الكتاب: التقريب لحد المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية المؤلف: أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري (المتوفى: 456هـ) المحقق: إحسان عباس الناشر: دار مكتبة الحياة - بيروت الطبعة: الأولى، 1900   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- التقريب لحد المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية ابن حزم الكتاب: التقريب لحد المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية المؤلف: أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري (المتوفى: 456هـ) المحقق: إحسان عباس الناشر: دار مكتبة الحياة - بيروت الطبعة: الأولى، 1900   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] مقدمة 1 - اسم الكتاب اسمه كما جاء على الورقة الأولى من المخطوطة " كتاب التقريب لحد المنطق ، كلام الرئيس الأوحد ارسطاطاليس وغيره، مما عني بشرحه الفقيه الإمام الأوحد الأعلم أبو محمد علي بن احمد بن سعيد بن حزم؟ ". وقد أشار إليه ابن حزم مرات في كتابه الفصل في الملل والنحل فقال في باب عن ماهية البراهين " هذا باب قد أحكمناه في كتابنا الموسوم بالتقريب في حدود الكلام " (1) . وقال في موضع آخر " " هذه شغبية قد طالما حذرنا من مثلها في كتبنا التي جمعناها في حدود المنطق " (2) فأطلق اسم " الكتب " على هذا الكتاب لأنه مؤلف من كتب ثمانية؛ وذكره مرة ثالثة في الفصل فقال: " وبينا في كتاب التقريب لحدود الكلام أن الآلة المسماة الزرافة؟ الخ " (3) وقال مرة رابعة " على حسب المقدمات التي بيناها في كتابنا الموسوم بالتقريب في مائية البرهان " (4) فأشار في هذه التسمية إلى بعض جزء من الكتاب. وقد ورد ذكر هذا الكتاب فيما ألفه ابن حزم الأندلسي عند كل من الحميدي في الجذوة وصاعد في طبقات الأمم. فقال الحميدي: " التقريب لحد المنطق والمدخل إليه والألفاظ العامية والأمثلة الفقهية، فانه سلك في بيانه وإزالة سوء الظن عنه وتكذيب   (1) الفصل 1: 4 (2) الفصل 1: 20 (3) الفصل 5: 70 (4) الفصل 5: 128 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 الممخرقين به طريقة لم يسلكها احد قبله فيما علمناه " (1) وهذه التسمية هي أدق، ما هنالك وهي بعينها مثبتة كاملة على الورقة (55) من كتاب التقريب. أما صاعد فقال: " فعني بعلم المنطق وألف فيه كتابا سماه التقريب لحدود المنطق بسط فيه القول على تبيين طرق المعارف واستعمل فيه أمثلة فقهية وجوامع شرعية وخالف ارسطاطاليس واضع هذا العلم في بعض أصوله مخالفة من لم يفهم غرضه ولا اتاض في كتابه، فكتابه من أجل هذا كثير الغلط بين السقط " (2) ويبدو ان ابن حيان مؤرخ الأندلس اطلع على قول صاعد هذا فردده دون ان يذكر اسم التقريب إذ قال: " كان أبو محمد حامل فنون من حديث وفقه وجدل ونسب وما يتعلق بأذيال الأدب مع المشاركة في كثير من انواع التعاليم القديمة من المنطق والفلسفة، وله في بعض تلك الفنون كتب كثيرة لم يخل فيها من الغلط والسقط، لجرأته في التسور على الفنون، لا سيما المنطق، فانهم زعموا انه زل هنالك، وضل في سلوك المسالك، وخالف ارسطاطاليس واضعه، مخالفة من لم يفهم غرضه، ولا ارتاض في كتبه " (3) . وقد اتفق صاعد وابن حيان على القول بان ابن حزم اخطأ في فهم بعض الأصول من كلام ارسطاطاليس، ورأياهما رأي واحد لاعتماد الثاني منهما على الأول. وهذه مسألة سأعرض لها فيما يلي. 2 - متى ألف هذا الكتاب إن إشارات ابن حزم إلى كتاب الفصل لا تدلنا على أن " التقريب " سابق للفصل في الزمن، فقد لحظنا في الفقرة السابقة انه أشار أيضا إلى التقريب في كتاب الفصل نفسه، وهذا قد يدل على أنه توفر الكتابين دون استيفاء لأحدهما قبل الآخر وأنه كان يراوح العمل فيما بينهما. وهو في كتاب التقريب يحيل أيضا على كتابين آخرين وهما: كتاب السياسة وكتاب أخلاق النفس. ولا نعرف تاريخ تأليفه لهذين الكتابين أيضا ولكن ان التقريب سابق لهما لأنه إذا ذكرهما قال " على ما نبين في؟ " فعلق كلامه بالمستقبل، ودل على   (1) الحميدي: جذوة المقتبس: 291 ط. مصر 1952 (2) صاعد الأندلسي: طبقات الأمم: 76 (ط. اليسوعية 1921) . (3) ابن بسام: كتاب الذخيرة 1 - 1: 130 (لجنة التأليف: 1939) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 انه لم يكن قد اخذ في تأليفها حينئذ وإنما حدد لنفسه منهجا هنالك. ويقول ابن حزم في التقريب: " وما ألفنا كتابنا هذا وكثيرا مما ألفنا إلا ونحن مغربون مبعدون عن الموطن والأهل والولد مخافون مع ذلك في أنفسنا ظلما وعدوانا " (1) . وهذا القول على ما فيه من فائدة لا يحدد شيئا دقيقا وإنما هو ينبئنا بأن التقريب كغيره من سائر مؤلفات ابن حزم كتبت بعد مفارقة قرطبة وبدء التنقل في بلدان الأندلس. وفي التقريب إشارات هامة تومئ إلى التوقيت الزمني، وهي: 1 - يروى ابن حزم حكاية عن مؤدبه احمد بن محمد بن عبد الوارث، ويترحم عليه (2) ولكنا للأسف لا نستطيع الاستفادة من هذه الحقيقة لأني لم اعثر على تاريخ لوفاة هذا الرجل. 2 - يتحدث ابن حزم في الكتاب عن حادث اعتقاله على يد المستكفي (3) لان ابن حزم كان يوالي المستظهر وقد تم هذا في سنة 414 أو أواخر 413 في اكثر تقدير. 3 - يذكر ان صديقه ابن شهيد ألف كتابا في علم البلاغة أثناء كتابته هو لكتاب التقريب (4) وقد توفي ابن شهيد سنة 426 وتعطل عن الأليف قبل ذلك بعام أو اكثر. وهذا يعين أن كتاب التقريب أو بعض فصول منه كتب قبل ذلك. ونضيف إلى هذه الإشارات قول صاعد: " وكان ابنه الفقيه أبو محمد وزيرا لعبد الرحمن المستظهر؟ ثم نبذ هذه الطريقة وأقبل على قراءة العلوم وتقييد الآثار والسنن فعني بعلم المنطق؟ وأوغل بهد هذا في الاستكثار من علوم الشريعة " (5) فهو لم يبدأ دراساته حسب قول صاعد إلا بعد سنة 414، وكان المنطق من أول العلوم التي أقبل عليها.. " وبعد " ذلك أوغل في علوم الشريعة مستكثرا منها، وكل هذه الشواهد مجتمعة تجعل تاريخ للتقريب بعد عام 415 وقبل عام 425هـ. 3 - دواعي تأليفه قضى ابن حزم جانبا من شبابه وهو يطلب العلم في قرطبة حتى سنة 401. وقد أثر في نفسه في ذلك الدور المبكر من حياته ما سمع بعض الأغرار يقولونه في المنطق والعلوم   (1) التقريب: 200 (2) التكملة: 790؛ والجذوة: 99 (3) التقريب: 192 (4) التقريب: 204 (5) طبقات الأمم: 76 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 الفلسفية عامة دون تحقيق، وأولئك هم اللذين عناهم بقوله: " ولقد رأيت طوائف من الخاسرين شاهدتهم أيام عنفوان طلبنا، وقبل تمكن قوانا في المعارف، وأول مداخلتنا صنوفا من ذوي الآراء المختلفة، كانوا يقطعون بظنونهم الفاسدة من غير يقين أنتجه بحث موثوق به على ان الفلسفة وحدود المنطق منافية للشريعة " (1) ولعل بيئة قرطبة والأندلس عامة - يومئذ بمعاداتها لعلوم الأوائل - هي التي حفزت حب الاستطلاع لديه فجعلته يدرس الفلسفة والمنطق، ومن ثم قوي لديه الشعور بأن العلوم الفلسفية لا تنافي الشريعة، بل ان المنطق منها خاصة يمكن أن يتخذ معيارا لتقويم الآراء الشريعية وتصحيحها، وكان اتجاهه إلى مجادلة أهل المذاهب والنحل الأخرى يفرض عليه أن يتدرع بقوة منطقية في المناظرة والجدل. وهاتان الغايتان كانتا من أول العوامل التي حدت به إلى التأليف في المنطق ليثبت عدم التنافي بينه وبين الشريعة وليعزز به موقفه العقلي إزاء الخصوم ويضع فيه القواعد الصحيحة للجدل والمناظرة ويبين فيه حيل السفسطة والتشغيب. وظل ابن حزم على رأيه هذا يؤمن بفائدة المنطق والفلسفة وسائر علوم الأوائل؟ ماعدا التنجيم -. فهو في رسالة " مراتب العلوم " ينصح الدارس أن يبدأ بعد تعلم القراءة والكتابة وأصول النحو واللغة والشعر والفلك، بالنظر في حدود المنطق وعلم الأجناس والأنواع والأسماء المفردة والقضايا والمقدمات والقرائن والنتائج ليعرف ما البرهان وما الشغب كلها ويميزها من الأباطيل تمييزا لا يبقى معه ريب (2) . ويسأله أحدهم رأيه في أهل عصره وكيف انقسموا طائفتين: طائفة اتبعت علوم الأوائل وطائفة اتبعت علم ما جاءت به النبوة ويطلب إليه ان يبين له أيهما المصيب، فيقول في الجواب: اعلم؟ وفقنا الله وإياك لما يرضيه - أن علوم الأوائل هي الفلسفة وحدود المنطق التي تكلم فيها أفلاطون وتلميذه ارسطاطاليس والاسكندر ومن قفا قفوهم، وهذا علم حسن رفيع لأنه فيه معرفة العالم كله بكل ما فيه من أجناسه إلى أنواعه، إلى أشخاص جواهره وأعراضه، والوقوف على البرهان الذي لا يصح شيء إلا به وتمييزه مما يظن من جهل أنه برهان وليس برهانا، ومنفعة هذا العلم عظيمة في تمييز الحقائق مما سواها؟ (3)   (1) التقريب: 115 - 116 (2) رسائل ابن حزم: 71 (ط. مصر) . (3) المصدر نفسه: 43 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 فهذا الإيمان بفائدة علوم الفلسفة والنطق هو الذي جعل ابن حزم بعد درسه لها، يحاول أن يوصل ما فهمه منها مبسطا إلى الآخرين. وقد كسب له هذا الاتجاه عداوة الفريق الذي كان يكره الفلسفة والمنطق، وهو يومئذ الفريق الغالب في الأندلس. واتخذ أعداؤه هذه الناحية فيه محطا لهجماتهم، ومن أمثلة ذلك أن أحد الناقمين كتب إليه كتابا غفلا من الإمضاء، اتهمه فيه بأن الفساد دخل عليه من تعويله على كتب الأوائل والدهرية وأصحاب المنطق وكتاب اقليدس والمجسطي وغيرهم من الملحدين. فكتب ابن حزم يقول في الجواب: أخبرنا عن هذه الكتب من المنطق واقليدس والمجسطي: أطالعها أيها أنكرت ذلك على نفسك؟ وأخبرنا عن الإلحاد الذي وجدت فيها ان كنت وقفت على مواضعه منها، وإن كنت لم تطالعها فكيف تنكر مالا تعرف (1) وأصبح ابن حزم يعتقد أن فائدة المنطق أمر لا يرتاب فيه منصف لانها فائدة غير واقفة عند حدود الاطلاع والرياضة الذهنية بل تتدخل في سائر العلوم الديانة والمقالات والأهواء وعلم النحو واللغة والخبر والطب والهندسة وما كان بهذا الشكل فانه حقيق ان يطلب وان تكتب فيه الكتب، وتقرب فيه الحقائق الصعبة. وغدا هذا الإيمان بقيمة المنطق وفائدته؟ ابتداء - حافزا قويا للتأليف فيه. الا ان ابن حزم واجه في دراسته لهذا العلم صعوبتين فلم لا يحاول تذليلهما للقارئ الذي يود الانتفاع بدراسة المنطق: الأولى تعقيد الترجمة وإيراد هذا العلم بألفاظ غير عامية، ويعني ابن حزم بالعامية الألفاظ الفاشية المألوفة التي يفهمها الناس لكثرة تداولها، فليكتب، اذن كتابا قريبا إلى الإفهام " فان الحظ لمن آثر العلم وعرف فضله ان يسهله جهده ويقربه بقدر طاقته ويخففه ما أمكن " (2) . وهو يحسن الظن بالمترجمين ويرى أن توعيرهم للألفاظ هو شح بالعلم وضن به يوم كان الناس جادين في طلبه يبذلون فيه الغالي والنفيس. الصعوبة الثانية: ان المناطقة قد درجوا على استعمال الرموز والحروف في ضرب الأمثلة. ومثل هذا شيء يعسر تناوله على عامة الناس فليحول ابن حزم الأمثلة من الرموز إلى أخرى منتزعة من المألوف في الأحوال اليومية والشريعية. وهو يحس بخطر ما هو مقدم عليه. ويعتقد انه أول من يتجشم هذه المحاولة.   (1) المصدر نفسه: 10 (2) التقريب: 8 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 ولم يكتب ابن حزم هذا الكتاب الا بعد ان حفزه كثير من الدواعي في الحياة اليومية، وإلا بعد ان وجد الحاجة ماسة إلى المنطق في النواحي العملية من علاقات الناس وتفكيرهم، فهو قد لقي من ينعته بالسؤال عن الفرق بين المحمول والمتمكن، ولقي كثيرا من المشتغبين الآخذين بالسفسطة في الجدل، وواجه من يسومه ان يريه العرض منخولا عن الجوهر، وقرأ مؤلفات معقدة لا طائل تحت تعقيدها، ورأى من يدعي الحكمة وهو منها براء فأراد لكتابه أن يكون تسديدا لعوج هذه الأمور وإصلاحاً لفسادها، وردا على المخالفين والمشغبين وإقامة للقواعد الصحيحة في المناظرة، وهي يومئذ شغل شاغل لعلماء الأندلس. - 4مصادر الكتاب منذ أن بدأ دور الترجمة في تاريخ الفكر العربي بدأ النقلة ومن بعدهم من الشراح يهتمون بكتب ارسطاطاليس المنطقية. وينسب إلى ابن المقفع انه نقل ثلاثة من كتب المنطق الارسطاطاليسي وهي قاطيغورياس وبارى ارمينياس وأنولوطيقا، وأنه ترجم المدخل المعروف بايساغوجي؟ وعبر عما ترجم من ذلك بعبارة سهلة قريبة المأخذ (1) . ويذكر طيماثاوس الجاثليق الذي اتصل بالرشيد والمأمون ان الخليفة " امرنا بترجمة كتاب طوبيقا لأرسطو الفيلسوف من السريانية إلى العربية. وقد قام بذلك بعون الله الشيخ أبو نوح " (2) . ويرى طيماثاوس ان الترجمات التي تمت قبل ذلك كانت غثة لا من ناحية الألفاظ فحسب بل من ناحية المعاني. وقد ترك لنا صاحب الفهرست صورة من جهود النقلة والشراح المختصرين للكتب المنطقية الثمانية (3) . وهو بيان يدل على ما بذله كل من الكندي واحمد بن الطيب وثابت بن قرة ومتى بن يونس القنائي والفارابي ويحيى بن عدي وغيرهم في هذا الميدان: 1 - فأما الكندي فان له رسالة في المدخل مختصرة موجزة ورسالة في المقولات العشر، ورسالة في الاحتراس من خدع السوفسطائيين، ورسالة في إيجاز واختصار البرهان المنطقي.   (1) طبقات الأمم: 49 (2) التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية: 116 (ترجمة عبد الرحمن بدوى) القاهرة: 1949. (3) الفهرست: 347 وما بعدها (ط. مصر) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 2 - وأما تلميذه احمد بن الطيب فقد اختصر كلا من فاطيورياس وباري أرمنياس وانالوطيقا الأول والثاني، وايساغوجي. وله كتاب في الصناعة الديالقطية أي الجدلية على مذهب ارسطاطاليس من كتاب سوفسطيقا لارسطاطاليس. 3 - ولثابت كتاب باريمنياس، وجوامع كتاب انالوطيقا الاولى، واختصار المنطق ونوادر محفوظة من طوبيقا وكتاب في اغاليط السوفسطائيين. 4 - وانتهت رياسة المنطقيين إلى متى في عصره وكان اكثر جهوده موجها إلى النقل، كما انه فسر الكتب الأربعة في المنطق بأسرها، وعليها يعول الناس في القراءة، وله شرح إيساغوجي. 5 - وأبعدهم أثراً في الدراسات المنطقية هو الفارابي، وهو لم يكن مترجما ولكنه وضع الكتب المنطقية في شكل معتمد، وفسرها بعبارات واضحة نالت إعجاب من جاءوا بعده وأصبحت كتبه المرجع المفضل في هذا الباب. 6 - وتتلمذ عليه وعلى متى منطقي آخر أصبحت له الرياسة بعدهما في المنطق وهو يحيى بن عدي. ومن يحيى استمد أبو سليمان المنطقي أستاذ التوحيدي وشيخ تلك العصبة من التلامذة الذين كتب مقالة في اغراض كتب ارسطاطاليس ومقالة في معاني إيساغوجي وكتاب اللبس في الكتب الأربعة في المنطق. تلك هي الحال في المشرق. أما في الأندلس فان الإقبال على الفلسفة والمنطق قبل عهد الحكم المستنصر كان ضعيفا، فكان اشهر من عني بالدراسات الفلسفية عامة قبل الفتنة البربرية (399) هو أبو القاسم مسلمة بن احمد المرحيطي وعليه تتلمذ بعض المشهورين من حكماء الأندلس، ولكنه هو واكثر تلامذته اتجهوا اتجاها رياضيا مع بعض اهتمام بالأمور المنطقية وقد شاركه هذا الاهتمام الطبقة الأولى من دارسي المنطق في الأندلس وهم: ابن عبدون الجبلي وعمر بن يونس بن احمد الحراني واحمد بن حفصون وأبو عبد الله محمد ابن إبراهيم القاضي وأبو عبد الله محمد بن مسعود البجاني ومحمد بن ميمون المعروف بمركوس وسعيد ين فتحون السرقسطي، وعلى هؤلاء درس ابن الكتاني، شيخ ابن حزم (1) . ونضيف إلى هؤلاء من الأندلسيين المهتمين بالمنطق ملحان بن عبيد الله بن سالم   (1) ابن ابي أصيبعة: عيون الانباء 3: 73 ط. بيروت: 1957 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 وكان له نظر في حد المنطق ومطالعة لكتب الفلسفة، والرباحي وقد نظر في المنطقيات فاحكمها (1) واثنين من اليهود وهما منجم بن الفوال من سكان سرقسطة، وقد ألف كتابا في المنطق على طريقة السؤال والجواب، ومروان بن جناح، ولم يذكر له في المنطق تأليف معين (2) . وعلى هذا يكون ابن حزم من رجال الطبقة الثالثة الذين توفروا على الدراسات المنطقية في الأندلس، بل لعله أن يكون أبرزهم في عصره. ولا استبعد ان يكون شيخه ابن الكتاني ذا اثر بعيد في توجهه إلى هذه الدراسات فانه يتحدث عنه في كتبه بإعجاب وتقدير (3) . لكن إلى أي حد كانت الترجمات والشروح والمختصرات المشرقية معروفة في الأندلس؟ لا القاضي صاعد يحدثنا بشيء من ذلك، ولا ابن حزم في كتاب التقريب يشير إلى شيء واضح دقيق، وكل ما نستطيع ان نقوله في هذا الصدد لا يعدو الفرض والتقدير. ولنا ان نفترض ان المشارقة الراحلين إلى الأندلس مثل الحراني، والأندلسيين الراحلين إلى المشرق مثل ابن عبدون الجبلي قد نقلوا معهم فيما نقلوه من كتب شيئا من الترجمات في المنطق. ولا يبعد أن يكون ابن حزم قد أفاد شيئا منها وعول عليها كما عول على بعض مؤلفات الأندلسيين أنفسهم. وانه ليقول في بعض تعليقاته في التقريب: " قال الشيخ: هذه عبارات المترجمين وفيها تخليط لأنهم قطعوا على ان الرسم ليس مأخوذا من الأجناس والفصول وإنما هو مأخوذ من الاعراض والخواص " (4) . وقد استوقفتني عبارته هذه لأنها تتحدث فحسب عن " المترجمين "؟ بصيغة الدمع - وإنما لأنه صدرها بقوله: قال الشيخ، فمثل هذا التصدير ليس مما يجري في كتب ابن حزم. ثم هداني البحث إلى عبارة في " كتاب الرد على المنطقيين " لابن تيمية جاء فيها: " ولتعظيمه؟ يعني ابن حزم - المنطق رواه بإسناده إلى متى الترجمان الذي ترجمه إلى العربية " (5) . وقد حلت هذه العبارة بعض المشكلات وخلقت أخرى، اطلعتنا على المصدر الذي استغله   (1) طبقات الزبيدي: 327، 336 (2) ابن ابي أصيبعة 3: 81 (3) انظر ترجمة ابن الكتاني في الجذوة: 45 (4) التقريب: 18 (5) الرد على المنطقين: 132 (ط. بمباي 1949) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 ابن حزم في كتابه هذا، وجعلتني اعتقد أن كلمة " الشيخ " ربما تشير إلى متى المنطقي نفسه. غير ان ابن حزم لم يذكر شيئا عن متى هذا في هذه النسخة، أترى النسخة التي بين أيدينا مفتقرة إلى ذلك السند؟؛ ويحق لنا في هذا الموقف ان نتساءل: هل اطلع ابن تيمية على كتاب التقريب وان كان قد فعل فلم يناقش ابن حزم كما ناقش غيره من أنصار المنطق؟ اكبر الظنان انه اطلع عليه ولكنه لم يكن بين يديه حين ألف كتابه، أو انه لم يكن يرى في كتاب مغربي خطرا على الفكر المشرقي، فاكتفى بمهاجمة كتب المشارقة والرد عليها. ثم: أكانت هناك ترجمات أندلسية خاصة غير تلك التي افترضنا ورودها من المشرق؟ ليس هناك جواب حاسم على هذا التساؤل وكل ما نستطيع أن نقدره هنا ان ابن حزم ربما عرف بعض الترجمات اللاتينية فانه كان يعرف هذه اللغة، وقد تعرض لذكرها في مواطن من كتاب التقريب فقال: " ومن أحكم اللغة اللطينية عرف الفرق بين المعنيين اللذين قصدنا في الاستفهام " (1) وقال مرة أخرى: " وهذا يستبين في اللغة اللطسنية عندنا استبانة ظاهرة " (2) وقال في موضع ثالث: " ولهذا المعنى في اللطينية لفظة لائحة البيان " (3) وليس بغريب أن يعرف ابن حزم اللاتينية فقد كانت حينئذ شائعة في الأندلس، أما اليونانية فلم يكن هنالك من يحسنها ولذلك نجد في التقريب ما يوحي بأنه لا يعرفها (4) غير أن مما يلفت النظر مناقشة لبعض الآراء على انها مما لم يقل به ارسطاطاليس، فهل استمد هذا من متى المنطقي أو كان يعرف أصولا دقيقة وهو ينقل عمن يسميهم " الأوائل "؟ وهناك مصدرا آخر مشرقي رشك في ان ابن حزم اطلع عليه وهو كتاب؟ أو كتب - من تأليف الناشئ الأكبر أبي العباس المعروف بابن شريشر (- 293) . وأبو العباس هذا الشاعر معتزلي ألف في الرد على المنطقيين وهو من أوائل المفكرين الذين حاولوا الطعن في المنطق أرسطو. وقد استشهد به أبو سعيد السيرافي في مناظرته مع متى المنطقي؟ وهي المناظرة التي حفظها أبو حيان في كتاب الإمتاع والمؤانسة - ويبدو مما أورده ابن حزم أن بعض آراء الناشئ كانت نوعا من السفسطة، ولذلك حمل عليه ووصفه بكثرة الهذر.   (1) التقريب: 15 (2) التقريب: 52 (3) التقريب: 54 (4) انظر ص: 75 مثلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 ولعل الناشئ ممن لفتوا ابن حزم إلى بحث مسألة أسماء الله تعالى لأن الناشئ كان يقول: إن الأسماء " حقيقة في الخالق مجاز في المخلوق " (1) . 5 - منهج ابن حزم في التقريب ورث المناطقة المسلمون عن المدرسيين والشراح الاسكندرانيين وغيرهم ترتيب الكتب المنطقية الارسططاليسية في ثمانية وهذا هو ما وضحه الفارابي توضيحا كافيا في نص تفصيلي نقله ابن أبي أصيبعة (2) ، سمى الكتاب الأول " المقولات "؟ قاطاغورياس - والثاني: العبارة؟ باريمنياس، والثالث: القياس أو أنالوطيقا الأولى والرابع البرهان أو أنالوطيقا الثانية والخامس المواضع الجدلية أو طوبيقا والسادس: الحكمة المموهة أو سوفسطيقا والسابع: الخطابة أو الريطورية والثامن الشعر أوفويطيقا. وقال الفارابي: والجزء الرابع هو أشدها تقدما للشرف والرياسة، والمنطق إنما التمس به على القصد الجزء الرابع وباقي أجزائه إنما تحمل لأجل الرابع. وقد سار ابن حزم على هذه القسمة، على نحو مقارب، فقدم قبل الكتب الثمانية القول في المدخل أو ايساغوجي، ثم تناول القول في كتب أرسطاطاليس فسمى الأول، الأسماء المفردة وسمى الثاني كتاب الأخبار؟ وهو الذي دعاه الفارابي باسم " العبارة " وأدرج الكتب الأربعة التالية (3، 4، 5، 6) في باب واحد وجمعها تحت اسم " البرهان "، ورفض اسم القياس. ومع إيمانه بأن " البرهان " هو الغاية الكبرى فانه لم يمييز " أنالوطيقا الثاني " تمييزا بائنا، وفرق القول في السفطة على عدة مواضع، وقبيل آخر هذا الفصل تحدث عن رتبة الجدال وآداب المناظرة (والفقرة: 18) ثم شفع هذه الفقرة بفقرة اخرى (رقم: 19) تحدث فيها على أخذ المقدمات من العلوم وقسمها إلى اثني عشر علما ونص على أنه لا يلتزم في هذه القسمة ما جرى عليه المتقدمون. وبعد ذلك كتب فصلين صغيرين اجرى فيهما أحكاما من عنده على البلاغة والشعر ولم يقف عند شيء من آراء ارسطاطاليس. وقسم الكتاب كله في سفرين، وقف في آخر السفر الأول عند نهاية القضايا القاطعة. وابتدأ السفر الثاني بذكر القضايا الشرطية دون ان يكون لهذه القسمة أية علاقة بطبيعة   (1) الرد على المنطقيين: 156 (2) عيون الأنباء 1: 90 - 92 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 الموضوع، ولعله إنما راعى فيها حجم الكتاب نفسه. وقد ذكر في موضع من كتابه (1) انه بناه على الاختصار، ولكنه في الحقيقة كان يطلق العنان لنفسه كلما وجد الموضوع أمامه يسمح بالانطلاق وخاصة في النواحي السلوكية وآداب المعاملة والأمور العقائدية وما شابه ذلك. فإذا دققنا في التقريب لم نجد شرحا لآراء ارسطاطاليس كما كتب على الورقة الأولى، ولكنه في أكثره تبسيط لأقرب الآراء. هذا وإن مقارنة عابرة بين ما كتبه ابن حزم عن البرهان وبين ما كتبه ابن سينا في كتابه البرهان ليدل على شيء من بعد الاحتذاء أو قربه من الأصل الارسطاطاليسي. ومن مقارنات أخرى نرى ابن حزم ينفرد بالمطمح المنطقي في مواطن كثيرة. والنص الذي ذكره الفارابي في أسماء الكتب الثمانية نفسها هو نفسه دليل على ذلك. 6 - قيمة الكتاب لم يدع ابن حزم لنفسه شيئا من الابتكار في المنطق بل صرح بأن كتابه هذا يقع تحت النوع الرابع من المؤلفات وهو النوع الذي يتناول شرح المستغلق: " ولن نعدم إن شاء الله ان يكون فيها بيان تصحيح رأي فاسد يوشك أن يغلط فيه كثير من الناس، وتنبيه على أمر غامض، واحتقار لما ليست بطالب الحقائق إليه ضرورة، وجمع أشياء متفرقة مع الاستيعاب لكل ما بطالب البرهان إليه اقل حاجة " (2) . وقد اتهم ابن حزم؟ كما تقدم - بأنه خالف ارسطاطاليس في بعض أصوله مخالفة من لم يفهم غرضه ولا ارتاض في كتابه واثبات هذه المخافة مما لا تتسع له هذه المقدمة، ولا تتيحه الظروف، ولكنها مخالفة ليست مستبعدة لعدة أسباب منها: 1 - ان ابن حزم تجاوز التمثيل بالحروف والرموز إلى انتزاع الأمثال من مألوف الحياة ومن الشريعة، ومن هنا يسهل دخول الخطأ وتقوم المخالفة. 2 - انه صدر في مفهوماته عن مقدمات دينية لم تكن لدى ارسطاطاليس وان شغفه بالتقريب بين المنطق ولشريعة قد يوقعه في الوهم أو الإحالة. 3 - أنه حكم نظرته الظاهرية في كثير من الأمور فأنكر القياس وأنكر العلية في الأمور الشرعية، وأطنب في بيان المعرفة العقلية، واضعف من قيمة الاستقرار مع أن   (1) التقريب: 182 (2) التقريب: 10 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 ارسطاطاليس يقول: " اننا يلزم أن نعلم الأوائل بالاستقرار وذلك أن الحس إنما يحصل فيها الكلي بالاستقرار ". 4 - صرح في مواضع من كتابه بأنه لا يتقيد في هذا أو ذاك من الآراء بقول الأوائل. 5 - استأنس بأحكام مستمدة من طبيعة اللغة العربية نفسها مما هو موجود؟ أو غير متحقق - في لغة اخرى كاليونانية. ولم يكن ابن حزم منفردا في محاولته تقريب المنطق بالاستكثار من الأمثلة الشريعية ولكن لعله أول من فتح هذا الباب، مثلما حاول ابن سينا استمداد الأمثلة من الطب، ومن بعد جاء الغزالي فعاد يستمد الأمثلة من الفقه فكتاب التقريب يثبت أن الغزالي مسبوق إلى هذه المحاولة. ومنذ البدء وقف المفكرون الدينيون فرقتين في النظر إلى منطق المعلم الأول. فريق حاولوا الاستقلال عنه وأوجدوا ما يمكن أن يسمى " منطق المتكلمين " وفريق آخر انتصر للمنطق الارسطاطاليسي. وبهذا الكتاب يقف ابن حزم في الفريق الثاني مع الفخر الرازي والغزالي، وعلى النقيض منهم يقف الناشئ والنوبختي والباقلاني وابن تيمية. ومن الطريف ان يقارن المرء بين اثنين متقاربين في المذهب العقائدي تقاربا شديدا مثل ابن حزم وابن تيمية وهما يقفان على طرفين متباعدين في النظر إلى المنطق. ومهما يكن من شيء فان كتاب التقريب حلقة هامة في تاريخ الفكر لفلسفي الإسلامي عامة وفي تاريخ الفكر الأندلسي خاصة. وفيه إذا تجاوزنا النواحي المنطقية حقائق هامة تمس طبيعة الحياة الفكرية في الأندلس، وبعضها يتصل بشخصية ابن حزم نفسه ونظرته في الحياة والناس. ولا ريب في انه يفتح أمام الدارسين آفاقا جديدة في دراسة المصطلح المنطقي، وفيما خالف ابن حزم به ارسطاطاليس، وينشئ مقارنات بينه وبين الغزالي وابن تيمية وسواهم في نطاق المحاولة التي قام بها، ويدل على الأصل الذي استوحاه ابن مضاء في الرد على النحويين وإنكار العلل النحوية. - 7تحقيق التقريب اعتمدت فيه على نسخة وحيدة اعرف لها ثانية وهي نسخة محفوظة بالمكتبة الأحمدية بجامع الزيتونة بتونس ورقمها: 6814، وهي من المخطوطات التي احضرها معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية، الفيلم رقم: 8 فللقائمين عليه شكري لأنهم أتاحوا لي تصويرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 وتقع المخطوطة في اثنين وتسعين ورقة، في كل صفحة 26 سطرا ومتوسط كلمات السطر الواحد: 11 كلمة، وهي مكتوبة بخط نسخي دقيق القلم؟ أو متوسط الدقة - وكثير من الكلمات فيها ينقصه الاعجام. ومن ابرز ما فيها ان الناسخ يضع الحرف " ط " فوق الكلمة التي تشير بحذفها أو إسقاطها. وهو يثبت الياء في حال الرفع في كلمات مثل: متناهي. تالي. واهي. وهكذا وقد حذفت هذه الياء حيثما وقعت وأشرت إلى بعض ذلك؟ لا كله - في الحواشي على سبيل التمثيل. كذلك فان الناسخ لا يتقيد بعكس الهدد المفرد مع المعدود فهو يكتب مثلا: ستة أرجل، وقد سمحت لنفسي بتغيير هذا أيضاً. وليس على هوامش النسخة سوى بعض التصويبات وتعليقتين وثلاث. والنسخة ليست مؤرخة ولكن خطها قد يدل على أنها ربما كتبت في القرن السابع أو قبله بقليل. وقد بذلت في تصحيحها جهدي، ولكني لم استطع أن أحل كل ما اعترضني فيها من مشكلات (1) ، على إدامة النظر وتكرار المحاولة، والله أرجو أن ينفع بهذا الكتاب بمنه وكرمه. بيروت في 10 تموز (يوليه) 1959 إحسان عباس   (1) ص: 8، س: 5 المدق: اقرأ: الميلق وهو ما يستعمله الصيرفي لتمليس الذهب قال ابن حمديس: كان كحط التبر في الميلق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 التقريب لحد المنطق بسم الله الرحمن الرحيم " اللهم صل على سيد المرسلين وعلى آل محمد وصحبه وسلم " قال الإمام الأوحد الأعلم، أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب ابن صالح بن خلف بن معدان بن يزيد الفارسي: الحمد لله رب العالمين، بديع السماوات والأرض وما بينهما، ذي العرش المجيد، الفعال لما يريد، وصلى الله على محمد عبده وخاتم أنبيائه ورسله إلى عباده من الأنفس الحية القابلة للموت، من الإنس والجن، بالدين الذي اجتبرهم به، ليسكن الجنة التي هي دار النعيم السرمدي من أطاعه ويدخل النار التي هي محل العذاب الأبدي من عصاه؛ وما توفيقنا إلا بالله تعالى، ولا حول ولا قوة إلا بالله، عز وجل. أما بعد: فان الأول الواحد الحق الخالق لجميع الموجودات دونه، يقول في وحيه الذي آتاه نبيه وخليله المقدس: {الله الخالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل} . (62 الزمر: 39) وقال تعالى {ويتفكرون في خلق السماوات والأرض} (191 آل عمران: 3) مثنيا عليهم؛ وقال تعالى: {الرحمن علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان} (3 الرحمن: 55) وقال تعالى: {اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم} (3 العلق: 96) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 فهذه الآيات جامعة لوجوه البيان الذي امتن به عز وجل، على الناطقين من خلقه وفضلهم به على سائر الحيوان، فضلا منه تعالى يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. ووجدناه عز وجل قد عدد في عظيم نعمه على من ابتدأ اختراعه من النوع الانسى تعلمه أسماء الأشياء؛ فقال تعالى: " {وعلم آدم الأسماء كلها} (31 البقرة: 3) وهو الذي بانت به الملائكة والإنس والجن من سائر النفوس الحية، وهو البيان عن جميع الموجودات، على اختلاف وجوهها، وبيان معانيها، التي من أجل اختلافها وجب أن تختلف اسمتؤها، ومعرفة وقوع المسميات تحت الأسماء فمن جهل مقدار هذه النعمة عند نفسه، وسائر نوعه، ولم يعرف موقعها لديه، لم يكن يفضل البهائم إلا في الصورة؛ فلله الحمد على ما علم وآتى، لا إله إلا هو. ومن لم يعلم صفات الأشياء المسميات، الموجبة لافتراق أسمائها ويحد كل ذلك بحدودها، فقد جهل مقدار هذه النعمة النفيسة، ومر عليها غافلا عن معرفتها، معرضا عنها، ولم يخب خيبة يسيرة بل جليلة جدا. فان قال جاهل: فهل تكلم أحد من السلف الصالح في هذا؟ قيل له: إن هذا العلم مستقر في نفس كل ذي [2ظ] لب، فالذهن الذكي واصل بما مكنه الله تعالى فيه من الفهم، إلى فوائد هذا العلم، والجاهل منكسع كالأعمى حتى ينبه عليه، وهكذا سائر العلوم. فما تكلم أحد من السلف الصالح، رضى الله عنهم، في مسائل النحو، لكن لما فشا جهل الناس، باختلاف الحركات التي باختلافها اختلفت المعاني في اللغة العربية، وضع العلماء كتب النحو، فرفعوا إشكالا عظيمة، وكان ذلك معينا على الفهم لكلام الله عز وجل، وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم، وكان من جهل ذلك ناقص الفهم عن ربه تعالى، فكان هذا من فعل العلماء حسنا وموجبا لهم أجرا. وكذلك القول في تواليف كتب العلماء في اللغة والفقه؛ فان السلف الصالح غنوا عن ذلك كله بما آتاهم الله به من الفضل ومشاهدة النبوة، وكان من بعدهم فقراء إلى ذلك كله، يرى ذلك حسا ويعلم نقص من لم يطالع هذه العلوم ولم يقرأ هذه الكتب وأنه قريب النسبة من البهائم، وكذلك هذا العلم فان من جهله خفي عليه بناء كلام الله عز وجل مع كلام نبيه صلى الله عليه وسلم، وجاز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 عليه من الشغب جوازا لا يفرق بينه وبين الحق، ولم يعلم دينه إلا تقليدا، والتقليد مذموم، وبالحرى إن سلم من الحيرة، نعوذ بالله منها. فلهذا وما نذكره بعد هذا، إن شاء الله، وجب البدار إلى تأليف هذا العلم، والتعب في شرحه وبسطه، بحول الله وقوته، فنقول وبالله نستعين: إن جميع الأشياء التي أحدثها الأول، الذي لا أول على الإطلاق سواه، وقسمها الواحد الذي لا واحد على التصحيح حاشاه، واخترعها الخالق الذي لا خالق على الحقيقة إلا إياه، فان مراتبها في وجوه البيان أربعة، لا خامس لها أصلا وان تناقص منها واحد اختل من البيان بمقدار ذلك النقص. فأول ذلك كون الأشياء الموجودات حقا في أنفسها، فانها إذا كانت حقا فقد امكنت استبانتها، وإن لم يكن لها مستبين، حينئذ، موجود، فهذه اول مراتب البيان؛ إذ ما لم يكن موجودا فلا سبيل إلى استبانته. والوجه الثاني: بيانها عند من استبانها وانتقال أشكالها وصفاتها إلى نفسه، واستقراره فيها بمادة العقل الذي فضل به العاقل من النفوس، وتمييزه لها على ما هي عليه إذ من يبن له الشيء لم يصح له علمه ولا الإخبار عنه، فهذه المرتبة الثانية من مراتب البيان. والوجه الثالث: إيقاع كلمات مؤلفات من حروف مقطعات، مكن الحكيم [3و] القادر لها المخارج من الصدر والحلق وأنابيب الرئة والحنك واللسان والشفتين والأسنان، وهيأ لها الهواء المندفع بقرع اللسان إلى سماخ الآذان، فيوصل بذلك نفس المتكلم مثل ما قد استبانته واستقر منها إلى نفس المخاطب، وينقلها إليها بصوت مفهوم بقبول الطبع منها للغة اتفقا عليها، فيستبين من ذلك ما قد استتبانته نفس المتكلم، ويستقر في نفس المخاطب، مثل ما قد استقر في نفس المتكلم، وخرج إليها بذلك مثل ما عندها، لطفا من اللطيف الخبير، لينتج بما وهب لنا من هذه الخاصة الشريفة، والقوة الرفيعة، والطبيعة الفاضلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 المقربة لمن استعملها في طاعته، إلى فوز الأبد برضاه والخلود في جنته، نتيجة يبين بها من البهائم التي لا ثواب ولا عقاب عليها، والتي سخرها لنا في جملة ما سخر، وذللتها لحكمنا مع ما ذلل، إذ خلق لنا ما في السموات والأرض، الا ما حمى عنا، واستثنى بالتحريم علينا، فله الحمد والشكر منا، والسمع والطاعة علينا، ومن تتميم ذلك لنا بمنه وطوله، قال الله تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم} (4 إبراهيم: 14) فهذه المرتبة الثالثة من مراتب البيان. والوجه الرابع: إشارات تقع باتفاق، عمدتها تخطيط ما استقر في النفس من البيان المذكور، بخطوط متباينة، ذات لون يخالف لون ما يخط فيه، متفق عليها بالصوت المتقدم ذكره، فسمى كتابا، تمثله اليد التي هي آلة لذلك. فتبلغ به نفس المخطط ما قد استبانته إلى النفس التي تريد ان تشاركها في استبانة ما قد استبانته، فتوصلها إليها العين، التي هي آلة لذلك. وهي في الأقطار المتباعدة، وعلى المسافات المتباينة التي يتفرق الهواء المسمى صوتا قبل بلوغها، ولا يمكن توصيله إلى من فيها فيعلمها بذلك دون من يجاورها في المحل ممن لا يريد اعلامه. ولولا هذا الوجه، ما بلغت إلينا حكم الاموات على آباد الدهور، ولا علمنا علم الذاهبين على سوالف الاعصار، ولا انتهت الينا اخبار الامم الماضية والقرون الخالية. وتندرج في هذا القسم اشياء تبين وليست بالفاشية، فمنها: اشارات باليد فقط، ومنها اشارات بالعين أو بعض الاعضاء، وقد يمكن ان يؤدي البيان بمذاقات، فمن ذلك ما يدرك الاعمى بها البيان إلى الحاضر وحده على حسب ما يتفق عليه مع الشير بذلك إليه، فهذه المرتبة الرابعة من مراتب البيان [3ظ] إذ لا سبيل إلى الكتاب الا بعد الاتفاق على تمييز تلك الخطوط بالاصوات الموقفة عليها، ندرة عجزت العقول عن اكثر المعرفة بها، وتوحد الواحد الأول الخالق الحق بتدبير ذلك واختراعه دون علة اوجبت عليه ذلك، الا انه يفعل ما يشاء لا معقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون. وصارت غاية الفضائل فيها ما ذكرنا واستعماله في وجوهه والإقرار للخالق الأول الواحد الحق بالقوة والقدرة والعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 وانه مباين لخلقه في جميع صفاتهم. وبعد: فان من سلف من الحكماء، قبل زماننا، جمعوا كتبا رتبوا فيها فروق وقوع المسميات تحت الأسماء التي اتفقت جميع الأمم في معانيها، وان اختلفت في أسمائها التي يقع بها التعبير عنها، إذ الطبيعة واحدة، والاختيار مختلف شتى، ورتبوا كيف يقوم بيان المعلومات من تراكيب هذه الاسماء، وما يصح من ذلك وما لا يصح، وتقفوا هذه الأمور، فحدوا في ذلك حدودا ورفعوا الاشكال، فنفع الله تعالى بها منفعة عظيمة، وقربت بعيدا، وسهلت صعبا، وذللت عزيزا [في] إرادة الحقائق، فمنها كتب أرسطاطاليس الثمانية المجموعة في حدود المنطق. ونحن نقول قول من يرغب إلى خالقه الواحد الأول في تسديده وعصمته، ولا يجعل لنفسه حولا ولا قوة الا به، ولا علم الا ما علمه: إن من البر الذي نأمل أن نغبط به عند ربنا تعالى بيان تلك الكتب لعظيم فائدتها فانا رأينا الناس فيها على ضروب أربعة: الثلاثة منها خطأ بشيع وجوز شنيع، والرابع حق مهجور، وصواب مغمور، وعلم مظلوم؛ ونصر المظلوم فرض وأجر. فأحد الضروب الأربعة قوم حكموا على تلك الكتب بانها محتوية على الكفر وناصرة للإلحاد، دون ان يقفوا على معانيها أو يطالعوها بالقراءة. هذا وهم يتلون قول الله عز وجل، وهم المقصودون به إذ يقول تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم، لإن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} . (36 الاسراء: 17) وقوله تعالى: {ها أنتم أولاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم} (66 آل عمران 3) وقوله تعالى: {قل هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين} (64 النمل: 27) فرأينا من الأجر الجزيل العظيم في هذه الطائفة إزالة هذا الباطل من نفوسهم الجائرة الحاكمة قبل التثبيت، القابلة دون علم، القاطعة دون برهان، [4و] ورفع المأثم الكبير عنهم بإيقاعهم هذا الظن الفاسد على قوم برآء ذوي ساحة سالمة وبشرة نقية وأديم أملس مما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 قرفوهم به. وقد قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الواسطة بيننا وبين الواحد الأول: " من قال لاخيه يا كافر فقد باء بها احدهما " فنحن نرجو من خالقنا أن نكون ممن يضرب لنا في كشف هذه الغمة بنصيب وافر به حدا يوم فقرنا إلى الحسنات وحاجتنا إلى النجاة بأنفسنا مما يقع فيه الآثمون، ييسرنا لسنة حسنة نشارك من تصرف بعدها ما كنا السبب في علمه إباه، دون أجره، دون ان ينقص من أجره شيء، فهكذا وعدنا الخالق الأول على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فهؤلاء ضرب. والضرب الثاني: قوم يعدون هذه الكتب هذيانا من المنطق وهذرا من القول وبالجملة فاكثر الناس سراع إلى معاداة ما جهلوه وذم ما لم يعلموه، وهو كما قال الصادق عليه السلام: " الناس كأبل مائة لا تجد فيها راحلة " فرأينا أيضاً أن من وجوه البر إفهام من جهل هذا المقدار الذي نصصنا الذي فضله اولا، ولعمري ما ذلك بقليل إذ بالعلم بهذا المعنى ننأى عن البهائم وفهمنا مراد الباري عز وجل في خطابه إيانا. والضرب الثالث: قوم قرأوا هذه الكتب المذكورة بعقول مدخولة واهواء مؤوفة وبصائر غير سليمة، وقد اشربت قلوبهم حب الاسنخفاف واستلانوا مركب العجز واستوبأوا نقل الشرع وقبلوا قول الجهال فوسموا انفسهم بفهمها، وهم أبعد الناس عنها وأناهم عن درايتها، وكان ما ذكرنا زائدا في تلبيس هذه الكتب ومنفرا عنها فقوي رجاؤها في اننا في بيان ما نبينه منها يكون السبب في هداية من سبقت له الهداية في علم الله عز وجل، فيفوز بالحظ الاعلى ويحوز القسم الاسنى ان شاء الله عز وجل. ولم نجد احدا قبلنا أنتدب لهذا فرجونا ثواب الله عز وجل في ذلك. والضرب الرابع: قوم نظروا بأذهان صافية وأفكار نقية من الميل وعقول سليمة فاستناروا بها ووقفوا على اغراضها فاهتدوا بمنارها وثبت التوحيد عندهم ببراهين ضرورية لا محيد عنها، وشاهدوا انقسام المخلوقات وتأثير الخالق فيها وتدبيره إياها، ووجدوا هذه الكتب الفاضلة كالفريق الصالح والخدين الناصح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 والصديق المخلص [4ظ] الذي لا يسلم عند شدة ولا يفتقده صاحبه في ضيق إلا وجده معه. فلم يسلكوا شعبا من شعاب العلوم الا وجدوا منفعة الكتب امامهم ومعهم، ولا طلعوا ثنية من ثنايا المعارف الا أحسوا بفائدتها غير مفارقة لهم، بل ألفوها لهم كل مستغلق، وتليح لهم كل غامض في جميع العلوم، فكانت لهم للصير في، والاشياء التي فيها الخواص لتجلية مخصوصاتها. فلما نظرنا في ذلك وجدنا بعض الآفات الداعية إلى البلايا التي ذكرنا، تعقيد الترجمة فيها وايرادها بالفاظ غير عامية ولا فاشية الاستعمال، وليس كل فهم تصلح له كل عبارة، فتقربنا إلى الله عز وجل بان نورد معاني هذه بالفاظ سهلة سبطة يستوي ان شاء الله في فهمها العامي والخاصي والعالم والجاهل حسب إدراكها وما منحنا خالقنا تبارك وتعالى من القوة والتصرف. وكان السبب الذي حدا من سلف من المترجمين إلى إغماض الألفاظ وتوعيرها وتخشين المسلك نحوها، الشح منهم بالعلم والضن به. ولقد يقع لنا أن طلاب العلم يومئذ والراغبين فيه كانوا كثيرا ذوي حرص قوي، فأما الآن وقد زهد الناس فيه، إلى ايذاء اهله وذعرهم ومطالبتهم والنيل منهم ولم يقنع بان يترك وجهله، بل صار داعية إليه وناهيا عن العلم بفعله وقوله، وصاروا كما قال حبيب بن أوس الطائي في وصفهم: غدوا وكأن الجهل يجمعهم به ... أب وذوو الأدب فيهم نوافل فان الحظ لمن آثر العلم فضله، أن يسهله جهده، ويقربه بقدر طاقته، ويخففه ما أمكن. بل لو أمكن أن يهتف به على قوارع طرق المارة، ويدعو إليه في شوارع السابلة، وينادي عليه في مجامع السيارة، بل لو تيسر له أن يهب المال لطلابه، ويجزي الأجور لمقتنيه، ويعظم الاجعال عليه للباحثين عنه، ويسني مراتب أهله، صابرا في ذلك على المشقة والأذى، لكان ذلك حظا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 جزيلا وعملا جيدا وسعيا مشكورا كريما واحياء للعلم؛ والا فقد درس وبلي وخفي، إلا تحلة القسم، ولم يبق منه الا آثار لطيفة وأعلام دائرة والله المستعان. ورأينا هذه الكتب كالدواء القوي، إن تناوله ذو الصحة والمستحكمة، والطبيعة السالمة، والتركيب الوثيق، والمزاج الجيد، انتفع به وصفى بنيته وأذهب اخلاطه [5و] وقوى حواسه، وعدل كيفياته؛ وان تناوله العليل المضطرب المزاج، الواهي التركيب، أتى عليه، وزاده بلاء وربما أهلكه وقتله. وكذلك هذه الكتب إذا تناولها ذو العقل الذكي والفهم القوي لم يعدم اين تقلب وكيف تصرف منها نفعا جليلا وهديا منيرا وبيانا لائحا وتنجحا في كل علم تناوله وخيرا في حينه ودنياه وان اخذها ذو العقل السخيف ابطلته وذو الفهم الكليل بلدته وحيرته؛ فليتناول كل امرئ حسب طاقته. وما توفيقنا إلا بالله عز وجل. ولا ينذعر قارئ كتابنا هذا من هذا الفعل، فيكع راجعا، ويجفل هاربا، ويرجع من هذه الثنية ثانيا من عنانه، فانا نقول قولا ينصره البرهان، ونقضي قضية يعضدها العيان: إن اقواما ضعف عقولهم عن فهم القرآن فتناولوه باهواء جائرة، وافكار مشغولة، وافهام مشوبة فما لبثوا أن عاجوا عن الطريقة، وحادوا عن الحقيقة: فمن مستحل دم الامة، ومن نازع إلى بعض فجاج الكفر، ومن قائل على الله عز وجل ما لم يقل. وقد كر الله عز وجل وحيه وكلامه فقال: {يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا، وما يضل به الا الفاسقين} (26 البقرة: 2) وهكذا كل من تناول شيئا على غير وجهه، أو هو غير مطيق له، وبالله تعالى نستعين. وليعلم من قرأ كتابنا هذا ان منفعة هذه الكتب ليست في علم واحد فقط بل كل علم، فمنفعتها في كتاب الله عز وجل، وحديث نبيه، صلى الله عليه وسلم وفي الفتيا في الحلال والحرام، والواجب والمباح، من أعظم منفعة. وجملة ذلك في فهم الاشياء التي نص الله تعالى ورسوله، صلى الله عليه وسلم، عليها وما تحتوي عليها من المعاني التي تقع عليها الاحكام وما يخرج عنها من المسميات، وانتسابها تحت الاحكام على حسب ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 والالفاظ التي تختلف عبارتها وتتفق معانيها. وليعلم العالمون ان من لم يفهم هذا القدر فقد بعد عن الفهم عن ربه تعالى وعن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يجز له ان يفتي بين اثنين لجهله بحدود الكلام، وبناء بعضه على بعض، وتقديم المقدمات، وانتاجها النتائج التي يقوم بها البرهان وتصدق ابدا، أو يمييزها من المقدمات التي تصدق مرة وتكذب اخرى ولا ينبغي بها. واما علم النظر بالآراء والديانات والاهواء والمقالات فلا غنى لصاحبه عن الوقوف على معاني هذه الكتب لما سنبينه من أبوابه إن شاء الله تعالى. وجملة ذلك معرفة ما يقوم بنفسه مما لا يقوم بنفسه، والحامل والمحمول، ووجوه الحمل في الشغب والاتباع، وغير ذلك. فاما علم النحو واللغة والخبر وتمييز حقه من باطله والشعر والبلاغة والعروض [5ظ] فلها في جميع ذلك تصرف شديد وولوج لطيف وتكرر كثير ونفع ظاهر. فاما الطب والهندسة والنجوم فلا غنى لاهلها عنها أيضاً لتحقيق الاقسام والخلاص من الثلاثة الاشياء المشتركة وغير ذلك، مما ليس كتابنا هذا مكانا لذكره. وهذه جمل يستبينها من قرأ هذه الكتب وتمهر فيها وتمرن بها ثم نظر في شيء من العلوم التي ذكرنا وجد ما قلنا حقا، ولاحت له أعلامها في فجاجها وأغماضها تبدي له كل ما اختفى وبالله تعالى التوفيق. وكتابنا هذا واقع من الانواع التي لا يؤلف أهل العلم والتمييز الصحيح إلا فيها تحت النوع الرابع، وهو شرح المستغلق، وهو المرتبة الرابعة من مراتب الشرف في التواليف. ولن نعدم، ان شاء الله، أن يكون فيها بيان تصحيح رأي فاسد يوشك أن يغلط فيه كثير من الناس وتنبيه على أمر غامض، واختصار لما ليست بطالب الحقائق إليه ضرورة، وجمع اشياء مفترقة مع الاستيعاب لكل ما يطالب البرهان إليه اقل حاجة، وترك حذف من ذلك البتة. والانواع التي ذكرنا سبعة لا ثامن لها: وهي إما شيء لم نسبق إلى استخراجه فنستخرجه؛ واما شيء ناقص فنتممه، واما شيء مخطأ فنصححه، واما شيء مستغلق فنشرحه، واما شيء طويل فنختصره، دون ان نحذف منه شيئا يخل حذفه إياه بغرضه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 واما شيء متفرق فنجمعه، واما شيء منثور فنرتبه. ثم المؤلفون يتفاضلون فيما عانوه من تواليفهم مما ذكرنا على قدر استيعابهم ما قصدوا أو يقصر بعضهم عن بعض، ولكل قسط من الاحسان والفضل والشكر والاجر، وان لم يتكلم الا في مسألة واحدة إذا لم يخرج عن الانواع التي ذكرنا في أي علم ألف. واما من اخذ تأليف غيره فاعاده على وجهه وقدم وأخر، دون تحسين رتبه، أو بدل ألفاظه دون أن يأتي بأبسط منها وأبين، أو حذف مما يحتاج إليه، أو اتى بما [لا] يحتاج إليه، أو نقض صوابا بخطأ، وأتى بما لا فائدة فيه، فإنما هذه أفعال أهل الجهل والغفلة، وأهل القحة والسخف فنعوذ بالله من ذلك. [المدخل إلى المنطق أو ايساغوجي] وهذا حين نبدأ، إن شاء الله عز وجل يحوله وقوته، فيما له قصدنا فنشرع في بيان المدخل إلى الكتب المذكورة، وهو المسمى باللغة اليونانية إيساغوجي. معنى إيساغوجي في اللغة اليونانية " المدخل " وهو خاصة من تأليف فرفوريوس الصوري. والكتب التي بعده من تأليف أرسطاطاليس معلم الاسكندر ومدبر مملكته، وبالله تعالى التوفيق، وبه نعتصم ونتأيد، لا إله إلا هو. 1 - الكلام في انقسام الاصوات المسموعة [6و] جميع الاصوات الظاهرة من المصوتين فانها تنقسم قسمين: اما ان تدل على معنى، واما أن لا تدل على معنى. فالذي لا يدل على معنى لا وجه للاشتغال به لأنه لا يحصل لنا منه فائدة نفهمها؛ وطلب ما هذه صفته ليس من أفعال أهل العقول. وهذا مثل كل صوت سمعته لم تدر ما هو؛ ويدخل فيه أيضا الكلام الظاهر من المبرسمين والمجانين ومن جرى مجراهما. فان قال قائل: " فان هذا الكلام الذي ذكرت يدل على أن قائله لا يعقل أو أنه مريض "؛ قيل له وبالله تعالى التوفيق، انه يدلك [على] ذلك بمعناه. لكن لما فارق كلام أهل التمييز كان كالدليل على آفة بصاحبه. وأيضا فقد يظهر مثل هذا الكلام من حاك أو مجان، فلا يدل على أن صاحبه لا يعقل. فليس ما اعترض به هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 المعترض حقا. وهذا العلم إنما قصد به ما يكون حقا، وتخليصه مما قد يكون حقا وقد لا يكون. ثم نرجع فنقول ان الصوت الذي يدل على معنى ينقسم قسمين: إما أن يدل بالطبع واما أن يدل بالقصد فالذي يدل بالطبع هو كصوت الديك الذي يدل في الاغلب على السحر وكأصوات الطير الدالة على نحو ذلك وكأصوات البلارج والبرك والاوز والكلاب بالليل الدالة في الاغلب على انها رأت شخصا، وكأصوات السنانير في دعائها اولادها وسؤالها وعند طلبها السفاد وعند التضارب، وكل صوت تدل بطبعه على مصوته كالهدم ونقر النحاس وما اشبه ذلك من اصوات الحيوان غير الإنسان. فهذه إنما تدل على كل ما ذكرنا بالعادة المعهودة مما في شاهده تلك الاصوات، لا أنا نفهمها ما نتخاطب به فيما بيننا باللغات المتفق عليها بين الامم التي نتصرف بها في جميع مراداتنا. فهذه الاصوات التي ذكرناها لم نقصدها في كتابنا هذا إذ ليس يستفاد منها توقيف على علم ولا تعلم صناعة ولا افادة خبر وقع. واما الصوت الذي يدل بالقصد فهو الكلام الذي يتخاطب الناس به فيما بينهم ويتراسلون بالخطوط المعبرة عنه في كتبهم لايصال ما استقر في نفوسهم من عند بعضهم إلى بعض، وهذه التي عبر عنها الفيلسوف بأن " سماها الاصوات المنطقية الدالة ". فان شغب مشغب بما يظهر من بعض الحيوان غير الناطق من كلام مفهوم كالذي يعلمه الزرزور والببغاء والعقعق من حكاية كلام يدرى فيه قائم المعنى، فليس ذلك صحيحا ولا مقصودا به افهام معنى ولا يعد مما علم ولا يضعه موضعه ولكن يكرره كما يكرر سائر تغريده كما عوده. وكثير من الحيوان في طبيعته أن يصوت بحروف ما على رتبة ما، وذلك كله بخلاف كلام الإنسان [6 ظ] الذي يعبر به عن أنواع العلوم والصناعات والاخبار وجميع المرادات. ثم نرجع فنقول: إن هذا القسم الذي ذكرنا أنه يدل بالقصد ينقسم قسمين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 إما أن يدل على شخص واحد واما أن يدل على أكثر من شخص واحد.؟ فأما الذي يدل على شخص واحد فهو كقولنا زيد وعمرو وأمير المؤمنين والوزير وهذا الفرس وحمار خالد وما أشبه ذلك. فهذه إنما تعطينا إذا سمعنا الناطق ينطق بها الشخص الذي أراد الناطق وحده، لسنا نستفيد منه اكثر من ذلك وليس هذا الذي قصدنا الكلام عليه لان هذه الاسماء لا يضبط حدها من اسمها لفرق نذكره بعد هذا، ان شاء الله. واعلم ان كل مجتمع في العالم يوجد في العالم أجزاء مثله كثيرة، الا ان بعضها منحاز عن بعض فانا نسميه شخصا بالاتفاق منا كالرجل الواحد، والكلب الواحد، والجبل الواحد، وبياض الثوب الواحد، والحركة الوحدة وسائر كل انفرد عن غيره فإذا سمعتنا نذكر الشخص والاشخاص فهذا نريد. زاما القسم الثاني: وهو الذي يدل على اكثر من واحد فهو كقولنا الناس والخيل والحمير والثياب والالوان وما اشبه ذلك. فان كل لفظة مما ذكرنا تدل إذا قلناها على اشخاص كثيرة العدد جدا. وقد تقوم مقام هذه الألفاظ أيضاً في اللغة العربية اسماء تقع على الجماعة كما ذكرنا، وتقع أيضاً على الواحد، الا ان حال المتكلم يبين عن مراده كقولك: " الإنسان " فان هذه اللفظة تدل على النوع كله، كقول الله عز وجل: {إن الإنسان لفي خسر] (2 العصر: 103) فإنما عنى جماعته ولد آدم صلى الله عليه وسلم وتقع أيضاً هذه اللفظة على واحد فتقول: أتأتي الإنسان الذي تعرف، وانت تريد غلامه أو زوجته أو واحد من الناس بعينه. وكذلك أيضاً في جميع الانواع فتقول " الفرس " فتعني كل فرس. الا ترى انك تقول: الفرس صهال، أو تقول " الفرس " لفرس واحد بعينه معهود، فإذا اردت رفع الاشكال اتيت بلفظ الجمع الموضوع له فقلت: الخيل أو الناس وما اشبه ذلك. فهذا القسم هو الذي قصدنا بالكلام عليه، ولوقوعه على جماعة احتجنا إلى البيان عنه تكلمنا لا على غيره من الاقسام التي ذكرنا قبل، لفرط الحاجة إلى ان تحد كل شخص واحد تحت هذه اللفظة بصفات وتوجد في جميعها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 ولا توجد في سائر الاشخاص التي لا تقع عليها هذه اللفظة، تميزه مما سواه فانك تقدر ان تأتي بصفات توجد في كل ما يسمى جملا لا يخلو منها أصلاً ولا توجد البتة [7و] فيمن يسمى زيدا. فهذا هو الفرق الذي وعدنا بذكره آنفا ودعت الضرورة أيضاً إلى طلب هذه الفروق لاختلاف الاسماء في اللغات العربية والعجمية فاحتجنا إلى تقدير الصفات التي تتميز بها المسميات إذ المعاني في جميع اللغات واحدة لا تختلف وإنما تختلف الاسماء فقط. وايضا فان اللغة إما ان تضيق عن ان توقع على كل نوع اسما يفرد به واما انه لم يتهيأ ذلك للناس بالاتفاق أو أن الله عز وجل أعلم به. واكثر ذلك في الكيفيات فانك تجد صفرة النرجس صفرة، وصفرة الشمس صفرة، وصفرة الخيري صفرة، وصفرة الذهب صفرة، وهذه كلها ظاهرة التباين للعين وليس لكل واحد منها اسم يخصه يبين به مرادنا منها. وكذلك أيضاً كثير من انواع الحيوان كالمتولد في مناقع المياه وعفن الرطوبات حتى انواع الحشرات التي لا نعلم لها اسماء تخصها والاختلاف بين صفاتها مرئي معلوم، فلا بد من طلب صفات مفرقة يقع بها البيان لما نريده، ان شاء الله عز وجل، لا اله الا هو. 2 - الكلام على الاسماء التي تقع على جماعة أو اشخاص قد نظر إلى القسم الذي قصدنا الكلام عليه فوجدناه قسمين: احدهما دال على جماعة الاشهاص دلالة لا تفارقها البتة، ولا ترتفع عنها الا بفسدها، وهذا القسم سماه الفيلسوف " ذاتيا " وشبهه بجزء من أجزاء ما هو فيه للزومه إياه، ونحن نقول إنه ألزم لما هو فيه من الجزء لسائر أجزائه. فان الجزء قد يذهب وتبقى سائر الاجزاء بحسبها كيد الإنسان تقع ويبقى إنسانا بحسه. وهذا اللفظ إن ذهبت الصفات التي من اجلها استحق الشيء المسمى أن يسمى بهذا الاسم بطل المسمى به جملة على ما نبينه بعد هذا، ان شاء الله عز وجل. والقسم الثاني دال على جماعة اشخاص دلالة قد تفارق ما هي فيه أو تتوهم مفارقتها له ولا يفسد بمفارقتها إياه. وهذا القسم سماه الفيلسوف " غيريا " للدليل الذي ذكرنا فيه. ثم نظرنا إلى القسم الأول الذي قلنا انه يسمى ذاتيا فوجدناه ينقسم ثلاثة أقسام: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 إما أن يكون لفظ يسمى به اشخاص كثيرة مختلفة بأشخاصها وبأنواعها، ويجاب بذلك اللفظ من سأل فقال: " ما هذا الشيء؟ " فاتفقنا على أن نسمي ذلك اللفظ " جنسا "؛ واما أن يكون لفظ يسمى به أشخاص كثيرة مختلفة بأشخاصها لا بأنواعها، ويجاب بذلك من سأل فقال: " ما هذا من الجملة التي سميت؟ " فاتفقنا على أن سمينا هذا اللفظ " وإما أن يكون يسمى به أشخاص كثيرة مختلفة أنواعها وأشخاصها إلا أنه يجاب به من سأل فقال: " أي شيء هذا من الجملة التي سميت؟ " [7ظ] فاتفقنا على أن سمينا هذا " فصلا ". وتفسير هذه المعاني يأتي بعد هذا، إن شاء الله عز وجل. فهذه الثلاثة الاقسام هي ذاتيات كما قدمنا. وبيان ذلك أن تقول: ما هذا؟ فيقال لك جسم؛ فتقول: أي الاجسام هو؟ أي الاجسام هو؟ فيقال: النامى؛ فيقال أي النماة هو؟ فيقال لك: ذو السعف والخوص والورق والجريد والمستطيل والثمرة المسماة تمرا. فالجسم: جنس، والنمامى: نوع، وقولك: ذو السعف والخواص والجريد: فصل؛ وأنت إذا أسقطت الصفات التي ذكرنا، التي من أجلبها استحقت تلك الاشخاص أن تسمى بالاسماء التي ذكرنا، وتوهمت معانيها معدومة، سقطت عنها تلك الأسماء البتة، فلهذا سميت ذاتية. ثم نظرنا إلى القسم الثاني الذي ذكرنا أنه سمتى غيريا فوجدناه ينقسم قسمين: إما لفظ يدل على مختلفين بأنواعهم في جواب " أي " فيكون " عرضا عاما " واما لفظ يدل على مختلفين بأشخاصهم في جواب " أي " فيكون " عرضا خاصا ". واعلم أن اللغة العربية لم تمكن العبارة فيها بأكثر مما ترى. على أن السؤال ب " ما " والسؤال ب " أي " قد يستويان في اللغة العربية وينوب كل واحد من هذين اللفظين عن صاحبه ويقعان بمعنى واحد، ومن أحكم اللغة اللطينية عرف الفرق بين المعنيين اللذين قصدنا في الاستفهام، فان فيها للاستفهام عن العام لفظا غير لفظ الاستفهام عن أبعاض ذلك العام ببيان لا يختل على صاحبه أصلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 3 - الكلام في تفسير الفاظ اندرجت لنا في الباب الذي قبل هذا الذي نبدأ به ذكرنا في الباب الذي قبل هذا اشياء تختلف بانواعها واشخاصها، واشياء تختلف باشخاصها فقط دون انواعها، ومثال ذلك انا نقول في الذاتية: حيوان، فيدلنا على الإنسان والفرس وغير ذلك. وهذه اشياء تختلف بالانواع والاشخاص معا، فان الإنسان يخالف الفرس بشخصه في انه غيره، ويخالف أيضاً بصفات شخصه؛ نقول: فرس زيد، وفرس عمرو فهذان أنما يختلفان بالشخص فقط، أي ان هذا، والا فهذا فرس وهذا فرس، متفقان في الصفات التي استحق كل واحد منهما يسمى فرسا؛ وكذلك الدينار والدينار، والدرهم والدرهم، وهكذا سائر الاشياء. وكذلك نقول في الغيرية: ابيض وابيض ونعني الإنسان ابيض، والحائط ابيض، وهذه كلها مختلفة بانواعها في أن كل واحد منها غير الآخر. وتختلف أيضاً بصفاتها في ان احدها لحم ودم والثاني كتان محوك والثالث [8 و] تراب وماء وجص. ونقول ضحاك وضحاك فإنما يختلفان بالشخص في ان هذا غير هذا. واما سائر الصفات التي بها استحقا اسم الإنسانية فهما فيها متفقان، فهذه الجملة كافية تفرج اكثر الغم في الجهل بالمراد بهذا اللفظ الذي تقدم قبل؛ وبقي تفسير كثير يأتي بعد هذا، ان شاء الله تعالى. 