الكتاب: العرب في صقلية - دراسة في التاريخ والأدب المؤلف: دكتور إحسان عباس (المتوفى: 1424هـ) الناشر: دار الثقافة، بيروت - لبنان الطبعة: الأولى، 1975   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- العرب في صقلية إحسان عباس الكتاب: العرب في صقلية - دراسة في التاريخ والأدب المؤلف: دكتور إحسان عباس (المتوفى: 1424هـ) الناشر: دار الثقافة، بيروت - لبنان الطبعة: الأولى، 1975   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] مقدمة في هذه الدراسة ومصادرها كان أملى حين بدأت هذه الدراسة أن تكون تأريخاً لحياة الشعر العربي في صقلية. ولكنى وجدت أن دراسة الشعر لا يمكن أن تتم دون تعميق في فهم تأريخ صقلية من نواحيه السياسية والاجتماعية والثقافية. ولذلك قدمت البحث في هذه الجوانب على البحث في الشعر، متعمداً الاستقصاء والاستكثار من الحقائق، بانياً الموضوع بالتدريج دون تحليل كثير أو مقارنات ومقايسات. إذا لا بد في البدء من تكوين صورة وافية لصقلية الإسلامية في ناحيتي التاريخ والأدب قبل القيام بالقياس والمقارنة والتحليل. وكان مما أعانني في دراسة النواحي التاريخية حضور مادتها في مجموعتين هما مكتبة الصقلية التي جمعها ميشيل أمارى من المطبوع والمخطوط، وكتاب العيد المئوي لميلاد ميشيل أماري Centenario Della Nascita Di M.Amari وهو يتمم عمل ذلك المؤرخ الكبير بمختارات لم يكن قد عثر عليها. وقد كان أماري ذا أثر كبير في توضيح الناحية التاريخية بتحقيقاته واستنتاجاته وآرائه التي ضمنها كتابه الضخم (تاريخ مسلمي صقلية) Storia Dei Musulmani Di Di Sicilia فهو عمدة كل باحث في هذه الناحية، لما وهب مؤلفة من دقة وضبط ونزاهة، ولأنه بلغ الغاية في الإحاطة بأطراف الموضوع، حين اعتمد على المصادر العربية واللاتينية واليونانية والوثائق والنقوش وعلى ما كتبه جماعة تناولوا نواحي الموضوع قبله. والطبعة التي اعتمدتها من كتابه الثانية وقد اشرف عليها الأستاذ نللينو وزودوها بتعليقات هامة، ومن تعليقاته تلك أفدت الكثير. أما الشعر فقد عالجه أمارى أيضاً في تاريخه، ولكن حديثه لا يعدو التعريف بالشاعر وترجمة شيء من شعره، ومعتمده في ذلك الخريدة للعماد الأصبهاني في كثير الأحيان. وقد قسم الشعر إلى موضوعات كالغزل والهجاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 واختار لكل موضوع خير من يمثله من الشعراء الصقليين. وتحدث البارون فون شاك عن الشعر الصقلي في كتابه: Poesi Und Kunst Der Araber In Spanien Und Sicilien وفي المجلد الثاني من هذا الكتاب فصلان عن صقلية أحدهما للشعر والثاني للفن، وأولهما مصدر بمقدمة في الشعر الصقلي ثم بتراجم الشعراء الصقليين وترجمة شيء من أشعارهم. وقد أفد مما كتبه هذان المستشرقان الجليلان عن الشعر فائدة جزئية، وجعلت همي في استقصاء مادة الشعر من المخطوطات والمطبوعات وجمعت منه قدراً صالحاً يصلح للدرس. وتبين لي أن المصدر الأول للشعر الصقلي هو " الدرة الخطيرة من شعر شعراء الجزيرة " لابن القطاع (- 515 هـ) . غير أن هذا الكتاب لا يزال في طي الخفاء والموجود منه مختصرات ونقول. أما المختصرات فهي الآتية: (أ) مختصر من الكتاب المنتخل من الدرة الخطيرة في شعر (الشعراء) الجزيرة تأليف أبي القاسم علي بن جعفر بن علي التميمي السعدي رحمة الله، اختيار الشيخ أبي اسحاق بن أغلب رحمه الله، ذكر فيه سبعة وستين شاعراً من شعراء جزيرة صقلية. وهذا الكتاب في المكتبة التيمورية بدار الكتب المصرية (رقم 2216 تاريخ) وهو فصلة من مخطوط بمكتبة باريس (رقم 3418) لأن أولى ورقاته تبدأ بالرقم 96 وتنتهي بالورقة 110. وأول ترجمة فيه للأمير أبي القاسم عبد الله بن سليمان الكلبي، ثم لأميرين من أمراء الكلبيين، وليس هنالك ما يشير إلى ترتيب معين اتبعه صاحب المختصر، أو صاحب الأصل، وربما كان ابتداؤه بالبيت الكلبي إشارة إلى أن هذا هو الترتيب الذي سار عليه ابن القطاع نفسه. ولست اعرف شيئاً عن الشيخ أبي إسحاق بن أغلب صاحب المختصر ولا عن العصر الذي عاش فيه. وهذا المختصر ناقص فليس فيه أسماء سبعة وستين شاعراً كما جاء في المقدمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 فعدد من ذكروا فيه ثلاثة وأربعون، وبعد الورقة 106 يظهر نقص واضح يدل على سقوط بعض الترجمات. كما أن نهاية المختصر ليست فيما يبدو نهاية طبيعية وربما كان في هذا الموضع نقص آخر. وعلى هامش المختصر كتاب يضم منتخبات من الشعر بينها أشعار وأسماء صقلية ولا نستطيع أن نفرض أن هذه الأسماء التي على الهامش من أصل المختصر نفسه لوجود أسماء من غير صقلية فيما بينها، بل إننا لو فرضناها من الأصل لما بلغ عدد الشعراء الموجودين فيه سبعة وستين، فنقص المختصر لا يزال واقعاً. وقد عمل أبو إسحاق في اختصاره شيئين: 1 - حذف مقدمة الترجمة في أغلب الأحيان واكتفى بإيراد الشعر 2 - أسقط أسماء كثير من الشعراء فلم يورد إلا سبعة وستين من مائة وسبعين شاعراً كانوا في الأصل. وليس له في اختياره منهج واضح وإن أكثر من الاختيار للفقهاء وأهل العربية. ولم يذكر ابن حمديس إما استغناء عن ذلك بشهرته، وأما لأن ابن القطاع لم يذكره في شعراء صقلية، والثاني هو الأرجح. (ب) الحريدة الجزء الحادي عشر رقم (4459 أدب) بدار الكتب المصرية من الورقة الأولى إلى الحادية والخمسين والمأخوذ من الخريدة في هذه الأوراق يشمل 21 - 51. وفي مواضع أخرى من هذا الجزء ترجمات صقلية أضيفت استدراكاً (انظر الورقة 117 - 118، 143،137) . والأولى من هذه التراجم مأخوذة من الدرة الحطيرة. وقد بدأ العماد اختياره بترجمة ابن القطاع صاحب الدرة مع أن المختصر ذكره قبل آخر اثنين فيه. وتمتاز قطعة الخريدة عن غيرها بأنها حفلت بمجموعة ضخمة من شعر صقلية، ولم يكن العماد في اختياره متعجلاً كما انه لم يحفل كثيراً بأشعار النحويين وأهل اللغة والفقهاء. وقد أغفل ذكر أبي القاسم بن سليمان الكلي الذي أطال صاحب المختصر في الاختيار من شعره وكذلك أهمل العماد ذكر ابن الخياط الربعي الصقلي الذي ورد في المختصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 وفي قطعة المغرب. ولعل العماد أغفله لقلة احتفال ذلك الشاعر بالمحسنات وهو تعليل لا يستقل بالإقناع. وكذلك لم يذكر العماد في هذه القطعة أبا العرب الصقلي مع أن ابن سعيد صرح بأنه من شعراء الدرة، وذلك لأن العماد عده من الأندلسيين. ومع ما في اختيار العماد من نقص فقطعة الجريدة غير ما وصلنا من الشعر الصقلي من حيث الكثرة والتنوع. وقد أدرج أمارى قطعة الخريدة في المكتبة الصقلية ولكنه لم يذكر من الشعر الوارد فيها إلا قليل. (ج) المغرب وفي الجزء الرابع منه (نسخة دار الكتب المصرية رقم 2712 تاريخ) قطعة من صقلية تكون الكتاب الثاني من كتب شمال المغرب حسب ترتيب ابن سعيد واسمها (كتاب الألحان المسلية في حلى جزيرة صقلية) . والكتاب مصدر (بمنصة) وصف فيها صقلية جغرافياً نقلاً عن رحلة لابن عبد ربه والشريف وابن حوقل، ويتلوها (التاج) وفيه ذكر فتحها، ثم ترجم للأمير تاج الدولة الكلبي نقلا عن ابن القطاع، وختم الفصل بذكر نهاية صقلية. ثم بدأ باختيار الشعر فذكر أبا القاسم عبد الله بن سليمان الكلبي فأشبه في بداءته المختصر، ثم اختلفا بعد ذلك لأن ابن سعيد رسم لنفسه تقسيمات عامة سار عليها في كل كتابه، فهو يقسم الناس إلى طبقات من كتاب وعمال وزهاد وشعراء ويختار لهم شعرا. وفي قسم الشعراء ذكر ابن الخياط الصقلي. ولما ترجم لابن حمديس لم يشر إلى انه ينقل ترجمته من الدرة كما فعل مع غيره، وأضاف إلى الصقليين اثنين متأخرين عاشا في أيام المنصور والمستنصر من بنى عبد المؤمن. وابن سعيد في اختياراته سريع يورد البيت والبيتين والمقطوعة ولا يهتم بالقصيدة، ولكنه كان أميناً فألزم نفسه الإشارة إلى الدرة في كل مرة نقل منها. وهذه القطعة من المغرب نشرها موريتز في العيد المئوي لميلاد ميشيل أمارى المجلد 1: 293 - 300. ويلحق بهذه القطعة من عمل ابن سعيد قطعة أخرى أفرادها لصقلية في آخر كتابه (رايات المبرزين) الذي نشره الأستاذ غريسه غومس، وهو اختصار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 للمغرب وذكر فيه اثنين لم يذكرهما في المغرب وهما ابن أبي البشر الصقلي وابن قاضي ميله. (د) اختيار علي بن منجب الصيرفي أو ابن الصيرفي (542 هـ) 1147 - 1148 من الدرة الخطيرة وهي أقدم المختارات فيما يظهر وتتضمن تسعة عشر شاعراً. والمخطوطة نسخة وحيدة يملكها الأستاذ حسن حسني عبد الوهاب باشا وقد ترجمها I. Di. Matteo إلى الإيطالية ونشرها ببلرم سنة 1937 بعنوان Antelogia Di Poeti Siciliani Stratta Da Guella Di Ibn Al - Qatta ثم نشرها الشيخ محمد النفير التونسي في كتابه (عنوان الأريب) المطبوع بتونس سنة 1951. وأما المصادر التي نقلت عن الدرة الخطيرة فهي: (1) القفطى: إنباه الرواة (رقم 280 تاريخ بدار الكتب المصرية) وكتاب المحمدين من الشعراء (رقم 2217 تاريخ بالمكتبة التيمورية مصور من مكتبة باريس رقم 3335) . وقد اعتمد السيوطي على الأول منهما فأدرج بعض أسماء صقلية مما ورد فيه في كتابه بغية الوعاة. ولم يطاع الأستاذ أمارى على هذا الكتاب وإنما اطلع على مختصر الذهبي له. أما المحمدون من الشعراء فهو ناقص وفي القسم الموجود منه بدار الكتب تراجم ستة صقليين بينهم أربعة لم يرد لهم؟ فيما أعرف؟ ذكر في غيره. (ب) ياقوت: معجم البلدان كما هو واضح في مادة سمنطار وودان وفي معجم الأدباء ذكر لبعض اللغويين والأدباء. (ج) القاضي عياض، ترتيب المدارك (رقم 2293 تاريخ بدار الكتب المصرية) وما ينقله عن الدرة يصدره بقوله (وأورد له جامع شعر صقلية) . وما نقله القاضي عياض في كتابه إنما هو أشعار لبعض الفقهاء، وكل ما ورد عنده موجود في المجلد الأول من كتاب C.A (العيد المئوي لميلاد ميشيل أمارى) . (د) وفي الوافي بالوفيات تراجم لبعض الصقليين ولكن اضطراب نسخة دار الكتب تجعل الإفادة منها عسيرة. وفي الجزء الثالث من الوافي الموجود بمكتبة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 أحمد الثالث تحت رقم2920/21 ترجمة لابن أبي البشر الصقلي ومختارات من شعره، وفي مرآة الزمان ترجمة لأربعة من الصقليين، قال سبط ابن الجوزي إنهم من الشعراء الذين ذكرهم ابن القطاع في كتابه. وواضح أن سبط ابن الجوزي ينقل عن الخريدة ومن ثم أخطأ فجعل محمد بن عيسى الصقلي بين من ذكرهم ابن القطاع مع أنه من شعراء العصر النورماني. هذه هي المصادر التي تدور حول الدرة الخطيرة اختصاراً أو نقلا وهناك مصادر أخرى أهمها. 1 - القسم الأول من قطعة الخريدة التي تقدمت الإشارة إليها (أي من الورقة 1 - 21) وهذا القسم يتضمن شعر أبي الحسن علي بن عبد الرحمن بن أبي البشر الصقلي الأنصاري الكاتب منقولة من مجموع لم يذكر اسمه. ويتضمن قطعة أخرى نقلت من كتاب " المختار من النظم والنثر لأفاضل العصر " لابن بشرون المهدوي الذي كان في صقلية في العهد النورماني. وتمتاز هذه المجموعة بأنها المجموعة الوحيدة التي تصور لنا الشعر العربي أيام النورمان ويتمشى مع هذه القطعة ما ورد في الخريدة الورقة 117 عن أبي الضوء سراج الذي كان في بلاط رجار، ويمتاز ما اختاره العماد عن ابن بشرون بوجود النثر الصقلي فيه إلى جانب الشعر. وعيب العماد في هذه القطعة تحرجة من الإمعان في اختيار ما مدح به الكفار. ولو لم تقف هذا الحرج في طريقه لكانت الفائدة فيما اختاره أبلغ. 2 - الجزء من شعر أبي الحسن علي بن عبد الرحمن الصقلي الكاتب رواية الفقيه أبي محمد عبد الله بن يحيى بن حمود الخريمي (الأسكوريال رقم 467) . ولأبي الحسن الصقلي أشعار أخرى متفرقة في بعض المجاميع الأدبية وقد أورد له صاحب المختصر قصيدة طويلة في مدح رئيس الرؤساء، وبعض هذه القصيدة أوردة العماد في ترجمة ابن أبي البشر الصقلي. ومن ثم ثار عندي هذا التساؤل: هل أبو الحسن علي بن عبد الرحمن الصقلي الأنصاري الكاتب هو أبو الحسن علي بن عبد الرحمن (ابن أبي البشر) الصقلي الأنصاري الكاتب الذي افتتح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 العماد القطعة عن صقلية باسمه؟ وبعد البحث تبين لي أنهما شخص واحد عاش في القرن الخامس وهاجر إلى مصر ودرس فيها النحو والعروض وتختلط أشعارهما اختلاطاً لا يدع مجلا للشك في هذه الحقيقة. 3 - ديوان ابن حمديس الصقلي (نشر سكيابا ريللى روما سنة 1897) وقد نشر أماري بعض قصائد ابن حمديس في المكتبة الصقلية (ص 547 - 573) والملحق الأول (13 - 46) وقراءة الشعر في مواطن كثيرة منها مضطربة، وتمتاز نشرة سكيابا ريللي بالترتيب وترقيم القصائد والإشارات الدقيقة إلى اختلاف الروايات. وهي أضبط مما نشره أمارى ولكنها لا تخلو من أخطاء تعمى المعنى على القارئ في كثير من الأحيان، وقد أخذت نفسي بتوجيه القراءة التي أراها أكثر إظهاراً للمعنى دون أن أشير إلى ما فارقت فيه قراءة الديوان. 4 - السلفى: المعجم (رقم 3932 تاريخ بدار الكتب المصرية) وهو جزءان اضطربت أرقامهما وربما كانت النسخة كاملة لا ينقصها إلا إعادة ترتيبها. وهذا المعجم يعرفنا بأكثر المهاجرين من صقلية إلى الإسكندرية عند ما احتل النورمان الجزيرة ويلقى أضواء قليلة على بعض حياة صقلية الثقافية وفيه شعر للصقليين غير كثير. 5 - ابن بسام: الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة وفيها تراجم بعض الراحلين من صقلية إلى الأندلس مثل سليمان بن محمد الصقلي وترجمته منقولة عن جذوة المقتبس للحميدي، وليس من الضروري أن نفرد الجذوة بالأشارة والتعريف لأنها لم تحتو من شعر الصقليين إلا على أبيات لسليمان المذكور. وفي الذخيرة ترجمة لابن حمديس وقصائد له لم ترد في الديوان وشعر لأبي العرب الصقلي وترجمة لابن الصباغ تجمع إلى جانب شعره ثلاثاً من رسائله. 6 - التجيبي. شرح المختار من شعر بشار وفيه قطعه صالحة من شعر ابن الخياط الربعي الصقلي تبلغ 188 بيتاً وفيه بيتان لابن الطوبي وقد كان التجيبي معاصراً وصديقاً لابن الخياط ولكن النسخة المطبوعة من هذا الكتاب غير كاملة وكم كنا نحب أن نراها في صورتها الكاملة لتكون لابن الخياط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 مجموعة أكبر من الشعر إذ الدراسة المتمعنة للشعر الصقلي جعلتني أختص ابن الخياط بالالتفاف لأنه عاش حياته في صقلية. 7 - أشعار صقلية: وجدت مكتوبة على الآثار أو على شواهد القبور نشرها الاستاذ أمارى في مجموعات مثل: (أ) Amari: Le Eqigrafi Arabiche Di Sicilia (ب) Su Le Iscrizioni Arabiche Del Palazze Regie Di Messina والثاني من نشر Reale Accademia Dei Lincei سنة 1880 - 1881 وقراءاتها تختلف، ولكن قراءة الأستاذ أماري تعد تحسناً واسعاً إذا قيست بقراءة غرغوريو greqorio في كتابه: Rerum Arabicarum Qusa Ad Historiam Siculam Sqectant (انظر مثلا النص 24 ص 162) وهناك مجموعة منسقة منها ليست مقترنة بصور للأصول، ذكرها جويدي في محاضراته بالجامعة المصرية (1907) ولا تفيدنا هذه الأشعار كثيراً لسببين: 1 - أنها ناقصة مبتورة في كثير من الأحيان وقد طمس كثير من معالمها. 2 - أننا لا نقطع بأنها من تأليف الصقليين أنفسهم، وإلى ذلك أشار الأستاذ جويدي نفسه أيضاً. وهنالك أشعار صقلية متناثرة في الكتب التاريخية والأدبية ظفرت ببعضها وألحقته بمجموعة الشعر الصقلي، وقد رتبت هذه المجموعة ورقمتها وجعلتها ملحقاً لهذه الدراسة، وكل ما أتمناه أن أستطيع في يوم من الأيام تقديمها إلى القراء والمشتغلين بالدراسات الأدبية. وقد جعلت هذه الدراسة في ثلاثة كتب، خصصت الأول منها لتاريخ صقلية في العصر الإسلامي، والثاني لتاريخ المسلمين فيها تحت حكم النورمان، لأن الجماعة الإسلامية في تلك الجزيرة شهدت عصرين بينهما جوانب من التفاوت. وفي أحدهما عرفت السيادة الذاتية، وفي الثاني عرفت الخضوع للحاكم الغريب. أما الكتاب الثالث فدرست فيه الشعر في هذين العصرين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 وبينت فيه المؤثرات التي عملت في تكوين الشعر الصقلي وما تركته من مظاهر القوة والضعف، ووضحت موقف صقلية في طبيعة موقعها بين التأثر والتأثير، وفي طبيعة النفسيات التي أنشأت ذلك الشعر، وفيما تركته الفتنة والفتح النورماني من آثار فيه، وتحدثت عن الشعر العربي في ظل السيادة النورمانية، وختمت الكتاب بفصل عن العلاقة بين الشعر والشخصية الصقلية عامة. وإنى لأشعر؟ في غير زهو أو تكثر؟ أن هذه الدراسة تضيف شيئاً إلى ما تقدمها من دراسات، وخاصة من النواحي الثقافية والأدبية، لأنه توفر لها من المصادر المخطوطة ما كان مجهولا. فلأول مرة؟ فيما أعتقد؟ يستفاد من مختصر الدرة، وتثقيف اللسان، وتهذيب المدونة أو مسائل عبد الحق الصقلي وترسل ابن قلاقس، والزهو الباسم ومعجم السلفى وكتاب المحمدين للقفطي وغيرها. وإلى جميع الذين أعانوني على إتمام هذا العمل أقدم شكري الخالص. غير أننى أحب أن أنوه بفضل أستاذي وصديقي الدكتور شوقي ضيف الذي رعى هذه الدراسة بالتوجيه السديد، كما أشكر صديقي المستشرق الأسباني الأب زكريا ريميرو الذي ساعدني في قراءة تاريخ أمارى، والسيد ولفرد مدلونج المستشرق الألماني الذي ترجم ما كتبه شاك عن الشعر الصقلي إلى اللغة الإنجليزية. والله أسأل أن تكون أخطائي في هذا الكتاب قليلة، فأما العصمة فأنها ليست من نصيب الخطائين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 الكتاب الأول صقلية في العصر الإسلامي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 فراغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 الفصل الأول الحياة السياسية 1 - لمحة جغرافية 2 - صقلية في العهد البيزنطي 3 - الفتح الإسلامي 4 - الفتن الصقلية في فترة الانتقال من يد الأغالبة إلى بني أبي الحسين 5 - صقلية تحت حكم بني أبي الحسين الكلبيين 6 - أمراء الطوائف 7 - الحكومة الإسلامية بصقلية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 فراغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 1 - لمحة جغرافية في ذات يوم من أيام الربيع خرجت برسيفونة الجميلة ابنة ربة الخصب تخطر في المروج الصقلية الخضر، وتمتع طرفها بالنظر إلى الجداول المترقرقة ومن حولها صواحبها يطفن الأزهار، واقترب منها رب الجحيم والعالم الأدنى في خفة واختطفها وانحدر بها إلى عالمه. أسطورة قديمة من تلك الأساطير الكثيرة التي أوحت بها إلى الطبيعة صقلية ولكن الحقائق الجغرافية من وراء رموزها لا تزال جديدة، فربة الخصب لم تتخذ مقامها في تلك الجزيرة عبثاً، والجحيم لا يزال قابعاً في ناحية من نواحي الجزيرة تحت بركان إتنا الجبار، ولا يزال مردة الحدادين يضربون بمطارقهم صفائح الحديد تحت ذلك البركان؟ الذي كان لغز القرون حتى الفتح الإسلامي؟ ليعدوا منها صواعق لرب الأولمب. وما تزال سكلا الوحشية تعوي عند المجاز المسيني عواء لا ينقطع وتتقاتل مع خاربديس قتالا كانت تجأر منه سفن القرون الوسطى بالشكوى. نعم قد تكون بعض المظاهر الطبيعية والاقتصادية تغيرت في الجزيرة التي كان عرشاً لربة الخصب، ربما اختفت منها أنواع من المزروعات وقلت غابات البلوط التي يذكرها ثيوقريطس، واختفت مدن وقلاع كثيرة جنى عليها تتابع الهجرات وتغير الحكام؟ كل ذلك قد يخضع للتغير ولكن المظاهر الأساسية لا تزال هنالك؟ فالخصب لم يفتأ يتكشف عن القمح الذي كانت تعيش عليه روما، والكرمة والزيتون اللذين جلبهما اليونان، والليمون والبرتقال اللذين جلبهما العرب وأشجار اللوز والتين، وأنواع الأزهار. ولا تزال الأرض التي أوحت لثيوقريطس أغاني الرعاة مسرحاً للأغنام السائمة في السهول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 والربى: ولولا أن الغابات فيها قليلة وبعض الجبال قد أصبح عارياً مجرداً من زينته الخضراء لتقدمت فيها حرفة الرعي وصناعات الألبان. وتزدان هذه الطبيعة بالجداول والعيون والفوارات والحمامات وكلها كانت في يوم ما موضوعات الأساطير. أما إتنا الشامخ على كل ما حوله في الجزيرة فإنه يهدر منذراً بالويل، وقد تلفع بعمامته الثلجية، وتضرم جوفه بالنار، فإذا به ذلك السيد الرحيم القاسي في آن، الذي يستطيع أن يجمع معجزة القرون الوسطى في شخصه، لأنه يمزج (العنصرين) في كفه. وإذا ثارت حممه غطى الأرض بطبقة خصبة، وفزع الآمنين. والحقائق الجغرافية هي التي رسمت للجزيرة حياتها الداخلية: مرتفعات وهضاب في الداخل لا تسمح للأرضي بالانبساط الواسع وتتباين تباينا واضحاً في ارتفاعاتها وأشكالها نحو السواحل، فترسم مواقع المواني. وعلى أعلى أجزائها بينت المدن الداخلية لتكون حصينة، وكان لذلك أثره في توجيه كل فتح، وبنيت المدن الساحلية عند خير المواقع صلاحية للملاحة، وهيأت السواحل حظوظاً متفاوتة لتلك المدن. فالشاطئ الغربي والجنوبي الغربي المقابل لأفريقية أقلها أهمية، وموانيه قليلة الصلاحية للملاحة، ونادراً ما تصل المرتفعات فيه إلى البحر إلا في نتوء واضح يبرز عند شنت ماركو. والساحل الشمالي يكاد يكون مستويا وفيه تقع ثرمة وجفلوذ وبلرم، ووراء هذه الأخيرة تنحسر الجبال مكونة سهلا من أخصب السهول. وفي الساحل الشرقي ذى الميزات الطبيعية والتاريخية تقع سرقوسة وطبرمين، وفيه سجل للتاريخ اليوناني والحضارة اليونانية. كما أن الساحل الشمالي شهد بدوره أروع الحضارات السامية. وموقعها الجغرافي شارك شخصيتها الجغرافية في تدوين تاريخها وتلوينه. فموقعها في البحر جعلها ابنة لهذا البحر لا يحوزها إلا من قهره، ولذلك كانت القوى المتصارعة في ذلك الميدان المائي تلتقي فيها وجهاً لوجه حتى تقرر تلك السيادة، وتوسطها بين أوروبة وأفريقية جعلها محط النزاع بين أقوام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 الشمال والجنوب، وضيق مجاز مسينة قرن تاريخها بتاريخ أوروبة، وعند سواحلها كانت تتكسر أمواج الغزاة المتدحرجة في شبة الجزيرة الإيطالية. ومواجهة بعضها لليونان وفينيقيا، ومواجهة بعضها لأفريقية أنشأ تفاوتاً في أجزائها. فتاريخها إذن هو تاريخ الشعوب ذات الحضارات في حوض البحر المتوسط فهو جزء من تاريخ اليونان والفينيقيين والرومان والقوط والبيزنطيين والعرب؟ من يد القوط أخذها بلزاريوس قائد جستنيان، ومن أيدي البيزنطيين انتزاعها قادة بني الأغلب بعد جهاد عنيف. 2 - صقلية في العهد البيزنطي لم يلق بلزاريوس قائد جستنيان عناء في الاستيلاء على صقلية من يد القوط حينما دخلها بجيشه سنة 535م، فقد عهد أليه الإمبراطور بفتح الجزيرة إن كان ذلك أمراً ميسوراً لا يكلفه جهداً، ولا يستغرق منه زمناً طويلاً. ووجد بلزاريوس كل ما يهيئ له البلوغ إلى غايته؟ وجد صقلية تكاد تكون خالية من الحاميات القوطية، وتلقاه السكان فرحين مرحبين يريدون التخلص من حكم القوط، فاستولى على قطانية، وفتحت له سرقوسة أبوابها، ولم يلق مقاومة إلا في بلرم لأنها كانت مطمئنة إلى مناعة أسوارها وقوة الحامية القوطية فيها، ولكن لم يمض وقت طويل حتى أصبحت كل جزيرة في قبضته دون ان يزهق نفسا (1) . وعد القوط هذا التقلب في عواطف السكان وترحيبهم بالبيزنطيين نكراناً للجميل. إذ كان الصقليون قد رجوا ثيودريك القوطي أن يعفى بلدهم من الحاميات والفرق العسكرية، فأجابهم إلى طلبهم، وترك شؤونهم في أيديهم،   (1) Bradley: The Goths P.209؛ Hodgkins؛ Italy And Her Invaders Vol؛ 4 P.7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 وكانت عاقبة هذا التسامح أن خذلوا القوط وتنكروا لهم أمام الفاتح الجديد، فلم تدافع مدينة عن نفسها، ولم يحاول أحد أن يشترك حتى في مناوشة، ولم يتظاهر السكان بأنهم مغلوبون على أمرهم. بل إنهم حالما شهدوا تلك القلة الضئيلة يقودها بلزاريوس، نكسوا كل علم قوطى وتنافسوا فيما بينهم في إظهار الولاء لبلزاريوس وسيده، فجرحوا بذلك شعور القوط جرحاً عميقاً ظلوا يتلمسونه ويتألمون منه على مر الأيام، حتى إذا أمكنتهم الفرصة أيام توتلا كان أول عمل قاموا به الانتقام لأنفسهم من صقلية الخائنة المتقلبة (1) . ولم تطل الفرحة بالصقليين فسرعان ما وجدوا أنفسهم يدفعون الضرائب الفادحة لخزينة الامبراطور، وعين جستنيان للجزيرة بريتوراً praetor من الدرجة الثانية، وجعل منها ومن دلماتيا ولاية واحدة (2) . وخضعت صقلية للأنظمة التي فرضها جستنيان على ما فتحه في الغرب، تلك الأنظمة التي جرت ألوان التعاسة على أفريقية وإيطالية. ويرى بروكوبيوس (في تاريخه السري) أن أقفرت من سكانها، وخليت الولايات دون حماية، وأصبح حكمها سيئاً، ورزحت تحت عبء الضرائب والاضطهاد الديني والثورات العسكرية، ومهما يكن في كلامه من مبالغة ففيه أيضاً جانب كبير من الحق (3) . أما حال الجيش فخير ما يصور لنا بؤس صقلية حينئذ أن العساكر البيزنطية كانت كالمجتمع نفسه أخلاطا من شعوب، لا يمكن أن تنبت في صدورهم محبة الوطن. وضعف الإغريق الذين كانوا عصب الجسم في الإمبراطورية، وغرقوا في الخرافات والأساطير وأخذوا يتهربون من الجندية، ويدفعون الفدية عن أنفسهم، فأصبح التجنيد وقفاً على البرابرة وسكان الحدود، ولم تكن الموارد الاقتصادية تكفي لتمد الجيوش بما يقوم بحاجاتهم، فلجأ القادة   (1) Hodgins: Italy، Vol، 4، P. 8. (2) Cambridge Med. Histore، Vol.2، P.20 - 21 (3) Cambridge med. History vol 2،p؛ 20 - 21 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 والحكام إلى طرق خطيرة النتائج، فكان القائد مثلا يعهد بأرضه إلى جماعة من الجنود كي يفلوحها ويفيدوا من حاصلاتها (1) . ودخل في صفوف الجيش جماعة من الفقراء الذين رضوا أن يتقاضوا أجراً قليلاً، وحل هؤلاء بجهلهم محل العسكريين أصحاب الدربة القديمة (2) . وهكذا تحول الجند إلى حاشية للقائد، ولم يعودوا أداة لكبح جماح الطغيان بل أصبحوا أداة لإحلال طغيان محل آخر (3) . وأما في الضرائب فكانت صقلية كغيرها من ولايات الدولة فريسة لجشع المحصلين تدفع ضريبة على الأملاك، وأخرى على الرؤس، وإتاوات على التجارة والصناعة، وزيادات إضافية على الضريبة الأولى، وضرائب للجند، وأخرىللملاحين وأموالا يبتزها الموظفون ويزيدون بها الحمل ثقلا (4) . وكانت الحال سيئة في أيام القوط فزادت سوءاً أيام السادة البيزنطيين حتى إن أحد الجباة في نهاية القرن السادس أجبر الرعايا العاجزين عن دفع المال على تقديم أبنائهم، واستطاع موظف تافه الشأن في صقلية أن يصادر الممتلكات بالقوة، ويقول القديس جريجوريو: " نحتاج إلى مجلد لنفصل الجور الذي سمعنا به من هذا القبيل " (5) . ولم تكن الدولة هي المستغل الوحيد لصقلية بل كانت الكنيسة تشاركها النفوذ والسلطان لكثرة أملاكها فيها، فكان لكنيسة روما وميلان ورافنا اقطاعات كثيرة (patrimori) وكانت أملاك كنيسة روما موزعة في أنحاء الجزيرة حول سرقوسة وقطانية وميلاص وبلرم وجرجنت، وكان يديرها رئيسان أحدهما في سرقوسة والثاني في بلرم (6) .   (1) amari: storia dei musulmani di sicilia vol،2p. 339 (2) op.cit.، p.340 (3) op.cit.،p. 341 (4) amari: s.d. .m.vol،2p.332 (5) op.cit.، p.333 (6) op.cit.،125 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 وكان في الأراضي الكنسية فلاحون يسمون الكولونيينcoloni وهم طبقة من الناس تشبه العبيد في ارتباطها بالأرض وتدفع الضرائب نقداً أو محصولات (1) . وظلت صقلية؟ كما كانت من قبل؟ " اهراء روما " يسافر منها كل عام أسطولان محملان بالقمح، مرة في الربيع وأخرى في الخريف، وإذا غرقت المؤن في البحر أو نهبت قبل وصولها، طولب الكولونيون بالتعويض (2) . هذا بالإضافة إلى أن جامعي المحصول كانوا يتلاعبون بالمكيال ويزيدون في نسبة الضريبة المقررة. فلما اعتلى جرجوريو الأول كرسي الباباوية سنة 590م ورأى سوء الحال حاول أن يصلحها جهده. وفي الثمانية عشر شهراً الأولى من رئاسته كتب أربع عشرة رسالة إلى وكيل له بصقلية اسمه بطرس يحاول أن يذكره بضرورة النظر في ظلامات الناس وإنصافهم وتحقيق العدالة فيهم (3) . فهو يأمره أن يرجع نسبة الضريبة إلى الحد المقرر، ويكسر المكاييل الكبيرة، ويصدر لكل فلاح في أراضي الكنيسة دفتر ضمان libellus securitatis يقيد فيه ما يدفعه من ضريبة مشروعة (4) . ومن هذه الرسائل يتبين لنا الحيف الذي كان يصيب طبقات الفلاحين. وكان المشرفون على أراضي القديس أبولنارس حامي رافنا يبعثون كل سنة سفناً محملة بمئات القناطير من القمح والفواكه والخضروات والجلود المدبوغة باللون الأرجواني، ومحملة بالحرير اللازوردي والمواد الصوفية وغيرها وكلها كانت توفر للكنيسة دخلا هائلا (5) . وفي أواخر القرن السابع أصبحت الجزيرة حصناً يدفع العدوان عن الجناح الغربي للإمبراطورية وثغرا بين عدوين قويين، وسمح لها أن تستقل نوعاً في   (1) Gregorovius: history of rome vol، 2p.57 (2) Gregorovius: history of rome vol، 2p.57 (3) Hodgkins: italy and her invaders vol، 5p. 310 (4) op. cit. 313 (5) Gregorovius: vol، 2، p. 365 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 تنظيم قواتها العسكرية، فأصبح لحاميتها تحت رياسة قائدها الأعلى stategos نفوذ واسع، ولكن هذه الحامية كانت غريبة تدافع عن غير وطنها، ولم يشترك فيها الشعب الصقلي، بل عاش ضحية لها أو متفرجاً يرمقها بأنظاره وحينا يصفق وحيناً آخر يلعن ويبكي، ولكنه لم يبادر إلى حمل السلاح أبداً (1) . تلك هي حال الجزيرة بين أطماع الحكومة والكنيسة وفساد حال الجيش، ومن ثم لم يكن المجتمع الصقلي في ظل الدولة البيزنطية مجتمعاً سعيداً ناهضاً مكفول الحرية؟ كانت الجزيرة تضم خليطاً من لأجناس، أهم عناصره الإغريق والطليان، وإلى جانبهم جماعات من اليهود تميزوا منذ البدء بانكماشهم على أنفسهم، وبكره الأجناس الأخرى لهم، ولكنهم لم يكونوا كثيري العدد (2) . وقد حاول جرجوريو أن ينصفهم ويدفع عنهم الاضطهاد. كما حاول أن يغريهم بالتنصر حين كلف وكيله في صقلية بحط الضرائب عنهم إن هم فعلوا (3) ولما استولى أسقف بلرم على معبد اليهود وحوله إلى كنيسة، عد جرجوريو هذا العمل حيفاً، وأمر الأسقف بأن يدفع ثمن المعبد، إذ كان رده إلى حاله الأولى قد اصبح عسيراً (4) وأضافت الحكومة إلى هذه الأجناس بعض المنفييين، إذ كانت تعتبر صقلية منفى للمذنبين والمجرمين والعساكر المتمردين. وامتلأت الجزيرة بقطعان العبيد الذين كثروا بما انضم اليهم من أسرى ومن ملاك صغار عجزوا عن الفلاحة لما بهظتهم الضرائب، فهربوا والتمسوا لهم منازل في مزارع الأغنياء ودفعوا حرياتهم ثمناً لذلك. وبعد زمن أخذ يقل تردد اسم العبيد في سجلات الأرض ويحل محله اسم الكولونيين (5) . ولم تحاول الكنيسة أن تصلح من حالهم بل أن جرجوريو شد وثائقهم في أملاك البابا،   (1) amari s.d.m vol، I pp. 341 - 342 (2) amari، s.d..m.vol، p.324 (3) Hodgkin's،vol، 5 p.316 (4) freeman: Sicily، p.351 (5) Amari، s.d.m vol، I p. 326 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 إذ صرفته شهوة الطموح السياسي عن أن يعمل شيئاً في سبيل أولئك التعساء حين ظن أن تحريرهم يقلل الوارد إلى خزينة البابا، ولم يكفه أنه أقر عبودية الأرض بل حرم عليهم أن يزوجوا أبناءهم من جنس آخر (1) . وكانت الخرافات تسيطر على حياة تلك الأجناس حتى مزجها الناس بالدين، فعبدوا القديسين وأخذ البابا يخص أهل الحظوة بشيء من بقايا رفاتهم، ويرسل إلى الكنائس النائية هدايا من زيت القناديل التي تضاء عند القبور الشهداء، أو يبعث بقطن غمس في ذلك الزيت ثم حفظ في زجاجة كتب عليها اسم أحد القديسين. ويؤكد جرجوريو نفسه أن لمس هذا الزيت يفعل المعجزات. وانضاف إلى عبادة الرفات إيمان بالخرافات الشائعة وبقيام الأموات من قبورهم ورؤية الهالات المطيفة برؤس القديسين، والرؤى التي يتمثل فيها الشياطين، ومن الغريب ان نجد رجلا مثل سان جرجوريو يؤمن بهذه الأباطيل وتكشف " حوارياته " عن إيمانه بكل خرافات عصره، حتى إنه لما دشن إحدى الكنائس باسم القديسة " إغاثة " حامية قطانية من غضب بركان لأتنا، قص هنالك أنه بعد الاحتفال رأى الشيطان قد تمثل خنزيراً وأخذ يروح ويجيء بين أرجل المصلين إلى أن فسحوا له وخرج وهذه الحواريات ترجمت إلى العربية في القرن الثامن (2) . وفي النصف الأول من القرن الثامن أذاع ليو في الناس منشوراً يحرم به الصور في الكنائس ويأمر بإزالتها. وعارضة البابا في حركته هذه وأرسل إليه رسائل شديدة اللهجة. ولما شاء ليو أن ينتقم من البابا أرسل أسطولا إلى صقلية استولى على ما له من أملاك فيها (3) . ثم زاد الضرائب على صقلية وقلوية، وأمر بتسجيل المواليد لكي يضمن للجزية سجلا لا يخطئ، وكانت ضربته   (1) Op. Cit، Pp.327 - 329 (2) Gregorovius،Vol،I Pp. 73 - 80 (3) يقدر ثيوفانس أنها كانت تدر على الكنيسة 3.5 تلنت (35 ألف قطعة ذهبية) ولكن الأستاذ أماري يشك في صحة هذا الرقم AMARI S.D. M. VOL I P. 125 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 الأخيرة في هذا السبيل أن اقتطع صقلية وقلورية والبريا من قبضة البابا وضمها إلى بطريركية القسطنطينية (1) . وفي عهد خلفائه نسمع عن اضطهادات في الجزيرة وعن ضحايا كثيرين من أهل صقلية غير أن الحالة كانت هادئة في النصف الثاني من القرن الثامن لأن عدد الجيش والقلاع لم يكن يسمح بالثورة (2) . وقد كان بعد الجزيرة يغري طامحاً بعد آخر بالاستقلال (3) وقامت غير محاولة من هذا القبيل كانت آخر واحدة منها سبباً في دخول المسلمين صقلية. وجملة القول أن صقلية البيزنطية فقدت؟ كما يرى الأستاذ أماري؟ شخصيتها ومقومات الحياة العمرانية فيها، واختنق فيها كل شعور بالرفعة الإنسانية، وبلغت من الانحطاط درجة ليس ثمة ما هو أدنى منها. 3 - الفتح الإسلامي ولم يكن الفتح العربي نتيجة لشعور الشعب الصقلي بأن حالته سيئة وأن تغير الحاكم قد يؤدي إلى تحسن في الأحوال، ولا كان استمراراً للموجة الإسلامية في اندفاعها الاول الذي كان من نتيجة فتح العراق وسورية ومصر وشمالي أفريقية والأندلس، فليس يمثل ذلك الاندفاع في صقلية إلا بضع غزوات قام بها المسلمون، ولم تثبت لهم في الجزيرة قدماً ولم تكن تلك الغزوات من اجل الغنيمة دائماً ففي 122هـ؟ نزل حبيب بن أبي عبيدة، حفيد عقبة فاتح أفريقية، أرض صقلية ومعه ابنه عبد الرحمن، وفي نيته أن يمضي في   (1) . 77 - 78 E.J MARTIN: HIST. OF THE ICONELASTS PP (2) AMARI، S.D.M.VOL، I PP. 345 - 46 (3) Bury: Hist.of the eastern roman. empire p. 295 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 الفتح حتى يستولي على الجزيرة كلها، غير أن قيام ميسرة السقاء بثورة في إفريقية اضطره إلى العودة وأحبط سعيه. وكانت الحوادث في إفريقية مشغلة للمسلمين، فحولت جهودهم عن صقلية. والحق أن تلك الغزوات أضافت لي خزينة الدولة شيئاً من المال ولكنها كانت إحدى العقبات في سبيل الفتح حين جاء أوانه، لأنها نهبت الروم إلى مدى الأطماع في نفوس العرب الفاتحين، وجعلتهم يتخذون من صقلية قاعدة لحماية الإمبراطورية عند حدودها الجنوبية، فعمروا فيها الحصون والمعاقل، حتى لم يتركوا جبلا إلا وبنوا عليه حصناً وصاروا يخرجون في كل عام مراكب تطوف بالجزيرة وتذب عنها، وربما صادفوا تجاراً من المسلمين فأخذهم (1) . إنما كان الفتح نتيجة لحادث من تلك الحوادث المتكررة على مسرح السياسة بصقلية، فأن رجلا اسمه فيمي Euphemius ثار على قسطنطين بطريق صقلية، لأن البطريق أراد أن يقبض عليه ويعذبه بأمر من حكومة القسطنطينية. وسواء أكان فيمى طامعاً من أولئك الطامعين، ثار في سرقوسة وأخفق، فلجأ إلى المسلمين، أم أنه اختطف فتاة جميلة كانت قد لجأت إلى دير وشكاه أهلها إلى الإمبراطور، أم أنه أحب هومونيزه omoniza الجميلة واغتصبها منه صاحب صقلية (2) فذهب يستعين بالقيروان عليه؟ سواء كان هذا السبب أو ذاك، فالذي حدث فعلا أن فيمي لجأ إلى بني الأغلب، يطلب منهم المعونة. وكانت بين أفريقية وصقلية هدنة لم تنقض مدتها، ولذلك جمع زيادة الله وجوه أهل القيروان وفقهاءها، وفيهم أسد بن فرات وأبو محرز القاضيان وسحنون الفقيه، واستشارهم في الأمر وجلس المجتمعون يقررون مصير صقلية، أتظل هذه الجزيرة للإمبراطور أم تكون لخليفة بغداد؟ أتبقى قطعة من القارة الأوربية أم تصبح جزءاً من أفريقية؟ وانقسم الناس فريقين: أقلية معتدلة   (1) ابن الأثير 5/89 والمكتبة الصقلية: 220. (2) انظر أماري S.D.M المجلد الأول: 367 - 381 عن الأسباب المقترنة بثورة فيمي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 متريثة لا ترى الغزو ولا تشير به، فيها سحنون الذي سأل المجتمعين كم بينها وبين بلاد الروم، قالوا: يروح الإنسان مرتين وثلاثة في النهار ويرجع قال: ومن ناحية إفريقية؟ قالوا يوم وليلة قال لو كنت طائراً ما طرت عليها (1) . وفريق متطرف متمحس، ينظر أفراده إلى الأمر نظرة دينية، ويعدون القيام به جهاداً في سبيل الله، وإعزازاً لدينه، وغلب سحنون على رأيه، وبقي للأيام أن تظهر بعد نظرة، وأن صقلية في موقعها لا يمكن أن تكون جزءاً من أفريقية، وبقي للأيام أن تثبت مرارة الجهاد عند من تحمسوا له، وبقي أيضاً شيء واحد لم يكن له لولا الحماسة الدينية من حل: هو الهدنة وكيف يستبيح الفقهاء أن يفتوا زيادة الله بنقضها؟ وعرض الأمر على أسد وأبى محرز وعاد التطرف والاعتدال يقفان موقفهما من تلك المشكلة. فأما أبو محرز فآثار التريث، وأما أسد فرأى أن يسأل رسل الصقليين ليعرف هل لديهم في صقلية أسرى من المسلمين. قال أبو محرز: وكيف نقبل قول الرسل عليهم أو دفعهم عنهم؟ فقال أسد: بالرسل هادناهم وبالرسل نجعلهم ناقضين. قال الله عز وجل: " فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون " فكذلك لا نتماسك به ونحن الأعلون (2) . وحلت العقدة أو تحلل زيادة الله من الهدنة، حين أقر الرسل بوجود الأسرى من المسلمين في صقلية، وأذن بالغزو وعهد بالقيادة إلى أسد، وأقلع الأسطول من مدينة سوسه يوم السبت، النصف من شهر ربيع الأول سنة 212 في نحو مائة مركب، سوى مراكب فيمي (3) وأعاد التاريخ نفسه: هذه هي صقلية تغزي مرة ثانية من شمال أفريقية كما غزيت أول مرة على يد الفينيقيين، وهذا هو جيش أسد بن الفرات يدخل صقلية من الجهة التي دخلها منها الفينيقيون أيضاً، وها هي الجموع السامية تقاتل كما قاتلت من قبل   (1) النويزي في المكتبة: 427 - 428. (2) رياض النفوس في المكتبة: 182 - 183. (3) النويري في المكتبة: 428. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 وتحمل دينا آخر تريد أن تبسطه على الجزيرة (1) . وتختلف المصادر في عدد الجيش الذي خرج مع أسد، ولكنها تتفق في أنه كان مكوناً من أشرف أفريقية من العرب والجند؟ ومعظمهم من الفرس الخراسانيين (2) ؟ وأسد واحد منهم؟ ومن البربر والأندلسيين وأهل العلم والبصائر (3) ولم يرتح أسد لاشتراك فيمى وأصحابه معه في القتال، فأمرهم أن يعتزلوا المسلمين (4) ، واستطاع؟ في وقت قصير؟ أن يستولي على عدة حصون بينها مازر، وأن يغنم غنائم كثيرة، غير أنه عاد فوقع في خطأ من جاءوا قبله، حين حاول فتح سرقوسة. حقاً إنه استطاع أن يضيق عليها ويحرق مراكبها ويقتل جماعة من أهلها، مستعينا بأمداد من أفريقية والأندلس (5) ، ولكن اسطولا من القسطنطينية وصل لنجدتها وكان الوباء قد تفشى في المسلمين وهلك من جرائه كثيرون فيهم أسد نفسه (6) . وكان أسد قد ترك في كل حصن استولى عليه حامية تضبطه فقل عدد جيشه. ولما رأى المسلمون شدة الوباء نزلوا في مراكبهم فمنعهم الروم من الخروج، وعندئذ أحرق المسلمون مراكبهم، ورحلوا إلى مدينة ميناو mineoفحصروها ثلاثة أيام وتسلموا الحصن (7) . ونستطيع أن نجمل القول بأن الفتح العربي كما دون في كتاب التاريخ غير ملطف بجو اسطوري، أو مزوق بشيء من التهويل، ولكنه على واقعيته التي يتسم بها يكاد يبلغ حد المغالاة في تصوير المثابرة والنفور من الاستسلام،   (1) أول من أشار إلى الفكرة المؤرخ grote ثم اعتنقها freeman وأسهب في بيانها. انظر الفصل الأول من كتابه hist المجلد الأول. (2) amari، s. d. m.vol، ip394 (3) ابن عذاري في في المكتبة: 355. (4) ابن الأثير 6/137 والمكتبة:222 وأمرهم أسد أن يجعلوا على رءوسهم سيما يعرفون بها ليلا (انظر المكتبة 185 عن رياض النفوس) . (5) ابن عذاري في المكتبة: 355. (6) يقول ابن خلدون إنه دفن في بلرم والنص يفيد أن بلرم كانت قد فتحت وهو نص غريب، إذ يقول بعد قليل أن بلرم فتحت بالأمان سنة 217 (انظر المكتبة: 467) . (7) ابن الأثير 6/138 والمكتبة: 223. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 والذهاب إلى الغاية في التضحية بالنفس، وقد كانت الأوبئة والمجاعة والخسارة في الأرواح كافية لأن تخلق اليأس في نفوس الجند المحاربين، ولكن يشبه أن يكون فتح صقلية عناداً مستمداً من قوة النفسية التي خرج بها أسد فاتحاً أكثر من كونه سعياً وراء غنيمة أو كسب. وكان مما يزيد المحاربين حرجاً انشغال زيادة الله بفتنة في الداخل وغزاة من الخارج. ولما اصبح في مقدور زيادة الله أن يمدهم بالجند فتحوا بلرم سنة 216هـ؟. وكان فتح بلرم خطوة كبيرة أدت إلى استيلاء على سائر الجزيرة، فلم يعد المسلمون في حاجة إلى الانحياز في معسكرات أو قلاع صغيرة، وكانت بلرم مدينة بحرية جيدة الميناء، واتصالها بأفريقية سهل، ولذلك أصبح في استطاعتهم أن يعتمدوا على مدد دائم من أفريقية، وأن يحصلوا على المؤن باستمرار. ثم إن المنطقة حول بلرم خصبة يمكنها أن تزود عساكرهم بمؤن كثيرة (1) . ولذلك اتخذها المسلمون قاعدة لهم كما فعل الفينيقون من قبل. وأخذوا يزحفون منها على النواحي الأخرى من صقلية فإذا قضوا مهمتهم عادوا إليها. وأخذت السرايا تخرج كل يوم فتغير في انحاء الجزيرة، وترجع محملة بالرقيق والغنائم. وكان من أثر عمليات النهب هذه أن ضعفت روح المقاومة عند كثير من المدن والقلاع، فاستأمن كثير منها إلى المسلمين (2) وبثت السرايا الرعب حيثما اتجهت. وعلى هذه الأعمال التمهيدية اعتمد الفتح في كثير من الأحيان، وكان حرق المزروعات خطة مقصودة لتوهين الناحية الاقتصادية ومن ثم إضعاف روح المقاومة عند السكان. إذ كانت المقاومة التي يلقاها المسلمون مزدوجة، فهم يواجهون القوات المحلية التي يقودها بطريق صقلية، ويواجهون الجيوش والأساطيل التي ترسلها حكومة القسطنطينية لتدافع عن الجزيرة. وكانت أعنف مراكز المقاومة ثباتاً هي قصريانة وسرقوسة وطبرمين ومنطقة دمنش، ولذلك كانت السرايا المبثوثة تحاول في يأس أن تعمل شيئاً. واستولى المسلمون على مسينة   (1) أنظر أماري s.d.m المجلد 1 ص 26. (2) ابن الأثير 6/ 202 والمكتبة: 228. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 فانفتحت أمامهم الطريق إلى جنوبي إيطاليا. والظاهر أن جهودهم هذه حولت انتباههم عن بقية صقلية، وأتاحت للمدن فرصة تتقوى فيها. لكن أعمال السرايا القائمة على تخريب لم تنقطع فكانت تخرج في الصيف والشتاء. وانضم إلى هذه الأعمال الابتدائية عامل ساعد على الفتح، وبه انهار الركن الثاني من المقاومة؟ ذلك هو الخيانة المحلية فبمساعدتها تم الاستيلاء على قصريانة في ولاية العباس بن الفضل. ففي سنة 241 أقام العباس ثلاثة أشهر حول قصريانة، يقتل ويصيب ويغنم، وكان ممن أسره المسلمون رجل كان له عند الروم قدر ومنزلة (1) فلما راى هذا الرجل أنه مقتول، طلب إلى العباس أن يستبقيه ووعده بأن يسهل للمسلمين فتح قصريانة؟ كان الوقت شتاء والثلج قد غطى البقاع، وأهل قصريانة آمنون من قصد المسلمين وغير مستعدين للقاء، فأرسل العباس مع الرومي نحو ألفي فارس من عسكره، فدلهم على المدخل إلى المدينة، فدخلوا ووضعوا السيف في الروم وفتحوا الأبواب، ولما دخلها العباس بني فيها في الحال مسجداً ونصب فيه منبراً وخطب فيه الجمعة، وقتل من فيها من المقاتلة وأسر من فيها من بنات البطارقة بحليهن، وأصابوا فيها ما يعجز الوصف عنه، وأهدى من سبيها للمتوكل وبسقوطها ذل الشر يومئذ بصقلية ذلا عظيما (2) . وارتجت المعنويات واهتزت لسقوطها القسطنطينية، وأرسلت أسطولاً ليثأر لها ففجأه المسلمون وقضوا عليه. ولم تعترف صقلية بالهزيمة لأن قسمها الشرقي وهو أقربها إلى القسطنطينية كان لا يزال ممعناً في المقاومة بتحريض من الإمبراطور، بل إن كثيراً من القلاع التي استسلمت للمسلمين انتقضت عليهم سنة 246 ولم يجد الوالي المسلم بدا من تحصين قصريانة، لتكون ملجأ يلوذ به المسلمون كما يلوذ الروم بسرقوسة. بل إن العباس حاول التحرش بسرقوسة نفسها ولكن منيته أدركته عند غيران قرقنة، وطويت بموته صفحة من البطولة والشجاعة والجهاد   (1) ابن الأثير 7/20 والمكتبة 232. (2) ابن الأثير 7/20 والمكتبة: 232 - 233. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 الدائب، فدفنه المسلمون هناك وجاء الروم فنبشوا القبر وأحرقوا جثته (1) . وسار خلفاؤه على سنته في بث السرايا وتخريب المزارع، والاستفادة من الخيانة المحلية، وبواسطتها سلمت نوطس، واستأمنت رغوس، وظلت سرقوسة ممتنعة وقصاري كل وال أن يبث في أرضها السرايا فيغنم ويحرق. وكاد المسلمون يستولون على طبرمين بعون من الخيانة سنة 255 ولكن البطء في تنفيذ الخطة عاقهم عن ذلك (2) . وبعد عشرين سنة من سقوط قصريانة جاء دور الركن الثالث من أركان المقاومة وأمير صقلية يومئذ جعفر بن محمد. وظلت سرقوسة التي ظن أسد ابن الفرات أنه يستطيع فتحها تقاوم مدة تزيد على خمسين سنة، ولم تهن عزيمتها إلا حين استطاع جعفر أن يملك بعض أرباضها، ووصلت إليها مراكب الروم فأصابها المسلمون، وتمكنوا من حصر المدينة واستمر الحصار تسعة اشهر عانى فيها السكان شدة وضيقا، ويحدثنا ثيودوسيوس في رسالة كتبها يصف فيها حصار المسلمين لبلده وكيف قاومت وكيف سقطت Epistolae De Expugnation Siracusarum، يحدثنا أن المسلمين أعدوا الحصار سرقوسة كل ما قدروا عليه من آلات الحصار (3) . ثم نفدت المؤن من المدينة وانتشرت المجاعة بين الناس، ويقول ثيودوسيوس الراهب الغرماطيقي في لهجة حزينة: لقد أتينا على كل الدواجن واضطررنا أن نأكل ما كانت تحصله أيدينا، دون ان نراعي فروض الصوم، لأن الحبوب والأعشاب والزيت كانت كلها قد نفدت، وأما صيد السمك فوقف منذ أن قبض العدو على زمام الميناء. وكان المقدار الضئيل من القمح؟ إذا تيسر؟ يسوي مائة وخمسين بيزانته ذهبية (الواحدة؟ 10 شلنات) ومن الطحين مائتين، وأوقينا الخبز ببيزانتة واحدة، ورأس حصان أو حمار يباع بخمس عشرة أو عشرين، أما الفرس فلا يتيسر شراؤها بأقل   (1) عن ابن الأثير 7 /21 والمكتبة: 234. (2) عن ابن الأثير 7 /34 والمكتبة: 236. (3) انظر اماري S.D.M. المجلد الأول:537. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 من ثلاثمائه ... (1) وكان لا بد لجيش اختلطت فيه ألوان كثيرة من الجنود أن لا يكون مثاليا في تصرفاته حين يستولي على إحدى المدن ولكن ثيودوسيوس لا ينكر حدوث ما يدل على المعاملة الحسنة والنظام بين الجنود والطاعة لأوامر قائدهم الاعلى. وفي نهاية جعلت سرقوسة تيهاً من الخرائب، ولم تبق فيها نسمة حياة، ولم يكن هنالك ثيوقريطس أو ابن حمديس ليبكي مصرع وطنه (2) . وأخلى المسلمون المدينة ونقلوا الأسرى والغنائم إلى بلرم (3) وكان على هؤلاء الأسرى أن يستطعموا مرارة أخرى سوى مرارة الأسر، تلك هي رؤيتهم مدينة بلرم التي كانوا يرون من الحطة أن يقيموا لها وزنا؟ رؤيتهم بلرم تحنيهم تحت نيرها. وثارت في نفوس أولئك الأسرى تلك المنافسة البلدية ولم يستطيعوا أن يفرقوا بين بلرم التي كانت عاصمة لولاية بيزنطية وبين بلرم عاصمة الحكومة الإسلامية (4) . ويحدثنا ثيودوسيوس بأنه نقل مع الأساقفة ورئيسهم صوفرونيوس بعد خمسة أيام إلى الأمير الأعلى، ويعني به والى صقلية، فوجدوه " جالساً في رواق وقد احتجب عن الأعين خيلاء وجبروتا " وتحدث الأمير إلى رئيس الأساقفة والمترجم بوجه الحديث بينهما في جدل ديني قصير، ثم أذن لهم فانصرفوا (5) . كان سقوط سرقوسة نهاية محاولات طال مدها، ولكن لم ينته به كل عناء. فقد بقي أكثر القسم الشرقي غير خاضع للمسلمين، وظل الروم يجددون محاولاتهم لاسترداد ما فقدوه، وظلت قطانية وطبرمين وغيرها من المدن الشرقية شوكة في جنب المسلمين، وكانت الروح الدينية في هذه المنطقة ذات أثر في إذكاء نار المقاومة. وظل والى بلرم يخرج بجيشه أو يبث سراياه ويفسد الزروع والثمار ويحرق الكروم. ولما قرر إبراهيم بن الأغلب الخروج في   (1) المصدر نفسه: 539 - 540. (2) Amari، S. D. M. vol I pp. 547 - 48. (3) op.cit p. 548. (4) op. cit. p. 549. (5) Amari: S. D. M. vol،I، p 549. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 جهاد متسع الأطراف سنة 289 استطاع فتح طبرمين وكان وقع الخبر على سماع الإمبراطور مؤلماً (1) . وارتكز هم إبراهيم في منطقة دمنش، ولكن منيته لم تهمله ليتم فتح هذه المنطقة، وأخذت الفتن المحلية تشغل بال المسلمين، ووافق ذلك ظهور العبيديين وسقوط الأغالبة، وكان هم أول وال عبيدي على صقلية أن يحارب دمنش، ولكن استمرار الفتن مدة طويلة أراح شرق الجزيرة من إلحاح الجيش الإسلامي، حتى طبرمين التي افتتحها إبراهيم عمرت من جديد واضطر أحد ولاة الكلبيين على جزيرة أن يعاود فتحها سنة 351 هـ، ويهدمها. وبقيت المنطقة الشرقية غير معترفة تماماً بسلطان المسلمين إلى آخر أيامهم في الجزيرة. وقنع منها الولاة بالجزية ووجهوا همتهم إلى الفتح في جنوبي إيطاليا أو إلى صد الروم عن إنجاح محاولاتهم للاستيلاء على شيء في الجزيرة. 4 - الفتن الصقلية في فترة الانتقال من يد الأغالبة إلى بني أبي الحسين الكلبيين طال عهد الشقاق والفتنة بصقلية عند تغير الحكومة في أفريقية بزوال دولة الأغالبة وقيام العبيديين، وربما كانت تلك الفتن المتكررة (300 - 327) تعبيراً عن محاولات للاستقلال، وشعوراً داخلياً من شيوخ الجزيرة بكرههم للتبعية لأفريقية، ولكنها لم تكن كذلك في كل مظاهر العصيان، بل كانت أحياناً أخرى مسببة عن كره بعض الولاة للحكومة الشيعية الجديدة وميلهم بعواطفهم إلى الخلافة العباسية، ومنذ هذا الحين نجد صقلية أولا، وشمالي أفريقية ثانياً، مسرحاً للتنافس بين الخلافتين العباسية والفاطمية، وكانت الفتن في أحيان أخرى نتيجة ظلم الولاة واعتبارهم صقلية كنزاً يغترفون منه ما يملأ جيوبهم وخزانة دولتهم بالمال. وضرب الصقليون في هذه الفترة أمثلة كثيرة في التقلب وعدم الثبات على حال، وفي فزعهم إلى العدو الخارجي يستغيثون   (1) عن ابن الأثير 7/94 والمكتبة: 241. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 به، كأنما كانت تسيرهم المصلحة العاجلة وحدها دون بعد في النظر، وسيظل هذا هو الداء العضال الذي تشكوه صقلية، بحكم موقعها، وسيكون هذا الداء سبباً في القضاء على السيادة الإسلامية في أرجائها. ونستطيع أن نتصور التبعية المطلقة التي كانت تدين بها صقلية لأفريقية أيام الأغالبة، إذا عرفنا أن المهدي، حال تسليمه المقاليد، أرسل إليها بوال وقاض من قبله، ولا نعرف أنه حاول عندئذ أن يرى رأى صقلية في المسألة، ولا أنه حسب لامتناعها عليه حساباً، فأعد لإخضاعها أسطولاً إن هي حاولت أن تقف موقف المعاند الجريء. ولم يثر الصقليون على أول ولاة المهدي، إلا حين أساء السيرة فيهم، واعتذروا إلى المهدي مما فعلوه فقبل عذرهم، وولى عليهم والياً آخر، فلما آنسوا منه ليناً وضعفاً، عزلوه وولوا عليهم أحمد بن قرهب (1) . ومن الطريف أن أحمد هذا كان كارهاً تولى المر فهرب من الصقليين وتوارى عنهم في غار (2) . غير أن إلحاح وجوه البلد عليه وتعهدهم له بأن لا يخذلوه جعله يقبل. والحقائق التي نستطيع جمعها عن هذا الوالي الجديد تصوره رجلا بعيد الطموح، ولكن يشك في بعد نظره - كان يفهم طبيعة الصقليين فهماً تاماً، ويعرف أن العنصر الصقلي قد قوي إلى حد لا يستطاع إخضاعه أو قهره بالعسكر الصقلي نفسه، إذ كان من السهل أن يتفاهم الشعب والجيش على خصومه الوالي الأجنبي عنهم. وكان يعلم أن أهل بلرم خاذلوه دون اكتراث كثير ليمان أو عهود، ومع ذلك فقد قام بعدة محاولات فيها ما يناقص هذا الفهم فأسرع بنفسه إلى الهاوية ووقع فريسة لتقلب الصقليين. حاول ابن قرهب أن يغير العاصمة فأرسل ابنه إلى طبرمين ليفتحها ويجعلها حصناً يأوى إليه هو وأبناؤه وعبيده وأمواله، ونسى أن طبرمين امتنعت على كل قائد من قبله، وغفل كذلك عن أن طبرمين في منطقة مسيحية لا تتجاوب   (1) ابن الأثير 8/23 والمكتبة: 251. (2) ابن عذاري في المكتبة:364. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 معه في العواطف، وأنها لا تصلح حتى أن تكون ميناء يهرب منه إلى المشرق. وعند أسوار طبرمين ثبت لابن قرهب فعلا أن الجند الصقلي كان قد اصبح أداة فاسدة، إذ اختلفوا على ابنه أثناء الحصار وكرهوا طول الإقامة، واحرقوا خيمته، وكادوا يفتكون به، لولا أن حماه العرب (1) . وحماية العرب له تدل على أن ابن قرهب كان قد انحاز إلى الفئة القليلة ولم يكن ذلك يرضى الصقليين. والظاهر أن ابن قرهب لم يكن في بادئ الأمر يفكر في الخروج على المهدي، وشاهد ذلك أنه كتب إليه القول: إن أهل صقلية يكثرون الشغب على أمرائهم ولا يطيعونهم، وينهبون أموالهم، ولا يزول ذلك إلا بعسكر يقهرهم ويزيل الرياسة عن رؤسائهم (2) . فمثل هذا القول يدل على إخلاصه النصح للخليفة العبيدي، ولا ندري ما الذي غيره عن هذه الطريقة فإذا به يستميل أهل صقلية، ويقنعهم بالثورة على المهدي والدعوة لبني العباس، وإذا هو يطمئن إلى الصقليين وينسى سرعة تقلبهم. وإجابة الناس إلى طاعة المقتدر فخطب له بصقلية وقطع خطبة المهدي (3) . وكتب إلى المقتدر ببغداد أن يكون داعياً له وقائماً بأمره بجزيرة صقلية، فأنفذ المقتدر ذلك له، وبعث إليه بألوية سود وخلع سود وطوق ذهب، ولما وصل إليه ذلك سر به، وأظهر الحزم والجد في أمره (4) ، فبدأ بالمقاومة العملية فأحرق أسطول المهدي بمرسى لمطة وقتل قائده وأسر من أصحابه نحو ستمائة رجل، وبلغ الأمر عبيد الله فأرسل جيشاً يدافع عن الأسطول، ظناً منه أنه لا يزال يمكن إنقاذه، فظفر ابن هرقب بأصحابه وغنم ما معهم. ثم اتسعت خطة ابن هرقب فأراد أن يغزو المهدي في عقر داره فبعث بأسطول إلى أفريقية، ولكن أسطول المهدي انقض عليه، وأخذ مراكبه،   (1) ابن الأثير 8/23 والمكتبة: 252. (2) ابن الأثير 8/23 والمكتبة: 253. (3) المصدر نفسه 8/23 والمكتبة: 252. (4) ابن عذاري في المكتبة: 346. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 وطارت أحلام ابن قرهب في لحظة. واستيقظ أهل صقلية من سحر ابن قرهب، ورأوا أن الوقت حان لإعلان العصيان، وكان البادئ بذلك أهل جرجنت فكتبوا إلى المهدي، وتبعهم في ذلك أهل البلاد الأخرى، وثارت صقلية كلها على ابن قرهب ودعوته العباسية، ولم تنفعه خلع المقتدر وألويته. وحاول مداراة أهل البلد وملاينتهم فلم تثمر محاولته، ثم فكر في النجاة إلى الأندلس واكترى مراكب وشحنها متاعاً، فحال أهل صقلية بينه وبين ما أراد، وانتهبوا ما كان له وأسروه هو وابنه وقاضيه ابن الخامي (1) . وبعثوا بهم إلى المهدي فقتلهم وصلبهم وانتهت بذلك هذه الحركة الخطيرة. ولم يكن أهل صقلية جادين في تحولهم نحو العبيديين، كانوا يريدون الخلاص من ابن قرهب فتم لهم ذلك، ثم أرادوا ان تكون الحكومة في أيديهم وأن لا يكون المهدي إلا اسم، فأرسلوا يطلبون منه واليا وقاضياً، ويظهرون عدم احتياجهم إلى رجال أو مدد (2) ، ويشترطون شروطاً خاصة، وكانوا ينوون من ذلك أن تظل المبادرة في أيديهم، وأن يتحكموا في الوالي كيفما طاب لهم، ولكن ابن قرهب لم يمت قبل أن يفضي للمهدي بسر حالهم، وعرف المهدي كبف يؤدبهم، فجهز إليهم جيشاً من الكتاميين أنصاره الخلص، وأخرجهم في أسطول فأظهرت بلرم الامتناع، فحاصرها القائد بجيشه وقتل جملة من أهلها، وأحال كتامة على من ألفى في أرباض المدينة من النساء والذرية فعبثوا بهم وافترع الجواري الأبكار (3) . وعندئذ طلب أهل صقلية الأمان ودفعوا القائد المهدي المحرضين على الفتنة، فآمنهم وهدم سور مدينتهم وأخذ سلاحهم وخيلهم وضرب عليهم مغرماً، وبعث بمن أخذ منهم إلى عبيد الله في مراكب فانكفأت بهم في البحر (4) . وأتاه كتاب من المهدي يأمره بالعفو   (1) المصدر السابق: 365. (2) المصدر نفسه: 365. (3) المصدر نفسه. (4) المصدر نفسه: 366. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 عن العامة (1) . وولى صقلية سالم بن أبي راشد وجعل له حراساً من كتامة. وكان سالم مثال الوالي الظالم العسوف، فعهد بحكم المدن إلى ولاة غلاظ قساة، وحاق بالناس ظلم أخرجهم عن طورهم وأدى بهم إلى الاستماتة في مقاومة ذلك العسف، فثارت جرجنت (2) واقتدت بها بلرم فأرسل سالم إلى الخليفة القائم يعرفه أن أهل صقلية خرجوا عن طاعته وخالفوا عليه، فأمده بجيش على رأسه خليل بن إسحاق. واستقبل الناس خليلاً بالشكوى، وخرج إليه النساء والصبيان يبكون ويشكون، حتى رق الناس لهم وبكوا لبكائهم (3) . وتذمروا من سالم وسياسته، وظنوا أن الخلاص سيكون على يدي خليل ولكن سرعان ما كذبتهم الظنون فغن سالماً خلا بهم وأفهمهم أن خليلاً جاء لينتقم منهم بمن قتلوا من عسكره، وتحقق لديهم صدقه حينما أخذ خليل يهدم أسوار بلرم، ويبني عند المرسي مدينة ويحصنها، وهي التي سماها " الخالصة " وأرهق الناس في أعمال البناء، فخاف أهل جرجنت، وحصنوا مدينتهم واستعدوا للحرب، فسار إليهم خليل سنة 326هـ؟ وحاصرهم ثمانية أشهر ولم يخل يوم واحد فيه من القتال، ولما حل الشتاء رحل عنهم إلى الخالصة. وسعى أهل جرجنت فألبوا عليه المدن الأخرى، وفي السنة التالية ثارت جميع القلاع وأهل مازر. وكاتب الجرجنتيون ملك القسطنطينية يستنجدونه فأمدهم بالمراكب فيها الرجال والطعام. وفزع خليل ورأى أن صقلية تؤول إلى الانفلات من قبضة العبيديين فاستنجد بالقائم فأمده بجيش كبير، فأخذ يحاصر القلاع، حتى انقضت سنة 327 وضيق على جرجنت، وظل يحاصرها حتى سنة 329، فسار كثير من أهلها إلى بلاد الروم، وتنصر أكثرهم، وطلب الباقون الأمان فأمنهم على أن ينزلوا من القلعة، فلما نزلوا غدر بهم وحملهم إلى المدينة، ولما سقطت زعيمة الثورة أذعنت سائر القلاع، وهدأت   (1) ابن الأثير 8 /24 والمكتبة: 253. (2) كان والي جرجنت من قبل يسمى ابن أبي حمران، المكتبة: 437 عن النويري. (3) ابن الأثير 8 /108. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 صقلية بعد أربعة أعوام قضاها خليل في حررب وحصار. ولما عاد إلى إفريقية أخذ معه وجوه أهل جرجنت وفي عرض البحر خرق بهم السفينة فغرقوا. وذات يوم كان خليل في أحد المجالس وحوله جماعة من وجوه الناس. والحديث بينهم ينتظم ويفرق، ولما بلغ القوم الحديث عن صقلية قال خليل مفتخراً " إني قتلت ألف ألف يقول المكثر، والمقلل يقول: مائة ألف في تلك السفرة " ثم قال: لا والله إلا أكثر؛ فرد عليه واحد من الجماعة بقوله: يا أبا العباس لك في قتل نفس واحدة ما يكفيك " (1) . 5 - صقلية تحت حكم بني أبي الحسين الكلبيين ولم تحب صقلية ولاة من قبل الخليفة الشيعي كما أحبت بني أبي الحسين. ففي سنة 336 هـ تولى أمرها الحسن بن علي بن ابي الحسين من أسرة الكلبيين وكانت هذه الأسرة من أخلص أعوان العبيديين، ولأفرادها مواقف جليلة في خدمة الدولة الفاطمية أثناء ثورة أبي يزيد، وتقديراً لخدمات الحسن كافأه الخليفة المنصور بولاية صقلية، وتلقته بلرم كما كانت تتلقى من قبله من الولاة، إذ كانت أطماع الرؤساء المحليين لا تزل مصدراً للقلق في المدينة. وكان آل الطبري هم زعماء المقاومة فيها. ولم يكن مع الحسن حينما نزل صقلية جيش يعتمد عليه في مقاومة المشاغبين، ولكنه استطاع بدهاء فذ أن يفسد خططهم. ووجد في بلرم جماعة قد سئموا كثرة التقلب ورغبوا في السلامة فانضموا إلى الوالي الجديد وانحاز إليه أصحاب الدواوين وكل من يريد العافية (2) . ومال   (1) انظر تفصيل الأخبار عن خليل بن إسحاق عند ابن عذاري في المكتبة: 368 والحلة السيراء، المكتبة: 330 وانفرد النويري بالقول إن أهل صقلية أطاعوا خليل بن إسحاق فأكرمهم وعزل عنهم عمال سالم ثم سكت عما ورد في المصادر الأخرى. (2) ابن الأثير 8 /156 والمكتبة: 258. