   [1] زاد الطبرى «فانظر فى ذلك، فإن فيه صلاح خواصنا وعوامنا إن شاء الله، والسلام» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 486 وقال: «إنه أجازنى بمائة ألف [1] ، ولا يمنعنى ما صنع بى أن أخبركم خبره، والله إنه ليشرب الخمر، وإنه ليسكر حتّى يدع الصلاة!» وعابه بمثل ما عابه به أصحابه وأشدّ. فبعث يزيد النعمان بن بشير الأنصارى وقال له: «إن عدد الناس بالمدينة قومك، فأتهم فالفتهم عمّا يريدون، فإنهم إن لم ينهضوا فى هذا الأمر لم يجترىء الناس على خلافى» . فأتى النعمان قومه، وأمرهم بلزوم الطاعة، وخوّفهم الفتنة، فعصوه ولم يرجعوا إلى قوله، فرجع. وبسبب هذه الواقعة كانت وقعة الحرّة. وفى هذه السنة كان من الحوادث فى بلاد المغرب ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخبار أفريقية. وحج بالناس فى هذه السنة الوليد بن عتبة. وفيها ولد محمد بن عبد الله بن عباس والد السفاح والمنصور. سنة ثلاث وستين ذكر وقعة الحرّة كان سبب هذه الوقعة ما قدمناه من خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية، فلمّا كان فى هذه السنة أخرج أهل المدينة عثمان بن محمد ابن أبى سفيان عامل يزيد، وحصروا بنى أميّة، فاجتمع بنو أميّة ومواليهم ومن يرى رأيهم فى ألف رجل، ونزلوا دار مروان ابن الحكم، وكتبوا [2] إلى يزيد يستغيثون به، فلمّا قرأ الكتاب   [1] فى تاريخ الطبرى: «أجازنى بمائة ألف درهم» . [2] كان الذى بعث إليه منهم مروان بن الحكم وعمرو بن عثمان بن عفان، وكان مروان هو الذى يدبر أمرهم، فأما عثمان بن محمد بن أبى سفيان، فانما كان غلاما غرا ليس له رأى، كما سبق قريبا. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 487 بعث إلى عمرو بن سعيد الأشدق، فأقرأه الكتاب وأمره بالمسير فى الناس، فقال قد كنت ضبطت لك الأمور والبلاد، فأما الآن إذ صارت دماء قريش تهراق بالصعيد فلا أحبّ أن أتولّى ذلك. فبعث إلى عبيد الله بن زياد، فأمره بالمسير إلى المدينة ومحاصرة عبد الله بن الزبير بمكة، فقال: «والله لا أجمعهما [1] للفاسق: قتل ابن بنت رسول الله وغزو الكعبة!» ثم أرسل إليه يعتذر. فبعث إلى مسلم بن عقبة المرّى [2] وهو شيخ كبير مريض فأخبره الخبر، فقال: أما يكون بنو أميّة [ومواليهم وأنصارهم بالمدينة] [3] ألف رجل؟ قال: بلى؛ قال: «أما استطاعوا أن يقاتلوا ساعة من نهار؟ ليس هؤلاء بأهل أن ينصروا فإنهم أذلّاء! دعهم يا أمير المؤمنين حتّى يجهدوا أنفسهم فى جهاد عدوّهم، ويتبيّن لك من يقاتل على طاعتك ومن يستسلم» ؛ قال: «ويحك! إنه لا خير فى العيش بعدهم! فاخرج بالناس» . وقيل: إن معاوية قال ليزيد: إن لك من أهل المدينة يوما، فإن فعلوا فارمهم بمسلم بن عقبة، فإنه رجل قد عرفت نصيحته، فأمره بالمسير إليهم. فنادى فى الناس بالتجهيز إلى الحجاز وأن يأخذوا عطاءهم ومعونة مائة دينار لكل رجل؛ فانتدب لذلك اثنا عشر ألفا، وساروا مع   [1] جاء فى النسخة (ن) : «لاجمعتهما» . [2] هو مسلم بن عقبة بن رباح بن أسعد بن ربيعة بن عامر بن مالك بن يربوع بن غيظ بن مرة، فهو منسوب إلى «مرة» ، وقد قال عند موته «لبنى مرة زراعتى التى بحوران صدقة على مرة» ووقع فى النسخة (ن) : «المزنى» . [3] الزيادة من تاريخ الطبرى ج 4 ص 371. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 488 مسلم، فقال له يزيد: إن حدث بك حدث فاستخلف الحصين ابن نمير السّكونى [1] ؛ وقال له: «ادع القوم ثلاثا فإن أجابوا وإلّا فقاتلهم، فإذا ظهرت عليهم فأبحها ثلاثا بما فيها من مال أو رقة [2] أو سلاح أو طعام، فهو للجند، فإن انقضت الثلاث فاكفف عن الناس، واكفف عن علىّ بن حسين، واستوص به خيرا [3] فإنه لم يدخل مع الناس، وقد أتانى كتابه» . قال: ولمّا بلغ أهل المدينة خبر الجيش اشتدّ حصارهم لبنى أمية بدار مروان، وقالوا: «والله لا نكف عنكم حتّى نضرب أعناقكم [4] أو تعطونا عهد الله وميثاقه أنكم لا تبغونا غائلة، ولا تدلوا لنا على عورة، ولا تظاهروا علينا عدوّنا، فنكفّ عنكم ونخرجكم» ، فعاهدوهم على ذلك، وأخرجوهم من المدينة، فساروا بأثقالهم حتّى لقوا مسلم بن عقبة بوادى القرى، فدعا عمرو بن عثمان بن عفّان أوّل الناس، فقال: أخبرنى ما وراءك وأشر علىّ، قال: لا أستطيع، قد أخذ علينا العهود والمواثيق ألا ندلّ على عورة ولا نظاهر عدوّا؛ فانتهره وقال: «والله لولا أنك ابن عثمان لضربت عنقك، وايم الله لا أقيلها قرشيا بعدك!»   [1] هو الحصين بن نمير بن ناتل بن لبيد بن جعثنة بن حارث بن سلمة بن شكامة ابن السكون، كما فى جمهرة أنساب العرب ص 403. [2] الرقة: الدراهم، وجاء فى الكامل ج 3 ص 311 «دابة» . [3] يروى أن أهل المدينة لما ثاروا على بنى أمية كلم مروان بن الحكم على بن الحسين فى أن يجعل أهله عنده، فقبل ابن الحسين؛ وخرج بحرمه وحرم مروان حتى وضعهم فى يتبع. [4] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى النسخة (ن) «رقابكم) ، وجاء فى الكامل ج 3 ص 312: «حتى تستنزلكم ونضرب أعناقكم» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 489 فخرج إلى أصحابه، فأخبرهم خبره، فقال مروان بن الحكم لابنه عبد الملك: ادخل عليه قبلى لعله يجتزىء بك عنى، فدخل عبد الملك على مسلم، فقال «نعم: [هات ما عندك؛ فقال [1]] نعم، أرى أن تسير بمن معك، فإذا انتهيت إلى أدنى نخلها نزلت، فاستظلّ الناس فى ظله وأكلوا من صقره [2] ، فإذا أصبحت من الغد مضيت، وتركت المدينة ذات اليسار، ثم درت بها حتّى تأتيهم من قبل الحرّة مشرقا [3] ثم تستقبل القوم، فإذا استقبلتهم وقد أشرقت عليهم [الشمس] [4] طلعت من أكناف أصحابك فلا تؤذيهم، ويصيبهم أذاها [5] ويرون من ائتلاق بيضكم وأسنّة رماحكم وسيوفكم ودروعكم ما لا ترونه أنتم منهم، ثم قاتلهم، واستعن عليهم بالله تعالى» . فقال له مسلم: «لله أبوك.! أىّ أموىّ!» ثم دخل عليه مروان فقال له [إيه. قال] [6] أليس قد دخل عليك عبد الملك؟ قال: «بلى، وأىّ رجل عبد الملك! قلما كلمت من رجال قريش رجلا به شبيها!» فقال له مروان: إذا لقيت عبد الملك فقد لقيتنى. ثم ارتحل مسلم من مكانه، وفعل ما أمره به عبد الملك، ثم دعاهم فقال: «إن أمير المؤمنين يزعم أنكم الأصل، وإنى أكره إراقة   [1] ثبتت هذه الزيادة فى النسخة (ن) ؛ ولم تثبت فى النسخة (ك) . [2] يقال لعسل الرطب عند أهل المدينة «صقر» بسكون القاف؛ ويقال لهذا الرطب «صقر» بكسر القاف. [3] الحمرة- بفتح الحاء وتشديد الراء- أرض بظاهر المدينة فيها حجارة سود كبيرة. [4] ثبتت هذه الزيادة فى النسخة (ن) ولم تثبت فى النسخة (ك) . [5] لأن أشعة الشمس تقع فى وجودهم، بخلاف جيش مسلم بن عقبة. [6] ثبتت هذه الزيادة فى النسخة (ن) ؛ ولم تثبت فى النسخة (ك) . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 490 دمائكم، وإنى أؤجّلكم ثلاثا، فمن ارعوى وراجع الحقّ قبلنا منه وانصرفت عنكم إلى هذا الملحد الذى بمكة، وإن أبيتم كنّا قد أعذرنا إليكم» . فلما مضت الثلاث قال مسلم: يا أهل المدينة ما تصنعون؟ أتسالمون أم تحاربون؟ فقالوا: بل نحارب، فقال لهم: «لا تفعلوا، بل ادخلوا فى الطاعة، ونجعل حدّنا وشوكتنا على هذا الملحد الذى قد جمع إليه المرّاق [1] والفسّاق من كل أوب [2] » يعنى عبد الله بن الزبير، فقالوا له: «يا عدوّ الله، لو أردتم أن تجوزوا إليه ما تركناكم: أنحن ندعكم أن تأتوا بيت الله الحرام فتخيفوا أهل مكة وتلحدوا فيه وتستحلّوا حرمته؟ لا والله لا نفعل!» . قال: وكان أهل المدينة قد اتّخذوا خندقا، وعليه جمع منهم، عليهم عبد الرحمن بن أزهر بن عوف [وهو ابن عم عبد الرحمن بن عوف] [3] وكان عبد الله بن مطيع مع ربع قريش فى جانب المدينة، وكان معقل بن سنان الأشجعى، أحد الصحابة على ربع المهاجرين، وكان أمير جماعتهم عبد الله بن حنظلة الغسيل الأنصارى فى أعظم تلك الأرباع، وهم الأنصار. وصمد مسلم بن عقبة فيمن معه، فأقبل من ناحية الحرّة، حتّى   [1] المارق الخارج من الدين بضلالة، وجمعه: المراق. [2] أوب، جهة. [3] ثبتت هذه الزيادة فى النسخة (ن) ، ولم تثبت فى النسخة (ك) ، وقد ذكرها كذلك بعض العلماء، منهم ابن جرير الطبرى فى تاريخه ح 4 ص 374 وابن الأثير فى الكامل ح 3 ص 312، والراجع عند الزبير بن بكار وأبى نعيم وابن عبد البر وابن حجر أنه ابن أخى عبد الرحمن بن عوف. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 491 ضرب فسطاطه على طريق الكوفة، وكان مريضا، فأمر فوضع له كرسىّ بين الصفّين، فجلس، ثم حرّض أهل الشام على القتال، فجعلوا لا يقصدون ربعا من تلك الأرباع إلّا هزموه، ثم وجّه الخيل نحو ابن الغسيل، فكشفهم [1] ، حتّى انتهوا إلى مسلم، فنهض فى وجوههم بالرجال، وصاح بهم، فقاتلوا قتالا شديدا. ثم إن الفضل بن عبّاس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب جاء إلى ابن الغسيل، فقاتل معه فى نحو عشرين فارسا قتالا حسنا، ثم قال ابن بن الغسيل: «مر من معك فارسا فليأتنى، فليقف معى، فإذا حملت فليحملوا [2] ، فو الله لا أنتهى حتى أبلغ مسلما فأقتله أو أقتل دونه!» ففعل، وجمع الجند، فحمل بهم الفضل على أهل الشام، فانكشفوا، ثم حمل وحمل أصحابه حملة أخرى، فانفرجت خيل الشام عن مسلم ومعه خمسمائة راجل جثاة على الرّكب مشرعى الأسنّة نحو القوم، ومضى الفضل نحو راية مسلم فضرب رأس صاحبها فقطّ المغفر وفلق هامته، فخرّ ميتا، وقال: خذها وأنا ابن عبد المطلب! وظن أنه قتل مسلما، فقال: قتلت طاغية القوم وربّ لكعبة! فأخذ مسلم رايته، وكان المقتول غلاما روميا [3] شجاعا، وحرّض مسلم أهل الشام، وقال: شدّوا مع هذه الراية، فمشى برايته، وشدّت الرجال أمام الراية، فصرع الفضل وما بينه وبين [أطناب] [4]   [1] فى الكامل وتاريخ الطبرى، «فحمل عليهم ابن الفسيل فى من معه فكشفهم» . [2] كذا جاء فى (ك) وجاء فى النسخة: (ن) : «فليحمل معى» . [3] كذا جاء فى المخطوطة مثل الكامل ح 3 ص 313، وجاء فى تاريخ الطبرى ح 4 ص 375: «يقال له رومى» . [4] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وجاء فى النسخة (ك) : «وبين فسطاط» ، وجاء فى الكامل وتاريخ الطبرى وبين «أطناب» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 492 فسطاط مسلم إلّا نحو عشرة أذرع، وقتل معه زيد بن عبد الرحمن بن عوف، وأقبلت خيل مسلم ورجالته نحو ابن الغسيل، فحرض ابن الغسيل أصحابه، فنهضوا واقتتلوا أشدّ قتال، وأخذ ابن الغسيل يقدّم بنيه واحدا واحدا، حتّى قتلوا بن يديه، ثم قتل وقتل معه أخوه لأمه محمد ابن ثابت بن قيس بن شماس، وعبد الله بن زيد بن عاصم، ومحمد بن عمرو بن حزم الأنصارى. وانهزم الناس. وأباح مسلم بن عقبة المدينة ثلاثا، يقتلون الناس، ويأخذون المتاع والأموال، فسمّى مسلم بعد وقعة الحرة [1] مسرفا» . وقيل إن مسلما لمّا نزل بأهل المدينة خرج إليه أهلها بجموع كثيرة وهيئة حسنة، فهابهم أهل الشام، وكرهوا قتالهم، [فلما رآهم مسلم سبّهم وذمهم وحرّضهم، وكان شديد الوجع، فقاتلوا، فبينما أهل المدينة فى قتالهم] [2] إذ سمعوا التكبير من خلفهم من جوف المدينة، وكان سببه أن بنى حارثة أدخلوا أهل الشام المدينة، فانهزم الناس، فكان من أصيب فى الخندق أكثر ممّن قتل. ودعا مسلم الناس إلى البيعة ليزيد على أنهم خول [3] له يحكم فى دمائهم وأموالهم وأهليهم ما شاء، فمن امتنع من ذلك قتله. وأتى يومئذ بعمرو بن عثمان بن عفان، وكان ممّن لم يخرج مع   [1] انظر قول على بن عبد الله بن عباس: هموا منعوا ذمارى يوم جاءت ... كتائب مسرف وبنوا للكيعة [2] ثبتت هذه الزيادة فى النسخة (ن) مثل تاريخ الطبرى فى ج 4 ص 381 وسقطت من النسخة (ك) . [3] الخول: العبيد ونحوهم. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 493 بنى أميّة، فقال مسلم: يا أهل الشام تعرفون هذا؟ قالوا: لا؛ قال: هذا الخبيث ابن الطيب، هذا عمرو بن عثمان، هى يا عمرو إذا ظهر [1] أهل المدينة قلت أنا رجل منكم، وإن ظهر أهل الشام قلت أنا ابن أمير المؤمنين عثمان» ، وأمر به فنتفت لحيته، ثم خلّى سبيله. وكانت وقعة الحرّة لليلتين بقيتا من ذى الحجة سنة ثلاث وستين. وقتل مسلم جماعة من أهل المدينة صبرا، فكان منهم على ما ذكر ابن إسحاق والواقدى وويثمة وغيرهم: الفضل بن العباس ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وأبو بكر بن عبد الله بن جعفر بن أبى طالب، وأبو بكر بن عبيد الله بن عمر بن الخطاب، ويعقوب ابن طلحة بن عبيد الله، وعبد الله بن زيد بن عاصم، ومعقل ابن سنان الأشجعى، ومحمد بن أبى الجهم بن حذيفة العدوى، وقتل أيضا صبرا ابنا زينب بنت أم سلمة ربيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهما [2] ابنا عبد الله [3] بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد ابن عبد العزّى بن قصىّ، ولما قتلا حملا إلى أمهما فوضعا بين يديها، فاسترجعت [4] وقالت: والله إنّ المصيبة علىّ فيهما لكبيرة، وهى علىّ فى هذا أكبر منها فى هذا، أما هذا فجلس فى بيته وكفّ   [1] ظهر: غلب. [2] ولدت زينب بنت أبى سلمة بأرض الحبشة، وتزوج النبى صلى الله عليه وسلم أمها- أم سلمة- وهى ترضعها، فكانت ربيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذى سماها «زينب» ، وكانت من أفقه نساء زمانها. [3] كان عبد الله ابن أخت «أم سلمة» . [4] استرجعت: قالت إنا لله وانا إليه راجعون. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 494 يده فدخل عليه فقتل مظلوما، فأنا أرجو له الجنة، وأمّا هذا فبسط. يده فقاتل حتى قتل، فلا أدرى علام هو فى ذلك؟ فالمصيبة به أعظم منها علىّ فى هذا! وقتل أيضا يزيد بن عبد الله بن زمعة. وانتهى القتل يومئذ فيما ذكروا إلى ثلاثمائة، كلّهم من أبناء المهاجرين والأنصار. ومنهم جماعة ممّن صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغت قتلى قريش يومئذ نحو مائة، وقتلى الأنصار والحلفاء والموالى نحو مائتين. وقيل: إن يزيد بن معاوية لمّا بلغه ما كان من خبر هذه الوقعة قال: ليت أشياخى ببدر شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسل لأهلّوا واستهلّوا فرحا ... ثم قالوا يا يزيد لا تشل لست من عتبة إن لم أثّئر [1] ... من بنى أحمد ما كان فعل هكذا حكى [2] عن بعض المؤرخين. والذى أعتقده أن هذه الأبيات مفتعلة عنه ومنسوبة [3] إليه، فإنها لا تصدر إلّا ممن نزع ربقة [4] الإسلام من عنقة. والله أعلم.   [1] أثأر: أدرك الثأر. [2] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى النسخة (ن) : «نقل» . [3] لأنه أوصى بعلى بن الحسين خيرا، ولأنه حارب قريشا فى من حارب بالمدينة، ولأن البيت الأول من هذه الأبيات من قصيدة معروفة لعبد الله بن الزبعرى بن عدى بن قيس بن عدى بن سعد بن سهم القرشى قالها فى وقعة أحد قبل أن يسلم، وقد عارضه حصان بن ثابت بقصيدة قال فيها: ذهبث بابن الزبعرى وقعة ... كان منا الفضل فيها لو عدل ثم أسلم ابن الزبعرى فى فتح مكة واعتذر فى شعر منه قوله: يا رسول المليك إن لسانى ... راثق ما فتقت إذ أنا بور [4] الربقة: العروة فى الحبل. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 495 وحج بالناس فى هذه السنة عبد الله بن الزّبير، وكان يسمى يومئذ «العائذ بالبيت» . سنة اربع وستين ذكر مسير مسلم بن عقبة إلى مكة لحصار عبد الله بن الزبير، ووفاة مسلم والحصار الأول وإحراق الكعبة قال ولما فرغ مسلم من قتال أهل المدينة ونهبها شخص نحو مكة بمن معه لقتال ابن الزبير، واستخلف على المدينة روح بن زنباع الجذامّى. وقيل: عمرو بن محرز الأشجعى. وكان خبر وقعة الحرّة قد أتى عبد الله بن الزّبير مع المسور بن مخرمة هلال المحرم، فاستعد هو وأصحابه للحرب. وسار مسلم حتى انتهى إلى المشلّل [1] فمات هناك، ولما حضرته الوفاة أحضر الحصين بن نمير السّكونىّ وقال له يا برذعة الحمار، لو كان الأمر لى ما ولّيتك هذا الجند. ولكن أمير المؤمنين ولّاك [2] ؛ ثم مات. وسار الحصين فقدم مكة لأربع بقين من المحرّم، وقد بايع أهلها وأهل الحجاز عبد الله بن الزبير [ولحق به من انهزم من أهل المدينة] [3]   [1] المشلل: جبل. [2] زاد ابن جرير فى تاريخه ح 4 ص 382 قول مسلم بن عقبة: فاحفظ ما أوصيك به: هم الأخبار؛ ولا ترع سمعك قريشا أبدا؛ ولا تردن أهل الشام عن عدوهم؛ ولا تقيمن الا ثلاثا حتى تناجز ابن الزبير» . [3] ثبتت هذه الزيادة فى النسخة (ن) ؛ وسقطت من النسخة (ك) . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 496 وقدم عليه نجدة بن عامر الحنفىّ من اليمامة فى أناس من الخوارج يمنعون البيت. فخرج ابن الزّبير للقاء أهل الشام ومعه أخوه المنذر، فبارز المنذر [1] رجل من أهل الشام، فضرب كلّ واحد منهما صاحبه ضربة فماتا جميعا. وقاتل المسور بن مخرمة، ومصعب بن عبد الرحمن بن عوف قتالا شديدا حتّى قتلا، وصابرهم ابن الزّبير إلى الليل، ثم انصرفوا عنه [2] ، ثم أقاموا عليه فقاتلوه بقية المحرم وصفر كله، حتّى إذا مضت ثلاثة أيام من ربيع الأول سنة أربع وستين قذفوا البيت بالمجانيق، وحرقوه بالنار، وهم يرتجزون: خطارة [3] مثل الفنيق [4] المزبد ... نرمى بها أعواد هذا المسجد واستمروا على القتال والحصار إلى آخر هذا الشهر، فأتاهم نعى يزيد بن معاوية لهلال شهر ربيع الآخر. ذكر وفاة يزيد بن معاوية وشىء من أخباره كانت وفاته بحوّارين من قرى حمص لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول من سنة أربع وستين، وقيل: فى هذا الشهر من   [1] كذا جاء فى المخطوطة: وجاء فى تاريخ الطبرى: «ثم إن رجلا من الشام دعا المنذر إلى المبارزة. وجاء فى الكامل: «فبارز المنذر رجلا» . [2] وهذا فى الحصار الأول. [3] وكذلك جاء فى حديث الحجاح لما حاصر ابن الزبير بمكة ونصب المنجنيق «خطارة كالجمل الفنيق» انظر لسان العرب فى خ ط ر، ف ن ق، شبه رميها بخطران الفحل من الإبل تشبيها مأخوذا من بيئتهم. [4] الفنيق: القحل المكرم من الإبل. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 497 سنة ثلاث وستين، وهو ابن ثمان وثلاثين سنة، وقيل: تسع وثلاثين؛ وقيل: أقلّ من ذلك إلى خمس وثلاثين. وكانت ولايته ثلاث سنين وتسعة [1] أشهر وأيّاما، على القول الأول فى وفاته. وحمل إلى دمشق فدفن بها فى مقبرة الباب الصغير، وصلّى عليه ابنه معاوية. وكان له من الأودلار معاوية وخالد [2] وأبو سفيان عبد الله الأكبر أمّهم أمّ هاشم بنت أبى هاشم بن عتبة بن ربيعة، وله أيضا عبد الله الأصغر [3] ، وأمّه أمّ كلثوم بنت عبد الله بن عامر، وهو الإسوار [4] وله أيضا عبد الله أصغر الأصاغر، وعمير [5] وأبو بكر وعتبة وحرب ومحمد لأمّهات شتى؛ قيل: وله يزيد والربيع. وكاتبه عتبة [6] بن أوس ثم زمل بن عمرو العذرىّ. وكان نقش خاتمه: «ربّنا الله» . حاجبه خالد مولاه، وقيل: صفوان. قاضيه أبو إدريس الخولانى.   [1] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى الكامل ج 3 ص 317 وتاريخ الطبرى ج 4 ص 384: «وستة أشهر وقيل: ثمانية أشهر» والظاهر أنها ثمانية اشهر، لأن مبايعة يزيد كانت فى رجب، وجاء فى التنبيه والإشراف للمسعودى ص 264: «وكانت أيامه ثلاث سنين وسبعة أشهر واثنين وعشرين يوما» . [2] كان خالد يكنى» أبا هاشم «وقيل إنه أصاب علم الكيمياء» . [3] كان من أرمى العرب. [4] الإسوار: الجيد الرمى. [5] كذا جاء فى المخطوطة وجاء فى الكامل وتاريخ الطبرى: «عمرو» . [6] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى التنبيه والإشراف ص 265 «وكتب له عبيد بن أوص النسائى وزمل بن عمرو العذرى وسرجون بن منصور» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 498 عمّاله على الأمصار [من] [1] تقدم ذكرهم.. الأمير بمصر مسلمة بن مخلّد [2] ، ثم توفّى [3] ، فولّاها يزيد سعيد [4] بن يزيد الأزدى من أهل فلسطين.. القاضى بها من قبل مسلمة ويزيد عابس [5] بن سعيد، وجمع له بين القضاء والشرطة، وكان أمّيّا لا يكتب ولا يقرأ. ذكر بيعة معاوية بن يزيد بن معاوية وكنيته «أبو عبد الرحمن» و «أبو ليلى [6] » ، وأمه أم هاشم بنت أبى هاشم بن عتبة بن ربيعة، وهو الثالث من ملوك بنى أميّة، بويع له بالشام فى النصف من ربيع الأول سنة أربع وستين.   [1] ثبت هذه الزيادة فى النسخة (ن) ، ولم نتبت فى النسخة (ك) . [2] مسلمة بن مخلد الخزرجى الأنصارى، ولاه معاوية مصر بعد عزل عقبة بن عامر الجهنى عنها فى سنة سبع واربعين، وهو أول من أحدث المنار بالمساجد والجوامع. [3] توفى مسلمة لخمس بقين من شهر رجب سنة اثنين وستين، وكانت ولايته على مصر خمس عشرة سنة وأربعة أشهر. [4] سعيد بن يزيد بن علقمة بن يزيد بن عوف الأزدى، لما ولاه يزيد إمرة مصر دخلها فى مستهل شهر رمضان؛ فتلقاه أهل مصر ووجوه الناس وفيهم عمرو الخولانى، فلما رآه قال، «يغفر الله لأمير المؤمنين! أما كان فينا مائة شاب كلهم مثلك يولى علينا أحدهم؟» ولم يزل أهل مصر على البغض له حتى توفى يزيد، فاستجابوا لدعوة بن الزبير، فاعتزل سعيد بعد ولايته بسنتين. [5] كان مسلمة بن مخلد قد خرج إلى الإسكندرية فى سنة ستين، واستخلف على مصر عابس بن سعيد، ثم قدم مسلمة من الإسكندرية فجمع لعابس مع الشرطة القضاء فى أول سنة 61 ثم توفى عابس فى سنة ثمان وستين. [6] قال المسعودى فى التنبيه والإشراف: «معاوية بن يزيد بن معاوية يكنى أبا عبد الرحمن، وإنما كنى أبا ليلى تقريعا له لعجزه عن القيام بالأمر، وكانت العرب تفعل ذلك بالعاجز من الرجال، وفيه قال الشاعر: إنى أرى فتنة تغلى مراجلها ... والملك بعد أبى ليلى لمن غلبا وقيل: بل هذا الشعر قديم تمثل به الشاعر فى أيامه» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 499 قال [1] : ولمّا كان فى آخر إمارتة أمر فنودى: «الصلاة جامعة» فاجتمع الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال «أمّا بعد، فإنى ضعفت عن أمركم، فابتغيت لكم مثل عمر بن الخطاب حين استخلفه أبو بكر رضى الله عنهما فلم أجده، فابتغيت ستة من أهل الشورى فلم أجد، فأنتم أولى بأمركم، فاختاروا له من أحببتم» . ثم دخل منزله وتغيّب حتّى مات، فقيل: مات مسموما، وصلّى عليه الوليد بن عتبة بن أبى سفيان، ثم طعن [2] الوليد فمات من يومه. وقيل: إنه لمّا كبّر تكبيرتين مات قبل انقضاء الصلاة، فتقدم مروان بن الحكم فصلّى عليه. وقيل: إنه أوصى أن يصلّى بالناس الضحّاك بن قيس حتى يقوم لهم خليفة. وقيل له عند الموت:! اعهد إلى خالد بن يزيد، فقال: والله ما ذقت حلاوة خلافتكم، فكيف أتقلّد وزرها من بعدى [3] ! ولم يكن لمعاوية هذا ولد. وكان نقش خاتمه: «الدنيا غرور» [4] . وكانت وفاته لخمس بقين من شهر ربيع الآخر سنة أربع وستين.   [1] ابن الأثير فى الكامل 3 ص 319. [2] طعن: أصابه الطاعون. [3] جاء فى الكامل أن معاوية بن يزيد قال: «لا أتزود مرارتها واترك لبنى أمية حلاوتها» . [4] كذا جاء فى الأصل وجاء فى التنبيه والإشراف: «وكان نقش خاتمه: «بالله ثقة معاوية» .. وكتب له زمل بن عمرو العذرى وسليمان بن سعيد الخشنى وسرجون النصرانى، وقاضيه: أبو إدريس الخولالى، وحاجبه: صفوان مولاه.. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 500 وكانت مدة ولايته إلى حين وفاته أربعين يوما، وقال المدائنى: ثلاثة أشهر، وقال ابن إسحاق: عشرين يوما. ومات وله ثلاث وعشرون سنة، وقال العتبى: سبع عشرة سنة. والله تعالى أعلم. فلنذكر أخبار من بويع بالعراق وخراسان فى زمن هذه الفتن، بعد وفاة يزيد بن معاوية وابنه معاوية بن يزيد إلى أن خلص الأمر بالحجاز والعراق وخراسان لعبد الله بن الزّبير. ذكر أخبار من بويع بالعراق أو لم يتم أمره إلى أن بويع لعبد الله بن الزبير وما كان بالعراق من الوقائع فى خلال ذلك كان أوّل من بويع بالعراق بعد وفاة يزيد بن معاوية عبيد الله بن زياد بن أبيه، وذلك أنه لمّا أتاه الخبر بوفاة يزيد، وبلغه ما الناس فيه بالشام من الاختلاف، أمر فنودى: «الصلاة جامعة» ، فاجتمع الناس، فصعد المنبر، فنعى يزيد وعرّض بثلبه [1] ، لأن يزيد كان قد كرهه قبل موته، وصرّح بلعنه بسبب قتل الحسين بن علىّ، حتى خافه عبيد الله على نفسه، ثم قال عبيد الله: «يا أهل البصرة إن مهاجرنا إليكم، ودارنا فيكم، [ومولدى فيكم] [2] ، ولقد ولّيتكم وما أحصى ديوان مقاتلتكم إلا سبعين ألف مقاتل، ولقد أحصى اليوم ثمانين ألف مقاتل، وما أحصى ديوان عمالكم [إلا تسعين ألفا، ولقد أحصى اليوم مائة ألف وأربعين ألفا، وما تركت لكم ذا   [1] الثلب: اللوم والعيب. [2] الزيادة من الكامل ج 3 ص 320. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 501 ظنّة أخافه عليكم [1]] إلّا وهو فى سجنكم، وإنّ يزيد قد توفّى، وقد اختلف الناس بالشام، وأنتم اليوم أكثر الناس عددا، وأعرضه فناء، وأغناه عن الناس، وأوسعهم بلادا، فاختاروا لأنفسكم رجلا ترضونه لدينكم وجماعتكم، فأنا أوّل راض بما رضيتموه [لدينكم وجماعتكم] [2] ، فإن اجتمع أهل الشام على رجل ترضونه دخلتم فيما دخل فيه المسلمون، وإن كرهتم ذلك كنتم على جديلتكم [3] حتى تعطوا حاجتكم، فما بكم إلى أحد من أهل البلدان حاجة، وما يستغنى الناس عنكم» . فقام خطباؤهم، وقالوا: قد سمعنا مقالتك، وما نعلم أحد أقوى عليها منك، فهلمّ [4] نبايعك، فقال: لا حاجة لى فى ذلك. فكرروا عليه وهو يأبى عليهم ثلاثا، ثم بسط يده فبايعوه ثم انصرفوا ومسحوا أيديهم بالحيطان، وقالوا: أيظن ابن مرجانة إنّا ننقاد له فى الجماعة والفرقة. قال: ولمّا بايعوه أرسل إلى أهل الكوفة مع عمرو بن مسمع وسعد بن قرحا التيمى [5] يدعوهم إلى البيعة له، ويعلمهم ما صنع أهل البصرة، فلمّا وصلا إلى الكوفة وكان خليفة عبيد الله عليها عمرو بن حريث، فجمع الناس، وقام الرسولان فخطبا وذكرا ذلك للناس، فقام يزيد بن الحارث بن يزيد الشّيبانى وهو ابن رويم، فقال   [1] ثبتت هذه الزيادة فى النسخة (ن) ، وسقطت من النسخة (ك) . [2] ثبتت هذه الزيادة فى النسخة (ك) وسقطت من النسخة (ن) . [3] الجديلة: الحالة الأولى. [4] «هلم» كلمة بمعنى الدعاء إلى الشىء مثل «ثعالى» . [5] كذا فى الأصل وفى تاريخ الطبرى «التميمى» .. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 502 الحمد لله الذى أراحنا من ابن سمّية، أنحن نبايعه؟ لا ولا كرامة. وحصبهما الناس بعده، فشرّفت هذه المقالة يزيد بن رويم بالكوفة ورفعته، ورجع الرسولان إلى عبيد الله، فقال أهل البصرة: أيخلعه أهل الكوفة ونولّيه نحن؟! فضعف سلطانه عندهم، فكان يأمر بالأمر فلا يقضى ويرى الرأى فيردّ عليه، ويأمر بحبس المخطئ فيحال بين أعوانه وبينه. ثم جاء البصرة سلمة بن ذؤيب الحنظلى التميمى، فوقف فى السوق وبيده لواء، وقال: أيها الناس، هلمّوا إلىّ، إنى أدعوكم إلى ما لم يدعكم إليه أحد، أدعوكم إلى العائذ بالحرم، يعنى عبد الله بن الزّبير. فاجتمع إليه ناس، وجعلوا يبايعونه، فبلغ الخبر ابن زياد، فجمع الناس فخطبهم وذكّرهم بما كان من بيعته وقال: إنى بلغنى أنكم مسحتم أكفكم بالحيطان وباب المسجد، وقلتم ما قلتم، وإنى آمر بالأمر فلا ينفذ، ويردّ علىّ رأيى، ويحال بين أعوانى وبين طلبتى، ثم هذا سلمة بن ذؤيب يدعوكم إلى الخلاف عليكم، ليفرق جماعتكم، ويضرب بعضكم رقاب بعض [1] !» . فقال الأحنف والناس: نحن نأتيك بسلمة، فأتوه، فإذا جمعه قد كثف والفتق قد اتسع، فقعدوا عن ابن زياد فلم يأتوه فلما رأى ذلك أرسل إلى الحارث بن قيس بن صهبان الجهضمى الأزدى، فأحضره وسأله الهرب به، فقال: يا حارث [إن أبى أوصانى إن احتجت إلى الهرب يوما ما أن أختاركم، فقال الحارث] [1]   [1] ثبتت هذه الزيادة فى النسخة (ن) . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 503 قد اختبرنا أباك فلم نجد عنده ولا عندك مكافأة، وما أدرى كيف أتأتّى لك إن أخرجتك نهارا أخاف أن تقتل وأقتل، ولكنى أقيم معك إلى الليل، ثم أردفك خلفى لئلّا نعرف، فقال عبيد الله، نعم ما رأيت، فأقام عنده، فلمّا كان الليل حمله خلفه، وكان فى بيت المال تسعة عشر ألف ففرّق ابن زياد بعضها فى مواليه، وادّخر الباقى لآل زياد، قال: وسار الحارث بعبيد الله، فكان يمرّ به على الناس وهم يتحارسون مخافة الحروريّة، حتّى انتهوا إلى بنى ناجية، فقال بنوا ناجية: من أنت؟ قال: الحارث بن قيس. وعرف رجل منهم عبيد الله، فقال: ابن مرجانة! وأرسل سهما فوقع فى عمامته ومضى به الحارث حتّى أنزله فى داره بالجهاضم؛ فقال له ابن زياد: «يا حارث، إنك قد أحسنت، فاصنع ما أشير به عليك. قد علمت منزلة مسعود بن عمرو، وشرفه وسنّه، وطاعة قومه له. فهل لك أن تذهب بى إليه فأكون فى داره، فهى وسط الأزد؟ فإنك إن لم تفعل فرّق عليك أمر قومك، فأخذه الحارث فدخلا على مسعود فلم يشعر حتّى رآهما، فقال للحارث: أعوذ بالله من شر ما طرقتنى به، قال: ما طرقتك إلّا بخير، ولم يزل الحارث يلطف بمسعود فى أمره حتّى قال له: أتخرجه من بيتك بعد ما دخله عليك؟! فأمره مسعود فدخل بيت أخيه عبد الغافر بن عمرو، ثم ركب مسعود من ليلته ومعه الحارث وجماعة من قومه، فطافوا بالأزد فقالوا: إن ابن زياد قد فقد، وإنا لا نأمن أن تلطخوا به. فأصبحوا فى السلاح، وفقد الناس بن زياد فقالوا: ما هو إلا فى الأزد. [وقيل: إن الحارث لم يكلم الجزء: 20 ¦ الصفحة: 504 مسعودا، بل أمر عبيد الله [1]] فحمل معه مائة ألف درهم وأتى بها أمّ بسطام امرأة مسعود وهى بنت عمّ الحارث ومعه عبيد الله، فاستأذن عليها، فأذنت له. [فقال: قد أتيتك بأمر تسودين به نساء العرب، وتتعجلين به الغنى، فأخبرها الخبر] [2] وأمرها أن تدخل ابن زياد البيت، وتلبسه ثوبا من ثياب مسعود، ففعلت، فلما جاء مسعود أخذ برأسها يضربها، فخرج عبيد الله والحارث عليه، وقال، لقد أجارتنى وهذا ثوبك على، وطعامك فى بطنى، وشهد الحارث، وتلطفوا به حتى رضى، فلم يزل ابن زياد فى بيته حتّى قتل مسعود، فسار إلى الشام على ما نذكره إن شاء الله. قال: ولما فقد ابن زياد بقى أهل البصرة بغير أمير. فاختلفوا فيمن يؤمّرونه عليهم، ثم تراضوا بقيس بن الهيثم السّلمى، وبنعمان بن سفيان ليختارا من يرتضيان لهم، وكان رأى قيس فى بنى أمية، ورأى النعمان فى بنى هاشم، فقال النعمان: ما أرى أحدا [أحق بهذا الأمر] [2] من فلان، (لرجل من بنى أميّة) . وقيل بل ذكر عبد الله بن الأسود الزهرىّ، وكان هوى قيس فيه، وإنما قال النعمان ذلك خديعة ومكرا بقيس، فقال قيس: قد قلّدتك أمرى ورضيت من رضيت، ثم جاء [3] إلى الناس، فقال قيس بن الهيثم: قد رضيت من رضى النعمان.   [1] الزيادة من ابن الأثير ج 3 ص 321. [2] ثبتت هذه الزيادة فى النسخة (ك) ، ولم تثبت فى النسخة (ن) . [3] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى النسخة (ن) «خرجا» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 505 ذكر ولاية عبد الله بن الحارث البصرة قال: ولما اتفق قيس والنّعمان، ورضى قيس بمن يؤمّره النعمان، أشهد عليه النعمان بذلك، وأخذ على قيس وعلى الناس العهود بالرضا. ثم أتى عبد الله بن الأسود، وأخذ بيده واشترط عليه، حتّى ظنّ الناس أنه يبايعه، ثم تركه. وأخذ بيد عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وهو الملقب، «ببّه» [1] واشترط عليه مثل ذلك، ثم حمد الله وذكر النبىّ صلى الله عليه وسلم وحقّ أهل بيته وقرابته، ثم قال: «أيها الناس، ما تنقمون من رجل من بنى عم نبيكم وأمّه هند بنت أبى سفيان، فإن كان الأمر فيهم فهو ابن أختهم» ، ثم أخذ بيده وقال، قد رضيت لكم هذا. فنادوا: قد رضينا، وبايعوه، وأقبلوا به إلى دار الإمارة حتّى نزلها. وذلك أول جمادى الآخرة سنة أربع وستين. ذكر مقتل مسعود بن عمرو الأزدى وهرب عبيد الله بن زياد إلى الشام قال: ثم إن الأزد وربيعة جددوا الحلف الذى كان بينهم، وأنفق ابن زياد ما لا كثيرا فيهم حتّى تمّ الحلف، وكنبوا بينهم بذلك كتابين، فلمّا تحالفوا اتفقوا على أن يردّوا ابن زياد إلى دار الإمارة، فساروا ورئيسهم مسعود بن عمرو، فقال لابن زياد: سر معنا، فلم   [1] انظر تاريخ الطبرى ج 4 ص 398 والكامل لابن الأثير ح 3 ص 322 وشرح ابن يعيش للمفصل ح 1 ص 32 وشواهد العينى ح 1 ص 403 ومادتى (ببب) و (جذب) فى لسان العرب وثاج العروس، و «يبه» فى الأصل: حكاية صوت صبى. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 506 يفعل، وأرسل معه مواليه على الخيل، وقال لهم لا يحدثنّ خير ولا شر إلا أنبأتمونى به. فجعل مسعود لا يأتى سكة ولا يتجاوز قبيلة إلّا أتى بعض أولئك الموالى إلى ابن زياد بالخبر، وسارت ربيعة وعليهم مالك بن مسمع فأخذوا سكة المربد، وجاء مسعود فدخل المسجد وصعد المنبر، وعبد الله ابن الحارث فى دار الإمارة، فقيل له، إن مسعود وأهل اليمن وربيعة قد ساروا وسيهيج بين الناس شر، فلو أصلحت بينهم وركبت فى بنى تميم، فقال: أبعدهم الله، والله لا أفسدت نفسى فى صلاحهم، وسار مالك بن مسمع نحو دور بنى تميم حتى دخل سكة بنى العدويّة، فحرق دورهم لما فى نفسه منهم. وجاء بنو تميم إلى الأحنف بن قيس فقالوا: يا أبا بحر، إن ربيعة والأزد قد تحالفوا وقد ساروا إلى الرحبة فدخلوها، فقال، لستم بأحقّ بالمسجد منهم، فقالوا: قد دخلوا الدار، فقال: لستم بأحقّ بالدار منهم؛ فأتته امرأة بمجمر وقالت له: مالك وللرياسة؟! إنما أنت امرأة تتجمر. ثم أتوه فقالوا: إن امرأة منا قد نزعت خلا خيلها، وقد قتلوا الصباغ الذى على طريقك، وقتلوا المقعد الذى كان على باب المسجد. وقد دخل مالك بن مسمع سكّة بنى العدويّة فحرق، فقال الأحنف: أقيموا البينة على هذا، ففى بعض هذا ما يحل به قتالهم! فشهدوا عنده على ذلك؛ فقال الأحنف: أجاء عبّاد بن حصين؟ قالوا لا: ثم قال: أجاء عبّاد؟ قالوا لا. قال: أهاهنا عبس بن طلق قالوا: نعم؛ [فدعاه] [1]   [1] ثبتت الزيادة فى النسخة (ن) ، ولم تثبت فى النسخة (ك) . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 507 فانتزع معجرا [1] من رأسه فعقده فى رمح ثم دفعه إليه، فقال: سر، فسار وصاح الناس: «هاجت زبراء» (وزيراء أمة للأحنف كنوا بها عنه) [2] . فسار عبس إلى المسجد، فقاتل الأزد على أبوابه، ومسعود يخطب على [المنبر] [3] ، ثم أتوه فاستنزلوه وقتلوه، وذلك أول شوال سنة أربع وستين، وانهزم أصحابه. وكان ابن زياد قد تهيأ لما صعد مسعود المنبر ليجىء دار الإمارة، فقيل له إن مسعود قد قتل، فركب ولحق بالشام. وأما مالك بن مسمع فأتاه ناس من مصر فحصروه فى داره وحرقوه. ولما هرب ابن زياد تبعوه فأعجزهم، فنهبوا ما وجدوا له؛ ففى ذلك يقول واقد بن خليفة التميمىّ. يا رب جبّار شديد كلبه ... قد صار فينا تاجه وسلبه منهم عبيد الله حين تسلبه ... جياده وبزه وننهبه يوم التقى مقنبنا [4] ومقنبه ... لو لم ينجّ ابن زياد هربه وقد قيل فى قتل مسعود ومسير ابن زياد غير ما قدمناه. وهو أنه لمّا استجار ابن زياد بمسعود بن عمرو وأجاره، ثم سار ابن زياد إلى   [1] المعجر هنا: العمامة. [2] «زبراء» جارية سليطة كانت للأحنف، وكانت إذا غضبت قال الأحنف «هاجت زبراء» . ثم صارت مثلا لكل من هاج غضبه. [3] الزيادة من ابن الأثير والطبرى. [4] المقنب جماعة الخيل والفرسان. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 508 الشام وأرسل معه مسعود مائة من الأزد حتّى قدموا به إلى الشام، ولما سار من البصرة استخلف مسعودا عليها، فقال بنو تميم وقيس: لا نرضى إلّا رجلا ترضاه جماعتنا، فقال مسعود: قد استخلفنى ولا أدع ذلك أبدا، وخرج حتّى انتهى إلى القصر فدخله، واجتمعت نميم إلى الأحنف، فقالوا له: إن الأزد قد دخلوا المسجد قال: إنّما هو لهم ولكم، قالوا: قد دخلوا القصر وصعد مسعود المنبر. وكانت خوارج قد خرجوا فنزلوا بنهر الأساورة حين خرج عبيد الله إلى الشام، فزعم الناس أن الأحنف بعث إليهم: إن هذا الرجل الذى قد دخل القصر هو لنا ولكم عدوّ، فما يمنعكم منه؟! فجاءت عصابة منهم حتّى دخلوا المسجد ومسعود على المنبر يبايع من أتاه، فرماه علج يقال له مسلم من أهل فارس، كان قد دخل البصرة وأسلم ثم صار من الخوارج، فأصاب قلبه فقتله؛ فقال الناس: قتله الخوارج. فخرج الأزد إلى تلك الخوارج، فقتلوا منهم وجرحوا، وطردوهم عن البصرة، ثم قيل للأزد: إن تميما قتلوا مسعودا، فأرسلوا يسألون، فإذا ناس من تميم تقوله، فاجتمعت الأزد عند ذلك، فرأسوا عليهم زياد بن عمرو أخا مسعود، ومعهم مالك بن مسمع فى ربيعة، وجاءت تميم إلى الأحنف يقولون: قد خرج القوم؛ وهو لا يتحرك، فأتته امرأة بمجمر فقالت: اجلس على هذا، (أى إنما أنت امرأة) ، فخرج الأحنف فى بنى تميم ومعهم من بالبصرة من قيس، فالتقوا، فقتل منهم قتلى كثيرة، فقال لهم بنو تميم: «يا معشر الأزد، الله الله فى دمائنا ودمائكم، بيننا وبينكم القرآن، ومن شئتم من أهل الإسلام، فإن كانت لكم علينا بيّنة فاختاروا الجزء: 20 ¦ الصفحة: 509 أفضل رجل فينا فاقتلوه، وإن لم تكن لكم بيّنة فإنا نحلف بالله ما قتلنا ولا أمرنا ولا نعلم له قاتل، وإن لم تريدوا ذلك فنحن ندى صاحبكم بمائة ألف درهم» . وسفر بينهم عبيد الله بن معمر وعبد الرحمن ابن الحارث بن هشام، فطلبوا عشر ديات، فأجابهم الأحنف إلى ذلك، واصطلحوا عليه. قال: وأما عبد الله بن الحارث «ببّه» فإنه أقام يصلى بالناس حتّى قدم عليهم عمر بن عبيد الله أميرا من قبل ابن الزّبير. وقيل: كتب ابن الزبير إلى عمر بعهده على البصرة، فأتاه الكتاب وهو متوجه إلى العمرة، فكتب عمر إلى أخيه عبيد الله يأمره أن يصلّى بالناس، فصلى بهم حتّى قدم عمر، فبقى عمر أميرا شهرا، ثم قدم الحارث بن عبيد الله بن أبى ربيعة المخزومى فعزله ووليها الحارث. وقيل: بل اعتزل عبد الله بن الحارث «ببّه» أهل البصرة بعد قتل مسعود، فكتب أهل البصرة بعد قتل مسعود إلى ابن الزّبير، وكتب ابن الزّبير إلى أنس بن مالك يأمره أن يصلى بالناس، فصلى بهم أربعين يوما. هذا ما كان من أمر البصرة، فلنذكر خبر أهل الكوفة. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 510 ذكر خبر أهل الكوفة وما كان من أمرهم [بعد ابن زياد] [1] إلى أن بويع ابن الزبير كان من خبرهم أنهم لما حصبوا رسل ابن زياد على ما ذكرناه عزلوا خليفته عليهم وهو عمرو بن حريث، واجتمع الناس وقالوا: نؤمّر علينا رجلا إلى أن يجتمع الناس على خليفة، فاجتمعوا على عمر بن سعد بن أبى وقّاص، فجاءت نساء همدان يبكين الحسين ابن علىّ رضى الله عنهما ورجالهم متقلدو السيوف، فأطافوا بالمنبر؛ فقال محمد بن الأشعث: جاء أمر غير ما كنّا فيه. وكانت كندة تقوم بأمر عمر بن سعد، لأنهم أخواله، فأجمعوا على عامر بن مسعود ابن أمية بن خلف بن وهب الجمحى، فخطب أهل الكوفة فقال: إن لكل قوم أشربة ولذّات فاطلبوها فى مظانّها، وعليكم بما يحل ويحمد، واكسروا شرابكم بالماء، وتواروا عنى بهذه الجدران. فقال ابن همام [3] : اشرب شرابك وانعم غير محسود ... واكسره بالماء لا تعص ابن مسعود إن الأمير له فى الخمر مأربة ... فاشرب هنيئا مريئا غير تصريد [3]   [1] ثبتت هذه الزيادة فى النسخة (ن) ، ولم تثبت فى النسخة (ك) . [2] هو عبد الله بن همام السلولى. [3] التصريد: شرب دون الرى. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 511 من ذا يحرّم ماء المزن خالطه ... من قعر خابية ماء العناقيد إنى لأكره تشديد الرّواة لنا ... فيها ويعجبنى قول ابن مسعود وكثير من الناس يظن أن ابن مسعود المذكور فى هذا الشعر هو عبد الله بن أم عبد، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس كذلك. قال: ولمّا بايعه أهل الكوفة كتبوا بذلك إلى ابن الزّبير فأقرّه عليها، فمكث ثلاثة أشهر من مهلك يزيد بن معاوية، ثم استعمل عبد الله بن الزّبير عبد الله بن يزيد الخطمى الأنصارىّ على الصلاة، وإبراهيم بن محمد بن طلحة على الخراج، واستعمل محمد بن الأشعث بن قيس على الموصل. ذكر خبر خراسان وما كان من أمر سلم بن زياد وبيعته وخبر عبد الله بن خازم كان من خبر خراسان أنه لما بلغ سلم بن زياد وهو العامل عليها موت يزيد بن معاوية كتم ذلك، فقال له ابن عرادة: يأيها الملك المغلّق بابه ... حدثت أمور شأنهن عظيم قتلى بحرّة والذين بكابل ... وزيد أعلن شأنه المكتوم أبنى أمية إن آخر ملككم ... جسد بجوّازين ثمّ مقيم الجزء: 20 ¦ الصفحة: 512 طرقت منيّته وعند وساده ... كوب وزق راعف مرثوم [1] ومرنّة تبكى على نشواته ... بالصنج تقعد مرة وتقوم فلما ظهر شعره أظهر سلم موت يزيد بن معاوية ومعاوية بن يزيد، ودعا الناس إلى البيعة على الرضا حتّى تستقيم أمور الناس على خليفة، فبايعوه، ثم نكثوا به بعد شهرين، فلمّا خلعوه خرج عنهم واستخلف المهلّب بن أبى صفرة، فلما كان بسرخس لقيه سليمان بن مرثد أحد بنى قيس بن ثعلبة بن ربيعة، فقال له: أضاقت عليك نزار حتى خلّفت على خراسان رجلا من اليمن، يعنى المهلب. فولاه مرو الرّوز، والفارياب، والطالقان، والجزجان. وولّى أوس بن ثعلبة ابن زفرر (وهو صاحب قصر أوس بالبصرة) هراة، فلما وصل سلم إلى نيسابور لقيه عبد الله بن حازم، فقال له: من وليت خراسان؟ فأخبره فقال: «أما وجدت من مضر من تستعلمه، حتى فرّقت خراسان بين بكر بن وائل واليمن! اكتب لى عهدا على خراسان» ؛ فكتب له وأعطاه مائة ألف درهم. وسار ابن خازم إلى مرو، وبلغ خبره المهلّب، فأقبل فاستخلف رجلا من بنى جشم بن سعد بن زيد مناه بن تميم، فلمّا وصلها ابن خازم منعه الجشمىّ، وجرت بينهما مناوشة، فأصابت الجثمىّ رمية فى جبهته، وتحاجزا، ودخلهما ابن خازم، ومات الجثمىّ بعد ذلك بيومين.   [1] زق واعف: يسيل من الامتلاء. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 513 ثم سار ابن خازم إلى مرو فقاتله سليمان بن مرثد أياما، فقتل سليمان، ثم سار بن خازم إلى عمرو بن مرثد وهو بالطّالقان فاقتتلوا فقتل عمرو بن مرثد، وانهزم أصحابه، فلحقوا بهراة بأوس بن ثعلبة، ورجع ابن خازم إلى مرو. وهرب من كان بمرو الرّوذ من بكر بن وائل إلى هراة، وانضمّ إليها من كان بكور خراسان من بكر، فكثر جمعهم، وقالوا لأوس ابن ثعلبة: نبايعك على أن تسير إلى ابن خازم وتخرج مضر من خراسان، فأبى عليهم [1] فهمّوا [2] بمبايعة غيره، فأجابهم، فبايعوه، فسار إليهم ابن خازم فنزل على واد بينه [3] وبين هراة، فأشار البكريّون بالخروج من هراة وعمل خندق، فقال أوس: بل نلزم المدينة فإنها حصينة، وأطاول ابن خازم ليضجر ويعطينا ما نريد، فأبوا عليه، وخرجوا فخندقوا خندقا [4] . وقاتلهم ابن خازم نحو سنة. فنادى هلال الضّبىّ وهو من أصحابه فقال: «إنما تقاتل إخوتك وبنى أبيك، فإن نلت منهم الذى تريد فما فى العيش خير، فلو أعطيتهم شيئا يرضون به، وأصلحت هذا الأمر!» فقال: والله لو خرجنا إليهم عن خراسان ما رضوا [5] » ! فقال هلال: لا والله   [1] فقال لهم: هذا بغى، وأهل البغى مخذولين، أقيموا مكانكم هذا، فإن ترككم ابن خازم، وما أراه يفعل، فارضوا بهذه الناحية، وخلوه وما هو فيه. [2] قال له بنو صهيب: لا والله لا نرضى أن نكون نحن ومضر فى بلد، وقد قتلوا بنى مرثد، فإذ أجبتنا إلى هذا وإلا أمرنا علينا غيرك. [3] عبارة الطبرى: «بين عسكره وبين هراة» . [4] عبارة الطبرى «وخرجوا من المدينة فخندقوا خندقا» . [5] زاد الطبرى «ولو استطاعوا أن يخرجوكم من الدنيا لأخرجوكم» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 514 لا أقاتل معك أنا ولا رجل يطيعنى حتى تعذر إليهم! قال. فأنت رسولى إليهم فأرضهم. فأتى هلال إلى أوس بن ثعلبة، فناشده الله والقرابة فى نزار، وأن يحفظ دماءها، فقال: هل لقيت بنى صهيب: قال: لا، قال: فالقهم. وبنو صهيب هم موالى بنى جحدر، وهم الذين ألزموا أوس ابن ثعلبة بالقتال، فخرج هلال من عند أوس فلقى جماعة من رؤساء أصحابه، فأخبرهم ما أتى له، فقالوا له: هل لقيت بنى صهيب؟ فقال: لقد عظم أمر بنى صهيب عندكم! فأتاهم يكلّمهم، فقالوا: والله لولا أنك رسول لقتلناك. قال: فما يرضيكم شىء؟ قالوا: «واحد من اثنين [1] ؛ إما أن تخرجوا من خراسان [2] ، وإما أن تقيموا وتخرجوا لنا كل سلاح وكراع وذهب وفضة» . فرجع هلال إلى ابن خازم، فقال: ما عندك؟ فأخبره [3] الخبر فقال: إن ربيعة لم تزل غضابا على ربّها منذ بعث نبيه من مضر!. وأقام ابن خازم يقاتلهم، فلما طال مقامه ناداهم يوما؛ يا معشر ربيعة، أرضيتم بنى من خراسان بخندقكم؟! فأحفظهم ذلك، فتنادوا للقتال، فنهاهم أوس عن الخروج بجماعتهم، فعصوه، وخرجوا، فقاتلوا ساعة، ثم انهزموا، حتّى انتهوا إلى خندقهم، وتفرّقوا يمينا وشمالا، وسقطوا فى الخندق، وقتلوا قتلا ذريعا، وهرب أوس بن ثعلبة وبه جراحات، وحلف ابن خازم لا يؤتى بأسير   [1] فى تاريخ الطبرى: «واحدة من اثنين» . [2] زاد الطبرى قولهم: «ولا يدعو فيها لمضر داع» . [3] وقال له: «وجدت إخوانا قطعا للرحم» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 515 يومه ذلك إلا قتله وسار أوس بن ثعلبة إلى سجستان فمات بها أو قريبا منها، وقتل من بكر يومئذ ثمانية آلاف، وغلب ابن حازم على هراة واستعمل عليها ابنه محمدا وضم إليه شماس بن دثار العطاردىّ، وجعل بكير بن وشاح الثّقفىّ على شرطته، ورجع ابن خازم إلى مرو. وفى هذه السنة بعد موت يزيد خالف أهل الرّى، وكان عليهم الفرّخان الرازى، فوجه إليهم عامر بن مسعود وهو أمير الكوفة محمد بن عمير بن عطارد بن حاجب بن زرارة بن عدس التميمى الدّارمى فهزمه أهل الرىّ، فبعث إليهم عامر عتّاب بن ورقاء التميمىّ، فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا، فقتل الفرّخان وانهزم المشركون. هذا ما كان من أخبار العراق وخراسان بعد وفاة يزيد، فلنذكر أخبار عبد الله بن الزبير، وما تخلل أيامه من أخبار غيره التى حدثت فى أعماله. ذكر بيعة عبد الله بن الزبير وما حدثت فى أيامه من الوقائع والحوادث المتعلقة به والكائن [1] فى أعمال ولايته هو أبو خبيب [2] ، وقيل: أبو بكر [3] عبد الله بن الزبير ابن العوّام بن خويلد بن أسد بن عبد العزّى بن قصىّ، يجتمع نسبه ونسب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى قصى، وأمه أسماء   [1] كذا جاء فى (ك) وجاء فى النسخة (ن) «والمكاتبة» . [2] «أبو خبيب» كنية عبد الله بن الزبير بأكبر أولاده «خبيب» ، ومن ذلك قول الشاعر: أرى الحاجات عند أبى خبيب ... نكدن ولا أمية فى البلاد [3] كناه النبى صلى الله عليه وسلم بكنية جده أبى أمه.. أبى بكر الصديق. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 516 بنت أبى بكر الصّدّيق رضى الله عنه، وهى ذات النّطاقين [1] ، وهو أول مولود ولد بالمدينة من المسلمين [2] بعد الهجرة. وكان ابتداء أمره فى البيعة له ما قدمناه؛ من خروجه من المدينة لما توفّى معاوية بن أبى سفيان، ووصوله إلى مكة، وأنه أقام بالبيت وقال: أنا العائذ بهذا البيت. فلما قتل الحسين بن على رضى الله عنهما فى سنة إحدى وستين كما ذكرنا، قام عبد الله فى الناس فعظّم قتله، وعاب أهل العراق عامّة، وأهل الكوفة خاصّة، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، وصلّى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: إن أهل العراق غدر فجر إلا قليلا، وإن أهل الكوفة شرار أهل العراق، وإنهم دعوا حسينا لينصروه ويولّوه عليهم، فلمّا قدم عليهم ثاروا عليه، فقالوا له: إمّا أن تضع يدك فى أيدينا فنبعث بك إلى ابن زياد بن سمية فيمضى فيك حكمه، وإما أن تحارب، فرأى والله أنه هو وأصحابه قليل فى كثير، وإن كان الله لم يطلع على الغيب أحدا أنه مقتول، ولكنه اختار الميتة الكريمة على الحياة الذميمة، فرحم الله حسينا، وأخرى قاتله. لعمرى لقد كان من خلافهم إيّاه، وعصيانهم، ما كان فى مثله واعظ وناه عنهم، ولكنه قدر نازل، وإذا أراد الله أمرا لم يدفع، أفبعد الحسين يطمأنّ إلى هؤلاء القوم، ويصدّق قولهم، ويقبل لهم عهد؟ لا والله لا نراهم لذلك أهلا، أم والله لقد   [1] ذكر المؤلف حديث الهجرة فى الجزء 16 من نهاية الأرب فقال ص 333: قطعت أسماء قطعة من نطاقها فأوكأت بها الجراب، وقطعة أخرى صيريها عصاما لفم القربة، فلذلك سميت أسماء «ذات النطاقين» . [2] الذى قال ابن عبد البر فى الاستيعاب ج 2 ص 301: «من المهاجرين» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 517 قتلوه طويلا بالليل قيامه، كثيرا فى النهار صيامه، أحقّ بما هم فيه منهم وأولى به فى الدين والفضل! أم الله ما كان يبدّل بالقرآن الغناء، ولا بالبكاء من خشية الله الحداء، ولا بالصيام شرب الحرام، ولا بالمجالس فى حلق الذكر الركض فى تطلاب الصّيد- يعرض بيزيد فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [1] . فثار إليه أصحابه، وقالوا: أظهر بيعتك، فإنه لم يبق أحد إذ هلك الحسين ينازعك هذا الأمر. وقد كان عبد الله قبل ذلك يبايع سرا، فقال لهم: لا تعجلوا. هذا وعمرو بن سعيد عامل مكة، وهو أشدّ شىء على عبد الله بن الزّبير، وهو مع ذلك يدارى ويرفق. فلما استقرّ عند يزيد ما قد جمع ابن الزبير من الجموع بمكة أعطى الله عهدا ليوثقنّه فى سلسلة، فبعث إليه سلسلة من فضّة مع ابن عضادة [2] الأشعرى ومسعدة وأصحابهما ليأتوه به فيها، وبعث معهم برنس خزّ ليلبسه عليها لئلا تظهر للناس. فاجتاز أبو عضادة بالمدينة وبها مروان بن الحكم، فأخبره بما قدم له، فأرسل مروان معه ولدين له، أحدهما عبد العزيز، وقال: إذا بلّغته رسل يزيد الرسالة فتعرّضا له، وليتمثل أحدكما بهذا الشعر: فخذها فليست للعزيز بخطّة ... وفيها مقال لا مرىء متذلّل أعامر إن القوم ساموك خطة ... وذلك فى الجيران عزلا بمعزل [3] أراك إذا ما كنت للقوم ناصحا ... يقال له بالدلو أدبر وأقبل   [1] من الآية 59 من سورة مريم. [2] فى تاريخ الطبرى «عضاه» وفى الكامل «عطاء» . [3] فى تاريخ الطبرى ج 4 ص 365: «وذلك فى الجيران غزل بمغزل» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 518 فلمّا بلّغه الرسل الرّسالة أنشد عبد العزيز الأبيات، فقال ابن الزبير: يا بنى مروان قد سمعت ما قلتما فأخبرا أباكما: إنى لمن نبعة صمّ مكاسرها ... إذا تناوحت القصباء والعشر فلا ألين لغير الحق أسأله ... حتى يلين لضرس الماضغ الحجر وامتنع من رسل يزيد. فقال الوليد بن عتبة وناس من بنى أميّة ليزيد: لو شاء عمرو ابن سعيد لأخذ ابن الزبير وبعث إليك به، فعزل يزيد عمرا واستعمل الوليد بن عتبة على الحجاز، فأقام الوليد يريد غرّة عبد الله فلم يجده إلا متحذّرا ممتنعا. وثار نجدة بن عامر الحنفىّ باليمامة حين قتل الحسين، وكان الوليد يفيض بالناس من المعرّف، ويقف ابن الزبير وأصحابه ونجدة وأصحابه، ثم يفيض ابن الزبير وأصحابه، ونجدة بأصحابه، لا يفيض واحد منهم بإفاضة أحد. وكان نجدة يلقى عبد الله بن الزّبير ويكثر حتى ظنّ الناس أنه سيبايعه. ثم [كتب] [1] عبد الله بن الزبير إلى يزيد فى شأن الوليد فعزله يزيد كما تقدم، واستعمل عثمان بن محمد بن أبى سفيان. وكان من خبر أهل المدينة فى خلافهم يزيد، ووقعة الحرّة، والحصار الأول ما قدمناه. فلما مات يزيد بن معاوية بلغ الخبر عبد الله بن الزبير والحصين ابن نمير ومن معه من عسكر الشام يحاصرونه، وقد اشتد حصارهم،   [1] الزيادة من ابن الأثير والطبرى. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 519 فقال لهم عبد الله وأهل مكة: علام تقاتلون وقد هلك طاغيتكم؟ فلم يصدّقوهم، فلما بلغ الحصين خبر موت يزيد بعث إلى ابن الزبير فقال: موعد ما بيننا الليلة الأبطح، فالتقيا وتحادثا فراث فرس الحصين، فجاء حمام الحرم يلتقط روث فرس الحصين، فكفّ الحصين فرسه عن الحمام، وقال: أخاف أن يقتل فرسى حمام الحرم. فقال له ابن الزبير: تتحرجون من هذا وأنتم تقاتلون المسلمين فى الحرم، فكان فيما قال له الحصين: «أنت أحقّ بهذا الأمر، هلمّ فلنبايعك، ثم اخرج معى إلى الشام، فإن هذا الجند الذين معى هم وجوه أهل الشام وفرسانهم، فو الله لا يختلف عليك اثنان، وتؤمّن الناس، وتهدر الدماء التى كانت بيننا وبينك، وبين أهل الحرة» ، فقال له أنا لا أهدر الدماء، والله لا أرضى أن أقتل بكل رجل منهم عشرة. وأخذ الحصين يكلّمه سرا وهو يجهر ويقول: والله لا أفعل، فقال له الحصين: قبح الله من يعدّك بعد هذا داهيّا أو أريبا، قد كنت أظنّ لك رأيا، وأنا أكلمك سرّا، وتكلّمنى جهرا، وأدعوك إلى الخلافة، وتعدنى القتل والهلكة. ثم فارقه ورحل هو وأصحابه نحو المدينة. وندم ابن الزّبير على ما صنع، فأرسل إلى الحصين يقول: أما المسير إلى الشام فلا أفعله، ولكن بايعوا لى هناك، فإنى مؤمّنكم وعادل فيكم، فقال الحصين: إن لم تقدم بنفسك لا يمشى الأمر، فإن هنالك ناسا من بنى أمية يطلبون هذا الأمر. وسار الحصين إلى المدينة فخرج معه بنو أمية إلى الشام. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 520 وبويع عبد الله بن الزبير بمكة لسبع بقين من رجب سنة أربع وستين، واجتمع لعبد الله بن الزّبير الحجاز والكوفة والبصرة والجزيرة وأهل الشام، إلّا أهل أردن ومصر. ثم بويع مروان بن الحكم بالشام، فكان من أمره فى وقعة مرج راهط ومسيره إلى مصر واستيلائه عليها ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخباره. ذكر فراق الخوارج عبد الله وما كان من أمرهم وفى سنة أربع وستين فارق الخوارج الذين كانوا قدموا مكة عبد الله بن الزّبير، وكانوا قد قاتلوا معه أهل الشام. وكان سبب قدومهم عليه أنه لما اشتد عليهم عبيد الله بن زياد بعد قتل أبى بلال، اجتمعوا وتذاكروا فأشار عليهم نافع بن الأزرق أن يلحقوا بابن الزبير، وقال: إن كان على رأينا جاهدنا معه، وإن كان على غير رأينا دافعنا عن البيت، فلما قدموا عليه سرّ بمقدمهم وأخبرهم أنه على مثل رأيهم من غير استفسار، فقاتلوا معه أهل الشام، ثم اجتمعوا بعد وفاة يزيد وقالوا: إن الذى صنعتم بالأمس لغير رأى، تقاتلون مع رجل لا تدرون، لعله ليس على مثل رأيكم، وقد كان أمس يقاتلكم هو وأبوه، وينادى «يا ثارات عثمان» فاجتمعوا إليه فسألوه عن عثمان، فنظر فإذا أصحابه حوله قليل فقال: إنكم أتيتمونى حين أردت القيام، ولكن ائتونى عشية النهار حتى أعلمكم؛ فانصرفوا. وبعث ابن الزبير إلى أصحابه، فاجتمعوا عنده بأيديهم العهد. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 521 فقال ابن الأزرق: إن الرجل قد أزمع خلافكم، فتقدم إليه نافع بن الأزرق وعبيدة بن هلال، فقال عبيدة: بعد أن حمد الله وأثنى عليه، وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه عمل بكتاب الله حتّى قبضه الله، واستخلف الناس أبا بكر، واستخلف أبو بكر عمر، فكلاهما عمل بكتاب الله وسنة رسوله، ثم إن الناس استخلفوا عثمان. ونقصه، وقبح أفعاله، وتبرأ منه، ووالى قتلته، ثم قال: فما تقول أنت يا ابن الزبير:؟! فحمد بن الزبير الله وأثنى عليه، ثم قال: قد فهمت الذى ذكرت به النبىّ صلى الله عليه وسلم فهو فوق ما ذكرت، وفوق ما وصفت، وفهمت الذى ذكرت به أبا بكر وعمر وقد وفّقت وأصبت، وفهمت الذى ذكرت به عثمان، وإنى لا أعلم مكان أحد من خلق الله اليوم أعلم بابن عفان وأمره منى، كنت معه حيث نقم [القوم] [1] عليه واستعتبوه فلم يدع شيئا إلا أعتبهم منه، ثم رجعوا إليه بكتاب له يزعمون أنه كتبه يأمر فيه بقتلهم، فقال لهم: ما كتبته، فإن شئتم فهاتوا بينتكم، فإن لم تكن حلفت لكم. فو الله ما جاءوه ببينة، ولا استحلفوه، ووثبوا عليه فقتلوه، وقد سمعت ما عبته به، فليس كذلك، بل هو لكل خير أهل، وأنا أشهدكم ومن حضرنى أنى ولىّ لابن عفّان، وعدوّ أعدائه. قالوا: فبرىء الله منك، قال: بل برئ الله منكم. وتفرّق القوم، فأقبل نافع بن الأزرق الحنظلى، وعبد الله بن صفّار السّعدىّ، وعبد الله بن إباض، وحنظلة بن بيهس، وبنو الماحوز؛ عبد الله وعبيد الله والزّبير من بنى سليط بن يربوع، وكلهم   [1] الزيادة من الطبرى. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 522 من تميم، حتّى أتوا البصرة، وانطلق أبو طالوت من بنى بكر بن وائل، وأبو فديك عبد الله بن ثور من قيس بن ثعلبة، وعطية ابن الأسود اليشكرى، إلى اليمامة، فوثبوا بها مع أبى طالوت، ثم اجتمعوا بعد ذلك على نجدة بن عامر الحنفىّ وتركوا أبا طالوت. فأما نافع بن الأزرق ومن معه فإنهم قدموا البصرة فتذاكروا الجهاد وفضيلته، وخرج فى ثلاثمائة، وذلك عند وثوب الناس بابن زياد، وكسر الخوارج باب السجن وخرجوا، واشتغل الناس عنهم بحرب الأزد وربيعة وتميم، فلما استقر أمر عبد الله بن الحارث بالبصرة تجرد الناس للخوارج وأخافوهم، فلحق نافع بالأهواز فى شوال سنة أربع وستين واشتدت شوكته، وكثرت جموعه، وأقام بالأهواز. وحيث ذكرنا الخوارج، فلنذكر ما كان من أمرهم فى أيام عبد الله ابن الزبير إلى نهايته، ثم نذكر ما سوى ذلك ذكر مقتل نافع بن الأزرق أمير الخوارج وغيره منهم وفى سنة خمس وستين اشتدت شوكة نافع بن الأزرق، وهو الذى تنسب إليه الأزارقة من الخوارج، وكثرت جموعه، وأقبل بهم نحو الجسر، فبعث إليه عبد الله بن الحارث أمير البصرة مسلم ابن عبيس بن كربز بن ربيعة، فخرج إليه فدفعه عن أرض البصرة حتى بلغ دولاب من أرض الأهواز، فاقتتلوا هناك فقتل مسلم أمير أهل البصرة ونافع بن الأزرق رئيس الخوارج، وكان مقتلهما فى جمادى الآخرة. فأمّر أهل البصرة عليهم الحجاج بن باب الحميرىّ، وأمرت الجزء: 20 ¦ الصفحة: 523 الخوارج عبد الله بن الماحوز التميمى، فاقتتلوا فقتل الحجاج وعبد الله، فأمّر أهل البصرة ربيعة بن الأجذام التميمى، وأمّرت الخوارج عبيد الله ابن الماحوز، واقتتلوا حتى أمسوا وقد ملّوا القتال، وكره بعضهم بعضا، فبينما هم كذلك إذ جاءت سرية للخوارج لم تشهد القتال فهزمت جيش البصرة، وقتل أميرهم ربيعة، فأخذ الراية حارثة بن بدر فقاتل ساعة بعد أن ذهب الناس عنه، ثم سار ونزل الأهواز، وبعث ابن الزبير الحارث بن أبى ربيعة على البصرة كما ذكرناه، فأقبلت الخوارج نحو البصرة حتى قربوا منها، فأتى أهلها الأحنف بن قيس وسألوه أن يتولى حربهم، فأشار عليهم بالمهلّب بن أبى صفرة. ذكر محاربة المهلب الخوارج وقتل أميرهم عبيد الله بن الماحوز كان المهلّب قد قدم من قبل عبد الله بن الزّبير لولاية خراسان فخرج إليه أشراف أهل البصرة وكلّموه فى حرب الخوارج، فأبى عليهم، فكلمه الحارث بن ربيعة، فاعتذر بولاية خراسان، فوضع الحارث وأهل البصرة كتابا عن ابن الزّبير إلى المهلّب يأمره بقتال الخوارج، وأتوه به، فلما قرأه قال: والله ما أسير إليهم إلا أن يجعلوا إلىّ ما غلبت عليه، ويعطونى من بيت المال ما أقوىّ به من معى، فأجابوه إلى ذلك. واختار المهلب من أهل البصرة اثنى عشر ألفا؛ منهم محمد بن واسع، وعبد الله بن رباح الأنصارى، ومعاوية بن قرّة المزنىّ، وأبو عمران الجونى وغيرهم. وخرج إلى الخوارج وهم عند الجسر الأصغر فحاربهم ودفعهم عنه، وتبعهم حتّى بلغوا الأهواز، واقتتلوا هناك. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 524 ودامت الحرب، وقتل المعارك بن أبى صفرة أخو المهلب، ثم هزم جيش المهلّب وثبت هو، فاجتمع عليه جماعة ممن انهزم، ثم عادوا للقتال، وأبلى بلاء حسنا فهزموه، فبلغ بعض من معه البصرة وجاءت أهلها وأسرع المهلّب حتّى سبق المنهزمين إلى تلّ عال، ثم نادى: إلىّ عباد الله؛ فاجتمع إليه ثلاثة آلاف أكثرهم من قومه فعاد إلى الخوارج وقد أمنوا، وسار بعضهم خلف الجيش الذى انهزم، فأوقع بهم المهلّب وقتل رئيسهم عبيد الله بن الماحوز، فاستخلفوا الزبير بن الماحوز، وعاد الذين تبعوا المنهزمين، فوجدوا المهلّب قد وضع لهم خيلا فرجعوا منهزمين، وأقام المهلّب موضعه حتّى قدم مصعب بن الزّبير أميرا على البصرة من قبل أخيه عبد الله. وقيل: كانت هذه الواقعة فى سنة ستّ وستّين، وذلك أن المهلّب لمّا دفع الخوارج عن البصرة إلى ناحية الأهواز أقام بقية سنته يجبى كور دجلة ورزق أصحابه، وأتاه المدد من البصرة حتّى بلغ ثلاثين ألفا. قال: ثم استعمل مصعب بن الزّبير لما ولى العراق نائبه عمر ابن عبيد الله بن معمر على فارس، وولّاه حرب الأزارقة بعد أن توجّه المهلّب إلى الموصل والجزيرة وأرمينية على ما نذكره إن شاء الله. فلما بلغ الخوارج ولايته تقدموا إلى إصطخر، وأميرهم يوم ذاك الزّبير بن الماحوز، فندب إليهم عمر ابنه عبيد الله فى خيل، فاقتتلوا فقتل عبيد الله بن عمر، وقاتل عمر بن عبيد الله الخوارج فقتل من فرسانهم سبعون [1] رجلا، وانهزم الخوارج وقصدوا نحو   [1] ابن الأثير: «تسعون» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 525 أصبهان، فأقاموا حتّى قووا واستعدوا وأقبلوا حتّى مروا بفارس وبها عمر، فقطعوها من غير الموضع الذى هو به حتى أتوا ألأهواز. فكتب إليه مصعب يلومه فى تمكينهم من قطع جهته، فسار عمر من فارس فى أثرهم، وخرج مصعب فعسكر عند الجسر الأكبر. وبلغ الخوارج وهم بالأهواز إقبال عمر عليهم، فقطعوا أرض جوخى والنهر وأنات وأتوا المدائن، وبها كردم بن مرثد الفزارى، فشنّوا الغارة على أهل المدائن، يقتلون الرجال والنساء والولدان، ويشقّون أجواف الحوامل، فهرب كردم، وأقبلوا إلى ساباط، ووضعوا السيف، وأفسدوا إفسادا عظيما. وأتوا أرض الكوفة فخرج إليهم الحارث بن أبى ربيعة أميرها، فتوجهوا حتى أتوا المدائن فأتبعهم الحارث عبد الرحمن بن مخنف فى ستة آلاف ليخرجهم من أرض الكوفة، فتبعهم حتّى وقعوا فى أرض أصبهان، فرجع ولم يقاتلهم. وقصدوا الرّى وعليها يزيد بن الحارث بن رويم الشّيبانى فقاتلهم، فأعان أهل الرّى الخوارج، فقتل يزيد وهرب ابنه حوشب. ولمّا فرغ الخوارج من الرى شخصوا إلى أصبهان فحاصروها وبها عتّاب بن ورقاء، فصبر لهم وقاتلهم، فكمن له رجل من الخوارج وضربه بالسيف على حبل عاتقه فصرعه، فاحتمله أصحابه وداووه حتّى برئ، وداوم الخوارج حصارهم حتى نفدت أطعمتهم وأصابهم الجهد، فقام عتّاب فى أصحابه، وحرّضهم على أن يصدقوهم القتال، فأجابوه إلى ذلك، وخرج بهم إلى الخوارج وهم آمنون، الجزء: 20 ¦ الصفحة: 526 فقاتلوهم حتّى أخرجوهم من معسكرهم، وقتلوا أميرهم الزّبير بن الماحوز. ففرغت الخوارج إلى أبى نعامة قطرىّ بن الفجاءة المازنىّ فبايعوه، وأصاب عتّاب ومن معه من عسكرهم ما شاءوا، وسارت الخوارج عن أصبهان إلى كرمان، فأقاموا بها حتّى اجتمع إلى أميرهم قطرى جموع كثيرة، وجبى الأموال وقوى، ثم أقبل إلى أصبهان، ثم أتى أرض الأهواز فأقام بها، فبعث مصعب إلى المهلّب فأمره بقتال الخوارج، وبعث إلى عامله بالموصل والجزيرة إبراهيم بن الأشتر، فقدم المهلّب البصرة، وانتخب الناس وسار نحو الخوارج، وأقبلوا إليه حتى التقوا بسولاف، فاقتتلوا ثمانية أشهر أشدّ قتال رآه الناس، وذلك فى سنة ثمان وستين. هذا ما أمكن إيراده من أخبار الخوارج فى أيام ابن الزّبير فلنذكر خلاف ذلك. ذكر خبر التوابين وما كان من أمرهم وأخبارها إلى أن قتلوا وإنما ذكرنا خبر التوابين فى هذا الموضع فى أخبار عبد الله بن الزبير؛ لأن ظهورهم ومقتلهم كان فى أيامه، ومن بلد داخل تحت حكمه، ونحن نذكر مبدأ أمرهم، وقد ذكرهم ابن الأثير الجزرى رحمه الله فى تاريخه الكامل فى حوادث سنة أربع وستين، وسنة خمس وستين. قال: ولما قتل الحسين بن على رضى الله عنهما كما ذكرنا تلاقت الشّيعة بالتّلاوم والندم على ما صدر منهم، من استدعائهم الحسين الجزء: 20 ¦ الصفحة: 527 وخذلانه حتى قتل، ورأوا أنهم لا يغسل عنهم العار والإثم الذى ارتكبوه إلّا قتل من قتله أو القتل فيه. فاجتمعوا بالكوفة إلى خمس نفر من رءوس الشّيعة، وهم: سليمان بن صرد الخزاعى، وكانت له صحبة، والمسيّب ابن نجبة الفزارى وكان من أصحاب على وخيارهم، وعبد الله ابن مسعود بن نفيل الأزدى، وعبد الله بن وال التيمى، تيم بكر بن وائل، ورفاعة بن شداد البجلى، فاجتمعوا فى منزل سليمان بن صرد فبدأهم المسيب بن نجبة فقال بعد حمد الله: «أمّا بعد، فإنا ابتلينا بطول العمر، والتعرض لأنواع الفتن، فنرغب إلى ربّنا أن لا يجعلنا ممن يقول له غدا: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) [1] وإن أمير المؤمنين قال: العمر الذى أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة، وليس فينا رجل إلا وقد بلغه، وقد كنا مغرمين بتزكية أنفسنا [2] ، فوجدنا الله كاذبين فى كل موطن من مواطن ابن ابنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وقد بلغنا قبل ذلك كتبه ورسله، وأعذر إلينا فسألنا نصره عودا وبدءا، وعلانية وسرا، فبخلنا عنه بأنفسنا حتّى قتل إلى جانبنا، لا نحن نصرناه بأبدينا ولا جدلنا عنه بألسنتنا، ولا قويناه بأموالنا، ولا طلبنا له النّصرة إلى عشائرنا، فما عذرنا عند ربنا وعند لقاء نبينا، وقد قتل فينا ولده وحبيبه، وذرّيته ونسله! لا والله لا عذر دون أن تقتلوا قاتله والموالين عليه أو تقتلوا فى طلب ذلك، فعسى ربّنا أن يرضى عنا عند ذلك،   [1] من الآية 37 من سورة فاطر. [2] هنا ينتهى ما سقط من النسخة (ن) مع توالى الترقيم بها، ولعل هناك صفحتين سقطنا فلم يتنبه عليها المرقم، وقد أثبتنا هذا من النسخة (ك) . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 528 وما أنا بعد لقائه لعقوبته بآمن: أيها القوم، ولّوا عليكم رجلا منكم، فإنه لا بدّ لكم من أمير تفزعون إليه، وراية تحفّون بها» . فقام رفاعة بن شداد فقال: «أمّا بعد فإن الله قد هداك لأصوب القول، وبدأت بأرشد الأمور بدعائك إلى جهاد الفاسقين وإلى التوبة من الذنب العظيم، فمسموع منك مستجاب إلى قولك، وقلت: ولّوا أمركم رجلا تفزعون إليه وتحفّون برايته، وقد رأينا مثل الذى رأيت، فإن تكن أنت دلك الرجل تكن عندنا مرضيا وفينا مستنصحا وفى جماعتنا محبا، وإن رأيت ورأى ذلك أصحابنا ولّينا هذا الأمر شيخ الشيعة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وذا السابقة والقدم سليمان بن صرد المحمود فى بأسه ودينه الموثوق بحزمه» .. وتكلم عبد الله بن وأل وعبد الله بن سعد بنحو ذلك، وأثنيا على سليمان والمسيّب، فقال المسيب: قد أصبتم فولّوا أمركم سليمان بن صرد. فتكلم سليمان بن صرد بكلام كثير؟؟؟ حضهم فيه على القيام وطلب ثأر الحسين وقتل قتلته أو القتل دون ذلك. وكتب إلى سعد بن حذيفة بن اليمان يعلمه بما عزموا عليه ويدعوه إلى مساعدتهم هو ومن معه من الشيعة بالمدائن، فقرأ سعد الكتاب على من بالمدائن من الشيعة فأجابوا إلى ذلك. وكتب سليمان أيضا إلى المثنّى فأجابه: إننا معشر الشيعة حمدنا الله على ما عزمتم عليه، ونحن موافوك إن شاء الله للأجل الذى ضربت. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 529 قال وكان أول ما ابتدءوا به أمرهم بعد قتل الحسين فى سنة إحدى وستين، فما زالوا فى جمع آلة الحرب ودعاء الناس، فى السر إلى أن هلك يزيد بن معاوية فى سنة أربع وستين، فجاء إلى سليمان أصحابه فقالوا: قد مات هذا الطاغية، والأمر ضعيف، فإن شئت وثبنا على عمرو بن حريث، وكان خليفة ابن زياد على الكوفة- ثم أظهرنا الطلب بدم الحسين وتتبعنا قتلته ثم ندعو الناس إلى أهل هذا البيت [1] . فقال لهم سليمان: «لا تعجلوا، إنى قد نظرت فيما ذكرتم، فرأيت قتلة الحسين هم أشراف الكوفة وفرسان العرب، ومتى علموا ذلك كانوا أشدّ عليكم، ونظرت فيمن تبعنى منكم فعلمت أنهم لو خرجوا لم يدركوا ثأرهم ولم يشفوا نفوسهم وكانوا جزرا لعدوّهم ولكن بثّوا دعاتكم وادعوا إنى أمركم» ؛ ففعلوا فاستجاب لهم ناس كثير. ثم إن أهل الكوفة أخرجوا عمرو بن حريث وبايعوا لابن الزبير، فلما مضت ستة أشهر من وفاة يزيد قدم المختار بن أبى عبيد إلى الكوفة فى النصف من شهر رمضان، وقدم عبد الله بن زيد الخطمى الأنصارى أميرا على الكوفة من قبل عبد الله بن الزّبير لثمان خلون [2] من شهر رمضان، وقدم إبراهيم بن محمد بن طلحة معه على الخراج. فأخذ المختار بن أبى عبيد يدعو الناس إلى قتال قتلة حسين ويقول:   [1] زاد ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 334 قولهم: «المستأثر عليهم المدفوعين عن حقهم» . [2] فى الكامل «بقين» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 530 جئتكم من عند المهدى محمد بن الحنفية وزيرا أمينا، فرجع إليه طائفة من الشيعة، وكان يقول: إنما يريد سليمان أن يخرج فيقتل نفسه ومن معه، وليس له خبرة بالحرب. وبلغ الخبر عبد الله بن يزيد أن سليمان يريد الخروج بالكوفة عليه، وأشير عليه بحبسه، وخوّف عاقبة أمره إن تركه، فقال عبد الله إن هم قاتلونا قاتلناهم، وإن تركونا؟؟؟ لنطلبهم، إنّ هؤلاء القوم يطلبون قتلة الحسين، ولست ممن قتله، لعن الله قاتله، ثم صعد إلى المنبر فقال بلغنى أن طائفة منكم أرادوا أن يخرجوا علينا، فسألت عنهم فقيل إنهم يطلبون بدم الحسين، فرحم الله هؤلاء القوم، لقد والله دللت على مكانهم، وأمرت بأخذهم، فأبيت، وقلت إن قاتلونى قاتلتهم، وعلام يقاتلونى؟ فو الله ما أنا قتلت حسينا، ولقد والله أصبت بمقتله رحمة الله عليه، وإن هؤلاء القوم آمنون، فليخرجوا ظاهرين، وليسيروا إلى من قاتل الحسين، فقد أقبل إليهم- يعنى عبيد الله بن زياد- فأنا لهم ظهير، هذا ابن زياد قاتل الحسين، وقاتل خياركم وأماثلكم، فقد توجه إليكم وقد؟؟؟ فارقوه على ليلة من جسر منبج،؟؟؟ فقاتله والاستعداد له أولى من أن تجعلوا بأسكم بينكم، فيقتل بعضكم بعضا،؟؟؟ فليقاكم عدوكم وقد رققتم فنهلك، وتلك أمنيته، وقد قدم عليكم أعدى خلق الله لكم، من ولى عليكم هو وأبوه سبع سنين لا يقلعان عن قتل أهل العفاف والدين، هو الذى قتلكم ومن قبله أتيتم، والذى قتل من تنادون بدمه، الجزء: 20 ¦ الصفحة: 531 قد جاءكم فاستقبلوه بحدّكم وشوكتكم واجعلوها [به ولا تجعلوها] [1] بأنفسكم إنى لكم ناصح. وكان مروان بن الحكم قد بويع بالشام على ما نذكره، وبعث عبيد الله بن زياد إلى الجزيرة، وأمره إذا فرغ منها أن يسير إلى العراق. قال: فلما فرغ عبد الله بن يزيد من كلامه قال إبراهيم بن محمد ابن طلحة: «أيها الناس، لا يغرنكم من السيف والغشم مقالة هذا المداهن، والله لئن خرج علينا خارج لنقتلنه، ولئن استيقنّا أن قوما يريدون الخروج علينا لنأخذن الوالد بولده والمولود بوالده والحميم بالحميم والعريف بما فى عرافته، حتّى يدينوا للحق والطاعة» . فوثب إليه المسيب بن نجبة فقطع عليه منطقه، ثم قال: يا ابن الناكثين، أنت تهددنا بسيفك وحشمك! أنت والله أذلّ من ذلك، إنّا لا نلومك على بغضنا وقد قتلنا أباك وجدك، وأما أنت أيها الأمير فقد قلت قولا سديدا. فقال له إبراهيم والله لتقتلن، وقد داهن هذا، يعنى عبد الله بن يزيد، فقال له عبد الله بن وأل: ما اعتراضك فيما بينا وبين أميرنا؟ ما أنت علينا بأمير إنما أنت أمير هذه الجزية، فأقبل على خزاجك، ولئن أفسدت أمر هذه الأمة فقد أفسده والداك، وكانت عليهما دائرة السوء. فشتمهم جماعة ممّن مع إبراهيم، ونزل الأمير عن المنبر، وتهدده إبراهيم بأنه يكتب إلى ابن الزبير يشكوه؛ فجاءه عبد الله فى منزله فاعتذر إليه، فقبل عذره.   [1] الزيادة من الكامل ج 4 ص 335. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 532 ثم خرج أصحاب سليمان بن صرد ينشرون السلاح ظاهرين إلى سنة خمس وستين، فعزم سليمان على الشخوص، وبعث إلى رءوس أصحابه وتواعدوا للخروج فى مستهل شهر ربيع الآخر، وخرجوا فى ليلة الوعد إلى النّخيلة، فدار سليمان فى الناس، فلم يعجبه عددهم، فأرسل إلى حكيم بن منقذ الكندى والوليد بن عضين الكنانى فناديا فى الكوفة يا لثارات الحسين! فكانا أول من دعايا لثارات الحسين. فأصبح من الغد وقد أتاه نحو مما فى عسكره، ثم نظر فى ديوانه فوجدهم ستة عشر ألفا بايعه، فقال! سبحان الله! ما وافانا من ستة عشر ألفا إلا أربعة آلاف! فقيل له إن المختار يشبط الناس عنك وقد تبعه ألفان. فقال، بقى عشرة آلاف! ما هؤلاء بمؤمنين! فأقام بالنّخيلة ثلاثا، يبعث إلى من تخلف عنه، فخرج إليه نحو من ألف رجل، فقام إليه المسيّب بن نجبة، فقال: رحمك الله، إنه لا ينفعك الكلام، ولا يقاتل معك إلا من أخرجته النية، فلا تنتظرن أحدا، وخذ فى أمرك. قال: نعم ما رأيت. ثم قام سليمان فى أصحابه فقال: «أيها الناس، من كان إنما خرج إرادة وجه الله وثواب الآخرة فذلك منا ونحن منه، فرحمة الله عليه حيا وميتا، ومن كان يريد الدنيا فو الله ما يأتى فى نأخذه ولا غنيمة نغنمها، ما خلا رضوان الله، وما معنا من ذهب ولا فضة ولا متاع، ما هو إلّا سيوفنا على عواتقنا، وزاد قدر البلغة، فمن كان ينوى غير هذا فلا يصحبنا» . فتنادى أصحابه من كل جانب: إنّا لا نطلب الدنيا، وليس لها الجزء: 20 ¦ الصفحة: 533 خرجنا، إنما خرجنا لنطلب التوبة والطلب بدم ابن بنت نبينا صلى الله عليه وسلم. فلمّا عزم على المسير قال له عبد الله بن سعد بن نفيل: إنى قد رأيت رأيا، إن يكن صوابا فالله الموفق، وإن؟؟؟ يكن ليس بصواب فالرأى ما تراه، إنّا خرجنا نطلب بدم الحسين، وقتلته كلّهم بالكوفة، منهم عمر بن سعد ورءوس الأرباع والقبائل، فأين تذهب من ههنا وتدع الأوتار [1] . فقال أصحابه: هذا هو الرأى. فقال سليمان: أنا لا أرى ذلك، إن الذى قتله وعبّأ الجنود إليه وقال: «لا أمان له عندى دون أن يستسلم فأمضى فيه حكمى» هذا الفاسق ابن الفاسق، عبيد الله بن زياد، فسيروا على بركة الله إليه، فإن يظهركم الله عليه رجونا أن يكون من بعده أهون منه، ورجونا أن يدين لكم أهل مصركم فى عافيته،؟؟؟ فينظرون إلى كل من شرك فى دم الحسين فيقتلونه ولا يغشون، وإن تستشهدوا فإنما قاتلتم المحلّين، وما عند الله خير للأبرار، فاستخيروا الله وسيروا. وبلغ عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد بن طلحة خروج ابن صرد، فأتياه فى أشراف أهل الكوفة، ولم يصحبهم من له شرك فى دم الحسين خوفا منهم، فلمّا أتياه قال له عبد الله بن يزيد: إن المسلم أخو المسلم، لا يخونه ولا يغشّه، وأنتم إخواننا وأهل بلدنا وأحب أهل مصر خلقه الله إلينا، فلا تفجعونا فى أنفسكم،   [1] الأوتار: جمع وتر، بمعنى ثأر. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 534 ولا تنقصوا عددنا بخروجكم من جماعتنا، أقيموا معنا حتّى نتهيأ فإذا سار عدوّنا إلينا خرجنا إليه بجماعتنا فقاتلناه. وجعل لسليمان وأصحابه خراج جوخى إن أقاموا، وقال إبراهيم مثل ذلك، فقال سليمان قد محضتما النصيحة واجتهدتما فى المشورة فنحن بالله وله، ونسأله العزيمة على الرشد، ولا نرانا إلّا سائرين، فقال عبد الله: فأقيموا حتّى نعبّئ معكم جيشا كثيرا، فتلقوا عدوّكم بجمع كثيف، وكان قد بلغهم إقبال عبيد الله بن زياد من الشام فى الجنود. فلم يقم سليمان، وسار عشيّة الجمعة لخمس مضين من شهر ربيع الآخر سنة خمس وستين، فتخلّف عنه ناس كثير، فقال ما أحبّ من تخلف منكم معكم ولو خرجوا فيكم ما زادوكم إلّا خبالا إن الله كره انبعاثهم فثبطهم وخصكم بفضل ذلك. ثم ساروا فانتهوا إلى قبر الحسين، فصاحوا صيحة واحدة، وبكوا بكاء شديدا، وترحموا عليه، وتابوا عنده من خذلانه وترك القتال معه، وأقاموا عنده يوما وليلة يبكون ويتضرعون. ثم ساروا وقد ازدادوا حنقا، وأخذوا صوب الأنبار، وساروا حتّى أتوا قرقسيا على تعبئة، وبها زفر بن الحارث الكلابى قد تحصن بها عند فراره من وقعة مرج راهط، على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخبار مروان بن الحكم. فبعث إليه سليمان، وعرّفه ما هو وأصحابه عليه من قصد بن زياد، فبعث إليهم بجزور ودقيق وعلف، وخرج إليهم وشيعهم وعرض عليهم أن يقيموا عنده بقرقيسيا، وقال: ابن زياد فى الجزء: 20 ¦ الصفحة: 535 عدد كثير، فأبوا المقام، وساروا مجدّين، وقال لهم زفر إن ابن زياد قد بعث خمسة أمراء من الرقة فيهم الحصين بن نمير وشرحبيل بن ذى الكلاع وأدهم بن محرز وجبلة بن عبيد الله [1] الخثعمى، فأبوا إلّا المسير. فانتهوا إلى عين الوردة، فنزلوا غربيّها، وأقاموا خمسا، واستراحوا وأراحوا. وأقبل أهل الشام فى عساكرهم، حتّى كانوا من عين الوردة على مسيرة يوم وليلة، فقام سليمان فى أصحابه فخطبهم وحرّضهم على القتال وذكرهم الآخرة ثم قال: إن أنا قتلت فأمير الناس المسيب ابن نجبة، فإن قتل فالأمير عبد الله بن سعد بن نفيل، فإن قتل فالأمير عبد الله بن وأل، فإن قتل فالأمير رفاعة بن شداد، رحم الله؟؟؟ أمرأ صدق ما عاهد الله عليه. وبعث المسيّب بن نجبة فى أربعمائة فارس، وقال: سر حتّى تلقى أوّل عساكرهم، فشنّ عليهم الغارة، فإن رأيت ما تحب وإلّا فارجع. فسار يومه وليلته، ثم نزل، فأتى بأعرابى، فسأله عن أدنى العسكر منه، فقال: أدناها منك عسكر شرحبيل بن ذى الكلاع، وهو على ميل، وقد اختلف هو والحصين، ادّعى كلّ واحد منهما أنه على الجماعة، وهما ينتظران أمر عبيد الله. فسار المسيّب ومن معه مسرعين، حتّى أشرفوا على القوم، وهم على غير أهبة، فحملوا فى جانب عسكرهم، فانهزم العسكر،   [1] فى الكامل ج 3 ص 342: «عبد الله» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 536 فأصاب المسيّب منهم رجالا وأكثروا فيهم الجراح، وأخذوا دواب، وترك الشاميون معسكرهم وانهزموا، فغنم أصحاب المسيّب ما أرادوا، ثم انصرفوا إلى سليمان. وبلغ الخبر ابن زياد، فسرّح الحصين فى اثنى عشر ألفا، فخرج أصحاب سليمان إليه، لأربع بقين من جمادى الأولى، وعلى ميمنتهم عبد الله بن سعد، وعلى ميسرتهم المسيّب، وسليمان فى القلب. وجعل الحصين على ميمنته جبلة بن عبد الله، وعلى ميسرته ربيعة بن المخارق الغنوى. فلما دنا بعضهم من بعض دعاهم أهل الشام إلى الجماعة على مروان بن الحكم، ودعاهم أصحاب سليمان إلى خلع مروان وتسليم عبيد الله بن زياد إليهم وأنهم يخرجون من بالعراق من أصحاب عبد الله ابن الزّبير ثم يردّ الأمر إلى أهل بيت النبى صلى الله عليه وسلم، فأبى كل منهم، وحمل بعضهم على بعض، فانهزم أهل الشام وكان الظفر لأصحاب سليمان إلى الليل. فلما كان الغد صبّح الحصين ثمانية آلاف أمده بهم عبيد الله، فقاتلهم أصحاب سليمان عامّة النهار قتالا شديدا لم يحجز بينهم إلا الصلاة حتّى حجز بينهم الليل، وقد كثر الجراح فى الفريقين. فلما أصبح أهل الشام أتاهم أدهم بن محرز الباهلى فى نحو من عشرة آلاف من قبل ابن زياد، فاقتتلوا يوم الجمعة إلى ارتفاع الضحى، ثم كثر أهل الشام عليهم، وعطفوا من كل جانب، الجزء: 20 ¦ الصفحة: 537 فنزل سليمان ونادى: «عباد الله، من أراد البكور إلى ربّه والتوبة من ذنبه فإلىّ» ثم كسر جفن سيفه، فنزل معه ناس كثير وفعلوا كفعله، وقاتلوا قتالا شديدا، فقتلوا من أهل الشام مقتلة عظيمة وأكثروا فيهم الجراح، فبعث الحصين الرجّالة ترميهم بالنّبل، واكتنفتهم الخيل، فقتل سليمان ابن صرد، رماه يزيد بن الحصين بسهم فوقع ثم وثب ثم وقع، ومات وهو ابن ثلاث وتسعين سنة، وكانوا قد سموه «أمير التوابين» . فأخذ الراية المسيب بن نجبة، وترحّم على سليمان، فتقدم فقاتل حتّى قتل بعد أن قتل رجالا كثيرا. فأخذ الراية عبد الله بن سعد بن نفيل، وترحم عليهما، وقرأ (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) [1] وحفّ به من كان منهم معه من الأزد، فبينماهم فى القتال إذ أتاهم فرسان ثلاثة من سعد بن حذيفة، يخبرون بمسيره فى سبعين ومائة من أهل المدائن، ويخبرون بمسير أهل البصرة مع المثنّى بن مخرمة العبدى فى ثلاثمائة، فقال عبد الله بن سعد: لو جاءونا ونحن أحياء! وقاتل حتّى قتل، قتله ابن أخى ربيعة بن مخارق، وحمل خالد بن سعد بن نفيل على قاتل أخيه يطعنه بالسيف، فخلصه أصحابه، وقتل خالد بن سعد. فجىء بالراية إلى عبد الله بن وأل، وقد اصطلى الحرب فى عصابة معه، فأخذها، وقاتل مليّا، وذلك وقت العصر، وما زال يقاتل حتّى   [1] من الآية 22؟؟؟ من سورة الأحزاب. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 538 قتل هو وأصحابه؟؟؟ رجالا، ثم إن أهل الشام تعطفوا عليهم من كل جانب، فلمّا كان عند المساء تولّى قتالهم أدهم بن محرز الباهلى، فحمل فى خيله ورجله حتّى وصل إلى ابن وأل وهو يتلو (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً، بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) الآيات [1] ، فغاظ ذلك أدهم، فحمل عليه وضربه فأبان يده ثم تنحى عنه، وقال: إنى أظنّك وددت أنك عند أهلك، قال ابن وأل بئس ما ظننت، والله ما أحبّ أن يدك مكانها إلّا أن يكون لى من الأجر مثل ما فى يدى، ليعظم وزرك وأجرى، فغاظه ذلك فحمل عليه فطعنه فقتله وهو مقبل ما زال عن مكانه، وكان بن وأل من الفقهاء العباد. فلما قتل أتوا رفاعة بن شداد البجلى وقالوا خذ الراية، فقال ارجعوا بنا لعلّ الله يجمعنا ليوم شر لهم، فقال عبد الله بن عوف ابن الأحمر: «هلكنا والله لئن انصرفت ليركبن أكتافنا فلا نبلغ فرسخا حتى نهلك عن آخرنا، وإن نجا منّا ناج أخذته الأعراب فتقربوا به إليهم فيقتل صبرا! هذه الشمس قد قاربت الغروب فنقاتلهم على خيلنا، فإذا غسق الليل ركبنا خيولنا أوّل الليل، وسرنا حتّى نصبح ونسير على مهل، يحمل الرجل صاحبه وحريمه [2] ونعرف الوجه الذى نأخذه» . فقال رفاعة نعم ما رأيت وأخذ الراية، وقاتله قتالا شديدا وتقدم عبد الله بن عزيز الكنانى [3] فقاتل أهل الشام قتالا   [1] الآيات 169، 170، 171، 172، 173، 174 من سورة آل عمران. [2] فى الكامل ج 3 ص 344: «وجريحه» . [3] كذا جاء فى الأصل مثل الكامل، وجاء فى تاريخ الطبرى: «للكندى» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 539 شديدا، ومعه ولده محمد وهو صغير، فسلمه لبنى كنانة من أهل الشام ليوصلوه إلى الكوفة، فعرضوا عليه الأمان، فأبى، ثم قاتلهم حتّى قتل. وتقدم كريب [1] بن زيد الحمير عند المساء فى مائة من أصحابه فقاتل قتالا شديدا، فعرض ابن ذى الكلاع عليه وعلى أصحابه الأمان، فقال قد كنا آمنين فى الدنيا وإنما خرجنا نطلب أمان الآخرة، وقاتلوهم حتّى قتلوا. وتقدم صخير بن هلال المزنى فى ثلاثين من مزينة، فقاتلوا حتى قتلوا. فلما أمسوا رجع أهل الشام إلى معسكرهم، وسار رفاعة بالناس ليلته، وأصبح الحصين فلم يرهم، فما بعث فى أثرهم، وساروا حتى أتوا قرقيسيا فأقاموا عند زفر بن الحارث ثلاثا، ثم زوّدهم وساروا إلى الكوفة. وأما سعد بن حذيفة بن اليمان فإنه سار من المدائن بمن معه حتّى بلغ هبت، فأتاه الخبر، فرجع فلقى المثنّى بن مخرمة العبدى فى أهل البصرة، فأخبره، فأقاموا بصندوداء حتى أتاهم رفاعة، فاستقبلوه، وبكى بعضهم إلى بعض، وأقاموا يوما وليلة، ثم تفرقوا، فسارت كل طائفة منهم إلى جهتهم. قال: ولما بلغ رفاعة الكوفة كان المختار بن أبى عبيد محبوسا، فأرسل؟؟؟ إليه المختار: «أما بعد فإنكم خرجتم بالعصبة الذين عظم الله لهم الأجر حين انصرفوا ورضى فعلهم حتى قتلوا [2]   [1] فى الكامل «كرب بن يزيد» . [2] كذا جاء فى الأصل مثل الكامل، وفى تاريخ الطبرى «حين قفلوا» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 540 أما وربّ البيت ما خطا خاط منكم خطوة ولا ربا ربوة [1] إلا كان ثواب الله له أعظم من الدنيا، إن سليمان قد قضى ما عليه، وتوفّاه الله فجعل روحه مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ولم يكن؟؟؟ بصاحبكم الذى به تنصرون إنى أنا الأمير المأمور والأمين المأمون، وقاتل الجبارين، والمنتقم من أعداء الدين، والمقيد من الأوتار، فأعدوا واستعدوا وأبشروا، وأدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه، والطلب بدم أهل البيت، والدفع عن الضعفاء، وجهاد المحلّين، والسلام» .. وكان من أمر المختار ما نذكره إن شاء الله تعالى.   [1] كذا جاء فى الأصل مثل الكامل؛ وفى تاريخ الطبرى «ولارتارتوه» . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 541 تم الجزء العشرون بتقسيم هذه النسخة المطبوعة، وفى التقسيم المخطوطى اختلاف: جاء فى آخر النسخة (ك) وهى الجزء 18 برقم 549 معارف عامة- فى دار الكتب المصرية المصورة: آخر الجزء الثامن عشر من نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويرى. رحمه الله تعالى. يتلوه إن شاء الله تعالى فى أول الجزء التاسع عشر ذكر أخبار المختار بن أبى عبيد الثقفى والحمد لله رب العالمين وأما النسخة (ن) وهى الجزء 27، ولعله صحته 17 برقم 553 معارف عامة- المصورة بدار الكتب المصرية فقد جاء فى الجانب الأخير من آخر ورقة ما يأتى:. «طالعه الفقير إلى الله تعالى ناصر بن سليمان بن غازى الأيوبى غفر الله له ولجميع المسلمين يا رب العالمين» . المحقق محمد رفعت محمود فتح الله رئيس قسم اللغويات بكلية اللغة العربية الجزء: 20 ¦ الصفحة: 542 فهرس الجزء العشرين من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويري .... الصفحة ذكر خلافة على بن أبى طالب 1 ذكر صفته 1 ذكر نبذة من فضائله 3 ذكر بيعة على 10 ذكر تفريق على عماله وخلاف معاوية 21 ذكر ابتداء وقعة الجمل 26 ذكر مسير على الى البصرة 39 ذكر ارسال على الى أهل الكوفة 43 ذكر مراسلة على طلحة والزبير وأهل البصرة 54 ذكر اجتماع قتلة عثمان بذى قار وتشاورهم 57 ذكر مسير على رضى الله عنه 59 ذكر مقتل طلحة 85 ذكر مقتل الزبير بن العوام 89 ذكر وقعة صفين وابتداء أمرها 100 ذكر ارسال على الى معاوية وجوابه 108 ذكر الموادعة بين على ومعاوية فى شهر المحرم 111 ذكر الحروب التى كانت بصفين بعد الأيام الستة 121 ذكر رفع أهل الشام المطابع 144 ذكر اجتماع الحكمين 156 ذكر أخبار الخوارج 160 ذكر خبرهم بعد صفين 161 ذكر خبرهم عند توجيه الحكمين 164 ذكر اجتماع الخوارج بعد الحكمين 166 ذكر قتال الخوارج 174 ذكر أخبار من خرج بعد أصحاب النهروان 180 الجزء: 20 ¦ الصفحة: 543 ... الصفحة ذكر خلاف الخريت بن راشد التميمى 182 ذكر ما اتفق فى مدة خلافته 191 ذكر خبر عبد الله بن الحضرمى 198 ذكر مقتل على بن أبى طالب 205 ذكر أزواج على 221 ذكر خلافة الحسن بن على بن أبى طالب 224 ذكر أخبار سعد بن أبى وقاص ووفاته 233 ذكر أخبار سعيد بن زيد 235 الباب الثالث من القسم الخامس من الفن الخامس ذكر قدوم عمرو بن العاص على معاوية وصلحه معه 239 ذكر مقتل محمد بن أبى حذيفة 241 ذكر ملك عمرو بن العاص مصر 246 ذكر سرايا معاوية إلى بلاد على بن أبى طالب 253 ذكر مسير بسر بن أرطاة 258 ذكر الغزوات والفتوحات 265 ذكر غزو السند 266 ذكر غزو القسطنطينية 268 ذكر غزو جزيرة أروار 271 ذكر أخبار الخوارج 272 ذكر خبر المستورد الخارجى 278 ذكر عروة بن أدية وأخيه مرداس بن أدية 285 ذكر الحوادث فى أيام معاوية بن أبى سفيان 288 ذكر صلح معاوية وقيس بن سعدة بن عبادة 289 ذكر استعمال معاوية المغيرة بن شعبة على الكوفة 290 ذكر استعمال بسر بن أرطاة 290 ذكر قدوم زياد بن أبيه 294 ذكر وفاة عمرو بن العاص 297 ذكر عزل عبد الله بن عامر عن البصرة 300 ذكر استلحاق معاوية بن أبى سفيان 302 الجزء: 20 ¦ الصفحة: 544 ... الصفحة ذكر عمال زياد بن أبيه 316 ذكر وفاة الحسن بن على بن أبى طالب 320 ذكر ولاية زياد الكوفة 325 ذكر ما قصده معاوية 326 ذكر وفاة الحكم بن عمرو الغفارى 328 ذكر مقتل حجر بن عدى 330 ذكر وفاة زياد بن أبيه 342 ذكر استعمال عبيد الله بن زياد على خراسان 346 ذكر مراسلة معاوية زيادا فى شأن البيعة 350 ذكر ارسال معاوية الى مروان بن الحكم 351 ذكر من وفد الى معاوية من أهل الأمصار 353 ذكر مسير معاوية الى الحجاز 355 ذكر استعمال سعيد بن عثمان بن عفان 360 ذكر عزل الضحاك عن الكوفة 362 ذكر عزل عبيد الله بن زياد 363 ذكر شىء من سيرته وأخباره 372 ذكر صفة معاوية وأولاده وأزواجه 374 ذكر بيعة يزيد بن معاوية 376 ذكر ارسال الوليد بن عتبة 378 ذكر استعمال عمرو بن سعيد على المدينة 382 ذكر مقدم الحسين الى مكة 384 ذكر استعمال عبيد الله بن زياد على الكوفة 388 ذكر ظهور مسلم بن عقيل 397 ذكر ما تكلم به الحسين رضى الله عنه 439 ذكر تسمية من قتل مع الحسين بن على 461 ذكر ما كان بعد مقتل الحسين 463 ذكر ورود الخبر بمقتل الحسين 472 ذكر ما ورد من الاختلاف 476 ذكر مقتل أبى بلال مرداس 482 ذكر وفاة يزيد بن معاوية 497 ذكر بيعة معاوية بن يزيد بن معاوية 499 الجزء: 20 ¦ الصفحة: 545 ... الصفحة ذكر أخبار من بويع بالعراق 501 ذكر ولاية عبد الله بن الحارث البصرة 506 ذكر مقتل مسعود بن عمرو الأزدى 506 ذكر خبر أهل الكوفة 511 ذكر خبر خراسان 512 ذكر بيعة عبد الله بن الزبير 516 ذكر فراق الخوارج عبد الله 521 ذكر مقتل نافع بن الأزرق 523 ذكر محاربة المهلب الخوارج 524 ذكر خبر التوابين وما كان من أمرهم 527 الجزء: 20 ¦ الصفحة: 546 الجزء الحادي والعشرون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مقدمة وكلت إليّ الإدارة العامة للثقافة تحقيق الجزء التاسع عشر من كتاب نهاية الإرب للنويرى (وهو الجزء الحادى والعشرون من تقسيم المؤلف) ، فرجعت إلى نسختيه المصورتين بدار الكتب، وهما برقم 549، ورقم 554 معارف عامة، ورمزت إلى الأولى بالحرف ك وإلى الثانية بالحرف د، وقد اعتمدت على النسخة الثانية لأنها أكثر تحقيقا، وجعلت الثانية مساعدة فى التحقيق. وكان لا بد فى تحقيق نصوص هذا الكتاب مما يأتى: 1- الإشارة فى الهوامش إلى العبارات التى اختلفت فيها النسختان مما يجعل المتن فى صورة كاملة واضحة للقارئ. 2- الرجوع إلى المصدر الأول للكتاب، وهو الكامل لابن الأثير. 3- الرجوع إلى المصادر الأولى للتاريخ الإسلامى، ومن أهمها تاريخ الطبرى، وفتوح البلدان للبلاذرى. 4- الرجوع إلى المعجمات اللغوية، وكتب البلدان، ومن أهم ما رجعنا إليه فيها: معجم ما استعجم للبكرى، مراصد الاطلاع فى أسماء الأمكنة والبقاع لابن عبد الحق البغدادى، معجم البلدان لياقوت. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 5 5- الرجوع- فى تحقيق الأعلام- إلى كتب الأعلام الموثوق بها، وقد رجعت فى ذلك إلى: المشتبه للذهبى. وتبصير المنتبه بتحرير المشتبه، وتهذيب التهذيب لابن حجر، وتاج العروس، والإكمال لابن ماكولا، وغيرها. وأرجو أن يكون الكتاب بذلك قد نال حظه من العناية، فصار أقرب ما يكون إلى أصل المؤلف. على محمد البجاوى الجزء: 21 ¦ الصفحة: 6 بسم الله الرّحمن الرّحيم [وبه توفيقى] «1» [ تتمة الفن الخامس في التاريخ ] [ تتمة القسم الخامس من الفن الخامس في أخبار الملة الإسلامية ] تتمة الباب الثالث في أخبار الدولة الأموية [ تتمة ذكر بيعة عبد الله بن زبير ] ذكر أخبار المختار ابن أبى عبيد بن مسعود الثقفى كان المختار بن أبى عبيد ممن بايع مسلم بن عقيل لما بعثه الحسين بن عليّ رضى الله عنهما إلى الكوفة وأنزله فى داره، ودعا إليه. فلما ظهر ابن عقيل كان المختار فى قرية تدعى لقفا «2» ، فأتاه الخبر بظهوره، فأقبل فى مواليه إلى باب الفيل بعد المغرب، وقد أجلس عبيد الله بن زياد عمرو بن حريث بالمسجد ومعه راية، فبعث إلى المختار وأمنه، فجاء إليه. فلما كان من الغد ذكر عمارة بن عقبة «3» أمره لعبيد الله، فأحضره، وقال له: أنت المقبل فى الجموع لتنصر ابن عقيل! قال: لم أفعل، ولكنى أقبلت ونزلت تحت راية عمرو، فشهد له عمرو بذلك، فضرب ابن زياد وجه المختار بقضيب فشتر «4» عينه وقال: لولا شهادته «5» قتلتك. وحبسه إلى أن قتل الحسين. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 7 فبعث المختار إلى عبد الله بن عمر بن الخطّاب يسأله أن يشفع [له] «1» فيه، وكان زوج أخته صفية بنت أبى عبيد، فكتب ابن عمر إلى يزيد بن معاوية يشفع فيه، فأمر يزيد ابن زياد بإطلاقه، فأطلقه وأمره ألّا يقيم غير ثلاث. فخرج المختار إلى الحجاز، واجتمع بعبد الله بن الزبير وأخبره خبر العراق، وقال له: ابسط يدك أبايعك، وأعطنا ما يرضينا، وثب على الحجاز، فإنّ أهله معك؛ وكان ابن الزبير يدعو لنفسه سرّا، فكتم أمره عن المختار ففارقه إلى الطائف، وغاب عنه سنة ثم سأل عنه ابن الزبير، فقيل له: إنه بالطائف، وإنه يزعم أنه صاحب الغضب ومبيد «2» الجبّارين، فقال ابن الزبير: قاتله الله، لقد اتبعت «3» كذابا متكهّنا، إن يهلك الله الجبّارين يكن المختار أوّلهم. فبينا هو فى حديثه إذ دخل المختار، فطاف وصلّى ركعتين، وجلس وأتاه معارفه يحدّثونه، ولم يأت ابن الزبير، فوضع ابن الزبير عليه عباس بن سهل بن «4» سعد، فأتاه، وسأله عن حاله، ثم قال له: مثلك يغيب عن الّذى قد اجتمع عليه الأشراف من قريش والانصار وثقيف؟ ولم «5» تبق قبيلة إلا وقد أتاه زعيمها، فبايع هذا الرجل. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 8 فقال: إنى أتيته فى العام الماضى فكتم عنى خبره، فلما استغنى عنّى أحببت أن أريه أنّى مستغن عنه، فقال له العباس: القه [الليلة] «1» وأنا معك، فأجابه إلى ذلك، وحضر عند ابن الزّبير بعد العتمة، فقال له المختار: أبايعك على ألّا تقضى الأمور دونى، وعلى أن أكون أوّل داخل عليك، وإذا ظهرت استعنت بى على أفضل عملك. فقال ابن الزبير: أبايعك على كتاب الله وسنّة رسوله. فقال: وشرّ «2» غلمانى تبايعه على ذلك، والله لا أبايعك أبدا إلّا على ذلك، فبايعه وأقام عنده، وشهد معه قتال الحصين «3» ، وكان أشدّ الناس على أهل الشام، فلمّا مات يزيد وأطاع «4» أهل العراق عبد الله ابن الزبير، أقام المختار عنده خمسة أشهر، فلما رآه لا يستعمله جعل يسأل من يقدم من الكوفة عن حال الناس، فأخبره هانىء بن أبى حّية الوداعى «5» باتفاق «6» أهل الكوفة على طاعة ابن الزبير إلّا طائفة من الناس، لو كان لهم من يجمعهم على رأيهم أكل بهم الأرض إلى يوم ما. فقال المختار، أنا أبو إسحاق [أنا والله لهم] «7» ، أنا أجمعهم على الجزء: 21 ¦ الصفحة: 9 الحق، وأتّقى «1» بهم ركبان الباطل، وأقتل بهم كلّ جبار عنيد. ثم ركب دابته «2» وسار نحو الكوفة فوصل إليها. واختلفت الشيعة إليه، وبلغه خبر سليمان بن صرد وأنه على عزم المسير، فقام فى الشيعة فحمد الله، ثم قال: إن المهدى وابن الرّضا، يعنى محمد ابن الحنفية، بعثنى إليكم أمينا ووزيرا «3» ومنتخبا وأميرا، وأمرنى بقتال الملحدين، والطلب بدم أهل بيته. فبايعه إسماعيل بن كثير وأخوه، وعبيدة بن عمرو، وكانوا أوّل من أجابه، وبعث إلى الشّيعة وقد اجتمعوا عند ابن صرد، وقال لهم نحو ذلك، وقال: إن سليمان ليس له تجربة بالحرب ولا بالأمور، إنّما يريد أن يخرجكم فيقتلكم ويقتل نفسه، وأنا أعمل على مثال مثّل لى، وأمر بيّن لى، فيه عزّ وليّكم، وقتل عدّوكم، وشفاء صدوركم، فاسمعوا قولى، وأطيعوا أمرى، ثم أبشروا. فما زال بهذا ونحوه حتى استمال طائفة من الشيعة، فكانوا يختلفون إليه ويعظّمونه، وأكثر الشيعة مع ابن صرد، وهو أثقل خلق الله على المختار. فلما خرج سليمان بن صرد على ما قدمناه قال عمر بن «4» سعد، وشبث «5» بن ربعى، ويزيد بن الحارث بن رويم لعبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد بن طلحة: إن المختار أشدّ عليكم من سليمان، الجزء: 21 ¦ الصفحة: 10 إن سليمان إنّما خرج يريد قتال عدوّكم، والمختار يريد أن يثب عليكم فى مصركم، فأتوه، وأخذوه بغتة، وحملوه إلى السجن، فكان يقول فى السجن: أماورب البحار، والنخيل والأشجار، والمهامه، والقفار، والملائكة الأبرار، والمصطفين الأخيار، لأقتلنّ كل جبّار، بكل لدن خطّار، ومهنّد بتّار، وجموع «1» الأنصار، وليسوا بميل أغمار، ولا بعزّل «2» أشرار، حتى إذا أقمت عمود الدّين، ورأبت شعب صدع المسلمين، وشفيت غليل صدور المؤمنين، وأدركت بثأر النبيّين، لم يكبر عليّ زوال الدنيا، ولم أحفل بالموت إذا أتى. وقيل فى خروج المختار إلى الكوفة غير ما تقدّم، وهو أنه قال لعبد الله بن الزّبير وهو عنده: إنى لأعلم قوما لو أنّ لهم رجلا له علم بما يأتى ويذر لاستخرج لك منهم جندا يقاتل بهم أهل الشام. قال: من هؤلاء؟ قال: شيعة عليّ [رضى الله عنه] «3» بالكوفة، قال: فكن أنت ذلك الرجل؛ فبعثه إلى الكوفة، فنزل ناحية منها يبكى على الحسين ويذكر مصابه حتى ألفه الناس وأحبّوه، فنقلوه إلى وسط الكوفة، وأتاه منهم بشر كثير. [والله أعلم «4» ] . الجزء: 21 ¦ الصفحة: 11 ذكر وثوب المختار بالكوفة كان وثوب المختار بالكوفة فى رابع عشر شهر ربيع الأوّل سنة [66 هـ] ست وستين، وكان سبب ذلك أنّه لما قتل سليمان بن صرد قدم من بقى من أصحابه إلى الكوفة، وكان المختار محبوسا كما ذكرنا، فكتب إليهم من السجن يثنى عليهم، ويمنّيهم الظّفر، ويعرّفهم أن محمد بن على بن أبى طالب المعروف بابن الحنفية أمره بطلب الثأر، فقرأ كتابه رفاعة بن شدّاد والمثنّى بن مخرّبة العبدى، وسعد بن حذيفة بن اليمان، ويزيد بن أنس، وأحمر بن شميط «1» ، وعبد الله بن شدّاد البجلى، وعبد الله بن كامل. فلمّا قرءوا كتابه بعثوا إليه ابن كامل يقولون: إنّنا بحيث يسرّك، فإن شئت أن نأتيك ونخرجك «2» من الحبس فعلنا، فقال: إنى أخرج فى أيّامى هذه. وكان المختار قد أرسل إلى عبد الله ابن عمر يقول: إنى حبست مظلوما، وطلب [منه] «3» أن يشفع فيه إلى عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد بن طلحة. فكتب ابن عمر إليهما فى أمره، فشفّعاه فيه، وأخرجاه من السجن، وحلفاه أنّه لا يبغيهما غائلة، ولا يخرج عليهما مادام لهما سلطان، فإن فعل فعليه ألف بدنة ينحرها عند الكعبة، ومماليكه أحرار. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 12 فلمّا خرج نزل بداره، وقال لمن يثق به: قاتلهم الله، ما أحمقهم حين يرون أنى أفى لهم، أمّا حلفى بالله فإننى إذا حلفت على يمين فرأيت خيرا منها أكفّر عن يمينى، وخروجى عليهم خير من كفّى عنهم، وأمّا هدى البدن، وعتق المماليك، فهو أهون عليّ من بصقة، وددت أنّى تمّ لى أمرى ولا أملك بعده مملوكا أبدا. ثم اختلفت إليه الشّيعة، واتفقوا على الرّضا به، ولم يزل أصحابه يكثرون وأمره يقوى، حتّى عزل عبد الله بن الزبير عبد الله ابن يزيد وإبراهيم بن محمد، واستعمل عبد الله بن مطيع على عملهما بالكوفة. وقدم ابن مطيع الكوفة لخمس بقين من شهر رمضان سنة [65 هـ] خمس وستّين. ولمّا قدم صعد المنبر، فخطب الناس وقال: أمّا بعد، فإن أمير المؤمنين بعثنى على مصركم وثغوركم، وأمرنى بجباية فيئكم وألّا أحمل فضلة عنكم «1» إلا برضا منكم، وأن أتبع فيكم وصيّة عمر بن الخطّاب التى أوصى بها عند وفاته، وسيرة عثمان بن عفّان رضى الله عنهما، فاتقوا الله واستقيموا، ولا تختلفوا على، وخذوا على أيدى سفهائكم، فإن لم تفعلوا فلوموا أنفسكم. فقام إليه السائب بن مالك الأشعرى «2» ، فقال: أمّا حمل فيئنا برضانا فإنّا نشهد ألّا «3» نرضى أن تحمل عنّا فضلة وألّا تقسم إلّا فينا، وألّا يسار فينا إلا بسيرة عليّ بن أبى طالب الّتى سار بها فى بلادنا الجزء: 21 ¦ الصفحة: 13 حتى هلك، ولا حاجة لنا فى سيرة عثمان بن عفان فى فيئنا ولا فى أنفسنا، ولا فى سيرة عمر فى فيئنا، وإن كانت أهون السّيرتين علينا، وقد كان يفعل بالناس خيرا. فقال يزيد بن أنس: صدق السائب وبرّ، فقال ابن مطيع: نسير فيكم بكلّ سيرة أحببتم، ثمّ نزل. وجاء إياس بن مضارب إلى ابن مطيع فقال له: إن السائب ابن مالك من رءوس أصحاب المختار، فابعث إلى المختار، فإذا جاءك فاحبسه حتّى يستقيم أمر الناس، فإنّ أمره قد استجمع له، وكأنّه قد وثب بالمصر. فبعث ابن مطيع إلى المختار زائدة بن قدامة وحسين بن عليّ البرسميّ «1» ، فقالا له: أجب الأمير، فعزم على الذهاب، فقرأ زائدة «2» : وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ... الآية. فألقى المختار ثيابه وقال: ألقوا عليّ قطيفة فإنى «3» وعكت، إنّى لأجد بردا شديدا، ارجعا إلى الأمير فأعلماه حالى، فعادا إليه فأعلماه فتركه. ووجّه المختار إلى أصحابه، فجمعهم حوله فى الدّور، وأراد أن يثب فى المحرّم؛ فجاء رجل من أصحابه من شبام «4» ، وشبام: حىّ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 14 من همدان، وكان شريفا، واسمه عبد الرحمن بن شريح، فلقى سعيد بن منقذ الثّورى، وسعر «1» بن أبى سعر الحنفى، والأسود ابن جراد الكندى، وقدامة بن مالك الجشمىّ «2» ، فقال لهم: إنّ المختار يريد أن يخرج بنا، ولا ندرى أرسله «3» ابن الحنفيّة أم لا؟ فانهضوا بنا إلى محمد ابن الحنفيّة نخبره بما قدم به علينا المختار، فإن رخّص لنا فى اتّباعه اتّبعناه، وإن نهانا عنه اجتنبناه، فو الله ما ينبغى أن يكون شىء من الدنيا آثر «4» عندنا من سلامة ديننا، فاستصوبوا رأيه، وخرجوا إلى ابن الحنفيّة، فلمّا قدموا عليه سألهم عن حال الناس، فأخبروه وأعلموه «5» حال المختار، فقال: والله لوددت أن الله انتصر لنا من عدوّنا بمن شاء من خلقه، فعادوا. وكان مسيرهم قد شقّ على المختار، وخاف أن يعودوا بما يخذل الشّيعة عنه، فلمّا قدموا الكوفة دخلوا عليه، فقال: ما وراءكم؟ فقد فتنتم وارتبتم، فقالوا: قد أمرنا بنصرك، فقال: الله أكبر، الله أكبر، اجمعوا الشّيعة، فجمع من كان قريبا منه، فقال لهم: إنّ نفرا أحبّوا أن يعلموا مصداق ما جئت به، فرحلوا إلى إمام الهدى «6» ، فسألوه عما قدمت به عليكم، فنبّأهم أنّى وزيره وظهيره ورسوله، الجزء: 21 ¦ الصفحة: 15 وأمركم بطاعتى واتّباعى فيما دعوتكم إليه من قتال المحلّين «1» ، والطلب بدماء أهل بيت نبيّكم. فقام عبد الرحمن بن شريح وأخبرهم بحالهم ومسيرهم، وأنّ ابن الحنفيّة أمرهم بمظاهرته «2» ومؤازرته، وقال لهم: لبيلّغ الشاهد منكم الغائب، واستعدّوا وتأهّبوا، وقام جماعة من أصحابه فقالوا نحوا من كلامه. فاجتمعت له الشيعة، وكان من جملتهم [الشّعبى] «3» وأبوه شراحيل، فلمّا تهيّأ أبوه «4» للخروج قال له بعض أصحابه: إن أشراف الكوفة مجمعون على قتالك مع ابن مطيع، فإن أجابنا إبراهيم بن الأشتر رجونا القوّة على عدوّنا، فإنّه فتى رئيس «5» وابن رجل شريف، وله عشيرة ذات عزّ وعدد. فقال المختار: فالقوه وادعوه، فخرجوا إليه ومعهم الشّعبى، فأعلموه حالهم، وسألوه مساعدتهم، فقال: على أن توّلونى الأمر، فقالوا: أنت لذلك «6» أهل، ولكن ليس إلى ذلك سبيل، هذا المختار قد جاءنا من قبل المهدى، وهو المأمور بالقتال، وقد أمرنا بطاعته، فلم يجبهم إبراهيم، فانصرفوا عنه. وأتوا المختار، فسكت ثلاثا، ثم سار إلى إبراهيم فى بضعة الجزء: 21 ¦ الصفحة: 16 عشر من أصحابه، والشعبىّ وأبوه فيهم، فدخلوا عليه، فألقى إليهم الوسائد، فجلسوا عليها، وجلس المختار معه على فراشه، فقال المختار له: هذا كتاب المهدىّ إليك، يسألك أن تنصرنا وتؤازرنا، فقرأه، فإذا هو: «من محمد المهديّ إلى إبراهيم بن مالك الأشتر، سلام عليك، فإنى أحمد الله إليك الّذى لا إله إلّا هو، أمّا بعد، فإنى [قد] «1» بعثت إليكم وزيرى وأمينى الذى ارتضيته لنفسى، وأمرته بقتال عدوّى، والطلب بدماء أهل بيتى، فانهض بنفسك وعشيرتك ومن أطاعك، فإنك إن نصرتنى وأجبت دعوتى كانت لك بذلك عندى فضيلة، ولك أعنّة الخيل، وكلّ جيش غاز، وكلّ مصر ومنبر وثغر ظهرت عليه فيما بين الكوفة وأقصى بلاد الشام» . فلمّا فرغ من قراءته تأخّر عن صدر الفراش، وأجلس المختار عليه، وبايعه. وصار يختلف إلى المختار كلّ عشيّة يدبّرون أمورهم. واجتمع رأيهم على الخروج ليلة الخميس لأربع عشرة ليلة من شهر ربيع الأوّل، فلمّا كان تلك اللّيلة، صلّى إبراهيم بن الأشتر بأصحابه المغرب، ثم خرج يريد المختار، وعليه وعلى أصحابه السلاح، وكان إياس بن مضارب قد جاء إلى عبد الله بن مطيع وهو على شرطته، فقال: إن المختار خارج عليك إحدى هاتين اللّيلتين، وقد بعثت بابنى إلى الكناسة «2» ، فلو بعثت فى كلّ جبّانة «3» عظيمة الجزء: 21 ¦ الصفحة: 17 بالكوفة رجلا من أصحابك فى جماعة من أهل الطاعة لهاب المختار وأصحابه الخروج عليك، فبعث ابن مطيع إلى كلّ جبّانة من يحفظها من أهل الطاعة، وأمّر على كل طائفة أميرا، وأوصى كلا منهم ألّا يؤتى من قبله، وقال: إذا سمعت صوت القوم فوجّه نحوهم، وكان خروجهم إلى الجبابين يوم الاثنين. وخرج إبراهيم بن الأشتر ليلة الثلاثاء يريد المختار، وقد بلغه أنّ الجبابين قد ملئت رجالا، وأن إياس بن مضارب فى الشّرطة قد أحاط بالسّوق والقصر، فأخذ معه من أصحابه نحو مائة دارع، وقد لبسوا عليهم الأقبية، فقال له [أصحابه] «1» : تجنب الطريق، فقال: والله لأمرّنّ وسط السّوق بجنب القصر، ولأرعبن عدوّنا، ولأرينّهم هوانهم علينا، فسار على باب الفيل، فلقيهم إياس فى الشّرط مظهرين السّلاح، فقال: من أنتم؟ فقال «2» : أنا إبراهيم بن الأشتر. فقال إياس: ما هذا الجمع الّذى معك؟ وإلى أين تريد؟ ولست بتاركك حتى آتى بك الأمير، فقال إبراهيم: خلّ سبيلنا؛ قال: لا أفعل؛ وكان مع إياس رجل من همدان يقال له أبو قطن، وكان يكرمه، وكان صديقا لابن الاشتر، فقال له ابن الأشتر: ادن منى يا أبا قطن، فدنا منه وهو يظنّ أن إبراهيم يستشفع به عند إياس، فلمّا دنا منه أخذ رمحا كان معه فطعن به إياسا فى ثغره «3» ، فصرعه، وأمر رجلا من أصحابه فقطع رأسه، الجزء: 21 ¦ الصفحة: 18 وتفرّق أصحاب إياس، ورجعوا إلى ابن مطيع، فبعث مكانه ابنه راشد بن إياس على الشّرط، وأقبل إبراهيم إلى المختار وقال له: إنّا اتّعدنا للخروج القابلة، وقد وقع أمر، لا بد من الخروج الليلة، وأخبره الخبر، ففرح المختار يقتل إياس وقال: هذا أوّل الفتح إن شاء الله. ثم قال لسعيد بن منقذ: قم فأشعل النّيران وارفعها، وسر أنت يا عبد الله بن شدّاد فناد: يا منصور، أمت، وأنت يا سفيان بن ليلى، وأنت يا قدامة بن مالك: ناد يا لثارات الحسين، ثم لبس سلاحه. وكانت الحرب بين أصحابه وبين الّذين ندبهم ابن مطيع لحفظ الجبابين فى تلك الليلة، فكان الظفر لأصحاب المختار، وخرج المختار فى جماعة من أصحابه حتى نزل فى ظهر دير هند فى السبخة «1» ، وانضمّ إليه ممّن تابعه ثلاثة آلاف وثمانمائة من اثنى عشر ألفا، واجتمعوا له قبل الفجر، فأصبح وقد فرغ من تعبئته، وصلّى بأصحابه بغلس. وقد جمع ابن مطيع أهل الطاعة إليه، فبعث شبث بن ربعىّ فى ثلاثة آلاف، وراشد بن إياس فى أربعة آلاف من الشّرط، لقتال المختار ومن معه، وأردفهم بالعساكر، واقتتلوا؛ فكان الظفر لأصحاب المختار، وكان الذى صلّى الحرب ودبر الأمر إبراهيم بن الأشتر. فلمّا رأى ابن مطيع أمر المختار وأصحابه قد قوى خرج بنفسه إليهم، فوقف بالكناسة واستخلف شبث بن ربعى على القصر، فبرز إبراهيم ابن الأشتر إلى ابن مطيع فى أصحابه وحمل عليه، فلم يلبث ابن مطيع الجزء: 21 ¦ الصفحة: 19 أن انهزم أصحابه، يركب بعضهم بعضا على أفواه السّكك، وابن الأشتر فى آثارهم، حتى بلغ المسجد، وحصر ابن مطيع ومن معه من أشراف الكوفة فى القصر ثلاثا، فقال شبث لابن مطيع: انظر لنفسك ولمن معك؛ فقال: أشيروا عليّ؛ فقال شبث: الرأى أن تأخذ لنفسك ولنا أمانا، وتخرج ولا تهلك نفسك ومن معك؛ فقال ابن مطيع: إنى لأكره أن آخذ منه أمانا، والأمور لأمير المؤمنين مستقيمة بالحجاز والبصرة؛ قال: فتخرج ولا تشعر بك أحدا، فتنزل بالكوفة عند من تثق إليه حتى تلحق بصاحبك. فأقام حتى أمسى، وخرج وأتى دار أبى موسى، وترك «1» القصر، ففتح أصحابه الباب، وقالوا: يا ابن الأشتر، آمنون نحن؟ فقال: أنتم آمنون؛ فخرجوا، فبايعوا المختار. ودخل [المختار] «2» القصر فبات به، وأصبح أشراف الناس فى المسجد وعلى باب القصر، وخرج المختار فصعد المنبر وخطب الناس، ثم نزل. ودخل أشراف الكوفة فبايعوه على كتاب الله وسنّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، والطلب بدماء «3» أهل البيت وجهاد المحلّين «4» والدّفع عن الضّعفاء، وقتال من قاتلنا، وسلّم من سالمنا. وكان ممن بايعه المنذر بن حسان الضّبى وابنه حسان، فلما خرجا من عنده استقبلهما سعيد بن منقذ الثورى فى جماعة الجزء: 21 ¦ الصفحة: 20 من الشّيعة، فقالوا: هذان والله رءوس الجبارين، فقتلوهما، ونهاهم سعيد عن قتلهما إلّا بأمر المختار، فلم ينتهوا. فلما سمع المختار ذلك كرهه، وأقبل يمنّى الناس ويود «1» الأشراف، ويحسن السّيرة، فبلغه أن ابن مطيع فى دار أبى موسى، فسكت، فلما أمسى بعث إليه بمائة ألف درهم، وقال: تجهز بهذه، فقد علمت مكانك، وأنّك لم يمنعك من الخروج إلا عدم النّفقة. *** ووجد المختار فى بيت المال [بالكوفة] «2» تسعة آلاف ألف وخمسمائة ألف، فأعطى لكل رجل خمسمائة درهم، وأعطى لستة آلاف من أصحابه أتوه بعد ما أحاط بالقصر «3» ، لكل منهم مائتى درهم، واستقبل الناس بخير. واستعمل على شرطته عبد الله بن كامل الشّاكرى، وعلى حرسه كيسان. [والله أعلم بالصواب] «4» . الجزء: 21 ¦ الصفحة: 21 ذكر عمال المختار بن أبى عبيد كانت أوّل راية عقدها المختار لعبد الله بن الحارث أخى الأشتر على إرمينية، وبعث محمد بن عمير بن عطارد على أذربيجان، وبعث عبد الرحمن بن سعيد بن قيس على الموصل، وبعث إسحاق ابن مسعود على المدائن، وأرض جوخى «1» ، وبعث قدامة بن أبى عيسى ابن ربيعة النّصرى حليف ثقيف على بهقباذ «2» الأعلى، وبعث محمد بن كعب بن قرظة على بهقباذ الأوسط، وبعث سعد ابن حذيفة بن اليمان على حلوان، وأمره بقتال الأكراد، وإقامة الطّرق. وكان ابن الزبير قد استعمل على الموصل محمد بن الأشعث بن قيس، فلما بعث المختار عبد الرحمن إليها، سار محمد عنها إلى تكريت «3» ، ينتظر ما يكون من الناس، ثم سار إلى المختار فبايعه، فلما فرغ من ذلك أقبل يجلس للناس ويقضى بينهم، ثم قال: إن لى فيما أحاول شغلا عن القضاء، ثم أقام شريحا يقضى بين الناس، فتمارض، فجعل المختار مكانه عبد الله بن عتبة بن مسعود، ثم مرض، فجعل مكانه عبد الله بن مالك الطائى. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 22 ذكر قتل المختار قتلة الحسين وخروج أهل الكوفة على المختار وقتالهم إياه ووقعة السبيع «1» كان سبب ذلك أن مروان بن الحكم لما استتب له الأمر بعث عبيد الله بن زياد إلى العراق، وقد ذكرنا ما كان من أمره مع التّوابين «2» . ثم توفى مروان بن الحكم وولّى ابنه عبد الملك، فأقرّ ابن زياد على ولايته، وأمره بالجدّ، فأقبل إلى الموصل، فكتب عبد الرحمن بن سعيد عامل المختار إليه يخبره بدخول ابن زياد أرض الموصل، وأنّه قد تنحّى له عنها إلى تكريت، فندب المختار يزيد بن أنس الأسدى، فانتخب ثلاثة آلاف، وسار بهم نحو الموصل، وكتب المختار إلى عبد الرحمن: أن خلّ بين يزيد وبين البلاد، فسار يزيد حتى بلغ أرض الموصل، فنزل بنات تلّى «3» ، وبلغ خبره ابن زياد، فقال: لأبعثنّ إلى كلّ ألف ألفين، فأرسل ربيعة بن المخارق الغنوىّ فى ثلاثة آلاف، وعبد الله بن جملة «4» الخثعمى فى ثلاثة آلاف، فسار ربيعة قبل عبد الله بيوم، فنزل بيزيد بن أنس بنات تلّى «5» فخرج، وقد اشتدّ به المرض، وعبّأ أصحابه، الجزء: 21 ¦ الصفحة: 23 وقال: إن هلكت فأميركم ورقاء بن عازب الأسدى، فإن هلك فأميركم عبد الله بن ضمرة العذرى، فإن هلك فأميركم سعر الحنفى. ثم نزل فوضع على سرير، وقال: قاتلوا عن أميركم إن شئتم أو فرّوا عنه. واقتتل القوم، فانهزم أصحاب ابن زياد، وقتل ربيعة بن المخارق، قتله عبد الله بن ورقاء، فسار المنهزمون ساعة، ولقيهم عبد الله ابن جملة فردهم معه، فباتوا ليلتهم ببنات تلّى يتحارسون، فلمّا أصبحوا خرجوا إلى القتال فاقتتلوا قتالا شديدا، وذلك فى يوم الأضحى سنة ست وستّين، فانهزم أهل الشام، ونزل ابن جملة فى جماعة، فقاتل حتى قتل، وحوى أهل الكوفة عسكرهم، وقتلوا فيهم قتلا ذريعا، وأسروا ثلاثمائة، فأمر يزيد بقتلهم، وهو بآخر رمق، فقتلوا، ثم مات آخر النهار، فقال ورقاء بن عازب لأصحابه: إنه بلغنى أنّ عبيد الله بن زياد قد أقبل إليكم فى ثمانين ألفا، وأشار عليهم بالرجوع إلى المختار، فصوّبوا رأيه، ورجعوا، فبلغ ذلك أهل الكوفة، فأرجفوا بالمختار، وقالوا: إن يزيد قتل ولم يمت، فندب إبراهيم بن الأشتر فى سبعة آلاف، وقال له: سر فإذا لقيت جيش يزيد فأنت الأمير عليهم، فارددهم معك حتى تلقى ابن زياد فناجزه. فسار إبراهيم لذلك، فاجتمع أشراف الكوفة على شبث بن ربعى وقالوا: والله، إن المختار تأمّر بغير رضا منّا، وقد أدنى موالينا «1» ، فحملهم على الدوابّ، وأعطاهم فيئنا. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 24 فقال: دعونى حتّى ألقاه، فذهب إليه فكلمه، فلم يدع شيئا أنكره إلّا ذكره له، والمختار يقول فى كلّ خصلة: أنا أرضيهم فى هذه وآتى كل ما أحبوه، فلما ذكر له «1» الموالى ومشاركتهم فى الفىء قال: إن أنا تركت لكم مواليكم وجعلت فيئكم لكم، أتقاتلون معى بنى أمية وابن الزبير وتعطونى على الوفاء عهد الله وميثاقه وما أطمئن إليه من الأيمان. فقال شبث: حتى أخرج إلى أصحابى فأذكر ذلك لهم. فخرج إليهم ولم يعد إلى المختار، واجتمع رأيهم على قتاله، فاجتمع شبث، ومحمد بن الأشعث، وعبد الرحمن بن سعيد «2» بن قيس، وشمر بن ذى الجوشن، ودخلوا على كعب بن أبى «3» كعب الخثعمى، فكلّموه فى ذلك، فأجابهم إليه، فخرجوا من عنده، ودخلوا على على عبد الرحمن بن مخنف الأزدى، فدعوه إلى ذلك، فقال: إن أطعتمونى لم تخرجوا، فقالوا: لم؟ قال: إنى أخاف «4» أن تتفرقوا وتختلفوا ومع الرجل شجعانكم وفرسانكم مثل فلان وفلان، ثم معه عبيدكم ومواليكم، وكلمة هؤلاء واحدة، ومواليكم أشدّ حنقا عليكم من عدوكم، فهم يقاتلونكم بشجاعة العرب وعداوة العجم، وإن انتظرتموه قليلا كفيتموه بغيركم، ولا تجعلوا بأسكم بينكم؛ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 25 فقالوا: ننشدك الله ألّا تخالفنا وتفسد علينا رأينا، وما أجمعنا عليه. فقال: إنّما أنا رجل منكم، فإذا شئتم فأخرجوا؛ فوثبوا بالمختار بعد مسير ابن الأشتر، وخرج كلّ رئيس بجبّانة، فأرسل المختار إلى ابن الأشتر يأمره بسرعة العود إليه، وبعث إليهم وهو يلاطفهم ويقول: إنى صانع ما أحببتم، وهو يريد بذلك مداهنتهم حتى يقدم إبراهيم ابن الأشتر، فوصل الرسول إليه وهو بساباط» ، فرجع لوقته، وسار حتى أتى الكوفة ومعه أهل القوّة من أصحابه، واجتمع أهل اليمن بجبانة السّبيع، فلما حضرت الصلاة كره كلّ رأس من أهل اليمن أن يتقدمه صاحبه، فقال ابن مخنف: هذا أوّل الاختلاف، قدموا الرضىّ منكم سيّد القرّاء رفاعة بن شداد البجلى، فلم يزل يصلّى بهم حتى كانت الوقعة. ثم نزل المختار فعبّأ أصحابه وأمر ابن الأشتر فسار إلى مضر وعليهم شبث بن ربعى، ومحمد بن عمير، وهم بالكناسة، وسار المختار نحو أهل اليمن بجبّانة السّبيع، فاقتتلوا أشدّ قتال، ثم كانت الغلبة للمختار وأصحابه، وانهزم أهل اليمن وأخذ من دور الوادعيين «2» خمسمائة أسير، فأتى بهم إلى المختار، فعرضهم، فقتل منهم من شهد مقتل الحسين، فكانوا مائتين وثمانية وأربعين. ونادى منادى المختار: من أغلق بابه فهو آمن إلّا من شرك فى دماء آل محمد صلّى الله عليه وسلّم، وكان عمر «3» بن الحجاج الزّبيدى الجزء: 21 ¦ الصفحة: 26 ممن شهد قتل الحسين، فركب راحلته وأخذ طريق الواقصة «1» ، فعدم «2» فقيل: أدركه أصحاب المختار، وقد سقط من شدّة العطش، فذبحوه. وبعث المختار غلاما له يدعى زربيا «3» فى طلب شمر ابن ذى الجوشن، فأدركه فقتله شمر، وسار حتى نزل قرية يقال لها الكلتانيّة «4» ، فأخذ منها علجا، فضربه، وقال: امض بكتابى هذا إلى مصعب بن الزبير؛ فمضى العلج حتى دخل قرية فيها أبو عمرة صاحب المختار، فلقى ذلك العلج علجا آخر من تلك القرية، فشكا إليه ما لقى من شمر، فبينما هو يكلّمه إذمر رجل من من أصحاب أبى عمرة اسمه عبد الرحمن بن أبى الكنود «5» ، فرأى الكتاب، وعنوانه لمصعب من شمر، فسألوا العلج عنه، فأخبرهم بمكانه، فإذا هو منهم على مسيرة ثلاثة فراسخ، فساروا إليه وأدركوه، فهرب أصحابه، وأعجله القوم عن لبس سلاحه، فقام وقد اتزر ببرد، وكان أبرص، فظهر بياض برصه، فطاعنهم بالرّمح ثم ألقاه، وأخذ السيف فقاتل به حتى قتل، والّذى قتله عبد الرحمن «6» ابن أبى الكنود، وألقى جيفته للكلاب. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 27 قال: وأقبل المختار إلى القصر من جبّانة السّبيع ومعه سراقة ابن مرداس البارقى أسيرا، فناداه سراقة «1» : امنن على اليوم يا خير معد ... وخير من حلّ «2» بشحر والجند وخير من لبّى وحيّى وسجد فأمر به إلى السجن، ثم أحضره من الغد، فأقبل وهو يقول «3» : ألا أبلغ أبا إسحاق أنّا ... نزونا نزوة كانت علينا خرجنا نرى الضّعفاء شيئا ... وكان خروجنا بطرا وحينا «4» لقينا منهم ضربا طلحفا «5» ... وطعنا صائبا حتى انثنينا نصرت على عدوّك كلّ يوم ... بكلّ كتيبة تنعى «6» حسينا كنصر محمّد فى يوم بدر ... ويوم الشّعب إذ وافى «7» حنينا فأسجح إذ ملكت فلو ملكنا ... لجرنا فى الحكومة واعتدينا تقبّل «8» توبة منّى فإنى ... سأشكر إذ جعلت النقد دينا فلمّا انتهى إلى المختار قال: أصلح الله الأمير، أحلف بالله الّذى لا إله إلّا هو لقد رأيت الملائكة تقاتل معك على الخيول البلق بين السماء والأرض؛ فقال له المختار: اصعد على المنبر فأعلم الناس، فصعد، فأخبرهم بذلك، ثم نزل فخلا به فقال له: إنى قد علمت الجزء: 21 ¦ الصفحة: 28 أنك لم ترشيئا، وإنما أردت ما قد عرفت «1» ، فاذهب [عنى] «2» حيث شئت، لا تفسد عليّ أصحابى. فخرج إلى البصرة، فنزل عند مصعب وقال «3» : ألا أبلغ أبا إسحاق أنى ... رأيت الخيل «4» بلقا مصمتات كفرت بوحيكم وجعلت نذرا ... عليّ قتالكم حتّى الممات أرى عينيّ ما لم تبصراه ... كلانا عالم بالتّرّهات «5» وقتل يومئذ عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمدانى، وادعى قتله سعر بن أبى سعر، وأبو الزّبير الشّباميّ، وشبام من همدان، وانجلت الوقعة عن سبعمائة وثمانين قتيلا من قومه، وكانت الوقعة لست ليال بقين من ذى الحجة سنة ست وستّين. وخرج أشراف الناس فلحقوا بالبصرة، وتجرد المختار لقتل قتلة الحسين، وقال: ما من ديننا أن نترك قتلة الحسين أحياء، بئس ناصر آل محمد أنا إذا [فى الدنيا، أنا إذا] «6» الكذّاب كما سمّونى، وإنى أستعين بالله تعالى عليهم، فسمّوهم لى ثم تتبّعوهم حتى تقتلوهم، فإنّى لا يسوغ إلى الطّعام والشراب حتى أطهّر الأرض منهم، فدل على عبد الله بن أسيد الجهنيّ، ومالك بن النّسير «7» الجزء: 21 ¦ الصفحة: 29 البديّ، وحمل بن مالك المحاربى، فبعث المختار إليهم، فأحضرهم من القادسيّة، فلمّا رآهم قال: يا أعداء الله ورسوله، أين الحسين ابن عليّ؟ أدّوا إليّ الحسين. قتلتم ابن من أمرتم بالصّلاة عليهم. فقالوا: رحمك الله، بعثنا كارهين، فامنن علينا واستبقنا، فقال: هلّا مننتم على ابن بنت نبيكم واستبقيتموه وسقيتموه؟ فأمر بمالك ابن النّسير البديّ فقطع يديه ورجليه وتركه يضطرب حتى مات، وقتل الآخرين، وأحضر زياد بن مالك الضّبعيّ، وعمران بن خالد العنزى «1» ، وعبد الرحمن بن أبى خشكارة البجلىّ، وعبد الله بن قيس الخولانى، فلما رآهم قال: يا قتلة الصالحين، وقتلة سيّد شباب أهل الجنّة، قد أقاد الله منكم اليوم، لقد جاءكم الورس، بيوم نحس، وكانوا نهبوا من الورس الّذى كان مع الحسين رضى الله عنه، ثم أمر بهم فقتلوا. وقتل عبد الله وعبد الرحمن ابنى صلحت «2» ، وعبد الله بن وهيب «3» الهمدانى، وأحضر عثمان بن خالد بن أسيد «4» الدّهمانى الجهنى، وأبا أسماء بشر بن سوط «5» القابضى، وكانا قد اشتركا فى قتل عبد الرحمن بن عقيل وفى سلبه، فضرب أعناقهما وأحرقا بالنار. وأرسل إلى خولىّ بن يزيد الأصبحيّ وهو صاحب رأس الحسين الجزء: 21 ¦ الصفحة: 30 فاختبأ فى مخرجه، فدخل أصحاب المختار يطلبونه، فخرجت امرأته، وهى العيوف بنت مالك، وكانت تعاديه منذ جاءها «1» برأس الحسين، فقالت: ما تريدون؟ فقالوا لها: أين زوجك؟ قالت: لا أدرى، وأشارت بيدها إلى المخرج، فدخلوا، فوجدوه وعلى رأسه قوصرّة، «2» ، فأخرجوه وقتلوه إلى جانب أهله، وحرقوه بالنار. وقتل عمر «3» بن سعد بن أبى وقّاص، وكان الّذى تولّى قتله أبو عمرة، وأحضر رأسه عند المختار، وعنده ابنه حفص ابن عمر، فقال له المختار: أتعرف هذا؟ قال: نعم، ولا خير فى العيش بعده، فأمر به فقتل، وقال: هذا بحسين، وهذا بعليّ ابن حسين، ولا سواء» ، والله لو قتلت به ثلاثة أرباع قريش ما وفوا أنملة من أنامله. وأرسل المختار إلى حكيم بن طفيل الطائى- وكان أصاب سلب العباس بن على؛ ورمى الحسين بسهم، وكان يقول: تعلّق سهمى بسرباله وما ضرّه، فأتاه أصحاب المختار فأخذوه، وذهب أهله فتشفّعوا بعدىّ بن حاتم، فكلمهم عدىّ فيه، فقالوا: ذلك إلى المختار، فمضى عدىّ إلى المختار يشفع فيه، وكان قد شفّعه فى نفر من قومه أصابهم يوم جبّانة السّبيع، فقالت الشّيعة: إنا نخاف أن يشفّعه فيه، فقتلوه رميا بالسّهام كما رمى الحسين حتى صار كالقنفذ، الجزء: 21 ¦ الصفحة: 31 ودخل عدىّ بن حاتم على المختار، فأجلسه معه، فشفع فيه، وقال: إنه مكذوب عليه، قال: إذا ندعه لك، فدخل ابن كامل فأخبر المختار بقتله. وبعث المختار إلى مرّة بن منقذ، وهو قاتل على بن الحسين، وكان شجاعا، فأحاطوا بداره، فخرج إليهم على فرسه وبيده رمحه، فطاعنهم، فضرب على يده، فهرب فنجا، ولحق بمصعب بن الزبير، وشلّت يده بعد ذلك. وبعث المختار إلى زيد بن رقاد الجنبى «1» ، وهو قاتل عبد الله ابن مسلم بن عقيل، فخرج إليهم بالسيف، فقال ابن كامل: لا تطعنوه [برمح] «2» ، ولا تضربوه بسيف، ولكن ارموه بالنّبل والحجارة، ففعلوا ذلك به، فسقط، فأحرقوه حيا. وطلب المختار سنان بن أنس الّذى كان يدّعى قتل الحسين، فهرب إلى البصرة، فهدم داره. وطلب عبد الله بن عقبة الغنوىّ فوجده قد هرب إلى الجزيرة، فهدم داره. وطلب رجلا من خثعم اسمه عبد الله بن عروة «3» فهرب ولحق بمصعب، فهدم داره. وطلب عمرو بن صبيح الصّدائى، وكان يقول: لقد طعنت الجزء: 21 ¦ الصفحة: 32 فيهم وجرحت وما قتلت، فأحضر إلى المختار، فأمر به فطعن بالرماح حتى مات. وأرسل إلى محمد بن الأشعث وهو فى قرية له إلى جنب القادسيّة، فهرب إلى مصعب فهدم المختار داره، وبنى بلبنها وطينها دار حجر ابن عدى الكندى، وكان زياد قد هدمها. وكان الذى هيّج المختار على قتل قتلة الحسين أنّ يزيد بن شراحيل الأنصارى أتى محمد ابن الحنفية فسلّم عليه، وجرى الحديث إلى أن تذاكروا أمر المختار، فقال ابن الحنفية: إنه يزعم أنه لنا شيعة، وقتلة الحسين عنده على الكراسى يحدثونه «1» ، فلما عاد يزيد أخبر المختار بذلك، فقتل عمر بن سعد، وبعث برأسه ورأس ابنه إلى ابن الحنفية، وكتب إليه يعلمه أنه قتل من قدر عليه، وأنه فى طلب الباقين ممّن حضر قتل الحسين، [رضى الله عنه] «2» . الجزء: 21 ¦ الصفحة: 33 ذكر بيعة المثنى العبدى للمختار بالبصرة وإخراجه منها ولحاقة بالمختار بالكوفة وفى سنة ستّ وستين دعا المثنّى بن مخرّبة «1» العبديّ بالبصرة إلى بيعة المختار، وكان قد بايع المختار بعد مقتل سليمان بن صرد، فسيّره المختار إلى البصرة يدعو بها إليه، ففعل، فأجابه رجال من قومه وغيرهم. ثم أتى مدينة الرّزق «2» فعسكر عندها، فوجّه إليهم «3» الحارث ابن أبى ربيعة المعروف بالقباع «4» ، وهو أمير البصرة، عبّاد بن حصين، وهو على شرطته، وقيس بن الهيثم فى الشرط والمقاتلة، فخرجوا إلى السّبخة، ولزم الناس بيوتهم، فلم يخرج أحد، وأقبل عبّاد فيمن معه فتواقف هو والمثنّى وأنشبوا «5» القتال، فانهزم المثنّى، وأتى قومه عبد القيس، وكف عنه عبّاد، فأرسل القباع عسكرا إلى عبد القيس ليأتوه بالمثنى ومن معه، فلما رأى زياد بن عمرو العتكى ذلك أقبل إلى القباع فقال: لتردّنّ خيلك عن إخواننا أو لنقاتلنّهم، فأرسل القباع الأحنف بن قيس، وعمر بن عبد الرحمن المخزومى ليصلحا بين الناس، فأصلح الأحنف الأمر على أن يخرج المثنى وأصحابه عنهم، فأجابوه إلى ذلك وأخرجوهم عنهم، فسار المثنى إلى الكوفة فى نفر يسير من أصحابه. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 34 ذكر مخادعة المختار ومكره بعبد الله بن الزبير وظهور ذلك له قال: لمّا أخرج المختار ابن مطيع عامل ابن الزبير من الكوفة سار إلى البصرة وكره أن يأتى ابن الزبير مهزوما، فلما استجمع للمختار أمر الكوفة، أخذ يخادع ابن الزبير، فكتب إليه: «قد عرفت مناصحتى إياك، وجهدى على أهل عداوتك، وما كنت أعطيتنى إن أنا فعلت ذلك، فلما وفيت لك [وقضيت الذى كان لك علىّ خست بى و] «1» لم تف بما عاهدتنى عليه، فإن ترد مراجعتى ومناصحتى، فعلت، والسلام» . وإنما قصد المختار بذلك أن يكفّ ابن الزبير عنه ليتم أمره، ولم تعلم الشيعة بذلك، فأراد ابن الزبير أن يعلم حقيقة ذلك، فدعا عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزوميّ فولّاه الكوفة، وقال: إنّ المختار سامع مطيع، فتجهّز عمر وسار نحو الكوفة، وأتى الخبر المختار، فدعا زائدة بن قدامة وأعطاه سبعين ألف درهم وقال له: هذه ضعف ما أنفق عمر فى طريقه إلينا، وأمره أن يأخذ معه خمسمائة فارس، ويسير حتّى يلقاه بالطريق فيعطيه النفقة ويأمره بالعود، فإن فعل وإلّا فيريه الخيل، فأخذ زائدة المال والخيل وسار حتى لقى عمر، فأعطاه المال، وأمره بالانصراف، فقال: إن أمير المؤمنين قد ولانى الكوفة، ولا بد من إتيانها، فدعا الجزء: 21 ¦ الصفحة: 35 زائدة الخيل، وكان قد أكمنها «1» ؛ فلما رآها عمر قد أقبلت أخذ المال وسار نحو البصرة. ثم إن عبد الملك بن مروان بعث عبد الملك بن الحارث بن الحكم ابن أبى العاص إلى وادى القرى، وكان المختار قد وادع ابن الزبير ليكف عنه ويتفرّغ لأهل الشام، فكتب المختار لابن الزبير: بلغنى أن ابن مروان قد بعث إليك جيشا، فإن أحببت أمددتك بمدد. فكتب إليه ابن الزبير: «إن كنت على طاعتى فبايع لى الناس قبلك، وعجّل بإنفاذ الجيش ومرهم فليسيروا إلى من بوادى القرى من جند ابن مروان فليقاتلوهم، والسلام» . فدعا المختار شرحبيل بن ورس الهمدانى. فسيّره فى ثلاثة آلاف أكثرهم من الموالى، وليس فيهم إلّا سبعمائة من العرب، وقال له: سر حتى تدخل المدينة، فإذا دخلتها فاكتب إلىّ بذلك حتى يأتيك أمرى، وهو يريد إذا دخل الجيش المدينة أن يبعث عليهم أميرا لمحاصرة ابن الزبير بمكة، وخشى ابن الزبير أنّ المختار إنما يكيده. فبعث من مكّة [إلى المدينة] «2» عباس بن سهل بن سعد فى ألفين، وأمره أن يستنفر العرب، وقال له: إن رأيت القوم فى طاعتى وإلّا فكايدهم حتى تهلكهم. فأقبل عباس حتى لقى ابن ورس بالرقيم «3» وقد عبّأ أصحابه، وأتى عباس وقد تقطع أصحابه، فرأى ابن ورس على الماء فى تعبئته فدنا وسلّم عليهم، ثم قال لابن ورس سرّا: ألستم فى طاعة ابن الزبير؟ قال: بلى. قال: فسر بنا إلى عدوه الجزء: 21 ¦ الصفحة: 36 الّذى بوادى «1» القرى، فقال: إنما أمرت أن آتى المدينة وأكتب إلى صاحبى، فيأمرنى بأمره، فقال عباس: رأيك أفضل، وفطن لما يريد، وقال: أما أنا فسائر إلى وادى القرى، ونزل عباس أيضا، وبعث إلى ابن ورس بجزائر «2» وغنم، وكانوا قد ماتوا جوعا، فذبحوا واشتغلوا بها، واختلطوا على الماء، وجمع عبّاس من شجعان أصحابه نحو ألف رجل، وأقبل إلى فسطاط ابن ورس، فلما رآهم نادى فى أصحابه، فلم يجتمع إليه مائة رجل، حتى انتهى إليهم عباس، فاقتتلوا يسيرا، فقتل ابن ورس فى سبعين من أهل الحفاظ، ورفع عباس راية أمان، فأتوها إلا نحو ثلاثمائة مع سليمان بن حمير الهمدانى، وعبّاس «3» بن جعدة الجدلى، فظفر عباس بن سهل منهم بنحو من مائتين فقتلهم، وأفلت الباقون فرجعوا ومات أكثرهم فى الطريق. وكتب المختار إلى ابن الحنفية: «إنى أرسلت إليك جيشا ليذلّوا لك الأعداء، ويحرزوا لك البلاد، فلمّا قاربوا طيبة «4» فعل بهم كذا وكذا، فإن رأيت أن أبعث إلى المدينة جيشا كثيفا وتبعث إليهم من قبلك رجلا «5» فافعل» . فكتب إليه ابن الحنفية: «أمّا بعد، فقد قرأت كتابك، وعرفت تعظيمك لحقى، وما تؤثره من سرورى؛ وإن أحبّ الأمور كلّها إلىّ ما أطيع الله فيه، فأطع الله ما استطعت، وإنى لو أردت القتال لوجدت الناس إلىّ سراعا، والأعوان لى كثيرة، ولكنّى أعتزلهم وأصبر حتّى يحكم الله [لى] «6» وهو خير الحاكمين» . الجزء: 21 ¦ الصفحة: 37 ذكر امتناع محمد ابن الحنفية من مبايعة عبد الله بن الزبير وما كان من أمره وإرسال المختار الجيش إلى مكة وخبر ابن الحنفية قال: ثم إن عبد الله بن الزبير دعا محمد ابن الحنفيّة ومن معه من أهل بيته، وسبعة عشر رجلا من وجوه أهل الكوفة منهم أبو الطفيل عامر «1» بن وائلة له صحبة، ليبايعوه فامتنعوا وقالوا: لا نبايع حتى تجتمع الأمّة، فأكثر الوقيعة فى ابن الحنفية وذمّه، فأغلظ له عبد الله بن هانىء الكندى، وقال «2» : لئن لم يضرك إلا تركنا بيعتك لا يضرك شىء، فلم يراجعه ابن الزبير، فلما استولى «3» المختار على الكوفة وصارت الشّيعة تدعو لابن الحنفية، ألح ابن الزبير عليه وعلى أصحابه فى البيعة حتّى حبسهم بزمزم، وتوّعدهم، بالقتل والإحراق إن لم يبايعوا، وضرب لهم فى ذلك أجلا. فكتب ابن الحنفيّة إلى المختار يعرفه الحال، ويطلب منه النجدة. فقرأ المختار كتابه على أهل الكوفة، وقال: هذا مهديكم وصريح أهل بيت نبيكم قد تركوا «4» محظورا عليهم كما يحظر على الغنم ينتظرون القتل والتحريق فى اللّيل والنهار، لست أبا إسحاق إن لم الجزء: 21 ¦ الصفحة: 38 أنصرهم نصرا مؤزّرا، وإن لم أسرّب الخيل فى إثر الخيل، كالسّيل يتلوه السّيل، حتى يحلّ بابن الكاهليّة الويل، يريد عبد الله بن الزّبير. فبكى الناس وقالوا: سرّحنا إليه وعجّل، فوجه أبا عبد الله الجدلىّ فى سبعين من أهل القوة، ووجّه ظبيان بن عمارة أخا بنى تميم فى أربعمائة، وبعث معه أربعمائة ألف درهم لابن الحنفيّة، ووجّه أبا المعتمر فى مائة، وهانىء بن قيس فى مائة، وعمير بن طارق فى أربعين، ويونس بن عمران فى أربعين، فوصل أبو عبد الله الجدلى إلى ذات «1» عرق، فأقام بها حتى أتاه عمير ويونس فى ثمانين، فبلغوا مائة وخمسين راكبا، فساروا حتّى دخلوا المسجد الحرام وهم ينادون: يا لثارات الحسين، حتى انتهوا إلى زمزم، وقد أعد ابن الزبير الحطب ليحرّقهم، وكان قد بقى من الأجل يومان، فكسروا الباب ودخلوا على ابن الحنفية، فقالوا: خلّ بيننا وبين عدو الله ابن الزبير، فقال: إنى لا أستحلّ القتال فى الحرم. فقال ابن الزبير: وا عجبا لهذه الخشبيّة ينعون حسينا كأنّى أنا قتلته، والله لو قدرت على قتلته لقتلتهم، وإنما سمّاهم ابن الزبير الخشبيّة لأنّهم دخلوا مكّة وبأيديهم الخشب كراهة إشهار «2» السيوف فى الحرم، وقال: أتحسبون أنّى أخلّى سبيلهم «3» ، دون أن نبايع ويبايعوا «4» . فقال الجدلى: وربّ الرّكن والمقام لتخلّينّ سبيلنا أو لنجالدنّك بأسيافنا جلادا يرتاب منه المبطلون، فكفّهم ابن الحنفية وحذّرهم الفتنة. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 39 ثم قدم باقى الجند ومعهم المال، فدخلوا المسجد الحرام فكبّروا، وقالوا، بالثارات الحسين، فخافهم ابن الزبير، وخرج ابن الحنفيّة ومعه أربعة آلاف رجل إلى شعب على، فعزّوا وامتنعوا، فقسم فيهم المال، فلما قتل المختار ضعفوا واحتاجوا، ثم استوسقت «1» البلاد لابن الزبير بعد قتل المختار، فبعث إلى ابن الحنفيّة أن ادخل فى بيعتى، وإلّا نابذتك. وبلغ الخبر عبد الملك بن مروان، فكتب إلى ابن الحنفيّة: إنه إن قدم عليه أحسن إليه، وإنه ينزل أيّ الشام أحبّ حتّى يستقيم أمر الناس. فخرج ابن الحنفية ومن معه إلى الشام، فلما وصل إلى مدين بلغه غدر عبد الملك بعمرو بن سعيد، فندم على إتيانه إلى الشام ونزل أيلة «2» ، وتحدث الناس بفضل ابن الحنفيّة، وكثرة عبادته وزهده، فندم عبد الملك على إذنه له فى القدوم إلى بلده، فكتب إليه: «إنه لا يكون فى سلطانى من لا يبايعنى» . فارتحل إلى مكّة، ونزل شعب أبى طالب، فأرسل إليه ابن الزبير يأمره بالرحيل عنه، فسار إلى الطائف والتحق به عبد الله بن عباس، ومات ابن عباس بالطائف، فصلى عليه ابن الحنفية، وكبّر عليه أربعا، وأقام بالطائف حتى قدم الحجّاج لحصار ابن الزبير، فعاد إلى الشّعب، فطلبه الحجاج ليبايع عبد الملك، فامتنع حتى يجتمع الناس، ثم بايع بعد قتل ابن الزّبير. هذا ما كان من أمره، فلنعد إلى أخبار المختار، [والله أعلم] «3» . الجزء: 21 ¦ الصفحة: 40 ذكر مسير ابراهيم بن الأشتر لحرب عبيد الله بن زياد وقتل ابن زياد وفى سنة [66 هـ] ست وستّين لثمان بقين من ذى الحجة، سار إبراهيم بن الأشتر لقتال عبيد الله بن زياد، وذلك بعد فراغه من وقعة السّبيع بيومين، وأخرج المختار معه فرسان أصحابه ووجوههم وأهل البصائر منهم، وشيّعه ووصاه، وخرج معه لتشييعه أصحاب الكرسى بكرسيهم، وهم يدعون الله له بالنصر، وسنذكر خبر الكرسىّ إن شاء الله تعالى. قال: ولما انتهى إبراهيم إلى أصحاب الكرسىّ وهم عكوف عليه، [وقد] «1» رفعوا أيديهم إلى السماء يدعون الله، فقال إبراهيم: اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منّا، هذه سنّة بنى إسرائيل، وسار إبراهيم مجدّا ليلقى ابن زياد قبل أن يدخل أرض العراق، وكان ابن زياد قد سار فى عسكر عظيم وملك الموصل كما ذكرنا، فلما انتهى إبراهيم إلى نهر الخازر «2» من أرض الموصل نزل بقرية باربيثا «3» ، وأقبل عبيد الله بن زياد حتى نزل قريبا منهم على شاطئ خازر، وأرسل عمير بن الحباب «4» السّلمىّ إلى ابن الأشتر أن القنى؛ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 41 وكانت قيس كلّها مضطغنة على بنى مروان بسبب وقعة مرج «1» راهط، وجند عبد الملك يومئذ كلب، واجتمع عمير وابن الأشتر فأخبره عمير أنّه على ميسرة ابن زياد، وواعده أنه ينهزم بالناس، وأشار عليه بمناجزة القوم، وعاد عمير إلى أصحابه، وعبّأ ابن الأشتر أصحابه، وصلّى بهم صلاة الفجر بغلس، ثم صفّهم وسار بهم رويدا حتى أشرف على تلّ عظيم مشرف على القوم، فإذا هم لم يتحرك منهم أحد، فتقدم ابن الأشتر وهو يحرض أصحابه على القتال، ويذكّرهم بمقتل «2» الحسين وسبى أهل بيته، فلما تدانى الصّفّان حمل الحصين بن نمير بميمنة أهل الشام على ميسرة ابن الأشتر، وعليها عليّ بن مالك الجشمى، فقتل ابن مالك، فأخذ الراية ابنه قرة بن عليّ وقاتل بها فقتل فى رجال من أهل البأس، وانهزمت ميسرة إبراهيم، فأخذ الراية عبد الله بن ورقاء بن جنادة السّلوليّ، وردّ المنهزمين، وقاتلوا، وحملت ميمنة إبراهيم وعليها سفيان بن يزيد الأزدى على ميسرة ابن زياد، وهم يظنّون أن عمير بن الحباب ينهزم لهم كما زعم، فقاتلهم أشدّ قتال، وأنفت نفسه الهزيمة، فلمّا رأى إبراهيم ذلك قال لأصحابه: اقصدوا أهل «3» السواد الأعظم، فو الله لئن هزمناه لنجعلن من ترون يمنة ويسرة، فتقدم أصحابه وقاتلوا أشد قتال، وصدقهم إبراهيم القتال، فانهزم أصحاب ابن زياد، وبعد أن قتل من الفريقين قتلى كثيرة. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 42 وقيل: إن عمير بن الحباب أول من انهزم، وإنما كان قتاله أولا تعذيرا. فلما انهزموا قال إبراهيم بن الأشتر «1» : إنى قتلت رجلا تحت راية منفردة على شط نهر خازر، فالتمسوه فإنى شممت منه رائحة المسك، شرّقت يداه وغرّبت رجلاه، فالتمسوه، فاذا هو عبيد الله بن زياد، فأخذ رأسه وحرّق جثّته. وأقام إبراهيم بالموصل، وأنفذ رأس عبيد الله إلى المختار، ورءوس القوّاد، وكانت هذه الوقعة فى سنة [67 هـ] سبع وستين. وروى الترمذى رحمه الله «2» قال: لما جاءت الرءوس إلى المختار ألقيت فى القصر فجاءت حيّة دقيقة فتخللت الرءوس حتى دخلت فم عبيد الله وخرجت من منخره ودخلت فى منخره وخرجت من فمه، فعلت ذلك مرارا «3» . الجزء: 21 ¦ الصفحة: 43 ذكر ولاية مصعب بن الزبير البصرة ومسيره إلى الكوفة وقتاله المختار وقتل المختار بن أبى عبيد كانت ولايته البصرة وعزل الحارث بن أبى ربيعة الملقّب بالقباع عنها فى أول سنة (67 هـ) سبع وستّين، قال: فقدمها مصعب، وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال «1» : بسم الله الرّحمن الرّحيم. طسم. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ. نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ، وأشار بيده نحو الشام، وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ، وأشار نحو الحجاز، وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ ، وأشار نحو الشام، وقال: يأهل البصرة، بلغنى أنّكم تلقّبون أميركم، وقد لقّبت «2» نفسى الجزّار. قال: ولما هرب أشراف الكوفة من المختار يوم وقعة السّبيع، أتى جماعة منهم إلى مصعب، فكان منهم شبت بن ربعىّ، أتاه على بغلة قد قطع ذنبها وطرف أذنها، وشقّ قباءه وهو ينادى: الجزء: 21 ¦ الصفحة: 44 واغوثاه! وأتاه أشراف الكوفة فدخلوا عليه وسألوه المسير إلى المختار ونصرتهم، وقدم محمد بن الأشعث، واستحثّه على المسير فأدناه وأكرمه، وكتب إلى المهّلب بن أبى صفرة، وهو عامله على فارس يستدعيه ليشهد معهم قتال المختار، فقدم فى جموع كثيرة وأموال عظيمة، فبرز مصعب بالجيوش، وأرسل عبد الرحمن بن مخنف إلى الكوفة، وأمره أن يخرج إليه من قدر عليه، ويثبط الناس عن المختار، ويدعوهم إلى بيعة ابن الزبير سرّا، فسار ودخل الكوفة مستترا، وفعل ما أمره، وسار مصعب وقدم أمامه عبّاد بن الحصين الحبطىّ «1» التميمىّ، وجعل عمر بن عبيد الله بن معمر على ميمنته، والمهلّب على ميسرته، ومالك بن مسمع على بكر، ومالك بن المنذر على عبد القيس، والأحنف بن قيس على تميم، وزياد بن عمرو العتكىّ على الأزد، وقيس بن الهيثم على أهل العالية، وبلغ الخبر المختار فقام فى أصحابه فندبهم إلى الخروج مع أحمر بن شميط، ودعا رءوس الأرباع الّذين كانوا مع ابن الأشتر فبعثهم مع ابن شميط، فسار وعلى مقدّمته ابن كامل الشاكرىّ، فوصلوا إلى المذار «2» ، وأقبل مصعب فعسكر بالقرب منه، وعبّأ كلّ واحد منهما جنده، فتقدّم عباد بن الحصين إلى أحمر وأصحابه، وقال: إنّا ندعوكم إلى كتاب الله وسنّة رسوله، وإلى بيعة أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير، فقال الآخرون: إنّا ندعوكم إلى كتاب الله وسنّة رسوله وإلى بيعة المختار، وأن نجعل هذا الأمر شورى فى آل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، الجزء: 21 ¦ الصفحة: 45 فرجع عبّاد وأخبر مصعبا، فقال: ارجع فاحمل عليهم، فرجع وحمل على ابن شميط وأصحابه، وحمل المهلّب على ابن كامل حملة بعد أخرى، فهزمهم، وثبت ابن كامل ساعة فى رجال من همدان، ثم انصرف، وحمل الناس جميعا على ابن شميط، فقاتل حتى قتل، وانهزم أصحابه، وبعث مصعب عبّادا على الخيل، وقال له: أيما أسير أخذته فاضرب عنقه، وسرّح محمد بن الأشعث فى خيل عظيمة من أهل الكوفة، وقال: دونكم ثأركم فكانوا [حيث انهزموا] «1» . أشدّ على المنهزمين من أهل البصرة، فلم يدركوا منهزما إلّا قتلوه، فلم ينج من ذلك الجيش إلا طائفة من أصحاب الخيل. ثم أقبل مصعب حتى قطع من تلقاء واسط، [القصب] «2» ، ولم تكن [واسط] «3» بنيت بعد، فأخذ فى كسكر، ثم حمل الرجال أثقالهم والضعفاء فى السفن، فأخذوا فى نهر خرشاذ «4» ، ثم خرجوا إلى نهر قوسان، ثم خرجوا إلى نهر الفرات، وأتى المختار خبر الهزيمة والقتلى «5» ، فقال: ما من الموت بدّ، وما من ميتة أموتها أحبّ إلىّ من أن أموت مثل موتة ابن شميط. ولما بلغه أنّ مصعبا قد أقبل إليه فى البرّ والبحر سار حتى نزل السّيلحين «6» ، ونظر إلى مجتمع الأنهار، نهر الخريرة «7» ، ونهر الجزء: 21 ¦ الصفحة: 46 السّيلحين، ونهر القادسيّة، ونهر يوسف، فسكر الفرات «1» ، فذهب ماؤها فى هذه الأنهار، وبقيت سفن أهل البصرة فى الطين، فخرجوا من السفن إلى ذلك السّكر «2» فأصلحوه، وقصدوا الكوفة، وسار المختار فنزل حروراء «3» ، وحال بينهم وبين الكوفة بعد أن حصّن القصر والمسجد، وأقبل مصعب وجعل على ميمنته المهلّب، وعلى ميسرته عمر بن عبيد الله، وعلى الخيل عبّاد بن الحصين، وجعل المختار على ميمنته سليم بن يزيد الكندىّ، وعلى ميسرته سعيد بن منقذ الهمدانى، وعلى الخيل عمر «4» بن عبد الله النّهدىّ، وعلى الرجال مالك بن عبد الله «5» النّهدى، وأقبل محمد بن الأشعث فيمن كان قد هرب من أهل الكوفة، فنزل بين مصعب والمختار، فلمّا رأى المختار ذلك بعث إلى كلّ خمس من أهل البصرة رجلا من أصحابه، وتدانى الناس، فحمل سعيد بن منقذ على بكر وعبد القيس وهم فى ميمنة مصعب، فاقتتلوا قتالا شديدا، وبعث المختار إلى عبد الله بن جعدة بن هبيرة المخزومى، فحمل على من بإزائه وهم أهل العالية، فكشفهم [فانتهوا إلى مصعب فجثا مصعب على ركبتيه ونزل الناس عنده فقاتلوا ساعة وتحاجزوا ثم حمل المهلب على من بإزائه فكشفهم] «6» واشتدّ القتال، فقتل ابن الأشعث وذلك عند الجزء: 21 ¦ الصفحة: 47 المساء، وقاتل المختار على فم سكّة شبث عامّة ليلته، وقاتل معه رجال من أهل البأس، وقاتلت معه همدان أشدّ قتال، ثم تفرق الناس عن المختار، فقال له من معه: أيّها الأمير، اذهب إلى القصر، فجاء حتّى دخله، فقال له بعض أصحابه: ألم تكن وعدتنا الظفر، وأنّا سنهزمهم؛ فقال: أما قرأت فى كتاب الله «1» : يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ. قال: فلما أصبح مصعب أقبل يسير فيمن معه نحو السّبخة، فمرّ بالمهلّب، فقال المهلّب، يا له فتحا ما أهناه لو لم يقتل محمد بن الأشعث، فقال: صدقت؛ ثم قال [مصعب] «2» للمهلب: إن عبيد الله بن عليّ بن أبى طالب قد قتل، فاسترجع المهلّب. فقال مصعب: إنّما قتله من يزعم أنه شيعة لأبيه، ثم نزل مصعب السّبخة فقطع عن المختار ومن معه الماء والميرة، وقاتل المختار ومن معه قتالا ضعيفا، واجترأ الناس عليهم، فكانوا إذا خرجوا رماهم الناس من فوق البيوت، وصبّوا عليهم الماء القذر، وكان أكثر معاشهم من النساء تأتى المرأة متخفّية ومعها القليل من الطعام والشراب، ففطن مصعب لذلك، فمنع النساء، فاشتد على المختار وأصحابه العطش، فكانوا يشربون ماء البئر بالعسل، ثم أمر مصعب أصحابه فاقتربوا من القصر، واشتدّ الحصار، فقال المختار لأصحابه: ويلكم، إنّ الحصار لا يزيدكم إلّا ضعفا، فانزلوا بنا نقاتل حتّى نقتل كراما إن نحن قتلنا، والله ما أنا يائس إن صدقتموهم أن ينصركم الله، فضعفوا ولم يفعلوا، فقال لهم: الجزء: 21 ¦ الصفحة: 48 أما أنا فو الله لا أعطى بيدى ولا أحكّمهم فى نفسى، ثم تطيّب وتحنّط وخرج من القصر فى تسعة عشر رجلا منهم السائب بن مالك الأشعريّ، فتقدّم المختار فقاتل حتى قتل، قتله رجلان أخوان من بنى حنيفة، وهما طرفة وطرّاف ابنا عبد الله بن دجاجة، فلما كان الغد من مقتله، دعا بجير بن عبد الله المسلىّ «1» من معه بالقصر إلى ما دعاهم المختار، فأبوا عليه، وأمكنوا أصحاب مصعب من أنفسهم، ونزلوا على حكمه، فأخرجوا مكتّفين، فاستعطفوه، فأراد أن يطلقهم، فقام عبد الرحمن ابن محمد بن الأشعث فقال: أتخلّى سبيلهم؟ اخترنا أو اخترهم. وقال محمد بن عبد الرحمن بن سعيد الهمدانى مثله، وقال أشراف الكوفة مثلهما، فأمر بقتلهم، فقالوا: يا ابن الزّبير، لا تقتلنا واجعلنا على مقدّمتك إلى أهل الشام غدا، فما بكم عنّا غدا غنى «2» ؛ فإن قتلنا لم نقتل حتى نضعفهم لكم، وإن ظفرنا بهم كان ذلك لكم، فأبى عليهم وقتلهم برأى أهل الكوفة، وأمر مصعب بكفّ المختار فقطعت وسمّرت إلى جانب المسجد فبقيت حتى قدم الحجاج فأمر بنزعها. وكتب مصعب إلى إبراهيم بن الأشتر يدعوه إلى طاعته، ويقول: إن أطعتنى فلك الشام وأعنّة الخيل وما غلبت عليه من أرض المغرب «3» ما دام لآل الزّبير سلطان. وكتب عبد الملك بن مروان إلى ابن الأشتر أيضا يدعوه إلى طاعته ويقول: إن أنت أجبتنى فلك العراق. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 49 فاستشار إبراهيم أصحابه فى ذلك، فاختلفوا، فقال: لو لم أكن أصبت ابن زياد وغيره من أشراف الشام لأجبت عبد الملك، مع أنى لا أختار على [أهل] «1» مصرى وعشيرتى غيرهم، فدخل فى طاعة مصعب، وبلغ مصعبا إقباله [إليه] «2» ، فبعث المهلّب على عمله بالموصل والجزيرة وإرمينية وأذربيجان. قال: ثم دعا مصعب بن الزبير أمّ ثابت بنت سمرة بن جندب امرأة المختار، وعمرة بنت النعمان بن بشير الأنصارى امرأته الأخرى، وسألهما عنه، فقالت أم ثابت: أقول فيه بقولك أنت فيه، فأطلقها؛ وقالت عمرة: رحمة الله عليه، كان عبدا صالحا. فكتب إلى أخيه عبد الله: إنها تزعم أنه نبى، فأمره بقتلها، فقتلت ليلا بين الحيرة والكوفة، فقال عمر بن أبى ربيعة المخزومىّ «3» : إنّ من أعجب العجائب «4» عندى ... قتل بيضاء حرّة عطبول «5» قتلت هكذا على غير جرم «6» ... إن لله درّها من قتيل كتب القتل والقتال علينا ... وعلى المحصنات «7» جرّ الذّيول وقيل: إن المختار إنما أظهر الخلاف على ابن الزبير عند قدوم مصعب البصرة، وإن مصعبا لمّا سار إليه فبلغه مسيره أرسل إليه الجزء: 21 ¦ الصفحة: 50 أحمر بن شميط، وأمره أن يواقعه بالمذار، وقال: إن الفتح بالمذار «1» ، لأنه بلغه أن رجلا من ثقيف يفتح عليه بالمذار فتح عظيم، فظن أنه هو، وإنّما كان الحجّاج «2» فى قتال عبد الرحمن ابن الأشعث، وأمر مصعب عبادا الحبطىّ بالمسير إلى جمع المختار، فتقدّم وتقدّم معه عبيد الله بن علىّ بن أبى طالب، وبقى مصعب على نهر البصريّين، [على شط الفرات] «3» ، وخرج المختار فى عشرين ألفا، وزحف مصعب ومن معه فوافوه مع اللّيل، فقال المختار لأصحابه: لا يبرحنّ أحد منكم حتّى يسمع مناديا ينادى: يا محمّد، فاذا سمعتموه فاحملوا، فلما طلع القمر أمر مناديا فنادى: يا محمد؛ فحملوا على أصحاب مصعب فهزموهم وأدخلوهم عسكرهم، فلم يزالوا يقاتلونهم حتى أصبحوا، وأصبح المختار وليس عنده أحد، وقد أوغل أصحابه فى أصحاب مصعب، فانصرف المختار منهزما حتى دخل قصر الكوفة، وجاء أصحابه حين أصبحوا، فوقفوا مليّا، فلم يروا المختار، فقالوا: قد قتل، فهرب منهم من أطاق الهرب، فاختفوا بدور الكوفة، وتوجّه منهم نحو القصر ثمانية آلاف، فوجدوا المختار فى القصر، فدخلوا معه وكانوا قد قتلوا تلك الليلة من أصحاب مصعب خلقا كثيرا، منهم محمد بن الأشعث. وأقبل مصعب فأحاط بالقصر، وحاصرهم أربعة أشهر يخرج المختار كلّ يوم فيقاتلهم فى سوق الكوفة، فلمّا قتل المختار بعث الجزء: 21 ¦ الصفحة: 51 من فى القصر يطلبون الأمان، فأبى مصعب، فنزلوا على حكمه، فقتل من العرب سبعمائة أو نحو ذلك، وسائرهم من العجم، فكان عدة القتلى ستّة آلاف رجل، وقيل: سبعة آلاف، وذلك فى سنة [67 هـ] سبع وستّين، وكان عمر المختار يوم قتل سبعا وستّين سنة، وكان تارة يدعو لمحمد ابن الحنفيّة، وتارة لعبد الله بن الزبير. وحكى عبد الملك بن عبدون فى كتابه المترجم (كمامة الزّهر وصدفة الدّرر) ، أن المختار ادّعى النبوّة وقال: إنه يأتيه الوحى من السماء، وأظهر ذلك فى آخر أمره، وكان له كرسى يستنصر به. ذكر خبر كرسى المختار الذى كان يستنصر به ويزعم أنه فى كتاب بنى إسرائيل قال الطّفيل بن جعدة بن هبيرة: أضقت «1» إضاقة شديدة، فخرجت يوما فإذا جار لى زيّات وعنده كرسىّ قد ركبه الوسخ، فقلت فى نفسى: لو قلت للمختار فى هذا شيئا، فأخذته من الزيّات وغسلته، فخرج عود نضار قد شرب الدّهن وهو أبيض «2» ، فقلت للمختار: إنّى كنت أكتمك شيئا، وقد بدا لى أن أذكره لك، إن أبى جعدة «3» كان يجلس عندنا على كرسى، ويرى أن فيه أثرا من «4» علم. قال: سبحان الله، أخّرّته إلى هذا الوقت! ابعث به إلىّ، فأحضرته وقد غشّيته، فأمر لى باثنى عشر ألفا، ثم أمر فنودى: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، فقال: إنه لم يكن فى الأمم الخالية أمر إلّا وهو الجزء: 21 ¦ الصفحة: 52 كائن فى هذه الأمّة مثله، وإنه كان لبنى إسرائيل التابوت، وإن هذا فينا مثله، فكشفوا عنه وقامت السّبائيّة «1» فكبّروا، ثم لم يلبث أن أرسل المختار الجيش لقتال ابن زياد، وخرج بالكرسىّ على بغل وقد غشّى، فكان من هزيمة أهل الشام وقتل أشرافهم ما ذكرناه، فزادهم ذلك فتنة حتى تعاطوا الكفر. قال الطفيل: فندمت على ما صنعت، فتكلّم الناس فى ذلك، فغيّبه المختار. وقيل: إن المختار قال لآل جعدة بن هبيرة- وكانت أمّ جعدة هى أم هانى بنت أبى طالب أخت علىّ رضى الله عنه لأبويه- ائتونى بكرسى علىّ، فقالوا: والله ما هو عندنا، فقال: لا تكونوا حمقى، اذهبوا فائتونى به، فظنّوا أنّهم لا يأتونه بكرسى إلا قال: هذا هو، فأتوه بكرسىّ، فأخذه وخرجت شبام وشاكر وفودا، يعنى أصحاب المختار، وقد جعلوا عليه الحرير «2» ، وكان أوّل من سدنه موسى ابن أبى موسى الأشعرىّ، فعتب الناس عليه، فتركه فسدنه حوشب البرسمىّ حتى هلك المختار. وقال أعشى همدان فيه «3» : شهدت عليكم أنكم سبئيّة ... وإنى بكم يا شرطة الشّرك عارف فأقسم ما كرسيّكم بسكينة ... وإن كان قد لفّت عليه الّلفائف وأن ليس كالتابوت فينا وإن سعت ... شبام حواليه ونهد وخارف الجزء: 21 ¦ الصفحة: 53 وإنّى امرؤ أحببت آل محمّد ... وتابعت وحيا ضمّنته المصاحف وبايعت «1» عبد الله لما تتابعت ... عليه قريش شمطها والغطارف وقال المتوكل اللّيثى «2» : أبلغ أبا إسحاق إن جئته ... أنّى بكرسيّكم كافر تنزو شبام حول أعواده ... ويحمل «3» الوحى له شاكر محمرّة أعينهم حوله ... كأنّهن الحامض «4» الحازر انتهت أخبار المختار بن أبى عبيدة، فلنذكر أخبار نجدة الحنفى، [والله ولىّ التوفيق] «5» . ذكر أخبار نجدة بن عامر الحنفى حين وثب باليماية وما كان من أمره كان نجدة بن عامر بن عبد الله بن سيار بن مفرّج الحنفى مع نافع بن الأزرق، ففارقه وسار إلى اليمامة، وكان أبو طالوت «6» وهو من بنى بكر بن وائل، وأبو فديك عبد الله بن ثور بن قيس ابن ثعلبة، وعطيّة بن الأسود اليشكرىّ- قد وثبوا بها مع أبى طالوت، فلمّا قدمها نجدة دعا أبا طالوت إلى نفسه، فأجابه بعد امتناع، ومضى أبو طالوت إلى الخضارم «7» ، فنهبها، وكانت لبنى حنيفة، الجزء: 21 ¦ الصفحة: 54 فأخذها منهم معاوية بن أبى سفيان، فجعل فيها من الرّقيق ما عدّتهم وعدّة أبنائهم ونسائهم أربعة آلاف، فغنم ذلك وقسّمه بين أصحابه، وذلك فى سنة (65 هـ) خمس وستّين، ثم إن عيرا خرجت من البحرين- وقيل من البصرة- تحمل مالا وغيره يراد بها عبد الله بن الزّبير، فاعترضها نجدة، فأخذها وساقها حتى أتى بها أبا طالوت بالخضارم، فقسمها بين أصحابه، وقال: اقتسموا هذا المال- وردّوا هذه العبيد، واجعلوهم يعملون بالأرض «1» لكم، فإن ذلك أنفع، فاقتسموا المال، وقالوا: نجدة خير لنا من أبى طالوت، فخلعوا أبا طالوت، وبايعوا نجدة، ثم بايعه أبو طالوت، وذلك فى سنة [66 هـ] ست وستّين. ولمّا تمت بيعته بينهم سار فى جمع إلى بنى كعب بن ربيعة ابن عامر بن صعصعة، فلقيهم بذى المجاز «2» فهزمهم وقتل فيهم قتلا ذريعا، ثم كثرت جموعة حتى بلغت ثلاثة آلاف، فسار إلى البحرين فى سنة [67 هـ] سبع وستّين، فقالت الأزد: نجدة أحبّ إلينا من ولاتنا لأنه ينكر الجور، وولاتنا تجور؛ فعزموا على مسالمته، واجتمعت عبد القيس ومن بالبحرين «3» غير الأزد على محاربته، فالتقوا بالقطيف «4» ، فانهزمت عبد القيس، وقتل منهم جمع كثير، وسبى نجدة من قدر عليه من أهل القطيف. وأقام بالبحرين «5» . الجزء: 21 ¦ الصفحة: 55 فلمّا قدم مصعب إلى البصرة فى سنة [69 هـ] تسع وستّين بعث إليه عبد الله بن عمير اللّيثى الأعور فى أربعة عشر ألفا، وقيل: فى عشرين ألفا، فجعل يقول: اثبت نجدة فإنّا لا نفرّ، فقدم ونجدة بالقطيف، فأتى نجدة إلى ابن عمير وهو غافل فقاتل طويلا، ثم افترقوا، وأصبح ابن عمير فهاله ما رأى فى عسكره من القتلى والجرحى، فحمل عليهم نجدة، فلم يثبتوا، وانهزموا، وغنم نجدة ما فى عسكرهم. وبعث نجدة بعد هزيمة ابن عمير جيشا إلى عمان، واستعمل عليهم عطيّة بن الأسود الحنفىّ، وقد غلب عليها عبّاد بن عبد الله وابناه سعيد وسليمان، فقاتلوه، فقتل عبّاد واستولى عطيّة عليها، فأقام بها أشهرا، ثم خرج عنها، واستخلف رجلا يكنى أبا القاسم، فقتله سعيد وسليمان ابنا عبّاد، فعاد إلى عمان فلم يقدر عليها، فركب فى البحر وأتى كرمان «1» ، وضرب بها دراهم سمّاها العطويّة، فأرسل إليه المهلّب جيشا، فهرب إلى سجستان، ثم أتى السّند، فقتلته خيل المهلّب بقندابيل «2» . وبعث نجدة إلى البوادى من يأخذ صدقة أهلها، ثم سار نجدة إلى صنعاء فى خفّ «3» من الجيش، فبايعه «4» أهلها، وبعث أبا فديك إلى حضرموت فجبى صدقات أهلها، وحج نجدة سنة (68 هـ) الجزء: 21 ¦ الصفحة: 56 ثمان وستّين، وقيل فى سنة تسع، وهو فى ثمانمائة وستّين رجلا، وقيل فى ألفين وستمائة رجل، فصالح ابن الزبير على أن يصلّى كلّ واحد بأصحابه، ويقف بهم، ويكفّ بعضهم عن بعض، فلما صدر نجدة عن الحج سار إلى المدينة، فتأهب أهلها لقتاله، وتقلّد عبد الله ابن عمر سيفا، فلما أخبر نجدة أن ابن عمر لبس السلاح رجع إلى الطائف، فلمّا قرب منها أتاه عاصم بن عروة بن مسعود الثّقفى، فبايعه على قومه، فرجع نجدة إلى البحرين، فقطع الميرة عن أهل الحرمين، فكتب إليه ابن عبّاس: إنّ ثمامة بن أثال لمّا أسلم قطع الميرة عن أهل مكة وهم كفّار، فكتب إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن أهل مكّة أهل الله، فلا تمنعهم الميرة، فخلاها «1» لهم، وإنّك قطعت الميرة عنا ونحن مسلمون، فخلّاها لهم نجدة، لم تزل عمّال نجدة على النّواحى حتى اختلف عليه أصحابه، على ما نذكره. [والله أعلم] «2» . الجزء: 21 ¦ الصفحة: 57 ذكر الخلاف على نجدة وقتله وتولية أبى فديك قال: ثم إن أصحاب نجدة اختلفوا عليه لأسباب نقموها منه، فخالف عليه عطيّة بن الأسود، وسبب ذلك أنّ نجدة بعث سرّية برّا وبحرا، فأعطى سرية البر أكثر من سريّة البحر، فنازعه عطيّة حتى أغضبه، فشتمه نجدة، فغضب عطيّة وفارقه، وألّب الناس عليه، فخالفوه وانحازوا عنه، وولّوا أمرهم أبا فديك عبد الله بن ثور، من بنى قيس بن ثعلبة، فاستخفى نجدة، وقيل لأبى فديك: إن لم تقتله تفرّق الناس عنك، فألحّ فى طلبه حتّى ظفر به أصحابه، فقتلوه، فلمّا قتل نجدة سخط قتله جماعة من أصحاب أبى فديك، ففارقوه وثار به مسلم بن جبير فضربه اثنتى «1» عشرة ضربة بسكين، فقتل مسلم، وحمل أبو فديك إلى منزله. هذا ما كان من أمر الخوارج الّذين خرجوا على عبد الله بن الزّبير فى أيّام خلافته، فلنذكر خلاف ذلك ممّا وقع فى أيامه بالأعمال الداخلة فى ولايته. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 58 ذكر الحوادث التى وقعت فى أيام عبد الله بن الزبير خلاف ما ذكرناه فى الأعمال المداخلة فى ولايته على حكم السنين سنة أربع وستين قد ذكرنا بعض حوادث هذه السنة فى أخبار يزيد، فلنذكر من حوادثها خلاف ذلك: فيها حج عبد الله بن الزبير بالناس، وكان عامله على المدينة أخوه عبيدة بن الزبير، وعلى الكوفة عبد الله بن يزيد الخطمى «1» ، وعلى قضائها سعيد بن نمران، وأبى شريح أن يقضى فى الفتنة وعلى البصرة عمر بن عبيد الله بن معمر التّيمى، وعلى قضائها هشام بن هبيرة، وعلى خراسان عبد الله بن خازم. سنة خمس وستين فى هذه السنة عزل عبد الله بن الزبير أخاه عبيدة عن المدينة، واستعمل أخاه مصعبا؛ وسبب ذلك أن عبيدة خطب الناس فقال: قد ترون ما صنع الله بقوم فى ناقة قيمتها خمسمائة «2» درهم، فسمى: مقوّم الناقة، فبلغ ذلك أخاه، فعزله، واستعمل مصعبا، الجزء: 21 ¦ الصفحة: 59 ذكر بناء ابن الزبير الكعبة كان عبد الله بن الزبير لمّا احترقت الكعبة- حين غزاه أهل الشام فى أيام يزيد بن معاوية، قد تركها ليشنع بذلك على أهل الشام. وقد اختلف فى سبب حرق الكعبة، فقيل: إن ابن الزبير لما حاصره أهل الشام سمع أصواتا فى اللّيل فوق الجبل «1» ، فخاف أن يكون أهل الشام قد وصلوا إليه، وكانت الليلة ظلماء ذات ريح صعبة ورعد وبرق، فرفع نارا على رأس رمح لينظر إلى الناس، فأطارتها الرّيح، فوقعت على أستار الكعبة فأحرقتها، وجهد الناس فى إطفائها فلم يقدروا، فأصبحت الكعبة تتهافت «2» ، وماتت امرأة من قريش، فخرج الناس كلّهم مع جنازتها خوفا من أن ينزل عليهم العذاب؛ وأصبح ابن الزبير ساجدا يدعو ويقول: اللهم إنّى لم أعتمد ما جرى، فلا تهلك عبادك بذنبى، وهذه ناصيتى بين يديك. فلمّا تعالى النهار أمن وتراجع الناس. حكاه أبو الفرج الأصفهانىّ بسند «3» رفعه إلى أبى بكر الهذلىّ، وقيل فى حرقها غير ذلك. فلمّا مات يزيد واستقرّ الأمر لابن الزبير، شرع فى بنائها، فأمر بهدمها حتى ألحقت بالأرض، وكانت حيطانها قد مالت من حجارة المنجنيق، وجعل الحجر الأسود عنده، وكان الناس يطوفون من وراء الجزء: 21 ¦ الصفحة: 60 الأساس، وضرب عليها السّتور «1» ، وأدخل فيها الحجر، واحتج بأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لعائشة رضى الله عنها: لولا حدثان «2» [عهد] «3» قومك بالكفر لرددت الكعبة على أساس إبراهيم عليه [الصلاة والسلام] «4» ، وأزيد فيها من الحجر، فحفر ابن الزبير [رضى الله عنهما] «5» ، فوجد أساسا أمثال الجمال «6» فحرّكوا منها صخرة فبرقت بارقة، فقال: أقرّوها على أساسها، وبناها، وجعل لها بابين يدخل من أحدهما ويخرج من الآخر. وقيل: كانت عمارتها فى سنة [64 هـ] أربع وستّين. [والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب] «7» . ذكر الحرب بين عبد الله بن خازم وبين بنى تميم بخراسان فى هذه السنة كانت الحرب والفتنة بين عبد الله بن خازم السّلمى وبين بنى تميم بخراسان؛ وسبب ذلك أن من كان من بنى تميم بخراسان أعانوا ابن خازم على من بها من ربيعة كما تقدّم، فلمّا صفت له خراسان جفا بنى تميم، وكان قد جعل ابنه محمدا على هراة، وجعل على شرطته بكير بن وسّاج «8» ، وضم إليه شمّاس بن دثار العطاردى الجزء: 21 ¦ الصفحة: 61 وكانت أمّ محمد تميميّة، فلمّا جفاهم ابن خازم «1» أتوا ابنه محمّدا بهراة، فكتب إلى أبيه وإلى بكير وشمّاس، يأمرهم بمنعهم عن هراة، فأمّا شمّاس فصار مع بنى تميم، وأما بكير فإنه منعهم، فأقاموا ببلاد هراة، فأرسل بكير إلى شمّاس: إنى أعطيك ثلاثين ألفا، وأعطى كلّ رجل من تميم ألفا، على أن ينصرفوا، فأبوا وأقاموا يترصّدون محمد بن عبد الله حتى خرج إلى الصيد، فأخذوه وشدّوه وثاقا، ثم قتلوه، وولّوا عليهم الحريش «2» بن هلال، فكانت الحرب بينه وبين ابن خازم، وطالت بينهما، فخرج الحريش، فنادى ابن خازم، وقال: لقد طالت الحرب بيننا، فعلام يقتل قومى وقومك، ابرز إلى فأيّنا قتل صاحبه صارت الأرض له، فقال ابن خازم: لقد أنصفت، فبرز إليه، فالتقيا وتصاولا طويلا، فغفل ابن خازم، فضربه الحريش على رأسه فألقى فروة رأسه على وجهه، وانقطع ركابا الحريش، ولزم ابن خازم عنق فرسه، ورجع إلى أصحابه، ثم غاداهم القتال، فمكثوا أياما بعد الضّربة، ثم ملّ الفريقان، فتفرقوا، فافترقت تميم ثلاث فرق: فرقة إلى نيسابور مع بحير «3» ابن ورقاء، وفرقة إلى ناحية أخرى، وفرقة فيها الحريش «4» إلى مرو الرّوذ، فاتّبعه ابن خازم إلى قرية تسمى الملحمة «5» ، والحريش الجزء: 21 ¦ الصفحة: 62 فى اثنى عشر رجلا، وقد تفرّق عنه أصحابه وهم فى خربة، فلمّا انتهى إليه قال له الحريش: ما تريد منّى وقد خلّيتك والبلاد، قال: إنّك تعود إليها، قال: لا أعود؛ فصالحه على أن يخرج عن خراسان ولا يعود إلى قتاله، فأعطاه ابن خازم أربعين ألفا، وفتح له الحريش باب القصر، فدخله ابن خازم وضمن له وفاء دينه. وفى هذه السنة [سنة 65] وقع طاعون الجارف «1» بالبصرة، وعليها عبيد الله بن عبد الله بن معمر، فهلك خلق كثير، وماتت أمّ عبيد الله فلم يجدوا لها من يحملها، حتّى استأجروا من تولّى حملها. وحج بالناس عبد الله بن الزبير، وكان على المدينة مصعب ابن الزبير، وعلى الكوفة عبد الله بن مطيع، وعلى البصرة الحارث ابن أبى ربيعة المخزومىّ، وعلى خراسان عبد الله بن خازم. وفيها توفّى عبد الله بن عمرو بن العاص بمصر، وكان قد عمى. وقيل: كانت وفاته فى سنة [68 هـ] ثمان وستّين، وقيل سنة تسع، [والله أعلم] «2» . الجزء: 21 ¦ الصفحة: 63 سنة ست وستين ذكر الفتنة بخراسان فى هذه السنة حاصر عبد الله بن خازم من كان بخراسان من بنى تميم بسبب قتلهم ابنه محمّدا، وذلك أنّه لما تفرّقت بنو تميم بخراسان على ما تقدّم، أتى قصر قرنبا «1» عدة منهم ما بين السبعين إلى الثمانين، فولّوا أمرهم عثمان بن بشر [بن] «2» المحتفز المازنى «3» ، ومعه شعبة بن ظهير النّهشلى، وورد بن الفلق العنبرى، وزهير بن ذؤيب العدوى، وجيهان بن مشجعة الضبى، والحجاج بن ناشب العدوىّ، ورقبة ابن الحر فى فرسان بنى تميم وشجعانهم، فحاصرهم ابن خازم، فكانوا يخرجون إليه فيقاتلونه، ثم يرجعون إلى القصر، فخرج ابن خازم يوما فى ستّة آلاف، وخرج أهل القصر إليه، فقال لهم بشر: ارجعوا فلن تطيقوه، فحلف زهير بن ذؤيب بالطّلاق إنه لا يرجع حتى ينقض «4» صفوفهم، فاستبطن نهرا قد يبس، فلم يشعر به أصحاب ابن خازم حتى حمل عليهم، فحطّم «5» أوّلهم على آخرهم، واستدار وكرّ راجعا، واتبعوه يصيحون به، ولم يجسر أحد ينزل إليه حتى رجع إلى موضعه، فحمل عليهم، فأفرجوا له حتى رجع، الجزء: 21 ¦ الصفحة: 64 فقال ابن خازم لأصحابه: إذا طاعنتم زهيرا فاجعلوا فى رماحكم كلاليب، ثم علقوها فى سلاحه، فخرج إليهم يوما فطاعنهم، فأعلقوا فيه أربعة رماح بالكلاليب، فالتفت إليهم ليحمل عليهم، فاضطربت أيديهم، وخلّوا رماحهم، فعاد يجرّ أربعة أرماح حتى دخل القصر، فأرسل ابن خازم إلى زهير، فضمن «1» له مائة ألف وميسان «2» طعمة ليناصحه، فلم يجبه، فلما طال الحصار عليهم أرسلوا إلى ابن خازم أن يمكّنهم من الخروج ليتفرّقوا، فأبى إلّا على حكمه، فأجابوه إلى ذلك، فقال زهير: ثكلتكم أمهاتكم، والله ليقتلنّكم عن آخركم، فإن طبتم بالموت نفسا فموتوا كراما، اخرجوا بنا جميعا، فإما أن تموتوا كراما، وإما أن ينجو بعضكم ويهلك بعضكم، وايم الله لئن شددتم عليهم شدّة صادقة ليفرجن لكم، فإن شئتم كنت أمامكم، وإن شئتم كنت خلفكم، فأبوا عليه، فقال سأريكم؛ ثم خرج هو ورقبة بن الحر وغلام تركىّ وابن ظهير، فحملوا على القوم حملة منكرة فأفرجوا لهم، فمضوا. فأمّا زهير فرجع إلى من بالقصر ونجا أصحابه، فقال زهير لمن بالقصر: قد رأيتم، أطيعونى، فقالوا: إنّا نضعف عن هذا ونطمع فى الحياة، فقال: والله لا أكون أعجزكم عند الموت، فنزلوا على حكم ابن خازم، فأرسل إليهم فقيّدهم، وحملوا إليه رجلا رجلا، فأراد أن يمنّ عليهم، فأبى عليه ابنه موسى، وقال له: إن عفوت عنهم قتلت نفسى، فقتلهم إلا ثلاثة، أحدهم الحجاج الجزء: 21 ¦ الصفحة: 65 ابن ناشب، شفع فيه بعض من معه فأطلقه، والآخر جيهان ابن مشجعة الضبّى، وكان قد منع القوم من قتل محمد عبد الله، ورمى نفسه عليه، فأبوا، فتركه لذلك، والآخر رجل من بنى سعد من تميم، وهو الّذى ردّ الناس عن ابن خازم يوم لحقوه، وقال: انصرفوا عن فارس مضر. قال: ولمّا أرادوا حمل زهير بن ذؤيب وهو مقيّد أبى، واعتمد على رمحه، فوثب الخندق، ثم أقبل إلى ابن خازم يحجل فى قيوده؛ فقال له ابن خازم: كيف شكرك إن أطلقتك وأطعمتك ميسان؟ قال: لو لم تصنع بى إلّا حقن دمى لشكرتك، فلم يمكنه ابنه موسى من إطلاقه، فقال له أبوه: ويحك، تقتل مثل زهير، من لقتال عدو المسلمين، من «1» لنساء العرب؟ فقال: والله لو شركت فى دم أخى لقتلتك، فأمر بقتله، فقال زهير: [إن] «2» لى حاجة، لا تقتلنى وتخلط دمى بدماء هؤلاء اللّئام، فقد نهيتهم عما صنعوا، وأمرتهم أن يموتوا كراما ويخرجوا عليكم مصلتين، وايم الله لو فعلوا لذعروا «3» بنيّك هذا. وشغلوه بنفسه عن طلب ثأر أخيه، فأمر به ابن خازم فقتل ناحية. وحجّ بالناس فى هذه السنة عبد الله بن الزبير. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 66 سنة سبع وستين فى هذه السنة استعمل عبد الله بن الزبير أخاه مصعبا على البصرة، فقتل المختار كما تقدّم، ثم عزله عن العراق، واستعمل ابنه حمزة بن عبد الله. وكان حمزة جوادا مخلّطا، يجود أحيانا حتى لا يدع شيئا يملكه، ويمنع أحيانا ما لا يمنع مثله، وظهر منه بالبصرة خفّة وضعف، فكتب الأحنف إلى أبيه، وسأله أن يعزله عنهم، ويعيد مصعبا، فعزله، فاحتمل مالا كثيرا من مال البصرة، فعرض له مالك ابن مسمع، فقال: لاندعك تخرج بأعطياتنا؛ فضمن له عبيد الله ابن عبد الله العطاء، فكفّ عنه، وشخص حمزة بالمال إلى المدينة، فأودعه رجالا، فجحدوه، إلا رجلا واحدا، فوفى له، فبلغ ذلك أباه، فقال: أبعده الله، أردت أن أباهى به بنى مروان فنكص. وقيل: إن مصعبا أقام بالكوفة سنة بعد قتل المختار معزولا عن البصرة، ثم وفد إلى أخيه فردّه إلى البصرة، وقيل: بل انصرف مصعب إلى البصرة بعد قتل المختار، واستعمل على الكوفة الحارث بن أبى ربيعة، وكانتا فى عمله، فعزله أخوه، واستعمل ابنه حمزة، ثم عزل حمزة بكتاب الأحنف وأهل البصرة، وردّ مصعبا، وذلك فى سنة [68 هـ] ثمان وستين. وحج بالناس فى هذه السنة عبد الله بن الزبير، وكان العمّال من تقدم ذكرهم، وكان على قضاء الكوفة عبد الله بن عتبة بن مسعود، وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 67 سنة (68 هـ) ثمان وستين ذكر حصار الرى وفتحها وفى هذه السنة أمر مصعب بن الزبير عتّاب بن ورقاء الرّياحىّ عامله على أصفهان بالمسير إلى الرّى وقتال أهلها، لمساعدتهم الخوارج على يزيد بن الحارث، كما تقدم، وامتناعهم فى مدينتهم، فسار إليهم عتّاب، وقاتلهم، وعليهم الفرّخان ففتحها عنوة، وغنم ما فيها وافتتح سائر قلاعها ونواحيها. [والله أعلم] «1» . ذكر أخبار عبيد الله بن اخر ومقتله وفى هذه السنة قتل عبيد الله بن الحرّ الجعفىّ، وكان من خيار قومه صلاحا وفضلا واجتهادا، ولما قتل عثمان حضر إلى معاوية وشهد معه صفّين وأقام عند معاوية، وكانت زوجته بالكوفة، فلمّا طالت غيبته عنها زوجها أخوها رجلا، يقال له عكرمة بن الخنبص «2» ، فبلغ ذلك عبيد الله، فأقبل من الشام فخاصمه عكرمة إلى على رضى الله عنه. فقال له علىّ رضى الله عنه: ظاهرت علينا عدوّنا وفعلت وفعلت. فقال له: أيمنعنى ذلك من عدلك؟ قال: لا، فقصّ عليه قصته فردّ عليه امرأته وكانت حبلى، فوضعها عند من يثق إليه حتى وضعت فألحق الولد بعكرمة، ودفع المرأة إلى عبيد الله، وعاد إلى الشام فأقام به حتى قتل على رضى الله عنه، فرجع إلى الكوفة، فلما كان الجزء: 21 ¦ الصفحة: 68 فى وقت قتل الحسين تغيب عبيد الله عمدا، فجعل ابن زياد يتفقّد أشراف أهل الكوفة، فلم ير ابن الحرّ ثم جاء بعد «1» ذلك فقال: أين كنت يا ابن الحر؟ قال: كنت مريضا. قال: كذبت، ولكنك كنت مع عدونا. قال: لو كنت معه لرئى مكانى. وغفل عنه ابن زياد، فخرج وركب فرسه، ثم طلبه فقيل له: ركب الساعة، فبعث الشرط خلفه فأدركوه فقالوا: أجب الأمير، فقال: بلغوه عنّى أنى لا آتيه طائعا أبدا، وركض فرسه، وأتى منزل أحمد بن زياد الطائى، فاجتمع إليه أصحابه، ثم خرج حتى أتى كربلاء، فنظر إلى مصارع الحسين رضى الله عنه، ومن قتل معه، فاستغفر لهم ثم مضى إلى المدائن. وقال فى ذلك «2» : يقول أمير غادر حقّ «3» غادر ... ألا كنت قاتلت الشهيد «4» ابن فاطمة ونفسى على خذلانه واعتزاله ... وبيعة هذا الناكث العهد لائمه فياندمى ألا أكون نصرته ... ألا كلّ نفس لا تسدّد نادمه وإنّى لأنّى لم أكن من حماته ... لذو حسرة ما إن تفارق «5» لازمه سقى الله أرواح الّذين تآزروا ... على نصره سقيا «6» من الغيث دائمه وقفت على أجدائهم ومجالهم ... فكاد الحشى ينقضّ والعين ساجمه الجزء: 21 ¦ الصفحة: 69 لعمرى لقد كانوا مصاليت فى الوغى ... سراعا إلى الهيجا حماة خضارمه تأسّوا على نصر ابن بنت نبيّهم ... بأسيافهم آساد غيل ضراغمه فان يقتلوا فكلّ «1» نفس تقية ... على الأرض قد أضحت لذلك واجمه وما إن رأى الراءون أفضل منهمو ... لدى الموت سادات وزهرا «2» قماقمه أتقتلهم ظلما وترجو ودادنا ... فدع خطّة ليست لنا بملائمه لعمرى لقد راغمتمونا بقتلهم ... فكم ناقم منّا عليكم وناقمه أهمّ مرارا أن أسير بجحفل ... إلى فئة زاغت عن الحقّ ظالمه فكفّوا وإلا زرتكم فى «3» كتائب ... أشدّ عليكم من زحوف الدّيالمه قال: وأقام ابن الحرّ بمنزله على شاطىء الفرات إلى أن مات يزيد، ووقعت الفتنة، فقال: ما أرى قرشيا ينصف، أين أبناء الحرائر؟ فأتاه كلّ خليع، ثم خرج إلى المدائن فلم يدع مالا قدم به للسلطان «4» إلا أخذ منه عطاءه وعطاء أصحابه، ويكتب لصاحب المال بما أخذ منه، ثم جعل يتقصّى الكور على مثل ذلك، إلا أنه لم يعترض لمال أحد ولا دمه، فلم يزل كذلك حتى ظهر المختار وسمع ما يعمله ابن الحرّ فى السّواد، فأخذ امرأته «5» فحبسها، فأقبل عبيد الله فى أصحابه إلى الكوفة، فكسر باب السّجن، وأخرجها، وأخرج كلّ امرأة كانت فيه، ومضى، وجعل يعبث بعمال المختار وأصحابه، فأحرقت داره فى همدان، ونهبت ضيعته، فسار إلى ضياع همذان الجزء: 21 ¦ الصفحة: 70 فنهبها «1» جميعا، وكان يأتى المدائن فيمرّ بعمّال جوخى «2» فيأخذ ما معهم من المال، ثم يميل على الجبل، فلم يزل على ذلك حتى قتل المختار. وقيل: إنه بايع المختار بعد امتناع، وسار مع إبراهيم بن الأشتر إلى الموصل، ولم يشهد معه قتال ابن زياد، وتمارض، ثم فارق ابن الأشتر، وأقبل إلى الأنبار فى ثلاثمائة، فأغار عليها، وأخذ ما فى بيت مالها، فلما فعل ذلك أمر المختار بهدم داره وأخذ امرأته، ففعل ما تقدّم ذكره، وحضر مع مصعب قتال المختار، فلما قتل المختار قال الناس لمصعب: إنّا لا نأمن أن يثب عبيد الله بن الحرّ بالسّواد كما فعل بابن زياد والمختار، فحبسه، فكلّم قوما من وجوه مذحج ليشفعوا له إلى مصعب، وأرسل إلى فتيان مذحج، فقال: البسوا السلاح واستروه، فإن شفّعهم مصعب وإلّا فاقصدوا السجن فإننى سأعينكم من داخل. فلما شفع أولئك النّفر شفّعهم مصعب فيه، وأطلقه، فأتى منزله، وأتاه الناس يهنئونه، فكلّمهم فى الخروج على مصعب، وقال لهم: قاتلوا عن حريمكم؛ فإنى قد قلبت ظهر المجن «3» واظهرت العداوة ولا قوة إلا بالله. وخرج عن الكوفة، وحارب وأغار، فأرسل إليه مصعب سيف بن هانئ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 71 المرادى، فعرض عليه خراج بادرويا «1» وغيرها، ويدخل فى الطاعة، فلم يجب إلى ذلك، فندب لقتاله الأبرد بن قرّة الرّياحى، فقاتله فهزمه عبيد الله وضربه على وجهه، فبعث إليه حريث بن زيد فقتله، فبعث إليه الحجاج ابن حارثة «2» الخثعمى، ومسلم بن عمرو، فلقياه بنهر صرصر «3» ، فقاتلهما وهزمهما، فأرسل إليه يدعوه إلى الأمان والصّلة، وأن يولّيه أىّ بلد شاء؛ فلم يقبل ذلك وأتى نرسا «4» ، ففر دهقانها بمال إلى عين التّمر «5» وعليها بسطام بن مصقلة بن هبيرة الشيبانى، فالتجأ الدهقان إليه، فتبعه عبيد الله فقاتله بسطام، ووافاه الحجاج ابن حارثة، فأسرهما عبيد الله، وأسر جماعة كثيرة ممّن معهما، وأخذ المال الذى مع الدهقان، وأطلق الأسارى وأتى تكريت، فأقام بها يجبى الخراج، فبعث إليه مصعب الأبرد بن قرّة الرياحى، والجون ابن كعب الهمدانى فى ألف، وأمدّهم المهلّب بيزيد بن المغفّل فى خمسمائة، فقاتلهم يومين وهو فى ثلاثمائة. فلما كان عند المساء من اليوم الثانى تحاجزوا، وخرج عبيد الله من تكريت، وسار نحو كسكر، فأخذ بيت مالها، ثم أتى الكوفة فنزل إلى دير الأعور «6» ، فبعث إليه الجزء: 21 ¦ الصفحة: 72 مصعب حجار بن أبجر فانهزم حجّار، فشتمه مصعب، وضم إليه الجون بن كعب الهمدانى وعمر بن عبيد الله بن معمر، فقاتلوه بأجمعهم، وكثرت الجراحات فى أصحاب ابن الحر، وعقرت خيولهم، فانهزم حجّار، ثم رجع فاقتتلوا قتالا شديدا، حتى أمسوا «1» ، وخرج ابن الحر من الكوفة، فكتب مصعب إلى يزيد ابن الحارث بن رويم الشيبانى وهو بالمدائن [يأمره] «2» بقتاله، فقدّم ابنه حوشبا، فقاتله فهزمه عبيد الله، وأقبل إلى المدائن فتحصّنوا منه، فندب إليه الجون بن كعب الهمدانى وبشر بن عبد الله الأسدى، فنزل الجون بحولايا «3» ، فخرج إليه عبد الرحمن بن عبد الله فقتله ابن الحرّ وهزم أصحابه، وخرج إليه بشير بن عبد الرحمن ابن بشير العجلى، فقاتله بسورا «4» قتالا شديدا، فرجع عنه بشير، وأقام ابن الحرّ بالسواد يغير ويجبى الخراج. ثم لحق بعبد الملك بن مروان، فلما صار إليه أكرمه وأجلسه معه على السرير، وأعطاه مائة ألف درهم، وأعطى لمن معه مالا، فقال له ابن الحرّ: وجّهنى بجند أقاتل بهم مصعبا، فقال له: سر بأصحابك، وادع من قدرت عليه، وأنا ممدّك بالرجال، فسار فى أصحابه نحو الكوفة إلى أن انتهى إلى الأنبار، فنزل بقرية بجوارها، واستأذنه أصحابه فى إتيان الكوفة، فأذن لهم، وأمرهم أن يعلموا أصحابه بمقدمه ليخرجوا إليه، فبلغ ذلك القيسية الجزء: 21 ¦ الصفحة: 73 فأتوا الحارث بن [عبد الله بن] «1» أبى ربيعة عامل ابن الزّبير بالكوفة، فسألوه أن يرسل معهم جيشا يقاتلون به عبيد الله ويغتنمون الفرصة فيه بتفريق أصحابه، فبعث معهم جيشا كثيفا، فساروا إليه، فقال له من بقى معه من أصحابه: نحن فى نفر يسير، ولا طاقة لنا بهذا الجيش، فقال: ما كنت لأدعهم، وحمل عليهم وهو يقول: يا لك يوما فات فيه نهبى ... وغاب عنّى ثقتى وصحبى فعطفوا عليه فكشفوا أصحابه، وحاولوا أن يأسروه، فلم يقدروا على ذلك، وأذن لأصحابه فى الذّهاب، فذهبوا فلم يعرض لهم أحد، وجعل يقاتل وحده وهم يرمونه ولا يدنون منه، وهو يقول: أهذه نبل أم مغازل! فلما أثخنته الجراح خاض «2» إلى معبر فدخله ولم يدخل فرسه، فركب السفينة، ومضى به الملّاح حتى توسط الفرات، فأشرفت الخيل عليهم، وكان فى السفينة نبط، فقالوا لهم: إن فى السفينة طلبة أمير المؤمنين، فإن فاتكم قتلناكم، فوثب ابن الحر ليرمى نفسه فى الماء، فوثب إليه رجل عظيم الخلق، فقبض على يديه، وجراحاته تجرى دما، وضربه الباقون بالمجاديف، فقبض على الذى أمسكه، وألقى نفسه فى الماء، فغرقا معا. وقيل فى قتله: إنه كان يغشى مصعب بن الزبير بالكوفة فرآه يقدّم عليه غيره، فكتب إلى عبد الله بن الزبير قصيدة يعاتب فيها مصعبا ويخوّفه مسيره إلى عبد الملك بن مروان يقول فيها «3» : الجزء: 21 ¦ الصفحة: 74 أبلغ أمير المؤمنين رسالة ... فلست على رأى قبيح أواربه أفى الحق أن أجفى «1» ويجعل مصعب ... وزيريه «2» من قد كنت فيه أحاربه فكيف، وقد أبليتكم «3» حقّ بيعتى ... وحقّى يلوّى عندكم وأطالبه وأبليتكم مالا يضيّع مثله ... وآسيتكم والأمر صعب مراتبه فلما استنار الملك وانقادت العدا ... وأدرك من مال «4» العراق رغائبه جفا مصعب عنّى ولو كان غيره ... * لأصبح فيما بيننا لا أعاتبه لقد رابنى من مصعب أنّ مصعبا ... * أرى كلّ ذى غشّ «5» لنا هو صاحبه إذا قمت عند الباب أدخل مسلم «6» ... ويمنعنى أن أدخل الباب حاجبه الجزء: 21 ¦ الصفحة: 75 أشار بقوله: وزيريه؛ إلى مسلم بن عمرو والد قتيبة، والمهلّب ابن أبى صفرة، ويدلّ على ذلك قوله أيضا فى غيرها «1» : بأىّ بلاء أم بأيّة نعمة تقدّم قبلى مسلم والمهلّب قال: فحبسه مصعب، وله معه معاتبات من الحبس، وقال فى قصيدة يهجو فيها قيس عيلان منها «2» : ألم تر قيسا قيس عيلان برقعت ... لحاها وباعت نبلها بالمغازل فأرسل زفر بن الحارث الكلابى إلى مصعب يقول: قد كفيتك قتال ابن الزّرقاء- يعنى عبد الملك. وابن الحرّ يهجو قيسا؛ ثم إنّ نفرا من بنى سليم أسروا عبيد الله بن الحرّ، فقال: إنما قلت «3» : ألم تر قيسا قيس عيلان أقبلت ... إلينا وسارت فى القنا «4» والقنابل فقتله رجل منهم يقال له عيّاش، والله أعلم. وفى هذه السنة [سنة 68 هـ] وافى عرفات أربعة ألوية: لواء ابن الزبير وأصحابه، ولواء ابن الحنفية وأصحابه، ولواء لبنى أميّة، ولواء لنجدة الحرورى، ولم يجر بينهم حرب ولا فتنة. وكان العامل على المدينة جابر بن الأسود بن عوف الزّهرى، الجزء: 21 ¦ الصفحة: 76 وعلى البصرة والكوفة مصعب بن الزبير، وعلى قضائهما من ذكرنا قبل، وعلى خراسان عبد الله بن خازم. وفيها توفّى عبد الله بن عبّاس بن عبد المطلب، وعدىّ بن حاتم الطائى. وقيل فى سنة [66 هـ] ست وستين، وله مائة وعشرون سنة. سنة (69 هـ) تسع وستين فى هذه السنة شخص مصعب بن الزبير إلى مكّة ومعه أموال عظيمة ودوابّ كثيرة، فقسم فى قومه وغيرهم، ونحر بدنا كثيرة. وقيل: كان ذلك فى سنة [70 هـ] سبعين. وحجّ بالناس عبد الله بن الزّبير؛ وفيها حكّم رجل من الخوارج بمنى، وسلّ سيفه، وكانوا جماعة، فأمسك الله أيديهم، فقتل ذلك الرجل عند الجمرة «1» . وكان عمّال الأمصار من ذكرنا. سنة (70 هـ) سبعين ذكر يوم الجفرة «2» فى هذه السنة سار عبد الملك بن مروان يريد مصعب بن الزبير، فقال له خالد بن عبد الله بن أسيد: إن وجّهتنى إلى البصرة وأتبعتنى خيلا رجوت أن أغلب لك عليها، فوجّهه عبد الملك، فقدمها مستخفيا فى خاصّته حتى نزل على عمرو بن أصمع. وقيل: على علىّ بن أصمع الباهلى، فأرسل عمرو «3» إلى عبّاد بن الحصين وهو على شرطة الجزء: 21 ¦ الصفحة: 77 ابن معمر، وابن معمر خليفة مصعب على البصرة، ورجا ابن أصمع أنّ عبّاد بن الحصين يتابعه، وقال له: إنى قد أجرت خالدا وأحببت أن تعلم ذلك لتكون ظهيرا لى؛ فوافاه الرسول حين نزل عن فرسه؛ فقال عبّاد: قل له: والله لا أضع لبد فرسى حتى آتيك فى الخيل، فقال ابن أصمع لخالد: إنّ عبّادا يأتينا الساعة، ولا أقدر أمنعك منه؛ فعليك بمالك بن مسمع، فخرج خالد يركض فرسه حتى أتى مالكا فقال: أجرنى فأجاره، وأرسل إلى بكر بن وائل والأزد، فأقبلت إليه، وأقبل عباد فى الخيل، فتواقفوا ولم يكن بينهم قتال، فلما كان الغد غدوا إلى جفرة «1» نافع بن الحارث، ومع خالد رجال من تميم، منهم صعصعة بن معاوية وعبد الله بن بشر ومرّة بن محكان وغيرهم، وكان من أصحاب خالد، عبيد الله بن أبى بكرة، وحمران بن أبان، والمغيرة بن المهلّب. ومن أصحاب ابن معمر؛ قيس بن الهيثم السلمى، وأمدّه مصعب بزحر بن قيس الجعفى فى ألف، وأمدّه عبد الملك خالدا «2» بعبيد الله بن زياد بن ظبيان، فبلغه تفرّق الناس، فرجع إلى عبد الملك. والتقى القوم، واقتتلوا أربعة وعشرين يوما، ومشت بينهم السّفراء، فاصلطحوا على أن يخرج خالدا من البصرة، فأخرجه مالك، ولحق مالك بثأج «3» ، وجاء مصعب إلى البصرة، وطمع أن يدرك خالدا فوجده قد خرج، فسخط على ابن معمر، وقال لعبيد الله بن أبى بكرة: يا ابن مسروح، إنما أنت ابن كلبة تعاورها الجزء: 21 ¦ الصفحة: 78 الكلاب، فجاءت بأحمر وأصفر وأسود من كلّ كلب بما يشبهه، وإنما كان أبوك عبدا نزل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من حصن «1» الطائف، ثم ادعيتم أنّ أبا سفيان زنى بأمكم، وو الله لئن بقيت لألحقنكم بنسبكم. ثم دعا حمران فقال له: إنما أنت ابن يهودية علج نبطى سبيت من عين التّمر. وقال للحكم بن المنذر بن الجارود، ولعبد الله ابن فضالة الزهرانى، ولعلى بن أصمع، ولعبد العزيز بن بشر وغيرهم نحو هذا من التوبيخ والتقريع، وضربهم مائة مائة، وحلق رءوسهم ولحاهم وهدم دورهم، وصهرهم فى الشمس ثلاثا، وحملهم على طلاق نسائهم، وجهز «2» أولادهم فى البعوث، وطاف بهم فى فى أقطار البصرة، وأحلفهم ألّا ينكحوا الحرائر، وهدم دار مالك ابن مسمع، وأخذ ما فيها؛ فكان فيما أخذ منها جارية ولدت له عمرو «3» بن مصعب. وأقام مصعب بالبصرة، ثم شخص إلى الكوفة فلم يزل بها حتى خرج لحرب عبد الملك. وحجّ بالناس فى هذه السنة عبد الله بن الزّبير. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 79 سنة (71 هـ) احدى وسبعين فى هذه السنة كان مقتل مصعب بن الزّبير واستيلاء عبد الملك ابن مروان على العراق على ما نذكر ذلك إن شاء الله مبيّنا فى أخبار عبد الملك. وفيها عزل عبد الله بن الزبير جابر بن الأسود عن المدينة، واستعمل عليها طلحة بن عبد الله بن عوف، وهو آخر وال كان له على المدينة حتى أتاه طارق بن عمرو ولى عثمان فهرب. سنة (72 هـ) اثنتين وسبعين فى هذه السنة قتل عبد الله بن خازم أمير خراسان، واستولى عبد الملك على خراسان على ما نذكر ذلك إن شاء الله فى أخباره وفيها انتزع عبد الملك المدينة من عبد الله بن الزّبير، واستعمل عليها طارق بن عمرو؛ فلم يبق مع ابن الزّبير إلا مكّة. سنة (73 هـ) ثلاث وسبعين فى هذه السنة كان مقتل عبد الله بن الزبير واستقلال عبد الملك ابن مروان بالأمر، جريا على القاعدة التى قدمناها أن نذكر الواقعة بجملتها ونحيل عليها فى أخبار المغلوب، وعند ذكرنا لمقتل عبد الله ابن الزبير نذكر نبذة من سيرته وأولاده، فلنرجع إلى أخبار الدولة الأموية. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 80 ذكر بيعة مروان بن الحكم هو أبو الحكم، وقيل أبو عبد الملك، مروان بن الحكم بن أبى العاص ابن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصىّ، يجتمع نسبه ونسب معاوية فى أميّة، وهو الرابع من ملوك بنى أميّة، وكان النبىّ صلى الله عليه وسلّم طرد أباه إلى بطن وجّ «1» ، فنزل الطائف، وخرج معه ابنه مروان. وقيل: إن مروان ولد بالطف. واختلف فى السبب الموجب لنفى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الحكم، فقيل: كان يتحيّل ويستخفى ويسمع ما يسرّه رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى كبار أصحابه فى مشركى قريش وسائر الكفار والمنافقين، وكان يفشى ذلك عنه، حتى ظهر ذلك عليه؛ وكان يحكى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى مشيته وبعض حركاته، وكان النبىّ عليه «2» الصلاة والسلام إذا مشى تكفّأ، فكان الحكم يحكيه، فالتفت النبىّ صلّى الله عليه وسلّم يوما فرآه يفعل كذلك، فقال: فكذلك فلتكن. فكان الحكم مخلّجا يرتعش من يومئذ، فعيّره عبد الرحمن بن حسان، فقال فى عبد الرحمن بن الحكم يهجوه: إنّ اللّعين أبوك فارم عظامه ... إن ترم ترم مخلّجا مجنونا يمشى خميص البطن من عمل التّقى ... ويظلّ من عمل الخبيث بطينا وروى عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت لمروان بن الحكم حين قال الجزء: 21 ¦ الصفحة: 81 فى أخيها عبد الرحمن ما قال: أما أنت يا مروان فأشهد أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم لعن أباك وأنت فى صلبه. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يدخل عليكم رجل لعين. قال عبد الله: وكنت قد تركت عمرا يلبس ليقبل إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فلم أزل مشفقا أن يكون أوّل من يدخل، فدخل الحكم بن أبى العاص، فلهذا قال عبد الرحمن بن حسان فى شعره: إنّ اللعين أبوك. ولم يزل الحكم طريدا إلى خلافة عثمان بن عفّان فردّه إلى المدينة، وقال: إن النبىّ عليه الصلاة والسلام كان أذن فى ردّه. وكان إسلام الحكم يوم فتح مكّة، ومات فى خلافة عثمان قبل القيام عليه بأشهر. وولد مروان على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل سنة [2 هـ] اثنتين من الهجرة، وقيل عام الخندق، وقيل يوم أحد، وقيل ولد بمكة، وقيل بالطائف، ولم ير مروان رسول الله عليه «1» الصلاة والسلام، لأنه خرج إلى الطائف طفلا لا يعقل، وقدم المدينة مع أبيه فى خلافة عثمان، ثم توفى أبوه فاستكتبه عثمان ابن عفان، وضمّه إليه، فاستولى مروان عليه، وغلب على رأيه حتى كان سبب قيام الناس على عثمان وقتله. حكى أبو عمر بن عبد البر فى كتابه المترجم بالاستيعاب «2» أنّ علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه أتى مروان يوما، فقال: ويلك الجزء: 21 ¦ الصفحة: 82 وويل أمّة محمد منك ومن بنيك إذا شابت ذراعاك «1» . وكان مروان يقال له خيط باطل، وضرب يوم الدّار على قفاه فخرّ لفيه. وفيه يقول أخوه عبد الرحمن بن الحكم وكان ماجنا شاعرا، وكان لا يرى رأى مروان: فو الله ما أدرى وإنى لسائل ... حليلة مضروب القفا كيف يصنع لحا الله قوما أمّروا خيط باطل ... على الناس يعطى من يشاء ويمنع وقيل: إنه قال ذلك حين ولّاه معاوية المدينة، [وكان كثيرا ما يهجوه] «2» . وأم مروان آمنة بنت علقمة بن صفوان، وكان مروان قصيرا رقيقا أو قص «3» ، بويع له بالجابية «4» يوم الخميس لسبع بقين من شهر رجب سنة [64 هـ] أربع وستين، وقيل فى ذى القعدة منها. ذكر السبب فى بيعة مروان كان سبب بيعته أن عبد الله بن الزّبير لما بويع له بالحجاز والعراق استعمل أخاه عبيدة بن الزّبير على المدينة، فأخرج مروان بن الحكم وابنه منها إلى الشام؛ فلما قدم الحصين بن نمير ومن معه إلى الشام أخبر مروان بما كان بينه وبين ابن الزبير، وقال له ولبنى أمية: الجزء: 21 ¦ الصفحة: 83 أقيموا أمركم قبل أن يدخل عليكم شامكم «1» ، فتكون فتنة عمياء صماء. وكان من رأى مروان أن يسير إلى عبد الله بن الزّبير فيبايعه، فلما قدم عبيد الله بن زياد من العراق قال لمروان: لقد استحييت لك من ذلك، وأنت كبير قريش وسيّدها؛ وقبّح ذلك عليه، فقال: ما فات شىء بعد، وقام إليه بنو أميّة ومواليهم فتجمع «2» إليه أهل اليمن، فسار إلى دمشق فقدمها والضحّاك بن قيس الفهرى يصلّى بالناس قد بايعوه على ذلك إلى أن يتّفق رأى الناس على إمام، وهو يدعو إلى ابن الزبير سرّا، والنعمان بن بشير الأنصارى بحمص يبايع له أيضا. وكان حسان بن مالك بن بحدل الكلبى غلاما لمعاوية «3» وابنه يزيد بفلسطين وهو يريد «4» بنى أمية. فكتب حسان إلى الضحاك كتابا يعظّم فيه حقّ بنى أميّة وحسن بلائهم، ويذمّ ابن الزّبير، وأنه خلع خليفتين، وأمره أن يقرأ كتابه على الناس. وكتب كتابا آخر، وسلّمه إلى رسوله واسمه ناغضة، وقال له: إن قرأ [الضحاك] «5» كتابى على الناس وإلّا فاقرأ هذا الكتاب عليهم. وكتب [حسان] «6» إلى بنى أمية أن يحضروا ذلك، فقدم ناغضة، فدفع كتاب الضحّاك إليه وكتاب بنى أمية إليهم. فلما كان يوم الجمعة صعد الضحّاك المنبر، فقال له ناغضة: الجزء: 21 ¦ الصفحة: 84 اقرأ كتاب حسّان على الناس. فقال له: اجلس، فجلس، ثم قام الثانية والثالثة وهو يأمره بالجلوس، فأخرج ناغضة الكتاب الذى معه، وقرأه على الناس، فقام يزيد بن أبى النمس «1» الغسّانى، وسفيان ابن الأبرد الكلبى، فصدّقا حسانا، وشتما ابن الزبير، وقام عمرو ابن يزيد الحكمى فشتم حسانا، وأثنى على ابن الزّبير، واضطرب الناس، فامر الضحاك «2» بيزيد وسفيان فحبسا، ووثبت كلب على عمرو بن يزيد فضربوه وخرقوا ثيابه، وقام خالد بن يزيد «3» ، فسكن الناس، ونزل الضحّاك فصلّى الجمعة بالناس، ودخل القصر فجاءت كلب فأخرجوا سفيان، وجاءت غسّان فأخرجوا يزيد، وكان أهل الشام يسمّون ذلك اليوم يوم جيرون «4» الأول. ثم خرج الضحاك بن قيس إلى المسجد، وذكر يزيد بن معاوية فسبه، فقام إليه شابّ من كلب فضربه بعصا، فقام الناس بعضهم إلى بعض فاقتتلوا؛ فقيس تدعو إلى ابن الزبير ونصرة الضحاك، وكلب تدعو إلى بنى أمية. ودخل الضحاك دار الإمارة، ولم يخرج من الغد لصلاة الفجر، وبعث إلى بنى أميّة فاعتذر إليهم، وأنه لا يريد ما يكرهون، وأمرهم أن يكتبوا إلى حسان، ويكتب معهم ليسير من الأردن إلى الجابية، ويسيرون «5» هم من دمشق إليها فيجتمعون بها ويبايعون لرجل من الجزء: 21 ¦ الصفحة: 85 بنى أمية، فرضوا، وكتبوا إلى حسّان، وسار الضحّاك وبنو أمية نحو الجابية، فأتاه ثور بن معن السّلمى، فقال: دعوتنا إلى ابن الزّبير فبايعنا «1» على ذلك، وأنت تسير إلى هذا الأعرابى من كلب يستخلف ابن أخته «2» خالد بن يزيد. قال الضحاك: فما الرأى؟ قال: الرأى أن نظهر ما كنّا نكتم وندعو إلى ابن الزّبير، فرجع الضحاك بمن معه من الناس، فنزل مرج راهط ودمشق بيده، واجتمع بنو أميّة وحسّان وغيرهم بالجابية، فكان حسّان يصلّى بهم أربعين يوما والناس يتشاورون، وكان مالك بن هبيرة السّكونى يهوى خالد بن يزيد والحصين بن نمير يميل إلى مروان، فقال مالك للحصين: هلمّ نبايع هذا الغلام الذى نحن ولدنا أباه [وهو ابن أختنا] «3» ، وقد عرفت منزلتنا من أبيه، فإنه يحملنا على رقاب العرب. يعنى خالد بن يزيد. فقال الحصين: لا والله لا تأتينا العرب بشيخ ونأتيها بصبى. فقال مالك: والله لئن استخلفت مروان ليحسدنّك على سوطك وشراك نعلك وظلّ شجرة تستظلّ بها، إنّ مروان أبو عشرة «4» وأخو عشرة «5» وعمّ عشرة «6» ، فإن بايعتموه كنتم عبيدا لهم، ولكن عليكم بابن أختكم [خالد] ، فقال الحصين: إنى رأيت فى المنام قنديلا معلّقا من السماء وأن من يلى الخلافة يتناوله، فلم ينله إلّا مروان؛ والله لنستخلفنّه. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 86 وقام روح بن زنباع الجذامى فقال: أيّها الناس، إنكم تذكرون عبد الله بن عمر وصحبته وقدمه فى الإسلام، وهو كما تذكرون، ولكنه ضعيف، وليس بصاحب أمّة محمد الضعيف، وتذكرون ابن الزبير وهو كما تذكرون، إنه ابن حوارىّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأمّه ذات النّطاقين، ولكنه منافق قد خلع خليفتين: يزيد، وابنه معاوية، وسفك الدماء، وشقّ عصا المسلمين، وليس المنافق بصاحب أمّة بمحمد وأما مروان بن الحكم فو الله ما كان فى الإسلام صدع إلا كان ممن يشعبه، وهو الذى قاتل [عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان يوم الدار، والذى قاتل] «1» علىّ بن أبى طالب يوم الجمل، وإنّا نرى للنّاس أن يبايعوا الكبير، ويستشبّوا «2» الصغير- يعنى بالكبير مروان، وبالصغير خالد بن يزيد. فأجمع رأيهم على البيعة لمروان، ثم لخالد ابن يزيد، ثم لعمرو بن سعيد بن العاص من بعد خالد، على أنّ إمرة دمشق لعمرو، وإمرة حمص لخالد. فدعا حسّان خالدا، فقال: يابن أختى؛ إنّ الناس قد أبوك لحداثة سنّك، وإنى والله ما أريد الأمر إلّا لك ولأهل بيتك، وما أبايع مروان إلا نظرا لكم. فقال خالد: بل عجّزت عنا. فقال: والله ما أنا عجزت «3» ، ولكن الرأى لك ما رأيت. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 87 ثم بايعوا مروان لثلاث خلون من ذى القعدة سنة [64 هـ] أربع وستين، وقال مروان حين بويع له «1» : لما رأيت الأمر أمرا نهبا ... يسّرت «2» غسّان لهم وكلبا والسّكسكيّين رجالا غلبا ... وطيّئا تأباه إلّا ضربا والقين تمشى فى الحديد نكبا ... ومن تنوخ مشمخرا صعبا لا يأخذون الملك إلا غصبا ... فإن دنت قيس فقل لا قربا ذكر موقعة مرج «3» راهط وقتل الضحاك بن قيس بن خالد الفهرى والنعمان ابن بشير بن سعيد بن تغلب الأنصارى الخزرجى قال: ولمّا بويع مروان بن الحكم سار من الجابية إلى مرج راهط، وبه الضحاك بن قيس ومن معه؛ وكان الضحاك قد استمدّ النعمان ابن بشير وهو على حمص؛ فأمدّه بشر حبيل بن ذى الكلاع، واستمدّ أيضا زفر بن الحارث فأمدّه بأهل قنّسرين، وأمده ناتل بأهل فلسطين، وكان ناتل بن قيس قد وثب بفلسطين لمّا خرج منها حسّان بن مالك إلى الأردنّ، وأخرج خليفته روح بن زنباع، وبايع ناتل لابن الزبير، فاجتمعت هذه الأمداد مع الضحاك. واجتمع إلى مروان كلب، وغسّان، والسّكاسك، والسّكون؛ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 88 وجعل على ميمنته عمرو بن سعيد، وعلى ميسرته عبيد الله بن زياد، وكان يزيد بن أبى النّمس «1» الغسانى مختفيا بدمشق لم يحضر الجابية، فغلب على دمشق، وأخرج عنها عامل الضّحاك بن قيس، واستولى على الخزائن وبيت المال، وبايع لمروان، وأمدّه بالأموال والرجال والسلاح، فكان ذلك أول فتح- على بنى أمية. وتحارب مروان والضحاك بمرج راهط عشرين ليلة؛ واقتتلوا قتالا شديدا؛ فقتل الضحاك، قتله زحنة «2» بن عبد الله الكلبى، وقتل معه ثمانون رجلا من أشراف الشام، وقتلت قيس مقتلة عظيمة لم تقتل مثلها فى موطن قطّ، وكان ممن قتل هانىء بن قبيصة النميرى سيّد قومه، قتله وازع بن ذؤالة الكلبى، فلما سقط جريحا قال «3» : تعست ابن ذات النوف أجهز على فتى «4» ... يرى الموت خيرا من فرار وأكرما «5» ولا تتركنّى بالحشاشة إننى ... صبور إذا ما النّكس مثلك أحجما فعاد إليه وازع فقتله، وكانت هذه الوقعة فى المحرم سنة [65 هـ] خمس وستين. وقيل: كانت فى آخر سنة أربع وستين. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 89 ولما أتى «1» مروان برأس الضحاك ساءه ذلك، وقال: الآن حين كبرت سنّى ودقّ عظمى أقبلت بالكتائب أضرب بعضها ببعض. وقيل: إنّ الضحّاك كان فى ستين ألف فارس ومروان فى ثلاثة عشر ألفا. حكى المدائنى فى كتاب المكايد له، قال: لما التقى مروان والضحاك بمرج راهط قال عبيد الله بن زياد لمروان: إن فرسان قيس مع الضحاك فلا ننال منه ما نريد إلّا بكيد، فأرسل إليه فاسأله الموادعة حتى ننظر فى أمرك، على أنك إن رأيت البيعة لابن الزبير بايعت، ففعل فأجابه الضحاك إلى الموادعة، وأصبح أصحابه قد وضعوا سلاحهم، وكفّوا عن القتال، فقال ابن زياد لمروان: دونك. فشدّ مروان ومن معه على عسكر الضحاك على غفلة منهم وانتشار، فقتلوا من قيس مقتلة عظيمة، وقتل الضحاك يومئذ فلم يضحك رجال من قيس بعد يوم المرج حتى ماتوا. وقيل المكيدة كانت من عبيد الله بن زياد، كاد بها الضحاك. وقال له: مالك والدعاء إلى ابن الزبير! وأنت رجل قرشى ومعك الخيل، وأكثر قيس؟ فادع لنفسك، فأنت أسنّ منه وأولى. ففعل الضحاك ذلك، فاختلف عليه الجند، فقاتله مروان عند ذلك فقتل. والله أعلم. قال: ولما انهزم الناس من المرج لحقوا بأجنادهم، فانتهى أهل الجزء: 21 ¦ الصفحة: 90 حمص إليها وعليها النعمان بن بشير، فلما بلغه الخبر خرج هاربا ومعه امرأته نائلة بنت عمارة الكلبيّة وثقله وأولاده، فتحيّر ليلته كلها، فأصبح أهل حمص فطلبوه، وكان الذى طلبه عمرو بن الخلىّ «1» الكلاعى فقتله. وقيل: اتبعه خالد بن عدىّ الكلاعى فيمن خفّ معه من أهل حمص فلحقه فقتله وبعث برأسه إلى مروان. وقال على بن المدينى: قتل النعمان بن بشير بحمص غيلة قتله أهلها. وقيل: قتل بقرية من قرى حمص يقال لها تيزين «2» . والنعمان من الصحابة، ولد قبل وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بثمانى سنين. قال: ولما بلغت الهزيمة زفر بن الحارث الكلابى بقنسرين «3» هرب منها، فلحق بقرقيسيا «4» وعليها عياض الجرشى «5» ، وكان يزيد [بن معاوية] «6» ولّاه إياها، فطلب منه أن يدخل الحمّام ويحلف له بالطلاق والعتاق أنه إذا خرج من الحمّام لا يقيم بها، فأذن له، فدخلها، فغلب عليها وتحصّن بها، ولم يدخل حمّامها، واجتمعت إليه قيس. وهرب ناتل بن قيس الجذامى من فلسطين، فلحق بابن الزبير بمكّة؛ واستعمل مروان بعده على فلسطين روح بن زنباع، واستوثق الشام لمروان. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 91 وقيل: إن عبيد الله بن زياد إنما جاء إلى بنى أمية وهم بتدمر، ومروان يريد أن يسير إلى ابن الزّبير فيبايعه «1» ويأخذ منه الأمان لبنى أمية، فردّه عن ذلك، وأمره أن يسير بأهل تدمر إلى الضحاك فيقاتله، وواقفه «2» عمرو بن سعيد، وأشار على مروان أن يتزوّج أم خالد ابن يزيد ليسقط من أعين الناس، فتزوجها، وهى فاختة ابنة أبى هاشم ابن عتبة، ثم جمع بنى أمية فبايعوه، وبايعه أهل تدمر. وسار إلى الضحاك فى جمع عظيم، وخرج الضحاك إليه، فاقتتلا، فقتل الضحاك، وسار زفر بن الحارث إلى قرقيسياء، وصحبه فى هزيمته شابان من بنى سليم؛ فجاءت خيل مروان فى طلبه، فقال الشابان له: انج بنفسك، فإنّا نحن نقتل. فمضى زفر وتركهما فقتلا، وقال زفر فى ذلك «3» : أرينى سلاحى لا أبالك إنّنى ... أرى الحرب لا تزداد إلّا تماديا أتانى عن مروان بالغيب أنه ... مقيد دمى أو قاطع من لسانيا ففى العيش «4» منجاة وفى الأرض مهرب ... إذا نحن رفّعنا لهنّ المثانيا فلا تحسبونى إن تغيّبت غافلا ... ولا تفرحوا إن جئتكم بلقائيا فقد ينبت المرعى على دمن الثّرى ... وتبقى حزارات النوس كماهيا «5» الجزء: 21 ¦ الصفحة: 92 لعمرى لقد أبقت وقيعة راهط ... لحسّان صدعا بيننا متنائيا فلم ترمنّى نبوة قبل هذه ... فرارى وتركى صاحبىّ ورائيا «1» عشيّة أدعو «2» بالقران فلا أرى ... من الناس إلّا من علىّ ولاليا أيذهب يوم واحد إن أسأته ... بصالح أيامى وحسن بلائيا فلا صلح حتى تنحط «3» الخيل بالقنا ... ويثأر من نسوان كلب نسائيا فأجابه جوّاس بن القعطل «4» : لعمرى لقد أبقت وقيعة راهط ... على زفرداء «5» من الداء باقيا مقيما ثوى بين الضّلوع محلّه ... وبين الحشا أعيا الطبيب المداويا تبكّى على قتلى سليم وعامر ... وذبيان معذورا وتبكى البواكيا دعا بسلاح «6» ثم أحجم إذرأى ... سيوف جناب والطّوال المذايا عليها كأسد الغاب فتيان نجدة ... إذا أشرعوا نحو الطّعان العواليا الجزء: 21 ¦ الصفحة: 93 ذكر مسير مروان إلى مصر واستيلائه عليها قال: ولما قتل الضحاك واستقرّ الشام لمروان سار إلى مصر فقدمها، وعليها عبد الرحمن بن حجدر «1» الفهرى يدعو لابن الزّبير، فخرج إلى مروان فيمن معه، وبعث مروان عمرو بن سعيد من ورائه، حتى دخل مصر، فقيل ذلك لابن حجدر، فرجع فبايع الناس مروان، وجاء مروان إلى مصر، ودخل الدار البيضاء، ثم سار عنها واستعمل عليها ابنه عبد العزيز ابن مروان، واستقرّ مروان بدمشق. ذكر البيعة لعبد الملك وعبد العزيز ابنى مروان ابن الحكم بولاية العهد وفى سنة [65 هـ] خمس وستين أمر مروان بالبيعة لابنيه: عبد الملك، وعبد العزيز، وكان سبب ذلك أن عمرو بن سعيد كان قد توجّه إلى فلسطين، وقاتل مصعب بن الزبير حين وجّهه أخوه عبد الله إليها «2» فهزم مصعبا، ورجع إلى مروان وهو بدمشق، وقد غلب على الشام ومصر، فبلغ مروان أنّ عمرو بن سعيد يقول: إن الأمر لى من بعد مروان، فدعا حسان بن مالك بن بحدل، فأخبره بما بلغه عن عمرو، فقال: أنا أكفيك عمرا. فلما اجتمع الناس عند مروان قام حسان فقال: إنّه بلغنى أنّ رجالا يتمنّون أمانىّ، قوموا فبايعوا لعبد الملك الجزء: 21 ¦ الصفحة: 94 وعبد العزيز من بعده، فبايعوا من عند آخرهم. وفى هذه السنة بعث مروان بن الحكم بعثين: أحدهما مع عبيد الله بن زياد إلى الجزيرة ومحاربة زفر بن الحارث بقرقيسيا، واستعمله على كل ما يفتتحه، فإذا فرغ من الجزيرة توجّه لقصد العراق. فلما كان بالجزيرة بلغه موت مروان، وأتاه عهد عبد الملك بن مروان [يستعمله] «1» على ما استعمله عليه أبوه ويحثّه على المسير إلى العراق. والبعث الثانى «2» مع حبيش بن دلجة «3» القينى، فسار حتى انتهى إلى المدينة وعليها جابر بن الأسود بن عوف ابن أخى عبد الرحمن بن عوف من قبل ابن الزبير، فهرب منه جابر. ثم إن الحارث بن أبى ربيعة وجّه جيشا من البصرة وجعل عليهم الحنتف «4» بن السّجف التميمى لحرب حبيش. فلما سمع بهم حبيش سار إليهم من المدينة، وأرسل عبد الله بن الزبير عبّاس «5» ابن سهل الساعدى إلى المدينة أميرا، وأسره أن يسير فى طلب حبيش حتى يوافى جيش البصرة، فأقبل عبّاس «6» فى آثارهم حتى لحقهم بالرّبذة فقاتلهم حبيش، فرماه يزيد بن سياه «7» بسهم فقتله، الجزء: 21 ¦ الصفحة: 95 وكان معه يومئذ يوسف بن الحكم، وابنه الحجّاج بن يوسف، وهما على جمل واحد، وانهزم أصحابه فتحرّز منهم خمسمائة بالمدينة، فقال لهم عباس: انزلوا على حكمى، فنزلوا فقتلهم، ورجع فلّ حبيش إلى الشام. ذكر وفاة مروان بن الحكم كانت وفاته فى شهر رمضان سنة [65 هـ] خمس وستين. قيل: مات بالطاعون. وقيل: بل كان سبب موته أنه لما بويع بالخلافة أراد حسّان بن بحدل أن يجعل الأمر من بعده لخالد بن يزيد بن معاوية، فبايعه على ذلك، فقيل لمروان: الرأى أن تتزوّج أمّ خالد تكفل ابنها حتى يصغر شأنه فلا يطلب الخلافة. فتزوّجها. وقد ذكرنا ذلك، فدخل خالد يوما على مروان، وعنده جماعة ينظر إليه وهو يمشى بين الصفّين فقال: إنّه «1» والله لأحمق. تعال: يابن الرطبة الاست، يريد بذلك إسقاطه من أعين أهل الشام، فقال له خالد: مؤتمن خائن. فندم مروان، ثم دخل خالد على أمّه، فقال: هكذا أردت، يقول لى مروان على رءوس الناس كذا وكذا. فقالت له: لا يعلمنّ ذلك منك، فأنا أكفيك، فو الله لا ترى بعد منه شيئا تكرهه، وسأقرّب عليك ما بعد. ثم دخل مروان عليها، فقال لها: قال لك خالد فىّ شيئا؟ قالت: إنه أشدّ تعظيما لك من أن يقول فيك شيئا. فصدّقها، الجزء: 21 ¦ الصفحة: 96 ومكثت أياما بعد ذلك، فنام مروان عندها فى بعض الأيام، فوضعت على وجهه وسادة، وجلست عليها حتى مات. وهو معدود ممّن قتله النساء. ومولده سنة [2 هـ] اثنتين من الهجرة، وكان عمره ثلاثا وستين سنة. واختلف فيه إلى نيّف «1» وثمانين سنة. وصلّى عليه ابنه عبد الملك، وكانت ولايته منذ جدّدت له البيعة عشرة أشهر تقريبا، وكان سلطانه بالشام ومصر. أولاده: عبد الملك، ومعاوية، وعمرو، وعبيد الله، وعبد الله، وأبان، وداود، وعبد العزيز، وعبد الرحمن، وبشر، ومحمد، وأم عمار. كاتبه: سفيان الأحول. وقيل: عبيد الله بن أوس. قاضيه: أبو إدريس الخولانى. حاجبه: أبو سهل مولاه. نقش خاتمه: الله ثقتى ورجائى. *** ومروان أوّل من قدّم الخطبة قبل صلاة العيد، وكان يقال له ولولده بنو الزّرقاء، يقول ذلك من يريد ذمّهم وعيبهم، وهى الزرقاء بنت موهب جدّة مروان لأبيه، كانت من ذوات الرايات التى يستدلّ بها على بيوت البغايا؛ فلهذا كانوا يذمّون بها، ولعل هذا منها كان قبل أن يتزوّجها أبو العاص بن أمية «2» والد الحكم، فإنه كان من أشراف قريش، ولا يكون هذا من امرأة وهى عنده. والله أعلم. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 97 ذكر بيعة عبد الملك بن مروان هو أبو الوليد عبد الملك بن مروان بن الحكم، وهو الخامس من ملوك بنى أمية. وأمه عائشة بنت المغيرة بن أبى العاص، وهو أوّل من سمّى عبد الملك فى الإسلام، ولقّب رشح الحجر «1» لبخله، ولقّب أيضا بأبى الذّبّان «2» لبخره. وقيل: إن السبب فى بخره أنه كان يتلو القرآن فى المصحف، فأفضت الخلافة إليه وهو يتلو، فردّ المصحف بعضه على بعض، وقال: هذا فراق بينى وبينك، يشير بهذا الكلام إلى المصحف فبخر لوقته، وعجزت الأطباء عن مداواته، فكان لا يمرّ ذباب على فيه إلا مات لوقته، وكان أفوه مفتوح الفم مشبّك الأسنان بالذّهب. بويع له فى شهر رمضان سنة [65 هـ] خمس وستين بعد وفاة أبيه، وكان ولىّ عهده كما تقدّم، وأراد عبد الملك أن يقتل أمّ خالد، فقيل له: يظهر عند الناس أنّ امرأة قتلت أباك، فتركها، وكان عبد الملك ولد لسبعة أشهر، فكان الناس يذمّونه بذلك. قيل: إنه اجتمع عنده قوم من الأشراف، فقال لعبيد الله ابن زياد بن ظبيان البكرى: بلغنى أنك لا تشبه أباك! فقال: والله إنى لأشبه به من الماء بالماء والغراب بالغراب، ولكن إن شئت؛ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 98 أخبرتك بمن لم تنضجه الأرحام، ولم يولد لتمام، ولم يشبه الأخوال ولا الأعمام. قال: من ذاك؟ قال: سويد بن منجوف. فلما خرج عبيد الله وسويد قال له سويد: والله ما يسرّنى بمقالتك له حمر النعم. فقال عبيد الله: وما يسرّنى والله باحتمالك إياى وسكوتك عنى سودها. قال: وكان أول ما بدأ به عبد الملك أن كتب إلى عبيد الله بن زياد واستعمله على ما كان مروان قد استعمله عليه، فكان من أخبار ابن زياد فى مسيره وحروبه ومقتله ما قدّمناه فى أخبار عبد الله ابن الزبير، فلا حاجة لنا إلى إعادته ههنا، فلنذكر من أخبار عبد الملك غير ما قدمنا ذكره: فى سنة ست وستين أرسل عبد الله بن عباس ابنه «1» علىّ ابن عبد الله إلى عبد الملك، وقال: لأن يربّنى بنو عمّى أحبّ إلىّ من أن يربّنى «2» رجل من بنى أسد- يعنى ببنى عمّه بنى أمية، لأنهم كلهم أولاد عبد مناف، ويعنى بالرجل من بنى أسد عبد الله بن الزّبير. فلما وصل إلى عبد الملك سأله عن اسمه وكنيته، فقال: الاسم علىّ، والكنية أبو الحسن. فقال عبد الملك: لا يجتمع هذا الاسم وهذه الكنية فى عسكرى أنت أبو محمد. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 99 ذكر مقتل عمرو بن سعيد الأشدق وشىء من أخباره [ونسبه] «1» هو عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية «2» بن عبد شمس ابن عبد مناف، ويسمى عمرو اللطيم لميل كان فى فمه «3» ، فمن أجل ذلك قيل له لطيم الشيطان، ويسمّى الأشدق لتشادقه فى الكلام، وكان من فصحاء قريش وأهل الخطابة منهم. وقيل فى تسميته الأشدق: إنه لما مات سعيد والده دخل عمرو على معاوية فاستنطقه، فقال: إن أوّل مركب صعب. فقال له معاوية: إلى من أوصى بك أبوك؟ فقال: إن أبى أوصانى ولم يوص بى. قال: فبأى شىء أوصاك؟ قال: ألّا يفقد منه أصحابه غير شخصه. فقال معاوية: إن عمرا هذا لأشدق. ولنذكر سبب مقتله ثم نذكر نبذة من أخبار آبائه: كان سبب مقتله أنّ عبد الملك بن مروان سار فى سنة تسع وستين من دمشق يريد قرقيسياء، يريد زفر بن الحارث الكلابى، وصحبه عمرو بن سعيد فى سيره، فلما بلغ بطنان «4» حبيب رجع عمرو ليلا ومعه حميد بن حريث وزهير بن الأبرد الكلبيّان، فأتى دمشق وعليها عبد الرحمن ابن أم الحكم الثقفى خليفة عبد الملك بها، فهرب الجزء: 21 ¦ الصفحة: 100 عنها ودخلها عمرو، فغلب عليها وعلى خزائنها، وهدم دار ابن أم الحكم؛ واجتمع الناس إليه، فخطبهم ومنّاهم ووعدهم، وأصبح عبد الملك وقد فقد عمرا، فسأل عنه فأخبر برجوعه، فرجع إلى دمشق، فقاتله أياما، ثم اصطلحا، وكتبا بينهما كتابا، وأمّنه عبد الملك، فجاءه عمرو واجتمعا، ودخل عبد الملك دمشق. فلما كان بعد دخوله بأربعة أيام أرسل إلى عمرو يستدعيه، فأتاه الرسول وعنده عبد الله بن يزيد بن معاوية، فنهاه أن يأتيه، فقال عمرو: ولم؟ قال: لأنّ تبيع «1» ابن امرأة كعب الأحبار قال: إن عظيما من ولد إسماعيل يرجع فيغلق أبواب دمشق، ثم يخرج منها، فلا يلبث أن يقتل. فقال عمرو: والله لو كنت نائما ما أنبهنى ابن الزرقاء ولا اجترأ علىّ، مع أنى رأيت البارحة عثمان فى المنام، فألبسنى قميصه. ثم قام فلبس درعا وغطّاها بالقباء «2» ، وتقلّد سيفا، وذلك بعد أن صرف رسول عبد الملك، فلما نهض عثر بالبساط، فقال له حميد ابن حريث: والله لو أطعتنى لم تأته، وقالت له امرأته الكلبية كذلك، فلم يلتفت، ومضى فى مائة من مواليه. فلما بلغ باب عبد الملك أذن له فدخل فلم يزل أصحابه يحبسون عند كل باب حتى بلغ قاعة الدار، وليس معه إلا وصيف واحد، فنظر عمرو إلى عبد الملك وإذا حوله بنو مروان، وحسّان بن بحدل الكلبى، وقبيصة بن ذؤيب الخزاعى، فلما رأى جماعتهم أحسّ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 101 بالشر، فالتفت إلى وصيفه، وقال له: انطلق إلى أخى يحيى، وقل له يأتينى، فلم يفهم الوصيف عنه، فقال: لبيك! فقال عمرو: اغرب فى حرق الله وناره «1» ، وأذن عبد الملك لحسّان وقبيصة فقاما، فلقيا عمرا، فقال عمرو لقبيصة: انطلق إلى يحيى فمره أن يأتينى، فقال: لبيك! فقال: اغرب [عنى] «2» . فلما خرج حسّان وقبيصة أغلقت الأبواب، ودخل عمرو فرحب به عبد الملك، وقال: ههنا يا أبا أميّة! فأجلسه معه على السرير، وحدّثه طوبلا، ثم قال: يا غلام، خذ السيف عنه. فقال عمرو: إنّا لله يا أمير المؤمنين! فقال عبد الملك: أتطمع أن تجلس معى متقلّدا سيفك؟ فأخذ السيف عنه، ثم تحدّثا، ثم قال له عبد الملك: يا أبا أمية، إنك حيث خلعتنى آليت بيمين إن أنا ملأت عينى منك وأنا مالك لك أن أجعلك فى جامعة «3» ، فقال له بنو مروان: ثم تطلقه يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم، وما عسيت أن أصنع بأبى أمية! فقال بنو مروان: أبرّ قسم أمير المؤمنين. فقال [عمرو] «4» : قد أبرّ الله قسمك يا أمير المؤمنين. فأخرج من تحت فراشه جامعة، ثم قال: يا غلام، قم فاجمعه فيها. فجمعه الغلام فيها، فقال عمرو: أذكرك الله يا أمير المؤمنين أن تخرجنى فيها على رءوس الناس؛ فقال عبد الملك: أمكرا وأنت فى الحديد! لا، والله ما كنّا لنخرجك فى جامعة على رءوس الناس، الجزء: 21 ¦ الصفحة: 102 ثم جذبه جذبة أصاب فمه السرير فكسر ثنيّتيه، فقال: أذكرك الله يا أمير المؤمنين؛ كسر عظم سنى «1» ، فلا تركب ما هو أعظم من ذلك. فقال: والله لو أعلم أنك تبقى [علىّ] «2» ، إن أبقيت عليك لأطلقتك، ولكن ما اجتمع رجلان قطّ فى بلدة على ما نحن عليه إلا أخرج أحدهما صاحبه، وأذن المؤذّن، وأقيمت صلاة العصر، فخرج عبد الملك يصلّى بالناس، وأمر أخاه عبد العزيز أن يقتله، فقام إليه بالسيف، فقال له عمرو: أذكرك الله والرّحم أن تلى قتلى، ليقتلنى من هو أبعد رحما منك؛ فألقى عبد العزيز السّيف، وجلس. وصلّى عبد الملك صلاة خفيفة، ودخل وغلّقت الأبواب، ورأى الناس عبد الملك خرج وتأخّر عمرو، فذكروا ذلك لأخيه يحيى بن سعيد، فأقبل فى الناس ومعه ألف عبد لعمرو، وخلق كثير، فجعلوا يصيحون بباب عبد الملك: أسمعنا صوتك يا أبا أميّة! وأقبل مع يحيى حميد بن حريث وزهير بن الأبرد، فكسروا باب المقصورة، وضربوا الناس بالسيوف وضرب الوليد بن عبد الملك على رأسه، واحتمله إبراهيم بن عربى صاحب الديوان، فأدخله بيت القراطيس، ودخل عبد الملك حين صلّى فرأى عمرا بالحياة «3» ، فسبّ أخاه عبد العزيز، ثم أخذ عبد الملك الحربة فطعن بها عمرا، فلم تغن شيئا، ثم ثنى فلم تجز، فضرب بيده إلى عضده فرأى الدّرع، قال: ودارع أيضا! إن كنت لمعدّا، وأخذ الصمصامة «4» الجزء: 21 ¦ الصفحة: 103 وأمر بعمرو فصرع، وجلس على صدره فذبحه، وهو يقول «1» : يا عمرو إلا تدع شتمى ومنقصتى ... أضربك حيث تقول الهامة اسقونى وانتفض عبد الملك برعدة «2» ، فحمل عن صدره، ووضع على سريره. ودخل يحيى بن سعيد ومن معه على بنى مروان ومواليهم، فقاتلوهم، وجاء عبد الرحمن ابن أمّ الحكم الثقفى، فدفع إليه الرّأس فألقاه إلى الناس، وقام عبد العزيز بن مروان، فأخذ المال فى البدر، فجعل يلقيها إلى الناس، فلما رأى الناس الرأس والأموال انتهبوا وتفرّقوا. ثم أمر عبد الملك بعد ذلك بتلك الأموال فجبيت حتى عادت إلى بيت المال. قال: وأخرج عبد الملك سريره إلى المسجد، وخرج، فجلس عليه، وفقد الوليد ابنه، فقال: والله، لئن كانوا قتلوه لقد أدركوا ثأرهم، فأتاه إبراهيم بن عربى الكنانى، فقال: الوليد عندى وقد جرح، وليس عليه بأس. وأتى عبد الملك بيحيى بن سعيد فأمر أن يقتل؛ فقام إليه عبد العزيز ابن مروان فقال: يا أمير المؤمنين، أتراك قاتل بنى أمية فى يوم واحد، فأمر بيحيى فحبس، وأراد قتل عنبسه بن سعيد، فشفع فيه عبد العزيز أيضا، وشفع فى عامر بن الأسود الكلبى، وأمر ببنى عمرو بن سعيد فحبسوا؛ ثم خرجوا مع عمّهم يحيى، فألحقهم بمصعب. ثم بعث عبد الملك إلى امرأة عمرو الكلبية: الجزء: 21 ¦ الصفحة: 104 ابعثى إلىّ «1» الصّلح الذى كتبت لعمرو. فقالت لرسوله: ارجع إليه فأعلمه أنّ ذلك الصّلح معه فى أكفانه ليخاصمك به عند ربّه. قال: ولما قتل عبد الملك مصعب بن الزبير دخل أولاد عمرو عليه وهم أربعة: أمية، وسعيد، وإسماعيل، ومحمد؛ فلما نظر إليهم [عبد الملك] «2» قال: إنكم أهل بيت لم تزالوا ترون لكم على جميع قومكم فضلا لم يجعله الله لكم، وإن الذى كان بينى وبين أبيكم لم يكن حديثا، بل كان قديما فى أنفس أوّليكم «3» على أوّلينا فى الجاهلية. فلم يقدر أمية أن يتكلّم. وكان الأكبر من أولاد عمرو، فقام سعيد بن عمرو [وكان الأوسط] «4» فقال: يا أمير المؤمنين، ما تنعى «5» علينا أمرا فى الجاهلية، وقد جاء الله بالإسلام فهدم ذلك، ووعد جنّة، وحذّر نارا، وأما الذى كان بينك وبين عمرو فإنه كان ابن عمك وأنت أعلم وما «6» صنعت. وقد وصل عمرو إلى الله، وكفى بالله حسيبا؛ ولعمرى لئن أخذتنا بما كان بينك وبينه لبطن الأرض خير لنا من ظهرها، فرقّ لهم عبد الملك وقال: إنّ أباكم خيّرنى بين أن يقتلنى أو أقتله، فاخترت قتله على قتلى، وأمّا أنتم فما أرغبنى فيكم وأوصلنى لقرابتكم، وأحسن جائزتهم ووصلهم وقرّبهم. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 105 وقد قيل فى سبب قتله: إنه قال لعبد الملك حين سار إلى العراق لقتال مصعب: إنك تخرج إلى العراق، وقد كان أبوك جعل لى الأمر بعده، وعلى ذلك قاتلت معه، فاجعل هذا الأمر لى بعدك، فلم يجبه عبد الملك إلى ذلك، فرجع إلى دمشق، وكان من أمره ما تقدّم. وقيل: بل كان عبد الملك قد استخلفه على دمشق، فوثب بها. وقيل: إنّ عبد الملك لم يقتل عمرو بن سعيد بيده، وإنما أمر غلامه ابن الزّعيزعة، فقتله وألقى رأسه إلى الناس ورمى يحيى بصخرة فى رأسه، وكان مقتله فى سنة [69 هـ] تسع وستين. وقيل: فى سنة سبعين. والله أعلم. ذكر نبذة من أخبار عمرو بن سعيد الأشدق فى الإسلام والجاهلية كان مولد سعيد بن العاص والدعمرو عام الهجرة. وقيل: سنة إحدى. وقتل جدّه العاص بن سعيد يوم بدر كافرا، قتله علىّ ابن أبى طالب رضى الله عنه، وكان لجدّ أبيه سعيد بن العاص ابن أميّة ثمانية بنين؛ منهم ثلاثة ماتوا على الكفر، وهم: أحيحة، وبه كان يكنى سعيد بن العاص، وقتل أحيحة يوم الفجار. والعاص، وعبيدة قتلا يوم بدر كافرين، قتل العاص علىّ، وقتل عبيدة الزّبير؛ وخمسة أدركوا الإسلام، وصحبوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ وهم: خالد، وعمرو، وسعيد؛ وأبان، والحكم بنو سعيد ابن العاص بن أمية، وغيّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اسم «1» الحكم، فسمّاه عبد الله. وجّد هؤلاء العاص بن أمية ذو العصابة؛ قيل له ذلك، الجزء: 21 ¦ الصفحة: 106 لأنه كان من شرفه إذا اعتمّ بعمامة بمكّة لا يعتمّ «1» أحد بلونها إجلالا له، وكان يكنى بأبى أحيحة، وفى ذلك يقول الشاعر: أبو أحيحة من يعتمّ عمّته ... يضرب ولو كان ذا مال وذا حسب وكان سعيد بن العاص والد عمرو من أشراف قريش ممن جمع له السخاء والفصاحة، وهو أحد الذين كتبوا المصحف لعثمان بن عفان رضى الله عنه، واستعمله عثمان على الكوفة، وغزا بالناس طبرستان «2» فافتتحها. ويقال: إنه افتتح أيضا جرجان فى سنة [29 هـ] تسع وعشرين أو سنة ثلاثين، وغزا أذربيجان «3» لما انتقضت فافتتحها، ثم عزله عثمان، واستعمل الوليد، فمكث مدة، ثم شكاه أهل الكوفة، فعزله، وردّ سعيدا، فردّه أهل الكوفة، وكتبوا إلى عثمان: لا حاجة لنا فى سعيدك ولا وليدك، وكان فى سعيد تجبّر وغلظ وشدّة سلطان. ولما قتل عثمان بن عفّان كان سعيد والد عمرو ممن لزم بيته، واعتزل حرب الجمل وصفّين، فلما اجتمع الناس على معاوية ولّاه المدينة، ثم عزله وولّاها مروان بن الحكم، وكان يعاقب بينه وبين مروان فى ولاية المدينة، وفيه يقول الفرزدق «4» : الجزء: 21 ¦ الصفحة: 107 ترى الغرّ «1» الجحاجح من قريش ... إذا ما المرء فى الحدثان غالا قياما ينظرون إلى سعيد ... كأنهمو يرون به هلالا وحكى الزبير بن بكّار قال «2» : لما عزل سعيد عن المدينة انصرف عن المسجد وحده، فتبعه رجل، فنظر إليه سعيد رضى الله عنه، وقال: ألك حاجة! قال: لا، ولكنى رأيتك وحدك، فوصلت جناحك. فقال له: وصلك الله يا ابن أخى، اطلب لى دواة وجلدا، وادع لى مولاى فلانا، فأتاه بذلك، فكتب له بعشرين ألف درهم، وقال: إذا جاءت غلّتنا دفعنا ذلك إليك، فمات فى تلك السنة، فأتى بالكتاب إلى ابنه عمرو، فأعطاه المال. وكان لسعيد بن العاص سبعة بنين، وهم: عمرو هذا: ومحمد، وعبد الله، ويحيى، وعثمان، وعنبسة، وأبان. وكانت وفاة سعيد فى سنة [59 هـ] تسع وخمسين. ولنرجع إلى أخبار عبد الملك: ذكر عصيان الجراجمة بالشام وما كان من أمرهم هذه الحادثة ذكرها ابن الأثير «3» فى سنة [69 هـ] تسع وستين، فقال: لما امتنع عمرو بن سعيد على عبد الملك خرج قائد من قوّاد الجزء: 21 ¦ الصفحة: 108 الضواحى فى جبل اللّكام «1» واتّبعه خلق كثير من الجراجمة «2» والأنباط، وأبّاق عبيد المسلمين، وغيرهم، وسار إلى لبنان، فلما فرغ عبد الملك من عمرو أرسل إلى هذا الخارج عليه، فبذل له فى جمعة ألف دينار، فركن إلى ذلك، ولم يفسد فى البلاد، ثم وضع عليه عبد الملك سحيم بن المهاجر، فتلطّف حتى وصل إليه متنكّرا، وأظهر الميل إليه، ووعده أن يدلّه على عورات عبد الملك، وما هو خير له من الصلح، فوثق به؛ ثم أتاه سحيم فى جيش من موالى عبد الملك وبنى أمية وجند من ثقات جنده والخارج ومن معه على غير أهبة، فدهمهم «3» ، وأمر فنودى: من أتانا من العبيد [يعنى الذين كانوا معه] «4» فهو حرّ، وثبت فى الديوان؛ فالتحق به خلق كثير منهم، وقاتلوا معه، فقتل الخارج ومن أعانه من الروم، وقتل نفر من الجراجمة والأنباط، ونادى بالأمان فيمن بقى منهم فتفرّقوا، وعاد إلى عبد الملك ووفّى للعبيد. وفى سنة تسع اجتمعت الروم واستجاشوا «5» على من بالشام، فصالح عبد الملك ملكهم على أن يؤدّى إليه فى كل جمعة ألف دينار. وفيها كان يوم الجفرة وقد تقدم ذكره «6» فى أخبار ابن الزبير رضى الله عنه. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 109 ذكر خبر عمير بن الحباب بن جعدة السلمى وما كان بين قيس وتغلب من الحروب إلى أن قتل عمير ابن الحباب وما كان بعد ذلك. كان مقتل عمير بن الحباب فى سنة [70 هـ] سبعين، وكان سبب ذلك أن عمير بن الحباب لما انقضى مرج راهط التحق بزفر بن الحارث الكلابى بقرقيسيا، ثم بايع مروان وفى نفسه ما فيها بسبب قتل قيس بالمرج «1» ، فلما سار عبيد الله بن زياد إلى الموصل كان معه، وقد ذكرنا اتفاقه مع إبراهيم بن الأشتر وانهزامه، حتى قتل عبيد الله [بن زياد] «2» ، وانهزمت جيوش الشّام، فلما كان ذلك أتى عمير ابن الحباب قرقيسيا، وصار مع زفر بن الحارث، فجعلا يطلبان كلبا واليمانيّة بمن قتلوا من قيس، وكان معهما قوم من تغلب يقاتلون معهما، ويدلّونهما، وشغل عبد الملك عنهما بمصعب، وتغلّب عمير على نصيبين «3» ، ثم ملّ المقام بقرقيسيا، فاستأ من إلى عبد الملك، فأمّنه، ثم غدر به فحبسه عند مولاه الريان، فسقاه عمير ومن معه من الحرس خمرا حتى أسكرهم، وتسلّق فى سلّم من الحبال، وخرج من الحبس، وعاد إلى الجزيرة، ونزل على نهر البليخ «4» بين حرّان والرّقة، فاجتمعت إليه قيس، فكان يغير بهم «5» على كلب واليمانية، وكان من معه يسيئون «6» جوار تغلب، ويسخّرون الجزء: 21 ¦ الصفحة: 110 مشايخهم من النصارى، فهاج ذلك بينهم شرّا، إلّا أنه لم يبلغ الحرب. ثم إن عميرا أغار على كلب، ورجع فنزل على الخابور، وكانت منازل تغلب بين الخابور والفرات ودجلة، وكانت بحيث نزل عمير- امرأة من تميم ناكح فى تغلب، يقال لها أم ذويل «1» ، فأخذ غلام من بنى الحريش أصحاب عمير عنزا من غنمها، فشكت ذلك إلى عمير، فلم يمنع عنها، فأخذوا الباقى، فمانعهم قوم من تغلب، فقتل منهم رجل يقال له مجاشع التّغلبى، وجاء ذويل فشكت أمّه إليه، وكان من فرسان تغلب، فسار فى قومه وجعل يذكّرهم ما يصنع بهم قيس، فاجتمع منهم جماعة وأمّروا عليهم شعيث «2» ابن مليل التغلبى، فأغاروا على بنى الحريش ومعهم قوم من نمير، فقتل فيهم التغلبيّون واستاقوا ذودا لامرأة منهم يقال لها أمّ الهيثم، فمانعهم القيسيّون، فلم يقدروا على منعهم، فكان بينهم أيام «3» مذكورة نحن نذكرها على سبيل الاختصار؛ منها: يوم ماكسين «4» : قال: ولما استحكم الشرّ بين قيس وتغلب؛ وعلى قيس عمير، وعلى تغلب شعيث بن مليل غزا عمير بنى تغلب وجماعتهم بماكسين من الخابور فاقتتلوا قتالا شديدا، وهى أول وقعة كانت بينهم، فقتل من بنى تغلب خمسمائة وقتل شعيث، وكانت رجله قد قطعت، فجعل يقاتل حتى قتل، وهو يقول: الجزء: 21 ¦ الصفحة: 111 قد علمت قيس ونحن نعلم ... أنّ الفتى يقتل وهو أجذم ويوم الثّرثار الأول: والثّرثار «1» نهر أصل منبعه شرقى مدينة سنجار يفرغ فى دجلة. قال: لما قتل من تغلب بماكسين من قتل استمدّت تغلب وحشدت واجتمعت إليها النّمر بن قاسط، وأتاها المجشّر «2» ابن الحارث الشيبانى. وكان من ساداتهم بالجزيرة، وأتاها عبيد الله ابن زياد بن ظبيان منجدا لهم، واستنجد عمير تميما وأسدا فلم ينجده منهم أحد، فالتقوا على الثّرثار، وقد جعلت تغلب عليها بعد شعيث زياد بن هوبر «3» ، ويقال يزيد بن هوبر التغلبى، فاقتتلوا، فانهزمت قيس، وقتلت تغلب منها مقتلة عظيمة، وبقروا بطون ثلاثين امرأة من بنى سليم. ويوم الثّرثار الثانى: قال: ثم إنّ قيسا تجمّعت واستمدّت، وأتاهم زفر بن الحارث من قرقيسيا، فالتقوا بالثّرثار، واقتتلوا قتالا شديدا. فانهزمت تغلب ومن معها. ويوم الفدين: قال: وأغار عمير على الفدين «4» ، وهى قرية على الخابور فقتل من بها من بنى تغلب. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 112 ويوم السّكير: وهو على الخابور؛ يسمى سكير «1» العباس؛ قال: ثم اجتمعوا والتقوا واقتتلوا قتالا شديدا، فانهزمت تغلب والنّمر، وهرب عمير ابن جندل، وهو من فرسان تغلب؛ فقال عمير بن الحباب: وأفلتنا يوم السّكير ابن جندل ... على سابح عوج اللبان مثابر ونحن كررنا الخيل قبّا «2» شوازبا ... دقاق الهوادى داميات الدّوابر ويوم المعارك: والمعارك بين الحضر «3» والعقيق من أرض الموصل، اجتمعت تغلب بهذا المكان فالتقوا هم وقبس، واقتتلوا به، فاشتدّ قتالهم، فانهزمت تغلب، فيقال: إن يوم المعارك والحضر واحد هزموهم إلى الحضر، وقتلوا منهم بشرا كثيرا. وقيل: هما يومان، كانا لقيس على تغلب. والتقوا أيضا بلبىّ «4» فوق تكريت فتناصفوا، فقيس تقول: كان الفضل إلىّ «5» ، وتغلب تقول: كان لنا. ويوم الشّرعبيّة: ثم التقوا بالشرعبيّة فكان بينهم قتال شديد كان لتغلب على قيس، قتل يومئذ عمار بن المهزم «6» السلمى. والشّرعبيّة هذه من بلاد تغلب ليست الشرعبيّة التى ببلاد منبج. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 113 ويوم البليخ: والبليخ: نهر بين حرّان والرّقّة اجتمعت تغلب، وسارت إليه، وهناك عمير فى قيس، فالتقوا واقتتلوا فانهزمت تغلب، وكثر القتل فيها وبقرت بطون النساء كما فعلوا يوم الثّرثار. [والله علم «1» ] . ذكر يوم الحشاك «2» ومقتل عمير بن الحباب السلمى وابن هوبر التغلبى قال: ولما رأت تغلب [إلحاح] «3» عمير بن الحباب عليها جمعت حاضرها وباديها، وساروا إلى الحشّاك- وهو نهر قريب من الشرعبيّة، فأتاهم عمير فى قيس، ومعه زفر بن الحارث الكلابى، وابنه الهذيل بن زفر، وعلى تغلب ابن هوبر «4» ، فاقتتلوا عند تل الحشّاك أشدّ قتال حتى جنّ عليهم الليل، ثم تفرقوا واقتتلوا من الغد إلى الليل، ثم تحاجزوا وأصبحت تغلب فى اليوم الثالث، فتعاقدوا ألا يفرّوا، فلما رأى عمير جدّهم وأنّ نساءهم معهم قال لقيس: يا قوم؛ أرى لكم أن تنصرفوا عن هؤلاء فإنهم مستقتلون، فإذا اطمأنّوا وساروا وجّهنا إلى كل قوم منهم من يغير عليهم. فقال له عبد العزيز بن حاتم بن النعمان الباهلى: قتلت فرسان قيس أمس وأول أمس، ثم ملىء سحرك وجبنت. ويقال: إن الذى قال هذه المقالة عيينة بن أسماء بن خارجة الفزارى، وكان أتاه منجدا، فغضب عليه عمير ونزل وجعل يقاتل راجلا وهو يقول: الجزء: 21 ¦ الصفحة: 114 أنا عمير وأبو المغلس ... قد أحبس القوم بضنك فاحبس وانهزم زفر بن الحارث فى اليوم الثالث، فلحق بقرقيسا، وذلك أنه بلغه أن عبد الملك عزم على الحركة إليه بقرقيسيا، فبادر إليها، وانهزمت قيس، وشدّ على عمير جميل بن قيس من بنى كعب بن زهير فقتله. ويقال: بل اجتمع على عمير غلمان من بنى تغلب فرموه «1» بالحجارة وقد أعيا حتى أثخنوه، وكرّ عليه ابن هوبر فقتله، وأصابت ابن هوبر جراحة، فلما انقضت الحرب أوصى بنى تغلب أن يولّوا أمرهم مرار «2» بن علقمة الزهيرى. وقيل: إنّ ابن هوبر جرح فى اليوم الثانى من أيامهم هذه، فأوصى أن يولّوا مرارا أمرهم، ومات من ليلته، وكان مرار رئيسهم فى اليوم الثالث، فعبأهم على راياتهم، وأمر كلّ بنى أب أن يجعلوا نساءهم خلفهم، وكان ما تقدّم. وكثر القتل يومئذ فى بنى سليم وغنىّ خاصة، وقتل من قيس أيضا بشر كثير، وبعث بنو تغلب رأس عمير إلى عبد الملك بن مروان؛ فأعطى الوفد، وكساهم. فلما صالح عبد الملك زفر بن الحارث اجتمع الناس عليه، فقال الأخطل «3» : بنى أمية قد ناضلت دونكمو ... أبناء قوم هم آووا وهم نصروا الجزء: 21 ¦ الصفحة: 115 وقيس عيلان حتّى أقبلوا «1» رقصا ... فبايعوا لك قسرا بعد ما قهروا ضجّوا من الحرب إذ عضّت غواربهم ... وقيس عيلان من أخلاقها الضّجر «2» وكان مقتل عمير بن الحباب فى سنة [70 هـ] سبعين [كما تقدم] «3» . ذكر الحرب بعد مقتل عمير بن الحباب السلمى قال: ولما قتل عمير أتى ابنه تميم زفر بن الحارث، فسأله الطلب بثأره، فامتنع فقال له ابنه الهذيل بن زفر: والله لئن ظفرت بهم تغلب إنّ ذلك لعار عليك، ولئن ظفروا بتغلب وقد خذلتهم إنّ ذلك لأشدّ، فاستخلف زفر على قرقيسياء أخاه أوس بن الحارث ووجّه زفر خيلا إلى بنى فدوكس «4» ، وهم بطن من تغلب، فقتل رجالهم، واستبيحت الأموال [والنساء] «5» حتى لم يبق منهم غير امرأة واحدة استجارت، فأجارها يزيد بن حمران، ووجّه ابنه الهذيل فى جيش إلى بنى كعب بن زهير، فقتل فيهم قتلا ذريعا، وبعث أيضا مسلم بن ربيعة العقيلى إلى قوم من تغلب وقد اجتمعوا «6» بالعقيق من أرض الموصل، فلما أحسّوا به ارتحلوا يريدون عبور دجلة، فلما صاروا بالكحيل وهو من أرض الموصل فى جانب دجلة الجزء: 21 ¦ الصفحة: 116 الغربى، فلحقهم زفر بن الحارث [به] «1» فى القيسية: فاقتتلوا قتالا شديدا؛ وترجّل أصحاب زفر كلّهم، وبقى زفر على بغلة له فقتلوهم ليلتهم وبقروا بطون نساء منهم، وغرق فى دجلة أكثر ممن قتل بالسيف، وأتى «2» ، فلّهم لبّى فوجّه زفر ابنه الهذيل فأوقع بهم إلّا من عبر فنجا، وأسر منهم زفر مائتين فقتلهم صبرا، فقال فى ذلك زفر «3» : ألا يا عين بكّى بانسكاب ... وبكّى عاصما وابن الحباب فإن تك تغلب قتلت عميرا ... ورهطا من غنىّ فى الحراب فقد أفنى بنى جشم بن بكر ... ونمرهم «4» فوارس من كلاب قتلنا منهمو مائتين صبرا ... وما عدلوا عمير بن الحباب وأسر القطامىّ التغلبى فى يوم من أيامهم، وأخذ ماله، فقام زفر بأمره حتى ردّ عليه ماله ووصله، فقال فيه «5» : إنى وإن كان قومى ليس بينهمو ... وبين قومك إلا ضربة الهادى مثن عليك بما أوليت من حسن ... وقد تعرّض منى مقتل بادى ذكر خبر يوم البشر «6» كان سبب هذا اليوم أن عبد الملك لما استقرّ له الأمر قدم عليه الأخطل الشاعر التغلبى وعنده الجحّاف بن حكيم السلمى، فقال له عبد الملك: أتعرف هذا يا أخطل؟ قال: نعم، هذا الذى أقول فيه «7» : الجزء: 21 ¦ الصفحة: 117 ألا سائل الجحّاف هل هو ثائر ... بقتلى أصيبت من سليم وعامر وأنشد القصيدة حتى فرغ منها، وكان الجحّاف يأكل رطبا فجعل النّوى يتساقط من يده غيظا، ثم أجابه فقال: بلى سوف نبكيهم بكل مهنّد ... وننعى عميرا بالرّماح الشّواجر ثم قال يا ابن النصرانية؛ ما كنت أظنّ أن تجترىء علىّ بمثل هذا. فأرعد من خوفه، ثم قام إلى عبد الملك فأمسك ذيله، وقال: هذا مقام العائذ بك. فقال: أنا لك، ثم قام الجحّاف فمشى وهو يجرّ ثوبه، ولا يعقل، فتلطّف لبعض كتّاب الديوان حتى اختلق له عهدا على صدقات تغلب وبكر بالجزيرة، وقال لأصحابه: إنّ أمير المؤمنين ولأّنى هذه الصدقات، فمن أراد اللحاق بى فليفعل. ثم سار حتى أتى رصافة هشام، فأعلم أصحابه ما كان من الأخطل إليه، وأنه افتعل كتابا وأنه ليس له بوال، فمن كان يحبّ أن يغسل عنى العار وعن نفسه فليصحبنى، فإنى أقسمت ألّا أغسل رأسى حتى أوقع ببنى تغلب. فرجعوا عنه غير ثلاثمائة قالوا: نموت لموتك ونحيا لحياتك، فسار ليلته حتى أصبح بالرّحوب «1» ، وهو ماء لبنى جشم «2» بن بكر بن تغلب، فصادف عليه جماعة عظيمة منهم، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وأسر الأخطل وعليه عباءة وسخة، وظنّ الذى أسره أنه عبد، فسأله عن نفسه، فقال: عبد. فأطلقه فرمى بنفسه فى جب، مخافة أن يراه من يعرفه فيقتله، الجزء: 21 ¦ الصفحة: 118 وأسرف الجحاف فى القتل، وبقر البطون عن الأجنّة؛ وفعل أمرا عظيما، فلما عاد عنهم قدم الأخطل على عبد الملك فأنشده «1» : لقد أوقع الجحّاف بالبشر وقعة ... إلى الله منها المشتكى والمعوّل فطلب عبد الملك الجحّاف فهرب إلى الرّوم، فكان يتردّد فيها، ثم بعث إلى بطانة عبد الملك من قيس، فطلبوا له الأمان، فأمّنه عبد الملك، فلما جاء ألزمه ديات من قتل، وأخذ منه الكفلاء، فسعى فيها حتى جمعها وأعطاها، ثم تنسّك الجحّاف بعد، وصلح، ومضى حاجّا فتعلّق بأستار الكعبة، وجعل يقول: اللهم اغفرلى، وما أظنّك تفعل! فسمعه محمد ابن الحنفية، فقال: يا شيخ، قنوطك شرّ من ذنبك. وقيل: كان سبب عود الجحّاف أنّ ملك الروم أكرمه وقرّبه وعرض عليه النصرانية، ويعطيه ما شاء، فامتنع، وقال: ما أتيتك غبة عن الإسلام. ثم هزم الجحّاف صائفة المسلمين، فأخبروا عبد الملك أن الذى هزمهم الجحّاف، فأرسل إليه عبد الملك، فأمّنه، فسار فى بلاد الروم، وقصد البشر وبه حىّ من تغلب وقد لبس أكفانه، وقال: قد جئت إليكم أعطى القود من نفسى، فأراد شبابهم قتله، فنهاهم شيوخهم، وعفوا عنه، فحج، فسمعه عبد الله بن عمر وهو يطوف ويقول: اللهم اغفرلى وما أظنك تفعل! فقال ابن عمر رضى الله عنهما: لو كنت الجحاف مازدت على هذا. قال: فأنا الجحّاف. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 119 ذكر مسير عبد الملك بن مروان إلى العراق وقتل مصعب بن الزبير واستيلاء عبد الملك على العراق [وفى جمادى الآخرة سنة [71 هـ] إحدى وسبعين كان مقتل مصعب بن الزبير بن العوام واستيلاء عبد الملك على العراق] «1» ؛ وسبب ذلك أنّ عبد الملك بن مروان لما قتل عمرو بن سعيد كما تقدم وضع السيف على من خالفه، فصفا له الشام، فلما لم يبق له بالشام مخالف أجمع المسير إلى مصعب بن الزبير بالعراق، فاستشار أصحابه فى ذلك، فأشار عليه عمّه يحيى بن الحكم أن يقنع بالشام ويترك ابن الزبير والعراق، فكان عبد الملك يقول: من أراد صواب الرأى فليخالف يحيى. وأشار بعضهم أن يؤخّر السّير هذا العام، وأشار محمد بن مروان أن يقيم ويبعث بعض أهله، ويمدّه بالجنود. فأبى إلّا المسير. فلما عزم على المسير ودّع زوجته عاتكة بنت يزيد بن معاوية. فبكت فبكى جواريها لبكائها، فقال: قاتل الله كثيّر عزّة، لكأنّه يشاهدنا حين يقول «2» : إذا ما أراد الغزو لم يثن همّه ... حصان عليها عقد درّ يزينها نهته فلمّا لم تر النّهى عاقه ... بكت فبكى مما عناها قطينها «3» وسار عبد الملك نحو العراق، فلما بلغ مصعب بن الزبير مسيره وهو بالبصرة أرسل إلى المهلّب بن أبى صفرة وهو يقاتل الخوارج الجزء: 21 ¦ الصفحة: 120 يستشيره. وقيل: بل أحضره إليه، فقال لمصعب: اعلم أنّ أهل العراق قد كاتبوا عبد الملك وكاتبهم فلا تبعدنى [عنك] «1» . فقال له مصعب: إنّ أهل البصرة قد أبوا أن يسيروا حتّى أجعلك على قتال الخوارج، وهم قد بلغوا سوق الأهواز، وأنا أكره إذ سار عبد الملك [إلىّ] «2» ألّا أسير إليه، فاكفنى هذا الثغر «3» . فعاد إليهم، وسار مصعب إلى الكوفة ومعه الأحنف فتوفّى الأحنف بالكوفة، وأحضر مصعب إبراهيم بن الأشتر، وكان على الموصل والجزيرة، فجعله على مقدّمته، وسار حتى نزل باجميرا «4» قريب أوانا فعسكر هناك، وسار عبد الملك حتى نزل بمسكن «5» على فرسخين أو ثلاثة من عسكر مصعب. وكتب عبد الملك إلى أهل العراق من كاتبه ومن لم يكاتبه، فجميعهم طلب أصفهان طعمة، وأخفوا جميعهم كتبهم عن مصعب إلا ابن الأشتر فإنه أحضر كتابه مختوما إلى مصعب، فقرأه فإذا هو يدعوه إلى نفسه، ويجعل له ولاية العراق. فقال له مصعب: أتدرى ما فيه؟ قال: لا. قال: إنه يعرض عليك كذا وكذا، وإن هذا لما «6» يرغب فيه. فقال إبراهيم: ما كنت لأتقلّد الغدر والخيانة، والله الجزء: 21 ¦ الصفحة: 121 ما [عند] «1» عبد الملك من أحد من الناس بايأس منه منى، ولقد كتب إلى جميع أصحابك مثل الذى كتب إلىّ، فأطعنى واضرب أعناقهم. فقال: إذا لا تناصحنى عشائرهم. قال: فأوقرهم حديدا، وابعث بهم إلى أبيض كسرى، واحبسهم هنالك، ووكّل بهم من إن غلبت وتفرقت عشائرهم عنك ضرب رقابهم، وإن ظهرت مننت على عشائرهم بإطلاقهم. فقال: إنى لفى شغل عن ذلك. ولما قرب العسكران بعث عبد الملك إلى مصعب يقول: دع الدّعاء لأخيك، وأدع الدعاء إلى نفسى، ونجعل الأمر شورى. فأبى مصعب إلّا السيف. فقدّم عبد الملك أخاه محمدا. وقدّم المصعب إبراهيم بن الأشتر، فالتقيا، فتناوش الفريقان، فقتل صاحب لواء محمد، وجعل مصعب يمدّ إبراهيم، فأزال محمد بن مروان عن موقفه، فوجّه عبد الملك عبد الله بن يزيد إلى أخيه محمد، فاشتدّ القتال، فقتل مسلم بن عمرو الباهلى والدقتيبة، وهو فى أصحاب مصعب، وأمدّ مصعب إبراهيم بعتّاب بن ورقاء؛ فساء ذلك إبراهيم، واسترجع، وقال: قد قلت له: لا يمدّنى بعتّاب وضربائه. وكان عتّاب قد كاتب عبد الملك وبايعه، فانهزم عتّاب بالناس وصبر ابن الأشتر، وقاتل حتى قتل، قتله عبيد بن ميسرة مولى بنى عذرة «2» ، وحمل رأسه إلى عبد الملك. وتقدّم أهل الشام فقاتلهم مصعب، وقال لقطن بن عبد الله الحارثى: قدّم خيلك أبا عثمان. فقال: أكره أن تقتل مذحج فى غير الجزء: 21 ¦ الصفحة: 122 شىء. فقال لحجّار «1» بن أبجر: أبا أسيد: قدّم خيلك. فقال: إلى هؤلاء الأنتان! قال: ما نتأخر إليه أنتن. وقال لمحمد بن عبد الرحمن بن سعيد: قدم خيلك. فقال: ما فعل أحد هذا فأفعله. فقال مصعب: يا إبراهيم، ولا إبراهيم لى اليوم! ثم التفت فرأى عروة بن المغيرة بن شعبة فاستدناه، فقال له: أخبرنى عن الحسين بن على كيف صنع بامتناعه عن النّزول على حكم ابن زياد وعزمه على الحرب؟ فأخبره، فقال «2» : إن الألى بالطّفّ من آل هاشم ... تأسّوا فسنّوا للكرام التأسّيا ثم دنا محمد بن مروان من مصعب، وناداه: أنا ابن عمك محمد ابن مروان، فاقبل أمان أمير المؤمنين. قال: أمير المؤمنين بمكة، يعنى أخاه عبد الله. قال: فإنّ القوم خاذلوك، فأبى ما عرض عليه. فنادى محمد عيسى بن مصعب إليه، فقال له مصعب: انظر ما يريد، فدنا منه، فقال له: إنى لك ولأبيك ناصح، ولكما الأمان. فرجع إلى أبيه فأخبره. فقال: إنى أظنّ القوم يفون لك، فإن أحببت أن تأتيهم، فافعل. قال: لا تتحدّث نساء قريش أنّى خذلتك، ورغبت بنفسى عنك. قال: فاذهب أنت ومن معك إلى عمّك بمكة، فأخبره بما «3» صنع أهل العراق ودعنى فإنّى مقتول. فقال: لا أخبر قريشا عنك أبدا، ولكن يا أبت الحق بالبصرة فإنهم على الطاعة، الجزء: 21 ¦ الصفحة: 123 أو الحق بأمير المؤمنين. فقال مصعب: لا تتحدث قريش أنى فررت. وقال لابنه عيسى: تقدّم إذا أحتسبك. فتقدّم ومعه ناس، فقتل، وقتلوا، وجاء رجل من أهل الشام ليحتزّ رأس عيسى، فحمل عليه مصعب فقتله، وشدّ على الناس فانفرجوا له، وعاد، ثم حمل ثانية فانفرجوا له، وبذل له عبد الملك الأمان، وقال: إنه يعزّ علىّ أن تقتل، فاقبل أمانى. ولك حكمك فى المال والعمل، فأبى، فقال عبد الملك: هذا والله كما قال القائل «1» : ومدجّج كره الكماة نزاله ... لاممعن هربا ولا مستسلم «2» ودخل مصعب سرادقه فتحنّط ورمى السرادق، وخرج فقاتل، فأتاه عبيد الله بن زياد بن ظبيان فدعاه إلى المبارزة فقال: يا كلب، اغرب، مثلى يبارز مثلك! وحمل عليه مصعب فضربه على البيضة فهشمها وجرحه، فذهب «3» يعصب رأسه، وترك الناس مصعبا وخذلوه حتى بقى فى سبعة أنفس، وأثخن بالرمى، وكثرت فيه الجراحات، فعاد إليه عبيد الله بن زياد بن ظبيان فضربه مصعب، فلم يصنع شيئا لضعفه، وضربه ابن ظبيان فقتله. وقيل: بل نظر إليه زائدة بن قدامة الثقفى فحمل عليه، فطعنه فقال: يالثارات المختار! فصرعه وأخذ عبيد الله بن زياد رأسه وحمله إلى عبد الملك، فألقاه بين يديه وأنشد «4» : نعاطى «5» الملوك الحقّ ما قسطوا لنا ... وليس علينا قتلهم بمحرّم الجزء: 21 ¦ الصفحة: 124 فلما رأى عبد الملك الرأس سجد، فقال ابن ظبيان: لقد هممت أن أقتل عبد الملك وهو ساجد فأكون قد قتلت ملكى العرب، وأرحت الناس منهما، وفى ذلك يقول «1» : هممت ولم أفعل وكدت وليتنى ... فعلت فأدمنت البكا لأقاربه فأوردتها فى النار بكر بن وائل ... وألحقت من قد خرّ شكرا بصاحبه وقال عبد الملك: لقد هممت أن أقتل ابن ظبيان فأكون قد قتلت أفتك الناس بأشجع الناس. وأمر عبد الملك لابن ظبيان بألف دينار، فقال: لم أقتله على طاعتك، وإنما قتلته بأخى النابى بن زياد، ولم يأخذ منها شيئا. وكان النابى قد قطع الطريق فقتله مطرّف الباهلى صاحب شرطة مصعب. وكان قتل مصعب بدير الجاثليق عند نهر دجيل، وأمر عبد الملك به وبابنه عيسى فدفنا، وقال: كانت الحرمة بيننا [وبينه] «2» قديمة، ولكن [هذا] «3» الملك عقيم. قال: ثم دعا عبد الملك جند العراق إلى البيعة فبايعوه، وسار حتى دخل الكوفة، فأقام بالنّخيلة» أربعين يوما، وخطب الناس بالكوفة، فوعد المحسن وتوعّد المسىء، وقال: إن الجامعة التى وضعت فى عنق عمرو بن سعيد عندى، وو الله لا أضعها فى عنق رجل فأنتزعها إلّا صعدا لا أفكّها عنه فكّا، فلا يبقينّ امرؤ إلّا على نفسه، ولا يوبقنى دمه. والسلام. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 125 قال عبد الملك بن عمير: كنت مع عبد الملك بقصر الكوفة حين جىء برأس مصعب فوضعت بين يديه، فرآنى قد ارتعدت، فقال لى: مالك؟ فقلت: أعيذك بالله يا أمير المؤمنين! كنت بهذا القصر بهذا الموضع مع عبيد الله بن زياد فرأيت رأس الحسين رضى الله عنه بين يديه، ثم كنت فيه مع المختار بن أبى عبيد فرأيت رأس عبيد الله بن زياد بين يديه، ثم كنت مع مصعب فيه فرأيت رأس المختار بين يديه، ثم رأيت رأس مصعب فيه بين يديك. فقام عبد الملك من مقامه ذلك، وأمر بهدم ذلك الطاق الذى كنّا فيه، وقال عبد الملك ابن مروان: متى تخلف قريش مثل المصعب! ثم قال: هذا سيّد شباب قريش. فقيل له: أكان يشرب الطّلا «1» ؟ فقال: لو علم المصعب أنّ الماء يفسد مروءته ما شربه حتى يموت عطشا. قال: وبعث عبد الملك برأس مصعب إلى أخيه عبد العزيز بن مروان بمصر، فلما رآه وقد قطع السيف أنفه قال: رحمك الله، أما والله لقد كنت من أحسنهم خلقا، وأشدهم بأسا، وأسخاهم نفسا. ثم سيّره إلى الشام فنصب بدمشق، وأرادوا أن يطوفوا به فى نواحى الشام، فأخذته عاتكة بنت يزيد بن معاوية زوجة عبد الملك بن مروان، فغسلته وطيبته ودفنته، وقالت: أما رضيتم بما صنعتم حتى تطوفوا به المدن! هذا بغى. وكان عمر مصعب حين قتل ستا وثلاثين سنة. ولما بلغ عبد الله بن خازم مسير مصعب لقتال عبد الملك قال: أمعه عمر بن عبيد الله بن معمر؟ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 126 قيل: لا، استعمله على فارس. قال: أمعه المهلّب؟ قيل: لا، استعمله على الخوارج. قال: أمعه عباد بن الحصين؟ قيل: لا، استخلفه على البصرة. قال: وأنا بخراسان. وأنشد «1» : خذينى فجرّينى جعار وأبشرى ... بلحم امرىء لم يشهد اليوم ناصره قال: ولما قتل مصعب كان المهلّب يحارب الأزارقة بسولاف «2» ثمانية أشهر، فبلغ الأزارقة قتله قبل أن يبلغ المهلّب، فصاحوا بأصحاب المهلّب: ما قولكم فى مصعب؟ قالوا: أمير «3» هدى؛ وهو وليّنا فى الدنيا والآخرة، ونحن أولياؤه. قالوا: فما قولكم فى عبد الملك بن مروان! قالوا: ذلك ابن اللّعين، نحن نبرأ إلى الله منه، وهو [عندنا] «4» أحل دما منكم. قالوا: فإن عبد الملك قتل مصعبا، وسيجعلون غدا عبد الملك إمامكم. فلما كان الغد سمع المهلّب وأصحابه قتل مصعب، فبايع المهلّب الناس لعبد الملك، فصاح بهم الخوارج: يا أعداء الله، ما تقولون فى مصعب؟ قالوا: يا أعداء الله لا نخبركم. وكرهوا أن يكذّبوا أنفسهم. قالوا: فما قولكم فى عبد الملك؟ قالوا: خليفتنا. ولم يجدوا بدّا إذ بايعوه أن يقولوا ذلك. قالوا: يا أعداء الله؛ أنتم بالأمس تتبرّءون منه فى الدنيا والآخرة، وهو اليوم إمامكم، وقد قتل أميركم «5» الجزء: 21 ¦ الصفحة: 127 الذى كنتم تتولّونه «1» ، فأيّهما المهتدى؟ وأيّهما المبطل؟ قالوا: يا أعداء الله، رضينا بذاك إذ كان يتولّى أمرنا ونرضى بهذا. قالوا: لا، والله، ولكنكم إخوان الشياطين وعبيد الدنيا. قال: ولم يف عبد الملك لأحد بأصبهان، واستعمل قطن بن عبد الله الحارثى على الكوفة، ثم عزله، واستعمل أخاه بشر بن مروان. واستعمل محمد بن عمير «2» على همذان، ويزيد بن ورقاء بن رؤيم على الرىّ، واستعمل خالد بن عبد الله بن [خالد بن] «3» أسيد على البصرة، وعاد إلى الشام. ذكر خبر عبد الملك بن مروان وزفر بن الحارث وما كان بينهما من القتال وانتظام الصّلح بينهما قد ذكرنا أن زفر بن الحارث لما فر من مرج راهط إلى قرقيسياء، واستولى عليها، وتحصّن بها، واجتمعت قيس عليه، وكان فى بيعة عبد الله بن الزبير وفى طاعته. فلما مات مروان بن الحكم وولى عبد الملك كتب إلى أبان بن عقبة بن أبى معيط، وهو على حمص، يأمره أن يسير إلى زفر، فسار إليه، وعلى مقدّمته عبد الله بن زميت الطائى، فواقع عبد الله زفر قبل وصول أبان فقتل من أصحابه ثلاثمائة، فلامه أبان على عجلته، وأقبل أبان فواقع زفر فقتل ابنه وكيع ابن زفر. فلما سار عبد الملك إلى العراق لقتال مصعب بدأ بقرقيسياء، فحضر زفر فيها، ونصب عليها المجانيق، فأمر زفر أن ينادى فى الجزء: 21 ¦ الصفحة: 128 عسكر عبد الملك: لم نصبتم المجانيق علينا؟ فقالوا: لنثلم ثلمة نقاتلكم «1» عليها. فقال زفر: قولوا لهم: فإنا لانقاتلكم من وراء الحيطان، ولكنا نخرج إليكم. وقاتلهم زفر. وكان خالد بن يزيد بن معاوية مجدّا فى قتال زفر، فقال رجل من أصحابه من بنى كلاب: لأقولن لخالد كلاما لا يعود إلى ما يصنع. فلما كان الغد خرج خالد للمحاربة فقال له الكلابى: ماذا ابتغاء خالد وهمّه ... إذ سلب الملك و ... أمه فاستحيا وعاد، ولم يعد لقتالهم. وقالت كلب لعبد الملك: إنا إذا لقينا زفر انهزمت القيسيّة الذين معك، فلا تخلطهم معنا. ففعل. فكتبت القيسية على نبلها: إنه ليس يقاتلكم غدا مضرى، ورموا النّبل إلى زفر. فلما أصبح دعا ابنه الهذيل فقال: اخرج إليهم، فشدّ عليهم، ولا ترجع حتى تضرب فسطاط عبد الملك، وأقسم لئن رجع دون أن يفعل ذلك ليقتلنّه. فجمع الهذيل خيله، وحمل، فصبروا قليلا ثم انكشفوا، وتبعهم الهذيل بخيله حتى وطئوا أطناب الفسطاط، وقطعوا بعضها، ثم رجعوا. فقبّل زفر رأس ابنه الهذيل. فقال: والله لو شئت أن أدخل الفسطاط لفعلت. قال: وكان رجل من كلب يقال له الذيّال يخرج فيسبّ زفر فيكثر، فقال زفر للهذيل ابنه أو لبعض أصحابه: أما تكفينى هذا؟ قال: أنا آتيك به، فدخل عسكر عبد الملك ليلا، فجعل ينادى الجزء: 21 ¦ الصفحة: 129 من يعرف بغلا من صفته كذا وكذا؟ حتى انتهى إلى خباء الرجل. فقال الرجل: ردّ الله عليك ضالّتك. فقال: يا عبد الله، إنى قد أعييت، فلو أذنت لى فاسترحت قليلا. قال: ادخل، فدخل، والرجل وحده فى خبائه، فرمى بنفسه، ونام صاحب الخباء، فقام إليه فأيقظه، وقال: والله، لئن تكلمت لاقتلنّك، قتلت أو سلمت، فماذا ينفعك قتلى إذا قتلت أنت؛ ولئن سكت وجئت معى إلى زفر فلك عهد الله وميثاقه أن أردّك إلى عسكرك بعد أن يصلك زفر ويحسن إليك، فخرجا وهو ينادى: من دلّ على بغل من صفته كذا وكذا حتى أتى زفر. والرجل معه، فأعلمه أنّه قد أمّنه، فوهبه «1» زفر دنانير وحمله على رحال النساء وألبسه ثيابهنّ، وبعث معه رجالا حتى دنوا من عسكر عبد الملك، فنادوا: هذه جارية قد بعث بها زفر إلى عبد الملك، وانصرفوا! فلما رآه أهل العسكر عرفوه، وأخبروا عبد الملك الخبر فضحك، وقال: لا يبعد الله رجال مضر، والله إنّ قتلهم لذلّ، وإن تركهم لحسرة. وكفّ الرجل فلم يعد يسبّ زفر. وقيل: إنه هرب من العسكر، ثم أمر عبد الملك أخاه محمدا أن يعرض على زفر وابنه الهذيل الأمان على أنفسهما ومن معهما وأن يعطيا ما أحبّا. ففعل ذلك، فأجابا على أنّ لزفر الخيار فى بيعته سنة، وأن يترك حيث شاء، وألا يعين عبد الملك على قتال ابن الزبير. فبينما الرسل تختلف بينهم إذ جاء رجل من كلب، فقال: قد هدم من المدينة أربعة أبراج، فقال عبد الملك: لا أصالحهم، الجزء: 21 ¦ الصفحة: 130 وزحف إليهم، فهزموا أصحابه حتى أدخلوهم عسكرهم، فقال: أعطوهم ما أرادوا. قال زفر: لو كان قبل هذا لكان أحسن، واستقرّ الصلح على أمان الجميع، ووضع الدماء والأموال، وألّا يبايع عبد الملك حتى يموت ابن الزّبير للبيعة التى له فى عنقه، وأن يعطى مالا يقسّمه فى أصحابه، وخاف زفر أن يغدر به عبد الملك كما غدر بعمرو بن سعيد، فلم ينزل إليه، فأرسل إليه بقضيب النبى صلّى الله عليه وسلّم أمانا له، فنزل إليه، فلما دخل عليه أجلسه معه على سريره، فلما رأى عبد الملك قلّة من مع زفر قال: لو علمت بأنه فى هذه القلّة لحاصرته أبدا حتى نزل على حكمى، فبلغ قوله زفر فقال: إن شئت رجعنا ورجعت. قال: بل نفى لك يا أبا الهذيل. وأمر زفر ابنه الهذيل أن يسير مع عبد الملك إلى قتال مصعب، وقال: أنت لا عهد عليك، فسار معه، فلما قارب مصعبا هرب إليه، وقاتل مع ابن الأشتر. فلما قتل ابن الأشتر اختفى الهذيل فى الكوفة حتى استؤمن له من عبد الملك فأمّنه. قال: وتزوّج مسلمة بن عبد الملك الرّباب بنت زفر فكان يؤذن لإخوتها: الهذيل والكوثر فى أول الناس. وفى هذه السنة، أعنى سنة [71 هـ] إحدى وسبعين، افتتح عبد الملك قيساريّة «1» فى قول الواقدى رحمه الله. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 131 ذكر مقتل عبد الله بن خازم واستيلاء عبد الملك على خراسان ولما قتل مصعب كان عبد الله بن خازم يقاتل بحير «1» بن ورقاء لصّريمى التميمى بنيسابور، فكتب عبد الملك إلى ابن خازم يدعوه إلى البيعة ويطعمه خراسان سبع سنين، وأرسل الكتاب مع سورة «2» ابن أشيم النميرى، فقال له ابن خازم: لولا أن أضرّب بين بنى سليم وبنى عامر لقتلتك، ولكن كل كتابه، فأكله. وقيل: بل كان الكتاب مع سوادة بن عبيد الله النميرى. وقيل: مع «3» مكمل الغنوى. فقال له ابن خازم: إنما بعثك أبو الذّبّان لأنك من غنىّ، وقد علم أنى لا أقتل رجلا من قيس، ولكن كل كتابه وكتب عبد الملك إلى بكير «4» بن وسّاج، وكان خليفة ابن خازم على مرو، بعهده على خراسان، ووعده ومنّاه، فخلع بكير عبد الله ابن الزبير ودعا إلى عبد الملك، فأجابه أهل مرو، وبلغ ابن خازم، فخاف أن يأتيه بكير فيجتمع عليه أهل مرو وأهل نيسابور، فترك بحيرا وأقبل إلى مرو، فاتبعه بحير فلحقه بقرية على ثمانية فراسخ من مرو، فقاتله، فقتل ابن خازم. وكان الذى قتله وكيع بن عمرو «5» القريعى، اعتوره وكيع وبحير بن ورقاء وعمّار بن عبد العزيز، الجزء: 21 ¦ الصفحة: 132 فطعنوه، فصرعوه؛ وقعد وكيع على صدره فقتله، وبعث «1» بشيرا بقتله إلى عبد الملك، ولم يبعث برأسه. وأقبل بكير فى أهل مرو، فوافاهم حين قتل ابن خازم، فأراد أخذ الرأس وإنفاذه إلى عبد الملك، فمنعه بحير [فضربه بعمود وحبسه «2» ] ، وسيّر الرأس إلى عبد الملك، وذلك فى سنة اثنتين وسبعين. وقيل: بل كان مقتله بعد قتل عبد الله بن الزبير، وأن عبد الملك أنفذ إليه رأس ابن الزّبير، ودعاه إلى نفسه فغسله وكفّنه، وبعثه إلى أهله بالمدينة، وأطعم الرسول الكتاب، وقال: لولا أنك رسول لقتلتك. وقيل: بل قطع يديه ورجليه وقتله، وحلف ألا يطيع عبد الملك أبدا. [والله أعلم «3» ] . ذكر مقتل عبد الله بن الزبير رضى الله عنه وشىء من أخباره قال: لما قتل مصعب بن الزبير تقدم الحجاج بن يوسف الثقفى إلى عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين، قد رأيت فى المنام أنى أخذت ابن الزبير وسلخته، فابعثنى إليه، وولّنى حربه، فبعثه فى ألفين، وقيل فى ثلاثة آلاف، فسار فى جمادى الأولى سنة [72 هـ] اثنتين وسبعين، ونزل الطائف، وكان يبعث الخيل إلى عرفة [فى الحل] «4» الجزء: 21 ¦ الصفحة: 133 بعد الطائف، ويبعث ابن الزبير الخيل فيقتلون فتنهزم خيل ابن الزبير، وتعود خيل الحجاج بالظّفر. ثم كتب الحجاج إلى عبد الملك يستأذنه فى دخول الحرم وحصر «1» ابن الزبير، ويخبره بضعفه وتفرّق أصحابه، ويستمدّه، فأمدّه بطارق بن عمرو مولى عثمان، وكان عبد الملك قد بعثه فى جيش إلى وادى القرى ليمنع عمّال ابن الزّبير من الانتشار، فقدم المدينة فى ذى القعدة «2» سنة [72 هـ] اثنتين وسبعين، وأخرج عامل ابن الزبير منها، وجعل عليها رجلا من أهل الشام اسمه ثعلبة، وقدم طارق «3» مكة فى ذى الحجة منها فى خمسة آلاف، وتقدم الحجّاج إلى مكة، فنزل عند بئر ميمون «4» ، وحجّ بالناس فى تلك السنة. إلّا أنه لم يطف بالبيت، ولا سعى بين الصّفا والمروة؛ منعه عبد الله ابن الزبير من ذلك؛ ولم يحجّ ابن الزبير ولا أصحابه فى تلك السنة. ونصب الحجاج المنجنيق على أبى قبيس «5» ، ورمى به الكعبة، فقال عبد الله بن عمر بن الخطاب رضى الله عنهما للحجاج، اتّق الله واكفف هذه الحجارة عن الناس، فإنك فى شهر حرام فى بلد حرام؛ وقد قدمت وفود الله من أقطار الأرض ليؤدّوا فريضة الله، وقد منعهم المنجنيق عن الطّواف. فكفّ حتى انقضى الحج، ثم نادى فى الناس: انصرفوا إلى بلادكم، فإنا نعود بالحجارة على ابن الزبير الملحد. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 134 قال: وأول ما رمى الكعبة بالمنجنيق رعدت السماء وبرقت، وعلا صوت الرّعد على الحجارة، فأعظم ذلك أهل الشام وأمسكوا أيديهم، فأخذ الحجاج حجر المنجنيق «1» ووضعه بيده ورمى به، فجاءت الصواعق فقتلت من أصحابه اثنى عشر رجلا، فانكسر أهل الشام، فقال الحجاج: يأهل الشام، لا تنكروا هذا، فإنى ابن تهامة، وهذه صواعقها، وهذا الفتح قد حضر، فأبشروا. فلما كان الغد جاءت الصاعقة فأصابت من أصحاب ابن الزبير عدّة. فقال الحجاج: ألا ترون أنهم يصابون كما تصابون، وأنتم على الطاعة وهم على خلافها، وكان الحجر يقع بين يدى عبد الله ابن الزّبير وهو يصلّى، فلا ينصرف عن مكانه. وغلت الأسعار عند ابن الزبير حتى ذبح فرسه، وقسّم لحمه فى أصحابه، وبيعت الدجاجة بعشرة دراهم والمدّ الذرة بعشرين درهما، وكانت بيوت ابن الزبير مملوءة قمحا وشعيرا وذرة وتمرا، وكان أهل الشام ينتظرون فناء ما عنده، فكان لا ينفق منه إلّا ما يمسك الرّمق ويقول: نفوس أصحابى قويّة ما لم تفن. فلما كان قبيل مقتله تفرّق الناس عنه، وخرجوا إلى الحجّاج بالأمان، فخرج من عنده نحو عشرة آلاف. وكان ممن فارقه ابناه حمزة وخبيب، أخذا لأنفسهما أمانا، فقال عبد الله لابنه الزّبير: خذ لنفسك أمانا كما فعل أخواك، فو الله إنى لأحبّ بقاءكم. فقال: ما كنت لأرغب بنفسى عنك، فقتل معه. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 135 قال: ولما كان فى الليلة التى قتل فيها عبد الله فى صبيحتها جمع قريشا فقام لهم: ما ترون؟ فقال رجل من بنى مخزوم: والله، إنّا قاتلنا معك حتى ما نجد مقتلا، والله لئن سرنا معك ما نزيد على أن نموت، وإنما هى إحدى خصلتين: إما أن تأذن لنا فنأخذ الأمان لأنفسنا ولك، وإما أن تأذن لنا فنخرج. فقال له رجل: اكتب إلى عبد الملك. فقال: كيف أكتب من عبد الله أمير المؤمنين إلى عبد الملك بن مروان؟ فو الله لا يقبل هذا أبدا، أو أكتب لعبد الملك بن مروان أمير المؤمنين. من عبد الله بن الزبير؟ فو الله لأن تقع الخضراء على الغبراء أهون علىّ من ذلك. فقال له عروة وهو جالس معه على السرير: قد جعل الله لك أسوة فى الحسن بن على رضى الله عنهما، خلع نفسه وبايع معاوية، فركضه برجله ورماه عن السرير، وقال: قلبى إذا مثل قلبك، والله لو قلتها ما عشت إلّا قليلا وإن أضرب بسيف فى عزّ خير من أن ألطم فى ذلّ. فلما أصبح دخل على امرأته أم هاشم «1» فقال: اصنعى لى طعاما. فلما صنعته وأتت به لاك منه لقمة ثم لفظها، وقال: اسقونى لبنا فسقوه، ثم اغتسل وتطيّب وتحنّط، ودخل على أمه، فقال: يا أماه، قد خذلنى الناس حتى ولدى وأهلى ولم يبق معى إلّا اليسير، والقوم يعطوننى ما أردت من الدنيا، فما رأيك؟ قالت له: أنت أعلم بنفسك، إن كنت [تعلم أنك] «2» على حق وأنت تدعو إليه فامض له، فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكّن «3» الجزء: 21 ¦ الصفحة: 136 من نفسك يتلعّب بك غلمان بنى أمية، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك ومن قتل معك، وإن قلت: كنت على حقّ فلما وهن أصحابى ضعفت، فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين، كم خلودك فى الدنيا؟ القتل أحسن! فقال: يا أماه، أخاف إن قتلنى أهل الشام أن يمثّلوا بى ويصلبونى. فقالت: يا بنى، إن الشاة لا تألم السلخ بعد الذّبح، فامض على بصيرتك، واستعن بالله. فقبّل رأسها وقال: هذا رأيى، والذى خرجت به داعيا «1» إلى يومى هذا. ما ركنت إلى الدنيا، ولا أحببت الحياة فيها، وما دعانى إلى الخروج إلّا الغضب لله، وأن تستحلّ حرماته؛ ولكنى أحببت أن أعلم رأيك، فقد زدتنى بصيرة، فانظرى فإنى مقتول فى يومى هذا، فلا يشتدّ حزنك، وسلّمى لأمر الله، فإنّ ابنك لم يتعمّد إتيان منكر! ولا عملا بفاحشة، ولم يجر فى حكم الله، ولم يغدر فى أمان، ولم يتعمّد ظلم مسلم أو معاهد، ولم يبلغنى ظلم عن عمّالى، فرضيت به؛ بل أنكرته، ولم يكن ىء آثر عندى من رضاء ربى. اللهم إنى لا أقول هذا تزكية لنفسى، ولكن أقوله تعزية لأمى حتى تسلو عنى. فقالت: إنى لأرجو أن يكون عزابى فيك جميلا، إن تقدّمتنى احتسبتك، وإن ظفرت سررت بظفرك. اخرج [عنى. «2» ] حتى أنظر إلى ما يصير أمرك، فقال: جزاك الله خيرا؛ فلا تدعى الدعاء لى. قالت: لا أدعه لك أبدا، فمن قتل على باطل فقد قتلت على حقّ. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 137 ثم قالت: اللهم ارحم طول ذلك القيام فى الليل الطويل، وذلك النّحيب والظمأ فى هواجر مكّة والمدينة، وبرّه بأبيه وبى. اللهم قد سلّمته لأمرك فيه، ورضيت بما قضيت، فأثبنى فيه ثواب الصابرين الشاكرين. فتناول يدها ليقبّلها، فقالت: هذا وداع فلا تبعد. فقال لها: جئت مودّعا، لأنى أرى هذا آخر أيامى من الدنيا. قالت: امض على بصيرتك، وادن منى حتى أودّعك، فدنا منها فعانقها، وقبّل بين عينيها، فوقعت يدها على الدّرع، فقالت: ما هذا صنيع من يريد ما تريد! فقال: ما لبسته إلّا لأشدّ متنك. قالت: فإنه لا يشدّ متنى، فنزعها، ثم درج «1» كميه، وشدّ أسفل قميصه وجبّة خزّ تحت السراويل، وأدخل أسفلها تحت المنطقة، وأمه تقول: البس ثيابك مشمّرة. فخرج من عندها وحمل على أهل الشام حملة منكرة، فقتل منهم، ثم انكشف هو وأصحابه، فقال له بعض أصحابه: لو لحقت بموضع كذا. فقال: بئس الشيخ أنا إذا فى الإسلام أن أوقعت قوما فقتلوا ثم فررت عن مثل مصارعهم. ودنا أهل الشام حتى امتلأت منهم الأبواب، وكانوا يصيحون: يابن ذات النّطاقين، فيقول: وتلك شكاة ظاهر عنك لومها «2» . الجزء: 21 ¦ الصفحة: 138 وجعل أهل الشام على أبواب المسجد رجالا «1» ، فكان لأهل حمص الباب الذى يواجه باب الكعبة، ولأهل دمشق باب بنى شيبة، ولأهل الأردن باب الصّفا، ولأهل فلسطين باب بنى جمح، ولأهل قنّسرين باب بنى سهم. وكان الحجاج وطارق بناحية الأبطح إلى المروة، وابن الزبير يحمل على هذه الناحية مرة وفى هذه أخرى، وكأنّه أسد فى أجمة ما تقدم عليه الرجال وهو يعدو فى إثر القوم حتى يحرجهم، ثم يصيح [يا] «2» أبا صفوان، ويل أمّه فتحا، لو كان له رجال. لو «3» كان قرنى واحدا كفيته فيقول أبو صفوان عبد الله بن صفوان بن أمية بن خلف: أى والله وألف. فقال رجل من أهل الشام اسمه جلبوب «4» : إنما يمكنكم أخذه إذا ولّى. قيل: فخذه أنت إذا ولّى. قال: نعم، وتقدّم ليحضنه من خلفه، فعطف عليه فقط ذراعيه فصاح، فقال: اصبر جلبوب. قال: فلما رأى الحجاج أنّ الناس لا يقدمون على ابن الزبير غضب وترجّل يسوق الناس ويصدم «5» بهم، فصدم صاحب علم ابن الزبير وهو بين يديه، فتقدّم ابن الزّبير على صاحب علمه وقاتلهم حتى انكشفوا، ورجع فصلّى ركعتين عند المقام، فحملوا الجزء: 21 ¦ الصفحة: 139 على صاحب علمه، فقتلوه عند باب بنى شيبة، وأخذوا العلم. فلما فرغ من صلاته تقدم فقاتل بغير علم، وقتل رجلا من أهل الشام وآخر، وقاتل معه عبد الله بن مطيع، وهو يقول: أنا الذى فررت يوم الحرّه ... والحرّ لا يفرّ إلّا مرّه واليوم أجزى فرّة بكرّه وقاتل حتى قتل، ويقال: أصابته جراحة فمات منها بعد أيام. قال: وقال عبد الله بن الزّبير لأصحابه وأهله يوم قتل بعد صلاة الصبح: اكشفوا وجوهكم حتى أنظر إليكم وعليكم المغافر، ففعلوا، فقال: يا آل الزبير، لو طبتم لى نفسا عن أنفسكم كنّا أهل بيت من العرب اصطلمنا فى الله فلا يرعكم وقع السيوف، فإنّ ألم الدواء للجراح أشدّ من ألم وقعها، صونوا سيوفكم كما تصونون وجوهكم، غضّوا أبصاركم عن البارقة، وليشغل كلّ امرىء قرنه، ولا تسألوا عنى، فمن كان سائلا عنى فإنى فى الزّعيل الأوّل، احملوا على بركة الله. ثم حمل عليهم حتى بلغ بهم الحجون «1» فرمى بآجرة، رماه بها رجل من السّكون، فأصابت وجهه فأرعش لها وسال الدّم على وجهه، فقال رضى الله عنه وأرضاه «2» : فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أعقابنا تقطر الدّما وقاتلهم قتالا شديدا، فتعاونوا «3» عليه، فقتلوه، قتله رجل الجزء: 21 ¦ الصفحة: 140 من مراد، وحمل رأسه إلى الحجاج، فسجد ووفد السّكونى والمرادى إلى عبد الملك بالخبر؛ فأعطى كل واحد منهما خمسمائة دينار. وقيل فى قتله: إنه جاءه حجر المنجنيق وهو يقاتل فصرعه فاقتحم عليه أهل الشام، وذهبوا به إلى الحجّاج فحزّ رأسه بيده. وكان مقتله- رضى الله عنه- فى يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى سنة [73 هـ] ثلاث وسبعين وقيل فى جمادى الآخرة منها، وله ثلاث وسبعون سنة. ولما قتل رضى الله عنه كبّر أهل الشام فرحا بقتله؛ فقال عبد الله ابن عمر: انظروا إلى هؤلاء. انظروا إلى هؤلاء. لقد كبّر المسلمون فرحا بولادته، وهؤلاء يكبّرون فرحا بقتله. وبعث الحجاج برأسه ورأس عبد الله بن صفوان ورأس عمارة ابن عمرو بن حزم إلى المدينة، ثم إلى عبد الملك وصلب جثّته [منكّسة] «1» على الثنيّة اليمنى بالحجون، فأرسلت إليه أسماء تقول: قاتلك الله! على ماذا صلبته؟ قال: استبقت أنا وهو إلى هذه الخشبة، فكانت له. فاستأذنته فى تكفينه ودفنه. فأبى. وكتب إلى عبد الملك يخبره بصلبه، فكتب إليه يلومه، ويقول: ألا خلّيت بينه وبين أمّه. فأذن لها الحجاج فدفنته بالجحون. وكان قبل مقتله بقى أياما يستعمل الصبر والمسك لئلا ينتن الجزء: 21 ¦ الصفحة: 141 إن هو صلب، فلما صلب ظهر منه ريح المسك، فقيل: إن الحجاج صلب معه كلبا ميتا. وقيل، سنّورا، فغلب على ريح المسك. ولما قتل عبد الله ركب أخوه عروة بن الزبير ناقة لم ير مثلها وسار إلى عبد الملك فسبق رسل الحجاج، فاستأذن على عبد الملك فأذن له، فلما دخل عليه سلّم عليه بالخلافة، فرحّب به وأجلسه معه على السرير، فقال عروة: نمتّ «1» بأرحام إليك قريبة ... ولا خير فى الأرحام ما لم تقرب وتحدّث «2» حتى جرى ذكر عبد الله، فقال عروة: إنه كان. فقال عبد الملك: وما فعل؟ قال: قتل؛ فخرّ ساجدا. فقال عروة: إن الحجاج صلبه. فهب جثّته لأمه. قال: نعم. وكتب إلى الحجاج فعظّم «3» صلبه. وكان الحجاج لما فقد عروة كتب إلى عبد الملك: إنّ عروة كان مع أخيه. فلما قتل عبد الله أخذ مالا من مال الله وهرب. فكتب إليه عبد الملك يقول: إنه لم يهرب، ولكنه أتانى مبايعا، وقد أمّنته وحللته مما كان منه، وهو قادم عليك، فإياك وعروة. فعاد عروة إلى مكة فكانت غيبته عنها ثلاثين يوما. فأنزل الحجاج جثّة عبد الله عن الخشبة وبعث بها إلى أمّه فغسلته. فلما أصابه الماء تقطّع فغسلته عضوا عضوا. وصلّى عليه عروة وقيل غيره. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 142 وقيل: لم يصلّ عليه أحد؛ منع الحجاج من الصلاة عليه. وكانت أيام ولايته منذ مات معاوية بن يزيد إلى أن قتل سبع سنين وأيّاما. وكان له من الأولاد: عبد الله، وحمزة، وخبيب، وثابت، وعبّاد، وقيس، وعامر، وموسى. وكاتبه زيد بن عمرو. وحاجبه سالم مولاه [والله الموفق بمنه وكرمه] «1» . ذكر نبذة من سيرته [رضى الله عنه] «2» وأخباره كان كثير العبادة إذا سجد وقعت العصافير على ظهره تظنّه حائطا لسكونه وطول سجوده. وقال بعض السلف: قسّم عبد الله الدّهر على ثلاث حالات فليلة قائم حتى الصباح، وليلة راكع حتى الصباح، وليلة ساجد حتى الصباح. وقيل: أول ما علم من همّته أنه كان يلعب ذات يوم مع الصّبيان وهو صبى، فمرّ رجل فصاح عليهم ففرّوا، ومشى عبد الله القهقرى، وقال للصبيان: اجعلونى أميركم، وشدّوا بنا عليه. ومرّ به عمر بن الخطاب رضى الله عنه وهو يلعب مع الصبيان ففرّوا ووقف هو، فقال له عمر: ما منعك أن لا تفرّ معهم «3» ؟ فقال: لم أجرم فأخافك، ولم تكن الطريق ضيقة فأوسّع لك. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 143 وقال: هشام بن عروة: كان أول ما أفصح به عمّى عبد الله ابن الزبير وهو صغير السيف «1» ، فكان لا يضعه من فيه «2» . فكان الزبير رضى الله عنه يقول: والله ليكوننّ لك منه يوم وأيام. وقال ابن سيرين: قال ابن الزبير: ما كان شىء يحدثنا به كعب إلا وقد جاء على ما قال إلّا قوله: فتى ثقيف يقتلنى وهذا رأسه بين يدى- يعنى المختار. قال: لم يشعر ابن الزبير أنّ الحجاج قد خبّىء له. ومر [به «3» ] عبد الله بن عمر رضى الله عنهم وهو مصلوب، فقال: يرحمك الله إن كنت لصوّاما قوّاما، ولقد أفلحت قريش إن كنت شرها. وكان الحجاج قد صلبه ثم ألقاه فى مقابر اليهود، وأرسل إلى أمّه يستحضرها، فلم تحضر، فأرسل إليها لتأتينى أو لأبعثنّ إليك من يسحبك بقرونك، فلم تأته فجاء إليها. فقال: كيف رأيتنى صنعت بعدوّ الله «4» ؟ قالت: رأيتك أفسدت على ابنى دنياه، وأفسد عليك آخرتك؛ وإنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حدثنا أنّ فى ثقيف كذّابا ومبيرا، فأما الكذاب فقد رأيناه [تعنى المختار «5» ] ، وأما المبير فأنت «6» . الجزء: 21 ¦ الصفحة: 144 وقال قطن بن عبد الله: كان الزّبير يفطر من الشهر ثلاثة أيام، ومكث أربعين سنة لم ينزع ثوبه عن ظهره. وقال مجاهد: لم يكن باب من أبواب العبادة يعجز عنه الناس إلا تكلّفه ابن الزبير، ولقد جاء سيل طبّق البيت، فجعل ابن الزبير رضى الله عنه يطوف سباحة. [وماتت أسماء رضى الله عنها بعده بقليل «1» ] . انتهت أخبار عبد الله بن الزبير رضى الله عنه، فلنذكر غير ذلك من أخبار أيام عبد الملك ونبدأ بتتمّة أخبار الحجاج وما فعل بمكة والمدينة [والله أعلم «2» ] . ذكر مبايعة أهل مكة عبد الملك بن مروان وما فعله الحجاج من هدم الكعبة وبنائها ومسيره إلى المدينة وما فعله فيها بالصحابة رضى الله عنهم قال: ولما فرغ الحجاج من أمر عبد الله بن الزبير دخل مكّة فبايعه أهلها لعبد الملك بن مروان، وأمر بكنس المسجد الحرام من الحجارة والدم، وهدم الكعبة فى المحرم سنة [74 هـ] أربع وسبعين، وأعادها إلى البناء الأول وأخرج الحجر منها، وكان عبد الملك [يقول «3» ] : كذب ابن الزبير فيما رواه عن عائشة رضى الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم فى أمر الحجر، وأنه من البيت. فلما «4» قال له الجزء: 21 ¦ الصفحة: 145 غير ابن الزبير: إنّ عائشة رضى الله عنها روت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: وددت أنى تركته وما تحمّل. والكعبة فى وقتنا هذا على بنائها الذى أعاده الحجاج بن يوسف. قال: ثم سار الحجاج إلى المدينة فى سنة [74 هـ] أربع وسبعين، وكان عبد الملك قد عزل طارقا «1» عنها، واستعمل عليها الحجاج، فصار معه مكة والمدينة واليمن واليمامة، فلما قدم المدينة أقام بها شهرا أو شهرين، فأساء إلى أهلها، واستخف بهم، وقال: أنتم قتلة أمير المؤمنين عثمان، وختم أيدى جماعة من الصحابة بالرصاص استخفافا بهم، كما يفعل بأهل الذمّة، منهم جابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، وسهل بن سعد، ثم عاد إلى مكة معتمرا، وقال حين خرج من المدينة: الحمد لله الذى أخرجنى من أمّ نتن، أهلها أخبث أهل بلد، وأغشّه لأمير المؤمنين، وأحسدهم له على نعمة الله، والله لولا ما كانت تأتينى كتب أمير المؤمنين فيها لجعلتها مثل جوف الحمار، أعواد يعوذون بها، ورمّة قد بليت، يقولون: منبر رسول الله، وقبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فبلغ جابر بن عبد الله قوله، فقال: إن وراءه ما يسوءه. قد قال فرعون ما قال، فأخذه الله بعد أن أنظره. وأقام الحجاج بالحجاز إلى أن نقله عبد الملك إلى ولاية العراق. وذلك فى سنة [75 هـ] خمس وسبعين على ما نذكره إن شاء الله تعالى. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 146 ذكر أخبار الخوارج فى أيام عبد الملك بن مروان منذ استقلّ بالأمر قد ذكرنا أنه لما قتل مصعب بن الزبير كان المهلّب بن أبى صفرة يقاتل الخوارج منذ ثمانية أشهر، وذكرنا مقالتهم لأصحابه حين بلغهم قتل مصعب، وتبعه عبد الملك، فلما كان فى سنة [72 هـ] اثنتين وسبعين استعمل عبد الملك خالد بن عبد الله بن أسيد «1» على البصرة، فلما قدمها استعمل المهلّب على خراج الأهواز ومعونتها، وبعث أخاه عبد العزيز بن عبد الله إلى قتال الخوارج، وسيّر معه مقاتل بن مسمع، فخرجا يطلبان الأزارقة، فأتت الخوارج من ناحية كرمان إلى درابجرد «2» وأرسل قطرىّ بن الفجاءة المازنى أمير الحج سبعمائة فارس مع صالح ابن مخراق «3» ، فأقبل بهم حتى استقبل عبد العزيز وهو يسير ليلا على غير تعبئة، فانهزم بالناس، ونزل مقاتل بن مسمع، فقاتل حتى قتل. ولما انهزم عبد العزيز أخذت امرأته ابنة المنذر بن الجارود، فأقيمت فيمن يزيد، فبلغت قيمتها مائة ألف، فجاء رجل من قومها «4» كان من رءوس الخوارج، فقال: تنحّوا هكذا، ما أرى هذه المشركة إلّا قد فتنتكم، فضرب عنقها، ولحق بالبصرة، فرآه آل المنذر، الجزء: 21 ¦ الصفحة: 147 فقالوا: والله ما ندرى أنحمدك أم نذمّك؟ فكان يقول: ما فعلته إلّا غيرة وحميّة. وانتهى عبد العزيز إلى رامهرمز، وأتى المهلب خبره، فأرسل «1» إلى أخيه خالد بن عبد الله بخبر هزيمته، فقال للرسول: كذبت. فقال: إن كنت كاذبا فاضرب عنقى، وإن كنت صادقا فأعطنى جبّتك ومطرفك. قال: ويحك! قد رضيت من الخطر العظيم بالخطر اليسير، ثم حبسه وأحسن إليه لما صحّ عنده خبر الهزيمة. وفى هذه الهزيمة وفرار عبد العزيز يقول ابن قيس الرقيّات «2» : عبد العزيز فضحت «3» جيشك كلّهم ... وتركتهم صرعى بكلّ سبيل من بين ذى عطش يجود بنفسه ... وملحّب «4» بين الرجال قتيل هلّا صبرت مع الشهيد مقاتلا ... إذ رحت منتكث القوى بأصيل وتركت جيشك لا أمير عليهمو ... فارجع بعار فى الحياة طويل ونسيت عرسك إذ تقاد سبيّة ... تبكى العيون برنّة وعويل الجزء: 21 ¦ الصفحة: 148 قال: وكتب خالد إلى عبد الملك بالخبر، فكتب إليه يقول: قبّح الله رأيك حين تبعث أخاك أعرابيا من أهل مكة على القتال، وتدع المهلب يجبى الخراج، وهو الميمون النّقيبة، المقاسى للحرب، ابنها وابن أبنائها. أرسل إلى المهلب يستقبلهم، وقد بعثت إلى بشر بالكوفة أن يمدّك بجيش، فسر معهم، ولا تعمل فى عدوّك برأى حتى يحضره المهلّب. والسلام. وكتب عبد الملك إلى أخيه بشر، وهو أمير الكوفة، يأمره بإنفاذ خمسة آلاف مع رجل يرضاه لقتال الخوارج، فإذا قضوا غزوتهم ساروا إلى الرّىّ، فقاتلوا عدوّهم، وكانوا مسلحة، فبعث بشر عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فى خمسة آلاف، وكتب عهده على الرّىّ، وخرج خالد بأهل البصرة حتى قدم الأهواز؛ وقدمها عبد الرحمن فى أهل الكوفة، وجاءت الأزارقة حتى دنوا من الأهواز؛ فعبّأ خالد أصحابه، وجعل المهلب على ميمنته، وداود بن قحذم من بنى قيس بن ثعلبة على ميسرته، ثم زحف خالد إليهم بالناس بعد عشرين ليلة، فرأوا من كثرة الناس ما هالهم، فانصرفوا على حامية «1» ، ولم يقاتلوا؛ فأرسل خالد داود بن قحذم فى آثارهم، وانصرف عبد الرحمن إلى الرّىّ، وأقام المهلّب بالأهواز، وانصرف خالد إلى البصرة، وكتب إلى عبد الملك بذلك، فكتب إلى أخيه بشر يأمره أن يبعث أربعة آلاف فارس من أهل الكوفة مع رجل بصير الجزء: 21 ¦ الصفحة: 149 بالحرب إلى فارس فى طلب الأزارقة، ويأمر صاحبه بموافقة داود ابن قحذم إن اجتمعا. فبعث بشر عتّاب بن ورقاء فى أربعة آلاف، فساروا حتى لحقوا داود، فاجتمعوا، ثم اتّبعوا الخوارج حتى هلكت خيول عامتهم، وأصابهم الجوع والجهد، ورجع عامة الجيش «1» مشاة إلى الأهواز؛ وذلك فى سنة [72 هـ] اثنتين وسبعين. ذكر مقتل أبى فديك الخارجى قد ذكرنا فى أخبار عبد الله بن الزبير قتل نجدة بن عامر وطاعة أصحابه أبا فديك، فلما كان فى سنة [72 هـ] اثنتين وسبعين غلب أبو فديك على البحرين؛ فبعث خالد بن عبد الله أمير البصرة أخاه أمية بن عبد الله فى جند كثيف، فهزمه أبو فديك، وأخذ جارية له، فاتخذها لنفسه، فكتب إلى عبد الملك بذلك، فأمر عبد الملك عمر ابن عبيد الله بن معمر أن يندب الناس من «2» أهل الكوفة والبصرة ويسير إلى قتاله، فانتدب معه عشرة آلاف، وسار بهم، وجعل أهل الكوفة على الميمنة، وعليهم محمد بن موسى بن طلحة بن عبيد الله، وأهل البصرة على الميسرة وعليهم عمر بن موسى بن عبيد الله بن معمر، وهو ابن أخى عمر، وجعل خيله فى القلب، وساروا حتى انتهوا إلى البحرين، فالتقوا، واصطفّوا للقتال، فحمل أبو فديك وأصحابه حملة رجل واحد، فكشفوا ميسرة عمر جتى أبعدوا إلّا المغيرة الجزء: 21 ¦ الصفحة: 150 ابن المهلّب، ومجّاعة بن عبد الرحمن، وفرسان الناس؛ فإنهم مالوا إلى صفّ أهل الكوفة بالميمنة، ثم رجع أهل الميسرة وقاتلوا واشتد قتالهم حتى دخلوا عسكر الخوارج، وحمل أهل الميمنة حتى استباحوا عسكر الخوارج، وقتلوا أبا فديك، وحصروا أصحابه حتى نزلوا على الحكم، فقتل منهم نحو ستة آلاف، وأسر ثمانمائة؛ ووجدوا جارية أمية بن عبد الله حبلى من أبى فديك، وعادوا إلى البصرة، وذلك فى سنة [73 هـ] ثلاث وسبعين. ذكر ولاية المهلب بن أبى صفرة حرب الأزارقة فى سنة [74 هـ] أربع وسبعين أمر عبد الملك أخاه بشرا، وكان قد أضاف إليه ولاية البصرة مع الكوفة، أن يبعث المهلّب بن أبى صفرة لحرب الأزارقة فى أهل البصرة، وأن ينتخب من أراد منهم، وأن يتركه فى الحرب ورأيه، وأمره أن يبعث من أهل الكوفة رجلا شريفا معروفا بالبأس والنّجدة فى جيش كثيف إلى المهلّب، وأن يتتبّعوا الخوارج حيث كانوا حتى يستأصلوهم. فأرسل المهلّب خديج بن سعيد «1» بن قيبصة، وأمره أن ينتخب الناس من الديوان، وشقّ على بشر أن إمرة المهلّب جاءت من قبل عبد الملك، وبعث بشر عبد الرحمن بن مخنف على أهل الكوفة، وأغراه بالمهلّب، وأمره أن يستبدّ بالأمر، وسار المهلّب حتى نزل رامهرمز، فلقى بها الخوارج، فخندق عليه، وأقبل أهل الكوفة حتى نزلوا على ميل من المهلّب، فلم يلبث العسكر إلّا عشرا «2» حتى الجزء: 21 ¦ الصفحة: 151 أتاهم نعى بشر بن مروان فتفرقوا، وعاد أكثر أهل الكوفة والبصرة إلى أن قدم الحجاج إلى الكوفة فى سنة [75 هـ] خمس وسبعين، فأخرج الناس إلى المهلّب وابن مخنف على ما نذكر ذلك إن شاء الله فى أخبار الحجاج حين قدم الكوفة. ذكر اجلاء الخوارج عن رامهرمز وقتل عبد الرحمن بن مخنف قال: ولما أعاد الحجاج البعوث إلى المهلّب كتب إليه وإلى عبد الرحمن بن مخنف يأمرهما بمناهضة الخوارج رجعوا «1» إليهم وقاتلوهم شيئا من قتال، فانزاحت الخوارج كأنهم على حامية، وساروا حتى نزلوا بكازرون «2» ، وسار المهلّب وابن مخنف حتى نزلوا بهم، وخندق المهلّب على نفسه، وأشار على ابن مخنف أن يخندق، فقال أصحابه: نحن خندقنا سيوفنا، فأتى الخوارج المهلّب ليبيّتوه، فوجدوه قد خندق، فمالوا نحو ابن مخنف، فقاتلوه، فانهزم عنه أصحابه، فنزل فقاتل فى ناس من أصحابه، فقتل وقتلوا رجاله، فقال شاعرهم «3» : لمن العسكر المكلّل بالصّر ... عى فهم بين ميّت وقتيل فتراهمو تسفى الرياح عليهمو ... حاصب الرّمل بعد جرّ الذّيول هذا قول أهل البصرة فى قتل ابن مخنف. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 152 وأما أهل الكوفة فقالوا: إنه لمّا وصل كتاب الحجاج لمناهضة «1» الخوارج ناهضهم المهلّب وابن مخنف، واقتتلوا قتالا شديدا؛ فمالت الخوارج إلى المهلّب فاضطرّوه إلى عسكره، فاستنجد عبد الرحمن فأمدّه بالخيل والرجال، وكان ذلك بعد الظهر لعشر بقين من شهر رمضان سنة [75 هـ] خمس وسبعين. فلما كان بعد العصر ورأت الخوارج من يأتى من عسكر عبد الرحمن [من الرجال] «2» علموا أنه قد خفّ أصحابه، فجعلوا بإزاء المهلّب من يشغله، وانصرفوا بحدّهم «3» إلى ابن مخنف، فنزل ونزل معه القرّاء، منهم أبو الأحوص «4» صاحب ابن مسعود، وخزيمة بن نصر أبو نصر بن خزيمة، ونزل معه من قومه واحد وسبعون رجلا، وحملت عليهم الخوارج فقاتلوا قتالا شديدا، وانكشف الناس عنه، وبقى فى عصابة من أهل الصّبر، فقاتلوا حتى ذهب نحو ثلثى الليل، ثم قتل فى تلك العصابة. فلما أصبحوا جاء المهلّب فصلّى عليه ودفنه، وكتب بذلك إلى الحجاج، فبعث إلى عسكر عبد الرحمن عتّاب ابن ورقاء، وأمره أن يسمع إلى المهلّب، فساءه ذلك، ولم يجد بدّا من طاعته، فجاء وقاتل الخوارج؛ ثم وقع بينه وبين المهلّب كلام أغلظ كلّ منهما لصاحبه، فرفع المهلّب القضيب على عتّاب، الجزء: 21 ¦ الصفحة: 153 فوثب المغيرة بن المهلب فقبض «1» القضيب من يد أبيه وسكته، وأثنى على عتّاب، وافترقا. فأرسل عتّاب إلى الحجّاج يشكو المهلّب، ويسأله أن يأمر بالعود، فوافق ذلك حاجة من الحجاج إليه، فاستقدمه، وأمره أن يترك ذلك الجيش مع المهلّب، فجعل المهلّب عليهم ابنه حبيبا، وقاتل المهلّب الخوارج على سابور «2» نحو سنة بعد مسير عتّاب عنه، وكانت كرمان فى يد الخوارج، وفارس فى يد المهلب؛ فضاق على الخوارج مكانهم، فخرجوا حتى أتوا كرمان، وتبعهم المهلب حتى نزل بجيرفت «3» ، وهى مدينة كرمان، فقاتلهم قتالا شديدا. ثم أرسل إليه الحجاج البراء بن قبيصة يحثّه على قتال الخوارج، ويأمره بالجدّ، وأنه لا عذر له عنده. فخرج المهلّب بالعسكر، فقاتل الخوارج من الغداة إلى الظهر، ثم انصرفوا والبراء على تلّ مشرف «4» يراهم، فأثنى على المهلّب وعلى أصحابه، وانصرف إلى الحجّاج، وعرّفه عذر المهلب، ثم قاتلهم المهلّب ثمانية عشر شهرا لا يقدر منهم على شىء إلى أن وقع بينهم الاختلاف. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 154 ذكر الاختلاف بين الأزارقة ومفارقة قطرىّ بن الفجاءة إيّاهم ومبايعتهم عبد ربّ الكبير والحرب بينه وبين المهلّب ومقتله وفى سنة [77 هـ] سبع وسبعين وقع الاختلاف بين الخوارج، فخلعوا قطرىّ بن الفجاءة، وبايعوا عبد ربّ الكبير، واختلف فى سبب ذلك، فقيل: إن عائلا «1» لقطرىّ على ناحية كرمان، يدعى المقعطر الضّبى، قتل رجلا منهم، فوثبت الخوارج إلى قطرى، وطلبوا منه أن يقيدهم من عامله، فلم يفعل، وقال: إنه تأوّل فأخطأ التأويل، وهو من ذوى السابقة فيكم، ما أرى أن تقتلوه، فاختلفوا. وقيل: كان السبب فى اختلافهم أنّ رجلا كان فى عسكرهم يعمل النصول المسمومة، فيرمى بها أصحاب المهلّب، فشكا أصحابه منها، فقال: أنا أكفيكموه، فوجّه رجلا من أصحابه ومعه كتاب، فأمره أن يلقيه فى عسكر قطرىّ ولا يراه أحد، ففعل، ووقع الكتاب؛ إلى قطرىّ، فإذا فيه: أما بعد فإنّ نصالك وصلت، وقد أنفذت إليك ألف درهم، فأحضر قطرىّ الصانع فسأله. فجحد، فقتله، فأنكر عليه عبد ربّ الكبير قتله، واختلفوا. ثم وضع المهلّب رجلا نصرانيّا، وأمره أن يسجد لقطرىّ. ففعل. فقال الخوارج: إن هذا قد اتّخذك إلها. ووثب بعضهم على النّصرانى فقتله، فزاد اختلافهم، ففارق بعضهم قطريّا وخلعوه، وولّوا الجزء: 21 ¦ الصفحة: 155 عبد رب الكبير، وبقى مع قطرىّ منهم نحو ربعهم أو خمسهم، واقتتلوا فيما بينهم نحوا من شهر «1» . وكتب المهلّب إلى الحجاج بذلك، فكتب إليه الحجاج يأمره بقتالهم على حال اختلافهم قبل أن يجتمعوا. فكتب إليه المهلّب: إنى لست أرى أن أقاتلهم مادام يقتل بعضهم بعضا، فإن تمّوا على ذلك فهو الذى نريد «2» ، وفيه هلاكهم. وإن اجتمعوا لم يجتمعوا إلّا وقد رقّق بعضهم بعضا فأنا هضهم حينئذ، وهم أهون ما كانوا وأضعفهم شوكة إن شاء الله تعالى. والسلام. فسكت عنه. ثم إن قطريّا خرج بمن معه نحو طبرستان، وأقام «3» عند عبد ربّ الكبير بكرمان، فنهض إليهم المهلّب، فقاتلوه قتالا شديدا وحصرهم بجيرفت، وكرّر قتالهم وهو لا يبلغ منهم ما يريد. فلما طال عليهم الحصار خرجوا من جيرفت بأموالهم وحرمهم، فقاتلهم المهلّب قتالا شديدا حتى عقرت الخيل وتكسّر السلاح، وقتل الفرسان، فتركهم، فساروا؛ ودخل المهلّب جيرفت، ثم سار حتى لحقهم على أربعة فراسخ منها، فقاتلهم من بكرة النهار إلى الظّهر، ثم كفّ عنهم، فجمع عبد رب الكبير أصحابه، وقال: الجزء: 21 ¦ الصفحة: 156 يا معشر المهاجرين؛ إن قطريّا ومن معه هربوا، طلب «1» البقاء، ولا سبيل إليه، فالقوا عدوّكم، وهبوا أنفسكم لله، ثم عاود القتال، فاقتتلوا قتالا شديدا أنساهم ما قبله، فتبايع «2» جماعة من أصحاب المهلّب على الموت، وترجّلت الخوارج، وعقروا دوابّهم، واشتدّ القتال، وعظم الخطب حتى قال المهلب: ما مرّ بى يوم مثل هذا. ثم هزم الله الخوارج، وكثر القتل فيهم، فكان عدد القتلى أربعة آلاف، منهم ابن عبد ربّ الكبير، ولم ينج منهم إلا القليل، وأخذ عسكرهم وما فيه، وبعث المهلّب إلى الحجاج مبشّرا. فلما دخل البشير إليه أخبره عن الجيش وعن الخوارج وذكر حروبهم، وأخبره عن بنى المهلب، فقال: المغيرة فارسهم وسيّدهم، وكفى بيزيد فارسا شجاعا، وجوادهم وشجاعهم «3» قبيصة، ولا يستحى الشجاع أن يفرّ من مدركه. وعبد الملك سمّ ناقع، وحبيب موت ذعاف «4» ، ومحمد ليث غاب، وكفاك بالمفضل نجدة. قال: فأيهم كان أنجد؟ قال: كانوا كالحلقة المفرغة لا يعرف طرفها. ستحسن قوله: وكتب إلى المهلب يشكره، ويأمره أن يولّى كرمان من يثق إليه، ويجعل فيها من يحميها، ويقدم عليه، فاستعمل عليها ابنه يزيد. وسار إلى الحجاج. فلما قدم عليه أكرمه وأجلسه إلى جانبه، وقال: يأهل العراق. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 157 أنتم عبيد المهلّب. ثم قال له: أنت كما قال لقيط بن يعمر الإيادى فى صفة أمير الجيوش «1» : فقلّدوا «2» أمركم لله درّكمو ... رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا لا مترفا إن رخاء العيش ساعده ... ولا إذا عضّ مكروه به خشعا «3» مسهّد النّوم تعنيه ثغوركمو ... يروم منها إلى الأعداء مطّلعا ما انفكّ يحلب هذا الدّهر أشطره ... يكون متّبعا طورا ومتّبعا وليس يشغله مال يثمّره ... عنكم ولا ولد يبغى له الرّفعا حتى استمرت على شزر مريرته ... مستحكم السنّ لا قحما ولا ضرعا «4» وأحسن الحجاج إلى أهل البلاء من أصحاب المهلّب وزادهم [والله أعلم «5» ] . الجزء: 21 ¦ الصفحة: 158 ذكر مقتل قطرى بن الفجاءة وعبيدة بن هلال ومن معهما من الأزارقة كان مقتلهم فى سنة [77 هـ] سبع وسبعين، وذلك أنه لما تشتّت أمرهم بسبب الاختلاف الذى ذكرناه، وسار قطرىّ نحو طبرستان ندب الحجاج سفيان بن الأبرد فى جيش كثيف، فسار، واجتمع معه إسحاق بن محمد بن الأشعث فى جيش لأهل الكوفة بطبرستان، فأقبلا فى طلب قطرى، فأدركوه فى شعب من شعاب طبرستان، فقاتلوه، فتفرّق عنه أصحابه، وسقط عن دابته فتدهده «1» إلى أسفل الشّعب، وأتاه علج من أهل البلد وهو لا يعرفه فقال [له] «2» قطرىّ: اسقنى «3» الماء. فقال العلج: أعطنى شيئا. فقال: ما معى إلا سلاحى، وإن أتيتنى بالماء فهو لك، فانطلق العلج حتى أشرف على قطرى ثم حدّر عليه حجرا عظيما من فوقه، فأصاب وركه «4» فأوهنه، وصاح بالناس فأقبلوا نحوه. وجاء نفر من أهل الكوفة فقتلوه، منهم سورة بن أبجر «5» التميمى، وجعفر بن عبد الرحمن بن مخنف، والصباح بن محمد بن الأشعث، وعمر بن أبى الصلت، وكلّ هؤلاء ادّعى قتله، فجاءهم أبو الجهم الجزء: 21 ¦ الصفحة: 159 ابن «1» كنانة، فقال: ادفعوا رأسه إلىّ حتى تصطلحوا، فدفعوه إليه، فأقبل به إلى إسحاق بن محمد، وهو على أهل الكوفة، فأرسله معه إلى سفيان بن الأبرد، فبعثه معه إلى الحجاج، فسيّره معه إلى عبد الملك، فجعل عطاءه فى ألفين؛ ثم سار سفيان إليهم، وأحاط بهم وأميرهم عبيدة بن هلال، فأمر مناديا فنادى: من قتل صاحبه وجاء إلينا فهو آمن، وحصرهم سفيان حتى أكلوا دوابّهم، ثم خرجوا إليه، وقاتلوه، فقتلهم، وبعث برءوسهم إلى الحجاج، وانقرضت الأزارقة بعد مقتل قطرىّ وعبيدة، [فكان أولهم نافع ابن الأزرق، وآخرهم قطرى وعبيدة] «2» ، واتصل أمرهم بضعا وعشرين سنة، ثم دخل سفيان دنباوند «3» وطبرستان، فكان هناك حتى عزله الحجاج قبل الجماجم. هذا ما كان من أمر الأزارقة، فلنذكر من سواهم من الخوارج أيام عبد الملك. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 160 ذكر خروج صالح بن مسرح التميمى وشبيب بن يزيد بن نعيم الشيبانى قال: كان صالح بن مسرّح «1» التميمى رجلا ناسكا مصفرّ الوجه صاحب عبادة، وكان بدارا وأرض الموصل والجزيرة، وله أصحاب يقرئهم القرآن والفقه، ويقصّ عليهم، فدعاهم إلى الخروج وإنكار المظالم وجهاد المخالفين لهم، فأجابوه إلى ذلك، فبينما هم فى ذلك إذ ورد عليهم «2» كتاب شبيب يقول [له] «3» : إنك كنت تريد الخروج، فإن كان ذلك من شأنك اليوم فأنت شيخ المسلمين، ولن نعدل بك أحدا، وإن أردت تأخير ذلك فأعلمنى؛ فإنّ الآجال غادية ورائحة، ولا آمن أن تختر منى المنيّة، ولم أجاهد الظّالمين. فكتب إليه صالح: إنه لم يمنعنى من الخروج إلا انتظارك، فاخرج إلينا، فإنك ممن لا يستغنى عن رأيه، ولا تقضى دونه الأمور. فلما قرأ شبيب كتابه دعا نفرا من أصحابه؛ منهم أخوه مصاد «4» ابن يزيد، والمحلّل «5» بن وائل اليشكرى وغيرهم «6» ، وخرج بهم الجزء: 21 ¦ الصفحة: 161 حتى قدم على صالح بدارا، فلما لقيه قال: اخرج بنا رحمك الله، فو الله ما تزداد السّنة إلّا دروسا، ولا يزداد المجرمون إلّا طغيانا. فبثّ صالح رسله، وواعد أصحابه للخروج هلال صفر سنة [76 هـ] ست وسبعين، فاجتمعوا عنده ليلة الموعد، فسأله بعض أصحابه عن القتال؛ أيكون قبل الدعاء أو بعده؟ فقال: بل ندعوهم، فإنه أقطع لحجّتهم. فقال: كيف ترى فيمن قاتلنا فظفرنا بهم، ما تقول فى دمائهم وأموالهم؟ فقال: إن قاتلنا فغنمنا فلنا، وإن عفونا فموسّع علينا. ثم وعظ أصحابه وأمرهم بأمره، وقال لهم: إن أكثركم رجّالة، وهذه دوابّ لمحمد بن مروان فابدءوا بها، فاحملوا عليها راجلكم وتقوّوا بها على عدوّكم. فخرجوا تلك الليلة فأخذوا الدوابّ، وأقاموا بأرض دارا ثلاث عشرة ليلة، وتحصّن أهلها منهم وأهل نصيبين وسنجار «1» ، وكان خروجه فى مائة وعشرين، وقيل: وعشرة. وبلغ ذلك محمد بن مروان وهو أمير الجزيرة يومئذ، فأرسل إليهم عدىّ بن عدىّ الكندى فى ألف، فسار من حرّان، وكأنّه يساق إلى الموت، وأرسل عدىّ إلى صالح يسأله أن يخرج من هذه البلد، ويعلمه أنه يكره قتاله. وكان عدىّ ناسكا. فأعاد صالح إليه: إن كنت ترى رأينا خرجنا عنك. فأرسل إليه: إنى لا أرى رأيك، ولكنى أكره قتالك وقتال غيرك. فقال صالح لأصحابه: اركبوا، الجزء: 21 ¦ الصفحة: 162 فركبوا، وحبس الرسول «1» عنده ومضى. فأتى عديّا وهو يصلّى الضّحى، فلم يشعروا إلا والخيل فد طلعت عليهم، وهو على غير تعبئة، فحمل عليهم شبيب وهو على ميمنة صالح، وسويد بن سليم وهو على ميسرته؛ فانهزموا، وأتى عدىّ بدابّته فركبها، وانهزم. وجاء صالح فنزل فى معسكره، وأخذ ما فيه، ودخل أصحاب عدىّ على محمد ابن مروان فغضب على عدىّ. ثم دعا خالد بن جزء السلمى، فبعثه فى ألف وخمسمائة، وبعث الحارث بن جعونة «2» فى ألف وخمسمائة، وقال: اخرجا إلى هذه المارقة «3» ، وأغذّا السير، فأيّكما سبق فهو الأمير على صاحبه، فخرجا متساندين يسألان عن صالح؛ فقيل: إنه نحو آمد «4» ، فقصداه، فوجّه صالح شبيبا فى شطر [من] «5» أصحابه إلى الحارث، وتوجّه هو نحو خلد، فالتقيا، واقتتلوا وقت العصر أشدّ قتال حتى أمسوا، وقد كثر الجراح فى الفريقين، فلما حال بينهما الليل خرج صالح وأصحابه، فساروا حتى قطعوا أرض الجزيرة والموصل، وانتهوا إلى الدّسكرة «6» . فلما بلغ خبرهم الحجاج سرّح إليهم الحارث بن عميرة فى ثلاثة آلاف من أهل الكوفة، فلقيهم صالح فى تسعين رجلا، وذلك لثلاث الجزء: 21 ¦ الصفحة: 163 عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة، فاقتتلوا. فانهزم سويد بن سليم بميسرة صالح، وثبت صالح، فقاتل حتى قتل، وقاتل شبيب حتى صرع عن فرسه، فحمل عليهم راجلا فانكشفوا عنه، فنادى: إلىّ يا معشر المسلمين، فلاذوا به. فقال لأصحابه: ليجعل كلّ واحد منكم ظهره إلى ظهر صاحبه، وليطاعن عدوّه حتى ندخل هذا الحصن ونرى رأينا. ففعلوا ذلك، ودخلوا الحصن، وهم سبعون رجلا، وأحاط بهم الحارث، وأحرق عليهم الباب، وقال: إنهم لا يقدرون على الخروج منه. وكانت هذه الوقعة بقرية يقال لها المدبّج «1» . ذكر بيعة شبيب بن يزيد الشيبانى ومحاربته الحارث بن عميرة وهزيمة الحارث قال: ولما أحرق الحارث الباب على شبيب انصرف إلى عسكره وقال: إنهم لا يقدرون على الخروج منه؛ فنصبّحهم غدا فنقتلهم. فقال شبيب لأصحابه: ما تنتظرون؟ فو الله لئن صبّحكم هؤلاء إنّه لهلاككم. فقالوا: مرنا بأمرك. فقال: بايعونى أو من شئتم من أصحابكم، واخرجوا بنا إليهم، فإنهم آمنون، فبايعوه، وأتوا باللبود فبلّوها وجعلوها «2» على جمر الباب وخرجوا. فلم يشعر الحارث إلّا وهم بينهم بالسيوف، فصرع الحارث، فاحتمله أصحابه وانهزموا نحو المدائن، وحوى شبيب عسكرهم، فكان ذلك أول جيش هزمه. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 164 ذكر الحروب بين أصحاب شبيب وعنزة قال: ثم لقى شبيب سلامة بن سيّار «1» التّيمى، تيم شيبان، بأرض الموصل، فدعاه إلى الخروج معه فشرط عليه سلامة أن ينتخب ثلاثين فارسا ينطلق بهم نحو عنزة «2» ليوقع بهم، فإنهم كانوا قتلوا أخاه فضالة، وكان فضالة قد خرج فى ثمانيه عشر رجلا حتى نزل ماء يقال له الشجرة وبه «3» عنزة نازلون، فنهضت عنزة فقتلوه ومن معه وأتوا برءوسهم إلى عبد الملك فأنزلهم بانقيا «4» ، وفرض لهم، وكان خروج فضالة قبل خروج صالح، فأجابه شبيب فخرج حتى انتهى إلى عنزة، فجعل يقتل المحلة بعد المحلة حتى انتهى إلى فريق منهم فيه خالته قد أكبت على ابن لها وهو غلام حين احتلم، فأخرجت ثديها [إليه] «5» وقالت: أنشدك ترحم «6» هذا يا سلامة. فقال: [لا] » والله ما رأيت فضالة مذ أناخ بأرض الشجرة «8» . لتقومنّ عنه أو لأجمعنّكما بالرمح، فقامت عنه. فقتله. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 165 ذكر مسيرة شبيب إلى بنى شيبان وإيقاعه بهم ودخولهم معه قال: ثم أقبل شبيب بخيله نحو راذان فهرب منه طائفة من بنى شيبان، ومعهم ناس قليل من غيرهم، فأقبلوا حتى نزلوا ديرا خرابا «1» إلى جنب حولايا «2» ، وهم نحو ثلاثة آلاف، وشبيب فى سبعين رجلا أو يزيدون قليلا، فنزل بهم فتحصّنوا منه فجعل أخاه مصاد بن يزيد يحاصرهم، وتوجّه إلى أمّه ليأخذها وهو فى اثنى عشر رجلا؛ فمرّ فى طريقه بجماعة من بنى [تيم بن] «3» شبيان فى أموالهم مقيمين؛ لا يرون أنّ شبيبا يمرّ بهم. ولا يشعر بمكانهم، فحمل عليهم فقتل ثلاثين شيخا فيهم حوثرة بن أسد، ومضى إلى أمّه؛ وأشرف رجل من الدّير على أصحاب شبيب، فقال: يا قوم؛ بيننا وبينكم القرآن، قال الله تعالى «4» : «وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ» . فكفّوا عنّا حتى نخرج إليكم بأمان وتعرضوا علينا أمركم، فإن قبلناه حرمت عليكم دماؤنا وأموالنا، وإن نحن لم نقبله رددتمونا إلى مأمننا، ثم رأيتم رأيكم. فأجابوهم فخرجوا إليهم، فعرض عليهم أصحاب شبيب قولهم، فقبلوه كلّه، فنزلوا إليهم، وجاء شبيب فأخبر بذلك، فقال: أصبتم ووفّقتم. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 166 ذكر الوقعة بين شبيب وسفيان الخثعمى قال: ثم ارتحل شبيب، وخرج معه طائفة، وأقامت طائفة؛ فسار فى أرض الموصل نحو أذربيجان. وكتب الحجاج إلى سفيان ابن أبى العالية الخثعمى يأمره بالقفول، وكان معه ألف فارس يريد أن يدخل بها طبرستان. فلما أتاه كتاب الحجاج صالح صاحب طبرستان ورجع، فأمره الحجاج أن ينزل الدّسكرة «1» حتى يأتيه جيش الحارث بن عميرة الهمدانى وتأتيه خيل المناظر، ثم يسير إلى شبيب. فأقام بالدّسكرة ونودى فى جيش الحارث: الحرب بالكوفة والمدائن، فخرجوا حتى أتوا سفيان، وأتته خيل المناظر عليهم سورة «2» ابن أبجر التميمى، وكتب إليه سورة بالتوقّف حتى يلحقه، فعجل سفيان فى طلب شبيب، فلحقه بخانقين «3» وارتفع شبيب عنهم، وأكمن له أخاه مصادا فى خمسين رجلا، ومضى فى سفح الجبل، فقالوا: هرب عدوّ الله، فاتّبعوه، فقال لهم عدىّ بن عميرة الشيبانى: لا تعجلوا حتى تبصروا الأرض لئلا يكون قد أكمن بها كمينا، فلم يلتفتوا واتّبعوه، فلما جازوا الكمين عطف عليهم شبيب، وخرج أخوه فى الكمين، فانهزم الناس بغير قتال، وثبت سفيان فى نحو الجزء: 21 ¦ الصفحة: 167 مائتين؛ فقاتلهم قتالا شديدا، ثم نجا حتى انتهى إلى بابل مهروذ «1» وكتب إلى الحجاج بالخبر، ويعرفه وصول الجند إلّا سورة بن أبجر فإنه لم يشهد معى القتال. ذكر الوقعة بين شبيب وسورة قال: ولما وصل كتاب سفيان إلى الحجّاج كتب إلى سورة ابن أبجر يلومه ويتهدّده، ويأمره أن ينتخب من المدائن خمسمائة فارس ويسير بهم وبمن معه إلى شبيب، فسار سورة بهم نحو شبيب، وشبيب فى جوخى «2» ، وسورة فى طلبه حتى انتهى إلى المدائن، فتحصن «3» منه وأخذ منها [دوابّ] «4» وقتل من ظهر له، وخرج حتى انتهى إلى النّهروان «5» فصلّوا وترحّموا على أصحابهم الذين قتلهم على رضى الله عنه وتبرءوا من علىّ وأصحابه. وبلغ سورة خبره، فجمع أصحابه وقال: إن شبيبا لا يزيد على مائة رجل، وقد رأيت أن أنتخبكم فأسير فى ثلاثمائة من شجعانكم وآتيه، فأجابوه إلى ذلك، فسار فى ثلاثمائة نحو النّهروان، وأذكى شبيب الحرس، فلما دنا أصحاب سورة علموا بهم، فاستووا على خيولهم، وتعبّئوا تعبئتهم للحرب؛ فلما انتهى إليهم سورة رآهم قد حذروا، الجزء: 21 ¦ الصفحة: 168 فحمل عليهم فثبتوا له، وصاح شبيب بأصحابه فحملوا عليهم وشبيب يقول «1» : من ينك العير ينك نيّاكا ... جندلتان اصطكّتا اصطكاكا فرجع سورة إلى عسكره وقد هزم الفرسان وأهل القوة، فتحمّل بهم، وأقبل نحو المدائن، فتبعه شبيب يرجو أن يدركه، فوصل إليهم، وقد دخل الناس المدائن، فمرّ على كلواذا «2» ، فأصاب بها دوابّ كثيرة للحجاج، فأخذها ومضى إلى تكريت، وأرجف الناس بالمدائن بوصول شبيب إليهم، فهرب من بها من الجند نحو الكوفة، وحبس الحجاج سورة ثم أطلقه. ذكر الحرب بين شبيب والجزل بن سعيد وقتل سعيد بن مجالد قال: ولما قدم الفلّ «3» الكوفة سيّر الحجاج الجزل بن سعيد ابن شرحبيل الكندى، واسمه عثمان، نحو شبيب، وأوصاه بالاحتياط وترك العجلة، وأخرج معه أربعة آلاف ليس فيهم أحد ممن هزم، فقدّم الجزل بين يديه عياض بن أبى لينة «4» الكندى، فساروا فى طلب شبيب وهو يخرج من رستاق إلى رستاق، يقصد بذلك أن يفرّق الجزل أصحابه فيلقاه وهو على غير تعبئة، فجعل الجزل لا يسير إلا على تعبئة، ولا ينزل إلّا خندق على نفسه. فلما طال ذلك على شبيب دعا أصحابه وكانوا مائة وستين رجلا، الجزء: 21 ¦ الصفحة: 169 ففرّقهم أربع فرق كل فرقة أربعين، فجعل أخاه مصادا فى أربعين، وسويد بن سليم فى أربعين، والمحلّل «1» بن وائل فى أربعين، وبقى هو فى أربعين. وأتته عيونه، فأخبروه أن الجزل يريد «2» يزدجرد، فسار شبيب، وأمر كلّ رأس من أصحابه أن يأتى الجزل من جهة ذكرها له، وقال: إنى أريد أن أبيّته «3» ، فسار أخوه فانتهى إلى دير الخرّارة، فرأى للجزل مسلحة مع ابن أبى لينة، فحمل عليهم مصاد فيمن معه، فقاتلوه ساعة، ثم اندفعوا بين يديه، وقد أدركهم شبيب، فقال: اركبوا أكتافهم لتدخلوا عليهم عسكرهم إن استطعتم. فاتبعوهم فانتهوا إلى عسكرهم، فمنعهم أصحابهم من دخول خندقهم، وكان للجزل مسالح أخرى فرجعت، فمنعهم من دخول الخندق، وجعل شبيب يحمل على المسالح حتى اضطرهم إلى الخندق، ورشقهم أهل العسكر بالنّبل. فلما رأى شبيب أنه لا يصل إليهم «4» سار عنهم وتركهم، ثم نزل هو وأصحابه فاستراحوا، ثم أقبل بهم راجعا إلى الجزل، فأقبلوا وقد أدخل أهل العسكر مسالحهم إليهم وأمنوا، فما شعروا إلّا بوقع حوافر الخيل، فانتهوا إليهم قبل الصبح، وأحاطوا بعسكرهم من جهاته الأربع، ثم انصرف شبيب وتركهم، ولم يظفر بهم، فنزل على ميل ونصف، ثم صلّى الغداة وسار نحو جرجرايا «5» ، وأقبل الجزل فى طلبهم على تعبئته، وسار شبيب الجزء: 21 ¦ الصفحة: 170 فى أرض الجوخى «1» وغيرها، فطال ذلك على الحجّاج، فكتب إلى الجزل ينكر عليه إبطاءه ويأمره بمناهضتهم، فجدّ فى طلبهم وبعث الحجاج سعيد بن المجالد على جيش الجزل، وأمره بالجدّ فى قتال شبيب وترك المطاولة، فوصل سعيد إلى الجزل وهو بالنّهروان وقد خندق عليه، فقام فى العسكر ووبّخهم وعجزهم. ثم خرج، وأخرج معه الناس، وضمّ إليه خيول أهل العسكر ليسير بهم جريدة «2» إلى شبيب ويترك الناس «3» مكانهم، فنهاه الجزل عن ذلك، فلم ينته ولم يرجع إليه، وتقدّم ومعه الناس، وأخذ شبيب إلى قطيطيا «4» ، فدخلها وأغلق الباب، وأمر دهقانها «5» أن يصلح لهم غداء، فلم يتهيّأ الغداء حتى أتاه سعيد فى ذلك الجيش، فأعلم الدّهقان شبيبا، فقال: لا بأس، قرّب الغداء، فقرّبه فأكل وتوضّأ وصلّى ركعتين، وركب بغلا، وخرج إلى سعيد وهو على باب المدينة فحمل عليهم، وقال: لا حكم إلا للحكم، فهزمهم وثبت سعيد، ونادى أصحابه، فحمل عليه شبيب، فضربه بالسيف فقتله، فانهزم ذلك الجيش، وقفلوا حتى انتهوا إلى الجزل، وكان قد وقف فى بقيّة العسكر، فناداهم: أيها الناس، إلىّ إلىّ، وقاتل قتالا شديدا حتى حمل جريحا، وقدم المنهزمون الكوفة. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 171 وكتب الجزل إلى الحجاج بالخبر، وأقام بالمدائن، فكتب إليه الحجاج يشكره ويثنى عليه، وأرسل إليه نفقة ومن يداوى جراحه. وسار شبيب نحو المدائن فعلم أنه لا سبيل إلى أهلها؛ فأقبل حتى أتى الكرخ، فعبر دجلة إليه، وأرسل إلى أهل سوق بغداد فأمّنهم، وكان يوم سوقهم، واشترى أصحابه دوابّ وغيرها. ذكر مسير شبيب إلى الكوفة قال: ثم سار شبيب إلى الكوفة فنزل عند حمّام «1» عمر ابن سعد «2» ، فلما بلغ الحجاج مكانه بعث سويد بن عبد الرحمن السّعدى فى ألفى رجل، وقال له: ألق شبيبا فإن استطرد لك فلا تتبعه. فخرج وعسكر بالسبخة «3» ، فبلغه أنّ شبيبا قد أقبل، فسار نحوه وأمر الحجاج عثمان بن قطن فعسكر بالناس فى السّبخة، فبينا سويد يعبىء أصحابه إذ قيل له: أتاك شبيب؛ فنزل ونزل معه جلّ أصحابه، ثم أخبر أنه قد عبر الفرات وهو يريد الكوفة من وجه آخر، فركب هو ومن معه، وساروا فى آثارهم، وبلغ من بالسبخة إقبال شبيب فهمّوا بدخول الكوفة، ثم قيل لهم: إن سويدا فى آثارهم قد لحقهم وهو يقاتلهم، فثبتوا، وحمل شبيب على سويد ومن معه حملة منكرة، ثم أخذ على بيوت الكوفة نحو الحيرة، وذلك عند المساء، وتبعه سويد إلى الحيرة، فرآه قد ترك وذهب، فتركه سويد وأقام حتى أصبح. وأرسل إلى الحجاج يعلمه الخبر. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 172 ذكر محاربة شبيب أهل البادية قال: وكتب الحجاج إلى سويد يأمره باتباعه، فاتّبعه، ومضى شبيب حتى أغار أسفل الفرات على من وجد من قومه، وارتفع إلى البر فأصاب رجالا من بنى الورثة «1» ، فقتل منهم ثلاثة عشر رجلا، منهم: حنظلة بن مالك، ومالك بن حنظلة، ومضى حتى أتى بنى أمية على اللّصف «2» ، وعلى ذلك الماء الفزر بن الأسود، وهو أحد بنى الصلت، وكان ينهى شبيبا عن رأيه، وكان شبيب يقول: لئن ملكت سبعة أعنّة لأغزونّ الفزر، فلما بلغهم خبر شبيب ركب الفزر فرسا، وخرج من البيوت وانهزم. فرجع شبيب، وقد أخاف أهل البادية، فأخذ على القطقطانة «3» ثم على قصر بنى مقاتل، ثم على الأنبار، ومضى حتى دخل دقوقاء «4» ، ثم ارتفع إلى أدانى أذربيجان، فلما أبعد سار الحجاج إلى البصرة، واستخلف على الكوفة عروة «5» بن شعبة، فأتاه الخبر بإقبال شبيب نحو الكوفة، فكتب إلى الحجاج بذلك، فأقبل من البصرة مجدّا نحو الكوفة فسابق «6» شبيبا إليها. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 173 ذكر دخول شبيب الكوفة قال: وأقبل شبيب إلى الكوفة فسابق «1» الحجاج إليها، فطوى الحجاج المنازل، فوصل الكوفة صلاة العصر، ونزل شبيب السّبخة صلاة المغرب، فأكلوا شيئا ثم ركبوا خيولهم فدخلوا الكوفة وبلغوا السّوق، وضرب شبيب باب القصر بعموده، فأثّر فيه أثرا عظيما، ووقف عند المصطبة، ثم قال «2» : عبد دعىّ من ثمود أصله ... لابل يقال أبو أبيهم يقدم يعنى الحجاج، فإنّ بعض الناس يقول: إن ثقيفا بقايا ثمود، ومنهم من يقول: هم من نسل يقدم الإبادى. ثم اقتحموا المسجد الأعظم، وكان لا يفارقه قوم يصلّون فيه، فقتاوا عقيل بن مصعب الوادعىّ، وعدىّ بن عمرو الثقفى، وأبا ليث ابن أبى سليم؛ ومرّوا بدار حوشب وهو على الشّرط- فقالوا: إن الأمير يطلبه، فأراد الركوب، ثم أنكرهم فلم يخرج إليهم، فقتلوا غلامه. ثم مرّوا بمسجد بنى ذهل، فرأوا ذهل بن الحارث فقتلوه، ثم خرجوا من الكوفة، فاستقبلهم النّضر بن القعقاع بن شور «3» الذّهلى، وكان قد أقبل مع الحجاج من البصرة، فتخلّف عنه فقتلوه، ثم خرجوا نحو المردمة «4» ، وأمر الحجاج مناديا فنادى: يا خيل الله الجزء: 21 ¦ الصفحة: 174 اركبى؛ فأتاه الناس من كل جانب، فبعث بشر بن غالب الأسدى فى ألفى رجل، وزائدة بن قدامة الثقفى فى ألفى رجل، وأبا الضّريس مولى بنى تميم فى ألفى رجل، وعبد الأعلى بن عبد الله بن عامر، وزياد ابن عمرو العتكى، وسيّر معهم محمد بن موسى بن طلحة بن عبيد الله، وكان عبد الملك قد استعمله على سجستان، وكتب إلى الحجاج أن يجهّزه، فقال له الحجاج: تلقى شبيبا فتجاهده، فيكون الظّفر لك، ويظهر «1» اسمك ثم تمضى إلى عملك. وقال الحجاج لهؤلاء الأمراء: إن كان حرب فأميركم زائدة ابن قدامة. فساروا فنزلوا أسفل الفرات، فترك شبيب الوجه الذى هم فيه وأخذ نحو القادسيّة. ذكر محاربة شبيب زحر بن قيس وهزيمة جيش زحر «2» قال: ووجّه الحجاج جريدة خيل اختارهم ألف وثمانمائة فارس مع زحر بن قيس، وقال له: اتبع شبيبا حتى تواقعه أين أدركته إلا أن يكون ذاهبا فاتركه ما لم يعطف عليك؛ فخرج زحر حتى انتهى إلى السّيلحين «3» ، وأقبل شبيب نحوه فالتقيا، فجمع شبيب خيله، ثم اعترض بهم الصفّ حتى انتهى إلى زحر، فقاتل زحر حتى صرع، وانهزم أصحابه وظنّوا أنهم قتلوه، فلما كان السّحر قام يمشى حتى دخل قرية فبات بها، وحمل منها إلى الكوفة وبوجهه ورأسه بضع عشرة جراحة، فمكث أياما. ثم أتى الحجاج فأجلسه معه على السرير، الجزء: 21 ¦ الصفحة: 175 وقال: من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة يمشى فى الناس فلينظر إلى هذا. ذكر محاربته الأمراء الذين ندبهم الحجّاج لقتاله وقتال «1» محمد بن موسى بن طلحة وزائدة بن قدامة قال: لما هزم شيب أصحاب زحر قال له أصحابه نصرف بنا الآن وافرين، فقد هزمنا لهم جندا. فقال: إن هذه الهزيمة قد أرعبت قلوب الأمراء والجنود الذين فى طلبكم؛ فاقصدوهم، فو الله لئن قاتلناهم مادون الحجاج مانع «2» ، ونأخذ الكوفة إن شاء الله. فقالوا: نحن لرأيك تبع، وسأل عن الأمراء فقيل: إنهم بروذبار «3» على أربعة وعشرين فرسخا من الكوفة؛ فقصدهم فانتهى إليهم وقد تعبّئوا للحرب، وأمير الجماعة زائدة بن قدامة، وعلى ميمنته زياد بن عمرو العتكى، وعلى الميسرة بشر بن غالب الأسدى، وكلّ أمير واقف فى أصحابه. وأقبل شبيب فى ثلاث كتائب: كتيبة فيها سويد بن سليم وقف بإزاء الميمنة، وكتيبة فيها مصاد أخو شبيب وقف بإزاء الميسرة، ووقف شبيب مقابل القلب. فحمل سويد على زياد فانكشف أهل الميمنة، وثبت زياد فى نحو من نصف أصحابه، ثم ارتفع عنهم سويد قليلا، ثم حمل ثانية فتطاعنوا ساعة، واقتتلوا أشدّ قتال، الجزء: 21 ¦ الصفحة: 176 ثم ارتفع سويد عنهم، فتفرّق أصحاب زياد بن عمرو من كل جانب، فحمل عليهم الثالثة فانهزموا وأخذت السيوف زياد بن عمرو من كل جانب [فلم تضره للباسه «1» ] ، فانهزم «2» وقد جرح جراحة يسيرة، وذلك عند المساء، ثم حملوا على عبد الأعلى بن عبد الله ابن عامر، فهزموه، ولم يقاتل كثيرا، ولحق بزياد؛ فمضيا منهزمين. وحملت الخوارج على محمد بن موسى بن طلحة عند المغرب، فقاتلوه قتالا شديدا، وحمل مصاد على بشر بن غالب، وهو فى ميسرة أهل الكوفة، فصبر بشر، ونزل ونزل معه نحو خمسين رجلا، فقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم، وانهزم أصحابه، وحملت الخوارج على أبى الضّريس مولى بنى تميم، وهو يلى بشر بن غالب، فهزموه حتى انتهى إلى موقف أعين، ثم حملوا عليه وعلى أعين، فهزموهما حتى انتهوا بهما إلى زائدة بن قدامة، فنادى زائدة: يأهل الإسلام؛ الأرض، الأرض، لا يكونوا على كفرهم أصبر منكم على إيمانكم، فقاتلهم عامة الليل حتى كان السّحر، ثم إن شبيبا حمل عليه فى جماعة من أصحابه، فقتله وقتل أصحابه، فلما قتل دخل أبو الضّريس وأعين جوسقا عظيما، وقال شبيب لأصحابه: ارفعوا السيف عنهم، وادعوهم إلى البيعة، فدعوهم «3» إلى البيعة عند الفجر، فبايعوه وسلّموا عليه بإمرة المؤمنين، وكان فيمن بايعه أبو بردة بن أبى موسى الجزء: 21 ¦ الصفحة: 177 الأشعرى، فلما طلع الفجر أمر محمد بن موسى بن طلحة مؤذّنه فأذّن، وكان لم ينهزم. فقال شبيب: ما هذا؟ قالوا: محمد بن موسى لم يبرح، فقال: قد ظننت أن حمقه وخيلاءه يحمله على هذا. ثم نزل شبيب فأذّن هو وصلّى بأصحابه الصبح، ثم ركبوا فحملوا على محمد وأصحابه، فانهزمت طائفة منهم، وثبتت معه طائفة، فقاتل حتى قتل، وأخذت الخوارج ما فى العسكر، وانهزم الذين كانوا بايعوا شبيبا بجملتهم، ثم أتى شبيب الجوسق الذى فيه أعين وأبو الضّريس فتحصّنوا منه، فأقام عليهم يومه ذلك، وسار عنهم فأتى خانيجار «1» فأقام بها، وبلغ الحجاج مسيره، فظنّ أنه يريد المدائن، فهاله ذلك، فبعث عثمان بن قطن أميرا على المدائن وعزل عنها عبيد الله بن أبى عصيفير «2» . وقيل فى مقتل محمد بن موسى: أنه قتله مبارزة، وذلك أنه كان شهد مع عمر بن عبيد الله بن معمر قتال أبى فديك، وكان شجاعا ذا بأس، فزوّجه عمر ابنته، وكانت أخته تحت عبد الملك ابن مروان، فولّاه سجستان، فمرّ بالكوفة وفيها الحجاج، فقيل له: صار هذا بسجستان مع صهره لعبد الملك، فلو لجأ إليه أحد ممن يطلب «3» منعك منه. قال: فما الحيلة؟ قال: تأتى إليه، وتسلّم الجزء: 21 ¦ الصفحة: 178 عليه، وتذكر نجدته وبأسه، وأنّ شبيبا فى طريقه، وأنه قد أعياك، وترجو أن يريح الله منه على يده، فيكون له ذكره وفخره. ففعل الحجاج ذلك، فأجابه محمد، وعدل إلى شبيب، فأرسل إليه شبيب إنّك مخدوع، وإن الحجاج قد اتّقى بك، وأنت جار لك حقّ، فانطلق لما أمرت به ولك الله أنى لا أضرك «1» . فأبى إلّا محاربته، فواقفه شبيب، وأعاد عليه الرسول، فأبى وطلب البراز فبرز إليه شبيب، وقال له: أنشدك الله فى دمك؛ فإنّ لك جوارا، فأبى. فحمل عليه شبيب فضربه بعمود حديد زنته اثنا عشر رطلا بالشامى، فهشم البيضة ورأسه، فسقط فكفّنه شبيب ودفنه، وابتاع ما غنمه من عسكره فبعثه إلى أهله واعتذر شبيب إلى أصحابه، وقال: هو جارى، ولى أن أهب ما غنمت. ذكر محاربته «2» عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث وعثمان بن قطن وقتل ابن قطن قال: ثم إن الحجّاج أمر عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث أن ينتخب ستة آلاف فارس ويسير بهم فى طلب شبيب أين كان، ففعل ذلك، وسار نحوه، فسار شبيب إلى دقوقاء وشهرزور «3» ، وعبد الرحمن فى طلبه حتى انتهى إلى التّخوم، فوقف وقال: هذه أرض الموصل، فليقاتلوا عنها. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 179 فكتب إليه الحجاج: أما بعد فاطلب شبيبا واسلك فى أثره أين سلك حتى تدركه فتقتله أو تنفيه، فإنما السلطان سلطان أمير المؤمنين والجند جنده. فخرج عبد الرحمن فى طلبه، فكان شبيب يدعه حتى يدنو منه فيبيّته فيجده قد خندق على نفسه وحذر، فيتركه [ويسير] «1» فيتبعه عبد الرحمن، فإذا بلغ شبيبا مسيرهم أتاهم وهم سائرون فيجدهم على تعبئة فلا يصيب لهم غرّة، ثم جعل إذا دنا منه عبد الرحمن يسير عشرين فرسخا، ونحوها، وينزل فى أرض خشنة غليظة، ويتبعه عبد الرحمن، فإذا دنا منه فعل مثل ذلك حتى أتعب ذلك الجيش، وشقّ عليهم «2» ، وأحفى دوابّهم. ولم يزل عبد الرحمن يتبعه حتى مرّ به على خانقين «3» وجلولاء وتامرّا «4» ، ثم أقبل إلى البتّ، وهى من قرى الموصل ليس بينها وبين سواد الكوفة إلّا نهر حولايا، وذلك فى عشر ذى الحجة سنة [76 هـ] ست وسبعين، فأرسل شبيب إلى عبد الرحمن: إن هذه أيام عيد لنا ولكم [يعنى عيد النّحر] «5» ، فهل لك فى الموادعة حتى تمضى هذه الأيام؟ فأجابه إلى ذلك، وكان يحبّ المطاولة. وكتب عثمان بن قطن أمير المدائن إلى الحجاج يقول: أما بعد الجزء: 21 ¦ الصفحة: 180 فإن عبد الرحمن قد حفر جوخى كلّها خندقا واحدا، وكسر خراجها، وخلّى شبيبا يأكل أهلها. والسلام. فكتب إليه الحجاج يأمره بالمسير إلى الجيش، وأمّره عليهم، وعزل عنهم عبد الرحمن، وبعث إلى المدائن مطرّف بن المغيرة ابن شعبة، فسار عثمان حتى قدم على العسكر عشيّة الثلاثاء يوم التّروية؛ فنادى الناس- وهو على بغلة: أيها الناس، اخرجوا إلى عدوّكم، فقالوا: هذا المساء قد غشينا والناس لم يوطّنوا أنفسهم على الحرب، فبت الليلة ثم اخرج على تعبئة، فأبى ذلك، ثم نزل وبات ليلته يحرّض أصحابه، فلما أصبح يوم الأربعاء خرج بالناس كلّهم، فاستقبلتهم ريح شديدة وغبرة، فقال له أصحابه: ننشدك الله أن تخرج بنا والريح علينا. فأقام بهم ذلك اليوم، ثم خرج يوم الخميس، ثم «1» عبّأهم، فجعل فى الميمنة خالد بن نهيك بن قيس، وعلى الميسرة عقيل بن شدّاد، ونزل هو فى الرجّالة، وعبر شبيب إليهم النهر، وهو يومئذ فى مائة وأحد وثمانين رجلا، فوقف هو فى الميمنة، وجعل أخاه مصادا فى القلب، وجعل سويد بن سليم فى الميسرة، وزحف بعضهم إلى بعض، فحمل شبيب على ميسرة عثمان فانهزموا، ونزل عقيل بن شداد فقاتل حتى قتل، وقتل مالك ابن عبد الله الهمدانى، ودخل شبيب عسكرهم، وحمل سويد على ميمنة عثمان فهزمها، فقاتل خالد بن نهيك قتالا شديدا، وحمل شبيب من ورائه فقتله، وتقدم عثمان بن قطن وقد نزل معه العرفاء الجزء: 21 ¦ الصفحة: 181 وأشراف الناس والفرسان نحو القلب وفيه مصاد أخو شبيب فى نحو من ستّين رجلا، فشدّ عليهم عثمان فيمن معه فثبتوا له. وحمل شبيب بالخيل من ورائهم فما شعروا إلّا والرّماح فى أكتافهم تكبّهم لوجوههم، وعطف عليهم سويد بن سليم فى خيله، وقاتل عثمان بن قطن أحسن قتال، ثم أحاطوا به، وضربه مصاد بن يزيد ضربة بالسيف استدار لها وقال «1» : «وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا» *. ثم قتل، وسقط عبد الرحمن عن فرسه، فأتاه ابن أبى سبرة الجعفى وهو على بغلة فأركبه معه، ونادى فى الناس: الحقوا بدير «2» أبى مريم، ثم انطلقا «3» ذاهبين، ثم أتاه واصل [بن الحارث] «4» السكونى ببرذون فركبه وسار حتى نزل دير البقار «5» ، وأمر شبيب أصحابه فرفعوا السيف عن الناس، ودعاهم إلى البيعة فبايعوه، وقتل يومئذ من كندة مائة وعشرون، وبات عبد الرحمن بدير البقّار «6» ، فأتاه فارسان، فصعدا إليه فخلا به أحدهما طويلا ثم نزلا؛ فقيل: إن ذلك الرجل كان شبيبا، وكان بينه وبين عبد الرحمن مكاتبة، وسار عبد الرحمن حتى أتى دير أبى مريم، فاجتمع الناس إليه وقالوا له: إن سمع شبيب بمكانك أتاك فكنت له غنيمة. فخرج إلى الكوفة واختفى من الحجّاج حتى أخذ له الأمان منه، وكانت هذه الوقائع التى ذكرناها كلّها من أخبار شبيب فى سنة ست وسبعين. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 182 ذكر محاربة «1» عتاب بن ورقاء وزهرة بن حويّة «2» وقتلهما وفى سنة [77 هـ] سبع وسبعين أتى شبيب ماه بهراذان «3» فصيّف بها ثلاثة أشهر، وكان حين هزم ذلك الجيش حرّ شديد، فلما صيّف هناك أتاه ناس كثير ممن يطلب الدنيا وممّن كان الحجاج يطلبهم بمال أو تبعات. فلما ذهب الحرّ خرج فى نحو ثمانمائة رجل، فأقبل نحو المدائن، وعليها مطرّف بن المغيرة بن شعبة، فجاء حتى نزل قناطر حذيفة ابن اليمان، فكتب مهروذ عظيم بابل إلى الحجّاج بذلك، فقام الحجّاج فى الناس فقال: أيها الناس، لتقاتلن عن بلادكم وعن بنيكم «4» أو لأبعثنّ إلى قوم هم أطوع وأصبر على الّلأواء والقيظ منكم، فيقاتلون عدوّكم ويأكلون فيئكم. فقام إليه الناس من كل جانب فقالوا: نحن نقاتلهم فليندبنا الأمير إليهم، وقام زهرة بن حويّة- وهو شيخ كبير، فقال: أصلح الله الأمير، إنما تبعث إليهم الناس متقطّعين، فاستنفر الناس إليهم كافّة، وابعث إليهم رجلا شجاعا مجرّبا ممن يرى الفرار [هضما] و «5» عارا، والصّبر مجدا وكرما. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 183 فقال الحجاج: فأنت ذاك الرجل، فاخرج. فقال: أصلح الله الأمير، إنما يصلح رجل يحمل الدّرع والرمح، ويهزّ السيف، ويثبت على الفرس، وأنا لا أطيق شيئا من هذا، وقد ضعف بصرى، ولكن أخرجنى فى الناس مع الأمير فأشير عليه برأيى. فقال له الحجاج: جزاك الله خيرا عن الإسلام وأهله فى أوّل أمرك وآخره. ثم قال: أيها الناس، سيروا بأجمعكم كافّة؛ فخرج الناس يتجهّزون ولا يدرون من أميرهم. وكتب الحجاج إلى عبد الملك يخبره أنّ شبيبا قد شارف المدائن؛ وأنه يريد الكوفة، وقد عجز أهلها عن قتاله فى مواطن كثيرة، يقتل أمراءهم ويهزم جندهم؛ وسأله أن يبعث جندا من الشام يقاتلون الخوارج، ويأكلون البلاد. فبعث عبد الملك سفيان بن الأبرد الكلبى فى أربعة آلاف، وحبيب بن عبد الرحمن الحكمى فى ألفين، وبعث الحجاج إلى عتّاب بن ورقاء يستدعيه، وكان يقاتل الازارفة مع المهلّب كما تقدم. واستشار الحجاج أهل الكوفة فيمن يوليه أمر الجيش، فقالوا: رأيك أفضل. فقال: قد بعثت إلى عتّاب بن ورقاء وهو قادم عليكم الليلة أو القابلة؛ فقال زهرة: رميتهم بحجرهم، والله لا يرجع إليك حتى يظفر أو يقتل. وقال له قبيصة بن والق: إنّ الناس قد تحدثوا أنّ جيشا قد وصل إليك من الشام، وأن أهل الكوفة قد هزموا وهان عليهم الفرار، فقلوبهم كأنها ليست فيهم؛ فإن رأيت أن تبعث الجزء: 21 ¦ الصفحة: 184 إلى أهل الشام ليأخذوا حذرهم، فإنك تحارب حوّلا قلّبا ظعّانا «1» رحالا، وقد جهّزت إليهم أهل الكوفة ولست واثقا بهم كلّ الثقة، فإن شبيبا بينا هو فى أرض إذا هو فى أخرى، ولا آمن أن يأتى أهل الشام وهم آمنون؛ فإن يهلكوا تهلك «2» ويهلك أهل العراق. فقال: لله أبوك، ما أحسن ما أشرت به! وأرسل إلى أهل الشام يحذّرهم ويأمرهم أن يأتوا على عين التمر «3» ، ففعلوا، وقدم عتّاب بن ورقاء تلك الليلة، فبعثه الحجاج على ذلك الجيش، فعسكر بحمّام أعين «4» ، وأقبل شبيب حتى انتهى إلى كلواذا «5» فقطع منها دجلة، ثم سار حتى نزل مدينة بهرسير «6» الدنيا، وهى المدائن الغربية، فصار بينه وبين مطرّف دجلة، فقطع مطرف الجسر، وبعث إلى شبيب أن ابعث إلىّ رجالا من وجوه أصحابك أدارسهم القرآن وأنظر فيما يدعون «7» إليه، فبعث إليه بمعتّب «8» بن سويد والمحلّل وغيرهما، وأخذ منه رهائن على عود أصحابه، فأقاموا عنده أربعة أيام، ثم أعادهم، ولم يتفقوا، فلما لم يتبعه مطرّف تهيّأ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 185 للمسير إلى عتّاب. وأقبل عتّاب حتى نزل بسوق حكمة «1» وقد خرج معه من المقاتلة أربعون ألفا، ومن الشباب والأتباع عشرة آلاف، فكانوا خمسين ألفا. وكان الحجاج قد قال لهم حين ساروا: ألا إن للسائر المجدّ الكرامة والأثرة، وللهارب الهوان والجفوة، والذى لا إله غيره لئن فعلتم فى هذا الموطن كفعلكم فى غيره من المواطن لأولينّكم كنفا «2» خشنا، ولأعركنّكم بكلكل ثقيل. وسار شبيب من المدائن وأصحابه ألف رجل، فتخلّف عنه بعضهم، فصلّى الظهر بساباط، وصلّى العصر، وسار حتى أشرف على عتّاب وعسكره، فلما رآهم نزل فصلّى المغرب؛ وكان عتّاب قد عبّأ أصحابه، فجعل فى الميمنة محمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس، وفى الميسرة نعيم بن عليم، وبعث حنظلة بن الحارث اليربوعى- وهو ابن عمه على الرجّالة، وصفّهم ثلاثة «3» صفوف: صفّ فيهم أصحاب السيوف، وصفّ فيهم أصحاب الرماح، وصفّ فيهم الرّماة، ثم سار فى الناس يحرّضهم على القتال، ورجع فجلس فى القلب، ومعه زهرة بن حويّة جالس، وعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، وأبو بكر ابن محمد بن أبى جهم العدوى. وأقبل شبيب وهو فى ستمائة، وقد تخلّف عنه من أصحابه أربعمائة؛ فجعل سويد بن سليم فى الميسرة فى مائتين، والمحلّل بن وائل فى القلب فى مائتين، ووقف هو فى الميمنة فى مائتين، وذلك بين المغرب والعشاء الجزء: 21 ¦ الصفحة: 186 الآخرة حين أضاء القمر، فناداهم: لمن هذه الرايات؟ قالوا: لربيعة. قال: طالما نصرت الحقّ، وطالما نصرت الباطل؛ والله لأجاهدنّكم محتسبا، أنا شبيب، لا حكم إلا للحكم، اثبتوا إن شئتم. ثم حمل عليهم ففضّهم، فثبت أصحاب رايات قبيصة بن والق، وعبيد بن الحليس، ونعيم بن عليم، فقتلوا، وانهزمت الميسرة كلها، ثم حمل شبيب على عتّاب بن ورقاء، وحمل سويد بن سليم على الميمنة وعليها محمد بن عبد الرحمن، فقاتلهم فى رجال من تميم وهمدان؛ فما زالوا كذلك حتى قيل لهم: قتل عتّاب، فانفضّوا «1» . ولم يزل عتّاب جالسا على طنفسته «2» فى القلب ومعه زهرة بن حويّة حتى غشيهم شبيب، فقال عتّاب: يا زهرة، هذا يوم كثر فيه العدد وقلّ فيه الغناء، والهفى على خمسمائة فارس من تميم من جميع الناس، ألا صابر لعدوه! ألا مواس بنفسه! فانفضّوا عنه وتركوه، فلما دنا منه شبيب وثب فى عصابة قليلة صبرت معه؛ وقاتل ساعة، فرآه رجل من أصحاب شبيب يقال له عامر بن عمرو التغلبى، فحمل عليه فطعنه، وجاء الفضل بن عامر الشيبانى إلى زهرة فقتله، وتمكّن «3» شبيب من أهل العسكر والناس، فقال: ارفعوا السيف. ودعاهم إلى البيعة، فبايعه الناس وهربوا من ليلتهم، وحوى ما فى العسكر. وأقام شبيب بعد الوقعة ببيت قرة يومين، ثم سار نحو الكوفة الجزء: 21 ¦ الصفحة: 187 فنزل بسورا «1» . وقتل عاملها، وكان سفيان بن الأبرد وعسكر الشام قد دخلوا الكوفة فشدّوا ظهر الحجاج، واستغنى بهم عن أهل الكوفة، وقام على المنبر فقال: يأهل الكوفة، لا أعزّ الله من أراد بكم العزّ، ولا نصر من أراد بكم النّصر، اخرجوا عنّا فلا تشاهدوا معنا قتال عدونا، انزلوا الحيرة مع اليهود والنصارى، ولا يقاتل معنا إلّا من لم يشهد قتال عتّاب. ذكر قدوم شبيب الكوفة وانهزامه عنها قال: ثم سار شبيب من سورا فنزل حمّام أعين، فدعا الحجاج الحارث بن معاوية الثقفى، فوجّهه فى ناس من الشّرط وغيرهم لم يشهدوا يوم عتّاب، فخرجوا فى ألف فنزلوا زرارة «2» ، فبلغ ذلك شبيبا، فعجل إلى الحارث، فلما انتهى إليه حمل عليه فقتله، وانهزم أصحابه، فدخلوا الكوفة، وجاء شبيب فعسكر بناحية الكوفة فأقام ثلاثا، فنزل السّبخة، وابتنى بها مسجدا، وذلك فى اليوم الثانى من الأيام الثلاثة. فلما كان اليوم الثالث أخرج الحجاج أبا الورد مولاه عليه تجفاف «3» ومعه غلمان «4» له، فقالوا: هذا الحجاج! فحمل عليه شبيب فقتله، فأخرج إليه غلامه طهمان فى مثل تلك العدّة والحالة، فقتله شبيب، وقال: إن كان هذا الحجاج فقد أرحتكم منه. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 188 ثم خرج الحجاج عند ارتفاع النهار من القصر، فركب بغلا ومعه أهل الشام، فلما رأى الحجاج شبيبا وأصحابه نزل وجلس على كرسىّ، وتقدّم إليه شبيب وأصحابه فلقوهم بأطراف الأسنّة؛ فكان بينهم قتال شديد عامّة النهار، حتى انتهى الحجاج إلى مسجد شبيب، فقال: هذا أوّل الفتح. ثم قال خالد بن عتّاب للحجاج: ائذن لى فى قتالهم، فإنى موتور. فأذن له، فخرج ومعه جماعة من أهل الكوفة، فقصد عسكرهم من ورائهم، فقتل مصادا أخا شبيب، وقتل امرأته [غزالة] «1» ، هذا وشبيب يقاتل الحجاج، وأتى الخبر الحجاج فكبّر فعندها ركب شبيب وكان قد نزل فقاتل على الأرض، وقال الحجاج لأصحابه: احملوا عليهم، فإنه قد أتاهم ما أرعبهم؛ فشدّوا على أصحاب شبيب فهزموهم، وثبت شبيب فى حامية الناس، فبعث الحجاج إلى خيله أن دعوه، فتركوه ورجعوا، ودخل الحجاج الكوفة، وبعث حبيب بن عبد الرحمن الحكمى فى ثلاثة آلاف فارس من أهل الشام، فخرج فى أثره حتى نزل إلى الأنبار. وكان الحجاج قد نادى عند انهزام شبيب: من جاءنا منكم فهو آمن؛ فتفرّق عن شبيب ناس كثير من أصحابه. فلما نزل حبيب الأنبار أتاهم شبيب، فلما دنا منهم نزل فصلّى المغرب، وكان حبيب قد جعل أصحابه أرباعا، وقال: ليمنع كلّ ربع منكم جانبه فإن قاتل هذا الربع فلا يعنهم «2» الربع الاخر. وأتاهم شبيب وهو على تعبئته فحمل [على] «3» ربع، فقاتلهم طويلا، فما زالت قدم إنسان عن موضعها الجزء: 21 ¦ الصفحة: 189 فتركهم، وأقبل إلى ربع آخر، فكانوا كذلك، وقاتل الربع الثالث والرابع وهم كذلك، فما برح يقاتلهم حتى ذهب ثلاثة أرباع الليل، ثم نازلهم راجلا، فسقطت بينهم «1» الأيدى وكثرت القتلى، وفقئت الأعين، وقتل من أصحاب شبيب نحو ثلاثين رجلا، ومن أهل الشام نحو مائة. واستولى التّعب والإعياء على الطائفتين حتى إن الرجل ليضرب بسيفه فلا يصنع شيئا، فلما يئس شبيب منهم تركهم وانصرف عنهم، ثم قطع دجلة وأخذ فى أرض جوخى ثم قطع دجلة مرة أخرى عند واسط، وأخذ نحو الأهواز إلى فارس ثم إلى كرمان ليستريح هو ومن معه. ذكر مهلك شبيب كان مهلك شبيب فى سنة [77 هـ] سبع وسبعين، وسبب ذلك أن الحجاج أنفق فى أصحاب سفيان بن الأبرد مالا عظيما، وأمرهم بقصد شبيب، فساروا نحوه مع سفيان بن الأبرد، وكتب الحجاج إلى الحكم بن أيوب زوج ابنته- وهو عامله على البصرة- أن يرسل أربعة آلاف فارس من أهل البصرة، ففعل وسيّرهم مع زياد بن عمرو العتكى، فلم يصل إلى سفيان حتى التقى سفيان مع شبيب. وكان شبيب قد أقام بكرمان حتى استراح وأراح، ثم أقبل راجعا فالتقى مع سفيان بجسر «2» دجيل الأهواز، فعبر شبيب الجسر إلى سفيان فوجده قد نزل فى الرجال، وجعل مهاصر بن سيف «3» على الخيل، وأقبل الجزء: 21 ¦ الصفحة: 190 شبيب فى ثلاثة كراديس «1» ، فاقتتلوا أشدّ قتال، ورجع شبيب إلى المكان الذى كان فيه، ثم حمل عليه هو وأصحابه أكثر من ثلاثين حملة، وأهل الشام على حالهم فى ثبات القدم، ومازلوا يقاتلون الخوارج حتى اضطرّوهم إلى الجسر. فلما انتهى شبيب إلى الجسر نزل ونزل معه نحو مائة رجل؛ فقاتلوا حتى المساء، وأوقعوا بأهل الشام من الضّرب والطعن ما لم يروا مثله، فأمر سفيان الرّماة أن يرموهم فتقدّموا، ورموهم ساعة، فحمل شبيب وأصحابه على الرّماة، فقتلوا منهم أكثر من ثلاثين رجلا، ثم عطف على سفيان ومن معه فقاتلهم حتى اختلط الظّلام، ثم انصرف، فقال سفيان لأصحابه: لا تتبعوهم. فلما انتهى شبيب إلى الجسر قال لأصحابه: اعبروا فإذا أصبحنا باكرناهم إن شاء الله. فعبروا أمامه، وتخلّف فى آخرهم، وجاء ليعبر وهو على حصان وبين يديه حجر «2» ، فنزا فرسه عليها وهو على الجسر فاضطربت تحته، ونزل حافر رجل حصانه على حرف السفينة، فسقط فى الماء، فلما سقط قال: ليقضى الله أمرا كان مفعولا. وانغمس «3» فى الماء، ثم ارتفع، وقال: ذلك تقدير العزيز العليم. وغرق. قال: وكان أهل الشام قد عزموا على الانصراف، فأتاهم صاحب الجزء: 21 ¦ الصفحة: 191 الجسر، فقال لسفيان: إنّ رجلا منهم وقع فى الماء، فتنادوا بينهم: غرق أمير المؤمنين. ثم انصرفوا راجعين، وتركوا عسكرهم ليس فيه أحد، فكبّر سفيان وكبّر أصحابه، وأقبل حتى انتهى إلى الجسر، وبعث إلى المعسكر، وإذا «1» ليس فيه أحد، وإذا هو أكثر العساكر خيرا، ثم استخرجوا شبيبا فشقّوا جوفه، وأخرجوا قلبه؛ فكان صلبا كأنه صخرة، فكان يضرب به الصّخرة فينبو «2» عنها قامة إنسان. قال: وكان شبيب ينعى لأمه فيقال لها: قتل، فلا تقبل ذلك. فلما قيل لها غرق صدّقت ذلك، وقالت: إنى رأيت حين ولدته أنه خرج منّى شهاب نار، فعلمت أنه لا يطفئه إلّا الماء، وكانت أمّه جارية رومية اشتراها أبوه فأولدها شبيبا سنة [25 هـ] خمس عشرين يوم النّحر، وقالت: إنى رأيت فيما يرى النائم أنه خرج من قبلى شهاب نار، فذهب ساطعا إلى السماء، وبلغ الآفاق كلّها، فبينا هو كذلك إذ وقع فى ماء كثير فخبا، وقد ولدته فى يومكم الذى تهريقون فيه الدّماء، وقد أوّلت ذلك أنّ ولدى يكون صاحب دماء وأنّ أمره سيعلو ويعظم سريعا. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 192 ذكر خروج مطرف بن المغيرة ابن شعبة ومقتله كان خروجه وقتله فى سنة [77 هـ] سبع وسبعين، وذلك أنه لما قدم الحجّاج العراق استعمل أولاد المغيرة على أعماله لشرفهم ومنزلتهم من قومهم، واستعمل عروة [بن المغيرة] «1» على الكوفة، ومطرّفا على المدائن، وحمزة على همذان، فكانوا على أعمالهم أحسن الناس سيرة، وأشدّهم على المريب، وكان المطرّف على المدائن لما خرج شبيب، وقد ذكرنا أن المطرّف أرسل يستدعى منه أن يسيّر إليه من أصحابه من يدارسه ويسمع منه، وأنه سيّر إليه جماعة، ولم يحصل بينهم اتّفاق، وكان ممّا تكلّموا فيه أنّ المطرّف سألهم عما يدعون إليه، فقالوا: ندعو إلى كتاب الله وسنة رسوله، وأنّ الذى نقمنا على «2» قومنا الاستئثار بالفىء وتعطيل الحدود والتسلّط بالجبرية، فقال لهم مطرّف: ما دعوتم إلا إلى حق، وما نقمتم إلّا جورا ظاهرا، أنا لكم متابع «3» ، فبايعونى «4» على ما أدعوكم إليه: أن نقاتل هؤلاء الظّلمة على أحداثهم، وندعوهم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، وأن يكون هذا الأمر شورى بين المسلمين، يؤمّرون من يرضون «5» على مثل الحال التى تركهم عليها عمر بن الخطاب، الجزء: 21 ¦ الصفحة: 193 فإنّ العرب إذا علمت أنها إنما يراد بالشورى الرضا من قريش رضوا وكثر تبعكم وأعوانكم. فقالوا: هذا مالا نجيبك إليه، وفارقوه، وأحضر مطرّف نصحاءه «1» وثقاته، فذكر لهم ظلم الحجاج وعبد الملك، وأنه ما زال يؤثر مخالفتهم ومناهضتهم، وأنه يرى ذلك دينا لو وجد عليه أعوانا، وذكر لهم ما جرى بينه وبين أصحاب شبيب، وأنهم لو تابعوه على رأيه لخلع عبد الملك والحجاج، واستشارهم فيما يفعل. فقالوا له: أخف هذا الكلام ولا تظهره لأحد. فقال له يزيد ابن أبى زياد مولى أبيه: والله لا يخفى على الحجاج مما كان بينك وبينهم كلمة واحدة وليزادن على كل كلمة عشر أمثالها، ولو كنت فى السحاب «2» لا لتمسك الحجاج حتى يهلكك، فالنّجاء النّجاء. فوافقه أصحابه على ذلك، فسار عن المدائن نحو الجبال، ثم دعا أصحابه الذين لم يعلموا بحاله إلى ما عزم عليه، فبايعه بعضهم، ورجع عنه بعضهم، وسار نحو حلوان وبها سويد بن عبد الرحمن السعدى من قبل الحجاج، [فأراد هو والأكراد منعه ليعذر عند الحجاج] «3» ، فأوقع مطرّف بالأكراد فقتل منهم، وسار. فلما دنا من همذان وبها أخوه حمزة بن المغيرة تركها ذات اليسار، وأرسل إلى أخيه حمزة يستمدّه بالمال والسلاح، فأرسل إليه ما طلب الجزء: 21 ¦ الصفحة: 194 سرّا، وسار مطرّف حتى بلغ قمّ «1» وقاشان، وبعث عماله على تلك النواحى، وأتاه الناس. وكان ممّن أتاه سويد بن سرحان الثقفى، وبكير بن هارون النّخعى «2» ، من الرىّ فى نحو مائة رجل، وكتب البراء بن قبيصة- وهو عامل الحجاج على أصفهان- إليه يعرّفه حال المطرّف ويستمدّه، فأمدّه بالرجال بعد الرجال على دوابّ البريد. وكتب الحجّاج إلى عدىّ بن زياد «3» عامل الرىّ يأمره بقصد مطرّف، وأن يجتمع هو والبراء على محاربته، فسار عدىّ من الرّىّ واجتمع هو والبراء وعدى الأمير، واجتمعوا فى نحو ستة آلاف مقاتل. وكان حمزة بن المغيرة قد أرسل إلى الحجاج يعتذر، فأظهر قبول عذره، وأراد عزله وخاف أن يمتنع عليه، فكتب إلى قيس بن سعد العجلى، وهو على شرطة حمزة بعهده على همذان، ويأمره أن يقبض على حمزة ابن المغيرة؛ فسار قيس بن سعد إلى حمزة فى جماعة من عشيرته فأقرأه العهد بولايته، وكتاب الحجّاج بالقبض عليه، فقال: سمعا وطاعة. فقبض قيس عليه وسجنه، وسار عدىّ والبراء نحو مطرّف فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم أصحاب مطرّف وقتل هو وجماعة كثيرة من أصحابه، قتله عمر «4» بن هبيرة الفزارى، وكان الحجاج يقول: إن مطرّفا ليس بولد المغيرة بن شعبة، إنما هو الجزء: 21 ¦ الصفحة: 195 ولد مصقلة بن هبيرة الشيبانى، وكان مصقلة والمغيرة يدّعيانه، فألحق بالمغيرة، وجلد مصقلة الحدّ، فلما أظهر رأى الخوارج قال الحجاج ذلك، لأنّ كثيرا من ربيعة كانوا خوارج «1» ولم يكن منهم أحد من قيس عيلان. انتهت أخبار الخوارج فلنذكر الغزوات فى خلافة عبد الملك ذكر الغزوات والفتوحات فى أيام عبد الملك بن مروان على حكم السنين فى سنة [71 هـ] إحدى وسبعين افتتح عبد الملك قيساريّة فى قول الواقدى. وفى سنة [73 هـ] ثلاث وسبعين غزا محمد بن مروان الروم صائفة، فهزمهم، وفيها كانت وقعة عثمان بن الوليد بالروم من ناحية أرمينية، وهو فى أربعة آلاف، والروم فى ستين ألفا، فهزمهم وأكثر فيهم القتل. وفى سنة [74 هـ] أربع وسبعين غزا عبد الله بن أمية رتبيل «2» من سجستان، وكان رتبيل هائبا للمسلمين، فلما وصل عبد الله إلى بست «3» راسله رتبيل فى طلب الصلح، وبذل ألف ألف، وبعث إليه بهدايا ورقيق، فأبى عبد الله قبول ذلك، وقال: إن ملأ لى هذا الرّواق ذهبا وإلّا فلا صلح، وكان غرّا، فخلّى له رتبيل البلاد حتى أوغل فيها، وأخذ عليه الشّعاب والمضايق [وطلب أن يخلّى عنه الجزء: 21 ¦ الصفحة: 196 وعن المسلمين] «1» ، ولا يأخذ منه شيئا، فأبى رتبيل وقال: يأخذ «2» ثلاثمائة ألف درهم صلحا، ويكتب لنا بها كتابا، ولا يغزو بلادنا مادمت أميرا، ولا يحرق ولا يخرّب. ففعل، وبلغ ذلك عبد الملك فعزله. وفيها غزا محمد بن مروان الروم صائفة، وبلغ أندولية، وغزا أيضا فى سنة [75 هـ] خمس وسبعين صائفة حتى خرجت الروم من قبل مرعش، وغزا أيضا فى سنة [76 هـ] ست وسبعين من ناحية ملطية. وفى سنة [77 هـ] سبع وسبعين غزا أميّة بن عبد الله ماوراء النهر فبلغ بخارى، وخالف عليه بكير بن وسّاج، فصالح أهل بخارى على فدية قليلة، ورجع لقتال بكر. وفيها غزا أميّة أيضا، وعبر نهر بلخ، فحوصر حتى جهد هو وأصحابه، ثم نجوا بعد ما أشرفوا على الهلاك، ورجعوا إلى مرو. وغزا الوليد بن عبد الملك الصائفة. ذكر غزو عبيد الله بن أبى بكرة رتبيل وفى سنة [79 هـ] تسع وسبعين غزا عبيد الله بن أبى بكرة بلاد رتبيل، وكان الحجاج قد استعمله على سجستان، وكان رتبيل يؤدّى الخراج، وربما امتنع منه، فبعث الحجاج إلى عبيد الله [ابن أبى بكرة] «3» يأمره بمناجزته، وألّا يرجع حتى يستبيح بلاده، ويهدم قلاعه، ويقتل «4» رجاله. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 197 فسار عبيد الله فى أهل البصرة والكوفة، وعلى أهل الكوفة شريح ابن هانىء؛ فمضى عبيد الله حتى دخل بلاد رتبيل، فأصاب من الغنائم ما شاء، وهدم حصونا، وغلب على أرض من أراضيهم، وأصحاب رتبيل من الترك يخلون للمسلمين أرضا بعد أرض، حتى أمعنوا فى بلادهم، ودنوا من مدينتهم، وكانوا منها على ثمانية عشر فرسخا، فأخذ الترك عليهم الشّعاب والعقاب «1» ، فصالحهم عبيد الله على سبعمائة ألف يوصلها إلى رتبيل ليمكّن المسلمين من الخروج، فلقيه شريح فقال: إنكم لا تصالحون «2» ، على شىء إلّا حسبه السلطان من أعطياتكم، ثم قال: يأهل الإسلام، تعاونوا على عدوّكم، فقال له ابن أبى «3» بكرة: إنك شيخ قد خرفت. فقال شريح: يأهل الإسلام، من أراد منكم الشهادة فإلىّ، فاتّبعه ناس من المطّوّعة «4» غير كثير، وفرسان الناس، وأهل الحفاظ، فقاتلوا حتى أصيبوا إلا قليلا، وجعل شريح يرتجز ويقول «5» : أصبحت ذابثّ أقاسى الكبرا ... قد عشت بين المشركين أعصرا ثمّث أدركت النبىّ المنذرا ... وبعده صدّيقه وعمرا ويوم مهران ويوم تسترا ... والجمع فى صفّينهم والنّهرا هيهات ما أطول هذا العمرا «6» الجزء: 21 ¦ الصفحة: 198 وقاتل حتى قتل فى ناس من أصحابه، ونجا من نجا منهم، وخرجوا من بلاد رتبيل، فاستقبلهم الناس بالأطعمة، فكان أحدهم إذا أكل وشبع مات، فحذر الناس وجعلوا يطعمونهم [السمن] «1» قليلا قليلا حتى استمرءوا. وفيها أصاب الروم أهل أنطاكية وظفروا بهم، وكان قد أصاب أهل الشام طاعون شديد فلم يغز تلك السنة أحد منهم. ذكر مسير عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث إلى رتبيل وما ملكه من بلاده كان مسيره فى سنة [80 هـ] ثمانين؛ وذلك أنه لما رجع عبيد الله ابن أبى بكرة ومن معه من بلاد رتبيل على الحال التى ذكرنا كتب الحجاج إلى عبد الملك بخبرهم، ويخبره أنه قد جهّز من أهل الكوفة والبصرة جيشا كثيفا ويستأذنه فى إرساله إلى بلاد رتبيل، فأذن له فى ذلك، فجهّز من أهل الكوفة عشرين ألف فارس ومن أهل البصرة مثلها، وأنفق فيهم ألفى ألف سوى أعطياتهم، وأعطى كلّ رجل يوصف بشجاعة وغناء، وبعث عليهم عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث. ولما أراد أن يبعثه على الجيش أتاه «2» إسماعيل بن الأشعث، فقال: لا تبعثه، والله ما جاز جسر الفرات فرأى لوال عليه طاعة، وإنى أخاف خلافه. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 199 فقال الحجاج: هو أهيب لى من أن يخالف أمرى. وسيّره على الجيش، فسار حتى قدم سجستان، فجمع أهلها فخطبهم ثم قال: إن الحجاج ولّانى ثغركم، وأمرنى بجهاد عدوّكم الذى استباح بلادكم، فإياكم أن يتخلّف منكم أحد فتسمه «1» العقوبة. فعسكروا مع الناس، وساروا بأجمعهم، وبلغ الخبر رتبيل، فأرسل يعتذر ويبذل الخراج، فلم يقبل منه، وسار إليه، ودخل بلاده، فترك له رتبيل أرضا أرضا ورستاقا رستاقا وحصنا حصنا، وعبد الرحمن يحوى ذلك؛ وكلما حوى بلدا بعث إليه عاملا «2» ، وجعل معه أعوانا، وجعل الأرصاد على العقاب والشّعاب، ووضع المسالح بكل مكان مخوف، حتى حاز «3» من أرضه أرضا عظيمة، وملأ الناس أيديهم من الغنائم العظيمة، ومنع الناس من التوغّل، وقال: نكتفى بما قد أصبناه العام من بلادهم حتى نجيئها «4» ونعرفها، ويجترى المسلمون على طرقها، وفى العام المقبل نأخذ ما رواءها إن شاء الله تعالى حتى نقاتلهم فى آخر ذلك على كنوزهم وذراريهم فى أقصى بلادهم حتى يهلكهم الله تعالى. وكتب إلى الحجاج بما فتح الله عليه وبما يريد. فكتب الحجاج إليه ينكر فعله، ويأمره بالمناجزة، فأدّى ذلك إلى خروج عبد الرحمن على الحجاج على ما نذكره إن شاء الله تعالى. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 200 ذكر غزو المهلب بن أبى صفرة ما وراء النهر وفى سنة [80 هـ] ثمانين قطع المهلّب نهر بلخ ونزل على كش «1» ، وكان الحجاج قد استعمله على خراسان حين ضمّها عبد الملك إلى عمله، فسار وعلى مقدمته أبو الأدهم «2» الزمانى فى ثلاثة آلاف، وهم فى خمسة آلاف، ولما نزل المهلّب على كشّ أتاه ابن عم ملك للختّل «3» فدعاه إلى غزو الختّل، فوجّه معه ابنه يزيد، وكان اسم ملك الختّل السّبل «4» ، فسار يزيد وابن عمّ الملك حتى نازلوه، ونزل كلّ واحد منهما ناحية، فبيّت الملك ابن عمّه، وأخذه فقتله، فحصر يزيد القلعة، فصالحوه على فدية حملت إليه، ورجع يزيد عنهم. ووجّه المهلّب ابنه حبيبا، فوافى صاحب بخارى فى أربعين ألفا، فنزل جماعة من العدوّ قرية، فسار إليهم حبيب فى أربعة آلاف فقتلهم وأحرق القرية فسبّت المحترقة. ورجع حبيب إلى أبيه، وأقام المهلّب بكشّ سنتين، فقيل له: لو تقدّمت إلى ما وراء ذلك! فقال: ليت حظّى من هذه الغزوة سلامة هذا الجند، وعودهم سالمين، ثم صالح أهل كشّ على فدية يأخذها منهم. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 201 وفى سنة [81 هـ] إحدى وثمانين سيّر عبد الملك ابنه عبيد الله ففتح قاليقلا «1» . ذكر دخول الديلم قزوين وقتلهم كانت قزوين ثغرا للمسلمين من ناحية الدّيلم، فكانت العساكر لا تبرح مرابطة بها، يتحارسون ليلا ونهارا، فلما كان فى سنة [81 هـ] إحدى وثمانين كان فى جملة «2» من رابط بها محمد ابن أبى سبرة الجعفى، وكان فارسا شجاعا، فرأى الناس يتحارسون فلا ينامون الليل، فقال: أتخافون أن يدخل عليكم العدو مدينتكم؟ قالوا: نعم. قال: لقد أنصفوكم إن فعلوا، افتحوا الأبواب، ولا بأس عليكم. ففتحوها، وبلغ ذلك الدّيلم، فساروا إليهم وبيّتوهم، وهجموا إلى البلد؛ فقال ابن أبى سبرة: أغلقوا أبواب المدينة علينا وعليهم، فقد أنصفونا، وقاتلوهم. فغلّقوا الأبواب وقاتلوهم، وأبلى ابن أبى سبرة بلاء عظيما، وظفر بهم المسلمون، فلم يفلت من الدّيلم أحد، واشتهر اسمه بذلك، ولم يقدم الدّيلم بعدها على مفارقة أرضهم، فصار محمد فارس ذلك الثغر المشار إليه. [والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب] «3» . الجزء: 21 ¦ الصفحة: 202 ذكر فتح قلعة نيزك بباذغيس «1» وفى سنة [84 هـ] أربع وثمانين فتح يزيد بن المهلب قلعة نيزك، فلما بلغه خروجه عن القلعة سار إليها وحاصرها. فملكها وما فيها من الأموال والذخائر، وكانت من أحصن القلاع وأمنعها، وكان نيزك إذا رآها سجد لها تعظيما، وفيها يقول كعب بن معدان الأشقرى، «2» : وباذغيس التى من حلّ ذروتها ... عزّ الملوك فإن شاجار أو ظلما منيعة لم يكدها قبله ملك ... إلّا إذا واجهت جيشا له وجما تخال نيرانها من بعد منظرها ... بعض النجوم إذا ما ليلها عتما وهى أبيات عديدة. وقال أيضا يذكر يزيد [رحمه الله] «3» وفتحها «4» : نفى نيزكا عن باذغيس ونيزك ... بمنزلة أعيا الملوك اغتصابها محلّقة دون السماء كأنها ... غمامة صيف زلّ «5» عنها سحابها ولا يبلغ الأروى شماريخها العلا ... ولا الطّير إلّا نسرها وعقابها وما خوّفت بالذّئب ولدان أهلها ... ولا نبحت إلّا النجوم كلابها الجزء: 21 ¦ الصفحة: 203 ذكر فتح المصيصة وفى سنة [84 هـ] أربع وثمانين أيضا غزا عبد الله بن عبد الملك الرّوم، ففتح المصّيصة «1» وبنى حصنها، وجعل فيها ثلاثمائة مقاتل من ذوى البأس، ولم يكن المسلمون سكنوها قبل ذلك، وبنى مسجدها. وغزا محمد بن مروان أرمينية. وفى سنة [85 هـ] خمس وثمانين غزا المفضل بن المهلب باذغيس ففتحها وأصاب مغنما فقسمه، فأصاب كلّ رجل ثمانمائة «2» ، ثم غزا أخرون «3» وشومان، فغنم وقسّم ما أصاب. وفيها غزا محمد بن مروان أرمينية، فصاف فيها وشتا. انتهى ذكر الغزوات والفتوحات. ذكر الحوادث الكائنة فى أيام عبد الملك بن مروان منذ استقلّ بالأمر خلاف ما ذكرناه، وذلك على حكم السنين قد ذكرنا حوادث السنين فى أخبار عبد الله بن الزبير رضى الله عنهما إلى أن قتل فى سنة [73 هـ] ثلاث وسبعين، وذكرنا ما هو متعلّق بهذه الدولة الأموية فى أثناء أخبار عبد الملك، فلنذكر خلاف ذلك. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 204 سنة (73 هـ) ثلاث وسبعين: ذكر ولاية محمد بن مروان الجزيرة وأرمينية فى هذه السنة استعمل عبد الملك أخاه محمدا على الجزيرة، وكانت بحيرة أرمينية مباحة لم يعرض لها أحد، بل يأخذ منها من شاء، فمنع من صيدها وجعل عليه من يأخذه ويبيعه ويأخذ ثمنه، ثم صارت بعده لابنه مروان، واستمرّ ذلك بعده. وفيها عزل عبد الملك خالد بن عبد الله عن البصرة، واستعمل عليها أخاه بشر بن مروان، فاجتمع له المصران: الكوفة، والبصرة، فسار بشر إلى البصرة، واستعمل على الكوفة عمرو بن حريث. وحجّ بالناس فى هذه السنة الحجاج وهو على مكّة واليمن واليمامة، وكان على قضاء الكوفة شريح بن الحارث، وعلى قضاء البصرة هشام ابن هبيرة، وكان على خراسان بكير بن وسّاج «1» . وفيها مات عبد الله بن عمر بن الخطاب رضى الله عنهما بمكة وكان سبب وفاته أن الحجاج أمر بعض أصحابه، فضرب ظهر قدمه بزجّ رمح مسموم، فمات منها، وعاده الحجاج فى مرضه، فقال: من فعل بك هذا؟ فقال: أنت، لأنك أمرت بحمل السلاح فى بلد لا يحلّ حمله فيه. وكانت وفاته بعد قتل ابن الزبير بثلاثة أشهر، وكان عمره سبعا وثمانين سنة، ومات غيره من الصحابة رضى الله عنهم. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 205 سنة (74 هـ) أربع وسبعون: فى هذه السنة عزل عبد الملك طارقا «1» عن المدينة، واستعمل عليها الحجاج، ففعل ما قدّمنا ذكره. وفيها استقضى عبد الملك أبا إدريس الخولانى. وفيها استعمل عبد الملك أميّة بن عبد الله بن خالد بن أسيد «2» ، على خراسان، وعزل عنها بكير بن وسّاج، فسار أميّة إليها، فلقيه بحير «3» بن ورقاء بنيسابور، وأخبره عن خراسان وما يحسن به طاعة أهلها، ورفع على بكير أموالا أخذها وحذره غدره «4» ، وسار معه حتى قدم مرو، وكان أميّة كريما فلم يعرض لبكير ولا لعمّاله، وعرض عليه شرطته، فأبى فولّاها بحير بن ورقاء، ثم خيّر بكيرا أن يولّيه ما شاء من خراسان، فاختار طخارستان. قال: فتجهّز لها، فأنفق مالا كثيرا؛ فقال بحير لأمية: إن أتى طخارستان خلعك، وحذّره فلم يولّه. وفيها استعمل عبد الملك حسّان بن النعمان الغسّانى على إفريقية، وسيذكر ذلك إن شاء الله فى أخبار إفريقية. وحجّ بالناس فى هذه السنة الحجاج بن يوسف. وفيها توفى بشر بن مروان بالبصرة، واستخلف قبل وفاته خالد ابن عبد الله بن خالد على البصرة، وكان خليفته على الكوفة عمرو الجزء: 21 ¦ الصفحة: 206 ابن حريث؛ فكانوا على ذلك إلى أن قدم الحجاج بن يوسف الثقفى أميرا سنة [75 هـ] خمس وسبعين. ذكر ولاية الحجاج بن يوسف العراق وما فعله عند مقدمه وفى هذه السنة استعمل عبد الملك بن مروان الحجاج بن يوسف الثقفى على العراق دون خراسان وسجستان، وأرسل «1» إليه بعهده وهو بالمدينة، فسار فى اثنى عشر راكبا على النّجائب حتى دخل الكوفة حين انتشر النهار، فبدأ بالمسجد، فصعد المنبر وهو متلثّم بعمامة خزّ حمراء، فقال: علىّ بالناس، فحسبوه خارجيّا، فهمّوا به وهو جالس على المنبر ينتظر اجتماعهم، فاجتمع الناس وهو ساكت قد أطال السكوت، فتناول عمير بن ضابىء البرجمى حصى «2» وقال: ألا أحصبه لكم! فقالوا: أمهل حتى ننظر. وقيل: إن الذى همّ بحصبه محمد بن عمير وقال: قاتله الله ما أعياه وأدمّه «3» ، والله إنى لأحسب خبره كرؤياه «4» . فلما تكلم الحجاج جعل الحصى ينتثر من يده وهو لا يعقل، فلما رأى عيون الناس إليه حسر اللثام عن وجهه ونهض فقال: انا ابن جلا «5» وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفونى أما والله إنى لأحمل الشر محمله، فآخذه «6» بفعله، وأجزيه بمثله، الجزء: 21 ¦ الصفحة: 207 وإنى لأرى رءوسا قد أينعت وحان قطافها، وإنى لصاحبها، وإنى لأنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى ... قد شمرت عن ساقها تشميراه. هذا أوان الشدّ فاشتدّى زيم ... قد لفّها الليل بسوّاق حطم «1» ليس براعى إبل ولا غنم ... ولا بجزّار على ظهر وضم «2» قد لفّها اللّيل يعصلبى «3» ... أروع خرّاج من الدوى «4» مهاجر ليس بأعرابى قد شمّرت عن ساقها فشدّوا ... وجدّت الحرب بكم فجدّوا والقوس فيها وتر عردّ «5» ... مثل ذراع البكر أو أشدّ ليس أوان يكره الخلاط ... جاءت به والقلص الأعلاط «6» يهوى هوى سابق الغطاط «7» إنى والله يأهل العراق ما يقعقع لى بالشّنان «8» ، ولا يغمز جانبى تغماز التين، ولقد فررت عن ذكاء، وفتّشت عن تجربة، وجريت إلى الغاية القصوى. ثم قرأ «9» : «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 208 فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ» . فأنتم أولئك وأشباه أولئك. إنّ أمير المؤمنين عبد الملك نثر «1» كنانته فعجم «2» عيدانها عودا عودا، فوجدنى أمرّها عودا «3» ، وأصلبها مكسرا، فوجّهنى إليكم، ورمى بى فى نحوركم، فإنكم أهل بغى وخلاف وشقاق ونفاق، طالما أوضعتم فى الشرّ، واضطجعتم فى الضلالة، وسننتم سنن الغىّ، فاستوثقوا «4» واستقيموا، فو الله لأذيقنّكم الهوان ولأمرينّكم «5» حتى تدرّوا، ولألحونّكم لحو العود، ولأعصبنّكم عصب السّلم «6» ، حتى تذلّوا، ولأضربنّكم ضرب غرائب الإبل حتى تذروا العصيان وتنقادوا، ولأقرعنّكم قرع المروة حتى تلينوا. إنى والله ما أعد إلّا وفيت، ولا أهمّ إلا أمضيت، ولا أخلق «7» إلّا فريت، فإياى وهذه الجماعات، فلا يركبنّ رجل إلّا وحده، أقسم بالله لتقبلنّ على الإنصاف، ولتدعنّ الإرجاف، وقيلا وقالا، وما يقول فلان، وأخبرنى فلان، أو لأدعنّ لكلّ رجل منكم شغلا فى جسده، فيم أنتم وذاك، والله لتستقيمنّ على الحقّ أو لأضربنّكم بالسيف ضربا يدع النساء أيامى والولدان يتامى، وحتى تذروا السّمّهى «8» وتقلعوا الجزء: 21 ¦ الصفحة: 209 عن هاوها «1» ، ألا إنه لو ساغ لأهل المعصية معصيتهم ماجبى فىء ولا قوتل عدوّ، ولعطّلت الثغور، ولولا أنهم يغزون كرها ما غزوا طوعا، ولقد بلغنى رفضكم المهلّب وإقبالكم على مصركم عاصين مخالفين وإنى أقسم بالله لا أجد أحدا من عسكره بعد ثالثة «2» إلّا ضربت عنقه، وأنهبت داره. ثم أمر بكتاب عبد الملك فقرىء، فلما قال القارئ: بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين إلى من بالكوفة من المسلمين: سلام عليكم، فإنى أحمد الله إليكم- فلم يقل أحد شيئا، فقال: اكفف، ثم قال: يا عبيد العصا، يسلّم عليكم أمير المؤمنين فلا يردّ رادّ منكم السلام. هذا أدب ابن نهيّة «3» ، أدّبكم به، والله لأؤدبنكم غير هذا الأدب، أو لتستقيمنّ. ثم قال، للقارىء: اقرأ. فلما بلغ سلام عليكم قالوا بأجمعهم: وعلى أمير المؤمنين السلام ورحمة الله. ثم نزل ودخل منزله، ودعا العرفاء وقال: ألحقوا الناس بالمهلّب، وائتونى بالبراءات بموافاتهم، ولا تغلقنّ أبواب الجسر ليلا ولا نهارا حتى تنقضى هذه المدة. قال: فلما كان فى اليوم الثالث سمع تكبيرا فى السوق، فخرج وجلس على المنبر، فقال: يأهل العراق، يأهل الشقاق والنّفاق الجزء: 21 ¦ الصفحة: 210 ومساوىء الأخلاق، إنى سمعت تكبيرا ليس بالتّكبير الذى يراد به وجه الله، ولكنه التكبير الذى يراد به الترهيب، وقد عرفت أنها عجاجة تحتها قصف «1» ، يا بنى اللّكيعة «2» ، وعبيد العصا، وأبناء الأيامى، ألا يربع رجل منكم على ظلعه «3» ويحسن حقن دمه، ويعرف «4» موضع قدمه، فأقسم بالله لأوشك أن أوقع بكم وقعة تكون نكالا لما قبلها وأدبا لما بعدها. فقام إليه عمير بن ضابىء الحنظلى «5» التميمى، فقال: أصلح الله الأمير، أنا فى هذا البعث وأنا شيخ كبير عليل، وابنى هذا هو أقوى منى على الأسفار أفتقبله منّى بديلا؟ فقال: نفعل. ثم قال: ومن أنت؟ قال: أنا عمير بن ضابىء. قال: أسمعت كلامنا بالأمس! قال: نعم. قال: ألست الذى غزا عثمان بن عفّان؟ قال: بلى. قال: يا عدوّ الله، أفلا بعثت بديلا إلى أمير المؤمنين، وما حملك على ذلك؟ قال: إنه حبس أبى، وكان شيخا كبيرا. قال: أولست القائل «6» : هممت ولم أفعل وكدت وليتنى ... تركت على عثمان تبكى حلائله إنى لأحسب أنّ فى قتلك صلاح المصرين، وأمر به فضربت رقبته، وأنهب ماله، وأمر مناديا فنادى: ألا إنّ عمير بن ضابىء أتى الجزء: 21 ¦ الصفحة: 211 بعد ثالثة «1» ، وكان قد سمع النداء، فأمرنا بقتله، ألا وإن ذمّة الله بريئة ممّن بات الليلة من جند المهلب. فخرج الناس فازدحموا على الجسر، وخرج العرفاء إلى المهلّب وهو برامهرمز، فأخذوا كتبه بالموافاة، فقال المهلّب: قدم العراق اليوم رجل ذكر، اليوم فويل «2» العدو. وقال: ولما قتل الحجاج عميرا لقى إبراهيم بن عامر الأسدى عبد الله بن الزّبير «3» [رضى الله عنهما] «4» فى السوق، فسأله عن الخبر، فقال «5» : أقول لإبراهيم لمّا لقيته ... أرى الأمر أضحى منصبا متشعبا تجهّز فأسرع والحق الجيش لا أرى ... سوى الجيش إلا فى المهالك مذهبا تخير فإمّا أن تزور ابن ضابىء ... عميرا وإما أن تزور المهلّبا هما خطّتا خسف «6» نجاؤك منهما ... ركوبك حوليّا من الثلج «7» أشهبا فحال ولو كانت خراسان دونه ... رآها مكان السّوق أو هى أقربا الجزء: 21 ¦ الصفحة: 212 قال: وكان الحجاج أول من عاقب بالقتل على التخلّف عن الوجه الذى يكتب إليه. قال الشعبى: كان الرجل إذا أخلّ بوجهه الذى يكتب إليه زمن عمر وعثمان وعلىّ رضى الله عنهم نزعت عمامته ويقام للناس، ويشهر أمره، فلما ولى مصعب قال: ما هذا بشىء، وأضاف إليه حلق الرءوس واللّحى، فلما ولى بشر بن مروان زاد فيه، فصار يرفع الرجل عن الأرض ويسمّر فى يديه مسماران فى حائط، فربما مات، وربما خرق المسمار يده، فسلم. فلما ولى الحجاج قال: كلّ هذا لعب، أضرب عنق من يخلّ «1» بمكانه من الثغر. قال: وكان قدوم الحجاج فى شهر رمضان، فوجّه الحكم بن أيوب الثقفى على البصرة أميرا، وأمره أن يشتدّ على خالد بن عبد الله، فبلغ الخبر خالدا فخرج عن البصرة فنزل الجلحاء «2» وشيّعه أهل البصرة فقسم فيهم ألف ألف. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 213 ذكر وثوب أهل البصرة بالحجاج قال: ثم خرج الحجاج من الكوفة إلى البصرة، واستخلف على الكوفة عروة بن المغيرة بن شعبة. فلما قدم البصرة خطبهم بمثل خطبته بالكوفة، وتوعّد من رآه منهم بعد ثالثة «1» ، ولم يلحق بالمهلّب، فأتاه شريك بن عمرو اليشكرى وكان به فتق، فقال: أصلح الله الأمير، إن بى فتقا، وقد رآه بشر بن مروان فعذرنى، وهذا عطائى مردود فى بيت المال، فأمر به فضربت عنقه، فلم يبق بالبصرة أحد من عسكر المهلب إلّا لحق به. ثم سار الحجاج إلى رستقباذ «2» ، وبينها وبين المهلب ثمانية عشر فرسخا، وقال حين نزل بها: يأهل المصرين، هذا المكان والله مكانكم شهرا بعد شهر، وسنة بعد سنة، حتى يهلك الله عدوّكم، هؤلاء الخوارج المطلين عليكم. ثم خطب يوما فقال: إن الزيادة التى زادكم إياها ابن الزبير إنما هى زيادة ملحد فاسق منافق، ولسنا نجيزها- وكان مصعب قد زاد الناس فى العطاء مائة مائة- فقال عبد الله بن الجارود: إنها ليست زيادة ابن الزبير، إنما هى زيادة أمير المؤمنين عبد الملك قد أنفذها وأجازها على يد أخيه بشر. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 214 فقال له الحجاج: ما أنت والكلام! لتحسننّ حمل رأسك أو لأسلبتّك إيّاه. فقال: ولم؟ إنى لك لناصح، وإن هذا لقول من ورائى. فنزل الحجاج ومكث أشهرا لا يذكر الزيادة، ثم أعاد القول فيها، فردّ عليه ابن الجارود مثل رده الأول، فقام مصقلة بن كرب العبدى، فقال: إنه ليس للرعيّة أن تردّ على راعيها، وقد سمعنا ما قال الأمير، فسمعا وطاعة فيما أحبّ «1» وكرهنا. فسبّه ابن الجارود وقام فأتاه وجوه الناس فصوّبوا رأيه وقوله، وقال الهذيل بن عمران البرجمى وعبد الله بن حكيم بن زياد المجاشعى وغيرهما: نحن معك وأعوانك، إن هذا الرجل غير كافّ حتى ينقصنا هذه الزيادة فهلمّ نبايعك على إخراجه من العراق، ثم نكتب إلى عبد الملك أن يولّى علينا غيره، فإن أبى خلعناه، فإنه هائب لنا ما دامت الخوارج. فبايعه الناس سرّا، وأعطوه المواثيق على الوفاء، وبلغ الحجاج ما هم فيه، فأحرز بيت المال. فلما تمّ لهم أمرهم أظهروه، وذلك فى شهر ربيع الآخر سنة [76 هـ] ست وسبعين، واجتمع الناس على ابن الجارود حتى لم يبق مع الحجاج إلّا خاصّته وأهل بيته، وأرسل الحجاج أعين صاحب حمّام أعين «2» إلى ابن الجارود يستدعيه، فقال: لا كرامة لابن أبى رغال «3» ، ولكن ليخرج عنّا مذموما مدحورا، وإلا قاتلناه. قال أعين: الجزء: 21 ¦ الصفحة: 215 فإنه يقول لك: أتطيب نفسا بقتلك وقتل بيتك وعشيرتك! والذى نفسى بيده لئن لم تأت لأدعنّ قومك وأهلك خاصة حديثا للغابرين. وكان الحجاج قد حمّل أعين هذه الرسالة؛ فقال ابن الجارود: لولا أنك رسول لقتلتك يا ابن الخبيثة، وأمر فوجىء فى عنقه، وأخرج. وأقبل ابن الجارود بالناس زحفا نحو الحجّاج، وكان رأيهم أن يخرجوه عنهم ولا يقاتلوه. فلما صاروا إليه نهبوا ما فى فسطاطه. وأخذوا ما قدروا عليه من متاعه ودوابّه، وجاء أهل اليمن فأخذوا امرأته ابنة النعمان بن بشير، وجاءت مضر فأخذوا امرأته الأخرى أم سلمة بنت عبد الرحمن بن عمرو أخى سهيل بن عمرو. ثم إن القوم انصرفوا عن الحجاج وتركوه. فأتاه قوم من أهل البصرة فصاروا معه خوفا من محاربة الخليفة، فجعل الغضبان ابن القبعثرى الشيبانى يقول لابن الجارود: تعشّ بالجدى قبل أن يتغدّى بك. أما ترى من قد أتاه منكم؟ ولئن أصبح ليكثرن ناصره، ولتضعفنّ منّتكم «1» . فقال: قد قرب المساء. ولكنا نعاجله بالغداة، وكان مع الحجاج عثمان بن قطن، وزياد بن عمرو العتكى، وكان زياد على شرطته بالبصرة، فقال لهما: ما تريان؟ فقال زياد: أرى أن آخذ لك من القوم أمانا وتخرج حتى تلحق بأمير المؤمنين، فقد ارفضّ أكثر الناس عنك، ولا أرى لك أن تقاتل بمن معك. فقال عثمان بن قطن الحارثى: لكنى لا أرى ذلك، إنّ أمير المؤمنين الجزء: 21 ¦ الصفحة: 216 قد شركك فى أمره، وخلطك بنفسه، واستنصحك وسلّطك، فسرت إلى ابن الزبير وهو أعظم الناس خطرا فقتلته، فولّاك الله شرف ذلك وسناءه، وولّاك أمير المؤمنين العراقين، فحيث جريت إلى المدى وأصبت الغرض الأقصى تخرج على قعود إلى الشام، والله لئن فعلت لا نلت من عبد الملك مثل الذى أنت فيه من السلطان أبدا، ولكنى أرى أن نمشى بسيوفنا معك فنقاتل حتى نلقى ظفرا أو نموت كراما. فقال له الحجاج: الرّأى ما رأيت، وحفظ «1» هذه لعثمان، وحقدها على زياد، وجاء عامر بن مسمع إلى الحجاج فقال: إنى قد أخذت لك أمانا من الناس، فجعل الحجاج يرفع صوته ليسمع الناس ويقول: والله لا أؤمّنهم أبدا حتى يأتوا بالهذيل وعبد الله بن حكيم. ومرّ عباد بن الحصين الحبطى «2» بابن الجارود وابن الهذيل وابن حكيم وهم يتناجون، فقال: أشركونا فى نجواكم. فقالوا: هيهات أن يدخل فى نجوانا أحد من الحبط، فغضب وسار إلى الحجاج فى مائة رجل، فقال له الحجاج: ما أبالى من تخلّف بعدك. وأتاه قتيبة بن مسلم فى قومه من بنى أعصر، وكان الحجاج قد يئس من الحياة، فلما جاءه هؤلاء اطمأنّ، ثم جاءه سبرة بن على الكلابى، وسعيد بن أسلم بن زرعة، وجعفر بن عبد الرحمن بن مخنف الأزدى، وأرسل إليه مسمع بن مالك بن مسمع يقول: إن شئت أتيتك، وإن شئت أقمت وثبطت الناس عنك. فقال: أقم وثبّط الناس عنى. فلما اجتمع للحجاج عدد «3» يمنع بمثلهم خرج، وعبّأ أصحابه، الجزء: 21 ¦ الصفحة: 217 وتلاحق الناس به، فلما أصبح إذا حوله ستة آلاف، فقال ابن الجارود لعبيد الله بن زياد بن ظبيان: ما الرأى؟ قال: تركت الرأى أمس حين قال لك الغضبان: تعشّ بالجدى قبل أن يتغدّى بك. وقد ذهب الرأى وبقى الصبر. فحرّض ابن الجارود الناس، وزحف بهم وعلى ميمنته الهذيل ابن عمران، وعلى ميسرته عبيد الله بن زياد بن ظبيان، وتقدم الحجاج وعلى ميمنته قتيبة بن مسلم، ويقال عبّاد بن الحصين، وعلى ميسرته سعيد بن أسلم، فحمل ابن الجارود فى أصحابه حتى جاوز أصحاب الحجاج، فعطف الحجاج عليه، ثم اقتتلوا ساعة وعاد ابن الجارود بظفر، فأتاه سهم غرب «1» فقتله، ونادى منادى الحجاج بأمان الناس إلا الهذيل وعبد الله بن حكيم، وأمر ألّا يتبع المنهزمون. فانهزم عبيد الله بن زياد بن ظبيان، فأتى سعيد [ابن عباد الجلندى الأزدى بعمان، فقيل لسعيد: إنه رجل فاتك فاحذره، فلما جاء البطيخ بعث إليه] «2» بنصف بطيخة مسمومة، وقال: هذا أوّل شىء جاءنا منه، وقد أكلت نصف هذه، وبعثت إليك بنصفها، فأكلها عبيد الله فأحسّ بالشر، فقال: أردت أن أقتله فقتلنى. قال: وحمل رأس ابن الجارود وثمانية عشر من وجوه أصحابه إلى المهلب، فنصبت ليراها الخوارج وييأسوا من الاختلاف. وحبس الحجاج عبيد بن كعب النميرى ومحمد بن [عمير بن] «3» الجزء: 21 ¦ الصفحة: 218 عطارد، فإنه كان قد بعث إلى كلّ منهما يقول: هلمّ إلىّ فامنعنى، فقال: إن أتيتنى منعتك. وحبس الغضبان وقال: أنت القائل: تعشّ بالجدى قبل أن يتغدّى بك! فقال: ما نفعت من قيلت له ولا ضرّت من قيلت فيه! فكتب عبد الملك إلى الحجاج بإطلاقه. ذكر ما كلم به الحجاج أنس بن مالك رضى الله عنه وشكواه إياه وما كتب به عبد الملك من الإنكار على الحجاج وسبّه بسببه قال: كان عبد الله بن أنس بن مالك الأنصارى رضى الله عنه ممن قتل مع ابن الجارود، فلما دخل الحجاج البصرة أخذ ماله، فدخل عليه أنس بن مالك رضى الله عنه، فحين رآه الحجاج قال له: لا مرحبا ولا أهلا، إيه يا خبثة «1» ؛ شيخ ضلالة، جوّال فى الفتن، مرّة مع أبى تراب، ومرّة مع ابن الزّبير، ومرّة مع ابن الجارود؛ أما والله لأجردنّك جرد القضيب، ولأعصبنّك عصب السّلمة، ولأقلعنّك قلع الصّمغة. فقال أنس: من يعنى الأمير؟ فقال: إياك أعنى، أصمّ الله صداك. فرجع أنس، فكتب إلى عبد الملك كتابا يشكو فيه الحجاج وما صنع به. فكتب عبد الملك إلى الحجّاج: أما بعد يابن أمّ الحجاج فإنك عبد طمت بك الأمور فغلوت فيها حتى عدوت طورك، وتجاوزت قدرك، يابن المستفرمة بعجم الزبيب «2» لأغمزنّك غمزة كبعض الجزء: 21 ¦ الصفحة: 219 غمزات الليوث «1» الثعالب، ولأخبطنّك خبطة تودّ لها لو أنك رجعت فى مخرجك من بطن أمك. أما تذكر حال آبائك بالطائف حيث كانوا ينقلون الحجارة على ظهورهم، ويحفرون الآبار بأيديهم فى أوديتهم ومياههم؛ أم نسيت حال آبائك فى اللؤم والدناءة فى المروءة والخلق. وقد بلغ أمير المؤمنين الذى كان منك إلى أنس بن مالك جرأة وإقداما، وأظنّك أردت أن تسبر ما عند أمير المؤمنين فى أمره فتعلم إنكاره ذلك وإغضاءه عنك، فإن سوّغك ما كان منك مضيت عليه قدما، فعليك لعنة الله من عبد أخفش العينين «2» ، أصكّ «3» الرجلين، ممسوح الجاعرتين «4» ، ولولا أنّ أمير المؤمنين ظنّ أن الكاتب كثّر [فى الكتابة] «5» عن الشيخ إلى أمير المؤمنين فيك لأتاك من يسحبك ظهرا لبطن حتى يأتى بك أنسا فيحكم فيك، فأكرم أنسا وأهل بيته، واعرف له حقّه وخدمته رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا تقصّرنّ فى شىء من حوائجه، ولا يبلغنّ أمير المؤمنين عنك خلاف ما تقدّم فيه إليك من أمر أنس وبرّه وإكرامه، فيبعث إليك من يضرب ظهرك، ويهتك سترك، ويشمت بك عدوّك، والقه فى منزله متنصّلا إليه، وليكتب إلى أمير المؤمنين برضاه عنك، إن شاء الله. والسلام. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 220 وبعث بالكتاب مع إسماعيل بن عبد الله مولى بنى مخزوم، فأتى إسماعيل أنسا بكتاب عبد الملك فقرأه، وأتى الحجاج بالكتاب فجعل يقرؤه ووجهه يتغيّر ويتمعّر «1» ، وجبينه يرشح عرقا، ثم قال «2» : يغفر الله لأمير المؤمنين. ثم اجتمع بأنس فرحّب به الحجاج، وأدناه، واعتذر إليه، وقال: أردت أن يعلم أهل العراق إذ كان من ابنك ما كان وإذ بلغت منك ما بلغت أنى إليهم بالعقوبة أسرع. فقال أنس: ما شكوت حتى بلغ منى الجهد، وقد زعمت أنّا الأشرار، وقد سمّانا الله الأنصار، وزعمت أنّا أهل النفاق، ونحن الذين تبوّءوا الدّار والإيمان، وسيحكم الله بيننا وبينك، فهو أقدر على التغيير، لا يشبه الحق عنده الباطل، ولا الصدق الكذب، وزعمت أنك اتخذتنى ذريعة وسلما إلى مساءة أهل العراق باستحلال ما حرّم الله عليك منى، ولم يكن لى عليك قوة، فوكلتك إلى الله ثم إلى أمير المؤمنين، فحفظ من حقّى ما لم تحفظ، فو الله لو أنّ النصارى على كفرهم رأوا رجلا خدم عيسى ابن مريم يوما واحدا لعرفوا من حقّه ما لم تعرف أنت من حقى، وقد خدمت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عشر سنين. وبعد فإن رأينا خيرا حمدنا الله عليه، وأثنينا، وإن رأينا غير ذلك صبرنا. والله المستعان. وردّ عليه الحجاج ما كان أخذ منه. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 221 ذكر ولاية سعيد بن أسلم السند وقتله وولاية مجّاعة بن سعر «1» التميمى ووفاته وفى هذه السنة استعمل الحجاج على السند سعيد بن أسلم ابن زرعة، فخرج عليه معاوية ومحمد ابنا الحارث العلاقيان. فقتلاه وغلبا على البلاد، فأرسل الحجاج مجّاعة بن سعر التميمى إلى السند، فغلب على ذلك الثّغر، وغزا وفتح أماكن من قندابيل «2» ، ومات مجّاعة بعد سنة بمكران «3» . [والله أعلم] . «4» ذكر خبر الزنج بالبصرة قال: كان الزنج قد اجتمعوا بفرات البصرة فى آخر أيام مصعب، ولم يكونوا بالكثير، فأفسدوا. فلما ولى خالد بن عبد الله البصرة كثروا، فشكا الناس إليه ما ينالهم منهم، فجمع لهم جيشا، فلما بلغهم ذلك تفرّقوا، وأخذ بعضهم فقتلهم وصلبهم، فلما كان من أمر ابن الجارود ما ذكرناه اجتمع من الزنج خلق كثير بالفرات، وجعلوا عليهم رجلا منهم اسمه رباح ويلقّب شيرزنجى «5» يعنى أسد الزنج، [فأفسدوا] «6» ، فأمر الحجاج زياد بن عمرو وهو على شرطة البصرة الجزء: 21 ¦ الصفحة: 222 أن يرسل إليهم جيشا، فندب ابنه حفص بن زياد فقتلوه، وهزموا أصحابه، فسيّر إليهم جيشا آخر فهزم الزنج وقتلهم، واستقامت البصرة. وفى هذه السنة حجّ عبد الملك بالناس فخطب الناس بالمدينة، فقال بعد حمد الله والثناء عليه: أما بعد فإنى لست بالخليفة المستضعف- يعنى عثمان، ولا بالخليفة المداهن- يعنى معاوية، ولا بالخليفة المأفون «1» - يعنى يزيد، ألا وإنى لا أداوى هذه الأمّة إلّا بالسيف حتى تستقيم لى قناتكم، وإنكم تكلّفونا أعمال المهاجرين الأولين ولا تعملون مثل أعمالهم. وإنكم تأمروننا بتقوى الله وتنسون ذلك من أنفسكم، والله لا يأمرنى أحد بتقوى الله بعد مقامى هذا إلّا ضربت عنقه. ثم نزل. سنة (76 هـ) ست وسبعين: ذكر ضرب الدنانير والدراهم الاسلامية وفى هذه السنة ضرب عبد الملك بن مروان الدنانير والدراهم الإسلامية، وهو أوّل من أحدث ضربها فى الإسلام؛ وكان سبب ذلك أنه كتب فى صدور الكتب إلى الروم: قل هو الله أحد. وذكر النبىّ صلى الله عليه وسلّم مع التاريخ. فكتب إليه ملك الروم: إنكم قد أحدثتم هذا فاتركوه، وإلا أتاكم فى دنانيرنا من ذكر نبيكم ما تكرهون. فعظم ذلك على عبد الملك، واستشار خالد بن يزيد بن معاوية، فقال: حرّم دنانيرهم، واضرب للناس سكة فيها ذكر الله تعالى. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 223 فضرب الدنانير والدراهم ونقش عليها: قل هو الله أحد. فكره الناس ذلك لمكان القرآن؛ لأن الجنب والحائض تمسّها «1» ، ثم ضربها الحجاج. وقد قيل: إن مصعب بن الزبير ضرب دراهم قليلة أيام أخيه عبد الله، ثم كسرت بعد ذلك فى أيام عبد الملك. والصحيح أنّ عبد الملك أول من ضرب الدنانير والدراهم فى الإسلام. *** وفيها استعمل عبد الملك أبان بن عثمان على المدينة. وفيها ولد مروان بن محمد بن مروان. وحجّ بالناس فى هذه السنة أبان بن عثمان وهو أمير «2» المدينة، وكان على العرق الحجاج، وعلى خراسان أميّة بن عبد الله، وعلى قضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة زرارة بن أوفى. سنة سبع وسبعين: ذكر مقتل بكير بن وساج وفى هذه السنة قتل أميّة بن عبد الله أمير خراسان بكير بن وسّاج «3» ، وسبب ذلك أن أمية أمر بكيرا أن يتجهّز لغزو ما وراء النّهر، فتجهّز وأنفق نفقة كبيرة، فقال بحير بن ورقاء لأمية: إن صار بينك وبينه النّهر خلع الخليفة. فأرسل إليه أميّة يقول: أقم لعلّى أغزو فتكون معى، فغضب بكير، وكان قبل ذلك قد ولّاه طخارستان، وأنفق الجزء: 21 ¦ الصفحة: 224 نفقة عظيمة، فحذّره بحير منه فمنعه منها، ثم إن أمية تجهّز للغزو إلى بخارى وتجهّز معه الناس، وفيهم بكير بن وسّاج، فلما بلغوا النّهر وأرادوا قطعه قال أمية لبكير: إنى قد استخلفت ابنى على خراسان وأخاف أنه لا يضبطها، لأنه غلام حدث، فارجع إلى مرو فاكفنيها، فقد ولّيتكها، فقم بأمر ابنى. فانتخب بكير فرسانا كان قد عرفهم ووثق بهم، ورجع. ومضى أميّة إلى بخارى فقال عقاب «1» الغدانى لبكير: إنّا طلبنا أميرا من قريش، فجاءنا أمير يلعب بنا، يحوّلنا من سجن إلى سجن، وإنى أرى أن نحرق هذه السفن، ونمضى إلى مرو، ونخلع أمية ونقيم بمرو، نأكلها إلى يوم ما، ووافقه الأحنف بن عبد الله العنبرى على هذا، فقال بكير: أخاف أن يهلك هؤلاء الفرسان الذين معى. قال: إن هلك هؤلاء أنا آتيك من أهل مرو بما شئت. قال: يهلك المسلمون. قال: إنما يكفيك أن ينادى مناد: من أسلم رفعنا عنه الخراج، فيأتيك خمسون ألفا أسمع من هؤلاء وأطوع. قال: فيهلك أميّة ومن معه. قال: ولم يهلكون ولهم عدد وعدّة ونجدة وسلاح ظاهر، ليقاتلوا عن أنفسهم حتى يبلغوا الصين. فأحرق بكير السفن، ورجع إلى مرو، فحبس ابن أميّة وخلع أمية، وبلغ أمية الخبر، فصالح أهل بخارى على فدية قليلة، ورجع وأمر «2» باتخاذ السفن، وعبر، وذكر للناس إحسانه إلى بكير مرة بعد أخرى، وأنه كافأه بالعصيان. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 225 وسار إلى مرو، وأرسل شمّاس بن دثار فى ثمانمائة، فسار بكير إليهم، فانهزم شمّاس، وأمر أصحابه ألّا يقتلوا منهم أحدا، فكانوا يأخذون سلاحهم ويطلقونهم. وقدم أميّة فتلقّاه شماس، فقدم ثابت ابن قطبة فلقيه بكير فأسره، وفرّق جمعه، ثم أطلقه ليد كانت لثابت عنده. وأقبل أميّة وقاتله بكير فكان بينهم وقعات فى أيام، فانكشف أصحاب بكير فى بعضها، فاتبعه حريث بن قطبة حتى بلغ القنطرة وناداه إلى أين يا بكير! فرجع فضربه حريث على رأسه فقطع المغفر، وعضّ السيف برأسه فقطع فصرع، واحتمله أصحابه فأدخلوه البلد. وكان أصحاب بكير يفدون «1» فى الثياب المصبّغة فيجلسون يتحدثون. وينادى مناديهم من رمى بسهم رمينا إليه برأس رجل من ولده وأهله، فلا يرميهم أحد. وخاف بكير إن طال الحصار أن يخذله الناس، فطلب الصلح؛ وأحبّ ذلك أيضا أصحاب أميّة، فاصطلحوا على أن يقضى عنه أمية أربعمائة ألف، ويصل أصحابه ويوليه أىّ كور خراسان شاء، ولا يسمع قول بحير فيه، وإن رابه ريب فهو آمن أربعين يوما. ودخل أمية مدينة مرو، ووفى لبكير، وعاد إلى ما كان من الكرامة «2» ، وأعطى أمية عقابا «3» عشرين ألفا، وكان أمية سهلا الجزء: 21 ¦ الصفحة: 226 ليّنا سخيّا، وكان مع ذلك ثقيلا على أهل خراسان، وكان فيه زهد «1» . وعزل أمية بحيرا عن شرطته وولّاها عطاء بن أبى السائب، وطالب أميّة الناس بالخراج واشتدّ عليهم، فجلس بكير فى المسجد وعنده الناس، فذكروا شدّة أمية فذمّوه وبحير، وضرار بن حصن «2» ، وعبد «3» العزيز بن جارية بن قدامة فى المسجد، فنقل بحير ذلك إلى أميّة فكذّبه، فادّعى شهادة هؤلاء، فشهد مزاحم بن أبى المجشّر السلمى أنه كان يمزح، فتركه أميّة، ثم إن بحيرا أتى أميّة وقال: والله إن بكيرا قد دعانى إلى خلعك، وقال: لولا مكانك لقتلت هذا القرشى، وأكلت خراسان. فلم يصدّقه أمية، فاستشهد جماعة ذكر بكير أنهم أعداؤه. فقبض أمية على بكير وعلى ابنى أخيه: بدل، وشمردل، ثم أمر بعض الرؤساء بقتل بكير، فامتنعوا فأمر بحيرا بقتله فقتله، وقتل أمية ابنى أخى بكير. وحجّ بالناس فى هذه السنة أبان بن عثمان. وفيها مات جابر بن عبد الله بن عمرو الأنصارى. سنة (78 هـ) ثمان وسبعين) فى هذه السنة عزل عبد الملك بن مروان أميّة بن عبد الله عن خراسان وسجستان؛ وضمهما إلى أعمال الحجاج، فاستعمل الجزء: 21 ¦ الصفحة: 227 الحجاج المهلّب بن أبى صفرة على خراسان وعبيد «1» الله بن أبى بكرة على سجستان، فبعث المهلب ابنه حبيبا إلى خراسان، فلما ودّع الحجاج أعطاه بغلة خضراء، فسار عليها وأصحابه على البريد، فوصل خراسان فى عشرين يوما، فلما دخل باب مرو لقيه حمل حطب، فنفرت البغلة فعجبوا من نفارها بعد ذلك التعب وشدّة السير، ولم يعرض لأمية ولا لعماله، وأقام عشرة أشهر حتى قدم عليه المهلّب فى سنة [79 هـ] تسع وسبعين. وحجّ بالناس [فى هذه السنة] «2» أبان بن عثمان «3» ، وكان العمال من ذكرنا، وعلى قضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة موسى بن أنس. سنة (79 هـ) تسع وسبعين: فى هذه السنة استعفى شريح بن الحارث من القضاء فأعفاه الحجّاج، واستعمل على القضا، أبا بردة بن أبى موسى. وحجّ بالناس أبان بن عثمان وهو أمير المدينة. سنة (80 هـ) ثمانين: فى هذه السنة حجّ بالناس أبان بن عثمان، وفيها توفى أبو إدريس الخولانى، وعبد الله بن جعفر بن أبى طالب. وقيل سنة [84 هـ] أربع وثمانين، وقيل سنة خمس. وقيل سنة ستّ. وقيل سنة تسعين. والله أعلم. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 228 وفيها توفى محمد بن على بن أبى طالب [رضى الله عنهما] «1» ، وهو ابن الحنفيّة، ومات جماعة من الصحابة رضى الله [تعالى] «2» عنهم [أجمعين] «3» . سنة (81 هـ) احدى وثمانين: ذكر مقتل بحير بن ورقاء [بشر القاتل بالقتل لأنه كان سببا وباعثا لقتل بكير بن وساج] «4» فى هذه السنة قتل بحير بن ورقاء الصّريمى. وكان سبب قتله أنه لما قتل بكير بن وسّاج وكلاهما كان تميميا- قال عثمان بن رجاء ابن جابر أحد بنى «5» عوف بن سعد من الأبناء، والأبناء عدة بطون من تميم، يحرّض «6» بعض آل بكير من الأبناء على الطلب بثأره «7» : العمرى لقد أغضيت عينا على القذى ... وبتّ بطينا من رحيق مروّق «8» وخلّيت «9» ثأرا طلّ واخترت نومة ... ومن شرب «10» الصّهباء بالوتر يسبق فلو كنت من عوف بن سعد ذؤابة ... تركت بحيرا فى دم مترقرق الجزء: 21 ¦ الصفحة: 229 فقل لبحير نم ولا تخش ثائرا ... ببكر «1» فعوف أهل شاء حبلّق «2» دع «3» الضّأن يوما قد سبقتم بوتركم ... وصرتم حديثا بين غرب ومشرق وهبّوا فلو أمسى «4» بكير كعهده ... لغاداهمو زحفا بجأواء فيلق «5» وقال أيضا «6» : فلو كان بكر بارزا فى أداته ... وذى العرش لم يقدم عليه بحير ففى الدهر إن أبقانى الدّهر مطلب ... وفى الله طلّاب بذاك جدير فبلغ بحيرا أن رهط بكير من الأبناء يتوعّدونه، فقال «7» : توعّدنى الأبناء جهلا كأنّما ... يرون فنائى مقفرا من بنى كعب الجزء: 21 ¦ الصفحة: 230 رفعت له كفّى بعضب «1» مهنّد ... حسام كلون الملح «2» ذى رونق عضب فتعاقد سبعة «3» عشر من بنى عوف على الطلب بدم بكير، فخرج فتى منهم يقال له شمردل «4» من البادية حتى قدم خراسان، فرأى بحيرا واقفا، فحمل عليه فطعنه فصرعه، وظنّ أنه قتله، وركض، فعثر به فرسه فسقط عنه فقتل. وخرج صعصعة بن حرب العوفى من البادية، ومضى إلى سجستان، فجاور قرابة لبحير مدة، وادّعى أنه من بنى حنيفة من اليمامة، وأطال مجالستهم حتى أنسوا به، ثم قال لهم: إن لى بخراسان ميراثا فاكتبوا لى إلى بحير كتابا ليعيننى على حقّى. فكتبوا له، وسار فقدم على بحير فأخبره أنّه من من بنى حنيفة وأنّ له مالا بسجستان وميراثا بمرو، وقدم ليبيعه «5» ويعود إلى اليمامة. فأنزله بحير، وأمر له بنفقة، ووعده المساعدة. وكان بحير قد حذر، فلما قال له: إنه من بنى حنيفة أمنه، وكان إذ ذاك فى الغزو مع المهلب. فقال له: أقيم معك حتى ترجع إلى مرو، فأقام شهرا يحضر معه باب المهلّب، فجاء صعصعة يوما وبحير عند باب المهلب وعليه قميص ورداء، فقعد خلفه، ودنا منه كأنه يكلّمه، فوجأه بخنجر معه فى خاصرته، فغيّبه فى جوفه. ونادى يالثارات بكير! فأخذ وأتى به المهلب، فقال له: بؤسا لك! الجزء: 21 ¦ الصفحة: 231 ما أدركت بثأرك، وقتلت نفسك، وما على بحير بأس! فقال: لقد طعنته طعنة لو قسّمت بين الناس لماتوا. ولقد وجدت ريح بطنه فى يدى. فحبسه المهلّب، ومات بحير من الغد، فقال صعصعة: اصنعوا الآن ما شئتم، أليس قد خلت خدور «1» نساء بنى عوف، وأدركت بثأرى. والله لقد أمكننى منه [ما صنعت] «2» خاليا غير مرة، فكرهت أن أقتله سرّا. فقال المهلب: ما رأيت رجلا أسخى نفسا بالموت من هذا، وأمر بقتله، فقتل. وقيل: إنه بعثه إلى بحير قبل أن يموت فقتله، وغضبت عوف والأبناء وقالوا: علام قتل صاحبنا، وإنما أخذ بثأره، فنازعتهم مقاعس والبطون، وكلّهم بطون من تميم، حتى خاف الناس أن يعظم الأمر، فقال أهل الحجا: احملوا دم صعصعة، واجعلوا دم بحير [بواء] «3» ببكير، فودوا صعصعة، فقال رجل من الأبناء يمدح صعصعة «4» : لله درّ فتى تجاوز همّه ... دون العراق «5» مفاوزا وبحورا ما زال يدئب «6» نفسه وركابه ... حتى تناول فى الحزون «7» بحيرا الجزء: 21 ¦ الصفحة: 232 ذكر خلاف عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث على الحجاج وما كان بينهما من الحروب كان ابتداء خلافه على الحجاج فى هذه السنة، واستمرت الوقائع التى نذكرها بينهما إلى سنة [83 هـ] ثلاث وثمانين، وقد رأينا أن نجمع أخباره بجملتها فى هذا الموضع، ولا نقطعها بغيرها، ونميّز كل وقعة منها بتاريخها. وكان سبب خلافه أنّ الحجاج لما بعثه فى الجنود إلى بلاد رتبيل فى سنة [80 هـ] ثمانين كما ذكرنا فى الغزوات، وملك ما ملك من من حصون رتبيل، واستولى على ما استولى عليه من بلاده، وأقام، وكتب إلى الحجاج يعرّفه أنه رأى ترك التوغّل فى بلاد رتبيل حتى يعرفوا طرقها ويجبوا خراجها. فلما ورد كتابه على الحجّاج كتب إليه: إنّ كتابك كتاب امرىء يحبّ الهدنة، ويستريح إلى الموادعة، فامض إلى «1» ما أمرتك من الوغول فى أرضهم، والهدم لحصونهم، وقتل مقاتلتهم، وسبى ذراريّهم، ثم أردفه كتابا آخر [بنحو ذلك] «2» ، وفيه: أما بعد فمر من قبلك من المسلمين فليحرثوا ويقيموا بها، فإنها دارهم حتى يفتحها الله عليهم. ثم كتب إليه كتابا ثالثا كذلك، ويقول: إن مضيت إلى ما أمرتك الجزء: 21 ¦ الصفحة: 233 وإلّا فأخوك إسحاق بن محمد أمير الناس. فدعا عبد الرحمن الناس وقال لهم: أيها الناس، إنّى لكم ناصح ولصلاحكم محبّ، ولكم فى كل ما يحيط به نفعكم «1» ناظر، وقد كان رأيى فيما بينى وبين عدوى «2» ما رضيه ذوو أحلامكم وأولو التجربة منكم، وكتبت بذلك إلى أميركم الحجاج، فأتانى كتابه يعجّزنى ويضعّفنى ويأمرنى بتعجيل الوغول بكم فى أرض العدوّ، وهى البلاد التى هلك فيها إخوانكم بالأمس، وإنما أنا رجل منكم أمضى إذا مضيتم، وآبى إذا أبيتم. فثار إليه الناس وقالوا: بل، نأبى على عدوّ الله، ولا نسمع له ولا نطيع. فكان أول من تكلم أبو الطّفيل عامر بن واثلة الكنانى، وله صحبة، فقال- بعد حمد الله: أما بعد فإنّ الحجاج يرى بكم ما رأى القائل الأول [إذ قال لأخيه] «3» : احمل عبدك على الفرس، إن هلك هلك، وإن نجا فلك. إنّ الحجاج لا يبالى أن يخاطر بكم فيقحمكم بلايا «4» كثيرة، ويغشى بكم اللهوب واللّصوب «5» ، فإن ظفرتم وغنمتم أكل البلاد وحاز المال، وكان ذلك زيادة فى سلطانه؛ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 234 وإن ظفر عدوّكم كنتم أنتم الأعداء البغضاء الذين لا يبالى عنتهم، ولا يبقى عليهم، اخلعوا عدوّ الله الحجاج، وبايعوا الأمير عبد الرحمن، فإنى أشهدكم أنّى أوّل خالع. فنادى الناس من كل جانب: فعلنا فعلنا، قد خلعنا عدوّ الله. وقام عبد المؤمن بن شبث بن ربعى ثانيا فتكلّم، وندب الناس إلى مبايعة عبد الرحمن، فبايعوه على خلع الحجاج ونفيه من العراق، ولم يذكر عبد الملك، فوثب الناس إلى عبد الرحمن فبايعوه على خلع الحجاج ونفيه وعلى النّصرة له، فصالح عبد الرحمن رتبيل على أنه إن ظهر فلا خراج على رتبيل أبدا، وإن هزم فأراده منعه «1» . ثم جعل عبد الرحمن على بست عياض بن هميان الشّيبانى وعلى زرنج «2» عبد الله بن عامر التميمى، وعلى كرمان خرشة بن عمرو التميمى، ورجع إلى العراق، وجعل على مقدّمته عطية بن عمرو العنبرى. فلما بلغ فارس اجتمع الناس بعضهم إلى بعض، وقالوا: إذا خلعنا الحجاج عامل عبد الملك فقد خلعنا عبد الملك، فاجتمعوا إلى عبد الرحمن، فكان أول الناس خلع عبد الملك تيجان «3» ابن أبجر بن تيم الله بن ثعلبة «4» ، قام فقال: أيها الناس، إنى خلعت الجزء: 21 ¦ الصفحة: 235 أبا ذبّان «1» كخلعى خاتمى «2» ، فخلعه الناس إلّا قليلا منهم، وبايعوا عبد الرحمن. وكانت بيعته يبايعون على كتاب الله وسنّة نبيه صلّى الله عليه وسلّم، وعلى جهاد أهل الضّلالة، وخلعهم، وجهاد المحلّين. فلما بلغ الحجاج خلعه كتب إلى عبد الملك بالخبر، ويسأله أن يعجّل بعثة الجنود إليه. وسار الحجاج حتى بلغ البصرة. ولما وصل كتاب الحجاج إلى عبد الملك هاله، ودعا خالد بن يزيد فأقرأه الكتاب، فقال: يا أمير المؤمنين، إن كان هذا الحدث من سجستان فلا تخفه، وإن كان من خراسان فإنى أتخوّف. فجهّز عبد الملك الجند على البريد، فكانوا يصلون من مائة ومن خمسين وأقل من ذلك وأكثر، وسار الحجاج من البصرة إلى تستر «3» ، وقدم مقدمته إلى دجيل، فلقوا خيلا لعبد الرحمن، فانهزم أصحاب الحجاج بعد قتال، وذلك يوم الأضحى سنة [81 هـ] إحدى وثمانين، وقتل منهم جمع كثير. فلما أتى خبر الهزيمة إلى الحجاج رجع إلى البصرة وتبعه أصحاب عبد الرحمن، فقتلوا من أصحابه وأصابوا بعض أثقالهم. وأقبل الحجاج حتى نزل الزّاوية «4» ، وجمع عنده الطعام، وفرّق فى الناس الجزء: 21 ¦ الصفحة: 236 مائة وخمسين ألف درهم، وأقبل عبد الرحمن حتى دخل البصرة فبايعه جميع أهلها. وكان السبب فى سرعة إجابتهم إلى بيعته أنّ عمّال الحجاج كتبوا إليه إنّ الخراج قد انكسر، وإن أهل الذمّة قد أسلموا ولحقوا بالأمصار. فكتب إلى البصرة وغيرها: إن من كان له أصل فى قرية فليخرج إليها، فأخرج الناس لتؤخذ منهم الجزية، فجعلوا يبكون وينادون: يا محمداه! يا محمداه! وجعل قرّاء البصرة يبكون. فلما قدم ابن الأشعث إثر ذلك بايعوه على حرب الحجاج، وخلع عبد الملك؛ وخندق الحجاج على نفسه، وخندق عبد الرحمن على البصرة، وكان دخوله البصرة فى آخر ذى الحجة. ذكر الحرب بين الحجاج وابن الأشعث وانهزام ابن الأشعث من البصرة إلى الكوفة وفى المحرم سنة [82 هـ] اثنتين وثمانين اقتتل عسكر الحجاج وعسكر ابن الأشعث قتالا شديدا، وكان بينهم عدّة وقعات، فلما كان آخر يوم من المحرم اشتدّ القتال، فانهزم أصحاب الحجاج حتى انتهوا إليه، وقاتلوا على خنادقهم، ثم تزاحفوا فتقوّض أصحاب الحجاج، فجثا على ركبتيه، وقال: لله درّ مصعب! ما كان أكرمه حين نزل به ما نزل، وعزم على أنه لا يفر. فحمل سفيان بن الأبرد على ميمنة ابن الأشعث فهزمها، وانهزم الجزء: 21 ¦ الصفحة: 237 أهل العراق، وأقبلوا نحو الكوفة مع عبد الرحمن، وقتل منهم خلق كثير، منهم: عقبة بن عبد الغافر الأزدى وجماعة من القرّاء. ولما بلغ ابن الأشعث الكوفة تبعه أهل القوّة وأصحاب الخيل من البصرة، واجتمع من بقى بالبصرة مع عبد الرحمن بن عباس ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، فبايعوه، فقاتل بهم الحجّاج خمس ليال أشدّ قتال رآه الناس، ثم انصرف فلحق بابن الأشعث ومعه «1» طائفة من أهل البصرة، وهذه الوقعة تسمّى وقعة الزّاوية. وقتل الحجاج فى هذا اليوم بعد الهزيمة أحد عشر ألفا خدعهم بالأمان، أمر مناديا فنادى: الأمان لفلان وفلان، سمّى رجالا، فقال العامّة: قد أمن الناس، فحضروا عنده، فأمر بهم فقتلوا. قال: وكان الحجّاج عند مسيره من الكوفة إلى البصرة استعمل عليها عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عامر الحضرمى حليف بنى أميّة، فقصده مطر بن ناجية اليربوعى، فتحصّن منه ابن الحضرمىّ فى القصر، فوثب أهل الكوفة مع مطر، فأخرج ابن الحضرمى ومن معه من أهل الشام، وكانوا أربعة آلاف، واستولى مطر على القصر، واجتمع إليه الناس، ففرّق فيهم لكلّ إنسان مائتى درهم. فلما وصل ابن الأشعث إلى الكوفة كان مطر بالقصر، فخرج أهل الكوفة يستقبلونه، فدخل الكوفة، وقد سبق إليه همدان فكانوا حوله، فأتى القصر فمنعه مطر بن ناجية ومن معه من بنى تميم، فأصعد الجزء: 21 ¦ الصفحة: 238 عبد الرحمن الناس فى السلاليم إلى القصر فأخذوه، وأتى عبد الرحمن بمطر فحبسه ثم أطلقه. ذكر وقعة دير الجماجم [وانهزام أصحاب ابن الأشعث وعود الحجاج إلى الكوفة] «1» كانت وقعة دير الجماجم «2» فى شعبان سنة [82 هـ] اثنتين وثمانين، وقيل: كانت فى سنة ثلاث وثمانين. والذى يقول: إنها فى سنة ثلاث يقول: كان نزولهم بدير الجماجم لليلة مضت من شهر ربيع الأول سنة [83 هـ] ثلاث وثمانين، والهزيمة لأربع عشرة ليلة مضت من جمادى الآخرة منها، فكانت مائة يوم وثلاثة أيام. والله أعلم. وكان سبب هذه الوقعة أنّ الحجاج سار من البصرة إلى الكوفة لقتال عبد الرحمن بن الأشعث، ونزل دير «3» قرّة، وخرج عبد الرحمن من الكوفة فنزل دير الجماجم، واجتمع لعبد الرحمن أهل الكوفة وأهل البصرة وأهل الثغور والمسالح والقراء، وكانوا مائة ألف ممن يأخذ العطاء ومعهم مثلهم «4» ، وجاءت الحجاج أمداد الشام قبل نزوله بدير قرّة، وخندق كلّ منهما على نفسه، وكان الناس يقتتلون كل يوم، ولا يزال أحدهما يدنى خندقه من الآخر. فبعث عبد الملك ابنه عبد الله وأخاه محمد بن مروان- وكان محمد بأرض الموصل- فى جند كثيف إلى الحجاج، وأمرهما أن يعرضا الجزء: 21 ¦ الصفحة: 239 على أهل العراق عزل الحجاج، وأن يجرى عليهم أعطياتهم، كما يجرى على أهل الشام، وأن ينزل عبد الرحمن بن الأشعث أى بلد شاء من العراق، فإذا نزل كان واليا عليها مادام حيّا، وعبد الملك خليفة. فإن أجاب أهل العراق إلى ذلك عزلا الحجاج عنهم «1» ، وصار محمد بن مروان أمير العراق، وإن أبى أهل العراق ذلك فالحجاج أمير الجماعة ووالى «2» القتال، ومحمد وعبد الله فى طاعته، فلم يأت الحجاج أمر قطّ كان أشدّ عليه ولا أوجع لقلبه منه، وخشى أن يقبل أهل العراق عزله فيعزل عنهم، فكتب إلى عبد الملك: والله لو «3» أعطيت أهل العراق عزلى «4» لم يلبثوا إلّا قليلا حتى يخالفوك ويسيروا إليك، ولا يزيدهم ذلك إلّا جراءة عليك، ألم تر ويبلغك وثوب أهل العراق مع الأشتر على عثمان ابن عفّان وسؤالهم نزع سعيد بن العاص، فلما نزعه لم تتمّ لهم السنة حتى ساروا إلى عثمان فقتلوه؛ وإن الحديد بالحديد يفلح. فأبى عبد الملك إلّا عرض عزله على أهل العراق، وقال: عزله أيسر من حرب أهل العراق، ويحقن الدماء. فخرج عبد الله بن عبد الملك وقال: يأهل العراق، أنا ابن أمير المؤمنين، وهو يعطيكم كذا وكذا. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 240 وخرج محمد بن مروان، وقال: أنا رسول أمير المؤمنين، وهو يعرض عليكم كذا وكذا. فقالوا: نرجع للعشيّة. ورجعوا، واجتمعوا عند ابن الأشعث، فقال لهم: قد أعطيتم أمرا انتهازكم إياه اليوم فرصة، وإنكم اليوم على النّصف؛ فإن كانوا اعتدّوا عليكم بيوم الزّاوية فأنتم تعتدون عليهم بيوم تستر، فاقبلوا ما عرض عليكم، وأنتم أعزّاء أقوياء. فوثبوا وقالوا: لا والله لا نقبل. وأعادوا خلع عبد الملك ثانيا؛ وكان أول من قام بخلعه بدير الجماجم عبد الله بن ذؤاب السلمى وعمير بن تيحان، وكان اجتماعهم على خلعه بالجماجم أجمع من الخلع بفارس. فقال عبد الله ومحمد للحجاج: شأنك بعسكرك وجندك، واعمل برأيك، فإنا قد أمرنا أن نسمع لك ونطيع، وكانا يسلمان عليه بالإمرة ويسلّم عليهما بالإمرة. قال: ولما اجتمع أهل العراق على خلع عبد الملك قال ابن الأشعث: ألا إنّ بنى مروان يعيّرون بالزّرقاء، والله ما لهم نسب أصحّ منه، إلّا أنّ بنى العاص «1» . أعلاج من أهل صفّورية «2» ، فإن يكن هذا الأمر فى قريش فعنّى تقوّبت «3» بيضة قريش، وإن يك فى العرب فأنا ابن الأشعث، ومدّ بها صوته حتى سمعه الناس. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 241 وبرزوا للقتال، فجعل الحجاج على ميمنته عبد الرحمن بن سليم الكلبى، وعلى ميسرته عمارة بن تميم اللخمى، وعلى خيله سفيان ابن الأبرد الكلبى، وعلى رجاله عبد الله «1» بن حبيب الحكمى. وجعل ابن الأشعث على ميمنته الحجاج بن جارية «2» الخثعمى. وعلى ميسرته الأبرد بن قرّة التميمى، وعلى خيله عبد الرحمن ابن العباس «3» بن ربيعة الهاشمى، وعلى رجاله محمد بن سعد ابن أبى وقاص، وعلى مجنّبته «4» عبد الله بن رزام الحارثى، وجعل على القرّاء زحر «5» بن قيس الجعفى، وفيهم سعيد بن جبير بن هشاء الشعبى، واسمه عامر بن شراحيل، وأبو البخترى الطائى، وعبد الرحمن ابن أبى ليلى. وأخذوا فى القتال [فى كل يوم] «6» ، وأهل العراق تأتيهم موادّهم من الكوفة وسوادها، وهم فى خصب. وأهل الشام فى ضيق «7» شديد، قد غلت عندهم الأسعار، وفقد اللحم، حتى كأنهم فى حصار. وهم على ذلك يغادون القتال ويراوحون «8» . فعبّأ الحجاج فى بعض الأيام لكتيبة القرّاء ثلاث كتائب، وبعث عليها الجرّاح بن عبد الله الحكمى؛ فقام «9» جبلة بن زحر الجزء: 21 ¦ الصفحة: 242 فى القراء، وحرضهم على القتال، وذمّ أهل الشام، وسمّاهم المحلّين المحدثين المبتدعين الذين جهلوا الحقّ فلا يعرفونه، وعملوا بالعدوان فلا ينكرونه فى كلام كثير قاله. وقال أبو البخترى: أيها الناس، قاتلوهم على دينكم ودنياكم. وقال الشعبى: أيّها الناس قاتلوهم قاتلوهم ولا يأخذكم حرج من قتالهم: فو الله ما أعلم على بسيط الأرض أعمل بظلم ولا أجور فى حكم منهم. وقال سعيد بن جبير نحو ذلك. وقال جبلة: احملوا حملة صادقة ولا تردّوا وجوهكم عنهم. فحملوا عليهم فأزالوا الكتائب عن مواقفها وفرّقوها وتقدّموا حتى واقعوا صفّهم، فأزالوه عن مكانه؛ ثم رجعوا فوجدوا جبلة بن زحر قتيلا. وكان سبب قتله أنّ أصحابه لمّا حملوا على أهل الشام وفرّقوهم وقف لأصحابه ليرجعوا إليه، فافترقت فرقة من أهل الشام، فنظروا إليه، فقال بعضهم لبعض: احملوا عليه مادام أصحابه مشاغيل بالقتال، فحملوا عليه فلم يزل «1» ، وحمل عليهم فقتل؛ قتله الوليد ابن نحيت «2» الكلبى، وجىء برأسه إلى الحجاج، فبشّر أصحابه بقتله، فلما رجع أصحاب جبلة ورأوه قتيلا سقط فى أيديهم، وظهر الفشل فى القراء [وناداهم أهل الشام: يا أعداء الله، قد هلكتم وقتل طاغيتكم] «3» - وقدم عليهم بسطام بن مصقلة بن هبيرة الجزء: 21 ¦ الصفحة: 243 الشيبانى، ففرحوا به، وقالوا: تقوم مقام جبلة، وكان قدومه من الرىّ، فجعله عبد الرحمن على ربيعة، فدخل عسكر الحجاج، فأخذ من نساء أصحابه ثلاثين امرأة فأطلقهن، فقال الحجاج: منعوا نساءهم لو لم يردّوهنّ لسبيت نساءهم إذا ظهرت عليهم. قال: وخرج عبد الله بن رزام الحارثى يطلب «1» المبارزة، فخرج إليه رجل من عسكر الحجاج فقتله عبد الله، فعل ذلك ثلاثة أيام. فلما كان فى اليوم الرابع خرج فقالوا: جاء لا جاء الله به! فقال الحجاج للجرّاح: اخرج إليه. فخرج، فقال له عبد الله: ما جاء بك؟ ويحك يا جرّاح! وكان له صديقا. فقال: ابتليت بك. قال: فهل لك فى خير؟ قال الجرّاح: ما هو؟ قال: أنهزم لك فترجع إلى الحجّاج وقد أحسنت عنده وحمدك، وأحتمل أنا مقالة الناس فى انهزامى حبّا لسلامتك، فإنى لا أحب قتل مثلك من قومى. قال: افعل. فحمل الجرّاح عليه فاستطرد له، وحمل عليه الجرّاح بجدّ «2» . يريد قتله، فصاح بعبد الله غلامه وقال: إنّ الرجل يريد قتلك. فعطف عبد الله على الجرّاح فضربه بعمود على رأسه فصرعه، وقال له: يا جراح، بئسما جزيتنى! أردت بك العافية، وأردت قتلى. انطلق فقد تركتك للقرابة والعشيرة. قال: ودام القتال بينهم بدير الجماجم إلى آخر المدة التى ذكرناها، الجزء: 21 ¦ الصفحة: 244 فلما كان يوم الهزيمة اقتتلوا أشدّ قتال، واستظهر أصحاب عبد الرحمن على أصحاب الحجاج، واستعلوا عليهم، وهم آمنون أن ينهزموا، فبينما هم كذلك إذ حمل سفيان بن الأبرد وهو على ميمنة الحجاج على الأبرد بن قرّة التميمى، وهو على ميسرة ابن الأشعث، فانهزم الأبرد بالناس من غير قتال، فظنّ الناس أنّ الأبرد قد صولح على أن ينهزم بالناس، فلما انهزم تقوّضت الصفوف، وركب الناس بعضهم بعضا، وصعد عبد الرحمن [بن محمد] «1» المنبر ينادى الناس: إلىّ عباد الله؛ فاجتمع إليه جماعة، فثبت حتى دنا أهل الشام، فقاتل من معه، ودخل أهل الشام العسكر، فأتاه عبد الله بن يزيد بن المغفل الأزدى، فقال له: انزل، فإنى أخاف عليك أن تؤسر، ولعلك إذا انصرفت أن يجتمع «2» لك جمع يهلكهم الله به. فنزل وانهزم هو ومن معه لا يلوون على شىء. ودخل الحجاج الكوفة، وعاد محمد بن مروان إلى الموصل، وعبد الله بن عبد الملك إلى الشام، وأخذ الحجاج يبايع الناس، وكان لا يبايع أحدا إلا قال له: أتشهد أنك كفرت، فإن قال نعم بايعه، وإلا قتله. فأتاه رجل من خثعم كان قد اعتزل الناس جميعا، فسأله عن حاله فأخبره باعتزاله، فقال له: أنت متربّص، أتشهد أنك كافر! فقال: بئس الرجل أنا إذا؛ أعبد الله «3» ثمانين سنة ثم أشهد على نفسى بالكفر. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 245 قال: إذا أقتلك، قال: وإن قتلتنى، فقتله. فما بقى أحد من أهل الشام والعراق إلّا رحمه. وقتل كميل بن زياد وكان خصيصا بعلىّ بن أبى طالب رضى الله عنهما، وأتى بآخر بعده، فقال الحجاج: أرى رجلا ما أظنّه يشهد على نفسه بالكفر، فقال له الرجل: أتخادعنى «1» عن نفسى، أنا أكفر أهل الأرض وأكفر من فرعون. فضحك الحجاج وخلّى سبيله. قال: وأقام الحجاج بالكوفة شهرا، وأنزل أهل الشام بيوت أهل الكوفة مع أهلها، وهو أوّل من أنزل الجند فى بيوت غيرهم، واستمرت هذه القاعدة بعده. قال: وكان الحجاج لما انهزم الناس أمر مناديا فنادى: من لحق بقتيبة بن مسلم فهو أمانه «2» . وكان قد ولّاه الرّىّ، فلحق به ناس كثير منهم الشعبى، فذكره الحجاج يوما بعد الفراغ من أمر ابن الأشعث، فقيل له: إنه لحق بقتيبة بالرّىّ؛ فكتب إلى قتيبة يأمره بإرساله. قال الشعبى: فلما قدمت على الحجاج لقيت يزيد بن أبى مسلم وكان صديقا لى، فقال: اعتذر مهما «3» استطعت. وأشار بمثل ذلك إخوانى ونصحائى. فلما دخلت على الحجّاج رأيت غير ما ذكروا «4» ، فسلمت عليه بالإمرة، وقلت: أيها الأمير، إن الناس قد أمرونى أن أعتذر الجزء: 21 ¦ الصفحة: 246 بما يعلم الله أنه غير الحق، وايم الله لا أقول فى هذا المقام إلّا الحق: قد والله تمردنا «1» عليك وحرّضنا عليك، وجهدنا، فما كنّا بالأقوياء الفجرة ولا بالأتقياء البررة، ولقد نصرك الله علينا، وأظفرك بنا، فإن سطوت فبذنوبنا، وما جرت إليه أيدينا، وإن عفوت عنّا فبحلمك. وبعد فالحجة لك علينا. فقال الحجاج: أنت والله أحبّ إلىّ قولا ممن يدخل علينا يقطر سيفه من دمائنا ثم يقول: ما قلت ولا شهدت، قد أمنت يا شعبى. كيف وجدت الناس بعدنا، فقلت: أصلح الله الأمير، اكتحلت بعدك السهر، واستوعرت الجناب، وفقدت صالح الإخوان، ولم أجد من الأمير خلفا. قال: انصرف يا شعبىّ. فانصرفت. نعود إلى بقية أخبار عبد الرحمن بن الأشعث: ذكر الوقعة بمسكن «2» قال: ولما انهزم عبد الرحمن من دير الجماجم أتى البصرة، فاجتمع إليه من المنهزمين جمع كثير، فاجتمعوا بمسكن، وبايعوه على الموت، وخندق عبد الرحمن على أصحابه، وجعل القتال من وجه واحد، وقدم إليه خالد بن جرير بن عبد الله من خراسان، وأتاه الحجاج، فاقتتلوا خمسة عشر يوما من شعبان أشدّ قتال، وبات الحجاج يحرّض أصحابه، فلما أصبحوا باكروا القتال، واشتدّت الجزء: 21 ¦ الصفحة: 247 الحرب، فانهزم ابن الأشعث ومن معه، وقتل عبد الرحمن بن أبى ليلى الفقيه، وأبو البخترى الطائى، ومشى بسطام بن مصقلة بن هبيرة فى أربعة آلاف فارس من شجعان أهل الكوفة والبصرة، وكسروا جفون سيوفهم، وحملوا على أهل الشام، فكشفوهم مرارا، فدعا الحجاج الرّماة فرموهم، وأحاط بهم الناس، فقتلوهم إلا قليلا. ومضى ابن الأشعث إلى سجستان. وقد قيل فى هزيمة ابن الأشعث بمسكن أنه اجتمع هو والحجاج، وكان العسكران بين دجلة والسّيب «1» والكرخ «2» ، فاقتتلوا شهرا أو دونه، فأتى شيخ فدلّ «3» الحجاج على طريق من وراء الكرخ «4» فى أجمة وضحضاح من الماء، فأرسل معهم أربعة آلاف، فسار بهم، ثم قاتل الحجاج أصحاب عبد الرحمن، فانهزم الحجاج فعبر السّيب، ورجع ابن الأشعث إلى عسكره آمنا بعد أن نهب عسكر الحجاج، فأمن أصحابه، وألقوا السلاح. فلما كان نصف الليل لم يشعروا إلّا وقد أخذهم السيف من تلك السريّة، فغرق من أصحاب عبد الرحمن أكثر ممّن قتل، ورجع الحجاج على الصوت يقتل من وجد، فكان عدّة من قتل أربعة آلاف، منهم عبد الله بن شداد ابن الهاد، وبسطام بن مصقلة، وعمر بن ضبيعة الرقاشى، وبشر ابن المنذر بن الجارود، وغيرهم. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 248 ذكر مسير عبد الرحمن الى رتبيل وما كان من أمره وأمر أصحابه قال: ولما انهزم عبد الرحمن من مسكن سار إلى سجستان فأتبعه الحجاج ابنه محمدا وعمارة بن تميم اللخمى، وعمارة على الجيش، فأدركه عمارة بالسّوس «1» ، فقاتله ساعة، ثم انهزم عبد الرحمن ومن معه، وساروا حتى بلغوا نيسابور «2» ، واجتمع إليه الأكراد، فقاتلهم عمارة قتالا شديدا على العقبة، فجرح عمارة وكثير من أصحابه، فانهزم عمارة وترك لهم «3» العقبة، وسار عبد الرحمن حتى أتى كرمان وعمارة يتبعه، فلما وصل عبد الرحمن إليها لقيه عامله وقد هيّأ له منزلا «4» ، فنزل. ثم رحل إلى سجستان فأتى زرنج «5» وفيها عامله فأغلق بابها. ومنع عبد الرحمن من دخولها، فأقام عليها أياما ليفتحها فلم يصل إلى ذلك، فسار إلى بست «6» ، وكان قد استعمل عليها عياض بن هميان بن «7» هشام السدوسى الشيبانى. فاستقبله فأنزله. فلما غفل عنه أصحابه قبض عليه عياض، وأوثقه، وأراد أن يأمن به «8» عند الحجاج. وكان رتبيل ملك الترك قد سمع بمقدم عبد الرحمن، فسار إليه الجزء: 21 ¦ الصفحة: 249 ليستقبله لما كان قد تقرّر بينهما من العهود والمواثيق كما تقدم. فلما بلغه أنّ عياضا قد قبض عليه نزل على بست، وبعث إلى عياض يتهدّده بالقتل إن هو لم يطلقه، فاستأمنه عياض، وأطلق عبد الرحمن، ثم سار عبد الرحمن مع رتبيل إلى بلاده، فأنزله وأكرمه وعظّمه، وكان ناس كثير من أصحاب عبد الرحمن ممّن انهزم من الرءوس وقادة الجيوش الذين لم يقبلوا أمان الحجاج، ونصبوا له العداوة فى كل موطن قد بعثوا يستدعونه ويخبرونه أنهم على قصد خراسان ليقووا بمن بها من عشائرهم، فأتاهم ابن الأشعث. وكان عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب يصلّى بهم إلى أن قدم ابن الأشعث. فلما قدم عليهم ساروا كلّهم ففتحوا زرنج، وسار نحوهم عمارة بن تميم فى أهل الشام؛ فقال أصحاب عبد الرحمن له: اخرج بنا عن سجستان إلى خراسان. فقال: إن بها يزيد بن المهلب، وهو رجل شجاع، ولا يترك لكم سلطانه، ولو دخلناها لقاتلنا وتتبعنا «1» أهل الشام، فيجتمع علينا أهل خراسان وأهل الشام. فقالوا: لو دخلنا خراسان لكان من يتّبعنا أكثر ممّن يقاتلنا. فسار معهم حتى بلغوا هراة، فهرب من أصحابه عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة القرشى فى ألفين. فقال لهم عبد الرحمن: إنى كنت فى مأمن وملجأ، فجاءتنى كتبكم أن أقبل، فإنّ أمرنا واحد، فلعلنا نقاتل عدوّنا. فأتيتكم فرأيتم أن أمضى إلى خراسان، و [زعمتم] «2» أنكم مجتمعون لى «3» ولا تتفرّقون، وهذا عبيد الله قد صنع الجزء: 21 ¦ الصفحة: 250 ما رأيتم، فاصنعوا ما بدا لكم، أما أنا فمنصرف إلى صاحبى الذى أتيت من عنده. فتفرّق منهم طائفة وبقى معه طائفة، وبقى عظم العسكر مع عبد الرحمن «1» بن العبّاس [فبايعوه «2» ] ، فأتوا هراة، فلقوا بها الرّقاد «3» الأزدى فقتلوه، فسار إليهم يزيد بن المهلب. وقيل: لما انهزم ابن الأشعث من مسكن أتى عبيد الله بن عبد الرحمن ابن سمرة هراة، وأتى عبد الرحمن بن عباس سجستان، فاجتمع معه فل ابن الأشعث. فساروا إلى «4» خراسان فى عشرين ألفا، فنزل هراة، ولقى الرّقاد [بن عبيد العتكى] «5» بها فقتلوه، فأرسل إليه يزيد بن المهلب وهو عامل خراسان يقول: قد كان لك فى البلاد متّسع، من «6» هو أهون منى شوكة؛ فارتحل إلى بلد ليس [لى] «7» فيه سلطان، فإنى أكره قتالك، وإن أردت مالا أرسلت إليك. فأعاد الجواب: إنا ما نزلنا لمحاربة ولا لمقام، ولكن أردنا أن نريح، ثم نرحل عنك، وليست بنا إلى المال حاجة. ثم أقبل عبد الرحمن بن العباس على الجباية، وبلغ ذلك يزيد ابن المهلب، فقال: من أراد أن يريح ثم يرحل لم يجب الخراج، الجزء: 21 ¦ الصفحة: 251 وسار نحوه، وأعاد مراسلته يقول: إنك قد أرحت وسمنت وجبيت الخراج، فلك ما جبيت وزيادة، فاخرج عنى، فإنى أكره قتالك، فأبى إلّا القتال. وكاتب جند يزيد يستميلهم ويدعوهم إلى نفسه، فعلم يزيد بذلك، فقال: جلّ الأمر عن العتاب، ثم تقدّم إليه فقاتله، فلم يكن بينهما «1» كثير قتال، حتى تفرّق أصحاب عبد الرحمن عنه، وصبر وصبرت معه طائفة، ثم انهزموا. وأمر يزيد أصحابه بالكفّ عن اتباعهم، وأخذ ما كان فى عسكرهم، وأسروا منهم أسرى، منهم محمد بن سعد بن أبى وقّاص، وعمر ابن موسى بن عبيد الله بن معمر، وعيّاش «2» بن الأسود بن عوف الزّهرى، والهلقام بن نعيم بن القعقاع بن معبد بن زرارة، وفيروز ابن حصين، وأبو العلج «3» مولى عبيد الله بن معمر، وسوّار ابن مروان، وعبد الرحمن بن طلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعى، وعبد الله بن فضالة الزّهرانى الأزدى، ولحق عبد الرحمن بن العباس بالسّند، وأتى ابن سمرة مرو، وانصرف يزيد بن المهلب إلى مرو. وبعث الأسرى إلى الحجاج مع سبرة بن نجدة «4» إلّا عبد الرحمن ابن طلحة فإنه أطلقه. وكان سبب إطلاقه أن حبيب بن المهلب قال لأخيه يزيد لما أراد الجزء: 21 ¦ الصفحة: 252 أن يسير الأسرى: بأى وجه تنظر إلى اليمانية، وقد بعثت عبد الرحمن ابن طلحة؟ فقال يزيد: إنه الحجاج، فلا تتعرض «1» إليه. قال: وطّن نفسك على العزل، ولا ترسل به، فإنّ له عندنا يدا. قال: وما هى؟ قال: ألزم المهلّب فى مسجد الجماعة بمائة ألف، فأدّاها طلحة عنه، فأطلقه يزيد، ولم يرسل أيضا عبد الله بن فضالة لأنه من الأزد، وأرسل الباقين. فلما قدموا على الحجاج أحضر فيروز، فقال له الحجاج: أبا عثمان، ما أخرجك مع هؤلاء؟ فو الله ما لحمك من لحومهم، ولا دمك من دمائهم. قال: فتنة عمّت الناس. قال: اكتب لى أموالك. قال: اكتب يا غلام ألف ألف وألفى ألف، فذكر مالا كثيرا. فقال الحجاج: أين هذه الأموال؟ فقال: عندى. قال: فأدّها. قال: وأنا آمن على دمى؟ قال: والله لتؤدّينّها ثم لأقتلنّك. قال: والله لا يجتمع دمى ومالى. فأمر به فنحى، ثم أحضر محمد ابن سعد بن أبى وقاص، فقال: يا ظلّ الشيطان، أعظم الناس تيها وكبرا، تأبى بيعة يزيد بن معاوية وتتشبه بالحسين وابن عمر، ثم صرت مؤذنا «2» . وجعل يضرب رأسه بعمود «3» فى يده حتى أدماه، ثم أمر به فقتل. ثم دعا بعمر بن موسى، فقال: يا عبد المرأة، تقوم بالعمود على الجزء: 21 ¦ الصفحة: 253 رأس «1» ابن الحائك- يعنى ابن الأشعث وتشرب معه فى الحمام «2» . فقال: أصلح الله الأمير، كانت فتنة شملت البرّ والفاجر، فدخلنا فيها، وقد أمكنك الله منّا، فإن عفوت فبفضلك وحلمك، وإن عاقبت عاقبت ظلمة مذنبين. فقال الحجاج: إنها شملت الفجّار، وعوفى منها الأبرار، أمّا اعترافك فعسى أن ينفعك، فرجا «3» الناس السلامة. ثم أمر به فقتل. ثم دعا بالهلقام بن نعيم، فقال له: احسب «4» أن ابن الأشعث طلب ما طلب، ما الذى أمّلت أنت معه! قال: أمّلت أن يملك فيولّينى العراق كما ولّاك عبد الملك إياه، فأمر به فقتل. ودعا عبد الله بن عامر. فلما أتاه قال له: يا حجاج، لا رأت عينك الجنة إن أفلت «5» ابن المهلب بما صنع، قال: وما صنع؟ قال: لأنه كاس «6» فى إطلاق أسرته ... وقاد نحوك فى أغلالها مضر وقى بقومك ورد الموت أسرته ... وكان قومك أدنى عنده خطر فأطرق الحجاج، ووقرت فى قلبه، وقال: ما أنت وذاك؟ ثم أمر به فقتل. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 254 ثم أمر بفيروز فعذّب، فلما أحسّ بالموت قال للموكّل بعذابه: إنّ الناس لا يشكّون أنى قد قتلت، ولو دائع وأموال عند الناس لا تؤدّى إليكم أبدا؛ فأظهرنى «1» للناس ليعلموا أنى حى، فيؤدّوا المال. فأعلم الحجاج بقوله، فقال: أظهروه «2» ، فأخرج إلى باب المدينة، فصاح فى الناس: من عرفنى فقد عرفنى، ومن أنكرنى فأنا فيروز بن حصين، إن لى عند أقوام مالا، فمن كان لى عنده شىء فهوله، وهو منه فى حلّ، فلا يؤد أحد درهما، ليبلغ الشاهد الغائب، فأمر به الحجاج فقتل. وأمر بقتل عمر بن «3» قرّة الكندى، وكان شريفا، وقتل أعشى همدن، وأتى بأسيرين فأمر بقتلهما، فقال أحدهما، إن لى عندك يدا. قال: وما هى؟ قال: ذكر عبد الرحمن يوما أمك بسوء فنهيته. قال: من يعلم ذلك؟ قال: هذا الأسير الآخر. فسأله الحجاج فصدقه. فقال له الحجاج: فلم لم تفعل كما فعل؟ قال: وينفعنى الصّدق عندك؟ قال: نعم. قال: منعنى البغض لك ولقومك. قال: خلّوا عن هذا لفعله. وعن هذا لصدقه. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 255 وأما ابن الأشعث فإنه سار إلى رتبيل، فأقام عنده، فكتب إليه الحجاج: أن ابعثه إلىّ وإلّا فو الذى لا إله غيره لأوطئنّ أرضك ألف ألف مقاتل، وكان مع عبد الرحمن رجل من تميم اسمه عبيد ابن سبيع «1» التميمى، وكان رسوله إلى رتبيل. فقال القاسم بن محمد ابن الأشعث لأخيه عبد الرحمن: إنى لا آمن غدر هذا التميمى فاقتله. فخافه عبيد على نفسه، فوشى به إلى رتبيل، وخوّفه الحجاج، ودعاه إلى الغدر بابن الأشعث، وقال له: أنا آخذ لك من الحجاج عهدا ليكفّنّ «2» عن أرضك سبع سنين، على أن تدفع إليه عبد الرحمن. فأجابه إلى ذلك. فخرج عبيد إلى عمارة سرّا فذكر ذلك له، فكتب عمارة إلى الحجاج بذلك. فأجابه إليه، وبعث رتبيل برأس عبد الرحمن، وذلك فى سنة [85 هـ] خمس وثمانين. وقيل: إن عبد الرحمن كان قد أصابه السل فمات فقطع رتبيل رأسه. وقيل: إن رتبيل لما صالح عمارة بن تميم اللخمى عن «3» ابن الأشعث كتب عمارة إلى الحجاج بذلك، فأطلق له خراج بلاده عشر سنين. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 256 فأرسل رتبيل إلى عبد الرحمن وثلاثين من أهل بيته، فحضروا عنده، فقيّدهم وأرسلهم إلى عمارة، فألقى عبد الرحمن نفسه من سطح قصر فمات، فاحتزّ رأسه، وسيّره إلى الحجاج، وسيّره الحجاج إلى عبد الملك مع عرار بن عمرو بن شأس، وكتب معه كتابا، فجعل عبد الملك يقرأ كتاب الحجاج، فإذا شكّ فى شىء سأل عرارا عنه فيخبره به، وكان عرار أسود اللون، فعجب عبد الملك من بيانه وفصاحته مع سواده، وهو لا يعرفه فتمثّل «1» : وإن «2» عرارا إن يكن غير واضح ... فإنى أحبّ الجون ذا المنطق العمم فضحك عرار، فقال له عبد الملك: مالك تضحك؟ فقال: أتعرف عرارا يا أمير المؤمنين؟ قال: لا. قال: فأنا هو. فضحك عبد الملك ثم قال: حظّ وافق حكمة. وأحسن جائزته، وسرّحه. وروى أبو عمر بن عبد البر بسند رفعه إلى العتبى عن أبيه، قال «3» : كتب الحجاج إلى عبد الملك كتابا يصف له فيه أهل العراق وما ألفاهم عليه من الاختلاف وما يكرهه «4» منهم، وعرّفه ما يحتاجون إليه من التقويم والتأديب، ويستأذنه أن يودع قلوبهم من الرهبة ما يخفّون به إلى الطاعة، ودعا رجلا من أصحابه كان يأنس به، فقال له: انطلق بهذا الكتاب، ولا يصلنّ من يدك إلّا إلى يد أمير المؤمنين، فإذا قبضه فتكلّم عليه. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 257 ففعل الرجل ذلك، فجعل «1» عبد الملك كلّما شكّ فى شىء يستفهمه «2» ، فوجده أبلغ من الكاتب «3» ، فقال [عبد الملك] «4» : وإن عرارا إن يكن غير واضح ... البيت. فقال [له] «5» الرجل: يا أمير المؤمنين، أتدرى من يخاطبك؟ قال: لا. قال: أنا عرار، وهذا الشّعر لأبى، وذلك أنّ أمى ماتت وأنا مرضع، فتزوّج أبى امرأة فكانت تسىء «6» ولايتى، فقال أبى: فإن كنت منى أو «7» تريدين صحبتى ... فكونى له كالشّمس ربّت به الأدم وإلّا فسيرى سير راكب ناقة ... تيمّم خبتا ليس فى سيره أمم أرادت عرارا بالهوان ومن يرد ... عرارا لعمرى بالهوان لقد «8» ظلم وإنّ عرارا إن يكن غير واضح ... فإنّى أحبّ الجون ذا المنطق العمم ولما جىء بالرأس إلى عبد الملك أرسله إلى أخيه عبد العزيز بمصر، فقال بعض الشعراء: الجزء: 21 ¦ الصفحة: 258 هيهات موضع جثّة من رأسها ... رأس بمصر وجثّة بالرّخّج «1» وقيل: إن هلاك عبد الرحمن كان فى سنة [84 هـ] أربع وثمانين. ولنرجع إلى تتمة حوادث السنين: وفى سنة (81 هـ) احدى وثمانين: حج بالناس سليمان [بن عبد الملك] «2» . سنة (82 هـ) اثنتين وثمانين: فى هذه السنة كانت وفاة المغيرة بن المهلّب بخراسان فى شهر رجب منها، وكان أبوه قد استخلفه على عمله. ذكر وفاة المهلب بن أبى صفرة ووصيّته لبنيه وولاية ابنه يزيد خراسان وفى هذه السنة توفى المهلّب بن أبى صفرة بمرو الروذ بالشّوصة وقيل بالشّوكة «3» ، وأوصى إلى حبيب ابنه فصلّى عليه، وقال لبنيه: إنى قد استخلفت عليكم يزيد فلا تخالفوه. فقال ابنه المفضّل: لو لم تقدمه لقدمناه، وأحضر ولده فأوصاهم، وأحضر سهاما محزومة فقال: أتكسرونها مجتمعة؟ قالوا: لا. قال: أفتكسرونها متفرّقة؟ قالوا: نعم. قال: فهكذا الجماعة. ثم قال: أوصيكم بتقوى الله، وصلة الرحم، فإنها تنسىء فى الأجل وتثرى المال، وتكثر العدد؛ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 259 وأنهاكم عن القطيعة؛ فإنها تعقب النار والذلّة والقلّة، وعليكم بالطاعة والجماعة، ولتكن فعالكم أفضل من مقالكم «1» ، واتّقوا الجواب وزلّة اللسان، فإن الرجل يزلّ قدمه فينتعش «2» ، ويزل لسانه فيهلك، واعرفوا لمن يغشاكم حقّه، فكفى بغدوّ الرجل ورواحه إليكم تذكرة له، وآثروا الجود على البخل، وأحبّوا العرب «3» ، واصنعوا المعروف «4» ؛ فإن الرجل من العرب تعده العدة فيموت دونك، فكيف بالصنيعة عنده! وعليكم فى الحرب بالتؤدة «5» والمكيدة، فإنهما «6» أنفع من الشجاعة، وإذا كان اللقاء نزل القضاء، فإن أخذ الرجل «7» بالحزم فظفر قيل: أتى الأمر من وجهه فظفر فحمد، فإن لم يظفر [بعد الأناة] «8» قيل: ما فرّط ولا ضيّع، ولكن القضاء غالب. وعليكم بقراءة القرآن وتعليم السنن وآداب «9» الصالحين، وإياكم وكثرة الكلام فى مجالسكم. ومات رحمه الله. فكتب ابنه يزيد إلى الحجاج يعلمه بوفاته، فأقره على خراسان. *** وفيها عزل عبد الملك أبان بن عثمان عن المدينة فى جمادى الاخرة، واستعمل عليها هشام بن إسماعيل المخزومى. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 260 وحجّ بالناس أبان بن عثمان. سنة (83 هـ) ثلاث وثمانين: ذكر خبر عمر بن أبى الصلت وخلعه الحجاج بالرىّ وما كان من أمره قال: لما ظفر الحجاج بابن الأشعث لحق خلق كثير من المنهزمين بعمر بن أبى الصّلت، وكان قد غلب على الرىّ فى تلك الفتنة، فلما اجتمعوا بالرّىّ أرادوا أن يحظوا عند الحجاج بأمر يمحون به عن أنفسهم عثرة «1» الجماجم، فأشاروا على عمر بخلع الحجاج وقتيبة، فامتنع، فوضعوا عليه أباه؛ أبا الصّلت، وكان به بارّا، فأشار بذلك عليه وألزمه به، وقال. يا بنى، إذا سار هؤلاء تحت لوائك لا أبالى أن تقتل غدا. ففعل. فلما قارب قتيبة الرّىّ استعدّ لقتاله، فالتقوا، واقتتلوا، فغدر أصحاب عمر به وأكثرهم من تميم، فانهزم ولحق بطبرستان، فآواه الأصبهذ «2» وأكرمه وأحسن نزله، فقال عمر لأبيه: إنك أمرتنى بخلع الحجاج وقتيبة فأطعتك وكان خلاف رأيى، ولم أحمد رأيك، وقد نزلنا بهذا الأصبهذ فدعنى حتى أثب إليه «3» فأقتله. وأجلس على مملكته، فقد علمت الأعاجم أنّى أشرف منه. فقال أبوه: ما كنت لأفعل هذا برجل «4» أوانا وأكرمنا وأنزلنا. فقال عمر: أنت أعلم، وسترى. ودخل قتيبة الرى، وكتب إلى الحجاج بانهزام عمر إلى طبرستان. فكتب الحجاج إلى الأصبهذ «5» أن ابعث بهم أو برءوسهم «6» ، وإلا فقد الجزء: 21 ¦ الصفحة: 261 برئت منك الذمّة، فصنع لهم الأصبهذ طعاما وأحضرهم، فقتل عمر، وبعث أباه أسيرا. وقيل: قتلهم وبعث برءوسهم. والله أعلم. ذكر بناء مدينة واسط وفيها بنى الحجاج مدينة واسط، وسبب ذلك أنّه ضرب البعث على أهل الكوفة إلى خراسان وعسكر بحمّام عمر، وكان فتى من أهل الكوفة حديث عهد بعرس [بابنة عمّ له] «1» ، فانصرف من العسكر إلى ابنة عمه، فطرق «2» عليه الباب طرقا شديدا، فإذا سكران من أهل الشام، فقالت المرأة لبعلها: لقد لقينا من هذا الشامى شرّا يفعل بنا كلّ ليلة ما ترى- يريد المكروه، وقد شكوته إلى مشيخة أصحابه. فقال: ائذنى له، فأذنت له. فلما دخل قتله زوجها. فلما أذّن الفجر خرج إلى العسكر وقال لابنة عمه: إذا صلّيت الفجر فابعثى إلى الشاميين ليأخذوا صاحبهم، فإذا أحضروك إلى «3» الحجاج فاصدقيه الخبر على وجهه، ففعلت، وأحضرت إلى الحجاج، فأخبرته فصدّقها، وقال للشاميين: خذوا صاحبكم لا قود له ولا عقل، فإنه قبيل «4» الله إلى النار. ثم نادى مناد: لا ينزلنّ أحد على أحد، وبعث روّادا يرتادون له منزلا، وأقبل حتى نزل بموضع «5» واسط، وإذا راهب قد أقبل على حمار، فلما كان بموضع واسط بال الحمار، فنزل الراهب فاحتفر «6» ذلك البول ورماه فى دجلة الجزء: 21 ¦ الصفحة: 262 والحجاج ينظر إليه، فاستحضره وقال له: ما حملك على ما صنعت؟ قال: نجد فى كتبنا أنه يبنى فى هذا الموضع مسجد يعبد الله فيه ما دام فى الأرض أحد يوحّد الله. فاختطّ الحجاج مدينة واسط وبنى المسجد فى ذلك الموضع. وحجّ بالناس فى هذه السنة هشام بن إسماعيل. سنة (84 هـ) أربع وثمانين: فى هذه السنة قتل الحجاج أيوب بن القرّيّة «1» ، وكان مع ابن الأشعث، فلما هزم التحق أيّوب بحوشب بن يزيد عامل الحجاج على الكوفة، فاستحضره الحجاج وقتله. وحجّ بالناس هشام بن إسماعيل. سنة (85 هـ) خمس وثمانين: ذكر عزل يزيد بن المهلب عن خراسان وولاية أخيه المفضل وفى هذه السنة عزل الحجاج يزيد بن المهلّب عن خراسان، وكان سبب عزله أنّ الحجاج وقد إلى عبد الملك فمرّ فى طريقه براهب، فقيل له: إنّ عنده علما، فأحضره الحجاج، وسأله: هل تجدون فى كتبكم ما أنتم فيه ونحن؟ قال: نعم. قال: فمسمّى أو موصوفا؟ قال: كلّ ذلك نجده موصوفا «2» بغير اسم ومسمّى بغير صفة «3» . قال: فما تجدون صفة أمير المؤمنين؟ قال: نجده فى زماننا ملك أفرع من يقم لسبيله يصرع. قال: ثم الجزء: 21 ¦ الصفحة: 263 من «1» ؟ قال: اسم رجل يقال له الوليد، ثم رجل اسمه اسم نبىّ يفتح به على الناس. قال: [أتعرفنى؟ قال: قد أخبرت بك. قال: أفتعلم ما ألى؟ قال: نعم] «2» . قال: أفتعلم من يلى بعدى؟ قال: نعم، رجل يقال له يزيد، قال: أفتعرف صفته؟ قال: يغدر غدرة، لا أعرف غير هذا. فوقع فى نفسه أنه يزيد بن المهلب، ثم سار وهو وجل من قول الراهب. فلما عاد كتب إلى عبد الملك يذمّ يزيد وآل المهلب، ويخبره أنهم زبيرية. فكتب إليه عبد الملك: إنى أرى طاعتهم لآل الزبير نقصا لال المهلب، بل وفاؤهم لهم يدعوهم إلى الوفاء لى. فكتب إليه الحجاج يخوّفه غدره. فكتب إليه: إنك قد أكثرت فى يزيد وآل المهلب فسمّ رجلا يصلح لخراسان. فسمّى له قتيبة بن مسلم، فكتب إليه أن ولّه. فكره الحجاج أن يكتب إليه بعزله، فكتب إليه يأمره أن يستخلف أخاه المفضّل ويقبل إليه. فاستشار يزيد حضين «3» بن المنذر الرّقاشى: فقال له: أقم واعتلّ، واكتب إلى أمير المؤمنين ليقرّك، فإنه حسن الرّأى فيك. فقال له يزيد: نحن أهل قد بورك لنا فى الطاعة، وأنا أكره الخلاف. وأخذ يتجهز فأبطأ. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 264 فكتب الحجاج إلى المفضّل: إنى قد ولّيتك خراسان، فجعل المفضل يستحثّ يزيد، فقال له [يزيد] «1» : إنّ الحجاج لا يقرّك بعدى، وإنما دعاه إلى ما صنع مخافة أن أمتنع عليه، وستعلم. وخرج يزيد فى شهر ربيع الآخر سنة [85 هـ] خمس وثمانين، وأقرّ الحجاج أخاه المفضّل تسعة أشهر، ثم عزله، واستعمل قتيبة على ما نذكره، وسار يزيد بن المهلب فكان «2» لا يمرّ بتبلد إلّا فرش أهلها الرياحين. ذكر أخبار موسى بن عبد الله بن خازم واستيلائه على ترمذ «3» وما كان من حروبه مع العرب والترك وخبر مقتله كان موسى بن عبد الله قد استولى على ترمذ، وأخرج ترمذ شاه عنها، وسبب ذلك أن أباه عبد الله لما قتل من قتل من بنى تميم بخراسان «4» كما تقدّم ذكر ذلك فى أثناء أخبار عبد الله ابن الزّبير تفرّق عنه أكثر من كان معه منهم، فخرج إلى نيسابور، وخاف بنى تميم على ثقله بمرو، فقال لابنه موسى: خذ ثقلى واقطع الجزء: 21 ¦ الصفحة: 265 نهر بلخ حتى تلتجىء «1» إلى بعض الملوك أو إلى حصن تكون «2» فيه. فرحل موسى عن مرو فى عشرين ومائتى فارس، واجتمع إليه تتمة أربعمائة، وانضوى «3» إليه قوم من بنى سليم «4» ، فأتى زمّ «5» ، فقاتله أهلها، فظفر بهم، وأصاب مالا، وقطع النهر. فأتى بخارى فسأل صاحبها أن يلجأ إليه، فأبى وخافه. [وقال: رجل فاتك] «6» فلا آمنه، ووصله، وسار فلم يأت ملكا يلجأ إليه إلّا كره مقامه عنده. فأتى سمرقند، فأكرمه ملكها طرخون وأذن له فى المقام بها، فأقام بها ما شاء الله. وكان لأهل الصّغد مائدة توضع فى كل عام مرة، عليها خبز ولحم وخلّ وإبريق شراب، يجعلون ذلك لفارس الصّغد فلا يقربه غيره، فإن أكل منه بارزه الفارس. فأيّهما قتل صاحبه كانت المائدة له، وكان الفارس المشار إليه، فرآها رجل من أصحاب موسى، فقال: ما هذه؟ فأخبر، فأكل ما عليها. وجاء الفارس مغضبا، فقال: يا أعرابى، بارزنى، فبارزه فقتله صاحب موسى، فقال ملك الصّغد: أنزلتكم وأكرمتكم فقتلتم الجزء: 21 ¦ الصفحة: 266 فارسى، فلولا أنى أمنتك وأصحابك لقتلتك «1» ، اخرجوا عن بلدى. فخرجوا، فأتى موسى كشّ، فضعف صاحبها عنه، فاستنصر طرخون فأتاه، فقاتله موسى وقد اجتمع معه سبعمائة فارس يوما حتى أمسوا وتحاجزوا، ثم اتفقوا أن يرتحل موسى عن كشّ؛ فسار فأتى ترمذ وبها حصن يشرف على جانب النهر، فنزل موسى خارج الحصن وسأل ترمذ شاه «2» أن يدخله الحصن فأبى، فأهدى له موسى ولاطفه حتى أنس به، وصارت بينهما مودّة، وتصيّد معه، وصنع صاحب ترمذ «3» طعاما، وأحضر موسى ليأكل معه، وشرط ألّا يحضر إلّا فى مائة من أصحابه، فاختار موسى مائة منهم، فدخلوا الحصن وأكلوا، فلما فرغوا قال له ترمذشاه: اخرج. قال: لا أخرج حتى يكون الحصن بيتى أو قبرى، وقاتلهم فقتل منهم عدّة وهرب الباقون، واستولى موسى عليها، وأخرج ترمذشاه منها، ولم يعرض له، ولا لأصحابه. فأتوا التّرك يستنصرونهم على موسى، فلم ينصروهم، وقالوا: لا نقاتل هؤلاء. وأقام موسى بترمذ، وأتاه جمع من أصحاب أبيه فقوى بهم، فكان يغير على ما حوله. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 267 وولى بكير بن وسّاج «1» خراسان فلم يعرض له، ثم قدم أميّة «2» . فسار يريده؛ فخالفه بكير، فرجع على ما تقدم «3» ، ثم وجّه أميّة رجلا من خزاعة فى جمع كثير لقتال موسى، فجاء إلى ترمذ وحصره، فعاد أهل ترمذ إلى الترك، واستنصروهم وأعلموهم أنه قد غزاه قوم من العرب وحصروه، فسارت التّرك فى جمع كثير «4» إلى الخزاعى فأطاف بموسى العرب «5» والترك، فكان يقاتل الخزاعى أول النهار والتّرك آخر النهار، فقاتلهم شهرين أو ثلاثة. ثم أراد أن يبيّت الخزاعى، فقال له عمرو بن خالد بن حصين الكلابى: بيّت العجم، فإنّ العرب أشد حذرا وأجرأ «6» على الليل. فوافقه. وأقام حتى ذهب ثلث الليل، وخرج فى أربعمائة، وقال لعمرو ابن خالد: اخرج بعدنا أنت ومن معك [منا] «7» قريبا، فإذا سمعتم تكبيرنا فكبّروا. ثم سار حتى ارتفع فوق عسكر الترك ورجع إليهم، وجعل أصحابه أرباعا، وأقبل إليهم، فلما رآهم أصحاب الأرصاد قالوا: من أنتم؟ قالوا: عابرو سبيل. فلما جاوزوا الرصد حملوا على التّرك وكبّرو الجزء: 21 ¦ الصفحة: 268 فلم يشعر الترك إلّا بوقع السيوف فيهم، فثاروا «1» يقتل بعضهم بعضا وولّوا. فحوى موسى ومن معه عسكرهم، وأصابوا سلاحا كثيرا ومالا، وأصيب من أصحاب موسى ستة عشر رجلا، وأصبح الخزاعى وأصحابه وقد كسرهم ذلك، وخافوا مثلها، فقال عمرو بن خالد لموسى: إنّا لا «2» نظفر إلّا بمكيدة، ولهؤلاء أمداد تأتيهم، فدعنى آته لعلّى أصيب فرصة فأقتل الخزاعى، فاضربنى. فقال موسى: تتعجّل الضّرب، وتتعرّض للقتل؟ قال: أما التعرض للقتل فأنا كل يوم متعرّض له، وأما الضّرب فما أيسره فى حبّ «3» ما أريد. فضربه موسى خمسين سوطا، فخرج حتى أتى عسكر الخزاعى مستأمنا، وقال: أنا رجل من أهل اليمن كنت مع عبد الله بن خازم، فلما قتل أتيت ابنه فكنت معه، وإنه اتهمنى وقال: قد تعصّبت لعدوّنا، وأنت عين له، ولم آمن القتل، فهربت منه. فأمّنه الخزاعىّ، وأقام معه، فدخل يوما فلم ير عنده أحدا ولا معه سلاحا، فقال له كالناصح: أصلح الله الأمير، إنّ مثلك فى مثل هذا الحال لا ينبغى أن يكون بغير سلاح. قال: إن معى سلاحا، ورفع طرف فراشه، فإذا سيف منتضى، فأخذه عمرو فضرب به الخزاعى حتى قتله، وخرج فركب فرسه وأتى موسى. وتفرّق ذلك الجيش، وأتى بعضهم موسى مستأمنا فأمّنه، ولم يوجّه إليه أمية أحدا. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 269 وعزل أمية، وقدم المهلّب [أميرا] «1» ، فلم يعرض لموسى، وقال لبنيه: إياكم وموسى، فإنكم لا تزالون ولاة خراسان مادام هذا الثّطّ «2» بمكانه، فإن قتل فأول طالع عليكم أمير خراسان من قيس. فلما مات المهلّب وولى يزيد لم يعرض «3» إليه أيضا، وكان المهلب قد ضرب حريث بن قطبة الخزاعى، فخرج هو وأخوه ثابت إلى موسى، فلما ولى يزيد بن المهلّب أخذ أموالهما، وقتل أخاهما لأمهما الحارث بن منقذ، فخرج ثابت إلى طرخون، فشكا إليه ما صنع به يزيد، وكان ثابت محبوبا إلى الترك بعيد الصوت فيهم «4» ؛ فغضب له طرخون، وجمع له نيزك والسّبل وأهل بخارى والصّغانيان، فقدموا مع ثابت إلى موسى، واجتمع لموسى أيضا فلّ عبد الرحمن ابن العباس من هراة وفلّ عبد الرحمن بن الأشعث من العراق، ومن ناحية كابل، [وقوم من بنى تميم ممن كان يقاتل ابن خازم فى الفتنة من أهل خراسان] «5» ، فاجتمع معه «6» ثمانية آلاف. فقال له ثابت وحريث: سر بنا حتى نقطع النهر ونخرج يزيد عن خراسان ونولّيك. فهمّ أن يفعل، فقال له أصحابه: إن أخرجت يزيد عن الجزء: 21 ¦ الصفحة: 270 خراسان تولّى ثابت وأخوه خراسان وغلبا عليها، فامتنع من المسير، وقال لثابت وحريث: إن أخرجنا يزيد قدم عامل لعبد الملك، ولكنا نخرج عمّال يزيد من وراء النهر، وتكون [هذه الناحية] «1» لنا؛ فأخرجوا عماله، وجبوا الأموال، وقوى أمرهم، وانصرف طرخون ومن معه، واستبدّ ثابت وحريث بتدبير الأمر، وليس لموسى إلا اسم الإمرة. فقيل لموسى: اقتل ثابتا وحريثا، واستقلّ بالأمر، فإنه ليس لك من الأمر شىء. وألحّ أصحابه عليه فى ذلك حتى همّ بقتلهما. فبينما هم فى ذلك إذ خرج عليهم الهياطلة والتبّت والترك فى سبعين ألف مقاتل غير الأتباع ومن ليس هو كامل السلاح. فخرج موسى وقاتلهم فيمن معه، ووقف ملك الترك على تلّ فى عشرة آلاف فى أكمل عدّة، وقد اشتدّ القتال، فقال موسى لأصحابه: إن أزلتم هؤلاء فليس الباقون بشىء، فقصدهم «2» حريث بن قطبة وقاتلهم حتى أزالهم عن التلّ، ورمى حريث بنشّابة فى جبهته، وتحاجزوا وبيّتهم موسى، فحمل أخوه خازم بن عبد الله بن خازم حتى وصل إلى شمعة «3» ملكهم، فوجأ رجلا منهم بقبيعة «4» سيفه، فطعن فرسه فاحتمله الفرس فألقاه فى نهر بلخ فغرق وقتل من التّرك خلق كثير، ونجا من نجا منهم بشرّ، ومات حريث بيومين «5» الجزء: 21 ¦ الصفحة: 271 ورجع موسى وحمل معه الرءوس، فبنى منها جوسقين، وقال أصحاب موسى: قد كفينا أمر حريث فاكفنا أمر «1» ثابت، فأبى، وبلغ ثابتا بعض ذلك فدسّ «2» محمد بن عبد الله الخزاعى على موسى، وقال: إياك أن تتكلم بالعربية، فإن «3» سألوك فقل: أنا من سبى «4» الباميان، ففعل ذلك، وتلطّف حتى اتصل بموسى وصار يخدمه «5» وينقل إلى ثابت خبرهم، فحذر ثابت. وألحّ القوم على موسى، فقال لهم ليلة: قد أكثرتم على؛ وفيما تريدون هلاككم، فعلى أىّ وجه تقتلونه ولا أغدر به «6» . فقال له أخوه نوح: إذا أتاك غدا عدلنا به إلى بعض الدّور فضربنا عنقه قبل أن يصل إليك. فقال: والله إنه لهلاككم، وأنتم أعلم. فخرج الغلام فأخبر ثابتا فخرج من ليلته فى عشرين فارسا ومضى، وأصبحوا فلم يجدوه ولا الغلام، فعلموا أنه كان عينا له، ونزل ثابت بحشورا «7» ، واجتمع إليه خلق كثير من العرب والعجم، فأتاه موسى وقاتله فتحصن ثابت بالمدينة، وأتى طرخون معينا له، فرجع موسى إلى ترمذ، وأقبل ثابت وطرخون ومعهما أهل بخارى، ونسف وكشّ «8» ، فاجتمعوا فى ثمانين ألفا، فحصروا الجزء: 21 ¦ الصفحة: 272 موسى حتى جهد هو وأصحابه، فقال يزيد بن «1» هذيل: والله لأقتلنّ ثابتا أو لأموتنّ، فخرج إلى ثابت فاستأمنه، فقال له ظهير: أنا أعرف بهذا منك، ما أتاك «2» إلّا بغدرة، فاحذره. فأخذ ابنيه: قدامة، والضحاك رهنا، فكانا فى يد ظهير، وأقام يزيد يلتمس غرّة ثابت، فلم يقدر على ما يريد حتى مات ابن لزياد القصير الخزاعى، فخرج ثابت إليه ليعزيه [ومعه ظهير ورهط من أصحابه، وفيهم يزيد بن هذيل] «3» وهو بغير سلاح، وقد غابت الشمس، فدنا يزيد من ثابت فضربه على رأسه [فعضّ السيف برأسه] «4» ، فوصل إلى الدماغ وهرب، فسلم. فأخذ طرخون قدامة والضحاك ابنى يزيد فقتلهما، وعاش ثابت سبعة أيام، ومات. وقام بأمر العجم بعد موت ثابت طرخون، وقام ظهير بأمر أصحاب ثابت [فقاما قياما ضعيفا] «5» ، فانتشر أمرهم، وأجمع موسى على بياتهم، فأخبر طرخون بذلك فضحك، وقال: موسى يعجز أن يدخل متوضّأه فكيف يبيّتنا، لا يحرس الليلة أحد. فخرج موسى فى ثمانمائة، وجعلهم أرباعا، وبيّتهم فكانوا لا يمرّون بشىء إلّا صرعوه «6» من الرجال والدوابّ وغيرها، فأرسل طرخون إلى موسى: أن كفّ أصحابك، فإنا نرحل إذا أصبحنا، فرجع موسى وارتحل «7» طرخون والعجم جميعا. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 273 فلما عزل يزيد بن المهلب وولى المفضّل أراد أن يحظى عند الحجّاج بقتال موسى، فسيّر إليه عثمان بن مسعود فى جيش، وكتب إلى أخيه مدرك بن المهلب وهو ببلخ يأمره بالمسير معه، فعبر النّهر فى خمسة عشر ألفا، وكتب إلى السّبل وإلى طرخون فقدموا عليه، فحصروا موسى وضيّقوا عليه، فمكث شهرين فى ضيق، وقد خندق عثمان عليه، وحذر البيات، فقال موسى لأصحابه: اخرجوا بنا، حتى متى نصبر «1» ؟ فاجعلوا يومكم معهم إمّا ظفرتم وإما قتلتم، واقصدوا الترك. فخرجوا وخلّف النضر بن سليمان بن عبد الله بن خازم فى المدينة، وقال له: إن قتلت فلا تدفعنّ المدينة إلى عثمان، وادفعها إلى مدرك ابن المهلب، وخرج وجعل ثلث أصحابه بإزاء عثمان، وقال: لا تقاتلوه «2» إلا إن قاتلكم، وقصد طرخون وأصحابه فصدقوهم القتال، فانهزم طرخون، واستولى موسى على عسكره، وزحفت «3» التّرك والصّغد، فحالوا بين موسى والحصن، فقاتلهم، فعقروا «4» فرسه فسقط، فقال لمولى له: احملنى. فقال: الموت كريه، ولكن ارتدف، فإن نجونا نجونا جميعا، وإن هلكنا هلكنا جميعا. فارتدف، فلما نظر إليه عثمان حين وتب قال: وثبة موسى وربّ الكعبة، وقصده وعقرت فرسه، فسقط هو ومولاه فقتلوه، ونادى منادى عثمان: من لقيتموه فخذوه أسيرا، ولا تقتلوا أحدا، فقتل ذلك الجزء: 21 ¦ الصفحة: 274 اليوم من الأسرى خلقا كثيرا من العرب خاصة، فكان يقتل العربى ويضرب المولى ويطلقه، وكان الذى أجهز على موسى واصل ابن طيسلة «1» العنبرى، وسلّم النضر المدينة إلى مدرك فسلمها مدرك إلى عثمان، وكتب المفضل إلى الحجاج بقتل موسى فلم يسرّه ذلك، لأنه من قيس. وكان مقتل موسى فى سنة [85 هـ] خمس وثمانين، وكان مقام موسى بالحصن أربع عشرة سنة. وقيل خمس عشرة سنة. ذكر وفاة عبد العزيز بن مروان وولاية عبد الله بن عبد الملك مصر والبيعة للوليد وسليمان ابنى عبد الملك بولاية العهد كانت وفاته بمصر فى جمادى الأولى سنة [85 هـ] خمس وثمانين، وكان عبد الملك أراد أن يخلعه من ولاية العهد، ويبايع لابنه الوليد، فنهاه قبيصة بن ذؤيب عن ذلك، وقال: لا تفعل، ولعل الموت يأتيه، فكفّ عنه عبد الملك ونفسه تنازعه إلى خلعه؛ فدخل عليه روح بن زنباع، وكان أجلّ الناس عند عبد الملك، وقال: يا أمير المؤمنين، لو خلعته ما انتطح فيها عنزان؛ وأنا أول من يجيبك إلى ذلك. قال: نصبح إن شاء الله ونفعل. ونام روح عنده، فدخل عليهما قبيصة بن ذؤيب وهما نائمان، وكان عبد الملك قد تقدّم إلى حجّابه ألّا يحجبوا قبيصة عنه، وكان الجزء: 21 ¦ الصفحة: 275 إليه الخاتم والسكّة، والأخبار تأتيه قبل عبد الملك، فلما دخل سلّم عليه، وقال: آجرك الله فى عبد العزيز أخيك! قال: هل توفى؟ قال: نعم. فاسترجع، ثم أقبل على روح، وقال: كفانا الله «1» ما نريد. وكان هذا مخالفا لك يا قبيصة. وضمّ عبد الملك عمل عبد العزيز إلى ابنه عبد الله بن عبد الملك، وأمر بالبيعة لابنيه: الوليد، وسليمان، فبايعهما الناس، وكتب بذلك إلى الأمصار، وكان على المدينة هشام بن إسماعيل المخزومى، فدعا الناس إلى البيعة، فأجابوا إلا سعيد بن المسيّب، فإنه أبى، وقال: لا أبايع وعبد الملك حىّ، فضربه هشام ضربا مبرّحا، وطاف به وهو فى تبّان «2» شعر حتى بلغ رأس الثنية [التى يقتلون ويصلبون عندها] «3» ، ثم ردّه وحبسه. فبلغ ذلك عبد الملك، فقال: قبّح الله هشاما، إنما كان ينبغى له أن يدعوه إلى البيعة، فإن أبى أن يبايع يضرب عنقه أو يكفّ عنه. وكتب إليه يلومه ويقول: إن سعيدا ليس عنده شقاق ولا خلاف؛ وقد كان سعيد امتنع أيضا من بيعة ابن الزبير، وقال: لا أبايع حتى يجتمع الناس، فضربه جابر بن الأسود عامل ابن الزبير ستّين سوطا. فكتب ابن الزبير إلى جابر يلومه، وقال: ما لنا ولسعيد! دعه، لا تعرض له. وحجّ بالناس فى هذه السنة هشام بن إسماعيل. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 276 سنة (86 هـ) ست وثمانين: ذكر وفاة عبد الملك بن مروان كانت وفاته بدمشق فى منتصف شوال سنة [86 هـ] ستّ وثمانين، وكان يقول: أخاف الموت فى شهر رمضان، فيه ولدت، وفيه فطمت، وفيه جمعت القرآن، وفيه بايع لى الناس، فمات فى شوّال حين أمن الموت فى نفسه، واختلف فى عمره من ثلاث وستين سنة إلى سبع وخمسين. وصلّى عليه ابنه ولىّ عهده الوليد. وكانت مدة خلافته إحدى وعشرين سنة وخمسة عشر يوما، خلص له الأمر منها بعد مقتل عبد الله بن الزّبير ثلاث عشرة سنة وأربعة أشهر إلّا سبع ليال، ودفن بدمشق خارج باب الجابية. قيل: ولما اشتدّ مرضه نهاه بعض الأطباء أن يشرب الماء، وقال: إن شرب الماء مات، فاشتدّ عطشه، فقال: يا وليد، اسقنى ماء. قال: لا أعين عليك. فقال لابنته فاطمة: اسقينى، فمنعها الوليد. فقال: لتدعنّها أو لأخلعنّك. فقال: لم يبق بعد هذا شىء، فسقته فمات. ودخل عليه الوليد وابنته فاطمة عند رأسه تبكى، فقال: كيف أمير المؤمنين؟ قال: هو أصلح ممّا كان. فلما خرج قال عبد الملك «1» : ومستخبر عنا يريد بنا «2» الردّى ... ومستخبرات والدموع سواجم الجزء: 21 ¦ الصفحة: 277 ذكر وصيته بنيه عند موته قال «1» : وأوصى بنيه عند موته، فقال: أوصيكم بتقوى الله، فإنه أزين حلية وأحصن كهف، ليعطف الكبير منكم على الصغير، وليعرف الصغير حقّ الكبير، وانظروا مسلمة فاصدروا عن رأيه، فإنه نابكم الذى تفرّون «2» ، ومجنّكم الذى عنه ترمون، وأكرموا الحجاج فإنّه الذى وطّألكم المنابر «3» ودوّخ لكم البلاد، وأذلّ لكم الأعداء، وكونوا بنى أم بررة. لا تدبّ بينكم العقارب، وكونوا فى الحرب أحرارا، فإن القتال لا يقرّب ميتة، وكونوا للمعروف منارا؛ فإن المعروف يبقى أجره وذخره وذكره، وضعوا معروفكم عند ذوى الأحساب، فإنهم أصون له وأشكر لما يؤتى إليهم منه، وتغمّدوا «4» ذنوب أهل الذنوب، فإن استقالوا فأقيلوا، وإن عادوا فانتقموا. ذكر أولاده وأزواجه كان له: الوليد، وسليمان، ومروان الأكبر- درج، وعائشة؛ أم هؤلاء ولادة بنت العباس بن جزء بن الحارث بن زهير بن جذيمة «5» . ويزيد ومروان «6» ومعاوية [درج، وأم كلثوم، أمهم عاتكة ابنة الجزء: 21 ¦ الصفحة: 278 يزيد بن معاوية] «1» ، وهشام أمه «2» أم هشام بنت هشام ابن إسماعيل بن هشام بن الوليد «3» بن المغيرة المخزومية، واسمها عائشة، وأبو بكر، وهو بكار، أمّه عائشة بنت موسى بن طلحة ابن عبيد الله، والحكم- درج، أمه أم أيوب بنت عمرو بن عثمان بن عفّان، وفاطمة، أمّها أم المغيرة بنت المغيرة بن خالد بن العاص بن هشام ابن المغيرة، وعبد الله «4» ومسلمة والمنذر وعنبسة ومحمد وسعيد الخير [وقبيصة «5» ] لأمهات أولاد؛ وكان له من النساء [سوى من ذكرناه] «6» شقراء بنت حلبس الطائى، وأم أبيها ابنة عبد الله بن جعفر بن أبى طالب. ذكر شىء من أخباره وعماله قالوا: كان عبد الملك بن مروان عاقلا حازما أدبيا لبيبا عالما، قال أبو الزّناد: كان فقهاء المدينة أربعة: سعيد بن المسيّب، وعروة ابن الزبير، وقبيصة بن ذؤيب، وعبد الملك بن مروان. وقال الشعبى رحمه الله: ما ذاكرت أحدا إلّا وجدت لى الفضل عليه، إلّا عبد الملك، فإنى ما ذاكرته حديثا إلّا زادنى فيه، ولا شعرا إلّا زادنى فيه، قالوا: وكان محبا للفخر والبذخ، وكثرت الشعراء على أيامه، وكان من فحول شعرائه جرير والفرزدق والأخطل وكثيّر. وكان عبد الملك مقدما على سفك الدماء، وكذلك كانت عمّاله: فكان الحجاج بالعراق، والمهلب بن أبى صفرة بخراسان، وهشام الجزء: 21 ¦ الصفحة: 279 ابن إسماعيل المخزومى بالمدينة، وعبد الله ولده بمصر، وموسى ابن نصير اللّخمى بالمغرب، ومحمد بن يوسف أخو الحجاج باليمن، ومحمد بن مروان بالجزيرة؛ وما منهم إلّا من هو ظالم غشوم جائر. وكان نقش خاتمة: آمنت بالله مخلصا. وكتّابه: روح بن زنباع، ثم قبيصة بن ذؤيب، وغيرهما. قاضيه: أبو بشر الخولانى، وعبد الله بن قيس. حاجبه: يوسف مولاه. الأمراء بمصر وقضاتها أقرّ عبد الملك أخاه عبد العزيز على إمارة مصر إلى أن مات، فولّى ابنه عبد الله. وكان القاضى بمصر عابس إلى أن مات، فولى عبد العزيز بشير بن النّضر بن بشير المزنى، ثم مات فولّاها عبد الرحمن بن حجر الخولانى. ثم صرفه وولى يونس الحضرمى، ثم صرفه وولى عبد الرحمن بن معاوية بن خديج القضاء والشرطة، فلما ولى عبد الله بن عبد الملك أقرّ عبد الرحمن على القضاء ثم صرفه وولى عمران بن عبد الرحمن بن شرحبيل ابن حسنة ثم عزله، وولى عبد الواحد بن عبد الرحمن بن خديج. قال: وعبد الملك أول من غدر فى الإسلام: حين قتل عمرو بن سعيد الأشدق. وهو أول من نقل الدواوين من الفارسية والرومية إلى العربية. وأول من نهى عن الكلام بحضرة الخلفاء، وكان الناس من قبله يراجعونهم. وهو أوّل من نهى عن الأمر بالمعروف، فإنه قال فى خطبته بعد الجزء: 21 ¦ الصفحة: 280 قتل ابن الزبير: ولا يأمرنى أحد بتقوى الله تعالى بعد مقامى هذا إلّا ضربت عنقه. ذكر بيعة الوليد بن عبد الملك هو أبو العباس الوليد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم، وأمه ولادة بنت العباس بن جزء، وقد تقدم ذكر نسبها، وهو السادس من ملوك بنى أمية. بويع له بالخلافة بعد وفاة أبيه، وذلك فى يوم الخميس النصف من شوال سنة ست وثمانين. قال: ولما دفن أبوه عبد الملك انصرف عن قبره فدخل المسجد ورقى المنبر فخطب الناس، وقال: إنا لله، وإنا إليه راجعون، والله المستعان على مصيبتنا بموت أمير المؤمنين، والحمد لله على ما أنعم علينا من الخلافة. قوموا فبايعوا، فكان أول من عزّى نفسه وهنّأها، وكان أول من قام لبيعته عبد الله بن همام السلولى وهو يقول «1» : الله أعطاك التى لا فوقها ... وقد أراد الملحدون عوقها عنك، ويأبى الله إلّا سوقها ... إليك حتى قلّدوك طوقها وبايعه، وقام «2» الناس للبيعة «3» . وقد قيل: إنّ الوليد لمّا صعد المنبر حمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، لا مقدّم لما أخّر الله، ولا مؤخّر لما قدّم، و [قد] «4» كان من قضاء الله وسابق علمه، وما كتب على أنبيائه وحملة عرشه الجزء: 21 ¦ الصفحة: 281 الموت، وقد صار إلى منازل الأبرار ولىّ هذه الأمة بالذى يحقّ لله عليه فى الشدة على المذنب «1» واللين لأهل الحقّ والفضل، وإقامة ما أقام الله من منار الإسلام وأعلامه «2» ؛ من حجّ البيت، وغزو الثّغور. وشنّ الغارة على أعداء الله، فلم يكن عاجزا ولا مفرّطا. أيها الناس، عليكم بالطاعة ولزوم الجماعة، فإنّ الشيطان مع الفرد. أيها الناس، من أبدى لنا ذات نفسه ضربنا الذى فيه عيناه، ومن سكت مات بدائه، ثم نزل. ولنبدأ من أخبار الوليد بالغزوات والفتوحات، ثم نذكر الحوادث على حكم السنين: ذكر الغزوات والفتوحات التى اتفقت فى خلافة الوليد بن عبد الملك ولنبدأ من ذلك بأخبار قتيبة بن مسلم وما فتحه من البلاد: ذكر ولاية قتيبة بن مسلم خراسان وغزواته وفتوحاته فتح قتيبة بن مسلم فى مدّة ولايته خراسان من بلاد ما وراء النّهر: الصّغانيان «3» ، وأخرون، وكاسان «4» ، وأورشت، وهى من فرغانة الجزء: 21 ¦ الصفحة: 282 وأخسيكت «1» ، وهى مدينة فرغانة القديمة، وبيكند «2» ، وبخارى، والطالقان «3» والفارياب «4» والجوزجان، وشومان «5» وكش «6» ، ونسف، ورام جرد، وسمرقند، والشاش «7» وفرغانة، ومدينة كاشغر. وكان أول ما بدأ به قتيبة أنه لما قدم خراسان أميرا للحجاج، وذلك فى سنة [86 هـ] ست وثمانين قدمها والمفضّل بن المهلب يحرض الجند للغزاة، فخطب قتيبة الناس، وحثّهم على الجهاد، ثم عرضهم، وسار بهم. فلما كان بالطالقان تلقّاه دهاقين بلخ وساروا معه، وقطع النهر فتلقّاه ملك الصّغانيان بهدايا ومفتاح «8» من ذهب، ودعاه إلى بلاده، فمضى معه فسلّمها إليه، لأن ملك أخرون وشومان كان يسىء جواره، ثم سار قتيبة منها إلى أخرون وشومان وهما من الجزء: 21 ¦ الصفحة: 283 طخارستان، فصالحه ملكها على فدية أدّاها إليه، فقبلها قتيبة. ثم انصرف إلى مرو، واستخلف على الجند أخاه صالح بن مسلم ففتح صالح بعد رجوع قتيبة كاشان وأورشت، وهى من فرغانة، وفتح أخسيكت وهى مدينة فرغانة القديمة. وقيل: إن قتيبة قدم خراسان فى سنة [85 هـ] خمس وثمانين فعرض الجند فغزا أخرون وشومان، ثم رجع إلى مرو. وقيل: إنه لم يغزا فى هذه السنة، ولم يقطع النهر بسبب بلخ، فإنّ بعضها كان منتقضا عليه، فحاربهم وسبى منهم، ثم صالحوه فأمر بردّ السّبى. ذكر قتيبة ونيزك قال: لمّا صالح قتيبة ملك شومان كتب إلى «1» نيزك طرخان صاحب باذغيس فى إطلاق من عنده من أسرى المسلمين، وكتب إليه يتهدّده، فخافه نيزك، فأطلقهم، وبعث بهم إليه، ثم كتب إليه قتيبة مع سليم الناصح مولى عبيد الله بن أبى بكرة يدعوه إلى الصلح وإلى أن يؤمنه، فصالحه «2» نيزك لأهل باذغيس على ألا يدخلها قتيبة. ذكر غزوة بيكند وفتحها وغزا قتيبة بيكند فى سنة [87 هـ] سبع وثمانين، وهى أدنى مدائن بخارى إلى النّهر، فلما نزل بهم استنصروا الصّغد واستمدّوا من حولهم. فأتوهم فى جمع كثير، وأخذوا الطرق على قتيبة فقاتلهم «3» الجزء: 21 ¦ الصفحة: 284 شهرين فى كل يوم، ثم انهزم الكفّار إلى المدينة، فتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون، وتحصّن من دخل المدينة منهم بها، فأمر قتيبة بهدم سورها، فسألوه الصلح، فصالحهم، واستعمل عليهم عاملا «1» وارتحل عنهم. فلما سار خمس فراسخ نقضوا [الصلح «2» ] وقتلوا العامل ومن معه. فرجع قتيبة فنقب السّور فسقط، فسألوه الصلح فأبى، ودخلها عنوة، وقتل من كان بها من المقاتلة، وكان فيمن أخذ من المدينة رجل أعور، وهو الذى استجاش التّرك على المسلمين، فقال لقتيبة: أنا أفدى نفسى بخمسة آلاف حريرة قيمتها ألف ألف، فاستشار قتيبة الناس، فقالوا: هذا «3» زيادة فى الغنائم؛ وما عسى أن يبلغ من كيد هذا؟ قال: والله لا يروّع بك مسلم «4» أبدا، وأمر به فقتل؛ وأصابوا فيها من الغنائم والسلاح وآنية الذهب والفضّة ما لا يحصى، ولا أصابوا بخراسان مثله. ولما فرغ قتيبة من فتح بيكند رجع إلى مرو. ذكر غزو نومشكث وراميثنة وصلح أهلها وقتال التّرك والصّغد وأهل فرغانة وفى سنة [88 هـ] ثمان وثمانين غزا قتيبة نومشكث «5» ، فتلقّاه أهلوها، فصالحهم، ثم سار إلى راميثنة «6» ، فصالحه أهلها، وانصرف الجزء: 21 ¦ الصفحة: 285 عنهم وزحف إليه التّرك ومعهم الصّغد وأهل فرغانة فى مائتى ألف. وملكهم كوربغانو «1» ابن أخت ملك الصّين، فاعترضوا المسلمين؛ فلحقوا عبد الرحمن بن مسلم أخا قتيبة وهو على الساقة وبينه وبين قتيبة وأوائل العسكر ميل، فقاتلهم عبد الرحمن ومن معه، وأرسل إلى أخيه، فرجع بالمسلمين، وقد أشرف الترك على الظهور على عبد الرحمن ومن معه، فلما رأى المسلمون قتيبة طابت نفوسهم، وقويت، وقاتلوا إلى الظّهر، فانهزم الترك ومن معهم وكان نيزك يومئذ مع قتيبة، فأبلى بلاء حسنا، ورجع قتيبة بعد الهزيمة إلى مرو ذكر غزو بخارى وفتحها كانت غزوة بخارى فى سنة [89 هـ] تسع وثمانين، والفتح فى سنة [90 هـ] تسعين؛ وذلك أن الحجاج بن يوسف كتب إلى قتيبة يأمره بقصد وردان خذاه «2» ، فعبر النّهر من زمّ «3» ، فلقى الصّغد وأهل كسّ ونسف فى طريق المفازة، فقاتلوه، فظفر بهم. ومضى إلى بخارى، فنزل خرقانة السّفلى عن يمين وردان، فلقوه فى جمع كثير، فقاتلهم يومين وليلتين، فظفر بهم، وغزا وردان «4» خذاه ملك بخارى فلم يظفر منه بشىء، فرجع إلى مرو. وكتب إلى الحجاج يخبره؛ فكتب إليه الحجاج أن صوّرها. فبعث إليه الجزء: 21 ¦ الصفحة: 286 بصورتها، فكتب إليه أن تب إلى الله جلّ ثناؤه مما كان منك وأتها من مكان كذا وكذا. [قيل «1» ] : وكتب إليه أن كس بكس، وانسف نسفا، ورد وردان، وإياك والتحويط، ودعنى من بنيّات «2» الطريق. فخرج قتيبة إلى بخارى فى سنة [90 هـ] تسعين، فاستجاش وردان خذاه الصّغد والترك ومن حوله، فأتوه «3» وقد سبق إليها قتيبة وحصرها «4» . فلما جاءتهم أمدادهم خرجوا إلى المسلمين يقاتلونهم، فقالت الأزد: اجعلونا ناحية، وخلّوا بيننا وبين قتالهم، فقال قتيبة: تقدّموا، فتقدّموا، وقاتلوا قتالا شديدا، ثم انهزم الأزد، حتى دخلوا العسكر، وركبهم المشركون حتى حطموهم، وقاتلت مجنبتا المسلمين الترك حتى ردّوهم إلى مواقفهم، فوقفت الترك على نشز، فقال قتيبة: من يزيلهم عن هذا الموقف! فلم يقم «5» لهم أحد من العرب، فأتى بنى تميم، فقال لهم: يوم «6» كأيّامكم. فأخذ وكيع اللواء، وقال: يا بنى تميم، أتسلموننى اليوم؟ قالوا: لا، يا أبا المطرّف «7» ، وكان هزيم «8» بن أبى طحمة «9» على خيل تميم، ووكيع رأسهم. فقال: يا هزيم قدّم خيلك، ورفع إليه الجزء: 21 ¦ الصفحة: 287 الراية، وتقدم هزيم، وتقدّم وكيع فى الرّجّالة «1» ، وكان بينهم وبين الترك نهر، فأمر وكيع هزيما بقطعه إليهم، فعبره فى الخيل، وانتهى وكيع إلى النهر، فعمل عليه جسرا من خشب، وقال لأصحابه: من وطّن نفسه على الموت فليعبر وإلّا فليثبت مكانه. فلم يعبر معه إلا ثمانمائة رجل «2» . فلما عبر بهم قال لهزيم: إنى مطاعنهم فاشغلهم عنّا بالخيل، وحمل عليهم حتى خالطهم، وحمل هزيم فى الخيل فطاعنهم «3» ، وقاتلهم المسلمون حتى حدروهم عن التلّ، ثم عبر الناس إليهم بعد انهزام التّرك، ونادى قتيبة: من أتى برأس فله مائة، فأتى برءوس كثيرة، وجرح خاقان وابنه، وفتح الله على المسلمين. قال: ولما أوقع قتيبة بأهل بخارى هابه الصّغد، فرجع طرخون ملكهم ومعه فارسان، فدنا من عسكر قتيبة، فطلب رجلا يكلّمه. فأرسل إليه قتيبة حيّان «4» النبطى، فطلب الصلح على فدية يؤدّيها إليهم. فأجابه قتيبة إلى ما طلب، وصالحه، ورجع طرخون إلى بلاده. ورجع قتيبة ومعه نيزك. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 288 ذكر غدر نيزك وفتح الطالقان وما كان من خبر نيزك إلى أن قتل قال: ولما رجع قتيبة عن بخارى ومعه نيزك وقد خاف «1» لما رأى من الفتوح، فقال لأصحابه: أنا مع هذا ولست آمنه، فلو استأذنته ورجعت كان الرأى. قالوا: افعل. فاستأذن قتيبة، فأذن له وهو بآمل، فرجع يريد طخارستان، وأسرع السّير حتى أتى النّوبهار «2» ، وقال لأصحابه: لا شكّ أن قتيبة قد ندم على إذنه لى، وسيبعث إلى المغيرة بن عبد الله يأمره بحبسى، فكان كما قال: ندم قتيبة، وبعث إلى المغيرة يأمره بحبس نيزك، فتبعه المغيرة، فوجده قد دخل شعب خلم «3» ، فرجع المغيرة، وأظهر نيزك الخلع، وكتب إلى أصبهذ بلخ وإلى باذان «4» ملك مرو الرّوذ وإلى ملك الطالقان وإلى ملك الفارياب «5» وإلى ملك الجوزجان يدعوهم إلى خلع قتيبة، فأجابوه، وواعدهم الربيع أن يجتمعوا ويغزوا قتيبة. وكتب إلى كابل شاه يستظهر به، وبعث إليه بثقله وماله، وسأله أن يأذن له إن اضطرّ أن يأتيه، فأجابه إلى ذلك، وكان خبعويه «6» ملك طخارستان ضعيفا؛ فأخذه نيزك، فقيّده بقيد من ذهب لئلا يخالف عليه، وكان خبعويه هو الملك ونيزك عنده، فاستوثق منه، الجزء: 21 ¦ الصفحة: 289 وأخرج عامل قتيبة من بلاد جبعويه، وبلغ قتيبة خلعه، وقد تفرّق الجند، فبعث أخاه عبد الرحمن فى اثنى عشر ألفا إلى البروقان «1» ، وقال: أقم بها ولا تحدث شيئا، فإذا انقضى الشتاء [فعسكر، و] «2» سرنحو طخارستان، فسار؛ فلما كان آخر الشتاء كتب قتيبة إلى نيسابور وغيرها من البلاد لتقدم عليه الجنود، فقدموا. فسار نحو الطالقان، وكان ملكها قد خلع وطابق نيزك على الخلع، فأتاه قتيبة، فأوقع بأهل الطالقان، فقتل من أهلها مقتلة عظيمة، وصلب منهم سماطين أربعة فراسخ فى نظام واحد، واستعمل أخاه عمرو «3» بن مسلم. وقيل: إن ملك الطالقان لم يحارب قتيبة، فكفّ عنه، وكان بها لصوص، فقتلهم قتيبة وصلبهم، ثم سار قتيبة إلى الفارياب فى سنة [91 هـ] إحدى وتسعين، فخرج إليه ملكها مقرّا مذعنا، فقبل منه ولم يقتل بها أحدا، واستعمل عليها رجلا من باهلة «4» ، وبلغ ملك الجوزجان خبرهم، فهرب إلى الجبال، وسار قتيبة إلى الجوزجان، فلقيه أهلها «5» سامعين مطيعين، فقبل منهم ولم يقتل بها أحدا، واستعمل عليها عامر بن مالك الحمّانى، ثم أتى بلخ فلقيه أهلها، فلم يقم إلّا يوما واحدا، وسار يتبع أخاه عبد الرحمن إلى شعب الجزء: 21 ¦ الصفحة: 290 خلم، ومضى نيزك إلى بغلان «1» ، وخلّف مقاتلته على فم الشعب ومضايقه يمنعونه، ووضع مقاتلته فى قلعة حصينة من وراء الشّعب، فأقام قتيبة أياما لا يقدر على دخوله، ولا يعرف طريقا يسلكه إلى نيزك إلّا الشّعب أو مفازة لا تقدر العساكر على قطعها، فأتاه إنسان فاستأمنه على أن يدلّه على مدخل القلعة التى من وراء الشّعب، فأمّنه قتيبة، وبعث معه رجالا، فانتهى بهم إلى القلعة، فطرقوهم وهم آمنون، فقتلوا منهم، وهرب من بقى ومن كان فى الشّعب، فدخل قتيبة الشّعب، فأتى القلعة ومضى إلى سمنجان «2» ، فأقام بها أياما ثم سار إلى نيزك، وقدم أخاه عبد الرحمن فارتحل نيزك من منزله فقطع وادى فرغانة، ووجّه ثقله وأمواله إلى كابل شاه، ومضى حتى نزل الكرز «3» ، وعبد الرحمن يتبعه، ونزل عبد الرحمن وأخذ بمضايق الكرز، ونزل قتيبة على فرسخين من أخيه، وتحصّن نيزك بالكرز، وليس له «4» إلّا مسلك من وجه واحد، وهو صعب لا تطيقه الدواب، فحصره قتيبة شهرين حتى قلّ ما فى يد نيزك من الطعام، وأصابهم الجدرى. وخاف قتيبة الشتاء، فدعا سليما الناصح، فقال: انطلق إلى نيزك، واحتل لتأتينى به بغير أمان، فإن أعياك «5» وأبى فأمّنه. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 291 فخرج إليه، وأخذ معه أطعمة وأخبصة كثيرة، وأتى نيزك، فقال له: إنك أسأت إلى نفسك «1» وغدرت. قال نيزك: فما الرأى؟ قال: أرى أن تأتيه، فإنه ليس ببارح، وقد عزم على أن يشتو مكانه، هلك أو سلّم. قال نيزك: فكيف آتيه على غير أمان. قال: ما أظنّه يؤمّنك لما فى نفسه عليك، لأنك قد ملأته غيظا، ولكنى أرى ألّا يعلم حتى تضع يدك فى يده، فإنى أرجو أن يستحى ويعفو. قال: إنّ نفسى تأبى هذا. فقال سليم: ما أتيتك إلا لأشير عليك بهذا، ولو فعلت لرجوت أن تسلم ويعود حالك عنده، فإذا أبيت فإنى منصرف. وقدم الطعام الذى معه، ولا عهد لهم بمثله، فانتهبه أصحاب نيزك، فساءه ذلك، فقال له سليم: أنا لك من الناصحين، أرى أصحابك قد جهدوا، وإن طال بهم الحصار لم آمنهم أن يستأمنوا بك. فأت قتيبة. فقال: لا آمنه على نفسى، ولا آتيه إلا بأمان، وإنّ ظنّى أنه يقتلنى، وإن أمننى؛ ولكن الأمان أعذر لى. فقال سليم: قد أمنك؛ أفتتهمنى؟ قال: لا. وقال له أصحابه: اقبل قول سليم. فخرج معه ومعه خبعويه «2» وصول طرخان خليفة جبعويه، وخنس «3» طرخان صاحب شرطته وشقران «4» ابن أخى نيزك، فلما خرجوا من الشّعب حالت خيل قتيبة بين أصحاب نيزك وبين الخروج، فقال نيزك: هذا أوّل الغدر. فقال سليم: تخلّف هؤلاء عنك خير لك. وأقبل سليم ونيزك ومن معه حتى دخلوا على قتيبة، فحبسهم. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 292 وكتب إلى الحجاج يستأذنه فى قتل نيزك، واستخرج قتيبة ما فى الكرز من متاع، وأتاه كتاب الحجاج بعد أربعين يأمره بقتل نيزك، فدعا قتيبة الناس، واستشارهم، فاختلفوا، فقال ضرار ابن حصين: إنى سمعتك تقول: أعطيت الله عهدا إن أمكنك منه أن تقتله، فإن لم تفعل فلا ينصرك الله عليه أبدا. فدعا نيزك، فضرب رقبته بيده، وأمر بقتل صول وابن أخى نيزك، وقتل من أصحابه سبعمائة. وقيل اثنى عشر ألفا، وصلب نيزك وابن أخيه، وبعث برأسه إلى الحجاج، وأخذ الزّبير مولى عبّاس الباهلى خفّا لنيزك فيه جوهر، فكان أكثر من فى بلاده مالا وعقارا من ذلك الجوهر، وأطلق قتيبة جبعويه «1» ومنّ عليه، وبعث به إلى الوليد، فلم يزل بالشام حتى مات. ولما قتل نيزك رجع قتيبة إلى مرو، وأرسل ملك الجوزجان يطلب الأمان، فأمنه على أن يأتيه، فطلب رهنا [يكونون فى يده] «2» ويعطى رهائن، فأعطاه قتيبة حبيب بن عبد الله بن حبيب الباهلى، وأعطى ملك الجوزجان رهائن من أهل بيته، وقدم على قتيبة، ثم رجع فمات بالطالقان، فقال أهل الجوزجان: إنهم سمّوه فقتلوا حبيبا. وقتل قتيبة الرهائن الذين كانوا عنده. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 293 ذكر غزوة شومان وكشّ ونسف وفتح ذلك وفى سنة [91 هـ] إحدى وتسعين سار قتيبة إلى شومان فحصرها، وكان سبب ذلك أنّ ملكها طرد عامل قتيبة من عنده، فأرسل إليه قتيبة رسولين: أحدهما من العرب اسمه عيّاش، والآخر من أهل خراسان يدعوانه «1» إلى أن يؤدّى ما كان صالح عليه، فقدما شومان، فخرج أهلها إليهما، فرموهما. فانصرف الخراسانىّ وقاتلهم عيّاش فقتلوه، ووجدوا به ستّين جراحة، وبلغ قتيبة قتله، فسار إليهم بنفسه، فلما أتاها أرسل صالح بن مسلم أخو قتيبة إلى ملكها، وكان صديقا له، يأمره بالطاعة، ويضمن له رضا قتيبة إن رجع إلى الصلح، فأبى وقال لرسول صالح: أتخوّفنى من قتيبة وأنا أمنع الملوك حصنا؟ فأتاه قتيبة وقد تحصّن ببلده فنصب «2» عليه المجانيق، ورمى الحصن فهشمه، فلما خاف الملك أن يظهر قتيبة عليه جمع ما كان بالحصن من مال وجوهر، ورمى به فى بئر فى القلعة لا يدرك قعرها، ثم فتح القلعة، وخرج، فقاتل حتى قتل، وأخذ قتيبة القلعة عنوة، فقتل المقاتلة وسبى الذريّة، ثم سار إلى كشّ ونسف، ثم سار إلى بخارى. وقيل: إنه سار إلى الصّغد، فلما رجع عنهم قالت الصّغد لطرخون: إنك قد رضيت بالذّل واستطبت الجزية، وأنت شيخ كبير، فلا حاجة لنا فيك. فحبسوه وولوا غورك «3» فقتل طرخون نفسه. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 294 ذكر صلح خوارزم شاه وفتح خام جرد وفى سنة [93 هـ] ثلاث وتسعين صالح قتيبة خوارزم شاه، وسبب ذلك أن [ملك] «1» خوارزم كان ضعيفا، فغلبه أخوه خرّزاذ على أمره، وكان أصغر منه، فكان إذا بلغه أنّ عند أحد ممّن هو منقطع إلى الملك جارية أو مالا أو دابّة أو بيتا أو أختا أو امرأة جميلة أرسل إليه، وأخذه منه، فلا يمتنع عليه أحد، ولا الملك «2» ، فإذا قيل للملك قال: لا أقوى عليه. فلما طال عليه ذلك كتب إلى قتيبة يدعوه إلى أرضه ليسلّمها إليه، واشترط عليه أن يدفع إليه أخاه وكلّ من يضادّه ليحكم فيه «3» بما يرى، ولم يطلع أحدا من مرازبته على ذلك. فأجابه قتيبة إلى ما طلب، وتجهّز للغزو، وأظهر أنه يريد الصّغد، وسار من مرو وجمع خوارزم شاه أجناده ودهاقنته «4» . فقال: إن قتيبة يريد الصغد، وليس بغازيكم، فهلمّوا نتنعّم فى ربيعنا هذا، فأقبلوا على الشرب والتنعّم فلم يشعروا حتى نزل قتيبة فى هزارسب «5» ، فقال خوارزم شاه لأصحابه: ما ترون؟ قالوا: نرى أن نقاتله. قال: لكنى لا أرى الجزء: 21 ¦ الصفحة: 295 ذلك، لأنه قد عجز عنه من هو أقوى منا وأشدّ شوكة، ولكن أصرفه بشىء أخرجه «1» إليه. فأجابوه إلى ذلك، فسار خوارزم شاه إلى مدينة الفيل من وراء النهر، وهى أحصن بلاده، وقتيبة لم يعبر النهر، فأرسل إليه خوارزم شاه، فصالحه على عشرة آلاف رأس، وعين ومتاع و [على] «2» أن يعينه على خام جرد، فقبل قتيبة ذلك. وقيل: صالحه على مائة ألف رأس، وبعث قتيبة أخاه عبد الرحمن إلى [ملك] «3» خام جرد، وكان يغازى «4» خوارزم شاه، فقاتله فقتله عبد الرحمن وغلب على أرضه، وقدم بأربعة آلاف أسير، فقتلهم، وسلّم قتيبة إلى خوارزم شاه أخاه ومن كان يخالفهم، فقتلهم، ودفع أموالهم إلى قتيبة. والله أعلم. ذكر فتح سمرقند قال: فلما قبض قتيبة صلح خوارزم قام إليه المجشّر بن مزاحم السلمى فقال له: سر «5» الآن إن أردت الصّغد يوما من الدّهر، فإنهم آمنون من أن تأتيهم عامك هذا، وإنما بينك وبينهم عشرة أيام. قال: أشار عليك بهذا أحد؟ قال: لا. قال: فسمعه منك أحد؟ قال: لا. قال: والله لئن تكلم به أحد لأضربنّ عنقك. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 296 فلما كان الغد من يوم كلامه له أمر قتيبة أخاه عبد الرحمن فسار فى الفرسان والرّماة، وقدّم الأثقال إلى مرو، فسار يومه، فلما أمسى كتب إليه قتيبة: إذا أصبحت فوجّه الأثقال إلى مرو، وسر فى الفرسان والرّماة نحو الصّغد، واكتم الأخبار، فإنى بالأثر. ففعل عبد الرحمن ما أمره، وخطب قتيبة الناس، وقال لهم: إن الصّغد شاغرة «1» برجلها، وقد نقضوا العهد الذى بيننا، وصنعوا ما بلغكم؛ وإنى أرجو أن تكون خوارزم والصّغد كقريظة والنّضير. ثم سار فأتى الصّغد، فبلغها بعد عبد الرحمن بثلاث أو أربع، وقدم معه أهل خوارزم وبخارى، فقاتلوا شهرا من وجه واحد وهم محصورون. وخاف أهل الصّغد طول الحصار، فكتبوا إلى ملك الشاش وأخشاد «2» وخاقان وفرغانة: إنّ العرب إن ظفروا بنا أتوكم بمثل ما أتونا [به] «3» ، فانظروا لأنفسكم، ومهما كان عندكم من قوة فابذلوها. فنظروا وقالوا: إنما نؤتى من سفلتنا وإنهم «4» لا يجدون كوجدنا. فانتخبوا من أبناء الملوك وأهل النّجدة من أبناء المرازبة والأساورة والأبطال، وأمروهم أن يأتوا عسكر قتيبة؛ فيبيّتوه، وولّوا عليهم ابنا لخاقان، فساروا. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 297 وبلغ قتيبة الخبر فانتخب من عسكره مائة، وقيل ستّمائة من أهل النّجدة والشجاعة، وأعلمهم الخبر، وأمرهم بالمسير إليهم، فساروا، وعليهم صالح بن مسلم، فنزلوا على فرسخين من العسكر على طريق القوم، فجعل صالح له كمينين «1» . فلما مضى نصف الليل جاءهم عدوّهم، فلما رأوا صالحا حملوا عليه، واقتتلوا فشدّ الكمينان عن يمين وشمال، فقتلهم المسلمون، وأسروا منهم، ولم يفلت منهم إلا الشريد، واحتووا على سلاحهم وأسلابهم. وسئل بعض الأسرى عن القتلى فقالوا: ما قتلتم إلا ابن ملك أو عظيما أو بطلا، إن كان الرجل ليعدّ «2» بمائة رجل. ونصب قتيبة المجانيق على سمرقند، ورماهم فثلمه ثلمة «3» . ثم أمر قتيبة الناس بالجدّ فى القتال، وأن يبلغوا ثلمة المدينة، ففعلوا، وحملوا وقد تترّسوا حتى بلغوا الثّلمة، ووقفوا عليها، فرماهم الصّغد بالنشّاب، فلم يبرحوا، فأرسلوا إلى قتيبة أن انصرف عنّا اليوم حتى نصالحك غدا. فقال: لا نصالحهم إلا ورجالنا على الثّلمة. وقيل: بل قال: جزع العبيد! انصرفوا على ظفركم. فانصرفوا، فصالحهم من الغد على ألفى ألف ومائتى ألف مثقال فى كل عام، وأن يعطوه تلك السنة ثلاثين ألف رأس «4» ، وأن يخلوا المدينة الجزء: 21 ¦ الصفحة: 298 لقتيبة، فلا يكون لهم فيها مقاتل، فيبنى فيها مسجدا فيصلّى فيه ويخطب ويتغدّى ويخرج. فلما تمّ الصّلح بنى المسجد ودخلها قتيبة فى أربعة آلاف انتخبهم. فدخل المسجد، فصلّى فيه، وخطب وأكل طعاما، ثم أرسل إلى الصّغد يقول: من أراد منكم أن يأخذ متاعه فليأخذ، فإنى لست خارجا منها، ولست آخذ منكم إلّا ما صالحتكم عليه، غير أنّ الجند يقيمون فيها. وقيل: إنه شرط عليهم فى الصّلح مائة ألف رأس «1» وبيوت النيران وحلية الأصنام. فقبض ذلك، وأتى بالأصنام، فأخذ ما عليها. وأمر بها فأحرقت، فوجد من بقايا مسامير الذهب خمسين ألف مثقال، وأصاب بالصّغد جارية من ولد يزدجرد، فأرسلها إلى الحجاج. فأرسلها الحجاج إلى الوليد، فولدت له ابنه يزيد بن الوليد. ثم رجع قتيبة إلى مرو، واستعمل على سمرقند إياس بن عبد الله على الحرب. وجعل على الخراج عبيد الله بن أبى عبيد الله مولى مسلم «2» . ذكر غزو الشاش وفرغانة وفى سنة [94 هـ] أربع وتسعين قطع قتيبة النّهر وفرض على أهل بخارى وكشّ ونسف عشرين ألف مقاتل، فساروا معه. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 299 فوجّهم إلى الشاش، وتوجّه إلى فرغانة فأتى خجندة «1» فجمع له أهلها، ولقوه، واقتتلوا مرارا، كلّ ذلك يكون الظّفر للمسلمين. ثم إن قتيبة أتى كاسان «2» مدينة فرغانة، وأتاه الجنود الذين وجّههم إلى الشاش وقد فتحوها وأحرقوا أكثرها، وانصرف إلى مرو. وقال سحبان «3» يذكر قتالهم بخجندة «4» : وسل «5» الفوارس فى خجن ... دة تحت مرهفة العوالى هل كنت أجمعهم إذا ... هزوا وأقدم فى قتالى أم كنت أضرب هامة ال ... عاتى «6» وأصبر للعوالى هذا وأنت قريع قي ... س كلّها ضخم النّوال وفضلت قيسا فى النّدى ... وأبوك فى الحجج الخوالى ولقد تبيّن عدل حك ... مك فيهمو فى كلّ مال «7» تمّت مروءتكم ونا ... غى «8» عزّكم غلب الجبال الجزء: 21 ¦ الصفحة: 300 ذكر فتح مدينة كاشغر «1» وفى سنة [96 هـ] ست وتسعين سار قتيبة من مرو وحمل مع الناس عيالاتهم ليضعهم بسمرقند، ومضى إلى فرغانة وبعث جيشا مع كثير ابن فلان إلى كاشغر، فغنم وسبى سبيا، فختم أعناقهم، وأوغل حتى بلغ قرب الصّين، فكتب إليه ملك الصين أن ابعث إلىّ رجلا شريفا يخبرنى عنكم وعن دينكم، فانتخب قتيبة عشرة لهم جمال وألسنة وبأس وعقل وصلاح «2» ، فأمر لهم بعدّة حسنة ومتاع حسن من الخزّ والوشى وغير ذلك، وخيول حسنة، وكان عليهم «3» هبيرة بن مشمرج «4» الكلابى، وقال لهم قتيبة: إذا دخلتم عليه فأعلموه أنّى قد حلفت أنّى لا أنصرف حتى أطأ بلادهم، وأختم ملوكهم، وأجبى خراجهم. فساروا [وعليهم هبيرة] «5» ، فلما قدموا دعاهم ملك الصين فلبسوا ثيابا بياضا تحتها الغلائل، وتطيّبوا، ولبسوا النّعال والأردية، ودخلوا عليه وعنده عظماء قومه، فجلسوا فلم يكلّمهم الملك ولا أحد ممن عنده، فنهضوا. فقال الملك لمن حضره: كيف رأيتم هؤلاء؟ قالوا: رأينا قوما ما هم إلّا نساء. ما بقى منا أحد إلّا انتشر ما عنده. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 301 فلما كان الغد دعاهم فلبسوا الوشى وعمائم الخزّ والمطارف، وغدوا عليه. فلما دخلوا قيل لهم: ارجعوا. وقال لأصحابه: كيف رأيتم هذه الهيئة؟ قالوا: هذه أشبه بهيئة الرجال من تلك. فلما كان اليوم الثالث دعاهم فلبسوا «1» سلاحهم، ولبسوا البيض والمغافر، وأخذوا السيوف والرماح والقسىّ، وركبوا. فنظر إليهم ملك الصين، فرأى مثل الخيل «2» ؛ فلما دنوا ركزوا رماحهم، وأقبلوا مشمّرين. فقيل لهم: ارجعوا، فركبوا خيولهم [وأخذوا رماحهم] «3» ، ودفعوا خيلهم، كأنهم يتطاردون. فقال الملك لأصحابه: كيف ترونهم؟ قالوا: ما رأينا مثل هؤلاء. فلما أمسى بعث إليهم أن ابعثوا إلىّ زعيمكم، فبعثوا إليه هبيرة ابن مشمرج، فقال له: قد رأيتم عظم ملكى، وأنه ليس أحد يمنعكم منّى، وأنتم فى يدى بمنزلة البيضة فى كفّى. وإنى سائلكم عن أمر، فإن لم تصدقونى قتلتكم. قال: سل. قال: لم صنعتم بزيّكم الأول والثانى والثالث [ما صنعتم] «4» ؟ قال: أما زيّنا الأول فلباسنا فى أهلنا. وأما الثانى فزيّنا إذا أتينا أمراءنا، وأما الثالث فزيّنا لعدوّنا. قال: ما أحسن ما دبّرتم دهركم، فقولوا لصاحبكم ينصرف، فإنى قد عرفت قلّة أصحابه، وإلا بعثت إليكم من يهلككم. قال «5» : الجزء: 21 ¦ الصفحة: 302 وكيف يكون قليل الأصحاب من أول خيله فى بلادك وآخرها فى منابت الزيتون. وأما تخويفك إيّانا بالقتل فإن لنا آجالا إذا حضرت فأكرمها القتل، ولسنا نكرهه ولا نخافه، وقد حلف صاحبنا ألّا ينصرف حتى يطأ أرضكم، ويختم ملوككم، وتعطى «1» الجزية. قال: فإنّا نخرجه من يمينه، ونبعث له بتراب من أرضنا، فيطؤه، ونبعث إليه ببعض أبنائنا فيختمهم، ونبعث إليه بجزية يرضاها. فبعث إليه بهديّة وأربعة غلمان من أبناء ملوكهم، وبتراب من أرضه، وأعادهم «2» وأحسن جوائزهم. فقدموا على قتيبة، فقبل ذلك، ووطىء التراب، وختم الغلمان، وردهم، فقال سوادة بن عبد الملك السّلولى «3» : لا عيب فى الوفد الذين بعثتهم ... للصّين أن سلكوا طريق المنهج كسروا الجفون على القذى خوف الرّدى ... حاشا الكريم هبيرة بن مشمرج أدّى رسالتك التى استرعيته «4» ... فأتاك من حنث اليمين بمخرج هذه غزوات قتيبة وفتوحاته. وكان قتيبة إذا رجع من غزاته كلّ سنة اشترى اثنى عشر فرسا [من جياد الخيل] «5» واثنى عشر هجينا، فتخدم إلى وقت الغزو، فإذا تأهّب للغزو ضمّرها، وكان يحمل عليها الطلائع، وكان لا يجعل الطلائع إلا فرسان الناس وأشرافهم، ويجعل معه من الجزء: 21 ¦ الصفحة: 303 العجم من يستنصحه. وإذا بعث طليعة أمر بلوح فنقش ثم شقّه نصفين، وجعل شقّة عنده، وأعطى نصفه للطليعة، ويأمرهم أن يدفنوه فى موضع يصفه لهم من شجرة أو مخاضة أو غيرها، ثم يبعث بعد الطّليعة من يستخرجه ليعلم أصدقت الطليعة أم لا. ولنذكر من الغزوات والفتوحات فى أيام الوليد خلاف ما ذكرنا: ذكر فتح السند وقتل ملكها وما يتّصل بذلك من أخبار العمال عليها وفى سنة [89 هـ] تسع وثمانين قتل محمد بن القاسم بن محمد ابن الحكم بن أبى عقيل الثقفى داهر «1» بن صصّة ملك السند، وملك بلاده، وكان الحجاج قد استعمله على ذلك الثّغر وسيّر معه ستة آلاف مقاتل، وجهّزه بجميع ما يحتاج إليه حتى المسالّ والإبر والخيوط، فسار [محمد] «2» إلى مكران، وأقام بها أياما. ثم أتى قنّزبور ففتحها ثم سار إلى أرمائيل «3» فقدمها يوم جمعة، ووافته سفن كان حمل فيها السلاح والرجال والأداة. فأنزل الناس منازلهم وخندق ونصب عليها منجنيقا يقال له العروس كان يمدّ به خمسمائة رجل، وكان بالدّيبل بدّ «4» عظيم عليه الجزء: 21 ¦ الصفحة: 304 دقل عظيم، وعلى الدّقل راية حمراء إذا هبّت الريح أطافت بالمدينة، والبدّ: صنم فى بناء عظيم بأعلاه منارة عظيمة مرتفعة، والدّقل فى رأس المنارة. فرمى الدّقل بحجر «1» العروس فكسره فتطيّر الكفّار بذلك وأعظموه، ثم فتحها محمد عنوة بعد قتال، وقتل فيها ثلاثة أيام، وهرب عامل داهر عنها، وأنزلها محمد أربعة آلاف من المسلمين، وبنى جامعها، وسار إلى البيرون «2» ، وكان أهلها قد بعثوا إلى الحجّاج وصالحوه، فلقوا محمدا بالميرة، وأدخلوه مدينتهم، ثم سار عنها، وجعل لا يمر بمدينة إلا فتحها حتى عبر نهرا دون مهران فصالحه أهل سربيدس «3» ، ووظّف عليهم الخراج، وسار إلى سهبان «4» ففتحها، ثم أتى نهر مهران فنزل به، وبلغ خبره داهرا فاستعدّ لمحاربته. وبعث محمد جيشا إلى سدوسان «5» ، فطلب أهلها الأمان والصلح فأمّنهم، ووظّف عليهم الخراج، ثم عبر نهر مهران مما يلى بلاد راسل «6» الملك على جسر عقده، هذا وداهر مستخفّ به، فلقيه محمد ومن معه وهو على فيل، والفيلة حوله ومعه الذكاكرة «7» ، الجزء: 21 ¦ الصفحة: 305 فاقتتلوا قتالا شديدا، وترجّل داهر، وقاتل فقتل عند المساء، وانهزم الكفار وقاتلهم المسلمون كيف شاءوا، وقال قائلهم «1» : الخيل تشهد يوم داهر والقنا ... ومحمد بن القاسم بن محمّد أنّى فرجت الجمع غير معرّد «2» ... حتى علوت عظيمهم بمهنّد فتركته تحت العجاج مجندلا «3» ... متعفّر الخدّين غير موسّد قال: ولما قتل داهر تغلّب محمد على بلاد السند وفتح راور «4» عنوة، وكان بها امرأة لداهر، فخافت أن تؤخذ فأحرقت نفسها وجواريها وجميع مالها. ثم سار إلى برهمنا باذ «5» العتيقة، وكان المنهزمون من الكفّار قد لجئوا إليها، ففتحها عنوة بعد قتال، وقتل بها بشرا كثيرا، وسار يريد الرّور «6» وبغرور، فلقيه أهل ساوندرى «7» ، فطلبوا الأمان فأمّنهم واشترط عليهم ضيافة «8» المسلمين، ثم أسلم أهلها بعد ذلك، ثم تقدم إلى بسمد «9» فصالحه أهلها، وسار إلى الرّور، وهى من مدائن الجزء: 21 ¦ الصفحة: 306 السند على جبل، فحاصرهم شهورا فصالحوه، وسار إلى السكة «1» ففتحها، ثم قطع نهر بياس «2» إلى الملتان، فقاتله أهلها وانهزموا، فحصرهم، وجاء إنسان فدلّه على قطع الماء الذى يدخل المدينة، فقطعه فعطشوا وألقوا بأيديهم، ونزلوا على حكمه، فقتل المقاتلة وسبى الذّريّة وسدنة البدّ، وهم ستة آلاف، وأصابوا ذهبا كثيرا، فجمع فى بيت طوله عشرة أذرع وعرضه ثمانية أذرع يلقى إليه من كوّة فى وسطه، فسمّيت الملتان فرج بيت الذهب، والفرج: الثغر، وكان بدّ الملتان تهدى إليه الأموال من كل مكان ويحجّ «3» إليه من البلاد، ويحلقون عنده رءوسهم ولحاهم، ويزعمون أنّ صنمه هو أيوب النبى عليه الصلاة والسلام. وعظمت فتوحاته، فنظر الحجاج فى النفقة على ذلك الثغر، فكانت ستين ألف ألف درهم، ونظر إلى» الذى حمل إليه منه فكان مائة ألف ألف وعشرين ألف ألف، فقال: ربحنا ستين ألف ألف، وأدركنا ثأرنا ورأس داهر. قال: واستمر محمد بن القاسم بالهند إلى أن مات الحجاج فى سنة [95 هـ] خمس وتسعين، فأتاه الخبر وهو بالملتان فرجع إلى الرّور والبغرور «5» ، فأعطى الناس، ووجّه إلى البيلمان «6» الجزء: 21 ¦ الصفحة: 307 جيشا، فأعطوا الطاعة من غير قتال، وسالمه أهل شرشت «1» ، ثم أتى محمد الكيرج، فخرج إليه دوهر فقاتله فانهزم دوهر. وقيل: بل قتل، فنزل أهل المدينة على حكم محمد، فقتل المقاتلة، وسبى الذريّة؛ فقال شاعرهم: نحن قتلنا داهرا ودوهرا ... والخيل تردى منسرا فمنسرا «2» قال: ولما مات الوليد بن عبد الملك وولّى سليمان عزل محمّد بن القاسم عن السند، واستعمل يزيد بن أبى كبشة السكسى على السند، فأخذ محمدا وقيّده وحمله إلى العراق، فقال متمثلا «3» : أضاعونى وأىّ فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر فبكى أهل السند. ولما وصل إلى العراق حبسه صالح بن عبد الرحمن بواسط فقال «4» : فلئن ثويت بواسط وبأرضها ... رهن الحديد مكبّلا مغلولا فلرب قينة «5» فارس قد رعتها ... ولرب قرن قد تركت قتيلا قال: فعذّبه صالح فى رجال من آل أبى عقيل حتى قتلهم، فقال حمزة بن بيض يرثى محمدا «6» : الجزء: 21 ¦ الصفحة: 308 إن المروءة والسماحة والندى ... لمحمد بن القاسم بن محمد ساس الجيوش لسبع عشرة حجة ... يا قرب ذلك سؤددا من مولد قال: وأما يزيد بن أبى كبشة فإنه مات بعد مقدمه إلى السند بثمانية عشر يوما، فاستعمل سليمان على السند حبيب بن المهلب، فقدم السند وقد رجع الملوك إلى ممالكهم، ورجع حيسبة «1» بن داهر إلى برهمنا باذ، فنزل حبيب على شاطىء مهران، وحارب قوما فظفر بهم. ثم مات سليمان، وولى عمر بن عبد العزيز، فكتب إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام والطاعة على أن يملكهم، ولهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، فأسلم حيسبة والملوك، وتسمّوا بأسماء العرب، وكان عمرو بن مسلم الباهلى عامل عمر على ذلك الثغر، فغزا بعض الهند فظفر بهم، ثم ولّى الجنيد بن عبد الرحمن السند أيام هشام بن عبد الملك، فأتى شطّ مهران فمنعه حيسة بن داهر من العبور، وأرسل إليه: إنى قد أسلمت وولّانى الرجل الصالح بلادى، ولست أمكنك. فأعطاه رهنا، وأخذ منه رهنا على خراج بلاده، ثم ترادّ الرهون وكفر حيسبة، وحارب. وقيل: لم يحارب، وإنما الجنيد تجنّى عليه، فأتى الهند، فجمع جموعا وأعدّ السفن، واستعدّ للحرب، فسار إليه الجنيد فى السفن، فالتقوا، فأسر حيسبة فقتله الجنيد، وهرب صصّة بن داهر، وهو الجزء: 21 ¦ الصفحة: 309 يريد أن يمضى إلى العراق فيشكو غدر الجنيد، فلم يزل الجنيد يؤنسه حتى وضع يده فى يده فقتله. وغزا الجنيد الكيرج؛ وكانوا قد نقضوا، فظفر ودخل المدينة فغنم وسبى، ووجّه العمال إلى المرمد. «1» والمندل ودهنج «2» ، ووجّه جيشا إلى أزين «3» فأغاروا عليها، وحرقوا ربضها، وفتح الجنيد البيلمان، وحصل «4» عنده سوى ما حمله «5» أربعون ألف ألف، وحمل مثلها. وفى أيامه خرج المسلمون عن بلاد الهند. ثم ولى الحكم بن عوام «6» الكلبى، وقد كفر أهل الهند إلّا أهل قصّة «7» ، فبنى مدينة سماها المحفوظة، وجعلها مأوى للمسلمين، وكان معه عمرو بن محمد بن القاسم فأغزاه من المحفوظة، فقدم عليه وقد ظهر أمره، فبنى مدينة وسمّاها المنصورة، واسترجع «8» ما كان غلب عليه العدوّ، ثم قتل الحكم، فكان العمال يقاتلون العدوّ، ويفتتحون ما تيسر لهم لضعف الدولة الأموية، ثم جاءت الدولة العباسية فكان من أمر السند ما نذكره إن شاء الله تعالى، وإنما ذكرنا أخبار السند ههنا لتكون متّسقة، فلنرجع إلى تتمّة الغزوات فى أيام الوليد بن عبد الملك: الجزء: 21 ¦ الصفحة: 310 ذكر الغزوات الى بلاد الروم وما فتح منها وغزوات الصوائف على حكم السنين فى سنة [86 هـ] ست وثمانين غزا مسلمة بن عبد الملك [أرض] «1» الروم. وغزا أيضا فى سنة [87 هـ] سبع وثمانين، فقتل منهم عددا كثيرا بسوسنة من ناحية المصّيصة «2» وفتح حصونا. وقيل: إن الذى غزا فى هذه السنة هشام بن عبد الملك، ففتح حصن بولق، وحصن الأخرم، وحصن بولس وقمقم، وقتل من المستعربة نحوا من ألف مقاتل، وسبى ذرّيّتهم ونساءهم. والله أعلم. ذكر فتح طوانة «3» وغيرها من بلد الروم وفى سنة [88 هـ] ثمان وثمانين غزا مسلمة بن عبد الملك والعباس ابن الوليد بلد الروم، وكان الوليد قد كتب إلى صاحب أرمينية يأمره أن يكتب إلى ملك الروم يعرّفه أنّ الخزر وغيرهم من ملوك جبال أرمينية قد أجمعوا على قصد بلاده ففعلوا ذلك، وقطع الوليد البعث على أهل الشام إلى أرمينية، فتجهّزوا، وساروا نحو الجزيرة، ثم عطفوا منها إلى بلاد الروم فاقتتلوا هم والروم، فانهزم الروم، ثم رجعوا فانهزم المسلمون، وبقى العباس فى نفر، فنادى: يأهل القرآن؛ فأقبلوا جميعا، فهزم الله الرّوم حتى دخلوا طوانة «4» ، وحصرهم المسلمون وفتحوها فى جمادى الأولى منها. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 311 ثم غزا مسلمة [والعباس] «1» الروم فى سنة [89 هـ] تسع وثمانين، فافتح مسلمة حصن «2» سورية، وافتتح العباس أذرولية «3» ، ولقى من الروم جمعا فهزمهم «4» . وقيل: إن مسلمة قصد عمّورية، فلقى بها جمعا كثيرا من الروم فهزمهم وافتتح هرقلية «5» وقمولية «6» . وغزا العباس الصائفة من ناحية البدندون «7» ، وغزا مسلمة الترك من ناحية أذربيجان، ففتح حصونا ومدائن هناك، وذلك فى سنة [89 هـ] تسع وثمانين أيضا. وغزا مسلمة الروم فى سنة [90 هـ] تسعين، ففتح الحصون الخمسة التى بسورية. وغزا العباس حتى بلغ أرزن «8» وبلغ سورية. وفى سنة [91 هـ] إحدى وتسعين غزا عبد العزيز بن الوليد الصّائفة، وكان على ذلك الجيش مسلمة بن عبد الملك. وغزا مسلمة الترك فى هذه السنة من ناحية أذربيجان حتى بلغ الباب، وفتح مدائن وحصونا، ونصب عليها المجانيق. وغزا مسلمة أرض الروم فى سنة [92 هـ] اثنتين وتسعين، ففتح حصونا ثلاثة، وجلا أهل سوسنة إلى بلاد الروم. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 312 وفيها كان فتح الأندلس على يد طارق بن زياد مولى موسى بن نصير على ما نذكر ذلك إن شاء الله فى أخبار المغرب، وغزيت جزيرة سردانية وسنذكر ذلك [أيضا] «1» إن شاء الله. وغزا العباس الروم فى سنة [93] ثلاث وتسعين، ففتح سبسطية «2» المرزبانيين. وغزا مروان بن الوليد الروم فبلغ خنجرة «3» ، وغزا مسلمة ففتح ماسية «4» وحصن الحديد. وغزالة من ناحية ملطية. وغزا العباس بن الوليد الروم ففتح أنطاكية فى سنة [94 هـ] أربع وتسعين. وغزا العباس فى سنة [95 هـ] خمس وتسعين، ففتح هرقلة وغيرها، وفيها قتل الوضّاحى بأرض الروم ونحو ألف رجل معه. انتهت الغزوات فى أيام الوليد بن عبد الملك. فلنذكر خلاف ذلك من الحوادث على حكم السنين: ذكر الحوادث الكائنة فى أيام الوليد بن عبد الملك خلاف ما قدمناه سنة (86 هـ) ست وثمانين: فى هذه السنة حبس الحجاج بن يوسف يزيد بن المهلب بن أبى صفرة، وعزل حبيب بن المهلب عن كرمان وعبد الملك عن شرطته. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 313 وحجّ بالناس هشام بن إسماعيل المخزومى. سنة (87 هـ) سبع وثمانين: فى هذه السنة عزل الوليد بن عبد الملك هشام بن إسماعيل عن المدينة لسبع ليال خلون من شهر ربيع الأول، واستعمل عمر بن عبد العزيز، فقدمها فى الشهر، وثقله على ثلاثين بعيرا، فنزل دار مروان، وأحسن السيرة فى الناس، واستعان بفقهاء المدينة، وحرّضهم على أن يبلّغوه ما يبلغهم من أخبار عمّاله، وأن يعينوه على الحقّ، وقال: إنى أريد ألّا أقطع أمرا دونكم. وحج عمر بالناس فى هذه السنة، وكان على قضاء المدينة أبو بكر ابن عمرو بن حزم، وعلى قضاء البصرة عبد الله بن أذينة، وعلى قضاء الكوفة أبو بكر بن أبى موسى الأشعرى رضى الله عنهم. سنة (88 هـ) ثمان وثمانين: ذكر عمارة مسجد النبى صلى الله عليه وسلّم والزيادة فيه فى هذه السنة كتب الوليد إلى عمر بن عبد العزيز فى شهر ربيع الأول يأمره بإدخال حجر أزواج النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فى المسجد، وأن يشترى ما فى نواحيه حتى يكون مائتى «1» ذراع، ويقول له: قدّم القبلة إن قدرت، وأنت تقدر لمكان أخوالك؛ فإنهم لا يخالفونك، فمن أبى منهم فقوّموا ملكه قيمة عدل، واهدم عليهم، وادفع الأثمان إليهم، فإنّ لك فى عمر وعثمان رضى الله عنهما أسوة. فأحضرهم عمر وأقرأهم الكتاب، فأجابوا إلى أخذ الثمن؛ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 314 فأعطاهم إياه، وهدم الحجر، وأرسل الوليد الفعلة من الشام، وبعث إلى ملك الروم يعلمه أنه قد هدم مسجد النبى صلّى الله عليه وسلّم ليعمره، فبعث إليه الروم مائة ألف مثقال من ذهب ومائة عامل، وبعث إليه من الفسيفساء بأربعين جملا. فبعث الوليد بذلك إلى عمر بن عبد العزيز، وحضر عمر ومعه الناس، فوضعوا أساسه. وكتب الوليد إلى عمر بن عبد العزيز فى تسهيل البناء وحفر الآبار، وأمره أن يعمل الفوّارة بالمدينة، فعملها وأجرى ماءها، وكتب إلى البلدان جميعها بإصلاح الطّرق وعمل الآبار. وفيها منع الوليد المجذّمين من الخروج على الناس، وأجرى لهم الأرزاق. وحجّ بالناس عمر بن عبد العزيز، ووصل جماعة من قريش، وساق معه بدنا، وأحرم من ذى الحليفة، فلما كان بالتّنعيم أخبر أنّ مكّة قليلة الماء، وأنهم يخافون على الحاجّ العطش. فقال عمر: تعالوا ندعو الله تعالى؛ فدعا ودعا معه الناس، فما وصلوا إلى البيت إلّا مع المطر، وسال الوادى، فخاف أهل مكّة من شدّته، ومطرت عرفة ومكة، وكثر الخصب. وقيل: إنما حجّ هذه السنة عمر بن الوليد [والله أعلم «1» ] . الجزء: 21 ¦ الصفحة: 315 سنة (89 هـ) تسع وثمانين: ذكر ولاية خالد بن عبد الله القسرى مكة وما خطب الناس [به] «1» وقاله وفى هذه السنة ولى خالد بن عبد الله القسرى، فخطب أهلها فقال: أيها الناس، أيهما أعظم، أخليفة الرجل على أهله أو رسوله إليهم؟ والله لو لم تعلموا من فضل الخليفة إلّا أنّ إبراهيم خليل الرحمن عليه الصلاة والسلام استسقاه فسقاه ملحا أجاجا، واستسقاه الخليفة فسقاه عذبا فراتا، يعنى بالملح زمزم، وبالماء الفرات بئرا حفرها الوليد بثنية طوى فى ثنية الحجون، فكان ماؤها عذبا، وكان ينقل ماءها ويضعه فى حوض إلى جنب زمزم ليعرف فضله على زمزم، فغارت البئر وذهب ماؤها. وقيل: كانت ولاية خالد فى سنة [91 هـ] إحدى وتسعين. وقيل سنة أربع. وحج بالناس فى هذه السنة عمر بن عبد العزيز. سنة (90 هـ) تسعين: ذكر هرب يزيد بن المهلب وإخوته من سجن الحجاج فى هذه السنة هرب يزيد بن المهلب وإخوته، وكان الحجاج قد خرج إلى رستقباذ «2» للبعث، لأنّ الأكراد كانوا قد غلبوا على فارس، وأخرج معه يزيد بن المهلب وإخوته، وجعل عليهم مثل الخندق، وجعلهم فى فسطاط قريب منه، وجعل عليهم الحرس من أهل الجزء: 21 ¦ الصفحة: 316 الشام، وطلب منهم ستة آلاف ألف، وعذّبهم؛ فكان يزيد يصبر صبرا حسنا، فكان ذلك مما يغيظ الحجاج، فقيل له: إنه رمى فى ساقه بنشّابة فثبت نصلها فيه فهو لا يمسّها شىء إلّا صاح، فأمر أن يعذّب فى ساقه، فعذب، فصاح، فسمعته أخته هند، وكانت عند الحجاج فصاحت، فطلقها الحجاج، ثم كفّ عنهم وجعل يستأدى «1» منهم المال، فصنع يزيد للحرس طعاما كثيرا وأمر لهم بشراب، فسقوا، واشتغلوا «2» ، فلبس يزيد ثياب طبّاخه وخرج، وقد جعل له لحية بيضاء، فرآه بعض الحرس، فقال: كأنّ هذه مشية يزيد، فلحقه فرأى لحيته بيضاء، فتركه، وعاد وخرج المفضّل ولم يفطن له، وكذلك عبد الملك، فجاءوا إلى سفن معدّة فركبوها، وساروا ليلتهم. ولما أصبح الحجاج وعلم بهم الحرس رفعوا أمرهم إليه ففزع، وظن أنهم قصدوا «3» خراسان لفتنة، فبعث إلى قتيبة يأمره بالجدّ والاحتياط. ولما دنا يزيد وإخوته من البطائح استقبلتهم خيل قد ضمّرت وأعدّت لهم، فركبوها ومعهم دليل من كلب، فأخذوا على السّماوة إلى الشام، فأتى الحجاج الخبر، فكتب إلى الوليد يعلمه. وسار يزيد حتى قدم فلسطين، فنزل على وهيب بن عبد الرحمن الأزدى، وكان كريما على سليمان بن عبد الملك، فجاء وهيب إلى سليمان فأعلمه بحال يزيد وإخوته، وأنهم قد استعاذوا به من الحجاج. قال: فأتنى الجزء: 21 ¦ الصفحة: 317 بهم، فإنهم آمنون لا يوصل «1» إليهم وأنا حىّ. فجاء بهم إليه فكانوا عنده فى مكان آمن. وكتب الحجاج إلى الوليد: إنّ آل المهلب خانوا مال «2» الله وهربوا منّى، ولحقوا بسليمان. فلما علم أنهم عند أخيه سكن بعض مابه، وكتب إليه سليمان: إنّ يزيد عندى وقد أمّنته، وإنما عليه ثلاثة آلاف ألف، لأن الحجاج أغرمه ثلاثة آلاف ألف، والذى بقى عليه أنا أؤدّيه. فكتب الوليد: والله لا أؤمّنه حتى تبعث به إلىّ ... فكتب سليمان: لئن بعثت به إليك لأجيئنّ معه. فكتب إليه: والله لئن جئتنى لا أؤمنه. فقال يزيد بن المهلّب: أرسلنى إليه، فو الله ما أحبّ أن أوقع بينك وبينه عداوة، واكتب معى بألطف ما قدرت عليه. فأرسله، وأرسل معه ابنه أيوب. وكان الوليد قد أمره أن يبعث به مقيّدا. فقال سليمان لابنه: إذا دخلت على أمير المؤمنين فادخل أنت ويزيد فى سلسلة. ففعل ذلك، فلما رأى الوليد ابن أخيه فى سلسلة قال: لقد بلغنا من سليمان. ودفع أيوب كتاب أبيه إلى عمّه، وقال: يا أمير المؤمنين، لا تخفر ذمّة أبى، وأنت أحقّ من منعها، ولا تقطع منّا رجاء من رجا السلامة فى جوارنا لمكاننا منك، ولا تذل من رجا العزّ فى الانقطاع إلينا لعزّنا بك. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 318 فقرأ الوليد كتاب سليمان فإذا هو يستعطفه ويشفع فيه، ويضمن إيصال المال. فقال: لقد شققنا على سليمان. وتكلم يزيد واعتذر، فأمّنه الوليد، وردّه إلى سليمان، وكتب إلى الحجاج: إنى لم أصل إلى يزيد وأهله لمكانهم من سليمان، فاكفف عنهم، وكان أبو عيينة بن المهلّب عند الحجاج عليه ألف ألف، فتركها له، وكفّ عن حبيب بن المهلب، وكان يعذّب بالبصرة، وأقام يزيد عند سليمان فى أرغد عيش، وكان لا تصل إليه هديّة إلّا بعث بنصفها إلى يزيد، ولا تعجبه جارية إلا بعث بها إليه، وكان يزيد إذا أتته هدية بعث بها إلى سليمان. وفى هذه السنة استعمل الوليد قرّة بن شريك على مصر، وعزل أخاه عبد الله عنها. وفيها أسرت الروم خالد بن كيسان صاحب البحر، فأهداه ملكهم إلى الوليد. وحج بالناس عمر بن عبد العزيز. وفيها مات أنس بن مالك رضى الله عنه الأنصارى. وقيل: سنة [92 هـ] اثنتين وتسعين، وكان عمره ستّا وتسعين سنة، وقيل مائة وست سنين. سنة (91 هـ) احدى وتسعين: فى هذه السنة حجّ الوليد بن عبد الملك بالناس، فلما قدم المدينة دخل المسجد ينظر إلى بنائه، فأخرج الناس منه، ولم يبق الجزء: 21 ¦ الصفحة: 319 غير سعيد بن المسيّب، لم يجسر «1» أحد من الحرس أن يخرجه، فقيل له [رضى الله عنه] «2» : لو قمت. فقال: لا أقوم حتى يأتى الوقت الذى كنت أقوم فيه. قيل له: فلو سلّمت على أمير المؤمنين. قال: لا، والله لا أقوم إليه. قال عمر بن عبد العزيز: فجعلت أعدل بالوليد فى ناحية المسجد لئلا يراه، فالتفت الوليد إلى القبلة. فقال: من ذلك الشيخ: أهو سعيد؟ قلت: نعم. ومن حاله كذا وكذا، ولو علم بمكانك لقام فسلّم عليك. فقال الوليد: قد علمت حاله، نحن «3» نأتيه، فأتاه فقال: كيف أنت أيها الشيخ؟ فو الله ما تحرّك سعيد. فقال: بخير والحمد لله؛ فكيف أمير المؤمنين؟ وكيف حاله؟ فانصرف وهو يقول: هذا بقيّة الناس. وقسم الوليد بالمدينة رقيقا «4» كثيرا وآنية من ذهب وفضة وأموالا، وصلّى بالمدينة الجمعة، وخطب الخطبة الأولى جالسا والثانية قائما. وفيها عزل الوليد عامله محمد بن مروان عن الجزيرة وأرمينية. واستعمل عليها أخاه مسلمة بن عبد الملك، فغزا الترك كما تقدم. سنة (92 هـ) اثنتين وتسعين: فى هذه السنة حجّ بالناس عمر بن عبد العزيز وهو على المدينة وكان من الغزوات والفتوحات ما تقدم ذكره. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 320 سنة (93 هـ) ثلاث وتسعين: ذكر عزل عمر بن عبد العزيز فى هذه السنة عزل الوليد عمر بن عبد العزيز عن الحجاز والمدينة، وكان سبب ذلك أنّ عمر كتب إلى الوليد يخبره بعسف لحجّاج وظلمه، فبلغ ذلك الحجاج، فكتب إلى الوليد: إن من عندى من المرّاق «1» وأهل الشقاق قد جلوا عن العراق ولحقوا بالمدينة ومكة، وإن ذلك وهن. فكتب إليه الوليد يستشيره فيمن يولّيه المدينة ومكة، فأشار بخالد بن عبد الله القسرى وعثمان بن حيّان، فولى خالدا مكة وعثمان المدينة، فلما قدم خالد مكة أخرج من بها من أهل العراق كرها، وتهدّد من أنزل عراقيّا أو أجره دارا. وقيل: كان ذلك قبل هذا التاريخ. والله أعلم. وفيها كتب الوليد إلى عمر قبل عزله يأمره أن يضرب خبيب «2» ابن عبد الله بن الزّبير، ويصب على رأسه ماء باردا، فضربه خمسين سوطا. وصبّ على رأسه ماء باردا فى يوم شات، ووقفه على باب المسجد، فمات من يومه. وحج بالناس عبد العزيز بن الوليد. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 321 سنة (94 هـ) أربع وتسعين: ذكر مقتل سعيد بن جبير [رضى الله عنه] «1» فى هذه السنة قتل الحجاج بن يوسف سعيد بن جبير، وهو أبو عبد الله سعيد بن جبير بن هشام الأسدى مولى بنى والية: بطن من بنى أسد بن خزيمة. وكان سبب قتله خروجه مع عبد الرحمن بن [محمد بن] «2» الأشعث، وكان الحجاج قد جعله على عطاء الجند حين وجه عبد الرحمن لقتال رتبيل، فلما خلع عبد الرحمن الحجاج وعبد الملك كان سعيد ممن خلع؛ فلما هزم عبد الرحمن هرب سعيد إلى أصبهان، فكتب الحجاج إلى عاملها يأمره بإرساله، فتحرّج العامل من ذلك، وأرسل إلى سعيد يعرّفه أن يفارق البلد، فخرج إلى أذربيجان ثم خرج إلى مكة، فكان بها حتى قدم خالد بن عبد الله مكة، وأخرج أهل العراق إلى الحجّاج، فأخذ سعيد فيمن أخذ، وسيره إلى الحجاج مع حرسيّين، فانطلق أحدهما لحاجته فى بعض الطريق وبقى الآخر فنام واستيقظ. فقال لسعيد: إنى أبرأ إلى الله من دمك، إنى رأيت فى منامى قائلا يقول لى: ويلك! تبرأ إلى الله من دم سعيد بن جبير، فاذهب حيث شئت، فإنى لا أطلبك، فأبى سعيد ذلك، ورأى الحرسىّ ذلك ثلاث مرات وهو يكرّر القول على سعيد فى الذهاب فلا يفعل. ثم قدم الكوفة فأدخل على الحجاج، فلما رآه قال: لعن الله ابن النصرانية- يعنى خالد بن عبد الله، الجزء: 21 ¦ الصفحة: 322 أما كنت أعرف مكانه، بلى والله والبيت الذى كان فيه بمكة. ثم أقبل عليه وقال: يا سعيد، ألم أشركك فى أمانتى «1» ؟ ألم أستعملك؟ قال: بلى. قال: فما أخرجك علىّ؟ قال: إنما أنا امرؤ من المسلمين يخطىء مرّة ويصيب مرة. فطابت نفس الحجاج، ثم عاوده فى شىء، فقال: إنما كانت بيعته «2» فى عنقى. فغضب الحجاج وانتفخ. وقال: يا سعيد، ألم أقدم مكة فقتلت ابن الزبير وأخذت بيعة أهلها، وأخذت بيعتك لأمير المؤمنين [عبد الملك] «3» ؟ قال: بلى. قال: ثم قدمت الكوفة واليا فجدّدت البيعة فأخذت بيعتك ثانيا؟ قال: بلى. قال: فنكثت بيعتين لأمير المؤمنين، وتوفى بواحدة للحائك ابن الحائك، والله لأقتلنّك. قال: إنى إذا لسعيد كما سمّتنى أمى، فأمر به فضربت رقبته. فلما سقط رأسه هلل ثلاثا؛ أفصح بمرّة «4» ولم يفصح بمرّتين، والتبس عقل الحجاج فجعل يقول: قيودنا قيودنا، فظنوا أنه يريد القيود، فعطفوا «5» رجلى سعيد من أنصاف ساقيه وأخذوا القيود. وكان الحجاج إذا نام يراه فى منامه يأخذ بمجامع ثوبه، فيقول: يا عدوّ الله، فيم قتلتنى، فيقول: مالى ولسعيد بن جبير! مالى ولسعيد بن جبير! يكررها. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 323 وفيها كانت الزلازل بالشام فدامت أربعين يوما، فخربت البلاد، وكان معظم «1» ذلك بأنطاكية. ذكر وفاة زين العابدين على بن الحسين ابن على بن أبى طالب رضى الله عنهم ونبذة من أخباره كانت وفاته بالمدينة فى أول سنة [94 هـ] أربع وتسعين. وقيل فى سنة اثنتين. وقيل سنة ثلاث. وقيل سنة تسع وتسعين. وقيل سنة مائة. حكى هذا الاختلاف أبو القاسم بن عساكر فى تاريخ دمشق، واقتصر ابن الأثير الجزرى على سنة أربع وتسعين دون غيرها. وكان رحمه الله يكنى أبا عبد الله، ويقال أبو محمد، ويقال أبو الحسن، ويقال أبو الحسين زين العابدين. ومولده سنة [33 هـ] ثلاث وثلاثين، وأمه أمّ ولد اسمها غزالة [خلف عليها بعد الحسين زييد مولى الحسين، فولدت له عبد الله بن زييد. وقال إسماعيل بن موسى السّدّى: عبد الرحمن بن حبيب أخو علىّ ابن الحسين لأبيه] «2» ، وكان رحمه الله ثقة ورعا مأمونا كثير الحديث من أفضل أهل بيته وأحسنهم طاعة. حكى أبو القاسم بن عساكر فى تاريخه عن الزهرى، قال: شهدت علىّ بن الحسين يوم حمله عبد الملك بن مروان من المدينة إلى الشام، فأوثقه حديدا، ووكل به حفّاظا فاستأذنتهم «3» فى التسليم عليه والتوديع له فأذنوا لى فدخلت عليه، وهو فى قبّة الجزء: 21 ¦ الصفحة: 324 والقيود فى رجليه والغلّ فى يديه، فسكنت «1» وقلت: وددت أنى مكانك وأنت سليم. فقال: يا زهرىّ، أو تظنّ هذا مما ترى علىّ وفى عنقى. أما إنى لو شئت ما كان. ثم أخرج يديه من الغلّ ورجليه من القيد. ثم قال: يا زهرىّ، جزت معهم على هذا منزلتين من المدينة. فما لبثنا إلا أربع ليال حتى قدم الموكّلون به يطلبونه بالمدينة، فما وجدوه، فكنت فيمن سألهم عنه، فقال لى بعضهم: إنا نراه متبوعا، إنه لنازل- ونحن حوله لا ننام نرصده- إذ أصبحنا، فما وجدنا إلا حديده. قال الزهرى: فقدمت بعد ذلك على عبد الملك فسألنى عن علىّ ابن الحسين، فأخبرته، فقال لى: إنه قد جاءنى فى يوم فقده الأعوان، فدخل علىّ، فقال: أنا وأنت! فقلت: أقم عندى. فقال: لا أحبّ، فخرج، فو الله لقد امتلأ ثوبى منه خيفة. فقال الزهرى: فقلت: يا أمير المؤمنين، ليس علىّ بن الحسين حيث تظنّ، إنه لمشغول بنفسه. فقال: نعم. وقيل: وقع حريق بالمدينة فى بيت فيه علىّ بن الحسين، فجعلوا يقولون: يا ابن رسول الله، النار! فما رفع رأسه حتى أطفئت، فقيل له: ما الذى ألهاك عنها؟ قال: ألهانى عنها النار الأخرى.. وقيل: كان إذا مشى لا تجاوز يده فخذيه، ولا يخطر بيده. وكان إذا قام إلى الصلاة أخذته رعدة، فقيل له: مالك؟ فقال: ما تدرون بين يدى من أقوم ومن أناجى. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 325 قيل: وكان إذا توضّأ اصفرّ فيقول له أهله: ما هذا الذى يعتادك عند الوضوء؟ فيقول: تدرون بين يدى من أريد أقوم؟ وعن سفيان بن عيينة قال: حجّ على بن الحسين، فلما أحرم واستوت به راحلته اصفرّ لونه وانتفض، ووقع عليه الرعدة، ولم يستطع أن يلبّى. فقيل له: ما لك لا تلبّى؟ فقال: أخشى أن أقول لبّيك، فيقول لى: لا لبّيك. فقيل له: لا بدّ من هذا. فلما لبّى غشى عليه، وسقط من راحلته، فلم يزل يعتريه ذلك حتى قضى حجّه. وقيل: كان رضى الله عنه يصلّى فى كلّ يوم وليلة ألف ركعة إلى أن مات رضى الله عنه. وكان يسمّى بالمدينة زين العابدين لعبادته. وقيل: إنه قاسم الله ماله مرّتين، وكان يحمل الخبز بالليل على ظهره يتبع به المساكين فى ظلمة الليل، ويقول: إن الصّدقة فى ظلمة الليل تطفئ غضب الرّبّ. وأعتق غلاما أعطاه به عبد الله بن جعفر عشرة آلاف درهم وألف دينار. قيل: وسكبت جارية عليه الماء ليتهيّأ للصلاة، فسقط الإبريق من يدها على وجهه، فشجّه، فرفع رأسه إليها، فقالت: إن الله عزّ وجل يقول «1» : «وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ» . قال: قد كظمت غيظى. قالت «2» : «وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ» . قال: قد عفا الله عنك. قالت «3» : وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» * . قال: اذهبى فأنت حرّة. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 326 قيل» : وأذنب له غلام ذنبا استحقّ منه العقوبة، فأخذ السّوط. فقال الغلام: «قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله» ، وما أنا كذلك، إنى لأرجو رحمة الله، وأخاف عذابه، فألقى السّوط، وقال: أنت عتيق. وقيل: حجّ هشام بن عبد الملك فى زمن عبد الملك أو فى زمن الوليد، فلما طاف جهد أن يستلم الحجر فلم يطق لزحام الناس عليه، فنصب له منبر، وجلس ينظر إلى الناس، إذ أقبل علىّ بن الحسين رضى الله عنه من أحسن الناس وجها وأطيبهم ريحا، فطاف بالبيت، فكان كلما بلغ الحجر تنحّى الناس له حتى يستلمه. فقال رجل من أهل الشام: من هذا الذى قد هابه الناس هذه المهابة؟ فقال هشام: لا أعرفه- مخافة أن يرغب الناس فيه، وكان حوله وجوه أهل الشام، والفرزدق الشاعر، فقال الفرزدق: لكننى أنا أعرفه، فقال أهل الشام: من هذا يا أبا فراس؟ فزبره هشام، وقال: لا أعرفه. فقال الفرزدق: بل تعرفه، ثم أنشد مشيرا إليه «2» : [هذا سليل حسين وابن فاطمة ... بنت الرسول الذى انجابت به الظّلم] «3» هذا الذى تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحلّ والحرم هذا ابن خير عباد الله كلّهمو ... هذا النّقى التّقىّ الطاهر العلم الجزء: 21 ¦ الصفحة: 327 إذا رأته قريش قال قائلها ... إلى مكارم هذا ينتهى الكرم يرقى «1» إلى ذروة العزّ الذى قصرت ... عن نيلها عرب الإسلام «2» والعجم يكاد يمسكه عرفان راحته ... ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم يغضى حياء ويغضى من مهابته ... فلا يكلّم إلا حين يبتسم بكفّه خيزران ريحها عبق ... من كفّ أروع فى عرنينه شمم من جدّه دان فضل الأنبياء له ... وفضل أمته دانت له «3» الأمم ينشقّ نور الهدى عن نور غرّته ... كالشمس تنجاب عن إشراقها الظّلم «4» مشتقة من رسول الله نبعته ... طابت عناصرها والخيم والشّيم هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله ... بجدّه أنبياء الله قد ختموا الجزء: 21 ¦ الصفحة: 328 الله شرّفه قدما وفضّله ... جرى بذاك له فى لوحه القلم [فليس قولك من هذا بضائره ... العرب تعرف من أنكرت والعجم] «1» كلتا يديه غياث عمّ نفعهما ... يستو كفان ولا يعروهما عدم «2» حمّال أثقال أقوام إذا فدحوا ... حلو الشمائل تحلو عنده نعم لا يخلف الوعد ميمون نقيبته ... رحب الفناء أريب حين يعتزم من معشر حبّهم دين وبغضهمو ... كفر وقربهمو منجى ومعتصم إن عدّ أهل التّقى كانوا أئمتهم ... أو قيل من خير أهل الأرض قيل همو لا يستطيع جواد بعد غايتهم ... ولا يدانيهم قوم وإن كرموا هم الغيوث إذا ما أزمة أزمت ... والأسد أسد الشّرى والبأس محتدم الجزء: 21 ¦ الصفحة: 329 لا ينقص العسر بسطا من أكفّهم ... سيّان ذلك إن أثروا وإن عدموا يستدفع السوء والبلوى بحبّهمو ... ويستردّ به الإحسان والنعم مقدّم بعد ذكر الله ذكرهمو ... فى كل أمر ومختوم به الكلم يأبى لهم أن يحلّ الذّلّ «1» ساحتهم ... خيم كريم وأيد بالندى هضم أىّ الخلائق ليست فى رقابهمو ... لأوّليّة هذا أو له نعم من يشكر الله يشكر أوليّة ذا ... فالدّين من بيت هذا بابه الأمم قال: فغضب هشام لذلك وتنغّص عليه يومه، وأمر بحبس الفرزدق بعسفان بين مكة والمدينة، وبلغ ذلك علىّ بن الحسين رضى الله عنه، فبعث إليه باثنى عشر ألف درهم، وقال: اعذر أبا فراس، لو كان عندنا أكثر من هذا لو صلناك بها، فردّها الفرزدق، وقال: ما قلت الذى قلت إلّا غضبا لله ولرسوله، وما كنت لأرزأ عليها شيئا، فردّها عليه، وقال: بحقّى عليك إلا قبلتها، فقد علمت أنّا أهل بيت إذا أنفذنا أمرا لا نرجع فيه، الجزء: 21 ¦ الصفحة: 330 وقد رأى الله مكانك، وعلم نيّتك، والجزاء عليه تعالى. فقبلها. وجعل الفرزدق يهجو هشاما، فكان مما هجاه به «1» : أتحبسنى «2» بين المدينة والتى ... إليها قلوب الناس يهوى منيبها يقلّب رأسا لم يكن رأس سيّد ... وعينين حولاوين باد عيوبها وكان على بن الحسين يقول: لقد استرقّك بالودّ من سبقك بالشكر. ولما حضرته الوفاة أوصى ألّا يؤذنوا به أحدا، وأن يكفّن فى قطن، ولا يجعلوا فى حنوطه مسكا، ودفن بالبقيع رحمه الله ورضى عنه. ومات أيضا فى هذه السنة عروة بن الزبير رضى الله عنهما، وسعيد بن المسيّب، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث ابن هشام. وحجّ بالناس مسلمة بن عبد الملك. وقيل عبد العزيز بن الوليد. وفيها استقضى الوليد على الشام سليمان بن حبيب. سنة (95 هـ) خمس وتسعين: ذكر وفاة الحجاج بن يوسف الثقفى وشىء من أخباره هو أبو محمد الحجّاج بن يوسف بن الحكم بن أبى عقيل ابن عامر بن مسعود بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف ابن ثقيف، كانت وفاته فى شوال سنة [95 هـ] خمس وتسعين، الجزء: 21 ¦ الصفحة: 331 وقيل لخمس بقين من شهر رمضان من السنة، وله من العمر أربع وخمسون، وقيل ثلاث وخمسون. روى أن عمر بن عبد العزيز ذكر عنده ظلم الحجاج وغيره من ولاة الأمصار فى أيام الوليد بن عبد الملك، فقال عمر بن العزيز: الحجاج بالعراق، والوليد بالشام، وقرّة بن شريك بمصر، وعثمان بالمدينة، وخالد بمكة؛ اللهم قد امتلأت ظلما وجورا، فأرح الناس. فلم يمض غير قليل حتى توفى الحجاج وقرّة فى شهر واحد، ثم تبعهم الوليد، وعزل عثمان بن حيّان، وخالد بن عبد الله القسرى. واستجاب الله لعمر. وما أشبه هذه القصة بقصة عبد الله بن عمر رضى الله عنهما لما بلغه أنّ زياد ابن أبيه كتب إلى معاوية يقول: إنّى قد ضبطت العراق بشمالى ويمينى فارغة. فقال ابن عمر: اللهم أرحنا من يمين زياد، وأرح أهل العراق من شماله. فاستجاب الله له. وكان من خبر وفاة زياد ما ذكرناه. وكانت ولاية الحجاج العراق عشرين سنة، ولما حضرته الوفاة استخلف على الصلاة ابنه عبد الله، وعلى حرب الكوفة والبصرة يزيد بن أبى كبشة، وعلى الخراج يزيد بن أبى مسلم، فأقرّهما الوليد بعده. وكان الحجاج من أفصح الناس. قال أبو عمرو بن العلاء: ما رأيت أفصح من الحجاج ومن الحسن، وقد ذكرنا من كلامه عند مقدمه الكوفة ما يدلّ على فصاحته. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 332 ومن أخباره أنّ عبد الملك كتب إليه يأمره بقتل أسلم بن عبد الله البكرى لشىء بلغه عنه، فأحضره الحجاج، فقال: أمير المؤمنين غائب وأنت حاضر، والله تعالى يقول «1» : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ... » الآية. والذى بلغه عنى فباطل «2» . فاكتب إلى أمير المؤمنين أنى أعول أربعا وعشرين امرأة، وهنّ بالباب؛ فأحضرهن، وكان فى آخرهن جارية قاربت عشر سنين. فقال لها: من أنت منه؟ قالت: ابنته، أصلح الله الأمير، ثم أنشأت «3» : أحجاج لو «4» تشهد مقام بناته ... وعماته يندبنه الليل أجمعا أحجاج لا «5» تقتل به إن قتلته ... ثمانا وعشرا واثنتين وأربعا أحجاج من هذا يقوم مقامه ... علينا فمهلا أن تزدنا تضعضعا أحجاج إما أن تجود بنعمة ... علينا وإما أن تقتّلنا معا فبكى الحجاج، وقال: والله لا أعنت الدهر عليكنّ ولازدتكنّ تضعضعا. وكتب إلى عبد الملك بخبره وخبر الجارية، فكتب إليه: إذا كان الأمر كما ذكرت فأحسن صلته وتفقّد «6» الجارية، ففعل. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 333 قال عاصم بن بهدلة: سمعت الحجاج يقول: اتّقوا الله ما استطعتم، هذا والله مثنوية، واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم ليس فيه مثنوية، والله لو أمرتكم أن تخرجوا من هذا الباب فخرجتم من هذا لحلّت لى دماؤكم، ولا أجد أحدا يقرأ على قراءة ابن أمّ عبد- يعنى ابن مسعود- إلّا ضربت عنقه، ولأحكّنّها من المصحف ولو بضلع خنزير. قال الأوزاعى: قال عمر بن عبد العزيز: لو جاءت كلّ أمّة بخبيثها وجئنا بالحجاج لغلبناهم. قال الحسن: سمعت عليا يقول على المنبر: اللهم ائتمنتهم فخانوا، ونصحتهم فغشّونى، اللهم فسلّط عليهم غلام ثقيف يحكم فى دمائهم وأموالهم بحكم الجاهلية، فوصفه. قال الحسن: هذه والله صفة الحجاج. قال حبيب بن أبى ثابت: قال علىّ رضى الله عنه لرجل: لا تموت حتى تدرك فتى ثقيف. قيل: يا أمير المؤمنين؛ ما فتى ثقيف؟ قال: ليقالنّ له يوم القيامة: اكفنا زاوية من زوايا جهنم، رجل يملك عشرين سنة أو بضعا وعشرين، فلا يدع لله معصية إلا ارتكبها، حتى لو لم يبق إلا معصية واحدة وبينها وبينه باب مغلق لكسره. حتى يرتكبها، يقتل «1» من أطاعه بمن عصاه. وقيل: أحصى من قتله الحجاج صبرا فكانوا مائة ألف وعشرين ألفا. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 334 وقيل: إن الحجاج مرّ بخالد بن يزيد بن معاوية وهو يخطر فى مشيته، فقال رجل لخالد: من هذا؟ فقال خالد: بخ بخ! هذا عمرو ابن العاص. فسمعها الحجاج فرجع، وقال: والله ما يسرّنى أن العاص والدى «1» ، ولكنى ابن الأشياخ من ثقيف، والعقائل من قريش، وأنا الذى ضربت «2» بسيفى هذا مائة ألف كلّهم يشهد أنّ أباك كان يشرب الخمر ويضمر الكفر. ثم ولّى، وهو يقول: بخ بخ عمرو بن العاص! فقد أقرّ على نفسه بمائة ألف قتيل على ذنب واحد. وحجّ بالناس فى هذه السنة بشر بن الوليد بن عبد الملك. سنة (96 هـ) ست وتسعين: ذكر وفاة الوليد بن عبد الملك وشىء من أخباره وسيرته وأولاده وعماله كانت وفاته بدير «3» مرّان فى النصف من جمادى الآخرة من هذه السنة. ودير مرّان كان بجبل قاسيون بظاهر دمشق، وهو الآن مدرسة وتربة منسوبة إلى الملك المعظّم شرف الدين عيسى ابن العادل ابن أيوب. كانت مدة خلافته تسع سنين وثمانية أشهر. ودفن خارج الباب الصغير بدمشق. وقيل فى مقابر الفراديس «4» . وصلّى عليه عمر بن عبد العزيز. ولما دلّى فى حفرته جمعت ركبتاه إلى عنقه، فقال ابنه: عاش أبى؟ فقال له عمر بن عبد العزيز- وكان فيمن الجزء: 21 ¦ الصفحة: 335 دفنه: عوجل والله أبوك. وكان عمره اثنتين وأربعين سنة وستة أشهر. وقيل سبعا وأربعين. وقيل ثمانيا وأربعين. والله أعلم. وكان أسمر اللّون، جميل الوجه، أفطس الأنف. وقيل. كان سائل الأنف جدّا وبوجهه آثار جدرى. وكان نقش خاتمه: يا وليد، إنك ميت. وكان له من الأولاد تسعة عشر ذكرا، وعدّهم بعض المؤرخين عشرين، وهم: يزيد، وإبراهيم- وليا الخلافة، والعباس فارس بنى مروان، وعمر فحل بنى مروان، وعبد العزيز، وبشر، وصدقة، ومحمد، وتمام، وخالد، وعبد الرحمن، ومبشر، ومسرور، وأبو عبيدة، ومنصور، ومروان، وعنبسة، وعمرو، وروح، ويحيى، هؤلاء الذكور، سوى البنات. كتّابه: قرّة بن شريك، ثم قبيصة بن ذؤيب، ثم الضحاك ابن يزيد، ثم يزيد بن أبى كبشة، ثم عبد الله بن بلال. قضاته: عبد الله بن بلال، وسليمان بن حبيب. حجّابه: خالد، وسعيد مولياه. الأمراء بمصر: أخوه عبد الله، ثم قرّة بن شريك. قاضيها: عبد الله بن عبد الرحمن بن حجيرة «1» ، ثم صرفه قرّة وولّى عياض بن عبد الله، ثم وليها عبد الملك بن رفاعة بعد وفاة قرّة. وكان عمّاله على الأمصار من ذكرناهم. قال: وكان الوليد بن عبد الملك عند أهل الشام من أفضل الجزء: 21 ¦ الصفحة: 336 خلفائهم «1» ، وله آثار حسنة ومبان عظيمة، وفتح فى أيامه بلاد الأندلس وماوراء النهر وبلاد الهند. [قال] «2» : وكان الوليد يمرّ بالبقّال فيقف عليه، ويأخذ منه حزمة بقل، فيقول: بكم هذه؟ فيقول: بفلس. فيقول الوليد: زد فيها. وبنى جامع دمشق فى سنة [86 هـ] ست وثمانين، وهدم كنيسة النصارى التى كانت إلى جانبه، وتعرف بماريو حنا، وزادها فيه. وقيل: كان فى الجامع وهو يبنى اثنا عشر ألف مرخم. وتوفّى الوليد ولم يتمّ بناؤه، وكان الفراغ منه فى أيام سليمان أخيه. وقيل: إن جملة ما أنفق عليه أربعمائة صندوق، فى كل صندوق أربعة عشر ألف دينار، وكان فيه ستمائة سلسلة من الذهب للقناديل، ولم تطق الناس الصلاة فيه لكثرة شعاعه، فدخنت حتى اسودّت، فلما ولى عمر بن عبد العزيز جعلها فى بيت المال، وعوّضها بالحديد. وأمر الوليد ببناء جامع البيت المقدس فى سنة [88 هـ] ثمان ثمانين. قيل: وحجّ الوليد بالناس ثلاث «3» حجج: سنة ثمان وثمانين. وسنة إحدى وتسعين، وسنة أربع وتسعين. قال: وكان الوليد أراد أن يخلع أخاه سليمان، ويبايع لولده عبد العزيز، فأبى سليمان، فكتب إلى عمّاله، ودعا الناس إلى خلعه، فلم يجبه إلى ذلك إلا الحجاج وقتيبة وخواصّ من الناس. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 337 فكتب الوليد إلى سليمان يأمره بالقدوم عليه، فأبطأ، فعزم على المسير إليه ليخلعه، وأخرج خيمة فمات قبل أن يسير إليه. قال: وكان الوليد لحانا لا يحسن العربية، فعاتبه أبوه، وقال: إنه لا يلى العرب إلّا من يحسن كلامهم؛ فجمع النّحاة، ودخل بيتا فلم يخرج منه ستة أشهر، ثم خرج وهو أجهل منه يوم دخل، فقال عبد الملك: قد أعذر. والله سبحانه وتعالى أعلم. ذكر بيعة سليمان بن عبد الملك هو أبو أيوب سليمان بن عبد الملك بن مروان بن الحكم، وأمّه ولادة أم أخيه الوليد، وهو السابع من ملوك بنى أمية. بويع له يوم السبت للنصف من جمادى الآخرة، وهو يوم وفاة أخيه الوليد، وكان إذ ذاك بالرّملة، وكان الوليد قد أراد خلعه من ولاية العهد، فمات قبل أن يتمّ له ما أراد من ذلك. ولنذكر الحوادث الكائنة فى أيامه على حكم السنين: [ سنة (96 هـ) ست وتسعين: ] ذكر قتل «1» قتيبة بن مسلم وفى هذه السنة قتل قتيبة بن مسلم الباهلى بخراسان، وكان سبب ذلك أنه أجاب الوليد إلى خلع سليمان كما ذكرنا، فلما أفضت الخلافة إلى سليمان خشى قتيبة أنّ سليمان يستعمل يزيد بن المهلب على خراسان، فكتب قتيبة إلى سليمان كتابا يهنّئه بالخلافة ويذكر الجزء: 21 ¦ الصفحة: 338 بلاءه وطاعته لعبد الملك والوليد، وأنه له على مثل ذلك إن لم يعزله عن خراسان. وكتب إليه كتابا آخر يعلمه فيه بفتوحه ومكانته، وعظم قدره عند ملوك العجم، وهيبته فى صدورهم، ويذمّ آل المهلّب، ويحلف بالله لئن استعمل يزيد على خراسان ليخلعنّه. وكتب كتابا ثالثا فيه خلعه، وبعث الكتب مع رجل من أهله، وقال له: ادفع الكتاب الأول إليه، فإن كان يزيد حاضرا فقرأه ثم ألقاه إليه فادفع إليه هذا الثانى. فإن قرأه ودفعه إلى يزيد فادفع إليه الثالث، وإن قرأ الأول ولم يدفعه إلى يزيد فاحبس الكتابين عنه. فقدم رسول قتيبة، فدخل على سليمان وعنده يزيد بن المهلّب، فدفع إليه الكتاب الأوّل، فقرأه وألقاه إلى يزيد، فدفع إليه الثانى، فقرأه وألقاه إليه، فأعطاه الثالث، فقرأه وتغيّر «1» لونه وختمه وأمسكه بيده. فقيل «2» : كان فيه: لو لم «3» تقرّنى على ما كنت عليه وتؤمننى لأخلعنّك، ولأملأنّها عليك خيلا ورجلا «4» . ثم أمر سليمان بإنزال رسول قتيبة، ثم أحضره ليلا وأعطاه دنانير وعهد قتيبة على خراسان وسيّر معه رسولا، فلما كانا «5» بحلوان بلغهما خلع قتيبة، فرجع رسول سليمان، وكان قتيبة لما همّ بخلع سليمان استشار إخوته فقال عبد الرحمن: اقطع بعثا [فوجّه] «6» الجزء: 21 ¦ الصفحة: 339 فيه كلّ من تخافه، ووجّه قوما إلى مرو، وسر حتى تنزل سمرقند، وقل لمن معك: من أحبّ المقام فله المواساة، ومن أراد الانصراف فغير مستكره، فإنه لا يقيم عندك إلّا مناصح. وقال له أخوه عبد الله: اخلعه مكانك فلا يختلف عليك رجلان. فوافقه وخلع سليمان، ودعا الناس إلى خلعه فلم يجبه أحد، فغضب، وقال: لا أعزّ الله من نصرتم، والله لو اجتمعتم على عنز ما كسرتم قرنها، وسبّهم طائفة طائفة وقبيلة قبيلة، وذكر مساويهم ومعايبهم، ونزل؛ فغضب الناس واجتمعوا على خلع قتيبة وخلافه، وكان أوّل من تكلم فى ذلك الأزد، فأتوا حضين «1» بن المنذر، فقالوا: إنّ هذا قد خلع الخليفة، وفيه فساد الدّين والدنيا، وقد شتمنا فما ترى؟ فأشار عليهم أن يأتوا وكيع بن أبى سود التميمى، ويقدّموه لرياسته فى قومه، فأتوه وسألوه أن يلى أمرهم، ففعل. وكان بخراسان يومئذ من أهل البصرة والعالية من المقاتلة تسعة آلاف، ومن بكر سبعة «2» آلاف، ورئيسهم حضين ابن المنذر، ومن تميم عشرة آلاف وعليهم ضرار بن حصين، ومن عبد القيس أربعة آلاف وعليهم عبد الله بن حوذان «3» ، ومن أهل الكوفة سبعة آلاف وعليهم جهم بن زحر. ومن الموالى سبعة آلاف وعليهم حيّان النبطى مولى بنى شيبان، وهو من الدّيلم وقيل من خراسان، وإنما قيل له النبطى للكنته. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 340 فأرسل حيّان إلى وكيع يقول: إن أنا كففت عنك وأعنتك تجعل لى الجانب الشرقى من نهر بلخ آخذ خراجه مادمت حيا، وما دمت أميرا! قال: نعم. فقال حيان للعجم: هؤلاء يقاتلون على غير دين، فدعوهم يقتل بعضهم بعضا. ففعلوا. وقيل لقتيبة: إن وكيعا يبايع الناس، فدسّ عليه ضرار بن سنان الضبى، فبايعه سرّا، فظهر أمره لقتيبة، فأرسل إليه يدعوه، فوجده قد طلى رجليه بمغرة «1» ، وعلّق على ساقه «2» خرزا، وعنده رجلان يرقيان رجله. فقال للرسول: قد ترى ما برجلى. فرجع إليه فأخبر قتيبة، فأعاده إليه يقول: لتأتينّى به محمولا، فأتاه فقال: لا أستطيع. فقال قتيبة لصاحب شرطته: انطلق إلى وكيع فأتنى به، فإن أبى فاضرب عنقه، ووجّه معه خيلا. وقيل: أرسل إليه شعبة «3» بن ظهير التميمى. فقال له وكيع: يا ابن ظهير، لبّث قليلا تلحق الكتائب. ولبس سلاحه، ونادى فى الناس، فأتوه، وركب فرسه، وخرج، فأتاه الناس أرسالا، واجتمع إلى قتيبة أهل بيته وخواصّ أصحابه وثقاته، منهم إياس ابن بيهس بن عمرو، وهو ابن عمّ قتيبة، ودعا قتيبة ببرذون له مدرّب ليركبه، فاستعصعب عليه حتى أعياه، فجلس على سريره وقال: دعوه، فإن هذا أمر يراد. وجاء حيان فى العجم وقتيبة واجد عليه، فقال عبد الله أخو الجزء: 21 ¦ الصفحة: 341 قتيبة: أحمل عليهم. فقال حيّان: لم يأت بعد. وقال حيّان لابنه: إذا رأيتنى قد حوّلت قلنسوتى وملت نحو عسكر وكيع فمل بمن معك من العجم إلىّ. فلما حوّل حيان قلنسوته مالت الأعاجم إلى عسكر وكيع فكبّروا وهاجوا، فقتل عبد الرحمن أخو قتيبة، وجاء الناس حتى بلغوا فسطاط قتيبة، فقطعوا أطنابه، وجرح قتيبة جراحات كثيرة، فقال جهم بن «1» زحر بن قيس لسعد: انزل فحزّ رأسه، فنزل وشقّ الفسطاط، واحتزّ رأسه؛ وقتل معه من أهله وإخوته: عبد الرحمن، وعبد الله، وصالح، وحضين، وعبد الكريم: بنو مسلم «2» . وقتل كثير ابنه، وكان عدّة من قتل مع قتيبة من أهله أحد عشر رجلا، فأرسل وكيع إلى سليمان برأسه ورءوس أهله. ولما قتل قال رجل من خراسان: يا معشر العرب، قتلتم قتيبة، والله لو كان منّا فمات لجعلناه فى تابوت، فكنا نستفتح به إذا غزونا. وقال عبد الرحمن بن جمانة الباهلى يرثى قتيبة «3» : كأن أبا حفص قتيبة لم يسر ... بجيش إلى جيش ولم يعل منبرا ولم تخفق الرايات والجيش حوله ... وقوف ولم تشهد له الناس عسكرا دعته المنايا فاستجاب لربّه ... وراح إلى الجنّات عفّا «4» مطهّرا فما رزى الإسلام بعد محمّد ... بمثل أبى حفص فبكّيه «5» عبهرا وعبهر: أمّ ولد له. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 342 ووصل خبر مقتله إلى الشام فى اليوم الثانى من مقتله. قال شيوخ من غسان: كنا بثنّية العقاب «1» إذا نحن برجل معه عصا وجراب، فقلنا: من أين أقبلت؟ قال: من خراسان. قلنا؟ هل كان بها من خبر؟ قال: نعم، قتل بها قتيبة بن مسلم أمس، فعجبنا من قوله. فلما رأى إنكارنا قال: أين ترونى الليلة من إفريقية «2» ؟ وتركنا ومضى، فاتبعناه على خيولنا فإذا به يسبق الطّرف. وثنيّة العقاب فى مرج دمشق على نصف مرحلة منها. *** وفى هذه السنة عزل سليمان بن عبد الملك عثمان بن حيّان عن المدينة لسبع بقين من شهر رمضان، واستعمل عليها أبا بكر بن محمد ابن عمرو بن حزم، وكان عثمان قد عزم على أن يجلد أبا بكر هذا ويحلق لحيته من الغد، فلما كان اليل جاء البريد إلى أبى بكر بتأميره وعزل عثمان وحده وتقييده. وعزل سليمان أيضا يزيد بن أبى مسلم عن العراق، واستعمل يزيد بن المهلّب، وجعل صالح بن عبد الرحمن على الخراج، وأمره ببسط العذاب على آل أبى عقيل؛ وهم أهل الحجاج، فكان يعذّبهم، ويلى عذابهم عبد الملك بن المهلّب. وحجّ بالناس أبو بكر بن محمد وهو أمير المدينة، وكان على مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد «3» وعلى حرب العراق الجزء: 21 ¦ الصفحة: 343 وصلاتها يزيد بن المهلّب، وعلى خراجها صالح بن عبد الرحمن. وعلى البصرة سفيان بن عبد الله الكندى من قبل يزيد، وعلى قضائها عبد الرحمن بن أذينة، وعلى قضاء الكوفة أبو بكر بن أبى موسى، وعلى حرب خراسان وكيع بن أبى سود «1» . وفيها مات شريح القاضى، وقيل سنة [97 هـ] سبع وتسعين. وله مائة وعشرون سنة، ومحمود بن لبيد الأنصارى وله صحبة. سنة (97 هـ) سبع وتسعين: ذكر ولاية يزيد بن المهلب خراسان فى هذه السنة استعمل سليمان بن عبد الملك يزيد بن المهلب على خراسان مضافة إلى العراق، وكان سبب ذلك أنّ سليمان لما ولى يزيد بن المهلّب العراق فوّض إليه الحرب والخراج والصلاة بها، فنظر يزيد لنفسه، فرأى أنّ الحجاج قد أخرب العراق، وأنه إن أخذ الناس بالخراج وعذّبهم عليه صار عندهم مثل الحجاج، وأنه متى لم يفعل ذلك ويأت سليمان بمثل ما كان الحجاج يأتى به لم يقبل منه، فأشار على سليمان أن يولّى صالح بن عبد الرحمن مولى تميم الخراج، فولاه الخراج وسيّره قبل يزيد، فنزل واسطا. ولما قدم يزيد خرج الناس يتلقّونه، ولم يخرج صالح حتى قرب يزيد، فخرج وبين يديه أربعمائة من أهل الشام، فلقى يزيد وسايره، ولم يمكنه من شىء، وضيّق عليه، فضجر يزيد من ذلك، فدعا عبد الله بن الأهتم، وقال له: إنى أريدك لأمر أهمّنى، وأحبّ أن تكفينيه. قال: أفعل. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 344 قال: أنا فيما ترى من الضّيق، وقد ضجرت منه، وخراسان شاغرة فهل من حيلة؟ قال: نعم، سرّحنى إلى أمير المؤمنين. فكتب يزيد إلى سليمان وأعلمه بحال العراق، وأثنى على ابن الأهتم وذكر علمه بها، وسيّره على البريد؛ فأتى ابن الأهتم سليمان فقال له: إن يزيد كتب إلىّ يذكر علمك بالعراق، فكيف «1» علمك بخراسان؟ قال: أنا أعلم الناس بها، ولدت بها ونشأت، ولى بها وبأهلها خبر. قال: فأشر على برجل أولّيه خراسان. قال: أمير المؤمنين أعلم بمن يريد، فإن ذكر منهم أحدا أخبرته برأيى فيه، فسمّى رجلا من قريش، فقال: ليس من رجال خراسان. قال: فعبد الملك بن المهلب. فقال: لا يصح، فإنه يضيق عن هذا، وليس له مكر أبيه ولا شجاعته «2» ، حتى ذكر رجالا، وكان آخر من ذكر وكيع ابن أبى سود، فقال: يا أمير المؤمنين، وكيع رجل شجاع صارم رئيس مقدام، وما أحد أوجب شكرا ولا أعظم عندى يدا من وكيع، لقد أدرك بثأرى وشفانى من عدوّى، ولكنّ أمير المؤمنين أعظم حقا، والنصيحة له تلزمنى، إنّ وكيعا لم يجتمع له مائة عنان قطّ إلا حدّث نفسه بغدرة، خامل فى الجماعة، نابه «3» فى الفتنة. قال: فمن لها ويحك! قال: رجل أعلمه لم يسمّه أمير المؤمنين. قال: فمن هو؟ قال: لا أذكره حتى يضمن لى أمير المؤمنين ستر ذلك، وأن يجيرنى منه إن علم. قال: نعم، قال: يزيد بن المهلب. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 345 قال: العراق أحبّ إليه من خراسان؟ قال: قد علمت يا أمير المؤمنين، ولكن تكرهه فيستخلف على العراق [رجلا] «1» ويسير هو إلى خراسان. قال: أصبت الرأى. فكتب عهد يزيد على خراسان، وسيّره مع ابن الأهتم، فأتى يزيد، فأمر بالجهاز للمسير من ساعته، وقدم ابنه مخلدا إلى خراسان من يومه، ثم سار يزيد بعده، واستخلف على واسط الجرّاح بن عبد الله الحكمى، وعلى البصرة عبد الله بن هلال الكلابى، وجعل أخاه مروان بن المهلب على حوائجه وأموره بالبصرة، واستخلف على الكوفة حرملة بن عمير اللخمى أشهرا، ثم عزله، وولى بشير بن حيان النّهدى، وكانت قيس تزعم أن قتيبة لم يخلع، فأمر سليمان يزيدا أن يسأل عن ذلك. فإن أقامت قيس البيّنة أنّ قتيبة لم يخلع فنقيد وكيعا به، فلما وصل مخلد بن يزيد مرو أخذه وكيع «2» فحبسه وعذّبه، وعذّب أصحابه قبل قدوم أبيه، فكانت ولاية وكيع خراسان تسعة أشهر أو عشرة أشهر، ثم قدم يزيد خراسان فآذى «3» أهل الشام وقوما من أهل خراسان، فقال نهار ابن توسعة رحمه الله «4» : وما كنّا نؤمّل من أمير ... كما كنّا نؤمّل من يزيد فأخطأ ظنّنا فيه وقدما ... زهدنا فى معاشرة الزّهيد إذا لم يعطنا نصفا أمير ... مشينا نحوه مشى الأسود. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 346 فمهلا يا يزيد أنب إلينا ... ودعنا من معاشرة العبيد نجىء «1» ولا «2» نرى إلّا صدودا ... على أنّا نسلّم من بعيد ونرجع خائبين بلا نوال ... فما بال التجهّم والصّدود *** وفى هذه السنة جهّز سليمان الجيوش إلى القسطنطينية، واستعمل ابنه داود على الصائفة، فافتتح حصن المرأة. وفيها غزا مسلمة أرض الوضّاحية، وفتح الحصن الذى فتحه الوضّاح. وغزا عمر بن هبيرة الروم فى البحر فشتابها. وحجّ سليمان بن عبد الملك بالناس. وفيها عزل داود بن طلحة «3» الحضرمى عن مكة، فكان عمله عليها ستة أشهر، وولى عبد العزيز بن عبد الله بن خالد. سنة (98 هـ) ثمان وتسعين: ذكر محاصرة القسطنطينية فى هذه السنة بعث سليمان الجيوش إلى القسطنطينية مع أخيه مسلمة بعد أن سار سليمان إلى دابق «4» ، وكان ملك الروم قد مات، فجاء أليون من أذربيجان إلى سليمان، وأخبره بوفاته، وضمن له فتح الروم، فبعث معه مسلمة، فسار هو وأليون، فلما دنا من أرض الروم أمر كلّ فارس أن يحمل معه مدّين من طعام، فلما أتاها أمر الجزء: 21 ¦ الصفحة: 347 بإلقاء ذلك، فصار مثل الجبال، وقال مسلمة لمن معه: لا تأكلوا منه شيئا وأغيروا «1» فى أرضهم وازرعوا، وعمل بيوتا من خشب فشتا فيها وصاف وزرع الناس، فلما «2» كثر عندهم الطعام أقام مسلمة قاهرا للروم معه أعيان الناس، فأرسل الروم إلى مسلمة يعطونه عن كل رأس دينارا فلم يقبل، فقالت الروم لأليون: إن صرفت عنا المسلمين ملّكناك، فاستوثق منهم، وأتى مسلمة فقال له: إنّ الروم قد علموا أنك لا تصدقهم القتال، وأنك تطاولهم ما دام الطعام عندك، فلو أحرقته أعطوا ما بأيديهم، فأمر مسلمة بالطعام فحرق، فقوى الروم وضاق المسلمون حتى كادوا يهلكون، وداموا على ذلك حتى مات سليمان. وقيل: إن أليون إنما خدع مسلمة بأن سأله أن يدخل من الطعام إلى الروم ما يعيشون به ليلة [واحدة] «3» ، ليصدّقوا أنّ أمره وأمر مسلمة واحد، وأنهم فى أمان من السّبى والخروج من بلادهم، فأذن له فى ذلك. وكان أليون قد أعدّ السّفن والرجال فنقلوا تلك الليلة الطعام كلّه، وأصبح أليون محاربا، ولقى الجند ما لم يلقه أحد «4» ، حتى أن كان الرجل ليخاف أن يخرج من العسكر وحده، وأكلوا الدواب والجلود وأصول الشجر والورق، وسليمان مقيم بدابق ووقع «5» الشتاء فلم يقدر أن يمدّهم حتى مات. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 348 وفى هذه السنة بايع سليمان لابنه أيوب بولاية العهد. وفيها فتحت مدينة الصقالبة. وفيها غزا الوليد بن هشام وعمرو بن قيس، فأصيب ناس من أهل أنطاكية، وأصاب الوليد ناسا من ضواحى الرّوم، وأسر بشرا كثيرا. ذكر فتح قهستان «1» وجرجان وطبرستان فى هذه السنة غزا يزيد بن المهلّب جرجان وطبرستان. وكان سبب اهتمامه بها أنّ يزيد لما كان عند سليمان بالشام فى حياة الوليد، فكان كلما فتح قتيبة فتحا يقول سليمان ليزيد: ألا ترى إلى ما يفتح الله على قتيبة! فيقول يزيد: ما فعلت جرجان التى قطعت الطريق، وأفسدت قومس ونيسابور، ويقول: هذه الفتوح ليست بشىء، الشأن فى «2» ، جرجان. وكان سعيد بن العاص قد صالح أهل جرجان، فكانوا يجبون أحيانا مائة ألف، وأحيانا مائتى ألف، وأحيانا ثلاثمائة ألف، وربما منعوا ذلك، ثم أظهروا الامتناع وكفروا فلم يعطوا خراجا، ولم يأت جرجان بعد سعيد أحد، و [قد] «3» منعوا ذلك الطريق فلم يكن يسلك أحد طريق الجزء: 21 ¦ الصفحة: 349 خراسان إلا على فارس وكرمان. فلما ولى سليمان يزيد خراسان لم يكن له همّة غير جرجان، فسار إليها فى مائة ألف سوى الموالى والمتطوعة، ولم تكن جرجان يومئذ مدينة، إنما هى جبال ومخارم وأبواب يقوم الرجل على باب منها فلا يقدر عليه أحد، فابتدأ بقهستان «1» فحاصرها، وكان أهلها طائفة من الترك، فقاتلهم قتالا شديدا، واشتدت الحرب، وقطع عنهم الميرة، فبعث دهقانها، واسمه صول «2» يطلب من يزيد الأمان لنفسه وأهله وماله، ويسلّم إليه المدينة بما فيها، فأمّنه ووفى له، ودخل المدينة فقتل بها أربعة عشر ألف تركى صبرا، وأخذ ما فيها من الكنوز والسّبى وغير ذلك، ثم خرج حتى أتى جرجان فهابه أهلها، وأتوه وصالحوه، فأجابهم إلى ذلك، وصالحهم، فطمع فى طبرستان، فسار إليها فصالحه اصبهذها «3» على سبعمائة ألف «4» ، وقيل خمسمائة ألف وأربعمائة وقر زعفران، أو قيمته من العين، وأربعمائة رجل على كل رجل منهم ترس وطيلسان، ومع كل رجل جام من فضّة وسرقة حرير وكسوة، فأرسل من يقبض ذلك وانصرف إلى جرجان. [والله أعلم «5» ] . الجزء: 21 ¦ الصفحة: 350 ذكر فتح جرجان الفتح الثانى وانشاء مدينتها قال «1» : ولما سار يزيد إلى طبرستان غدر أهل جرجان، فعاد إليهم وعاهد الله إن ظفر بهم لا يرفع عنهم السيف حتى يطحن بدمائهم ويأكل من ذلك الطحين، فحصرهم سبعة أشهر وهم يخرجون إليه يقاتلونه «2» ويرجعون، فبينما هم على ذلك إذ خرج رجل من عجم خراسان يتصيّد، وقيل من طيّئ، فأبصر وعلا فى الجبل فتبعه فلم يشعر حتى هجم على عسكرهم، فرجع يريد أصحابه، وجعل يخرّق قباءة ويعقد على الشجر علامات، فأتى يزيد فأخبره فضمن له يزيد دية إن دلّهم على الحصن؛ فانتخب معه ثلاثمائة رجل، واستعمل عليهم إنه خالدا، وقال له: إن غلبت على الحياة فلا تغلبنّ على الموت، وإياك أن أراك عندى مهزوما، وضمّ إليه جهم بن زحر، وقال للرجل: متى تصل «3» ؟ قال: غدا العصر. قال يزيد: سأجهد على مناصحتهم «4» عند الظهر. فساروا، فلما كان الغد وقت الظهر أحرق يزيد كلّ حطب كان عندهم، فصار مثل الجبال من النيران، فنظر العدوّ إلى النار، فها لهم ذلك، فخرجوا إليهم؛ وتقدّم يزيد إليهم، ودهمهم ابنه بمن معه قبيل العصر وهم آمنون من ذلك الوجه، ويزيد يقاتلهم من هذا الوجه، فما شعروا إلا والتكبير «5» من ورائهم، فانقطعوا جميعا إلى حصنهم، وركبهم المسلمون؛ فأعطوا بأيديهم، ونزلوا على حكم يزيد، فسبى الجزء: 21 ¦ الصفحة: 351 ذراريهم، وقتل مقاتلتهم، وصلبهم فرسخين عن يمين الطريق ويساره، وقاد منهم اثنى عشر ألفا إلى وادى جرجان فقتلهم، وأجرى الماء على الدم، وعليه أرحاء، ليطحن بدمائهم ليبرّ يمينه، فطحن وخبز وأكل. وقيل: قتل منهم أربعين ألفا، وبنى مدينة جرجان، ولم تكن بنيت قبل ذلك مدينة، ورجع إلى خراسان، واستعمل على جرجان جهم بن زحر الجعفى، وكتب إلى سليمان بالفتح وعظّمه «1» عنده، وأخبره أنه قد حصل عنده من الخمس ستمائة ألف ألف، فقال له كاتبه- المغيرة بن أبى قرّة مولى بنى تميم «2» : لا تكتب بتسمية المال، فإنك من ذلك بين أمرين: إما استكثره فأمرك بحمله، وإما سخت به نفسه فأعطاكه فتكلفت الهدية؛ فلا يأتيه من قبلك شىء إلّا استقلّه، فكأنى بك قد استغرقت ما سمّيت ولم يقع منه موقعا، ويبقى المال الذى سميت مخلّدا فى دواوينهم، فإن ولى وال بعده أخذك به، وإن ولى من يتحامل عليك لم يرض بأضعافه، ولكن اكتب سله «3» القدوم وشافهه بما أصبت فهو أسلم. فلم يقبل منه، وكتب «4» ، فكان من أمره فى ذلك ما نذكره فى أخبار عمر بن عبد العزيز. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 352 وقيل: كان المبلغ أربعة آلاف ألف، والله تعالى أعلم. *** وفيها توفى أيّوب بن سليمان بن عبد الملك، وهو ولىّ العهد. وفيها غزا داود بن سليمان أرض الروم؛ ففتح حصن المرأة مما يلى ملطية. وفيها كانت الزلازل فى الدنيا كثيرة، ودامت ستة أشهر. وحجّ بالناس عبد العزيز بن عبد الله أمير مكة. سنة (99 هـ) تسع وتسعين: ذكر وفاة سليمان بن عبد الملك وشىء من أخباره وعماله كانت وفاته يوم الجمعة لعشر مضين من صفر من السنة بدابق «1» من أرض قنّسرين بذات الجنب، وله خمس وأربعون سنة. وكانت مدة خلافته سنتين وثمانية أشهر إلا خمسة أيام، وصلّى عليه عمر بن عبد العزيز؛ وكان طويلا أبيض، جميل الوجه، فصيح اللسان، معجبا بنفسه، يتوقّى سفك الدماء. وكان أكولا نكاحا، وكان حسن السيرة، وكان الناس يقولون: سليمان مفتاح الخير؛ ذهب عنهم الحجاج، وولى سليمان، فأطلق الأسارى، وأخلى السجون، وأحسن إلى الناس، واستخلف عمر بن عبد العزيز. ويقال: إنه فعل فى يوم واحد أكثر مما فعل عمر بن عبد العزيز جميع عمره، وذلك أنه أعتق سبعين ألف مملوك ومملوكة، وكساهم. ومن أعظم بركاته أنه جعل عمر بن عبد العزيز ولىّ عهده. وحكى الجزء: 21 ¦ الصفحة: 353 أنه لبس يوما حلّة خضراء وعمامة خضراء، ونظر فى المرآة، فقال: أنا الملك الفتى، فما عاش جمعة. وقيل: كانت له جارية معها مرآة، فدعاها يوما فجاءته بها، فنظر وجهه، ونظرت الجارية إليه، فقال لها: ما تنظرين؟ قالت «1» : أنت نعم «2» المتاع لو كنت تبقى ... غير أن لا بقاء للإنسان ليس فيما بدا لنا منك عيب ... عابه الناس غير أنك فانى «3» وانصرفت، فاستدعاها فجاءت بالمرآة «4» فسألها عن البيتين، فقالت: والله ما جئتك اليوم؛ فعلم أنه نعى. وقيل: إنه شهد جنازة بدابق فدفنت فى حقل، فجعل سليمان يأخذ من تلك التّربة، ويقول: ما أحسن هذه وأطيبها! فما أتى عليه جمعة حتى دفن إلى جنب ذلك القبر. وقيل: إنه كان له من الأولاد الذكور أربعة عشر. وكان نقش خاتمه: آمنت بالله مخلصا. وكتّابه: يزيد بن المهلب، ثم المفضل «5» بن المهلب عم عبد العزيز ابن الحارث بن الحكم. قاضيه: محمد بن حزم. حاجبه: أبو عبيدة «6» مولاه. الأمير بمصر: عبد الله بن رفاعة. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 354 قاضيها من قبله: عبد الله بن عبد الرحمن، وهو متولّى بيت المال، ثم رد القضاء إلى عياض بن عبد الله من قبل سليمان بن عبد الملك. ذكر بيعة عمر بن عبد العزيز هو أبو حفص عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم؛ وأمّه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وهو الثامن من ملوك بنى أمية، بويع له بدابق يوم الجمعة بعد وفاة سليمان لعشر خلون من صفر سنة [99 هـ] تسع وتسعين. قال: وكان سليمان لما مرض بدابق عهد فى كتاب كتبه لبعض بنيه وهو غلام لم يبلغ الحلم، فدخل عليه رجاء بن حيوة، فقال له: يا أمير المؤمنين؛ إنه «1» مما يحفظ الخليفة فى قبره أن يستخلف على الناس «2» الرجل الصالح. فقال سليمان: أنا أستخير الله، وأنظر. ومكث يوما أو يومين ثم حرق «3» الكتاب، ودعا رجاء، فقال: ما ترى فى ولدى داود؟ فقال رجاء: هو غائب بالقسطنطينية، ولم يدر «4» أحىّ هو أم لا؟ قال: فما ترى فى عمر بن عبد العزيز؟ قال رجاء: أعلمه والله خيّرا فاضلا مسلما. قال سليمان: هو على ذلك، ولئن ولّيته ولم أولّ أحدا سواه لتكوننّ فتنة ولا يتركونه أبدا عليهم إلا أن أجعل أحدهم بعده. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 355 فأمر سليمان أن يجعل يزيد بن عبد الملك بعد عمر. وكان يزيد غائبا فى الموسم. فكتب سليمان: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من عبد الله سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز؛ إنى قد ولّيتك الخلافة من بعدى، ومن بعدك يزيد بن عبد الملك؛ فاسمعوا له وأطيعوا، واتّقوا الله، ولا تختلفوا، فيطمع فيكم. وختم الكتاب وأرسل إلى كعب بن جابر «1» صاحب شرطته، فقال: ادع أهل بيتى، فجمعهم كعب، ثم قال سليمان لرجاء بعد اجتماعهم: اذهب بكتابى هذا إليهم، ومرهم أن يبايعوا من ولّيت فيه، ففعل، وبايعوا رجلا رجلا، ولم يعلموا من فى الكتاب. قال رجاء: فأتانى عمر بن عبد العزيز فقال: أخشى أن يكون هذا أسند إلىّ من هذا الأمر شيئا؛ فأنشدك الله إلّا أعلمتنى إن كان قد وقع حتى أستعفى قبل أن يأتى حال لا أقدر على ذلك فيها. قال رجاء: فقلت: ما أنا مخبرك «2» . فذهب عنّى غضبان. ولقينى هشام بن عبد الملك فقال: إن لى حرمة ومودّة قديمة فأعلمنى بهذا الأمر؛ فإن كان إلى غيرى تكلّمت، ولله علىّ ألّا أذكرك. قال: فأبيت أن أخبره. قال «3» : ودخلت على سليمان عند موته فغمضته وسجّيته، وأغلقت الباب، وأرسلت إلى كعب بن جابر «4» ، فجمع أهل بيت سليمان فى مسجد دابق، فقلت: بايعوا! فقالوا: الجزء: 21 ¦ الصفحة: 356 قد بايعنا مرة. قلت: وأخرى، هذا عهد من أمير المؤمنين، فبايعوا الثانية. قال رجاء: فلما بايعوا بعد موته رأيت أنى قد أحكمت الأمر فقلت: قوموا إلى صاحبكم فقد مات، فاسترجعوا، وقرأت الكتاب، فلما انتهيت إلى ذكر عمر بن عبد العزيز قال هشام: لا نبايعه والله أبدا. قلت: أضرب والله عنقك. قم وبايع. فقام يجرّ رجليه. قال رجاء: وأجلست عمر على المنبر وهو يسترجع لما وقع فيه، وهشام يسترجع لما أخطأه، فبايعوه. قال: ولما دفن سليمان أتى عمر بمراكب الخلافة، فقال: دابّتى أرفق «1» لى، وركب دابّته؛ ثم أقبل سائرا، فقيل له: منازل «2» الخلافة؟ فقال: فيها عيال سليمان، وفى فسطاطى كفاية حتى يتحوّلوا. قال: وبلغ عبد العزيز بن الوليد- وكان غائبا- وفاة سليمان ولم يشعر بعمر «3» ، فدعا لنفسه، فبلغه بيعة عمر، فأقبل حتى دخل عليه، فقال له عمر: بلغنى أنك بايعت من قبلك، وأردت دخول دمشق. قال: نعم، وذلك أنه بلغنى أنّ سليمان ما عقد لأحد فخفت على الأموال أن تنتهب. فقال [له] «4» عمر: لو بايعت وقمت بالأمر لم أنازعك فيه. فبايعه عبد العزيز. قال: ولما استقرت البيعة لعمر قال لامرأته فاطمة بنت عبد الملك: إن أردتنى «5» فردّى ما معك من مال وحلى وجوهر إلى بيت المال، الجزء: 21 ¦ الصفحة: 357 فإنه للمسلمين، وإنى لا أجتمع أنا وأنت وهو فى بيت واحد، فردّته جميعه. فلما توفى عمر وولّى أخوها يزيد ردّه عليها فلم تأخذه، وقالت: ما كنت لأطيعه حيّا وأعصيه ميّتا، ففرّقه يزيد على أهله. قال: وكان [من] «1» أول ما ابتدأ به عمر بن عبد العزيز أن ترك سبّ علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه على المنابر، وكان يسبّ فى أيام بنى أمية إلى أن ولى عمر فترك ذلك، وأبدله بقول الله عز وجل «2» : «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» . فحلّ ذلك عند الناس محلّا حسنا، وأكثروا مدح عمر بسببه، فكان ممن مدحه كثيّر عزّة بقوله «3» : وليت فلم تشتم عليّا ولم تخف ... بريّا ولم تتبع مقالة مجرم تكلّمت بالحقّ المبين وإنما ... تبيّن آيات الهدى بالتكلم فصدقت «4» معروف الذى قلت بالذى ... فعلت فأضحى راضيا كلّ مسلم ألا إنما يكفى الفتى بعد زيغه ... من الأود البادى «5» ثقاف المقوّم وفيها وجّه عمر بن عبد العزيز إلى مسلمة وهو بأرض الروم يأمره بالقفول منها بمن معه من المسلمين، ووجّه لهم خيلا عتاقا وطعاما كثيرا. وفيها أغارت الترك على أذربيجان. فقتلوا من المسلمين جماعة، الجزء: 21 ¦ الصفحة: 358 فوجّه عمر حاتم بن النعمان الباهلى فقتل أولئك الترك، ولم يفلت منهم إلا اليسير، وقدم على عمر منهم بخمسين أسيرا. وفيها عزل عمر يزيد بن المهلّب عن أعماله، ووجّه إلى البصرة عدى بن أرطاة الفزارى، وجعل على الكوفة عبد الحميد بن عبد الرحمن ابن زيد بن الخطاب العدوى، وضمّ إليه أبا الزّناد، واستعمل على خراسان الجراح بن عبد الله الحكمى. وحجّ بالناس أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وكان عامل المدينة، وكان العامل على مكة عبد العزيز بن [عبد الله بن خالد، وعلى الكوفة عبد الحميد] «1» ، وعلى القضاء بها [عامر الشعبى، وكان على البصرة عدىّ من أرطاة، وعلى القضاء «2» ] الحسن بن أبى الحسن البصرى، ثم استعفى عديّا فأعفاه، واستقضى إياس بن معاوية. سنة مائة للهجرة: ذكر خروج شوذب الخارجى فى هذه السنة خرج شوذب واسمه بسطام من بنى يشكر فى جوخى وكان فى ثمانين رجلا، فكتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد عامله بالكوفة ألّا يحرّكهم حتى يسفكوا الدّماء أو يفسدوا فى الأرض، فإن فعلوا وجّه إليهم رجلا صليبا حازما فى جند. فبعث عبد الحميد محمد بن جرير بن عبد الله البجلى فى ألفين، وأمره أن يفعل ما كتب «3» به عمر، وكتب عمر إلى بسطام الجزء: 21 ¦ الصفحة: 359 يسأل «1» عن مخرجه، فقدم كتاب عمر عليه، وقد قدم [عليه] «2» محمد، فكان فى كتاب عمر: بلغنى أنك خرجت غضبا لله ولرسوله، ولست بذلك أولى منى، فهلم إلىّ أناظرك، فإن كان الحقّ بأيدينا دخلت فيما دخل فيه الناس، وإن كان فى يدك نظرنا فى أمرك. فكتب إليه «3» بسطام: قد أنصفت، وقد بعثت إليك برجلين يدارسانك ويناظرانك. وأرسل إليه مولى حبشيّا لبنى شيبان اسمه عاصم، ورجلا من بنى يشكر، فقدما على عمر بخناصرة «4» ، فقال لهما: ما أخرجكما هذا المخرج؟ وما الذى نقمتم؟ قال عاصم: ما نقمنا سيرتك، إنك لتتحرّى العدل والإحسان، فأخبرنا عن قيامك بهذا الأمر؛ عن رضا من الناس ومشورة، أم ابتززتم «5» أمرهم؟ فقال عمر: ما سألتهم الولاية عليهم، ولا غلبتهم عليها، وعهد إلىّ رجل كان قبلى، فقمت، ولم ينكر علىّ أحد، ولم يكرهه غيركم، وأنتم ترون «6» الرّضا بكل من عدل وأنصف من كان من الناس، فأنزلونى «7» ذلك الرجل، فإن خالفت الحقّ وزغت «8» عنه فلا طاعة لى عليكم. قالا: بيننا وبينك أمر واحد. قال: ما هو؟ قالا: رأيناك خالفت أعمال أهل بيتك وسمّيتها مظالم، فإن كنت على هدى وهم على الجزء: 21 ¦ الصفحة: 360 ضلالة فالعنهم وابرأ منهم. فقال عمر: قد علمت أنكم لم تخرجوا طلبا للدنيا، ولكنكم أردتم الآخرة فأخطأتم طريقها، إنّ الله عزّ وجل لم يبعث رسوله لعّانا. وقال إبراهيم الخليل صلوات الله عليه وسلامه «1» : «فمن تبعنى فإنه منّى ومن عصانى فإنّك غفور رحيم» . وقال الله عز وجل «2» : «أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ» . وقد سميت أعمالهم ظلما، وكفى بذلك ذمّا ونقصا، وليس لعن أهل الذنوب فريضة لا بدّ منها، فإن قلتم إنها فريضة فأخبرنى متى لعنت فرعون؟ قال: ما أذكر متى لعنته. قال: أفيسعك ألّا تلعن فرعون وهو أخبث الخلق وشرّهم، ولا يسعنى ألّا ألعن أهل بيتى وهم مصلّون صائمون؟ قال عاصم: أما هم كفّار بظلمهم؟ قال: لا، لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم دعا الناس إلى الإيمان، فكان من أقرّبه وبشرائعه قبل منه، فإن أحدث حدثا أقيم عليه الحد. فقال عاصم: إن رسول الله دعا الناس إلى توحيد الله تعالى والإقرار بما أنزل من عنده. قال عمر: فليس أحد منهم يقول: لا أعمل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ولكن القوم أسرفوا على أنفسهم على علمهم «3» أنه محرّم عليهم، ولكن غلب عليهم الشّقاء. قال عاصم: فابرأ مما خالف عملك وردّ أحكامهم. قال عمر: أخبرانى «4» عن أبى بكر وعمر رضى الله عنهما، أليسا على الحق؟ قالا: بلى. قال: أتعلمان أنّ أبا بكر حين قاتل أهل الجزء: 21 ¦ الصفحة: 361 الرّدّة سفك دماءهم، وسبى الذّرارى، وأخذ الأموال؟ قالا: نعم. قال: أفتعلمان أن عمر رضى الله عنه ردّ السبايا بعده إلى عشائرهم بفدية؟ قالا: نعم. قال: فهل برئ عمر من أبى بكر؟ قالا: لا. قال: أفتبرءون أنتم من واحد منهما؟ قالا: لا. قال: فأخبرانى عن أهل النّهروان وهم أسلافكم، هل تعلمان «1» أنّ أهل الكوفة خرجوا فلم يسفكوا دما، ولم يأخذوا مالا، وأن من خرج إليهم من أهل البصرة قتلوا عبد الله بن خبّاب وجاريته وهى حامل؟ قالا: نعم. قال: فهل برى من لم يقتل ممّن قتل؟ قالا: لا. قال: أفتبرءون أنتم من إحدى الطائفتين؟ قالا: لا. قال: أفيسعكم أن تتولّوا أبا بكر وعمر وأهل الكوفة وأهل البصرة وقد علمتم اختلاف أعمالهم، ولا يسعنى إلا البراءة من أهل بيتى، والدّين واحد؟ فاتقوا الله، فإنكم جهّال تقبلون من الناس ما ردّ عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتردّون عليهم ما قبل، ويأمن عندكم من خاف عنده، ويخاف عندكم من أمن عنده، فإنكم يخاف عندكم من يشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمّدا عبده ورسوله، وكان من فعل ذلك عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم أمن وحقن دمه وماله، وأنتم تقتلونه ويأمن عندكم سائر أهل الأديان، فتحرّمون دماءهم وأموالهم. قال اليشكرى: أرأيت رجلا ولى قوما وأموالهم فعدل فيها ثم صيّرها بعده إلى رجل غير مأمون، أتراه أدّى الحقّ الذى يلزمه لله عزّ وجلّ، وتراه قد سلّم؟ قال عمر: لا. قال: أفتسلم هذا الأمر إلى يزيد من بعدك وأنت تعلم أنه لا يقوم فيه بالحقّ. قال: إنما ولّاه الجزء: 21 ¦ الصفحة: 362 غيرى، والمسلمون أولى بما يكون منهم فيه بعدى. قال: أفترى ذلك من صنع من ولّاه حقّا؟ فبكى عمر، وقال: أنظرانى ثلاثا «1» . فخرجا من عنده ثم عادا إليه، فقال عاصم: أشهد أنك على حق. فقال عمر لليشكرى: ما تقول أنت؟ قال: ما أحسن ما وصفت، ولكنى لا أفتات على المسلمين بأمر، أعرض عليهم ما قلت وأعلم ما حجّتهم. فأما عاصم فأقام عند عمر، فأمر له بالعطاء فتوفى بعد خمسة عشر يوما، فكان عمر يقول: أهلكنى أمر يزيد، وخصمت فيه، فأستغفر الله. فخاف بنو أمية أن يخرج ما بأيديهم وأن يخلع يزيد من ولاية العهد؛ فوضعوا على عمر من سقاه سمّا. فلم يلبث بعد ذلك إلّا ثلاثا حتى مرض ومات، رحمه الله تعالى. هذا ومحمد بن جرير مقابل الخوارج لا يتعرض إليهم ولا يتعرّضون إليه، فلما مات عمر وولّى يزيد كان ما نذكره فى أخبار يزيد. *** وفى هذه السنة عزل عمر يزيد بن المهلب عن خراسان وأحضره وطالبه بالمال الذى كان كتب به إلى سليمان واعتقله بحصن حلب، واستعمل على خراسان الجرّاح بن عبد الله الحكمى، ثم عزله؛ واستعمل عبد الرحمن بن نعيم القشيرى. وفيها كان ابتداء خروج شيعة بنى العباس على ما نذكره فى أخبار الدولة العباسية إن شاء الله تعالى. وفيها أمر عمر بن عبد العزيز أهل طرندة «2» بالقفول عنها إلى ملطية، وطرندة أوغل «3» فى البلاد الرّومية بثلاث الجزء: 21 ¦ الصفحة: 363 مراحل، وكان عبد الله بن عبد الملك قد أسكنها المسلمين بعد أن غزاها سنة [83 هـ] ثلاث وثمانين وملطية يومئذ خراب، وكان يأتيهم جند من الجزيرة يقيمون عندهم إلى أن ينزل الثّلج ويعودون إلى بلادهم، فلم يزالوا كذلك إلى أن ولى عمر، فأمرهم بالعود إلى ملطية وأخلى طرندة خوفا على المسلمين من العدوّ، وأخرب طرندة، واستعمل على ملطية جعونة بن الحارث أحد بنى عامر بن صعصعة. وفيها كتب عمر إلى ملوك السند يدعوهم إلى الإسلام، فأسلم من ذكرنا منهم على ما سبق ذكر ذلك. وفيها استعمل عمر بن عبد العزيز عمر بن هبيرة الفزارى على الجزيرة. وفيها مات أبو الطّفيل عامر بن واثلة الليثى بمكة، وهو آخر من مات من الصحابة، ومولده عام أحد. وحجّ بالناس أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم. *** سنة (101 هـ) احدى ومائة: فى هذه السنة هرب يزيد بن المهلب من حبس عمر بن عبد العزيز، وذلك أنه لما اشتدّ مرض عمر بن عبد العزيز عمل يزيد فى الهرب مخافة يزيد بن عبد الملك لإساءة [كانت] «1» صدرت منه فى حقّه أيام سليمان، فأرسل ابن المهلب إلى مواليه فأعدّوا له خيلا وإبلا، وواعدهم مكانا يأتيهم فيه، وأرسل إلى عامل حلب وإلى الحرّاس مالا، وقال: إنّ أمير المؤمنين قد ثقل فى مرضه، وليس يرجى، الجزء: 21 ¦ الصفحة: 364 وإن ولى يزيد سفك دمى، فأخرجوه، فهرب وقصد البصرة، وكتب إلى عمر كتابا يقول: إنى والله لو وثقت بحياتك لم أخرج من محبسك ولكنى خفت أن يلى يزيد فيقتلنى شرّ قتله. فورد الكتاب وبه رمق، فقال رضى الله عنه: اللهم إن كان يزيد يريد» بالمسلمين سوءا فألحقه به وهضه فقد هاضنى، ثم كان من أمر ابن المهلّب ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر وفاة عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه وشىء من أخباره وسيرته رحمه الله تعالى كانت وفاته رحمه الله بخناصرة لستّ بقين من شهر رجب سنة [101 هـ] إحدى ومائة، وكانت شكواه عشرين يوما، وقيل له [فى مرضه] «2» : لو تداويت! فقال «3» : لو كان دوائى فى مسح أذنى ما مسحتها، نعم المذهوب إليه ربّى. ودفن «4» بدير سمعان من أرض حمص. وقيل: به توفى، وكان عمره تسعا وثلاثين سنة وأشهرا [وقيل أربعين سنة وأشهرا] «5» . وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر وأربعة عشر يوما. وكان أبيض نحيفا حسن الوجه، وهو أشجّ بنى أمية، رمحته الجزء: 21 ¦ الصفحة: 365 دابّة فشجّته، وهو غلام، فدخل على أمه فضمّته إليها ولامت أباه حيث لم يجعل معه حاضنا «1» . فقال لها عبد العزيز: اسكتى يا أمّ عاصم، فطوبى له إن كان أشجّ بنى أميّة. وكان عبد الله بن عمر بن الخطاب رضى الله عنهما يقول: يا ليت شعرى، من هذا الذى من ولد عمر فى وجهه علامة يملأ الدنيا عدلا؛ فكان عمر بن عبد العزيز؛ لأنّ أمّه ابنة عاصم بن عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنهم أجمعين. ذكر نبذة من سيرته رضى الله عنه كان رحمه الله ورضى عنه قد بثّ العدل ونشره فى الدنيا واقتصر من دنياه على سدّ الخلّة «2» حتى إنّ مسلمة بن الملك عاده فى مرض موته، فرأى عليه قميصا دنسا «3» ، فقال لأخته فاطمة، وهى زوجة عمر: اغسلوا ثياب أمير المؤمنين. فقالت: نفعل. ثم عاده فرأى الثّوب بحاله، فقال: ألم آمركم أن تغسلوا قميصه. فقالت: والله ما له غيره، وكانت نفقته فى كل يوم درهمين. قال: ولما ولى الخلافة أتاه أصحاب مراكب الخلافة يطلبون علفها، فأمر بها فبيعت، وجعل ثمنها فى بيت المال، وقال: بغلتى هذه تكفينى. قال: ولما ولى صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيّها الناس، الجزء: 21 ¦ الصفحة: 366 من صحبنا فليصحبنا لخمس «1» ، وإلّا فلا يقربنا: يرفع إلينا حاجة من لا يستطيع رفعها، ويعيننا على الخير بجهده، ويدلّنا على ما لا نهتدى إليه من الخير، ولا يغتابنّ أحدا، ولا يعترض فيما لا يعنيه. فانقشع الشعراء والخطباء، وثبت عنده الفقهاء والزّهّاد، وقالوا: ما يسعنا أن نفارق هذا الرجل حتى يخالف قوله فعله. ولما ولى أحضر قريشا ووجوه الناس فقال: إنّ فدك «2» كانت بيد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [فكان] «3» يضعها حيث أراه الله، ثم وليها أبو بكر كذلك، وعمر كذلك، ثم أقطعها مروان. ثم إنها صارت لى، ولم يكن من مالى أعود علىّ منها، وإنى أشهدكم أنى قد رددتها على ما كانت عليه فى عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال: فيئس الناس من الظّلم. وأخذ من أهله ما بأيديهم، وسمّى ذلك مظالم، ففزع بنو أمية إلى عمّته فاطمة بنت مروان فأتته، فقالت [له] «4» : تكلّم أنت يا أمير المؤمنين. قال: إن الله بعث محمدا صلّى الله عليه وسلّم إلى الناس كافة «5» ، ثم اختار له ما عنده، وترك للناس نهرا شربهم سواء، ثم ولى أبو بكر فترك النهر على حاله، ثم ولى عمر فعمل عملهما، ثم لم يزل النهر يستقى منه يزيد الجزء: 21 ¦ الصفحة: 367 ومروان، وعبد الملك ابنه، والوليد وسليمان ابنا عبد الملك، حتى أفضى الأمر إلىّ، وقد يبس النهر الأعظم، فلن يروى «1» أصحابه حتى يعود إلى ما كان عليه. فقالت: حسبك [قد أردت كلامك «2» ] ، فأما إذا كانت مقالتك هذه فلا أذكر شيئا أبدا، ورجعت إليهم فأخبرتهم بكلامه. وقد قيل: إنها قالت له: إن بنى أميّة كذا وكذا- ذكرت إنكارهم لفعله بهم- فلما تكلم بهذا قالت له: إنهم يحذّرونك يوما من أيامهم، فغضب وقال: كل يوم أخافه غير يوم القيامة؛ فلا أمّننى «3» الله شرّه. فرجعت إليهم فأخبرتهم وقالت: أنتم فعلتم هذا بأنفسكم، تزوجتم بأولاد عمر بن الخطاب، فجاء يشبه جدّه، فسكتوا. قالت فاطمة امرأة عمر: دخلت عليه فى مصلّاه ودموعه تجرى على لحيته، فقلت: أحدث شىء؟ قال: إنى تقلّدت أمر أمّة محمد صلى الله عليه وسلّم، فتفكرت فى الفقير الجائع، والمريض الضائع والعارى «4» والمظلوم والمقهور «5» ، والغريب والأسير، والشيخ الكبير وذى العيال الكثير والمال القليل وأشباههم فى أقطار الأرض، فعلمت أنّ ربى سيسألنى عنهم يوم القيامة، وأنّ خصمى دونهم محمد صلّى الله الجزء: 21 ¦ الصفحة: 368 عليه وسلّم، فخشيت ألّا تثبت حجّتى عند الخصومة، فرحمت نفسى فبكيت. وكتب إلى عمّاله نسخة واحدة: أما بعد فإنّ الله عزّ وجل أكرم بالإسلام أهله، وشرّفهم وأعزّهم، وضرب الذّلّة والصّغار على من خالفهم، وجعلهم خير أمّة أخرجت للناس، فلا تولّينّ أمر «1» المسلمين أحدا من أهل ذمتهم وخراجهم، فتنبسط عليهم أيديهم وألسنتهم فتذلّهم بعد أن أعزّهم الله، وتهينهم بعد أن أكرمهم الله، وتعرّضهم لكيدهم والاستطالة عليهم، ومع هذا فلا يؤمن غشّهم إياهم، فإنّ الله عز وجل يقول «2» : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا وَدُّوا ما عَنِتُّمْ» . وقال تعالى «3» : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» . والسلام. وكتب لما ولى الخلافة إلى يزيد بن المهلب بن أبى صفرة، وهو إذ ذاك يلى العراق وخراسان: أما بعد فإنّ سليمان كان عبدا من عبيد الله، أنعم الله عليه ثم قبضه، واستخلفنى ويزيد بن عبد الملك من بعدى إن كان، وإن الذى ولّانى الله من ذلك وقدرّ لى ليس علىّ بهيّن، ولو كانت رغبتى فى اتخاذ أزواج واعتقاد «4» أموال لكان فى الذى أعطانى الله من ذلك ما قد بلغ بى أفضل ما بلغ بأحد من خلقه، وأنا أخاف فيما ابتليت به حسابا شديدا الجزء: 21 ¦ الصفحة: 369 ومسألة غليظة إلّا ما عافى «1» الله ورحم، وقد بايع من قبلنا فبايع من قبلك. فلما قرأ الكتاب قيل له: لست من عمّاله، لأن كلامه ليس ككلام من مضى من أهله. وكتب إلى عبد الرحمن بن نعيم: أما بعد فاعمل عمل من يعلم أنّ الله لا يصلح عمل المفسدين. وكتب إلى سليمان بن أبى السرى: أن اعمل خانات، فمن مرّ بك من المسلمين فاقروه يوما وليلة، وتعهّدوا دوابّهم. ومن كانت به علة فاقروه يومين وليلتين، وإن كان منقطعا [به] «2» فأبلغه بلده. فلما أتاه كتاب عمر قال له أهل سمرقند: إنّ قتيبة ظلمنا وغدر بنا، وأخذ بلادنا، وقد أظهر الله العدل والإنصاف فأذن لنا فليقدم منا وفد على أمير المؤمنين، فأذن لهم، فوجّهوا وفدا إلى عمر، فكتب إلى سليمان: إنّ أهل سمرقند شكوا ظلما وتحاملا من قتيبة عليهم حتى أخرجهم من أرضهم، فإذا أتاك كتابى فأجلس لهم القاضى فلينظر فى أمرهم، فإن قضى لهم فأخرج العرب إلى معسكرهم كما كانوا قبل أن يظهر عليهم قتيبة. فأجلس لهم سليمان جميع بن حاضر القاضى، فقضى أن تخرج العرب إلى معسكرهم وينابذوهم على سواء، فيكون صلحا جديدا الجزء: 21 ¦ الصفحة: 370 أو ظفرا عنوة. فقال أهل الصّغد: نرضى بما كان ولا نحدث شيئا «1» وتواصوا بذلك. وكتب إلى عبد الحميد: أما بعد فإنّ أهل الكوفة أصابهم بلاء وشدة وجور فى أحكام الله؛ وسنّة خبيثة سنّها عليهم عمّال السوء، وإن قوام الدّين العدل والإحسان، فلا يكوننّ [شىء] «2» أهمّ إليك من نفسك؛ فإنه لا قليل من الإثم «3» ، ولا تحمل خرابا على عامر، وخذ منه ما أطاق؛ وأصلحه حتى يعمر، ولا يؤخذن من العامر إلا وظيفة الخراج فى رفق وتسكين لأهل الأرض، ولا تأخذنّ أجور الضرابين ولا هديّة النوروز والمهرجان؛ ولا ثمن الصحف ولا أجور الفيوج «4» ولا أجور البيوت؛ ولا دراهم النكاح؛ ولا خراج على من أسلم من أهل الأرض، فاتّبع فى ذلك أمرى، فإنى قد ولّيتك من ذلك ما ولّانى الله، ولا تعجل دونى بقطع ولا صلب حتى تراجعنى فيه، وانظر من أراد من الذريّة أن يحج فعجّل له مائة ليحجّ بها. والسلام. قال محمد بن [على] «5» الباقر: إن لكل قوم نجيبة، وإن نجيبة بنى أمية عمر بن عبد العزيز رحمه الله، فإنه يبعث يوم القيامة أمة وحده. وقال مجاهد: أتينا عمر نعلّمه؛ فلم نبرح حتى تعلّمنا منه «6» . الجزء: 21 ¦ الصفحة: 371 وقيل لعمر بن عبد العزيز رضى الله عنه: ما كان بدء إنابتك؟ قال: أردت ضرب غلام لى، فقال لى: اذكر ليلة صبيحتها يوم القيامة. وقال عمر: ما كذبت منذ علمت أنّ الكذب يضرّ أهله. وأخباره رضى الله عنه فى الخير والعدل كثيرة لو استقصيناها أو أوردنا ما طالعناه منها لطال ولخرج عن قاعدة هذا التأليف، وناهيك بها سيرة ضرب بها المثل فى العدل والإحسان منذ كانت إلى يومنا هذا. وكان له من الأولاد الذكور أربعة عشر وخمس بنات. كتّابه: رجاء بن حيوة الكندى؛ وابن أبى رقبة «1» . قاضيه: عبد الله بن سعد الأبلّى. حجابه: جيش، ومزاحم، مولياه. الأمير بمصر: أيوب بن شرحبيل. وأقر على القضاء عياض بن عبد الله؛ ثم صرفه بأبى مسعود عبد الله بن حذافة. وكان نقش خاتمه رضى الله عنه: «عمر بن عبد العزيز يؤمن بالله» . ذكر بيعة يزيد بن عبد الملك هو أبو خالد يزيد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم، وأمّه عاتكة بنت يزيد بن معاوية، وهو التاسع من ملوك بنى أمية، بويع له يوم الجمعة لخمس بقين من شهر رجب سنة [101 هـ] إحدى ومائة بعد وفاة الجزء: 21 ¦ الصفحة: 372 عمر بن عبد العزيز؛ وذلك بعهد من أخيه سليمان بن عبد الملك على ما تقدّم ذكر ذلك. قيل: ولما احتضر عمر رضى الله عنه قيل له: اكتب إلى يزيد فأوصه بالأمّة. قال: بماذا أوصيه؟ إنه من بنى عبد الملك. ثم كتب إليه: أما بعد فاتّق يا يزيد الصّرعة بعد الغفلة، حين لا تقال العثرة، ولا تقدر على الرجعة، إنك تترك ما تترك لمن لا يحمدك، وتصير إلى من لا يعذرك. والسلام. فلما ولى يزيد نزع أبا بكر محمد بن عمرو بن حزم [عن المدينة، واستعمل عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس الفهرى عليها؛ فأراد معارضة ابن حزم] «1» فلم يجد عليه سبيلا حتى شكا عثمان بن حيّان إلى يزيد ابن عبد الملك من ابن حزم، وأنه ضربه حدّين، وطلب منه أن يقيده منه. فكتب يزيد إلى عبد الرحمن كتابا: أما بعد فانظر فيم ضرب ابن حزم ابن حيان، فإن كان ضربه فى أمر بيّن أو أمر مختلف فيه فلا تلتفت إليه. فأرسل ابن الضحاك إلى ابن حزم فأحضره؛ وضربه حدّين فى مقام واحد، ولم يسأله عن شىء، وعمد يزيد إلى كلّ ما فعله عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه مما لم يوافق هواه، فرده، ولم يخف شناعة عاجلة ولا إثما آجلا. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 373 ذكر مقتل شوذب الخارجى وهزيمته بجيوش يزيد قبل ذلك واسم شوذب بسطام. قد ذكرنا خروجه فى أيام عمر بن عبد العزيز رحمه الله ووصول رسله إلى عمر، وما كان بينهما من المناظرة، وخروج محمد بن جرير ابن عبد الله البجلى إليهم فى ألفين وموادعتهم إلى أن يعود رسولا شوذب من عند عمر؛ فلما مات عمر بن عبد العزيز أحبّ عبد الحميد ابن عبد الرحمن بن زيد بن الخطّاب، وهو الأمير على الكوفة، أن يحظى عند يزيد بن عبد الملك؛ فكتب إلى محمد بن جرير يأمره بمناجزة «1» شوذب، فلما رآه يستعدّ للحرب أرسل إليه يقول: ما أعجلكم قبل انقضاء المدّة. فأرسل إليه محمد: إنه لا يسعنا ترككم على هذه الحال. فقال الخوارج: ما فعل هؤلاء هذا إلّا وقد مات الرجل الصالح، فاقتتلوا، فأصيب من الخوارج نفر، وقتل أكثر «2» أهل الكوفة، وانهزم من بقى منهم نحو الكوفة، وتبعهم الخوارج حتى بلغوا الكوفة، ثم رجعوا إلى مكانهم. ثم وجّه يزيد بن عبد الملك تميم بن الحباب فى ألفين فقاتلوه، فقتل «3» ، وقتل أكثر أصحابه، ولجأ من بقى منهم إلى الكوفة، والتحق بعضهم بيزيد، فأرسل إليهم يزيد نجدة بن الحكم الأزدى فى جمع، فقتلوه وهزموا أصحابه. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 374 وأقام شوذب بمكانه «1» حتى دخل مسلمة بن عبد الملك الكوفة، فشكا إليه أهل الكوفة مكان شوذب وحذّروه أمره، فأرسل إليه مسلمة سعيد بن عمرو الحرشىّ. فى عشرة آلاف، فقال شوذب لأصحابه: من كان منكم يريد الشهادة فقد جاءته، ومن كان يريد الدنيا فقد ذهبت. فكسروا أغماد سيوفهم وحملوا فكشفوا سعيدا وأصحابه مرارا حتى خاف سعيد رحمه الله الفضيحة، وكان فارسا شجاعا، فوبخّ «2» أصحابه، وقبّح عليهم الفرار، فحملوا فقتلوا بسطاما ومن معه من الخوارج. ذكر الغزوات والفتوحات فى خلافة يزيد بن عبد الملك بن مروان ذكر غزوة الترك وفى سنة [102 هـ] اثنتين ومائة كانت الحرب بين المسلمين والترك عند قصر الباهلى. وقيل: كان سبب ذلك أنّ عظيما من عظماء الدّهاقين أراد أن يتزوّج امرأة من باهلة كانت فى ذلك القصر، فأبت فاستجاش التّرك، فجمعهم خاقان ووجّههم إلى الصّغد، فساروا وعليهم كورصول حتى نزلوا بقصر الباهلى، ورجوا أن يسبوا من فيه، وكان فيه مائة أهل بيت بذراريهم، وكان على سمرقند يومذاك عثمان بن عبد الله بن مطرّف بن الشّخّير من قبل سعيد بن عبد العزيز عامل خراسان، فكتب أهل القصر إليه، وخافوا أن يبطىء عنهم المدد، فصالحوا الترك على أربعين ألفا وأعطوهم سبعة عشر رجلا رهينة؛ وانتدب «3» عثمان الناس؛ فانتدب المسيب الجزء: 21 ¦ الصفحة: 375 ابن بشر الرّياحى، وانتدب معه أربعة آلاف من جميع القبائل، وعليهم شعبة بن ظهير، وكان على سمرقند قبل عثمان، فلما عسكروا قال لهم المسيّب: إنكم تقدمون على حلبة التّرك عليهم خاقان، والعوض إن صبرتم الجنة، والعقاب إن فررتم النار؛ فمن أراد الغزو والصبر فليقدم. فرجع عنه ألف وثلاثمائة، فلما سار فرسخا [آخر] «1» ، فقال مثل ذلك؛ فاعتزله ألف، ثم سار فرسخا آخر فقال مثل ذلك، فاعتزله ألف، وبقى فى سبعمائة؛ فسار حتى بقى على فرسخين من التّرك، فأتاه الخبر أن أهل القصر قد صالحوا التّرك على أربعين ألفا، وأعطوهم سبعة عشر رجلا رهينة، وأنه لما بلغهم مسير المسلمين قتلوا الرهائن وأنهم اتّعدوا القتال غدا. فبعث المسيّب رجلين إلى أهل القصر يعلمهم بقربه، ويستمهلهم يوما وليلة، فأتيا القصر فى ليلة مظلمة وقد أجرت «2» ، الترك الماء فى نواحى القصر، فليس يصل إليه أحد. فلما دنوا من القصر صاح بهم الرّبيئة فاستنصتاه، وقالا له: ادع لنا عبد الملك بن دثار، فدعاه، فأعلماه قرب المسيّب، [وأمراه بالصّبر غدا، ورجعا إلى المسيّب،] «3» فبايع أصحابه على الموت، فبايعوه، وسار حتى بقى «4» بينه وبين القصر نصف فرسخ، فلما أمسى أمر أصحابه بالصّبر، وقال: ليكن الجزء: 21 ¦ الصفحة: 376 شعاركم: يا محمد، ولا تتبعوا مولّيا، وعليكم بالدوابّ فاعقروها فإنها إذا عقرت كانت أشدّ عليهم منكم، وسار بهم ليلا فوافى عسكر الترك وقت السّحر، فخالطهم المسلمون، وعقروا الدواب، فانهزمت الترك، ونادى منادى المسيّب: لا تتبعوهم، فإنهم لا يدرون من الرّعب أتبعتوهم أم لا. وأمر أصحابه أن يقصدوا القصر ويحملوا ما فيه من المال ومن بالقصر؛ ممن يعجز عن المشى، ففعلوا، ورجع إلى سمرقند، ورجع التّرك من الغد، فلم يروا بالقصر أحدا، ورأوا قتلاهم، فقالوا: لم يكن الذين أتونا من الإنس. والله أعلم. ذكر غزو الصغد وفى سنة [102 هـ] اثنتين ومائة أيضا عبر سعيد النهر، وغزا الصّغد، وكانوا نقضوا العهد، وأعانوا التّرك على المسلمين، فلقيه الترك وطائفة من الصّغد، فهزمهم المسلمون وساروا حتى انتهوا إلى واد بينهم وبين المرج، فقطعه بعضهم وقد أكمن «1» لهم التّرك، فلما جازهم المسلمون خرجوا عليهم، فانهزم المسلمون حتى انتهوا إلى الوادى، ثم جاء الأمير وبقيّة الجيش فانهزم العدوّ. وفيها غزا عمر بن هبيرة الروم من ناحية أرمينية، وهو على الجزيرة قبل أن يلى العراق، فهزمهم، وأسر منهم خلقا كثيرا. وقيل «2» سبعمائة أسير. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 377 وغزا عباس بن الوليد بن عبد الملك الروم، فافتتح دلسة «1» ، وغزا أيضا فى سنة ثلاث ومائة، ففتح مدينة يقال لها رسلة «2» . ذكر الوقعة بين سعيد الحرشى «3» أمير خراسان وبين الصّغد وفى سنة [104 هـ] أربع ومائة غزا سعيد الحرشى، فقطع النّهر وسار فنزل قصر الرّيح على فرسخين من الدّبوسية «4» ، وكان الصّغد لما بلغهم عزل سعيد بن عبد العزيز عن خراسان واستعمال الحرشى خافوه على أنفسهم، فأجمع عظماؤهم على الخروج من بلادهم، فقال لهم ملكهم: أقيموا واحملوا له خراج ما مضى، واضمنوا له خراج ما يأتى، وعمارة الأرض، والغزو معه إن أراد ذلك، واعتذروا مما كان منكم، وأعطوه رهائن. قالوا: نخاف ألّا يقبل ذلك منا، ولكنا نأتى خجندة «5» فنستجير بملكها، ونرسل إلى الأمير فنسأله الصّفح عما كان منّا. فوافقهم. فخرجوا إلى خجندة، وأرسلوا إلى ملك فرغانة يسألونه أن يمنعهم، وينزلهم مدينته، فأراد أن يفعل فنهته أمه، وقالت له: فرّغ لهم رستاقا يكونون فيه؛ فأرسل إليهم: سمّوا رستاقا تكونون فيه حتى نفرغه لكم، وأجّلونى أربعين يوما. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 378 فاختاروا شعب عصام بن عبد الله الباهلى، فقال: نعم، وليس علىّ عقد ولا جوار حتى تدخلوه، وإن أتتكم العرب قبل دخوله لم أمنعكم. فرضوا، وفرغ لهم الشّعب. فلما انتهى الحرشى إلى قصر الرّيح أتاه ابن عم ملك فرغانة فقال له: إنّ أهل الصّغد بخجندة، وأخبره خبرهم، وقال: عاجلهم قبل أن يصلوا إلى الشّعب، فليس لهم علينا جوار حتى يمضى الأجل. فوجّه معه عبد الرحمن القشيرى أو زياد «1» بن عبد الرحمن فى جماعة، ثم ندم «2» بعد ما فصلوا، وقال: جاءنى علج لا أعلم صدق أم كذب؛ فغرّرت بجند من المسلمين. فارتحل فى أثرهم حتى نزل أشرو سنة «3» ، فصالحهم بشىء يسير، ثم سار مسرعا حتى لحق القشيرى، وساروا حتى انتهوا إلى خجندة، فنزل عليهم وأخذ فى التأهّب. وكان الذين بخجندة قد حفروا خندقا فى ربضهم وراء الباب، وغطّوه بقصب وتراب، وأرادوا إذا التقوا إن انهرموا دخلوا من الطريق «4» ، ويشكل على المسلمين فيسقطون فى الخندق. فلما خرجوا قاتلوهم فانهزموا وأخطئوا «5» هم الطريق فسقطوا فى الخندق، فأخرج منهم المسلمون أربعين رجلا، وحصرهم الحرشىّ، ونصب عليهم المجانيق. فأرسلوا إلى ملك فرغانة: إنك قد غدرت [بنا] «6» ، وسألوه الجزء: 21 ¦ الصفحة: 379 أن ينصرهم، فقال: قد أتوكم قبل انقضاء الأجل، ولستم فى جوارى، فطلبوا الصّلح، وسألوا الحرشىّ أن يؤمنهم ويردّهم إلى الصّغد، فاشترط عليهم أن يردّوا ما فى أيديهم من نساء العرب وذراريهم، وأن يؤدوا ما كسروا من الخراج، ولا يغتالوا أحدا، ولا يتخلّف منهم بخجندة أحد، فإن أحدثوا حدثا حلّت دماؤهم. فخرج إليهم الملوك والتجار من الصّغد، ونزل عظماء الصّغد على الجند الذين يعرفونهم، ونزل كارزنج على أيوب بن حسّان «1» ، وبلغ الحرشى أنهم قتلوا امرأة ممن كان فى أيديهم، فقال [لهم] «2» : بلغنى أنّ ثابتا الإشتيخنى قتل امرأة؛ فجحدوا. فسأل حتى استصح الخبر، فأحضر ثابتا وقتله، فلما بلغ «3» كارزنج ذلك خاف أن يقتل فأرسل إلى ابن أخيه ليأتيه بسراويل، وكان قد قال لابن أخيه: إذا طلبت سراويل فاعلم أنه القتل. فبعث به إليه، وخرج واعترض الناس فقتل ناسا، وانتهى إلى ثابت بن عثمان بن مسعود فقتله ثابت، وقتل الصّغد مائة وخمسين رجلا كانوا عندهم من أسرى المسلمين، فأمر الحرشىّ بقتل الصّغد بعد عزل التجار عنهم، فقاتلهم الصّغد بالخشب، ولم يكن لهم سلاح، فقتلوا عن آخرهم، وكانوا ثلاثة آلاف، وقيل سبعة آلاف، واصطفى الحرشى أموال الصّغد وذراريهم، وأخذ من ذلك ما أعجبه، وقسّم ما بقى، وفتح المسلمون حصنا يطيف به وادى الصّغد من ثلاث جهات صلحا على ألّا يتعرض لنسائهم وذراريهم، ففعلوا. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 380 وسار الحرشى إلى كسّ «1» ، فصالحوه على عشرة آلاف رأس. وقيل: ستة آلاف رأس، وولىّ الحرشى نصر بن سيّار قبض صلح كسّ، واستعمل سليمان بن أبى السرى على كس، ونسف- حربها وخراجها. وكانت خزار «2» منيعة، فأرسل الحرشىّ إليها المسربل بن الخرّيت النّاجى، وكان صديقا لملكها، واسم ملكها سبغرى «3» ، فأخبر الناجى الملك بما صنع الحرشى بأهل خجندة، وخوّفه. قال: فما ترى؟ قال: أرى أن تنزل بأمان، فصالحهم فأمنوه وبلاده، ورجع الحرشى إلى مرو ومعه سبغرى فقتله وصلبه ومعه أمانه. ذكر ظفر الخزر بالمسلمين وفى سنة [104 هـ] أربع ومائة دخل جيش المسلمين إلى بلاد الخزر من أرمينية، وعليهم ثبيت النّهرانى «4» ، فاجتمعت الخزر فى جمع كثيف، وأعانهم قفجلق وغيرهم من التّرك، فلقوا المسلمين بمكان يعرف بمرج الحجارة، فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل من المسلمين خلق كثير، واحتوت الخزر على عسكرهم، وغنموا ما فيه، وأقبل المنهزمون [إلى الشام] «5» ، فقدموا على يزيد، فوبّخهم على الهزيمة، فقال ثبيت: يا أمير المؤمنين، ما جبنت ولا نكّبت عن لقاء العدو، ولقد لصقت الخيل بالخيل والرجل بالرجل، ولقد طاعنت حتى انقصف رمحى، وضاربت حتى انقطع سيفى، غير أن الله تبارك وتعالى يفعل ما يشاء. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 381 ذكر فتح بلنجر وغيرها «1» قال: لما تمّت الهزيمة المذكورة على المسلمين طمع الخزر فى البلاد. فجمعوا وحشدوا، فاستعمل يزيد بن عبد الملك الجرّاح بن عبد الله الحكمىّ على أرمينية، وأمده بجيش كثيف، وأمره بغزو الخزر وغيرهم من الأعداء وقصد بلادهم، فسار الجرّاح وتسامعت به الخزر فعادوا حتى نزلوا بالباب والأبواب، ووصل الجرّاح إلى بردعة «2» ، فأقام بها حتى استراح هو ومن معه، وسار نحو الخزر فعبر «3» نهر الكرّ، فبلغه أنّ بعض من معه كتب إلى ملك الخزر يخبره بمسير الجرّاح إليه، فأمر الجرّاح مناديا فنادى فى الناس: إنّ الأمير مقيم ها هنا عدة أيام، فاستكثروا من الميرة. فكتب ذلك الرجل إلى ملك الخزر يخبره أن الجرّاح مقيم، ويشير عليه بترك الحركة لئلا يطمع المسلمون فيه، ثم أمر الجرّاح بالرحيل ليلا، وسار مجدّا حتى انتهى إلى مدينة الباب [والأبواب «4» ] ، فلم ير الخزر، فدخل البلد، وبثّ سراياه للنّهب والغارة، فغنموا وعادوا، وسار الخزر إليه، وعليهم ابن ملكهم فالتقوا عند نهر الرّان «5» ، واقتتلوا قتالا شديدا، فهزمهم المسلمون وتبعوهم يقتلون ويأسرون، فقتل منهم خلق كثير، الجزء: 21 ¦ الصفحة: 382 وغنم المسلمون جميع ما معهم، وساروا حتى نزلوا على حصن يعرف بالحصين، فنزل أهله بالأمان على مال يحملونه، فأجابهم ونقلهم عنه، ثم سار إلى مدينة برغر «1» فأقام عليها ستة أيام، وجدّ فى قتال أهلها، فسألوا الأمان فأمّنهم وتسلّم حصنهم ونقلهم منه. ثم سار إلى بلنجر وهو حصن مشهور من حصونهم، فنازله، وقاتل عليه قتالا شديدا، وملك الحصن عنوة، وغنم المسلمون ما فيه، فأصاب الفارس ثلاثمائة دينار، وكانوا بضعة وثلاثين ألفا، وأخذ الجراح أولاد صاحب بلنجر وأهله، وأرسل إليه فأحضره وردّ إليه أمواله وأهله وحصنه، وجعله عينا للمسلمين؛ ثم سار عن بلنجر فنزل على حصن الوبندر «2» ، وبه نحو أربعين ألف بيت من الترك، فصالحوا الجرّاح على مال يؤدّونه، ثم تجمّع أهل تلك البلاد، وأخذوا الطرق على المسلمين، فكتب صاحب بلنجر إلى الجرّاح يخبره بذلك، فعاد مجدّا حتى وصل إلى رستاق سلّى «3» ، وأدركهم الشتاء، فاقام المسلمون به، وكتب الجراح إلى يزيد بن عبد الملك يخبره بما فتح الله عليه وبجموع الكفار، ويسأله المدد، فوعده بانفاذ العساكر، فمات قبل ذلك، فأقر هشام الجرّاح على عمله، ووعده المدد. هذا ما كان من الغزوات والفتوحات فى أيام يزيد بن عبد الملك، فلنذكر حوادث السنين فى أيامه. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 383 تتمة سنة (101 هـ) احدى ومائة: ذكر استيلاء يزيد بن المهلب بن أبى صفرة على البصرة وخلعه يزيد بن عبد الملك قد ذكرنا هرب يزيد بن المهلب من حبس عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وأنه إنما هرب خوفا من يزيد بن عبد الملك لمنافرة كانت بينهما. وقيل: كان السبب الذى أوجب كراهة يزيد بن عبد الملك فى يزيد بن المهلب أن ابن المهلب خرج يوما من الحمّام فى أيام سليمان وقد تضمّخ بالغالية، فاجتاز بيزيد بن عبد الملك وهو إلىّ جانب عمر ابن عبد العزيز، فقال يزيد بن عبد الملك: قبّح الله الدنيا! لوددت أنّ مثقال الغالية بألف دينار، فلا يناله إلا كلّ شريف، فقال ابن المهلّب: بل وددت أنّ الغالية فى جبهة الأسد فلا ينالها إلا لى. فقال له يزيد بن عبد الملك: والله لئن وليت يوما لأقتلنّك. فقال ابن المهلب: والله لئن وليت هذا الأمر وأنا حىّ لاضربنّ وجهك بمائة ألف سيف. وقيل: كان السبب أنّ يزيد بن المهلب كان قد عذّب أصهار يزيد بن عبد الملك، وكان سليمان بن عبد الملك لما ولى الخلافة طلب آل عقيل فأخذهم وسلّمهم إلى ابن المهلب ليخلّص الأموال منهم، فبعث ابن المهلب إلى البلقاء من أعمال دمشق وبها خزائن الحجاج ابن يوسف وعياله، فنقلهم وما معهم إليه، وكان فيمن أتى به أمّ الحجاج زوجة يزيد بن عبد الملك. وقيل: بل أخت لها- فعذّبها، فأتى يزيد بن عبد الملك إلى ابن المهلب فى منزله، فشفع فيها، فلم يشفعه، فقال: الذى قرّرتم عليها أنا أحمله، الجزء: 21 ¦ الصفحة: 384 فلم يقبل منه، فقال لابن المهلب: أما والله لئن ولّيت من الأمر شيئا لأقطعنّ منك عضوا ... فقال ابن المهلّب: وأنا والله لئن كان ذلك لأرمينّك بمائة ألف سيف. فحمل يزيد بن عبد الملك المال «1» عنها، وكان مائة ألف دينار، وقيل أكثر من ذلك. والله أعلم. قال: فلما ولى يزيد بن عبد الملك كتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن، وإلى عدى بن أرطاة، يعرّفهما هرب يزيد، ويأمرهما بالتحرز منه، وأمر عديا أن يأخذ من بالبصرة من آل المهلّب ويحبسهم، فقبض عليهم وفيهم المفضّل وحبيب ومروان بنو المهلب، وأقبل يزيد بن المهلب نحو البصرة، وقد جمع عدىّ بن أرطاة الجموع، وخندق على البصرة، وندب الناس، وجاء يزيد فى أصحابه «2» والذين معه، فالتقاه «3» أخوه محمد بن المهلب فيمن اجتمع إليه من أهله وقومه ومواليه، فمرّ بجموع عدىّ؛ فجعل لا يمرّ بخيل من خيل عدىّ إلا تنحّوا عن طريقه، وأقبل حتى نزل داره، واختلف الناس إليه، فبعث إلى عدىّ أن ابعث إلىّ إخوتى وأنا أصالحك على البصرة وأخلّيك وإياها حتى آخذ لنفسى من يزيد ما أحب. فلم يقبل منه، وأخذ يزيد بن المهلب يعطى من أتاه قطع الذهب والفضّة؛ فمال الناس إليه؛ وكان عدىّ لا يعطى إلّا درهمين درهمين، ويقول: لا يحلّ أن أعطيكم من بيت المال درهما إلا بأمر يزيد بن عبد الملك، ولكن تبلّغوا بهذه حتى يأتى الأمر، فقال الفرزدق «4» : الجزء: 21 ¦ الصفحة: 385 أظنّ رجال الدّرهمين تقودهم «1» ... إلى الموت آجال لهم ومصارع وأكيسهم من قرّ فى قعر بيته «2» ... وأيقن أنّ الموت لا بدّ واقع وخرج يزيد حين اجتمع الناس له حتى نزل جبّانة بنى يشكر وهو المنصف «3» فيما بينه وبين القصر، فلقيه قيس وتميم وأهل الشام، فاقتتلوا هنيهة وانهزموا، فتبعهم يزيد وأصحابه حتى دنا من القصر، وخرج إليهم عدىّ بنفسه فقتل من أصحابه وانهزم هو «4» ، وقصد قتل آل المهلب الذين فى حبسه، فأغلقوا الباب ومنعوا عن أنفسهم حتى أدركهم يزيد، ونزل فى دار سالم «5» ابن زياد بن أبيه، وهى إلى جنب القصر، ونصب السلاليم، وفتح القصر، وأتى بعدى بن أرطاة فحبسه، وقال: لولا حبسك إخوتى لما حبستك، وأخرج إخوته وهرب بوجوه أهل البصرة، فلحقوا بالكوفة، وكان يزيد قد بعث حميد بن عبد الملك بن المهلب إلى يزيد ابن عبد الملك فى طلب الأمان، فعاد بما طلب ومعه خالد القسرى وعمرو ابن يزيد الحكمى، فوجد المغيرة بن زياد وقد فرّ من يزيد ابن المهلب، فأخبرهم الخبر، فعادوا إلى يزيد بن عبد الملك ومعهم حميد، وأرسل يزيد بن عبد الملك إلى أهل الكوفة يثنى عليهم ويعدهم الجزء: 21 ¦ الصفحة: 386 الزيادة، وأرسل «1» أخاه مسلمة وابن أخيه العباس بن الوليد، فى سبعين ألف مقاتل من أهل الشام والجزيرة. وقيل: كانوا ثمانين ألفا، فساروا إلى العراق حتى بلغوا الكوفة فنزلوا بالنّخيلة «2» ، واستوثق أمر البصرة لابن المهلّب، وبعث عمّاله على الأهواز وفارس وكرمان، ثم سار يزيد من البصرة، واستعمل عليها أخاه مروان، وأتى واسطا، وأقام عليها أياما يسيرة إلى أن دخلت سنة [102 هـ] اثنتين ومائة، فسار عنها. واستخلف عليها ابنه معاوية، ونزل «3» عنده بيت المال، وقدم أخاه عبد الملك نحو الكوفة، فاستقبله العباس بن الوليد واقتتلوا، فظفر عبد الملك أوّلا، ثم كانت الهزيمة عليه، فعاد بمن معه إلى أخيه، وأقبل مسلمة يسير على شاطىء الفرات إلى الأنبار، وعقد عليها جسرا فعبر وسار حتى نزل على ابن المهلّب، والتحق بابن المهلّب «4» ناس كثير من الكوفة والثغور، وأحصى ديوانه مائة ألف وعشرين ألفا، فقال: لوددت أنّ لى بهم من بخراسان من قومى. ثم قام فى أصحابه وحرّضهم على القتال، وكان اجتماع ابن المهلب ومسلمة ثمانية أيام، فلما كان يوم الجمعة لأربع عشرة ليلة مضت من صفر سنة [102 هـ] اثنتين ومائة خرج مسلمة فى جنوده حتى قرب من ابن المهلّب، والتقوا واقتتلوا؛ فانهزم أصحاب ابن المهلب، الجزء: 21 ¦ الصفحة: 387 فترجّل وبقى فى جماعة من أصحابه وقد استقتل وهو يتقدّم؛ فكلّما مرّ بخيل كشفها أو جماعة من أهل الشام عدلوا عنه؛ وأقبل نحو مسلمة لا يريد غيره، فلما دنا منه أدنى فرسه ليركب، فعطف عليه أهل الشام، فقتل يزيد والسّميدع «1» ومحمّد بن المهلّب، وكان رجل من كلب يقال له القحل «2» بن عيّاش لما نظر إلى يزيد قال: هذا والله يزيد، والله لأقتلنّه أو ليقتلنى، فمن يحمل معى يكفينى أصحابه حتى أصل إليه، فحمل معه ناس، فاقتتلوا ساعة، وانفرج الفريقان عن يزيد قتيلا وعن القحل بآخر رمق، فأومأ إلى أصحابه يريهم مكان يزيد وأنه هو الذى قتله، وأنّ يزيد قتله، وأتى مولى لبنى مرّة برأس يزيد إلى مسلمة، فقيل له: أنت قتلته؟ قال: لا، فبعث مسلمة بالرأس إلى يزيد بن عبد الملك مع خالد بن الوليد ابن عقبة بن أبى معيط. وقيل: بل قتله الهذيل بن زفر بن الحارث الكلابى، ولم ينزل لأخذ رأسه أنفة. قال: ولما قتل يزيد كان المفضّل بن المهلّب يقاتل أهل الشام وهو لا يدرى بقتل أخيه ولا بهزيمة الناس، فأتاه آت وقال له: ما تصنع وقد قتل يزيد وحبيب ومحمد، وانهزم الناس منذ طويل؟ فتفرّق الناس عنه، ومضى المفضّل إلى واسط. وقيل: بل أتاه أخوه عبد الملك، وكره أن يخبره بقتل يزيد الجزء: 21 ¦ الصفحة: 388 فيستقتل، فقال له: إنّ الأمير قد انحدر إلى واسط، فانحدر المفضّل بمن بقى من ولد المهلب إليها، فلما علم بقتل يزيد حلف أنّه لا يكلّم عبد الملك أبدا، فما كلّمه حتى قتل بقندابيل «1» . قال: ولما أتت هزيمة ابن المهلّب إلى واسط أخرج ابنه معاوية اثنين وثلاثين إنسانا «2» كانوا عنده، فضرب أعناقهم، منهم عدىّ ابن أرطاة، وابنه محمد، ومالك، وعبد الملك ابنا مسمع وغيرهم، ثم أقبل حتى أتى البصرة بالمال والخزائن، وجاء المفضّل بن المهلب واجتمع إلى المهلّب بالبصرة، وأعدّوا السفن وتجهّزوا للركوب. فى البحر إلى جبال كرمان، وحملوا عيالهم «3» وأموالهم فى السفن البحريّة، ولجّجوا حتى أتوا جبال كرمان، فخرجو من سفنهم، وحملوا ما معهم على الدوابّ. وكان المقدّم عليهم المفضّل، وكان بكرمان فلول كثيرة، فاجتمعوا إلى المفضل، وبعث مسلمة مدرك بن ضب الكلبى فى طلبهم وفى أثر الفلّ، فأدرك المفضّل ومن اجتمع إليه، فقاتلوه قتالا شديدا، فقتل من أصحاب المفضل جماعة، وطلب بعض من معه الأمان، ومضى آل المهلب إلى قندابيل، وبعث مسلمة إلى مدرك بن ضب، فردّه؛ وسيّر فى أثرهم هلال بن أحوز التميمى فلحقهم بقندابيل، فأراد آل المهلب دخولها فمنعهم أميرها وادع بن حميد، وكان يزيد بن المهلب قد استعمله عليها، وأخذ عليه العهود والمواثيق أنه إن قتل فى حربه يلجأ أهله إليها ويتحصّنوا بها حتى يأخذوا أمان يزيد بن عبد الملك. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 389