الكتاب: حوار هادئ مع محمد الغزالي المؤلف: سلمان بن فهد العودة الطبعة: الأولى - ذو القعدة 1409 هـ   صدر الإذن بطباعته من   الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد   رقم 12501/ 5 وتاريخ 9/ 11 / 1409 هـ عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- حوار هادئ مع الغزالي سلمان العودة الكتاب: حوار هادئ مع محمد الغزالي المؤلف: سلمان بن فهد العودة الطبعة: الأولى - ذو القعدة 1409 هـ   صدر الإذن بطباعته من   الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد   رقم 12501/ 5 وتاريخ 9/ 11 / 1409 هـ عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ـ[الكتاب: حوار هادئ مع محمد الغزالي]ـ المؤلف: سلمان بن فهد العودة الناشر: الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد الطبعة: الأولى سنة النشر: ذو القعدة 1409 هـ عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 حوار هادئ مع محمد الغزالي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 الطبعة الأولى ذو القعدة 1409 هـ صدر الإذن بطباعته من الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد رقم 12501 / 5 وتاريخ 9 / 11 / 1409 هـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 تمهيد: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد لله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أما بعد: • فإن مصطلح "الفكر الإسلامي" يطلق على ذلك الفكر الجوّاب في أنحاء الحياة المختلفة، والذي يحاول إيضاح هدى الإسلام في شتى شئون الحياة ومجالاتها السياسية، والاقتصادية، والعلمية، والاجتماعية، والنفسية، والفنية. . . وغيرها. وهو إنتاج غزير ثرّ متنوع، وثمت علماء ومفكرون كثر لهم قدم راسخة في ميادين الدعوة والإصلاح. • ومن أبرز هؤلاء العلماء (الشيخ محمد رشيد رضا وهو صاحب المنار، ثم الشيخ حسن البنا- والمودودي- والندوي- وآل قطب- ومحمد البهي- ومحمد المبارك- والسباعي- والشيخ عبد الرحمن الدوسري ... وغيرهم كثير كثير) . • وهذا الإنتاج الثر الغزير يحتاج إلى غربلة وتصحيح إذ أنه نتاج العقل والنظر، وليس وحياً لا يأتيه البطل من يديه ولا من خلفه، والفكر لا يقف عند حد معين لا يتعداه، لا يقف عند هذا الحد إلا حين تتعطل العقول وتضعف المدارك، فيصبح هم القارئ هو التلقي والتسليم دون جدل أو مناقشة. ومن المفكرين المعاصرين المكثرين في مجال التأليف، والكتابة الشيخ / محمد الغزالي، الداعية المعروف. • ولعل من المناسب أن أعرض جوانب بسيطة وسريعة من حياة هذا الرجل، فقد ولد سنة 1917م في قرية اسمها (نكلا العنب) بمحافظة البحيرة في مصر وتلك القرية هي القرية نفسها التي ولد فيها الشيخ/ سليم البشري، شيخ الأزهر والشيخ/ محمد عبده، والشيخ/ محمود شلتوت، وهو أحد مشايخ الغزالي وكذلك محمد البهي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 ومعنى ذلك أن عمر الغزالي يقارب (72) سنة الآن، وقد التحق بكلية أصول الدين بعدما تخرج من المعهد الديني في جامعة الأزهر وتخصص بالدعوة، وحصل على درجة التخصص في التدريس وهي تعادل درجة الماجستير وذلك من كلية اللغة العربية. • قضى نحو نصف قرن بين الإمامة والخطابة والتدريس في مساجد وزارة الأوقاف المصرية، وتولى إدارة المساجد وإدارة الدعوة بوزارة الأوقاف نفسها، وقام الشيخ بالتدريس في عدد من جامعات العالم الإسلامي-بدءا بجامعة الأزهر ثم جامعة الملك عبد العزيز وجامعة أم القرى، وكذلك جامعة قطر. وأخيرا تولى منصب مدير جامعة الأمير عبد القادر الإسلامية بالجزائر، ثم حدثت له أزمة صحية اضطرته إلى الراحة ومن ثم ترك الجامعة. • شهد مؤتمرات كثيرة وألف عددا كبيرا من الكتب يقارب الخمسين كتابا من أشهرها: خلق المسلم - عقيدة المسلم - فقه السيرة - ظلام من الغرب- من معالم الحق- كيف نفهم الإسلام- مع الله- معركة المصحف- الجانب العاطفي من الإسلام- دفاع عن العقيدة والشريعة ضد مطاعن المستشرقين- ركائز الإيمان- قذائف الحق- الدعوة الإسلامية تستقبل قرنها الخامس عشر الهجري- دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين- مشكلات في طريق الحياة الإسلامية- هموم داعية- مائة سؤال حول الإسلام- مستقبل الإسلام خارج أرضه وكيف نفكر فيه؟ قصة حياة- وأخيرا (السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث) . • هذا الكتاب - السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث- آثار ضجة كبيرة ودويا في الأوساط الصحفية، وقد حاز الشيخ على جائزة الملك فيصل العالمية في مجال خدمة الإسلام، وقامت كثير من الصحف بمقابلته والحديث عنه والحديث عن مؤلفاته في مصر والسعودية وغيرها.. من هذه المجلات والصحف- اليمامة وجريدة الشرق الأوسط وجريدة المسلمون وزهرة الخليج ومجلة الدعوة السعودية، والمجتمع، والشرق السعودية، والأهرام، وغيرهما كثير. • وأبرز القضايا التي يعالجها الشيخ في كتاباته ودروسه تتحدث عن مجموعة موضوعات منها: • الدفاع عن قضايا الإسلام ضد خصومه من المستشرقين والمستغربين ودحض مزاعمهم ضد شريعة الإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 • ومنها عرض الجوانب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والخلقية والعقدية للإسلام كما يفهمها المترجم. • ومنها العناية بمسألة إيصال الإسلام إلى البشرية كلها شرقها وغربها، والعمل على تحقيق مكاسب للدعوة الإسلامية في أوروبا وأمريكا وغيرها من بلاد العالم، وهذا هم كبير يسيطر على المؤلف ويؤثر في كثير من آرائه وتوجهاته. • ومنها معالجة أمراض المسلمين المزمنة أو كما يسمونه (النقد الذاتي) بما في ذلك أمراض الدعاة وذلك بأسلوب ساخر يجعلك تشعر بمدى الانفعال الذي يحمله الشيخ وهو يطلق كلماته وسهامه هنا وهناك، وقد يعبر عن ذلك من خلال طرفة أو نكتة يرويها ويرى أنها مفيدة!. • ومن الموضوعات التي يطرقها موضوع الوحدة الإسلامية وإزالة العقبات التي تعترض طريقها. • وقبل الدخول في الموضوع أشير إلى سؤال يطرح كثيرا: لماذا المراجعة؟ لماذا نراجع كتب الفكر الإسلامي؟. وفي رأيي ونظري أن هذه المراجعة مهمة جدا، مهمة حتى نتربى على القراءة الناقدة البصيرة فلا نرفض أو نقبل إلا بعد تأمل ونظر فإننا نجد كثيرا من القراء تعودوا على أحد أمرين: *إما أن يقبل بدون نظر ولا تأمل، (حسب الثقة) . *أو يرد أيضا بدون نظر ولا تأمل. فمنهم من إذا أعجب بشخص أو مؤلف أو كاتب أوعالم فإنه يعتبر نفسه كالميت بين يدي مغسلة ليس له رأي ولا نظر ولا اختيار، فيقبل منه ما جاء به دون نظر أو مراجعة. وعلى النقيض من ذلك تجد طائفة من القراء إذا صار عنده توقف في شخص أو عدم قناعة في فكرة فإنه يرفض كل ما جاء به حتى لو كان ما جاء به هذا المؤلف أو الكاتب حقا. (وكلا طرفي قصد الأمور ذميم) • والواقع أن القارئ ينبغي أن يعود نفسه على القراءة الناقدة البصيرة، فلا يرفض ولا يقبل إلا بعد تأمل ونظر ودراسة، ومثل هذه المراجعات تربي القارئ تربية عملية واقعية على طريقة التعامل مع هذه الكتب وما فيها من أفكار وآراء، كذلك فإن المراجعة -بالذات- للشيخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 الغزالي أمر طبيعي، لأنه هو نفسه يؤمن- ولو نظريا على الأقل- بالحوار الهادئ الهادف، ويرفض التقليد الأعمى حتى للمجتهدين الكبار القدامى، وقد كتب في كتبه نقدا لهذا التقليد. وفي حواره مع مجلة الشرق قال- إنه يدعو إلى سعة الأفق العلمي وسعة الأفق الخلقي-. فأما سعة الأفق العلمي فهي تجعل القارئ والمتلقي قادرا على مناقشة هذه الآراء وأخذ ما يناسب منها وترك ما هو ضد ذلك برحابة صدر وسعة أفق، وأما سعة الأفق الخلقي فهي تضمن للمخالف أن يحترم مخالفه في الرأي فلا تطيش سهامه، فينتقصه أو يحط من قدره أو يرميه بتهم لا يملك دليلا عليها، بل يحفظ له قدره وكرامته وإن خالفه في الرأي ما دامت المسألة مسألة رأي واجتهاد، ولذلك فإن من الوفاء لهذا المنهج الشرعي الصحيح أن تناقش الآراء وفق مسلك صائب. • ومن هذا المنطلق جاءت هذه (المراجعات للفكر الإسلامي المعاصر) وكان هذا (الحوار الهادئ مع محمد الغزالي) . إن بعضهم يقول: لماذا الغزالي بالذات؟ كل إنسان له أخطاء.. والغزالي فعل وفعل.. وآخر يقول: لماذا هذا الهدوء في المناقشة؟ لقد أعطيت الغزالي فوق ما يستحق. وأقول: لا شك أن كل ابن آدم خطاء، وللغزالي جهود مشكورة أشرت إليها، وأسأل الله أن يعامله بفضله، ويعفو عنا وعنه. • ولا شك أن الغزالي-أيضا- قال كلاما شديدا جارحا مثيرا للغضب والانفعال، وتكلم في مسائل عديدة بما يخالف الرأي المستقر لدى الأمة كلها أو جلها. • ولكنني آثرت النبرة الهادئة -قدر المستطاع- وحاولت البعد عن مقابلة الخطأ بمثله، وفي ظني أن المهم هو قوة الحجة، وليس المهم هو الضجيج والصياح (فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) . وإنني أرحب بكل ملاحظة أو نقد، يصدر عن روية ونظر، وليس عن تعصب أو هوى أو انفعال. والله الهادي إلى سواء السبيل. المؤلف القصيم- بريدة- ص. ب 2782 5\11\1409هـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 الفصل الأول: صلة الغزالي بالمدرسة العقلية المعاصرة كثير من القراء الذين أتيح لهم الإطلاع على ما كتبه الشيخ الغزالي أو بعضه يتساءلون: إلى أي مدرسة ينتمي الشيخ الغزالي؟ ما هي المنطلقات والأسس الفكرية التي ينطلق منها، فكان لابد من الحديث عن هذا الموضوع. خاصة وأن مثل هذه الدراسة تمنح القارئ روية وأناة تجاه أطروحات الشيخ، إذ أن القارئ حين يعترض على الأصول والأسس، فإن من المنطقي ألا يوافق على الجزيئات المنبثقة من تلك الأصول. • إن من الواضح أن الشيخ يحاول ألا يحشر نفسه في إطار معين ويحاول أن ينتقي من الآراء ما يعتقد أو يرى أنه أحرى بالقبول، إما لقوة الدليل، أو لملائمة الواقع، أو لأي سبب آخر، ومع ذلك أن من الممكن- من خلال استعراضي ومعايشتي لمعظم ما كتبه الشيخ من كتب- رسم الإطار العام الذي يتحرك فيه. كثيرون من الناس يعتبرون الغزالي من أتباع المدرية العقلية، ويصنفونه "فقهيا" في مدرسة الرأي، فما مدى دقة هذا الحكم؟! • أولا: لابد من الإشارة إلى المقصود بالمدرسة العقلية، ما هي؟ فأقول: • إن المدرسة العقلية اسم يطلق على ذلك التوجه الفكري الذي يسعى إلى التوفيق بين نصوص الشرع وبين الحضارة الغربية والفكر الغربي العاصر، وذلك بتطويع النصوص وتأويلها تأويلا جديدا يتلاءم مع المفاهيم المستقرة لدى الغربيين، ومع انفجار المعلومات والاكتشافات الصناعية الهائلة في هذا العصر، وتتفاوت رموز تلك المدرسة تفاوتا كبيرا في موقفها من النص الشرعي، ولكنها تشترك في الإسراف في تأويل النصوص، سواء كانت نصوص العقيدة، أو نصوص الأحكام، أو الأخبار المحضة، وفي رد ما يستعصي من تلك النصوص على التأويل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 • أبرز معالم المدرسة العقلية المعاصرة: 1- رد السنة النبوية كليا أو جزئيا، فمنهم من يردها مطلقا، ومنهم من يقبل المتواتر العملي فقط ومنهم من يقبل المتواتر مطلقا عمليا كان أو قوليا. أما حديث الآحاد- والمقصود بحديث الآحاد ما لم يبلغ حد التواتر كأن يروي من طريق واحد أو من طريقين فقط أو ما أشبه ذلك دون أن يصل إلى حد التواتر- فقد يقبلون منه ما يتوافق مع روح القرآن، وما يتفق مع العقل، أو التجربة البشرية، وقد يردها بعضهم مطلقا، فلا يقبل منها شيئا. 2- التوسع في تفسير القرآن الكريم على ضوء العلم الحديث بكافة جوانبه، ولو أدى ذلك إلى استحداث أقوال مجانبة لتركيب الآيات القرآنية من الناحية اللغوية، وغير موافقة للمنقول عن السلف رضي الله عنهم، ومن ذلك -مثلا- أن بعضهم يؤولون الملائكة، والشياطين، والجن، والسحر، وقصة آدم، والطير الأبابيل، وغيرها مما ورد في القرآن الكريم كما هو في تفسير الشيخ (محمد عبده) ، وهو من أقطاب تلك المدرسة. 3- التهوين من شأن الإجماع، إما برفضه رفضا كليا كما نجد عند (أحمد خان الهندي) وهو من أكابر رجال المدرسة العقلية، بل إن له من الآراء ما يرفضه العقلانيون الآخرون، فهو يرفض الإجماع رفضا كليا، ومنهم من يقيد الإجماع، كما نجد عند (محمد عبده) وغيره، حيث يضيف لتعريف الإجماع المعروف في أصول الفقه قيودا جديدة لم تكن معروفة عند العلماء- وسوف أشير إلى ذلك تفصيلا بعد قليل-. 4- الحرية الواسعة في الاجتهاد مع غض النظر عن الشروط المطلوبة في المجتهد، ومع غض النظر أيضا عن الأطر العامة التي يجب أن تضبط هذا الاجتهاد، ولذلك نجد أن كثيرا منهم وقعوا نتيجة لنا يسمونه بـ (الاجتهاد) في آراء شاذة ومنكرة لم يقل بها أحد من قبلهم، وشجعهم على ذلك موقفهم من الإجماع. 5- الميل إلى تضيق نطاق الغيبيات ما أمكن، وذلك تأثرا بالتيار المادي الذي يسود الحضارة المعاصرة، ومن هنا جاء إقحام العقل في المسائل الغيبية، وتأويل الملائكة والجن والشياطين ... وعند غلاة العقلانيين نجد تأويل الصلاة والزكاة والصوم والحج. 6- تناول الأحكام الشرعية العملية تناولا يستجيب لضغوط الواقع، ومتطلباته، وذلك كقضايا الربا، إضافة إلى قضايا (الوحدة الوطنية) التي تجمع المواطنين أيا كان دينهم، وكذلك قضايا (حرية الفكر) وغيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 ومعالجة هذه المسائل تبدو غالبا بصورة يمكن أن تكون مقبولة لدى مفكري الأمم الأخرى، ومتأثرة بالتيارات الفكرية السائدة. وتبرز مثل هذه القضايا في كتابات عدد من المفكرين، كما نجد - مثلا - قضايا المرأة فكرة (قاسم أمين) الذي يقال إن (محمد عبده) كان وراء ما كتب حول تحرير المرأة. • ولا يمكن تجاهل أن من بين المنتسبين لهذه المدرسة، أو المنسوبين إليها من لهم آراء سليمة في نبذ التقليد الأعمى، وفي الإصلاح الاجتماعي أو الاقتصادي، أو السياسي، أو التعليمي، أو غيرها. إن من الطبيعي أن لا يكون هذا العرض لأصول أو معالم المدرسة العقلية مستوعبا مستوفيا وذلك خشية الإطالة، ويمكن مراجعة الكتب المتخصصة في هذا الموضوع وهي كثيرة أشير إلى أبرزها: فمن الكتب التي تحدثت عن هذه المدرسة حديث المؤيد كتاب الشيخ (محمد البهي) الذي سماه (الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي) . • ومن الكتب التي نقدت هذه المدرسة: (الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية) للشيخ "أبي الحسن الندوي" و (الفكر الإسلامي المعاصر) لغازي التوبة، فقد تحدث عن المدرسة الإصلاحية ممثلة في "محمد عبده". وكذلك " مفهوم تجديد الدين) للأخ الشيخ " بسطامي محمد سعيد" و (المدرسة العقلية في التفسير) للشيخ"فهد الرومي". وكذلك كتابات الأديب المؤرخ العالم المصري "محمد محمد حسين"-رحمه الله- وبالأخص كتاب (الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر) وكتاب (الإسلام والحضارة الغربية) . وهذه المدرسة المسماة "بالمدرسة العقلانية" -وقد يسميها بعضهم "بالمدرسة العصرانية" نسبة إلى العصر الذي خضعت لظروفه وتأثرت به- تمد رواقها اليوم على عدد من المدارس، والجماعات، والأشخاص، والمعاهد، التي تهتم بالفكر الإسلامي في عدد من البلاد الإسلامية وفي بلاد أخرى، غربية في أمريكا وغيرها، ولذلك فإن من المهم استجلاء فكر هذه المدرسة ومعرفته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 • يبرز بعد ذلك السؤال المهم، هل يمكن احتساب الشيخ "الغزالي" ضمن هذه المدرسة كما يقوله البعض، أم أن الأمر ليس كذلك؟ لقد ذكر الشيخ الغزالي في كتاب - (دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين) ص77- المدارس الفقهية القديمة، فذكر مدرسة الرأي الممثلة في الأحناف، ثم مدرسة الأثر ممثلة بالفقهاء الآخرين الذين يتبعون الأثر والدليل النقلي، وانتقل بعد ذلك إلى مدرسة ثالثة سماها (مدرسة الموازنة والترجيح) وهي مدرسة "ابن تيمية" وتلامذته، وقد أثنى الشيخ على هذه المدرسة وبين وفائها للأثر واستفادتها مما في مدرسة الرأي، وعلى الرغم من أن هذه المدارس "فقهية" حسب ما ذكر المؤلف، إلا أنه عقب بذكر المدارس الحديثة فذكر: أولاً: مدرسة معاصرة أشبه ما تكون بأنها امتداد لمدرسة الأثر، وقال: إنه يمثلها الشوكاني، والصنعاني، وصديق حسن خان، وسيد سابق، والألباني، وأقصى ما استطاع أن يصف به هذه المدرسة أنه قال (إنهم أحسن تصويراً للإسلام من مؤلفي المتون الذهبية) !! • ثم قال في -ص85- (وهناك مدرسة أخرى أقرب إلى مدرسة الرأي وإن كان عنوانها سلفياً هي مدرسة الشيخ محمد عبده وتلميذه محمد رشيد رضا ويتبعهم الشيخ محمد شلتوت، ومحمد عبد الله دراز، ومحمد البهي، ومحمد المدني، وقبلهم الشيخ المحقق محمد الخضري، ومنهم الشيخ محمد أبو زهرة) قال الشيخ الغزالي: (هذه المدرسة لها ملامح بينة فهي وإن قامت على النقل إلا أنها تروج للعقل وتقدم دليله وترى العقل أصلاً للنقل، وهي تقدم الكتاب على السنة وتجعل إيماءات الكتاب أولى بالأخذ من الأحاديث الآحاد، وهي ترفض مبدأ النسخ وتنكر إنكاراً حاسماً أن يكون في القرآن نص انتهى أمده، وترى المذهبية فكراً اسلامياً قد ينتفع به لكنه غير ملزم ومن ثم فهي تنكر التقليد الأعمى وتحترم علم الأئمة وتعمل على أن يسود الإسلام العالم بعقائده وقيمه الأساسية ولا تلقي بالاً إلى مقالات الفرق والمذاهب القديمة أو الحديثة، وقد حاولت هذه المدرسة أن تقود الأزهر وتفرض وجهتها على المسلمين ولكن التيارات العاصفة كانت أقوى منها فوقفتها أو جرفتها) . الشيخ يلخص بهذه الكلمات أبرز معالم تلك المدرسة. ولا يخفي الشيخ ميله إلى مدرسة الرأي القديمة -مدرسة أبي حنيفة وأصحابه-. فهو يقول عنهم: (إنهم أهل الفحوى والتأمل العميق) -كما في "دستور الوحدة ص79- (وهي تجمع بين نصوص كثيرة وترجح ما ترى أنه الأصوب في نظرها) هكذا يقول عن مدرسة الرأي القديمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 • وفي كتاب "السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث" ص24. يقول: (وقد كان الفقهاء على امتداد تاريخنا العلمي هم قادة الموثقين للأمة الذين أسلمت لهم زمانها عن رضى وطمأنينة وقنع أهل الحديث بتقديم ما يتناقلون من آثار كما تقدم مواد البناء للمهندس الذي يبني الدار ويرفع الشرفات) . وفيما يبدو فإن الفقهاء في هذا النص هم "أهل الرأي"، أما أهل الحديث فهذا اللفظ يشمل مالكاً، والشافعي، وأحمد، فضلاً عن غيرهم من أئمة الحديث كالطبري والأوزاعي والثوري وداود والليث وأبي ثور وسواهم. وقد صرح الشيخ في "دستور الوحدة" بأن مصطلح أهل الحديث يشمل الثلاثة (1) ! • وبهذا يبدو ميل الشيخ إلى مدرسة الرأي، وإن لم يكن ميلاً مطلقاً فهو ينكر عليهم في دستور الوحدة رأيهم في الخمر وأنها من العنب فقط، كما ينكر عليهم احتكارهم لمنصب القضاء في الدولة العباسية ثم العثمانية (انظر: ص130-131 وص94، وص81) . وسواء كان ما توصلت إليه صحيحاً أم ليس بصحيح فإن مسألة المذهب الفقهي مسألة هينة، لا تقدم ولا تأخر ما دام التعصب والتقليد الأعمى مستبعداً. لكن الأمر المهم هو معرفة "المدرسة الفكرية" التي تحكم أطروحات الغزالي. فلقد تحدث عن تلك المدرسة المعاصرة ذات "العنوان السلفي" و "المضمون العقلي (2) " وأفاض -نسبياً- في عروض أصولها وإيجابياتها.. فهل يعني ذلك أنه يمكن احتساب الغزالي ضمن رجال المدرسة العقلية هذه؟؟. • لابد -قبل الإجابة على هذا السؤال- من الإشارة إلى نقطتين أراهما مهمتين: الأولى: أن الشيخ الغزالي مر -كغيره- بمراحل فكرية عديدة ولذلك فكتبه القديمة تختلف عن كتبه الجديدة شكلاً ومضموناً، إن من الكتب الرائعة للشيخ كتاب "ليس من الإسلام" وقد وضعت يدي على قلبي وأنا أتصفح الكتاب حذراً وخوفاً مما وراء هذا العنوان -ليس من الإسلام! - ولكنني حين تصفحت الكتاب وجدته كتاباً جيداً واضح العرض هادئ النبرات، وأصدقكم القول أنني رجعت أقرأ العنوان من جديد وأقرأ اسم المؤلف فقد خيل إلي أن الكتاب   (1) في مناقشة كتاب (السنة النبوية) حديث إضافي عن مفهوم "أهل الحديث"، عند الغزالي. (2) أجرت مجلة الدعوة السعودية مقابلة مع الغزالي جعلت عنوانها: "أنا سلفي.. ولكن! ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 لمؤلف آخر غير الغزالي هذا مع أن الكتاب لا يسلم من ملاحظات، من أبرزها كلامه عن الرافضة حين يقرر أنهم لا يختلفون عن أهل السنة في الأصول ولا في الفروع إضافة إلى ملاحظات جزئية يمر شيء منها. • لكنه يطرح في الكتاب آراء قيمة ناضجة، من أبرزها كلامه عن البدعة، فقد تكلم عن البدع كلاماً قيماُ نفسياً وذكر نماذج لها وأطال النفس فيها، هذا الكتاب ليس الكتاب الوحيد من كتب الشيخ الجيدة فله كتب أخرى كثيرة لكن غالب كتبه التي يمكن أن يقال عنها إنها جيدة هي الكتب التي لم يتعرض فيها لتلك المسائل والقضايا العلمية والعقدية والفقهية، بل يتحدث فيها عن جوانب التربية والتهذيب والأخلاق، ككتاب "خلق المسلم"، وكتاب "فن الذكر والدعاء عند خاتم الأنبياء"، وكتاب "جدد حياتك" ... إلخ. هذه الكتب أصلاً لا تتعرض للقضايا العقلية والواقعية التي يكثر فيها الجدل ولذلك كانت أسلم وأبعد عن الخطأ. والكتاب الذي ذكرته على كل حال هو أنموذج. • أما أطروحات الشيخ الأخيرة فهي التي تمثل "المرحلة الجديدة" المتميزة من فكره وهي تتمثل في عدد غير قليل من الكتب، من أبرزها "دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين"، وكتاب "السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث" وكتاب "مائة سؤال حول الإسلام" وهو في جزأين، وكتاب "هموم داعية"، وكتاب "مشكلات في طريق الحياة الإسلامية"، وكتاب "الدعوة الإسلامية تستقبل قرنها الخامس عشر"، وكتاب "مستقبل الإسلام خارج أرضه وكيف نفكر فيه"، وكتاب "سر تأخر العرب والمسلمين". هذه أبرز الكتب التي أذكرها الآن والتي طرح الشيخ فيها آراءه الجديدة المثيرة. الثانية: ضرورة عرض جوانب الاتفاق وجوانب الاختلاف بين الشيخ وبين المدرسة العقلية بالتفصيل حتى يتسنى لنا الحكم بإنصاف ودقة وتحر عن مدى قرب الشيخ أو بعده من تلك المدرسة ولذلك فإنني سوف أعرض جوانب الاختلاف أولاً لأنني أرى هذا أقرب للإنصاف، ثم أنتقل إلى جوانب الاتفاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 "جوانب الاختلاف بين الشيخ الغزالي وبين المدرسة العقلية" جوانب الاختلاف كثيرة.. ومن أبرزها: أولاً: العقل: العقل عند الشيخ الغزالي له مجال يعمل فيه، وهو المجال الكوني والأمور الدنيوية البحتة من زراعة وتجارة وصناعة وطب ونحوها، أما مجال العلاقات الإنسانية التي تحكم الجنس البشري في حياته على ظهر الأرض فإن الكلمة فيها لشرائع السماء وحدها كما يقول الشيخ في كتابه "دفاع عن العقيدة والشريعة" ص121 ويضيف الشيخ (أما ما لاشك فيه في أن الدين منفرد بالحكم في جملته وتفصيله فهو ميدان العقائد والعبادات) ويضيف (أن العقل النظيف منتهٍ حتماً إلى أن الله حق وأنه متصف بكل كمال ومستحق لكل خضوع ولكن الحديث عن الله وصفاته مرجعه إلى الله وحده وتعرف ضروب العبادات الواجبة لا يكون إلا عن طريق الوحي ومعنى هذا في جلاء أن نشاط التفكير الإنساني فيما وراء المادة باطل، وكذلك نشاطه في اختراع مراسم وصور لطاعة الله، وحريٌّ به أن ينشط حيث امتداد سعيه منتج، وأن يقنع بعدُ بتلقي ما تولت السماء تعليمه) أ. هـ. هذا هو "الإطار العام" الذي يتحرك في العقل -عند الغزالي- وهو مسلم لا اعتراض عليه -من الناحية النظرية، وإن كان كلاماً مقتضباً تغلب عليه العمومية. • ولكن من الناحية العملية الجزئية فإن الشيخ لم يحدد موقع العقل من النقل بصفة واضحة يمكن من خلالها معرفة منهجه الفكري، وهل هو يقدم دليله، ويراه أصلاً للنقل -كما ينقل عن المدرسة العقلية؟! أم أنه يقصر دور العقل مع النقل على مجرد الفهم والتسليم والانقياد؟ وما دور العقل في القضايا الغيبية التي جاء بها الوحي ولا سبيل للعقل إلى معرفتها؟ وما مجاله في الأحكام التفصيلية؟ ... إلى غير ذلك من الأسئلة التي بقيت حائرة لا جواب لها. هذا بالإضافة إلى أن الشيخ أقحم العقل في مسائل كثيرة جداً ليست داخلة ضمن "الإطار" الذي حدده للعقل -المجال الكوني والأمور الدنيوية البحتة-. فمثلاً: قضايا المرأة، قضايا العقيدة، قضايا الأحكام الشرعية المنظمة لحياة الفرد والمجتمع المبينة عن الحلال والحرام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 كل ذلك -وغيره- نجد ثمت شطحات بدعوى العقلانية، وهي عقلانية فرد واحد إن قبلها عشرة فقد يرفضها مائة، وإن جاز لنا تحكيم العقل هنا فأي عقل؟ عقلي أو عقلك أو عقل الغزالي؟ ولذا سنجد -تفصيلاً- أن ثمة مسائل عديدة استساغها الغزالي -عقلاً- ونقضها غيره بالحجة العقلية؟ ولذا حُفِظَ عن بعض السلف (من جعل دينه عرضة للخصومات أكثر التنقل) أو (كلما جاءنا رجل هو أجدل من رجل تركنا ديننا لقول فلان؟) . كما أنه يمكن القول بأن هذه (الجزئيات) الكثيرة التي حوكمت -عقلاً- عند الغزالي لا يمكن أن تسبك في منظومة منهجية، بل هي (متفرفات) لا يحكمها حاكم، ولا يجمع شتاتها جامع. ثانياً: التأويل. نظراً لهذا الموقع الذي يحتله العقل عند الشيخ، وهو -إجمالاً- أقل من موقع العقل عند أصحاب المدرسة العقلية -فيما يبدو- فإن الشيخ يظهر غالباً وكأنه أقل إسرافاً في التأويل من بقية العقلانيين، سواء في نصوص العقيدة أو في نصوص الأحكام، فهو -مثلاً- في كتاب "عقيدة المسلم" ص45 ذكر ما ورد في الوحي من إثبات الوجه لله واليدين والأعين والاستواء على العرش والنزول إلى السماء والقرب من العباد، وانتقد أصحاب المسالك الكلامية من أمثال ذلك الرجل الذي يقول: نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وغاية دنيانا أذى ووبال ولم نستفد من كدنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا وكم من جبال قد علا شرفاتها ... رجال فبادوا والجبال جبال ويقول الشيخ: (وعلى ذلك فكل ما قطعنا بثبوته في كتاب الله أو في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم مما وصف الله به نفسه وأسنده إلى ذاته قبلناه على العين والرأس ولا نتعسف له تأويلاً ... إلخ) . وفي (ص47) من الكتاب نفسه يقول: (وأنا شخصياً أوثر مذهب السلف وأرفض أن يشتغل العقل الإسلامي بالبحث المضني فيما وراء المدة وأرتضي قبول الآيات والأحاديث التي تضمنت أوصافاً لله جل شأنه دون تأويل) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 • وكذلك أثبت الشيخ كثيراً من أسماء الله وصفاته دون تأويل وإن كان في موقفه شيء من التذبذب والاضطراب تأتي الإشارة إليه، ولذلك كانت عقيدة الشيخ في الملائكة والجن والشياطين بعيدة عن التأويل والتعسف الذي وقع فيه (محمد عبده) أو غيره من أقطاب المدرسة العقلية، كما نجد ذلك في كتاب (مائة سؤال عن الإسلام) للغزالي (2/112 - 119) . • كذلك نجد أنه أثبت قضايا أنكرها كثير من العقلانيين، وذلك كنزول عيسى بن مريم u في آخر الزمان وظهور الدجال وطلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة، كما في (عقيدة المسلم) (ص265) ، وانظر -أيضاً- كتاب (السنة النبوية) (ص122 - 124) . ولذلك فقد عبَّر الشيخ -في كتاب (دستور الوحدة الثقافية) (ص86) عن تأويل (محمد عبده) للملائكة بأنه "خطأ"، وقال: (ترفضه الكافة) يعني عامة أهل العلم أو كلهم. ثالثاً: الأحكام الشرعية العملية: ما سبق يتعلق بنصوص العقيدة: • أما في مجال الأحكام الشرعية العملية، فإن الشيخ الغزالي أبرز أهمية النص وضرورة الوقوف عنده، ففي كتاب (دستور الوحدة) وتحت عنوان -بين النص والمصلحة- (ص44 - 47) ذكر الشيخ ما نسب إلى عمر t من أنه ألغى بعض النصوص أو على الأقل أوقف العمل بها لأنه رأى المصلحة في ذلك وعقب بقوله: (وهذا كلام خطير معناه أن النص السماوي قد يخالف المصلحة العامة وأن البشر لهم -والحالة هذه- أن يخرجوا عليه ويعدموه كلا المعنيين كاذب مرفوض، فلا يوجد نص إلهي ضد المصلحة، ولا يوجد بشر يملك إلغاء النصوص) ثم شرع يجيب على الأمثلة المطروحة كمنع عمر سهم المؤلفة قلوبهم، وعدم إقامة حد السرقة عام المجاعة، ومنعه الزواج بالكتابيات، وقال: (إن نصوص العبادات والمعاملات سواء في ضرورة الاحترام والإنفاذ) أ. هـ. • ولقد كان الشيخ واضحاً أكثر في كتابه (كيف نفهم الإسلام) حيث يقول ضمن سياق جيد (ص183) : (والعقائد والعبادات والأخلاق والأحكام والحدود هي هداية الله لخلقه وكل محاولة للبتر أو للإضافة أو التحوير هي خروج عن الإسلام، وافتراء على الله وافتيات على الناس وتهجم على الحق بغير علم، وليس يقبل من أحد بتة أن يقول هذا نص فات أوانه، أو هذا حكم انقضت أيامه، أو إن الحياة قد بلغت طوراً يقتضي ترك كذا من الأحكام، أو التجاوز عن كذا من الشرائع، فهذه كلها محاولات لهدم الإسلام وإعادة الجاهلية، فلنعلم أن تجديد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 الدين لا يعني ارتكاب شيء من هذه المحاولات المنكورة ولم يفهم أحد من العلماء الأولين أو الآخرين أن تجديد الدين يعني تسويغ البدع ومطاوعة الرغبات وإتاحة العبث بالنصوص والأصول لكل متهجم، غير أن عصابة من الناس درجت في هذه الأيام على إثارة لغطٍ غريبٍ حول إمكان ما يسمونه تطوير الدين وجعل أحكامه ملائمة للعصر الحديث) أ. هـ. وهو كلام جيد لو أن الشيخ سار معه إلى آخر الطريق في المجال التطبيقي العملي، لكن هذا لم يحدث تماماً -كما سيأتي-. • ومن هذا المنطلق نجد مخالفة الشيخ لرجال المدرسة العقلية في العديد من المسائل الفقهية ففي (دستور الوحدة الثقافية) (ص86) ينتقد الشيخ الغزالي تبرم (محمد أبي زهرة) بحد الرجم لأنه ذكر أن (أبا زهرة) أنكر حد الرجم وقال الشيخ الغزالي: (ولم أر من قال ذلك -يعني إلغاء حد الرجم-؛ إلا نفر من المعتزلة والخوارج، جمهور المسلمين ضد هذا الرأي) . وكذلك في (ص86) قال الغزالي: (وفي فتاوى الشيخ (محمود شلتوت) ما يحتاج إلى مراجعة) . • وكذلك في كتاب (الإسلام والمذاهب الاشتراكية) للغزالي، تحدث عن التأمين وقال إنه حرام ورد على من أفتوا بجوازه، وذكر ذلك في (ص129 - 133) ولذلك فلا غرابة حين تحدث الغزالي عن (حسن البنا) في كتاب (دستور الوحدة الثقافية) (ص605) فقال: (ووقف (حسن البنا) على منهج (محمد عبده) وتلميذه صاحب المنار الشيخ (محمد رشيد رضا) ووقع بينه وبين الأخير حوار مهذب ومع إعجابه بالقدرة العلمية للشيخ (رشيد) وإفادته منها فقد أبى التورط فيما تورط فيه) -يعني أن البنا لم يتورط فيما تورط فيه رشيد رضا-!. • هذه أبرز الجوانب التي خالف فيها الغزالي المدرسة العقلانية وربما لو اقتصر الإنسان على سماع هذا القدر فقط من الكلام لقال إن الذين ينسبون الغزالي إلى المدرسة العقلانية ظالمون ومخطئون، ولكن الحَكَم أو القاضي ينبغي ألا يسارع في الحكم حتى يسمع كلام الخصم الآخر. ولذلك أنتقل إلى الجانب الثاني: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 "جوانب التشابه بين الغزالي والمدرسة العقلية" وهي عديدة -أيضاً- وكثيرة. . منها: أولاً: (أحاديث الآحاد) رده لحديث الآحاد إذا خالف إيماءات القرآن الكريم -كما يعبر الشيخ- وكذلك عدم إثباته العقائد بحديث الآحاد، وسوف أبحث هذه المسألة على انفراد. ثانياً: (الإجماع) شارك الغزالي المدرسة العقلانية في تقييد الإجماع وتحديد النطاق الذي يعمل فيه على نحو ما رآه الشيخ "محمد عبده" فهو يرى أن الإجماع: (هو اتفاق أهل الحل والعقد وهم العلماء والأمراء والسلاطين والقواد ومن في منزلتهم من المسلمين على أمر من الأمور المتعلقة بالمصالح العامة، وهي التي لأولي الأمر سلطة فيها ووقوف عليها) . وهذا التفسير للإجماع يضيف قيوداً جديدة سوف تظهر أثناء الحديث وقد صرح الغزالي بأن هذا رأيه في كتاب (ليس من الإسلام) (ص58-59) . وفي كتاب (مائة سؤال 2/3) أشار الغزالي إلى أمر جديد وهو أن هذا الإجماع الذي أقره إذا حدث ما يستوجب النظر فيه فهو يمكن أن ينسخ بإجماع آخر من أهل الذكر ومن أصحاب الحل والعقد، ونقل كلاماً بهذا المعنى "لمحمود شلتوت" ثم ضرب المثال التالي، قال: (إنني أود لو كتب المصحف بالإملاء المعهود لا بالرسم العثماني ولكني لا أبيح لنفسي نشر مصحف بهذا الإملاء شاقاً الإجماع السائد، إذا اجتمع أهل الذكر في الأمة على ترك الرسم القديم وإثبات الإملاء الجديد فيها، وإلا فكتابة المصحف باقية على ما هي عليه) أ. هـ. • إذاً أصحاب المدرسة العقلية يضيفون إلى الإجماع قيوداً: القيد الأول: أنهم يعتبرونه ليس إجماع العلماء فقط بل إجماع العلماء مع أهل الحل والعقد الذين بيدهم الأمور ولهم السلطان وهم (أولو الأمر) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 القيد الثاني: أن الإجماع عندهم يتعلق بالمصالح العامة فقط التي تتعلق بأمور الناس ولا يتعلق بتفاصيل الأحكام الشرعية وينبغي أن أشير إلى الغزالي -أيضاً- ذكر في كتابه (مائة سؤال) نوعاً آخر من الإجماع، لكني لم أشر إليه لأنه لا معنى لعده إجماعاً فهو يقول إن القسم الثاني من الإجماع وهو الأول في الترتيب عنده -هو الإجماع على حكم شرعي مستفاد بطريق القطع من كتاب الله تعالى أو من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.. ويستوي في هذا النص أن يكون من الكتاب أو من السنة ما دامت دلالته قاطعة (ص3) . • فالقسم الثاني من الإجماع هو اتفاق الأمة على مضمون نص ثبت ثبوتاً قطعياً من القرآن أو من السنة، يعني: حكم أو عقيدة ثبتت بالنص القطعي من القرآن أو من السنة، وهذا المر عده إجماعاً لا يقدم ولا يؤخر، لأنه ثابت بالنص القطعي، فلا يحتاج بعد ذلك إلى الإجماع، إلا دليلاً مسانداً، كما يقال: هذا الأمر ثبت بالكتاب والسنة والإجماع، الغريب أن منهج الشيخ لا يطَّرد في هذه المسألة شأنه في ذلك شأن مسائل كثيرة لم تسلم من التناقض فهو يقول في كتاب (دستور الوحدة ص56) : (إن المتفق عليه كثير جداً وإن التشبث به وحده كاف في النجاة، فالإيمان بالله ولقائه والسمع والطاعة فيما جاء عنه وأداء الأركان المجمع عليها في ميدان العبادات وترك المعاصي المجمع عليها في ميدان المحظورات وبناء النفوس على مكارم الأخلاق يقيم أمة لها مكانتها في الدنيا والآخرة) . • وهذا أوسع مما صور عليه الإجماع، وأغرب من ذلك أنه في كتاب (ليس من الإسلام ص61) نقل قول الإمام "أبي إسحاق الاسفراييني" قال -الاسفراييني-: (نحن نعلم أن مسائل الإجماع أكثر من عشرين ألف مسألة) . ما هي مسائل الإجماع التي هي أكثر من عشرين ألف مسألة؟ هل هي مسائل قطعية مما يتعلق بالمصالح العامة اتفقت عليها كلمة العلماء والسلاطين؟ لا شك أن الجواب لا. ثم يقول -الغزالي- بعدما نقل كلام "الاسفراييني" قال: (والواقع أن متابعة الإجماع في الأمور التي وقع الاتفاق عليها أولى بالعقلاء وأدعى إلى وحدة الأمة، ما قيمة الخلاف في أمور غيبية؟ ما جدوى شق العصا في شئون العبادات؟ ما معنى الشذوذ في فهم نص أجمع الأئمة على معنى واحد أو معان محددة له؟) . وكذلك ندرك أن الغزالي ذهب إلى مدى أبعد في الإجماع في النص الأخير، فلو وجدنا نصاً اختلف العلماء في فهمه على ثلاثة أقوال لكان معنى الكلمة الأخيرة للغزالي أنه لا يجوز لنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 إحداث قول رابع في فهم هذا النص، وهذا معنى جديد ليس داخلاً في تعريف الإجماع الذي اختاره!. • وفي الجانب التفصيلي فقد ناقض الشيخ الإجماع في صوره المختلفة في مسائل كثيرة، من أبرزها: رأيه في دية المرأة، رأيه في توليها السلطة، رأيه في الحجاب (غطاء الوجه) ، رأيه في الغناء. ثالثا: (الغيبيات) فيما يتعلق بالغيبيات وتضييق نطاقها، وسيأتي بيان مسلك الشيخ في إثبات الملائكة والجن والشياطين والإيمان بأشراط الساعة المخالفة لمعهود الناس، كالدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها. يبقى أن نذكر أن الشيخ يضيق ببعض القضايا الغيبية ويسارع لإنكارها تجاوبا مع ما يسمى في العصر الحاضر بالعلم التجريبي، ولذلك يقول في كتاب (هموم داعية ص4) (وفي عالم يحترم التجربة ويتبع البرهان نصور الدين كغيبيات مستوردة من عالم الجن وتهاويل مبتوتة الصلة بعالم الشهادة) . وفي هذا النص تبرم وضيق من التوسع في الغيبيات في مجال الجن وغيرها، وكأن الشيخ في هذه العبارة يشير إلى قضية المس-مس الجني وتلبسه بالإنسي- وهي قضية صرح بإنكارها والسخرية بمن يقول بها في كتاب (السنة النبوية ص92) : وسيأتي الحديث عنها في الفصل الخاص بنقد ذلك الكتاب. وربما قصد أمورا أخرى وراء ذلك تتعلق بالجن غير مسألة المس مثل تفاصيل أخبار الجن وأحوالهم في السنة المطهرة. • فقد جاءت السنة بتفاصيل عديدة في الجن وطعامهم ولقائهم للنبي صلى الله عليه وسلم وأخذهم عنه وطعام حيواناتهم وبعض الأخبار الثابتة عنهم، ولذلك فإن الشيخ أنكر في كتاب (فقه السيرة) خبر أسماء في الهجرة والذي فيهم أنهم سمعوا في مكة صائحا يصيح لا يدرون من هو يقول بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم: جزى الله رب الناس خير جزائه ... رفيقين حلا خيمتي أم معبد هما نزلا بالبر ثم تراوحا ... فأفلح من أمسى رفيق محمد ليهن بني كعب مكان فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 ويقول الشيخ (إن الراجح أن الأبيات من إنشاد مؤمن يكتم إيمانه بمكة ويتسمع أخبار المهاجرين.. الخ ص179) . • ومن هذا المنطلق -أيضا- منطلق تضييق نطاق بعض الغيبيات رفض الشيخ -ونستخدم أسلوبه في الرفض- حديث الكلب الأسود شيطان وهو في صحيح مسلم، وقال في كتاب (هموم داعية ص22)) (والذي رفضته أن يتصدى أحد أولئك المبطلين لعلم الأحياء ويهاجم مقرراته ليقول إن الكلب الأسود شيطان وليس كلباً كبقية بني جنسه -يعني بني جنس الكلاب-) . فالشيخ ينكر ذلك ولا شك أن الذي قال الكلب الأسود شيطان هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك المتحدث الذي أشار إليه الشيخ إنما يردد ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم وقد ثبت ذلك بالإسناد الصحيح عنه. يقول الشيخ الغزالي: (قلت: حديث رفض العمل به جمهور الفقهاء ولم يروه البخاري وهو يعالج الموضوع، ندخل به معركة ضد العلم باسم الإسلام والمسلمين) . هنا ندرك ضغط ما يسمى بالعلم والعلم التجريبي على عقول كثير من المفكرين الإسلاميين في هذا العصر -ندخل معركة ضد العلم باسم الإسلام من أجل هذا الحديث! - ولذلك يرفض الحديث، وأقول إذا لم يكن لدى الشيخ استعداد لخوض معركة حول الكلب الأسود فلا شك أن لديه استعداداً لخوض المعركة حول إثبات الشياطين، والجن، والملائكة وهي قضايا غيبية تستعصي على العلم التجريبي ولا يمكن للجن أن يحضروا إلى مختبر أو يشاهدوا بمكبرات أو تلسكوبات وهي قضايا يسخر منها الماديون أيضاً، وليس لها وجود مشهود في عالم الناس. فأنى لنا أن نقنع أصحاب التفكير المادي التجريبي من الشرق أو الغرب بهذه القضايا، فلو أننا انسقنا وراء هذا الشعور لكنا مضطرين إلى التراجع خطوات أخرى إلى الوراء، ولو فرض أننا استطعنا إقناعهم بذلك واقتنعوا بالملائكة، والجن، والشياطين، فأي صعوبة بعد ذلك أن يقتنع الإنسان بأن الشيطان يمكن أن يلتبس أو يتمثل في حيوان أسود بهيم؟ لا صعوبة في ذلك. وفي هذا الإطار أيضاً يأتي تأويل الشيخ لشق الصدر -شق صدر النبي صلى الله عليه وسلم- والذي ثبت مرتين كما في السنة النبوية الصحيحة ففي كتاب (فقه السيرة ص64) يقول: (لو كان الشر إفراز غدة في الجسم ينحسم بانحسامها لقلنا إن الظواهر الآثار مقصودة) ، يعني أن الملك استخرج علقة من قلب النبي صلى الله عليه وسلم (ولكن أمر الخير والشر أبعد من ذلك بل البديهي أنه في الناحية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 الروحية في الإنسان ألصق، شيء واحد نستطيع استنتاجه من هذه الآثار أن بشراً ممتازاً كمحمد لا تدع العناية غرضاً للوساوس الصغيرة ... الخ) . فيؤول شق الصدر تأويلاً سبق إليه بطبيعة الحال الشيخ "محمد رشيد رضا" غفر الله للجميع، ويدخل العقل في هذه القضايا الغيبية التي صرح هو بأنه لا مدخل للعقل فيها، ولا داعي للخلاف حولها. • وكذلك نجد الشيخ الغزالي في أكثر من موضع من كتبه يعلق على الكرامات وشيوعها وانتشارها ويسخر من أولئك الذين أدخلوا الكرامات والإيمان بها ضمن العقائد، وإن كان يصرح بأنه لا ينكرها جملة وتفصيلاً لكن عباراته في الهجوم على الكرامات والقائلين بها شديدة جداً، ومن ذلك -أيضاً- إنكاره لسحر النبي صلى الله عليه وسلم موافقاً في ذلك الشيخ "محمد عبده" حيث اعتبر السحر تخييلاً كما يفهم من القرآن الكريم فيما يظنون وذلك في كتاب (الإسلام والطاقات المعطلة ص94) . رابعاً: الأحكام العملية التفصيلية فيما يتعلق بقضية الأحكام التفصيلية.. وهي قضية قد نقف عندها بعض الشيء، فقد اعتنق الشيخ عدداً غير قليل من الآراء الضعيفة والمرجوحة والشاذة وآراء أخرى لم يقل بها أحد من قبل، وسأشير إليها الآن إشارة، وأترك التفصيل لموضوعه: ولا يخفى الشيخ أن قناعته بها إنما هي بتأثير ضغوط الواقع الجاهلي المسيطر، وهيمنة النظم والقوانين والنظريات الغربية. • فمن ذلك محاربة الحجاب -أعني تغطية الوجه- وقد شن الشيخ عليه حملة ضاربة مستغربة في أكثر من سبعين موضوعاً في عدد من كتبه، حتى إن قضية الحجاب وتغطية الوجه من القضايا التي تقلق الشيخ وتقض مضجعه فهو يحشرها بمناسبة وبغير مناسبة -وسأتحدث عن ذلك في نقطة خاصة-. • ومن الآراء الغريبة التي اعتنقها أن للمرأة الحق في تولي سائر المناصب بما في ذلك المناصب العليا كرئاسة الدولة والوزارات والقضاء، كيف لا. . . وهذه بلقيس. . . وهذه فكتوريا. . . وتاتشر. . . وجولد مائير. . . وغاندي! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 • وحين يتحدث عن شهادة المرأة يؤكد أن شهادتها في الحدود والقصاص مقبولة، ويعلق هذا الترجيح بقوله: (ولست أحب أن أوهن ديني أمام القوانين العلمية لا يستند استناداً قوياً إلى النصوص القطعة) . • إذاً الشيخ محرج أمام القوانين العالمية، ولذلك يصر على قبول شهادة المرأة في الحدود والقصاص. وليس مهماً ترجيح رأي على آخر، لكن الأكثر أهمية معرفة الدافع والمرجح. هل يجوز أن تشكل "القوانين العلمية" ضغطاً على حسي يجعلني أرجح قولاً على آخر مسايرة لهذه القوانين؟ • وماذا إذاً لو حدث العكس فرجح الرأي المضاد لأنه يخالف ما عليه الكفار الذين أمروا بمخالفتهم ومجانبة طريقهم وترك التشبه بهم؟ وهذا أصل عظيم تشهد له مئات النصوص! لم نجعل ترجيحنا خاضعا لردود فعل ومجاملات لأوضاع وقوانين غربية جاهلة! والقضية نفسها تبرز لدى الشيخ في حالات كثيرة تكشف عن سر توسعه في عدد من الآراء والاجتهادات التي لم تبن على أساس شرعي متين. في كتابه (مائة سؤال حول الإسلام2\264) يقول: (أريد وأنا أعرض الإسلام في بلاد أخرى ألا أغير سلوكا في هذه البلاد يرى بعض فقهائنا ألا حرج فيه، فإذا كانوا يقتنون الكلاب فليفعلوا.. وإن كانوا يسمعون الموسيقى فليفعلوا ... وإن كانوا يولون النساء بعض المناصب المهمة فليفعلوا ... ) ! • وأطرف من ذلك وأعجب أن الشيخ -غفر الله لنا وله- في (مستقبل الإسلام ص82) تحدث عن رأيه في حل ما عدا الأربع المذكورة في قوله تعالى (قل لا أجد فيما أوحى إلي محرما على طعام يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس، أو فسقا أهل لغير الله به ... ) . • فما عدا هذه الأربع المذكورة في الآية من الطيور والحيوانات وغيرها فهو عنده مباح، ثم قال: (وأوصي الدعاة الذين يذهبون إلى كوريا ألا يفتوا بتحريم لحم الكلاب فالقوم يأكلونها، وليس لدينا نص يفيد الحرمة، ولا نريد أن نضع عوائق أمام كلمة التوحيد! وأصول الإسلام!) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 • ألم يصرح الرسول صلى الله عليه وسلم بنجاسة ريق الكلب كما روى البخاري ومسلم ويقول: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبعاً أولاهن بالتراب) ، إنه نجس مغلظ النجاسة لا يطهر إلا بسبع غسلات، إحداها مع التراب. . . فهل من معقول أن أهدر النص من أجل سواد عيون الكوريين؟ ومجاملة لأذواقهم وشهواتهم. . . إذاً، كيف سيرد الشيخ على من يقولون: إن الخنزير المحرم في عهد النبوة إنما حرم بسبب سوء تغذيته وعدم العناية به، أما اليوم فالخنازير تطعم طعاماً فاخراً، ويعتنى بها من الناحية الصحية فلا تحريم فيها! كيف سيجيب الشيخ؟ خاصة وأنهم سيقولون له: لا نريد أن نضع عوائق أمام كلمة التوحيد!! وهكذا يكون التحاليل على النصوص والتلاعب بها! المهم أنه أصبح واضحاً أن الشيخ حين يرجح قولاً ما، لا يرجحه لأن الدليل معه، آية أو حديثاً أو استنباطاً على وفق الأصول المقررة، كلا، وإنما يرجحه لأنه لا يريد أن يوهن دينه أمام القوانين الوضعية.. . أو أنه لا يريد يغير شيئاً درجوا عليه وألفوه. • وهو يدرك أنه خسر الاثنتين، فلا القوم أسلموا حين أذنا لهم بأكل لحوم الكلاب، وأعطيناهم فرصة تنصيب المرأة، ولا نحن حفظنا كرامة النصوص، ووقّرنا الإجماع المستقر. . . وهل يمكن أن يصدق أحد أن المانع لهؤلاء القوم من الإسلام هي هذه الجزيئات؟ إذاً فلن يهتدوا أبداً، لأن ثمت جزيئات ثابتة بالنص القرآني، سوف تصطدم مع قناعتهم وواقعهم وقوانينهم، مثلاً: تحريم الخنزير -وهو نص صريح-، تحريم الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه، تعدد الزوجات، نظام الطلاق، نظام الميراث. . . الخ. • هل يشترط الشيخ في النص المعارض للقوانين العالمية أن يكون (قاطعاً) ؟؟ إنه يقول: (ولست أحب أن أوهن ديني أمام القوانين العلمية بموقف لا يستند استناداً قوياً إلى النصوص القاطعة) !! لا مانع أن يختلف اجتهاد أهل العلم في المسائل الفرعية بناء على ثبوت النص أو عدم ثبوته، أو على اختلاف الفهم، أو طريقة الجمع بين النصوص. . . الخ. أما أن ينتحل منتحل قولاً غريباً لأنه يوافق القوانين العالمية، أو يوافق أمزجة الكفار المراد دعوتهم. . . فهذا منهج غريب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 ولا أدري لماذا نحتاج الآن إلى نص قاطع مع أن المسألة من المسائل الفرعية -وليست الأصولية-؟ لماذا غير المؤلف منهجه وخالف أصوله؟ ! • وفي هذا الإطار يأتي إصرار الشيخ على ضرورة إخراج المرأة إلى المسجد وأن هذا هو السنة إذ كيف يجوز أن نفتي بغير ذلك في عصر تمكنت فيه المرأة من غزو الفضاء؟ وصارت تنال الدرجات العليا والجوائز الضخمة! -وهكذا منطق الشيخ-!. إنها الهزيمة النفسية أمام ضغوط الحضارة الغربية المتنصرة. • وإذا تجاوزنا الحديث عن المرأة -فله مكان آخر- وجدنا الشيخ يشن هجوماً على الحرب في سبيل نشر العقيدة وينكر أن تكون حرب قامت من أجل نشر العقيدة، فحين يتحدث عن حركة الشيخ (محمد بن عبد الوهاب) يقول: (إن الوسائل الرديئة هي التي هزمتها) ثم يقول وإن الإقناع أهم من التخويف، والدليل أهدى من السيف، وأنا أريد هداية الناس لا أسرهم، ومن نظر إلى الدنيا على أنها مغنم له إذا انتصر فهو قاطع طريق وليس داعياً إلى الله، وهو أجهل الناس بسيرة محمد صلى الله عليه وسلم وشريعته!!) . • هذا في كتاب (مائة سؤال حول الإسلام ص2/108) ويضيف الشيخ قائلاً: (وإذا كان القتال الغبي لا مساغ له من أجل العقيدة فكيف إذا كان في سبيل نقاب يوضع على وجه امرأة أو غطاء يوضع على قافية الرأس أو صورة ترسم على ورقة إن البعض مستعد لحرب أشد من حرب داحس والغبراء من أجل هذه القضايا المحقورة!!) ومن أجل ذلك -أيضاً- رد الشيخ حديث "بعثت بالسيف بين يدي الساعة" وأنكره، وبعد أن علق تعليقاً طويلا -قال: (ولم تبدأ سياسة العصا الغليظة -يعني في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم- إلا بعد أن أوجعت عصا الأعداء جلود المؤمنين وكسرت عظامهم) . • ثم شرح الشيخ ما يدل على أن الجهاد في الإسلام -عنده- دفاع فقط لا هجوم ثم قال: (وأنا وغيري من المشتغلين بالدعوة الإسلامية ننظر باهتمام بالغ إلى أحوال الناس وراء دار الإسلام ننظر إلى التيارات الفكرية التي تسودهم والمذاهب التي يصدرونها للعالم. . . الخ) (السنة النبوية ص111) . وفي (113) يقول: (هذه أنباء السباق الحضاري بين الدول الصناعية في أوروبا وأمريكا وشرق آسيا، ترى ما أخبار العرب والمسلمين في هذا الميدان) إذاً ضغط الحضارة هو الذي يدعو إلى رفض الحرب الهجومية، ويكون الشيخ أكثر وضوحاً في كتاب (الدعوة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 تستقبل قرنها الخامس عشر ص18) يقول وهو يتحدث عن الحرب الإسلامية (وما نلوم المبشرين والمستشرقين فيما اختلقوا من إفك وإنما نلوم نفرا من الناس لبس أزياء العلماء وهم سوقة وانطلق في عصبية طائشة يزعم أن الإسلام يمهد الحرب وينشر دعوته بالسيف وتتبعت كلام هؤلاء فإذا أحدهم يكتب تدليلا على وجهة نظره أن الإسلام حارب في بدر معثويا، وأنه شن هجوما على قافلة المشركين لأنهم مشركون مستباحون، قلت: هذا هو كلام الإسرائيليين في شتم الفدائيين الفلسطينيين) . • وقبل مغادرة هذه المسألة هناك تعليقان خفيفان: التعليق الأول: • حول قوله (إن الوسائل الرديئة هي التي هزمتها) يعني الدعوة الوهابية، وأقول أي هزيمة يعني؟ وهل حققت حركة من حركات الإصلاح الحديثة من النجاح مثل ما حققت حركة الشيخ "محمد بن عبد الوهاب"؟ وهل بقي لدعوة من التأثير والتأييد والواقع الذي ينتمي إليها مهما يكن فيه من التقصير والنقص والخلل، هل بقي لحركة مثل ما بقي لحلاكة الشيخ؟ كلا، وما هو النجاح الذي أحرزته الدعوات التي كانت تتدسس بالإسلام وتجامل على حسابه؟ التعليق الثاني: • إن الذين يقولون الحرب هجوم يعنون أنها حرب هجومية لإزالة الفتنة عن الناس وإخضاع العالم لحكم الإسلام لا لإكراه الناس على الدخول في الدين، فإن الله عز وجل يقول: (لا إكراه في الدين) . وهؤلاء معهم ظواهر القرآن الآمر بالقتال كما في قوله تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) . ومعهم أيضا نصوص السنة الصريحة في أن الناس يقاتلون على إحدى ثلاث، إما الإسلام وإما الجزية وإما القتال، ولا معنى لوصف المجاهدين الذين حملوا راية الإسلام وضحوا في سبيلها في العصر الحاضر بأنهم قطاع طريق وطلاب مغنم، ومعرفة نيات الناس ومقاصدهم ليست إلى العباد. • إن التقدم الحضاري العالمي الذي يدندن حوله لم يمنع العالم شرقه وغربه من التواطؤ على المسلمين في فلسطين وأفغانستان وغيرهما وسلب حقوقهم في وضح النهار، أما وثائق حقوق الإنسان فهي حبر على ورق خاصة حين تكون القضية تتعلق بالأمة الإسلامية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 • ومن الأحكام البارزة في كتابات الغزالي، والتي يظهر فيها تأثره بالمدرسة العقلية أنه يرى ضرورة الوقوف في وجه السلطان إذا عصى أو أخطأ يقول في كتاب (مستقبل الإسلام ص62) تعليقا على حديث (من قتل دون ماله فهو شهيد) ، (قال صاحب سبل السلام (علماء الحديث كالمجمعين على استثناء السلطان للآثار الواردة بالصبر على جوره فلا يجوز دفاعه عن أخذ المال) . انتهى كلام الصنعاني. ثم يقول الشيخ الغزالي: (أرأيت إلى أين يتجه الشارع وإلى أين يتجه الشارح، لست أشك أن هذه الشروح دفعت إليها الرهبة الجبانة وأن إرسالها على هذا النحو خدم الملوك الجورة والسلاطين المستبدين وأتاح لها فرض ما يشاؤون من ضرائب ومصادرة ما يشاؤون من أملاك دون تهيب مقاومة أو توجس عصيان ورياضة الجماهير على قبول الضيم بفتوى شرعية، أفقدت الشعوب ملكة وشجاعة في الوقت الذي كانت الأمم الأخرى تصرخ بالدفاع عن الدم والعرض والمال وتشرع الدساتير التي تقرر ذلك) . وفي كتاب (ليس من الإسلام ص41) طرح القضية بصورة أكثر واقعية وأكثر اعتدالا، المهم أننا نقول فيما يتعلق بكلام الشيخ: • يلاحظ قول الشيخ بعدما رجح ضرورة الوقوف في وجه السلطان عند أخذ المال ومقاومته أنه عقب بقوله: (في الوقت الذي كانت الأمم تصرخ بالدفاع عن الدم والعرض والمال وتشرع الدساتير التي تقرر ذلك) . إذا هو ضغط الواقع يلح بانتحال مثل هذه الآراء ورفض ما عداها، وأمر آخر لا أريد أن أتجاوزه، كيف نستطيع أن نوفق بين هذا الموقف النظري للشيخ وهو يطرح هذا الطرح الحاد ويطلب الوقوف في وجه السلاطين الجورة المستبدين كما يقول وبين مواقف أخرى للشيخ؟، إننا نعلم أن الشيخ كان له مركز كبير في عدد من البلاد منها مصر وكان في موقع كبير في وزارة الأوقاف، والآن له مقام باعتباره عالما من العلماء المعتبرين في دولة مصر وقد أصدر مع مجموعة أخرى من العلماء بيانا في إدانة بعض الشباب المسلم، وهو بيان هللت له الجهات الرسمية، وكان ورقة بيدها، ومن جهة أخرى فإن الشيخ كثيرا ما يشن حملة على أولئك الشباب الموجودين في مصر وفي بعض البلاد العربية الأخرى والذين ينكرون على حكامهم تطبيق القوانين الوضعية والظلم والجور والاستبداد، وقد يرون استخدام القوة في مواجهتهم. وقد نشرت مجلة الدعوة السعودية في أحد أعدادها الأخيرة خبرا عنوانه (الغزالي يرفض المناظرة) وفحوى هذا الخبر أن رئيس إحدى الجماعات الإسلامية طلب من الغزالي أن يناظره في ميدان عام، فرفض الغزالي المناظرة والخبر على ذمة المجلة -وقال ما معناه إنه ليس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 على استعداد أن يجلس على طاولة المناظرة مع رجل يؤمن بمبدأ طاولة الاغتيالات، وقال إنهم متعجلون. . . الخ، فكيف نستطيع أن نوفق بين هذا وذلك؟ إن موقف الغزالي إما أن يكون منسجما مع ما طرحه نظريا فلا ينتقد أولئك الذين يقومون بهذه الحركات، وإلا فإن عليه أن يغير موقفه النظري في هذه المسألة ليكون منسجما مع مواقفه العملية الواضحة. • من الاستجابات المكشوفة لضغوط الواقع أن الاشتراكية يوم أطلت على العالم الإسلامي وتداعى لها الأنصار في عدد من الدول وكانت صيحة ذلك الوقت، وجدت لها موقعا في فكر عدد من الكتاب أذكر منهم الشيخ (مصطفى السباعي) غفر الله له حيث صنف كتابا سماه (اشتراكية الإسلام) وأبرز منه الشيخ الغزالي فقد ألف فيها عدة كتب منساقا وراء بريقها يقول في كتاب (من هنا نعلم ص182) ؛ (وقد بسطنا فلسفة الاشتراكية الإسلامية وذكرنا أطرافا من برنامجها الضخم في عدد كتب صدرت ونشرت فصولا منذ سنين- الإسلام والأوضاع الاقتصادية- الإسلام والمناهج الاشتراكية- الإسلام المفترى عليه بين الشيوعيين والرأسماليين) أ. هـ. • وفي هذه الكتب دعا الشيخ إلى تقييد الملكية الفردية تقيدا شديدا في حدود المنافع الشخصية في كتاب (الإسلام والمناهج الاشتراكية ص97) وأقر المبدأ الاشتراكي الذي يقول (من كل حسب طاقته ولكل حاجته) (ص98) ، وقال (ص183) (إن الإسلام أخوة في الدين واشتراكية في الدنيا) . وأعجب من هذا كله أنه في (ص91) يقول بالحرف الواحد: (أما الفكرة الشيوعية في طورها الأخير فتقدم أساسا للتنظيم الاقتصادي يعتبر مغريا للطبقات الضائعة من الناحية النظرية أما الناحية التطبيقية فلم تتح لنا أسباب دراستها حتى يتيسر الحكم عليها) . وبطبيعة الحال يقصد الشيخ الجانب الاقتصادي من الفكرة الشيوعية وإلا فهو قد رد على الشيوعية في جوانبها الأخرى في عديد من كتبه، وفي (ص83) بين إمكانية تحويل التوجيهات الإسلامية العامة في شأن المال إلى قوانين باسم الله ورسوله. • وفي كتاب (الإسلام المفترى ص103) يصرح بأن أبا ذر اشتراكي وأنه استقى نزعته الاشتراكية عن الرسول صلوات الله وسلامه عليه، وفي (ص112) يقول: (إن عمر أعظم فقيه اشتراكي تولى الحكم) . وقل مثل ذلك فيما يتعلق بمبدأ الديمقراطية فإن الشيخ طرحها بقوة وحرارة على أنها النهج الصحيح الذي يجب الالتزام به في علاقة الحاكم بالمحكوم، والشيخ يستخدم عبارة (الشعب مصدر السلطات) ويفسرها بطبيعة الحال، ويقول في (دستور الوحدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 ص209) (بيد أني شعرت بجزع شديد عندما رأيت بعض الناس يصف الديمقراطية بالكفر!) وفي (ص210) يقول: (من أجل ذلك شعرت بشيء من التوقف لما قال الأستاذ "محمد قطب" في "ج2من كتاب التربية الإسلامية" (وكل الدعوات الزائفة -التي تلتهم الناس في الجاهلية والشباب بصفة خاصة لا اعتبار لها ولا وزن عند المسلم الذي يتربى على منهج التربية الإسلامية، والذين يقولون نأخذ من الإسلام كذا ومن الديمقراطية كذا ومن الاشتراكية كذا، ونظل مسلمين يقول الله في أمثالهم [أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض] الآية. -انتهى كلام الشيخ "محمد قطب"- وأخذ الشيخ الغزالي يستدرك على هذه الكلمة التي نقلها عن الأستاذ محمد قطب. . . وقبل أن أغادر هذه النقطة ثمت تعليقات يسيرة: (1) طرح الشيخ البرنامج الاشتراكي بقوة يوم كان صيحة عالمية وأظهر بعد ذلك ما يمكن أن يسمى تراجعاً -وهذا على سبيل التسامح والتجاوز- حيث يقول في كتاب "قذائف الحق ص124" حين قال له قائل: إنكم خلطتم الإسلام بالاشتراكية على نحو لا يرضى أعداداً من المسلمين، فرد الشيخ الغزالي بقوله: (إننا أرينا الأجيال الناشئة من ديننا ما يغني عن استيراد فلسفات أجنبية شاردة، وأنا شخصياً قد أكون تجوزت في العبارات لكن جوهر الموضوع إنصاف رائع لديننا الحنيف) أ. هـ. أقول: وعلى أي حال وحتى لو فرض أن الغزالي تراجع عن بعض أطروحاته الاشتراكية فإن للموضوع دلالته القوية على تأثر أطروحات الكتاب الإسلاميين أو بعضهم بضغوط الواقع، وانطلاقهم من منطلق الدفاع وهو منطلق ضعيف ومنهزم أمام الفلسفات الأجنبية الشاردة كما يعبر الشيخ حين يقول: (أرينا الأجيال. . . ما يغني عن استيراد فلسفات أجنبية شاردة) . (2) نحن على يقين بأن الإسلام غني بأحكامه وتشريعاته وغني أيضاً بمصطلحاته الربانية، واستيراد شيء من ذلك نوع من الهزيمة حتى المصطلح له معناه ودلالته وله ظروفه الخاصة التي نشأ فيها فلا يجوز إسقاطه على بعض المضامين أو الأحكام الإسلامية، ولا شك أن الأستاذ "محمد قطب" -حفظه الله- كان على علم واسع بأوضاع العالم وتياراته الفكرية ومع ذلك لم يجد في نفسه ما يدعو إلى استيراد هذه الأشياء والانسياق وراء بريقها الخادع. - ولعل من الطريف أن يصف الشيخ الإسلام بأنه (اشتراكية) وفي نفس الوقت (ديمقراطية) مع أن الديمقراطية والاشتراكية نقيضان متصارعان في واقعهما السياسي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 • مثل آخر فيما يتعلق بآراء الغزالي في المسائل الفرعية وتأثره بالمدرسة العقلية واستجابته لضغوط الواقع، فحين يعرض الغزالي رأيه في حل الغناء والموسيقى ويسخر من المخالفين وهم كثير. . كما سيأتي ضمن مناقشة كتاب: السنة بين أهل الفقه وأهل الحديث -يقول الشيخ (إن أهل القارات لهم غناء يجتمعون عليه فميزوا الخبيث من الطيب ثم دعوا لهم ما يستحبون) ، إذاً حتى القول بإباحة الغناء والموسيقى هو أثر من ضغوط انتشار هذه الأشياء وكونها موجودة على مستوى القارات كلها. • وأخيراً في مقابلته مع مجلة (الشرق عدد 499) لم يجد الشيخ الشجاعة على الجزم بتحريم الفائدة الربوية التي اتفق الفقهاء على تحريمها، وعرض المسألة على أنها مسألة خلافية وأن التحريم هو رأي الجمهور فقط، وليس إجماعاً، ثم علق المسألة ولم يجزم فيها بشيء، مع أنه سبق أن قال في كتاب "الإسلام والمناهج الاشتراكية ص118": (نصوص الإسلام متضافرة على تحريم الربا، ولتحريم الربا في الإسلام -بل في كافة الأديان- علل خلقية واجتماعية جديرة بأن تعرف. . .) إلى أن قال: وهو يرد على الرأسمالية: (أما محاولة اللعب بالنصوص، وتقديم الفتوى الملائمة، أوالغفلة عن أخطار الرأسمالية. . . فذاك ما لا جدوى منه قط على دين الله ودنيا الناس، ولن يزيد العلم إلا خبالا، وسيظل يقوم ويقعد كالذي يتخبطه الشيطان من المس. . .) فما بال الشيخ يعود ليقدم الفتوى الملائمة، ويقول: إن هناك رأياً آخر أحببت أن أنظر فيه وهو يرى أن العلاقة بين البنك وبين العميل المودع فيه هي علاقة تكوين شركة مضاربة، وهي عمل من طرف ومال من طرف آخر!! ثم يفتي بجواز العمل في البنوك بأنواعها وفي المحاكم الأهلية النظامية التي تحكم بغير ما أنزل الله. . . الخ. خامسا: المسلك الاعتقادي فيما يتعلق بالمسلك الاعتقادي: • أقول هنا لقاء جزئي مع العقلانيين فإنه يقرر في غير موضع أنه مع مذهب السلف -كما سبق- وكما في مقابلته مع (مجلة الدعوة السعودية، والتي عنوانها: أنا سلفي ولكن. . . الخ) ولكنه يفسر مذهب السلف بأنه التفويض فيقول في (مائة سؤال حول الإسلام 2\109) : (لقد درسنا في الأزهر ونحن طلاب مذهبي السلف والخلف في آيات الصفات أعني التفويض والتأويل) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 فاعتبر الشيخ الغزالي أن التفويض هو مذهب السلف، ويقصد بالتفويض أنه لا يتدخل في تفويض الأسماء والصفات، لكنه يجزم بأن ظاهرها غير مراد، ولا شك أن هذا ليس مذهب السلف، بل مذهب السلف إثباتها على حقيقتها دون تأويل، مع القطع بأن ظاهرها لا يعني التشبيه. يقول الشيخ: (درسنا. . . مذهبي السلف والخلف. . . وتم ذلك دون تشنج أو توتر أعصاب وقد أخذت رأي السلف لأنه في نظري أعرف بوظيفة العقل الإنساني وقدراته) أ. هـ. والغريب في الأمر أن الشيخ فسر دعوته إلى تحنيط هذه الخلافات التي جرت بين المسلمين ووضعها في المخازن للذكرى والتاريخ بقوله (فالنزعة العقلية المعاصرة لا تحب أن تسمع بحثا هل الله أعلم بذاته أم بصفة زائدة على الذات، إن هذا اللون من الفكر أمسى لغوا) إذاً حتى الدعوة إلى رفض هذه الخلافات ونبذها وتحنيطها هي الأخرى متأثرة بالنزعة العقلية المعاصرة. • وفي المجال العقدي التفصيلي يتنكر الشيخ لمذهب السلف في عدد من الجوانب ويهاجم معتنقيه بمرارة وحرارة، واسمع بالتفصيل: في (هموم داعية ص110) وقد طرح سؤالا في مسألة العلو والفوقية علو الله على خلقه - قال كلاما أقل ما يقال فيه إنه غامض في مسألة هل يؤمن الشيخ فعلا بأن الله فوق خلقه؟ يعني علو الذات، ثم قال: (ليس سلفيا من يجهل دعائم الإصلاح ثم يجري هنا وهناك مذكيا الخلاف في قضايا تجاوزها العصر الحاضر ورأى الخوض فيها مضيعة للوقت) . إذا نحن أمام ضغط العصر الحاضر، ومرة أخرى تطل علينا هذه العقيدة! . • وفي (كيف نفهم الإسلام ص139) اعتبر الشيخ الغزالي الحوار حول مسألة الاستواء حوارا سخيفا. • وفي (السنة النبوية ص126) ينكر حديث الساق -إثبات الساق لله- ويقول: (وهذا سياق غامض مضطرب مبهم وجمهور العلماء يرفضه والحديث كله معلول وإلصاقه بالآية خطأ وبعض المرضى بالتجسيم هو الذي يشيع هذه المرويات وإن المسلم الحق ليستحي أن ينسب إلى رسوله هذه المرويات) . وكان الذين نسبوها وأقروا بها ليسوا مسلمين حقا، إنما المسلم الحق عند الشيخ هو من أنكرها بل من استحيا من نسبتها! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 • وحين يتطرق الشيخ إلى عقيدة إثبات القدم لله وهي ثابتة بنصوص صريحة صحيحة يسخر ممن يثبت هذه العقيدة ويقول في كتاب (سر تأخر العرب والمسلمين ص55) : (إن سلف الأمة ما تدري شيئا عن هذه الرجل-يعني إثبات الرجل أو القدم لله- ولا سمع داع إلى الإسلام يكلف الناس أن يؤمنوا بها) أ. هـ. ثم أول القدم بأنهم قوم يقدمهم الله إلى النار، وأول الرجل بأنها العدد الكثير من الناس، ومهما يكن من غرابة هذا التأويل فإنه عقب بقوله: (فأين القدم التي يمشي عليها في هذا السياق المبين؟) وقد نقل سياقا ضعيفا عن ابن مسعود، ثم قال: (إن العقائد لا تخترع ولا تفتعل على هذا النحو المضحك، عقيدة رجل الله! ما هذا؟) أ. هـ. وفي (مائة سؤال 2\ 111) يكرر السخرية من بعض السطحيين الذين فهموا أن الرجل تعني العضو المعروف! • وبطبيعة الحال لا أحد يعتقد أن إثبات القدم لله، يعني إثبات العضو المعروف، فهذا من التمثيل المنكر عند كافة المسلمين، بل أهل السنة يثبتون لله القدم كما أثبتها له الرسول صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم دون الدخول في (تكييف) هذه القدم مع نفي المماثلة كما قال تعالى (ليس كمثله شيء) ، وإثبات القدم لا يختلف قليلا ولا كثيراً عن إثبات اليد والوجه والعين والصورة لله تبارك وتعالى، فنحن نثبت هذه الأشياء كلها دون أن ندخل في تكييف هذه الأمور أو تمثيل الله تعالى بخلقه. • وفي "عقيدة المسلم" يتحدث المؤلف عن ثمان صفات لله تعالى فقط دون أن يتعرض لبقيتها، وبعد هذا فلا غرابة أن تجد الشيخ يعود فيثني على الأشاعرة، ويقول عنهم في "سر تأخر العرب ص57": (أما الأشاعرة فتنزيههم لله واضح وثناؤهم عليه جميل، وقد اقتصدوا في التأويل، وسلكوا مسلكاً وسطاً جعل جماهير المسلمين تنضم إليهم من ألف سنة إلى اليوم) أ. هـ. • ثم اعتذر عن تأويلهم: (بأن المتكلمين من سلف وخلف اضطروا إلى التأويل في بعض جمل من الكتاب والسنة توفيقاً بينها وبين الآيات الأخرى وتمشياً مع حكم العقل في إثبات الكمال لله ونفي أي إيهام بما لا يليق) أ. هـ. • فهو يثني على الأشاعرة هذا الثناء، وما أدري ما دام جمهور المسلمين انضم إليهم من ألف سنة إلى اليوم، ما قبل الألف سنة كيف كان الناس؟ لم يكونوا أشاعرة بطبيعة الحال، كانوا على المذهب الصحيح الذي يقرأ هذه النصوص ويؤمن بها على ما تدل عليه، دون أن يدخل في تكييف أو تأويل لها، وهذا ما كان عليه الصحابة والتابعون رضي الله عنهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 • كذلك قوله (إن جمهور المسلمين) أقول ليس بصحيح، فمن الذي أجرى هذه الإحصائية ثم خرج بنتيجة أن جمهور المسلمين أشاعرة؟ صحيح قد يكون كثير من طلاب المعاهد الشرعية في بعض الأمصار أشاعرة، أما جمهور المسلمين فإن كثيراً منهم فيما يتعلق بالأسماء والصفات خاصة أقرب إلى عقيدة السلف، لأنهم لم يدرسوا عقيدة الأشاعرة ولا غيرها فهم يقرأون القرآن ويجدون فيه إثبات الوجه واليد والعين والرحمة والغضب، وغيرها من الأسماء والصفات لله عز وجل ويقرأون السنة فيجدون فيها إثبات ذلك، وإثبات الساق والقدم والرضا والفرح والعجب ونحوها. فيؤمنون على ما هي عليه، وهذه عقيدة السلف وليس من شروط عقيدة السلف أن يتلقنها الانسان في مدرسة، بل من فهمها بفطرته وآمن وأقر بها دون تحريف ولا تأويل ولا تمثيل فهو سلفي ولو لم يدرس ذلك في كتاب خاص. وإن كانت الحاجة إلى الكتب شديدة بعد ما جهل الناس القرآن والسنة وكثرت فيهم المقالات المنحرفة. في (ص63 من الكتاب) يثني على رسالة التوحيد لـ "محمد عبده". • ويقول: (اجتهد الرجل فيها أن يعرض علم العقيدة في ثوب جديد فابتعد عن الجدل، وأبى أن يلمز واحدا من المتكملين، وعدهم جميعا أخوة يبحثون عن الحق، ثم شرح القضايا الأصلية في ديننا شرحا حسنا وقدم لها خلاصات نقية) . وهنا يظهر شيء من التناقص الحاد في منهج الشيح يذكرنا بما قاله الشيخ "المودودي" (رحمه الله عن "محمد إقبال" وهو من أقطاب المدرسة العقلانية- أعني "محمد إقبال"- يقول "المودوي": (إن كتاباته لا تخلو كلية من المتناقضات) كما ذكرت ذلك الكاتبة الأمريكية المسلمة "مريم جميلة" في كتاب "الإسلام بين النظرية والتطبيق ص196". بقي السؤال قائماً: بالضبط ما هو منهج الشيخ الاعتقادي؟ لا هو أشعري على طول الطريق، ولا هو سلفي، فماذا يكون إذن؟ الذي أعتقده أن الشيخ لا يملك منهجاً علمياً واضحاً في هذه الأمور، وأن هذه الأقوال المتفرقة التي سقتها إنما هي (انفعالات) عاطفية مؤقتة، ولذلك كانت متناقضة، فإن من طبيعة العاطفة التقلب وعدم الثبات أو الاستقرار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 وإن كان الشيخ (أقرب) إلى الأشعرية منه إلى غيرها، ولا يعكر على هذا نقده للأشاعرة في بعض المواضع. سادساً: الوحدة الوطنية من أطروحات العقلانيين ما يسمى بالوحدة الوطنية، والتقارب بين الأديان السماوية ولذلك فإن "محمد عبده" أسس جمعية سياسية سرية دينية في بيروت هدفها التقريب بين الأديان الثلاثة (الإسلام واليهودية والنصرانية) وقد انتسب إليها بعض المسلمين وبعض الإنجليز وبعض اليهود وكان سكرتير هذه الجمعية إيرانياً اسمه "ميرزا باقر" فيا ترى ما موقف الغزالي من مسألة التقريب بين الأديان. • إنه لسوء الحظ هو الآخر موقف مضطرب، في "هموم الداعية" يقول: (الدعوة إلى أخوة الأديان المشبوهة وواضح أن تلك الدعوات شعارات يقصد بها محاولة صد المسلمين عن دينهم بينما الآخرون جادون في نشر أديانهم والتبشير بها) أ. هـ. وهذا كلام لا غبار عليه، لكنك تجد في موضع آخر كلاماً مختلفاً ففي "ظلام من الغرب ص78" يقول: (إن اختلاف العرب من المسلمين ونصارى لا يمنع تجمعهم على إعزاز الأمة العربية ورد العدوان عنها مهما كانت ديانة المهاجم) . وفي "ص80" يقول: (ولا ريب أن هؤلاء النصارى عرب أنقياء، والعربي الصحيح وإن لم يكن مسلماً له موقف كريم من إخوته المسلمين، وهو وإن وقف إيمانه بالنبوة إلى عيسى بن مريم فلن يبخس محمد بن عبد الله حقه بوصفه سيد رجالات العروبة، ومؤسس نهضتها الكبرى، والعربي المسيحي له من عروبته خلق الوفاء، وينبغي أن يكون له من دينه حب العدالة) أ. هـ. وهو كلام طويل، لكن ذكرت أبرز ما فيه. ما أدري ما معنى قول الشيخ: (إن العربي وإن وقف إيمانه بالنبوة إلى عيسى فلن يبخس محمداً حقه) . كيف ما بخس محمداً حقه؟ وأي بخس للحق أكثر من أن يصف محمداً صلى الله عليه وسلم أنه كذاب، هل تعلمون سبة أعظم من هذه؟ وكذاب على من؟ على الله تعالى: هذه عقيدة النصراني -عربياً كان أو غير عربي- في رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه مسبة يغضب لها كل مسلم، بل كل من منصف يعرف ما كان عليه الرسول المختار صلى الله عليه وسلم من صدق الحديث والمعاملة. ولا ينقضي عجبي حين أقارن موقف الشيخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 -هنا- بموقفه المنفعل الثائر ضد جماهير الأمة -القائلين بأن أبوي الرسول صلى الله عليه وسلم في النار! وسيأتي التعليق على هذا الموقف. لماذا نغضب هنا، ونحن أمام قضية لا حط فيها من قدره صلى الله عليه وسلم بل فيها رفعة من حيث كونه أخبر بها ولم يكتمها وهي تتعلق بأقرب الناس به نسباً. . . ولا نغضب هناك ضد شاتميه ومكذبيه؟ • وكذلك في "ص256" يتحدث الشيخ عن المؤتمر الإسلامي المسيحي الذي انعقد بالإسكندرية وقد حضره الشيخ ممثلاً عن وزارة الأوقاف حيث طلب منه "أحمد حسين الباقوري" وكان وزيراً للأوقاف حينها أن يمثله في ذلك المؤتمر، وقد ذكر الغزالي أخبار المؤتمر وفصلها في عدد من كتبه، لكن في الكتاب الذي ذكرت "ص256" يقول: (إن إيثار السلام العادل الشريف بين الديانتين وأتباعها سيطر على جل الأعضاء أو عليهم كلهم فيما رأيت) يعني المسلمين والنصارى. • وحول هدف المؤتمر يشير إلى أنه انعقد لوضع أسس أفضل للعلاقة بين الدينين وجعل المستقبل أدنى للتفاهم والموادة بعد ماض أثقلته الخصومة وسودته الإحن) وانظر "حصاد الغرور 162-163" وكأن خير رد على هذه المحاولات مؤامرات النصارى الأقباط للسيطرة على الدولة، وقد تحدث الغزالي في كتاب "قذائف الحق" عن هذه المحاولات التي يتزعمها "البابا شنودة" ثم قال: (وقد كنت أريد أن أتجاهل ما صنع الأخ العزيز "شنودة" الرئيس الديني لإخواننا الأقباط غير أني وجدت عدداً من توجيهاته قد أخذ طريقه إلى الحياة العملية) "ص64". وفي كتاب "ظلام من الغرب" تحدث عن مؤتمر الخريجين الذي يعقده النصارى لخريجي الجامعات الأمريكية في الشرق وكشفت عن دعوة هذا المؤتمر المناهضة للإسلام وتعصبه النصراني الأعمى وذلك في "ص83-93) . كما تحدث عن دسائس الاستعمار الغربي منذ قرون. • ومن أخطر ما كتبه الغزالي ما جاء في كتاب "الإسلام المفتري عليه" تحت عنوان (دعائم الأخوة العامة) فقد دعا إلى اعتبار الإنسانية كلها أسرة متشابكة الأجزاء متكافلة الأعضاء وإلى الإحساس بأن البشرية أسرة واحدة لا تترك أحداً من أبنائها يجوع ويعرى أو أحداً من شعوبها يضل ويخزى يقول: (والأخوة المطلقة حقيقة لا معدى عن المناداة بها وحشر الناس تحت لوائها) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 ولا مانع أن نلتمس للشيخ عذراً فنقول إن النص الذي قال في: (إن وحدة الأديان مشبوهة) نص متأخر فلعله يدل عل تراجع الشيخ بعدما رأى مؤامرات اليهود والنصارى الدؤوبة في حرب الإسلام، وإن كان الاضطراب والتناقض في فكر الشيخ ليس مقصورا على هذه المسألة. وعل كل حال فنحن نعلم أن نصوص القرآن نصت على أخوة المؤمنين وموالاتهم وموادة بعضهم لبعض [والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض] [إنما المؤمنون إخوة] . [إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا] . وبينت بغض الكافرين وعداوتهم حتى يؤمنوا بالله وحده [يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضهم أولياء بعض] وذكر الله إبراهيم عليه السلام ومن معه [إذ قالوا لقومهم إنا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده] . ولا أجدني بحاجة إلى التعليق بعد هذه النصوص الواضحة [لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم] . كما نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر لأن يخاطب أهل الكتاب بالدعوة إلى كلمة سواء أن يؤمنوا بالله ورسوله ولا يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، ولم يؤمر بالتقريب بينهم ولم يعقد صلى الله عليه وسلم مؤتمراَ للتقريب مع اليهود أو النصارى ولا لإقامة أسس جديدة للتعاون والتفاهم وإزالة الأحقاد والعداوات والإحن، كما أنه صلى الله عليه وسلم لم يسع إلى تكوين نهضة قومية عربية يجتمع فيها المسلم العربي إلى جوار الوطني العربي إلى جوار النصراني العربي، بل لقد بدأ صلى الله عليه وسلم بحرب العرب المشركين قبل غيرهم، كما أن تجارب التاريخ كلها ومنها ما ذكره الغزالي تؤكد أن هذه ألعوبة أهلية يخادع اليهود والنصارى بها المسلمين لشغلهم عن العمل الجاد، وما جهود المنصرين الهائلة لاكتساح أفريقيا وإندونيسيا ومصر بخافية على أحد. • في نهاية هذا العرض نستطيع أن نقول إن الشيخ الغزالي متأثر بالمدرسة العقلانية المعاصرة في الكثير من آرائه العقدية والتشريعية والإصلاحية، ولا غرابة في ذلك فعدد من شيوخه اللامعين هم من رجالات هذه المدرسة وذلك "كمحمد أبي زهرة" و"محمد شلتوت" و"محمد البهي" وغيرهم. وهذا لا يعني بطبعة الحال أنه ينسجم مع جميع آرائهم ومناهجهم فإن من طبيعة المدرسة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 العقلانية أنها تمنح مجالاً واسعاً رحباً للاجتهاد والخلاف وتباين وجهات النظر، ولذلك يوجد تفاوت كبير بين رجالاتها. • ومما يدركه القارئ العادي لكتب الغزالي أن الرجل يملك أسلوبا خطابياً عاطفياً أكثر مما يملك فكراً علمياً وفقهياً مؤهلاً متماسكاً، ولعل هذا أثر من آثار عمله الطويل في الوعظ، ولذلك برز التناقض في آرائه ومواقفه بشكل ملفت يجعل من الصعب على القارئ أن يحدد ملامح فكر الشيخ بدقة، وكأن الذي يبحث عن منهج واضح للشيخ يبحث عن شيء غير موجود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 الفصل الثاني: موقف الغزالي من أحاديث الآحاد حديث الآحاد هو ما لم يبلغ التواتر، وهو ينقسم إلى (غريب- عزيز- مشهور) كما هو معروف عند علماء المصطلح، وموقف الشيخ لا يخلو من تناقض وتذبذب كغيره من المواقف، ففي كتاب "قذائف الحق ص102" يقول: (إن سنن الآحاد عندنا تفيد الظن العلمي، إنها قرينة تستفاد منها الأحكام الفرعية في ديننا، فإذا وجد الفقيه أو المحدث أن هناك قرينة أرجح منها تركها إلى الدليل الأقوى دون غضاضة) . • وفي كتاب "دستور الوحدة 68" يقول: (حديث الآحاد يعطي الظن العلمي أو العلم الظني، ومجاله الرحب في فروع الشريعة لا في أصولها ونحن نؤكد أن خبر الواحد قديماً وحديثاً ما كان يفيد إلا الظن، وأبو حنيفة له وجهة نظر معقولة عندما استبعد خبر الواحد في إيجاب واجب أو تحريم محرم واعتبر أن ذلك يحتاج إلى القطع، ويمكن الاحتجاج بخبر الواحد في نطاق المندوب والمكروه، ومع ذلك ففي عصرنا قوم يريدون بخبر الواحد إثبات العقائد التي يكفر منكرها وهذا ضرب من الغلو الممجوج، وقد ينتهي بالصد عن سبيل الله، والحق أن حديث الآحاد دليل محترم ما لم يكن هناك دليل أقوى منه وأولى بالقبول) أ. هـ. والواقع أن المنهج العملي التطبيقي للغزالي في عدد من المواقف، أنه يقدم إيماءات الكتاب على أحاديث الآحاد، ولا يقبله -غالباً- في العقائد. بينما في كتابه "ليس من الإسلام" قال ضمن فصل طويل: (إن إنكار المتواتر من السنة العملية خروج عن الإسلام، وإنكار المروى من سنن الآحاد لمحض الهوى عصيان مخوف العاقبة) . على من يرد الغزالي في هذه الكلمة؟. يقول: (إن الولع بالتكذيب لا إنصاف فيه ولا رشد، إن اتهام حديث ما بالبطلان مع وجود سند صحيح له لا يجوز أن يدور مع الهوى، بل ينبغي أن يخضع لقواعد فنية محترمة، هذا ما التزمه الأئمة الأولون، وهذا ما نرى نحن ضرورة التزامه) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 ثم يقول: (ذكر بعضهم حديث "الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام"، فقال إن الواقع يكذبه وإن صححه البخاري) . رد الغزالي عل هذا المكذب بقوله (ويظهر أنه فهم من كل داء سائر العلل التي يصاب بها الناس، وهذا فهم باطل، والواقع أن كل داء لا تعني إلا أمراض البرد فهي مثل قول القرآن الكريم (تدمر كل شيء بأمر ربها) بيد أن الطعن هكذا خبط عشواء في الأسانيد والمتون، كما يصنع البعض، ليس القصد منه إهدار حديث بعينه بل إهدار السنة كلها ووضع الأحكام التي جاءت عن طريقها في محل الريبة والازدراء، وهذا فوق أنه غمط للحقيقة المجردة يعرض الإسلام كله للضياع، إن دواوين السنة وثائق تاريخية من أحكم ما عرفت الدنيا) أ. هـ. -عفواً أرجو إعادة قراءة النص السابق • في "ص37" من نفس الكتاب يقول: (لكن المؤسف أن بعض القاصرين مما لا سهم له في معرفة الإسلام أخذ يهجم على السنة بحمق ويردها جملة وتفصيلاً، وقد يسرع إلى تكذيب حديث يقال له لا شيء إلا لأنه لم يرقه أو لم يفهمه) أ. هـ. وستأتي أمثلة تفصيلية سارع الشيخ في تكذيبها، -وأيم الله- لا لشيء إلا لأنها لم ترقه، أو لم يفهمها، وإذا كان الغزالي عزيزاً فالحق أعز منه. في "ص33" من نفس الكتاب، ذكر وظائف السنة مع القرآن الكريم وقال إنها قد تقرر المعنى الذي جاء به القرآن، وقد تقرر معنى آخر يدور في فلكه وينتظم معه، ومثل بتحريم الأكل والشرب بآنية الذهب والفضة، فقال إنه يدور في فلك تحريم الترف، ثم قال: (وهناك سنن أخرى تخصص أحكاماً عامة في القرآن. ففي قوله (يوصيكم الله في أولادكم) بينت السنة أن الابن القاتل لا حظ له في الميراث، وفي قوله: (حرمت عليكم الميتة) بينت السنة أن هناك مباحين من كل هذه المحرمات -وذكر حديث (أحل لنا ميتتان ودمان. . .) الحديث (1) - وفي قوله (والسارق والسارقة) بينت السنة أن ليس كل سارق يقطع، إذ لا قطع فيما دون النصاب المقرر. . . ثم قال وقد جاءت السنة بأحكام يسرت بعض العزائم التي أمر الكتاب العزيز بها -فذكر مسألة غسل القدمين وأن السنة جاءت بالمسح عل الخفين) . بعد ما ننتهي من كلامه إلى المسلك العملي. فنجد أن الرجل رد عدداً غير قليل من أحاديث الآحاد بحجج واهية وسأذكر أمثلة لها   (2) الحديث ضعيف مرفوعاً والصواب وقفه لكن له حكم الرفع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 • ففي كتاب "السنة النبوية ص301" رد حديث نافع أن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون بحجة أنه ينافي القرآن الذي يأمر بتبليغ الإسلام، وهكذا في "فقه السيرة". وفي كتاب صدر بين هذين الكتابين قال كلاماً يناقض ما ذكر. فقال في دستور الوحدة "ص311" (والحقيقة أنه صلى الله عليه وسلم دعا وتريث وأمل الخير في الناس، فلما وجدهم جمعوا الجموع لقتاله لم ينتظر حتى يستكملوا فأخذهم على غرة) . إذا الرجل موقفه متذبذب، وقد أصاب في هذا الموضع في شرح الحديث، لكن ما دام أصاب هنا معناه أنه أخطأ في موضعين، وبذلك تعرف كيف تجرأ على أن يصف نافعاً بما وصفه به مع أنه تبين أنه هو قبل الحديث وأوله. • مثل آخر -في "مستقبل الإسلام ص28" قال كلاماً على الأقل فهمت منه أنه يرد حديث كل ذي ناب من السباع فأكله حرام بحجة أنه يلغي أربع آيات، وهو حديث آحاد وهو يقصد الآيات التي حصرت المحرمات في أربع كما في قوله تعالى: [قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه. . .] الآية. قال ذلك مع أن الجمع بينهما ممكن، والآية جاءت في مساق الرد على المشركين الذين كانوا يتصرفون في التحليل والتحريم وفق أمزجتهم وأهوائهم بأمور ما أنزل الله بها من سلطان، ووقت نزول الآية -خاصة آية الأنعام هذه- كانت المحرمات هي هذه الأربع والحصر في هذه الآية وما أشبهها مرفوع بالإجماع، فإن الأمة قد أجمعت عل تحريم الخمر، حيث نزل نص قرآني صريح بعد ذلك في تحريمه، وأنه [رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون] . فتحريم الخمر ثبت بالنص وأجمعت عليه الأمة فمن كذب به كفر، وهو لم يعد من ضمن هذه الأربع المذكورة في الآية. وكذلك تحريم الْحُمُر -بضم الحاء والميم- الأهلية ثبت بالنص المتواتر فقد جاء النص بتحريم لحوم الحمر الأهلية عن سبعة عشر صحابياً منها ثمانية أحاديث في الصحيحين، وإذا كان هذا ليس بتواتر، فمتى يوجد التواتر إذاً؟ وما دام أن الحصر المفهوم من الآية مرفوع بالإجماع، إذاً فحديث كل ذي ناب من السباع. . . الحديث وغيره لم يكن هو الناسخ للحصر، على أن من علماء الأصول من يقول أن النسخ بالسنة الصحيحة ممكن وثابت، ويذكرون لذلك أمثلة كثيرة، ومنهم من قال إن هذا مذهب جمهور أهل العلم. • والغريب أن الشيخ إذا اشتهى خالف هذا المسلك، فهو الآن يرد الحديث بحجة أنه يلغي أربع آيات، في حين أنه في كتاب "مائة سؤال ص311" يقول: (قال لي شخص ممن يرون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 حجب المرأة عن المجتمع، أليس يقول الله [وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى] . قلت إن القرآن لا يضرب بعضه بعضاً، وتفسير الآية الكريمة عل أن البيت سجن للمرأة لا تخرج منه تفسير باطل، فإن الحديث الصحيح إن الله أذن لكن أن تخرجن في حوائجكن، على أن خروج المرأة من بيتها لا يجوز أن يكون مع تبرج الجاهلية القديمة والحديثة، إن مكثها فيه أولى من هذا الخروج السئ) . إذاً هو اعتبر قوله صلى الله عليه وسلم إن الله أذن لكن. . . الحديث حالة تستثني من الآية فما باله يقبل هذا الأمر في هذا الموضع ويرده قبل ذلك؟ إضافة إلى أن ما فعله يخالف المسلك الذي قرره، ألم يذكر لنا قبل قليل قول الله عز وجل [حرمت عليكم الميتة] وأن السنة خصصت بعض المحرمات، أنها حلال، في قوله عليه السلام لنا ميتتان ودمان؟. • -وهذا مثل- في كتاب "دستور الوحدة" رد حديث أنس بن مالك وهو في صحيح البخاري لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شر منه. يقول أنس سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم وقال الغزالي (رجحنا عليه حديث أمتي كالغيث لا يدرى أوله خير أم آخره، وحديث لا تزال طائفت من أمتي. . .، وسنن أخرى كثيرة) . وهذا الكلام عليه تعقب. 1- الحديث في البخاري، أما الآخر فاللفظ الذي وقفت عليه ضعيف من رواية ابن عساكر عن عمرو بن عثمان وهو مرسل، ولا أدري قد يكون للحديث طرق أخرى، وأذكر أن ابن تيمية وغيره من أهل العلم ساقوا الحديث مساق المعلق صحته، يقولون (إن صح) وهذا دليل عل أن الحديث ليس ظاهر القوة ولا يمكن أن يقارن بحديث في صحيح البخاري. 2- ويبين لنا خطر إدخال العقل بالسنة بهذه الصورة التي يستخدمها الشيخ أنه رد الحديث لأنه يقول إنه يعارض حديث (أمتي كالغيث. . الحديث) ، ولنفترض نحن أن حديث صلى الله عليه وسلم أمتي كالغيث حديث صحيح، لنفترض أنه متواتر، فهل بين الحديثين تعارض؟ لنتأمل، قوله صلى الله عليه وسلم (كالغيث) الكاف هذه ما معناها؟ التشبيه، أما قوله (لا يدري أوله خير أم آخره) ، فهذا أيضاً تعبير لغوي يقصد من ورائه إظهار فضل المتأخر، وإلا فالواقع أنه حتى الغيث يدرى أن أوله خير من آخره، لكن آخره نافع وأوسطه نافع وأوله نافع، فهو حيثما وقع نفع، فمقصود الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول: إن الأمة أولها خير وآخرها خير، فالخيرية لا تزال موجودة إلى قيام الساعة، وليس مفهوم الحديث بوجه من الوجوه المساواة التامة بين أول الأمة وآخرها، هل يتصور أحد أن آخر الأمة يمكن أن يساوي أولها الذي كان فيه الرسول صلى الله عليه وسلم؟ والذي كان فيه جيل الصحابة؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 إذاً أين الأحاديث المتواترة في فضل الصحابة، على من بعدهم؟ هذا لا يمكن أن يتصور أنه سبق إلى ذهن أحد. وقد يكون مقصود الرسول صلى الله عليه وسلم بالحديث الإشارة إلى المهدي، وعيسى وما يكون معهما من الفضل والمكانة، وعل أي حال فلا إشكال في الأمر، وبذلك تدركون خطورة إدخال العقل في السنة على هذا النمط، كون عقلي الشخصي، إذا تعسر عليه فهم حديث، أو الجمع بينه وبين آية أو حديث آخر سارع في الإنكار. 3- وفي نفس الحديث رجح عليه حديث (لا تزال طائفة من أمتي) ولا علاقة لهذا بهذا، لأن الطائفة المنصورة ليست شاملة للأمة كلها، بل هي طائفة من الأمة قد تقل أو تكثر، فلا علاقة لها بحديث أنس. في صفحة (195) من كتاب "دستور الوحدة" أنكر حديث مسلم في والدي الرسول صلى الله عليه وسلم، في صحيح مسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لرجل: (إن أبي وأباك في النار) وكذلك بالنسبة لأمه صلى الله عليه وسلم قال: (استأذنت ربي أن أزور قبر أمي فأذن لي، واستأذنته أن أستغفر لها فلم يأذن لي) ونزل صلى الله عليه وسلم في قبرها -وهو بالأبواء- فبكى وأبكى من حوله، ولم يأت الغزالي بحجة تذكر لإنكار هذين الحديثين، سوى ترجيح الآية وهي قوله تعالى: [وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا] والجواب على هذا من أمور: أ- كون والد النبي صلى الله عليه وسلم في النار هذا جاء في نص صريح لا إشكال فيه وهو إجماع عند العلماء كما نقله ملا علي القاري في كتبه "عقيد أبي حنيفة الإمام في أبوي النبي عليه الصلاة والسلام" -والعهدة على الناقل. ب- أما أهل الفترة عموماً فذهب جماهير الأمة من سلفها وخلفها، ونقله الأشعري عن أهل السنة والجماعة واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وابن حزم وغيرهم من العلماء المحققين أن أهل الفترة يمتحنون في يوم القيامة، وقد ورد في ذلك أحاديث منها حديث أنس عند أبي يعلى والبزار، وحديث الأسود بن سريع عند أحمد، وحديث سعيد عند البزار، وهي أمثل ما ورد في هذا الباب، وبعضها يشد بعضاً، ولذلك يصلح أن يقال إن الحديث في ذلك حسن أو صحيح. ج- أن بعض العرب كان لديهم علم بالأديان السابقة والشرائع، ومن هؤلاء أمية بن أبي الصلت، ومنهم ورقة بن نوفل، ومنهم الحنفاء وكانوا عدداً غير قليل، بعضهم تنصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 وبعضهم قال: نحن عل دين إبراهيم فلم يكن العرب كلهم من أهل الفترة الذين لا علم لهم بالرسالات والنبوات، لا حجة مع الغزالي في الآية إذاً وهي قوله تعالى [وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا] . 4- كذلك الغزالي احتج بأنه يروى أن الله أحيا أبوي النبي صلى الله عليه وسلم فآمنا به، يقول الغزالي: (وهي رواية ينقصها السند كما أن روايتكم ينقصها الفقه، ولا أدري ما تعسفكم لتعذيب أبوين كريمين لأشرف الخلق) مشكلة أن ينقل الشيخ مثل هذه الرواية الواهية ويعارض بها حديثين في صحيح مسلم، إنها رواية مختلقة مكذوبة لا أصل لها، وهي الأخرى تعارض العقل والنقل، فكيف يقبلها؟ أين العقل؟ أن الله أحيا الأبوين الكريمين فآمنا به؟ (أولاً) : مثل هذا الأمر لو حصل لكان من الأمور التي يعرفها الصحابة كلهم، لأنها من القضايا النادرة التي يحرص الناس عل تناقلها والحديث فيها، (ثانياً) : أن هذا مخالف لقاعدة الشرع التي تقتضي أن الإنسان إذا مات انتهى وقت التكليف بالنسبة له وبدأ وقت الجزاء، كما هو معروف، ولذلك في القبر لا يوجد تكليف للإنسان، وكذلك فيما بعده، وهذه قضية مطردة ومتفق عليها، فكيف غاب عن الغزالي أن هذه الرواية ينقصها السند وينقصها الفقه أيضاً وصار يحاول أن يعللها ويقول بها، (ثالثاً) : قوله (ما تعسفكم لتعذيب أبوين كريمين لأشرف الخلق) ما هذه العواطف الغامضة؟ إذاً لماذا لا نقول إن والد إبراهيم هو الآخر في الجنة؟ أليس الله عز وجل يقول: [وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه] . نص صريح، كذلك ولد نوح [رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين، قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم، إني أعظك أن تكون من الجاهلين] كذلك زوجة نوح ولوط [كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً وقيل ادخلا النار مع الداخلين] . فكونه أبا النبي أو ابن النبي أو أخاه أو قريبه كله لا يغني من الله شيئا، إنما يغني الإنسان عمله الصالح: [إن أكرمكم عند الله أتقاكم] . أما القرابة هذه فلا تمنع من الحكم عل الكافر بأنه كافر وعل المخلد في النار بأنه مخلد في النار. • وأخيراً ما سيمر في مناقشة كتابه "السنة النبوية. ." أشير إلى ما يلي: أ- لم يكن سلف الأمة يفرقون بين حديث الآحاد وغيره في العقيدة وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرسل آحاداً من أصحابه إلى القبائل لتلقينه الدين أصوله وفروعه ولم يطلب منهم أن يثبتوا أو يرسلوا من يستوضح الأمر فدل على قيام الحجة بالآحاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 ب- أحاديث الأحكام تنطوي على عقيدة فكل حكم تعمل به تعتقد أن الله أمر به وشرعه لعباده. ج- الآحاد إذا احتفت به القرائن أفاد العلم اليقيني وستأتي هذه المسألة، وأن هذا رأي جماهير الأصوليين من المذاهب الأربعة وغيرها. د- العقائد منه ما ثبت ثبوتاً يكفر منكره، ومنها ما ثبت بالنص الصريح الصحيح، لكن لا يكفر منكره، أو مؤوله، ولسنا نقول إن من أنكر القدم أو الساق كافر، كلا. ولكن من بلغه الحديث فلا يسعه رده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 الفصل الثالث موقف الغزالي من مسألة القدر القدر الذي أُمرنا بالإيمان به يشمل أربعة مراتب: الأولى: علم الله بالأشياء قبل خلقها. الثانية: مشيئته وإرادته، فإنه لا يقع شيء في الكون إلا بإذنه. الثالثة: كتابة ذلك عنده سبحانه في اللوح المحفوظ. الرابعة: الخلق والإيجاد.. فماذا يقول الغزالي في القدر؟ لعل القارئ مل من الإشارة إلى اضطراب الشيخ، وتذبذب آرائه، فلندخل في الموضوع: في هموم داعية (105) ذكر الأثر في خروج النبي صلى الله عليه وسلم ومعه الكتابان، وقوله صلى الله عليه وسلم: {سددوا وقاربوا، فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة، وإن عمل أي عمل، وصاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل} . ثم قال: (أما صدر هذا الأثر فهو تصوير للعلم الإلهي. . على أن علاقة العلم الإلهي بأعمال الناس علاقة انكشاف وإحاطة، وليست علاقة سلب وإيجاب أو إيجاد وإعدام، أو ضغط وإكراه) . وفي ص108 تحت عنوان: العلم الإلهي لا يعني الجبر يقول: (العلم المكتوب لا يعني الجبر الإلهي، وأن عبارة (سبق الكتاب) لا تفيد إلا التنويه باستحالة تخلف هذا العلم لكماله، لا لشيء آخر. . .) . وفي ص109 عنوان: العلم الإلهي لا يلغي الإرادة. وفي "كيف نفهم الإسلام ص239. ذكر مرويات في القدر. . . ثم قال: (إن هؤلاء العلماء وحدهم هم الذين يحسنون الفصل بين عموم العلم الإلهي وشموله، وبين حرية الإرادة الإنسانية ومسئوليتها) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 • وفي كتاب من أواخر كتبه "السنة النبوية. . ص144" يقول: (إن العلم الإلهي الذي ذكرنا شموله وإحاطته وصَّاف كشَّاف، يصف ما كان ويكشف ما يكون، والكتاب الدال عليه يسجل الواقع وحسب، ولا يجعل السماء أرضاً، ولا الجماد حيواناً، إنه صورة تطابق الأصل بلا زيادة ولا نقص، ولا أثر لها في سلب أو إيجاب!!) . وفي عقيدة المسلم (118-119) كلام طويل نقتطف منه: (كيف يتفق القول بحرية الإرادة، والقول بأن أعمالنا لن تخرج عن دائرة العلم الإلهي. .؟ والجواب سهل: قف أمام مرآة مجلوة صافية وأنت عابس الوجه مقطب الجبين، فماذا ترى؟ سترى صورتك كما هي عابسة مقطبة. . كذلك صفحات العلم الإلهي ومرائيه لا تتصل بالأعمال اتصال تصريف وتحريك، ولكنه اتصال انكشاف ووضوح. .) . وفي "هذا ديننا ص18" المعنى نفسه: من قال إن علم الله يضغط على الناس ليفعلوا أو ليتركوا فهو كاذب ... ) فهل يفهم من هذه النقول أن الغزالي يفسر القدر بالعلم الإلهي المحيط الشامل؟ هذا محتمل جداً -خاصة في بعض المواضع والنقول السابقة. لكن يختلف الأمر بعض الشيء بالنسبة لمواضع أخرى، ففي "هذا ديننا ص20" يقول: (أنهم يظنون أن الله إذا أراد شيئاً قال: كن. ثم بين هذين الحرفين وفي لمح البصر يتحول الجدب خصباً، والفقر غنى، والعقيم ولوداً، والمهزوم منصوراً. وهذا -كما قلنا- فهم صبياني!! إن الإرادة الإلهية هي سنن الله التي بثها في الكائنات، وانتظمت بها أحوال الأرض والسموات. إذا أراد الله أن يخلق رجلاً فلا يقول للعدم: كن رجلاً. . بل تسير الأمور وفق نسقها الذي قدره رب العالمين. . وإذا أراد أن يخلق فاكهة أخذت هذه الإرادة مجراها المعتاد فوضعت البذور. . الخ. والإنسان كائن ميزه الله بخواص أدبية ومادية هي مناط تكليفه. . وحريته التي يستمتع بها دون ريب هي إرادة الله له، ولو شاء جعله غير ذلك. . وتلك هي إرادة الله له، فلا جبر ولا إكراه) . . . الخ. وفي عقيدة المسلم (ص119) : (إن إضلال الله لشخص معناه: أن هذا الشخص آثر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 الغي على الرشاد، فأقره الله على مراده، وتمم له ما يبغي لنفسه. .) . ثم شرع يرد على من يسميهم بـ (الجبرية) : • وأوجز بعض التعليقات: 1) قوله: إنهم يظنون أن الله إذا أراد شيئاً قال له: كن، وبين هذين الحرفين يحدث ما يريد الله. . واعتباره هذا فهما صبيانياً، يذكرني بتلك الكلمة التي قالها في "دستور الوحدة ص81" وهو يرد رأي الأحناف في أن الخمر من عصير العنب. . يقول: (وليست بين رب السماء وعصير العنب خصومة خاصة) إن الأدب الواجب مع الله يوجب الكف عن مثل هذا. 2) ما قاله عن العلم صحيح في الجملة، لكن: هل القدر هو العلم؟ إذن: أين الكتابة -وهي غير العلم-؟ وأين الإرادة؟ وأين الخلق والإيجاد؟ ولو كان القدر هو العلم الإلهي. . لما حدث ذلك الخلاف المعروف بين أهل السنة وغيرهم من جميع طوائف المسلمين. 3) هناك سؤال يلخص المسألة: الكفر والفسق الذي يقع فيه الإنسان، هل أراده الله أم لا؟ ومثله الإيمان والطاعات: هل أرادها الله أم لم يردها؟ إذا كان لم يردها. . فهل يمكن أن يقع شيء بدون إرادته سبحانه وهو الله الخالق البارئ المهيمن؟ هذا لا يمكن أن يكون. ولذلك قال سبحانه [وما تشاءون إلا يشاء الله رب العلمين] . [ولو شاء الله ما أشركوا] [ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد] . . الخ. وهذا السؤال معروف، لكنني أحببت أن أواجه به تفسير الغزالي للقدر بأنه السنن والنواميس، التي منها: إعطاء الإنسان حريته في الهدى والضلال، فنقول: ومع ذلك فهل أراد الله هذا الهدى، وذلك الضلال؟ أم أن إرادتهما خارجة عن إرادة الله؟ -تعالى الله عن ذلك- وليس ثمة احتمال ثالث. مع أننا نعلم أن الله تعالى لا يظلم أحداً مثقال ذرة، وهو الحكم العدل وهو الجواد الواجد الواسع. وهو سبحانه يعلم من هو أهل للهداية، ومن هو أهل للضلال، فيهدي الأول، ويدخله الجنة برحمته، ويضل الثاني ويدخله النار بعدله، والله تعالى أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 الفصل الرابع: موقفه من قضايا المرأة إن الغزالي طرح في شأن المرأة آراء غريبة، والغريب أنه طرحها على أنها هي آراء الأئمة والفقهاء، وأن مخالفيها يعتمدون على العادات والتقاليد البدوية، وسوف أعرض لأهم آرائه مع شيء من التعقيب عليها: 1- ولاية المرأة للمناصب العليا: في كتاب "مستقبل الإسلام ص56" يقول: (إذا تولت المرأة القضاء، وأحيت ما مات من أمر الله فالإسلام يرحب بالمرأة قاضية) . وقال رداً على من أنكر عليه ذلك: (إنك ممن يكرهون النساء اتباعا لتقاليد أضرت الإسلام وما نفعته) . وفي "مائة سؤال حول الإسلام 2/262) . نقل كلام ابن حزم الذي يرى أن المرأة يجوز أن تلي الحكم -يعني القضاء- وهو قول أبي حنيفة، واستثنى من ذلك الأمر العام، الذي هو الخلافة، وحمل حديث أبي بكرة (لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) على أن المقصود أمر الخلافة. • وفي كتاب "السنة النبوية ص47" قال كلاماً طويلاً في الموضوع أنقله بتمامه لأهميته، بعدما ذكر الرأي السابق -رأي ابن حزم- قال (وسمعت من رد كلام ابن حزم بأنه مخالف لقوله تعالى (الرجال قوامون على النساء) . وهذا رد مرفوض، والذي يقرأ بقية الآية يدرك أن القوامة المذكورة هي للرجل في بيته وداخل أسرته وعندما ولى"عمر" قضاء الحسبة في سوق المدينة للشفا كانت حقوقها مطلقة على أهل السوق رجالا ونساء، قد يقال كلام" ابن حزم" منقوض بالحديث "خاب قوم ولوا أمرهم امرأة" و" ابن حزم" يرى الحديث مقصورا على رئاسة الدولة، أما ما دون ذلك فلا علاقة للحديث به، ونحب أن نلقي نظرة أعمق على الحديث الوارد، ولسنا من عشاق جعل النساء رئيسات للدول أو رئيسات للحكومات إننا نعشق شيئا واحدا أن يرأس الدولة أو الحكومة أكفأ إنسان في الأمة، وقد تأملت الحديث المروي في الموضوع مع أنه صحيح سندا ومتننا، ولكن ما معناه؟ عندما كانت فارس تتهاوى تحت مطارق الفتح الإسلامي كانت تحكمها ملكية مستبدة مشؤومة، الدين وثني، والأسرة المالكة لا تعرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 شورى، والعلاقات بين أفرادها بالغة السوء، والشعب خاضع منقاد، وكان بالإمكان أن يتولى الأمر قائد عسكري يقف سيل الهزائم لكن الوثنية السياسية جعلت الأمة والدولة ميراثا لفتاة لا تدري شيئا، فكان ذلك إيذانا بأن الدولة كلها إلى ذهاب، في التعليق على هذا كله. قال النبي الحكيم كلمته الصادقة فكانت وصفا للأوضاع كلها، ولو أن الأمر في فارس شورى وكانت المرأة الحاكم تشبه" قولدا مائير" اليهودية التي حكمت بني إسرائيل لكان هناك تعلق آخر على الأوضاع القائمة) أ. هـ. ثم قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على الناس في مكة سورة النمل وقص عليهم في هذه السورة قصة ملكة سبأ التي قادت قومها إلى الفلاح والأمان بحكمتها وذكائها، ويستحيل أن يرسل حكما في حديث يناقض ما نزل عليه من وحي) !! • ثم يقول (ص50) (هل خاب قوم ولو أمرهم امرأة من هذا الصنف النفيس) ؟ (.. إننا لسنا مكلفين بنقل تقاليد عبس وذبيان إلى أمريكا واستراليا إننا مكلفون بنقل الإسلام وحسب، وإذا ارتضوا أن تكون المرأة حاكمة أو قاضية أو وزيرة أو سفيرة فلهم ما شاؤوا ولدينا وجهات نظر فقهية تجيز ذلك كله، فلم الإكراه على رأي ما؟) أ. هـ. • في كتاب (سر تأخر العرب ص20) يقول: (إن الجاهلية العربية التي فرضت نفسها مئات السنين مرفوضة، والجاهلية الوافدة مرفوضة هي الأخرى، وبعض المتحدثين في الإسلام يبغي العودة بالمرأة إلى التقاليد البدوية والأوضاع الجاهلية المزدرية للأنوثة) أ. هـ. ثم تحدث عن تاتشر معجبا بمواقفها الفذة، وأشاد بها لأنها وقفت في مجلس العموم تطالب بإعادة عقوبة الإعدام، ومن المطالب التي أشاد بها أنها وقفت في الحرب بين إنجلترا والأرجنتين ولبست السواد باستمرار حدادا على القتلى من أبناء شعبها! في (ص27) يقول: (إن الإسلام يراد هدمه باسم الإسلام) . وفي (ص44) يقول: (إن بعض البيئات غلبت تقاليدها على تعاليم الإسلام، كما حدث في بعض الشؤون النسائية) . ويصف من يعارضون هذا الحكم في (مستقبل الإسلام ص61) . بأنهم يحتقرون الأنوثة! ويقول: (نحن لا نخترق أسوار النصوص، بل نحارب من يفعل ذلك، ولكننا نكذب أقواما يزعمون أن القرآن يحتقر الأنوثة ولا يرى لها حقوقا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 من خلال هذه النقول المتعددة يظهر جليا رأي الشيخ في هذه القضية: إنه يرى أنه يمكن أن تتولى المرأة أي عمل أو وظيفة مهما كانت بدءا من رئاسة الدولة أو ولاية الخلافة العظمى، إلى أصغر وظيفة دون فرق، ولا يوجد هناك نص يمنع المرأة من شيء من ذلك، ويبين وجهة النظر هذه وعلى أي شيء اعتمد فيها، ويبين رأيه في من يخالفونه في هذه المسألة. • أما التعليقات التي أرى ضرورة طرحها ها هنا: 1- اتهام من يمنعون ولاية المرأة المناصب بأنهم يكرهون المرأة، ليس أولى من العكس، يعني اتهام من يقحمون المرأة في هذه الميادين بأنهم هم أعداؤها في الحقيقة، وهم الذين يزدرونها ويحتقرونها. إن الغزالي -نفسه- يعترف بذلك فيقول في كتاب "من هنا نعلم ص161": (وتكليف الإسلام أن يعينهن -يعني النساء- قاضيات أو وزيرات ظلم للطبيعة وافتيات على المصلحة) هذا كلامه، بعدما انتهى من هذا نقل كلاماً أعجبه لأستاذة اسمها "عزيزة عباس عصفور". تعليقاً على أن الوزير العدل في مصر أصدر قراراً بتعيين بعض النساء حقوقيات في نيابات الأحداث فقالت: (لو كانت الخطوة التي خطاها وزير العدل بتعيين الحقوقيات في نيابات الأحداث كسباً للمرأة لكنت أول من تدعو الله أن يبارك للمرأة فيها، أما وإنني ممن خرجتهن كلية الحقوق في الأفواج الأولى وزاولت المحاماة أكثر من عشر سنين، ونجحت فيها نجاحاً أحمد الله عليه، وبلوت فيها حلاوتها ومرارتها معاً، فإنني أعلن في صراحة أن النيابة والمحاماة معاً تتنافيان مع طبيعة المرأة وتتعارضان مع مصلحتها، وأعلن إشفاقي على البقية الباقية من فتياتنا المثقفات اللاتي مازلن بخير أن يجربن هذه التجربة المريرة المضينة، وأهيب بهن أن ينجون بأنفسهن من عاقبة لا يدركن مرارتها إلا بعد أن يقعن فيها، ويهدمن بأيديهن صرح سعادتهن، لقد تحطمت أعصابنا نحن المحاميات من إرهاق المهنة وعنائها ومن محاربتنا للطبيعة وتنكبنا طريق الواقع، بالله ماذا تكون العاقبة إذا خضعت النائبة لطبيعتها واستجابت لحقها في الحياة فتزوجت ورزقت أطفالاً، فاقتلعها من بينهم طبيعة التحقيقات والانتقالات والمعاينات، وتركت زوجها قعيد الدار يربي الأولاد، ويرضع الصغار، وهي في الخارج تدور في كل مكان كأنها رجل الشارع يهجر بيته آناء الليل وأطراف النهار، وماذا تصنع النائبة إذا عينت في بلاد نائية عن أهلها، وليس بها للسكن غير استراحة موظفين، هل تبيت ليلتها مع زملائها من الرجال؟ إن الدين والأخلاق والعرف الحميد تحتم أن تعيش المرأة بعيدة عن مواطن الفتنة والإغراء والزلل. واختلاطها على هذه الصورة يعرضها لخطر محقق وضرر مؤكد، ويضع سيرتها في ألسن الناس تلوكها بالمذمة والمسبة والعار، إن رسالة المرأة في الحياة لها جلالها وقدسيتها التي لا تعادلها حقوق تمنحها ولا امتيازات تعطاها وإن كثرت) . ثم تقول: (ولقروية ساذجة في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 حجرها طفل أفضل للأمة وأنفع للبلاد من ألف نائبة وألف محامية، وحكمة الله فيكن أن تكن أمهات لا نائبات ولا محاميات) أ. هـ. فهل نستطيع أن نقول إن الغزالي كان عدوا للمرأة حين أقحمها من هذه الميادين التي لا تناسب مع طبيعتها، باعتراف المرأة بذاتها؟ كما تكلمت الأساتذة "عزيزة عصفور" في هذا النقل الذي نقله الغزالي نفسه معجبا مؤيدا؟ أم أن كلام الليل يمحوه النهار! 2- في موضوع القضاء فإن الغزالي بين أن المرأة يمكن أن تكون حاكمة وقاضية، والغزالي يرد على الغزالي، وهذا من عجائب الدهور: يقول في كتاب (من هنا نعلم ص160) : (أما موقف الإسلام من تولي المرأة القضاء ومن توليها المناصب العامة فمعروف: أ- إن الإسلام في قضايا المدينة اعتبر شهادة المرأة نصف شهادة الرجل ورفض قبول شهادتها منفردة، ورفض قبول شهادتها في قضايا الحدود وأشباهها مطلقا، فكيف يقبل قضاؤها فيما ترفض فيه شهادتها؟ ب- والقضاء منصب له جلاله وللقاضي على الناس ولاية عامة وسلطان واسع فإذا كان الإسلام يجعل الرجل قواما على المرأة في البيت وهو المجتمع الصغير فكيف يجعل المرأة قوامة على الرجل في المجتمع الكبير) أ. هـ. • ولذلك لا أجد حاجة إلى التوسع في الرد على الغزالي فقد رد على نفسه، ولابد له حينئذ من أحد أمرين، إما أن يتراجع إلى كلامه الأخير، ويرضى للمرأة بما رضيه لها المسلمون خلال عصورهم وتاريخهم الطويل، حيث لم يجد الغزالي خلال التاريخ كله- مثلا- في امرأة تولت إلا تلك المرأة التي جعلها "عمر" محتسبة على السوق، إضافة إلى أن هذا الخبر لم يقم الغزالي بتحقيقه ودراسته من ناحية توثيقية، ولا إلى لأي مدى وإلى أي حد كانت لهذه المرأة تلك الصلاحيات، لكن على العموم لم يجد الغزلي مثلا واحدا تولت فيه امرأة القضاء، وإلا فمعنى ذلك -إذا أصر الغزالي على أن المرأة لها حق تولي القضاء والحكومة- أنه حين قال بمنع المرأة من القضاء كان ممن يكرهون النساء اتباعا لتقاليد أضرت بالإسلام، وممن ساير الجاهلية العربية التي فرضت نفسها مئات السنين. وممن نقلوا تقاليد عبس وذبيان على أنها من الإسلام وممن يبغي العودة بالمرأة إلى التقاليد البدوية والأوضاع المزدرية للأنوثة -هكذا يتحدث نفسه- فليختر لنفسه أحد الأمرين الذين لا ثالث لهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 3- فيما يتعلق بولاية المرأة للحكم يعني السلطة العليا، فواضح أن المؤلف يقر ذلك ويقول به، وذلك لأنه يرى أن يتولى السلطة أكفأ إنسان في الأمة - يعني سواء كان رجلا أو امرأة، وكذلك لأنه ضرب المثل ببلقيس ولأنه أول حديث {لا يفلح قوم ولو أمرهم امرأة} على أنه في مناسبة خاصة، وليس كلاما عاما، ولأنه قال: (إذا ارتضى الناس في أمريكا واستراليا أن تكون المرأة حاكمة أو قاضية أو سفيرة أو وزيرة فلهم ما شاءوا) . • فدل على أنه يقصد بالحاكمة يعني رئيسة الدولة، وهذا يؤكد أن الغزالي يتراجع يوماً فيوماً تحت مطارق واقع الحضارة الغربية ووطأة الهجوم الذي يشنه أعداء الإسلام على الإسلام من خلال قضايا المرأة، فهو الآن واضح الميل إلى جواز إباحة جميع المناصب للمرأة، على أنه قبل ذلك بقليل كان يقول -كما في كتاب: "سر تأخر العرب ص23" يقول: (وللمرأة ذات الكفاية العلمية والإدارية والسياسية أن تلي أي منصب ما عدا منصب الخلافة العظمى) وقبله كان يقول بغير ذلك. ففي "من هنا نعلم ص160" يقول: (لا شك أن للمرأة حقها كاملاً غير منقوص في تدبير شأنها وإنفاق مالها واختيار رجلها بيد أن القضايا المتصلة بكيان الأمم ومصالح الجماهير لها وضع آخر ينزل استعداد المرأة دونه ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن الفرس ملكوا عليهم امرأة {لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة} . إذن الغزالي -كان أولاً- يمنع المرأة من تولي الخلافة والقضاء محتجاً بهذا الحديث وبمعرفته بطبيعة المرأة، ثم تراجع مرة أخرى فرأى أن من حقها أن تلي كل شيء إلا منصب الخلافة العظمى، ثم تراجع خطوة ثالثة فصار يرى من حقها أن تلي كل شيء حتى منصب الخلافة العظمى. • إن من الغريب أن الغزالي يقول: (ستظل المرأة هي اليد اليسرى للإنسانية وسيظل عملها في البيت أكثر من عملها في الشارع، وسيظل الرجال حمالي الأعباء والأثقال في الشئون الخاصة والعامة، لأن طاقة كل من الجنسين هكذا، ولأمر ما لم يرسل الله نبيه من النساء ولم يحك التاريخ إلا شواذ من الجنس الناعم قمن بأعمال ضخمة عل حين شحن صفحاته بأسماء الرجال) . طبعاً من الشواذ تلك الأسماء التي كررها الغزالي أكثر من مرة من الوزيرات والحاكمات في هذا العصر! وفي (ص139) يقول -بوضوح كاف-: (ونحن وإن كنا من أنصار المجتمع بالمرأة المثقفة لا نرى أن تكون مقاليد الحكم بيدها، فهذا خروج بالأشياء عن طبيعتها، والدول التي أعلنت المساواة التامة بين الرجل والمرأة في كل شيء لم يصل شأن المرأة فيها إلى هذا الحد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 ولا يزال الرجال ولم يزالوا حمالي الأعباء الثقال وموجهي التاريخ وحدهم إلى مستقبله المرسوم، وانظر إلى مجلس الأمن وهيئة الأمم وعشرات الحكومات ومئات الوزراء، وآلاف المديرين وجماهير العلماء والأدباء والمخترعين. إن مجال المرأة ضيق جداً في هذا الميدان وقد يكون واسعاً جداً في الصف الذي يليه) . ودافع الغزالي عن نفسه ضد خصومه في هذا الموضوع فقال: (ربما يتوهم البعض من هذا النقاش أننا أعداء المرأة، نريد شل نشاطها وتعطيل مواهبها وقتل إنسانيتها، والواقع أننا نعرف أكثر من غيرنا الوظيفة التي تقوم بها المرأة بالمجتمع، وحاجة هذه الوظيفة إلى قسط كبير جداً من الإعداد والعناية. . . الخ) . إن الذين يرمون الغزالي بأنه من أعداء المرأة هم الشيوعيون ومن في حكمهم في مصر ولكن الذي يرمي العلماء الذين يقولون بأن هذه الأفكار التي سطرها الغزالي -أخيراً- أفكار غير صحيحة، وأن المرأة لا يجوز أن تكون حاكمة ولا قاضية -الذي يرميهم بأنهم يكرهون المرأة ويزدرونها ويحتقرون الأنوثة هو الغزالي نفسه وليس أحداً من خارج المجموعة الإسلامية-. • إذن نستنتج من ذلك أن الغزالي رمى العلماء والدعاة المخالفين له بأوصاف كان يدفعها عن نفسه حين رماه بها الشيوعيون وغيرهم. • والذي يؤكد أن الغزالي ينطلق من انطباعات نفسية متقلبة غير مستقرة أن الرجل يتكئ في آرائه المتناقضة على واقع الأمم الغربية والشرقية، فحين يقول بمنع المرأة من تلك الأعمال لا يجد دليلاً أقوى من الاستدلال بمجلس الأمن وهيئة الأمم والمكتشفين والمخترعين و.. و.. وحين يقول بتوليتها يتكئ على أدلة من أهمها: 1- ما ورد أن تاتشر وليت الحكومة في بريطانيا، ومن قبلها فكتوريا. . قالت الراوية: كان الناس يسمونها المرأة الحديدية -هكذا ما ورد-!! 2- ما جاء في أحاديث بني إسرائيل أن جولدا مائير حكمتهم وهزمت حكام العرب وهم خلق كثير. 3- ما صح أن أنديرا بنت غاندي حكمت الهند. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 وحسبك بهذه أدلة! فلأن الشيخ لم يبن حكمه الصحيح في منع المرأة على نظر فقهي صائب سرعان ما نقضه، ولذلك روى في الحديث {من قال في القرآن برأيه فقد أخطأ ولو أصاب!} . 4- من الواضح أن الغزالي في موقع المدافع عن الإسلام الذي يحاول أن يوائم ويلائم بينه وبين أوضاع الحضارة الغربية، فالأمثلة المتكررة هي -قولدا مائير، تاتشر، فكتوريا، أنديرا غاندي. . . الخ. • وهذه الأسماء هي الشذوذ الذي يؤكد القاعدة، فهل من قبيل المصادفة المحضة أن تظل المرأة على مدار التاريخ في موقف متأخر عن موقف الرجل؟ وهبوا أن المرأة مظلومة ومضطهدة طيلة عصور التاريخ -كما يقول بعض المدافعين عن حقوق المرأة، زعموا-، أفلا يدل ذلك على أن الرجل هو الأقوى، وإلا فلم تصبح المرأة دائماً هي المظلومة ويصبح الرجل هو الظالم؟ ولم لم يصبح الرجل هو المظلوم، والمرأة هي الظالمة في مجتمع من المجتمعات، أو في عصر من عصور التاريخ؟ • ومن ناحية أخرى فهل هذا الشذوذ مقياس ينقض الأصل الذي تبين وتقرر، لقد تحدث الغزالي في بعض كتبه عن الزواج وأنه واجب، فهل ينقض هذا الحكم أن يوجد عشرة أو مائة أو ألف من الرجال والنساء يفتقدون الميل الغريزي إلى الجنس الآخر، ومن ثم يؤثرون التعزب وعدم النكاح؟ لا. • مثل آخر وهو ألصق بواقعنا، الله يقول عز وجل: [الرجال قوامون على الرجال] وهذه قاعدة عامة، لكن قد يحدث في حالات فردية أن يصبح الرجل ضعيف الشخصية، فتسيطر عليه الزوجة وتدير دفة المنزل كما تشاء، فهل يعني هذا أن نقول إن القوامة حق مشاع بين الرجال والنساء؟ بطبيعة الحال، لا. • ولنسمع إلى ما يقوله الغزالي في هذه النقطة بالذات في كتاب "هذا ديننا ص136" يقول: (الرجل في شريعة الله رب البيت وقيم الأسرة. .، والغرض منها أن يسير البيت وفق نظام سائد لا وفق مآرب متدافعة ورغبات متنازعة، وترك زمام البت في يد المرأة وضع للأمور في غير نصابها، أو هو تحميل العبء للكاهل الضعيف، والرجل أجدر من امرأته في حق إدارة البيت ورئاسة الأسرة، فإن ما ذرأه الله عليه من احتمال وصلابة ومقدرة واسعة على الكسب والنفقة، كل ذلك يجعله أولى بالترجيح، وقد يحدث في بعض البيوت أن يستونق الجمل أو أن تكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 المرأة أقدر من رجلها، وهنا تسقط منه الرئاسة أو يسقط هو من الرئاسة وتنتقل إمرة البيت إلى المرأة -يقول- وهذا الوضع الشاذ لا يقدح في القاعدة العامة، وهو على شذوذه محذور العواقب حيث يقع ومن الخير أن تراعى طبيعة الحياة التي استتبعت هذا الحكم [ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة] أ. هـ. • إذا كلامه قوي وبليغ في هذا الموضع أن المرأة حين تكون قوية فتسيطر على البيت فهذا وضع شاذ وهو محذور العواقب حين يقع ومن الخير أن يبقى الوضع الأصلي كما هو. إذا كان ذلك في شأن البيت وهو المجتمع الصغير فلماذا نقض الغزالي هذه القاعدة في شأن المجتمع الكبير؟ وعمم تلك الشذوذات التي نقلها في وجود عدد قليل يعد على رؤوس الأصابع من نساء تولين حكومات أو وزارات أو ما أشبه 1لك من المناصب وأصبح يطلق تلك القاعدة العامة في ولاية المرأة؟ 5- ومرة أخرى أقول: سنحاكم الغزالي إلى أصوله ومبادئه التي يدعو إليها ويلتزم بها. لقد ذكر الغزالي الإجماع الذي يؤمن به، إنه يؤمن بذلك الإجماع الذي يجتمع فيه أولو الحل والعقد من العلماء والأمراء على أمر من الأمور المصلحية العامة. ويقول: إن هذا الإجماع إذا أطبقت عليه الأمة فإنه لا يمكن أن ينقض إلا بإجماع آخر، فلننظر هل التزم الغزالي ووفى لهذا المبدأ أم نقصه؟ • أقول: لقد أجمع أولو الحل والعقد من الأمراء والعلماء على منع المرأة من تولي منصب رئاسة الدولة، ولم يحدث في تاريخ الإسلام (بصورة صريحة) ولا مرة واحدة أن تولت امرأة الحكومة. • فأي إجماع أروع وأبلغ من هذا، وفيما يتعلق بولاية الحكومة العظمى بالذات، فالعلماء مجمعون -حتى ابن حزم- على أن المرأة لا يمكن أن تتولى منصب الخلافة العظمى، وعلى مدار التاريخ منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليوم لم يحدث أن تولت المرأة منصب الولاية العظمى، وهذا إجماع ليس لعصر واحد، بل على مدى عصور، ثم حسب قواعد الغزالي فإنه يقول في (مائة سؤال2/7) : (إنه لا يوجد مجتمع بشري يحب أن يعرض مقرراته للعبث، مادام أولو الألباب قد انتهوا إليها، فإذا لاحظ أحد أن هناك تغيرا في معنى المصلحة وفد به الزمان المتجدد دعا إلى النظر في الأمر، وشرح ما لديه من دوافع إلى مراجعة الإجماع السائد، فإنه وافقه الآخرون فيها حل إجماع، وإلا فلا يحل أن يتصرف وحده ويشذ عن الجماعة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 • ويضيف الغزالي: (إنني أود لو كتب المصحف بالإملاء المعهود لا بالرسم العثماني، ولكني لا أبيح لنفسي نشر مصحف بهذا الإملاء شاقاً الإجماع السائد، وقد أنكرت على أحد الحكام تغييره للتاريخ بالهجرة وجعله التاريخ بدءاً من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، إن هذا التصرف عابث وخروج على إجماع محترم دون سبب واضح أو غامض) أ. هـ. هل يمكن أن نعتبر الغزالي حكم على نفسه بالشذوذ عن الجماعة وحكم على تصرفه بأنه تصرف عابث؟ لماذا؟ لأنه نقض ذلك الإجماع على منع المرأة من تولي المناصب العليا -وخاصة رئاسة الدولة- ذلك الإجماع الثابت قولاً وفعلاً وهو إجماع أقوى من الإجماع على كتابة المصحف بالرسم العثماني أقوى، لأنه إجماع قولي وفعلي، ومن جهة أخرى فهو إجماع يعتمد على نصوص شرعية صريحة مثل قوله تعالى: [الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ] {النساء:34} ] ومثل قوله تعالى: [وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] {البقرة:228} ، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح البخاري: {لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة} . وهو دليل على تحريم تولي المرأة للولاية العظمى وغيرها من الولايات الكبيرة، لأن الحديث عام، فلفظة (قوم) تشمل كل قوم، ولفظة (امرأة) تشمل امرأة، فكل قوم أو أي قوم ولوا أمرهم امرأة فإنهم لا يفلحون. وهكذا حكم الرسول صلى الله عليه وسلم! 6- وأخيراً: إننا نعلم أن المرأة الغربية استقلت شخصيتها عن والدها وصارت لا ترضى أن يتدخل في شؤونها مع صديقها الذي يضاجعها في بيت والدها -وهذا يحدث لبعض العرب المهاجرين المتزوجين من أجنبيات. وحتى الطفل إذا أدبه والده اتصل بالشرطة من البيت ليأخذوا الوالد ويحاكموه. . .! فالضبط: إلى أي حد. . . وإلى أي مستوى سنجاري أعراف قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل؟ 2- قضية الحجاب ومع أن رأي الغزالي في هذه المسألة لا يخلو من اضطراب وتردد، إلا أن اللهجة الغالبة عليه هي نبذ المحجبات والداعين للحجاب - وعلى كل حال لننظر في مدى اطراد رأي الغزالي في هذه المسألة: 1- في كتاب "مائة سؤال ج2/ 285) يقول: (هناك من يرى أن المرأة لا يجوز أن يلمح شبحها في مكان، فما الذي يجعل هذا الكلام دين محمد؟ إنه أمر بالغ السخف أن يرى أحد رأياً ثميقول هذا هو الدين لا دين غيره، نعم قد يقال هو وجهة نظر في فقه ما ورد من آثار، ولا أحارب هذا) أ. هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 إذا الغزالي في هذا النص يعترف بأن هناك من يمنع مشاهدة شبح المرأة -وهذه بطبيعة الحال مبالغة معتادة- ويعرضها على أنها وجهة نظر فيما ورد من آثار. ويقول: (ولا أحارب هذا) فلننظر هل يستمر الغزالي على هذا الاعتراف بوجهة النظر؟ أم يتغير موقفه ويشن على ما سماه (وجهة النظر) هذه حربا لا تهدأ. 2- يشتد موقفه عنفا في معظم الكتب حيث يعقد في كتاب (السنة النبوية ص36) فصلا بعنوان "معركة الحجاب" ويقول فيه: (وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم الوجوه سافرة في المواسم والمساجد والأسواق فما روى عنه قط أنه أمر بتغطيتها، فهل أنتم أغير على الدين والشرف من الله ورسوله) ؟ ثم ساق أكثر من عشر أدلة يرى أنها تدل على عدم إيجاب ستر الوجه بالنسبة للمرأة. وتزداد الحدة في كتاب "من هنا نعلم" حيث يقول: (ولا يوجد نص صريح في تغطية الوجه بل المروي يفيد الكشف كما ذكرنا، وقد توسع بعض الفقهاء فأفتى بستره منعاً للفتنة، ونحن لا نرى هذا النقاب وسيلة اتقائها مهما تعلق به المتزمتون، بل إن المسلمين لجأوا إليه في عصور الضعف. • إذن انتهى الأمر بالغزالي إلى أن يؤكد أنه يستنكر الحجاب، ويرى أنه لم يرد له أصل يشهد له في الشرع، وأن المسلمين لجأوا إليه في عصور الضعف، فهو إذن بدعة! وفي "مائة سؤال ج2/ 282" يقول: (ولكن الملكيين أكثر من الملك) هذا استعمال واصطلاح دارج يستخدمه الصحفيون (يريدون الاستدراك على المشرع الأعظم، وإطلاق ألسنتهم في الناس، ويريدون طي هذه السنن الصحاح وإبراز آثار منكرة تفيد أن المرأة تغطي عيناً وتبدي أخرى، أو تغطي جسدها كله من الوجه إلى القدم فلا يرى منها شيء، يقول البعض: لا بأس أن تضع المرأة نقاباً على وجهها اقتداءً بنساء الرسول صلى الله عليه وسلم، نقول -ولا بأس أيضاً من تحريم الزواج على المرأة إذا مات زوجها امتداداً لهذه الأسوة) . يقصد إذا قلتم تقتدي المرأة بنساء الرسول في وضع الحجاب. تقول إذن لماذا لا تقتدي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 بهن في عدم جواز نكاحهن بعد وفاة صلى الله عليه وسلم، ويواصل يقول: (إن الغضب لله على العين والرأس أما الغضب لتقاليد ملصقة بالوحي دخيلة عليه فشيء لا نكترث له ولا نخشى أصحابه) أ. هـ. وعلى هذا الموضع تعليقات ضرورية: أ- الشيخ غفر الله له يتكئ على أقوال أهل العلم إذا ظن أنها تظاهر قولاً يميل إليه، ويطعن بها في نحور مخالفيه، ولكنه يتخلى عن هذه الأقوال ويضرب بها جانباً، بل ويشنع على أصحابها إذا خالفت رأيه -فمثلاً- في مسألة الغناء أخذ برأي ابن حزم، وفي مسألة تولية المرأة للمناصب أتى برأي لم يسبقه إليه أحد- لا ابن حزم ولا غيره- ورمى المخالفين بأنهم ينقلون تقاليد عبس وذبيان ويزعمون أنها من الإسلام، مع أنهم كافة العلماء وليسوا الجمهور فحسب في مسألة الغناء وصف مخالفيه بما سمعتم مع أنهم جمهور العلماء. وفي مسألة دية المرأة ومسألة خروجها لصلاة الجماعة له موقف مشابه من مخالفيه مع أنهم إما كل العلماء أو جمهورهم، ومع ذلك يرميهم بألقاب وأوصاف يعف القلم عن تكريرها، وكثيرا ما يرد أقوال الأئمة بحجة أننا لا نريد أن نفرض على الأوروبيين رأي ابن حنبل أو مالك أو الشافعي مع الإسلام!!، وصرنا بدلاً من ذلك نفرض على المسلمين رأي الغزالي، والويل لمن يقول: لا. لكن في مسألة الحجاب يقول: (هل هذا رأي انفردت به؟ كلا كلا إن هذا مذهب الأئمة الفقهاء الأربعة الكبار، يقول فلان وفلان وفلان) . فيجير هذه الأقوال لصالحه ويضرب بها في وجه خصومه حين يرى أنها تخدم ما رأى، وهذا مسلك غير علمي، فإما أن تعتمد على النصوص وتترك مسألة مظاهرة رأيك بقول فلان وفلان، وإما أن ترضى باتباعهم وانتحال آرائهم -على طول الخط- فلا تهجم عليها ولا تحط من قدرها، بل يكفينا من ذلك كله احترام إجماعهم! وما لنا نذهب بعيداً في الأمثلة، وهذه المسألة نفسها وقع الغزالي فيها فيما ذكرته -أعني مسألة الحجاب-. • وسأدعي دعوى بملء فمي وآمل من الشيخ أن يرد على هذه الدعوى -إن كان لها رد-. أقول: إن الرأي الذي طرحه الغزالي في مسألة تغطية الوجه هو الآخر رأي جديد لم يسبق إليه لا من الأئمة الأربعة ولا الستة ولا العشرة ولا من السابقين ولا من اللاحقين، وليأت لنا بنص واحد فقط ينقض هذه الدعوى التي ذكرت، وإذا ثبت هذا -الذي قلته- يكون الشيخ مخالفاً مرة أخرى لإجماع قولي وعملي، درجت عليه الأمة منذ عهد النبوة إلى اليوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 إذن أقول: إن الغزالي حتى في مسألة الحجاب يخالف إجماع الأمة في الوقت الذي يقول فيه: (هل هذا رأي انفردت به؟ كلا كلا إنه رأي الفقهاء الأربعة الكبار) . • قد تستغربون وتقولون: كيف؟ إذن فاسمعوا: رأي الغزالي أن الحجاب بدعة منكرة وأن الذي يقول به يدعي أنه أغير على الدين والشرف من الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه متزمت، وأن المسلمين لم يعرفوا الحجاب إلا في عصور الضعف، وأن القائلين به -على حد تعبيره- ملكيون أكثر من الملك، ويريدون الاستدراك على المشرع الأعظم، ويغضبون لتقاليد ملصقة بالوحي دخيلة عليه وهم بمنزلة من يمنع المرأة من الزواج بعد وفاة زوجها تأسياً بأمهات المؤمنين. هذه عبارات الغزالي بحروفها، والمقام مقام بحث فقهي علمي وليس خطب رنانة. أما العلماء الإسلام من الصحابة إلى هذا اليوم فهم مجمعون على أن الحجاب -تغطية الوجه- مشروع للمرأة. • فالفرق إذن ظاهر وبعيد بين رأي الأئمة الأربعة وغير الأربعة، وبين رأي الغزالي، وإذا ثبت هذا فإنه أمر يدعو إلى رفع الثقة بما يقوله الشًيخ عن العلماء، إذ تبين أنه استحدث رأياً خطيرأ فطيراً ونسبه للأئمة الأربعة بدون دقة ولا تمحيص. ب - هل يليق أن ينقل الشيخ كلاماً عن فقيه مالكي -مثلاً- ثم ينسب هذا القول للإمام مالك نفسه؟ هل يليق هذا؟ ألم ينقل الشيخ -كما سيأتي- عن الشنقيطي أنه قال: (إن الوجه عورة) إذن فلم لم يأخذ هذا القول على أنه رأي المالكية؟ • ما بال الشيخ ينقل عن "الجصاص" ويقول رأي الحنفية، وينقل عن القرطبي ويقول رأي المالكية، وينقل عن الخازن ويقول رأي الشافعية وينقل عن ابن قدامة ويقول رأي الحنابلة، لم لم ينقل عن الأئمة أنفسهم؟ لم لم ينقل عن أبي حنيفة، الشافعي، مالك، أحمد؟ حتى يكون كلامه كلاماً علمياً مضبوطاً، وإذا نقل لا بد أن يبين من أين نقل؟ إننا نجد الغزالي يتراجع بعد ذلك بقليل فيقول: (إن من علماء المذاهب الأربعة من يرى أن وجه المرأة ليس بعورة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 فرق كبير بين أن نقول إنه رأي الفقهاء الأربعة الكبار وبين أن نقول: إنه يوجد "من" فقهاء المذاهب من يقول به. ولذلك الإمام أحمد -على سبيل المثال- صح عنه كما في كتاب "أحكام النساء" له، أنه يقول (إن المرأة كلها عورة) ، وورد في ذلك عدة روايات، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد. جـ- إن القول بتغطية المرأة وجهها نقله الطبري في تفسيره (18/119) بإسنادين صحيحين عن "ابن مسعود" وكذلك جاء من طريق "علي بن أبي طلحة عن ابن عباس" أخرجه الطبري وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه، وهو مذهب أنس بن مالك، وعائشة، وغيرهما، وقال به كثير من سلف هذه الأمة كعبيدة السلماني، وقتادة، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، وإبراهيم النخعي، وعطاء الخراساني، ومحمد بن كعب وغيرهم. • وإذا كانت المسألة مسألة نسبة عددية، فإنني أعتقد أن الذين نقل عنهم القول الآخر -يعني عدم الوجوب- في المصادر المعتبرة وكتب التفسير أقل من هذا العدد من السلف، وبناء على ذلك فإن التسرع بأن يقال هذا رأي الجمهور أمر يجب أن لا يقبل على إطلاقه -هكذا- من الجمهور؟ هل كونه -مثلاً- رأي اثنين أو ثلاثة من الأئمة الأربعة يعني أنه رأي الجمهور!! لمجرد أنهم كان لهم أتباع، لم أغفلنا رأي الصحابة والتابعين فلم نحتسبهم من ضمن الجمهور؟ لا شك أن الصحابة والتابعين أعلم ممن جاء بعدهم. أقول هذا إذا كانت المسألة مسألة نسبة عددية. د- الحجاب كان معروفاً عند العرب وأريد أن أقف عند هذا الموضوع بعض الشيء -موضوع الحجاب- لأنني علمت من عدد من الإخوة أن بعض الفتيات -حتى في هذه البلاد- قد تأثرن بما طرحه الغزالي، لأن الرجل يطرح ما لديه بقوة، وعنف، وحدة، ويحاصر القارئ، حتى أن القارئ الذي ليس لديه معرفة بالشرع وعلم قوي، يكون موقفه مضطرباً ومهتزاً وضعيفاً ويجد نفسه منساقاً وراء قبول آراء الكاتب، وهذا أسلوب يؤثر في كثير من جمهور المثقفين الذين لم يحصلوا على قدر من العلم الشرعي. فأقول: -الحجاب كان معروفاً عند العرب حتى في الجاهلية وله أسماء أو أنواع، منها النقاب، والخمار، والنصيف وغيرها، يقول النابغة في قصيدته: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 سقط النصيف ولم ترد إسقاطه ... فتناولته واتقتنا باليد وقيل: إن النصيف ثوب تتجلل به المرأة فوق ثيابها كلها كما في "اللسان 9/332"، وقد جاء في الحديث الذي رواه البخاري عن أنس بن مالك قال صلى الله عليه وسلم -ضمن حديث طويل-: (. . . ولو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت على الأرض لأضاءت ما بينها ولملأت ما بينها ريحاً ولنصيفها -يعني الخمار- خير من الدنيا وما فيها. .) ولا شك أن هذه الصفة كانت معروفة عند الصحابة. ولما جاء الإسلام أمر المؤمنات بالتستر والحشمة كما في قول الله عز وجل: [ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها] . فإذا قلنا بأن المقصود بقوله (ما ظهر منها) يعني ما ظهر من المرأة من غير قصد منها كما لو حركت الريح حجابها فرآها الرجال أو رأوا شيئاً من ساقها بسبب ذلك أو من غير قصد أو سقط منها، فلا إشكال حينئذ، وهذا الذي ذكره ابن عطية، ورجحه الألباني في الحجاب. وإن قلنا بالرأي الآخر وأن المقصود ما ظهر منها يعني الزينة الظاهرة من الثياب ونحوها، فلا إشكال أيضاً. • أما قوله [يدنين عليهن من جلابيبهن] فإن الجلباب ثوب أوسع من الخمار تغطي به المرأة بدنها فهو فوق الثياب كلها وهو يشبه العباءة -عندنا- وفي الصحيحين من حديث أم عطية لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم النساء بالخروج للعيد قالت: يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب؟ قال (لتلبسها أختها من جلبابها) . قال القرطبي (7/243) والصحيح أنه -يعني الجلباب- الثوب الذي يستر جميع البدن. • ولما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عما يلبس المحرم من الثياب قال: (. . . ولا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين) رواه البخاري من حديث ابن عمر، ومعنى ذلك أن النقاب كان معروفاً مألوفاً مشهوراً في أوساط النساء المسلمات. • وقد روى الترمذي وابن خزيمة من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان) وهذا لفظ يدل على أن المرأة كلها عورة، فلا يستثنى من ذلك إلا ما دل الدليل على استثنائه. وقد روى الخمسة إلا النسائي وصححه الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كان لإحداكن مكاتب وكان عنده ما يؤدي فلتحتجب منه) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 • وكذلك روى أحمد وأبو داود وابن ماجة عن عائشة قالت: (كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها على وجهها فإذا جاوزنا كشفناه) . ورواه البيهقي وسنده صحيح. • وأخرج الحاكم -أيضاً- من حديث أسماء رضي الله عنها قالت: (كنا نغطي وجوهنا من الرجال وكنا نتمشط قبل الإحرام) والحديث قال الحاكم فيه صحيح على شرط الشيخين. • ومثله ما رواه مالك في الموطأ بسند صحيح من حديث فاطمة بنت المنذر قالت: (كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات ونحن مع أسماء بنت أبي بكر الصديق) . إذن مواكب المؤمنات الذاهبات للحج مع عائشة ومع أسماء ومع فاطمة بنت المنذر. كلهن يغطين وجوههن وهن محرمات، وإذا ثبت النهي عن تغطية المحرمة وجهها حال الحرام وكانت نساء المؤمنين تفعل ذلك -يعني تغطية الوجه- بحضرة أمهات المؤمنين، فإنه يدل على وجوب ستر المرأة لوجهها، لأن الواجب ما يترك إلا لما هو أوجب منه. • وكذلك في الصحيحين من حديث عائشة: خرجت سودة رضي الله عنها بعدما ضرب الحجاب لحاجتها وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها فرآها عمر فقال يا سودة إنك والله ما تخفين علينا ... الحديث فهو رضي الله عنه لم يعرفها بوجهها إنما عرفها بجسامتها. • وكذلك أخرج أبو داود وغيره عن أم سلمة قالت: لما نزلت هذه الآية: (يدنين عليهن من جلابيبهن) خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من أكيسة سود يلبسنها. • وأخرج أبو داود وابن مردويه من حديث عائشة: لما نزلت هذه الآية ... شققن مروطهن فاعتجرن بها فصلين خلف رسول الله صلى الله عليه وسلمن كأنما على رؤوسهن الغربان! • فهذه أدلة تزيد الأدلة التي ساقها الغزالي عددا وصحة ووضوحا في الدلالة وإلا فالمقام لا يتسع للبسط أكثر من ذلك ويمكن مراجعة الكتب المتخصصة بذلك: كرسالة شيخ الإسلام ابن تيمية، ورسالة الحجاب للمودودي، ورسالة الشيخ محمد بن عثيمين، والشيخ عبد العزيز بن باز، ورسالة السندي، وغيرها. أما ما استدل به الغزالي فليس فيه شيء يؤيد ما قال. ولنضرب بعض الأمثلة على ذلك تجنبا للإطالة: • فمن أدلته مثلا أنه قال: (إن الإسلام أمر بغض البصر، والغض إنما يكون عن الوجوه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 وإلا فما معنى أن يؤمر الرجل بغض البصر؟) . وهذا غير صحيح فإن مجرد صورة المرأة، تحدث نوعاً من تداعي المشاعر عند الرجل، وهذا أمر مشاهد عند كل إنسان، حتى لو كانت المرأة محجبة، ثم هب أن الغض هو عن الوجه، فإن المسلم الذي يؤمر بغض بصره، قد يحدث أن يرى كافرة أو فاسقة أو امرأة على حين غرة فيؤمر بغض بصره عنها. • ومثله حديث: (إذا رأى أحدكم امرأة تعجبه) فليس المعنى رآها في الوجه، ومن قال: إن الإنسان لا تثور غريزته إلا إذا رأى وجه المرأة؟ أحياناً رؤية كف المرأة أقوى في الإثارة من رؤية وجهها. ورؤية بدنها وهو مستور -أحياناً- أقوى في التأثير من رؤية وجهها. أما قصة سفعاء الخدين التي استدل بها أن امرأة لما خطب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنكن أكثر حطب جهنم) قامت وقالت: لم يا رسول الله؟ . . . الحديث. فهذه قصة واقعة عينية، يعني حادثة معينة يتطرق إليها احتمالات كثيرة وبناء على هذه الاحتمالات لا يمكن الاستدلال بها. فهل كانت هذه القصة قبل الحجاب أو بعد الحجاب؟ هل كانت هذه المرأة حرة؟ أم ليست حرة؟ وقد جاء في المسند (أنها كانت من سفلة النساء) ، هل كانت هذه المرأة من القواعد؟ ومعروف أن الله عز وجل قال: [والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحاً فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة) . إضافة إلى ما في قوله (. . . سفعاء الخدين) يعني في خديها سواد من الدلالة وكذلك قوله من (. . . سفلة النساء) . مع أن للمؤلف موقفاً من الحديث يأتي ذكره. • أما قصة الفضل بن العباس والخثعمية التي استدل بها أن الرسول عليه السلام كان أردف الفضل في حجة الوداع فجاءت امرأة تسأل فنظر إليها الفضل فصرف النبي صلى الله عليه وسلم وجه الفضل عنها. . . الحديث. قال الغزالي هذا دليل على أنها كانت كاشفة الوجه ولا أنكر عليها النبي صلى الله عليه وسلم، والجواب على ذلك: أن والد هذه المرأة أراد عرضها على النبي صلى الله عليه وسلم لعلها تعجبه فيتزوج بها. • قال الحافظ بن حجر في "الفتح 4/ 68": (وروى أبو يعلى بإسناد قوي من طريق سعيد ابن جبير عن ابن عباس عن الفضل (كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم وأعرابي معه بنت له حسناء فجعل الأعرابي يعرضها لرسول الله صلى الله عليه وسلم -رجاء أن يتزوجها) . • أما قولها إن أبي أدركته الفريضة شيخاً لا يستقيم على الراحلة فيحمل على أنها تقصد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 جدها ثم من قال إنها لم تكن منقبة؟ فإن النقاب يكشف عن شيء غير قليل من الحسن، ويكشف عن نظر المرأة إلى الفضل. • أما قصة المرأة المنتقبة التي جاءت تسأل عن ابنها فقال لها الرجل: تسألين عن ابنك وأنت منتقبة، فقالت: إن أرزأ ابني فلن أرزأ حيائي. وقال- الغزالي- هذا دليل على أنهم استغربوا الحجاب، يرد على ذلك بردود: 1- الحديث رواه أبو داود (3/13) وهو ضعيف فيه فرج بن فضالة وهو ضعيف، وهو عبد الخبير بن ثابت بن قيس وهو مجهول الحال، وأبوه مقبول، أي ضعيف ما لم يتابع، فالحديث ضعيف. 2- وعلى فرض صحته فلا دلالة فيه، بل فيه دلالة على اشتهار النقاب عند النساء، أما استغراب من سألها، فلأن المرأة ضعيفة، فإذا أصيبت بمصيبة فربما ذهلت عن بعض ما يجب أن تتحلى به من الأدب. • أما قصة أبي السنابل وسبيعة الأسلمية التي لما تعلت من نفاسها تزينت للخطاب، ففيه أنها كانت متجملة دون تفصيل، والجمال يكون في اليد وفي والقدم وفي العين وفي الثياب وفي النقاب وفي غيرها، فلا دلالة فيه على أن المرأة كانت كاشفة لوجهها. • أما مسألة عدم تغطية الوجه في الصلاة والإحرام التي دندن حولها -المؤلف- في مواضع منها كتاب (الدعوة تستقبل قرنها الخامس عشرص162) فهذا إذا لم يكن بحضرتها رجال أجانب، وإلا فقد سبق حديث عائشة وأسماء وفاطمة بنت المنذر في ذلك، ولا أدري ما رأى الغزالي في قول الخطابي في "معالم السنن" قال: (ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى المحرمة عن النقاب أما سدل الثوب على وجهها من رأسها فقد رخص فيه غير واحد من الفقهاء ومنعوها أن تلف الثوب أو الخمار على وجهها، أو تشد النقاب أو تتلثم أو تتبرقع وممن قال بأن للمرأة أن تشد الثوب على وجهها من فوق رأسها عطاء، وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل وإسحاق وهو قول محمد بن الحسن وقد علق الشافعي القول فيه) أ. هـ. فيما يتعلق برأي الشافعي في كتاب (الأم2/162) يقول: (ويكون للمرأة إذا كانت بارزة تريد الستر من الناس أن ترخي جلبابها أو بعض خمارها أو غير ذلك من ثيابها من فوق رأسها، وتجافيه عن وجهها حتى تغطي وجهها متجافيا كالستر على وجهها) أ. هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 يعني إذا كانت محرمة، فكلام الشافعي صريح في ذلك، ثم روى عن ابن عباس، قال: (تدلي عليها من جلبابها ولا تضرب به) ثم روى عن طاووس: (لتدني المحرمة ثوبها على وجهها ولا تنتقب) . ولا أدري إن كان الشيخ لا يزال يقول بعد هذه النقول إن الحجاب بدعة جاءت في عصور الخلف والظلام، وأن القائلين به هم المتزمون؟ 3- قضية دية المرأة يقول في كتاب "السنة النبوية ص19": (وأهل الحديث يجعلون دية المرأة على النصف من دية الرجل، وهذه سوءة فكرية وخلقية رفضها الفقهاء المحققون. . . الخ) . ثم يقول (فالدية في القرآن واحدة للرجل والمرأة والزعم بأن دم المرأة أرخص وحظها أهون زعم كاذب مخالف لظاهر الكتاب) أ. هـ. وهذه بلية من البلايا تورط فيها الغزالي!!! • فإن أهل الإسلام مجمعون على أن دية المرأة نصف دية الرجل أهل الحديث، وأهل الفقه، وغيرهم، قال الشافعي في "الأم": (أجمعوا على أن دية المرأة نصف دية الرجل) . وقال ابن حزم في "مراتب الإجماع": واتفقوا على أن الدية على أهل البادية مائة من الإبل في نفس الحر المسلم المقتول خطأ لا أكثر ولا أقل، وأن في نفس الحرة المسلمة المقتولة منهم خمسين من الإبل) . ووافقه ابن تيمية في "نقد مراتب الإجماع" وكذلك نقل الإجماع على ذلك ابن عبد البر كما ذكره ابن قدامه في المغني. إذن فلم ينسب الغزالي هذا القول لأهل الحديث؟ هل هذا من الأمانة العلمية في شيء؟ ثم قوله: (. . إنها سوء فكرية وخلقية رفضها الفقهاء المحققون) يا ترى من هؤلاء الفقهاء المحققون؟ ليت أن الغزالي ذكر لنا واحداً منهم، أو ذكر المصادر التي استقى منها معلوماته تلك، ولذلك أقول: ما معنى أن يصف الشيخ حكماً ثابتاً بالإجماع (على الأقل الإجماع الظني) بأنه سوءة فكرية وخلقية!!، هل يجرؤ على وصف الأئمة الأربعة الذي يحتمي بأقوالهم -أحياناً- ويصف غيرهم بهذه العبارة الركيكة؟ هل هذا هوا لأدب مع رجالات الإسلام؟ هل هؤلاء الأئمة الذين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 غضب لهم حين تناولهم بعض الشباب وبعض الأحداث -كما ذكر-؟ ما هذا التناقض في المواقف؟ 4- قضية خروج المرأة للصلاة، في كتاب (من هنا نعلم ص149) يقول: (ولما كان الإسلام يرى أن عمل المرأة في بيتها كبير المؤونة وطبيعة حياتها ورسالتها وارتباطها في أولادها، وما قد ينشأ عن التكرار خروجها لصلوات تكرر خمس مرات في اليوم، كل ذلك قدره الإسلام فلم يؤكد سنة الجماعة في حقها كالرجال، بل جعل- (وهذا هو الشاهد) - صلاتها في بيتها أفضل لها، مع الاحتفاظ بحقها في التردد كل ما شاءت ذلك بين الحين والحين) . إذا على هذا النقل الآن، أيهما الأفضل عند الغزالي -نفسه- خروجها للمسجد أو صلاتها في بيتها؟ صلاتها في بيتها. ولكن هل يستقر الشيخ على هذا الرأي؟ لا، بل ينقلب عليه كالعادة ويرمي القائلين بهذا القول الذي يقول به هو الآن، يرميهم بما يحضره من القذائف والحجارة، واسمع ما يقول: في (مستقبل الإسلام ص65) يقول: (وهم الآن يمنعون النساء في العواصم المحافظة كما تسمى من حضور الجماعات في المساجد، قد يقول البعض جاءت آثار تجعل صلاتهن في البيوت أفضل، ولست أكذب هذه الآثار، ولكني أشرح القضية بأناة، إن ربة البيت لا تقبل منها أن تتردد على المسجد سحابة النهار وبعض الليل على حساب التضحية بمطالب الزوج والأولاد فإذا قدرت على الوفاء وبعدت عن التقصير وبقي لها الوقت الذي يسمح لها بالصلاة في المسجد ما يمنعها أحد من ذلك) . • وهنا موقفه متذبذب ليس بواضح. وقد تتسائل ما سر هذا التغير الجزئي؟ فيأتيك الجواب على لسان الشيخ نفسه: (إن النساء الغربيات يفزعن عندما يذكر لهن الإسلام، يحسبنه سجانا غشوما مستهينا بحقوق المرأة ومجتاحا لشخصيتها، ونحن المسؤولون عن شيوع هذه التهمة!) . وفي كتاب (الدعوة الإسلامية تستقبل قرنها الخامس عشر ص84) يقول: (وبذلك أصبحت المرأة المسلمة دون غيرها من نساء العالم أقل ارتباطا بالدين واتصالا بالمجتمع) . • إذن نحن أمام ضغط النساء الغربيات اللاتي يفزعن من الإسلام ويحسبنه سجانا غشوما مستهينا مجتاحا، ونحن أمام مقارنة المرأة بنساء العالم، بل الشيخ كان أكثر وضوحا من ذلك حين قال في كتاب (الدعوة تستقبل قرنها الخامس عشر ص86) قال: (المرأة الروسية غزت الفضاء ويراد أن تعجز المرأة المسلمة عن معرفة الطريق إلى المسجد) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 إذن التغيرات في هذه المسألة وغيرها وراءها نفسية متأثرة بضغوط الواقع الغربي. • ولكن الأمر يتطور مرحلة ثالثة عند الغزالي ففي (مائة سؤال2/286) يقول: (إن ترددها على المساجد وتزودها بالعلم سنة، يساندها التواتر) ، فالأمر إذا أصبح سنة!! وبعد ذلك تبدأ حملة شديدة على المخالفين الذين يقولون بالرأي الأول الذي كان يقول به الغزالي، وهؤلاء المخالفون هم جمهور الأمة لا أعلم لهم مخالفا إلا ابن حزم فقط، جمهور الأمة، قبل قليل في قضية الحجاب كان يقول رأي الأئمة الأربعة الآن جمهور الأمة، ماذا يقول عنهم الغزالي؟ الذين يقولون أن المرأة لا تخرج إلى المسجد، وهو بطبيعة الحال ينسب إليهم أنهم يحرمون عليها ذلك ويمنعونها ... الخ. لكن لا أحد نطق بالتحريم، وهو يقصد أنهم يرون صلاتها في البيت أفضل، لكن على عادته في المبالغة. • يقول: (هناك ناس مصابون بسوء الظن، وشدة الغيرة، وتصديق الأوهام، وهناك ناس مصابون بعلل الشيخوخة وأعراض الضعف الجنسي، يتطيرون من خروج المرأة إلى مسجد أو مدرسة فيطوحون بكل قول صائب إيثارا لما وقر في نفوسهم) . إذا أنت يا من تقول صلاة المرأة في بيتها أفضل وتحاول أن تربيها على ذلك إنما أنت مصاب بعلل الشيخوخة -على رأي الشيخ- وأعراض الضعف الجنسي!! • كيف يقال هذا الكلام في ميدان البحث العلمي؟ كيف يقول داعية يفترض أن يربي الناس على خصال الفضيلة مثل هذه العبارات؟ في (ص86) يقول: (لقد أشرت إلى أن قضايا النساء لا تعالج بعلم بقدر ما تعالج بعقد نفسية، وأمزجة سوداوية، وقصور يدعى الغيرة، ويتطاول على الحقائق) . • إن الغزالي يشير إلى أنه رأى ذلك في العواصم المحافظة، ويقصد -بطبيعة الحال- المحافظة في هذه الجزيرة والذي أعلمه أن جميع المساجد في هذه الجزيرة تستقبل المصليات، خاصة في رمضان ولا يكاد يوجد مسجد وإلا فيه مكان مخصص للنساء في رمضان، والأئمة يعتنون بتوجيه الوعظ والإرشاد إلى المرأة في هذا الشهر، هذا في العواصم التي سماها محافظة. أما في غير رمضان فإن كثيرا من المساجد فيها أماكن مخصصة للنساء سواء للصلاة فيها أو لحضور المحاضرات، وهذا أمر يعرفه الجميع، بينما الغزالي نفسه ذكر في أحد المواضع أن في مصر أكثر من سبعة عشر ألف مسجد -فيما ذكر- وأنه حين كان مسئولا عن المساجد في وزارة الأوقاف بذل جهودا كبيرة لإيجاد أماكن مخصصة للنساء ولم ينجح إلا بنسبة تافهة -كذا يعبر- ومع ذلك كان الرجال يبدون تبرمهم وضيقهم بمثل هذا الأمر! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 أما الأدلة التي استدل بها، فهي السنة العملية المتواترة -كما يقول- حين نقل السنة العملية في كتاب (السنة النبوية) ؛ وقال: (وراوي هذا الحديث -يعني حديث أم حميد- يطوح بالسنة العملية المتواترة وراء ظهره وينظر إلى المصلية وكأنها أذى يجب حصره في أضيق نطاق وأبعده!) . • أقول: إن هذه السنة العملية المتواترة غاية ما فيها الدلالة على أن النساء كن يفعلن ذلك وهذا لم يتردد فيه أحد، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه (نهى الرجال أن يمنعوا نسائهم من الخروج إلى المساجد إذا استأذنهم) . إلا أن يكون المنع لغرض صحيح، فإذن هذه السنة المتواترة لا تنقض ما سبق، لأننا نقول الأفضل ألا تفعل، فكم من أمر متواتر عند الناس وواقع وهو خلاف الأفضل، بل كم من أمر محرم وقد اشتهر عند الناس منذ القديم، لكن هذا الأمر الذي نتحدث عنه ليس أمرا محرما، ولذلك أقره النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعون، وأرشدوا إلى ما هو الأفضل في حقها، لأن الإنسان في هذه الأمور لا ينبغي أن ينكر ما دام الأمر لم يصل إلى درجة التحريم. • بقي أن أقول: إن الغزالي في كتاب (مائة سؤال) أطلق كلمة لا أدري كيف استجاز لنفسه أن يطلقها في مجال المرأة ولم يفسرها. ففي (ص/274) : ذكر قوله الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنكن أكثر حطب جهنم) . ثم قال: (وجماهير أخرى من قصار النظر والباع عدت الأنوثة لعنة وجعلت جمهور أهل النار من النساء، فهن حبائل الشيطان وشباك المعاصي!) أ. هـ. • وكلمة جمهور أهل النار من النساء حديث نبوي صحيح، ثابت في الصحيحين، والغريب أن الشيخ لم يجب عن هذا الحديث بشيء. لا أنكر الحديث، ولا أول الحديث، وفي العبارة سوء أدب ظاهر، مع المقام النبوي الكريم. وأذكر الشيخ بما قاله هو في الرد على خالد محمد خالد حين قال في كتاب: (من هنا نبدأ) - وهو يرد على من يسميهم بالرجعيين- (إذن لا تقولوا: إذا كانت أموركم إلى نسائكم فبطن الأرض خير لكم من ظهرها) انتهى كلام خالد محمد خالد. عقب عليه الغزالي بأن ما قاله -خالد محمد خالد- عبارة نابية وهذه الجملة التي ينهى الأستاذ خالد عن النطق بها جزء من حديث معروف عن النبي صلى الله عليه وسلم) أ. هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 الفصل الخامس: موقف الغزالي من الشيعة موقف الشيخ مطرد -ما شاء الله- لا كالعادة، ففي كتاب (ليس من الإسلام ص64) يقول: (إن الشيعة لا يفترقون عن الجمهور في اعتماد الأصول التي شرحناها وبعدما سكنت فتن النزاع على الخلافة، والشقاق حول شخص الخليفة أصبح من العبث بقاء هذا التفرق وأصبح كلام الشيعة لا يزيد عن كلام أي مذهب إسلام في فقه الأصول والفروع) أ. هـ ثم نقل بيانا من كتاب (مع الشيعة الإمامية) لمحمد جواد مغنية، إذا في كلام الغزالي هنا، أن الشيعة لا يفترقون عن السنة في اعتماد الأصول والفروع، وكلامهم لا يزيد عن كلام أي مذهب إسلامي آخر في فقه الأصول والفروع، كل ما في الأمر هو الاختلاف حول شخص الخليفة وانتهى وأصبح من العبث بقاء هذا التفرق. وفي كتاب (كيف نفهم الإسلام ص142) عقد فصلا عنوانه (وحدة الجماعة الإسلامية) ورأى أن الفرق أن أهل السنة يقولون الخليفة من قريش أما الشيعة فيقولون: لا. الخليفة من بيت النبوة! وقد أطال النفس في الموضوع وتكلم في مواضع عديدة عن موضوع التقريب بين السنة والشيعة وأشاد بخطوة بعض الجهات الإسلامية في مصر بطباعة بعض كتب الشيعة في فقه الفروع، محاولة للتقريب بين السنة والشيعة. والجواب ألخصه في نقاط: أولا: فيما يتعلق بالقرآن الكريم فالشيعة يختلفون عن أهل السنة في ذلك اختلافا كبيرا، فمن الشيعة من يقولون بأن القرآن محرف، ومهما غضب الغاضبون على هذا القول فإن كتب الشيعة المعتمدة زاخرة بالنصوص التي تدل على أن هذا القول موجود لدى أئمتهم وعلمائهم وذلك ككتاب سليم بن قيس والكافي للكليني، وتفسير العياشي، ويوجد -عندي- كتاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 مخطوط للطبرسي عنوانه (فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب) نقل فيه مؤلفه عن أكثر من أربعمائة مجتهد من مجتهدي الشيعة إثبات تحريف القرآن، وهذه لاشك ردة كبرى عن الإسلام، ويكفي منها أن يعرف الإنسان الفرق الكبير بيننا وبين الشيعة. صحيح ليس كل علماء الشيعة يقولون القرآن محرف، بل منهم من ينكر ذلك وينكر على من يقولون به، لكن حتى أولئك الذين يؤمنون بعدم تحريفه فإنهم يؤلونه تأويلا باطلا، فيؤولون -مثلا- "القرآن" أو "النور" أو "الآيات" أو "أولو الألباب" أو غيرها ويقولون إن هذه الألفاظ كلها المقصود بها الأئمة الاثنا عشر، وغير ذلك من ألوان التأويل الموجودة في كتبهم، حتى أن المجلسي عقد في كتاب الأنوار (جـ 24 ص286 - 304) بعنوان: (باب أنهم الصلاة والزكاة والحج والصيام وسائر الطاعات، وأعداؤهم الفواحش والمعاصي في بطن القرآن) . ويؤلون ما ورد في الكفار والمنافقين بأنهم الصحابة، مثلا: في تفسير العياشي 2/223، والصافي 1/885، والبحار 3/378: ليس في القرآن: قال الشيطان إلا وهو عمر!!..الخ، ويعتقدون تنزل الكتب الإلهية غير القرآن على الأئمة وذلك كـ (مصحف فاطمة) ولوح فاطمة والصحف الاثنتي عشر وغيرها من الكتب المذكورة في مصادرهم المعتمدة (1) . ثانيا: فيما يتعلق بموقفهم من السنة: 1- هم لا يميزون بين صحيح السنة وضعيفها، ولم يعرفوا علم المصطلح والتصحيح والتضعيف إلا معرفة متأخرة بعدما تكلم عليهم شيخ الإسلام ابن تيمية، وذكر عنهم هذا الأمر فأخذوه من أهل السنة ونشروه فيما بينهم (2) . 2- أقوال الأئمة عندهم تعتبر كأقوال الله تعالى ورسوله ولذلك يقولون (يجوز للإنسان إذا ثبت له الكلام عن الإمام أن ينسبه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، بل يجوز أن ينسبه إلى الله عز وجل) (3) . ويقولون (الراد على الأئمة راد على الله عز وجل وهو على حد الشرك بالله تعالى) بل الراد على الفقيه كذلك عندهم. 3- يردون مرويات الصحابة. لأنهم يعتبرون أن الصحابة كفروا إلا ثلاثة أو خمسة على خلاف بينهم. يقول محمد آل كاشف الغطاء: "إن الشيعة لا يعتبرون من السنة إلا ما صح لهم   (1) انظر الكافي 1/238-40 ودلائل الإمامة ص 27-28 وإكمال الدين لابن بابويه ص263 (2) انظر الوسائل للبحر العاملي ص263. (3) شرح المازندراني على الكافي 2/271. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 من طريق أهل البيت.. أما ما يرويه مثل أبي هريرة وسمرة بن جندب وعمرو بن العاص ونظائرهم فليس لهم عند الإمامية مقدار بعوضة! " أصل الشيعة وأصولها ص79. • أما بقية الصحابة فهم كفار عند الرافضة الإمامية، وإذا كان الصحابة عندهم كفارا، فهل من المعقول أن الشيعة الرافضة تقبل مرويات فيها كفار؟ لا. ولذلك فهذه المرويات الآتية عن طريق الصحابة كلها غير مقبولة إلا مرويات محدودة كالمرويات عن علي أو عن المقداد أو عن سلمان أو عن أبي ذر، ممن يقولون بأنهم لم يكفروا وطبعا لهم مرويات بأسانيدهم الخاصة في كتبهم، وعن طريق رجالهم. 4- الشيعة يتلقون السنة من مصادر أخرى غير المصدر الطبيعي المعروف، (وهو مصدر الرواية) ، ومن ذلك حكايات الرقاع، وهي أضحوكة خادعهم بها بعض الوكلاء الذين ادعوا بعد موت الإمام الحادي عشر -عقيما لم يولد له- أن له ولدا مختفيا، وأنه يستقبل استفتاءات المواطنين!، ويرد عليها بواسطة وكلاء معينين، وكانوا يضحكون على الناس بواسطة هذه الرقاع ويأتون لهم بها مكتوبة عليها فتوى الإمام فيما يعرض لهم ويجد من شؤون الحياة، وهذه ألعوبة مكشوفة، لكن الشيعة يعتبرونها من مصادر التشريع عندهم وهي مثل السنة النبوية الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم دون أي فرق بينها. ثالثا: فيما يتعلق بالإجماع، وهذه قضية خطيرة، فإن الغزالي نقل عن محمد جواد (أن الإجماع عند أهل السنة وعند الشيعة لا يكاد يختلف إلا اختلافا يسيرا) . وأقول: إن الإجماع عند الشيعة يناقض إجماع أهل السنة وذلك أن مدار إجماع الشيعة على وجود الإمام، يعني لا عبرة بالإجماع أو الاختلاف، العبرة -عند الشيعة- بالإمام المعصوم، فإذا وجدت أي أمارة تدل على أن الإمام المعصوم مع هذه المجموعة فمعهم الحق، ولذلك يقول ابن المطهر: (فكل إجماع كثرت أو قلت كان قول الإمام في جملة أقوالها فإجماعها حجة لأجله لا لأجل الإجماع) (1) . ومن الغريب أنهم في إجماعهم يعتبرون أن من الضرورة مخالفة إجماع أهل السنة، ولذلك نقل "الكليني" في "الكافي" مرويات: أن بعض أئمتهم سأله سائل وقال له: جعلت فداك إننا نختلف على قولين ففي أيهما يكون الصواب؟ قال له: ما خالف العامة ففيه الرشاد -والمقصود بالعامة أهل السنة، يعني إذا اختلف الشيعة   (1) تهذيب الوصول ص70. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 على قولين فالقول المخالف لقول أهل السنة أقرب للصواب وفيه الرشاد- قال له السائل: فإن وافقهم الخبران جميعا؟ قال: ينظر إلى ماهم إليه أميل بأحكامهم وقضاتهم، فيترك ويؤخذ بالآخر. قال: فإن كانوا يميلون إليهما معا؟ قال: فأرجه حتى تلقى إمامك) (1) . • ولذلك فإن الشيعة يرفضون أعظم وأكمل وأقوى إجماع يمكن أن يحدث على وجه الأرض، إجماع الصحابة على أبي بكر رضي الله عنه ثم على عمر ثم على عثمان، إنه إجماع لم يخرج منه أحد. صحيح أن عليا تأخر في البيعة لظروف معينة لكنه بايع بعد ذلك بايع الثلاثة كلهم، ولما توفي أبو بكر رضي الله عنه، تولى بعده عمر، فرضي به المسلمون كلهم ورأوا بيعته وخلافته حسنة، ولما طعن رضي الله عنه جعل الأمر في الستة الذين توفي الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، فكان عبد الرحمن بن عوف يجوب في أنحاء المدينة ما يترك رجلا ولا امرأة، ولا بيتا، ولا قريبا، ولا بعيدا، ولا كبيرا، ولا صغيرا، إلا يسأله، فلم يجدهم يعدلون بعلي وعثمان، فقد أجمع الصحابة رضي الله عنهم، ثم أجمعت الأمة من ورائهم على أن أفضل الناس وأجدرهم بالخلافة أبو بكر ثم عمر ثم عثمان، وبطبيعة الحال فالرافضة يعتبرون أن هؤلاء الثلاثة كفار، وبناء على ذلك فإن من العبث أن يقال إنهم يرفضون الإجماع الذي يعتبر هؤلاء أفضل الأمة فكيف يقال إن إجماع الرافضة وإجماع أهل السنة واحد؟ مع وجود هذا الفرق الهائل بين الطرفين. • مع ذلك فإن الرافضة لهم عقائد خطيرة يتميزون بها عن أهل السنة، والكلام في هذه العقائد يطول، لكنني أشير إليها إشارة عابرة. ومن أراد التفصيل ومعرفة النصوص المضبوطة الواضحة من كتب الرافضة -أنفسهم- فعليه مراجعة الكتب المتخصصة، ومن أهم العقائد التي يتميزون بها: 1- عقيدة الإمامة، وهي ليست كما صورها الغزالي أن الشيعة يرون أن الإمام من آل البيت، أو أنه على التعيين، الأمر أبعد من ذلك، الشيعة يرون أن الإمامة لا تقل خطورة عن النبوة، وأن الذي لا يؤمن بها مرتد كافر، وأنه لولا الإمامة لساخت الأرض واضطربت بمن فيها، وفي الكافي 1/373: (عن أبي عبد الله: ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: من ادعى إمامة من الله ليست له، ومن جحد إماما من الله، ومن زعم أن لهما في الإسلام نصيبا!!) -يعني أبا بكر وعمر رضي الله عنهما- ولذلك   (1) الكافي 1/68 وانظر وسائل الشيعة 18/75 وبحار الأنوار 2/233. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 لجؤوا إلى تأويل بعض النصوص القرآنية على أن المقصود الأئمة والإمامة، لأن الناس يقولون لهم: عقيدة بهذه الخطورة قامت السموات والأرض -كما تزعمون-، ولولا وجود الإمام لاضطربت الأرض..، والمكذب بها مرتد كافر، لم لم تكن مذكورة في القرآن؟ فقال الشيعة: لا، بل هي مذكورة، وصاروا يؤولون الآيات على أن المقصود بها الأئمة والإمامة. 2- عقيدة العصمة، وبناء على هذه العقيدة فالأئمة الاثنا عشر معصومون وقولهم تشريع، وهو كقول الرسول صلى الله عليه وسلم، بل كقول الله جل وعلا، ولا يجوز عليهم السهو ولا الغلط ولا النسيان، ولا يموتون إلا إذا شاؤوا، وأنهم يدخلون الجنة من شاؤوا، ويمنعون منها من شاؤوا، إلى آخر ما ذكروا، وهذه كلها عناوين أبواب موجودة في كتاب "الكافي" للكليني -عمدة كتب القوم-. 3- كذلك عقيدة التقية، وهي من أخطر عقائدهم عمليا، وهي تعني أن يظهر الواحد منهم خلاف ما يبطن "النفاق"، والتقية عندهم من الأصول، ولذلك ينقلون عن جعفر الصادق أنه يقول: (التقية ديني ودين آبائي) (1) . ويقول: (من لا تقية له فلا دين له) (2) . ويقول: (تسعة أعشار الدين في التقية) (3) . ولذلك يكثر الشيعة تسمية أولادهم "تقي"، ومن الطريف أن واحدا منهم اسمه "محمد تقي القمي" ينقل عنه الغزالي في موضوع التقريب بين السنة والشيعة وأنه لا فرق بينهما. ولذلك يخادعون ويخدعون كثيرا من أهل السنة، لأنهم مستعدون أن يملأوا الجو بالصراع والكلام الفارغ، وأننا لا نؤمن بكذا ولا نؤمن بكذا وهذا كله من الكذب والافتراء علينا، ويعرفون أن كثيرا من الناس مغفلون ولا يكلفون أنفسهم عناء الرجوع إلى مصادرهم الأصلية المعتمدة. 4- من أخطر عقائدهم عقيدة الرجعة، والرجعة تعني أن الإمام الثاني عشر إذا ظهر فإنه سوف يبعث له أبو بكر وعمر والصحابة وغيرهم فيحاكمهم وينتقم منهم ويصلب أبا بكر وعمر على خشبتين في المدينة المنورة، ويهدم القبر، ويكسر المسجد وأن الأنبياء سوف يحشرون تحت لوائه في الدنيا ويقاتلون تحت رايته، سليمان، وداود، وموسى، وغيرهم (4) .   (1) (2) (3) الكافي 2/217. (4) الإيقاظ من الهجعة للعاملي ص 58 وحق اليقين لعبد الله شبر 2/2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 والغريب أنهم خصوا أنبياء بني إسرائيل، وهذه عقيدة خطيرة وهي عقيدة يهودية الأصل. 5- عقيدة البداء، وهي موجودة في بعض مصادرهم أن الله تعالى قد يبدو له الشيء بعد أن لم يكن ظاهرا، ولذلك يعدون بشيء أنه سيحصل مثل ما وعدوا بظهور الإمام فلم يقع فقالوا بدا لله في ذلك! (1) . هذه عقيدة كفرية لأنها تنسب النقص والجهل إلى الله جل وعلا ولا حاجة للكلام عنها، وإن كان بعض علماء الشيعة يفسرونها تفسيرا آخر. 6- عقيدة الغيبة، وهي اعتقادهم أن الإمام غاب منذ سنة (265هـ) ويزعمون أن هذا الإمام -الذي لم يولد-، بعدما صار عمره خمس سنوات غاب في سرداب سامراء وعنده كما يقول شاعرهم: *عنده عسل وماء* وهم من ذلك الوقت إلى اليوم ينتظرون خروجه ويعتقدون أنه موجود وحي وأنه يعيش بشخصية ثانوية كما قال منظرهم ومفكرهم -المعاصر- "محمد باقر الصدر" في كتابه "تاريخ ما بعد الظهور" أنه يعيش بيننا لكن بشخصية ثانوية غير معروفة، وإذا ثارت حوله التساؤلات في بلد فإنه ينتقل إلى بلد آخر، ولذلك فهو يحضر معهم المواسم ... إلى غير ذلك والذي يقول هذا الكلام -ما هو بشيخ من شيوخ الشيعة يعيش مع كتبه الصفراء- لا إنه "محمد باقر الصدر" يعتبر مفكرا ومعاصرا -ومع الأسف- كتبه في الاقتصاد والفلسفة وغيرها موجودة في معظم المكتبات الإسلامية، وكثير من الناس لا يدركون حقيقة هذا الرجل.   (1) الكافي 1/146 وبحار الأنوار 2/92-129. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 الفصل السادس: الأدب العلمي عند الغزالي بين النظرية والتطبيق من الناحية النظرية البحتة يقرر الشيخ ما يلي - ومن نصه نقلت-: (إن الخلاف الفقهي في الفروع كان ويكون وسيبقى إلى آخر الدهر لأسباب طبيعية مقبولة ويجب ألا نتطير منه، وألا نحاول قتله أو تجاهله) . من كتاب (دستور الوحدة ص57) : ثم ذكر الشيخ أسباب الاختلاف في الفروع، وكرر المعنى نفسه (ص133) فقال: (إن اختلاف وجهات النظر في التشريعات الفرعية حقيقة إنسانية وإسلامية لا محيص عنها ونشوء مدارس كبرى وصغرى على محاور قانونية مختلفة أمر لا غضاضة فيه ولا شر منه) ا. هـ. ولقد لخص-الغزالي- في الكتاب هذه رسالة (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) لابن تيمية- رحمه الله-) في (ص67 وما بعدها) . وفي كتاب (مائة سؤال2/285) ذكر من يرى الحجاب على المرأة ثم قال: (وجهة نظر في فقه ما ورد من الآثار، ولا أحارب هذا) (وهناك خلافات لا يضر بقاؤها إلى قيام الساعة) ا. هـ. • إذن: وجهة نظر، ولا يحاربها، وخلاف لا يضر وجوده إلى قيام الساعة. هذه نقطة. 2- النقطة الثانية: قال: (إن الإسراع في اتهام الناس وتلويث سمعتهم ليس دينا، والحكمة في معالجة الأخطاء مطلوبة وفي الحديث "إن الله بحب الرفق في الأمر كله") أ. هـ. من (دستور الوحدة ص231) ولهذا ينتقد المؤلف (ص139) وجود قضايا فرعية يعلو فيهل الصياح (وعلاجها الطبيعي يتم بالهمس والتريث) . • وفي (كتاب السنة النبوية ص8) يقول: (وقد تدارست مع أولى الألباب) ولم يبين لنا من أولو الألباب هؤلاء؟ (هذا الجو الفكري السائد واتفقت كلمتنا على ضرورة التعامل معه برفق واقتياده إلى الطريق المستقيم وأناة) . • إذن: برفق وأناة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 3- النقطة الثالثة: في كتاب" هموم داعية ص47" يطرح الغزالي القاعدة التي طرحها من قبله" البنا" وهي (يعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه، ونتعاون فيما اتفقنا عليه) . فيقول الغزالي: (من الناحية العلمية يجب أن نتعاون في المتفق عليه ونتسامح في المختلف فيه، ونتساند صفا واحدا في مواجهة الهجمة الجديدة على ديننا وأرضنا حتى نردها على أعقابها) . 4- النقطة الرابعة: في" دستور الوحدة ص 97" بعد أن ذكر أن الاجتهاد الفقهي علامة صحة وهو شرف لتاريخنا قال: (ثم خلفت خلوف تحاول هدم القوم وتتلمس لها الأخطاء من بعيد وتريد أن تجعل الإسلام بلا تاريخ علمي ولا مفكرين كبار) أ. هـ. إذن نحن أمام طرح نظري جيد -الخلاف الفقهي طبيعي ويجب أن يحل بالمناقشة الهادئة وإذا بقى خلاف فلا يضر ولا يؤثر في الأخوة وينبغي لكل من المختلفين أن يحترم الآخر، والمطلوب التعاون في مواجهة أعداء الإسلام، وينبغي حفظ أقدار الأئمة ومنازلهم، هذه خلاصة ما طرحه وحسب هذا الطرح فالشيخ يرى الخلاف أمرا لا بد منه، والنقاش هو الحل والحكمة في المعالجة مطلوبة، وحفظ كرامة الرجال من السلف والخلف أدب يجب أن يتحلى به كل منصف، وهذا كلام ليس عليه غبار. • وقد تلطف المؤلف- سامحه الله- مع أقوام كنا ألا يجاملهم على حساب الدين فهو يعقب على مؤامرة (البابا شنودة) بقوله: (الأخ العزيز شنودة الرئيس الديني لإخواننا الأقباط!) وهذه كلمة نتمنى أن الشيخ الغزالي وفرها لأحد العلماء والمشايخ الذين اختلف معهم. • وفي (حصاد الغرور168) ذكر كتابا ألفه نصراني مصري. اسم الكتاب (الخريدة النفسية في تاريخ الكنيسة) وسب فيه الرسول صلى الله عليه وسلم ووصفه بأبشع الألفاظ من الكذب والتفاهة والغلط والسلب والنهب إلى غير ذلك. ولقد لخص الغزالي أبرز ما فيه وعقب على هذا الكلام بتعقيب انتقد فيه المؤلف، لكنه ختم الكلام بقوله: (ونحن نأسف لهذا الخطأ في جنبنا، بل لهذه الخطيئة، ونوصي إخواننا المسلمين أن ينسوها ونوصي إخواننا المسيحيين ألا يكرروها) . ما ألطف هذه العبارة! إنها تكاد تسيل رقة وعذوبة وتسامحا، مع أنها تعقيب على ما يسميه خطأ بل خطيئة وأية خطيئة؟ إنها شتم الرسول صلى الله عليه وسلم في كتاب يطبع وتتبناه جهة رسمية لدى النصارى. وهذا في (ص170) وهذا نقض صارخ للعهد والميثاق بينهم وبين المسلمين- إن كان بينهم وبينهم عهد وميثاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 • وحين يتحدث عن الرافضة ينكر أي خلاف أصولي بيننا وبينهم ويلقي بالتبعة على الطرفين (السنة والشيعة) ويقول: (إن له أصدقاء من الشيعة) ولم يمسسهم الشيخ بسوء بل أثنى عليهم. والكلام عن الشيعة سبق في الفصل الماضي، أما حين ينتقل الشيخ إلى من يخالفهم في المذهب والمشرب ولو في قضية فقهية فإن الأمر يختلف تماماً ويتحول هذا الأدب النظري إلى عنف غريب، ولا أريد أن أتحدث من عندي، بل سأنقل شيئاً يسيراً من نصوص المؤلف، وأريد أن أقول لكم قبل أن أسرد هذه النصوص لا تظنوا أني نقلت كل ما ذكر الشيخ، فما ذكره الشيخ كثير وكثير ولو جمع لجاء في كتاب ضخم -فقط كلامه في هذا الموضوع- (سب خصومه من القدماء والمعاصرين) . والشيخ -غفر الله لنا وله- خاصة في مؤلفاته الأخيرة ينتهز كل فرصة لسب مخالفي منهجه من شباب الصحوة الإسلامية، ورميهم بالألقاب المنكرة، فبينما تجده يتحدث مثلاً عن التقدم العلمي والحضاري، أو عن الصراع مع اليهود، أو عن قضية تاريخية، أو عن التبشير النصراني في إندونيسيا، أو عن قضية علمية، فتجد بين الأسطر أنه ينتقل انتقالاً مفاجئاً لا مناسبة موضوعية له إلى الهمز واللمز والتنقص، وأترك الكلام للشيخ يتحدث عن نفسه ولن أعلق على هذا الكلام إلا في أضيق نطاق. أولاً: لأن الكلام أبلغ من كل تعليق. ثانياً: لتجنب مجاراة المؤلف في هذا المسلك المعيب. وفي كتاب "الإسلام المفترى عليه ص112" يقول: • (إن أعمال معاوية بن أبي سفيان "كانت تمهيداً واسع النطاق لتحطيم الديمقراطية الإسلامية في ميدان السياسة، والاشتراكية الإسلامية في ميدان الاقتصاد، وتنصيب أسرة "عبد شمس" على ملك عريض وإعادة الأمر كسروية وهرقلية) . • وفي (ص113) يذكر بناء معاوية قصر الخضراء ثم يقول بالحرف: (أنذكر رسول الله الذي لم يكن لبيته بواب، أم نذكر (خوفو) وهو يسخر الفلاحين في بناء هرمه الأكبر؟) أ. هـ. و (خوفو) هو أحد الفراعنة! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 ومعاوية سيد من سادات المسلمين، جمع الله به كلمة الأمة بعد افتراقها ومهد به لبسط سلطان الإسلام على أرجاء واسعة من الدنيا، وكان- قبل- أميرا على الشام الذي وعد أهله بالنصر، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن الطائفة المنصورة: وهم بالشام، وكان هو الخليق بالملك والزعامة في تلك الفترة، من تاريخ المسلمين، وإن كان فيهم من يفوقه في الفضائل الشخصية. • وفي (ص112) يذكر فتوى "كعب الأحبار" فيقول: (وهذه الفتوى ليست إلا دسا يهوديا لإفساد الإسلام) ، ومن الصعب أن نتقبل مثل هذا القول في رجل كان عمر يسمع منه ويبكي من موعظته ويدنيه، وهو مسلم صحيح الإسلام، فلم اتهام النيات؟ • وفي (السنة النبوية ص87) يذكر كلمة خباب "إن المسلم يؤجر في كل شيء إلا ما يضعه في التراب" ثم يقول: (وكلام خباب -رضي الله عنه- عليه مسحة تشاؤم غلبت عليه لمرضه الذي اكتوى منه ولا يجوز أن نعد البناء رذيلة) . -وسأعرض لهذه الكلمة في فصل قادم-. • وفي (ص 130) يقول عن نافع -مولى ابن عمر-) ونافع- غفر الله له- مخطئ، فدعوة الناس إلى الإسلام قائمة ابتداء، وتكرارا، ورواية نافع هذه ليست أول خطأ يتورط فيه فقد حدث بأسوأ من ذلك) .. وتفصيل هذه الكلمة له موضع آخر. • وفي (ص33) يقول بعدما ذكر رأي الشافعية والحنابلة في إجبار البكر. يقول: (ولا نرى وجهة النظر هذه إلا انسياقا مع تقاليد إهانة المرأة وتحقير شخصيتها) أ. هـ. وفي غير موضع نال الشيخ- غفر الله لنا وله- من الحنابلة ووصف بغضهم بأنهم (همل لا وزن لهم) كما في (هموم داعية) وفي (دستور الوحدة الثقافية، ص129) قريب من ذلك. • وفي (ص244) من (هموم داعية) قال) لا بأس أن يكون الرجل حنبليا فقط ما دام عمله بين البيت والمسجد أما أن يكون بهذه المثابة ثم يطلب الصدارة في ميدان الثقافة الإسلامية فهذا سفه) . وبذلك أغلق الشيخ- سامحه الله- باب الصدارة في ميدان الثقافة الإسلامية وفي باب العلم الشرعي على الحنابلة، إنما يجوز أن يكون المرء حنبليا ما دام عمله بين البيت والمسجد. قد يكون قصد الشيخ- أنه لا يمكن أن تكون حنبليا لا تخرج عن هذه الحنبلية إذا أردت أن تتحرك في الميدان العام بل لابد أن تختار الأقوال الصحيحة ولو كانت خارج مذهب الحنابلة، وهذا الكلام صحيح حتى ما بين البيت والمسجد ينبغي أن يختار الإنسان القول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 الصحيح ولو كان خارج مذهب الحنابلة، فنحن نرفض التعصب لأي مذهب ولأي قول، لكن لماذا اقتصر على ذكر الحنابلة فحسب؟ الله أعلم. • وفي كتاب "مستقبل الإسلام خارج أرضه ص85" نقل عن شارح البخاري أن النساء المأذون لهن في الخروج إلى العيد من العجائز، وعقب بقوله: (إن حظ الإسلام تعيس بهذا التفكير المعوج) وهكذا يكون تحطيم القمم! • وفي (ص83) ذكر حديث النهي عن الشرب قائماً وذكر قول "الصنعاني" -هذا دليل على تحريم الشرب قائماً- وبعد رده قال: (ولكن أصحاب الأمزجة السوداوية مولعون بالحضر والتضييق على الخلق) أصحاب الأمزجة السوداوية مثل من؟ مثل الصنعاني، -طبعاً على منهج المؤلف- وإل فنحن لا نصنع هذا بعلمائنا!! • وفي "هموم داعية ص141" قال: (وقد دهشت لأن عالماً من شنقيط وهو قطر، مالكي المذهب وقف في المسجد النبوي يقول أثناء إلقاء درس له: (إن مالك بن أنس يقول إن وجه المرأة ليس بعورة وأنا أخالف مالك بن أنس) ويعلق الشيخ قائلاً: (والشيخ الشنقيطي -غفر الله له- حين يخالف أو يوافق ما يقدم أو يؤخر وذكرت له قول الشاعر: يقولون هذا عندنا غير جائز ... ومن أنتم حتى يكون لكم عند) أ. هـ. والشيخ يقصد "محمد الأمين الشنقيطي" صاحب "أضواء البيان" وهو إمام جليل القدر في العلم والحفظ والفقه وسائر الفنون، ولكن عيبه أنه لم يكن عقلانياً ولا يوافق الشيخ على أطروحاته فيما يتعلق بالمرأة وسفورها. • وفي "سر تأخر العرب ص53" يقول -الغزالي-: (إن الفقي حلف بالله أن أبا حنيفة كافر) ويقصد بالفقي "محمد حامد الفقي" رئيس جماعة أنصار السنة بمصر، وهي إحدى الجماعات المشهورة بمذهبها السلفي. وأقول مطمئناً -إن شاء الله- إن هذا النقل كذب لا سند له، وإن زعم الشيخ أن الذين سمعوا "الفقي" لا يزالون أحياء فنحن لا نعرفهم ولا نستطيع أن نقبل رواية عن عالم جليل فيها رواة مجهولون مع أن هؤلاء الرواة قد يكون بينهم وبين الفقي خصومة علمية أو عقدية، ومثل هؤلاء لا يقبل كلام بعضهم في بعض، كما أننا لا يمكن أن نقبل كلام خصوم أبي حنيفة فيه ما دام مجافياً للحقيقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 فمن قال أن أبا حنيفة كافر فهو ضال ظالم مخطئ وينبغي أن يؤدب ويعزر تعزيراً بليغاً على نيله من هذا الإمام الجليل الذي تسير على نهجه جماهير غفيرة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم منذ وجد إلى اليوم، وهو كغيره من الأئمة في سائر أبواب الاعتقاد على سبيل الإجمال. أما حين تنتقل إلى العلماء والدعاة المعاصرين فإنك تسمع ما لا تحب سماعه، ولا تكاد تخلو صفحة من كتب الشيخ الأخيرة من الهجوم على مخالفيه ورميهم بمختلف الألقاب والنقائض وما أسرده -كما ذكرت في بداية الفصل- ما هي إلا نماذج فقط. • في "دستور الوحدة ص196" يقول عن بعض مخالفيه، ولنفترض أن مخالفيه من الشباب الصغار، ولنفترض أنهم على خطأ وهو على الصواب، ولنفترض أنهم لم يتعلموا الأدب وأساؤوا المعاملة مع الشيخ ونقصوا حقه، وأن الشيخ يتحدث بغضب وتهيج. . . لنفترض هذا كله. . . ثم نستمع إلى ما يقول الشيخ في كتاب مطبوع، وليس على منبر أو في مجلس خاص، أو محاضرة: (إنكم في الفقه أصفار لا في العير ولا في النفير، وهذا الجهل مقبحة محدودة، أما المقبحة التي لا تحد فهي اشتهاؤكم لذم الناس والتماس العيب للأبرياء، إنكم تنطلقون كالزنابير الهائجة تلسعون هذا وذاك باسم الحديث النبوي والدفاع عن السنة ونحن نعرف أن آباءكم قتلوا علياً باسم الدفاع عن الوحدة الإسلامية، وقتلوا عثمان باسم الدفاع عن النزاهة الإسلامية، وقتلوا عمر باسم الدفاع عن العدالة الإسلامية فيا أولاد الأفاعي إلى متى تتسترون بالإسلام لضرب الرجال الذين يعيشون له ويجاهدون لنصرته؟ ولحساب من تكنون هذه الضغائن عليهم وتسعون جاهدين للإيقاع بهم وتحريش السلطات عليهم؟) . هل تستحق هذه الكلمة من تعليق؟ • كل الناس يحسنون الشتيمة، ولننظر: من الذين قتلوا علياً باسم الدفاع عن الوحدة؟ الذين قتلوا علياً باسم الدفاع عن الوحدة هم من الخوارج والخوارج -أقولها صريحة- لم يلقوا من الشيخ من الهجوم ولا بعض ما لقيه هؤلاء الملتزمون بمنهج أهل السنة والجماعة، بل إنه تحدث عن "شكري مصطفى" وجماعته الذين يسمون بجماعة (التكفير والهجرة) في كتاب "دستور الوحدة" تحت عنوان (التكفير) في آخر الكتاب ومع أنه نقده وذمه إلا أن عبارته معه كانت لينة حيث قال: (ص242) : (غفر الله له، وتقبل دمه في التائبين) ! هذا "شكري مصطفى" وهو من الخوارج. والغريب أن الشيخ خصص نصف هذا الموضوع (التكفير) لمن يسميهم بالسلفيين! فاللهم غفراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 • وأما الذين قتلوا "عمر" فهم المجوس، وأحفادهم لقوا من الشيخ حفاوة، إنهم هؤلاء الرافضة الذين يقول الشيخ إنه لا خلاف بيننا وبينهم لا في الأصول ولا في الفروع -وسبق الحديث عن هذه النقطة-. ثم من هم الذين يتسترون لضرب الرجال، من هؤلاء الرجال الذين ضربهم أولئك الذين ينتسبون إلى الحديث النبوي والسنة النبوية هل يقصد الشيخ الغزالي نفسه بهذا الكلام؟ أو لا، فليذكر لنا واحداً من ضحاياهم!. إننا لا نعلم أن حملة السنة والحديث عملاء، إنما نعرف أنهم يتعرضون هم للمضايقات في كثير من الأمصار، وعلى العكس من ذلك غيرهم يتمتعون بالسمعة، وإتاحة أجهزة الإعلام لهم للحديث كيفما يشاؤون، ويتقلبون في المناصب ويطرحون الفتاوى على الناس. • وضمن حديث الشيخ عن جماعة "مصطفى شكري" (ص244) في كتاب "دستور الوحدة"، يقول: (إنني أقرر بضيق أن أمثال "شكري" كثيرون في القارة الهندية، وجزيرة العرب ووادي النيل) . من يقصد بأمثال شكري؟ أتراه يقصد من كانوا يسيرون على منهج السلف، ويلتزمون بالسنة النبوية، وقد يكون عند بعضهم شيء من العسر والشدة؟ لكننا مأمورون بالعدل حتى مع الكفار. • وفي "دستور الوحدة ص134" يقول: (وقد تغيظت لأن بعض المنسوبين إلى العلم الديني حاول الاجتهاد فذهب إلى دورات المياه، ودور العبادة يستعرض عضلاته العلمية هناك) ! إننا نعتبرها مفخرة للإسلام أن ينظم حياة الإنسان في جميع ظروفه، ولم يحدد الشيخ -بالضبط- سبب تغيظه؟ هل يترك الناس الحديث في هذه المسائل؟ • وفي "مستقبل الإسلام ص72" يقول: (هناك من يحارب القباب والأضرحة في أمريكا، وهناك من يرى وضع اللثام على الوجه!، وهناك من يجعل شارة الإسلام الجلباب الأبيض، كأننا في صحراء نجد، وهناك من حلق رأسه وشواربه بالموس وأطلق شعر لحيته على نحو يشعرك بأن كل شعرة أعلنت حرباً على جارتها فهناك امتداد وتنافر يثيران الدهشة، قلت في نفسي لم يبق إلا أن يحلق حاجبيه بالموس هي الأخرى لتكتمل الدمامة في وجهه، ولم أَرَ مساءلته لِمَ فعل ذلك؟ لأني أعلم إجابته، سيقول هذه السنة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 يتحدث الشيخ عمن يرى وضع اللثام على الوجه وكأنه يتحدث عن قصص السندباد. . . هناك من يرى. . . كأنها أسطورة غريبة. . . نعم في كل بلاد الإسلام ترى المحجبات في الشارع والمساجد والجامعات ومع تيار الصحوة أصبح الأمر مألوفا، وجميع العلماء -لا أستثني أحدا- يرون وضع الحجاب على الوجه- إما وجوبا، أو استحبابا على الأقل-. أما بقية حديث الشيخ فأعتذر عن التعليق عليه! • في (ص76) يقول: (ضموا إلى أركان الإسلام ومعالمه المقررات الآتية: البدلة الإفرنجية حرام، إعلاء المباني حرام، ذهاب النساء إلى المساجد حرام) هذه ثمان، إذن هناك من يقول إن أركان السلام ثلاثة عشر، ومرة أخرى أذكر أن الشيخ لا يتحدث في مجلس خاص، ولا حتى في خطبة، يتحدث في كتاب مطبوع أو متداول! • وفي (ص164) يقول: (مشكلة أهل الحديث هؤلاء أنهم يفهمون الحديث عن نحو ما، ثم يجعلون فهمهم هو مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتطاولون بعد ذلك على مخالفيهم وربما كفروهم واستباحوهم، واشتغال هؤلاء بالدعوة الإسلامية أثار فوضى محزنة في الداخل والخارج) . • وفي (ص202) يقول: (إنني بعدما بلوت أصحاب هذه القضايا استقر عندي أن القوم يتعصبون لأنفسهم، وأن العناد واللجاج مظهر للغلب الشخصي تحت ستار من اسم الله وحقائق الدين إنهم يفقدون نكران الذات وإيثار الله ومصلحة الإسلام العليا) ، ما رأي الشيخ لو أن أحد هؤلاء المخالفين رمى الكرة في ملعبه، وقال: إن ما تعيبنا به مما تعاب به أنت وإن مثلنا ومثلك كما قيل: رمتني بدائها وانسلت، أو كما قيل: إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه. . . الخ، كيف يرد الشيخ إذا؟ إنهم سيجدون ألف دليل، ودليل من كتابات الشيخ، ولكن الشيخ لن يجد دليلا واحدا موثقا سوى القصص التي يرويها هو!! • وفي (ظلام من الغرب ص260) قال: (روي- تعرفون أن روي صيغة تمريض- أن مصليا ممن يذهبون إلى تسكين الأصبع في أثناء التشهد مال على زميل له كان يحرك أصبعه فكسرها) . يقول الشيخ: (ما أشك أن هذا الجاني مصاب في عقله أو في خلقه أو أن هناك شخصية فاجرة حملته على ارتكاب ما ارتكب) أ. هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 وأنا أحلل القضية تحليلا آخر: القضية أن هناك إنسانا مغرضا يحاول التماس الأخطاء والعيوب للمنتسبين إلى السنة، ونسبة الأكاذيب والقصص المختلقة إليهم مما يصدق وما لا يصدق، فاختلق هذه الفرية ثم نشرها في أوساط الناس، هذا تحليلي لهذه القصة، ومن أنكر فعليه الدليل. • وفي (سر تأخر العرب101) يقول: (وقد ظهر ناس يتسمون بأهل الحديث، لا يعلمون عن القرآن شيئا، وبضاعتهم في فقه السنة مزجاة، فيهم شبه من فكر الظاهرية، ومزاج الخوارج، وفيهم جمود يغطونه بدعوى الاتباع وفيهم جراءة على أئمة الفقه الكبار، وفيهم اعتداد بأنفسهم وكأنهم المتكلمون باسم الله ورسوله، وفيهم سوء ظن بالآخرين، واشتهاء للنيل منهم والوقيعة فيهم وقد كثر هؤلاء في هذه الأيام العجاف ولولا علمي بأن الجاهل عدو نفسه لقلت إن الاستعمار هو الذي يحركهم وينطقهم وينشئ لهم جماعات في أقطار متباعدة لأنهم مهرة في تقطيع وحدة الأمة) أ. هـ. • أين المثل العليا يا شيخ محمد؟ أين النظريات المثالية في الأخلاق؟ أين دروس الحكمة والروية والأناة؟ أين من يؤثرون وحدة الأمة على الانتصار لأنفسهم؟ ما بالك تصفهم بالجراءة على الأئمة، وسوء الظن بالآخرين واشتهاء النيل منهم؟ إنهم- إن وجد فيهم شيء من الجراءة على الأئمة فإنهم قد وجدوا في شيوخ كبار قضوا عشرات السنين في ميدان الدعوة والخطابة والتدريس شتائم لفقهاء أعلام وأئمة عظام لا أظن أن أحد من أهل الحديث يستطيع أن يباريها، اللهم قد يوجد بينهم شواذ، لكن لماذا نأخذ هذه الشواذ ونعممها ونعتبرها وضعا غالبا نصم بها اتجاها بأكمله؟ ثم هذا الذي لم يقله الشيخ (. . . . إن الاستعمار هو الذي يحركهم. . . .) هذا الذي لم يقله هنا قاله هناك ففي (هموم داعية ص131) ذكر هذا الصنف، وقال: (هل وراءهم أحد يكيد للإسلام فقد ظهروا بغتة في أقطار متباعدة وجاءني الجواب على غير انتظار) أ. هـ. • ثم ذكر أن شابا في مصر سأله سؤالا عن حكم الخل ثم سافر إلى (أبو ظبي) فسئل عقب خطبة جمعة عن حكم الخل أيضا فتعجب الشيخ وقال: (قلت للمصلين هل هذا السؤال مكتوب في عاصمة أجنبية أشرف على وضعه مع غيره من الأسئلة المحقورة بعض المبشرين والمستشرقين الذين يعملون لحساب الاستعمار الثقافي؟ لقد سمعت في إحدى المحافظات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 شكوى من أن هؤلاء تجيئهم الكتب بسهولة من وراء الحدود وتبذل لهم بالمجان وتوجد قوى محلية وعالمية تعين على ذلك حتى تنتكس النهضة المعاصرة) أ. هـ. • إذا الشيخ يؤكد أنهم عملاء للاستعمار والمبشرين والمستشرقين وأن الكتب تأتيهم من الخارج بالمجان وترسل إليهم من وراء الحدود. . . الخ. أترى الشيخ استشاط حين بدأ الشباب يسألون عن تفصيلات ليس له بها عناية فصار يلقي بالتهم هكذا. . . من باب حسن الظن أقول: لعل الأمر كذلك! • وفي كتاب (هموم داعية ص149) يقول: (كأنما يختار الدعاة وفق مواصفات تعكر صفو الإسلام وتطيح بحاضره ومستقبله وما أنكر أن هناك رجالا في معادنهم نفاسة وفي مسالكهم عقل ونبل بيد أن ندرتهم لا تحل أزمة الدعاة التي تشتد يوما بعد يوم، والغريب أن الجهود مبذولة لمطاردة الدعاة الصادقين من العلماء الأصلاء والفقهاء الحكماء وفي القضاء عليهم وترك المجال للبوم والغربان من الأميين والجهلة والسطحيين، وراء ذلك مخطط استعماري مدروس بدهاء) . • إذا نستفيد مما سبق أن الشيخ الغزالي علم من مصادر رسمية تتابع حركة هؤلاء الشباب أنهم تأتيهم الكتب من الخارج بسهولة وأن وراءهم مخطط استعماري مدروس بدهاء، وهذا يناقض ما ذكره من قبل بأنهم يحاولون الوشاية بالعلماء والإطاحة بهم، والقضية يمكن أن تكون هي العكس، فإن السلطات الرسمية يمكن أن تستغل كلام الغزالي وغيره للوقيعة بالشباب المسلم وضرب الصحوة الإسلامية بكافة جوانبها وفئاتها بحجة أن ورائهم مخطط استعماري مدروس بدهاء وبحجة أن الكتب تأتيهم من الخارج والدليل هذا ما يقوله الشيخ الغزالي. • إلى أن يقول في الكتاب نفسه (ص153) : (الحق أن هناك أناسا يشتغلون بالدعوة الإسلامية وفي قلوبهم غل على العباد ورغبة في تكفيرهم أو إشاعة السوء عنهم، غل لا يكون إلا في قلوب الجبابرة والسفاحين وإن زعموا بألسنتهم أنهم أصحاب دين، إن فقههم معدوم وتعليقهم إنما هو بالقشور والسطحيات) . • وفي (مائة سؤال حول العالم ص2/313) ذكر أنه سمع مفتيا في الإذاعة يقول: "لا يجوز إخراج زكاة الفطر نقودا" وقال إن هذا الشيخ قال:" من أخرجها نقودا فيجب عليه أن يعيدها وإن إخراجها نقودا بدعة" عقب الشيخ الغزالي بقوله: (وخيل إلي من غضب المفتي أنه لو وجد أبا حنيفة لأمسك بخناقة أنفاسه، لماذا نرى فهمنا وحده هو الدين؟ لم ضيق الأفق؟ ... إلخ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 وهو لم يذكر -في الحقيقة- من غضب المفتي شيئا. ذكر أن المفتي أفتى بهذا، وهذا مذهب الأئمة الثلاثة-فيما أعلم-. المشهور أنه لا يجوز إخراج الزكاة -زكاة الفطر- نقودا، بل لابد أن تكون طعاما، ولعل هذا يؤكد أن الشيخ يسقط مشاعره -أحيانا- على الآخرين، فإنه هو الذي يحدث منه الغضب والانفعال إزاء مخالفيه. • وفي (الدعوة تستقبل قرنها الخامس عشر ص71) يقول: (رأيت من أشباه المتعلمين ناسا يتصورون الإسلام يحد من جهاته الأربع بلحية في وجه الرجل، ونقاب في وجه المرأة، ورفض للتصوير ولو على ورقة، ورفض للغناء والموسيقي ولو في مناسبات شريفة وبكلمات لطيفة) . • ويبلغ الانفعال ذروته بالشيخ حين يقول -بالحرف الواحد- معللا مواقفه القاسية وعبارته الفظة المنكرة يقول في (سر تأخر العرب ص52) : (الصحوة الإسلامية المعاصرة مهددة من أعداء كثيرين والغريب أن أخطر خصومها نوع من الفكر الديني يلبس ثوب السلفية وهو أبعد الناس عن السلف إنها ادعاء السلفية وليست السلفية الصحيحة) أ. هـ. ثم علق بالهامش بقوله: (والسلفية تعني العودة إلى عقيدة السلف وأخلاقهم السمحة الكريمة وليست الدعوة بواسطة التصيد والحقد) . • شيء عجيب أيها الأخوة يعني أخطر على الإسلام من اليهود؟ نعم. من النصارى؟ نعم. من الشيوعين؟ نعم. من الحكام الظلمة؟ نعم. من القبوريين؟ نعم. من الصوفية؟ نعم. أخطر على الإسلام من كل ذلك، الفكر الديني الذي يلبس ثوب السلفية! فعلا كلام عجيب، لو أن الشيخ خص أفرادا لقلنا ربما يوجد في أوساط بعض المتسننة شباب عندهم طيش، عندهم تعجل، عندهم ضيق أفق، هذا لا ينكر، لكنها تبقى حالات فردية وقضايا خاصة، ويبقى أن قضية "الفكر السلفي" ليس حكرا على طائفة معينة، ولا على فرد معين، الفكر السلفي اليوم يكتسح الساحة في كثير من بلاد الإسلام، والصحوة الإسلامية غالبها ينتسب إلى هذا التيار حتى أن الغزالي نفسه أشار إلى ذلك، ففي الكلام الذي نقلته قبل قليل قال: (إنهم ظهروا بغتة في أقطار متباعدة) . وفي موضع آخر قال: (وقد كثر هؤلاء في هذه الأيام العجاف) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 ثمت بعض التعليقات الخفيفة أختم بها هذه الكلمات: أولا: أين الكلام النظري في معالجة الأمر بالحكمة، لقد قال الشيخ في كلامه السابق إنه لابد من الهدوء في معالجة الأمر والحكمة وتحمل الخلاف، وألا يفسد الخلاف للود قضية وتجنب الوقيعة في السلف وتجنب الطعن في الأئمة، لأن الأمة تبقى بلا تاريخ بلا قيم فأين ذلك الكلام النظري؟! ثانيا: أخفق الغزالي في الامتحان الذي وضع سؤاله بنفسه وهل يخفق إنسان في امتحان وضع سؤاله بنفسه؟ نعم، لقد أخفق الشيخ. في "عقيدة المسلم ص13" يقول: (وربما لمحت في أخلاق بعض المجادلين عوجا وفي أسلوبهم عنفا فأوثر مغفرة هذا على مقابلة السيئة بمثلها لأننا أمة فقيرة جدا إلى التجمع والائتلاف فلندفع ثمن هذا من أعصابنا والمرجع إلى الله) . وحينئذ يحق لنا أن نخاطب الشيخ بقول أبي الأسود: يا أيها الرجل المعلم غيره ... هلا لنفسك كان ذا التعليم تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى ... كيما يصح به وأنت سقيم ابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك ينفع إن وعظت ويقتدى ... بالقول منك وينفع التعليم لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم • فعلا إن هذا الأسلوب الهجومي الذي شنه الشيخ جعل أي قارئ فيه أثر من الولاء السلفي يرفض آراء الشيخ غثها وسمينها خطأها وصحيحها، لأنه ربما قفز إلى ذهنه ألف ظن، وألف تساؤل حول دوافع هذا الموقف وبواعثه ومن حقه أن يقع له ذلك، فإن هذه الطريقة لاشك ليست طريقة تقويم وتربية وإصلاح. لقد نجح الشيخ في استعداء القراء عليه بهذه الطريقة -فسامحه الله وغفر الله لنا وله-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 ثالثا: لم يكن الغزالي واقعيا ولا موضوعيا حين طرح جميع المسائل التي يثور حولها الجدل، بل كان يتهم مخالفيه بالسذاجة والسطحية والبله والغفلة والعته والعمى والجنون والأغراض الشخصية والدموية والسوداوية والحقد والتصيد والتشنج ... إلى غير ذلك وهذه كلها ومائة مثلها لا ميزان لها في مقام الحجة والبرهان وميزان النقد العلمي. رابعا: على فرض وقوع أخطاء تجاه الشيخ -كما أسلفت- فكان الجدير به ألا يؤثر هذا الخطأ الصادر تجاهه شيئا في نفسه على اتجاه بأكمله وكان ينبغي أن يتحمل هذه الأشياء كما ذكر في "عقيدة المسلم" ويدفع هذا الثمن من أعصابه ويحتسب الأمر عند الله عزوجل، إيثارا لوحدة الأمة وجمع كلمتها. -أخيرا- فنحن لم نقرأ حتى الآن في كتاب من الكتب هجوما من هذه التيارات على الشيخ، وكل ما ذكره الشيخ الغزالي كتاب واحد ألف ضده. • ولكن الذي قرأناه هو تشنيع الشيخ عليهم وإفراغه ما في جعبته ضدهم، وقد فرح بكتب الشيخ هذه كثير من أصحاب الفكر المنحرف سواء كانوا يساريين أو علمانيين أو غيرهم، فطاروا بها كل مطار وصوروها ونشروها ووزعوها ونشروا مقتطفات منها في كل وسيلة. وهم يعتبرون فكر الشيخ (مر حلة مؤقتة) يواجهون بها الدعاة في هذه المرحلة، فهم الآن يحاربون الحجاب، ويطالبون بالاختلاط وحرية المرأة، وإفساح المجالات لعملها في كل ميدان، وتنصيبها وزيرة وقاضية و.. و.. ويحاربون تحريم الغناء والتصوير وغيرها باسم الشيخ، باسم أن الشيخ الغزالي أفتى بها وهذا هو العلم. وهؤلاء هم الناس الذين يفهمون! • وبعدما تتجاوز المرحلة هذا الأمر -ونسأل الله ألا يكون ذلك- سوف يتجاوز هؤلاء فكر الشيخ ويعتبرونه فكرا قديما عفى عليه الزمن وينتقلون إلى كاتب آخر يكون أكثر تحررا وانفتاحا ومرونة من فكر الشيخ. • لقد فرح بكتابة الشيخ نفر غير قليل من هؤلاء، ووزعوها بكل وسيلة والقصد من ورائها النيل من هذه الصحوة الإسلامية المباركة، ومحاولة الانتصار في هذه المعارك الفكرية والاجتماعية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 الفصل السابع: نظرات في كتاب السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث السنة النبوية هي ما أُثر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خَلْقية أو خُلُقية، وهي مصدر تؤخذ عنه الشرائع والعقائد متى ثبت إسنادها وصحت نسبتها. • والشيخ الغزالي يؤمن بالسنة النبوية، ووجوب الأخذ بها، ويرد على منكريها، لذلك عقد في كتاب (مستقبل الإسلام) فصلاً عنوانه (أهل القرآن وأهل الحديث) ردّ فيه على من يسمون أنفسهم بالقرآنيين، وهم أولئك الذين يرفضون السنة، ويوجدون في عدد من البلاد، من أشهر البلاد التي توجد فيها هذه الطائفة-الهند- فهم لا يؤمنون إلا بالقرآن وما ورد فيه. وبيّن أنه لا غنى لكل مسلم عن السنة النبوية ويستحيل أن يقوم الإنسان حتى بشعائر الإسلام العظام كالصلاة والصيام والحج والزكاة إلا بعد الإيمان بالسنة النبوية لأن القرآن لم يأت بتفاصيل هذه الأشياء. وفي كتابه الذي عنونه بـ (كيف نفهم الإسلام) وضع فصلاً عنوانه (في دائرة السنة) تحدث فيه عن السنة النبوية وأقسامها، وما يؤخذ منها على أنه تشريع وما لا يؤخذ -من وجهة نظره بطبيعة الحال-. وتكلم في غير موضع من كتبه عن جهود علماء السنة في حفظ السنة وحمايتها وتمييز صحيحها من سقيمها. ولكنه خص هذا الموضوع بكتاب من أواخر مؤلفاته هو (السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث) ومع هذا الكتاب سنعيش في هذا الفصل بإذن الله. وأول ما يلفت النظر هو العنوان، مَنْ أهل الفقه ومَنْ أهل الحديث؟ ماذا يدل عليه كل من هذين المصطلحين؟ والواقع أن المؤلف لم يحدد بصفة علمية ماذا يعني بهما؟ لا في هذا الكتاب ولا في غيره من كتبه الأخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 بل إن الاستعانة بكتبه الأخرى تزيد الأمر غموضاً فهو حينا يطلق (أهل الحديث) على رجال الحديث المشتغلين به، ففي دستور الوحدة (ص51) : ( .... أن العالم الإسلامي أعطى مقادته لأئمة الفقه إلى عصرنا ولم يعطها رجال الحديث لسببين: أولهما: أن الفقه المذهبي يعتمد على السنة كما يعتمد على القرآن الكريم مع بصر أحد بالمعاني والغايات. والثاني: أن المحدثين - إلا قليلاً اهتموا بالأسانيد أكثر من المتون، وشغلتهم العنعنة عن الفقه الرحب!!) وفي بعض المواضع ما يومئ إلى أن أهل الحديث يشمل الأئمة الثلاثة: مالكاً والشافعي وأحمد!. وهذا النص -على إجماليته- لا يسلم لنا ففي مواضع كثيرة يشير الغزالي إلى الشباب المسلم المعاصر الذي يعنى بدراسة الحديث النبوي والعمل بالسنة ويسميهم (أهل الحديث) ، كما في مستقبل الإسلام (ص162،163) و (دستور الوحدة) (ص51،196) . وفي موضع ثالث يشير إلى أصحاب فتنة الحرم (دستور الوحدة ص105،121) . • فأي لون أو معنى يريد الغزالي من هذا العنوان؟ تتداخل الخطوط والخيوط لأننا نجد في كتابه الجديد هذا هجوماً على الشباب الذي يعمل بالسنة ويدرسها ويدعو إليها، ولكننا نجد إلى جواره هجوماً على الشافعية والحنابلة، لأنهم قالوا: بجواز نكاح البكر دون إذنها، ثم نجد هجوماً ثالثاً على من يجعلون دية المرأة نصف دية الرجل، ويستحبون لها عدم الخروج إلى المسجد، وهم الأئمة الأربعة قاطبة. هجوم رابع على من يحرمون الغناء وهم جمهور الأئمة من الأربعة وغيرهم. والشيخ يعزز أحياناً جانب الحديث النبوي -كما في مسألة إجبار البكر-، ويعزز أحياناً أخرى جانب المخالفين للحديث كما في مسألة تجويزه إنكاح المرأة نفسها من شاءت..! وهكذا يقع القارئ في حيرة لا يخرجه منها إلا أن ينتبه إلى أن الشيخ خطيب ومتحدث وصاحب أسلوب أدبي، وقلم ساخر، أكثر منه مفكراً ومنظراً وعالماً وفقيهاً، والقضايا العلمية -التي هي موطن الإثارة والاستفزاز في كتبه- تأتي أمثلة فقط تتكرر بين آونة وأخرى. على كل ندع قضية (المصطلح) جانباً .... فلا علينا: من أهل الفقه ومن أهل الحديث! وندخل إلى الكتاب..! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 الموقف الأول: البكاء على الميت: ص16 من الكتاب: قال: (انظر موقف عائشة رضي الله عنها عندما سمعت حديث أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه، لقد أنكرته وحلفت أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ما قاله، وقالت بياناً لرفضها إياه - أين منكم قول الله سبحانه وتعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) إنها ترد ما يخالف القرآن بجرأة وثقه ومع ذلك فإن هذا الحديث المرفوض من عائشة ما يزال مثبتاً في الصحاح، بل إن ابن سعد في طبقاته الكبرى كرره في بضعة أسانيد) ثم يقول: (والذي تؤكده عائشة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إن الكافر يعذب ببكاء أهله عليه) . التعليق:- 1- إن الحديث (إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه) حديث متفق عليه عن عمر وعن ابن عمر رضي الله عنهما، وكذلك رواه عن عمر جمع من الصحابة منهم ابن عباس، وابن عمر، وأبو موسى الأشعري وأنس بن مالك، وغيرهم. ورواه النسائي بسند صحيح عن عمران بن حصين (4/17) فإنكار عائشة لهذا الحديث مقابل بإثبات جمع كبير من الصحابة له، وهم عمر، وابن عمر، وابن عباس، وأنس، وأبو موسى الأشعري، وعمران بن حصين، وغيرهم، وكما يقول الأصوليون المثبت مقدم على النافي. لأننا نتصور أنه قد يخفى على عائشة هذا الحديث فلم تسمعه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لكن لا نتصور كيف يقول خمسة أو ستة من الصحابة إن الرسول-صلى الله عليه وسلم- قال هذا الحديث ويكون لم يقله؟. لا شك أن عائشة رضي الله عنها أنكرت ذلك، وقالت (إن عمر أو أبا عبد الرحمن -ابن عمر- لم يكذب لكنه نسي أو أخطأ) ومع ذلك فإن من الصعب أن ننسب هذا الوهم لعدد من الصحابة، ثم قد يقول قائل إن هؤلاء الصحابة قد أخذوه عن عمر، ومع ذلك لو أخذوه عن عمر (أي فرضنا جدلاً أن مدار الحديث على عمر) فإن كون هؤلاء الستة من الصحابة يأخذون الحديث مأخذ التسليم دليل على أنه حديث صحيح نقلاً وعقلاً ولا يمكن أن يتقبله ستة من الصحابة ثم نقول إن هذا الحديث لا يمكن أن يكون مقبولاً عقلاً، وهل يقول أحد إن هؤلاء الذين قبلوه كانوا بلا عقول؟ 