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 إليه كل منحرف عن بني الطبري. ورأى أهل المدينة بشائر عدله حين قتل غلاماً له اتهم بالتعدي على أهل البلد (1) فتأكدوا أن هذا الوالي يختلف عمن سبقوه، واستبشروا به. ولما ثبتت قدمه في المدينة قبض على أهل الفتنة وصادر أموالهم (2) . وظل الحسن في صقلية خمس سنين. ولما توفي حزن عليه أهل صقلية حزناً عظيماً لما كان قد أجرى الله على يديه من العدل وظهور الخير (3) . وتعاقب على صقلية من الكلبيين عشرة ولاة في مدة خمس وتسعين سنة شهدت في أثنائها تقدماً في الحياة العمرانية وفي العلوم والأداب، كما شهدت جهادهم المستمر في جنوب إيطاليا وفي مقاومة أطماع الروم في الجزيرة. وأخلدت صقلية إلى الهدوء وجنت من ذلك خير الثمار. وكان من أسباب هذا الهدوء انشغال الجند في اكثر الأوقات بالحروب في جنوبي إيطاليا، وإخلاص الكلبيين في الدفاع عن صقلية، واعتبار أنفسهم مستقلين استقلالا داخلياً في شؤون الجزيرة. وقد استطاعوا منذ البدء أن يرضوا الطامعين المحليين ففي سنة 347 سار احمد بن الحسن الكلبي ثاني ولاة الجزيرة من أسرة بني أبي الحسين ومعه ثلاثون رجلا من وجوه الجزيرة إلى المعز بأفريقية فبايعوه وخلع عليهم المعز (4) وفي نسخة كمبردج العربية من تاريخ صقلية أن الذي ذهب بهم إلى إفريقية هو الحسن الوالي الأول (سنة 3469 961م) وينص هناك صراحة على أنه أدخلهم في مذهب أمير المؤمنين وكثر مقتناهم وأفضلهم (5) . ومعنى ذلك أن العناصر القلقة التي كانت تطلب لنفسها الزعامة قد أرضيت بالمال والتقرب من الخليفة، وأن الوجوه دخلوا في المذهب الشيعي ولا   (1) المصدر السابق. (2) المصدر نفسه والمكتبة: 59. (3) centenario المجلد الثاني: 477 عن أعمال الأعلام. والأخبار عن وفاة الحسن فيها شيء من الاضطراب فأكثر المصادر أنه هاجر من صقلية وعند ابن خلدون أنه توفي من شدة فرحه عند ما جاءته الأخبار بانتصار المسلمين على الروم. (4) أبو الفداء، حوادث سنة 336، 2/96 والمكتبة: 408. (5) تاريخ جزيرة صقلية لمؤلف مجهول، نسخة كمبردج العربية، في المكتبة الصقلية:175. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 ندري بعد هذا الخير كيف كان حال التشيع في الطبقات الأخرى. وابن حوقل وهو داعية من دعاة الفاطميين ينحى بالذم الشديد على الصقليين لكثرة ثورتهم على السلطان، فهل يفهم من هذا أن طبقات الشعب كانت تكره الخلافة الفاطمية؟. واستدعى المعز الأمير أحمد ففارق صقلية بجميع أهله وماله وأولاده وأخوته فركبوا في ثلاثين مركباً ولم يبق منهم بصقلية أحد (1) ، وولى الجزيرة يعيش المولى ففشل في تهدئة فتنة ثارت بين كتامة والقبائل (2) . وتطاول أهل الشر من كل ناحية ونهبوا وأفسدوا على أهل المراعي، واستطالوا على أهل القلاع الآمنة (3) . فأعيد الأمر إلى واحد من الكلبيين وتولى أبو القاسم الحكم سنة 359هـ؟. وأبو القاسم هو الملقب بالشهيد لأنه استشهد في غزاته الخامسة بجنوب إيطاليا سنة 372 هـ. وكان حسن السيرة فاضلا محبا للعلماء والصالحين (4) . ولعل الجزيرة لم تشهد عهداً كعهد الأمير أبي الفتح يوسف الملقب بثقة الدولة (379 - 388) فقد عهد أليه أبوه بولاية صقلية وأتاه سجل من العزيز من مصر بذلك، فضبط الجزيرة وأحسن إلى الرعايا (5) وأسى بجلائله وفضائله كل من كان قبله نم بني أبي الحسين (6) . وكانت أيام الناس بصقلية الناس بصقلية في مدته على أفضل ما يشتهون. وقد ضبط البلد ضبطاً عظيماً وأداخ الروم واستقامت له الأمور، وظهر من كرمه وجوده على سائر الناس ما لا يحيط به وصف (7) . وكان بلاطه في بلرم مقصد العلماء والأدباء وظل قائماً بالأمر خير قيام حتى أصابه فالج عطل نصفه الأيسر فتنازل لابنه جعفر.   (1) النويري في المكتبة:441. (2) ابن خلدون 4/ 209 والمكتبة: 482. (3) ابن الأثير 8/ 201 والمكتبة: 267. (4) centenario 2/ 477. (5) النويري، المكتبة: 442. (6) ابن خلدون 4/ 210 والمكتبة: 483. (7) centenario 2/ 479 - 480. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 وأول وهن حدث في حكم الكلبيين اختلاف أفراد منهم فيما بينهم على الإمارة فقد ثار على جعفر الملقب بتاج الدولة أخوة على، واستفاد من الخلاف العنصري في الجزيرة فاستمال إليه البربر والعبيد، وقام بين الأخوين قتال مرير راح فيه كثير من مشايعي علي، وأسر علي نفسه فقتله أخوه ونفي من بالجزيرة من البربر بأسرهم، فلم يبق منهم أحد وأمر بقتل العبيد فقتلوا عن آخرهم. وكان انتصار جعفر فاتحة خذلان جديد فإنه حين قضي على البربر والعبيد لتخذ جنده من أهل صقلية، فطعموا فيه وزادهم تمادياً تغاضيه عن كتابه حسن بن الباغاني الذي صادر الناس وعاملهم بسوء واستحدث بدعاً في جباية الضرائب (1) وتنكرت قلوبهم له حين استخف بأهل صقلية وشيوخ بلادها واستطال عليهم (2) فخرجوا عليه وحاصروه وعندئذ خرج إليهم أبوه في محفة وكانت له منزلة في نفوسهم، فلما رأوه هدأت ثائرتهم وطلبوا إليه أن ينصفهم من ابنه، فوعدهم بنزعة من ولايته فوقع اختيارهم على الأكحل أخيه. وبر يوسف بما وعد فارتحل مع ابنه جعفر إلى مصر، وترك صقلية في يد الأكحل. وتسلم الصقليون حسن الباغاني فقتلوه وطافوا برأسه وأحرقوه بالنار (3) . وهدأت نفوسهم الحاقدة لما رأوا الأكحل يأخذ الأمور بجد وحزم. وكان إذا خرج في الغزو استخلف ابنه جعفراً فحاول جعفر أن يوقع التفرقة بين العناصر ونجح في فصل الصقليين عن الإفريقيين والتمييز بينهما في المعاملة فحمى الأفريقيين وأخذ يتقاضى الخراج عن أملاك الصقليين وحدهم (4) ، وعندئذ لم يعد الصقليون يطيقون تلك الحال، وذهبوا إلى المعز بن باديس سنة 437هـ؟ يطلبون مساعدته وإلا سلموا الجزيرة إلى الروم (5) .   (1) النويري، المكتبة: 443. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه: 444. (4) انظر تفصيل ذلك في المكتبة: 444 - 445 عن النويري. (5) النويري، المكتبة: 445. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 واستجاب المعز للصقليين وأرسل معهم ابنه عبد الله بجيش عدده ثلاثة آلاف فارس، ومثلهم رجال، فسار إلى الجزيرة وقاتل الأكحل وحاصره في قصره بالخالصة. ثم اختلف أهل صقلية وانحاز بعضهم إلى الأكحل، فقتله الذين استقدموا ابن المعز غدراً، ثم اجتمع الصقليون على الندم لإدخال جيش غريب في بلدهم، وتنكروا لابن المعز وحاربوه، فانهزم. وأخيراً ولى أهل صقلية عليهم الصمصام أخا الأكحل (1) . 6 - أمراء الطوائف وانتهى عهد الكلبيين في الجزيرة بإخراج الصمصام من بلرم وسيطرة المشايخ على المدينة، ثم ظهور جماعة من الزعماء الطامعين يحققون لأنفسهم شيئاً من السلطة، ويحققون للمدن المتنافسة نوعاً من الاستقلال. أما مازروطرابنش والشاقة ومرسى على فاستقل فيها القائد ابن منكود، ووقعت قصريانة وجرجنت من نصيب القائد ابن الحواس علي بن نعمة. ثم ثار طامع يسمى محمد بن إبراهيم بن الثمنة فاستولى على سرقوسة وتلقب بالقادر بالله. ويقول ابن خلدون: - إن أهل بلرم ولوه على أنفسهم حينما أخرجوه الصمصام (2) وهكذا انقسمت الجزيرة إلى ولايات متعددة. ويزعم التاريخ أن فتح العرب لصقلية كان من ورائه مشكلة إمراة ثم تأبى المصادر العربية أن تغلق صفحاتها على صقلية الإسلامية دون أن تجعل   (1) انظر تفصيل هذه الفتنة عند النويري في المكتبة: 445وابن خلدون 4/110 والمكتبة ص 484 والنص عنده مختلف إذ يجعل عبد الله بن الحواس (بدلا من على) مستبداً بمازر وطرانش وهو سهو على الأغلب لأنه صحح التسمية بعد سطرين ويزيد اسم شخص آخر هو ابن المكلاتي الذي استبد بقطانية ثم غلبة ابن اثمنة وقتله سنة 431. (2) ابن خلدون 4/ 210 والمكتبة: 484. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 للمرأة نصيباً في الإسراع بصقلية إلى نهايتها المحتومة. فتقص علينا هذه المصادر أن ابن الثمنة تزوج من ميمونة أخت علي بن نعمة،وذات يوم سكر وتشاجرا فأمر بفصدها، ولولا ابنه للقيت حتفها، فإنه استدعى لها الأطباء فعالجوها حتى شفيت، وفي صحوة اعتذر لها من فعلته، فأظهرت قبول عذره ثم استأذنته في الذهاب إلى أخيها فأذن لها، وقصت على أخيها ما كان من زوجها فحلف أنها لا ترجع إليه، وألح زوجها يطلب رجوعها، واشتد أخوها في منعها، فقامت الحرب بين الأميرين، ولما انكسر فيها ابن الثمنة ذهب يستنجد بالنورمان سنة 444هـ؟، وبدخول النورمان ضاعت السيادة الإسلامية (1) . وبعد أن تمت هذه الأحداث في صقلية بقليل لقيت القيروان مصيرها السيئ على يد العرب. فان المعز بن باديس الذي كان متردداً في إعلان ولائه للعباسيين حسم في المر سنة 441 فأزال اسم الخليفة العبيدي من السكة ونقش فيها (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين (2)) فانتقم منه المستنصر بأن حرض العرب على الجواز إلى الغرب فتوجه منهم خلق كثير، وهاجموا القيروان وخربوها، فهاجر كثير من أهلها إلى صقلية. 7 - الحكومة الإسلامية بصقلية افتتحت صقلية الإسلامية عهدها بأسد بن الفرات والياً وقاضياً، ولكن هذا الجمع بين الوظيفتين لم يدم طويلا، فما كاد المسلمون يحتلون بلرم ويتخذونها عاصمة لهم حتى اصبح الوالي والقاضي شخصيتين متمايزتين. ويحدثنا الرشاطى   (1) انظر ابن خلدون 4/ 210 - 211 والمكتبة: 484. (2) centenario 2/ 455 عن أعمال الأعلام وانظر عن فتك المعز بالشيعة في المغرب كتاب الاستبصار لمجهول كريمر ص55 ط. فينا وفي الذخيرة 4 المجلد الأول: 68 أن المعز عام ستة وأربعين صرف خطبته إلى صاحب مصر ونبذ العباسية وهو خبر مستغرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 أن زيادة الله بن إبراهيم الذي فتحت صقلية في زمنه ولى على صقلية ابن أخيه أبا الأغلب قطعية له؟ فكانت له بجميع ما فيها؟ وركب إليها من سوسة في مراكب كثيرة ومعه خيل ورجال أتوا من نواحي أفريقية لما يعلمون من كرمه وجوده (1) . ونستطيع أن نتصور من حال زيادة الله نفسه أن نتصور من حال زيادة الله نفسه أن والي صقلية ربما قلده في اتخاذ مجلس استشاري من حوله، وهو الذي كان يسمى في القيروان " الجماعة " ولذلك نسمع في تاريخ صقلية دائماً عن شيوخ المدينة (بلرم) . ولا نظن أن هؤلاء كانوا مجرد زعماء وإنما المعتقد أنهم كانوا يزاولون بعض السلطان إلى جانب الوالي. وكان لا بد من وجود هذه الصبغة الإدارية في الجماعة لأن والي صقلية في ايام بني الأغلب لم يكن يزيد على قائد عارف بفنون القتال، مستعد للغزو والجهاد، وكثيراً ما كان الجيش ينتخب الوالي دون أن ينتظر مجيء وال جديد من أفريقية. على أنه لا بد أن نلحظ أنه ليس من الواضح لدينا إن كان الذي يولي الوالي هو الجيش أو شيوخ البلد أو الفريقان معاً، ولا نسمع عن وال في العهد الأغلبي لم يكن يخرج في الغزو إلا عن الأمير محمد ابن عبد الله بن الأغلب فانه كان مقيما ببلرم لم يخرج منها وإنما كان يخرج الجيوش والسرايا فتفتح وتغنم. وتحدثنا المصادر أن العباس بن الفضل لما وقع عليه الاختيار اخذ يبث السرايا وهو مقيم في بلرم، فلما جاءه التصديق على ولايته من أفريقية قاد الجيش بنفسه. وربما أشار هذا إلى ان قيادة الجيش كانت هي الصفة الأولى التي تفترض حكومة القيروان توفرها في الوالي. وكان اكثر الولاة في الدولة الأغلبية من أسرة بني الأغلب أو من أقربائهم. وليس بين أيدينا مادة تصور شخصيات الولاة أو تميزهم سوى كثرة الحرص على الجهاد والغزو، إلا ما كان من أمر أبي مضر زيادة الله فإنه كان في أثناء ولايته على صقلية عاكفاً على اللهو وشرب الخمر ولم يرض هذا أباه فعزله. وقد رأى الراهب ثيودوسيوس والي بلرم؟ وهو يومئذ جعفر بن محمد؟ ووصفه بأنه   (1) centenario 2/ 472. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 متكبر متجبر، واستدل على ذلك من جلوسه وراء حجاب. ولم يكن الوالي يستند إلى حرس خاص ولذلك نسمع عن وثوب أهل صقلية به وعزله أو إخراجه من بينهم. وكان الوالي يسكن القصر في بلرم ويودع فيه المال والسلاح والكساء (1) ومن قصره ذاك كان يشرف على النواحي المدينة وكان له أن يعين من قبله ولاة على المدن يخضعون له مباشرة. وظل الحال كذلك في أيام الكلبيين إلا أن الاستقرار وخضوع أكثر أجزاء الجزيرة للمسلمين مكن الوالي من توسيع سلطانه الإداري والاهتمام به. ومنذ ان بنى خليل بن إسحاق الخالصة أصبحت هي مركز الوالي بدلا من القصر القديم، ومن حوله الخالصة. وأصبح كل وال بعد ابن قرهب يتمتع بحماية حرس غريب عن الجزيرة. فلم يعد في إمكان أهل صقلية أن يطردوه بسرعة، إذ صار في إمكانه أن يتحصن منهم ويقاتلهم في مدينتهم. ومحك الخبرة عنده أن يتمكن من إقرار التوازن بين العناصر فلا يتظاهر بتفضيل عنصر على آخر وأن لا يمس المسائل المالية بتغيير يضر بصالح الاهالي. إلا أن بعض الولاة كان يطلق يد أعوانه في صقلية فيستبيحون لأنفسهم الغلو في تقاضي الأموال. وارتبطت صقلية في أيام الكلبيين بالخلافة الفاطمية في افريقية وأصبح يدعى على منابرها للخليفة الفاطمي (2) وبذلك أصبح الوالي الصقلي ممثلا للخليفة ثم انتقل الفاطميون إلى مصر، ولا شك أنه كان في جيش جوهر الصقلي كثير من الصقليين، فالعناصر الصقلي في جيش العبيديين وأساطيلهم أقدم من ذلك ومنذ سنة 307 هـ نجد أسرى صقليين في مصر، وقد من عليهم حاكمها بالإطلاق بعد تغلبه على جيش أخرجه صاحب أفريقية لقتاله (3) . وبارتباط صقلية   (1) انظر centenario 2/ 476. (2) هذا هو الشيء الطبيعي والنص صريح في مسالك الأبصار ج3 المجلد الأول الورقة 128 بأنه خطب لهم بجزيرة صقلية. (3) الكندي: الولاة والقضاة: 276 نشر جست. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 بمصر أصبحت تتأثرها في أساليب الحياة ويهاجر إليها طلاب العلم وتقوم فيها الأنظمة الحكومية على غرار ما هي في مصر. وكان الوالي في صقلية يدين بنوع من التبعية للقاهرة، ويستمد منها القوة الإدارية والحربية، ولا بد أن يكون في يده سجل بولايته من الخليفة، وأن تصله منه الخلع والألقاب والتشريفات. وأصبحنا نسمع في صقلية ألقاباً مثل ثقة الدولة وتاج الدولة وتأييد الدولة وصمصام الدولة ولعل هذه الألقاب استحدثت منذ أيام الخليفة الحاكم أو قبله بقليل (1) ولم تنفك مصر عن هذه المراسيم بتقليد الولاية حتى كانت آخر خلع وصلت من مصر للصمصام (2) . ولم يكن الخليفة يكتفي بهذا النوع من التدخل، أو يقنع بهذا القدر من العلاقة بينه وبين الوالي في صقلية، بل كثيراً ما كان يتدخل في الشؤون الداخلية معتبراً صقلية جزءاً من مملكته، له حق التصرف فيه، فكان يعقد الصلح مع الروم على شروط نافذة في صقلية، دون أن يأخذ رأى واليها ولم يكن للوالي إلا أن ينفذ ما يراه سيده مناسباً وإن كره ذلك وكرهه الناس. عقد المعز صلحاً مع الروم سنة 358هـ؟ على أن يخلى المسلمون رمطة وطبرمين وأرسل إلى الأمير أحمد في صقلية بتنفيذ ذلك فصدع بالأمر على غير رغبة من المسلمين (3) . وقد يقال ان هذا كان يحدث قبل الأذن للوالي بالاستقلال وأن استقلال والى صقلية لم يتم إلا بعد هذه السنة في عهد الأمير أبي القاسم، ولكن حتى بعد إحراز هذا السلطان لم يكن الحاكم يسلم من تدخل الخليفة تدخلا قد يفقده أجزاء من ولايته، ففي ولاية جعفر بن محمد الكلبي (373؟ 375) كتب إليه العزيز أن يدفع إلى الراهب أخي جاريته السيدة العزيزة قلاعاً من بلاد صقلية فيها بنقش (؟) وطبرمين وومطة وأن يدفع إليه كل سبى عنده قديم وحادث (4) ، ولولا مماطلة جعفر وتلويحه لسيده بالعصيان لاقتطعت   (1) أول من تقرن المصادر اسمه باللقب هو الأمير يوسف الملقب بثقة الدولة (379 - 388) . (2) انظر أنباه الرواة، 1/582 وقد وصلت الصمصام ألقاب كثيرة. (3) النويري، المكتبة ص 441. (4) centenario 2/ 479. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 هذه الأجزاء من ولايته وأصبح لصقلية واليان. وظلت صقلية إلى عهد متأخر ملكاً لسلطان مصر، على حد تعبير ناصر خسرو (1) ونكاد نجزم بأنها كانت تدفع مبلغاً معيناً من المال سنوياً للدولة الفاطمية، وهذا واضح من قول ناصر خسرو: " وتغادرها كل سنة سفينة تحمل المال إلى مصر (2) " وفي مرآة الزمان (3) أن السبب في استقدام النورمان إلى صقلية عجز وال يسمى ابن البعباع عن دفع المبلغ المطلوب لصاحب مصر مما أدى بالوالي إلى أن يستنجد بالفرنج. وهذا الخبر المتأخر نسبياً ليس له في المصادر الأخرى وجود، وربما لم يكن فيه من الصحة إلا دلالته على وجود علاقة بين صقلية ومصر تفرض على الجزيرة أداء مبلغ من المال كل سنة. وكان القاضي أكبر شخصية في الجزيرة بعد الوالي وانفصل القضاء عن الإمارة منذ أول الأمر. ولقضاة صقلية في العهد الأول صورة واضحة قائمة على المثالية والصدوف عن متاع الدنيا فالقاضي رجل زاهد، أو أن شئت فقل إنه يختار عمداً من بين الزاهدين الذين صدقت ظواهرهم وبواطنهم أو من الفقهاء الصالحين كابن أبي محرز وميمون بن عمرو وسليمان بن سالم الكندي. وكثيراً ما كان القاضي يجمع بين القضاء والتدريس، وكان بعض المتعففين لا يتقاضى راتباً فقد خرج أبو عمرو وميمون بن عمرو المعلوم (4) من سوسة للقضاء بصقلية فلم يخرج معه إلا كساء وفروة وخرج فيه كتبه وجارية سوداء تخدمه ومعها جبة وكساء وكانت السوداء تغزل وتبيع غزلها وتنفق عليه من فضل ذلك. ولما مرض ودخل عليه الناس يعودونه وجدوا كل ما لديه من أثاث وسادتين محشوتين تبنا وحصيرة من البردي. وعاد إلى سوسة بما خرج به منها ولم يزد   (1) ناصر خسرو، سفر نامه ترجمة الدكتور الخشاب ص 45 ط. لجنة التأليف 1945. (2) سفر نامة، ص45. (3) سبط ابن الجوزي، المكتبة: 336. (4) في الأصل الملعون والتصحيح عن تعليقات الأستاذ نللينو على تاريخ أماري ج2/7 من التعليقات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 عليه شيئاً (1) . ومن أمثلة هؤلاء القضاة المتقشفين سليمان بن سالم الكندي وكان يقضي ويدرس، ونقرأ أنه لما مات لم يوجد له مال (2) وهذه إشارة قد يفهم منها أنه كان يتقاضى راتباً. وقد لحظنا من قبل أن القاضي كان يجيء صقلية من الخارج وظل ذلك كذلك مدة طويلة في أيام الدولة الفاطمية. وفي أيام الخليفة الحاكم أضيف إلى قاضي القضاة بمصر أحكام صقلية مع بلدان غيرها (3) . ولا نسمع عن قاض من صقلية نفسها إلا في أيام ابن حوقل. ونحن مدينون له بمعرفة قاض ورع من صف القضاة الأولين ليس له في المصادر الأخرى ذكر وذلك هو عثمان بن الخزاز. وقد أراد ابن حوقل؟ كما هي طريقته في الذم؟ أن ينفذ إلى الحط من الجماعة الصقلية في حديثة عن القضاء فيها، فصور لنا القضاء في حال انحطاط حين انحدر إلى أيد صقلية، فالقاضي ممن له سابقة في قبض الرشا، والشهود الصقليون يستسهلون شهادة الزور حتى إن ابن الخزاز لم يكن يقبل شهاداتهم " وصارت أكثر أحكامه جارية على الصلح وشك فيهم فلم تثنه إليهم رغبة ولا رهبة، إلى أن هلك بينهم وحضرته المنيه، فقال ليس بجميع البلد من يوصي إليه، ودفع ديوانه إلى رجل كان بها من الغرباء يعرف بالغضائري من أهل القيروان وكان يزكيه " (4) أما ابن الماجلي القاضي الصقلي الأصل فهو في نظره معلم برقجاني لم يكن ممن يستحق تولي القضاء وله فصول فيه مضحكة، وكثيراً ما كان يمد يده إلى الحصوم بالضرب (5) . وربما استنتجنا من هذا أن صقلية كانت قد سئمت استقدام القضاة من الخارج وأخذت تشعر أنها مسلوبة السلطان فنزعت إلى أن تعهد بالقضاء لأناس منها كما أنفت مصر ذات يوم أن يكون قاضيها غريباً عنها (6) .حين شاءت الدولة   (1) رياض النفوس، المكتبة: 191 - 192. (2) عن المعالم 2/ 136 - 137. (3) الكندي، الولاة والقضاة:611. (4) ابن حوقل 1/ 125. (5) المصدر نفسه. (6) الكندي: 369. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 العباسية أن تعاملها بقريب من معاملة الفاطميين لصقلية. وكان للقضاء كتبة ودار خاصة في بلرم منذ عهد مبكر. ونسمع أن ميمون بن عمرو لما وصل المدينة قيل له هذه دار القضاء تنزل فيها فقال " هذه دار عظماء ايش أعمل فيها " فنزل في دويرة لطيفة (1) . أما الوظائف الحكومية الأخرى فكان ينهض بها أصحاب الدواوين والموظفون فيها وقد عدت المصادر من الدواوين: 1 - ديوان الخمس. 2 - ديوان الصناعة. 3 - ديوان الخاصة. 4 - ديوان الإنشاء. أما ديوان الخمس فأن متوليه كان يسمى " صاحب الخمس " وشخصيته ذات شأن في تاريخ صقلية وأدبها، فهو يتولى أمر البلد حين لا يكون لها وال، وهو بحكم مركزه مقصد الأدباء والشعراء. وقد ذكرت المصادر أسماء بعض ممن تولوا هذا الديوان منهم عمران الذي قتل في بلرم سنة 6421 913 (2) وخليل الذي ضبط المدينة حين خلت من واليها سنة 398 (3) . ومنهم ابن   (1) رياض النفوس، المكتبة ص 191، 192، وقد جمعت أسماء أربعة عشر من قضاة صقلية هم أسد بن فرات (213) ابن أبي محرز (221) هـ؟) ، سليمان بن سالم (289) انظر طبقات علماء أفريقية ص148، محمد بن محمد خالد القيسي الطراطري (آخر دولة بني الأغلب) أبو القاسم الطرزي كان موجوداً في أول ظهور المهدي وقد أهانه بالضرب (انظر المعالم 3/8) والطرزي بقي قاضياً في صقلية مدة عشر سنين، أسحق بن المنهال (المصدر نفسه) أول قاض أرسله المهدي لصقلية، ابن الخامي قاضي ابن قرهب، ابو عمرو ميمون بن عمرو (316) محمد بن أبي صبيح (334) وقد حمل معه الملح إليها تورعاً عثمان بن الخزاز (قبل لبن حوقل) ، إسحاق الماجلي (كان في القضاء سنة 362) ،أبو إسحاق إبراهيم بن مالك المعافري (كان في القضاء سنة 375) ، أبو الفضل الحسن بن إبراهيم الشامي الكناني (في القرن الخامس) ، محمد بن قاسم بن زيد اللخمي الكاتب القاضي في أيام أمراء الطوائف، عاصر ابن الحواس ومدحه وليس هناك ما يؤيد انه زاول القضاء وربما كانت لفظة القاضي لقباً. (2) نسخة كمبردج العربية، المكتبة: 168. (3) النويري المكتبة: 435. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 الرقباني (1) وابن الشامي صاحب الخمس أيام صمصام الدولة. أما الخمس نفسه فهو ضريبة معينة عدها ابن حوقل من جملة ما تحصله خزينة الدولة بصقلية ولكنه لم يوضحها. ويظهر أنه من الصعب تعيينها بدقة لأنها تضمنت غير دلالة واحدة. ويرى الأستاذ أماري أنها خمس الغنيمة والأرض التي أخذت عنوة (2) . ويقول دوزي: صاحب الخمس هو متولى الأرض التي أصبحت ملكاً للدولة في مدن افتتحت عنوة (3) ويعرف المقريزي (4) الخمس بأنه الضرائب المختصة بالثغور أي هو ما يؤدي في مصر مثلا من تجار الروم الواردين في البحر عما معهم من البضائع، بمقتضى ما صولحوا عليه، وربما بلغ ما يستخرج منهم ما قيمته مائة دينار ومائتان وخمسة وثلاثون ديناراً وربما انحط عن عشرين ديناراً، ويسمى ذلك خمساً ومثل هذا المعنى الأخير محتمل وجوده في صقلية لموقعها البحري لولا أن ابن حوقل يميز بين ثلاثة أنواع من الضرائب هي الخمس ومال البحر وقبالة الصيود. وأما ديوان الصناعة فليس هناك شيء واضح عنه وكل ما نعرفه هو ما ذكره ابن سعيد في ترجمة أبي الحسن علي بن المعلم إذ قال إنه صاحب الديوان الصناعة (5) . وأما ديوان الخاصة فيذكره المقريزي والقلقشندي باسم ديوان الخاص. وفي مختصر الدرة أن ميمون بن أبي بكر الوراق الشاعر مدح على ابن القطاع المتقلد ديوان الخاصة (6) . وربما كان هذا الديوان خاصاً بالإشراف على إقطاعات الوالي وشئون قصره، وفي أيام المقريزي كان يشمل دار الضرب (7) .   (1) مختصر الدرة الورقة 102 وقد وصفه بأنه كان ملجأ للقصاد والرواد أما ابن الشامي فسيتردد ذكره عند الحديث عن الشعر في صقلية. (2) Amari: S.D.M.vol، 2، p. 169. (3) dozy: supplement aux dictionnaires arabes وهامش أماري 2/ 169 من إضافات الأستاذ نللينو، رقم 3. (4) المواعظ والاعتبار 1/ 176. (5) انظر الترجمة رقم (120) في مجموعة الشعر الصقلي. (6) مختصر الدرة الورقة 101. (7) المواعظ والاعتبار 1/ 178. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 وأحفل هذه الدواوين بالصبغة الأدبية ديوان الإنشاء إذ لم يكن يتولاه إلا أجل الكتاب بلاغة، وعلاقته بالوالي متينة، وليس يحجب عنه أبدا، ومن أصحابه في صقلية ابن الطوبي وابن الودانى وغيرهما من مشاهير كتابها. ونجد في العهد النورماني ديوانين آخرين هما ديوان الطراز وديوان التحقيق. والأرجح أن هذين كانا موجودين في العصر العربي وربما كان ديوان الطراز هو ديوان الصناعة نفسه إلا إن فرضنا أن هناك خطأ نسخياً وأن ديوان الصناعة هو في حقيقة الأمر دار الصناعة، وكان عمل ديوان التحقيق المقابلة على الدواوين جميعاً (1) ، وله في مصر الفاطمية وجود، ومن ثم لا يستبعد وجوده في صقلية الإسلامية.   (1) المواعظ والاعتبار 2/ 242، والقلقشندي 3/ 493. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 فراغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 الفصل الثاني الحياة الاجتماعية 1 - طبيعة الفتح العربي 2 - أهل الذمة 3 - الأجناس التي دخلت صقلية 4 - الأنظمة المالية والتفاوت في الثروة 5 - النهضة الزراعية والصناعية 6 - الدين والأخلاق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 فراغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 1 - طبيعة الفتح العربي في طبيعة الفتح العربي؟ كما أجملته في الفصل السابق؟ ما يفسر طابع المجتمع الصقلي من نواح عدة. فهذا الفتح هو الذي أضاف إلى العناصر الصقلية القديمة عناصر جديدة تجمعها غاية عسكرية أو وحدة دينية، وتفرق بينها نزعات عنصرية. والخط البياني لسير الفتح يرسم توزيع المجتمع الجديد، ويشير إلى انحسار العناصر القديمة أو انعزالها. وعلى أساسه تعلل الفوارق التي قامت بين الجهات الشرقية وغيرها من صقلية. وبعبارة موجزة إن الفتح خط قوي عميق يكاد يفصل بين صقلية في كل ما عرفت من حضارات وبين صقلية الإسلامية، لأنه الحركة الخارجية التي استطاعت أن تغير النظم الاجتماعية وتبسط على الجزيرة قيما جديدة ودينا جديداً، نعم لم يكن الفتح خيراً كله لن صقلية شقيت به حيناً بالقتل والسبي والتخريب وحرق المزروعات وقطع الكروم، وانهزمت أمامه بعض الحريات، والمعتقدات القديمة، ولكنا حين نتحدث عن الفتح يجب أن لا ننسى أننا نستعيد صورة من صور القرون الوسطى وكل هذا لا ينفي أثره في الهيئة الاجتماعية الأصلية: في الثقافة وفي نظام الطبقات وفي الحياة العمرانية. 2 - أهل الذمة ويظهر أن الفاتحين جعلوا صقلية ولايات ثلاثا هي ولاية مازرونوطس ودمنش وإن يكن هذا الظن يفتقر إلى شواهد تؤيده (1) . وفي هذه الولايات عاش السكان الأصليون الذين سموا ذمييين على أربع أحوال؟ وخاصة في الفترة الأولى في العهد الأغلبي؟ فكان فيهم المستقلون الذين يصرفون شئونهم   (1) ليس في الوثائق المتخلفة من العهد النورماني الأول ذكر صريح إلا لولاية دمنش انظر Amari:S.D.M.vol. i.p.607 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 الداخلية حسبما يريدون، ويدبر أمورهم سلطات بلدية كما كان الحال قبل الفتح، وهم ممتنعون وراء الأسوار، خاضعون في كثير أو قليل للإمبراطور البيزنطي، ويتآمرون معه على المسلمين، وإذا رأوا المصلحة في السلام عقدوا معهم معاهدات لا تزيد فترة إحداها على عشر سنين (1) . وانتهى الاستقلال أكثرهم حين خرج إبراهيم بن الأغلب في الجهاد سنة 289 هـ وفتح طبرمين عنوة فهرب كثير من أهلها إلى البيزنطيين ووقع الباقون في السجن (2) . وتمخض جهاد إبراهيم عن نقص في الجنسين الإغريقي والإيطالي في شرق الجزيرة وأصبحت البقية الباقية منهم تحيا حياة ضنك وشدة وخطر، وتحولت المدن التي كانت مستقلة إلى مدن تدفع الجزية، وانفصمت علاقاتها الوثيقة ببيزنطية، وزادها انفصاما ذلك السلام الذي قام بين البيزنطيين والفاطميين (3) . وكان من سياسة إبراهيم في جهاده أن يرفض الجزية من المدن التي تغلب على أمرها، وأن يفرض على الذميين سياسة متشددة، ويأمرهم بالتمييز بعلامات فارقة. ولكن طبرمين عادت إلى وجودها شبه المستقل حتى فتحت عام 351هـ في أيام الكلبيين وقبل أهلها النزول على حكم العبودية حتى منحوا الأمان (4) . وفي هذه الفترة كانت الروح الدينية في ولاية دمنش تنمى نفسها بين السكان وتوجه حياتهم الحضارية، وفي ظل تلك الروح قام القديسون يبثون في الشعب الكراهية للفاتحين ويشجعونهم على المقاومة. ولا تزال منطقة دمنش إلى اليوم إغريقية الطابع إذا قورنت بغيرها من جهات صقلية. وفريق آخر من الذميين هم أهل الجزية ولنا أن نقدر في هؤلاء تغير الناحية النفسية من قوم يتمتعون بقسط من الحرية إلى قوم مغلوبين، وكان هؤلاء يعيشون في أمان إذا هم وفوا بما عاهدوا المسلمين عليه، ودفعوا الضرائب المطلوبة منهم، ولكنهم كانوا ينتهزون اختلاف المسلمين فيما بينهم أو يستجيبون للكره   (1) op.cit.p.613 (2) ابن الأثير 7/ 94 والمكتبة: 241. (3) Amari:s.d.m.vol.2 p. 250. (4) ابن الأثير 8/179 في حوادث 351هـ؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 الديني والروح القومية، فيحطمون حدود المعاهدات ويتخطون شروطها (1) وكانت مدنهم يحض بعضها بعضا على الثورة فتضطر الجيوش الإسلامية إلى إخضاعها بالقوة، وحينئذ لا تعود الجزية كافية مقنعة للمسلمين؟ ولياج وطبرمين أيام إبراهيم مثال على ذلك؟ بل يصبح أهل هذه المدن أشبه بجماعات العبيد التي لا تملك شيئاً من الحرية. وقد شاع الولاء في المنطقة الإسلامية مثل ولاية مازر. وهذا ما يجعلنا نفهم قول ابن حوقل في الصقليين " والغالب عليه الرعاع. . . وأكثرهم برقجانة وموال يدعون ولاء قوم افتتحوها وقد هلكوا " (2) . والطبقة الرابعة من الذميين هم العبيد وقد أحدث فيهم الفتح أكبر أثر مباشر وقد رأينا العبيد وكولوني الأرض في العصر البيزنطي وعرفنا سياسة السادة نحوهم والحيف الذي صبه جرجوريو عليهم، فلما شاهد هؤلاء جيوش الفاتحين وجدوا طريقاً للخلاص من قيودهم القديمة، وأملوا أن يجدوا في أسيادهم الجدد قلوباً أرحم ومعاملة ألطف، فنبذوا دينهم القديم، وتملقوا الأسياد الجدد باعتناق دينهم الجديد، ليكلفوا لأنفسهم شيئاً من الرفق في المعاملة. وأصبح الأرستقراطية القدماء ينظرون بحيرة إلى مزارعهم وهي خالية من عبيدهم الآبقين (3) . وأصبح العبيد في المجتمع الإسلامي طبقة كبيرة وزاد عددهم بكثرة الأسر والسبي والشراء، وهيأ لهم الفتح حرفة جديدة تدر عليهم دخلا معقولا، إذ دخلوا في صفوف الجيش، وكان الفيء لهم موردا من الرزق منظماً، إلا أن الجيش شقى بهم فيما بعد حتى أصبحوا عنصراً خطراً قابلاً للثورة، وتضخم عددهم بعد الفتوحات في قلورية، وأضاف إليهم إبراهيم بعض الذين نفاهم من أفريقية. وفي أيام جعفر بن ثقة الدولة اتحدوا مع البربر وأيدوا علياً أخا جعفر وكان من نتيجة ثورتهم هذه أن قتل العبيد عن آخرهم (4) وهو خبر لا نفهمه إ لا إن   (1) Amari: S. D. M.vol.2.p.614 (2) ابن حوقل 1/ 124. (3) Amari: S. D. M. vol.i. p.627 (4) النويري المكتبة ص 443. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 قدرنا أن الذين قتلوا هم العبيد في الجيش. ومن كثرة العبيد والعناصر المحلية في الجيش أصبح الوالي في أيام بني الأغلب عاجزاً عن أن يسوسه أو يتحكم في أمره وزاد عنف الجنود وتحكموا في شئون السياسة حتى جاء ابن قرهب فنصح الخليفة الفاطمي بأن يكبح من جماح العسكر الصقلي بجيش خارجي، وأصبحنا نسمع في صقلية بجيش الأفريقيين وأغلبهم من كتامة. ثم كان من أسباب فساد الجيش أيام الكلبيين إعطاؤهم اقطاعات بدلا من النقود. 3 - الأجناس التي دخلت صقلية تلك هي حال الذميين أما العناصر الإسلامية الجديدة التي دخلت الجزيرة فاتحة أو مهاجرة، أو منفية، أو لاجئة، فكانت خليطاً ضخماً من جنسيات عدة منها ما ينسب إلى أصول بلدية كالشامي والسوسعي والباغاني، ومنها ما ينسب إلى اصول قبلية كالكلبي والقيسي والكتامي واللواتي، ومنها ما ينسب إلى الحرفة كالوثائقي والغضائري والخراز. وكانت بلرم تعكس صورة هائلة من هذا الخليط المتموج المتحرك، منذ أول عهدها بالفتح العربي. وقبل ابن حوقل بمائة عام تقريباً وصفها الراهب ثيودوسيوس بقوله: " حافلة بالناس من أهلها والغرباء حتى كأنه قد اجتمع فيها كل المسلمين من شرق إلى غرب ومن شمال إلى جنوب، وبين أهلها من صقليين وإغريق ولمباردين ويهود ترى العرب والبربر والفرس والتتار والزنوج، بعضهم يرتدي العباءة والعمامة، وبعضهم يلبس الجلود وفيهم أنصاف عراة وثمة وجوه مستطيلة أو مربعة أو مستديرة من كل سحنة وهيئة، ولحى من كل لون طويلة أو قصيرة " (1) . وقد أضاف ابن حوقل إلى هؤلاء ذكر الصقالية وكان لهم في بلرم حارة مستقلة، اما اليهود فكانوا مستقلين أيضاً بحارتهم، وربما كان المركز التجاري   (1) Amari: S. D. M. vol.2.p.49 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 للجزيرة يهيئ لهم مقاماً نافعاً. ونسمع عن صلات كانت لهم بيهود المشرق وخاصة في فلسطين. وهناك رسالة بعث بها يوشع روش يشيبا إلى المجامع القاطنة في المدن الصقلية يطلب فيها مساعدات مالية من يهود صقلية، وقرئت الرسالة في معابد الجزيرة ووعد المصلون بالدفع، ولكن قبل إن يتمكنوا من جمع شيء وقع اليهود تحت طلبات جديدة بهظتهم بها الحكومة وأعجزتهم عن الاكتتاب في سبيل إخوانهم، واضطر بعضهم إلى الهرب من صقلية، وأبى شيوخ الجماعة (ولعلهم شيوخ بلرم) أن يردوا على رسالة يوشع دون أن يرفقوا إجابتهم بشيء من المال. وربما كانت هذه الرسالة في زمان الخليفة الحاكم (1) . وظل اليهود بصقلية في العصر النورماني ولما زار بنيامين التطيلي صقلية (1169م) في أيام غليالم الثاني وجد في مسينة مائتي يهودي وفي بلرم ألفا وخمسمائة (2) . وربما كان لبعض هؤلاء اليهود نشاط علمي إلى جانب نشاطهم المالي. وتدل أسماء الأعلام والأماكن الصقلية على الأجناس والقبائل التي كانت تملأ الجزيرة، وهي تثبت أن صقلية اكتظت بأناس من جميع الشعوب الساكنة في الإمبراطورية الإسلامية ومن هؤلاء عرب عدنانيون وقحطانيون، ومن القحطانيين وهم الأكثرية الغالبة من الجنس العربي همدانيون وكلبيون، وجاء الفتح إلى صقلية بالخراسانيين وغيرهم من الفرس، ودخلوها من إفريقية في القرن الثامن، وربما كان ركمويه زعيم السفهاء في إحدى الفتن فارسي الأصل، كما أن بني الطبري من أعيان بلرم تشير نسبتهم إلى طبرستان، وتدل عين السندي وبلهرا على مهاجرين من أصل هندي، وهذه السماء والمنازل تعين النواحي التي نزلها المسلمون وخاصة بلرم والشاطئ الممتد منها إلى طرابنش. ودخل الجزيرة جماعات كثيرة من البربر سكنوا النواحي الشمالية من ولاية   (1) Mann: the Jews in Egypt and palestine under the fatimids، vol.i.pp. .73 - 7 (2) The travels of rabbi Benjamin of Tudela in early travels in Palestine، ed. Wright، p.124 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 مازر، وكانت جرجنت عاصمة للجماعات البربرية، وأسماء الأماكن الواقعة بين مازر ولقاطة تدل على القبائل البربرية فهناك اندراني، وقرقود ومزيزينو وحجر الزناتي ومليلي وكلها أسماء أماكن تشير إلى القبائل البربرية، إنداره ومزيزة وزناته، ومليلة، وفي أيام الفاطميين امتازت كتامة ودخلت مع خليل ابن إسحاق إلى صقلية، وغير هذه القبائل قبائل بربرية أخرى كثيرة. وكانت هذه العناصر تتحرك بالفتن فيما بينها حتى انصبغت الثورات أيام الأغالبة بمظهرين: ثورات بين شيوخ المدينة وبين الأغالبة والدافع إليها التنافس على انتخاب الوالي، وثورات بين العرب والبربر، ويمكن أن يقال إن البربر الذين منحوا الإقطاعات أجوراً لهم هم الذين اشتهروا بخلع الطاعة لأنهم لم يكونوا يطيقون الإخلاد إلى حياة الزراعة وإنما كانوا يفضلون أخذ الفيء أجوراً لهم (1) أما العرب فبرزوا أيام الكلبيين وخاصة اليمينية منهم، ولكنا لا نسمع لهم بعصبية ظاهرة إلا أيام ابن قرهب، ولا نجد لحسن الحظ خلافاً بينهم على أصول القيسية واليمينية لأن القيسية فيما يظهر كانوا قليلي العدد. وحيناً كان العرب والبربر يتحدون تحت اسم الأفريقيين ويواجهون الصقليين، ولما دخلت كتامة أرض الجزيرة. وأصبحت مستند الوالي خفت صوت الصقليين لضعفهم النسبي إزاء العناصر الأخرى. ثم كانت فتنة صقلية الأخيرة عودة لسيادة العناصر الصقلية بعد قتل العبيد ونفي البربر. ولما وقعت الهدنة بين الخليفة المعز والإمبراطور البيزنطي كتب المعز إلى والي صقلية؟ الأمير أحمد؟ يعرفه بالصلح ويأمره ببناء أسوار المدينة وتحصينها ويعلمه أن البناء اليوم خير من غد، وأن يبني في كل إقليم من أقاليم الجزيرة مدينة حصينة وجامعاً ومنبراً، وأن يأذن أهل كل إقليم بسكنى مدينتهم، ولا يتركوا متفرقين في القرى، فسارع الأمير أحمد إلى ذلك وشرع في بناء سور المدينة وبعث إلى جميع الجزيرة مشايخ ليقفوا على العمارة (2) . وينفرد   (1) انظر تاريخ اماري (S. D. M.) المجلد الثاني من 49 - 55 والتعليقات في 53 - 55. (2) النويري المكتبة:441. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 النويري بهذا الخبر الطريف وحديثه عن سور بلرم يوافق قول ابن حوقل بأن سور بلرم من حجارة مانع شامخ، ويتفق مع الإصلاحات التي ينسبها الرحالة للأمير أحمد في أبواب المدينة (1) . أما البقية الخبر فلا نستطيع أن نفهمه إلا بنوع من التأويل. ويرى الأستاذ أماري أن " أهل كل إقليم " ليس من الضروري أن تعنى كل السكان مسيحيين كانوا أو مسلمين، أحراراً أو ذميين أو عبيداً، نبلاء أو وضعاء، بل ليس من الضروري أن تعنى كل المسلمين ويستنتج أن الإقليم في الاصطلاح يعنى منطقة عسكرية، وأن أهل الإقليم ندل على الجند وحدهم. ويفترض أماري أن الوالي كان يقسم على الجنود؟ وخاصة في ولاية دمنش؟ إقطاعات بدلا من النقد فأصبح الجند مشتتين في القرى يفلحون أرضهم، وانتشر على آثارهم جامعو الضرائب، وكان هذا سبباً في الفوضى وفي وقوع الحيف على الذميين (2) وكان من ذلك صدور الأمر من المعز إلى الأمير أحمد. أما الجامع والمنبر فقد كانا تأييداً للخليفة في كل مدينة بالجزيرة وتثبيتا للدعاء له. وأضاف المعز إلى هذه السياسة من تألف الصقليين ما أنفقه على أهلها سنة 351 هـ في إعذار بعض الأمراء من بنيه وقد حمل في هذه المناسبة إلى صقلية سوى الخلع والثياب خمسون حملا من الدنانير، كل حمل عشرة آلاف دينار. وختن من أهل صقلية وحدها خمسة عشر ألف صبي (3) ولم يعف أولاد المليين والذميين من الختان. وهذا الرقم لا يستطيع أن يدل على نسبة معينة في سكان الجزيرة، ويقدر ابن حوقل عدد سكان بلرم بثلثمائة ألف نفس. ولا شك أن خليل بن إسحاق أهلك بأعماله الحربية ثلث سكان ولاية مازر الإسلامية. ولعل عدد سكانها سنة 938 م مع بلرم كان مليوني نسمة، المسلمون منهم أقل من النصف (4) . وأكثر السكان الصقليين القدماء   (1) ابن حوقل 1/ 122 والمكتبة ص4، 7، 8. (2) انظر توضيح هذه النقطة في تاريخ اماري المجلد الثاني ص 314 - 317. (3) المقريزي،اتعاظ الحنفا:136 نشر الدكتور الشيال. (4) Amari: S. D. M. vol. 2،pp. 251 - 62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 الذين انحازوا إلى ولاية مازر كانوا يضمون بعض الأحرار وكثيراً من أهل الموالي والعبيد، وكان بعضهم مسيحيين وبعضهم يهودا، وكان معظمهم يعيش في المدن وأقلهم في القرى (1) . 4 - الأنظمة المالية والتفاوت في الثروة خضع السكان على اختلاف طبقاتهم وأجناسهم لأنظمة الإسلامية في الضرائب، فوضع العشر على أراضي المسلمين، وخضعت بعض الأراضي التي يملكها غير المسلمين لخراج مؤقت، كما فرض على بعضها خراج دائم وبقيت أملاك أخرى كالحبوس والأوقاف تطبق عليها أنظمة خاصة (2) . والحقيقة أننا لا نملك وثائق عن هذه الأمور نستبين منها حال صقلية بالذات وأقصى ما يمكننا عمله أن نقيس صقلية بما كانت عليه الحال في إفريقية والأندلس ونتعرف إلى طرق الجباية وأنواع الضرائب والاقطاعات فيها ثم نحاول أن نقول إن الأمر في صقلية كان كذلك، وليس هذا مما يقدم البحث كثيراً لأن الهدف المنهجي الأول أن ندرس صقلية نفسها بكل ما تهيئه من معلومات، قلة وكثرة. والنص القديم الوحيد الذي نملكه عن الضرائب بصقلية هو ما أورده ابن حوقل إذ يقول إن الضرائب تضم: " خمسها ومستغلاتها ومال اللطف والجوالي المرسومة على الجماجم ومال البحر والهدية الواجبة في كل سنة على أهالي قلورية وقبالة الصيود وجميع المرافق؟ (3) " ولا تزال بعض هذه الضرائب غامضة مثل المستغلات، فهل تدل على نوع محدود من الضريبة؟ ومال اللطف هل هو   (1) op. Cit. (2) Amari: op.cit. p 33. (3) ابن حوقل 1/ 130. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 المال الحاصل من هدايا خاصة في مواسم معينة؟ أما الخمس فقد بينت المعاني التي يتحملها، وأما الجوالي المرسومة على الجماجم فهي مال الجزية المفروضة على غير المسلمين. والجزية في أيام المقريزي تسمى الجوالي ويقول القاضي الفاضل في متجددات سنة 587 إن الجوالي قلت جدا لكثرة إظهار النصارى للإسلام (1) وهذا يقطع بأن الجوالى هي الجزية. وأما مال البحر فهو ما يحصل على السفن الراسية في الموانئ الصقلية. والقبالة نوع ممن الضمان أي أن المصايد كانت تعرض على متقبلين بمبالغ معينة وقد يكون المتقبل هو المباشر للعمل أو ينتدب له من يريد (2) وإذا لم تكن (المرافق) كلمة عامة فهي تدل على ما يحصل من مال على المراعي والمنتجات المحلية. وكانت المرافق في مصر تشمل المال الهلالي أيام ابن المدبر ثم أسقطها أحمد بن طولون وأحياها العبيديون وأصبحت تعرف بالمكوس (3) . ولا شك أن الضريبة العشرية كانت على أراضي من اعتنق الإسلام من المسيحيين وأكثرها كان يحصل من ولاية مازر في القرن التاسع ثم من ولاية نوطس ودمنش في القرن الذي يليه (4) . وكان بعض الولاة يطلق يد العشارين فيجورون على الناس. وفي نسخة كمبردج العربية (5) أن ابن سالم أتى سنة 2435 927 م بشيخين استغرما أهل صقلية وكرر هذا العمل سنة 3440 932م ولا نستطيع أن نفهم من هذا الخبر إلا استهانة بعض الولاة بأهل البلاد مع أن التهاون في النواحي المالية كان من اكبر الأسباب الحافزة للسكان على الثورة. وفي خبر من أواخر العهد الإسلامي أن ابن الباغاني الكاتب غير الضريبة على أهل صقلية، فجعل العشار من طعامهم وثمارهم وإنما كانت العادة أن يؤخذ على الزوج البقر شيء معلوم ولو أصاب ما أصاب. والخبر يدل على الطريقة التي كانت متبعة في صقلية لعهد   (1) المقريزي، المواعظ والاعتبار 1/ 173. (2) المصدر السابق 1/ 131 - 132. (3) المصدر نفسه 1/ 167. (4) Amari: s.d. . m vol. 2pp.40 - 41 (5) المكتبة الصقلية: 443. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 طويل. ولما أخذ جعفر بن الأكحل بالتضريب بين العناصر الصقلية والأفريقية حمى أملاك الأفريقيين وأخذ الخراج على أملاك الصقليين فأعلنوا الثورة. غير أن أهم أثر أحدثته النظم الإسلامية في لأرض هو طرق توزيعها، فقد كان الجرح العميق الذي تشكو منه صقلية هو الإقطاعات الكبيرة، وفي فترة قصيرة قضى نظام الإرث الإسلامي على هذه الاقطاعات. وفي القرن الثاني عشر نجد في ولاية مازر أسماء عربية كثيرة تملك مساحات صغيرة من الأرض ولكن النظم الإسلامية لم تكد تنقذ صقلية من الإقطاعية الكبيرة حتى عادت هذه أليها مع الفتح النورماني (1) . وليس معنى ذلك أن الإقطاعات الكبيرة فقدت في العهد الإسلامي بل ظل الأمراء والخاصة يحتفظون لهم بإقطاعيات واسعة واحتكارات خاصة تدر عليهم أموالا طائلة. وقدم إلى أحد العباد في القيروان كعك فرده، وقال: لست آكل سكر صقلية وعلل امتناعه عن أكله بأنه يعمل من ضياع اقتطعها السلطان (2) . وكان الحديد مستغلا لبعض بني الأغلب ثم انتقل إلى أيدي بني أبي الحسين، ومنه كانت تعمل مراكب السلطان وقرسطياته (3) وكان جزء من البردي محتكراً لعمل طوامير للسلطان خاصة. وفي هذه البيئة قام التفاوت البين في الثروة بين الطبقات. ومع أننا نعلم مثلا أن أبا القاسم الكلبي لم يخلف دينارا ولا درهماً ولا عقاراً لأنه وقف أملاكه كلها على الفقراء وأبواب البر (4) إلا أننا نعرف كذلك أن ثقة الدولة ارتحل إلى مصر ومعه 670 ألف دينار و 13 حجرة سوى البغال وغيرها (5) - كل هذا الثراء بينما الفرد العادي من الطبقة التي عاشرها ابن حوقل لم يملك بدرة عين ولا رآها إلا عند سلطان، إن كان ممن يدخل إليه، ومحله محل من يؤذن   (1) Amari: S. D. M. vol.2، pp.40 - 41. (2) المكتبة الصقلية، المحلق الأول: 3. (3) ابن حوقل 1/ 123. (4) ابن الأثير 9/ 5 المكتبة ص 270. (5) النويري المكتبة ص 444. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 له عليه (1) وكان المهاجرون إلى صقلية في النصف الأول من القرن العاشر أهل حرف أو جنوداً أو لاجئين (2) . ولدينا ما يفيد أن أحد الأفريقيين ورث من أخ له مات بصقلية أربعمائة دينار أعانه عليها إبراهيم بن أحمد الأمير (3) . وتحت عنوان الفقر تستطيع أن تسلك طبقة المعلمين، ولم يكن يزيد دخل بعضهم عن عشرة دنانير في العام، ومثلهم بعض الشعراء، وتسمع عن شاعر يسمى الرزيق كان محدوداً محارفاً وقد بره مرة بعض الولاة بدنانير فلما عاد إلى بيته وجد اللص قد استصفى ما فيه (4) ، وكذلك كان كثير من العلماء فقراء. والحقيقة التي لحظها ابن حوقل أن هناك فقراً شاملا إلا لأقلية معينة، واستتبع هذا الفقر وقلة المال في ايدي الناس رخصاً في الحاجات وقلة في النفقات. ومما زاد الرخص كثرة العرض في السلع وخاصة الزراعية منها لخصب الجزيرة وهو الموضوع الذي تقف منه المصادر العربية وقفة المعجب. ومنذ القرن التاسع نسمع الاصطخري يقول بأن في صقلية من الخصب والزرع والمواشي والرقيق ما يفضل سائر مدن الإسلام المتاخمة للبحر (5) . ولكن لابد من ان نقر بان الجدب كثيراً ما كان يعتري الجزيرة وفي سنة 3444 936م جاءت ريح عاصف قبلية حرقت الدوالي والثمار ولم يكن في تلك السنة قطاف (6) . وبعد الحروب المهلكة التي قام بها خليل انتشرت المجاعة في المدينة والبوادي " حتى أكلوا الوالدون أولادهم (7) ". واشتدت المجاعة كثيراً حتى خربت قلاع صقلية وبواديها. وكثيراً ما كانت الفتن تجعل الناس يغفلون عن العناية بمحاصيلهم فيسوء حالهم. ويحدثنا ابن حوقل أنه لما دخل صقلية كانت قد استحالت جميع أمورها من الخصب إلى الجدب (8) .   (1) ابن حوقل 1/ 130. (2) Amari: S. D. M. vol. 2، p. 252. (3) رياض النفوس في المكتبة: 190. (4) الخريدة 11 الورقة 44 ومجموعة الشعر رقم 43: (5) الاصطخري " مسالك الممالك ":70 ط. بريل 1870 والمكتبة:3. (6) تاريخ جزيرة صقلية، نسخة كمبردج العربية، المكتبة ص 171. (7) المصدر نفسه: 173. (8) ابن حوقل 1/ 130. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 5 - النهضة الزراعية والصناعية ومن أسباب رخص الحاجيات وكثرتها أيضاً النهضة الزراعية والأساليب الزراعية واستغلال كل ارض صالحة لأن تفلح، وتهيئة الأرض لأنواع جديدة من المزروعات. ففي أيام البيزنطيين كانت صقلية تهتم بالقمح والكرمة وتعتمد في الزيتون والزيت على شمال إفريقية، ويظهر أنها ظلت تستمدها من هناك في العصر الإسلامي أيضاً، لأن صاحب كتاب الاستبصار لا يزال يقول في زيت سفاقس " وعليه معول أهل صقلية وإيطالية وأنكبورده وقلورية " (1) وفي أخبار الفتح نسمع عن الكروم حول طبرمين وكلاما مبهماً عن الزروع. أما المسلمون فإنهم أدخلوا إلى صقلية كثيراً من أنواع الزراعة جاءوها بالليمون والبرتقال والقصب والأرز والنخيل والقطن والبردي حتى نشأت في صقلية أساليب زراعية تلائم بيئتها وأصبحنا نسمع في كتاب الفلاحة بما يسمى طريقة صقلية في زراعة البصل مثلا (2) أو عادة أهل صقلية في زراعة القطن (3) أو طريقهم الخاصة في عمل معنب من عصير العنب الحلو (4) . وأكثر الناس من زراعة الخضروات وبعض أنواعها أدخله المسلمون إلى الجزيرة. وكانت بلرم وضواحيها عامرة بالبساتين والأجنة والطواحين على وادي عباس (5) . وكانت الأراضي السبخة القريبة منها مزروعة بالقصب الفارسي وبالمقاثي الصالحة، وكان في خلال أراضيها بقاع قد غلب عليها البربير وهو البردي المعمول   (1) الاستبصار: 7ط فينا،والمؤلف مجهول ولكنه كان يعيش في عصر أبي يوسف أمير المؤمنين. (2) ابن العوام، الفلاحة النبطية، المكتبة: 545. (3) المصدر نفسه. (4) المصدر نفسه: 546 - 547. (5) ابن حوقل 1/ 123 والمكتبة:5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 منه الطوامير وأكثره يفتل حبالا للمراكب وأقله يعمل للسلطان منه طوامير لا يزيد على قدر كفايته (1) . ويذكر المقدسي كثرة الفواكه والخيرات والأعناب في بلرم وضواحيها (2) وتتردد في الشعر بساتين المعسكر ومتنزهاته وفواراتها، ولم يغير الفتح النورماني كثيراً من عمران صقلية ولذلك نستطيع أن نعتمد على ما كتبه الإدريسي لنتصور الحالة الزراعية بصقلية في العصر الإسلامي. وليس هنالك من بلد مذكور في نزهة المشتاق لا يقترن به ذكر البساتين والمنازه والمياه والمزارع الطيبة؟ كذلك كان الحال في بلرم وجفلوذ ومسينة وقطانية وقارونية ولنبياده وبثيرة وجرجنت وسائر القلاع والحصون، داخلية كانت أو ساحلية. وحول شنت ماركو خاصة كان يكثر البنفسج ذو الرائحة الفائحة العطرة (3) . وشملت النهضة أيضاً الحياة الصناعية، وكانت هذه ذات أصول في العصر البيزنطي. وقد مر بنا أن الجلود الأرجوانية اللون والحرير اللازوردي وبعض الصوف كانت مما يحمل من صقلية إلى رافنا. ولكن الصناعة في العصر الإسلامي كثرت وتقدمت وشمل الإتقان عدة أنواع منها. واعتمدت الصناعات على الحاصلات النباتية والحيوانية والمعدنية فقامت صناعة السفن على الخشب من حول جفلوذ (4) وعلى الحديد من بلهرا (5) وكان القطن الذي يزرع حول حطين (6) يصدر بكثرة إلى البلاد أفريقية (7) ومن ميلاص يتجهز بالكتان الكثير الطيب (8) ، وكان الكتان الصقلي ذا شهرة واسعة. ويذكر ابن حوقل أن ثياب الكتان فيها لا نظير لها جودة ورخصاً، ويباع مستعملها مما يقطع قطعين من الخمسين رباعياً إلى ستين رباعياً فيزيد على ما يشتري من أمثاله   (1) المصدر نفسه 1/ 123 والمكتبة: 8 - 9. (2) احسن التقاسيم 231 والمكتبة الملحق الأول: 55. (3) نزهة المشتاق، المكتبة:32. (4) نزهة المشتاق، والمكتبة: 111. (5) ابن حوقل 1/ 123 والمكتبة ص9. (6) المكتبة الصقلية: 110. (7) المصدر نفسه: 159. (8) نزهة المشتاق: 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 بمصر بالخمسين والستين ديناراً كثيراً (1) . وفي خطط المقريزي أنه وجد لعبدة بنت المعز في جملة ما وجد في خزائنها ثلاثون ألف شقة صقلية (2) . وربما دلت هذه الشهرة المبكرة في الكتان على رسوخ صناعته في العصر الأغلبي إن لم يكن قبله. ويقول المقدسي: ومن صقلية تحمل الثياب المقصورة الجيدة (3) ويقول ناصر خسرو: ويجلبون منها كتاناً رقيقاً وثياباً منقوشة يساوي الثوب منها في مصر عشرة دنانير مغربية (4) . ولا ننسى بجانب المنسوجات صناعات أخرى قائمة على المواد الحيوانية كالجلود، لشهرة صقلية بالمواشي كما في أشعار بندار. أما تلك التي يذكرها ثيوقريطش في قصائده فهي أنواع من المعزى وبعض المعزى الموجودة فيها اليوم من ذوات الأذن المتدلية مما يرجح أن العرب هم الذين جلبوها (5) وكان لخيول صقيلة في العصر البيزنطي شهرة واسعة إذ كانت تربى بكثرة في إقطاعات البابا ويستمد الباباوات خيولهم منها. ولما دخل العرب صقلية دخلتها الخيول العربية وطمست شهرة الخيول المحلية، وكذلك جاء المسلمون بالجمل إلى صقلية ولكنه انقرض منها. وقد مر بنا أنه كانت تصنع فيها حبال والطوامير والسكر، ويذكر ابن حوقل صناعة الخمور وتحضير القند (6) . كما كانت تعتمد صادراتها على مستخرجات الثروة المعدنية كالكبريت والشب والزفت والقطران، وعلى ثروة الغابات الخاصة من جبل إتنا الذي يؤخذ منه الجوز والقسطل وخشب الأرزن (7) أضف إلى ذلك مستخرجات البحر والأنهار كسمك التن والمرجان. أما الواردات   (1) ابن حوقل 1/ 131. (2) الخطط 2/ 164. (3) احسن التقاسيم: 239 المكتبة الملحق الأول: 57. (4) سفر نامه ص 45. (5) Freman: History of sicily vol.i p.93. (6) أراد ابن حوقل أن يقلل من قيمة صقلية في المنتجات فقال: أنها لم تختص بوجه من فضائل البلدان غير القمح والصوف والشعير والخمر وصبابة من القند إلى شيء من ثياب الكتان 1/ 131. (7) المكتبة:118، 145. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 إليها فكانت تشمل كل ما تدفع إليه الحاجة من سائر الطلبات (1) . واستدعت النهضة الصناعية تعدد الحرف في أيدي الناس. وفي بلروم وحدها عدا ابن حوقل أصنافاً كثيرة منها وذكر أن أهل حرفة سوقاً. فبين مسجد ابن سقلاب والحارة الجديدة كانت تقع أكثر الأسواق كسوق (الزياتين بأجمعهم والدقاقين والصيارفة والصيادنة والحدادين والصياقلة وأسواق القمح والطرازين والسماكين والأبزاريين وطائفة من القصابين وباعة البقل وأصحاب الفاكهة والرياحين والجرارين والخبازين والجدالين، وطائفة من العطارين والجزارين والأساكفة والدباغين والنجارين والغضائريين والخشابين خارج المدينة. وببلرم طائفة من القصابين والجرارين والأساكفة وبها للقصابين دون المائتي حانوت لبيع اللحم والقليل منهم برأس السماط ويجاورهم القطانون والحلاجون والحذاءون " (2) . وهذه الفقرة الإحصائية غنية بالدلالة على حال السوق في بلرم أثناء العصر الإسلامي. 6 - الدين والأخلاق ونجد ابن حوقل يصف الصقليين (3) بقلة المرؤة، وبإقبالهم على شهادة الزور، ويرميهم بقلة الفطنة وكلال الفهم وحدة الجهل وسرعة الطيش وموت اليقظة وبراعة اللؤم، ويصل بين هذه الصفات فيهم وبين أغذيتهم السيئة ومطاعمهم المنتنة وخاصة إكثارهم من أكل البصل؟ الأمر الذي بلد إحساسهم ويصمهم بغلظ الطباع وسوء الخلق وغلبة الجفاء وطول المراء. وهذا الوصف منصرف إلى أهل بلرم. أما أهل بواديها وأرباب تلك البوادي فتغلب عليهم   (1) ابن حوقل 1/ 121. (2) ابن حوقل 1/ 119. (3) هذه الأوصاف مجموعة من مواطن متفرقة. تنظر ابن حوقل 1/ 123 - 131. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 بهيمية غامرة لألبابهم، وغفلة عن الحقوق والواجب ظاهرة في معاملاتهم، وقول من الحق بعيد، وشنآن للغريب والطارئ عليهم عظيم شديد، لا يألفون ولا يؤلفون، وهم في كرههم للغرباء يشبهون أهل بلرم حاضرتهم فقد طبع أهلها على بغض التجار والغرباء المجهزين، مع جفاء معدوم النظير في أجفى الجبليين، مع أن مصالحهم تعتمد على الجلابين، وهم محتاجون إلى المسافرين لقيام حياتهم على التجارة. وليس من الضروري ان نصدق ابن حوقل في كل ما يقول لأنه يصور أخلاق قوم كرههم، فليس من السهل أن نأخذ ما يقوله في هذه الناحية بالتسليم وبخاصة لأنه يتحدث عن أمور اعتمد في تصويرها على الشعور فأشبه بذلك الشاعر الذي يهجو. ثم إن الأخلاق نسبية تتغير من إقليم إلى إقليم ولا شك أنه كانت بين العراق وصقلية فوارق في الحياة الاجتماعية جعلت ابن حوقل يكره من صقلية ما لم يكن عراقي الصبغة، وكذلك حال ابن حوقل في الأندلس فإنه لم يستسغ فيها أشياء كثيرة، وهذه الفوارق نمت مع الزمن وصورها ابن سعيد في المفاضلة بين المشرق والمغرب (1) وهي أمور يلمحها الغريب. وقد انتقد ابن جبير الرحالة أشياء في الشاميين وجدها تخالف ما عليه حال الناس في بلده وأحس بالكره لها. والأساس الذي يبني عليه ابن حوقل قلة المروءة والبلادة في الصقليين فاسد، ونحن اليوم نمر بهذه الثورة على البصل مبتسمين. أضف إلى ذلك أن ابن حوقل كره صقلية لأنه غريب لم يجد فيها التقدير الذي يتطلع إليه غريب مثله، وهو عندئذ ذو حساسية خاصة بما يلقى من معاملة، وإذا صح أن الصقليين كانوا يكرهون الغرباء فإن من السهل أن نعلل ثورة ابن حوقل على صقلية. ثم هو قد كره صقلية لأنها كانت تثور على السلطان وتنقض الطاعة، ومن مهمته في رحلته أن يؤكد الناس ولاءهم للسلطان وخضوعهم له، وهو كذلك قد وجد فيها قوماً يشتمون أهل العراق ويستهجنون   (1) انظر هذه المفاضلة والرد عليها في مسالك الأبصار للمري المجلد الأول، الجزء الثاني من نسخة دار الكتب المصرية رقم 559 معارف عامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 مبادئهم في القدر والإرجاء. وتدل رحلته على أنه لم يختلط إلا بطبقات معينة، وأنه كان يألف الغرباء ويطمئن إليهم أكثر من أهل الوطن. وفي هذه الفترة نسمعه ينحي بالذم على أهل الوادي التابعة لبلرم ولكن أتراه زارها؟ وإن كان زارها فأين الوصف الدقيق الذي سجلته عينه النفاذة وجرأته النفسية؟ ومهما ننكر مما قاله ابن حوقل في ذم أخلاق الصقليين لا نستطيع ان ننكر أنه زار صقلية حين لم تكن تنعم الا ببوادر الهدوء والطمأنينة في ظل الكلبيين، وكانت قد مرت بها سنوات عصيبة، حتى ان ابن حوقل وجدها قد حالت من الخصب إلى الجدب. كما لا نستطيع أن ننكر أن أهل البلاد الأصليين، إن كان يعنيهم ابن حوقل بالتسمية الصقلية، كان اغلبهم من الموالي والعبيد، ولم يدفع هؤلاء إلى الإسلام إلا الرغبة في التخلص من بعض القيود الاجتماعية والمادية. ويحدثنا ابن حوقل أنه كتب كتاباً مستقلاً في صقلية جعله عشرة أبواب، بدأ فيه بذكر ما يتفاخر به أهل الأمصار والقبائل والبلدان وما يلحقهم من الفضائل وكيفية لحاقها بالكور والمدن والرذائل المقصرة ببعضها عن الفخر والطيب والحسن، ووسمه بكتاب صقلية ولم يترك لهم من فضيلة ورذيلة إلا ذكرها وسمى فيه معلميهم وذكر فتنهم وخلعهم للسلطان وطاعته وبعض فرقهم الدينية (1) ولا شك في أن هذا الكتاب الذي ذكرت فيه الفضيلة إلى جانب الرذيلة اثمن من تلك الصفحات التي جعلها فصلا من كتاب " صورة الأرض ". وخير ما يظهر لنا انحياز ابن حوقل إلى جانب المساوئ ما ذكره جغرافي آخر وصف أهل صقلية بقوله: " وأهلها مرموقون من بين من جاورهم بنظافة الأعراض والثياب والأحوال، متميزون بالجميل في الناس وحسن الصور والقصد في المعاش إلى مرؤات ظاهرة وعشرةة حسنة " (2) . ومن مستغرب ما ذكره ابن حوقل عن أهل صقلية كرههم للغريب وهو شيء شاذ في بيئة تجارية تعتمد على الغرباء والجلابين، ولعل هذا الكره نشأ   (1) ابن حوقل ا/ 129. (2) المكتبة الصقلية: 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 في نفوسهم أولا نحو المهاجرين، ثم عم حتى شمل كل الغرباء المقيم منهم والعابر، واصبحوا يظنون أن كل غريب فإنما جاء ينافسهم في بلدهم ويستولي على أرزاقهم. أما الجفاء فهو أمر نسبي ولكنا نجد ابن قلاقس يلمسه حين زار صقلية فهو يقول في قصيدة أرسلها إلى أبي الفتح بن خلف الصقلي: وقمت لي من جفاء في صقلية ... بلطف مصر عليه ظرف بغداد غير أن ابن جبير لم يلحظ في البلاد حين زارها إلا اللطف في المعاملة، ولعل الفرق بينه وبين ابن حوقل وابن قلاقس أنه كان مشمولا بالعطف الديني على مسلمي الجزيرة وأنه مغربي وهما مشرقيان، يحسان بفرق واسع في الطباع بين المشرق وصقلية. على أي حال صور لنا ابن حوقل بهذه الوصاف مجتمعاً صقلياً منحلا ضعفت فيه الروابط الخلقية إلى حد غير قليل وتعارضت مقاييسه وقواعد الدين الإسلامي أحياناً. فقد وجد الرحالة فيها " رباطات كثيرة على ساحل البحر مشحونة بالرياء والنفاق والبطالين والفساق متمردين شيوخ وأحداث أغثاث رثاث قد عملوا السجادات، منتصبين لأخذ الصدقات وقذف المحصنات، نقم منزلة وبلايا شاملة وحتوف مصبوبة منصوبة وأكثرهم يقودون ومنهم لا يرى ذلك لشدة الرياء والسمعة وأكثرهم بالزور تطوعاً يشهدون، مع جهل لا يفرق فيه بين فرض الوضوء وسنته، ويقصدهم من أعوزه المكان لبطالته والموضع لعيارته فيؤونه، وربما شاركوه بتافه من المأكول على أحوال يقبح ذكرها " (1) ماذا نفهم من هذه العبارات على غموضها؟ وما معنى الذين اتخذوا السجادات؟ أكانوا يبتزون أموال الناس بإظهار الصلاح؟ وما معنى قوله: ومنهم من لا يرى ذلك لشدة الرياء والسمعة بعد قوله وأكثرهم يقودون؟ لقد أراد ابن حوقل؟ فيما يظهر؟ أن يصور في هذه العبارة جانباً مظلماً من حياة بعض الجماعات في بلرم، وهي طبقة من الناس احترفت البطالة وأقامت في رباطات على ساحل   (1) ابن حوقل 1/ 121 وفي المكتبة الصقلية: 7 اختلاف قليل جاء فيه " وأكثرهم يقودون ويلوطون وإنما آووا إلى هناك لعجزهم وعدم السكنى ومهانة أنفسهم ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 البحر، تحاول أن تكسب عيشها بشتى الطرق، وكلها دنئ خسيس قائم على إهدار الكرامة وعلى النصب والاحتيال. ومن أهم ما لحظه ابن حوقل في صقلية فرقة ذات مذهب خاص تسمى المشعمذين واليها ينتمي أكثر أهل الحصون والبوادي والضياع أي هي منتشرة في الأرياف، وخاصة بين طبقات الموالي والعبيد. " ورأى هؤلاء التزويج إلى النصارى على أن ما كان بينهم من ولد ذكر لحق بابيه من المشعمذين، وما كانت من أنثى فنصرانية من أمها؟ لا يصلون ولا يتطهرون ولا يزكون ولا يحجون، وليس فيهم من يصوم شهر رمضان أو يغتسلون إذا صاموا من الجنابة، وهذه منقبة لا يشركهم فيها أحد، وفضيلة دون جميع الخلق أحرزوا بها في الجهل قصب السبق، ولقد أعررت كتابي هذا بذكرهم (1) ". ومن هذا الوصف يتبين لنا إلى أي درجة تقبلت نفوس الصقليين الدين الجديد، وهي نفوس أقوام من الفلاحين والجنود والأرقاء. وهذه ناحية تفسر في الواقع أكثر مظاهر الحياة العقلية والأدبية وقصورها على فئات المهاجرين. وإذا قرأنا كتب التراجم وجدنا فيها صورة غير هذه، تمثل لنا لوناً من التشدد في المحافظة على الدين ومقاييسه في الفضائل. ألم يكن في تلك الطبقة من العباد والحجاج والمصلين؟ ألم يكن فيهم صقليون أصليون؟ إن من الظلم لصقلية أن نؤمن بأن الفضل كان وقفاً على جماعات المهاجرين من عرب وبربر وغيرهم، ولكن ابن حوقل بعد ذلك انما يؤرخ ما شاهده في فترة معينة مما قد لا ينطبق على صقلية من بعده. ومن العبث أن نحاول رد من نعرف تراجمهم من الصقليين إلى أصولهم لنعرف أكانوا صقليين أصلا أم صقليين من أصل غريب عنها لنثبت أن فيمن كانوا من صقلية أصلاً قوماً متدينين يحجون ويصلون ويزكون ويتطهرون. وليس معنى هذا أني أدفع تهمة الانحلال الخلقي عن البيئة الصقلية فطبقات الموالي والعبيد كانت مطعونة في نفسياتها، وهي خصبة لنمو الرياء والملق والنفاق، واختلاط الأجناس يعطى الفرصة لوجود ذلك الانحلال. ثم إن قيام الحياة   (1) ابن حوقل 1/ 129. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 في المدن الصقلية على التجارة يدعو في الغالب إلى العناية بظواهر الأشياء أكثر من الاحتفال بالتربية النفسية، ولا شك في ان كثرة المساجد، حتى يكون منها في قرية قريبة من بلرم مائتا مسجد، لا تدل دائما على تدين. وفي مثل هذه البيئة ما يسمى مراعاة العواطف وخاصة في المآتم والأفراح، وهذا الملق الظاهري يفسر السجادات، والمصلحة الفردية تفسير للتطوع بشهادة الزور، والفقر من وراء كل تلك الرذائل، أي أن الاختلال في نظم الحياة الاقتصادية هو العامل الأول في تلك النقائض ولست أستطيع أن أتصور إلى أي درجة كانت كثرة الأجناس من ناحية وشعور الأقليات بالانكماش على نفسها من ناحية اخرى، يمد ان الحياة الاجتماعية بتفكك في الروابط، واتضاع في القيم، وقصر ومحدودية في النظرة إلى النفع والضرر، وخاصة أن المادة الخصام على أصول العصبية وغيرها كثيرة وفيرة. وقد نلاحظ أن العصبية الإقليمية أوحت لابن حوقل بشيء كثير من الشنآن للمجتمع الصقلي، وباعدت بينه وبينه، وهي عصبية غير مستغربة حين نعرف أنها كانت تقوم بين بلدان صقلية نفسها، وهي مشاعر ورثتها منذ العصر البيزنطي، وقد رأينا كيف اغتاظ السرقوسيون لما رأوا بلرم في أول العهد الإسلامي قد أصبحت تتحكم في مصايرهم بعد أن كانت مدينة لا يأبهون بها، وفي أيام المسلمين كانت جرجنت مركز البرابرة تنافس بلرم عاصمة الأرستقراطية العربية. بل لا نستبعد أن يكون الانقسام الأخير في صقلية قام على أسباب من بينها تلك العصبية البلدية، أي أن الأقاليم كانت ثائرة على زعامة بلرم وصادف ذلك هوى في نفوس القواد المحليين، فانتهزوا الفرصة لما سنحت، واستقلوا، وكانت بلرم تمثل الحضارة رفعة ودنوا وتهيئ لمن ينزل فيها كل ما يمكن أن تقدمه الحضارة من خير وشر. وكان قد نشأ بينها وبين المدن الأخرى تفاوت واسع حتى كانت مثالا يثير المنافسة والحسد، وهذا الفرق في الترف نلمحه في صيحة ابن منكود صاحب مازر في وجه ابن البر اللغوي حين عرف أنه يشرب الخمر: " إذا كان ولا بد من شرب الخمر فهذا النوع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 ببلرم وربما يعز وجوده هنا " (1) . ولعل في هذا ما يدل على نزعة المفاضلة بين البلدان كما أنه يدل على ميل ابن منكود ليجعل من مازر ملجأ لما اعتقد أنه فضائل إسلامية ولكن روح التدين شيء والسياسة شيء آخر، وقد أثبتت الأيام أن ابن منكود كان مخفقاً سياسياً (2) .   (1) انظر إنباه الرواة في ترجمة ابن البر 2/ 146 وما بعدها. (2) انظر عن سوء تدبير ابن منكود بعد خروجه من صقلية: 272 في المكتبة الصقلية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 فراغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 الفصل الثالث الحياة العقلية 1 - صقلية والصلات الثقافية 2 - المدارس والمعلمون 3 - هجرة الكتب إلى صقلية 4 - الفقه والحديث والقراءات 5 - النواحي اللغوية 6 - الزهد والتصوف 7 - علوم الأوائل 8 - نظرة إجمالية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 فراغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 1 - صقلية والصلات الثقافية كانت صقلية تهتدي بالأنوار المنبعثة من القيروان، وكان لكل حادث أفريقي هام صدى فيها، وسر هذا ليس في ان صقلية قريبة في موقعها من شمال أفريقية فحسب ولكن لأن أهل أفريقية هم الذين افتتحوها، ومن ثم ظلت العلاقات قائمة بين المهاجرين وإخوانهم في الوطن الأصلي، وزاد هذه العلائق توثقاً تجدد الهجرة من أفريقية إلى صقلية ورحلة الصقليين إلى القيروان في طلب العلم، وهي ظاهرة نراها موجودة حتى بعد أن أصبح لصقلية في النواحي العلمية اسم مذكور. وفي أيام الكلبيين تمتعت صقلية بشيء من الاستقلال الذاتي مصحوب ببعض السيطرة الفاطمية، وكان هذا الوضع السياسي ذا مظهرين: أما أولا فقد تبلورت في صقلية جهود علمية خاصة، وأصبح الجيل الناشئ من أبناء الفاتحين صقلي الروح والإنتاج، إلى حد ما، وأما ثانياً فقد أصبحت القاهرة تشارك القيروان في توجيه الحياة الثقافية في الجزيرة. وفي هذه الفترة أعلنت بلرم عن وجودها الثقافي والعقلي، وأصبحت تذكر مع القاهرة والقيروان وقرطبة، وأضحى لها علماء وأدباء يهاجرون إلى الأندلس ومصر وشمال إفريقيا. ونحسب أن كثيراً من هؤلاء المهاجرين كان يبحث عن الشهرة في بلد كالقاهرة أو قرطبة إلى جانب بحثه عن وسائل العيش. وإلى جانب هؤلاء جماعة ممن كانوا يسافرون في طلب العلم أو الأداء فريضة الحج ثم يعودون إلى ديارهم. وعلى هذا لم تكن صقلية تعيش في عزلة تباعد بينها وبين غيرها من البلاد الإسلامية ولكن الحركة كانت بطيئة، وكانت أخطار البحر تحد من نشاطها. ومع ذلك فقد كانت الأسواق الصقلية مجالاً لتبادل السلع والأفكار والرحلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 وعاملا أكيداً في تفاعل الآراء، كما كانت الرسائل المتبادلة بين أهلها وناس في خارجها حلقة من حلقات الربط الثقافي. غير ان هذا الاتصال؟ لم يعم بحيث يفقد صقلية شخصيتها بل لعلها احتفظت بعلامات مميزة وسمات خاصة رأينا لها أثراً في الزراعة والصناعة والعادات والمعتقدات، ونحاول أن نتلمس لها وجوداً في النواحي الأدبية والعلمية وإن لم يكن من السهل أن تعثر عليها، لأن صقلية في هذه النواحي كانت تستند إلى موروث تشارك فيه غيرها من البلاد الإسلامية ولأن روح المحافظة حالت بينها وبين التفرد الواضح. وإذا كانت هذه المميزات مما يخفي أثره فليس معنى ذلك انعدامها، ولا يمكن أن يكون علم صقلية كله جلباً يرد إليها كما ترد السلع التجارية إلى موانيها فذلك يتنافى مع أبسط حقائق الأشياء. ثم ما هو طابع الحياة العقلية لجزيرة ترتكز الحياة فيها على قاعدة من النشاط الحربي أولا بينما النشاط المدني يجيء في المقام الثاني؟ سنرى بعد قليل أن الحياة العسكرية كانت ذات أثرين متناقضين التقيا في النهاية: فقد صرفت الناس صرفاً إلى الحياة الثقافية في بعض النواحي وكثرت عدد المدارس والمدرسين فزادت الكمية ولم تعن بالنوع، وألقت بطلبة العلم ألى أيدي جماعة من المعلمين المتخلفين، الذين اختفوا وراء الجلباب العلمي ليحميهم من حياة الجندية، فتضاءل عدد الأكفاء من أهل التعليم. وصرفت الناس من وجهة أخرى عن الاستقرار والهدوء ورمت الأفكار بالقلق والتململ، فأفقدت الدراسات شيئاً من العمق، حتى إن تلك الصفحات الدامية التي تطالعنا بها الكتب التاريخية لتجعلنا نعجب؟ كما عجب المؤرخ سكوت (1) - كيف أمكن للمسلمين أن يضربوا بسهم في الحياة العمرانية المدنية وكيف تأتى لهم أن يعملوا في الزراعة أو الصناعة. غير أن الحرب لم تكن كل مظهر فوراء الأحداث التي نقرؤها في تاريخ ابن الأثير وابن خلدون والنويري مسرح جانبي ترتسم فيه معالم واضحة، بعض الشيء، للمسجد والسوق والبيت والمزرعة.   (1) S. R. scott: history of the Moorish empire in Europe vol. 2p.61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 2 - المدارس والمعلمون وفيما كتبه ابن حوقل عن صقلية ما ينقل إلينا شيئاً عن النشاط الثقافي فيها أثناء فترة معينة. فقد سجل هذا الرحالة؟ حينما زار بلرم؟ ظاهرتين كانتا متلازمتين تقريباً هما كثرة المساجد وكثرة المعلمين، فعرف أن في بلرم ما يزيد على مائتي مسجد، وقرر أنه لم ير مثل هذا العدد في بلد من البلدان الكبار ولا سمع به إلا فيما يتذاكره أهل قرطبة. قال " ولقد كنت واقفاً ذات يوم بها في جوار دار أبي محمد القفصي الفقيه الوثائقي فرأيت من مسجده في مقدار رمية سهم نحو عشرة مساجد يدركها بصري ومنها شيء تجاه شيء وبينها طريق (1) " وعلة هذه الكثرة فيما استطاع أن يتعرفه من سؤال الناس " أن القوم لشدة انتفاخ رؤوسهم كان يحب كل واحد منهم أن يكون له مسجد مقصور عليه، لا يحب أن يشركه فيه غير أهله وحاشيته، وربما كان أخوان منهم متلاصقة دارهما متصاقبة الحيطان، فعمل كل واحد منهما مسجداً لنفسه ليكون جلوسه فيه وحده (2) ". وربما كان هذا التعليل الذي يقول به ابن حوقل صحيحا لأن فيه ما يصور تلك الروح الفردية التي كانت تغلب على الحياة الإسلامية هنالك. غير أنا لا ننسى أن المسجد لازم استيطان المسلمين في كل بلد من بلدان صقلية حتى كان القائد يبني المسجد والمنبر تواً إثر استيلائه على بلد أو حصن، وهي ظاهرة صاحبت الفتح الإسلامي في أقطار أخرى، ولكنها كانت في صقلية أشد وأعنف، لرسوخ المسيحية فيها عند الفتح، فالإكثار من بناء المساجد   (1) المكتبة الصقلية: 6 - 7. (2) المصدر نفسه: 6 - 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 خير ما يقنع الجماعة الإسلامية بانتصارها على كل موروث صقلي، وخير ما يطمأن الأذهان إلى تثبيت الصبغة الإسلامية في تلك البلاد، وهي طمأنينة لازمة في بلد مجاور للعدو المتربص. وثمة شيء آخر وهو أن ابن حوقل إنما دهش لكثرة المساجد في بلرم وحدها لأنه لم يزر من صقلية بلداً آخر فيما يظهر، وكانت بلرم يومئذ هي العاصمة ومجتمع أهل الأدب ومنتجع طلاب العلم من سائر أنحاء صقلية، فنشاط الحركة التعليمية فيها كان سبباً في الاستكثار من المساجد وانضاف إلى هذا ما قاله ابن حوقل من التكاثر بها، وأصبح غرض كل واحد من بناء المسجد " أن قال مسجد فلان لا غير " (1) . في هذه المساجد وفي المكاتب كثر المعلمون، حتى كان منهم في بلرم ما لا يقل عن ثلاثمائة معلم. وفكرة ابن حوقل عن المعلم مستمدة من الصورة الساخرة التي رسمها الجاحظ، وهي فكرة وجدت سبيلها أيضاً إلى الأندلس حيث نجدها عند أبي عامر بن شهيد حين يقول في تصويره ثقافة المعلم " وقوم من المعلمين بقرطبتنا ممن أتى على أجزاء من النحو وحفظ كلمات من اللغة، يحنون على اكباد غليظة وقلوب كقلوب البعران، ويرجعون إلى فطن حمئة وأذهان صدئة سقطت إليهم كتب في البديع والنقد فهموا منها ما يفهمه القرد اليماني من الرقص والإيقاع " (2) . ويغلو ابن حوقل في حملته على المعلمين حتى ليراهم يمثلون الجنون والصرع ويعتقد أن الناس أجمعوا على أن المعلم محكوم عليه بالنقص والجهل والخفة وقلة العقل. غير أن معلمي صقلية في نظرة يتفوقون في هذه الصفات على معلمي كل بلد. ومما كثرهم فيها " فرارهم من الغزو ورغبتهم عن الجهاد، وذلك أن بلدهم ثغر من ثغور الروم وناحية تحاد العدو، والجهاد فيهم لم يزل قائما والنفير دائما مذ فتحت صقلية " (3) ولذلك لم يكن يعفى من الجهاد إلا   (1) المكتبة الصقلية: 7. (2) ابن بسام، الذخيرة القسم الأول المجلد الأول: 205. (3) ابن حوقل (الطبعة الثانية) 1/ 126. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 المعلمون، أو من بذل الفدية عن نفسه، أو تخلف مع رابطة السلطان، فكان من السهل على من يخشى لقاء العدو أن يتخذ التعليم حرفة له ولذلك نزع إلى التعليم بلههم وحسنه لديهم جهلهم " (1) . هذه الكثرة ف يعدد المعلمين والمساجد والمكاتب تشير إلى نشاط تعليمي واسع، ومهما تكن الأسباب التي أدت إلى كثرة المعلمين؟ وما ذكره ابن حوقل لا يعدو الحق؟ فالذي لا شك فيه أن المعلم في هذا العصر كان شخصية طاغية الأثر في حياة الناس. وكان أهل صقلية يخالفون ابن حوقل في نظرتهم إلى المعلمين؟ كانوا يرون انهم " أعيانهم ولبابهم وفقهاؤهم ومحصلوها وأرباب فتاويهم وعدولهم، وبهم عندهم يقوم الحلال والحرام وتعقد الأحكام وتنفذ الشهادات وهم الأدباء والخطباء " (2) . وقد رأى ابن حوقل من هؤلاء المعلمين من يتولى خطبة الجمعة، وعرف منهم العدول، وسمى من توصل من بينهم إلى منصب القضاء. فكان هؤلاء المعلمون هم الذين يوجهون الرأى العام في أمور الدين والدنيا، ولعل تدخلهم في الأمور السياسية هو الذي جعل ابن حوقل يصب عليهم نقمته المريرة ويرميهم بكل نوع من أنواع الخسة والنذالة، دل على ذلك قوله فيهم " حتى انهم المتكلمون على السلطان في سيره واختياراته. والإطلاق بالقبائح من ألسنتهم بمعايبه وإضافة محاسنة إلى مقابحه " (3) . فمن هو السلطان الذي يعنيه ابن حوقل؟ أهو حاكم صقلية أم الخليفة الفاطمي؟ سواء أكان هذا أم ذاك ففي كلمات ابن حوقل دلالة على المقاومة التي كان يقودها جماعة المعلمين في وجه المذهب الشيعي. ويفهم مما ذكره ابن حوقل أن حرفة التعليم لم تكن تدر خيراً كثيراً على أصحابها، حتى كان فيهم من لا يصيب من طلابه على كثرتهم اكثر من عشرة   (1) المصدر السابق: 127. (2) ابن حوقل 1/ 127. (3) المصدر السابق: 126. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 دنانير في السنة (1) ويريد ابن حوقل أن يثبت منذ ذلك أن المعلم قد قنع باليسير هرباً من الجهاد، وأن الهرب من الجهاد نقص في الرجولة والمروءة، ولكن ابن حوقل نفسه يتحدث في مكان آخر عن فقر أهل صقلية؟ على كثرة خيراتها؟ وأنه ليس فيهم رجل تملك بدرة عين ولا رآها قط إلا عند سلطان إن كان ممن يدخل إليه ومحله من يؤذن له عليه (2) . وهذا الفقر العام يفسر قلة ما كان يحصله المعلم، فإذا أضفت إلى الفقر كثرة المتنافسين في صنعة واحدة عرفت سر الضالة في المحصول. ولقد كان عبد الحق الفقيه إماماً من أئمة صقلية لا مدرساً في كتاب ومع ذلك فلم يجد بيده من المال ما يشتري به كتاباً، واضطر ان يبيع بعض ما يملك في سبيل شرائه. وربما كان النقد في أيدي الناس قليلا لتعاملهم بالمقايضة والبدل، وهذا يجعلنا نظن أن المعلمين لم يكونوا يأخذون أجرهم نقداً دائماً، وإنما كان يصلهم من طلابهم محاصيل متنوعة على طريق الجر أو الهدية. ومع كل ذلك فقد كان يزاول مهنة التدريس كثير من أعيان البلاد، ويتخرج في المدارس كثير من أولاد السراة (3) . وقد أطلعنا ابن حوقل على صورة راقية من صور الكتاب حين حدثنا عن واحد منها لم يكن ينفرد بالتعليم فيه معلم واحد بل يدرس فيه خمسة معلمين لهم من بينهم رئيس هو مدير الكتاب (4) . ولم تعجب هذه الصورة ابن حوقل ووصفها بأنها من ارث ما رآه في صقلية وأغثة، وتهكم بأشخاص المعلمين فيه، وأزرى على خلقهم، وضحك من بكائهم على أحدهم حينما مات وخرج زملاؤه يشيعونه. وفي هذه المكاتب وفي حلقات الشيوخ بالمساجد كان الصقلي يتلقى علومه الأولى، فإذا نزعت به في مستقبل حياته نزعة علمية، غادر صقلية   (1) المصدر السابق: 127. (2) المصدر السابق: 127. (3) المصدر نفسه وقد تحمل العبارة هنالك على محمل آخر. (4) المصدر نفسه: ص130. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 إلى المشرق فدرس على أساتذة مشهورين، ورجع يحمل إجازات كثيرة، أو كاتب هؤلاء الأساتذة دون ان يرحل، واستجازهم كتبهم، أو طمح إلى زيارة الكعبة فالتقى في رحلته بالشيوخ المشهورين، فسمع منهم وتلقى عنهم، وعاد إلى بلده، فزادت الرحلة من مكانته، واعتقد الناس انه قد اصبح علماً يقصد لعلمه. وكانت مصر مهبط كثير من هؤلاء الراحلين في طلب العلم لعلاقتها بصقلية، ولنشاطها العلمي، ولأنها على الطريق إلى الحجاز. وإذا استأنسنا بما رواه المازري عن نفسه في تأليف كتاب " المعلم " قدرنا أن المدرسين كانوا يلقون العلم إلى الطلبة إملاء، وان الطلبة كانوا يدونون ما يلقى إليهم من محاضرات، ثم يكون من بعد ذلك كتاب ينتشر باسم الأستاذ الذي أملاه (1) . وقد أشار ابن حوقل إلى أن صبيان المكتب كانوا كثيرين (2) . وتحدثنا إحدى الروايات الموسومة بشيء من التفصيل ان عدد الطلبة كان يصل أحياناً إلى ثمانين طالباً في الحلقة الواحدة، وان هذا العدد كان يضم طلبة من بلدان مختلفة (3) وهو عدد ضئيل إذا قارناه بما روى عن مجالس بعض الأعلام كالجويني فقد كان يجلس في حلقة درسه كل يوم نحو من ثلاثمائة رجل من الأئمة ومن الطلبة (4) . ولم تكن علاقة التلميذ بأستاذه دائما نوعاً من العرفان بالجميل فقد كان الطالب أحياناً ينشق على استاذه، وينبه على اوهامه، ويعيب عليه بعض آرائه (5) ، أو يسيء الأدب معه ويتتبع سقطاته (6) .   (1) ابن الأبار، التكملة رقم 1512. (2) ابن حوقل 1/ 127. (3) ابن بشكوال، الصلة رقم 351. (4) السبكي، طبقات الشافعية 3/ 255. (5) centenario 1/ 373 نقلا عن كتاب ترتيب المدارك. (6) المصدر السابق: 381. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 3 - هجرة الكتب إلى صقلية وكانت الكتب التي يتداولها الطلبة والأساتذة مما يرد على الجزيرة من بلاد المشرق والأندلس والقيروان أو مما يؤلفه الأساتذة أنفسهم. وإذا استطعنا ان نعرف الكتب الواردة التي راجت في صقلية، أو أمثله منها على الأقل، كان كذلك خير معين لنا على تصور الثقافة السائدة في الجزيرة وعلى مدى الامتزاج والتفاعل في تلك الثقافة. وقد كانت الكتب ترحل كالناس في بطء وتتحرك من مكان إلى آخر في أناة، وربما كان انتقال كتاب من بلد إلى آخر حدثاً يستحق التاريخ. فليس بغريب أن يصرح ابن القطاع الصقلي حين سأله المصريون عن كتاب " الصحاح " للجوهري بان الكتاب لم يصل إليهم في صقلية (1) . ويحدثنا ابن رشيق أن أول من ادخل كتاب " اليتيمة " للثعالبي إلى القيروان هو أبو الفضل محمد بن عبد الواحد البغدادي الدرامي سنة 439هـ؟ (2) ، ولما رحل ابن البر الصقلي إلى المشرق كان كتاب اليتيمة أحد مروياته عن شيخه أبي محمد إسماعيل بن محمد النيسابوري، وعنه تلقاه في صقلية تلميذة ابن القطاع (3) . وقد دخلت " المدونة " في الفقه المالكي عند فتح صقلية او بعيد ذلك بقليل، وكان كل نشاط الفقهاء يدور حولها اختصاراً وشرحاً، وبياناً لما فيها من غريب، ونسجاً على منوالها. وظل الأمر كذلك حتى آخر أيام العرب في صقلية. وبديهي ان موطأ كان يدرس في صقلية أيضاً ويقوم بتدريسه محدثون   (1) القفطي، انباه الرواة 1/ 536. (2) ابن بسام، الذخيرة 4 مجلد ص 68. (3) ابن ظافر، بدائع البداية على هامش معاهد التنصيص 1/ 92. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 أعلام، مثل الفقيه السمنطاري، وكان الطلبة لكثرة دروج الاسم على أفواههم يلفظونه بغير الهمز. ويستعملون إلى جانبه كتاب " الملخص " وهو كتاب ألفه القابسي ولخص فيه ما اتصل إسناده من حديث الموطأ وكان الطلبة يسمونه الملخص بالفتح مع أن صاحبه سماه الملخص بالكسر (1) . وألف ابن جعفر القصري كتاباً سماه بكتاب " تجديد الإيمان وشرائع الإسلام يشتمل على نيف وستين جزءاً وفيه بحث في المعجزات فدخل صقلية وقرأه الناس (2) . وفي القرن الخامس وردت إلى صقلية نسخة من كتاب " التقريب " وهو كتاب اختصر به البرالي البلنسي (البريلي بخط ابن بشكوال) كتاب المدونة وجمع فيه أقوال أصحاب مالك حتى قال فيه بعضهم: من أراد أن يكون فقيها من ليلته فعليه بكتاب البريلي (3) وقرأه عبد الحق شيخ فقهاء صقلية في عصره وأراد أن يشتريه فلم يتيسر له ثمنه، فباع حوائج من داره واشتراه (4) ، فلما عرف أهل صقلية ذلك زادت قيمة الكتاب في اعينهم، فاقبلوا عليه وتنافسوا في اقتنائه. وتحدثنا المصادر أن علي بن حمزة اللغوي راوية المتنبي ذهب إلى صقلية وعاش في بلرم وتوفي بها سنة 375هـ؟ وربما روى عنه الصقليون بعض كتبه التي كانت في أكثرها ردوداً على الأئمة كالرد على ابن السكيت في إصلاح المنطق والرد على الجاحظ في الحيوان والرد على الثعلب في الفصيح.. (5) الخ وربما استنتجا بأنه درس هنالك ديوان المتنبي. وأيا كان الأمر فمن المحقق أن صقلية عرفت ديوان المتنبي معرفة وثيقة إذ كان جزءاً من ثقافة عالمها اللغوي ابن البر درسه علي ابن رشدين بمصر ثم أخذه عنه طلبته بصقلية (6) ولعل   (1) ابن مكي،تثقيف اللسان نسخة الآستانة الباب 36. (2) الصلة رقم 379. (3) ريض النفوس في المكتبة: 194. (4) ابن فرحون الديباج المذهب: 113. (5) ياقوت، معجم الأدباء 13/ 208. (6) ابن الأبار، التكملة رقم 367. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 دواوين كثيرة من شعراء المشرق دخلت صقلية أيضاً فنحن نسمع ان المغنين فيها كانوا يغنون أشعاراً لقيس بن الخطيم، وابن الرومي وذي الرمة وسحيم عبد بني الحسحاس وكثير عزة وجرير وجميل والشريف الرضى وغيرهم (1) . وفي الأسانيد ما يدل على ان الطلبة ابن البر اللغوي رووا عنه " مقدمة ابن بابيشاذ " في النحو. ومن الكتب التي درسها هذا العالم كتاب " أدب الكتاب " لابن قتيبة وعنه تلقاه تلميذ ابو العرب الصقلي ثم درسه في الأندلس حين ارتحل إليها (2) . ولا ننس ان كتاب كليلة ودمنة من الكتب التي راجت في صقلية. ولما دخل ابن رشيق إلى صقلية دخلتها كتبه وخاصة كتاب " العمدة " وجرى تدريسه في مدينة مازر حتى لقد رأى القفطي على إحدى نسخ العمدة قراءة ابن منكود والي مازر لهذا الكتاب على مؤلفة (3) . وقد اختصره فيما بعد أحد الصقليين وهو عثمان بن علي الخزرجي وكان في أيام يحيى بن تميم بن المعز (4) . ويدلنا العمدة على بعض المصادر التي كان يستطيع ان يطلع عليها أهل المغرب ومن السهل ان ترحل هذه الكتب إلى صقلية بعد ان تصل إلى القيروان، أي أن أهل صقلية ربما عرفوا كتب قدامه بن جعفر والرماني والعسكري وغيرهم. وقد أثر قدامه في توجيه النقد في المغرب في غير ابن رشيق، ونسمع أن الشاعر المعروف بابن ميخائيل (5) أحد شعراء المعز كان شديد الانتقاد للشعر على مذهب قدامه (6) . وعرفت في المغرب أيضاً كتب أبي حيان التوحيدي ورسائل إخوان الصفا   (1) ابن مكي، تثقيف اللسان، الباب الأربعون. (2) ابن الأبار، التكملة رقم 386. (3) القفطي، انباه الرواة - ترجمة ابن رشيق 1/ 277. (4) ياقوت، معجم الأدباء 12/ 135. (5) هو محمد بن الحسين بن أبي الفتح القريشي المغربي. انظر ترجمته في كتاب المحمدين من الشعراء للقفطي (نسخة دار الكتب المصورة رقم 2177 تاريخ الورقة 76) . (6) المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 وكان أولى من ادخل هذه الرسائل إلى الأندلس هو الكرماني المتوفى سنة 458هـ؟ (1) ، ولعلها دخلت صقلية في تاريخ مقارب. ولعل صقلية كانت تستمد بعض الكتب في الطب من شمال إفريقية فمنذ بدء العصر الفاطمي عرفت القيروان نشاطاً واسعاً في الطب، واشتهر فيها إسحاق بن عمران وابن سليمان الإسرائيلي وابن الجزار وقد ترك هذا الأخير ما يقرب من ثلاثين مؤلفا ولا يعقل أن تكون هذه الكتب مجهولة كلها في صقلية. 4 - الفقه والحديث والقراءات استمدت صقلية من إفريقية ناساً يعمرونها بعد الفتح، فذهب إليها هؤلاء بعقلياتهم وثقافاتهم ومذاهبهم، فإذا أردنا ان نتصور حياة ناحية ثقافية في صقلية كان لابد لنا من ان نتعرف إلى حالها في أفريقية قبل ذلك. وفي الفقه كان يغلب على إفريقية في القديم مذهب الكوفيين ومذهب الأحناف (2) . ثم اخذ جماعة ممن درسوا مذهب مالك يحاولون نشره، ولكن هذا المذهب لم يستطع ان يبسط ظله على أفريقية إلا أيام أسد وسحنون اللذين استمدا ثقافتهما الفقهية من المشرق. وأصحاب سحنون هم الذين نشروا مذهب مالك في صقلية فكان عبد الله ابن حمدون (أو حمدويه) الكلبي الصقلي أحد من سمع منه (توفي سنة 270هـ؟) (3) من أوائل فقهائها، وكان من أصحابه أيضاً دعامة بن محمد الفقيه   (1) ابن أبي أصيبعة، طبقات الأطباء 2/ 40. (2) centenario. p. 261. نقلاً عن المدارك. (3) centenario المجلد الأول: 369. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 الذي ولى فيها القضاء لبني الأغلب (توفي سنة 297هـ) (1) . ومنهم أيضاً محمد بن ميمون بن عمرو الأفريقي قاضي القيروان أولاً ثم قاضي صقلية (320) (2) وكان لقمان بن يوسف الغساني يدرس المدونة ويأخذها في اللوح مدة أربع عشرة سنة أقامها في صقلية، ويقال انه كان عالما باثني عشر صنفاً من العلوم (319هـ؟) (3) . وفي سنة 281 عين سالم بن سليمان الكندي للقضاء في صقلية فسار فيها بسيرة العدل. وكان إلى جانب القضاء مهتما بتدريس الفقه، ولذلك انتشر عنه مذهب مالك في صقلية وظل في القضاء حتى سنة 289هـ؟ وعرف فيه الناس حسن أخلاقه وتقشفه وبره بطلبة العلم، ولعله ان يكون ألف في صقلية كتابه في الفقه الذي دعى " السليمانية " نسبة إليه (4) . كل هذا يفيد ان مذهب مالك اخذ في الانتشار في صقلية قبل انتهاء القرن الثالث. فكيف نوفق بين هذا وبين قول المقدسي " والغالب على أهل صقلية أصحاب أبي حنيفة " (5) ؟ إذا عرفت ان المقدسي كتب كتابه بعد قيام الدعوة الفاطمية في إفريقية قدرنا ان يكون المذهب المالكي قد انهزم أمام هذه الدعوة في صقلية كما انهزم في إفريقية. ولكن لم يقبل الناس هنالك على مذهب أبي حنيفة ولا يأخذون بالمذهب الفاطمي؟ ربما كان في صقلية أقلية من اتباع أبي حنيفة فلما هزم المذهب المالكي ظهروا على غيرهم وربما لجأ المالكيون إلى مذهب أبي حنيفة فرارا من ترك السنة لان بني أبي عبيد كانوا متسامحين مع الأحناف متشددين مع المالكية..   (1) المكتبة الصقلية، الملحق الأول: 5، نقلا عن بيان المغرب. (2) رياض النفوس في المكتبة الصقلية: 191 وانظر الديباج المذهب: 334. (3) رياض النفوس في المكتبة الصقلية: 192 وانظر كذلك طبقات أبي العرب: 171. (4) centenario، vol،ii p.108 نقلا عن المعالم الجزء الثاني: 136 - 137 وانظر طبقات أبي العرب: 148. (5) المكتبة الصقلية، الملحق الأول: 57 واحسن التقاسيم ص 238. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 وكان من المقاومة العنيفة التي واجه بها المالكية بني عبيد، ثم اخفق ثورة أبي يزيد مخلد بن كيداد التي كانت تعبيراً عن نقمة الفقهاء المالكيين على العبيدين؟ كان من ذلك ان هاجر كثير من الإفريقيين إلى صقلية لينجوا بأنفسهم من الاضطهاد المذهبي. غير ان بلاط صقلية؟ وصاحبة فاطمي الهوى؟ كان يؤوى الفقهاء الذين يميلون إلى بني عبيد أو الذين لا يقفون منهم موقف المتشددين، لأن من كان متساهلا من الفقهاء في نظرته إلى العبيديين، لم يكن يقدره علماء القيروان المتشددون؟ كرهوا أبا إسحاق التونسي لأنه لم يفت بكفر من يقول بتفضيل علي بن أبي طالب على سائر الصحابة (1) ، وكرهوا البرادعي (خلف بن أبي القاسم الأزدي) لأنه كان يصحب سلاطين القيروان ولأنه؟ فيما يقال؟ تمثل في بعض كتبه مشيراً إلى العبيديين: أولئك قوم إن بنوا احسنوا البنا ... وإن وعدوا أوفوا وان عقدوا شدوا فأفتوا بطرح كتبه (2) فلما نبت به القيروان خرج إلى صقلية وقصد أميرها فحصلت له عنده مكانة؟ وهذا دليل على ترحيب البلاط الصقلي بمن كان يسالم المذهب والسياسة الفاطمية؟ وفي صقلية ألف البرادعي كتبه مثل كتاب التهذيب في اختصار المدونة وغيره. وطارت كتبه بصقلية حتى لقد قيل ان المناظرة في جميع بلدانها كانت بكتابة المسمى بالتهذيب (3) . وواضح من مقدمة هذا الكتاب انه ألفه تسهيلا على الطلبة في دروس الفقه إذ يقول هنالك: " هذا كتاب قصدت فيه إلى تهذيب مسائل المدونة والمختلطة خاصة دون غيرها، إذ هي أشرف ما ألف في الفقه من الدواوين، واعتمدت فيها على الإيجاز والاختصار، دون البسط والانتشار، ليكون ذلك ادعى لنشاط الدارس،   (1) القاضي عياض، ترتيب المدارك 2/ 151. (2) ابن فرحون، الديباج المذهب: 112. (3) المصدر السابق (الديباج) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 وأسرع لفهمه وعدة لتذكرته ... وجعلت مسائلها على التوالي حسبما هي في الأمهات، إلا شيئاً يسيراً قدمته أو أخرته، واستقصيت مسائل كل كتاب فيه، خلا ما تكرر من مسائله أو ذكر منها في غيره، فإني تركته مع الرسوم وكثير من الآثار كراهية التطويل " (1) وقد فرغ البرادعي من كتابه هذا سنة 372هـ، وفي مقدمته؟ التي اقتبست منها ألفاً؟ ما يشير إلى ان الطريقة المدرسية في تلخيص المطولات كانت قد أخذت تجد طريقها إلى حلقات العلم بصقلية، وهي طريقة فيها شيء من الخطر يشبه من الناحية الأخرى كثيرة التعلق بالشروح والحواشي. وليس للبرادعي في " التهذيب " رأي ذاتي ومع ذلك فقد استدرك عليه عبد الحق الصقلي فيما وهم فيه على المدونة مع أن البرادعي صرح في مقدمة كتابه بأنه صحح روايته على أبي محمد بن أبي زيد (2) . ولم يتكون لصقلية مدرسة فقهية من أبنائها إلا في أواخر القرن الرابع حين نجد أمثال الحصائري أبي بكر الصقلي الفرضي الذي كان عليه اعتماد الطلبة الصقليين في دراسة الفرائض، وأبي بكر بن العباس الفقيه الذي كان يشتغل بالتدريس، وكل هؤلاء استمدوا ثقافتهم من أساتذة غرباء في صقلية أو غيرها ثم كان لهم الفضل في تخريج اكبر فقهاء صقلية ومحدثيها في القرن الخامس فمن تلامذتهم ابن يونس، وعبد الحق الصقلي والسمنطاري. وعلى يد هؤلاء تخرج متأخرو الفقهاء الصقليين الذين أدركهم الفتح النورماني ومنهم من بقى في صقلية كابن الحكار الصقلي وابن مفرج وابن الكلاعي وابن القابلة (3) ومنهم من غادرها عند الفتح كأبي الحذاء القيسي الصقلي وأبي البهاء عبد الكريم بن عبد الله بن محمد المقرئ وأبي القاسم السرقوسي (4) .   (1) البرادعي، تهذيب المدونة (نسخة خطية بدار الكتب المصرية رقم 405 فقه مالكي) الورقة الأولى. (2) البرادعي، تهذيب المدونة ص1. (3) centenario، المجلد الأول ص383 ما بعدها. (4) السلفي، المعجم ورقة 120، 246. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 ومع امتياز طبقة ابن يونس، وعبد الحق والسمنطاري في الشهرة التي كسبوها خارج حدود صقلية، لا نجد لهم تميزاً بدراسة معينة فكلهم يحومون حول المدونة في الفقه وحول الموطأ في الحديث. فتناول ابن يونس الفرضي المدونة وأضاف إليها غيرها من الأمهات وجعل منذ ذلك كتاباً كان عليه اعتماد طلبة العلوم للمذكراة حتى لقد انتقل الكتاب إلى المغرب وانتسخ في سبتة (1) وهذا أول مثل على كتاب تصدره صقلية إلى الخارج. وبعد ان تفقه عبد الحق بالشيوخ القرويين، وحج أول مرة، والتقى بالقاضي عبد الوهاب المالكي وأبي ذر الهروي؟ بعد ذلك عاد إلى صقلية يتناول المدونة يدرسها ويؤلف الكتب حولها فألف كتاب " النكت والفروق لمسائل المدونة "؟ وهو من أول ما ألف؟ واشتهر الكتاب وأقبل عليه الطلبة (2) ثم ندم على تأليفه هذا وتغيرت نظرته إليه، فتولاه بالتغيير ورجع عن كثير من اختياراته وتعليلاته، وكان يقول لو قدرت على جمعه وإخفائه لفعلت (3) . وألف كتاب تهذيب الطالب واستدرك على تهذيب البرادعي للمدونة، وكتب جزءاً في بسط ألفاظ المدونة. وبسببه أقبل الناس على كتاب " التقريب " وهو اختصار للمدونة. ومع ذلك فان عبد الحق اكبر فقيه صقلي أحرز شهرة في وطنه وفي خارجه حتى انه لما حج حجته الثانية سنة 540 هـ ولقي بمكة الجويني أعجب به إمام الحرمين وكان يجله ويعترف بفضله - كما اعجب به عبد الحق؟ وكان جويني يخاطبه ف يكتبه إليه بالشيخ الأوحد والشيخ الجليل إذ تبودلت الرسائل بينهما وهما في مكة، ومن العجيب ان يتبادلا هذه الرسائل وهما في بلد واحد، ولكن يظهر ان عبد الحق أراد أن يثبت أجوبة الجويني في كتاب ينشره على الناس، وتدور الأسئلة التي تقدم بها عبد الحق على عدة موضوعات فقهية وكلامية فقد سأله مثلاً عن اعتقاد بعض العوام أن الله سبحانه كالأجسام   (1) ابن فرحون: الديباج الذهبي: 274. (2) المصدر السابق: 174. (3) المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 العظيمة التي تعظم بكثرة الأجزاء، وعن ذهول العوام عن وجه الدلالة على صدق الأنبياء هل يضربهم، وثمة أسئلة عن الجوهر والعرض وعن الكرامات وما يصح منها وما لا يصح، وهل يجوز ازدياد الطعام كرامة للولي مع منع انقلاب الدجلة ذهباً، وأسئلة عن المنجمين، وعن معنى تمثل جبريل للنبي عليه السلام في صورة دحية الكلبي وهل تنفصل أجزاء ثم تعاد أثناء هذا التمثل أم تصير بعض الأجزاء على صفة رجل وتبقى الأجزاء الأخرى (1) . ونحن نتساءل هل كانت هذه المسائل تدور في رؤس الفقهاء ودارسي الفقه بصقلية أو أنها صورة مما كان يعتلج في نفس عبد الحق وحده؟ والى أي حد تمثل أسئلته عن الكرامات وعن التنجيم جوانب من الحياة العقلية في بلده؟ وهل كان الناس مهتمين حقاً بالاطلاع على أمور تتعلق بالصفات وثبوت النبوات؟ وهي أسئلة لا يمكن ان نقطع فيها بالقول الفصل. وعن طريق عبد الحق امتد اثر صقلية إلى خارج فقد درس في صقلية والقيروان ومكة والإسكندرية؟ درس عليه في القيروان ابن الخياط (2) ومحمد بن نعمة الأسدي (3) ولقيه بمكة ابن قطري الزبيدي (4) وعبد الرحمن بن المعافري (5) ودخل أثره الأندلس لأن بعض تلامذته هاجر إليها كثابت الفقيه الصقلي (6) وكان من تلامذته في صقلية نفسها طلبة أندلسيون كما كان فيمن لقيه أثناء رحلاته جماعة من الأندلسيين أيضا كابن أبي الدنيا القرطبي (7) الذي صحبه بمكة ومصر واخذ عنه كثيراً وابن الحصار (8) الذي درس عليه في صقلية نفسها،   (1) مسائل للشيخ عبد الحق بن محمد بن هارون الصقلي (مجموعة رقم 11 ش فقه مالكي بدار الكتب المصرية) . (2) ابن بشكوال: الصلة رقم 836. (3) المصدر السابق رقم 1207. (4) ابن الأبار: التكملة رقم 508. (5) ابن الأبار: رقم 1648. (6) ابن بشكوال رقم 287. (7) ابن بشكوال رقم 455. (8) ابن بشكوال رقم 392. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 وأبي عبد الله الميورقي الذي صحبه في رحلته الثانية واخذ عنه تواليفه (1) . وليس لدنيا من مؤلفات عبد الحق ما يجلي لنا أثره الصحيح في الفقه، ولعله كان متشددا في أحكامه وفتاواه والمثال الوحيد الذي نملكه على ذلك إفتاؤه بعدم جواز الصلاة خلف من يظهر في قراءته النون الخفيفة او التنوين عند الياء والواو وعد هذا من اللحن، قياساً على من يتكلم في الصلاة متعمداً (2) . أما الثالث المشهورين وهو عتيق السمنطاري فقد انصرف إلى تدريس الحديث وتلقى ثقافته على الفرضى والحصائري بصقلية، وسكن بلرم، أي أنه هجر قريته سمنطار ولزم حلقات الدرس في المدينة. وكانت له رحلة زار فيها الحجاز فحج وساح في البلدان من أرض اليمن والشام إلى أرض فارس وخرسان، ولقي بها من العباد وأصحاب الحديث والزهاد فكتب عنهم جميع ما سمع وصنف كل ما جمع (3) ، وكان للسمنطاري نشاط واسع في التصوف - سنتحدث عنه في حينه؟ كما أنه ألف في الفقه تآليف وصفت بأنها في غاية الترتيب والبيان (4) . وقام السمنطاري على الموطأ وإفراغ له كثيرا من جهده كما دأب عبد الحق على المدونة. وظل عتيق يدرس الحديث في صقلية حتى سقطت في يد النورمان. ويحدثنا أحد تلامذته انه رآه ببلرم ووصفه بأنه كان مستجاب الدعوة فعندما قوى دوقه (5) الإفرنجي على الجزيرة وأهلها قال: اللهم انك قضيت على المسلمين بما قضيت فان تمت ولايته فسخره لهم. فلما ملكها صار عليهم أحن من الوالد على الولد (6) . وفي سنة 464هـ؟ توفي السمنطاري، وهاجر بعض تلامذته من صقلية ووصل مصر منهم ابن الحذاء القيسي الصقلي وعبد الكريم   (1) ابن الأبار رقم 443. (2) ابن مكي الصقلي: تثقيف اللسان (الباب35) . (3) معجم البلدان لياقوت مادة (سمنطار) والمكتبة الصقلية: 113. (4) المصدر السابق. (5) في الأصل ذوقه: وهو رجار الأول وظاهر من النص أنه استعمل اللقب ظناً منه انه الاسم. (6) السلفي الورقة 286. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 بن عبد الله بن محمد المقرئ الواعظ (1) . وظل الفقه بعد هؤلاء الأعلام، يدور حول المدونة ومختصراتها، حتى إن ابن الحكار الصقلي شرحها بتفصيل في نحو ثلاثمائة جزء (2) ، وذكر من حضر مجالسه انه كان ينظر بالبرادعي ويتكلم عليه كلاماً دقيقاً (3) . ثم جاء ابن فروج الصقلي (أو ابن مفرج) فأعاد النظر في تمهيد البرادعي ورتبه على نسق المدونة (4) . وفي غضون هذا العصر اعتنق كثير من المالكية مذهب الأشعري في تأييد السنة فكانوا حرباً على الاعتزال كما كانوا متشددين في التمسك بحرفية مذهب أبي الحسن، ويقول السبكي (والأشاعرة ولا سيما المغاربة منهم كانوا يستصعبون الخروج عن حرفية ما رسمه الأشعري ولا يرون مخالفة أبي الحسن في نقير ولا قطمير (5) . وقد التقى ابن حوقل في صقلية بمن يكره أهل العراق ويسميهم مرجئة لتركهم القطع على أهل الكبائر بالخلود، ومن يرى المعتزلة فرقة ضالة ويكفر أهلها (6) . ولكن هذا لا يعني ان الجزيرة خلت من الاعتزال والتشيع ومذهب الخوارج وغير هذه من مذاهب. وكيف تخلو وسكانها أصلهم من أفريقية وقد كانت المذاهب في إفريقية متنوعة، فالتشيع في كتامة ومذهبا الاباضية والراسبية منتشران في قسطيلية وقفصة ونفطة والحامة، والاعتزال في مزاتة وزناتة من قبائل البربر على مذهب واصل بن عطاء، وفي السوس شيعة ومالية وبينهم القتال المتصل والدماء الدائمة (7) . ولا بد أن القائلين بالاعتزال   (1) المصدر السابق ورقة 110، 246. (2) centenario، المجلد الأول: 383. (3) المصدر السابق. (4) المصدر السابق. (5) طبقات شافعية: 4/ 124. (6) ابن حوقل 1/ 127. (7) المصدر نفسه 1/ 96. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 في صقلية قد أظهروا رءوسهم عند قيام الدعوة الفاطمية كما تقوت نفوس المتشيعين. ويكاد ما تقدم من بحث يكون قاصراً على الفقه دون غيره من الدراسات كالحديث والتفسير والقراءات لأن المعلومات التي بين أيدينا عن هذه الفروع لا تعدو النتف، وهي لا تطلعنا على شيء مهما جهدنا في تتبعها واستقصائها فقد يقال لنا مثلا أن عمار بن منصور الكلبي كان ذا يد في الفقه والحديث (1) وأن ابن مكي كان فقيهاً محدثاً (2) أو ما هو من هذا القبيل. ولكن مثل هذه الأخبار لا تستند البحث بشيء ذي بال. وكل ما هو واضح لدينا أن دراسة الحديث كانت تدور؟ إبان ازدهار الدراسات الدينية؟ حول الموطأ أو ملخصات منه، وأن عبد الحق الصقلي والسمنطاري من أكبر من قاموا بهذه الدراسة في عصر واحد. ومن الطريف أن أحد تلامذة السمنطاري روى في مصر حديثاً رواه فيها تلميذ آخر من تلامذة عبد الحق (3) . وقد عقد ابن مكي في كتاب تثقيف اللسان فصلا في أغلاط المحدثين (4) وهو فصل لا يدل على نشاط متميز بخصائص معينة، ولكن له دلالة أبعد، ففيه إشارة إلى أن علماء صقلية كانوا يتحرزون من الخطأ اللغوي في الحديث،وربما لم يكونوا يجيزونه إطلاقاً. فابن مكي لم يكن لغوياً فحسب، ولكنه كان فقيها محدثاً، وتعقبه لأخطاء الباحثين لا يميله عليه الحس اللغوي وحده، وإنما يبعث عليه أيضاً مبدأه الفقهي، وابن مكي أيضاً ممن سمع عبد الحق وتتلمذ له. وإذا كنا نعرف هذا القدر الضئيل عن الحديث والمحدثين، فنحن في   (1) العماد الاصفهاني: الخريدة الجزء الحادي عشر الورقة 42 والترجمة رقم 37 من مجموعة الشعر. (2) المصدر نفسه الورقة 45 والترجمة رقم 46 من مجموعة الشعر. (3) هو قول الرسول: الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله، انظر معجم السلفي الورقة 120، 246. (4) هو الباب السادس والثلاثون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 الواقع نجهل كل شيء عن التفسير والمفسرين، لأن المصادر لا تذكر شيئاً من ذلك خلا مرة واحدة جاء فيها ان محمد بن عبد الله المقرئ من أهل صقلية المقيمين بها، كان من أهل القران والتفسير (1) . وربما لم يكن حظنا من المعلومات عن القراءات بأحسن كثيرا من حظنا فيما نعرفه عن الحديث ولكنه على أي حال خير من معلوماتنا عن التفسير. ونستطيع ان نطمئن إلى هذه الدراسات تكاد تكون من نصيب كل دارس للعلوم الإسلامية فالفقيه محدث مقرئ فرضى أصولى، والمقرئ لغوي نحوي محدث وهكذا. وإذا اتخذنا القيروان مثالا لصقلية استطعنا ان نحكم بان قراءة نافع هي التي كانت شائعة فيها فمنذ ان حل محمد بن عمر خيرون المعافري الأندلسي مدينة القيروان، وكان إماماً في هذه القراءة اخذ يقرئ الناس بها في مسجد هنالك عرف باسمه، وكان يأخذ أخذاً شديداً على مذهب المشيخة من أصحاب ورش، وقد روى القراءة عنه عامة أهل القيروان وسائر المغرب (2) . ونستطيع ان نلمس اثر مصر في توجيه للقراءات بصقلية، حقاً ربما كان المعافري الأندلسي ذا أثر في هذه الناحية ولكنا نرى محمد بن خراسان (توفي 386) - وأبوه مولى بني الأغلب؟ يطلب العلم بمصر ويجمع إلى النحو معرفة بالقراءة ويتصدر للإقراء والحديث في صقلية، ومنه سمع بها يوسف بن أبي حبيب بن محمد وأبو الحسن غيلان ابن تميم الفزاري (3) . وفي عصر عبد الحق والسمنطاري كثر أهل القراءات في صقلية من الصقليين والغرباء، فكان من الصقليين عبد الله بن فرح المديني ومحمد بن إبراهيم الشامي المديني ومحمد بن علي الأزادي بن بنت العروق ومحمد بن عبد الله القتال (القناد؟) وهؤلاء جميعاً هم " شيوخ المدينة بصقلية والمقدمون   (1) القفطي: إنباه الرواة 2/ 121. (2) ابن الأبار: التكملة رقم 319. (3) المقفى للمقريزي في المكتبة الصقلية: 665. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 للإقراء (1) " وكان يشاركهم جماعة من الوافدين فيهم أحمد بن محمد بن عباد الأشبيلي وأبو عبيد الله بن جمهير (2) ولعل أشهر المقرئين الصقليين في صقلية نفسها هو ابن بنت العروق الذي درس علية ابن الحصار القرطبي ثم تصدر بعد ما أحسن القراءة للإقراء بالمسجد الجامع بقرطبة (3) . غير ان اعظم ما قدمته صقلية في فرع القراءات لم يتم في صقلية نفسها وإنما تم خارجها، مما سأشير إليه في فصل آخر. 5 - النواحي اللغوية لعل الحياة التعليمية التي وصفناها كانت خير مجال للدراسة النحوية واللغوية منذ قر المسلمون على ارض الجزيرة. ولكن اللحن كان قوام الكلام في الحياة اليومية، فأصبح عمل المكاتب وحلقات الدروس ضبط الألسنة عن الخطأ في كتاب الله وحديث الرسول وعند قراءة الكتب وإلقاء الخطب. وعجزت في هذا أيضاً، فأما المتحرزون المتدينون فتعففوا عن رواية الحديث لئلا يقعوا في الخطأ (4) وأما من لم تقو في نفسه الدوافع لذلك فاندفع يكتب أو يخطب غير ملق بالا إلى ما يقع في كلامه من أخطاء. وقد شهد ابن حوقل خطيباً في بلرم في يوم جمعة وسمعه يجزم الأسماء مع الصلة ويجر الأفعال من أول خطبته إلى آخرها، ولم يكن في الناس من يعترض عليه مع انه خطبهم نحو حولين (5) . وقد   (1) معجم السلفي 2/ 246. (2) المصدر السابق. (3) الصلة رقم 392 والمكتبة الصقلية الملحق الأول: 48. (4) معجم السلفي 2/ 246. (5) ابن حوقل 1/ 127. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 تطور أمر هذا اللحن وتعدى دائرة الحديث اليومي ودروش الوعظ وخطبة الجمعة، وامتد إلى الكتابة والتدوين، واصبح التصحيف في (المشهور من الحديث النبي صلي الله عليه وسلم، واللحن في الواضح المتداول منه، وتعمد الوقف في مواضع لا يجوز الوقوف عليها من كتاب الله عز وجل وتغيير أشعار العرب وتصحيفها، وتصنيف كتب الفقه وغيرها، ملحونة تقرأ كذلك فلا يؤبه إلى لحنها، ولا يفطن إلى غلطها " (1) . وقد ذكر لنا صاحب تثقيف اللسان أمثلة من أغلاط سمعها أو قراها قال " ولقد وقفت على كتاب بخط رجل من خاصة الناس وأفاضلهم يقول احب أن تشهد لي في كذا وكذا بالشين يريد تجتهد، ورأيت في آخر أكبر منه أعلى منزلة بيت شعر على ظهر كتاب وهو قول الشاعر: زوامل للأسفار لا علم عندهم ... بجيدها إلا كعلم الأباعر كتبه للأصفار بالصاد. . وكتب إلى آخر من أهل العلم رقعة فيها " وقد عزمت على الإتيان إليك " بزيادة ياء. وشهدت يوماً رجلا قبله تخصص وفقه وحفظ للأخبار والأشعار، وقد سمع كلاماً فيه ذكر الشدق فلما سمعه بالدال غير معجمة أنكر وتعجب من أن يجوز ذلك؟ وليس يجوز سواه (2) . ويتضح في كتاب ابن مكي هذا ان صقلية كانت إلى عصره قد انفردت بلهجة ميزتها عن المشرق والأندلس، قال: " ألا ترى أن أهل المشرق يقولون النسيان وآمين عند الدعاء بالتشديد وأخذت للأمر هبته، وليس في بلدنا أحد يقول إلا النسيان وآمين بالتخفيف وأخذت للأمر اهبته، ومثل ذلك كثير مما ذكره علماؤهم وأخذوه عليهم وقد يغلطون فيما لا يلفظ به أهل بلدنا، ولا سمعوا به قط، مثل قولهم فاقرة في الفاقورة وعنب ملا حي وهو مخفف اللام وقارورة في القاريه وتوقر وتحمد في توقر وتحمد، في أشباه لذلك كثيرة   (1) ابن مكي: الورقة الثانية. (2) ابن مكي: الورقة 2 - 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 فيما ملأوا به كتبهم، فإذا قرأه من لا يعرفه ولا يستعمله لم يستنفع به كبير منفعة، وكان معرفة ما يستعمله ويغلط فيه أولى به، أعود بالفائدة عليه، وكذلك غلط أهل الأندلس ربما وافق غلط أهل بلدنا وربما خالفه حكى الزبيدي انهم يقولون في التين تين وفي النوتى نوتى وفي القبيط قبيد ومثل ذلك كثير مما لا غلط عندنا فيه ولا حاجة بنا إلى التنبيه عليه (1) ". ومن ميزات هذه اللهجة انهم كانوا يقولون " تار " واخذ بتارى، ودخرا لك، ويقولون سكينة وعروسة، ويستعمل العامة منهم لفظة حلوة والخاصة لفظة حلاوة بدلا من حلوى ويقولون عنكوبة وشفة (2) بضم أولها وتشديد ثانيهما إلى غير ذلك من ألفاظ تثبت لصقلية تميزاً بلهجة معينة. وظل هذا اللحن ينمو ويبسط ظله على اللغة حتى إذا بلغنا العصر النورماني وجدناه يظهر في الشعر، فقد حدثنا العماد انه وجدد في شعر الغاون الصقلي أحد شعراء ذلك العصر لحناً كثيراً، وربما لو روى لنا شغلا كثير من هذا العصر على حقيقته لكنا وجدنا للغاون هذا متشابه بين الشعراء الآخرين (3) . واكبر الظن أن مكاتب المعلمين وحلق المدرسين أحست إحساسا خفياً بإخفاقها أمام تيار الحياة، فأخذت تلتوي على نفسها وتجر غذائها نسيت واجبها الأول، فسارت بالنحو إلى مرحلة الألغاز والأحاجي كالذي نجده في مثل قول ابن الدباغ الصقلي (4) : إن هند المليحة الحسناء ... وأي من أضمرت لخل الوفاء وليس من الغريب الشاذ ان لا نجد لهؤلاء النحاة كتابا أو تعليقة إذ كان أكثرهم من أرباب المكاتب. وهب أن أولئك النحويين ألفوا كتباً وقاموا   (1) ابن مكي: الورقة 2 - 4. (2) كذلك كان يلفظها أهل الأندلس كما هو واضح أزجالهم. (3) الحريدة الجزء 11 الورقة 11. (4) السيوطي: بغية الوعاة: 422 وإنباه الرواة 2/ 360. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 بتعاليق وشروح، فالذي حدث أن هذه كلها فقدت ولم يصلنا منها شئ. وليس الأمر كذلك في اللغة فقد اشهر فيها علماء أعلام امتدت شهرتهم إلى غير بلدهم كما اجتذبت صقلية إليها فريقاً من مشاهير اللغويين درسوا فيها وأفادوا فمن هؤلاء راوية المتنبي الذي تقدمت الإشارة إليه ومنهم موسى ابن اصبغ المرادي القرطبي الذي طلب علم اللغة في المشرق، ودخل العراق، ولقى ابن دريد، ثم اتخذ صقلية وطناً له، وفيها نظم " المبتدا " في ثمانية آلاف بيت (1) ومن هؤلاء أيضاً صاعد اللغوي فقد اختل حالة بالأندلس وعجز عن ستر ولده وأهله واستأذن الخليفة بالانطلاق عن الأندلس فلم يأذن له خوفاً من أن يهجوه، فخرج مستخفياً سنة 403هـ واتصل بصاحب صقلية وفارق البؤس وراجع النعمة ثم عاد إلى الأندلس ثم انكفا إلى صقلية، ومات بها سنة 410هـ؟ (2) ومن اتصاله بصاحب صقلية نعرف أنه قادم بمدينة بلرم، ولكنا لا نستطيع أن نعرف مدى تأثيره في الدراسات اللغوية أثناء مقامة هنالك. فإذا ذهبنا نبحث عن جهود صقلية نفسها وجدنا نهضتها اللغوية تعاصر نشاطها في الفقه وألفينا مدرسة ابن البر اللغوي تظهر جانب مدرسة عبد الحق والسمنطاري في الفقه والحديث. إلا أن ابن البر أسس مدرسة في مازر، ثم انتقل إلى بلرم، بينما لم يبارح عبد الحق والسمنط بلرم إلى بلد آخر من صقلية. وفي المدرسة اللغوية تخرج ابن القطاع وأبو العرب وعمر بن خلف بن مكي الصقلي ومن ثم كانت مدرسة واضحة المعالم لأننا نعرف أصحابها بأعيانهم وببعض آثارهم ونستطيع ان نتصور مبلغ نشاطهم وخطوط اتجاهاتهم. وقد ضم ابن رشيق جهوده إلى جهود هذه المدرسة وقوى فيها الناحية الأدبية النقدية.   (1) السيوطي: بغية الوعاة: 400 والمكتبة الصقلية: 678. (2) الذخيرة، القسم الرابع الجزء الأول ص 38 - 39 وصاحب صقلية حينئذ هو جعفر ابن ثقة الدولة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 أما شيخ هذه المدرسة فهو محمد بن علي بن الحسين بن البر التميمي الغوثي، ولد بصقلية ثم رحل عنها في طلب العلم إلى المشرق، وكان اكثر عنايته موجها إلى دراسة اللغة، فدرسها على جماعة من اللغويين منهم النجيرمي وأبو سهم محمد بن علي الهروي اللغوي، وصالح بن رشدين وعلى هذا الأخير سمع شعر ابي الطيب المتنبي سنة 413هـ؟ (1) . وواضح أنه استفاد اكثر معرفته اللغوية في مصر حتى اصبح أحد الأئمة في علم العربية واللغة والآداب وجمع إلى ذلك جودة الضبط وحسن الخط، وشهد له مترجموه بان كل ما وجد له من تقييد في غاية الإفادة والإمتاع، وفي سنة 405هـ اتفق مع أبي طاهر التجيبي البرقة ان يغادروا مصر معاً من الإسكندرية إلى المغرب قال التجيبي " واتفق له بعد مفارقتي ان صحب فتيانا من أهل القيروان فالفهم واثر صحبتهم، وقد أقلعنا من الإسكندرية في يوم واحد بريح طيبة وتغيرت من بعد (2) ... وفي نهاية الرحلة عادا فالتقيا بالمهدية ". ولما عاد إلى صقلية اختار مازر مقاماً، واتصل بصاحبها ابن منكود، فقربه واكرمه، وفي مازر ورد عليه الطلاب يدرسون اللغة ويحدثنا أندلسي من الراحلين إليه في طلب العلم انه حضر إلى مازر ليدرس عليه فصادف في ذلك الوقت ان علم ابن منكود بان ابن البر يشرب الخمر فتأثر من ذلك وأرسل إليه من يقول له " إننا إنما أردناك لعلمك ودينك واردنا منك الصيانة وإذا كان ولابد من شرب الخمر فهذا النوع ببلرم وربما يعز وجوده هنا " (3) وخجل ابن البر من هذا القول وأحس أن مازر تضيق به وتتبرم بوجوده، فأرتحل عنها إلى بلرم، وهناك أخذ يدرس اللغة. والظن أن تلميذه علي بن جعفر السعدي المعروف بابن القطاع درس عليه فيها، وكذلك فعل أبو العرب   (1) التكملة رقم 1051. (2) انظر شرح المختار من شعر بشار: 253 - 254. (3) إنباه الرواة مجلد 2 الورقة 246 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 الصقلي الشاعر ومحمد بن سابق الصقلي الملقب بالجزيري؟ نسبة إلى جزيرة شقر. هؤلاء هم اشهر تلامذته الصلقيين، ودرس عليه من غير صقلية أبو القاسم عبد الرحمن بن عمر القصيري وأبو محمد عبد الله بن إبراهيم الصيرفي وأبو الطيب عبد المنعم بن من الله القروي المعروف بابن الكماد (1) . وقد سمع عليه الصيرفي شعر أبي الطيب في شهر ربيع الأول سنة 459 وسمع عليه أبو العرب الصقلي كتاب أدب الكتاب لابن قتيبة وعن أبي العرب روى الكتاب بالأندلس إذ درسه في أواخر حياته حين مقامه بطرطوشة (2) . وقبيل سقوط بلرم ارتحل ابن البر إلى الأندلس فدخلها سنة 460هـ؟ (3) . وقبل ان يتفرق تلامذة ابن البر في الأمصار، ويهاجر أستاذهم من بلرم، ألف تلميذه أبن مكي كتابه " تثقيف اللسان " ولولا هذا الكتاب لما استطعنا أن نحكم بوجود علاقة بين ابن البر وابن مكي إذ يقول المؤلف في مقدمة كتابه " وعرضت جميع ذلك على الإمام الأوحد العلم المفرد أبي بكر محمد بن علي بن الحسين بن البر التميمي؟ أيده الله - فاثبت ما عرفه وارتضاه، ومحوت ما أنكره وأباه، لأزول من مواقف الاستهداف، وأربح نفسي من عهده التغليط، وأقطع لسان كل حاسد، وأفل غرب كل مكابر ومعاند " (4) . فلابد البر رأى في هذا المتاب، ولابن مكي علاقة به ولابد أن نفترض وجود هذه العلاقة قبل سنة 460هـ؟، لأن ابن البر غادر صقلية في هذا العام، وفيه أو بعيدة ارتحل ابن مكي إلى تونس حيث تسلم الخطابة فيها، وكان كما يذكر من ترجم له بليغاً في خطبه حتى إنها لم تكن تقصر عن خطب ابن نباته (5) .   (1) التكملة: رقم 1051. (2) التكملة رقم 83. (3) المصدر نفسه رقم 1051. (4) تثقيف اللسان الورقة 9. (5) الخريدة 11 الورقة 45 وإنباه الرواة المجلد الأول الورقة 622. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 إذن فكتاب تثقيف اللسان الذي عنينا به في غير موطن من هذا الفصل أصدق نتاج لصقلية بعامة، ولمدرستها اللغوية بخاصة، كما انه - في بابه - خير اثر صقلي قاوم الفناء لنتصور منه كثيراً من جوانب الحياة اللغوية في تلك الجزيرة. ويقول لنا مؤلفه إنه كتبه استجابة لرغبة سائل سأله أن يجمع له مما يصحفه في الفاظهم، وما يغلط فيه أهل الفقه، فلما انتهى من الكلام في التصحيف خطر له أن يضم إليه غيره قال: " فأضفت إلى ذلك غيره من الأغاليط التي سمعتها من الناس على اختلاف طبقاتهم من ما لا يوجد في كتب المتقدمين التنبيه على أكثره، لأن كل من ألف كتاباً في هذا المعنى فإنما نبه على غلط أهل عصره وبلده، وأهل البلدان مختلفون في أغاليظهم.. إلخ " (1) . فليس لدينا ما هو أصدق من هذا الكتاب تعبيراً عن الشعور باستقلال صقلية في طابعها اللغوي، في كل ما خلفه الصقليون، وربما ابتز منا هذا الثناء لأنه رمز لوعي قومي في نفس مؤلفه، ودليل على معاناته تجربة للرصد والتحري والإصغاء لما يقرأ ويسمع، وربما استحق احبه تقديرنا لخضوعه للإشراف العلمي الصحيح، وأخذه بتوجيه أستاذه. وبعد أن جمع المؤلف أغلاطاً سمعها من الأفواه في بلده، قسم كتابه إلى خمسين باباً تحدث فيها عن التصحيف والتبديل والزيادة في الأسماء والنقص فيها، والزيادة في الأفعال والنقص فيها، وتأنيث ما هو مذكر وتذكير ما هو مؤنث.. إلخ وتحدث عن الأغلاط التي يقع فيها العامة والخاصة معاً، وعما يصيب فيه فريق دون آخر، وقدم لنا فصولا ممتعة عن أخطاء القراء وأهل الحديث والفقه والوثائق والطب والسماع، وفي هذه الفصول خاصة استطعنا أن نستشف بعض معالم الحياة العقلية بصقلية في صحفه الخطأ اللغوي. والنتيجة التي ننهي إيها في هذا البحث أن لغة التأليف لم تكن سليمة   (1) تثقيف اللسان الورقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 - إلى جانبه لغة الكلام - أو أنها على الأقل لم تكن ترضي أهل اللغة القائمين بالمحافظة عليها. والفقهاء على وجه الخصوص هم الواقعون تحت تهمة التهاون في لغتهم، وهي تهمة ترجع إلى ما قبل هذا العصر إذ نراها عند ابن فارس (1) وأبي حيان التوحيدي (2) قبل ذلك. وهذه مشكلة تواجه الصحة في التعبير قبل أن تواجه الجمال فيه، وربما استطعنا أن نلتمس شيئاً منها فيما كتبه ابن حوقل، فقد حاول أن يسخر من الصقليين في بلاغتهم وتندر على رجل رآه في المسجد الجامع ببلرم وفي يده قصة مهر، وهو مقبل على قراءتها وكلما مر له فصل داوم على تقريظه لحسن ما تأتي له من المعاني الجيدة والشروط البديعة واستيفاء أسباب البلاغة (3) . ومعنى هذا الخبر أن كتاب العهود والوثائق كانوا قد تطاولوا إلى مقام أهل الكتابة الفنية، وهو قلب للأوضاع، لأن البلاغة ليست عنصراً من العناصر التي لابد أن تستوفيها أوراق العقود وتعابير الشروط. ومن هذا نرى أن صحة التعبير التي كانت لازمة لأصحاب الوثائق، قد أهدرت وحاول القائمون عليها أن يمسحوها بمسحة من جمال ليخفوا قبح الخطأ فيما يكتبون. كان هؤلاء الوثائقيون طائفة مهمة في الحياة اليومية وكان الواحد منهم يسمى فلاناً الوثائقي، وكانت صناعتهم قد اتخذت لها أصولا، وكتبت فيها الكتب، وربما كان معلمهم فيها ابن الهندي القرطي الذي كان بصيراً بعقد الوثائق، فألف فيها ديواناً كبيراً وشحنه بالخبر والحكم والأمثال والنوادر والشعر والفوائد والحجج ليضمن لأصحاب الصناعة شيئاً من خلابة البيان، واخترع في علم الوثائق فنوناً وألفاظاً وفصولا وأصولا وعقداً عجيبة (4) ، ولا   (1) الصاحبي: 32ط. المطبعة السلفية. (2) البصائر والذخائر (نسخة خطية بدار الكتب المصرية) المجلد الأول الورقة: 15. (3) ابن حوقل 1/ 125. (4) الصلة رقم 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 نستبعد أن يكون الوثائقيون في صقلية قد انتفعوا بهذا الكتاب وباصطلاحاته وأصوله، كما لا نستبعد أيضاً أن يكون فيهم من ألف في الوثائق كتباً تهدي المبتدئين إلى ما يريدون معرفته من هذا الفن. ولكن اللغة تقلبت على أسنة أقلامهم حتى كادت تكون عامية، ومرجعنا في تصور هذه الناحية كتاب تثقيف اللسان (1) . 