4 - الكلام في الحد والرسم وجمل الموجودات وتفسير الوضع والحمل هذا باب ينبغي ضبطه جدا فهو كالمفتاح لما يأتي بعد هذا ان شاء الله عز وجل. اعلم أنه لا موجود أصلا ولا حقيقة البتة الا الخالق وخلقه فقط، ولا سبيل إلى ثالث أصلا. فالخالق واحد اول لم يزل. وأما الخلق فكثير. ثم نقول: أما الخلق فينقسم قسمين لا ثالث لهما أصلا: شيء يقوم بنفسه ويحمل غيره، فاتفقنا على أن سميناه " جوهرا "؛ وشيء لا يقوم بنفسه ولا بد ان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 يحمله غيره فاتفقنا على ان سميناه " عرضا ". فالجوهر هو جرم الحجر والحائط والعود وكل جرم في العالم. والعرض هو طوله وعرضه ولونه وحركته وشكله وسائر صفاته هي محمولة في الجرم. فانك ترى البلحة (1) خضراء ثم تصير حمراء ثم تصير صفراء والحمراء غير الخضرة وغير الصفرة والعين التي تتصرف عليها (2) هذه الالوان واحدة ثم تنقل فتصير جسما آخر. وكذلك ترى الذهب زئبرة (3) ، ثم يصير سبيكة ثم يصير دينارا منقوشا والجسم في كل ذلك هو نفسه. وكذلك ترى الإنسان مضطجعا ثم راكعا قائما ثم قاعدا وهو في كل ذلك واحد لم يتبدل، واعراضه متبدلة متغيرة، صفة تذهب [وصفة] تحدث. ولا بد لكل ما ذكرنا من قسمي الخالق من صفات محمولة فيه أو معنى يوجد له يمتاز بذلك عما سواه ويجب من أجله الفرق بين الاسماء. وأما الخالق عز وجل، فليس حاملا ولا محمولا بوجه من الوجوه وقد أحكمنا هذا المعنى في مكان غير هذا، والحمد لله رب العالمين على توفيقه إيانا. ثم نرجع فنقول: إن الصفات أو المعاني التي ذكرنا أنه لا بد لكل ما دون الخالق تعالى، فانها تنقسم قسمين: إما دالة على طبيعة ما هي فيه مميزة له مما سواه، فاتقنا على أن سميناها " حدا "؛ وإما مميزة له مما سواه وهي غير دالة على طبيعة، فاتفقنا على أن سميناها " رسما " ونقول: إن المحارجة (4) في الاسماء لا معنى لها، وإنما يشغل بذلك أهل الهذر والنوك والجهل؛ وإنما غرضنا منها الفرق بين المسميات، وما يقع به إفهام بعضنا بعضا فقط. فقد ارسل الله تعالى رسلا بلغات شتى، والمراد بها معنى واحد، [8ظ] فصح أن الغرض إنما هو التفاهم فقط، ولا بد لكل مادون الخالق تعالى من ان يكون مرسوما ومحدودا (5) ضرورة، لأنه لا بد أن يوجد له معنى يميز به   (1) كلمة البلحة كتبت فوق كلمة " النخلة " في ص (2) عليها: عليه (3) الزئبر ما يكون فوق الثوب الجديد أو القطيفة أو ما شابه، وقد يفهم في السياق على نحو من التأويل وأراه محرفا عن " تبرأ " (4) المحارجة: المحارحة (5) ومحدودا: ومحدوده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 طبعه مما سواه، عرضا كان أو جوهرا. وقد سمى المتقدمون الاسم في هذا المكان " موضوعا "، فإذا سمعتهم يقولون " الموضوع " فإنما يعنون الاسم المراد بيانه بالرسم أو الحد، فكل محدود مرسوم وليس كل مرسوم محدودا لان كل حد تمييز للمحدود مما سواه، وكل رسم فهو تمييز المرسوم مما سواه؛ فكل حد رسم حد، وليس كل رسم مميزا لطبيعة المرسوم ولا مبينا لها، وكل حد فهو مميز لطبيعة المحدود ومميز لها فليس كل رسم حدا فالرسم اهم من الحد. قال الشيخ: هذه عبارة المترجمين وفيها تخليط لأنهم قطعوا على أن الرسم ليس مأخوذا من الاجناس والفصول، وانه إنما مأخوذ من الاعراض والخواص. ثم لم يلبثوا ان تناقضوا فقالوا: إن كل حد رسم، فأوجبوا ان الحد مأخوذ من الاعراض أو ان بعض الرسم مأخوذ من الفصول، وهذا ضد ما قالوه قبل. وايضا قالوا: ان الرسم غير الحد، ثم قطعوا بأن الحد هو بعض الرسم، وهذا تناقض كما ترى. لكن الصواب ان نقول: ان كل مميز شيئا عن شيء فهو إما ان يكون تمييزه يوجد من اجناس وانواع، فيكون حدا منبئا عن طبيعة الشيء، مميزا له مما سواه أو يتميز بتمييز يوجد من اعراض أو خواص، فيكون مميزا للشيء مما سواه فقط، غير منبئ عن طبيعته، فيكون التمييز رأسا جامعا، ينقسم إلى نوعين: اما حد وإما رسم. فالرسم ينقسم قسمين: قسم يميز طبيعة المرسوم فهو رسم وحد، وقسم لا يميزها فهو لا حد حد. وعبر الاوائل عن الحد بأنه: " قول وجيز دال على طبيعته الموضوع مميز له من غيره "، والرسم في انه: " قول وجيز مميز للموضوع من غيره ". والحد محمول في المحدود والرسم محمول في المرسوم، لان كل واحد منها صفات ما هو فيه. فإذا كان التميز مأخوذا من جنس الشيء المراد تمييزه ومن فصوله كان حدا وسيما، واذا كان مأخوذا من خواصه واعراضه كان رسما لا حدا. وهذا إنما هو بيان لمعنى لفظة الحد ولفظة الرسم، لا ان الحد يحتاج إلى حد، ولو كان ذلك لوجب وجود محدودات لا نهاية لها، وهذا محال ممتنع باطل. وإنما يشغب علينا في هذا المكان احد رجلين: إما مشغب لا يستحي من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 إنكار ما يعلم [9و] صحته فيسعى في ابطال الحدود عن المحدودات، وإما ملحد ساع في إثبات أزلية العالم، وكل لا يعبأ به، لأنه دافع مشاهدة، ولله الحمد. وقد بينا أن الحد إنما هو صفات ما متيقنة في أشياء ومتيقن عدمها في اشياء أخر، فتصف كلا بما فيه. فمن انكر فقد انكر الحس والعيان وخرج من حد من نشتغل به. فالحد هو قولنا في الإنسان: إنه الجسد القابل للون، ذو النفس الناطقة الحية الميتة. فان الحي جنس للنفس، أي نفس كانت؛ وسائر ما ذكرنا فصول لها من سائر النفوس الحيوانية. فهذا هو الحد كما ترى. والرسم مثل قولك (1) في الإنسان: إنه هو الضحاك أو الباكي. فهو كما ترى مميز للأنسان مما سواه، وليس منبئا عن طبيعته التي هي قبول الحياة والموت. والحد مبين ذلك. وحكم الحد أن يكون مساويا للمحدود. ومعنى ذلك أن يقتضى لفظه إذا ذكر، جميع المراد فلا يشذ عنه شيء مما أردت أن تحده، ولا يدخل فيه ما ليس منه. فان زدت في الحد لفظا، فان كان الذي زدت لفظا يقع على المعاني اكثر من معاني المحدود أو مثلها، بقي المحدود بحسبه، كقولنا في حد نفس الإنسان: إنه حي ناطق ميت جوهر حساس ضحاك بكاء مشرق في جسد يقبل اللون منتصب القامة ونحو هذا. فالمحدود حتى الآن صحيح الرتبة لأن كل نفس لكل إنسان فهذه صفاتها. وإن كان الذي زدت لفظا يقتضي معاني أقل من معاني المحدود، كان ذلك نقصانا من المحدود، كقولك في نفس الإنسان: إنها حية ناطقة ميتة حائكة أو تقول: طبيبة أو كاتبة، فان هذا إنما هو حد لبعض نفوس الناس لا لجميعها، إذ ليس كل إنسان كاتبا ولا طبيبا ولا حائكا. وأما إذا أنقضت من الحد الذي لا فضلة فيه، نعني لا زيادة فيه على مقدار الكفاية في الحد، فانه زيادة في المحدود كقولك في الإنسان: إنها حية ناطقة فان الملك والجني يدخلان تحت هذا الحد. واتفق الأوائل على أن سموا المخبر عنه موضوعا، وعلى أن سموا ذكرك   (1) قولك: قوله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 لمن تريد أن تخبر عنه وضعا، واتفقوا على أن سموا الخبر " محمولا " وكون الصفة في الموصوف " حملا "؛ فما كان ذاتيا من الصفات؟ كما قدمنا - قيل فيه: هذا " حمل جوهري "، وما كان غيريا قيل: هذا " حمل عرضي " وكل هذا اصطلاح على ألفاظ يسيرة تجمع تحتها معاني كثيرة، ليقرب الافهام. فإذا قلت: زيد منطلق، فزيد موضوع، منطلق محمول على زيد، أي هو وصف له. وهذا يسميه النحويون الابتداء والخبر إذا جاء على هذه الرتبة. فإذا سمعت الموضوع والمحمول فأنما تريد المخبر عنه والخبر عنه فاعلم. الكلام على الجنس ذكر الأوائل قسما في الجنس لا معنى له، وهو: كتميم لبني تميم، والبصرة لأهلها، والوزارة لكل وزير [9ظ] ، والصناعة لأهلها، وهذا غير محصور ولا فلا وجه للاشتغال به. وإنما نقصد بكلامنا الجنس الذي ذكرنا أولا وهو: اللفظ الجامع لنوعين من المخلوقات فصاعدا، وليس يدل على شخص واحد بعينه كزيد وعمرو، ولا على جماعة مختلفين بأشخاصهم فقط كقوله: الناس، أو كقوله الأبل، أو كقولك القبلة، لكن على جماعة تختلف بأشخاصهم وأنواعهم كقولك " الحي " الذي يدل على الخيل والناس والملائكة والحي كل حي. والجنس الذي يتكلم عليه ليس يقع على بعض ما يقتضيه حده، لكن على كل ما يقع عليه لحد، والجنس لا يفارق ما تقع عليه التسمية به الا بفساد المسمى واستحالته. وذلك مثل قولك " الجوهر " فان هذه اللفظة يسمى بها كل قائم بنفسه حاملا لغيره، فلا يمكن أن يوجد شيء قائم بنفسه حامل لغيره لا يسمى جوهرا، ولا يمكن أن يوجد جوهر لا يكون قائما بنفسه حاملا لغيره. ولو أنك توهمت هذا الشيء غير قائم بنفسه، لبطل أن يسمى جوهرا. وأما البلدة فقد ينتقل عنها الإنسان إلى غيرها ويبقى إنسانا بحسبه. وكذلك الخطة والصناعة والتجارة. وأما بنو تميم فقد نجد ناسا كثيرا ليسوا من بني تميم، فليس شيء من هذه الوجوه جنسا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 6 - الكلام على النوع سمى الأوائل النوع في بعض المواضع اسما آخر وهو " الصورة " وارى هذا اتباعا للغة يونان، فربما كان هذا الاسم عندهم، اعني الذي يترجم عنه في اللغة العربية بالصورة، واقعا على النوع المطلق، ولا معنى لأن نشتغل بهذا إذ لا فائدة فيه. وإنما نقصد إلى ان نسمي به كل جماعة متفقة في حدها أو رسمها مختلفة بأشخاصها فقط، كقولك: الملائكة والناس والجن والنجوم والنخل والتفاح والجراد والسواد والبياض والقيام والقعود وما اشبه ذلك كله. والنوع واقع تحت الجنس لأنه بعضه. وقد يجمع الجنس انواعا كثيرة يقع اسمه؟ نعني اسم الجنس - على كل نوع منها، ويوجد حده في جميعها وتتباين هي تحته بصفات يختص بها كل نوع منها دون الآخر. وذلك انك تقول: حي فيقع تحت هذه التسمية الناس والخيل والبغال والاسد وسائر الحيوانات، فإذا حددت الحي فقلت: هو الحساس المتحرك بأرادة كان هذا الحد أيضا جامعا لكل ما ذكرنا وموجودا في جميعها، وكان كل نوع مما ذكرنا يختص بصفة دون سائرها، كالمنطق والصهيل والشحج الزئير وغير ذلك. فالحي جنس وكل ما ذكرنا أنواع تحته، أي أن الحي يجمعها، وهي أبعاضه، وهي مختلفة تحته كما قدمنا [10و] وهاهنا رتبة عجيبة وهي ان المبدأ في التقسيم للعالم جنس لا يكون نوعا ألبتة، كالجوهر فانه يسمى به الحجارة والشجر والنبات والحيوان، كل ذلك اوله عن آخره جوهر، والجوهر مبدأ ليس فوقه جنس يقع تحت اسمه الجوهر وغير الجوهر. والوقف في تقسيم العالم نوع لا يكون جنسا البتة كالناس والخيل والنمور والياقوت والعنب وما اشبه ذلك؛ فانه ليس تحت كل اسم من هذه الاسماء إلا اشخاصه فقط كزيد وعمرو وهند، وكل فرس على حدته، وكل ياقوتة على حدتها، وكل عنبة على حدتها. ولا تعتبر بأن تكون أيضاً اوصاف تجمع بعض الناس دون بعض كالسود والبيض والفطس والطوال والقصار، وكذلك في كل نوع فإنما هذه اصناف واقسام. والطبيعة في كل واحدة منهم واحدة، وحد كل واحد منهم واحد جامع لجميعهم، وليس كذلك حد الانواع، بل لكل نوع حد على حدة لا يشاركه فيه نوع آخر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 البتة، وبين الطرفين اشياء تكون نوعا وجنسا كالنامي فانه نوع للجوهر لأن الجوهر [يكون] ناميا وغير نام، والنامي أيضاً جنس لذي النفس الحية الميتة، ولغير ذي النفس، لأن الشجر والنبات وجسم الإنسان وسائر الحيوان القابل للموت نوام كلها، واسم النامي يقع على جميعها ويعمها. واتفق الاوائل على ان سموا الجنس الأول جنس الاجناس نعني الذي لا جنس فوقه، وهو الذي لا يكون نوعا أصلا. واتفقوا على ان سموا النوع الآخر نوع الانواع، وهو الذي قلنا فيه إن فيه الوقف وإنه لا يكون جنسا ألبتة، وإنه لا نوع تحته، وليس تحته شيء غير اشخاصه فقط. وهذا النوع هو الذي يعبر عنه بأنه يلي الاشخاص. واما سائر الانواع التي ذكرنا انها من الطرفين وانها انواع وأجناس فانها ليست تلي الاشخاص في الرتبة، لأن بينها وبين الاشخاص انواعا أخر، كقولك: " الناس " فان هذه اللفظة بين قولك " الحي " وبين: زيد وعمرو. فاستبان ولله الحمد ان الجنس ينقسم قسمين: جنس لا يكون نوعا وهو المبدأ أعني الجوهر، وجنس قد يكون نوعا؛ فاستبان ان النوع ينقسم قسمين: نوع لا يكون جنسا وهو الذي فيه الوقف في القسمة، كأشخاص الناس أو الخيل، ونوع قد يكون جنسا وهو في ثلاثة اقسام: القسم الواحد جنس محض، والقسم الثاني نوع محض، والقسم الثالث جنس من وجه ونوع من وجه آخر، فهو جنس لما تحته لأنه معموم به. وقد عبر بعضهم بأن قال إنما هو نوع لما تحته أي جامع له ولم يعبر احد بأن يقول انه جنس [10ظ] لما فوقه. وإنما ذكرت لك هذا لئلا تراه فيشكل عليك. والصواب ما ذكرنا اولا من انه نوع لما فوقه من الاجناس، وجنس لما تحته من الانواع، لأنك إذا اضفته إلى ما فوقه فالاحسن ان تسميه باسم غير الذي تسميه به إذا اضفته إلى ما تحته، ليلوح الفرق بين اختلاف إضافتيه. واما نوع الانواع الذي ذكرنا فلا يجوز ان نسميه جنسا أصلاً لأن الجنس إنما يسمى به ما يجمع نوعين فصاعدا لا الذي يلي الاشخاص فقط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 7 - باب جامع للكلام في الأجناس والأنواع أجناس الأجناس التي لا تكون نوعا أصلا وهي أوائل في قسمة العالم: ذكر المتقدمون انها عشرة ثم حققوا فقالوا: إن الأصول منها أربعة، فالعشرة منها هي: الجوهر، والكم، والكيف، والإضافة: والمتى، والأين، والنصبة والملك، والفاعل، والمنفعل. والأربعة التي حققوا أنها رؤوس المبادئ وأوائل القسم: الجوهر والكم والكيف والإضافة. وأما الست البواقي فمركبات من الأربع المذكورة، أي من ضم بعضها لبعض على ما يقع في أبوابها، إن شاء الله عز وجل. واعلم أن الجوهر وحده؟ من جملة الأسماء التي ذكرنا - قائم بنفسه وحامل لسائرها، والتسعة الباقية محمولات في الجوهر وأعراض له وغير قائمات بأنفسها. فان قال قائل: هلا جعلت شيئا أو موجودا أو مثبتا أو حقا، جنسا جامعا لهذه الاسماء العشرة؛ لأن جميعها موجود ومثبت وحق وشيء، قيل له وبالله تعالى التوفيق: قد قدمنا أن الجنس منه حد كل ما تحته. والطبيعة هي قوة في الشيء توجد بها كيفياته على ما هي عليه. فما لم يكن منبئا عن طبيعة ما تحت اسمه فليس جنسا. فلما كانت لفضة شيء وموجود ومثبت وحق لا تنبئ عن طبيعة كل ما وقعت عليه، ولم يكن فيها اكثر من أنه ليس باطلا ولا معدوما فقط، وجب أن لا يكون شيء من هذه الألفاظ جنسا لما سمي به. وأما لفظة معلوم فقد تقع على الموجود والمعدوم والحق والباطل لأن الباطل معلوم أنه باطل، والمعدوم معلوم أنه معدوم، فليس أيضا جنسا لما قدمنا، ولأنه كان يجب ان يكون الباطل والحق تحت جنس واحد وهذا محال شنيع. وأيضا فأن وجودنا بعض هذه الرؤوس مخالف لوجودنا سائرها [11و] فبعضها تجدها النفس بالحواس الاربعة المؤديات لصفات محسوساتها إلى النفس الحساسة، غير قائمة بأنفسها، وبعضها تجدها النفس بمجرد العقل، غير قائمة بأنفسها، كوجود العدد والزمان والاضافة، وبعضها تجدها النفس بتوسط من الحواس والعقل معا، غير قائمة بأنفسها، كالحركات، وبعضها تجده النفس بتوسط العقل والحواس معا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 قائما بنفسه كالجوهر، وقد تجد النفس بمجرد العقل ويتدرج من وجودها هذه العشرة إلى معرفة ما هو موجود حقا غير موصوف بشيء من صفات هذه العشر وهو الأول الواحد الخالق الذي لم يزل لا إله الا هو. فكل ما يقع تحت جنس واحد فلا يكون وجوده إلا على صفة واحدة جامعة لجمعه، أي يجد واحد جامع لكل ما تحت الجنس، أو بخاصة واحدة جامعة لكل ما تحت الجنس، على ما نبين في باب كل رأس من العشر المذكور، وخواص الرؤوس المحققة من هذه العشر مختلفة فوجب أن لا تكون كلها تحت جنس واحد، فوجب أن لا يكون موجود جنسا لهذه العشر البتة. والقول في مثبت كالقول في موجود ولا فرق. وأما لفظة حق وشيء فبعض هذه العشر إنما هو حق بنفسه، وهو الجوهر، وكذلك هو أيضا شيء بنفسه، وسائرها إنما هي حق بغيرها وشيء بغيرها، لانها إنما تحققت بالجوهر، وبه (1) صارت أشياء، ولولا الجوهر لم تكن حقا ولا شيئا. وكل ما يقع تحت جنس فطبيعته واحدة لا مختلفة، وهذه الأشياء طبائعها مختلفة كما ترى، فوجب أن لا يكون حق وشيء جنسا لها، إذ إنما يكون إيقاع أسماء الاجناس على ما تحتها على حسب اتفاقها في طبائعها، واتفاقها في حدودها، واتفاقها في فصولها فيوجب ذلك اتفاق اسمائها، وبحسب اختلافها في الطبائع تختلف فصولها وحدودها فتختلف أجناسها لذلك. واعلم أم موجودا وحقا ومثبتا وشيئا واقعة على كل ما تقع عليه وقوع الأسماء المشتركة، على ما نبين في باب الاسماء على المسميات. فان قال قائل: فهلا جعلتم قولكم " عرضا " جنسا للتسع الباقية دون الجوهر؟ قيل له، وبالله التوفيق: إن هذه التسع المسميات عرضا كون مختلف، وحمل الجوهر لها حمل مختلف، لأن بعضها محمول في شخصه وعرض فيه كالكيفيات، وبعضها محمول في طبيعته وعرض فيها كالعدد والزمان، وبعضها عرض له من قبل غيره، ومحمول في طبيعته بطبيعة غيره، كالاضافة. وقد قدمنا أن الجنس منبئ عن طبيعة ما تحته، وهذه التي ذكرنا طبائعها في كونها عرضا مختلفة ورسومها مختلفة فبطل كون [11ظ] عرض جنسا لها، فمن نازعنا من أهل   (1) تحققت بالجوهر وبه: تحققت بالجوهرية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 السخف والسفطة وقال: أنا أريد أن أسمي جنسا كل اسم عبر به عن كثير وجماعة، ولا أبالي باتفاق طبائعها تحت ذلك الاسم أو باختلافها، قلنا له: لسنا ننازعك ولا ننفق معك الساعات في ما لا فائدة فيه، إلا أننا نقول لك قولين كافيين لمن عقل ولم يرد الشغب، فنقول: إن عزمت على ما ذكرت وكنت موحدا، فاعلم أنك قد أوقعت الله عز وجل تحت الأجناس، لأنه تعالى موجود وحق ومثبت. فإذا أوقعته تحت جنس فقد جعلته محدودا ضرورة، إذ كل ما وقع تحت جنس فمحدود، تعالى الله عن ذلك. والقول الثاني نقول: لسنا ننازعك في الجيم والنون والسين فان بدا لك أن تسمى يدك أو رجلك أو ضرسك جنسا فلا مانع لك من ذلك إلا أنك تحتاج إلى من يوافقك على التخاطب بهذه اللغة التي أحدثتها، وحسبنا أنك تقف عند طاعتك في اسم توافقنا عليه، نتفق على إيقاعه على كل جماعة تجمعها طبيعة واحدة تقوم منه فصولها، فتوجد منه حدودها، ويوجد أيضاً تحته كثيرون مختلفون بأنواعهم، لنتفاهم به مرادنا، فان أبيت من ذلك ولم توقع ما دون الخالق تعالى تحت حدود، فانك واقع تحت المجاهرة بمكابرة العقل والحواس، لأنك ترى ضرورة أشياء تتفق في صفة واحدة، وأشياء أخر تخافها في تلك الصفة وتتفق في صفة أخرى، وهذا هو معنى الحد لأن كل صفة تحد ما هي فيه دون ما ليست فيه، لا يدفع ذلك إلا مجنون أو من هو في أسوأ من حال المجنون لقصده إبطال الحقائق وتلبيس المعارف وإثبات الاشكال. ومن يبغ [هذا] ها هنا ترك الكلام معه، إذ غايتنا ممن نكلم أن ينصرف إلى الحق أو للحق لا الذين (1) لا تجري أحكامهم العقل عليهم، مع أن هذا كفر من معتقده، أن كان ممن يسم نفسه بالايمان؛ وبالله نعوذ من الضلال وما دعا إليه. وبهذا نكلم أيضا من قال لنا: هلا سميتم نوعا ما سميتم جنسا وسميتم جنسا ما سميتم نوعا، فاني قد يسأل هذا السؤال الاحمق. واعلم أن الجوهر وحده دون سائر الاشياء التي ذكرنا موجود بنفسه وسائرها متداول عليه، وكلها موجود به لا سبيل إلى أن توجد دونه البتة،   (1) لا الذين: بالذين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 والجوهر وان كان لا يوجد دونها أيضا، فقد يوجد أيضا دون بعضها، ولا سبيل إلى ان يوجد شيء منها دون جوهر ألبتة لأن الجوهر محسوس بالعقل فقط، وليس مرئيا ولا مذوقا ولا ملموسا ولا مشموما وإنما نرى الالوان، فإذا عدم اللون لم نر شيئا كالهواء المتحرك، وهو الريح فانه يحس باللمس، وينطح [12و] الاجسام العظام فيسقطها وهو غير مرئي لأنه لا لون له، والجن كذلك، وقد أخبرنا الصادق، عليه السلام، عن الله عز وجل، أنهم يروننا من حيث لا نراهم، ونحن ذوو ألوان وهم غير ذوي ألوان، وكذلك أيضا لا نشم الحجر لأنه لا رائحة له، وإنما نشم الرائحة على حسب اختلافها وكذلك أيضا لا يذاق الحجر فانه لا طعم له وإنما تذاق الطعوم على حسب اختلافها، وإنما تلمس المحية من الخشونة أو اللين أو الاملاس أو الصلابة أو التهيل، وقد يسمح (1) بعض الجوهر بعرض فيه على ما يأتي بعد هذا، ان شاء الله عز وجل. وإنما أوقعنا ما يقع تحت الحواس تحت الكيفية طلبا للاختصار وجمعا للكثير (2) تحت اسم واحد، ولأنها كلها ترسم برسم واحد، على ما يقع في بابه ان شاء الله. وكل من الرؤوس التي ذكرنا جامع لطبيعة أشياء كثيرة فسمينا كل واحد جنس أجناس، وسمينا كثيرا مما يقع تحت كل رأس منه أجناسا أيضا، إلى أن نبلغ إلى الانواع المحضة التي تلي الأشخاص. واعلم أن كل رأس أعلى، ومرادنا بذلك جنس الاجناس، وكل ما تحته مما يسمى جنسا أو نوعا فان كل ما يقع تحته يسمى باسم الرأس الذي هو أعلى منه، ونحدده بحده، فأن نفس الإنسان تسمى جوهرا وتسمى حية وترسم برسم الجوهر وتحد بحد الحي وكذلك جسد الإنسان يتسمى ناميا وجوهرا وجسما ويحد ويرسم برسم وحد كل واحد من هذه الأسماء. واعلم انه لا يسمى الرأس الأعلى باسم ما تحته ولا يجد بحده. والمتقدمون يعبرون في هذا المكان بأن يقولوا: " الأعلى يقال على الأسفل والأسفل لا يقال على الأعلى " وإنما كان ذلك لأن الأسفل موجود في الرأس الأعلى وغيره مما هو واقع تحت الرأس الأعلى، فلو سميت الرأس الاعلى باسم ما يقع تحته لكنت قد   (1) يسمح: يسمع (2) للكثير: للتكثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 نقصته بعض صفاته. الا ترى أن كل نام جسم فلو سميت الجسم المطلق ناميا، لكنت مخطئا كاذبا، لأن الحجر جسم وليس الحجر ناميا، وهذا محال. وانت إذا سميت النامي جسما كنت مصيبا؛ وزيد إنسانا ويحد بحد الإنسان، ويسمى حيا ويحد بحد الحي، ويسمى جسما ويرسم برسم الجسم، ولا يسمى الجسم المطلق حيا ولا يحد بحد الحي ولا يسمى أيضاً إنسانا ولا يحد بحد الإنسان، ولا يسمى زيدا ولا يحد بحد زيد. ونعني بالجسم المطلق كل ما يطلق على كل طويل عريض عميق. فالحجر جسم وليس حيا ولا إنسانا ولا زيدا. فالمطلق هو الاسم الكلي الذي يعم كل ما سمي به وقد [12ظ] قدمنا قبل ان الاشياء والمخلوقات تنقسم اقساما ثلاثة: اجناس وانواع واشخاص. فكل ما يسمى جنسا مما لا يكون الا جنسا محضا ومما يكون جنسا ونوعا فانه محدود وعندنا وفي الطبيعة، أي اننا نبدأ فنقول: كل ما دون الخالق عز وجل ينقسم قسمين: جوهو ولا جوهر. فالجوهر هو الجسم من قولنا والجسم هو الجوهر ولا شيء دون الخالق تعالى الا جسم محمول في جسم. وقد اثبت غيرها جوهرا ليس جسما وهذا باطل وليس هذا مكان حل الشكوك المعترض بها علينا في هذا القول وقد أحكمنا في مكانه. وبالله التوفيق. والكلام في هذا هو واقع فيما بعد الطبيعة وفي علم التوحيد وقد أثبتناه في كتاب الفصل في الملل والنحل. وكذلك رسم غيرنا أيضا في حد الإنسان انه حي ناطق ميت. وهذا الحد لا يخلو من أن يكون أراد به الجسم المركب وحده أو النفس وحدها أو الجسم المركب والنفس معا فان أراد الجسم المركب فذلك خطأ لأنه ادخل الجسم المركب تحت الحي، والحي إنما هو النفس وحدها، وهي الحساسة المتحركة التي ان بطلت بطل حس الجسم وحركته ألبتة، وان كان أراد النفس وحدها فذلك أيضا خطأ لأنه ادخلها تحت النامي، والنفس ليست نامية وإنما النامي جسمها المركب فقط وللبراهين على هذا مكان آخر قد ذكرناه في كتاب الفصل في باب النفس. ثم نرجع فنقول: والجوهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 منقسم قسمين: حي ولا حي. والحي ينقسم قسمين: نفس ناطقة ونفس غير ناطقة. ولا حي بحياة الا نفس حية بحياة. وحد الحي ذي الحياة هو الحساس المتحرك بارادة، فالنفوس الناطقة هي الملائكة وأنفس الاشخاص الخلدية التي أخبرنا الصادق، صلى الله عليه وسلم، أنها في دار النعيم من الحور والولدان وأنفس الأنس وأنفس الجن. وغيرنا يعتقد مكان الاشخاص الخلدية التي ذكرنا ان الاجرام العلوية من الكواكب والفلك ذات أنفس حية ناطقة وللكلام في كل هذا الشك مكان غير هذا. والنفس غير الناطقة هي انفس سائر الحيوان. والنفس الناطقة تنقسم قسمين: ناطقة ميتة وناطقة غير ميتة. فالغير ميتة هي الملائكة وأنفس الاشخاص الخلدية التي ذكرنا والميتة هي أنفس الانس والجن. ومعنى قولنا ميتة أي أنها مفارقة لحد وعائها من الاجسام المركبة من العناصر الاربع التي ابتدأت بالتشبث بها في عالم الامتحان، لا أنها تعدم ولا يبطل حسها وفكرها وتمييزها وحركتها أصلا. والميتة تنقسم قسمين: ذات حس [13و] تقبل الالوان، وهي نفس الإنسان، وذات جسد لا تقبل الالوان وهي نفس الجن وأما غير الناطقة فترسم بالصهال والنباح والشحاح وبغير ذلك من سائر الصفات المخصوصة بها المفرقة أنواعها وهي انواع كثيرة تلي الاشخاص بعد وأما اللاحي فيزيد على القسم الذي هو حي فينقسم قسمين: مركب ولا مركب فالغير مركب هي العناصر الاربعة التي هي النار والهواء والماء والارض والافلاك التسعة وما فيها من الدراري والكواكب. والافلاك التسعة هي السماوات السبع التي هي سبع طرائق للدراراي والكرسي الذي هو فلك المنازل والعرش الذي هو الفلك الكلي المحيط الذي يدور دورة في كل يوم وليلة الذي ليس فوقه خلاء ولا ملاء والذي هو منتهى جرم العالم وكرنه ولا شيء بعده. ومعنى قولنا مركب وغير مركب هو أن المركب ما خلقه الله عز وجل من أشياء شتى كأجسام الحيوان والشجر المركبة من العناصر الاربعة. ومعنى قولنا غير مركب هو ما خلقته الله تعالى واحدة لا من أشياء شتى، والا فكل مركب وكل غير مركب فمؤلف من أجزاء كثيرة محتمل للتجزيء والانقسام أبدا. والمركب ينقسم قسمين: نام ولا نام، والنامي ينقسم قسمين: ذو نفس ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 ذو نفس. وحد النامي هو ما تغذى تغذيا ينقسم من وسطه إلى طرفيه ويحله إلى نوعه فاللا ذو نفس (1) الشجر والنبات وهما قسمان: ذو ساق ولا ذو ساق ثم كل واحد من هذين القسمين ينقسم على انواع كثيرة تلي الأشخاص بعد. وذو النفس ينقسم قسمين: ذو نفس ناطقة مثل أجساد الانس والجن وذو نفس لا ناطقة مثل أجساد سائر الحيوان. وذو النفس الناطقة ينقسم قسمين جسم ملون وهو جسم الإنسان وجسم لا ملون وهو جسد الجن. وذو النفس الغير ناطقة هو أجسام سائر الحيوان وهي انواع كثيرة جدا تلي الاشخاص بعد وتحد بصفاتها المختصة بها وبفصولها المميزة لطبائعها وبالاضافة إلى أنفسها. فنقول: ذو النفس المفترسة الزائرة، ذو نفس ناهقة وما أشبه ذلك. وهكذا يحد كل نوع من الشجر والنبات بفصوله المميزة بطبائعه وبصفاته المختصة به وهذا أمر يكثر جدا ويتسع وإنما قصدنا هنا الكلام على الجمل. وغير النامي ينقسم اقساما كثيرة منها معدنيات [13ظ] كالياقوت والذهب وغير ذلك، ومنها خشبيات وهي انواع محضة تلي الاشخاص ويحد كل نوع منها بفصوله المميزة لطبيعته مما سواه وبصفاته التي تخصه. فهذه الاجناس محدودة كما ترى عندنا محصورة، ومحدودة في أنفسها محصورة، وهو الذي أردنا بقولنا أنها محدودة في الطبيعة لأننا قد تيقنا أن هذه الاقسام لا زيادة فيها أصلا وأنها متناهية العدد كما ذكرنا. وأما كل ما هو نوع محض وهي الانواع التي تلي الأشخاص وهي التي قلنا فيها انها تسمى انواع الانواع فانها محدودة في الطبيعة غير محدودة عندنا نعني بذلك أن عدد هذه الانواع من الحيوان والشجر والنبات والاحجار متناه في ذاته عند الباري عز وجل بعدد لا يزيد أبدا ولا ينقص فنحن على يقين من انه لا يحدث بعد، مثل ذي أربع من الجمال يطير أذي ثلاثة رؤوس ولا أن الخيل تفنى حتى لا يوجد في العالم فرس وكذلك سائر الانواع. وقد نبه الرسول عليه السلام على ذلك بقوله: " لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها ". ففي هذا اخبار أن كل أمة من   (1) فاللا ذو نفس: فالذو نفس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 الأمم لا سبيل إلى اعدامها. وقال تعالى في أنهلا مزيد من الانواع (1) {وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا، لا مبدل لكلماته} (115 الانعام: 6) وكذلك قوله تعالى: {وعلم آدم الاسماء كلها} (31 البقرة: 2) . برهان ثان: جميع الانواع محصورة العدد لا زيادة فيها لادخاله تعالى الكلية فيها والكلية لا تدخل الا في ذي نهاية، الا اننا لا نحيط بأعدادها نحن، فلسنا نحصر انواع الطير، ولا انواع الحيوان المائي والبري وسائر الحشرات، وإنما يعلم عددها باريها عز وجل، الا انه متناه محصور كما قد منا. وبرهان ذلك ان ما لا نهاية فلا يجوز ان يكون اكثر منه، والاشخاص الواقعة تحت الانواع اكثر من الانواع، فلما كان ذلك وجب الانواع ليست مما لا نهاية له، واذا كان ذلك وجب انها متناهية ضرورة؛ ولما كانت أنواع الانواع لا نحيط بجزئيها اوجب ذلك علينا ان نتوصل إليها بالانواع التي تكون اجناسا لنصل إلى علم اتفاقها واختلا [فها] ولذلك لم ننحدر؟ من الاجناس الأول إلى الانواع المحضة؛ واما الاشخاص فليست محصورة لا عندنا ولا في الطبيعة، لاننا نجد بالحس الضروري أن الاشخاص من الناس إذا كان الطاعون أو قتل ذريع في يوم معركة، أنها قد قلت جدا عما كانت عليه بالامس، ثم إذا اتصل النماء والذرء وتهذنت البلاد، كاد المعمور (2) يضيق بأهله لكثرتهم، فهم أبدا يزيدون وينقصون. والانواع ليست كذلك. لكنها لا [14و] تزيد ولا تنقص أبدا إلا أن يشاء الخالق إفناء ما شاءه منها يوم البعث في عالم الجزاء [فهو] القادر على ما يشاء لا إله إلا هو. وأما الاشخاص فليس لها عدد تقف عنده، فلا يمكن أن تزيد ولا تنقص، ولكن ما خرج منها إلى الوجود فمحدود العدد، محصور مذ خلق الله العالم إلى كل وقت يقال فيه الآن. وأما ما لم يخرج منها بعد إلا أنه مما علم الله تعالى أنه سيخرج فهو في علم الله تعالى محدود محصور وفي الطبيعة معدود إذا خرج، لا قبل أن يخرج، والزيادة فيه ممكنة في قوته عز وجل بلا نهاية في عدد ولا أمد.   (1) بهامش ص عند قوله " لا مزيد في الانواع " لا يخفى ما فيه لقوله: " ويخلق ما لا تعلمون " ثم اورد المعلق حكاية رواها أبو نعيم في الحلية عن امرأة مزدوجة الخلقة. (2) المعمور: العمور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 وأنت ترى؟ بما بينا - انه كلما ابتدأنا من عند انفسنا، نعنى الاشخاص، صاعدين إلى جنس الاجناس ابتدأنا بالكثرة، فكلما ارتفعنا قل العدد إلى ان نبلغ إلى الرؤوس التي ذكرنا. واذا ابتدأنا من هنالك لم نبتدئ الا بقسمين فقط وهما: جوهر ولا جوهر ثم نتزيد العدد في الكثرة إلى أن نبلغ إلى الانواع التي تلي الاشخاص. واعلم ان العموم ليس بلا نهاية، لكن بنهاية، فاعم الاشياء قولك شيء وموجود، وهذا الذي يسميه النحويون أنكر النكرات، وكذلك الخصوص ليس أيضاً بلا نهاية، ولكن اخص الاسماء كلها فيما دون الله، تبارك وتعالى، انا وانت، وهذا اعرف المعارف. واعلم أن جنس الاجناس مبدأ لما تحته، كآدم للناس، والانواع كالامم، وانواع الأنواع كالقبائل، نريد أنها مثلها في التفرع عنها فقط. واعلم أنهم قالوا: ان الجنس الذي هو جنس الاجناس مرسوم لا محدود لأنه ليس فوقه جنس يؤخذ حد منه وأما الانواع فمحدودة. واما الاقسام التي تنقسم عليها انواع الانواع فانها تسمى أقساما وأصنافا؛ وذلك ذكور كل نوع وإناثه، أو سودانه أو بيضانه، أو ما اختلفت ألوانه من سائر الانواع، أو ما اختلفت طعومه مما استوى تحت نوع واحد من الثمار والنبات وسائر ما يختلف في صفة ما هو يجمعه كله نوع واحد؛ لأنك تجد الأسود والأبيض من الناس، والذكر والأنثى من كل نوع من الناس والحيوان غير الناطق وكثير من النوامي غير الحية، وذوات الألوان المختلفة من الخيل والدجاج وغير ذلك، فكل ذلك محدود بحد واحد، ومجتمع في طبيعته واحدة. وكثير من ذلك يعم أبعاضا من أنواع كثيرة، كالذكر والأنثى والأسود والأبيض، ومن المحال أن يكون نوع واحد تقع تحته طبائع مختلفة متضادة الصفات، لا تحد كلها بحد جامع لها؛ فلذلك لم نجعل هذه أنواعا جامعة لما تحتها، وإنما نبهنا على هذا لئلا يقول جاهل: إن هذه الأقسام مختلفة، فهلا جعلتموها أنواعا مختلفة فأريناه أن حدها واحد، وطبيعتها واحدة، وخواصها واحدة، وفصولها واحدة، وإنما [14ظ] اختلفت في الأعراض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 فقط، وبهذا لم ننكر صبغ النحاس حتى يعود في مثل لون الفضة، وأنكرنا ومنعنا من أن نحيل طبع النحاس أصلا إلى طبع الفضة، كما لا سبيل إلى إحالة طبع الحمار إلى الإنسان ألبتة أصلا. 8 - باب الفصل ذكرت الأوائل في الفصل قسمين سموهما: عاميا وخاصيا، وليس وضعهما عندنا في باب الكلام في الفصل الذي نقصده في الفلسفة صوابا، لأنهما واقعان في باب الكلام في الفصل الذي لا يفصل الأنواع بعضها عن بعض تحت جنس واحد. مثل أن تقول: حي، ونفس الحمار حي، فأي الحيين تعني؟ فتقول: الحي الناطق الميت، فالناطق الميت فصلان، فصلا نوع الإنسان من نوع الحمار تحت جنس الحي، فهذا الفصل نريد، لا ما سواه. وهذا الذي يسميه الاوائل " خاص الخاص ": وبالله نستعين وبه التوفيق: إن الفصل هو ما فصل طبيعة من طبيعة، فبان لنا به أن هذه غير هذه البتة مما إذا توهمنا أن ذلك الفصل معدوم مما هو فيه، مرتفع عنه، فقد فسد الذي هو فيه وبطل ألبتة، فانك متى رفعت النطق والموت عن الإنسان لم يكن إنسانا أصلا، بوجه من الوجوه، وهذا فرق ما بين الفصل والخاصة على ما يقع بعد هذا إن شاء الله تعالى. ولذلك سمي هذا الفصل ذاتيا فيما خلا قبل هذا. وبهذا الفصل تقوم الأنواع تحت الجنس وينفصل بعضها من بعض، ويتميز بعضها من بعض. ومنفعته عظيمة في كل علم، إذ قد يلزم بعض النامي ما لا يلزم بعضه، ويلزم بعض الحي ما لا يلزم سائره، فلولا الفصول المميزة لكل نوع على حدة، لاختلطت الأحكام والصناعات وجميع فوائد العالم، فلم تستبن. واعلم أن هذه الفصول تسميها الاوائل " الجوهرية " للزومها ما هي فيه، فكأنها الجواهر لثباتها. واعلم ان الفصول والاجناس والانواع لا تقبل الاشد ولا الاضعف، ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 تقع على ما تقع إلا وقوعا مستويا، لا يجوز أن يكون إنسان أشد في انه إنسان من إنسان آخر، ولسنا نعني المرودة والمذكورة، لكن نعني في انه آدمي وإنسان فقط، ولا يكون فرس أضعف فرسية من فرس آخر، ولا حمار أقوى حمارية من حمار آخر وهكذا كل أشياء استوت في جنس أو نوع أو فصل، فانها كلها فيه متساوية لا يفضل في كونها إياه بعضها بعضا أصلا بوجه. ورسم الفصل هو أن تقول: هو الذي تتميز به الانواع بعضها من بعض تحت جنس واحد، والفصول موجودة في الانواع بالفعل، وفي الجنس بالقوة. ونريد بالقوة: إمكان ان يكون، وبالفعل: انه قد كان وجب [15و] وظهر ووجد، فانك إذا قلت: الحي: فان النطق فيه بالقوة، أي ان بعض الاحياء ناطقون، ولو كان الناطق فيه بالفعل لكان كل حي ناطقا، وهذا محال. وانت إذا قلت: الحي الناطق، فالنطق فيه بالفعل أي أنه قد ظهر ووجد. والنطق الذي يذكر في هذا العلم ليس الكلام ولكنه التمييز للأشياء والفكر في العلوم والصناعات والتجاورات وتدبير الأمور، فعن جميع هذه المعاني كنينا بالنطق اتفاقا منا. وكل إنسان فناطق النطق الذي بينا، إلا من دخلت على ذهنه آفة عرضية، وإلا فبنيته، ولو رمى الحجارة، محتملة؟ أو زالت تلك الآفة - لكل ما ذكرنا. وليس كذلك سائر الحيوان، حاشا الملائكة والجن، فانه لا يتوهم ن شيء من الحيوان غير ما ذكرنا فهم الأمور التي وصفنا. وأما الفصول إذا حققتها فكيفيات، إلا أنها لا تفارق ما هي فيه ولا تتوهم مفارقتها له إلا ببطلانه. وذلك المعنى الذي به صارت الاشخاص تسمى أنواعا وأجناسا، فانه أيضاً كيفية كما ذكرنا. وأنت إذا وجدت فصلا ذاتيا يستغنى به في تمييز ما تريد منه من الانواع، فاكتف به ولا معنى لأن تأتي بفصل آخر. فان اضطررت إلى فصول كثيرة، ينفرد النوع الذي تريد ان تفصله من غيره بجميعها وتشاركه أشياء أخر في كل واحد منها على الانفراد، فلا بد ان تأتي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 بجميعها أو بما ينفرد منها به ليتم لك التمييز والتخليص الذي تريد إبانته. واعلم انه ليس الجنس والنوع شيئا غير الاشخاص، وإنما هي اسماء تعم جماعة اشخاص اجتمعت واشتركت في بعض صفاتها، وفارقتها سائر الاشخاص فيها، فلا تظن غير هذا، كما يظن كثير من الجهال الذين لا يعلمون. 9 - باب الخاصة من الخاصة ما هو مساو للمخصوص، أي انها في جميع اشخاصه، وهذا الذي نقصد بالكلام في هذا الكتاب. ومنها ما هو أخص من المخصوص بها أي انها في بعض اشخاصه لا في كلها، وذلك مثل الشيب في حال الكبر، فانه فيما هو في وقت دون وقت، ومثل النحو والشعر فانهما بالفعل في بعض ما هما فيه بالقوة دون بعض، فليس كل إنسان نحويا ولا شاعرا، إلا أنه قد كان ممكنا ومتوهما أن يكون نحويا وشاعرا. وأما الخاصة المساوية فقد تقوم قام الحد، ويرسم بها ما كان فيه رسما صحيحا [15 ظ] دائرا على طرفي مرسومه منعكسا. فانك تقول: كل إنسان حي ناطق ميت، وكل حي ناطق ميت إنسان، فهذا هو الانعكاس الصحيح، وهذا هو الدوران على الطرفين. أي أنه لا يشذ عنه مما يريد أن ترسمه به أو تحده. وكل إنسان فضاحك اما بالقوة أي بالامكان في كل وقت، واما بالفعل في بعض الاوقات دون بعض أي بظهور الضحك منه. فان قال قائل: فلأي شيء فرقتم بين الخاصة والفصل؟ فالجواب: إن الفصل هو ما لا يتوهم عدمه عن الشيء الذي هو فيه الا ببطلان ذلك الشيء، فان النطق والموت ان توهم أنهما قد عدما من شيء لم يكن ذلك الشيء إنسانا ألبتة، وأما الخاصة فبخلاف ذلك، ولو توهمنا الضحك معدوما بالكل جملة واحدة، حتى لا يعرف ما هو، لم يبطل الإنسان ولا امتنع من أجل عدم الضحك أن يتكلم في النحو والفقه والفلسفة وأن يعمل الديباج ويخيط ويغرس ويحرث ويحصد وذلك مما ينتجه له النطق الذي هو التمييز، فهذا فرق بين واضح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 10 - باب العرض هذا وإن كان كيفية كالفعل والخاصة فبينه وبينها فرق كثير، وهو ان الفصل لا يوجد في غير ما فصل به أصلا، والخاصة أيضا كذلك، لا توجد في غير مخصوصها أصلاً. وأما العرض العام الذي قصدنا بالكلام فيه في هذا المكان فانه يعم أنواعا كثيرة جدا، وهو ينقسم أقساما: فمنه ما يعرض في بعض الانواع دون بعض ثم في بعض احواله دون بعض، وذلك كحمرة الخجل، وصفرة الجزع، وكبدة الهم، وهذه سريعة الزوال جدا؛ وكالعقود والقيام والنوم وما اشبه ذلك، وهذه كلها تستحيل بها احوال من هي فيه استحالة الاسباب المولدة لها، وتنفصل بها احواله بعضها من بعض؛ ومنها ما هو ابطأ زوالا كصبا الصبى وكهولة الكهل وما أشبه ذلك؛ ومنها مالا يزول أصلاً، الا انها لو امكن ان تزول لم يبطل شيء من معاني ما هي فيه، كزرقة الازرق وقنا الاقنى وفسطة الافطس وسواد الغراب وحلاوة العسل وما اشبه ذلك فانه ان توهم الزنجي ابيض والغراب اعصم لم يخرجا بذلك عن الغرابية ولا عن الإنسانية، وكذلك العسل قد يكون منه مر ولا يبطل عن أن يكون عسلا؛ وبالصفات التي ذكرنا ينفصل بعض انواع الاعراض عن بعض. واعلم ان في الاعراض انواعا واجناسا واشخاصا، كما في الجواهر، على ما قد منا قبل. واعلم ان بعض [16و] النوع لو توهم معدوما لم يعدم الجنس، الا ترى لو عدم البياض لم يعدم اللون لأنه يبقى السواد والخضرة والحمرة وغير ذلك، وكذلك لو عدم الإنسان لم يعدم الحي، لأنه يبقى الخيل والدجاج وغير ذلك ولو عدم الجنس لعدمت جميع الانواع. وهذا انتهاء الكلام في المدخل إلى علم المنطق والالفاظ الخمسة التي هي: الجنس والنوع والفصل والخاصة والعرض، وهو الذي يسميه الاوائل " ايساغوجي " واول من جمعه رجل يسمى فرفوريوس من اهل صور. والحمد لله رب العالمين كثيرا لا شريك له ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على محمد عبده ورسوله وسلم تسليما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 - 1 - كتاب الأسماء المفردة وهو اول ما بدأ به أرسطاطاليس من كتبه، وهو المسمى في اللغة اليونانية " قاطاغورياس "، معناه: العشر المقالات، فنقول وبالله التوفيق: [مقدمة أولى] : ان الاسماء التي يقع كل واحد منها على كثير، أي على جمعة اشخاص فانها يقع تحتها مسمياتها في جميع اللغات، اولها عن آخرها، على خمسة اوجه لا سادس لها: إما ان يكون المسمى يوافق المسمى الثاني في اسمه وحده معا، كقولنا: فرس وفرس، أو كقولنا: حي وحي؛ فان كل واحد من هذين المسميين يوافق الآخر في اسمه، لأنه لفظ واحد، ويوافقه أيضاً في حده، لأن كليهما حساس متحرك بارادة، وكلاهما أيضاً صهال محدد الآذان مستعمل في الركوب، متوهم منه السرعة في الجري، وهذا النوع يسمى " الاسماء المتواطئة " وان شئت قلت: المتفقة. والثاني أن يكون المسمى يخالف المسمى في اسمه وحده، كقولنا: رجل وحمار، فان هذين مختلفان، وهذا النوع يسمى " الأسماء المختلفة ". والثالث: ان يكون المسمى يوافق المسمى في اسمه ويخالفه في حده، كقولنا: " نسر " للطائر المبالغ في الاستعلاء في الجو الذي يأكل الجيف، وقولنا لبعض اعضاء الفرس؟ حافر الفرس - نسر، وقولنا، نسر، للنجم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 الذي في السماء وما أشبه هذا مما هو كثير في اللغة، وهذا النوع يسمى " الأسماء المشتركة "، ومنها يقع البلاء كثيرا في المناظرة، فيتنازع الخصمان ويكثران الهراش وأحدهما يريد معنى والآخر يريد معنى، وهذا لا يقع إلا بين جاهلين أو جاهل [16ظ] وعالم أو سوفسطانيين أو سوفسطاني ومنصف، ولا يقع ابدا بين عالمين منصفين بوجه من الوجوه، ولا يسلم من ذلك إلا من تميز في هذه الصناعة وأشرف عليها وقوي فيها، فانه لا يخفى عليه من معاني الكلام شيء. والرابع يكون المسمى يوافق المسمى في حده، ويخالفه في اسمه، مثل قولنا: سنور وضيون (1) وهر، فان هذه ألفاظ مختلفة، وهي كلها واقعة وقوعا واحدا على كل شخص من أشخص النوع المتخذ في البيوت لصيد الفأر الذي يلج في السؤال عند الأكل، وتشبه الاسد في خلقه، وهذا النوع من الاسماء يسمى " المترادفة ". والخامس: أن يكون المسمى يخالف المسمى في حده (2) وفي اسمه الذي خص نوعه به إلا أنهما يتفقان في صفة من صفاتها أوجبت لهما الاشتراك في اسم مشتق منهما، إما جسمانية وإما نفسانية، حالا كانت أو هيئة، فالجسمانية كقولنا: ثوب أبيض، وطائر أبيض، ورجل أبيض، فان كل واحد، من هذه المسميات حده غير حد صاحبه، واسمه في نوعه غير اسم صاحبه، وقد اشتركت كبها في أن سمي كل واحد منها أبيض. والنفسانية كقولنا أسد شجاع ورجل شجاع، وهذا النوع من الاسماء يسمى " المشتقة ". وهذه الاقسام الخمسة تقع على الاجناس والانواع وأصناف الانواع التي كأنها انواع، كقولنا: رجل وامرأة وذكر وأنثى. وأما الاسماء المختصة فهي التي تقع على ذات المسمى وحده، أو على كل شخص من أشخاص ما، وهي أن تكون المسميات منها وضعت لها أسماء تختص بالمسمى أو بأشخاص ما لتمييز بعضها من بعض، فاما تتفق فيها واما تختلف، وقد تبدل ولا تستقر استقرارا لازما، إنما يكون باختيار المسمى،   (1) ضيون: ضيوز. (2) وقعت لفظة " حده " فبل " من هذه المسميات ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 ولو شاء لم يسمي بذلك، ولم يقصد به الابانة عن صفات مجتمعة في المسمى دون غيره، كما قصد في الأول، ولا اشتقت للمسمى بها من صفة فيه أصلا وهي يسميها النحويون " الاسماء الاعلام " وذلك نحو قولك: زيد وعمرو أو زيد وزيد أو أسد في اسم رجل أو كافور في اسمه أيضاً وما أشبه ذلك. فهذه أقسام المسميات كلها تحت الاسماء، ووقوع الاسماء كلها على المسميات ولا مزيد. وأسماء الله تعالى التي ورد النص بها أسماء أعلام غير مشتقة من شيء أصلا. وأما صفات الفعل له تعالى فمشتقة من أفعاله، كالمحيي والمميت، وما أشبه ذلك وتلك الأفعال أعراض حادثة في خلقه، لا فيه، تعالى الله عن ذلك [17 و] . ب -[مقدمة ثانية] باب من أقسام الكلام ومعانيه قد بينا، قبل، أن الكلام ينقسم قسمين: مفرد ومركب، فالمفرد لا يفيدك فائدة أكثر من نفسه، كقولك: رجل وزيد وما أشبه ذلك؛ والمركب يفيدك خبرا صحيحا، كقولك: زيد أمير، والإنسان حي وما أشبه ذلك. والمركب كله ينقسم أقساما خمسة لاسادس لها وهي: إما خبر وإما استخبار، - وهو الاستفهام - وإما نداء وإما رغبة وإما أمر. فهذه الأربعة منها لا يقع فيها صدق ولا كذب، ولا يقوم منها برهان أول. على من ينكر وجوب الأمر، وأما بعد وجوب قبول الأمر لخبر يوجبه أو باتفاق من الخصمين فالامر حينئذ مبرهن على صحة وجوبه، وليس برهانا؛ وقد ينطوي في الأمر خبر، وذلك أن القائل: افعل كذا، ينطوي فيه أنك ملزم أن تفعل كذا. وأما النهي فهو نوع من أنواع الأمر، لأنه أمر بالترك. وكذلك ينطوي في الطلبة، وهي الرغبة، إخبار بأن الراغب يريد الشيء المرغوب فيه، ولا تظن أن قولك آمرا: قم: أنه اسم مفرد، فذلك ظن فاسد، بل هو مركب لأن معناه " قم انت ". وكذلك قولك مخبرا عن غائب: " قام هو "، ولو انفرد في حقيقة المعنى دون ضمير، لما تم ولكان ناقصا فاعلمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 وكذلك قولك مستفهما: أقام؟ أي هل قام هو. وأما إذا خرجت الرغبة على غير وجهها، فان الكذب قد يدخل فيها، كمن قال وهو صحيح: اللهم أصحني، وإنما الحق أن يقول: اللهم أدم صحتي. وكذلك الاستفهام، إذا استفهم عن باطل، كسائل سأل: لم اشتد الحر في الشتاء؟ وأما الخبر ففيه يدخل الصدق والكذب، وفيه تقع الضرورة والاقناع، وفي فاسد البنية منه يقع الشغب، ومن صحيحه يقوم البرهان على كل قضية في العالم، وإياه قصد الأوائل والمتأخرون بالقول، وتحته تدخل جميع الشرائع، وكل موات من الطبيعات وغيرها اتفق الناس عليه أو اختلفوا فيه. وهو يصح بوجوه: أحدها أن يكون معلوما صحته بأول العقل أو بالحواس ومنها ما يصح ببرهان، يقوم على صحته من مقدمات تنتج نتائج على ما يقع في هذا الديوان إن شاء الله عز وجل، ومنها ما ينقله صادق قد قام على صدقه برهان مما قدمنا، أو نقله مصدقون بضرورة، على ما قد وقع في غير هذا القول؛ وقد ظن قوم أن القسم والشرط والتعجب والشك، وجوه زائدة على ما ذكرنا، وذلك ظن فاسد [17 ظ] لأنها كلها واقعة تحت قسم الخبر وراجعة إليه. أما القسم فانه إخبار بارادتك إذا قلت: " والله " فان قولك ذلك إنما هو أحلف معظما لأمر الله تعالى. وأما الشرط فانه خبر واضح لا خفاء به؛ والشك كذلك؛ والتعجب إخبار بالحال التي تعجبت منها. وقد ظن قوم أن من الخبر ما لا يدخله صدق ولا كذب، وهو إخبار الهاذي بأمر متيقن صحته، لم يقصده، كقوله: لا إله إلا الله، مات فلان فهذان خبران صحيحان. قال أبو محمد: وهذا الظن غير صحيح لأنه لا يكون مخبرا إلا من قصد الخبر، والخبر مع الخبر من باب الاضافة، فلا خبر إلا المخبر، والهاذي ليس مخبرا بكلامه، فكلامه ليس خبرا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 وإذا قد وافانا ذكر الامر فلنقل على أقسامه قولا مجيزا؛ وذلك أن الامر ينقسم اقساما منها: الواجب الملزم، وهو عنصر الامر لا ينقل عنه لفظ الامر الا بدليل برهاني؛ ومنها المحضوض عليه غير الملزم، ومنها المسموح فيه، وهو الذي تركه افضل؛ ومنها التبرؤ كقول القائل: اعمل ما شئت؛ ويكون الآمر غير راض عن المأمور؛ ومنها الوعيد كقوله تعالى: {اعملوا ما شئتم} (40 فصلت: 41) ومنها التهكم (1) كقوله تعالى: {ذق إنك انت العزيز الكريم} (49 الدخان 44) ومنها تقرير كقول المعصي: فد نهيتك فاصبر واحتمل ما أتاك؛ ومنها تعجيز كقوله تعالى {قل كونوا حجارة أو حديدا} (50 الاسراء: 17) ومنها ما هو بمعنى الدعاء، كقول القائل: ابعد، اخسأ؛ ومنها زجر؛ كقول القائل: اخسئوا فيها، ومنها تكوين، وليس هذا القسم الا للباري تعالى وحده في أمره ما يريد ان يكون بالكون، وما يريد ان يعدم بالتلف. ومنه أمر بمعنى الهي كقول القائل لمن تقدم نهيه إياه عن شيء: افعله وسترى ما يكون أو وادري انك رجل. وما اشبه ذلك؛ ومنه أمر بمعنى التعجب كقوله: أحسن بزيد أي ما أحسنه. ثم تنقسم الأسماء أيضا أقساما أربعة إما حاملة ناعتة، وإما حاملة منعوتة، وإما محمولة منعوتة، وإما محمولة ناعتة. ومعنى قولك: ناعتة، أي أنها تقال على جماعة أشخاص تحتها فتسمى تلك الاشخاص كلها بذلك الاسم، ومعنى قولنا: منعوتة، أي تسمى باسم واحد وهي جماعة، ومعنى قولنا: حاملة أي أنها تقوم بأنفسها وتحمل غيرها، ومعنى قولنا: محمولة: أي لا تقوم بأنفسها. والحمل المذكور حملان: حمل جوهري وحمل عرضي، فالجوهري يكون أعم ويكون مساويا، ولا يكون أخص أصلا، والعرضي [18و] يكون أعم ومساويا وأخص، فالحمل الجوهري الاعم مثل قولك: الإنسان حي، فان الحياة محمولة في الإنسان حملا جوهريا، إذ لولا لم يكن إنسانا، والحياة أيضا في غير الإنسان موجودة. فلذلك قلنا إن هذا الحمل أعم؛ والحمل الجوهري المساوي مثل كون الحياة في الحي فانها مساوية للحي، لا تكون حياة في غير حي، ولا يكون حي في العالم بلا حياة؟ وتسميتنا الخالق تعالى حيا ليس على   (1) التهكم: القسم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 هذا الوجه، وإنما سميناه بذلك اتباعا للنص ولولا لم يجز لنا أن نسميه حيا إذ الحياة ليست إلا قوة تكون بها الحركة الارادية والحس، وكلا الأمرين منفي عن الباري عز وجل. وليست أسماؤه عز وجل مشتقة أصلا ولا واقعة تحت شيء من الأقسام الخمسة التي ذكرنا، لكنها أسماء أعلام فقط، لم يوجب تسميه تعالى بها دليل، حاشا أننا أمرنا تعالى بأن نسميه بها وندعوه بها ونناديه بها، لا إله الا هو. وإنما دل البرهان على أنه تعالى أول حق واحد خالق فقط ثم نخبر عنه بأفعاله، عز وجل، فقط من إحياء وإماتة وتصوير وترتيب ونحو ذلك، أو ما أمرنا أن نسميه به، دون ان يكون هنالك شيء أوجب تسميته بذلك. ولا يجوز ان يكون حمل جوهري أخص أصلا، حينئذ كان يكون غير جوهري، إذ الجوهري هو ما لم يتسم جميع النوع الا به، لا بما يكون في بعضه دون بعض. وأما الحمل العرضي الاعم فكقولنا للزنجي: أسود، فان الأسود اعم من الزنجي، لان السواد في الغرب والسبج والمراح (1) . اما الحمل العرضي المساوي فكقولنا للأنسان: ضحاك، والضحك لا يكون في غير الإنسان، ولا يكون إنسان الا ضحاكا. واما الحمل العرضي الاخص فكقولنا في بعض الناس: فقهاء وحاكة وما اشبه ذلك، فان هذه الصفات لا توجد في كل إنسان، لكن في بعضهم، ولا توجد في غير إنسان؛ وقد يكون من هذا الحمل ما هو أخص الخاص، كقولك هذا الشخص هو زيد. واما الحمل الممكن فيكون أعم، كالسواد هو في بعض الناس وغيرهم، ويكون أخص كالطب، ليس الا في بعض الناس فقط لا في جميعهم، ولا في غيرهم، ولا يكون مساويا، كالضحك، للإنسان. وأما الحمل الواجب فينقسم قسمين: عام كالحياة للحي، ومساو كالضحك للإنسان، ويكون أعم كالحياة له ولغيره، ولا يكون اخص؛ والنفي في الممتنع يكون اعم فقط، كنفي الجمادية عن الإنسان، وربما وجد مساويا،   (1) والمراح: كذا في ص ولعلها: والحرار، اما السبج فهو الخرز الأسود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 ولا يوجد اخص فيما اوجبه الطبع للنوع [18ظ] . واما الاشياء الحاملة الناعتة فكقولك: الإنسان الكلى، أي الواقع على كل اشخاص الناس، وهو الذي اراد الله تعالى بقوله: (ان الإنسان خلق هلوعا) (19المعارج: 70) فانه تعالى لم يرد إنسانا بعينه، لكنه عز وجل، عنى النوع كله. فأما الإنسان الكلي وقد يقال أيضاً: الإنسان المطلق، هو حامل لصفاته من النطق والحياة واللون والطول والعرض وغير ذلك، وناعت لزيد وخالد وهند وزينب، ولكل شخص من الناس، وهو المسمى الإنسان الجزئي، فزيد يسمى إنسانا، وعمرو يسمى إنسانا، وكل واحد من الناس كذلك؛ فالإنسان الكلي ناعت لكل من ذكرنا، أي مسمى به كل واحد من الناس. وهذا القسم لا يكون محمولا أصلاً، أي لا يكون عرضا ألبتة، لان العرض محمول لا حامل، والجوهر حامل لا محمول. واما الحاملة المنعوتة: فالأشخاص الجوهرية، مثل قولك: زيد وعمرو وكلب خالد وجمل عبيد، وغير ذلك، فان هذه كلها منعوتة تسمى كلها باسم واحد يجمعها كما بينا، وهي حاملة لصفاتها من العلم والشجاعة والطول والعرض والنطق وغير ذلك من سائر الصفات، وهذه أيضاً لا تكون محمولة ألبتة. واما المحمولة الناعتة: فكقولنا العلم بأي نوع من كيفيات النفس، وتحت العلم أنواع كثيرة، هو لها جنس جامع، كالفقه والطب والفلسفة والنحو والشعر وغير ذلك، وكل واحد م هذه يسمى علما، فالعلم ناعت لها، وكل واحد من هذه العلوم نوع يقع تحت أصناف منه وأشخاص أبواب ومسائل، كوقوع القبائل واشخاص الناس تحت قولك: الإنسان، وهكذا كل نوع تحت كل جنس، فسبحان مدبر العالم كما شاء، لا اله غيره. ثم نرجع إلى تفسير الناعتة المحمولة فنقول: ان العلم الكلي محمول في انفس النحويين، وكذلك كل علم في انفس اهله، ونقول: ان كل علم من العلوم ناعت لما تحته من الابواب والمسائل، أي ان جميعها يسمى باسم ذلك العلم، فكل مسألة من مسائل النحو تسمى نحوا أو علما، وكل مسألة من مسائل الفقه تسمى فقها وعلما، وكل قضية من قضايا الطب تسمى طبا وعلما، وكل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 لفظة من اللغة تسمى لغة وعلما، وكل حديث من الخبر يسمى خبرا وعلما، وهكذا في كل علم. وهذه المسائل تسميها (1) الأوائل " علما جزئيا " وعلم كل واحد من الناس أيضاً يسمى علما جزئيا، وجميع علوم الناس تسمى: " علما كليا ". واما المحمولة المنعوتة فهي علم كل امرئ على حياله [19و] وهي أيضاً مسائل كل علم، فان محمول في نفس العالم به، وهي منعوتة باسم العلم الجامع لها، أي أنها كلها تسمى علما؟ كما قلنا -. واعلم ان الناعت قد يكون منعوتا، الا انه لا بد في اول طرفيه من ناعت لا ينعته شيء، وهو جنس الأجناس الذي قدمنا أولا، ولا بد في آخر طرفيه من منعوت لا ينعت شيئا، وهو الأشخاص من الجواهر؟ على قدمنا - واعلم أن الحامل لا يكون محمولا أصلا، والمحمول لا يكون حاملا أصلا؟ لنا قد بينا من أن الحامل هو القائم بنفسه، والمحمول هو الذي لا يقوم بنفسه، فمحال لا يتشكل في العقل أن يكون شيء قائم بنفسه لا قائم بنفسه. وقد أضجرني بعض أصدقائنا ببلية أدخلها عليه حسن ظنه بكلام قرأه لكثير الهذر المكني بأبي العباس المعروف بالناشيء، فكان ابدا يسومني الفرق بين المحمول والمتمكن، ولم يعنه الخالق تعالى إلى وقتنا الذي كتبنا فيه كتابنا هذا، على فهم الفرق بينهما، وهو ان المحمول إنما تقوله في الصفات التي تبطل ببطلان ما هي فيه، كبياض زيد وحياته، فان زيدا إن بطل، بطلت حياته وبياضه، بلا شك، وقد يبطل أيضا بياضه ولا يبطل زيد بل يكون صحيحا سويا إما لشحوب واما لبعض الحوادث. والمتمكن إنما نقوله في الجواهر التي لا تبطل ببطلان ما هي فيه ككون زيد في البيت ثم ينهدم البيت ويصير رابية أو هوة (2) ، وزيد قائم صحيح ينظر في أسبابه، ويزايل زيد البيت ولا يبطل واحد منهما وهكذا أجزاء الجسم في الجسم إنما هي متمكنة لا محمولة، وهذا فرق لا يختل على ذي حس سليم أو إنصاف. وبالجملة، فكون الجسم في الجسم   (1) تسميها: تسميه. (2) رابية أو هوة: رامة أو هدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 تمكن، وهو غير الحمل الذي هو كون العرض في الجسم. وكل ما نعت نوعا فهو ناعت لأشخاص ذلك النوع، أي كل اسم سمى به نوعا فانه يسمى به كل شخص من أشخاص ذلك النوع، جوهرا كان أو غير جوهر. إذ ليس الجنس شيئا غير أنواعه، وليس الجنس وأنواعه شيئا غير الأشخاص الواقعة تحتها. واعلم أن فصول كل جنس من الاجناس فانه يوصف بها كل ما تحته من انواعه، وكل شخص من الاشخاص الواقعة تحت أنواعه، كالحساس فانه يقال على كل حي وعلى كل إنسان وفرس وحمار وعلى زيد عمرو وهند وسائر أشخاص الحيوان كله، وهكذا في جميع الأجناس والأنواع كلها. وقد قلنا أيضا: ان الأجناس تعطي كل ما تحتها من نوع أو شخص أسماءها وحدودها، أي ان اسم ذلك الجنس وحده يسمى به ويحد كل نوع تحته وكل شخص يقع تحت [19 ظ] كل نوع من أنواع ذلك الجنس. واعلم ان فصول كل نوع فأنها لا توجد في نوع آخر أصلا بوجه من الوجوه لا اسمه ولا حده، لان الفرس لا يسمى باسم الإنسان ولا يحد بحده، وكذلك كل نوع أبدا. [المقولات العشر] 1 - الكلام على الجوهر وهو أول الرءوس العشر التي قدمنا أنها أجناس الأجناس، لأنه حامل لها، وباقيها محمولة فيه، وهو قائم بنفسه، وهي غير قائمة بأنفسها. وسمت (1) الأوائل أشخاص الجواهر: " الجوهر الأوائل " تعنى بذلك زيدا وعمرا وبعير عبد الله وكلب خالد وثوب عمرو، وما أشبه ذلك. وسمت " الجواهر الثواني " لان الاولة على الحقيقة هي الأشخاص القائمة، وسكت ما في الأشخاص من الاعراض: " الاعراض الحق الأول " وسمت أنواعها وأجناسها التي في أنواع الجواهر وأجناسها: " الاعراض الثواني ".   (1) كذا ولعل فيه نقصا بعد قوله: وسمت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 واعلم أن الجواهر لا ضد لها أصلا، فان وضعت بالتضاد يوما، فإنما يراد أنها تتضاد كيفياتها فقط. وبهذا المعنى أن يكون الأول ضدا لخلقه لأنه عز وجل لا كيفية له أصلا والتضاد لا يكون إلا في كيفية على مكيف، فالبارى عز وجل ليس ضدا ولا مضادا ولا منافيا لا إله إلا هو. والجوهر لا يقال فيه أشد ولا أضعف أي لا يكون حمارا أشد في الحمارية من حمار آخر، ولا تيس أشد في التيسية من تيس آخر، ولا إنسان أضعف إنسانية من إنسان آخر، وكذلك الكمية أيضاً على ما يقع في بابها إن شاء الله عز وجل وإنما يقع التضاد والأشد والأضعف في بعض الكيفيات على ما يقع في بابها، إن شاء الله. ورسم الجوهر هو أن تقول: إنه القائم بنفسه القابل للمتضادات، فان النفس قائمة بنفسها تقبل العلم والجهل والشجاعة والجبن والنزاهة والطمع وسائر المتضادات من أخلاقها، التي هي كيفياتها، وكذلك كثير من الاجرام تقبل البياض والسواد اللذين احدهما لون مفرق للبصر وهو البيض، والثاني جامع للبصر وهو السواد. وكثير منها يقبل الحر والبرد والمجسة، التي هي خشونة أو املاس، والرائحة التي هي طيب أو نتن، وغير ذلك من الصفات التي تقع عليها الحواس؛ فكل قائم بنفسه قابل للمتضادات لأنه حامل لها في ذاته، وبهذا خرج الباري عز وجل عن ان يكون جوهرا أو يسمى جوهرا، لأنه تعالى ليس حاملا لشيء من الكيفيات أصلاً [20 و] فليس جوهرا. أما ما (1) يظن قوم من ان الكيفية تقبل الأضداد لأن اللون يقبل البياض والحمرة فذلك ظن فاسد، لأن انواع الكيفية بعضها من الأضداد أنفسها، فبي متضادة بذاتها، لا حاملة للتضاد في ذاتها، بل هي الأضداد المحمولة انفسها، والجوهر حامل لها كزيد، مرة هو صبي، ومرة هو شيخ، ومرة هو اصفر من الفزع أو المرض، ومرة هو اسمر من الشمس، ومرة هو حار لقربه من النار، واخرى بارد لقربه من الثلج، ومرة قاعدا ومرة قائما، وهو زيد نفسه. وكل هذه كيفيات واعراض متعاقبة عليها ذاهبة وواردة، فبعضها متضاد وبعضها مختلف. وكذلك الكلام والفكر الذي هو التوهم لا يقبلان الأضداد   (1) اما ما: مما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 قبول الجواهر للأضداد، لأن الكلام والتوهم اما ان يكون صدقا واما ان يكون كذبا، بصحة معنى الشيء المتوهم، أو الكلام، أو ببطلانه، وليس الصدق والكذب متعاقبين على كلام واحد، بل هما كلامان: أحدهما صدق، والآخر كذب، وكذلك التوهم أيضاً. 2 - الكلام على الكمية؟ وهي العدد - ذكر الأوائل أن الكمية تقع على سبعة أنواع: أولها العدد ثم الجرم ثم السطح ثم الخط ثم المكان ثم الزمان ثم القول؛ ثم تنقسم هذه السبعة على قسمين: أحدهما منفصل والآخر متصل؛ ما كان له فصل مشترك وهو خمسة من هذه السبعة وهي: الجرم والسطح والخط والمكان والزمان، فالفصل المشترك للجرم هو: السطح، والفصل المشترك للسطح هو الخط، والفصل المشترك للخط هو النقطة، والفصل المشترك للزمان هو الآن، وللمكان أيضاً فصل مشترك. والمنفصل هو الذي له ترتيب وليس له فصل مشترك وهو: العدد والقول. قال أبو محمد علي بن احمد؟ رضوان الله عليه - ونحن ان شاء الله، عز وجل مفسرون ما ذكرنا في هذا، على ما شرطنا في أول الكتاب، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فنقول: ان القسم الذي هو العدد من هذه السبعة هو الكمية على الحقيقة الذي لا كمية غيره، لكنه يقع على سائر الأنواع التي ذكرنا، فوقوعه على الجرم إنما هو بمساحته: فان كل جرم في العالم، فله مساحة، ودق أم عظم، والمساحة عدد يوجد بمقدار متفق عليه: أما شبر واما ذراع واما ميل [20 ظ] واما فرسخ واما غلط ظفر أو شعرة، أو اقل أو اكثر، فلهذا ادخلوا الجرم في باب الكمية. والعدد أيضاً واقع على الاجرام بوجه آخر، وهو عدد أجزائه بعد انقسامها، أو عدد الأشخاص ان أردت إحصاء جملة منها، والاجرام هي الاجسام، فتعد ما أردت عدده بواحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، حتى تبلغ إلى ما تريد إحصاءه منها. وقد رأيت بعض من يدعي هذا العلم يتعقب على الأوائل إدخالهم الجرم تحت الكمية، وهذا يدل على مغيب هذا المعترض عن هذا العلم، وعن الحقيقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 المقصودة، ولو ان مثل هذا الصنف من الناس ينصفون أو يتركون التعلم لكان أصون للعلم واقل ضررا على أهله واعظم للمنفعة، لكن صدق الله عز وجل إذ يقول: {ولا يزالون مختلفين الا من رحم ربك، ولذلك خلقهم} (119 هود: 11) . والجرم المذكور هو كل طويل عريض عميق. واما وقوع العدد على السطح فهو نهاية من جميع جهاته الست، وهذا أيضاً وجه من وجوه وقوع العدد على الجرم، فانه لا بد لكل جرم من جهات ست، وهو فوق واسفل وامام ووراء ويمين وشمال، ولا بد لكل جرم من هذه الجهات الست، ولا سبيل إلى جهة سابعة، والست عدد، فهذا عدد لازم واقع على كل جرم. ووقوع العدد بالمساحة على الجرم هو نفس وقوعه على السطح. ونقول أيضاً في زيادة شرح في السطح: ان السطح هو منقطع كل جرم لاقى جرما، [إما] هواء وإنا أرضا غير ذلك، أي جرم كان؛ والمساحة تقع على السطح، على ما قدمناه، إذ لكل سطح مقدار ما معدود مذروع كما وصفنا آنفا. وأما وقوع العدد على الخط هو متناهي كل سطح وانقطاعه، وأمثل ذلك بمثال ليكون زائدا في البيان فأقول: ان السكين جرم ومنتهى جانبيه سطح، ومتناهي كل جانب من جوانبه خط، فمن أول طرفه الحاد إلى منتهاه خط، وكذلك ما أخذ من تناهي سطحه مع حرف قفاه فهو خط. ونهايته هي النقطة، ولا يقع على النقطة عدد ولا مساحة ولا ذرع لانها ليست شيئا أصلا، وإنما هو اسم عبر به عن الانقطاع والتناهي وعدم تمادي ذلك الجرم فقط؛ فالخط المذكور له أيضا مساحة وهي مذروعة معدودة، وهذا أيضا وجه من وجوه لعدد على الجرم. وأما وقوع العدد على المكان، فالمكان أيضا جرم من [21و] الاجرام لأنه أما ارض واما هواء وإما ماء واما بساط وغير ذلك، أي جرم كان فيه جرم آخر، ولكل شيء مما ذكرنا مساحة وذرع معدود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 وأما وقوع العدد على الزمان، فالأزمنة ثلاثة: حال وماض (1) ومستقبل فهذا وجه من وجوه وقوع العدد على الزمان. وأيضا فالزمان هو مدة بقاء الجرم ساكنا أو متحركا، والحركات معدودة بأولى وثانية وهكذا إما زاد، فالعدد لازم وواقع عليه من هذا الوجه، وإلا فالزمان ليس عددا محضا مجردا لكنه مركب من جرم وكيفيته في سكونه أو حركته ومن عدد تلك الكيفية. وأما القول: فإنما اراد الأوائل بذلك عدد نغم اللحون، وعدد معاني الكلام، فان لكل ذلك عددا محصورا في ذاته، فمنه ما نعلمه ومنه ما يغمض عنا. وأرادوا بذلك أيضا الحروف المسموعة بالصوت المندفع من مخارج الكلام، وهي التي تسميها العامة: " حروف الهجاء " وهي التي تبتدئ بأبجد وبألف ب، ت، ث؛ وهي محصورة معدودة لا مزيد فيها في الطبيعة البتة، وان كان قد تفاوتت أعدادها في اللغات، فهي في العربية ثمانية وعشرون حرفا، إلى ذلك انتهى تحصيلنا فيها؛ واخبرني المخبر، وهو أبو الفتوح الجرجاني انها تبلغ في اللغة الفارسية أربعين حرفا، ولم استخبره عن الكيفية في ذلك، الا إن كانوا يعدون منها الأصوات الحادثة من إيشاع الحركات الثلاث التي هي الرفع والنصب والخفض، فحينئذ تبلغ واحدا واربعين حرفا، وللكلام في هذا المعنى مكان آخر. واما العدد نفسه فهو: اثنان ثلاثة أربعة فما زاد، والواحد مبدأ وليس عددا، كما سنبينه في آخر هذا الباب، ان شاء الله عز وجل. واما ما ذكرنا آنفا ان من العدد ما هو متصل وما هو منفصل، وما ذكرنا في الفصل المشترك، فالمعنى في الفصل المشترك انه ما كان من انواع ما يقع عليه العدد له نهاية إذا التقت بنهاية شيء آخر من نوعه اتحد الشيئان معا، أي صارا شيئا واحدا، كالمجرمين فانهما إذا التقيا بعد ان كانا مفترقين، وتمازجا، فانهما يصيران جرما واحدا كماء جمعته إلى ماء، فصار ماء واحدا، وترابا،   (1) وماض: وماضي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 واحدا إلى تراب، وحيطا إلى حيط، وما اشبه ذلك، وهذا إنما [يكون] بتلاقي سطحيهما، وكذلك إن التقى سطح وسطح، فصارا خطا واحدا، بعد ان كان السطحان [21ظ] مفترقين، كسطح عجين ضممته إلى سطح عجين آخر، فصارا عجيبا واحدا، وما اشبه ذلك. وكذلك القول في التقاء الخطين، وكل ذلك إنما هو بضم جرم إلى جرم، وكذلك مكان كان فيه زيد، ومكان كان فيه عمرو إلى جانبه، فقاما عنه، فصار المكانان مكانا واحدا، فهذا هو الفعل المشترك بين الجرمين الذي هو آخر الأول وأول الثاني وليس جزءا لهما ولا لواحد منهما وإنما هو نهاية ارتفعت الاجتماع الحادث. وكذلك الفصل المشترك للزمان، فهو قولك الآن، فان الآن نهاية للماضي وابتداء للمستقبل، فإذا أتى المستقبل، صار الذي كان الآن ماضيا، مع الماضي قبله، فاتحدا أي صارا زمانا واحدا ماضيا، وقولك " الآن " هو حال لا ماضيا ولا مستقبلا، فهذا هو الذي قلنا فيه إنه متصل الشيئان منه فيصيران شيئا واحدا. وأما قولنا في العدد والقول: انهما منفصلان وان لهما ترتيبا وليس لهما فصل مشترك، فهو أن الحروف التي ذكرناها آنفا وهي حروف الهجاء فانه لا يجوز أن تجتمع الباء مع التاء فيصيران معا باء واحدة وتاء واحدة أو حرفا واحدا وكذلك الباء والتاء مع التاء وكل حرف مع مثله أو مع خلافه كذلك ولا فرق، بخلاف ما ذكرناه قبل من تصيير المكانين مكانا واحدا والجرمين جرما واحدا والسطحين سطحا واحدا والخطين خطا واحدا. لكن لهذه الحروف ترتيب في ضم إلى بعض، يقوم من ذلك الترتيب فهم المعاني في الكلام؛ وكذلك النغم، لا يجوز أن تصير النغمتان غمة واحدة ولا المعنيان معنى واحدا، ولكن لكل ذلك ترتيب معلوم، فلهذا سمى القول منفصلا، وقيل فيه: إنه له فصل مشترك. وكذلك العدد فانه لا يجوز أن تضم ثلاثة قد انتهت تبتدئها فتصير الثلاثتان ثلاثة واحدة. وهكذا كل عدد إلا أن يضم بعض الأعداد إلى بعض ترتيبا ونظما معلوما يعرف به نسبة بعضها من بعض وحدوث أعداد من جمع بعضها إلى بعض، فهذا غاية البيان في هذا الباب، ولم نترك فيه شيئا من اللبس بحول الله تعالى وقوته الواردة علينا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 الموهوبة من قبله عز وجل وله الحمد والشكر، لا إله إلا هو. وذكر الاوائل أيضا قسما آخر لأنواع الكمية التي ذكرنا وهي أيضا تنقسم قسمين: أحدهما: للذي هو [22و] وضع والآخر لغير ذي وضع وتفسير ذلك أن قوله: " ذو وضع " عبارة عما ثبتت أجزاؤه، وقوله " ليس ذا وضع " إنما هو عبارة عما لا تثبت أجزاؤه. فالذي ثبتت أجزاؤه هو الجرم والسطح والخط والمكان لأن أجزاء كل واحد من هذه ثابتة مع مرور العدد عليها، فانك كلما ذرعت المكان أو الجرم كان ما ذرعت منها باقيا مع ما يستأنف ذرعه من باقيه. والخط والسطح معدود الذرع مع عدد ذرع الجرم الحامل لهما. وأما الذي هو غير وضع فهو الزمان والعدد والقول، فانك إذا قلت أمس أو عددت ساعات يومك وجدت كل ما تعد من ذلك فانيا ماضيا غير ثابت ولا باق، وهكذا ينقضى الأول فالأول من الزمان، وكل ما تقضى منه فهو فان معدوم، بخلاف ما ذكرنا، قبل، من بقاء أجزاء الجرم. ونجد أجزاء الزمان التي لم تأت بعد، معدومة، بخلاف جميع أجزاء الجرم، وما طواه العدد معه من سطوحه وخطوطه. وما أنت فيه من الزمان فلا يثبت ثباتا تقدر على إقراره وإمساكه أصلا بوجه من الوجوه، لكنه يثبت ثم ينقضى بلا مهلة، وهكذا أبدا. وكذلك أجزاء القول، إذا تكلمت عن حروفه ونظمه ومعانيه، فان كل ما تكلمت به من ذلك فقد فني وعدم، وما لم تتكلم به من ذلك فمعدوم لم يحدث بعد، والذي أنت فيه من كل ذلك لا قدرة لك على إثباته ولا إمساكه ولا إقراره أيضا أصلا، بوجه من الوجوه، لكن ينقضى أولا فأولا بلا مهلة، فسبحان مخترع العالم ومدبره. وأما من ظن أن الكيفيات قد تدخل تحت الكمية أيضا وذلك لأنه سمع الناس يقولون: بياض كثير وبياض قليل، فذلك ظن فاسد لأنه إنما يعني بذلك سطح الجرم الحامل للون أو ضيقه وقلة ذرعه، وإنما الكية هاهنا لمساحة الجرم الحامل كما قدمنا قبل، وكذلك أيضاً من قال: عمل كثير أو طويل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 فإنما ذلك لكثرة الزمان وطوله، ليس للكمية ضد ألبتة، ليس للذرع ضد، ولا للشبر ضد، وكذلك سائر مقادير الكمية. وكذلك من ظن أن الكثير ضد القليل، والكبير ضد الصغير فظنه فاسد، وإنما ذلك من باب الاضافة، إذ ليس في العالم شيء كبير بذاته، ولا صغير بذاته، وإنما الكبير كبير بالإضافة إلى ما هو أصغر منه، والصغير صغير بالإضافة إلى ما هو اكبر منه. ألا ترى الخردلة، وكذلك الأرض صغيرة بالإضافة إلى الفلك، ولا جزء وإن دق إلا ومتوهم [22 ظ] أدق منه. وكذلك الفلك الأعلى الذي لا شيء بالفعل اكبر منه، فالمتوهم في قوة الخالق تعالى الزيادة فيه، وإحداث ما هو اعظم منه. وقد نقول: جبل صغير، وخردلة كبيرة بالإضافة إلى جبل اكبر منه، وبالإضافة إلى خردلة أخرى اصغر منها، فلو كان الصغير ضدا للكبير لكان ضدا لنفسه لأنه كبير من جهة صغير من أخرى، وهذا محال. وهكذا القول في القليل والكثير، ولا فرق، فان المائة قليلة بالإضافة إلى الألف، وكثير بالإضافة إلى العشرة، وهكذا كل عدد فمتوهم الزيادة عليه أبدا. إلا أن كل ما خرج منه إلى الفعل فمتناه (1) أبدا. ولو كان عشرة في مدينة لكان ذلك عددا قليلا جدا، فلو كانوا مع رجل وامرأة في بيت لكانوا عددا كثيرا جدا، وكذلك لو كانوا بنيه. واعلم أن الكثير والقليل والطويل والقصير والصغير والعظيم والحقير والجليل والدقيق والضخم والضئيل والغليظ والرقيق والجسيم واليسير والتافه والنزر كل هذه من باب الكمية وليس شيء منها موصوف به شيء في العالم على الإطلاق، لكن بالإضافة إلى ما فوقه وما دونه؟ على ما قدمنا -. والقبل والبعد أيضا مما يقع في العدد لأن الاثنين قبل الثلاثة، وتقع في الزمان، وتقع في الإضافة على ما تذكر في بابها إن شاء الله تعالى. والكمية هو كل معنى، حسن فيه السؤال بكم، الكمية لا تقبل الأشد ولا الأضعف. لست تقول خمسة من خمسة [في] انها خمسة، ولا أضعف منها في ذلك أيضا، هكذا لا تقول: زمان أشد زمانية من   (1) فمتتناه: فمتناهي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 زمان ولا أضعف. وخاصة الكمية لا توجد في غير الكمية، ولا يخلو منها نوع من أنواع الكمية فهي مساو ولا مساو وكثير وقليل وزائد وناقص، فانك تقول هذه العشرة مساوية للثمانية والاثنين، وغير مساوية للثمانية فقط، وهكذا في جميع أنواع الكمية. وهذه عبارة لم تعط اللغة العربية غيرها، وقد تشاركها فيها الكيفية، وهذا يستبين في اللغة اللطينية عندنا استبانة ظاهرة لا تختل، وهي لفظة فيها تختص بها الكمية دون سائر المقولات العشر. وللكيفية أيضا في اللطينية لفظ بها اختصاصنا بينا لا إشكال فيه، دون سائر المقولات، لا يوجد لها ترجمة مطابقة في العربية، فإنما يصار في مثل هذا إلى الأبعد من الأشكال على حسب الموجود في اللغة وبالله تعالى التوفيق [23 و] وبهذا الذي ذكرنا يتبين أن الواحد ليس عددا لان العدد هو ما مجد عدد آخر مساو له، وليس للواحد عدد يساويه، لأنك إذا قسمته لم يكن واحدا بل هو كسير حينئذ، وبهذا وجب أن الواحد الحق إنما هو الخالق المبتدئ ولجميع الخلق، وانه ليس عددا معدودا، والخلق كله معدود. 3 - باب الكيفية تكاد الكيفية تعم جميع المقولات التسع، حاشا الجوهر، لكنها لما كانت جوابا فيما سئل عنه بكيف، لم تعمها عموما كليا مطلقا، إذ من سأل: كيف هذا؟ لم يجب: إنه سبعة أذرع، ولا أنه أمس، ولا أنه في الجامع. والكيفية هو كل ما تعاقب على جميع الاجرام ذوات الأنفس، وغير ذوات الأنفس من حال صحة وسقم وغنى وعدم وخمول ولون، وسواء أكانت الأمور التي ذكرنا مزايلة: كصفرة الخوف وحمرة الخجل وكدرة الهم، أو كانت غير مزايلة كصفرة الذهب وخضرة البقل وحمرة الدم وسواد القار وبياض البلور. ومن الكيفيات أيضا جميع أعراض النفس من عقل وحمق وحزم وسخف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 وشجاعة وجبن وتمييز وبلادة وعلم وجهل ورضى وغضب وفسق وإقرار وانكار وبغض وحب، ومنها الطعوم والروائح والمجسات وتراكيب الكلام والحر والبرد والصور في جميع الأشكال وسائر الاعراض، كل ذلك كيفية، والتضاد لا يكون الا في الكيفيات خاصة، وليس يكون في كل كيفية، بل يكون في بعضها دون بعض، والكيفيات أنواع كثيرة جدا، ففي بعض أنواع الكيفية يقع التضاد، فيكون نوع منها ضدا لنوع آخر بذاتهما. ومن خواص الكيفيات أيضا أنه يكون بعضها أشد من بعض، وبعضها أضعف من بعض، كما كان بعض الكميات أكثر من بعض، وبعضها أقل من بعض. فتقول: ان صوت الرعد أشد من صوت البط وريح المسك أعبق من ريح الصندل، وطعم العسل أحلى من طعم الحنظل، وهكذا في الخشونة واللين والألوان وفي كثير من الكيفيات؛ وإنما ذلك منها فيما كانت له وسائط من ضدين، وكانت تقبل المزاج ومداخلة بعضها بعضا لا في كل كيفية على ما نبين في باب الكلام في التقابل ان شاء الله عز وجل. وأما استواء أشخاصها تحت النوع الجامع لها تحت الجنس فلا يجوز أن يقع في شيء من ذلك أشد ولا أضعف ولا [23ظ] يجوز أن نقول: لون اشد لونية من لون آخر، أي في أن كل واحد منها لون؛ ولسنا نعني بذلك الإشراق أو الانكسار، وكذلك لا يكون صدق أصدق من صدق آخر ولا كذب أكذب من كذب آخر وإنما يتفاضل هذا في الاثم والاستشناع فقط، وإلا فكذب المزاج كذب بحث، والكذب على الخالق عز وجل كذب بحث، وكذلك المحال كذب بحث، متساو كل ذلك في أنه كذب استواء صحيحا، لا تفاضل فيه، ولا أشد ولا أضعف، لكن بعضها أعظم إثما وأقبح في الشناعة من بعض. وكذلك لا يكون علم شيء أصح من علم آخر بشيء آخر، ولا جهل بشيء أكثر من جهل بشيء آخر، ولا أشد ولا أضعف. فان دخلت وسيطة الشك في شيء من ذلك، خرجت تلك الكيفية من أن تكون علما جملة واحدة، ولم يقع ذلك الظن تحت نوع العلم. وكذلك لا يكون سواد اشد من سواد آخر إلا وقد دخل أحد السوادين بياض شابه أو حمرة أو خضرة أو صفرة. وكذلك لا تكون سرعة أشد من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 سرعة إلا وقد داخل إحداهما توقف في خلال الحركة. وهكذا كل ما يقال فيه أشد وأضعف، فتأمل هذا بعقلك تجده صحيحا يقينا لا محيد لك عنه أصلا. وأما الخاصة التي تخص جميع الكيفيات ولا تخلو منها كيفية أصلا فهي شبيه ولا شبيه، فانك تقول هذا الصدق شبيه بهذا الصدق، وهذا الكذب غير شبيه بهذا الكذب، وهكذا في كل كيفية. وقد ذكرنا قبل أن هذه عبارة لم نقدر في اللغة العربية على أبين منها، ولهذا المعنى في اللطينية لفظة لائحة البيان غير مشتركة، لم توجد لها في العربية ترجمة مطابقة لها فصير إلى اقرب ما وجد رافعا للاشكال. والكيفيات أجناس وأنواع متوسطة، وأنواع أنواع، وذلك أن اللون نوع تحت الكيفية وجنس لما تحته، ثم البياض والحمرة والخضرة والصفرة أنواع تحت اللون وذوات أشخاص شتى، وهكذا كيفيات النفس: الفضيلية تحت الكيفية، والصبر نوع تحت الفضيلية، والحلم نوع تحت الصبر، وهذا كثير جدا. ونقول: إن الكيفيات تنقسم قسمين: جسمانية ونفسانية، فالجسمانية ما عمت الأجسام أو خصت بعضها كاللون والطعم والمجسة وغير ذلك، والنفسانية ما عمت النفوس أو خصت بعضها كالعقل والحمق والعلم والجهل والفكر والذكر والتوهم وسائر أخلاق النفس. ونقول أيضا: إن القسمين اللذين ذكرنا ينقسم كل واحد منهما قسمين: أحدهما ما كان بالقوة، وهو ما كان يمكن ظهوره إلا أنه لم يظهر بعد، كقعود القائم وكفر المؤمن وإيمان الكافر وغضب الحليم وحلم الغضبان [24و] وسواد ما يحمل الصبغ مما لو يصبغ بعد وما أشبه ذلك. والثاني ما كان بالفعل، وهو قد ظهر وعلم حسا أو بتوسط حس أو بالعقل، كحمرة الاحمر، وطول الطويل، وحلاوة الحلو وإيمان المؤمن وحلم الحليم وما أشبه ذلك، فهذا هو معنى ما نفهمه بالحكاية عن الأوائل أنهم يقولون: هذا الأمر بالقوة، وهذا الأمر بالفعل، وإنما يعنون بالقوة: الإمكان وما احتمل البنية أو الرتبة أن يوجد فيها أو بها، ويعنون بالفعل: الذي قد ظهر ووجد ووجب. ثم نقول: إن الكيفيات أيضاً تنقسم أحدهما يسمى: " حالا " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 وهو ما كان سريع الزوال كالغضب الحادث والطرب الحادث وحمرة الخجل وصفرة الفزع والقيام والعقود وما أشبه ذلك؛ والثاني يسمى " هيئة " وهو ما لم يعهده زائلا عما هو فيه، إلا أن يتوهم زواله ويبقى الذي هو فيه بحسبه: كطبع الشح وطبع النزق وطبع السخف وكزرقة الأزرق وفسطة الأفطس وما أشبه ذلك. وأما الكيفية الجسمانية فهي تع تحت الحواس وهي تنقسم: احدهما يحيل ضده إذا لاقاه إلى طبعه فيسمى ذلك " فاعلا " وهذا كالحر والبرد، فان الحر إذا لاقى بردا لا يقاومه أكسب حامله حرا، والبرد إذا لاقى حرا لا يقاومه أكسب حامله حرا. والقسم الثاني يضعف عن هذا الأمر منه ويكثر فيه فعل القسم الأول، فيسمى هذا القسم الثاني " منفعلا " وذلك مثل الرطوبة واليبس فان الحر إذا لاقى رطبا أيبسه، وقد يرطبه أيضا، بأن تصعد إليه رطوبة. ووقوع الكيفية الجسمانية تحت الحواس ينقسم خمسة أقسام: أحدها ما يدرك بحس البصر، والثاني ما يدرك بحس السمع، والثالث ما يدرك بحس الشم، والرابع ما يدرك بحس الذوق، والخامس ما يدرك بحس اللمس باليد أو بجميع الجسد. وكل هذه الحواس موصلات إلى النفس، والنفس هي الحساسة المدركة من قبل هذه الحواس المؤدية إليها. وهذه الحواس إلى النفس كالأبواب والأزقة والمنافذ والطرق. ودليل ذلك أن النفس إذا عرض لها أو شغلها شاغل بطلت الحواس كلها، مع كون الحواس سليمة، فسبحان المدبر، لا إله إلا هو. وأما الذي يدرك البصر فينقسم قسمين: أحدهما ما يدرك بالنظر بالعين مجردا فقط، وليس ذلك شيئا غير الألوان، والثاني ما ادركته النفس بالعقل والعلم وبتوسط اللون واللمس أو بها جميعا، كتناهي الطول والعرض، وشكل كل ذي شكل من مدور ومربع وغير ذلك، والحركة أو السكون أو [24 ظ] ضخم الجسم وضؤولته، وما أشبه ذلك. فانك لما رأيت اللون قد انتهى بتناهيه من كل جهة، علمت كيفية شكل ذلك الجرم، وكذلك لما رأيت اللون منتقلا من مكان إلى مكان علمت ان الحامل له منتقل ناقل له، وكذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 لما رأيت اللون ساكنا علمت ان حامله ساكن، وهذا كله يدركه البصير، والأعمى بالمس، كما قلنا في اللون، سواء سواء. فانك إن لمست مجسة الشيء منتقلة، علمت ان حامل تلك المجسة متحرك، وان لمستها ساكنة، علمت أن حاملها ساكن في مائية البصر وإدراكه. ومن هذا ما يدرك بتوسط اللون وحده والعقل فيوصلان إلى النفس ما أدركا وما فهم العقل بتوسط إدراكه وإدراك البصير معل، كالمعاني المفهومة من الخط في الكتاب، فانك بتناهي ألوان الخطوط تعلم الحروف التي من تألفها تفهم المعنى، وكمعرفتك بهيئة الإنسان لأنه خجل أو خائف أو مكسور أو غضبان أو ملك أو عالم وما أشبه ذلك فمن معرفتك برؤية اللون ومعرفة الصفات عرفت من هو المرئي وما هو. وللكلام في مائية البصر وإدراكه للألوان مكان آخر. ولكن نذكر منه ها هنا طرفا بحسب استحقاق هذا الديوان، وهو: ان البصر إذا لاقى ملونا وانقطع علمت ان حامله قد انتهى وانتهى طوله، وكذلك علمت أنه خرج من الناظرين خطان يقعان على المرئي بلا زمان وبتشكيل ذلك المرئي فيهما، وفي قوة الناظر قبول لجميع الألوان. وإنما قلنا بلا زمان، لأنك ترى الكواكب التي في الأفلاك البعيدة إذا أطبقت بصرك ثم فتحته بلا زمان. وكذلك إذا أطبقت بصرك ثم فتحته فانك ترى أقرب الأشياء إليك في مثل الحال التي رأيت فيها الكواكب لا في أسرع منها، فصح انه يقع على المرئي بلا زمان. وأيضا فان في الطريق إلى المرئي أشياء كثيرة لا يقع البصر عليها، أما بظلام حواليها، واما لاشتباه الألوان، فلو قطع الأماكن بنقلة زمانية لرأى الأقرب قبل الأبعد. وإنما قلنا بخروج الخطين من الناظرين دون الرأي الآخر الذي لبعض الأوائل، لانا نقدر على صرف ذينك الخطين كيف شئنا، بمرآة أخرى فترد قوة النظر إلى قفا الناظر. وقد ترد ذينك الخطين أيضا الأبخرة المتصاعدة والماء وغير ذلك، وبمرآة فيها فينعكس ذانك الخطان فترى وجهك. وكذلك ينعكس الصوت الخارج من الصائح قبالة الجبل بعد ان يقرع الجبل فيرجع إلى اذن ذلك الصائح، فيسمع صوته نفسه كأن مكلما آخر رد [25 و] عليه مثل كلامه، وفي هذا كفاية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 واما المحسوس بالسمع فينقسم قسمين: أحدهما الادراك يسمع الاذن نفسه بذاته بلا واسطة، لكن بمرقاة الهواء المندفع مما بين الصوت، أي شيء كان، وما يقرع أو ما يقرعه، بالطبع الذي ركبه فيه الباري عز وجل إلى اذن السامع. وهو يقطع الاماكن في مدة متفاوتة على قدر البعد والقرب وقوة القرع وضعفه، فلذلك صار بين اول القرع الذي هو عنصر الصوت وبين سماع السامع له مدة؛ وانا نستبين ذلك إذا كان المصوت منك على بعد جدا يصح ان له مدة كالذي يشاهد من ضرب القصار الارض بالثوب فنراه حين يقلعه بلا زمان ثم يقيمه حينا، وحينئذ يتأدى الينا الصوت. وهكذا القول في الرعود الحادثة مع البروق فإن البرق يرى اولا حين حدوثه في الجو بلا مهلة ثم يقيم حينئذ حينا ثم يسمع الرعد، ذلك تقدير العزيز العليم. والقسم الثاني هو ما تدركه النفس بالعقل والعلم وبتوسط الصوت مثل تأليف اللحون وتركيب النغم ومعاني الكلام المسموع وما اشبه ذلك، إذ إنما تأدى الينا ذلك بحاسة السمع وتوسطها. وبهذا القسم صح لنا ان نقول سمعنا كلام الله عز وجل وسمعنا كلام النبي صلى الله عليه وسلم وسمعنا كلام فلان وفلان ممن لم نشاهده وقدم زمانه من السالفين من البلغاء والشعراء وكل من حكي لنا كلامه. ومن ذلك تمييزك بالكلام من هو المتكلم وما حاله: اسائل ام ملك ام مريض وما اشبه ذلك، وكمعرفتك ما هو المصوت وأي الاشياء هو. واما المحسوس بالشم فهي الأرواح من الطيب والنتن وما يليها من الوسائط كروائح بعض المعادن وما أشبه ذلك. والشم هو ادراك النفس بتوسط الشم من الانف تغيرا يحدث في الهواء الذي بينهما وبين المشموم وانفعالا من طبع المشموم وانحلال بعض اجزائه من رطوباته. وقد تدرك النفس أيضاً بتوسط العقل والشم معرفة مائية المشموم الرائحة كمعرفتنا المسكر بتمييزها رائحته، والنتن كذلك، وكذلك سائر المشمومات. واما المحسوس بالذوق فهو الطعوم كالحلاوة والمرارة والتفاهة والزعوقة (1) والملوحة والحموضة والخرافة والعفوصة؛ وهو ادراك النفس بملاقاة اعضاء   (1) والتفاهة والزعوقة: والتافهة والدعوق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 الفهم جسم المطعوم، لا بتوسط بينها وبينه الا بانحلال ما ينحل من الطعوم من رطوباته فيمازج رطوبة الحنك واللسان والشفتين واللهوات. وقد تدرك الاعضاء [25ظ] المذكورة أيضاً بعض الطعوم بتوسط الهواء وانحلال بعض أجزاء. المطعوم فيه كالحنظل المدقوق؛ وقد تدرك النفس أيضاً بتوسط الذوق والعقل معرفة مائية المذوق كمعرفتنا بذوق العسل في الظلام انه عسل وكذلك غير ذلك. من المذوقات ومعرفتنا بأنه عسل غير معرفتنا بانه حلو. أما معرفة انه حلو فبالذوق مجردا واما معرفة انه عسل فبتوسط العقل والذوق معا. وكذلك القول في الاقسام المتقدمة في سائر الحواس. واما ما لا ينحل منه شيء فلا طعم له ولا رائحة كبعض الحجارة وكالزجاج وما أشبه ذلك. وعلى قدر قوة ما ينحل من المذوق تدرك النفس طعمه. واما المحسوس باللمس فهو ينقسم قسمين: احدهما ما تدركه النفس بملاقاة بشرة الجسد السليم لسطح الملموس بلا توسط شيء بينهما، اما من استواء أجزاء سطحه ويسمى بذلك املاسا، واما من ثباته فيسمي صلابة، واما من تفرقها فيسمى تهيلا أو تهولا، واما من اختلاف أجزاء سطحه ويسمى ذلك خشونة. والثاني ما ادركته النفس بالعقل والعلم أو بتوسط اللمس المذكور أو البصر كالذي قدمنا قبل من معرفة تناهي الجسم وكيفية الاشكال والحركة ومائية الملموس أي شيء هو فانه، يعرف ما هو بتوسط العقل واللمس معا أو بحس النفس مجردا أو بتوسط اللمس وحده كالحر والبرد والرطوبة واليبس. فقد صح كما ترى ان العقل يشارك جميع الحواس فيما تدركه وينفرد عنها بالدلالة على اشياء كثيرة وادراك أشياء جمة. 4 - باب الاضافة الاضافة على الحقيقة: هي ضم شيء إلى شيء وها هنا عبارة اخرى اخص بالمعنى المراد بالاضافة في طريق الفلسفة وهي ان تقول: الاضافة هي نسبة شيء من شيء وحسابه منه، كالقليل الذي لا يكون قليلا الا باضافته إلى ما هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 اكثر منه ونسبته إليه وحساب قدره من قدره. واما الغرض المقصود بالاضافة في هذا المكان فهو نسبة شيئين متجانسين ثبات كل واحد منهما بثبات الآخر يدور عليه ولا ينافيه. ومعنى قولنا متجانسين أي انهما تحت جنس واحد من المقولات العشر التي قدمنا انها اجناس الاجناس. والمضافان هما الشيئان اللذان لا يثبت واحد منهما الا بثبات الآخر. وبالجملة فان الاوائل لما رأوا شيئين لا يثبت احدهما الا بثبات الآخر، وان ضم كل واحد منهما إلى صاحبه [نتج] معنى ثالث غيرهما فعجلوا ذلك [26و] المعنى رأسا من رؤوس المقولات وهو الاضافة، فتكلموا عليه مجردا، وان كان لا يتجرد، لكن كما تكلموا على الكيفية مجردة وعلى الكمية مجردة، وعلى الجوهر مجردا، وان كان الجوهر لا يخلو أبدا من كيفية وكمية وزمان ومكان، ولا تخلو الكيفية من جوهر يحملها، ولا تخلو الكمية من معدود، ولا الزمان من ساكن أو متحرك، ولا المكان من متمكن، لكن لتخلص الاشياء المتغايرات ويتبين لكل طالب للعلم حكم كل شيء على انفراده، فإنما أتت البلية في الآراء والديانات من قبل امتزاج الكلام والضعف عن تخليص حكم كل شيء ما هو مخصوص به دون غيره. والمضاف ينقسم لنظير ولغير نظير؛ فالنظير هو الذي يتفق فيه المضافان بالاسم والاضافة معا، كقولك: المصادق أو الجار أو الاخ أو المعادي فانه لا يكون احد مصادقا لأحد الا وذلك الآخر مصادق له وكذلك المعادي والاخ والجار. وأما الذي من باب هذه الاضافة فالصديق والعدو فقد يكون المرء صديقا لمن ليس له صديقا؟ أي محبا - وكذلك العدو فقد يعادي الإنسان من يحبه ككثير من الابناء لآبائهم وبعض الازواج لبعضهم. واما غير النظير فينقسم قسمين: احدهما ما كانت فيه ذات كل احد من المضافين موجودة قبل الاضافة، مثل المالك والمملوك والزوج والزوجة فان المملوك قد يكون موجودا قبل ان يكون مملوكا وكذلك مالكه. والقسم الثاني ما كانت فيه ذات احد المضافين موجودة قبل الاضافة وقبل المضاف الآخر وذلك كالاب والابن فان ذات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 الاب قد كانت موجودة قبل ان يكون ابا، وقبل ان توجد ذات الابن، وان كانا معا في الاضافة، أي انه كان موجودا فلم يكن ابا حتى وجد الابن. وبالجملة فاستحقاق احد المضافين لاسم الاضافة بينهما سواء، لا يتقدم احدهما الآخر فيها، وذلك لأنه إذا ذكر احد المضافين بالاسم الذي يقضي الاضافة دل ذلك على وجود الآخر ضرورة، وهكذا كل مضاف. وكذلك لا يجوز ان نقول ضعف الا ووجب مضعوف، والمضعوف هو نصف لعدد يسمى النصف الثاني إذا اضيف إلى هذا النصف ضعفا له، وهكذا القول في الصغير والكبير والقليل والكثير والخفيف والثقيل والرخو والمكتنز [26 ظ] والمساوي والمثل وغير ذلك مما يقتضي مضافا إليه. والاضافة تقع في جميع المقولات إذا اصبت في ادارتها وايقاع حكمها فانك تقول في الكيفية: الهيئة هيئة للمتهيء بها والمتهيء بالهيئة ذو هيئة والجعد جعد بالجعودة والجعودة جعودة للجعد؛ وكذلك العلم يقتضي عالما والعالم فيما بيننا يقتضي علما؛ وكذلك سائر الكيفيات. وكذلك جميع الكميات: فالعدد يقتضي معدودا والمعدود يقتضي عددا. وكذلك المكان يقتضي متمكنا والمتمكن يقتضي مكانا. وكذلك ذو الزمان يقتضي زمانا والزمان يقتضي ذا زمان. وكذلك القيام والقعود والملك والفعل والانفعال. وإنما تكون الاضافة صحيحة إذا اصبت في لفظ ايقاعها وادارتها. وكذلك قالت الاوائل ان الاضافة موجودة في المقولات كلها بالعرض لا بالطبع، أي انها ليست موجودة في اقتضاء اللفظ لها على كل حال لأنك إذا قلت: الطائر بالجناح طائر كان غير مستقيم لأنك تجد ذا جناح لا يطير كالنعام وتجد ما قد ذهب جناحه بآفة يسمى طائرا، ولكن ان قلت: ذو الجناح بالجناح ذو جناح والجناح لذي الجناح جناح كان قولا صحيحا صوابا فتحفظ من مثل هذا في مناظرتك وفي طلبك الحقائق فانك ربما ألزمت في شيء انه يقتضي شيئا آخر فتجيب إليه وذلك غير واجب عليك والا لزم لك؟ على ما قدمنا - وهذا من أغاليط الارذال الممخرقين وذلك نحو قول بعض الكذابين: الفاعل من اجل فعله جسم، فهذا فاسد جدا لما قد بينا لك لأنه ليس من اجل ان الفاعل فاعل وجب ان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 يكون جسما، لكن الصواب في القضية ان نقول: الفاعل بالفعل فاعل أو ذو فعل فهذه قضية صحيحة تعلمها النفس بأول العقل. وقد غالط بعضهم: السميع بالسمع سميع والحي بالحياة حي فأرادوا ان يوجبوا للباري تعالى حياة وسمعنا تعالى عن ذلك علوا كبيرا؛ ونحن لم نسم الباري تعالى حيا من اجل وجود الحياة له فيلزمنا إضافة الحياة إليه، وكذلك التسمية له تعالى بأنه بصير؛ وإنما سميناه حيا وسميعا وبصيرا اتباعا للنص لا للمعنى أوجب وليس شيء من ذلك مشتقا من عرض فيه، تعالى الله عن أقوال الجهلة الملحدين، أو يقع تحت الأجناس والأنواع أو عن [27و] حمل الاعراض فكل هذا تركيب لا يكون الا في محدث وإنما هذه أسماء أعلام للباري تعالى فقط. وكذلك القول في ان المجداف للسفينة مجداف والسفينة بالمجداف سفينة خطأ لكن الصواب ان تقول المجداف للمجدوف مجداف والمجدوف بالمجداف مجدوف. وكذلك لو قال إنسان: الرأس بالإنسان راس والإنسان بالراس إنسان لكان خطأ، إذ قد يكون ذو راس ليس إنسانا لكن الصواب ذو الرأس بالراس ذو رأس والرأس لذي الرأس رأس فهذه الرتبة في غاية الصحة والإضافة. فهذه الرؤوس الأربعة والست البواقي منها مركبات على ما يقع في ابوابها ان شاء الله تعالى. 5 - القول على الزمان قدمنا في باب الكمية ما الزمان وما نعنى هذه اللفظة وانها مدة وجود الجرم ساكنا أو متحركا فلو لم تكن مدة، ولو لم تكن مدة لم يكن جرم. وقد ذكرنا في باب الإضافة وجه كون الزمان مضافا، والله جل وتعالى ليس جرما ولا محمولا في جرم فلا زمان له ولا مدة، تعالى الله عن ذلك، ولو كانت له تعالى مدة لكان معه اول آخر غيره، ولو كان ذلك لوقع العدد عليهما ودخلا بعددهما تحت نوع من أنواع الكمية. ولو كان ذلك لكان تعالى محصورا محدثا، تعالى الله عن ذلك. وهو تعالى لا يجمعه مع خلقه عدد إذ لا يكون الشيئان معدودين بعدد واحد الا باجتماعهما في معنى واحد ولا معنى لجمع الخالق والخلق أصلاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 والزمان ينقسم ثلاثة اقسام: احدها مقيم وهو الذي يسميه النحويون فعل الحال ثم ماض ثم آت وهو الذي يسميه النحويون الفعل المستقبل. وقد اكثروا في الخوض في ايها قبل وإنما ذلك للجهل بطبائع الاشياء وحقائقها. وهذا امر بين وهو ان الحال وهو الزمان المقيم اولها كلها لان الفعل حركة أو سكون يقعان في مدة فإذا كان زمان الفعل اولا لغيره من الازمان، فالفعل الذي فيه اول لغيره من الافعال ضرورة، والزمان المقيم اول الازمنة كلها لأنه قبل ان يوجد مقيما لم يكن موجودا البتة ولا كان شيئا أصلاً، وما كان بشيء فإنما هو عدم فلا وجه للكلام فيه باكثر من انه عدم ولا شيء. ثم لما وجد كان ذلك اول مراتبه في الحقيقة، ثم انقضى وصار ماضيا وصح الكلام فيه لأنه قد كان حقا [27] موجودا. وإنما غلط من غلط في هذا لباب لوجهين: احدهما انه رأى حال نفسه فلما وجد نفسه مستقبلة للامور قبل كونها وللزمان قبل حلوله وقبل مضي كل ذلك، قدر ان الزمان المستقبل قبل المقيم وقبل الماضي وهذا غلط فاحش وجهل شديد، لأنه موافق لنا من حيث لا يفهم. ألا ترى انه إنما جعل الأول في الرتبة كونه مستقبلا لما لم يأت وهذا هو الزمان المقيم على الحقيقة، وفعله ذلك هو فعل الحال لأنه غيره، وهو الذي قلنا فيه قبل اول الازمنة والمقدم من الافعال، ثم جاء ذلك الزمان المستقل والفعل المنتظر معه بعد ذلك. والماضي اشد تحققا من المستقبل لان الماضي قد كان موجدودا ومعنى صحيحا لحسن الاخبار عنه وتقع الكمية عليه والكيفية، والمستقبل بخلاف ذلك كله. واعلم ان الموجود من هذه الازمنة هو المقيم وحده، والموجود من الافعال هو المسمى حالا الذي هو في الزمان المقيم، لأن الماضي إنما موجود وثابتا وصحيحا وحقيقة وشيئا إذ كان مقيما، ثم لما انتقل عن رتبة كونه مقيما عدم وبطل وتلاشى. والمستقبل إنما يوجد ويصح ويثبت ويصير حقيقة وشيئا إذا كان مقيما واما قبل ذلك فليس شيئا وإنما هو عدم وباطل. فتدبر هذا بعقلك تجده ضروريا يقينا لا محيد عنه ولا سبيل إلى غيره الا لمن كابر حسه وناكر عقله، نعوذ بالله من ذلك. والوجه الثاني ان الذي لم يحقق النظر لما لم يقدر على امساك الزمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 وقتين تفلت عليه ضبط الزمان ولم يكد يتحقق ذلك بحسه. فلتعلم ان الزمان لا يثبت وإنما هو منقض ابدا شيئا بعد شيء والزمان المقيم هو الآن. فان قولك الآن هو فضل موجود ابدا بين الزمان الماضي والزمان الآتي؛ والآن هو الموجود في الحقيقة من الزمان ابدا، وما قبل الآن فماض وما بعد الآن فمستقبل؛ الا ان العبارة في اللغة العربية عن الزمان المقيم والزمان المستقبل بلفظ واحد وهو في اللغة الاعجمية بصيغتين مختلفتين وذلك اوضح في البيان والافهام. الا ان في اللغة العربية إذا اردت تخليص المستقبل محضا ورفع الاشكال عنه أدخلت عليه السين أو سوف فقلت سيكون اوسوف يكون فأتى المستقبل مخلصا مجردا. وام شئت زدت لفظا غير هذا [28 و] وهو مثل قولك غدا أو بعد ساعة أو فيما يستأنف وما أشبه ذلك من الألفاظ التي تحدد معنى الاستقبال مخلصا بلا اشكال. والزمان مركب من جرم ومن كيفية في سكونه أو من حركته ومن عدد أجزاء سكونه أو أجزاء حركاته فلذلك لم يكن رأسا مع الاربع المقولات المتقدمات. والقبل والبعد واقع في الزمان باضافة بعضه إلى بعض. 6 - القول في المكان هو ما كان جوابا في السؤال باين: فتقول اين محمد؟ فيقول المجيب: في المسجد أو بالقصر أو في منزله وما أشبه ذلك. والمكان لا يكون البتة إلا جرما، لا يجوز غير ذلك. وإنما تركب المكان من جرم اضيف إلى جرم بمعنى انه لاقى أحد سطوح المكان احد سطوح المتمكن أو بعضها أو جميعها على حسب تمكن المتمكن في المكان. والمتمكن مع المكان ينقسم قسمين: احدهما ان يكون المتمكن متشكلا بشكل المكان الذي هو فيه وذلك مثل كل شيء مائع الاجزاء أو منثورها، في كل جامد الاجزاء أو مجموعها، كالماء في الخابية فانه يتشكل بشكل الخابية حتى لو تمثلته قائما لرأيته في صفة الخابية نفسها، وترى ذلك عيانا إذا جمد الماء فيها بعد ميعانه وانكسرت الخابية، وكالبر والدقيق في الاناء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 المربع أو المثلث وغير ذلك من الاشكال فانك ترى كل ذلك أيضاً متشكلا بشكل إنائه أو البيت الذي هو فيه على ما قدمنا، فهذا قسم. وانتم الثاني ان يكون المكان متشكلا بشكل المتمكن فيه وذلك معكوس القسم الذي ذكرنا وهو كون كل جامد الاجزاء أو مجتمعها في كل مائع الاجزاء أو منثورها ككون الجرم في الماء أو في الهواء فان مكانه فيها متصور بصورته، ويمثل ذلك بجرم بيضة أو عود ادخلته في ماء فجمد الماء حواليهما بعد ان كان مائعا فانك تجده متشكلا بشكل ما هو فيه أي متصور بصورته وهيئته. وكذلك كون الحجر في الدقيق أو البر فان مكانه متشكل بشكله. والهواء جرم من الاجرام ذو جهات ست قابل للمتضادات من الحر والبرد والرطوبة واليبس الا انه لم يكن ملونا لم تقع عليه حاسة البصر فلم ير. وانت تعلم انه جرم بحركتك يدك أو المروحة أو إذا عدا بك فرس سريع فانك تجد جرما ملاقيا لك تحسه حسا قويا لا ينكره إلا جاهل سخيف أو معاند. وكون الاجرام فيه متمكنة وهو مكان لها ككون الحيوان المائي في الماء، متى انتقل [28 ظ] جرم من الاجرام التي في الهواء أو الماء من المكان الذي كان فيه إلى مكان آخر انتقل ما كان في مكانه إلى الذي صار إليه من الهواء ومن الماء إلى المكان الذي خرج عنه؛ والخلاء باطل وتفسيره مكان لا متمكن فيه، إذ المكان من باب الاضافة، فلا يكون متمكن الا في مكان ولا مكان إلا لمتمكن؟ والبرهان على بطلان الخلاء لذكره مكان غير هذا - إلا أنا ندل منه على طرف كاف ان شاء الله عز وجل لنتم الكلام في طبيعة المكان وهو ما يراه من فعل الاناء المتخذ للهو الصبيان المسمى سارقة الماء وفعل الزرافة والمحسجة فان هذه الاشياء تستحيل بها الاشياء الثقال التي من طبعها الرسوب، عن طبائعها في السفل إلى الارتفاع والتصعد لولوج الهواء من هذه الاشياء أو الماء ولو لم يستخلف مكان كل ذلك جرما آخر لكان ذلك المكان خاليا، ولو كان ذلك لصح الخلاء، فلما لم يكن ذلك أصلا بوجه من الوجوه علمنا ان الخلاء معدوم لا سبيل إليه. وفي هذا كفاية. فان قال قائل: واذا كان جرم يقتضي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 مكانا وكان كل مكان جرما فكل مكان يقتضي مكانا ابدا. وأراد بهذا ان يثبت ان لا نهاية لجرم العالم فهذا شغب فاسد، وقد اوضحنا تناهي جرم الفلك والعالم في " كتاب الفصل " فاغنى عن ترداده الا انا نذكر ها هنا منه طرفا ليتم الغرض ان شاء لله. وإنما نورد في هذا الكتاب ما يلق بمعناه المقصود فيه. بحول الله وقوته فنقول وبالله تعالى نتأيد: ان الجرم واقع تحت الكمية نذرعه؟ على ما قدمنا - وكره العالم جرم قد ظهر بالفعل، فالعدد واقع على مساحته ضرورة، ولا يقع العدد الا على محصور به أي معدود به، وقد قدمنا انه لا عدد الا وله اعداد أخر إذا اجتمعت كانت له مساوية، ولا تقع المساواة الا في متناه ضرورة وكل ما وقع عليه الاحصاء بالعدد والكمية فمتناه ولا بد، وايضا فكل عدد خرج إلى حد الفعل فذو أجزاء كنصف وثلث وما اشبه ذلك وكل هذا يوجب النهاية يقينا وهذا من باب الاضافة، فالفلك الذي هو محيط بالعالم كله متناه ضرورة. فان قال قائل: فان الفلك له مكان قيل له، وبالله تعالى التوفيق: كل جزء منه فالجزء الملاصق له هو مكان له غيره لا مكان له البتة وحركته دورية لا ينتقل عن مكانه لكن يصير كل جزء حيث كان الذي يليه فقط، الا ان الصفحة العليا منه لا يلاصقها من اعلاها شيء بوجه من الوجوه لا خلاء ولا ملاء، ولا فوقه لا مكان ولا متمكن ولا مساحة [29 و] ولا يقع عليه الوهم كوجه من الوجوه. وقد قدمنا ان كل جرم فذو ستة سطوح: فوق واسفل ويمين وشمال وامام ووراء، والفوق والاسفل قد يقع في الاضافة لأنه توجد اشياء هي فوق اشياء اخر وقد لا يقعان أيضاً في باب الاضافة من هذا لوجه فان صفحة الفلك العليا فوق ولا فوق له أصلاً، فليست تحتا لشيء البتة، ومركزه كرة الارض تحت له أصلاً فليس فوقا لشيء البية. والمركز المذكور مبدأ من قبلنا وصفة الفلك العليا نهاية لذلك المبدأ أي موقف لا تمادي وراءه. ولسنا نعني بهذا اثبات ان له وراء، بل إنما نعني انه متناهي الذرع لا وراء له ولا فوق ولا بعد أصلاً. وهذا مرادنا في قولنا ان زمانا سابقا لم يكن قبله زمان إنما مرادنا بذلك انه ذو مبدأ قبل فيكون قد تقدم زمان. وصفحة الفلك العليا مبدأ من قبل الطبيعة الكلية أي وجود الاشياء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 وعمومها واحاطتها. والمركز المذكور نهاية لذلك المبدأ أي موقف لا تمادي بعده، فجعل الخلق الأول لا اله الا هو. والمكان مركب من كيفية وجوهر مع جوهر. 7 - باب النصبة النصبة كيفية صحيحة لا شكل فيها وهي نوع من الانواع الا انهم خصوا بها الاسم فمعنى النصبة هيئة المتمكن في المكان كقيامه فيه أو قعوده أو بروكه واضطجاعه وما اشبه ذلك. 8 - باب الملك الملك إضافة صحيحة الا انهم خصوا بهذا الاسم؟ يعني الملك - ما كان من الاضافة متملكا للجوهر كالاموال وما اشبهها وهذا حقيقة الملك. وهو مركب من جوهر مع جوهر واضافة الا ان بعض الاوائل ادخلوا في الملك قولك: لفلان يد ورجل وبه حرارة وما اشبه ذلك، وهذا عندنا قضاء فاسد فلا وجه للاوجه للاشتغال به إذ غرضنا الحقائق وما قام به برهان أو جزء من برهان يوصل إلى معرفتها، وبالله تعالى التوفيق لا اله الا هو. 9 - باب الفاعل الفعل تأثير يكون من الجرم المختار أو المطبوع في جرم اخر، اما ان يحيله إلى طبعه فيخلعه عن نوعه ويلبسه نوع نفسه، واما ان يحيله عن بعض [29ظ] كيفياته إلى كيفيات اخر، واما ان يفعل فعلا مجردا كالمحرك والقائم والمفكر وما اشبه ذلك. واما القسمان الاولان فالاول منها كفعل النار في الماء والهواء فانها تخلعهما عن صفات انواعهما الجوهرية أي تحيلهما نارا. وكالأكل فانه يحيل طبيعة ما اكل إلى نوعه. واما الثاني فكفعل السكين والحجر والقاطع بها فانهما يحيلان عن الاجتماع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 إلى الافتراق، مثل ذلك كثير، وكطبع العناصر المركب منها الإنسان في ان يحيل كل قوي منها ما لاقى من سائرها إلى نوعه ووجد ذلك في كل ما تركب منها فكل امرئ يريد التكثر بغيره في اعراضه، تبارك المدبر لا إله الا هو. والفعل ينقسم قسمين: اما فعل يبقى أثره بعد انقضائه كفعل الحراث والنجار والزواق، واما فعل لا يبقى اثره بعد انقضائه كالسابح والماشي والمتكلم وما اشبه ذلك. والفاعل والمنفعل مركبان من جوهر وجوهر وكيفية. 10 - باب المنفعل المنفعل هو المتهيء لقبول الفعل الذي ذكرنا كالمحترق والمستحيل بالنار والمنقطع بالسكين والمخيط بالابرة وما اشبه ذلك؛ وهذه الاشياء كلها وان كانت إنما تكون بمعاونة غيرها فلولا قبول التأثير في طباعها لم يمكن الفاعل فيها ان يفعل شيئا غيها البتة؛ فان لم يكن ذلك كذلك فليخيط بقناة أو بموزة أو يحرق بنفخه أو يقطع برجله. وهذه المعارضات شغب وسفسطة من المعترضين بها القائلين: لم تحرق النار وإنما احرق بها الإنسان ولا قطعت السكين وإنما قطع الإنسان بها فاردنا بيان ان السكين قوة وفي النار كذلك لولاهما ما امكن الإنسان ان يفعل بهما فعلا مما يحدث عنهما. واعلم أيضا أن المنفعل يؤثر في الفعل لا بد من ذلك الا انه اقل تأثيرا فانك لو ادمنت الارادة بضابط حديد ذكر صقيل في رق املس رطب لأثر ذلك مع الطول في الضابط تأثيرا يظهر إلى كل من له ادنى حس ظهورا لائحا واضحا. وهكذا كل مؤثر في العالم ولا تحاش شيئا أصلاً وان بعد عن حسك فان مع الطول والتمادي ومرور الدهور المتواترة يظهر ظهورا جليا ولو انه جر اصبع على حديد، فسبحان المؤثر الحق الذي لا يؤثر فيه شيء لا اله إلا هو. وهذه مرتبة تقضى وجود الخالق المؤثر الذي ليس [شيء] مؤثرا فيه [30 و] ضرورة على ما بينا في كتاب الفصل. وذكر الاوائل ان اسطقسين من الاسطقسات الاربع فاعلان وهما: الحرارة والبرودة، وأن اسطقسين منهما منفعلان (1) وهما:   (1) منفعلان: مفعلان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 الرطوبة واليبوسة، وهذا حكم صحيح ومرادهم بذلك ان الحرارة والبرودة إذا لقيا شيئا ما رداه إلى طبعهما ولا تفعل ذلك الرطوبة ولا اليبوسة. فان قال قائل: قد ترطب الرطوبة ما قابلت، وتيبس اليبوسة ما لقيت، فالجواب وبالله تعالى التوفيق: إن القضايا التي يوثق بها هي التي تصدق أبدا، لا التي تصدق مرة وتكذب أخرى؛ وليس كل شيء يرطب بملاقاة الرطب. ولا كل شيء يبس بملاقاة اليابس. فلو ألقيت حديد في ماء وأبقيتها فيه ما شاء الله أن تبقى لم ترطب ولا ييبس الماء من أجل ملاقاة الحديد، وأما الحر إذا لقي شيئا فلا بد ان يحره ضرورة، وكذلك البارد لا يلقى شيئا الا برده وبالله تعالى التوفيق. انتهى الكلام في المقولات العشر والحمد لله كثيرا. د - الكلام على الغير والمثل والخلاف والضد والمنافي والمقابلة والقنية والعدم وتفسير معاني هذه الأسماء قد قدمنا مرادنا بقولنا شخص وأشخاص، وأخبرنا أنا لا نعني بذلك الجرم وحده لكن كل جزء مجتمع منفرد من جرم أو عرض محمول في جرم. فنقول: شخص سواد هذا الثوب حالك أو مصقول، وشخص حركة هذا المتحرك من هاهنا إلى ها هنا، وشخص هذه المسألة محكم وما أشبه ذلك، اتفاقا منا ليقع بذلك الافهام لمرادنا، ان شاء الله عز وجل. ولا بد لأهل كل علم وأهل كل صناعة من ألفاظ يختصون بها للتعبير عن مراداتهم وليختصروا بها معاني كثيرة [فنقول] وبالله تعالى نتأيد: كل شخصين وكل شيئين جمعهما اسم واحد أو اسمان مختلفان لا يخص شيئا دون شيء، فهما متغايران ضرورة، على كل حال، أي أن كل واحد منهما غير الآخر؛ فزيد غير عمرو، وعلم زيد غير علم عمرو، وثوب زيد غير ثوب خالد، وطول زيد غير طول عمرو، وبياض خالد غير بياض محمد، وهكذا كل شيئين أيضا قطعا، وكل موجودين. والخالق تعالى غير خلقه، ولو لم يكن هذا الشيء غير هذا الشيء لكان إياه وهو نفسه، ولا سبيل إلى قسم ثالث؛ وهكذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 كل لفظين فاما أن يكون معنياهما متغايرين (1) ، أي مسمى كل [30 ظ] لفظ من ذينك اللفظين غير المسمى باللفظ الآخر ولا سبيل إلى قسم ثالث بوجه من الوجوه، ولا يتشكل في الوهم ولا يعقل ولا يكون أبدا لفظان معنياهما لاهما متغايران ولاهما لا متغايران، إذ من أشنع المحال أن يكون معنى هذا الاسم ليس هو معنى هذا الاسم ليس هو معنى هذا الاسم الثاني، ولا هو معنى آخر غيره؛ ومن المحال الممتنع الباطل أيضا أن يكون معنى هذا الاسم هو معنى هذا الاسم الثاني وهو أيضا غيره، فهذا يؤدي إلى أن هذا هو هذا، وهذا فساد ظاهر، إذ لا يجوز أن يراد بالاسمين إلا معنى واحدا أو اكثر من واحد. وما عدا هذا فوسواس ونحمد الله تعالى على ما وهب من العقل. فان اعترض قوم بما ذكر الاوائل من ان الشيء إنما يكون غير الشيء إذ كان جوهره مخالفا لجوهره، فانهم قد قالوا أيضاً: الإنسان هو الحمار بالجنسية أي انهما تحت جنس واحد ولم يريدوا ما نحن فيه. والذي نريد نحن إنما هو ان يكون الشيء لا يغاير هذا الشيء أصلاً بذاته أو يغايره، فان قال قائل: فالجزء هو الكل أو هو غيره فالحقيقة أنه غيره لأن الجزء قد يبطل ولا يبطل الكل فلو لم يكن غيره لما وجد دونه، وإنما الكل لفظة تسمى بها هذه الابعاض كلها في حال اجتماعها، والأبعاض هي الأجزاء، والا فكل بعض غير البعض الآخر. والكل ينقسم قسمين: أحدهما كل يسمى كل جزء من اجزائه باسم كله، وذلك إنما يقع في أشخاص النوع، أو فيما لم يركب من اشياء مختلفة، كأجزاء الماء فكلها تسمى ماء، وأجزاء النار كذلك، وكذلك كل شخص من الإنسان الكلي يسمى إنسانا. والقسم الثاني قسم لا يسمى شيء من اجزائه باسم كله وذلك هو في المركب من عناصر مختلفة، كأعضاء الإنسان، فليس شيء منها يسمى إنسانا، وكذلك الباب فانه مركب من خشب ومن مسامير، والخشبة والمسامير لا تسمى بابا. فمن ناظرك ها هنا فكلفه ان يجد لك معنى التغاير ومعنى الهوية ثم كلمه حينئذ، فان قال قائل: إذا كان بعض الشيء غير الشيء وكل بعض من ابعاضه هو غير كله، والشيء كله إنما هو ابعاضه كلها ليس هو   (1) متغايرين: متغايران. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 شيء غيرها أصلا، فالشيء غير نفسه، والبعض غير نفسه، فهذا تمويه لأن الكل إنما هو اسم يقع على الابعاض كلها إذا اجتمعت ولا يقع على شيء منها على انفراده. الا ترى أن [31و] البعض إذا فني لا يفنى الكل بفنائه ولا يحد هو بحد كله فإنما اسم " كل " بمنزله اسم إنسان، واليد ليست إنسانا، والرأس ليس إنسانا، والرجل ليست إنسانا، والمعدة ليست إنسانا، فإذا اجتمع كل ذلك حدث له حينئذ اسم الإنسان لا قبل ذلك. وهكذا هو الكل مع اجزائه، إلا أننا في السؤال بيانا ولا ندع للمتحير معنى يتحير فيه فتقول: كل اسمين فانهما لا يخلوان من احد وجهين ضرورة لا ثالث لهما: إما أن يقعا جميعا على شيء واحد أو على اكثر من شيء واحد فلا بد للمسؤول حينئذ من ان يصير إلى احد هذين المعنيين، والا بان انقطاعه وصح حينئذ ان معنى اللفظين معنى واحد، كل واحد من اللفظين يعبر به عن مسمى واحد، وان كل واحد من اللفظين يعبر به عن غير معنى اللفظ الآخر، وان كان معنياهما مغايرين فكل واحد منهما غير الآخر. ثم نعود، وبالله تعالى التوفيق، فنقول: ثم تنقسم الاشياء بعد التغاير أقساما: فمنها أغيار أمثال كسواد هذا الغراب وسواد هذا الثوب وكالدينار والدينار وكل ما يقع تحت نوع واحد من الانواع التي تلي الاشخاص من جرم أو غيره، ومنها أغيار خلاف كالدينار والدرهم والبياض والحمرة والقيام والاتكاء وكالدينار والحمرة وكل ما وقع تحت نوعين مختلفين أو تحت جنسين مختلفين. الا ان كل ما ذكرنا وان كانت خلافا كما قلنا فهي أيضاً امثال من وجه آخر لاتفاقهما في الرأس الاعلى الذي هو جنس الاجناس، أو لاتفاقهما في الانقسام وان لم يجمعهما جنس اجناس، وفي الحدوث وفي التأليف. واما الباري عز وجل فخلاف لخلقه كله من كل وجه لا تماثل بينه تعالى وبين جميع خلقه، ولا بينه تعالى وبين شيء من خلقه بوجه من الوجوه البتة. واللفظ الأول وهو التغاير يقع في كل مسميين. وهذان القسمان يقعان في الجواهر والاعراض، وهذا القسم الثاني، أعني المخالفة يقع بين كل موجودين وسواء كانا (1) تحت نوعين مختلفين أو تحت جنسين مختلفين اوكان احدهما مما يقع تحت الاجناس والآخر مما لا يقع تحت الاجناس، ولا بد في كل موجودين ضرورة من ان يكونا مختلفين أو   (1) كانا: كانت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 متماثلين؛ ثم قسمان باقيان لا يقعان الا في الكيفيات، احدهما: أغيار اضداد كالسود والبياض والثاني اغيار متنافية كالحياة والموت والسكون والحركة وما اشبه ذلك. والاضداد هي كل لفظتين اقتسم معنياهما طرفي البعد، وكانا واقعين تحت مقولة واحدة [31 ظ] وكان بينهما وسائط؛ فاما تحت نوعين مختلفين تحت جنس واحد كالسواد والبياض اللذين هما واقعان تحت جنس اللون، أو كالجود والشح اللذين هما نوعان واقعان تحت جنسين مختلفين، وهما الفضيلة والرذيلة، واما كالفضيلة والرذيلة اللذين هما جنسان جامعان لما ذكرنا وتجمعهما الكيفية؛ وكل ضدين فهما إنما يدركان بحاسة واحدة لا يجوز غير ذلك، اما ان يدركا معا بالعقل معا بالبصر وما أشبه ذلك من لمس وذوق وشم فتأمل هذا بعقلك تجده يقينا. وكل ضدين فان احدهما ان كان في النفس فان الثاني فيها أيضاً وان كان احدهما في الجرم فان الثاني فيه أيضاً، لا يجوز الا هذا، لأن الاضداد أيضاً تتعاقب على حاملها كالبياض والسواد اللذين في الجسم، والحلم والطيش اللذين في النفس وكذلك سائر اخلاق النفس من العلم والجهل والعدل والجور والورع والفسق والغضب (1) والرضا وسائر اخلاقها. وكذلك سائر الاضداد المتعاقبة على الجرم المركب: من الحر والبرد واليبس والرطوبة، فالمتضادة هي إذا ما وقع احدهما ارتفع الآخر وبينهما وسائط. والمتناهية هي ما اقتسما أيضاً طرفي البعد ولا وسائط بينهما وكان إذا ارتفع احدهما وقع الآخر، وذلك مثل الحياة والموت والاجتماع والافتراق وصحة العضو ومرضه وما اشبه ذلك. وقولنا في هذا المكان: " الحياة والموت " إنما هي مشاحة لا تحقيق، وإنما اردنا بذلك اجتماع النفس مع الجسد المركب من العناصر ففي هذا عبرنا بالحياة، وأردنا بقولنا الموت مفارقة النفس للجسد المذكور، فهذا الاجتماع والافتراق هما المتنافيان وأما الحياة التي هي الحس والحركة الارادية فهي جوهرية في النفس لا تفارق النفس أبدا، وإذ ذلك كذلك فلا ضد للحياة على الحقيقة، لان الضد مع ضده أبدا واقعان متعاقبان أبدا على كل شيء واحد، وكذلك المتنافيان. والمواتية أيضاً على الحقيقة هي عدم الحس والحركة الارادية وإنما هذا في الجمادات. فالموت إذا جوهري أيضاً غير مفارق لها بوجه من الوجوه، فلا ضد للمواتية أيضاً على   (1) والجور والغضب والورع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 الحقيقة على هذا الوجه ولا منافي لها أيضاً ولا للحياة. والجسد المركب من الطبائع الاربع مواتي ابدا لا حياة له بوجه من الوجوه أصلاً [32 و] وإنما الحياة للنفس المتخللة له، ولكنا اضطررنا إلى التعبير بالحياة والموت عن اجتماعهما مع الجسد المذكور ومفارقتهما إياه لعادة الناس لهذين العبارتين عن هذين المعنيين فاردنا التقريب والافهام كما ترى. فمتى رأيت في كتابنا هذا أن الموت ضد الحياة فهذا الذي أردنا فلا تظن بنا خطأ في هذا المعنى، وقد قال بعض أهل الشريعة: إن العلم مضاد الموت، وهذا كلام فاسد، لان النفس بعد مفارقتها الجسد هي أثبت ما كانت قط علما، والجسد المركب لا يعلم شيئا. والفرق بين المنافي والمضاد أن الضدين بينهما وسائط ليست من احد الضدين كالحمرة والصفرة والخضرة التي بين السواد والبياض وكحال الاعتدال الذي بين الجود والشح على ما نبين في كتابنا في أخلاق النفس (1) ان شاء الله عز وجل، والمنافيان هما اللذان ليس بينهما وسائط فان الحياة والموت فيما يكونان فيه ليس بينهما وسيط لا يكون حياة ولا موة؛ كذلك صحة العضو ومرضه لا يجوز ان يكون العضو صحيحا مريضا، ولا لا صحيحا ولا مريضا. والصحة هـ تصرف العضو في فعله الطبيعي، والمرض هو ضعفه عن ذلك. وكذلك الجور في العدل والحكم: لا يجوز أن يكون حكم لا عدلا ولا جورا ولا عدلا جورا. ولما كان هذان الأمران؟ أعني التضاد والنافاة - معنيين مختلفين احتجنا في العبارة عنهما إلى اسمين متغايرين لئلا يقع الاشكال؛ وقد حد قوم الضد بأنه الذي إذا وقع ارتفع الآخر، وهذا خطأ، لان هذا قول يوجب ان يكون الاتكاء ضد القعود والخضرة ضد الحمرة وهذا خطأ، وإنما هذا من الخلاف والتغاير لا من التضاد، وحد الضد على الحقيقة هو ما عبرنا به آنفا. وأما حال الجسم التي تنفي الضدين معا من بعض الاضداد وبعض المتنافيين فلا يعرف [لها] اسم في الاكثر من مواضعها، كحال نفس الطفل فانه لا يسمى برا ولا فاجرا ولا عالما ولا جاهلا بل كل من هذه الأحوال منفية عنه بلفظة " لا " فنقول: الطفل لا يعلم شيئا ولا يطلق عليه اسم الجهل الا مع امكان العلم، ويقال الطفل ليس برا ولا فاجرا فإذا قوي واحتمل الامرين وقع عليه احدهما على حسب ما يبدو منه، وكالحجر لا يقال عنه حي ولا ميت لكن ننفي عنه كلا الامرين   (1) أخلاق النفس: انظره في مجموع رسائل ابن حزم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 بلفظة " لا " أو " ليس " فنقول: الحجر ليس حيا ولا ميتا. والميت حيا والأسود أبيض والأبيض أسود وليس ذلك لازما لكن على حسب ما يكون ولكنه ممكن في الأغلب ومتوهم؟ لو كان -[32 ظ] كيف كان يكون في الجملة. وقد يدخل في الامتناع بالفعل لضروب من النصبة المانعة منه في العادة. أما التقابل فهو ينقسم قسمين: تقابل في الطبع وتقابل في القول فالذي في القول هو الايجاب والسلب، نعني بالايجاب اثبات شيء بشيء كقولك زيد منطق والخمر حرام والزكاة واجبة على مالك مقدار كذا وكذا من المسلمين والعالم محدث ومحمد رسول الله وما أشبه ذلك. والسلب نفي شي عن شيء كقولك زيد ليس أميرا ومسيلمة ليس نبيا والربا ليس حلالا والعالم ليس أزليا وما أشبه ذلك؛ وقد يأتي لفظ الايجاب والسلب كذبا إذا أوجبت الباطل ونفيت الحق. وإنما الفرق بين الايجاب والسلب إدخال الفاظ النفي وهي لا أو ليس أو ما أو الحروف التي تجزم في اللغة العربية الأفعال، بغير معنى الشرط، أو تنصيبها وهي " لم " واخواتها " ولن " وما اشبهها، فيكون نفيا، أو إخراجا فيكون ايجابا. وأما الذي في الطبع فينقسم ثلاثة أقسام: أحدها مقابلة الأضداد والمتنافيات، والثاني مقابلة المضاف، والثالث مقابلة القنية والعدم. وقد تكلمنا قبل في الأضداد وفي المتنافيات والاضافة بما كفى. واعلم ان الضدين ثبات كل واحد منهما بنفسه، وكذلك المتنافيان واما المضافان فثبات كل واحد منهما بثبات الآخر، على ما بينا هنالك. ولذلك لا يدور كل واحد من الضدين على الآخر وكذلك المتنافيان. وأما المتضادان فكل واحد منهما يدور على صاحبه فنقول: ضعف النصف ونصف الضعف ولا نقول جور العدل ولا عدل الجور ولا بياض السواد ولا سواد البياض ولا شر الخير ولا خير الشر. ومعنى التقابل هو كون شيئين في طرفين معينين يقتضي احدهما وجود الآخر على الرتب التي ذكرنا، فكأنه يقابل احدهما الآخر. واما مقابلة القنية والعدم فذلك كالبصر (1) وعدمه الذي هو العمى، فان أحد هذين يدور على   (1) كالبصر: البصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 الآخر ولا يدور الآخر عليه، ومعنى الدوران هو الاضافة فنقول عمى البصر ولا نقول بصر العمى. واعلم ان القنية هي التي لا تدور على العدم أي لا تضاف إليه والعدم يدور على القنية أي يضاف إليها (1) . والعدم ليس معنى لكنه ذهاب الشيء وبطلانه ولا يعد عادما إلا من يحتمل وجود ما هو عادم له، ألا ترى ان الحجر لا يسمى عادما وكان هذا عندنا معنى [33 و] ي اتبعت فيه اللغة اليونانية؟ وأما اللغة العربية فكل حال لم يكن فيها شيء ما فانه يطلق فيه اسم عدم ذلك الشيء، وسواء كان موجودا قبل ذلك أو لم يكن. وكذلك أيضا يسمى فيها بالعدم كل ما لم يكن، وسواء توهم كونه أو لم يتوهم؛ إلا ان الفرق بين الضدين وبين العدم والوجود ان كل الضدين لهما إنية ومعنى ذلك أنهما موجودان، والوجود له إنية أي أنه موجود والعدم لا إنية له أي لا وجود له. واعلم أن السلب والايجاب إنما يقعان في الاخبار وبذلك يكون الصدق والكذب، وذكر الفلاسفة ها هنا شيئا (2) سموه " كون الشيء في الشيء " وليس يكاد ينحصر عندنا وإن كان محصورا في الطبيعة، فلم نر وجها للاشغال به إذ ليس إلا من تشقيق الكلام فقط كقولهم: النوع في الجنس والجنس في النوع وما أشبه ذلك مما لا قوة في إدراك الحقائق وإقامة البراهين وكيفية الاستدلال الذي هو غرضنا في هذا الكتاب. وكذلك ذكروا أيضا شيئا رسموه " بكون الشيء مع الشيء " ورتبوه على ثلاثة أقسام: أحدها كون الشيء مع الشيء في زمن، وهو المعهود في استعمال اللغة إذ كل شيئين كانا في زمان واحد فهما معا أي كل واحد منهما مع الآخر، ورتبوا في ذلك أيضا كون المضافين أحدهما مع الآخر أي مع النصف ضعفا ومع الضعف نصفا، ورتبوا في ذلك أيضاً كون النوعين معا جنس واحد أي مستويين فيه كالفرس والحمار تحت جنس الحي وكل هذه الأقسام ترجع إلى الزمان ولا تخرج عنه. وذكروا شيئا سموه " القدمة "، وهذه لفظة استعملها أهل اللغة العربية فيما تقدم زمانه زمان غيره   (1) يضاف إليها: يضاف عليها. (2) شيئا: أشيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 كقولهم: الشيخ أقدم من الغلام، ودولة بني أمية أقدم من دولة بني العباس، وما أشبه ذلك، وأما أهل الكلام فانهم استعملوها في الخبر عن المخلوقات والخالق تعالى فسموا الواحد الأول عز وجل قديما ونحن نمنع من ذلك ونأباه ولا نزيل القديم والقدم عن موضعهما في اللغة العربية ولا نصف به الخالق عز وجل البتة. وقد قال عز وجل: " كالعرجون القديم. " يريد البالي الذي مرت عليه ازمنة مختلفة له بتطاولها، ونضع مكان هذه العبارة لفظة " الأول "، والاخبار بانه تعالى لم يزل، وأن جميع ما دونه؟ وهي كل المخلوقات - لم تكن ثم كانت، وان كل شيء سواه تعالى محدث مخلوق، وهو خالق أول واحد حق لا اله الا هو. وذكر الاوائل أشياء في المقدمة ليست صحيحة منها: أن الجنس أقدم من النوع بالطبع [33 ظ] من أجل أنه مذكور في الرتبة قبله، وهذا لا معنى له لأن الجنس هو جملة أنواعه نفسها، فلا يكون الشيء أقدم من نفسه، ولا يجوز أن يكون الكل أقدم من اجزائه. وذكروا أيضاً ان المدخل إلى العلوم أقدم من العلوم وهذا خطأ لأن العلم موجود في الطبيعة، أي بالقوة فيها، قبل دخول الداخل إلى طلبه. وذكروا أيضا قدمه الشرف وهذا فاسد البتة الا ان كان ذلك في اللغة اليونانية، واغتر بعضهم في ذل اللغة العربية في قولهم: " فرس عتيق " أي قديم، وليس كذلك، لان العتق في اللغة العربية من الأشياء المشتركة فيقع على القديم كقولهم: " شراب عتيق " ويقع على الحسن الجيد كقولهم: " عتيق الوجه "، و " فلان ظاهر العتق " أي ظاهر الحسن، فعلى هذا المعنى قالوا: فرس عتيق، ويقع أيضا على البراءة مع الملك فيقولون: اعتق فلان عبده والعبد عتيق أي مبرأ من الملك. واما العلة والمعلول فمن باب الاضافة ولا يجوز أن تسبق العلة المعلول أصلا، ولو سبقته لوجد وقتا ما غير موجبة له، ولو كان ذلك لم تكن علة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 إذ العلة ليست شيئا أصلا الا القوة الموجبة لوجود ما يجب بوجودها، وبالله تعالى التوفيق. هـ - باب الكلام على الحركة الحركة تنقسم ستة اقسام: قسمان اولان وهما حركتا الكون والفساد وهما في الجوهر، ومعنى الكون: " خروجه من الامكان والعدم إلى الوجوب والوجود " وهذه حركة للجوهر الخارج لا لمبدعه المخرج له عز وجل؛ ومعنى الفساد: " خروجه من الوجود والوجوب إلى البطلان والعدم "، وذلك واجب في الأعراض ومتوهم على الأجرام إن شاء خالقها تعالى فيما شاء منها. والفساد عندنا على الحقيقة افتراق الجسم على اشياء كثيرة وذهاب أعراضه وحدوث أعراض أخر عليه، وأما الأجرام كلها فغير معدومة الأعيان أبدا بوجه من الوجوه، ولكنها منتقلة من صفة إلى صفة كما قال تعالى: {خلقا من بعد خلق} (6 الزمر 39) ومن مكان إلى مكان ومن عالم إلى عالم حتى تستقر المتعبدة منها في دار النعيم أو العذاب في عالم الجزاء بلا نهاية. وهاتان الحركتان تقعان في الأعراض كلها لأنها كائنات فاسدات. ثم قسمان آخران وهما حركة الربو والاضمحلال [34 و] وهما من الكمية، فالربو هو: " تباعد (1) نهايات الجرم عن مركزه " والاضمحلال هو: " تقارب نهايات الجرم من مركزه "، وهذان لا يكونان الا في النوامي، فيكون الربو بغذاء يستحيل إلى نوعها وينبسط من وسطها إلى طرفيها، ويكون الاضمحلال بأخذ الجزء من رطوباتها اكثر مما يقبله الجرم من الغذاء، فترى الشجرة والحي والنبت المركب يتغذى فيستحيل الغذاء أجزاء المتغذي به، ففي الحيوان يستحيل دما ولحما وشحما وعظما وعروقا وشرايين وعصبا وشعرا وهلبا وريشا وجلدا، فيمتد ذلك الجسم ويطول ويعرض ويضخم؛ ويستحيل الغذاء للشجرة من الماء والرطوبات من الارض والدمن عودا ولحاء وورقا وزهرا وطعما وصمغا وخوصا وعساليج، ويمتد ويعظم كما ذكرنا، وكذلك   (1) تباعد: ما تباعد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 في النبت، ثم إذا ابتدأ كل ذلك يضمحل بتناهي أمره الذي رتبه له خالقه من رطوبات الأجرام التي ذكرنا اكثر مما يقبله من الغذاء حتى ييبس الشجر والنبات ويموت الحي وتفترق أجزاؤه وترجع نفسه إلى عالمها الذي شاهدنا فيه الصادق المنبعث من الخالق عز وجل، النبي، صلى الله عليه وسلم، حين جولانه وتصرفه في عالم الافلاك بالقدرة الالهية التي خص بها وهو ما بين مبدأ الافلاك الذي هو فلك القمر، وبين تناهي أبعد العناصر الاربع، جعل الله لنا في ذلك الفوز والنجاة والراحة وتخلصنا مما يقع فيه العصاة الآثمون. وتفترق سائر العناصر الجسدية إلى مستقرها الذي رتبها تعالى فيه إلى أن يجمعها كلها يوم المبعث ويعيدها كما بدأها، لا اله الا هو، وتتفرق أيضا أجزاء الشجر والنبات إلى مقرها أيضا من العناصر الاربعة التي هي النار والهواء والماء والارض، فبحان المبدع المركب المتمم المدبر، لا اله الا هو، {ان في ذلك لآية لقوم يعلمون} ؤ (52 النمل: 27) {وكأين من آية في السماوات والارض يمرون عليها وهم عنها معرضون.} (105 يوسف: 12) . ثم قسمان باقيان وهما الاستحالة والنقلة، فالاستحالة كاستحالة الخمر خلا، فان الخمر لم ترب ولا اضمحلت ولا حدثت عينها ولا عين الخل ولا عدم واحد منهما ولا انتقل من مكان إلى مكان، وكذلك استحالة النار إلى الهواء والهواء إلى النار وبعض العناصر إلى بعض، وقد نجد المربع يزيد عليه مربعا فينمو ويربو ولا يستحيل عن التربيع. وأما النقلة فهي [34 ظ] الحركة العامة الظاهرة وهي تبدل الاماكن، وهذان القسمان كيفية، ومنافي كل حركة سكون المتحرك بها، فالسكون بالجملة ينافي الحركة بالجملة. والحركة المكانية النقلية تنقسم قسمين: اختيارية وطبيعية. والاختيارية تنقسم قسمين: أحدهما تحريك الباري عز وجل ما شاء من أجرام الجو حيث شاء تعالى من ريح أو مطر وما اشبه ذلك، وهي حركة حالة في الاشياء المذكورات وتأثير فيها. والثاني تحريك النفس لما هي من الاجسام صعدا وسفلا، وأمام ووراء، ويمينا ويسارا، وتحريك كل جسم مختار بجبلته. والطبيعية تنقسم ثلاثة أقسام: حركة من الوسط بمعنى لو كالنار والهواء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 الآخذين أبدا في الارتفاع، ولا يأخذان سفلا إلا بالقسر والقهر؛ وحركة إلى الوسط كحركة الماء والأرض فلا يأخذان أبدا إلا سفلا يطلبان المركز ولا يأخذان علوا الا بالقسر والقهر؛ وحركة حوالي الوسط، وهي حركة الافلاك وكل ما فيها من الاجرام الجارية على رتبة معهودة طبيعية وهي حركة استدارة، وهذه الحركة تنقسم قسمين إما من شرق إلى غرب كالفلك الاعلى في ذاته، وإما من غرب إلى شرق كالشمس والقمر والكواكب وأفلاكها، ثم هي أيضاً تختلف في حال سرعتها وبطئها، فتبارك الخالق المدبر، لا اله إلا هو. تم كتاب قاطاغورياس، وهو كتاب الاسماء المفردة، بحوله وقوته وصلى الله على محمد وعلى آل محمد وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 كتاب الأخبار وهو الأسماء المجموعة إلى غيرها وتسمى " المركبة " وهو المسمى باللغة اليونانية " باري ارمينياس " 1 - رسم الاسم الاسم صوت موضوع باتفاق لا يدل على زمان معين، وان فرقت أجزاؤه لم يدل على شيء من معناه، نريد بقولنا " موضوع باتفاق " اصطلاحا من أهل اللغة على ما يختصرون به المعاني الكثيرة بلفظ مختصر يدل عليها كاتفاق العرب على أن سمت الراعي الطويل العنق، الاحدب الظهر، العالي القوائم، القصير الذنب، المتخذ للحمل والركوب " بعيرا " واتفاق العجم على ان سمته باسم آخر. وكل تلك الاسماء دالة على الحيوان الذي ذكرنا [35 و] دلالة واحدة وهكذا كل مسمى وضع له اسم وقولك بعير لا يدل على زمان معين، لا حال ولا ماض ولا مستقبل. وانت إذا قسمته فقلت::بعي " لم يدل على معنى البعير. وقد ظ قوم جهال أن من الاسماء ما يدل شيء من أجزائه على شيء من معناه، كقولك: " عبد الله "، فان عبدا يدل على معنى، فاعلم ان المعنى الذي يدل عليه " عبد " غير المعنى يدل عليه " عبد الله " أي انه لا يدل على المعنى الذي قصد [من] تسمية لرجل عبد الله. الا ترى انك تقول فيمن اسمه عبد الرحمن ليس هذا عبد الرحمن، أو هذا خالد فيمن اسمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 خالد وتكون صادقا مصيبا؛ ويكون مسميه عبد الله كاذبا مخطئا، فلو كان المراد في التسمية الاخبار بأنه عبد الله لكان وعبد الله أيضا سواء، ولكنت في نفيك انه عبد الله أيضا كاذبا، ولكان من سماه عبد الله في الشهادة عليه والاخبار عنه صادقا ولا شك في كذبه، وصح ما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق. وقد لاح بالحقيقة التي بينا أن الاوصاف والاخبار كلها إنما تقع على المسميات لا على الاسماء وأن المسميات هي المعاني والاسماء هي عبارات عنها، فثبت بهذا ان الاسم غير المسمى، ووضح غلط من ظن غير ذلك من اصحابنا الذين يقولون بالكلام غير محققين له: ان الاسم هو المسمى، وقد احتج بعضهم في خطائه ذلك بقول الله تعالى: {سبح اسم ربك الاعلى} (1: الاعلى: 87) وهذا منهم سقوط شديد، وإنما بيان ذلك ان المسميات لما لم يتوصل إلى الاخبار عنها أصلا الا بتوسط العبارات المتفق عليها عنها جعلت المسميات عين تلك العبارات وإنما المراد المعبر بها عنها. ولما لم يكن سبيل إلى الثناء على الله عز وجل الا بذكر الاسم المعبر به عنه لم يقدر على ايقاع الثناء والمدح والتسبيح له تعالى الا بتوسط الاسم: فأمرنا تعالى بما نقدر عليه لا بما لا نقدر عليه أصلا، والمراد بالتسبيح هو تعالى، لا الصوت الفاني المنقطع المعدوم اثر وجوده، الواقع تحت حد الكمية في نوع القول كما قدمنا، فاعلم هذا. ومن الاسماء معرف وهي الخصوص كقولك زيد وعمرو والرجل الذي تعرف وغلام زيد وغلام الرجل وغلامي. ومنها نكرات وهي العموم كقولك رجل ما وحما ما، والاسماء التي تنوب عنها معروفة في اللغات بعضها للخاص متكلم (1) وبعضها للحاضر المتكلم وبعضها للمخبر عنه وبعضها للمشار [35 ظ] إليه كقولك: أنا وأنت وهي وهذا. وهذه هي المسميات عند اهل النحو الضمائر والمبهمات والكنايات وقد قدمنا انها غاية الخصوص وأعرف المعارف. 2 - القول على الكلمة يعني الفلاسفة بهذه اللفظة الشيء الذي يسميه النحويون: " النعوت " والذي   (1) للخاص للمتكلم: كذا في الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 يسميه المتكلمون " الصفات " واذا رسمه النحويون قالوا: هو اسم مشتق من فعل مثل صح يصح فهو صحيح وما أشبه ذلك. وقال الاوائل: انه يدل على زمان معين لأنك تقول صح يصح فهو صحيح فهذا إخبار عن حاله الآن، وذلك فعل ماض ومستقبل، وهذه الكلمة صوت موضوع باتفاق أيضاً على ما قدمنا في الاسم لا يدل بعض اجزائه على معناها الا انها تدل على زمان مقيم كما ذكرنا. وذكروا في قولك الصحة أنها اسم لا كلمة وهذا الذي يسميه النحويون المصدر وهو على الحقيقة اسم للسلامة من العلل الا انه ينقسم قسمين: فمنه ما يكون فعلا لفاعل وحركة لنتحرك كالضرب من الضارب، ومنه ما يكون صفة لموصوف كالصحة للصحيح فانها محمولة فيه وصفة من صفاته. واما الصحيح والضارب فاسما المبرأ من العلة والمتحرك بالضرب استحقهما بمحموله وتأثيره، وإنما ذكرنا هذين اللفظين لأنهما موضوع الخبر ومحمولة فهما جزءان للخبر، وكذلك كقولك فعل وقعد اشياء موضوعة للعبارة عن التأثير الظاهر من الأجرام أو فيها وهي أيضاً جزء من أجزاء الخبر كقولك: قام زيد أو كقولك: زيد صحيح وعبد الله منطلق، فالخبر يقوم من اسمين احدهما اسم مميز للمخبر عنه من غيره وهو الموضوع والثاني صفة مميزة للاخبار عنه من غيره وهو المحمول. 3 - القول على القول أراد الاوائل بلفظة القول هاهنا كل خبر قائم بنفسه وأقل ذلك اسم وصفة على ما قدمنا. والخبر المذكور يدل كل جزء منه على شيء من معناه بخلاف الألفاظ المفردات؛ إذا قلت محمد نبي دلك محمد على بعض مرادك بقولك: محمد نبي. وللخبر توابع سمتها الاوائل " لواحق وربطا "، فاللواحق أشياء زائدة في البيان والتأكيد مقل قولك: العقل الحسن لزيد، والشعر الطويل الجيد [36 و] لفلان، والقوم أجمعون أتوني، فان قولك: العقل الحسن اسمان لم يتم بهما تمامه، كقولك زيد قائم، فلم يكن اجتماع هذين اللفظين الناقصين كحكم اجتماع اللذين تم المعنى بهما. الألف واللام الداخلان على اللغة العربية للتعريف أو ما مقامهما في سائر اللغات هي من اللواحق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 أيضاً لان كل ذلك بيان لاحق بالمبين فلذلك سميت هذه بزوائد لواحق. واما الربط فهي التي يسميها النحويون حروفا (1) في المعنى، وهي ألفظ وضعت للمعاني الموصلة بين الاسم والاسم، وين الاسم والصفة، وبين المخبر عنه والخبر، كقولك: زيد في الدار، وزيد لم يقم، وهي مثل حروف الخفض ك: في وعن ومن وسائرها وكحروف الاستفهام مثل: هل وكيف وما أشبه ذلك، فانك تقول: هل قام زيد؟ وكذلك سائر الحروف الموصلة للمعاني. ومنفعة هذه الحروف في البيان عظيمة فينبغي تثقيف معانيها في اللغة، إذ لا يتم البيان إلا بها، وتنوب عن تطويل كثير. ألا سوى انك تقول اخوتك وأعمالك أتوني، فلولا الواو احتجت إلى افراد كل واحدة من الجملتين والاخبار عنها بانهم أتوك. وقد يكون القول مركبا من لفظين ولا يكون تاما كقولك: إن جئتني أو كقولك: إذا مات زيد، فان قلت ان جئتني اكرمتك كان كلاما [تاما] ، أو إذا مات زيد انقطعت حركته كان كلاما تاما. والخبر كما قدمنا إما إيجاب وإما نفي، والموجب إما أن يكون كذبا وإما أن يكون صدقا، والمنفي أيضاً كذلك. فالخبر إذا تم كما ذكرنا سمى قضية فاما صادقة وإما كاذبة، فاحفظ هذا واذكره فانه سيمر بك كثيرا إن شاء الله تعالى. والقضية النافية والموجبة تنقسم كل واحدة (2) منهما قسمين: إما معلقة بشرط وإما قاطعة. فالمعلقة كقولك: من بدل دينه بغير الاسلام لزمه القتل، وقولك: ان كان متحركا بارادة فهو حي، وكقولك: إذا غابت الشمس كان الليل. واعلم أن متى وما واذا ما وكل هذه الحروف موجب حكمها واحد في الشرط وتعليق المحمول بالموضوع فيها، فان أردت أن تجعل هذه القضايا بلفظ النفي قلت: من بدل دينه لم يجز أن يستبقى إلا أن يسلم، وان كان متحركا بارادة فليس ميتا [36 ظ] وان غابت الشمس لم يكن نهارا. واما القاطعة فان تقول: كل إنسان جوهر، أو أن تقول: الصلوات الخمس فرض على من خوطب بها، والنفي يكون بادخال لا أو ليس أو ما أو   (1) حروفا: حرفا. (2) تنقسم كل واحدة: ينقسم كل واحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 الحروف التي ذكرنا أنها تجزم الأفعال بغير الشرط أو تنصبها، فإذا أدخلت شيئا من هذه الحروف على قضية كاذبة صار النفي حقا. " الاه غير الله " قضية كاذبة، " لا إله غير الله " صدقت. واذا ادخلت هذه الحروف على قضية صادقة كنت كاذبا فهذا الذي سمته الاوائل " السلب والايجاب " لان هذه الحروف تسلب ما أوجبت في لفظك الذي ادخلتها عليه. ولكل موجبة سالبة واحدة وليس ذلك الا بادخال حرف من حروف النفي التي ذكرنا أو اخراجه فقط، وبالله تعالى التوفيق. واعلم أن كل قضية وقع في أول عقدها استثناء فهي شرطية، والشرطية تكون على وجهين: اما متصل واما مقسم فاصل. فالمتصل هو ما اوجب ارتباط شيء بشيء آخر لا يكون الا بكونه؛ وهو يكون على وجهين: اما موجب كقولك: ان غابت الشمس كان الليل، وإما ناف (1) كقولك: ان لم تطلع الشمس لم يكن نهارا الا ترى انك ربطت كون النهار يكون طلوع الشمس ووصلته به، وربطت كون الليل [بكون] مغيب الشمس ووصلته به. وأما المقسم الفاصل فهو ما جاء بلفظ الشك وان لم يكن شكا لكنه حكم للموضوع باحد أقسام المحمولات وذلك مقل قولك: العالم إما محدث وإما لم يزل، وان شئت أتيت بلفظة أو؛ إلا أن لفظة إما إذا قطعت وقسمت أبين من لفظة أو، واذا كنت مقررا مستفهما، فان شئت أتيت بلفظة ان، وإن شئت بلفظة أو، فتقول: أمحدث العالم أو لم يزل، وان شئت قلت: أم لم يزل. وقد تكون اقسام هذا النوع أعني الفاصل اكثر من قسمين، وذلك على قدر توفية القسمة جميع ما تحتمله في العقل، وهذا موضع يعظم فيه الغلط إذا وقع في القسمة اختلال ونقص، فتحفظ منه اشد التحفظ، فان كنت مسؤولا فتأمل هل أبقى سائلك قسما من أقسام سؤاله فنبه عليه، فلا بد لك من الخطأ ضرورة إذا أجبت. وان كنت سائلا فلا ترض لنفسك بهذا فانه الجهال أو الوضعاء الاخلاق المغالطين لخصومهم القانعين بغلبة الوقت دون إدراك الحقائق. واعلم [37 و] ان المحمول إذا كان واحدا والموضوعات كثيرة فهي قضايا كثيرة كقولك: الملك والانس والجن أحياء. فهذه ثلاث قضايا، وإذا   (1) ناف: نافي. س الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 كان الموضوع واحدا والمحمولات كثيرة فهي قضية واحدة كقولك: نفس الإنسان حية ناطقة ميتة مشرقة على جسد يقبل اللون منتصب القامة؛ فان فرقت كل ذلك كانت قضايا متغايرة. واعلم ان الكلام لا يسمى قضية حتى يتم، وسواء طال أو قصر، كقولك الإنسان المركب من جسد يقبل اللون ونفس حية ناطقة ميتة يحرك يده بجسم محدد الطرف، وفي طرفه جسم مائع مخالف للون سطح جسمه في يده، يخط في ذلك السطح خطوطا يفهم معانيها، فكل هذا مساو لقولك إنسان كاتب. واعلم أن القضايا إما اثنينية وهي المركبة من موضوع ومحمول كما قدمنا، وإما أكثر من اثنينية وهي ان تزيد صفة أو زمانا فتقول: محمد كان أمس وزيرا وعمرو رجل عاقل، وقد تزيد أيضاً على هذا بزيادتك فائدة أخرى وهو أن تزيد في القضية: إما وجوبها ولا بد، وإما إمكانها، وإما أنها محال لا تكون. وانت إذا زدت على القضية التي هي مخبر عنه وخبر صفة أخرى كما ذكرنا جاز ذلك، وكانت الزيادة التي زدت هي غرضك في الخبر، يعني أنها تصير هي المحمول والخبر معا وكان المحمول والموضوع اللذان كانا هما المخبر عنه والخبر معا موضوعا ومخبرا عنه فقط، كقولك: زيد منطلق فإذا زدت فقلت زيد المنطلق كريم أو زيد منطلق كريم فيصير قولك زيد منطلق موضوعا أي مخبرا عنه ويصير قولك كريم هو المحمول، أي هو الخبر، وهكذا القول في النفي ولا فرق. واعلم أن القضايا إما مهملة وإما مخصوصة وأما ذوات أسوار. فالمخصوصة ما كانت خبرا عن شخص واحد أو عن اشخاص باعيانهم لا عن جميع نوعهم بنفي أو إيجاب، كقولك: زيد غير منطلق، وإخوتك لا كرام، وفلان خليفة، وعمرو حي. واعلم ان هذا القسم الذي سميناه مخصوصا لا يقوم منه برهان عام فتحفظ من ذلك وسيأتي بيان هذا القول في الكتاب الذي يتلو هذا الكتاب ان شاء الله عز وجل. وأما ذوات الأسوار فهي تنقسم قسمين في الايجاب وقسمين في النفي. فقسما الايجاب اما كلي واما جزئي، فالكلي ما وقع بلفظ [37 ظ] عموم كقولك: كل أو جميع أو لا واحد وما اشبه. والجزئي ما وقع بلفظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 تبعيض كقولك: بعض أو جزء أو طائفة أو طائفة أو قطعة وما أشبه ذلك؛ وقسما النفي ادخال حروف النفي على هذين القسمين. وهذه الأسماء [التي] تعطي العموم المتيقن أو التبعيض المتيقن هي المسماة اسوارا لأنها كالسور المحيط بها في دائرته أو سائر شكله، ومن هذا؟ اعني ذوات الاسوار - يقوم البرهان الصحيح على ما يأتي بعد هذا ان شاء الله عز وجل، وبها يقع الالزام الذي به تبين الحقائق كقولك: إنسان حي، وجميع الناس أحياء أو لا واحد من الناس نهاق ولا واحد من الناس صهال أو قولك: بعض الناس كاتب أو طائفة من المسلمين أطباء وما أشبه ذلك وكقولك في النفي لا بعض الناس حجر وما أشبه ذلك. وأما المهملة فهي التي يكون عليها شيء من الاسوار التي ذكرنا وقد تنوب، في اللغة العربية، المهملة مكان ذوات الأسوار، وذلك أنها لفظة تقع على الجنس أو النوع كقولك: الحي حساس، أو كقولك: الإنسان حي، فان هذه لفظة إذا لم تعن بها واحدا بعينه فلا فرق بين قولك الإنسان حي، وبين قولك كل إنسان حي، والحقيقة في ذلك عند قوة البعث ان تتأمل القضية المهملة فتنظر في محمولها فان لم يمكن إلا ان يكون عاما فالموضوع كلي، وان لم يكن ان يكون عاما فالقضية جزئية. ومما يبين هذا أنك إن لفظت بالمهمل فقلت: الإنسان حي ناطق ميت، الإنسان ضحاك، لم ينكر ذلك احد، ولو قلت الإنسان طبيب بالفعل، الإنسان حائك بالفعل لأنكر ذلك عليك كل سامع ولكذبوك، لان الصفة جزئية، وكذلك لو قلت الاطباء محسنون لكذبك كل سامع لأن الاطباء عموم. والمحسنون هم بعض الاطباء بلا شك فلما حملت على المهمل صفة جزئية أنكرتها النفوس. واعلم ان السور لا يجوز ان يوضع الا قبل الموضوع أي قبل المخبر عنه لا قبل المحمول، وهو الخبر، لأنك إذا قلت: كل إنسان حي صدقت، واذا قلت: الإنسان كل حي، كذبت؛ وإنما يجوز ان تقرن السور الكلي بالمحمول إذا كان حدا أو رسما كقولك نفس الإنسان كل حية ناطقة منه ذات جسد ملون، واذا قلت: الإنسان كل ضحاك، أو إذا كان السور جزئيا مقل قولك: الإنسان بعض الحي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 4 - باب العناصر [38و] اعلم ان عناصر الاشياء كلها، أي اقسامها، في الاخبار عنها، ثلاثة اقسام لا رابع لها: إما واجب وهو الذي قد وجب وظهر، أو ما يكون مما لا بد من كونه، كطلوع الشمس كل صباح، وما اشبه ذلك. وهذا يسمى في الشرائع: " الفرض واللازم ". واما ممكن وهو الذي قد يكون وقد لا يكون، وذلك مثل توقعنا أن تمطر إذا وما اشبه ذلك، وهذا يسمى في الشرع: " الحلال والمباح ". واما ممتنع وهو الذي لا سبيل إليه كبقاء الإنسان تحت الماء يوما كاملا، أو عيشة شهرا بلا اكل أو مشية في الهواء بلا حيلة وما اشبه ذلك، وهذه التي إذا ظهرت من إنسان علمنا انه نبي وهذا القسم يسمى في الشرائع: " الحرام والمحظور ". ثم الممكن ينقسم اقساما ثلاثة لا رابع لها: ممكن قريب كامكان وقوع المطر عند تكاثف الغيم في شهري كانون وغلبة العدد الكبير من الشجعان العدد اليسير من الجبناء؛ وممكن بعيد وهو كانهزام العدد الكثير من الشجعان عند عدد يسير من جبناء وكحجام يلي الخلافة وما أشبه ذلك؛ وممكن محض وهو يستوي طرفاه، وهو كالمرء الواقف إما يمشي واما اشبه ذلك. وكذلك نجد هذا القسم المتوسط في الشرائع ينقسم اقساما ثلاثة: فمباح مستحب ومباح مكروه ومباح مستو لا ميل له إلى احد الجهتين. فاما المباح المستحب فهو الذي إذا فعلته أجرت واذا تركته لم تأثم ولم تؤجر، مثل صلاة ركعتين نافلة تطوعا. واما المباح المكروه فهو الذي إذا فعلته لم تأثم ولم تؤجر واذا تركته أجرت وذلك مثل الاكل متكئا ونحوه. واما المباح المستوي فهو الذي [إذا] فعلته أو تركته لم تأثم ولم تؤجر وذلك مثل صبغك ثوبك أي لون شئت، وكركوبك أي حمولة شئت ونحوه. وقد يأتي اللفظ الذي يعبر به عن الممكن على وجود، فمنه ما يأتي بلفظ الايجاب كقولك: ممكن ان يموت هذا المريض، وقد يأتي بلفظ الشك فتقول: هذا المريض إما يموت واما يعيش، وهذا الرمان اما حلو واما حامض. وقد يأتي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 بلفظ النفي فتقول: هذا المريض لا ممتنع ان يبرأ. واعلم ان كل ممكن فانك تصفه بالضدين معا احدهما بالقوة والآخر بالفعل كقولك: القاعد قائم أي انه قاعد بالفعل قائم بالامكان. واعلم ان الواجب قبل الممكن لان الواجب هو الموجود واما الممكن فلم يأت بعد واما الممتنع فهو باطل لأنه لا يكون ولا يظهر. واعلم ان الواجب ينقسم قسمين: احدهما [38ظ] ما كان معلوما قبل كونه انه لا بد من كونه، كطلوع الشمس غدا، أو كل لم يزل ملازما واجبا مذ وجد كملازمة التأليف للاجسام. والثاني ما كان قبل وجوب غير مقطوع على انه يكون كصحة المريض أو موته. واعلم ان الممتنع ينقسم اقساما اربعة: أحدها الممتنع بالاضافة وهو إما في زمان دون زمان، أو في مكان دون مكان، أو من جوهر دون جوهر، أو في حال دون حال، كوجوب كون الفيلة فاشية في الهند وكونها إلى الآن ممتنعة من ان تكون فاشية في أرض الصقالبة، وكوجوب المرودة في خلال استيفاء المرء اربعة عشر عاما أو امتناع اللحية في تلك المدة ووجوبها بعد وجودها وكوجوب رفع المرء الذي لا يجود بنفسه أو ليس مغمى عليه ارطالا يسيرة وامتناع حمله الف رطل، وكامتناع حمل الضعيف خمس مائة رطل، ووجوب حمل القوي لها، وكامكان الذكي ان يغوص على الغامضة، ويعمل الشعر الجيد وامتناع ذلك من الغبي البليد (1) الابله الطبع فهذا وجه. والثاني ممتنع في العادة قطعا وهو متشكل في حس النفس ومحلها لو كان كيف يكون، كانقلاب الجماد حيوانا، واختراع الاجسام دون تولد، ونطق الجماد، وهذا القسم به تصح نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، إذا ظهرت منه ولا سبيل إليها لغيره. والثالث الممتنع في العقل ككون المرء قائما قاعدا في حال واحدة، وككون الجسم في مكانين، وكانقلاب الذي لم يزل محدثا، أو المحدث لم يزل؛ أو وجود أشياء كثيرة لم تزل، وهذا بالجملة كل ما ضاد الأوائل المعلومة بأول العقل، وهذا ما لا سبيل إلى وجوده أصلا، ولا يفعله الخالق ابدا، ولا يكون ذلك أصلا، وفيه فساد بنيه العالم وانخرام رتب العقول التي هي اسباب معرفة الحقائق. وتمت كلمات   (1) البليد: البعيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته. والرابع المنطلق مثل كل سؤال أوجب على ذات الباري تغيرا، فهذا هو الممتنع الذي ينقض بعضه بعضا ويفسد أوله آخره، وهذا مثل سؤال من يسأل هل يقدر الله تعالى ان يخلق مثله ونحو هذا، فاعلمه لأنه لا يحدث أولا على الاطلاق. واعلم أنه لا قسم لقضايا العالم غير ما ذكرنا أصلا. وقد يأتي أيضاً اللفظ الذي يعبر به عن الواجب بلفظ النفي، وبلفظ الإيجاب وقد يأتي اللفظ الذي يعبر به عن الممتنع بلفظ النفي، وقد يأتي أيضاً بلفظ الايجاب، ولا سبيل إلى ان يأتيا بلفظ شك فتقول: واجب ان تطلع الشمس غدا، وممتنع ان لا تطلع غدا، وتقول: واجب ان لا يوجد في النار برد، وممتنع [39 و] ان يوجد في النار برد. وقد قال قوم ان العناصر اثنان وهما واجب وممتنع فقط. قالوا: ولا ممكن البتة لأن الشيء الذي تسمونه ممكنا هو قبل وجوده ممتنع، وهو بعد وجوده واجب، فلا ثالث. قالوا: وما غاب عنا فاما أنه في علم الله تعالى يكون وإما انه لا يكون، فان كان الله عز وجل علم أنه سكون، فهو الآن واجب ان يكون، وان كان تعالى علم انه لا يكون فهو الآن ممتنع أن يكون. ونحن نقول: إن هذا حكم فاسد. أما حجتهم الآن من أن الشيء قبل كونه ممتنع فخطأ، بل في القوة وفي الظن ربما قد كان وربما لم يكن؛ وأما حجتهم بعلم الله تعالى فان الله تعالى قد أمر ونهى، فلو لم يكن الشيء الذي أمر الله به بعد متوهما كونه في المأمور به لم يكن للأمر معنى، فالمتوهم كونه هو الممكن، وأفعال المختارين قبل كونها داخلة في قسم الممكن، بخلاف أفعال الطبيعة. ثم نقول: ان الحس والعقل قد ثبت فيهما أن بين مشي القاعد الصحيح الجوارح والجسم الغير ممنوع وبين مشي المقعد المبطل الساقين فرقا، وهذا فرق بين الممكن والممتنع. وكذلك فيهما أن بين قعود الصحيح الذي ذكرنا الذي إذا شاء تركه تركه، وبين قعود المقعد الذي لو رام جهده تركه لم يقدر، فرقا واضحا، وهذا فرق بين الممكن والممتنع. والواجب ان نلزم من قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 بخلاف قولنا ان لا يتأهب للجوع إذا اصابه باكل الطعام لأنه ان كان انتهى اجله فواجب ان يموت، وان كان لم ينته اجله فممتنع ان يموت، وينبغي ان يقتحم النيران إذا كان في المغيب انه لا يحترق فممتنع ان يحترق فيلزم مخالفنا أن تأهبه وفكرته وسعيه فيما يدفع به نفسه البرد والعطش والأذى كتأهبه لدفع حركة الفلك أو لمنع الشمس من الطلوع. ونحن إنما نناظر الناس حتى نردهم إلى موجب العقل أو الحس أو نلزمهم ان يخرجوا عن رتب العقل والى مكابرة الحس، فإذا خرجوا إلى ما ذكرنا فقد كفونا التعب معهم، ولزمنا الاعراض عنهم وتركهم يتمنون الاضاليل ويفرحون بالأباطيل كالسكارى والصبيان المغرورين باحوالهم، المسرورين بافعالهم، ونشتغل بما يلزمنا من تبين الحقائق لطلابها، فإنما نتكلم مع النفوس العاقلة المميزة، لا مع الألسنة فقط، ولا مع النفوس السخيفة. 5 - الكلام في الايجاب والسلب؟ وهو النفي - ومراتبه ووجوهه النفي المفيد معنى والذي تنفي به ما أوجب خصمك إنما حكمه أن يكون للمحمول لا [39 ظ] للموضوع لأنك تثبت الاسم ثم توجب له صفة أو تنفيها عنه. ولو نفيت الموضوع وهو الاسم المخبر عنه لكنت لم تحصل على معنى تخبر عنه كقولك: لا زيد منطلق لأن ظاهر هذا اللفظ نفي زيد ونفي الانطلاق معه. والأوائل يسمون مثل هذا " قضية غير محصلة "، وإنما الصواب أن تقول: زيد غير منطلق، أو ليس منطلقا، فتكون قد أثبت زيدا ونفيت عنه الانطلاق. والأوائل يسمون هذه " قضية ميلوبة " و " متغيرة في المحمول " لأنك غيرتها عن الايجاب، فتحفظ في هذا المكان، فأقل ما في ذلك ان تجيب عن أحد وجهي الكلام اللذين هما إما نفي المخبر عنه جملة وإما نفي الصفة منه فتكون مجيبا قبل تحقيق السؤال وتصحيحه، فيلزمك نقص الفهم والجور في الحكم. واذا اردت نفي ما اوجب خصمك نفيا تاما صحيحا فلا بد لك من انك إنما تريد نقص بعضه أو نقض كله، فان اردت نقض بعضه فبين ذلك، وان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 اردت نقض كله فلا من ان يجمع كلامك ثمانية شروط والا فليس نقضا تاما احدها: ان يكون الموضوع فيما اوجب هو وفيما نفيت انت واحدا، فان كان اثنين وقع الشغب، وذلك مثل قول القائل: الموجود محدث، فيقول الآخر: الموجود ليس محدثا، فهذا فساد في بنية الكلام، وليس احد الكلامين نقضا للآخر، لأن الباري عز وجل موجود، وليس محدثا، والعالم موجود وهو محدث، ونحو ذلك عرض لاصحابنا من اهل السنة والمعتزلة فانهم اكثروا التنازع والخوض حتى كفر بعضهم بعضا، فقالت المعتزلة: القرآن مخلوق، وهم يعنون علم الباري عز وجل. والثاني: ان يكون المحمول الذي اوجب احد كما هو المحمول الذي نفى الآخر لا غيره أصلاً، وذلك مثل قول قائل: زيد عالم، فقال مخالفة: زيد ليس بعالم، فان عنى أحدهما عالما بالنحو، وعنى الآخر عالما بالفقه لم تتناقض قضيتاهما. الثالث: ان يكون الجزء الذي استقر الحكم من الموضوع واحدا في كلتا القضيتين لا غيره كقائل قال: زيد اسود، يريد اسود الشعر، فيقول الآخر: زيد ليس باسود، يريد اللون أو العين. والرابع: ان يكون الجزء من المحمول في القضيتين واحدا لا متغاير كقول قائل: زيد ضعيف، فيقول الآخر: زيد ليس بضعيف، يريد احده ضعف الجسم بالبنية الكلية، والآخر نفي ضعف الجسم بالمرض الذي هو جزء من أجزاء [40 و] الضعف. والخامس: ان يكون الزمان الذي أثبت فيه أحدهما ما أثبت هو الزمان الذي نفى فيه الآخر ما أثبت هذا لا غيره، كقائل قال: زيد كاتب؟ أي قد كتب - فيقول [الآخر] : زيد ليس الآن يكتب. والسادس: ان يكون الحال التي أثبت فيها ما أثبت، هي الحال التي نفى فيها الآخر ما أثبت هذا لا غيرها، كقائل قال: الطفل فارس، يريد الامكان والاحتمال في البنية، فيقول الآخر: الطفل ليس بفارس يريد بالفعل في حال الطفولة. والسابع: ان تكون اضافة الشيء الذي أثبت هو واضافة الشيء الذي نفي خصمه إلى شيء واحد لا إلى شيئين، كقائل قال: زيد عبد فيقول الآخر: زيد ليس عبدا، يريد احدهما لله عز وجل، ويريد الآخر نفي انه متملك لإنسان، ونحو ذلك: ونحو ذلك: السيف يقطع، خصمك: السيف ليس يقطع، واراد هذا اللحم، واراد هذا الحجارة. والثامن ان تكون القضيتان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 مستويتين في الجوهر أو في العرض، لا مختلفتين، كقائل قال: زيد ينتقل، فقال خصمه: زيد لا ينتقل، وهما يخبران جميعا [عن] قاعد في سفينة تسير، فهو ينتقل بالعرض، أي بنقل السفينة إياه وهو منتقل بذاته بل هو ساكن. وبالجملة فتش كلام خصمك فان كان في كلامك الذي تريد ايجابه أو نفيه معنى يخالف ما حكم هو فيه بايجاب أو نفي فبينه ولا تخالف شيئا من معانيه الا بحرف النفي فقط والا كنت شغيبا معنتا أو جاهلا، فهذه شروط النقيض. والنفي الكلي؟ وهو نفيك الصفة عن جميع النوع، أو نفيك جميع الصفة عن بعض النوع، تنطق [به] بلفظ يشبه في ظاهره الجزئي لأنك إن اردت النفي الكلي، وهو العام، قلت ليس واحدا من الناس صهالا وليس أحد من الناس صهالا وليس واحدا من الخيل ناطقا وليس شيء من النطق في هذا الفرس. والنفي الجزئي، وهو نفيك الصفة عن بعض النوع لا عن كله، تنطق به بلفظ جزئي وبلفظ كلي لأنك تقول [ليس] بعض الناس كاتبا [؟] (1) ومعنى هذين اللفظين واحد لا اختلاف فيه، احدهما ظاهرة العموم والثاني ظاهره الخصوص. والايجاب الكلي وهو اثباتك الصفة لجميع النوع لا يكون الا بلفظ كلي اما بسور كما قدمنا، واما مهمل يقصد به العموم كقولك: كل إنسان حي، أو كقولك: جميع الناس أحياء، أو تقول: الإنسان حي، وانت لا تريد شخصا واحدا بعينه، أو تقول: الناس أحياء وأنت لا تريد بعضا منهم. والايجاب لجزئي وهو إثباتك الصفة لبعض النوع لا يكون أصلا إلا بلفظ جزئي كقولك: بعض الناس كاتب، فافهم هذه الرتبة وتثبت فيها. وقد قال [40 ظ] بعض المتقدمين ان القائل إذا أتى بقضية مهملة فقال: الإنسان كاتب، ان الاسبق إلى النفس أن مراده بذلك بعض النوع لا كله. وأما نحن فنقول: إن هذا القول غير صحيح وان هذه المهملات يعني الألفاظ التي تأتي في اللغة، مرة للنوع كله، ومرة للشخص الواحد، ومرة لجماعة من النوع، فانها إن لم يبين المتكلم بها أنه اراد شخصا واحدا من النوع، أو لعض النوع دون بعض، أو لم يقم على ذلك برهان ضروري، أو مقبول، أو متفق عليه من الخصمين، فلا يجوز أن يحمل على عموم النوع كله لأن الألفاظ   (1) [؟] ها هنا نقص يقدر فيه النفي الجزئي بلفظ كلي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 إنما وضعت للافهام لا للتلبيس. وكل لفظة فمعبرة عن معانيها ومقتضية لكل ما يفهم منها، ولا يجور أن يكلف المخاطب فهم بعض ما يقتضيه اللفظ دون بعض، إذ ليس [ذلك] في قوة الطبيعة ألبتة، بل هذا من الممتنع الذي لا سبيل إليه ومن باب التكهن، الا باتفاق منهما أو بيان زائد، والا فهي سفطسة وشغب وتطويل بما لا يفيد ولا يحقق معنى. وسمى بعض المتقدمين قول القائل: كل إنسان حي، وقول المخالف: ليس كل إنسان حيا، " ضدا "، وسمى قول القائل: كل إنسان حي وقول الآخر لا بعض الناس حي، " نقيضا " وذكر أن النقيض أشد مباينة من الضد، واحتج بأن قال بان القضيتين الاولين اللتين سميناهما ضدا كلتاهما كلية، الواحدة موجبة والاخرى نافية، والقضيتان الاخريان اللتان سميناهما نقيضا، الواحدة كلية والثانية جزئية، والواحدة موجبة والثانية نافية، وإنما اختلفت الاوليان في جهة واحدة وهي الكيفية فقط أي في الايجاب والنفي، وهما متفقتن في الكمية أي ان كلتيهما كلية، واختلفت الاخريان في جهتين: إحداهما الكيفية، أي الايجاب والنفي كاختلاف قضية الضد، والثانية الكمية وهي ان الواحدة كلية والثانية جزئية. قال: فما اختلف من جهتين أشد تباينا مما اختلف من جهة واحدة. ونحن نقول: ان هذا خطأ وان القائل إنما راعى ظاهر اللفظ دون حقيقة المعنى، وان قضاء هذا القائل وان كان صادقا في عدد وجوه الاختلاف، فهو قضاء كاذب في شدة الاختلاف، ولو كان قال: فكان اشد [أو] اكثر لكان حقا. بل نقول: ان التي تسمى ضدا فنحن نسميها " نفيا عاما " أو ان شئت: " نقيضا عاما " [وهي] اشد تباينا من [41و] الاخرى التي نسميها " نقيضا خاصا " أو ان شئت " نفيا خاصا " لان قائل الأول نفى جميع ما اوجبه الآخر وكذبه في كل ما حكى ولم يدع معنى من معاني قضيته الا وخالفه فيها وباينه في جميعها. واما الثانية فان قائلها إنما نفى بعض ما اوجب الآخر وأمسك عن سائر القضية فلم ينفها ولا اوجبها ولا خالفه فيها ولا وافقه وإنما باينه في بعض قضيته لا في كلها والمباين في الجميع اشد خلافا من المباين في البعض. وإذا أتاك خصمك بمقدمة مهملة فقرر معه معناها هل العموم أراد أو الخصوص، أي على الكل يحملها أو بعض ما يقتضيه اللفظ الذي تكلم به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 وتحفظ من إهمال هذا الباب، واذا قضيت قضية فنفاها خصمك فتأمل فان كان ما أوجبت ونفى هو من ذوات الوسائط فحقق عليه في ان يبين ما أراد كقولك: زيد أبيض، فيقول هو: ليس زيد بأبيض، فانه لا يلزمه بهذا القول أن يكون زيد أسود، ولعله أراد انه أحمر أو أصفر. ومثال هذا في الشرائع أن تقول: أمر كذا حرام فيقول خصمك ليس بحرام أو تقول أمر كذا واجب، فيقول خصمك: ليس بواجب، فانه في قوله ليس بحرام ليس يلزمه أنه واجب ولا في قوله إنه ليس واجبا إنه حرام، بل لعله أراد أنه مباح فقط. وأما غير ذوات الوسائط فلا تتالي (1) عن هذا لأنك إن قلت: زيد حي فقال خصمك: هو غير حي فقد أوجب أنه ميت ضرورة، ولا واسطة ها هنا، وقد لزمه الموت بقوله فانظر انه قد يكون معنى النفي بلفظ الايجاب الا ان ذلك ليس شرطا عاما تثق النفس به بل هو في مكان دون مكان لأنك تقول: فلان ميت فيقول خصمك: فلان يكتب أو فلان حي فهذا معنى صحيح في نفي الموت ولكن لا تثق بهذا؛ فانك إذا قلت: فلان متكئ فيقول خصمك: فلان جالس فقد تكونان معا كاذبين بان يكون المخبر عنه قائما، وحقيقة النفي هو ما صدق احدهما وكذب الآخر، فان اردت حقيقة النفي ورفع الاشكال فلا بد من أحد حروف النفي التي قدمنا ذكرنا فتأمن من الغلط، ولهذا قال المتقدمون: ان لكل موجبة سالبة واحدة، ولكل سالبة موجبة واحدة، أي ان ذلك لا يكون الا بادخال حرف النفي فقط. [41 ظ] 6 - باب اقسام القضايا الصدق والكذب واذا قد ذكرنا أن عناصر الاخبار ثلاثة أي انقسلمها ثلاثة وهي: واجب أو ممكن أو ممتنع فلنذكر ان شاء الله عز وجل بتوفيقه لنا وجوه أقسام القضايا الموجبات والنوافي للصدق والكذب في هذه الاقسام فنقول، وبالله تعالى نستعين: ان النفي العام والايجاب العام ينقسمان إلى الصدق والكذب ضرورة في   (1) تتالي: تبالي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 عنصر الوجوب، والموجبة صادقة حق، والنافية أبدا كاذبة باطل، مثل قولك: كل إنسان حي، فهذا حق ونفيه كذب، إذا قلت: ولا واحد من الناس حبي فهذا امر لا يخونك ابدا، فاضبطه. وكذلك أيضا في عنصر الامكان. فان قولك: كل إنسان كاتب، إذا عنيت بالقوة، وأما إذا عنيت بالفعل فالقضيتان العامتان الموجبة والنافية كاذبتان فيه ابدا، كقولك: كل إنسان كاتب أي محسن للكتابة أو قولك ولا واحد من الناس كاتب، فكلتاهما كذب. وأما في عنصر الامتناع فالنافية ابدا صادقة، والموجبة ابدا كاذبة، كقولك: كل إنسان نهاق فهذا كذب، واذا قلت ليس احد من الناس نهاقا فهذا صدق. ثم لنتكلم على النفي الخاص والايجاب الخاص ان شاء تعالى، فتقول وبالله نتأيد بان قضيتي النفي الخاص والايجاب الخاص في عنصر الوجوب يقتسمان الصدق والكذب ضرورة لأنك تقول: بعض الناس حي فذلك حق ونفيه لا بعض الناس حي كذب. واما في عنصر الامتناع فنهما أيضاً يقسمان الصدق والكذب في ان قولك بعض الناس حجر كذب ونفيه بعض الناس لا حجر صدق فتصدق النافية ابدا في هذا، القسم وتكذب الموجبة فيه. واما في عنصر الامكان فكلاهما صادقة ضرورة وذلك قولك: بعض الناس كاتب؟ تريد بالفعل - حق، ونفيه بعض الناس لا كاتب؟ تريد بالفعل - حق. ثم لنتكلم على الايجاب العام والنفي الخاص، فنقول وبالله تعالى نتأيد: إن قضيتي الايجاب العام والنفي الخاص في عصر لايجاب يقتسمان الصدق والكذب ضرورة، فان قولك: كل الناس حي صدق، ونفيه: لا كل الناس حي ولا بعض الناس حي كذب، فتصدق الموجبة أبدا وتكذب النافية. واما في عنصر الامكان فانهما أيضا يقسمان الصدق والكذب، فان قولك كل الناس كاتب، تريد بالفعل، كذب، ونفيه لا كل الناس [42 و] كاتب أو لا بعض الناس كاتب، تريد بالفعل، صدق، فتكذب الموجبة وتصدق النافية. واما في عنصر الامتناع فانهما أيضا يقسمان الصدق والكذب ضرورة، كقولك: كل إنسان نهاق كذب، ونفيه لا كل الناس نهاق أو لا بعض الناس نهاق صدق فتكذب الموجبة وتصدق النافية. ثم لنتكلم على الايجاب الخاص والنفي العام، وبالله تعالى نتأيد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 إن قضيتي الايجاب الخاص والنفي العام في عنصر الوجوب يقتسمان الصدق والكذب ضرور. فان قولك بعض الناس حي حق، ونفيه: ليس واحد من الناس حيا كذب، فتصدق الموجبة وتكذب النافية. واما في عنصر الامكان فكذلك أيضاً، لأن قولك: بعض الناس كاتب حق، ونفيه لا واحد من الناس كاتب كذب، فتصدق الموجبة وتكذب النافية. واما في عنصر الامتناع فكذلك أيضاً، لان قولك: بعض الناس حجر كذب، ونفيه لا واحد من الناس حجر صدق، فتصدق النافية وتكذب الموجبة، فتدبر هذه القسمة فانك ترى رتبة حسنة لا تخونك ابدا فاضبط: اننا عنينا بقولنا؟ فيما تقدم لنا - " عام " انه الذي تسميه الاوائل " كليا " والذي قلنا فيه " خاص " فهو الذي تسميه الاوائل " جزئيا ". واعلم ان العموم في النفي والايجاب في عنصر الامكان صادقان ابدا. واعلم ان الموجبة العامة في عنصر الوجوب صادقة ابدا! واعلم ان النافية العامة في عنصر الوجوب كاذبة ابدا. واعلم ان الموجبة الخاصة في عنصر الوجوب صادقة ابدا، واعلم ان النافية الخاصة في عنصر الوجوب كاذبة ابدا. واعلم ان الموجبة العامة في عنصر الامكان كاذبة ابدا. واعلم ان النافية العامة في عنصر الامكان كاذبة ابدا. واعلم ان الموجبة الخاصة في عنصر الامكان صادقة ابدا. واعلم ان الموجبة العامة في عنصر الامتناع كاذبة ابدا. واعلم ان النافية العامة في عنصر الامتناع صادقة ابدا. واعلم ان الموجبة الخاصة في عنصر الامتناع كاذبة ابدا. واعلم ان النافية الخاصة في عنصر الامتناع صادقة ابدا. واندرج لنا فيما ذكرنا آنفا أمر غلط فيه جماعة من الناس فعظم فيه خطاهم وفحش جدا. وذلك أنهم قدروا أن القائل: ليس بعض الناس نهاقا، انه قد أوجب لسائرهم النهيق [42 ظ] ، فظنوها قضية كاذبة، وهذا كذب منهم وظن فاسد رديء باطل ينتج لهم نتائج عظيمة الفحش، لأنه لم يخبر عن سائرهم بخبر أصلا بانهم ينهقون، ولا بانهم لا ينهقون، ولا ندري لو اخبر لكان يخبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 بكذب أو بصدق حتى يخبر، فندي حينئذ صفة خبره، لكنه الآن قد صدق في نفيه النهيق عن بعضهم صدقا صحيحا متيقنا، وسكت عن سائرهم، وليس يلزم من أخبر عن بعض النوع بخير يعمه ويعم سائر نوعه أن يخبر ولا بد عن سائر النوع إلا ان شاء ان يخبر، والسكوت ليس كلاما؛ ومن سكت لم يتكلم؛ ولا تقض على احد بسكوته انه قضاءا لا يعلم الا بالكلام الا حيث أمضت الشريعة القضاء به فيما صار خارجا بالامر عن المعهود المعلوم فقط، وليس ذلك الا في موضعين فقط لا ثالث لهما، احدهما اقرار الرسول عليه الصلاة والسلام على ما رأى. والثاني صمات البكر، ومن تكلم فلم يسكت، الا ترى ان من قال نفس زيد حية ناطقة ميتة فهو صادق، فلو كان رأى هذا الظان الذي ابطلنا غلطه حقا لكان القائل نفس زيد حية ناطقة ميتة كذبا، لا نه على حكم هؤلاء الجهال كان يكون موجبا لسائر أنفس الناس على ما اخبر به عن نفس زيد، وهذا ما لا يظنه ذو عقل؛ ولو كان هذا لكانت القضايا المخصوصة كلها كواذب، أي ان كل خبر عن شخص كان يكون كاذبا، إذ ينطوي فيه عندهم ان سائر نوع بخلاف ذلك، فما كان هذا مكبرة للحس صح ما قلنا اولا من ان المخبربان بعض الناس ليس حمارا صادق، يكن النفي لما هو منفي أولى بالصدق فيه من الا يجب لما هو موجب ولم يلزمه ان يظن به انه اوجب الحمارية لسائر من سكت عنه من باقي النوع، لكن سائر النوع موقوف على ما هو عليه أي له من الحكم ما قد وجب بعد له بغير هذه القضية التي قضيت على بعضه، وهذا الذي غلط فيه كثير ممن تكلم في علم الشريعة " بدليل الخطاب " وقضوا به القضايا الفاسدة؛ وكذلك من أخبر بممكن فقال: بعض الناس كاتب أو ليس زيد كاتبا فليس فيه ان سائر الناس لا كتاب ولا ان من عدا زيدا كاتب، ولا يوجب قوله ما ذكرنا شيئا مما سكت عنه أصلا، وإنما يؤخذ حكم سائرهم من دلائل أخر وقضايا غير هذه، ولو كان ما ظنه هؤلاء المغفلون لوجب ضرورة ان قوا [43و] القائل: زيد كاتب كذب، إذ ذلك يوجب على حكم هؤلاء ان جميع الناس حاشاه كتاب. فلما كان كلا الامرين باطلا بطل الحكم لجميع ما ذكروه، ولما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 صدق القائل: ليس زيد كاتبا، والقائل: عمرو كاتب، والقائل: خالد حي والقائل: ليس عبد الله حجرا، ولم يوجب كل ذلك حكما على غير من ذكر لا بموافقة ولا بمخالفة، صح ما قلنا من ان القضية إنما تعطيك مفهومها خاصة وان ما عداها موقوف على دليله، وبطل قول من قال: ان عداها خارج عن حكماء، وبطل أيضاً قول من قال: إن عداها داخل في حكمها، وبالله تعالى التوفيق. ولا يظن ظان ان هذا نقض لما قلنا في كتبنا في احكام الدين ان الحكم الذي حكم به الواحد الأول تعالى على لسان الذي ابتعثه رسولا الينا في شخص من نوع انه لازم لجميع النوع الا ان يبين انه خص به ذلك الشخص، وقلنا أيضاً انه غير لازم لغير ذلك النوع أيضاً أصلاً الا ببيان وارد بانه فيما سواه من الانواع، فمن ظن في كلامنا هذا الظن فقد غاب عن فهم قولنا. وبيان ذلك ان عدد الاشخاص غير متناه عندنا، على ما قدمنا في اول هذا الديوان، فلا سبيل إلى عموم كل شخص منها بخطاب يخصه إذ هم حادثون جيلا بعد جيل، والرسول عليه السلام مبتعث ليحكم في كل شخص وعلى كل شخص يحدث أبدا إلى انقضاء عالم الاختبار، فإذا حكم، صلى الله عليه وسلم، في شخص بحكم ولم يعلمنا انه خص به ولا انفرد به ذلك الشخص بكلام يخصه به كان كحكمه على البعض الذي في عصره وكان ذلك جاريا بالمقدمات المقبولة على كل حادث من الاشخاص ابدا. ويكفي من بطلان هذا الاعتراض انه لا شيء من كلامه، عليه السلام، أتى مفردا الا وقد جاء معه بيان واضح عام لمن سوى ذلك الشخص ولما سواه ابدا. وليس هذا مكان الكلام في ذلك، وإنما نبهنا عليه لئلا يتحير فيه من صدم به ممن يقول بقولنا، وبالله تعالى التوفيق. واعلم ان قولك: كل الناس حي وقول الذي يناظرك: بع الناس حي ليس خلافا لقولك؛ وكذلك لو قال: زيد حي، لكن هذا تتال في الايجاب لأنه تلاك فصوب بعض قولك ولم يخالفك في سائره ولا وافقك لكنه امسك عنه؛ وكذلك إذا قلت: كل الناس لا حجر، فقال هو: بعض الناس لا حجر، فلم يخالفك لكنه تتال في النفي أي تتابع. وإنما يكون خلافا إذا قلت: كل الناس احياء، وقال هو ولا واحد من الناس حي، وقال: ليس بعض الناس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 حيا فهذا خلاف [43ظ] احدهما نفي عام والثاني نفي خاص. واما القضايا المخصوصة وهي التي يخبر بها عن شخص واحد فانها تقتسم الصدق والكذب ابدا في الواجب والممكن والممتنع؛ اما في الواجب فتصدق الموجبة ابدا وتكذب النافية، كقولك، زيد حي لا حي. واما ف الممتنع فتكذب الموجبة ابدا وتصدق النافية كقولك: زيد حجر لا حجر. واما في الممكن فكيف ما ولفق حقيقة الخبر في صفة الشخص المخبر عنه مثل قولك: زيد طبيب زيد ليس طبيب، فان التي توافق صفته تصدق اما الموجبة واما النافية والتي تخالف صفته تكذب، إما الموجبة واما النافية. 7 - باب ذكر موضع النفي واعلم أنه واجب أن تراعي إذا أردت أن تنفي صفة ما أين تضع حرف النفي، فأصل الحكم فيه إذا اردت البيان ورفع الاشكال ان تضع حرف النفي قبل الخبر لا قبل المخبر عنه، فيقول خصمك: زيد حي فتقول: زيد لا حي. واعلم ان الاوائل إذا وضعوا حرف النفي قبل الموضوع الذي هو المخبر عنه، كان معه خبرا أو لم يكن معه خبر، فحينئذ يسمونه " غير محصل " [و] إذا وضعوه قبل الموضوع، وضعوه ثانية أيضاً قبل المحمول الذي هو الخبر سموه " غير محصل ومتغيرا " ولو وضعوه قبل المحمول فقد سمي " متغيرا " فقط. وذكروا انه قد يقع في المهمل الذي لا سور عليه، وفي المخصوص وهو الاخبار عن شخص واحد وفي ذوات الاسوار. واذا وضعوه قبل المحمول في القضية ذات السور سموه: " مسلوبا "، واذا وضعوه قبل السور سموه " نقيضا "، واذا وضعوه في كل موضع من هذه المواضع جمعوا له الاسماء الثلاثة المذكورة. وكل قضية لم يكن حرف النفي قبل موضوعها الذي هو المخبر فهي تسمى " بسيطة " نافية كانت أو موجبة ذات سور كانت أو غير ذات سور، وانت إذا قلت: لا إنسان حجر فانك لم تحصل شيئا تخبر عنه. وتأمل عظيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 الغلط الواقع (1) في تسويتك وضع حرف النفي قبل السور ووضعه قبل المحمول فانك إذا قلت: لا كل إنسان كاتب (2) صدقت، وكنت إنما نفيت (3) بذلك الكتابة عن بعض الناس على الحقيقة، لا علم عن كلهم؟ على ما قدمنا من ان النافية الجزئية تظهر بقول كلي وبجزئي أيضا -. وتأمل ذلك في قولك: ليس كل إنسان كاتبا فان هذا أبين في اللغة العربية وأوضح في أنه نفي بجزئي [44و] وكذلك لو اضمرت اسم ليس فقلت: ليس كل إنسان كاتب أي ليس الحكم كل إنسان كاتب، فهذه كلها نوافي جزئيات فاضبط ذلك جدا. وانت إذا قلت: كل إنسان لا كاتب فانك نفيت الكتابة عن الجميع واحدا فتحفظ من مثل هذا، فأيسر ما في ذلك ان يكون خبرك كذبا وان كنت لم تقصده فتضل بذلك من حسن ظنه بك، وهذه خطة خسف لا يرضى بها فاضل. واعلم انك إنما تنفي ما تلصق به حرف النفي، فان لصقته بالمحمول الذي هو الخبر عن المخبر عنه نفيت المحمول كله، وإن ألصقته بالسور فإنما تنفي بعض القضية أو جميعها على حسب صيغة لفظك في اللغة، ألا ترى انك تقول: ممكن ان يكون زيدا اميرا فهذا " نقيض " لأنك نفيت النوع وهو العنصر، يعني انك نفيت امكان القضية كلها، فإذا جعلت حرف النفي عد ممكن وقبل ذكر يكون الذي هو الزمان فقلت ممكن ان لا يكون زيد اميرا فهذا " تغيير " لان الامكان لم تنفه بل اثبته، لكن أدخلت فيه نفي ما أدخل خصمك فيه الامكان، وتغيرت المقدمة عن حالها، وهي: كون زيد اميرا؛ فان جعلت حرف النفي بعد العنصر والزمان أي بعد لفظ الجواز وهو الامكان وبعد لفظ الكون وقبل الموضوع الذي هو المخبر عنه فقلت: ممكن ان يكون غير زيد اميرا فلم تنف عن زيد شيئا وهذا الذي يسمى " غير محصل "، ويسمى أيضاً " متغيرا "، إذ كانت [غير] بمعنى ليس لم تنف عن شخص بعينه شيئا ولا نفيت أيضاً ما اوجب   (1) الواقع: الرافع. (2) كاتب: كاتبا. (3) نفيت: انفيت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 خصمك ولا أوجبت أيضاً لشخص بعينه شيئا لكن اخبرت عن غير زيد، وغير زد ر يتحصل من هو ولا ما هو، وابقيت الامكان والكون بحسبهما مثبتين لا منفيين. وكذلك المقدمة التي اثبت خصمك لم تنفها انت ولا اثبتها أيضاً بل سكت عنها جملة فلم تناقضه ولا خالفته. وان جعلت حرف النفي بعد النوع وبعد الزمان وبعد الموضوع وبعد المحمول فقلت: ممكن ان يكون زيد لا اميرا فهذا سلب، ويسمى أيضاً " انتقالا "، لأنك اثبت النوع الذي هو الامكان والزمان الذي هو الكون والموضوع الذي هو المخبر عنه ونفيت عنها الحمل الذي اثبت خصمك فقط، فهذه قضية نافية. وهكذا القول في القضايا المهملة وفي القضايا المحمولة ولا فرق في نفي ما تنفي وايجاب ما توجب. فافهم اختلاف هذه الرتب فمنفعتها في ايراد الحقائق وتثقيف ورفع الاشكال منفعة [كبيرة] جدا وبالله تعالى [44ظ] التوفيق. واعلم انك إذا أوجبت المخبر عنه بلفظ " ذي " شيئا ما، مثل قولك: ذو مال أو ذو صفة كذا، فانك إذا اردت نفي ذلك عنه لم يكن لك بد من ابقاء لفظة ذي في نفيك ذلك عن من لوجبته له فتقول: ليس ذا مال. 8 - بقية الكلام في اقسام القضايا الصدق والكذب واعلم ان من القضايا ما تصدق مفردة وتصدق مجموعة ومنها ما تصدق مفردة وتكذب مجموعة ومنها ما تكذب مفردة وتصدق مجموعة ومنها ما تكذب مفردة وتكذب مجموعة. فالتي (1) تصدق مفردة ومجموعة مثل قولك الإنسان حي الإنسان ناطق، الإنسان ميت، الإنسان ضحاك، فكل ذلك حق صدق، فان قلت: الإنسان حي ناطق ميت ضحاك، فكل ذلك حق صدق؛ واما التي (2) تصدق مفردة وتكذب مجموعة فكعبد مجتهد لنفسه لا لسده، فقولك فيه: انه عبد حق، وقولك فيه: مجتهد حق (3) ، فان قلت: هذا عبد مجتهد كذبت حتى   (1) فالتي: فالذي. (2) التي: الذي. (3) فيه مجتهد حق؛ مكررة في الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 تبين وجه اجتهاده؛ وإنما هذا في الصفتين المحمولتين إذا كانتا مضافتين إلى شيئين مختلفين فأليست باسقاط ما هي مضافة إليه وأوهمت ان كلا الصفتين مضافة إلى شيء واحد. واما التي تصدق مجموعة وتكذب مفترقة فكرجل قوي النفس ضعيف الجسم، فانك إن قلت: فلان ضعيف كذبت، وان قلت فلان قوي كذبت. حتى تجمع فتقول: فلان قوي النفس، ضعيف الجسم، وإنما هذا فيما (1) لا تقال فيه الصفة على الاطلاق لكن باضافة. وأما التي تكذب مجموعة ومفردة فكقولك: الإنسان صهال، الإنسان مهاق، الإنسان شجاع فهذا كذب؛ فان جمعته فقلت الإنسان صهال نهاق شجاع، فهو كذب أيضا. فاضبط جميع هذا إن اردت تحقيق المعارف وتصحيح القضايا وبالله تعالى التوفيق. 