الكتاب: خصائص ومقومات الاقتصاد الإسلامي المؤلف: محمد إبراهيم برناوي الناشر: مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة الطبعة: ربيع الآخر - رمضان 1401 هـ عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- خصائص ومقومات الاقتصاد الإسلامي محمد إبراهيم برناوي الكتاب: خصائص ومقومات الاقتصاد الإسلامي المؤلف: محمد إبراهيم برناوي الناشر: مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة الطبعة: ربيع الآخر - رمضان 1401 هـ عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] مدخل ... خصائص ومقومات: الاقتصاد الإسلامي للشيخ محمد إبراهيم برناوي مدرس بدار الحديث المدنية الاقتصاد كما يبدو لنا في بعض معانيه أو جلّها:- هو الاعتدال الذي لا إفراط فيه ولا تفّريط، الاعتدال في الدخول والإنتاج، والمنصرفات، لضمان بقاء الحياة الاقتصادية في جو معتدل بعيدا عن التدهور والكساد ـ والاقتصاديون يحاولون حل المشاكل الجماعية والفردية وفق المنهج الاقتصادي العادل الذي لا ظلم فيه لأحد على حساب آخر. والمتأمل في النظريات الاقتصادية السائدة ـ اليوم ـ يراها تقوم على أصل مضاعفة الإنتاج الذي يعتبره رجال الاجتماع والاقتصاد الحل الوحيد للمشكلات الاقتصادية، فهذا الحل في الواقع وجيه وسليم لولا ما في ذلك من إنكار ذات الفرد في المجتمع وإنكار ملكيته وتحديد الدخل القومي للمجتمع بأسره باسم القضاء على الطبقات لتحل محل ذلك المساواة -المزعومة- ... كي تصبح السلطة في يد الدولة ـ الحاكمة ـ فيتجرع مرارة ذلك الحرمان الشعب المغلوب على أمره ... وقد وضع الاقتصاديون لذلك خطة عنيفة تمشيا مع التفسير المادي للتاريخ الذي يرون فيه أنه نتيجة للصراع الطبقي على هذه البسيطة. وأسلوب الخطة يتلخص عندهم فيما يأتي: ـ 1- التحليل المادي للتاريخ: فيزعمون أن التطور المادي في مكان ما هو وحده الذي يفرض نظام المجتمع الواجب الاتباعِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 2- إنكار كيان الفرد، ومحاربة الحوافز الفردية ووجوب تغيير نظام المجتمع القائم على هذا الأساس ... 3- حتمية الصراع الطبقي من أجل تغيير المجتمع، وإلغاء الملكية الفردية لجميع وسائل الإنتاج فيه. 4- إلغاء الدولة عندما يصبح الناس فيها اشتراكيين ويتضمن هذا القضاء على الطبقات- هذه أفكار المذاهب التجريبية عند الشيوعيين والاشتراكيين ... وتلك هي الفلسفة المادية التي جعلت المجتمع الذي يرزح تحت سيطرتها طبقة واحدة من الفقراء والبؤساء، فلا هي تركت الفقير يعالج مشكلاته الاقتصادية على أساس من حرية الكدح والاكتساب المشروع لتنمية وتغطية احتياجاته الاقتصادية في هذا الصدد، ولا هي تركت الغني يعيش في مستواه الطبيعي ويستثمر مدخولاته لتنمية مورده الاقتصادي في هذا المجال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 الاقتصاد في نظام الاشتراكية:- يؤسس الاقتصاديون النظام الاشتراكي على أساس التفسير المادي للتاريخ ... فهم يفسرون الصراع الطبقي في الحياة بأنه نتيجة للحالة الاقتصادية لدى الأفراد والجماعات التي يحتاجها الإنسان، وضربوا لذلك مثلا بتأمين المأكل، والمشرب، والمسكن، والجنس ... فإذا اشترك الناس جميعا في هذه الأمور فقد تمت المساواة بينهم، ولا محل للصراع والشقاء في نظرهم ... ومن ثم قرروا ما يلي: 1- إنكار كيان الفرد في المجتمع ومحاربة الحوافز فيه، ضرورة تغيير نظام المجتمع. 2- إلغاء الملكية الفردية لجميع وسائل الإنتاج. ومعلوم أن إلغاء الملكيةَ الفرديةَ وهدم كيان الفرد وقتل الحوافز لدى الأفراد والجماعات يؤدي إلى تدهور الحالة الاقتصادية لديهم، حتى تصبح السلطة الرئيسية للدولة، وبالتالي تكون هي المسيطرة على الحالة الاقتصادية في البلاد بزعم المساواة في الطبقات وما ذهبوا إليه لحل المشاكل الاقتصادية التي اصطنعوها ويودون حلها بهذه الفكرة، إنما هي في الحقيقة عمل مضاد للمنهج الإلهي العادل وكذلك للسنن الكونية، والفطرة الإنسانية السليمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 المنهج الإسلامي : في الظروف الحرجة التي تضل فيها البشرية الطريق السوي لتنظيم حياتها وحلّ مشكلاتها في شتى نواحي الحياة، وحينما يعجز المفكرون عن وضع الحلول المناسبة لإنقاذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 الإنسانية عامة، ويصلون بتجاربهم وفلسفاتهم ونظرياتهم المادية إلى طريق مسدود. يقف الإسلام دائما لإنقاذ البشرية من حمأة المادة وويلاتها، ويصف لها العلاج الناجع في هذا الصدد؛ لأنه المنهج الصالح لكل زمان ومكان، وهو بحق الكفيل بتنظيم حياة الإنسان خاصها وعامها في شتى النواحي الاقتصادية الفردية والجماعية، لأنه المنهج الرباني العادل الذي لا ظلم فيه ولا حيف، بعكس النظم الوضعية النفعية التي تظلم فريقا لتحقيق رغبات فريق آخر. وهذا مشاهد في الأنظمة الشيوعية والاشتراكية. أما الإسلام فهو نظام مستقل إذ يقدر للعاملين نتيجة عملهم وكسبهم المشروع في الحياة، ويحقق مصلحة الفرد والجماعة، بل ويحثهم على السعي كما في قوله جل وعلا في سورة الجمعة {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} والشاهد في هذه الآية هو الانتشار في الأرض ابتغاء فضل الله، وكذلك كما في قوله تعالى في سورة الملك {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} فالإسلام يحث المسلم على الكدح في ميادين الحياة الفسيحة. مع مراعاة الطهر والنزاهة، وعطاء إخوانه السائلين والمحرومين حقهم المعلوم، فتطيب نفوسهم وتنتزع منهم الأحقاد. إن الإسلام يعلم المسلم أن المال في الحقيقة هو مال الله، والله تبارك وتعالى هو الذي استخلفه فيه، والسائل والمحروم إذا لم يُعط حقه في هذا المال يمتلئ قلبه حقدا وحسدا على الغني الذي منعه حقها، أما إذا أدى الأغنياء حقوق الله فيه؛ شعر الفقراء أنهم أخوة لهم، وبهذا يعيش المجتمع المسلم حياة كلها وئام وصفاء لا ترف فيها الأنانية أو النفعية الخاصة، التي لا تعرف الرحمة، ولا تعرف حق الإنسان- نحو الإنسان الذي يدعو إليه دعاة (حقوق الإنسان) الذين أكلوا حقوق الإنسانية كلها تحت هذا الستار. مرة أخرى نقول إن نظام الإسلام الاقتصادي أفسح المجال للعاملين والكادحين لمضاعفة- الإنتاج في شتى النواحي الاقتصادية والزراعية والصناعية والتجارية على السواء وأتاح الفرصة- أيضا لتسخير جميع القوى الإنسانية الفردية منها والجماعية والآلية على طول الخط شريطة ألا تضر بالمصالح العامة على حساب المصالح الخاصة كما أن استثمار الأموال يجب أن يبعد عن الطرق غير المشروعة كالقروض الربوية طويلة المدى والقصيرة المدى وما شابه ذلك من احتكار وغش وتدليس، تلك هي بعض الأسس التي يقوم عليها النظام الإسلامي لتنظيم حياة البشرية في شتى مجالات الحياة، ولن تصل الإنسانية كافة إلى ما تصبو إليه من سعادة وطمأنينة واستقرار، وتحقق معنى الخلافة في الأرض إلا إذا طبقت منهج الله العادل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 خصائص ومقومات الاقتصاد الإسلامي قلنا إن النظريات الاقتصادية الغربية هي نتيجة- الصرع الطبقي التي دعت الإنسان لحب التملك والاستعلاء كما يزعمون ... لكنا نحاول بيان مقومات وخصائص الاقتصاد الإسلامي بعد أن عرفنا موطن الداء في النظريات الاقتصادية- السلبية- التي تتنافى مع فطرة الإنسان ومع المصلحة الجماعية في آنٍ واحد، فضلا عن منافاتها للسنن الكونية. فمنهج الإسلام كما يبدو واضحا وواسعا وشاملا في نفس الوقت- تراعى فيه مصلحة الجماعة من جهة وتراعى فيه مصلحة الفرد من جهة أخرى لأن الفرد عضو في هذه الجماعة وليس كمًّا مهملا ساقطا من أي اعتبار وإنما هو كيان له ما للجماعة المتمثلة في بقية الأفراد. فالشريعة الإسلامية لا تسقط من حسابها مصلحة الفرد، ولا تهمل أيضا المصلحة الجماعية كذلك فهي تقيد هذه وتلك بقيود لا تتنافى مع العدل والإنصاف، ولا تترك العنان لإحدى المصلحتين- الجماعية أو الفردية، أن تطغى على الأخرى. فلئن كانت المصلحة الجماعية مقدمة في الأصل على المصلحة الفردية فكذلك الربط بين المصلحتين الفردية والجماعية أيضا، فلا تضر الشريعة بمصلحة الفرد على حساب المصالح الجماعية، وإنما تدور هذه المصالح جميعها في فلك واحد لا يتنازعان على طول الخط مادام هناك تقدير لجهود الفرد- ومادام هناك شعور بحق الجماعة كما سلف. وهذه هي أبرز مقومات وخصائص الاقتصاد الإسلامي نلخصها فيما يلي:- 1- تسخير ما في السماوات وما في الأرض للناس على السواء. 2- حرية الكسب والتحصيل بطرق شرعية. 3- مراعاة المصلحة الفردية. 