6 - الزهد والتصوف منذ أن توجه المسلمون لفتح صقلية ظهر فيهم ميل إلى الجهاد مصحوب بميل آخر إلى المرابطة والعبادة. ومن اجل ذلك بني رباط على الساحل الأفريقي التجأ إليه الزهاد والصالحون ليطمئنوا إلى الهدوء في تحنفهم، وليطمئنوا على وطنهم من الغارات الخارجية. وظل هؤلاء يحملون سلاحين أحدهما من الحديد والثاني من الدعوات حتى جاء المهدي فنوع الأول من أيديهم وبقي الثاني يدافعون به عن فرديتهم ويلوحون بع فوق رءوس أعدائهم. وفي وقت قصير أصبحت صقلية كلها رباطاً يستدعي اليقظة في الهجوم والدفاع وعاد النوعان من الميل يظهران في نفوس الناس، ففريق من الصالحين آثر الحرب والجندية، وفريق قنع بالانفراد والانقطاع عن الدنيا. وبين هذين كان فريق ثالث وجده ابن حوقل في طبقات المعلمين إذ لجأوا إلى التعليم فراراً من الجندية. وإلى الفريق المتقشف المتقلل من متاع الدنيا تنتمي تلك الطبقة من القضاة الأولين الذين دخلوا صقلية، مثل ابن أبي محرز وعمرو بن ميمون، ومنه أيضاُ بعض زهاد صقليين في أواخر القرن الثالث وأوائل الرابع، أوضحهم شخصية   (1) الباب الثامن والثلاثون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 أبو الحسن الصقلي الحريري الذي قضى عمره صامتاً لا ينطبق إلا بذكر الله تعالى أو بما يعنيه، فإذا أقيمت الصلاة تأوه واجبر نفسه وتواجد وقال: " واذهاب عمري في خسارة " (1) . وحين حاول الصقليون أن يفلسفوا الزهد أقاموا التصوف على الحياة الواقعية وعلى السلامة الفقهية المذهبية، وعلى اللباذ بعالم الأساطير والكرامات وبذلك اجتمع في التصوف في نشأته لمؤثرين قويين أضعفهما الاتصال بالمشرق عن طريق الحج إلى مكة ومشاهدة الصقليين للعباد المنقطعين حول البيت. أما المؤثر فهو الحياة الاجتماعية نفسها لأنا نحس أنه لازم نشأة التصوف الشعور بتغير الأحوال وسيرها من سيئ إلى أسوأ، والاستدلال بفساد الظاهر على فساد الباطن، وعدم اقتران العلم بالعمل، وطلب بعض الناس للدنيا بطريق الزهادة والنسك، فكان التصوف في واقعة ثورة نفسية على سوء الحال، ومحاولة لإصلاح الباطن في الفرد، من أجل أن تصلح الجماعة. وكان في التصوف المشرقي رد على سطحية الفقهاء، أما في صقلية فإنه اقترن بالفقه ولم ينفصل عنه فكان المتصوفة فقهاء بنوا آراءهم في التصرف على أصول فقهية، واشتهوا الوعاظ لتعلقهم بالقصص والأساطير، وجعلوا حديث الكرامات مادة مجالسهم. وكان الخضر وشعيب أهم شخصيتين في تلك الأحاديث. وربما كان عبد الرحيم الصقلي من أوائل من ألفوا في التصوف على هذه الطريقة إذ ذهب إلى القول بخرق العادات، فتصدى له الفقهية أبو محمد بن أبي زيد ونقض كتابه بتأليفه " الكشف وكتاب الاستظهار ورد كثير مما تقلده من خرق العادات على ما في كتاب شنعة المتصوفة " (2) . وقد يبدو من هذا الخبر أن الفقه أخذ منذ البدء بمناهضة التصوف ولكن الأمر ليس كذلك فإن   (1) رياض النفوس في المكتبة: 194. (2) Centenario 1/ 372. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 إنكار ابن أبي زيد منصب على ناحية واحدة. ومن اقدم المتصوفة الصقليين محمد بن إبراهيم بن موسى المصري الصقلي الذي خرج إلى العراق في طلب الحديث وكان يحضر مجالس التجنيد (1) ولكن خير من يمثل التصوف الصقلي الشيخ العارف المحقق أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله البكري الصقلي " إمام الحقيقة وشيخ أهل الطريقة " (2) فقد طلب العلم في القيروان وذهب في رحلة إلى المشرق وحج وسمع بمكة سنة 350هـ وكان إلى جانب تصوفه محدثاً فقيها أصولياً. وألف أبو القاسم الصقلي في التصوف عدة مؤلفات منها: 1 - الأنوار في علم الأسرار ومقامات الأبرار ويسمى عادة أنوار الصقلي (3) . 2 - كتاب فيه الدلالة على الله تعالى. 3 - الشرح والبيان لما شكل من كلام سهل بن عبد الله التسترى. 4 - صفة الأولياء ومراتب أحوال الأصفياء. 5 - كرامات الأولياء والمطيعين من الصحابة والتابعين ومن يتبعهم بإحسان. وقد حفظت الأيام كتابيه الأول والثالث وقطعه من الثاني. وهذه القطعة تشتمل على كثير من الحكايات المروية عن الصوفية وكراماتهم وكثيراً منها سمعه الشيخ الصقلي عن شيوخه، وفيها أقوال مشاهير المتصوفة، كبهلول وبشر بن الحارث وإبراهيم بن ادهم وسيفان بن عيينة وحكايات عن الحضر وشعيب، وربما كانت قطعة من كتابه الخامس مع اختلاف في التسمية. وأما كتاب الأنوار فقد بنيت قواعد التصوف فيه على الكتاب والسنة وما كان عليه السلف الصالح وترك الآراء والاستحسان (4) ولذلك تجده   (1) المقفى في المكتبة الصقلية: 663. (2) centenario 2/ 100 نقلا عن العالم ط. تونس 3 / 181. (3) ورد في المكتبة الصقلية بايم جواهر الألفاظ وظهور الأنوار (انظر ص 698) عن نسخة ليدن رقم 529. (4) centenario 2/ 100 نقلا عن العالم ط. تونس 3/ 181 - 183. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 يجعل الأصل الثاني من العلم بعد معرفة الله، معرفة دين الله من جهة الاتباع لكتابة ولسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، الائتساء به في أمره ونهيه وترغبيه وترهبيه وآدابه وأخلاقه، محبة بالقلب، وعملا بالجوارح (1) ونجده أيضاً يقول: " عليكم بالاتباع لما كان عليه الصدر الأول تسلموا من الحديث في الدين (2) ويقول أيضاً (كان أخص الناس بفهم على الكتاب وشرح معرفة السنة وعمل الرسول عليه السلام أهل القرن الأول؟ ثم جاء القرن الثاني فكانوا اعقل الناس وأعلمهم بعد الصحابة.. ثم جاء القرن الثالث فذهب أكثر أهل العلم وكثر الخوض والجدل والخصومة والتراد.. الخ ". ومن يسمع هذه الأقوال مجردة من الكتاب يستقر في نفسه أن الصقلي فقيه، وربما زاده اقتناعاً بهذا الرأي إذا سمع الصقلي ينص على أن الأصل الرابع من أصول العلم معرفة الدنيا وأهل الزمان، مما لابد من مباشرة مالا غناء به عنه، وما يلتزمه من الحقوق المفروضة (3) . فأين هذا القول من الحث على العزلة والهرب من الدنيا. إن هذه الاتجاهات الدنيوية تقرب الصقلي من الفقهاء، ولكنك ما تكاد تراه في هذه الحال حتى تجده يرتفع عن الأرض وعن عالم الفقه في مثل قوله " كل وجود يظهر على الجوارح من جهة المقامات فصاحبه ضعيف معلول في الحال، وكل وجود لا يعرف المتواجد ورده من حاله الوارد عليه بتفضيل وجوده من إيجاده، فصاحبه جاهل مفتون. وهذا موضع تدليس العدو على النفس بالمغاليط، فبينما صاحبه مع الحق في ورود الحال إذ صار العدو في المداومة مع ذهاب الحال " (4) . وتستطيع أن تجمع من عدة مواضع في الكتاب صفات تتكون مها صورة للمريد المخلص، فالمريد في رأيه لا يفلح حتى يترك ثلاثة أخلاق ويلزم ثلاثاً   (1) الأنوار ص2 نسخة دار الكتب المصرية المخطوطة رقم 23 والنسخة غير مرقمة في الأصل. (2) المصدر السابق: 6. (3) المصدر نفسه: 4. (4) الأنوار: 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 من الأدب يترك الخب والخلابة وأعمال أهل الغباوة ويلزم العفة والتعفف وترك ما لا يعنى بالصناعة (1) . ولا بد له من الصدق فإذا تركه لم يزدد إلا طرداً وسخافة وحمقاً وأصبح لأبناء الدنيا عبداً (2) . والمريد إذا اصل بدايته على التشوف والطمع لما في أيدي الناس لم يصح له الأخذ من يد الله تعالى، وإذا بني إرادته على مسالة غيره لم ينتقل عن دواعي نفسه (3) . وكتاب الأنوار ستة أجزاء ولكن ليس للجزء الواحد منها موضوع مستقل فكل جزء مشتمل على أقوال متفرقة لا تجمعها وحدة موضوعية. وتغلب على اكثر الكتاب فكرة التقسيم العددي كقوله " يعرف عقل العاقل في ثلاث؟ إذا رأيت في المرء أربعاً فاعرف بها سخفه ودعواه.. ترجى الجنة لمن كانت فيه ثلاث (4) ... العلماء ثلاثة حجة ومحجاج ومحجوج (5) وهكذا في كثير من صفحات الكتاب ". والصقلي في كتابه مؤمن بالسير الزمني إلى ما هو أسوأ لاعتقاده أن عصر الرسول والصحابة افضل العصور وان القرون التالية تزداد سوءاً، فإذا حل القرن السابع انتهى الأمر إلى شرار الناس (6) وفيه من هذا القبيل أمور تشبه التنبؤ بما سيكتشف عنه الزمان كقوله: " سيظهر في هذه الأمة في آخر الزمان دجالون كذابون " (7) . وربما كان أهم ما في الكتاب من وجهة تاريخية تلك العبارات التي يستشف منها جزع الصقلي من الحياة الاجتماعية في عصره، وان كنا نتناولها منه بحذر، فهو ينتقد النساك بانهم لنما اظهروا زهدهم بالعجز عن مكاسبهم، واستعملوا   (1) المصدر السابق: 20. (2) المصدر نفسه: 23. (3) المصدر نفسه: 40. (4) المصدر نفسه: 8. (5) المصدر نفسه: 14. (6) المصدر نفسه: 187 - 188. (7) المصدر نفسه: 114. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 تواضعهم في لباسهم، وأخفوا الكبر والحرص في صدورهم (1) ، وينتقد مجالس الذكر والقران ويراها غير لازمة إن كان لا يزيد بها الإيمان وينقص الفسق (2) ويلح كثيراً على ضرورة الربط الوثيق بين العلم والعمل (3) ويذم في أهل عصره تآلفهم على المداهنة، وركونهم إلى الظلمة، واخذ الأجعال على قضاء الحوائج (4) . ويقول " إذا فجر العلماء وفسق القراء وسفك السلطان الدماء واخذ على الحكم والحاجة الرشاء، وافتخرت العامة بكسب الحرام، ول يغير الخاصة منكراً، فهناك وجب الفرار ووسع المريد الصمت وكان الموت تحفة لكل مؤمن (5) ". ونقطة هامة في الكتاب توضح لنا نظرة الصوفية إلى المرأة. فبعض الصوفية في الشرق قد حاولوا ان يبشروا بنوع من الرهبنة وعزفوا عن الزواج لأنه مشغلة. وهذه النزعة تجدها عند الصقلي ملطفة بعض الشيء، فهو يذم أهل زمانه لنهم تواطأوا على طاعة النساء، فورثهم ذلك ذهاب أموالهم في الباطل، فورثوا من ذلك ذهاب الغيرة لله عز وجل ولرسوله عليه السلام ولصحابة نبيه رضي الله عنهم، ولأعراض المؤمنين ولحرماتهم، فما ينتظر الناس بعد هذا إذا كان موجوداً في السلطان والقاضي والعالم والخاص والعام (6) . وهو في الجزء الرابع من كتابه يخص المرأة بأقوال كثيرة فيحذر منها وكأنك تسمع منه تحذيراً من الإقدام على الزواج حين يقول: " إذا رأيتم النساء قد اجهدن أزواجهن في أربعة فأطاعوهن فإياكم والتأهل بالحرائر فان فتنهن يومئذ عظيمة: الحرير والحلي والخروج والخمر " (7) كذلك يرى أن سلطان الشهوة مجعول مع المرأة وأنها أقوى قوة   (1) المصدر السابق: 13. (2) المصدر نفسه: 22. (3) المصدر نفسه: 45. (4) المصدر نفسه: 51. (5) الأنوار: 70. (6) المصدر نفسه: 51. (7) المصدر نفسه: 95. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 تستطيع أن تصرف العالم العارف واللبيب العاقل، ويقول: كيف يسلم دين من له زوجة لا ترحم وولد لا يعذره (1) . وفي تصوف الشيخ الصقلي إلى جانب الروح الفقهية تمسك شديد بمذهب أهل السنة وليس في كل كتابه إشارة واحدة لأهل البيت أو لعلي بن أبي طالب، يقول: " وقد اخرج الله من اليقين المحفوظ تحت العرش ثمانية مثاقيل فخص النبي بأربعة وزيد ذخيرة من الخصوصية، وأعطى أبو بكر مثقالين وزيد ذخيرة من الخصوصية، وأعطى عمر بن الخطاب مثقالا وزيد ذخيرة من الخصوصية، ثم قسم المثقال الباقي بين سائر الأمة على قدر عقولهم ". فإذا نحن خلينا الشيخ أبا القاسم الصقلي وذهبنا نساير التصوف بصقلية في القرن الخامس وجدنا الظاهرة الأولى وهي امتزاج الفقه بالتصوف لم تتغير ويمثلها في ذلك عتيق السمنطاري الفقيه المحدث. وكان السمنطاري من الزهاد السائحين في الأرض، طاف كثيراً من البلدان، وحج ولقى العباد والزهاد، وكتب عنهم ما سمع، وصنف في الرقائق وأخبار الصالحين كتاباً كبيراً يزيد على عشرة مجلدات سماه " دليل القاصدين " لم يسبق إلى مثله، في نهاية الملاحة (2) ، وله شعر من متوسط شعر المتصوفة إلا أنه تشيع فيه روح التشاؤم وإيجاس الشر من سوء ما بلغت إليه حال الناس. ويظهر أن التصوف في هذا القرن كان قد كثر فيه الدخلاء، وأصبح المتصوفة يتظاهرون بالزهد تظاهراً ويتواجدون ويبكون عند الغناء ويرقصون ويتغاشون. وقد عبر عن هذه الحال أبو عبد الله بن الطوبي في قصيدة له (3) وانتقد تلك التصرفات في أهل التصوف ووضح رأيه في ذلك المذهب بقوله: بل التصوف أن تصفو بلا كدر ... وتتبع الحق والقرآن والدنيا   (1) المصدر نفسه: 96. (2) المكتبة الصقلية 113 - 114 نقلا عن معجم البلدان (مادة سمنطار) لياقوت. (3) الخريدة 11 الورقة 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 فهو يعبر عن التصوف كما يفهمه الصقلي العادي في ايامه، فهماً لا يبعد كثيراً عن مذهب ابي القاسم الصوفي، واكبر من أخرجته صقلية من المتصوفة. 7 - علوم الأوائل لم تحرمنا المصادر من إشارات بسيطة نقف عندها حين نريد أن نتصور؟؟؟؟؟؟؟ شيئاً من الثقافة الفلسفية التي أخذت تنتشر في المغرب وصقلية، فقد حدثتنا مثلا أن سعيد بن فرحون بن مكرم التجيبي القرطبي المعروف بالحمار السرقسطي دخل صقلية بعد محنة أصابته في أيام المنصور بن أبي عامر، وبقي فيها إلى أن توفي، وكان يجمع إلى معارفه في اللغة والنحو والموسيقى معرفة فلسفية منطقية، فهو صاحب رسالة حسنة في المدخل إلى علوم الفلسفة سماها " شجرة الحكمة " ورسالة في تعديل العلوم وكيف درجت إلى الوجود من انقسام الجوهر والعرض (1) ونقف عند هذا الحد من معرفتنا للرجل فلا نعرف ما الذي جر عليه تلك المحنة مع انه يقال أنها مشهورة السبب، كما أننا نجهل كل تأثير له في صقلية في النواحي الفلسفية. ولدينا شواهد نستطيع أن نحكم منها بأن المغاربة عامة والصقليين خاصة عرفوا في وقت متأخر كتب أبي حيان التوحيدي في التصوف والفلسفة، سواء كان ذلك بالهجرة إلى الشرق أو بارتحال تلك الكتب إلى الغرب، فقد كتب أحد أهل صقلية على ظهر كتاب الإمتاع " ابتدأ أبو حيان كتابه صوفيا وتوسطه محدثاً وختمه سائلا ملحفاً (2) " والمازرى يتهم الغزالي في كتابه المسمى الكشف والإنباء عن المترجم بالأحياء بأنه أخذ التصوف عن ابي حيان التوحيدي (3)   (1) طبقات الأمم لصاعد: 68 - 69ط. بيروت. (2) القفطى: أخبار الحكماء: 186 ترجمة أبي سليمان المنطقي. (3) السبكي: 4/ 123. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 ويقول العلامة أبو الحسن علي بن الحسن الحضري القيرواني " علم أبي حيان التوحيدي أوفى من كلامه وإشاراته وتصانيفه تدل على علم كثير (1) ". وليس من الضروري ان ننبه هنا إلى تلك الهجنة التي كانت تصيب من يدرس الفلسفة وربما كان هذا شببا في ندرة المقبلين عليها اولا، وفي ندرة الأخبار التي نسمع بها عمن كانوا يزاولونها. ويرى المازرى - ورأيه هنا يمثل رأى المتدينين حينئذ - إن الطعن في كل إمام اطلاعه على كتب الفلاسفة، لأنها تكسبه جرأة على المعاني، وتسهيلا للهجوم على الحقائق، اذ الفلاسفة في رأيه تمر مع خواطرها، وليس لها حكم شرعي ترعاه ولا تخاف من مخالفة أئمة تتبعها (2) . وفي عهد المازرى نسمع عن كتب ابن سينا والغزالي وعن رسائل إخوان الصفا ولكن المازرى يمثل ثقافة المغرب في العصر النورماني. وتعرف المغاربة على الكتب الفلسفية في عصر متأخر حقيقة هامة في دراسة الأدب عامة والشعر خاصة. إذا كنا لا نطمع في أن تحدثنا المصادر كثيرا عن الفلسفة في صقلية أو عن الثقافة الفلسفية فيها نحن ندهش حين نجدها تصمت صمتا غير محمود فلا تحدثنا عن الطب والفلك والتنجيم هنالك فلم تترجم الكتب المعينة بطبقات الأطباء إلا لعالم صقلي واحد من علماء العصر النورماني (3) وقد عنيت مصادر أخرى بنسبة الطب إلى أبي عبد الله ابن الطوبي ووصف أحياناً بأنه أربى في الطب على ماسويه (4) وذكره العماد فقال انه كان طبيباً مترسلاً شاعراً (5) ومدحه ابن القطاع وأشار إلى مهارته الطبية بقوله (6) : أيها الأستاذ في الط ... ب وإعراب الكلام   (1) السلفي: ورقة 207. (2) السبكى: 4/ 123. (3) القفطى: أخبار العلماء: 189. (4) القفطى: انباه الرواه: 2/ 76. (5) الحريدة: 11 الورقة 22. (6) إنباه الرواة 2/ 76. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 لك في النحو قياس ... لا يساميه مسام ثم في الطب علاج ... دافع الداء العقام ولكن لا يذكر له في الطب مؤلف معين ولا تحدد له فيه جهود: وأحياناً عن طبيب صقلي هاجر من بلده مثل أبي عبد الله الصقلي الذي عاش في قرطبة أيام عبد الرحمن الناصر، وكان يحسن اليونانية، وربما رجع هذا انه نشأ في صقلية، وكان يعرف أشخاص العقاقير والأدوية واشتغل مع جماعة آخرين من أطباء قرطبة في البحث عن التصحيح أسماء العقاقير التي وردت في كتاب ديسقوريدس (1) . وتقول المصادر إن ابن الثمنة فصد امرأته في حالة سكر بعد خصام نشأ بينهما وتركها تموت، فغضب ابنه من هذا العمل الوحشي وأسرع فاحضر لها الأطباء فعالجوها (2) ونقف من هذا الخبر عند ذكر الأطباء بصيغة الجمع. ونجد ابن مكي كذلك يحدثنا عن أخطاء الأطباء، ومن هذا الذي يسوقه نعرف أنه كان هنالك أطباء يستعملون عقاقير منها الجوارشن والشب والحلتيت والصبر الخ، ويتحدثون عن بعض الحالات فيقولون القوة الماسكة وضعفت المواسك (بدلا من القوة الممسكة وضعفت الممسكات) ويتحدثون عن المريض فيقولون أكربه الدواء بدلا من كربه، وإذا أرادوا تعظيم عالم بالطب قالوا فلان المتطبب يتوهمون أنه أسمي من طبيب وليس كذلك، لأن المتفعل هو الذي يدخل نفسه في الشيء ليضاف إليه (3) . ومهما تكن هذه الأخبار يسيرة فإنها تستطيع ان تشير إلى ان الطب في صقلية شاع في أيام الكلبيين وأواخر العصر الإسلامي حتى أمكن الحديث في هذا العصر عن وجود (أطباء) . وربما كانت صقلية في أيام الأغالبة فقيرة في الأطباء لأن القيروان هي العاصمة الأم كانت تستدعي أطباءها من   (1) المكتبة الصقلية: 622 عن ابن أبي اصيبعة. (2) النويري في المكتبة الصقلية: 446. (3) تثقيف اللسان - الباب: 39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 الخارج. ويحدثنا ابن أبي اصيبعة أن الطب بالمغرب ظهر عند ما قدم إليه إسحاق بن عمران أيام زيادة الله (1) ولعل زيادة الله المذكور هو الثاني (249 - 250 هـ؟) لأنا نعرف أن إسحاق عاش إلى عهد إبراهيم بن الأغلب إذ يذكر ابن أبي اصيبعة أيضاً ان إسحاق هذا ألف للعباس وكيل إبراهيم رسالة في علل القولنج وأنواعه وشرح أدويته (2) . وربما كان هذا الوكيل المشار إليه هو العباس؟ وليس العباس؟ والى صقلية في أيام إبراهيم أو لعله العباس صاحب صقلية أيام محمد بن الأغلب قبل إبراهيم مباشرة. ولا شك في أن الفاطميين، حين اتخذوا القاهرة عاصمة لهم، اجتذبوا إليها الأطباء، وحرموا صقلية وأفريقية جهود المشهورين منهم، وكان بلاط صاحب القاهرة يغري العلماء الصقليين أنفسهم بالهجرة من وطنهم. وهجرة المهندسين والفلكيين الصقليين إلى مصر شاهد على ذلك فقد كان المهندس الصقلي أبو محمد عبد الكريم يعمل في زمن الحاكم في رصد القاهرة ويحضر مع زملائه كل يوم في خدمته إلى أن أمر الحاكم بكسر الرصد وتفرق من حوله أهل الحساب والهندسة والتنجيم (3) وفي وقت متأخر نجد ابن المعلم الصقلي الطبيب في مصر كما نجد صقلياً آخر بين من يتفحصون هذا الرصد وهو الفلكي الصقلي احمد بن مفرج الملقب بتلميذ ابن سابق وكان متصرفاً أيضاً في التنجيم (4) . أما في الجزيرة نفسها فالمصادر تخبرنا أن الكاتب أبا الفضل احمد بن دابق كان عالماً بالهندسة (5) وأن أبا عبد الله محمد بن الحسن العوفي كان منجماً حاسباً (6) وان أخاه عمر كان كاتبا منجماً مهندساً (7) ويوصف   (1) ابن أبي اصبيعة 2/ 35. (2) المصدر نفسه. (3) المقريزي: الخطط في المكتبة الصقلية: 669. (4) ابن ميسر 2/ 64 - 65. (5) مجموعة الشعر الصقلي رقم 74،115. (6) الخريدة: 11 الورقة 41 ومجموعة الشعر رقم 32. (7) الخريدة: 11 الورقة 44 ومجموعة الشعر 41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 عبد العزيز بن الحاكم المعافري بالتنزه في رياض الرياضيات والتنبه في سحريات السحريات (1) . هذه هي الأخبار التي نملكها وهي لا تمدنا بشىْ مما قاله المؤرخ سكوت في وصفة الحياة العلمية لصقلية إذ يقول: " من مآذن المساجد ببلرم كان الفلكي العربي يرقب حركات الأجرام ويعين مواقيت الخسوف والكسوف ومواقع النجوم، مستعيناً على ذلك بالات اخترعت في حوض الوادي الكبير وعند نهر دجلة وبزيجات كتبت في سهول بابل قبل المسيح بقرون (2) " ويقول أيضاً: " فكانت مدن الجزيرة حافلة بمن يقرأون الطالع ويعبرون الرؤى ويتنبأون بالغيب كما كانت دار عالم الصنعة مزارا يؤمه الناس على اختلاف طبقاتهم، وكان احب به بلاط بلرم المنجم ذو الزي الخاص واللحية المسبلة والعصا الطويلة التي رصع مقبضها بعلامات طلسمية " (3) .وليس في هذا الكلام إغراق أو مجانية للمعقول، ولكنا لا نملك النصوص الصريحة لتأييده. وقد كان تعبير الرؤى - الذي أشار إليه سكوت؟ موجوداً بصقلية وشاهدنا عليه بعض من هاجر من الصقليين في سن كبيرة إلى الخارج عند الفتح النورماني ممن كانوا يزاولون تعبير المنامات ومنهم ابن المعلم الصقلي، وعلى ابن عمر بن حسنون الكناني الصقلي أحد تلامذة السمنطاري وقد وصفه السلفي بأنه كان شيخاً صالحاً يعبر المنامات (4) .   (1) الخريدة: 11 الورقة 34 ومجموعة الشعر رقم 17. (2) scott: Hist. Of the Moorish Empire vol.2.p.68 (3) op. cit. p. 69 (4) السلفي الورقة 298. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 8 - نظرة إجمالية بعد هذا المسلك المتشعب يعود البحث من حيث بدأ، ونلتقي بابن حوقل في رحلته مرة أخرى لنقف عند قوله: " فليس بالبلد عاقل ولا فاضل ولا عالم بالحقيقة بفن من فنون العلم (1) ". أما القول بعدم العقل والفضل فما اقف عنده لأنه بادي التحامل، وأما القول بعدم العلماء فقد كان له في زمان ابن حوقل ظواهر تؤيده، ولكنه لا يخلو أيضاً من تعميم يذهب بقسط كبير من صحته. وعذر صقلية أنها كانت لا تزال؟ بشهادة ابن الحوقل نفسه؟ معسكراً حربياً تسيطر عليه روح الجندية وما يتبعها من تقلب وعدم استقرار. ولم تكن الأجيال الصقلية من أبناء صقلية من أبناء صقلية نفسها قد تمكنت من تمثل الثقافات المتنوعة، وكانت الحروب المتولية سبباً في فناء أهل الجيل الأول، كما كان السر يشل كثيراً من القوى ويصرفها عن الإنتاج. وهذا رأي يقويه ان صقلية عند ما استراحت بعض الراحة من الحروب والفتن، أنتجت إنتاجاً متنوعاً في فترة قصيرة، ولم يكن ما قدمته قليلا. ومن ثم وجدنا ان الاشتغال المنتج بالفقه والحديث واللغة والطب والهندسة والنجوم قد تأخر إلى أواخر القرن الرابع وأوائل الخامس ووجدنا النبات العلمي قد نما في صقلية وأثمر في الخارج. وإذا حاولت أن تتعرف إلى أهم الشخصيات العلمية في صقلية حوالي الزمن الذي كان فيه ابن حوقل وبعده بقليل وجدتها لا تزال من غير صقلية. ففي الفترة بين (365 - 395هـ؟) تسمع عن ابن أبي خرسان في النحو والقراءات وعن علي بن حمزة في اللغة والشعر، وعن البرادعي في الفقه المالكي، وهؤلاء كلهم جاءوا صقلية منالخارج، ولا تسمع عن صقليين مشهورين إلى جانبهم   (1) ابن حوقل 1/ 123. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 وربما كان هذا النقص في المصادر لا في صقلية نفسها. أما ظهور التصوف في وقت مبكر فانه لا يقوم دليلا على اتساع الثقافات في صقلية بقدر ما هو دليل على روح من التدين، وقعت تحت تأثيرات معينة، منها شدة وطأة الحياة الاجتماعية والاستعداد لتقبل الأساطير. وكل هذه الأخبار التي لدينا عن الدراسات بصقلية؟ وخاصة دراسة الفقه والحديث؟ تشير إلى استمداد مبكر من المشرق استمر حتى أواخر العصر الإسلامي للجزيرة، أي أن هذه الصلة ظلت قوية حتى حين استقلت صقلية في حياتها العقلية ومذهبها الديني. ففي سنة 293هـ؟ توفي أبو جعفر محمد بن الحسين المروزي فيها وكان فقيهاً مهماً بالكذب (1) وفي القرن الرابع كان أبو عبد الله محمد بن عيسى بن مطر ممن سافر إلى المشرق وكتب الحديث (2) ، وجرت الحال على ذلك أيام عبد الحق، والسمنطاري. وهنا لابد أن نلمح خاصية في هؤلاء العلماء المهاجرين فهذا المروزي متهم بالكذب، والبرادعي ممن أنكره وطنه وتنكر له علماء، وصاعد اللغوي ممن نقل عنه الوضع وعرف عنه التزوير، فهل هذه الهجرة العلمية كهجرة الأجناس الإفريقية كانت على صقلية اكثر مما هي لها؟ وهل كان الشعراء المهاجرون أيضاً كالعلماء المهاجرين؟ مهما تكن الإجابة على هذين السؤالين فالذي لاشك فيه أن هؤلاء المهاجرين من العلماء وشعراء لم يكونوا كل شيْ في حياة صقلية العقلية والأدبية.   (1) ابن عذارى في المكتبة: 364. (2) ابن حوقل 1/ 127. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 الكتاب الثاني صقلية الإسلامية في العصر النورماني الفصل الأول الفتح النورماني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 فراغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 الفتح النورماني أحب أن أترك للتاريخ كثيراً من الحقائق التي تتصل بالنورمان أنفسهم - بأصلهم وبسبب مجيئهم إلى إيطاليا الجنوبية وبجهودهم فيها. وأدع لهذا التاريخ كثيراً من القول في بنائهم المملكة الصقلية وأنظمتهم في الإدارة والتشريع، والشئون المالية، وعلاقاتهم السياسية والدينية بالبابا وبالملوك والأباطرة. وأتجنب الحديث عن دورهم في الحروب الصليبية، وعن استيلاء أساطيلهم على الساحل الأفريقي، فإن الأخذ بكل هذه الحقائق يقصيني عن الهدف الذي أسعى إليه وهو الحديث عن حياة الشعر العربي في عصر النورمان، وفي سبيل هذه الغاية أراني سأقصر الحديث أولا على الفتح نفسه، لا لأن سيره كان ذا أثر في توزيع الأجناس، وفي نوع الحياة العقلية، ولكن لأنه يدل على الطريقة التي استقبله بها المسلمون، والنفسية التي دخلوا بها تحت لوائه. وهذا بدوره هو فاتحة القول فيمن بقي بصقلية من الجماعة الإسلامية، وفي تأثرها بالحياة الجديدة وأثرها فيها، ولجلاء هذه الأمور لابد من استعانة بوصف الحياة الاجتماعية والعقلية لتلك الجماعة وحدها إذ ليس من الطبيعي أن أصور كل جوانب الحياة - عقلية كانت أو اجتماعية - بين الجماعات كلها، وإنما أحاول أن أرسم الجو الذي عاش فيه الشعر. وتعود بنا هذه البداية إلى النهاية التي بلغتها صقلية على أيدي قواد يتقاتلون فيما بينهم، على أسباب تختلف في تفاهتها، ولكن يوحد بينها الجشع وجب السيطرة. وفي إحدى المعارك هزم ابن الثمنة فخف إلى النورمان يستعين بهم ويعدهم ويمنيهم ويهون عليهم أمر القادة والجند (1) . وكان فتح صقلية حلماً من أحلامهم يزينه غني الجزيرة وخصبها، ويؤيده خوفهم من مجاورة المسلمين لهم   (1) ابن الأثير، والمكتبة: 276. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 وقربهم من أملاكهم (1) . فلما فاتحهم ابن الثمنة في الأمر واستوثقوا من ولائه لهم هاجموا مسينة بمعونته، واستولوا عليها 1016م واتخذوها قاعدة لأعمالهم الحربية، ثم ركدت الريح التي كانت تحدوهم حين توفي صديقهم ابن الثمنة في السنة التالية، واختلف الأخوان المحاربان روبرت ورجار، إلا أن اتفاقهما بعد قليل جعل رجار يجدد المحاولة لفتح الجزيرة، فحاول الاستيلاء يعون من أخيه على بلرم، ولكنه أخفق، ولم تكن المعارك الحربية التي قام بها في حقيقة الأمر إلا مناوشات بسيطة (2) . في هذه الأثناء ذهب المسلمون بستصرخون المعز بن باديس لعله ينقذهم فأعانهم بأسطول كبير غرق أكثره في البحر. ومن جراء ذلك ضعفت قوة المعز، واستطاع العرب الهلاليون أن يتملكوا البلاد من يديه، فلما تولى تميم الحكم، أرسل أسطولا إلى الجزيرة، وعلى رأسه ابناه علي وأيوب. أما أيوب فنزل في بلرم، وأما علي فتوجه إلى جرجنت، ثم أنضم إليه أيوب وقد استطاع أن يستأثر بحب الجرجنتيين فغار منه ابن الحواس، وثار لحربه، وتحزب أهل جرجنت لأيوب ودارت بين الفريقين معركة قتل فيها ابن الحواس، ثم قامت فتنة أخرى بين أهل المدينة وعبيد تميم فرجع أيوب وأخوه على إلى إفريقية (3) . والحقيقة التي لم تذكرها المصادر العربية هي أن ابني تميم حاربا النورمان عند مكان يدعى مسلمري Misilmeri (4) وهزما، وأصبحت عودتهما إلى أفريقية أمراً مؤكداً. وبعد هزيمة ابني تميم اضطرب أمر المسلمين في الجزيرة، ولم يبق فيهم من يوحد قوتهم، ويقف بها في وجه العدو، وكان النورمان قد تقووا بمعونة بحرية من بيشة Pisa، وصمموا على أن يحتلوا بلرم لغناها   (1) Cambridge Med. Hist. VOL. 5 P. 176 (2) E. Curtis؛ Roger of Sicily، P. 66 (3) ابن الأثير، والمكتبة: 277، والنويري في المكتبة: 448. (4) Amari؛ S.D.M. vol، 3 P. 114. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 ولأهمية موقعها، فأعدوا لحصارها خمسين سفينة جمعها جسكارد Guiscard من باري ومدن أبولية وتقدم بها من البحر، بينما سار إليها رجار من البر في جييش عدده ثمانية عشر ألفاً. وصب الأسطول على مينائها وأحاط بها الجيش البري إحاطة تامة، وظلت المدينة تقاوم الحصار مدة خمسة أشهر كان السكان في أثنائها شديدي الثقة بأنفسهم، حتى كانوا يأبون أن يغلقوا أبواب مدينتهم (1) . غير أن المؤن قلتْ فانتشرت بينهم المجاعة والوباء لكثرة الجثث التي تركت بالعراء دون دفن (2) . وشدد الأسطول الحصار وكان معظم السكان لجأوا إلى الميناء وأغلقوه بالسلاسل. غير أن الجوع الوباء والتعب جميعاً كسرت من شرتهم، فوقعت الخالصة أولا في أيدي الأعداء فدخلوا ينهبون ويذبحون السباب ويفرقون الأطفال فيما بينهم ليبيعوهم عبيداً (3) . ومع أن البلرميين كانوا يرون قدم المصيبة يطأ رقابهم فإنهم لم يكفوا عن الاختلاف والتناجر، وعجل اختلافهم وتناحرهم بسقوط المدينة القديمة بعد الخالصة، ودخلها رجار ووراءه فرسانه، واستولى على مسجدها وحوله إلى كنيسة. وسلمت مازر لما رأت ما حل ببلرم، وانتهى الدور الأول من الفتح حين سقطت عاصمة الكلبيين سنة 464هـ - 1072م وظل النورمان عشرين سنة حتى تم لهم الاستيلاء على الجزيرة كلها، ولم يكونوا قد ملكوا في هذا الدور الأول إلا بلرم ومازر ومسينة وقطانية ولكنهم باستيلائهم على هذه المنطقة أحاطوا بما تبقى للأمراء المسلمين في سرقوسة وطرابنش وجرجنت وقصريانة (4) . أما سرقوسة فقام فيها رجل اسمه Benavert (ابن عباد) (5) ونظم المقاومة   (1) Freeman؛ Hist. Essays، 3rd scries، P. 453 (2) Amari؛ cp. Cit. P. 124 (3) Amari؛ S.D.M. VOL، 3 P. 130 (4) Amari؛ S.D.M. VOL، 3 P. 153 (5) هذا هو اسمه عند ملاترا ولا تذكره المصادر العربية، وقد كان أماري يظن أنه هو ابن بريده الذي يمدحه ابن حمديس ثم عدل عن رأيه ومن العجيب أن ابن حمديس لا يذكره على شدة العلاقة بين قصائده وأعمال البطولة الأخيرة في سرقوسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 في ولاية نوطس براً وبحراً، حتى استحق من المؤرخ النورماني ثناء عليه بالدهاء والجرأة والمهارة في القيادة، وإتقان الخدعة في الحرب (1) . وفي إحدى المعارك استطاع أن يكسر جردان ابن رجار (2) مما اضطر رجار أن يوجه إليه اهتمامه، غير أ، هـ عاد فانصرف عنه واحتل بأسطول كان قد بناه مدينة طرابنش سنة 1077م وهدم سورها، وتملك أرضها ووزعها على اتباعه (3) . ثم استولى على طبرمين سنة 1079م فلم يبق في يد المسلمين إلا جرجنت وسرقوسة وقصريانة ونوطس وبثيرة. ويحدثنا المؤرخ ملاترا أن ابن عباد استطاع في سنة 1081م أن يشتري بالمنح والوعود حاكم قطانية من قبل رجار واسمه Bencimino وهو لفظ قريب الشبه بابن الثمنة (وربما كان ابناً أو قريباً لابن الثمنة الكبير مما يدل على أنه كان يتعاون مع النورمان غير خائن واحد من تلك الأسرة) فسلمه هذا مدينة قطانية فاتسع سلطانه حتى أصبح لا يكتفي بالمقاومة والدفاع بل توجه سنة 1084 إلى قومه إلى قلورية ونهب ريو ونقطرة وعاد ظافراً. ورأى رجار أنه لابد من جولة حاسمه مع ابن عباد فقابله عند سرقوسة أسطول قوي سنة 1085، وأخذت سفن ابن عباد تغرق بعد أخرى، وكلما غرقت به واحدة وثب منها إلى واحدة لم تغرق، ولكنه زلت به القدم فتلقاه البحر، ويقول المؤرخ المجهول إن رجار أرسل جثته إلى الأمير تميم بإفريقية. وبعد ذلك القائد الجريء استسلمت سرقوسة لما قدر عليها أواخر أكتوبر عام 1086، وفي إحدى الليالي تسلل منها بعض زعماء المسلمين إلى نوطس ومعهم زوج ابن عباد وابنه (4) . ثم سقطت جرجنت ولحقت بها قصريانة وكان أميرها ابن حمود، وقد تنصر هذا الأمير وطلب إلى رجار أن ينقله من قصريانة لأنه لم يعد يأمن   (1) Amari، op. Cit (2) Amari، op. Cit. P. 154؛ Curtis؛ Rroger of Sicily، P.67 (3) Amari،، 3 P. 157 (4) Amari، 3، P. 169 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 المسلمين على نفسه، ولأنه لم يكن يحب أن يتحمل مسؤلية ما قد يحكيه أهل المدينة من مؤامرات وفتن، ويقول أماري: - " إن ذلك العلوي الدنيء الرخيص لجأ إلى إيطاليا حيث أكنه رجار قريباً من ميلاطو وظل هنالك يحيا هنالك يحيا في هدوء مدة طويلة " (1) . ثم سقطت نوطس وتبعتها بثيرة سنة 1091، وانتهت بذلك عمليات الفتح النورماني، ولا شك في أن بعض المقاومة التي لقبها النورمان مضافاً إليها قلة عساكرهم وضعف أسطولهم هي العوامل التي أطالت فترة الفتح.   (1) Amari؛ OP. Cit الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 فراغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 الفصل الثاني الحياة الاجتماعية للمسلمين في العصر الروماني 1 - العلاقات السياسية الخارجية وأثرها في مسلمي صقلية 2 - اثر الإقطاع في الجماعة الإسلامية 3 - الإدارة الإسلامية 4 - الصبغة الإسلامية 5 - المسلمون بين التسامح والاضطهاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 فراغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 1 - العلاقات السياسية الخارجية وأثرها في مسلمي صقلية وفيما نحن نظر إلى داخل الجزيرة لنرى كيف استقرت الأحوال فيها أثناء حكم امتد من 1080 - 1190 وشغله من الحكم أربعة مشهورون، هم رجار إلى الجماعة الإسلامية فهي حسبنا من بين تلك الجماعات الكثيرة التي كانت تعيش في الجزيرة، ذاكرين دائماً أن الجماعة الإسلامية كانت عندما استولى النورمان على الجزيرة حقيقةً لا يسهل محوها أو طمسها، وأن الفاتحين كانوا أقلية ضئيلة، لا يستطيعون أن يفرضوا أنفسهم على نواحي الحياة في الجزيرة بالقوة، ولم تكن لهم حضارة يبسطونها على هذا العالم الذي كان يمد ما حوله بالحضارة، ومن ثم نفهم تلك السياسة المتسامحة التي قابلوا بها كل دين ومذهب في صقلية، لكي لا يبدو هذا التسامح غريباً في نظرنا، حين نذكر أنه معاصر للحروب الصليبية، ومن ثم أيضاً نفهم الروح الانتقائية التي واجهوا بها النظم والقوانين والشرائع المتنوعة، واختاروا أحسن ما يلائم حكومتهم منها، ولم يكن بدُ من تلك الخطوات الواعية عند قوم كانوا نقطة المركز في دائرة من الأعداء، فأحياناً هم على عداء مع البابا، وكثيراً ما كانوا في خصومة مع الإمبراطورية الشرقية، وهم في خطر من تهديد الإمبراطور الجرماني، وعلى مقربة منهم في الساحل الأفريقي أمراء مسلمون يضمرون لهم العداء، وهذه حالٌ تستدعي الأمن والرضى في الداخل، وتجعل التوازن بين المصالح والفئات المتضاربة أمراً لا غنى عنه، ولذلك آمن النورمان بالواقع فلم ينصروا ديناً على دين، وخضعوا لاعتبارات الموقع الجغرافي، والحقائق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 السياسية الخارجية، والحالة الحضارية الداخلية. ولا تتضح حال المسلمين في صقلية إذا نتصور عظمة صقلية الفاتحة المستعمرة في أيام النورمان، أعني صقلية التي خضع لها مسلمو الساحل الإفريقي، وهاجم أسطولها القسطنطينية، وألجأ أسطول مصر وإفريقية إلى الانحياز المتخاذل في المراسي، وابتز السيادة البحرية التي كانت لأساطيل المسلمين عامة، وأسطول الفاطميين خاصة، تلك السيادة التي صورها ابن خلدون بقوله: " وكان المسلمون لعهد الدولة الإسلامية قد غلبوا على هذا البحر (بحر الروم) من جميع جوانبه وعظمت صولتهم وسلطانهم فيه، فلم يكن للأمم النصرانية قبل بأساطيلهم بشيء من جوانبه.. وسارت أساطيلهم فيه جائيةً وذاهبة والعساكر الإسلامية تجيز البحر في أساطيلهم، ومن صقلية إلى البر الكبير المقابل لها من العدوة الشمالية، كما وقع في أيام بني ابي الحسين ملوك صقلية القائمين بدولة العبيديين، وانحازت أمم النصرانية بأساطيلهم إلى الجانب الشمالي الشرقي منه، من سواحل الإفرنجية والصقالية وجزائر الرومانية لا يعدونها، وأساطيل المسلمين قد ضربت عليهم ضراء الأسد بفريسته " (1) . هذه السيادة ضاعت حين استولى رجار على بلدان الساحل الأفريقي، وأصبح البحر المتوسط " بحيرة نورمانية " تغدو فيه أساطيل صقلية وتروح، دون أن يعترضها عائق، وتنزل الضربة بعد الضربة في الموانئ الأفريقية، ومسلمو صقلية في جزيرتهم لا يستطيعون أن يذمروا أو يتوجعوا لما يصيب إخوانهم بل إن الجيش والأسطول الصقلي جنوداً مسلمين يقودهم قادتهم ليحاربوا إخوانهم تحقيقاً لأطماع شخص غريب عنهم في الدين والجنس. وقد كانت صقلية وسيادتها الجديدة امتحاناً قاسياً لنفسيات أولئك الأمراء المسلمين المتقاتلين المتنافسين فيما بينهم، وبعد ان كانت صقلية المسلمة تفزع إذا ثارت إلى الروم أو إفريقية أو النورمان، أصبحت هي مفزعاً يفيء إليه كل وال المصلحة الذاتية عن تدبر العاقبة، وأصبح أمراء أفريقية   (1) ابن خلدون، المكتبة 460 - 461. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 يجدون بغيهم عند صاحب صقلية، كلما شاء واحد منهم أن يكبد لصاحبه، وييروى أنه اجتمع في بلاط الملك النورماني سفيرران لأميرين مسلمين فتشاتما وتراشقا بالكلام في مجلسه. وحادثة عمارة اليمني والمتآمرين على صلاح الدين (1) مثالٌ من أمثلة كثيرة لاستعانة الأغراض والأطماع بصقلية وصاحبها. وكان بنو باديس يحاولون محاولة المستميت ليسددوا ضربة قوية إلى هذه المملكة الصقلية. ومن ورائهم شعراء فيهم ابن حمديس وأبو الصلت يهللون لكل نصر مهما يكن شأنه، ولكن الضعف كان قد بسط ظله الكثيف على كل تلك الدويلات المتنافسة، وكانت الدولة الفاطمية قد أخذت تستملي سياسة الضعف المبهور في معاملتها لهذه الدولة الفتية، حتى إن الخلفية الفاطمي ليقول لرجار حين أبلغه نبأ احتلاله لجزيرة جربة: وأما ما ذكرته من افتتاحك الجزيرة المعروفة بجربة، لما شرحته من عدوان أهلها، وعدولهم عن طرق الخيرات وسبلها، واجترائهم في الطغيان على أسباب لا يجوز التغافل عن مثلها، واستعمالهم الظلم تمرداً، وتماديهم في الغي، تباهياً في الباطل وغلوا، يأساً من الجزاء لما استبطأوه، فإن من كانت هذه حالته حقيق أن تكون الرحمة عنه نائية، وخليقٌ أن يأخذه الله من مأمنه أخذه رابية " (2) . وكان لابد لهذه الأحوال أن تهيء لظهور نوع من الجهاد الديني هو الذي قام به عبد المؤمن من بعد. والسلمون في صقلية يعيشون تحت حكم النورمان وهم يرون الحروب الصليبية أو الحروب باسم الدين تجتاح بلاد الشام، ولعل تلك الروح الدينية هي التي أملت ذلك الأسلوب من الرد الحاد على رجار حين قال لزاهد مسلم كان يقربه ويحترمه بعد ان انتصر أسطوله في بعض جهات أفريقية - وأين كان محمد عن تلك البلاد وأهلها؟ فقال ذلك الشيخ الزاهد -: كان قد غاب عنهم وشهد فتح الرها (3) .   (1) انظر رحلة التيجاني في المكتبة 310 - 311 في تفصيل الحادثة. (2) صبح الأعشى 6/ 459. (3) ابن الأثير 11/ 41 والمكتبة: 288. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 2 - أثر الإقطاع في الجماعة الإسلامية هؤلاء المسلمون في الجزيرة كانوا - كما خلفناهم في العصر العربي - متفرقين في نواح كثيرة من صقلية وتدل السجلات التاريخية والوثائق على أنهم كانوا كثيري العدد في ولاية مازر، متوسطي العدد في ولاية نوطس، قليلين جداً في ولاية دمنش (1) . وبين سكان بلرم من أصحاب الأملاك أو الشهود الواردة أسماءهم في الوثائق عرب من قبائل يمنية مثل أزد وكندة ولحم ومعافر، ومن المدينة وحضر موت، وعرب من القبائل المضربة مثل قيس وقريش وتميم. وأسماء بربر من هوارة ولواتة وزغاوة وزنانة. وفي الأسماء من جلفوذ مسلمون من البربر ومن صقلية نفسها كالقرليوني والشاقي والثرمي والطرابنشي، وبين الرقيق التابعين لسقف قطانية ومدينة لياج أسماء أعلام بربرية من عائلات مثل مكلاتة ونفزة ومسراته، وأسماء منسوبة إلى مواضع أفريقية مثل برقة وبونة وسوسة ومسلية ومليلة؟ هذا إلى أسماء منسوبة للبلدان كالحجازي والغاففي والعينوني (نسبة إلى قرية بجانب القدس) والكرماني (نسبة إلى كرمان) ، وأسماء منسوبة إلى مدن صقلية كالمديني والصقلي (البلرمي) واللياجي والقطاني والسمنطاري والطرابنشي.. إلخ (2) . وأهم عامل أحدث انقلاباً في حياة هؤلاء خاصة وفي حياة الأجناس بصقلية عامة هو إقرار الإقطاع نظاماً مؤصلا، على مثال ما كان في جهات أخرى من أوروبة، وتثبيته بالقوانين والتشريعات، وبهذا النظام قضي على حرية المالك الصغير، وانقسم الناس إلى طبقات متدرجة أعلاها الملك، وأدناه رقيق الأرض، وبين الطبقتين أمراء ودوقات وكونتات وبارونات يتمتعون بالإقطاعات الشاسعة، وببعض الامتيازات في المحاكم وفي القضايا   (1) Amari؛ S.D.M. VOL، 3 P. 214 (2) OP. Cit. PP. 218 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 المدنية - على الأقل - ودون هؤلاء الفرسان ممن منحوا الإقطاعات أو لم يمنحوها (1) ، وأدنى منهم طبقة الفلاحين، وهي طبقات متفاوتة في فقدان الحرية وفي قربها من العبودية، وفيهم أكثرية من أهل القرى المسلمين. ففي أثناء الفتح كان رجار يستولي على الأرض التي فر عنها أهلها أو على ما افتتحه عنوة، ويقسمه بين أصحابه. وفي سنة 1093 عقد اجتماع في مازر حضره السادة من أصحاب رجار وسلم كل واحد منهم صحيفة أو جريدة مكتوبة بالعربية، وأحياناً بالعربية واليونانية معاً، فيها وصف للأرض التي تخصه، وبيان بعدد الفلاحين والأرقاء في أملاكه (2) . ولا شك في أن بعض سادة المسلمين سعى بين يدي رجار ليمنحه نصيبه من الغنيمة، فوجد منهم من تمتعوا بامتيازات إقطاعية، وترك أهل المدن منهم أحراراً في تصرفهم بأملاكهم، ويلخص ابن الأثير هذا النظام الإقطاعي الجديد بجملة واحدة إذ يقول في رجار: " وأسكنها الروم والفرنج مع المسلمين ولم يترك لأحد من أهلها حماماً ولا دكاناً ولا طاحوناً ولا فرناً " (3) . وقوله هذا لا ينطبق على أهل المدن بل وربما كان جارياً على جماعات الفلاحين أو جماعات كانوا أحراراً وأحالهم الفتح إلى أرقاء لاصقين بالأرض، كما حدث في قطانية فإن رجار حين استولى عليها جعل أهلها المسلمين أرقاء، ومنحها إقطاعاً للأسقف (4) ويصحح قول ابن الأثير ما قاله الإدريسي في ثنائه على القمط (الكونت) رجار: " ولما وصل أمرها إليه واستقر بها سرير ملكه، نشر سيرة العدل في أهلها وأقرهم على أديانهم وشرائعهم وأمنهم في أنفسهم وأموالهم وأهليهم وذراريهم " (5) ، وهو رأى ينطبق على أهل المدن كبلرم ولا يمتد إلى المعاملة التي جرت على الفلاحين، أما ابن جبير الذي زار صقلية أيام غليالم الثاني (1184) فيقول: - " لكنها   (1) Cambridge Med. Hist. vol، 5. P. 204 (2) Cecilia Waern؛ Med. Sicily. Sicily PP.32 - 33 (3) ابن الأثير 10/ 68 والمكتبة: 278. (4) E. Curtis؛ Roger of Sicily P. 419 (5) نزهة المشتاق في المكتبة: 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 معمورة بعبدة الصلبان، يمشون في مناكبها ويرتعون في أكنافها، والمسلمون معهم على أملاكهم وضياعهم قد حسنوا السيرة في استعمالهم واصطناعهم، وضربوا عليهم إتاوة في فصلين من العام يؤدونها، وحالوا بينهم وبين سعة الأرض كانوا يجدونها (1) . ويؤيد قوله هذا ما جاء في وثائق ذلك العهد إذ تدل على حرية التصرف في الأملاك والعقارات التي كان يملكها المسلمون رجالا ونساء، وبيعها تحت ظل القوانين الإسلامية وإشراف قاضي المسلمين (2) . والظاهر من كلام ابن جبير أن المسلمين عامة كانوا يدفعون ما يسمى الجزية وإن لم تسم بهذا الاسم غلا حين تتحدث الوثائق عن اليهود، ومقدار هذه الجزية مختلف، ففي وثيقة منها قدر بعشرين رباعي وفي أخرى بعشرة، هذا عدا جزية من القمح والأرز تختلف تبعاً لنوع الأرض واتساعها (3) . وفي النظم الاجتماعية بأوروبة طبقة من عبيد الأرض تسمى في وثائق صقلية اللاتينية Villani وهي تسمية تقابل من يسمون في الوثائق العربية " رجال الجرائد " أو " أهل الجرائد " (4) وهم في نظر القانون قسمان متمايزان: رقيق يباعون مع الأرض، ورقيق أحرار بأشخاصهم مسترقون بعملهم - وهما في نظر الواقع لا فرق بينهما، والأولون من هؤلاء أدنى الطبقات حالا باستثناء العبيد، إذ لم يكونوا مرتبطين بالأرض فحسب ل كانوا يباعون معها إذا بيعت كالدواب، وهم يقرنون في بعض القانون بالبهائم، وتعد أسمائهم مع الخيل والبغال وغيرها (5) وكان أبناؤهم يرثون هذا الشقاء ويشقون بتلك التعاسة نفسها إذ يعتبرهم القانون عبيداً بالولادة، وعلى هؤلاء تفرض الخدمة العسكرية وواجبات الدفاع والمحافظة على قلعة السيد الإقطاعي، وإذا تزوجت من أحدهم امرأة حرة كان أبناؤها   (1) ابن جبير - الرحلة: 322ط رايت، والمكتبة: 82. (2) Amari؛ S.D.M. VOL. 3، P. 263 (3) OP. Cit. PP. 256 - 257 (4) OP. Cit. P. 244 (5) C. Waern؛ Med. Sic. P.88 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 أرقاء (1) . وفي الجرائد أسماء أعلام إسلامية مثل محمد وعلي وعبد الله ترد بين أعلام يونانية ولاتينية (2) ومن هنا نفهم لم يحاول المؤرخ هوجر فلقندو أن يؤكد بأن رجال الجرائد في صقلية كانوا مسلمين أو يونان إذ يقول: " وليس في صقلية من يدفع الجزية السنوية إلا المسلمون واليونان وهم وحدهم الذين يلحقهم اسم الأرقاء (رجال الجرائد) " (3) بل علينا أن ننسى ونحن نتحدث عن الجماعة الإسلامية بصقلية أمر العبودية التي كانت تؤيدها القوانين ففي وثيقة عربية - يونانية سنة 1094 ذكر لثلاثين عبداً مسلماً ترد أسماءهم بين الأرقاء وأسماء اليهود التابعين لكنيسة قطانية (4) وكان التصرف بالعبيد، كسائر أنواع الملك، أمراً شائعاً بصقلية حتى كانوا يباعون أو يهدون مع عائلاتهم، فعند تأسيس أحد الأديرة تبرع الكونت رجار وأسياد الإقطاع بالقلعة والأرض والرقيق، وكان البارونات يتقدمون هذا بعبد وذاك باثنين وآخر بأكثر، حتى لقد تقدم أحدهم بيهودي (5) . وتثبت وثيقة عربية من القرن الثاني عشر ان العرف التجاري كان يسمح بأن يباع الحر عبداً، فقد أذن لجماعة من البحارة المسلمين أن يحملوا ذهباً من جفلوذ إلى مسينة خاصاً بسيد اسمه وليمن ويرهنوا ممتلكاتهم ضماناً عنه، وكان فيهم حاج يدعى عثمان رهن نفسه من الصراف، لأنه لم يكن يملك شيئاً آخر حتى إذا استطاع أن يدفع ما عليه اصبح حراً (6) . فالمسلمون من وجهة عامة كانوا في لعصر النورماني: إما أهل مدن يتمتعون بشيء من الحرية، ولا يحق لهم التوسع في ممتلكاتهم، وإما فلاحين فقدوا كل حرية لهم واصبحوا رقيق ارض أو عبيداً، وإما جنداً في الجيش والأسطول.   (1) Curtis، P. 365 - 66 (2) Amari، 3 P. 209 (3) OP. Cit. P. 259 (4) OP. Cit. P. 241 (5) Amari، S.D.M. VOL، 3 P. 243 (6) OP. Cit. P. 242 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 3 - الإدارة الإسلامية أما من حيث الإدارة فإن القانون الذي أصدره رجار سن دون تحيز لفريق على آخر من الأقوام الخاضعة لسلطانه، ترك لكل شعب مجاله على أن لا يعترض في عرفه وعاداته مع القوانين المحررة (1) . ومن ثم كان كل فريق خاضعاً لنوع الإدارة التي تلائمه. فكان للمسلمين الشيخ والحاكم والقاضي والعامل والقائد (2) وقد ذكر ابن جبير أن لمسلمي بلرم قاضياً يرتفعون إليه في أحكامهم (3) . ورأى مسلمي طرابنش يخرجون إلى مصلاهم مع صاحب أحكامهم (4) أما العامل فيقابل ما يسمى Strategos في المناطق ذات اللسان اليوناني، وقد شاع لقب القائد أيام النورمان فشمل ناساً من العرب والبربر وأشخاصاً من أجناس أخرى وخرج عن مدلوله العسكري، وأصبح يدل على درجة مدنية تقع في المرتبة دون الأمير. وكان لقب الشيخ والقائد مستعملاً منذ أيام الكلبيين، ففي خبر عن جعفر بن الأكحل أنه اتخف " بقوادهم وشيوخ البلاد " (5) وفي زمن غليالم الثاني منح هذا اللقب لابي القاسم بن الحجر ولمنافس له اسمه Sedictus (صديق؟ شديد؟) (6) ولابد أن هذا اللقب كان يدل أحياناً على أصحاب القلاع وحيناً على ناس مدنيين. ومن المحتمل أن المسلمين اشتركوا في بعض السلطات البلدية فكانت هناك هيئة تسمى " الأفاضل " Louni Uomini تساعد صاحب القضاء وأكثر أفرادها مسلمون (7) وربما كانت صورة " الجمماعة " التي طالما سمعنا عنها في العصر العربي، وهذا اللفظ نفسه - أي الجماعة - يطلق في العصر النورمان على شيوخ اليهود أيضاً.   (1) Cambridge Med. Hist. VOL، 5، P. 204 (2) Amari، 3، P. 267 (3) ابن جبير ص336 والمكتبة ص92. (4) المصدر نفسه ص332 والمكتبة ص97. (5) ابن الأثير في المكتبة ص274. (6) Amari، 3، PP. 267 - 271 والأصح أنه السديد حسبما جاء في رسائل ابن قلاقس. (7) Amari، 3، P. 298 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 4 - الصبغة الإسلامية في الدولة وإذا كانت الصبغة الإسلامية الإدارية - خلا بعض الألقاب - وفقاً على المسلمين، فإن الصبغة الإسلامية عامة امتدت أيام النورمان إلى الكثير من نواحي الحياة، لأن الحضارة الإسلامية كانت غالبة على الجزيرة وفي ظلها نشأ رجار وخلفاؤه، فوجدوا أنفسهم يقتبسوها ويفيدون منها. وقد وضحت هذه الصبغة في حياة البلاط نفسه، فتشبه رجار بملوك المسلمين في الاستكثار من الجنائب والحجاب والسلاحية والجاندارية وغير ذلك وخالف عادة الفرنج فإنهم لا يعرفون شيئاً منها (1) . وتصفه الوثائق العربية ويلقبه الإدريسي بالملك المعظم المعتز بالله المقتدر بقدرته (2) وتلك كانت ألقاباً ثابتةً له وكانت علامته الحمد لله شكراً لأنعمه (3) وفي زمنه - أو زمن خلفائه - استعملت المظلة التي كان يستعملها بنو عبيد وهي شبه درقة في رأس رمح محكم الصنعة، يمسكها فارس من الفرسان، يعرف فيقال له صاحب المظلة (4) . وكان ابنه غليالم يتكلم العربية، ويحيط نفسه بحرس من المسلمين، وبلاطه مملوء بالخصيان والحجاب والجواري، ومضى غليالم الثاني على سنته يتخذ الفتيان المجابيب (5) . وناظر مطبخه رجل من المسلمين وله جملة من العبيد السود المسلمين، وعليهم قائد منهم، ووزراؤه وحجابه الفتيان وجملة من أهل دولته مسلمون وكان كثير الاتخاذ للفتيان والجواري. ويتشبه في الانغماس في نعيم الملك وترتيب قوانينه ووضع أساليبه وتقسيم مراتب رجاله وتفخيم أبهة الملك وإظهار   (1) ابن الأثير 10/ 68 والمكتبة: 278. (2) نزهة المشتاق في المكتبة: 15. (3) ابن جبير: 325 والمكتبة: 84. (4) نبذة المحتاجة لابن حماد في المكتبة: 317. (5) ابن جبير: 324 والمكتبة 83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 زينته بملوك المسلمين (1) وهو يقرأ ويكتب بالعربية وعلامته " الحمد لله حق حمده ". وكانت الصبغة الإسلامية كما رأينا ظاهرة في الألقاب فلقب الأمير يطلق على ناس من غير المسلمين، وأعلى لقب أمير الأمراء وأشيعها لقب القائد للمدنيين والعسكريين على السواء. وزاد هذه الصبغة وضوحاً أن اللغة العربية كانت إحدى اللغات الثلاث التي أقرتها الدولة في سجلاتها، والأخريان هما اليونانية واللاتينية. أما اللغات المحلية فكانت أربعا أو خمساً، والفرنسية من بينها لغة البلاط، وكانت المالية تستعمل اللاتينية واليونانية، والظاهر أن العربية لم تكن مستعملة فيها فإن كل الوثائق المكتوبة بالعربية إنما تتعلق بأمور الأراضي والعقارات (2) . واتخذت الدولة ثلاثة أنواع من الدواوين الإسلامية هي: (أ) ديوان المظالم: اقتبسه رجار عن المسلمين وكان المظلومون يرفعون إليه شكاواهم فينصفهم، ولو من ولده - كما يقول ابن الأثير (3) - وكل من ترجموا لرجار أجمعوا على تحريه الدقة في تطبيق العدالة. (ب) ديوان الطراز: والقائمون عليه يطرزون بالذهب في دار خصصت لصنع الملابس الملكية، والتقى ابن جبير مع واحد من أولئك الطرازين يسمى يحيى ابن فتيان (4) ويقول فلقندو: " ولا ننس تلك المصانع الرفيعة حيث تغزل قطع الحرير خيوطاً ذات ألوان كثيرة وتهيأ لنسج أشياء متنوعة " وبعد ذلك يعدد فلقندو أنواعاً من الطراز والنسيج بأسمائها اللاتينية (5) ومما تبقى من عمل هذا الديوان عباءة صنعت سنة 528 للملك رجار، إسلامية المناظر والزخرفة، ففي نصفها نخلة على جانبيها أسدان منقضان على جملين وعلى حاشيتها كتابة بالعربية جاء فيها:   (1) المصدر السابق: 325 والمكتبة: 83. (2) C. Waern؛ Med. Sicily PP. 43 - 46 (3) ابن الأثير 10/ 68 والمكتبة: 378 (4) ابن جبير ص325 والمكتبة: 84. (5) C. Wacrn؛ Med. Sicily PP.. 78 - 79 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 مما عمل بالحضرة الملكية المعمورة بالسعد والإجلال، والمجد والكمال، والطول والإفضال والقبول والإقبال، والسماحة والجلال، والفخر والجمال، وبلوغ الأماني والآمال، وطيب الأيام والليال، بلا زوال ولا انتقال، بالعز والرعاية، والحفظ والسلامة، والنصر والكفاية، بمدينة صقلية سنة ثمان وعشرين وخمسمائة (1) . (ج) ديوان التحقيق المعمور: وهو الديوان الذي يعني بشئون الأرض والرقيق المرفق بها وكل ذلك مقيد في دفاتر deftarii، وهي سجلات تبين الإقطاعات واتساعها وعدد الأرقاء فيها، ويسمى هذا الديوان باللاتينية Dohana de Secretis وكلا التسميتين - في رأي أماري ومن يرى رأيه من الباحثين - تدلان على الأصل العربي (2) وقد كان هذا الديوان موجوداً عند الفاطميين، وللديوان رئيس أو صاحب، دونه طبقة من الكتاب. 5 - المسلمون بين التسامح والاضطهاد ومنذ أن استقر أمر الجزيرة لرجار، جرى على سياسة تقريب المسلمين. ويقول المؤرخون المعاصرون (ملاترا مثلا) إن عقيدة المسلمين لم تمس بسوء، ولا أصابهم رهق أو أذى (3) . ويقول المؤرخ المجهول معاصر رجار: إن الشروط التي فرضت للمسلمين لا تزال مرعية حتى أيامه. وقد ضمن سكان بلرم حياتهم وحريتهم الدينية وظل لهم من بينهم قضاة وحكام (4) هذا هو ما يقوله الإدريسي في رجار الأول، وأنه نشر سيرة العدل في أهل صقلية، وأقرهم على أديانهم وشرائعهم. ونحن إذا أغفلنا الحال البائسة التي انحدر إليها مسلمو الأرياف وطبقات الفلاحين والعبيد منهم وبعض من جعلوا أرقاء بعد أن كانوا أحرار - قلنا إن أهل المدن كانوا يحيون في أمن لأن الملك كان يحميهم بنفوذه وقوانينه. ويقول   (1) Gregorio؛ Rerum Arabicarum، P. 172 (2) انظر تاريخ أماري 3/ 327 أما فيما يتعلق باختلاف الآراء حول أصول النظام فانظر Curtis. (3) Amari، 3، P. 132 (4) op. cit الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 ابن الأثير في رجار: " وأكرم المسلمين وقربهم ومنع عنهم الفرنج فأحبوه " (1) حتى لقد كان يقرب زهادهم والمتعبدين منهم فأكسبه هذا اعتقاد بعض الناس بأنه كان مسلماً في السر. ومثل هذا الاعتقاد ينشأ بين جماعة كانت تستكثر منه تسامحه أو من جماعة كانت تعاديه وتكيد له، وتحاول ان تستغل تسامحه لمصلحتها. أما حقيقة الحال فهي أن رجار كان يحب الهدوء والطمأنينة في مملكته، ولم يكن يهدد ذلك الهدوء وتلك الطمأنينة كالضرب على الوتر الديني، ولذلك لم يكن يسمح للمسلمين في جيشه أن ينتصروا، ولا يحب أن يرى النصارى يعتنقون الإسلام على أن اتهام أعدائه له بالإسلام سراً جعله يدفع ذلك عن نفسه ببناء الكنائس، بل بإغراء المسلمين على التنصر إن صح ما يقوله روموالد المؤرخ، فهو يصف رجار بأنه عني في آخر أيامه بتنصير اليهود والمسلمين، مسبغاً على من تنصر منهم أسباب النعمة الدنيوية (2) وقضية فيليب أمير الأسطول مثل من الأمثلة التي حاول بها رجار ان يظهر علناً إخلاصه للدين المسيحي. - فقد غزا فيليب بونة واستولى عليها غير أنه أغضى على جماعة من العلماء والصالحين حتى خرجوا بأهليهم وأموالهم إلى القرى، ولما عاد إلى صقلية قبض عليه رجار لما اعتمده من الرفق بالمسلمين، وكان يقال انه وجميع فتيانه مسلمون يكتمون إسلامهم وشهد عليه بعضهم انه ليصوم مع الملك، وانه مسلم، فجمع رجار الأساقفة والقسوس والفرسان فحكموا بان يحرق في رمضان، وهذا أول وهن دخل على المسلمين بصقلية (3) . وكان المسلمون من ناحيتهم يقبلون على الملك ويظهرون له الحب حتى يضمنوا لأنفسهم تقدماً في دولته، وحتى يحميهم من أجناس أخرى كانت تنظر إليهم نظرة بغض وحنق، إذ ليس التسامح في صقلية معناه موت الأحقاد في نفوس الأجناس، ولكن معناه ضبط الحاكم لتلك الأجناس وعدم سماحة بتعدي   (1) ابن الأثير 10/ 68 والمكتبة: 278. (2) Freeman؛ Hist. Essays، 3rd Series؛ 459 (3) رحلة التيجاني في المكتبة: 299 - 300. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 فريق على آخر - وليس غريباً ان يتعلق المسلمون بالملك لأنه الشخص الوحيد القادر على حمايتهم. ومن ثم لن نستغرب ما يقوله فلقندو من ان النساء المسلمات في بلرم خرجن حين توفي غليالم الأول يلبسن الثياب الخشنة، وقد نشرهن شعورهن وملأن الفضاء بعويلهن، ورددن المراثي الشجية على نغمات الطنبور (1) ذلك لأن الملك إن كف عن حمايتهم، أصبحت حياتهم في خطر. وهذا ما حدث فعلا عندما قامت ثورة على مايون وزير غليالم الأول منتصف عام 1160م فقد كان مايون - كما يحدثنا فلقندو - نزع السلاح من أيدي المسلمين. فلما قام النبلاء والبارونات بالثورة عليه انتهز المسيحيون - وخاصة اللمبارديون - هذه الفرصة وهاجموا المسلمون واثخنوا فيهم قتلا وذبحاً في شوارع بلرم - ويقال انهم وجدوا في القصر جماعة من الحصيان المسلمين فذبحوهم، ثم قتلوا المسلمين الذين كانوا في الدواوين او في الفنادق والحوانيت ونزعوا الأكفان عن جثث الموتى، ولم يكن عدد من هلك من المسلمين قليلاً، وممن قتل في هذه الواقعة الشاعر القفصى يحيى بن التيفاشى. ولعل الإدريسي كان من ضحاياها أيضاً (2) . ويمضى فلقندو الذي روى الحوادث فيقص علينا كيف ان اثنين من اللمبارديين خرجا إلى بثيرة وغيرها، وجمعا الفلاحين اللاتين، وأغارا بهم غارات متتالية على المسلمين الذين كانوا يعيشون بين المسيحيين، دون أن يراعوا في ذبحهم عمراً أو جنساًً، حتى أبادوهم الا قليل نجوا بأنفسهم، ولجأوا إلى الغابات والجبال لتخفيهم عن أنظار المسيحيين، وبعضهم لجاْ إلى قلعة في جنوبي صقلية يسكنها بعض إخوانهم في الدين (3) . وبعد غليالم جاء غليالم الثاني وكان صغير السن أمه بالوصاية عليه، واتخذت رجلا يسمى اسطفان Stefano مستشاراً لها، وكان رجلاً قديراً لكن تنقصه عصبية تشد من أزره، أو حزب يسنده، ويقول فلقندو في وصفه:   (1) Amari؛ S.D.M. VOL، 3، P. 502 Waern؛ Med. Sic. P. 39 (2) Amari؛ S.D.M. VOL، 3، PP. 495 - 96 (3) OP. Cit. PP. 497 - 98 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 إنه كان ملكاً أرسله الله ليعيد الأرض ذلك العصر الذهبي القديم. وكان المسلمون منحرفين عنه بتأثير أبي القاسم بن حمود الذي كان يوزع الأموال على الناس لعله يميلهم عن أسطفان، إذ كان هذا قد صادق منافساً لابن حمود يسمى القائد (ابن السديد) وهو من أغنياء المسلمين (1) . ومهما يكن فقد هدأت النفوس أيام غليالم الثاني حتى أصبح عهده مضرب المثل في الهدوء والسكينة. وكان يقال إن غابات صقلية في أيامه أكثر أمناً من المدن في البلاد الأخرى (2) . وحياة المسلمين في عصره واضحة والفضل في ذلك عائد إلى ابن جبير الذي زار الجزيرة وهو عائد من الحج. ويستفاد مما ذكره هذا الرحالة القدير أن المسلمين كانوا قليلين في مسينة، وانهم فيها من ذوي المهن، أما برم فتحوي الحضريين منهم، وبها يعمرون أكثر مساجدهم، ويقيمون الصلاة بأذن مسموع، ولهم أرباض قد انفردوا بسكنها عن النصارى، والأسواق معمورة بهم، وهم التجار فيها ولا جمعة لهم بسبب الخطبة المحظورة عليهم، ويصلون الأعياد بخطبة ودعاؤهم فيها للعباسي، ولهم بها قاض يرتفعون إليه في أحكامهم، وجامع يجتمعون فيه الصلاة، وأما المساجد فكثيرة لا تحصي وأكثرها محاضر لمعلمي القرآن (3) . وقد وجد ابن جبير أن المسلمين في بلرم مقربون إلى غليالم، وأنه كثير الثقة فيهم، فلذلك استعملهم في كثير من الوظائف. وفتياته الذين هم عيون دولته وأهل عمالته في ملكه مسلمون، يصومون ويتصدقون ويفتكون الأسرى (4) وفي جلفوذ طائفة من المسلمين (5) ولهم في ثرمة ربض كبير آهل بالمساجد (6) . وبين بلرم وطرابنش ضياع متصلة ومحارث ومزارع وسكانها كلهم مسلمون. وفي مدينة   (1) OP. Cit. P. 510 (2) Freeman؛ Hist. Essays 3 - 459 (3) ابن جبير 332، والمكتبة ص92. (4) ابن جبير ص325 - 326. (5) ص328. (6) ص328. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 علقمة سوق ومساجد وسكانها كذلك (1) . وفي طرابنش مسلمون ونصارى ولكلا الفريقين مساجد وكنائس وقد رأى المسلمين فيه يعيدون بالطبول والبوقات (2) ولم ينس ابن جبير أن يسجل اللطف الذي قابله به النصارى ومبادرتهم له ولرفقائه بالسلام ومؤانستهم، ومحضهم النصح لهم إذا اقتضى ذلك، وإغضاءهم على تظاهر المسلمين عند تأديتهم بعض الشعائر الدينية (3) . ولم يحاول ان يخفي لطف غليالم ودفعه الأجرة عن فقراء المسلمين لأصحاب المراكب التي كانت تقلهم (4) . ومن يقرأ كل هذه الحقائق يعجب من قصص أخرى أوردها ابن جبير عن ناس لا يشعرون بالأمن في بيئتهم، ويخافون في أداء العبادة، ولا يستطيعون أن يرفعوا أصواتهم بأنهم مسلمون، حتى ليخيل إليه أن هناك تناقضاً فيما عرفه ابن جبير بالمشاهدة أو بالسماع. والحقيقة ان لا تناقض هنالك فالمسلمون الذين كانوا يتظاهرون بدينهم كانوا قادرين على ذلك في حالتين إما في مدينة يحضر فيها الملك يقوته كبلرم، أو مدينة هم الأكثرية فيها كطرابنش. أما في مثل مسينة حيث هم أقلية بعيدون عن الحماية فمن الطبيعي أن يحذروا جيرانهم في شيء من الخوف. وقد سمع من أحد الوجوه بمسينة قوله: أنتم مدلون بإظهار الإسلام، فائزون بما قصدتم له رابحون إن شاء الله في متجركم، ونحن كاتمون إيماننا، خائفون على أنفسنا، متمسكون بعبادة الله وأداء فرائضه سراً، معتقلون في ملكة كافر قد وضع في أعناقنا ربقة الرق (5) . وفي هذا قدر كبير من الصحة إذا اعتبرنا المثل الأعلى في فهم الحرية الدينية، وهذا كلام رجل شهد ما مضى من اضطهاد في أيام غليالم الأول فهو يرى أن هذه الحال من الأمن لن تدوم - أما الشكوى التي سمعها ابن جبير من أبي القاسم بن حمود فلا غرابة   (1) ابن جبير: 334. (2) ص 336. (3) ص 330 - 331. (4) ص 321. (5) ص 326، من والمكتبة: 85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 أن تسمعها من رجل طموح كان يريد الزعامة، وكان قد شقي بالمصادرة وفقد كل ثروته. والحقيقة أن هذه الشكاوي لا تعبر عن تلك الفترة الهادئة وإنما تعبر عما أصاب المسلمين قبل سنوات. ويحس من يقرأ كلمات فلقندو انه كان قد جرى على المسلمين من الأذى في أنفسهم وعقيدتهم ما يزرع الخوف في النفوس ولا يدع للهدوء طريقاً إلى القلوب، أو يبشر بنسيان الإساءة. ومن المثالية أيضاً أن ندعي بأن المطالبات المالية كانت تجري دائماً على حسب القوانين، وتقرر عند رأى العدالة، وقد سمع ابن جبير عن فقيه اسمه ابن زرعة ضغط بالمطالبة فأظهر فراق دين الإسلام والانغماس في دين النصرانية ومهر في حفظ الإنجيل، ومطالعة سير الروم، وحفظ قوانين شريعتهم، فعاد في جملة القسيسين في الأحكام النصرانية، وكان له مسجد بإزاء داره أعاده كنيسة (1) . ولم يكن مما يهون على الناس يومئذ - وربما لا يهون ابداً - أن يروا مركز عبادتهم قد حول إلى مكان لعبادة قوم آخرين. ولم تكن ترتاح النفوس لذلك التظاهر الصاخب بالشعائر، فتلك الطبول والبوقات كانت تزعق في أسماء أهل الدين الآخر بأصوات التحدي، وتدوي بالكراهية المتبادلة التي تغطي بقشرة رقيقة من الهدوء. بل لعل أدق ما اطلع عليه ابن جبير من أحوال صقلية اتخاذ مفارقة الدين سلاحاً يشهره في وجه أبيه، والزوجة في وجه زوجها، ويذهب الغاضب فينتصر ويتعمد، فهم الدهر في مداراة الأهل والولد خوف هذه الحال (2) . ولا ننس ذلك الخوف على العرض ولذلك فلا عجب أن نرى أ؛ د الآباء وجاء يهدي ابنة له صغيرة السن إلى أحد الحجاج، لعله ينقلها معه ويتزوجها أو يزوجها ممن يرتضيه لها، رغبة منه أن يجنبها ما قد يخبئه القدر لمثيلاتها من فتيات   (1) ابن جبير: 340 والمكتبة: 101. (2) المصدر نفسه: 342 والمكتبة: 103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 المسلمين بالجزيرة (1) . ومن هذه الحال نستطيع أن نستنتج بأن الهجرة من صقلية لم تكن سهلة ولا كانت السلطات تسمح بها إذ كان عمران صقلية يستدعي ذلك وأكثر منه، أي يتطلب استقدام سكان من الخارج وإعطاءهم بعض الامتيازات لإغرائهم على الهجرة إلى صقلية. والخلاصة أن المسلمين كانوا في الجزيرة غرباء عن إخوانهم المسلمين في الأقطار الأخرى. وتحت ذمة غيرهم يؤدون الجزية. ولا أمن لهم في أموالهم ولا في حريمهم وأبنائهم (2) إذا ضعف السلطان عن حمايتهم بل كانت حمايته لهم تزيد من كره أصحاب الأديان الأخرى لهم. هذا حالهم في المدن، أما في القرى والأرياف، فلم يكونوا يرتفعون عن الرقيق بكثير، وكلهم رهائن في يد الملك بصقلية يهدد بهم أمراء المسلمين وملوكهم، مثال ذلك أن عبد المؤمن لما استولى على المهدية قال صاحب صقلية: إن قتل عبد المؤمن أصحابنا بالمهدية قتلنا المسلمين الذين بجزيرة صقلية وأخذنا حرمهم وأموالهم (3) . وقد صدقت الأيام تلك الهواجس النفسية التي كانت تسيطر على المسلمين وأيدت مخاوف فلقندو الذي جزع لما بلغته وفاة غليالم الطيب فراح يقول في رسالة لصديقه: " إنني لأرى جموع البرابرة الغاضبين ومدننا الفسيحة وقصورها التي زهت في ظل سلام طويل تميد بالخوف، وقد جرت فيها الدماء ودنسها الشهوات، إنني لأرى بعيني بني وطني فريسة للذبح والأسر، وأرى العدوان واقعاً على العذارى والنساء. وفي مثل هذه الضائقة، أيها الصديق، ماذا ترى يفعل الصقليون؟ إنهم إن اجتمعوا على ملك شجاع مجرب احتفظوا بصقلية وقلورية. إن بلرم لا تزال مكللة بالعز وأسوارها تضم المسيحيين والمسلمين النشطاء فلو أن الشعبين أتحدا في ظل ملك واحد، من أجل سلامتهما، لا تدفعا يصدان البرابرة بأسلحة لا تثني. ولكن إن عاد المسلمون إلى الثورة لشدة ما لحقهم من   (1) المصدر السابق: 342 - 342 والمكتبة: 104. (2) ابن جبير: 332 والمكتبة: 92. (3) رحلة التيجاني في المكتبة: 307 - 308. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 أذى، وما رهقهم من إساءة، وراحوا يحتلون القلاع في الجبال وعلى السواحل فليوطن المسيحيون التعساء أنفسهم على عبودية لا خلاص منها لأنهم سيكونون فريسة لهجوم مزدوج وسيقعون بين المطرقة والسندان " (1) . ولم يكن في تلك العصور كثير من أمثال فلقندو يقدومون مصلحة الوطن على الاعتبارات المذهبية الضيقة، فلم تكد الدولة تقفر من الرجال الأكفاء بعد غليالم الثاني، حتى ثارت المعارك بين المسلمين والمسيحيين في الشوارع، وفاضت الدماء في المدينة واعتصم من نجا بين الجبال (2) واستمرت ثورة المسلمين من نهاية 1189 إلى أكتوبر من سنة 1190 ثم اثر فيهم الإقناع فعادوا إلى بيوتهم في بلرم، وعاد الأرقاء إلى حقولهم يكدوون، ولكنهم لم يعودوا جميعاً، وكثير من الذين رجعوا لم يلبثوا طويلاً، إذ كان من السهل على التجار والصناع منهم أن يهاجروا إلى إفريقية هجرة تقطع آخر علاقتهم بوطنهم، وأما أهل الأرياف فبقوا معتصمين في الجبال وأعطيت أراضيهم للإقطاعيين المدنيين والدينيين.   (1) H.S. Williams؛ Historians، Hist. Of the World VOL.9 P. 1 (2) Amari، 3P. 554 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 الفصل الثالث الحياة العقلية مجالاتها الجديدة ونصيب المسلمين فيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 فراغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 الحياة العقلية مجالاتها الجديدة ونصيب المسلمين فيها كان النشاط في الميادين العلمية أثناء العصر العربي آخذاً مجاله في المسجد والقصر والكتاب، أما في العصر النورماني فقد استوى الكتاب والمسجد في حقيقة الدراسات - إلا قليلا - وأصبح القصر أو الأمير هو الكعبة الكبرى التي تحوم حولها العلوم كما تحوم الآداب. وبرزت هذه المركزية الجديدة بوضوح حتى غطت عل آفاق النشاط الأخرى وطمستها أو حجبها - على الأقل - عن أعيننا. ولا شك في أن المسجد العامر بألوان الدراسات الفقهية واللغوية والأدبية فقد تضاءل شأنه في العصر النورماني، وانهزمت الدراسات الدينية أمام الدراسات العلمية الأخرى. ولما زار ابن جبير صقلية وجد المساجد فيها محاضر لمعلمي القرآن - والقرآن فقط أي أن هذه المساجد كانت موئلا للمعلمين الذين كانوا - كما شاهدهم ابن حوقل من قبل - يلقون إلى طلبتهم أجزاء من الكتاب ليحفظوها عن ظهر قلب. وإذا كان ابن ظفر قد ألف في هذا العصر كتباً كثيرة في التفسير واللغة والمواعظ فليس هذا بدليل على أن صقلية كانت مقبلة بحماسة على هذه الدراسات لأن ابن ظفر لم يكن صقليا عند التحقيق إذ ولد في صقلية وعاش في العالم الإسلامي متنقلا، وكانت زيارته لصقلية في سن عالية، زيارة قصيرة الأمد، إلا أنا نسمع أسماء نحويين كثيرين من أواخر العصر العربي وأسماء فقهاء في صقلية نفسها عاشوا في العصر النورماني ولابد أنهم كانوا يزاولون شيئاً من هذه الدراسات، غير أن الحقل الواسع الذي نمت فيه الدراسات الدينية على أيدي الصقليين أنفسهم كان خارج صقلية. وقد قامت الحياة العملية في هذا العصر على المشاركة في غير لغة واحدة، وكان لابد لمن يحاول الحظوة في الدولة والصدارة في دواوينها، أن يتقن لغة فأكثر ومن ثم قامت الحياة العقلية على أكتاف أناس طامحين يعملون في خدمة الدولة بعملهم ومعرفتهم. وليس من الضروري أن يكون هؤلاء صقليين أصلا. ومما يميز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 هذه الحركة العلمية الجديدة أنها كانت بتوجيه من الملك نفسه فهو الذي يدفع العالم إلى التأليف والمترجم إلى ترجمة آثار معينة. وهذا يدل على اتجاه علمي محدد الوجهة والغاية، نضيفه إلى المشاركة الفعلية التي تروي عن رجار الثاني من بينهم خاصة. - إذ يقول فيه الإدريسي: " وأما معرفته بالعلوم والرياضيات والعمليات فلا تدرك بعد، ولا تحصر بحد، لكونه قد أخذ من كل فن منها بالحظ الأوفر، وضرب فيه بالقدح المعلى، ولقد اخترع من المخترعات العجيبة وابتدع من الابتداعات الغريبة، ما لم يسبقه أحد من الملوك إليه ولا تفرد به " (1) . ومضت صقلية تستورد الكتب من الخارج كما كانت تفعل في العصر العربي مع اختلاف في نوع الكتب. ودخلت بلرم - وإلى درجة ما سرقوسة كتب يونانية وعربية فاستحضر رجار الكتب الجغرافية المؤلفة بالعربية أو الترجمة إليها من اليونانية، مثل كتاب العجائب للمسعودي وكتاب الجيهاني وابن خرداذبة والعذرى وابن حوقل والكيماكي وموسى بن قاسم القردي واليعقوبي وابن المنجم وقدامة وكتاب الجغرافيا لبطليموس وأرسيوس (2) وجاءت من القسطنطينية نسخة من كتاب المحبسطي هدية من الإمبراطور إلى الملك غليالم الأول، وربما وردت منها أيضاً نسخة من كتاب ملحمي ترجمة دوكستباتر Doxtopater عن الكلدانية. ويتحدث ارستبس المترجم لصديق له إنجليزي وينصحه بأن لا يغادر صقلية لأنه لا يجد فيها حكمة اللاتين فحسب، بل مكتبة يونانية وعوناً من رجل ضليع في الأدب اليوناني، في صقلية يستطيع أن يحصل على الميكانيكا لهيرون والبصريات لإقليدس والأنالوطيقا لأرسطو وغيرها من المؤلفات الفلسفية اليونانية (3) . والفضل في هذه النهضة العلمية يرجع في الدرجة الأولى إلى أ، واع التشجيع التي كان يقوم بها الملك ورجاله نحو العلماء، فهم يغدقون عليهم الأموال ويكتنفونهم بالاحترام، ويرفعون مراكزهم الاجتماعية في الوظائف والألقاب، كما   (1) نزهة المشتاق في المكتبة: 16. (2) المصدر نفسه: 17. (3) Haskins؛ Med. Science P. 166 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 اشتهروا بالحرص على إغراء العلماء إلى صقلية. وكان رجار يميل إلى مجالسة العلماء، وعند الصفدي أنه كان محباً لأهل العلوم الفلسفية (1) ، وأن الإدريسي كان يجيء راكباً بغلة فإذا صار عنده، تنحى له عن مجلسه، فيأتي فيجلسان معاً (2) وكان لا يسمع بعالم شهير إلا مهد له السبيل للوفود عليه وكذلك كان ابنه غليالم الأول. ويصفه ارستبس في حديثه لصديقه الإنجليزي بأنه ملك لا نظير له (3) ، وليس يعنى بهذا أبهة الملك، بقدر ما يعني تميزه في الاهتمام بالأمور العلمية والفلسفية، والتساؤل عن طبائع الأشياء، وقد كان وزيره مايون يشاركه الاهتمام بهذه النواحي العلمية. ولم يشذ غليالم الثاني عن سيرة من سبقه فيقول ابن جبير في وصفه: " وله الأطباء والمنجمون وهو كثير الاعتناء بهم، أمر بإمساكه وأدر له أرزاق معيشته حتى يسلبه عن وطنه " (4) . وفي أيام غليالم الأول والثاني ازدهرت حركة الترجمة إلى اللغة اللاتينية من العربية واليونانية. وكان من أشهر المترجمين عن اليونانية أرستبس الذي أصبح أيام غليالم الأول شخصية هامة وتولى الوزارة له بعد مقتل مايون، وكان ضليعاً في اليونانية فترجم الفيدون ومنيون من محاورات أفلاطون، وبأمر من الملك قام بترجمة جرجروريو النازيانزى، وبطلب من مايون ترجم ديوجين لايرتس إلى اللاتينية (5) . أما الأمير يوجين البلرمى الذي أكسبته استطلاعاته الفكرية لقب " فيلسوف " فكان يترجم من العربية، فترجم منها إلى اللاتينية بصريات بطليموس، وكان في متناول يده بعض كتب لإقليدس (6) ، مما يدل على معرفه باللغات والرياضيات مع قدرة على نظم الشعر باليونانية، وله مجموعة من الشعر فيها قصيدة   (1) الوافي بالوفيات في المكتبة: 657. (2) المصدر نفسه: 658. (3) Haaskins؛ Med. Science P. 166. (4) ابن جبير: 325 والمكتبة: 83. (5) Haskins. M. Science P. 166. (6) Haskins. M. Science P. 171 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 يمدح بها غليالم وليس من أي غليالم هو المقصود بذلك المديح (1) . وترجم يوجين أيضاً كتاب كليلة ودمنة أو لعلاه ساعد في ترجمته إذ جاء في المقدمة.؟ إنها تمت بمساعدة رجال يعرفون العربية حق المعرفة وهي جملة ربما لا يقولها يوجين، لاطلاعه الواسع في العربية (2) ، وإن كان هذا لا يمنع أنه استعان على ترجمتها ببعض المسلمين حين وجد نفسه إزاء نص أدنى. وإليه تعزى ترجمة إحدى الملاحم عن اليونانية وهي كتاب كبوءات تتحدث عن أعمال الملوك والأباطرة. ويعتقد أمارى أن نسبة هذه الملحمة إلى أصل كلداني غير صحيح، لأن فيها معلومات عن بعض الظواهر والأحداث التي وقعت في القرن الثاني عشر والثالث عشر، فنسبها إلى القرون الخوالي مقصودة، لتزيد في قيمة ما ورد من التنبؤات (3) . ولم يكن نصيب العلماء المسلمين في الحركة العلمية قليلا.؟ فقد كان الشريف الادريسي يرأس " الدائرة الجغرافية " في بلرم، ويشرف على جهودها وينظمها. ومن تنظيمه هذا قام في أيام رجار بعلمين: رسم صورة الأرض في دائرة من الفضة ووضع أقسام الأقاليم عليها. وألف كتاب " نزهة المشتاق في اختراق الآفاق " الذي اشهر باسم كتاب رجار، واستمر الإدريسي في بلرم أيام غليالم الأول وله ألف كتاباً آخر سماه " روض الأنس ونزهة النفس " (4) وكان للشريف مشاركة في علوم أخرى كعلم النبات وفيه ألف " الجامع لأشتات النبات " ولكن ليس من الممكن أن نقطع بأنه ألفه في صقلية (5) . ومن المسلمين الذين اشتهروا بصقلية محمد بن عيسى بن عبد المنعم " من أصحاب العلم بعلمي الهندسة والنجوم، ماهر فيهما قيم بهما، مذكور بين الحكماء هناك بأحكامها " (6) وذكر الحكماء في هذه العبارة يفتح المجال   (1) Op. Cit. P. 172 (2) Op. Cit. P. 176 (3) Amari؛ S.D.M. vol. 3، P.676 (4) الجريدة الجزء 11 الورقة. (5) انظر تاريخ أمارى 3/ 702 وتعليق نللينو في هذه الصفحة. (6) القفطي - أخبار العلماء: 189. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 لتصور كثير منهم بصقلية. وعلى يد العلماء المسلمين انضم إلى هذه الدراسات العلمية جهود أخرى في الدراسات الفقهية والأدبية. ففي أيام غليالم الثاني كان أبو القاسم بن الحجر موئلا للقصاد، فألف له ابن ظفر الصقلي كتاب " سلوان المطاع " وكتاب " معرفة الأشراف في الفقه المالكي " وفي مدحه صنف ابن قلاقس كتاب " الزهر الباسم في أوصاف أبى القاسم ". وشفعت الحركة العلمية هذه بظاهرتين جعلتاها أرسخ أصولا وأبعد أثراً.؟ الظاهرة الأولى: قيامها على التجربة والمشاهدة في بعض الأحيان. ففي المجال الجغرافي لم يكتف رجار بالاعتماد على كتب الجغرافية وحدها، بل أحر الرجال العارفين وشافههم في الأمور التي يريد معرفتها، وحقق أخبا البلاد بالمعينة ووقع اختياره هو والإدريسي على أناس ألباء فطناء أذكياء، جهزهم إلى أقاليم الشرق والغرب وسفر معهم قوماً مصورين ليصوروا ما يشاهدونه عياناً، وأمرهم بالتقصي والاستيعاب لما لابد من معرفته فكان إذا حضر أحد منهم بشكل أثبته الشريف الادريسي (1) . وكان أرستبس في أيام غليالم الأول يعرض نفسه للخطر ويحاول أن يدرس عجائب إتنا ويستطلع حقيقته (2) . والظاهرة الثانية: الاستفادة منها في الحياة العملية وفي هذه الناحية نطلع على جهود في الهندسة المعمارية وفي عمل الآلات، وللمسلمين في هذه المجالات أثر واضح، إذ كان رجار يعتمد عليهم في صنع آلات الحصار، وهم الذين كانوا يصنعون القلاع المتحركة في حصار سالونيك سنة 1185 كانت منجنيقاتهم ذات أثر فعال في خرق الأسوار (3) . وصنع أحد المهندسين لرجار آلة لرصد الساعات درست ولم يبق مما يدل عليها إلا كتابة باللغات الثلاث اللاتينية فاليونانية فالعربية والنص في العربية " خرج أمر الحضرة الملكية المعظمة الرجارية العلية أيد الله ايامها وأيد أعلامها، بعمل هذه الآلة لرصد الساعات،   (1) الوافي بالوفيات في المكتبة: 658. (2) Haskins. Med. Sciiencep. P.159 (3) Amari؛ S.D.M. vol.3 P.706 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 بمدينة صقلية المحمية سنة ست وثلاثين وخمسمائة " (1) وربما كانت شيئاً شبيهاً بتلك الآلة التي صنعت بمالطة لملكها وهي صورة تعرف بها أوقات ساعات النهار وكانت ترمي بنادق على الصناج (2) وفي معجم السلفي أن أحد المهندسين صنعها لقائد اسمه يحيى ليعرف أوقات النهار بالصنج (3) وكان في المسلمين مهندسون معماريون تركوا أساليبهم في قصور بلرم، وأبو الليث مثال لهؤلاء (4) . هذه الحركة العلمية سواء في التشجيع عليها والتهيئة لأسبابها أو في قيامها على الترجمة من ناحية أو على الترجمة والمشاهدة من ناحية أخرى كانت أيضاً موضع اهتمام كبير من فرديك الثاني وابنه منفريد فيما بعد.   (1) Gregorio؛ Rerum Arabicarum، P.176 (2) القزويني آثار البلاد: 373 والمكتبة: 143. (3) السلفي، الورقة 33. والشك واقع في مكان صنعها لأن مالطة عند ياقوت بالأندلس أيضاً وما دونه السلفى مروى عن رجل بلنسى وربما كان يحيى المذكور هو ابن غانية. وانظر Centenario حول هذا الشك 2/ 210. (4) انظر كلام أمارى عنه في تاريخه ج3 ص 704 - 705. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 الكتاب الثالث حياة الشعر العربي في صقلية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 فراغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 الفصل الأول المكونات الكبرى في شعر صقلية الإسلامية 1 - موقع الجزيرة وطبيعتها الجغرافية 2 - الأجناس التي أنتجت الشعر الصقلي 3 - الفترة التي نما فيها الشعر الصقلي 4 - الفتنة الأخيرة وأثرها في الشعر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 فراغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 المكونات الكبرى في شعر صقلية الإسلامية لا يستطيع الباحث في شعر الصقلي - عهد الحكم الإسلامي في الجزيرة - إلا أن ينظر من خلال أربع حقائق كبرى، كان لكل واحدة منها أثرها البعيد في ذلك الشعر وفي طبيعته: الحقيقية الأولى: موقع الجزيرة وطبيعتها الجغرافية: فموقع الجزيرة هو الذي تحكم في الهجرة ممن صقلية وإليها، وجعل الشعر الصقلي نفسه صورة من الصادر والوارد، كالحال في حياة التجارة. ولذلك نجد أنغاماً غريبة وافدةً إلى صقلية نفسها. وليس من الضروري أن ننتظر الفتح النورماني لنسمع عن شعراء هاجروا من صقلية إلى البلدان المجاورة، فهناك من الصقليين من كان ينتقل بشعره متكسباً، وخاصة بعد أن أصبحت مصر فاطمية الدولة، تجتذب إليها الشعراء من جميع أنحاء المملكة، وصقلية يومئذ ولاية تابعة للخليفة الفاطمي، وأمراؤها الكلبيون ذوو منزلة رفيعة عند ذلك الخليفة بمصر وصقلية في آن واحد، وبهؤلاء الشعراء الراحلين عرف الناس صقلية معرفة أوضح، وزادها وضوحاً أخبار البحارة والراحلين إليها. فمن الصقليين الذين هاجروا من بلدهم في هذه الفترة المقداد بن الحسن الكلبى وأخوه ميمون، والأول منهما كان بمصر أيام العزيز نزار، وهو يصرح بأنه شاعر الخليفة، وقد قتله الحاكم سنة 393هـ؟ لقوله في أيام العزيز (1) :   (1) ابن سعيد: المغرب 3 الورقة: 75 والملحق الثاني للمكتبة 16 - 17 نقلا عن الوافي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 الحمد لله حتى الخبز أعوزني ... في بلدة أنا فيها شاعر الملك ومن هؤلاء الصقليين أيضاً أبو الحسن بن علي الصقلي النحوي ولا نعرف له من الشعر إلا قوله: في سبيل الله ود حسن ... دام من قلبي لوجه حسن وهوى ضيعته في سكني ... ليس حظي منه غير الحزن يرقد الليل ويستعذبه ... وإذا ما رمت طيب الوسن زارني منه خيال ما له ... أرب في غير أن يوقظني وقد توفي هذا الصقلي بمكة سنة 391هـ؟، بعد أن حج، ودفن هنالك (1) وكان من أظهر الأسباب التي حدث بشعراء صقلية على الهجرة ارتفاع شأن القيروان أيام المعز بن باديس في النواحي الأدبية، حتى أصبحت تنافس بلرم في نشاطها، وكان قد التف حول المعز عدد كبير من الشعراء من جهات متعددة في المغرب، حتى ليخيل لمن يقرأ ما تبقى من كتاب الأنموذج لابن رشيق أن نهضة المغرب الأدبية إنما تبلورت أيام المعز، لا قبل ذلك ولا بعده. ويقول ياقوت: وكانت القيروان في عهده وجهة العلماء والأدباء، تشد إليها الرحال من كل فج، لما يرونه من إقبال المعز على أهل العلم والأدب وعنايته بهم (2) . ففي ظل الاستقرار السياسي بإفريقية شهدت القيروان نهضة أدبية، وفي ظل نوع من الاستقلال السياسي بصقلية عرفت بلرم حركة أدبية قوية. وكانت هاتان النهضتان متعاصرتين حتى لنستطيع أن نقول إن العنصر المغربي في البرين الأفريقي والصقلي كان يؤدي أقوى أدواره في تأريخ الأدب العربي حين تمت له وسائل النهضة الأدبية في حياته الاجتماعية والثقافية. وربما كان من استباق الحوادث أن أسجل في هذا الموطن هذه الظاهرة الثلاثية التي حدثت تباعاً على الوجه التالي:   (1) ابن عساكر: تهذيب تاريخ دمشق 4: 235. (2) معجم الأدباء 19: 37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 (أ) خربت القيروان على يد العرب وذهب الهلالية وذهب ما أنفقه المعز من جهود، فهاجر الناس وفيهم الشعراء والعلماء إلى صقلية والأندلس. (ب) ثم وقعت بعد وقت قصير فتشعب شعراؤها وعلماؤها الأصليون والطارئون في ثلاث شعب: واحدة ذهبت إلى الأندلس وأخرى عادت إلى إفريقية وثالثة إلى مصر، وسنقف عند هذه الهجرة في فصل تال. (ج) ثم أخذت الأندلس تهتز تحت غارات الأسبان من جهة وأطماع المرابطين من جهة أخرى، وتشتت تلك الحلقات الأدبية التي كانت حول ملوك الطوائف - وخاصة ابن عماد - واتجه المهاجرون في الغالب إلى أفريقية، وهكذا قام كل بلد من هذا المثلث المغربي بنصيبه في الحياة الأدبية، وكانت الهجرة من واحد إلى آخر غذاء جديداً. وتتمثل الهجرة إلى صقلية على ثلاث درجات متفاوتة: فهناك هجرة الشاعر العابر المتكسب الذي يتخذ من صقلية منتجعاً أو موطئ قدم، حتى إذا وجد طلبته، أو أخفق في العثور عليها، فارق البلد عائداً إلى وطنه. ومن أشهر هؤلاء الشعراء ابن قاضي ميلة أحد الوافدين على ثقة الدولة وقد مدحه بقصيدة فانية وصفها ابن خلكان بأنها بديعة غريبة ورواها بتمامها (1) ومنهم ابن المؤدب، وهو ممن أسرهم الروم، فلما هادنهم ثقة الدولة استرد بعض الأسرى وفيهم هذا الشاعر فمدحه بقصيدة شكره فيها على صنيعه، ورجا صلته، فلم يصله ثقة الدولة بشيء، فأخذ يتكلم بذمة وأطلق لسانه فيه غير متحرج، واختفى خوفاً على نفسه ممن الطلب، وفي إحدى الليالي خرج وهو سكران ليشتري نقلاً، فما شعر إلا وقد حمله صاحب الشرطة حتى أدخله على ثقة الدولة، فعقبه الأمير على ما كان بلغه عنه ثم أمر بمائة رباعي، وأخرجه من المدينة لئلا تتغير عليه نفسه بعد العفو، فيأخذه بالعقوبة (2) . واتصل بثقة الدولة شاعر مهاجر آخر اسمه محمد بن عبدون السوسي ويصفه   (1) ابن خلكان 3: 183 - 185 والمكتبة: 634 - 641 (2) ابن خلكان 3: 182 والمكتبة: 632 - 634. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 ابن رشيق بأنه شاعر وطئ وسكون جأش، لا يكاد يلغو بالشعر إلا إذا قال. ولما وفد على ثقة الدولة وامتدحه أضافه الأمير إلى ولده جعفر فأدناه وقربه، حتى كان من أكرم الناس عنده. وظل ابن عبدون في صقلية حتى هزه الحنين إلى وطنه، فرفع إلى جعفر قصيدة يتشوق فيها إلى أهله وأحبابه ومعاهدة ويقول فيها (1) : بالله يا جبل المعسكر دع ... ريح الجنوب ترق أو تسر كيما أسائلها فتخبرني ... ما يفعل الجيران بالقصر فلما سمعها جعفر ازداد به تعلقاً واشتد حرصه على استبقائه عنده حتى ضاق الشاعر بين منع وحنين، وكتب إلى ثقة الدولة يرجوه أن يسرحه ويمدحه بقصيدة مطلعها: يا قصر طارق حبي فيك مأسور ... شوقي طليق وخطوي عنك مأسور ثم عاد يلجأ إلى جعفر، ويستأذنه في الرجوع إلى وطنه، فعتب عليه جعفر وحجبه، حتى عز وصوله إليه، وأخيراً تحين الشاعر الفرصة وكتب أبياتاً يتشفع فيها لدى جعفر، يقول فيها أنه أصبح عاجزاً عن لقائه وأنه رأى القمر فقام مسلماً عليه، مظهراً الخضوع لديه ثم يسأل القمر هذا أن يكون شفيعاً له عند شبيهه ابن يوسف، ويذكره بحق شاعر ساءت حاله بعد ما التهبت في صدره نار الحنين. ولقي جعفراً في بستان يتنزه، فقدم إليه الرقعة، فلما قرأها طرب لها وأمر له بمال كثير (2) . وفي تمسك الأمير بابن عبدون السوسي ما يدل على حرص صاحب صقلية على شاعر يشيع فضائله ويتحدث عنه ويميل غليه القلوب فهل في هذا   (1) تجد من هذه القصيدة الجميلة أبياتاً كثيرة في تذكرة ابن العديم، وانظر ترجمة الشاعر في مسالك الأبصار 11 مجلد 22: 347. (2) رحلة التيجاني في المكتبة: 379 والنقل عن ابن رشيق ولعله من الأنموذج وانظر ترجمة السوسي في المسالك 11/ 1: 330. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 إشارة إلى حاجة صقلية للشاعر القدير وعدم توفره بين أبنائها؟ ربما استطعنا الإجابة على هذا السؤال لو كان لديننا من شعر ابن عبدون ومدائحه في بني أبى الحسين، ما يمكننا من الحكم على إجادته، بالنسبة للشعراء الصقليين أنفسهم، على ان صقلية في زمن ثقة الدولة وابنه جعفر بلغت أقصى النشاط في الشعر، وتوفر لها عدد كبير من الشعراء. هذا نوع من المهاجرين. وهناك آخرون دخلوا صقلية فراراً بأرواحهم من أزمات حاقت بهم في أوطانهم. وأخص بالذكر حادثتين: هجرة سنة 395 عند ما حدثت مجاعة بإفريقية اضطرت كثيراً ممن أهلها إلى اللحاق بصقلية، وهجرة سنة 456 عند خراب القيروان على يد العرب. ومن أشهر مهاجري هذه الفترة ابن رشيق القيرواني صاحب العمدة والأنموذج، وقد استقر بمدينة مازر، ومنهم محمد بن حسين بن جبارة الفارسي (1) ، والحلواني (2) ، وعبد الحليم الصقلي. وإنا لندرك اثر ابن رشيق في صقلية من حقيقتين الأولى أنه درس كتاب العمدة بمدينة مازر والتف حوله جماعة من أهل الأدب والدراسين، والثانية أن ابن رشيق كان قبلة أنظار بعض الصقليين في اتجاهه الأدنى والنقدي، وكان أصدقاؤه على اتصال دائم به (3) ويصرح أحد المعجبين به قائلاً: " كنت ساكناً بصقلية وأشعار ابن رشيق ترد على فكنت أتمنى لقاءه حتى قدم الروم علينا، فخرجت فاراً بمهجتي تاركاً لكل ما ملكت يدي وقلت: أجتمع بأبى على، فبرقة شمائله، وطيب مشاهدته، سيذهب عني بعض ما أجد من الحزن على مفارقة الأهل والوطن " (4) . ويمثل عبد الحليم الصقلي نوعاً ثالثاً من المهاجرين وهم الذين كانت صقلية مهوى أفئدتهم، يحبونها للثراء والجمال معاً، ويعشقونها أملاً حبيباً، ويجدون لاسمها   (1) انظر ترجمة ابن جبارة في المسالك 11/ 2: 299 وفيه أن أوطن صقلية ثم عمد على الخلاص إلى وطنه. (2) ابن بسام: الخيرة 4/ 1: 219 - 231. (3) انظر الترجمة رقم 18، 20 من مجموعة الشعر الصقلي. (4) ابن ظافر: بدائع البدائه على هامش معاهد التنصيص 2: 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 في آذانهم رنيناً عذباً، وقد عبر عبد الحليم عن هذا الظمأ إلى الجزيرة بقوله: عشقتُ صقليةً يافعاً ... وكانتْ كبعض جنان الخلود فما قدرَ الوصلُ حتى اكهلتُ ... وصارتْ جهنمَ ذاتَ الوقود وفي هذه النغمة المتألمة نحس بحقيقة ما كان يشعر به عبد الحليم من عشق - عشق اليافع الذي مضى به العمر وهو ظامئ فلما قدر له اللقاء وجد الحبيبة قد حالت عن عهدها، ولقيت آماله بضدها. فما استطاع عبد الحليم أن ينال أمنيته إلا حين أصبحت صقلية جهنماً بالفتنة، ومثل عبد الحليم شعراء آخرون كانت تدفعهم بوهيمية الآمال إلى صقلية فيخرجون. أثر حبيب هاجر إليها قبلهم (1) أو يلقيهم على ساحلها شوقهم إلى حياة الحانات ودور الرقص والغناء. ولم يكد عبد الحليم يحل صقلية حتى وجدها بركاناً تقذف بالحمم، فلجأ إلى ساحة ابن منكود، حيث لجأ ابن رشيق قبله وذهب يسخر أصالته الفنية الجميلة في المدح حتى استفرغ فيه جهده، وشعر هو بأنه قد زاد في النزع عن تلك القوس - في مدح ابن منكود - فقال معتذراً عن نفسه (2) . يقولون كثر عبد الحليم ... فإلا اقتصاداً وإلا اقتص وفضلُ أبى القاسم المجْتبي ... كفاني احتجْاجاً لهمْ واعتذرا تغارُ العلا لابن منكودها ... فلا تقبلُ المدْح فيه اختصارا لقد أحب عبد الحليم صقلية فلم يستطع أن يفارقها حين غزاها النورمان، ودالت دولة ابن منكود ممدوحه، وانتقل من بعد إلى بلرم وعاش في كنف رجار، ولكنا لا نسمع بعد ذلك شيئاً عن حياته (3) .   (1) من هؤلاء عمر بن معمر الفارسي، انظر تذكرة ابن العديم، الورقة 382 نقلا عن الأنموذج لابن رشيق. (2) معجم السلفي، الورقة: 175 والترجمة رقم: 6 من مجموعة الشعر. (3) رجح أمارى أن عبد الحليم من شعراء عصر غليالم الأول وأنه حضر الفتنة التي قتل فيها المسلمون سنة 550، ولكن مدحه لابن منكود يؤيدها اذهب إليه، إلا أن يكون هناك خطأ ونقرأ في المخطوطات ابن حمود مكان ابن منكود، فيكون فرض أمارى صحيحاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 تلك هي صورة الشعر في صقلية حين نذكر موقعها الجغرافي، فنجد حركة دائبة، منها وإليها، كحركة الموج أو المد في اندفاعه وتراجعه. أما حين تتمثل لنا طبيعتها الجغرافية في خصبها وتنوع أزهارها وكثرة بساتينها ومياهها، ونضارة الطبيعة فيها، فإنه يخيل إلينا - بادي الرأي - أن خير ما أنتجته صقلية من شعر إنما كان يدور في فلك الجمال الطبيعي، ويهيم بمحاسن الريف، ويتغنى بمناظر القطاف ومواسم الحصاد والينابيع والجداول المتدفقة، وأسراب الطيور وهدوء الحياة الرعوية. ولكن الأمر على غير لك. فأن الشاعر في صقلية هو ابن بلرم - وقلبه عالق بحاناتها وأسواقها، معقود ببركة القصر، مثلما هو معقود بعطايا الأمير، مستمع بنعومة السجاد، مذهول أمام روعة المباني. ولا تعطفه على الريف عاطفة إنسانية، أو قلب يحن إلى مناظره الجميلة، وليست لديه روح الصوفي الذي يرى الجمال الإلهي كامناً في النملة والصخرة والعشب. حتى ابن حمديس ابن صقلية الباكي على مجدها لا يذكر منها إلا الدار والدير والكأس والساقية الفاتنة، وينسى الجو الجميل الذي كان يضم هؤلاء جميعاً. ولا نجد في شعره إلا نغمات قليلة تمتزج بأنفاس العطر الطبيعي في حياة وطنه كقوله (1) : ويا ريحُ إما مرَيت الحيا ... وروّيت منه الربوعَ الظماءَ فسوقي إلىّ جهَام السحاب ... لأملأهنّ من الدمع ماءَ وسقى بكائي رَبعَ الصبا ... فما زالَ في المحل يسقى البكاء ولا تُعطشي طللاً بالحمى ... تدانى على مزْنة أو تناءَى وإن تجهليه فعيدانه ... لظى الشمس يلذَعُ منها الكباء ولذلك فإن الأمكنة الجميلة التي يتغنى بها شعراء صقلية قليلة. ولعل من أكثرها تردداً في شعرهم " المعسكر " في بلرم، وكان مجالاً للذين يفرون من صخب الحياة في المدينة، وهو موضع اشهر بكثرة العيون، كعين الغربال وعين   (1) الديوان: القصيدة رقم: 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 التسع وعين أبي وعين أبي علي (1) وتدل الأوصاف التي أسبغها عليه الشعراء أنه كان حافلاً بالأشجار والأزهار، ويقول فيه ابن الأضبطي الكاتب (2) : أنا في المعسكر مفردٌ في جحْفَل ... من نَوْحِ قُمري وزنّة بلبل فكأنما يلقى علىّ بصوته ... نغمات معبدَ في الثقيل الأول ويقول فيه الحسن بن أحمد الكاتب (3) : انظر إلى وَرْد المعسكر قد كسا ... أشجارهُ نوراً يخيل نارا جادَ الربيع لنا به فكأنما ... سلبَ الحدودَ وألبس الأشجار وقد أوحت كلمة " المعسكر " إلى الشعراء فكرة الجحفل، والمواكب، وأنواع الأسلحة ولذلك نسمع ابا عبد الله الحسن ابن أبى علي القار يقول في وصفه (4) : أرى المعسكر قد صُنف مواكبه ... فجمعت كل أمحال تحارب قضبانها الملدُ أرْماحٌ أسنها ... ثمارها، وسواقيها قواضبه وجلس ثقة الدولة مرة وسط أرض ناضرة ومعه الحسن بن محمد الطوبي الكاتب فسأله أن يصنع فيها شعراً فقال بديهاً (5) : روضٌ يحار الطرف في زهراته ... ويهيجُ المشتاق من زهراته يبدى باصفره بوادىَ عاشق ... ويُرى بأحمره لظى زفراته ويقول آخر واصفاً بركة ماء (6) :   (1) ابن حوقل1: 123. (2) المختصر، الورقة: 99. (3) المختصر، الورقة: 104. (4) المختصر، الورقة 105 والترجمة 87 من المجموعة. (5) المختصر 103 والترجمة 79 من المجموعة. (6) المختصر: 104 والترجمة 82 من المجموعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 بركة للماء تطردُ ... للصبا في متُها زَرَد بات في أحشائها قمرٌ ... مثلُ قلب الصبّ يرْتعدُ ومن الأماكن الأخرى مكان سماه أبو القاسم الكلبي " البروج " وقال فيه (1) : ألا رُبّ يوم لنا بالبروج ... بخْيلِ الضّياء جواد القِطٌار كأن الشقيقَ بها وجنةٌ ... بآخرها مقلةٌ من عذار كأن البنفسجَ في لونه اخ؟ ... تلاطُ الظلام بضوء النهار وسوسنها مثلُ بِيضِ القبابِ ... بأوساطها عُمد من نضار وأبو القاسم الكلبي، صاحب هذه القطعة، من اكثر الشعراء التفاتاً إلى الطبيعة، وطريقته في الوصف قائمة على محاولة التشبيه في كل بيت، وهي طريقة ابن حمديس نفسه. وهذه القطعة وما سبقها تدل على مدى الضعف في شعر الطبيعة عند شعراء صقلية. وليس في الإكثار من الأمثلة كبير غناء. الحقيقة الثانية: الأجناس التي أنتجت الشعر الصقلي: يتبين لنا مما سبق أن الذين أنتجوا الشعر الصقلي ينقسمون حسب الاستقرار في ثلاث فئات (أ) صقليين أصلاً أو ولادة عاشوا أكثر حياتهم في الجزيرة (ب) صقليين هاجروا صغاراً وبقيت النسبة عالقة بهم. (ج) مهاجرين وفدوا على صقلية وتفاوتت فيها إقامتها، ولا شأن لنا بالفئتين الثانية والثالثة وإنما نوجه اهتمامنا إلى الفئة الأولى. ومن الصعب أن نتلمس في هذه الفئة شاعراً صقلياً من تلك العناصر الأصلية كالإغريق والطليان فأكثر الشعراء الذين وصلتنا أسماؤهم من أبناء العناصر التي هاجرت مع الفتح إلى صقلية واتخذتها دار إقامة. وأول حقيقة هامة في هذه العناصر أنها إفريقية، وأن حظها من التميز الأدبي كان ضئيلاً يقول ابن خلدون في أهل المغرب: " وكذلك أشعارهم، كانت بعيدة عن الملكة، نازلة عن الطبقة، ولم تزل كذلك لهذا العهد، ولهذا ما كان بإفريقية من مشاهير   (1) المختصر: 97 والترجمة: 66 وليس من المقطوع به ان " البروج " في صقلية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 الشعراء إلا ابن رشيق وابن شرف وأكثر ما يكون الشعراء فيها طارئين عليها " (1) زدْ على ذلك أن اكثر الذين شاركوا في الفتح إنما كانوا من الجماعات العسكرية أو من أهل التجارة والصناعة. وأننا حين درسنا حياتهم الثقافية وجدنا الاتجاه إلى الفقه من بعد أغلب عليهم من أية دراسة أخرى. وكان هذا الفقه هو طابعهم القوي الذي يريدون أن يطبعوه على بيئة مسيحية، كما كان فيما بينهم مقياساً لصحة التعامل المادي، في باب التجارة والصناعة والزراعة، وهو في الوقت نفسه النواة التي تقوم حولها فكرة الجهاد في حياتهم العسكرية. نعم إن الفتح قد حول كثيراً من السكان الأصليين إلى الإسلام، ولكن أكثر هؤلاء كانوا من العبيد، وقد كانت الملكة فيهم مقتولة بطول الاستعباد، ولا شك في أن حالهم تحسن بعد الفتح، ولكن المهاجرين كانوا ينظرون إليهم أيضاً نظرة من عل، ويحتقرونهم كما احتقرهم ابن حوقل الذي سماهم " العجم الغم الصم والبكم " ويصورهم ابن الصباغ في رسالة له بصورة الوحوش الضارية التي يتأذى منها أصحاب الأملاك وأهل الثراء. فارضُ ابن الصباغ " بين يأكلون الشجر قبل الثمر، ويرعون الأب قبل الحب، وما آمن مع ما أحدقت به من الأسوار، وخرجت في النفقة عن المقدار، أن يوجفوا إليها بالجوالق، وينقضوا فيها كالسواذق، كما يفعلون في بستان فلان الذي أنفق فيه عمره وماله، وصرف غليه همه واهتباله ن فهو في الشتاء من علوج الزبر والحفر، وأصحاب الغرس والبذر، فإذا بلغت ثمرته ووجبت غلته، حام عليه بنو حام، وبم يمتنع منهم بحارس ولا حام، وأحيط بثمره، فاصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها " (2) وقد أخذ الإفريقيون المهاجرون منذ البدء يحسون بأنهم متميزون عن السكان الأصليين، وهذا هو ما عنته صيحة أسد بن الفرات في جيشه حين قال يحمسهم: " هؤلاء عجم الساحل، هؤلاء عبيدكم لا تهابوهم " (3) . ومع الزمن اصبح هناك   (1) المقدمة: 565ط. بيروت. (2) ابن بسام: الذخيرة 4/ 2: 17 - 18. (3) رياض النفوس في المكتبة: 184. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 عنصران متباينان: عنصر صقلي وعنصر إفريقي وهذه التفرقة مبينة في الأصل على أساس عسكري، ولكنها كانت تشمل نواحي أخرى من الحياة الاجتماعية. فالصقليون لم يكونوا أصحاب هذا الشعر وإنما كان أصحابه هم الأفريقيين من عرب وبربر. وأكثر الشعراء إذا اعتبرنا نسبتهم، ينتسبون إلى يمن ففيهم الكلبي والمعافري واللخمي والأنصاري والزبيدي والأزدي. وهناك شعراء من قبائل أخرى كالتغلبي والتميمي والسعدي والهاشمي والربعي، وشعراء من بربر كاللواتي والقرقودي والمكلاتي وماعات تنسب إلى مواطنها كالشامي، وإفريقيون لا تعرف نسبتهم إلى عرب أو بربر كالطوبي نسسبة إلى قصر الطوب بإفريقية والود أنى نسبة إلى مدينة ودان. وبعد أن تم شيء من الامتزاج بين الأجناس، وشعر المهاجرون بأن صقلية هي وطنهم، نشأ جيل من الناس ينتسب إليها ويشعر بالرابطة العاطفية بينه وبينها وعندئذ يلتقينا شعراء ينتسبون إلى بلدان صقلية نفسها، وأخذت النسبة القبلية تقل، وتحل محلها النسبة البلدانية فهناك الطرابنشي والصقلي (البلرمي) والبثيري والسرقوسي والبلنوبي والسمنطاري. وفي ببلرم ملتقى العناصر من نواحي العالم القديم كله، نشأت أقوى حركة أدبية عرفها الجزيرة، ويبدو أن العناصر العربية - الإفريقية - هي التي تمت على يديها تلك النهضة، لأننا إذا نظرنا إلى بلد آخر مثر جرجنت، مجتمع الجماهير البربرية، فإننا لا نسمع عن شعراء ينسبون إليها. ولم تنصهر هذه الأجناس المختلفة بحيث تنسى عصبياتها القبلية، ولذلك مثل الشعر هذه الروح القبلية في بعض جوانبه، وإن لم تكن الخصومات بين القبائل عنيفة مثلما كانت بالأندلس.. وتتجلى هذه الروح في شعر أمراء بلرم من الكلبيين، وتمتزج بنزعة أرستقراطية، تتسلل إلى موضوعات الفخر والغزل. فمن الفخر قول الأمير عمار بن المنصور الكلبي (1) :   (1) الترجمة 37، 105 من مجموعة الشعر الصقلي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 تقولُ لقد رأيتُ رجالََ نجد ... وما أبصرتُ من يمان ألفتَ وقائعَ الغمرات حتى ... كأنك والوقائع توأمان وتقتحم الحروبَ رخىّ بال ... كأنك من رَدَاها في أمان إلى كم ذا الهجوم على المنايا ... وكم هذا التعرضُ للطعان فقلت لها لكل الناس عذٌر ... ولا عذٌر لكلبي جبان ومن أمثلة هذه الروح الأرستقراطية في الغزل قول الأمير مستخلص الدولة وهو من الكلبيين: قلتُ يوماً لها وقد أحرجتنْي ... قولةً ما قدرْتُ أنفك عنها أشتهي ولو ملكتُ أمرك حتى ... آمرََ الآن فيك قهراً وأنهى فبكت ثم أعرَضَتْ ثم قالت ... خنتني في محبة لم أخنها وليس في هذا الشعر الصقلي فخر بالأجناس عامة، ليس فيه شعر يمجد العرب أو البربر وإنما فيه اعتزاز بالقبيلة، فالكلبي يفتخر بكلبيته، والقيسي بأن قومه غلبوا قيصر وفتكوا بحمير (1) حتى الفقهاء يفتخرون بقبائلهم، وهم أحق بالتخلي عن روح العصبية. من ذلك قول الفقيه عمر بن مازوز اللواتي يفتخر بقبيلته لواتة (2) : لمن تعزى المكارمُ والأيادي ... وردّ الخيل ذاهبةَ الهوادى سوى قومي الذين سَمتْ نفوسٌ ... بهم شرفاً إلى السبع الشداد الحقيقة الثالثة: الفترة التي نما فيها الشعر الصقلي: وتمتد هذه الفترة من 212هـ إلى 464هـ وهي ليست طويلة في حياة الإنتاج الفني والعلمي. وفيها ضروب من القلاقل الداخلية وفيها إلى ذلك جهاد طويل مرير. وقد يكون هذا النوع من الحياة مهيئاً لنمو الشعر واكتماله، ولكنا إذا   (1) الترجمة رقم 20 من مجموعة الشعر. (2) الترجمة رقم 93 والعيد المئوي 1: 376. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 تذكرنا طبيعة الجماعات المهاجرة المستقرة، وطبيعة الاتجاهات المدرسية فيها، لا نعجب إذا لم نجد هذه الحياة غنية بالأدب الجميل، وقد كان من الضروري قيام شعور وطني يربط الناس بهذه الأرض التي عاشوا فيها ليساعد ذلك على اشتداد ساق الأدب، وهذا لا يتم إلا بعد أن يولد جيل جديد على أرض صقلية ويحس بأنها هي، لا إفريقية، المكان الذي يقاتل عنه ويعيش من أجله، فأما المهاجرون الأوائل فإنهم يرون في صقلية رباطاً كبيراً يشنون منه الغارة لحماية الحدود الإفريقية وإعلاء شأن الدين. ولا نسمع شعراً صقليا في مدة خمسة وثمانين عاماً طواها بنو الأغلب في فتح الجزيرة وحكمها. وهذا شيء مستغرب وإن كان تعليله سهلاً. وإذا وجد شعراء في هذه الفترة فإنهم إفريقيون يوجه عواطفهم معنى الغربة أولاً، وطبيعة الجهاد ثانياً:: أما الغربة فلابد أنها بعثت في نفوسهم الحنين إلى مواطنهم الأولى، وتمثل هذا الحنين في قصائد ورسائل شعرية بعثوا بها إلى أهلهم وأصدقائهم في الوطن، وأما الجهاد فلابد أنه أذكى روح الحماسة من ناحية وروح الحزن على من أكلتهم الحرب من ناحية ثانية. ولا يمكننا القول بخلو صقلية من كل شعر، فذلك مناف لطبيعة الأشياء في حياة الناس. ولدينا من أمثلة هذا الشعر قصيدة لأسير أغلبى اسمه مجبر بن إبراهيم بن سفيان، ومطلعها (1) : ألا بيت شعري ما الذي فعل الدهر ... بإخواننا يا قيروان ويا قصر وهذا الشاعر يتأسى في قصيدته بأن الفرج غنما يجيء بعد الشدة، أليس يوسف قد نجا من الحب، وأيوب زال عنه الضر، وإبراهيم خلص من النار؟ إن الله قد نجى هؤلاء، وهو قادر على أن يخلص أهل السر من ربقة إسارهم. وأقدم الشعر الصقلي الذي وصلنا يعود إلى العصر الكلبي، وأول شعر نستطيع تأريخه وصلنا في أيام ولاية أبي القاسم الملقب بالشهيد (359 - 372) . ومن   (1) الحلة السيراء في المكتبة: 329. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 هذا التاريخ يبدأ استقلال صقلية السياسي، وفيه يبدأ الشعر الصقلي حياته الصحيحة، وقد كان أبو القاسم يعيش حياة مثالية إذ قضى عمره في الجهاد بقلورية (كالابريا) وصدفت نفسه عن متاع الدنيا فأوقف كل ما يملك على فقراء شعبه. وبحق لقب بالشهيد لما قتل في غزاته الخامسة، وكانت له في نفوس أعدائه صورة مهيبة لرجل يزن كلامه ويحكم أجوبته (1) وربما كانت هذه السيرة الفاضلة ذات أثر في استقلال الشعر بحدود صقلية وعد انسياحه بالعواطف إلى ما وراءها. ومع ذلك فإن الشعر الذي وصلنا يتحدث عن صمصام الدولة ويشيد ببطولة وشجاعته، ويكاد ينسى أبا القاسم إلا قليلاً. وفي الطبقة الأولى من شعراء هذه الفترة علي بن الحسن بن أبي سعيد القاضي وسهل بن مهران مادح أبي القاسم وهو يوصف بأنه من المطيلين المحسنين والمداح المجيدين (2) وأبو إسحاق إبراهيم بن مالك المعافري القاضي. فإذا بلغنا عهد الأمير يوسف ثقة الدولة وجدنا صقلية قد أصبحت حافلة بالشعراء من أهلها والطارئين عليها. ز فمن أهلها محمد بن أحمد أبو عبد الله الصقلي صاحب ديوان الإنشاء بصقلية، وهو الذي رثى ثقة الدولة بقصيدة مطلعها (3) : حنانيك ما حي على الدهر يسلم ... ومنهم الحسن بن محمد الطوبي الذي كان ملازماً لثقة الدولة (4) ، ومحمد بن الحسين بن القرقودي (5) والمشرف بن راشد (6) . وبعد ثقة الدولة نلتقي تلك الأسماء الكثيرة، وهي أسماء الشعراء الذين عاشوا   (1) انظر موقفه من الراهب نيلو الذي بعث في فكاك ثلاثة من الرهبان كانوا ببلرم (أماري 2/ 2: 375) . (2) مختصر الدرة: 99. (3) القفطي: المحمدون: 20. (4) المختصر: 103. (5) الجريدة 11: 39 وما بعدها. (6) المصدر نفسه، الورقة 37 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 بين 390 - 460 وهم أكثر من ذكرهم ابن القطاع في الدرة الخطيرة: عندئذ نجد ثلاثة من أبناء الطوبي واثنين من ابناء الرقباني وثلاثة من بني الشامي، كما نجد ابن الصباغ والود اني وابن الخياط وابن مكي صاحب تثقيف اللسان وسليمان الصقلي وميمونا الوراق ومحمد بن قاسم بن زيد القاضي وابن الفقيه الكلاعي وابن الكموني وأبا العرب الصقلي وابن حمديس وغيرهم كثيرين. ويلتف الشعراء في آخر عهد الكلبيين حول أعظم شخصيتين بصقلية وهما الوالي - وكان حينئذ صمصام الدولة - وصاحب الخمس وكان يومئذ إبراهيم بن محمد الشامي (1) ومن الشعراء الصمصام: ابن الخياط وابن الرقباني والمشرف ابن رشد. ومن مداح صاحب الخمس المذكور: ابن الصباغ والمشرف بن راشد والحلواني. فإذا تمثلنا الشعر الصقلي نامياً في تلك الفترة التي حددناها، وجدنا أن موعد إثماره إنما تم في نهاية القرن الرابع وأوائل الخامس، وكان مما ساعد على ذلك، الاستقلال السياسي والهدوء النسسبي في حياة البلاد، وتمثل صقلية للمؤثرات المشرقية، والدراسات العلمية والفلسفية بعد أن ضلت عهداً طويلاً تعيش على الفقه والحديث. ومع هذا النمو نلمح شيئاً من يقظة ابنائها على الرابطة الوطنية. فقد اتضح مع تبلور الشعر الصقلي شعور الناس " بالجزيرة " وتجسد معناها في نفوسهم. ويكفي الشاعر ان يقول " رعى الله أكناف الجزيرة " أو أن يمدح صاحب الخمس بقوله: شيخ القبيلة في الجزيرة (2) ، فيفهم الناس ما يعني ويتمثلون لهذه الجزيرة صورة واضحة في نفوسهم، وإنما جاء ذلك الشعور من سيطرة الاستقلال والوحدة السياسية على نفوس الناس. وبدأت الأثمار الأدبية تتكور على تلك الشجرة التي طال عليها الأجل حتى ترعرعت، وقبل أن ينضج الثمر جاء الفتح النورماني يسقطه ويبدده، وفي لحظة من لحظات الفزع، هرع الشعراء والعلماء يلوذون باذيال الفرار، ويفارقون الجزيرة كأنها لم تكن ذات يوم وطناً حبيباً.   (1) ورد اسمه في الذخيرة 4/ 1: 224 أبو عبد الله محمد بن إبراهيم وصوابه إبراهيم بن محمد. (2) الذخيرة 4/ 1: 224 - 228. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 الحقيقة الرابعة: الفتنة الأخيرة وأثرها في الشعر: وأعني بها الفتنة التي أسقطت بني الفتنة التي أسقطت بني أبي الحسين الكلبي، وقسمت صقلية إلى دويلات صغيرة، وجعلت في كل مدينة أميراً، كما حدث في الأندلس بعد ذهاب العامرين، وانقسام مدنها بين ملوك الطوائف، وهي الفتنة التي جرت من بعد إلى الفتح النورماني، وإلى فقدان الجزيرة وضياع الوطن. وأول شي فعلته تلك الفتنة أنها مزقت الشعراء بعد ان كانوا يلتفون حول وال واحد، فاختص ابن الخياط بابن الثمنة يمدحه ويشيد بانتصاراته، وذهب محمد ابن قاسم بن زيد القاضي يمدح على بن نعمة المعروف بابن الحواس، والتف حول ابن منكود بمازر جماعة من الشعراء الصقليين والطارئين وفيهم عبد الحليم الصقلي ابن رشيق. ولما استدعى الصقليون المعز بن باديس ليدخل الجزيرة - كما استدعى الأندلسيون يوسف بن تاشفين - انحاز إلى المنقذ الجديد جماعة من الشعراء منهم ابن الفقيه الكلاعي. وكان حرياً بهذا الانقسام أن يجعل خصباً كثيراً، وأن يهيء للإجادة بما يبعث من منافسة، كما حدث في الأندلس أيضاً أيام ملوك الطوائف ولكن حال دون ذلك أساب منها: قصر الفترة التي عاشها صقلية تحت حكم أمراء الطوائف - أو القواد المستقلين - ولم يجد على صقلية في هذه الفترة شيء جديد، فالشعراء هم الشعراء، وكل ما حدث أن القواد توزعوهم فيما بينهم. وقد عملت الفتنة شيئين في آن: أسقطت البيت الكلبي وحملتهم على مغادرة الجزيرة، وجاءت بحكام جدد، فقسمت الشعراء أيضاً فريقين: فريق ذهب يبكي بني أبي الحسسين، ويعدد فضائلهم، وفريق آخر يرحب بالمنقذين وفي طليعته ابن الفقيه الكلاعي الذي رفع عقيرته يقول (1) : الله أكبر أودي الجور وانقشعت ... سحب النفاق وزال الحادث النكر   (1) الترجمة رقم 143 عن المحمدين، الورقة، 20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 وتلك الفتنة هي التي جعلت الشاعر يفف موقف الحكيم الذي يحس، ببعد نظره، ما تنطوي عليه من نتائج سيئة، فهو يحذر منها ويدعو قومه إلى الائتلاف. وفي ذلك التحذير امتداد لما قلته عن تجسم الجزيرة بحدودها الجغرافية والسياسية في النفوس، وفيه روح من الحرص على مستقبل تلك " الجزيرة " التي لها أبناء يحبونها، لا مهاجرون يرون فيها مكاناً سخيا بالسمن والعسل. غير ان هذه الروح لم تلبث ان خفتت حين اصبح الانقسام حقيقة واقعة وغلب على نفوس أصحابها حب البقاء، فآثروا الانضمام إلى هذه الفئة أو تلك، واستسلموا لحكم المقادير. ثم كانت الفتنة سبباً في ضياع الوطن وزوال السيادة الإسلامية عنه، فأي شيء أحدثه ذلك المصاب الكبير في نفوس الشعراء؟ إننا إذا استثنينا تلك الدموع الصادقة التي ذرفها ابن حمديس على وطنه لم نجد لضياع ذلك الوطن اثراً عميقاً في النفوس الصقلية، فلم يكن تجسد " الجزيرة " واضحاً مكتملاً، هذا مع أن القيروان حين سقطت، وجدت الشعر يخلد مأساتها ويحكي حالها بعاطفة صادقة، أما حين سقطت فلم تجد إلا شاعرها الشاب ابن حمديس. ومن أهم العوامل التي أضعفت التجاوب بين الصقليين ونكبهم في وطنهم نظرتهم إلى المأساة عن طريق الاستسلام، واعتقادهم أنه لم يصبهم إلا ما كتب الله لهم، وهذه نظرة تؤسى الجازع، فيستشعر قلة الجدوى في الحزن والبكاء ويحمل نفسه على الأخذ بفلسفة الصبر. ثمة عامل آخر لعله اقوى من سابقة وهو تعليل النوازل التي تحل بالناس على أساس الخطيئة، فقد أخطأت صقلية فلتذق جزاء ما اقترفت من ذنوب، وليس ما أصابها، وخاصة في رأي المتدينين، إلا عقاب من الله صبه عليها، وهي له مستحقة. ولست أناقش قرب هذا الرأي أو بعده ن الحقيقة، ولكن الجماعة إذا انتهت إلى هذا التلاوم في تحديد المسئولية فقدت القدرة على أن تلمس طبيعة المأساة نفسها في فقد الوطن. وقد عبر أحد الفقهاء الصقليين عن هذا الاتجاه حين ربط بين نهاية صقلية وجحود أهلها للنعمة في قوله (1) :   (1) الترجمة رقم 147 من المجموعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 (مدينة) كانت وكنا بها ... في ظل عيش ناعم رطب مدّ عليها الأمن أستاره ... فسار ذكراها مع الركب لم يشكروا نعمة ما خولوا ... فبدلوا الملح من العذاب ولو خفت صوت هذا التبرير، لارتفع صوت العاطفة الحزينة على ضياع الوطن. والتبرير نوع من التعزي، وهو في الوقت نفسه تهرب من مواجهة الألم ونبعه الحقيقي. أليس أبو العرب الصقلي قد فقد وطنه كما فقده ابن حمديس؟ فكيف كان وقع الشتات في نفسه؟ ذهب يفلسف ذلك التشرد على طريقة التصبر الكاذب ويقول: إذا كان أصلي من تراب فكلها ... بلادي وكل العالمين أقاربي كل تراب بلد، وكل العالمين أقارب - صلة ميتة، لم ينفخ فيها التجاوب الشعوري شيئاً من روحه فيجعل منها وطناً. ومن الطريف أن البارون فون شاك تنبه إلى أن أبا العرب راح يقول عند ما خرج من صقلية " إن وطنه فارقه " - لا أنه فارق وطنه، وهو ملحظ مبني على قول الشاعر: ويا وطني إن بنت عني فإنني ... سأوطن أوكار العتاق النجائب والشاعر لم يقصد إلى هذا الفهم " الحرفي "، ولكن التعبير ذو دلالة صادقة على نفسية أبى العرب، فهو بالهفوات اللسانية أشبه، وإن كان صحيحاً مقبولاً. ثم إن سقوط صقلية لم يتخذ في نفوس الصقليين شكل المأساة بالفتح النورماني، لأن النورمان لم يلجئوا الناس إلى فراق دينهم أو إلى الهرب عن أوطانهم بل أبقوهم حيث هم، واحتفظوا لهم بما كانوا يتمتعون به من حقوق، ولذلك لم يشعر كثير منهم أن وطنهم ضاع، كما شعر الأندلسيون. وهذه حقيقة هامة في فهم الرابطة بينهم وبين وطنهم، إلا ابن حمديس فإنه بكي ضياع الوطن، وبكي شبابه في ذلك الوطن لأنه شهد وقفة بلده أمام الغزاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 كما شهد استلامه. وكان الذين استسلموا من الشعراء لهذا الحادث مشمولين بالروح الدينية أما ابن حمديس فكانت " الوطنية " في شعره أقوى من التدين. وإذا طلبت الأثر الديني في شعره الذي بكي فيه وطنه وجدته يسيراً. وليس في تلك القصائد شاعر يطلب الرحمة لقومه، وإنما فيها صورة الوطن بكل ما فيه من جمال ورجولة وذكريات عذاب. ومجمل القول أننا إذا استثنينا أشعار ابن حمديس العاطفية في البكاء على وطن ضاع، وجدنا سائر الشعر المتصل بالفتنة والفتح النورماني إما ينعي ذهاب مجد بني أبي الحسين الكلبيين كما في أشعار ابن الخياط، أو يلوم الصقليين على تماديهم في الفتنة، كما في شعر أبي محمد القاسم بن عبد الله التميمي فلهذا الشاعر قصيدة من طوال الصقليات، يؤرخ فيها حال صقلية أيام الفتنة، واقتتال الصقليين فيما بينهم، ثم كيف دخل الإفرنج الجزيرة وقاتلوا أهلها وغلبوا عليها، ومنها مصوراً حال الفتنة بعد مقدمة غزلية (1) : سقى الله هيمَ الغرب لا بعض هامه ... كما يمنع الغمضَ السليمٌ المنادم وما كنت أسقي الغرب لو كان لم تكن ... صقلية منه - وإن لام لائم وإني لمنهم واحدٌ غير أنه ... وشيء بيننا واش من البين غاشم رزينا بذات البين حتى كأننا ... نرى أن من يبغي سوى البغي آثم يغير الفتى منا على مال نفسه ... ويقتله عدواً أخوه الملائم يجورُ دليلُ القوم عن سبل رشده ... ويمضي على المكروه من هو نادم نروح ونغدو في أمور لو أنه ... رأى بعضها ما عاود النومَ حالم كأن بحاراً بالوغى وكأنما ... معاركنا طول الزمان مواسم فطوراً نذود الموتَ عنا وتارةً ... نموتُ كما ماتَ الحماةُ الأكارم فلو كان مسلماً ذلك الحرب بيننا ... ثلاثين عاماً ضامناً منه ضائم ثم يتطرق بعد ذلك إلى وصف هجوم الروم عليهم فيقول:   (1) عنوان الأديب1: 136. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 سليي عن الإفرنج إن شئت واسمعي ... حديثاً كنشر الروض والروض ناعم أتوننا ولكن بالدروع أساوراً ... ولكن أتينا والسيوفُ عزائم على كل مشكول الطريد كأنما ... قوائمه عند الطراد قوادم إذا ما علا منا على الظهر فارسٌ ... فليس بعيداً أن تطير القوائم سماءٌ وأرضٌ من جناح وحافر ... وليل وصبحٌ جحفلٌ وصوارم فلا دَجنَ الإ أن تثور عجاجة ... ولا مزن إلا أن تخر جماجم كأنهمُ قد أحجموا حين أقدموا ... فعادتْ عليهم والأنوف رواغم والشعر في هذه القصيدة ناظر إلى المتنبي في قصيدته " على قدر أهل العزم تأتي العزائم ". وحين ينهى من الوصف لحال صقلية يملأ قصيدته بالحكم فمن ذلك قوله: إذا كان لا ينجيك أنك هاربٌ ... فلم يبق حزمٌ غير أنك هاجم وقد يجهلُ الإنسان في بعض حلمه ... ويحملُ عنك الظلم أنك ظالم وما السيفُ إلا من غرارة حلية ... وإن رث منه غمدُهُ المتقادم كأنك في دنياك ما زالت جاهلاً ... إذا نتَ لم ينفعك أنك عالم فلا تتزود غير ما أنت واجدٌ ... إذا رُحتَ يقظاناً كأنك نائم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 الفصل الثاني الشعر الصقلي بين القوة والضعف في العصر الإسلامي 1 - الشعر الصقلي والمحاكاة 2 - أثر المدرسة النقدية الإفريقية فيه 3 - قصور الشعر عن تصوير القلق الداخلي بصقلية 4 - الشعر الصقلي بين حياة الزهد وحياة اللهو 5 - الخمر في الشعر الصقلي 6 - الغزل والغناء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 فراغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 الشعر الصقلي بين القوة والضعف في العصر الإسلامي في قصر الفترة التي عاشها الشعر بصقلية وفي طبيعة الأجناس التي أنشأته، وفي ضعف الحدود الوطنية لقطر هو نقطة التقاء المهاجرين من جميع الجهات، وفي روح الاستسلام التي واجه الشعراء بها ضياع الوطن، وفي مجيء الفتح النورماني الذي أفرغ الجزيرة من علمائها وشعرائها، على أعقاب فتنة وانقسام داخلي - في كل هذه الحقائق يمكننا أن نتلمس بسهولة جوانب الضعف لا جوانب القوة في الشعر الصقلي. ومما زاد في التقليل من أصالة الشعر الصقلي وصور التجديد فيه، اعتماده المحاكاة في جميع خطواته، وخاصة محاكاة المشارقة، والمدرسة الإفريقية في القيروان. أما تأثره بالأندلس فكان اقل من تأثره بإفريقية والمشرق. وقد غذاه المشرق بالدراسات الإسلامية في الفقه واللغة، فعمق روح المحافظة فيه، فامتلأ الشعر بالروح المدرسية القائمة على وضع النصائح النظرية والإرشادات الخلقية، وأصبح الشاعر يملأ شعره باستعارات النحو والفقه، ويكثر من الألغاز ومن التلاعب اللفظي بالأسماء. والأمثلة على هذا كثيرة، وأنا اضرب عن إيرادها عامداً، وقد تغلغل هذا الأثر في شعر شاعر وافر الحظ من الأصالة كابن حمديس، وصبغ بعض شعره بصبغة تعليمية ثقيلة. بل إن شدة الاتصال بإفريقية والمشرق حرمت صقلية من التطلع إلى الأندلس. صحيح إن الأندلس استمدت كثيراً من الشرق ولكنها استطاعت أن تتميز بالموشحات والأزجال، أما صقلية فما نعثر فيها على شيء من هذين الفنين. وقد استقلت الأندلس من الناحية الغنائية، وعجزت عن ذلك صقلية فكل أغانيها واردة من المشرق، وللغناء أثره البعيد في الشعر، وعدم استقلال صقلية بأغانيها مكن لها في المحاكاة، ووسع لها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 من مجالها. وقد حفظ لنا ابن مكي في تثقيف اللسان أمثلة مما كان يغني (1) ، فمن ذلك قول قيس بن الخطيم: أتعرف رسماً كاطراد المذاهب ... لعمرة وحشاً غير موقف راكب وقول الآخر: ولما نزلنا طله الندى ... أنيقاً وبستاناً من النور حاليا أجد لنا حسن المكان وطيبه ... منى فتمنينا فكنت الأمانيا وقول ابن الرومي: أضحى ينغصنى النسيم نسيمه ... أفلا يهنيني النسيم نسيم وقول ذي الرمة: أقامت بها حتى ذوي العود في الثرى ... وساق الثريا في ملاءته الفجر وغير ذلك من أبيات لسحيم وكثير وجرير وجميل. أما التأثر بإفريقية فربما كان يفوق التأثر بالمشرق، وفي إفريقية وضعت الأصول المشرقية وضعاً جديداً وتدارسها الناس، فكان التأثير المشرقي أيضاً يتسرب إلى صقلية من خلال المدرسة الإفريقية التي أنشأها ابن رشيق وابن شرف في النقد. فعلى أساس من كتب المشارقة في النقد ظهر كتاب العمدة والأنموذج وقراضة الذهب لابن رشيق، وأعلام الكلام وما أشبهها من الرسائل النقدية لابن شرف. وقد طمس هذان الناقد ان جهود من سبقهما ولخصا آراء النقاد الإفريقيين أنفسهم. وأصبحت النظرية النقدية التي يمثلها العمدة مطمح كل شاعر من شعراء القيروان، وكل شاعر أصبح يحاول أن يحذو حذو ابي تمام في الاستعارة، أو يكون وصافاً للخمر كأبي نواس أو يدندن بموسيقى البحتري، أو يمسك بريشة أبن المعتز في التصوير - ذلك هو مقياس الجودة في كل من القيروان وصقلية ومن أوضح الأمثلة على ذلك ابن رشيق نفسه وابن حمديس وهما أعظم شاعرين نشآ   (1) الباب الأربعون: " باب غلط أهل السماع ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 على طرفي البحر الذي يفصل بين إفريقية وصقلية. وأما الأول فقد مهر في استخلاص أجمل المعاني عند غيره وتشكيله بأشكال جديدة (1) وأما ابن حمدييس فقد وصف أيضاً بأنه خفي الأخذ من غيره (2) . فاللبنات الأولى في بناء ابن رشيق وابن حمديس، مجلوبة من المشرق. بل إن ابن حمديس ليس خفي الأخذ دائماً وإنما تظهر على السطح في شعره معاني أبي نواس وتعبيراته وتراه يعارض امرأ القيس والمعري وأبا تمام وينقض على بعض الصور في ديوان ذي الرمة، وعلى بعض الصور الأندلسية، ولا يتورع عن معارضة معاصريه. وأمر صقلية أضيق صدراً من القيروان لأن صقلية ترى في القيروان منارة تهتدي بأضوائها. وقد رأينا كيف كان الشعراء ينظرون إلى ابن رشيق. ونحن لا نرى فيما بقي من أشعاره ما يقدمه على متوسطي الشعراء المشارقة. وابن حمديس أبعد منه خطأ في الشاعرية، ومع ذلك فإنك تجد ابن حمديس الصقلي يتناول شعر ابن رشيق بالمعارضة أو التصرف. ويستوى تأثير المدرسة الإفريقية في صقلية والقيروان. فكثير من الشعراء في القيروان كانوا يترفعون عن الهجاء إما تجنباً للذم أو ذهاباً مع الكبر (3) ، وهذا ما نجده عند ابن حمديس أيضاً فإنه لم يكن يهجو، وفي ديوانه عدة قصائد يفتخر فيها بتعاليه عن التورط الهجاء. وكان من مذهب الكتاب أن لا يمدحوا، وهذا قد يعلل انعدام المدح في شعر أبي عبد الله بن الطوبي وهو من أجل كتاب صقلية. والمدرسة الإفريقية كانت الفكرة تكره " المحلية " لأنها لا تكفل للشاعر سيرورة شعره في الأقطار الإسلامية " فليس من أتي بلفظ محصور يعرفه طائفة من الناس دون طائفة.. كالذي لفظه سائر في كل أرض، معروف بكل مكان " (4)   (1) ابن سناء: فصوص الفصول: 85. (2) الخريدة: 12 الورقة 27 وما بعدها. (3) العمدة 1: 71. (4) العمدة 1: 59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 وتحت هذا المبدأ لا يمكن أن ينشط الزجل، ولا يمكن للنقاد ومؤرخي الأدب أن يرعوه ويتعهدوه بالتسجيل، إن وجد، وإلى حد ما تمتاز الأندلس على إفريقية وصقلية في هذه الناحية. ولتلك المدرسة كثير من الحسنات فمن ذلك تفرقها بين الذوق الحضري والبدوي، وإقرارها بتأثير البيئة أو ما يسمى اختلاف المقامات والأزمنة والبلاد. ولكنها من ناحية أخرى خضعت خضوعاً تاماً للقواعد الكلاسيكية حتى في طريقة الخلق: كيف ننظم؟ ومتى ننظم؟ وماذا ننظم؟ وماذا نأكل ليعتدل المزاج ونصبح قادرين على النظم؟ وكانت تغلو في تطبيق المبادئ المشرقية فإذا اقر المشرقيون نشبيه واحد بثلاثة زاد على ذلك، فوجدوا تشبيهه بأربعة أوقع وأحسن، ولذلك فإنهم حيثما وصلهم قول البحتري (1) : كأنما يبسم عن لؤلؤ ... منظم أو برد أو أقاحْ جعلوه: كأنما يبسم عن لؤلؤ ... أو فضة أو برد أو أقاح وليست صورة الضعف في الشعر الصقلي محدودة بالتقليد لنماذج المشرق والقيروان، بل تتمثل في نواح أخرى منه، فنحن نفقد في ذلك الشعر صورة للصراع بين المذاهب الإسلامية، مع العلم بأن صقلية خضعت أولاً للخلافة العباسية ثم للفاطميين، وأنه كان فيها - إلى حد ما - ميلان متصارعان، غير أن هذا الصراع ضعيف باهت فيما وصلنا من شعر. والشعر كذلك قاصر عن تصوير ذلك القلق الذي كان يتمثل في كثرة التقلب. فها هنا شعب يثور ثم يعود إلى الندم والبكاء، ثم يهب ثائراً وهو لا يزال يبكي ويستعطف، شعب عاطفي سريع الغضب يقوم في طلب حقه فإذا سمع كلمة ترضيه عاد إلى الهدوء وقنع بالقليل، ثم شعر بالندم لقبوله ذلك القليل، شعب قليل الصبر شديد الجزع كلما حزبه أمر فزع إلى نصير،   (1) العمدة 1:198. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 ويؤمن بالرأي في قوة ويندفع في سبيل تحقيقه، فإذا لم يقطف الثمرة بسرعة خلاه إلى غيره. ومنذ القديم وصفه شيشرون بأنه مطبوع على التذمر، وليس الذنب ذنبه فقد عرف في كل حكومة سيطرت عليه معنى السيد المسترق، فهو يتلمس دائماً سيداً خيراً من سيده ليطمئن إلى حال من حاله. ولقد ذاق طعم العبودية في ظل ناس، فما عليه لو حاول أن يتخلص منها أو أن يتلمسها في ظل آخرين أخف وطأة وتعسفاً. وحقيقة الأمر أن تقلب الحاكمين عليه جعله مستغلا ليس له من الحياة غلا شرف الخدمة إرضاء لحاكميه. فهو طيب إذا ملأ خزائن سيده بالمال وعنابره بالقمح واسطبلاته بالخيول. فهل تخلق هذه الحال في نفسيته إلا التذمر والإذعان للبادرة الأولى والثورة كلما واتت الفرصة، والتعلق بالآمال القليلة والتغذي باليأس الكثير، والحقد على السيد الجشع. وإذا كان قد عاش ايام الحكومة الإسلامية في رخاء نسبي، فقد كان هذا الرخاء مصدر قووة جديدة في الخصام - لأنه وجد بعض حقوقه فلم لا يستكملها؟ وقد تفتحت عيناه بصورة أكبر على ما حرمه فلم لا ينال ما حرم؟ ومع كل ذلك الرخاء النسبي فقد ظل اليأس في حياته أكبر من الأمل - كان يرى الزعامة في يد جماعة غرباء عنه، وفرض عليه أن يكون جنديا، وهو يكره القتال، وألقي في روعة معنى الاستشهاد، فلم يفهمه، كان يطلب الحياة والراحة ويقاوم الجهد والفقر والفناء، ويهرب من تلك الأشباح فيتعبد أو يسلك نفسه معلما في كتاب. ولم يعبر الشعر عن شيء من هذا، وإنما عبرت عنه الأحداث والثورات، ولم يكن أسرع من الجماعة الصقلية إلى التعبير من عدم الرضى بالعمل، ولا أسرع منها إلى ارتجال الموقف الملائم وارتداء الثوب المعد تمهيداً لانتهاز الفرصة. فلم يعمق في نفسها الحزن لأنها لم تكن تتجرع مرارة الكبت الطويل، ولا كانت تستسلم إلى شيء من الفكاهة لتروح به عن نفسها المتألمة، وكانت إلى ذلك كله تنفر من الغرباء لأنها ترى فيهم نوعاً من " المستغلين " ولا تحب من الطراء إلا من يسرع الرحيل. فهي تحب الغرباء العابرين وتكره أولئك الذين يأتون أفواجاً إلى الجزيرة ليزاحموا في رزقها، وقصر الشعر أيضاً في التعبير عن هذا الصراع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 الاقتصادي، واكتفى الرحالون الذين صدمتهم هذه المشاعر بأن يصفوا صقلية بالجفاء - وهو جفاء ينعدم فيه لطف أهل المدن وملقهم اللساني، وتبرز من خلاله صورة للطبيعة الريفية الساذجة التي لا نستطيع أن توارب كثيراً من عواطفها، وهو جفاء نحسه في الشعر نفسه فإنه قل أن يجيء ملطفاً بشيء من رقة الحضارة التي تطالعنا في الشعر الأندلسي. أوضح الصور في الشعر الصقلي وأقواها صورتان تمثلان جانبي الصراع في حياة المدينة، وهذه ميزة عامة في الشعر العربي منذ مطلع العصر العباسي، فقد انقسمت الحياة بين اليمين واليسار، بين آخذين بأسباب الدين والزهد والتقوى يدعون الناس إلى التحلي عن الدنيا ولذاتها ويخوفونهم العذاب، وبين آخذين بأسباب من الحياة المستهترة الماجنة، يرون في إشباع النفس من لذة الخمر والحب وغيرها، خير ما يسعى إليه الإنسان. وانقاد الشعر لهؤلاء وهؤلاء، ولكن رعاة التقوى والزهد هزموا في ميدان الحياة، لأن الفن صورة للحياة لا دعوة للآخرة. وكلا الاتجاهين يدلنا على اثر المدينة - لا أثر الطبيعة والريف - في حياة الشعر العربي على مر العصور. وبالاتجاه الأول يحس المرء بفساد المجتمع فينطوي على نفسه، ويبتعد عن الناس لاعتقاده أنهم آفات، وأن الشر بينهم " خضرم يزخر "، أما الخير فهو " ثمن آسن "، وينصح بالعزلة ولزوم البيت والاكتفاء بالقليل، ويعلن عن يأسه من الصلاح ومن كل ما يصله بالحياة الدنيا، من ذلك قول ابن الطوبي (1) : لو قيل لي أي شيء ... تهوى لقلتُ خلاصي الناس طرا أفاع ... فلات حين مناص نسوا الشريعة حتى ... تغامروا بالمعاصي فشرهم في ازدياد ... وخيرهم في انتقاص وقد يزداد التعقد في هذا الاتجاه حتى يلحق بالرهبنة، وتشيع فيه الدعوة إلى   (1) الترجمة رقم 15 في مجموعة الشعر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 العزوبة، كقول ابن مكي: من كان منفرداً في ذا الزمان فقد ... نجا من الذل والأحزان والقلق تزويجنا كركوب البحر ثم إذا ... صرنا إلى ولد، صرنا إلى الغرق وتصطبغ هذه الدعوة الزاهدة - عادة - بالاتكالية وذم المال، وفي التخذيل عن الكد المضني في سبيل الرزق، من ذلك قول أحدهم (1) : يا حريصاً قطع الأيام في ... بؤس عيش وعناء وتعب ليس يعدوك من الرزق الذي ... قسم الله فأجمل في الطلب أو كقول الآخر، وغالي في تهجين السعي جملة (2) : لا تخشى في بلده ضياعاً ... حيثُ حياة فثم رزقُ قد قسم الله للبرايا ... رزقهم فالعناء حمقُ وغنى صقلية بهذا الشعر نوع من الفقر الفني في رأيي، فما نظن أن هذا الشعر إلا صورة لروح الوعظ والتذكير، وإلا تعبيراً عن تلك المدارس الفقهية التي كانت توجه حياة صقلية الثقافية. ذلك لأن هذا النوع من الشعر لا يلمح غلا الجوانب السلبية من الحياة، وأعلى درجة من هذا الدب الوعظي قول ابن الطوبي في تصوير روح التقوى (3) : يحب بنو آدم ربهم ... ولكنهم بعدُ يعصوُنه وإبليسُ قد أشربوا بغضه ... وهمْ بعد ذاك يطيعونه فهذا التنافي فما بالهم ... يرون الضلال ويأتونه؟ وقد تقلبت الحياة بابن الطوبي، وتركته ينال من أطايبها، ويصيب من لذائذها ومتعها، وبعد فترة قضاها في الحياة السياسية خلق له أعداء ومبغضين   (1) الترجمة رقم 46 ممن مجموعة الشعر. (2) الترجمة رقم 49. (3) الترجمة رقم 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 ثم تغيرت الحكومة فسقط في السياسة، فتوفر لديه شعور حاد بفساد المجتمع رمى به في أحضان الدين من جديد. ولكنه من أشد الشعراء الصقليين نقداً لبعض المظاهر الكاذبة في مجتمعه، ونسمعه ينتقد التصوف بقوله: ليس التصوفُ لبس الصوف ترقعهُ ... ولا بكاؤك إن غنى المغنونا ولا صياحٌ ولا رقصٌ ولا طربٌ ... ولا تغاش كأن قد صرت مجنونا بل التصوفُ أن تصفو بلا كدر ... وتتبع الحق والقرآن والدينا وأن ترى خائفاً لله ذا ندم ... على ذنوبك طولَ الدهر مزونا أما الصورة الثانية فهي الإقبال على الحياة في نهم وظمأ، والعب من كؤوس لذائذها، ومع أن أهل الذمة لم يشاركوا كثيراً في إنتاج الشعر الصقلي فإنهم كانوا موضوعاً له. فأولئك الذميون هم أصحاب الدساكر والحانات، وفي أديرتهم خمر معتقة، وفي غلمانهم وجواريهم ضروب من الفتن، وأطاف الشعر بهذه الموضوعات، فكان وصف الخمر والغزل بالغلمان والجواري، ووصف الراقصات ومجالس الشراب عديل تلك الشعار التي قيلت في الزهد والقناعة والتوبة. والخمر تشتري من الباعة في الحانات ومن الأديرة، وعند ابن حمديس أن الراهبة في الدير هي التي تبيع الخمر، والساقي في الشعر الصقلي غلام جميل، إلا عند ابن حمديس فهو ساقية جميلة رخيمة اللفظ ساحرة المقلتين. وكل هم الشاعر في الوصف هو الخمر نفسها. فلا يلتفت كثيراً إلى بائع الخمر نفسه، ولا يصفِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 ِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 ِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 ِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 ِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 ِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 ِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 ِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 ِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 ِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 ِِِِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 ِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 ِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 ِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 ِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 ِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 3 - ابن الخياط وحياة الحرب والفتن أيام الكلبيين هذا العهد الطويل الذي قضاه ابن الخياط في صقلية على أبواب أمرائها جعله شاعر بني أبي الحسين، فهو يسجل لهم حياتهم الحربية والسياسية - الحياة التي تعد أبرز شيء في تاريخ صقلية. ففي شعره وصف للمعارك كقوله من قصيدة يمدح بها انتصار الدولة: ويا ربٌ يومٍ له مسْعر ... إذا خمدت نارُهُ أوْقدا تخافُ به الرجل ممن أختها ... ولا تأمن اليدُ فيه اليدا وترمي رجالٌ بأعضائهم ... فمثنى تراهن أو موْحدا ترى السيف عُريانَ من غمدِهِ ... وتحسبهُ من دمٍ مغْمدا وهو يسجل انتصارتهم ويتحدث عن بعض الطامحين الثائرين عليهم كقصيدة قالها ظفر انتصار الدولة بخارجي خرج عليه: ظنّ الإمارة ظُلةً فإذا بها ... حْربٌ يكاد أوارها يتأجج ومهّندّات كالعقائق ماؤها ... مترَقْرِق ولهيبها متأجج لا تستقر العينُ فوقَ مُتُونها ... فكأنما هي زئبق كتدحرجُ ومداعس للخيل يرْمحُ وسطها ... من غير فارسه طمرٌّ مُسْرَج عْقْرى وسالمةً تعاثرُ في القنا ... العسْجديُْ وذو الخمار وأعوج طرحت فوارسَها على أذقانهمْ ... طرْحَ الكعاب فمفرَد أو مزوج في موطن سلب الحليم وقارَهُ ... فكأنما هو مستطارٌ أهْوَج ويصف ضيق الأرض على الفريق المنهزم الخائف ويصور ذعره وفزعه بقوله: في مثل يوم الحساب تحْسبهم ... سكرى وكالسكر بعض ما شُرِبا كأنما أرضهم قلوبهمُ ... فكلها قد أحيل فاضطربا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 وقد عرضت هذه الأمثلة متتابعة دون أن أقف عند واحد منها لأعود إليها جملة. فهذه القطع تصور أهم جانب في حياة صقلية، وهو حياة الجهاد والفتن، ولعلك تلمح خصائص تنظيمها فكلها صاخب بالحركة، تضطرب وتهتز حسبما تضطرب المعركة وتهتز، وفيها هذه المبالغة التي لابد منها لتكبير الصورة وخاصة صورة الحرب، فالخوف يتمثل على اشده في خوف العضو من أخيه، والعيون لا تستقر على متن السسيف، لأنه كالزئبق المترجرج، والأرض في عين الخائف كقلبه اضطراباً، ونلمح في هذه الصور المنتزعة من غير قطعة واحدة أن الشاعر يجيد تصوير الاهتزاز والاضطراب، ولا تنس جمعه في السيف بين الماء والنار فهي الصورة التي تلاقينا كثيراً في الشعر الصقلي، والشاعر كغيره من الصقليين تستولي عليه حياة القتال فتتدفق صورها في شعره كقوله: واعلم بأنك إن غزوت نداهما ... بلواء مدحهما فإنك ظافر وقوله في تأييد النعمة بنعمة أخرى: فابعث وليا إلى وسميها مددا ... إن الكتائب منصور تواليها تلك كانت صلته مع الأمراء الكلبيين في المعارك والفتن، أما في حياة السلم فهو يعزى الأكحل بعد ما تألبت عليه صقلية بقوله: لا تفرحن ولا تحزنْ ... عليك بالخبر أو بالشر لم يدم في كل أمر وإن طالت نجاحته ... حكمُ التعاقب في الأنوار والظلم وتارة أخرى يقول له: أرى كل شيء له دولةٌ ... لحكم التعاقب فيها عَملْ فلا تفرحن ولا تحزننّ ... لشيء إذا ما تناهي انتقل وهذا معناه أن ابن الخياط وقف مع الأكحل خاصة لما ثار عليه الصقليون ومع بني أبي الحسين عامة، وأخلص لهم ولم يكن في حبه شاذاً، فقد كان أمراء هذه الأسرة محبوبين عند أهل صقلية، وكان فريق كبير منهم فيها يؤيدهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 حتى إن الصقليين لما غضبوا من سياسة الأكحل وابنه واستقدموا عبد الله بن المعز، عادوا فندموا على ما فعلوه في حقه. ولما مات مستخلص الدولة رثاه ابن الخياط وذكر أمراء من بني الحسين وعزاهم عن فقد الجزيرة بقوله: لِيُسْلكم أنّ الجزيرةَ ... كما قيلَ في الأمثال لحمٌ على وضمْ تركتم بقايا حسنكمْ في خرابها ... كما ذبَلَ النوار في خلل الحمم رجوهٌ كأنّ الله قال لمائها ... ترقرق حياةً وامزج الحسن بالكرم كأنهم فوق الأسرة أنجم ... سعودٌ وفي الهيجا ضراغمة بهمْ وهذه الأبيات لا تصور إخلاصاً فحسب، بل تصور تفانياً في الحب - في حب قوم كانوا حماة للأدب والفنون - وحسبك أن الشاعر نسي وطنه، ولم يجد في حاله البائسة ما يبكيه، فوطنه لحم على وضم، وما أدق هذه الكلمة في وصف الحال التي صارت إليها صقلية في تلك الفتنة، ولكن من العجب أن يكون هذا شيئاً يتسلى به بنو أبي الحسين. وهنا تشعر كيف أن ابن الخياط انساق مع الحزبية وتشفي بحال الجزيرة التي أصبحت أشلاء ممزقة، وأشبع في نفسه ونفس أسياده شعورهم بأن صقلية تجني لقاء ما قدمت، لا من إساءة اقترفتها في حق نفسها، ولكن من خطأ اقترفته في حق الكلبيين. وهو إخلاص شاعر عاطفي، في ساعة عاطفية، استطاع أن يقول: تركتم بقايا حسنكم في خرابها ... كما ذبل النوار في خلل الحمم فجعلنا نتناسى بهذه الإجادة في التصوير شدة نقمته على وطنه - كانت صقلية حمماً، كان بركانها السياسي يقذف بتلك الحمم كما يقذف إتنا بالحمم فيتلف المزارع والكروم ويذبل النوار. وهكذا أصبح اُلحسنُ الذي تركه بنو أبي الحسين تفاريق ذابلةً منبثةً هنا وهناك في منطقة قد اكتست بالسواد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 4 - وقفته من مشكلة الغيب والغد وهناك معنى يديره ابن الخياط كثيراً في شعره، وهو يمدح الأمراء الكلبيين، وذلك هو نفاذ البصيرة وبعد النظر، حتى كأن الممدوح امرؤ يضرب بسهم في الغيب، ولديه المقدرة القادرة على تصور ما يجيء به المستقبل، من ذلك قوله في انتصار الدولة: تبدو بخاطرة الغيوب جليةً ... ويرى الضمائر إثرهن خواطر وقوله في: فطنٌ يحدّثُ بالغيوب تظنياً ... فكأنما لحظاته في الخاطر وقوله فيه وفي أبيه مستخلص الدولة: فكأنما الحدثان خلف زجاجة ... تريانه خلل الغيوب شفيفا وكأن أسرار الوجوه تصورت ... لكما بأسرار القلوب حروفا ويبدو لي أن هذا المعنى جاءه من ناحيتين: من تأثير الحالة السياسية المتقلبة التي كانت تنذر بالشر، ومن حالته النفسية التي كان يعييها التفكير في الغيب، وتحس بالعجز عن معرفة كنهه، كلما حاولت ذلك، فاقدر الناس أقدرهم بالنسبة إليه، والعظيم عظيم لأنه يستطيع ما يعجز هو منه، وهو يريد أن يشيح بوجهه عن الغيب لأنه يقلقه فيحيل الاطلاع عليه إلى غيره، والحالة النفسسية التي كان يجدها ومعنى العجز الذي كان يحسه إزاء الغيب ينقله لك بقوله: وغدٌ وبعد غد بمضمونيهما ... عدةٌ تغيبُ والغيوبُ لها نبا وحوادثُ الأيام أكثرُ عبرةً ... من أن يحيطَ بها القياس فتحسبا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 فهو مشغول بقياس القادم على الماضي ولكن هذا القياس يخيب ظنه ويرد تأويله في نحره. ومن جراء هذه الحيرة تجده تعلق بالحاضر لا بالماضي ولا بالمستقبل، بينما قضت الظروف على ابن حمديس مثلا أن يعيش دائماً في ماضيه، ولذلك تسمع ابن الخياط يقول: ما كان أمس فقد فات الزمانُ به ... وما يكون غداً في الغيب موعودُ وبين ذينك وقتٌ أنت صاحبه ... في حالتيه فمذمومٌ ومحمود وتعلو هذه الفلسفة عنده وتكون على أشدها في قوله: تمتعْ بالمنام على شمال ... فسوف يطولُ نومكَ باليمين ومتعْ من يحبك من تلاق ... فأنت من الفراق على يقين وقد كان وصف الممدوح بنفاذ البصيرة وبعد النظر واستطلاع الغيب ديدن المداحين من شعراء صقلية، وليس لهذه الظاهرة صلة بفكرة الألوهية، ورفع الممدوح إلى مرتبة علية، ولكن فيها شيء من سخرية الواقع بالصقليين لإحساسهم بالعجز عن النفاذ في هذا الباب المغلق، وليس في حياتهم السياسية ولا في شوراهم الاجتماعية شيء من بعد النظر، لأن المصلحة العاجلة كانت تبتسر أفكارهم، وتختزل لباقتهم في حساب النتائج، أما سخرية المستقبل بآراء ابن الخياط في ممدوحيه فغنية عن التنويه بها، فقد كان من مصيبة أولئك الممدوحين ببعد النظر أن أفقدهم بعد نظرهم الجزيرة، وأما سخرية الغيب بابن الخياط نفسه فهي تلك النومة الطويلة على اليمين. بهذه الفلسفة في الغد والوقوف الحائر عند مشكلته نرانا إزاء شاعر صقلي ذي فلسفة ذات معالم بينة، وقد رأينا ابن حمديس ذا مذهب في اللذة. وهذا شاعر ذو مذهب في تأمل الحياة، وكلاهما صادق في استمداد تلك الفلسفة من واقع حياته بصقلية، وقد كانت مشكلة الغد المحجوب في حياة الصقليين واقعاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 اجتماعياً وسياسياً - لا قدراً فحسب - فهم على أطراف خطر دائم من جيرانهم ومن أنفسهم، فليست المشكلة هنا، كما يراها كل فرد، ولكنها قضية الجماعة التي تعيش متوجسة خائفة فإذا ثقل عليها الخوف والتوجس، تبلد إحساسها بما كان وما سيكون، وقنعت من دنياها بالحاضر تحياه إلى أن يقع بها على حدود الزمان المقبل، وهكذا أبداً. وقد كان ابن الخياط من جراء واقعه الذي خلق فيه تلك الفلسفة يعيش في انتظار الأحوال أن تنقلب إلى أحسن ليعانق انقلابها ويحييه. أرأيت إليه وهو يرتفع ببني أبي الحسين ويتحدث عن بقايا الحسن وعن ذبول النوار وعن تلك الوجوه التي مزج ماؤها بالكرم، أرأيت إليه كيف انقلب في ساعة واحدة لما استوى ابن الثمنة على غارب الأمر وراح يسير في موكبه مهللا يقول: سر حيثُ فأنتَ وحدك عسكرُ ... والناسُ بعدَكَ فضْلةٌ لا تذكرُ ولقد شهد ابن الخياط فتنة صقلية فلبس فيها عباءة الحكيم، وذهب يحذر قومه أمرها ويحدثهم عن صدور الأمر الكبير من الصغير، والنار من الشرارة، ويقول: وقلتُ تلاَفوا شجة الدهر إنها ... إذا نغلتْ أعيت مطبة آس فإذا جرت إلى الويل قال لهم: ألم أنبهكم؟ لا يهنْ عليك حقيرٌ ... رب شأن يكون منه شئون وشجة الدهر التي نغلت وأعيت كل طبيب - هذا التعبير دليل على يقظة حسية في ابن الخياط لما كان يراه في وطنه، ولعل هذه اليقظة ثم اعتقاده أنه أدى واجبه بتلك النصائح هما الأمران اللذان خففا وقع الحزن على نفسه عند ضياع ذلك الوطن فلم يرثه بشيء. ثم انتهت الفتنة بعد ما خرج ابن الثمنة من وسط اللهب فإذا ابن الخياط يطلب الحياة من جديد، ويعيش كما يريد الحاضر وينسى الماضي، لأنه خلق لحاضره وخلق حاضره له أملاً يكفيه حتى ينقضي، ولم يكن مثالياً لنقول إنه سقط دون مثله وتنكر لها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 5 - الطبيعة الريفية في شعره ونظن أن ابن الخياط في حياته المدنية التي تقلبت به بين الأمراء لم يكن شاعراً يعبر عن جمال الطبيعة الصقلية، ولكن تلك الطبيعة تسربت إلى نفسه وكمنت في أعماقها. ومن ثم ترى أن غيره من الشعراء لم يقفوا عند الكروم ومروج القمح ولا عند الجبال والعيون. وابن الخياط لم يقف عندها كذلك ولكننا لأول مرة نقف عند شعر صقلي تتردد فيه مناظر العنب وقطفه، والسنابل الخضر والصخرة التي يتفجر منها الماء. فهو يصف الكرمة يقوله: وكأن أقرطةً على قضبانها ... منظومةً سبجاً بها وعقيقا وكأن قاطفها يميثُ بكفه ... من مائها بالزعفران خلوقا ويقول فيها أيضاً: ملاحيةً بيضاً وسوداً حوالكاً ... وحمراً وصفراً ملبسات مجاسدَا كأن على أيدي القواطف تحتها ... بما قنأت منها عروقاً مفاصدا وليس في هذه الأوصاف شيء يلفت النظر، وإنما الذي يستوقفنا هو موضوعها - وصف الكرمة - فإن الشعراء الآخرين تعلقوا بوصف الخمر دون العنب، أما هذا الشاعر فله التفاتة - أي التفاتة. إلى ما يملأ ربي وطنه. وهو يقول في أبيات يتنجز بها عدة من انتصار الدولة: وإن أولى نبات أن تثمرهُ ... صنيعةٌ أنت مولاها وموليها فرُبها إنها سبعٌ سنابلها ... في حبة بارك الرحمن لي فيها أودعتها في ثرى جعد فأبنتها ... مستأرضاً أرضها خضراً أعاليها فابعث ولياً وسميها مدداً ... إن الكتائب منصور تواليها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 فهذه الصورة الريفية الجميلة التي استغلها في معنى الصنيعة والنعمة لا تجد لها مثيلا في وحدتها واكتمالها وتدرجها من بين الشعر الصقلي، وهي أول صورة ترف رفيفها وتهتز بالسنابل، ولا شك في أن الوقوع عليها لمن يعيش في صحراء الشعر الصقلي ابن الكتاتيب والكراسات، كسب يجعله يعلق بها كما يعلق الكرم بمن يدنو منه - والتشبيه لشاعر صقلي آهر. ويقول في تكرير التجربة مرة بعد مرة: كالصخرة الصماء يرجعُ معولى ... متثلماً عنها ولا يتفطر لا بل أصابرُها على نزقاتها ... إن المياه من الصفا تتفجر وتتردد هذه الصورة - صورة الماء المتفجر من الصف - في شعره. وفي البيتين السابقين تحس في ذكر المعول صقلياً من أولئك الكادحين في الأرض، وفي الأمواه المتفجرة صورة من تلك الينابيع التي تستوطن الصخر. ولا شك في أن صورة السنابل والحجر الذي انفجرت منه اثنتا عشرة عيناً مستمدتان من القرآن الكريم، ولكن الشاعر لم يقع على هذه الصور بمحض المصادفة أو لمحض ورودها في القرآن، ففيه صور أخرى كان يستطيع أن يستمدها منه ولكن هذه المعاني تحتل من نفسه مكاناً عميقاً، لأنها من البيئة الزراعية ذات السنابل أو ذات الصخور المتفجرة بالينابيع، فاستحضار هذه الصور ملائم للمعنى حقاً، وهو أيضاً دليل على اشتغال نفسه بها اشتغالا يؤكد تأثير البيئة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 6 - البيئة المدنية في شعره ويمتد شعوره بالبيئة إلى الحياة المدنية، وهنا لا نجد عنده التغني بجمال الرقيق فحسب، بل شعور السيد الأرستقراطي إزاء عبيده فهو لم يصور شقاء العبيد ولكن صور شقاءه بهم، ولم يحاول أن يستشف نفسية العبد، أو أن يعتذر عنه بما أجراه عليه الرق. وفي هذا يقول: لي عبد سوء وعبد السوء منكدة ... والمسترق بعبد السوء مولاهُ كأنني كلما أنهاه آمره ... وحين آمرُهُ بالشيء أنهاه قالوا سعادةُ فأل من سعادته ... كأنهم جهلوُا اسماً ضد معناه إن الغراب أبو البيضاء كنيتهُ ... فانظر بأي سواد خصه الله وهو كغيره من شعراء صقلية فتن بالغلمان النصارى وتغزل بهم في غير تبذل: كأن على لباتهمْ وخدودهم ... وذائل ملساً من لجين وعسجد ترى كبرياءُ الحسم في لحظاتهم ... تشابُ برهبانية المتعبد إذا قبلووا صُلبانهم رشفت بهم ... حصَى برَد فيه مجاجةُ صرخد وعاقر الخمر ووجد طلبته منه الدساكر، وهو الوحيد الذي نجد عنده تصويراً لصاحب الحان وتحليلا لخلقيته. وهو أول شاعر يصرح بنوع من الحياة اجتماعية لم نسمعه عند غيره بصقلية إذ يجعل مجالا للقاء المحبوب لا للعبادة والدرس وحدهمما: يا حبذا المسجد الذي جمعت؟ ... نا فيه مقصورة إلى العصر ما ان إلا بستان تلهية ... لولا مراعاةُ حُرمة الشهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 أما القاعدة العامة عنده في معاملة الناس فهي الصبر حتى ينبض الماء من الحجر والرفق في القول والعمل. وما قلل النقد في شعره للحياة الاجتماعية إيمانه بقلة الاكتراث وعدم الاهتمام بالأمور التي لا تعنيه مباشرة، وعدم التعمق والتحقيق مع الناس والرضى منهم بالمجاز. وصفات الرفق واللطف والرقة تجلى في واقعه العملي أكثر من صنعته الشعرية . وإذا استنجز عدة تأخرت رايته يترفق في التذكير بها واجتلاب الانتباه إليها، كقوله سيستنجز الدولة حاجة وعده بها: وقائل قال لي أبشرْ بمنجحة ... إن الأمير كريمٌ قال فانتصرا ما حاجة هي أولى أن تفوز بها ... من حاجة منحتها عينهُ نظرا إذا ابن مستخلص الإسلام قام بها ... فاقعد فإنك قد وليتها الظفرا ألقيتها منه في سرّ يجولُ به ... إذا تناسيتها مستبطناً ذكرا وقد جعلته صلته بالملوك جباناً يفرق من نقد الحياة السياسية والاجتماعية، ومن حكمه في هذا الشأن قوله: إن سبّ الملوك من شع المو ... ت فإياك أن تسب الملوكا إن عفوا عنك بالذنوب أهانو ... ك وإن عاقبوا بها قتلوكا 7 - صنعته الشعرية أما في صنعته الشعرية فإنه لا يحفل كثيراً باللطف والرقة، وهو أقدر على تصوير المناظر العنيفة منه على تصوير المناظر الهادئة. ومع ذلك فهو شغوف بوصف الحديث وسحره وجماله، أي هو شغوف بالرقة التي تنساب في الكلام، وأوصافه للحديث ليست بشيء لأنها تقليد الشعراء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 معروفين كبشار وابن الرومي ولا يزيد عن وصف الحديث بأنه رطب يانع أو خمر معتقة أو فاكهة رطبه. فهل يكون شغوفاً بالرقة في الحديث لأنه يستطيع أن يسيطر على الموسيقى في الفاظه؟ استمع إليه يقول: والحديث الذي يهزل منه ... في الهوى أريحيةٌ النشوان أو يقول: ما ضرّ من قتهُ حديثك أنْ ... يحرم قوتاً بقية العمر اللحظُ راحٌ واللفظُ فاكهةٌ ... والخد رامشنةٌ من الزهر فهل هذه العبارات التي تجيء فيها " يهزل " " وقته " " ورامشنة " وهل تكرير عبد السوء في قصيدة سابقة مما يدل على كلف باللفظ الجميل؟ ومع ذلك فليست كل أشعاره تسودهها هذه الظاهرة من الإهمال في الموسيقى اللفظية ولا نستطيع أن نقول إن الخشونة هي الطابع العام في شعره. وهو في صناعته قادر على أن يخلق جواً عاماً كما رأيت في صورة السنابل وهناك قصيدة يمكن أن تتخذها مفتاحاً يقودنا إلى طريقته في تأليف الشعر وتلك القصيدة هي: ليس إلا تنفسٌ الصعداء ... وبكائي، وما غناءُ بكائي منْ رسولي إلى السماء يؤدي ... لي كتاباً إلى هلال السماء كيف يرقي إلى السماء كثيفٌ ... يسلك الجسم في ريقي الهواء عجز الإنس أن ترقى إليها ... فعسى الجن أنْ تكون شفائي أم ترى الجن تتقى شهب الرج ... م فدعني كذا أموت بدائي ليس في هذه القطعة حلاوة موسيقية، وإنما فيها وحدة وتسلسل، فالشاعر يعلن العجز ويتنفس الصعداء لعل أنفاسه تكشف عن حاله لهلال سماوي فتن به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 ولكن أنفاسه لن تبلغ إلى هنالك لأنها أعجز من أن تقطع هذه المسافة الطويلة فأين الرسول الذي يقطعها؟ ولكن الرسول الإنسى كثيف، وكيف يمكن للكثيف أن يرقى في الهواء الرقيق - لا شك أنها محاولة مخفقة، فليلجأ الشاعر إلى الجن، إلى مادة نارية رقيقة غير كثيفة، ولكن أليس الجن قد حرمت عليهم معارج الرقى إلى السماء وشهب الرجم تتلقاهم بالموت، إذن فماذا بقي؟ لا الإنس يستطيعون ذلك ولا الجن يقدرون عليه فليبق الشاعر حيث هو يتنفس الصعداء ويرسل الدموع الحارة فذلك هو كل نصيبه في الحياة. وتسأل لم اختار الشاعر بناء هذه الصورة بهذا التدرج الذي لا تجد فيه ثغرة؟ لأن أمامه فكرة معينة لا يريد أن يتخلى عنها وهي أن حبيبه هو " هلال السماء ". وأحياناً تتميز قصيدته بالاندفاع الذي يسوق في طريقه انسجاماً عاماً في التعابير، وتفارق الشاعر خشونته إلا قليلاً، كما في هذه المقدمة الغزلية بقصيدة هنأ بها أبن ثقة الدولة بالسلامة من الجدري وفيها يقول (1) : لا يطمعنك في السلو تكهلي ... أنا من علمت على الغرام الأول إن كان غرّك ذا الوقار فإنه ... كالطيب يعبق في القميص وقد بلى نسك نصب به حباله مطعم ... متعود قنص الغزال الأكحل ولرب مأربة لبست لها الدجى ... وقضت بها زطراً لطافة مدخلي أسرى كما تسرى النجوم لحاجتي ... والناس بين مدثر ومزمل   (1) عنوان الأريب 1: 133. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 فراغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 الفصل الرابع هجرة الشعر من صقلية 1 - هجرة العلم والشعر إجمالا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 فراغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 هجرة العلم والشعر إجمالا ً في خلال السنوات الثلاثين التي تم فيها الفتح حدث أول أثر مباشر في الحياة العقلية والأدبية بالجزيرة فإن عدداً كبيراً من العلماء والأدباء والصالحين غادر الجزيرة على دفعات - بعضهم فر فزعاً من أول هجوم، فخرجوا كما خرج ابن الصفار " فارين بمهجهم تاركين لكل ما ملكت أيديهم "، وبعضهم هاجر حين رجع أسطول ابني تميم ويئسوا من صلاح الأمر بعد فساده، وبعضهم تسلل من بعدُ، حين سنحت له الفرصة. ولا شك في أن الحرب نفسها قد قضت على بعضهم فقتلوا أو ماتوا وخاصة لما انتشر الوباء في بلرم، وفريق منهم آثر الإقامة في بلده (1) . واختلفت وجهات المهاجرين فذهب جماعة إلى الأندلس ولكن أكثرهم حل في شمال إفريقية ووصل كثيرون إلى مصر. ولا شك في أن كثيراً من الذين توجهوا إلى المشرق كانوا يضعون نصب أعيهم حقيقتين بارزتين، أولهما أن صقلية كانت ذات يوم ولاية تدين بالتبعية لمصر، وثانيهما أن مكة كانت مهوى أفئدتهم، ولا يستغرب أن تكون الدوافع الدينية هي التي دفعت بكثير منهم في ذلك الاتجاه، حتى لقد جاور بعضهم في مكة في ظل الدين الذي كان يفيء على حياة المسلمين جميعاً، وتمحي في رحابه الحدود الجغرافية. وعاش الصقليون في خارج بلدهم يتابعون تلك الدراسات التي كانوا قد قطعوا فيها مرحلة طويلة، وأنشأوا لهم مدارس أدبية وفقهية ولغوية أينما حلوا (2) ، فامتاز الصقليون في مصر بجهودهم في النحو واللغة والقراءات في كل من الإسكندرية والقاهرة، وتمتاز هذه   (1) Amari: S. D. M. vol، 3، p. 169. (2) ليس من منهج البحث أن أتناول بالدرس جهود هذه المدارس الصقلية في الخارج بالتفصيل، وهذا القدر هو الذي يتمشى مع الكيان العام للمنهج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 الحركة بما خلفوه من مؤلفات وخاصة ابن القطاع في اللغة والنحو والعروض (1) وابن الفحام في القراءات وأبو الحسن الصقلي في النحو والعروض. ولم تذكر المصادر مؤلفاً معيناً لأبي الحسن ولكني أظن أنه ترك في اللغة كتاباً أو كتباً ينقل عنها ابن منظور في اللسان (2) . كما أن آراء ابن القطاع اللغوية مبثوثة في تاج العروس وهي فيما يظهر من كتابه في الأفعال. أما ابن الفحام فألف في القراءات كتاب التجريد في بغية المريد (3) حتى قال فيه بعض معاصريه " ما رأيت أعلم بالقراءات منه لا بالمغرب ولا بالمشرق وإنه ليحفظ القراءات كما نحفظ نحن القرآن " (4) . وعند السلفي صورة واضحة عن هؤلاء الصقليين بمصر وعن ألوان نشاطهم الثقافي قد لا نجدها في مصدر آخر. وفي إفريقية أتم المازري عمل المدرسة الصقلية في الفقه والحديث واشتهر في التدريس حتى قصده الطلبه من نواح كثيرة في الأندلس وإفريقية (5) ودخلت تعاليمه وكتبه بلاد الأندلس مع تلامذته منها، وكاتبه بعضهم يستجيزه كتبه، وممن أجازهم القاضي عياض، وتخرج عليه من أهل إفريقية جماعة أصبحوا أعلاماً في المذاهب، وقصدوا للتدريس في المهدية وقابس وتونس وغيرها. وشهد له بالتفوق والذكاء رجال من غير مذهبه قال السبكي فيه " أما المازري.. فكان من أذكى المغاربة قريحة وأحدهم ذهناً، بحيث أجترأ على شرح البرهان لإمام الحرمين، وهو لغز الأمة الذي لا يحوم حول حماه ولا يدندن حول مغزاه   (1) من مؤلفاته الموجودة كتاب الأفعال طبع كلكتا في ثلاثة أجزاء، وفي معهد المخطوطات بالجامعة العربية نسخة من كتابه البارع في العروض. (2) انظر مادة " فدن " و " حمي " في اللسان. (3) في دار الكتب المصرية نسخة من هذا الكتاب. (4) السلفي: الورقة 108. (5) للمازري ترجمات عدة منها في الديباج ص279 وفي ازدهار الرياض 3/ 65، وخير ما يصور أثره في المغرب وكثرة تلامذته لابن الأبار فتحت أرقام كثيرة فيها وردت أسماء تلامذته (انظر مثلا رقم 275، 630، 671، 746، 750، 770، 891، 1666، 1367، 1512؟ إلخ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 إلا غواص على المعاني ثاقب الذهن مبرز في العلم " (1) . وكان المازري على وجه الإجمال مالكياً أشعرياً متشدداً " مصمماً على مقالات الشيخ أبي الحسن الأشعري رضى الله عنه - جليلها وحقيرها كبيرها وصغيرها لا يتعداها ويبد من خالفه ولو في النزر اليسير والشيء الحقير " (2) . وقد خالف الجويني أبا الحسن في مسالة ليست من القواعد المعتبرة فقال عنه في شرح البرهان من خطأ شيخ السنة أبا الحسن الأشعري فهو المخطئ (3) . وخير ما يصور روحه في الدرس والبحث وقفته من الجويني في شرح البرهان ونقده للإمام الغزالي في الاحياء، ولا ندري إن كانت هذه الروح الشديدة المحافظة هي روح المازري وحده أو هي طابع مغربي صقلي، وعلى أي حال فقد رأينا المحافظة والتشدد يغلبان على مدرسة الفقه والحديث بصقلية (4) . أما الذين هاجروا الأندلس فكانت تغلب عليهم صبغة الشعر، وليس ذلك لتقارب بين البلدين في المذهب الشعري، وإنما هو بتأثير من بعض الأمراء الأندلسيين وخاصة ابن عباد، ممن كانوا يجزلون الهبات للشعراء. ولابد من ان نجمع في الذهن صورة عن تلك التقلبات في الحوض الغربي من البحر المتوسط ونستعيد الأحداث التي وقعت على أثر النهضة الأدبية في الأقطار الثلاثة: إفريقية؟ صقلية - الأندلس. ففي بلاط المعز بن باديس كان الشعر الإفريقي في أقوى أحواله نشاطاً وحركة ولكن لم يمض وقت طويل حتى خربت القيروان وتفرق شعراؤها فغدوا الحياة الأدبية في كل من صقلية والأندلس - وقت أن كان حظ الشعر في هذين القطرين آخذاً بالصعود ولم يمض إلا سنوات حتى سقطت صقلية فإذا بكثير من شعرائها ينتقلون إلى الأندلس   (1) السبكي: طبقات الشافعية 4/ 124. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه. (4) انظر المقالات القيمة التي نشرها الأستاذ حسن حسني عبد الوهاب باشا عن المازري مجلة لواء الإسلام عدد 8، 9، 10 من سنة 1949 وانظر العيد المئوي لميلاد أماري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 ويزيدون فيها من نشاط الحياة الأدبية. وهذه الصورة من التنقل هي القاعدة التي تفسر الشعر في المغرب أثناء القرن الخامس. وعلى هذا الاعتبار تكون صقلية الأدبية حلقة في سلسلة كبرى. أما مادة هذه الحلقة - حديدية كانت تلك المادة أو ذهبية - ففيها أثر من الصياغة المشرقية، والشيء الغامض في هذه الحياة الأدبية بصقلية هو مدى تأثرها بالأندلس نفسها. أما أشهر الشعراء المهاجرين من وجهة عامة فهم ابن حمديس وأبو العرب الصقلي وابن أبي البشر البلنوبي الصقلي، والثالث بين هؤلاء توجه إلى المشرق وقد تقدمت الإشارة إليه بين من نزلوا مصر وزالوا فيها الدراسات اللغوية والنحوية. ولكنه كان إلى ذلك شاعراً وإذا استثنينا ابن حمديس كان شعره أكثر ما وصلنا لشاعر صقلي إذ يشمل الجزء المتبقي من ديوانه وجزءاً آخر اختاره العماد في الخريدة وجزءاً ثالثاً في مختصر الدرة وغيره، ولكن في دراسة هذا الشعر على أنه صقلي حيفاً على دقة البحث، إذ لا نلمح فيه أي ذكر أو إشارة لصقلية من ناحية، كما أن الطابع الفني العام فيه مفارق لسائر الشعر الصقلي، من ناحية أخرى. إنما من الطبيعي أن يدرس البلنوبي في ظل بيئات جديدة عاش فيها، وفي ظل ثقافته اللغوية النحوية العروضية. والشعر الذي بقى له كله في المدح والغزل وقصيدة واحدة في رثاء أمه التي توفيت بمصر. وممدوحوه كبني الموقفى واليازوري وعز الدولة وابن المدبر ورئيس الرؤساء كلهم من المشارقة. ومن المظاهر البارزة في شعره الرقة في الأسلوب إذا قورن بالشعر الصقلي عامة، واعتماد بعض أنواع من البديع. ومن المؤثرات التي تركها فيه تدريس العروض اعتماده أحياناً بناء القصيدة لتقرأ على عدة اوزان وهو الصقلي الوحيد الذي يحاول ذلك. أما دراسة اللغة والنحو فجعلته يوجه اهتمامه إلى محاولات تافهة من مثل الألغاز بالأسماء، وجمع حروف المعجم في بيت واحد. ولكن شعره عامة غير خاضع لنظرة عامة كونية وقد نستخلص منه وحدة تقع تحت عنوان اللذة تتبدد بها النزاعات المتضاربة وتمسخ منها، فهي حيناً لذة الفاتك وحيناً لذة العفيف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 ومن هذه الحيرة بين ما تمليه الشهوة وبين ما تحد منه قلة التجربة يقع الشاعر في التناقض البين. فقد يصور لك قصيدة من شعره أنه عَفّ وغضّ طرفه وقبل الكأس محمولاً على التشبيه والتمثيل (1) : قبلت خد لكاس محمولا على ال؟ ... تشبيه أو ضرباً من التأويل بالرغم مني أن أصادف بغيتي ... وأعود منها راضياً ببديل وغضضت من بصري ولو أطلقته ... لعلمت أين مواقع التقبيل ثم ينسى هذا التعفف الذي دفع غليه دفعاً بعد بيت واحد أو بيتين وإذا هو ينال كل ما اشتهاه، فيقبل الحبيب ويعانقه بعد ما أظهر الندم على ما حرمه. وبين هذا الحرمان الواقعي والنيل المتخيل يقع الشاعر في التناقض، لأنه يبني من الأحوال التي يعالجها غيره واقعاً لنفسه لم يتحقق. ولكن صقلية تتجسم في شعر أبي العرب - بعض الشيء، وإن كنا حرمنا الشعر الذي قاله هذا الشاعر في صقلية إذ لم يصلنا إلا بعض القصائد التي قالها في الأندلس وهي على قلتها ترسم لأبى العرب حدود شخصية واضحة - شخصية الشاعر الجاد الذي تسيطر عليه الفخامة والقوة. وهو في هذه الناحية وفي إيمانه بالخمر يشبه ابن حمديس ولكنه يفارقه في النظرة الوطنية. فكلا الرجلين تلقى ضياع الوطن تلقياً يتفق مع نفسيته. فقد اجتمعت عوامل كثيرة على أن تحرم ابن حمديس كل عزاء بعد ما غلبه اليأس من العودة إلى وطنه. أما أبو العرب فإنه أظهر التجلد وتعزى عن هذا الوطن، وأغلق باب التصريح دون حزنه فلم يبد إلا في فلتات قليلة نتبينها في مثل قوله (2) : وهل في ضمير الدهر للقرب عودة ... فنغني كما كنا أم الصبر أعود ليالي ترضينا الليالي كأنها ... إلينا بإهداء المنى تتودد   (1) مجموعة الشعر رقم 1 ص 5. (2) مجموعة الشعر رقم 62 من الترجمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 وذهب يقنع نفسه - كما سبق أن أشرت - أن الأرض كلها وطن ما دام أصله من تراب، وشغل نفسه حيناً بالتدريس، فكان في كل تلك المحاولات ما يسليه قليلا. ولكن سقوط صقلية بعد إخفاق ابن عباد في سرقوسة ونوطس ووقوع الجزيرة في يد النورمان خلق ابن حمديس خلقاً جديداً، ولم تستطع تلك الهجرة أن تنسيه صقلية، فظل يحن إليها طوال حياته، فإلى ابن حمديس شاعر صقلية أوجه الاهتمام في الفصل التالي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 الفصل الخامس ابن حمديس أثر من آثار الفتح 1 - مجمل حياته 2 - العشر الصقلي في ديوانه 3 - تحليل قصيدتين صقليتين له 4 - أثر صقلية في نفسه وشعره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 فراغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 1 - مجمل حياته كان ابن حمديس سرقوسي الأصل، وربما لم يكن يزيد عمره، حين سقطت بلرم، عن سبعة عشر عاماً. وفي هذه السن الباكرة شهد صقلية تضيع من أيدي المسلمين بلداً آخر، وشهد ما هو ابعد اثراً من ذلك في نفسه، فقد حضر طرفاً من وقفة وطنه وعناده للنورمان مع ابن عباد، واشترك هو نفسه في الدفاع عن ذلك الوطن، فهو يحدثنا عن المعارك البحرية التي كان يخوضها أهل بلده فيقول في إغراقهم لسفن الأعداء (1) : صَببنا عليها ضربنا من صَوَارم ... فغاضت بها من أسرها القلب أنفس ونحن بنو الثغر الذين سيوفهمْ ... ذكورٌ بأبكار المنايا تعرسُ فمن عزمنا هنديةُ الضرب تنتضى ... ومن زَندنا ناريةُ البأس تقبسُ وفي سرقوسة وهب شبابه للحب والحرب والتمتع والحرب والتمتع بالحياة ولذائذها، فكان يخرج مع صحبه إلى الحانات او الأديرة ليشرب الخمر ويسمع الغناء وينعم بمناظر الرقص، وترك هذا اللون من حياة الفروسية أثره العميق في نفسه وخاصة وأنه لم يرو غليله منه. وفي أثناء هذه الفترة من حياته ببلده توفي جده وهو يرسم حياة مناقضة نقيضاً مفارقاً لشبابه العارم، إذ توفي عن ثمانين عاماً قضاها في النسك، وكان هو الشخص الوحيد من أقربائه الذي استطاع أن يودعه قبل ان ينزل (2) : تنسك في برّ ثمانين حجة ... فيا طول عُمر فر فيه إلى الرب ضممتُ إلى صدري بكفي صَدره ... وأسندت مخضر الجناب إلى الجنب   (1) الديوان: القصيدة رقم 161. (2) الديوان: القصيدة رقم 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 تبركت الأيدي بتسوية الثرى ... على جبل راسي الأناة على هضب ولم يكن قد تجاوز الرابعة والعشرين حين غادر صقلية وذهب يصحب العرب في الصحراء الإفريقية سنة 471، ولعله في هذه الفترة من حياته اتصل بالأمير تميم ومدحه، وربما كان يشير إلى ذلك بقوله فيما بعد يخاطب الحسن بن علي (1) : ومدحت غلاماً جد أبي؟ ... ك وها أنا ذا شيخاً يفنا ونحن نجهل كل شيء عن سبب هذه الرحلة أما ما ظنه أمارى من حادثة غرامية أخرجته عن وطنه مستمداً ذلك الظن من إحدى قصائده (2) فقد صححه فيه البارون فون شاك إذ ليس في القصيدة المشار إليها أي تلميح إلى مثل ذلك الحادث. وإذا صدقت الروايات فإنه في العام نفسه انتقل من إفريقية إلى الأندلس ودخلها سنة 471هـ؟ أيضاً. وفي التكملة (3) أنه لما دخل الأندلس امتدح جماعة من ملوكها ثم صار من بعد إلى إشبيلة حيث المعتمد بن عباد، وهذا يفيد أنه مدح جماعة آخرين قبل اتصاله بالمعتمد، مع أن ديوانه يكاد يقطع بأنه قصد المعتمد دون أن يعرج على غيره. وهو يحدثنا أن المعتمد أقام مدة لا يلتفت إليه ولا يعبأ به، حتى كاد يستولي عليه اليأس وهم بالنكوص على عقبه. وهذه نقطة هامة لأنها تدلنا على أن المعتمد لم يستدعه أبا العرب وابن رشيق والحصري وغيرهم. وبينما كان اليأس قد أخذ يدب نفسه، جاءه غلام يحمل شمعاً ومركوباً ويدعوه لمقابلة المعتمد، فلما وصل إليه أجليه على مرتبة فنك، وأراه منظراً وامتحن به قدرته على إجازة الشعر ومنحه جائزة سنية والزمه خدمته (4) .   (1) الديوان: القصيدة رقم 320. (2) القصيدة رقم 2 في الديوان. (3) الترجمة رقم 1783. (4) انظر مقدمة القصيدة رقم 344 في الديوان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 وفي هذه الفترة التي استمرت ما لا يقل عن ثلاثة عشر عاماً ذهب ابن حمديس يطيل قصائده في المعتمد، ويذكر جهاده وانتصاراته على الفرنجة، ويصف المعارك التي كان يخوضها، ويشارك في حياة الأندلس اللاهية فيحضر الدعوات ويخرج إلى المتنزهات ويشرب الخمر ويلهو مع اللاهين ويتبارى مع المتبارين في صياغة الشعر. وكانت سرسوقة التي خلفها وراءه لا تزال تجاهد، وابن عباد الصقلي يغزو قلورية ويكسب نصراً بعد نصر، وكل شيء من أحداث الوطن يزيد في الأمل ويجعل أوبه المغترب أمراً ممكناً، وابن حمديس في المجالس وبين الناس يضحك للحياة وينال من طيباتها، فإذا خلا إلى نفسه تذكر صقلية ورجح الشك عنده على اليقين، وكان يعكر عليه صفاء الحياة ما يرد عليه من أنباء أصحابه الذين قتلوا ولداته الذين خطفهم المنية، وأقربائه الذين صرعتهم الحروب، وفي غمرة من تلك الغمرات اللاهية وصلته رسالة من وطنه تحمل إليه النبأ بوفاة أبيه وبأنه قبل وفاته كتب له رسالة يوصيه فيها بالبر ويحضه عليه. وفزع ابن حمديس للنبأ وزاد في حزنه إحساسه بأنه غريب، واجتمعت في نفسه عواطف الغريب الذي فقد شخصاً من أحب الناس إلى قلبه، فرثى والده باكية كانت أول الغيث من تلك الدموع التي ظل يبكي بها الوطن طوال حياته: أتاني بدار النوى نعيه ... فيا روعةَ السمع بالداهيهْ فحمر ما ابيض من عبرتي ... وبيضَ لمتىَ الداجيه بدار اغتراب كأن الحياة ... لذكر الغريب بها ناسيه فمثلتُ في خلدي شخصهُ ... وقربت تربته القاصية ونحتُ كثكلى على ماجد ... ولا مسعدٌ لي سوى القافيه وما أنس لا أنس يوم الفراق ... وأسرارُ أعيننا فاشيه ورحتُ إلى غربة مرة ... وراح إلى غربة ساجيه مضى وهو منى أخو حسرة ... تمازج أنفاسه الراقية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 فلم يبك في القصيدة أباه بمقدار ما بكى نفسه، ولم يتأثر لموت أبيه بمقدار ما أثر في نفسه أنه لم ير أباه قبل الموت. وفي هذا الحزن الجارف تمثل تلك الصورة المحبوبة لديه، وتذكر يوم الفراق، وحسرة أبيه وهو يودعه، كأنما كان يحس من يومئذ أنه يودعه إلى الأبد. ولكن ابن حمديس لم يغادر الأندلس بل ظل يمدح ابن عباد متكئاً في مدحه على ما كان أكبر حقيقة لديه، إذ اخذ يذكره أن تعلقه به شديد وأن حبله به وثيق لم يقطعه موت أقربائه في الوطن، ولم يجذه موت أبيه، وكان حقيقاً به أن يرجع ولكن لطف ابن عباد قيده (1) : وكم حوى الترب دونى من ذوي رحمى ... وما مقلتُ لبعدي منهم أحداً ولم يسرني ممن مثواكَ موتُ أبي ... وقد يقلقلُ موتُ الوالد الولدا وما سددت سبيلي عن لقائهم ... لكن جعلتَ صفادي عنهم الصفدا وحسن برّ فاضَتْ حلاوته ... على فؤاديَ من حر الأسى بردا في هذه الفترة من حياته كان يشيد بانتصارات قومه ويمدحهم ويحضهم على مواصلة القتال ويحذرهم الغربة، وينصحهم بالاعتماد على أنفسهم، فإنه لن يغنيهم تطلعهم إلى الناس. ولكن صقلية سقطت فهز سقوطها قلبه، ولم يكد يفيق من هول الصدمة حتى رأى نفسه يقف إلى جانب ابن عباد الأسير في أغمات، وكأنما شعر بصقلية تسقط مرتين، وربما كان في المرة الأخيرة حادث انكسار المركب به أثناء خروجه من الأندلس وغرق جارية له تسمى جوهرة. وهو يشير إليها في كتاب كتبه إلى ابن عمته أبي الحسن بعد أن كتبت له السلامة (2) : ألمْ أكُ في الغرقي مشيراً براحتي ... فلم أنجُ إلا من لقاء حمامي ألم افقد الشمس التي كان ضوءها ... يجلّي عن الأجفان كل ظلام   (1) القصيدة رقم 101. (2) الديوان: القصيدة رقم 282. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 طمعت بهذا كله في لقائكم ... لتغرم نفسٌ اتلفتْ بغرام وأقام في أغمات مدة قريباً من المعتمد واتصل بأبي القاسم قاضي سلا (1) ومدحه، ولكن مقامه لم يطل وعاد إلى المهدية - إلى الأمير تميم فمدحه ومدح بيجاية المنصور بن الناصر بن علناس، ثم اختص بمدائحه بعد تميم ابنه يحيى وعلي بن يحيى والحسن بن علي. وفي هذه الفترة الطويلة يجد الدارس قصائد تصور العلاقة بين صقلية النورمانية وشمال إفريقية ويستشف منها كيف وقفت الأيام بابن حمديس وقفة من يهاجم أعداء بلده لا بالسيف والرمح ولكن بالشعر. وطال به العهد في إفريقية في ظل بني باديس وغيرهم، وظل يتردد ما بقي من عمره الطويل بين المهدية وبونة وبجاية وميورقة وفقد بصره في أواخر حياته (2) وأصبحت العصا ضرورة لازمة له، ومرة نراه يدخل على كرامة بن المنصور صاحب بونة، وهو كفيف البصر، فيقول له كرامة: كيف حال الشيخ فيجيبه كيف حال من كان صاحب عينين فصارتا غينين فقال له كرامة: " خذ هذه العصا وتعكز عليها " فمد يده لاماً باعه بعد ذلك بثلاثين ديناراً (3) . ومع ذلك فإنه لم يشر إلى فقدان بصره في شعره، وفي الثمانين من عمره كان نشاطه الفني لا يزال قوياً - على ضعفه وشيخوخته - فكم رئى من أناس ماتوا وهو في تلك السن، وكم نظر إلى الثمانين وهو لايصدق أنه بلغها، وكأن رثاءه للناس كان رثاء يمهد به للبكاء على نفسه، زكأن توقد الشعلة في ذلك العام كان إيذاناً بانطفائها وفناء ذلك " العنصر " الحساس. وفي شهر رمضان عام 527 توفي ودفن بيجاية. أما القول بأنه دفن في ميورقة بجانب ابن اللبانة (4) فخلط بينه وبين أبي العرب الصقلي، لأن ابا العرب هو الذي دفن بميورقة إلى جانب الشاعر المذكور (5)   (1) الديوان: القصيدة رقم 356 ورواية الذخيرة أكمل. (2) أشار ابن خلكان إلى أنه عمى انظر المكتبة: 626 ورواية السلفي تؤيد ذلك. (3) السلفي: المعجم المجلد الثاني الورقة 282. (4) هو نص ابن خلكان في المكتبة: 626. (5) التكملة: الترجمة رقم 511 وفيها أن أبا العرب كان طوالا وابن اللبانة دحداحا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 2 - الشعر الصقلي في ديوانه أربعة وعشرون عاماً في صقلية - تلك هي كل الفترة التي عاشها ابن حمديس في وطنه، على تحقيق، أما إذا شئنا المجاز قلنا إنه عاش كل حياته في ذلك الوطن - أي في ظل الأعوام التي وعي ذكرياتها وأحداثها. وقد كانت تلك السنون هي عصر الشباب، وفي ذلك العهد تكونت النواة الأولى لشاعريته فشعره في صقلية إبان الصبا هو شعر الفارس المحارب الذي يلتفت إلى آلات الحرب والسفن الحربية ويعتز بالقوة ويحب فيكون حبه عارماً وشهواته فاتكة، ويتردد بين عنف الحرب، ورقة الحب. وهذا ما نلمسه في قصيدة له من ذلك العهد مطلعها (1) : ليَ قلب من جامد الصخر أقسى ... وهو من رقة النسيم أرق وفي هذا الشعر الذي قاله في الصبا فخر بالضرب والطعن وبالفتك الشهواني، وهي نشأة عارمة تمثلها لك القصيدة التالية (2) : وذات ذوائب بالمسك ذابت ... بلغتُ بها المنى وهي التمنى منعمة لها إعزاز نفس ... يصرفُ دلها في كل فن شموسٌ من ملوك الروم قامت ... تدافع فاتكاً عن فتح حصن بخد لاح فيه الوردُ غصناً ... وغصنٌ ماسَ بالرومان لدن فطالت بيننا حربٌ زبون ... بلا سيف هناك ولا مجنّ وفاضت نفسها الحمراء منها ... وفاضت نفسي البيضاء منى   (1) القصيدة رقم 202 ويجري معها من قصائد الصبا رقم 161، 306 وأظن أن 243 من ذلك العهد. أما القصيدة رقم 49 فتشير إلى غزوة أندلسية. (2) القصيدة رقم 306. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 ففي هذا الشعر - والشعر الذي قاله في صباه عامة - قوة الشباب واندفاعه وحرارته وحدة شهواته وصوره المستمدة من حياة القتال ومن دفاع الروم ومن مهاجمة الحصون. وقد ظل ابن حمديس عاكفاً على هذه الصور يحبها لأنها كانت جزءاً من شبابه، وبعد أن خفت صوت الشباب عنده، ظل قوي الشهور جارف الرغبات، يكلف بوصف المعارك البحرية خاصة. وقد بقي ثماني سنوات بعد خروجه من صقلية وهو يعلق أملا كبيراً على جهاد ابن عباد الصقلي وبني حمود بقصريانة وجرجننت، ويتوقع أن يكلل جهادهم بالنصر في النهاية. وكانت هذه الفترة كلها في الأندلس وفيها نظم قصائده " الصقليات " وهو في طور مزهر بالآمال، وفها أيضاً نظم القصائد التي يبكي فيها صقلية إثر سقوطها مباشرة (1) . وفي القصائد التي كانت في عهد الرجاء نجده يفتخر بقومه " بني الثغر " الذين يغذي فطيمهم من حلب الأوداج، ويثنى على شجاعتهم وحربهم للروم في البر والبحر، ونكاية سفنهم ونفطها المحرق في أعدائهم، ويقر لعدوه بالقوة شأن الفارس الذي لا يفخر فخراً كاذباً: ومتخذي قمص الحديد ملابساً ... إذا نكل الأبطال في الحرب اقدموا (2) كأنهم خاضوا سراباً بقعة ... ترى للدبا فيها عيوناً عليهم صبرنا بهم صبر الكرام ولم يسغ ... لنا الشهد غلا بعد ما ساغ علقم وفي كل قصيدة من هذه القصائد " خاتمة حنين " إلى الوطن هي اضعف في القصيدة من حيث النفسية: أحن إلى أرضى التي في ترابها ... مفاصلُ من أهلي بلين وأعظمُ كما حن في قيد الدجى بمضلة ... إلى وطن عوْدٌ من الشوق يرزمُ   (1) القصائد التي نظمها في دور الأمل بنجاح المقاومة هي 269، 270، 275 والقصائد التي قالها يبكي الوطن إثر سقوطه هي 157، 238، 27 (بعد سقوطه بسنين) . (2) رقم 269. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 ونراه في قصيدة أخرى يحرض " بني الثغر " على الجهاد، ويدعوهم إلى أن يتركوا النوم، وأن يردوا وجوه الخيل نحو معركة تتكشف للروم عن ثكل ويتم، ويصولوا عليهم بالسيوف، وينفذ من ذلك إلى تذكيرهم بحق الوطن وعلوه على كل بلد آخر (1) : ولله أرض إن عدمتم هواءها ... فأهواؤكم في الأرض منثورة النظم وعزكمُ يفضي إلى الذل والنوى ... من البين ترمي الشمل منكم بما ترى فإن بلاد الناس بلادكم ... ولا جارها والحلم كالجار والحلم أعن أرضكم يغنيكم ارض غيركم ... وكم خالة جداء لم تغن عن أم أخلى الذي ودى بود وصلته ... لدى كما نيط الولي إلى الوسمى تقيد من القطر العزيز بموطن ... ومنْ عند ربع من ربوعك أو رسم وإياك يوماً أن تجرب غربة ... فلن يستجيز العقلُ تجربةَ السّمّ وفي هذه القصيدة يتكىء ابن حمديس على قوته الخطابية، ويستفيد من تجربته التي عرفها في الحياة - تلك الغربة أو ذلك السم الذي ذاقه - ولا يريد لغيره أن يجربه، ولذلك يحرض أخاه في الوطن أن يموت مدافعاً عن وطنه، فذلك أجدى عليه من الضرب في بلاد الناس. ولا ندري أي روح أشاعتها هذه النصائح في نفوس السرقوسيين، وأي قوة بعثتها في دمائهم، ولكن الذي ندريه حقاً أن هذه النغمة لم تطل، فلم تلبث سرقوسة أن سقطت، وغرق ابن عباد الذي كان يحيي الأمل في نفس الشاعر، وسقطت قصريانة وعرقت الأحلام التي كانت تراوح ابن حمديس وتغاديه في كأس من الياس، وسقطت دمعة كان يحبسها وتحدثه نفسه أن اليوم الذي يذرفها فيه لم يحن بعد (2) : أعاذل دعني أطلق العبرة التي ... عدمتُ لها من أجمل الصبر حابسا   (1) رقم 270. (2) رقم 157. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 لقدرتُ أن تعودَ لقومها ... فساءت ظنوني ثم أصبحت يائسا وعزّيتُ فيها النفس لما رأيتها ... تكابد داءً قاتل السمّ ناحسا وكيف وقد سيمتْ هواناً وصيرتْ ... مساجدها أيدي النصارى كنائسا إذا شاءت الرهبنُ بالضرب أنطقتْ ... مع الصبح والإمساء فيها النواقسا صقليةٌ كاد الزمانُ بلادها ... وكانت على أهل الزمان محارسا فكم أعين بالخوف أمستْ سواهراً ... وكانت بطيب الأمن منهم نواعسا أرى بلدي قد سامه الروم ذلة ... وكان بقومي عزه متقاعسا وكانت بلادُ الكفر تلبس خوفه ... فأضحى لذاك الخوف منهن لابسا ومن حقنا هنا أن نسجل لابن حمديس هذه الروح الدينية التي شاعت في هذه القصيدة، إذ لم نلمسها من قبل إلا في كلمة الجهاد المبهمة، أما هنا فإن المسجد قد احتل مكانته من نفس الشاعر، والغيظ على تلك النواقيس التي كان يدقها الرهبان دق في صدره - كان ابن حمديس يحب الوطن سواء اقترن بشعور ديني خاص أو لم يقترن، كانت ذكرياته من ذلك الوطن سيفاً وكأساً وقينة، فلو أنه كان يمس الوتر الديني في قصائده لكان كاذباً مع حياته ومشاعره. لقد كان يقدم الوطن على كل اعتبار آخر لأنه " الدين " الأول الذي يؤمن به، أما في هذه القصيدة فإن الدين لا يذكر إلا سمة من سمات التغير التي جرت على الوطن وأهله. وحسبك أن لا تلمح في ذكر الدين هذا استنفاراً أو طلباً للنجدة، فكل ما هناك صورة من تغير حال الوطن بعدما فقد حماته الأبطال، ولذلك ذهب ابن حمديس يثني على بطولتهم ويشيد بانتصاراتهم في قلورية، ويعرج على قصريانة فيبكي دروس الإسلام منها، ويتذكر سرقوسة وكيف أصبحت دار منعة لأعدائها، ولا عجب فقد أصبح أهلها الأبطال تحت الثرى، ولم يكن للأعداء حيلة فيها وهم فوقه، والذئب يتبخر في الغيل حين يغيب الأسد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 ومن المصادفات أن المعتمد سجن وسيم الذل سنة 484 وتم للنورمان احتلال صقلية كلها في هذا العام، وفقد ابن حمديس صقلية والأندلس معاً، وعادت المقادير فطرحته إلى إفريقية. فوجد نفسه من جديد في بلاط تميم. واجتمعت كل المآسي في نفسه تذكره بالفردوس المفقود - ذكر صقلية وفتنتها وشبابه في وطنه وصحبته للعرب متبطلا يضيع عمره سدى. وافتخر بنفسه واستشعر اليأس من العودة إلى الوطن، ووصف بطولة قومه ورث موتاهم، ومدح تميما لأنه حاول ذات يوم أن ينقذ وطنه فاخفق. وتمثل الحال التي هو عليها فبكى جازعاً لما حل به، ومن يومئذ الفت الدموع مجاري عينيه. وفي قصيدة أو ملحمة من تلك الملاحم جمع ابن حمديس كل تلك الخواطر، فمثل فيها فنه الشعري كله، وكأنها البرزخ بين ما قبلها وما بعدها وسأقف عندها لأن فيها صورة ابن حمديس - ابن صقلية -. 3 - تحليل قصيدتين صقليتين لم تكن السابقة من حديثي عن ابن حمديس أكثر من عرض وترتيب زمني مقارب لنماذج من الشعر قالها منذ أول عهده بالقريض، حتى وقف عند ذلك البناء المتهاوي. يتحدث عند حديث الذي يحس صلته الطبيعة بالحياة انقطعت. لأنه دفن تحت الأنقاض كثيراً من الأحباب، وأصبح التشرد في حياته هو قانون تلك الحياة، وفقد الوطن أي عصر الشباب، أي الأمل، وغدا يحيا الحياة كما تجيء، لا كما يريدها، ويتعلل بأشياء من تفاهاتها فيمدح هذا وذاك، وحيناً يصفق للانتصار - وحيناً يعزى بالانكسار، ولكن نفسه كانت غائبة عن كل تلك المشاهد تحوم فيربوع سرقوسة والقصر القديم ونوطس. فالقصائد التي قالها في صباه، أو التي في الأندلس وهو يرجو الأوبة، أو التي قالها بعد سقوط وطنه حتى تلك الوقفة عند تميم بن المعز هي التي تهمنا في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 هذه الدراسة لأنها هي القصائد الصقلية من حيث الروح والموضوع والزمن. وربما كان عددها لا يزيد عن تسع قصائد. وليس معنى ذلك أنه نسي صقلية فلم يعد يحن إليها ولكن معناه أن تقلب الحياة به قد باعد بينه وبين تلك المشأة، وحكمت عليه السن بالنضج، واستولى له قدر من التجربة، وقدر من الضعف الجسماني، وكان لهذا كله أثر في تلوين فنه بلون جديد غير ذلك اللون الذي سنسميه صقلياً، وكان له أثره في تغير فلسفته ونظرته إلى وجوده، وإن لم تتغير نظرته إلى صقلية. وقبل أن أنتقل إلى تحليل قصيدته التي يمدح بها تميم بن المعز أود أن أقف عند هذه القصائد الصقلية وأجمل خصائصها العامة لتكون أساساً لما بعدها من نظرات. هذه القصائد الصقلية من اصدق شعر ابن حمديس عاطفة، وسمتها العامة القوة، لقوة الموضوع، ولذلك نحس أن الشاعر يتدفق فيها بكلام متحمس لا يحتاج إلى تلوين أو تصوير، فليس فيه سند من صنعة، وليس فيه وقوف عند التشبيه وعبادة له. وتغلب عليها روح الجندي الفارس الذي يغرق في الحب والحرب، وفيها النواة الأولى لما سيكون موضوعاً رئيسياً للشاعر - أعني وصف السفن والمعارك البحرية، إلا أن القصائد التي قالها قبل أن يغادر صقلية تدل على أنه كان يعني باللذة أكثر من أي شي آخر، وإذا كان لنا أن نحكم منها على مستقبل شعره، قلنا: إنه كان يصبح شاعر حب وخمر، وإن سواهما من الموضوعات كان يكون ثانوياً بالنسبة إليه. وهذه القصائد الصقلية الخالصة فيها ذهاب بالنفس شديد، ولكن الرحلة إلى الأندلس ثم ضياع الوطن غيرا كثيراً من ذلك الاتجاه، والتأثير الأندلسي يتضح في بعض المظاهر السطحية والمعاني العامة أكثر مما هو فر الروح. ولكن الأثر الصحيح هو الذي أحدثه ضياع الوطن: فنغمة الحزن الجديدة، وتغير نظرته إلى اللذة، والإحساس بالغربة كاملة، كلها تتصل بفقده لوطنه وكلها صبغت شعره بلون آخر غير قوة الشباب. والقصيدة التي أشرت إليها تمثل هذا الطور من حياته، ففي تحليلها بيان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 لمذاهبه في الشعر ولبعض خصائصه ويزيد هذا المذهب وضوحاً مقارنة هذه القصيدة بأخرى قالها بعد ثلاثين عاماً من نظمه للأولى، والموضوع في الثانية تشوقه وحنينه إلى صقلية، وبالمقابلة بين القصيدتين يظهر الأثر الذي أحدثه الزمن في شعر ابن حمديس. أما القصيدة الأولى فمطلعها: تدرعت صبري جنة للنوائب ... فإن لم تسالم يا زمان فحارب وفي هذه القصيدة يخلق ابن حمديس الفارس الذي فقد قرنه شخوصاً كثيرة ليبارزها، ويصب عليها نقمة يعجز أن يوجهها إلى عدالة السماء أو إلى القدر، فهو يطالعنا بالتحدي أو يطالع به الزمان الذي أودع عنده ثأراً لا يموت، ليقبل الزمن محارباً إن يشأ السلم، فإنه قد عجم من ابن حمديس حصاه لا تلين لعاجم، وهذه الفكرة الحربية تستولي على نفسه فيظن أنه في المعركة حقاً، فإذا به يتحدث عن السيف ومآربه فيه، ثم يشفق من هذه الثورة لأنه يحس ان غدره قليل إذا قيس بغدر الصاحب: أتحسبني أنسى وما زلتُ ذاكراً ... خيانة دهري أو خيانة صاحبي تغذى بأخلاقي صغيراً ولم تكن ... ضرائبه غلا خلافَ ضرائبي ويا رب نبت تعتريه مرارةٌ ... وقد كان يسقى عذب ماء السحائب علمتُ بتجريبي أموراً جهلتها ... وقد تجهلُ الأشياء قبل التجارب فمن هو ذلك الصاحب الخائن؟ أترانا وقعنا على السر الذي فارق الشاعر أجله صقلية وذهب يجوب في الأرض؟ وابن حمديس شاعر عاهد نفسه على أن لا يهجو ولكن أي ثورة هذه التي يعلنها في قصيدته؟ إنه يتحدى الزمن ويهجو الصحراء الإفريقية التي عوض بها عن وطنه: بلادٌ جرى فوق البلادة ماؤها ... فأصبح منه ناهلاً كل شارب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 فطمتُ بها عن كل كأس ولذة ... وأنفقت كنز العمر في غير واجب يبيت رئاس السيف في ثني ساعدي ... عارضةٌ من جيد غيداء كاعب وإنه ليمقت هذه الصحراء التي لا تجمع له بين الحب والحرب، لأنها ليبست عوضاً صالحاً عن ذلك الوطن، ولأنها لم تحقق له أمنية كان يطلبها: بصادق عزم في الأماني يحلني ... على أمل من همة النفس كاذب فما هي تلك الأمنية التي طلبها في غير وكنه؟ أتراه طلب العلا كما يقول في بعض قصائده؟ وما العلا؟ أم تراه ذهب يطلب المال؟ لست أدري وإن كنت أقف عند التعابير " المالية " الكثيرة في ديوانه، وعد طلبه الصريح أحياناً للمال من ممدوحيه، وأحسن أحياناً بأني لم أستطع أن أقول إن المال كان غاية له. فهل هناك رابطة بين رحلته وبين الذهب وهو يقول لابن عباد في الأندلس (1) . بالله يا سمرات الحي هل هجعتْ ... في ظل أغصانك الغزلانُ عن سهري وهل يراجعُ وكراُ فيك مغتربٌ ... عزت جناحيه أشراكٌ من الغدر ففيك قلبي ولو استطيع من وله ... طارتْ إليك بجسمي لمحةُ البصر قولي لمنزلة الشوق التي نقلتْ ... عنها الليالي إلى دار النوى أثري نلتُ المنى يابن عباد فقيدني ... عن البدور التي لي فيك بالبدر وهل تلك البدرُ هي التي انتزعته من أحضان الوطن؟ ليس من السهل أن يجيب الإنسان على ذلك إن كان يتحدث عن ابن حمديس، لأن مسألة الفقر والغنى غير واضحة في شعره ولن تكون واضحة عند شخص متحفظ في بعض أمور تتصل بنفسه وبيته، متحرج يعرف مواقع القوة ويتحراها، ويعرف مواطن الضعف ويتجنبه، وحسبك مفتاحاً لشخصيته أنه حين رثى امرأته جعل ذلك على لسان ولديه، ولكنه حين رثى جاريته تفجع عليها وتغنى بجمالها، وفي هذه   (1) القصيدة رقم 127. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 اللمحة دلالة نفسيته حيت تتصل الأمور بحياته اتصالا وثيقاً. إذن فهو ثائر في قصيدته ناقم مغيظ يتهجم على الزمن ويتمرر بذكر الخيانة ويهجو الصحراء وسكانها، ويأسى على غبن ناله بها بعد وطنه، ويعلن أنه لا يجد من يأنس إليه بل لعله أحس أنه أصبح منبوذاً يضيق الناس به، شريداً غريباً لا وطن له، حتى طيف كان يزوره في المنام أصبح يصد عنه مزوراً: ولا سكنٌ إلا مناجاةُ فكرة ... كأني بها مستحضرٌ كل غائب ولما رأيت الناس يرْهبُ ... تجنبهم واخترتُ وحدةَ راهب أحي خيالٌ كنت أحظي بزوره ... له في الكرى عن مضجعي صدَ عاتب فهل حالَ من شكلي عليه فلم يزُرْ ... قضافة جسمي وابيضاض ذوائبي وسكن قليلا حين ذكر الطيف واستحضر كل غائب - كل ما عرفه بصقلية، فإذا به يذكر الوطن أو السماء التي كان يطلع فيها كوكباً، وعرج على صداقاته ونداماه، ووقف عند الخمر ولم يستطع أن يخفي علينا السبب النفسي الذي حمله على تلك الثورة المستطيرة، وانقلب السكون من جديد إلى صيحة تطير في أذيالها النقمة والأسى، إن سبب تلك الثورة الحانقة معروف لنا حتى ولو لم يصرح به، إنه عجزه عن أن يعود إلى وطنه: ولو أن أرضى حرةٌ لأتيتها ... بعزم يعد السير ضربة لازب ولكن أرضى لي بفكاكها ... من الأسر في أيدي العلوج الغواصب لئن ظفرت تلك الكلاب بأكلها ... فبعد سكون للعروق الضوارب ولقد عرفنا ابن حمديس من قبل يثنى على أعدائه ويصفهم بالشجاعة والقوة، ولكنه في هذه الفورة من الغيظ نسي كل ذلك وأقذع في السب، وهو عفيف اللسان، وعذره العجز وقلة الحيلة التي يصورها قوله " كيف لي بفكاكها من الأسر " - كلمة أسير مقيد في الأصفاد يريد أن يبلغ وطنه فلا يستطيع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 وهذه الأصفاد هي التي تغل روحه الشاعرة في هذه القصيدة وتشد فيجيء شعره صيحات من الغضب والنقمة والسخط والتحدي. وابن حمديس يخفي تحت السخط والنقمة حزناً مكبوتاً مكفوفاً ليس له مسرب يتصعد فيه أو ينحدر. وكيف يكون له مسرب وهو قد بدأ قصيدته بالتجلد وادراع الصبر. وهذا الكبت في الحزن آت من حقيقة واحدة لو وجدت في القصيدة لاتخذت شكلا آخر. وتلك الحقيقة هي فقدان صوت " الصارخ الفزع " - إنه يتفجع على وطنه ليستصرخ لناس ويستنجدهم ويهيب بهم العمل من أجل وطنه باسم الدين أو باسم الجهاد، ولا يتحدث عن وطنه ليستمد منهم عطفهم ودموعهم، هو ناقم حقاً ولكن على من؟ إنه مع إعلانه في القصيدة بمسؤلية بني وطنه، لأنهم تفانوا في فتنة وحصلوا وحطبوا لنارها - مع ذلك كان شعره الداخلي يحدثه أن هنالك مسئولية أكبر تقع على عاتق المسلمين الذين تخلوا عن صقلية حين كانت في حاجة إلى نصير، ولكن عوامل نفسية من القوة لم تخل بينه وبن الإفصاح عن هذا الشعور، فذهب يتحدث عن غدر الصاحب وخيانته. وأكبر الظن أنه ليس هناك صاحب معين، وإنما ذلك رمز إلى كل المسلمين الذين تجاهلوا الأخوة الإسلامية والقرابة الدينية، وتركوا صقلية تعاني الموت وحدهها، وهو مندهش مستغرب من السلبية المطلقة التي واجه المسلمون بها ضياع وطنه، حيران في أمره وأمر المسلمين معه، وأقوى شيء يصور هذه الحيرة تساؤله الجازع " كيف لي بفكاكها من الأسر ". لم يكن ابن حمديس يحمل بني وطنه مسئولية ضياعه، كما فعل بعض الشعراء الصقليين، لأنه كان يقدر دور الجهاد الذي قامت به سرقوسة ونوطس وقصريانة، فهو إذا تحدث عن الفتن بين قومه مر بها مروراً سريعاً لأنه موضوع يكرهه ويراه مناقضاً لما يحس به حقيقة، ولعل الذي حمله على التعرض له في هذه القصيدة وقفته أمام تميم الذي حاول إنقاذ صقلية، وكانت فتنة صقليين من أسباب الإخفاق الذي منى به جيشه، وأحب من هذا الموضوع إليه أن يتحدث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 عن بطولة قومه في الحرب البرية والبحرية وعن بلائهم في الروم، ليكون هو واحداً منهم وليعيد من أبطالهم ويتحقق وجوده النفسي في وجودهم، ولكن تلك البطولة قذفت بهم في هوة الفناء فغاروا كما تأفل النجوم " وأبقوا على الدنيا سواد الغياهب " ولم تكن الدنيا التي أبقوا عليها ذلك السواد إلا التي كانت تراها عيناه، ومن خلل السواد أخذ يتطلع في حسرة إلى المعاهد والديار، وبعد أن كان يتحدى الكون، تحدته شعلة الحنين في صدره فإذا به يبكي كالضعيف: ألا في ضمان الله دارٌ بنوطس ... ودرت عليها معصرات الهواضب أمثلها في خاطري كل ساعة ... وأمري لها قطر الدموع السواكب أحن حنين النيب (1) للموطن الذي ... مغاني غوانيه إليه جواذبي ومن سار عن أرض ثوى قلبهُ بها ... تمنى له بالجسم أوبة آيب وفي كل تحية وداع أو خاتمة قصيدة يغلب الحزن ذلك الرجل القوي فتتساقط الدموع من عينيه. هذه القصيدة بناء شاهق وأكثر قصائد ابن حمديس أبنية شاهقة فيها أجزاء كثيرة تجعل منها في النتيجة كلاً ضخماً كبيراً - كما تمتاز قصائده العاطفية الأخرى التي نظمها في هذه الفترة - بعد ضياع صقلية مباشرة - بوشيجة تنظم أجزاءها وتضمن لها الاتساق والانسجام، فهي بناء ضخم من حيث النغم وتراكب الأجزاء وتسلسلها، ومما يلفت الانتباه أن أكثر قصائده في هذه الفترة بخلاف المقطوعات التي نظمها وهو في صقلية جاءت على البحر الطويل. وإذا كانت صقلية هي موضوع القصيدة لم يحس الإنسان هذه التجزئة في القصيدة ولكن ابن حمديس، حين كان يفقد التعطف بينه وبين الأشياء التي يتحدث عنها، كان يرقص نظره بين أجزائها ويسافر فيها مستقصياً ليتكلم عن كل جزء على حدة - ذلك اصبح شأنه إذا وصف قصراً أو أسداً أو سفينة أو أي   (1) في الديوان: حنين البنت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 شيء آخر، يحضر الأشياء المبعثرة كلا على حدة ويسلم نفسه إلى التشبيه ولا يعنيه من بعد أن يكون منها صورة مغمورة بالانسجام، ولست أدعي أن الوحدة مفقودة في قصائده - وقد تكون - ولكني أحس بالفرق بين القصائد التي تزخر بالعاطفة والحنين إلى صقلية وبين غيرها من القصائد. فابن حمديس الشاعر الصادق، لا الشاعر الصانع، هو ابن هذه الفترة الغارقة في أحلام صقلية. أما القصيدة الثانية فمطلعها (1) : قضت في الصبا النفس أوطارها ... وأبلغها السيب إنذارها وفي هذه القصيدة يريد ابن حمديس أن يجمع أمامنا أجزاء ذكريات قديمة فليس من الغريب إذا جمعها مبعثرة، لأن ذا ذاكرته تقفز من منظر إلى آخر. وإنما يوحدُ بين هذه المناظر أنهها مستمدة من الماضي ومن صقلية، وتنبسط صورة الخمر - التي أصبح محروماً منها - على كل منظر وتصرف الشاعر عن إطالة النظر إلى المناظر الأخرى. وتركه للخمر حين نظم هذه القصيدة حقيقة هامة تفسر هذا الاضطراب في ذكر الخمر ثم الانصراف عنها والعودة إليها وهكذا، والدليل التاريخي على هذه التوبة تصريح ابن حمديس نفسه في غير قصيدة أنه تارك ما ارتآه في الصبا وقوله في قصيدة كتبها إلى ابن عمته أبي الحسن وهو في سن الستين (2) : فرغتُ من الشباب فلستُ أرنْو ... إلى لهو فيشغلني الرحيقُ ولا أنا في صقلية غلاماً ... فتلزمني لكل هوى حقوق ليالي تعمل الأفراح كاسي ... فمالي غير ريق الكأس ريق تجنبتُ الغواية عن رشاد ... كما يتجنب الكذبَ الصدوق وإن كانت صبابات التضابي ... يلوحُ لها على كلمي بروق   (1) القصيدة رقم 110. (2) القصيدة رقم 215. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 وقد نظم هذه القصيدة في الستين أيضاً ففيها اعتراف الفنان لنفسه لا للناس بأن الخمر هي محبوبته الجميلة، وإن يكن انصرف عنها، وللسن حكمها ومن ثم لن تسمع ذلك النغم الصاخب الثائر الذي سمعته في القصيدة السابقة، ولا تلك القوة التي تتحدى الناس أجمعين، فلا السيف من آلاته، ولا الغضب من أدواته - إنه أفنى آلات الحرب ووقع في عمر مسالم هادىء، خمدت فيه الجذوه القديمة ولم تبق غلا ذكراها - لا وطن ولا شباب، هذه هي الغربة الكاملة التي أحسسها ابن حمديس حينما كبر ولذلك نسمعه في بعض قصائده إذا ذكر الوطن صدر قصيدته بذكر الشيب - وهو غربة عن الزمان الجميل - ثم ثنى الكلام إلى الوطن - وهو غربة عن المكان الجميل - وأصبحت تلك النقلة في الزمان والمكان هي المؤثر الوحيد في نفسه وشعره، ولو كانت ذات طرف واحد لما كان حزنه بهذه الحدة. وفي هذه القصيدة غاب الوجود كله من حوله وانعدمت صور الأشياء من ذاكرته إلا صورة ليلة ساهرة قضاها في صقلية. كانت ليلة ذات أشباه، رأى فيها شيئاً واحداً تعددت له الآسباب، رأى الخمر فذكرته بالساقية، ثم رأى الندامي فعاد يتحدث عن الخمر، ثم تذكر ليلة في دير فرجع إلى الخمر؟ رأى الخمر في عدة أوضاع وأحس بها هنا وهناك كأنما تخيلها تتسرب كالروح في جسم الوجود، رآها في يد الساقية ليلحظ اختلاط لونها بخضاب كف الساقية كأنه رأى المعجزة أو اتحاد العنصرين، وهو كلف بالعناصر فإذا تغزل خاطب حبيبته بقوله (1) : عذبتني بالعنصرين ... بلظى حشاى وماء عيني فللعنصرين في شعره سيطرة بعيدة المدى. ورأى الخمر بين الندامى تبعث الضياء وتنسج شبكاً من الحباب تصيد به ما يحاول منها أن يطير، ورآها في الدير   (1) القصيدة رقم 310. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 واهتدى إليها برائحتها الجميلة، وإلى جانبه نديم متفرس عارف بالخمر يستطيع أن يحسب عمرها من رائحتها. في كل حين وقفة عند الخمر، تتردد فيها المعاني الخمرية التي اشرت إليها من قبل نى الخمر الصقلي عامة، وهي اجتماع العنصرين، وفكرة الشبكة والصيد، واستمداد بعض الصور الحربية في قتل الخمر للهموم أو شنها الغارة عليها. وليست هنا وقفة عند الخمار أو الساقية أو الندامى أو لون الخمر وأثرها بقدر الوقوف عند رائحتها، فهي التي هدت الشاربين إلى نفسها بما أذاعته من سر لأنوفهم، وهي عديل المسك في دراين، والمتفرس فيها يزكيها برائحتها وشم طيبها. وتمام ذلك المجلس الخمري صورة القيان والمغنيات والراقصة، والقاعة مضاءة بالشموع التي تحمل الدجى على رأسها، وتحاول أن تهتك أستار الظلام بالنور، وكأن الآجال مسلطة على أعمارها فهي تنمحق ولا تفنى في يسر. ولم يقل ابن حمديس إن هذه الشموع مثله تسعى إلى الفناء مع أنه كان يحس بمر الزمن ويعد عمره عدا. ولم يتعز بمنظرها وهي تموت فقد كان يريد أن يبعد فكرة الموت عن نفسه لأن الموت لا يتفق والشباب، وهو في هذه القصيدة يصور الشباب. ولكنه في واقع أمره كتلك الشموع - حمل مسئولية الأسى على رأسه طيلة عمره، من شدة أسفه على وطنه وشبابه فيه، حتى ليقول لنا إن الناس قد بكوا الشباب ولم ينصفوه، وجاء هو يستدرك ما فات الناس جميعاً (1) : بكى الناس قبلي فقد الشباب ... بدمع القلوب فما أنصفوه وإني عليه لمستدرك ... من البث والحزن ما أهملوه وهو كتلك الشموع صهر نفسه شعراً حزيناً منيراً بصدق العاطفة، وهو الذي ينمحق عمره بما سلطه عليه من أجل. وقد اختلفت هذه القصيدة في النغمة عن سابقتها فليس لها ذلك الشكل   (1) القصيدة رقم 327. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 " القوطى " الضخم، ولكنها حزينة ذابت في أثنائها وطواياها تلك الفحولة التي كانت تملى قصائد الشباب، وخفقت تلك الفروسية التي كانت تشيع القوة في النفس، وفيها أوتي ابن حمديس القدرة على التعبير الجميل - لا التعبير القوي كما في أختها السابقة - إذ كان الحزن قد مسح شعره بهذه المسحة المحببة، وكان نضجه في السن قد صرفه عن القوة إلى محاولات أخرين يزين بها شعره. فالقهوة تذيع لأنفك أسرارها، وفي التردد بين الحركة والسكون جمال عجب يتمثل في قوله: وقد سكنت حركات الأسى ... قيان تحرك أوتارها وتكاد القصيدة كلها تكون نموذجاً لجمال التعبير، وفيها القدرة على التصوير الجميل. وكصورة الشموع التي تقل الدجى على رأسها: تقل الدياجي على هامها ... وتهتك بالنور أستارها وفيها صورة بارعة الراقصة وخفة حركتها. ومع ذلك فإن الشاعر لا يزال في بعض صوره يذهب مع تلك المبالغات التافهة المحلية، وهي أمور تسربت إلى شعره منذ البدء فلم يسلم منها من بعد، فالدن مضمار للكوب، والدموع أنهار صقلية لولا ملوحتها - مبالغات فيها الاستجلاب المتكلف لصورة بعيدة أو حقيقة مستحيلة، واجتمع إلى القدرة على التعبير الجميل تلك الحركة التي تنبض بها كل صورة وكل لفظ.. وربما كان يستعين على التصوير بالتحريك لأنه يحس بسكون القوى الطبيعية في جسمه، وتأمل كيف يخونه الضعف الجنسي الذي صار إليه فيعلن عن نفسه بقوله في القيان: فهذى تعانق لي عودها ... وتلك تقبل مزمارها وكلمة " لي " في هذا البيت، التي تدل على الملكية والتخصيص إنما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 تؤكد ضياع لك الملك الذي كان - ضياع قوة الشباب، ولكن الشاعر قد نسى واقعه وهو يخلق هذه القصيدة، وعاش في فترة الشباب يوم كانت تلك الملكية من أدواته. وسواء أحس الشاعر أم لم يحس بضعفه فإنه لجأ إلى أمور يخفى بها وجه ذلك الضعف، فاستمد من روح الفتك القديمة بعض تعابيره: خطبنا بنات لها أربعا ... ليفترع اللهو أبكارها وتلاعب تلاعباً جميلاً - لفظياً كان أو معنوياً - ليزين الصورة: طرحت بميزاتها درهمي ... فأجرت من الدن دينارها أو جانس في اللفظ أو اتكأ عليه - كما كانت تضغط يده على العصا - وهو يشد على الحروف شداً يخيل إليك معه أنه يفتعل القوة افتعالا. فالساقية " زرّرَت " أزرارها والقيان " سكَّنت حركات الأسى، وواحدة منهن " تقبل " مزمارها والشمع عمد " صفَّفت " وهي " تقلّ " الدجى على هامها وكأنها " تسلط " عليها آجالها " فتمحق " أعمارها والأسى " يهيج " التذكار وهكذا في كل قصيدة حتى لتستطيع أن تصلح بعض الروايات في قراءة أبيات معنية منها فابن حمديس لا يقول في هذه القصيدة " وراهبة أغلقت ديرها " ولكن يقول " غلقت " ولا يقول تثور فيقتل ثوراها وإنما يقول " فإن ثرن قتل ثوارها " حتى إذا انتهى الوصف في هذه القصيدة ووقفت الحركات، وقف ابن حمديس - كما يفعل دائماً - وقفة الحزين الذي يجر لحنه الأخير جرا ليشعرنا بأنه قارب النهاية فقال: ذكرت صقلية والأسى ... يهيج للنفس تذكارها ومنزلة للصبا قد خلت ... وكان بنو اللهو عُمارها فإن كنتُ أخرجت من جنة ... فإني أحدث أخبارها وعند هذه الغاية نشهد آدم القديم يتحدث عن نفسه وعن لجنة التي أخرج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 منها. غير أن آدم أخرج من الجنة حقا فهل خرج ابن حمديس من جنته مختارا أو وجد من أخرجه؟ ويعود هذا التساؤل يثير الحيرة في غربة مختارة أو غير مختارة، وحسبنا أن حمديس يقول إنه أخرج من هذه الجنة دون أن يذكر لنا الخطيئة التي أخرجته أو الثمرة المحرمة التي أكل منها. ولكن من تتبع ابن حمديس في ديوانه يجد " الذنب " شبحاً يلاحقه كقوله في غربته (1) : ألم ترَ أنا في نوىً مستمرة ... نروح ونغدو كالمصر على الذنب وقوله في الصحراء (2) : كأنك في ذنب عظيم بقطعها ... فأنت إلى الرحمن منه تتوب وتتردد صورة آدم في نفسه فيقول (3) : قد كنت في عهد النصيح كآدم ... لكن ذكرتُ هوى الدمى فنسيت ولست أرى بأساً من اعتبار ابن حمديس تحت ظل ذنب معين بهذه الأبيات وغييرها. نعم إنه آمن بأن حياة اللهو كانت ذنوباً، وأظهر الندم عليها في آخر عمره، وكانت صورة جده الشيخ الناسك الذي ضمه إلى صدره تتعرض من وراء السنين لتنظر إليه نظرة لوم على حياته اللاهية، ولكن لعل الخطيئة الكبرى كانت تشغل حاله، والخطيئة الكبرى في حياته أنه قصر حتى في حق وطنه، وإذا كان آدم قد نسى فأكل من الثمرة فإن ابن حمديس نسي الثمرة حين كانت في حاجة إلى رعايته. لقد رأيناه يحرض الصديق على أن يموت دفاعاً عن وطنه فلم لم يقل هذا لنفسه؟ ورأيناه دائماً يتمدح ببطولة قومه ليمدح نفسه فيهم، ويتستر وراء حادثة أن اثنتين باشر فيهما العمل فعلاً من أجل وطنه، ولكن ضميره كان يحدثه   (1) القصيدة رقم 28. (2) رقم 29. (3) رقم 47 وانظر أيضاً رقم 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 بالذنب الذي ارتكبه، ومن ذلك الذنب نجمت طائفة كبيرة من الحزن الذي ظل يصبغ حياته حتى لقي الأجل، وقد كنا نتساءل خرج من صقلية فدعنا نسأل لم لم غليها، ففي الجواب على هذا السؤال تفسير لفكرة الذنب. لقد قال لنا إنه يعيش في ظل مثل معنية ولا يطيق أن يرجع إلى بلد فقد حريته: ولو أن أرضي حرةٌ ... بعزم يعدٌ السير ضريه لازب ولكن أرضي كيف لي بفكاكها ... من الأسر في أيدي العلوج الغواصب وحدثنا أنه يطلب العلا وتكلم عن ذلك كلاماً مبهماً. أما في الحقيقة فإنه لم يرجع لأنه كان يتمثل وطنه عاتباً عليه، وكان ذا حس مرهف بمرارة ذلك العتاب، فآثر الغربة ليغسل بدموعه ما كان يعده ذنباً. لم تكن عودته مستحيلة حتى أيام الحكم النورماني، وكان أهله يكاتبونه لعله يعود، فكان يقول لهم: كيف أعود إليكم وأمري بيد القضاء وبأي عين أراكم شيوخاً بعد أن عرفتكم شباباً، وتروني شيخاً بعد أن عرفتموني غلاماً، ولم تغربت؟ ألا تذكرون أنني أطلب العلا (1) : وكيف أرى لي قْصدَ وجهي إليكمُ ... إذا كان في كف القضاء زمامي وما هي إلا غربة مستعمرةٌ ... أرى الشيخ فيها بعد سن غلام كأن قذالي بالقتير معوضٌ ... قبيلة سام من قبيلة حام وما شيبَ الإنسان مثلُ تغربُ ... يمرّ عليه اليوم منه كعام وهل رحتُ إلا طالباً بالنوى علاً ... كأني منها للنجوم مسام لم يكن ابن حمديس كاذباً في حزنه على وطنه وما صار إليه قومه، ولكنه كان مغلوباً بطمع واحد صرف قوته في وجهة أخرى - ذهب يطلب العلا - ولا أستطيع أن أفهم من هذه العلا إلا أنه ذهب يطلب الشهرة بالشعر. كان ذلك هو حلمه منذ أن أصبحت تطيعه القوافي - وإن لم يصرح لنا بهذا - ولم تكن   (1) رقم 282. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 صقلية المحدودة تسع أطماعه المترامية، وخرج وهو يقدر أن يعود، ثم أرادت له الأقدار شيئاً آخر فلم يعد يستطيع أن يرجع إلى صقلية ليعيش مادحاً لقوم أعلن عليهم سخطه، ورآهم سبب المصيبة التي حلت بوطنه، ورضى بالغربة ليبكى تقصيره في حق الوطن، ولم تطمئن به حاله حيث وقع، لولا أملٌ كان يراوده بأنه سيكون شاعراً كبيراً في بلاط أمير كبير. 4 - الآثار التي تركتها صقلية في نفسه وشعره كثرت المؤثرات في حياة ابن حمديس وفي شعره بعد صقلية - زادت تجاربه في الحياة، واتسعت ثقافته، وأخذت وقدة الشباب تخمد في كيانه، واحتضنته بيئة أو بيئات جديدة تغاير صقلية في مؤثراتها ومظاهرها، فاصبح في شعره مجال للتجربة التي تهيئها السن، ومجال آخر للثقافة التي يزوده بهها الدرس. وبعد أن كانت صقلية تريد لشعره أن يسلم من وصف الناقة والرحلة للمدوح، ووصف الأطلال عادت البيئة الإفريقية فأمدته بهذا اللون، وأملت عليه الحروب المتتالية بين إفريقية وصقلية أن يفسح للدين والجهاد في سبيل الإسلام - بدلا من الجهاد في سبيل الوطن - موضعاً في شعره. ولكن هذه الحياة بما فيها من ألوان لم تستطع أن تنسيه صقلية إذ لم يكن لها قبل بمحو الشباب وذكرياته، بل لعل صقلية ظلت أقوى من كل مؤثر جديد إذا كان صدق الشعور دليلنا على قيمة كل مؤثر، جديداً كان أو قديماً. وما كان ابن حمديس يتحدث عن شعوره ببساطة صادقة مزودة بشعلة عاطفية، إلا حين كان يذكر صقلية أو شيئاً يتعلق بها، وما كان يصحو إلى حقيقة وجوده المنطوي على مأساة، إلا حين كان يبلغه كتاب من قريب أو صديق أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 يصلى نعي قريب صقلي أو صديق - وكانت أكثر ذكرياته من وطنه تتصل بمتعة الشباب وصداقاته، أي تتصل بالأشخاص، وفي إحدى القصائد نراه يذكر الوطن بأزهاره فقد رأى النيلوفر مرة وقال: هو ابن بلادي كاغترابي اغترابه ... كلانا عن الأوطان أزعجه الدهر وهذه العلاقة بالناس وذلك الحب لهم يفسران لنا جانباً هاماً من شخصية ابن حمديس الشاعر الذي كان يحب الجماعة ولا يقوى على العزلة، آما النقمة التي قد تصادفنا في ديوانه على الناس وأهل الدهر فنقمة عارضة تمليها حوادث عارضة. ولما كان هذا البحث لا يتحمل دراسة الآثار التي تركتها صقلية في نفسه وشعره بالتفصيل - لأن شعره أثناءها بغير صقلية - فإني أجمل تلك الآثار إجمالا: 1 - قضى ضياع الوطن بتغير فلسفته في اللذة - كما أشرت من قبل - وبعد أن كانت الخمر غاية في نفسها أصبحت عوناً له على نسيان الهموم. ولقوة همومه أصبحت الخمر أداة تحركها بدلا من أن تخمدها، وقد لمح هو هذه الظاهرة في حياته، في قصيدة لعلها من القصائد التي قالها بعد سقوط صقلية فقال: يجر على شرب الراح هما ... ويورثُ قلبي الشدوُ اكتئابا وفي خلق الزمان طباع خلف ... تمررُ في فمي النغب العذابا 2 - ومن ثم اتصل الحزن بقلبه وبحياته، فقضي طول عمره يبكي مصائب الناس ويشاركهم في أتراحهم. نعم إن نصيبه من الشعور الإنساني كان وافراً ولكنه كان في كل مصيبة جديدة يبكي صقلية القديمة، وكانت الجزيرة تحضر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 في نفسه دون استدعاء واستجلاب، لأنها دائماً حاضرة لا تغيب. وقد يفهم من هذا أن بكاءه مع الآخرين كان تظاهراً، ولكن الأمر لم يكن كذلك فإن صقلية كانت تتمثل له في كل حزن فيبكي مصائب الآخرين بشعور من الحزن عميق الجذور، وذلك التمثل الدائم قد جعل حزنه في كل مرحلة وعند أية مصيبة يظهر صادقاً، وكانت كل فاجعة لديه تمثل له بناء ينقض لأمرين: لأن صقلية تهدمت وأصبح يراها طللا - ويبكي الأطلال من أجلها - ولأن ابن حمديس بناء كانت الأعوام تشرف به على السقوط. وحده بكائه على ماضيه مستمدة من علاقة هذا الماضي بصقلية، ومن ثم عاش في ذلك الماضي، فكان كالرحالة الذي يحدث عن عجائب ما رأى، وكان في استطاعته أن يكبر تلك الذكريات ويضخمها لأنه كان يطل على مشارف كل حاضر يجد من ابعد نقطة فيه، ومع ذلك فإن ابن حمديس لم يغل في لك. 3 - واستولى عليه الشعور الدائم بالغربة وفي هذا وحده دليل كاف على أن البيئات الجديدة لم تكن تتجاوب مع قلبه. وقد بدأت الغربة في حياته حقيقة تتصل بيوم الفراق، وانتهت أكبر حقيقة تاريخية عاطفية في حياته ولما شاء أن ينظر إلى أول يوم أزمع فيه الرحلة، قرنه بالتنبؤ لها، وأنها ستكون رحلة وحسب، طرفها الأول يوم الفراق وطرفها الثاني الأجل. وربما لم يكن لهذا التنبؤ من وجود ولكن عز عليه أن لا يكون للاشفاق من فراق الوطن نصيب في قلبه منذ البداية وإلى هذا يشير قوله: وقالت غرابيبٌ دَرجنَ ببينه ... سيستدرج الأيام وهو غريب فما كان إلا ما قضي بالها به ... فهل كان عنها الغيبُ ليس يغيب؟ وتنبه هذا المعنى - الغربة - في حياته لما مات أبوه، وأصبح يرى في وطنه منبعاً يقذف بالغرباء سواء في ذلك من يموت أو من يرحل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 ورحت إلى غربة مرّة ... وراح إلى غربة ساجيه ولما توفيت عمته لم يؤلمه شيء بقدر ما آلمه أنها ماتت غريبة: فيا ليتني شاهدتُ نعشك إذ مشى ... حواليه لا أهلي حفاةً ولا صحبي ودفنك بالأيدي الغريبة والتقت ... مع الموت في إخفاء شخصك في حدب وحسبك أنه رجل لم يطمئن به جنبه في أي مكان حله، حتى إنه ليحس في الثمانين أنه غريب، وقد كان من المنتظر أن ينسيه مر الأعوام أمله بالعودة إلى الوطن، ويمهد وطناً جديداً، ولكن الأعوام زادت شعوره بأن الوطن في ذلك الاتجاه الواقع على مسافة كذا من حيث يسكن، وظل ينظر في تلك الوجهة إلى البقعة التي انتزع منها. رجل في الثمانين من عمره لا يزال يحس أنه غريب أي بعد مضى ست وخمسين سنة منذ أن خرج من وطنه؟ إن كان لهذا دلالة فإن معناه أن الوطن كان؟ كل شيء في حياته - وليس كثيراً أن يكون أي أثر إلى جانبه سطحياً، وفي سن الثمانين قال يرثى ابنته (1) : أراني غريباً قد بكيتُ غريبةً ... كلانا مشوقٌ للموطن والأهل بكتني وظنتْ أنني مت قبلها ... فعشت وماتت وهي محزونة - قبلي - ومن هذا الوجد الشديد تشخصت الغربة في نفسه فلم تعد معنى مجرداً هائماً، وإنما أصبحت هي ابن حمديس، فإذا ذكرت الغربة أو دعيت أجاب: أنا من صاح به يوم النوى ... عن مغانيه غرابٌ فاغتربْ طفت في الآفاق حتى اكتهلت ... غربتي واحتنكت سن الأدب وتلك الغربة التي اكتهلت هي ابن حمديس الذي اكتهل. 4 - وبقدر ما عمقت صقلية شعوره بالحزن لم تستطع أن تخلق له " مشكلة " يحاكمها ويحوم حولها ويحاول حلها، كان الحزن في حياته ذكريات متصلة وحلماً   (1) القصيدة رقم 145. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 طائفاً من عالم الماضي، ولكنه لم يصبح في حياته فلسفة ولا كان نتاجاً لها، حتى الموت ظل حيث كان - ظل تلك القوة الجبارة التي تتخطف العصم وتردى عقاب الجو - كما رآه أبو ذؤيب ذات مرة، أما هو فلم يسأل نفسه عن التناقضات التي طرحته الحياة فيها، ولم تتعقد في نفسه مشكلة الوجود أو مشكلة الفناء، ولم يصرخ ثائراً لأنه غريب، بل لم يستفد من هذه الغربة في المكان فلسفة الغربة الإنسانية عامة، - كان يشعر دائماً بالعجز إزاء كل مشكلة فيتركها لنفسها، وكان ليطمئن نفسه بعجز الطبيب الذي لا يرد العوداي عن نفسه، ويعجز الفيلسوف " عن طرق ليست لأهل العقول منسلكة "، وبعجز القائد القوي الذي لا يغني عنه سلاحه. وظل ينحدر في درجات السلم لا ليسأل نفسه إلى أين ولكن ليعد تلك الدرجات، أربعون، خمسون، خمس وخمسون، ستون، ست وستون، كان مشفقاً من أن يبلغ النهاية ولما بلغها كانت صقلية لا تزال على شفتيه، والغربة لا تزال محور حديثه، وكانت الشيخوخة قد حالت بينه وبين رؤية مشاهد الوجود بعينيه، لير - بعين المخيلة - صقلية وشبابه فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 الفصل السادس حياة الشعر في العصر النورماني 1 - شعر هذا العصر من حيث الكم والاتجاه 2 - وصف القصور والمتنزهات 3 - الشعر في البيئة الإسلامية 4 - مقارنة بين الشعر في البيئة الإسلامية والشعر في البلاط النورماني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 فراغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 1 - شعر هذا العصر من حيث الكم والاتجاه كل ما تبقى من شعر هذا العصر هو ما اقتبسه العماد عن ابن بشرون المهدوي الصقلي، وهو عثمان بن عبد الرحيم بن عبد الرزاق جعفر بن بشرون بن شبيب من قبيلة الأزد. وهو صاحب كتاب " المختار من النظم والنثر لفاضل أهل العصر ". وهذا القدر الذي بقي يشمل أثنى عشر شاعراً (1) ، عاشوا في الفترة الأولى من العصر المشار إليه أي أنهم في الغالب عاصروا رجار الثاني، وليس هناك ما يدل على أن بعضهم عاش في زمن ابنه غليالم الأول. وكل ما نملكه من الشعر الصقلي في عهده نقش في قصره المسمى بالعزيزة (2) . وهناك نقش آخر في مدح غليالم الثاني وذكر لفقيه صقلي اسمه الشيخ أبو الحسن علي بن أبي الفتح بن خلف الأموي الصقلي (3) في زمنه أيضاً كان له بابن قلاقس علاقة. وإلى عهد غليالم الثاني يضاف ما قاله ابن قلاقس في مدح أبي القاسم بن حمود وغيره من رجالات صقلية. أما الشعر المهاجر في هذا العصر إلى الجزيرة فلدينا منه شعر الإدريسي الجغرافي (4) وذكر ليحيى الشاعر القفصي التيفاشي (5) الذي كان في صقلية أيام غليالم الأول، وقتل في الثورة التي ذبح فيها المسلمون سنة 550هـ وقصيدة لشاعر آخر من بني رواحة في مدح صاحب صقلية حين انكسرت به سفينة   (1) انظر التراجم 3 - 13 والترجمة رقم 61 من مجموعة الشعر الصقلي. (2) Amari؛ Le epigrafi Arabiche di Sicilia، P. 31. (3) الخريدة - قطعة من أول القسم الخاص بشعراء مصر وفلسطين بمعهد المخطوطات بالجامعة العربية مصورة من مكتبة نور عثمانية رقم 3774. (4) الترجمة رقم 63 من مجموعة الشعر. (5) الخريدة ج 11 الورقة 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 وأسر (1) ، وقصيدة للشيخ أبي الحسين بن الصبان المهدوي (2) تدل على أنه كان في صقلية. في هذا العصر انفصلت صقلية بتاريخها عن ممالك الإسلام وأصبحت أحداثها الداخلية التي لا تهم العالم الإسلامي غامضة، وأصبح الشعراء في بيئتهم منعزلين لا تربطهم روابط بالمسلمين توضح حالهم، ولولا أن ابن بشرون عاش في الجزيرة مدة وخصص من كتابه فصلا لشعرائها، ولولا أن العماد اطلع على هذا الكتاب لجهلنا ما نعرفه الآن عن حياة الشعر في صقلية النورمانية، فليس من الغريب أن لا نسمع من شعراء مسلمين في بلد غليالم الثاني أو فردريك الثاني وابنه منفريد فيما بعد، لأنه إن كان هناك شعراء حقاً فإنه لم يسعفهم الحظ بابن بشرون آخر يدون آثارهم فتخترق حدود الجزيرة إلى غيرها. وحتى القدر الذي أورده العماد عن ابن بشرون ليس كاملا في أجزائه لأن الأصبهاني حذف أكثر الشعر الذي وجده في مديح الكفار، وصرح بذلك في قوله " واقتصرت من القصيدتين على ما أوردته، لأنهما في مدح الكفار فما أثبته " (3) ولدينا شاعر هو عبد الرحمن بن رمضان المالطي ويصفه ابن بشرون بأنه كان غزير الشعر، وأنه استنزف جهده في مدح رجار، ومع ذلك فليس هنالك في شعره الموجود شيء من مدائحه. وهؤلاء الاثنا عشر شاعراً فيهم نحوى وفقيهان وأربعة غلب عليهم الشعر وخمسة كانوا كتاباً. ولا بد من الإشارة إلى غلبة النثر على المشهورين في هذا العصر والذي سبقه، وهذه حقيقة هامة لا تسعفنا المصادر كثيراً في تصور مظاهرها ونتائجها وعلاقتها بالشعر، ولا تمكننا من القول بأن صقلية في العصرين أنتجت نثراً خصباً يوازي نشاطها في الشعر، أما أولا فلأننا لا نعرف لها نثراً كثيراً   (1) المكتبة: 153 من المسالك. (2) الخريدة: 11 الورقة 58. (3) انظر الترجمة رقم 7 ورقة 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 وأما ثانياً فلأنها في الواقع اتجهت إلى الشعر اتجاهاً جعلنا نحكم لها بكثرته. ولقلة هذا الموجود من النثر لا نستطيع أن نحكم له بالتفوق على الشعر، إلا أن في رسائل ابن الصباغ في العصر السابق والنثر الذي أورده ابن بشرون كمية - على قلتها - تعطينا فكرة طيبة عن النثر في صقلية، فهو نثر عامر بالحياة فيه صنعة ولكنه ذو موضوع حي. ومهما يكن من أسباب فإن الذين أخلصوا للشعر وحده أبين شخصية ممن غلبت عليهم نواح أخرى من النشاط، فلابن الخياط وابن حمديس وأبي العرب الصقلي مشخصات بينه على قلة ما نملك من شعر الأول والثالث، أما شعراء العصر النورماني فليس فيهم شاعر يهيء لنا شعره رسم صورة عامة لشخصيته. ولابد من أن نقرر منذ البدء أن الشعر في العصر النورماني عاش في بيئتين في كل منهما خصائص اجتماعية ونفسية مختلفة، ولذلك نستطيع أن ندرس هذا الشعر على أنه قسمان: (أ) شعر يتصل بالملك النورماني وبلاطه وفيه المدح ووصف المباني والمتنزهات الملكية وفيه الرثاء لأقرباء الملك أو أبنائه فالشاعر عبد الرحمن المالطي أكثر شعره في مدح رجار " يسأله العودة إلى مالطة، ولا يحصل منه إلا على المغالطة " وعمر بن حسن النحوي الصقلي وقع أسيراً في يد النورمان فهو يمدح رجار لعله يطلقه: وعبد الرحمن البثيري وابن بشرون وعبد الرحمن الاطرابنشي من الوصافين لقصور رجار ومتنزهاته، وأبو الضوء سراج الكاتب يرثى رجار الابن البكر لرجار الثاني. (ب) شعر يصور حياة المسلمين وعلاقاتهم فيما بينهم وفيه العتاب والمدح والرثاء وشعر الرسائل، أو يصور أموراً ذاتية كالغزل بالمؤنث والمذكر وشعر المجون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 2 - وصف القصور والمتنزهات ولأتناول من هذا الشعر ما يتصل بوصف القصور والمتنزهات فإنه الموضوع الذي يبدو - لأول وهلة - أنه مليء بالحياة، وهذا يضطرني أن ألم عاجلا بشيء من حال بلرم نفسها ومن قصورها ومتنزهاتها التي جدت في العصر النورماني. ولا شك في أن البساتين والمياه والأرجاء والقصور كانت أهم مظهر للمدينة في العصر الإسلامي واستمر هذا المظهر وازداد في العصر الذي يليه، وشهادة المعاصرين فيه تكفي في هذا المقام. يقول الإدريسي (1) : " والمياه بجميع جهات صقلية مخترقة، وعيونها جارية متدفقة، وفواكهها كثيرة ومبانيها ومتنزهاتها حسنة تعجز الواصفين، وتبهر عقول العارفين، وهي بالجملة فتنة للناظرين " ز وجاء بعده ابن جبير فلم يملك نفسه من إظهار إعجابه بها (2) " فما شئت بها من جمال مخبر ومنظر، ومراد عيش يانع أخضر. عنيقة أنيقة، مشرقة مونقة، تتطلع بمرأى فنان، وتتخايل بين ساحات وبسائط كلها بستان؟ يشقها نهر معين وتطرد في جنباتها أربع عيون، قد زخرفت فيها لملكها دنياه؟ (فهو) يتقلب من بساتينها وميادينها بين نزه وملاعب. فكم له فها - لاعمرت به - ممن مقاصير ومصانع؟ إلخ " ويقول هوجو فلقندو (3) " ومن ذا الذي يستطيع أن يعبر عن إعجابه بالبنايات المدهشة في هذه المدينة وبكثرة ينابيعها المنبثقة هنا وهناك، وحلاوة أشجارها الدائمة الخضرة وقنواتها التي تمد السكان بما يحتاجون، ومن ذا الذي يستطيع أن يستوفي وصف جمال السهل الأفيح؟ يا للسهل البهج السعيد   (1) نزهة المشتاق في المكتبة: 29 وانظر في هذه الصفحة وصف قصر رجار. (2) ابن جبير والمكتبة: 91. (3) G. Waern؛ Me. Sicily P. 81 - 83 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 الذي يحمل في أحضانه كل نوع من الأشجار والثمار، ويبدي للعين أنواع المباهج، ويسحر كل ناظر ويخلب قلبه، فلا ينفك من رآه يصبو إلى مناظرة، هناك ترى الكروم التي قد أرسلت فروعها واسترسلت في خضرتها، وهناك جنات يثني المرء على آلائها وأبراجها المخصصة للفرجة والحراسة، وهناك أرحاء الماء ودلاؤه صاعدة هابطة؟ " ويمضي فلقندو في هذا الاستقصاء فيذكر أنواع الثمار من الرمان الحلو والحامض والليمون والبرتقال واللوز وأنواع التين والزيتون والنخيل والقصب. أما القصور فقد بني منها ملوك النورمان قصر الفوارة وقصر العزيزة وقصر القبة وكثيراً غيرها، وقد أمر رجار بأرض واقعة على فرسخ من لرم، فجعل هناك بركة، وأمر بأن يوضع فيها السمك من كل نوع وعلى مقربة منها بني قصراً جميلا رائعاً هو الذي عرف بقصر الفوارة، كان يمكث فيه أيام الشتاء وأثناء الصوم لكثرة السمك هنالك. أما في الصيف فكان يفر من الحرارة ويقصد المتنزه ليسلى نفسه بالصيد. والمتنزه جبال وغابات حول بلرم أحاطها رجار بالأسوار، وجعل منها متنزهاً جميلاً غرست فيه أنواع الأشجار وربيت بينها الحيوانات، وعنده بني قصراً يجلب إليه الماء بالقنوات الأرضية (1) وليس هنا مكان وصف الفن المعماري والفسيفساء في هذه القصور، أو الآثار الإسلامية فيها، فذلك موضوع متصل بالفن، ولكن هذه الصورة الوصفية تهيئ الجو لتناول الشعر الصقلي الذي قيل في وصف القصور والمتنزهات. في هذا الجو عاش البثيري الصقلي فهو يصف المباني التي أنشأها رجار في قصيدة يمدحه بها فيقول: وقصورُ منصورية ... حطٌ السرورُ بها المطيه واعجبْ بمنزلها الذي ... قد أكملَ الرحمنُ زيه   (1) G. Waern؛ Med، Cicily، P. 111 - 116 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 والملعب الزاهي على ... كل المباني الهندسية ورياضهُ الأنفُ التي ... عادت بها الدنيا زهيه وأسود شاذَ روانه ... تهمي مياهاً كوثريه وكسا الربيعُ ربوعها ... من حسنه حللاً بهيه وغدا وكلل وجهها ... بمصبغات جوهرية عطرنَ أنفاس الصبا ... عند الصبيحة والعشيه والشاعر يذكر في هذه القصيدة المنزل والملعب والرياض والأسود التي تتدفق المياه من أفواهها، ثم يلتفت ألوان الأزهار وعطرها الذائع في الصباح والمسا - " يذكر " فقط ولا شيء وراء هذا الذكر لأنه أعجز من أن يعبر عن إعجابه فهو يطلب إلينا أن نعجب بكل هذه الروائع، وهو كشعراء الطبيعة في العصر السابق ينظر إلى الأجزاء ويعدها، إلا أن الفرق بينه وبينهم أنه هنا غير مهتم بالتشبيه اهتمامهم، ليس لأنه عاجز عن توضيح هذه العناصر بما يقاربها، ولكن لأنها اقوى منه فغلبته بفكرة تفوقها، وأن لا شيء يدانيها، فاللعب يزهو على كل المباني، والرياض الأنف تزهو بها الدنيا، ومنزلها قد أكمل الرحمن زيه، وبيئته الشاعر الدينية قد أسعفته شيئاً ما في تصوره الجنة مثالاً أعلى لهذه القصور والمتنزهات البديعة، ومع ذلك فاي فرق بين هذا الوصف وبين قطعة فلقندو في تعداد أنواع الثمار ومحاولته الإفضاء بإعجابه بتلك المناظر والقصور؟ بل وربما كانت قطعة فلقندو أكثر انفعالاً من قطعة البثيري. وعرض البثيري الشاعر قصيدته هذه على ابن بشرون وطلب إليه أن يعمل على وزنها ورويها فقال: لله منصوريةٌ ... راقتْ ببهجتها البهية وبقصرها اَلحسن البنا ... والشكل والغرف العليه وبوحشها ومياهها ال؟ ... غزو العيون الكوثرية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 فقد اكتستْ جناتها ... من بينها حللاً بهيه غطى عبير ترابها ... بمدبجات سندسيه يُهْدي إليك نسيمها ... أفواه طيبٍ عنبريه واستوقفتْ أشجارها ... بأطايب الثمر الجنيه وتجاوبتْ أطيارها ... في الصبح دأباً والعشيه وبها رُجارُ نمى العلا ... ملك الملوك القيصرية في طيب عيش دائمٍ ... ومشاهد فيها شهيه وإذا كنا لا نستطيع أن نتهم البثيري صراحة بعدم التأثر والاستجابة لفتنة القصور والأشجار والمياه، فالأمر مختلف مع ابن بشرون إذ أ، هـ دفع إلى المحاكاة دفعاً فردد ما قاله البثيري أوكاد، وكلاهما ذكر الحلل ووصفها بأنها بهية، واشار إلى الرائحة العطرة التي يحملها النسيم، ثم زاد ابن بشرون ملاحظته للأشجار المستوسقة بأثمارها، وتجاوب الأطيار في أعاليها. وربما لم يغفل البثيري هذين المنظرين لأن قصيدته غير تامة. وتسيطر صورة الجنة على ابن بشرون أكثر من صاحبه فهنا الغرف العلية والعيون الكوثرية والمدبجات السندسية، فالمثال عند الشاعرين واحد. وكما وقف هذان الشاعران أمام القصور ومتنزهاتها وقف عبد الرحمن الطرابنشي أمام متنزه المعتزية المعروف بالفوارة يقول: فوارةَ البحرين جمّعْت المنى ... عيشٌ يطيبُ ومنظرٌ يستعظم قُسمَتْ مياهُك في جداول تَسعةٍ ... يا حبذا جريَانها المتقسم في ملتقى بحريك معترك الهوى ... وعلى خليجيك الغرام مخيم لله بحر النخلتين وما حوى ال؟ ... بحر المشيد به المقام الأعظم ففي فوارة البحرين تجمعت لمنى " عيش يطيب ومنظر يستعظم " ولا باس بهذا الجمع لأن المنى لا تجمع الأشياء حسب ترتيب منطقي، ولكن أرأيت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 إلى كلمة " يستعظم " كيف أضعفت من شأن المنظر ولم تجعله عظيما بحال، إنها دليل فقر في القدرة على التعبير عند الشاعر. وهذا يجعلنا نلتفت إلى القصيدتين السابقتين ونرى فيهما مثل هذه الظاهرة لا في الألفاظ فحسب بل في ضعف التراكيب في تلك الصيحات التعجبية من مثل: لله منصورية، لله بحر النخلتين، وأعجب بمنزلها.. إلخ لنضيف فقراً آخر قد ذهب بالتأثر الصحيح والانفعال الصادق. ثم ما هذا الانتقال من فوارة البحرين إلى إعلامها أو إعلامنا أنها قسمت في تسعة جداول؟ ثم لماذا " حبذا جريانها المتقسم " هذا عجز يدل على أن الإحساس بالمنظر ميت أو معدوم أصلا في نفس الشاعر. وطريقة الشاعر في الوصف أن يعدد المناظر التي رآها كلا على حدة كأن يقول: وكأن ماءَ المفرعين وصفوهُ ... درُّ مذابٌ والبسيطةُ عندم وكأن أغصانً الرياض تطاولت ... ترنو إلى سمك المياه وتبسم وكأن نارنج الجزيرة إذ زها ... نارٌ على قُضُب الزبرْ جد تُضرم وكأنما الليمون صفرة عاشقٍ ... قد باتَ من ألم النوى يتألم والنخلتان كعاشقين استخلصا ... حذر العدا حصناً منيعاً منهمُ وهذه هي الطريقة التي رأيناها عند ابن حمديس وغيره من شعراء العصر السابق، والخيط الذي يربط بين أجزاء قصيدته هو حروف التشبيه، فإذا وصل إلى النخلتين انصرف عن كل منظر آخر سواهما وأطال الوقوف نسبياً عندهما. ولأورد أبياته فيهما قبل أن أحاول استكشاف السبب الذي دفعه إلى ذلك: والنخلتان كعاشقين استخلصا ... حذر العدا حصناً منيعاً منهم أو ريبة علقتهما فتطاولا ... يتّهيبان ظنون من يتوهم يا نخلتيْ بحْريْ بلرْمَ سقيما ... صَوْبَ الحيا بتواصلٍ لا يُصْرم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 هنيما مرّ الزمان ونلتما ... كل الأماني والحوادث نوم بالله فيئا واسترا أهلً الهوى ... فبأمن ظلكما الهوى يتحرم ولكي نفهم سر هذا العشق للنخلة لابد من أن نعرف أن هنالك معنى مبهماً يحوم الشاعر حوله من أول القصيدة إلى آخرها، ومهما ينصرف عنه فإنه يعود إليه من جديد، وذلك المعنى المبهم هو " الهوى " - الهوى الذي لا يعرف حدوداً، ويكفي أن يكون أي هوى كان حتى يصلح لذلك المسرح الذي يخيم فيه الغرام. ثم لا بد أن نضيف إلى ذلك الهوى المبهم تلك الثنائية التي تأسر الشاعر أسراً قوياً: فالفوارة هي فوارة البحرين أو الخليجين، والبحر بحر النخلتين، والماء يجري في مفرعين، والماء يذكر مع البسيطة كالدر على العندام، والحوت في الماء يقابل الطير في أعالي الشجر، والنخلتان؟ هذه الثنائية تفسر ذلك الهوى المكبوت فالشاعر يرى الازدواج في الطبيعة ويفقده في حياته، وأجل ما يرمز إلى هذا الازدواج النخلتان اللتان ترتفعان بين تلك الأشجار بقامة إنسانية جذابة فهو يدعو للنخلتين بالهناءة طوال الأيام وبأن تنالا الأماني والحوادث عنهما غافلة - دعوات غريبة حقاً. ثم لم كانت الوقفة عند النخلتين لا عند أي شجرتين أخريين؟ وربما كان من أسباب ذلك تفردهما بطول يلفت النظر، وربما كان أقوى من هذا السبب ألفه يجدها الشاعر بين قلبه والنخلة لو كانت مما تورث لقلنا إنها موروثة لأن النخلة بني الصحراء (1) فهي أقرب إلى نفسية الشاعر من أي شجرة أخرى سواء أكان عربي الأجداد أو لإفريقي المنشأة، هي رمز البداوة التي لم تمت من نفسه على الرغم من بعد عهده بها. هذه النخلة جلبها آباؤه أو أجداد ومعها الجمل ليطبعوا على الأرض الصقلية طابع البداوة - التي أرادت أن تنقل الصحراء حيثما انتقلت. ومهما يكن في هذه الأشعار من ضعف في العاطفة والأسلوب فإنها التفاتة   (1) يذكر هوجو فلقندو في رسالته لصديقه ويشير إلى البلح ولكنه لا يجسر أن يقول إنه مهما يؤكل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 استطاعت أن تجعل من الطبيعة الصقلية ذات القصور والمتنزهات موضوعاً يوازيها - مع ما هنالك من فروق - إلا وقفات ابن حمديس عند تصور إشبيلية وبجاية. أما شعراء العصر الإسلامي السابق فلم يكن اهتمامهم بهذه الناحية واضحاً. 3 - الشعر في البيئة الإسلامية ونخلي هذا الشعر في بلاط الملك النورماني وبين متنزهاته لنرى حال الشعر بين الجماعة الإسلامية، ونطلع على روافده الاجتماعية والنفسية، ونعرف إلى أي حد تأثر بالأوضاع الجديدة. وقد عرفنا من قبل ما صنعه الفتح بالجماعة الإسلامية، وكيف نفي منها الأكثرية المثقفة، وأبقي أقلية من العلماء والأدباء، ثم راينا كيف احتفظ الحكم النورماني بالجماعة المفيدة له في الحياة العملية - بالتجار والصناع أو بتلك الطبقات المدنية التي كانت رسخت فيما بينها قواعد المال، وبالجند الذين كانوا ضرورة لازمة لحماية المملكة الجديدة. وشاهدنا كيف انقلب المسلمون في بعض النواحي إلى أرقاء لاصقين بالأرض وكيف انحصر في ربقة هذا الرق عدد كبير منهم. هذا المجتمع الإسلامي الجديد ليس هو المجتمع الذي عرفناه من قبل وإنما هو مجتمع ذمي يدفع الجزية، مجتمع كان يتمتع بالسيادة على غيره من الأجناس، فاصبح يحاول بالطرق السلمية الضعيفة أن ينال بعض الحقوق التي قد تقربه من الأجناس الأخرى، أو إن شئت التمثيل فقل إنه مجتمع كان أسداً فمسخ ثعلباً، وحالته الاجتماعية والنفسية والخلقية تلخص في الجوانب التالية: (أ) فقد السيادة وأصبح محكوماً بعد أن كان حاكماً، ومنع الإيمان المطلق برمز معين كانت قداسته في الحياة السياسية ذات أثر في حياته لاتصالها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 بالدين، وذلك الرمز هو الخليقة، وليس من الممكن جحد الأثر الذي كان للخلافة في عقليات الناس يومئذ. (ب) أصبح حكمه حكم الأقلية، له ما للأقليات من دأب ونشاط، بسبب المنافسة، وفيه ما في الاقليات من محاولة المحافظة على الكيان الجماعي والتمسح بأذيال الحاكمة والتقرب منها بشيء الوسائل، ثم فيه ما يتبع ذلك من مداهنة وتملق صاغر والتفاف حول الحامي كالتفاف الكلب على صاحبه، وقد يصبح هذا الحامي موضع لنزاع الجماعة نفسها إن كان فيهم ذوو أطماع، فيحاول كل فريق أن يستأثر بعطفه، فتنقسم الجماعة على نفسها وخاصة إن تقريب الحامي لجماعة دون أخرى أو لفرد دون آخر يوقع الجماعة في خصام فتصبح قوتها مشلولة بالاختلاف والتناحر ويفيد من ذلك صاحب السلطان. (ج) صار دائم التوجس والخوف من عدوان يقع عليه بين لحظة وأخرى وأصبح يعد نفسه لمقابلة الشر بالشر، لا للإنتاج المفيد في وقت السلم، وفي هذه البيئة يكثر الشطار والنهازون للفرص، كما تكثر العيون التي تسعى لتكيد للجماعات الأخرى في السر. (د) اصبح من سماته التدين والالتفاف حول عمود الدين لأنه المبدأ الذي يربط الجماعة ذات الجنسيات المختلفة، وهو الذي يحدد علاقتها بغيرها من أهل الأديان الأخرى، ومن أشق أحوال الشعور الديني كتبه خوفاً أو تقية ولذلك لا تكاد الأقلية تشعر بشيء من القوة حتى تصخب متظاهرة بشعائرها في شيء من التحدي تعرفه القرون الوسطي صخباً جماعياً، أما الفرد نفسه فيشيع الصدقات ويعين الفقراء ويعطف على الغرباء من أهل دينه. والعداوة الدينية مريرة تسير الحياة، ومما يذكيها رؤية الثراء في فريق دون آخر، ورؤية المسجد الذي حول كنيسة، وتربع فريق دون غيره في الوظائف العليا، وكلمة نابية ندت في حق واحد من غير دينه.. إلخ ثم تستمد كل هذه المظاهر سيفاً كتب عليه اسم الدين أثناء الثورة والهياج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 (هـ؟) امتحان فريق من الأقلية بالفتنة في دينه، ولجوئه أحياناً إلى تغيير دين آبائه لإخفاقه في دنياه، أو لحب غلب عليه، أو لشهوة عابرة يقضيها كالتخلص من الضريبة، أو الرفعة في المناصب، وما أشبه، ومثل هذا له نفسية خاصة أبرز ما فيها القلق. (و) الفوضى في حياة الأسرة وخروج الابن عن طاعة أبويه، وثورة البنت على أهلها، وانحلال الأب والزوج لوجود ملجأ يعوذ به الحانق ويتخلص به مما يعتقده ظلماً واستبدادا، وغلبة المداراة أو النفاق الاجتماعي لا في السوق والمكتب والديوان فحسب، بل في البيت وبين أفراد السرة الواحد. ونسرف إن قلنا إن المسلمين كانوا غالباً يعرفون الرضى عن حالتهم في صقلية ويدينون بالقناعة فيما صاروا إليه - كانوا يخافتون في تذمرهم ويهمسون فيما بينهم وبين أنفسهم بالشكوى، فإذا وجدوا رجلا كابن جبير يحدثونه بمخاوفهم وآلامهم نفضوا بين يديه كل ما كان خافياً، ولدينا قطعة نثرية فيها هذا التذمر والقلق، ويقول فيها كاتبها بعد إعلان الشوق لصديقه: " لكني إذا رجعت إلى شاعد العقل، وعدلت إلى طريق العدل يمازج قلبي سروراً، ويخالط شوقي بهجه وحبوراً، بما ألهمك إليه من صفاء النية والإخلاص والظفر بأمل النجاة والخلاص، فأتلو عند ذلك " يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً " ثم أرجع إلى قول صلى الله عليه وسلم: " الإيمان بالقدر يذهب الهم والحزن " فاعلم أن الأمور كلها مقدورة وأنها في اللوح مسطورة، فأفزع إلى الدعاء لمقدر الأمور الذي يعلم خائنه الأعين وما تخفي الصدور، أن يحسن لنا العقبى، ويقضي لنا بالحسنى، ويسبل علينا من العافية ستراً سابغا ضافياً، ويوردنا من السلامة مورداً سائغاً صافياً " (1) . وقد صور الشعر هذه الحياة للجماعة الإسلامية إذ نجد صوراً من الغضب والرضى والتعاطف فهناك من يسعى بين اثنين - فقيهين - فيتعاتبان بشدة   (1) الخريدة 11 الورقة 19 انظر الترجمة رقم 11 من مجموعة الشعر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 ليتصافا، وهناك رسائل في الشعر تصور مبلغ التلطف في مخاطبة الواحد الآخر ورسائل منثورة مليئة بالعتاب الذي يبلغ أحياناً حد الغضب، وهناك من يحجب عن أحد الرؤساء فيؤثر هذا في نفسه حتى ليتمكنوا أنه لم يكن. وهذا الإرهاف في المعاملة من ناحية، وسورة النفس ونهوضها إلى التدقيق في العلاقات من ناحية أخرى - ألا يمكن له صلة بما قد نسميه " الواجب المتعارف " بين جماعة متآخية في الدين يؤذي الفرد إلى درجة النفور أن يحس الإخلال في هذا الواجب آتينا لا من الغريب بل في القريب؟ ثم ألا يدل هذا الإسراع إلى التعبير عن القلق أنه مستوحي من روح ذلك التضامن الذي يمليه الواجب المتعارف؟ وليس عبثاً أن نسمع في هذه البيئة شاعراً لا يدعو إلى التنفير من الناس فحسب بل يقوي صوته فيدعو إلى إعلان الحرب عليهم وينهي عن الاغترار بالتبسم والملق الذي يبدونه (1) : إخوان دهرك فالقهم ... مثل العدا بسلاحكا لا تغترر بتبسم ... فالسيف يقتل ضاحكا وهل نستطيع أن ننسب إلى عدم النجاح في التقرب من الحامي والإخفاق في المنافسة، وإلى التباين الذي تحدثه الحكومة المؤسسة على النظم الإقطاعية - هل نستطيع أن ننسب قول الشاعر (2) : وكم خامل في الناس أمسى مرفعا ... ترقى إلى العلياء كل سنام فتعسا لدهر حط علو مراتبي ... وقلل إخواني وأكثر ذامي إذا اخضر يوماً منه للمرء جانب ... غدا فجلا للعين كف لئام   (1) الخريدة 11 الورقة 8 والترجمة 5 من مجموعة الشعر. (2) الخريدة 11 الورقة 10 والترجمة 9 من مجموعة الشعر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 نعم هذا معنى شائع كثيراً ولكن هل من الغريب أن تنبت الأسباب المشابهة نتائج متشابهة؟ ثم ماذا كان أثر التدين في شعر هذا العصر عامة؟ لقد انعدم الشعور الديني في القصائد التي تدور حول الملك النورماني وأسبابه، وماتت كلمة الجهاد، فلم نعد نسمعها أو نسمع متعلقاتها في الشعر، إذ لم يعد يجمع بين الممدوح والمادح رابطة دينية، أو يحفزه إلى الثناء عليه شعور ديني بجانب حاجاته الدنيوية - هذا صوت قد خفت أبداً، وقد كان المتوقع أن يكون كبت هذا الشعور في العلاقة بين الشاعر وصاحبه سبباً لتسربه في ظل الحياة الإسلامية الخالصة، ولكن إذا استثنينا قصائد الرثاء وجدنا الصبغة الدينية تمحي في الشعر الإسلامي الخالص أيضاً، حتى لنجد أشعار الفقهاء لا في الحب فحسب بل في المجون والغزل ببني الصفر. وحب الحياة أو الثورة النفسية على الواقع الديني تتضح في شعر الإدريسي إذ يحاول في قصائده أن يقتل الشعور بالحرمان، ويصور تحقق الرغبات والغرق في اللذة في زياة تستغرق طول الليل، وقد كنا هذا العامل الجديد قادراً على أن يكسب الشعر في هذا العصر حيوية لم نعرفها في كثير من شعر العصر الإسلامي ولكن هذه الحيوية لم تكتمل له لأن عمره كان قصيراً، ولأن الثورات قد باعدت بين المسلمين والطمأنينة التي تبث في الصدور حب الحياة. ومهما يكن فقد برزت في هذا الشعر بعض مظاهر القوة وخاصة في التصوير واصبحنا نجد مثل هذه الصورة الفكهة في قصيدة مجونية (1) . تجذب خصراً مخطفا ... بكفل مرجرج كمثل زق ناقص ... على حمار أعرج   (1) الخريدة 11 الورقة 12 والترجمة رقم 10 من مجموعة الشعر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 أو هذه الصورة الأخرى (1) : بتنا على فرش العفاف وبيننا ... نجوى ترق لها الصفا وتلين والليل كالزنجي شد وثاقه ... والنجم مطلع عليه أمين 4 - مقارنة بين الشعر في البيئة الإسلامية والشعر في البلاط النورماني ولتوضيح الفرق بين الشعر في الجماعة المسلمة والشعر في بلاط الملك النورماني أتناول شعر الرثاء بالمقابلة وأدع المدح، لأن الذي وصلنا منه في رجار قليل لا يسمح بعقد مقارنة وافية. أما الرثاء فلدينا منه قصيدة لأبي الضوء سراج في رثاء ولد رجار كما أن هناك عدة قصائد في رثاء بعض زعماء المسلمين. وكثرة الرثاء والتفجع على من يموت من هذه الجماعة فيه إحساسها بالخسارة الاجتماعية كلما ذهب فرد عظيم من أفرادها، ولابد من أن نقدر الفروق القائمة في كل مناسبة حتى لا يقع الحيف على ابي الضوء في قصيدته. يقول أبو الضوء (2) : خبا القمرُ الأسى فاظلمت الدنا ... ومادَ من العلياء والمجد أركانُ أحين استوى في حسنه وجلاله ... وتاهتْ به أوطارُ عزّ وأوطانُ تخطفهُ رَيبُ المنون مخاتلاً ... على غزة، إن المنون لخوان كذلك أغراض البدور يعوقها ... إذا كملت من حادث الدهر نقصان فهو يصف الظواهر التي صاحبت وفاة المرثى ثم ينحى على الموت الخائن القادر الذي استلبه حين استوى في جلاله، ومثله بالبدر الذي يعتريه النقص إذا سعى إلى الكمال. وبعد انتهى من هذه المقدمة قال: إنه من الحق أن يبكي عليه بدموع   (1) الخريدة الورقة 15 والترجمة: 11. (2) المصدر السابق الورقة 118 والترجمة: 61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 بيض وحمر كالدر والمرجان، وأن تحرق الأكباد وتمرض الأنفس وتعظم الأتراح والأحزان. فانظر كيف جعل الشاعر البكاء حقا على سواه أما هو فلا شأن له بتنفيذ هذا الذي يعده حقاً: لحق بأن يبكي عليه بأدمع ... لها في مسيل الخد درٌ ومرجان ثم ما قيمة تشبيه الدموع في موطن الحزن أو تقسيمها إلى فئات إن كان الحزن صحيحاً؟ وقد ذكر الدموع في هذا البيت فلم عاد يذكرها بعد بيت واحد؟ وتبتاع أحزان وتهمى مدامع ... وتجمع أمواه غزار ونيران وما الفرق بين الدمع هنا والدمع هنالك وما هذه الأمواه إلا الدموع؟ وما الفرق بين قوله: وتعظم أتراح؟ وتكبر أشجان؟ وتبتاع (؟) أحزان؟ من هنا ترى الفقر شاملاً في كل شيء - في العاطفة، في الأسلوب، في الترتيب، والشاعر إنما يحشد ألفاظاً تتصل بمعنى الحزن ولا تنطوي عليه. وقد يكون هذا من ضعف شاعريته، ولكن مما زاد الضعف وضوحاً، انعدام العاطفة في موضوع يحتاج إلى قسط كبير من الصدق ولا ينفع فيه الانفعال البسيط. ضع هذه القطعة مقابل قول محمد بن عيسى: عز العزاء وجل البين والجزع ... وحل بالنفس منه فوقَ ما تسعُ يا عينُ جودي بدمع خالص ودم ... فما عليك لهذا الرزء ممتنع فالجسم ينحلُ والأنفاس خافتةٌ ... والقلبُ يخفق والأحشاء تنصدع كوني على الحزن لي يا عينُ مسعدة ... فإن قلبي لما تأتينه تبع فهنا هذا التهويل المقارب للتهويل السابق، وفيه هذه الدموع البيض والحمر، وفيه تصوير للحالة الجسمية والنفسية التي نزلت به من جراء الحادث الجلل - فيه كل التكلف الذي ورد في القطعة الأولى ولكن فيه عنصراً واحداً ينقص شعر ابي الضوء فقد ابى أن يقول للناس إنه بكى أو أن كبده احترقت أو أن الماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 اجتمع مع النار من شدة حزنه هو - أبى أن يقول ذلك لأنه في حقيقة الأمر صادق مع نفسه لم يحزن ولم يبك ولم تحترق كبده، وإذن فلم يرثى ولم يطلب إلى غيره أن يفعل ما لم يفعله؟ كلا الشاعرين يرثى شخصاً غريباً عنه وكلاهما يلجأ إلى التهويل في تصوير الحزن ولكن حتى في هذا التهويل فرق لأن التعاطف المشترك مفقود بين أحدهما وبين المرثى. ثم انظر المسألة حين تخف حاجة الشاعر إلى هذا التعاطف القائم في أصله على وحدة ما - والوحدة الدينية يومئذ أقواها - واستمع إلى أبي الضوء يعد الأشياء التي حزنت على ولد رجار تجده يقول: تبكت له خيماته وقصوره ... وناحت عليهُ مرهفات ومران وعاد صهيلُ في لهواتها ... حنيناً وعاقتهن لُجمٌ وأرسان وما ناح وُرْقُ الأيك إلا لهُ فلوْ ... دَرَت لبكت قبل الحمائم أغصان فهذا ميت قد بكت عليه الخيمات والقصور والمرهفات والمران والخيل والورق وكذلك مرثى ابن عيسى بكت عليه الخيل والسيوف (المرهفات) والخطيئة (المرن) . فالباكون متقاربون أو متشابهون ولكن أين الفرق؟ استمع إلى ابن عيسى يقول: بكته المذاكي المقربات وقطعت ... شكائمها إذ منه أعدمت الركضا مشت وهي بين الخيل أنزرها دما ... وأبرزها جسما وأهزلها نحضا وكادت سيوف الهند تندق حسرة ... وأجفانها تنشق عنها لكي تنضا وخط على الخطيئة الرزءُ أحرفاً ... أرادت لها خفضاً فحولها خفضا تجد أن صورة أبي الضوء ألطف لأن فيها عبوراً سريعاً في الصورة - المستحيلة أصلا - أما ابن عيسى فوقف عند المحال يغرق فيه، ويمد في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 جوانبه، ويضفي على الصورة زيادات تزيدها افتعالاً، ولا شك في أن أبا الضوء حين جعل صهيل الخيل حنيناً كان ألطف طبعاً من محمد بن عيسى الذي أخرج الخيل عن طورها حتى قطعت الشكائم ونحل جسمها وبانت عظامها وأدركها الهزال والإعياء. فلما لم يكن أبو الضوء في حاجة إلى سند من شعور عميق في هذا المعنى استطاع أن يجلوه خيراً من ابن عيسى. ثم راح أبو الضوء يصور هول ذلك اليوم وأنه تشيب فيه الولدان ويشبهه بيوم الحشر وقد اجتمع فيه الرجال والنساء حتى ضاقت بهم الأرض، ولحظ لبسهم للسواد فشبههم بالأغربة، بعد أن كانوا في ثياب اللهو كالحمائم: كأن منادي البعث قام منادياُ ... لحشر فهب الخلق طرا كما كانوا وقد ضاق رحب الأرض بالخلق فالتقت ... جموعهمُ مرجاً رجالٌ ونسوان وكانوا بلبس اللهو حمائماً ... فعادوا وهم في ملبس الحزن غربان وهذه المعاني مفرقة عند ابن عيسى في غير قصيدة. ففي معنى يوم القيامة يقول: شهدنا على قرب بمشهد موته ... مشاهد لم تخط القيامة والعرضا وفي لبس السواد: سعوا مشاة وهم في الزي أغربة ... مسودة من وراء النعش تتبع وانفرد ابن عيسى بمعان لم يكن أبو الضوء يستطيع أن يقترب منها وهي أمور إسلامية كذكر العيد وحال السرور فيه، وكيف منعت الوفاة الناس من ورود المصلى ضحى، والتعزي بالرسول والصحابة، والتحدث عن الملائكة التي جاءت لترفع الميت إلى السماء. أبو الضوء إنما يحشد المبالغات حشداً لأن المضطرب الذي يهوى فيه محدود، وربما لم يساعده كثيراً في الرثاء أنه ليس من الشعراء الذين يجدون العزاء في مظاهر كونية حتى يلجأ إلى الحكمة والتفلسف في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 أمر الموت فهو ضيق الباع قصير الرشاء من ناحيتين: ناحية المعاني التي لابد له أن يتجاوزها في مثل موقفه، وناحية مذهبه الشعري، والضعف في الناحية الأولى يجئ من ضعف الشعور الديني المتبادل. وهناك معنى لا يمكن أن يتعرض له أبو الضوء، وأفاد منه الشعراء المسلمون في رثاء عظمائهم، وهو أن كل مفقود منهم فان فقده ضربة في صميم العزة الإسلامية بالجزيرة وركن كانوا يستندون إليه فخفت هيتهم بعده: لقد مات فيه عدة أي عدة ... لنا فعدمنا كل عيش به يرضى وأبصارنا كانت تسامى له وقد ... غدا الكل منا طرفه اليوم قد غضا وقد كان طرفي ليس يغضى على القذى ... فأصبح عن أقذائه اليوم قد أغضى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 فراغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 الفصل السابع هجرة الشعر إلى صقلية ابن قلاقس الإسكندري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 فراغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 هجرة الشعر إلى صقلية - ابن قلاقس الإسكندري كل ما تقدم من حديث عن شعر العصر النورماني يشمل عصر رجار على وجه الخصوص، وليس بعده شعر عربي صقلي إلا نقوش على القصور من أثلتها في قصر لغليالم الثاني (1) : تأمل وقفْ ترَ خير إيوان ... لخير ملوك الأرض غليالم الثاني ولكن إغراء الأدباء والشعراء بالقدوم إلى صقلية وتشجيعهم على ذلك بالمنح والعطايا كان لا يزال دأب الملك النورماني منذ أن سن رجار هذه الطريقة. ولعل هذا هو الذي أثار ابن قلاقس عن مصر وحمله على زيادة صقلية إذ ليس هناك إشارة واضحة إلى الدافع الذي حدا به القيام بتلك الرحلة. وذكر ابن ميسر في تاريخه " أن رجار يحب مديح الشعراء ويجزيهم فذهب إليه جماعة من الشعراء ومدحوه منهم ابن قلاقس، وأمر أن يصنف له تاريخ فصنف له تاريخ كبير " (2) . وفي هذا النص سهو فإن ابن قلاقس لم يزر رجار وإنما زار صقلية أيام غليالم الثاني، وأما التاريخ الكبير الذي صنف له فربما كان إشارة إلى كتاب الإدريسي وهو في الجغرافية لا في التاريخ. ولسنا ندري هل اتصل ابن قلاقس الإدريسي الثاني أو لم يتصل، فقد كان غليالم حين دخل ابن قلاقس صقلية سنة 563هـ؟ لا يزال تحت وصاية أمه. وليس في ديوانه؟ أو ما تبقى منه؟ قصيدة في مدح صاحب صقلية. وينص الصفدي على أنه مدح ملك صقلية الإفرنجي   (1) Amari؛ Le Epigrafi arabiche di sicilia P. 72. (2) تاريخ ابن ميسر: 85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 (غليالم) وأن جملة ما أعطاه هذا الملك مركب مملوء جبناً (1) ومما قد يؤدي هذا النص أن ابن قلاقس عرف شخصاً يسمى " جردان " (2) وهو يدعى في ديوانه وزير صاحب صقلية، ومدحه بقصيدة مثبتة فيما بقى من شعره. واتصاله بالوزير أو بهذه الشخصية العظيمة مما قد يجعل اتصاله بصاحب صقلية نفسه محتملا. ولكن من هو (جردان) هذا؟ إن التاريخ لا يسمى إلا اسطفان المستشار عند والدة غليالم الذي كان بمرتبة الوزير. ولكن إذا صدقنا ابن جبير الذي يتحدث عن وزراء غليالم بصيغة الجمع لم نستبعد أن يكون هنالك وزراء كثيرون لغليالم ولا يبعد أن يكون جردانو واحداً منهم، بل ربما كان الأرجح أن جردانو وكثيرين غيره كانوا أعضاء المجلس Curia في بلاط الملك، وإذن فيكون جردانو أحد أولئك الأعوان الشيوخ. وفي مدحه يقول ابن قلاقس (3) : وجردنا المدائح فاستقرت ... على أوصاف جردنا الوزير فنظمنا المفاخر كاللآلى ... وحلينا المعالي كالنحور وقمنا في سماء العز نرعى ... جبين الشمس في اليوم المطير وأعجبُ ما جرى أنا أمنا ... ونحن بجانب الليث الهصور وواضح أن ابن قلاقس يحوم حول مدح لينفذ إلى صفات يمدح بها، ويبهم في القول فيستعمل ألفاظ المفاخر والمعالي والعز، ولكن قدرة الشاعر في هذا الإبهام جعلت التحويم حول المدح خيراً من المدح نفسه، فلما نفذ إلى المدح المباشر عاد يرتطم بصخور المبالغة، وهو يحاول أن يقلبها على كتفي ممدوحه ويقول: لهيبُ صواعق العزَمات منه ... يكادُ يذيبُ أفئدة الصخور   (1) أعيان العصر مجلد 2 الورقة 219 والنص على أ، هـ مدحه عند ابن خلكان أيضاً. (2) في نسخة الديوان المطبوعة يسمى يزجرد. (3) النص في الخريدة نسخة نور عثمانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 وماءُ مكارم الأخلاق منه ... يكادُ يردّ صاعدةَ الزفير وأغراسُ الأماني في يديه ... تهز معاطف الروح النضير ويدل ما تبقى من رسائله على أ، هـ تعرف في حضرة غليالم إلى القائد غارات ابن جوشن " خاصة المملكة الغليلمية بصقلية " وفي كتاب له كتبه إليه شكر على ما لقيه في جنابه من حفاوة وإكرام " فقد فارق جنابها (الحضرة) الكريم ممتلء اليد نعمةً، والفم نغمة والخاطر آمالا، والناظر أموالا، اصطناعاً منها، وتفضلاً أبى الله أن يصدرَ إلا عنها " (1) . وكات كذلك السديد الحصري وهو اسم يذكرنا بمنافس ابن الحجر الذي يسميه هوجر فلقندو Sedictus وفي كتابه إليه دعابة تدور حول شهر رمضان، وأنه شهر عظيم البركة، ثقيل الحركة، ودعاء لعله أن يمضي سريعاً، ويقضي بخنجر الفطر صريعاً (2) . ولكنه كان أكثر أنساً بشخص ثالث اسمه ابن فاتح وهو شيخ فقيه أديب بصقلية، يطلب إليه في رسالة عوناً على السفر " فإن رأت (الحضرة) أن تيسر له أسباب سفره، وتفتح له أبواب ظفره، قبل خروج ركابها العالي، فلسان شكره ينقلب دعاء، ويكون له سمع الإجابة وعاء " (3) . فهذه الرسائل قد عرفتنا بثلاثة من المسلمين في بلرم ولعلهم كانوا جميعاً من رجال الدولة ومن الزعماء في بني قومهم. ولكن ابن قلاقس في صقلية اختص بمدائحه أبا القاسم بن الحجر، ابن حمود زعيم المسلمين حينئذ في الجزيرة والذي نعرفه من التاريخ أن أبا القاسم   (1) ترسل ابن قلاقس: 34 من نسخة خطية رقم 617 أدب بالتيمورية. (2) المصدر نفسه: 47 - 48. (3) لمصدر نفسه: 43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 كان يلقب بالقائد، وينافس في الزعامة مسلماً آخر، ويحرض المسلمين على أسطفان، وأنه كان من الأغنياء ذوي الإقطاعات الواسعة، وقد رأى ابن جبير له ولإخوته وأهل بيته في بلرم قصوراً مشيدة أنيقة، وكان ذا أطماع بعيدة، يحلم بعودة الجزيرة إلى حوزة المسلمين، ويعمل لذلك، ويعمل لذلك، حتى ليقول الهروي إنه اجتمع به في صقلية فأعطاه أبو القاسم كتاباً إلى السلطان يحثه فيه على أخذ الجزيرة (1) . ولعل هذا التدبير قد استغله أعداؤه فوشوا به إلى الملك، فغضب عليه وصادر أمواله حتى أغرمه ما يزيد على ثلاثين ألف دينار مؤمنية، وتخلى عن جميع دياره وأملاكه الموروثة عن سلفه، حتى بقي دون مال (2) ولما زار ابن جبير صقلية كان غليالم قد رضى عنه، وأخذ ينفذه في بعض أشغاله السلطانية " نفوذ المملوك المغلوب على نفسه وماله " (3) . ولما نزل ابن قلاقس في ساحته كان لا يزال على حالته الأولى من الرفعة والغنى، فمدحه بقصائد كثيرة، وألف له كتاب " الزهر الباسم في أوصاف أبي القاسم " والكتاب كما تصوره القطعة التي اقتبسها العماد في خريدته لا يعدو أن يكون في مقدمته وصفاً للرحلة التي قام بها الشاعر حتى بلغ إلى ممدوحه، ثم المدائح التي قالها فيه وفي أبنائه، ثم وصف لبعض المجالس التي استدعت قول الشعر. ولكن ما هو المنصب الذي يحتله أبو القاسم بدقة؟ إذا اعتمدنا على الزهر الباسم نثره وشعره، سمعنا ابن قلاقس يصفه بالبلاغة ويقول: إن " ألبس قلمه المداد عرى من الفصاحة قس إياد، وأنطلق طرسه الرسائل أخرس عن الخطابة سحبان وائل، يلزم لديه ابن العميد سمت العبيد، ويغدو عليه عبد الحميد غير حميد، يقول له الصاحب أنا عبد لا صاحب، ونهاية الصبابي أنه بألفاظه صابي،   (1) الهروي - الإشارات إلى معرفة الزيارات، المكتبة الملحق الثاني: 2. (2) ابن جبير - والمكتبة: 102. (3) المصدر نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 حتى لو انقلب الديوان ديوان شعر والقرطي (؟) اقراط شذر لكان هو المقرظ المعلى والمقرط المحلى " (1) فابو القاسم كان صاحب ديوان ولكن أي ديوان؟ وما هو القرطي الذي يشير إليه؟ ثم هو في موضع آخر يمدحه بقوله (2) : وبيمناك طييرُ وسعد ... أصفر الظهرُ أسود المنقار قلمٌ دَبرَ الأقاليم فالكت؟ ... ب به من كتائب الأقدار يا طرازَ الديوان والملك أصبح؟ ... ت طراز الديوان والأشعار هو صاحب قلم يدبر الأقاليم، والأقاليم اصطلاح كان جارياً في صقلية على الأقسام العسكرية - في الغالب - ثم ما الذي جعله يعرج على الطراز؟ هل كان لأبي القاسم علاقة بديوان الطراز في بلرم؟ وأوضح من هذه الأبيات قوله فيه (3) : وتلتقي كُتبهُ الكتائب في ... جيش من الخط صائد الصيد بكل لفظ كأنه نفسٌ ... غيرُ ممل بطول ترديد صَحتُ معانيه فانتسبن إلى ... فضل ابتكار وحسن توليد فهذا يخيل إلينا أنه كان صاحب ديوان الإنشاء ولعل الأصح أنه كان رئيساً على كل " الدوائر " الإسلامية من ديوان إنشاء وطراز وسلطة إدارية وغيرها. وإذا كان أبو القاسم في بلرم فمعنى ذلك أن ابن قلاقس أقام في ظله هنالك. فهل تعرف إلى غيره في مدينة سرقوسة؟ أو هل عرج عليها في دخوله إلى صقلية أو في رحيله عنها، لأنه يقول (4) :   (1) الخريدة نسخة نور عثمانية الورقة 52. (2) الخريدة نسخة نور عثمانية الورقة 54. (3) المصدر نفسه الورقة 33. (4) الديوان: 8 والنص هنالك محرف كثيراً وانظر الأبيات في معجم البلدان مادة بلرم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 قد سعى بي الوشاةُ نحو علاهُ ... فسعوا لي فلا عدمتُ الوُشاتا حركوا لي الشباةَ منهم فظنوا ... أنهم حركوا على الشباتا فدعا من بلرم حجي فلبي؟ ... تُ وكانت سرقوسةُ الميقانا فمن هو الذي سعى به؟ وهل اجتمعا في سرقوسة ثم توجهها إلى بلرم أو أن هناك شخصاً آخر سافر إليه ابن قلاقس ونزل عنده في سرقوسة؟ وهذه القصيدة - حسب ما في الديوان - يقولها في مدح رجل يسمى القاسم بن خليع. والظن قوي بأنه عرج على سرقوسة سواء كان ذلك في عودته إلى وطنه أو في قدومه إلى صقلية، لأن هناك قصيدة نونية يصف فيها رحلته، وربما كان الوصف ينطبق على رحلة من بلرم إلى سرقوسة لا العكس، وليست القصيدة في ديوانه وإنما احتفظ ياقوت بقطع متفرقة منها في معجم البلدان ولعل لها مقدمة غزلية هي تلك التي أوردها الصفدي في أعيان النصر (1) ومطلعها: أصبحت بين سوالف وعيون ... وقفاً على أمنية ومنون وإذا كانت هي حقا فلدينا من هذه القصيدة قطعة فريدة، هي قصة رحلة فيها شيء كثير من صفات الشعر الجميل، فيها الانفعال والحركة وفيها قدرة شاعر ذي دربة في تقليب الأداة الشعرية في يديه كالعجينة المرنة، ولم يستطع الموضوع نفسه. موضوع الرحلة - أن يقف في سبيلها بحيث يجعلها جامدة، أو يجعلها حقيقة جغرافية منظومة، لأنها استمدت قسطاً وافراً من حيوية ابن قلاقس الشاعر الشاب العنيف المنفعل دائماً، وقد مر في وصفه بثرمة وجفلوذ والقارونية واجتاز ببقطس ولبيري وحاذي ميلاص إلى أن بلغ مسيني، فنزل فيها ثم عاد فجدد الرحلة إلى سرقوسة فهو يقول في ثرمة وجفلوذ: فدخلتُ ثرمة وهو تصحيفُ اسمها ... لولا حسينُ الندب ذو التحسين   (1) الورقة 229 المجلد الثاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 في حيثُ شبّ الماءُ جمرة قيظه ... وبقيت في مقلاهُ كالمقلين وشربت ماء المهل قبل جهنم ... وشفعتهُ بمطاعم الغسلين حتى إذا استفرغتُ منها طاقتي ... وملأت من أسف ضلوع سفيني أجفلتُ من جَفلوذَ إجفال امرىء ... بالدين يُطلبُ ثم أو بالدين مع أنها بلدٌ أشم يحفه ... روضُ يشم فمن منى ومنون تجري بأعيننا عيونُ مياهه ... محفوفةً ابدا بحورٍ عين وتركتها والنوءُ ينزل راحتي ... عن مالِ قارونٍ إلى قارون ويقول في مسيني وسرقوسة: وأظل أنُشد حين أنشد صاحبي ... من ذا يُمسيني على مسينى وحللتُها وحللتُ عقد عزائمي ... بيدي إلى السيد المبادر دونى فأقامني تسعين يوماً لم تزل ... نفسي بها في عقدة التسعين بتجلف لا يستقل جناحه ... ولو استطار بريشي جبرين بردٌ جرى في معطفيه وفكه ... وكلامه وعجانه المعجون ثم استقلتْ بي على علاتها ... مجنونةٌ سحبتْ على مجنون هوْجاءُ تُقسيمُ والرياحُ تقودها ... بالنون أنا من طعام النون حتى إذا ما البحر أبدتهُ الصبا ... ذا وجنة بالموج ذات غضون ألقت به النكباءُ راحةَ عائث ... قلبتْ ظهورَ مشاهد لبطون وتكلفتْ سرقوسةٌ بأماننا ... في ملجأ للخائفين أمين وفي هذه القصيدة التي علت على موضوعها وذللته، واستحقت اسم الشعر، يحدثنا ابن قلاقس كيف كره ثرمة لشدة حرارتها، ولم يجد فيها صدراً رحباً إلا عند رجل اسمه حسين، ثم أجفل من جفلوذ كما يجفل الذي يطلب بالدين أو بالدين - شأن مسلمي صقلية قبل زيارة ابن قلاقس لها بقليل - وسر الشاعر من جفلوذ ومن رياضها وعيون مياهها المحفوفة بالنساء الجميلات - صورة صقلية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 ريفية لم يلمحها غلا شاعر غريب، وفي مسينة أقام تسعين يوماً - إن صحت رواية البيت - عند جلف ثقيل الظل لا تخف روحه ولو علق في جبينه جناحي جبريل مع أنه مسينة نفسها أعجبته خين نزلها غرة شعبان سنة 363هـ؟ (1) وأعلن عن إعجابه بقوله: بلد أعارتهُ الحمامة طوقها ... وكساهُ حُلة ريشة الطاووس فكأنما الأزهار منه سُلافةٌ ... وكأن ساحات الديار كؤوس صورة صقلية أخرى لم تفتن إلا شاعراً غريباً. وعاد بعدها إلى تلك المجنونة التي كانت تسحب نفسها على ماء مجنون مثلها، سفينة هوجاء تحلف لهم بالنون أنهم سيكونون طعاماً للحيتان، وأخيراً. رحبت به سرقوسة فنزل في ملجأ أمين. لا نعرف على وجه الدقة المدة التي قضاها ابن قلاقس في صقلية ولكنه كانفي اليمن سنة 565هـ، فمقامه فيها رما لا يتجاوز السنتين. وفي أثناء هذه الإقامة تعرف إلى حياة بلرم وبعض رجلاتها، وحضر مجالس الشراب، ووصفها وذهب يطيل المدائح في أبي القاسم بن الحجر، ويثني على قدرته في الكتابة وعلى جوده، ويمدح بنيه أبا بكر وعمر وعثمان، ويهنئه بالصوم والعيد، وعرف من حياة صقلية ومن جمالها ما لمسنا أثره في القصيدة المتقدمة. ومن المغالاة أن ننسب إلى صقلية اثراً في شاعريته وصنعته لأن ذلك القدر من الإقامة لا يبيح مثل هذا التأثر السريع. وإذا كان شعره تحت سماء صقلية امتلأ بأسماء أمكنة صقلية وأعلام من أهلها، فهذا شيء لا يضفي على الشعر سمات جديدة والذين يدرسون أثر بيئة معنية في الشاعر سيجدون في مثل ابن قلاقس عقدة من نوع ما، لأنه لم يكن يستقر في مكان. ولم تستطع صقلية أن ترضي ابن قلاقس ولذلك نجده يقول لصديقه الشيخ   (1) انظر الخريدة نسخة نور عثمانية الورقة 54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 أبي الحسن علي بن أبي الفتح بن خلف الأموي الصقلي، لما قرر الرحلة عنها. وقمت لي من جفاءٍ في صقلية ... بلطف مصرَ عليه ظرفُ بغداد إن كان طبعك من ماء ورقته ... فإن ذلك [..] بين الفولاذ ويقول له في قطعة أخرى: تخذتك من صقلية خليلاً ... فكنت الوردُ يقطف من قتاد وسمتك بين أهليها صفيا ... فكنت الجمر يقبسُ من زناد فلم استحقت منه صقلية هذا الذم؟ لم وجدها قتاداً وزناداً صلداً وفولاذاً صلباً ووصفها بالجفاء ونفي عنها الرقة؟ علينا أن لا نثق كثيراً بأحكام أولئك الغرباء الذين كانت تتغير عليهم البيئة، وخاصة إن كان ذلك متصلا بعاطفتهم، وما نظن أن الشاعر يصدق صدقاً - موضوعيا - حين يمدح أو يهجو إلا قليلا، زد على ذلك أن ابن قلاقس عاش في صقلية تلك المدة محكوماً بالحنين إلى وكنه يحلم بالعودة. ولما قرر أن يعود كان الفصل شتاء، فهبت ريح ردتهُ من عرض البحر إلى صقلية فكتب إلى أبي القاسم يقول (1) : منع الشتاءُ من الوصو ... ل مع الرسول إلى دياري فأعادني وعلى اختيا ... ري جاءَ من غير اختيار ولربما وقع الحما ... رُ وكان من غرض المكاري وحين نزل في ميناء الإسكندرية خرج اصدقاؤه للسلام عليه، ولكنه لم يستقر غلا ريثما يعد نفسه لرحلة جديدة.   (1) انظر ابن خلكان في ترجمة ابن قلاقس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 فراغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 خاتمة الشخصية الصقلية والشعر 1 - الطبيعة الأرضية وأثرها في الشعر 2 - صقلية ملتقى شعوب لا وطن شعب وأثر ذلك في الشعر 3 - الموقع الجغرافي والسمات التي تركها في الشعر 4 - صقلية بين التأثر والتأثير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 فراغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 1 - الطبيعة الأرضية وأثرها في الشعر للبحث في القرون الوسطى صلة قوية بالدين وإذا لم تنل هذه الصلة حقها من الكشف والجلاء في مظاهر الحياة جميعاً - والشعر أحدها - كان ذلك إغفالا لأكبر حقيقة تقوم من وراء كل مظهر في تلك العصور. ليس يفهم الشعر حينئذ إلا حين نفهم العلاقة القائمة بينه وبين روح التدين - الروح لا المظهر المدرسي القائم على الدراسات الفقهية. وفي شخصية صقلية ما يمكن أن نسميه " الطبيعة الأرضية ". وبيان هذا أن صقلية في عصور الأسطورة لم تستطع أن ترفع رأسها إلى السماء فعبدت آلهة أرضية، أي عبدت آلهة تخافها وتحبها في الأرض لا في السماء، لأن هذه الآلهة هي التي كانت تمدها بالثمار والحبوب والخمر والفوارات والينابيع، وهي التي تخيفها بقوة " إتنا " وجبروته، وهذه النظرة التي انصرفت بصقلية عن السماء إلى الأرض جعلتها ترى القداسة في جوانب تلك الأرض، ومن هذه القداسة والأساطير حولها تغذي الأدب. فلما جاءت المسيحية لم تقض تماماً على الأصول الوثنية لأن في طبيعتها قدرة قبول كثير من المواضعات التي درج عليها الناس، ومع ذلك لم تستطع صقلية في ظل المسيحية أن ترفع رأسها إلى السماء فعبدت القديسين على مسافات قريبة من أرضها - عبدتهم على رءوس الجبال وأسبغت عليهم صفات الآلهة الأسطورية. ثم جاءها الإسلام يمزج بين غابتين: بين توجيه نظرها إلى السماء وبين سعي حثيث في جنبات الأرض، فاختارت في الغالب ما هو أقرب إلى طبيعتها، وغرقت في الحياة المادية، وزادها غرقاً فيها أن الإسلام التي نزع من نفسها الإيمان بقداسة الموجودات الأرضية، ومحا الأسطورة القديمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 كانت لا تزال كامنة في نفسيتها - كانت لا تزال حقاً لأن الأساطير القديمة عن سكلا وخار بديس وصلت إلى المسلمين ورددوها تلميحاً لا إسهاباً -. فلما أراد بعض الثائرين على هذا الاتجاه المادي - أو بعض المتصوفة - أن يجذبوا إليهم المريدين أخفقوا في الوصول إلى غاياتهم على أرض لا تعرف هذا الاتجاه الواضح إلى العالم العلوي. فلا غرابة إذا كان الأدب في الأيام الإسلامية كفئاً بتلك الحاجات اليومية العابرة، لا تعبيراً عن شيء من المثالية في الحياة. وهذه الطبيعة الأرضية - وهي أول عنصر في شخصية الجزيرة - كان لها أثرها في توجيه الحياة الإسلامية بها، وكان لها أثران بارزان في الشعر، أما أولا فقد أقرت أصولا خلقية عامة يقبلها الناس في حياتهم فأصبح في الشعر صدى لهذه المقاييس العرفية أو الدينية - أي أنه أصبح يحث على هذه الأخلاق أو تلك، فاستقام في هذا مع دروس أهل الوعظ ومع الطابع العام للدراسات الفقهية في المساجد. وأما ثانياً فقد نشأ من الاتجاه إلى الحياة العملية اتجاهات دنيوية تحل بمقاييسها الجديدة محل الدين، ولست أتحدث عن جميع هذه الاتجاهات هنا وإنما يعيني منها ما اتصل بالشعر، ففي أواخر العصر الإسلامي كان الشعور بالوطن قد أخذ يقوي على كل شعور آخر، وأصبحت فكرة الوطنية هي الدين الجديد الذي يربط بين الصقليين أنفسهم، وهذا ما لمسناه في شعر ابن حمديس من قبل. فإن ابن حمديس في بكائه على صقلية كان يحس إحساساً وطنياً لا دينياً، ولكنه تغير بعد ذلك فرضت عليه الحياة أن يتحدث من بعد عن انتصارات المسلمين على غيرهم، وليس معنى ذلك أن الشعور الديني عند ابن حمديس فقد بتاتاً في أشعاره الصقلية، ولكنه حل في المقام الثاني، وأصبح ابن حمديس يقول لبني وطنه حين يحرهم على الثبات " موتوا من أجل الوطن فإن بلاد الناس ليست بلادكم ". وهذه صرخة عجيبة في القرون الوسطى لا نسمع مثلها إلا تمنيات المؤرخ فلقندو بأن يتحد مسلمو صقلية ومسيحيوها ليحموا وطنهم من الأعداء. والواقع أن الدين نفسه لم يكن يسمح لهذا الشعور الوطني بالتفوق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 واحتلال المقام الأول، وقد رأينا كيف أن جماعات المتدينين أو من يأخذ أخذهم لم يبكوا على صقلية وطنهم الضائع لأنهم وجدوا في ضياعها عدالة سماوية تحق العذاب على من استحقه. وربما كان من التنبؤ الكاذب أن يقال بأن صقلية لا الاحتلال النورماني استطاعت أن تتبنى هذا الشعور الجديد وتنميه، ولكن لا شك في أن الاحتلال النورماني قد صرف المسلمين إلى العناية بذلك الحبل الذي يربط بين جماعتهم والإشفاق عليه من أن ينقطع. فاعتصم الناس بالدين بعد أن كانت إمارات الحال تدل على أن الشعور بالجزيرة - ذلك الشعور الذي تتبعنا مبادئه حتى تجسم عند ابن حمديس - سيصبح قاعدة الحياة الاجتماعية. ومع ذلك فإن الدنيوية في العصر النورماني لم تمت من الشعر وإنما رجعت إلى المنزلة الثانية. وإذا كان للشعر العربي من أثر في الشعر الإيطالي، فهو أثر بهذه الروح الدنيوية التي حفزت الشعراء إلى اتخاذ موضوعات الحب والغناء والعبث برجال الدين أساساً لشعر جديد وخاصة الشعراء الجوليارديين Goliardic ونسمع أحدهم يقول (1) : غايتي أن أقضي في الحان، فقرب الخمر مني حين تهم الروح أن تطير: Meum est propositum in tabrnae mori ult eint vina proxima morientis eri وهي روح تجدهها شائعة في الشعر العربي فإذا في الشعر الصقلي وجدت شبيهاً بها قول ابن الخياط الصقلي: ولو أن ملك الأرض تحت يدي ... لجعلتُ كل نباتها كرما حتى تكون الأرضُ منهلةً ... تغني الصوادي عن زلال الما   (1) انظر الفصل 3 من كتاب: Haskins؛ The Rennaiss nce of twelfth century الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 أو تسمع من هذا الشعر نفسه قوله متهكماً برجال الدين ومن تبعهم خين خرجوا يستسقون: خرجوا ليستسقوا وقد نشأتْ ... مجنونة شَرقٌ بها السفح حتى إذا اصطفوا لدعوتهم ... وبدا لفيض دموعهم نضح كشفَ الغمامُ إجابة لهمُ ... فكأنما خرجوا ليستصحوا وقد كان الشعراء الصقليون يتفاوتون قليلا أو كثيراً في الشعور بالنواحي المتعددة لهذه الدنيوية، فبينا تجد ابن الخياط يتهكم برجال الدين أو يريد أن يجعل كل نبات الأرض كرماً ليشرب الناس خمراً، بدلا من الماء، تجده ضعيف الإحساس بالناحية الوطنية، إذا قارناه بابن حمديس. وقد مر بنا قوله من قبل لبني أبي الحسين: ليسلكمُ أن الجزيرة بعدكم ... كما قيل في الأمثال لحم على وضمْ وكيف أن هذه السلوى على حساب الوطن الموزع المنهب، ومن كان عنده أدنى شعور بوطنه وعلاقته بد لا يقول مثل هذا القول. وإذا وضعنا هذا إلى جانب قول ابن حمديس وهو يتغزل: رشأ أحن إلى حواه كأنه ... وطنٌ ولدتُ بأرضه ونُشيتُ تبين لنا أي فرق هنالك في الشعور بالوطن بين الشاعرين. ومن الإغراق في الخضوع للطبيعة في النواحي الاجتماعية نشأت في حياة الجماعة ثوراتٌ عليها، فقام في المجتمع الصقلي الزهاد والمتصوفة، وسرت في الشعور نغمة التوجس والخوف من الناس، والآيمان بأنهم مطبوعون على الشر، واصطبغت البيئات الفقهية بصبغة المحافظة والتشدد. حتى لنستطيع أن ترسم لحياة الناس خطين متوازيين، يمتدان أحياناً بذلك التوازي في حياة الفرد نفسه. أي أننا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 نستطيع أن نرى في وجهات متعددة بالبيئة الصقلية تشدداً وتزمتاً ومحافظة من ناحية وانحلالاً وعدم اكتراث ومفارقة لكثير من المقاييس التقليدية، من ناحية أخرى. ولذلك ابتعدت الدراسات الفقهية واللغوية وأهدافها عن الواقع الاجتماعي فأصبحت المحافظة صبغة لها والتحرز سمة عليها، وأصبحنا نرى من مظاهر هذا التشدد المقترن بمعنى التدين، أخذ الفقهاء بالأشد من كل حكم ولزومهم المدونة لا يحيدون عنها، وقول بعضهم وقد قدم إليه تلميذه خفه ليلبسه - وكان ذلك التلميذ ممن يفتى - اصفعني به يا أبى القاسم ولا تفتني (1) . وتأليف الكتب اللغوية في رد اللغة إلى مقياس واحد هو الفصحى وعدم إقرار اللهجة المحلية، وفي هذا الجو ألف كتاب تثقيف اللسان. بينا كان الواقع الاجتماعي يسير مع طبيعته في التكلم باللهجة المحلية أو الكتابة بها أحياناً، ويرى أن الضرورة لا تمنع الزواج من المسيحية على أن يقتسم الأولاد بين الأب والأم فما كان من ذكر فهو للزوج وما كان من أنثى فهو لها. وقد سرى مبدأ التشدد إلى الشعر حتى ليقول ابن حمديس (2) : خذْ بالأشد إذا ما الشرعُ وافقهُ ... ولا تملْ بك في أهوائك الرخصُ ولا تكنْ كبني الدنيا رأيتهمُ ... إن أدبرت زهدوا أو أقبلت حرصوا ولا تستغرب هذه الدعوة من شاعر دنيوي فإنها تمثل أيضاً ذلك التباين بين الواقع والمثل الأعلى. هذا من حيث التشدد، أما ما قد نسميه انحلالا فقد كان يشمل جوانب عدة - كان يشمل الخروج على مبادئ الخلق والعقيدة واللغة وقد وصف لنا ابن حوقل انحلالا واضحاً في أخلاق طبقات من الناس يعيشون في رباطات مليئة بالفساد على شاطئ البحر، ورأينا كذلك بعض من يفهمون الدين كما يوافق حالهم، أما في اللغة فقد تحدث ابن حوقل إلى رجل صقلي بعد أن سمع الخطيب   (1) ترتيب المدارك: وجلد 2 الورقة 157 والترجمة رقم 157 من مجموعة الشعر. (2) الديوان: القصيدة رقم 174. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 يلحن في خطبه الجمعة وسأله كيف يرضون بهذه الحال فكان جواب ذلك الصقلي الأديب " كأنه والله يا سيدي كما تقول غير أنا نحن لا نأبه لمثل هذا " (1) . " غير أنا نحن لا نأبه لمثل هذا " كلمة تمثل ذلك الانحلال أو قلة الاكتراث عامة وأراها مناقضة صارخة لذلك الأخذ بالأشد من المقاييس - ومع ذلك فإنك واجد بين هؤلاء الصقليين الذين يصفون أنفسهم بأنهم لا يأبهون لمثل هذه الأمور - واجدٌ بينهم جماعة لا يرون الحديث وهم من حفاظه لأنه لم تتقدم لهم سابقة في العربية مثل أبي حفص عمر بن يوسف بن محمد بن الحذاء القيسي الصقلي وقد التقى به السلفي وجهد حتى يروى عنه الحديث فأبى، قال السلفي: " وجرى بيني وبينه خطب طويل في فضل الرواية وأن روايته أولى من امتناعه منها، فاعتل بعلل تكلمت عليها معه فوجودت عمدته في تحريه التحرز من الوقوع في الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم إذ لم تتقدم له قراءة للعربية " (2) . ولما دخل ابن القطاع مصر أخذ عليه نقدة المصريين تساهله في الرواية فقد أنكر أنه رأى كتاب الصحاح أن أ، هـ وصل صقلية " ثم لما رأى اشتغال الطلبة به ورغبة الناس فيه، ركب فيه طريقاً في روايته وأخذ الناس عنه مقلدين له إلا الأقل من محققي النقل في ذلك الوقت (3) " أي أن ابن القطاع استباح الكذب ولم يأبه أن يوصف به. غير أنه في موقف آخر كان مثالاً للتشدد - مرض تلميذه نصرون بن فتوح بن الحسين الخزرجي بمصر واحتاج إلى شيء من المال فباع كتباً أدبية وغير أدبية، ومن جملتها صحيح البخاري وصحيح مسلم، ولما أبل من مرضه ذكر ذلك لأستاذه ابن القطاع فغضب عليه غضباً شديداً وقال له " كنت تقنع ببيع كتب الأدب فعنها عوض وتترك عندك الصحيحين. هل رأيت مسلماً يخرج   (1) ابن حوقل 1/ 127. (2) السلفي: 1/ 122. (3) إنباه الرواة: 1 - 536. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 الصحيحين من داره؟ هل رأيت مسلماً يخرج الصحيحين من داره؟ " وظل يردد ذلك أمام الحاضرين حتى شعر ذلك التلميذ بالندم الشديد (1) . وهكذا تلمس هذا الازدواج في النفس الواحدة وتراها مقلبة بين التساهل والتشدد. 2 - صقلية ملتقى شعوب لا وطن شعب وأثر ذلك في الشعر وأهم حقيقة ذات أثر في تكوين الشخصية الصقلية أن صقلية جزيرة في البحر وأنها في ذلك الموقع المتوسط ملتقى يجتمع فيه المسافرون، ويقف عنده المتحاربون، يوم أن كان البحر المتوسط مسرحاً للحضارات وطريقاً للحركات التجارية. فهذا الموقع هو الذي منح صقلية هذا اللون من التاريخ - أي تاريخ جزيرة يتعاقب عليها الغالبون أصحاب السيادة في البحر المتوسط، ولكنها لم تفقد أبداً الروح التي كانت تدفعها إلى الاستقلال حتى لحظ أحد المؤرخين المسلمين أنها لم تزل في يد متملك لا يطيع من حوله من الملوك (2) ، غير أن هذه المحاولات كانت دائماً فردية لا تنبثق من نفسية الشعب الصقلي - إذا صح أنه كان هناك مثل هذا الشعب. يقول المؤرخ فريمان: " ولما كانت ملتقى الشعوب وميداناً للصراع فيما بينها لم تستطع أن تكون وطناً ومهداً لشعب واحد؟ ومن ثم لم يتكون فيها شعب صقلي " (3) وفي هذا القول قسط كبير من الحق، وإن كنت لا آخذه على علاته، فأن الروح الوطنية في آخر العصر الإسلامي كانت قد نمت قليلاً، ولو استمر بها الحال لكان هنالك الشعب الصقلي الذي يشعر أنه ابن صقلية، ولكن الظروف لم تمهل هذه الروح طويلا فلم يطل تمتعها بالحياة - نعم   (1) السلفي 2/ 416. (2) المكتبة: 115. (3) Freeman؛ Hist، of Sicily، vol. I، P. 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 كانت صقلية الإسلامية جزءاً من عالم يدين بدين واحد ولكنها في البحر والمحيط بها استطاعت أن تنبت أجيالا صقلية المشاعر مسلمة الدين. إلا أن الهجرات المستمرة وغلبة العناصر الغريبة على بعض نواحي الحياة فيها كانت تضعف من قوة هذه الروح أيضاً. ولذلك رأينا مع الشعر الصقلي دائماً شعراً آخر يعيش إلى جانبه هو الشعر المهاجر الوارد إليها من إفريقية وغيرها. وفي هذه الحقيقة، أي القول بأن صقلية كانت ملتقى شعوب ولا وطناً لشعب صقلي نجد تفسير الضعف الذي نلمسه في إقليمية الشعر أو وضوح النواحي الإقليمية فيه - وهي حقيقة تضاف إلى ما تحدثت عنه من عوامل كروح المحافظة، وحب التقليد للأمثلة الشرقية، والإيمان بمبادئ النقد التي تكونت في المدرسة الإفريقية، وكون هذه الأجناس التي افتتحت صقلية وتعهدت الشعر فيه إنما هي إجناس حظها من المقدرة اللغوية والأدبية، فإذا وضعنا كل هذه الأسباب معاً عرفنا غلبت الصبغة التقليدية على الشعر في أدنى صورها. حتى إنا قلما نعثر بشعر قد اخترق أسوار التقليد وشق لنفسه طريقاً جديدة، أو طريقاً فيها شيء كثير من الجدة. فالصبغة العامة للشعر هي الصورة التي نلمحها في الشعر العربي حين أصبح نماذج مكررة يسري عليها التقليد، وتتمشى فيها المبالغة بقدم عنيفة، ويتوارثها الشعراء كأنها ملك عام لهم، في هذا الشعر لا يزال النهد كالرمان والورد يلوح من الوجنتين، والعذار ميدان لهم يتسابق في وصف جماله الشعراء، والفم لؤلؤ من شقيق، والجفن حد سيف مرهف. ولا يزال الشيب والخضاب فيه موضوعاً للأسى والأسف ومفتاحاً لتذكر الشباب واسترجاع الندم على فواته. حتى التعبير عن هذه الحقائق لم يصبح موضع تميز يفرد شاعراً عن شاعر حتى يقال فيه ما كان يقوله الأقدمون قد استحق هذا المعنى وأصبح به جديراً - ولا يزال الشاعر يفيء إلى ما اختزنه من دراسات في الصبا فإذا رأى الجميل ذكر يوسف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 ذكراً عابراً، وإذا قيل له أنت قد سرقت قبلة وحد واجب عليك، تفقه في الجواب بقوله: إن الحد لا يجب إلا في السرقة من حرز، وإذا رأى المرجان الذي تصنع منه التماثيل اذكر داود الذي ألين له الحديد. وهو في هذه الإشارات والتلويحات يبني على أسس كانت حية فأحالها إلى التركز والثبات، وأخذ يستدعيها لتعينه على نقل أفكاره ومشاعره. وكلما انصرفت نفسه إلى الليل لم يستقل بتصوير تأثره، ولكنه كان دائماً يستحضر معنى النابغة فيه، فهو إلى جانب مخزوناته من فقه وقصص قرآنية يفيء إلى ما يملكه من معان شعرية ومن أمثال وحكم لقنها في نشأته. وكان اهتداؤه إلى هذه الأمثلة المقدسة المرعية هو الشاعرية الحقة في عصره، ومن الظلم أن نحاسبه في الشعر بما نحب ونكره، حتى التكرار الممل الواحدة في تلك العصور لم يكن أمراً منكراً يضيق به الناس كما نضيق به نحن اليوم. فالشعر الصقلي بهذه النظرة هو الطاقة التي هيأت لها جميع النواحي في الحياة من اجتماعية وثقافية وسياسية، فهو كفاء بحاجة الناس الذين من أجلهم وجد وعن نفوسهم عبر. وعلى هذا الاعتبار - أي على أنه طاقة اشتراك في إخراجهم عوامل متعددة حتى كانت على هذا الوضع - يتقدم الدارس لدراسته. فالضعف فيه ظاهر بالنسبة لمقاييسنا. ويتجلى الضعف في أشد حالاته حين تكون المقاييس التي نستعملها فنية - عندئذ يتفتت هذا الشعر ولا يقف عند مقياس فني. ومن ثم تجنبت الحكم على فنية هذا الشعر قدر المستطاع، وإن كان من العسير كثيراً أن أدرس هذا الشعر وأخرس أثناء دراستي له صوت النقد، فاقل ما في هذه الطاقة وأضعفه جانبها الشعوري، حتى ليقال إن حظ هذا الشعر في الضعف وفير في كل ناحية - التعبير قاصر في الأكثر، والموضوع ميت لا حياة فيه. وقد حاول ابن حمديس أن يجعل صقلية موضوعاً لقصيدته، ويجعل فكرة الوطن محط التعبير في شعوره، فلم ينجح كثيراً وعاد يتأثر التقاليد الموضوعة ويخلط بين صقلية وبين الطلل - والدراسات الفقهية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 تغمر هذا الشعر بقواعدها، والوعظ الديني يسيطر عليه بنصائحه ومقاييسه الخلقية. وفكرة المناظرة تنخر فيه - فمناظرة بين الشيب والشباب، والسوداء والبيضاء - وكلها تدور في رأس الشاعر الذي يحاول أن ينتصر للشيء وضده، ويظهر بذلك براعته. وهي لوثة جاءته من المشرق أيضاً. والشكل ظاهر على كل ما حوله عند الشاعر وهمه أن تتوفر له المقدمة ثم يتوفر له التخلص ولا يعنيه بعد ذلك شيء في اللب الذي تقوم به القصيدة. وللغزل والرثاء وغيرهما طابع لا يفارقه الشاعر. فكل غزله تذلل وشكوى وضراعة وسهر.. إلخ، وكل رثائه جار على نمط قول الشاعر الصقلي: " للموت ما يولد لا للحياة ".. والتذكير بأن النفس عارية مردودة، والتهويل بالفاجعة التي كادت تهز أرجاء الكون أو لعلها هزتها بالفعل - كما يفعل أبو تمام في مراثيه - هذه هي حال الشعر فيما يتناول من أمور، ودع عنك ما سقط الشعر دون تناوله فذلك كثير - وقد بينت منه طرفاً في فصول سابقة. بهذا الضعف يقف الشعر الصقلي إذا قورن إلى أمثلة من الشعر العربي نفسه، فكيف لو حاولنا أن نضعه بازاء الشعر اليوناني كما فعل البارون فون شاك؟ إننا عندئذ نقدم قزماً إلى جانب عملاق ضخم، وهي مقارنة غير مستجلبة أو مقتسرة؟ على أي حال؟ لأن الأدبين عاشا في الجزيرة وخضعا لبيئة طبيعية متشابهة، وتكاد النتائج التي تتمخض عنها أية مقارنة لا تكون أسوأ من هذه النتائج التي تحصل عليها حين نجري المقارنة بين ما أنتجته صقلية الإسلامية وما أبدعته هيلاس (1) . وقد لحظ شاك أن هذا الشعر العربي الصقلي يشارك الشعر العربي الأندلسي خصائصه الأساسية، وإذا قلنا الأساسية كان هذا القول صحيحاً لأن التمييز الفارق   (1) Shack؛ Poesie und Kunst der Araber in Spanien und Sicilien VOL، 2. P.1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 في الشعر الأندلسي - فيما يظهر - كان قليلاً، ولكنه على أية حال أظهر تميزاً من الشعر الصقلي. ويجد شاك سر هذا التقصير في أن العرب يتذبذبون في دائرة ضيقة من الآراء والأفكار، وهذا ما يوصف عادة بروح المحافظة الغالبة عليهم. وهم قد جهلوا أساطير الأمم التي سبقتهم فلم يعرفوا شيئاً عن نبع أرثوسة وعن وادي يانة حيث كانت برسيفونة وصواحبها يجمعن الأزهار، ولم يكونوا يعرفون شيئاً عن عالم الأوديسية إلا ما تسرب منها إلى أسطورة السندباد، ولم يرد لأتنا الشامخ ذكر في شعرهم أبداً مع أن جغرافييهم وصفوه وصفاً دقيقاً. ولا جذب انتباههم تلك العظمة المتداعية التي كانت تمثلها المدن وهياكلها، لا شيء من ذلك أبداً (1) . حقاً إن المسلمين لم يعرفوا شيئاً من هذا الذي يذكره شاك لأن قداسة الأمور الأرضية كان قد انتزعت من أنفسهم وعادوا يرون في أرثوسة وإتنا مظهراً عادياً، ولكنهم مسئولون عن إغفالهم الجمال - لا القداسة - في هذه المناظر وقد حاولت من قبل أن أشير إلى ضعف صلتهم بالبيئة الريفية في وطنهم لأسباب ذكرتها هنالك. ويرى هذا المؤرخ الناقد أن الشعر العربي في الغرب كان نبتة من ارض بعيدة، يتوقع لها أن تستمد أنواعاً جديدة من التغذية، حيث زرعت في التربة الجديدة، ولكنها تغيرت قليلا في شكلها في هذا المناخ الغريب، ولم تتغير شيئاً في أصلها.. فكانت الصحراء هي التي تمد الشعراء بالمادة والصور في قصائدهم، وإذا كان شعراء أوروبة الحديثة يفيئون إلى ما تلقوه في دراستهم من أدب يوناني أو روماني، فإن الشعراء العرب كانوا يرون مصادر وحيهم في الحياة البدوية وما فيها من أبطال وشعراء، ومنها استعاروا اصطلاحاتهم وتعابيرهم. فإذا تصوروا " أركاديا " تمثلوا وادياً مقفراً بين جبلين من الرمل تقوم فيه أطلال مية؟ الخ ولعب الجمل والغزال في قصائدهم دوراً هاماً مع أنهما غير موجودين بصقلية.   (1) op. Cit. P. 9 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 ولعل صنعاء التي لم تكن خيراً من بلرم في ازدهار عهدها كانت مثال الحضارة ومحط السعادة في نظرهم، وأمراء غسان والحيرة (1) يتبدون لخيالهم أعلى ما بلغه العالم من أبهة وجلال (2) . ولست أرى في هذا الحكم جوراً على الشعر الصقلي، بل لعلني ذهبت إلى أبعد من ذلك فلم أبد إعجابي بذلك الشعر الذي يصور القصور والمتنزهات والبرك وأشجار الليمون والنارنج ويصف الحدائق والأزهار - لم ابد إعجابي بهذا الشعر الذي يفرده شاك بالعناية ويعده أصدق ما يمثل الطبيعة الصقلية حين يقول " وننصت بإعجاب إلى هؤلاء الشعراء حين يصورون الدور والقصور والزخرفة الفنية والسقوف في أبهاء القصور والعرائش والنافورات المرسومة في أشكال أسود ينبعث الماء من أفواهها. وننقاد في سرور أيضاً وراءهم حين ينتقلون بنا بين الأشجار الخضر حيث يلتمع الليمون من بين الأوراق ويبسق رأس النخلة في السماء؟ ونرحب بهم حين يطلقون العنان لعواطفهم ويتغنون بالحب البدوي دون توار أو مواربة. أو حين يصفون خمر سرقوسة ولياليها الصاخبة مصحوبة بأنغام المغنية وألحان الجواري على الناي، أو حين نسمعهم يتحدثون عن الإسلام الذي اندحر في خضوع أمام المسيحية، أو حين يمدحون الملك النورماني ويصورون روعة بلاطه، ويرسمون لنا حالة حضارة هي بين المسيحية والإسلام. فإلى هذه القصائد التي كانوا يبتعدون فيها عن التقليد ويستوحون المحيط بهم نريد أن نوجه اهتمامنا وفي هذه القصائد وحدها تخيم على الشعر الصقلي شخصيته المتفردة (3) . في هذه النواحي التي يعددها شاك يكاد يكون الشعر الصقلي صادقاً لبيئته حقاً ولكنه صدق وحسب. أما الأصالة الفنية في هذا الشعر فشيء نادراً جداً وكثير من هذه الصور التي يذكرها شاك مستمدة من ابن حمديس نفسه مثل   (1) في نقش شعري بقصر رجار أنه فاق الخورنق والسدير. (2) Schak؛ VOL، 2، p.10 - 11 (3) op. Cit. P. 10 - 11 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 ليالي سرقوسة وخمرها والحديث عن الإسلام الذي ارتد على أعقابه أمام المسيحية، وهي صور جميلة في الواقع، فابن حمديس قد استطاع أن يرتفع بالشعر الصقلي ارتفاعاً يجعل له موضعاً بين سائر الشعر العربي، وأما تلك المدائح التي كانت تقال في الملك النورماني أو التي قبلت في وصف المتنزهات والقصور، فقد قلت فيها رأيي من قبل، وإن كنت لا أنكر أبداً أنها خير ما يصور صقلية في صدق. وموطن الطرافة فيها تلك الروح التسامحية التي يعيش بها المادح والممدوح على تباين الدين، في عصر لم يكن يسمح بذلك التسامح. وفيها شعور ساذج بالجمال - ساذج جدا - وهي بهذا القدر وحده جميلة في الشعر الصقلي. وإذا قلت الشعر الصقلي عنيت دائماً هذا القدر منه، فإن هذا القدر الذي نملكه يكاد لا يتمتع بشيء يميزه. فمظاهر القوة فيه قليلة ولكنها غير منعدمة. وقد رأينا فيه خروجاً على بعض النواحي التقليدية وعرفناه تخطي قاعدة التذلل في الحب، وشهدنا كيف يعلو الشاعر أحياناً في رقة فيقول: ليَ وعدٌ عينيك مضَى ... دونه عمري ووافي أجلي كما في أشعار عبد العزيز البلنوبي وهو من أصدق الشعراء الصقليين أصالة في القطع التي رويت له، ولكنها قليلة بحيث لا تستطيع أن تعطي عنه صورة صادقة، وستعجبك في هذا الشعر بعض الصور كقول ابن الخياط: ترى كبرياء الحسن في لحظاتهم ... تشاب برهانية المتعبد او كقول ابن حمديس: وقد سكت حركات الأسى ... قيان تحرك أوتارها وستجد في الخصائص العامة لهذا الشعر تلك النعومة المتشهية التي تغلب على شعر عبد الرحمن البلنوبي، أو ما يسميه شاك الخضوع للمتعة المؤقتة المستمدة من الطبيعة الجميلة، حتى لتكاد تظن في هذه الخاصة، أنك لم تبعد كثيراً عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 ثيوقريطس على اختلاف في الناس والزمان. والحق أني لست أذكر بهذا الشعر شاعر الرعاة وكيف يأخذ جماعة الرعاة عنده بالغناء تحت شجرة الصنوبر وفي ظلها الظليل والجنادب الداكنة تصوت وتصر والريح المثقلة برائحة الأزهار في الحقول تداعب الجفون بالسنة - لست أرى هذا في الشعر الصقلي العربي إلا إذا كانت الرائحة المنبثة في أشعار ابن حمديس وغيرها تستطيع أن تنقل قارئها إلى ذلك الجو الريفي الجميل. ولقد طال بي الحديث عن نقد هذا الشعر حتى لاحسبني جرت عليه في التقدير ولكن ما إلى هذا قصدت، فأنا أتحدث عن الشعر الصقلي وحده، وهذا يجعل نقدي له يبدو أكبر مما هو، ولو قد نقد هذا الشعر في نطاق عام، لو قد أخذ بين الشعر العربي جميعاً لأصابة نصيبه العادل من النقد، إذ لم يكن الشعر الصقلي غريباً بمظهره ذاك في تلك العصور وأكاد أقول ولم يكن ضعيفاً، وهؤلاء هم الشعراء الصقليون لم يموتوا في البيئات التي انتقلوا إليها حين هاجروا من وطنهم بل عاشوا إلى جانب غيرهم إن لم نقل تفوقهم عليهم، وابن حمديس وأبو العرب في الأندلس مثالان واضحان على ذلك. وأسارع فأضيف أن العوامل التي دخلت في تقديرهم لم تكن دائماً عوامل فنية ولكنها كانت هي العوامل المؤثرة في تقدير غيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 3 - الموقع الجغرافي والسمات التي تركها في الشعر غير أن صقلية البحرية، القريبة من جنوبي إيطاليا، المتصلة مع بلاد الإسلام بصلات ثقافية واجتماعية، قد أثرت هذه النواحي منها في الأدب تأثيراً واضحا. وخضوعاً لهذه المظاهر التي نجملها باسم الموقع نجد للشعر الصقلي ثلاث سمات بارزة: (أ) السمة الحربية: وهي أول الصفات التي نشأت من موقع الجزيرة وقيام حياتها على الجهاد، لقربها ممن جنوبي إيطاليا واضطلاع أمرائها بالجهاد في ذلك الاتجاه، وقد وجدنا هذه السمة الحربية موضوعاً في الشعر فهنا تصور مناظر القتال وحياة الأمير المجاهد، ومن هنا يستمد ابن حمديس موضوعات البطولة التي يسبغها على بني قومه أو بعبارة أخرى الفخر بالقوة الحربية والفتك بالروم. ومن هنا تسربت إلى الشعر الصقلي أيضاً معاني القتال وتشبيهاته في موضوعات كالغزل ووصف الخمر وغيرها. فقد تسمع يصف الخمر بأنها تفتك بالهموم أو بأنها تغير عليها، وتسمعه إذا وصف روضة شيه الأشجار بالجنود والأغصان بالرماح، وعند استقصاء هذه الناحية في الشعر يتبين أنها ليست مجرد صور تقليدية يأخذها الشاعر من غيره فقد تكون كذلك ولكن لا ريب في أن للحقيقة المستمدة من البيئة أثرها تصور الشاعر وتصويره. (ب) السمة البحرية: ففي هذا الشعر الصقلي ما يمكن، أن نسميه شعر البحر - فيه وصف المعارك البحرية والسفن المقاتلة وغير المقاتلة وخاصة في أشعار ابن حمديس، وفيه تصوير عام لانقضاء السيادة الإسلامية في البحر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 يتمثل لك في قول أبي العرب الصقلي لما دعى إلى الأندلس: لا تعجبنّ لرأسي كيفَ شابَ أسىَ ... واعجبْ لأسود عيني كيف لم يشب البحر للروم لا تجري السفين به ... إلا على غرر والبر للعرب وفيه تصوير للسيادة البحرية أيام العصر النورماني فقد أسر أسطولُ صاحب صقلية أحد بني رواحة مع عصبة فوقف أمام الملك وأنشده قصيدة يمدحه بها ويقول في وصف الواقعة: أيا ملكاً جالت أساطيلُ جيشه ... فأعظمت القتلى وأكثرت الأسرى وأجريتها في لجة الماء إذ جرى ... فاسكرته جرياً وأجريتها بحرا وكنا لما تجري المقادير عصبة ... ركبنا به والموج يخطفنا ذعرا وجاءت من الأسطول طيرٌ مسفةٌ ... أحاطتْ بنا من كل ناحية قسرا فقمنا إليه ثائرين لدفعه ... نغالبهُ قهراً فعاجلنا قهرا ومع بساطة هذه الأبيات فإنها صادقة في دلالتها على سيطرة الأسطول النورماني حينئذ وكثرته وقوته. وفي هذا الشعر عامة شعور بالخوف من البحر، ويؤيد هذا الخوف واقع السفر البحري يومئذ. وفي رحلة ابن جبير وفي وصف ابن قلاقس للبحر وأهواله في كتابه " الزهر الباسم " ما يزيل دهشة من يستنكر مثل هذا الخوف. فكان البحر مما يتجنب، ولذلك كانت صورة البطولة في السفن البحرية أقوى من صورة الجهاد البري عند ابن حمديس، وعند هذا الشاعر يكبر الخوف من البحر، لأن هذا البحر هو الذي أخذ جاريته جوهرة، ولأنه نفسه كان ذات يوم في الغرقى حين حاول مرة أن يذهب لزيارة أهله، ثم هو يمقت البحر الذي يفصل بينه وبين وطنه، ويمكن لأعدائه سيادة وتبسطاً، ولذلك امتلأ شعوراً به وكثر انتزاعه للصور منه. ولعل افتخاره بقطع الصحاري وركوب السفائن البرية، وصبره على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 أهوالها، تعويض لما كان يحسه من نفور إذا وقف إزاء البحر، فقد عاد ابن حمديس إلى إفريقية ووجد في مصاعب البداوة ما تقبله نفسه، أما أخطار البحر فلم يكن له صبر عليها. وقد دخلت صورة البحر في تشبيهات الشعر الصقلي وأبرز ما هو مستمد منه، صورة الشبكة في وصف الخمر وتكاد تكون عامة في الشعر الصقلي فيكررها ابن حمديس - كما مر من قبل - ويضيف إليها صورة الغائض الذي يذهب إلى القعر ليستخرج الدر - أي صورة الحباب حين يطفو عندما يصب الماء على الخمر. وهي في شعر أبي العرب الصقلي حيث يقول: كادت تطير نفاراً حين نافسها ... لولا الشباكُ التي صيغتْ من الحبب وهي في شعر الأمير ابن القاسم الكلبي في قوله (1) : كأن حبابها شيكٌ مقيم ... لصيد الألسن المتطايرة (ج) الرسائل الشعرية: فإن صقلية أولا بتوسطها في موقعها وثانياً بهجرة بعض أهلها وبقاء البعض الآخر فيها، قد أصبحت ترسل وتستقبل الرسائل الكثيرة. وكانت أكثر الرسائل الإخوانية بالشعر، ولعل هذه الظاهرة هي أوسع الظواهر وجوداً في الشعر الصقلي، ومنها كثير في شعر ابن أبي البشر، وكان شعراء العصر النورماني يراسلون بعضهم بعضاً وهم في صقلية، كما يراسلون جماعة من أصدقائهم في الخارج، كأبي الضوء الذي كان يراسل الشاقي الصقلي، وكان أبو الصلت يراسل كثيراً من شعراء عصره، وحوله قام نشاط أدبي واسع في هذه الناحية. وكذلك كانت المراسلات دائرة بين ابن رشيق وأصدقائه من الشعراء في صقلية. ولو كان إحصاء هذه الكثرة مما يفيد لوجدنا أن قسطاً وافراً من الشعر الصقلي الموجود لدينا ليس إلا رسائل أو أجوبة على رسائل. ولكن هذه الرسائل كانت أحد عوامل الجمود في هذا الشعر بدلا من أن تكون سبب حياة. ذلك لأن هناك قيوداً يجدها الشاعر حين يرد على رسالة وصلته   (1) انظر الترجمة رقم 66 من مجموعة الشعر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 من صديق له، ويرى نفسه إزاءها مضطراً إلى اصطناع بعض ما يستسيغه في الرد، وماذا يقول شاعر أرسل له صديقه قصيدة يطلب فيها أن يعيره كتاباً؟ ماذا يقول في رده سوى أن يحشد ألفاظاً فارغة لا معنى لها، ومع ذلك فإن هذه الرسائل التي كانت تدور بين الشعراء تتناسب في الواقع مع الشعراء أنفسهم ومع موضوعاتهم فهي عامرة بالرقة في شعر ابن أبي البشر كما هو الشأن في شعره عامة، وهي كذلك في شعر أخيه عبد العزيز الذي يقول لبعض إخوانه: كتبت أشكو إليكم ما وجدت بكم ... من الغرام ومثلي من شكا فبكا والله والله ثم الله ثالثة ... ما قصر البين في قتلي ولا تركا كأن بين ضلوعي حين يذكركم ... قلبي جناح قطاة علقت شركا وهي في أشعار الفقهاء مثال الجمود والقصور في التعبير حتى حين يكون الموضوع عتاباً، وهي عند ابن حمديس تستمد قوتها من الموضوع، وعلى يديه بلغت هذه الرسائل أعلى درجات الأصالة والقوة، وفي رسالتين (1) أرسلهما لابن عمته أبي الحسن بن أبي الدار الصقلي، بلغ ابن حمديس من إجادة التعبير عما في نفسه حداً بعيداً وذلك من قوة الموضوع لأنه يتحدث عن غربته ويتعذر عن عدم تمكنه من القدوم على أهله ولأنه أيضاً يخاطب فيهما أبا الحسن وهو من الأقارب الأصدقاء الذين كان لهم تأثير في حياته. وبهذه الخصائص الثلاث عبر الشاعر الصقلي عن واقع صقلية الجغرافي كما عبر بوصف المتنزهات والقصور ومجالس الخمور عن حياتها الداخلية. وهذه هي المظاهر البارزة التي تواجه الدارس للشعر الصقلي أول ما توجه، ضعيفة كانت أو قوية. ولابد من أن نلمح في هذا الشعر أيضاً شعوراً بالمغربية تشير إلى نوع من الاستقلال الجزئي في الروح عن المشرق وما يتعلق به، فإن صقلية كانت تشعر   (1) انظر الديوان، القصيدة رقم 215، 282. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 بحكم موقعها القريب من إفريقية وعلاقاتها بها أنها جزء من إفريقية، وكان استقلالها في المذهب قد أخذ يباعد قليلا بينها وبين الشرق حتى إن أحد الصقليين حين هاجر إلى العراق م يستطع أن يشهر بالفقه لأنه وجد الناس قد انصرفوا عن مذهب مالك، ولا بعلم الكلام لأنه لم يكن قادراً على أن يسبق العراقيين في هذا المضمار فحول اهتمامه إلى اللغة العربية (1) . وهذا الشعور بالمغربية يتجلى في تحميل الشعر مدح مالك ومذهبه، وفي استيلاء جزئية على مخيلة الشاعر هي القول بالشمس التي تطلع من المغرب وخاصة في الغزل كما في قول أحدهم: أهذه الشمس التي قلتمُ ... تطلعُ للناس من المغرب وقول الآخر: أيأسني التوبةَ من حبه ... طلوعه شمساً من المغرب وسافر أحد شعراء المغرب إلى المشرق ثم عاد فكتب إلى ابن حمديس فأجابه هذا بقصيدة (2) يقول له فيها إنه طلع على مصر فقالوا هذا هلال طالع من المغارب، وفي مصر نيل ولكن في المغرب البحر والمحيط: طلعتُ على مصر ونورك ساطعٌ ... فقالوا هلال طالعٌ من مغاربهْ وفي المغرب البحرُ المحيط وقد علا ... على نيل مصر منه مد غواربه وبهذا الموقع كانت صقلية أيضاً حصناً يدافع عن بلاد الإسلام، فهي التي تتلقى الضربة الأولى دائماً، أي هي ثغر على الحدود بين عدوين أحدهما في الشمال والثاني في الجنوب. وبهذا الشعور تنظق أشعار ابن حمديس في حديثه عن الثغر وبني الثغر وفي مثل قوله: صقلية كاد الزمان بلادها ... وكانت على أهل الزمان محارسا   (1) انظر Gentenario 1/ 380 في ترجمة المازري المعروف بالذكي. (2) القصيدة رقم 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 والخلاصة أن صقلية بموقعها وببحرها وروحها الحربية استطاعت أن تتحكم في توجيه الأدب ولكنها لم تستطع أن تتحكم في تكوينه، وإذا كان هناك شاعر يمثل جوانبها المتعددة في وصف الخمر والبحر والجهاد، وفي الروح الدنيوية وفي قوة التعبير عن هذه جميعاً فهم ابن حمديس، ومع ذلك فإنه تكوين لم يتم لأنه فقد صقلية وهو اشد ما يكون تعلقاً بها، ومن ثم صهرت كل هذه الاتجاهات عنده في شعور بالوطن قد لا نجد له مثيلا عند أي شاعر آخر رثى وطنه. 4 - صقلية بين التأثر والتأثير ويحكم هذا الموقع أيضاً كانت صقلية متأثرة مؤثرة؟ كانت تستقبل المؤثرات الخارجية المهاجرة أليها من الكتب والمهاجرين على اختلاف مهنهم، وظهر هذا التأثر في فنها، حتى لم يعثر دارسو الفن في صقلية الإسلامية على ما يميزها فيه عن سائر الأقطار الإسلام، وظهر كذلك في شعرها وخاصة في صورته التقليدية - كانت متأثرة حين تعتبرها جزءاً من بلاد الإسلام، وكانت مؤثرة حين تعتبرها جزءاً من ذلك العالم متفوقا على ما حوله في الحضارة، حتى كانت حضارتها مما تقتبس، وكان مبلغ من الجودة في الأشياء عند بعض العارفين بالحضارة الإسلامية انه شئ يعجب اليونان والمسلمين، وهذه الحضارة هي التي احبها النورمان وشجعوها وجاء من بعدهم فردريك الثاني منفريد وسارا على منوالهم (1) . وقد كان فردريك شخصية ذات جوانب متعددة فهو شاعر محب للفلسفة وتربية الحيوانات والتريض والصيد، وهو مشرع مستنير يضطهد المارقين، ويصادق اليهود والمسلمين، ويحسن لغات عدة ويقول فيه معاصره سالمبين:   (1) Haskins: Studies in Med. Gulture p. 124. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 " لو أنه أحب الله والكنيسة لما كان له إلا أشباه قليلون! " وقد أصبحت شخصيته في عهد مبكر موضوعاً للأساطير وصوره الدينيون عدوا للمسيحية، حتى جعله يصلي اللظى في الجحيم مع ملحدي الأبيقوريين، وهو في القصص الشعبي الألماني يشبه " المهدي المنتظر " متلبث في الكهوف بين الجبال يرقب اليوم الموعود ليرجع فيعيد الإمبراطورية ويخلص المظلوم. وقد كانت الثقافة الإسلامية ذات أثر فعال في حياته وتتحدث المصادر العربية أن الذي رباه وهو صغير قاضي صقلية وتصفه هذه المصادر بأنه كان فاضلا محباً للحكمة والمنطق والطب (1) . في بلاط ملوك النورمان، وفي بلاط فردريك الثاني وابنه منفريد كان الشعراء المسلمون ينشدون قصائدهم إلى جانب شعراء اليونان واللاتين. وليست لدينا الشواهد التي تظهر مقدار الصلة بين هؤلاء الشعراء ولكن كل الذي نعرفه أن مدرسة صقلية تنظم الشعر باللغة الدارجة تكونت في بلاط غليالم الثاني، وبلغت ذروتها حول فردريك، الذي كان عارفاً باللسان اللاتيني واللغات الدارجة في   (1) انظر ابن سعيد في القسم الرابع من مجموعة الشعر الصقلي. والمكتبة الصقلية ص419،511 ويقول فيه المقريزي " وكان هذا الملك عالماً متجراً في علم الهندسة والحساب والرياضيات. وبعث إلى الملك الكامل بعده مسائل في الهندسة والحكمة والرياضة وعرضها على الشيخ علم الدين الحنفي المعروف بتعاسيف وغيره فكتب جواباً: (المكتبة ص 522) وكان يوجه إلى علماء المسلمين أسئلة منها المسائل الصقليات التي أجاب عنها ابن سبعين وفيها أسئلة عن قدم العالم وعن العلم الإلهي والمقولات والنفس؟ إلخ وفي بلاطه احتشد كثير من العلماء، ومنهم سكوت وترجم له عن العربية كتباً في التنجيم وكتاباً لابن سينا ومنهم تودور المنجم الأناضولي الذي ترجم له شرح المنطق لابن رشد والمحبسطي لبطليموس وكان لديه أيضاً مسلمون عارفون بالبيزرة. وقد أتم ابنه منفريد العمل في هذا الاتجاه وزاره ابن وصل صاحب مفرج الكروب رسولا من الظاهر بيبرس واجتمع به مراراً ووصفه بالتميز بالعلوم العقلية وأنه كان يحفظ عشر مقالات من كتاب اقليدس وصنف له الأنبرورية في المنطق. وكانت مكتبته تضم كتباً فلسفية ورياضية باللغتين العربية واليونانية (انظر في الحياة العقلية أيام فردريك وابنه صفحات كثيرة في المكتبة الصقلية وكذلك الفصل الثاني عشر من كتاب Haskins؛ Med. Science وتاريخ أماري 3/ 711 وما بعدها وكذلك عند Huillard - Breholles ولم يجد جديد يضاف إلى ما كتب عن الحياة العلمية في بلاط فردريك بعد هؤلاء الباحثين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 إيطاليا وفرنسا، الذي كان يجتذب إلى بلاطه رجالاً ممتازين في العلم والأدب (1) ولا شك أنه تمم في عصره وبتأثير منه تقدم في تركيز الألفاظ والشكل والشعر فقد اجتمع في بلاطه شعراء من عدة جهات لهم لهجاتهم المحلية فتخلوا عن كثير من محليهم واتخذوا نموذجاً من القول يناسب المقام، ومن المنتظر أنهم فضلوا اللهجة الصقلية على غيرها في نظمهم (2) وصقلوا لهجاتهم ونبوها الخشونة والشذوذ اللذين فيها (3) . ولكي نتصور الحال الأدبية لابد أن نذكر أن النظم حينئذ كان ألهية البلاط، كان فردريك وابناه ومستشاره يتابعون هذه الهواية، وكان الكتاب والقضاة والمحامون يخففون عبء الزمن البطيء بالنظم، حتى إن أحدهم تقدم مرة إلى فردريك وأنشده قصيدة فتوجه بإكليل ولقبه " ملك القريض " (4) . حينئذ كان الأدب باللغة الدارجة قد أخذ ينافس الأب باللاتينية، ففتح أمام الناس ينابيع جديدة تهيء لهم التمتع بالحياة. وفي بلاط فردريك أخذ الوزن الشعري صورته التي جرى عليها الشعر الإيطالي فيما بعد (5) . وبدأت فيه بوادر القافية وأشكال معنية من الشعر منها Tenzone، Canzone. ولكن هذا الشعر الذي نشأ في بلاط فردريك تقليدي محافظ ضحل، أولا لأنه نتاج جماعة أرستقراطية، وثانياً لأنه ترسم مثلا معنية كان قد جرى عليها شعر بروفانس مدة طويلة فتحجرت. فما كان من هذه المدرسة الصقلية وتقليدا لتلك الأمثلة بلغة جديدة فهو شعر ضعيف البنية في مهده، ولابد أن يظهر فيه الحبيب المهجور كالأوزة التي تغني أغنيتها الأخيرة، وهي تطلع في الغيب على   (1) J.A. Symonds؛ Renaissance in Italian Lit. part 2 p.18 (2) op. Cit. P. 19 (3) op. Cit. P. 20 (4) H. Fisher؛ The Med. Empire، VOL. 2، p. 266 (5) symonds؛ part 2، p.20 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 دنو المنية. وشعلة الحب كالذهب المصفي، وبسمة من الحبيبة تسوي الجنة، فهي وردة وزنبقة ونجم ومرآة للأنوثة، وهي تقتل بعينيها، وحبيبها في لظى الحب، ولو استطاع أن يعبد الله كما يعبدها لدخل الجنة (1) . ومن العسير الشاق أن نحدد للشعر العربي صلة بهذه المدرسة من ناحية أو بالحركة الشعرية عامة في صقلية وجنوبي إيطاليا. فالشعر الصقلي العربي قليل إذا كانت مشكلة التأثير موضوع البحث، وليس بين أيدينا منه شيء من الموشحات أو الزجل وهي التي أحدثت أثراً في شعراء التروبادور بجنوبي فرنسا، ثم إن الشعر الذي بقى من المدرسة الصقلية قليل أيضاً يجعل إثبات المسألة صعباً. ولكن الذي حدث فعلا هو أن الاتصال الحضاري بين المسلمين وغيرهم بصقلية وجنوبي إيطاليا، ثم تلك النهضة العلمية التي كانت في بلاط ملوك النورمان وعند فردريك وابنه، قد خلقت في الواقع جواً من الحيوية هو مجال التأثر. وقد كان أمثال يوجين في عهد غليالم الثاني يعرفون اللغة العربية ويترجمون عنها كتباً ليست كلها ذات صبغة فلسفية أو رياضية، فلم لا يكون أمثال يوجين ممن ينظمون ويشتغلون بالدراسات العربية قابلين للتأثر؟ ورب قائل يقول إن الضعف الذي تمثل به الشعر الصقلي يجعل من العبث أن نتخذه أداة للتأثير في غيره هذا الضعف الذي نراه نحن اليوم لا ينفي ان هذا الشعر كان يمثل في عصره اتجاهات معينة.   (1) H. Fisher؛ The Med. Empire، VOL، 2 p.269 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321