9 - باب الكلام في الملائمات هذه لفظة عبر بها الأوائل عن قضايا مختلفة الألفاظ متفقة المعاني وان كان ظاهر لفظ بعضها وحقيقة معناها النفي، وظاهر بعضها وحقيقة معناها الايجاب، وهي مع ذلك متفقة المعاني اتفاقا صحيحا لا اختلاف بينها. فاعلم انه قد ترد اخبار [45 و] وقضايا بالفاظ شتى ومعناها واحد، فيظن الجاهل انها مختلفة المعاني بسبب ما يرى من اختلاف الفاظها فيغلط كثيرا، وهذا مما ينبغي لطلاب الحقائق ان يضبطوه ويقفوا على مراتبه ولا يمرون عنها معرضين، مثل ذلك من امثال الشريعة قولك: وطء الرجل كل ما عدا الزوجة المباحة له أو أمته المباحة له حرام، وقولك: ليس شيء مما عدا زوجة الرجل المباحة له أو أمته المباحة له حلالا معنيان متفقان متطابقان، والالفاظ مختلفة، ظاهر احدى القضيتين إباحة، وظاهر الاخرى تحريم. وكذلك إذا قلت: كل ما ليس لحم خنزير حلالا، وقولك: بعض ما ليس لحم خنزير ليس حلالا، فهذان لفظان مختلفان ومعينان متفقان، وهكذا ينبغي ان تتأمل الألفاظ الواردات وتتأمل معانيها لئلا تتجاذب أنت وخصمك فنون الاختلاف والتشاجر وانتما متفقان غير مختلفين.   (1) فيما: فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 واعلم ان قولك إذا قلت ان يكون، وقلت ممكن ان لا يكون، وقلت غير ممتنع ان يكون، وغير ممتنع ان لايكون، وقلت غير واجب ان لا يكون، فكلها متلائمات أي متفقات المعاني. واعلم ان قولك واجب ان لا يكون، ممتنع ان يكون، غير ممكن ان يكون متفقات المعاني. واعلم قولك غير واجب ان يكون، غير واجبان لا يكون متفقان. واعلم ان قولك غير ممتنع ان يكون وقولك غير ممتنع ان لا يكون متفقان. واعلم ان قولك ممكن ان لا يكون وممكن ان لا يكون متفقان. واعلم ان هذه الستة كلها متفقة. واعلم ان قولك ممكن ان يكون ليس نفيه ممكن ان لا يكون، لكن نفيه ان تقول: لا ممكن ان يكون، ونقيض قولك واجب ان يكون قولك لا واجب ان يكون، وضده واجب ان لا يكون، ونقيض ممتنع أن يكون لا ممتنع ان يكون، وضده ممتنع ان لا يكون. وهذا الذي سميناه نحن فيما خلا نفيا عاما ونفيا خاصا. واعلم ان قولك كل مؤلف لا ازلي، وقولك ليس واحد من المؤلفات ازليا متفقان، وقولك ليس كل مرضعة حراما وقولك بعض المرضعات حلال متفقان، وقولك بعض المؤلفات غير مركب، وقولك ليس كل مؤلف مركبا متفقان. واعلم ان قولك ليس واحد من المؤلفات غير محدث وقولك كل مؤلف محدث متفقان ومما يدخل [45ظ] في هذا النوع كل عدد استثني منه عدد كقولك مائة غير واحد ملائم لقولك تسعة وتسعين، وقولك مائة غير تسعة وتسعين ملائم لقولك واحد. وكذلك كل عدد أضفت إليه عددا آخر يلائم العدد المساوي كقولك ثلاثة وسبعة فذلك ملائم لقولك عشرة فاعلمه. والجامع لهذا الباب هو أنك إذا اثبت معنى بلفظ ايجاب لشيء ما ثم نفيت عن ذلك الشيء نفي الصفة التي اوجبت له، فقد أوجبت له تلك الصفة. وكل كلام اعطي معنى كاعطاء كلام آخر فالكلامان مختلفان والمعنى واحد، فاحفظ هذا، واضبطه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 وانت إذا سلبت شيئا ما معنى ما أي نفيته عنه بلفظ النفي ثم اوجبت لذلك الشيء نفي ذلك المعنى الذي نفيته عنه في القضية الاخرى، فاللفظان مختلفان والمعنى واحد. مثال ذلك أن نقول: زيد صالح، فإذا سلبت الصلاح فقلت زيد غير صالح، فإذا نفيت النفي فقلت زيد ليس غير صالح فقد اوجبت له الصلاح، فاحتفظ هذا تسترح من شغب كثير وتخليط كثير ولا تعد هذه الرتبة ان شاء الله. واعلم ان الكلي من الاخبار التي تسمى قضايا ومقدمات يقتضي الجزئي منها، أي أن الجزئي بعض الكلي إذا كان كلاهما موجبا أو كلاهما نافيا، وهو معنى من معاني التتالي الذي ذكرنا قبل. ألا ترى انك تقول: كل حساس حي، فهذه قضية كلية، ثم يقول خصمك أو انت: كل إنسان حي، فليست هذه الحزئية معارضة لتلك الكلية أصلا ولا منافية لها بل هي بعضها وداخلة تحتها، ومثل هذا في الشريعة قول الله عز وجل: {السارق والسارقة فاقطعوا ايديهما} . (38 المائدة: 5) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " القطع في ربع دينار ". فهذه الجزئية بعض تلك الكلية وتفسير لجزء من اجزائها وليست دافعة لها ولا لشيء منها أصلاً، ولا مانعة من القطع في اقل من ربع دينار الا بادخال حرف النفي فينتفي حينئذ ما نفاه اللفظ الجزئي ويكون ذلك كقول القائل: الحساس ناطق ثم يقول: بعد ذلك لا ناطق إلا الإنسان والملك والجني، فتكون هذه الجزئية مبينة لمراد القائل: الحساس ناطق أي أنه اراد بعض الحساس لا كلهم، وليس ذلك كذبا لان الحساس لا كلهم، وليس ذلك كذبا لان الحساس يقع على الإنسان أي يوصف به كما يقع على كل حي. وهذا القول في الكليات من النوافي [46و] والجزئيات منها ولا فرق وبالله تعالى التوفيق: فقد أتينا على كل حال ما بطالب الحقائق والاشراف على صحيح معاني الكلام إليه فاقة وضرورة من أحكام الاخبار هي الاسماء المركبة، وبقيت اشياء تقع، ان شاء الله عز وجل، في الكتاب الذي يتلو هذا، وهو كتاب صناعة البرهان. ولم أترك الا أشخاص تقاسيم من موجبات وسوالب، من الوسائط والمتيرات والمحصورة والمهملة ومن المخصوصة ومن الاثنينية والثلاثية والرباعية لا يحتاج إليها، وإنما هي تمرن وتمهر لمن تحقق بهذا العلم تحققا يريد ضبط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 جميع وجوهه، وإنما هذه المسائل التي تركنا كالنوازل الموضوعة في الفقه كقول القائل: رجل مات وترك عشرين جدة متحاديات وعشرين من عمات البنين وبنى البنين بعضهم اسفل من بعض في درج مختلفة، فمثل هذا لا نحتاج إليه لأنه لا يمر في الزمان ولكنه تمهر وتفتيق للذهن، وكنحو المسائل الطوال التي ادخلها أبو العباس المبرد في صدر كتابه " المقتضب " في النحو فأنها لا ترد على أحد أبدا لا في كتاب ولا في كلام، وكنحو كلام كثير من وحشى اللغة كالعفنجج والعجالط والقذعمل، ولسنا نذم من طلب هذا كله بل نصوب رأيه، لكنا نقول: ينبغي لطالب كل علم أن يبدأ بأصوله التي هي جوامع له ومقدمات، ثم بما لا بد منه من تفسير تلك الجمل، فإذا تمهر في ذلك واراد لا يغال والإغراق فليفعل، فانه من تدرب بالوعر زاد ذلك في خفة تناوله السهل، فقد بلغنا عن بعض الانجاد أنه كان إذا أراد حربا أدمن لباس درعين قبل ذلك بمدة، فإذا حارب خلع إحداهما لتخف عليه الواحدة، والنفس هكذا، وبالله التوفيق وله الأمر من قبل ومن بعد. ثم كتاب باري ارمينياس والحمد لله على ذلك كثيرا كما هو أهله وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آل محمد وسلم تسليما مؤيدا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 3 - 4 - 5 - 6 كتاب البرهان 1 - [نظرة عامة في القضايا وانعكاسها] قال أبو محمد علي بن احمد بن سعيد بن حزم رضي الله عنه: هذا الجزء من ديواننا هذا جمعنا فيه ما في الكتاب الثالث من كتب ارسطاطاليس في المنطق وهو المسمى باليونانية " انولوطيقيا " [46ظ] وفي الكتاب الرابع من كتبه في المنطق وهو المسمى باليونانية " افوذ قطيقا " (1) ليناسب معنى الكتابين إذ الغرض قيهما البيان عن صور البرهان وشروطه على نفس ما بعد هذا ان شاء الله. واضفنا إليه أيضاً ما ذكره في كتابه الخامس من كتبه في المنطق وهو المسمى " طوبيقا " وهو الموضوع في الجدل، وزدنا في هذا اشياء من مراتب الجدال وشروطه مما لا غنى بالمتناظرين الطالبين للحقائق عنها، إذ ما ذكر في هذا الكتاب هو من شرط قيام البرهان وتوابعه اللاحقة له، وأضفنا إليه أيضاً ما ذكره في كتابه السادس في المنطق وهو المسمى باليونانية " سوفسطيا " وهو صفة اهل الشغب المنكبين عن الحقائق إلى نصر الجهل والشعوذة، إذ لا غنى بطالب الحقائق عن معرفة اهل هذه الصفة والتأهب لهم. فلما كان كل ما ذكرنا متشبثا بالبرهان جمعناه إليه وبلغنا الغاية في التقصي والبسط والشرح والايجاز كما وعدنا، ولله الحمد، فنقول وبالخالق الأول نستعين: قد مضى لنا في الكتب المتقدمة من هذا الديوان أمور يجب ضبطها وذكرها وحضورها في الفهم والحفظ والإيراد لها عند الحاجة إليها من التبين لك من غيرك والتبين منك لغيرك، يحول الواحد الأول وقوته الموهبة منه لنا عز وجل، ونحن الآن آخذون في ثمرة هذا الديوان وغرضه الذي إياه قصدنا بكل ما تقدم   (1) افوذ قطيقا: يعرف باسم أنولوطيقا الثاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 لنا في الاجزاء المتقدمة لهذا الجزء، وغرضنا بيان إقامة البرهان وكيفية تصحيح الاستدلال في جمل الاختلاف الواقع بين المختلفين في أي شيء اختلفوا فيه، فنقول، وبالواحد الأول نتأيد: اننا قد قلنا ان القضية لا تعطيك اكثر من نفسها، فان اتفق الخصمان عليها عليها وصححاها والتزما حكمها واختلفا في فرع من فروع ذلك المعنى وجب عليهما ان يأتيا بقضية اخرة يتفقان على صحتها أيضاً، فان كانت القضيتان المذكورتان صحيحتين في طبعهما وتركيبهما فالانقياد لهما حينئذ لازم لكل واحد، واعلم ان القضيتين المذكورتين إذا اجتمعتا سمتهما الاوائل " القرينة ". واعلم ان باجتماعهما؟ كما ذكرنا - يحدث ابدا عنهما قضية ثالثة صادقة ابدا لازمة ضرورة لا محيد عنها، وتسمى هذه القضية الحادثة عن اجتماع [47و] القضيتين " نتيجة " والاوائل يسمون القضيتين والنتيجة معا في اللغة اليونانية " السلجسموس " (1) وتسمى الثلاثة كلها في اللغة العربية: " الجامعة "، مثال ذلك ان تقول: كل إنسان حي فهذه قضية تسمى على انفرادها: " مقدمة " ثم تقول: وكل حي جوهر، أيضاً قضية تسمى على انفرادها " " مقدمة " فإذا جمعتهما معا فاسمها قرينة لاقترانهما وذلك إذا قلت: كل إنسان حي، وكل حي جوهر فيحدث من هذا الاجتماع قضية ثالثة وهي ان كل إنسان جوهر فهذه قضية تسمى على انفرادها نتيجة، فإذا جمعتها لثلاثتها سميت كلها جامعة، والجامعة السلجسمون. وقد قدمنا في الجزء الذي قبل هذا ذكر القضايا وانها بسائط ومتغيرات وقلنا ان المتغيرات في الموضوع هي غير المحصلات وهي التي تقع [فيها] حروف النفي قبل الشيء الموصوف وهو المخبر عنه، وهو الذي تسميه الاوائل الموضوع فاعلم ان هذه التي (2) تسمى متغيرات لا تنتج، أي انه لا يوثق به بأنها تنتج على كل حال انتاجا صحيحا أبدا لا تخون البتة، وان كانت قد تنتج في بعض الاحوال فقد تنتج أيضاً كذبا. وما كان بهذه الصفة مما يصدق مرة ويكذب اخرى، فلا ينبغي ان يوثق بمقدماته ولا بنتائجها الحادثة عنها، ولا   (1) السلجسموس: السجلسموس. (2) التي: الذي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 يجب ان يلتزم في اخذ البرهان، وإنما ينبغي ان يوثق بما قد تيقن انه لا يخون ابدا. ثم قد قلنا ان البسائط وهي التي حققت مع المخبر عنه ثم اوجبت له صفة أو نفت عنه صفة، منها محصورات ومهملات؛ وبينا ان المحصور هو ما وقع قبله لفظ يبين ان المراد به العموم وهو المسمى كليا، أو لفظ يبين ان المراد به الخصوص، وهو المسمى جزئيا؛ وذلك مثل قولك: كل الناس ناطق، بعض الناس ناطق أو كاتب ان شئت، ليس احد من الناس نهاقا، ليس بعض [الناس] نهاقا أو كاتبا ان شئت، وما اشبه ذلك. وذكر الاوائل ان المهملات لا تنتج كما ذكرنا في المتغيرات سواء سواء وهذا في اللغة العربية لا يصح، وإنما حكى القوم عن لغتهم، لكنها نقول ان المهملة ما لم يبين الناطق بها أنه يريد بها بعض ما يعطي اسمها أو لم يمنع من الغموم بها مانع ضرورة فانها كالمحصورة الكلية ولا فرق. وسيأتي بيان هذا فيما نستأنف ان شاء الله عز وجل؛ فعلى هذا الحكم يلزم ان المهمل ينتج كانتاج المحصور الكلي. ثم نرجع فنقول ان الجزئيات من [47ظ] المحصورات والمهمل الذي يوقن انه جزئي لا ينتج بمعنى انه لا ينتج انتاجا صحيحا ضروريا أبدا، وإنما قلنا هذا إذا كانت المقدمتان معا جزئيتين، نافيتين كانتا أو موجبتين. واما إذا كانت احداهما كلية والاخرى جزئية فذلك ينتج على ما نبين بهد هذا، ان شاء الله تعالى. واعلم ان القضية المخصوصة وهي التي تخص شخصا واحدا بعينه فحكمه في كل ما قلنا حكم الجزئية ولا فرق في ذلك نحو قولك: زيد منطلق وما اشبهه. ثم قلنا ان المحصور ينقسم قسمين: موجب وناف، واعلم ان القضايا النافيات أيضاً لا تنتج، كليتين كانتا أو جزئيتين، أي انها لا تنتج انتاجا موثوقا به في كل حال، وإنما ذلك إذا كانتا معا نافيتين، واما إذا كانت احداهما نافية والأخرى موجبة فذلك ينتج، على ما نبين بعد هذا ان شاء الله تعالى. فصح الآن ان المقدمات التي ينبغي ان يوثق بها هي المحصورات والمهمل الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 في معنى المحصور، وهي كل قرينة كانت قبلها مقدمة كلية ومقدمة موجبة، اما ان تكون احدى المقدمتين قد جمعت الامرين معا: العموم والايجاب، واما ان تكون المقدمتان اقتسمتا الامرين فكانت الواحدة كلية والثانية موجبة. واعلم أنا قدمنا ان اقل القضايا قضية من كلمتين موضوع ومحمول، بمعنى مخبر عنه وخبر، فإذا اردت ان تجمع قضيتين يقوم منهما برهان، فلا بد من ان يكون في كلتا القضيتين لفظة موجودة في كل واحدة منهما أي تتكرر تلك اللفظة في كل واحدة من المقدمتين. ولا بد في ان يكون في كل واحدة منهما لفظة تنفرد بها ولا تتكرر في الاخرى، إذ لو اتفقنا في المخبر عنه والخبر لكانت القضيتان قضية واحدة ضرورة، كقولك: كل إنسان حي، وكل حي جوهر فهاتان قضيتان قد تكرر ذكر الحي في كل واحدة منهما، وهذه اللفظة المتكررة كما ذكرنا تسميها الاوائل " لحد المشترك " من اجل اشتراك القضيتين فيه، وقد انفردت كل واحدة منهما بلفظة فانفردت الاولى بالإنسان لأنه ذكر فيها ولم يذكر في الثانية، ولو ذكر لكانت الثانية هي الاولى نفغسها، وانفردت الثانية بالجوهر ولم يذكر في الاولى ولو ذكرت لكانت واحدة، فافهم هذا واضبطه ان شاء الله عز وجل. واعلم ان القضايا البسيطة المحصورة [48 و] تنقسم قسمين: قسما ينعكس وقسما لا ينعكس، والانعكاس هو ان تجعل الخبر مخبرا عنه موصوفا، وتجعل المخبر عنه خبرا موصوفا به، من غير أن يتغير المعنى في ذلك أصلا، بل إن كانت القضية موجبة قبل العكس فهي بعد العكس موجبة، وان كانت نافية قبل العكس فهي بعد العكس نافية، وان كانت صادقة قبل العكس فهي بعد العكس صادقة، وان كانت كاذبة قبل العكس فهي بعد العكس كاذبة، الا انه في بعض المواضع تكون القضية كلية قبل العكس، جزئية بعد العكس لا تختلف في العكس بغير هذا البتة، وإنما نعني بهذا العكس ما لا يستحيل أبدا فيما ذكرنا قبل. وأما التي قد تنعكس كما ذكرنا في بعض المواضع وربما أيضاً تتبدل إذا عكست اما من صدق إلى كذب واما من كذب إلى صدق واما من نفي إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 ايجاب واما من ايجاب إلى نفي، فهذه هي القسم الذي قلنا فيه انه لا ينعكس، وليس هذا القسم مما نعنى به في اقامة البرهان لأنه قد يخون وليس بمستمر الصدق ابدا. والعكس الذي ذكرنا إنما هو تبدل مواضع الألفاظ في القضية فقط. وقد قدمنا وجوه اقسام الصفات في الموصوفين قبل وانها ستة: فوصف الشيء بما هو واجب له ينقسم قسمين: إما اعم منه كالحياة للإنسان فانها تعمه وتعم معه انواعا (1) كثيرة سواه، واما مساو كالضحك للإنسان، فانه لكل إنسان وليس لغير الناس أصلا، ولا يجوز أن يكون أخص البتة. ووصف الشيء بما هو ممكن له ينقسم قسمين: إما أعم كالسواد فانه في بعض الناس وفي أشياء من غير الناس، واما أخص كالطب فانه في بعض الناس دون بعض وليس لغير الناس ولا يجوز ان يكون مساويا أصلا، لأنه لو كان مساويا لكان واجبا، والواجب غير الممكن. ووصف الشيء بامتناعه بما هو ممتنع فيه فيكون اعم كوصف الإنسان بانه ليس حجرا، فان هذا الوصف يعمه ويعم كل حيوان، وقد يمكن ان يوجد مساويا كنفي الجمادية عن الحيوان. ثم نرجع إلى بيان العكس فنقول وبالخالق الواحد نتأيد: إن النافية الكلية تنعكس نافية كلية فنقول: لا واحد من الناس حجر، فإذا عكسه قلت: لا واحد من الحجارة إنسان. واعلم ان كل ما انعكس كليا فانه ينعكس جزئيا إذ كل ما اوجبته للكل فهو موجب لكل جزء من اجزائه التي تسمى باسمه، وكل ما نفيته عن الكل فهو منفى عن كل جزء من اجزائه التي [48 ظ] تسمى باسمه، نريد بالاجزاء هنا اشخاص النوع التي كل شخص منها يسمى باسم النوع فان كل آدمي يسمى في ذاته إنسانا، والنوع أيضاً كله يسمى إنسانا ولم نرد أجزاء الجسم التي لا يقع على الجزء منها اسم الكل كيد الإنسان ورجله؛ ألا ترى انك لو قلت أيضاً ولا بعض الحجارة إنسان أو قلت لا بعض الناس حجر لصدقت، فهذا الذي ذكرنا عكس صحيح صادق ابدا. والموجبة الكلية تنعكس موجبة جزئية فتقول كل إنسان حي، فإذا عكست قلت: وبعض الاحياء إنسان، وهذا صادق ابدا. واعلم ان ما كان من هذا الباب والذي بعده مما قلنا فيه انه ينعكس جزئيا   (1) انواعا: أنواع مساو: مساوي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 فانه لا ينعكس كليا أصلا لأنه كل ما وجب للجزء وجب للكل. ألا ترى انك لو قلت: وكل حي إنسان لكذبت لان الملك حي وليس إنسانا، والفيل حي وليس إنسانا. ولا تغتر بما تجد من هذا الباب ينعكس كليا صادقا نحو قولك كل حي حساس وكل حساس حي، ولو قلت أيضاً وبعض الحساس حي لصدقت وهذا إنما يصدق في المساوي فقط. فان هذا العكس ان صدق في مكان كذب في آخر كما قدمنا. وإنما يكذب ذلك إذا كان الوصف اعم من الموصوف أو اخص منه كما قدمنا؛ فأما الأعم فنحو قولك: كل إنسان حي وأما الاخص فكقولنا: كل طبيب إنسان، فإذا عكست وقلت: وبعض الناس اطباء صدقت ولو قلت: وكل الناس اطباء كذبت، فلهذا قصدنا إلى عكسها جزئية لأنها تصدق في كل ذلك ابدا على كل حال من عام أو خاص أو مساو (1) فتحفظ من هذا الباب ولا تغلط فيه، وانت إذا سلكت الطريق التي نهجنا لك امنت الغلط البتة ولم يكن إلى كلامك سبيل. والموجبة الجزئية تنعكس موجبة فتقول: ان كان بعض الناس نحويين فبعض النحويين ناس، ولا تنعكس كلية لأنك وان كنت تصدق في بعض المواضع فانك طنت تكذب في مواضع أخر أيضا. وانها تصدق في الحمل الاخص والمساوي وتكذب في الحمل الأعم، وانت عكستها جزئية صدقت ابدا على كل حال. ألا ترى انك تقول: إذا كان بعض النحويين ناسا فكل الناس نحويون كذبت. واعلم ان هذه القضايا كلها التي ذكرنا انها تنعكس أي انها تصدق إذا عكست ابدا فانها تصدق في ايجابك الواجب، وفي كل اخبارك عن الممكن بما هو حق من صفاته وفي نفيك الممتنع. [49 و] . واعلم ان النافية الجزئية لا تنعكس أي انها ليس لها رتبة تصدق فيها ابدا لانها وان صدقت في نفي الممتنع إذا قلت: ليس بعض الناس حجرا فعكست فقلت: ولا بعض الحجارة فصدقت، فانك ان نفيت الممكن حق نفيه فقلت: ليس كل إنسان طبيبا فانك صادق، فان عكست فقلت: ولا كل طبيب إنسان أو قلت ولا بعض الاطباء ناس كنت كاذبا، فلهذا لم نشتغل بعكس   (1) مساو: مساوي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 النوافي في الجزئيات لأنها في بعض المواضع تكذب في العكس. فافهم ذلك كله، فبكل طالب علم حقيقة إليه حاجة. ونمثل ذلك بمثال شرعي فنقول: انك تقول في النافية الكلية إذا صح أنه ليس شيء من المسكرات حلالا فليس شيء من الحلال مسكر أو لو عكستها جزئية لصدقت أيضاً، ولكن الكلي أتم وأعم المطلوبات، فاكتفينا به إذا وجدناه واستغنينا به عن نذكر ما ينطوي فيه من جزيئيات، الا ان الاخبار عن الكل اخبار عن كل جزء من اجزائه. ونقول في الموجبة الكلية. إذا كان كل والد واجب البر فبعض الواجب برهم الوالد، ولو عكستها كلية لكذبت لأنه يجب بر الأم والخليفة والعالم والفاضل والجار وليس واحد من هؤلاء والدا. وتقول في عكس الموجبة الجزئية: إذا كان بعض الكفار مباح الدم فبعض المباح دماؤهم كفار ولو عكستها كلية فقلت: وكل مباح دمه كافر لكذبت، لان الزاني المحصن مباح دمه وليس كافرا، فافهم هذا كله وثق به فانه لا يخونك ابدا. وبرهان صحة ما ذكرنا اولا إذا قلنا لا واحد من الناس حجر وانه ينعكس كليا فنقول: ولا واحد من الحجارة إنسان انه ان خالفنا في صحة هذا العكس مخالف قلنا ان كان عكسنا هذا ليس حقا فنقيضه حق على ما قدمنا من أقسام قضيتي النفي والايجاب للصدق والكذب. ونقيض قولنا لا واحد من الحجارة إنسانا، بعض الحجارة إنسان، فنضم قولنا: بعض الحجارة إنسان إلى مقدمتنا التي صححنا فنقول: لا واحد من الناس حجر وبعض الحجارة إنسان، واذا كان بعض الحجارة إنسانا فبعض الناس حجارة، وقد قدمنا انه ليس واحد من الناس حجرا وهذا تناقض ومحال هذا الذي ذكرناه في عنصر الوجوب وهو لزوم الصفة للموصوف. وأما في عنصر الامكان فلا فرق بين [49 ظ] قضايا في الموجبات الجزئيات وبين ما ذكرنا من قضايا عنصر الوجوب، فتقول في الحمل الأعم: ان كان بعض الناس اسود فبعض السودان ناس، ونقول في الحمل الأخص: ان كان بعض الناس طبيبا فبعض الاطباء ناس، وليس في الامكان حمل مساو لان المساوي لازم لجميع النوع بالفعل. واما قضايا الامكان الكليات فانها في الموجبات كواذب، نقول: ممكن ان يكون كل إنسان اسود أو طبيبا، فهذا كذب، وعكس الحمل الأخص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 فصادق، نقول: ان يكون كل طبيب إنسانا. واما قضايا الامكان النوافي فالكلية كاذبة ابدا وعكسها، نقول: ان كان ممكن ان لا يكون واحد من الناس اسود أو طبيبا فممكن ان لا يكون واحد من السودان أو الاطباء إنسانا. وأما النافية الجزئية في عنصر الامكان فانها تنعكس نافية جزئية. نقول: ممكن ان لا يكون بعض الناس اسود، وعكسها: ممكن ان لا يكون بعض السودان إنسانا وهذا في الحمل الاعم، وتكذب في الحمل الأخص لأنك إذا قلت ممكن ان لا يكون بعض الناس طبيبا فتصدق، فإذا عكست وقلت: ممكن ان لا يكون بعض الاطباء إنسانا، كذبت. وأما في عنصر الامتناع فان الموجبة الجزئية تنعكس موجبة جزئية. نقول: ممتنع ان لا يكون بعض الناس حجرا، وممتنع ان لا يكون بعض الحجارة إنسانا، وتنعكس أيضاً موجبة كلية صادقة فنقول: ممتنع أن يكون كل واحد من الحجارة إنسانا. وأما الموجبة الكلية فتنعكس أيضاً كلية وجزئية صادقتين ابدا، نقول: ممتنع ان يكون كل واحد من الناس حجرا، وممتنع ان يكون كل واحد من الحجارة إنسانا، وممتنع ان يكون بعض الحجارة إنسانا. فاما النافية الكلية في عنصر الامتناع فتنعكس جزئية، فتقول: ان كان ممتنع ان لا يكون كل واحد من الناس حيا، فممتنع ان لا يكون بعض الاحياء إنسانا، وهذا تصدق في منع نفي الضحك المساوي للنوع. وفي الحمل الاخص كالطب وما اشبهه نقول: ان كان ممتنع ان لا يكون واحد من الاطباء إنسانا فممتنع لن لا يكون بعض الناس طبيبا. وأما النافية الجزئية في عنصر الامتناع فانها تنعكس نافية جزئية كقولك ممتنع ان لا يكون بعض الاحياء ناسا وهذا ينعكس في الحمل المساوي والاخص ابدا. ومنفعتنا بمعرفة عكس القضايا من وجهتين. احدهما ما نستأنف من رد بعض البراهين التي فيها صعوبة إلى البيان اللائح منها وهو الذي يأتي ان شاء الله [50 و] عز وجل في رد انحاء الشكل الثاني والثالث إلى الشكل الأول مفسرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 في موضعه. والوجه الثاني في تصحيح المقدمات التي يريد طلاب بطلان الحقائق تقديمها ليجعلوها اصولا لينتجوا منها ما يشهد للصحيح من الاقوال. واذ قد قدمنا ان القضية تكون من موضوع ومحمول أي من مخبر عنه وخبر وان القرينة تكون من مقدمتين في كل واحدة منها لفظة تشترك فيها المقدمتان معا، فاعلم ان كل لفظة من الفاظ المقدمتين فان الاوائل يسمونها حدا ويسمون اللفظة المشتركة: الحد المشترك. واعلم ان اشكال البرهان لا تكون الا ثلاثة نغني باشكاله صور القرائن التي يكون منها البرهان لأنه لا بد من ان يكون الحد المشترك محمولا في المقدمة الواحدة وموضوعا في الثانية، أو يكون محمولا في كل واحدة منهما أو يكون موضوعا فيهما؛ ولا سبيل رتبة العقل إلى قسمة رابعة بوجه من الوجوه البتة. واعلم انه أيضاً لا فرق بين قولك: الحياة في كل إنسان وبين قولك: كل إنسان حي، تريد في المعنى، وهذا تسميه الاوائل " تقديم الحمل " أي أن تجعل الصفة مخبرا عنها والموصوف مردودا إلى الصفة أي كأنه خبر عنها فلا تبال باختلاف هذه العبارات. واعلم ان الاوائل يسمون المقدمة التي فيها اللفظ الأعم " مقدمة كبرى " مثل قولك: كل إنسان حي، وكل حي جوهر فالتي فيها ذكر الجوهر اعم من اللفة التي في المقدمة الاخرى وذلك ان الجوهر اعم من الحي ومن الإنسان والاخرى يسمونها الصغرى. واعلم انه لا تنتج نافيتان جزئيتان ولا مخصوصتان وهي التي يخبر بها عن شخص واحد بعينه. واعلم ان الحد المشترك لا يذكر في النتيجة أصلاً ولو ذكر فيها لكانت النتيجة احدى المقدمتين وإنما يذكر في النتيجة اللفظة التي تنفرد بها المقدمة الواحدة، واللفة الاخرى التي تنفرد بها المقدمة الثانية. واعلم انه لا يخرج في النتيجة الا اقل ما في المقدمتين وابعده من اليقين والقطع، لان النتيجة من طبعها يجري الصدق فيها، فلذلك لا يخرج فيها الا الاقل الذي لا شك فيه، وان كانت احدى المقدمتين مهملة والاخرى ذات سور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 فالنتيجة مهملة، وان كانت احدى المقدمتين جزئية خرجت النتيجة جزئية، وان كانت احدى المقدمتين مخصوصة خرجت النتيجة مخصوصة، وان كانت احدى المقدمتين نافية خرجت النتيجة نافية، وان [50ظ] كانت احدى المقدمتين جزئية أو مخصوصة والأخرى نافية خرجت النتيجة جزئية نافية أو مخصوصة نافية. نقول: لا واحد من الناس حجر وزيد من الناس فزيد لا حجر، وإنما هذه الرتبة فيما يصدق أبدا وموثوق بانتاجه. وكذلك ان كانت احدى المقدمتين ضرورية والثانية ممكنة فانه لا تخرج في النتيجة الا الممكنة، وأما إذا استوت المقدمتان، فالنتيجة مثلهما، فان كانتا موجبتين فالنتيجة موجبة، وان كانتا ضروريتين فالنتيجة ضرورية، وان كانتا ممكنتين فالنتيجة ممكنة؛ وان كانتا مهملتين فالنتيجة مهملة، الا انهما ان كانتا كليتين (1) فالنتيجة كلية وربما كانت جزئية ولا تبال عن هذا، فالجزئي منطو في الكلي وليس الكلى بمنطو في الجزئي، ونذكر على ما قلنا لك أن أشكال البرهان ثلاثة: فللشكل الأول اربعة انحاء وللثاني [اربعة انحاء] وللشكل ستة انحاء، وإنما نعني بذلك الانحاء الصادقة في الانتاج ابدا على كل حال، فالشكل للبرهان كالجنس، والنحو له كالنوع، ثم المقدمات المأخوذة كالأشخاص، وهي غير محصاة بعدد لانها تنصرف في كل علم في كل مسألة. واعلم انه إنما سمي لشكل الأول لان الشكلين الآخرين يرجعان عند الحقيقة إليه على ما نبين بعد هذا ان شاء الله. واعلم انه [قد] تقدم لك مقدمتان نافيتان فينتجان لك انتاجا صادقا صحيحا فلا تثق بذلك لانها طريق خوانه غير موثوق بصدقها ابدا، بل قد نقدمهما صحيحتين فتنتجان لك نتيجة كاذبة؛ فالخداعة من هذا الباب هو نحو ما أقول لك: ليس كل إنسان حجرا، ولا كل حجر حمار، النتيجة: فليس كل إنسان حمارا، وهذا حق. والفاضح لكل ما ذكرنا هو نحو ما أقول لك: تقول ليس كل إنسان اسود ولا كل اسود حي فهذان صادقتان، النتيجة فليس كل إنسان حي، وكذلك أيضاً لو قلت: ليس بعض الناس حيا فكلتاهما كذب، فاياك والاغترار   (1) كانتا كليتين: كانا كليتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 بمقدمتين نافيتين أصلاً صدقت القرينة الاولى من قبل حسن نظم المقدمتين لأنك نظمتهما نظما جعلت التي نفيت عن الحجر ما ينفى عن الإنسان جملة. وانا اريك الآن زيادة بيان في صدق هذا الحكم، فاعمل لك مقدمتين احداهما كذب بحث فتنتج لك انتاجا حقا وهو ان نقول: كل إنسان حجر وكل حجر جوهر، النتيجة فكل إنسان جوهر. وتقول. وتقول: ليس كل إنسان كلبا وليس [51و] كل كلب فرسا، النتيجة ليس كل إنسان فرسا وذلك حق، فالاولى مقدمة كذب انتجت حقا بحسن نظمها، وهو انك وصفت الحجر بصفة نعمه وتعم الإنسان، والأخرى في النفي كذلك، نعني في حسن النظم فقط. فاعلم الآن انه لا بد من صدق كل واحدة من المقدمتين ولا بد مع الصدق فيهما من احسان رتبتهما على الطريق التي وصفت لك، والا تحيرت وتخبلت عليك الامور، واختلط الحق في ذهنك بالباطل. وكذلك في المقدمتين الجزئيتين، وقد قدمنا ان حكم المخصوص حكم الجزئي ولا فرق فنقول: زيد ناطق وبعض الناطق ميت فزيد ميت، هذه نتيجة حق، ولكن لا تثق بمقدمتين جزئيتين البتة ولا مخصوصتين ولا مخصوصة وجزئية. واعلم ان هذه إنما صدقت من قبل صدق الخبر عن طبائع المخبر عنهما وعموم الصفة للمخبر عنهما، وانا أريك خيانة هذه الطريق وذلك ان تقول: زيد ابيض وبعض البيض حجر صادقتان، النتيجة فزيد حجر وهذا كذب. وان شئت قلت زيد ناطق وبعض الناطقين كاتب؛ هاتان مقدمتان حق، النتيجة: فزيد كاتب، هذه نتيجة لممكن ان يكون حقا وممكن ان يكون كذبا. فتدبر مثل هذا ولا تنسه تفق من شغب عظيم وتعلم ان الجزئيتين والمخصوصتين والجزئية لا تنتج انتاجا صادقا مطردا مطرودا لا يخون. وها نحن بحول الله خالقنا الواحد تعالى وعونه لنا شارعون في تشخيص الاشكال الثلاثة المذكورة آنفا من مثال شريعي ليكون اسهل للطالب وأجلى للشك. ولقد رأيت طوائف من الخاسرين شاهدتهم ايام عنفوان طلبنا وقبل تمكن قوانا في المعارف واول مداخلتنا صنوفا من ذوي الآراء المختلفة كانوا يقطعون بظنونهم الفاسدة من غير يقين انتجه بحث موثوق به على ان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 الفلسفة وحدود المنطق منافية للشريعة، فعمدة غرضنا وعلمنا إنارة هذه الظلمة بقوة خالقنا الواحد عز وجل لا قوة لنا [إلا] به وحده لا شريك له. واعلم ان الكلام الذي نتأهب لايراده دأبا وننبهك على الاصاخة إليه هو الغرض المقصود من هذا الديوان وهو الذي به نقيس جميع ما اختلف فيه من أي علم كان، فتذوقه ذوقا لا يخونك ابدا وتدبره منعما وتحفظ جدا فهو الذي وعرته الأوائل وعبرت [51 ظ] عنه بحروف الهجاء ضنانة به واحتسبنا الأجر في ابدائه وتسهيله وتقريبه على كل من نظر فيه للاسباب التي ذكرنا في اول ديواننا هذا، ولم نقنع الا بان جعلنا جميع الانحاء من لفظ واحد في الايجاب ولفظ واحد في النفي، ليلوح رجوع بعضها إلى بعض ومناسبة بعضها بعضا ووجود العمل في اخذ البرهان بها، فقربنا من ذلك بعيدا وبينا مشكلا واوضجنا عويضا وسهلنا وعرا وذللنا صعبا ما نعلم احدا سمح بذلك ولا اتعب دهنه فيه قبلنا ولله الحمد أولا وآخرا. وبوقوفك على هذا الفصل تدفع عنك غيمة الجهل والنفار الذي يولده الهلع من سوء الظن بهذا العلم وشدة الهم بمخرقة كثير ممن يدعيه ممن ليس من أهله، وفقنا الله واياك وسائر اهل نوعنا عامة واهل ملتنا خاصة لما يرضيه، آمين. فاعلم ان الشكل الأول كبراه أبدا كلية إما موجبة وإما نافية، وصغراه ابدا موجبة إما جزئية واما كلية. واعلم ان الشكل الثاني والثالث راجعان إلى الشكل الأول ابدا، اما قرينة من قرائنه، واما نتيجة من نتائجه، إما في اللفظ، وإما في الرتبة على ما نبين في كل نحو منها ان شاء الله عز وجل. واعلم ان الصغرى من المقدمتين مقدمة ابدا لتخرج اللفظة التي انفردت بها موضوعة في النتيجة أي مخبرا عنها، والكبرى مؤخرة أبدا لتخرج اللفظة التي انفردت بها محمولة في النتيجة أي خبرا. واعلم انه ان وقعت صفة تحت النوع في زمان في احدى المقدمتين وجب ضرورة ان تكون الاخرى كلية، وقد ذكرنا قبل ان بعض الاوائل وصفوا ان المقدمة الكبرى يقع فيها لفظة اعم من اللفظتين الاخيرتين المشتركة والتي انفردت بها المقدمة الاخرى، وهذا امر غير صحيح على الاطلاق بل قد أجاز من عليه المعتمد في هذا، وهو ارسطاطاليس، مرتب هذه الصناعة، المساواة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 في المقدمات وهو الصحيح. وقد وجدنا خمسة انحاء منها الاربعة متساوية المقدمتين وهو النحو الثاني من الشكل الأول والنحو الأول والثاني من الشكل والنحو الثاني من الشكل الثالث. والنحو الخامس من الشكل الثالث وصغراه كلية وكبراه جزئية، فاللفظة العامة (1) في ذلك النحو خاصة في المقدمة الصغرى [52 و] لا في الكبرى. وقد نبهنا على كل نحو منها في مكانه ان شاء الله عز وجل، وما توفيقنا الا بالله تعالى، وهذا حين نأخذ في تشخيص الانحاء المذكورة: الشكل الأول الحد المشترك فيه موضوع في احدى المقدمتين محمول في الاخرى أي ان اللفظة المذكورة في كلتا المقدمتين هي في احداهما مخبر عنه وموصوف، وهي في الاخرى خبر وصفة، مثال ذلك الشكل الأول: الحد المشترك فيه مخبر عنه في احدى المقدمتين وخبر في الاخرى. النحو الأول من الشكل الأول: كل إنسان حي وكل جوهر، النتيجة كل إنسان جوهر. النحو الثاني في الشكل الأول: كل إنسان حي ولا واحد حي حجر، النتيجة: لا واحد إنسان حجر، وان شئت لا احد من الناس حجر، وهذا النحو متساوي المقدمتين، ليست احداهما اعم من الاخرى. النحو الثالث من الشكل الأول: بعض الناس حي وكل حي جوهر، النتيجة: بعض الناس جوهر. النحو الرابع من الشكل الأول: بعض الناس حي ولا واحد من الاحياء حجر، النتيجة بعض الناس ليس حجرا. الشكل الثاني الحد المشترك فيه محمول في كلتا المقدمتين أي انه فيهما معا. النحو الأول من الشكل الثاني: كل إنسان حي، ولا واحد من الحجارة   (1) العامة: الاعمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 حي، النتيجة: فلا واحد من الناس حجر، ليس بين هذا النحو الأول من الشكل الثاني وبين النحو الثاني من الأول [فرق] الا ان المحمول هو الخبر الذي في المقدمة الكبرى من هذا النحو الأول من الشكل الثاني على حسب ما أتينا به هناك وهنا فقط. برهان صحة هذه النتيجة نعكس المقدمة النافية فنقول: ان كان لا واحد من الحجارة حي ولا واحد من الناس حجر، وقد قلنا كل إنسان حي فنضيف اللفظ الذي حصل لنا في العكس إلى هذه التي لم تعكس فنقول: كل إنسان حي، ولا واحد من الاحياء حجر، وهذا هو النحو الثاني من الشكل الأول بعينه، خرج في العكس المخبر عنه خبرا والخبر مخبرا عنه على ما قدمنا إذ وصفنا رتب العكس فتذكره، وإنما لم تعكس الموجبة لاننا لو عكسناها لأتانا النحو الثالث من الشكل وسيأتي بعد هذا ان شاء الله تعالى. النحو الثاني من الشكل الثاني: ولا واحد من الحجارة حي وكل إنسان حي، النتيجة: لا واحد من الحجارة [52ظ] إنسان. ليس هذا النحو وبين الذي قبله أصلا الا ان كبرى ذلك هي صغرى هذا، أخرت هنالك وقدمت هنا، وصغرى ذلك هي كبرى هذا قدمت هنالك وأخرى هنا، وإنما كان ذلك لانا نخرج موضوع نتيجة الذي قبل هذا النحو بعكستين عكسة للمقدمة الثانية وعكسة أخرى للنتيجة التي ذكرنا، فنقول ان كان لا واح من الحجارة حي، فلا واحد من الأحياء حجر، وقد قلنا ان كل إنسان حي فنقول لا واحد من الاحياء حجر وكل إنسان حي فلا واحد من الحجارة إنسان. ثم نعكس هذه النتيجة فنقول: إذا كان لا واحد من الحجارة إنسان فلا واحد من الناس حجر، وهذه هي نتيجة الشكل الثاني من النحو الأول بعينها، واعلم ان مقدمتي هذا النحو والذي قبله متساويتان ليس في احداهما لفظة اعم من اللفظة الأخرى. واعلم انه لا فرق في شيء من الانحاء كلها بين قولك: لا واحد من الناس حجر، وقولك: لا شيء من الناس حجر، وقولك: لا واحد إنسان حجر، كل ذلك سواء قل كيف شئت. والاولى ان تقول الذي هو ابين في اللغة التي عبارتك بها، وهكذا حكم كل ما نفيت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 النحو الثالث من الشكل الثاني: بعض الناس حي واحد من الحجارة حي، النتيجة: بعض الناس لا حجر؛ ليس بين هذا النحو وبين النحو الرابع من الشكل الأول فرق الا ان محمول المقدمة الكبرى من ذلك النحو هو موضوع المقدمة الكبرى من ذلك النحو هو محمول المقدمة الكبرى من هذا النحو. برهانه بعكس المقدمة النافية فتقول: إذا كان واحد من الحجارة حي فلا واحد من الاحياء حجر، ونضيف إلى ذلك المقدمة التي لم تعكس فنقول: بعض الناس حي ولا واحد من الاحياء حجر وهذا النحو الرابع من الشكل الأول بعينه. النحو الرابع من الشكل الثاني: بعض الحجارة ليس حيا، وكل إنسان حي، النتيجة: فبعض الحجارة ليس إنسان وان شئت قلت: فليس كل حجر إنسانا لانا قد قلنا قبل ان النافية الجزئية تظهر بلفظ كلي وجزئي ان شئت، ثم تعكس هذه النتيجة فتقول: إذا كان بعض الحجار ليس إنسانا فبعض الناس ليس حجرا وهذا هو نتيجة النحو الرابع من الشكل الأول بعينها، وهذا النحو لا تعكس مقدمته لأنك لو عكست الموجبة الكلية لانعكست جزئية ومعها [53و] جزئية نافية، وجزئيتان لا تنتج، والنافية الجزئية لا تنعكس على ما قدمنا. لكن برهانه يرفع الاحالة [عن] الكلام، وذلك ان نقول: ان انكر منكر ان هذه النتيجة حق وهي قولنا فبعض الحجارة ليس إنسانا، فنقيضها حق وهي كل الحجارة إنسان فتقول: كل الحجارة إنسان، وكل إنسان حي على ما أثبتنا في المقدمة الكبرى فينتج لنا ذلك كل حجر حي، وقد صححنا في المقدمة الصغرى: بعض الحجارة لا حي، وهذا ضد ما انتج لنا ما قدمنا آخرا وهذا محال. الشكل الثالث الحد المشترك فيه موضوع كلتا (1) المقدمتين أي مخبر عنه ونتائجه كلها جزئيات. النحو الأول من الشكل الثالث: كل إنسان حي، وكل إنسان جوهر،   (1) كلتا: كلتي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 النتيجة: فبعض الاحياء جوهر؛ برهانه بعكس المقدمة الصغرى، فنقول: إذا كان كل إنسان حيا فبعض الاحياء إنسان، وكل إنسان جوهر فبعض الاحياء جوهر، وهذه رتبة النحو الثالث من الشكل الأول. النحو الثاني من الشكل الثالث: كل إنسان حي، ولا واحد من الناس حجر، برهانه بعكس المقدمة الصغرى نقول: ان كان كل إنسان حيا، فبعض الاحياء إنسان، ولا احد إنسان حجر، فبعض الاحياء ليس حجرا، وهذه رتبة النحو الرابع من الشكل الأول بعينها، وهذا النحو متساوي المقدمتين ليس في احداهما لفظ أعم مما في الاخرى. النحو الثالث من الشكل الثالث: بعض الاحياء ناس، وكل الاحياء جوهر، النتيجة: بعض الناس جوهر. برهانه بعكس المقدمة الجزئية مقول: ان كان بعض الاحياء ناسا فبعض الناس حي، ثم نضيف ذلك إلى المقدمة الكلية فنقول: بعض الناس حي، وكل حي جوهر، وهذا هو النحو الثالث من الشكل الأول بعينه. النحو الرابع من الشكل الثالث: كل إنسان حي، وبعض الناس جوهر، النتيجة: بعض الحي جوهر، هذا النحو مخالف لرتبة الذي قبله في تقديم الجزئية وتأخيرها، فكبرى ذلك صغرى هذا، وصغرى ذلك كبرى هذا، الا انه يخرج موضوع نتيجة الذي قبل هذا محمولا في نتيجة هذا في الرتبة، ومحمول نتيجة ذلك موضوعا في نتيجة هذا، إذ الحد الذي في المقدمة الكبرى هو [53ظ] الذي يخرج محمولا في النتيجة، وبرهانه بعكس المقدمة الجزئية، نقول: ان كان بعض الناس جوهرا فبعض الجوهر ناس، ثم نضيف إلى المقدمة الكلية فنقول: بعض الجوهر ناس، وكل الناس حي، النتيجة: بعض الجوهر حي، وهذه رتبة النحو الثالث من الشكل الأول بعينها. النحو الخامس من الشكل الثالث: كل إنسان حي، وبعض الناس لا حجر، النتيجة: فبعض الحي ليس حجرا؛ لا عكس في هذا، لأنك لو عكست الكلية لانعكست جزئية، وجمعنا إليها جزئية اخرى، وجزئيتان لا تنتج، والجزئية النافية لا تنعكس، لكن برهانه يرفع الكلام إلى الاحالة فنقول: ان كانت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 النتيجة المذكورة باطلا فنقيضها حق، وهو كل حي حجر، ثم نقول: كل إنسان حي وكل حي حجر، النتيجة: فكل الناس حجر، وقد اتفقنا في المقدمة على ان بعض الناس لا حجر، وهذا محال، ونتيجة هذا النحو نتيجة النحو الثاني من الشكل الثالث، ويرجع هذا النحو إلى النحو الرابع من الشكل الأول بان تأخذ النتيجة فتضيفها إلى المقدمة الصغرى، فتقول: كل إنسان حي، وبعض الحي لا حجر، النتيجة: فبعض الناس لا حجر، وهذه نتيجة النحو الرابع من الشكل الأول، وهذا النحو ليس في كبراه لفظة أعم من التي في صغراه. النحو السادس من الشكل الثالث: بعض الحي إنسان، ولا واحد من الأحياء حجر، النتيجة: بعض الحي لا حجر، وبرهانه بعكسه واحدة، نقول: ان كان بعض الحي إنسانا فبعض الناس حي، ثم نضيف ذلك إلى الكلية السالبة فنقول: بعض الناس حي واحد من الأحياء حجر، وهذا هو النحو الرابع من الشكل الأول. وإنما لم نعكس ما لم يعكس من المقدمات في الشكل الثاني والثالث لأنه إنما كانت تخرج جزئيتين أو تخرج إلى ما قد خرج قبلها أو بعدها من الانحاء، أو لأنه كان يكون اطول في العمل فقصدنا الأخصر والأكثر فائدة فهذه الانحاء التي لا تنتج سواها انتاجا مطرودا، وسنبين ان شاء الله تعالى اعتراضات المشغبون في هذه الاشكال، وحل ذلك بحول الله وقوته، وها نحن آخذون في تمثيل هذه الانحاء بمثال الاهي ومثال شريعي بحول الله واهب الفضائل لمن شاء من عباده ليظهر فضل هذه [54 و] الصناعة في كل علم. الشكل الأول النحو الأول من الشكل الأول: كل ما خرج إلى الفعل من العالم فمعدود وكل معدود فمتناه (1) فكل ما خرج إلى الفعل من العالم فمتناه. مثال شريعي: كل مسكر خمر وكل خمر حرام فكل مسكر حرام. النحو الثاني منه: كل ما خرج إلى الفعل من العالم معدود ولا واحد من المعدودات أزلي، فليس شيء مما خرج إلى الفعل من العالم ازليا. مثال شريعي: كل مسكر خمر ليست حلالا فكل مسكر ليس حلالا.   (1) فمتناه: فمتناهي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 النحو الثالث منه: بعض العالم مركب وكل مركب مؤلف من شيء، فبعض العالم مؤلف من شيء. مثال شريعي: بعض المملوكات حرام وطئها، وكل حرام لم يفرض اجتنابه فبعض المملوكات فرض اجتنابها. النحو الرابع منه: بعض العالم مركب وليس كل شيء من المركبات ازليا فبعض العالم ليس ازليا. مثال شريعي: بعض البيوع ربا وليس شيء من الربا حلالا، فبعض البيوع ليس حلالا. الشكل الثاني النحو الأول: كل جمل العالم مؤلفات من اجزائها وليس شيء من المؤلفات (1) ازليا فليس شيء من العالم ازليا. مثال شريعي: كل ذبح لما تملكه فقد نهيت عنه وليس شيء حلالا مما نهيت عنه، فليس ذبحك لشيء لم تملكه حلالا. النحو الثاني منه: ليس شيء ازلي مؤلفا وكل جمل العالم المؤلفات من أجزاء بها، فلا شيء في جمل العالم أزلي. مثال شريعي: ليس شيء حلالا مما نهيت عنه، وكل ذبح لما لم تملكه فقد نهيت عنه، فليس حلالا ذبحك لما لم تملكه. النحو الثالث منه: بعض العالم مركب، وليس شيء ازليا مركبا، فبعض العالم ليس ازليا. مثال شريعي: بعض الآباء كافر وليس كل أحد تجب طاعته كافرا. فبعض الآباء لا تجب طاعته. النحو الرابع منه: بعض العالم ليس خالقا، والأزلي خالق، فبعض العالم ليس ازليا. مثال شريعي: بعض الفروج من الممتلكات لا يحل وطئه، وكل فرج زوجه أو أمة مباحين يحل وطئه، فبعض الفروج من الممتلكات، ليس فج زوجة أو أمة، ليس مباحا. الشكل الثالث النحو الأول منه: كل مركب متناه (2) ، وكل مركب مؤلف، فبعض المتناهيات [54ظ] مؤلف. مثال شريعي، كل قاذف محصنة فاسق، وكل قاذف محصنة يحد، فبعض الفاسقين يحد. النحو الثاني منه: كل جسم مركب من اجزائه وليس واحد من الاجسام   (1) المؤلفات: العالم. (2) متناه: متناهي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 ازليا، فبعض المركب من اجزائه ليس ازليا. مثال شريعي: كل المحرمين منهي عن الصيد، وليس احد من لمحرمين مباحا له النساء، فليس بعض المنهيين عن الصيد مباحا لهم النساء. النحو الثالث منه: بعض الاعراض عدد، وكل الاعراض محمول، فبعض العدد محمول. مثال شريعي: بعض المصلين مقبول الصلاة، وكل مصل فمأمور باستقبال الكعبة ان قدر، فبعض المقبول صلاتهم مأمور باستقبال الكعبة ان قدر. النحو الرابع منه: كل جسم معدود وبعض الجسم مركب، فبعض المركب معدود. مثال شريعي: كل مرضعة خمس رضعات حرام، وبعض المرضعات خمس رضعات أم، فبعض الامهات حرام. النحو الخامس منه: بعض الاجسام ليس عرضا وكل جسم فشاغل مكانا، فبعض الاعراض ليس شاغلا مكانا. مثال شريعي: ليس بعض القاتلين بغير حق يقاد منه، وكل قاتل بغير حق فاسق، فبعض من لا يقاد منه فاسق. النحو السادس منه: بعض الاجسام ذو الاجسام ذو جهات ست، وليس شيء من الاجسام عرضا، فبعض ما هو ذو جهات ليس عرضا. مثال شريعي: بعض الشروط مفسد للعقد، وليس شيء من الشروط متقدما للعقد، فبعض المفسد للعقد. فإذا قد اتممنا بحول الله تعالى وعونه لنا ما كنا له وعدنا به من ذكر انحاء اشكال البرهان، فلنقل ان كل نتيجة ظهرت فيما قدمنا من القرائن فانها ان كانت موجبة كلية فانه قد يصح بصحتها عكسها وهو موجبة جزئية. وان كانت موجبة جزئية فانه قد يصح عكسها وهو موجبة جزئية. وان كانت سالبة كلية فانه قد يصح بصحتها عكسها وهو نافية كلية. واذا صحت الكلية فقد صحت جزئياتها وليس إذا صحت الجزئية صحت كليتها، فتأمل هذا تجده، وقد قدمنا لك من ذلك امثلة بينة فأغنى عن تكرارها. فتدبر في هذا المكان عظيم منفعة العكس لأنه يصح لك بصحة النتيجة ما انطوى فيها مما ذكرنا الآن. [55و] واما النافية الجزئية فقد قدمنا انها لا تنعكس، وإذا كان ما قلنا، فذلك انتاج من النتيجة صادق ابدا، فالنتائج كما ذكرنا اربعة عشر، تنعكس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 منها ثمان، ثلاث في الشكل الأول، واثنتان في الثاني نافيتان، وثلاث في الثالث موجبات، فذلك اثنتان وعشرون نتيجة صادقة. تذكر ما قلنا قبل ان القضايا، وهي الاخبار، تنقسم قسمين: قاطعة وشرطية فهذه القاطعة قد ذكرنا اقسامها، والحمد لله واهب التمييز والعلم والبيان والقوة وهو الذي لا نستمد المزيد في كل ذلك ومن خير إلا منه، لا إله إلا هو، فاذ قد اتممنا ذلك فلنشرع ذكر القسم الثاني وهو الشرطية، إن شاء الله عز وجل ولا حول ولا قوة إلا بالله تعالى ذكره. تم السفر الأول من كتاب التقريب لحد المنطق والمدخل إليه بالالفاظ العامية والامثلة الفقهية تأليف أبي محمد علي بن احمد بن سعيد بن حزم بن غالب الاندلسي رحمة الله عليه والحمد لله على ذلك كثيرا، كما هو أهله، وصلى الله على النبي محمد وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 وهذا بدء السفر الثاني بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل محمد 2 - باب ذكر القضايا الشرطية نقول وبالله تعالى نستعين بأن الشرطية هي ما لم يقطع في وصف الموصوف فيها شيء لازم، فالشرطية هذه تنقسم قسمين: إما معلقة بشيء آخر واما مقسمة. فالمعلقة تنقسم قسمين، المعلقة بالجملة وتسمى المتصلة وهي التي علق الحكم فيها بحكم آخر تصح بصحته أو تبطل ببطلانه. مثال ذلك: ان كان من زنى وهو محصن بالغ عاقل لكنه ثيب فانه يجلد ويرجم (1) ؛ فهذه قضية شرطية مركبة من حكمين: احدهما صفة الزاني والثاني صفة ما يصنع به ان زنى وهو الجلد والرجم. فالحكم الأول يسمى المقدمة وهو قولك [55ظ] ان كان زنى وهو محصن بالغ عاقل ثيب والحكم الثاني يسمى الثاني وهو قولك فانه يجلد ويرجم، فاثبت على هذه التسمية أيضاً فتكرر عليك، ان شاء الله عز وجل. واحد قسمي المعلقة التي ذكرنا آنفا انها تنقسم عليهما ان تستثني المقدمة ومعنى قولنا تستثني هو ان تشترط ان كون الامر المذكور اولا موجب لكون الأمر المذكور آخرا. فان لم يكن الأول لم يكن الآخر والقسم الثاني هو ما استثنيت فيه التالي أي انك تشترط ان كون الشيء الذي يذكر آخرا موجب لكون الامر المذكور اولا. فان لم يكن المذكور آخرا لم يكن المذكور اولا، فالقسم الأول مقدمة تتركب ن موضوع ومحمول الا أن   (1) فانه يجلد ويرجم: فانه يجلد ويرجم لكنه ثيب فيجلد ويرجم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 احدهما قرن به حرف شرط فان اردت انتاجها اضفت إليها اخرى فقلت: ان كان الزاني المحصن البالغ العاقل يجلد ويرجم فهذه مقدمة من مخبر عنه وخبر قرنت بأحدهما حرف شرط. ثم تقول: وهذا زان بالغ عاقل فهذه مقدمة ثانية إليها فتمت قرينة النتيجة فهذا بجلد ويرجم. والقول في كل ما صحبه حرف الشرط واحد، وهي إن واذ ما ومتى ما ومهما وما أشبه ذلك. وان شئت أن تقدم في اللفظ المعلقة على التي علقت بها فلك ذلك. والمعلقة هي المسببة والمعلقة بها هي السبب كالزنا مع الاحصان هو سبب الرجم وكطلوع الشمس هو سبب النهار وكدخول الأرض بين الشمس والقمر هو سبب كسوف القمر؛ فهذه الأسباب هي المعلق بها الحكم، والكسوف والشمس والنهار هي المسببات وهي المعلقات. فنقول في تقديم المعلقة ان كان نهارا فالشمس قد طلعت وان كان محصنا عاقلا اسم الثيب يقع على الزاني ان كان بالغا فانه يجلد ويرجم وهذا مثل تقديمك المحمول على الموضوع في القضايا القاطعة التي ليس فيها شرط. فنقول: الحياة في كل إنسان (1) والجوهرية في كل حي فالجوهرية في كل إنسان. وقد تكون المقدمتان في الشرطية نافيتين وقد تكون موجبتين وقد تكون موجبة ونافية كقولك: ان لم تغرب الشمس لم يأت الليل وان لم يكن في الجوبوق لم يكن صعق وان لم يقر بما جاء به الرسول، صلى الله عليه وسلم، لم يكن مسلما [56و] فالمقدمة الأولى هي قولك: ان لم تغرب الشمس وان لم يكن في الجو برق وان لم يقر بما جاء به محمد، صلى الله عليه وسلم. والثانية هي قولك: لم يكن ليل، لم يكن صعق، لم يكن مسلما. وأما الموجبتان فكالتي قدمنا قبل. وأما الموجبة والنافية فقولك: الماء راسب بالطبع ما لم يفسد أو يستحيل، والنار صاعدة بالطبع ما لم تفسد أو تستحيل، والبيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فكأنك قلت: ان تركت الماء بطبعه فهو راسب، وان تركت النار بطبعها فهي صاعدة وان كان المتبايعان مجتمعين فالخيار لهما.   (1) الحياة في كل إنسان: الحياة في كل إنسان والجوهرية في كل إنسان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 وقد تكون المقدمات كثيرة في هذا الباب مثل قولك: ان كان العالم محدثا وكان المحدث يقتضي محدثا وكان لا شيء غير المحدث والمحدث وكان لامحدث غير المحدث والمحدث وكان لا محدث غير المحدث للعالم وكانت إحداث مخالفة الطبيعة ظاهرة من إنسان محدث باختياره وكان يأتي بها شواهد على دعواه ومدثها له محدث العالم وان كان محدثها طلبها من محدث العالم فمحدث العالم شاهد له بصحة ما يدعى واذا كان محدث العالم شاهد اله ومحدث العالم لا يشهد لمدعي باطل فهذا ليس مدعي باطل. واذا كان غير مدعي باطل فهو مدعي حق. واذا كان مدعي حق وجب تصديقه. فالمقدم من هذا الاستدلال الشرطي كما ترى مقدمات كثيرة والتالي واحد وهو: فإذا كان مدعي حق وجب تصديقه. فهذا هو القسم الأول الذي ذكرنا أنه يستثنى فيه المقدم. أي أن المقدمة الأولى هي التي نقطع على أنها حق بعد أن يشترط أنها ان صحت الأولى صحت التي علقت صحتها بصحتها. وان بطلت بطلت التي علقت صحتها بصحتها. وهذا واجب بأول العقل ضرورة، إذ كل شيء لا يجوز أن يصح حتى يصح شيء آخر، ثم إذا لم يصح ذلك الشيء الآخر فواجب ضرورة ن لا يصح الذي لا صحة له الا بوجود صحة توجد. ومن هذا الأصل الضروري البرهاني أبطلنا في الشرائع كل عقد ارتبط بشرط فاسد لا يصح في النكاح والطلاق والبيوع والعتق وسائر العقود كلها. وكذلك ان كان التالي لا يوجد ضرورة الا بوجود الأول والتالي غير موجود ضرورة الا بوجود الأول، فالتالي غير موجود. فان وجدت المقدمة الاولى جزئية فقلت: ان كان زيد طبيبا فهو ناطق، لكن زيد طبيب فهو ناطق فلو استثنيت نقيض الأول الذي صححت [56ظ] نفيه فقلت: لكن زيد ليس طبيبا لم يصح لك أنه ليس ناطقا وهكذا كل ما كان فيه الوصف في المقدمة جزئيا للذي في التالي. واما ان كان مساويا له أو أعم فانك إذا نفيت الأول انتفى الثاني كقولك: ان كان الإنسان حساسا أو قلت ضحاكا فهو حي لكنه ليس حساسا أو ليس ضحاكا فليس حيا. ولا يجوز أن يكون التالي جزئيا للمقدم البتة لأنه مرتبط به موجود بوجوده فهو أبدا اما مساو واما أعم فاحفظ كل هذا واضبطه. فلو استثنيت نفي التالي [أي] صححته فانه ينتج لك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 نفي الأول ضرورة على كل حال جزئيا كان الأول أو مساويا. ألا ترى أنك لو قلت: ان كان زيد طبيبا فهو عالم لكنه ليس عالما أصلا فليس طبيبا؛ وكذلك المساوي ألا ترى أنك لو قلت: ان كان الجرم إنسانا فهو ضحاك لكنه ليس ضحاكا فليس إنسانا وهو من الجزئي لرخص أيضا أن نقول: ان كان الجرم إنسانا فهو ناطق لكنه ليس ناطقا فليس إنسانا. وان استثنيت التالي أي صححته لم يصح لك الأول في المساوي وحده، وأما الاعم فلا لأنك لو قلت ان كان الجرم إنسانا فهو حي فلا يصح لك بذلك أنه إنسان. فالوجه ان تصحح اما الأول فينتج لك صحة التالي واما أن تصحح نفي التالي فيصح لك نفي الأول. وأما ان صححت التالي أو صححت نفي الأول فانه لا يصح لك بتصحيح التالي تصحيح الأول. ولا يصح لك بتصحيح نفي الأول نفي التالي الا في المساوي فقط. الا أنك تحتاج إذا أردت نفي التالي بنفي الأول في المساوي إلى عمل يمتد في انتاج ذلك إذ ليس ذلك بينا بسرعة كبيان انتفاء التالي بانتفاء الأول؛ الا ترى انك إذا قلت ان كان العمر طويلا لهرم موجود لكن العمر ليس طويلا، النتيجة فالهرم ليس موجودا [وهذا] بين. فلو قلت والقرينة بحسبها لكون الهرم غير موجود فانك تحتاج في الانتاج من ذلك ان طول العمر ليس موجودا إلى عمل، وهو ان تقول: ان كان الهرم يوجد طول العمر فليس يمكن أن يعدم الهرم ويوجد طول العمر. إذ لو كان العمر موجودا حينئذ بوجود فليس الهرم اذن موجودا طول العمر؛ وقد قدمنا أن الهرم يوجد بوجود طول العمر وهذا تناقض. وإنما كانت تكون بينة لو قدمت فقلت: إذا [57 و] كان ضعف الكبر غير موجود فطول العمر غير موجود، وهذا بين. وقد قلنا إن القسم الذي يستثني منه ضد المقدمة التالية أي تصححه فانه ينتج لك نفي الأول ضرورة مثل أن تقول: ان كان العالم غير محدث فهو غير مؤلف ولا متناهي الجرم، لكن العالم مؤلف متناهي الجرم، فالعالم محدث. وقد تكون المقدمات التوالي في هذا النوع متنافية كقولك: ان كان يوجد زمان لغير جرم ذي زمان، والزمان إنما هو مدة يعد بها سكون أو حركة، فليس يوجد اذن زمان لغير جرم ذي زمان. فهذه اقسام الشرطي المتصل وهي اما ان تصحح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 المقدم واما تصحح نفيه واما تصحح التالي واما أن تصحح نفيه، فاعلم. وأما الشرطي المنقسم فهو أن تقسم الشيء الذي تريد معرفة صحة حكمه على جميع أقسامه الذي يعطيه العقل إياها قسما أصلا، ولا تكون تلك الأقسام الا متغايرة أو متباينة مختلفة كل واحد منها مخالف لسائرها، وجائز أن تكون الأقسام اثنين فصاعدا ولكن لا بد من الاختلاف المذكور. فالذي ينقسم نحو قولك: العالم اما محدث واما أزلي، وهذا الشيء اما حرام واما غير حرام، وهذا الشيء واجب أو غير واجب. ونحو قولك: هذان الاسمين اما واقعان على معنى واحد واما على أكثر من معنى واحد. وأما الذي سنقسم أقساما أكثر من اثنين ان تقول: لا يخلو العالم ان كان محدثا من أن يكون أحدث نفسه أو أحدثه غيره أو حدث لأمر محدث. ونحو قوله: هذا الشيء اما واجب واما مباح متساو واما مباح مستحب واما مباح مكروه وما حرام وهذه الاقسام كما ترى تامة المعاني أي كل قسم منها مخالف لسائرها وقسمته تامة مستوفاة. وأما إذا كان التقسيم ناقصا هو ان يكون أخللت بشيء من أقسامه إما جهلا واما نسيانا وأما عمدا فليست أقسامه حينئذ تامة المغايرة وذلك نحو قولك: لا يخلو محدث العالم أن يكون أحدثه لجوده أو كرمه أو لاجترار منفعة أو لدفع مضرة أو لعلة غير ما ذكرنا. فهذا تقسيم ناقص لأنك أسقطت منه القسم الصحيح وهو أن يكون أحدثه لا لعلة أصلا. وقد يعرض من هذا الباب [57ظ] أن يكون التقسيم لا يكون الا على قسمين فقط فيحذف المقسم أحد القسمين ويذكر الآخر فيجعله كليا في الحكم وهو في الحقيقة جزئي كقول القائل: الزمان حركة بعد فأخرج ذلك مخرج صفة كلية للزمان وإنما الزمان معنى لازمنا أي لا أن لا أن الزمان معنى لازمنا أي لا أن الزمان حركة بعد أو سكون بعد؛ ومن ذلك أيضا ان تقول: المدبر المعتق بالموت موصى به فهو من الثلث. وإنما الصواب ان تقول المدبر المعتق بالموت اما موصى بعتقه أو معتق بصفة فتوفي القسمة حقها، فتحفظ من مثل هذا كل التحفظ، فان دخول الأغاليط كثيرا ما تدخل في هذا الباب فأقل ما في هذا الباب أن تعمى عليك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 الحقائق ان كنت باحثا فتعتقد الباطل وتضل (1) غيرك ممن يحسن الظن بك أو تتحير ان ظهر ما فسد من الأقسام اليك أو تجيب جوابا فاسدا ان كنت مسؤولا أو تغالط خصمك ان كنت سائلا وكل هذه أحوال غير محمودة. بل هي مذمومة عند أهل العقول جدا. فان كنت جاهلا بالتقسيم فتعلم وابحث وان كنت ناسيا ففتش وتدبر وان كنت عامدا فتلك أقبح فأعرض عنها. ومن ذلك أيضا ان تقول: اما زيد جالس واما متكئ وليس هذا تقسيما صحيحا إذ لعله ماش أو واقف فاعلم الآن ان التقسيم إذا وقع على قسمين فقط واستوفيا حقيقة الطبع في التقسيم التام الذي لا يشذ عنه فانك إذا صححت أحد القسمين وأثبته وأخرجته من الشك فانه ينتج لك أن يصح هذا القسم الآخر ضرورة لا بد من ذلك كقولك: العالم اما أزلي واما محدث لكن العالم محدث فصح لأنه ليس أزليا فإذا صححت نفي أحد القسمين وأثبته أنتج ضرورة صحة التقسيم الآخر كقولك: العالم اما أزلي واما محدث لكنه ليس أزليا فصح انه محدث وهكذا إذا كانت الأقسام اكثر من اثنين فانك إذا صححت أحدها فقد صح انه مخالف لسائرها لابد من ذلك. وكذلك ان صححت نفي جميع تلك الأقسام حاشا واحدا صح أن حكمه هو ذلك الواحد الذي بقى ضرورة فان صححت ان حكمه مخالف لبعض تلك الأقسام وبقي منها أكثر من واحد سقطت الأقسام التي صح انه مخالف لها ولم يصح ان حكم الشيء الذي يتعرف [58و] صحة حكمه في أحد ما بقي دون سائر ما بقي ولا تبال أي الأقسام قدمت في اللفظ ولا أيها أخرت في هذه الوجوه كلها. ونحن نمثل الوجوه الثلاثة التي ذكرنا فتقول، وبالله تعالى نتأيد: إذا قلت هذا الطعم اما تفه واما زعاق واما حلو واما مر واما حامض واما ملح واما حريف واما عفص لكنه مر فقد نفيت عنه جميع الطعوم الباقية كلها يقينا بلا شك. وكذلك إذا قلت: هذا العدد اما مساو لهذا العدد واما أقل منه واما اكثر منه فقد نفيت القسمين الباقيين بلا شك وهو حينئذ لا مساو ولا أقل يقينا فان   (1) وتضل: ويظل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 أبطلت جميع الأقسام حاشا واحدا فقلت في المسألة الأولى: لكنه ليس نفها ولا زعاقا ولا حلو ولا مرا ولا حامضا ولا ملحا ولا حريفا فقد صح شك أنه عفص. وكذلك لو قلت في الثانية لكنه ليس اكثر منه ولا مساويا له فقد صح أنه أقل منه يقينا فان أبطلت بعض الأقسام وسكت عن أكثر من واحد منها سقطت الاقسام التي صححت أنها مخالفة له فقط ولم تثبت له واحدا بعينه من الذي نفيت وبقي الاستدلال والنظر واجبا فيها كقولك في المسألة الاولى لكنه ليس مرا ولا حلوا فقد سقطت عنه المرارة والحلاوة وبقي الطعم مشكوكا فيه على باقي الاقسام، كلما أسقطت قسما بقي موقوفا على الباقي حتى لا يبقى إلا واحد فيصح حينئذ أن ذلك الواحد هو حكمه، وهذا في جميع المسائل؛ وإنما أخرجت لك الوجوه كلها من مسألة واحدة لترى نسبة الوجوه بعضها من بعض بأمكن وأسهل منها لو كانت من مسائل شتى. ولو أنك من الأقسام الكثيرة اثنين فصاعدا بحرف الشك مثل ان تقول: لكنه اما حلو واما حامض واما مر فقد بطلت سائرها وبقي الحكم موقوفا على الذي قصرتها عليه. واعلم أن هذا الفصل لا يكون صحيحا الا بعد ذكرك جميع ما وتوجبه الطبيعة من الأقسام، فلو ابتدأت بذكر بعض الأقسام مقتصرا عليها في القسمة فقد اسأت العمل، فالصواب انه ممنوع الا من جهة واحدة ولا ينبغي لك ان تنكل عنها، وهو ان يتفق لك صحة أحد الأقسام التي ذكرت على الشيء الذي تطلب معرفة صحة حكمه، فانك حينئذ إذا صححت ذلك القسم [58ظ] الموافق خاصة صادفت الحق غير محسن في اصابته لكن كإنسان أوقعه البحث على كنز، وذلك نحو قولك: هذا الشيء اما حار واما بارد لكنه حار فان كنت قد أصبت في وصفه بالحر حقيقة طبعه فقد انتج لك ذلك بطلان كل قسم ذكرته أو لم تذكره، وان نفيت في هذا العمل أحد القسمين الذين ذكرت فانه لم يصح لك شيء بعد، وذلك نحو قولك: هذا الشيء اما حار واما يارد لكنه ليس بحار فاعلم أنك لم تصب بعد حقيقة طبعه ولا أثبت له البرد لأنك أسقطت القسم الثالث وهو المعتدل فلعله معتدل إذ ليس حارا فلا يكون أيضاً داخلا في القسم الثاني الذي ذكرت وهو البارد. ولو كان تقسيمك موعبا لارتفع الاشكال؟ على ما قدمنا قبل - وأنت إذا قطعت في القسمة الناقصة على انه لابد من أحد الاقسام التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 ذكرت فالكذب حصتك من هذا الخبر والفضيحة صفتك فيه وهاتان صنعتا سوء ما والأمر لك من قبل ومن بعد فاحفظ هذه المعاني وميزها إذا مرت بك في جميع مطالبك وفتش عنها في كل ما يرد عليك فانك تستضيء في العلم ضياءا تاما وتشرف على عجائب تفرج عنك هموما عظيمة ان كنت ممن يهتم بالحقائق. واعلم ان ايرادك في التقسيم لفظة إما أو لفظة أو أو انه لا يخلو من كذا وكذا أو لابد ن كذا وكذا أو هذا ينقسم كذا وكذا، قسما منها كذا ومنها كذا، أو لا سبيل إلى غير كذا وكذا أو ما أعطى المعنى فكل ذلك ممن يهتم بالحقائق. واعلم ان ايرادك في التقسيم لفظة اما أو لفظة أو أو لا يخلو من كذا وكذا وأنه لا بد من كذا وكذا وهذا ينقسم كذا وكذا قسما منها كذا وكذا ومنها كذا أو لا سبيل إلى غير كذا وكذا ما أعطى المعنى فكل ذلك سواء لا يختل شيء من ذلك معنى أصلا. 3 - باب من انواع البرهان تتضاعف الصفات فيه واعلم انه قد تقع مقدمات بنسبة أعداد في الكثرة أو في القلة أو المساواة أو تفاضل كيفيات في الشدة لو الضعف أو تماثلها، فمنها ما هو تقديم صحيح فينتج انتاجا صحيحا راجعا إلى الشكل الأول، كقولك: النرجس أشد صفرة [59 و] من التفاح والتفاح أشد صفرة من الاترج. النتيجة: فالنرجس أشد صفرة من الاترج. فالحد الأوسط وهو اللفظة المشتركة في كلتا المقدمتين، التي طالما بينتها عليك زمان وصفي لك انحاء الاشكال الثلاثة، وهو قولنا: التفاح، وقولنا أشد صفرة هو الغرض المقصود والرابط ما بين الحدين، فلا بد من خروجه في النتيجة كخروج لفظ كل أو بعض في الاشكال المتقدمة والحدان المقتسمان وهما اللفظان اللذان انفردت كل مقدمة منهما بواحد وهو النرجس أو الاترج. وربما جاءا بلفظ بنظير صحيح فتقول: نسبة الخمسة إلى العشرة كنسبة الاثنين من الاربعة، النتيجة: فالخمسة نصف العشرة، وهكذا ان شبهت كيفية بكيفية ما، ثم شبهت تلك الكيفية الثانية بكيفية أخرى، فقد أنتج لك ذلك شبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 الكيفية الاولى بالكيفية الثانية ضرورة وذلك مثل قولك: بياض زيد كبياض عمرو وبياض عمرو كبياض خالد. النتيجة: فبياض زيد كبياض خالد. فهذه القرينة اعطت الخمسة أنها نصف العشرة واعطتها أيضا ان لها نسبة من عدد يشبه نسبة عدد آخر. وكذلك أعطته الاخرى أن بياض زيد يشبه بياض عمرو ويشبه بياض خالد. وهذا مكان ينبغي ان تتحفظ به فربما غالط فيه بعض النوكى كما فعل الناشئ المكني بأبي العباس إذ قال: إذا كانت عشرة في عشرة مائة فالخمسة في الخمسة خمسون، وذلك لأن الخمسين نصف المائة والخمسة نصف العشرة ونسبة العشرة من المائة كنسبة الخمسون من الخمسين ونسبة الخمسة من العشرة كنسبة الخمسين من المائة وإنما وقع هذا الايهام الساقط لان المتكلم أتى بلفظ غير واضح في المقدمة وكان الصواب أن يقول إذا كانت عشرة ومكررة عشر مرات مائة فخمسة مكررة خمسة مرات خمسة وعشرون. لكن اهل صناعة الحساب اختصروا التطويل بلفظ اتفقوا على وضعه للتفاهم بينهم وليس عليهم أكثر من ذلك البيان للجاهل فقط. وتحفظ أيضا من أن تأتي بجمل مختلفة ومعنى ذلك أن تكون الصفة التي تصف بها لمخبر عنه في هذا النوع من البرهان مختلفة فيتولد عليك من ذلك غلط مثل أن تقول: الورد أطيب رائحة من الخزامى والخزامى أضعف رائحة من المسك فهذا تركيب [59ظ] فاسد لأن حق هذه القرائن أن تكون الصفة من نوع واحد الا في درج؟ فقط لانها هي الحد المشترك فلا يجوز الا أن تكون بلفظ واحد في معنى واحد. والحد المشترك في هاتين القضيتين مختلف أحدهما أطيب رائحة والثاني أضعف رائحة فليس هذا مشتركا كلاهما مختلفان لم يتم فيهما حد الاقتران فلذلك خرجت النتيجة في بعض المواضع فاسدة وربما صدقت ولكنها غير موثوق بها على ما قدمنا. وقد تصدق مرة وتكذب أخرى: ألا ترى انك لو قلت: الورد اطيب رائحة من الخزامى والخزامى اضعف رائحة من البنفسج، النتيجة: فالورد أطيب من البنفسج صادقة، واذا قلت الورد أطيب رائحة من الخزامى والخزامى أضعف رائحة من البنفسج، النتيجة: فالورد أطيب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 رائحة من البنفسج، صادقة،. واذا قلت الورد أطيب رائحة من الخزامى والخزامى اضعف رائحة من المسك، النتيجة: فالورد أطيب من المسك كاذبة، وأنت إذا التزمت ما حددته لك صدقت أبدا بلا شك وذلك أن تقول: الورد اطيب رائحة من الخزامى والخزامى أطيب رائحة من الضيمران فالورد أطيب رائحة من الضيمران فهذا الترتيب لا يخونك أبدا. ونمثل ذلك بمثال شريعي فنقول: ان موه مموه فقال علي أكثر فضائل العباس والعباس أقل فضائل من أبي بكر فأراد أن ينتج من ذلك: فعلي أكثر فضائل من أبي بكر وقال: ان مقدمتي كلتاهما صادقة لم يسوغ له ذلك وقيل له اجعل مكان أبي بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنها أيضا تأتيك مقدمتان صادقتان ثم انظر ماذا ينتج فتقول: علي أكثر فضائل من العباس والعباس أقل فضائل من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فهاتان صادقتان فعلي أكثر فضائل من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهذا كذب وكفر. ولا يترك يأخذ في نتيجة قرينة واحدة ما وصف به المخبر عنه في المقدمة الأولى وفي نتيجة قرينة أخرى ما وصف به المخبر عنه في المقدمة الثانية مثل أن يأخذ في الواحدة ذكر الأكثر وفي الثانية ذكر الأقل ولكن يعكس عليه ما يريد من ذلك فيلوح تمويهه من قريب، حتى إذا جعلت حكم الحد المشترك واحدا في اللفظ أصبت وذلك مثل أن تقول: علي اكثر فضائل من ابي هريرة وابو هريرة أكثر [60 و] فضائل من معاوية النتيجة فعلي أفضل من معاوية، فهذا الترتيب لا يخونك أبدا وصح لك في هذا النوع من البرهان صفتان للمخبر عنه احدهما فضله على من نسبته منه والثانية فضله على من نسبت إليه الذي نسبت منه أولا. فلذلك ترجمناه أولا بأنه تتضاعف فيه الصفات، وبالله تعالى التوفيق. 4 - باب من انواع البرهان تختلف مقدماته في الظاهر الا ان الغرض في نفيها وايجابها واحد هذا نوع من إقامة البرهان يصدق أبدا إذا رتب رتبة حسنة كقولك: بعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 الموجودات شيء لم يزل، ولا موجود الا الخالق والجوهر والعرض، والذي لم يزل ليس هو الجوهر ولا العرض. النتيجة: فهو الخالق عز وجل. فالمقدمة الاولى من هذه المقدمات الثلاث هي من النوع الذي ذكرنا قبل هذا متصلا آخره بأول هذا الباب وهو الذي يعطي المخبر عنه أكثر من صفة واحدة. ألا ترى أنك إذا أوجبت للمخبر عنه أنه لم يزل وأنه موجود وبأنه خالق لا إله الا هو. والمقدمة الثالثة هي من القضايا المقسمة وقد صححت فيها نفي أنه الجوهر أو العرض فوجب أن القسم الثالث ضرورة هو الخالق عز وجل. والمقدمة الثانية المتوسطة هي من النوعين المذكورين فأخذت من النوع الذي يعطي المخبر عنه اكثر من صفة واحدة كقولك فيها إنه لم يزل وإنه ليس الجوهر وليس العرض وأخذت من المقسمة قولك ليس الجوهر وليس العرض ووصفت أيضا فيها الموجود أنه اكثر من واحد فقد أنتجت هذه المقدمات الثلاث نتيجة واحدة. وهذا النوع كثير التكرر في تضاعيف المناظرة كثير المرور (1) في أثناء البحث عن الحقائق المطلوبات لأنك توقن وجوب شيء ما فتريد تحقيق صفاته فتأخذ كل قسم ممكن ان يكون الموصوف يوصف به ثم تنفي عنه ما صح نفيه بالدلائل الصحاح حتى تنتفي كلها حاشا واحدا منها. فذلك الذي يبقى هو صفة الشيء الذي تريد معرفة حقيقة حكمه. ومن ذلك ان نقول: واحد من [الناس] قتل زيدا (2) ، ولم يكن في البيت الا يزيد وخالد ومحمد فمحمد كان نائما ويزيد مغشيا عليه من علة به، النتيجة: [60ظ] فخالد قتله، وقد تكثر المقدمات هنا جدا وتكون من جميع أنواع البرهان وتنتج انتاجا صحيحا على حسب ما ذكرنا من رتبة كل نوع من انواع البرهان في بابه. ومن هذا الباب يفهم أن للأب الثلثين من قول اله تعالى: {وورثه أبواه فأمه الثلث} (11 النساء: 4) وذلك أن المال ثلث وثلثان والمال للابوين وللام منه الثلث. النتيجة: فالثلثان للاب. وبالله تعالى التوفيق.   (1) كثير المرور: وحر المرور. (2) واحد من الناس قتل زيدا: واحد من في قيل زيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 5 - باب من انواع البرهان تكثر مقدماته وتوجب كل مقدمة منها المقدمة التي بعدها مثال ذلك أن تقول إذا أفرط الأكل وجبت التخمة، واذا وجبت التخمة ضعفت المعدة، واذا ضعفت المعدة وجب سوء الهضم، واذا وجب سوء الهضم وجب المرض. النتيجة: فوجود افراط الأكل يوجب افراط المرض. وهذا برهان صحيح لأن فساد الهضم لا يوجد الا ومعه مرض المعدة لا يوجد الا وسوء الهضم معه والتخمة الا وفساد المعدة معها والزيادة فوق القدر الموافق لقدرة الطبيعة لا يوجد الا وتخمة معها وما لا يوجد الا ووجد شيء آخر معه بوجوده والثاني أيضا إذا وجد أوجب ثالثا فلا يوجد الثالث الا بوجود الأول. وهذا أيضا مما ينبغي أن تتحفظ في وضع مقدماته من أن يدخل فيها مقدمة كاذبة. فان قائلا لو قال: إذا وجدت قلة المال وجد الفقر واذا وجد الفقر فالحاجة موجودة وأراد أن ينتج من ذلك إذا وجدت قلة المال فالحاجة موجودة فهذا كذب لأن قلة المال ليست فقرا وقد يكون المرء صانعا وذا (1) كفاف لا يحتاج إلى أحد ولا يفضل عنه؛ لكن لو قلت: إذا وجدت حال التقصير عن الكفاف وجد الفقر واذا وجد الفقر وجدت الحاجة لأنتج ذلك انتاجا صحيحا وهو إذا وجدت حال التقصير عن الكفاف وجدت الحاجة. فينبغي أن تتحفظ من مثل هذا من الاسماء المشتركة العامة لمعان فتحقق معانيها بألفاظ مختصة بها وأن تتحفظ من الصفات الكليات فلا توقعها بعمومتها على بعض ما تحتها دون بعض. وقد موه بعض المخالفين فقال ليفسد هذا البرهان: إذا عدمت [61 و] النار عدم الحر واذا عدم الحر لم نحتج إلى التبرد فأراد أن ينتج إذا عدمت النار لم نحتج إلى التبرد وهذا كذب لأن المحموم والصائف يحتاجان إلى التبرد ولا نار ظاهرة عندهما وإنما هذا لأن المقدمة الأولى كذب وإنما الصواب أن يقول: إذا عدمت النار عدم الحر المتولد عنها.   (1) وذا: واذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 وهذا مثال شريعي: كل وطء صح علم الواطئ بباطنه وظاهره وحكمه فهو اما فراش واما عهر وكل مباحة العين للواطئ فراش وكل ما ليس فراشا عهر، والأمة المشتركة عهر، وكل ذي عهر عاهر، فكل واطيء أمة مشتركة عاهر وكل عاهر فله الحجر فكل واطيء أمة مشتركة فله الحجر. فهذه المقدمات كلها أنتجت أن كل واطئ أمة مشتركة فله الحجر. 6 - باب البرهان شرطي اللفظ قاطع المعنى مثاله: ان وصف شيء بالاسكار وصف بالتحريم، ونبيذ التين إذا غلي وصف بالاسكار. فالتحريم واجب لنبيذ التين إذا غلي. فهذا كما ترى ظاهره أن الوصف بالتحريم إنما هو معلق بالاسكار فإذا اردت ان تجعله قاطعا في لفظه قلت: التحريم حكم كل مسكر، وبعض المسكرات نبيذ التين إذا غلي، فالتحريم حكم نبيذ التين إذا غلي. وقد غالط في هذا الباب قوم من المشغبين فقالوا: قد قطعتم بأن نافيتين لا تنتج انتاجا موثوقا به وانتم في بعض هذه الابواب التي خبت تنتجون انتاجا مطرودا من نافيتين وفي هذا الباب أيضاً كقولكم من لم يكن ضحاكا لم يكن إنسانا والفرس ليس ضحاكا فالفرس ليس إنسانا وتقولون كل من لم يؤمن فليس مقبولا من الله عز وجل والوثني ليس مؤمنا فليس مقبولا من الله عز وجل. فالجواب، وبالله تعالى التوفيق: ان النفي الذي أبعدنا اقامة البرهان المطرد منه كل نفي مجرد وهو كل نفي [غير] موجب للمخبر عنه صفة أصلاً فسواء إذا كان النفي بهذه الصفة أي بلفظ النفي أو بلفظ الايجاب فلا ينتج ابدا شيئا، وسنذكر شيئا من هذا في باب مفرد في هذا الديوان في ذكر مخلطات [61 ظ] رامها بعض المغالطين في الأشكال، ان شاء الله عز وجل. وأما ما كان نفيا في اللفظ وهو يوجب معنى وصفة ما للمخبر عنه ليس نفيا ولكنه ايجاب صحيح وإنما يراعى المعنى الذي يعطيه اللفظ لا صيغة اللفظ وحده. ومن ها هنا لم يلزمنا تشبيه الباري عز وجل في نفينا عنه اشياء هي أيضا منفية عن كثير في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 خلقه الا أن ذلك لم يوجب تشبيهه تعالى كقولنا: إن الباري تعالى ليس جسما والعرض ليس جسما والباري تعالى ليس عرضا والجسم ليس عرضا لأنا في هذا الحكم لم نثبت للباري حالا يشترك فيها مع العرض إذ نفينا عنه الجسمية ولا مع الجسم إذ نفينا عنه العرضية، وهذا هو النفي المجرد المحض. وأما في القضايا التي ذكرنا آنفا فاننا أوجبنا فيها الضحك لمن كان إنسانا وأوبنا للفرس نفي الإنسانية وأوجبنا له مع كل شبها مع كل من ليس ضحاكا في أنهم ليسوا ناسا. وكذلك أوجبنا لمن لم يؤمن ضد القبول وهو التبرؤ وأوجبنا لمن لم يؤمن ضد القبول وهو التبرؤ وأوجبنا ضد الايمان وهو الكفر للوثني. وقد قدمنا أن المعنى إذا انحصر إلى شيئين فنفيت أحدهما فقد أوجبت الآخر ضرورة؟ فاحفظ هذا - واذا نفيتهما فلم توجب شيئا أصلا، واذا نفيت فقد أوجبت ضرورة واذا أوجبت النفي فقد نفيت بلا شك. فثقف هذا كله ينتج يقينك بصحة علمك. 7 - باب من البرهان يؤخذ من نتيجة كذب بأن يصدق نفيها اعلم أنه إذا كانت احدى المقدمتين كذبا والاخرى صدقا فانتجت نتيجة كاذبة ظاهرة الكذب وكانت المقدمة الكاذبة مما رضيها خصمك سامحته في ذلك لتريه فحش انتاجه؛ فان الشيء إذا كذب فنفيه حق لا شك فإذا كذبت نتيجة ما فنفيها حق. فقد يصح أخذ البرهان على هذا الوجه صحة مطردة موثوقا بها أبدا. مثال ذلك: إنسان خالفك فقال: العالم أزلي، فقلت له أنا أسامحك في نقد هذه المقدمة فأقول: العالم أزلي وأضيف إليها صحيحة أخرى وهي الأزلي ليس مؤلفا فالنتيجة: العالم ليس مؤلفا، وهذا كذب ظاهر واذا كان هذا كذبا فنقيضه حق، وهو العالم مؤلف واذا كان هذا حقا وقد قدمنا أن الأزلي ليس مؤلفا فقد صح أن العالم ليس أزليا إذ هو مؤلف وظهر كذب مقدمته، إذ قال: العالم أزلي. فهذا استدلال صحيح لا [62و] يخون أبدا إذ أخذ يخالف النتيجة وترد النتيجة إلى الأحالة. وتذكر هنا ما كتبت لك في أنحاء من الأشكال الثلاثة التي يصح البرهان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 فيها بردها إلى الإحالة. ومن ذلك أيضا أن تقول النصارى: الفاعل الأول ثلاثة فنقول: فربنا الفاعل ثلاثة ثم نضيف إلى هذه المقدمة مقدمة صحيحة متيقنة وهي والثلاثة عدد والعدد مركب من أجزائه المساوية لكله، فالثلاثة مركبة من أجزائها المساوية لجميعها، وقد قلتم الأول ثلاثة فالأول مركب من أجزائه المساوية لجميعه وكله وقد تيقنتم أنتم ونحن أن الأول غير مركب وغير ذي أجزاء فالاول مركب ذو أجزاء لا مركب ولا ذو أجزاء وهذا محال وإذ هذا محال وصح أنه مرطب فقد صح أنه ليس عددا وإذ صح أنه ليس ثلاثة، وظهر كذب مقدمتكم الفاسدة، وبالله تعالى التوفيق. 8 - باب من البرهان مركب من نتائج كثيرة مأخوذة من مقدمات شتى مثال ذلك أن نقول: كل معدود فذو طرفين وكل ذي طرفين فمتناه فكل معدود متناه ثم نأخذ نتيجة هذا البرهان الأول فنقول: كل معدود متناه وكل متناه فذو أجزاء فالنتيجة: كل معدود فذو أجزاء ثم نأخذ نتيجة هذا البرهان الثاني فنقول: كل معدود فذو أجزاء وكل ذي أجزاء مؤلف، النتيجة: فكل معدود مؤلف وكل مؤلف فمقارن للتأليف، النتيجة: كل معدود مقارن للتأليف، ثم نأخذ هذا البرهان الرابع فتقول: كل معدود مقارن للتأليف وكل مقارن للتأليف، النتيجة: فكل معدود لم يسبق التأليف، ثم نأخذ نتيجة هذا البرهان الخامس فنقول: كل معدود لم يسبق التأليف ثم نأخذ هذا البرهان السادس فتقول: العالم لم يسبق المحدث وما لم يسبق المحدث فمحدث مثله: النتيجة فالعالم محدث. وقد يأتيك في هذا الباب مقدمات قاطعة شرطية ومتصلة ومقسمة واستدلال بضد ما يخرج في النتيجة وبالجملة فانه يتصرف لك في جميع أنواع البرهان وكل ذلك إذا أخذته على الشروط التي قدمنا فهو موثوق بإنتاجه، والحمد لله رب العالمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 9 - باب [62ظ] من احكام القضايا اعلم أن من القضايا ينطوي في ذكرك اياها قضايا أخر وان كنت لم تلفظ بها وهذا المعنى يؤخذ من المتلائمات ومن عكس القضايا وقد ذكرناها. وهذا نحو قولك: لا يجوز أن يكون الأزلي مؤلفا، فقد انطوى لنا في هذا الكلام أنه لا يجوز أن يكون المؤلف أزليا ضرورة لا بد من ذلك، وانطوى فيها أيضا أن المؤلف محدث. وكذلك إذا قلت: كل مسكر حرام فقد انطوى فيه أن المسكر ليس حلالا وان ليس مسكرا، وانطوى فيه أيضا أن نبيذ التمر إذا أسكر حرام وأن السوكران إذا أسكر حرام وأن نبيذ التفاح إذا أسكر حرام وغير ذلك. كما إذا قلت: زيد يمشي فقد انطوى لك فيه أنه يتحرك وأنه ذو رجل سالمة وانه حي وأشياء كثيرة. ولذلك ظن قوم ذوو شغب وجهل اننا مخطئون في قولنا ان القضية الواحدة تنتج، وأبوا ما ذكرنا وليس ظنهم صحيحا لأن كل ما ذكرنا ليس انتاجا إذ شرط معنى الإنتاج أن نستفيد من اجتماع كلتا القضيتين معنى ليس مطويا في احداهما أصلا فأنت إذا قلت: كل مسكر حرام فليس فيه إيجاب أن نبيذ التمر يسكر ولا بد أصلا لكن حتى تلفظ به وتصحح له أنه قد يسكر، فإذا جعلت له هذه الصفة فحينئذ تقطع له بالتحريم دون شرط والا فإنما في قولك كل مسكر حرام بالإمكان ان اسكر لا بالوجوب؛ إذ في العالم أشياء كثيرة لا تسكر فلعله منها فتدبر هذا ودع المسامحة وحقق. وهذا الذي ذكرنا في هذا الباب من قضايا تفهم من قضايا لم يلفظ بها إنما هو الانطواء فقط فيها، ومعنى الانطواء أننا إلى معان كثيرة فعبرنا عنها بلفظ واحد طلبا للاختصار. وبالجملة فجزئياتها يدخل الاخبار عنها في الاخبار بكليتها كقولهم: الإنسان حي فانك قد أخبرت أن زيدا وعمرا أحياء وهند حية وبالجملة فكل رجل وامرأة لانهم أجزاء الإنسان فافهم هذا. وكذلك أيضا ينطوي في كل قضية إبطال ضدها كقول الله تعالى {إن إبراهيم لأواه حليم} (114 التوبة 9) فقد انطوى فيه نفي ضد الحلم وهو السفه، فقد انطوى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 فيه أن إبراهيم ليس سفيها. وأما الإنتاج فخلاف ذلك وهو ما قد بيناه ولله الحمد. واعلم أيضا أنه ليس في كل وقت [63 و] يردك الكلام الذي تريد أن تجعله مقدمة على الترتيب الذي قدمنا لك في اخذ البرهان لكن تردك الأقوال المخالفة لتلك الرتب على ثلاثة أوجه: فوجه مخالف لكل ما ذكرنا في الرتبة والمعنى فلا تلتفت إليه وحقق الرتبة والصدق على الشروط التي قدمنا لك، فليس يقوم لك من غير ما قلنا برهان البتة. ووجه آخر فيه ألفاظ زائدة لا تصلح المعنى ولا تفسده ولو سكت عنها لم تحتج إليها تبال بها، وعان أخذ البرهان من سائر الكلام الصحيح، وتلك الألفاظ الزائدة إنما تعطي معنى ليس في شيء ومن هذا المكان تثبت لنا إقامة الحد بشهادة شاهدين اتفقا على ما يوجب الحد ثم اختلفنا في صفات لا معنى لها في الشهادة، والشهادة تامة دونها، كشاهدين شهدا على زيد أنه سرق بقرة فقال أحدهما، صفراء وقال الآخر: سوداء فانه ليس كونها صفراء أو سوداء مما يغاير سرقته لها ولا ينفيها نعني سرقته لها والكلام تام دون ذكر شيء من ذلك. ومن هذا الباب نفسه ومن هذا الباب نفسه ومن ضده أبطلنا إقرار من أقر بمحال كمن قال: فلان قتلته بسحري لعلمنا أن السحر لا يقتل، فالزيادة التي زاد مفسدة للمعنى فهي مقدمة فاسدة ولو أقر مرة فقال: قتلته بسيف وقال مرة أخرى: قتلته برمح لكان إقراراً صحيحا لأنه ليس شيء من هذه الزيادات مغايرة للقتل فسكوته عنها وذكره لها سواء إذ ليس في ذكرها ما يفسد المقدمة. ونحو هذا ما يذكره أهل الملل المخالفة لنا من أن للدنيا مذ حدثت سبعة آلاف سنة. وقال آخرون خمسة آلاف سنة. وقال آخرون ستة آلاف سنة. وقال آخرون أربعمائة ألف سنة وقلنا نحن لا حد عندنا في ذلك وقد يمكن ان تكون أضعاف أضعاف هذه الأعداد كلها وقد يمكن أن يكون أقل من ذلك فكل هذه الأقوال ليس بقادح (1) في اتفاقنا على أن للعالم أولا ومبدءا. وهذه   (1) بقادح: بكادح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 كلها ألفاظ لسنا نقول إنها لا تفسد المبدأ والحدث فقط، لكنا لا نقتصر على كل ذلك حتى نقول: بل انها كلها على اختلافها موجبة للحدث والمبدأ فلينا نستضر باختلاف مثل هذه الألفاظ ولا بزيادتها ولا بنقصانها إذا أعطت صحة المعنى المطلوب ولم تفسده. والوجه الثالث أن يأتي بلفظ قد قام البرهان على وجوب الانقياد إليه فيحتاج إلى أخذه في المقدمات بيننا وبين من خالفنا [63 ظ] في بعض الآراء ممن يقر معنا بذلك اللفظ وينقاد له وفي ذلك اللفظ حذف بين ولفظ قد ترك ذكره ولا يقدر خصمنا على انكار ذلك ولا يضير ذلك الحذف شيئا وهو كما لو ذكر ولا فرق، إذا تيقن كونه قائما في المعنى، وذلك نحو مقدمة نأخذها من قول الله عز وجل {وان كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا} [43 النساء: 4] فلا شك عند السامع لهذه الآية ان كان له أدنى فهم للسان العربي وأقل معرفة بالملة الإسلامية أن هنا معنى بنا إليه ضرورة قد حذف من اللفظ امتفاء بأنه لا يخفى ذلك أصلا وهي " فأحدثتم " ومكان معنى هذه اللفظة بين " سفر " وبين " أو جاء " وكذلك ان احتجنا إلى مقدمة أخرى من قوله تعالى {ذلك كفارة أيمانهم إذا حلفتم} [89 المائدة: 5] فلا شك عند من له لسان من أهل الملة الإسلامية واللغة العربية أن المعنى " فحنثتم ". وقد يكون الحذف على رتبة أخرى وهو أن يوجب اللفظ في بنية اللغة ارتباطا بمعنى لم يذكر ولا بد من تصحيحه كقول القائل: فلان تأب فلا يختل على سامع أنه أذنب وفلان ارتد فلا يختل على سامع أنه قد كان مسلما، وهذا المال موزون فلا يختل على سامع أنه بميزان، ومثل هذا كثير فمثل هذا الحذف لا يضر الكلام شيئا، والكلام صحيح، وأخذ المقدمات منه للبرهان واجب واثبات المعنى للمحذوف منها لازم ولا يتعلل في مثل هذا الحذف الا جاهل غبي أو مكابر سخيف أو منقطع متسلل (1) وكذلك إذا قلت ضرب زيد بالسيف عمرا فأبان رأسه أنتجت أن زيدا قتل عمرا وهذا إنتاج صادق صحيح وتقديم صحيح ولا يضرك ان حذفت من المقدمة: وكل من أبين رأسه مقتول، وكل من أبان   (1) متسلل: كذلك هي حيثما وردت؛ وفي الفصل 2: 180 متسلل عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 رأس غيره فقد قتله قتل فلانا. وكذلك قوله عز وجل {فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة} (196 البقرة 2) فهذا انتاج صحيح مكتفى به عن أن نقول سبعة وثلاثة مساوية لعشرة، فتلك عشرة، لصحة العلم بذلك. فافهم الآن من هذا الباب أن خلاف الرتب التي قدمت لا يكون إلا على ثلاثة أوجه: فساد الرتبة ولمعنى فاطرحه، وزيادة اللفظ فان كان يفسد المعنى فاطرحه وان كان لا يفسد فلا تبال (1) به فلن يضرك، وحذف من اللفظ فان كان يفسد المعنى فاطرحه وان كان لا يفسد المعنى فلا تبال به [64 و] فلن يضرك وثقف هذا كله فالمنفعة به عظيمة جدا. واعلم أن الخصم إذا اقر لك بالمقدمتين اللتين على الشروط التي قدمنا من الصحة وأنكر النتيجة فقد تناقض وسقط وبطل قوله. وكذلك ان كانت النتيجة كاذبة على ما قدمنا فوجب عليه تصديق ضدها على ما قدمنا من البرهان الذي يؤخذ من النتيجة الكاذبة التي تسامح الخصم في احدى المقدمات فان صدق ذلك الضد فقد راجع الحق ولزمه ولن يكذب مقدمته الفاسدة وان صدق النتيجة ولم يرجع عن تكذيب مقدمته الفاسدة فقد صدق الشيء وضده أو أنكرهما جميعا فقد سخف وسقط الكلام معه وبان بطلان قوله وبالله تعالى التوفيق وله الأمر من قبل ومن بعد لا إله إلا هو. ولا تغلط فتقدر أن من وافقك في قولك فقد لزمه ما لزمك فهذا جهل ممن أراد إلزام ذلك خصمه، أو شغب. واعلم أن موقفة الخصم للخصم تنقسم قسمين: أحدهما موافقة في النتيجة فقط دون موافقة له في المقدمات المنتجة للنتيجة فهذا هو الذي قلنا لك لا تعبير به إذ إنما وافقك على ذلك لتقديمه مقدمات أخر أنتجت تلك النتيجة اما هي فاسدة واما مقدماتك فاسدة، فان هذا وان أدخلته مقدماته في موافقتك الآن فهي مخرجة له عما قليل إلى مخالفتك. والوجه الثاني أن يوافقك على مقدماتك فهذا الوفاق اللازم الذي تقدم به الحجة ان كانت صحاحا بالجملة أو تقوم به على   (1) تبال: تبالي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 الخصمين معا الحجة فقط على كل حال صحاحا كانت أو غير صحاح بالتزامهما إياها. فان قال قائل: كيف تختلف المقدمات وتنتج واحدة لا سيما وأحد العملين في بعض المقدمات حق والعمل الثاني باطل فقد صار الحق والباطل ينتجان إنتاجا واحدا فليذكر على ما ذكرنا قبل ان نبدأ بذكر أنحاء الاشكال من أنه قد يكون مقدمات فاسدة تنتج إنتاجا صحيحا وبيناها هنالك وما نذكره اثر هذا الباب فمذكور هنالك تقديم مقدمتين نافيتين فنقول لك: ليس كل إنسان حجرا (1) ولا كل حجر جمادا النتيجة: ليس كل إنسان جمادا. وقلنا هنالك أن هذا تقديم غرار خوان لأنك إذا وثقت به واستسلمت إليه قدم اليك مثلها فقال ليس كل إنسان أسود وليس كل أسود حيا النتيجة ليس كل أسود حيا فهذا تقديم فاسد. وقد ينتج إنتاجا يوافق [64 ظ] الإنتاج الصحيح في بعض المواضع الا انك ان تبعته فكما أدخلك في الحقيقة في مكان فكذلك يخرجك منها في الآخر. وقد بينا هذا هنالك وفي الباب الذي يتلو هذا الباب ولم ندع للاشكال لك إليك سبيلا. وكثيرا ما يحتج علينا اليهود بأننا قد وافقناهم على أن دينهم قد كان حقا ونبيهم حق ويريدون من ها هنا إلزامنا الإقرار به حتى الآن فاضبط هذا المكان واعلم أنا أنما وافقناهم على مقدماتهم، وهي مقدمات أنتجت لنا موافقتهم فيما ذكروا، فاضربوا عن تلك المقدمات واتباعها فيما أنتجت وتعلقوا بالموافقة بالنتيجة فقط فلا تغتر في النتيجة أصلا حتى تصح المقدمات وإنما صححنا نحن وهم ان من ثبت أنه أتى بمعجزات انه نبي، وموسى، عليه السلام، اتى بمعجزات فموسى نبي، وهذه المقدمة نفسها تنتج نبوة محمد، صلى الله عليه وسلم، فنقول: كل من أتى بمعجزة فهو نبي ومحمد صلى الله عليه وسلم أتى بمعجزات فهو نبي، فاضبط هذا جدا. وقد وافقنا اصحاب القياس في نتائج كثيرة الا أن مقدماتهم غير مقدماتنا فليس إلزامنا إياهم ولا إلزامهم إيانا رافعا الشغب بتلك النتائج واجبا لكن حتى نتفق على المقدمات الموجبة لها. فان شغب مشغب فقال قد أبنا لكم مقدمات يختلف إنتاجها، وذكر استدلال الخارجي والمرجئ بقول الله عز وجل {لا يصلاها إلا   (1) حجرا: حجر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 الأشقى الذي كذب وتولى} (16 الليل: 92) فان الخارجي قال: قد صحت آثار وآيات بأن القائل يصلاها الا الأشقى الذي كذب وتولى، فالقاتل هو الأشقى الذي كذب وتولى. وقال المرجئ: قد صحت آثار وآيات بأن المقر بالتوحيد والايمان يدخل الجنة، والنار لا يصلاها الا الأشقى الذي كذب وتولى، فالزاني لم يكذب ولا تولى فالزاني لا يصلاها. فاعلم ان هذا من البرهان الذي نبهك عليه فتذكر عليه (1) ، إذا اخبرتك ان من المقدمات المقبولة كلاما فيه حذف والحذف في هذه المقدمات التي قدر الجاهل أنها أنتجت انتاجا مختلفا هو شيء قد دل عليه البرهان، وهو المراد لا يصلاها وانها بعينها من جملة نار جهنم لا يصلى تلك النار الا أهل هذه الصفة وليس غي هذا أن كل نار في جهنم لا يصلاها إلا اهل هذه الصفة. وهذا أيضا مما ينبغي ان تتحفظ منه بأن تستوعب كل ما هو متصل بالمقدمات والا فهي مقدمة ناقصة وليست في هذه الآية وحدها مقبولة عندنا لكن آيات [65 و] كثيرة وأخبار كثيرة فنضمها كلها إلى بعضها ولا نأخذ بعض الكلام دون بعض فتفسد المعاني. وأحذرك من شغب قوم إذا ناظروا واضبطوا على أنه آية واحدة أو حديث واحد، وهذا سقوط شديد وجهل مفرط إذ ليس ما ضبطوا عليه أولى بأن يتخذ مقدمة يرجع إلى انتاجها من آيات اخر وأحاديث أخر وهذا تحكم وسفسطة فاحذروه أيضاً جدا. 10 - باب أغاليط اوردناها خوفا من تشغيب مشغب بها في البرهان وينبغي ان تتحفظ من أغاليط وشغب بها مشغبون (2) في عكس المقدمات وفي الأشكال وقد ذكرنا في بعض الأبواب الخالية نبذا فمن ذلك أنا قد قلنا ان النافية الكلية تنعكس نافية كلية فان قال لك قائل: لا فارسي الا اعجمي هذا حق وعكسها لا أعجمي الا فارسي كذب فتنبه لموضع المغالطة، واعلم ان هذه القضية موجبة لا نافية وان كان ظاهرها النفي، وتذكر ما قلنا لك في هذا الباب المترجم فانه باب من البرهان شرطي اللفظ قاطع المعنى في الإنتاج من   (1) فتذكر عليه: كذا وهو متكرر عند ابن حزم. (2) بعد كلمة " مشغبون " ونحا في ص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 مقدمتين ظاهرهما أنهما نافيتان فان ذلك يبين لك هذا المكان. ونزيد هاهنا بيانا فنقول: ألا ترى أنك قد أوجبت العجمة لكل فارسي فهذه موجبة كلية وليست نافية البتة، واذ هي كذلك فعكسها موجبة جزئية وهي قولك: وبعض الأعجمين فارسي وكذلك قولك: ليس شيء من الجواهر محمولا في عرض فهذه صادقة فإذا عكست فقلت: ولا شيء من الاعراض محمولا في الجوهر فهذا كذب فتفهم موضع المغالطة من هذا الباب، وهو ان العكس الذي ذكرنا حكمه في النوافي وصححناه إنما نفي اشتباه الذاتين أو في نفي اشتباه جزئيهما ولم نرد نفي اشتباه غيرهما. وهاهنا إنما نفيت اشتباه موضع الجوهر موضع العرض، وموضعهما غيرهما، وموضع كل شيء فهو غير الشيء الذي في الموضع بلا شك. وتحفظ أيضاً من المغالطة الواقعة في عكس الموجبة الكلية ان يقال لك: أليس كل ماض من الزمن قد كان مستقبلا فلا بد من نعم فيقال لك: فبعض المستقبل قد كان ماضيا وهذا كذب فتحفظ من موضع المغالطة ها هنا وهو انه إنما دخل الكلام الغلط من النسوية بين زمانين هما غير الصفتين اللتين هما المضي والاستقبال، للمضي خبر عن شيء كان موجودا حال للمستقبل، لأن المستقبل عدم ولا حال للعدم. ويقتضي لفظ [65 ظ] المخبر عنهما اختلافهما لا التسوية (1) بينهما وتصحيح ذلك ان تقول: بعض المستقبل يصير ماضيا وهذا صحيح. وتحفظ أيضاً من غلط يقع في عكس الموجبة الجزئية. مثاله: بعض الخمر قد كان عصيرا، فان قلت: بعض العصير قد كان خمرا كذبت. والغلط هنا من قبل تسوية بين زماني المخبر عنهما، وزمانهما غيرهما، وإنما يصح العكس في الصفات الملازمة للمخبر عنهما لا في الصفات اللازمة لغيرهما. وتصحيح ذلك ان تقول: وبعض العصير صار خمرا أو يصير خمرا؛ فاحفظ الآن ان العكس إنما هو في الذوات أو الصفات الملازمة للذوات. وقد غالط قوم أيضاً [من] بعض النوكى ممن مذهبه لإفساد الحقائق والجري إلى غير غاية وطلب ما لا يدري هو فكيف غيره فقال: ان الشكل الأول قد يكذب فيقول: الفرس وحده صهال والصهال حي فالفرس وحده حي. فإنما أتى الغلط ها هنا من زيارة زيدت تفسد المعنى وهي " وحده "، فتذكر مل قلت لك في   (1) لا التسوية؛ إلا التسوية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 الباب الذي قبل هذا الباب من حكم اللفظ الزائد في المقدمات فاسدات اللفظ والرتبة؛ فتأمل الألفاظ الزائدة كما حددت لك، واعلم ان الموصوف في النتيجة ليس مقتضيا لان تلك الصفة لا تكون الا له ولا بد، بل قد نعمه وتعم غيره. ونزيدك بيانا ليقوى تحفظك من تخليط كل من لا يتقى الله عز وجل في السعي في إفساد الحقائق من المدلسين الذين هم أحق بالنكال من المدلسين في النقرد والبيوع وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم،: " من غشنا فليس منا " ولا غش أعظم من غش في إبطال الحقائق فنقول، وبالله تعالى التوفيق: تأمل ضعف هذا المدلس فانه إذا قطع بأن الفرس وحده صهال فقد صح بلا شك ان الصهال وحده فرس، لان الصهيل صفة مساوية للفرس ليست أعم منه؟ وقد نبهناك على هذا في باب عكس القضايا - فلما أتى هذا المدلس بقضية توجب ان الصهال وحده فرس قال: والصهال حي بعد ان الشرط انفراد الصهال بالفرسية، وأدرج في قوله الصهال حي انه الصهال المراد بالذكر في المقدمة الأولى فأوجب برتبة لفظه ان وصف الصهال بالحياة وصف مساو لأنه وصف أعم، فصار قائلا الصهال وحده حي، فهذه المقدمة الثانية مموهة كما ترى، وهي كاذبة لانها وضعت موضع كذب وشبهت بالحقائق، فلكذب المقدمة كذبت النتيجة. وقد بينت [66 و] لك ان كذب المقدمة الثانية إنما كان لأنه بناها كلية اللفظ على موصوف جزئي، فتفهم هذا وتحفظ من أهل الرقاعة جدا. وإنما كان الصواب ان يقول في النتيجة فالفرس حي، ولا يذكر " وحده " لأن " وحده " في الحقيقة مع " صهال " خبر عن الفرس وليس لفظة " وحده " تابعا للفرس فيذكر في النتيجة لكنه تابع للصهال؟ وهو الحد المشترك - ولو ذكره في المقدمة الثانية مع الصهال فقال الفرس وحده صهال، وهو وحده صهال حي، فالفرس حي لأصاب. ومن ذلك أيضاً لو قال قائل وهو يشير إلى رجل بعينه: الإنسان طبيب، لكان هذا اللفظ عاما وباطنه الخصوص، فلو حمل عليه وصفا يجب ان لا يقع الا على معنى عام لكان كاذبا. وقد سأل بعض المغالطين طبيبا فقال له: الحر يحلل البرد فقال نعم، فقال له: والبرد يحلل الحر فقال نعم، فقال له، فقال: فالحر هو البرد والبرد هو الحر؛ فقال له الطبيب: إن وجهي تحليلها مختلف وليس من أجل اتفاقهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 في صفة ما وجب أن يكون واحد منهما هو الآخر، فلج المشغب وأبى، فلما رأى الطبيب جنونه وترقعه قال له: أنت حي قال نعم قال: والكلب حي قال نعم قال: فأنت الكلب والكلب أنت. واعلم ان هاتين الشغيبتين من الشكل الثاني، وقد أساء في ترتيبهما لأن الشرط في الشكل الثاني ان يكون إحدى مقدمتيه نافية ولا بد، فافهم هذا واضبطه فانه لا يخونك أبدا. ولا تلتفت إلى أهل الشغب فان مثل هؤلاء إنما يجرون مجرى المضحكين لسخفاء الملوك والملهين لضعفاء المطاعين وليسوا من أهل الحقائق أصلا فلا تعبأ بهم شيئا. وقالوا أيضاً: قد وجدنا موجبتين لا تنتج وهو: ممتنع ان يكون الإنسان حجرا وممتنع ان يكون الحجر حيا فهاتان صادقتان، النتيجة: ممتنع ان يكون الإنسان حيا وهذا كذب فافهم أيضاً موضع المغالطة ها هنا هي: ان هاتين المقدمتين نافيتان نفيا مجردا ليس فيه شيء من الإيجاب أصلا وقد قلنا ان النافيتين لا تنتج، وقد ذكرنا لك قبل ان المراعى إنما هو حقيقة المعنى المفهوم من اللفظ لا صيغة اللفظ وحدها، وهاتان المقدمتان وان كانتا بلفظ الإيجاب فمعناهما النفي المحض لأنهما نفتا عن [66ظ] الإنسان الحجرية وعن الحجر الحياة ولم توجبا لحجر ولا للإنسان معنى أصلاً غير ما أوجبه لهما أسماؤهما فقط. وقد غالطوا أيضاً فقالوا: كل نهاق حي، ولا واحد من الناس نهاق حي، فهاتان صادقتين النتيجة: فلا واحد من الناس حي وهو كذب وإنما أتت المغالطة من أجل الصفة التي وصف بها النهاق وتعم أيضاً معه الشيء الذي نفي عنه النهاق فهذا أسوأ نظم. وإنما ينبغي له ان تشركه بما لا يشركه فيه الذي نفى عنه مشاركته جملة في المقدمة الثانية. ومن هذا الباب ان نقول: ليس كل آخذ مال بغير حقه سارقا، وكل آخذ مال بغير حقه وهو عالم فاسق فهاتان صادقتان، النتيجة: فليس كل آخذ مال بغير حقه وهو عالم به فاسق، وهذا كذب، وإنما أتت المغالطة لأنك وصفت أخذ المال بغير حق في المقدمة الموجبة بصفة تعمه وتعم كل سارق معه، وإنما كان ينبغي ان تصفه بما لا يشترك معه من نفيت عنه في الاخرى مشاركته اياه. وقد غالطوا أيضاً من قبل إسقاط شيء من الموصوف فقالوا الشعر غير شيء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 موجود في شيء من العظام، والعظام موجودة في كل إنسان فهاتان صادقتان، النتيجة: فالشعر غير شيء موجود في شيء من الإنسان وهذا كذب، وهذه مغالطة قبيحة، لأن الموضوع وهو المخبر عنه المقصود بالوصف في المقدمة الاولى إنما هي العظام، لأنه عنها نفى الشعر ثن أثبت ذكر العظام في المقدمة الثانية في ان وصف مكانها فقط، وقد قدمنا ان النسبة بالإيجاب لا تكون الا في ذاتي المخبر عنهما وفي الصفات الملازمة لهما لا في مواضعهما؛ الا انك لو صححت لقلت: فالشعر ليس في شيء من عظام الإنسان. وأيضا فان قوة هاتين المقدمتين قوة جزئية لان العظام بعض من أبعاض الإنسان لا في كله، فتذكر على ما قلنا لك قبل من ان الحد المشترك لا بد من ان يكون مخبرا عنه في احدى المقدمتين وخبرا في الاخرى أو مخبرا عنه في كلتيهما أو خبرا في كلتيهما. فان كان مخبرا عنه في الواحدة وخبرا في الثانية فانظر، فان كانتا موجبتين فلا بد من ان يكون الوصف به لما وصف به ذاتيا عاما له كله، ويكون أيضاً المخبر عنه معموما في المقدمة الأخرى بما صار وصفا له فيها، فان كانت احداهما نافية فليكن النفي الذي وصفت به المنفي عنه في إحدى المقدمتين منتفيا في الحقيقة عنه وعن الأخرى بذلك الموصوف في هذه [67و] لان الشيء الموصوف في احدى المقدمتين هو صفة في الأخرى، فان كان موصوفا به في كلتا المقدمتين فلا بد من ان تكون احدى المقدمتين نافية فيكن حينئذ الذي نفيت في الواحدة عاما لما نفيته عنه ومنتفيا عن الموصوف في الثانية، على حسب ما ينصه فيها. فان كان موصوفا في كلتيهما فالفعل في الموجبتين ما قلنا في الشكل الأول وافعل في التي احداهما نافية ما قلنا لك في الشكل الثاني. 11 - باب من أحكام البرهان في الشرائع على الرتب التي قدمنا الألفاظ الواردة في الشرائع اللازم الانقياد لها بعد ثبوتها التي إليها يرجع فيما اختلفت فيه منها إما قول عام كلي ذو سور أو ما يجري مجرى ذي السور من المهمل الذي قوته في اللغة قوة ذي السور، ومن الخبر الذي يفهم منه ما يفهم من الأمر، والأمر أيضاً هو على عموم المعنى، الا حيث يتبين بعد هذا ان شاء الله عز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 وجل. وذلك نحو قوله، عليه السلام، " كل مسكر حرام " فهذا كلي ذو سور أو كقوله عز وجل: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه} (90 المائدة 5) فهذا امر عام ومثله قوله عز وجل: {ان الله يأمركم ان تؤدوا الامانات إلى اهلها} - 58 النساء: 4) . ثم هذه الوجوه الثلاثة ينقسم كل واحد منها أربعة أقسام: أحدها كلي اللفظ كلي المعنى، والثاني جزئي اللفظ جزئي المعنى وهو ما حكم به في بعض النوع دون بعض. وهذا النوع أيضا؟ فتنبه لما أقول لك - هو أيضا عموم لما اقتضاه لفظه، وهذا النوع والذي قبله معلومان بأنفسهما جاريان على حسب موضوعهما في اللغة لا يحتاجان إلى دليل على أنهما يقتضيان ما يفهم عنهما ولو احتاجا إلى دليل لما كان ذلك الدليل إلا لفظا يعبر عن معناه، فما كان يكون المدلول عليه بأفقر إلى دليل من الذي هو عليه دليل، وهذا يقتضي ألا يثبت شيء أبدا، وفي هذا بطلان الحقائق كلها، ووجود أدلة موجودات لا لأوائل لها وهذا محال فاسد، والمعلوم بأول العقل أن اللفظ [يفهم] منه معناه لا بعض معناه ولا شيء من معناه. ولذلك وضعت اللغات ليفهم من الألفاظ معناها. والقسم الثالث جزئي اللفظ كلي المعنى وهو ما جاء اللفظ به في بعض النوع دون بعضه الا أن ذلك الحكم شامل لسائر ذلك النوع، وهذا لا يعلم [67ظ] من ذلك اللفظ الجزئي لكن من لفظ آخر وارد لنقل حكم هذا الجزئي إلى سائر النوع. والقسم الرابع كلي اللفظ جزئي المعنى وهو ما جاء بلفظ عام والمراد به بعض ما اقتضاه ذلك اللفظ، الا ان هذا القسم والذي لا يفهم معناهما من ألفاظهما أصلا لكن ببرهان من لفظ آخر أو بديهة عقل أو حس تبين كل ذلك أنه إنما اريد به بعض ما يقتضيه ذلك اللفظ. ولولا البرهان الذي ذكرنا لما جاز أصلا أن ينقل عن موضعه في اللغة ولا أن يخص به بعض ما هو مسمى به دون سائر كل ما هو مسمى بذلك اللفظ. فأما النوع الذي هو كلي اللفظ جزئي المعنى فهو كقول الناس في معهود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 خطابهم " فسد الناس " وإنما المراد بعضهم، وهذا ببديهة العقل، لان الناس لا يفسدون كلهم الا بذهاب الفضائل جملة، والفضائل أجناس وأنواع مرتبة في بنية العالم، ولا سبيل إلى عدم نوع بأسره جملة حتى لا يوجد في العالم أصلا. وكقول القائل " الماء للعطشان حياة " وإنما يريد بعض المياه، وهذا يعلم بالحس لأن ماء البحور والمياه المرة ليست حياة للعطشان. ومن هذا النحو قول الله عز وجل {الذين قال لهم الناس ان الناس قد جمعوا لكم} (137 آل عمران: 3) وهذا معلوم بالعقل أنه تعالى إنما عنى بعض الناس لأنه ممتنع لقاء جميع الناس لهم مخبرين؛ ومن ذلك قول الله عز وجل: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} (6 المائدة: 5) وإنما المراد من ذلك بعض أحوال القيام إلى الصلاة دون بعض وهو حال كون المرء محدثا، وهذا إنما علم ببيان آخر. واعلم ان المراد بهذه اللفظة ما ذكرنا، وهذا مستعمل كبيرا في الكلام، الا أنه لا بد من برهان يعدله عما وضع عبارة عنه في اللغة، والا فهو تحكم من مدعيه وافساد للبيان الذي يقع به التفاهم. وليت شعري إذا لم يكن اللفظ عبارة عن المعنى ولك يكن لكل معنى عبارة معلومة اه فكيف يريد أن يصنع من هذه الألفاظ التي ر يحملها على أنها كلية مهمتها، أو يقول بالتوقف حتى يلوح له المراد، وبأي شيء يريد يفرق بين المعاني بزعمه؟ هل يجد شيئا غير لفظ آخر وهل ذلك اللفظ الآخر في احتمال التشكيك في المراد به وفي معناه الا كهذا اللفظ الأول ولا فرق، وهكذا أبدا. ولو صح هذا لبطلت فضيلتهما على البهائم، إذ لم يقع لنا التفاهم بالأسماء الواقعة على المسميات، وينبغي للعاقل أن لا يرضى لنفسه [68 و] بكل كلام أداه إلى ابطال التفاهم، فان ذلك خروج عن ثقاف العقل وهزء بنعم الأول الواحد المتفضل علينا بهذه القوى العظيمة التي بها استحققنا ان يخاطبنا. ومما خرج بالأدلة الصحاح عن بعض ما يقتضيه ظاهر لفظه قوله تعالى في آية التحريم {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة} (23 النساء: 4) وقوله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} (2 النور: 24) {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} (38 المائدة: 5) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 وكثير من مثل هذا، فلولا براهين مقبولة من ألفاظ أخر بينت لنا أن المراد بالتحريم بعض المرضعات والمرضعات وبعض الزواني والزناة دون بعض وبعض السراق دون بعض لوجب حمل هذه الألفاظ على كل ما هو مسمى بها وان كان البعض أيضا من هذه المعاني يقع عليه الذي يقع على الكل. وأما اللفظ الجزئي الذي يدخل فيه معنى كلي فقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} (19 النساء 4) في أول سورة النساء، ثم اتصل الخطاب إلى قوله تعالى {حرمت عليكم أمهاتكم} (23 النساء: 4) الآية وكل ما ذكر فيه فمحرم على غير الذين آمنوا ولكن ليس بهذا اللفظ لكن بدلائل أخر من ألفاظ أخر أوقعت أيضاً هذا الحكم على غير من [هو] مسمى في هذا المكان ولولا تلك الألفاظ الأخر لما دخل في هذا الحكم من ليس مسمى باسم من خوطب به أصلا. وإنما ذكرنا هذا القسم لأن لا يظن جاهل أن هذا الحكم إنما انتقل من هذا اللفظ إلى غير من يقتضيه. فإذا أردت أن تقدم مقدمات من الأنواع التي ذكرنا في اول هذا الباب وقد قلنا إن إليها يرجع في ما اختلف فيه قلت: كل مسكر خمر، وكل خمر حرام، النتيجة: فكل مسكر حرام؛ فهذه قرينة من النحو الأول من الشكل الأول. وان شئت قلت: كل سارق مل سوى أقل من ربع دينار فعليه قطع يده وزيد سرق شيئا ليس أقل من ربع دينار، فزيد عليه قطع يده. وهكذا يفعل في جميع الأوامر وهو أن يخرج الأمر بلفظ خبر كلي يعم ما اقتضاه اللفظ الذي يجب الائتمار له. واعلم ان اللفظ ان كان من الألفاظ المشتركة كان جاريا على جميع الأنواع التي اقتضاها ذلك اللفظ، ان قدر على ذلك، حيث ما وجدت مجتمعات أو أفرادا. وليس لأحد ان يقول: لا أجري الحكم الا على اجتماع جميع المعاني التي يقتضيها الاسم، لأنه يصير حينئذ مخالفا لحكم الاسم من حيث قدر أنه موافق له، لأن كل بعض منه يقع [68 ظ] عليه ذلك الاسم، فإذا لم يجره على ذلك البعض إذا وجده منفردا فقد منع من اجراء الاسم على عمومه وما يقتضيه، وهذا إبطال موضوع الاسم، فان كان ذلك ممتنعا في الطبيعة أو كان لفظا عاما الا أنه لا يقوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 منه بيان يفهم أو كان لفظا يقع على نوع واحد أو صفة واحدة إلا أن عمومها ممتنع في الطبع لا سبيل إليه ولا إلى اخراج شيء محدود منه، أو كان الاثبات بكل الوجوه التي يقتضيها ذلك الاسم غير واجب بحكم الشرع بيقين، لم يلزم منه الا أقل ما يقتضيه ذلك اللفظ، لأن ما عدا هذا المقدار لا يقدر على استيفائه، والعجز علة مانعة، وغاية في البيان بأن ذلك اللفظ لم يقصد به العموم الذي لا يطاق أصلا؛ وذلك كقول قائل: ادع لي الناس أطعمهم ولا سبيل إلى عموم الناس كلهم فإنما هذا على جماعة يقع عليهم اسم ناس. وكذلك حيث ذكر الله عز وجل المساكين أو الفقراء إذ لا يطاق غير هذا أصلا، ومن كلف غيره الممتنع فقد خرج عن حد من يكلم. فمن القسم الذي قلنا انه يكون لفظا يعم ذوي صفات شتى قوله عز وجل حيث ذكر المحصنات، فانه لا يجوز ان يخص بذلك بعض من يقع عليه هذا الاسم دون بعض، ولا يجوز أيضا أن نمتنع من إجراء الحكم حتى تجتمع جميع الصفات التي كل صفة منها ليس إحصانا. لكن إذا وجدت منها صفة واحدة فأكثر وجب لها المعبر عنها واسم يقع على العفائف والحرائر والمتزوجات والمسلمات، إلا أن يأتي لفظ مانع من عموم كل ما ذكرنا فيوقف عنده على ما قدمنا. وكذلك قوله تعالى: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم كم النساء} (22 النساء 4) والنكاح يقع على العقد الصحيح وعلى الوطء صحيحا كان أو فاسدا، فكل من وطئها الأب بزنا أو غيره حرام على الابن، فتقول في مقدمة من هذا الباب: كل ما نكح الأب من النساء على الابن حرام، وهند نكحها أبو زيد، فهند على زيد حرام؛ فالحد المشترك ههنا النكاح والأب، والحدان المقسمان: أما في المقدمة الكبرى فالنساء والابن والحرام، وأما في الصغرى فزيد وهند وهما الخارجان في النتيجة. واعلم أن ما قلت لك أن اللفظ الواقع على أنواع شتى هو على عمومه لكل ما تحته من الأنواع، لأنه لا جنس لها، كاللفظ الواقع على النوع الواحد في عمومه من الأشخاص ولا فرق الا أن يقوم برهان [69 و] كما قدمنا على أن المراد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 بعض تلك الأنواع لا كلها، وبعض تلك الأشخاص لا كلها، فيؤخذ به في ذلك المكان خاصة لا حيث وجد ذلك اللفظ في مكان آخر فهو محمول على عمومه لكل ما تحته أبدا لأن ذلك البرهان الذي نقله عن عمومه في المكان الأول لم يدخل على انه نقل عن موضعه في اللغة قطعا، لكنه دل على أن المراد به في هذا المكان خاصة بعض ما يقتضيه موضعه في اللغة فقط. وأما قول القائل: فلان لا يظلم في حبة خردل، فلا يفهم من ذلك عند التحقيق وترك المسامحة الا ما اقتضاه اللفظ خاصة من انه لا يظلم في الخردل خاصة، وهذا الذي وضع له اللفظ في اللغة، ولا يفهم من ذلك انه لا يظلم في الآطام والضياع والدور، لأن الضياع والدور لا تسمى خردلا أصلا. لكن ان قال قائل: لا يظلم الناس شيئا أو قال لا يظلم في شيء فحينئذ يعم بالنفي كل ما وقع عليه اسم ظلم. فان لم يكن هذا فلأن معنى علقته في الأسماء على المسميات وثبت في العقول أنه لا بيان إلا بالألفاظ المعبر عن المعاني التي أوقعت عليها في اللغة، هذا ما لا يعلم أحد سواه الا مغالط لنفسه مكابر لحسه، مسامح حيث لا تنبغي المسامحة. وكذلك قوله تعالى: {فلا تقل لهما أف} (23 الاسراء: 17) فانه لا يفهم من الفظ الا منع أف فقط، وأما القتل والضرب وغير ذلك فلا منع منه في هذا اللفظ أصلا، لأن كل ذلك لا يسمى " أف " ولا يعبر عنه بأف، ولو أن إنسانا قتل لآخر وأخبر عنه مخبر وشهد شاهد أنه قال له أف لكان كاذبا وشاهد زور وآتيا كبيرة من الكبائر، بحكم المختار للوسائط بيننا وبين الواحد الأول، صلى الله عليه وسلم، عز باعثه وجل، إذ قضى أن شهادة الزور من الكبائر فمن لم يردعه قبح الخروج عن العقول فليردعه خوف النكال الشديد يوم الجزاء، نعوذ بالله من ذلك. واو أن حالفا حلف على القاتل أنه قال للمقتول " أف " لكانت يمينه غموسا فكيف استجاز من يصف نفسه بالفهم ان يقضي قضاء يقر به على نفسه انه كاذب إذا حقق الحكم؟ ولعمري ان كثيرا منهم لأفاضل فهماء صالحون معظمون باستحقاقهم، ولكن النقص لم يعر منه بشر الا المعصومين بالقوى الالهية من الأنبياء عليهم السلام [69 ظ] خاصة، وزلة العالم مؤذية جدا ولو لم تعده إلى غيره لقل ضررها، لكن لما قال الله عز وجل {وبالو الدين احسانا} اقتضت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 هذه اللفظة اتيان كل ما يسمى إحسانا، ودفع كل ما يسمى إساءة، لأن الإساءة ضد الإحسان، والاحسان واجب فالإساءة ممنوعة، لان قولك احسن إلى فلان يقوم مقام قولك لا تسئ إليه، وذلك معنى مقتضاه فقط. واما قولك لا تسئ إليه فليس فيه الإحسان إليه، وكذلك إذا قلت لا تحسن إليه فليس فيه ان تسيء إليه أصلا، لان هذا من الاضداد التي بينهما وسائط، والوسيطة ها هنا هي التي بين الاساءة والاحسان: المتاركة. واما إذا قلت أسئ إلى فلان ففيه رفع الاحسان عنه لان الضد يدفع الضد، إذا وقع احدهما بطل الآخر. فتدبر هذه المعاني تستضئ في جميع مطلوباتك بالنور الذي منحك خالقك تعالى وقرب به شبهك من الملائكة وأبانك عن البهائم، والا كنت كخابط عشواء حيران لا تدري ما تقدم عليه بالحقيقة ولا تترك باليقين لكن بالحس والهجمة اللذين لعلهما يوردانك المتألف ويقذفانك في المهالك، هدانا الله واياك بمنه. واذا وصلت إلى هذا الفصل فقف عنده وارم تفكرك إلى ما تكلمنا لك فيه آنفا من المتلائمات التي عبرنا عنها بعبارات لعل [بعض] أهل الغفلة الذين يرغب من صلاحهم أكثر ما يرغبون من صلاح أنفسهم يقول عند نظرة فيها: لقد تعنى هذا المؤلف في شيء يساويه في المعرفة به كل أحد، فليعلم اننا إنما ننظر المعاني بألفاظ متفق عليها لتكون قاضية على ما يغمض فهمه مما ليس من نوعها، فها هنا يلوح لك فضل كلامنا آنفا في المتلائمات وترتاح لفهمه جدا. واذا قد قدمنا في أول كتابنا انه لا سبيل إلى معرفة حقائق الاشياء الا بتوسط اللفظ فلا سبيل إلى نقل موجب العقل من موضعه من كون الاشياء على مراتبها التي رتبها عليها بارئها جل وعز، ولا سبيل إلى نقل مقتضى اللفظ عن موضعه الذي رتب لعبارة عنه، والا رطبت الباطل وتركت الحق وجميع الدلائل تبطل نقل اللفظ عن موضعه في اللغة ولا دليل يصححه أصلا. فان قال قائل: قد وجدنا لفظا منقولا قيل له: ذلك الذي وجدت قد تبين لنا انه هو موضوعه في ذلك المكان ولم نجد ذلك فيما نريد الحاقه به بلا دليل، وليس كل مسمى وجدته منقولا عن رتبته بدليل موجبا ان تنقله انت إلى غيره برأيك بلا دليل، فان كان حكمك في ايجاب ما لم تجد دليلا ينقله لأنك قد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 وجدت لفظا آخر [70 و] منقولا حكما صحيحا، فقد وجدت أيضا في الاوامر منسوخا كثيرا بدليل صحيح، فاحكم على كل امر بأنه منسوخ لأنك قد وجدت امورا كثيرة منسوخة، وقد وجدت أيضاً في كلام الناس كذبا كثيرا وهذا هو ابطال الحقائق فارغب عنه كما ينبغي، وبالله تعالى التوفيق. 