4- مراعاة مصلحة الجماعة مقدمة على مصلحة الفرد في حدود العدل والإنصاف. 5- محاربة الفوائد الربوية بشتى طرقها. تلك هي أهم خصائص ومقومات الاقتصاد الإسلامي كما سنوضح ذلك بإذن الله تعالى. 1- تسخير الله ما في السماوات وما في الأرض للناس على السواء: بهذه الخاصية نستدل على أن الإسلام خول للناس جميعا حرية العيش في الأرض، واستخدام- الوسائل التي تمكنهم من الاستفادة مما خلق الله لهم في السماوات والأرض بشتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 الطرق. بل وطلب الإسلام من الإنسان أن يستخدمها ليستفيد ويفيد. فالله سبحانه وتعالى ذلل لهم ما خلق في السماوات وما خلق في الأرض وسخر جميع ما فيها من خيرات ومواد وخامات وجعلها معايش للناس جميعا لا احتكار فيها ولا استئثار فيها لأحد دون أحد، والآيات- التي تشير إلى ذلك وتحث الناس على أن يشكروا لله تلك النعم الكثيرة التي لا تحصى؛ يقوله تعالى من سورة البقرة {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً الآية} وقوله تعالى من سورة الأعراف: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} وقوله تعالى من سورة الملك: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} فهذه الآيات المتقدمة تشير إلى أن الله خلق جميع ما في الأرض للناس على السواء. والهدف من هذا كله هو الانتفاع بذلك ليكون عونا لهم على عبادته جل وعلا؛ لأنه في الحقيقة لم يُمكن الله العباد في هذه الأرض هذا التمكين ويكشف لهم عن- أسرارها ودواخلها وما تحويه بين طياتها من كنوز ومعادن ومواد إلا ليعبدوه وحده، لا لتسيطر عليهم "مادة" فيعبدوا من دونه فتثقلهم، وتقعدهم عن السمو بأرواحهم، بل ليعيشوا مع خالقهم ورازقهم الذي منحهم هذه الأشياء بمحض كرمه وامتانه، وإلا فإن الله قادر على قهرهم وعدم تمكينهم من أن يتوصلوا إلى كل هذه الاكتشافات، ولكنه سبحانه يبلوهم فيما آتاهم على حد قوله تعالى {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (الملك) . وبهذا نستطيع تحديد الأبعاد ... ما بين طبيعة المنهج الرباني الذي وضعه الله للناس على علم، وما بين الفلسفات "المادية التي وضعها البشر"، وشتان ما بينهما، فبينما يسخر الله تبارك وتعالى كل ما في الأرض وما في السماء للبشرية عامة ويطلب منهم أن يجتهدوا في طلب الرزق على تفاوت منازلهم ليعموا هذا الكون وفق منهجه، إذا بالفلسفات الحمقاء تقف حجر عثرة على الطريق لتعرقل سير الإنسانية عن هذا الطريق السوي بكبت المواهب وقتل الحوافز لدى الأفراد والجماعات، فتحجر عليهم طرف الكسب والتحصيل كما سنوضع ذلك في محله، فإلى أين تذهب البشرية في عملياتها إلى متى تستمر في تنكبها عن الطريق. 2- حرية الكسب والتحصيل بطرق شرعية: وهذه الخاصية كسابقتها من حيث الضرب في الأرض ابتغاء فضل الله فلم تضيق الشريعة الإسلامية الخناق على الناس في طرق كسبهم من الرزق المقدور لهم شريطة ألا يتعدى ذلك المنهج الذي رسمه الله لهم وألا يخرج عن إطاره، وعلى الفرد أن يختار بعد ذلك العمل الذي يريده من حرف يدوية، وصناعة آلية ومن بيع وشراء وما إلى ذلك بصور فردية جماعية. مادام ذلك الكسب والتحصيل بطرق شرعية نظيفة. والطرق الشرعية في ذلك كثيرة. نذكر أهمها فيما يلي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 أ- البيع والشراء الشرعيان. ب- طرق المضاربة. برؤوس الأموال. جـ- العمل بأجر أو الاحتراف وما إلى ذلك. ويشترط فيها جميعها "الطهارة والنزاهة وصدق المعاملة" في كل كلمة واحدة منها مع عدم الغش والتدليس. 3- مراعاة المصلحة الفردية: سبق لنا القول عن حرية الكسب والتحصيل وكيف سخر الله ما في السماوات وما في الأرض للناس جميعا. إلا أننا نكرر في هذه الخاصية ما سبق أن ذكرناه من أن الشريعة الإسلامية نظرت للمصلحة الفردية بعين الاعتبار، فراعت تلك المصلحة بل وجعلتها من المصلحة العامة أيضا أفمن مراعاتها للمصلحة الفردية وجعل مصلحة الفرد مرتبطة بمصلحة الجماعة هو مقت البطالة ومحاربتها بشتى الوسائل حتى ولو كانت عن ظهر غنى وتلك من مصلحة الجماعة أيضا؛ لأن توقف هذا الفرد عن العمل بدون أي مبرر هو خسارة فادحة على المجتمع بأسره إذ قد خسر المجتمع موهبة هذا الفرد الذي كان بإمكانه أن يسهم بدوره في رفع إنتاج البلاد فيفيد ويستفيد. فالإسلام يشجع