2- إن العلماء لهم مسالك في فهم الحديث (إن الميت ليعذب ببكاء أهله) أصح هذه المسالك - في نظري- المسلك الذي ذهب إليه الإمام الطبري، والإمام ابن تيمية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 وغيرهما من أهل العلم وهو: أن معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: (يعذب ببكاء أهله عليه) أي أنه يتألم لبكائهم وحزنهم لا أن ذلك عذاب القبر أو عذاب الآخرة. • وبذلك نعلم أن الميت يدري أن أهله يبكون عليه خاصة إذا كانوا يبكون وهم قريبون منه، كما إذا كان هذا الميت لم يذهب به إلى قبره أو كان ذهب به إلى قبره وهم يبكون عليه عند القبر، كما يفعله كثير من الناس في الجاهلية وفي العصور المتأخرة أيضاً فبذلك يكون الميت قد ردت روحه إليه كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحاح، ويسمع بكاء أهله فيحزن لبكائهم. • ومن أهل العلم من قال إن الحديث يحمل على من رضي بهذا البكاء أو أوصى به أو أمر به كما كان يفعله أهل الجاهلية، وهذا مسلك الإمام الخطابي. • ومنهم من قال إنه يعذب بخصال يبكونها فيه، فقد يقول أهل الميت مثلاً: (واحزناه على فلان الكريم الشجاع الجواد ... ) ويذكرون خصالاً كثيرة فيه هذه الخصال لم يستفد منها في الدعوة إلى الله عز وجل، ولا في نشر الإسلام، لكن سخرها في المعاصي فكان يعذب بها، فيعذب بأشياء يبكونها فيه. • على كل حال فالأقوال في المسألة كثيرة لكن القول الأول أنه يعذب، أي يحزن ويتألم هو أقوى الأقوال في نظري. وبذلك يتبين أنه لا إشكال الحديث. 3- لننظر في استنكار المؤلف لوجود الحديث في الصحاح فإنه يقول: (ومع ذلك فإن هذا الحديث المرفوض من عائشة لا يزال مثبتاً في الصحاح) إننا قد نقبل استنكار حديث في سنده مقبول على إغماض -كما يعبر المؤلف- لكن متن يرويه عمر وغيره مباشرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كيف لا يكون مثبتاً في الصحاح، وما هو الضير أن يكون موجوداً في البخاري أو مسلم، فضلاً عن أن يكون موجوداً في طبقات ابن سعد أو غيرها من كتب السنة؟! 4- من روى حديث عائشة هذا، حديث عائشة التي نفت فيه (إن الميت) وأثبتت (إن الله ليزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه) من رواه؟ الأئمة أنفسهم الذين رووا حديث عمر وابن عمر وابن عمر هم الذين رووا حديث عائشة، فأثبتوا هذا إلى جوار هذا، وهذا الذي تقتضيه الأمانة العلمية، والأمانة الشرعية، خاصة وأن حديث عائشة قد يفيد معنى جديداً يزيد حديث عمر وضوحاً كما سيأتي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 ما الفرق بين اللفظين؟ الغزالي استنكر حديث (إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه) وأثبت حديث (إن الكافر يعذب ببكاء أهله عليه) فأي فرق بين الحديثين؟ • إننا لو رددنا كل حديث لهذا السبب لما بقي عندنا من السنة إلا القليل، وإذا فسرنا الحديث بالتفسير السابق -تفسير ابن تيمية والطبري- فإنه لا إشكال، وإلا فعلى أقل الأحوال فإنه يمكن أن نحمل أحد اللفظين على الآخر، فنقول إن قوله (إن الميت ليعذب ... الخ) يعني الكافر كما دل عليه حديث عائشة، وهذا كثير، في القرآن الكريم فضلاً عن السنة، أرأيت قول الله عز وجل (قتل الإنسان ما أكفره) ، وقوله: (يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم) ، وقوله (فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن) . الإنسان هاهنا المقصود به الكافر كما ذكر أهل التفسير، وذلك مفهوم من السياق، فلا مانع من إطلاق العام وإرادة الخاص ولا مانع من حمل المطلق على المقيد في النصوص كما في آيات تحرير الرقبة، كما هو مقرر في كتب أصول الفقه، وبناءً على ذلك فإننا نقول، إن حديث عائشة يوضح حديث ابن عمر ولا إشكال. 6- إننا نقول حتى عذاب الكافر ببكاء أهله عليه إنه لا يتفق مع مقاييس الشيخ، إذ كيف يعذب بعمل لم يصدر منه؟ الإشكال نفسه يرد ها هنا إلا أن يحمل الحديث على أحد المحامل -السابقة- والله يقول عز وجل: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) . ويقول في الآية التي احتجت بها عائشة: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) . وهذا عام يشمل كل إنسان، فالإشكال الذي يفر منه الشيخ وارد بالحديث الذي أثبته. ثم: أين أهل الفقه ها هنا وأين أهل الحديث؟ إن عمر رضي الله عنه من أكابر فقهاء الصحابة وعظمائهم، ومن مدرسته الفقهية نهل عبد الله بن مسعود الذي نشر العلم والفقه بالكوفة، ولذلك يقول الأحناف إن أصل فقههم متلقى عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، ومدرسة الفقه الحنفي هي التي عرفت بمدرسة الرأي، وهي التي يخصها المؤلف أحياناً باسم (أهل الفقه) !. فما القصة إذن؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 الموقف الثاني: قصة موسى وملك الموت (ص 206) يقول الشيخ (وقد وقع لي وأنا بالجزائر - أن طالباً سألني أصحيح أن موسى عليه السلام فقأ عين ملك الموت عندما جاء لقبض روحه بعدما استوفى أجله، فقلت للطالب وأنا ضائق الصدر ماذا يفيدك هذا الحديث؟ إنه لا يتصل بعقيدة ولا يرتبط به عمل) ثم قال له: (اشتغل بما هو أجدى) يقول: (وعدت لنفسي أفكر، إن الحديث صحيح السند لكن متنه يثير الريبة ... يفيد أن موسى يكره الموت ولا يحب لقاء الله بعدما انتهى أجله، وهذا المعنى مرفوض بالنسبة للصالحين من عباد الله، كما جاء في الحديث الآخر (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه) فكيف بأنبياء الله، وكيف بواحد من أولي العزم، إن كراهيته للموت بعدما جاء ملكه أمر مستغرب، ثم هل الملائكة تعرض لهم العاهات التي تعرض للبشر من عمى أو عور، ذلك بعيد) إلى أن يقول في (ص 28) (قال المازري: قد أنكر بعض الملاحدة هذا الحديث وأنكر تصوره) ثم ذكر أجوبة -نقلها الغزالي عنه-، وبعد ذلك قال الغزالي: (هذا الدفاع كله خفيف الوزن وهو دفاع تافه لا يساغ، ومن وصم منكر الحديث بالإلحاد فهو يستطيل في أعراض المسلمين، والعلة في المتن يبصرها المحققون وتخفى على أصحاب الفكر السطحي) . التعليق: 1- حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة مجيء ملك الموت إلى موسى عليه السلام. رواه البخاري، ومسلم، والنسائي، وأحمد في مسنده، وابن خزيمة، وغيرهم، وقول المؤلف في أول حديثه (ماذا يفيدك هذا الحديث) لهذا الطالب السائل، أقول فوائد الحديث كثيرة: منها ابتلاء الإنسان بالإيمان الغيب، فإن الله عز وجل جعل من أخص خصائص المؤمنين أنهم يؤمنون بالغيب: (الذين يؤمنون بالغيب) . فهذا الحديث وغيره من الأحاديث التي ثبتت هي من الغيب الذي يبتلي المؤمنون بالإيمان به- فضلاً عن ربط المؤمن بالأجيال السابقة من خلال هذه التفصيلات النبوية، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام كثيراً ما يذكر لبعض أصحابه بعض القضايا والقصص والتفاصيل والأحداث التي حدثت في الأجيال والقرون السابقة حتى يربطهم بتلك الأجيال ويشعرهم بأن السابق واللاحق من أمة الإسلام أمة واحدة، يدعو لاحقها لسابقها، ويدعو سابقها للاحقها. وإلا فأنت تجد كثيراً من القصص التي ذكرها النبي -صلى الله عليه وسلم- عن بني إسرائيل في الصحيحين وغيرهما، وقد يرد السؤال نفسه، ما الفائدة منها؟ فنقول: هذه الفائدة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 * كذلك الكشف عن طبيعة الإنسان. خاصة في بعض المواقف حتى حين يكون نبياً مصطفىً مختاراً، فإنه لا يخرج عن إنسانيته وبشريته. * هذا إضافة إلى بعض الفوائد الفقهية وهي كثيرة ذكرها أهل العلم منها فضل الموت في الأرض المقدسة، ولذلك جاء في الحديث الصحيح (من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليفعل) وذلك لأن موسى قال في آخر الحديث: رب أدنني من الأرض المقدسة رمية بحجر) ، وقد يستفاد منها حماية الأنبياء لجانب التوحيد لما يدل عليه هذا الدعاء من حرص موسى على عدم اشتهار قبره ومعرفة بني إسرائيل به لما يخشى من عبادتهم لهم، إلى غير ذلك من الفوائد الفقهية والعلمية. 2- قول المؤلف: (إنه مما يستغرب أن موسى يكره الموت بعدما جاءه ملك الموت) أقول كون موسى وغيره يكره الموت، ليس أمراً مستغرباً فكراهية الموت جبلة في كل إنسان، ولذلك لما ذكر الرسول -صلى الله عليه وسلم- في حديث عائشة وأبي هريرة وهما في الصحيح (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه) قال له الصحابة يا رسول الله أكراهية الموت؟ فكلنا يكره الموت فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- (ليس ذلك ولكن المؤمن إذا حضر بُشر برحمة الله ورضوانه وجنته فأحب لقاء الله فأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حضر بُشر بسخط الله وعذابه وناره فكره لقاء الله وكره الله لقاءه) . والتابعون لما روى لهم أبو هريرة الكلام نفسه قالوا الإيراد نفسه: فكلنا يكره الموت؟ إن كان كذلك فقد هلكنا!، فمن طبيعة الإنسان يكره الموت مهما كان، ولا غرابة أن يكرهه موسى عليه السلام. 3- أما العاهة التي ذكرها واستغرب أن توجد بالملك. فإن العاهة ها هنا عاهة عارضة للصورة التي تصور بها الملك وليست للصورة الأصلية التي خلق عليها، وقد ثبت أن الملك يتصور للنبي وغيره بصور شتى فلا مانع أن يعرض لهذه الصورة عارض لأنها صورة بشرية وليست صورة الملك التي خلقه الله تعالى عليها، والملك -على كل حال- عبد مخلوق من عدم وصائر إلى الموت، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام. * قوله (وهو دفاع تافه لا يساغ) هذا غير جيد، لأن هذه أقوال علماء كبار يجب احترامهم ومعرفة فضلهم، حتى لو لم يقبل الإنسان آراءهم، فالتأدب معهم واجب، وكذلك قوله (يبصرها المحققون وتخفى على أصحاب الفكر السطحي) -يعني العلة الموجودة في الحديث- هل يصح وصف أئمة الحديث كالبخاري، ومسلم وأحمد، والنسائي، وابن خزيمة، وغيرهم، بأنهم أصحاب الفكر السطحي؟ وكذلك رجال الإسناد الذين رووه؟ والذين تكلموا على متنه مقرين له، هل يجوز وصفهم بأنهم من أصحاب الفكر السطحي؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 ثم من يعني بالمحققين؟ هلا ذكر لنا واحداً منهم؟ واحداً فقط ممن يصح أن يسمى (محققاً) ؟ الأولى: أن نقول لمن لا يقبل هذا الحديث إن هذا الحديث ثابت الإسناد وقد قبله أهل العلم وأولوه على تأويلات كثيرة، وحين يقول قائل إنني لا أستطيع أن أؤمن بهذا الحديث ولا أقبله نقول له: قد آمن به وقبله من هو خير منك، وأغزر منك علماً، وأوسع منك عقلاً، وأعلى منك شأناً ولكن ليس ردك لهذا الحديث موجباً لوصفك بالكفر والضلال والإلحاد والزندقة، وما قاله العلماء السابقون، كما قال المازري وابن خزيمة (إن الملاحدة لا يؤمنون بهذا الحديث) فليس مقصودهم أن من لم يؤمن بهذا الحديث فهو ملحد) لا، إنما مقصودهم حكاية الواقع الذين يعيشونه في عصرهم أن الملاحدة يتمسكون بهذا الحديث وأمثاله للطعن بالسنة كلها، وهذا موجود، ولا يعني أن من لم يقل بهذا الحديث فهو ملحد، إذ أن هذا الحديث يحتاج إلى أن نقول إنه متواتر أو أنه يفيد العلم اليقين القطعي حتى نصف من أنكره بالإلحاد، إنما الأمر الذي كان يحسن ألا يقع هو وصف الدفاع بأنه دفاع تافه لا يساغ ووصف من يؤمنون بهذا الحديث أنهم من أصحاب الفكر السطحي. الموقف الثالث: قصة المجبوب (ص 29) يقول (ومن أجل ذلك استغربنا مارواه ثابت عن أنس أن رجلا كان يتهم بأم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم (- مارية القبطية-) فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعليّ: اذهب فاضرب عنقه، فأتاه عليّ فإذا هو في ركي يتبرد فيها فقال لها اخرج فناوله يده فأخرجه فإذا هو مجبوب ليس له ذكر فكف عليّ عنه ثم أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال يا رسول الله إنه لمجبوب ما له ذكر) يقول الشيخ (يستحيل أن يحكم على رجل بالقتل في تهمة لم تحقق ولم يواجه بها المتهم، ولم يسمع له دفاع عنها، بل كشفت الأيام عن كذبها) . التعليق: إن الحديث رواه مسلم وذلك برقم (2771) وأحمد (3/281) وغيرهما من أئمة الحديث، فهو حديث صحيح لا مطعن فيه. وقال الإمام ابن القيم في سند الحديث (ليس في إسناده من يتعلق عليه) مع أنه في مسلم فقد بحث ابن القيم في إسناده فوجد رجال إسناده ثقات لا يمكن أن يتعلق عليهم أو يضعف أحد منهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 • أما الإشكال الوارد في الحديث فقد أجاب عنه ابن القيم -رحمه الله- في زاد المعاد (5/16) بجواب سديد دون أن يحتاج إلى أن يتجشم تضعيف الحديث وهو في مسلم قال ابن القيم -رحمه الله- (وقد أشكل هذا القضاء على كثير من الناس، فطعن بعضهم في هذا الحديث ولكن ليس في إسناده من يتعلق عليه، وتأوله بعضهم على أنه لم يرد حقيقة القتل إنما أراد تخويفه ليزدجر عن مجيئه إليها، قال وهذا كما قال سليمان للمرأتين اللتين اختصمتا إليه في الولد عليَّ بالسكين حتى أشق الولد بينهما ولم يرد أن يفعل ذلك بل قصد استعلام الأمر من هذا القول (يعني سليمان حينما قال أشق الولد بينهما لم يكن يقصد حقيقة الكلام الذي يقوله) وأحسن من هذا أن يقال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر علياً رضي الله عنه بقتله تعزيراً لإقدامه وجرأته على خلوته بأم ولده -صلى الله عليه وسلم-، فلما تبين لعليّ حقيقة الحال وأنه بريء من الريبة كف عن قتله. والتعزير بالقتل ليس بلازم كالحد بل هو تابع للمصلحة دائر معها وجوداً وعدماً) أ. هـ. على هذا يمكن أن يقال إن الرسول- صلى الله عليه وسلم- أمر بقتله لأنه كان يدخل على أم ولد النبي-صلى الله عليه وسلم- في غيبته ويخلو بها وقد شاع هذا الكلام في الناس فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقتله تعزيراً لأنه تسبب في قالة السوء في بيت الرسول -صلى الله عليه وسلم- بفعله المحرم، إضافة إلى ما يوجد من الشبهة في ذلك، فلما بان الأمر للناس وانتفى الكلام بأن الرجل كان مجبوباً زال ما يدعو إلى تعزيره بالقتل فعفى عنه الرسول -صلى الله عليه وسلم-. الموقف الرابع: نعي الموتى (ص 30) يقول الشيخ: (ومما يحتاج إلى الفقه السليم تحريم نعي الموتى، وقد جاءني بعض الطلاب يقولون: إنهم قرأوا أحاديث تفيد ذلك، ومن ثم فهم يستنكرون الإيذان بأخبار الموتى، قلت: إن النعي المكروه ما كان استعراضاً للمآثر والمفاخر وتنويهاً بالأفراد والأسر أما عدا ذلك فلا شائبة فيه، بل لا بد منه، قالوا: ما رواه الترمذي وابن ماجة غير ما تقول عن حذيفة رضي الله عنه قال عندما احتضر: (إذا أنا مت فلا يؤذن عليّ أحد فإني أخاف أن يكون نعياً وإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينهى عن النعي) ثم يقول الشيخ (وما أكثر الأحاديث المنتشرة اليوم بين الشباب يستنتجون منها أحكاماً سيئة إن قبلنا سندها على إغماض فإن متنها لا يصح قبوله) . التعليق: 1- الملاحظة الأولى في النعي، جاءت عدة أحاديث في منعه وجاءت أحاديث أخرى في فعله ومن الأحاديث التي جاءت في النهي عن النعي حديث حذيفة الذي أشار إليه المؤلف وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 عند الترمذي (حديث حسن) وفي بعض النسخ (حسن صحيح) وهو كما قال ومنها حديث ابن مسعود عند الترمذي وقال (حديث حسن) وأما الأحاديث الواردة في جواز النعي فمنها الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي إلى أصحابه في اليوم الذي مات فيه فحرج بهم إلى المصلى وكبر عيه أربعا) وهذا صريح في جواز النعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله، ولا مانع من كل حمل كل نوع من الأحاديث على حال فإن أهل العلم لم يضعفوا هذه الأحاديث ولا تلك لم يضعفوا أحاديث النعي بأحاديث النهي، ولا أحاديث النهي بأحاديث النعي، بل حملوا كل نوع على محمل، وهذا هو مسلك الراسخين في العلم الذين يحملون كل نوع من النصوص على محمل ويفهمون الموضوع على ضوء الأحاديث كلها، كما فصل ذلك أتم تفصيل الإمام الشاطبي في كتابه (الاعتصام) وغيره من كتبه وبناءً عليه نقول بأن الإخبار لمصلحة، جائز كالصلاة عليه، أو مسامحته أو ما أشبه ذلك، أو أن يكون الإخبار أمراً عادياً لا يقصد فيه الإعلان بموته، وهذا مذهب الجمهور والممنوع منه ما كان فيه مفاخرة وتعداد للمحاسن أو يصاحبه نحيب أو عويل أو جزع، أو ما أشبه ذلك، ولو سلكنا مسلك الرد بمثل هذا لما بقي من السنة شيء، بل إن في القرآن الكريم من هذا الكثير الكثير. 2- قوله في بعض الأحاديث التي تنتشر عند الشباب يقول (إن قبلنا سندها على إغماض فإن متنها لا يصح قبوله) أقول لا داعي للقبول على إغماض، فإن ما صح سنده من الأحاديث لا ينبغي التسرع في رد متنه فإنه قد يتوهم أن هذا المتن يعارض متناً آخر، وهذه المتون التي ظاهرها التعارض يجمع بينها بحمل كل حديث على حال، وهذا باب واسع، حتى الآيات القرآنية الكريمة قد يظهر بين بعضها شيء من التعارض فيدفعه أهل العلم، كما نقل عن ابن عباس وغيره في ذلك، وللشيخ الشنقيطي كتاب سماه (دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب) والشيء نفسه يوجد في أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا يدعو إلى تضعيف حديث بحديث مع أن إسناد كل منها صحيح، فإن لم يكن الجمع يمكن القول بالنسخ إذا ظهر دليله، دون أن يطعن في الراوي. وفي ذلك مؤلفات كتبها أهل العلم، كما كتب الإمام الطحاوي، وقبله الطبري في الجمع بين الأحاديث التي ظاهرها التعارض. وقد يتوهم أحياناً أن الحديث يعارض العقل أو الواقع أو يعارض التاريخ أو ما أشبه ذلك، فهذه على الإنسان أن يرجع فيها إلى ما قاله أهل العلم المتخصصون كابن قتيبة، وابن تيمية، وابن القيم، وابن حزم، والخطابي، وغيرهم من شراح الأحاديث قبل أن يسارع إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 تضعيف الحديث، فإنه قد يبدو له من فهم الحديث معنى إذا رجع إلى الحديث وألفاظه المختلفة وكلام أهل العلم تبين له أن ما فهمه من الحديث غير صحيح. وإلا فقولوا لنا: ما هو الضابط لرد الأحاديث أو قبولها؟ أو كلما تعثر عقل امرئ في قبول حديث سارع في تكذيبه ورده؟! ألا يعلم الغزالي أن هناك من يردون أحاديث قبلها هو وقبلتها الأمة كلها بحجة أنها لا توافق العقل؟. فكيف يستطيع أن نحسم الفوضى؟ ونوقف تيار الجراءة على السنة والمسارعة في ردها؟ إن الهجوم هكذا بدون ضوابط ولا أصول أمر في غاية الخطورة. وتعويل الغزالي على موضوع (الشذوذ) و (العلة) هو الآخر مسألة علمية دقيقة مرتبطة بدراسة الأسانيد، ومعرفة أحوال الرواة، واختلافهم على الشيوخ، ومن ثم ترجيح رواية بعضهم على بعض عند التعارض. الموقف الخامس: سكنى الشام (ص 30- 31) يقول: (وقد قرأت للمنذري -رحمه الله - في الترغيب والترهيب ستة عشر حديثاً في سكنى الشام، وما جاء في فضلها وأغلبها من رواية الترمذي، والحاكم، والطبراني، وابن حبان، وأبي داود، وأحمد، وما يروى -يعني من هذه الأحاديث- فهو عندما يتعرض للإسلام للخطر من قبله، أو تحدث ثغرة في حدوده تتطلب الرجال لسدها، ولما كانت فلسطين جزءا من الشام فنحن نعد الفرار منها عصيانا، والثبات فيها جهادا وللمدافعين عن الإسلام في أفغانستان، والفلبين، وسائر أراضيه كل الحقوق التي لعرب فلسطين أو لأرض الشام، كما جاء في الأحاديث الستة عشر) . التعليق: 1- كلام المؤلف قد يوهم بأنه يضعف الأحاديث الواردة في سكنى الشام، لأن السياق يشعر بذلك فإنه جاء بهذا الكلام بعد قوله (إن قبلنا سندها على إغماض) فيكون الكلام هكذا: يقول (وما أكثر الأحاديث المنتشرة اليوم بين الشباب فيستنتجون منها أحكاماً سيئة إن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 قبلنا سندها على إغماض فإن متنها لا يصح قبوله، وقد قرأت للمنذري- رحمه الله- ستة عشر حديثاً .... الخ) . فظاهر كلامه يدل على رد هذه الأحاديث، ولكن كلامه الآخر يوجد نوعاً من التردد بأنه قد يقبل هذه الأحاديث، لكن يحملها على محمل معين وهو عندما يتعرض الإسلام للخطر، لأنه حملها على محمل وحينئذ كأنه قبلها وآمن بها ثم حملها على ما إذا تعرضت بلاد الشام للخطر. 2- ما ورد في الشام فهو صحيح، بل متواتر ويكفي أنه ذكر الآن عن المنذري ستة عشر حديثاً وقال إنها في الترمذي، والحاكم، والطبراني، وغيرها، بل إن من الأحاديث ما هو في البخاري، ومن ذلك أن البخاري لما روى حديث الطائفة المنصورة - عن معاوية -رضي الله عنه- قام مالك بن يخامر وهو تابعي جليل ثقة فقال سمعت معاذاً يقول: (وهم بالشام) وهذه من أعظم فضائل الشام أن الطائفة المنصورة تكون فيه إما في غالب الأوقات أو في آخر الزمان، في الأيام التي تسبق قيام الساعة. 3- إن ورد في أهل الشام من دور بارز في جهاد أعداء الإسلام فإنه يشهد له الواقع والتاريخ -لهم دور مشكور غير مجهول في جهاد الصليبيين والتتر وغيرهم، وإحياء السنة والدفاع عنها عبر العصور- وكذلك لهم دور تاريخي ثبتت به الأحاديث آخر الزمان في أيام عيسى عليه السلام والمهدي والدجال وغيرهما والأحاديث في ذلك متواترة لا مجال للطعن فيها. الموقف السادس: إجبار البكر (ص 32- 33) يقول: (اتفق المحدثون على أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا تنكح البكر حتى تستأذن) ثم قال (ومع هذا فإن الشافعية والحنابلة، أجازوا أن يجبر الأب ابنته البالغة على الزواج بمن تكره) يقول (ولا نرى وجهة النظر هذه إلا انسياقاً مع تقاليد إهانة المرأة وتحقير شخصيتها) . التعليق: 1- قوله (اتفق المحدثون) على هذا الحديث (لا تنكح الأيم ... الحديث) لا أدري بالضبط ماذا يقصد، لكن الحديث على كل حال رواه البخاري ومسلم، والترمذي، وأبو داود، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 والنسائي، فهو متفق عليه بمعنى أنه رواه الشيخان، ربما هذا كان قصده، وإن كان اللفظ فضفاضاً، قوله: (اتفق المحدثون) . 2- ما نقله عن الشافعية والحنابلة فيه نظر فإن الإمام أحمد له روايتان في المسألة إحداهما أنه لا يجوز أن تجبر البكر البالغة على النكاح ولا تزوج إلا برضاها. وهذه هي الرواية الراجحة وهذا هو قول السلف وقد رجحه جمع من الحنابلة كابن تيمية، وابن القيم، وغيرهما. أما قول الشافعي فصحيح ففي الأم (5/18) ذكر أن للأب أن يزوج بنته بغير رضاها، وأطال في ذلك وهو اجتهاد يخطئ ويصيب على كل حال. • الصحيح في مسألة البكر ما قرره ابن القيم وما قرره الشيخ هنا أنه لايجوز ولا يحق أن تزوج البكر بغير رضاها وليس من حق وليها أباً كان أو غيره أن يزوجها دون رضاها. يقول ابن القيم: (وهذا هو القول الذي ندين الله به ولا نعتقد سواه وهو الموافق لحكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وأمره ونهيه وقواعد شريعته ومصالح أمته) ثم فصل في ذلك في (5/96) . ثم قول الشيخ -ها هنا- (هذا القول الذي ذهب إليه الحنابلة والشافعية انسياقاً مع تقاليد إهانة المرأة وتحقير شخصيتها) . • أقول: إن هؤلاء الأئمة الذين قالوا هذا القول لهم اجتهاداتهم كما أسلفت وقد استدلوا بأدلة من أبرزها، تزويج أبي بكر رضي الله عنه لعائشة من الرسول -صلى الله عليه وسلم- وذلك ثابت ولم ينقل أنه استأذنها في ذلك وهذا الذي استدل به الشافعي وأطال تقريره في الموضع المشار إليه من كتاب الأم مع أنه اجتهاد مرجوح -كما سبق- وإذا كان ليس من حق الأب أن يتصرف في أقل شيء من مال البنت فكيف يتصرف في حياتها وفرجها بدون رضاها، ومع أنه قول ضعيف إلا أنه يستند إلى دليل وإن كان دليلاً مرجوحاً، ففرق بين اجتهاد مرجوح يستند إلى دليل وبين قول لا يستند إلى دليل وإنما هو انسياق وراء التقاليد التي تهين المرأة وتحقر شخصيتها .... • ..... قبل صفحات وبالضبط في صفحة (11) من الكتاب ينتقد المؤلف بعض الشباب الذين يتسرعون في الطعن في الأئمة ويقول: (لا غرابة أن تسمع حدثاً يقول مالك لا يعرف حديث الاستفتاح ولا سنة الاستعاذة ولا يدرك خطورة البسملة، وهو يخرج من الصلاة دون أن يتم التسليمتين فهو جاهل بالسنة النبوية) فالشيخ الآن ينتقد بعض الأحداث لأنهم يقولون هذا عن مالك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 • يقول الشيخ أيضاً (وحدثاً آخر يقول: أبو حنيفة لا يرفع يديه قبل الركوع ولا بعده ويوصي أتباعه أن لا يقرأوا حرفاً من القرآن وراء الإمام، وربما صلى بعد لمس المرأة فهو يصلي بلا وضوء إنه هو الآخر جاهل بالإسلام) فعلق الشيخ الغزالي على هؤلاء الأحداث وما يقعون فيه من التسرع في الطعن بالأئمة بقوله (وينظر المسلمون إلى مسالك هؤلاء الفتية فينكرونها ويلعنونهم) . • ثم يقول (وانتشر الفقه البدوي والتصور الطفولي للعقائد والشرائع ... الخ) . فمثل هذا الكلام الذي يصدر من هؤلاء الشباب لا شك أنه خطأ وهو واقع عند بعض الشباب -وقد سبق أن تحدثت عن شيء منه في دروس بلوغ المرام،وإن كان الشيخ يبالغ- كعادته- في تصوير ذلك- لكن ألا تعتقدون أن من الأجدر بالعلماء أن يربوا الشباب على تقدير الأئمة أصحاب المذاهب وغيرهم من خلال احترام أقوالهم، ومن خلال التماس العذر لهم فيما أخطأوا فيه، ومن خلال البعد عن الطعن فيهم بأنهم ينساقون وراء التقاليد البالية ووراء العادات المنافية للإسلام؟ لا غرابة أن يقول الأحداث ذلك إذا كنا نجد كباراً إذا خالف أحدهم عالماً جليلاً أو فقيهاً مجتهداً وصفه بالسطحية والكذب والانسياق وراء عادات المجتمع وتقاليد الجاهلية. 4- ومرة أخرى نتساءل: أين أهل الفقه ها هنا وأين أهل الحديث؟ هؤلاء المنساقون وراء تقاليد الجاهلية التي تهين المرأة وتحقر شخصيتها -على حد تعبير الغزالي- هل هم من أهل الفقه أم من أهل الحديث؟ أم هم صنف ثالث؟ الموقف السابع: (الحجاب) (ص 36 وما بعدها) تحت عنوان (معركة الحجاب) ... ذكر الشيخ أحد عشر دليلاً على جواز كشف المرأة لوجهها وأن تغطية الوجه ليس بواجب، وهنا لست أريد أن أتحدث عن مسألة الحجاب ووجوبه، فقد تحدثت عنها تفصيلاً في موضوع المرأة، ولكن أريد فقط أن أنقل كلاماً ذكره المؤلف في كتاب له اسمه (مستقبل الإسلام خارج أرضه وكيف نفكر فيه) في (147- 148) من هذا الكتاب يقول: (ما أكثر القمامات الفكرية بين شبابنا لقيت جامعياً متديناً يقول إن فلان جمع نحو سبعين دليلاً على أن النقاب من الإسلام فقلت له وأنا انتهيت الآن من قراءة كتاب جمع نيفاً وأربعين دليلاً على أن الأرض ثابتة والشمس تدور حولها) ثم يعلق الشيخ على هذا يعني على المثلين المثل الذي جمع سبعين دليلاً على وجوب الحجاب وعلى المثل الآخر: (إنها فوضى مقصودة في ميدان العلم الديني ولا بد من تطهير هذا الميدان على عجل حتى ينقذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 المسلمون أنفسهم من هلاك محقق) لقد اعتبر الشيخ- أصلحه الله- هذه من القمامات الفكرية بين شبابنا، فما باله يخوض فيها إذن؟ أما كان الأولى به أن يشتغل بالهجوم على الشيوعيين الحمر الذين يتآمرون على الإسلام؟ وعلى النصارى الذين يخططون للسيطرة على أرض الكنانة؟ وعلى المفسدين المنحلين الذين يسيطرون على أجهزة الإعلام ويصوغون حياة الناس صياغة غريبة متحللة من قيم الإسلام؟ أما كان له في ذلك شغل أي شغل؟ إن الشيخ يوم كان مشغولاً في هذا الميدان الكبير كان محل حفاوة الجميع وتقديرهم، للدور الذي يقوم به في حماية شرائع الإسلام وعقائده. الموقف الثامن: هل تزوج المرأة نفسها (ص 25) يقول: (والمرأة في أوروبا تباشر زواجها بنفسها ولها شخصيتها التي لا تتنازل عنها وليست مهمتنا أن نفرض على الأوروبيين مع أركان الإسلام رأي مالك أو ابن حنبل إذا كان رأي أبي حنيفة أقرب إلى مشاربهم فإن هذا تنطعاً أو صداً عن سبيل الله - ويبدو أن هنا خطأ مطبعي إن هذا تنتطع أو صد عن سبيل الله - علق الشيخ بقوله- يعني في الحاشية (الأحناف أن القرآن أسند عقد الزواج إلى المرأة وقال (حتى تنكح زوجاً غيره) فعقدها المباشر صحيح ورد حديث (أيما امرأة أنكحت نفسها فنكاحها باطل باطل باطل) لأنه يخالف ظاهر القرآن. التعليق: 1- معنى النكاح في الآية التي استدلوا بها في قوله تعالى: (حتى تنكح زوجاً غيره) ما المقصود بالنكاح هنا؟ هل هو العقد أو الجماع؟ المقصود الجماع بدليل قوله -صلى الله عليه وسلم- (أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) فبناء عليه قوله تعالى (حتى تنكح) أي حتى يجامعها زوج آخر فليست في مجال العقد فلا حجة فيها، ولذلك لو عقد عليها رجل ثم طلقها قبل وطئها لم تحل للأول. 2- رأي الأحناف في قضية جواز النكاح بدون ولي -الذي وقفت عليه في كتب الأحناف- أن أبا حنيفة فعلاً يجيز عقد النكاح بدون ولي، ولكن خالفه في ذلك بعض تلاميذه كأبي يوسف، ومحمد وغيرهما، فلهم في ذلك أقوال أخرى مختلفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 3- الجمهور منعوا تزويج المرأة نفسها واستدلوا بالقرآن الكريم أيضاً -يعني إذا كان رد حديث (أيما امرأة أنكحت نفسها .... الخ) بالقرآن الكريم- الجمهور استدلوا بالقرآن الكريم على أنه لا يجوز للمرأة أن تزوج نفسها كقوله تعالى: (فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن) يقول الإمام الشافعي: (هذه أبين آية في كتاب الله تدل أن النكاح لا يجوز بغير ولي) . لأنه لو لم يكن من حق الأب أن يمنعها ما نهاه الله عن ذلك بقوله سبحانه وتعالى: (فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف) وهذه آية من القرآن تدل على أنه لا يجوز للمرأة نفسها. • واستدل الجمهور أيضاً بحديث عائشة الذي ذكره المؤلف وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: ( ... فنكاحها باطل باطل باطل) والحديث رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجة، وحسنه الترمذي، وصححه ابن خزيمة، والحاكم، وابن حبان، وغيرهم. • قد جاء في ذلك أحاديث أخرى غير حديث عائشة منها قوله - صلى الله عليه وسلم-: (لا نكاح إلا بولي) وقد صح هذا المعنى كما ذكر الحاكم وغيره عن جمع من الصحابة منهم أم سلمة، وزينب، وعلي، وابن عباس، ومعاذ، وابن عمر، وأبو ذر، والمقداد، وابن مسعود، وجابر، وأبو هريرة، وعمران بن الحصين، وعبد الله بن عمرو بن العاص، والمسور بن مخرمة، وأنس بن مالك، وغيرهم. • وجاء في ذلك حديث ثالث عند ابن ماجة وهو قول النبي - صلى الله عليه وسلم- فيما رواه أبو هريرة: (فإن الزانية هي التي تزوج نفسها) وسنده حسن. • وإذا تأملت الواقع وجدت أن الفتاة يمكن أن تتفق مع شاب ويقع بينهما الزنا بحجة أنه عقد عليها ورضيت به زوجاً، وبذلك لا يكاد يوجد زنا في غير ذوات الأزواج إلا على نطاق ضيق. 4- ثم قول المؤلف (ليست مهمتنا أن نفرض على الأوروبيين مع أركان الإسلام رأي مالك وابن حنبل) . • والواقع أننا لسنا نفرض على الأوروبيين شيئاً ولا نستطيع ذلك لكن من آمن بالإسلام أقنعناه بالرأي الصائب بالدليل، والرأي الصائب ليس مهماً من يقول به مالك أو ابن حنبل، أو أبو حنيفة أو غيرهم، المهم أنه أصح دليلاً دون تعصب ودون خضوع لضغوط الواقع مهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 كان هذا الواقع، فليس دليلاً شرعياً أن المرأة في أوروبا تباشر زواجها بنفسها، هذا ليس من ضمن المرجحات عند أحد من علماء الإسلام. ثم هل نعتقد أن أوروبا وأمريكا وغيرها من بلاد العالم سوف تسلم كلها ولذلك نحاول أن نمحص جميع قضايا الإسلام، فإذا وجدنا أمراً غريباً غير مألوف لديهم حاولنا أن نبحث عن رأي فقهي، وإن كان مرجوحاً حتى نعرضه لهم. الواقع أن الأوروبيين حتى لو عرضنا عليهم عقيدة الإسلام بوضوح كامل من أولها إلى آخرها يمكن أن يرفضوا كثيراً منها يعني لو عرضنا عليهم أوصاف الجنة والنار في القرآن الكريم لوجدت كثيراً منهم لا يقبلها لأنه لم يعد يؤمن إلا بالمحسوس. وما علينا من حسابهم من شيء، يؤمنون أو لا يؤمنون المهم أن نعرض عليهم الإسلام بصورة صحيحة لا انحراف فيها. ولا شك أن هناك أخطاءً كبيرة في طريقة دعوة الأوروبيين إلى الإسلام، وهذه الأخطاء هي التي أقلقت المؤلف، وجعلته يرمي مثل هذه الكلمات النارية القوية. 5- ومن الذي زعم هذا من أركان الإسلام؟ صحيح نقول: يجب الولي في النكاح، فهل يعني هذا أننا جعلناه ركناً، ولنتساءل: هل المؤلف سيدعوهم إلى أركان الإسلام فقط؟ أم أنه سيضيف إلى ذلك دعوتهم إلى سائر الواجبات، ونهيهم عن جميع المحرمات؟ لا شك أنه لن يقتصر في دعوته على الأركان فحسب، وبذلك ندرك وهاء هذه الحجة. 6- ثم زعمه بأن ظاهر القرآن يدل على جواز إنكاح المرأة نفسها ... لا يتفق مع فقهه اللغوي، فإنه في عدد كتبه (منها هموم داعية) يسخر ممن ينكرون المجاز في اللغة فما باله ها هنا وقف عند ما أسماه (ظاهر القرآن) . أرأيت قوله تعالى: (وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحاً) هل يقول المؤلف إن فرعون كان يريد من هامان أن يباشر عملية البناء شخصياً، أم أن المعنى أنه يأمر من يفعل ذلك؟ ومثله قوله: (فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحاً) هل يتوقع أن المقصود أن يأتي هامان بالطين على متنه، ثم يوقد النيران تحته .... الخ؟! ومثله كثير كثير. ثم أين المهر في الآية؟ وأين الشهود؟ وأين شروط النكاح؟ 7- والسنة لها موقع في القرآن فهي تفصل مجمله، وتخصص عامه، وتقيد مطلقه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 وتستقل بأحكام لم ترد في القرآن كالنهي عن الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها ... فلماذا نشرق بهذا الحديث فقط؟ لأنه لا يوافق أمزجة نساء بني الأصفر!! لا حياهن الله، فما علينا عنهن إلا الإباحية والإسفاف والشذوذ، وهذه معاهدهم ومراكزهم وإحصائياتهم خير شاهد على ذلك (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم) . الموقف التاسع: صلاة المرأة في المسجد (ص 54) يقول: (ثم شاع حديث آخر يأبى على النساء حضور الجماعات كلها، بل طلب من المرأة إذا أرادت الصلاة في بيتها أن تختار المكان الموحش المعزول فصلاتها في السرداب أفضل من صلاتها في الغرفة، وصلاتها في الظلمة أفضل من صلاتها في الضوء، وراوي هذا الحديث يطوح وراء ظهره بالسنة العملية المتواترة عن صاحب الرسالة) . التعليق: المؤلف عنى بكلامه هذا حديث أم حميد امرأة أبي حميد الساعدي وحديث أم حميد لفظه صلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك .... الخ) الحديث. 1- ليس في الحديث منع النساء من حضور الجماعات. بل ولا في غير هذا الحديث فقوله (شاع حديث آخر يأبى على النساء حضور الجماعات كلها) ليس في هذا الحديث في الحقيقة ما يومئ من قريب ولا بعيد إلى منع النساء والإباء عليهن من حضور الجماعات وليس في الحديث طلب الصلاة في المكان الموحش المظلم المعزول وليس في بيوت الناس في عهد النبوة ولا في هذا العصر سراديب يطلب من النساء أن يصلين فيها فقوله (بل طلب من المرأة أن تختار المكان الموحش المعزول فصلاتها في السرداب أفضل من صلاتها ... وصلاتها في الظلمة أفضل) هذا ليس في الحديث، بل هو من مبالغات المؤلف المعهودة. • صحيح في آخر الحديث جزء من فعل أم حميد وهو أنها من شدة تحريها وامتثالها رضي الله عنها كانت تختار أقصى شيء وأظلمه في بيتها فتصلي فيه، ولكن ليس فيه أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمرها بأن تصلي في هذا المكان الموحش المظلم كما يقول المؤلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 2- تفضيل صلاة المرأة في بيتها على صلاتها في المسجد ثابت في أحاديث كثيرة بل حتى الرجل الأفضل أن يصلي في بيته ما عدا المكتوبة، وهذا ورد في أحاديث كثيرة جدا في الصحيحين وغيرهما، (خير صلاة الرجل في بيته إلا المكتوبة) (صلوا أيها الناس في بيوتكم) وذلك في فضائل كثيرة عديدة للرجل والمرأة، منها إشراق البيت بالصلاة والذكر، ومنها تدريب الصغار على الصلاة، ومنها طرد الشياطين والجن بقراءة القرآن، ومنها أن هذا أبعد عن الرياء، وبالنسبة للمرأة أن هذا أبعد لها عن التعرض للرجال والتعرض للفتنة وأقرب لها إلى بيتها الذي هو مملكتها التي تعيش فيها وأقرب لها إلى أطفالها وإلى شؤون منزلها، فالبيت هو موقعها الطبيعي. 3- أن راوي الحديث -سواء قصد المؤلف بالراوي ابن خزيمة الذي خرج الحديث أو غيره- لم يطوح بالسنة العملية المتواترة وراء ظهره وحاشاه من ذلك، فإننا نعلم أن الأئمة كلهم حريصون على اتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم- والتأسي بقوله وفعله خطوة خطوة، ويجب أن يحفظ لهم قدرهم وفضلهم ولا يجرأ الأحداث على النيل منهم. وليس بين السنة العملية المتواترة وبين هذا الحديث تعارض، فإن السنة تبين الجواز والحديث يبين الأفضل، فالحديث يبين أن الأفضل أن تصلي المرأة في بيتها والسنة العملية تؤكد أنه يجوز للمرأة أن تصلي في المسجد، ولا يجوز أيضاً للرجل أن يمنعها لو أرادت أن تصلي في المسجد. 4- هذا الموقف يذكرني بما قاله في كتاب (مستقبل الإسلام) (ص 64) . وذلك بعدما ساق حديث أم عطية -وهو في الصحيحين- قالت رضي الله عنها (أمرنا أن نخرج في العيدين العوائق وذوات الخدور، وأمر الحيض أن يعتزلن المصلى) وعللت في آخر الحديث بقولها (يشهدن الخير ودعوة المسلمين) قال الشيخ: (قال الطحاوي وغيره (هذا الحديث منسوخ) ما الذي نسخه؟