12 - باب اقسام المعارف وهي العلوم اعلم ان معرفة كل معرفة منا بما يعرفه وهو علمه بما يعلم ينقسم قسمين: احدهما اول والثاني تال. فالاول ينقسم قسمين احدهما ما عرفه الإنسان بفطرته وموجب خلقته المفضلة بالنطق الذي هو التمييز والتصرف والفرق بين المشاهدات فعرف هذا الباب بأول عقله، مثل معرفة ان الكل اكثر من الجزء وان من لم يولد قبلك فليس اكبر منك ومن لم يتقدمه فليس قبله وان نصفي العدد مساويان لجميعه وان كون الجسم الواحد في مكانين مختلفين في وقت واحد محال وان كل شيء صدق في نفيه فاثباته كذب في نفيه فاثباته حق وان الحق لا يكون في الشيء وضده وان كل اقسام اخرجها العقل بكليتها تامة اخراجا صحيحا ولم يكن بد من احدها فكذبت كلها حاشا واحدا ان ذلك الواحد حق ضرورة. فالقسم الثاني من هذا القسم الأول هو ما عرفه الإنسان بحسه المؤدي إلى التيقن بتوسط العقل لمعرفة ان النار حارة وان الثلج بارد والصبر مر والتمر حلو والثلج الجديد ابيض والقار لسود وان جلد القنفذ (1) خشن والحرير لين وان صوت الرعد اشد من صوت الدجاجة وما اشبه ذلك. وهذا فلا يدري احد كيف وقعت له صحة معرفة بذلك ولا كان بين اول اوقات فهمه متمييزه وعود نفسه إلى ابتداء ذكرها وبين معرفته بصحة ما ذكرنا زمان أصلا، لا طويا ولا قصير ولا قليل ولا كثير ولا مهلة، وإنما هو فعل الله عز وجل في النفس، وهي مضطرة إلى فعل ذلك ضرورة ولا تجد عنها محيدا البتة، وليس ذلك في بعض   (1) القنفذ: القندمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 النفوس دون بعض بل في نفس كل ذي تمييز لم تصبه آفة وكل نفس تعلم ان سائر النفوس تعلم ضرورة. فلو ان إنسانا رام ان يوهم إنسانا خلاف ما ذكرنا لما قدر فان قدر على ذلك يوما ما فيعلم ان بعقله شديدة لا يجوز غير ذلك. وفي القسم الثاني من هذين القسمين تدخل صحة المعرفة بما صححه النقل عند المخبر تحقيق ضرورة كعلمنا ان الفيل موجود ولم نره [70 ظ] وان مصر ومكة في الدنيا وانه قد كان موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام وقد كان ارسطاطاليس وجالينوس موجودين وكوقعة صفين والجمل وككون اهل القسطنطينية مملكين لملك الروم والنصارى وان النصرانية دينهم الغالب عندهم وكالاخبار تتظاهر عندنا كل يوم مما لا يجد المرء للشك فيه مساغا أصلا وكذلك [أن] في رأس الإنسان دماغا وفي بطنه مصرانا وفي جوفه قلبا وفي عروقه دما وإنما يرجع في ذلك إلى قول المشرحين وقول من رأى رؤوس القتلى مشدوخة وأجوافهم مخرجة فصح ذلك أيضا صحة ضرورية، وهذان القسمان لا يجوز أن يطلب على صحتهما دليل ولا يكلف ذلك غيره الا عديم عقل ووافر جهل أو مشتبه بهما، فهم أقل عددا، بل من هذين القسمين تقوم الدلائل كلها ترجع جميع البراهين وان بعد طرفها على ما قدمنا لك من نتائج مأخوذة من مقدمات وهكذا أبدا وان كثرت القرائن والنتائج واختلفت انواعها حتى تقف راجعا عند هذين العلمين الموهوبين عن الأول الواحد وبطوله وافاضة فضله علينا دون استحقاق منا لذلك، إذ لم يتقدم منا فعل يوجب أن يعطينا هذه العطية العظيمة التي أوجدنا بها السبيل إلى النسبة بالملائكة الذين هم أفضل خلق خلق والذين أفاض إفاضة تامة نزههم عن كل نقص أو خلل (1) . وبهذه السبل التي ذكرنا عرفنا ان لنا خالقنا واحدا أولا خالقا حقا لم يزل وأن ما عداه محدث كثير مخلوق لم يكن ثم كان، وبها عرفنا صدق المرسلين الداعين إليه تعالى بعث محمد صلى الله عليه وسلم وعلى جميع الأنبياء والمرسلين والملائكة. ولولا العقل والبراهين المذكورة ما عرفنا صحة شيء من كل ما ذكرنا كما لا يعرفه   (1) خلل: حل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 المجنون. فمن كذب بشهادة العقل والتمييز فقد كذب كل ما أوجبت، وأنتج له ذلك تكذيب الربوبية والتوحيد والنبوة والشرائع. فاما يدخل في ذلك واما يتناقص تناقص المجنون بلسانه نعوذ بالله من الخذلان. وبقدر هذه النتائج من هذه المعارف الأوائل يسهل بيانها وبقدر بعدها يبعد ثباتها، الا أن كل ما صح من هذه الطرائق من قريب أو من بعيد فمستو في انه حق استواء وان كان بعضه أغمض. ولا يجوز ان يكون حق احق من حق آخر ولا باطل أبطل من باطل آخر إذ ووجد فقد ثبت ووجد وما بطل وما خرج عن يقين الوجود والثبوت ولم يدخل [71 و] في يقين البطلان فهو مشكوك فيه عند الشاك، وهو في ذاته بعد إما حق واما باطل لا يجوز غير ذلك ولا يبطله تن كان حقا جهل من جهله أو تشكك من تشكك فيه كما يحق الباطل غلط من توهمه أو تشكك فيه فهذا جملة الكلام في القسم الأول. وأما الثاني فهو الذي ذكرت لك آنفا انه يعرف بالمقدمات المنتجة على الصفات التي حددنا من انها راجعة إلى العقل والحس اما من قرب واما من بعد وفي هذا القسم تدخل صفة العلم بالتوحيد والربوبية والازلية والاختراع والنبوة وما اتت به الشرائع والاحكام والعبادات على ما قدمنا في سائر كتبنا لأنه إذا صح التوحيد وصحت النبوة وصح وجوب الائتمار لها وصحت الاوامر والنواهي عن النبي صلى الله عليه وسلم وجب اعتقاد صحتها والائتمار لها في هذا القسم أيضاً يدخل الكلام في الطبيعيات وفي قوانين الطب ووجوه المعاناة والمزاج واكثر مراتب العدد والهندسة. واعلم انه لا يعلم شيء أصلاً بوجه من الوجوه من غير هذين الطريقين فمن لم يصل منهما فهو مدع علما وليس عالما، وان ولفق اعتقاده الحق، لكنه ها هنا مبخوت، وسلامة الغرر قد وجدنا اهل الحزم لا يحمدونها، وانتظار وجود اللقطة وترك الطلب خلق ذميم مرذول ساقط جدا، وفي هذا المقلد مشابهة قوية ومناسبة صحيحة لمن هذه صنعته، بل المقلد أسوأ حالا لان تضييعه اقبح واوخم عاقبة الا ان توجب الشريعة ان يسمى عالما وان يعلم ذلك ببرهان فيوقف عند ما اوجبته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 الشريعة في ذلك. الا ان ها هنا وجها ينبغي لك استعماله في المناظرة خاصة على سبيل كف شغب الخصم الجاهل وليس مما يصح به قول ولا يلزم في الحقيقة أحداً ولا ينبت به برهان وهو ان قوما قد اعتادوا عادة سوء فسدت فضيلة التمييز فيهم بالجملة، وذلك انهم لا يلتفتون إلى البرهان وان اقروا انه برهان وقد ألفوا الإقناع والشغب الفاسد من الهم ينقدعون إذا عورضوا به، فهؤلاء ان عارضتهم لم ينجع فيم وربما آذوك بألسنتهم وان عارضتهم بإقناع ذلوا ذلة اليتيم وكفوك شرهم واشتد خزيهم وغيظهم وربما اثر ذلك في بعضهم؛ فاذكروني امر هذه الطائفة على كثرتهم في الناس ما قاله بعض قدماء الأطباء: ان ذا الطبع الشديد الذي لا تخدره الأدوية القوية [71 ظ] فان قرص بنفسج يخدره. ومثال ذلك أقوام تراهم إذا نصرت عندهم القول الصحيح بالمقدمات الصحاح التي هي منصوصة في القرآن والحديث الذي يقرون بصحته لم يؤثر ذلك فيهم أصلاً وكذلك لو وقفتهم عليه حسا وعقلا حتى إذا فلت لهم فلان يقول هذا القول وذكرت لهم رجلا من عرض الناس موسوما بخير انقادوا له وتوقفوا جدا وسهل جانبهم، ولا سيما ان ذكرت لهم جماعة يقولون بذلك فقد كفيت التعب معهم، فهؤلاء ينبغي ان يردعوا بما يؤثر فيهم فالطبيب الحاذق لا يعطي الدواء الا على قدر احتمال بنيه المتداوي، ومداواة النفوس أولى بالتلطف لاصلاحها من مداواة الاجسام. وأما طلب تقديم المقدمات فاما ان يطلب على وجهه الذي وضعه فيكون الطالب على يقين وثلج واما ان يتفق هو وخصمه على مقدمات لم يثبت بالعمل الذي قدمنا لكن بتراض منهما؛ وهذا ينقسم قسمين: أحدهما ان توقف المقدمات [على] حق فيدخلان في القسم الذي قدمنا ببختهما لا ببحثهما وبجدهما لا بجدهما وبحظهما لا بتفتيشهما؛ والثاني ان يتفقا على مقدمة فاسدة أو مقدمتين فذلك وهذا ينقسم قسمين: أحدهما ان يتراضيا على ذلك معا فيما ظالمان لانفسهما، وما أنتجت تلك البلايا التي التطخا فيها فلازم لهما في قوانين المناظرة لا في الحقيقة، والحقيقة باقية بحسبها لا يضرها تراضي الجهال بالباطل وذلك كثير جدا في الملل والآراء الطبيعية والنحل كاتفاق المنانية على قدم الاصلين والنصارى على التثليث وقوم من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 المعتزلة على ان أشياء في العالم محدثة غير مخلوقة وهذا نسميه نحن " عكس الخطأ على الخطأ " ومما حضرنا من ذلك على كثرته رد اخواننا الحكم في جنين الأمة على خطائهم في تقويم الغرة في جنين الحرة. والقسم الثاني ان يوافق الخصم العالم المحقق خصمه على مقدمة فاسدة بقدمها لا راض بها ولكن ليريه فساد انتاجها وأنها تؤديه إلى محال فساد أصيل. واعلم ان هذا الحكم ينبغي ان يلزم الراضي به ان التزمه وليس يلزم المتسامح فيها بشرط تبين فسادها مالذي ألزم أدرباذ بن مارا كسنفد الموبذ ماني بن حماني في نفس قوله قبله وهو ضد ما حقق ماني اولا. وكثيرا ما نلزم نحن في الشرائع اهل القياس المتحكمين اشياء من مقدماتهم تعود إلى التناقض لو إلى ما يلزمونه فيلوح بذلك فساد [72 و] مقالتهم وكالذي قدمه عظيم [من] أسلافنا (1) نحبه لفضله ولكن الحق أحب الينا منه وافضل فانه قال: من بلغ الحلم من رجل أو امرأة ولم يعلم الله في اول بلوغه بجميع صفاته علم استدلال ونظر وبحث فهو كافر حلال دمه، ونحن نقسم الله خالقنا قسما لا نستثني فيه أن الرئيس قد انتج حكمه هذا عليه ان يكون كافرا حلال الدم والمال؛ ونعيد القسم بالله تعالى ثانية انه ما دخل قبره الا جاهلا بتمام صحة ما ضيق غب علمه هذا التضييق، على انه قد تجاوز في عمره خمسة وثمانين (2) عاما يرحمنا الله واياه ويغفر لنا وله ولولا ان مقدمته هذه فاسدة لوجب عليه ما وجب على من هو محدود بحده ومرسوم برسمه ولكنها ولله الحمد قضية باطل فلا يجب ما انتجت عليه ولا على غيره، وقد غيره، وقد ذكرنا هذا الباب في النوع الخامس من البرهان. واعلم ان من وافقنا في هذه الاوائل ثم كذب موجباتها لو خالفنا في الاوائل فلم يثبتها تركناه وكنا إن كلمناه كمن كلم السكران الا في حالتين: احدهما ان يضطر [نا] إلى الكلام معه خوف إذا ما إن تركنا الكلام معه. والثانية الرجاء في أوبته وأوبة غيره من حاضر أو غائب يبلغه كلامنا أو تثبت حاضر أو غائب يبلغه كلامنا، فأي ذلك كان فواجب علينا الكلام حينئذ بما نرجو له المنفعة   (1) عظيم من أسلافنا: يعني محمد بن جرير الطبري: الفصل 4: 35. (2) وثمانين: وثمانون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 اما لأنفسنا وأما لمن يلزمنا تبصيره من أهل نوعنا فقد قال الأول الواحد الخالق خالق الصدق والآمر به في عهوده الينا: {كونوا قوامين بالقسط شهداء لله} (135 النساء: 4} وقال تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} (125 النمل: 16) وقال لنا رسوله المتوسط بيننا وبينه تعالى، صلى الله عليه وسلم، في وصاياه لنا " لان يهدي الله بهداك رجلا واحدا أحب اليك من حمر النعم ". حتى إذا ارتفع خوفنا أو رجاؤنا لزمنا حينئذ ان نفعل ما أمرنا به الواحد الأول عز وجل في عهوده الينا {عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} (105 المائدة: 5) فنقول لمن لزمنا ان نقول له من هذه الطائفة ولعمري انهم لكثير كما وصف الواحد الأول تعالى إذ يقول مخبرا لنا عمن تاه في الاباطيل: {قل هل أنبئكم بالاخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا} (104 الكهف 18) وقال تعالى {أم لهم أعين يبصرون بها ام لهم آذان يسمعون بها} (159 الاعراف: 7) فنقول لمن هذه صفته: ان كنتم تنكرون الحقائق [72 ظ] وما شهده الحس والعقل وأدياه إلى النفس فلا تستحيون من قبيح هذه الصفة فدعوا التعب في أكل الطعام والسعي فيه وانتظروا كما انتم واخرجوا افرادا إلى مضارب العدو من أطراف الثغور والشعاري الموحشة رافلين في ثيابكم وابقوا هناك مطمئنين ظاهرين حتى تروا صحة ما نحدثكم به تستبين النفس انه يحل بكم، واقذفوا بأنفسكم على امهات رؤوسكم من أعلى المنار وارموا السكاكين والحجارة على لحومكم ثم جذوا بها فان امتنعوا من كل هذا فقد حققوا الاوائل الدالة على عواقب الامور وان تمادوا اعرضنا عنهم إلى ما هو اجدى علينا واولى بنا مما نرجو به التقرب من خالقنا يوم جمعنا للقضاء في عالم الجزاء، نسأله ضارعين ان يمن علينا وان يثبتنا في عداد العقلاء الابرار في هذه الدار وان يدخلنا في عداد الفائزين هنالك، ونعوذ به من ضد ما سألناه آمين. وأتم من هؤلاء الذين ذكرنا رقاعة وأوقح وجوها المدعون للالهام وما يعجز صفيق الوجه ان يدعي انه ألهم بطلان قولهم بلا دليل ومثل هؤلاء يرحمون لذهابهم عن الحق، وبالله تعالى نستعين. وقد شغب قوم فقالوا: بأي شيء ثبتت عندكم هذه الامور التي صحت بالعقل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 وبماذا علمتم صحة العقل وهذا فساد في العقل وقد قلنا ان صحة ذلك ثابتة ضرورة في النفس بلا دليل على صحة ذلك أصلاً. وكفانا ما عارضناهم به ان انصفوا انفسهم والا فلا كلام لنا مع من أقر انه لا يصح وأنه لا عقل له. 13 - ذكر أشياء تلتبس على قوم في طريق البرهان واعلم ان قوما قدروا ان البرهان يقوم مما ذكرنا في باب الاضافة من كون احد الشيئين يقتضي الآخر فلم يفرقوا بين الواجب من ذلك وغيره، ونحن نفرق ان شاء الله عز وجل بين الصحيح من ذلك والفاسد فنقول وبالله تعالى التوفيق وبه نتأيد: ان هذا الشيء يسميه المتقدمون " برهان الدور " مثال ذلك: ان يقول القائل: الدليل على ان كون القصد في الامور موجود ان الافراط موجود. فيقال له: وما الدليل على ان الافراط موجود؟ فيقول: لما كان القصد موجودا وجب ان الافراط موجود فقام من هذا الكلام: لما كان الافراط موجودا كان الافراط موجودا، وهذا باطل فاسد في الرتبة وهو ان يستشهد على الشيء بنفسه وإنما الصواب [73 و] ان يستشهد على مجهول بمتيقن فإذا كان الشيء مجهولا فليس متيقنا عند الذي هو عنده مجهول وأنت تروم ان يبين ها هنا بنفسه التي هي ذلك المجهول بعينه. واذا كان الشيء متيقنا فالمتيقن لا يحتاج فيه إلى برهان فهذا استدلال فاسد كما ترى. وكل شيء فأما معلوم واما مجهول فالمعلوم يصحح غيره من المجهولات والمجهول يصحح بغيره من المعلومات، وكون كل واحد من المضافين مقتضيا وجود صاحبه امر معلوم بأول العقل فطلب الاستدلال عليه خطأ. واما الخطأ في بيان المجهول فكنحو إنسان قال له إنسان: ما صفة الفيل؟ فيقول له: صفة الخنزير، والسائل لا يعرف صفة الخنزير فيقول له: وما صفة الخنزير؟ فيقول له: صفة الفيل. فهذا فساد شديد وهو راجع إلى ان صفة الفيل صفة الفيل. ويدخل في هذا الحبال من رام ان يثبت القياس بالقياس أو الخبر بالخبر وما اشبه ذلك. وأما كون الشيء مستدلا به على بطلانه فلا يجوز ذلك أيضاً الا من وجه واحد، وهو ان يكون مؤديا إلى فساد أو تناقض ابطله حينئذ فليس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 هو ابطل نفسه ولو صحح إبطاله لنفسه لكان صحيحا، ولو كان صحيحا لم يكن باطلا، وقد قدمنا ان صحة موجب العقل لم يعلم لها سبب اكثر من ثباتها في النفس ضرورة ولا محيد عنها، ولم يثبت العقل بالعقل لكن بالضرورة التي لاقت التمييز الذي [لا] يتقدمها (1) البتة. وقد يدخل أيضا في الاستدلال شيء يسمى " بالاستدلال بالمعلوم على العلة " كمن اراد ان يقيم البرهان على وجود النار بالدخان الذي هو متولد عن النار وعن فعلها، والعلة اظهر في العقول من المعلول، الا انه إذا كان السائل جاهلا بكون العلى علة، وكان عالما بأن المعلول متولد عن العلة فواجب حينئذ ان يحقق عنده بأن هذا الشيء علة لهذا الآخر باستنباط المعلول بها وكونه موجودا بوجودها. ولو أن امرءا رأى دخانا على بعد فقال: في ذلك المكان نار ولا بد لأني ارى هنالك دخانا قد سطع لكان مستدلا بحقيقة الاستدلال. وهذا لم يستدل على أن كلية النار موجودة من اجل الدخان لكن علم ان المعلول لا يوجد الا وعلته موجودة، فلما رأى الدخان وهو المعلول علم أن العلة هناك وهي النار، وبالله تعالى التوفيق [73 ظ] . 14 - ذكر اشياء عدها قوم براهين وهي فاسدة وبيان خطأ من عدها برهانا فمن ذلك شيء سماه الاوائل " الاستقراء " وسماه اهل ملتنا " القياس " فنقول وبالله تعالى التوفيق: إن معنى هذا اللفظ هو ان تتبع بفكرك اشياء موجودات يجمعها نوع واحد وجنس واحد ويحكم فيها بحكم واحد فتجد في كل شيء من اشخاص ذلك النوع أو في كل نوع من انواع ذلك الجنس صفة قد لازمت كل شخص مما تحت النوع أو في كل نوع تحت الجنس أو في كل واحد من المحكوم فيهم، الا انه ليس وجود تلك الصفة مما يقتضي العقل وجودها في كل ما وجدت فيه، ولا تقتضيه طبيعة ان تكون تلك الصفة فيه ولا بد، بل قد يتوهم وجود شيء من ذلك   (1) الذي [لا] يتقدمها شيء: شيئا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 النوع خاليا من تلك الصفة. وكذلك أيضاً لم يأت لفظ في الحكم بأنه ملازم لكل شيء مما فيه تلك الصفة فيقطع قوم من اجل ما ذكرنا على ان كل اشخاص ذلك النوع، وان غابت عنهم، ففيها تلك الصفة وان كل ما فيه تلك الصفة من الاشياء فمحكوما فيه بذلك الحكم. ولعمري لو قدرنا على تقصي تلك الاشخاص أولها عن آخرها حتى نحيط علما بأنه لم يشذ عنا منها واحدة فوجدنا هذه الصفة عامة لجميعها لوجب أن نقتضي بعمومها لها، وكذلك لو وجدنا الاحكام منصوصة على كل شيء فيه تلك الصفة لقطعنا به أنها لازمة لكل ما فيه تلك الصفة، واما ونحن لا نقدر على استيعاب ذلك ولا نجده أيضاً في الحكم منصوصا على كل ما فيه تلك الصفة فهذا تكهن من المتحكم به وتخرص وتسهل في الكذب وقضاء بغير علم وغرور للناس ولنفسه أولا التي نصيحتها (1) عليه اوجب. ونمثل لذلك مثالا عيانيا فنقول وبالله التوفيق: وصف الموصوف بالصفة ينقسم قسمين: احدهما صفة لا بد للموصوف منها ضرورة كعلمنا يقينا ان كل ذي روح فمتنفس وكل متنفس فذوا آلة يتنفس بها اما بقبض الهواء أو يدفعه واما يقبض بها فيدفعه ان كان من سكان الماء فهذا قسم قائم في العقل معلوم ضرورة ولا محيد عنه ولو عدمت النفس الآلة لفارقت الجسد. والقسم الثاني قد توجد ملازمة للموصوف بها ولو عدمت لم تضره كالمرارة فانك ان بقرت اكثر اصناف الحيوان وجدتها فيها الا الجمل فانه لا مرارة له، وقد ذكر قوم أن الفرس لا [74و] طحال له. وكالعلم الفاشي بين الناس اننا لم نشاهد بغلة ولا بغلا (2) يولد، وككوننا لم نجد قط كبشا من الضأن ذا لحية. وقد اخبرني مخبر في مجلس بعض الرؤساء أنه شاهد بغلة ولدت في بلد وشهد له صحة ذلك قوم كانوا في تلك الناحية. واخبرني من اثق به أنه رأى كباشا بلحى وتيوسا بلا لحى وأنا رأيت سنينيرا صغيرا ولد جسدين متميزين منحازين تامين لا ينقص منهما عضو أصلا، في كل جسد ذنب ويدان ورجلان يجمعهما رأس واحد ليس فيه عينان وأذنان وفم واحد، ورأيت أيضاً فروجا وفرخ اوزة تفقست البيضتان عنهما ولكل واحد منهما أربعة أرجل وأريت الفروج جماعة كانوا معي. فالقطع على أن هذا لا يكون هو التحكم المذموم الذي قد يخون.   (1) نصيحتها: فضيحتها. (2) بغلا: بغل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 وقد غلط في هذا الباب جماعة من أهل مللنا وطوائف من أهل نحلتنا فاما المخالفون لنا في النحلة وهم موافقون لنا في الملة فانهم تتبعوا الفاعلين فلم يجدوا فاعلا البتة مختارا، الا جسما، فقطعوا على ان الفاعل الأول عز وجل جسم لانهم لم يشاهدوا فاعلا الا جسما. فتحفظ من مثل هذا الشغب عظم فيه غلط كثيرة من الناس. وقد أريتك الطريق التي أغروا بها فاجتنبها، وهو القول مع قيام البرهان على بطلانه ومع انه دعوى مجردة فعلى كل ذلك قد نوقضوا فيه وذلك أنهم [إن] يغالطوا أنفسهم ويغروها وتتبعوا ما وجدوا تتبعا صحيحا لم يجدوا فاعلا مختارا غير محدث وغير مركب إما من ولادة واما من رطوبات مستحيلة، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا فقد ناقضوا وأبطلوا دليلهم. وليعلموا انهم في بلية شنعاء وهم يقرون بلا خلاف منهم أن اعتقد هذا فمفارق للملة مباح دمه متبرئ من خالقه فلازم لهم إذا كان حكمهم صحيحا إذ لم يشاهدوا قط فاعلا مختارا الا مركبا من ولادة أو من رطوبات مستحيلة ان يقطعوا في الواحد الأول تعالى أنه محدث مركب والا فقد ناقضوا؛ أفلا يستحيي من له أدنى فهم وعقل من أن يشهد على نفسه بأنه ثابت على شيء باطل؟ وأما الذي غلط فيه الموافقين لنا في النحلة من اصحابنا الاخباريين فاهم تتبعوا كل موصوف في العالم فرأوه إنما استحق ذلك الاسم بصفة فيه اشتق له [74ظ] منها ذلك الاسم فقطعوا من اجل ذلك على أن الواحد الأول عز وجل ذو سمع وبصر وحياة وارادة وأنه متكلم لا يسكت، بأنه تعالى موصوف بأنه سميع بصير حي مريد له كلام، ولو انهم انصفوا انفسهم ولم يقتحموا فيما يعيرون به خصومهم لكانوا إذا فتشوا هذا التفتيش قد وجدوا يقينا انهم لا يرون أبدا ولا يشاهدون موصوفا بشيء الا وتلك الصفة عرض في الموصوف محمول وأن الصفة لا يحملها الا جوهر، على أن هذا الذي نذكر لا يتوهم متوهم في العالم رتبة سواها؛ فلازم لهم إذ لم يشاهدوا قط موصوفا بصفة الا وهو جوهر يحمل عرضا في ذاته ان يقولوا: ان الأول الذي ايس كمثله شيء جوهر يحمل الاعراض ولم يفارقها قط، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. لكنهم قد حجلوا عن هذا الخطأ وشردوا عنه، ولم يختلفوا في أن قائل ذلك معتقدا له جاحد للخالق تعالى مباح دمه، لخروجه من الملة. والعجب واقع على هؤلاء كوقوعه على المذكورين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 قبل ولا فرق. فينبغي لكل طالب حقيقة أن يقر بما اوجبه العقل، ويقر بما شاهد واحس وبما قام عليه برهان راجع إلى الناس المذكورين، وأن لا يسكن إلى الاستقرار أصلاً الا ان يحيط علما بجميع الجزئيات التي تحت الكل الذي يحكم فيه. فان لم يقدر فلا يقطع في الحكم على ما لم يشاهد ولا يحكم الا على مت أدركه دون ما لم يدرك. وهذا إذا تدبرته في الاحكام الشرعية نفعك جدا ومنعك من القياس الذي غر كثيرا من الناس ومن الأئمة الفضلاء الذين غلط بغلطهم ألوف ألوف من الناس، وانت إذا فعلت ذلك كنت على يقين من الصواب لأنك لم تقطع بتحلل ولا تحريم ولا ايجاب الا على ما أتاك عن الله تعالى الحكم عليه وأما ما لم تجد فيه نصا فامسك عنه ولا تقطع عليه فانه [غير] داخل في حكم ما وجدت فيه نصا فأمسك عنه. واعلم ان قوما غلطوا في هذا النوع غلطا لم يخرجوا به من هذا المنتسب الا أنهم بسوء النظر ظنوا أنفسهم خارجين منه فسموا فعلهم في هذا الباب باسم آخر، وهو أن سموه " الاستدلال بالشاهد على الغائب " وبالحقيقة لو حصلوا البحث لعلموا أن الغائب عن الحواس من الاشياء المعلومة ليس بغائب عن العقل بل هو شاهد فيه كشهود ما أدرك بالحواس ولا فرق. واذا ايقن المرء ان الحواس موصلات إلى النفس وان النفس إنما [75وٍ يصح حكمها بالمحسوسات، إذا صح عقلها من الآفات، وبان تتفرغ من كل ما يشغل عقلها، وانفردت بان تستبين به وتفكر فيما دلها عليه لم يجد المرء حينئذ لما يشاهد بحواسه فضلا على ما شاهده بعقله دون حواسه، فلا غائب من المعلومات أصلاً إذا ما غاب عن العقل لم يجز ان يعلم البتة، ونحن نجد الاعمى الذي ولد أكمه موقفا بان الالوان موجودة، كايقان المبصر ها ولا فرق؛ وكذلك تيقنا بوجود الفيل وان كنا لم نره قط كيقين من رآه ولا فرق. وإنما افترق الاعمى والبصير في كيفية الالوان فقط، واما في ان اللون صحيح موجود فلا فرق بينهما في يقين العلم بذلك. وكذلك نحن إنما يفضلنا من رأى الفيل بالكيفية فقط، وإنما صحة وجوده فلا فضل له علينا في المعرفة بانه حق. ونحن وان كنا لم نشاهد؟ ولا اخبرنا من شاهد - ولا بلغنا ان في الناس اليوم إنسانا يرفع من الارض ستمائة رطل، فلسنا ننكر وجوده، ان وجد، كانكارنا وجود إنسان يرفع ستة آلاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 رطل، وكلاهما لم نشاهده ولم نشاهد مثله. فليس وجودنا اشياء كثيرة مشتركة في بعض صفاتها اشتراكا صحيحا، ثم وجودنا بعض تلك الاشياء، ينفرد بحكم ما نتيقنه منها بموجب ان نحكم على سائر تلك الاشياء باستوائها في هذا الحكم الثاني من قبيل استوائها (1) في الحكم الأول. وهذه الدعوى سمجة وتحكم فاحش، وإنما يلزم هذا إذا اقتضت طبيعة ما يوجد شيء فيما هو فيه وعلمنا وجوب ذلك بعقولنا، فإذا كان ذلك، حكمنا ضرورة على ما لم نشاهد من أجزاء ذلك الشيء بحكمنا على ما شاهدناه منها، كاقتضاء طبيعة ذرع كل جسم متحرك ان يكون متناهي الاقطار، وهذا معلوم باولية العقل وموجب حكم الكمية. وكاقتضاء طبيعة بني الإنسان ان لا يتولد منه بغل ولا يحمل، ولكن جسم (2) بشكل ما، فيه نفس ناطقة تقبل التعليم والتصرف والصناعة. فليست معرفتنا بان اجسامنا متناهية لأن طبيعة العقل توجب ذلك بأقوى من معرفتنا بان جسم الفلك متناه إنما صد عندنا لأن اجسامنا متناهية، لكن الوجه الذي صح ان اجسامنا متناهية، به صح ان جسم الفلك متناه. وكذلك أيضاً علمنا بان كل شيء رخو لاقى شيئا صلبا ملاقاة شديدة صدم، فان الصلب يؤثر في الرخو ضرورة، إما بتفريق اجزائه واما باحالته عن شكله، ليس من اجل انا شاهدناه ذلك في اجسام معدودة لكن طبيعة العقل تقتضي ذلك [75 ظ] ومثل هذا كثير. وأما ما لا تقتضيه طبيعة العقل ولا تنفيه، فانا إن وجدناه صدقناه، وإن لم نجده لم نمنع منه. فانا قد شاهدناه في الناس من لا يأكل اللبن أصلا، ولو أكله لقذف قذفا شديدا، وآخر لا يأكل الشحم أصلا، فليس من أصل وجودنا ذلك يجب أن نقطع قطعا على أن الناس أيضا من لا يأكل التمر أصلا، ولا يجب أن نمنع من وجود ذلك أصلا. وكذلك إذا وجدنا حجرا يجذب الحديد فليس يجب أن نقطع على أنه يوجد، ولا بد، حجر يجذب الناس، ولا أن نقطع أيضا أنه لا يوجد. ومثل ذلك كثير. وأشد من هذا كله التحكم على الخالق الأول بأنه قد حرم هذا وحلل هذا،   (1) استوائها: استوائهما. (2) ولكن جسم أي ولكن يتولد منه جسم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 بلا حكم وارد منه عنه تعالى بذلك، لكن بشهوات النفوس، لأنه قد حرم شيئا آخر يشبه هذا الذي تحرم أنت في بعض صفاته. بلى، ولقد لعن الله تعالى أناسا عصاة معتدين، لأفتراه يلعن كل إنسان لأنهم مثل أولئك الملعونين في انهم ناس وأنهم عصاة معتدون؟ وأحرق قوما لانهم خانوا المكيال، وأحرق معهم أطفالهم ونساءهم أفترى كل خائن للمكيال والميزان يحرق هو وولده وامرأته؟ إن هذا لهو الضلال البعيد. ومن بديع ما يقع للمغرورين بهذا النوع الفاسد أنهم إذا أحبوا أن يبدوا لهم في هذا الحكم الذي حكموا به لم يصعب عليهم تركه، فيخرجون اشياء من المشتبهات عن حكم وجد في بعضها ويقولون: هذا خرج عن أصله وشذ، والشاذ لا يقاس عليه. ونحن نقول: لو كان هذا الحكم المشذوذ أصلا للشاذ لما شذ عنه ما شذ، ولا يجوز أن ينبعث فرع من غير أصله. ولو كان ذلك، لما كان الأصل أصلا للمتأصل به، ولا كان المتأصل متأصلا منه. ولا تظن أن من خالف صورة نوعه الجامعة له أنه شاذ نوعه وأصله فتخطئ. لأنك إذا علمت أنه لا يشذ عن أصله البتة، وان تلك الزوائد إنما هي من زيادة في مادة العنصر على مقدار ما يقوم منه الشخص التام فكذلك النقص أيضا، هو نقص من مادة العنصر. فهكذا تكون الأصول الصحاح. ومثل هذا ما يستعمله النحويون في عللهم فانها كلها فاسدة لا يرجع منها شيء إلى الحقيقة ألبتة. وإنما الحق من ذلك ان هذا سمع من أهل اللغة الذين يرجع اليهم في ضبطها ونقلها، وما عدا هذا فهو، مع انه [76 و] تحكم فاسد متناقص، فهو أيضاً كذب، لان قولهم كان الاصل كذا، فاستثقل فنقل إلى كذا، شيء يعلم كل ذي حس أنه كذب لم يكن قط، ولا كانت العرب عليه مدة، ثم انتقلت إلى ما سمع منها بعد ذلك. وقد قال الخالق الأول قولا كفى كل ذي تعب إذ يقول تعالى: {قل هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين} (111 البقرة 2) ثم زاد بيانا فقال تعالى: {فان شهدوا فلا تشهد معهم} (150 الانعام: 6) ثم زاد بيانا فقال تعالى: {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} (23 الانبياء 21) فالذي قلنا من تمييز العقل والحواس هو فعل الله عز وجل فلا يسأل لم كان ذلك، وما عداه ففعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 لنا، لا بد فيه من السؤال. بلم، فان صح به برهان قبل والا رفض. وقد سمى بعضهم هذا الباب: " إجراء العلة في المعلول " ولعمري لو صح ان ذلك علة ككون القتل علة للموت، والجوع علة لارادة الغذاء، والعطش علة لارادة الماء العذب، إن ذلك لواجب اجراؤها في معلولاتها وحتى لا سبيل إلى ان يوجد أبدا قط في الدهر علة إلا ومعلولها موجود. واما ان لم يكن هكذا فاعلم انها ليست علة. وأما ما ادعى متحكم انها علة دون برهان فغير واجب اجراؤها مما ليس معلولا بها. وبالجملة فليس في الشرائع علة أصلا بوجه من الوجوه ولا شيء يوجبها الا الاوامر الواردة من الله عز وجل فقط، إذ ليس في العقل ما يوجب تحريم شيء مما في العالم وتحليل آخر، ولا ايجاب عمل وترك ايجاب آخر. فالاوامر أسباب موجبة لما وردت به. فإذا لم ترد فلا سبب يوجب شيئا أصلا ولا يمنعه. واذا لم تكن العلة الا التي لم توجد قط الا وموجبها معها فليس ذلك الا في الطبيعات فقط؛ واذا كان ذلك فلا يجوز ان يرفع اسم علة على غير هذا المعنى فيقع التلبيس بايقاع اسم واحد على معنيين مختلفين؛ وهذا أقوى سبيل لاهل المخرقة. واعلم وتنبه بما انا موروده عليك، إن شاء الله عز وجل: ان هذا الشيء الذي سموه استدلالا بالشاهد على الغائب واجراء العلة في المعلول إنما يصح به إبطال المتساوي في الحكم لا إثباته، لأنك متى وجدت أشياء مستوية في صفات ما وهي مختلفة الاحكام فلا تشك في اختلافها، بل معرفتنا باختلافها علم ضروري. ولذلك نكون حينئذ غير قاطعين على ان ما غاب عن حواسنا من تلك الاشياء الغائبة التي تساوي هذه الحاضرة وفي الصفة التي استوت هذه الحاضرة كلها فيها على انه موافق لحكم هذه [76 ظ] الحاضرة ولا انه مخالف. وذا مما لا يخالفنا فيه خصومنا لأنه ضروري. فثبت أن المنفعة عظيمة صحيحة باختلاف المشاهدات في ابطال القطع بتساوي الغائبات عن الحواس معها، واننا لا ننتفع ياستواء المشاهدات في إبطال القطع بتساوي الغائبات عن الحواس معها، واننا لا ننتفع باستواء المشاهدات فيما لم توجبه طبيعة العقل لها في مفرفته حكم الغائبات. ألا ترى أننا إذا لم نجد حمارا يجتر لا تنطع على انه لا يوجد، بل ان وجد لم ننكره ولقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 اخبرني [مخبر] انه عنده وجود فرس يجتر، ولم يوجد قط ذو قرن الا وهو مشقوق الحافز حاشا الحمار الوحشي فهو ذو قرن غير مشقوق الحافر؛ ومثل هذه الامور التي لا توجبها الطبيعة فهي في حد الممكن الا انها على قدر قلة وجودها وكثرته تدخل في الممكن البعيد أو المتساوي القريب. ونجد مضيئة حمراء حارة، فمن قال ان الضياء علة الاحراق أريناه اشياء مضيئة كالمرايا وغيرها وهي غير محرقة، ومن قال الحمرة علة الاحراق أريناه الدم غير محرق، ومن قال الحرارة علة الاحراق اريناه اشياء تحر الجسم ولا تحرق. فوجب ضرورة ان لا يكون شيء مما ذكرناه علة وهي صفات مطردة كما ترى؛ لكن كل عنصر بسيط حار يابس صعاد مضيء مصعد للرطوبات يسفل بالقهر ويستحيل هواء فهو محرق بلا شك، لان طبيعة العقل تقتضي ذلك. ومن سلك الطريق التي نهينا عنها لم يسلم من حيرة أو تناقض أو تحكم بلا دليل. ومما قاد إليه أيضاً هذا الاستدلال الفاسد قوما أن قالوا: لما كنا احياء ناطقين وكانت الكواكب اعلى منا وفي اصفى مكان كان تأثيرها ظاهرا فينا وكانت اولى بالحياة والنطق منا فهي احياء ناطقة عاقلة. فيلزمهم على هذا البرهان الفاسد انهم لما وجدوا كل عاقل مميز ناطق حي فيما بيننا إنما هو لحم ودم وذو دماغ وقلب لا يجوز غير ذلك ولا شاهدوا قط حيا الا هكذا الا أن يقطعوا ان الكواكب والملائكة مركبون من لحم ودم وذوو أدمغة وقلوب لأنها أحياء ناطقة. وكل هذا خطأ لأنه ليس من اجل شرفنا على الحجارة وأننا نؤثر فيها وجب لنا النطق والحياة، ولا من اجل اننا ناطقون احياء وجب ان نكون لحما ودما. ولكنا لما كنا مميزين متعرفين حساسين وجب [77و] لنا اسم النطق والحياة عبارة عن حالنا تلك وتسمية لها. وموه أيضاً بعضهم فقال مثبتا لسكنى النفس في الدماغ ان الملك ابدا إنما يسكن في القصاب العالية، والنفس ملك البدن، والدماغ أعلى البدن، فالنفس فيه. وكم رأينا ملكا لا يسكن الا الحضيض من عمله ويدع القصاب. فعارضه محير مثله فقال مثبتا لأنها في القلب: ان الملك ابدا إنما يسكن وسط عمله، والقلب وسط البدن، [لذا] وجب ان تكون النفس فيه. وكم ملك سكن طرف عمله أو قرب عمله وترك الوسط. وهذا كله تحكم ضعيف. وكمن قال: وجدت الكلب طويل الذنب فيصلح أيضاً لحراسة الغنم،. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 والسبع طويل الذنب فيصلح أيضاً لحراسة الماشية. وهذا يكثر جدا وفيما ذكرنا كفاية. ومثل هذا قد استعمله خلق كثير فحرموا به وأحلوا وتحكموا في دين الله تعالى. وذلك مثل حكمهم بأن الكيل علة التحريم في الربا، وتحكم آخرين بأن الادخار علة التحريم في الربا، وقال آخرون: الاكل (1) هو علة التحريم في الربا؛ فهل هذا [إلا] كالذي ذكرنا قبل سواء. وكذلك ان وجدنا صفة في موصوف ولذلك الموصوف حكم ما، فإذا ارتفعت تلك الصفة ارتفع ذلك الحكم فانه ليس واجبا من اجل هذا فقط أن يكون ذلك الموصوف متى وجدت له تلك الصفة وجدله ذلك بل لعله قد توجد له تلك الصفة ولا يوجد له ذلك الحكم. مثال ذلك: إن الحياة إذا لم تكن موجودة قط في جسم ما فواجب ضرورة أن ذلك الجسم ليس لنسانا بلا شك؛ فان اراد امرؤ ان يجري على الطريق الذي ذممته لزمه ان يقول: فالحياة إذا وجدت في جسم ما وجب ان يكون إنسانا وهذا كذب بحث. ومثال ذلك في الشريعة: ان ملكك إذا ارتفع عن شيء فقد صار ملكه إلى غيرك، أو صح انه لا ملك لمخلوق عليه، فهو أحق؛ فإذا ارتفع ملك غيرك عنه لم يلزم ان يصح ملكه لك أو انه لا ملك لمخلوق عليه، بل لعله يملكه ثالث غيركما. وأعلم ان المساحة في طلب الحقائق لا تجوز البتة، وإنما هو حق أو باطل لا يجوز ان يكون الشيء حقا باطلا، ولا باطلا حقا، ولا باطلا لا حقا. فإذا بطل هذان القسمان ببديهة العقل ضرورة ثبت القسم الثالث إذ لم يبق قسم سواه وهو اما حق واما باطل. ولذلك قال لنا الأول الواحد عز وجل في عهوده الينا: (فما [77ظ] ذا بعد الحق الا الضلال) (32 يونس: 10) . ولعل جاهلا يعترض علينا في شيئين فيقول: انتم تقولون باباحة اشياء كالغناء وغير ذلك فحق هي ام باطل؟ فالجواب وبالله تعالى التوفيق: ان كل ما أنجناه إذا فعله الفاعل ترويحا لنفسه وعونا على الصحة والنشاط ليقوى على انفاذ اوامر خالقه عز وجل فهذا كله حق؛ واذا فعله عبئا وأشرا فكل ذلك ضلال. الا ان من الضلال ما هو لغو غير معدود علينا رفقا بنا، ومنه ما هو معدود   (1) وقال آخرون الاكل؟ الخ: مكررة في ص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 علينا عدلا فينا. وقد قال لنا الخيرة المرسل من قبل الواحد الأول، صلى الله عليه وسلم: " إنما الاعمال بالنيات ولكل امريء ما نوى ". والشيء الثاني ان يقول الناقد. قلتم لا شيء الا حق أو باطل، فالحق برهاني: اما اول واما منتج عن اول واما بقرب واما ببعد، وما عدا هذين الطريقين فباطل. وانتم بخبر الواحد في الاحكام وبشهادة الشاهدين، وتقرون ان حكمكم ذلك لعله باطل. فالجواب وبالله تعالى التوفيق: ان الحكم بخبر الواحد في الاحكام وبشهادة الشاهدين حق برهاني ضروري نقطع على غيبه؛ واما الجزئيات من ذلك، يعني من الشهادة، فلا ندري أموافقة هي التي تيقنا انه حق أولا وهذا من تقصيرنا عن علم الغيب. الا اننا محققون بلا شك كل قضية منها فاما حق واما باطل في ذاتها لا بد من ذلك، ولم ندع على كل حق وعلى باطل، بل كثير من الامور يخفى علينا الحكم فيها وهي في ذواتها اما حق واما باطل. ومن بديع ما غلط فيه اخواننا الموافقون لنا في الخلة والملة المخالفون لنا في الفتى ان حكمين وردا في الشعير والتمر فنقلوا احدهما إلى الزيتون والتين، ومنعوا من نقل الآخر إلى الزيتون والتين: وهو ان التحريم جاء في الشعير بالشعير والتمر بالتمر في البيع الا مثلا بمثل كيلا بكيلا يدا بيد، وأمرنا باخراج الشعير أو التمر في زكاة الفطر. فقالوا قول من تحكم: اما التحريم في البيع الا مثلا بمثل ويد بيد فمنقول إلى الزيتون والتين، اما الاعطاء في الزكاة فغير منقول إلى الزيتون والتين. ولهم من مثل هذا واشنع آلاف قضايا مما نبينه في كتبنا في احكام الديانة، ان شاء الله. والتحكم باللسان لا يعجز عنه من رضيه لنفسه [78و] والباطل كثير. واما الذي نحمد الواهب المنعم عز وجل عليه اهله، فالحق، والذي يجب ان يفرح له الحاصل فما اوجبه البرهان. واعلم أنه لا فرق فيما تصح به الأحكام الشرعية وبين ما تصح به القضايا الطبيعية في مراتب البرهان الذي قدمنا؛ بل الخطأ في الشرائع أضر وأشد فسادا في الدنيا، وأرادأ عاقبة في الأخرى، وأحق بالنظر فيه والاحتيال بتصحيحه، وأولى بترك المسامحة وأحظى بتحري الصواب، وأن لا يقدم فيها الا على ما أوجبته مقدمات موجودة عن مثلها إلى أن تبلغ أوائل العقل والحس، وبالله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 تعالى التوفيق، وله الحمد ومنه الاستزادة من جميل مواهبه. والخطأ في ذلك يشمله الباطل وتنفرد هذه الجملة بالنكال في الدار الآخرة لمن عاند وترك البحث وهو قادر عليه. واعلم أن المتقدمين سموا المقدمات " قياسا ". فتحيل اخواننا القياسون حيلة ضعيفة سوفسطانية أوقعوا اسم القياس على التحكم والسفسطة، فسموا تحكمهم بالاستقرار المذموم قياسا، وسموا حكمهم فيما لم يرد فيه نص بحكم شيء آخر مما ورد فيه نص لاشتباههما في بعض أوصافهما قياسا واستدلالا واجراء للعلة في المعلول. فأرادوا تصحيح بأن الباطل بأن سموه باسم أوقعه غيرهم على الحق الواضح كالذي بلغنا عن بعض جهال البربر أنه أراد استحلال أكل خنوس صاده بأن سماه باسم ولد الأيل. وقد جاء عن الرسول، عليه السلام، أنه أنذر بقوم يستحلون الخمر يسمونها بغير اسمها. وهذه حيلة مموهة لا تثبت على التخليص. وقد قلنا قبل انه ليس في العالم شيئان الا وبينهما شبه وافتراق ما ضرورة لا بد من ذلك. فان كان الشبه يوجب استواء الحكم فلنحكم لكل ما في العالم بحكم واحد في كل حال من أجل اشتباهه في صفة ما ولم كان الاجتماع في الشبه يوجب استواء الحكم ولم يكن الافتراق في الشبه يوجب اختلاف الحكم؟ فيجب على هذا أن لا نحكم لشيئين أصلا بحكم واحد لأجل اختلافهما في صفة ما. وكل هذا خطأ وحيرة ومؤد إلى التناقض والضلال، ونعوذ بالله من ذلك كله، ولا حول ولا قوة الا بالله. 15 - باب زيادة الكلام في بيان السفسطة وسمت الأوائل ما أخذ من مقدمات فاسدة " سفسطة ". ونحن نبين منها وجوها كافية بحول الله الواهب للعلم وقوته، لا إله الا هو. واعلم أن المشغب الناصر للباطل أعظم سلاحه التلبيس وذلك يكون اما بايجاب مالا يجب، واما باسقاط قسم من الأقسام أو لأكثر من قسم، واما زيادة قسم فاسد [78 ظ] ، أو بأن يأتي بأقسام كلها فاسدة، واما أن يتعلق بلفظ مشترك متفق على صحته يعطي أشياء كثيرة مختلفة الأحكام والصفات ومتفقة أيضا في أشياء كثيرة مختلفة الأحكام والصفات ومتفقة أيضا في أشياء؛ فيريد أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 يخص ما اتفقت فيه بعض ما يعطي دون جميعها، ويريد أن يعم جميع ما يقع عليه ذلك الاسم مما يخص بعض ما يقع عليه ذلك الاسم، أو يأتي به وهو ابتداء. فايجاب ما لا يجب هو أن يقول: لو كان الباري تعالى غير جسم لكان عرضا فلما ثبت أن الباري تعالى ليس عرضا صح أنه جسم. فهذا علق أنه تعالى غير جسم بكونه عرضا وهذا لا يجب، ولو علق ذلك بما يوجب قضيته لكان صادقا وذلك لو قال: لو كان الباري تعالى محدثا وكان غير جسم لكان عرضا. فهذا تقديم صحيح، لكن الباري تعالى ليس محدثا فليس جسما ولا عرضا. وإنما نحن الآن في بيان صحة عمل القرائن لا في بيان الجزئيات، ولذلك مكانه. س وأما اسقاط قسم فكقول القائل: لا يخلو هذا اللون من ان يكون أحمر أو أخضر أو أصفر أو اسود بعد اسقاط الابيض واللازوردي وغير ذلك. وأما زيادة قسم فاسد فكقول القائل: لا يخلو هذا الشيء من أن يكون هو هذا الشيء أو هو غيره أو لا هو ولا غيره. فهذا قسم فاسد زائد. وأما المجيء بأقسام كلها فاسدة فكقول القائل: لا يخلو الباري تعالى من أن يكون فعل الاشياء لدفع مضرة أو الاجتلاب منفعة أو لطبيعة أو لآفة أو لجوده وكرمه. فهذه كلها اقسام فاسدة. والصحيح انه فعلها لا لعلة ولا لسبب أصلا. فمن ادعى على خصمه أنه أتاه بشيء من هذه الوجوه فعليه أن يبين ذلك. واما الغلط الواقع في اشتباه الاسماء فيكون من جاهل ومن عامد فأما الجاهل فمعذور واما العامد فمذموم. فالجاهل غلطه في ذلك نحو عدي بن حاتم إذ سمع الآية: {فكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود} (187 البقرة: 2) فظنها من الخيوط المعهودة. واما العامد فنحو الذين قيل لهم " راعنا " من المراعاة فقالوا راعنا من الرعونة؛ ومثل ما قاله بعض الاكابر وقد سئل عن اللفظ بالقرآن فقال: هذا السؤال محال واللفظ بالقرآن لا يجوز لأنه لا يلفظ، فأضرب عن اللفظ الذي هو القول والكلام وتعدى إلى الذي هو القذف كلفظ الرجل لقمة من فيه. فهذا ونحوه شعاوذ مضمحلة. وكذلك ينبغي لك أن تتحفظ من اشتباه الخط ولا سيما في العربي فان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 ذلك فيه فاش لان أكثر حروفه لا يفرق بينها في الصور الا بالنقط كزبد [79 و] وزيد وزند ورند وما أشبه ذلك. وقد كتب بعض الخلفاء إلى عامله: احص المؤنثين قبلك، يريد احصاء العدد، فقرأها الكاتب " اخص " فخصى كل من كان قبله منهم. ولهذا صار طالب الحقائق مضطرا الي النحو. ألا ترى ان قارئا لو قرأ: إنما يخشى الله من عباده العلماء، فرفع الهاء من الله ونصب الهمزة من العلماء قاصدا إلى ذلك وهو عالم لكان ذلك خروجا عن الملة؟ وكذلك لو قرأ: ان الله بريء من المشركين ورسوله بكسر اللام من رسوله. فتحفظ من مثل هذا تحفظا شديدا على ما نصف لك بعد هذا، ان شاء الله عز وجل. ومن ذلك اشياء تقع في المعطوف محيرة كنحو ما غلط فيه جماعة من العلماء في قول الله عز وجل: {وما يعلم تأويله الا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا} (7 آل عمران: 3) فظنوا ان " الراسخون في العلم " معطوفون على الله عز وجل، وليس كذلك وإنما هو ابتداء كلام وقضية وعطف جملة على جملة لبرهان ضروري قد ذكرناه في موضعه. ومن السفسطة أيضاً تصحيح شيء آخر وبطلانه ببطلان شيء آخر بلا برهان يوجب اضافتهما فذلك فاسد جدا، كقول من قال: لو جاز ان يكون الباري عز وجل مرئيا [لكانت] رؤية غير المعهود؛ وكقول القائل: لما صح التحريم في البر بالبر متفاضلا صح التحريم في الارز بالأرز متفاضلا. وهذا كله تحكم ودعوى. وليس يعجز احد عن ربط شيء بشيء لا رباط بينهما بلسانه إذا استجاز القطع بما اشتهى. وكقول من قال من العميان: لو كان اللون مرئيا لكان العقل مرئيا، فلما كان العقل غير مرئي وجب ان اللون غير مرئي، فتأمل هذا تجده بهتانا وجهلا ودالة على غير موضعها كدالة الصبيان على آبائهم ولا فرق. فلذلك قد اتينا على ما تحتاج إليه من بيان البرهان الصحيح وذكر جمل الجدليات الفاسدة والشغبيات الساقطة وبيان كثير منها بمقدار ما يميزها به الطالب إذا رآها؛ وقلنا ان ما عدا البرهان على غير الطريق التي قدمنا فواجب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 اجتنابه. ولعمري لقد اكثرنا من البيان وكررنا لأن خطأ اصحابنا كثر في ذلك وفحش جدا فاحتجنا إلى المبالغة في البيان، فلنقتصر على ذلك، ولنأخذ في الزيادة في فضل ما ادراكنا بالعقل. وبالله تعالى نعتصم ونتأيد لا إله الا هو. 16 - الكلام في فضل قوة ادراك العقل على ادراك الحواس. واعلم أن الحواس السليمة قد تقصر عن كثير من مدركاتها وقد تضعف عنها وقد تخطئ ثم لا يلبث أن يستبين للنفس [79ظ] غلطها وتقصيرها وما خفي عنها وتدركه ادراكا تاما على حقيقته. وادراك العقل في كل ذلك ادراك واحد وبالجملة فالعقل قوة أفرد الباري تعالى به النفس ولم يجعل فيه شركة لشيء من الجسد. وادراك النفس من قبل الحواس فيه للجسد شركة، والجسد كدر ثقيل فادراكها بالعقل إذا نظرت به ولم تغلب عليه الشهوات الجسدية أو سائر أخلاقها المذمومة إدراك صاف تام غير مشوب. ومن أقرب ما نمثل لك به كدر النفس بمشاركتها الجسد وصفائها بانفرادها عنه وخفة الجسد بمشاركة النفس وثقله بانفراده عنها مترى من حال النائم فان جسده حينئذ أثقل وزنا (1) ويعلم ذلك من اكتري من الحمالين فانهم يكثرون نهيه عن النوم حتى إذا استيقظ خف وزنه واستقل. وترى النفس في حال النوم قد تشاهد جزءا من النبوة بالرؤيا الصحيحة مما لا سبيل إلى مشاهدته في حال اليقظة. وهكذا كلما انفردت وتخلت عن الجسد أدركت غوامض الأشياء وصحيح العواقب في الآراء حتى إن المرء في تلك الحال لا يسمع كلام من معه ولا يرى كثيرا مما يحضره. ثم نعود إلى ما بدأنا به فنقول، وبالله تعالى التوفيق: انك ترى الإنسان من بعيد صغير الجرم جدا كأنه صبي، وانت لا تشك بعقلك انه اكبر مما تراه، ثم لا تلبث ان يقرب منك فتراه على قدره الذي هو عليه الذي لم يشك العقل قط في انه عليه. وكذلك يعرض لك في الصوت. وايضا فأن الشيء إذا بعد عن الحاسة جدا بطل ادراكها جملة، فان الإنسان إذا كان منك على خمسة اميال   (1) وزنا: مكررة في ص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 أو نحوها نظرت شبحه ولم تستبين عينه وسمعت عينه وسمعت صوته أصلا، حتى إذا قرب استبنت كل ذلك وميزت عينه وسمعت كلامه. وكهدم رأيته من بعيد ولم تسمع صوته لم يشك العقل ان له صوتا مرعبا لو قربت منه. فالعقل في كل ما ذكرنا لا يخون. وأما في حس الجسم فكخردلة تزداد في حمل الإنسان فلا يحس بها البتة، حتى إذا كثر صب الخردل لم يلبث ان يعجز عن الاستقلال به ولو صب على ظهر فيل أو سفينة بحرية. والعقل يعلمك أن تلك الخردلة المصبوبة لها نصيب من الثقل ضرورة، إلا ان الحس قصر عن ادراكه لتأخر ادراك الحس عن ادراك العقل وأنه لا يدرك الا ما ظهر ظهورا قويا وقد يخفى عليه كثير من الحقائق كما ترى. والعقل يدرك، كما بينت لك، حصة الخردل من الثقل ادراكا لا فرق بينه وبين ادراك ما ظهر إلى الحس من ثقل القناطير المجتمعة. وهكذا الشم فان مقدار فلس من حليت يكون معك في لبيت فلا تشمه أصلا [80 و] حتى إذا كثرت أجزاء الحلتيت لم يلبث الشم أن يجده ويضجر منه؛ والعقل موقن أن لذلك الفلس جزءا من النتن، وهكذا القول في المسك. والعقل يعلمك أن قوة الرائحة في القليل والكثير واحدة ولكن الكثير إذا كثر افترق ما يتحلل منه في الهواء فشغل مكانا واسعا. وكذلك السماء، لا تراها متحركة والعقل يوقن أنها متحركة مما ترى من اختلاف حركتي الاجرام التي فيها من شرق إلى غرب بحركة السماء لها من غرب إلى شرق وبانتقالها في الدرج وحركتها بذاتها. وكذلك العين لا تستبين حركة الشمس أصلا حتى إذا بقيت مدة لاحت لها حركتها يقينا بأن تراها في كبد السماء بعد تراها في افق المشرق. وكنماء الأجسام من الحيوان والنبات فانك لا تستبين نموه على انه بين يديك ونصب عينيك حتى إذا مضت مدة رأيت النماء بعينيك ظاهرا وعلمت نسبة زيادته على ما كان، والعقل يشهد أن لكل ساعة حظا من نمو ذلك الشجر لم تتبينه ببصرك. وهذا إذا تدبرته كثير جدا. وقد بينا في باب الكلام في الكيفية من هذا الديوان مشاركة العقل للحواس في جميع مدركاتها وانفراده دونها باشياء كثيرة؛ فلولا العقل ما عرفنا الغائبة عن الحواس ولا عرفنا الله عز وجل. ومن كذب عقله فقد كذب شهادة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 الذي لولاه لم يعرف ربه، وحصل في حال المجنون، ولم يحصل على حقيقة. وبالفكر والذكر تؤخذ المقدمات أخذا صحيحا بان تنظر النفس في ضم طباع الاشياء بعضها إلى بعض حتى يقوم مرادها فيما تريد علمه وهذا الذكر مثبوت في الحيوان. والحيوان قد يتفاضل فيه: فمن الحيوان ما يميز ربه ويذكر عليه وان غاب عنه، ويهش إليه إذا قدم عليه؛ واقواها في ذلك الفيل والكلب والقرد والدب ثم السنور؛ ومن الحيوان ما يذكر ذكرا دون كالفرس والبعير؛ ومن الحيوان سائر ما ذكرنا ى يذكر شيئا من ذلك كالديك وغيره. واعلم ان الحس والعقل والظن والتخيل قوى من قوى النفس. واما الفكر فهو حكم النفس فيما ادته إليها هذه القوى فتجد النفس إذا افتقدت بالنسيان شيئا مما اختزنته تطلبه وتفتش في مذكراتها بالفكر كما يفتش رب المتاع متاعه إذا اتلفه واختلط له بين شتى فيبحث عنه في وجه ومكان مكان حتى يجده فيؤوب إليه، أو لا يجده أصلاً. وهكذا سواء سواء سبحان المدبر لذلك ومخترعه لا إله الا هو. وليس في القرى التي ذكرنا شيء [80 ظ] يوثق به ابدا على كل حال غير العقل ففيه تمييز مدركات الحواس السليمة والمخذولة بالمرض وشبهه كوجود المريض العسل مرا كالعلقم والعقل يشهد بالشهادة الصحيحة الصادقة انه حلو وكما يرى الشيء في الماء بخلاف شكله الذي يشهد العقل انه شكله على الحقيقة. واما الظن فأكذب دليل لأنه يصور لك الرجل الضخم المتسلح شجاعا ولعله في غاية الجبن، ويصور لك المتفاوت الطلعة بليدا ولعله غاية في الذكاء. وقد نبه الله تعالى على هذا فقال: {انها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} (46 الحج: 22) . فأخبر عز وجل ان الحواس تبع للعقل، وان ذا العقل الذي يغلب هواه عليه لا ينتفع بما ادركت حواسه؛ وقال تعالى: {ان بعض الظن إثم} (12 الحجرات: 49) ؛ وروي عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، انه قال: " الظن اكذب الحديث ". وأما التخيل فقد يسمعك صوتا حيث لا صوت، ويريك شخصا ولا شخص قال تعالى: {يخيل اليهم من سحرهم أنها تسعى} (66 طه: 20) فأخبر تعالى بكذب التخيل. والعقل صادق ابدا، قال تعالى مصدقا لاعتراض من رفض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 شواهد عقله بالخطأ: {وقالوا لو كنا نسمع أو نبصر أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير. فاعترفوا فسحقا لاصحاب السعير} (10 - 11 الملك: 67) . وقال تعالى ذاما لمن أعرض عن استعمال عقله: {وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون} (105 يوسف: 12) . وقال تعالى لكل ما لم يقم عليه برهان: {قل هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين} (111البقرة: 2) وقال ذاما لمن تكلم بغير علم: {ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم، فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم} (66 آل: 3) . وقال تعالى في مثل ذلك: {بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله} (39 يونس: 10) فهذه وصايا الواحد الأول التي أتانا بها رسوله، صلى الله عليه وسلم، وهذه موجبات العقول فأين المذهب عن الخالق تعالى وعن العقل المؤدي إلى معرفته إلا إلى الشيطان الرجيم والجنون المودي والضلال المبين، نسأل الممتن بالنعمة أن يزيدنا من المعرفة الفاضلة، وأن لا يسلبنا ما منحنا من العقل ومحبة استعماله وتصديق شهاداته؛ وإلى العقل نرجع في صحة الديانة وصحة العمل الموصلين إلى فوز الآخرة والسلامة الأبدية، وبه نعرف حقيقة العلم، ونخرج من ظلمة الجهل، ونصلح تدبير المعاش والعالم والجسد. ومن الناس من يستشهد بالعقل على تصحيح شيء ليس في العقل الا إبطاله، كمتطلب في العقل عللا موجبة لجزئيات الشرائع فانه ليس في العقل الا وجوب الائتمار للأول الخالق فقط في أي شيء [81 و] أمر به، ولو بأنواع قتل أنفسنا فمن دونها السل (1) ؛ أو علة موجبة لتحريم لحم الخنزير واباحة لحم التيس، أو لايجاب الصلاة بعد زوال الشمس والمنع منها حين طلوعها، أو لم تكون صلاة أربع ركعات وأخرى ثلاثا، أو صيام رمضان دون ذي الحجة، أو الحج إلى مكة في ذي الحجة إلى غيرها في أشهر أخر، وقتل من زنا وهو محصن عفا عنه زوج المزني بها أو أبوها أو لم (2) يعفوا، أو تحريم قتل من قتل النفس المحرمة إذا عفا عنه الولي. ولا تحريم المشقوق البطن أو المجنون وتحليل المذبوح   (1) السل: كذا هو ولم أتيبينه أو: واما. (2) أو لم: أولا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 أو المنحور، فليس ابتداء هذا كله في العقل أصلاً. وهكذا الشرائع، وهكذا، جميع أفعال الخالق تعالى فانه خلق الحمار خلقا مهينا للسخرة، وخلق الفرس للركوب، وحبا صورة الإنسان بالعقل، وسلط الكلب على الظني، وأباح ذبح الحيوان دون بعض للأكل، وخلق بعض الحيوان طيارا وبعضه مائيا وبعضه طعاما لبعض ناطقا وبعضه جاهلا وبعضه ذا رجلين وبعضه ذا أرجل أربع (1) وبعضه ذا ست أرجل وبعضه ذا أكثر من ذلك وبعضه بلا رجل أيضا، وخلق الاسد شجاعا جريئا والقرد جبانا هلوعا، وخلق أشياء حادة الأبصار وخلق الخلد أعمى، وخلق ذوات السموم المؤذية للحيوان. وهكذا رتب الخالق الكريم الأشياء كلها. ويلزم من فر من هذا إلى أن النفس فعلت ذلك [؟.] في ايجاب العجز أو المسامحة في العبث على أصله للباري، تعالى عن ذلك. وقد بينا ذلك في " الفصل " بيانا شافيا. وإنما العقل قوة تميز بها النفس جميع الموجودات على مراتبها أو تشاهد بها ما مر عليه من صفاتها الحقيقية لها فقط وتنفي بها عنها ما ليس فيها. فهذه حقيقة حد العقل ويتلوه في ذلك الحواس سواء سواء وهذا التمييز هو إدراك العقل الذي لا ادراك غيره. وأما حد منفعة العقل في استعمال الطاعات والفضائل، فهذا الحد ينطوي فيه اجتناب المعاصي والرذائل، والكلام في هذا وغيره مما هو متصل [به] مستوعب، ان شاء الله تعالى، في كتابنا " في أخلاق النفس ". وأعلم أن الاكثر من الناس جدا فالغالب عليهم الحمق وضعف العقول والعاقل الفاضل نادر وقليل البتة، وهذا يؤخذ حسا. وقد ورد النص بذلك من الخالق الأول وعن خيرته المبتعث الينا صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وإن تطع اكثر من في الارض يضلوك عن سبيل الله} (116 الانعام: 6) . وقال رسول الله [81 ظ] صلى الله عليه وسلم: " الناس كأبل مائة لا تجد فيها راحلة ". وأما [ما] يظنه أهل ضعف العقول من أنه عقل وليس عقلا ولا مدخل للعقل فيه فقد غلطوا في ذلك كثيرا فانهم يظنون العقل إنما هو م حيطت به السلامة في الدنيا ووصل به إلى الوجاهة والمال؛ وهذا إذا كان بطرق محمودة مما لا معصية فيه   (1) أربع: اربعة ست: ستة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 ولا زيادة فهو عاقل، وأما إذا كان بما أمكن بما أمكن من كذب ونافقة وتضييع فرض وظلم إنسان ومساعدة على باطل فهو ضد العقل بعد نهي الله تعالى الوارد علينا بذم هذه الحال ذما صحيحا. فكيف يكون عقلا ما يذمه العقل ويفسده وينهى عنه؟ ولم يوجد العقل ذاما لهذه الرذائل ولا ورد الامر من الله عز وجل قط الا بذمها. وكذلك ما ظنه آخرون من أن العقل المحمود الذي لا ينبغي خلافه التزام أزياء معهودة لا معنى له افليس إذا حصلته الا سخفا وجهلا وليس هذا من العقل في شيء. وبيان هذا مذكور في كتابنا في " أخلاق النفس والسيرة الفاضلة " وفي كتابنا في " السياسة " ان شاء الله عز وجل، والله تعالى الموفق لكل فضيلة. واعلم انه لا يدرك الاشياء على حقائقها الا من جرد نفسه عن الاهواء كلها ونظر في الآراء كلها نظرا واحدا مستويا لا يميل إلى شيء منها، وفتش أخلاق نفسه بعقله تفتيشا لا يترك فيها من الهوى والتقليد شيئا ألبتة، ثم سلك بعقله الطريق التي وصفنا في هذا الديوان واجتنب ما عداها مما قد رأينا اعلام كل ذلك، فانه من فعل ما قلنا فضمان له ادراك الحقائق على وجوهها في كل مطلوب وقد نبه الله عز وجل على ذلك في عهود الينا فقال: {ان يتبعون الا الظن وما تهوى الانفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى} (23 النجم 53) وقال تعالى: {ان يتبعون الا الظن وان الظن لا ينبغي من الحق شيئا} . (28 النجم 53) وقال تعالى: {فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون احسنه اولئك الذين هداهم الله واولئك هم اولو الالباب} (18 الزمر 39) . واعلم ان الناس الا من عصم الله تعالى، وقليل ما هم، يقبحون فعل من حكم بالهوى ويضللون من قلد ويبطلون التقليد وهم لا ينطقون بكلمة بعد هذا الا وهي راجعة إلى احد هذين الوجهين الخبيثين اللذين قد شهدوا بقبحهما وخطأ من اتبعهما؛ فتأمل هذا تجده كثيرا وكفى بذم الله تعالى هؤلاء إذ يقول: {لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله ان [82 و] تقولوا ما لا تفعلون} (2 - 3 الصف: 61) نعوذ بالله من مقته. الا انا نقول من احسن من وجه واساء من آخر افضل ممن اساء من كل وجه فهؤلاء ممقوتون لفعلهم خلاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 قولهم فلو انهم مع اساءتهم من فعلهم يذمون الحقائق لتضاعف مقتهم لتضاعف اساءتهم، نعوذ بالله من الخذلان. واذ قد اتينا من هذا الغرض بجملة كافية؟ على ان الكلام في ذلك يطول جدا ويتسع - فلنقطع، على مذهبنا في هذا الديوان في الاختصار والبيان ان شاء الله عز وجل، ولنأخذ بحول خالقنا في كيفية المناظرة ووجوهها المحمودة والمذمومة ومراتبها فهي متعلقة بما تقدم اشاء الله تعالى. 17 - باب اقسام السؤال عما تريد معرفة حقيقته مما يرتقى إليه بالدلائل الراجعة إلى الاوائل التي قدمنا اعلم انه لا يوصل إلى معرفة حقيقة بالاستدلال الا بالبحث والبحث يكون عن فكر الواحد ويكون عن تذكر من اثنين اما من معلم إلى متعلم واما من متناظرين مختلفين متباحثين وهذا الوجه هو آخر ما نتوصل به إلى بيان الحقائق بكثرة التقصي فيه وانه لا يبقى توفيته حقه بقية أصلاً. فنقول وبالله تعالى التوفيق وبه نتأيد: اعلم انه لا بد اول السؤال عن كل مسئول عنه مما يترقى إليه بالدلائل الراجعة إلى الاوائل التي قدمنا سؤالات اربع ولكل منها من الجواب: فاولها السؤال " بهل " فنقول: هل هذا الشيء موجودا اولا وهل امر كذا حق ام لا فلا بد للمسئول حينئذ من جواب ضرورة بلا أو نعم؛ فان قال لا أو قال لا ادري سقط السؤال عنه، على كل حال، لان الشيء المسئول عنه لا يخلو من ان يكون مما يدرك بالعقل وبالحواس أو مما يدرك بالتوالي من المقدمات التي وصفنا، فان كان مما يدرك بالحواس أو العقل فالكلام مع منكر ذلك عناء وكذلك مع من شك فيه. وان كان مما يدرك بالتوالي فالسؤال أيضاً عنه ساقط لا لأنه مغلوب ولكن [لأنه] لم يثبت شيئا فيتمادى (1) معه في البحث عنه ولانه قد صدق عن نفسه إذ قال لا ادري؛ ولا سبيل إلى ان يقال لأحد فيما ليس   (1) فيتمادى: فيتأدى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 مدركا باول العقل والحواس لم لم تدر هذا لكن حتى يثبت عنده بالدلائل ثم حينئذ يلزمه الاقرار بموجبها؛ فعلى من اراد الزامه الاقرار بأمر ما تبينه له وتثبيته لديه، فإذا الواجب ان لا يصدق احد بشيء لم يقم عليه دليل [82ظ] وان يصدق به إذا قام عليه الدليل. واما إبطال المرء بالبراهين ما اثبته مثبت بلا برهان فهو تبرع منه وقوة وذلك غير لازم له إذ المثبت للشيء بلا برهان مدع والدعوى ساقطة إذا لم يؤيدها (1) دليل. والاصل في البنية ان المرء ولد وهو لا يعلم شيئا ثم سمع الاقوال، وكل احد يحسن عنده رأيه فلا سبيل إلى الزامه الاقرار بشيء منها أصلا إلا بان يوجب برهان صحة شيء منها فيلزمه حينئذ والا فليس بعضها اولى بالتصديق من بعض، ولا سبيل إلى ان تكون كلها حق فتصدق بجميعها. ونفيها كلها والشك فيها ممكن حتى يقوم البرهان على صحة الصحيح منها. فان اجاب بنعم وصحح ما سئل عنه سئل حينئذ بالمرتبة الثانية وهو السؤال " بما " وهو تال للسؤال بهل فيقال له إذا حققه فما هو أي اخبرنا بجوهره أو حده أو رسمه لو ما يمكن ان تخبرنا به عنه من صفات ذاته الملازمة له. فإذا اخبر بما اخبر به من ذلك سئل بالمرتبة الثالثة وهو السؤال " بكيف " أي هذا الذي حققه حاله أي شيء وكيف هيئته وكيف وجود ما اثبت له فيه. فإذا اخبرنا بما اخبر به سئل بالمرتبة الرابعة وهي " لم " فيقال له لم كان ما اتيت كما وصفت وما برهانك على صحة ما ادعيت مما ذكرت؟ ولا سؤال عليه فيما لم يذكر اخل أو [لم] يخل الا بان يدعي عليه تناقضا أو نقضا. فعلى من اثبت عليه ذلك ان يقيم البرهان على نسب إليه من صحة مناقضة أو نقض. وفي هذه الرابعة يقع الاعتراض وطلب الدلائل أو إبانتها (2) ؛ ومثال ذلك ان تقول: هل يوجد كسوف قمري ام لا فيقول المجيب: نعم هو موجود، فلو قال لا قيل هـ: فهذا السواد الذي يعرض في ليلة النصف من الشهر ما هو؟ فان انكر العيان صار (3) في نصاب من لا يكلم، وان أقر به قيل له هو الذي نريد بقولنا " كسوف "   (1) يؤيدها: يوردها. (2) ابانتها: انافتها ان تقول: مكررة في ص. (3) صار: وصار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 فإذا حققت المعنى لم تنازعك في الاسم وسألناك بعبارة ترضاها وهي ان نقول لك: هل يوجد سواد في القمر ليلة النصف من الشهر ام لا؟ فإذا حقق قيل له لما هو؟ فيقول: هو ذهاب النور عن القمر لدخول الارض بينه وبين الشمس التي منها يقبل النور؛ فيقول السائل: كيف تدخل الارض بين الشمس والقمر؟ فيقول المجيب: بان تكون الشمس في درجة مقابلة للدرجة التي فيها القمر مع تقاطع فلكيهما فيقول السائل: لم كان ذلك؟ فيقول المجيب حينئذ: هيئة الفلك وانتقال الشمس وقطعها [83و] وانتقال القمر ومدة قطعه (1) وما يتم من هذا المعنى وهذا القول في كل مسئول عنه من كل علم. واعلم انه لا يجوز ان يقدم مؤخر من هذه المراتب الأربع (2) على مارتبنا قبله لأنه كلام على غير معهود. واعلم ان المسئول بما وبكيف وبلم في الجواب يجيب بما امكنه مما لا يخرج به عن مقتضى السائل الا ان اللازم في السؤال [بما] ان يخبر السائل بحد الشيء المسئول عنه أو رسمه واذا بكيف: هو ان يجيب باحوال الشيء العامة ولغيره أو الخاصة الشائعة أو ما يخصه به من غيره ان كان المسئول عنه شخطا. وان كان سئل بلم ان يجيب بالعلة الموجبة لكون ما أخبر بكونه ويرسم العلة برسمها الذي لا يشاركها فيه غيرها. وينبغي ان تكون العلة لازمة لما يستدل بها عليه كالقتل فانه علة الموت القتلي إذ لا يجوز ان يكون قتل ولا يكون موت والموت معلول للقتل ولكن ليس كل موت معلولا للقتل إذ يكون موت بلا قتل وكذلك أيضا ليس الموت علة للقتل. والحد مأخوذ من صفة الشيء الذي هو صفة عنصره ومأخوذ من تمامه أيضاً كقولك إذا سئلت عن حد الطب ان تقول: صناعة، فهذا عنصر الطب، ثم تقول: مبرثة لأبد ان الناس وبهذا يتم [حد] الطب ويكون طبا. واذا سئلت عن المرض ان تقول: ضعف يكون في الجسم بتعادي اخلاطه وخروجها عن الاعتدال فالضعف عنصر المرض وتعادي الاخلاط تمامه وبه يسمى مرضا. وكذلك قولك في حد المتنفس: انه   (1) وانتقال القمر ومدة قطعه: مكررة في ص. (2) الأربع: الأربعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 حيوان يجذب الهواء والماء بآلة طبيعية ويخرجه بها. وينبغي ان يكون الحد والرسم في كل ما ذكرنا وفي كل ما يسأل عنه فتجيب بما يدل على محدوده ومرسومه كقولك: كل خط اما مستقيم واما معوج وكل ما هو اما مستقيم واما معوج خط، وكل جسم طويل عريض عميق وكل طويل عريض عميق جسم فهذا واجب لكل ما وصفته في كل زمان وكل مكان وعلى كل حال. فإذا اردت ان تحقق فليكن ذلك بلفظ الايجاب ومعناه فانك إذا قلت حار أو قلت بارد فقد أثبت معنى واجبا، واذا اردت ان تنفي فليكن ذلك لفظ النفي ومعناه فانك إذا قلت لا حار فلم تثبت معنى أصلاً بوجه من الوجوه وكذلك إذا قلت لا جسم لا عرض وقد يكون غير الحار باردا وقد يكون معتدلا وقد يكون طبيعة علوية لا يدخل فيها شيء من هذه الصفات. واذا اردت ان تقسم فينبغي لك [83 ظ] التحفظ من مثل هذا بان لا تدع قسما الا حققته إما بحرف النفي فتكفى المؤونة أو بتفتيش الاقسام كلها قسما قسما والنظر هل فيها فاسد أو زائد (1) أو نفي محتمل، ومن ما ذكرنا في شروط وضع حرف النفي في موضعه، واهتم (2) بالاسماء للمسميات والكلية والجزئية وبالموصوف والصفة والكيفية والكمية والزمان وسائر الشروط فانك ان نظرت نظرا صحيحا ام تخف عليك الحقائق ولا تجاوزت عليك المخارق، وملاك ذلك عون الله عز وجل اياك وتوفيقه لك. وكمال العلم ليس الا لخالق العلم والعلوم، لا إله إلا هو. 18ب - اب الكلام في رتبة الجدال وكيفية المناظرة الموجبتين إلى معرفة الحقائق من حكم الجدال ان لا يكون الاثنان (3) طالبي حقيقة ومريدي بيان اما ان يكون احدهما على يقين من امره ببرهان قاطع لا بايهام نفسه ولا بأمر اقنعها به ويكون الآخر متوهما انه على حق مثبتا لنفسه ما لم يحصل له وكالعامه في   (1) فاسد أو زائد: فاسدا أو زائدا. (2) واهتم: غير واضحة في ص. (3) الاثنان: الاثنين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 الظلمة خادعا لنفسه مغالطا لعقله أو مغرورا كالحلم لا يدري انه نائم حتى ينتبه. فهذا الذي انه على يقين من أمره ببرهان قاطع يريد ان يوصل إلى مناظره من الحقيقة مثل ما عنده منها ويحاول ان يحل شك هذا الغالط المخالف له أو المغالط ويفصح بسره في المغالطة ويدفع شره. أو يكون احدهما موقنا كما قدمناه، والثاني لم يقف على بيان الحقيقة فهو بيان الحقيقة فهو يطلب الحقيقة والوقوف عليها. فإذا اتفق ان يكون المتناظران هكذا فتلك مناظرة فاضلة حميدة العاقبة يوشك ان تنحل عن خير مضمون أو آخر موفور وهي التي امر الله تعالى بها إذ يقول: {وجادلهم بالتي هي احسن} (125 النحل: 16) واذ يقول تعالى {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة} (125 النحل: 16) واذ يقول تعالى: {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} (111 البقرة 2 - 64 النمل: 19) ولم يذم قط هذه المناظرة الا سخيف جاهل مذموم الطبع مفسد على الناس قد جعل هذا النفار ستارة دون جهله فلم يقنع بان حرم نفسه الخير حتى سعى في ان يحرمه سواه. وأما إذا كان المتناظران معا غالطين أو كان احدهما جاهلا [84 و] طالبا والثاني غالطا أو مغالطا فتلك مناظرة يكثر فيها الشغب ويعظم النصب ويكثر الصخب ويشتد الغضب ويوشك ان تشتد مضرتها واما المنفعة فلا منفعة؛ وربما كان الجاهل فيها مسارعا إلى قبول ما قرع سمعه دون برهان صحيح فيهلك باعتقاد الباطل وقبوله. واما ان كان عاقلا موقنا فالمضمون له انتقاض البنية بالأسف والغيظ الا انه محمود في نصرة الحق مأجور بذلك ولعله ان ينفع سامعا منه. وملاك ذلك ان لا ينطق بينهما ثالث بكلمة الا ان يرى حيفا ظاهرا فيشهد به والا يقطع احدهما كلام صاحبه حتى يتمه وان لا يطول الكلام منهما لا فائدة فيه وان يفضيا إلى الاختصار الذي لا يقصر عن البيان الموعب. فان اخطأ احدهما واراد الاقالة فذلك له وواجب على الآخر أن يقيله لان المرء ليس قوله جزءا منه لكنه واجب عليه ترك الخطأ إذا عرف انه خطأ فالمانع من الاقالة ظالم مشغب جاهل. وكذلك ان رأى حجته فاسدة فاراد تركها واخذ غيرها فذلك له وهو محسن في ذلك وليس في ذلك انقطاع (1) في القول المناظر عنه؛   (1) انقطاع: انقطاعا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 والمانع من ذلك جاهل ضيق الباع ن العلم متغفل لخصمه وذلك قبيح جدا. فان تنازعا الكلام أو تنازعا التكلم مثل ان يقول كل واحد منهما: انا اسأل أو يقول كل واحد منهما للآخر: انت السائل فهذا عجز من كليهما وقلة ثقة، اما بالقوة على نصر القول الذي يريد بيانه واما بصحة القول بنفسه؛ فان كان من قلة ثقة بقوة نصره فليتسع في العلم ولا يتعرض للمناظرة حتى يقوى وهو كالجبان لا يحضر القتال فيوهن طائفته؛ فان كان من قلة ثقته بصحة القول فهذا ملوم جدا في الاقامة على قول لا يثق بصحته وواجب عليهما بالجملة الاتفاق على أمر يفتتحان به الكلام. واما نحن فطريقنا في ذلك تخيير الخصم ان يكون سائلا أو مسئولا فايهما تخير اجبناه، فان رد الخيار الينا اخترنا بأن يكون هو السائل لان هذا العمل هو اكثر قصد الضعفاء وعمدة مرغوبهم وهم يضعفون إذا سئلوا، فنختار حسم أعذارهم وتوفيتهم اقصى مطالبهم التي يظنون انهم فيها اقوى ليكون ذلك اقوى في قطع معالقهم. ثم انه ان بدا له في ذلك واختار ان يسأل أجبناه إلى ذلك أيضاً، إلا اننا لا نقضى بذلك على غيرنا لأنه ليس واجبا فمن تخير ان يكون سائلا واذن له خصمه من ذلك فله ان يسأل وليس ان يتحكم فيترك ذلك [84 ظ] وينتقل إلى ان يكون مسؤولا؛ فان فعل فهذا عجز وخرق في حكم المناظرة ونحن نختار للفاضل ان لا يضايق في ذلك رغبة منا في اظهار الحق، وقلة سرور بالغلبة. وهكذا يجب لكل من اتبع طريقنا. ومن اذن لخصمه في ان يكون السائل فواجب عليه في حكم المناظرة ان يجيب فان لم يفعل فعن ظلم أو جهل الا ان يكون هناك امير مخوف يمنع من البوح بالجواب فلسنا نتكلم مع المخاوف، وإنما المناظرة مع الامن، الا من بذل نفسه لله تعالى وعرف ما يطلب وما يبذل من ذلك فله الفوز ان اراد نصر الاسلام أو الحق فيما اختلف فيه المسلمون فقط. ولا ارى ان ينزل المسلم العاقل عن نفسه، فلا شيء موجود في وقته من الخالق اعز عليه منها ولا أوجب حرمة الا فيما فيه فوزها الابدي فقط، فالعاقل لا يرى لنفسه ثمنا الا الجنة. ومن سأل فأجابه خصمه فسكت عن المعرضة فهذا مكان قد انقطعت فيه المناظرة التي ابتدآها الا ان تستأنف أخرى، اللهم الامن خوف كما قدمنا، الا ان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 يكون المجيب يأتي بما لا يعقل أو بقحة (1) أو مباهتة أو بما هو من غير ما سئل عنه، جهلا أو مكابرة، فمن هذه صفته فسكوت الخصم عن معارضته جواب، الا باخبار بأن الذي اتى به ليس مما هما فيه ويبين الدليل على ذلك فقط، إلا ما كان من ذلك لا يحتاج إلى دليل لوضوحه واستواء السامعين في علمه. والفلج (2) في المناظرة هو ظهور البرهان الحقيقي فقط وليس انقطاع الخصم فلجا (3) ، فقد ينقطع جهلا أو خوفا أو لشغل بال طرقه، وكل ذلك ليس قطعا للحق ان كان بيده. وليست شهادة الحاضرين بالغلبة لاحدهما شيئا إذ قد يكونون موافقين في رأيهم لرأيه الذي شهدوا له فسبيلهم وسبيله واحد، والانصاف في الناس قليل. وقد يكونون غير محصلين ما يقولون ولا فهماء بما يسمعون وهذا كثير جدا. واما من انقطع عن معارضة خصمه عجزا عن الجواب لا لخوف مانع فهو المغلوب لا قوله، وان كان ذلك عن حقيقة برهان فهو مغلوب وقوله معا، ولا يضر ماصح من البرهان عجز معتقده عن نصره، ولا يقوى ما لم يصح ببرهان لتمويه من مموه في نصره بالسفطة. والبرهان لا يتعارض أبدا فما صح ببرهان فلا يبطله برهان آخر ابدا الا ان يكون مما يستحيل، كبرهان صح بحياة زيد امس ثم صح اخر بموته اليوم. وهكذا كل ما يمكن تنقله لا ينتقل بشيء مما ذكرنا مما صح [85 و] ببرهان الا برهان آخر، والا فحكم البرهان الأول باق (4) . ولا ينتقل الشيء عن الامكان إلى الوجوب الا ببرهان، ولا ينتقل بعد الوجوب إلى الامكان الا ببرهان، والمعاندة والمكابرة عار واثم وسخف. واعلم ان السائل إذا قال لخصمه: ما قولك في كذا؟ فالجواب مفوض إلى المسئول يجيب بما يشاء. واما إذا قال له: امر كذا احق هو؟ فلا بد بان يجيب اما بنعم أو لا، كسائل سأل فقال: ما تقول في الارض كريه ام لا فلا بد له من نعم أو لا. ما تقول في الخمر أحلال ام لا فكذلك أيضاً أو قال له هل الخلاء موجود أو لا فلا بد من نعم أو لا. وكذلك إذا سأل السائل   (1) بقحة: نفحة. (2) والفلج: والفلح. (3) فلجا: فلحا. (4) باق: باقي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 بتقسيم فقال: ما قولك في كذا وكذا: أكذا أو كذا، مثل قوله: ما تقول في الورد أبارد ام حار ام معتدل؟ وما تقول في كسب الحجام امستحب ام حرام ام مكروه؟ فان كانت الاقسام مستوفاة فلا بد للمسئول من التزام احد تلك الاقسام فان لم يفعل فهو منقطع بالحقيقة، وان كانت غير مستوفاة فالسائل جاهل أو معاند، فان ظهر انقطاع الخصم فالمتقدمون: ليس على السائل بيان الحقيقة، واما نحن فنقول: إن ذلك عليه ومن أبطل حكما ما فعليه أن يبين قوله، فاما ان يدخل في مثل ما أبطل واما أن يجلى الحيرة. وبيان الحقائق فرض وقد اخذ الله تعالى ميثاق العلماء ان يبنوا ما علموه ولا يكتمونه. واذا استوفى الخصم الاقسام وزاد فيها قسما فاسدا فليس للآخر ان يدع ما هما فيه ويأخذ في الاحتجاج في بيان القسم الزائد الذي زاد لكن يقول له: زدت قسما فاسدا وهو كذا، وإنما ذكرته لك لئلا تور علي فيكون سكوتي عنه عند من لا ينصف مثل اقراري به ولكني استضر بذلك والتزم الاقسام التي ذكرت قسما كذا، وهو الصحيح. واعلم ان ترك ما هو فيه مع خصمه من المناظرة وخرج إلى مسألة اخرى فجاهل مشغب مقنع (1) كمثل ما شاهدناه كثيرا ممن ترك ما هما بسبيله وجعل يتبع لحن صاحبه في كلامه، ولسنا نقول هذا نصرا للحن وتركا للاشغال بغير ما شرعا فيه وليس للخصم اكثر من ان يعبر عن مراده بما يفهم به خصمه ولا مزيد باي لفظ كان وبأي لغة كان الا اننا نختار الاختصار ولكن نصرا للحق الجامع [85 ظ] لكثير المعان من قليل الألفاظ وسبطها وسهلها وفضيحها لمن قدر على ذلك، والا لا لوم عليه الا في مكان واحد، وهو ان يسأله السائل والمسئول يدري ان السائل يقول بقول يعود به إلى التزام الخصم أو إلى التناقض فجوابه ها هنا بان يقول له: ما تقول انت في كذا أي فاني اقول بقولك فان قال له الذي عورض بهذا: لست اقول ما تظن ولا اقول شيئا ولا أنصر طامعا جوابا وإنما انا طالب برهان ولا عليك من خطأي أنا فانصر قولك أو اقر بالخطأ، فواجب حينئذ ان لا يعارضه بسؤال أصلاً لكن ببرهان يبين به صحة قوله فقط.   (1) مقنع: يستعمل ابن حزم احيانا " الاقناع " بمعنى التشغيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 وقد يكون الخصم يسامح خصمه في ان يريه الاقرار بفساد قوله ثم يقول له: فدع قولي وهات قولك وبين وجه الصواب. وهذا الفعل خطأ من وجهين: احدهما ان يكون صادقا في اقراره ببطلان قوله ورجوعه عنه وطلبه معرفة الحق فهذا فضل عظيم وفاعله محمودا جدا. والثاني ان يكون قد علم ان خصمه يأتي بمثل ذلك فيريد ان يلزمه مثل ما ألزمه هو ليكف من نفسه شغبه وهذا انصاف. ومثال ذلك ان يقول احد الخصمين: الجدال مكروه فيقول الآخر: فإذا هو مكروه فبأي شيء يوصل عندك إلى معرفة الحق مما اختلف فيه من هو عندك رضا من اهل ملتك؟ هات [ما] عندك ودع الجدال الآن جانبا. وهذا برجع إلى ما قلناه قبل من وجوه اقسام تبطل كلها الا واحدا فيصح ذلك الواحد فان الخصم حينئذ لا بد له من ان يذكر التقليد أو الايهام أو ترك طلب الحق. وكل هذه الوجوه باطل فاسد فإذا بطلت صح الجدال. فهذا الذي قلنا حصر للخصم إلى هذا الوجه من وجوه البرهان فيراجع الحق أو ينقطع اما بسكوت أو بهتان يأتي به. وقد ذكرنا في باب اقسام المعارف ما يعارض به الخصم الجاهل من اشياء يعدها الجهال (1) حجة وليس حجة أصلاً فواجب ان يكف ضرر جهلهم بها على كل حال. واعلم ان من الخطأ معارضة الخطأ بالخطأ في المناظرة مثل ان يقول السائل للمسئول. انت تقول كذا لأولم تقول كذا فيقول المجيب: وانت تقول أيضاً كذا أو لأنك انت أيضا تقول كذا، فيأتيه بمثل ما أنكر هو عليه أو أشنع، فهذا كله خطأ فاحش وعار عظيم واقتداء بالخطأ اللهم الا في [86 و] مكانين: احدهما ان يكون القول الذي اعترض به المجيب قولا صحيحا ينتج ما يقول هو فهذا وجه فاضل وقطع للسائل. وذلك كمعتزلي قال الآخر: لم قلت ان الله تعالى خالق الشر؟ فقال لأنك تقول معي ان تعالى خلق جميع العالم من جواهره وأعراضه، والشر عرض، فالله تعالى خالق الشر. فهذه معارضة صحيحة الا ان ظاهر لفظها غير محكم لأنه في الظاهر إنما جعل علة قوله ما يقول قول خصمه بما يقول، فلزمه انه لولا قول خصمه بذلك لم يقل هو بما قال. وهذا خطأ وإنما الصواب ان يقول:   (1) الجهال: الجاهل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 لقيام البرهان على ان الله تعالى خالق الجوهر والعرض ثم يمضي في مسألته. والوجه الثاني هو ان يكون السائل مشغبا يقصد التشنيع والاغراء والتوبيخ ولا يقصد طلب حقيقة فهذا واجب ان يكسر فربه ويردع عيبه بمثل هذا فقط ولا يناظر باكثر من ذلك إذ الغرض كف فقط ولا يكف ضرره بمناظرة صحيحة أصلا فلا شيء أكف لضرره مما ذكرنا. واعلم انه لا يجوز ان يصحح الشيء بنفسه البتة وجائز ان يبطل بنفسه، ولا تظن ان الاوائل التي منها يؤخذ البرهان صححت بأنفسها فتخطئ بل تلك اشياء قد ذكرنا ان الخلقة صححتها وانه لم يخل ذو الفهم قط من معرفة صحتها. ولا تظن أيضا ان إبطال الشيء بنفسه تصحيح له فتخطئ ولم يبطل بنفسه من اجل انه صحح ابطاله به فكان حينئذ يكون مصححا مبطلا وذلك محال، لكن لما ابطل بنفسه أيقنا انه باطل لأن الحق الصحيح لا يبطل أصلاً ولأنه نقض حكمه فكل ما انتقض فباطل. وليس قول من قال مبطلا للنظر: ان النظر لا يصح الا بالنظر، قولا صحيحا، لأن النظر الذي به تصح الاشياء هو ردها إلى المقدمات الأوائل التي قضى الطبع بصحتها فما رجعت إليها فشهدت له فهو صحيح وما لم يرجع إليها فهو فاسد، فهذا هو النظر الذي به تصح الاشياء لأن النظر إنما يصح بنظر آخر. واذا انقطع الحكم فقد انقطعت المناظرة فلهما حينئذ ان يبتدئا سؤالا ثانيا. وللمنقطع حينئذ ان يقول: انا اسألك سؤالا يتصل بمسألتنا والزمك انك قائل كقولي الذي انكرت علي. وليس للآخر أن يمتنع من ذلك فان امتنع فهذا متسلل ضعيف فان وفى الآخر بشرط فكلاهما ملوم ان لم يرجعا إلى الحق إذا عجز المسئول عن التفريق بين القولين، وكما نلوم من ظهر إليه برهان فتمادى على الباطل ولم يرجع [86 ظ] إلى موجب البرهان، فكذلك نلوم من سارع إلى القبول لما سمع بلا برهان، وكما نحمد من رجع إلى موجب البرهان فكذلك نحمد من ثبت على موجبه ولم يرجع لاقناع سمعه أو سفسطة؛ فان عجز عن كسرهما فحصل لمتناظرين (1) هذه المقدمات حمد من لم يعتقد الا ما اوجبه البرهان فقط.   (1) لمتناظرين: لناظرين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 والتكثير من الادلة قوة وليس عجزا الا جاهل منقطع. وحقق كل ما تسمعه من خصمك ولا تغفله وأقله ان أخطأ ولا تدع مشكلا الا وقفته عليه فإذا استقر سليما من النقص والاشكال فأجب حينئذ. وكل ما تطالب خصمك بذلك فالتزم له مثله سواء سواء. وبين سؤالك سليما عن النقص والاشكال. واياك وادخال ما ليس من المناظرة فهذا من فعل اهل الجنون أو من يريد ان يطيل الكلام حتى ينسي آخره اوله لينسى غلطه وسقطه. وتأمل مقدماته ومقدماتك وعكسك وعكسه ونتائجه ونتائجك فلا ترض لنفسك من خصمك الا بالحق الواضح. واعلم انه ليس على المرء اكثر من نصر الحق وتبيينه ثم ليس عليه ان يصور للحواس أو في النفوس مالا سبيل إلى تصويره ولا مالا صورة له أصلاً كمن اثبت ان الواحد الأول لا جوهر ولا عرض ولا جسم ولا في زمان ولا في مكان ولا حاملا ولا محمولا فاراد الخصم منه ان يشكل له ذلك فهذا لا يلزم؛ وهذا كأعمى كلف بصيرا ان يصور له الالوان فهذا ما لا سبيل إليه، وهذا تكليف فاسد لا تنقص في العجز عنه على التكليف. واما ما دام ذلك ممكنا فواجب على المكلف بيانه بأقصى ما يقدر عليه. ولقد اخبرني مؤدبي أحمد بن محمد بن عبد الوارث رحمه الله أن أباه صور لمولود كان له أعمى ولد أكمه حروف الهجاء أجراما من قير ثم ألمسه اياها حتى وقف على صورها بعقلة وحسه، ثم ألمسه تراكبها وقيام الاشياء منها حتى تشكل الخط وكيف يستبان الكتاب ويقرأ في نفسه ورفع بذلك عنه غصة عظيمة. واما الالوان فلا سبيل إلى ذلك فيها وليس الا بما قام به البرهان وان لم يتشكل في النفس أصلاً. ولقد امتحنت مرة ببعض اصدقائنا فانه سامنا ان نريه العرض منخولا عن الجوهر قائما بنفسه، وقال لي ان لم ترني ذلك فاني لا اصدق بالعرض. فلست احصي كم مثلث له تربيع ثم تدويره وذهاب [87 و] التربيع وبقاء الطين بحسبه، وحركات المرء من قيامه وقعوده وحمرة الثوب بعد بياضه، فأبى كل ذلك إلا ان أريه العرض مزالا عن الجوهر باقيا بحسبه يراه في غير جوهر، فلا أحصي كم قلت له: إن العرض لو قام بنفسه وكان كما تريد مني لم يكن عرضا وإنما هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 عرض لأنه بخلاف ما تريد، فلج (1) فعدت إلى ان قلت له مهازلا: لو امكنك اخراجي عن كرة العالم فربما كان يمكن حينئذ لو امكن انخزال العرض عن الجوهر ولا سبيل إلى كل ذلك أن تراه في غير جوهر؛ فأما العالم كله كرة مصمتة وجوهرة متصلة متجاوزة الاجزاء لا تخلخل فيها ولا خلل (2) ، فحتى لو انفصل العرض من جوهر ما وجاز ان يبقى بعد انفصاله عنه لما صار الا في جوهر آخر. فما ردعه هذا الهزء عما هجس في نفسه وفارقته آبيا فما ادري أوفق بعدي لرفض هذا المراد الهائج ام لا. فليس مثل هذا التكليف الفاسد وكون المرء لا تشكل له الحقائق بقادح في البرهان ولا بملتفت إليه. وكفى من ذلك وحسبنا قيام صحة ذلك في النفس بدلالة العقل على أنه حق فقط ولو جاز لكل من لا يتشكل في نفسه شيء ان ينكره لجاز للاخشم أن ينكر الروائح والذي ولد أعمى أن ينكر الألوان ولنا ان ننكر الفيل والزرافة وكل هذا باطل. وإنما يجب على العاقل أن يثبت ما أثبت البرهان ويبطل ما أبطل البرهان ويقف فيما لم يثبته ولا أبطله برهان حتى يلوح له الحق. وكذلك ليس علينا قسر الالسنة إلى الاقرار بالحق لكن علينا قسر النفوس إلى الاقرار به وقطع الالسنة عن المعارضة الصحيحة لعدم وجودها، إذ لا يتعارض البرهان واذا أقمناه فقد أمنا أن يقيمه خصمنا وكذلك أيضاً ان قصر مقصر عن اقامة البرهان على حق يعتقده فذلك لا يضر الحق شيئا. ولا يفرح بهذا من خصمه الا الذي يفرح بالاماني وهو الاحمق المضروب به المثل. ولا تقنع بغفلة خصمك في كل ما يمكن ان يصح قوله فان وجدت حقا ببرهان فارجع إليه ولا تتردد ولا ترض لنفسك ببقاء ساعة آبيا من قبول الحق. وأن وجدت تمويها فبينه ولا تغتر بذهاب خصمك عنه فلعل غيره من أهل مقالته يتفطن لما غاب عنه. هذا ولا تقنع الا بحقيقة الظفر ولا تبال أن قيل عنك انك مبطل فلك فيمن نسب إليه ذلك من المحققين أكرم اسوة من الانبياء عليهم السلام ومن دونهم. نعم حتى إن كثيرا منهم قتل دفعا [87 ظ] لحقه ونسبا للباطل إليه. ولا تستوحش مع الحق إلى احد فمن كان معه الحق فالخالق تعالى معه. ولا تبال بكثرة خصومك ولا بقدم أزمانهم ولا   (1) فلج: فلح. (2) خلل: حلل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 بتعظيم الناس إياهم ولا بعدتهم فالحق اكثر منهم واقدم واعز عند كل أحد واولى بالتعظيم. واذا شئت ان تتيقن فساد مراعاة ما ذكرنا فتأمل اهل كل ملة وكل أمة فانك تجحدهم مطبقين على أسلافهم وصفتهم بكل فضيلة وبكل خير وذم أسلاف من خالفهم. وتأمل كل قول يقال فقد كان القائلون به في أول أمره قليلا، واكثر ذلك يرجع إلى واحد ثم كثر أتباعه. وفتش كل قول قديم تجده قد كان ابن ساعة بعد أن لم يكن، ثم مرت عليه الايام والشهور والسنون والدهور. واعلم ان مراعاة هذه الأمور من ضعف العقل أو قلة العلم ولا تبال أيضا وان كانوا فضلاء على الحقيقة فقد يخطئ الفاضل ما لم يكن معصوما. ولو ان ذلك الفاضل لاح له ما لاح لك لرجع اليك ولو لم يفعل لكان غير فاضل. واخبرك بحكاية لولا رجاؤها في ان يسهل بها الانصاف عن من لعله ينافر ما ذكرناها وهي أني ناظرت رجلا من اصحابنا في مسألة فعلوته فيها لبكوء كان في لسانه وانتفض المجلس على اني ظاهر، فلما اتيت منزلي حاك في نفسي منها شيء فتطلبتها بعض الكتب فوجدت برهانا صحيحا يبين بطلان قولي وصحة قول خصمي، وكان معي احد اصحابنا ممن شهد ذلك المجلس فعرفته بذلك ثم اني قد علمت على المكان من الكتاب فقال لي ما تريد؟ حمل هذا الكتاب وعرضه على فلان واعلامه بأنه المحقق واني المبطل وأني راجع (1) إلى قوله. فهجم عليه من ذلك أمر مبهت وقال لي: وتسمح نفسك بهذا؟! فقلت له نعم، ولو أمكنني ذلك في وقتي هذا ما أخرته إلى غد. واعلم أن هذا الفعل يكسبك اجمل الذكر مع تحليك بالانصاف الذي لا شيء يعدله. ولا يكن غرضك ان توهم نفسك أنك غالب أو توهم من حضرك ممن يغتر بك ويثق بحكمك انك غالب وانت بالحقيقة مغلوب، فتكون، فتكون خسيسا وضيعا جدا وسخيفا البتة وساقط الهمة بمنزلة من يوهم نفسه انه ملك مطاع وهو شقي منحوس، أو في نصاب من يقال له انك ابيض مليح وهو أسود مشوه فيحصل مسخرة ومهزأة عند اهل العقول الذين قضاؤهم هو الحق.   (1) راجع: راجعا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 واعلم ان من رضي بهذا فهو مغرور (1) سبيله سبيل صاحب الأماني وإنها بضائع النوكى؛ والمغرى بها يلتذ فيها [88و] حتى إذا ثاب إليه عقله ونظر في حاله علم انه في أضاليل وانه ليس في يده شيء. واياك والالتفات إلى من يتبجح بقدرته في الجدل فيبلغ به الجهل إلى ان يقول: إني قادر على ان اجعل الحق باطلا والباطل حقا فلا تصدق مثل هؤلاء الكذابين فانهم سفلة أرذال أهل كذب وشر ومخرقة. واعلم انه سبيل إلى ذلك لأحد ولا هو في قوة مخلوق أصلاً والتمويهات كلها قد بينتها لك وهي مضمحلة إذا حصلت وفتشت لم توجد الا دعاو وحماقات. ومن فاحش ما يعرض في هذه السبيل يلوح البرهان للمرء فيحدوه الالف بما قد ألفه من المذاهب إلى أن يقول: لا بد ها هنا حجة برهان تعارض هذا البرهان وان خفيت عني. واعلم ان هذا مغرور شقي جدا لأنه غلب ظنه على يقينه وصدق ما لم يصح عنده وكذب ما صح عنده واثبت ما لعله ان لا يكون وترك حاصلا قد كان؛ وهذا غاية الخذلان ومثله من ترك برهانا قد صح عنده لتمويه لم يتدبره فحمله التهور على اعتقاده. وبالجملة فالجهل لا خير فيه والعلم إذا لم يستعمله صاحبه فهو اسوأ من الجاهل، وعلمه حجة زائدة عليه. واياك وتقليد الآباء فقد ذم الله عز وجل ذلك ولو كان محمودا لعذر من وجد آباءه زناة أو سراقا أو على بعض الخلال التي هي اخبث مما ذكرنا ان يقتدي بهم. واياك والاغترار بكثرة صواب الواحد فتقبل له قولة واحدة بلا برهان، فقد نخطر في خلال صوابه بما هو أبين واوضح من كثير مما اصاب فيه. واقنع من خصمك بالجد على أن ينصر قوله ولا تطالبه بالاقرار بالغلبة فليس ذلك من فعال أهل القوة. وهذا باب لا ينتج الا العداوة وان يوصف بلؤم الظفر ولتكن رغبتك في ان تكون محقا عالما في الحقيقة، وان سميت مبطلا جاهلا أحمق مغلوبا، اكثر من رغبتك في ان تسمى محقا عالما عاقلا غالبا وانت في الحقيقة مبطل جاهل مغلوب؛ بل لا ترغب في هذا أصلا واكرهه جدا ولك فيمن وصفه الجهال بذلك قبلك من المرسلين عليهم السلام والأفاضل   (1) مغرور: معذور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 المتقدمون افضل اسوة واكرم قدوة، وكذلك أن توصف بالفستق وانت فاضل خير من ان توصف بالفضل وانت فاسق. وتحفظ من الخروج من مسألة إلى مسألة قبل تمام الاولى وبيانها (1) فهذا من فعال اهل الجهل. واحذر مكالمة من ليس مذهبه الا [88 ظ] المضادة والمخالفة أو الصياح والمغالبة، فلا تتعن به ولو أمكنك صرفه عن ضلالة بالوعظ لكان حسنا، فان لم يكن فبالزجر والقدع (2) فان كان ممتنع الجانب فليجنب كما يجتنب المجنون فأذاه اكثر من أذى المجانين. وتحفظ من الكلام بحيث يتعصب عليك ظلما وتحفظ من أن تجيب نفسك عن خصمك مثل ان تقول له: إن قلت كذا ألزمك كذا فلعله لا يقول ذلك فتخزى، إلا أن يكون مؤلفا، فلا بد لك من إنصاف خصمك وتقصى حججه والا كنت ظالما. وتحفظ ان تقول خصمك ما لم يقل فتكذب. وتحفظ من ان تجيب من لم يسألك فتحصل على الخزي؛ واقل ذلك ان يعرض عنك فكيف إن قال لك: لم اسألك. ولا تتكلم على لسان مناظر غيرك حق يدع الكلام ويبيح لك مناظره ان تكلمه، فأقل ما في هذا يقول لك: انا غني عن نصرك، ويقول له خصمه: انا اقويك به مباركا لك فيه فتخزى جدا. واياك والكلام في علم من العلوم حتى تتبحر فيه إلا على سبيل الاستفهام والتزيد الا ما احسنت منه فقط. واعترف لمن هو أعلم منك فهذا زين لك ولا تبخسه حقه فان تنقصك اياه (3) [ليس نقصا له] بل هو نقص فيك. واياك والامتداح بما تحسن واترك ذلك فهو من غيرك فيك أحسن. ولا تحقر احدا حتى تعرف ما عنده فربما فجأك منه ما لم احتسب، وليس ذلك الامن فعل اهل النوك الذين لا يحصلون. واحذر كل من لا ينصف وكل من لا يفهم، ولا تكلم الا من ترجو انصافه وفهمه، وانفق الزمان الذي يمضي ضياعا في مكالمة من لا يفهم ولا ينصف فيما هو أعود عليك تعش غانما سالما من المغالط   (1) وبيانها: وبيانه. (2) والقدع: والقذع. (3) فان تنقصك اياه: فان تنقصه نقصك اياه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 وهذان حظان جليلان جدا. واجعل بدل كلامك حمد الله عز وجل على السلامة من مثل حاله ولا تتكلم الا في ابانة حق واستبانته. واعلم انه انه لا يقدر أحد على هذه الشروط الا بخصلة واحدة وهي ان يروض نفسه على قلة المبالاة بمدح الناس له أو ذمهم إياه ولكن يجعل وكده طلب الحق لنفسه فقط. وقد ذكرت الاوائل في صفة المنقطع وجوها نذكرها وهي: منها أن يقصد إبطال الحق أو التشكك فيه ومن هذا النوع ان يحيل في جواب ما يسأل عنه على انه ممتنع غير ممكن. والثاني ان يستعمل البهت والرقاعة والمجاهرة بالباطل ولا يبالي بتناقض قوله ولا بفساد ما ذهب إليه ومن ذلك ان يحكم بحكم ثم ينقضه. والثالث الانتقال من قول وسؤال إلى [89 و] سؤال على سبيل التخليط لا على سبيل الترك والابانة. والرابع ان يستعمل كلاما مستغلقا يظن العاقل انه مملوء حكمة وهو مملوء هذرا. ومن أقرب ما حضرني ذكره حين كتابي هذا الشأن من كتب الناس فكتاب ابي الفرج القاضي المسمى " باللمع " فانه مملوء كلاما معقدا مغلقا لا معنى له الا التناقض والبناء والهدم لما بنى. وفي زماننا من سلك هذه الطريق في كلامه فلعمري لقد أوهم خلقا كثيرا انه ينطق بالحكمة واعمري ان اكثر كلامه ما يفهمه هو فكيف غيره. والخامس ان يحرج خصمه ويلجئه إلى تكرار بلا زيادة فائدة لأنه يرجع إلى الموضوع الذي طرد عنه ويلوذ حواليه ولا تقوى ولا مزيدا اكثر من وصف قوله بلا حجة. والسادس الايهام بالتضاحك والصياح والمحاكاة والتطييب (1) والاستجهال والجفاء وربما بالسب والتكفير واللعن والسفه والقذف بالامهات والآباء وبالحري إن لم يكن لطام وركاض. واكثر هذه المعاني ليست تكاد تجد في اكثر اهل زماننا غيرها. والله المستعان. والناس في كلامهم الذين فضلوا به على البهائم والذي لولاه كانوا من اشباه الحمير والبقر، على ثلاثة أصناف: فصنف لا يبالي فيما صرف كلامه مبادرا إلى الانكار أو التصديق أو المكابرة أو المكابرة دون تحقيق فان سألته إثر انقضاء كلامه عن   (1) التطييب: التطبيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 القول الذي نصر دون تحقيق لم يدر ولا عرف من نصر ولا قوله، وهذا هو الأغلب في الناس، وتجد من هذه صفته يضن على أخيه وجاره بزبل منتن عند رجل حماره يبذله لمن ينتفع به وهو أسمح الناس بالنطق الذي بان به عن التيوس والكلاب في غير اجر ولا بر لكن في الباطل والوزر والافساد وان لم يحصل من ذلك ظاهرا الا على تحسن انابيب صدره وتصديع رأسه واحتدام طبعه وان سفه وسفه عليه. وصنف آخر ينصر ما عقد عليه بنيته واعتقده بغير برهان فلا يبالي بما نصره من حق أو باطل أو محال أو مكابرة أو أذى، وكذلك لا تجده اعتقد ما اعتقد إلا إلفا أو تقليدا أو شهوة، دون تحري حق ولا مجانبة باطل، وهؤلاء كثير وهم دون الأولين. وصنف ثالث لا يقصدون الا إلى نصر الحق وقمع الباطل وهؤلاء قليل جدا ولا أعلم في الموجودات شيئا أقل [89ظ] منه البتة، نسأل الله تعالى ان يثبتنا في عددهم ولا يخلينا عن هذه الصفة الكريمة بمنه آمين، فان العاقل ينبغي له أن يبغض نفقة حياته ونطقه اللذين بهما أبانه خالقه عن الجمادات وسائر الحيوانات في غير ما ينتفع بع لمعاده أثر مما يبغض انفاق ماله الذي هو غاد عنه ورائع. واعلم ان ماذكرنا من الوقوف على الحقائق لا يكون الا بشدة البحث، وشدة البحث لا تكون الا بكثرة المطالعة لجميع الآراء والاقوال والنظر في طبائع الاشياء وسماع حجة كل محتج والنظر فيها والتفتيش، والاشراف على الديانات والنحل والمذاهب والاختيارات واختلاف الناس وقراءة كتبهم، فمن ذم من الجهال ما ذكرنا خالف ربه تعالى، فقد أعلمنا عز وجل في كتابه المنزل أقوال المختلفين من اهل الجحد القائلين بأن العالم لم يزل، ومن اهل الثنوية، ومن اهل التثليث والملحدين في صفة كل ذلك ليرينا تعالى تناقضهم وفسادهم أقوالهم. ثم نرجع فنقول: ولا بد لطالب الحقائق من الاطلاع على القرآن ومعانيه ورواية الفاظه وأحكامه وحديث النبي صلى الله عليه وسلم وسيره الجامعة لجميع الفضائل المحمودة في الدنيا والموصلة إلى الآخرة. ولا بد مع ذلك من مطالعة الاخبار القديمة والحديثة والاشراف على قسم البلاد ومعرفة الهيئة والوقوف على اللغة التي تقرأ الكتب المترجمة بها والتحري في وجوده المستعمل منها ولا بد له من مطالعة النحو ويكفيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 منه ما يصل به إلى اختلاف المعاني بما يقف عليه من اختلاف الحركات في الألفاظ ومواضع الاعراب منها، وهذا مجموع في كتاب " الجمل " لأبي القاسم عبد الرحمن بن [اسحاق] الزجاجي الدمشقي. واما كل ما تقدم فليستكثر منه ما امكنه ولذلك حدان: حد هو الغاية وحد هو الذي لا ينبغي ان يقتصر على اقل منه. فالحد الاكبر هو الاتخلو من النظر في العلوم التي قدمنا الا في أوقات اداء الفرائض والنظر فيما لا بدلك منه من المعاش وترك كل ما يمكن ان تستغني عنه من أمور الدنيا. واعلم ان نظرك في العلوم على نية ادراك الحقائق في انكار الباطل ونصر الحق وتعليمه للناس وهدي الجاهل ومعرفة ما تدين به خالقك عز وجل لئلا تعبده على جهل فتخطئ اكثر مما تصيب من ملة الله تعالى ونحلة الحق والمذهب المصيب في اداء ما تعبدك به تعالى [90و] ونفعك الناس في اديانهم وابدانهم وتدبير امورهم وانقاذ احكامهم وسياستهم، وتبصير من يتولى شيئا من ذلك وتعديل طبعه ونصيحته في ذلك بالحق وتفهيمه وتقبيح القبيح لديه، افضل عند الله من كل ما يتقرب به إلى الله عز وجل واعظم أجرا واعود عليك من كل ما تكسبه بعد ما لا قوام لجسمك وعينك الا به مما لعلك تتركه لمن لو شاهدت فعله فيه بعدك لغاظك، ومن كل جاه لعله لا يكسبك الا الاثم والخوف والتعب والغيظ، واعلم ان ذلك اعظم ثوابا وافضل عاقبة واكثر منفعة من صلتك الناس بالدنانير والدراهم؛ وضرر الجهل والخطأ أشد واعظم من ضرر الفقر والخمول. واعلم انك لا تورث العلو الا من يكسبك الحسنات وانت ميت، والذكر الطيب وانت رميم، ولا يذكرك الا بكل جميل. ولا تورثه بعدك ولا تصحب في حياتك في طريقه الا كل فاضل، وليست تصحب في طلب المال والجاه الا اشباه الثعالب والذئاب. واحدثك في ذلك بما نرجو ان ينتفع بع قارئه ان شاء الله تعالى، ذلك اني كنت معتقلا في يد الملقب بالمستكفي محمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله بن الناصر في مطبق وكنت لا أومن قتله لأنه كان سلطانا جائرا ظالما عاديا قليل الدين كثير الجهل غبر مأمون ولا متثبت، وكان ذنبنا عنده صحبتنا للمستظهر رضي الله عنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 وكان العيارون قد انتزوا بهذا الخاسر على المستظهر فقتله، واستولى على الامر واعتقلنا حيث ذكرنا. وكنت مفكرا في مسألة عويصة من كليات الجمل التي تقع تحتها معان عظيمة كثر فيها الشغب قديما وحديثا في احكام الديانة وهي متصرفة الفروع في جميع ابواب الفقه، فطالت فكرتي فيها أياما وليالي إلى ان لاح لي وجه البيان فيها وصح لي وحق يقينا في حكمها وانبلج، وانا في الحال الذي وصفت فبالله الذي لا اله الا هو الخالق مدبر الامور كلها اقسم، الذي لا يجوز القسم بسواه، لقد كان سروري يومئذ وانا في تلك الحال بظفري بالحق فيما كنت مشغول البال به واشراق الصواب لي اشد من سروري باطلاقي مما كنت فيه، وما الفنا كتابنا هذا وكثيرا مما ألفنا الا ونحن مغربون مبعدون عن الوطن والاهل والولد، مخافون مع ذلك في انفسنا ظلما وعدوانا، لا نستر هذا بل نعلنه، ولا نمكن الطالب إبطال قولنا في ذلك، إلى الله نشكو، واياه نستحكم لا سواه، لا اله الا هو. واما الحد الاصغر الذي ينبغي للعاقل ان [90 ظ] [لا] يقصر دونه فلينظر الوقت الذي ينفرد به للفضول من الحديث الذي لا يجزي مع جيرانه أو القعود متبطلا بلا شغل لا من عمل اخرى ولا من عمل دنيا، أو حين مشيه في الارض مرحا، وقد نهاه خالقه عن ذلك، فليجعل هذه الاوقات للتعلم والنظر في العلوم التي قدمنا ورياضة طبعه على العدل الذي هو رأس كل فضيلة، فان العدل يقتضى ان لا يميل لقول على قول الا ببرهان واضح، ويقتضى له أيضاً ان لا يشتغل بالادنى ويترك الافضل، فانه ان فعل هكذا اوشك ان يظفر بما فيه الفوز في الدارين. واما الاوقات التي يشتغل فيها اهل الجهل اما بالذات بالمعاصي واما بظلم الناس في اموالهم واليعي بالفساد في سياستهم والنيل من اعراضهم والجور عليهم، فان اشتغالهم بالامراض المؤلمة لانفسهم المؤذية لابدانهم أعود عليهم من ذلك وافضل فكيف الاشتغال بالعلوم المؤدية إلى خير الدنيا وفوز الآخرة؟ وقد قال الواحد الأول: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} (28 فاطر: 3) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من يرد الله به خيرا يفقه في الدين " ولا فقه الا بمعرفة ما ذكرنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 والاشراف عليه. فمن حرم ما ذكرت فما أخوفنا عليه ان يكون الله عز وجل لم يرد به خيرا، نعوذ بالله من ذلك لأنفسنا ولابنائنا ولاخواننا واهل الخير والفضل، وما توفيقنا إلا بالله عز وجل. واعلم ان من فضل العلم والاكباب على طلبه والعمل بموجبه انك تحصل على طرد الهم الذي هو الغرض الجامع لجميع المقاصد من كل قاصد اولها عن آخرها وبالله تعالى التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل لا اله الا هو. 19 - باب كيفية اخذ المقدمات من العلوم الظاهرة عند الناس بايجاز العلوم الدائرة بين الناس اليوم المقصودة اثنا عشر علما، وينتج علمان زائدان، وهذه الرتبة هي غير الرتبة التي كانت عند المتقدمين، ولكن إنما نتكلم على ما ينفع به الناس في كل زمان مما يتصلون به إلى مطلوبهم من ادراك العلوم بحول الله تعالى وقوته. فالعلوم التي ذكرنا: علم القرآن. وعلم الحديث. وعلم المذاهب. وعلم الفتيا. وعلم المنطق. وعلم النحو. وعلم اللغة. وعلم الشعر. وعلم الخبر. وعلم الطب. وعلم العدد. وعلم الهندسة. وعلم النجوم. وينتج من هذه علوم العبارة وعلم البلاغة. فاما علم القرآن فينقسم أقساما [91و] وهي علم قراءاته واعرابه وغريبه وتفسيره واحكامه؛ فالرجوع إليه من علم قراءات القرآن ومقدمات مقبولة راجعة إلى قراء مرضيين معلومين، راجعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم الذي قامت البراهين على صحة نقلها عنه وعلى صحة ثبوته. واما اعرابه فهو مقدمة صحيحة فيه إذا اخذ اللفظ فيه على حركات ما وهيئة ما فهو أصل مرجوع إليه. واما لغته فالمعهود منها في اللغة العربية. واما احكامه فالى مفهوم ألفاظها والى بيان النبي صلى الله عليه وسلم لها. واما الحديث فينقسم قسمين: علم رواته وعلم احكامه. فاما رواته فالمرجع إليه فيهم مقدمات منقولة عن ثقات شهدوا عليهم بالعدالة والحجة والشهادة مأخوذة من القرآن الذي ذكرنا صحته. وأما احكامه فالى مفهوم ألفاظها والى [دلالة] بعضها على بعض، على ما قد شرحنا في غير هذا المكان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 وأما علم المذهب فما كان منها خارجا عن الملة الإسلامية فالى مقدمات راجعة إلى أوائل العقل والحس ماذكرنا في كتاب " الفصل ". وأما علم المنطق فقد بيناه في هذا الديوان وهو العبارة على كل علم. وأما علم الفتيا فالى مقدمات مأخوذة من القرآن والحديث اللذين صحا بالبراهين، والى اجماع العلماء الأفاضل الذي صح بالقرآن على ما بينا في سائر كتبنا. س واما علم النحو فإلى مقدمات محفوظة عن العرب الذين تزيد معرفة تفهمهم (1) للمعاني يبلغتهم؛ واما العلل فيه ففاسدة جدا. واما علم اللغة فالى ما سمع أيضاً من العرب بنقل الثقات المقبولين لن هذه لغتهم. واما علم الشعر فالى ما سمع أيضا من استعمالهم في الأوزان خاصة دون كل وزن يستعمل عند غيرهم، إذ إنما يسمى الناس شعرا ما ضمنته الاعاريض فقط التي ذكر النديم في كتابه. واما في مستحسنه ومستقبحه فالى أشياء اصطلح عليها اهل الاكثار من روايته والاكباب على تفتيش معانيه من لفظ عذب سهل ومعنى جامع للحسن واصابة تشبيه وكناية مليحة ونظم بديع. واما علم الخبر فالى مقدمات قد اضطر تواتر النقل إلى الاقرار بصحتها من كون البلاد المشهورة والملوك المعلومين ووقائعهم وسائر اخبارهم مما لا شك فيه. واما علم الطب فالى مقدمات صححتها التجربة اوما بدا وظهر من قوى الامراض وما يولدها عن اضطراب المزاج ومقابلة ذلك بقوى الادوية [91 ظ] وذلك كله راجع إلى اوائل العقل والحس. واما علم العدد والهندسة فمقدماته من أوائل العقل كلها. واما علم النجوم فينقسم قسمين: أحدهما هيئة الأفلاك وقطع الكواكب والشمس والقمر والسماوات وأقسام الفلك ومراكزها. فهذا القسم مقدماته راجعة إلى العدد والهندسة وأوائل العقل والحس. والقسم الثاني القضايا الكائنة بنصب انتقال الكوكب والشمس والقمر في البروج ومقابلة بعضها بعضا، فان صححت التجربة شيئا من ذلك صدق، والا فليس هناك الا أقوال عن قوم متقدمين فقط.   (1) تفهمهم: تفاهمهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 واما علم البلاغة فعلى ما نذكره في بابها ان شاء الله عز وجل. واما علم العبارة فالى اشياء رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن افاضل اهل هذا العلم. وملاك هذين العلمين التوسع في جميع العلوم مع الطبع والموافقة في اصل الخلقة. وقد انتهينا إلى ما أردنا من احكام القول في البرهان وتوابعه وما تشبه به مما ليس ببرهان. والحمد لله رب العالمين كثيرا لا شريك له وحسبنا الله ونعم الوكيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 - 7 - كتاب البلاغة قد تكلم ارسطاطاليس في هذا الباب وتكلم الناس فيه كثيرا، وقد احكم فيه قدامة بن جعفر الكاتب كتابا حسنا وبلغنا حين تأليفنا هذا ان صديقنا احمد بن عبد الملك بن شهيد ألف في ذلك كتابا، وهو من المتمكنين من علم البلاغة الأقوياء فيه جدا، وقد كتب، إلينا يخبرنا بذلك الا اننا لم نر الكتاب بعد فغنينا بالكتب التي ذكرنا عن الايغال في الكلام في هذا الشأن، ولكنا نتكلم فيه بإيجاز جامع، ونحيل على ما قد بينه غيرنا ممن سمينا وممن نسمي، ان شاء الله عز وجل فنقول وبالله تعالى نتأيد: البلاغة قد تختلف في اللغات على قدر ما يستحسن اهل كل لغة من مواقع ألفاظها على المعاني التي تتفق في كل لغة. وقد تكون معدودة في البلاغة ألفاظ مستغربة فإذا كثر استعمالهم لها لم تعد في البلاغة ولا استحسنت. ونقول: البلاغة ما فهمه العامي كفهم الخاصي وكان بلفظ يتنبه له العامي لأنه لا عهد له بمثل نظمه ومعناه واستوعب المراد كله ولم يزد فيه ما ليس منه ولا حذف مما يحتاج من ذلك المطلوب شيئا، وقرب على المخاطب به فهمه، لوضوحه وتقريبه ما بعد، وكثر من المعاني [92و] وسهل عليه حفظه لقصره وسهولة الفاظه. وملاك ذلك الاختصار لمن يفهم، والشرح لمن لا يفهم، وترك التكرار لمن قيل له ولم يعقل وادمان التكرار لمن لم يقبل أو غفل. وهذا الذي ذكرنا ينقسم قسمين: احدهما مائل إلى الألفاظ المعهودة عند العامة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 كبلاغة عمرو بن بحر الجاحظ، وقسم مائل إلى الألفاظ غير المعهودة كبلاغة الحسن البصري وسهل بن هرون. ثم يحدث بينهما قسم ثالث اخذ من كلا الوجهين كبلاغة صاحب ترجمة كليلة ودمنة، ابن المقفع كان أو غيره. ثم بلاغة الناس تحت هذه الطرائق التي ذكرنا. واما نظم القرآن فان منزله تعالى منع من القدرة على مثله وحال بين البلغاء وبين المجيء بما يشبهه. وقد كان احدث ابن دراج عندنا نوعا من البلاغة ما بين الخطب والرسائل. وأما المتأخرون فانا نقول: انهم مبعدون عن البلاغة ومقربون من الصلف والزيد، حاشا الحاتمي وبديع الزمان فهما مائلان إلى طريقة سهل بن هرون. فهذه حقيقة البلاغة ومعناها قد جمعناه والحمد لله رب العالمين. ولا بد لمن اراد علم البلاغة من ان يضرب في جميع العلوم التي قدمنا قبل هذا بنصيب، واكثر هذا القرآن والحديث والاخبار وكتب عمرو بن بحر ويكون مع ذلك مطبوعا فيه والا لم يكن بليغا؛ والطبع لا ينفع مع عدم التوسع في العلوم. تم كتاب البلاغة والحمد لله رب العالمين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 - 8 - كتاب الشعر هذه صناعة قال فيها بعض الحكماء: كل شيء يزينه الصدق الا الساعي والشاعر، فان الصدق يشينهما فحسبك بما تسمع. وقال المتقدمون: الشعر كذب ولهذا منعه الله نبيه صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: {وما علمناه الشعر وما ينبغي له} (69 يس 36) واخبر تعالى انهم يقولون انهم يقولون مالا يفعلون. ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الاكثار منه وإنما ذلك لأنه كذب الا ما خرج عن حد الشعر فجاء مجيء الحكم والمواعظ ومدح النبي صلى الله عليه وسلم. واما ما عدا ذلك فان قائله إن تحرى الصدق فقال: الليل ليل والنهار نهار ... والبغل بغل والحمار حمار والديك ديك والحمامة مثله ... وكلاهما طير له منقار صار في نصاب من يهزأ به ويسخر منه ويدخل في المضاحك، حتى إذا كذب واغرق فقال: [92 ظ] ألف السقم جسمه والانين ... وبراه الهوى فما يستبين لا تراه الظنون الا ظنونا ... وهو أخفى من أن تراه الظنون قد سمعنا انينه من قريب ... فاطلبوا الشخص حيث كان الانين لم يعش انه جليد ولكن ... ذاب سقما فلم تجده المنون حمق وملح، ولكنا نتكلم فيه [على] مقدار ما نحسن فنقول: الشعر ينقسم ثلاثة أقسام: صناعة وطبع وبراعة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 فالصناعة هي التأليف الجامع للاستعارة بالأشياء والتحليق على المعاني والكناية عنها، ورب هذا الباب من المتقدمين زهير بن ابي سلمى ومن المحدثين حبيب بن اوس. والطبع هو مالم يقع فيه تكلف وكان لفظه عاميا لا فضل فيه عن معناه حتى لو أردت التعبير عن ذلك المعنى بمنثور لم تأت بأسهل منه ولا أوجز (1) من ذلك اللفظ، ورب هذا الباب سمن المتقدمين جريد ومن المحدثين الحسن. والبراعة هي التصرف في دقيق المعاني وبعيدها والإكثار فيما لا عهد للناس بالقول فيه واصابة التشبيه وتحسين المعنى اللطيف، ورب هذا الباب من المتقدمين لمرؤ القيس ومن المتأخرين على بن عباس الرومي. واشعار سائر الناس راجعة إلى الأقسام التي ذكرنا ومركبة منها. واما من أراد التمهر في اقسام الشعر ومختاره وافانين التصرف في محاسنه فلينظر في كتاب قدامة بن جعفر في نقد الشعر وفي كتاب ابي علي الحاتمي ففيها كفاية الكفاية والايعاب لهذا المهنى. وكون المرء شاعرا ليس مكتسبا لكنها حيلة، الا أننا نقوي صاحبها بالتوسع في الأشعار وتدبرها. وإذ قد تكلمنا في الشعر بكلام جامع لأقسامه وانقضى أربنا فنقول: هذا هو حد المنطق الذي نحذر منه الظنون وترك اليقين قد، كشفنا غامضه وسهلنا مطلبه وكفينا صاحبه تشنيع الجاهلين وشعوذة الممخرقين وحيرة المتوهمين، ولله الشكر خالق الاولين والآخرين فلنختم كتابنا بما بدأنا به فنقول: الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد خاتم أنبيائه ورسله وسلم تسليما كثيرا. تم كتاب التقريب لحد المنطق تأليف الإمام الأوحد البارع أبي محمد علي بن احمد بن سعيد ابن حزم بن غالب بن صالح ابن خلف بن معدان بن زيد رضوان الله عليه   (1) اوجز: اذعر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 تعليقات س: 8/ص: 38: أسماء الله الحسنى: عقد ابن حزم في الفصل (2: 120 وما بعدها) فصلا طويلا لبيان هذه المسألة وناقش إطلاق كل صفة على حدة. وخلاصة رأيه ان الله لا يسمى بما سمى به نفسه اتباعا للنص، دون خروج عن ذلك أبدا. قال: ومما أحدثه أهل الإسلام في أسماء الله عز وجل " القديم " وهذا لا يجوز ألبتة لأنه لم يصح به نص ألبتة ولا يجوز ان يسمى الله تعالى بما لم يسم به نفسه. وقد قال تعالى: والقمر قدرناه. منازل حتى عاد كالعرجون القديم؛ فصح ان القديم من صفات المخلوقين فلا يجوز ان يسمى الله تعالى بذلك، وإنما يعرف القديم في اللغة من القدمية الزمانية، أي ان هذا الشيء أقدم من هذا بمدة محصورة، وهذا منفي عن الله عز وجل وقد أغنى الله عز وجل عن هذه التسمية بلفظة " أول ". (2: 151 - 152) 15 - 43 : أبو العباس الناشئ: هو عبد الله بن محمد الانباري المعروف بابن شر شير توفي سنة 293 906. كان شاعرا ذا شاعرا ذا اهتمام بالمنطق وقال ابن تغري بردي: وله تصانيف ردفيها على الشعراء واهل المنطق وله كتاب " تفضيل الشعر " وله أرجوزة في العلوم في اربعة آلاف بيت (راجع ترجمته في تاريخ بغداد: 10 - 92 وشذرات الذهب 2: 214 والنجوم الزاهرة: 158) 16 - 64 : والخلاء باطل: تحدث ابن حزم عن هذا الموضوع بشيء من الإسهاب في الفصل 1: 25 - 27 ثم قال: 32 ومما يبطل به الخلاء الذي سموه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 مكانا مطلقا وذكروا انه لا يتناهي وانه مكان لا متمكن فيه برهان ضروري لا انفكاك منه واطراف شيء انه برهانهم الذي موهوا به وشغبوا بإيراد وارادوا به إثبات الخلاء، وهو: أننا نرى الأرض والماء والأجسام الترابية من الصخور والزئبق ونحو طباعها السفل أبدا وطلب الوسط والمركز وأنها لا تفارق هذا الطبع فتصعد إلا بقسر يغلبها ويدخل عليها كرفعنا الماء والحجر قهرا، فإذا رفعناهما ارتفعا، فإذا اتركناهما عادا طبعهما بالرسوب؛ ونجد النار والهواء طبعهما الصعود والبعد عن المركز والوسط، ولا يفارقان هذا الطبع إلا بحركة قسرا تدخل عليهما، يرى ذلك عيانا كالزق المنفوخ والاناء المجوف المصوب في الماء، فإذا زالت تلك الحركة القسرية رجعا إلى طبعهما. ثم نجد الاناء المسمى سارقة الماء فيها صعدا ولا ينسفك ونجد الزراقة ترفع التراب والزئبق والماء؟ ونجد المحجمة قص الجسم الارضي إلى نفسها. (في التقريب: المحسجة، ولعل كلمة المحجمة هي الصواب) . 11: - 72: انظر رسالته في مداراة النفوس: 145 حيث يتحدث عن الفضائل على نحو افلاطي. 8: - 80: ووضح غلط من ظن؟ ان الاسم هو المسمى: هذا عنوان فصل في كتاب الفصل " الكلام في الاسم والمسمى " 5: 27 قال أبو محمد: ذهب قوم إلى أن الاسم هو المسمى، وقال آخرون الاسم غير المسمى، وقال آخرون الاسم غير المسمى، واحتج من قال إن الاسم هو المسمى بقول الله تعالى: تبارك اسم ربك ذي الجلال والاكرام، ويقرأ أيضا ذو الجلال والاكرام، قال: ولا يجوز أن يقال تبارك غير الله فلو كان الاسم غير المسمى ما جاز أن يقال تبارك اسم ربك. وبقوله تعالى: سبح اسم ربك الأعلى؟ الخ. 5: - 104: المقتضب للمبرد: كتاب في النحو: منه نسخة واحدة في كوبريللي (رقم: 1507 - 8) في أربع مجلدات، صححتها السيرافي؛ ومن رواة الكتاب ابن الراوندي الملحد، وقد اهمل الناس هذا الكتاب حتى قيل إن شؤم ابن الراوندي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 دخله (أفادني هذا كله العلامة الدكتور هلموت ريتر وقد ذكر عن هذا الكتاب في مقالة له بمجلة Oriens المجلد السادس ص: 67. 21: - 141: كذب من ادعى لمدة الدنيا عددا معلوما: عالج ابن حزم هذا الموضوع في الفصل 2: 105 فقال: واما اختلاف الناس في التاريخ فان اليهود يقولون للدنيا أربعة آلاف سنة ونيف، والنصارى يقولون: للدنيا خمسة لآلاف سنة؛ وأما نحن فلا نقطع على عدد معروف عندنا. وأما من ادعى في ذلك سبعة لآلف سنة أو اكثر أو أقل فقد كذب، وقال ما لم يأت قط عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه لفظة تصح بل صح عنه عليه السلام خلافه. 7: - 160: يشير ابن حزم إلى مناظرة جرت بين ماني والموبذ في مسألة قطع النسل وتعجيل فراغ العالم. قال الموبذ: أنت الذي تقول بتحريم النكاح ليستعجل فناء العالم ورجوع كل شكل إلى شكله، وان ذلك حق واجب؟ فقال له ماني: واجب أن يعان النور على خلاصه بقطع النسل مما هو فيه من الامتزاج. فقال له اذرباذ: فمن الحق الواجب أن يعجل لك هذا الخلاص الذي تدعو إليه وتعان على إبطال هذا الامتزاج المذموم. فانقطع ماني، فأمر بهرام بقتل ماني. (الفصل 1: 36) . 11: - 160: ذهب محمد بن جرير الطبري والاشعرية كلها حاشا السمناني إلى أنه لا يكون مسلما الا من استدل، والا فليس مسلما، وقال الطبري: من بلغ الاحتلام أو الاشعار من الرجال والنساء أو بلغ المحيض من النساء ولم يعرف الله عز وجل بجميع أسمائه وصفاته من طريق الاستدلال فهو كافر حلال الدم والمال، وقال: انه إذا بلغ الغلام أو الجارية سبع سنين وجب تعليمهما وتدريبهما على الاستلال على ذلك (الفصل 4: 35) . 14 - 17 : 180: راجع رسائل ابن حزم: 144 فهناك تحدث عن حد العقل؛ وقال: " واما احكام امر الدنيا والتودد إلى الناس بما وافقهم وصلحت عليه حال المتودد من باطل وغيره أو عيب أو ما عداه، والتحيل في إنماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 المال وبعد الصوت وتمشية الجاه بكل ما أمكن من معصية ورذيلة، فليس عقلا؟ لكن هذا الخلق يسمى الدهاء؛ وهذا القول يوافق ما جاء في الصفحة: 181 من هذا الكتاب. 8: - 81: كتاب السياسة: لعله هو المذكور في المصادر باسم " كتاب الامامة والسياسة في قسم سيرا الخلفاء ومراتبها والندب إلى الواجب منها ". (الذخيرة 1 - 1: 143) 20: - 187: بذل النفس: كرر ابن حزم رأيه هذا في رسالته في " نداواة النفوس " (رسائل ابن حزم: 118) فقال: لا تبذل نفسك الا فيما هو أعلى منها، وليس ذلك الا في ذات الله عز وجل، في وعاء إلى حق، وفي حماية الحريم، وفي دفع هوان لم يوجبه عليك خالقك تعالى، وفي نصر مظلوم، وباذل نفسه في عرض دنيا كبائع الياقوت بالحصى؟ وقال: العاقل لا يرى لنفسه ثمنا إلا الجنة. 15: - 192: احمد بم محمد بن عبد الوارث أبو عمر يعرف بابن أخي الزاهد وهو مؤدب ابن حزم في النحو (انظر التكملة: 790 والجذوة: 99) . 13: - 197: اللمع لابي الفرج القاضي: هو كتاب اللمع في اصول الفقه لابي الفرج المالكي عمر بن محمد المتوفي سنة 331هـ (انظر الفهرست: 283 ط. مصر) 23: - 197: اصناف الناس في كلامهم: عرض ابن حزم هذه الفكرة بايجاز في رسالته " مدازاة النفوس ": 147 من رسائل ابن حزم. 2: - 199: أبو القاسم الزجاجي وكتاب الجمل: توفي عبد الرحمن بن اسحاق الزجاجي سنة 340 بطبرية وكانت طريقته في النحو متوسطة وتصانيفه يقصد بها الافادة (انظر ترجمته في انباه الرواة رقم: 376 وفي الحاشية ثبت باسماء المراجع) . أما كتاب " الجمل " فمنه اليوم نسخ كثيرة. وقد كتبت عليه شروح متعددة كذلك. واهتم به الاندلسيون فشرحوه وشرحوا أبياته، من ذلك شرح أبيات للشنتمري؛ وصنف فيه البطليموسي كتابا سماه " الحلل في إصلاح الخلل الواقع في كتاب الجمل " ولابن خروف شرح له ولابن حريق شرح لابياته، وكذلك لابن عصفور ولاحمد بن يوسف الفهري اللبلي شرح لابياته " وشى الحلل في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 شرح ابيات الجمل " (انظر تاريخ بروكلمان، الذيل 1: 171) . 23: - 199: المستكفي والمستظهر: بويع المستظهر وهو عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار في رمضان سنة 414 هـ فاستوزر ابن حزم وابن شهيد، ثم ثار عليه محمد بن عبد الرحمن الناصري في شهر ذي القعدة من العام نفسه وقتله وبويع بالخلافة وتلقب بالمستكفي وكان متخلفا واهنا وقد سجن ابن حزم وابن عمه أبا المغيرة، وأقام في الخلافة ستة عشر شهرا عاد بعد هل أمر قرطبة إلى بني حمود وفر المستكفي إلى ناحية الثغر ومات في مفرده. 5: - 201: طرد الهم: عالج ابن حزم هذه الفكرة بإسهاب في رسالته في الأخلاق (انظر رسائل ابن حزم: 116 وما بعدها وكذلك مقدمة الرسائل) . 7: - 201: ما قاله ابن حزم في العلوم هنا شرحه بإسهاب في رسالة له بعنوان " مراتب العلوم "؛ انظر رسائل ابن حزم 59 - 90 2: - 204: أبو عامر احمد بن عبد الملك بن شهيد (382 - 426) ربيب الدولة العامرية. أثر في نفسه زوال المجد العامري في قرطبة، ولكنه لم يهاجر من بلده كما فعل ابن دراج أو صدبقه ابن حزم. شارك في الحياة السياسية عندما جاء المستظهر مع ابن حزم ثم مدح بني حمود المتغلبين على قرطبة، وأطيب في آخر أيامه بفالج أقعده. وكان مسرفا في كرمه شديد الذهاب بالنفس مائلا إلى الفكاهة والهزل معجبا بشعرهزاريا على بني قومه وخاصة طبقة المؤدبين. وقد شهر بين المشارقة برسالة التوابع والزوابع. اما كتابه الذي يذكره ابن حزم في البلاغة فقد أورد ابن بسام يعض فقر منه في الذخيرة، س (راجع ترجمته في الذخيرة 1/1: و61 والجذوة: 124 والمغرب 1: 78 والمطمح: 16 والخريدة 12: 201 واليتيمة 1: 382 واعتاب الكتاب: 74؛ وقد كتبت عنه دراسة مفصلة في كتابي " تاريخ الأدب الأندلسي "؟ تحت الطبع -) . 4: - 204: قدامة بن جعفر: يعني كتابه " جواهر الألفاظ "؟ في اغلب الظن - فهو خاص بالبلاغة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 5 - 205 : ابن دراج: هو احمد بن محمد بن دراج القسطلي أبو عمر (347 - 421) وكان كاتبا من كتاب الإنشاء في أيام المنصور ابن أبي عامر وأحمد مداح الدولة العامرية. ولما انتهى امر تلك الدولة في قرطبة أخذ ابن دراج يتنقل في بلاد الأندلس مادحا أمراءها حتى ألقى عصا التيسار عند صاحب سرقسطة، منذر بن يحيى، وعاش في كنفه حتى توفي. وقد قدمه نقاد الأندلس وشهدوا له بالفضل وقال فيه ابن حزم " لو قلت إنه لم يكن بالأندلس أشعر من ابن دراج لم أبعد ". جمع ديوانه على حروف المعجم محمد بن إبراهيم القيسي الوشقي سنة 467 ولكنه لم يصلنا. (راجع ترجمته في الذخيرة 1/1: والجذوة: 102 والصلة: 44 وابن خلكان 1: 60 والمغرب 2: 60 واليتيمة 1: 438 والنفح 2: 782؛ وقد كتبت عنه مفصلا ضافيا في كتابي " تاريخ الأدب الأندلسي "؟ تحت الطبع -) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213