على العمل، ويمقت البطالة ويعتبر العامل في نظر الشريعة الإسلامية- كالمجاهد، وهو يفضل على العابد المنقطع للعبادة وحدها، فقد جاء في الأثر "أن من الذنوب.. ذنوبا لا يكفرها الصلاة ولا الصيام ولا الحج ولا العمرة 1 يكفرها الهموم في طلب المعيشة" وجاء أيضا في الحديث الصحيح: "ما أكل ابن آدم طعاما قط خيرا من عمل يديه". تلك هي مراعاة المصلحة الفردية التي تدعو الفرد لتنمية مواهبه وثرواته المادية وتقدر له ذلك حق التقدير، وترى أن عود الفائدة ليست له وحده، وهو كذلك بلا شك فقد تعود الفائدة إلى ورثته من بعده، وقد تعود للمصلحة العامة التي يشترك فيها جميع إخوانه من المسلمين، وتعتبر تلك الثروات التي قدمها زيادة الإنتاج كان له دوره في إسهامه وتعود فيه الفائدة أيضا على الجميع فضلا عما يقدمه هو لآخرته من أعمال البر والإحسان ليكون له رصيد يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون.   ((إن من الذنوب الخ)) رواه الطبراني وأبو نعيم عن أبي هريرة مرفوعا ورواه الخطيب في تلخيص المتشابه وفي لفظ (عرق الجبين) بدل الهموم وللديلمي عن أبي هريرة رفعه:" إن في الجنة درجة لا ينالها إلا أصحاب الهموم يعنى في طلب المعيشة" اهـ كشف الخفا ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس- للمفسر المحدث الشيخ إسماعيل بن محمد العجلوني الجرافي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 4- مصلحه الجماعة مقدمة على مصلحة الفرد في حدود العدل والإنصاف: في هذه الخاصية نرى الترابط الوثيق بين المصلحتين. فمصلحة الفرد مرتبطة بمصلحة الجماعة في نفس الوقت، ولكن المصلحة الجماعية في الحقيقة لها دورها الكبير في هذا المجال لأنها مصلحة الأمة بأسرها والتي يعتبرها الشرع من المصالح العامة التي لا يحل لفرد من أفراد الأمة استغلالها لحسابه الخاص، فمن هذه المصالح العامة على سبيل المثال ما يلي:- 1- الطرق والميادين العامة وما شابهها والتي جعلت للناس كافة، فلا يحل لفرد من الأفراد استغلالها لمصالحه الشخصية.. فيعرقل مصالح المسلمين بوضع عوائق في طرقاتهم وشوارعهم. 2- الأموال العامة تعتبر من المصالح العامة للمسلمين فلا يحل لوال من الولاة التصرف فيها وصرفها في غير وجهها، وإنما يوزعها على المستحقين وفق العدل والإنصاف فيقرض من يحتاج إلى القرض. ويحمى بها الثغور الإسلامية. 3- عدم احتكار أقوات الناس للإضرار بهم لحساب مصلحة شخصية، كما هو الحال لدى أصحاب رؤوس الأموال حينما يلجئون لكسب السوق، بتعطيل المصالح الجماعية فلا يحل لفرد من الأفراد أن يبخل على إخوانه ببعض ما أتاه الله فيبيعهم بالأسعار المناسبة المعقولة فضلا عن احتكار أقواتهم وأرزاقهم فقد جاء في الحديث أن المحتكر ملعون والجالب مرزوق. هذه هي النظرة الإسلامية لمصلحة الأفراد والجماعات، وهى في حقيقتها نظرة عادلة لا ظلم فيها ولا حيف؛ لأنها تقدر حق الفرد ولا تسقط من حسابها حق الجماعة المتمثلة في هؤلاء الأفراد وتلك هي سنة العدل والإنصاف. 5- محاربة الفوائد الربويه:- المتأمل في عمليه الربا يجدها في الواقع عملية ((سلبية بحته)) جامدة فضلا عن نتائجها السيئة التي تأباها الفطرة السليمة. ولما كانت الشريعة الإسلامية تنظر- نظرتها الواسعة للأمور وتضع لكل مشكلة حلولها المناسبة لها بعد علم المقدمات والإحاطة الشاملة "بالنتائج " عندها تحلل وتحرم عن علم ودراية بمصالح البشرية كافة {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} . وما كان الربا من أفحش الظلم وأشنعه حرمة إلا لأنه يتنافى مع العدل الذي أراد الله أن يُسَوِّد العباد- {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 فلئن ظن المرابي أنه يحقق بهذه العملية رغباته في الحياة ويصبح من أصحاب الأموال الطائلة التي لا تحصى، بما يتحصل عليه من فوائد ربوية لا تقف عند حد فيجب أن يتيقن كذلك أن ما جمعه إلى زوال وأن مآله "المحق" كما قال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} . فشتان ما بين وجه السماحة وطهارة النفس وسمو الإنسانية، وهو الوجه المقابل للصدقة الذي تكفل الله له النماء والزيادة، والوجه الآخر المقابل لعداء الإنسانية كلها بما لا يعرف للرحمة أو الشفقة طريقا، ذلك الوجه المرذول الممثل للأنانية والحقد والشّحّ وخبث