، لا كتاب ولا سنة ضد الحديث إن دعوى النسخ مكذوبة، يقول الطحاوي (كان ذلك في صدر الإسلام، وكان في خروجهن تكثير لسواد المسلمين، وإرهاب للعدو ثم نسخ قوى الإسلام)) يقول الشيخ (والحق أن هذا كلام فارغ وهو اعتذار مرفوض لترك التعاليم الإسلامية وتغليب تقاليد أخرى على تقاليد الإسلام) . • الواقع أن ما رجحه الشيخ من أن خروج النساء إلى العيد مستحب ومشروع في رأيي أنه هو الراجح لأن الحديث صريح في ذلك. لكن أن تخرج المرأة بعيدة عن التجميل والتطيب والإثارة فهذا أمر لا بد منه والأحاديث صريحة فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 أما التعبير بأن دعوى النسخ مكذوبة وأن هذا كلام فارغ وأنه اعتذار لترك تعاليم الإسلام وتغليب تقاليد أخرى على تقاليد الإسلام فأرى أن الموضوع ما كان يحتاج إلى كل هذا، ونحن في مجال بحث علمي، ولسنا في مناورات خطابية لفظية، ولا يمكن أن نتقبل اتهام الطحاوي بالكذب، ولا اتهام نيات العلماء ومقاصدهم بأنهم يغلبون تقاليد الجاهلية على تقاليد الإسلام، إن صح أنها تقاليد. • بل إن هذه التهمة الجائرة تنتقل إلى الصحابة ففي الصحيح عن عائشة أنها قالت: لو رأى رسول الله ما أحدث النساء من بعده لمنعهن المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل. ترى ماذا يقول المؤلف عن عائشة؟ الموقف العاشر: التسمية على الوضوء وأحاديث العقل (ص 56-57) ذكر حديث لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه ثم قال: (وفقهاء المذاهب على أن التسمية سنة -يعني على الوضوء- لا فريضة واحتجوا بما رواه الدارقطني والبيهقي عن ابن عمر مرفوعاً (من توضأ وذكر اسم الله عليه كان طهوراً لجميع بدنه، ومن توضأ ولم يذكر اسم الله عليه كان طهوراً لأعضاء وضوئه) ثم قال: (ومن الخير أن نعلم أن الفرض لا يثبت إلا بدليل قطعي -لا حظ- وأن التحريم لا يثبت إلا بدليل قطعي) ثم قال الشيخ (والذي يدخل ميدان التدين وبضاعته في الحديث مزجاة كالذي يدخل السوق ومعه نقود مزيفة لا يلومن إلا نفسه إذا أخذته الشرطة مكبل اليدين ونريد من الجماعات العاملة للإسلام أن تكون يقظة فلا تنخدع في الآثار الواهية والأحاديث الموضوعة) . التعليق: وهذا الكلام طيب من الشيخ في التحذير من الأحاديث الضعيفة والموضوعة. 1- فيما يتعلق بقوله (وفقهاء المذاهب على أن التسمية سنة) هذا كلام مجمل، صحيح أن جمهور فقهاء المذاهب على أن التسمية سنة وهذا مذهب مالك، وأبي حنيفة، والشافعي، وهو رواية عن الإمام أحمد، لكن صح عن الحسن البصري، وهو رواية أخرى مذهب الإمام أحمد، وهو مذهب إسحاق بن راهوية، والظاهرية، والقاضي أبي يعلى، وجمع من أصحابه، واختاره جمع من العلماء أن التسمية على الوضوء واجب. وهؤلاء من الفقهاء المتبوعين فيلاحظ ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 2- الحديث الذي ذكره المؤلف حين قال: (واحتج بما رواه الدارقطني والبيهقي عن ابن عمر مرفوعا من توضأ. . . الحديث) لم يحالف الشيخ الحظ في الاستدلال بهذا الحديث. • فمن غرائب المصادفات أن هذا الحديث مما يصح عليه قول المؤلف (إنه من الآثار الواهية والأحاديث الموضوعة) فإن هذا الحديث الذي استدل المصنف الفقهاء به، هذا الحديث رواه البيهقي والدارقطني عن ابن عمر وفي إسناده (أبو بكر الداهري) وهو متروك، ورواه البيهقي أيضا عن أبي هريرة وفيه (مرداس بن محمد) قال الذهبي (لا أعرفه وخبره منكر في التسمية على الوضوء) فهو خبر منكر، ورواه الدارقطني للمرة الثالثة عن ابن مسعود وفيه (يحيى بن هاشم السمسار) وهو متروك. فالحديث متروك في منكر في متروك. فالنتيجة صفر في صفر في صفر!! 3- قول المؤلف فيما يتعلق بالأحاديث الضعيفة والموضوعة وتحذيره من إيرادها والاستدلال بها وأن الذي يدخل ميدان التدين وبضاعته في الحديث مزجاة كالذي يدخل السوق ومعه نقود مزيفة فلا يلومن إلا نفسه إذا أخذته الشرطة مكبل اليدين، وطلبه من الجماعات العاملة في الإسلام أن تكون يقظة فلا تنخدع بالآثار الواهية والأحاديث الموضوعة. هذا نداء مشكور، وقول صائب لحماية السنة من الضعيف والموضوع وبالمناسبة أذكر أن الشيخ في كتابه (الجانب العاطفي من الإسلام) . وفي (ص6) : ذكر العاكفين على الخرافات ثم قال: (وهؤلاء يصدق عليهم ما رواه ابن الجوزي بسنده عن ابن عباس (أنه دخل على عائشة فقال يا أم المؤمنين أرأيت الرجل يقل قيامه ويكثر رقاده، وآخر يكثر قيامه ويقل رقاده، أيهما أحب إليك؟ قالت سألت رسول الله عليه وسلم كما سألتني فقال (أحسنهما عقلا) (فقلت يا رسول الله إنما أسألك عن عبادتهما فقال (يا عائشة إنهما لا يسألان عن عبادتهما إنما يسألان عن عقولهما فمن كان أعقل كان أفضل في الدنيا والآخرة) ثم قال الشيخ: (وعن ابن عمر قال قال رسول الله عليه وسلم (إن الرجل ليكون من أهل الصلاة وأهل الصيام وأهل الحج وأهل الجهاد فما يجزي يوم القيامة إلا بقدر عقله) . وعلق المؤلف قائلا -في الحاشية- (اعتمدت في تدوين هذه الأحاديث على ابن الجوزي، لكن يبدو أسانيدها ضعيفة فلم أرها في الصحاح ولا في الحسان!! وإنما أغراني بقبولها أن معناها دلت عليه نصوص أخرى ثابتة) !! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 أ- الأحاديث الواردة في العقل وفضله موضوعة كلها، وهو أمر معروف لدى أهل العلم أن أحاديث العقل كلها نسخة موضوعة في كتاب داود بن المحبر. قال الدارقطني: كتاب العقل وضعه مسيرة بن عبد ربه ثم سرقه منه داود بن المحبر، وقال ابن حجر وقد ساق هذه الأحاديث وأمثالها في المطالب العالية 3/13-23 وهي موضوعة كلها لا يثبت منها شيء، وقال البوصيري: كل حديث في هذا الباب ضعيف، بل موضوع!! ب- هل فعلا هناك نصوص أخرى ثابتة دلت على صحة معنى هذه الأحاديث؟ عندي عدة ملاحظات على الحديثين المذكورين. • وجه السؤال غريب، يعني هل يعقل أن يأتي ابن عباس إلى عائشة ويقول لها رجل صائم قائم عابد زاهد مصل أفضل أم رجل نائم كسول مفطر لا يجاهد؟ بعيد أن يأتي هذا السؤال لأنه لا مجال للمقارنة بينهما أصلا، فوجه السؤال غريب، ثم أبعد من ذلك أن يتفق السؤال من ابن عباس لعائشة ثم من عائشة للرسول صلى الله عليه وسلم! • قوله إنهما لا يسألان عن عبادتهما، هذا يعارض القرآن: (فو ربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون) . (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) . والنصوص في هذا كثيرة جدا تدل على أن الإنسان يسأل عن عمله، يسأل عن عبادته، فكيف غاب هذا المعنى العظيم الثابت المستقر عن ذهن المؤلف؟ فقدم عليه حديثا مكذوبا مختلقا. • العقل هبة من الله عز وجل لا يد للإنسان في تفاضله، فتفاضل الناس بعقولهم ليس من كسبهم والله عز وجل فضل الناس في الجزاء بقدر ما يعملون، وبقدر ما يجاهدون وبقدر ما يبذلون، وإن كان الحساب والعقاب قد يختلف بقدر ما أعطاهم الله عز وجل، فالغني العاقل الذكي القوي يسأل أكثر مما يسأل الفقير أو الغبي أو المريض أو ما أشبه ذلك. • أنه يلزم على ذلك أن يكون المجنون في النار لأنه إذا كان الناس في الجنة بقدر عقولهم فمعناه أن من لا عقل له ليس من أهل الجنة أصلا! • العقل قد يكون موظفا للكيد من الإسلام، وكم من العباقرة المعروفين في التاريخ والواقع الآن، من سخروا عقولهم الجبارة في التخطيط للقضاء على الإسلام والهدم والفتك بأهله وتشريد دعاته وإثارة الشبهات في نفوس أهله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 4- من قال إن الفرض لا يثبت إلا بدليل قطعي؟ وما الدليل على ذلك؟ لقد كفانا المؤلف المؤونة لأنه نقض هذا القول -كما سيأتي-. 5- أما التسمية فظاهر الحديث يدل على وجوبها، والأقرب رأي الجمهور على الاستحباب، وذلك للقرائن التالية: أ- أن الذين نقلوا وضوءه صلى الله عليه وسلم لم يذكر أحد منهم أنه صلى الله عليه وسلم سمى على الوضوء، وهم اثنان وعشرون. ب- أنه لم يرد الأمر بالتسمية على الغسل، مع أنه يجزئ عن الوضوء فدل على عدم الوجوب. ج- أنها لم تذكر في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: كيف الوضوء، فدعا صلى الله عليه وسلم بماء فتوضأ ثلاثا ثلاثا (غير رأسه) ثم قال: هذا الوضوء فمن زاد فقد أساء وتعدى وظلم، وهو عند أبي داود وسعيد بن منصور وغيرهما وهو حديث حسن. فلم يذكر فيه التسمية مع أن الأعرابي كان جاهلا يحتاج للتفصيل ومع قوله (هذا الوضوء) يعني: الواجب، وهي صيغة حصر. د- ويستأنس لذلك بأنها لم تذكر في آية الوضوء، وإن كان هذا الصارف لا يكفي بمفرده، والله أعلم. 6- وأخيرا يأتي السؤال المعتاد: أين أهل الفقه ها هنا وأين أهل الحديث؟!! الموقف الحادي عشر: أحاديث الآحاد ص (56) قال: (ومن الخير أن نعلم أن الفرض لا يثبت إلا بدليل قطعي وأن التحريم لا يثبت إلا بدليل قطعي وأن الأدلة الظنية لها دلالة أقل من ذلك. يعني الشيخ هنا يقرر قاعدة أصولية -عنده - أنه لا يثبت الوجوب إلا بدليل قطعي، متى يكون الدليل قطعيا؟ إذا كان متواترا، كما رأى الشيخ، أما إذا كان آحادا فإنه لا يكون قطعيا، لكن الشيخ وإن كان نقل الكلام نفسه في كتاب (مستقبل الكلام) (ص74) فإنه ذكر في صفحة (ص65) من كتاب (السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث) قال: (إن الحديث الصحيح له وزنه والعمل به في فروع الشريعة له مساغ وقبول) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 وفي ص 82 من كتاب السنة يقول: (الواجب حقا أن يسمى الله قبل الأكل فقد صح قول الرسول صلى الله عليه وسلم: سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك) (1) . وهذا يدل على أنه قد يكون لا يعني بالضبط ما تدل عليه كلمته الأولى حين فال: (إن الفرض لا يثبت إلا بدليل قطعي) فإنه يقول (إن الحديث الصحيح له وزنه والعمل به في فروع الشريعة له مساغ وقبول وتركه لأدلة أقوى منه أمر مقرر مأنوس بين فقهائنا، أما الزعم بأن يفيد اليقين كالأخبار المتواترة فهي مجازفة مرفوضة) . التعليق: 1- الفرض يثبت بالدليل الصحيح قطعيا كان أم ظنيا وهذا ما يفيده كلام الشيخ الأخير. 2- قوله الزعم بأن أحاديث الآحاد تفيد اليقين مجازفة مرفوضة، هذا فيه تفصيل، فالخبر -وإن كان خبر الآحاد- إذا تلقته الأمة بالقبول تصديقا له وعملا بموجبه أفاد العلم عند جماهير العلماء من السلف والخلف، وهو الذي ذكره جمهور المصنفين كالسرخسي وغيره من الحنفية، والقاضي عبد الوهاب وأمثاله من المالكية، وأبي حامد الاسفراييني والقاضي أبي الطيب الطبري وأبي إسحاق الشيرازي وغيرهم من المصنفين في أصول فقه الشافعية وأبي عبد الله بن حامد وأبي يعلى وأبي الخطاب وغيرهم من الحنابلة وهو قول أكثر أهل الكلام حتى من الأشاعرة وغيرهم كأبي إسحاق الاسفراييني وابن فورك والجُبّائي وغيرهم وهو مذهب أهل الحديث قاطبة. قال البلقيني في الاصطلاح: (نقل بعض الحفاظ المتأخرين عن جمع من الشافعية والحنفية والمالكية والحنابلة أنهم يقطعون بصحة الحديث التي تلقته الأمة بالقبول) . ولمزيد من التفصيل في مسألة أن أحاديث الآحاد يقطع بصحتها إذا تلقتها الأمة بالقبول وتفيد العلم اليقيني يمكن مراجعة ما كتبه ابن القيم في (مختصر الصواعق) وما كتبه الحافظ ابن حجر في الجزء الأول من النكت على ابن الصلاح. الموقف الثاني عشر: الغناء (ص66) يقول الشيخ (في مصر تحتفل العامة بليلة النصف من شعبان وليست لهذه الليلة القيمة التي تعطيها هذا الشأو الرفيع، وفي حديث مع أحد الأخوة من علماء الخليج قال: إن   (1) وجوب التسمية فيه نظر، والجمهور على خلافه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 للأحاديث الموضوعة والواهية سوقا رائجة عندكم، قلت: وللأسف عندكم كذلك، قال: نحن نتحرى الأحاديث التي نصدر وفقها أحكامنا، فضحكت وأنا أرد عليه بإجابة سريعة: أظن الأحاديث التي وردت في ليلة النصف أقوى من الأحاديث التي وردت في تحريم الغناء) ومن ثم ساق المصنف كلاما عن ابن حزم في الأحاديث الواردة في تحريم الغناء حتى انتهى إلى حديث أبي مالك الأشعري (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف) . قال الشيخ الغزالي: (ومعلقات البخاري يؤخذ بها لأنها في الغالب متصلة الأسانيد، لكن ابن حزم يقول: إن السند هنا منقطع لم يتصل ما بين البخاري وصدقة بن خالد راوي الحديث، نقول -ما زال الكلام للشيخ الغزالي- ولعل البخاري يقصد أجزاء الصورة كلها أعني جملة الحفل الذي يضم الخمر والغناء والفسوق. وهذا محرم بإجماع المسلمين) . إذا الشيخ من خلال هذه الكلمات توصل إلى أن الغناء لم ترد نصوص صحيحة في تحريمه وأن هذا الحديث ليس بصحيح لأنه منقطع كما يقول ابن حزم، وعلى فرض صحته فإن المفروض أجزاء الصورة كلها، يعني المقصود تحريم الحفل المشتمل على خمر وغناء ومعازف وزنا، ولا يلزم منه تحريم أفراد هذه الأشياء. التعليق: كلام الشيخ فيما يتعلق بمعلقات البخاري، فإنه يقول (إن معلقات البخاري في الغالب متصلة الأسانيد) وهذا كلام ليس دقيقا من الناحية العلمية. والصحيح أن معلقات البخاري على نوعين: النوع الأول: المعلق الذي وجد موصولا في موضع آخر من الصحيح فهذا لا كلام فيه أنه على شرط البخاري. النوع الثاني: المعلق الذي لم يوجد موصولا فإنه ينقسم إلى قسمين: أ- ما رواه البخاري بصيغة الجزم مثل (قال- حَكََََى- رَوَى- يقول) فهذا صحيح إلى من علقه عنه، ويبقى النظر فيما أبرز من رجال هذا الحديث المعلق يعني من ذكرهم البخاري ينظر فيهم، فقد يكون صحيحا على شرطه، وقد يكون صحيحا دون شرطه، وقد يكون حسنا، وقد يكون ضعيفا من جهة الانقطاع خاصة بين رواته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 ب- ما روى البخاري بصيغة التمريض مثل (يُروى- يُحكى- يُقال- ونحوها) فهذه ليس فيها ما يكون على شرط البخاري إلا القليل أو النادر، لكن منها الصحيح دون شرط البخاري، ومنها الحسن، ومنها الضعيف الذي وجد ما يجبره من أمر آخر، ومنها الضعيف الذي لم يوجد ما يجبره. وبناءً على ذلك فقول المؤلف -ها هنا- (إن معلقات البخاري في الغالب متصلة الأسانيد) غير مسلّم. 4- قوله (لكن ابن حزم يقول السند هنا منقطع لم يتصل ما بين البخاري وصدقة بن خالد راوي الحديث) كلام ابن حزم -ها هنا- ودعواه أن السند منقطع، إن كانت المسألة مسألة تقليد لابن حزم فنحن عندنا أعداد من العلماء صححوا هذا الحديث -كما سيأتي ذكرهم- وإن كانت المسألة مسألة نظر في أسانيد الأحاديث فلننظر. • فهذا الحديث قال فيه ابن الصلاح (الحديث صحيح معروف الاتصال بشرط الصحيح) . • وابن حجر -رحمه الله- ساقه في كتاب (تغليق التعليق) الذي وصل فيه الأحاديث المعلقة في صحيح البخاري ساقه من رواية تسعة رواة عن هشام بن عمار، يعني الذي علقه البخاري إليه في هذا الموضع وعقب ابن حجر بقوله (وهذا حديث صحيح لا علة له ولا مطعن له، وقد أعله أبو محمد بن حزم بالانقطاع فيما بين البخاري وصدقة بن خالد وباختلاف في اسم أبي مالك -يعني الصحابي- وهذا كما تراه قد سقته من رواية تسعة عن هشام متصلاً فيهم مثل الحسن بن سفيان، وعَبَدان، وجعفر، والفريابي، وهؤلاء حفاظ أثبات ثم إنه لم ينفرد هشام بن عمار ولا صدقة كما ترى، وله عندي شواهد أخر كرهت الإطالة بذكرها وفيما أوردته كفاية لمن عقل وتدبر) كذلك هناك علماء آخرون صححوا الحديث، كابن حبان رواه في صحيحه والعراقي، وابن القيم في تهذيب سنن أبي داود فإنه صححه من ستة وجوه رد فيها على ابن حزم، وكذلك ابن رجب. • فهؤلاء مجموعة من الأئمة صححوا الحديث وهذه أسانيد موصولة له تدل على أن الحديث صحيح متصل لا كلام فيه، ولا علة له بوجه من الوجوه ثم إن للحديث شواهد أخرى منها عن أبي أمامة عند الإمام أحمد في مسنده، والحاكم في مستدركه، وعن عمران بن حصين عند الترمذي، وعند الترمذي -أيضاً- الحديث عن علي وأبي هريرة، كذلك للحديث شواهد عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 جمع من الصحابة، ابن مسعود، سلمان الفارسي، عبادة، أنس، أبو سعيد، سهل بن سعد، ابن عمر، عبد الله بن بسر، عائشة، وغيرهم. ثم هناك آثار موقوفة عن جماعة من السلف في تحريم الغناء وهي كثيرة جداً. واسمحوا لي أن أطيل في هذا الأمر لأسباب: أولاً: لأن قضية الغناء قد عمت بها البلوى عند كثير من الناس ووقعوا فيها. ثانياً: أن الشيخ تناول من يقولون بتحريم الغناء بطريقة غريبة في هذا الموضوع. ثالثاً: أنه صادف أن جريدة الشرق الأوسط في هذا اليوم (13/9/ 1409هـ) يوم الثلاثاء- نشرت الجزء المتعلق بالغناء ضمن المقتطفات التي تنشرها من الكتاب ولذلك أحدثت دوياً في أوساط الناس، واتصل مجموعة من الناس يتساءلون عن هذا الأمر. فرأيت أنه لا بأس من ذكر بعض الاستطراد في هذا المجال. فقد حكى أبو بكر الأجري وغيره إجماع العلماء على تحريم الغناء، وكذلك حكى زكريا بن يحيى الساجي اتفاق العلماء على النهي عن الغناء إلا إبراهيم بن سعد المدني وعبيد الله بن الحسن العنبري هذا في الغناء دون سماع آلات الملاهي -يعني موسيقى أو نحوها- أما سماع آلات الملاهي فإنه لا يعرف عن أحد ممن سلف الرخصة فيه، إنما يعرف ذلك عن بعض المتأخرين من الظاهرية والصوفية. وكذلك حكى ابن الصلاح (من نسب إباحته إلى أحد من العلماء يجوز الاقتداء به في الدين فقد أخطأ) . -يعني أن العلماء الذين يقتدى بهم في الدين مجمعون على تحريم الغناء-، وكذلك حكى الشوكاني الإجماع على تحريمه (1) .   (1) من المضحكات المبكيات أن الشرق الأوسط نشرت يوم (3/11/1409هـ) مقالاً لأحد القراء يقول فيها إن الغناء مباح بالإجماع! وهكذا أصبحت المباحث الشرعية كلأ مباحاً لكل من وهب ودب فإلى الله المشتكى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 وهذه بعض الأقوال عن الأئمة: • فالإمام مالك -رحمه الله - سئل عما يترخص به أهل المدينة من الغناء فقال: (إنما يفعله عندنا الفساق) وإسناد هذه الرواية صحيح عن مالك. وكذلك هذا المذهب مذهب إبراهيم بن المنذر الخزاعي من علماء المدينة والقاسم وغيرهم. • وهو قول علماء مكة كمجاهد وعطاء. وعلماء أهل الشام كمكحول والأوزاعي. وعلماء أهل مصر كالليث. وعلماء أهل الكوفة كالثوري وأبي حنيفة ومن قبلهما الشعبي والنخعي وحماد. وهو قول الحسن وعلماء أهل البصرة. وهو قول فقهاء أهل الحديث كالشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وغيرهم. • وبذلك نعلم أن الأئمة الأربعة (أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد) متفقون على تحريم الغناء، وكذلك جمهور أصحابهم. وقد صنف أبو الطيب الطبري الشافعي كتاباً في ذم السماع وذكر فيه قول الشافعي قال: (وصاحب الجارية إذا جمع الناس على سماعها فهو سفيه ترد شهادته) -وقال في ذلك قولاً عظيماً- فقال (هي دياثة) . • فما بالك إذا كانت التي تغني حرة وما بالك إذا كانت تغني في مذياع، أو في شريط ويسمع صوتها الملايين من الناس في أنحاء الأرض، بل ما بالك إذا كانت ترى صورتها على شريط وهي تتمايل وتظهر محاسنها ومفاتنها وقد حسرت عن شعر رأسها ونحرها وصدرها وذراعيها وجزء غير قليل من جسمها وهي تتغنى بهذه الألحان المعروفة، هل يقول بحل ذلك أحد؟ ثم قال الإمام أبو الطيب الطبري: (أجمع علماء الأمصار على كراهيته والمنع منه) . • وكذلك كتب محمد بن مظفر الشافعي الذي عاش ما بين (400-488هـ) بتحريم الغناء، وهذه الفتوى وافقه عليها جماعة من أعيان بغداد من فقهاء الشافعية والحنفية والحنابلة، وقد فسر جماعة من الصحابة لهو الحديث المذكور بقوله تعالى: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث) بأنه الغناء، وذلك كابن عباس وابن مسعود وأبي أمامة وعائشة وابن عمر. • وكذلك قول الله عز وجل: (واستفزز من استطعت منهم بصوتك) قال مجاهد: هي الغناء والمزامير. • وبذلك علم أن الأمة بدءا بالصحابة ومروراً بالسلف والأئمة الأربعة وجماهير أتباعهم وأصحابهم يقولون بتحريم الغناء وتحريم آلات اللهو ولم يخالف في ذلك أحد إلا المتأخرون من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 الظاهرية كابن حزم وكذلك بعض الصوفية الذين لا يؤخذ بقولهم في مجال الأحكام الفقهية ولا في غيرها (1) . والشيخ يقول: ص (70) (هناك أغان سليمة الأداء شريفة المعنى قد تكون عاطفية وقد تكون دينية وقد تكون عسكرية تتجاوب النفوس معها وتمضي مع ألحانها إلى أهداف عالية) وذكر أمثلة لهذه الأغاني منها قول البوصيري وقد لحنه بعضهم في مدح الرسول -صلى الله عليه وسلم-: كأنه وهو فرد في جلالته ... في عسكر حين تلقاه وفي حشم أو قول شوقي- رحمه الله-: ويا رب هل تغني عن العبد حجة ... وفي العمر ما فيه من الهفوات إلى غير ذلك. ثم يذكر -الشيخ الغزالي هذه القصة: يقول: (أذكر عندما كنت مدرساً بمكة فتحت الراديو وسرني أن كانت فيه أغنية أحبها. وما كدت أمضي مع الأبيات والألحان حتى طرق الباب طالب أشرف على رسالته وخيل إليّ أني أستطيع السماع مع وجوده ولكنه أقسم عليّ أن أغلق الراديو ورأيت إكراماً له أن ألبي رغبته وأكملت وحدي بعض كلمات الأغنية. أين ما يدعى ظلاماً يا رفيق الليل أينا؟ ... إن نور الله في قلبي وهذا ما أراه يقول وصاح الطالب ما هذا؟ قلت له: كل يغني في الأنام بليلاه إنني أعني شيئاً آخر، قال: أما تعلم أن الغناء حرام كله؟ قلت له ما أعلم هذا) يقول الشيخ (ثم أقبلت عليه بجد أقول له إن الإسلام ليس ديناً إقليمياً لكم وحدكم إن لكم فقهاً بدوياً ضيق النطاق وعندما تضعونه مع الإسلام في كفة واحدة فستطيش كفة الإسلام وينصرف الناس عنه) أ. هـ. • أما فيما يتعلق بالغناء فقد ذكرت كلام العلماء فيه، وأما ما يتعلق بما يسمى بالغناء الديني أو الموشحات الدينية أو الأزجال أو غيرها فإن هذا لم يعرف أبداً إلا عند الصوفية وهم بذلك يتقربون إلى الله عز وجل بشيء لم يشرعه الله، قال الحافظ ابن رجب في كتابه القيم الذي سماه   (1) حتى القائلون بالإباحة من العلماء يشترطون ألا يكون الغناء باعثاً على تهييج الشهوة وألا يكون في معين. كما في رسالة الذهبي في ذلك المختصرة من كتاب الإمتاع في أحكام السماع لجعفر بن ثعلب الشافعي، وهي مخطوطة بالظاهرية ضمن رقم - 7159-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 (نزهة الأسماع في مسألة السماع) قال (ولا ريب أن التقرب إلى الله بسماع الغناء الملحن لا سيما مع آلات اللهو مما يعلم بالضرورة من دين الإسلام بل ومن سائر شرائع المرسلين أنه ليس مما يتقرب به إلى الله ولا مما تزكى به النفوس وتطهر به فإن الله شرع على ألسنة الرسل كل ما تزكو به النفوس وتتطهر من أدناسها وأوضارها ولم يشرع على لسان أحد من الرسل في ملة من الملل أشياء من ذلك، وقد صح عن الإمام الشافعي -رحمه الله- أنه قال تركت بالعراق شيئاً يسمونه التغبير وضعته الزنادقة يصدون به الناس عن القرآن) والتغبير هو ما يسمى بالضبط بالغناء الديني في هذا الزمان، فإنهم كانوا يجتمعون في أغانٍ دينية -كذا تسمى- ويضربون معها شيئاً من الدفوف. وأشار ابن رجب -في الموضع نفسه- إلى أن تعلق الناس بهذا إنما هو بسبب الإعراض عن تدبر القرآن فيطلب العوض في غيره فلا يزداد قلبه إلا سقماً ولا يجد طعماً للقرآن. • هذا فيما يتعلق بالأغاني التي يزعمونها دينية. • أما فيما يتعلق بالأغاني مطلقاً فقد تبين حكم هذه الأغاني عند الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وتبين حكمها في سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي نص على أن هذه الأغاني محرمة، وأن من الأمة من يستحلونها، فقد يكون المعنى أنهم يستحلونها يقولون هي حلال، كما هو واقع كثير من الناس -ومنهم الغزالي- وبعض المأسورين بضغط الواقع وكثرة الغناء في وسائل الإعلام، وقد يكون المعنى يستحلونها بفعلهم أي أنهم يفعلونها ويستمعون إليها كفعل المستحل لها. • وكذلك قرنها - صلى الله عليه وسلم- بالحِر وهو الفرج أي الزنا والحرير والخمر، وهذا مما أطبقت الأمة وأجمعت على تحريمه فدل ذلك على تحريم الغناء، ولا معنى لزعم الغزالي أن التحريم ينصرف إلى الصورة كلها فإن لفظة (يستحلون) لا تحتمل هذا ... وأعجب منه قوله (ولعل البخاري يقصد أجزاء الصور كلها) ما دخل البخاري؟ هو مجرد ناقل لا غير والحديث من كلام الرسول -صلى الله عليه وسلم- وليس من كلام البخاري ولا غيره! • أما قول الشيخ ها هنا (إن الإسلام ليس ديناً إقليمياً لكم وحدكم إن لكم فقهاً بدوياً ضيق النطاق) . فقد صدق في الفقرة الأولى وذلك أن الإسلام لا شك ليس ديناً إقليمياً، الإسلام لم ينزل لجزيرة العرب ولم ينزل لأمة خاصة، ولم ينزل لنجد والحجاز، وإنما نزل للأمم كلها (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (إن هو إلا ذكر للعالمين) لكن المناسبة التي جاء بها هذا الكلام هي مناسبة أننا نقول بتحريم الغناء، وأن هذا الطالب -لله دره- أقسم على الشيخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 أن يغلق المذياع، وقد تبين من خلال الكلام أن تحريم الغناء هو مذهب الأئمة الأربعة وقول فقهاء مكة والمدينة وأهل الشام ومصر والكوفة والبصرة وقول فقهاء أهل الحديث وسائر الأئمة. إذاً تبين أن القول بتحريم الغناء ليس مذهباً اختص به أهل نجد أو أهل الجزيرة، بل هو مذهب كافة الأمصار والشام -الحجاز- مصر-الكوفة- البصرة. لا معنى حينئذٍ أن نقول أن الإسلام ليس ديناً إقليمياً لأننا نحرم الغناء فهذه نصوص الأئمة في تحريمه وهم من أقطار شتى وكون المحافظة على هذا التحريم ظلت موجودة عند أهل الجزيرة أكثر من غيرهم وظلوا أوفياء لهذه الأقوال والنصوص الصريحة من سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأقوال الصحابة وأقوال العلماء لا يعني أن يُزنُّوا بأنهم إقليميون، وأنهم يتعاملون مع النصوص الشرعية تعاملاً إقليمياً كأن الإسلام لهم وحدهم. • كذلك قول الشيخ (إن لكم فقهاً بدوياً ضيق النطاق) يعني تحريم الغناء فقه بدوي ضيق النطاق! لكن ما بال الشافعي ومالك وأبي حنيفة وحماد وابن عباس وابن مسعود وعائشة ومكحول والأوزاعي والليث وعطاء والثوري والشعبي والنخعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد، هل هؤلاء يمكن أن يوصفوا بأنهم بدو وأن فقههم ضيق النطاق؟ لا شك أن الجواب لا ولذلك لا يمكن أن يفسر كلام الشيخ إلا أنه انفعال بسبب الموقف. • إن الأحكام العامة لا تتأثر بالبيئات فإن الحكم المأخوذ من القرآن والسنة وأقوال السلف لا يتأثر بين بيئة وأخرى ولو أخضعنا نصوص الشرع للبيئات لتغير الشرع كله، وهذا فعلاً ما نجده اليوم عند كثير من الناس، فقد أصبحوا يجادلون في أشياء قد أجمعت الأمة عليها. • إن تحريم الغناء فطرة في ضمير الأمة كلها من شرقها إلى غربها، وأبلغ رد على دعوى إباحته هذه الأعداد المتزايدة يوماً بعد يوم من الفنانين الذين يسرقون أنفسهم من الأضواء، ويعلنون (توبتهم) ، وهل يتاب إلا من المعاصي والمحرمات؟ وكثير من هؤلاء هم من أرض الكنانة. فهل الغزالي يعتبر هؤلاء من (البدو) وأن فقههم ضيق النطاق؟ • مع هذا وذاك، ومع أننا عرفنا أن مسألة تحريم الغناء- على أقل تقدير يقول بها جماهير الأمة خلفاً عن سلف، إلا أننا نقول مع ذلك هب أن الشيخ رأى رأياً في تحريم الغناء وهو أنه يرى أنه إذا كان غناء ليس فيه فحش وليس ساقطاً ووو .... إلى آخر الشروط والضوابط التي يمكن أن تذكر في هذا المجال أنه ليس حراماً. هل يجدر أن يطرح هذا الرأي بهذه الطريقة وهو يعلم يقينياً أي غناء يملأ الآذان ويصك الأسماع؟ وأي عفن يزكم الأنوف من أوساط الفنانين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 الذين أصبحت حكاياتهم حديث الساعة، أليس من فقه الدعوة أن يعرف المتحدث صدى حديثه ووقعه على الناس؟ وهل سيؤدي إلى مفسدة ما؟ فلا يلقى بالكلام على عواهنه ويطلقه بلا زمام ولا خطام! وكأني بالشيخ يقول: رأي رأيته لا بد أن أعلنه،. لك ذلك لكن لماذا هذا الهجوم على المخالفين لك؟ إنك كثيراً ما تلوذ بالأئمة الأربعة أو بعضهم وتقول: رأي الجمهور.. فما بالك تهاجم من يقول غير ما تقول، مع أنه لم يتبن رأياً شاذاً ذهب إليه ابن حزم -كما تفعل- لا بل هو يظاهر رأي الجماهير إن لم يكن الإجماع. وقبل مغادرة هذا الموضع أهمس في أذن القارئ: أين أهل الفقه ها هنا؟ وأين أهل الحديث؟! انحصرت القسمة في أبي محمد!! (1) الموقف الثالث عشر: حديث خباب في البناء (ص 87) وهو يتحدث عن آداب المساكن وعن نعمة السكن والبيوت يقول الشيخ: (من أجل ذلك استغربت ما رواه الشيخان عن خباب بن الأرت قال: (إن أصحابنا الذين سلفوا ومضوا لم تنقصهم الدنيا وإنا أصبنا ما لا نجد له موضعاً إلا التراب) ثم يقول خباب (إن المسلم يؤجر في كل شيء ينفقه إلا في شيء يجعله في هذا التراب) يقول الشيخ: (وكلام خباب رضي الله عنه عليه مسحة تشاؤم غلبت عليه لمرضه الذي اكتوى منه ولا يجوز أن نعد البناء رذيلة فقد يكون فريضة) . التعليق: الأثر عن خباب رضي الله عنه رواه الشيخان -البخاري ومسلم- موقوفاً عليه من قوله هو كما ذكره المؤلف ها هنا، ثمت ملاحظات: • (منها) أن قول الشيخ -إن هذا القول عليه مسحة تشاؤم لمرضه الذي اكتوى منه- الحقيقة أعتقد أن الأدب الذي يلزم المسلم به نفسه مع أولئك الصحابة، هذا الجيل العظيم الذي اختاره الله عز وجل لصحبة محمد -صلى الله عليه وسلم- وأبلوا معه البلاء الحسن في الجهاد والحروب والمغازي والصبر على اللأواء والشدة، ثم أبلوا بلاءً حسناً في الصبر على هذا الدين بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ونقل-القرآن والسنة- إلى الناس، يتطلب الأدب مع هذا الجيل أن لا يرمى   (1) أعني ابن حزم رحمه الله! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 مثل خباب بمثل هذا، لأن هذا قد يجرئ الآخرين على أن يقولوا في خباب وغير خباب ما هو أشد من ذلك ومن قبل كان (الكوثري) وهو إمام من أئمة الضلال في هذا العصر يرمي أنس بن مالك رضي الله عنه بأنه قد خرف فيروي أشياء لا صحة لها، إلى غير ذلك. ومن أخطر الأمور أن نفتح باب الوقيعة في الصحابة بأسلوب أو بآخر، وهذا ما يتمناه أعداء السنة من الرافضة وغيرهم، فيستكثر على الشيخ وهو الذي يكثر من الحديث عن ضرورة تحلي الدعاة بالآداب مع شيوخهم وأساتذتهم ومع من يكبرهم ومع الأئمة أن يقول مثل هذا عن خباب رضي الله عنه. • (ومنها) أن هذا الكلام الذي قاله الشيخ ليس سليماً، فإن الحديث إذا قرأناه بأكمله يتبين منه شيء آخر غير ما ظنه الشيخ والحديث عن قيس بن أبي حازم قال: دخلنا على خباب نعوده وقد اكتوى سبع كيات فقال رضي الله عنه: (إن أصحابنا الذين سلفوا ومضوا، مضوا ولم تنقصهم الدنيا، وإنا أصبنا ما لا نجد له موضعاً إلا التراب ولولا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به) قال ثم أتيناه مرة أخرى وهو يبني حائطاً له فقال (إن المسلم يؤجر في كل شيء ينفقه إلا في شيء يجعله في هذا التراب) . إذاً الآن خباب يبني حائطاً، وهذا يؤكد أنه ما كان مريضاً حين قال هذه الكلمة حتى يقال إنه تكلم وعليه مسحة تشاؤم أصابته أو غلبت عليه لمرضه الذي اكتوى منه، لأنه قد شفي من هذا المرض وأصبح يبني وقد وجدوه على الحائط وهو يتكلم معهم وهو فوق هذا الحائط! والكلام الذي يقوله خباب رضي الله عنه محمول على التوسع والفضل الذي لا يحتاج إليه الإنسان، وإنما هو زيادة وأما من بنى ما يسكنه وما لا غنى عنه فإنه إن احتسب مأجور على ذلك. وليت المؤلف رجع إلى كلام أهل العلم وشراح الحديث، إذاً لأعفى نفسه من العناء فيما لا طائل وراءه في مواضع كثيرة. • (ومنها) قول الشيخ لا يجوز أن نعد البناء رذيلة فقد يكون فريضة لا أدري من هو الذي عد البناء رذيلة، هل تجدون من كلام خباب ما يومئ إلى أن البناء رذيلة؟ خباب قال لا يؤجر عليه، فإن حملنا كلامه على أنه يقصد البناء الذي لا حاجة إليه فهذا كلام لا إشكال فيه، وإن فرضنا جدلاً- تنزلاً- أن خباب يقصد كل البناء -وهذا بعيد جداً- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 ولكن لنفرض أن هذا مقصوده، كونه لا يؤجر هل يعني أنه رذيلة؟ كل ما في الأمر أنه مباح، ما دام لم يخرج إلى المحرم والمباح لا يمكن أن يوصف بأنه رذيلة ولا ينكر على فاعله، لكنها من عبارات الشيخ الخطابية الانفعالية التي لا تصلح أبداً في المجال العلمي والفقهي. الموقف الرابع عشر: المس (تلبس الجني بالإنسي) (ص91) تكلم الشيخ عن المس الشيطاني حقيقته وعلاجه، يعني دخول الجني في الإنسي، وقال ضمن كلام طويل: (هل العفاريت متخصصة في ركوب المسلمين وحدهم، لماذا لم يَشكُ ألماني أو ياباني من احتلال الجن لأجسامهم، إن سمعة الدين ساءت من شيوع هذه الأوهام بين المتدينين وحدهم، وعندما تناقلت الصحف أن الشيخ عبد العزيز بن باز أخرج شيطاناً بوذياً من أحد الأعراب وأن هذا الشيطان أسلم، كنت أرقب وجوه القراء وأشعر في نفوسهم مدى المسافة بين العلم والدين، إن قدر القرآن الكريم أعظم بكثير من هذه القضايا) إلى أن قال: (وما يرويه صاحب -آكام المرجان- أكثره خرافات وخيالات وإن ذكره ابن حنبل وابن تيمية وغيرهما) . التعليق: 1- مسألة دخول الجن في الإنس يقول فيها ابن تيمية -رحمه الله- (دخول الجن في بدن الإنسان ثابت باتفاق أهل السنة والجماعة) قال: (وليس في أئمة المسلمين من ينكر دخول الجني في بدن المصروع وغيره، من أنكر ذلك وادعى أن الشرع يكذب ذلك فقد كذب على الشرع وليس في الأدلة الشرعية ما ينفى ذلك) . • ومن الغريب أن الأستاذ -عبد الحليم عويس- في جريدة الشرق الأوسط أيضاً -كتب دفاعاً عن مقال الشيخ الغزالي وعن كتابه، وسماه: (لا بروسترويكا في الإسلام) وهو يرد فيه على فهمي هويدي الذي حاول أن يستفيد من كلام الغزالي ويستغله أكثر مما هو، وقال عبد الحليم ضمن كلامه (إن القول بعدم دخول الجن في الإنس هو مذهب جمهور المسلمين) وما أدري هذه (الجمهورية) التي بدأت تطل علينا ليس لها زمام ولا خطام فكل من قال بقول وأعجبه هذا القول نسبه إلى الجمهور حتى يجوز قوله ويشيع بين الناس، وهذا ليس من الأمانة العلمية فإن الذي يقول هذا مذهب الجمهور عليه على الأقل أن يذكر لنا كتاباً واحداً نسب هذا القول لجمهور العلماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 2- في كلام الشيخ الغزالي حول المس الشيطاني، لم يذكر دليلاً واحداً، لا من الكتاب ولا من السنة، بل ولا حتى من العقل ولا من العلم الحديث يبين استحالة دخول الجني في الإنسي، كل ما ذكره الشيخ هو عدم العلم بهذا الشيء، العقل قد لا يثبته -جدلاً- لكن لم يوجد في دلالة العقول ولا في العلم الحديث ولا في الكتاب والسنة ما يدل على أن ذلك غير ممكن. والعلماء يقولون (عدم العلم بالشيء ليس علماً بالعدم) . يعني عدم علمك بحصول شيء ليس علماً منك بعدم حصوله. قد يحصل ولا تعلم بذلك أنت، وكثير من الأشياء قد لا يستطيع العلم إثباتها فهل استطاع العلم الآن أن يثبت الجن أيضاً؟ بل هل في العقول ما يمكن أن يثبت الجن؟ • كل الأدلة العقلية أو العلمية التي تقال بإثبات الجن يمكن أن يرد عليها، ولا يمكن أن ترقى إلى مستوى النصوص الشرعية القرآنية والحديثية الثابتة في إثبات الجن وفي خصائصهم وأوصافهم. • كذلك فإن هذا الأمر وإن لم يثبته العلم الحديث كما يرى الشيخ، أو العقل كما يرى أيضاً، هو ثابت بضرورة الواقع، فإننا نعلم عدداً كثيراً من الناس تخاطبهم الجن ويخاطبونها ونعلم من الإنس من يتلبس بهم الجن، بل إنه قد روى الإمام أحمد وأبو داود، وعبد الرزاق، وغيرهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم- شيئاً من ذلك، كقصة الوازع الذي جاء بالغلام فقرأ عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وضربه فخرج منه الجني، وكذلك قصة المرأة التي جاءت بالغلام للرسول -صلى الله عليه وسلم- فقالت إنه يصرع في اليوم مرات، فأحضره النبي -صلى الله عليه وسلم- ونفخ في فيه وقال أي عدو الله أخرج أنا رسول الله ثم رجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فنظر إلى هذا الغلام فإذا به سليماً معافى كأنه ما مسه شيء. وما زال الناس يذكرون من ذلك أشياء كثيرة أذكر منها بعض الطرائف السريعة -وإلا هذا موضوع طويل-. • ابن تيمية- رحمه الله- حصل له من ذلك قصص وطرائف كثيرة يقول في الفتاوى، لما ذكر ضرب المجنون وأن الجني يصيح ويصرخ من هذا الإنسان قال: ويحدث الحاضرين بأمور متعددة كما قد فعلنا نحن هذا، وجربناه مرات كثيرة يطول وصفها بحضرة خلق كثيرين. هب أن ما يرويه ابن تيمية عن غيره كما يقول عنه الغزالي خرافات وخيالات وإن كنا لا نعتقد هذا بطبيعة الحال، لكن ما بالك بالكلام الذي يرويه ابن تيمية كشاهد عيان وقد واجهه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 بنفسه وسمعه ورآه وبحضرة خلق كثيرين وأمور كثيرة يطول وصفها -كما يقول- كيف يمكن أن توصف بأنها خيالات وخرافات؟، هل يمكن أن يتهم أحد شيخ الإسلام ابن تيمية؟ وأذكر قصة ذكرها- محمود عبد الحليم- في كتاب له اسمه (الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ) . • يذكر عن الشيخ حسن البنا -رحمه الله- أنه سافر إلى مدينة، فلما نزل في هذه المدينة، قابله كثير من أتباعه ومؤيديه إلا أن أحدهم كان بعيداًً منزوياً عن الناس، فلما سلم الناس على الشيخ ذهب إلى هذا الأخ المنزوي وقال له: مالك؟ فقال إن زوجتي يصيبها صرع بين الحين والحين وإنه صادف حضورك أن هذا الصرع قد نزل بها الآن، فإذا أصابها الصرع فإنها تضرب وتؤذينا في البيت وتحدث أصواتاً فننزعج منها كثيراً، قال فلما وصلوا إلى البيت قال البنا للزوج أدخل على المرأة وغطها ثم ائذن لنا فدخل ووضع عليها قطيفة وأذن لهم بعد ذلك، فدخل البنا وبدأ يقرأ الآيات ويورد على هذه المرأة المصروعة وينفث وهي ترفس برجليها ويديها وهم قد أمسكوا بها ولكن من شدة الحركة انحسرت القطيفة عن بعض قدميها وبعض ساقيها فكانت المرأة تقول -وهي لا تعرف البنا ولم تره من قبل-. هذا أنت حسن البنا رأسه الذي تدعو أنك إمام من أئمة المسلمين تنظر إلى عورات النساء!، فرفع الشيخ البنا رأسه فإذا طرف ساق المرأة قد ظهر فأمر بستره، وظل يقرأ حتى خرج هذا الجني من المرأة، وكانت تنظر ذات اليمين وذات الشمال وتقول ماذا جاء بي على هذا المكان في وسط هؤلاء الرجال؟ • وقد ذكر الشيخ أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري في المجلة العربية قصة حدثت له شخصياً في إخراج جني من امرأة مصرية وأنه لم يعد إليها بعد ذلك، والأمر في ذلك عندنا داخل في نطاق الضروريات التي لا تحتمل الجدل وإن كان يدخله شيء من الوهم والمبالغة عند كثير من الناس، ومثل هذا كثير جداً ينقله الثقات، وشهود العيان فلا داعي للإطالة به. • ومن ذلك ما ذكره الشيخ الغزالي عن سماحة الشيخ الإمام عبد العزيز بن باز -حفظه الله- وما حصل له من ذلك فإنه حقيقة لا شك فيها. • ومما يستغرب أن الشيخ الذي يحتج بظاهر القرآن أحياناً لرد أحاديث صحيحة، صرف نظره عن هذا الظاهر تمشياً مع تأثيرات العلم التجريبي وإلا فإن قول الله تعالى: (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) صريح في إثبات المس. • ومثله قوله -صلى الله عليه وسلم- في الصحيح (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 ثم قول الشيخ (إن سمعة الدين قد شاهت من جراء أن هذه الأوهام تشيع بين المتدينين، وحدهم) . الواقع أن هذه الأمور شائعة في أوساط المجتمعات كلها وليست خاصة بالمتدينين، فكل مجتمع يتناقل أفراده مثل هذه الأخبار، ويؤمنون بها فليست وقفاً على المتدينين بحمد الله بل هي من الأمور الشائعة في كثير من المجتمعات. • ثم لننظر في الأمور الغيبية كلها، وجود الجن، وجود الشياطين، ما ثبت أن العظام طعام الجن وأنها تقع في أيديهم أوفر ما تكون لحماً، ما ثبت أن الروث علف لدوابهم، قبض الرسول -صلى الله عليه وسلم- على الشيطان وقوله: (لولا دعوة أخي لأصبح موثقاً يلعب به صبيان أهل المدينة) . • قصة أبي هريرة مع الشيطان الذي وجده يحثو من الصدقة ... مئات الروايات والأخبار من هذا النوع، كثير من المثقفين ثقافة غربية. حين يسمعون مثل هذه الأشياء، قد يحدث عندهم نوع من الشك أو التردد في مثل هذا الأمر. فهل هذا مدعاة إلى أن يشك المتدينون والعلماء والدعاة ويترددوا في قبوله؟ هذا أمر بعيد. • أرأيتم مخاطبة النملة لسليمان -عليه السلام- وهي ثابتة في نص القرآن الكريم، مخاطبة الهدهد، الدابة: (أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم) . كثير من المثقفين ثقافة غربية، أحسنهم قد يؤول هذه الأشياء على غير وجهها، وإذا فتحنا باب التأويل في مثل هذه الأمور الواضحة الصريحة، فقد نجد من يؤول البعث والحساب والجنة والنار وكل شيء، ويصبح الدين كما قال الفلاسفة والباطنية (إنه أوهام وخيالات) وهذه والعياذ بالله ردة عظمى عن الدين ففتح باب التأويل في مثل هذه الأمور مشكل. وإنني أعلم أن بعض مرضى القلوب بالشك يجادلون اليوم علناً في مسألة تلبس الجني بالإنسي، ويتحدثون سراً في إنكار الجن! لكنهم لا يجرؤون على إعلان ذلك الآن! وقول الشيخ: (كنت أرقب وجوه القراء وأشعر في نفوسهم بمدى المسافة بين العلم والدين) . هو لم ينقل عن القراء أنهم استنكروا ذلك، لكن قال إنه كان يرقب وجوههم ويشعر نفوسهم بمدى المسافة ... الخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 وما في نفوس القراء لا يمكن معرفته يقيناً، بل يمكن أن كل إنسان يفسره بحسب ما يجد هو، فالإنسان الذي يسمع هذه القصص فيندهش منها ويتعجب ويستغرب يقرأ في وجوه القراء الاندهاش والتعجب والاستغراب وليس الإنكار. وكذلك الإنسان الذي ينكر هذه الأشياء ويستنكرها ويستعظمها قد يقرأ في نفوس بعض القراء الاستنكار والاستعظام وإن لم يكن موجوداً، لكن بحسب ظنه هو، فلأنه هو نفسه كذب هذا الخبر ظن أن القراء مثله كذبوه. وإلا فالشيخ لم ينقل عن أحد من القراء أنهم كانوا يكذبون هذه المرويات. وكلام الشيخ يذكرني بتلك الأبيات العجيبة التي رواها الخطابي في (العزلة) عن رجل أخطأ فطلبه السلطان فهرب واختفى، وكان يقول: لقد خفت حتى لو تمر حمامة ... لقلت: عدو أو طليعة معشر فإن قيل خير قلت: هذي خديعة! ... وإن قيل: شر، قلت: حق فشمر قول الشيخ (لماذا لم يركب الجني ياباني أو ألماني .... الخ) . • من هو الذي قال إن اليابانيين والألمانيين والأمريكان والروس لا يصيبهم الجن؟ هناك مصحات كثيرة، مستشفيات عقلية ونفسية كثيرة جداً في تلك البلاد، وهي ملأى بالنزلاء والمراجعين وغيرهم، فلماذا لا يكون بعض هؤلاء ممن أصابهم مس من الجن، لكن لأن القوم لا يؤمنون بالجن، ومن ثم لا يؤمنون بالمس فإنهم لا يفسرون القضية بهذا التفسير لكنهم يفسرونها على أنها أمراض عقلية أو فصام أو تشنج أو مرض نفسي أو ما أشبه ذلك ويخرجون من قضية الجن. فليس هناك ما يثبت بحال من الأحوال أن اليابانيين والأمريكان والألمان ... الخ لا يصيبهم الجن. • بل أذكر أننا زرنا أمريكا في العام الماضي، وفي زيارتنا حدثنا عدد من الشباب السعوديين الثقات أنهم صادف في ذلك الوقت أن رجلاً قد أصابه الجن وكان يهذي على لسانه وقد نقلوه من تلك البلاد إلى السعودية ليعرضوه على بعض القراء وبعض المشايخ! الموقف الخامس عشر: النذر (ص 102) ذكر الشيخ عن الصنعاني قال (يرى الصنعاني أن النذر حرام، معتمداً على حديث عمر أنه -رسول الله صلى الله عليه وسلم- (نهى عن النذر)) ، يقول الغزالي: (والنذر الذي لا يأتي بخير هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 النذر المشروط، لله عليّ كذا إن شفيت من مرضى أما النذور الأخرى في طاعة الله فلا حرج فيها) . التعليق: أما حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- (نهى عن النذر) فقد رواه البخاري ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وغيرهم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. أما النذر فهو مكروه عند الشافعية، والمالكية، والحنابلة. قال الترمذي (العمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وغيرهم، كرهوا النذر) . قال المبارك -رحمه الله- (معنى الكراهة في النذر في الطاعة والمعصية، فإن نذر الرجل في الطاعة فوفى به فله أجر ويكره له النذر) . قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- (وإني لأتعجب ممن انطلق لسانه بأنه ليس بمكروه مع ثبوت النهي الصريح عنه، فأقل درجاته أن يكون مكروهاً كراهة تنزيه) يعني النذر. وهناك من قال بأنه محرم، وهذا ثبت عن طائفة من السلف واستدلوا له بآيات من القرآن الكريم كما في قوله تعالى: (وأقسموا جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن، قل لا تقسموا طاعة معروفة) . وقوله تعالى: (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين، فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون، فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه) . وحديث (نهى عن النذر) والنهي يقتضي التحريم ما لم توجد قرينة تصرفه عن ذلك. الموقف السادس عشر: الدعوة قبل القتال (ص 103- 104) يقول الشيخ: (عن عبد الله بن عون كتبت إلى نافع -رحمه الله- أسأله عن الدعاء قبل القتال -يعني عن دعوة الناس إلى الإسلام قبل مقاتلتهم- قال فكتب إليّ إنما كان ذلك في أول الإسلام وقد أغار النبي -صلى الله عليه وسلم- على بني المصطلق وهم غارون) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 يقول الشيخ الغزالي: (ونافع -غفر الله له- مخطئ فدعوة الناس إلى الإسلام قائمة ابتداء وتكراراً، وبنو المصطلق لم يقع قتالهم إلا بعد أن بلغتهم الدعوة ورفضوها وقرروا الحرب، ورواية نافع هذه ليست أول خطأ يتورط فيه فقد حدث بأسوأ من ذلك) . ثم ذكر رواية نافع عن ابن عمر في تفسير قوله تعالى (نساؤكم حرث لكم) نزلت في رجل أتى امرأته في دبرها فشق ذلك عليه. يقول الغزالي (ونقول إنه مع اهتزازها) -يقصد الرواية الأولى أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أغار على بني المصطلق وهم غارون- (مع اهتزازها فإن أهل الحديث لقلة فقههم روجوا لها حتى جعل الصنعاني عنوان الموضوع (الغارة بلا إنذار) ثم سرد آيات تدل على عدم الإكراه ثم قال: (ومع ذلك فنحن المسلمين يوجد بيننا من ينسى هذا كله ليقف عند راوٍ تائه يزعم أن الدعوة إلى الإسلام كانت في صدر الإسلام ثم ألغيت، ومن ألغاها؟) ... التعليق: 1- وصف الغزالي نافعاً (أولاً) بأنه مخطئ ثم قال إنه متورط قال (ليست أول خطأ يتورط فيه) ، (وأخيراً) وصفه بأنه تائه. هل يستحق نافع كل هذا؟ فلننظر ماذا قال فيه أهل العلم الذين يعرفون قدره وقدر أمثاله من الأئمة والرواة. يقول البخاري: (أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر) . ويقول مالك -رحمه الله- (كنت إذا سمعت نافعاً يحدث عن ابن عمر، لا أبالي أن لا أسمعه من غيره) . ويقول ابن عمر (لقد منَّ الله علينا بنافع) . ويقول الخليلي في الإرشاد: (إمام في العلم، متفق عليه، صحيح الرواية، ولا يعرف له خطأ في جميع ما رواه) . فنافع لا يستحق مثل هذه الألقاب. 2- مقصود نافع -رحمه الله- في قوله إنما كان ذلك في أول الإسلام وقد أغار النبي -صلى الله عليه وسلم- على بني المصطلق وهم غارون، مقصوده واضح وصحيح -أيضاً- فإنه يقصد أن من بلغتهم الدعوة فرفضوها لا يلزم إخبارهم بأننا سنحاربهم وسنغير عليهم، فقد نهاجمهم ونباغتهم على غرة ما داموا قد عرفوا بالإسلام وأبوا الانصياع له، ولكن نظراً لأن الإسلام أول الأمر كان غير منتشر فإنهم كانوا يستخدمون مع كل قبيلة أن يقفوا ثم يدعوهم إلى الإسلام فإن أجابوا وإلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 قاتلوهم فلما انتشر الإسلام وعلمت به جميع القبائل العربية في الجزيرة استغنوا بذلك وأغاروا على بعض القبائل دون إنذار مسبق باعتبار أن هذه القبيلة عرفت الإسلام وأبت الانصياع له. وهذا طبيعي، من غير المعقول أن نلزم المسلمين إذا أرادوا أن يهاجموا قبيلة غير مسلمة بل كافرة ورفضت الانصياع للإسلام أن يعلنوا لهم أننا سوف نهاجمكم صباح يوم كذا -مثلاً- مع أنه ليس بينهم وبينهم عقد ولا عهد، بل لا مانع من المباغتة في مثل هذا الأمر لأنها من وسائل النصر، وهؤلاء القوم قد بلغوا بدين الإسلام وأبوا قبوله، فمقصود نافع بذلك واضح لا إشكال فيه ولذلك قال ابن المنذر (وهو قول أكثر أهل العلم وعلى معناه تظاهرت الأحاديث الصحيحة وهذا أحدها) . يعني أن من بلغتهم دعوة الإسلام لا يجب أن يبلغوا بالحرب يقول: (وهو قول أكثر أهل العلم) إذاً نافع ما أتى بشيء غريب ولا انفرد في مسألة عن غيره بل هذا قول أكثر أهل العلم والأحاديث الصحيحة تظاهرت عليه -كما يقول ابن المنذر-. ثم وجدت الغزالي في دستور الوحدة قال نحواً من هذا.. وهكذا يضطرب الحبل بيده لعدم وضوح المنهج. 3- الشيخ الغزالي بَكَعَ نافع -رحمه الله- برواية (نساؤكم حرث لكم) وأنها نزلت في رجل أتى امرأته في دبرها فشق ذلك عليه والمعروف عند ابن كثير من أهل العلم أن الرواية في ذلك ليس فيها خطأ من نافع وإنما هو مذهب كان ابن عمر -رضي الله عنه- وخالف في ذلك الصحابة، ثم رجع عنه حين بلغه الدليل الصحيح، وقد ذكر البخاري الرواية عنه لكن لم يصرح بلفظها. يعني ابن عمر نفسه كان يقول إن الآية نزلت في رجل أتى امرأته في دبرها فشق عليه فنزلت (نساؤكم حرث لكم) وليس الخطأ من نافع حينئذ، فقول الغزالي -ها هنا- (إنه ليس أول خطأ يتورط فيه نفع) ليس مسلماً، بل لم يتورط في هذا الخطأ الأول ولا الثاني. يقول الإمام ابن عبد البر: (الرواية عن ابن عمر بهذا المعنى صحيحة معروفة عنه مشهورة وقد أخرج النسائي، وأبو داود، والطحاوي، وابن جرير، والدارقطني، عن عبد الرحمن بن قاسم عن مالك أنه قيل له إن الناس يروون عن سالم بن عبد الله أنه قال (كذب العبد على أبي) -يعني نافعاً- فقال مالك أشهد على يزيد بن رومان أنه أخبرني عن سالم بن عبد الله عن ابن عمر مثل ما قال نافع) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 قال الدارقطني: (هذا محفوظ عن مالك صحيح) . ولا شك أن وطء المرأة في دبرها محرم بدلالة القرآن الكريم في قوله تعالى: (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم) . فبين أن المرأة تؤتى في موضع الحرث يعني الحمل في القبل سواء أتاها من أمامها أو من ورائها، وهذا مذهب الجماهير من أهل العلم خلفاً عن سلف وهو الصحيح بلا ريبة. لكن المقصود أنه ليس نافع هو المخطئ في هذه الرواية (1) . 4- يقول الشيخ في أهل الحديث: (أهل الحديث لقلة فقههم روجوا لها) ... هذه الرواية روج لها جماعة من الأئمة، فنحن نعلم أنه رواها البخاري، وغيره، من الأئمة ولذلك فمن الصعب أن نقول إن ترويجهم لها بسبب قلة فقههم، بل فهموا معناها الصحيح وروجوا لها وهي تدل على مذهب الجمهور. ولمز أهل الحديث بقلة الفقه دأب قديم فإن أهل الحديث- رحمهم الله- كانوا فقهاء حقاً منهم الإمام أحمد، والشافعي، ومالك، وإسحاق والليث والأوزاعي والثوري، وغيرهم، بل إن قدوة أهل الحديث هم الصحابة- رضي الله عنهم- فقد جمعوا بين الحديث والفقه، فكانوا يروون عن النبي- صلى الله عليه وسلم- الأحاديث الصحيحة ويحملونها على محاملها السليمة وعنهم أخذ من جاء بعدهم من أهل الحديث. فالوقيعة في أهل الحديث ليست أمراً مستحدثاً ولا ينبغي للدعاة والعلماء والمصنفين أن يثيروا هذه النعرة، ولا أن يجعلوا هناك فرقاص بين أهل الفقه وأهل الحديث، وأن أهل الفقه فيهم كذا، لأن هذا من شأنه أن يجعل من الناشئة من ينشأ على بغض الفقهاء والوقيعة فيهم والبراءة من الكتب المذهبية، كما يوجد عند بعض الناس الذين غلوا في ذلك وزادوا، وفي المقابل يجعل هناك من يتمسكون بأقوال الفقهاء وكتبهم ويضربون صفحاً عن الحديث وأهله، وكلا الأمرين ليس منهجاً سليماً، ولا يفعله الحريص على جمع كلمة الأمة وتوحيد صفوفها. بل الإنسان يأخذ الحق ممن جاء به. وإنني لأعجب من قول الغزالي (حتى جعل الصنعاني عنوان الموضوع (الغارة بلا إنذار)) أين جعل الصنعاني هذا العنوان؟ ما أعتقد إلا أن الشيخ يقصد أنه جعله في كتاب (سبل السلام) لأنه هو الذي ذكر هذا الحديث باعتبار أن (ابن حجر) في (بلوغ المرام) ذكره، شرحه   (1) هناك قول آخر لبعض أهل العلم في تبرئة ابن مر من هذا القول ويمكن مراجعة ما كتبه ابن كثير والشنقيطي وغيرهما في تفسيرالآية وعلى كل حال فنحن قلنا برجوعه عن هذا القول إلى المذهب الصحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 في كتاب الجهاد، لكن الصنعاني في سبل السلام لم يضع عناوين، وإنما هناك عناوين من وضع بعض المحققين للكتاب وإلا فعناوين الأبواب الرئيسية من وضع (ابن حجر) والصنعاني لم يضف إليها أبداً وإنما العنوان إن وجد في سبل السلام فهو من وضع بعض المحققين، أو الطابعين للكتاب، والصنعاني لا علاقة له به! الموقف السابع: أحاديث الزهد: (ص 119) يقول الشيخ (قرأت خمسين حديثاً ترغب بالفقر وقلة ذات اليد، وما جاء في فضل الفقراء والمساكين والمستضعفين وحبهم ومجالستهم، كما قرأت سبعة وسبعين حديثاً ترغب في الزهد في الدنيا والاكتفاء منها بالقليل، وترهب من حبها والتكاثر فيها والتنافس، وقرأت سبعة وسبعين حديثاً أخرى في عيشة السلف وكيف كانت كفافاً، ذكر ذلك كله المنذري في الترغيب والترهيب وهو من أمهات كتب السنة) . يقول الشيخ (ورحم الله المؤلف الحافظ وغفر الله لنا وله فهو حسن النية ناصح للأمة بيد أن الفقه الصحيح يقتضي منهجاً آخر ومسلكاً أرشد) ثم بعد ثلاث صفحات ص 17. • يقول: (هل هذه المرويات باطلة؟ ربما ظن البعض أني أرى ذلك، الواقع أن هذه المرويات تساق في مجال محدد لهدف محدد، وهي جرع من أدوية يتناولها الإنسان حتى لا يكون منهوماً بالدنيا شقياً وراء بعض الحرمان الذي يطرأ عليه) . ما دام هذا كلام الشيخ الغزالي لا يقول إنها باطلة ولكن يرى أنها تساق في مجال محدد (كما يقول) لهدف محدد، وأنها جرعات من الدعاء ... الخ. إذاً ما هو ذنب المنذري حين ساق هذه المرويات في كتاب الترغيب والترهيب حتى قال فيه الشيخ (بيد أن الفقه الصحيح يقتضي منهجاً آخر ومسلكاً أرشد) ؟ ما المنهج الآخر؟ وما المسلك الأرشد؟ هل أخلى المنذري كتابه -الترغيب والترهيب وهو كتاب جامع- من أحاديث- الصدقة أو من الترهيب من المسألة أو من أحاديث الجهاد أو البيوع أو النكاح أو اللباس والزينة والطعام أو الآداب أو غيرهما؟ بل لقد ساق هذه كلها وساق فيها أحاديث ما بين الترغيب والترهيب. إذن وضع هو هذه الأحاديث ضمن إطار عام يشمل حياة المسلم كلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 • ثم هب أننا أمام إنسان أفرد أحاديث الزهد غير المنذري، وقد أفردها كثير من أهل العلم، أفردها الإمام أحمد، وابن المبارك، وابن أبي عاصم، ووكيع والبيهقي، وغيرهم. ماذا في ذلك؟ لا يمنع أن تكون هذه الأحاديث مفردة في كتاب وتكون تعالج جانباً من جوانب النفس الإنسانية أو جانباً من جوانب المجتمع الإسلامي، لأنهم لم يعرضوا هذه الأمور بصورة معينة -أي أنهم لم يكونوا في مجال مناقشة تكوين شخصية المسلم أو كيفية تكوين المجتمع المسلم حتى يطالبوا بذكر الجوانب كلها- هم صنفوا في مجال معين، وصنفوا في غيره، ولا يمكن أن يطالب من صنف في شيء أن يصنف في كل شيء. • قول الشيخ (إنها جرعات من أدوية) نعم هي جرعات من أدوية لكن لا أعتقد أنها جرعات من أدوية للفرد فقط، بل هي جرعات من أدوية للفرد بحيث أنها تجعل الإنسان الذي يشتغل بالدنيا لا ينساق وراءها كثيراً، ولكن يجب أن لا ننسى أنها أيضاً جرعات من أدوية للمجتمع، ولذلك فإن من المناسب أن يوجد في كل مجتمع إسلامي مجموعات من الناس يبرز عليها طابع الزهد في الدنيا والتخلي عن فضولها الذي لا يحتاج إليه حتى يذكروا الناس دائماً وأبدا بهذا المعلم البارز الذي قد ينسونه وراء انسياقهم في طلب الدنيا وجمع حطامها، وبذلك يبدو طبيعياً أن يتحدث المنذري في (الترغيب والترهيب) عن الزهد وعيش الكفاف، وأن يتحدث علماء آخرون عن الزهد بصفة مستقلة، والزهد ليس التخلي عن الدنيا .... فإننا نجد أكثر العشرة المبشرين بالجنة كانوا أغنياء ومع هذا فهم زهاد، وفقه الزهد يحتاج إلى حديث أوسع. الموقف الثامن عشر: حديث الساق ص (126) ذكر الشيخ حديث الساق وأن الله تعالى يكشف يوم القيامة عن ساقه، وربطه بالآية الكريمة (يوم يكشف عن ساق) وأن الله تعالى يدني المؤمنين فيكشف عن ساقه، ثم قال الشيخ (وهذا سياق غامض مضطرب مبهم وجمهور العلماء يرفضه وقد حاول القاضي عياض القول بأن الذي جاء المؤمنين في صورة أنكروها أول الأمر هو أحد الملائكة) يقول الغزالي: (لماذا يقوم أحد الملائكة بهذه التمثيلية المزعجة وبإذن من؟ وما جدواها؟ الحديث كله معلول وإلصاقه بالآية خطأ، وبعض المرضى بالتجسيم هو الذي يشيع هذه المرويات، وإن المسلم الحق ليستحي أن ينسب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه الأخبار) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 التعليق: 1- صفة الساق لله عز وجل ثابتة الساق لله تعالى بالقرآن والسنة من حديث أبي سعيد وغيره وفيه يكشف ربنا عن ساقه وليس إثبات الساق لله عز وجل بأعجب من إثبات الوجه واليد والقدم وغيرها وكل ذلك مما ورد به القرآن ووردت به السنة الصحيحة يثبت لله عز وجل على وجه يليق بجلاله لا نمثل وصف الله عز وجل بصفاتنا. 2- من هم جمهور العلماء الذين رفضوا هذا السياق؟ وأين نجد هذه الأقوال التي تدل على أن الجمهور رفضوا هذا السياق؟ فإننا نعلم أن أئمة الحديث المعتبرين وأئمة التفسير والأئمة المتبوعين كلهم قد أثبتوا لله الأسماء والصفات التي وردت بها السنة وهذا منها وكثير منهم ساق هذا الحديث في مصنفاتهم كما فعله البخاري، ومسلم، وغيرهم، كما يمر شيء من ذلك. 3- ماذا يقصد الشيخ بقوله (وبعض المرضى بالتجسيم هو الذي يشيع هذه المرويات) . مقصود المؤلف أن بعض الناس يحاولون أن يصفوا الله تعالى بالجسمية، والتجسيم لفظ حادث لم يكن معروفاً في عهود السلف، ولذلك يقال فيه التفصيل، فمن قال هل الله جسم أو لا؟ يقال: لا يثبت هذا اللفظ ولا ينفى حتى يستفصل ويستوضح، فإن أراد القائل إثبات ذات الله تعالى وصفاته من سمع وبصر وغيرهما وأن الله تعالى بائن من خلقه، فوق سمواته فهذا معنى صحيح، ولكننا لا نسميه جسما، وإن أراد أنه جسم مركب محتاج بعضه إلى بعض مشابه للخلق فهذا كله باطل، مع أن اللفظ لم يرد أصلاً. 4- قول الشيخ (وبعض المرضى بالتجسيم هو الذي يشيع هذه المرويات) . الذي أشاع هذه المرويات ونقلها هم أئمة السلف الذين لا يرقى إلى إخلاصهم لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- شك ولا ريبة وأي إشاعة لهذا الخبر أكثر من أن يثبتها البخاري ومسلم في صحيحيهما، وكذا ابن مندة وعبد الرزاق وعبد بن حميد وغيرهم، وأي إشاعة أكبر من أن يثبتها المفسرون في كتبهم كابن كثير والشوكاني والسيوطي وغيرهم؟ • فهل يمكن أن يوصف هؤلاء بمثل هذه الصفة؟ حاشاهم من ذلك ولكن لعل المؤلف يقصد بكلمته هذه بعض الشباب الذين يواجههم في واقع حياته ويتناقش معهم وربما حصل حدة في النقاش جعلته يطلق مثل هذه العبارات، ويتخذ مثل هذا الموقف، وإن كان هذا- أيضاً لا يسوغ، فحتى أولئك الذين يشيعون مثل هذه المرويات هم على حق لأنهم ما أشاعوا إلا إخباراً صحيحة مهما كان الأمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 ولذلك أقول إن وصف من يثبتون مثل هذه الأشياء بمثل هذه الأوصاف أمر ليس بجيد. وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في الفتاوي (إن أهل البدع يسمون من أثبت شيئاً من الصفات مشبهاً حتى إن جل المعتزلة يدخلون عامة الأئمة كمالك وأصحابه والثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد وأصحابهم وإسحاق وأبي عبيد وغيرهم في المشبهة) أ. هـ. وقد ألف أبو إسحاق إبراهيم بن عثمان بن درباس الشافعي جزءاً سماه تنزيه أئمة الشريعة عن الألقاب الشنيعة ذكر فيه كلام السلف وغيرهم في معاني هذا الباب، وذكر أن أهل البدع كل صنف منهم يلقب أهل السنة بلقب يزعم أنه صحيح على رأيه الفاسد، كما أن الروافض يسمونهم نواصب، والقدرية يسمونهم مجبرة، والمرجئة يسمونهم شكاكاً، الجهمية يسمونهم مشبهة. وأهل الكلام يسمونهم حشوية، إلى آخر ما قال. • فكنا ننزه الشيخ عن أن يقول مثل هذه الكلمات التي إن استطعنا أن نستخدم عبارته التي استخدمها في حق نافع من قبل قلنا إنه تورط فيها. الموقف التاسع عشر: أحاديث قطع الصلاة ص (128) قال (إن القاصرين من أهل الحديث يقعون على الأثر ولا يعرفون حقيقته ولا أبعاده ثم يشغبون به على الدين كله دون وعي، خذ مثلاً ما يقطع الصلاة، فقد تشبثوا بحديث يقول: إن الصلاة تقطعها المرأة والحمار والكلب الأسود، وجمهرة الفقهاء رفضت هذا الحديث واستدلت بأحاديث أخرى تفيد أن الصلاة لا يقطعها شيء وأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي وزوجته عائشة مضطجعة أمامه، كما أن ابن عباس مر بحمار كان يركبه أمام جماعة فصلى فلم تفسد له صلاة والكلاب أبيضها وأسودها سواء) . التعليق: 1- ما يتعلق بقوله (إن القاصرين من أهل الحديث ... الخ) . ذكر حديثاً واحداً وهو حديث أن الصلاة تقطعها المرأة والحمار والكلب الأسود وقال إن جمهرة الفقهاء رفضت هذا الحديث. في الواقع هي ليست حديثاً واحداً بل عندنا عدة أحاديث، فقد روى الكلام نفسه إن المرأة والحمار والكلب الأسود تقطع الصلاة رواه مسلم عن أبي ذر، ورواه مسلم -أيضاً- والترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة، ورواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن خزيمة بسند الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 صحيح عن ابن عباس، ورواه البزار عن أنس، وقال العراقي رجاله ثقات وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح. ورواه أحمد عن عائشة -أيضاً- لا يقطع الصلاة إلا الحمار والكافر والكلب والمرأة وقال العراقي - رجاله ثقات وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح وكذلك جاء المعنى نفسه عن ابن مغفل والحكم بن عمرو الغفاري. إذن عندنا مجموعة صحابة (أبو ذر- أبو هريرة - ابن عباس- أنس- عائشة- ابن مغفل- والحكم بن عمرو) فالمعنى وارد عن سبعة صحابة. 2- حديث لا يقطع الصلاة شيء، الذي يقول إن الفقهاء استدلوا به، جاء عن أبي سعيد عند أبي داود، وفيه مجالد بن سعيد وهو ضعيف، وجاء عن أنس عند الدارقطني والبيهقي، وفيه راويان مجهولان، ولذلك ضعفه -أي حديث أنس- ابن تيمية وابن القيم وابن حجر والنووي والشوكاني وغيرهم. وجاء عن أبي أمامة عند الدارقطني وفيه عفير بن معدان وهو ضعيف، ولذلك ضعفه ابن الجوزي في العلل المتناهية وعلى كل في الموضوع أخبار واهية عن أبي هريرة وابن عمر وجابر فليس في الباب حديث يصح لا يقطع الصلاة شيء. 3- القائلون بالقطع -يعني أن الصلاة يقطعها ما ورد في الحديث- جماعة من الصحابة والتابعين والأئمة منهم أبو هريرة وأنس وابن عباس في رواية عنه والحكم وعائشة -أيضاً- فيما يتعلق بالكلب والحمار لكنها استنثت المرأة فقالت إنها لا تقطع الصلاة، وكذلك عطاء والحسن وأحمد والظاهرية وهذا المذهب الذي اختاره ابن تيمية وابن القيم والشوكاني وغيرهم. فما أدري هل يمكن أن يوصف هؤلاء بأنهم قاصرون؟ لا شك أن الجواب عند الجميع: لا. ولا شك -أيضاً- أن الجمهور على خلاف ما يقتضيه هذا الحديث فهم يرون أنه لا يقطع الصلاة شيء، وأعني جمهور الأئمة المتبوعين يعني (الشافعي ومالك وأبا حنيفة) ولكن لا يمكن أن نجزم بأنه رأى جمهور الأئمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وإن كان الترمذي عده رأي أكثر أهل العلم من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن بعدهم من التابعين. 4- استدلاله بحديث اضطجاع عائشة، اضطجاعها لا يعتبر مروراً والكلام في المرور، وكذلك ابن عباس إنما مر بين يدي بعض الصف وهم مأمومون وسترة الإمام سترة لهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 الموقف العشرون: حديث الرضعات ص (146) ذكر الشيخ (أن مالكاً روى حديث عائشة كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات فتوفى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهي فيما يقرأ من القرآن قال الإمام مالك (ليس على هذا العمل) ورفض الحديث. ونحن نؤكد مرة ومرتين أنه ليس لروايات الآحاد أن تشغب على المحفوظ من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- أو أن تعرض حقائق الدين للوهم والريب) . 1- أما الحديث فقد رواه مسلم، ومالك، وأبو داود، والترمذي، والنسائي،-باللفظ الذي سبق-. 2- هل هذه الرواية تشغب على المحفوظ من كتاب الله؟ ما أدري وجه شغبها على المحفوظ من كتاب الله؟ إن كان قصد الشيخ أن القرآن ورد فيه الرضاع مطلقاً (وأخواتكم من الرضاعة) . فإن هذا الحديث بيان لما أجمل في هذه الآية، فبين أن المقصود بالرضاعة ما كان خمس رضعات، فليس فيها شغب على المحفوظ من كتاب الله، وأما إن كان قصد الشيخ أنها تقول توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهن فيما يقرأ من القرآن فهذا -أيضاً- ليس فيه إشكال يدعو على رد الحديث، فالمقصود أن هذا الحكم وهو عشر رضعات أخر نسخه إلى آخر حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-، حتى إنه وقت وفاته -صلى الله عليه وسلم- كان فيما يقرأ من القرآن، فكان بعض الصحابة يقرأونه لأنهم لم يبلغهم نسخه ثم بلغهم أنه منسوخ فتركوه بعد ذلك، ومن المعلوم أن خبر النسخ، كخبر نزول شيء من القرآن لا يصل إلى الناس في لحظة واحدة، بل ينتقل بينهم بالتدريج. 3- قول الإمام مالك (ليس على هذا العمل) -صحيح- لكنه لم يرفض الحديث -كما قال الغزالي- (ورفض الحديث) ، لأن رفض الحديث أمر آخر. فهو قد يرى فيه رأياً، أما مسألة الرفض فهي أمر صعب. وقد أخذ بالحديث واشترط خمس رضعات عدد من الأئمة كابن مسعود، وعائشة، وابن الزبير، وابن حزم، وجماعة من الأئمة، فهو ليس مذهباً غريباً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 الموقف الحادي والعشرون: مسح الله على ظهر آدم ص (146-147) ذكر ما رواه الترمذي عن عمر مرفوعاً أن الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح على ظهره فاستخرج منه ذرية وقال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون قال الشيخ (وهذا السياق يكاد أن يكون نصاً في الجبر، ولذلك نرفضه ونراه من أوهام الرواة، بل نراه من الجهل بمعاني القرآن الكريم) . التعليق: 1- الحديث له سياق طويل ولو ساقه بتمامه لما كان فيه اختلاف يذكر عن سائر الأحاديث الواردة في القدر كحديث ابن مسعود وغيره، فإن في آخر الحديث فقال رجل يا رسول الله ففيم العمل؟ فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم- إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار ... الخ. 2- إن الحديث ضعيف فإن راويه عن عمر وهو مسلم بن يسار لم يسمع من عمر وكذلك هو راوٍ مجهول ولذلك ضعف الحديث ابن عبد البر وقال (هو حديث منقطع ليس إسناده بالقائم) فلا داعي -أيضاً- للاشتغال بالكلام فيه. الموقف الثاني والعشرون: أطفال المسلمين يوم القيامة ص (158) قال الشيخ: (المشكلة تكمن في أحاديث أخرى صحيحة السند غير أن متونها تقفنا أمامها واجمين لنبحث عن تأويل لها أو مخرج، خذ مثلاً حديث عائشة طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة) . حديث عائشة -سوف أذكره- أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- دعي إلى جنازة صبي من الأنصار فقالت عائشة رضي الله عنها طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- أو غير ذلك يا عائشة؟ إن الله خلق للجنة أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وخلق للنار أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم. نرجع لكلام الشيخ (وخذ مثلاً حديث سهل بن سعد (إن الرجل ليعمل بعمل أهل النار وإنه من أهل الجنة وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة وإنه من أهل النار) ، وخذ مثلاً حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (إن الله خلق الخلق في ظلمة فألقى عليهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 من نوره، فمن أصابه ذلك النور اهتدى، ومن أخطأ ضل) ، ولذلك أقول: (جف القلم على علم الله تعالى. التعليق: 1- قول الشيخ (تجعلنا واجمين لنبحث عن تأويل أو مخرج) . البحث عن تأويل أو مخرج سليم تلتئم حوله النصوص هو مسلك الراسخين في العلم -كما سبق- ولا إشكال فيه. المشكلة هي إما التعجل في تضعيف الأحاديث بما يتضمن الطعن بالرواة، إما في عدالتهم أو في ضبطهم على اعتقاد أن تلك الأحاديث معارضة لأحاديث أخرى، أو رد الأحاديث النبوية الصحيحة بمقررات عقلية سابقة، ليست من الأمور العقلية المتفق عليها عند الجميع وليست من الأمور التي يشهد لها الشرع -فهذا هو المشكل-. 2- حديث عائشة صحيح رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وسبق لفظه. هل في هذا الحديث مشكلة كما يقول الشيخ؟ لننظر: 3- فعائشة قالت رضي الله عنها طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة وهو صبي من الأنصار فنقول إنما أنكر عليها النبي -صلى الله عليه وسلم- الجزم لفرد معين بالجنة كما أنكر على أم العلاء الأنصارية لما مات عثمان بن مظعون فقالت هنيئاً لك أبا السائب أما شهادتي عليك فقد أكرمك الله وفي لفظ أنها قالت له كما في رواية الطبراني هنيئاً لك الجنة فأنكر عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال (إني والله وأنا رسول الله ما أدري ما يفعل بي ولا بكم وإني لأرجو له الخير) . • فمن المعلوم أنه لا ينبغي الحكم لمعين بالجنة أو بالنار إلا من شهد له النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك. فإنما أنكر النبي -صلى الله عليه وسلم- على عائشة جزمها لهذا الصبي بالذات أنه من أهل الجنة ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في رواية الطبراني عن ابن عباس في حديث عثمان بن مظعون قال: أرجو له رحمة ربه، وأخاف على ذنبه، مع أنه أنكر عليهما الجزم وإلا فأولاد المسلمين الذين ماتوا وهم صغار في الجنة وقد حكى الإجماع على ذلك، ابن عبد البر في أحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 المواضع، وابن أبي زيد المالكي، والنووي، وقال الإمام أحمد (لا يختلف فيهم أحد أنهم في الجنة) . يعني صبيان المسلمون. • والمقصود بالإجماع إجماع من يعتد به وإلا فقد نقل عن بعضهم التوقف في ذلك، بل حتى أولاد المشركين ذهب طائفة من المفسرين والفقهاء والمتكلمين إلى أنهم في الجنة، وهذا اختيار البخاري، وابن حزم، والنووي حتى قال النووي في شرحه لصحيح مسلم (وهو المذهب الصحيح المختار الذي سار عليه المحققون) ومن أدلتهم قول الله عز وجل (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً) . وحديث سمرة في رؤيا النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي قصة طويلة رواها البخاري في صحيحه، وفيها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى رجلاً طويلاً في ظل شجرة وحوله صبيان فقالت له الملائكة: وأما الرجل فإبراهيم وأما الصبيان حوله فأولاد الناس. فقال الصحابة: وأولاد المشركين؟ قال وأولاد المشركين والذي رجحه ابن القيم في كتاب أحكام أهل الذمة بعد أن ذكر المذاهب العشرة فيهم أنهم يمتحنون يوم القيامة ورجح ذلك من نحو تسعة عشر وجهاً فلتراجع. فمسألة صبيان المؤمنون ليس فيها إشكال. 4- إذاً هل المشكلة فيما يتعلق بالقدر وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- إن الله خلق للجنة أهلاً وخلق للنار أهلاً هل هذه مشكلة عند الشيخ؟ أجيب على هذا بأربع نقاط: أ- في الحديث إشارة إلى أن من الناس من يصير إلى الجنة، ومنهم من يصير إلى النار -يعني يوم القيامة- وهذا الأمر متفق عليه بين المسلمين، بل هو متفق عليه بين جميع أهل الأديان السماوية وأهل الملل، ولذلك يقول القائل: الموت باب وكل الناس داخله ... فليت شعري بعد الموت ما الدار؟ فأجابه آخر بقوله: الدار جنة عدن إن عملت بما ... يرضى الإله وإن فرطت فالنار هما مصيران ما للمرء غيرهما ... فانظر لنفسك ماذا أنت تختار؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 ب- أن هذا -المصير- كتب عليهم قبل أن يخلقوا وهذا -أيضاً- متفق عليه بين أهل السنة والجماعة ولعل المؤلف نفسه لا ينازع في ذلك، فإن الله تعالى خلق فلاناً وعلم وقدر أنه من أهل النار، أو من أهل الجنة، أي: أنه سيدخلها بسبب هو عمله، كما أنه عز وجل خلق فلاناً وعلم وقدر أنه سيولد له والمعنى أنه سيتزوج ويأتي أهله وتزول الموانع فيقع الحمل ثم الإنجاب. فكذلك ما ورد: هؤلاء للنار، وهؤلاء للجنة فالمعنى أن الله عز وجل خلق هؤلاء، وقضى وقدر أنهم يعملون في الدنيا بعمل أهل النار فيكونون إلى النار، وأولئك يعملون في الدنيا بعمل أهل الجنة فيكونون من أهل الجنة، وكل ذلك بأسبابه المقدرة. جـ- اللام في قوله -صلى الله عليه وسلم- للجنة ... للنار.. هل فهم الغزالي أن اللام للتعليل؟ يعني أن الله خلقهم من أجل النار واعتقد أن هذا قد يلزم منه شيء من الجبر؟ ولذلك قال: (نقف أمامها واجمين لنبحث عن تأويل ... ) ، واللام -ها هنا- لا شك أنها ليست للتعليل، بل الذي يظهر لي أن اللام لام الاستحقاق كما في قوله تعالى (ويل للمطففين) ومستحقو النار، إنما استحقوها -قدرا- بما علم الله أنه سيصدر منهم من عمل أهل النار، ثم دخلوها بأعمالهم التي صدرت منهم، وكذلك لو فرضنا أن اللام لام العاقبة أو الصيرورة، كما يقول النحويون كقول الله سبحانه وتعالى (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً) لام (ليكون) لام الصيرورة. كما في قول الشاعر: لدو للموت وابنوا للخراب ... فكلكم يصير إلى ذهاب فيكون المعنى أن الله خلق خلقاً يصيرون إلى الجنة، وخلق خلقاً يصيرون إلى النار، ما في الأمر أدنى إشكال. • الذي وقفت أمامه واجماً، أن المؤلف -غفر الله لنا وله- قال إن متونها تقفنا أمامها واجمين، وفي الموضع نفسه نقل عن أحمد بهجت بالحرف الواحد قوله ( ... لقد خلق الله ناساً هم أهل الجنة وخلق ناساً هم أهل النار ... ) وقبل أن يسوق هذه الكلمة قال (إنها كلمة جميلة) وبعد أن ساقها قال (وهذا كلام صائب حسن الوقع والثمر) ! هل تحسون بفرق بين معنى الحديث وبين معنى الكلمة التي نقلها الشيخ عن أحمد بهجت؟ في الواقع وإن اختلفت الألفاظ اختلافاً يسيراً فإنه ليس ثمة فرق بين اللفظين. د- قد يقول قائل ما مناسبة الكلمة للقصة؟ يعني قد يقال إن الشيخ استشكل إن الرسول عليه السلام قال إن الله خلق للجنة أهلاً وخلق للنار أهلاً ... الحديث بمناسبة قول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 عائشة عن هذا الصبي عصفور من عصافير الجنة فكأنه قد يفهم أنه حتى هذا الصبي قد يكون خلق للنار -مثلاً- فهذا المعنى مستبعد لما أسلفت في موضوع الصبيان، وأما علاقة الكلمة بالقصة فهي ظاهرة، وهي تعويد المسلم على أن يعلم أن السبب سبب فقط، فالسبب لا يكفي وحده. فمثلاً: العمل الصالح سبب لدخول الجنة لكنه لا يكفي لدخول الجنة إلا بعفو الله ورحمته، وفضله. ولذلك يتوقف الإنسان عن الحكم لمعين بأنه من أهل الجنة لأنه رآه يعمل عملاً صالحاً، لكن يرجو له ذلك. كذلك يتوقف عن الحكم لمعين يراه يعمل المعاصي والفسوق بأنه من أهل النار لكن يخاف عليه. لأن هذا فعل السبب الموصل للجنة وهو العمل الصالح. وذاك فعل السبب الموصل للنار. فيكفي أن يثني على الإنسان بالخير دون أن يحكم له بجنة أو نار وهذا هو الدرس الذي أراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يلقنه لعائشة ومن قبل لأم العلاء الأنصارية، ومن بعد لجميع المسلمين أن لا يحكموا لمعين بجنة أو نار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 الخاتمة وفي ختام هذا الحوار الهادئ مع الغزالي نستطيع أن نصل إلى النتائج الآتية: 1- مدى صلته بعقيدة الأشاعرة سلباً وإيجاباً، ومعنى ما يقوله من اتباعه لعقيدة السلف. 2- مدى صلته بالمدرسة العقلية، ومدى توافق منهجه وآرائه معها. 3- مدى الاتفاق والاختلاف بين منهجه النظري والتطبيقي. 4- موقفه ممن يخالفهم سواء كانوا من سلف الأمة أو علمائها، أو شباب الصحوة. 5- أنه يتكئ على أقوال أهل العلم إذا ظن أنها تظاهر قولاً يميل إليه، ويطعن بها في نحور مخالفيه، لكنه يتخلى عن هذه الأقوال ويضرب بها جانباً بل ويشنع على أصحابها إذا خالفت رأيه. 6- مخالفته للإجماع، وشذوذ في عدد من المسائل الفقهية. 7- الاستجابة للضغوط العلمية والحضارية المعاصرة، ومحاولة تطويع بعض الأحكام الشرعية لها. 8- اختلاف منهجه في أحاديث الآحاد، حيث يقبلها أحياناً، ويرفضها أحياناً أخرى دون اطراد. 9- يغلب على حديثه الأسلوب العاطفي الخطابي المجرد أكثر من الأسلوب العلمي. 10- تناقض آرائه وأطروحاته الفكرية بحيث لا يمكن سبك آرائه في منظومة فكرية واحدة، ولعله راجع إلى الفقرة التي قبلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142