النفس والذي توعده الله بالمحق. ولسنا في حاجة بعد ذلك كله لنعت المرابي بأكثر من تلك النعوت التي نعت بها في مواضع كثيرة من الكتاب الكريم لأن مرد ذلك إلى شيء واحد وهو مرض القلب والعياذ بالله، ومرض القلب معروف النتائج ِ … ولما أراد الله تبارك وتعالى أن يبين حقيقة المنافقين؛ إنما نعتهم بذلك فقال: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} . وبالاستقراء والاستنتاج نجد أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه إنما عمل -أول ما عمل في بادئ الأمر- على معالجة القلوب في كثير من الأحيان، ووردت في ذلك أحاديث كثيرة تعالج هذه النواحي النفسية بما لا نستطيع حصرها في مثل هذه المعالجة. ولا بأس بذكر شيء منها على سبيل المثال.. فقد جاء في ذلك من حديث طويل رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا، ولا تحسسوا، ولا تحاسدوا ولا تباغضوا، ولا تدبروا وكونوا عباد الله إخوانا -كما أمركم الله تعالى- المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره .... " الحديث. ومعلوم أن كل هذه الأفعال إنما هي من أعمال القلب. وكذلك ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أبى أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه قال: "لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام ". إنما يعالج أمراضا نفسية مناطقها القلب. وكذلك الأمر في بيع الرجل على بيع أخيه المنهي عنه في الحديث، لأنه يسبب التباعد والتباغض، والإسلام إنما جاء في الحقيقة ليجمع لا ليفرق، إذا كان الأمر كذلك فما هو موضع- آكل الربا الذي آذنه الله ورسوله بالحرب ولعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذه هي بعض العلاجات لأصحاب القلوب المريضة والأمراض التي حاربها عليه الصلاة والسلام في المجتمع المسلم؛ حتى تسود في الأمة المحبة والألفة والتعاون في الخير بدلا من الاختلاف والفرقة. وإنما سقنا الكلام هنا عن هذه الأمراض كلها لمحل الشاهد: وهو اجتماع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 هذه الخصال المذمومة في شخص المرابي، فتجده من أعدى الأعداء لله ولعباد الله وأشدهم إنكارا لأنعم الله، فهو حسود حقود كالحيوان المفترس، فكيف يتصور ولاء شخص منعوت بهذه النعوت جميعا، وكيف يرجى منه النفع للمجتمع وهو بؤرة للفساد والهدم والتخريب {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} ؛ لذا أراد الله تبارك وتعالى أن يطهر المجتمع المسلم من مثل هؤلاء جميعا ليعيش الناس كافة تحت راية العدل والإنصاف. ولا بأس من نقل رأَي لفقيد الإسلام " سيد قطب رحمه الله " في هذا الصدد من تفسير الظلال؛ حيث يقول عن الربا وبشاعته ما نصه: "فلقد كانت للربا في الجاهلية مفاسده وشروره، ولكن الجوانب الشائنة القبيحة من وجهه الكالح ما كانت كلها بادية في مجتمع الجاهلية كما بدت اليوم وتكشفت في عالمنا الحاضر. ولا كانت البثور والدمامل في ذلك الوجه الدميم مكشوفة كلها كما كشفت اليوم في مجتمعنا الحديث. فهذه الحملة المفزعة البادية في هذه الآيات على ذلك النظام المقيت تتكشف اليوم حكمتها على ضوء الواقع في حياة البشرية أشد مما كانت منكشفة في الجاهلية الأولى، ويدرك من يريد أن يتدبر حكمة الله وعظمة هذا الدين وكمال هذا المنهج ودقة هذا النظام. يدرك اليوم من هذا كله ما لم يكن يدركه الذين واجهوا هذه النصوص أول مرة وأمامه من واقع العالم- ما يصدق كل كلمة تصديقا حيا مباشرا واقعا، والبشرية الضالة التي تأكل الربا وتؤكله تنصب عليها البلايا الساحقة من جراء هذا النظام الربوي في أخلاقها ودينها وصحتها واقتصادها، وتتلقى- حقا حربا من الله تصب عليها النقمة والعذاب أفرادا وجماعات وأمما وشعوبا، وهي لا تعتبر ولا تفيق وحينما كان السياق يعرض في الدرس السابق دستور الصدقة كان يعرض قاعدة من قواعد النظام- الاجتماعي والاقتصادي الذي يريد الله للمجتمع المسلم أن يقوم عليه ويحب للبشرية أن تستمتع بما فيه من رحمة في مقابل ذلك النظام الآخر الذي يقوم على الأساس الربوي الشرير القاسي اللئيم إنهما نظامان متقابلان: النظام الإسلامي، والنظام الربوي؟ وهما لا يلتقيان في تصور ولا يتفقان في أساس ولا يتوافقان في نتيجة؛ لأن كلا منهما يقوم على تصور للحياة والأهداف والغايات يناقض الآخر تمام المناقضة، وينتهي إلى ثمرة في حياة الناس تختلف عن الأخرى كل الاختلاف. إن الإسلام يقيم نظامه الاقتصادي ونظام الحياة كلَّها على تصور معين يمثل الحق الواقع في هذا الوجود، يقيمه على أساس أن الله سبحانه هو خالق هذا الكون فهو خالق هذه الأرض، وهو خالق هذا الإنسان وهو الذي وهب كل موجود وجوده، وأن الله سبحانه هو مالك كل موجود، وبما أنه هو موجده فقد استخلف الجنس الإنساني في هذه الأرض ومكنه مما ادّخر له فيها من أرزاق وأقوات ومن قول وطاقات على صد منه وشرط، ولم يترك له هذا الملك العريض فوضى يصنع فيه ما شاء كيف شاء، وإنما استخلفه فيه في إطار من الحدود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 الواضحة ... استخلفه فيه على شرط أن يقوم في الخلافة وفق منهج الله- وحسب شريعته، فما وقع منه من عقود وأعمال ومعاملات وأخلاق وعبادات وفق التعاقد فهو صحيح نافذ وما وقع منه مخالفا لشروط التعاقد فهو باطل موقوف، فإذا أنفذه قوة وقسرا فهو إذن ظلم واعتداء- لا يقره الله ولا يقره المؤمنون بالله. فالحاكمية في الأرض كما هي في الكون كلّه لله وحده والناس حاكمهم ومحكومهم إنما يستمدون سلطانهم من تنفيذهم لشريعة الله ومنهجه وليس لهم في جملتهم أن يخرجوا عنها؛ لأنهم وكلاء مستخلفون في الأرض بشرط وعهد، وليسوا ملاكا خالقين لما في أيديهم من أرزاق. ومن بين بنود هذا العهد أن يقوم التكافل بين المؤمنين بالله فيكون بعضهم أولياء بعض، وأن ينفقوا وأن ينتفعوا برزق الله الذي أعطاهم على أساس هذا التكافل، لا على أساس قاعدة الشيوع المطلق- كما تقول الماركسية، ولكن على أساس الملكية الفردية المفيدة. فمن وهبه الله منهم سعة أفاض من سعته على من قدر عليه رزقه، مع تكليف الجميع بالعمل، كلّ حسب طاقته واستعداده فيما يسره الله له، فلا يكون أحدهم كلاًّ على أخيه أو على الجماعة وهو قادر) .... أقول: تلك هي طريقة الإسلام في نظامه الاقتصادي واضحة المنهج تقوم على أساس التكافل الاجتماعي في أزهى حلله بعيدة عن الأثرة والشح أو الظلم، وأكل أموال الناس بالباطل أو بكل وسيلة من شأنها أن تعرقل نمو الحركة الاقتصادية في بلادنا ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 نظرة الإسلام للمال لا يعتبر " المال " في نظر الإسلام حقيقيا إلا إذا كان بطرقه الشرعية، فليس كل مال مهما كانت مصادر الحصول عليه يعتبر "مالا" شرعيا يستطيع المرء المسلم أن يتقرب به إلى الله من نفقات واجبة وصدقات يبتغى بها وجه الله. بل المال مقيد في الإسلام بقيود شرعية وهي تعني طهارة الكسب وأوجه التحصيل، فالأموال المجموعة من أوجه غير شرعية تعتبر أموالا باطلة كأثمان المحرمات " الخمر والميسر وثمن الكلب والخنزير " وما إلى ذلك؛ لأن الله إذا حرم شيئا حرَّم ثمنه. كل هذه الأموال لا تعتبر شرعا بالنسبة لمن يدين بالإسلام، وإن كانت معتبرة في حق غيره ومن هنا نستطيع أن نعرف كيف ينظر الإسلام للمال. إنه ينظر إليه على أنه وسيلة لتبادل المنافع بين العباد ووسيلة للتعايش في الأرض، ولما كان الأمر كذلك أقر الله تبارك وتعالى هذه الخاصية: خاصية حب المادة وحب التملك " للمال" في الناس وهي طبيعة فطرية فطرهم عليها بل وحثَّهم على الطلب والتحصيل من هذه المادة على تفاوت طبقاتهم وسعيهم في طلب الرزق ونهاهم أن ينظروا لغيرهم نظرة حسد وكره لمن فضلوا عليهم في الرزق، وأمرهم أن يسألوه سبحانه وتعالى من فضله {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} (النساء) فجعل المال فتنة وامتحاناً وميدان سباق للخير والإحسان في نفس الوقت، وجاءت الآيات الكريمة في كلا الوجهين تبين للناس ما ينفعهم في دينهم ودنياهم وتنهاهم أيضا أن يجعلوا "المال" وجمعه من أي طريق كلَّ غرضهم في الحياة بما لا يقبل المنافاة بين الآياتِ التي تشجع على الكسب والتحصيل، والآيات التي تهدد وتنذر الذين يكتَنِزون الأموال ولا يؤدون حق الله فيها، فآيات الفتنة والامتحان إنما هي في الحقيقة تنذر أولئك الذين جعلوا المال هدفا لذاته، وغاية كل غاية، فقد سمى الله تبارك وتعالى المال مرة "زينة" ومرة "فتنة" فقال جل ثناؤه {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} (الكهف) وقال: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (التغابن) .. فهو في الآية الأولى زينة الحياة الدنيا "والزينة تغرى- والزينة تلهي عن الله والدار الآخرة إلا من وفقه الله" لذا قال تعالى في سورة المنافقين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} ؛ لأنه يعلم أن بعض العباد تشغلهم الأموال وتلهيهم عن ذكر الله، واللهو عن ذكره سبحانه وتعالى خسارة أيما خسارة، فأرشد عباده المؤمنين لتلافي تلك الخسارة الكبرى، ولا يكون ذلك إلا بمراقبة الله في السر والعلن، وأداء حقوق الله. وقد علم الله تعالى كذلك أن من العباد من تقطع أعناقهم الأموال، التي يجلبها البيع والشراء.. فقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} فالحكم وإن كان خاصا بالجمعة إلا أنه عام في غيرها، كذلك مع ما في الجمعة من خصائص ومميزات، فالمال فتنة بلا شك يفتن أصحاب القلوب الضعيفة ويقعدهم عما فيه صلاحهم في الدنيا والآخرة كما فتن قارون وفرعون وأشباههم من الأولين والآخرين، والمال كذلك ميدان سباق لأعمال البر والإحسان لأصحاب الهمم العالية حينما يبذلون أموالهم في سبيل الله وابتغاء مرضاته كقوله {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . فهو وسيلة للفداء والتضحية في سبيل الله وفي سبيل السعادة الأبدية التي تكفَّل المولى عز وجل بها لعباده المؤمنين. وقد امتدح الله سبحانه وتعالى أصحاب هذه الطبقة في غير موضع من كتابه. وجاءت السنة المطهرة فأيدت ذلك كل التأييد وحثت المسلم على أن يكون له فضل مال يقيم به أوده في الحياة ويتقرب به إلى الله، ويترك لورثته من بعده ما يسد عجزهم من الفاقة والسؤال؛ كقوله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبى وقاص رضي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 الله عنه " إنك إن تذر ورثتك أغنياء- خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس" وشجع المسلم على الاكتساب من المال الحلال كقوله عليه الصلاة والسلام "لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه" .... بل وعظمت السنة المطهرة شأن المال فجعلته من الكليات التي جاء الإسلام بالمحافظة عليها صيانةً للحقوق المشروعة فيه. فمن قاتل دون ماله وعرضه فقتل فهو شهيد. هذه نظرة الإسلام إلى المال، نظرة تقدر فيها للعاملين نتيجة كسبهم وكدحهم في الحياة فلا تبخس أحدا ولا تظلم أحدا لمصلحة آخر. فلا إباحية تبيح للماجنين أن يعيشوا على أَكتاف الآخرين شأن النظرية الماركسية التي تبيح الشيوع وتنادى به، وإنما لكل امرئ نتيجة سعيه لا يعدوه إلى سواه. ولكن الحكمة الإلهية اقتضت أن يكون في المال نصيب مفروض للبائسين والمحرومين يأخذونه من أموال إخوانهم الذين وسع الله عليهم في الرزق إما بطيب خاطر ورضى نفس كالصدقات وأعمال البر، وإما على سبيل الوجوب والإلزام كالزكاة وجعلت الشريعة الإسلامية مصارف تصرف فيها الأموال لمستحقيها كما بين الله ذلك في مواضع كثيرة من كتابه الكريم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 أوجه صرف المال لما كان -المال- عصب الحياة وشريانها، وكانت المشاكل تحصل بسببه بين الناس ويحصل النزاع والقتال من أجله. جعل الله تبارك وتعالى له مصارف عادلة يُصرف فيها لمستحقيها- من المساكين والمحرومين. فعدد الله ثمانية أصناف من هذا النوع تعطى لهم الزكاة من أموال الأغنياء، يأخذها ولي أمر المسلمين ويقسمها بينهم كما أمر الله جلت قدرته، ووضح ذلك غاية الإيضاح، فلم يترك ذلك لاختيار أحد، ولم يتركها كذلك للأغنياء أنفسهم يعطون من شاءوا ويحرمون من أرادوا حسب ما تمليه عليهم أهواؤهم وآراؤهم فقال تعالى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} . فهؤلاء هم أصحاب الزكاة الذين سماهم الله في كتابه فلا تجوز لغيرهم ولا تحل لغني ولا لقوي مكتسب. هذه هي مصارف الزكاة في الإسلام … مصارف عادلة لا ضرر فيها على أحد من الأغنياء، ولا بخس فيها للفقراء والمساكين كذلك، فيشعر الجميع بشعور الأخوة والتعاون على البر والتقوى، فحينما يقدم الغني الميسور لأخيه الفقير المعدم بعض فضله ويفيض عليه من سعته إنما يشعر أن هذا العمل الذي قام به واجب من واجباته وحق من حقوق أخيه يجب أن يؤديه ويقابل ذلك الأخ هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 المعاملة بالرضى والامتنان لله أولاً- ثم لأخيه ثانيا: فأولاً: لله الذي فرض هذه الفريضة العادلة فكفلته وشملته بعدلها وإنصافها ورحمتها، فلم تتركه للضياع والحيرة ولم تسلمه للفساد والانحراف أو السرقة والنهب والتخريب بعد أن عجز عن العمل تماما، وثانيا: لأخيه من بعد الذي تذكر أن له أَخا في الله له عليه حقٌ، يؤديه له طاعة لله، وامتثالا لأمره سبحانه وتعالى، فيعيش الجميع في صفاء ومحبة وألفة يستمتعون جميعا بعدل الله رحمته، إخوة متحابين متعاونين كالجسد الواحد. وفي اعتقادي أن أية أمة من الأمم تطبق هذا المنهج الرباني الخالد في نظام حياتها واقتصادها وشتى شئون الحياة لاشك أنها ستعيش في سعادة كاملة صراحة تامة، لا تعرف معها الفوضى الأخلاقية ولا الحرمان والظلم والجور والأنانية وحقد الطبقات بعضها على بعض كما هو مشاهد اليوم في الدول الاشتراكية بل ولا تشكو من الفائض ولا التضخم المتزايدين اللذين يشكلان الأزمات الاقتصادية لتكدس الثروات بأيدٍ قليلة لها السيطرة التامة على النظام الاقتصادي العام للبلاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 مزية الاقتصاد الإسلامي على ضوء ما تقدم نستطيع وضع اللمسات السريعة على مزية الاقتصاد الإسلامي على سائر النظم الاقتصادية الوضعية. السائدة التي لا تقوم ولا تنهض إلا على إنكار الذات الإنسانية ومحاربة الفوارق بين الناس كافة بزعم العدل والمساواة في الطبقات ... يقول الأستاذ العقاد رحمه الله في كتابه الديمقراطية الإسلامية ما نصه: "والمتأمل في حقيقة الأمر يجد أن الفوارق بين الناس متعددة لا تنحصر في شئون الرزق والثروة فحسب، بل منها ما هو فوارق طبيعية تلازم البشرية كافة ولا تكاد تنفصل عنهم ولا يخلون منها على طول الخط .... إذا كان الناس متفاوتين بطبيعتهم فمن الظلم البين أَن تسوي بينهم، وأن تجعل المتقدم منه كالمتخلف- والعامل كمن لا يعمل. ومن المسخ للطبائع أن تحرم الفاضل ثمرة فضله، وتؤمن الكسلان والبليد على عاقبة كسله وبلادته، فلا إنصاف لذي كفاءة في هذه المساواة، ولا فائدة لعاجز فيها، لأن العاجز لا يسلم من عجزه باختياره، وكل ما نجنيه من هذا الإجحاف تعجيز الأكفاء وتثبيط العاملين". أقول: وكذلك فعلت النظم الشيوعية والاشتراكية. فالنظام الشيوعي يقوم على أساس إلغاء الفوارق، ويرى عدم استقامة الحياة مع بقاء الفوارق بين الناس في المال، أو شئون الرزق على العموم. والنظام الاشتراكي يقوم على أَساس إلغاء الملكية الفردية وإباحة الشيوع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 على طول الخط، وأما النظام الرأسمالي فهو يقوم على أساس الملكية المطلقة وبدون حدود. وموضع الخطأ في النظم الأخرى واضح بلا جدال. ومن هنا تتضح لنا مزية الاقتصاد الإسلامي بين تلك المتناقضات والاضطرابات الفلسفية، فموقف الإسلام وسط وفي غاية الاعتدال، فلا يبيح الشيوع ولا يبيح إطلاق الملكية بلا حدود، وإنما يقيد الملكيات كلها الخاصة والعامة بقيود الشرع، ومن هنا أيضا تبرز مزية النظام الإسلامي في قاعدتين أَساسيتين هما: إنكار قوة الاستغلال والاستبداد، وتقدير حق العمل وتشجيع أصحاب الكفاءات. تلك مزية الاقتصاد الإسلامي في جلاء ووضوح تقدر للعاملين نتيجة عملهم في ميادين الحياة، وتقمع قوى الظلم والجور، وتقرر مبدأ التكافل الاجتماعي في إطار من العدل والرحمة لمن هم في مسيس الحاجة إلى العون والمساعدة، وذلك بتوزيع الثروة كما قررته شريعة الإسلام، وعددت أصحاب الفريضة في الزكاة، وكذلك الحماة والغزاة في سبيل الله، وسد الثغور الإسلامية، وسائر من يتولى مصالح الأمة الإسلامية من خليفة المسلمين إلى من يقم الشوارع. وهكذا يقف النظام الرباني شامخا صامدا يتحدى جميع النظم والنظريات وغيرها على مدى الأيام. تربية قال معاوية للأحنف بن قيس ما تقول في الولد؟ قال: يا أمير المؤمنين، ثمار قلوبنا، وعماد ظهورنا، ونحن لهم أرض ذليلة، وسماء ظليلة، بهم نصول على كل جليلة، فإن طلبوا فأعطهم، وإن غضبوا فأرضهم، يمنحونك ودهم، ويحبوك جهدهم، ولا تكن عليهم قفلا ثقيلاً؛ فيملوا عليك حياتك، ويودوا وفاتك، ويكرهوا قربك … فقال معاوية: لله أنت يا أحنف، لقد أرضيتني عمن سخطت عليه من ولدي. ووصلة بعطية عظيمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214